ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبط به: أى سقط من قيام، ونودى: عورتك! فكان ذلك أوّل ما نودى، فقال له أبو طالب: يا بن أخى اجعل إزارك على رأسك، فقال: ما أصابنى [ما أصابنى «1» ] إلا من التّعرّى؛ فما رؤيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم عورة بعد ذلك.
قال ابن إسحاق «2» : ثم إن قريشا جزّأت «3» الكعبة، فكان شق «4» الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليمانىّ لبنى مخزوم وقبائل من قريش انضمّوا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وسهم، وكان شقّ الحجر لبنى عبد الدّار ابن قصىّ وبنى أسد بن عبد العزّى وبنى عدىّ بن كعب، وهو الحطيم «5» .
وقال الواقدىّ: وقع لبنى عبد مناف وزهرة وجه البيت، وهو ما بين الركن الأسود إلى ركن الحجر، ووقع لبنى أسد بن عبد العزّى وبنى عبد الدار ما بين ركن الحجر إلى ركن الحجر الآخر، ووقع لتيم ومخزوم ما بين ركن الحجر إلى الرّكن اليمانىّ، ووقع لسهم وجمح وعدىّ وعامر بن لؤىّ ما بين الركن إلى الركن الأسود.
قال ابن إسحاق «6» : ثمّ إن الناس هابوا هدمها، وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدأكم فى هدمها، فأخذ المعول؛ ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع «7» ،(16/101)
ويقال: لم نزغ «1» ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير؛ ثم هدم من ناحية الركنين، فتربّص الناس به تلك «2» الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شىء فقد رضى الله ما صنعنا فنهدم، فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلى أساس إبراهيم عليه السلام، فأفضوا إلى حجارة خضر كالأسنّة «3» آخذ بعضها بعضا، فأدخل رجل من قريش عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقّضت مكة «4» بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال: ثم «5» إن القبائل جمعت الحجارة لبنائها، كلّ قبيلة تجمع على حدة، وبنوا حتى بلغ البنيان موضع الركن «6» . والله المستعان.
ذكر اختلاف قريش فى رفع الرّكن وتراضيهم بالنبى صلى الله عليه وسلم وخبر النجدىّ
قال ابن إسحاق «7» : ولما بلغ البنيان إلى موضع الركن اختصموا فيه، كلّ قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوزوا وتخالفوا واعتدّوا للقتال «8» ، فقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملؤة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدىّ بن كعب(16/102)
ابن لؤىّ على الموت، وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم، فسمّوا لعقة الدّم؛ فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم اجتمعوا فى المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فقال أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان إذ ذاك أسنّ قريش كلّها: يا معشر قريش! اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أوّل داخل يدخل «1» ؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، هذا محمد، رضينا به؛ فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: هلّم إلىّ ثوبا فأتى به، وقيل: بل بسط رداءه فى الأرض، وأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: ليأت «2» من كل ربع من أرباع قريش رجل، فكان من ربع بنى عبد مناف عتبة بن ربيعة، وفى الربع الثانى أبو زمعة، والربع الثالث أبو حذيفة بن المغيرة، والربع الرابع قيس بن عدىّ.
هكذا نقل الواقدى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليأخذ كلّ رجل منكم بزواية من زوايا الثّوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فى موضعه، فذهب رجل من أهل نجد ليناول النبىّ صلى الله عليه وسلم حجرا يشدّ به الركن، فقال العباس بن عبد المطلب: لا.
ونحّاه، وناول [العباس «3» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا، فشدّ به الركن، فغضب النّجدىّ حين نحّى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إنه ليس يبنى معنا فى البيت إلا منّا؛ فقال النّجدىّ: يا عجبا لقوم أهل شرف، وعقول، وسنّ، وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سنّا، وأقلّهم مالا، فرأسوه عليهم فى مكرمتهم وجودهم كأنهم(16/103)
خدم له، أما والله ليفرقنّهم شيعا، وليقسمنّ بينهم حظوظا وجدودا «1» . ويقال إن النّجدىّ إبليس لعنه «2» الله. فقال أبو طالب:
إن لنا أوله وآخره ... فى الحكم والعدل الذى لا ننكره
وقد جهدنا جهده لنعمره ... وقد عمرنا خيره وأكثره «3»
فإن يكن حقّا ففينا أوفره
قال: ثم بنوا حتى انتهوا إلى موضع الخشب، وكان خمسة عشر جائزا «4» سقفوا البيت عليه، وبنوه على ستة أعمدة، وأخرجوا الحجر من البيت، قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قومك استقصروا فى «5» بنيان الكعبة، ولولا حداثة عهدهم بالشّرك أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدى أن يبنوه، فهلمّ أريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من سبعة «6» أذرع فى الحجر، وقال صلى الله عليه وسلم: ولجعلت لها بابين شرقيّا وغربيا، أتدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: فقلت: لا أدرى. قال: تعزّزا أن لا يدخلها إلا من أرادوا.
قال ابن هشام «7» : وكانت الكعبة على عهد النبىّ صلى الله عليه وسلم ثمانى عشرة ذراعا، وكانت تكسى القباطىّ «8» ثم كسيت البرود «9» ، وأوّل من كساها الديباج الحجّاج ابن يوسف «10» .(16/104)
وحيث انتهينا إلى هذه الغاية من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنذكر من بشّربه.
ذكر المبشّرات برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مولده ومبعثه وبعد ذلك
جاءت البشائر برسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب الله تعالى المنزلة على أنبيائه صلوات الله عليهم، وفيما «1» نقل إلينا من كلامهم، ووجد بخطّهم، وبشّر به أحبار يهود، وعلماء النّصارى، عما انتهى إليهم من العلوم التى تلقّوها عن الأنبياء صلوات الله عليهم، ونقلوها من صحفهم، ومخّبئات كتبهم، وذخائر أسرارهم، حتى اعترف قوم بنبوّته صلى الله عليه وسلم قبل مولده وظهوره بما شاء الله من السنين، وأوصوا به من بعدهم؛ (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ)
؛ وبشّر به أيضا قبل مبعثه كهّان العرب، عما كان يأتيهم من أخبار السّماء على لسان شياطينهم الذين كانوا يسترقون السّمع ومنعوا بالشّهب، كما أخبرنا الله تعالى فى قوله: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)
، ونطق الجانّ من أجواف الأصنام بالبشارة به، فكان ذلك سببا لإسلام من سمع أصواتها ممن سبقت له من الله الحسنى، وهداه وأرشده إلى اتّباع الحق، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى مواضعه.
فأما ما جاءت به الكتب المنزلة من الله تعالى
مما يدل على نبوّة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء ذلك فى القرآن العزيز، وفى التوراة، والإنجيل، وزبور داود، وكتب الأنبياء: شعيا، وشمعون، وحزقيل عليهم السلام.(16/105)
فأما ما جاء فى القرآن العزيز
فقد قال الله عز وجل: (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)
، وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
. قال أهل التفسير: أخذ الله الميثاق بالوحى، فلم يبعث نبيا إلا ذكر له محمدا ونعته، وأخذ عليه «1» ميثاقه: إن أدركه ليؤمننّ به؛ وقيل:
أن يبيّنه لقومه، ويأخذ ميثاقهم أن يبيّنوه لمن بعدهم؛ وقوله تعالى: (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ)
الخطاب لأهل الكتاب المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه «2» ، أنه قال: لم يبعث الله نبيا من آدم فمن بعده، إلا أخذ عليهم العهود فى محمد صلى الله عليه وسلم: لئن بعث وهو حىّ ليؤمنن به ولينصرنّه ويأخذ العهد بذلك على قومه. ونحوه عن السّدّى وقتادة.
وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)
. روى عن قتادة: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: كنت أول الأنبياء فى الخلق، وآخرهم فى البعث. قال القاضى عياض: فلذلك وقع ذكره مقدّما هنا قبل نوح وغيره، صلى الله عليهم أجمعين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشّر بى عيسى» الحديث. يشير بدعوة إبراهيم عليه السلام إلى قوله تعالى إخبارا عنه: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .(16/106)
وأما ما جاء فى كتب الله السالفة
، فقد علمنا قطعا أن أهل الكتاب بدّلوا فى كتب الله تعالى المنزلة على أنبيائهم، وحرّفوا كلمها عن مواضعه، وحذّفوا منها أشياء فيها صريح ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغيا منهم وحسدا وجحودا ونكالا وافتراء على الله تعالى. هذا لا مرية عندنا فيه ولا خلاف، وقد اتّفقوا على أشياء فى كتبهم وترجموا عنها بالعربية، تدل على نبوّة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن نذكرها إن شاء الله، وكتموا فيها ما أخبر به من أسلم من أحبار يهود وغيرهم، وعرض ذلك على من استمرّ على كفره، فلم يسعه إنكاره بل أقرّبه، على ما نذكر إن شاء الله تعالى فى مواضعه.
فأما ما اتفقوا عليه مما جاء فى التوراة وترجموه بالعربية ورضوا ترجمته
فمن ذلك قوله: «جاء الله من طور سيناء، وأشرق لنا من ساعير، واستعلن من جبال فاران» . وفى ترجمة «1» أخرى كذلك: «تجلى الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران» . قال العلماء: وفى هذا تصريح بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الطّور «2» هو الجبل الذى اصطفى الله تعالى موسى عليه بتكليمه، وساعير: جبل بالشام منه ظهرت نبوّة عيسى بن مريم، وبالقرب منه قرية الناصرة التى ولد فيها، وفاران: هى مكة شرفها الله تعالى.(16/107)
قال الشيخ حجة الدين أبو هاشم «1» محمد بن ظفر فى كتابه المترجم بخير البشر «2» :
لا يخالف فى هذا أحد من أهل الكتاب. قال: «وأما قوله: جاء الله من طور سيناء فإن مجىء «3» الله هو مجىء كتابه وأمره كما قال الله تعالى: (فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)
؛ أى أتاهم أمره. وقوله: «وأشرق لنا من ساعير» كناية عن ظهور أمره «4» وكلامه، قال: وكذلك قوله: «واستعلن من جبال فاران» ، أى ظهر أمره، وكتابه، وتوحيده، وحمده، وما شرعه رسوله من ذكره بالأذان والتلبية «5» وغير ذلك؛ قال ابن ظفر «6» : «وقرأت فى ترجمة للتوراة خطابا لموسى عليه السلام، والمراد به الذين اختارهم لميقات ربه فأخذتهم الرّجفة خصوصا، ثم سائر بنى إسرائيل عموما: والله ربك يقيم نبيا من إخوتك، فاستمع له كالذى سمعت ربّك فى حوربت يوم الاجتماع حين قلت: لا أعود أسمع صوت الله «7» ربى لئلا أموت، فقال الله لى «8» :
نعم ما قالوا، وسأقيم لهم نبيا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامى فى فمه، فيقول لهم:
كلّ شىء آمره به، وأيّما رجل لم يطع من تكلم باسمى فإنى أنتقم منه.
وفى هذا «9» أدلّة على نبوّة نبينا صلى الله عليه وسلم، منها قوله: «من إخوتهم» ، وموسى وقومه من بنى إسحاق، وإخوتهم بنو إسماعيل، ولو كان الموعود «10» من(16/108)
بنى إسحاق، لكان من أنفسهم، لا من إخوتهم، كما قال تعالى إخبارا عن إبراهيم فى دعوته: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ)
، وكما قال تعالى: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)
؛ ومنها قوله: «نبيا مثلك» ، وقد قال فى التوراة: «لا يقوم فى بنى إسرائيل أحد مثل موسى» ، وفى ترجمة أخرى: «مثل موسى لا يقوم فى بنى إسرائيل أبدا» ؛ ومنها قوله: «أجعل كلامى فى فمه» ، فهو واضح أن المقصود به محمد صلى الله عليه وسلم، لأن معناه: أوحى إليه بكلامى فينطق به؛ وقوله: «أيّما رجل لم يطع من تكلّم باسمى فإنى أنتقم منه» دليل على كذب اليهود فى قولهم: إن الله أمرنا بمعصية كلّ نبى دعا إلى دين سمّى نسخا لبعض ما شرعه موسى صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
وأما ما اتفقوا عليه، ورضوا ترجمته مما فى الإنجيل
فمن ذلك ما ترجموه فى الإنجيل: أن عيسى عليه السلام قال: «إن أحببتمونى فاحفظوا وصيتى، وأنا أطلب إلى أبى فيعطيكم بارقليط آخر يكون معكم الدهر كلّه، فهذا تصريح بأن الله سيبعث إليهم من يقوم مقامه، وينوب عنه فى تبليغ رسالات ربه، وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلّدة أبدا» ، ولم يأت بذلك بعد عيسى إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنه ما ترجموه: «إن هذا الكلام الذى سمعتموه ليس هو لى، بل للأب الذى أرسلنى، كلّمكم بهذا وأنا معكم، فأما البارقليط: روح القدس الذى يرسل أبى باسمى، فهو يعلّمكم كلّ شىء، ويذكّركم جميع ما أقول لكم» .
قال ابن ظفر: قولهم: «أبى» : فهذه اللفظة عندنا مبدلة محرّفة، وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين إشارة إلى الرب سبحانه، لأنها عندهم لفظة(16/109)
تعظيم يخاطب بها المتعلّم معلّمه الذى يستمدّ العلم منه؛ قال: ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية؛ قال: وأما قوله: «يرسله أبى باسمى» فهو إشارة إلى شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالصّدق والرسالة، وما تضمّنه القرآن من مدحه وتنزيهه عما افتراه اليهود فى أمره.
ومما ترجموه ورضوا ترجمته قولهم: إنه قال: «إذ قال البارقليط الذى أرسل إليكم من عند أبى، روح الحق الذى يخرج من الأب، فهو يشهد لى، وأنتم تشهدون لى أيضا لكينونتكم معى من أوّل أمرى» .
قال: قوله «روح الحق الذى يخرج من الأب» كناية عن كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) .
وقوله: «يشهد لى» تصريح بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لم يشهد للمسيح عليه السلام بالنبوّة، والنزاهة عما افترى عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيّه ورسوله، كتاب سوى القرآن، ولم تزل الأمم تكذّب المتّبعين للمسيح، واليهود يفترون العظائم من البهتان، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فشهد للمسيح بما شهد به حواريّوه الذين كانوا معه من أوّل أمره، والمهتدون من أمته.
قال: ومما رضوه من الترجمة أيضا عن الإنجيل قوله فيه: «إن انطلاقى خير لكم، لأنى إن لم أنطلق لم يأتكم البارفليط؛ فإذا انطلقت أرسلت به إليكم، فإذا جاء فنّد أهل العلم» . قال: فهذا ظاهر، وقوله: «أرسلت به إليكم» إن كان سالما من التحريف، فمعناه مثل معنى قوله: «إن لم أنطلق لم يأتكم» ، وقوله:
«فنّد» وصف صريح للنبىّ صلى الله عليه وسلم، فهو الذى فنّد علماء اليهود والنّصارى فيما أطبقوا عليه من أن المسيح قتل وصلب بعد أن عذّب، وما انفرد(16/110)
به علماء اليهود من بهتانهم فى الطّعن على المسيح، وما انفرد به علماء النّصارى من الدعوة إلى ألوهية المسيح، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم فنّد جميعهم. والتّفنيد:
التخطئة وتقبيح القول والرأى.
قال ابن ظفر: وقرأت فى ترجمة أخرى للإنجيل: أنه قال: «البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبّخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه ما يسمع يكلّمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب» . ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى وبخ العلماء من أهل الكتاب على كتمان الحق، وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدّين بالثّمن البخس من عرض «1» الدنيا، وهو الذى أخبر بالحوادث والغيوب.
وقال ابن ظفر: والذى صح عندى فى معنى البارقليط: أنه الحكيم الذى يعرف السّر؛ وقد تقدّم ما يدلّ على أنه الرسول.
وأما ما جاء فى زبور داود عليه السلام ممّا ترجمه أهل الكتاب،
فمن ذلك قوله: «اللهم اجعل جاعل السّنة يحيا، يعلّم الناس أنه بشر» ؛ ويفهم من هذا: أن داود عليه السلام أطلعه الله تعالى على ما سيقوله النصارى فى المسيح إذا أرسله، من أنه إله معبود، فدعا الله سبحانه بأن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيعلّمهم أن المسيح بشر.
وفيه أيضا مما ترجموه: «أنه فاضت الرحمة على شفتيك، من أجل ذلك أبارك عليك، إلى الأبد، فتقلّد السّيف، فإن بهاءك وحمدك الغالب، واركب كلمة الحق، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك؛ والأمم يخرون تحتك» ؛ قال: فالذى قرنت شريعته بهيبة يمينه، وخرّت الأمم تحته، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.(16/111)
ومنها، وذكر رجلا فقال: «فإذا قام جاز «1» من البحر إلى البحر، ومن عند الأنهار إلى منقطع البرّ، وخرّ أهل الجزائر قدّامه على وجوههم وركبهم، ولحس أعداؤه التراب لهيبته، وجاءته الملوك بالقرابين، ودانت له الأمم بالطاعة؛ لأنه يخلّص الضعيف المغلوب البائس ممن هو أقوى منه، ويقوّى الضعيف الذى لا ناصر له، ويرحم المساكين، ويصلّى ويبارك عليه فى كلّ وقت، ويدوم ذكره إلى الأبد» .
فهذا فى غاية الظّهور أن المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما ترجموه من كتاب شعيا «2» عليه السلام ورضوا ترجمته
فقوله «3» :
«عبدى الذى سرّت به نفسى أنزل عليه وحيى، فيظهر فى الأمم عدلى، ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته فى الأسواق «4» ؛ يفتح العيون العور، والآذان الصّمّ، ويحيى القلوب الغلف؛ وما أعطيه لا أعطى «5» أحدا، مشقّح «6» يحمد الله حمدا جديدا، يأتى من أقصى الأرض، تفرح البرية وسكانها يهلّلون الله على كلّ شرف، ويكررونه على كل رابية، ولا يضعف ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى ولا يذلّ الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوّى الصدّيقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذى لا يطفأ، أثر سلطانه على كتفيه» .(16/112)
قال ابن ظفر «1» : هذه ترجمة السريانيين، وعبّر العبرانيون عنه بأن قالوا: «على كتفيه علامة النبوّة» ؛ فهذا كلّه صريح فى البشارة به صلى الله عليه وسلم، مع ما فيه من ذكر قيام دولة العرب بقوله: «تفرح البريّة وسكّانها» ؛ وأما قوله: [مشقّح «2» ] فهو محمد، لأن الشّقح بلغتهم الحمد.
ومما ترجموه منه أن شعياء عليه السلام قال «3» : «قم نظّارا فانظر ما ترى، فأخبر به، فقلت: أرى راكبين مقبلين، أحدهما على حمار، والآخر على جمل؛ يقول أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها» فهذه بشارة صريحة بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه راكب الجمل لا محالة، ولأن ملك بابل إنما ذهب بنبوّته صلى الله عليه وسلم وعلى يد أصحابه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال «4» : وقد كان على باب من أبواب الإسكندرية صورة جمل من نحاس، عليه راكب من نحاس. فى هيئة العرب مؤتزر مرتد، عليه عمامة، وفى رجليه نعلان، كلّ ذلك من نحاس؛ وكانوا إذا تظالموا يقول المظلوم للظالم: أعطنى حقّى قبل أن يخرج هذا فيأخذ لى بحقّى منك، شئت أو أبيت، ولم يزل الصّنم على ذلك حتى افتتح عمرو بن العاص أرض مصر، فغيّبوا الصنم.
ومنه: «أيّتها العاقر! افرحى واهتزّى وانطلقى بالتسبيح، فإن أهلك يكونون أكثر من أهلى» . قال: فالعاقر مكة، لأنهابواد غير ذى زرع، أو لأن الله لم يبعث(16/113)
بها نبيا فى ذلك الزمن دون غيرها، فهى عاقر، وقوله: «انطلقى بالتسبيح» إشارة إلى عمارتها بأهل ذكر الله، وقوله: «يكون أهلك أكثر من أهلى» ، قال: إن سلم من التحريف وسوء العبارة «فمن» زائدة، والمعنى أن المسلمين يكونون أكثر أهل طاعة الله وتوحيده «1» ، وقد أخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم أن أمّته أكثر أهل الجنة. والآل والأهل يكنّى بهما عن [الجماعة] الخاصّة «2» ، قال عبد المطلب بن هاشم:
نحن آل الله فى بلدتنا ... لم نزل آلا «3» على عهد إرم
ولمّا روجع أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى استخلافه عمر بن الخطّاب وقيل له: ماذا تقول لربك وقد استخلفت علينا فظّا غليظا؟ فقال: أقول تركت على أهلك خير أهلك. والله الفعّال.
ومن كتاب شمعون عليه السلام ممّا ترجموه ورضوا ترجمته
قوله: «جاء الله بالبيّنات «4» من جبال فاران، وامتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته» ، وقد تقدّم أن جبال فاران هى جبال مكّة شرّفها الله، ومجىء الله هو مجىء كتابه.
ومن كتاب حزقيل عليه السلام مما ترجموه من قصة ذكر فيها ظهور اليهود وعزّتهم، وكفرانهم للنعم، فشبّههم فيها بالكرمة حيث «5» قال: «لم تلبث تلك الكرمة أن قلعت «6» بالسخطة، ورمى بها على الأرض، فأحرقت السمائم أثرها، فعند ذلك غرس غرس فى البدو، وفى الأرض المهملة العطشى، فخرجت من أغصانه الفاضلة نار فأكلت تلك الكرمة حتى لم يوجد فيها قضيب» .(16/114)
قال: فلا شك أن أرض البدو المهملة العطشى هى أرض العرب، وغرس الله الذى غرسه فيها هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخزى الله به اليهود والله أعلم.
وممّا نقل من كلام خيقوق،
وهو الذى زعمت اليهود أنه ادّعى النبوّة فى عهد بختنصّر، وحكوا عنه أنه قال: «إذا جاءت الأمّة الآخرة يسبّح بهم صاحب الجمل- أو قال: راكب الجمل- تسبيحا جديدا فى الكنائس الجدد، فافرحوا، وسيروا إلى صهيون بقلوب آمنة، وأصوات عالية، بالتسبيحة الجديدة التى أعطاكم الله فى الأيام الآخرة، أمّة جديدة بأيديهم سيوف ذوات شفرتين، فينتقمون من الأمم الكافرة فى جميع الأقطار» . ولا شكّ أن راكب الجمل أو صاحب الجمل من الأنبياء هو محمد صلى الله عليه وسلم، والأمّة الجديدة هى العرب، والكنائس الجدد هى المساجد، وصهيون: مكة، والتسبيحة الجديدة: «لبّيك اللهم لبّيك» .
ونقل أيضا عن خيقوق هذا أنه قال: «جاء الله من اليمن، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وملك بيمينه رقاب الأمم، وأضاءت الأرض لنوره، وحملت خيله فى البحر» . والله أعلم.
ومما وجد بخط موسى بن عمران عليه السلام
ما روى معمر عن الزّهرى أنه قال: أشخصنى هشام بن عبد الملك إلى الشام، فلما كنت بالبلقاء وجدت حجرا مكتوبا عليه بالخط العبرانىّ، فطلبت من يقرؤه، فأرشدت إلى شيخ، فانطلقت به إلى الحجر، فقرأه وضحك، فقلت: ممّ تضحك؟ قال: أمر عجيب، مكتوب على هذا الحجر: باسمك اللهم جاء الحقّ من ربك، لسان عربىّ مبين؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكتبه موسى بن عمران بخطّ يده.(16/115)
وإنما ألحقنا هذا الخبر بما قبله لأن موسى صلى الله عليه وسلم إنما يكتب بخطه ما تلقّاه عن الله تعالى، أو عن كتبه المنزلة؛ وهذا الذى أوردناه مما جاء فى كتب الله السالفة هو الذى أبداه أهل الكتاب وأثبتوه، وترجموه ورضوا ترجمته فى تحريفهم وتبديلهم.
وأما ما كتمه أهل الكتاب ممّا فيه صريح ذكر النبى صلى الله عليه وسلم
ودلّنا عليه وأخبرنا به من أسلم «1» منهم ممّن جاز لنا أن نروى عنه ونقبل روايته؛ مثل وهب، وكعب الأحبار، وأبى ثعلبة بن أبى مالك.
فأما «2» ما جاء عن وهب بن منبّه.
فإنه روى عنه أنه قال: قرأت فى بعض كتب الله المنزلة على نبىّ من بنى إسرائيل: «أن قم فى قومك، فقل يا سماء اسمعى، ويا أرض أنصتى؛ لأن الله يريد أن يقصّ شأن بنى إسرائيل:
أنى ربّيتهم بنعمتى، وآثرتهم بكرامتى، واخترتهم لنفسى، وأنى وجدت بنى إسرائيل كالغنم الشاردة التى لا راعى لها، فرددت شاردها، وجمعت ضالّتها، وداويت مريضها، وجبرت كسيرها، وحفظت سمينها؛ فلما فعلت بها ذلك بطرت، فتناطحت كباشها، فقتل بعضها بعضا. فويل لهذه الأمّة الخاطئة، ويل لهؤلاء القوم الظالمين؛ إنى قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء حتما، وجعلت له أجلا مؤجّلا لا بدّ منه، فإن كانوا يعلمون الغيب فليخبروك متى حتمته، وفى أى زمان يكون ذلك، فإنى مظهره على الدين كله، فليخبروك متى يكون هذا، ومن القيّم به، ومن أعوانه وأنصاره، إن كانوا يعلمون الغيب فإنى باعث بذلك رسولا من الأمّييّن ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صحّاب فى الأسواق، ولا قوّال بالهجر والخنى، أسدّده(16/116)
بكل جميل، وأهب له كلّ خلق كريم، وأجعل السكينة على لسانه، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه والحقّ شريعته، والعدل سيرته، والإسلام ملّته، أرفع به من الوضيعة، وأغنى به من العيلة، وأهدى به من الضلالة، وأؤلّف به بين قلوب متفرّقة، وأهواء مختلفة، وأجعل أمّته خير الأمم إيمانا بى وتوحيدا «1» لى، وإخلاصا بما جاء به رسولى، ألهمهم التسبيح والتحميد والتمجيد لى فى صلواتهم «2» ومساجدهم ومنقلبهم ومثواهم، يخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتى يقاتلون فى سبيلى صفوفا، ويصلّون «3» لى قياما وركوعا وسجودا، يكبّروننى على كلّ شرف، رهبان بالليل، أسد بالنهار؛ ذلك فضلى أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم» .
ومنه ما روى عنه أنه قال: قرأت فى بعض الكتب القديمة: «قال الله تبارك وتعالى: وعزّتى وجلالى لأنزلنّ على جبال العرب نورا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد إسماعيل نبيا عربيا أمّيا يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بى ربّا، وبه رسولا، ويكفرون بملل آبائهم، ويفرّون منها. قال موسى: سبحانك وتقدّست أسماؤك! لقد كرّمت هذا النبى وشرّفته، قال الله عز وجل: يا موسى إنى أنتقم من عدوّه فى الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة، وسلطانه ومن معه «4» على البر والبحر، وأخرج لهم من كنوز الأرض، وأذلّ من خالف شريعته؛ يا موسى: بالعدل ربّيته «5» ، وبالقسط أخرجته؛(16/117)
وعزّتى لأستنقذنّ به أمما من النار، فتحت الدنيا بإبراهيم، وختمتها بمحمد، مثل كتابه الذى يجىء به، فاعقلوه يا بنى إسرائيل مثل السّقاء المملوء لبنا يمخض فيخرج زبدا، بكتابه أختم الكتب، وبشريعته أختم الشرائع، فمن أدركه ولم يؤمن به ولم يدخل فى شريعته فهو من الله برىء، أجعل أمّته يبنون فى مشارق الأرض ومغاربها مساجد، إذا ذكر اسمى فيها ذكر اسم ذلك النبىّ معى، لا يزول ذكره من الدنيا حتى تزول.
وأما ما جاء عن كعب الأحبار رحمه الله،
فمن ذلك ما روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: يا كعب، أدركت النبىّ صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن موسى بن عمران تمنّى أن يكون فى أيامه فلم تسلم على يده، ثم أدركت أبا بكر وهو خير منّى فلم تسلم على يده، ثم أسلمت فى أيّامى، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علىّ، فإنى كنت أتثبّت حتى أنظر كيف الأمر؟ فوجدته كالذى هو فى التوراة. قال عمر: كيف هو فيها؟ قال: رأيت فى التوراة أن سيد الخلق، والصفوة من ولد آدم، يظهر من جبال فاران من منابت القرظ من الوادى المقدّس، فيظهر التوحيد والحق، ثم ينتقل إلى طيبة، فتكون حروبه وأيامه بها، ثم يقبض فيها، ويدفن بها. قال عمر: ثم ماذا يا كعب؟ قال كعب: ثم يلى بعده الشيخ الصالح. قال عمر: ثم ماذا؟
قال كعب: ثم يموت متّبعا. قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلى بعده القرن الحديد- وفى لفظ: مدرع من حديد- قال عمر: وادفراه «1» ! ثم ماذا؟
قال كعب: ثم يقتل شهيدا؛ قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلى صاحب(16/118)
الحباء والكرم، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يقتل مظلوما، قال عمر:
ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلى صاحب المحجّة البيضاء، والعدل والسواء، صاحب الشّرف التامّ، والعلم الجام «1» ، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يموت شهيدا سعيدا، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم ينتقل الأمر إلى الشام؛ قال عمر:
حسبك يا كعب.
ومما جاء عنه ما روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: أن رجلا جاء إلى كعب الأحبار من بلاد اليمن فقال له: إن فلانا الحبر اليهودىّ أرسلنى إليك برسالة، قال كعب: هاتها! فقال: إنه يقول لك: ألم تكن فينا سيّدا شريفا مطاعا؟ فما الذى أخرجك من دينك إلى أمّة «2» محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعا؟ قال: نعم، قال: فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا يفرّ منك وقل له: يقول لك كعب: أسألك بالذى ردّ موسى إلى أمّه، وأسألك بالذى فلق «3» البحر لموسى، وأسألك بالذى ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها علم كلّ شىء، ألست تجد فى كتاب الله أن أمّة محمد ثلاثة أثلاث، فثلث يدخلون الجنّة بغير حساب، وثلث يدخلون الجنة برحمة الله، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة؛ فإنه سيقول لك: نعم. فقل له: يقول لك كعب: اجعلنى فى أىّ هذه الثلاثة شئت.
ومنه ما رواه عطاء بن يسار وأبو صالح عنه «4» أنه قال: أجد فى التوراة:
أحمد عبدى المختار، لا فظّ، ولا غليظ، ولا صحّاب فى الأسواق، ولا مجز(16/119)
بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، أمّته الحمّادون؛ يحمدون الله على كلّ حال، ويسبّحونه فى كلّ منزلة، ويكبّرونه على كل شرف، يأتزرون على أوساطهم، ويصونون أطرافهم «1» ، وهم رعاة الشمس، ومؤذّنهم ينادى فى جوّ السماء، وصفّهم فى الصلاة سواء؛ رهبان بالليل، أسد بالنهار، لهم بالليل دوىّ كدوىّ النحل، يصلّون الصلاة حيثما أدركتهم من الأرض؛ مولده مكّة، مهاجره طابة، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الأمّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح الله به أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا.
ومنه ما روى أن معاوية بن أبى سفيان قال لكعب: دلّنى على أعلم الناس بما أنزل الله على موسى لأسمع كلامك معه، فذكر له رجلا من اليهود باليمن، فأشخصه إليه، فجمع معاوية بينهما، فقال له كعب: أسألك بالذى فرق البحر لموسى أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: يا رب إنى أجد أمة مرحومة، وهى خير أمّة أخرجت للنّاس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأوّل «2» ، ويؤمنون بالكتاب الآخر «3» ، ويقاتلون أهل الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الكذّاب، فاجعلهم يا ربّ أمّتى، قال: هم أمّة أحمد؟
قال الحبر: نعم أجد ذلك، ثم قال: كعب للحبر: أنشدك الله الذى فرق البحر لموسى، أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: رب إنى أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر، وإذا هبط واديا حمد الله، الصعيد(16/120)
لهم طهور، يتطهّرون به من الجنابة كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، حيث كانوا فلهم مسجد، غرّ محجّلون من الوضوء، فاجعلهم أمتى. قال:
هم أمة أحمد؟ فقال الحبر: نعم أجد ذلك؛ قال: أنشدك الله الذى فرق البحر لموسى، أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: رب إنى أجد أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة مثلها، وإذا عملها أضعفت له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، فإذا عملها كتبت عليه سيئة مثلها، فاجعلهم أمّتى، قال: هم أمّة أحمد؟
قال الحبر: نعم، أجد ذلك؛ قال كعب: أنشدك الله الذى فرق البحر لموسى، أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: يا رب إنى أجد أمّة يأكلون كفّاراتهم وصدقاتهم، إنهم يطعمونها مساكينهم ولا يحرقونها كما كان غيرهم من الأمم يفعل؟. وجاء فى حديث آخر غير هذا ممّا هو منسوب إلى كتب الله السالفة: «يأكلون قرابينهم «1» فى بطونهم» . والمراد الضحايا.
ومنه ما روى عنه أنه قال: كان لأبى سفر من التوراة يجعله فى تابوت ويختم عليه، فلما مات أبى فتحته، فإذا فيه: إن نبيا يخرج فى آخر الزمان هو خير الأنبياء «2» ، وأمّته خير الأمم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، يكبّرون الله على كل شرف، ويصفّون فى الصلاة كصفوفهم فى القتال، قلوبهم مصاحفهم، يأتون يوم القيامة غرّا محجّلين، اسمه أحمد، وأمته الحمّادون، يحمدون الله على كل شدّة، رخاء، مولده مكة، ودار هجرته طابة، لا يلقون عدوّا إلا وبين أيديهم(16/121)
ملائكة معهم رماح، تحنّن الله عليهم كتحنّن «1» الطير على فراخها، يدخلون الجنّة؛ يأتى ثلث منهم يدخلون «2» الجنة بغير حساب، ثم يأتى ثلث منهم بذنوب وخطايا، فيغفر لهم، ويأتى ثلث «3» بذنوب وخطايا عظام، فيقول الله: اذهبوا بهم فزنوهم وانظروا إلى أعمالهم، فيزنونهم «4» ويقولون: ربنا! وجدناهم قد أسرفوا على أنفسهم، ووجدنا أعمالهم من الذنوب أمثال الجبال، غير أنهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، فيقول الله: وعزّتى لا أجعل من أخلص لى الشهادة كمن كفر بى؛ قال كعب:
فأنا أرجو أن أكون من هذه الثلاثة إن شاء الله تعالى.
ومنه ما روى أن رجلين جلسا يتحدّثان وكعب الأحبار قريب منهما، فقال أحدهما: رأيت فيما يرى النائم كأن الناس حشروا، فرأيت النبيّين كلّهم لهم نوران نوران، ورأيت لأشياعهم «5» نورا نورا، ورأيت محمدا صلى الله عليه وسلم وما من شعرة فى رأسه ولا جسده إلا وفيها نور، ورأيت أتباعه ولهم نوران نوران، فقال له كعب: اتق الله تعالى يا عبد الله! وانظر ما تتحدّث «6» به، فقال الرجل: إنما هى رؤيا منام أخبرت بها على ما أريتها، فقال كعب: والذى بعث محمدا بالحق صلى الله عليه وسلم، وأنزل التوراة على موسى بن عمران، إنّ هذا لفى كتاب الله المنزل على موسى بن عمران كما ذكرت.
وأما ما جاء «7» عن أبى ثعلبة وهو أبو مالك،
وكان من أحبار يهود، فقد روى الواقدىّ أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال له: يا أبا مالك! أخبرنى(16/122)
بصفة النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى التّوراة فقال: إن صفته فى توراة بنى إسرائيل «1» التى لم تبدّل ولم تغيّر أحمد، من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهو آخر الأنبياء؛ وهو النبىّ العربىّ، يأتى بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، فى عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوّة، ليس بالقصير ولا بالطويل، يلبس الشّملة، ويجتزئ بالبلغة ويركب الحمار «2» ، ويمشى فى الأسواق، سيفه على عاتقه، لا يبالى من لقى من الناس، معه صلاة لو كانت فى قوم نوح ما أهلكوا بالطّوفان، ولو كانت فى قوم عاد ما أهلكوا بالرّيح، ولو كانت فى ثمود ما أهلكوا بالصّيحة، مولده مكّة، ومنشؤه وبدء نبوّته بها، ودار هجرته يثرب بين لابتى حرّة ونخل وسبخة، وهو أمّىّ لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وهو الحمّاد يحمد الله على كلّ شدّة ورخاء، سلطانه بالشام، وصاحبه من الملائكة جبريل، يلقى من قومه أذى شديدا، ثم يدال عليهم فيحصدهم حصدا، تكون له وقعات بيثرب، منها له ومنها عليه، ثم له العاقبة، معه قوم هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم، وقربانهم دماؤهم، ليوث النهار رهبان الليل، يرعب عدوّه منه مسيرة شهر، يباشر القتال بنفسه حتى يجرح ويكلم، لا شرطة معه ولا حرس، الله يحرسه.
وكان من هؤلاء أيضا عبد الله بن سلام «3» ومخيريق «4» ؛
وسنذكر أخبارهما إن شاء الله تعالى عند ذكر إسلامهما بعد الهجرة على ما تقف عليه هناك.
هذه رواية من أسلم من أهل الكتاب.(16/123)
وأما من بشّر به صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين ممّن لم يسلم ظاهرا،
ولا علم لهم إسلام، ومن أقرّ بنبوّته صلى الله عليه وسلم ولم يدر له مكان.
فمن «1» هؤلاء من بشّر به وأخبر بنبوّته قبل مولده، ومنهم من ذكر ذلك حال مولده لقرائن كان يرقب وقوعها تدلّ على مولده فوقعت؛ ومنهم من بشّر به فى حال طفوليّته، ومنهم من بشّر به قبل مبعثه، ومنهم من ذكر صفته بعد مبعثه ورؤيته له، وذكّر قومه بها وحقّق عندهم أنه هو، ودليل كلّ منهم ما كان يجده عنده من أخباره فى الكتب السالفة التى تلقّاها عن أسلافه، ومنهم من أظهر صحفا كانت عنده فيها صريح ذكره وصفته، ومنهم من أظهر تمثال صورته، وصور بعض أصحابه وهيئتهم، وكان ذلك مصوّرا فى بيوت فى بيعهم على ما تذكر ذلك مسهبا «2» إن شاء الله.
فأما من بشّر به وأخبر بنبوّته وصفته صلّى الله عليه وسلم قبل مولده؛
فمن ذلك ما حكاه ابن إسحاق فى خبر تبّع الأوّل
«3» ، قال: وكان من الخمسة الذين كانت لهم الدنيا بأسرها، وكان له وزراء، واختار منهم واحدا، وأخرجه معه، وكان يسمّى عمار «4» يشا، وأخذه لينظر فى مملكته، وخرج معه مائة ألف من الفرسان، وثلاثة وثلاثون ألفا، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرّجّالة، وكان إذا أتى بلدة يختار منها عشرة رجال من حكمائها، حتى جاء إلى مكة، فكان معه مائة ألف رجل من العلماء والحكماء الذين اختارهم من البلدان، فلم يهبه أهل مكة(16/124)
ولم يعظّموه، فغضب لذلك، ثم دعا وزيره عمار «1» يشا وقال: كيف شأن أهل هذه البلدة؟ فإنهم لم يهابونى، ولم يخافوا عسكرى، فقال: أيها الملك إنهم قوم عرب «2» جاهلون لا يعرفون شيئا، وإن لهم بيتا يقال له كعبة، وهم معجبون بهذا البيت، وهم قوم يعبدون الطّواغيت، ويسجدون للأصنام. فقال الملك:
وهم معجبون بهذا البيت؟ قال: نعم، فنزل بعسكره ببطحاء مكّة، وفكر فى نفسه دون الوزير، وعزم على هدم الكعبة، وتسميتها خربة، وأن يقتل رجالهم، ويسبى نساءهم، فأخذه الله بالصّداع، وتفجّر من عينيه وأذنيه ومنخريه وفمه ماء منتن، فلم يصبر عنه أحد طرفة عين من نتن الريح، فاستيقظ لذلك وقال لوزيره: اجمع العلماء والحكماء والأطبّاء وشاورهم فى أمرى، فاجتمع عنده الأطبّاء والعلماء والحكماء، فلم يقدروا على المقام عنده، ولم يمكنهم مداواته، فقال: إنى جمعت الأطبّاء والعلماء والحكماء من جميع البلدان، وقد وقعت فى هذه الحادثة ولم يقدروا على مداواتى، فقالوا بأجمعهم: إنا نقدر على مداواة ما يعرض من أمور الأرض، وهذا شىء من السماء لا نستطيع ردّ أمر السماء، ثم اشتدّ أمره، وتفرّق الناس عنه، ولم يزل أمره فى شدّة حتى أقبل الليل، فجاء أحد العلماء إلى الوزير وقال: إن بينى وبينك سرا، وهو إن كان الملك يصدقنى فى حديثه عالجته، فاستبشر الوزير بذلك وأخذ بيده، وحمله إلى الملك، وأخبره بما قال الحكيم، وما التمسه من صدق الملك، حتى يعالج علّته، فاستبشر الملك بذلك، وأذن له فى الدّخول، فلما دخل قال: أريد الخلوة، فأخلى له المكان، فقال: نويت لهذا البيت سوءا؟ قال: نعم؛ إنى نويت خرابه، وقتل(16/125)
رجالهم، وسبى ذراريّهم، فقال له: إنّ وجعك وما بليت به من هذا. اعلم أن صاحب هذا البيت قوىّ يعلم الأسرار، فبادر وأخرج من قلبك ما هممت به من أذى هذا البيت ولك خير الدنيا والآخرة، قال الملك: أفعل، قد أخرجت من قلبى جميع المكروهات، ونويت جميع الخيرات، فلم يخرج العالم من عنده حتى برئ من علّته، وعافاه الله بقدرته، فآمن بالله من ساعته، وخرج من منزله صحيحا على دين إبراهيم عليه السلام، وخلع على الكعبة سبعة أثواب، وهو أوّل من كسا الكعبة، ودعا أهل مكة، وأمرهم بحفظ الكعبة، وخرج إلى يثرب، وهى يومئذ بقعة فيها عين ماء ليس فيها بيت مبنىّ ولا بناء، فنزل على رأس العين هو وعسكره وجميع العلماء الذين كانوا معه، ومعهم رئيسهم عماريشا الذى كان يرى برأيه.
ثم إن العلماء والحكماء اجتمعوا، وكانوا أربعة آلاف، فأخرجوا من بينهم أربعمائة هم أعلمهم، وبايع كلّ واحد منهم صاحبه أن لا يخرجوا من ذلك المقام وإن ضربهم الملك أو قتلهم، فلما علم الملك ما قد عزموا عليه، قال للوزير: ما شأنهم يمتنعون عن الخروج معى، وأنا محتاج إليهم؟ وأىّ حكمة فى نزولهم فى هذا المكان، واختيارهم إياه على سائر النّواحى، فلما أتاهم الوزير وسألهم عما عزموا عليه، واختيارهم المقام بهذه البقعة، قالوا له: أيها الوزر! إن شرف ذلك البيت، وشرف هذه البقعة التى نحن فيها بشرف رجل يبعث فى آخر الزمان، يقال له محمد ووصفوه، ثم قالوا: طوبى لمن أدركه وآمن به، وقد كنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا، فلما سمع الوزير مقالتهم همّ بالمقام معهم، فلما جاء وقت الرحيل أمرهم الملك أن يرتحلوا، فقالوا: لا نفعل، وقد أعلمنا الوزير بحكمة مقامنا، فدعا الوزير فأخبره بما سمع منهم، فتفكّر الملك وهمّ أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، فأقام وأمر الناس أن يبنوا أربعمائة دار، لكل رجل من العلماء(16/126)
دار، واشترى لكل واحد منهم جارية وأعتقها وزوّجها برجل منهم، وأعطى كلّ واحد منهم عطاء جزيلا، وأمرهم أن يقيموا فى ذلك الموضع إلى أن يجىء زمان النبى صلى الله عليه وسلم، ثم كتب كتابا وختمه بخاتم من ذهب، ودفعه إلى العالم الكبير، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإلا أوصى به أولاده بمثل ما أوصاه به، وكذلك أولاده حتّى ينتهى أمره إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وكان فى الكتاب: أما بعد فانى آمنت بك وبكتابك الذى أنزل عليك، وأنا على دينك وسنّتك، وآمنت بربك وربّ كلّ شىء، وآمنت بكل ما جاء من ربّك من شرائع الإيمان والإسلام، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لى، ولا تنسنى يوم القيامة، فإنى من أمّتك الأوّلين؛ وتابعيك «1» قبل مجيئك، وأنا على ملّتك وملّة أبيك إبراهيم عليه السلام. ثم ختم الكتاب ونقش عليه:
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)
وكتب على عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبىّ الله ورسوله، وخاتم النبيين، ورسول رب العالمين، صلّى الله عليه وسلّم، من تبّع الأوّل حمير بن حمير ابن وردع «2» أمانة لله فى يد من وقع اليه إلى أن يوصله إلى صاحبه، ودفع الكتاب إلى الرجل العالم الذى أبرأه من علّته. وصار تبّع من يثرب حتى مات بقلسان «3» من بلاد الهند.
وكان من اليوم الذى مات فيه تبّع الى اليوم الذى بعث فيه النبى صلى الله عليه وسلم ألف سنة لا تزيد ولا تنقص، وكان الأنصار الذين نصروا النبى صلى الله عليه وسلم من أولاد أولئك العلماء والحكماء، فلما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم الى المدينة، سأله أهل القبائل أن ينزل عليهم على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى؛ فكانوا يتعلّقون بناقته وهو يقول: خلّوا الناقة فإنها مأمورة، حتى جاءت الى دار أبى أيّوب، وكان من أولاد العالم الذى أبرأ تبعا برأيه.(16/127)
قال ابن إسحاق: واستشار الأنصار عبد الرحمن بن عوف فى إيصال الكتاب الى النبى صلى الله عليه وسلم لمّا ظهر خبره قبل هجرته، فأشار عبد الرحمن أن يدفعوه الى رجل ثقة، فاختاروا رجلا يقال له أبو ليلى وكان من الأنصار، فدفعوا الكتاب إليه وأوصوه بحفظه، فأخذ الكتاب وخرج من المدينة على طريق مكة، فوجد النبىّ صلى الله عليه وسلم فى قبيلة من بنى سليم، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه وقال: أنت أبو ليلى؟ فقال: نعم، قال: معك كتاب تبّع الأول؟ قال: نعم، فبقى الرجل متفكّرا، وقال فى نفسه: إن هذا من العجائب، ثم قال له أبو ليلى: من أنت، فإنى لست أعرفك؟ إن فى وجهك أثر السحر، وتوهمّ أنه ساحر، فقال له:
بل أنا محمد رسول الله، هات الكتاب، فأخرجه ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبى صلى الله عليه وسلم ودفعه الى علىّ كرم الله وجهه، فقرأه عليه، فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم كلام تبّع قال: مرحبا بالأخ الصالح ثلاث مرّات، ثم أمر أبا ليلى بالرجوع الى المدينة، فرجع وبشّر القوم بقدوم النبى صلى الله عليه وسلّم.
ومن ذلك ما روى أن أبا كرب تبان بن أسعد ملك اليمن «1» أحد التبابعة
لما قصد بلاد الشرق «2» ، جعل طريقه على يثرب، فلم يهج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها، فجمع له أهل المدينة ورئيسهم يومئذ عمرو بن طلّة أحد بنى النجار؛ وهو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن النجّار، وطلّة أمّه؛ وهى بنت عامر بن زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة «3» .(16/128)
قال محمد «1» بن إسحاق:
وكان رجل من بنى عدىّ بن النجّار ويقال له أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبّع حين نزل بهم فقتله، وذلك أنه وجده فى عذق له يجدّه، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما التّمر لمن أبّره، فزاد ذلك تبّعا حنقا عليهم فاقتتلوا، فكان أهل المدينة، وهم هذا الحىّ من الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه باللّيل، فيعجبه ذلك منهم ويقول: والله إن قومنا لكرام. وفى ذلك يقول حسّان بن ثابت من قصيدة لم يذكر فيها قومه:
قروا تبّعا بيض المواضى ضحاة ... وكوم عشار بالعشيات نهّض
قال فبينما تبّع على ذلك من «2» حربهم إذ جاءه حبران من أحبار يهود من بنى قريظة عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك يثرب وأهلها، فقالا له: أيها الملك، لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذلك؟ قالا: هى مهاجر نبىّ يخرج من هذا الحرم من قريش آخر الزمان، تكون داره وقراره، فرأى تبّع أن لهما علما، فانصرف عن المدينة واتّبعهما على دينهما.
ومن ذلك خبر سلمان الفارسىّ
وقصته فى سبب إسلامه «3» وهجرته إلى المدينة.
روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: حدثنى سلمان الفارسىّ من فيه، قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، من أهل قرية يقال لها جىّ،(16/129)
وكان أبى دهقان «1» قريته، وكنت أحبّ خلق الله إليه، ثم لم يزل به حبّه إياى حتى حبسنى فى بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت فى المجوسية حتى كنت قطن النار «2» الذى يوقدها لا يتركها تخبو ساعة؛ قال: وكان لأبى ضيعة عظيمة، فشغل فى بنيان له يوما، فقال يا بنى: إنى قد شغلت فى بنيانى هذا اليوم عن ضيعتى، فاذهب إليها، فأمرنى فيها ببعض ما يريد ثم قال: ولا تحتبس عنى، فإنك إن احتبست عنّى كنت أهمّ إلى من ضيعتى وشغلتنى عن كل شىء من أمرى؛ قال: فخرجت أريد ضيعته التى بعثنى إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلّون، وكنت لا أدرى ما أمر الناس بحبس «3» أبى إياى فى بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتنى صلاتهم، ورغبت فى أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدّين الذى نحن عليه، فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبى فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدّين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى أبى وقد بعث فى طلبى، وشغلته عن عمله كلّه، فلما جئته قال:
أى بنىّ! أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبت! مررت بأناس يصلّون فى كنيسة لهم، فأعجبنى ما رأيت من دينهم، فو الله ما زلت من عندهم حتى غربت الشّمس، قال: أى بنى! ليس فى ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قلت له: كلا والله! إنه لخير من ديننا، قال: فخافنى فجعل فى رجلى قيدا ثم حبسنى فى بيته، فبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجّار فأخبرونى بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النّصارى فأخبرونى بهم، فقلت: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الترجعة(16/130)
إلى بلادهم، فآذنونى بهم، فلما أرادوا الترجعة أخبرونى بهم، فألقيت الحديد من رجلى، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ قالوا الأسقفّ فى الكنيسة، فجئته فقلت: إنى رغبت فى هذا الدين، وأحببت أن أكون معك وأخدمك وكنيستك، وأتعلّم منك، وأصلّى معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء، يأمرهم بالصّدقة ويرغّبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع، ثم مات واجتمعت له النّصارى ليدفنوه فقلت لهم: إن هذا رجل سوء، يأمركم بالصّدقة ويرغّبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا، فقالوا لى: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلّكم على كنزه، قالوا: فدلّنا عليه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه. قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلا لا يصلّى الخمس أرى أنه أفضل منه، وأزهد فى الدنيا، ولا أرغب فى الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، قال: فأحببته حبا لم أحبّه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان إنى قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبّه شيئا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال: أى بنىّ، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس، وبدّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلا بالموصل، وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فالحق به. قال: فلما مات وغيّب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصانى عند موته أن ألحق بك، وأخبرنى أنك على أمره، فقال لى: أقم عندى، فأقمت عنده(16/131)
فوجدته خير رجل على أثر «1» صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له:
يا فلان إنّ فلانا أوصى بى إليك، وأمرنى باللّحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال: يا بنى والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنّا عليه إلا رجلا بنصيبين، وهو فلان، فالحق به، فلما مات وغيّب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبرى، وما أمرنى به صاحبى، فقال: أقم عندى، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل، فو الله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟
قال يا بنىّ والله ما أعلمه بقى أحد على أمرنا، فلما مات وغيّب لحقت بصاحب عمّورية، فأخبرته خبرى، فقال: أقم عندى، فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كانت لى بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إنى كنت مع فلان فأوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال: يا بنىّ والله ما أعلمه أصبح أحد على مثل ما كنّا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلّ زمان نبىّ هو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية ولا يأكل الصّدقة، بين كتفيه خاتم النبوّة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال: ثم مات وغيّب، ومكثت بعمّورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مرّ بى نفر من كلب تجّار فقلت لهم، احملونى إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتى هذه،(16/132)
وغنيمتى هذه، قالوا: نعم. وأعطيتهموها وحملونى معهم، حتى [إذا] بلغوا وادى القرى ظلمونى فباعونى من رجل يهودىّ عبدا، فكنت عنده، ورأيت النخل؛ ورجوت أن يكون البلد الذى وصف لى صاحبى، ولم يحقّ فى نفسى؛ فبينا أنا عنده، إذ قدم عليه ابن عمّ له من بنى قريظة من المدينة، فابتاعنى منه، فحملنى إلى المدينة، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبى، فأقمت بها. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرّقّ، ثم هاجر إلى المدينة، فو الله إنى لفى رأس عذق لسيدى أعمل له فيه بعض العمل، وسيدى جالس تحتى إذ أقبل ابن عمّ له، حتى وقف عليه فقال: يا فلان، قاتل الله بنى قيلة «1» ، إنهم والله الآن لمجتمعون بقباء «2» ، على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبىّ، قال: فلما سمعته أخذتنى العرواء «3» حتى ظننت أنى ساقط «4» على سيدى، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك:
ماذا تقول؟ فغضب سيدى ولكنى لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، فقلت لا شىء إنما أردت أن أستثبته عما قال. قال سلمان: وكان عندى شىء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغنى أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذووا حاجة، وهذا شىء كان عندى للصّدقة، فرأيتكم أحقّ به من غيركم، قال: فقرّبته إليه، فقال لأصحابه: كلوا! وأمسك يده(16/133)
فلم يأكل. قال: قلت فى نفسى: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا، وتحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت:
إنى قد رأيتك لا تأكل الصّدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: قلت فى نفسى: هاتان ثنتان. قال: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ببقيع الغرقد «1» قد تبع جنازة رجل من أصحابه، علىّ شملتان لى، وهو جالس فى أصحابه، فسلّمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذى وصف لى، فلما رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته، عرف أنى أستثبت من شىء وصف لى، فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبّله وأبكى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحوّل! فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثى كما حدثتك يابن عباس؛ فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه.
ثم شغل سلمان الرّق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد.
قال سلمان: ثم قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبى على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير، يعنى الآبار الصّغار، وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أعينوا أخاكم، فأعانونى بالنّخل؛ الرجل بثلاثين ودية «2» ، والرّجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشر؛ يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لى ثلاثمائة ودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقّر «3» لها، فإذا فرغت فأتنى، أكن أنا(16/134)
أضعها بيدى. قال: ففقّرت، وأعاننى أصحابى حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معى إليها، فجعلنا نقرّب إليه الودىّ، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى إذا فرغنا «1» ، فو الذى نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأدّيت النخل، وبقى علىّ المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدّجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: ما فعل الفارسىّ المكاتب؟ قال: فدعيت، فقال: خذ هذه فأدّها مما عليك يا سلمان، قال: وقلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما علىّ؟ فقال: خذها، فإن الله سيؤدّى بها عنك، وفى رواية: فأخذها رسول صلى الله عليه وسلم فقلّبها على لسانه ثم قال:
خذها فأوفهم منها. قال: فأخذتها فوزنت لهم منها- والذى نفس سلمان بيده- أربعين أوقية، فأوفيتهم حقّهم منها، وعتق سلمان. فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرّا، ثم لم يفتنى معه مشهد.
قال محمد بن إسحاق «2» بسند رفعه إلى عمر بن عبد العزيز، أنه قال: حدّثت عن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره: إن صاحب عمّورية قال له: ائت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين «3» يخرج فى كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة يعترضه ذووا الأسقام «4» ، فلا يدعو لأحد منهم إلا شفى، فاسأله عن هذا الدّين الذى تبتغى، فهو يخبرك عنه، قال سلمان:
فخرجت حتى جئت حيث وصف لى، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك،(16/135)
حتّى يخرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفى، وغلبونى عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التى يريد أن يدخل إلى منكبه «1» ، قال: فتناولته، فقال: من هذا؟ والتفت إلىّ، قلت يرحمك «2» الله أخبرنى عن الحنيفية دين إبراهيم، قال: إنك لتسألنى عن شىء ما يسأل عنه الناس اليوم، وقد أظلّ زمان نبىّ يبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فأته، فهو يحملك عليه، ثم دخل. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت «3» صدقتنى يا سلمان، لقد لقيت عيسى ابن مريم «4» .
وقد روى حديث إسلام سلمان على غير هذا الوجه، إلا أنه غير مناف له فيما هو مختصّ برسول الله صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع.
وأما من بشّر به عند مولده صلى الله عليه وسلم
للقرائن التى كان يتوقّع وقوعها تدل على مولده، فوقعت.
فمن ذلك ما روى أن يهوديا قال لعبد المطّلب جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا سيد البطحاء إن المولود الذى كنت حدّثتكم عنه قد ولد البارحة، فقال عبد المطلب: لقد ولد لى البارحة غلام، قال اليهودىّ: ما سميته؟ قال: سميته محمدا، قال اليهودىّ: هذه ثلاث يشهدن علىّ بنبوته؛ إحداهن: أن نجمه طلع البارحة، والثانية: أن اسمه محمد، والثالثة: أنه يولد فى صبابة قومه، وأنت يا عبد المطّلب صبابتهم «5» .(16/136)
ومنه ما روى أن حسّان بن ثابت قال:
والله إنى لعلى أطمى «1» فارع فى السّحر إذ سمعت صوتا لم أسمع قط صوتا أنفد «2» منه، وإذا هو «3» صوت يهودىّ على أطم من آطام اليهود معه شعلة نار، فاجتمع الناس إليه وأنكروا صراخه فقالوا: مالك ويلك! قال حسّان: فسمعته يقول: هذا كوكب أحمر قد طلع، وهو كوكب لا يطلع إلّا بالنبوّة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد، قال حسّان: فجعل الناس يضحكون منه ويعجبون لما أتى به، قال: وكان أبو قيس أحد بنى عدىّ بن النجّار قد ترهّب ولبس المسوح، فقيل له يا أبا قيس! انظر ما قال هذا اليهودى! قال: صدق وإن انتظار أحمد هو الذى صنع به ما صنع، ولعلّى أن أدركه فأومن به، فلما بلغه ظهور النبى صلى الله عليه وسلم بمكّة آمن به، وقدم النبىّ صلى الله عليه وسلم المدينة وقد نالت السنّ من أبى قيس.
وقد أشرنا إلى خبر حسّان هذا عند ذكرنا لمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأخبار فى هذا الباب كثيرة، فلا نطوّل بسردها.
وأما من بشّر به صلى الله عليه بعد مولده فى حال طفوليته وحداثة سنه.
فمن ذلك خبر سيف بن ذى يزن،
وقصّته مع عبد المطلب؛ وكان من خبره ما رواه الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ رحمه الله فى كتابه المترجم بدلائل النبوّة قال: أخبرنا أبو سهل محمد بن نصرويه بن أحمد المروزىّ بنيسابور، قال:
حدثنا أبو عبد الله محمد بن صالح المعافرىّ، قال: حدثنا أبو يزن الحميرىّ إبراهيم ابن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذى يزن، قال:(16/137)
حدّثنى عمّى أحمد بن حبيش بن عبد العزيز، قال: حدّثنى أبى عفير، قال:
حدّثنى أبى زرعة بن سيف بن ذى يزن، قال: لما ظهر سيف بن ذى يزن على الحبشة، وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئته، وتذكّر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه، وأتاه وفد قريش، منهم: عبد المطلّب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد الله ابن جدعان، وأسد بن عبد العزّى، ووهب بن عبد مناف، وقصىّ بن عبد الدار، فدخل عليه آذنه وهو فى قصر يقال له غمدان، والملك مضمّخ بالعبير، وعليه بردان أخضران، مرتد بأحدهما متّزر بالآخر، سيفه بين يديه، وعن يمينه وشماله الملوك، فأخبر بمكانهم فأذن لهم، فدخلوا عليه، فدنا منه عبد المطّلب فاستأذنه فى الكلام، فقال: إن كنت ممن يتكلّم بين يدى الملوك فقد أذنّا لك، فقال:
إن الله عز وجل أحلّك أيها الملك محلا رفيعا شامخا منيعا، وأنبتك نباتا طابت أرومته، وعظمت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، فى أطيب موضع وأكرم معدن؛ وأنت- أبيت اللّعن- ملك العرب الذى عليه الاعتماد، ومعقلها الذى تلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يهلك ذكر «1» من أنت خلفه، ولن يخمل ذكر من أنت سلفه، نحن أهل حرم الله وسدنة بيت الله، أشخصنا إليك الذى أبهجنا من كشفك الكرب الذى فدحنا، فنحن وفد التّهنئة، لا وفد المرزئة.
قال له الملك: من أنت «2» أيها المتكلّم؟ فقال: أنا عبد المطّلب بن هاشم، قال: ابن أخينا؟ قال: نعم، قال: ادنه، ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال:(16/138)
مرحبا وأهلا [وأرسلها مثلا «1» ] ، وكان أوّل من تكلّم بها، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا «2» ، يعطى عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فإنكم أهل الليل والنّهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم، ثم أنهضوا إلى دار الضّيافة والوفود، وأجريت عليهم الأنزال «3» ، فأقاموا بذلك شهرا لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم فى الانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطّلب فأدناه ثم قال له: يا عبد المطلّب، إنى مفض إليك من سرّ علمى أمرا لو غيرك يكون لم أبح به، ولكنّى رأيتك معدنه، فأطلعتك عليه «4» ، فليكن عندك مخبّا «5» حتى يأذن الله عز وجل فيه؛ إنى أجد فى الكتاب المكنون، والعلم المخزون الذى ادّخرناه لأنفسنا، واحتجنّاه «6» دون غيرنا، خبرا عظيما وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة للناس عامّة، ولرهطك «7» كافة، ولك خاصّة، فقال له عبد المطلب: مثلك أيها الملك سرّ وبرّ، فما هذا فداك «8» أهل الوبر زمرا بعد زمر؟
قال: إذا ولد بتهامة، غلام بين كتفيه شامة «9» ، كانت له الإمامة، ولكم به الزّعامة، إلى يوم القيامة. قال عبد المطلب: أيّها الملك، لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه، لسألته من بشارته إياى «10» ما أزداد به سرورا. قال له الملك: هذا حينه الذى يولد فيه أو قد ولد؛ اسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جدّه وعمه، قد ولدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا(16/139)
أنصارا يعزّبهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستفتح «1» بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويدخض أو يدحر الشيطان، وتخمد النيران وتكسر الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. قال له عبد المطلب: عز جدّك، ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك سارّنى بإفصاح؟ فقد أوضح لى بعض الإيضاح، قال له سيف [ابن ذى يزن «2» ] : والبيت ذى الحجب، والعلامات على النّصب «3» ، إنك لجدّه يا عبد المطلب غير كذب، قال: فخرّ عبد المطّلب ساجدا، فقال له سيف ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك «4» ، فهل أحسست بشىء مما ذكرت؟ قال:
نعم أيها الملك، إنه كان لى ابن وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، وإنى زوّجته كريمة من كرائم قومى «5» آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام وسميته محمدا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمّه. قال له ابن ذى يزن: إن الذى قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك «6» واحذر عليه اليهود، فإنهم أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإنى لست آمن أن تداخلهم النفّاسة، من أن تكون لكم الرياسة، فينصبون له الحبائل، ويبغون «7» له الغوائل، وهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم من غير شك «8» ، ولولا أنى أعلم أن الموت مجتاحى قبل مبعثه، لسرت(16/140)
بخيلى ورجلى حتى أجىء يثرب دار ملكه «1» ، فإنى أجد فى الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أنى أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعليت على- حداثة سنّه- أمره، ولأوطأت على أسنان العرب كعبه «2» ، ولكن سأصرف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك، ثم دعا بالقوم، وأمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد سود، وعشر إماء سود، وحلّتين من حلل البرود، وخمسة أرطال ذهب، وعشرة ارطال فضة، ومائة من الإبل، وكرش مملوء عنبرا، ولعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال [له «3» ] : إذا حال الحول فأتنى بخبره، قال: فمات سيف بن ذى يزن قبل أن يحول عليه الحول، وكان عبد المطلب كثيرا ما يقول: يا معشر قريش، لا يغبطنى رجل منكم بجزيل عطاء الملك، وإن كثر، فإنه إلى نفاد، ولكن يغبطنى بما يبقى لى ولعقبى ذكره وفخره، فإذا قيل وما هو؟ قال: سيعلم ما أقول ولو بعد حين.
قال البيهقى «4» وقد روى هذا الحديث أيضا عن الكلبىّ أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما.
ومن ذلك رؤيا رقيقة بنت أبى صيفىّ
وقصة استسقاء عبد المطلب بن هاشم وكان من خبرها ما رواه أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى رحمه الله بسند عن مخرمة بن نوفل عن أمه رقيقة بنت أبى صيفىّ بن هاشم، وكانت لدة عبد المطلب، قالت: تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع «5» ، وأرقّت العظم «6» ، قالت:(16/141)
فبينما أنا نائمة اللهم أو مهوّمة إذا هاتف يصرخ بصوت صحل صيّت يقول: معشر قريش، إن هذا النبى المبعوث منكم قد أظلّكم أيامه، وهذا إبان نجومه، وفى رواية عنها: مبعوث منكم، وهذا إبان مخرجه فحيّهلا بالخير والخصب، وفى رواية بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا عظّاما جسّاما أبيض بضّا، أوطف الأهداب، سهل الخدّين، أشم العرنين، له فخر يكظم عليه، وسنة تهدى إليه، ألا فليخلص هو وولده وليهبط إليه «1» من كل بطن رجل فليشنّوا «2» من الماء، وليمسّوا من الطيب، ثم ليستلموا الركن. وفى رواية وليطوفوا بالبيت سبعا، ثم ليرتقوا أبا قبيس فليستسق الرجل، وليؤمّن القوم [ألا وفيهم الطاهر والطيب لذاته، ألا بعثتم إذا شئتم وعشتم] «3» ، قالت: فأصبحت- علم الله- مذعورة قد اقشعرّ جلدى، ووله عقلى، واقتصصت رؤياى، فوالحرمة والحرم ما بقى أبطحىّ إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا شيبة، وتتامّت «4» إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فشنّوا وطيّبوا «5» ، واستلموا وطافوا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفقوا جنابيه ما يبلغ سعيهم مهلة، حتى إذا استوى بذروة الجبل، قام عبد المطلب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام قد أيفع أو كرب، فقال عبد المطلب: اللهم سادّ الخلّة، وكاشف الكربة، أنت معلم، وفى رواية عالم غير معلّم ومسئول غير مبخّل، وهذه عبدّاؤك وإماؤك عذرات «6» حرمك يشكون إليك سنتهم «7» أذهبت الخفّ والظلف، اللهم فأمطرن غيثا مغدقا مريعا؛ فوالكعبة ما راموا حتى تفجّرت السماء بمائها، واكتض «8»(16/142)
الوادى بتجيجه، فسمعت شيخان «1» قريش وجلّتها: عبد الله بن جذعان، وحرب ابن أمية، وهشام بن المغيرة، يقولون لعبد المطلب: هنيئا لك أبا البطحاء أى عاش بك أهل البطحاء، وفى ذلك تقول رقيقة:
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... لما فقدنا «2» الحيا واجلّود المطر
فجاد بالماء جونىّ له سيل ... دان فعاشت به الأنعام «3» والشّجر
منّا من «4» الله بالميمون طائره ... وخير من بشّرت يوما به مضر
مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما فى الأنام له عدل ولا خطر
وأما من بشّر به صلى الله عليه وسلم قبيل مبعثه،
فمن ذلك خبر اليهودىّ الذى هو من بنى عبد الأشهل. وكان من خبره ما رواه أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى بسنده عن سلمة بن سلامة بن وقش، قال: كان بين أبياتنا يهودىّ، فخرج على نادى قومه بنى عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أنّ بعثا كائن بعد الموت، وذلك قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ويحك يا فلان، وهذا كائن؟ إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون من أعمالهم؟ قال: نعم، والذى يحلف به، لوددت أن حظّى من تلك النار أن توقدوا أعظم تنّور فى داركم فتحمونه، ثم تقذفوننى فيه، ثم تطبقوا علىّ، وأنّى أنجو من النار غدا فقيل له يا فلان، فما علامة ذلك؟ قال: نبى يبعث من ناحية هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكّة(16/143)
واليمن. قالوا: فمتى تراه؟ فرمى بطرفه، فرآنى وأنا مضطجع بفناء باب أهلى، وأنا أحدّث القوم [فقال] : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنه لحىّ بين أظهرهم فامنا به وصدّقناه، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: يا فلان، ألست الذى قلت ما قلت وأخبرتنا؟ فقال: بلى. ولكن لا أومن به.
ومنه خبر إسلام أسيذ «1» وثعلبة ابنى سعية وراشد بن عبيد.
روى البيهقى «2» رحمه الله عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بنى قريظة، قال: هل تدرون عمّ كان إسلام أسيد وثعلبة ابنى سعية، وأسد «3» بن عبيد، نفر من بنى هدل «4» لم يكونوا من بنى قريظة، ولا النّضير، كانوا فوق ذلك «5» ؟ فقلت: لا.
قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيّبان، وكنيته أبو عمير، كذا ذكره الواقدى، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا قطّ لا يصلّى الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكنّا إذا أقحطنا وقلّ علينا المطر نقول: يا بن الهيّبان، اخرج فاستسق لنا، فيقول: لا والله، حتى تقدّموا أمام مخرجكم صدقة؛ فنقول: كم؟ فيقول: صاع من «6» تمر أو مدّين من شعير(16/144)
فنخرجه، ثم «1» يخرج إلى ظاهر حرّتنا ونحن معه، فيستسقى، فو الله ما يقوم من مجلسه حتى يمرّ السّحاب «2» ؛ قد فعل ذلك غير مرّة ولا مرّتين، ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة، واجتمعنا إليه، فقال: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجنى من أرض الخمر «3» والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم، قال: إنه إنما أخرجنى [أنى «4» ] أتوقّع خروج نبىّ قد أظلّ زمانه، هذه البلاد مهاجره، [وكنت أرجو أن يبعث «5» ] فاتّبعه، [وقد أظلكم زمانه «6» ] فلا تسبقنّ إليه إذا خرج يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدّماء، وسبى الذّرارىّ والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. ثم مات؛ فلما كانت الليلة التى فتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة الفتية، وكانوا شبابا أحداثا: يا معشر يهود: والله إنه للنّبىّ الذى ذكر لكم ابن الهيّبان، فقالوا: ما هو به، قالوا: بلى والله! إنها لصفته «7» ، ثم نزلوا فأسلموا، وخلّوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم؛ فلما فتح رسول الله الحصن ردّ ذلك عليهم.
ومنه ما روى أن عبد الله بن مسعود كان يحدّث «8» عن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما، «9» قال: خرجت إلى اليمن فى تجارة قبل أن يبعث النبى صلى الله عليه وسلم، فنزلت على شيخ من الأزد عالم، قد قرأ الكتب وحوى علما كثيرا، وأتى عليه من(16/145)
السن ثلاثمائة وتسعون سنة «1» ، فلما تأملنى قال: أحسبك تيميا «2» فقلت: نعم، أنا من تيم ابن مرّة؛ أنا عبد الله بن عثمان بن عامر وبن عمرو بن كعب بن سعد «3» بن تيم بن مرّة، قال: بقيت «4» لى فيك واحدة، قلت: ما هى؟ قال: اكشف لى عن بطنك، قلت:
لا أفعل أو تخبرنى لم ذلك، فقال: إنى لأجد فى العلم الصّحيح الصادق أن نبيّا يبعث بالحرم يعاونه على أمره فتى وكهل، فأما الفتى فخوّاض غمرات، وكشّاف معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف، على بطنه شامة، وعلى فخذه اليسرى علامة، ولا «5» عليك أن ترينى ما خفى علىّ؛ قال أبو بكر رضى الله عنه: فكشفت له عن بطنى، فرأى شامة سوداء فوق سرّتى، فقال: هو أنت وربّ «6» الكعبة، وإنى متقدّم إليك فى أمر فاحذره، قلت: وما هو؟ قال إياك والميل عن الهدى وتمسّك بالطريقة المثلى، وخف الله عزّ وجلّ فيما أعطاك وخوّلك.
قال أبو بكر رضى الله عنه: فقضيت باليمن أربى، ثم أتيت الشيخ لأودّعه، فقال «7» : أحامل أنت منّى أنباء إلى ذلك النّبىّ؟ قلت «8» : نعم، فأنشأ يقول:(16/146)
ألم تر أنّى قد سئمت معاشرى ... ونفسى وقد أصبحت فى الحىّ راهنا «1»
حييت وفى الأيام للمرء عبرة ... ثلاث مئين ثم تسعين آمنا «2»
وصاحبت «3» أحبارا أنا روا بعلمهم ... غياهب جهل ما ترى فيه طابنا «4»
وكم راهب فوق عنشبيل «5» قائم ... لقيت وما غادرت فى البحث كاهنا
وكلّهم لما تعطّشت قال لى ... بأن نبيّا سوف تلقاه دائنا «6»
بمكة والأوثان فيها عزيزة ... فيركسها حتى تراها كوامنا «7»
فما زلت أدعو الله فى كل حاضر ... حللت به سرّا وجهرا معالنا
وقد خمدت منّى شرارة قوّتى ... وألفيت شيخا لا أطيق الشّواجنا «8»
وأنت وربّ البيت تلقى محمدا ... بعامك هذا قد أقام البراهنا
فحىّ رسول الله عنّى فإننى ... على دينه أحيا وإن كنت واهنا «9»
فياليتنى أدركته فى شبيبتى ... فكنت له عبدا وإلا العجاهنا «10»
عليه سلام الله ما ذرّ شارق ... تألّق هنّافا من النور هافنا «11»(16/147)
قال أبو بكر رضى الله عنه: فحفظت وصيته وشعره وقدمت مكة، فجاءنى شيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو البخترىّ، وعقبة بن أبى معيط، ورجالات قريش مسلّمين علىّ، فقلت: هل حدث أمر؟ فقالوا «1» : حدث أمر عظيم؛ هذا محمد بن عبد الله يزعم أنه نبىّ أرسله الله إلى النّاس، ولولا أنت ما انتظرنا به، فإذ جئت فأنت البغية والنّهية «2» ، قال: فأظهرت لهم تعجّبا وصرفتهم على أحسن شىء «3» ، وذهبت أسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لى: هو فى منزل خديجة، فقرعت الباب عليه فخرج إلىّ فقلت: يا محمّد، فقدت من نادى قومك فاتهموك بالغيبة وتركت دين آبائك، فقال يا أبا بكر، إنى رسول الله إليك وإلى الناس كلهم [فآمن بالله «4» ] ، فقلت وما آيتك؟ قال: الشيخ الذى لقيته باليمن، قلت: وكم من شيخ قد لقيت، وبعت منه واشتريت، وأخذت وأعطيت! قال: الشيخ الذى أخبرك عنى، وأفادك الأبيات، قلت: من أخبرك بهذا يا حبيبى؟ قال: الملك العظيم الذى كان يأتى الأنبياء قبلى، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال أبو بكر رضى الله عنه: فانصرفت وما أحد أشدّ سرورا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامى.
وأما من ذكر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه ورؤيته له،
وذكّر قومه بها، وحقّق عندهم أنه هو، لما كان يجد عنده من العلم بصفته صلى الله عليه وسلم.(16/148)
فمن ذلك ما روى «1» أن صفية بنت حيىّ بن أخطب قالت: كنت أحبّ الناس إلى أبى، وكان عمى أشدّ حبّا لى، فأتيا النبىّ صلى الله عليه وسلم بقباء، ثم رجعا من عنده ثقيلين لا يلتفتان نحوى، ولا ينظران إلىّ؛ فسمعت عمّى يقول لأبى:
هل تعرفه؟ قال: نعم. قال فماذا عندك فيه؟ قال: عداوته إلى آخر الدّهر، قال عمى لأبى: أنشدك الله أن تطيعنى يأخى فى هذا، ثم اعصنى فيما سواه، هلّم نتبعه، فقال أبى: لا؛ والله لا أراك له عدوّا، فقال عمى: إنك تهلكنا، وتهلك نفسك، إن هذا نبىّ السّيف، وجعل عمى يكلّمه وهو يأبى إلا كلامه الأوّل، قالت صفية:
فلما كان الليل، وجدت نسوة من بنى النّضير جالسات يقلن: والله ما أحسن حيىّ ابن أخطب بخلاف أخيه، إنا لنعلم أن هذا نبىّ مذكور فى الكتب، وقالت عجوز منهنّ: سمعت أبى يقول لإخوتى: إن نبيا من العرب يقال له أحمد، مولده بمكة، ودار هجرته يثرب، وهو خير الأنبياء، فإن خرج وأنتم أحياء، فاتّبعوه؛ قالت صفية: وإذا هن كلهنّ يزرين على أبى، ويتعتّبن عليه فعله.
ومنه ما قاله كعب بن عمرو لبنى قريظة عند حصارهم. وسنذكر ذلك إن شاء الله فى الغزوات، وقد تقدّم خبر بحيرا، ونسطور، فلا فائدة فى إعادته هنا.
وأما من أظهر صحفا كانت عنده فيها صريح ذكره صلى الله عليه وسلم،
فمن ذلك ما روى أن رجلا أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم بورقة ورثها عن أبيه عن جدّه، وذكر أن سلفه كانوا يتوارثونها على وجه الدهر، فإذا فيها: «اسم الله وقوله الحق، وقول الظالمين فى تبار، هذا ذكر لأمّة تأتى فى آخر الزّمان، يأتزرون على أوساطهم، ويغسلون أطرافهم، ويخوضون البحر إلى أعدائهم، فيهم صلاة(16/149)
لو كانت فى قوم نوح ما هلكوا فى الطوفان؛ أو فى ثمود ما أهلكوا بالصّيحة» ، قال: فقرئت الورقة على الناس، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظها.
ومنه ما روى أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه نزل بالبليح «1» إلى جانب دير، فأتاه قيّم الدير فقال يا أمير المؤمنين: إنى ورثت عن آبائى كتابا قديما كتبه أصحاب المسيح عليه السلام؛ فإن شئت قرأته عليك؛ قال: نعم، هات كتابك؛ فجاء بكتاب فإذا فيه: الحمد لله الذى قضى ما قضى؛ وسطّر ما سطّر، إنّه باعث فى الأمّيين رسولا يعلّمهم الكتاب والحكمة، ويدلّهم على سبيل الجنة، لا فظّ ولا غليظ، ولا صخّاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السّيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحّمادون لله فى كل هبوط ونشر وصعود، تذلل ألسنتهم بالتكبير والتهليل، ينصر دينهم على كل من ناوأه.
ومنه ما روى أن أبا ذؤيب الزّاهد قال: دخلت فى سياحتى ديرا فقلت للراهب القيّم عليه: أعندك فائدة؟ قال: نعم. لك يا عربىّ، قلت: هاتها! قال: فأخرج لى ورقة فيها أربعة أسطر، فذكر أنها من الكتب المنزلة؛ ففى السطر الأوّل منها: يقول الجبّار تبارك وتعالى: أنا الله لا إله إلا أنا وحدى لا شريك لى؛ والسطر الثانى: محمد المختار عبدى ورسولى؛ والسطر الثالث:
أمته الحّمادون، أمته الحّمادون، أمّته الحمّادون؛ والسطر الرابع: رعاة الشمس، رعاة الشمس، رعاة الشمس.
وأما من أظهر تمثال صورته صلى الله عليه وسلم وصور بعض أصحابه رضى الله عنهم،
وذلك مصوّر عندهم فى بيوت فى بيعهم.(16/150)
فمن ذلك ما روى عن دحية بن خليفة الكلبىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر أنه قال: لقيت قيصر بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بدمشق، فأدخلت عليه خاليا، فناولته الكتاب فقبّل خاتمه وفضّه وقرأه، ثم وضعه على وسادة أمامه، ثم دعا بطارقته وزعماء دينه فقام فيهم على وسائد بنيت له، ثم خطبهم فقال: هذا كتاب النبىّ الذى بشّر به عيسى المسيح، وأخبر أنه من ولد إسماعيل، قال: فنخروا نخرة عظيمة، وحاصوا فأومى إليهم بيده أن اسكتوا، ثم قال: إنما جرّبتكم لأرى غضبكم لدينكم، ونصركم له، وصرفهم «1» ، ثم استدعانى من الغد فأخلانى، وأنّسنى بحديثه، وأدخلنى بيتا عظيما فيه ثلاثمائة وثلاثة عشر صورة، فإذا هى صور الأنبياء المرسلين صلى الله عليهم «2» وسلم فقال:
انظر من صاحبك من هؤلاء، فنظرت فإذا صورة النبىّ صلى الله عليه وسلم كأنما ينطق، فقلت: هو هذا، فقال: صدقت، ثم أرانى صورة عن يمينه فقال:
من هذا؟ قلت: هذه صورة رجل من قومه اسمه أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، فأشار إلى صورة أخرى عن يساره، فقلت: هذه صورة رجل من قومه يقال له عمر رضى الله عنه، فقال: إنا نجد فى الكتاب أن بصاحبيه هذين يتمّ الله أمره.
قال دحية: فلما قدمت على النبىّ صلى الله عليه وسلم أخبرته، قال: صدق، بأبى بكر وعمر يتمّ الله هذا الأمر بعدى. والله الموفق.
ومنه ما روى عن حكيم «3» بن حزام قال: دخلت الشام للتجارة «4» قبل أن أسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة، فأرسل قيصر إلينا «5» ، فجئناه ومعنا أميّة بن(16/151)
أبى الصّلت الثّقفىّ، فقال: من أى العرب أنتم؟ وما قرابتكم من هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى؟ فقال حكيم: فقلت أنا ابن عمه، يجمعنى وإياه الأب الخامس، فقال: هل أنتم صادقىّ فيما أريكموه وأسألكم عنه؟ قلنا: نعم، نصدقك أيها الملك، فقال: أنتم ممن اتّبعه أو ممن ردّ عليه؟ قلنا: ممن ردّ عليه ما جاء به وعاداه، ولكنا نصدقك مع هذا، قال: احلفوا لى بآلهتكم لتصدقنّنى فى جميع ما أسألكم عنه وأعرضه عليكم، فحلفنا له وأعطيناه من المواثيق ما أرضاه، فسألنا عن أشياء مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بها، ثم نهض واستنهضنا معه، فأتى كنيسة فى قصره، فأمر بفتحها ودخل ونحن معه، وجاء إلى ستر وأمر بكشفه فإذا صورة رجل، قال: أتعرفون من هذه صورته؟ قلنا: لا. قال:
هذه صورة آدم، ثم تتبّع أبوابا يفتحها ويكشف عن صور الأنبياء واحدا بعد واحد، ويقول: هذا صاحبكم «1» ؟ فنقول: لا. حتى فتح بابا وكشف لنا سترا عن صورة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، هذه صورة صاحبنا، فقال: أتدرون منذكم صوّرت؟ قلنا: لا. قال: منذ أكثر من ألف سنة، فإن صاحبكم «2» نبىّ مرسل فاتّبعوه، ولوددت أنى عنده فأشرب ما يغسل من «3» قدميه.
وقد ورد فى الصحيحين «4» خبر قيصر مع أبى سفيان لمّا سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.(16/152)
ومنه ما روى عن جبير بن مطعم «1» أنه قال: لما بعث الله النبى صلى الله عليه وسلم: خرجت تاجرا إلى الشام، فأرسل إلىّ عظيم الأساقفة فأتيته فقال:
هل تعرف هذا الرجل الذى ظهر بمكة، يزعم أنه نبىّ؟ قال: فقلت هو ابن عمى، فأخذ بيدى وأدخلنى بيتا فيه تماثيل وقال: انظر ترى صورته ههنا؟
فنظرت فلم أرشيئا فأخرجنى من ذلك البيت، وأدخلنى بيتا أكبر منه فيه مثلها، وقال: انظر هل تراه ههنا، فنظرت فإذا صورة النبىّ صلى الله عليه وسلم، وإذا صورة أبى بكر وهو آخذ بعقب النبى صلى الله عليه وسلم، وإذا صورة عمر وهو آخذ بعقب أبى بكر، فقال: هل رأيته؟ فقلت: نعم هوذا، قال: أتعرف الذى أخذ بعقبه؟ قلت: نعم، هو ابن أبى قحافة، قال: وهل تعرف الذى هو آخذ بعقبه؟ قلت نعم، هذا عمر بن الخطاب ابن عمّنا، فقال: أشهد أنه رسول الله، وأن هذا هو الخليفة من بعده، وأن هذا هو الخليفة من بعد هذا.
وهذا باب متسع لو استقصيناه لطال، ولو سطرنا ما وقفنا عليه منه لا نبسطت هذه السيرة، وخرجت عن حدّ الاختصار، وفيما أوردناه كفاية.
فلنذكر بشائر كهّان العرب والله أعلم.
وأما من بشّر به صلى الله عليه وسلم من كهّان العرب
فقد قدمنا فى الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثانى من كتابنا هذا أخبار الكهنة، وذكرنا طرفا من إخبارهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، مما نستثنيه فى هذا الموضع، ونذكر ما عداه، ولا يشترط الاستيعاب لتعذّره، ولا إثبات جميع ما وقفنا عليه أيضا من ذلك لأنه يوجب البسط والإطالة، بل نذكر من ذلك ما نقف إن شاء الله تعالى عليه مما فيه الكفاية، وإن كانت نبوّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم أظهر(16/153)
وأشهر وأقطع من أن يحتاج فيها إلى ذكر ما ذكرناه، وما نذكره، وإنما نورد ما أوردناه ليقف عليه من لم يتتبع أحواله صلى الله عليه وسلم، ولا طالع سيره، وليعلم أن امره صلى الله عليه وسلم لم يفجأ الناس، بل جاءهم على بيّنة واستبصار، وآثار وأخبار، ومعجزات ظهرت، نذكرها بعد إن شاء الله تعالى.
فمن بشائر الكهّان رؤيا ربيعة بن نصر وتأويل سطيح وشقّ لها.
قال محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبىّ «1» : كان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التّتابعة، فرأى رؤيا هالته [وفظع بها «2» ] ، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا [عائفا ولا «3» ] منجّما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إنى قد رأيت رؤيا هالتنى وفظعت بها، فأخبرونى بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إنى إن أخبرتكم بها لم أطمئنّ إلى خبركم عن تأويلها، فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشقّ، فإنه ليس أحد أعلم منهما «4» ، فإنهما يخبرانه بما سأل عنه.
قال ابن هشام: واسم سطيح «5» : ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب ابن عدىّ بن مازن بن غسّان «6» . وشقّ بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس ابن عبقر بن أنمار بن نزار.(16/154)
قال ابن إسحاق:
فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شقّ، فقال له: إنى رأيت رؤيا هالتنى وفظعت بها فأخبرنى بها، فإنك إن قضيتها أصبت «1» تأويلها، قال: أفعل؛ رأيت حممة «2» ، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة «3» ، فأكلت منها كلّ ذات جمجمة «4» ؛ فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، فما عندك فى تأويلها؟
قال: أحلف بما بين الحرّتين «5» من حنش، لتهبطنّ أرضكم الحبش، فليملكنّ ما بين أبين «6» إلى جرش»
، فقال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن، أفى زمانى أم بعده؟ قال: لا. بل بعده بحين، أكثر من ستّين أو سبعين، يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا. بل ينقطع لبضع وسبعين «8» من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين، قال: ومن يلى ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم «9» ذى يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدا باليمن، قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع، قال: ومن يقطعه؟ قال: نبىّ زكىّ، يأتيه الوحى من قبل العلىّ، قال: وممن هذا النبىّ؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النّضر، يكون الملك فى قومه إلى آخر الدّهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأوّلون(16/155)
والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون، قال: أحقّ ما تخبرنى؟
قال: نعم، والشّفق والغسق، والفلق إذا اتّسق؛ إن ما أنبأتك به لحقّ.
ثم قدم عليه شقّ فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتّفقان أم يختلفان؟ فقال «1» : نعم، رأيت حممة «2» ، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
فلما قال ذلك عرف أنهما قد اتّففا، وأن قولهما واحد، فقال له الملك:
ما أخطأت ياشقّ منها شيئا، فما عندك فى تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرّتين من إنسان، لينزلنّ أرضكم السودان، فليغلبنّ على كلّ طفلة «3» البنان، وليملكنّ ما بين أبين إلى نجران، فقال له الملك: وأبيك ياشقّ، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن أفى زمانى أم بعده؟ قال: لا. بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذوشان، ويذيقهم أشدّ الهوان، قال: ومن هذا العظيم الشان؟ قال: غلام ليس بدنىّ «4» ولا مدنّ «5» يخرج عليهم من بيت ذى يزن، قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟
قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتى بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل، يكون الملك فى قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع فيها الأحياء والأموات، ويجمع فيها الناس للميقات، يكون فيه لمن اتّقى الفوز والخيرات، قال: أحقّ ما تقول؟
قال: إى وربّ السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إنّ ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض «6» ، قال: فوقع فى نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهّز بنيه وأهل بيته(16/156)
إلى العراق بما يصلحهم، وكتب إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور، فأسكنهم فى الحيرة، فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النّعمان بن المنذر.
ومن ذلك ما روى أن مرثد بن عبد كلال قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة،
فوفد عليه زعماء العرب وشعراؤها وخطباؤها يهنّونه؛ فرفع الحجاب عن الوافدين، فأوسعهم عطاء، واشتدّ سروره بتقريظ الخطباء والشعراء، فبينا هو على ذلك أرى فى المنام رؤيا أخافته وذعرته وهالته فى حال منامه، فلما انتبه أنسيها حتى ما تذكّر منها شيئا، وثبت ارتياعه فى نفسه لها، فانقلب سروره حزنا، فاحتجب عن الوفود حتى أساءوا الظن به، ثم حشد الكهّان، فجعل يخلو بكاهن كاهن ثم يقول: أخبرنى عما أريد أن أسألك، فيجيبه الكاهن بأن لا علم عندى، حتى لم يدع كاهنا علمه، فتضاعف قلقه، فقالت له أمّه، وكانت قد تكهّنت: أبيت اللعن! إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه، لأن أتباع الكواهن من الجن ألطف من أتباع الكهّان، فأمر بحشر الكواهن إليه، وسألهن كما سأل الكهّان فلم يجد عند واحدة منهن علم ما أراد علمه، فلما يئس من طلبته سلا عنها؛ ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيّد فأوغل فى الصيد، وانفرد عن أصحابه، فرفعت له أبيات فى ذرى جبل وقد لفحه الهجير، فعدل إلى الأبيات، وقصد بيتا منها كان منفردا عنها، فبرزت إليه منه عجوز فقالت: انزل بالرّحب والسّعة، والأمن والدّعة، والجفنة المدعدعة، والعلبة المترعة، فنزل عن جواده ودخل البيت، فلما احتجب عن الشمس وخفقت عليه الأرواح نام فلم يستيقظ حتى تصرّم الهجير، فجلس يمسح عينيه فإذا بين يديه فتاة لم ير مثلها جمالا وقواما، فقالت له: أبيت اللّعن أيها الملك الهمام! هل لك فى الطعام؟ فاشتدّ إشفاقه، وخاف على نفسه لما رأى أنها قد عرفته، وتصامم عن كلمتها، فقالت له:(16/157)
لا حذر، فداك البشر، فجدّك الأكبر، وحظّنا بك الأوفر، ثم قرّبت إليه ثريدا وقديدا وحيسا، وقامت تذب عنه حتى انتهى أكله ثم سقته لبنا صريفا وضريبا فشرب ما شاء، وجعل يتأمّلها مقبلة ومدبرة فملأت عينيه حسنا، وقلبه هوى، ثم قال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمى عفيراء، قال لها: من الذى دعوته الملك الهمام؟ قالت: مرثد العظيم الشان، الحاشر الكواهن والكهّان، لمعضلة يعلّ بها الجان، قال يا عفيراء: أتعلمين ما تلك المعضلة؟ قالت: أجل أيها الملك الهمام، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام، قال: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذى جرس صادع: هلمّوا إلى المشارع، هلموا إلى المشارع، روىّ جارع، وغرق كارع.
قال الملك: أجل هذه رؤياى! فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت: الأعاصير «1» الزوابع، ملوك تبابع، والنهر علم واسع، والداعى نبى شافع، والجارع ولىّ له تابع، والكارع عدوّله منازع. قال: يا عفيراء أسلم هذا النبىّ أم حرب؟ قالت: أقسم برافع السماء، ومنزل الماء «2» من العماء، إنه لمبطل الدماء، ومنطق العقائل نطق الإماء. قال الملك: إلام يدعو يا عفيراء؟ قالت: إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام، وتعطيل أزلام، واجتناب آثام. قال الملك: يا عفيراء، من قومه؟ قالت: مضر بن نزار، ولهم منه نقع مثار، يتجلّى عن ذبح وإسار، قال:
يا عفيراء: إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت: أعضاده غطاريف يمانون، طائرهم به ميمون، يعزبهم فيعزّون «3» ، ويدمّث بهم الحزون، فإلى نصره يعتزون، فأطرق(16/158)
الملك يؤامر نفسه فى خطبتها، فقالت: أبيت اللّعن! إن تابعى غيور، ولأمرى صبور، وناكحى مقبور، والكلف بى ثبور. فنهض الملك مبادرا، فجال فى صهوة جواده، وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماء.
ويشبه ما ذكرناه رؤيا الموبذان وقد تقدّمت فى أخبار الكهان.
ومن ذلك ما روى عن لهيب بن مالك اللهبىّ أنه قال:
حضرت عند «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت الكهانة «2» فقلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله! نحن أوّل من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين، ومنعهم من استراق السمع عند القذف بالنجوم؛ وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك، وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائة سنة وثمانون سنة، وكان أعلم «3» كهّاننا، فقلنا له:
يا خطر «4» ، هل عندك علم من هذه النجوم التى يرمى بها؟ فإنا قد فزعنا لها، وقد خفنا سوء عاقبتها، فقال: ائتونى بسحر «5» ، أخبركم الخبر، بخير أم ضرر «6» . وأمن أم حذر؛ قال: فانصرفنا عنه يومنا، فلما كان من غد فى وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه شاخص إلى السماء بعينيه، فناديناه يا خطر، فأومأ إلينا أن امسكوا(16/159)
فأمسكنا، فانقضّ نجم من السماء عظيم، فصرخ الكاهن: أصابه إصابه «1» ، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، زايله جوابه، يا ويله ما حاله، بلبله بلباله «2» ، عاوده خباله، تقطعت حباله، وغيرت أحواله؛ ثم أمسك طويلا، ثم قال:
يا معشر بنى قحطان، أخبركم بالحق والبيان، أقسمت بالكعبة ذات الأركان، والبلد المؤتمن السكان «3» . قد منع السمع عتاة الجان، بثاقب بكفّ ذى سلطان، من أجل مبعوث عظيم الشان، يبعث بالتنزيل والقرآن، وبالهدى وفاضل الفرقان، تبطل به عبادة الأوثان. قال: قلنا يا خطر، إنك لتذكر أمرا عجيبا، فماذا ترى لقومك؟ فقال:
أرى لقومى ما أرى لنفسى ... أن يتبعوا خير نبى الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث من مكة دار الحمس «4»
بمحكم التنزيل غير اللبس
قلنا: يا خطر، وممّ «5» هو؟ فقال: والحياة والعيش، إنه لمن قريش. ما فى حكمه طيش، ولا فى خلقه هيش «6» ، يكون فى جيش وأىّ جيش، من آل قحطان وآل ريش «7» .
قال: قلنا بيّن لنا من أىّ قريش هو، قال: والبيت ذى الدّعائم، والرّكن(16/160)
والأحائم «1» ، إنه لمن نجل هاشم، من معشر أكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كلّ ظالم؛ ثم قال: هذا هو البيان، أخبرنى به رئيس الجانّ؛ ثم قال: الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجنّ الخبر؛ ثم سكت «2» فأغمى عليه، فما أفاق إلا بعد ثلاث «3» فقال: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد نطق عن مثل نبوّة، وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده» . والله أعلم.
ومنه ما روى أن سفيان بن مجاشع بن دارم احتمل ديات دماء كانت من قومه،
فخرج يستعين فيها، فدفع إلى حىّ من تميم، فإذاهم مجتمعون إلى كاهنة تقول:
«العزيز من والاه، والذّليل من خالاه، والموفور من مالاه، والموتور من عاداه» ؛ قال سفيان: من تذكرين لله أبوك؟ فقالت: «صاحب حلّ وحرم، وهدى وعلم وبطش وحلم، وحرب وسلم، رأس رءوس، ورائض يموس «4» ، وماحى بوس، وماهد وعوس، «وناعش منعوس «5» » ؛ قال سفيان: من هو لله أبوك؟ قالت: «نبىّ مؤيدّ، قد آن حين يوجد، ودنا أو ان يولد، يبعث إلى الأحمر والأسود، بكتاب لا يفنّد، اسمه محمد» ؛ قال سفيان: لله أبوك، أعربىّ هو أم عجمىّ؟ قالت: «أما والسماء ذات العنان، والشجر ذات الأفنان، إنه لمن معدّ بن عدنان، فقدك يا سفيان» ؛ فأمسك سفيان عن سؤالها، ثم إن سفيان ولد له غلام فسماه محمدا لما رجاه من أن يكون النبىّ الموصوف.
ومنه ما روى أن عمرو بن معديكرب عوتب على ارتداده عن الإسلام
فقال: والله ما هو إلا الشّقاء، ولقد علمت أن محمدا رسول الله قبل أن يوحى إليه، قيل: كيف كان ذلك يا أبا ثور؟ قال: حدث بين بنى زبيد تناجش وتظالم، ونما(16/161)
إلى أن سفك بعضهم دماء بعض، ففزع حلماؤهم إلى كاهن لهم رجوا أن يكون عنده المخرج مما نزل بهم، فقال الكاهن: «أقسم بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الأدراج، والريح ذات العجاج، والبحار ذات الأمواج، والجبال ذات الفجاج، إنّ هذا الإمراج والارتجاج، للقاح ذو نتاج» ؛ قالوا: وما نتاجه؟
قال: «ظهور نبىّ صادق، بكتاب ناطق، وحسام والق «1» » ، قالوا: أين يظهر؟
وإلام يدعو؟ قال: «يظهر بصلاح؛ ويدعو إلى الفلاح، ويعطّل القداح، وينهى عن الرّاح والسّفاح، وعن كل أمر قباح» ؛ قالوا: ممن هو؟ قال: «من ولد الشيخ الأكرم، حافر زمزم، ومطعم الطير الحوّم، والسباع الصوّم» ؛ قالوا: وما اسمه؟
قال: «اسمه محمد، وعزّه سرمد، وخصمه مكمد» .
فهذه جملة كافية من أخبار الكهّان. فلنذكر ما نطق به الجانّ من أجواف الأصنام، وما سمع من الهواتف، والله المستعان.
وأما من بشّر به عليه الصلاة والسلام من الجانّ
الذين نطقوا من أجواف الأصنام وما سمع من العتائر.
فمن ذلك ما روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فى سبب إسلام عمر،
وأنه كان قد ضمن لقريش قتل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وخرج لذلك، فمرّ بقوم من خزاعة وقد اعتمدوا صنما لهم يريدون أن يتحاكموا إليه، فقالوا لعمر: ادخل لتشهد الحكم، فدخل معهم، فلما مثلوا بين يدى الصّنم سمعوا هاتفا من جوفه يقول «2» :
يأيها الناس ذوو الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام «3»(16/162)
ومسند «1» الحكم إلى الأصنام ... أصبحتم كراتع الأنعام
أما ترون ما أرى أمامى ... من ساطع يجلو دجى الظلام
قد لاح للناظر من تهام ... وقد بدا للناظر الشآمى
محمد ذو البرّ والإكرام ... أكرمه الرحمن من إمام
قد جاء بعد الشّرك بالإسلام ... يأمر بالصلاة والصيام
والبرّ والصّلات للأرحام ... ويزجر الناس عن الآثام
فبادروا سبقا إلى الإسلام ... بلا فتور وبلا إحجام
قال: فتفرّق القوم عن الصنم ولم يحضره يومئذ أحد إلّا أسلم؛ ثم ذكر ابن عباس انطلاق عمر إلى منزل أخته على ما نذكر ذلك أو نحوه عند ذكرنا إسلام عمر رضى الله عنه.
قال: ثم خرج لقصد النبىّ صلى الله عليه وسلم، فلقيه رجال من بنى سليم «2» قد تنافروا إلى صنم لهم ليحكم بينهم اسمه الضّمار «3» ، فدعوا عمر إلى الدخول معهم إليه ففعل، فلما وقفوا بين يدى الصّنم سمعوا هاتفا من جوفه يقول:
أودى الضّمار وكان يعبد مرة «4» ... قبل الكتاب وقبل بعث محمد
إن الذى ورث النبوّة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدى
سيقول من عبد الضّمار ومثله ... ليت الضّمار ومثله لم يعبد(16/163)
أبشر أبا حفص بدين صادق ... تهدى إليه بالكتاب المرشد
واصبر أبا حفص قليلا إنه ... يأتيك عن فرق أعزّ بنى عدى
لا تعجلنّ فأنت ناصر دينه ... حقّا يقينا باللسان وباليد
قال: فعجب القوم منه ونكّسه عمر، وغيّر الله ما فى صدره من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنه ما روى أن وائل بن حجر وكان ملكا مطاعا «1» ، وكان له صنم من العقيق الأحمر يعبده ويحبّه حبّا شديدا، ولم يكن يكلّم منه، إلا أنه كان يرجو ذلك، فيكثر له السجود، ويعتر له العتائر، فبينا هو نائم فى الظهيرة أيقظه صوت منكر من المخدع الذى فيه الصّنم، فقام من مضجعه وأتاه فسجد أمامه، فإذا قائل «2» يقول:
يا عجبا «3» لوائل بن حجر ... يخال يدرى وهو ليس يدرى
ماذا يرجّى من نحيت صخر ... ليس بذى عرف ولا ذى نكر
ولا بذى نفع ولا ذى ضرّ ... لو كان ذا حجر أطاع أمرى «4»
قال وائل: فرفعت رأسى واستويت جالسا، ثم قلت: قد أسمعت أيها الناصح، فماذا «5» تأمرنى؟ فقال:
ارحل إلى يثرب ذات النّخل ... وسر إليها سير مشمعلّ
تدن بدين «6» الصائم المصلّى ... محمد المرسل «7» خير الرسل(16/164)
قال وائل: ثم خرّ الصنم لوجهه فانكسر أنفه، واندقّت عنقه، فقمت إليه فجعلته رفاتا، ثم سرت مسرعا حتى أتيت المدينة؛ وذكر إسلامه بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم. والله المعين.
ومنه خبر مازن الطائى فى سبب إسلامه
رواه البيهقى فى دلائل النبوّة بسند قال: كان مازن الطائىّ «1» بأرض عمان بقرية تدعى سمايل «2» ، وكان يسدن الأصنام لأهله، وكان له صنم يقال له باجر «3» ، قال مازن:
فعترت «4» ذات يوم عتيرة، والعتيرة: الذبيحة «5» ، فسمعت صوتا من الصنم يقول:
يا مازن: أقبل إلىّ أقبل، تسمع ما لا يجهل، هذا نبى مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كى تعدل، عن حرّ نار تشعل، وقودها بالجندل.
قال مازن: فقلت والله إن هذا لعجب، ثم عترت بعد عشرة أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتا آخر أبين من الأوّل وهو يقول: يا مازن اسمع تسرّ، ظهر خير وبطن شرّ، بعث نبىّ من مضر، بدين الله الكبر «6» ، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حرّ سقر؛ قال مازن: فقلت إن هذا والله لعجب، إنه لخير يراد بى؛ وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا: ما الخبر وراءك؟ قال «7» :(16/165)
خرج رجل بتهامة يقول لمن أتاه: أجيبوا داعى الله عز وجل، يقال له أحمد، قال: فقلت هذا والله نبأ ما سمعت، فثرت «1» إلى الصنم فكسّرته أجذاذا، وشددت راحلتى ورحلت، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرح إلىّ الإسلام فأسلمت، وأنشأت أقول:
كسرت باجر أجذاذا وكان لنا ... ربا نطيف به ضلّا بتضلال
فالهاشمىّ هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه منّى «2» على بال
يا راكبا بلّغن عمرا وإخوته «3» ... أنى لما قال ربّى باجر قالى
قال مازن: فقلت يا رسول الله، إنى امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر، وبالهلوك «4» من النساء، وألحّت علينا السنون «5» فأذهبن الأموال، وأهزلن الذرارى والرجال، وليس لى ولد، فادع الله أن يذهب عنى ما أجد، ويأتينى بالحيا، ويهب لى ولدا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: اللهم أبدله بالطّرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، [وبالخمر ريّا لا إثم فيه، وبالعهر عفّة الفرج «6» ] وائته بالحيا، وهب له ولدا.
قال مازن: فأذهب الله عنى كل ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر «7» ، ووهب لى حيان بن مازن، وأنشأت أقول:(16/166)
إليك رسول الله خبّت مطيّتى ... تجوب الفيافى من عمان إلى العرج
لتشفع لى يا خير من وطئ الحصا ... فيغفر لى ربى فأرجع بالفلج «1»
إلى معشر خالفت فى الله دينهم ... فلا رأيهم رأيى ولا شرجهم شرجى «2»
وكنت امرأ بالعهر «3» والخمر مولعا ... شبابى حتى آذن الجسم بالنّهج «4»
فبدّلنى بالخمر خوفا وخشية ... وبالعهر إحصانا وحصّن لى فرجى
فأصبحت همّى فى جهاد ونيّتى ... فلله ما صومى ولله ما حجّى
قال مازن: فلما رجعت إلى قومى أنّبونى وشتمونى، وأمروا شاعرهم فهجانى، فقلت إن هجوتهم فإنما أهجو نفسى، فتركتهم، قال: ثم إن القوم ندموا وكنت القيّم بأمورهم، فقالوا ما عسى أن نصنع به، فجاءنى منهم أزفلة «5» عظيمة فقالوا: يابن عمّ، عبنا عليك أمرا فنهيناك عنه، فإذ أبيت فنحن تاركوك، ارجع معنا، فرجعت معهم، فأسلموا بعد كلّهم.
ومازن هذا هو الذى أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض عمان.
ومنه ما روى عن جبير بن مطعم عن أبيه قال:
كنا جلوسا عند صنم لنا، فإذا صائح يصيح من جوفه: اسمعوا إلى العجب، وتوقّعوا حادثا قد اقترب، استراق السمع ذهب، وترمى [الجنّ] بالشهب، لنبىّ من العرب، هاشمىّ النسب،(16/167)
مولده بمكّة، ومهاجره يثرب؛ قال: وهذا قبل أن يظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنه ما روى عن عبد الله بن ساعدة الهذلى أنه قال:
كنا نعبد صنما يقال له سواع، وكانت لى غنم فجربت فسقتها إليه وأدنيتها منه أرجو بركته، فسمعت مناديا من جوف الصّنم يقول: العجب كل العجب، سدلت الحجب، ورميت الجن بالشّهب، وسقطت النّصب، ونزل خير الكتب، على خير العرب؛ قال: فسقت غنمى وعدت إلى أهلى، وقد بغّضت إلىّ الأوثان، فجعلت أنقّب عن الحوادث حتى بلغنى ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأسلمت.
وسنذكر إن شاء الله تعالى فى خبر إسلام الجن ما هتفوا به فأسلم بسببه من أسلم لمّا سمعوا- ما تقف عليه هناك.
وحيث ذكرنا ما ذكرنا من المبشّرات، فلنذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم.
ذكر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بدئ به من النبوّة
روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوّة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة «1» ، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا فى نوم إلا جاءت كفلق الصّبح «2» ، وحبب الله إليه الخلوة، فلم يكن شىء أحب إليه من أن يخلو وحده.(16/168)
وروى محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبى عن عبد الملك بن عبيد الله «1» بن أبى سفيان ابن العلاء بن حارثة «2» الثقفىّ، وكان واعية «3» ، عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته، وابتدأه بالنبوّة؛ كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت «4» ، ويفضى إلى شعاب «5» مكّة وبطون «6» أوديتها، فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة؛ فمكث صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء فى شهر رمضان.
وعن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وله يومئذ أربعون سنة ويوم، فأتاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فى حراء، وهو أوّل موضع نزل فيه القرآن.
وحكى أبو عمر بن عبد البرّ أن محمد بن موسى الخوارزمىّ قال: بعث نبينا صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثمان خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. فكان من مولده إلى أن بعثه الله عز وجل أربعون سنة ويوم.(16/169)
وعن عبد الله بن الزبير وغيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور فى حراء [شهرا «1» ] من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به- إذا انصرف من جواره- الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله به فيه من كرامته ما أراد، من السنة التى بعثه فيها، وذلك فى شهر رمضان، خرج صلى الله عليه وسلم إلى حراء «2» كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التى أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءنى وأنا نائم بنمط «3» من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ؛ [قال «4» ] : قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتّنى «5» به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ؛ قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتّنى به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ؛ قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لى بمثل ما صنع. فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)
. قال: فقرأتها ثم انتهى فانصرف عنى، وهببت من نومى، فكأنّما كتب «6» فى قلبى كتابا؛ قال:
فخرجت حتى إذا كنت فى وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسى أنظر [إلى السماء «7» ] ؛ فإذا جبريل فى صورة رجل صافّ قدميه فى أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا(16/170)
جبريل، [قال «1» ] : فوقفت أنظر إليه، فما أتقدّم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهى [عنه «2» ] فى آفاق السماء، فما أنظر فى ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدّم أمامى وما أرجع ورائى حتى بعثت خديجة رسلها فى طلبى، فبلغوا [أعلى «3» ] مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف فى مكانى ذلك؛ ثم انصرف عنى.
وانصرفت راجعا إلى أهلى حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها [مضيفا إليها «4» ] فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلى فى طلبك حتى بلغوا [أعلى «5» ] مكة ورجعوا إلىّ، فحدّثتها «6» بالذى رأيت، فقالت: أبشر يا بن عمّ واثبت، فو الذى نفس خديجة بيده إنى لأرجونّ «7» أن تكون نبىّ هذه الأمة.
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى «8» ، وهو ابن عمها، وكان قد تنصر فى الجاهلية وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدّوس قدّوس، والذى نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتنى يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، وإنه لنبىّ هذه الأمة، فقولى له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع؛ بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو(16/171)
يطوف بالكعبة فقال: يا بن أخى، أخبرنى بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له ورقة: والذى نفسى بيده إنك لنبىّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذى جاء موسى، ولتكذبنّه، ولتؤذينّه، ولتخرجنّه، ولتقاتلنّه «1» ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم، لأنصرنّ الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبّل يا فوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.
وذكر الإمام العدل سليمان التّيمى فى سيره «2» أن النبى صلى الله عليه وسلم حين أخبر خديجة عن جبريل، ولم تكن سمعت باسمه قطّ، ركبت «3» إلى بحيرا الرّاهب إلى الشام، قال الزهرىّ هو حبر من يهود تيماء، فسألته عن جبريل، فقال لها: قدّوس قدّوس، يا سيدة نساء قريش، أنّى لك بهذا الاسم؟ فقالت: بعلى ابن عمّى أخبرنى أنه يأتيه، فقال: قدّوس قدّوس ما علم به إلا نبىّ، فإنه السفير بين الله وبين أنبيائه، وإن الشياطين لا تجترئ «4» أن تتمثّل به ولا تتسمّى به.
وكان غلام لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس اسمه عدّاس من أهل نينوى «5» مدينة يونس عليه السلام، عنده علم من الكتاب أرسلت تسأله عن جبريل فقال: قدّوس [قدّوس «6» ] أنّى لهذه البلاد بذكر جبريل يا سيدة نساء قريش؟ فأخبرته بقول النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عدّاس مثل قول الراهب.(16/172)
وروى البخارىّ- رحمه الله- فى صحيحه «1» بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتينى مثل صلصلة «2» الجرس وهو أشدّه علىّ، فيفصم «3» عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلّمنى فأعى ما يقول.
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم «4» عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.
وبسنده «5» عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصّبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنّث فيه، وهو التعبّد الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى جاء الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال:
قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذنى فغطّنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثانية حتى بلغ من الجهد، ثم أرسلنى فقال:
اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال:
زمّلونى زمّلونى، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد(16/173)
خشيت على نفسى، فقالت خديجة: كلّا والله، ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصّر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانىّ «1» ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يابن أخى، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذى أنزل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذعا، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجىّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا؛ ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحى.
قال ابن شهاب «2» : وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارىّ قال وهو يحدّث عن فترة الوحى، فقال فى حديثه: بينا أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصرى فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسىّ بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زمّلونى زمّلونى، فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)
، فحمى الوحى وتتابع.
قال محمد بن إسحاق «3» :
وحدّثنى إسماعيل بن أبى حكيم مولى آل الزّبير أنه حدّث عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أى ابن عم، أتستطيع أن تخبرنى بصاحبك هذا(16/174)
الذى يأتيك إذا جاءك؟ قال نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرنى به، فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءنى قالت: قم يابن عم فاجلس على فخذى اليسرى، فقام فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاقعد «1» على فخذى ايمنى، قال: فتحوّل فقعد «2» على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس فى حجرى، فتحوّل فجلس فى حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم:
قال: فحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت يابن عمّ: اثبت وأبشر، فو الله إنه لملك، ما هذا بشيطان.
وكانت خديجة رضى الله عنها أوّل من آمن بالله وبرسوله وصدّق بما جاء به.
وحكى أبو عمر بن عبد البر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرّ أمره ثلاث سنين ثم أمره الله تعالى بإظهار دينه والدعاء إليه، فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه.
قال: وقال الشعبى: أخبرت أن إسرافيل تراءى له ثلاث سنين. وروى ابن عبد البر بسنده إلى الشعبىّ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين، ووكّل به إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، ثم وكّل به جبريل عليه السلام. وفى رواية عنه:
ثم بعث إليه جبريل بالرسالة. وعنه أيضا قال: أنزلت عليه النبوّة وهو ابن أربعين، فقرن نبوّته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، وكان يعلّمه الكلمة والشىء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة.(16/175)
ذكر فترة الوحى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل بعد فترته
قال «1» : وفتر الوحى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة «2» حتى شقّ ذلك عليه وأحزنه. واختلف فى مدة فترة الوحى، فقال ابن جريح: احتبس عنه الوحى اثنى عشر يوما، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: خمسة عشر يوما، وقيل:
خمسة وعشرين. وقال مقاتل: أربعين يوما. والله أعلم.
روى البخارىّ «3» - رحمه الله- عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وساق الحديث بنحو ما تقدّم، قال: وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مراراكى يتردّى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه تبدّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل وقال له مثل ذلك. قال: وتكلم المشركون عند فترة الوحى بكلام، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم:
(وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)
السورة بكمالها؛ وقيل فى سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ترك قيام الليل ليلتين أو ثلاثا لشكوى «4» أصابته، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث «5» ، فأنزل الله تعالى السورة.(16/176)
قال القاضى أبو الفضل عياض بن موسى رحمه الله فى كتابه المترجم (بالشفا بتعريف حقوق المصطفى «1» ) : تضمّنت هذه السّورة من كرامة الله تعالى لنبيّه وتنويهه به وتعظيمه إياه ستّة وجوه:
الأوّل- القسم له عما أخبر به من حاله بقوله: (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى)
أى وربّ الضحى، وهذا لمن عظم درجات المبّرة.
الثانى- بيان مكانته عنده وحظوته لديه بقوله: (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)
أى ما تركك وما أبغضك، وقيل ما أهملك بعد أن اصطفاك.
الثالث- قوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) .
قال ابن إسحاق: أى مالك فى مرجعك عند الله أعظم مما أعطاك الله من كرامة الدنيا. وقال سهل: أى ما ذخرت لك من الشفاعة والمقام المحمود خير لك مما أعطيتك فى الدنيا.
الرابع- قوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)
، وهذه آية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام فى الدّارين والزّيادة.
قال ابن إسحاق «2» : يرضيه بالفلج فى الدّنيا والثواب فى الآخرة. وقيل: يعطيه الحوض والشفاعة، وروى عن بعض آل النبى «3» صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس فى القرآن آية أرجى منها. ولا يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل أحد من أمّته النار» .(16/177)
الخامس- ما عدّه الله تعالى عليه من نعمه، وقرّره من آلائه قبله فى بقية السورة، من هدايته إلى ما هداه له، أو هداية الناس به على اختلاف التفاسير، ولا مال له فأغناه بما آتاه، أو بما جعله فى قلبه من القناعة والغنى، ويتيما فحدب عليه عمّه وآواه إليه، وقيل: آواه إلى الله، وقيل: يتيما لا مثال لك فآواك إليه، وقيل المعنى ألم يجدك فهدى بك ضالّا، وأغنى بك عائلا، وآوى بك يتيما، ذكّره بهذه المنن، وأنه- على المعلوم من التفسير- لم يهمله فى حال صغره وعيلته ويتمه، وقبل معرفته به ولا ودّعه ولا قلاه، فكيف بعد اختصاصه واصطفائه. والله أعلم السادس- أمره بإظهار نعمته عليه، وشكر ما شرّفه به بنشره وإشادة ذكره بقوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)
، فإنّ من شكر النعمة التحدّث بها، وهذا خاصّ له، عامّ لأمته.
وقال ابن إسحاق «1» : أى بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوّة، فحدّث بها أى اذكرها وادع إليها. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوّة سرّا «2» إلى من يطمئنّ إليه من أهله.
قال: ثم فرضت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. والله الموفّق لطاعته.
ذكر فرض الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى عن عائشة أمّ المؤمنين- رضى الله عنها- أنها قالت «3» : افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل ما افترضت ركعتين «4» ركعتين كلّ صلاة، ثم إن الله تعالى أتمّها فى الحضر أربعا، وأقرها فى السّفر على فرضها الأوّل ركعتين.
قال محمد بن إسحاق:(16/178)
وحدّثنى بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه فى ناحية الوادى، فانفجرت منه عين فتوضّأ جبريل «1» ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر [إليه «2» ] ليريه كيف الطّهور للصلاة، ثم توضّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضّأ، ثم قام به جبريل فصلّى به، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل «3» ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فتوضّأ لها ليريها كيف الطّهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضّأت كما توضّأ [لها «4» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلّى بها كما صلى به جبريل، فصلّت بصلاته «5» .
وعن عبد الله بن عباس «6» رضى الله عنهما قال: «لما فرضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فصلّى به الظّهر حين مالت الشمس، ثم صلّى به العصر حين كان ظلّه مثله، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشّفق، ثم صلّى به الصبح حين طلع الفجر، ثم جاء فصلّى به الظهر من غد حين «7» كان ظلّه مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظلّه مثليه، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث اللّيل الأوّل، ثم صلّى به الصبح مسفرا غير مشرق، ثم قال: يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس «8» » .(16/179)
ذكر أوّل من أسلم وآمن بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وصدّق بما جاء به من عند الله
قد تقدّم أن أوّل من آمن خديجة رضى الله عنها، وذهب محمد بن إسحاق «1» إلى أن أوّل من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلّى وصدّق بما جاء به «2» من الله تعالى علىّ بن أبى طالب، ثم زيد بن حارثة «3» مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر الصدّيق «4» رضى الله عنهم. وسنذكر إن شاء الله إسلام كل واحد منهم.
أما إسلام أبى بكر الصديق رضى الله عنه فالذى عليه الأكثرون أنه أوّل من أسلم من الذكور، وقد روى أبو الفرج بن الجوزىّ رحمه الله فى كتابه المترجم (بصفة الصفوة «5» ) عن ابن عبّاس، وحسّان بن ثابت، وأسماء بنت أبى بكر، وإبراهيم النّخعىّ، قالوا كلّهم: أوّل من أسلم أبو بكر، قال: وقال يوسف بن يعقوب بن الماجشون:
أدركت أبى ومشيختنا محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبى عبد الرحمن، وصالح ابن كيسان، وسعد بن إبراهيم، وعثمان بن محمد الأخنسى، وهم لا يشكّون أن أوّل القوم [إسلاما «6» ] أبو بكر.
وروى أبو الفرج «7» بسنده عن ابن عباس أنه قال: «أوّل من صلى أبو بكر رضى الله عنه» ، ثم تمثّل بأبيات حسّان بن ثابت:
إذا تذكّرت شجوا من أخى ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبىّ، وأولاها بما حملا
الثانى التالى المحمود مشهده ... وأوّل الناس حقا صدّق الرسلا
والله يهدى من يشاء.(16/180)
وأما إسلام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه
- فقد اختلف فى سنّه حال إسلامه؛ فقيل: أسلم وهو ابن عشر سنين «1» ، وقيل: تسع سنين، وقيل اثنتى عشرة سنة، وقيل أكثر من ذلك إلى عشرين سنة، وهو بعيد، لأنه آمن فى ابتداء الأمر وظهور النبوّة. والله أعلم.
وكان من حديث إسلامه ما رواه محمد بن إسحاق «2» عن عبد الله بن أبى نجيح عن مجاهد بن جبر بن أبى الحجّاج، قال: كان من نعمة الله على علىّ بن أبى طالب ومما صنع الله له وأراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّه العباس، وكان من أيسر بنى هاشم: يا عبّاس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفّف [عنه «3» ] من عياله؛ آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ أنت «4» رجلا فنكفلهما «5» عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى لقيا «6» أبا طالب، فقالا [له] : إنا نريد «7» أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما [أبو طالب «8» ] : إذا تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما؛ ويقال قال: عقيلا وطالبا؛ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا فضمه إليه، وأخذ العبّاس(16/181)
جعفرا [فضمّه إليه «1» ] ، فلم يزل علىّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتّبعه علىّ وآمن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم «2» .
قال ابن إسحاق:
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه علىّ بن أبى طالب مستخفيا من عمه أبى طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصلّيان الصلوات فيها «3» ، فإذا أمسيا رجعا؛ فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصلّيان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يابن أخى، ما هذا الدين الذى أراك تدين به؟ قال: أى عمّ، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم «4» ، بعثنى الله به رسولا إلى العباد، وأنت أى عمّ أحقّ من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحقّ من أجابنى إليه، وأعاننى عليه، أو كما قال. فقال أبو طالب: أى ابن أخى، إنى والله «5» لا أستطيع أن أفارق دين آبائى وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك شىء تكرهه ما بقيت.
وذكروا أنه قال لابنه علىّ: أى بنىّ ما هذا الدين الذى أنت عليه؟ فقال:
يا أبت، آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقته بما جاء به، وصليت معه لله واتّبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.(16/182)
وأما إسلام زيد بن حارثة «1» رضى الله عنه
- فقال «2» محمد بن إسحاق:
ثم أسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزّى بن امرئ القيس الكلبى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نسبه ابن الكلبىّ فقال: زيد ابن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزّى بن يزيد «3» بن امرئ القيس بن عامر ابن النّعمان بن عبدودّ بن امرئ القيس بن نعمان بن عمران بن عبد عوف بن عوف ابن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللّات بن رفيدة بن ثور بن كلب ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمر ابن مرة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
قال أبو عمر «4» : وربّما اختلفوا فى الأسماء وتقديم بعضها على بعض وزيادة شىء فيها «5» . قال «6» : ولم يتابع ابن إسحاق على قوله «7» «شرحبيل» وإنما «شراحيل» .
وقال ابن الكلبى: وأمّ زيد سعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر بن أفلت، من بنى معن من طيئ «8» .(16/183)
قال ابن إسحاق «1» : وصلّى زيد بعد علىّ بن أبى طالب. قال أبو محمد عبد الملك ابن هشام: وكان حكيم بن حزام بن خويلد قدم من الشام برقيق منه «2» زيد بن حارثة، وصيف، فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد، وهى يومئذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: اختارى يا عمّة، أىّ هؤلاء الغلمان شئت فهو لك، فاختارت زيدا، فأخذته، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبنّاه، وذلك قبل أن يوحى إليه، وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعا شديدا وبكى عليه حين فقده، ثم قدم عليه وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت فأقم عندى، وإن شئت فانطلق مع أبيك» ؛ قال: بل أقيم عندك؛ فلم يزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله، فصدّقه وأسلم وصلّى معه، فلما أنزل الله عزّ وجلّ: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ)
قال: أنا زيد ابن حارثة. وقد روى أبو عمر وغيره أن حارثة لما فقد ابنه زيدا قال:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحىّ يرجّى «3» أم أتى دونه الأجل
فو الله ما أدرى وإن كنت سائلا ... أغالك سهل الأرض «4» أم غالك الجبل
فياليت شعرى هل لك الدهر رجعة «5» ... فحسبى من الدنيا رجوعك لى بجل «6»(16/184)
تذكّرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا قارب الطّفل «1»
وإن هبّت الأرواح هيّجن ذكره ... فيا طول ما حزنى عليه وما وجل
سأعمل نص العيس فى الأرض جاهدا ... ولا أسأم التّطواف أو تسأم الإبل
حياتى أو تأتى علىّ منّيتى ... وكلّ امرئ «2» فان وإن غرّه الأمل
سأوصى به قيسا وعمرا كليهما ... وأوصى يزيدا ثم من بعده جبل «3»
يعنى جبلة بن حارثة أخا زيد، ويزيد أخا زيد لأمّه، وهو يزيد بن كعب ابن شراحيل.
قال: فحجّ «4» ناس من كلب «5» فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، وقال لهم: أبلغوا أهلى «6» هذه الأبيات، فإنى أعلم أنهم قد جزعوا علىّ، فقال:
أحنّ إلى قومى وإن كنت نائيا ... فإنّى قعيد البيت عند المشاعر
فكفّوا من الوجد الذى قد شجاكم ... ولا تعملوا فى الأرض نصّ الأباعر
فإنّى بحمد الله فى خير أسرة ... كرام معدّ كابرا بعد كابر
فانطلق الكلبيّون فأعلموا أباه، فقال: ابنى ورب الكعبة، فوصفوا له موضعه وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل لفدائه، وقدما مكّة «7» ، فسألا عن النبى صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو فى المسجد، فدخلا عليه فقالا: يابن عبد المطّلب،(16/185)
يابن هاشم، يابن سيّد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكّون العانى، وتطعمون الأسير، جئناك فى ابننا عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا فى فدائه؛ قال: ومن هو؟
قالا: زيد «1» بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلّا غير ذلك» ؟ قالوا: وما هو؟ قال: «ادعوه فأخيّره «2» ، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارنى فهو لى، فو الله ما أنا بالذى أختار على من اختارنى أحدا» . قالوا «3» : قد زدتنا على النّصف وأحسنت إلينا، فدعاه «4» فقال: «هل تعرف هؤلاء» ؟ قال: نعم، قال «من هذا «5» » ؟ قال: أبى، وهذا عمى، قال: «فأنا من قد علمت «6» ، وقد رأيت صحبتى لك، فاخترنى أو اخترهما» ، فقال زيد: ما أنا بالذى «7» أختار عليك أحدا، أنت منى مكان الأب والعمّ، فقالا:
ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرّيّة، وعلى أبيك وعمك وأهل «8» بيتك؟ قال:
نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذى أختار عليه أحدا أبدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: يا معشر من حضر، اشهدوا أنّ زيدا ابنى يرثنى وأرثه» . فلما رأى ذلك أبوه وعمّه طابت نفوسهما وانصرفا.
ودعى زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام، فنزلت: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ)
، فدعى يومئذ زيد بن حارثة، ودعى الأدعياء إلى آبائهم. والله أعلم.(16/186)
ذكر من أسلم بدعاء أبى بكر الصدّيق- رضوان الله عليهم-
قال محمد بن إسحاق «1» :
لما أسلم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه أظهر إسلامه، ودعا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رجلا مألفا «2» لقومه محببّا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشرّ، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.
فجعل يدعو إلى الإسلام «3» من وثق به من قومه ممّن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه رضى الله عنه، عثمان بن عفّان «4» ، والزّبير بن العوّام «5» ، وعبد الرحمن بن عوف «6» ، وسعد بن أبى وقّاص «7» ، وطلحة بن عبيد الله، فجاء «8» بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استجابوا «9» له، فأسلموا وصلّوا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت عنده كبوة «10» ونظر وتردّد، إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة، ما عكم «11» عنه حين ذكرته له وما تردّد فيه» .(16/187)
قال ابن إسحاق: فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا بالإسلام الناس فصلّوا وصدّقوا بما جاء من الله.
ثم أسلم أبو عبيدة، واسمه عامر بن عبد الله بن الجرّاح «1» ، وأبو سلمة، واسمه عبد الله بن عبد الأسد «2» ، والأرقم بن أبى الأرقم، واسم أبى الأرقم عبد مناف بن أسد ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم «3» ، وعثمان بن مظعون «4» ، وأخواه قدامة «5» ، وعبد الله «6» ابنا مظعون، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصىّ بن كلاب بن مرّة ابن كعب بن لؤىّ «7» ، وسعيد بن زيد «8» ، وامرأته فاطمة»
بنة الخطّاب أخت عمر،(16/188)
وأسماء «1» وعائشة «2» بنتا أبى بكر، وكانت عائشة صغيرة، وخبّاب بن الأرتّ «3» حليف بنى زهرة، وعمير بن أبى وقّاص «4» أخو سعد، وعبد الله بن مسعود «5» ، ومسعود بن القارى، وهو مسعود بن ربيعة، [أو الربيع «6» ] ، وسليط بن عمرو ابن عبد شمس «7» ، وعيّاش بن أبى ربيعة بن المغيرة «8» ، وامرأته أسماء بنت سلامة ابن مخرّبة التميمية «9» ، وخنيس بن حذافة بن قيس «10» ، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب «11» ، وعبد الله بن جحش «12» وأخوه أبو أحمد بن جحش «13» حليفا بنى أمية،(16/189)
وجعفر بن أبى طالب «1» ، وامر أنه أسماء بنت عميس «2» ، وحاطب بن الحارث بن معمر، وامرأته فاطمة بنت المجلّل بن عبد الله «3» ، وأخوه خطّاب بن الحارث، وامرأته فكيهة بنت يسار «4» ، ومعمر بن الحارث بن معمر «5» ، والسائب بن عثمان بن مظعون «6» ، والمطّلب ابن أزهر بن عبد عوف «7» ، وامرأته رملة بنت أبى عوف بن صيرة، والنّحام واسمه نعيم بن عبد الله «8» ، وعامر بن فهيرة «9» مولى أبى بكر الصدّيق، وخالد بن سعيد بن العاص ابن أميّة «10» ؛ وقد روى أن خالد بن سعيد كان خامس من أسلم، وأن إسلامه كان بعد سعد بن أبى وقّاص، حكاه أبو عمر «11» ، وامرأته أمينة «12» بنت خلف بن أسعد، وحاطب(16/190)
ابن عمرو بن عبد شمس «1» ، وأبو حذيفة واسمه مهشم «2» بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ابن عبد مناف؛ ويقال فى اسمه هشيم؛ ويقال هاشم، وواقد «3» بن عبد الله بن عبد مناف ابن عرين «4» بن ثعلبة، وخالد «5» ، وعامر «6» ، وعاقل «7» ، وإياس «8» ، بنو البكير بن عبد ياليل وعمّار «9» بن ياسر حليف بنى مخزوم، وصهيب «10» بن سنان.
قال ابن إسحاق «11» :
ثم دخل الناس [فى الإسلام «12» ] أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام [بمكّة وتحدّث «13» به] .
ولنذكر من كانت له سابقة فى الإسلام غير من ذكرنا والله الموفّق للصواب.(16/191)
ذكر تسمية من كانت لهم سابقة فى الإسلام من العرب من غير قريش
كانت لجماعة سابقة إسلام، وهم من غير قريش، فرأينا أن نذكرهم فى هذا الموضع لسابقتهم فى الإسلام.
منهم أبو ذرّ «1» جندب بن جنادة الغفارىّ، واختلف فى اسمه اختلافا كثيرا، والمشهور ما ذكرناه، واختلف أيضا فيما بعد جنادة، فقيل جنادة بن قيس بن عمرو ابن صعير بن حرام بن غفار، وقيل جنادة بن صعير بن عبيد بن حرام بن غفار، ويقال جنادة بن سفيان بن عبيد بن [صعير «2» بن] حرام بن غفار؛ أسلم أبو ذرّ بعد ثلاثة، وقيل: بعد أربعة، فكان خامسا، وله فى سبب إسلامه حديث حسن، نذكره إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لأخبار وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وفد غفار على ما تقف عليه، وهو فى السّفر السادس عشر من كتابنا هذا.
وأسلم بسبب إسلامه أخوه أنيس «3» بن جنادة وأمّهما رملة بنت الوقيعة الغفاريّة «4» .
ومنهم عمرو بن عبسة «5» بن عامر بن خالد بن غاضرة بن عتّاب بن امرئ القيس ابن بهثة بن سليم، يكنى أبا نجيح، ويقال أبو شعيب. قال أبو عمر بن عبد البر «6» :
روينا عنه من وجوه أنه قال: ألقى فى روعى أن عبادة الأوثان باطل، فسمعنى رجل وأنا أتكلم بذلك، فقال: يا عمرو، إن بمكة رجلا يقول كما تقول، قال: فأقبلت إلى مكة(16/192)
أوّل ما بعث النبى صلى الله عليه وسلم وهو مستخف «1» ، فقيل لى: إنك لا تقدر عليه إلا باللّيل حين يطوف، فقمت بين يدى الكعبة فما شعرت إلا بصوته يهلّل، فخرجت إليه فقلت من أنت؟ قال: أنا نبىّ الله، فقلت وما نبىّ الله؟ قال: رسول الله، قلت وبم أرسلك؟
قال: بأن يعبد «2» الله وحده ولا يشرك به شىء، وتكسر الأوثان وتحقن الدماء، [وتوصل الأرحام] «3» ، قلت: ومن معك على هذا؟ قال: حرّ وعبد، يعنى أبا بكر وبلالا، فقلت: ابسط يدك أبايعك، فبايعته على الإسلام. قال: فلقد رأيتنى وأنا ربع «4» الإسلام، قال: قلت أقيم معك يا رسول الله؟ قال: «لا. ولكن الحق بقومك فإذا سمعت أنى قد خرجت فاتبعنى» ، قال: فلحقت بقومى، فمكثت دهر امنتظرا «5» خبره حتى أتت رفقة من يثرب فسألتهم الخبر «6» ، فقالوا: خرج محمد بن مكة إلى المدينة. قال: فارتحلت فأتيته فقلت: أتعرفنى؟
قال: «نعم، أنت الرجل الذى أتيتنا بمكّة» . وروى أبو «7» عمر أيضا بسنده إلى أبى أمامة الباهلى أنه حدث عن عمرو بن عبسة «8» قال: «رغبت عن آلهة قومى فى الجاهلية ورأيت أنها آلهة باطلة «9» ؛ يعبدون الحجارة، وهى لا «10» تضرّ ولا تنفع، قال: فلقيت رجلا من أهل الكتاب فسألته عن أفضل الدين، فقال: يخرج رجل من مكّة يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها، وهو يأتى بأفضل الدين، فإذا سمعت به فاتّبعه، فلم يكن لى همّ(16/193)
إلا مكّة أسأل هل حدث فيها حدث «1» ؟ فيقولون: لا. فأنصرف إلى أهلى، وأهلى من الطريق غير بعيد، فأعترض الركبان خارجين من مكة فأسألهم هل حدث فيها حدث؟
فيقولون: لا. فإنى لقاعد على الطريق يوما «2» إذ مرّ بى راكب فقلت من أين أنت «3» ؟
قال: من مكّة، قلت: هل فيها من خبر؟ قال: نعم، رجل رغب عن آلهة قومه ودعا إلى غيرها، قلت: صاحبى الذى أريد، فشددت راحلتى، وجئت مكة، ونزلت منزلى الذى كنت أنزل فيه، فسألت عنه، فوجدته مستخفيا، ووجدت قريشا إلبا عليه، فتلطّفت حتى دخلت عليه، فسلّمت ثم قلت: من أنت؟ قال:
«نبىّ الله «4» » ، قلت: وما النبى؟ قال: «رسول الله» ، قلت: من أرسلك؟ قال: «الله» ، قلت بم أرسلك؟ قال: «أن توصل الارحام، وتحقن الدماء، وتؤمن السبل، وتكسر الأوثان، ويعبد الله وحده لا يشرك به شىء» . فقلت: نعم ما أرسلت به؛ أشهدك أنى قد آمنت بك وصدّقتك، أمكث معك أم ما تأمرنى «5» ؟. قال: «قد رأيت كراهة الناس لما جئت به، فامكث فى أهلك، فإذا سمعت أنى خرجت مخرجا فاتّبعنى» . فلما سمعت «6» به خرج إلى المدينة سرت حتى قدمت عليه فقلت:
يا نبىّ الله، هل تعرفنى؟ قال: «نعم، أنت السّلمىّ الذى جئتنى بمكّة فقلت لى كذا، وقلت لك كذا «7» » .(16/194)
ومنهم عتبة «1» بن غزوان بن جابر، ويقال عتبة بن غزوان بن الحارث بن جابر ابن وهب»
بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف بن [الحارث بن «3» ] مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس «4» عيلان بن مضر بن نزار المازنى حليف لبنى نوفل بن عبد مناف «5» ، يكنى أبا عبد الله، وقيل أبا غزوان، كان إسلامه بعد ستّة رجال، فهو سابع سبعة [فى إسلامه، وقد قال ذلك فى خطبته بالبصرة: «لقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله سابع سبعة «6» ] ما لنا طعام إلا ورق الشّجر حتى قرحت أشداقنا» . رضى الله عنهم أجمعين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم.
ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام
قال محمد بن إسحاق «7» :
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّوا ذهبوا فى الشّعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبى وقّاص فى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبى وقّاص يومئذ رجلا من المشركين بلحى «8» بعير، فشجّه «9» ، فكان أول دم هريق فى الإسلام.(16/195)
ثم أمر «1» الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاء «2» به من عند الله وأن ينادى الناس بأمره، وأن يدعوهم إلى الله تعالى، فكان يدعو «3» ثلاث سنين مستخفيا، إلى أن أمر الله بإظهار الدعاء.
قال محمد بن سعد «4» : قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى «5» : لما أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس نزول الوحى عليه، ويدعوهم إلى الإيمان به، كبر ذلك عليه، فنزل قوله عز وجل: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)
، قالت عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبّة، فقال [لهم «6» ] : «أيها الناس، انصرفوا فقد عصمنى الله» ؛ قيل: يعصمك من قتلهم أن يقتلوك، فبلّغ عند ذلك الرسالة.
وعن الزهرىّ «7» ، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام سرا وجهرا، فاستجاب لله تعالى من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن بالله؛ وكفار قريش غير منكرين لما يقول، فكان إذا مرّ عليهم فى مجالسهم يشيرون إليه: إنّ غلام بنى عبد المطلب ليكلّم من السماء، فكان ذلك حتى عاب الله آلهتهم التى يعبدونها دونه، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر، فعند ذلك عادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وناكروه؛ وأجمعوا علاقة «8» .(16/196)
قال ابن عباس «1» رضى الله عنه: لما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم:
(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)
صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصّفا فقال:
«يا معشر قريش» ، فقالت قريش: محمد على الصّفا يهتف، فأقبلوا واجتمعوا، فقالوا:
مالك يا محمد؟ فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّقوننى» ؟
قالوا: نعم، أنت عندنا غير متّهم، وما جرّبنا عليك كذبا قط، قال: «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد يا بنى عبد المطلب يا بنى عبد مناف يا بنى زهرة» ، حتى عدّد الأفخاد من قريش «إن الله أمرنى أن أنذر عشيرتى الأقربين، وإنى لا أملك لكم من الدّنيا منفعة، ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله» قال: فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تعالى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ)
السورة كلّها. قال الواقدى «2» : لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ومن معه، وفشا أمره بمكّة، ودعا بعضهم بعضا، فكان أبو بكر يدعو ناحية سرّا، وكان سعيد بن زيد مثله «3» ، وعثمان مثل ذلك، [وكان عمر يدعو علانية وحمزة ابن عبد المطلب «4» ] وأبو عبيدة بن الجرّاح؛ فغضبت قريش من ذلك، وظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحسد والبغى، وأشخص به «5» منهم رجال فبادوه، وتستّر آخرون وهم على ذلك الرّأى، إلا أنهم ينزّهون أنفسهم عن القيام والإشخاص برسول الله صلى الله عليه وسلم.(16/197)
ذكر أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين جاهروا بالعداوة
قالوا: كان «1» أهل العداوة والمباداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يطلبون الجدل والخصومة: أبو جهل بن هشام، وأبو لهب بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس بن عدىّ، والوليد بن المغيرة، [وأمية وأبىّ ابنا خلف، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة «2» ] ، والعاص بن وائل، والنّضر ابن الحارث، ومنبّه بن الحجاج، وزهير بن أبى أمية، والسائب بن صيفىّ [بن عابد «3» ] ، والأسود بن عبد الأسد، والعاص بن سعيد بن العاص، والعاص بن هشام «4» ، وعقبة بن أبى معيط، وأبو الأصدى «5» ، وهو الذى نطحته الأروى، والحكم ابن أبى العاص، وعدىّ بن الحمراء؛ وذلك أنهم كانوا جيرانه؛ والذين «6» كانت تنتهى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: أبو جهل، وأبو لهب، وعقبة ابن أبى معيط؛ وكان عتبة «7» وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب أهل عداوة، ولكنهم لم يشخصوا بالنبى صلى الله عليه وسلم؛ كانوا كنحو قريش، ولم يسلم من هؤلاء إلا أبو سفيان والحكم بن أبى العاص.(16/198)
ذكر دخول قريش على أبى طالب فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان بينهم من المحاورات
قال محمد بن إسحاق «1» :
لما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم «2» من شىء أنكروه عليه، ورأوا أن عمّه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم «3» يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبى طالب، وهم: عقبة وشيبة ابنا ربيعة ابن عبد شمس، وأبو سفيان صخر بن حرب، وأبو البخترىّ العاص بن هشام، والأسود بن المطّلب بن أسد، وأبو جهل عمرو بن هشام، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج ابن عامر، والعاص بن وائل، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإما أن تكفّه عنا، وإما أن تخلّى بيننا وبينه، فإنك على سبيل «4» ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردّهم ردّا جميلا، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى»
الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرّجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا «6» فيه، وحضّ بعضهم بعضا عليه،(16/199)
ثم مشوا إلى أبى طالب مرّة أخرى فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سنّا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا، وإنا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنا، أو ننازله وإيّاك فى ذلك حتى يهلك أحد الفريقين؛ ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.
فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخى، إن قومك قد جاءونى فقالوا لى كذا وكذا، فأبق علىّ وعلى نفسك، ولا تحمّلنى من الأمر ما لا أطيق؛ قال: فظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه «1» فيه، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال «2» له: «يا عمّ، والله لو وضعوا الشّمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» ؛ ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» وقام، فلما ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخى، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يابن أخى فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشىء أبدا.
قال «4» : ثم إن قريشا لما عرفوا «5» أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم فى ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد «6» فتى فى قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتّخذه ولدا فهو لك خير، وأسلم لنا ابن أخيك هذا(16/200)
الذى قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل «1» ، قال «2» : والله لبئس ما تسوموننى، أتعطوننى «3» ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابنى تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدا، فقال له المطعم «4» بن عدىّ ابن نوفل بن عبد مناف بن قصىّ: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلّص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا؛ فقال له أبو طالب: والله ما أنصفونى، ولكنك «5» أجمعت خذلانى ومظاهرة القوم علىّ، فاصنع ما بدا لك، فحقب «6» الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضا.
قال الواقدى «7» :
لما أجابهم أبو طالب بما قدّمناه من أنهم ما أنصفوه قالوا له: فأرسل إليه فلنعطه النّصف، فأرسل إليه أبو طالب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يابن أخى، هؤلاء عمومتك، وأشراف قومك، وقد أرادوا ينصفونك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا أسمع» قالوا: تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك، قال أبو طالب: قد أنصفك القوم فاقبل منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أرأيتكم «8» إن أعطيتكم هذه هل أنتم معطىّ كلمة إن أنتم تكلّمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم» ؟ فقال أبو جهل: إنّ هذه لكلمة مربحة، نعم، وأبيك(16/201)
لنقولنّها وعشر أمثالها، قال: «قولوا لا إله إلا الله» ، فاشمأزّوا ونفروا منها وغضبوا، وقاموا وهم يقولون: (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ)
، ويقال:
إن الذى تكلّم بها عقبة بن أبى معيط، وقالوا: لا نعود إليه أبدا، وما خير من أن نغتال محمدا «1» . فلما كان من تلك «2» الليلة، قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتيانا من بنى هاشم وبنى المطّلب، ثم قال: ليأخذ كلّ واحد حديدة صارمة، ثم ليتبعنى إذا دخلت المسجد فليجلس كلّ فتى منكم إلى عظيم من عظمائهم، فيهم ابن الحنظليّة، يعنى أبا جهل، فإنه لم يغب عن شرّ إن كان محمد قد قتل، فقال الفتيان: نفعل، فجاء زيد بن حارثة، فوجد أبا طالب على تلك الحال، فقال: يا زيد، أحسست «3» ، ابن أخى؟ قال: نعم، كنت معه آنفا، فقال أبو طالب: لا أدخل بيتى أبدا حتى أراه، فخرج زيد مسرعا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت عند الصّفا، ومعه أصحابه يتحدّثون؛ فأخبره الخبر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى طالب، فقال: يابن أخى، أين كنت؟ أكنت فى خير؟ قال: نعم، قال: ادخل بيتك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فوقف على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميّون والمطّلبيّون، فقال: يا معشر قريش، هل تدرون ما هممت به؟ قالوا: لا. فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان:
اكشفوا عما فى أيديكم، فكشفوا فإذا كلّ رجل معه حديدة صارمة، فقال:
والله لو قتلتموه ما بقّيت منكم أحدا حتى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم، وكان أشدّهم انكسارا أبو جهل.(16/202)
ذكر تحزّب قريش على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأذاهم له ولأصحابه
قال ابن إسحاق «1» :
لما أيست قريش من أبى طالب، وأنه لا يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يسلمه أبدا، تامروا «2» بينهم على من فى القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [الذين أسلموا معه «3» ] ، فوثبت كلّ قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم، فقام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ذلك فى بنى هاشم وبنى المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبى لهب فإنه تمادى على غيّه وكفره.
قال «4» : ثم اجتمع نفر من قريش إلى الوليد بن المغيرة، وكان ذا سنّ فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش؛ إنه قد حضر هذا الموسم، وإنّ وفود العرب ستفد «5» عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ويردّ قولكم بعضه بعضا؛ قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع؛ قالوا:
نقول كاهن؛ قال: لا، والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة «6»(16/203)
الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما «1» هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته؛ قالوا: فنقول شاعر؛ قال:
ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر؛ قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السّحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده «2» ؛ قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟
قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعدق «3» ، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين «4» المرء وأبيه، وبين المرء [وأخيه، وبين المرء «5» ] وزوجه، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبيل الناس حين قدموا الموسم، لا يمرّبهم أحد إلا حدّروه إياه وذكروا له أمره، فأنزل الله تعالى فى الوليد ابن المغيرة: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً)
أى خصيما مخالفا (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ)
. قال ابن هشام: بسر «6» أى كرّه وجهه، (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) .(16/204)
قال ابن إسحاق «1» :
وأنزل الله فى النّفر الذين كانوا معه يصنّفون القول فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به من عند الله: (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)
أى أصنافا (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) .
قال ابن إسحاق»
:
وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره فى بلاد العرب كلها. قال «3» : ثم ابتدأت قريش فى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم، فأغروا به صلى الله عليه وسلم سفهاءهم، فكذّبوه وآذوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفى به، مبا لهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم «4» على كفرهم.
قال محمد بن إسحاق «5» :
حدّثنى يحيى بن عروة عن الزّبير عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما، قال: قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا «6» من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون «7» من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما فى الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
ما رأينا مثلما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قطّ؛ سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا،(16/205)
وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا؛ لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا؛ فبينما هم فى ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، قال: فعرفت ذلك فى وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم مضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك فى وجهه، ثم مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذى نفسى بيده لقد جئتكم بالذّبح «1» » . قال: فأخذت كلمته القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدّهم فيه وصاة «2» قبل ذلك ليرفؤه «3» بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه القول، انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا فى الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا دنا منكم وباداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم فى ذلك طلع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون:
أنت الذى تقول كذا وكذا لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول: «نعم، أنا الذى أقول ذلك» . قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع «4» ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ)
، ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك لأشدّ ما رأيت قريشا نالوا منه قطّ «5» .(16/206)
قالت أم كلثوم بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق «1» رأسه ممّا جبذوه بلحيته، وكان رجلا كثير الشعر.
وخرّج الترمذىّ الحكيم فى «نوادر الأصول» ، من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: اجتمعت قريش بعد وفاة أبى طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل هذا يجأه وهذا يتلتله «2» ، فاستغاث النبىّ صلى الله عليه وسلم فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان، فأقبل يجأذا ويتلتل ذا، ويقول بأعلى صوته: ويلكم، (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ)
، والله إنه لرسول الله، فقطعت إحدى ضفيرتى أبى بكر يومئذ، فقال علىّ «3» :
والله ليوم أبى بكر خير من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه فى كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل ماله ودمه لله عز وجل.
قال ابن هشام «4» :
حدّثنى بعض أهل العلم: أن أشدّ مالقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش: أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلّا كذّبه وآذاه [لا «5» ] حرّ ولا عبد، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى منزله فتدثّر من شدّة ما أصابه، فأنزل الله عز وجل عليه: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) .(16/207)
ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال محمد بن إسحاق «1» :
حدّثنى رجل من أسلم كان «2» واعية: أن أبا جهل بن هشام مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصّفا فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان تسمع ذلك، ثم انصرف أبو جهل عنه عامدا إلى نادى قريش عند الكعبة، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه «3» ، راجعا من قنص له، وكان حمزة أعزّ فتى فى قريش وأشدّه شكيمة، فلما مر بمولاة ابن جدعان قالت له: يا أبا عمارة: لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبى جهل ابن هشام؛ وجده ههنا جالسا فآذاه وسبّه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلّمه محمد، فغضب حمزة، فخرج يسعى حتى دخل المسجد فنظر إلى أبى جهل جالسا فى القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها، فشجّه شجّة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا «4» على دينه أقول ما يقول، فردّ ذلك علىّ إن استطعت، فقامت رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل:
دعوا أبا عمارة، فإنى والله لقد سببت ابن أخيه سبّا قبيحا، وتمّ حمزة على إسلامه، وعلى ما بايع «5» عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله؛ فلما أسلم حمزة عرفت(16/208)
قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عزّ وامتنع، وأن حمزة سمينعه، فكفّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه قبل، قال: وكان إسلام حمزة قبل إسلام عمر ابن الخطاب- رضى الله عنهما- بثلاثة أيام «1» .
ذكر مشى عتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعهما القرآن، واعترافهما أنه لا يشبه شيئا من كلامهم، وما أشار [به] عتبة على أشراف قريش فى أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قال محمد بن إسحاق «2» :
حدّثنى يزيد بن زياد «3» ، عن محمد بن كعب القرظىّ قال: حدّثت أن عتبة بن ربيعة- وكان سيّدا- قال يوما وهو جالس فى نادى قريش، والنبىّ صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمّد فأكلّمه وأعرض عليه أمورا، لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكفّ عنّا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلّمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخى، إنّك منّا حيث قد علمت من السّطة فى العشيرة، والمكان فى النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت «4» به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى(16/209)
من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلّك تقبل منها «1» بعضها، قال:
«قل يا أبا الوليد أسمع» ، قال: يابن أخى، إن كنت إنما تريد ممّا جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيّا «2» تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطّبّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربّما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع «3» منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد» ؟ قال: نعم، قال: «فاستمع منى» ، قال: أفعل، قال: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ «4» )
. ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما «5» يستمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى السّجدة «6» فسجد، ثم قال:
«قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك» .
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك(16/210)
يا أبا الوليد؟ قال: ورائى أنى سمعت قولا والله «1» ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشّعر، ولا بالسّحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بى، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكوننّ لقوله الذى سمعت نبأ [عظيم «2» ] ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم «3» ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به؛ فقالوا «4» : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيى فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
وروى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ «5» بسنده إلى جابر بن عبد الله، قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشّعر فكلّمه، ثم أتانا ببيان أمره؟ فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحرة والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علىّ إن كان كذلك، فأتاه عتبة فقال «6» : يا محمد، أنت خير أم هاشم؟ [أنت خير أم عبد المطّلب «7» ] ؟ أنت خير أم عبد الله؟
فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبم تشتم آلهتنا، وتضلّل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباه زوّجناك عشر نسوة تختار من أىّ بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغنى بها أنت وعقبك من بعدك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلّم؛ فلما فرغ من حديثه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(16/211)
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ)
«1» حتى بلغ قوله تعالى: (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ)
«2» ، فأمسك عتبة على فى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وناشده الرّحم أن يكفّ، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم؛ فقال أبو جهل: يا عتبة، ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم بالله لا يكلّم محمّدا أبدا، وقال: لقد علمتم أنّى من أكثر قريش مالا، ولكنى أتيته، وقصّ عليهم القصّة، قال: فأجابنى بشىء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ علىّ:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم)
إلى قوله: (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ)
فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكفّ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فيه، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
وأما الوليد بن المغيرة فقد روى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ «3» بسنده عن عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أنى من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له «4» ، وأنك كاره له، فقال «5» :وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّى، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده منّى، ولا بأشعار الجنّ؛ والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، [و «6» ] والله إن لقوله الذى يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال:(16/212)
لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعنى حتى أفكّر فيه، فلما فكّر قال:
هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره «1» ، فنزل قوله تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ... )
«2»
الآيات.
وعن عكرمة أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له:
اقرأ علىّ، فقرأ عليه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
«3» ، قال: أعد علىّ، فأعاد عليه النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: والله إنّ له لحلاوة، وإنّ [عليه لطلاوة «4» ، وإن] أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر.
ذكر اجتماع أشراف قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وما عرضوا عليه وما طلبوا منه أن يريهم ويخبرهم به من القصص، وأخبار من سلف وغير ذلك من غيّهم، وما أنزل عليه فى ذلك ممّا سنذكره إن شاء الله تعالى، ويترجم على بعض ما انطوت عليه هذه الترجمة من القصص بما يدل عليها، ويبيّنها من التراجم وإن كانت داخلة فيها.
قال محمد بن إسحاق «5» :
ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكّة فى قبائل قريش، فى الرجال والنساء.
وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، ثم اجتمعت أشراف قريش من كلّ قبيلة، كما روى عن سعيد بن(16/213)
جبير وابن عباس، قالا: اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان ابن حرب، والنّضر بن الحارث بن كلدة، وأبو البخترىّ بن هشام، والأسود ابن المطّلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبى أميّة، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج السّهميّان، وأمية ابن خلف، أو من اجتمع منهم، فاجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلّموك، فأتهم؛ فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدالهم فيما كلّمهم فيه بداء، وكان حريصا عليهم، يحبّ رشدهم «1» ، حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت [على قومك «2» ] ، لقد شتمت الآباء، وعبت الدّين، وسببت «3» الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فما بقى أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا له، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك، وكلّموه بنحو ما كلّمه به عتبة بن ربيعة على ما قدّمناه آنفا.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بى [ما «4» ] تقولون، ما جئت بما جئتكم أطلب به أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكنّ الله بعثنى إليكم رسولا وأنزل عليكم «5» كتابا، وأمرنى أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلّغت لكم رسالات ربّى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منّى ما جئتكم به فهو حظّكم فى الدنيا والآخرة، وإن(16/214)
تردّوه علىّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بينى وبينكم» أو كما قال- صلى الله عليه وسلم-. [قالوا يا محمد «1» ] : فإن كنت غير قابل منّا شيئا ممّا عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقلّ ماء ولا أشدّ عيشا منّا، فسل لنا ربّك الذى بعثك به فليسيّر عنّا هذه الجبال التى ضيقّت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليخرق «2» لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصىّ بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول: أحقّ هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت لنا ما سألناك عرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثنى به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظّكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علىّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بينى وبينكم» . قالوا له: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربّك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضّة يغنيك بها عما نراك تبتغى، فإنّك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمس، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل، وما أنا بالذى يسأل ربّه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا» ،- أو كما قال- «فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظّكم(16/215)
فى الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علىّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» .
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربّك إن شاء فعل، فإنّا لا نؤمن لك إلّا أن تفعل. فقال صلى الله عليه وسلم: «ذلك إلى الله، إن شاء يفعله بكم فعل» قالوا: يا محمد، أفما علم ربّك أنّا سنجلس معك ونسألك عمّا سألناك عنه ونطلب، فيتقدّم إليك فيعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك بما هو صانع فى ذلك بنا، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به؟ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلّمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منّا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهى بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتى بالله والملائكة قبيلا؛ فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبى أميّة بن المغيرة- وهو ابن عمّته- فقال له: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدّقوك ويتّبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم، ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجّل لهم بعض ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل- أو كما قال له- فو الله لا أو من بك أبدا حتى تتّخذ إلى السماء سلّما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتى معك بصكّ، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أنى أصدّقك؛ ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته ممّا كان يطمع به من قومه حين دعوه «1» .(16/216)
ذكر قصّة أبى جهل فى الحجر الذى قصد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وما شاهده من حماية الله تعالى لنبيّه، وكفايته إيّاه ورجوعه إلى قومه وإخبارهم بما شاهد
قال ابن إسحاق: ولمّا قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنّ محمد قد أبى إلّا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسبّ «1» آلهتنا؛ وإنى أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد فضخت به رأسه، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم؛ قالوا: والله لا نسلمك لشىء أبدا، فامض لما تريد، فلمّا أصبح أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّى إلى بيت المقدس: وكان إذا صلّى صلّى بين الركن اليمانىّ والحجر الأسود: وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وقام يصلّى وقريش فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أتى «2» نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه، مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه لأفعل [به «3» ] ما قلت لكم البارحة، فلمّا دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل؛ والله ما رأيت مثل هامته(16/217)
ولا قصرته «1» ولا أنيابه لفحل قطّ، فهمّ أن يأكلنى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاك جبريل لو دنا لأخذه» .
ومثل هذه القصة أيضا، ما رواه ابن إسحاق قال: قدم رجل من إراش- ويقال إراشة «2» - بإبل له مكة فابتاعها منه أبو جهل، فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشىّ حتى وقف على ناد من أندية قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى ناحية المسجد جالس، فقال الإراشىّ: يا معشر قريش، من رجل يؤدينى «3» على أبى الحكم بن هشام؛ فإنّى رجل غريب ابن سبيل، وقد غلبنى على حقّى؛ فقال له القوم: أترى ذلك الرجل الجالس؟
- يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يهزءون به- اذهب إليه فهو مؤديك عليه؛ فأقبل الإراشىّ حتى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا عبد الله، إن أبا الحكم قد غلبنى على حقّ لى قبله، وأنا غريب وابن سبيل، ولقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤدينى عليه فأشاروا لى إليك، فخذ [لى «4» ] حقّى منه يرحمك الله، قال: «انطلق إليه» ، وقام معه صلى الله عليه وسلم فلمّا رأوه قام [معه «5» ] قالوا لرجل ممّن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع؟ قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: «محمّد فاخرج إلىّ» فخرج وما فى وجهه رائحة «6» (أى دم) قد انتقع «7» لونه فقال: أعط هذا الرجل حقّه(16/218)
قال: نعم، لا يبرح «1» حتّى أعطيه [الّذى له «2» ] ، ودخل فخرج إليه بحقّه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للإراشىّ: الحق بشأنك؛ فأقبل الإراشىّ حتّى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرا، فقد والله أخذ لى حقّى، وجاء الرجل الّذى بعثوه معه فأخبرهم الخبر، قال: ثمّ لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك! والله ما رأينا مثل ما صنعت قطّ! قال: ويحكم! والله ما هو إلّا أن ضرب علىّ بابى، وسمعت صوته، فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإنّ فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قطّ، والله لو أبيت لأكلنى.
ذكر خبر النّضر بن الحارث، وما قال لقريش، وإرسالهم إيّاه إلى يثرب إلى أحبار يهود وعقبة بن أبى معيط وما عادا به
قال: ولمّا رجع أبو جهل إلى قريش، وألقى الحجر من يده وقصّ عليهم ما شاهد قام النضر بن الحارث بن كلدة فقال: يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمّد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب- وقد جاءكم بما جاءكم به- قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السّحرة؛ نفثهم وعقدهم.
وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة؛ تخالجهم، وسمعنا سجعهم.
وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلّها؛(16/219)
هزجه ورجزه. وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، ما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا فى شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
قال ابن إسحاق: وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممّن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس ورستم «1» وإسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكّر فيه بالله وحذّر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه فى مجلسه إذا أقام، ثم قال: والله يا معشر قريش أنا أحسن حديثا منه، فهلمّ «2» فأنا أحدّثكم أحسن من حديثه، ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا منى! قيل: والنضر هذا هو الذى قال [فيما بلغنى «3» ] : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ)
«4» ، قال ابن عباس: نزل فيه ثمان آيات من القرآن: قوله تعالى (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) *
«5» ، وكلّ ما ذكر فيه الأساطير من القرآن. قال: فلما قال لهم النضر بن الحارث ما قال بعثوه، وبعثوا معه عقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمّد، وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل، وعندهم(16/220)
علم حسن- ليس عندنا- من علم الأنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنّكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقال لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبىّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأوّل، ما كان من أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب؛ وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الرّوح ما هو؟
فإن أخبركم بذلك فاتّبعوه فإنه نبىّ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فروا فيه رأيكم.
فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا فى الدهر الأوّل قد كانت لهم قصّة عجب؛ وعن رجل كان طوّافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ وأخبرنا عن الرّوح ما هى؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أخبركم بما سألتم عنه غدا» ، ولم يستثن بالمشيئة، فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله فى ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف «1» أهل مكّة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا «2» بشىء ممّا سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه، وشقّ عليه ما يتكلّم به أهل مكة؛ ثم جاءه جبريل من الله بسورة الكهف فيها خبر ما سألوا عنه، فيقال: إنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه: لقد احتبست عنّى حتى سؤت ظنّا؛ فقال له جبريل:(16/221)
(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)
«1» .
ذكر ما اشتملت عليه سورة الكهف ممّا سألوه عنه
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله تعالى: افتتح الله عزّ وجلّ السورة بحمده، وذكر نبوّة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ)
يعنى محمدا. قوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً)
أى معتدلا لا اختلاف فيه. قوله: (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ)
أى عاجل عقوبته فى الدنيا وعذابا أليما فى الآخرة. قوله: (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً)
أى دار الخلد لا يموتون فيها، الّذين صدّقوك بما جئت به ممّا كذّبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم من الأعمال. قوله: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً)
يعنى قريشا فى قولهم: إنّا نعبد الملائكة وهى بنات الله.
قوله: (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ)
الّذين أعظموا فراقهم «2» . قوله: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)
أى قولهم: إنّ الملائكة بنات الله.
قوله: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)
أى مهلك نفسك لحزنه صلى الله عليه وسلم عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم، أى لا تفعل.
قوله: (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)
أى أيّهم أتبع لأمرى، وأعمل لطاعتى. قوله: (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)
«3» أى الأرض،(16/222)
وإنّ ما عليها لفان وزائل، ولكن المرجع إلىّ فأجزى كلّا بفعله، فلا تأس، ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. ثم استقبل القصّة فيما «1» سألوه عنه من شأن الفتية.
فقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً)
، أى قد كان من آياتى فيما وضعت على العباد من حجتى «2» ما هو أعجب من ذلك.
قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذى يرقم فيه بخبرهم، وجمعه رقم.
ثم قال: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ)
إلى قوله: (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً)
أى لم يشركوا بى كما أشركتم [بى «3» ] ما ليس لكم به علم. قال: والشّطط، الغلوّ «4» ومجاوزة الحق. قوله: (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ)
، أى بحجّة بالغة. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)
إلى قوله: (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) .
قال ابن هشام: تزاور، تميل، وهو من الزّور، و (تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ)
، أى تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قوله: (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ)
أى فى الحجّة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممّن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم فى صدق نبوّتك بتحقيق الخبر عنهم. قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ)
إلى قوله (بِالْوَصِيدِ)
«5» الوصيد: الباب. قال عبيد «6» بن وهب العبسىّ منشدا:
بأرض فلاة لا يسدّ وصيدها ... علىّ ومعروفى بها غير منكر(16/223)
والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد ووصدان قوله: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ)
إلى قوله (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ)
أهل الملك (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) .
قوله: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ)
إلى قوله: (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً)
يعنى أحبار يهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم، فانهم لا علم لهم بهم. قوله: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ)
إلى قوله (رَشَداً)
أى لا تقولنّ لشىء سألوك عنه كما قلت فى هذا: إنى مخبركم غدا، واستثن بمشيئة الله (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي)
لخير مما سألتمونى عنه رشدا، فإنّك لا تدرى ما أنا صانع فى ذلك. قوله:
(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)
أى سيقولون ذلك. (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)
أى لم يخف عليه شىء مما سألوا عنه، وقال الله عزّ وجل، فيما سألوه عنه من أمر الطّواف، وهو ذو القرنين: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ)
«1» الآيات، إلى آخر خبره. وقد ذكرنا قصة ذى القرنين فى الباب الأوّل من القسم الرابع من الفنّ الخامس من كتابنا هذا، وهى فى الجزء الثانى عشر «2» من هذه النسخة، ولا فائدة فى إعادتها.
وقال تعالى فيما سألوه عنه من [أمر «3» ] الرّوح «4» : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)
«5» روى عن عبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال(16/224)
أحبار يهود: يا محمد، أرأيت قولك: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)
«1» إيّانا تريد أم قومك؟ قال: كلّا. قالوا: فإنّك تتلو فيما جاءك إنّا قد أوتينا التوراة فيها بيان كلّ شىء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّها فى علم الله قليل، وعندكم فى ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه» فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
«2» ، أى أن التوراة فى هذا من علم الله قليل.
ذكر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال، وتقطّع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى، وما سألوه لنفسه، وما قالوه له بعد ذلك
أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله صلى الله عليه وسلم فيما سأله قومه لأنفسهم فيما قدّمنا ذكره؛ قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً)
«3» ، أى لا أصنع من ذلك إلّا ما شئت.
وأنزل عليه فى قولهم: خذ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لنفسه قوله تعالى: (وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً.
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً)
«4» . (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ)
«5» ، أى من أن تمشى فى الأسواق(16/225)
وتلتمس المعاش (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)
. وأنزل عليه فى ذلك: (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً)
«1» ، أى جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى ولا يخالفوا لفعلت. وأنزل عليه فيما قال عبد الله بن أميّة: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً.
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «2» )
، وأنزل عليه فى قولهم: إنّا قد بلغنا [أنك «3» ] إنّما يعلّمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبدا؛ قوله تعالى: (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ)
. «4» . وأنزل عليه فيما قال أبو جهل وما همز به قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى.
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى)
«5» إلى آخر السورة. قال ابن هشام:
لنسفعن: لنجذبنّ ولنأخذنّ. والنادى: المجلس الذى يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم، وجمعه أندية. يقول: (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ)
«6» أى أهل ناديه، كما قال تعالى:
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)
«7» أى أهل القرية. وأنزل عليه فيما عرضوه عليه من أموالهم:
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
«8»(16/226)
ذكر ما كان من عناد قريش بعد ذلك وعقودهم «1»
قال: فلمّا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحقّ، وعرفوا صدقه فيما حدّث، وموقع نبوّته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عمّا سألوه عتوا على الله واستمرّوا فى طغيانهم وعلى كفرهم، فقال قائلهم:
(لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)
«2» فإنكم إن ناظرتموه وخاصمتموه غلبكم. فقال أبو جهل يوما- وهو يهزأ برسول الله وما جاء به من الحقّ-: يا معشر قريش، يزعم محمد أنّما جنود الله الذين يعذبونكم فى النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا [وكثرة «3» ] ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم. فأنزل الله تعالى فى ذلك: (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)
«4» إلى آخر القصّة.
قال: ولمّا قال بعضهم لبعض: (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)
جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو فى صلاته يتفرّقون عنه، ويأبون أن يسمعوا له، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلّى استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنّهم قد عرفوا به أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم أن يستمع؛ وإن خفض صلى الله عليه وسلم صوته ظنّ الّذى يستمع أنهم لا يستمعون شيئا من قراءته؛ وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه، فأنزل الله تعالى قوله:(16/227)
(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا)
«1» يقول: لا تجهر بصلاتك فيفرّوا «2» عنك، ولا تخافت بها، فلا يسمعها من يحبّ أن يسمعها ممّن يسترقها دونهم لعلّه يرعوى إلى بعض ما يسمع فينتفع به.
ذكر أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم
روى عن عروة بن الزّبير عن أبيه قال: كان أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود. قال: اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ «3» من رجل يسمعهموه. فقال عبد الله بن مسعود: أنا؛ قالوا:
إنّا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال:
دعونى، إن الله سمينعنى؛ قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام فى وقت الضّحى وقريش فى أنديتها، ثم قال رافعا صوته: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ)
«4» ثم استقبلها يقرؤها، وتأمّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أمّ عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمّد؛ فقاموا إليه فجعلوا يضربون فى «5» وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثّروا بوجهه، فقالوا: هذا الذى خشينا عليك. قال: ما كان أعداء الله أهون علىّ منهم الآن، وإن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا؛ قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون.
والله الموفّق.(16/228)
ذكر ما نال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أذى قريش وعذابهم ليفتنوهم عن دينهم
قال محمّد بن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أصحابه، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذّبونهم بالضّرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكّة إذا اشتد الحرّ؛ من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن «1» من شدّة البلاء الذى يصيبه، ومنهم من يعصمه الله، فكان بلال بن رباح «2» مولى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما لبعض بنى جمح مولّدا من مولّديهم، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، فكان أميّة بن خلف يخرجه إذا حميت الظّهيرة فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكّة، ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد، وتعبد اللّات والعزّى؛ فيقول- وهو فى ذلك البلاء- أحد أحد، فكان ورقة بن نوفل يمرّ به وهو يعذّب بذلك وهو يقول: أحد أحد، فيقول: أحد أحد والله يا بلال؛ ثم يقبل على أميّة بن خلف وهو يصنع به ذلك فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حنانا «3» ؛ حتى مرّ به أبو بكر الصديق رضى الله عنه يوما وهم يصنعون به ذلك، فقال لأميّة: ألا تتقى الله فى هذا المسكين، حتّى متى! فقال: أنت أفسدته فأنقذه ممّا ترى. قال: أفعل، عندى غلام أسود أجلد منه وأقوى، وهو على دينك، أعطيكه به. قال: قد قبلت؛ قال: هو لك. فأعطاه أبو بكر(16/229)
غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ستّ رقاب؛ وهم عامر بن فهيرة، شهد بدرا وأحدا «1» ، وأمّ عميس «2» ، وزنّيرة- وكانت روميّة لبنى عبد الدار- فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلّا اللّات والعزّى، وما ينفعان. فردّ الله إليها بصرها؛ وأعتق النهديّة وابنتها، وكانتا لامرأة من بنى عبد الدّار، فمرّ بهما وقد بعثتهما سيّدتهما بطحين لها وهى تقول: والله لا أعتقكما أبدا؛ فقال أبو بكر: حلّ «3» يا أم فلان؛ فقالت:
حلّ أنت؛ أفسدتهما فاعتقهما، قال فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا؛ قال: أخذتهما وهما حرّتان، ارجعا إليها طحينها؛ قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نردّه إليها؛ قال: وذاك إن شئتما. ومرّ بجارية من بنى مؤمّل (حىّ من بنى عدىّ بن كعب) - وكانت مسلمة- وكان عمر يعذّبها لتترك الإسلام، وعمر يومئذ مشرك، وهو يضربها حتى إذا ملّ قال: إنى أعتذر إليك، لم أتركك إلّا ملالة، فيقول:
كذا يفعل الله بك. فآبتاعها فأعتقها؛ فقال أبو قحافة لأبى بكر: يا بنىّ، أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنّك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك؛ فقال أبو بكر: يا أبت إنّى إنما أريد لله عزّ وجلّ ما أريد؛ فيقال:
إنّ هذه الآيات أنزلت فيه رضى الله عنه قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى)
إلى قوله: (وَلَسَوْفَ يَرْضى)
«4» .
قال محمد بن إسحاق: وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمّه- وكانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظّهيرة يعذّبونهم برمضاء مكّة، فيمرّ بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: «صبرا آل ياسر موعدكم الجنّة» ،(16/230)
فأما أمّه فقتلوها وهى تأبى إلا الإسلام «1» . قال أبو عمر: وهى سميّة، كانت أمة لأبى حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، فزوّجها من حليفه ياسر بن عامر بن مالك العبسى، فولدت له عمّارا، فأعتقه أبو حذيفة. وسميّة هذه أوّل شهيدة فى الإسلام. وجاءها أبو جهل بحربة فى قبلها فقتلها، فقال عمّار:
يا رسول الله، بلغ منا- أو بلغ منها كلّ مبلغ- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«صبرا يا أبا اليقظان، اللهم لا تعذّب أحدا من آل «2» ياسر بالنار» .
قال ابن إسحاق: وكان أبو جهل هو الذى يغرى بهم فى رجال قريش إذا سمع برجل قد أسلم، فإن كان له شرف ومنعة أنّبه وخزّاه: فيقول: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفّهن حلمك ولنفيّلنّ «3» رأيك، ولنضعنّ شرفك؛ وإن كان تاجرا، قال: والله لنكسدنّ «4» تجارتك، ولنهلكنّ مالك؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به. وروى عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس رضى الله عنهم: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العذاب ما يعذرون به فى ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه؛ حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضرّ الذى به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: اللّات والعزّى إلهان من دون الله، فيقول:
نعم، حتى إن الجعل ليمرّ بهم فيقولون له: هذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول:
نعم، افتداء منهم ممّا يبلغون من جهده. والله المعين.(16/231)
ذكر هجرة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الحبشة، وهى الهجرة الأولى
قال محمد بن إسحاق: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يصيب أصحابه من البلاء والعذاب، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله تعالى ومن عمّه أبى طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم ممّا هم فيه قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد- وهى أرض صدق- حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك من خرج منهم مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أوّل هجرة كانت فى الإسلام.
قال الواقدىّ: خرجوا متسلّلين سرّا، وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، حتى انتهوا إلى الشعيبة «1» منهم الراكب والماشى، ووفّق الله لهم ساعة جاءوا سفينتين للتجّار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم فى نصف رجب من السنة الخامسة من حين تنّبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخرجت قريش فى آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوهم.
قال ابن إسحاق. كان أوّل من خرج من المسلمين من بنى أمية بن عبد شمس عثمان بن عفان معه امرأته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بنى عبد شمس: أبو حذيفة بن عتبة، معه امرأته سهلة ابنة سهيل، ولدت بأرض الحبشة محمد بن [أبى «2» ] حذيفة. ومن بنى أسد بن عبد العزّى: الزبير بن العوّام.
ومن بنى عبد الدار: مصعب بن عمير بن هاشم. ومن بنى زهرة بن كلاب:(16/232)
عبد الرحمن بن عوف. ومن بنى مخزوم: أبو سلمة بن عبد الأسد، معه امرأته أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة. ومن بنى جمح: عثمان بن مظعون بن حبيب.
ومن بنى عدىّ بن كعب: عامر بن ربيعة، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة بن غانم؛ ومن بنى عامر بن لؤىّ: أبو سبرة بن أبى رهم بن عبد العزّى «1» ؛ ومن بنى الحارث ابن فهر: سهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة. قال: هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة، وكان عليهم عثمان بن مظعون.
وزاد الواقدىّ: حاطب بن عمرو بن عبد شمس، فجعلهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة. قال: فقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار «2» ، أمنّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه. والله أعلم.
ذكر رجوع أهل هذه الهجرة إلى مكّة، وما قيل فى سبب رجوعهم
قال محمد بن سعد عن محمد بن عمر بن واقد بسند يرفعه: لمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قومه كفّا عنه، جلس خاليا، فتمنّى فقال: ليته لا ينزل علىّ شىء ينفّرهم عنى، وقارب رسول الله صلى الله [عليه وسلم «3» ] قومه ودنا منهم ودنوا منه، فجلس يوما مجلسا فى ناد من تلك الأندية حول الكعبة، فقرأ عليهم:
(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى)
«4» حتى بلغ: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)
«5» .
ألقى الشيطان على لسانه كلمتين: «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى» ولما بلغ «الغرانيق العلا» ، وفى أخرى: «والغرانقة «6» العلا، تلك الشفاعة ترتجى»(16/233)
قال الواقدىّ: فتكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهما «1» ، ثم مضى فقرأ السورة كلّها، وسجد وسجد القوم جميعا، ورفع المغيرة بن الوليد ترابا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود. ويقال: إن أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ ترابا فسجد عليه، ورفعه إلى جبهته- وكان شيخا كبيرا- فرضوا بما تكلّم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق، ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فأمّا إذ جعلت لها نصيبا عندك فنحن «2» معك، فكبر ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قولهم حتى «3» جلس فى البيت فلمّا أمسى أتاه جبريل فعرض عليه السورة، فقال جبريل: ما جئتك بهاتين الكلمتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قلت على الله ما لم يقل» .
فأوحى الله إليه: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا)
، إلى قوله: (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) .
وقال: ففشت تلك السّجدة فى الناس حتى بلغت أرض الحبشة، فبلغ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل مكّة قد سجدوا فأسلموا، حتى إن الوليد ابن المغيرة وأبا أحيحة قد سجدا خلف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال القوم:
فمن بقى بمكّة إذا أسلم هؤلاء! قالوا: عشائرنا أحبّ إلينا؛ فخرجوا راجعين، حتى إذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبا من كنانة، فسألو لهم عن قريش(16/234)
وعن حالهم، فقال الركب: ذكر محمد آلهتهم بخير، فتابعه الملأ، ثم ارتدّ عنها، فعاد يشتم آلهتهم، وعادوا له بالشر، فتركناهم على ذلك، فائتمر القوم فى الرجوع إلى أرض الحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا، ندخل فننظر ما فيه قريش، ويحدث عهدا من أراد بأهله، ثم نرجع. قال: فدخلوا مكة، ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار، إلا ابن مسعود فإنه مكث يسيرا، ثم رجع إلى أرض الحبشة. قال الواقدىّ: فكان خروجهم فى شهر رجب سنة خمس (يريد من النبوّة «1» ) ، فأقاموا شعبان ورمضان وقدموا فى شوال من السنة.
وحيث ذكرنا هذا الحديث فلنذكر ما جاء فى توهينه.
ذكر ما ورد فى توهين هذا الحديث والكلام عليه فى التوهين والتسليم
قال القاضى عياض بن موسى بن عياض رحمه الله، فى كتابه المترجم (بالشفا بتعريف حقوق المصطفى) صلى الله عليه وسلم:
اعلم أن لنا فى الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما فى توهين أصله، والثانى [على «2» ] تسليمه.
أمّا المأخذ الأوّل فيكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه فى الصلاة، وآخر يقول قالها فى نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة؛ وآخر يقول: بل حدّث نفسه فسها؛ وآخر يقول: إن الشيطان قالها على(16/235)
لسانه، وأن النبى صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؛ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأها؛ فلما بلغ النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «والله ما هكذا أنزلت» إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية «1» ، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما فيما أحسب- الشك فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم كان بمكة- وذكر القصة. قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا تعلمه يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبىّ، عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبّه عليه مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه.
وأما حديث الكلبىّ فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره، لقوة ضعفه وكذبه كما أشار البزار إليه، قال: والذى منه فى الصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ (وَالنَّجْمِ)
وهو بمكة، فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. هذا توهينه من طريق النقل، والله أعلم بالصواب.
وأما جهة المعنى: فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرّذيلة. أما من تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان، ويشبه عليه القرآن حتى(16/236)
يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبى صلى الله عليه وسلم أنّ من القرآن ما ليس منه، حتى ينبّهه جبريل عليهما السلام، وذلك كله ممتنع فى حقّه صلى الله عليه وسلم، أو يقول ذلك النبى صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا- وذلك كفر- أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله، وقد تقرر بالبرهان والإجماع عصمته عليه السلام من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو يتقوّل على الله؛ لا عمدا ولا سهوا «1» ، وقد قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ)
«2» الآية، وقال:
(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ)
«3» الآية.
ووجه ثان، وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى لكان بعيد الالتئام «4» ، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم؛ ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم، ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك- وهذا لا يخفى على أدنى متأمل- فكيف بمن رجح حلمه، واتّسع فى باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟! ووجه ثالث، أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندى المشركين، وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبى صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين، وارتداد من فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأقل شبهة؛ ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصّولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا فى قصة الإسراء وقصة القضية «5» ، ولا فتنة أعظم من هذه البليّة لو وجدت،(16/237)
ولا تشغيب «1» للمعادى حينئذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت؛ فما روى عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة؛ فدل على بطلها، واجتثاث أصلها.
قال القاضى عياض: ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدّثين، ليلبّس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع، ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ)
الآيتين، وهاتان الآيتان ترددان الخبر الذى رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم؛ فمضمونه هذا.
ومفهومه أن الله عصمه من أن يفترى، وثبّته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا! وهم يروون فى أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه السلام: «افتريت على الله وقلت ما لم يقل» ؛ وهذا ضد مفهوم الآية، وهى تضعّف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له!، وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: كل ما فى القرآن كاد فهو ما لا يكون، قال الله تعالى:
(يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ)
«2» ، ولم يذهب. قال القاضى القشيرىّ «3» : ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كان ليفعل صلى الله عليه وسلم.
وأما المأخذ الثانى- وهو مبنىّ على تسليم الحديث لو صحّ، وقد أعاذنا الله من صحته- فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ذكرها القاضى عياض «4» وضعّف بعضها، واستحسن بعضا، نذكر منها ما استحسنه وجوّزه إن شاء الله.(16/238)
منها ما ذكره القاضى أبو بكر فى أجوبته عن هذا الحديث، قال:
لعل النبىّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك أثناء تلاوته؛ على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار، لقول إبراهيم عليه السلام: (هذا رَبِّي)
«1» على أحد التأويلات، يريد: أهذا ربّى؟! ولقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا)
«2» بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين، ثم رجع إلى تلاوته، وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ. قال القاضى عياض: ولا يعترض على هذا بما روى أنه كان فى الصلاة، فقد كان الكلام فيها قبل [غير «3» ] ممنوع، قال: والذى يظهر ويترجح فى تأويله عند القاضى أبى بكر، وعند غيره من المحققين على تسليمه، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربّه يرتّل القرآن ترتيلا، ويفصّل الآى تفصيلا فى قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا نغمة النبى صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبى صلى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله تعالى، وتحقّقهم من حال النبى صلى الله عليه وسلم فى ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف منه. وقد حكى موسى بن عقبة فى مغازيه نحو هذا، وقال:
إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك فى أسماع المشركين وقلوبهم.
قال القاضى عياض: ويكون ما روى من حزن النبى صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة، وقد قال الله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ(16/239)
وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)
«1» الآية، فمعنى (تمنى) تلا، قال الله تعالى: (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ)
«2» أى تلاوة، وقوله: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ)
«3» أى يذهبه ويزيل اللبس به، ويحكم آياته، قال: ومما يظهر فى تأويله أيضا أن مجاهدا روى هذه القصة: «والغرانقة العلا» . فإن سلمنا القصة قلنا:
لا يبعد أنّ هذا كان قرآنا، والمراد بالغرانقة العلا، وأن شفاعتهنّ لترتجى:
الملائكة على هذه الرواية، وبهذا فسر الكلبىّ الغرانقة أنها الملائكة، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله عنهم وردّ عليهم فى هذه السورة بقوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى)
«4» ، فأنكر الله كل هذا من قولهم؛ ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح، فلما تأوّله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم، ولبّس عليهم الشيطان ذلك، وزينه فى قلوبهم، وألقاه إليهم؛ نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما للتلبيس سبيلا، كما نسخ كثيرا من القرآن ورفعت تلاوته. قال: وكان فى إنزال الله تعالى لذلك حكمة، وفى نسخه حكمة، ليضلّ به من يشاء، ويهدى من يشاء وما يضل به إلا الفاسقين، و (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)
«5» .
وقيل: إنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة [وبلغ إلى ذكر اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، خاف الكفار أن يأتى بشىء من ذمّها، فسبقوا(16/240)
إلى «1» ] مدحها بتلك الكلمتين؛ ليخلطوا تلاوة النبىّ صلى الله عليه وسلم ويشغبوا عليه على عادتهم، وقولهم: (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)
«2» ، ونسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه، وأشاعوا ذلك وأذاعوه، وأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم حزن لذلك من كذبهم وافترائهم عليه، فسلّاه الله تعالى بقوله:
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) *
«3» الآية، وبين للناس الحقّ من ذلك من الباطل، وحفظ القرآن وأحكم آياته، ودفع ما لبّس به العدوّ؛ كما ضمنه الله تعالى من قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)
«4» الآية، هذا ما ورد فى الجواب عن هذا الحديث.
فلنرجع إلى تتمة أخباره وسيره صلى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا.
ذكر الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة ومن هاجر إليها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الواقدىّ: لما قدم أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم من الهجرة الأولى اشتدّ عليهم قومهم، ونيطت بهم عشائرهم، ولقوا منهم أذى شديدا، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله؛ فهجرتنا الأولى، وهذه الآخرة إلى النجاشىّ ولست معنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أنتم مهاجرون إلى الله وإلىّ، لكم هاتان الهجرتان جميعا، قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله.
قال ابن سعد: وكان عدّة من خرج فى هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانون ومن النساء إحدى عشرة امرأة قرشية، وسبع غرائب. وقد عدّهم أبو محمد عبد الملك بن هشام حسبما رواه عن محمد بن إسحاق بن يسار- رحمهم الله تعالى-(16/241)
فلم يزد على ذلك. وأورد أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمرىّ رحمه الله فى كتاب (الاستيعاب) ؛ فى تراجم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم؛ أنهم ممن هاجروا إلى أرض الحبشة ممن لم يذكرهم ابن هشام، نحن نذكرهم إن شاء الله تعالى وننبّه عليهم.
قال ابن هشام: كان منهم من بنى هاشم بن عبد مناف، جعفر بن أبى طالب معه امرأته أسماء بنت عميس «1» ولدت بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر، ومن بنى أميّة بن عبد شمس عثمان بن عفان رضى الله عنه، معه امرأته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أميّة، معه امرأته فاطمة بنت صفوان، وأخوه خالد بن سعيد، معه امرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعية، ويقال فيها همينة، ولدت بأرض الحبشة سعد»
بن خالد، وآمنة بنت خالد.
ومن حلفائهم من بنى أسد بن خزيمة عبد الله بن جحش بن رئاب؛ وأخوه عبيد الله ابن جحش، معه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب. وذكر أبو عمر فى ترجمة عبد الله بن جحش أنه هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه أبى أحمد وعبد الله، فعلى هذا يكون أبو أحمد ممن هاجر إلى الحبشة؛ واسمه عبد بن جحش، وكان أعمى، وعدّ أيضا محمد بن عبد الله بن جحش أنه هاجر مع أبيه وكان صغيرا.
قال ابن هشام: وقيس بن عبد الله رجل من بنى أسد بن خزيمة، معه امرأته بركة بنت يسار [مولاة «3» ] أبى سفيان بن حرب، ومعيقيب بن أبى فاطمة؛ [وهؤلاء «4» ] آل سعيد بن العاص.(16/242)
ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
قال أبو عمر: معه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، ولدت له هناك محمد بن أبى حذيفة. قال ابن هشام: وأبو موسى الأشعرىّ واسمه عبد الله ابن قيس. قال أبو عمر فى ترجمة عبد الله بن قيس: الصحيح «1» أن أبا موسى رجع بعد قدومه مكة، ومحالفته من حالف من بنى عبد شمس إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قدم مع الأشعريين نحو خمسين رجلا فى سفينة، فألقتهم الريح إلى النجاشى بأرض الحبشة فوافقوا خروج جعفر وأصحابه منها، فأتوا معهم، وقدمت السفينتان معا: سفينة الأشعريين، وسفينة جعفر وأصحابه. والله تعالى أعلم بالصواب.
ومن بنى نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان حليف لهم من بنى مازن؛ ومن بنى زمعة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن الحارث مات بالحبشة.
قال أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة خالد بن حزام بن خويلد بن أسد «2» : إنه هاجر إلى أرض الحبشة فى المرّة الثانية، فنهشته حيّة، فمات فى الطريق قبل وصوله.
والله المستعان وإليه المردّ.
ومن بنى عبد [الدار «3» ] بن قصىّ مصعب: بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ابن عبد الدار، وسويبط «4» بن سعد بن حريملة «5» بن مالك بن عميلة بن السباق ابن عبد الدار، وجهم بن قيس بن عبد بن شرحبيل بن هاشم بن عبد الدار معه امرأته [أمّ «6» ] حرملة بنت عبد بن الأسود الخزاعية- ويقال: حريملة- وابناه عمرو بن جهم، وخزيمة بن جهم؛ وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف؛(16/243)
ابن عبد الدار بن قصى أخو مصعب، وفراس بن النضر بن الحارث بن علقمة ابن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار. وقال أبو عمر فى ترجمة أبى بكر «1» : مولى لبنى عبد الدار؛ قال يقال: إنه من الأزد كان ممن عذب فى الله فلم يزل كذلك حتى كانت الهجرة الثانية مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن بنى زهرة بن كلاب عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن أبى وقّاص، وأبو وقاص مالك بن وهيب، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف، معه امرأته رملة بنت أبى عوف، ولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن المطلب. قال أبو عمر بن عبد البر:
وطليب بن أزهر بن عبد عوف وأخوه المطلب، هاجر مع أخيه إلى أرض الحبشة وبها ماتا جميعا.
قال ابن هشام: ومن حلفائهم من هذيل: عبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة بن مسعود.
ومن بهراء المقداد بن عمرو بن ثعلبة، وكان يقال له: المقداد بن الأسود ابن عبد يغوث بن عبد مناف بن زهرة، وذلك أنه كان تبنّاه فى الجاهلية وحالفه.
حكاه ابن إسحاق.
ومن بنى تميم بن مرّة الحارث بن خالد بن صخر، معه امرأته ريطة بنت الحارث ابن جبيلة، ولدت له بأرض الحبشة موسى بن الحارث، وزينب بنت الحارث، وفاطمة بنت الحارث «2» ، وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
ومن بنى مخزوم أبو سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد بن هلال، معه امرأته أم سلمة هند بنت أبى أمية بن المغيرة، ولدت له بأرض الحبشة زينب، وشماسا واسمه عثمان بن عثمان بن الشريد، وهبّار بن سفيان بن عبد الأسد، وأخوه عبد الله بن سفيان، وهشام بن أبى حذيفة بن المغيرة، وسلمة بن هشام بن المغيرة(16/244)
وعيّاش بن أبى ربيعة بن المغيرة. ومن حلفائهم معتّب بن عوف بن عامر- وهو الذى يقال له عيهامة- ونسبه أبو عمر فقال: معتب بن عوف بن عمر بن الفضل ابن عفيف بن كليب بن حبشية. قال ابن هشام، ويقال: حبشية بن سلول، وهو الذى يقال له: معتب بن حمراء، وعمّار بن ياسر. ذكره أبو عمر، وشك فيه ابن هشام.
ومن بنى جمح عثمان بن مظعون، وابنه السائب بن عثمان، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون. قال أبو عمر: والسائب بن مظعون ممن هاجر إلى أرض الحبشة، وهو أخو عثمان لأبويه، حكاه عن العدوى. قال ابن هشام: وحاطب ابن الحرث بن معمر، معه امرأته فاطمة بنت المجلّل بن عبد الله، وابناه محمد والحارث، وقيل ولدا هناك، وأخوه حطاب «1» بن الحارث، معه امرأته فكيهة بنت يسار، وقيل: ولدت له ابنه محمدا هناك؛ وسفيان بن معمر بن حبيب معه ابناه: جابر وجنادة، ومعه امرأته أمهما حسنة، وابنها شرحبيل بن حسنة، وهو شرحبيل بن عبد الله أحد بنى الغوث بن مرّ، وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب:
هو شرحبيل بن عبد الله من بنى جمح، وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب ابن حذافة بن جمح. قال الواقدى: ونبيه بن عثمان بن ربيعة. والله أعلم.
ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص: خنيس بن حذافة، وعبد الله ابن الحارث، وهشام بن العاص بن وائل، وقيس بن حذافة، وأبو قيس بن الحارث ابن قيس، وعبد الله بن حذافة بن قيس، والحارث بن الحارث بن قيس، ومعمر ابن الحارث بن قيس، وبشر بن الحارث بن قيس، وأخ له من أمّه من بنى تميم، يقال له: سعيد بن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس، والسائب(16/245)
ابن الحارث بن قيس. وقال أبو عمر: وتميم بن الحارث بن قيس، والحارث ابن قيس بن عدىّ، وهو والد بشر والحارث، وعمير بن رئاب بن حذيفة، ومحمية ابن جزء «1» حليف لهم من زبيد.
ومن بنى عدىّ بن كعب معمر بن عبد الله بن نضلة، وعروة بن عبد العزّى، وعدى بن نضلة وابنه النعمان، فمات عدىّ بالحبشة، فورثه ابنه النعمان، وهو أول وارث فى الإسلام، وعامر بن ربيعة حليف لآل الخطاب، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة.
ومن بنى عامر بن لؤى أبو سبرة بن أبى رهم بن عبد العزّى معه امرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزى، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس، وسليط بن عمرو بن عبد شمس، وأخوه السكران بن عمرو، معه امرأته سودة بنت زمعة، ومالك بن ربيعة بن قيس معه امرأته عمرة بنت السعدىّ، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس، وسعد بن خولة حليف لهم من اليمن.
ومن بنى الحارث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وسهيل بن وهب وهو ابن بيضاء، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة، وعياض بن زهير بن أبى شداد، وعمرو بن الحارث بن زهير، وعثمان بن عبد غنم بن زهير، وسعد بن عبد قيس ابن لقيط بن عامر، والحارث بن عبد قيس بن لقيط. وقال أبو عمر بن عبد البر:
إن عبد الله بن عرفطة بن عدىّ بن أمية بن خدارة بن عوف بن النجار بن الخزرج الأنصارىّ هاجر إلى أرض الحبشة مع جعفر بن أبى طالب، وهو حليف لبنى الحارث بن الخزرج، وذكره ابن منده «2» أيضا فجميع من هاجر على هذا الحكم(16/246)
بما فيه من زيادات ابن عبد البرّ؛ خلا أبناءهم الذين خرجوا معهم صغارا، ومن ولد هناك اثنان وتسعون رجلا، وثمانى عشرة امرأة، والأبناء الصغار سبعة.
والله أعلم.
ذكر إرسال قريش إلى النجاشىّ فى شأن من هاجر إلى الحبشة، وطلبهم منه وإسلامه
عن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشىّ، [أمنّا «1» ] على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشىّ فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشىّ هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص، وقالوا لهما:
ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشىّ فيهم، ثم قدّما إلى النجاشىّ هداياه، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلّمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشى، ونحن عنده بخير دار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلّما النجاشىّ، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردّهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلّمهم إلينا ولا يكلمهم، فقالوا: نعم، ثم إنهما قدّما هدايا هما إلى النجاشىّ فقبلها، ثم كلّماه فقالا: أيها الملك، إنه قد(16/247)
ضوى «1» إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، جاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شىء أبغض إلى عبد الله وعمرو من أن يسمع إلى كلامهم النجاشىّ، فقالت بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فأسلمهم لهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم، قالت «2» :
فغضب النجاشىّ وقال: لا ها الله! إذا لا أسلّمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاورونى، ونزلوا بلادى، واختارونى على من سواى؛ حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان فى أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم «3» ، وأحسنت جوارهم ما جاورونى.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا أجبتموه «4» ، قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا نبيّنا؛ كائنا فى ذلك ما هو كائن، فلما جاءوا وقد دعا النجاشىّ أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله؛ سألهم فقال: ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به فى دينى؛ ولا فى دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذى كلّمه جعفر بن أبى طالب فقال: أيها الملك، كنّا قوما أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام [ونأكل «5» ] الميتة، ونأنى الفواحش، ونقتطع «6» الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل القوىّ(16/248)
منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة [و «1» ] الأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرّحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدّد عليه أمور الإسلام، فصدقناه، وآمنّا به واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا [ما «2» ] حرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا فى جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك، فقال النجاشى: هل معك مما جاء به عن الله من شىء، قال: نعم، قال: فاقرأه علىّ، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص)
«3» ، قال: فبكى والله النجاشى حتى اخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلّت مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشىّ: إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فلا والله لا أسلّمهم إليكما، ولا يكادون.
قالت: فلما خرجنا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينّه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبى ربيعة: لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم(16/249)
عبد. قالت: ثم غدا عليه [من «1» ] الغد فقال: يأيها الملك، إنهم يقولون فى عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عمّا يقولون فيه، فأرسل إليهم فسألهم عنه. قالت أمّ سلمة: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون فى عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟، قالوا: نقول والله كما قال الله، وما جاءنا به نبينا؛ كائنا فى ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون فى عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا، نقول هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشىّ بيده إلى الأرض، ثم أخذ منها عودا، ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ممّا قلت هذا العود. فناخرت «2» بطارقته من حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم، والله أنتم شيوم بأرضى- والشّيوم: الآمنون- من سبّكم غرم، من سبّكم غرم، من سبّكم غرم! وما أحب أن لى دبرا من ذهب، وأنى آذيت رجلا منكم- والدّبر بلسان الحبشة الجبل- ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد علىّ ملكى، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيعهم فيه.
قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
قال الزهرىّ: فحدثت عروة بن الزبير حديث «3» أمّ سلمة قال: هل تدرى ما قوله:
«ما أخذ الله منّى الرشوة حين ردّ علىّ ملكى. فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيع الناس فيه» ؟ قلت: لا، قال: فإن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها حدثتنى(16/250)
أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشىّ، وكان للنجاشىّ عمّ له من صلبه اثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها:
لو أنا قتلنا أبا النجاشىّ، وملّكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه اثنى عشر رجلا يتوارثون «1» ملكه من بعده، فغدوا على أبى النجاشىّ فقتلوه وملّكوا أخاه، فمكثو على ذلك حينا، ونشأ النجاشىّ مع عمه، وكان لبيبا حازما، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه، قالت:
والله لقد غلب «2» هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملّكه علينا قتلنا أجمعين، لقد عرف أننا نحن قتلنا أباه. فمشوا إلى عمّه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنّا قد خفناه على أنفسنا، قال:
ويلكم! قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم! بل أخرجه من دياركم، فخرجوا به إلى السوق؛ فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم، فقذفه فى سفينته وانطلق به حتى إذا كانت العشاء من ذلك اليوم؛ هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمّه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، ففزع الحبشة إلى ولده، فاذا هو محمّق ليس فى ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضهم لبعض: تعلّموا والله أن ملككم «3» الذى لا يقيم أمركم غيره للذى بعتم «4» غدوة، فان كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه، قال: فخرجوا فى طلبه، فأخذوه من الرجل الذى باعوه له، ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير(16/251)
الملّك وملكوه، فجاءهم التاجر الذى باعوه منه، فقال: إما أن تعطونى مالى، وإما أن أكلمه: فى ذلك، قالوا: لا نعطيك شيئا، قال: فإذا والله أكلمه، قالوا: فدونك. فجاء فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاما من قوم فى السوق بستمائة درهم، فأسلموا إلىّ غلامى، وأخذوا دراهمى، حتى إذا سرت بغلامى؛ أدركونى فأخذوه منّى، ومنعونى دراهمى، فقال لهم النجاشىّ: لتعطنّه دراهمه أو ليضعن غلامه يده فى يده؛ فليذهبن به حيث شاء، قالوا: بل نعطيه دراهمه. قالت: فلذلك يقول: «ما أخذ الله منّى الرشوة حين ردّ على ملكى، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيع الناس فيه» . قال: وكان ذلك أول ما خبر من صلابته فى دينه، وعدله فى حكمه.
قال ابن إسحاق، وحدثنى جعفر بن محمد عن أبيه، قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشىّ: إنك فارقت ديننا، وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعلها «1» فى قبائه عند المنكب الأيمن «2» ، وخرج إلى الحبشة وصفّوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحقّ الناس بكم؟ قالوا: بلى؛ قال: فكيف رأيتم سيرتى فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أنّ عيسى عبد، قال: فما تقولون أنتم فى عيسى؟ قالوا: نقول: هو ابن الله فقال النجاشىّ ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى بن مريم، لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعنى ما كتب، فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبى(16/252)
صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشىّ صلى عليه، واستغفر له. وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر إسلامه.
ذكر إسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه
روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال:
«اللهم أعزّ الإسلام بأحبّ الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب، أو أبى جهل «1» بن هشام» . وعن سعيد بن المسيّب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عمر بن الخطاب أو أبا جهل بن هشام قال: «اللهم اشدد دينك بأحبهما إليك» فشدّ دينه بعمر، وعنه صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعزّ الدين بعمر بن الخطاب» .
قال ابن إسحاق ومحمد بن سعد فى طبقاته: ليس بينهما تناف إلا فى مغايرة بعض الألفاظ، أو زيادة أوردها أحدهما دون الآخر، ونحن نورد ما يتعين إيراده منها.
قالا: خرج عمر بن الخطاب متوشّحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه، قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا فى بيت عند الصفا، وهم قريب أربعين: من بين رجال ونساء «2» ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبى قحافة، وعلى بن أبى طالب فى رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمنّ خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله النّحّام، وهو رجل من قومه من بنى عدىّ بن كعب كان قد أسلم وهو يخفى إسلامه عن عمر، فقال: أين تريد يا عمرا؟ فقال:(16/253)
أريد محمدا، هذا «1» الذى فرّق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: لقد غرّتك نفسك «2» يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمدا! فقال عمر: ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذى أنت عليه؛ قال: أفلاك أدلك على العجب يا عمر؟ إنّ ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك الذى أنت عليه.
قال ابن إسحاق: فقال له نعيم: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال:
وأىّ أهل بيتى؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما، قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعند هما خبّاب بن الأرتّ، معه صحيفة فيها: (طه)
يقرئهما إياها، فلما سمعوا حسّ عمر تغيب خبّاب فى مخدع لهم- أو فى بعض البيت- وأخذت فاطمة الصحيفة فجعلتها تحت فخذها «3» ، فلما دخل عمر قال: ما هذه الهينمة «4» التى سمعت؟ قالا: ما سمعت شيئا، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما اتبعتما «5» محمدا على دينه. فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحقّ فى غير دينك! فوثب عمر على ختنه فبطش به ووطئه وطئا شديدا، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفّه عن زوجها، فضربها فشجّها، فلما فعل ذلك قالا: نعم قد أسلمنا وآمنّا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع(16/254)
فارعوى «1» ، وقال [لأخته «2» ] : أعطينى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذى جاء به محمد- وكان عمر كاتبا- فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها «3» ، قال: لا تخافى، وحلف لها بآلهته ليردّنّها إذا قرأها إليها، فطمعت فى إسلامه وقالت له: يا أخى إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسّها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها (طه)
، فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خبّاب بن الأرتّ خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيّه، فإنى سمعته أمس يقول:
«اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب» ، فالله الله يا عمر! فقال له عمر: فدلّنى على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشّحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر من خلل الباب «4» ، فرآه وهو فزع، فقال:
يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف، فقال حمزة: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ايذن له» فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه فى الحجرة، فأخذ بحجزته- أو بمجمع ردائه- ثم جبذه جبذة شديدة، وقال: «ما جاء بك يابن الخطاب؟، فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة» . قال أنس بن مالك فى روايته: «حتى ينزل الله بك من الخزى(16/255)
ما أنزل بالوليد بن المغيرة» . فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء به من عند الله، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف بها أهل البيت أن عمر قد أسلم.
قال محمد بن سعد بن منيع فى طبقاته: أسلم عمر بن الخطاب بعد أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار ابن الأرقم بعد أربعين أو نيّف وأربعين من رجال ونساء قد أسلموا قبله.
وقال ابن المسيّب: أسلم عمر بعد أربعين رجلا وعشر نسوة.
وعن عبد الله بن ثعلبة قال: أسلم عمر بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة.
ويردّ هذه الأقوال أن إسلام عمر كان بعد الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة؛ وقد تظافرت الروايات أنّ أهل الهجرة كانوا أكثر من ثمانين رجلا، ولعل إسلامه وقع وفى مكة ممن أسلم هذه العدّة التى ذكرت؛ خلاف من هاجر إلى أرض الحبشة. والله أعلم.
قال ابن إسحاق: حدّثنى نافع «1» عن ابن عمر رضى الله عنهم قال: لما أسلم عمر بن الخطاب قال: أى قريش أنقل للحديث؟ قيل: جميل بن معمر «2» الجمحىّ، قال: فغدا عليه، قال عبد الله بن عمر: وغدوت معه أتبع أثره وأنظر ماذا يفعل(16/256)
وأنا غلام أعقل «1» كلّ ما رأيت، حتى جاءه، فقال: أعلمت يا جميل أنى أسلمت ودخلت فى دين محمد؟ قال: فو الله ما راجعه حتى قام يجرّ رداءه، واتبعه عمر واتبعت أبى، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش- وهم فى أنديتهم حول الكعبة- ألا إنّ ابن الخطاب قد صبأ «2» ، فيقول عمر من خلفه: كذبت، ولكنّى أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم.
قال: وطلح- يعنى أعيا- وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله لو قد كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلّة حبرة «3» وقميص موشّى، حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بنى عدىّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا! خلّوا عن الرجل، قال: فو الله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه.
قال: فقلت لأبى بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبه، من الرجل الذى زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك، جزاه الله خيرا؟ قال: ذاك العاص ابن وائل السّهمىّ، لا جزاه الله خيرا.
قال عبد الله بن مسعود: ما كنا نقدر أن نصلّى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا وصلّى عند الكعبة وصلينا معه. وقال: إن إسلام عمر كان فتحا، وإنّ هجرته كانت نصرا، وإنّ إمارته كانت رحمة.(16/257)
وعن صهيب بن سنان قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعى إلى الله علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به.
وكان إسلام عمر فى ذى الحجة من السنة السادسة من النبوّة، وهو ابن ست وعشرين سنة.
ذكر تعاقد قريش على بنى هاشم وبنى المطلب وانحياز بنى هاشم وبنى المطلب إلى أبى طالب ودخولهم فى شعبه
قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل السّير: لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا فيه أمنا وقرارا، وأن النجاشىّ قد أكرمهم، ومنع [من لجأ إليه «1» ] منهم، وأنّ عمر قد أسلم قبله حمزة بن عبد المطلب، وجعل الإسلام يفشو فى القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى المطلب؛ على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوا صحيفة، ثم تعاهدوا وتعاقدوا وتوافقوا على ذلك، ثم علّقوا الصحيفة فى جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم.
وكان كاتب الصحيفة «2» منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن(16/258)
عبد الدار بن قصىّ، ويقال: عمه بغيض بن عامر، قاله الزبير وابن الكلبىّ؛- ويقال: النضر بن الحارث- فشلّت يده.
قال محمد بن عمر بن واقد: وحصروا بنى هاشم فى شعب «1» أبى طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانحاز بنو المطلب إلى أبى طالب فى شعبه مع بنى هاشم، وخرج أبو لهب إلى قريش، وظاهر هم على بنى هاشم وبنى المطلب، وقطعوا عنهم الميرة والمادّة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى بلغهم الجهد، وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشّعب، فمن قريش من سرّه ذلك، ومنهم من ساءه، وقال: انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة! فأقاموا فى الشّعب ثلاث سنين، ثم أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أمر صحيفتهم، وأن الأرضة قد أكلت ما فيها من جور وظلم، وبقى ما كان فيها من ذكر الله.
قال: فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى طالب، فذكر ذلك أبو طالب لإخوته، وخرجوا إلى المسجد، فقال أبو طالب لكفّار قريش:
إن ابن أخى قد أخبرنى- ولم يكذبنى قطّ- أن الله سلّط على صحيفتكم الأرضة فلحست ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقى فيها ما ذكر به الله، فإن كان ابن أخى صادقا نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد أنصفتنا، فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها.
فإذا هى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط فى أيديهم، ونكسوا على رءوسهم. فقال أبو طالب: علام نحبس ونحصر وقد بان الأمر؟! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة والكعبة. فقال: اللهم انصرنا على من ظلمنا، وقطع(16/259)
أرحامنا، واستحل ما يحرم عليه منا. ثم انصرفوا إلى الشّعب. وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببنى هاشم: فيهم مطعم بن عدىّ، وعدى بن قيس، وزمعة ابن الأسود، وأبو البخترىّ بن هشام، وزهير بن أبى أمية. ولبسوا السلاح؛ ثم خرجوا إلى بنى هاشم وبنى المطلب، فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا، وكان خروجهم من الشّعب فى السنة العاشرة من النبوّة، وقيل: كان مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى الشّعب سنتين.
وحكى أبو محمد عبد الملك بن هشام، عن أبى عبد الله محمد بن إسحاق- رحمهم الله- فى سبب نقض الصحيفة غير ما قدّمناه مما حكاه محمد بن سعد عن الواقدىّ.
قال ابن إسحاق بعد أن ذكر من شدّة ما لاقاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشّعب من الضائقة ما ذكر: ثم إنه قام فى نقض الصحيفة- التى تكاتبت فيها قريش على بنى هاشم وبنى المطلب- نفر من قريش، ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو «1» بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤىّ، وذلك أنه كان ابن أخى نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمّه، وكان هشام لبنى هاشم واصلا، وكان ذا شرف فى قومه، فكان يأتى بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب فى الشعب ليلا، وقد أوقره طعاما، حتى إذا أقبله فم الشّعب خلع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه فيدخل الشّعب عليهم، ويأتى به قد أوقره برّا، فيفعل به مثل ذلك.
قال: ثم إنه مشى إلى زهير بن أبى أمية بن المغيرة المخزومىّ- وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب- فقال: يا زهير، وقد رضيت أنّا نأكل الطعام ونلبس(16/260)
الثياب، وننكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إنى أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبى الحكم ابن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا، قال:
ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ أنا رجل واحد، والله لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها حتى أنقضها؛ قال: قد وجدت رجلا، قال: من هو؟ قال:
أنا؛ قال له زهير: ابغنا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن عدىّ فقال له: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعا؛ قال:
ويحك، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيا، قال: من هو؟
قال: أنا، قال: ابغنا ثالثا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير، قال: ابغنا رابعا، قال: فذهب إلى أبى البخترىّ بن هشام فقال له نحوا مما قال لمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟
قال زهير والمطعم وأنا معك، قال: ابغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بن الأسود ابن المطلب، فكلّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم، فقال: وهل على هذا الأمر الذى تدعونى إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمّى له القوم، فاتّعدوا خطم الحجون «1» ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك وتعاقدوا على القيام فى الصحيفة حتى ينقضوها.
وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أوّل من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلّة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال:
يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل(16/261)
- وكان فى ناحية المسجد-: كذبت، والله لا تشقّ! قال «1» زمعة بن الأسود:
أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت، قال أبو البخترىّ: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرّ به، قال المطعم: صدقتما وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها! وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.
فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل، وتشوور فيه بغير هذا المكان «2» - وأبو طالب جالس فى ناحية المسجد- وقام المطعم إلى الصحيفة ليشقّها فوجد الأرضة قد أكلتها؛ إلا «باسمك اللهم» .
ثم حكى ابن هشام نحوا ممّا ذكره الواقدىّ من خبرها على ما قدّمناه، وأن أولئك الرهط الذين ذكرناهم صنعوا ما صنعوا مما ذكرناه بعد كلام أبى طالب.
والله تعالى أعلم.
ذكر من عاد من أرض الحبشة ممن هاجر إليها، وكيف دخلوا مكة
قال ابن إسحاق رحمهما الله: وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدّثوا به من إسلامهم كان باطلا، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيا. فكان من قدم عليه مكة، منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة فشهد بدرا وأحدا، ومن حبس عنه حتى فاته ذلك.
ومن مات منهم بمكة من بنى عبد شمس: عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، معه امرأته سهلة بنت سهيل.(16/262)
ومن حلفائهم عبد الله بن حجش بن رئاب.
ومن بنى نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم.
ومن بنى أسد بن عبد العزّى الزبير بن العوّام.
ومن بنى عبد الدار مصعب بن عمير، وسويبط بن سعد.
ومن بنى عبد [بن «1» ] قصىّ طليب بن عمير.
ومن بنى زهرة بن كلاب عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن عمرو؛ حليف لهم، وعبد الله بن مسعود؛ حليف لهم.
ومن بنى مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد؛ معه امرأته أمّ سلمة، وشمّاس ابن عثمان، وسلمة بن هشام، حبسه عمه بمكة فلم يهاجر إلا بعد الخندق «2» ، وعيّاش ابن أبى ربيعة بن المغيرة، ومن حلفائهم عمّار بن ياسر «3» ، ومعتّب بن عوف من خزاعة.
ومن بنى جمح عثمان بن مظعون وابنه السائب بن عثمان، وقدامة وعبد الله ابنا مظعون.
ومن بنى سهم خنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل؛ حبس بمكة فلم يهاجر إلا بعد الخندق.
ومن بنى عدىّ بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة.
ومن بنى عامر بن لؤى عبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو.
حبس بعد الهجرة، فلما كان يوم بدر انحاز من المشركين إلى رسول الله صلى الله(16/263)
عليه وسلم، وأبو سبرة بن أبى رهم، معه امرأته أمّ كلثوم «1» ، والسّكران بن عمرو معه امرأته سودة بنت زمعة؛ مات بمكة قبل الهجرة. ومن حلفائهم سعد بن خولة.
ومن بنى الحارث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح، وعمرو ابن الحارث بن زهير، وسهيل بن بيضاء، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة بن هلال.
فجميع من قدم مكة ثلاثة وثلاثون رجلا، فكان من دخل منهم بجوار عثمان ابن مظعون دخل بجوار من الوليد بن المغيرة، فلما رأى ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يغدو ويروح فى أمان من الوليد، قال: والله إنّ غدوّى ورواحى آمنا بجوار رجل من أهل الشّرك، وأصحابى «2» وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى فى الله ما لا يصيبنى لنقص كبير فى نفسى، فمشى إلى الوليد ابن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمّتك، وقد رددت إليك جوارك؛ فقال له: يا بن أخى، لعله آذاك أحد من قومى، قال: لا، ولكنى أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد فردّ علىّ جوارى علانية كما أجرتك علانية، فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علىّ جوارى، قال: صدق، وجدته كريما وفىّ الجوار «3» ، ولكنى أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان.
وأبو سلمة بن عبد الأسد دخل بجوار من أبى طالب بن عبد المطلب، فمشى إليه رجال من بنى مخزوم فقالوا: يا أبا طالب «4» ، منعت منا ابن أخيك محمدا؛ فمالك(16/264)
ولصاحبنا تمنعه منّا! قال: إنه استجار بى؛ وهو ابن أختى، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى، فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون توثّبون عليه فى جواره من بين قومه، والله لتنتهنّ عنه أو لنقومنّ معه فى كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد، فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. قال: وأقام بقيتهم بأرض الحبشة إلى سنة سبع من الهجرة، فقدموا بعد فتح خيبر، وقد رأينا أن نذكرهم فى هذا الموضع؛ لتكون أخبارهم متوالية.
ذكر من قدم من أرض الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، ومن قدم بعد ذلك ومن هلك منهم هناك
قال ابن إسحاق: كان من قدم منهم إلى خيبر فى سنة سبع من الهجرة مع جعفر ابن أبى طالب رضى الله عنه فى السفينتين ستة عشر رجلا، وهم من بنى هاشم بن عبد مناف: جعفر بن أبى طالب، معه امرأته أسماء بنت عميس، وابنه عبد الله؛ ولد بأرض الحبشة.
ومن بنى عبد شمس خالد بن سعيد بن العاص، معه امرأته أمينة بنت خلف، وابناه سعيد بن خالد، وأمة بنت خالد؛ ولدتهما بأرض الحبشة، وأخوه عمرو بن سعيد، ومعيقيب «1» بن أبى فاطمة، وأبو موسى الأشعرىّ؛ واسمه عبد الله بن قيس.
ومن بنى أسد الأسود «2» بن نوفل بن خويلد.(16/265)
ومن بنى عبد الدار [بن «1» ] قصىّ جهم بن قيس، معه ابناه عمرو بن جهم، وخزيمة بنت جهم، وكانت معه امرأته أمّ حرملة بنت عبد الأسود؛ هلكت بأرض الحبشة.
ومن بنى زهرة بن كلاب عامر بن أبى وقّاص، وعتبة بن مسعود حليف لهم من هذيل.
ومن بنى تيم بن مرّة الحارث بن خالد بن صخر، هلكت امرأته ريطة بالحبشة.
ومن بنى جمح عثمان بن ربيعة بن أهبان.
ومن بنى سهم محمية بن الجزء «2» حليف لهم من بنى زبيد.
ومن بنى عدىّ بن كعب معمر بن عبد الله بن نضلة.
ومن بنى عامر بن لؤىّ أبو حاطب بن عمرو، ومالك بن ربيعة: معه امرأته عمرة بنت السعدىّ.
ومن بنى الحارث بن فهر الحارث بن [عبد «3» ] قيس بن لقيط، وحمل معهم نساء من نساء من هلك هناك.
هؤلاء الذين قدموا مع جعفر فى السفينتين. وقدم بعد ذلك ستة وعشرون رجلا، وهم:
من بنى أمية قيس بن عبد الله الأسدىّ، أسد خزيمة، حليف لهم.(16/266)
ومن بنى أسد يزيد بن زمعة بن الأسود، قتل يوم حنين شهيدا.
ومن بنى عبد الدار: أبو الروم بن عمير، وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة.
ومن بنى تيم بن مرة عمرو بن عثمان بن عمرو.
ومن بنى مخزوم هبّار بن سفيان، وأخوه عبد الله، وهشام بن أبى حذيفة ابن المغيرة.
ومن بنى جمح سفيان بن معمر، وابناه جنادة وجابر، وأمّهما حسنة «1» ، وأخوهما لأبيهما شرحبيل بن حسنة.
ومن بنى سهم قيس بن حذافة بن قيس، وأبو قيس بن الحارث بن قيس، وبشر بن الحارث بن قيس، وأخ له من أمّه من بنى تميم يقال له: سعيد بن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس، والسائب بن الحارث بن قيس، وعمير بن رئاب، ابن حذيفة.
ومن بنى عامر بن لؤىّ سليط بن عمرو.
ومن بنى الحارث بن فهر عثمان بن عبد غنم، وسعيد «2» بن عبد قيس بن لقيط، وعياض بن زهير بن أبى شدّاد.
وهلك بأرض الحبشة ممن هاجر إليها ثمانية، وهم:
من بنى عبد شمس، من حلفائهم عبيد الله بن جحش بن رئاب، تنصّر ومات بأرض الحبشة نصرانيا، وكانت معه امرأته أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(16/267)
ومن بنى أسد عمرو بن أمية بن الحارث.
ومن بنى زهرة بن كلاب المطلب بن أزهر بن عوف، ومعه امرأته رملة بنت أبى عوف، فولدت له هناك عبد الله بن المطلب.
ومن بنى جمح حاطب بن الحارث بن معمر، وكان معه امرأته فاطمة بنت المحلّل «1» بن عبد الله، وابناه محمد والحارث، فقدمت امرأته وابناه مع جعفر ابن أبى طالب رضى الله عنه فى أحد السفينتين، وأخوه خطاب بن الحارث، وكان معه امرأته فكيهة بنت يسار قدمت مع جعفر أيضا.
ومن بنى سهم عبد الله بن الحارث بن قيس.
ومن بنى عدىّ بن كعب عروة بن عبد العزّى بن حرثان، وكان مع عدىّ ابنه النعمان، فقدم مع من قدم من المسلمين.
فهؤلاء الذين ذكرناهم هم الذين ذكرهم ابن إسحاق، وعدّهم أنهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، وحصر عدّتهم كما تقدّم. وأمّا من ذكرنا ممن ذكر أبو عمر يوسف بن عبد البرّ فى كتابه أنهم ممن هاجر إلى أرض الحبشة فلم نقف على تاريخ عودهم فنذكره.
ذكر من أنزل فيه القرآن من مشركى قريش وما أنزل فيهم
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: ولمّا حمى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من قريش ومنعه منها، وقام عمه أبو طالب وقومه من بنى هاشم وبنى عبد المطلب دونه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، جعلت قريش يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه، والقرآن ينزل فيهم، منهم من سماه الله تعالى، ومنهم من نزل فيه فى عامّة من ذكر الله من الكفار.(16/268)
فكان من سمى ممن نزل فيه القرآن أبو لهب بن عبد المطلب، وامرأته أمّ جميل بنت حرب بن أمية، حمالة الحطب، فأنزل الله فيهما قوله: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)
. قال: وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه فى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قال ابن إسحاق: فذكر لى أن أمّ جميل حمالة الحطب، حين سمعت ما أنزل فيها، وفى زوجها من القرآن أتت رسول الله «1» ] وهو جالس فى المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق رضى الله عنه وفى يدها فهر «2» من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت:
يا أبا بكر، أين صاحبك؟ قد بلغنى أنه يهجونى، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إنى لشاعرة:
مذمّما عصينا ... وأمره أبينا
ودينه قلينا
ثم انصرفت.
قال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ قال: ما رأتنى، لقد أخذ الله ببصرها عنى.
وأمية بن خلف بن وهب الجمحىّ؛ كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه، فأنزل الله تعالى فيه قوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)
، السورة كلها.(16/269)
قال ابن هشام: الهمزة: الذى يشتم الرجل علانية، ويكسر عينه عليه ويغمز به. واللّمزة: الذى يعيب الناس سرّا ويؤذيهم.
والعاص بن وائل السّهمىّ؛ كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو قد مات انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى فى ذلك قوله: (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ.
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) .
والكوثر: ماء هو خير من الدنيا وما فيها؛ وقيل: الكوثر: العظيم، وقيل:
الخير الكثير.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر الذى أعطاك الله؟ فقال:
نهر فى الجنة كما بين صنعاء إلى أيلة «1» ، آنيته كعدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ أبدا، وأنزل الله فيه قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً)
، إلى قوله: (وَيَأْتِينا فَرْداً)
«2» ، وكان سبب ذلك أن خبّاب بن الأرتّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نشأ بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص بن وائل السّهمىّ سيوفا عملها له؛ حتى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه، فقال: يا خبّاب، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذى أنت على دينه أن فى الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضّة أو ثياب أو خدم! قال خباب:
يلى، قال: فأنظرنى إلى يوم القيامة حتى أرجع إلى تلك الدار؛ فأقضيك هنالك حقّك، فو الله لا تكون أنت وأصحابك آثر عند الله منى، ولا أعظم حظّا فى ذلك، فأنزل الله ذلك فيه.(16/270)
وأبو جهل بن هشام؛ لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: والله يا محمد لتتركنّ سب آلهتنا أو لنسبنّ إلهك الذى تعبده، فأنزل الله فى ذلك: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)
«1» ، فكفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبّ آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله.
ولما ذكر الله شجرة الزّقوم تخويفا لهم قال أبو جهل: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزّقوم التى يخوّفكم بها محمد؟ قالوا: لا، قال: عجوة يثرب بالزّبد، والله لئن استمكنا منها لنزقمنها، فأنزل الله فيه: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)
«2» ، أى ليس كما يقول.
والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصىّ؛ كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فدعا فيه إلى الله، وتلا فيه القرآن، وحذّر فيه قريشا ما أصاب الأمم الخالية، خلفه فى مجلسه إذا قام فحدّثهم عن رستم وملوك الفرس وإسفنديار، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا منّى، وما حديثه إلا أساطير الأوّلين اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله فيه: (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)
«3» . وأنزل فيه: (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) *
«4» . ونزل فيه: َيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)
«5» ، والأفّاك: الكذّاب.(16/271)
قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مع الوليد بن المغيرة فى المسجد، فجاء النّضر بن الحارث حتى جلس معهما، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعرض له النّضر تكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ)
«1» ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزّبعرى السهمىّ حتى جلس، فقال له الوليد بن المغيرة: والله ما قام النّضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم! فقال عبد الله بن الزّبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسألوا محمدا: أكلّ ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى بن مريم، فعجب الوليد ومن كان حضر معه فى المجلس من قول عبد الله، ورأوا أنه قد احتجّ وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «كلّ من أحبّ أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته» ، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ)
«2» ، أى عيسى بن مريم، وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله.(16/272)
ونزل فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات الله قوله تعالى:
(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)
، إلى قوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)
«1» .
ونزل فيما ذكر من أمر عيسى عليه السلام أنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضر من حجته: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)
«2» ، أى يصدّون عن أمرك، ثم ذكر عيسى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ.
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها)
«3» ، أى ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)
«4» .
والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفىّ، حليف بنى زهرة، وكان من أشراف القوم، وممن يستمع منه، فكان يصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويردّ عليه، فأنزل الله فيه: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)
إلى قوله:
(زَنِيمٍ)
«5» ، والزّنيم: العديد «6» للقوم.
والوليد بن المغيرة قال: أينزل على محمد وأترك! وأنا لبيب قريش وسيّدها! ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفىّ سيد ثقيف، ونحن «7» عظيما القريتين! فأنزل(16/273)
الله تعالى فيه: (وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)
، إلى قوله:
(خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)
«1» .
وأبىّ بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، وعقبة بن أبى معيط- وكانا متصافيين حسنا ما بينهما- فجلس عقبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فبلغ ذلك أبيّا، فأتى عقبة فقال: ألم يبلغنى «2» أنك جالست محمدا وسمعت منه! ثم قال: وجهى من وجهك حرام أن أكلمك- واستغلظ من اليمين- إن أنت جلست أو سمعت منه، أو لم تأته فتتفل فى وجهه. ففعل عدوّ الله عقبة بن أبى معيط، فأنزل الله فيهما: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا)
«3» . ومشى أبىّ بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [بعظم «4» ] بال قد ارفتّ «5» ؛ فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرى «6» ؟ ثم فته بيده ونفخه فى الريح نحو النبى صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار» ، فأنزل الله تعالى فيه: (وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)
«7» .(16/274)
واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة الأسود بن المطلب ابن أسد، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل- وكانوا ذوى أسنان فى قومهم- فقالوا: يا محمد؛ هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد؛ فنشترك نحن وأنت فى الأمر، فإن كان الذى تعبد خيرا كنا قد أخذنا بحظّنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم:
(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)
... السورة.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ، فقال له زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، والأسود بن عبد يغوث، وأبىّ بن خلف، والعاص بن وائل: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس؛ ويرى معك! فأنزل الله تعالى فى ذلك: (وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)
«1» .
والله المستعان.
ذكر خروج أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه إلى الهجرة وعوده، وجواره وردّه الجوار
قال: وكان أبو بكر رضى الله عنه كما روى الزهرىّ عن عروة عن عائشة رضى الله عنها حين ضاقت عليه مكة، وأصابه فيها ما أصابه من الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة، فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرا حتى إذا سار من(16/275)
مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدّغنّة «1» ، ويقال فيه: الدّغينة- أخو بنى الحارث بن بكر ابن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنى المصطلق بن خزاعة، تحالفوا جميعا فسمّوا الأحابيش «2» للحلف- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجنى قومى وآذونى وضيقوا علىّ، قال: ولم؟ فو الله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم، ارجع وأنت فى جوارى. فرجع معه حتى إذا دخل مكة؛ قام ابن الدّغنّة فقال: يا معشر قريش، إنى قد أجرت ابن أبى قحافة فلا يعرضنّ له أحد إلا بخير؛ فكفّوا عنه.
قال: وكان لأبى بكر مسجد على باب داره فى بنى جمح، فكان يصلى فيه، وكان رجلا رقيقا؛ إذا قرأ القرآن استبكى، فتقف عليه الصبيان والعبيد والنساء فيعجبون لما يرون من هيئته، فمشى من قريش إلى ابن الدّغنّة رجال فقالوا: إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرقّ، ونحن نتخوّف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم، فأته فمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء.
قالت: فمشى ابن الدّغنّة إليه فقال: يا أبا بكر، إنى لم أجرك لتؤذى قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذى أنت به، وتأذّوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت. قال: أو أردّ عليك جوارك، وأرضى بجوار الله؟ قال: فاردد علىّ جوارى، قال: قد رددته عليك، فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد ردّ علىّ جوارى فشأنكم بصاحبكم.(16/276)
ذكر وفاة أبى طالب بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى أشراف قريش إليه فى مرضه، وما قالوه وأنزل فيهم
كانت وفاة أبى طالب بعد نقض الصحيفة، وخروج بنى هاشم وبنى المطلب من الشّعب بثمانية أشهر وأحد وعشرين يوما، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام.
حكاه الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطىّ رحمه الله فى مختصر السيرة النبوية.
وقال محمد بن سعد: كان بينهما شهر وخمسة أيام «1» .
قال «2» محمد بن إسحاق: لما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله، فمشى إليه أشراف قريش وهم: عقبه بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب فى رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى، وتخوّفنا عليك، وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكفّ عنا ونكفّ عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه.
فبعث إليه فجاءه فقال له: يا بن أخى، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك، ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمة «3» واحدة يملكون بها العرب، وتدين لهم بها العجم» فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات، فقال:
«تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه» ، قال: فصفّقوا بأيديهم، وقالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؛ إن أمرك لعجب! ثم قال(16/277)
بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل يعطيكم شيئا مما تريدون؛ فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرّقوا. فقال أبو طالب: والله ما رأيتك سألتهم شططا.
قال: فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه «1» ، فجعل يقول له: «يا عمّ فأنت فقلها؛ أستحل بها لك الشفاعة يوم القيامة» ، قال: يا بن أخى لولا مخافة السّبّة عليك وعلى بنى أبيك من بعدى، وأن تظنّ قريش أنى قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها.
قال ابن عباس: فلما تقارب من أبى طالب الموت، نظر العباس إليه يحرّك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه، فقال: يا بن أخى، والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أسمع» ، ثم هلك أبو طالب.
والذى ورد فى الصحيح: أن آخر ما سمع من أبى طالب؛ هو على دين عبد المطلب.
قال ابن إسحاق: وأنزل الله فى الرهط الذين اجتمعوا إلى أبى طالب وقالوا ما قالوا، قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ)
«2» . قال: يريدون بالملّة الآخرة النصارى؛ لقولهم: (إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ)
«3» .(16/278)
ذكر وفاة خديجة بنت خويلد زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها
كانت وفاة خديجة رضى الله عنها بعد وفاة أبى طالب كما تقدّم، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على ما صححه الشيخ شرف الدين الدمياطىّ رحمه الله فى مختصر السيرة النبويّة، قال:
وبقيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحى خمس عشرة سنة، وبعده تسع سنين وثمانية أشهر، وهى أوّل من أسلم من النساء بلا خلاف، ولعلها أوّل من أسلم من الناس، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزير صدق. روى أن آدم عليه السلام قال: «إنى لسيد البشر يوم القيامة إلا رجل من ذريتى فضل علىّ باثنين؛ كانت زوجته عونا له، وكانت زوجتى عونا علىّ، وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطانى» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أبشر خديجة ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب» ، قالوا:
والقصب هاهنا: اللؤلؤ. ودفنت خديجة بالحجون، ولم تكن شرعت الصلاة على الميت بعد. والله أعلم.
ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وعوده إلى مكة
قال: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم مالم تكن تناله فى حياة عمه.
قال محمد بن سعد «1» : فبلغ ذلك أبا لهب، فجاءه فقال: يا محمد، امض لما أردت وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيّا فاصنعه، لا واللّات، لا يوصل إليك(16/279)
حتى أموت. قال: وسبّ ابن الغيطلة النبىّ صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه أبو لهب فنال منه، فولّى وهو يصيح: يا معشر قريش، صبأ أبو عتبة، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبى لهب فقال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكنى أمنع ابن أخى أن يضام، حتى يمضى لما يريد، قالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرّحم، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يذهب ويأتى، ولا يعترض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إلى أن جاء عقبة بن أبى معيط، وأبو جهل ابن هشام إلى أبى لهب فقالا: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ فقالا «1» له:
يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟ قال: «مع قومه» ، فخرج أبو لهب إليهما فقال:
قد سألته فقال: «مع قومه» ، فقالا: يزعم أنه فى النار، فقالا: يا محمد، أيدخل عبد المطلب النار؟، فقال: «نعم، ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار» . فقال أبو لهب: والله لا برحت لك عدوّا أبدا، وأنت تزعم أن عبد المطلب فى النار، فاشتدّ عليه هو وسائر قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف.
قال محمد بن سعد: خرج ومعه زيد بن حارثة، وذلك فى ليال بقين من شوّال سنة عشر من حين النبوّة، فأقام بالطائف عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلّمه، فلم يجيبوه، وخافوا على أحداثهم، فقالوا: يا محمد، أخرج من بلدنا والحق بمجابك «2» من الأرض. وأغروا به سفهاءهم، فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى إن رجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه.
حتى لقد شجّ فى رأسه شجاجا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة.(16/280)
وقال ابن إسحاق «1» : لما أغروا به سفهاءهم؛ لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حائط «2» لعتبة وشيبة ابنى ربيعة، فجلس فى ظل حبلة «3» ، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقى من سفهاء أهل الطائف، فتحركت له رحمتهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عدّاس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب فضعه فى هذا الطبق، ثم اذهب إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عدّاس، ثم أقبل حتى وضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم، وقال له: كلّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«بسم الله» فأكل، فنظر عدّاس إليه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ومن أهل أىّ البلاد أنت يا عدّاس؟
وما دينك» ؟. قال: نصرانىّ، وأنا رجل من أهل نينوى «4» ، فقال له: «أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متّى» ؟ فقال عدّاس: وما يدريك ما يونس؟ قال:
«ذاك أخى، كان نبيا وأنا نبىّ» ، فأقبل عدّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل رأسه وقدميه ويديه، فقال أحد ابنى ربيعة لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عدّاس قالا له: ويلك! ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه! قال: يا سيدى، ما فى الأرض شىء خير من هذا العبد، لقد أخبرنى بأمر ما يعلمه إلا نبىّ، قالا: ويحك يا عدّاس! لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة «5» أتاه جنّ نصيبين «6» ، على ما نذكر ذلك إن شاء(16/281)
الله فى أخبار الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقف عليه هناك، وهو فى آخر وفادات العرب.
قال: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة أياما، فقال له زيد بن حارثة:
كيف تدخل عليهم وهم أخرجوك؟ فقال: «يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه» ، ثم انتهى إلى حراء، فأرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدىّ يقول: «أدخل فى جوارك» ؟ فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه، فقال: تلبّسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت؛ فإنى قد أجرت محمدا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام مطعم بن عدىّ على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إنى قد أجرت محمدا؛ فلا يهجه أحد منكم، فانتهى صلى الله عليه وسلم إلى الرّكن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم وولده مطيفون به، فلذلك قال حسان بن ثابت الأنصارىّ فى رثائه لمطعم من قصيدته:
فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا ... من الناس، أبقى مجده اليوم مطعما «1»
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبّى مهلّ وأحرما
وحكى محمد بن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف؛ والحليف لا يجير؛ فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال:
إن بنى عامر «2» لا تجير على بنى كعب، فبعث إلى المطعم بن عدىّ فأجابه.(16/282)
ذكر خبر الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى البيت المقدس، وخبر المعراج به صلى الله عليه وسلم
إلى السموات العلا، وإلى سدرة المنتهى، وما شاهد فى ذلك من الكرامة والاصطفاء والمناجاة، وفرض الصلاة، وغير ذلك مما يراه من آيات ربّه الكبرى، صلّى الله عليه وسلم وخبر الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح متفق على صحته بنص الكتاب والأحاديث الصحيحة. أما الكتاب العزيز، فقد قال الله عزّ وجل:
(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
«1» . وقال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى.
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى)
«2» .
وأما الأحاديث الواردة فى ذلك فسنذكرها إن شاء الله تعالى.
وكان الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة السبت لسبع عشرة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وقد أتت عليه إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر.(16/283)
وقال ابن سعد فى طبقاته عن عائشة وأمّ هانئ وابن عباس قالوا: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة من شعب أبى طالب [إلى بيت المقدس «1» ] . والله أعلم.
والأحاديث الصحيحة بصحة الإسراء قد جاءت من طرق كثيرة، وقد رأينا أن نبدأ منها بأكملها وأجمعها، وهو حديث ثابت البنانىّ عن أنس بن مالك رضى الله عنه، ثم نذكر زيادات عن غيره يتعين ذكرها.
أما حديث ثابت البنانىّ «2» فهو مما رويناه بإسناد متصل عن مسلم بن الحجاج، قال حدّثنا شيبان بن فرّوخ، قال حدّثنا حماد بن سلمة، قال حدّثنا ثابت البنانىّ عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه» . قال: «فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التى يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءنى جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السّماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟
قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بآدم صلى الله عليه وسلم، فرحّب بى ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابنى الخالة عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا صلى الله عليهما وسلم، فرحّبا بى ودعوا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة،(16/284)
وذكر مثل الأوّل ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن، فرحّب بى، ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فذكر مثله، فإذا أنا بإدريس فرحّب بى ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فذكر مثله، فإذا أنا بهارون «1» فرحّب بى، ودعا لى بخير، ثم عرج بى إلى السماء السادسة، فإذا أنا بموسى فرحّب بى، ودعا لى بخير، ثم عرج بى إلى السماء السابعة، فذكر مثله، فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها «2» كالقلال» . قال: «فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إلىّ ما أوحى، ففرض علىّ خمسين صلاة فى كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى، فقال: ما فرض ربك على أمّتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمّتك لا يطيقون ذلك «3» ، فإنى قد بلوت بنى إسرائيل» .
قال: «فرجعت إلى ربى فقلت: يا رب خفف عن أمّتى، فحطّ عنى خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حطّ عنى خمسا» ، قال «4» : إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال: «فلم أزل أراجع بين ربى تعالى، وبين موسى حتى قال: يا محمد، إنهنّ خمس صلوات، كل يوم وليلة بكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها(16/285)
كتبت له عشرا، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة» . قال: «فنزلت «1» حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقلت: قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه» .
وروى يونس عن ابن شهاب عن أنس قال: كان أبو ذرّ يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فرج سقف بيتى «2» ، فنزل جبريل ففرج صدرى ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها فى صدرى ثم أطبقه، ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى السماء» . فذكر القصة.
وروى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة الحديث بمثله، وفيه تقديم وتأخير، وزيادة ونقص، وخلاف فى ترتيب الأنبياء والسموات؛ وحديث ثابت عن أنس أتقن وأجود. وهذان الحديثان يدلان على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شقّ جوفه عند الإسراء، وقد تقدم الخبر أنه شقّ جوفه وهو عند ظئره فى حال طفوليته، فيكون على هذا شقّ جوفه مرتين. والله أعلم بالصواب.
ونقل عن الشيخ عبد القادر محمد بن أبى الحسن الصعبىّ فى مختصر السيرة له قال: روى أبو داود الطيالسىّ فى مسنده «3» ، قال: حدّثنا حماد بن سلمة قال أخبرنى أبو عمران الجونىّ عن رجل عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف هو وخديجة شهرا، فوافق ذلك رمضان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع: السلام عليكم، قالت: فظننت أنه فجئه الحقّ «4» ، فقال:(16/286)
«أبشروا فإن السلام خير» ، ثم رأى يوما آخر جبريل عليه السلام على الشمس جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، قال: فبهتّ منه، قالت «1» : فانطلق يريد أهله، فإذا هو بجبريل عليه السلام بينه وبين الباب، قال: «فكلمنى حتى أنست به ثم وعدنى موعدا، فجئت لموعده، واحتبس علىّ جبريل، فلما أراد أن يرجع إذا هو وميكائيل عليهما السلام، فهبط جبريل عليه السلام إلى الأرض، وبقى ميكائيل بين السماء والأرض» ، قال: «فأخذنى فسلقنى لحلاوة القفا «2» ، وشقّ عن بطنى، فأخرج منه ما شاء الله، ثم غسله فى طست من ذهب ثم أعاده، ثم كفانى كما يكفأ الإناء، ثم ختم فى ظهرى حتى وجدت مسّ الخاتم، ثم قال لى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)
ولم أقرأ كتابا قط، فأخذ بحلقى حتى أجهشت بالبكاء، ثم قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ)
إلى قوله: (ما لَمْ يَعْلَمْ)
» . قال: «فما نسيت بعد، فوزننى برجل فوزنته، ثم وزننى بآخر فوزنته، ثم وزننى بمائة، فقال ميكائيل:
تبعته أمته وربّ الكعبة» . قال: «ثم جئت إلى منزلى، فما يلقانى حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، حتى دخلت على خديجة فقالت: السلام عليك يا رسول الله» .
فيدل هذا الحديث على أنه شقّ جوفه أيضا عند الوحى، فيكون شقّ جوفه ثلاث مرات؛ مرة وهو عند ظئرة، ومرة عند الوحى فى أول النبوة، كما يقتضى هذا الحديث، ومرة ثالثة عند الإسراء؛ كما روى عن أبى ذرّ، ومالك بن صعصعة.
والله أعلم.(16/287)
وإنما أوردنا حديث الطيالسىّ فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد، لأن موضعه يصلح أن يكون عند ذكر حديث المبعث، وقد أثبتنا هناك الأحاديث الصحيحة؛ فلنرجع إلى ما نحن فيه من حديث الإسراء.
وأمّا ما ورد فى الأحاديث الأخر من الروايات التى يتعين ذكرها:
فمنها حديث ابن شهاب وفيه قول كل نبىّ: «مرحبا بالنبىّ الصالح، والأخ الصالح إلا آدم وإبراهيم فقالا له: والابن الصالح» .
وفيه من طريق ابن عباس رضى الله عنهما: «ثم عرج بى حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام» .
وعن أنس: «ثم انطلق بى حتى أتيت سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لم أدر ما هى» ، قال: «ثم أدخلت الجنة» «1» .
وفى حديث مالك بن صعصعة: «فلما جاوزته- يعنى موسى- بكى، فنودى ما يبكيك؟ قال: ربّ، هذا غلام بعثته بعدى، يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتى» .
وفى حديث أبى هريرة: «وقد رأيتنى فى جماعة من الأنبياء، فحانت الصلاة فأممتهم فقال قائل: يا محمد، هذا مالك خازن النار فسلّم عليه، فالتفت «2» فبدأنى بالسلام» .
وفى حديث أبى هريرة: «ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فنزل فربط فرسه إلى صخرة وصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة، قالوا: يا جبريل من هذا(16/288)
معك؟، قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟
قال: نعم، قالوا: حيّاه من أخ وخليفة! فنعم الأخ ونعم الخليفة! ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم» . وذكر كلام كل واحد منهم؛ وهم إبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان. ثم ذكر كلام النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: وإن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه، فقال: «كلكم أثنى على ربه، وأنا أثنى على ربى؛ الحمد لله الذى أرسلنى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علىّ الفرقان فيه تبيان كل شىء، وجعل أمتى خير أمة، وجعل أمتى أمة وسطا، وجعل أمتى هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لى صدرى، ووضع عنى وزرى، ورفع لى ذكرى، وجعلنى فاتحا وخاتما» . فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد.
ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا، ومن سماء إلى سماء؛ نحو ما تقدم.
وفى حديث ابن مسعود: «وانتهى بى إلى سدرة المنتهى، وهى فى السماء السادسة؛ إليها ينتهى ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهى ما يهبط «1» من فوقها فيقبض [منها «2» ] » . قال تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى)
، قال: فراش من ذهب.
وفى رواية أبى هريرة رضى الله عنه، من طريق الربيع بن أنس: «فقيل لى:
هذه سدرة المنتهى، ينتهى إليها كل أحد من أمتك خلا «3» على سبيلك» . وهى السّدرة المنتهى يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغيرّ طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى. وهى شجرة يسير الراكب فى ظلها سبعين عاما، وإن ورقة منها مظلّة الخلق. فغشيها نور، وغشيتها الملائكة.(16/289)
قال: فهو قوله تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى)
؛ فقال تبارك وتعالى له:
«سل» ، فقال: «إنك اتخذت إبراهيم خليلا، وأعطيته ملكا عظيما، وكلّمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخّرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما؛ سخّرت له الجنّ والإنس والشياطين والرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغى لأحد من بعده، وعلّمت عيسى التوارة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص، وأعذته وأمّه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل» .
فقال «1» له ربّه: «قد اتخذتك حبيبا» فهو مكتوب فى التوراة: «محمد حبيب الرحمن، وأرسلتك «2» إلى الناس كافة، وجعلت أمتك [هم «3» ] الأوّلون وهم الآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدى ورسولى، وجعلتك أوّل النبّيين خلقا، وآخرهم بعثا، وأعطيتك سبعا من المثانى ولم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشى، لم أعطها نبيّا قبلك، وجعلتك فاتحا وخاتما» .
وفى الرواية «4» الأخرى، قال: فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا:
أعطى الصلوات الخمس، وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا من أمّته المقحمات «5» .
وقال: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)
؛ الآيتين. قيل: رأى جبريل فى صورته له ستمائة جناح. وفى حديث شريك: «أنه رأى موسى فى السابعة» قال: بتفضيل(16/290)
كلام الله، قال: «ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلم إلا الله، فقال موسى: لم أظن أن يرفع علىّ أحد» .
وقد روى عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بالأنبياء ببيت المقدس. وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا قاعد ذات يوم إذ دخل علىّ جبريل عليه السلام فوكز بين كتفىّ، فقمت إلى شجرة فيها مثل وكرى الطائر، فقعد فى واحدة، وقعدت فى الأخرى فنمت «1» حتى سدّت الخافقين، ولو شئت لمسست السماء، وأنا أقلّب طرفى، ونظرت جبريل كأنه حلس «2» لا طئ «3» ، فعرفت فضل علمه بالله علىّ؛ وفتح لى باب السماء، ورأيت النور الأعظم، وإذا دونى الحجاب وفرجه الدرّ والياقوت، ثم أوحى الله إلىّ ما شاء أن يوحى» .
وذكر البزّار عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: لمّا أراد الله أن يعلّم رسوله الأذان جاءه جبريل بداية يقال لها البراق، فذهب يركبها، فاستصعبت عليه، فقال لها جبريل: أسكنى، فو الله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم؛ فركبها حتى أتى بها إلى الحجاب الذى يلى الرحمن تعالى، فبينا هو كذلك إذ خرج ملك [من «4» ] الحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل، من هذا؟» . قال: والذى بعثك بالحقّ إنى لأقرب الخلق مكانا، وإنّ هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه، فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدى؛ أنا أكبر أنا أكبر، ثم قال الملك: أشهد أن(16/291)
لا إله إلا الله، فقيل من وراء الحجاب: «صدق عبدى، أنا لا إله إلا أنا» . وذكر مثل هذه فى بقيّة الأذان، إلا أنه لم يذكر جوابا عن قوله: حىّ على الصلاة، حىّ على الفلاح، وقال: ثم أخذ الملك بيد محمد فقدّمه، فأمّ أهل السماء فيهم آدم ونوح «1» .
قال القاضى عياض بن موسى رحمه الله: ما فى هذا الحديث من ذكر الحجاب فهو فى حقّ المخلوق لا فى حقّ الخالق، فهم المحجوبون، والبارى جل اسمه منزّه عما يحجبه؛ إذ الحجب إنما تحيط بمقدّر محسوس «2» ، ولكنّ حجبه على أبصار خلقه وبصائرهم وإدراكاتهم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، كقوله: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)
«3» . قال: فقوله فى هذا الحديث: «الحجاب» يجب أن يقال: إنه حجاب حجب به من ورائه من ملائكته عن الاطلاع على ما دونه من سلطانه وعظمته، وعجائب ملكوته وجبروته. ويدل عليه من الحديث قول جبريل عن الملك الذى خرج من ورائه: إن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه، فدلّ [على «4» ] أن هذا الحجاب لم يختص بالذات.
ويدل عليه قول كعب فى تفسيره: سدرة المنتهى، قال: إليها ينتهى علم الملائكة، وعندها يجدون أمر الله لا يجاوزها علمهم.
قال: وأما قوله «الذى يلى الرحمن» ، فيحمل على حذف المضاف [أى «5» ] الذى يلى عرش الرحمن، أو أمرا ما من عظيم آياته، أو مبادئ حقائق معارفه مما هو أعلم به، كما قال تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)
«6» أى أهلها.(16/292)
وقوله: «فقيل من وراء الحجاب، صدق عبدى، أنا أكبر» فظاهره أنه سمع فى هذا الموطن كلام الله ولكن من وراء حجاب، كما قال تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)
«1» [أى «2» ] وهو لا يراه؛ حجب بصره عن رؤيته، فإن صحّ القول بأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فيحتمل أنه فى غير هذا الموطن بعد هذا أو قبله رفع الحجاب عن بصره حتى رآه. والله أعلم بالصواب.
ذكر من قال: إن الإسراء كان بالجسد وفى اليقظة
قد اختلف العلماء على ثلاث مقالات؛ فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام. وذهبت طائفة إلى أنّ الإسراء كان بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح. والذى عليه الأكثرون- وقال به معظم السلف- أنه إسراء بالجسد، وفى اليقظة.
قال القاضى عياض بن موسى بن عياض: وهذا هو الحق، وهو قول ابن عبّاس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبو هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبى حبّة البدرىّ، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد، والحسن، وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج؛ وهو قول الطبرىّ، وابن حنبل، وغيرهما، وقد أبطلوا حجج من قال خلاف ذلك بأدلّة يطول علينا شرحها.
قال القاضى عياض: والحقّ [من هذا «3» ] والصحيح إن شاء الله أنه إسراء بالجسد والروح فى القصة كلها، وعليه تدل الآية، وصحيح الأخبار والاعتبار-(16/293)
ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل [إلا «1» ] عند الاستحالة، وليس فى الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال: بروح عبده، ولم يقل:
(بِعَبْدِهِ)
- وقوله «2» : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى)
. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفّار ولا كذّبوه فيه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أنّ خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته إلى ما ذكر فى الحديث من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس فى رواية أنس، أو فى السماء على ما روى غيره، وذكر مجىء جبريل له بالبراق، وخبر المعراج واستفتاح السماء، فيقال «3» :
ومن معك؟ فيقول: محمد، ولقائه الأنبياء فيها، وخبرهم معه، وترحيبهم به، وشأنه فى فرض الصلاة ومراجعته مع موسى فى ذلك، وفى بعض هذه الأخبار:
«فأخذ- يعنى جبريل- بيدى، فعرج بى إلى السماء» إلى قوله: «ثم عرج بى حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صوت «4» الأقلام؛ وأنه وصل إلى سدرة المنتهى، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره» .
قال ابن عباس رضى الله عنهما: هى رؤيا عين رآها النبى صلى الله عليه وسلم لا رؤيا منام، والآى فى ذلك كثيرة، والأدلة واضحة، فلا نطوّل بسردها، وفيما أوردناه منها فيما قدّمنا ذكره كفاية. والله أعلم.(16/294)
ذكر ما ورد فى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه تبارك وتعالى، ومناجاته له، وكلامه ودنوّه وقربه من ربّه عزّ وجلّ، ومن جوّز ذلك ومن منعه، وما قيل فى مشكل حديث الدّنوّ والقرب
أما الرؤية فقد اختلف السلف فى رؤيته صلى الله عليه وسلم لربّه عزّ وجل، فأنكرته عائشة.
روى عن مسروق أنه قال لعائشة رضى الله عنها: يا أمّ المؤمنين، هل رأى محمد ربّه؟ فقالت: لقد قف «1» شعرى مما قلت؛ ثلاث من حدّثك بهنّ فقد كذب، [من حدّثك أن محمدا رأى ربّه فقد كذب «2» ] ثم قرأت (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)
«3» الآية [ثم ذكر الحديث «4» ] . وقالت جماعة بقول عائشة، وهو المشهور عن ابن مسعود.
ومثله عن أبى هريرة: إنما رأى جبريل، واختلف عنه. وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته فى الدنيا [جماعة «5» ] من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه رآه بعينه. وروى عطاء عنه: رآه بقلبه، وعن أبى العالية [عنه «6» ] رآه بفؤاده مرتين.
وذكر ابن إسحاق: أن ابن عمر رضى الله عنهما أرسل إلى ابن عباس رضى الله عنهما يسأله: هل رأى محمد ربّه؟ قال: نعم، والأشهر [عنه «7» ] أنه رأى ربه بعينيه. وقال: إن الله اختص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلّة، ومحمدا بالرؤية.(16/295)
وحجته قوله: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) .
وقال الماوردىّ: قيل إنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد، فرآه محمّد مرتين، وكلّمه موسى مرتين.
وحكى أبو الفتح الرازىّ، وأبو الليث السّمرقندىّ ذكرها «1» عن كعب. وروى عبد الله بن الحارث، قال: اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس: أمّا نحن بنى هاشم فنقول: إنّ محمدا قد رأى ربه مرتين، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، وقال: إنّ الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلمه موسى، ورآه محمد بقلبه.
وحكى السّمرقندىّ عن محمد بن كعب القرظىّ، وربيع بن أنس: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ربى» - وذكر كلمة- فقال: «يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى» . الحديث.
وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه، وحكاه أبو عمر الطّلمنكىّ عن عكرمة، وحكى بعض المتكلمين هذا المذهب عن ابن مسعود، وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم.
وحكى النقّاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس، بعينه رآه رآه، حتى انقطع نفس أحمد.
وقد اختلف فى تأويل الآية عن ابن عباس وعكرمة والحسن وابن مسعود، فحكى عن ابن مسعود، وعكرمة: رآه بقلبه.
وعن الحسن وابن مسعود: رأى جبريل. وعن ابن عطاء فى قوله تعالى:
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)
«2» ، قال: شرح صدره للرؤية، وشرح صدر موسى للكلام.(16/296)
وقال أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعرىّ وجماعة من أصحابه: إنه رأى الله ببصره وعينى «1» رأسه وقال: كل آية أوتيها نبىّ من الأنبياء عليهم السلام فقد أوتى مثلها نبيّنا، وخص من بينهم بتفضيل الرؤية.
قال القاضى أبو الفضل عياض بن موسى رحمه الله: والحق الذى لا امتراء فيه أن رؤيته تعالى فى الدنيا جائزة عقلا، وليس فى العقل ما يحيلها، والدليل على جوازها فى الدنيا سؤال موسى عليه السلام لها، ومحال أن يجهل نبىّ ما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز عليه، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل، ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الذى لا يعلمه إلا من علّمه الله، فقال له الله تعالى: (لَنْ تَرانِي)
أى لن تطيق ولا تحتمل رؤيتى، ثم ضرب له مثالا بما هو أقوى من نبيّه موسى وأثبت وهو الجبل. قال: وكل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته فى الدنيا، بل فيه جوازها على الجملة، وليس فى الشرع دليل قاطع على استحالتها ولا امتناعها، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة.
قال: ولا حجة لمن يستدلّ على منعها بقوله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)
لاختلاف التأويلات فى الآية، وقد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على جواز الرؤية، وعدم استحالتها على الجملة. وقد قيل: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)
، أى لا تحيط به، وهو قول ابن عباس، وقد قيل: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)
. وإنما يدركه المبصرون.
قال: وكل هذه التأويلات لا تقتضى منع الرؤية ولا استحالتها، وحيث تتطرّق التأويلات وتتسلط الاحتمالات، فليس للقطع سبيل، وكذلك وجوب الرؤية لنبينا صلى الله عليه وسلم، والقول بأنه رآه بعينه. فليس فيه قاطع أيضا ولا نصّ، إذ المعوّل فيه على آيتى النجم، والتنازع فيهما مأثور، والاحتمال لهما ممكن، ولا أثر قاطع متواتر عن النبىّ صلى الله عليه وسلم بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.(16/297)
وأما المناجاة والكلام والقرب والدنوّ وما جاء من الكلام على مشكل هذا الحديث؛ فقد اختلف فى الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بقوله: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى)
، وهل كان ذلك الوحى بواسطة أو بغير واسطة؟ فأكثر المفسرين على أن الموحى الله إلى جبريل، وجبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. [فذكر عن «1» ] جعفر بن محمد الصادق، قال: أوحى الله إليه بلا واسطة. ونحوه عن الواسطى، وإليه ذهب بعض المتكلمين وحكوه عن ابن مسعود وابن عباس، وأنكره آخرون. وحكى النقاش عن ابن عباس عنه عليه السلام فى قوله تعالى: (دَنا فَتَدَلَّى)
، قال: «فارقنى جبريل، وانقطعت الأصوات عنى فسمعت كلام ربى، وهو يقول: ليهدأ روعك يا محمد، ادن ادن» . وقد تقدم ذكر حديث الأذان، وقول الملك: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدى، أنا أكبر، أنا أكبر.
وقد احتجوا بقوله تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ)
«2» ، فقالوا: هى ثلاثة أقسام؛ من وراء حجاب كتكليم موسى، وبإرسال الملائكة كحال جميع الأنبياء، وأكثر أحوال نبينا صلى الله عليه وسلم، الثالث قوله: (وَحْياً)
. قالوا: ولم يبق من تقسيم صور الكلام إلا المشافهة مع المشاهدة، وقد قيل: الوحى هنا ما يلقيه فى قلب النبىّ صلى الله عليه وسلم دون واسطة، وكلام الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ومن اختصه من أنبيائه جائز غير ممتنع.
وأما قوله تعالى: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)
فأكثر المفسرين أن الدنوّ والتدلّى منقسم ما بين محمد وجبريل عليهما السلام، أو مختص(16/298)
بأحدهما من الاخر، أو من سدرة المنتهى. وقال ابن عباس: هو محمد دنا فتدلى من من ربه. وقيل: معنى دنا قرب، وتدلّى: زاد فى الفرب، وقيل: هما بمعنى واحد أى قرب. وحكى مكىّ والماوردىّ عن ابن عباس، هو الربّ دنا من محمد فتدلى إليه، أى أمره وحكمه. وحكى النقاش عن الحسن، قال: دنا من عبده محمد صلى الله عليه وسلم، فقرب منه فأراه ما شاء أن يريه من قدرته وعظمته.
قال وقال ابن عباس: هو مقدّم ومؤخر، تدلّى الرفرف «1» لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فجلس عليه، ثم رفع فدنا من ربه. وفى الصحيح عن أنس بن مالك:
«عرج بى جبريل إلى سدرة المنتهى، ودنا الجبار ربّ العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه بما شاء، وأوحى إليه خمسين صلاة» . الحديث.
وعن محمد بن كعب: هو محمد دنا من ربه، فكان قاب قوسين. وقال جعفر ابن محمد: أدناه ربه منه، حتى كان منه كقاب قوسين، قال جعفر: والدنوّ من الله لا حدّ له، ومن العباد بالحدود. وقال أيضا: انقطعت الكيفية عن الدنو، ألا ترى كيف حجب جبريل عن دنوّه، ودنا محمد إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان فتدلّى بسكون قلبه إلى ما أدناه، وزال عن قلبه الشك والارتياب! وقد تكلموا على مشكل هذا الحديث، فقال القاضى عياض رحمه الله: اعلم أن ما وقع من إضافة الدنوّ والقرب هنا من الله وإلى الله فليس بدنوّ مكان ولا قرب مدى، بل كما ذكرنا «2» عن جعفر الصادق ليس بدنوّ حدّ، وإنما دنوّ النبىّ صلى الله عليه وسلم من ربه، وقربه منه إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته، ومن الله تعالى له مسرة وتأنيس، وبسط(16/299)
وإكرام، ويتأوّل فيه ما يتأوّل فى قوله: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» على أحد الوجوه، نزول إفضال وإجمال، وقبول وإحسان. وقال الواسطى: من توهم أنه بنفسه دنا جعل ثمّ مسافة، بل كل ما دنا بنفسه من الحق تدلّى بعدا، يعنى عن درك حقيقته، إذ لا دنوّ للحقّ ولا بعد.
وقوله: (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)
، فمن جعل الضمير عائدا إلى الله لا إلى جبريل على هذا كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحلّ، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفّى، وإنافة المنزلة والمرتبة من الله له، ويتأوّل [فيه «1» ] ما يتأوّل فى قوله: «من تقرّب منى شبرا تقرّبت منه ذراعا، ومن أتانى يمشى أتيته هرولة» ، قرب بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول.
وقد أخذ الكلام فى هذا المعنى حقّه، فلنذكر ما كان بعد الإسراء [من «2» ] الأخبار.
ذكر ما كان بعد الإسراء من إنكار قريش لذلك وما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من وصفه لهم البيت المقدّس، وإخباره لهم بخبر عيرهم، وارتداد من ارتدّ
روى الشيخ الإمام أبو بكر أحمد البيهقى بسنده عن شدّاد بن أوس رضى الله عنه، قال: قلنا يا رسول الله كيف أسرى بك؟ فذكر نحو ما تقدّم من خبر الإسراء، وفيه زيادة ونقص، قال: وفيه أن جبريل عليه السلام أنزله فصلى بيثرب، ثم صلى(16/300)
بمدين عند شجرة موسى عليه السلام، ثم صلى ببيت لحم حيث ولد عيسى بن مريم عليه السلام، ثم صلى فى المسجد الأقصى، وأنه صلى الله عليه وسلم مرّ بعير لقريش بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيرا قد جمعه فلان، قال: «فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد» . قال: «ثم أتيت أصحابى قبل الصبح بمكة، فأتانى أبو بكر فقال:
يا رسول الله، أين كنت الليلة فقد التمستك فى مظانّك؟ فقلت «1» : علمت أنّى أتيت بيت المقدس الليلة؟. فقال: يا رسول الله، مسيرة شهر! فصفه لى، قال: «ففتح لى صراط كأنى أنظر إليه، لا يسألنى عن شىء إلا أنبأته عنه» . فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبى كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة، فقال: «إن من آية ما أقول لكم أنى مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا، ينزلون بكذا وكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل آدم «2» عليه مسح «3» أسود، وغرارتان سوداوان» وإنهم أشرفوا ينظرون. فأقبلت العير نصف النهار على ما وصف لهم صلى الله عليه وسلم.
وفى رواية يونس بن بكير فى زيادة المغازى: أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر قومه بالرفقة والعلامة التى فى العير، قالوا: متى يجىء؟ قال: «يوم الأربعاء» . فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون، وقد ولى النهار ولم تجئ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزيد له فى النهار ساعة، وحبست عليه الشمس.
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتنى فى الحجر وقريش تسألنى عن مسراى، فسألونى عن أشياء(16/301)
من بيت المقدس، لم أثبتها «1» فكربت كربا ما كربت مثله قطّ، فرفعه الله لى أنظر إليه ما يسألونى عن شىء إلا أنبأتهم به» .
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح الناس يتحدّثون بذلك، فارتد ناس ممن آمنوا به وصدّقوه، وسعوا إلى أبى بكر فقالوا: هل لك فى صاحبك؟ يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل الصبح! قال: نعم، إنى لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أصدقه بخبر السماء فى غدوة أو روحة، فلذلك سمى أبو بكر رضى الله عنه الصدّيق.
ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبائل العرب فى المواسم
قال محمد بن عمر بن واقد بسند يرفعه إلى غير واحد، قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أوّل نبوّته يدعو مستخفيا، ثم أعلن فى الرابعة، فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين؛ يوافى المواسم كل عام يتبع الحاجّ فى منازلهم بعكاظ ومجنّة، وذى المجاز «2» يدعوهم؛ حتى بلّغ رسالة ربه تعالى، وأبو لهب يمشى وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب، فيقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، فيقول: «اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا» ، قال الواقدىّ:
فكان من سمّى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم: بنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة «3» ، وفزارة،(16/302)
وغسّان «1» ، ومرّة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نصر، وبنو البكّاء، وكندة، وكلب «2» ، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد.
قال محمد بن إسحاق: حدّثنى حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال:
سمعت ربيعة بن عبّاد يحدّث «3» أبى قال: إنّى لغلام شابّ مع أبى بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: «يا بنى فلان، إنى رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما يعبد من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بى وتصدّقونى وتمنعونى حتى أبين عن الله ما بعثنى به» ، قال: وخلفه رجل أحول وضىء له غديرتان، عليه حلّة عدنيّة، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بنى فلان؛ إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزّى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجنّ من بنى مالك بن أقيش؛ «4» إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، قال: فقلت لأبى: يا أبت من هذا الرجل [الذى «5» ] يتبعه ويردّ عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب.
قال ابن إسحاق: حدّثنى الزهرىّ أنه صلّى الله عليه وسلّم أتى بنى عامر ابن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب،(16/303)
ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. فقال له:
أفنهدف «1» نحورنا [للعرب دونك «2» ] ؛ فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه، فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كانت أدركته السنّ، حتى لا يقدر أن يوافى معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدّثوه بما يكون فى ذلك الموسم، فلما قدموا عليه فى ذلك العام، سألهم عما كان فى موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش؛ ثم أحد بنى عبد المطلب، يزعم أنه نبىّ يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بنى عامر، هل لها من تلاف! هل لذناباها من مطلب «3» ! والذى نفس فلان بيده، ما تقوّلها إسماعيلىّ قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم.
قال: وحدّثنى عاصم بن عمر «4» عن قتادة الأنصارى عن أشياخ من قومه قالوا:
قدم سويد بن الصامت أخو بنى عمرو بن عوف [مكة «5» ] حاجا أو معتمرا؛ وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم: الكامل لجلده وشرفه ونسبه وشعره، فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذى معك مثل الذى معى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وما الذى معك؟ قال: مجلة «6» لقمان (يعنى حكمة لقمان) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علىّ؛ فعرضها عليه، فقال: «إن هذا لكلام حسن،(16/304)
لكن الذى معى أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله علىّ هو هدى ونور» . فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه، وقال: إنّ هذا لقول حسن؛ ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتله الخزرج، قال: فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث «1» .
قال ابن إسحاق أيضا: وحدّثنى الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد ابن معاذ عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بنى عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من بنى الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتاهم فجلس إليهم فقال: «هل لكم فى خير مما جئتم له» ؟، فقالوا: وما ذلك؟ قال: «أنا رسول الله، بعثنى إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علىّ الكتاب» . قال: ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال لهم إياس بن معاذ- وكان غلاما حدثا-: أى قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر حفنة من [تراب «2» ] البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ؛ وقال: دعنا منك، فلعمرى لقد جئنا لغير هذا، قال: فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة، فكان وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس ابن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرنى من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره، ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام فى ذلك المجلس حين سمع من رسول الله ما سمع. والله أعلم.(16/305)
ذكر خبر مفروق بن عمرو وأصحابه وما أجابوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دعائه قبائل العرب
روى الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى بسنده عن عبد الله بن عباس، قال: حدّثنى «1» علىّ بن أبى طالب رضى الله عنهم من فيه، قال: لما أمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر رضى الله عنه، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدّم أبو بكر، وكان مقدّما فى كل خير، وكان رجلا نسابة، فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا من ربيعة، قال: وأى ربيعة أنتم؟ من هامها «2» أم من لهازمها؟ فقالوا: بل من الهامة العظمى، [فقال أبو بكر: وأىّ هامتها العظمى «3» ] أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: منكم عوف الذى يقال «4» [له] : «لا حرّ بوادى عوف» ؟ قالوا:
لا، قال: فمنكم جسّاس بن مرّة، حامى الذمار، ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال:
فمنكم بسطام بن قيس، أبو اللواء، ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان «5» قاتل الملوك، وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف «6» صاحب العمامة الفردة، قالوا: لا؛ قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا.(16/306)
قال فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال أبو بكر: فلستم من ذهل الأكبر، أنتم من ذهل الأصغر. قال: فقام إليه غلام من بنى شيبان يقال له دغفل حين بقل «1» وجهه، فقال:
إنّ على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا نعرفه أو نحمله
يا هذا، إنك قد سألتنا فأخبرناك، ولم نكتمك شيئا، فمن الرجل؟ قال أبو بكر:
أنا من قريش، فقال الفتى: بخ بخ! أهل الشرف والرياسة، فمن أىّ القرشيين أنت؟
قال: من ولد تيم بن مرة. فقال الفتى: أمكنت والله الرّامى من سواء الثّغرة، أمنكم قصىّ الذى جمع القبائل من فهر؟ فكان يدعى فى قريش مجمعا؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذى هشم الثريد لقومه، ورجال مكة مسنتون عجاف «2» ؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذى كأنّ وجهه القمر يضىء فى الليلة الداجية؟ قال: لا، قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال:
لا، قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: لا، قال: فمن أهل الرّفادة أنت؟ قال:
لا، واجتذب أبو بكر زمام ناقته راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الغلام:
صادف درّ السيل درءا «3» يدفعه ... يهيضه حينا وحينا يصرعه(16/307)
أما والله لو شئت لأخبرتك من قريش، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال علىّ: فقلت: يا أبا بكر؛ لقد وقعت من الأعراب على باقعة «1» ، قال: أجل يا أبا الحسن، «ما من طامّة إلا وفوقها طامّة» ، و «البلاء موكل بالمنطق» .
قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدّم أبو بكر فسلم وقال:
ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بأبى وأمى هؤلاء غرر الناس! وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مفروق قد غلبهم جمالا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على تربيتيه «2» ، وكان أدنى القوم مجلسا، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ قال مفروق: علينا الجهد، ولكل قوم جدّ؛ فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشدّ ما نكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشدّ ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللّقاح «3» ، والنصر من عند الله، يديلنا مرة، ويديل علينا أخرى، لعلّك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: قد بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا هو ذا، قال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، وإلام تدعو يا أخا قريش؟
فتقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، وقام أبو بكر يظلّه بثوبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،(16/308)
وأن محمدا عبده ورسوله، وإلى أن تأوونى وتنصرونى، فإنّ قريشا قد ظاهرت على أمر الله، وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغنىّ الحميد» .
فقال مفروق بن عمرو: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟ فو الله ما سمعت كلاما أحسن من هذا، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)
إلى قوله: (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
«1» ، فقال مفروق: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟
فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض، قال: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)
، إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
، «2» فقال مفروق:
دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك «3» قوم كذبوك وظاهروا «4» عليك- وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام هانئ بن قبيصة فقال:
وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا. قال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإنى أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أوّل ولا آخر، إنه زلل فى الرأى، وقلة نظر فى العاقبة، وإنما تكون الزلّة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر فى العاقبة، وكأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنّى شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنّى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة فى تركنا ديننا، ومشايعتك على دينك، وإنا إنما نزلنا بين صيرين «5» : اليمامة والسّمامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصّيران» ؟. فقال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأمّا ما كان من أنهار كسرى؛ فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره(16/309)
غير مقبول، وأما ما كان مما يلى مياه العرب، فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا؛ أنا لا نحدث حدثا، ولا نأوى محدثا، فإنى أرى أن هذا الأمر الذى تدعونا إليه يا أخا قريش مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نأويك وننصرك مما يلى مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم فى الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلّا من حاطه من جميع جوانبه. أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثّكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبّحون الله وتقدّسونه» ؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك، قال: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً)
«1» ) ، ثم نهض قابضا على يد أبى بكر وهو يقول: «يا أبا بكر، أيّة أخلاق فى الجاهلية ما أشرفها! بها يدفع الله عز وجل بأس بعضهم من بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم» ، قال: فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سرّ بما كان من أبى بكر، ومعرفته بأنسابهم.
ذكر بيعة العقبة الأولى
قال محمد بن إسحاق: فلما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [فى «2» ] الموسم الذى لقى فيه الأنصار «3» ، فعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فقال لهم: «من أنتم» ؟ قالوا:(16/310)
نفر من الخزرج، قال: «أمن موالى يهود» ؟ قالوا: نعم، قال «1» : «أفلا تجلسون أكلمكم» ؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض [عليهم «2» ] الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان يهود معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم؛ فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا لهم: إن نبيّا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتّبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلّموا والله أنه للنّبىّ الذى توعّد «3» به يهود، فلا تسبقنّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فتقدم عليهم فتدعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذى أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزّ منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدّقوا.
قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى «4» : فاختلف علينا فى أوّل من أسلم من الأنصار وأجاب. فذكروا الرجل بعينه، وذكروا الرجلين، وذكروا أنه لم يكن أحد أوّل من الستة. وذكرهم.
وقال محمد بن عمر بن واقد: هذا عندنا أثبت ما سمعنا فيهم، وهو المجمع عليه، وهم من بنى النجّار: أسعد بن زرارة بن عدس، وعوف بن الحارث [وهو «5» ] ابن عفراء. ومن بنى زريق: رافع بن مالك. ومن بنى سلمة بن سعد: قطبة(16/311)
ابن عامر بن حديدة. ومن بنى حرام بن كعب: عقبة بن عامر بن نابى. ومن بنى عبيد بن عدى بن ساعدة: جابر بن عبد الله؛ ولم يذكر ابن إسحاق غيرهم.
قال: ثم قدموا المدينة فدعوا قومهم إلى الإسلام، فأسلم من أسلم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدى: وأوّل مسجد قرئ به القرآن بالمدينة مسجد بنى زريق.
والله أعلم.
ذكر بيعة العقبة الثانية (وقد ترجم عليها بعضهم بالأولى)
قال: فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا.
قال محمد بن سعد: ليس [فيهم «1» ] عندنا خلاف، فلقوه بالعقبة، وهى العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، وكان من هؤلاء خمسة ممّن حضر البيعة الأولى من الستة المجمع عليهم، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وعقبة بن عامر، وقطبة بن عامر بن حديدة، ومنهم من وقع الاختلاف فيه:
هل شهد البيعة الأولى أو لم يشهدها؟ وهم ستة نفر: معاذ بن الحارث [وهو «2» ] ابن عفراء، أخو عوف، وذكوان بن [عبد «3» ] قيس بن خلدة، وعبادة بن الصامت ابن قيس، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك، وعويم بن ساعدة، وهما من الأوس.
وممن لم يشهد البيعة الأولى بلا خلاف: العباس بن عبادة بن نضلة.(16/312)
روى محمد بن إسحاق عن عبادة بن الصامت قال: كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء- وذلك قبل أن تفترض الحرب- على ألّا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه فى معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحدّه فى الدنيا فهو كفّارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذب، وإن شاء غفر. قال: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم فى الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة، وكان منزله على أسعد بن زرارة.
قال محمد بن سعد: ثم انصرفوا إلى المدينة، فأظهر الله الإسلام، وكان أسعد ابن زرارة يجمّع «1» بالمدينة بمن أسلم، وروى أن مصعب كان يجمّع بهم. والله أعلم.
ذكر بيعة العقبة الثالثة وهم السبعون (وترجم عليها ابن سعد بالثانية)
قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى، عن محمد بن عمر بن واقد، بإسناد إلى عبادة بن الصامت، وسفيان بن أبى العوجاء، وقتادة، ويزيد بن رومان، قال الواقدى: دخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: لما حضر الحج مشى أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا بعضهم إلى بعض يتواعدون المسير إلى الحج، وموافاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسلام يومئذ فاش بالمدينة، فخرجوا وهم سبعون يزيدون رجلا أو رجلين فى خمر «2» الأوس والخزرج،(16/313)
وهم خمسمائة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فسلّموا عليه، ثم وعدهم منى، وسط أيام التشريق ليلة النّفر الأوّل؛ إذا هدأت الرّجل [أن»
] يوافوه فى الشّعب الأيمن إذا انحدروا من منى بأسفل «2» العقبة، وأمرهم ألّا ينبهوا نائما، ولا ينتظروا غائبا. قال: فخرج القوم بعد هدءة يتسلّلون، الرجل والرجلان، وقد سبقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموضع، معه العباس بن عبد المطلب، ليس معه غيره.
وقال محمد بن إسحاق: إنهم سبقوه إلى الشّعب وانتظروه، وهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدىّ، حتى أقبل ومعه عمّه العباس.
قال ابن سعد: فكان أوّل من طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم: رافع ابن مالك الزّرقىّ، ثم توافى السبعون، ومعهم امرأتان، فكان أوّل من تكلم العباس ابن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج، إنكم قد دعوتم محمدا إلى ما دعوتموه إليه، ومحمد من أعزّ الناس فى عشيرته، يمنعه والله منا من كان على قوله، ومن لم يكن منا على قوله منعه للحسب والشرف، وقد أبى محمد الناس كلّهم غيركم «3» ، فإن كنتم أهل قوّة وجلد وبصر بالحرب؛ واستقلال بعداوة العرب قاطبة، ترميكم عن قوس واحدة، فارتئوا رأيكم «4» ، ولا تفرّقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع، فإنّ أحسن الحديث أصدقه.(16/314)
وقال ابن إسحاق: «1» إنّ العباس قال: يا معشر الخزرج، إنّ محمدا منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممّن هو على مثل رأينا فيه، فهو فى عزّ من قومه، ومنعة فى بلده، وإنّه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللّحوق بكم؛ فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه فى عزّ ومنعة من قومه وبلده.
قال ابن سعد: فقال البراء بن معرور: قد سمعنا ما قلت، وإنا والله لو كان فى أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنّا نريد الوفاء والصدق، وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق- فيما رواه بسنده عن كعب بن مالك: فقلنا له: سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب فى الإسلام ثم قال:
«أبايعكم على أن تمنعونى فيما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» . قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذى بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا «2» - يعنى نساءنا- فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل «3» الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.
قال ابن سعد: ويقال: إن أبا الهيثم بن التّيهان كان أوّل من تكلم فأجاب إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم «4» ، وقالوا: نقبله على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف؛ قال: ولغطوا. فقال العباس وهو آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه(16/315)
وسلم: أخفوا جرسكم فإن علينا عيونا، وقدّموا ذوى أسنانكم فيكونون هم الذين يلون كلامنا منكم، فإنا نخاف قومكم عليكم، ثم إذا بايعتم فتفرّقوا إلى محالكم. فتكلّم البراء بن معرور، فأجاب العباس، ثم قال: ابسط يدك يا رسول الله، وكان أوّل من ضرب على يد رسول الله البراء بن معرور- ويقال: أبو الهيثم بن التيهان، ويقال: أسعد بن زرارة- ثم ضرب السبعون كلّهم على يده وبايعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ موسى أخذ من بنى إسرائيل اثنى عشر نقيبا فلا يجدنّ منكم أحد فى نفسه أن يؤخذ غيره، فإنما يختار لى جبريل» ، ثم قال «1» للنقباء:
«أنتم كفلاء على غيركم، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومى» ، قالوا: نعم، قال: فلما بايعوا وكملوا، صاح الشيطان على العقبة بأبعد صوت سمع: يا أهل الأخاشب، هل لكم فى محمد والصّبأة معه قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انفضّوا إلى رحالكم» ، فقال العباس ابن عبادة بن نضلة: يا رسول الله، والذى بعثك بالحقّ لئن أحببت لنميلنّ على أهل منى بأسيافنا، وما أحد عليه سيف تلك الليلة غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نؤمر «2» بذلك فانفضّوا إلى رحالكم» ، فتفرّقوا إلى رحالهم، فلما أصبح القوم غدت عليهم جلّة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنا بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة، وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا، وايم الله ما حىّ من العرب أبغض إلينا إن شبّت «3» بيننا وبينه الحرب منكم، قال: فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين يحلفون لهم(16/316)
بالله ما كان هذا وما علمنا، وجعل ابن أبىّ يقول: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومى ليفتاتوا علىّ بمثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومى حتى يؤامرونى، فلما رجعت قريش من عندهم رحل البراء بن معرور؛ فتقدّم إلى بطن يأجج «1» ، وتلاحق أصحابه من المسلمين، وجعلت قريش تطلبهم فى كل وجه، ولا تعدّوا طريق «2» المدينة؛ وحزّبوا عليهم، فأدركوا سعد بن عبادة، فجعلوا يده إلى عنقه بنسعة «3» ، وجعلوا يضربونه ويجرّون شعره، وكان ذا جمّة «4» حتى دخلوا «5» مكة، فجاءه مطعم بن عدىّ، والحارث بن أمية بن عبد شمس فخلصاه من أيديهم، وائتمرت الأنصار حين فقدوا سعد بن عبادة أن يكّروا إليه، فإذا سعد قد طلع عليهم، فرحل القوم جميعا إلى المدينة.
ذكر تسمية من شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال محمد بن إسحاق: كانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، فكان من شهدها من الأوس أحد عشر رجلا، وهم أسيد بن الحضير، وأبو الهيثم بن التيّهان، وسلمة ابن سلامة بن وقش، وظهير بن رافع بن عدىّ، وأبو بردة هانئ بن نيار، ونهير ابن الهيثم بن نابى، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ورفاعة بن عبد المنذر، وعبد الله ابن جبير بن النعمان، ومعن بن عدىّ بن الجدّ بن عجلان، وعويم بن ساعدة.
وشهدها من الخزرج أحد وستون رجلا: منهم من بنى النجّار أحد عشر رجلا،(16/317)
وهم أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب، ومعاذ بن الحارث بن رفاعة، وأخوه عوف ابن الحارث، وأخوه معوّذ بن الحارث، وعمارة بن حزم بن زيد، وأسعد بن زرارة ابن عدس «1» ، وسهل بن عتيك بن النعمان، وأوس بن ثابت بن المنذر بن حرام، وأبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود، وقيس بن أبى صعصعة، وعمرو بن غزيّة ابن عمرو بن ثعلبة.
ومن بنى الحارث بن الخزرج سبعة نفر، وهم: سعد بن الربيع بن عمرو، وخارجة بن زيد بن أبى زهير، وعبد الله بن رواحة، وبشير بن سعد بن ثعلبة، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، وخلّاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو، وعقبة ابن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة «2» .
ومن بنى بياضة بن عامر بن زريق ثلاثة نفر، وهم: زياد بن لبيد بن ثعلبة ابن سنان، وفروة [بن «3» ] عمرو بن ودقة «4» ، وخالد بن قيس بن مالك بن العجلان.
ومن بنى زريق بن عامر بن زريق ثلاثة نفر: رافع بن مالك بن العجلان ابن عمرو، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلّد بن عامر بن زريق- وكان خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه بمكة فهاجر، فكان يقال له:
مهاجرىّ أنصارى- وعبّاد بن قيس بن عامر بن خالد.
ومن بنى سلمة بن سعد بن علىّ بن أسد أحد عشر رجلا: البراء بن معرور ابن صخر، وابنه بشر بن البراء، وسنان بن صيفىّ بن صخر، والطفيل بن النعمان(16/318)
ابن خنساء، ومعقل بن المنذر بن سرح، ويزيد بن المنذر بن سرح، ومسعود ابن يزيد بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد، ويزيد بن حرام بن سبيع، وجبّار ابن صخر بن أمية بن خنساء، والطفيل بن مالك بن خنساء.
ومن بنى سواد بن غنم بن كعب بن سلمة: كعب بن مالك بن أبى كعب عمرو بن القين بن كعب بن سواد، وهو الشاعر.
ومن بنى غنم بن سواد بن غنم خمسة نفر، وهم: سليم بن حديدة، ويزيد ابن عامر بن حديدة، وهو أبو المنذر «1» ، وأبو اليسر، واسمه كعب بن عمرو، وصيفىّ ابن سواد بن عباد، وقطبة بن عامر بن حديدة، أخو يزيد.
ومن بنى نابى بن عمرو بن سواد بن غنم خمسة نفر: ثعلبة بن غنمة بن عدىّ ابن نابى، وعمرو بن غنمة بن عدىّ، وعبس بن عامر بن عدىّ. وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة، وخالد بن عمرو بن عدىّ.
ومن بنى حرام بن كعب سبعة «2» نفر، وهم: عبد الله بن عمرو بن حرام، وابنه جابر بن عبد الله، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وثابت بن الجذع- والجذع ثعلبة ابن زيد-، وعمير بن الحارث بن ثعلبة، وخديج بن سلامة بن أوس، ومعاذ ابن جبل بن عمرو بن أوس، مات بعمواس عام الطاعون.
ومن بنى عوف بن الخزرج أربعة نفر، وهم: عبادة بن الصامت بن قيس، والعباس بن عبادة بن نضلة- وكان ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فأقام «3» فكان يقال له: مهاجرىّ أنصارى، قتل يوم أحد-(16/319)
وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة حليف لهم من بنى عصيّة من بلىّ، وعمرو بن الحارث بن لبدة بن عمرو.
ومن بنى سالم بن غنم بن عوف- وهم بنو الحبلىّ- رجلان: رفاعة بن عمرو ابن ثعلبة بن مالك، وعقبة بن وهب بن كلدة بن الجعد حليف لهم، وكان ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى مكة، فكان يقال له:
مهاجرى أنصارىّ.
ومن بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج رجلان: سعد بن عبادة بن دليم ابن حارثة، والمنذر بن عمرو بن خنيس، وامرأتان، وهما: نسيبة ابنة كعب ابن عمرو، وهى أم عمارة، وأم منيع، واسمها أسماء بنت عمرو بن عدىّ بن نابى، ولم يصافحهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان لا يصافح النساء، وإنما كان يأخذ عليهن، فإذا أقررن قال: اذهبن، وكان النقباء من هؤلاء اثنى عشر رجلا، وهم: أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع بن عمرو، وعبد الله بن رواحة ابن امرئ القيس، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد الله ابن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت بن قيس، وسعد بن عبادة بن دليم، والمنذر بن عمرو بن حنيس «1» ويقال: ابن خنيس، هؤلاء من الخزرج.
ومن الأوس ثلاثة نفر: أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ورفاعة بن عبد المنذر.
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: وأهل العلم يعدّون أبا الهيثم بن التيهان، ولا يعدّون رفاعة. والله أعلم بالصواب.(16/320)
ذكر أوّل آية أنزلت فى القتال
قال محمد بن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة الأولى لم يؤذن له فى الحرب، ولم تحلل له الدماء، وإنما أمر بالدعاء إلى الله، والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه حتى فتنوهم عن دينهم، وأخرجوهم من بلادهم، فلما عتت قريش على الله؛ أذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فى القتال، فكانت أوّل آية أنزلت فى إذنه تعالى له فى الحرب، قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)
«1» . ثم أنزل الله تعالى: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)
؛ أى حتى لا يفتن مؤمن عن دينه، (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)
«2» ، أى حتى يعبد الله لا يعبد غيره.
ذكر أوّل من هاجر من مكة إلى المدينة
قال محمد بن إسحاق: لما أذن الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم فى الحرب، وبايعه الأنصار على الإسلام، والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين، أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللّحوق بإخوانهم من الأنصار؛(16/321)
وقال: «إن الله قد جعل لكم إخوانا، ودارا تأمنون بها» ، فخرجوا أرسالا «1» ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة ينتظر الإذن من الله فى الهجرة إلى المدينة، فكان أوّل من هاجر من المهاجرين من قريش: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد ابن هلال بن عبد الله المخزومىّ، وكانت هجرته قبل بيعة العقبة بسنة، وكان قد قدم من أرض الحبشة، فلما آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار هاجر إلى المدينة، فنزل بقرية بنى عمرو بن عوف بقباء على أحمد بن مبشّر ابن عبد المنذر، ثم كان أوّل من قدمها بعد أبى سلمة عامر بن ربيعة حليف بنى عدىّ بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة بن غانم «2» ، ثم عبد الله بن حجش ابن رئاب، حليف بنى أمية ابن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد بن حجش، وهو أبو أحمد، وكان رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكّة بغير قائد، وكانت عنده الفرعة بنت أبى سفيان بن حرب، نزل هؤلاء كلهم بقباء على أحمد ابن مبشر أيضا، ثم قدم المهاجرون أرسالا، ثم خرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وعياش بن أبى ربيعة فى عشرين من المسلمين، منهم:
زيد بن الخطّاب أخو عمر، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وخنيس ابن حذافة السهمىّ، وواقد بن عبد الله التميمىّ حليف بنى عدىّ، وعبد الله وعمرو ابنا سراقة بن المعتمر- ويقال: عمر بدل عمرو- وخولىّ بن أبى خولىّ، حليف الخطاب، وأخوه مالك- ويقال: هلال بن أبى خولىّ بدل مالك- وبنو البكير الأربعة: إياس، وعاقل، وخالد، وعامر. ويقال: وكان مع عمر ابنه عبد الله ابن عمر.(16/322)
قال ابن إسحاق: فنزل عمر بن الخطاب، وعيّاش بن أبى ربيعة فى بنى عمرو ابن عوف بقباء، فجاء أبو جهل والحارث ابنا هشام إلى عيّاش إلى المدينة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، فكلماه فى الرجوع، وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمشط رأسها مشط، ولا تستظلّ من شمس حتى تراك، فرقّ لها. قال عمر ابن الخطاب: فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا [ليفتنوك «1» ] عن دينك فاحذرهم، فو الله لو آذى أمّك القمل لامتشطت، ولو اشتد عليها حرّمكة لاستظلّت. فقال: أبرّ قسم أمى، ولى هناك مال فآخذه. قال عمر: فقلت له:
يا عياش، والله إنك لتعلم أنى من أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما. قال: فأبى إلا أن يخرج معهما، فقلت: أما إذ فعلت فخذ ناقتى هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا أخى والله لقد استغلظت بعيرى هذا، أفلا تعقبنى «2» على ناقتك؟ قال: بلى، فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض أوثقاه «3» رباطا، ثم دخلا به [مكة «4» ] ، وفتناه فافتتن.
رواه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر.
قال ابن إسحاق: ودخلا به مكة نهارا موثقا، وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا. قال ابن عمر فى حديثه فكنا نقول:
ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى(16/323)
الكفر لبلاء أصابهم، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم، وفى قولنا وقولهم لأنفسهم: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)
»
، قال عمر: فكتبتها بيدى فى صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص، فلما قرأها لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى من أثق به أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: «من لى بعياش بن أبى ربيعة، وهشام بن أبى العاص» ؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا، فلقى امرأة تحمل طعاما فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟
قالت: أريد هذين المحبوسين- تعنيهما- فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا قد حبسا فى بيت لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة «2» فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما «3» ، ثم حملهما على بعيره وسار بهما، فعثر فدميت إصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفى سبيل الله ما لقيت
نعود إلى تتمة أخبار عمر فى هجرته- قال ابن إسحاق: ونزل عمر بن الخطاب حين نزل «4» المدينة ومن لحق به من أهله وقومه، وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله(16/324)
ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمىّ- وكان صهره على ابنته حفصة خلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده- وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبد الله التميمىّ، حليف لهم، وخولىّ بن خولىّ، ومالك بن خولىّ، حليفان لهم، وبنو البكير الأربعة: إياس، وعاقل، وعامر، وخالد، حلفاؤهم، وهم من بنى سعد بن ليث، على رفاعة بن المنذر بقباء «1» ، ثم تتابع المهاجرون «2» ، فنزل طلحة بن عبيد الله، وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف «3» أخى بلحارث بن الخزرج «4» ، ويقال: بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة، ونزل حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كنّاز بن حصين، وابنه مرثد الغنويّان حليفا حمزة ابن عبد المطلب، وأنسة وأبو كبشة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم ابن هدم «5» أخى بنى عمرو بن عوف بقباء- ويقال: بل نزلوا على سعد بن خيثمة، ويقال: بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة- ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخواه الطّفيل والحصين، ومسطح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب، وسويبط بن سعد بن حريملة «6» ، أخو بنى عبد الدار، وطليب بن عمير أخو بنى عبد بن قصىّ، وخبّاب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخى بلعجلان بقباء، ونزل(16/325)
عبد الرحمن بن عوف فى رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخى بلحارث ابن الخزرج فى دار بلحارث، ونزل الزبير بن العوام، وأبو سيرة بن أبى رهم بن عبد العزّى على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة «1» دار بنى جحجبى «2» . ونزل مصعب بن عمير بن هاشم أخو بنى عبد الدار على سعد بن معاذ ابن النعمان فى دار بنى عبد الأشهل. ونزل أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبى حذيفة، وعتبة بن غزوان بن جابر على عباد بن بشر بن وقش أخى بنى عبد الأشهل فى دار بنى عبد الأشهل. ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت ابن المنذر أخى حسان بن ثابت فى دار بنى النجار. وكان يقال: نزل العزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا.
ذكر اجتماع قريش فى دار الندوة، وتشاورهم فى شأن النبى صلى الله عليه وسلم، واتفاقهم على قتله، وحماية الله تعالى له، وخبر الشيخ النجدىّ، وهو إبليس، خزاه الله
قال محمد بن إسحاق، يرفعه إلى عبد الله بن عباس وغيره قالوا: لما «3» رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيع وأصحاب من غيرهم من غير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا، وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا فى دار الندوة- وهى دار قصىّ بن(16/326)
كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها- يتشاورون ما يصنعون فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» ، فلما اجتمعوا لذلك، واتّعدوا له، غدوا فى يوم الموعد، وهو اليوم المسمى يوم الزّحمة «2» ، فاعترضهم إبليس فى هيئة شيخ جليل عليه بتّ «3» - قال الواقدى: مشتمل «4» الصماء فى بتّ- قال: فوقف على باب الدار، فلما رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذى اتّعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألّا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا:
أجل، فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع أشراف قريش، وهم: عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وطعيمة بن عدىّ، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل، والنّضر بن الحارث بن كلدة، وأبو البخترىّ ابن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام، وأبو جهل ابن هشام، ونبيه ومنّبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، وغيرهم ممن لا يعدّ من قريش، فقال بعضهم لبعض: إنّ هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا ممن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا، فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: احبسوه فى الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله: زهير والنابغة، ومن مضى منهم حتى يصيبه ما أصابهم، فقال الشيخ النجدىّ: لا والله، ما هذا لكم برأى، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجنّ أمره من وراء الباب الذى أغلقتم(16/327)
دونه إلى أصحابه، ولأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى، فانظروا فى غيره، فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فو الله [ما «1» ] نبالى أين ذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه، أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدىّ: لا والله ما هذا لكم برأى، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به، والله لئن فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حىّ من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم ليسير بهم إليكم حتى يطأكم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد؛ دبّروا فيه رأيا غير هذا. فقال أبو جهل بن هشام: إنّ لى فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فتيا، ثم نعطى كلّ فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا، [فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا «2» ] ، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم. فقال النجدىّ: القول ما قال الرجل؛ هذا الرأى لا أرى «3» غيره.
وحكى أن هذا الرأى كان رأى الشيخ النجدىّ، وأنه لما أشار به قالوا:
كلّهم: صدق النجدىّ، صدق النجدىّ! والله أعلم.
قال: فتفرّق القوم وقد أجمعوا على ذلك.
فأتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر، وقال له:
لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه، قال: فلما كانت عتمة(16/328)
من الليل اجتمعوا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام، فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: «نم على فراشى، وتسجّ ببردى هذا الحضرمىّ الأخضر، فنم فيه؛ فإنه لن يخلص إليك شىء تكرهه منهم» .
قال: فقال أبو جهل ومن معه على الباب: إن محمدا يزعم أنكم إذا تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردنّ، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم نار تحرقون فيها. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب فى يده، ثم قال: «نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم» ، وأخذ الله على أبصارهم فلا يرونه، فجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يتلو هذه الآيات من سورة يس:
(يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)
. إلى قوله: (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)
«1» .
ولم يبق منهم رجل إلا وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا، قال: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كلّ رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا ينظرون فيه فيرون عليا على الفراش متسجّيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده. فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علىّ عن الفراش؛ فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذى حدّثنا.(16/329)
قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل من القرآن فى ذلك اليوم قوله تعالى:
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)
«1» وقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ.
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)
«2» .
ذكر ابتداء هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه
قال محمد بن إسحاق: لمّا هاجر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أقام هو بمكة بعدهم ينتظر الإذن من الله تعالى فى الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة إلا أبو بكر الصديق، وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما، ومن حبس أو فتن. وكان أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة كثيرا فيقول له: «لا تعجل لعلّ الله أن يجعل لك صاحبا» ، فيطمع أبو بكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعنى نفسه.
وروى عن عائشة أم المؤمنين بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى بيت أبى بكر أحد طرفى النهار إما بكرة وإما عشية، [حتى «3» ] إذا كان اليوم الذى أذن الله تعالى فيه لرسوله فى الهجرة والخروج من مكة أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فى ساعة كان لا يأتى فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل تأخر أبو بكر عن سريره،(16/330)
فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند أبى بكر إلا أنا وأختى أسماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج عنّى من عندك» قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاى، وما ذاك فداك أبى وأمى؟ قال: «إن الله أذن لى فى الخروج» .
فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله! قال: «الصحبة» . قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكى يومئذ، ثم قال: يا نبىّ الله، إن هاتين راحلتان كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أرقط- وقيل: الأريقط- الليثى وكان مشركا، يدلّهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. قال ابن إسحاق: ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا أبو بكر وآل أبى بكر، وعلى بن أبى طالب، أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده، حتى يؤدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس.
ذكر خبر الغار وما قيل فيه
قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور- جبل بأسفل مكة- فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى فى الغار، وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما.
قال ابن هشام: حدّثنى بعض أهل العلم أن الحسن بن أبى الحسن قال:
لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا دخل أبو بكر قبل(16/331)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس الغار لينظر أفيه سبع أو حيّة بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يردّه عليهم. وكان عبد الله بن أبى بكر يكون فى قريش يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون فى شأن النبىّ صلى الله عليه وسلم وأبى بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر يرعى فى رعاء من أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبى بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره الغنم حتى يعفّى عليه.
وقال محمد بن سعد بسنده إلى زيد بن أرقم وأنس بن مالك، والمغيرة بن شعبة رضى الله عنهم: إن النبىّ صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت فى وجه النبىّ صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت على وجهه فسترته، وأمر حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بأسيافهم وعصيّهم وهراواتهم حتى إذا كانوا من النبى صلى الله عليه وسلم قدر أربعين ذراعا، نظر أوّلهم فرأى الحمامتين فرجع فقال له أصحابه: مالك لم تنظر فى الغار؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحد.
فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله، فعرف أن الله عز وجل درأ عنه بهما.
وقال بعض من حضر فى طلبه: إن عليه من العنكبوت ما هو قبل ميلاد محمد.
وقال أبو بكر رضى الله عنه: فنظرت إلى أقدام المشركين ونحن فى الغار وهم على رءوسنا فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا، فقال:
«يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» ! قال: ومكثا فى الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر.(16/332)
قال محمد بن سعد: قالت عائشة رضى الله عنها: وجهزناهما أحبّ الجهاز، وصنعنا لهما سفرة فى جراب، فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فأوكأت به الجراب، وقطعة أخرى صيرتها عصاما لفم القربة؛ فلذلك سميت أسماء ذات النّطاقين.
قال محمد بن سعد بسند يرفعه إلى أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما أنها قالت:
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه احتمل ماله كلّه معه،- خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف- فانطلق بها معه، فدخل علينا جدّى أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قال فقلت:
كلّا يا أبت، إنه ترك لنا خيرا كثيرا. قالت أسماء: فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوّة البيت حيث كان أبى يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يا أبت يدك على هذا المال، فوضع يده عليه وقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفى هذا بلاغ لكم؛ فلا والله ما ترك لنا شيئا، ولكنى أردت أن أسكّن الشيخ بذلك. والله أعلم.
ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه من الغار، وتوجههما إلى المدينة، وما كان من أمر سراقة بن مالك، وأم معبد وغير ذلك إلى أن انتهيا إلى المدينة
كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه من الغار ليلة الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الأوّل، وذلك أنه لما مضت الأيام الثلاثة، وسكن عنهما الناس أتاهما عبد الله بن الأريقط براحلتيهما وبعير له، فقرّب أبو بكر رضى الله عنه الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدّم له أفضلهما «1»(16/333)
ثم قال: اركب فداك أبى وأمى يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنى لا أركب بعيرا ليس لى» ، قال: فهى لك يا رسول الله بأبى أنت وأمى! قال:
«لا ولكن ما الثمن الذى ابتعتها «1» به» ؟، قال: كذا وكذا، قال: «قد أخذتها بذلك» .
قال محمد بن سعد: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم من نعم بنى قشير، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما وهى القصواء.
قال ابن إسحاق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر رضى الله عنه مولاه عامر بن فهيرة خلفه ليخدمهما فى الطريق.
قال أبو بكر رضى الله عنه: أسرينا ليلتنا ويومنا حتى إذا قام قائم الظهيرة وانقطع الطريق، ولم يمرّ أحد، رفعت لنا صخرة لها ظلّ لم تأت عليه الشمس. قال: فسويت للنبىّ صلى الله عليه وسلم مكانا فى ظلها، وكان معى فرو ففرشته، وقلت للنبىّ صلى الله عليه وسلم: نم حتى أنفض ما حولك، فخرجت فإذا أنا براع قد أقبل يريد من الصخرة مثلما أردنا، وكان يأتيها قبل ذلك فقلت:
يا راعى، لمن أنت؟ قال: لرجل من أهل المدينة يعنى مكة، قال: قلت: هل فى شائك من لبن؟ قال: نعم، قال: فجاءنى بشاة فجعلت أمسح الغبار عن ضرعها وحلبت فى إداوة معى كثبة «2» من لبن، وكان معى ماء للنبىّ صلى الله عليه وسلم فى إدواة فصببت على اللبن من الماء لأبرده، فوافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام من نومه فشرب وقال: «ما آن الرحيل» ؟ قلت: بلى، قال: فأرسلنا حتى إذا كنا بأرض صلبة جاء سراقة بن مالك بن جعشم، فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله قد أتينا، قال: «كلا» ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتطم فرس سراقة- أى(16/334)
احتبس إلى بطنه- فقال: قد أعلم أن قد دعوتما علىّ فادعوا لى، ولكما علىّ أن أردّ الناس عنكما ولا أضرّكما. قال: فدعا له فرجع ووفى وجعل يردّ الناس ويقول: قد كفيتم ما هاهنا. وقد روى عن سراقة أنه قال لأبى جهل بن هشام:
أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادى إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأنّ محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه!
عليك بكف القوم عنه فإننى ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يودّ الناس فيه بأسرهم ... بأنّ جميع الناس طرا «1» تسالمه
وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى الزّهرى أنّ عبد الرحمن بن مالك ابن جعشم حدّثه عن أبيه عن عمه سراقة بن مالك قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة مهاجرا إلى المدينة، جعلت فيه قريش مائة ناقة لمن يردّه عليهم، فبينما أنا جالس فى نادى قومى أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مرّوا علىّ آنفا، إنى لأراهم محمدا وأصحابه، قال: فأومأت إليه بعينى أن اسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالّة لهم، قال: لعله «2» . ثم قمت فدخلت بيتى وأمرت بفرسى فقيد إلى بطن الوادى، وأمرت بسلاحى فأخرج من دبر حجرتى، ثم أخذت قداحى التى «3» أستقسم بها، ثم انطلقت فلبست لأمتى، ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها، فخرج السهم الذى أكره: «لا يضره» ، قال: وكنت أرجو أن أردّه على قريش فآخذ المائة، فركبت الفرس فى أثره، فبينما فرسى يشتدّ بى عثر فسقطت عنه، فقلت: ما هذا؟ ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها فخرج السهم(16/335)
الذى أكره «لا يضره» ، قال فأبيت إلا أن أتبعه فركبت فى أثره، فلما بدا لى القوم ورأيتهم عثر بى فرسى فذهبت يداه فى الأرض وسقطت عنه، ثم انتزع يده من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع منّى وأنه ظاهر، فناديت القوم: أنا سراقة بن جعشم، أنظرونى أكلّمكم، فو الله لا يأتينكم منى شىء تكرهونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «قل له وما تبتغى منا» ؟ فقال لى ذلك أبو بكر، قلت: تكتب لى كتابا يكون بينى وبينك، قال:
«اكتب له يا أبا بكر» ، فكتب لى كتابا فى عظم أو فى رقعة أو فى خرقة ثم ألقاه إلىّ فأخذته فجعلته فى كنانتى، ثم رجعت فلم أذكر شيئا مما كان، حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرغ من حنين والطائف، فرحت ومعى الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرّانة «1» ، فدخلت فى كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعوننى بالرماح ويقولون: إليك إليك ماذا تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، والله إنى لأنظر إلى ساقه فى غرزه «2» كأنها جمارة، فرفعت يدى بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله، هذا كتابك أنا سراقة بن جعشم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم وفاء وبرّ، ادنه» ، قال فدنوت منه فأسلمت. والله الهادى للصواب.
ومروا على خيمتى أم معبد الخزاعية، واسم أمّ معبد عاتكة بنت خالد بن منقذ ابن ربيعة، ويقال: عاتكة بنت خالد بن خليف»
، وكانت برزة «4» جلدة تجلس بفناء(16/336)
القبة «1» تسقى وتطعم، فسألوها تمرا ولحما يشترونه منها، فلم يصيبوا عندها من ذلك شيئا، وكان القوم مرملين مسنتين «2» ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة فى كسر الخيمة، فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد» ؟ قالت: شاة خلّفها الجهد عن الغنم، قال: «هل بها من لبن» ؟ قالت: هى أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين أن أحلبها» ؟ قالت: نعم، بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمّى الله، ودعا لها فى شاتها، فتفاجّت عليه- أى فتحت ما بين رجليها- ودرّت، ودعا بإناء يربض الرّهط- أى يرويهم- فحلب فيه ثجاّ «3» ثم سقاها حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب إناء حتى ملأه ثم غادره عندها، وبايعها وارتحلوا عنها، وأصبح صوت بمكة عال يسمعونه، ولا يدرون من صاحبه وهو يقول:
جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا «4» خيمتى أمّ معبد
هما نزلا بالبرّ وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيا لقصىّ ما زوى «5» الله عنكم ... به من فعال لا تجارى «6» وسودد
ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرضد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلّبت ... له بصريح «7» ضرّة «8» الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب ... تدرّ بها فى مصدر ثم مورد «9»(16/337)
قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل أسفل من عسفان «1» ، ثم سلك بهما أسفل أمج «2» ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا «3» ، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرّار «4» ، ثم سلك بهما ثنية المرة «5» ، ثم سلك بهما لقفا «6» - ويقال لفتا «7» - ثم أجاز بهما مدلجة «8» لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاج «9» ، ثم سلك بهما مرجح مجاج، ثم تبطّن بهما [مرجح «10» ] من ذى الغضوين «11» ، ويقال: العصوين، ثم بطن ذى كشر «12» ، ثم أخذ بهما على الجداجد «13» ، ثم على الأجرد «14» ، ثم سلك بهما ذا سلم «15» [من بطن «16» ] أعداء مدلجة تعهن «17» ، ثم على العبابيد- ويقال: العبابيب. ويقال:(16/338)
العثيانة- ثم أجاز بهما الفاجّة «1» ، ويقال: القاحة، ثم هبط بهما العرج «2» ، وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: أوس بن حجر على جمل له إلى المدينة، وبعث معه غلاما له يقال له: مسعود بن هنيدة، ثم خرج بهما دليلهما من العرج، فسلك ثنية العائر عن يمين ركوبة «3» - ويقال الغابر- حتى هبط بهما [بطن «4» ] رئم، ثم قدم بهما قباء على بنى عمرو بن عوف. قال الشيخ شرف الدين الدمياطى: وكان عبد الله بن الأريقط على كفره، ولم يعلم له إسلام.
ذكر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه إلى المدينة
قال محمد بن إسحاق: كان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين الضّحا، وكادت الشمس تعتدل، وهو صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث وخمسين سنة، وذلك بعد أن بعثه الله تعالى بثلاث عشرة سنة. وقال الخوارزمىّ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا يوم الاثنين، وهو اليوم الثامن من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين من عام الفيل، ويوم عشرين من أيلول، فكان من مبعثه إلى يوم هاجر ودخل المدينة ثلاث عشرة سنة كاملة. قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا بخروجه من مكة وتوكّفوا «5» قدومه، يخرجون إذا صلوا(16/339)
الصبح إلى ظاهر الحرّة ينتظرونه، فلا يبرحون حتى تغلبهم الشمس على الظلال فيدخلون، وذلك فى أيام حارة، حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا على عادتهم، حتى إذا لم يبق ظل دخلوا بيوتهم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلوا البيوت، فكان أول من رآه رجل من يهود، فصرخ بأعلى صوته: يا بنى قيلة «1» ، هذا جدكم قد جاء، قال: فخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضى الله عنه فى مثل سنّه، وأكثر الأنصار لم يكن يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، فأقبل الناس وما يعرفون من أبى بكر، حتى إذا زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفوه عند ذلك، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن هدم أخى بنى عمرو بن عوف، وهو الأصح، وكان إذا خرج من منزل كلثوم جلس للناس فى بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له، وكان منزل العزّاب من المهاجرين، ونزل أبو بكر الصديق رضى الله عنه على خبيب بن إساف أحد بنى الحارث بن الخزرج بالسّنح. وقيل: بل نزل على خارجة بن زيد. وأقام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بمكة ثلاث ليال، حتى أدّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه على كلثوم بن هدم، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء من يوم الاثنين إلى آخر يوم الخميس أربعة أيام.(16/340)
ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء وتحوله إلى المدينة، وصلاته الجمعة، ونزوله على أبى أيوب خالد بن زيد
قال محمد بن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة من منزل كلثوم فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف، فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى، وادى رانوناء «1» ، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة. قال محمد بن سعد:
صلاها بمن كان معه من المسلمين وهم مائة. قال ابن إسحاق: فأتاه عتبان بن مالك، وعباس بن عبادة بن نضلة، فى رجال من بنى سالم بن عوف، فقالوا:
يا رسول الله، أقم عندنا فى العدد والعدّة والمنعة، قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة، اعترضه سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو فى رجال من بنى ساعدة، فقالوا مثل ذلك، وقال مثل ما قال لأولئك، فخلوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا وازنت دار بنى الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن رواحة فى رجال من بلحارث من الخزرج، فقالوا مثل ذلك، وقال مثل ما قال، فخلوا سبيلها فانطلقت، حتى إذا مرت بدار بنى عدىّ بن النجار وهم أخواله اعترضه سليط بن قيس، وأبو سليط أسيرة بن أبى خارجة «2» فى رجال من بنى عدىّ بن النجار، فقالوا: يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدّة والمنعة، فقال كما قال لأولئك، فخلوا سبيلها فانطلقت، حتى إذا أتت دار بنى مالك بن النجار بركت على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ مربد «3» لغلامين يتيمين من بنى النجار، فى حجر(16/341)
معاذ بن عفراء وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، فلما بركت ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل، فسارت غير بعيد، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تحلحلت «1» ورزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه فى بيته، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى: لما بركت الناقة جعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النزول عليهم، وجاء أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب فحطّ رحله فأدخله منزله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع رحله» ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده، قال زيد بن ثابت: فأول هدية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منزل أبى أيوب هدية دخلت بها إناء قصعة مثرود فيها خبز وسمن ولبن، فقلت: أرسلت بهذه القصعة أمّى، فقال: «بارك الله فيك» ، ودعا أصحابه فأكلوا، فلم أرم «2» الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة؛ ثريد وعراق «3» ، وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام، يتناوبون ذلك حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبى أيوب، وكان مقامه فيه سبعة أشهر.
وقال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بنى له فيها مسجده ومساكنه. والله أعلم.(16/342)
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبى أيوب زيد بن حارثة، وأبا رافع، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم، فقدما إلى مكة لفاطمة وأم كلثوم عليهما السلام ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وحمل زيد بن خارثة امرأته أمّ أيمن مع ابنها أسامة بن زيد، وخرج عبد الله بن أبى بكر معهم بعيال أبى بكر فيهم عائشة، فقدموا المدينة فأنزلهم فى بيت حارثة بن النعمان، وكانت رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحبشة مع زوجها عثمان بن عفان. قال ابن إسحاق بسنده إلى أبى أيوب قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتى نزل فى السّفل، وأنا وأم أيوب فى العلو، فقلت له: يا نبىّ الله، بأبى أنت وأمى، إنى أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتى، فاظهر أنت وكن فى العلو، وننزل نحن ونكون فى السّفل، فقال:
«يا أبا أيوب، إنّ أرفق بنا ومن يغشانا أن نكون فى سفل البيت» ، قال: فلقد انكسر حبّ «1» لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننّشف بها الماء؛ تخوّفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه، قال:
وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا ردّ علينا فضله تيمّمت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه، نبتغى بذلك البركة حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه، وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما، قال: فردّه ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا، فقلت: يا رسول الله بأبى أنت وأمى، رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك؟ فكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك للبركة، قال: «فإنى وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجى «2» فأما أنتم فكلوه» ، فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة.
والله المستعان.(16/343)
ذكر بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيوته بالمدينة
قال محمد بن سعد عن محمد بن عمر بن واقد قال: حدّثنى معمر بن راشد عن الزهرىّ قال: بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع المسجد، وهو يومئذ يصلى فيه رجال من المسلمين، وكان مربدا لسهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار، وكانا فى حجر أبى أمامة أسعد بن زرارة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلامين فساومهما بالمربد ليتّخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما. قال ابن سعد: وقال غير معمر عن الزهرى: فابتاعه بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك، فكان جدارا مجدّرا ليس عليه سقف، وقبلته إلى بيت المقدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، فكان يصلى بأصحابه فيه، ويجمّع بهم فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذى بالحديقة وبالغرقد الذى فيه أن تقطع، وأمر باللبن فضرب، وكان فى المربد قبور جاهلية فأمر بها فنبشت، وبالعظام أن تغيّب، وكان فى المربد ماء مستنجل «1» فسيّروه حتى ذهب، فأسّس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وأسسوا معه، فجعلوا طوله مما يلى القبلة إلى مؤخّره مائة ذراع، وفى هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربّع، ويقال: كان أقل من المائة، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة؛ ثم بنوه باللّبن، وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل ينقل الحجارة معهم بنفسه، ويقول: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرين، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار» قال: وقال قائل من المسلمين يرتجز:
لئن قعدنا والنبىّ يعمل ... لذاك منّا العمل المضلّل(16/344)
قال: ودخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن فقال: يا رسول الله، قتلونى؛ يحملون علىّ ما لا يحملون، قالت أم سلمة: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته «1» بيده، وكان رجلا جعدا، ويقول: «ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما تقتلك الفئة الباغية» ، قال ابن سعد: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلة المسجد إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابا فى مؤخره، وبابا يقال له:
باب الرحمة، وهو الباب الذى يدعى باب عاتكة، والباب الثالث الذى يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل طول الجدار بسطة، وعمده الجذوع، وسقفه جريدا، فقيل له: ألا تسقّفه؟ فقال: «عريش «2» كعريش موسى خشيبات وثمام «3» الشأن أعجل من ذلك» قال: وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن، وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء، بنى لعائشة رضى الله عنها [فى البيت الذى يليه شارع إلى المسجد «4» ] على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة «5» .
ذكر بناء المسجد الذى أسّس على التقوى وهو مسجد قباء
قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى بسنده إلى سهل بن سعد وأبى غزيّة وأبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنهم قال: لما صرفت القبلة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء فقدّم جدار المسجد إلى موضعه اليوم وأسّسه، وقال:(16/345)
«جبريل يؤمّ بى البيت» ، ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحجارة لبنائه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت ماشيا، وقال صلى الله عليه وسلم:
«من توضأ فأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان له أجر عمرة» ، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يأتيه يوم الاثنين ويوم الخميس، وقال: لو كان بطرف من الأطراف لضربنا إليه أكباد الإبل. قال: وكان أبو أيوب يقول:
هذا المسجد الذى أسس على التقوى. وكان أبىّ بن كعب وغيره يقولون: بل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر ما أصاب المهاجرين من حمّى المدينة، ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم
روى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهى أوبأ أرض الله من الحّمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم. قالت: فكان أبو بكر رضى الله عنه، وعامر بن فهيرة وبلال، موليا أبى بكر مع أبى بكر فى بيت واحد فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا [الحجاب «1» ] وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدّة الوعك، فدنوت من أبى بكر فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ فقال:
كلّ امرئ مصبّح فى أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
قالت: فقلت والله ما يدرى أبى ما يقول، ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة، فقلت:
كيف تجدك يا عامر؟ فقال:(16/346)
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقه «1»
كلّ امرئ مجاهد بطوقه ... كالثّور يحمى جلده بروقه «2»
فقلت: والله ما يدرى عامر ما يقول؛ قالت: وكان بلال إذا تركته الحمّى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته «3» فيقول:
ألا البيت شعرى هل أبيتنّ ليلة ... بفجّ «4» وحولى إذخر «5» وجليل «6»
وهل أردن يوما مياه مجنّة «7» ... وهل يبدون لى شامة «8» وطفيل
قالت عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم، فقلت: إنهم ليهذون، وما يعقلون من شدّة الحمى، فقال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشدّ، وبارك لنا فى مدّها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة» ؛ وهى الحجفة.
ذكر مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار
كان ذلك بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ روى محمد بن سعد عن الزهرىّ وغيره قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحقّ والمواساة، يتوارثون بعد الممات دون ذوى الأرحام، وكانوا تسعين رجلا؛ خمسة(16/347)
وأربعون من المهاجرين، وخمسة وأربعون من الأنصار، قال ويقال: مائة؛ خمسون من المهاجرين، وخمسون من الأنصار، فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى:
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
«1» .
فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة فى الميراث.
ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أمر بكتبه بين المهاجرين والأنصار، وموادعة يهود، وإقرارهم على دينهم، وما اشترطه فيه عليهم ولهم
كان مضمون الكتاب على ما أورده ابن هشام عن ابن إسحاق: «بسم الله الرحمن للرحيم، هذا كتاب من محمد النبىّ [صلى الله عليه وسلم «2» ] بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم «3» يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم «4» بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم «5» الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تقدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها(16/348)
بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النّجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، [وبنو النّبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين «1» ] وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا»
بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل، وإنه لا يحالف «3» مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى «4» دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين؛ وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا فى كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس، وإنه من [تبعنا «5» من] يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة «6» ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن فى قتال فى سبيل الله عزّ وجل إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا، وإن المؤمنين يبىء «7» بعضهم عن بعض؛ بما نال دماءهم فى سبيل الله عزّ وجل،(16/349)
وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن، وإن من اعتبط «1» مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولىّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافّة، ولا يحل لهم [إلا «2» ] القيام عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما فى هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وإن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شىء فإن مردّه إلى الله وإلى محمد [صلى الله عليه وسلم «3» ] وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم؛ إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ «4» إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف، [وإن ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى جشم مثل ما ليهود بنى عوف «5» ] ، وإن ليهود بنى الأوس مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى ثعلبة مثل ما ليهود بنى عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من بنى ثعلبة [كأنفسهم «6» ] وإن لبنى الشّطنّة مثل ما ليهود بنى عوف، وإن البرّ دون الإثم، وإن موالى ثعلبة كأنفسهم، وإنّ بطانة «7» يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من قتل فبنفسه [فتك، وأهل بيته «8» ] إلا من ظلم، وإن الله على أبّر هذا «9» ، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، [وإن بينهم النصح والنصيحة، والبرّ دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ(16/350)
بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة «1» ] ، وإن الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب فى الدين، على كل أناس «2» حصّتهم من جانبهم الذى قبلهم، وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة- ويقال مع البر المحسن- وإن البرّ دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما فى هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم ولا آثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن برّ واتّقى ومحمد رسول الله» .
ذكر أخبار المنافقين من الأوس والخزرج وما أنزل فيهم من القرآن
وقد رأيت أن أجمع ما فرقه أهل السير من أخبار المنافقين، وأضم بعضه إلى بعض، وأورده جملة واحدة، فإن ذلك لم يكن فى وقت واحد ولا فى سنة بعينها، بل أورده أهل السير بحسب ما وقع، وفرقوه فى الغزوات وغيرها، فآثرت جمعه فى هذا الموضع، وما كان قد وقع فى غزاة أو حادثة نبهت عليه فى موضعه على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.(16/351)
قال محمد بن إسحاق رحمه الله: كان رجال من الأوس والخزرج ممن أسلم وهو على جاهليته، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعثة، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره، واجتماع قومهم عليه، فظهروا بالإسلام، واتخذوه جنّة من القتل، ونافقوا فى السّر، وكان هواهم مع يهود؛ لتكذيبهم وجحودهم الإسلام، فكان منهم من الأوس من بنى عمرو بن عوف، ثم من بنى لوذان بن عمرو بن عوف:
زوىّ بن الحارث، ومن بنى حبيب بن عمرو: جلاس بن سويد بن صامت، وأخوه الحارث بن سويد، قال: وجلاس هو الذى قال عند تخلفه عن غزوة تبوك: لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شرّ من الحمير، فرفع ذلك من قوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد، وكان فى حجر جلاس خلف على أمه بعد أبيه، فلما تكلم جلاس بهذا قال له عمير: والله يا جلاس، إنك لأحبّ الناس إلىّ، وأحسنهم عندى يدا، وأعزّهم علىّ أن يصيبه شىء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنّك، ولئن صمتّ عليها ليهلكن دينى، ولإحداهما أيسر علىّ من الأخرى، ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال، فحلف جلاس لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالله لقد كذب علىّ عمير، وما قلت ما قال، فأنزل الله تعالى فيه: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)
«1» ، قال ابن إسحاق: فزعموا أنه تاب فحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير. والله أعلم بالصواب.(16/352)
وأما أخوه الحارث بن سويد فإنه قتل المجذّر بن ذياد البلوىّ فى يوم أحد ولحق بقريش، وكان المجذّر قتل سويد بن صامت فى بعض الحروب التى كانت بين الأوس والخزرج، فلما كان يوم أحد قتله بأبيه. قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما يذكرون- أمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقتله إن هو ظفر به ففاته، وكان بمكة ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه، فأنزل الله فيه- فيما حكى عن ابن عباس رضى الله عنهما: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
«1» إلى آخر القصة. وكان من المنافقين من بنى ضبيعة ابن يزيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بجاد بن عثمان بن عامر. ونبتل ابن الحارث، وهو الذى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى: «من أحبّ أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث» ، وكان رجلا جسيما أدلم «2» ، ثائر شعر الرأس، أحمر العينين، أسفع «3» الخدّين، وكان يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحدث إليه ويسمع منه، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذى قال: إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه. فأنزل الله تعالى فيه: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
«4» ، وأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم به وبصفته فيما حكاه ابن إسحاق. وأبو حبيبة بن الأزعر، وكان ممن بنى مسجد الضّرار. وثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، وهما اللذان عاهدا الله (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ)
«5» ، ومعتّب هو الذى(16/353)
قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا ها هنا، فأنزل الله تعالى فى ذلك من قوله: (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ)
«1» إلى آخر القصة. وهو الذى قال يوم الأحزاب: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط، فأنزل الله فيه: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)
«2» . والحارث بن حاطب- وقال ابن هشام: ثعلبة والحارث ابنا حاطب، هما من بنى أمية بن زيد من أهل بدر، وليسا من المنافقين- والله أعلم. ومنهم عبّاد بن حنيف أخو سهل، وبحزج؛ وهو ممن بنى مسجد الضّرار، وعمرو بن خذام، وعبد الله بن نبتل، وجارية بن عامر ابن العطّاف وابناه زيد ومجّمع؛ وهم ممن بنى مسجد الضّرار. وكان مجمّع غلاما حدثا قد جمع من القرآن أكثره، فكان يصلى بهم فيه، فلما كان فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه كلّم عمر فى مجمّع ليصلى ببنى عمرو بن عوف فى مسجدهم، فقال عمر: لا، أو ليس بإمام المنافقين فى مسجد الضّرار! فقال: يا أمير المؤمنين والله الذى لا إله إلا هو ما علمت بشىء من أمرهم إلا على أحسن ما ذكروا؛ فزعموا أن عمر تركه يصلى بقومه. ومن بنى أمية بن زيد بن مالك وديعة بن ثابت وهو ممن بنى مسجد الضّرار، وهو الذى قال: إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيه وفيمن قال بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ)
«3» إلى آخر القصة.
ومن بنى عبيد بن زيد بن مالك خذام بن خالد، وهو الذى أخرج مسجد الضّرار من داره، وبشر ورافع ابنا زيد. ومن بنى النّبيت مربع بن قيظىّ وهو الذى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز حائطه، ورسول الله(16/354)
صلى الله عليه وسلم عامد إلى أحد: لا أحلّ لك يا محمد إن كنت نبيّا أن تمرّ بحائطى، وأخذ فى يده حفنة من تراب ثم قال: والله لو أعلم أنى لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به؛ فآبتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«دعوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصيرة» ، وضربه سعد بن زيد بالقوس فشجّه؛ وأخوه أوس بن قيظىّ، وهو الذى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: إن بيوتنا عورة، فأذن لنا أن نرجع إليها، فأنزل الله تعالى فيه: (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً)
«1» . ومن بنى ظفر- واسم ظفر كعب- حاطب بن أمية بن رافع، وبشير بن أبيرق، وهو أبو طعمة سارق الدّرعين الذى أنزل الله فيه: (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً)
«2» . وقزمان حليف لهم. قال ابن إسحاق بسنده: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنه لمن أهل النار» ، فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا حتى قتل تسعة من المشركين، وأثبتته الجراحة، فحمل إلى دار بنى ظفر، فقال له رجال من المسلمين: أبشر يا قزمان، فقد أبليت اليوم، وقد أصابك ما ترى فى الله، قال:
بماذا أبشّر، والله ما قاتلت إلا حميّة عن قومى، فلما اشتدّت به جراحه أخذ سهما من كنانته، فقطع به رواهش يده فقتل نفسه. قال ابن إسحاق: ولم يكن فى بنى عبد الأشهل منافق ولا منافقة إلا أن الضحاك بن ثابت أحد بنى كعب رهط سعد بن زيد قد كان يتّهم بالنفاق وحبّ يهود. قال ابن إسحاق: وكان جلاس ابن سويد قبل توبته، ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر، هم الذين دعاهم رجال من قومهم من المسلمين فى خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوهم إلى حكّام الجاهلية فأنزل الله فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ(16/355)
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً)
«1» إلى آخر القصة. فهؤلاء الذين ذكرناهم من الأوس.
ومن الخزرج من بنى النجار رافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو ابن قيس، وقيس بن عمرو بن سهل. ومن بنى جشم بن الخزرج الجدّ بن قيس، وهو الذى يقول: يا محمد ائذن لى ولا تفتنّى، فأنزل الله تعالى فيه: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)
«2» ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال له وهو فى جهازه إلى تبوك:
«يا جدّ، هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر» ؟ قال: يا رسول الله، أو تأذن لى ولا تفتنّى؟ فو الله لقد عرف قومى أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أذنت لك» ، فأنزل الله تعالى فيه ما أنزل. ومن بنى عوف بن الخزرج عبد الله بن أبىّ بن سلول، وكان رأس المنافقين وكانوا يجتمعون إليه. قال محمد بن إسحاق: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وسيد أهلها عبد الله بن أبىّ بن سلول، لا يختلف عليه فى شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين- حتى جاء الإسلام- غيره؛ قال: ومعه رجل من الأوس هو فى قومه شريف مطاع، وهو أبو عامر عبد الله ابن عمرو بن صيفىّ بن النعمان، أحد بنى ضبيعة بن زيد، وهو أخو حنظلة الغسيل «3» وكان قد ترهّب فى الجاهلية ولبس المسوح، وكان يقال له: الراهب، فشقيا بشرفهما.(16/356)
فأما عبد الله بن أبىّ فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ثم يملّكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرّا على نفاق. وقد روى عن [أسامة ابن زيد «1» ] بن حارثة قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكوى أصابته، على حمار عليه إكاف فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف، وأردفنى صلى الله عليه وسلم خلفه، قال: فمر بعبد الله بن أبىّ بن سلول، وهو فى ظلّ مزاحم «2» أطمه، وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تذمّم «3» من أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلّم ثم جلس فتلا القرآن، ودعا إلى الله عزّ وجلّ، وذكّر بالله وحذّر وبشّر وأنذر، قال: وهو زامّ «4» لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقّا، فاجلس فى بيتك فمن جاءك له فحدّثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغشه به، ولا تأته فى مجلسه بما يكره منه. فقال عبد الله بن رواحة فى رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى فاغشنا به وأتنا فى مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله ما نحبّ، وما أكرمنا الله به وهدانا له، فقال عبد الله حين رأى من خلاف قومه ما رأى:
متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل ... تذلّ ويصرعك الذين تصارع
وهل ينهض البازى بغير جناحه ... وإن جذّ يوما ريشه فهو واقع
قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على سعد بن عبادة وفى وجهه ما قال عدوّ الله، فقال سعد: والله يا رسول الله، إنى لأرى فى وجهك شيئا؛ لكأنك(16/357)
سمعت شيئا تكرهه. قال: «أجل» ، ثم أخبره بما قال ابن أبىّ، فقال: يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإنا لننظم له الخرز لنتوّجه، فإنه ليرى أنك قد سلبته ملكا. وكانت مقالة عبد الله بن أبىّ هذه قبل تلفظه بالإسلام، وسنورد إن شاء الله تعالى من أخباره فى الغزوات، وانحيازه عن المسلمين بثلث الناس يوم أحد، وما قاله فى غزوة المريسيع وغيرها ما تقف عليه فى مواضعه، مما تستدل به على صحة نفاقه، وإصراره فى الباطن على كفره. وأما أبو عامر فإنه أبى إلا الإصرار على كفره، وفارق قومه حين اجتمعوا على الإسلام، فخرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وهو أوّل من أنشب الحرب يوم أحد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وكان أبو عامر قد أتى النبى صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فقال: ما هذا الذى جئت به؟ قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم» ، قال: فأنا عليها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لست عليها» ، قال: بلى، إنك أدخلت يا محمد فى الحنيفية ما ليس منها، قال: «ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية» ، قال: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا- يعرّض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أى إنك ما جئت بها كذلك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل، فمن كذب يفعل الله به ذلك» ، فكان هو ذاك؛ خرج إلى مكة، فلما افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، فمات به طريدا غريبا وحيدا.
ومن المنافقين من أحبار يهود
ممن تعوّذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق: سعد ابن حنيف، وزيد بن اللّصيت، ونعمان بن «1» أوفى، وعثمان بن أبى أوفى. وزيد(16/358)
ابن اللّصيت هو الذى قاتل عمر بن الخطاب بسوق بنى قينقاع، وهو الذى قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء، ولا يدرى أين ناقته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وجاءه الخبر بما قال ودلّه الله عليها-: «إن فلانا قال: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء ولا يدرى أين ناقته، وإنى والله لا آتيكم إلا ما علمنى الله، وقد دلنى الله عليها، وهى فى هذا الشّعب، قد حبستها شجرة بزمامها» ، فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وصف. ومنهم رافع بن حريملة وهو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات: «قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين» . ورفاعة [بن زيد «1» ] بن التابوت، وهو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هبت ريح وهو قافل من غزوة بنى المصطلق واشتدّت، حتى أشفق منها المسلمون: «لا تخافوا، فإنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار» ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد رفاعة بن زيد مات ذلك اليوم الذى هبت فيه الريح. وسلسلة بن برهام، وكنانة بن صوريا.
وكان هؤلاء يحضرون المسجد يسمعون أحاديث المسلمين، ويسخرون منهم، ويستهزئون بدينهم. قال ابن إسحاق: فاجتمع يوما منهم فى المسجد ناس، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدّثون بينهم بأقصى أصواتهم «2» ، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا؛ فقام أبو أيوب خالد بن زيد إلى عمرو بن قيس احد بنى النجار- وكان صاحب آلهتهم فى الجاهلية- فأخذ برجله يسحبه حتى أخرجه من المسجد، وهو يقول: أتخرجنى يا أبا أيوب من مربد بنى ثعلبة! ثم أقبل أبو أيوب أيضا إلى رافع بن وديعة أحد بنى النجار فلبّبه(16/359)
بردائه، ثم نتره «1» نترا شديدا، ولطم وجهه وأخرجه، وهو يقول: أفّ لك منافقا خبيثا! أدراجك «2» يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام عمارة ابن حزم إلى زيد بن عمرو- وكان رجلا طويل اللحية- فأخذ بلحيته فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه، ثم جمع عمارة يديه فلدمه «3» بها فى صدره لدمة خرّ منها، فقال:
خدشتنى يا عمارة، قال: أبعدك الله يا منافق، فما أعدّ الله لك من العذاب أشدّ من ذلك، فلا تقر بن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام أبو محمد مسعود ابن أوس من بنى النجار إلى قيس بن عمرو بن سهل، وكان قيس غلاما شابا ولا يعلم فى المنافقين شاب غيره، فجعل يدفع فى قفاه حتى أخرجه. وقام عبد الله ابن الحارث من بلخدرة «4» رهط أبى سعيد الخدرىّ إلى الحارث بن عمرو، وكان ذا جمّة، فأخذ بجمّته فسحبه بها سحبا عنيفا على مامر به من الأرض حتى أخرجه، فقال له: لقد أغلظت يابن الحارث، فقال له: إنك أهل لذلك- أى عدوّ الله- لما أنزل فيك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك نجس. وقام رجل من بنى عمرو بن عوف إلى أخيه زوىّ بن الحارث فأخرجه إخراجا عنيفا، وأفّف «5» منه، وقال: غلب عليك الشيطان وأمره.
قال: فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ من المنافقين؛ وفى هؤلاء من المنافقين، وفى أحبار يهود أنزل الله تعالى صدر سورة البقرة إلى المائة منها؛ والله أعلم.
فالذى منها مما يختص بالمنافقين قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)
«6» إلى قوله: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
«7» . وقوله:(16/360)
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)
«1» أى شك فزادهم الله شكا. وقوله: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)
«2» لأنهم كانوا يقولون:
إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. وقوله: (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ)
أى من تهود (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)
أى على مثل ما أنتم عليه (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)
«3» أى إنما نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. ثم ضرب الله لهم مثلا فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)
«4» الآية؛ أى يبصرون الحقّ ويقولون به، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم الله فى ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حقّ. ثم قال تعالى:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)
«5» أى عن الخير، لا يرجعون إلى هدى. وقوله:
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)
«6» الصّيّب: المطر. قال ابن إسحاق:
أى هم من ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل، على الذى هم عليه من الخلاف والتخوف لكم، على مثل ما وصف، من الذى هو فى ظلمة الصّيّب، يجعل أصابعه فى أذنيه من الصواعق حذر الموت. (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)
أى منزل ذلك بهم من النقمة. قوله: (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ)
أى لشدة ضوء الحقّ (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا)
أى يعرفون الحقّ ويتكلمون به، فهم من قولهم على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين.
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)
«7» أى لما تركوا الحقّ بعد معرفته. والله تعالى أعلم بالصواب.(16/361)
وحيث ذكرنا ما ذكرنا من أخبار المنافقين، فلنذكر أخبار يهود، ونجمع ما تفرق منها على نحو ما تقدّم.
ذكر شىء من أخبار يهود الذين نصبوا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل فيهم من القرآن
قال: لما أظهر الله تعالى دينه، واطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، اجتمع إليه إخوانه من المهاجرين والأنصار، واستحكم أمر الإسلام، نصبت احبار يهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا، مع تحققهم نبوته، وصحة رسالته، وأنه الذى نص الله تعالى عليه فى التوراة؛ فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنّتونه، وهم من بنى النضير: حيىّ بن أخطب، وأخواه أبو ياسر وحدىّ، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، والربيع ابن الربيع بن أبى الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف، والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وكردم بن قيس حليفه أيضا. ومن بنى ثعلبة بن الفطيون «1» - ويقال فيه الفطيوس- عبد الله بن صوريا الأعور، وهو أعلم أهل زمانه بالحجاز بالتوراة، وابن صلوبا، ومخيريق، وكان حبرهم. ومن بنى قينقاع: زيد بن الصّليت- ويقال فيه اللّصيت- وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان، وعزيز ابن أبى عزيز، وعبد الله بن صيف- ويقال ابن ضيف- وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضا، وبحرىّ بن عمرو، وشاس ابن عدىّ بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، وسكين بن أبى سكين، وعدىّ بن زيد، ونعمان بن أبى أوفى، أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن صيف، وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبى رافع، وخالد، وأزار بن(16/362)
أبى أزار- ويقال فيه: آزر بن أبى آزر- ورافع بن حارثة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد، وعبد الله بن سلام بن الحارث؛ وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله.
ومن بنى قريظة الزبير بن باطا بن وهب، وعزّال بن سموال، وكعب ابن أسد. وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو، والنّحّام بن زيد، وقردم بن كعب، ووهب بن زيد، ونافع بن أبى نافع، وأبو نافع، وعدىّ بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة، وجبل بن أبى قشير، ووهب بن يهوذا.
ومن يهود بنى زريق لبيد بن أعصم الساحر. ومن يهود بنى الحارثة: كنانة ابن صوريا. ومن يهود بنى عمرو بن عوف قردم بن عمرو. ومن يهود بنى النجار:
سلسلة بن برهام؛ هؤلاء أحبار يهود، وأهل العداوة لله تعالى ولرسوله، لم يستثن منهم إلا عبد الله بن سلام ومخيريق، فإنهما أسلما. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع.
ذكر إسلام عبد الله بن سلام «1» ، ومخيريق
أمّا عبد الله بن سلام فإنه كان عالما حبرا من أحبار يهود؛ حكى محمد بن إسحاق عن خبر إسلامه رواية عن بعض أهله عنه قال: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته وإسلامه وزمانه الذى كنا نتوكّف «2» له، فكنت مسرّا لذلك صامتا عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة،(16/363)
فلما نزل بقباء فى بنى عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا على رأس نخلة أعمل فيها، وعمتى خلدة «1» بنت الحارث تحتى جالسة، فلما سمعت الخبر كبّرت؛ فقالت عمتى حين سمعت تكبيرى: خيبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت. قال: قلت لها: أى عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به؛ قالت: أى ابن أخى، هذا النبى الذى كنا نخبر به أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قلت نعم؛ قالت: فذاك إذا؛ قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت؛ فلما رجعت إلى أهل بيتى فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامى من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنّ يهود قوم بهت «2» ، وإنى أحبّ أن تدخلنى بعض بيوتك فتغيّبنى عنهم، ثم تسألهم عنى حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامى، فإنهم إن علموا به بهتونى؛ قال: فأدخلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض بيوته، ودخلوا عليه فكلموه وساءلوه ثم قال لهم: «أىّ رجل الحصين بن سلام فيكم» ؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وعالمنا؛ فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فو الله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة باسمه وصفته، فإنى أشهد أنه رسول الله، وأو من به، وأصدقه وأعرفه؛ فقالوا: كذبت، ثم وقعوا بى، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؛؟ قال: وأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى، وأسلمت عمتى خلدة بنت الحارث فحسن إسلامها.(16/364)
وأمّا مخيريق- قال ابن إسحاق: كان حبرا عالما، وكان غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد فى علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحد وهو يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أنّ نصر محمد عليكم لحقّ؛ قالوا: إنّ اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت فى هذا اليوم فأموالى لمحمد يصنع فيها ما أراه الله؛ فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى يقول: «مخيريق خير يهود» ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فعامّة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها.
قال: وكان مما أنزل الله تعالى فى أمر اليهود صدرا من سورة البقرة، من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)
«1» أى إنهم قد كفروا بما عندك من ذكر لهم، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يستمعون منك إنذارا أو تحذيرا! وقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)
أى عن الهدى لن يصيبوه أبدا، (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)
«2» أى بما هم عليه من خلافك.
وقوله تعالى: (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ(16/365)
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
«1» ، أى لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولى وبما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التى بأيديكم.
ثم قال الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)
«2» أى تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من التوراة، وتتركون أنفسكم، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدى إليكم فى تصديق رسولى، وتنقضون ميثاقى، وتجحدون ما تعلمون من كتابى. [ثم «3» ] عدّد عليهم أحداثهم فيما سلف، فذكر لهم العجل، وقولهم لموسى: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)
«4» وصعقتهم عند ذلك، ثم إحياء الله لهم وإظلالهم بالغمام، وإنزاله عليهم المنّ والسّلوى، وقوله لهم: (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)
«5» أى قولوا ما آمركم به أحطّ به ذنوبكم عنكم؛ وتبديلهم ذلك، إلى ما ذكره الله تعالى من أخبارهم مع موسى.
ثم قال الله تعالى والخطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين:
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
«6» قال الفريق الذى أخبر الله عنهم أنهم كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه؛ وهم الذين قالوا لموسى صلى الله عليه وسلم:
يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا، فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فطلب موسى ذلك من ربه لهم، فقال تعالى: مرهم فليتطهّروا ويطهّروا ثيابهم ويصوموا، ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتى الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى فوقعوا سجودا وكلمه ربه، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا ما سمعوا، ثم انصرف بهم موسى إلى بنى إسرائيل، فلما جاءهم حرّف فريق ممن سمع ما أمرهم به، وقالوا(16/366)
حين قال موسى لبنى إسرائيل: إنّ الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق:
إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله تعالى لهم، فهم الذين عنى الله تعالى. ثم قال:
(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا)
«1» أى بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة.
وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدّثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فأنزل الله تعالى: (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)
«2» أى تقرون بأنه نبىّ، وهو يخبرهم أنه النبىّ الذى كنا ننتظره ونجده فى كتابنا، اجحدوه فلا تقرّوا لهم به، قال الله تعالى: (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)
«3» أى إلا تلاوة؛ والأمىّ هو الذى يقرأ ولا يكتب، معناه أنهم لا يعلمون الكتاب فلا يدرون ما فيه، فهم يجحدون نبوّتك بالظن. وقوله تعالى:
(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)
«4» قال ابن عباس رضى الله عنهما: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذّب الله تعالى الناس فى النار بكل ألف سنة من ايام الدنيا يوما واحدا فى النار من أيام الآخرة، وإنما هى سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله تعالى ذلك، ثم قال: (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)
أى من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)
«5» . ثم قال تعالى يذمّهم: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ(16/367)
بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)
«1» أى تركتم ذلك كله. (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)
«2» .
قال ابن إسحاق: أفررتم على أنّ هذا حقّ من ميثاقى عليكم، (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)
«3» ، أى أهل الشرك، حتى يسفكوا دماءهم معهم، ويخرجوهم من ديارهم معهم، (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ)
وقد عرفتم أن ذلك عليكم فى دينكم، (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)
أى أتفادونهم مؤمنين بذلك وتخرجونهم كفارا بذلك (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)
«4» فأنبهم بذلك من فعلهم، وقد حرّم عليهم فى التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسرائهم فكانوا فريقين، منهم بنو قينقاع ولفّهم «5» حلفاء الخزرج، والنّضير وقريظة، ولفّهم حلفاء الأوس، وكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النّضير وقريظة مع الأوس يظاهر كلّ واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم(16/368)
التوراة يعرفون منها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حلالا ولا حراما، فإذا وضعت الحرب [أوزارها «1» ] افتدوا أساراهم تصديقا لما فى التوراة وأخذا به، يفتدى بنو قينقاع ما كان من أسراهم فى أيدى الأوس، [و «2» ] يفتدى بنو النّضير وقريظة ما كان فى أيدى الخزرج منهم، ويطلّون «3» ما أصابوا من الدماء، وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم؛ يقول الله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)
«4» أى تفاديه بحكم التوراة وتقتله، وفى حكم التوراة:
ألا تفعل: [تقتله «5» ] ، وتخرجه من داره، وتظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان ابتغاء عرض الدنيا. ثم قال: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ)
أى الآيات التى كانت له من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، والخبر بكثير من الغيوب مما يأكلون وما يدّخرون فى بيوتهم، ثم ذكر كفرهم بذلك كله، فقال: (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)
«6» ثم قال:
(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ)
«7» ؛ وذلك أنهم كانوا يقولون للأنصار لما كانوا على جاهليتهم: إنّ نبيا يبعث الآن قد أظلّ زمانه، نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم اتبعه الأنصار(16/369)
وكفر به يهود، قال الله تعالى: (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)
، ثم قال:
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)
«1» ، غضب الله عليهم فيما صنعوا من مخالفتهم حكم التوراة، وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبىّ الذى أرسل إليهم، ثم أنّبهم برفع الطور، واتخاذ العجل إلها من دون الله؛ ثم قال تعالى:
(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)
«2» أى ادعوا بالموت على أىّ الفريقين أكذب، فأبوا ذلك، فأعلمهم أنهم لم يتمنوه فقال: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)
«3» أى بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك، فيقال: لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقى على الأرض يهودىّ إلا مات، ثم ذكر رغبتهم فى الحياة فقال: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ)
«4» أى ما هو بمنجيه؛ وذلك أنّ المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأنّ اليهودىّ قد عرف ماله فى الآخرة من الخزى بما صنع فيما عنده من العلم. والله تعالى الهادى للصواب، وإليه المرجع والمآب.
ذكر سؤال أحبار يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتراطهم على أنفسهم أنه إن أجابهم عما سألوه آمنوا به، ورجوعهم عن الشرط
وذلك أنّ نفرا من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ، فإن فعلت اتبعناك وصدّقناك وآمنا بك؛ فقال: «عليكم بهذا عهد الله وميثاقه إن أخبرتكم بذلك لتصدقنّنى» ؟ قالوا: نعم؛(16/370)
قال: «فآسألوا عما بدا لكم» قالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمّه، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدكم بالله وبأيّامه عند بنى إسرائيل هل تعرفون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه» ؟ قالوا: اللهم نعم، قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: «أنشدكم بالله وبأيّامه عند بنى إسرائيل، هل تعلمون أن نوم الذى تزعمون أنى لست به تنام عينه وقلبه يقظان» ؟ [قالوا «1» : اللهم نعم، قال:
«فكذلك نومى، تنام عينى وقلبى يقظان» ] قالوا: فأخبرنا عما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بنى إسرائيل، هل تعلمون أنه كان أحبّ الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها، فحرم على نفسه أحبّ الطعام والشراب إليه شكرا لله تعالى، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها» ؟ قالوا: اللهم نعم؛ قالوا: فأخبرنا عن الرّوح؟ قال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بنى إسرائيل، هل تعلمونه جبريل، وهو الذى يأتينى» ؟ قالوا:
اللهم نعم، ولكنه يا محمد، لنا عدوّ، وهو ملك، إنما يأتى بالشدّة وبسفك الدماء، ولولا ذلك لاتبعناك، فأنزل الله فيهم: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ. وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ. أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(16/371)
وذلك أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان فى المرسلين قال بعض أحبار يهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا، وو الله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله تعالى فى ذلك من قولهم: (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا)
أى باتباعهم السحر وعملهم به، (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ)
«1» ، قال ابن إسحاق: وحدثنى من لا أتهم عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول: الذى حرم إسرائيل على نفسه: زائدتا الكبد، والكليتان، والشحم، إلا ما على الظّهر، فإن ذلك كان يقرّب للقربان فتأكله النار. والله أعلم بالصواب.
ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كتبه إلى يهود خيبر
عن ابن عباس رضى الله عنهما: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه، المصدّق بما جاء به موسى، ألا إنّ الله قد قال لكم: يا معشر أهل التوراة- وإنكم تجدون ذلك فى كتابكم:
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)
«2» ؛ وإنّى أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذى أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسّلوى، وأنشدكم بالذى أيبس البحر لآبائكم حتى(16/372)
أنجاهم من فرعون وعمله إلا اخبرتمونا هل تجدون فيما أنزل عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟
فإن كنتم لا تجدون ذلك فى كتابكم فلا كره عليكم؛ (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)
«1» فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه» .
ذكر ما قاله أحبار يهود فى قوله تعالى: (الم) *
، و (المص)
و (الر) *
، و (المر)
حكى محمد بن إسحاق أنّ أبا ياسر «2» بن أخطب مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو: (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)
«3» ، فأتى أخاه حيىّ بن أخطب فى رجال من يهود. فقال: تعلّموا، والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه: (الم. ذلِكَ الْكِتابُ)
، فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم، فمشى حيىّ فى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ألم تذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك: (الم) *
؟
فقال: «بلى» ، قالوا: أجاءك بها جبريل من عند الله؟ قال: «نعم» ، فقالوا:
لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بيّن لنبىّ منهم ما مدّة ملكه، وما أكل أمته غيرك. فأقبل حيىّ بن أخطب على من معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون فى دين إنما مدّة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ قال: «نعم» قال: ماذا؟ قال: (المص)
قال: فهذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون «4» ومائة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: «نعم (الر) *
» .
قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه(16/373)
إحدى وثلاثون ومائتان، هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: «نعم (المر)
» قال:
هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة، ثم قال: لقد لبّس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندرى أقليلا أعطيت أم كثيرا؟ ثم قاموا عنه؛ فقال أبو ياسر لأخيه حيىّ ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم، لعله قد جمع هذا كلّه لمحمد؛ سبعمائة وأربع [وثلاثون «1» ] سنة، قالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيقال: إنّ قوله تعالى:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)
«2» نزلت فيهم، وقيل: إنما نزلت فى وفد نجران، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر شىء من مقالات أحبار يهود، وما أنزل من القرآن فى ذلك
كان من مقالاتهم ما قاله مالك بن الضّيف «3» حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر لهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم فيه، فقال:
والله ما عهد إلينا فى محمد عهد، وما أخذ له علينا ميثاق، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه:
(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)
«4» . وقال ابن صلوبا الفطيونى «5» لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما جئتنا بشىء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها؛ فأنزل الله تعالى: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ)
«6» .(16/374)
وقال رافع بن حريملة، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجرّ لنا أنهارا نتبعك ونصدّقك، فأنزل الله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)
«1» قال: وكان حيىّ بن أخطب [وأخوه أبو ياسر بن «2» أخطب] من أشدّ يهود للعرب حسدا؛ فكانا جاهدين فى ردّ الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله عزّ وجل فيهما: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
«3» قال: ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة:
ما أنتم على شىء، وكفر بعيسى وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شىء، وجحد نبوّة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله تعالى:
(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
«4» . وقال رافع لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله يكلمنا تكليما حتى نسمع كلامه، فأنزل الله تعالى فى ذلك: (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
«5» .
وقال عبد الله بن صوريا الفطيونىّ الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى(16/375)
إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد؛ وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله تعالى فى أقوالهم: (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
إلى قوله: (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)
«1» . وتكلموا عند صرف القبلة بما نذكره إن شاء الله فى حوادث السنة الثانية.
قال: وسأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد، نفرا من أحبار يهود عن بعض ما فى التوراة، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم، فأنزل الله فيهم:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)
«2» . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ورغّبهم فيه، وحذّرهم عذاب الله، فقال رافع بن خارجة، ومالك بن عوف: بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم منا، وخيرا منا، فأنزل الله فى ذلك: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)
«3» .
قال: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزاة بدر جمع يهود فى سوق بنى قينقاع، وقال لهم: «يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشا» فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا «4» لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله عزّ وجل فى ذلك من قولهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا(16/376)
فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)
«1» .
قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت «2» المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد: وعلى أى دين [أنت «3» ] يا محمد؟ قال: «على ملة إبراهيم ودينه» قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا؛ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلم إلى النوارة فهى بيننا وبينكم» ؛ فأنزل الله فيهما:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)
«4» . وقال أحبار يهود ونصارى نجران حين اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا، فقال الأحبار: كان إبراهيم يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا؛ فأنزل الله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)
«5» . وقال عبد الله بن صيف «6» ، وعدىّ بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ(16/377)
تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)
«1» . وقال أبو رافع القرظىّ حين اجتمعت الأحبار من يهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، تريد منا أن نعبدك كما يعبد النصارى عيسى بن مريم؟ وقال رجل من أهل نجران يقال له الرئيس:
أو ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا؟ أو كما قال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثنى ولا أمرنى» فأنزل الله تعالى: (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
«2» ، والربانيون هم العلماء والفقهاء؛ ثم ذكر تعالى ما أخذ الله عليهم وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم، فقال: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ)
«3» إلى آخر القصة. والله أعلم.
ذكر ما ألقاه شأس بن قيس اليهودىّ بين الأوس والخزرج من الفتنة، ورجوعهم إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم
قال محمد بن إسحاق: مرّ شأس بن قيس، وكان شيخا عظيم الكفر، شديد الضّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، قد اجتمعوا فى مجلس يتحدثون، فغاظه ما هم عليه(16/378)
من الألفة والجماعة وصلاح ذات البين على الإسلام، بعد ما كان بينهم من العداوة فى الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملا بنى قيلة «1» بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار؛ فأمر شابا من يهود كان معه أن يجلس معهم «2» ، ثم يذكر يوم بعاث «3» وما كان قبله، وأن ينشدهم بعض ما كانوا قالوه من الأشعار يوم بعاث، وهو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج، فكان الظّفر فيه للأوس، وكان عليهم يومئذ حضير بن سماك الأشهلىّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو ابن النعمان البياضىّ، فقتلا جميعا، ففعل الشاب ذلك، فتكلم القوم، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب؛ أوس بن قيظىّ الأوسىّ، وجبّار بن صخر الخزرجىّ، فتقاولا، ثم قال أحدهما للآخر: إن شئتم رددناها الآن «4» جذعة؛ فغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة، وهى الحرّة، وقالوا: السلاح السلاح، وخرجوا إليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فقال: «يا معشر المسلمين، الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم به أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بينكم!» فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فبكوا، وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى فى شأس بن قيس: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
«5»(16/379)
وأنزل فى أوس بن قيظىّ وجبّار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)
«1» .
ذكر ما تكلم به يهود فى شأن من أسلم منهم وما أنزل الله تعالى فى ذلك
قال «2» : لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد ابن عبيد، ومن أسلم معهم من يهود وآمنوا وصدّقوا، قال أهل الكفر من أحبار يهود: ما آمن بمحمد واتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله تعالى فيهم: (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)
«3» ،(16/380)
قال: وكان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف فى الجاهلية، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ)
، [أى تؤمنون بكتابكم وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم كنتم أحقّ بالبغضاء لهم منهم لكم «1» ] ، (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)
«2» ، قال: ودخل أبو بكر الصديق رضى الله عنه إلى بيت المدراس «3» على يهود، فوجد جماعة كثيرة منهم قد اجتمعوا إلى حبر من أحبارهم يقال له فنحاص، ومعه حبر آخر يقال له أشيع؛ فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله، قد جاءكم بالحقّ من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة والإنجيل، فقال لأبى بكر:
والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنّا بغنىّ، ولو كان عنّا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الرّبا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الرّبا. فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا(16/381)
وقال: والذى نفسى بيده لولا العهد الذى بيننا وبينك لضربت عنقك، أى عدوّ الله.
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، انظر ما صنع بى صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «ما حملك على ما صنعت» ؟.
فقال: يا رسول الله، إنّ عدوّ الله قال قولا عظيما- وذكر قوله- فلما قال ذلك غضبت لله وضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك، وقال: ما قلت [ذلك «1» ] ، فأنزل الله فى ذلك تصديقا لأبى بكر رضى الله عنه: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)
«2» ، وأنزل الله تعالى فى أبى بكر وغضبه فى ذلك: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
«3» . قال: وكان كردم بن قيس، وأسامة بن حبيب ونافع بن أبى نافع، وبحرىّ بن عمرو، وحيىّ بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التّابوت، يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر فى ذهابها، ولا تسارعوا فى النفقة، فإنكم لا تدرون علام يكون، فأنزل الله تعالى فيهم: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
أى من التوراة التى فيها تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً)
«4» قال: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا تكلم «5» رسول الله صلى الله عليه وسلم(16/382)
لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن فى الإسلام وعابه، فأنزل الله تعالى فيه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً.
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا)
«1» . قال: وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود، منهم عبد الله بن صوريا الأعور، وكعب ابن أسد، فقال: «يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فو الله إنكم لتعلمون أنّ الذى جئتكم به لحقّ» ، قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وأصرّوا على الكفر، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)
«2» . قال: وقال سكين، وعدىّ بن زيد: يا محمد، ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شىء بعد موسى؛ فأنزل الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)
«3» . ودخلت طائفة منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «أما والله إنكم لتعلمون أنّى [رسول من الله إليكم «4» ] » ! قالوا: ما نعلمه: وما نشهد عليه، فأنزل الله تعالى فى ذلك قوله تعالى:(16/383)
(لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً)
«1» .
وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا، وبحرىّ بن عمرو، وشأس ابن عدىّ «2» ، فكلّموه وكلّمهم، ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد، نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقوله النصارى، فأنزل الله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)
«3» . قال: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام، ورغّبهم فيه، وحذّرهم عقوبة الله، فأبوا وكفروا وجحدوا، فقال لهم معاذ بن جبل، وسعد ابن عبادة، وعقبة بن وهب: يا معشر يهود، اتقوا الله، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته، فقال رافع ابن حريملة، ووهب بن يهود: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده، فأنزل الله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
«4» .
ذكر قصة الرّجم
روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: إن أحبار يهود اجتمعوا فى بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زنى رجل بينهم «5» بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا: ابعثوا بهذا الرجل وهذه المرأة إلى محمد، فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولّوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما(16/384)
بعملكم من التّجبية- والتجبية: الجلد بحبل من ليف قد طلى بقار، ثم تسوّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتجعل وجوههما من قبل أدبار الحمارين- فاتبعوه فإنما هو ملك، وصدّقوه، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبىّ، فاحذروه على ما فى أيديكم أن يسلبكموه، فأتوه فقالوا: يا محمد، هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فآحكم فيهما، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم فى بيت المدراس، فقال: «يا معشر يهود أخرجوا إلىّ علماءكم» ، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فساءلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: هذا عبد الله بن صوريا أعلم من بقى بالتوراة، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلاما شابا من أحدثهم سنّا، فقال له:
«يا بن صوريا، أنشدك الله، وأذكّرك بأيّامه عند بنى إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم فى التوراة» ؟ قال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبىّ مرسل، ولكنهم يحسدونك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر برجمهما، فرجما عند باب مسجده، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، وجحد نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا)
، أى الرجم، (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ(16/385)
وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)
«1» إلى آخر القصة.
وروى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، فرجما بباب مسجده، فلما وجد اليهودىّ مسّ الحجارة قام إلى صاحبته فجنأ «2» عليها يقيها مسّ الحجارة حتى قتلا جميعا.
وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: لما حكّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما دعاهم بالتوراة، وجلس حبر منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرّجم، فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر، ثم قال: هذه يا نبىّ الله آية الرّجم، يأبى أن يتلوها عليك؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحكم يا معشر يهود! ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم» ؟! فقالوا: أما إنه كان فينا يعمل به، حتى زنى رجل منا بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف فمنعه الملك من الرجم، ثم زنى رجل من بعده فأراد أن يرجمه فقالوا: لا والله، حتى ترجم فلانا، فلما قالوا ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التّجبية، وأماتوا ذكر الرّجم والعمل به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنا أوّل من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به» . ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده، قال عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما: [كنت «3» ] فيمن رجمهما. قال: واجتمع كعب بن أسد(16/386)
وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا، وشأس بن قيس. وقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى محمد؛ لعلّنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك اتّبعك يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة، أفنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم، ونؤمن بك ونصدّقك؟ فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فأنزل الله فيهم: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
«1» .
قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبار يهود أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبى نافع، وعازر بن أبى عازر، وخالد بن زيد، وأزار بن أبى أزار «2» ، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال صلى الله عليه وسلم: «نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» .
فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به، فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)
«3» . قال: وأتاه صلى الله عليه وسلم رافع ابن حارثة، وسلام بن مشكم، ومالك بن الضّيف، ورافع بن حريملة فقالوا:
يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة،(16/387)
وتشهد أنها من الله حقّ؟ قال: «بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس، فبرئت من أحداثكم» .
قالوا: فإنا نأخذ بما فى أيدينا؛ فإنا على الهدى والحقّ، ولا نؤمن بك ولا نتبعك، فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)
«1» .
قال: وأتاه صلى الله عليه وسلم النّحّام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحرىّ ابن عمرو، فقالوا: يا محمد، أما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا إله غيره، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو» ؛ فأنزل الله تعالى فيهم وفى قولهم: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)
«2» .
قال: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، فكان رجال من المسلمين يوادّونهما، فأنزل الله تعالى فيهم:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
إلى قوله:
(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ)
«3» . وقال جبل بن أبى قشير «4» ، وشمويل بن زيد لرسول الله صلى الله عليه(16/388)
وسلم: أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول؟ فأنزل الله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
«1» .
وقال محمود بن سيحان ونعمان بن أضاء، وبحرىّ بن عمرو، وعزير بن أبى عزير، وسلام بن مشكم، وفنحاص، وعبد الله بن صوريا، وابن صلوبا، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وأشيع، وكعب بن أسد، لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أحقّ يا محمد أن هذا الذى جئت به حقّ من عند الله؟ فإنا لا نراه متسقا كما تتسق التوراة؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا به ما جاءوا به» فقالوا عند ذلك: يا محمد، أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟
فقال: «أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله، وأنى لرسول الله؛ تجدون ذلك مكتوبا عندكم فى التوراة» قالوا: يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا من السماء نقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتى به. فأنزل الله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)
«2» ، والظهير: العون.
قال: وأتى رهط من يهود إلى «3» رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا:
يا محمد، هذا الله خلق الخلق فمن خلقه؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم(16/389)
حتى انتقع «1» لونه، فجاءه جبريل عليه السلام فسكّنه، فقال: خفّض عليك يا رسول الله، وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)
«2» ، فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا كيف خلقه؟ كيف ذراعه؟ كيف عضده؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول، فأتاه جبريل فقال له مثل ما قال له أول مرة، وجاءه من الله بجواب ما سألوه فقال: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
«3» ، وكانت سؤالات يهود وعنتهم وبغيهم وتحريفهم وتبديلهم كثيرة؛ قد نطق بذلك كله القرآن، وجاء بالردّ عليهم وبتكذيبهم وتفريقهم، ثم سلط الله عليهم المسلمين، وحكّم فيهم سيوفهم فقتلوهم وأجلوهم واستأصلوا شأفتهم، وأسروا وسبوا منهم، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى الغزوات والسرايا، فلما أيسوا وأبلسوا عمدوا إلى تخيّلات أخر من السّحر والسّم.
ذكر ما ورد من أن يهود سحروا رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالوا: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبية سنة ست من مهاجره، ودخل المحرم سنة سبع، جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة ممن يظهر الإسلام وهو منافق، إلى لبيد بن الأعصم اليهودىّ حليف بنى زريق، وكان ساحرا، قد علمت ذلك يهود أنه أعلمهم بالسّحر وبالسّموم، فقالوا له: يا أبا الأعصم أنت أسحر منا، وقد سحرنا محمدا، فسحره منا الرجال والنساء فلم نصنع شيئا، وأنت(16/390)
ترى أثره فينا، وخلافه ديننا، ومن قتل منا وأجلى «1» ، ونحن نجعل لك على ذلك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعمد إلى مشط وما يمشط من الرأس من الشعر فعقد فيه عقدا وتفل فيه تفلا، وجعله فى جفّ طلعة «2» ذكر، ثم انتهى به حتى جعله تحت أرعوفة «3» البئر، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا أنكره، حتى يخيّل إليه أنه يفعل الشىء ولا يفعله، وأنكر بصره حتى دلّه الله على ذلك «4» ؛ فدعا جبير ابن إياس الزّرقىّ وكان ممن شهد بدرا فدله على موضع فى بئر ذروان «5» تحت أرعوفة البئر، فخرج جبير حتى استخرجه، ثم أرسل إلى لبيد بن الأعصم، فقال: «ما حملك على ما صنعت، فقد دلنى الله على سحرك وأخبرنى بما صنعت» ؟ فقال: حبّ الدنانير يا أبا القاسم. قال محمد بن سعد، قال إسحاق بن عبد الله: فأخبرت عبد الرحمن ابن كعب بن مالك بهذا الحديث، فقال: إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، وكنّ أسحر من لبيد وأخبث، وكان لبيد هو الذى ذهب به فأدخله تحت أرعوفة البئر، قال: فلما عقدوا تلك العقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الساعة بصره، ودسّ بنات أعصم إحداهنّ، فدخلت على عائشة فخبّرتها عائشة- أو سمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصره- ثم خرجت إلى أخواتها وإلى لبيد فأخبرتهم، فقالت إحداهنّ: إن يكن نبيا فسيخبر، وإن يك(16/391)
غير ذلك فسوف يدلّهه «1» هذا السحر حتى يذهب عقله، فيكون بما نال من قومنا وأهل ديننا. فدله الله عليه:
وفى الصحيح عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم سحر «2» ، حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشىء ولم يصنعه، حتى إذا كان ذات يوم رأيته يدعو، فقال: «أشعرت «3» أن الله قد أفتانى فيما استفتيته «4» ، أتانى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلىّ، فقال أحدهما: ما وجع الرجل؟
فقال الآخر: مطبوب «5» ، فقال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيم؟
قال: فى مشط ومشاطة فى جفّ طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: فى ذى «6» ذروان» ، فآنطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع أخبر عائشة فقال: «كأنّ نخلها رءوس الشياطين، وكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء» ، قالت فقلت: يا رسول الله، فأخرجه للناس، قال: «أمّا والله قد شفانى، وخشيت أن أثوّر على الناس منه شرا» «7» .
وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخّذ «8» عن النساء وعن الطعام والشراب، فهبط عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه؛ فقال: أحدهما لصاحبه:(16/392)
ما شكواه؟ قال: طبّ- يعنى «1» سحر- قال: ومن فعله؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودىّ، قال: ففى أى شىء جعله؟ قال: فى طلعة، قال: فأين وضعها؟
قال: فى بئر ذروان تحت صخرة، قال: فما شفاؤه؟ قال تنزح البئر، وترفع الصخرة وتستخرج الطّلعة. وارتفع الملكان؛ فبعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى علىّ وعمّار فأمرهما أن يأتيا الرّكىّ فيفعلا الذى سمع، فأتياها وماؤها كانه قد خضب بالحنّاء فنزحاها، ثم رفعا الصخرة فأخرجا طلعة، فإذا فيها إحدى عشرة عقدة، ونزلت هاتان السورتان: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)
و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)
، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد، وانتشر نبىّ الله صلى الله عليه وسلم للنساء والطعام والشراب.
وجاء فى حديث آخر أن جبريل وميكائيل عليهما السلام أخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن السّحر، وأنه صلى الله عليه وسلم أخذ لبيدا، فاعترف فعفا عنه، روى عفوه عنه عن غير واحد؛ قال عكرمة: ثم [كان «2» ] يراه بعد عفوه فيعرض عنه. وحيث ذكرنا حديث السّحر فلا بأس أن نصله بالكلام على مشكله.
والله أعلم بالصواب.
ذكر الكلام على مشكل حديث السّحر
وقد تكلم القاضى عياض بن موسى بن عياض على هذا الحديث فقال: هذا الحديث صحيح متفق على صحته، وقد طعنت فيه الملحدة، وتذرّعت به لسخف عقولها، وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك فى الشّرع، وقد نزّه الله الشّرع والنبى صلى الله عليه وسلم عما يدخل فى أمره لبسا، وإنما السّحر مرض من الأمراض(16/393)
وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض، مما لا ينكر ولا يقدح فى نبوته، وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشىء ولا يفعله، فليس فى هذا ما يدخل عليه داخلة «1» فى شىء من تبليغه وشريعته، ويقدح فى صدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروّه عليه فى أمر دنياه التى يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للافات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيّل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم يتجلى عنه كما كان.
وأيضا فقد فسّر هذا الحديث الآخر من قوله: «حتى يخيّل إليه أنه يأتى أهله ولا يأتيهنّ» . وقد قال سفيان «2» : وهذا أشدّ ما يكون من السحر، ولم يأت فى خبر منها أنه نقل عنه فى ذلك قول، بخلاف ما أخبر أنه فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات. وقد قيل: إن المراد بالحديث أنه كان يتخيل لشىء أنه فعله، وما فعله لكنه تخييل لا يعتقد صحته، فتكون اعتقاداته كلها على السّداد، وأقواله على الصحة. قال: هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث.
قال: لكنه قد ظهر لى فى هذا الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعين ذوى الأضاليل يستفاد من نفس الحديث، وهو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيّب، وعروة بن الزبير، وقال فيه عنهما: سحر يهود بنى زريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوه فى بئر حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينكر بصره «3» . ثم دلّه الله على ما صنعوا، فاستخرجه من البئر.
فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما يسلّط على ظاهره وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنه إنما أتى فى بصره، وحبسه عن وطء(16/394)
نسائه، ويكون معنى قوله: «يخيل إليه أنه يأتى أهله ولا يأتيهنّ» ، أى يظهر له من نشاطه ومتقدّم عادته القدرة على النساء، فإذا دنا منهنّ أصابته أخذة بالسّحر، فلم يقدر على إتيانهنّ، كما يعترى من أخّذ واعترض، قال: ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشدّ ما يكون من السّحر. والله أعلم بالصواب.
ذكر خبر الشاة التى سمّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان ذلك فى غزاة خيبر، بعد أن افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما افتتح خيبر وحصونها واطمأنّ، أهدت إليه زينب ابنة الحارث امرأة سلام بن مشكم وهى ابنة أخى مرحب الذى بارز يوم خيبر، وقتل- على ما نذكره إن شاء الله- شاة مصليّة، وقد سألت: أىّ عضو من الشاة أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذّراع، وأكثرت فيها السّمّ، ثم سمّت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فلاك منها مضغة فلم يسغها، وكان معه بشر بن البراء بن معرور، فأخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها.
وروى الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ فى دلائل النبوّة أنه صلى الله عليه وسلم أساغها، ثم قال لأصحابه: «ارفعوا أيديكم فإنّ كتف هذه الشاة يخبرنى أنها قد بغيت فيه «1» » ، قال بشر بن البراء: والذى أكرمك لقد وجدت ذلك فى أكلتى التى أكلت، فما منعنى أن ألفظها إلا أنى أعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت(16/395)
ما فى فيك لم أكن لأرغب بنفسى عن نفسك، ثم دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت، فقال: «ما حملك على ذلك» ؟ قالت: بلغت من قومى ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر بن البراء. والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتلها، قيل: سلّمها لأولياء بشر بن البراء فقتلوها. والله تعالى أعلم.
وحيث ذكرنا من سيرته صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه، فلنذكر هنا حوادث السنين بعد الهجرة خلا الغزوات والسّرايا والوفود، فإنا نورد ذلك إن شاء الله تعالى فيما بعد على ما تقف عليه.
ذكر الحوادث بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية على حكم السنين؛ من السنة الأولى إلى السنة العاشرة خلا ما استثنيناه، وقدّمناه
حوادث السنة الأولى
فيها جعلت صلاة العصر أربع ركعات، وكانت ركعتين وذلك بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم بشهر. وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة حين ارتحل من قباء إلى المدينة، صلاها فى طريقه ببنى سالم على ما تقدّم، وهى أوّل جمعة صلاها، وأوّل خطبة خطبها فى الإسلام. وفيها بنى صلى الله عليه وسلم مسجده ومساكنه، ومسجد قباء على ما تقدّم. وفيها آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد مقدمه بثمانية أشهر، وقد تقدّم ذكر ذلك. وفيها أسلم عبد الله بن سلام. وفيها ولد عبد الله بن الزبير بالمدينة. وفيها مات أبو قيس كلثوم بن الهدهد، وهو أوّل من مات من المسلمين بالمدينة. ومات سعد بن زرارة أبو أمامة. وفيها أعرس صلى الله عليه وسلم بعائشة رضى الله عنها.(16/396)
حوادث السنة الثانية
فى هذه السنة توفيت رقيّة بنت النبى صلى الله عليه وسلم زوج عثمان بن عفان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، وتوفى عثمان بن مظعون بعد [رجوع «1» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزاة بدر وشهدها عثمان. وفيها صرفت القبلة.
ذكر صرف القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة وما تكلم به اليهود وما أنزل الله تعالى فى ذلك من القرآن
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة يصلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، كما ورد فى صحيح البخارى وغيره.
وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، فقال: «يا جبريل وددت أن الله تعالى صرف وجهى عن قبلة يهود» ، فقال جبريل: إنما أنا عبد فادع ربك وسله.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء، فأنزل الله تعالى: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)
«2» .
قال محمد بن سعد: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر فى مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يوجّه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه، ودار معه المسلمون، قال ويقال: بل زار رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ بشر بن البراء ابن معرور فى بنى سلمة، فصنعت له طعاما، وحانت الظهر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين، ثم أمر أن يوجّه إلى الكعبة، فاستدار إلى الكعبة، واستقبل الميزاب فسمى المسجد مسجد القبلتين، وذلك يوم الاثنين للنصف من شهر رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجره صلى الله عليه وسلم.(16/397)
وروى البخارىّ أن أوّل صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت.
قال ابن إسحاق: ولما صرفت القبلة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة ابن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ورافع بن أبى رافع، والحجاج ابن عمرو، والربيع بن الربيع بن أبى الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، فقالوا: يا محمد، ما ولّاك عن قبلتك التى كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟! ارجع إلى قبلتك التى كنت عليها [نتّبعك «1» ] ونصدّقك- وإنما يريدون فتنته عن دينه- فأنزل الله: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)
«2» ، أى إيمانكم بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعكم إياه الى القبلة الأخرى. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ(16/398)
إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)
«1» . والله أعلم.
ذكر خبر الأذان
قال محمد بن سعد بسنده إلى نافع «2» بن جبير، وعروة بن الزبير، وزيد بن أسلم، وسعيد بن المسيّب، قالوا: كان الناس فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر بالأذان ينادى منادى النبى صلى الله عليه وسلم: «الصلاة جامعة» ؛ فيجتمع الناس فلما صرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهمّه أمر الأذان، وأنهم ذكروا أشياء «3» يجمعون بها الناس للصلاة، فقال بعضهم: البوق، وقال بعضهم: الناقوس؛ فبينماهم على ذلك إذ نام عبد الله ابن زيد الخزرجىّ، فأرى فى المنام أن رجلا مرّ وعليه ثوبان أخضران وفى يده ناقوس، قال فقلت: أتبيع الناقوس؟ قال: ماذا تريد به؟ فقلت: أريد أن أبتاعه لكى أضرب به للصلاة لجماعة الناس، قال: فأنا أحدثك بخير لكم من ذلك؛ تقول: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حىّ على الصلاة، حىّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فأتى عبد الله ابن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: «قم مع بلال فألق عليه ما قيل لك وليؤذّن بذلك» ، ففعل. وجاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: لقد رأيت مثل الذى رآه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلله الحمد»(16/399)
فذلك أثبت. قالوا: وأذّن بالأذان وبقى ينادى فى الناس: «الصلاة جامعة» ؛ للأمر يحدث، فيحضرون له يخبرون به، مثل فتح يقرأ، أو أمر يؤمرون به، فينادى: «الصلاة جامعة» ، وإن كان فى غير وقت الصلاة. وقد قدّمنا خبر الأذان من رواية على بن أبى طالب فى قصة الإسراء. والله أعلم.
وفى هذه السنة فرض صوم رمضان فى شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة، وفرضت زكاة الفطر قبل العيد بيومين، وفيها ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين، أحدهما عن أمته، والآخر عن محمد وآله، وفيها ولد النعمان بن بشير، وفيها أعرس علىّ بن أبى طالب بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضى عنهما. والله أعلم.
حوادث السنة الثالثة
فيها تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضى الله عنهما. وفيها توفّى عثمان بن مظعون عند بعضهم. وفيها تزوّج عثمان بن عفان رضى الله عنه أمّ كلثوم بنت النبى صلى الله عليه وسلم فى جمادى الآخرة. وفيها ولد الحسن بن على رضى الله عنهما فى النصف من رمضان.
حوادث السنة الرابعة
فيها حرّمت الخمر فى شهر ربيع الأول، وقيل: حرّمت فى السنة الثالثة.
وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فى غزوة ذات الرّقاع. وفيها قصرت الصلاة. وفيها ولد الحسين بن على رضى الله عنهما. وفيها ماتت زينب بنت خزيمة الهلالية أم المؤمنين. وفيها تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة(16/400)
فى شوال، وتزوّج زينب بنت جحش فى ذى القعدة على الصحيح. وفيها نزل الحجاب.
ذكر نزول الحجاب على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان سبب نزول الحجاب ما رواه البخارى عن ابن شهاب قال: أخبرنى أنس بن مالك، قال: كان أول ما أنزل الحجاب فى مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش؛ أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا، فدعا القوم فأصابوا من الطعام، ثم خرجوا، وبقى منهم رهط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه كى يخرجوا، فمشى صلى الله عليه وسلم ومشيت معه، حتى جاء عتبة حجرة عائشة رضى الله عنها، ثم ظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خرجوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجعت معه حتى دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يتفرقوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعت معه حتى بلغ عتبة حجرة عائشة، فظنّ أن قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا؛ فأنزل الله الحجاب، فضرب بينى وبينه سترا، وأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)
الآية «1» . وعن عروة بن الزّبير أن عائشة رضى الله عنها قالت: كان عمر رضوان الله عليه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك يا رسول الله، قالت: فلم يفعل. وكان أزواج(16/401)
النبىّ صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع «1» فخرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو فى المجلس، فقال: عرفتك يا سودة- حرصا على أن ينزل الحجاب- فأنزل الله [الحجاب «2» ] . وفى هذه السنة فرضت الزكاة فى المال.
حوادث السنة الخامسة
فيها تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة بنت زيد النّضرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة. وفيها زلزلت المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن الله يستعتبكم فأعتبوه «3» » . وفيها سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل.
وقد تقدم ذكر ذلك فى الباب الأول من القسم الثالث من الفن الثالث فى الجزء التاسع من هذه النسخة. وفيها كانت غزوة بنى المصطلق بالمريسيع. وحدث فى هذه الغزوة وقائع نذكرها فى هذا الموضع؛ فيها ما وقع بين المهاجرين والأنصار، وحديث الإفك، وخبر التّيمّم.
ذكر ما وقع بين المهاجرين والأنصار «4» فى غزوة المريسيع وما قاله عبد الله بن أبىّ بن سلول المنافق
قال محمد بن إسحاق: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على المريسيع- وهو ماء لبنى المصطلق «5» - فى نزوله عن غزوته إياهم، وردت واردة الناس،(16/402)
ومع عمر بن الخطاب أجير له من بنى غفار، يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنىّ- حليف بنى عوف بن الخزرج- على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهنىّ: يا معشر الأنصار! وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين! فغضب عبد الله بن أبىّ، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم- غلام حدث- فقال: أو قد فعلوها! قد نافرونا وكاثرونا فى بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش «1» هذه إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك؛ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. ثم أقبل على من حضره من قومه وقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم «2» أموالكم، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. قال: فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال عمر: مر به عبّاد بن بشر فليقتله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! لا، ولكن أذّن بالرحيل» ، فارتحل الناس فى ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، وجاء عبد الله بن أبىّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله: ما قلت ما قال زيد بن أرقم عنّى، وما تكلمت به، فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام أوهم فى حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل.
فلما استقلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه أسيد بن حضير فقال: يا نبىّ الله، والله لقد رحت فى ساعة منكرة ما كنت تروح فى مثلها. قال: «أو ما بلغك(16/403)
ما قال صاحبكم» ؟ قال: أىّ صاحب؟ قال: «عبد الله بن أبىّ» قال، وما قال يا رسول الله؟ قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذل» قال: فأنت يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال:
يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاء الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك استلبته ملكا. قال: ثم متن «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذاك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم «2» الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا إلا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما.
قال: وإنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذى كان من عبد الله بن أبىّ.
قال: ثم هبت ريح شديدة تخوّفها الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تخوّفوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار» . فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بنى قينقاع- وكان من عظماء يهود، وكهفا للمنافقين- مات ذلك اليوم.
ونزلت السورة التى ذكر الله تعالى فيها المنافقين فى ابن أبىّ ومن قال بقوله، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال: «هذا الذى أوفى لله بأذنه» . وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبىّ بن سلول ما كان من أمر أبيه، فقال: يا رسول الله، إنه بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبىّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرنى به فأنا أحمل إليك رأسه، إنى أخشى أن تأمر غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل عبد الله يمشى فى الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل(16/404)
النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نترفّق به ونحسن صحبته ما بقى معنا» ، وكان بعد ذلك إذا أحاث حدثا كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنفّونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم:
«كيف ترى يا عمر؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لى اقتله لأرعدت [له «1» ] آنف لو أمرتها اليوم [بقتله «2» ] لقتلته» ، فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمرى.
ومن الحوادث فى هذه الغزوة حديث الإفك.
ذكر حديث الإفك وما تكلم به من تكلم من المنافقين وغيرهم فيه وما أنزله الله تعالى من براءة عائشة، وفضل أبيها رضوان الله عليهما
هذا الحديث قد تداوله الرواة وأهل الأخبار والسّير، فمنهم من زاد فيه زيادات كثيرة، وذكر تحامل من تحامل فى أمر الإفك، وتعصّب من تعصّب، فعلمت أن إيراد ذلك من أقوالهم يقتضى أن يصير فى نفس من سمعه من أهل السنّة شيئا ممن تكلم عليه بما تكلّم، ولعل ذلك لم يقع، فرأيت أن أقتصر منه على ما ثبت فى صحيح البخارىّ، واتصّل لنا بالرواية الصحيحة، وذكرت زيادات ذكرها ابن إسحاق- رحمه الله- ويحتاج إلى إيرادها مما لا ضرر فيه، نبهت عليها بعد مساق الحديث على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. ولنبدأ بحديث البخارىّ «3» :
حدّثنا الشيخان المسندان المعمّران؛ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى طالب نعمة الصالحىّ الحجّار، وستّ الوزراء أمّ محمد وزيرة بنت القاضى شمس الدين عمر ابن أسعد بن المنجا التّنوخيّة الدّمشقيان قراءة عليهما وأنا أسمع، بالمدرسة المنصورية(16/405)
التى هى بين القصرين بالقاهرة المعزّية، فى جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمائة، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزّبيدىّ، فى شوّال سنة ثلاثين وستمائة، بدمشق بالجامع المظفّرىّ بسفح جبل قاسيون، قال: حدّثنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزىّ «1» قراءة عليه ونحن نسمع ببغداد، فى آخر سنة اثنتين وأوّل سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال: حدّثنا الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفّر الداودىّ «2» فى شوّال وذى القعدة سنة خمس وستين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد ابن حمويه السّرخسىّ فى صفر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربرىّ بفر «3» بر سنة ستّ عشرة وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخارىّ قراءة عليه بتبريز سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرة فى سنة اثنتين وخمسين، قال: حدّثنا يحيى بن بكير، قال: حدّثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرنى عروة بن الزّبير، وسعيد بن المسيّب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، وكلّ حدّثنى طائفة من الحديث، وبعض حديثهم يصدّق بعضا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض؛ الذى حدّثنى عروة عن عائشة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج(16/406)
أقرع بين أزواجه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج [بها «1» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا فى غزوة «2» غزاها فخرج سهمى، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما نزل الحجاب، فأنا أحمل فى هودجى وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرّحيل، فقمت حين آذنوا بالرّحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى فإذا عقد لى من جزع ظفار «3» قد انقطع، فالتمست عقدى وحبسنى ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لى، فاحتملوا هودجى فرحلوه على بعيرى الذى كنت ركبت، وهم يحسبون أنّى فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهنّ اللحم، إنما تأكل العلقة «4» من الطعام، فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السنّ، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدى بعدما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلى الذى كنت به، وظننت أنهم سيفقدونى فيرجعون إلىّ، فبينما أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمىّ ثم الذّكوانىّ من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلى، فرأى سواد إنسان نائم، فأتانى فعرفنى حين رآنى، وكان يرانى قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفنى، فخمّرت وجهى بجلبابى، وو الله ما كلّمنى كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بى الراحلة حتى أتينا الجيش(16/407)
بعد ما نزلوا موغرين «1» فى نحر الظهيرة، فهلك من هلك «2» - وكان الذى تولى الإفك عبد الله بن أبىّ بن سلول- فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون فى قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشىء من ذلك، وهو يريبنى «3» فى وجعى؛ أنّى لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّطف الذى كنت أرى منه حين أشتكى، إنما يدخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم «4» ثم ينصرف، فذلك الذى يريبنى، ولا أشعر بالشّر حتى خرجت بعد ما نقهت، فخرجت معى أمّ مسطح قبل المناصع- وهو متبرّزنا- وكنا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول فى التبرز [قبل «5» ] الغائط، فانطلقت أنا وأمّ مسطح، وهى بنت أبى رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر ابن عامر خالة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، وابنها مسطح بن أثاثة، فأقبلت أنا وأمّ مسطح قبل بيتى قد فرغنا من شأننا، فعثرت أمّ مسطح [فى مرطها «6» ] ، فقالت: تعس مسطح؛ فقلت لها: بئس ما قلت: أتسبّين رجلا قد شهد بدرا؟! قالت: أى هنتاه، أو لم تسمعى ما قال؟ قالت قلت: وما قال؟
فأخبرتنى بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضى، قالت: فلما رجعت إلى بيتى، ودخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «كيف تيكم» ؟
فقلت: أتأذن لى أن آتى أبوىّ؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما؛ قالت: فأذن لى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبوىّ،(16/408)
فقلت لأمّى: يا أمّتاه، ما يتحدّث الناس؟ قالت: يا بنيّة، هوّنى عليك، فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قالت فقلت: سبحان الله! ولقد تحدّث الناس بهذا؟! قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ «1» لى دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب وأسامة بن زيد رضى الله عنهما حين استلبث الوحى «2» يستأمرهما فى فراق أهله. قالت: فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذى يعلم من براءة أهله، وبالذى يعلم لهم فى نفسه من الودّ، فقال: يا رسول الله، أهلك وما نعلم إلا خيرا. وأما علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- فقال: يا رسول الله، لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير «3» ، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: «أى بريرة، هل رأيت من شىء يريبك» ؟ قالت بريرة: لا والذى بعثك بالحقّ، إن رأيت عليها أمرا أغمصه «4» عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها، فتأتى الداجن «5» فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فآستعذر من عبد الله بن أبىّ بن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر:
«يا معشر المسلمين، من يعذرنى «6» من رجل قد بلغنى أذاه فى أهل بيتى! فو الله ما علمت على أهلى إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا، وما كان(16/409)
يدخل على أهلى إلّا معى» . فقام سعد بن معاذ الأنصارىّ فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه؛ إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحميّة «1» . فقال لسعد: كذبت، لعمر الله «2» لا تقتله، ولا تقدر على قتله، وقام أسيد بن حضير- وهو ابن عم سعد- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيّان: الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفّضهم «3» حتى سكتوا وسكت.
قالت: فبكيت يومى ذلك لا يرقأ لى دمع، ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواى عندى، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لى دمع، يظنان أن البكاء فالق كبدى، فقالت: فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى فاستأذنت علىّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكى معى، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندى منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أمّا بعد يا عائشة، فإنه قد بلغنى عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفرى الله وتوبى إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» .
قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعى حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبى: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قال: والله(16/410)
ما أدرى ما اقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمّى: أجيبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:
فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن: إنّى والله لقد علمت؛ لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ فى أنفسكم وصدّقتم به، فلئن قلت لكم إنّى بريئة لا تصدّقونى بذلك، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أنّى بريئة منه لتصدقنّى، والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبى يوسف، قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)
. قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشى، قالت: وأنا حينئذ أعلم أنى بريئة، وأن الله يبرئنى ببراءتى، ولكن والله ما كنت أظن أنّ الله منزل فى شأنى وحيا يتلى، ولشأنى فى نفسى كان أحقر من أن يتكلّم الله فىّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئنى الله بها. قالت:
فو الله ما رام «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما يأخذه من البرحاء «2» ، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان «3» من العرق- وهو فى يوم شات- من ثقل القول الذى ينزل عليه، قالت: فلما سرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سرّى عنه وهو يضحك، فكانت أوّل كلمة تكلّم بها:
«يا عائشة، أمّا الله فقد برّاك» ، فقالت أمّى: قومى إليه، قالت فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عزّ وجل، وأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ(16/411)
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)
«1» ، قالت عائشة: فلما أنزل الله تعالى هذا فى براءتى، قال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذى قال لعائشة- رضى الله عنها- ما قال، فأنزل الله سبحانه وتعالى:
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
«2» . قال أبو بكر رضى الله عنه: بلى والله إنى أحبّ أن يغفر الله لى، فرجع إلى مسطح النفقة التى كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمرى فقال: «يا زينب، ماذا علمت أو رأيت» ؟، فقالت: يا رسول الله، أحمى سمعى وبصرى، ما رأيت إلا خيرا، قالت: وهى التى كانت تسامينى «3» من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. انتهى حديث البخارىّ.(16/412)
وروى أبو محمد عبد الملك بن هشام بسنده إلى عروة بن الزّبير، وعبد الله ابن عبد الله بن عتبة، وعبد الله بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن، كلهم يحدّث عن عائشة- رضى الله عنهم- بنحو هذا الحديث، وزاد فيه من قول أسامة ابن زيد؛ فأثنى خيرا، وقاله؛ ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وهذا هو الكذب والباطل. قال: وأمّا علىّ بن أبى طالب فإنه قال: يا رسول الله، إنّ النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، واسأل الجارية فإنها ستصدقك.
قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها، فقام إليها علىّ بن أبى طالب فضربها ضربا شديدا، وقال: اصدقى رسول الله. وساق نحو ما تقدم.
وقال فى خبر الوحى: قالت فو الله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حنى تغشّاه من الله ما كان يتغشّاه، فسجّى بثوبه، ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه، فأمّا أنا حين رأيت ما رأيت فو الله ما فزعت ولا باليت؛ قد عرفت أنى منه بريئة، وأنّ الله غير ظالمى، وأمّا أبواى، فو الذى نفس عائشة بيده، ما سرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجنّ أنفسهما فرقا من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس. وساق الحديث بنحو ما تقدم. ثم قال: قالت ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل عليه من القرآن فى ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدّهم؛ فقال رجل من المسلمين فى ذلك:
لقد ذاق حسّان الذى كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح «1»
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيّهم ... وسخطة ذى العرش الكريم فأترحوا «2»(16/413)
وآذوا رسول الله فيها فجلّلوا ... مخازى تبقى عمّموها وفضّحوا
وصبّت عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح «1»
وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة مسطح- وهو عوف بن أثاثة بن عبّاد ابن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصىّ، وأمه سلمى بنت صخر بن عامر خالة أبو بكر الصدّيق. قال: وذكر الأموى عن أبيه عن ابن إسحاق قال قال أبو بكر يذكر مسطحا:
يا عوف ويحك هلّا قلت عارفة ... من الكلام ولم تتبع بها طمعا
وأدركتك حميّا معشر أنف ... ولم تكن قاطعا يا عوف من قطعا
هلّا حربت من الأفوام إذ حسدوا ... فلا تقول ولو عاينته قذعا
لمّا رميت حصانا غير مقرفة ... أمينة الجيب لم نعلم لها خضعا
فيمن رماها وكنتم معشرا أفكا ... فى سىّء القول من لفظ الخنا شرعا
فأنزل الله وحيا فى براءتها ... وبين عوف وبين الله ما صنعا
فإن أعش أجز عوفا عن مقالته ... شرّ الجزاء إذا ألفيته تبعا
ولعل هذا الشّعر إن صحّ عن أبى بكر فيكون قاله قبل نزول قوله تعالى:
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ)
الآية. فإنه قد صح أن أبا بكر قال عند نزولها:
والله إنّى أحبّ أن يغفر الله لى، ورجع إلى مسطح النفقة التى كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبدا.
وقال محمد بن إسحاق: حدّثنى أبى إسحاق بن يسار عن بعض رجال بنى النجار:
أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: ألا تسمع ما يقول(16/414)
الناس فى عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أمّ أيوب فاعلة؟
قالت: لا والله ما كنت لأفعله؛ قال: فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن بذكر من قال من أهل الفاحشة ما قال أهل الإفك، ثم قال: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً)
، أى فقالوا كما قال أبو أيوب وصاحبته.
قال ابن إسحاق: وكان حسّان بن ثابت قال شعرا يعرّض فيه بصفوان بن المعطّل، فاعترضه صفوان فضربه بالسيف، ثم قال:
تلقّ ذباب السّيف عنك فإنّنى ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر
فوثب ثابت بن قيس بن شمّاس على صفوان بن المعطّل حين ضرب حسّان فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بنى الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك «1» ! ضرب حسّان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله؛ فقال له عبد الله بن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء مما صنعت؟ قال: لا والله؛ قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فدعا حسّان وصفوان، فقال صفوان: يا رسول الله، آذانى وهجانى، فحملنى الغضب فضربته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حسّان، أتشوّهت «2» على قومى أن هداهم الله للإسلام» ؟ ثم قال:
«أحسن يا حسّان فى الذى قد أصابك» قال: هى لك؛ فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضا عنها بيرحا- وهى قصر بنى حديلة- كانت ما لا لأبى طلحة وتصدّق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاها حسّان فى ضربته، وأعطاه(16/415)
سيرين- أمة قبطيّة- فولدت له عبد الرحمن بن حسّان. قال: وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: لقد سئل عن ابن المعطّل فوجدوه رجلا حصورا ما يأتى النساء، ثم قتل بعد ذلك شهيدا رضى الله عنه.
وقال حسّان بن ثابت يعتذر من الذى كان منه فى شأن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها:
حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «1»
عقيلة حىّ من لؤىّ بن غالب ... كرام المساعى مجدهم غير زائل «2»
مهذّبة قد طيّب الله خيمها ... وطهّرها من كلّ سوء وباطل «3»
فإن كنت قد قلت الذى قد زعمتم ... فلا رفعت سوطى إلىّ أناملى
وكيف وودّى ما حييت ونصرتى ... لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس كلّهم ... تقاصر عنها سورة «4» المتطاول
فإنّ الذى قد قيل ليس بلائط «5» ... ولكنه قول امرئ بى ما حل «6»
وقد روينا عن البخارىّ رحمه الله بالإسناد المتقدم، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبى الضحى عن مسروق عن عائشة(16/416)
رضى الله عنها قالت: جاء حسّان بن ثابت يستأذن عليها، قلت: أتأذنين لهذا؟
قالت: أو ليس قد أصابه عذاب عظيم؟ قال سفيان: تعنى ذهاب بصره، فقال:
حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قالت: لكن أنت «1» .
وعن مسروق أيضا قال: دخل حسّان على عائشة فشبّب فقال:
حصان رزان...... البيت. قالت: لست كذلك، قلت: تدعين هذا يدخل عليك وقد أنزل الله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ)
؟ قالت: وأىّ عذاب أشدّ من العمى! وقد كان يردّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر خبر التيمم
من أهل العلم من ذهب إلى أن آية التيمم أنزلت فى غزوة المريسيع «2» ، ومنهم من ذهب إلى أنها أنزلت فى غيرها. روى أبو عبد الله محمد البخارىّ رحمه الله بسنده عن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء- أو بذات الجيش- انقطع عقد لى، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبى بكر الصّدّيق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذى قد نام، فقال:(16/417)
حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! فقالت عائشة: فعاتبنى أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعننى بيده فى خاصرتى، فلا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التّيمم فتيمّموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هى بأوّل بركتكم يا آل أبى بكر.
قالت: فبعثنا البعير الذى كنت عليه، فأصبنا العقد تحته.
حوادث السنة السادسة «1»
فيها كانت غزوة الحديبيّة، وبيعة الرّضوان، وهدنة قريش، على ما نذكر ذلك كله فى الغزوات إن شاء الله تعالى، وفيها قحط الناس، فاستسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فى شهر رمضان فسقوا، وفيها هاجرت أمّ كلثوم.
ذكر هجرة أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وما أنزل الله تعالى فى هجرة النساء
لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبيّة، بعد أن حلت الهدنة، وتقررت القضيّة، وكان فيما وقع عليه الصّلح: أنه من جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش بغير إذن وليّه ردّه إليهم، وردّ من ردّ من رجال المسلمين، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى الغزوات. ثم هاجرت أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المدة، فخرج أخواها عمارة والوليد، ابنا عقبة، حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يردّها عليهما بالعهد الذى بينه وبين قريش، فلم يفعل؛ وذلك أن الله عزّ وجل(16/418)
أنزل: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)
«1» ، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء لذلك، وأمر بردّ صدقاتهنّ إليهم إن هم ردّوا على المسلمين صدقات من حبسوا عنهم من نسائهم.
قال ابن إسحاق: ولما أنزل الله تعالى قوله: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ)
، كان ممن طلّق عمر بن الخطاب رضى الله عنه، طلّق امرأتيه قريبة ابنة أبى أمية ابن المغيرة، فتزوّجها بعده معاوية بن أبى سفيان، وأمّ كلثوم بنت جرول أمّ عبيد الله ابن عمر الخزاعية، فتزوّجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم، وكانوا إذ ذاك على شركهم. والله أعلم.
[حوادث السنة السابعة «2» ]
فيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب، وميمونة بنت الحارث الهلالية. وفيها أسلم أبو هريرة- واسمه فى الجاهلية عمير بن عامر بن عبد ذى الشّرى، وفى الإسلام عبد الرحمن بن صخر الدّوسىّ، وأسماؤه كثيرة بحسب ما ورد من اختلاف أقوال الرواة، وقد صححوا ما ذكرناه، والله أعلم- وعمران بن حصين. وفيها حرّمت الحمر الأهلية، ومتعة النساء(16/419)
على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى غزوة خيبر. وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّسل إلى الملوك، وقدم حاطب بن أبى بلتعة من عند المقوقس بمارية بنت شمعون القبطية أمّ إبراهيم عليه السلام وأختها شيرين. وفيها قدم جعفر بن أبى طالب ومن كان قد بقى من المهاجرين بأرض الحبشة، وقد تقدم ذكرهم.
حوادث السنة الثامنة
فيها ولد إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية. وفيها توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها وهبت سودة زوج النبى صلى الله عليه وسلم يومها لعائشة رضى الله عنها حين أراد طلاقها. وفيها عمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطب عليه.
ذكر اتخاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر وخطبته عليه
روى محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع فى المسجد قائما، فقال: «إن القيام قد شقّ علىّ» ، فقال له تميم الدارىّ: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟، فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فى ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لى غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مره أن يعمله» ، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها، ثم عمل منها درجتين ومقعدا، ثم جاء به فوضعه فى موضعه [اليوم «1» ] ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه وقال: «منبرى هذا على ترعة من ترع الجنة، وقوائم منبرى رواتب فى الجنة» . وعن سهل بن سعد(16/420)
وقد سئل عن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أى عود هو؟ فقال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة- امرأة سماها- فقال: «مرى غلامك النجار يعمل لى أعوادا أكلّم الناس عليها» ، فعمل هذه الثلاث درجات من طرفاء الغابة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه فى هذا الموضع. وقد روى عن باقوم الرومىّ أنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منبرا من طرفاء، ثلاث درجات: القعدة ودرجتيه؛ رواه عنه صالح مولى التّوءمة «1» . حكاه أبو عمر فى ترجمة باقوم. ولما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه كان من حنين الجذع ما نذكره إن شاء الله تعالى فى معجزاته صلى الله عليه وسلم.
وفى هذه السنة أسلم عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، على ما نشرح ذلك.
ذكر إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة
كان سبب إسلامهم على ما حكاه محمد بن إسحاق بسنده يرفعه إلى عمرو بن العاص، قال عمرو: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيى، ويسمعون منّى، فقلت لهم: تعلّموا والله أنى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوّا منكرا، وإنّى قد رأيت أمرا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنّجاشى فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النّجاشىّ، فإنّا أن نكون تحت يديه أحبّ إلينا من أن نكون تحت يدى محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير. قالوا: إن هذا(16/421)
لرأى، قلت: فاجمعوا ما يهدى له، وكان أحبّ ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه. فو الله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضّمرىّ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه فى شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابى: هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النّجاشىّ وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أنى قد أجزأت عنها، فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال لى: مرحبا بصديقى، أهديت لى من بلادك شيئا؟ قلت: نعم أيها الملك، قد أهديت لك أدما كثيرا، ثم قرّبته إليه فأعجبه، ثم قلت له: أيها الملك، إنى قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدوّ لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فعضب، ثم مدّ يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت له:
أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألنى أن أعطيك رسول رجل يأتيه النّاموس الأكبر الذى كان يأتى موسى صلى الله عليه وسلم لتقتله! فقلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعنى واتّبعه، فإنه والله لعلى الحقّ، وليظهرنّ على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال:
قلت: أفتبا يعنى له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابى وقد حال رأيى عما كان عليه، وكتمتهم إسلامى.
ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت خالد بن الوليد وهو مقبل من مكة، فقلت: إلى أين يا أبا سليمان؟ فقال: لقد استقام المنسم «1» ،(16/422)
وإن الرجل لنبىّ، أذهب والله فأسلم فحتى متى! قال قلت: والله ما جئت إلا لأسلم، قال: فقدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إنى أبايعك على أن يغفرلى ما تقدّم من ذنبى ولا أذكر ما تأخر، فقال: «يا عمرو: بايع، فإن الإسلام يجبّ «1» ما كان قبله، وإن الهجرة تجبّ ما كان قبلها» ، فبايعت ثم انصرفت.
قال ابن إسحاق: وحدثنى من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة كان معهما فأسلم حين أسلما.
حوادث السنة التاسعة
فيها آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه، وأقسم ألّا يدخل عليهنّ شهرا. وكان سبب الإيلاء ما رواه البخارىّ بسنده عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ العسل والحلواء، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهنّ، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس فغرت، فسألت عن ذلك فقيل لى: أهدت لها امرأة من قومها عكّة عسل، فسقت النبىّ صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت:
أما والله لنحتالنّ له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولى له: أكلت مغافير، سيقول لك: لا، فقولى له: ما هذه الريح التى أجد؟ فإنه سيقول لك: سقتنى حفصة شربة عسل، فقولى له: جرست «2» نحله العرفط، وسأقول ذلك، وقولى أنت يا صفية ذلك، قالت: تقول سودة فو الله ما هو إلا أن قام على(16/423)
الباب فأردت أن أبادئه بما أمرتنى به فرقا منك. ومن رواية مسلم- قالت تقول سودة: فو الذى لا إله إلا هو لقد كدت أبادئه بالذى قلت لى، وإنه لعلى الباب فرقا منك. قال البخارىّ: فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟
قال: «لا» قلت: فما هذه الريح التى أجد منك؟ قال: «سقتنى حفصة شربة عسل» فقالت: جرست نحله العرفط، فلما دار الىّ قلت له نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: ألا أسقيك منه؟ قال:
«لا حاجة لى فيه» قالت: تقول سودة والله لقد حرمناه «1» ، قلت لها: اسكتى «2» .
وفى رواية عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له:
أكلت مغافير، إنى أجد منك ريح مغافير، قال: «لا، ولكنى كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبرى بذلك أحدا» ، فأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
«3» .
وروى مسلم بن الحجاج فى صحيحه بسنده عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، وكان منزلى فى بنى أمية بن زيد بالعوالى، فتغضّبت يوما على امرأتى، فإذا هى تراجعنى، فأنكرت أن تراجعنى، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبىّ صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فانطلقت فدخلت(16/424)
على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم [فقلت:
أتهجره إحدا كنّ إلى الليل؟ قالت: نعم، فقلت «1» ] : قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر، أفتأمن إحدا كنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم؟
فإذا هى قد هلكت، لا تراجعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئا، وسلينى ما بدا لك، ولا يغرّنك أن كانت جارتك هى أوسم وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، يريد عائشة.
ومن رواية البخارىّ قال: خرجت حتى دخلت على أمّ سلمة لقرابتى منها فكلمتها، فقالت أمّ سلمة: عجبا لك يابن الخطّاب! دخلت فى كل شىء حتى تبتغى أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فأخذتنى والله أخذا كسرتنى عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها.
رجعنا إلى حديث مسلم- قال عمر: وكان لى جار من الأنصار فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوما، وأنزل يوما، فيأتينى بخبر الوحى وغيره، وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدّث أن غسّان تنعل الخيل لغزونا «2» ، فنزل صاحبى، ثم أتانى عشاء فضرب بابى، ثم نادانى فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: ماذا، أجاءت غسّان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلّق النبىّ صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، وقد كنت أظنّ هذا كائنا، حتى إذا صلّيت الصبح شددت علىّ ثيابى، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهى تبكى، فقلت: أطلقكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقالت: لا أدرى، ها هو ذا معتزل فى هذه المشربة، فأتيت غلاما له أسود فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلىّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت(16/425)
حتى انتهيت إلى المنبر فجلست، فإذا عنده رهط جلوس يبكى بعضهم، فجلست قليلا ثم غلبنى ما أجد، ثم أتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلىّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فولّيت مدبرا، فإذا الغلام يدعونى، فقال: ادخل فقد أذن لك، فدخلت فسلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو متّكئ على رمل «1» حصير قد أثّر فى جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟
فرفع رأسه إلىّ وقال: «لا» فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فتغضّبت على امر أتى يوما فإذا هى تراجعنى، فأنكرت أن تراجعنى، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إنّ أزواج النبىّ صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهنّ وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا هى قد هلكت، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرّنك أن كانت جارتك هى أوسم منك وأحبّ إلى رسول الله منك، فتبسم أخرى.
ومن رواية البخارىّ- قال عمر: فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فلما بلغت حديث أمّ سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر التّبسم فيما قبلها.
قال مسلم فى حديثه: فقلت أستأنس «2» يا رسول الله؟ قال: «نعم» فجلست فرفعت رأسى فى البيت، فو الله ما رأيت فيه شيئا يردّ البصر(16/426)
إلا أهبا «1» ثلاثة، فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسّع على أمتك، فقد وسّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا ثم قال: «أفى شك أنت يابن الخطاب، أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم فى الحياة الدنيا» فقلت: استغفر لى يا رسول الله، قال: وكان أقسم ألّا يدخل عليهنّ شهرا من شدة موجدته «2» عليهنّ حتى عاتبه الله عزّ وجلّ.
وعن عروة عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما مضى تسع وعشرون ليلة دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- بدأ بى- فقلت: يا رسول الله، إنك أقسمت ألّا تدخل علينا شهرا، وإنك دخلت من تسع وعشرين، أعدّهن؟
فقال: «إنّ الشهر تسع وعشرون» ثم قال: «يا عائشة، إنى ذاكر لك أمرا فلا عليك ألّا تعجلى حتى تستأمرى أبويك» ثم قرأ علىّ الآية: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ)
حتى بلغ (أَجْراً عَظِيماً)
»
فقالت عائشة: قد علم والله أن أبوىّ لم يكونا ليأمرانى بفراقه، فقلت: أو فى هذا أستأمر أبوىّ؟ فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفيها هدم رسول الله مسجد الضّرار.
ذكر خبر مسجد الضرار وهدمه ومن اتخذه من المنافقين
وكان هدم مسجد الضّرار عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وكان أصحابه الذين بنوه اثنى عشر رجلا: وهم خذام بن خالد ومن داره خرج، وثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبّاد ابن حنيف، وجارية بن عامر، وابناه مجمّع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبحزج من بنى ضبيعة، وبجاد بن عثمان من بنى ضبيعة، ووديعة بن ثابت، فأتوا رسول الله(16/427)
صلى الله عليه وسلم وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذى العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلى لنا فيه، فقال: «إنّى على جناح سفر وحال شغل- أو كما قال صلى الله عليه وسلم- ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى لأتيناكم فصلينا لكم فيه» فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك نزل بذى أوان- بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار- أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدّخشم أخا بنى سالم بن عوف، ومعن بن عدىّ، أو أخاه عاصم بن عدىّ، فقال:
«انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه» فخرجا سريعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدّخشم، فقال مالك لمعن: أنظرنى حتى أخرج إليك بنار من أهلى، فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النّخل فأشعل فيه نارا، ثم [خرجا «1» ] يشتدّان حتى دخلاه وفيه أهله فحرّقاه وهدماه وتفرّقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
«2» وفيها لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العجلانىّ وبين امرأته فى مسجده بعد صلاة العصر فى شعبان، وكان عويمر قدم من تبوك فوجدها حبلى. وفى شوّال منها(16/428)
مات عبد الله بن أبىّ بن سلول المنافق، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصلّ بعدها على منافق؛ لقوله تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ)
«1» الآية.
وفيها ماتت أمّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشىّ فى اليوم الذى مات فيه بالحبشة، قيل:
فى شهر رجب. وفيها أسلم كعب بن زهير. والله أعلم بالصواب.
ذكر إسلام كعب بن زهير بن أبى سلمى وامتداحه رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان سبب إسلامه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن الطائف كتب أخوه بجير بن زهير إليه يخبره أن النبى صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقى من شعراء قريش كابن الزّبعرى، وهبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كل وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت لم تفعل فابح إلى نجائك من الأرض. وكان كعب قد كتب إلى أخيه بجير لمّا بلغه إسلامه:
ألا أبلغا عنّى بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا؟
شربت مع المأمون كأسا رويّة ... فأنهلك المأمون منها وعلّكا «2»
وخالفت أسباب الهدى واتّبعته ... على أىّ شىء ويب غيرك دلّكا «3»
على خلق لم تلف أمّا ولا أبا ... عليه ولم تدرك عليه أخا لكا(16/429)
ويروى:
على خلق لم تلف يوما أبا له ... عليه وما تلفى عليه أبا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قائل إمّا عثرت: لعّا لكا «1» !
وبعث بها إليه، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لما سمع «2» ] قوله «سقاك بها المأمون» : «صدق وإنه لكذوب، [أنا المأمون «3» ] » ولما سمع قوله «على خلق لم تلف أمّا ولا أبا عليه» قال: « [أجل «4» ] لم يلف عليه أباه ولا أمه» فكتب بجير إلى كعب:
من مبلغ كعبا فهل لك فى التى ... تلوم عليها باطلا وهى أحزم
إلى الله- لا العزّى ولا اللّات- وحده ... فتنجو إذا كان النّجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شىء دينه ... ودين أبى سلمى علىّ محرّم
قال: فلما بلغ كعبا كتاب أخيه ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان فى حاضره «5» من عدوّه، فقالوا: هو مقتول، فقال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها خوفه، وإرجاف الوشاة به من عدوّه، وخرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلّى الصبح فصلّى معه، ثم أشار الجهنىّ لكعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه، فقام حتى جلس إليه، فوضع يده فى يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم(16/430)
لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إنّ كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائيا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» فقال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير، فوثب رجل من الأنصار وقال: يا رسول الله، دعنى وعدوّ الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه عنك، فإنه قد جاء تائبا نازعا «1» » . قال: فغضب كعب على هذا الحىّ من الأنصار لما صنع به صاحبهم، وأنشد كعب قصيدته؛ وهى:
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيّم عندها لم يجز مكبول «2»
وما سعاد غداة البين إذ برزت ... إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحول «3»
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكى قصر منها ولا طول «4»
تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت ... كأنّه منهل بالرّاح معلول «5»
شجّت بذى شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول «6»
تنفى الرّياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب غادية بيض يعاليل «7»(16/431)
ويل أمّها خلّة لو أنّها صدقت ... بوعدها أو لو أنّ النّصح مقبول «1»
لكنها خلّة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل «2»
فما تقوم على حال تكون به ... كما تلوّن فى أثوابها الغول «3»
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلّا الأباطيل «4»
وما تمسّك بالعهد التى زعمت ... إلّا كما يمسك الماء الغرابيل «5»
أرجو وآمل أن يعجلن فى أبد ... وما لهنّ إخال الدهر تعجيل «6»
فلا يغرنك ما منّت وما وعدت ... إنّ الأمانىّ والأحلام تضليل
أمست سعاد بأرض ما يبلّغها ... إلا العتاق النّجيبات المراسيل «7»
ولا يبلّغها إلا عذافرة ... فيها على الأين إرقال وتبغيل «8»(16/432)
من كل نضّاخة الذّفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول «1»
ترمى النّجاد بعينى مفرد لهق ... إذا توقّدت الحزّان والميل «2»
ضخم مقلّدها فعم مقيّدها ... فى خلقها عن بنات الفحل تفضيل «3»
حرف أخوها أبوها من مهجّنة ... وعمّها خالها قوداء شمليل «4»
يمشى القراد عليها ثم يزلقه ... منها لبان وأقراب زهاليل «5»
عيرانة قذفت بالنّحض من عرض ... مرفقها عن بنات الزّور مفتول «6»(16/433)
قنواء فى حرّتيها للبصير بها ... عتق مبين وفى الخدّين تسهيل «1»
كأنّ ما فات عينيها ومذبحها ... من خطمها ومن اللّحيين برطيل «2»
تمرّ مثل عسيب النّخل ذا خصل ... فى غارز لم تخوّنه الأحاليل «3»
تهوى على يسرات وهى لاهية ... ذوابل وقعهنّ الأرض تحليل «4»
سمر العجايات يتركن الحصى زيما ... لم يقهنّ سواد الأكم تنعيل «5»
يوما يظلّ به الحرباء مرتبئا ... كأنّ ضاحيه فى النار مملول «6»
وقال للقوم حاديهم وقد جعلت ... بقع الجنادب يركضن الحصى قيلوا «7»(16/434)
كأنّ أوب ذراعيها وقد عرقت ... وقد تلفّع بالقور العساقيل «1»
أوب يدى فاقد شمطاء معولة ... قامت فجاوبها نكد مثاكيل «2»
نوّاحة رخوة الضّبعين ليس لها ... لما نعى بكرها الناعون معقول «3»
تفرى اللّبان بكفّيها ومدرعها ... مشقّق عن تراقيها رعابيل «4»
تسعى الوشاة بجنبيها وقولهم ... إنك يابن أبى سلمى لمقتول «5»
وقال كلّ صديق كنت آمله ... لا ألهينّك إنّى عنك مشغول «6»
فقلت خلّوا طريقى لا أبا لكم ... فكلّ ما قدّر الرحمن مفعول
كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول «7»
نبّئت أنّ رسول الله أوعدنى ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل «8»(16/435)
لا تأخذنّى بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت فىّ الأقاويل
لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظلّ ترعد من وجد بوادره ... إن لم يكن من رسول الله تنويل «1»
حتى وضعت يمينى ما أنازعها ... فى كفّ ذى نقمات قوله القيل «2»
فلهو أخوف عندى إذ أكلّمه ... وقيل إنّك منسوب ومسئول «3»
من ضيغم بضراء الأرض مخدره ... فى بطن عثّر غيل دونه غيل «4»
يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من الناس معفور خراذيل «5»
إذا يساور قرنا لا يحلّ له ... أن يترك الفرن إلّا وهو مفلول «6»
منه تظلّ حميرا الجوّ نافرة ... ولا تمشّى بواديه الأراجيل «7»(16/436)
ولا يزال بواديه أخو ثقة ... مطرّح البزّ والدّرسين مأكول «1»
إنّ الرسول لنور يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول «2»
أغرّ أبلج يستسقى الغمام به ... كأنّ طلعته فى الليل قنديل «3»
فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لمّا أسلموا زولوا «4»
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللّقاء ولا ميل معازيل «5»
يمشون مشى الجمال الزّهر يعصمهم ... ضرب إذا عرّد السّود التّنابيل «6»
شمّ العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود فى الهيجا سرابيل «7»
بيض سوابغ قد شكّت لها حلق ... كأنّها حلق القفعاء مجدول «8»(16/437)
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطّعن إلّا فى نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل «1»
قال ابن إسحاق: فلما قال كعب فى قصيدته: «إذا عرّد السّود التنابيل» ، وإنما أراد معشر الأنصار، وخصّ المهاجرين من قريش بمدحته، غضبت الأنصار عليه، فقال بعد ذلك يمتدح الأنصار من قصيدة له:
من سرّه كرم الحياة فلا يزل ... فى «2» مقنب من صالحى الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إنّ الخيار «3» هم بنو الأخيار
المكرهين السّمهرىّ بأذرع ... كسوالف «4» الهندىّ غير قصار
والناظرين بأعين محمرّة ... كالجمر غير كليلة الإبصار
والبائعين نفوسهم لنبيّهم ... للموت يوم تعانق وكرار «5»
يتطهّرون «6» يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفّار
دربوا كما دربت ببطن خفيّة «7» ... غلب الرّقاب من الأسود ضوارى
وإذا حللت ليمنعوك إليهم ... أصبحت عند معاقل الأغفار «8»(16/438)
ضربوا عليّا يوم بدر ضربة ... دانت لوقعتها جميع نزار «1»
لو يعلم الأقوام علمى كلّه ... فيهم لصدّقنى الذين أمارى
قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقارى «2»
قال ابن هشام: ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أنشد «بانت سعاد فقلبى اليوم متبول» : «لولا ذكرت الأنصار بخير، فإنّ الأنصار لذلك أهل» .
ذكر حج أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه بالناس وأذان علىّ رضى الله عنه بسورة براءة
قال: وفى ذى القعدة سنة تسع من الهجرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه أميرا على الحاج ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر رضى الله عنه ومن معه من المسلمين، ثم نزلت سورة براءة فى نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذى كانوا عليه فيما بينهم وبينه، ألّا يصدّ عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد فى الشهر الحرام، وكان عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه فقال:
«اخرج بهذه القصة من صدر براءة، فأذّن فى الناس يوم النّحر إذا اجتمعوا بمنى(16/439)
أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدّته» فخرج علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه بالطريق، فلما رآه أبو بكر رضى الله عنه قال:
أمير أو مأمور؛ قال: بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر رضى الله عنه للناس حجهم، وذلك فى ذى القعدة، حتى إذا كان يوم النحر قام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فأذن فى الناس بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال:
«أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته» وأجّل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم «1» ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمّة إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدّة فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حوادث السنة العاشرة
فيها كانت حجّة الوداع، سنذكرها إن شاء الله تعالى فى حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها نزل فى يوم جمعة قوله عزّ وجلّ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)
«2» . وفيها نزلت: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ)
«3»(16/440)
الآية. وكانوا لا يفعلونه قبل ذلك. وفيها مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شهر ربيع الأوّل. وفى كل سنة من هذه السنين العشر غزوات وسرايا ووقائع تذكر إن شاء الله تعالى فى مواضعها؛ والله المستعان الهادى.
صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع عشر فى الأصل الثانى المرموز له بحرف (ا)
«كمل الجزء الرابع عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب؛ للشيخ الإمام شهاب الدين أحمد النّويرىّ رحمه الله تعالى، على يد كاتبه أضعف الخلق وأحقرهم إلى الرحمة، نور الدين بن شرف الدين العاملىّ بلدا، الشافعىّ مذهبا، غفر الله له ولوالديه، ولمن يطالعه ويدعو له. آمين» .
تم بعون الله تعالى تحقيق الجزء السادس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» من تجزئة طبعة دار الكتب المصرية فى يوم الخميس 17 من جمادى الثانية سنة 1374 هـ الموافق 10 من فبراير سنة 1955 م.
ويليه الجزء السابع عشر، وأوله: «ذكر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم» .(16/441)
فهرس المراجع
1: الاستيعاب لابن عبد البر، حيدر آباد 1318 أسد الغابة فى معرفة الصحابة، الوهبية 1280 الاشتقاق لابن دريد، جوتنجن 1754 م لإصابة فى تمييز الصحابة، الشرفية 1327 الأصنام لابن الكلبى، دار الكتب المصرية 1343 الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى، بولاق 1285 الاكتفا بما تضمنه من مغازى المصطفى، مخطوطة دار الكتب 2441 حديث.
الإكمال لابن ماكولا، مخطوطة دار الكتب 8 مصطلح.
الإنباه على قبائل الرواه لابن عبد البر نشره القدسى 1350 الأنساب للسمعانى، ليدن 1912 م.
البداية والنهاية لابن كثير، السعادة 1351 تاريخ ابن الأثير، بولاق 1290 تاريخ الخميس للديار بكرى، الوهبية بمصر 1283 تاريخ دمشق لابن عساكر، مخطوط دار الكتب 1041 تاريخ تيمور.
تاريخ الطبرى، الحسينية بالقاهرة 1336 تاريخ اليعقوبى، النجف 1358 تهذيب الأسماء واللغات للنووى، المنيرية بالقاهرة.
تهذيب التهذيب، حيدر آباد 1327 تهذيب الكمال للمزى، مخطوطة دار الكتب المصرية 25 مصطلح.
التيجان فى ملوك حمير، حيدر آباد 1347 ثمرات الأوراق لابن حجة، الوهبية 1300 الجامع الصغير للسيوطى، بولاق 1286 جمهرة الأنساب لابن حزم، المعارف 1948 م 2: حلية الأولياء لأبى نعيم، السعادة 1357 الحماسة بشرح التبريزى حياة الحيوان للدميرى، الباببى الحلبى 1305 الخبر عن البشر للمقريزى، مخطوطة دار الكتب 947 تاريخ.
خزانة الأدب للبغدادى، بولاق 1219 خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجى، بولاق 1301 خير البشر لابن ظفر، القاهرة 1280 خير البشر، مخطوطة دار الكتب 15 مجاميع دلائل النبوّة للبيهقى، مخطوطة دار الكتب المصرية 212 حديث.
دلائل النبوّة لأبى نعيم، حيدر آباد 1320 الروض الأنف للسهيلى، الجمالية بمصر 1332 السيرة الحلبية، مصر 1320 السيرة النبوية لابن هشام، مصطفى الحلبى 1355، وجوتنجن 1860 م.
شرح السيرة للخشنى، هندية 1329 شرح الشفاء للخفاجى نسيم الرياض.
شرح الشفاء للشمنى مزيل الخلفا.
شرح المواهب اللدنية للزرفانى، بولاق 1278 صفة الصفوة، حيدر آباد 1355 طبقات ابن سعد، ليدن 1321 طبقات القرّا، السعادة 1351 عيون الأثر لابن سيد الناس نشره القدسى 1356 الكامل فى الضعفاء لابن عدى، مخطوطة 96 مصطلح.
كنوز الحقائق للمناوى، مصر 1305 مجمع الأمثال للميدانى، بولاق 1284(16/443)
1 المحبر لابن حبيب، حيدر آباد 1361 مزيل الخفا عن ألفاظ الشفاء للشمنى، مخطوطة دار الكتب 375 حديث.
المعارف لابن قتيبة، الحسينية 1353 معجم البلدان، السعادة 1324 معجم الطبرانى، مخطوطة دار الكتب 1353 حديث.
المعمرين لأبى حاتم، السعادة 1323 المقتفى من سيرة المصطفى لبدر الدين بن حبيب الموصلى، مخطوطة دار الكتب 309 تاريخ. 2 المقدّمة الفاضلية، مخطوطة دار الكتب 19 تاريخ.
الميسر والقداح لابن قتيبة، السلفية نسب قريش، مخطوط دار الكتب 4151 تاريخ.
نسب معد لابن الكلبى، مخطوطة 9959 تاريخ.
نسيم الرياض، الآستانة 1267 النهاية لابن الأثير، بولاق 1311 الوافى بالوفيات، مخطوط دار الكتب 1219 تاريخ.
وفيات الأعيان، بولاق 1299.(16/444)
فهرس الجزء السّابع عشر
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ
غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما يتصل بذلك من الوقائع التى لم تذكر فى حوادث السنين لتعلقها بالغزوات 1
أوّل لواء عقده صلّى الله عليه وسلّم 2
سريّة عبيدة بن الحارث بن المطلب إلى بطن رابع 2
سرية سعد بن أبى وقاص إلى الخرار 3
غزوة الأبواء 4
غزوة بواط 4
غزوة بدر الأولى 5
غزوة ذى العشيرة 5
سرية عبد الله بن جحش الأسدى إلى نخلة 6
غزوة بدر الكبرى 10
رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب وخروج قريش إلى بدر 11
خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المسلمين إلى بدر 15
قتال الملائكة مع المسلمين 26(مقدمةج 17/1)
ورود الخبر بمصاب أهل بدر على من بمكة من كفار قريش، وهلاك أبى لهب بن عبد المطلب 31
تسمية من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 33
تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة بدر 44
تسمية من قتل من المشركين فى غزوة بدر 44
تسمية من أسر من المشركين فى غزوة بدر 51
خبر أسارى بدر، وما كان من فدائهم، ومن منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأطلقه منهم، ومن أسلم بسبب ذلك 54
خبر أبى سفيان فى أسر ابنه عمرو وإطلاقه 56
خبر أبى العاص بن الربيع فى فدائه، وإرساله زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة وإسلامه بعد ذلك 57
خبر الوليد بن الوليد بن المغيرة 61
من منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أسارى بدر وأطلقه بغير فداء 61
خبر عمير بن وهب وإسلامه، وإطلاق ولده وهب بن عمير 62
سريّة عمير بن عدى بن خرشة الخطمى إلى عصماء بنت مروان من بنى أمية بن زيد 65
سرية سالم بن عمير العمرى إلى أبى عفك اليهودى 66
غزوة بنى قينقاع 67
غزوة السويق 70
غزوة قرقرة الكدر 71(مقدمةج 17/2)
مقتل كعب بن الأشرف اليهودى 72
غزوة غطفان إلى نجد 77
غزوة بنى سليم ببحران 79
سرية زيد بن حارثة إلى القردة 80
غزوة أحد 81
خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه 100
تسمية من استشهد من المسلمين يوم أحد 104
تسمية من قتل من المشركين يوم أحد 108
ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة أحد، وما ورد فى تفسير ذلك 111
غزوة حمراء الأسد 126
سرية أبى سلمة بن عبد الأسد المخزومى 127
سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلى 128
سرية المنذر بن عمرو الساعدى إلى بئر معونة 130
سرية مرثد بن أبى مرثد الغنوى إلى الرجيع 133
غزوة بنى النضير 137
ما أنزل الله عز وجل فى بنى النضير 140
قصة برصيصا 148
غزوة بدر الموعد 154
غزوة ذات الرقاع، وخبر صلاة الخوف 158
خبر غورث بن الحارث المحاربى لما أراد أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم 159(مقدمةج 17/3)
خبر جابر بن عبد الله فى جمله، واستغفار النبى صلّى الله عليه وسلّم لأبيه 160
غزوة دومة الجندل 162
غزوة بنى المصطلق، وهى غزوة المريسيع 164
غزوة الخندق وهى غزوة الأحزاب 166
تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة الخندق، ومن قتل من المشركين 178
ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة الخندق، وما ورد فى تفسير ذلك 179
غزوة بنى قريظة 186
نزول بنى قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسؤال الأوس فيهم وتحكيم سعد بن معاذ وحكمه فيهم بحكم الله تعالى وقتلهم 190
سرية عبد الله بن عتيك إلى أبى رافع سلّام بن أبى الحقيق النضرى بخيبر 197
سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء 200
غزوة بنى لحيان 200
غزوة الغابة وهى غزوة ذى قرد 201
سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى الغمر 203
سرية محمد بن مسلمة إلى بنى ثعلبة بذى القصّة 204
سرية أبى عبيدة بن الجرّاح إلى ذى القصة 204
سرية زيد بن حارثة إلى بنى سليم بالجموم 205
سرية بن زيد بن حارثة إلى العيص 206(مقدمةج 17/4)
سرية زيد بن حارثة إلى الطرف 206
سرية زيد بن حارثة إلى حسمى 207
سرية زيد بن حارثة إلى وادى القرى 208
سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل 209
سرية على بن أبى طالب إلى بنى سعد بن بكر بفدك 209
سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة 210
سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن رزام اليهودى بخيبر 211
سرية كرز بن جابر الفهرى إلى العرنيين 213
سريّة عمرو بن أمية الضمرى وسلمة بن أسلم إلى أبى سفيان بن حرب بمكة 214
غزوة الحديبية 217
تجمع قريش للحرب 218
بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خراش بن أمية الخزاعى إلى قريش بمكة 226
بيعة الرضوان 227
ذكر هدنة قريش، وما وقع فيها من الشروط 229
رجوع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ونزول سورة الفتح 234
خبر أبى بصير بن أسيد بن جارية 245
غزوة خيبر 248
خبر بنى سهم حين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 255
فتح الوطيح والسلالم من حصون خيبر 257(مقدمةج 17/5)
تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة خيبر 259
قسم غنائم خيبر 261
تسمية من قسم لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتيبة التى خرجت للخمس، وما أعطاهم منها 263
خبر الحجاج بن علاط وما أوصله إلى أهل مكة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى استوفى أمواله 266
انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن خيبر إلى وادى القرى، ونومهم عن صلاة الصبح 268
سرية عمر بن الخطاب إلى تربة 270
سرية أبى بكر الصديق إلى بنى كلاب بنجد 271
سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى فدك 272
سريّة غالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة 272
سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى يمن وجبار 273
سرية ابن أبى العوجاء السلمى إلى بنى سليم 274
سرية غالب بن عبد الله الليثى إلى بنى الملوح بالكديد 274
سريته إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك 276
سرية شجاع بن وهب الأسدى إلى بنى عامر بالسىّ 276
سرية كعب بن عمير الغفارى إلى ذات أطلاح 277
سرية مؤتة 277
تسمية من استشهد من المسلمين يوم مؤتة 283
سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل 283(مقدمةج 17/6)
سرية أبى عبيدة بن الجرّاح، وهى سريّة الخبط 284
سرية أبى قتادة بن ربعى الأنصارى إلى خضرة 285
سريته إلى بطن إضم 286
غزوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح 287
خبر حاطب بن أبى بلتعة فى كتابه إلى أهل مكة، وإعلام الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بذلك وأخذه الكتاب، وما أنزل الله عز وجل فى ذلك من القرآن 291
خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة 296
خبر أبى سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 297
محبىء العباس بأبى سفيان بن حرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسلام أبى سفيان، وخبر الفتح 299
دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكة صلحا، ودخول خالد بن الوليد ومن معه من القبائل عنوة 302
شعر ضرار بن الخطاب يوم الفتح 304
من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتلهم يوم فتح مكة وسبب ذلك، ومن قتل منهم، ومن نجا بإسلامه 307
إسلام أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم ابن مرة بن كعب 310
إسلام عبد الله بن الزبعرى وشعره فى ذلك 311
دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد وطوافه بالبيت، ودخوله الكعبة، وما فعل بالأصنام 312(مقدمةج 17/7)
سرية خالد بن الوليد إلى العزّى وهدمها 314
سرية عمرو بن العاص إلى سواع وكسره 315
سرية سعد بن زيد الأشهلى إلى مناة 315
سرية خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يوم الغميصاء 316
خبر عبد الله بن علقمة مع حبيشة ومقتله 317
غزوة حنين إلى هوازن وثقيف 323
سرية الطفيل بن عمرو الدوسى إلى ذى الكفّين 335
مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الجعرانة، وقسم مغانم حنين، وما أعطاه المؤلّفة 339
قدوم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم وردّ السبابا إليهم 341
تسمية من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرها عند قسم مغانم حنين 345
مقالة الأنصار فى أمر قسم الفىء، وما أجابهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 346
استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد على مكة، ورجوعه إلى المدينة 348
سرية عيينة بن حصن الفزارى إلى بنى تميم 348
خبر الوليد بن عقبة بن أبى معيط مع بنى المصطلق 349
سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم 350(مقدمةج 17/8)
سرية الضحاك بن سفيان الكلابى إلى بنى كلاب 350
سرية علقمة بن مجزّز المدلجى إلى الحبشة 351
سرية على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى الفلس 352
سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى الجناب 352
غزوة تبوك 352
سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك 356
خبر مرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر وما قاله لأصحابه 358
أخبار المنافقين، وما تكلموا به فى غزوة تبوك، وما أنزل الله عز وجل فيهم من القرآن 359
خبر الثلاثة الذين خلّفوا، وما أنزل فيهم وفى المعذّرين من الأعراب 361
سرية على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى اليمن 368
سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أرض الشراة 370
حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمره 371
خطبته فى حجة الوداع 373
عمرة القضاء 375(مقدمةج 17/9)
الجزء السابع عشر
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[تتمة الباب الأول من القسم الخامس في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه التوفيق والإعانة
ذكر غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وما يتصل بذلك من الوقائع التى لم تذكر فى حوادث السنين لتعلقها بالغزوات كانت غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التى حضرها بنفسه سبعا وعشرين غزّاة، كلّها بعد هجرته صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وهى:
غزوة الأبواء، وهى غزوة ودّان، ثم غزوة بواط، ثم غزوة بدر الأولى، ثم غزوة ذى العشيرة، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بنى قينقاع، ثم غزوة السّويق، ثم غزوة قرقرة الكدر، وهى غزوة بنى سليم، ثم غزوة غطفان إلى نجد، وهى غزوة ذى أمر «1» ، ثم غزوة بنى سليم ببحران، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بنى النّضير، ثم غزوة بدر الموعد «2» ، ثم غزوة ذات الرّقاع، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بنى المصطلق بالمريسيع، ثم غزوة الخندق، وهى غزوة الأحزاب، ثم غزوة بنى قريظة، ثم غزوة بنى لحيان، ثم غزوة الغابة، وهى غزوة ذى قرد، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطّائف، ثم غزوة تبوك، ومنهم من عدّ عمرة القضاء مع الغزوات، وكانت بعد خيبر وقبل الفتح.(17/1)
قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذه الغزوات فى تسع، وهى: بدر الكبرى، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطّائف؛ وقيل: إنه قاتل فى بنى النّضير، والغابة.
وسراياه صلّى الله عليه وسلّم نحو من ستّين سريّة «1» .
ذكر أوّل لواء عقده صلّى الله عليه وسلّم
كان أوّل لواء عقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمّه حمزة بن عبد المطلب فى شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره لواء أبيض، حمله أبو مرثد كنّاز بن الحصين الغنوىّ، حليف حمزة، وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ثلاثين رجلا من المهاجرين يعترض لعير «2» قريش قد جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل بن هشام فى ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف «3» البحر من ناحية العيص «4» ، فالتّقوا، وصفّوا للقتال، فمشى مجدىّ بن عمرو الجهنىّ، وكان موادعا للفريقين جميعا، إلى هؤلاء مرة، وإلى هؤلاء مرة، حتى حجز بينهم.
ذكر سرية عبيدة بن الحارث بن المطّلب إلى بطن رابغ
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال على رأس ثمانية أشهر من مهاجره فى ستين رجلا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وعقد له لواء أبيض،(17/2)
حمله مسطح بن أثاثة بن المطّلب بن عبد مناف. حكاه محمد بن سعد.
قال ابن إسحاق: أو ثمانين رجلا من المهاجرين، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنيّة المرة، فلقى به جمعا عظيما من قريش.
قال الشيخ شرف الدين الدمياطىّ رحمه الله: فلقى أبا سفيان بن حرب، وهو فى مائتين، على ماء يقال له أحياء، من بطن رابغ على عشرة أميال من الجحفة، فكان بينهم الرّمى ولم يسلّوا السيوف ولم يصطفّوا للقتال، وكان سعد بن أبى وقّاص أوّل من رمى بسهم فى سبيل الله، ثم انصرف الفريقان على حاميتهم «1» ؛ وكان على القوم عكرمة بن أبى جهل. وقال أبو محمد بن هشام: كان عليهم مكرز بن حفص ابن الأخيف.
قال ابن إسحاق: وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهرانىّ حليف بنى زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازنىّ حليف بنى نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين، ولكنهما جاءا مع القوم ليتوصّلا بهم «2» .
وقدّم ابن إسحاق هذه السّريّة على سرية حمزة.
ذكر سريّة سعد بن أبى وقّاص إلى الخرّار «3»
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة على رأس تسعة أشهر من مهاجره فى عشرين رجلا من المهاجرين، وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو البهرانىّ، وساروا يتعرضون لعير قريش، وعهد إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألّا يجاوز الخرار.
قال سعد: فخرجنا على أقدامنا، فكنا نكمن النهار ونسير الليل، حتى صبّحناها صبح خمس، فنجد العير قد مرّت بالأمس.(17/3)
ذكر غزوة الأبواء
«1» وهى غزوة ودّان «2» وبينهما ستة أميال وهذه الغزوة أول غزاة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وكانت فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وخرج فى المهاجرين ليس فيهم أنصارىّ حتى بلغ الأبواء يعترض لعير قريش، فلم يلق كيدا.
وفى هذه الغزاة وادع مخشىّ بن عمرو الضّمرىّ، وكان سيّدهم فى زمانه، على ألّا يغزو بنى ضمرة ولا يغزوه، ولا يكثروا عليه جمعا، ولا يعينوا عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابا.
وكانت غيبته صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة ليلة.
ذكر غزوة بواط
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل على رأسه ثلاثة عشر شهرا من مهاجره «3» وحمل لواءه سعد «4» بن أبى وقّاص، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد «5» بن معاذ. [وقال ابن هشام: استعمل عليها السائب بن عثمان بن مظعون.](17/4)
وخرج فى مائتين من أصحابه يعترض لعير قريش، فيها أميّة بن خلف الجمحىّ ومائة رجل من قريش وألف وخمسمائة بعير، فبلغ بواطا، وهى من جبال جهينة من ناحية رضوى، وهى قريب من ذى خشب مما يلى طريق الشام، وبين بواط والمدينة نحو من أربعة برد، فلم يلق كيدا، فرجع صلّى الله عليه وسلّم «1» .
ذكر غزوة بدر الأولى «2»
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره، لطلب كرز بن جابر الفهرىّ، وحمل لواءه على بن أبى طالب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وكان كرز قد أغار على سرح «3» المدينة فاستاقه، وكان يرعى بالجمّاء، فطلبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يلحقه، فرجع إلى المدينة.
ذكر غزوة ذى العشيرة
العشيرة، بالشين المعجمة، وقيل بالسين المهملة، وقيل: العشيرا بالألف.
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الآخرة، على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومىّ.(17/5)
وخرج فى خمسين ومائة، ويقال فى مائتين من المهاجرين ممن انتدب، ولم يكره أحدا على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها «1» ، وخرج يعترض لعير قريش حين ابتدأت إلى الشام، فبلغ ذا العشيرة، وهى لبنى مدلج بناحية ينبع، فوجد العير التى خرج لها قد مضت قبل ذلك بأيام، وهى العير التى خرج أيضا يريدها حين رجعت من الشام، فكانت فيها وقعة بدر الكبرى.
وفى هذه الغزاة وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة. وفيها كنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا رضى الله عنه أبا تراب «2» ، وقيل فى غيرها.
ذكر سرّية عبد الله بن جحش الأسدى إلى نخلة
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجره فى اثنى عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان بعيرا.
قال ابن إسحاق: وكتب [له «3» ] رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، ويمضى لما أمره به، ولا يستكره أحدا من أصحابه.(17/6)
قال: وكان معه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعكّاشة بن محصن، وعتبة ابن غزوان بن جابر، وسعد بن أبى وقّاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التّميمىّ، وخالد بن البكير أحد بنى سعد بن ليث، وسهيل بن بيضاء.
هؤلاء الذين عدّهم ابن إسحاق؛ وكان معهم المقداد بن عمرو، حكاه محمد بن سعد.
قال ابن إسحاق: فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فإذا فيه:
«إذا نظرت فى كتابى هذا فأمض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشا، وتعلّم لنا من أخبارهم» . فلما نظر عبد الله فى الكتاب قال: سمع وطاعة.
ثم ذكر ذلك لأصحابه وقال لهم: قد نهانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أستكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشّهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمضوا كلّهم، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران، أضلّ سعد بن أبى وقّاص وعتبة بن غزوان بعيرهما، فتخلّفا فى طلبه، ومضى عبد الله وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما «1» وتجارة من تجارة قريش- قال ابن سعد: وخمرا- وفيها عمرو بن الحضرمىّ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم؛ وكان عكّاشة حلق رأسه ليطمئن «2» القوم؛ فأمنوا.
وقال لهم «3» عثمان: لا بأس عليكم منهم. قال: فسّرحوا ركابهم، وصنعوا طعاما.
قال: فتشاور القوم فيهم، وذلك آخر يوم من شهر رجب، فقالوا: والله لئن(17/7)
تركتموهم فى هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ منكم به، وإن قتلتموهم لتقتلنّهم فى الشهر الحرام. فتردّد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجّعوا أنفسهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم؛ فخرج واقد بن عبد الله يقدم المسلمين، فرمى عمرو بن الحضرمىّ بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل «1» بن عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبد الله وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فلما قدموا عليه قال: ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام. ووقّف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا؛ فأسقط «2» في يد القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنّفهم المسلمون فيما صنعوا.
وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدّم، وأخذوا فيه الأموال «3» ، وأسروا الرجال؛ وأكثر الناس فى ذلك، فأنزل الله تعالى:
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)
أى إن كنتم قتلتم فى الشهر الحرام فقد صدّوكم عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم. (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)
؛ أى قد كانوا يفتنون المسلمين فى دينهم حتى يردّوهم إلى الكفر بعد إيمانهم، فذاك أكبر عند الله من القتل.(17/8)
قال: فلما نزلت الآيات قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش فى فدائهما، فقال: لا. حتى يقدم صاحبانا، يعنى سعد ابن أبى وقّاص، وعتبة بن غزوان، فإنّا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فلحق بمكة، فكان بها حتى مات كافرا.
قال: فلما تجلّى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه طمعوا فى الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها اجر المجاهدين؟ فأنزل الله تعالى فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
، قال: وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفىء فجعل أربعة أخماسه لمن أفاءه، وخمسه إلى الله ورسوله.
قال ابن هشام: وهى أوّل غنيمة غنمها المسلمون، وعمرو بن الحضرمىّ أول من قتل المسلمون، وعثمان والحكم أول من أسر المسلمون. وفى هذه السريّة سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين.
وقال عبد الله بن جحش فى هذه الواقعة، ويقال إنها لأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه؛ والذى صحّحه ابن هشام أنها لعبد الله بن جحش، أبياتا يخاطب بها قريشا:
تعدّون قتلا فى الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرّشد راشد
صدودكم عمّا يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد(17/9)
وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلّا يرى لله فى البيت ساجد
فإنّا وإن عيّرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باع وحاسد
سقينا من ابن الحضرمىّ رماحنا ... بنخلة لمّا أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غلّ من القدّ عاند
«1»
ذكر غزوة بدر الكبرى
«2» ، ويقال فيها بدر القتال، وما يتّصل بها كان سبب هذه الغزوة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع بإقبال أبى سفيان بن حرب من الشام فى العير التى لقريش، وهى التى خرج إليها فى غزوة ذى العشيرة، وكان فيها أموال قريش وتجاراتهم، وفيها منهم ثلاثون أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص بن وائل، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلّ الله ينفلكموها، فانتدب الناس، فخفّ بعضهم وثقل بعض.
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسّس «3» الأخبار، ويسأل من لقى من الرّكبان عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تخوّفا على ما معه؛ فأخبره بعض الركبان: أن(17/10)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استنفر أصحابه لقصده، فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفارىّ؛ فبعثه إلى مكة، وأمره أن يستنفر قريشا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه؛ فأسرع ضمضم إلى مكة.
ذكر رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب وخروج قريش إلى بدر
قال محمد بن إسحاق رحمه الله بسنده إلى عبد الله بن عبّاس، وعروة بن الزبير رضى الله عنهم.
قالا: ورأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس، فقالت له: والله لقد رأيت رؤيا أفظعتنى وتخوّفت أن يدخل على قومك منها شرّ أو مصيبة، فاكتم عنى ما أحدّثك به، قال:
وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح «1» ، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا أنفروا يا آل غدر «2» ! لمصارعكم فى ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينماهم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر! لمصارعكم فى ثلاث، ثم مثل به بعيره على(17/11)
رأس أبى قبيس «1» فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها مكة «2» فلا دار منها إلا دخلتها منها فلقة؛ قال العباس: والله إنّ هذه لرؤيا! وأنت «3» فاكتميها.
ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبه بن ربيعة، وكان صديقا له؛ فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة؛ ففشا الحديث حتى تحدّثت به قريش.
قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت، وأبو جهل بن هشام فى رهط من قريش قعود يتحدّثون برؤيا عاتكة، فلما رآنى أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأت إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم؛ فقال لى أبو جهل: يا بنى عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبيّة؟ قلت: وما ذاك؟
قال: تلك الرؤيا التى رأت عاتكة، فقلت: وما رأت؟ فقال: يا بنى عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبّأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! فقد زعمت عاتكة فى رؤياها أنه قال:
انفروا فى ثلاث، فسنتربّص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شىء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت فى العرب؛ قال العباس: فو الله ما كان منى إليه كبير إلا أنّى جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئا، قال: ثم تفرّقنا.
فلما أمسيت لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب إلا أتتنى فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع فى رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع؛ ثم لم تكن(17/12)
عندك غيرة «1» لشىء مما سمعت! قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان منّى إليه من كبير؛ وأيم الله لأتعرّضنّ له، فإن عاد لأكفينّكنّه.
قال: فغدوت فى اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أنى قد فاتنى منه أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إنى لأمشى نحوه أتعرض له ليعود لبعض ما قال، فأوقع به، إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ «2» ، فقلت فى نفسى: ما له لعنه الله! أكلّ هذا فرق منى أن أشاتمه! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع؛ صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره، قد جدع «3» بعيره وحوّل رحله، وشقّ قميصه وهو يقول: يا معشر قريش، اللّطيمة «4» اللّطيمة! أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث! قال العباس: فشغلنى عنه، وشغله عنّى ما جاء من الأمر.
فتجهّز الناس سراعا وقالوا: أيظنّ محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمىّ؟
كلّا! والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إمّا خارج، وإما باعث رجلا مكانه، وأوعبت «5» قريش فلم يتخلّف من أشرافها أحد، إلا أن أبا لهب بن عبد المطلّب تخلّف، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، استأجره بأربعة آلاف درهم كانت لأبى لهب عليه، فخرج عنه.
وروى أبو الفرج علىّ بن الحسين الأصفهانىّ فى كتابه المترجم بالأغانى «6» بسند يرفعه إلى مصعب بن عبد الله قال:(17/13)
قامر أبو لهب العاصى بن هشام فى عشرة من الإبل فقمره «1» ، ثم فى عشرة فقمره، [ثم فى عشرة فقمره «2» ] ، إلى أن خلعه من ماله فلم يبق له شيئا، فقال له:
إنى أرى القداح قد حالفتك يابن عبد المطلب، فهلّم أقامرك يابن عبد المطلب، فأيّنا غلب كان عبد الصاحبه. قال: افعل، ففعل. فقمره أبو لهب، فكره أن يسترقّه فتغضب بنو مخزوم، فمشى إليهم فقال: افتدوه منى بعشرة من الإبل.
فقالوا: لا والله ولا بوبرة. فاسترقّه، فكان يرعى له إبله إلى أن خرج المشركون إلى بدر. قال: وقال غير مصعب: فاسترقه واحتبسه قينا «3» يعمل [الحديد «4» ] . فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجه أبو لهب عنه لأنه كان عليلا، على أنه إن عاد أعنقه، فقبل العاصى.
قال ابن اسحاق: وكان أميّة بن خلف قد أجمع القعود [وكان شيخا «5» جليلا جسيما ثقيلا] فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس فى المسجد بين قومه بمجمرة «6» ، فوضعها بين يديه، وقال: يا أبا علىّ، استجمر، فإنما أنت من النساء. فقال:
قبحك الله وقبح ما جئت به. ثم تجهّز وخرج مع الناس.
قال: ولما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا المسير، ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا.
فكادوا ينثنون؛ فتبدّى لهم إبليس فى صورة سراقة بن مالك المدلجىّ، وكان من أشراف كنانة، فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشىء مما تكرهونه فخرجوا سراعا.
هذا ما كان من أمر قريش.(17/14)
ذكر خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المسلمين إلى بدر
قال محمد بن إسحاق: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة لثمان خلون من شهر رمضان.
وقال محمد بن سعد: خرج يوم السبت لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجره، واستعمل على المدينة عمرو ابن أم مكتوم، واسمه عبد الله، ليصلّى بالناس، ثم ردّ أبا لبابة من الرّوحاء «1» واستعمله على المدينة، وخرج صلّى الله عليه وسلّم فى ثلاثمائة رجل وخمسة عشر رجلا، كان من المهاجرين منهم أربعة وسبعون، وسائرهم من الأنصار بعد أن ردّ من أصحابه من استصغرهم، ولم يكن غزا بالأنصار قبلها.
قال محمد بن سعد: وتخلّف من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانية لعلّة، ضرب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهامهم، وأجورهم؛ ثلاثة من المهاجرين: وهم عثمان بن عفان، خلّفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على امرأته رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت مريضة، فأقام عليها حتى ماتت، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، بعثهما يتحسّسان خبر العير، وخمسة من الأنصار، وهم: أبو لبابة بن عبد المنذر، خلّفه على المدينة، وعاصم بن عدىّ، خلّفه على أهل العالية، والحارث بن حاطب، رده من الرّوحاء إلى بنى عمرو بن عوف لشىء بلغه عنهم، والحارث بن الصّمة، وخوّات بن جبير، كسرا بالرّوحاء.(17/15)
وكانت إبل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ سبعين بعيرا يعتقبونها، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، ومرثد ابن أبى مرثد الغنوىّ يعتقبون بعيرا.
قال محمد بن سعد يرفعه إلى ابن مسعود قال: كنا يوم بدر كلّ ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة، وعلىّ، زميلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان إذا كانت عقبة النبى صلّى الله عليه وسلّم قالا له: اركب يا رسول الله حتى تمشى عنك، فيقول: «ما أنتما بأقوى على المشى منّى، وما أنا أغنى عن الأجر منكما.»
قال ابن إسحاق: وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتقبون بعيرا؛ وكان أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، يعتقبون بعيرا.
قال ابن سعد: وكانت الخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد ابن أبى مرثد الغنوىّ. قال ابن إسحاق: وفرس للزّبير بن العوّام.
قال: ودفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللّواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أبيض، قال: وكان أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رايتان سوداوان، إحداهما مع على بن أبى طالب، والأخرى مع الأنصار.
قال ابن سعد: وكان لواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السّاقة قيس بن أبى صعصعة أخا بنى مازن بن النجار. قال: ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(17/16)
قريبا من الصّفراء»
بعث بسبس بن عمرو، وعدىّ بن أبى الزّغباء الجهنيّين إلى بدر يتحسّسان له الأخبار عن أبى سفيان وعيره.
ثم ارتحل صلّى الله عليه وسلّم إلى ذفران- واد يسار الصّفراء- وأتاه الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال:
يا رسول الله، امض لما أمرك الله! فنحن معك فو الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)
، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد «2» لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيرا، ودعا له.
ثم قال: أشيروا علىّ أيها الناس- وإنما يريد الأنصار لأنهم عدد الناس- فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل؛ قال: فقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذى بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا، إنا لصبر فى الحرب، صدق فى اللّقاء،(17/17)
لعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم» .
ثم ارتحل صلّى الله عليه وسلّم من ذفران «1» حتى نزل قريبا من بدر، فركب هو وأبو بكر الصديق حتى وقفا على شيخ من العرب، فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبرانى من أنتما؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أو ذاك بذاك؟ قال نعم. قال الشيخ: فإنه بلغنى أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن صدق الذى أخبرنى فهم «2» اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذى ترك به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه- وبلغنى أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذى أخبرنى صدقنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذى به قريش- ثم قال: من أنتما؟
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نحن من ماء. ويقال: إن الشيخ سفيان الضّمرىّ. قال: ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علىّ بن أبى طالب، والزّبير بن العوّام، وسعد بن أبى وقّاص، فى نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له عليه الخبر، فأصابوا راوية «3» لقريش فيها أسلم، غلام بنى الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بنى العاص، فأتوا بهما؛ فسألهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قريش، فقالا: هم وراء هذا الكئيب الذى ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: كم القوم؟ قالا: كثير؛ قال: ما عدّتهم؟ قالا: لا ندرى.(17/18)
قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: تسعا، ويوما عشرا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: القوم ما بين التسعمائة والألف، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخترىّ بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدىّ بن نوفل، والنّضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأميّة بن خلف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ودّ، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت أفلاذ كبدها.
قال: وبلغ أبا سفيان الخبر بمقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد ورد ماء بدر، فرجع إلى أصحابه سريعا وصرف وجه عيره عن الطريق، فساحل بها «1» ، وترك بدرا يساره، وانطلق. وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة «2» ، رأى جهيم بن الصّلت بن مخرمة ابن عبد المطلب رؤيا فقال: إنّى فيما يرى النائم، أو إنى «3» لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدد رجالا ممّن كان قتل يوم بدر من أشراف قريش، ورأيته ضرب فى لبّة بعيره، ثم أرسله فى العسكر، فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح «4» من دمه.
قال: فبلغت أبا جهل بن هشام فقال: وهذا أيضا نبىّ آخر من بنى عبد المطلب! سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.(17/19)
قال: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله فارجعوا؛ فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا؛ وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم فيه سوق فى كل عام، فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان «1» ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعينا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا.
فمضت قريش حتى نزلوا العدوة «2» القصوى من الوادى، والقلب «3» ببدر فى العدوة «4» الدنيا، قال: وبعث الله السماء، وكان الوادى دهسا «5» ، فأصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه منها ما لبّد لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير.
وقال ابن سعد: كان المسلمون يومئذ يميدون من النعاس ونزلوا على كثيب «6» أهيل، فمطرت السماء فصار مثل الصّفا «7» يسعون عليه سعيا. وأنزل الله تعالى:
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ «8» النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) .
قال ابن إسحاق: وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء(17/20)
من ماء بدر نزل به، فأتاه الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله، هذا المنزل منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدّمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل الرأى والحرب والمكيدة» . قال يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فنزله، ثم نعوّر «1» ما وراءه من القلب، ثم نبتنى عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أشرت بالرأى» ، فنهض بالناس وسار حتى [إذا «2» ] أتى أدنى ماء من القوم، نزل عليه؛ ثم أمر بالقلب فعوّرت، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
فقال سعد بن معاذ: يا نبىّ الله، نبتنى لك عريشا «3» تكون فيه، وتكون عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا الله وأظهرنا على عدوّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشدّ لك حبّا منهم، ولو ظنّوا أن تلقى حربا ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك؛ فأثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه خيرا، ثم بنى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عريش، فمكان فيه.
قال: وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلمّا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها «4» وفخرها، تحادّك «5» وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم «6» الغداة.»(17/21)
قال ابن سعد: كانت قريش تسعمائة وخمسين، وخيلهم مائة فرس، وكان لهم ثلاثة ألوية؛ لواء مع أبى عزيز بن عمير، ولواء مع النّضر بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبى طلحة.
قال ابن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار وغيره، عن أشياخ من الأنصار، قال:
لما اطمأنّ القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحىّ فقالوا: احزر «1» لنا أصحاب محمد، فجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصونه، ولكن أمهلونى حتى أنظر، أللقوم كمين أو مدد؟ قال: فضرب فى الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكنى رأيت يا معشر قريش البلايا «2» تحمل المنايا، نواضح «3» يثرب تحمل الموت الناقع «4» ، قوم ليس معهم [منعة «5» ] ولا ملجأ إلا سيوفهم، أما ترونهم خرصا لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمّظ الأفاعى؛ والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى فى الناس؛ فأتى عتبة بن ربيعة فقال:
يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيّدها، والمطاع فيها، هل لك ألّا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمىّ. قال: قد فعلت، علىّ عقله «6» ؛ فأت ابن الحنظليّة، يعنى أبا جهل بن هشام، قال: فأتيته فقلت: يا أبا الحكم، قد أرسلنى إليك عتبة(17/22)
بكذا وكذا، فقال: انتفخ والله سحره «1» حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، ثم بعث إلى عامر بن الحضرمى فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثارك بعينك، فقم فأنشد خفرتك «2» ومقتل أخيك. فقام عامر فاكتشف «3» ثم صرخ: واعمراه! وا عمراه! فحميت الحرب»
وحقب «5» أمر الناس، واستوسقوا «6» على ما هم عليه من الشر. قال: فخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومىّ، وكان رجلا شرسا سيّء الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم أو لأهدمنّه، أو أموتنّ دونه، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطنّ «7» قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره، ثم جاء إلى الحوض يريد أن يبرّ يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله.
ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا برز من الصفّ دعا إلى المبارزة، فخرج إليه ثلاثة من الأنصار، وهم: عوف ومعوّذ ابنا الحارث، وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟
فقالوا: رهط من الأنصار؛ قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم:
يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فأخرج لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(17/23)
عمّه حمزة بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، وعبيدة بن الحارث، فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فسمّى كل رجل منهم نفسه، قالوا: نعم أكفاء كرام؛ فبارز عبيدة- وكان أسنّ القوم- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علىّ الوليد بن عتبة، فأما حمزة وعلىّ فإنهما لم يمهلا مبارزيهما أن قتلاهما، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت «1» صاحبه، وكرّ حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة فذفّفا «2» عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه «3» إلى أصحابه.
قال محمد بن سعد: وفى عبيدة وعتبة نزل قوله تعالى: (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)
. قال: ثم زحف الناس ودنا بعضهم من بعض.
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة.
وعدّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصّفوف، ورجع إلى العريش، فدخله هو وأبو بكر الصدّيق ليس معه غيره فيه، وهو صلّى الله عليه وسلّم يناشد «4» ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا نبىّ الله، بعض مناشدتك ربّك، فإن الله منجزك ما وعدك.
وخفق «5» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفقة ثم انتبه، فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النّقع «6» .(17/24)
قال ابن إسحاق: ورمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، وكان أول قتيل قتل من المسلمين، ثم رمى حارثة بن سراقة، أحد بنى عدىّ بن النجّار، وهو يشرب فى الحوض بسهم، فأصاب نحره، فقتل.
ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس يحرّضهم، وقال: «والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» ، فقال عمير بن الحمام أخو بنى سلمة، وفى يده تمرات يأكلهن: بخ بخ «1» ! أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل.
وقال عوف بن الحارث- وهو ابن عفراء- يا رسول الله: ما يضحك «2» الربّ من عبده؟ قال: غمسه يده فى العدوة حاسرا. فنزع درعا كانت عليه، وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل.
قال: ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا، ثم قال: شاهت «3» الوجوه، ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال: شدّوا؛ فكانت الهزيمة على قريش، فقتل الله من صناديد قريش من قتل، وأسر من أسر.
قال محمد بن سعد: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لما نزلت:
(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)
، قلت: وأىّ جمع يهزم ومن يغلب؟ فلما كان يوم بدر نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يثب فى الدرع وثبا وهو يقول:
(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)
، فعملت أن الله تعالى سيهزمهم.(17/25)
قال: ولمّا وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم [فى العريش «1» ] وسعد بن معاذ قائم على باب العريش، متوشّح السيف، فى نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يخافون عليه كرّة العدوّ، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس فقال له: لكأنّى بك يا سعد تكره ما يصنع القوم؛ قال: أجل: والله يا رسول الله، كانت أوّل وقعة أوقعها الله بأهل الشّرك، فكان الإثخان فى القتل أحبّ إلىّ من استبقاء الرجال.
وفى هذا اليوم أنزل الله تعالى الملائكة فقاتلوا مع المسلمين.
قال محمد بن سعد: لما صفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وعبّأهم للحرب، جاءت ريح لم ير مثلها شدّة ثم ذهبت، فجاءت ريح أخرى ثم ذهبت، فجاءت ريح أخرى، فكانت الأولى جبريل عليه السلام فى ألف من الملائكة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثانية ميكائيل عليه السلام فى ألف من الملائكة عن ميمنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثانية ميكائيل عليه السلام فى ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثالثة إسرافيل فى ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان سيما الملائكة يومئذ عمائم قد أرخوها بين أكتافهم: خضر وصفر وحمر من نور، والصّوف فى نواصى خيلهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: إنّ الملائكة قد سوّمت فسوّموا. فأعلموا بالصوف فى مغافرهم «2» وقلانسهم.
قال: وكانت الملائكة يوم بدر على خيل بلق.
وقال ابن إسحاق: حدّثنى عبد الله بن أبى بكر أنه حدّث عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: حدّثنى رجل من بنى غفار قال:(17/26)
أقبلت أنا وابن عمّ لى حتى أصعدنا فى جبل يشرف [بنا «1» ] على بدر [ونحن مشركان «2» ] ننظر الوقعة على من تكون الدائرة «3» ، ننتهب مع من ينتهب، فبينما نحن فى الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم «4» حيزوم. قال: فأمّا ابن عمى فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه. وأما أنا فكدت أن أهلك، ثم تماسكت.
وروى ابن إسحاق عن أبى أسيد مالك بن ربيعة- وكان شهد بدرا- قال- بعد أن ذهب بصره-: لو كنت اليوم ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشّعب «5» الذى خرجت منه الملائكة، لا أشكّ ولا أتمارى «6» .
وعن أبى داوود المازنىّ، قال: إنى لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفى، فعرفت أنه قتله غيرى.
وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: كانت سما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها فى ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا، وفى حديث آخر عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرخوها على ظهورهم. إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: لم تقاتل الملائكة فى يوم سوى يوم بدر، وكانوا فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون.(17/27)
قال: وكان شعار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: أحد أحد.
قال ابن إسحاق: وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز وهو [يقاتل «1» و] يقول:
ما تنقم الحرب العوان منّى ... بازل عامين حديث سنّى «2» .
لمثل هذا ولدتنى أمّى
قال: فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عدوّه أمر أن يلتمس أبو جهل بن هشام فى القتلى، فمرّ به عبد الله بن مسعود، قال: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلى على عنقه، فقال لى: لقد ارتقيت يا رويعى الغنم مرتقى صعبا، ثم قال: أخبرنى لمن الدائرة اليوم؟ فقلت: لله ولرسوله؛ ثم احتززت رأسه، ثم جئت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدوّ الله أبى جهل؛ فقال: الله «3» الذى لا إله غيره؟ قلت: نعم والله الذى لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وعن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقتلى أن يطرحوا فى القليب، طرحوا فيه إلا أميّة بن خلف فإنه انتفخ فى درعه فملأها فذهبوا ليحرّكوه فتزايل «4» ، فأقرّوه وألقوا عليه ما غيّبه من التراب والحجارة، قالت: ولما ألقوا فى القليب، وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يأهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى(17/28)
ربى حقا» قالت: فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوما موتى؟ فقال لهم: «لقد علموا أنّ ما وعدهم ربهم حق» . وعن أنس رضى الله عنه نحوه، إلا أنّ فيه: فقال المسلمون: يا رسول الله، أتنادى قوما قد جيّفوا «1» ؟ قال:
«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم «2» ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبونى» .
قال ابن إسحاق: وكان الفتية الذين قتلوا ببدر- فنزل فيهم قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً)
- الحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه ابن المغيرة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلى بن أميّة بن خلف، والعاص ابن منبّه.
وذلك أنهم كانوا أسلموا بمكة، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم خرجوا مع قومهم إلى بدر، فأصيبوا كلّهم.
قال: ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما فى العسكر ممّا جمع الناس فجمع، واختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا؛ وقال الذين كفروا يقاتلون العدوّ: والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم؛ وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مخافة أن يخالف إليه العدوّ: ما أنتم بأحقّ منّا، لقد رأينا أن نقتل العدوّ إذا منحنا الله(17/29)
أكتافهم، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنّا خفنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كرّة العدوّ فقمنا دونه، فما أنتم أحقّ به منا.
فأنزل الله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ)
، نزلت السورة بجملتها فى غزوة بدر.
قال: ثم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قافلا إلى المدينة ومعه الأسارى من المشركين والنّفل «1» ، وجعل على النّفل عبد الله بن كعب المازنىّ، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مضيق الصفراء، نزل على كثيب بين المضيق «2» وبين النازية «3» ، يقال له: سير، إلى سرحة «4» [به «5» ] وهو من المدينة على ثلاث ليال، فقسم هناك النّفل الذى أفاء الله على المسلمين على السواء.
قال ابن سعد: وتنفّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه ذا الفقار، وكان لمنبّه بن الحجّاج، فكان صفيّه يومئذ؛ وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهمه مع المسلمين، وفيه جمل أبى جهل بن هشام، وكان مهريّا «6» ، وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة بشيرا إلى المدينة، وبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية.
قال ابن سعد يرفعه إلى عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر بثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة، كما خرج طالوت،(17/30)
فدعا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خرجوا، فقال: «اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم» .
ففتح الله يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا، وما فيهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، فاكتسبوا وشبعوا.
وقال يرفعه إلى عكرمة قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من أهل بدر: عليك بالعير ليس دونها شىء، فناداه العباس: إنه لا يصلح ذلك لك، قال: لم؟: قال: لأنّ الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين، فقد أعطاك ما وعدك.
ذكر ورود الخير بمصاب أهل بدر على من بمكة من كفار قريش وهلاك أبى لهب بن عبد المطلب قال ابن إسحاق: كان أوّل من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعىّ، فقالوا له: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج، وأبو البخترىّ، وجعل يعدّد أشراف قريش، فقال صفوان بن أمية وهو قاعد فى الحجر،: والله إن يعقل هذا فاسألوه عنى، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالس فى الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
وقال أبو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد داخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه [وكان(17/31)
ذا مال كثير متفرّق فى قومه «1» ] . وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص ابن هشام بن المغيرة [وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا «2» ] ، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كتبه «3» الله وأخزاه، ووجدنا فى أنفسنا قوّة وعزا، وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أنحت الأقداح فى حجرة زمزم، فو الله إنى لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أمّ الفضل جالسة، وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ، حتى جلس على طنب «4» الحجرة، وكان ظهري إلى ظهره، فبينما هو جالس إذ قال الناس «5» : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقال أبو لهب: هلمّ إلىّ، فعندك لعمرى الخير. قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يابن أخى، أخبرنى كيف كان أمر الناس؟ قال:
والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا، على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق «6» شيئا ولا يقوم لها شىء.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة [بيدى «7» ] ثم قلت: تلك والله الملائكة.
قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة، فثاورته «8» فاحتملنى، فضرب بى الأرض، ثم برك على صدرى، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فلقت «9» رأسه شجّة منكرة، وقالت:(17/32)
أتستضعفه أن غاب عنه سيده؟ فقام مولّيا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة «1» فقتلته.
وقالت قريش فى قتلى بدر مراثى كثيرة ذكرها ابن هشام وغيره، تركنا إيرادها رغبة فى الاختصار، ولأنه ليس تحت ذلك كبير فائدة فيما نحن بصدده، إلا أنها تشهد بقتل من قتل ممن نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر تسمية من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
كان جميع من شهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين ومن ضرب له فيها بسهمه وأجره ثلاثمائة رجل وأربعة عشر رجلا، من المهاجرين ثلاثة وثمانون «2» ، ومن الأوس أحد وستون، ومن الخزرج مائة وسبعون.
فأما من شهد بدرا من المهاجرين، ومن ضرب له بسهمه وأجره، فشهدها من بنى هاشم بن عبد مناف اثنا عشر رجلا، وهم: سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحمزة بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، وزيد ابن حارثة، وأنسة الحبشى، وأبو كبشة الفارسى، موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو مرثد كنّاز بن حصين، وابنه مرثد، حليفا حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخواه: الطفيل، والحصين، ومسطح، واسمه عوف بن أثاثة بن عبّاد بن المطّلب «3» .(17/33)
ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف وحلفائهم خمسة عشر رجلا، وهم: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولاه. ومن حلفائهم من بنى أسد ابن خزيمة عبد الله بن جحش بن رئاب، وعكّاشة بن محصن، وشجاع بن وهب ابن ربيعة، وأخوه عقبة، ويزيد بن رقيش «1» بن رئاب، وأبو سنان بن محصن ابن حرثان «2» أخو عكّاشة، وابنه سنان، ومحرز بن نضلة بن عبد الله وربيعة بن أكثم بن سخبرة بن عمرو. ومن حلفائهم بنى كبير «3» بن غنم بن دودان بن أسد:
ثقف بن عمرو، وأخواه مالك، ومدلج «4» ، وهم من بنى حجر آل بنى سليم، وأبو مخشى، حليف لهم.
ومن بنى نوفل بن عبد مناف رجلان، وهما: عتبة بن غزوان، وخبّاب مولاه.
ومن بنى أسد بن عبد العزّى ثلاثة نفر، وهم: الزبير بن العوّام وحاطب بن أبى بلتعة، وسعد مولاه.
ومن بنى عبد الدار رجلان، وهما: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ابن عبد الدار، وسويبط بن سعد بن حريملة، ويقال: ابن حرملة بن مالك بن عميلة بن السّبّاق بن عبد الدار.(17/34)
ومن بنى زهرة بن كلاب وحلفائهم تسعة نفر، وهم: عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقّاص، وأبو وقّاص مالك بن أهيب «1» ، وأخوه عمير بن أبى وقّاص. ومن حلفائهم: المقداد بن عمرو بن ثعلبة، وعبد الله بن مسعود ابن الحارث، ومسعود بن ربيعة بن عمرو، وذو الشّمالين «2» عمير بن عبد عمرو بن نضلة، وخبّاب بن الأرتّ.
ومن بنى تميم بن مرّة ومواليهم أربعة نفر، وهم: أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، ومواليه، بلال بن رباح، وعامر بن فهيرة، وصهيب بن سنان.
ومن بنى مخزوم خمسة نفر، وهم: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد وشمّاس بن عثمان بن الشّريد، واسم شمّاس عثمان، والأرقم بن أبى الأرقم، وأبو الأرقم هو عبد مناف بن أسد، وعمّار بن ياسر، ومعتّب بن عوف بن عامر حليف لهم.
ومن بنى عدىّ بن كعب وحلفائهم اثنا عشر رجلا، وهم: عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، وأخوه زيد، ومهجع مولى عمر، وعمرو بن سراقة بن المعتمر وأخوه عبد الله، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين، حليف لهم، [وعامر «3» ابن البكير، وأخواه خالد، وإياس، حلفاء بنى عدىّ، وخولىّ بن أبى خولىّ، وأخوه مالك، حليفان لهم- ومنهم من عدّ هلال بن أبى خولى- وعامر بن أبى ربيعة، حليف لهم] .(17/35)
ومن بنى جمح خمسة نفر، وهم: عثمان بن مظعون، وابنه السّائب وأخواه قدامة، وعبد الله، ابنا مظعون، ومعمر بن الحارث بن معمر.
ومن بنى سهم بن عمرو: خنيس بن حذافة بن قيس.
ومن بنى عامر بن لؤىّ خمسة نفر، وهم: [أبو سيرة «1» بن أبى رهم بن عبد العزّى، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزّى، وعبد الله بن سهيل بن عمرو- وكان قد خرج مع أبيه سهيل، فلما نزل الناس بدرا فرّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهدها معه- وعمير بن عوف، مولى سهيل بن عمرو، وسعد ابن خولة، حليف لهم.]
ومن بنى الحارث بن فهر خمسة نفر، وهم] : أبو عبيدة عامر بن عبد الله ابن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير، وسهيل بن ربيعة بن هلال، وأخوه صفوان بن وهب «2» ، وهما ابنا بيضاء، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة.
هؤلاء الذين شهدوا بدرا من المهاجرين.
وأما من ضرب له بسهمه وأجره، فثلاثة نفر، وهم «3» : عثمان بن عفّان- وقد تقدّم خبره- وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانا قد بعثهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الشام يتحسّسان له خبر العير، فقد ما بعد غزوة بدر، فضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهميهما، قالا: يا رسول الله، وأجرنا؛ قال: وأجركما.(17/36)
وأما من شهدها من الأوس ومن غاب وضرب له فيها بسهمه وأجره، فهم أحد وستون رجلا، شهدها منهم ستة وخمسون رجلا، وهم: سعد بن معاذ ابن النعمان، وأخوه عمرو بن معاذ، والحارث بن أنس بن رافع «1» ، وسعد بن زيد ابن مالك، وسلمة بن سلامة بن وقش، وعبّاد بن بشر بن وقش، وسلمة بن ثابت بن وقش، ورافع بن يزيد بن كرز «2» ، والحارث بن خزمة بن عدىّ، حليف لهم، ومحمد بن مسلمة بن خالد، حليف لهم، [وسلمة «3» بن أسلم بن حريش، حليف لهم] ، وأبو الهيثم بن التّيّهان، وأخوه عبيد بن التيهان- قال ابن هشام: ويقال:
عتيك بن التيهان- وعبد الله سهيل «4» ، وقتادة بن النعمان بن زيد، وعبيد ابن أوس بن مالك- وعبيد هو الذى يقال له: مقرّن، لأنه قرن أربعة أسرى فى يوم بدر، وهو الذى أسر عقيل بن أبى طالب يومئذ، [ونصر «5» بن الحارث بن عبد بن رزاح بن كعب] ، ومعتّب بن عبيد، وعبد الله بن طارق حليف لهما من بلىّ، ومسعود بن سعد بن عامر، ويقال فيه: مسعود بن عبد سعد، وأبو عبس بن جبر بن عمرو، وأبو بردة بن نيار، واسمه هانئ، حليف لهم من بلىّ، وعاصم بن ثابت بن قيس، ومعتّب بن قشير، وأبو مليل بن الأزعر بن زيد، وعمرو بن معبد بن الأزعر، وقيل فيه: عمير بن معبد، وسهل بن حنيف «6» بن واهب، ومبشّر بن عبد المنذر بن زنبر «7» ، وأخوه(17/37)
رفاعة، وسعد بن عبيد بن النعمان، وعويم بن ساعدة، ورافع بن عنجدة، وعبيد ابن أبى عبيد، وثعلبة بن حاطب، وأنيس بن قتادة بن ربيعة. ومعن بن عدىّ ابن الجدّ من حلفائهم، وثابت بن ثعلبة، وعبد الله بن سلمة، وزيد بن أسلم بن ثعلبة، وربعىّ بن رافع بن زيد، هؤلاء الخمسة من حلفائهم من بلىّ، وعبد الله ابن جبير بن النعمان [وعاصم «1» بن قيس بن ثابت، وأبو ضيّاح ثابت بن النعمان وأخوه أبو حنّة- ويقال: أبو حيّة- وسالم بن عمير بن ثابت بن النعمان، والحارث ابن النعمان] بن أمية، ومنذر بن محمد بن عقبة، وأبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة من حلفائهم، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ومنذر بن قدامة، ومالك بن قدامة ابن عرفجة، والحارث بن عرفجة، وتميم مولى بن غنم، وجبر»
بن عتيك بن الحارث ومالك بن نميلة، حليف لبنى معاوية من مزينة، والنعمان بن عصر «3» ، حليف لبنى معاوية من بلىّ. هؤلاء الذين شهدوها من الأوس.
وأما من ضرب له بسهمه وأجره منهم فخمسة نفر، وهم: أبو لبابة واسمه بشير بن عبد الله، والحارث بن حاطب، وحاطب بن عمرو بن عبيد وعاصم بن عدىّ بن الجدّ بن العجلان، وخوّات بن جبير بن النعمان.
وأما من شهدها من الخزرج ومواليهم وحلفائهم فمائة وسبعون رجلا:
خارجة بن زيد بن أبى زهير، وسعد بن ربيع بن عمرو بن أبى زهير وعبد الله بن رواحة بن امرئ القيس، وخلّاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو(17/38)
وبشير بن سعد بن ثعلبة، وأخوه سماك «1» بن سعد، وسبيع بن قيس بن عيشة «2» بن أمية، وأخوه عبّاد بن قيس، وعبد الله بن عبس، ويزيد بن الحارث بن قيس وخبيب بن إساف بن عتبة، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة، وأخوه حريث بن زيد، وسفيان بن نسر «3» بن عمرو بن الحارث، وتميم بن يعار «4» بن قيس، وعبد الله ابن عمير بن عدىّ، وزيد بن المزين «5» بن قيس، وعبد الله بن عرفطة بن عدىّ، وعبد الله بن ربيع بن قيس، وعبد الله بن عبد الله بن أبىّ [بن «6» ] مالك، وأوس ابن خولى بن عبد الله بن الحارث، وزيد بن وديعة بن عمرو بن قيس بن جزء وعقبة بن وهب بن كلدة، حليف لهم من بنى عبد الله بن غطفان، ورفاعة بن عمرو بن ثعلبة، وعامر بن سلمة بن عامر، حليف لهم من اليمن، وأبو حميضة «7» عبّاد بن قشير بن المقدّم، وعامر بن البكير، حليف لهم، ونوفل بن عبد الله بن نضلة، وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، وأخوه أوس بن الصّامت والنعمان بن مالك بن ثعلبة بن دعد، وهو الذى يقال له: قوقل «8» ؛ وثابت بن هزّال ابن عمرو بن قريوش، ويقال: قريوس، ومالك بن الدّخشم بن مالك، وربيع(17/39)
ابن إياس، حليف لبنى لوذان من اليمن، والمجذّر بن زياد بن عمرو؛ واسم المجذر، عبد الله حليف لهم من بلىّ، وعباد «1» بن الخشخاش بن عمرو، حليف، ونجّاب بن ثعلبة بن خزمة «2» ويقال: بحّاث، وعبد الله بن ثعلبة بن خزمة، وعتبة بن ربيعة بن خالد بن معاوية، حليف لهم، وهو من بنى سليم، وأبو دجانة سماك بن خرشة.
قال ابن هشام: سماك بن أوس بن خرشة، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة، وأبو أسيد مالك بن ربيعة، ومالك بن مسعود البدىّ «3» ، وعبد ربه بن حقّ ابن أوس بن وقش بن ثعلبة بن طريف.
ومن حلفائهم من «4» جهينة: كعب بن جمّاز بن ثعلبة- ويقال: حمار، وهو من غبشان- وضمرة، وبسبس، وزياد، بنو عمرو.
وعبد الله بن عامر من بلىّ. وخراش بن الصّمة بن عمرو بن الجموح، وتميم مولى خراش بن الصّمة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوّذ بن عمرو بن الجموح، وخلّاد بن عمرو بن الجموح، وعقبة بن عامر بن نابى، وحبيب بن أسود، مولى لهم، وثابت بن ثعلبة بن زيد بن الحارث، وثعلبة الذى يقال له: الحذع، وعمير «5» بن الحارث بن ثعلبة بن الحارث، وبشر بن البراء ابن معرور بن صخر، والطّفيل بن مالك بن النعمان، وسنان بن صيفىّ بن صخر وعبد الله بن الجدّ بن قيس بن صخر، وخارجة بن حميّر، وعبد الله بن حمير، حليفان(17/40)
لهم من أشجع من بنى دهمان، وجبّار بن صخر بن أمية بن خناس، ويزيد بن المنذر ابن سرح، وأخوه معقل بن المنذر، وعبد الله بن النّعمان بن بلدمة، ويقال:
بلدمة وبلذمة، والضحّاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة، وسواد بن زريق بن ثعلبة؛ ومعبد بن قيس بن صخر، وأخوه عبد الله بن قيس، وعبد الله بن عبد مناف بن النعمان، والنعمان بن يسار مولى لبنى النعمان، وأبو المنذر بن يزيد بن عامر بن حديدة، وسليم بن عمرو بن حديدة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعنترة «1» مولى سليم ابن عمرو، وعبس بن عامر بن عدىّ، وثعلبة بن غنمة بن عدىّ، وأبو اليسر، وهو كعب بن عمرو بن عبّاد بن عمرو، وسهل «2» بن قيس [بن أبى «3» كعب، وعمرو بن طلق بن زيد بن أمية، ومعاذ بن جبل بن عمرو، وحارثة بن مالك بن غضب ابن جشم، وقيس بن محصن بن خالد بن مخلّد، ويقال: قيس] بن حصن، وأبو خالد، وهو الحارث بن قيس بن خالد بن مخلّد، وجبير بن إياس بن خالد بن مخلد، وأخوه عقبة بن عثمان بن خالدة بن مخلّد، وذكوان بن [عبد «4» ] قيس بن خلدة بن مخلّد، ومسعود ابن خالدة بن عامر بن مخلد، وعبّاد بن قيس بن عامر بن خالد، وأسعد بن مزيد ابن الفاكه بن زيد بن خلدة، والفاكه بن بشر بن الفاكه بن زيد، ومعاذ بن ماعص بن قيس بن خلدة، وأخوه عائذ بن ماعص، ومسعود بن سعد بن قيس ابن خلدة، ورفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان، وأخوه خلّاد بن رافع، وعبيد ابن زيد بن عامر، وزياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان، وفروة بن عمرو بن ودفة «5»(17/41)
ابن عبيد، وخالد بن قيس بن مالك بن العجلان، ورجيلة بن ثعلبة بن خالد بن ثعلبة، وعطية بن نويرة بن عامر بن عطية، ورافع بن المعلّى بن لوذان، وأبو أيوب خالد ابن زيد بن كليب «1» بن ثعلبة، وثابت بن خالد بن النّعمان، وعمارة بن حزم بن زيد ابن لوذان بن عمرو، وسراقة بن كعب بن عبد العزّى بن غزيّة، وحارثة بن النعمان ابن زيد بن عبيد، وسليم بن قيس بن فهد «2» ، وسهيل بن رافع بن أبى عمرو بن عائذ، وعدى بن أبى الزّغباء، حليف لبنى عائذ من جهينة، ومسعود بن أوس ابن زيد، وأبو خزيمة بن أوس بن زيد، ورافع بن الحارث بن سواد بن زيد، وعوف، ومعوّذ، ومعاذ، بنو الحارث بن رفاعة، وهم بنو عفراء بنت عبيد بن ثعلبة، والنعمان بن عمرو بن رفاعة بن سواد، ويقال: نعيمان؛ وعامر بن مخلّد بن الحارث ابن سواد، وعبد الله بن قيس بن خالد بن خلدة بن الحارث بن سواد، وعصيمة، حليف لبنى سواد من أشجع، وديعة بن عمرو، حليف لهم من جهينة، وثابت بن عمرو بن زيد بن عدّى بن سواد- قال ابن هشام: وزعموا أن أبا الحمراء مولى الحارث بن عفراء شهد بدرا- وثعلبة بن عمرو بن محصن بن عمرو بن عتيك، والحارث بن الصّمة بن عمرو بن عتيك، كسر بالرّوحاء، فضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهمه، وأبىّ بن كعب بن قيس، وأنس بن معاذ بن أنس بن قيس، وأوس بن ثابت بن المنذر بن حرام، وأبو شيخ أبىّ بن ثابت «3» بن المنذر بن حرام.
قال ابن هشام: أبو شيخ [أبىّ بن ثابت «4» ] أخو «5» حسان بن ثابت، وأبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام، وحارثة بن سراقة بن الحارث بن عدىّ،(17/42)
وعمرو بن ثعلبة بن وهب بن عدىّ، وسليط بن قيس بن عمرو بن عتيك بن مالك، وأبو سليط- وهو أسيرة بن عمرو- وثابت بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدىّ، وعامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس بن مالك، ومحرز بن عامر «1» بن مالك بن عدىّ، وسواد بن غزيّة بن أهيب، حليف لبنى عدىّ بن النجار.
وأبو زيد قيس «2» بن سكن بن قيس، وأبو الأعور بن الحارث بن ظالم بن عبس ابن حرام، ويقال: أبو الأعور الحارث بن ظالم، وسليم بن ملحان، وأخوه حرام- واسم ملحان: مالك بن خالد بن زيد- وقيس بن أبى صعصعة- واسم أبى صعصعة: عمرو بن زيد بن عوف- وعبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف، وعصيمة، حليف لبنى مازن بن النجار من بنى أسد بن خزيمة، وأبو داود عمير ابن عامر بن مالك بن خنساء، وسراقة بن عمرو بن عطيّة بن خنساء، وقيس بن مخلّد بن ثعلبة بن صخر بن حبيب، ومسعود بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار، وأخواه لأمه الضّحّاك، والنّعمان، ابنا عبد عمرو، وجابر بن خالد بن عبد الأشهل بن حارثة، وسعد بن سهيل بن عبد الأشهل، وكعب بن زيد بن قيس بن مالك، وبجير بن أبى بجير، حليف لبنى قيس بن مالك.
هؤلاء الذين عدّهم محمد بن إسحاق.
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم يذكرون فى الخزرج ممن شهد بدرا عتبان ابن مالك بن عمرو بن العجلان، ومليل بن وبرة بن خالد بن العجلان، وعصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان، وهلال بن المعلّى بن لوذان بن حارثة.(17/43)
ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزاة بدر
كان من استشهد من المسلمين فى غزاة بدر أربعة عشر رجلا، من المهاجرين ستة نفر، وهم: عبيدة بن الحارث بن المطلب، قتله عتبة بن ربيعة، قطع رجله فمات بالصفراء فى قفول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وعمير «1» بن أبى وقّاص، وهو أخو سعيد، وذو الشّمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعى، حليف لبنى زهرة، وعاقل بن البكير، حليف لبنى عدىّ بن كعب من بنى سعد بن ليث، ومهجع، مولى عمر بن الخطاب، وصفوان بن بيضاء، من بنى الحارث بن فهر.
ومن الأنصار ثمانية وهم: سعد بن خيثمة، ومبشّر بن عبد المنذر بن زنبر، ويزيد بن الحارث، وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلّى، وحارثة بن سراقة بن الحارث، وعوف، ومعوّذ، ابنا الحارث بن رفاعة.
ذكر تسمية من قتل من المشركين فى غزوة بدر
كانت عدّة من قتل من المشركين فى غزوة بدر سبعين رجلا من بنى عبد شمس ومواليهم وحلفائهم أربعة عشر رجلا، وهم: عقبة ابن أبى معيط، قتل صبرا «2» بعرق الظبية «3» عند قفول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وقال- حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله-: فمن(17/44)
للصّبيّة يا محمد؟ قال: النار! فقتله عاصم بن ثابت بن الأقلح، وحنظلة بن أبى سفيان بن حرب، قتله زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقال: اشترك فيه حمزة بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، وزيد بن حارثة، والحارث بن الحضرمىّ، وعامر بن الحضرمى، حليفان لهم. قتل عامرا عمّار ابن ياسر، وقتل الحارث النّعمان بن عصر، حليف الأوس، وعمير بن أبى عمير، وابنه، موليان لهم. قتل عميرا سالم مولى أبى حذيفة، وعبيدة بن سعيد ابن العاص بن أميّة بن عبد شمس، قتله الزبير بن العوّام، والعاص بن سعيد بن العاص ابن أمية، قتله عاصم بن ثابت بن الأفلح، صبرا، وقيل: قتله علىّ بن أبى طالب، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، اشترك فيه عبيدة بن الحارث، وحمزة بن عبد المطلب وعلىّ بن أبى طالب؛ وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس، قتله حمزة بن عبد المطلب، والوليد بن عتبة بن ربيعة، قتله على بن أبى طالب، وعامر بن عبد الله، حليف لهم من بنى أنمار، قتله علىّ، ووهب بن الحارث، حليف لهم من بنى أنمار، وعامر ابن زيد، حليف لهم من اليمن.
ومن بنى نوفل بن عبد مناف رجلان، وهما: الحارث بن عامر ابن نوفل، قتله خبيب بن إساف، وطعيمة بن عدىّ بن نوفل، قتله على، ويقال:
حمزة؛ وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده الى ابن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل طعيمة بن عدى صبرا هو عقبة بن أبى معيط والنّضر بن الحارث.
ومن بنى أسد بن عبد العزّى بن قصىّ سبعة نفر: زمعة بن الأسود ابن المطلب بن أسد، قتله ثابت بن الجذع، وقيل اشترك فيه حمزة وعلى، مع(17/45)
ثابت، والحارث بن زمعة، قتله عمار بن ياسر، وعقيل بن الأسود بن المطلب قتله حمزة، وعلىّ، وأبو البخترىّ- وهو العاص بن هشام- قال ابن هشام: العاص ابن هاشم بن الحارث بن أسد، قتله المجذّر البلوىّ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد نهى عن قتله، لأنه كان أكفّ الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لمّا كان بمكة، كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شىء يكرهه، وكان ممن قام فى نقض الصحيفة كما تقدّم، فلما لقيه المجذّر قال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد نهانا عن قتلك، وكان مع أبى البخترى زميل له قد خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مليحة- رجل من بنى ليث- فقال أبو البخترى، وزميلى، فقال المجذّر: لا والله ما نحن بتاركى زميلك، ما أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا بك وحدك. فقال: لا والله إذا لأموتنّ أنا وهو جميعا! لا تحدّث عنّى نساء مكة أنى تركت زميلى حرصا على الحياة، وقال يرتجز.
لن يسلم ابن حرّة زميلة «1» ... حتى يموت أو يرى سبيله
ثم اقتتلا، فقتل المجذر أبا البخترىّ، ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: والذى بعثك بالحق، لقد جهدت «2» عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلنى، فقاتلته فقتلته. ونوفل بن خويلد بن أسد، قتله علىّ بن أبى طالب، وعقبة بن زيد، حليف لهم من اليمن، وعمير، مولى لهم.
ومن بنى عبد الدار بن قصىّ أربعة نفر وهم: النضر بن الحارث(17/46)
ابن علقمة بن كلدة، قتله علىّ صبرا بالصّفراء «1» ، ولما بلغ ابنته «2» قتيلة بنت النضر خبر مقتله كتبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شعرا.
يا راكبا إن الأثيل مظنّة ... من صبح خامسة وأنت موفّق «3»
بلّغ به ميتا بأن تحيّة ... ما إن تزال بها النجائب تخفق «4»
منى إليه وعبرة مسفوحة ... جادت لمائحها وأخرى تخنق «5»
هل يسمعنّ النضر إن ناديته ... بل كيف يسمع ميّت لا ينطق
ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق «6»
قسرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثق «7»
أمحمد أولست ضنء نجيبة ... فى قومها والفحل فحل معرق «8»
ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
النضر أقرب من قتلت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتق يعتق
أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعزّ ما يغلو به ما ينفق «9»(17/47)
فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك بكى حتى أخضلّت لحيته وقال:
«لو بلغنى شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه» حكاه أبو عمر عن عبد الله ابن إدريس، وحكاه الزبير بن بكّار، وقال: فرّق لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دمعت عيناه، وقال لأبى بكر: «يا أبا بكر لو كنت سمعت شعرها ما قتلت أباها» وزيد بن مليص، مولى عمير بن هاشم، قتله بلال بن رباح، مولى أبى بكر، ويقال: قتله المقداد بن عمرو. ونبيه بن زيد بن مليص، وعبيد بن سليط حليف لهم من قيس.
ومن بنى تيم بن مرّة أربعة نفر وهم: عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم، قتله علىّ بن أبى طالب، ويقال: قتله عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب، قتله صهيب بن سنان.
ومالك بن عبيد الله بن عثمان، أسر فمات فى الإسار، فعدّ فى القتلى. وعمرو بن عبد الله بن جدعان.
ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة أربعة وعشرون رجلا: أبو جهل- واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم- ضربه معاذ ابن عمرو بن الجموح فقطع رجله، وضرب ابنه [عكرمة «1» ] يد معاذ فطرحّها، ثم ضربه معوّذ بن عفراء حتى أثبته، وتركه وبه رمق، ثم وقف «2» عليه عبد الله بن مسعود واحتزّ رأسه كما تقدّم، والعاص بن هشام بن المغيرة، قتله عمر بن الخطاب، وكان خال عمر. ويزيد بن عبد الله، حليف لهم من بنى تميم، قتله عمّار بن ياسر.(17/48)
وأبو مسافع الأشعرىّ، حليف لهم، قتله أبو دجانة الساعدىّ. وحرملة بن عمرو حليف لهم، قتله خارجة بن زيد، ويقال: بل علىّ [بن أبى طالب «1» ] . ومسعود ابن أبى أميّة بن المغيرة، قتله على بن أبى طالب. وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، قتله حمزة [بن عبد المطلب «2» ] ويقال: علىّ؛ وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، قتله علىّ، ويقال: عمّار بن ياسر، ورفاعة بن أبى رفاعة بن عابد بن عبد الله بن عمر «3» ابن مخزوم، قتله سعد بن الربيع، والمنذر بن أبى رفاعة بن عابد، قتله معن بن عدىّ، وعبد الله بن المنذر بن أبى رفاعة، قتله علىّ بن أبى طالب، والسّائب ابن أبى السائب بن عائذ بن عبد الله بن عمر «4» بن مخزوم على ما حكاه ابن إسحاق.
وقال ابن هشام بسند يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما: إن السائب هذا ممن بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وأعطاه يوم الجعرانة «5» من غنائم حنين، فقد وقع فيه الخلاف. والأسود بن عبد الأسد «6» بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله حمزة، وحاجب، ويقال: حاجز «7» بن السائب بن عويمر بن عمرو بن عائذ، قتله على بن أبى طالب. وعويمر بن السائب بن عويمر، قتله النعمان ابن مالك القوقلىّ مبارزة، وعمرو بن سفيان، وجابر بن سفيان، حليفان لهم من طيئ، قتل عمرا يزيد بن رقيش، وقتل جابرا أبو بردة بن نيار. وحذيفة ابن أبى حذيفة بن المغيرة، قتله سعد بن أبى وقاص، وهشام بن أبى حذيفة(17/49)
ابن المغيرة، قتله صهيب بن سنان. وزهير بن أبى رفاعة، قتله أبو أسيد مالك ابن أبى ربيعة. والسائب بن أبى رفاعة، قتله عبد الرحمن بن عوف. وعائذ بن السائب بن عويمر، أسر ثم افتدى فمات فى الطريق من جراحة جرحه إياها حمزة ابن عبد المطلب، وعمير، حليف لهم من طيّئ، وخيار «1» ، حليف لهم من القارة «2» .
ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب لؤىّ سبعة نفر وهم:
منبّه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، قتله أبو اليسر، أخو بنى سلمة وابنه العاص بن منبّه، قتله علىّ. ونبيه بن الحجاج، قتله حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن أبى وقاص، اشتركا فيه، وأبو العاص بن قيس بن عدىّ بن سعد بن سهم، قتله علىّ، ويقال: النعمان القوقلىّ، وقال: أبو دجانة، وعاصم بن أبى عوف بن صبيرة «3» بن سعيد بن سعد بن سهم، قتله أبو اليسر أخو بنى سلمة.
والحارث بن منبّه بن الحجاج، قتله صهيب بن سنان، وعامر بن أبى عوف بن صبيرة أخو عاصم، قتله عبد الله بن سلمة، ويقال: أبو دجانة.
ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤىّ أربعة نفر، وهم: أميّة ابن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، قتله رجل من الأنصار من بنى مازن ويقال: قتله معاذ بن عفراء، وخارجة بن زيد، وخبيب «4» بن إساف، اشتركوا فيه.
وابنه علىّ بن أميّة بن خلف، قتله عمّار بن ياسر. وأوس بن معير بن لوذان بن سعد بن جمح، قتله علىّ بن أبى طالب، ويقال: قتله الحصين بن الحارث بن المطلب وعثمان بن مظعون، اشتركا فيه، وسبرة بن مالك، حليف لهم.(17/50)
ومن بنى عامر بن لؤىّ من حلفائهم رجلان، وهما: معاوية بن عامر حليف لهم من عبد القيس، قتله علىّ، ويقال: عكّاشة بن محصن. ومعبد بن وهب، حليف لهم من بنى كلب، قتله خالد وإياس ابنا البكير، ويقال: أبو دجانة.
فجميع من انضبط لنا بالأسماء ممن قتل من المشركين يوم بدر ثمانية وستون على الشك فى السائب بن أبى السائب، والذى ثبت فى صحيح البخارىّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أصابوا من المشركين فى يوم بدر أربعين ومائة؛ سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا.
ذكر تسمية من أسر من المشركين فى غزوة بدر
كانت عدّة من أسر من المشركين فى يوم بدر سبعين رحلاعا ما ورد فى الصحيح ودلّت عليه الآية [فى] قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها «1» )
يعنى يوم أحد، وكان قد قتل من المسلمين يوم أحد سبعون رجلا، والذى انضبط لنا بالأسماء من أسرى بدر ستة وستون رجلا.
من بنى عبد المطلب بن هاشم أربعة نفر، وهم: العباس بن عبد المطلب بن هاشم، أسره أبو اليسر كعب بن عمرو بن عبّاد بن عمرو الخزرجىّ، وكان رجلا قصيرا، والعباس رجلا طويلا ضخما، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أعانك عليه ملك كريم» . وعقيل بن أبى طالب بن عبد المطلب، أسره عبيد بن أوس بن مالك الأوسى، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعتبة، حليف لهم من بنى فهر، قال: وكان العباس وعقيل خرجا مكرهين.
ومن بنى عبد المطلب بن عبد مناف خمسة نفروهم: السائب بن عبيد بن عبد يزيد ابن هاشم بن عبد المطّلب، ونعمان بن عمرو بن علقمة بن المطلب، وعقيل بن عمرو حليف لهم، وأخوه تميم بن عمرو، وابنه عمرو بن تميم.(17/51)
ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف تسعة نفر وهم: عمرو بن أبى سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس، والحارث بن أبى وجزة- ويقال: وحرة بن أبى عمرو- ابن أمية، وأبو العاص بن نوفل بن عبد شمس، وأبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، وخالد بن أسيد بن أبى العيص. ومن حلفائهم:
أبو ريشة بن أبى عمرو، وعمرو بن الأزرق، وعقبة بن عبد الحارث بن الحضرمى، وأبو العريض يسار، مولى العاص بن أمية.
ومن بنى نوفل بن عبد مناف أربعة نفر، وهم: عدىّ بن الخيار بن نوفل وعثمان بن عبد شمس، حليف لهم من بنى مازن بن منصور، وأبو ثور، حليف لهم ونبهان، مولى لهم.
ومن بنى عبد الدار بن قصىّ ثلاثة نفر وهم: أبو عزيز بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، والأسود بن عامر حليف لهم، وعقيل، حليف لهم من اليمن.
ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصىّ أربعة نفروهم: السّائب بن أبى حبيش ابن المطلب بن أسد، والحويرث بن عبّاد بن عثمان بن أسد. قال ابن هشام:
هو الحارث بن عائذ بن عثمان بن أسد، وعبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث، وسالم بن شمّاخ، حليف لهم.
ومن بنى تيم بن مرّة رجلان وهما: مسافع بن عياض بن صخر بن عامر ابن كعب بن سعد بن تيم، وجابر بن الزبير، حليف لهم.
ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة عشرة نفروهم: خالد بن هشام بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أسره سواد بن غزيّة، وأمية بن أبى حذيفة(17/52)
ابن المغيرة، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وصيفىّ ابن أبى رفاعة بن عابد بن عبد الله بن عمر «1» بن مخزوم، وأبو المنذر بن أبى رفاعة ابن عابد، وأبو عطاء عبد الله بن السائب بن عابد، وقيس بن السائب، والمطلب ابن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم، وخالد بن الأعلم، حليف لهم من خزاعة، ويقال: عقيلىّ. وزعموا أنه أوّل من فرّ منهزما «2» ، وهو الذى يقول:
ولسنا على الأدبار تدمى كلومنا «3» ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما
ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب خمسة نفروهم: أبو وداعة ابن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وهو أوّل أسير افتدى من أسرى بدر، افتداه ابنه المطلب بن أبى وداعة، وفروة بن قيس بن عدىّ بن حذافة بن سعيد ابن سهم، وحنظلة بن قبيصة بن حذافة بن سعيد بن سهم، والحجّاج «4» بن الحارث ابن قيس بن عدى بن سعيد «5» بن سهم، وأسلم، مولى نبيه بن الحجاج.
ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب أحد عشر نفرا وهم: عبد الله بن أبىّ بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح [وأخوه «6» عمرو بن أبىّ، وأبو عزّة عمرو ابن عبد الله بن عثمان بن وهب بن حذافة بن جمح] والفاكه، مولى أمية بن خلف ووهب بن عمير بن وهب بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، وربيعة بن(17/53)
درّاج بن العنبس بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح، وأبو رهم بن عبد الله حليف لهم، وموليان لأميّة بن خلف، أحدهما: نسطاس، وأبو رافع، غلام أمية ابن خلف. قال ابن هشام: وحليف لهم ذهب عنى اسمه.
ومن بنى عامر بن لؤىّ خمسة نفر وهم: سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدودّ ابن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، أسره مالك بن الدّخشم أخو بنى سالم ابن عوف، وعبد بن زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ، وعبد الرحمن بن مشنوء ابن وقدان بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ، وحبيب بن جابر، والسائب ابن مالك.
ومن بنى الحارث بن فهر أربعة نفر وهم: الطّفيل بن أبى قنيع، وعتبة بن عمرو ابن جحدم، وشافع، وشفيع، حليفان لهم من اليمن.
ذكر خبر أسارى بدر وما كان من فدائهم، ومن منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (وأطلقه منهم) ، ومن أسلم بسبب ذلك
قال: لما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزاة بدر ومعه الأسارى سمع العباس وهو يئنّ ويتأوّه، قد آلمه الوثاق، فقلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة لذلك، فاستأذنه أصحابه رضى الله عنهم، فى أن ينفّسوا عن العباس وثاقه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن فعلتم ذلك بجميع الأسرى فنعم وإلا فلا» . أو كما قال: فنفّسوا عن جميع الأسرى.
ولما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فرّق الأسارى بين أصحابه وقال: «استوصوا بهم خيرا» . ثم جاءه جبريل عليه السلام فى أمر الأسارى(17/54)
فقال: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم أخذتم منهم الفداء، (واستشهد «1» قابلا منكم سبعون. قال: فنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أصحابه، فجاءوا- أو من جاء منهم) - فقال: «هذا جبريل يخيّركم بين أن تقدّموهم فتقتلوهم، وبين أن تفادوهم ويستشهد قابلا منكم بعدّتهم» . فقالوا: بل نفاديهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون. ففادوهم. رواه محمد بن سعد.
وروى ابن قتيبة عن ابن إسحاق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للعباس:
«افد نفسك وابنى أخويك: عقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وحليفك، فإنك ذو مال» . فقال: يا رسول الله، إنى كنت مسلما ولكنّ القوم استكرهونى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تقول حقا فالله يجزيك به، وأما ظاهر [أمرك «2» ] فقد كان علينا» .
قال: فإنه ليس لى مال. قال: «فأين المال الذى وضعته عند أم الفضل بمكة حين خرجت وليس معكما أحد؟ ثم قلت: إن أصبت فى سفرى هذا فللفضل كذا، ولعبد الله كذا» . قال: والذى بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيرها، وإنى لأعلم أنك رسول الله. ففدى نفسه بمائة أوقيّة، وكل واحد بأربعين أوقية، وقال: «تركتنى أسأل الناس فى كفّى» . قال: «وأسلم العباس، وأمر عقيلا فأسلم» .
وروى محمد بن سعد قال: لما أسر نوفل بن الحارث ببدر قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «افد نفسك» . قال: ما لى شىء أفتدى به. قال: «افد نفسك(17/55)
برماحك التى بجدّة» . فقال: والله ما علم أحد أن لى بجدّة رماحا غيرى بعد الله، أشهد أنك رسول الله. ففدى نفسه بها، وكانت ألف رمح. وقيل: كان إسلام نوفل وهجرته أيام الخندق.
قال ابن إسحاق: وكانت قريش حين ورد عليهم الخبر بمصرع أصحاب بدر ناحوا على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا فى أسراكم حتى تستأنوا «1» بهم لا يأرب «2» عليكم محمد وأصحابه فى الفداء. فقال المطلب ابن أبى وداعة: صدقتم، لا تعجلوا؛ وانسلّ من الليل فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، وانطلق به.
ثم بعثت قريش فى فداء الأسارى، فكان أعلى ما فدى به أسير أربعة آلاف درهم فما دونها إلى ألف درهم.
وقال محمد بن سعد فى طبقاته: كان فداء أسارى يوم بدر أربعة آلاف إلى ما دون ذلك، فمن لم يجد عنده شيئا «3» أعطى عشرة من غلمان المدينة، فعلّمهم الكتابة، فإذا حذقوا فهو فداؤه. وكان أهل مكّة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون. [قال «4» ] : فكان زيد بن ثابت ممن علّم.
ذكر خبر أبى سفيان فى أسر ابنه عمرو بن أبى سفيان وإطلاقه
قال محمد بن إسحاق: وكان عمرو بن أبى سفيان فى الأسارى، فقيل لأبى سفيان: افد ابنك عمرا، فقال: أيجمع علىّ دمى ومالى! قتلوا حنظلة، وأفدى عمرا! دعوه فى أيديهم يمسكوه ما بدالهم. فلم يزل كذلك حتى قدم سعد بن النعمان(17/56)
ابن أكّال، أخو بنى عمرو بن عوف معتمرا، وكان شيخا مسلما، فى غنم له بالبقيع «1» ، وقد «2» كانت قريش عهدوا أنهم لا يعرضون لحاج أو معتمر إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بمكة فحبسه بابنه عمرو، ثم قال أبو سفيان:
أرهط ابن أكّال أجيبوا دعاءه ... تفاقدتم «3» لا تسلموا السيّد الكهلا
فإنّ بنى عمرو لئام أذلّة ... إذا لم يفكّوا عن أسيرهم الكبلا «4»
قال: فمشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان فيفتكّوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعثوا به إلى أبى سفيان، فحلّى سبيل سعد ابن النعمان.
ذكر خبر أبى العاص بن الربيع فى فدائه
وإرساله «5» زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة إلى المدينة وإسلامه بعد ذلك، وردّ زينب عليه بغير نكاح جديد.
قال ابن إسحاق: وكان فى الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى ابن عبد شمس، ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزوج ابنته زينب. أسره خراش بن الصّمة، أحد بنى حرام.(17/57)
وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، وكان لهالة بنت خويلد أخت خديجة، فسألت خديجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يزوجه زينب، فزوجه بها، وذلك قبل أن ينزل الوحى على رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فكان معها وهو على شركه وهى مسلمة.
فلما بعث أهل مكة فى فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى فداء أبى العاص [بمال، وبعثت «1» فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبى العاص] فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رقّ لها رقّة شديدة وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها [مالها «2» ] فافعلوا» . قالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه وردّوا عليها الذى بعثت به، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه أن يخلّى سبيل زينب، ولم يظهر ذلك، ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، فقال: «كونا ببطن يأجج «3» حتى تمرّ بكما زينب، فتصحباها حتى تأتيانى بها» . فخرجا وذلك بعد بدر بشهر، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فتجهّزت لذلك، وقدّم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقود بها، وهى فى هودج لها، وتحدّث بذلك رجال قريش، فخرجوا فى طلبها، حتى أدركوها بذى طوى «4» ، فكان أوّل من سبق إليها هبّار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى الفهرىّ، فروّعها بالرمح وهى فى هودجها، وكانت حاملا فطرحت، فنثر حموها كنانته ثم قال: والله لا يدنو منى(17/58)
رجل إلا وضعت فيه سهما، فتكركر «1» الناس عنه. ثم جاء أبو سفيان بن حرب فى جلّة [من «2» ] قريش فقال: أيها الرجل، كفّ عنا نبلك حتى نكلّمك. فكفّ، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت له ببنته علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك على ذلّ أصابنا عن مصيبتنا التى كانت، وأن ذلك منا ضعف ووهن، ولعمرى ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا فى ذلك من ثؤرة «3» ، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات وتحدّث الناس أن قد رددناها فسلّها سرا وألحقها بأبيها. قال: ففعل.
فأقامت ليالى حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأقامت عنده بالمدينة وفرّق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام- وكان رجلا مأمونا- بمال له وأموال رجال من قريش، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سريّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصابوا ما معه وأعجزهم هاربا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستجار بها، فأجارته، وجاء فى طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصلاة الصبح وكبّر وكبر الناس معه خرجت «4» زينب من صفّة النساء [وقالت] : أيها الناس، إنى قد أجرت أبا العاص ابن الربيع. فلمّا سلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة أقبل على الناس فقال:
«أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت» ؟ فقالوا: نعم، قال: «أما والذى نفس محمد بيده(17/59)
ما علمت بشىء حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم» . ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخل على ابنته وقال: «أى بنيّة، أكرمى مثواه، ولا يخلص إليك فإنك لا تحلّين له» .
قال: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى السريّة الذين أصابوا مال أبى العاص فقال لهم: «إن هذا الرجل منّا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردّوا عليه الذى له فإنّا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فىء الله الذى أفاء عليكم، فأنتم أحقّ به» . قالوا: يا رسول الله، بل نردّه عليه، فردّوه عليه، حتى إنّ الرجل ليأتى بالدّلو، ويأتى الرجل بالشّتّة «1» والإداوة «2» ، حتى إنّ أحدهم ليأتى بالشّظاظ «3» ، حتى ردّوا عليه ماله بأسره لم يفقد منه شيئا، ثم احتمل إلى مكة، فأدّى إلى كلّ ذى مال من قريش ماله، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقى لأحد منكم عندى مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيّا كريما؛ قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ما منعنى من الإسلام عنده إلا تخوّف أن يظنّوا أنى إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أدّاها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب على النكاح «4» الأوّل، ولم يحدث شيئا.(17/60)
نرجع إلى تتمة أخبار أسارى بدر:
ذكر خبر الوليد بن الوليد بن المغيرة
قد تقدّم أنه كان ممن أسر يوم بدر، وكان الذى أسره عبد الله بن جحش ويقال: أسره سليط بن قيس المازنىّ الأنصارىّ، فقدم فى فدائه أخواه: خالد وهشام، فتمنّع عبد الله بن جحش حتى افتكّاه بأربعة آلاف درهم. فجعل خالد يريد ألا يبلغ ذلك، فقال هشام لخالد: إنه ليس بابن أمّك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت. ويقال: إن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لعبد الله بن جحش:
لا تقبل فى فدائه إلا شكّة أبيه الوليد- وكانت درعا فضفاضة وسيفا وبيضة- فأبى ذلك خالد وأطاع هشام لأنه أخوه لأبويه، فأقيمت الشكة بمائة دينار، فطاعا بها وسلّماها إلى عبد الله، فلما افتدى أسلم، فقيل له: هلّا أسلمت قبل أن تفتدى وأنت مع المسلمين؟ قال: كرهت أن تظنوا أنى جزعت من الإسار.
فحبسوه بمكة، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو له فيمن دعا له من مستضعفى المؤمنين، ثم أفلت ولحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهد عمرة القضيّة «1» . حكاه ابن عبد البرّ.
ذكر من منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أسارى بدر وأطلقه بغير فداء
قال ابن إسحاق: وكان ممن منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغير فداء:
أبو العاص بن الربيع هذا الذى تقدّم خبره. والمطّلب بن حنطب «2» بن الحارث(17/61)
ابن عبيد المخزومىّ، وكان لبعض بنى الحارث بن الخزرج، فترك فى أيديهم حتى خلّوا سبيله، فلحق بقومه، وصيفىّ بن أبى رفاعة المخزومىّ، ترك فى يد أصحابه فلم يأت أحد فى فدائه، فأخذوا عليه العهد ليبعثنّ إليهم بفدائه وخلّوا سبيله، فلم يف لهم بشىء، وأبو عزّة عمرو بن عبد الله بن عثمان بن وهب بن حذافة بن جمح كان محتاجا ذا بنات فقال: يا رسول الله، لقد عرفت مالى من مال، وإنى لذو حاجة وذو عيال، فامنن علىّ، فمنّ عليه وأخذ عليه ألّا يظاهر عليه أحدا؛ فقال أبو عزّة فى ذلك:
من مبلغ عنّى الرسول محمدا ... فإنك حقّ والمليك حميد
وأنت امرؤ تدعو إلى الحقّ والهدى ... عليك من الله العظيم شهيد
وأنت امرؤ بوّئت فينا مباءة ... لها درجات سهلة وصعود «1»
فإنك من حاربته لمحارب ... شقىّ ومن سالمته لسعيد
ولكن إذا ذكّرت بدرا وأهله ... تأوّب ما بى حسرة وقعود «2»
ومنهم وهب بن عمير الجمحى، ولإطلاقه سبب نذكره.
ذكر خبر عمير بن وهب وإسلامه، وإطلاق ولده وهب بن عمير.
قال ابن إسحق فى سبب إطلاق وهب بن عمير: إنّ أباه عمير بن وهب بن خلف بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب جلس مع صفوان بن أميّة فى الحجر بعد مصاب أهل بدر بيسير- قال: وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش، ممن كان يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة- فذكر أصحاب القليب «3» ومصابهم. فقال صفوان: والله إن(17/62)
فى العيش بعدهم خير، فقال عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علىّ ليس له [عندى «1» ] قضاء، وعيال أخشى عليهم الضّيعة «2» بعدى، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لى قبلهم علة؛ ابنى أسير فى أيديهم. فاغتنمها صفوان فقال: علىّ دينك، أنا أقصيه عنك، وعيالك مع عيالى أواسيهم ما بقوا لا يسعنى «3» شىء ويعجز عنهم؛ قال له عمير: فاكتم علىّ شأنى وشأنك؛ قال: أفعل.
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له، ثم سمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى نفر من المسلمين يتحدّثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، إذ نظر إلى عمير حين أناخ على باب المسجد متوشّحا السيف، فقال عمر: هذا الكلب عدوّ الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشرّ، وهذا الذى حرّش «4» بيننا وحرزنا «5» للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبىّ الله، هذا عدوّ الله عمير بن وهب قد جاء متوشّحا بسيفه، قال:
فأدخله علىّ، فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه فى عنقه فلبّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه هذا الخبيث، فإنه غير مأمون؛ ثم دخل به على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما رآه قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير؛ فدنا ثم قال: انعموا صباحا- وكانت تحيّة أهل الجاهلية بينهم- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد أكرمنا الله بتحيّة خير من تحيّتك يا عمير، بالسلام تحيّة أهل الجنة؛ قال: أما والله إن كنت يا محمد بها لحديث عهد؛ قال: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير(17/63)
الذى فى أيديكم فأحسنوا فيه؛ قال: فما بال السيف فى عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت شيئا! قال: اصدقنى، ما الذى جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك؛ قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أميّة فى الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت: لولا دين علىّ وعيال عندى لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلنى له، والله حائل بينك وبين ذلك.
قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره «1» إلا أنا وصفوان فو الله إنى لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام، وساقنى هذا المساق، ثم شهد شهادة الحقّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فقّهوا أخاكم فى دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره» ، ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله، إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحبّ أن تأذن لى فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله، وإلى رسوله، وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم فى دينهم كما كنت أوذى أصحابك فى دينهم. قال: فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلحق بمكة.
وكان صفوان بن أمية يقول لقريش: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن فى أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان يسأل عنه الرّكبان حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف ألا يكلمه أبدا، ولا ينفعه بنفع.
فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذى من خالفه أذّى شديدا، فأسلم على يديه ناس كثير.(17/64)
قال ابن إسحاق: وعمير بن وهب أو الحارث بن هشام، قد ذكر أن أحدهما [الذى «1» ] رأى إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر، كما أخبر الله تعالى عنه فى قوله:
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)
وكان إبليس قد تشبّه لقريش بسراقة بن مالك بن جعشم وقال: أنا جار لكم من بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة، كما قدّمنا ذكر ذلك، قال: وكانوا يرونه فى كل منزل فى صورة سراقة لا ينكرونه. فلما التقى الجمعان يوم بدر ورأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال لهم ما قال.
وقد أخذت هذه الغزوة حقّها من البسط والإطالة وإن كان ذلك على سبيل الاختصار، فلنذكر غيرها من الغزوات والسّرايا. والله المستعان.
ذكر سرية عمير بن عدىّ بن خرشة الخطمىّ إلى عصماء بنت مروان من بنى أميّة بن زيد «2»
قال محمد بن سعد: كانت سريّة عمير لخمس ليال بقين من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: وكانت عصماء عند يزيد بن زيد بن حصن «3» الخطمى، وكانت تعيب الإسلام وتؤذى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وتحرّض عليه. وتقول الشعر، فجاءها عمير بن عدىّ فى جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه فى صدرها،(17/65)
فجسّها بيده- وكان ضرير البصر- ونحّى الصّبىّ عنها، ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها، ثم صلّى الصبح مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قتلت بنت مروان؟ قال: نعم، فهل علىّ فى ذلك شىء؟ قال: لا ينتطح فيها عنزان «1» .
قال محمد بن إسحاق: فرجع عمير بن عدىّ إلى قومه، وبنو خطمة يومئذ كثير موجهم «2» في شأن ابنه مروان، ولها يومئذ بنون خمسة رجال، فقال:
يا بنى خطمة، أنا قتلت ابنة مروان، فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون «3» . قال: فذلك اليوم أوّل ما عزّ الإسلام فى دار بنى خطمة، وكان من أسلم منهم يستخفى بإسلامه، وعمير هو أوّل من أسلم من بنى خطمة. قال: وأسلم يوم قتلها رجال من بنى خطمة لما رأوا من عزّ الإسلام.
ذكر سريّة سالم بن عمير العمرىّ إلى أبى عفك اليهودىّ
قال ابن سعد: كانت سريّة سالم فى شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وكان أبو عفك «4» من بنى عمرو بن عوف شيخا كبيرا قد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان «5» يحرّض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقول الشعر، فقال سالم(17/66)
ابن عمير- وهو أحد البكّائين «1» وقد شهد بدرا-: علىّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه؛ فجاء وقد نام أبو عفك بالفناء فى ليلة صائفة، فوضع السيف على كبده، ثم اعتمد عليه حتى خشّ فى الفراش، فصاح [عدوّ الله «2» ] ، فثار إليه ناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه.
ذكر غزوة بنى قينقاع
(وهى بضم النون وقيل بكسرها «3» ) غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يوم السبت النصف من شوّال على رأس عشرين شهرا من مهاجره.
قال ابن سعد: وكانوا حلفاء عبد الله بن أبىّ بن سلول، وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، فوادعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغى والحسد، ونبذوا العهد والمدّة، فأنزل الله تعالى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم: (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) «4» .
وقال أبو عبد الله محمد بن إسحاق فى سبب غزوة بنى قينقاع: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمعهم بسوق بنى قينقاع «5» ثم قال: يا معشر يهود، احذروا من الله(17/67)
مثل ما نزل بقريش من النّقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنّى نبىّ مرسل، تجدون ذلك فى كتابكم وعهد الله إليكم؛ قالوا: يا محمد، لا يغرّنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنّا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن الناس.
فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ «1» )
. حكاه ابن إسحاق بسند يرفعه إلى ابن عباس.
وقال ابن هشام فى سبب هذه الغزاة: إنّ امرأة من العرب حلّت بجلب «2» لها، فباعته بسوق بنى قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فأغضبهم، فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع.
عدنا إلى مساق حديث ابن سعد؛ قال: فسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، ثم سار إليهم فحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذى القعدة، وكانوا أوّل من غدر من اليهود، وحاربوا وتحصّنوا فى حصنهم، فحاصرهم أشدّ الحصار، حتى قذف الله فى قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أموالهم، وأن لهم النساء والذّرّيّة، فأمر(17/68)
بهم فكتفوا، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السّلمى. فكلّم عبد الله بن أبىّ فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وألحّ عليه، فقال: خذهم، لعنهم الله «1» ؛ وتركهم من القتل، وأمر بهم أن يجلوا من المدينة، وولّى إخراجهم منها عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات «2» ، فما كان أقلّ بقاءهم فيها.
وقال ابن إسحاق فى خبر عبد الله بن أبىّ بن سلول: إنه قام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أمكنه الله من بنى قينقاع، فقال: يا محمد، أحسن فى موالىّ.
وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، أحسن فى موالىّ. قال: فأعرض عنه. قال: فأدخل يده فى جيب درع «3» النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرسلنى، وغضب حتى ظهر ذلك فى وجهه، ثم قال: ويحك! أرسلنى؛ قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن فى موالىّ، أربعمائة حاسر «4» وثلاثمائة دارع «5» ، قد منعونى من الأحمر والأسود، تحصدهم فى غداة واحدة، إنى والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هم لك.
وحكى أيضا قال: كان لبنى قينقاع من عبادة بن الصامت من الحلف مثل الذى لهم من عبد الله بن أبىّ، فمشى عبادة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتبرّأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: أتولّى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. فأنزل الله تعالى فيه وفى عبد الله بن أبىّ:(17/69)
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ «1» )
إلى قوله: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ «2» )
وذلك لعبادة بن الصامت.
قال محمد بن سعد: وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [من سلاحهم «3» ] ثلاث قسىّ، منها: الكتوم، كسرت بأحد، والرّوحاء، والبيضاء، وأخذ درعين:
الصّغديّة، وأخرى فضّة؛ وأخذ ثلاثة أسياف: سيف قلعىّ «4» ، وسيف يقال له:
بتّار؛ وسيف آخر؛ وثلاثة أرماح، ووجد فى حصنهم سلاحا كثيرا وآلة الصّياغة، فأخذ صلّى الله عليه وسلّم صفيّة «5» والخمس، وفضّ «6» أربعة أخماس على أصحابه، وكان الذى تولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة.
ذكر غزوة السّويق
قال محمد بن سعد: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة لخمس خلون من ذى الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من مهاجره، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وذلك أن أبا سفيان بن حرب لما رجع المشركون من بدر إلى مكة حرّم الدّهن حتى يثأر من محمد وأصحابه.(17/70)
قال ابن إسحاق: نذر ألا يمسّ رأسه ماء من جنابة «1» حتى يغزو محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن سعد: فخرج فى مائتى راكب، وقيل: فى أربعين راكبا، فمرّ بالعريض،- بينه وبين المدينة نحو من ثلاثة أميال- فقتل رجلا من الأنصار، وأجيرا له، وحرّق أبياتا هناك وتبنا، ورأى أن يمينه قد حلّت، ثم ولّى هاربا، وبلغ ذلك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فخرج فى مائتى رجل من المهاجرين والأنصار فى أثرهم، وجعل أبو سفيان [وأصحابه «2» ] يتخفّفون للهرب «3» فيلقون جرّب السويق «4» وهى عامّة أزوادهم، فأخذها المسلمون؛ فسمّيت غزوة السويق، ولم يلحقهم وانصرف. وكانت غيبته عن المدينة خمسة أيام.
قال محمد بن إسحاق: بلغ قرقرة الكدر «5» ثم انصرف راجعا، فقال المسلمون حين رجع بهم: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: نعم.
ذكر غزوة قرقرة الكدر ويقال قرارة الكدر وهى غزوة بنى سليم
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للنّصف من المحرّم على رأس ثلاثة وعشرين شهرا من مهاجره، وهى ناحية معدن بنى سليم، وبينه وبين المدينة ثمانية برد، واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، وحمل لواءه علىّ بن أبى طالب، وكان(17/71)
قد بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن بهذا الموضع جمعا من بنى سليم وغطفان، فسار إليهم فلم يجد فى المحالّ أحدا، ووجد رعاء»
منهم غلام يقال له: يسار، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد ظفر بالنعم فانحدر به إلى المدينة، فاقتسموا غنائمهم بصرار، على ثلاثة أميال من المدينة، وكانت النّعم خمسمائة بعير، فأخرج خمسه وقسم أربعة أخماس على المسلمين، فأصاب كلّ رجل منهم بعيران، وصار يسار فى سهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأعتقه حين رآه يصلى. وكانت غيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المدينة خمس عشرة ليلة.
ذكر مقتل كعب بن الأشرف اليهودىّ وخبر سريّته
قال أبو عبد الله محمد بن إسحاق وأبو محمد عبد الملك بن هشام ومحمد بن سعد- دخل حديث بعضهم فى حديث بعض-: كانت سريّة قتل كعب بن الأشرف لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل على رأس خمسة وعشرين شهرا من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذلك أنه كان رجلا شاعرا يهجو النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ويحرّض عليهم ويؤذيهم، وكان لما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشير بن إلى من بالمدينة من المسلمين بخبر بدر، فقال كعب بن الأشرف- وكان رجلا من طيئ، ثم أحد بنى نبهان، وكانت أمّه من بنى النّضير «2» -: أحقّ هذا؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان؟ فهؤلاء أشراف العرب(17/72)
وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
فلما تيقّن الخبر خرج حتى قدم مكة فنزل على المطّلب بن أبى وداعة السّهمى، وجعل يحرّض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينشد الأشعار «1» ويبكى أصحاب القليب من قريش.
ثم رجع إلى المدينة فشبّب «2» بنساء المسلمين حتى آذاهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفنى ابن الأشرف بما شئت» ؛ وقال: «من لى بابن الأشرف فقد آذانى» ؟ فقال محمد بن مسلمة، أخو بنى عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله؛ قال: «فافعل إن قدرت «3» على ذلك» . فرجع [محمد بن «4» ] مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يمسك رمقه؛ فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «لم تركت الطعام والشّراب» ؟ فقال: يا رسول [الله «5» ] ؛ قلت لك قولا لا أدرى هل أفى لك به أولا؟ قال: «إنما عليك الجهد» قال: يا رسول الله؛ لا بدّ لنا من أن نقول «6» ، قال: «قولوا ما بدا لكم، فأنتم فى حلّ من ذلك» . فاجتمع على قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش- وكان أخا كعب من(17/73)
الرّضاعة- وعبّاد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر «1» ، أخو بنى حارثة، فقدّموا إليه سلكان بن سلامة، فجاءه فتحدّث معه ساعة، وتناشدا شعرا، ثم قال أبو نائلة سلكان: ويحك يابن الأشرف! إنى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم عنى؛ قال: أفعل، قال: قد كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمتنا «2» عن قوس واحدة، وقطعت عنا السّبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا؛ فقال كعب:
أنا ابن الأشرف، والله لقد كنت أخبرك يابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول؛ فقال له سلكان: إنّا نريد التّنحى منه، ومعى رجال من قومى على مثل رأيى، وقد أردت أن آتيك بهم، فنبتاع منك طعاما وتمرا، ونرهنك مايكون لك فيه ثقة ووفاء؛ فقال أترهنونى نساءكم؟ قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أشبّ أهل يثرب وأعطرهم؛ فقال: هذا رهينة وسق «3» ، وهذا رهينة وسقين، ولكنّا نرهنك سلاحنا وقد علمت حاجتنا إلى السلاح؛ فقال: نعم إن فى الحلقة «4» لوفاء، وإنما أراد سلكان ألا ينكر السلاح إذا جاءوا بها، ثم رجع سلكان إلى أصحابه، وأخبرهم الخبر وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ففعلوا.
ومشى معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بقيع «5» الغرقد، ثم وجههم وقال:
انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. ورجع صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته، وتوجّهوا،(17/74)
وكانت ليلة مقمرة، حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس، فوثب فى ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون فى هذه الساعة؛ قال: إنّه أبو نائلة، لو وجدنى نائما ما أيقظنى؛ فقالت: والله إنى لأعرف فى صوته الشرّ، فقال لها:
لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب.
وفى حديث البخارىّ من رواية سفيان «1» عن عمرو عن جابر بن عبد الله قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم؛ فقال: إنما هو أخى محمد بن مسلمة، ورضيعى أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنة بليل لأجاب؛ قالوا: ونزل إليهم فتحدّثوا معه ساعة ثم قالوا: هل لك يابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب «2» العجوز فنتحدّث به بقيّة ليلتنا. فقال: إن شئتم. فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم وضع أبو نائلة [يده «3» ] فى فود رأس ابن الأشرف، ثم شمّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قطّ من هذا! فقال: هذا عطر أمّ فلان، يريد امرأته، ثم مشى قليلا وعاد لمثلها حتى اطمأنّ، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه وقال: اضربوا عدوّ الله.
فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا «4» في سيفى حين رأيت أسيافنا لم تغن، فأخذته وقد صاح عدوّ الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، فوضعته فى ثنّته «5» ، ثم تحاملت عليه حتى انتهى إلى عانته «6» . ثم حزّوا رأسه وحملوه معهم؛ وأصيب الحارث بن أوس، فجرح فى رأسه أو رجله، أصابه بعض أسياف أصحابه(17/75)
قال محمد بن مسلمة: فخرجنا حتى سلكنا على بنى أمية بن زيد، ثم على بنى قريظة ثم على بعاث «1» حتى استندنا «2» في حرّة «3» العريض، وقد أبطأ علينا الحارث، ونزفه «4» الدم فوقفنا له ساعة حتى أتانا فاحتملناه وجئنا به.
قال ابن سعد: فلما بلغوا بقيع الغرقد كبّروا، وقد قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة يصلى، فلما سمع تكبيرهم كبّر، وعرف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أفلحت الوجوه» قالوا: وجهك «5» يا رسول الله؛ ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله.
قال ابن إسحاق، قال محمد بن مسلمة: وتفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جرح صاحبنا فبرأ، فرجعنا إلى أهلينا، فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدوّ الله، فليس بها يهودىّ إلا وهو خائف على نفسه.
وفى مقتل كعب بن الأشرف يقول عبّاد بن بشر:
صرخت به فلم يعرض لصوتى ... وأوفى طالعا من رأس جدر «6»
فعدت له فقال من المنادى ... فقلت أخوك عبّاد بن بشر
وهذى درعنا رهنا فخذها ... لشهر إن وفى أو نصف شهر(17/76)
فقال معاشر سغبوا وجاعوا ... وما عدموا الغنى من غير فقر
فأقبل نحونا يهوى سريعا ... وقال: أما «1» لقد جئتم لأمر
وفى أيماننا بيض حداد ... مجرّبة بها الكفار نفرى «2»
فعانقه ابن مسلمة المردّى ... به الكفار كالليث الهزبر
وشدّ بسيفه صلتا عليه ... فقطّره أبو عبس بن جبر «3»
فكان الله سادسنا فأبنا ... بأنعم نعمة وأعزّ نصر
وجاء برأسه نفر كرام ... هم ناهيك «4» من صدق وبرّ
ذكر غزوة غطفان إلى نجد (وهى غزوة «5» ذى أمر؛
ناحية النّخيل، وقصة دعثور بن الحارث «6» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل «7» على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجره، وذلك أنه بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن جمعا(17/77)
من بنى ثعلبة ومحارب بذى أمر تجمّعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. جمعهم رجل منهم يقال له: دعثور بن الحارث من بنى محارب، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، وخرج لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل فى أربعمائة وخمسين رجلا، ومعهم أفراس، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان- رضى الله عنه- فأصابوا رجلا منهم بذى»
القصّة يقال له جبار من بنى ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره من خبرهم «2» وقال:
لن يلاقوك، لو سمعوا بمسيرك هربوا فى رءوس الجبال، وأنا سائر معك. فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فأسلم وضمّه إلى بلال، ولم يلاق صلّى الله عليه وسلّم أحدا.
قال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد البيهقىّ، رحمه الله: وهربت منه الأعراب فوق ذروة من الجبال، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذا امر وعسكربه فأصابهم مطر كثير، فذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجته، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادى ذى أمر بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجفّ، وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها، والأعراب ينظرون إلى كل ما يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقالت الأعراب لدعثور، وكان سيّدها وأشجعها: قد أمكنك محمد، وقد انفرد من أصحابه حيث إن غوّث «3» بأصحابه لم يغث حتى تقتله؛ فاختار سيفا من سيوفهم صارما، ثم أقبل مشتملا على السيف حتى قام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد، من يمنعك منّى اليوم؟ قال: الله. ودفع جبريل فى صدره فوقع(17/78)
السيف من يده، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقام على رأسه، فقال: من يمنعك منى؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا أكثر عليك جمعا أبدا، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه، ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه ثم قال: والله لأنت خير منى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنا أحق بذلك منك. فأتى قومه، فقالوا: أين ما كنت تقول وقد أمكنك والسيف فى يدك؟
قال: قد كان والله ذلك رأيى، ولكن نظرت إلى رجل أبيض «1» طويل فدفع فى صدرى فوقعت لظهرى، فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليه؛ وجعل يدعو قومه إلى الإسلام ونزلت هذه الآية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ «2» )
الآية. ثم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة.
ذكر غزوة بنى سليم بجران «3»
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لستّ خلون من جمادى الأولى على رأس سبعة وعشرين شهرا من مهاجره- وبحران من ناحية الفرع «4» ، وبين الفرع وبين المدينة ثمانية برد- وذلك أنه بلغه أن بها جمعا كثيرا من بنى سليم، فخرج فى ثلاثمائة رجل من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم وأغدّ «5» السير حتى ورد بحران فوجدهم قد تفرقوا فى مياههم، فرجع ولم يلق كيدا، وكانت غيبته عشر ليال.(17/79)
ذكر سريّة زيد بن حارثة إلى القردة
(بالقاف، وضبطه ابن الفرات بالفاء وكسر الراء المهملة) بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهلال جمادى الآخرة، على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، وهى أوّل سريّة خرج زيد فيها أميرا يعترض لعير قريش فيها صفوان بن أميّة، وحويطب بن عبد العزّى، وعبد الله بن أبى ربيعة، ومعه مال كثير، وكان دليلهم فرات بن حيّان العجلىّ، فخرج بهم على ذات عرق، طريق العراق.
قال ابن إسحاق: وفيها أبو سفيان بن حرب، وكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم الذى كانوا يسلكون إلى الشام حين «1» وقعة بدر فكانوا يسلكون طريق العراق، فخرج منهم تجّار، وفيهم أبو سفيان بن حرب معه فضّة كثيرة، وهى أعظم تجارتهم.
قال ابن سعد: فبلغ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فوجّه زيد بن حارثة فى مائة راكب، فاعترضوا لها، فأصابوا العير وأفلت أعيان القوم، وقدموا بالعير على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخمسّها، فبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم، وقسم ما بقى بين «2» أهل السريّة، وأسر فرات بن حيّان، فأسلم، فترك من القتل.
والقردة: من أرض نجد بين الرّبذة والغمرة.(17/80)
ذكر غزوة أحد
قال محمد بن سعد فى طبقاته: كانت غزوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا يوم السبت لسبع خلون من شوّال، على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ابن إسحاق: كانت يوم السبت للنصف من شوّال.
وذلك أن قريشا لما أصيب من أصيب منهم يوم بدر، ورجع من نجا منهم إلى مكة، وجدوا العير التى قدم بها أبو سفيان بن حرب موقوفة فى دار النّدوة، فمشت أشراف قريش إلى أبى سفيان، فقالوا: نحن طيّبوا أنفس أن تجهّزوا بربح هذه «1» العير جيشا إلى محمد؛ فقال أبو سفيان: وأنا أوّل من أجاب إلى ذلك، وبنو عبد مناف معى؛ فباعوها فكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، فسلّم إلى أهل العير رءوس أموالهم وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون فى تجارتهم للدينار دينارا.
قال ابن سعد وغيره: وفيهم نزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ «2» )
وبعثت قريش رسلهم إلى العرب يدعونهم «3» إلى نصرهم فأوعبوا «4» وألبوا «5» .
قال ابن سعد: وكتب العبّاس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخبر قريش، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن الرّبيع بكتاب(17/81)
العباس. وأرجف «1» المنافقون واليهود بالمدينة، وخرجت قريش من مكة بحدّها «2» وجدّها وأحابيشها «3» ، ومن تابعها من كنانة وأهل تهامة، وكان عددهم ثلاثة آلاف رجل، فيهم سبعمائة دارع، ومعهم مائتا فرس «4» وثلاثة آلاف بعير، وخرجوا معهم بالظّعن «5» التماس الحفيظة «6» ، وألا يفرّوا، وكان معهم خمس عشرة امرأة، فخرج أبو سفيان ابن حرب- وهو قائد الناس- «7» معهم بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بن أبى جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أميّة ببرّة «8» بنت مسعود بن عمرو ابن عمير الثّقفيّة، وهى أم عبد الله بن صفوان، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبّه بن الحجّاج، وهى أم عبد الله بن عمرو، وخرج طلحة بن أبى طلحة- عبد الله بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار- بسلافة بنت سعد بن شهيد «9» الأنصاريّة، وخرجت خناس بنت مالك بن المضرّب «10»(17/82)
مع ابنها «1» أبى عزيز بن عمير، وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى «2» نساء بنى الحارث ابن عبد مناة.
قال محمد بن إسحاق: ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيّا، يقال له: وحشىّ، يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلّما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عمّ محمد بعمىّ طعيمة بن عدى فأنت عتيق.
فكانت هند بنت عتبة كلّما مرّت بوحشىّ أو مر بها، قالت: ويها «3» أبا دسمة؛ اشف واستشف، وكان وحشىّ يكنى بأبى دسمة.
قال ابن سعد: وشاع خبرهم ومسيرهم فى الناس حتى نزلوا ذا الحليفة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنسا ومؤنسا ابنى فضالة، ليلة الخميس لخمس مضين من شوّال عينين له، فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخبرهم، وأنهم قد خلّوا إبلهم وخيلهم فى الزرع الذى بالعريض «4» حتى تركوه ليس به خضراء، ثم بعث الحباب ابن المنذر [بن الجموح فدخل فيهم «5» ] فخزرهم، وجاءه بعلمهم، وبات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، فى عدّة ليلة الجمعة، عليهم السلاح فى المسجد بباب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحرست المدينة حتى أصبحوا، ورأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة كأنّه فى درع حصينة، وكأنّ سيفه ذا الفقار قد انقصم من عند ظبته، وكأن بقرا تذبح، وكأنه مردف كبشا فأخبر بها أصحابه وأوّلها، فقال: أما الدّرع الحصينة فالمدينة، وأما انقصام سيفى(17/83)
فمصيبة فى نفسى، وأما البقر التى تذبح فقتل فى أصحابى، وأما مردف كبشا، فكبش الكتيبة يقتله [الله «1» ] إن شاء الله: فكان رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فأحبّ أن يوافق على «2» رأيه، فاستشار أصحابه فى الخروج، فأشار عبد الله بن أبىّ بن سلول ألا يخرج، وكان ذلك رأى الأكابر من المهاجرين والأنصار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: امكثوا فى المدينة، واجعلوا النساء والذرارىّ فى الآطام»
. فقام فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا، فطلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخروج إلى عدوّهم ورغبوا فى الشهادة، وقالوا: اخرج بنا إلى عدوّنا لا يرون أنّا [قد «4» ] جبنّا عنهم وضعفنا. فغلبوا على الأمر، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجمعة بالناس ووعظهم وأمرهم بالجدّ والجهاد «5» ، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتّهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بالشخوص، ثم صلّى بالناس العصر، وقد حشدوا، وحضر أهل العوالى «6» ، ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيته ومعه أبو بكر وعمر، فعمّاه وألبساه «7» ، وصفّ «8» الناس له ينتظرون خروجه، فقال لهم سعد ابن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردّوا الأمر إليه. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد لبس لأمته «9» ، وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل سيفه «10» ، واعتمّ وتقلّد السيف، وألقى التّرس فى ظهره، فندموا جميعا على ما صنعوا، وقالوا:
ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك. فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا ينبغى(17/84)
لنبىّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، فانظروا ما آمركم به فافعلوا وامضوا على اسم الله، فلكم النصر ما صبرتم. ثم دعا بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء المهاجرين إلى على بن أبى طالب، ويقال:
إلى مصعب بن عمير، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر، ويقال: إلى سعد بن عبادة، واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، ثم ركب فرسه وتنكّب «1» القوس وأخذ قناة بيده، والمسلمون عليهم السلاح قد أظهروا الدروع، فيهم مائة دارع، وخرج السّعدان أمامه يعدوان، سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، كل منهما دارع، والناس عن يمينه وشماله، فمضى حتى إذا كان بالشّيخين «2» - وهما أطمان، كان يهودى «3» ويهودية يقومان عليهما يتحدّثان، فلذلك سميّا بالشيخين، وهما فى طرف المدينة- التفت فنظر إلى كتيبة خشناء «4» لها زجل «5» ، فقال: ما هذه؟ قالوا: حلفاء ابن أبىّ من يهود. فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا تستنصروا «6» بأهل الشّرك على أهل الشرك. وعرض من عرض بالشيخين، فردّ من ردّ، وأجاز من أجاز.
قال محمد بن إسحاق: أجاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ سمرة «7» بن جندب الفزارىّ، ورافع بن خديج أحد بنى حارثة، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وكان(17/85)
قد ردّهما، فقيل له: يا رسول الله إن رافعا رام. فأجازه، فقيل له: إن سمرة يصرع رافعا، فأجازه. وردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وعمرو بن حزم، وأسيد بن ظهير، ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة سنة. وردّ عرابة ابن أوس وهو الذى يقول فيه الشمّاخ «1» .
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين
قال ابن سعد: وبات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشيخين، وكان نازلا فى بنى النّجار، واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة فى خمسين رجلا، يطيفون بالعسكر، وأدلج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السّحر، ودليله أبو خيثمة «2» ، فانتهى إلى أحد، فخانت الصلاة، وهو يرى المشركين، فأمر بلالا فأذّن وأقام، فصلّى بأصحابه الصبح صفوفا.
قال ابن إسحاق: ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشّوط «3» بين المدينة وأحد، انخزل عنه عبد الله بن أبىّ بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصانى، ما ندرى علام نقتل أنفسناها هنا أيها الناس! فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النّفاق، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بنى سلمة، يقول: يا قوم،(17/86)
أذكّركم الله أن تخذلوا «1» قومكم ونبيّكم عند ما حضر عدوّهم؛ قالوا: لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنّه يكون قتال. قال: فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فيسغنى الله عنكم نبيّه صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن سعد: انخزل عبد الله بن أبىّ بثلمائة، وبقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سبعمائة ومعه فرسه وفرس لأبى بردة بن نيار. وأقبل يصفّ أصحابه ويسوّى الصّفوف على رجليه، وعليه درعان ومغفر «2» وبيضة، وجعل له ميمنة وميسرة، وجعل أحدا وراء ظهره، واستقبل المدينة؛ وجعل عينين «3» - جبلا- عن يساره، وجعل عليه خمسين من الرّماة، واستعمل عليهم «4» عبد الله بن جبير، وقال: قوموا على مصافّكم هذه «5» فاحموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا، فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا.
وأقبل المشركون، وقد صفّوا صفوفهم، واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل، ولهم مجنّبتان «6» مائتا فرس، وجعلوا على الخيل صفوان بن أميّة، ويقال: عمرو بن العاص. وعلى الرّماة عبد الله بن أبى ربيعة، وكانوا مائة رام، ودفعوا اللّواء إلى طلحة بن أبى طلحة- واسم أبى طلحة عبد الله ابن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار- فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من(17/87)
يحمل لواء المشركين؟ فقيل: عبد الدار. فقال: نحن أحقّ بالوفاء منهم، أين مصعب ابن عمير؟ قال: هأنذا؛ قال: خذ اللّواء؛ فأخذه مصعب، فتقدّم به بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يأخذ هذا السيف بحقّه؟ فقام رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بنى ساعدة، فقال: وما حقّه يا رسول الله؟ قال: تضرب به فى العدوّ حتى ينحنى؛ قال:
أنا آخذه يا رسول الله بحقّه. فأعطاه إيّاه. وكان أبو دجانة إذا أعلم بعصابة له حمراء علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصّفين.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: إنها لمشية يبغضها الله ورسوله، إلا فى هذا الموطن.
قال ابن هشام: إن الزّبير بن العوّام قال: وجدت «1» في نفسى حين سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت: والله لأنظرنّ ما يصنع. فاتّبعته، فأخرج عصابة حمراء فعصب بها رأسه. فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت. وجعل يقول:
أنا الذى عاهدنى خليلى ... ونحن بالسّفح لدى النّخيل
ألا أقوم الدهر فى الكيّول «2» ... أضرب بسيف الله والرّسول(17/88)
قال الزّبير: فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله. وكان فى المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلا ذفّف «1» عليه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتّقاه بدرقته «2» ، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدله عنها، قال الزّبير، فقلت: الله ورسوله أعلم.
قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمش «3» الناس حمشا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أضرب به امرأة.
قالوا: وكان أوّل من أنشب الحرب يوم أحد أبو عامر عبد عمرو «4» بن صيفىّ ابن مالك بن النعمان، أحد بنى ضبيعة بن زيد، وكان قد خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعه خمسون غلاما من الأوس، وكان بعد قريشا أن لو قد لقى قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر فى الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر. قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق- وكان فى الجاهلية يسمّى الراهب، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفاسق، كما قدمنا من خبره- قال: فلما سمع ردّهم عليه، قال: لقد أصاب قومى بعدى شرّ. ثم قاتلهم قتالا شديدا، ثم راضخهم «5» بالحجارة فراضخوه، حتى ولّى هو وأصحابه هاربين.(17/89)
قال: وكان أبو سفيان قد قال لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرّضهم بذلك على القتال: يا بنى عبد الدّار، إنكم قد وليتم لواء «1» يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإمّا أن تكفونا لواءنا «2» ، وإمّا أن تخلّوا بيننا وبينه فنكفيكموه؛ فهمّوا به وتواعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع! وذلك أراد أبو سفيان.
قال: ولما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة فى النّسوة اللاتى معها، وأخذن الدّفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرّضنهم، فقالت هند فيما تقول:
ويها بنى عبد الدار ... ويها حماة الأدبار
ضربا بكلّ بتار «3»
وقالت أيضا:
نحن بنات طارق «4» ... نمشى على النّمارق «5»
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق «6»(17/90)
قال. وكان شعار المسلمين يوم أحد. أمت، أمت. ودنا القوم بعضهم من بعض، والرّماة يرشقون خيل المشركين بالنّبل، فتولّى «1» هوارب، فبرز طلحة ابن أبى طلحة، صاحب لواء المشركين، وقال: من يبارز؟ فبرز له على بن أبى طالب، فالتقيا بين الصفّين، فبدره علىّ بضربة على رأسه حتى فلق هامته، فوقع وهو كبش الكتيبة، فسرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك وكبّر، وكبّر المسلمون، وشدّوا على كتائب المشركين يضربونهم حتى نغضت «2» صفوفهم، ثم حمل لواء المشركين عثمان بن أبى طلحة، وجعل يرتجز وهو أمام النّسوة:
إنّ على أهل اللواء حقّا ... أن يخضبوا الصّعدة أو تندقّا «3»
فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه بالسيف على كاهله فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره، وبدا سحره «4» ، ثم رجع حمزة وهو يقول: أنا ابن ساقى الحجيج. فحمل اللواء أبو سعد بن أبى طلحة، فرماه سعد بن أبى وقّاص فأصاب حنجرته، فأدلع «5» لسانه إدلاع الكلب، فقتله. ثم حمله مسافع بن طلحة بن أبى طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، فقتله. ثم حمله كلاب بن طلحة ابن أبى طلحة، فقتله الزّبير بن العوّام. ثم حمله الجلاس بن طلحة بن أبى طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله. ثم حمله أرطاة بن شرحبيل، فقتله علىّ بن أبى طالب.(17/91)
ثم حمله شريح بن قاسط «1» ، فقتل. ثم حمله صؤاب غلامهم «2» ، وهو حبشىّ، فقاتل يومئذ حتى قطعت يده، فاعتنق اللواء حتى قتل عليه، وهو يقول: اللهمّ هل أعذرت، واختلف فى قاتله، فقيل: قتله سعد بن أبى وقّاص، وقيل: على بن أبى طالب، وقيل: قتله قزمان على الأصح.
قال: فلما قتل أصحاب اللواء صار ملقى، حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثيّة فدفعته لقريش، فلاثوا «3» به. ثم انكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شىء، ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أجهضوهم «4» عن العسكر، ووقعوا ينهبون العسكر، ويأخذون ما فيه من الغنائم.
قال ابن إسحاق بسند يرفعه إلى الزّبير بن العوّام، أنه قال: والله لقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند وصواحبها مشمّرات هوارب، ما دون أخذهنّ قليل ولا كثير.
قال ابن سعد: وتكلّم الرّماة الذين على الجبل واختلفوا بينهم، وثبت أميرهم عبد الله بن جبير فى نفر يسير دون العشرة، وقال: لا أجاوز أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووعظ أصحابه وذكّرهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا:
لم يرد رسول الله هذا، قد انهزم المشركون، فما مقامنا هاهنا؟ فانطلقوا يتبعون العسكر ينتهبون معهم، وتركوا الجبل. فنظر خالد بن الوليد إلى خلوّ الجبل وقلة أهله،(17/92)
فكرّ بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبى جهل، فحملوا «1» على المسلمين، واستدارت رحاهم، وحالت الريح فصارت دبورا، وكانت قبل ذلك صبا، ونادى إبليس- لعنه الله-: إن محمدا قد قتل. واختلط المسلمون فصاروا يقتتلون «2» على غير شعار، ويضرب بعضهم بعضا، ما يشعرون به من العجلة والدهش، وقتل مصعب ابن عمير، فأخذ اللواء ملك فى صورة مصعب، وحضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل، ونادى المشركون بشعارهم: يا للعزّى يا لهبل «3» . فقتل من أكرمه الله بالشهادة من المسلمين، حتى خلص العدوّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وثبت صلّى الله عليه وسلّم معه «4» عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، وسبعة «5» من الأنصار. ورمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوسه حتى اندقّت سيتها «6» ، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده، ثم ذبّ بالحجارة. وكسرت يومئذ رباعيته «7» صلّى الله عليه وسلّم، وكلمت شفته، وشجّ فى وجهه، وجرح فى وجنته، وكسرت البيضة على رأسه، فسال الدم على وجهه، فجعل يمسحه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعوهم إلى ربّهم؟
فأنزل الله تعالى فى ذلك: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «8» ) .(17/93)
وروى أبو محمد عبد الملك بن هشام بسنده إلى أبى سعيد الخدرى: أن عتبة بن أبى وقّاص رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السّفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزّهرىّ شجّه فى جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته، فدخل حلقتان من حلق المغفر فى وجنته، ووقع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حفرة من الحفر التى عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، فأخذ على بن أبى طالب بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، ومصّ مالك بن سنان أبو أبى سعيد الخدرىّ، الدّم من وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [ثم «1» ] ازدرده، فقال صلّى الله عليه وسلّم: من مسّ دمه دمى لم تمسّه النار.
قال ابن إسحاق بسند يرفعه إلى محمود بن عمرو: لما غشى القوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من رجل يشترى لنا نفسه؟ فقام زياد بن السّكن [فى خمسة من الأنصار، وبعضهم يقول: إنما هو عمارة بن يزيد بن السكن «2» ] .
فقاتلوا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا رجلا يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة. ثم فاءت فئة المسلمين فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أدنوه منى. فأدنوه منه، فوسّده قدمه، فمات، وخدّه على قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال: وقاتلت أمّ عمارة نسيبة بنت كعب المازنيّة يومئذ، فحدّثت وقد سئلت عن خبرها، فقالت: خرجت أوّل النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعى سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والدولة والرّيح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: أباشر القتال وأذبّ عنه بالسيف، حتى خلصت الجراحة إلىّ. وكان على عاتقها جرح أجوف له غور،(17/94)
فقيل لها: من أصابك بهذا؟ فقالت: ابن قمئة «1» ، أقمأه «2» الله، لما ولّى الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقبل يقول: دلّونى على محمد، فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فضر بنى هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات «3» ، ولكنّ عدوّ الله كان عليه درعان.
قال ابن إسحاق: وترّس دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو دجانة بنفسه، يقع النّبل فى ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النّبل. ورمى سعد ابن أبى وقّاص دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: ارم فداك أبى وأمّى، حتى إنه ليناولنى السهم ما له من نصل، فيقول: ارم به. قال: وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، حتى وقعت على وجنته، فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما. قال: وانتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله فى رجال من المهاجرين والأنصار، قد «4» ألقوا بأيديهم، فقال:
ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل. قال أنس بن مالك: لقد وجدنا به سبعين ضربة؛ وأصيب عبد الرحمن بن عوف فى فمه فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، فأصابه بعضها فى رجله فعرج.(17/95)
قال ابن إسحاق: وكان أوّل من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهزيمة، وقول الناس: قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كعب بن مالك، قال كعب:
عرفت عينيه تزهران تحت «1» المغفر، فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فأشار إلىّ: أن أنصت، قال: فلما عرف المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهضوا [به] ونهض معهم نحو الشّعب، معه أبو بكر، وعمر، وعلىّ، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، والحارث بن الصّمة، ورهط من المسلمين، فلما أسند «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الشعب أدركه أبىّ بن خلف، وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فقال القوم:
يا رسول الله، أيعطف عليه رجال منّا؟ قال رسول الله: دعوه. فلما دنا تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصّمة، قال: فلما أخذها انتفض ما انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء «3» عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه بها طعنة فى عنقه تدأدأ»
منها عن فرسه مرارا؛ وكان أبىّ بن خلف قبل ذلك يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول: إنّ عندى العود- فرسا- أعلفه كل يوم فرقا «5» من ذرة أقتلك عليه. فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل أنا أقتلك إن شاء الله. فلما رجع إلى قريش، وقد خدشه فى عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدّم فيه، فقال: قتلنى والله محمد؛ قالوا: ذهب والله فؤادك! والله إن بك(17/96)
بأس؛ قال: إنه قد قال لى بمكة: أنا أقتلك، [والله «1» ] لو بصق علىّ لقتلنى. فمات عدوّ الله بسرف «2» وهم قافلون إلى مكة، وفى ذلك يقول حسان بن ثابت:
لقد ورث الضّلالة عن أبيه ... أبىّ يوم بارزه الرسول
أتيت إليه تحمل رمّ عظم ... وتوعده وأنت به جهول «3»
وقد قتلت بنو النّجار منكم ... أميّة إذ يغوّث: يا عقيل «4»
وتبّ ابنا ربيعة إذ أطاعا ... أبا جهل، لأمّهما الهبول «5»
وأفلت حارث لما شغلنا ... بأسر القوم، أسرته قليل
وقال حسان أيضا فيه:
ألا من مبلغ عنّى أبيّا ... فقد ألقيت فى سحق السعير «6»
تمنّى بالضّلالة من بعيد ... وتقسم أن قدرت مع النّذور
تمنّيك الأمانى من بعيد ... وقول الكفر يرجع فى غرور
فقد لاقيت طعنة ذى حفاظ ... كريم البيت ليس بذى فجور «7»
له فضل على الأحياء طرّا ... إذا نابت ملمّات الأمور
قال: ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى فم الشّعب خرج علىّ بن أبى طالب حتى ملأ درقته «8» من الماء، فجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليشرب منه، فوجد له ريحا، فعافه وغسل عن وجهه الدّم.(17/97)
قال: وبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشّعب، معه أولئك النّفر من أصحابه، إذ علّت عالية من قريش الجبل، وكان على تلك الخيل خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهمّ [إنه «1» ] لا ينبغى لهم أن يعلونا! فقاتل عمر بن الخطاب ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل. ونهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان بدّن «2» وظاهر بين درعين، فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها «3» .
قال ابن هشام: وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلّى المسلمون خلفه قعودا.
قال ابن إسحاق: ولما أراد القوم الانصراف أشرف أبو سفيان على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت «4» فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء «5» ، قتلانا فى الجنّة، وقتلاكم فى النار؛ فقال له أبو سفيان: هلمّ إلىّ يا عمر؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمر: ايته فانظر ما شأنه؛ فأتاه، فقال له أبو سفيان:(17/98)
أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهمّ لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندى من ابن قمئة وأبرّ- لقول ابن قمئة لهم:
إنى قتلت محمدا- قال: واسم ابن قمئة عبد الله.
وروى البخارى عن البراء قال: وأشرف أبو سفيان فقال: أفى القوم محمد؟
فقال: لا تجيبوه، قال: أفى القوم ابن أبى قحافة؟ قال: لا تجيبوه، قال:
أفى القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر- رضوان الله عليه- نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله لك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل «1» ، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم:
أجيبوه، فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلّ، قال أبو سفيان:
لنا العزّى «2» ولا عزّى لكم، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: أجيبوه، قالوا:
ما تقول؟ قال قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم؛ قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر [بها «3» ] ولم تسؤنى.
قال ابن سعد: ثم نادى أبو سفيان عند انصرافه: إن موعدكم بدر العام القابل.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل من أصحابه: قل له: نعم هو بيننا وبينك موعد. ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بن أبى طالب فقال:
اخرج فى آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا «4» الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم(17/99)
يريدون المدينة، والذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها، ثم لأناجزنّهم «1» . قال علىّ: فخرجت فى آثارهم فرأيتهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، وتوجهوا إلى مكّة.
ذكر خبر «2» مقتل حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه، وما فعلته هند بنت عتبة، وما قالته من الشعر، وما أجيبت به كان حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه، قد قتل من ذكرنا من المشركين آنفا، ومرّ به سباع بن عبد العزّى الغبشانىّ، وكان يكنى بأبى نيار، فقال له حمزة:
هلّم إلىّ يابن مقطّعة البضور «3» - وكانت أمّة أم أنمار مولاة شريق بن عمر بن وهب الثقفىّ، وكانت ختّانة بمكة- فلما التقيا ضربه حمزة فقتله. فقال وحشىّ غلام جبير بن مطعم: والله إنى لأنظر إلى حمزة يهدّ الناس بسيفه هدّا ما يقوم له شىء، فو الله إنى لأتهيّأ أريده، وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو منى، إذ تقدمنى إليه سباع، فلما رآه حمزة قال له ما قال، فضربه حمزة فقتله، فهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت فى ثنّته «4» ، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء «5» نحوى فغلب، فتركته وإيّاها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتى، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، فلم يكن لى بغيره حاجة، إنما قتلته لأعتق.
قال ابن إسحاق: ووقفت هند بنت عتبة والنسوة اللاتى معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجد «6» عن الآذان والآنف، حتى(17/100)
اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم قلائد وخدما «1» ، وأعطت قلائدها وخدمها وقرطها وحشيّا، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تسطع أن تسيغها، فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها، ثم قالت:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لى من صبر ... ولا أخى وعمّه وبكرى
شفيت نفسى وقضيت وترى «2» ... شفيت وحشىّ غليل صدرى
فشكر وحشىّ علىّ عمرى ... حتى ترمّ أعظمى فى قبرى «3»
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عبّاد بن المطلب «4» فقالت:
خزيت فى بدر وبعد بدر ... يا بنت وقّاع عظيم الكفر «5»
صبّحك الله غداة الفجر ... بالهاشميّين الطّوال الزّهر
بكل قطّاع حسام يفرى ... حمزة ليثى وعلىّ صقرى «6»
إذ رام شيب وأبوك غدرى ... فخضّبا منه ضواحى النّحر «7»
ونذرك السّوء فشرّ نذر
وقالت هند غير ذلك من الشعر وأجيبت بمثله، وتركنا ذلك اختصارا.(17/101)
قال ابن إسحاق: ومرّ الحليس بن زبّان «1» أخو بنى الحارث بن عبد مناة، وهو يومئذ سيد الأحابيش بأبى سفيان، وهو يضرب فى شدق حمزة بزجّ الرمح، ويقول: ذق عقق «2» . فقال الحليس: يا بنى كنانة، هذا سيّد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما «3» ؛ قال: ويحك! اكتمها عنّى، فإنها كانت زلة. قال ولما فرغ الناس لقتلاهم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادى قد بقر بطنه عن كبده، وجدع أنفه وأذناه. فقال حين رآه:
لولا أن تحزن صفيّة وتكون ستّة من بعدى لتركتك حتى تكون فى بطون السّباع وحواصل الطير، ولئن أظهرنى الله على قريش فى موطن من المواطن لأمثّلن بثلاثين رجلا منهم، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغيظه على من فعل بعمّه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثّلن بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب. فأنزل الله تعالى قوله: (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ «4» )
قال: فعفا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصبر. ونهى عن المثل «5» .(17/102)
قال ابن هشام: ولما وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حمزة قال: لن أصاب بمثلك أبدا! ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إلىّ من هذا! ثم قال: جاءنى جبريل عليه السلام فأخبر أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب فى أهل السموات السبع:
حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله. قال ابن إسحاق يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمزة فسجّى «1» ببرد، ثم صلّى عليه وكبّر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلّى عليهم وعليه معهم، حتى صلّى عليه ثنتين وسبعين صلاة «2» . قالت: وأقبلت صفيّة بنت عبد المطلب لتنظر إلى أخيها حمزة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لابنها الزّبير ابن العوام: القها فارجعها لا ترى ما بأخيها. فقال [لها «3» ] : يا أمّاه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن ترجعى، فقالت: ولم؟ وقد بلغنى أنه قد مثّل بأخى، وذلك فى الله عزّ وجلّ، فما أرضانى «4» أنا بما كان من ذلك! لأحتسبنّ ولأصبرنّ «5» إن شاء الله تعالى. فلما جاء الزبير إلى رسول الله [صلّى الله عليه وسلّم «6» ] وأخبره بذلك قال: خلّ سبيلها، فأتته، فنظرت إليه، وصلّت عليه، واسترجعت، واستغفرت له، ثم أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدفن. قال: واحتمل ناس [من المسلمين «7» ] قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها. ثم نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، وقال: ادفنوهم حيث صرعوا.(17/103)
ذكر [تسمية «1» ] من استشهد من المسلمين يوم أحد
قال ابن إسحاق: استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون رجلا، كان منهم من المهاجرين من بنى هاشم: حمزة بن عبد المطلب، رضى الله عنه، وقد تقدم خبر مقتله. ومن بنى أمية: عبد الله بن جحش، حليف لهم من بنى أسد بن خزيمة «2» قتله أبو الحكم «3» بن الأخنس بن شريق. ومن بنى عبد الدار بن قصىّ: مصعب ابن عمير، قتله عبد الله بن قمئة الليثىّ. ومن بنى مخزوم بن يقظة: شمّاس بن عثمان قتله [أبىّ «4» ] بن خلف.
لم يذكر ابن إسحاق غير هؤلاء الأربعة.
وقال محمد بن سعد فى طبقات الكبرى: وعبد الله، وعبد الرحمن، ابنا الهبيب، من بنى سعد بن ليث، ووهب بن قابوس المزنىّ، وابن أخيه الحارث بن عقبة ابن قابوس. وزاد الثعلبى سعدا مولى عتبة، ولم يذكر الأربعة الذين ذكرهم ابن سعد، بل عدّ المهاجرين خمسة.
واستشهد من الأنصار، من بنى عبد الأشهل اثنا عشر رجلا، وهم:
عمرو بن معاذ بن النّعمان أخو سعد، والحارث بن أنس بن رافع «5» ، وعمارة بن زياد بن السّكن، وسلمة بن ثابت بن وقش، وأخوه عمرو بن ثابت، وأبوهما ثابت، ورفاعة [بن «6» ] وقش، واليمان أبو حذيفة بن اليمان، واسمه حسيل بن(17/104)
جابر، أصابه المسلمون فى المعركة ولا يدرون، وأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يديه «1» ، فتصدّق ابنه حذيفة بديته على المسلمين، وصيفىّ بن قيظى، [وخباب ابن قيظى «2» ] ، وعبّاد بن سهل، والحارث بن أوس بن معاذ.
ومن أهل راتج «3» ثلاثة نفر، وهم: إياس بن أوس بن عتيك، وعبيد بن التيّهان، ويقال: عتيك بن التيّهان. وحبيب بن زيد بن تيم. ومن بنى ظفر:
يزيد «4» بن حاطب بن أميّة بن رافع. ومن بنى عمرو بن عوف، رجلان، وهما:
أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد، وحنظلة بن أبى عامر بن صيفىّ بن النعمان، وهو غسيل الملائكة، وكان قد التقى هو وأبو سفيان، فلما استعلاه حنظلة رآه شدّاد بن الأسود فقتله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن صاحبكم لتغسله الملائكة. فسألوا أهله: ما شأنه؟ فسئلت صاحبته فقالت:
خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لذلك غسّلته الملائكة. وقال شدّاد بن الأسود حين قتل حنظلة:
لأحمينّ صاحبى ونفسى ... بطعنة مثل شعاع الشمس
ومن بنى عبيد بن زيد «5» : أنيس بن قتادة. ومن بنى ثعلبة بن عمرو ابن عوف رجلان، وهما: أبو حيّة «6» بن عمرو بن ثابت، وعبد الله بن جبير(17/105)
ابن النّعمان، وهو أمير الرّماة. ومن بنى السلّم بن امرئ القيس بن مالك:
خيثمة أبو سعد بن خيثمة. ومن حلفائهم من بنى العجلان: عبد الله بن سلمة. ومن بنى معاوية بن مالك رجلان، وهما: سبيع بن حاطب بن الحارث، ويقال: سويبق «1» بن الحارث. ومالك بن نميلة، حليف لهم من مزينة.
ومن بنى النّجار ثم «2» من بنى سواد بن مالك خمسة نفر، وهم: عمرو بن قيس بن زيد بن سواد، وابنه قيس بن عمرو، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلّد، ومالك بن إياس. ومن بنى مبذول رجلان، وهما: أبو هبيرة بن الحارث ابن علقمة، وعمرو بن مطرف «3» بن علقمة. ومن بنى عمرو بن مالك بن النجار رجلان، وهما: أوس بن ثابت بن المنذر، وهو أخو حسان، وإياس بن عدىّ.
ومن بنى عدىّ بن النجار رجل واحد، وهو: أنس بن النّضر بن ضمضم بن زيد ابن حرام بن جندب بن عامر بن عدىّ بن النجّار، وقد تقدّم خبره. ومن بنى مازن بن النجّار رجلان، وهما: قيس بن مخلّد، وكيسان عبدلهم. ومن بنى دينار بن النجار رجلان، وهما: سليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو. ومن بنى الحارث بن الخزرج ثلاثة نفر، وهم: خارجة بن زيد بن أبى زهير، وسعد ابن الربيع بن عمرو بن أبى زهير- حكى محمد بن سعد فى طبقاته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم أحد: من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع، أفى الأحياء هو أم فى الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل، فنظر فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق «4» ، قال الأنصارىّ:(17/106)
فقلت له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنى أن أنظر أفى الأحياء أنت أم فى الأموات؟ قال: أنا فى الأموات، فأبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنى السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك عنى السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم:
إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيّكم وفيكم عين تطرف «1» . قال الأنصارى:
ثم لم أبرح حتى مات؛ فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته خبره.
وأوس بن الأرقم بن زيد، من بنى الأبجر، وهم بنو خدرة، ثلاثة نفر، وهم: مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبد [بن «2» ] الأبجر، وهو أبو أبى سعيد الخدرىّ، وسعيد بن سويد بن قيس بن عامر بن عبّاد بن الأبجر، وعتبة بن ربيع ابن رافع بن معاوية. ومن بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج رجلان، وهما:
ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد، وثقيف «3» بن فروة بن البدىّ. ومن بنى طريف، رهط سعد بن عبادة رجلان، وهما: عبد الله بن عمرو بن وهب، وضمرة حليف لهم من جهينة. ومن بنى عوف بن الخزرج خمسة نفر، وهم: نوفل ابن عبد الله، وعبّاس بن عبادة بن نضلة، ونعمان «4» بن مالك بن ثعلبة، والمجذّر ابن زياد، حليف لهم من بلىّ، وعبادة بن الحسحاس. ومن بنى الحبلى، رفاعة(17/107)
ابن عمرو، ومن بنى سلمة «1» ثم من بنى حرام أربعة نفر، وهم: عبد الله بن عمرو ابن حرام، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، وخلّاد بن عمرو بن الجموح، وأبو أيمن «2» مولى عمرو بن الجموح. ومن بنى سواد بن غنم ثلاثة نفر، وهم:
سليم بن عمرو بن حديدة، ومولاه عنترة، وسهل «3» بن قيس بن أبى كعب بن القين. ومن بنى زريق [بن عامر «4» ] رجلان، وهما: ذكوان «5» بن عبد قيس، وعبيد بن المعلّى بن لوذان. ومن بنى خطمة من الأوس: الحارث بن عدىّ بن خرشة بن أمية. ومن بنى سالم «6» بن عوف: عمرو بن إياس.
ذكر تسمية من قتل من المشركين يوم أحد
قتل من المشركين يوم أحد اثنان وعشرون رجلا: من بنى عبد الدار بن قصىّ أحد عشر رجلا- وهم أصحاب اللواء- طلحة بن أبى طلحة، قتله على بن أبى طالب، وأبو سعيد بن أبى طلحة، قتله سعد بن أبى وقّاص، ويقال: على، وعثمان بن أبى طلحة، قتله حمزة بن عبد المطلب، ومسافع بن طلحة «7» بن أبى طلحة، قتله عاصم ابن ثابت بسهم، والجلاس بن طلحة، قتله عاصم أيضا كما تقدّم، وكلاب بن طلحة والحارث بن طلحة، قتلهما قزمان حليف لبنى ظفر، وأرطاة بن عبد بن شرحبيل ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، قتله حمزة، ويقال: قتله على، وأبو زيد «8» ابن عمير بن هاشم، قتله قزمان، وصؤاب غلام لهم حبشىّ، قتله قزمان، والقاسط(17/108)
ابن شريح بن هاشم، قتله قزمان. ومن بنى أسد بن عبد العزّى بن قصىّ: عبد الله ابن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد: قتله على بن أبى طالب. ومن بنى زهرة ابن كلاب رجلان، وهما. أبو الحكم بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى، حليف لهم، قتله على بن أبى طالب، وسبّاع بن عبد العزّى- واسم عبد العزى عمرو بن نضلة بن غبشان- حليف لهم من خزاعة، قتله حمزة كما تقدم.
ومن بنى مخزوم أربعة نفر، وهم: هشام بن أبى أمية بن المغيرة، قتله قزمان، والوليد ابن العاص بن المغيرة، قتله قزمان أيضا، وأبو أمية بن أبى حذيفة بن المغيرة، قتله على بن أبى طالب، وخالد بن الأعلم حليف لهم، قتله قزمان. ومن بنى جمح رجلان، وهما: عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح، وهو أبو عزّة، قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبرا- وكان قد أسر يوم بدر، فمنّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأطلقه كما ذكرنا، فقال: لا أكثر عليك جمعا؛ فلم يف، وخرج يوم أحد مع المشركين فأسر، ولم يؤسر يومئذ غيره، فقال: منّ علىّ يا محمد؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين، لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك، تقول: سحرت «1» محمدا مرتين، ثم أمر عاصم بن ثابت ابن الأفلح فضرب عنقه- وأبىّ بن خلف بن حذافة بن جمح، قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده كما تقدم. ومن بنى عامر بن لؤى رجلان، وهما: عبيدة «2» بن جابر وشيبة بن مالك بن المضرب، قتلهما قزمان، ويقال: قتل «3» عبيدة بن جابر عبد الله بن مسعود.(17/109)
قال محمد بن سعد فى طبقاته: ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ من أحد، فصلى المغرب بالمدينة، وشمت عبد الله بن أبىّ بن سلول والمنافقون بما نيل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى نفسه وأصحابه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لن ينالوا منّا مثل هذا اليوم حتى نستلم الرّكن. قال: وبكت الأنصار على قتلاهم، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البكاء فبكى، وقال:
لكنّ حمزة لا بواكى له، فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بنى عبد الأشهل أمرا نساءهم أن يتحزّمن، ثم يذهبن فيبكين على عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكاءهنّ على حمزة خرج عليهنّ وهنّ على باب مسجده يبكين، فقال: ارجعن يرحمكنّ الله، فقد آسيتنّ بأنفسكن.
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [يومئذ «1» ] عن النوح.
وروى عن سعد بن أبى وقّاص رضى الله عنه، قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بامرأة من بنى دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبيّن؛ قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؛ قال: فأشير لها إليه صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل؛ رضى الله عنها.
ولما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة كانت فاطمة- رضى الله عنها- تغسل جرحه؛ وعلىّ يسكب الماء عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدّم إلا كثرة، عمدت إلى قطعة من حصير فأحرقتها، وألصقت ذلك على الجرح فاستمسك الدّم، ولم يبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة إلا تلك.(17/110)
الليلة، ثم أصبح فخرج فى طلب العدوّ إلى حمراء الأسد، على ما نذكره إن شاء الله.
ولنصل غزوة أحد بتفسير ما أنزل الله تعالى فيها من القرآن.
ذكر ما أنزل «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة أحد، وما ورد فى تفسير ذلك
قال محمد بن إسحاق، رحمه الله: وكان مما أنزل الله تعالى فى غزوة أحد من القرآن ستون آية من سورة آل عمران، أول ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ «2» الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
قال أبو إسحاق «3» أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى- رحمه الله- فى تفسيره المترجم بالكشف والبيان عن تفسير القرآن: إن المشركين أقاموا بأحد يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وذكر نحو ما قدمناه من خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة السبت للنصف من شوّال، وأنه صلّى الله عليه وسلّم جعل يصفّ أصحابه للقتال كما يقوم القدح، إذا رأى صدرا خارجا قال: تأخّر، فذلك قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ)
الآية «4» ، وقوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
تفشلا، أى تجبنا وتضعفا ومتخلّفا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهما بنو سلمة بن الخزرج، وبنو حارثة بن الأوس،(17/111)
وكانا جناحى العسكر، وذلك أن عبد الله بن [أبىّ بن سلول «1» ] لما انخزل بثلث الناس كما قدمنا وقال هو ومن وافقه من أصحابه: (لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ)
؛ همّ «2» بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف معه، فعصمهم الله تعالى فلم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكّرهم الله تعالى عظيم نعمته، فقال: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما)
أى ناصرهما وحافظهما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ*
ثم ذكّرهم الله منّته عليهم إذا نصرهم «3» ببدر، فقال: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)
إلى قوله:
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)
قوله: (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ)
. «ليقطع طرفا» أى يهلك طائفة «أو يكبتهم» أى يهزمهم «فينقلبوا خائبين» أى لم ينالوا شيئا مما كانوا يرجون من الظفر بكم.
قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) .
اختلف العلماء فى سبب نزول هذه الآية، فقال عبد الله بن مسعود: أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد، وكان عثمان بن عفان منهم، فنهاه الله تعالى عن ذلك، وتاب عليهم، وأنزل هذه الآية. وقال عكرمة، وقتادة، ومقسم: أدمى رجل من هذيل يقال له: عبد الله ابن قمئة وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان حتفه أن سلّط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله، وشجّ عتبة بن أبى وقاص رأسه وكسر رباعيته صلّى الله عليه وسلّم، فدعا عليه وقال: اللهم(17/112)
لا يحل «1» عليه الحول حتى يموت كافرا [قال: «2» فما حال الحول حتى مات كافرا] فأنزل الله تعالى عليه «3» هذه الآية. وقال الربيع والكلبىّ: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وقد شجّ فى وجهه وأصيبت رباعيته، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلعن المشركين ويدعو عليهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، لعلمه فيهم أن كثيرا منهم سيؤمنون.
قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ)
قيل: أمثال. وقيل: أمم.
والسّنّة الأمّة، قال الشاعر:
ما عاين الناس من فضل كفضلهم ... ولا رأوا مثلهم فى سالف السّنن
وقيل: أهل سنن؛ وقيل: أهل شرائع؛ قال: معنى الآية: قد مضت وسلفت منّى فيمن قبلكم من الأمم الماضية المكذّبة الكافرة سنن بإمهالى واستدراجى إيّاهم حتى بلغ الكتاب فيهم أجلى الذى أجلت- لإدالة «4» أنبيائى- وأهلكتهم.
(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) *
أى منهم، فأنا أمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجلى الذى أجّلت فى نصرة النبىّ وأوليائه وهلاك أعدائه.
قوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
قال:
هذه الآية «5» تعزية من الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد، وحثّ منه إيّاهم على قتال عدوّهم، ونهى عن العجز(17/113)
والفشل، فقال تعالى: «ولا تهنوا» أى لا تضعفوا ولا تجبنوا من جهاد أعدائكم [بما «1» نالكم يوم أحد من القتل والقرح. «ولا تحزنوا» على ظهور أعدائكم] ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة «وأنتم الأعلون» أى لكم تكون العاقبة بالنصر «2» والظفر «إن كنتم مؤمنين» .
قوله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)
أى جرح يوم أحد فقد مسّ القوم جرح مثله يوم بدر. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
يعنى إنما كانت هذه المداولة ليرى الله الذين آمنوا- يعنى منكم- ممن نافق، فيميز بعضهم من بعض.
وقيل: المعنى «وليعلم الله الّذين آمنوا» بأفعالهم موجودة كما علمها منهم قبل أن كلّفهم.
«ويتّخذ منكم شهدآء» يكرم أقواما بالشهادة، وذلك أن المسلمين قالوا: أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونلتمس الشهادة. فلقوا المشركين يوم أحد، فاتّخذ الله منهم شهداء.
قوله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)
يعنى يطهّر الذين آمنوا من ذنوبهم «ويمحق الكافرين» يفنيهم ويهلكهم وينقصهم. ثم عزّاهم الله تعالى فقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) .
قوله تعالى: (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)(17/114)
وذلك أنه لما قتل عبد الله بن قمئة مصعب بن عمير، وصرخ صارخ- يقال: هو إبليس، لعنه الله- ألا إن محمدا قد قتل. وانهزم الناس، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبىّ فيأخذ لنا أمانا من بنى أبى سفيان. وجلس بعض الصحابة وألقوا «1» بأيديهم. وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل. فقال أنس بن النضر: يا قوم، إن كان قد قتل محمد فإن ربّ محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه؛ ثم قال: اللهم إنى أعتذر إليك مما قال «2» هؤلاء- يعنى المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء- يعنى المنافقين- ثم قاتل حتى قتل. ثم إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- انطلق إلى الصخرة، وهو يدعو الناس، فانحدر إليه طائفة من أصحابه، فلامهم صلّى الله عليه وسلّم على الفرار، فقالوا: يا نبىّ الله، فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت «3» قلوبنا فولّينا مدبرين. فأنزل الله تعالى: «وما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات» أى على فراشه «أو قتل انقلبتم على أعقابكم» أى رجعتم إلى دينكم الأوّل الكفر «ومن ينقلب على عقبيه» فيرتدّ عن دينه «فلن يضرّ الله شيئا» بارتداده، وإنما يضرّ نفسه «وسيجزى الله الشّاكرين» أى المؤمنين.
قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ))
قيل: الربّيّون الألوف والرّبّة «4» الواحدة عشرة آلاف. وقيل: الربّيون العلماء والفقهاء. وقيل: الأتباع(17/115)
وقيل: الرّبانيون الولاة، والربّيون الرعيّة. وقيل: الرّبيّون الذين يعبدون الرّب تعالى. قال: ومعنى الآية، فما ضعفوا عن الجهاد «لما أصابهم فى سبيل الله» لما نالهم من الجراح وقتل الأصحاب، وما عجزوا بقتل نبيهم «وما ضعفوا وما استكانوا» قال قتادة والربيع: يعنى وما ارتدوا عن بصيرتهم»
ودينهم، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّهم حتى لحقوا بالله تعالى. قال السّدّى: وما ذلّوا.
وقال عطاء: وما تضرّعوا. وقال مقاتل: وما استسلموا وما خضعوا لعدوّهم، ولكنّهم صبروا على أمر ربّهم، وطاعة نبيّهم، وجهاد عدوّهم «والله يحبّ الصّابرين» .
قوله تعالى: (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ))
[قال «2» : معنى الآية، «قولهم» عند قتل نبيهم «إلّا أن قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا» يعنى خطايانا «وثبّت أقدامنا» لئلا تزول «وانصرنا على القوم الكافرين» ] .
قوله تعالى: (فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا))
يعنى النصر والغنيمة (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ))
الجنّة «3» (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) *.
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا))
قال علىّ، رضى الله عنه: يعنى المنافقين فى قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا فى دينكم. (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ))
أى ترجعوا على أوّل أمركم الشّرك (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ)) *
أى فتصيروا مغبونين (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ))
أى ناصركم وحافظكم على دينكم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)) .(17/116)
قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ))
قال السدّى: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنهم ندموا، وقالوا: بئس ما صنعنا، قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشّريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم؛ فلما عزموا على ذلك ألقى الله تعالى «1» في قلوبهم الرعب، حتى رجعوا عما همّوا به، فأنزل الله تعالى: «سنلقى فى قلوب الّذين كفروا الرّعب» يعنى الخوف (بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً))
أى حجة وبيانا وعذرا وبرهانا، ثم أخبر الله «2» تعالى عن مصيرهم، فقال: (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ))
أى مقام الكافرين.
قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ))
قال محمد بن كعب القرظىّ: لما رجع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ [فأنزل «3» الله تعالى «ولقد صدقكم الله وعده» أى الذى وعد بالنصر] والظفر، وهو قوله تعالى:
«بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا» )
الآية. وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [للرّماة «4» ] :
«لا تبرحوا مكانكم فلن تزال غالبين ما ثبتم مكانكم» وقوله [تعالى «5» ] : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ))
أى تقتلونهم قتلا ذريعا شديدا، وذلك عند هزيمتهم كما تقدّم. قوله:
(حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ))
«فشلتم» : أى جبنتم وضعفتم «وتنازعتم» أى اختلفتم. وهو ما وقع بين الرّماة، ونزول أكثرهم لتحصيل الغنيمة كما تقدّم، فكانت الهزيمة بسبب ذلك. قوله: (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ))(17/117)
وهو الظفر والغنيمة. قوله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا «1» )
يعنى الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)
يعنى الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير أمير الرماة حتى قتلوا. قوله: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ)
أى ردّكم عنهم بالهزيمة (لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ)
أى فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) .
قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ)
يعنى ولقد عفا عنكم إذ تصعدون هاربين (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ)
. ثم رجع إلى الخطاب، فقال: (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ)
قال يقال: أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت فى جبل أو غيره، والإصعاد: السير فى مستوى الأرض وبطون الأودية والشّعاب، والصعود: الارتفاع على الجبال وغيرها. وقال المبرد: أصعد إذا أبعد فى الذهاب.
قال الشاعر:
ألا أيّهذا السائلى أين أصعدت «2» ... فإن لها فى أهل يثرب موعدا
وقال الفرّاء: الإصعاد الابتداء فى كل سفر، والانحدار الرجوع منه. وقوله:
«ولا تلوون على أحد» يعنى ولا تعرجون ولا تقيمون على أحد منكم، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا وفرارا، قال الكلبى: «على أحد» يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
(وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ)
يعنى فى آخركم ومن ورائكم: إلىّ عباد الله، إلىّ عباد الله، فأنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة. (فَأَثابَكُمْ)
أى فجازاكم؛ جعل الإثابة بمعنى العقاب، كقوله: «فبشّرهم بعذاب أليم» ؛ معنى الآية: أى جعل مكان الثواب الذى كنتم ترجون (غَمًّا بِغَمٍّ)
قال الحسن: يعنى بغمّ المشركين يوم بدر. وقال غيره: غما على غمّ. وقيل: غما متصلا بغم، فالغم الأوّل «3» ما فاتهم من الغنيمة(17/118)
والظفر، والغم الثانى ما نالهم من القتل والهزيمة. وقيل: الغم الأوّل ما أصابهم من القتل والجراح، والغم الثانى ما سمعوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فأنساهم الغم الأوّل. وقيل: غير هذه الأقوال. والله أعلم. قوله تعالى: (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ)
أى من الفتح والغنيمة (وَلا ما أَصابَكُمْ)
من القتل والهزيمة؛ هذا أنساكم ذلك الغمّ، وهمّكم ما أنتم فيه عما كان قد أصابكم قبل. وقال المفضّل: «لا» صلة. معناه: لكى تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم فى خلافكم إياه، وترككم المركز (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) *.
قوله: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) .
روى عن عبد الله بن الزبير عن أبيه، رضى الله عنهما، قال: لقد رأيتنى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتدّ الخوف علينا أرسل الله تعالى علينا النوم، والله إنّى لأسمع قول معتّب بن قشير والنّعاس يغشانى ما أسمعه إلا كالحلم يقول:
لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما. أمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد خوف، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. وعن أنس عن أبى طلحة قال: رفعت رأسى(17/119)
يوم أحد ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميد تحت حجفته «1» من النعاس. قال أبو طلحة: وكنت ممن ألقى الله «2» تعالى عليه النعاس يومئذ، فكان السيف يسقط من يدى فآخذه، ثم يسقط السوط من يدى فآخذه من النوم. «وطائفة» يعنى المنافقين [معتب «3» بن قشير وأصحابه] «قد أهمّتهم أنفسهم» أى حملتهم على الهمّ «يظنّون بالله غير الحقّ» أى لا ينصر محمدا، وقيل: ظنوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل. «ظنّ الجاهليّة» أى كظن أهل الجاهلية والشّرك «يقولون هل لنا» أى ما لنا، لفظه استفهام ومعناه جحد «من الأمر من شىء» يعنى التّصرف «قل إنّ الأمر كلّه لله» وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كانت لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة، ولم يقتل رؤساؤنا. فذلك قوله تعالى: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» )
فقال الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلّم- قل لهم (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ» )
أى لخرج «الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم» أى مصارعهم «وليبتلى الله» أى ليختبر الله «ما فى صدوركم وليمحّص» أى يخرج ويظهر (ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» )
أى بما فى القلوب من خير أو شر «4» .
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ)
أى انهزموا منكم يا معشر المؤمنين (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) *
جمع المسلمين وجمع المشركين (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ)
أى(17/120)
حملهم على الزّلل. وقال الكلبى: زين لهم أعمالهم بِبَعْضِ ما كَسَبُوا)
أى بشؤم ذنوبهم. قال المفسرون: بتركهم المركز. وقال الحسن: بما كسبوا قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم من الهزيمة. (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) .
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا)
يعنى المنافقين عبد الله بن أبىّ وأصحابه (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ)
في النفاق، وقيل: فى النسب.
(إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ)
ساروا وسافروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا (أَوْ كانُوا غُزًّى)
غزاة فقتلوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ)
يعنى قولهم وظنّهم (حَسْرَةً) *
وحزنا (فِي قُلُوبِهِمْ) *
والحسرة: الاغتمام «1» على فائت كان يقدر «2» بلوغه.
قال الشاعر:
فوا حسرتى لم أقض منك لبانتى ... ولم نتمتّع بالجور وبالقرب «3»
ثم أخبر تعالى أن الموت والحياة إلى الله، سبحانه، لا يتقدمان لسفر ولا يتأخران لحضر فقال عز وجل: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .
قوله تعالى: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ)
أى فى العاقبة (وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)
أى من الغنائم (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ)
أى فى العاقبة.
قوله تعالى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
أى سهلت لهم أخلاقك، وكثرة احتمالك فلم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أحد (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا)
أى جافيا سيّىء الخلق قليل الاحتمال. (غَلِيظَ الْقَلْبِ)
قال الكلبى: فظّا فى القول، غليظ(17/121)
القلب فى الفعل (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)
أى لتفرّقوا عنك، وأصل الفضّ الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك. قال أهل الإشارة فى هذه الآية: منه العطاء ومنه الثناء «1» . (فَاعْفُ عَنْهُمْ) *
أى عمّا أتوا يوم أحد (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) *
حتى أشفعك فيهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)
أى استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم، وهو مأخوذ من قول العرب: شرت الدابّة وشوّرتها إذا استخرجت جريها، وعلمت خبرها، قال: ومعنى الآية وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله عهد، ويدل عليه قراءة ابن عباس «وشاورهم فى بعض الأمر» . قال الكلبى: يعنى فأظهرهم فى لقاء العدوّ، ومكايدة الحرب عند الغزوة. روى عن ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله:
«وشاورهم فى الأمر» قال أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا فى الأمر شقّ عليهم، فأمر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يشاورهم فى الأمر، فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، وأطيب لأنفسهم، فإذا شاورهم عليه السلام عرفوا إكرامه لهم. قال:
(فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)
أى لا على مشاورتهم. وقرأ جعفر الصادق، وجابر ابن زيد، «فإذا عزمت» بضم التاء، أى عزمت لك ووفقتك وأرشدتك فتوكّل على الله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) .
قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ)
أى يعنكم ويمنعكم من عدوّكم (فَلا غالِبَ لَكُمْ)
مثل يوم بدر (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ)
أى يترككم ولا ينصركم، والخذلان القعود عن النصر، والإسلام «2» للهلكة والمكروه، قال: وقرأ عبيد بن عمير «وإن يخذلكم» بضم الياء وكسر الذال، أى يجعلكم مخذولين، ويحملكم على الخذلان والتخاذل،(17/122)
كما فعلتم بأحد (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)
أى من بعد خذلانه (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) *.
قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ)
أى بأحد (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها)
ببدر، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين رجلا، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين (قُلْتُمْ أَنَّى هذا)
أى من أين لنا هذا القتل والهزيمة، ونحن مسلمون، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا، والوحى ينزل عليه، وهم مشركون؟ وقد تقدّم فى قصة أسارى بدر خبر التخيير قتلهم أو مفاداتهم، ويقتل منهم مثلهم فى العام القابل، واختيارهم الفداء، وذلك قوله: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)
أى بأخذكم الفداء واختياركم القتل، (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) *.
قوله تعالى: (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ)
أى بأحد من القتل والجرح والهزيمة والمصيبة (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) *
أى بقضائه وقدره وعلمه (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا)
أى ليميز، وقيل: ليرى. وقيل: لتعلموا أنتم أن الله قد علم نفاقهم، وأنتم لم [تكونوا «1» ] تعلمون ذلك. (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
أى لأجل دين الله وطاعته (أَوِ ادْفَعُوا)
أى عن أهلكم وبلدكم وحريمكم، وقيل: أى كثّروا سواد المسلمين ورابطوا إن لم تقاتلوا، ليكون ذلك دفعا وقمعا للعدوّ (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ)
وهو قول عبد الله بن أبىّ وأصحابه الذين انصرفوا معه، كما تقدّم من خبرهم عند اتباع عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بنى سلمة لهم ومناشدته لهم فى الرجوع. قال الله تعالى: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)
وذلك أنهم كانوا يظهرون الإيمان ويضمرون الكفر، فبين الله تعالى نفاقهم (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) .(17/123)
قوله تعالى: (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ)
قيل: فى النسب لا فى الدين، وهم شهداء أحد. (وَقَعَدُوا)
يعنى وقعد هؤلاء القائلون عن الجهاد (لَوْ أَطاعُونا)
وانصرفوا عن محمد، وقعدوا فى بيوتهم (ما قُتِلُوا)
قال تعالى: (قُلْ)
لهم يا محمد (فَادْرَؤُا)
أى فادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)
أن الحذر لا يغنى عن القدر.
قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)
روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طيور «1» خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتسرح من الجنة حيث شاءت، وتأوى إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم، ورأوا ما أعدّ الله لهم من الكرامة، قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم، وما صنع الله عز وجل بنا، كى يرغبوا فى الجهاد ولا ينكلوا عنه. فقال «2» عز وجل: أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم. ففرحوا بذلك واستبشروا، فأنزل الله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
الآيات، [إلى «3» ] قوله «أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» ) .
وقال قتادة والربيع: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله «4» صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا بأحد؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.(17/124)
وعن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية، فقال: جعل الله تعالى أرواح شهداء أحد فى أجواف طير خضر، تسرح فى الجنة حيث شاءت، وتأوى إلى قناديل معلقة بالعرش، فاطّلع الله عز وجل إليهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئا فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا نسرح فى الجنة فى أيها شئنا؛ ثم اطلع إليهم الثانية، فقال: هل تشتهون من شىء فأزيدكموه؟ فقالوا: ربنا، ألسنا نسرح فى الجنة فى أيها شئنا؛ ثم اطلع إليهم الثالثة، فقال: هل تشتهون من شىء فأزيدكموه؟ فقالوا: ليس فوق ما أعطيتنا شىء إلا أنا أحب أن تعيدنا أحياء، ونرجع إلى الدنيا فنقاتل فى سبيلك، فنقتل مرة أخرى فيك؛ قال: لا؛ قالوا:
فتقرئ نبيّنا منا السلام، وتخبره بأن قد رضينا، ورضى عنا؛ فأنزل الله، عز وجل هذه الآية.
وعن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: قتل أبى يوم أحد، وترك علىّ بنات، فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أبشرك يا جابر؟ قلت: بلى يا رسول «1» الله؛ قال: إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله تعالى وكلّمه كفاحا «2» ؛ فقال: يا عبد الله سلنى ما شئت؛ فقال: أسألك أن تعيدنى إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيا؛ فقال:
يا عبد الله، إنى قضيت ألا أعيد إلى الدنيا خليقة قبضتها؛ قال: يا رب، فمن يبلغ قومى ما أنا فيه من الكرامة؟ قال الله تعالى: أنا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقد روى أن هذه الآية نزلت فى أصحاب بئر معونة؛ وقيل: فى شهداء بدر.
والأحاديث الواردة والأخبار تدل على أنها فى شهداء أحد، والله أعلم.(17/125)
ذكر غزوة حمراء الأسد «1»
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند منصرفه من أحد، قال ابن سعد:
لثمان خلون من شوّال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره. وقال ابن إسحاق:
كانت يوم الأحد لست عشرة خلت من شوّال. وهذا الخلاف مرتب على ما تقدّم فى غزوة أحد.
قال ابن سعد وغيره: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحد مساء يوم السبت بات تلك الليلة على بابه ناس من وجوه الأنصار، وبات المسلمون يداوون جراحاتهم، فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصبح يوم الأحد أمر بلالا أن ينادى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم بطلب عدوّكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس. فقال جابر بن عبد الله: إن أبى خلفنى يوم أحد على أخوات لى، فلم أشهد الحرب، فأذن لى أسير «2» معك؛ فأذن له، فلم يخرج معه أحد ممن لم يشهد أحدا غيره. ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلوائه، وهو معقود لم يحلّ، فدفعه إلى على بن أبى طالب، رضى الله عنه، ويقال: إلى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه. وخرج رسول الله «3» صلّى الله عليه وسلّم، وهو مجروح، وحشد «4» أهل العوالى حيث أتاهم الصّريخ، فركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسه وخرج الناس معه، فبعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة فى آثار القوم، فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد- وهى من المدينة على عشرة أميال- وهم يأتمرون بالرجوع،(17/126)
وصفوان بن أميّة ينهاهم عن ذلك، فبصروا بالرجلين، فقطعوا عليهما فقتلوهما، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه حتى عسكر بحمراء الأسد، فدفن الرجلين فى قبر واحد، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالى خمسمائة نار، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم فى كل وجه، فكبت الله تعالى عدوّهم، وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إلى المدينة فدخلها يوم الجمعة، وقد غاب خمس ليال، وكان قد استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم.
وقال محمد بن إسحاق، ورفع الحديث إلى أبى السائب مولى عائشة بنت عثمان:
إن رجلا من بنى عبد الأشهل قال: شهدت أحدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنا وأخ لى، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخروج فى طلب العدوّ، قلت لأخى، وقال لى: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ ما لنا دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله وكنت أيسر جرحا من أخى، فكان إذا غلب حملته عقبة «1» ومشى عقبة، حتى انتيهنا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
قال: وأنزل الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ)
هم الذين ساروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد، على ما بهم من ألم الجراح، إلى قوله: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) .
ذكر سريّة أبى سلمة بن عبد الأسد المخزومى
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قطن- وهو جبل بناحية فيد، به ماء لبنى [أسد بن «2» ] خزيمة- فى هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجره.(17/127)
وذلك أنه بلغه صلّى الله عليه وسلّم، أن طليحة وسلمة ابنى خويلد قد سارا فى قومهما ومن أطاعهما يدعوانهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث أبا سلمة وعقد له لواء، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار، فأصابوا إبلا وشاء «1» ، ولم يلقوا كيدا، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة.
ذكر سريّة عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلى
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج من المدينة يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة.
وذلك أنه بلغ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، أن سفيان بن خالد «2» بن نبيح الهذلىّ ثم اللّحيانى- هكذا سماه محمد بن سعد فى طبقاته.
وقال ابن إسحاق: خالد بن سفيان بن نبيح قد جمع الجموع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث إليه عبد الله بن أنيس وحده فقتله وجاء برأسه. وكانت غيبته ثمانى عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم. قاله ابن سعد.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى محمد بن جعفر بن الزبير، قال قال عبد الله ابن أنيس: دعانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّه «3» قد بلغنى أن ابن «4» سفيان الهذلىّ جمع الناس ليغزونى وهو بنخلة أو بعرنة «5» فأته فاقتله. فقلت يا رسول الله انعته لى حتى أعرفه؛ قال: إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان، وآية ما بينك وبينه(17/128)
أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة. قال: فخرجت متوشّحا بسيفى، حتى دفعت [إليه «1» ] وهو فى ظعن يرتد لهن منزلا، وذلك وقت العصر، فلما رأيته وجدت له ما قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بينى وبينه مجاولة «2» تشغلنى عن الصلاة، فصليت وأنا أمشى نحوه، أومئ برأسى، فلما انتهيت إليه، قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك. قال: أجل، أنا فى ذلك. قال: فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكننى حملت عليه بالسيف فقتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه منكبّات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أفلح الوجه؛ قلت: قد قتلته؛ قال صدقت.
ثم قام بى فأدخلنى بيته فأعطانى عصا، فقال: أمسك هذه العصا عندك. قال:
فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه؟ قلت: أعطانيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمرنى أن أمسكها عندى؛ فقالوا: أفلا ترجع إليه فتسأله لم ذلك؟
قال: فرجعت إليه فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتنى هذه العصا؟ قال: آية بينى وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصّرون «3» يومئذ، قال: فقرنها عبد الله ابن أنيس بسيفه، فلم تزل معه حتى مات، ثم أمر بها فضمّت فى كفنه، ثم دفنا جميعا.
قال ابن هشام: وقال عبد الله بن أنيس فى ذلك:
تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفرى كلّ جيب مقدّد «4»
تناولته والظّعن خلفى وخلفه ... بأبيض من ماء الحديد مهنّد «5»(17/129)
عجوم لهام الدّار عين كأنّه ... شهاب غضى من ملهب متوقّد «1»
أقول له والسيف يعجم رأسه ... أنا ابن أنيس فارسا غير قعدد «2»
أنا ابن الذى لم ينزل الدهر قدره ... رحيب فناء الدار غير مزنّد «3»
فقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبىّ محمد «4»
وكنت إذا همّ النبىّ بكافر ... سبقت إليه باللسان وباليد.
ذكر سرية المنذر بن عمرو السّاعدى إلى بئر معونة
كانت فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من مهاجره.
وذلك أن عامر بن مالك بن جعفر أبو براء ملاعب الأسنة «5» الكلابى وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأهدى «6» له فلم يقبل منه، وعرض عليه الإسلام فلم يسلم، ولم يبعد «7» ، وقال: لو بعثت معى نفرا من أصحابك إلى قومى لرجوت أن يجيبوا دعوتك. قال: أخاف عليهم أهل نجد؛ قال: أنا لهم جار. فبعث معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين رجلا من الأنصار شببة «8» يسمون القرّاء «9» ، وأمّر(17/130)
عليهم المنذر بن عمرو، فساروا حتى نزلوا بئر معونة- وهى بين أرض بنى عامر وحرّة بنى سليم، كلا البلدين منها قريب، وهى إلى حرّة بنى سليم أقرب- فلما نزلوها سرحوا ظهرهم، وقدّموا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، إلى عامر بن الطّفيل، فوثب على حرام فقتله؛ واستصرخ عليهم بنى عامر فأبوا، وقالوا: لا نخفر «1» جوار أبى براء، فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم، عصيّة ورعلا وذكوان، فنفروا معه. واستبطأ المسلمون حراما، فأقبلوا فى أثره، فلقيهم القوم فأحاطوا بهم، وكاثروهم «2» فاقتتلوا، فقتل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم سليم بن ملحان، والحكم بن كيسان.
قال ابن إسحاق: فقتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار فإنهم تركوه، وبه رمق بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. قال: وكان فى سرح القوم عمرو بن أمية الضّمرى، ورجل من الأنصار- قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح- فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه «3» الطير لشأنا؛ فأقبلا لينظرا، فإذا القوم فى دمائهم، والخيل التى أصابتهم واقفة. فقال الأنصارى لعمرو بن أمية:
ما ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنخبره الخبر؛ قال الأنصارى: ما كنت لأرغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو؛ ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذ عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم «4» أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل، وجزّ ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمّه.(17/131)
فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة «1» من صدر قناة «2» أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا معه، وكان معهما عقد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجوار لم يعلم به عمرو، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما تؤرة من بنى عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال محمد بن سعد: وقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بقتل أصحاب بئر معونة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أبت من بينهم» ! ثم أخبره بقتل العامريين، فقال: «بئس ما صنعت، قد كان لهما منى أمان وجوار، لأدينّهما» ! وبعث بديتهما إلى قومهما، وقنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا فى صلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان وعصيّة وبنى لحيان.
وروى عن أنس بن مالك، رضى الله عنه، قال: قرأنا بهم قرآنا زمانا، ثم إن ذلك رفع أو نسى: «بلّغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا «3» » . وقال أنس ابن مالك: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد «4» على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة.
قال ابن سعد: وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى تلك الليلة التى وصل إليه فيها خبر أصحاب بئر معونة مصاب خبيب بن عدىّ ومن معه، فدعا رسول(17/132)
الله صلّى الله عليه وسلّم على قتلتهم بعد الركعة من الصبح، فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسنى يوسف، اللهم عليك ببنى لحيان وعضل والقارّة وزعب ورعل وذكوان وعصيّة، فإنهم عصوا الله ورسوله» «1» .
ذكر سريّة مرثد بن أبى مرثد الغنوى إلى الرّجيع
كانت فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وذلك أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رهط من عضل والقارة، وهم إلى الهون بن خزيمة، فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا [من أصحابك «2» ] يفقّهونا ويقرئونا القرآن، ويعلمونا شرائع الاسلام. فبعث صلّى الله عليه وسلّم معهم عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، ومرثد بن أبى مرثد الغنوى، وخبيب بن عدىّ؛ وزيد بن الدّثنة «3» ، وخالد بن البكير «4» الليثى، وعبد الله بن طارق، ومعتّب بن عبيد أخو عبد الله «5» لأمّه. وأمّر عليهم عاصما، وقيل: مرثدا؛ فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع- وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز- غدروا [بهم «6» ] واستصرخوا عليهم هذيلا، فلم يرع القوم، وهم فى رحالهم(17/133)
إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا، فقالوا:
إنا ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. فأما مرثد بن أبى مرثد، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت، ومعتّب بن عبيد؛ فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا. وقاتلوا حتى قتلوا، رضى الله عنهم. وأما زيد بن الدّثنة وخبيب بن عدى، وعبد الله بن طارق، فرغبوا فى الحياة، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بمرّ «1» الظّهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن «2» ، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه؛ فقبر هناك. وأما خبيب بن عدى وزيد بن الدّثنة فقدموا بهما مكة، فأباعوهما «3» من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة، فابتاع خبيبا حجر «4» بن أبى إهاب التميمى، حليف بنى نوفل، لعقبة بن الحارث ابن عامر بن نوفل ليقتله بأبيه. وابتاع زيد بن الدّثنة صفوان بن أميّة، ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وبعثه مع مولى له يقال له: نسطاس؛ إلى التّنعيم «5» ، فأخرجوه من الحرم ليقتله، واجتمع لذلك رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا الآن «6» مكانك نضرب عنقه، وأنك فى أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا(17/134)
الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنى جالس فى أهلى. فقال أبوسفيان:
ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا؛ ثم قتله نسطاس.
وأما خبيب بن عدى فروى عن ماوية «1» مولاة حجر بن أبى إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان خبيب قد حبس فى بيتى، فلقد اطلعت عليه يوما وإن فى يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم فى أرض الله عنبا يؤكل، قالت: وقال لى حين حضره القتل: ابعثى إلىّ بحديدة أتطهّر بها للقتل؛ فأعطيت غلاما من الحىّ الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل؛ قالت:
فو الله ما هو إلا أن قد ولّى الغلام بها إليه؛ فقلت: ما صنعت! أصاب والله الرجل ثأره بقتل «2» هذا الغلام، فيكون رجلا برجل؛ فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك، ما خافت أمك غدرتى حتى بعثك بهذه الحديدة! ثم خلّى سبيله «3» .
ويقال: إن الغلام ابنها.
قال ابن إسحاق: ثم خرجوا بخبيب، حتى إذا جاءوا به التنعيم ليصلبوه قال: إن رأيتم أن تدعونى حتى أركع «4» ركعتين فافعلوا. قالوا: دونك فاركع ركعتين. [فركع «5» ركعتين] أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أنى إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. فكان خبيب أول من سنّ هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين. قال: ثم رفعوه على خشبته، فلما أوثقوه، قال:(17/135)
اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا؛ ثم قال: اللهم أحصهم «1» عددا، واقتلهم بددا «2» ، ولا تغادر منهم أحدا «3» . ثم قتلوه، رحمه الله ورضى عنه.
قال ابن «4» هشام: أقام خبيب فى أيديهم حتى انقضت الأشهر الحرم، ثم قتلوه.
وروى ابن إسحاق أنه قال حين صلب «5» :
لقد جمع الأحزاب حولى وألّبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع «6»
وقد قرّبوا «7» أبناءهم ونساءهم ... وقرّبت من جذع طويل ممنّع
وكلّهم بيدى العداوة جاهدا ... علىّ لأنى فى وثاق بمضيع «8»
إلى الله أشكو غربتى بعد كربتى ... وما جمّع الأحزاب لى عند مصرعى
فذا العرش صبرنى على ما أصابنى ... فقد بضّعوا لحمى وقد ضلّ مطمعى «9»(17/136)
وذلك فى ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع «1»
وقد عرّضوا بالكفر والموت دونه ... وقد ذرفت عيناى من غير مدمع «2»
وما بى حذار الموت، إنى لمّيت ... ولكن حذارى حرّ نار تلفع «3»
فلست بمبد للعدوّ تخشّعا ... ولا جزعا إنّى إلى الله مرجعى
ولست أبا لى حين أقتل مسلما ... على أى حال كان فى الله مضجعى
وفى رواية ابن شهاب:
على أى جنب كان فى الله مصرعى
قالوا: وصلب بالتّنعيم، وكان الذى تولى صلبه عقبة بن الحارث، وأبو هبيرة العدوى «4» .
ذكر غزوة بنى النّضير
غزاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل، سنة أربع، على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجره.
وكان سبب هذه الغزوة على ما حكاه محمد بن سعد، ومحمد بن إسحاق، وعبد الملك بن هشام، دخل حديث بعضهم فى بعض، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خرج إلى بنى النضير يستعينهم فى دية الكلابيّين أو العامريّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمرى، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك بما أحببت. وكان(17/137)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد جلس إلى جنب جدار من بيوتهم، وهو فى نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر، وعمر، وعلىّ، رضوان الله عليهم، فخلا بعض بنى النضير إلى بعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل «1» يعلو هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش «2» ابن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك؛ فقال سلّام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرنّ بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذى بيننا وبينه. وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر من السماء بما أراد القوم، فنهض مسرعا كأنه يريد الحاجة فتوجه إلى المدينة، فلما أبطأ على أصحابه قاموا فى طلبه، فلقوا «3» رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه صلّى الله عليه وسلّم، فقال: رأيته قد دخل المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أتوه، فقالوا: يا رسول الله، قمت ولم نشعر.
قال: همّت يهود بالغدر فأخبرنى الله بذلك فقمت. ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم محمد بن مسلمة: «أن أخرجوا من بلدى فلا تساكنونى بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا [أى من «4» الأيام] فمن رئى بعد ذلك ضربت عنقه» . فمكثوا أياما يتجّهزون، وأرسلوا إلى ظهر لهم بذى الجدر»
وتكاروا إبلا من ناس من أشجع، فأرسل إليهم عبد الله بن أبىّ: أن أقيموا فى حصونكم، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معى ألفين من قومى وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون من عند آخرهم، وتمدّكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. ووافقه على ذلك وديعة «6» بن مالك بن أبى قوقل، وسويد وداعس، وقالوا(17/138)
لهم: إن قوتلتم نصرناكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم؛ فطمع حيّى بن أخطب فيما قال ابن أبىّ، فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكبّر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود. واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم، وسار فى أصحابه، وعلى بن أبى طالب يحمل لواءه، فصلى العصر بفناء بنى النضير، فلما رأوه تحصنوا بحصونهم، وقاموا عليها معهم النبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم، وخذلهم عبد الله بن أبىّ ومن وافقه فلم ينصروهم، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ست ليال، ثم أمر بقطع النّخيل وتحريقها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها! وكان الله عز وجل أمر رسوله، صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فقذف الله فى قلوبهم الرعب، وقالوا:
نخرج من بلادك. فقال: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة «1» . فنزلوا على ذلك.
وكانت مدّة حصرهم خمسة عشر يوما، وولى إخراجهم محمد بن مسلمة، فحملوا النساء والصبيان وتحملوا على سبعمائة بعير، وكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف «2» بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبى الحقيق، وكنانة بن الربيع ابن أبى الحقيق، وحيّى بن أخطب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هؤلاء فى قومهم بمنزلة بنى المغيرة فى قريش. وحزن المنافقون [عليهم «3» ] حزنا شديدا، وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأموال والحلقة، فوجد من الحلقة خمسين(17/139)
درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة سيف وأربعين سيفا، وكانت بنو النضير صفيّا «1» لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خالصة له حبسا «2» لنوائبه، لم يخمّسها ولم يسهم منها لأحد، إلا أنه أعطى ناسا من أصحابه، ووسّع فى الناس، فكان ممن أعطاه رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم من المهاجرين أبو بكر [الصديق «3» ] رضى الله عنه، أعطاه بئر حجر، وعمر بن الخطاب بئر جرم «4» ، وعبد الرحمن بن عوف سوالة، وصهيب بن سنان الصراطة «5» ، والزبير بن العوّام وأبو سلمة بن عبد الأسد البويلة «6» ، وسهل بن حنيف وأبو دجانة مالا، يقال له: مال ابن خرشة. حكاه محمد بن سعد فى طبقاته.
قال: ولما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى النضير، قال: امضوا فإن هذا أوّل الحشر وإنا على الأثر.
وأنزل الله عز وجل فى بنى النضير سورة «الحشر» بكمالها.
يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) .(17/140)
قال الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى، رحمه الله:
«أهل الكتاب» بنو النضير «من ديارهم» التى كانت بيثرب «لأوّل الحشر» قال الزهرى: كانوا من سبط «1» لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم فى الدنيا، قال: وكانوا أوّل حشر فى الدنيا حشر إلى «2» الشام. وقال الكلبى: إنما قال: «لأوّل الحشر» لأنهم أوّل حشر من أهل الكتاب، ونفوا من الحجاز. وقال مرّة الهمدانىّ: كان هذا أوّل الحشر من أهل المدينة، والحشر الثانى من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا «3» من الشام فى أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وعلى يديه. وقال قتادة:
كان هذا أوّل الحشر، والحشر الثانى: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلّف.
«ما ظننتم» أيها المؤمنون «أن يخرجوا» من المدينة «وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله» حيث درّبوها وحصنوها «فأتاهم الله» أى أمر الله وعذابه « [من «4» ] حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرّعب» قيل: بقتل سيدهم كعب بن الأشرف.
«يخربون بيوتهم بأيديهم» قال ابن إسحاق: وذلك لهدمهم بيوتهم عن نجف أبوابهم. وقال ابن زيد: كانوا يقتلون العمد، وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب «5» ، حتى الأوتاد، يخربونها لئلا يسكنها المسلمون حسدا منهم وبغضا. وقال ابن عباس: كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم «6» هدموها لتتسع لهم المقاتل، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارهم فيخرجون إلى التى(17/141)
بعدها، فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم منها، ويرمون بالتى خرجوا منها أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم. وقال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، وتخربها اليهود من باطنها، فذلك قوله عز وجل:
«يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» .)
ثم قال تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ)
الآية «الْجَلاءَ»
عن الوطن (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا)
بالقتل وبالسّبى «1» كما فعل ببنى قريظة «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ.)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا «2» اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» .
قوله تعالى: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ)
قال ابن إسحاق: اللينة: ما خالف العجوة من النخل. وقال ابن هشام: ما لم تكن برنيّة «3» ولا عجوة. وقال عكرمة وزيد بن رومان وقتادة: النخل كلّه لينة ما خلا العجوة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، اللينة: النخلة والشجرة.
وقال سفيان: هى كرام النخل. وقيل: هى النخلة القريبة من الأرض. وقال مقاتل: هو ضرب من النخل، يقال لثمرها «4» : اللّون، وهو شديد الصفرة، يرى نواه من خارج، يغيب فيه الضّرس، وكان من أجود ثمرهم وأعجبها إليهم، وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف «5» ، وأحب إليهم من وصيف، فلما رأوا ذلك يقطع شق عليهم. قال: وجمع اللينة لين. وقيل: ليان «6» .(17/142)
قال الثعلبى: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببنى النضير، وتحصنوا فى حصونهم، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخيل، وعقر الشجر؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد فى الأرض؟ فشق ذلك على النبى صلّى الله عليه وسلّم، ووجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون «1» في ذلك فسادا، واختلف المسلمون فى ذلك، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها. فأنزل الله تعالى الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذنه تعالى.
وفى قطع نخيل بنى النضير يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بنى لؤىّ ... حريق بالبويرة مستطير
وقوله تعالى: «وليخزى الفاسقين» أى وليذل اليهود ويخزيهم ويغيظهم.
قوله تعالى: (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
«أفآء الله» أى ردّ على رسوله ورجع إليه، ومنه فىء الظلّ [منهم «2» ] أى من بنى النضير من الأموال «فما أوجفتم» أوضعتم «3» «عليه من خيل ولا ركاب» وهى الإبل، يقول: لم تقطعوا إليها شقّة، ولم تنالوا فيها مشقة، ولم تكلفوا مؤنة «4» ، ولم تلقوا حربا.
وإنما كانت بالمدينة فمشوا إليها مشيا، ولم يركبوا خيلا ولا إبلا إلا التى(17/143)
صلّى الله عليه وسلّم، فإنه ركب جملا فافتتحها صلحا، وأجلاهم عنها وخزن أموالهم فسأل المسلمون النبى صلّى الله عليه وسلّم القسمة، فأنزل الله عز وجلّ الآية، فجعل أموال بنى النضير خاصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمة. قال: ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان، أحدهما سفيان ابن عمير بن وهب، والثانى سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها. روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: إن أموال بنى النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف «1» المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالصة، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ينفق على أهله منه نفقة سنته، وما بقى جعله فى الكراع «2» والسلاح عدّة فى سبيل الله.
قوله تعالى: (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)
قال ابن عباس رضى الله عنهما: القرى هى قريظة والنّضير، وهما بالمدينة، وفدك، وهى من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر، وقرى عرينة وينبع جعلها الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، يحكم فيها ما أراد، فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية. قال: و (الْقُرْبى) *
قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب. وقوله: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)
أى بين(17/144)
الرؤساء والأغنياء والأقوياء، فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم يصطفى منها أيضا بعد المرباع ما شاء، وفيه يقول شاعرهم:
لك المرباع منها والصّفايا ... وحكمك والنّشيطة والفضول «1»
فجعل الله تعالى [هذا «2» ] لرسوله عليه السلام يقسمه فى المواضع التى أمر بها.
وقوله تعالى: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)
أى ما أعطاكم من الفىء والغنيمة «وما نهاكم عنه» من الغلول وغيره «فانتهوا» .
قوله تعالى: (لِلْفُقَراءِ) *
يعنى كى لا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الأغنياء منكم ولكن يكون (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)
أى فى إيمانهم.
قال قتادة: هم المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر، وخرجوا حبّا لله ورسوله، واختاروا الإسلام على ما كانت فيه من شديدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة فى الشتاء ماله دثار غيرها.
وعن سعيد بن جبير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قالا: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة، يحج عليها ويغزو، فنسبهم الله تعالى إلى أنهم فقراء، وجعل لهم سهما فى الزكاة.(17/145)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
قال: قوله (تَبَوَّؤُا)
توطنوا (الدَّارُ) *
اتخذوا المدينة دار الإيمان والهجرة، وهم الأنصار، أسلموا فى ديارهم وابتنوا المساجد قبل قدوم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأحسن الله الثناء عليهم. وقوله:
(مِنْ قَبْلِهِمْ) *
أى من قبل قدوم المهاجرين عليهم، وقد آمنوا (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً»
أى حزازة وغيظا وحسدا (مِمَّا أُوتُوا)
أى مما أعطى المهاجرين من الفىء، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قسم أموال بنى النضير بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار «1» منها شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم، فطابت أنفس الأنصار بذلك (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ)
إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)
أى فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النضير للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم فى هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم عليكم شىء من الغنيمة» فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا «2» وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ولم نشاركهم فيها. فأنزل الله عز وجل: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
والشحّ فى كلام العرب: البخل ومنع الفضل.(17/146)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ «1» رَحِيمٌ)
قال ابن أبى ليلى: الناس على ثلاث منازل: للفقراء المهاجرون، والذين تبوّءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد ألا تكون خارجا من هذه المنازل.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أمر الله عز وجل بالاستغفار لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وعن عائشة رضى الله عنها قالت:
أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد عليه السلام فسببتموهم، سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أوّلها» .
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)
نزلت هذه الآيات فى شأن عبد الله بن أبىّ ومن وافقه فى إرسالهم لبنى النضير وقعودهم عنهم، كما تقدّم آنفا، وقوله: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ)
يقول: يرهبونكم أشدّ من رهبتهم الله تعالى. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) .
قوله تعالى: (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ «2» بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)
أعلم الله تعالى المؤمنين أن اليهود لا يبرزون لهم بالقتال، ولا يقاتلونهم إلا فى قرى محصنة، أو من(17/147)
وراء جدار (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)
يعنى بعضهم فظّ على بعض، وبعضهم عدوّ لبعض، وعداوتهم بعضهم بعضا شديدة. وقيل: بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله. (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)
قال قتادة: أهل الباطل مختلفة [أهواؤهم «1» ، مختلفة شهاداتهم، مختلفة] أعمالهم، وهم مجتمعون فى عداوة أهل الحق. وقال مجاهد: أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) *.
قوله تعالى: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
يعنى مثل هؤلاء اليهود (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
وهم مشركو مكة (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) *
يوم بدر. قال مجاهد وقال ابن عباس: يعنى بنى قينقاع؛ وقيل: مثل قريظة كمثل بنى النضير. ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود فى تخاذلهم فقال تعالى:
(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)
وهى قصّة برصيصا العابد مع الشيطان.
ذكر قصة برصيصا
روى أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبى بسند يرفعه إلى ابن عباس، رضى الله عنهما، فى قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ)
الآية. قال:
كان راهب فى الفترة يقال له برصيصا، قد تعبّد «2» في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه فى أمره الحيل، فلم يستطع له بشىء، فجمع ذات يوم مردة الشيطان، فقال: ألا أحد منكم يكفينى أمر برصيصا؟
فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذى تصدّى لرسول الله صلّى الله عليه(17/148)
وسلّم، وجاءه فى صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحى، فجاء جبريل حتى دخل بينهما، فدفعه بيده دفعة هينة، فوقع من دفعة جبريل إلى أقصى الهند. فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك. فانطلق فتزيّن بزينة الرهبان، وحلق وسط رأسه، ثم مضى حتى أتى صومعة برصيصا، فناداه، فلم يجبه برصيصا، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا فى عشرة «1» أيام، ولا يفطر إلا فى عشرة أيام، فكان يواصل الصوم الأيام العشرة والعشرين والأكثر، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة فى أصل صومعته، فلما انقتل برصيصا اطلع من صومعته، فرأى الأبيض قائما منتصبا يصلى فى هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فلما رأى ذلك من حاله تدبر فى نفسه حين لهى عنه فلم يجبه، فقال له: إنك ناديتنى وكنت مشغولا عنك، فحاجتك «2» ؟ قال:
حاجتى أنى أحببت أن أكون معك فأتأدّب بك، وأقتبس من علمك، ونجتمع على العبادة، فتدعو لى وأدعو لك؛ قال: إنى لفى شغل عنك، فإن كنت مؤمنا فإن الله عز وجل سيجعل لك فيما أدعوه للمؤمنين والمؤمنات نصيبا إن استجاب لى.
ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، فأقبل الأبيض يصلى، فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها، فلما انفتل رآه قائما يصلى، فلما رأى برصيصا شدّة اجتهاده، وكثرة تضرعه وابتهاله إلى الله عز وجل كلّمه، وقال له: حاجتك؟ قال: حاجتى أن تأذن لى فأرتفع إليك. فأذن له، فارتفع فى صومعته، فأقام الأبيض معه حولا يتعبد، لا يفطر إلا فى كل أربعين يوما [ولا ينفتل عن صلاته إلا فى كل أربعين يوما «3» ] مرة، وربما مدّ إلى الثمانين؛ فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت «4» إليه نفسه، وأعجبه شأنه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إنى منطلق، فإن لى صاحبا(17/149)
غيرك، ظننت أنك أشدّ اجتهادا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذى رأيت. قال:
فدخل على برصيصا أمر عظيم، وكره مفارقته للذى رأى من شدّة اجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندى دعوات أعلمكها تدعو بهن، فهن خير لك مما أنت فيه، يشفى الله بها السقيم، ويعافى بها المبتلى والمجنون؛ قال برصيصا: إنى أكره هذه المنزلة، لأن لى فى نفسى شغلا، وإنى أخاف إن علم بهذا الناس شغلونى عن العبادة؛ فلم يزل به الأبيض حتى علمه. ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. قال: فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه، ثم جاءه فى صورة رجل متطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا فأعالجه؟ فقالوا: نعم؛ فقال لهم: إنى لا أقوى على جنيته، ولكنى سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافى؛ فقالوا له: دلّنا. قال: انطلقوا إلى برصيصا، فإن عنده اسم الله الذى إذا دعى به أجاب. قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك، فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان. وكان يفعل الأبيض بالناس مثل هذا الذى فعل بالرجل، ثم يرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون. قال: فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة، وكان أبوهم ملكا فمات فاستخلف أخاه، وكان عمها ملك بنى إسرائيل، فعذبها وخنقها، ثم جاء إليهم فى صورة رجل متطبب، فقال لهم:
أعالجها؟ قالوا: نعم. فعالجها فقال: إن الذى عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تتقون به تدعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردّونها «1» صحيحة، قد ذهب عنها شيطانها؛ قالوا: ومن هو؟ قال:
برصيصا؛ قالوا: وكيف لنا أن يقبلها منا ويجيبنا إلى هذا؟ هو أعظم شأنا من ذلك. قال: انطلقوا وابتنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه، ولتكن(17/150)
هذه الصومعة التى تبنون لزيقة صومعته، فإن قبلها وإلا تضعونها «1» في صومعتها، ثم قولوا له: هى أمانة عندك، فاحتسب فيها. قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك، فأبى عليهم، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض، ثم اطلعوا عليه ووضعوا الجارية فى صومعتها، وقالوا له: يا برصيصا، هذه أختنا قد عرض لها عدوّ من أعداء الله، فهى أمانة عندك فاحتسب فيها. ثم انصرفوا، فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين تلك الجارية وما بها من الجمال، فأسقط «2» في يده، ودخل عليه أمر عظيم، قال: فجاءها الشيطان فخنقها؛ فلما رأى برصيصا ذلك انفتل عن صلاته، فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته، ثم جاءها الشيطان فخنقها، وكان يكشف عن نفسها ويتعرّض [بها «3» ] لبرصيصا، وجاءه الشيطان، فقال: ويحك! واقعها فلن تجد مثلها، فستتوب بعد، فتدرك ما تريد من الأمر الذى تريد؛ فلم يزل به حتى واقعها، فافترشها، فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك! قد افتضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟ فإن سألوك فقل: جاء شيطانها فذهب بها ولم أقو عليه. قال:
ففعل. فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاءه الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها، فبقى طرف إزارها خارجا فى التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته، فجاء إخوتها يتعاهدون أختهم، وكانوا يجيئون فى بعض الأيام يسألون عنها، ويطلبون إلى برصيصا ويوصونه بها، فقالوا:
يا برصيصا، ما فعلت أختنا؟ قال: جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه. قال:
فصدّقوه وانصرفوا. فلما أمسوا وهم مكروبون، جاء الشيطان إلى كبيرهم(17/151)
فى المنام، فقال له: ويحك! إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها فى موضع كذا وكذا من جبل كذا وكذا. فقال الأخ: هذا حلم وهو من عمل الشيطان، برصيصا خير من ذلك. قال: فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث، فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك، فقال الأوسط مثلما قال الأكبر، فلم يخبر به أحدا، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال أصغرهم لإخوته: والله لقد رأيت كذا وكذا. فقال الأوسط: وأنا والله لقد رأيت مثله. وقال الأكبر:
وأنا والله لقد رأيت كذا وكذا، فانطلقوا بنا إلى برصيصا؛ فأتوه، فقالوا:
يا برصيصا، ما فعلت أختنا؟ قال: أليس قد أعلمتكم بحالها وحال شيطانها! فكأنكم اتهمتمونى. فقالوا: لا والله لا نتهمك. فاستحيوا منه وانصرفوا عنه، فجاءهم الشيطان فقال، ويحكم! إنها لمدفونة فى موضع كذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب. قال: فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا فى نومهم، قال:
فمشوا فى مواليهم، ومواليهم معهم الفؤس والمساحى «1» ، فهدموا صومعته وأنزلوه ثم كتفوه وانطلقوا به إلى الملك، فأقرّ على نفسه؛ وذلك أن الشيطان أتاه فقال:
تقتلها ثم تكابر، يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة، اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض عيانا، وذلك أن إبليس لعنه الله، قال للأبيض: وما يغنى عنك ما صنعت؟ إن قتل فهو كفارة لما كان منه. فقال الأبيض: أنا أكفيكه. فأتاه فقال: يا برصيصا، أتعرفنى؟ قال:
لا. قال: أنا صاحبك الذى علمك الدعوات فاستجيب لك، ويحك! أما اتقيت الله فى أمانة خنت أهلها، وأنك أعبد بنى إسرائيل! أما استحيت! أما راقبت الله فى دينك! فلم يزل يعيره ويونجه، ثم قال له فى آخر ذلك: ألم يكفك(17/152)
ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت أشباهك من الناس! فإن متّ على هذه الحال لم يفلح أحد من نظرائك بعدك. قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعنى فى خطة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه، وآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك.
قال: وما هى؟ قال: تسجد لى. قال: أفعل. فسجد له، فقال «1» : يا برصيصا، هذا الذى أردت منك، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، إنى برىء منك، إنى أخاف الله رب العالمين.
يقول الله تعالى: (فَكانَ عاقِبَتَهُما)
يعنى الشيطان وذلك الإنسان.
(أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) .
قال ابن عباس رضى الله عنهما: فضرب الله هذا المثل ليهود بنى النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله تعالى أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، أن يحلى بنى النضير من المدينة، فدسّ المنافقون إليهم فقالوا: لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلكم كنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم.
قال: فأطاعوهم؛ فدرّبوا على حصونهم وتحصنوا فى ديارهم رجاء نصر المنافقين حتى جاءهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فناصبوه الحرب، يرجون نصر المنافقين، فخذلوهم وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله.
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)
قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) *
أى فى أداء فرائضه واجتناب معاصيه (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ)
يعنى يوم القيامة.(17/153)
قوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)
(نَسُوا اللَّهَ) *
أى نسوا حق الله وتركوا أوامره (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ)
[يعنى «1» حظ أنفسهم] أن يقدموا لها خيرا (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) .
فقد أتينا- أكرمك الله- على تفسير ما أنزل من القرآن فى شأن بنى النضير مما يتعلق بشرح أخبارهم خاصة على حكم الاختصار، ولم نتعرض إلى ما سوى ذلك من التفسير.
ذكر غزوة بدر الموعد
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لهلال ذى القعدة، على رأس خمسة وأربعين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم. حكاه محمد بن سعد.
وقال محمد بن إسحاق: كانت فى شعبان. وجعلها بعد غزوة ذات الرقاع، فتكون على رأس اثنين وأربعين شهرا من الهجرة، والأشبه ما قاله ابن سعد، لأن الميعاد كان على «2» رأس الحول من غزوة أحد، وغزوة أحد كانت فى شوّال على ما اتفقا عليه، ولم يتخلفا فى الشهر وإنما فى أيام ذكرناها هناك.
قال محمد بن سعد: لما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج، وقدم نعيم بن مسعود الأشجعى مكة، فقال له أبو سفيان: إنى قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقى ببدر، وقد جاء ذلك الوقت، وهذا عام جدب، وإنما يصلحنا عام خصب غيداق «3» ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج فيجترئ علينا، فنجعل لك عشرين فريضة «4» يضمنها «5»(17/154)
إليك سهيل بن عمرو على أن تقدم المدينة فتخذل أصحاب محمد. قال: نعم.
فحملوه على بعير، فأسرع السير حتى قدم المدينة، فأخبرهم بجمع أبى سفيان [لهم «1» ] وما معه من العدّة والسلاح، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذى نفسى بيده لأخرجنّ وإن لم يخرج معى أحد.
واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وسار بالمسلمين وهم ألف وخمسمائة، والخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه على بن أبى طالب، وخرج المسلمون ببضائع وتجارات لهم، وكانت بدر الصغرى مجتمعا يجتمع فيه العرب، وسوقا تقوم لهلال ذى القعدة إلى ثمان تخلو منه، ثم يتفرّق الناس إلى بلادهم.
فانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى بدر ليلة هلال ذى القعدة؛ وقامت السوق صبيحة الهلال فأقاموا بها ثمانية أيام، وباعوا ما خرجوا به من التجارات، فربحوا للدرهم درهما، وانصرفوا، وقد سمع الناس بمسيرهم، وخرج أبو سفيان بن حرب من مكة فى قريش، وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا حتى انتهوا إلى مجنّة- وهى «2» مرّ الظهران- ومنهم من يقول: بلغوا عسفان «3» . ثم قال: ارجعوا فإنه لا يصلحنا إلا عام خصب غيداق، نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن، وعامكم هذا عام جدب، وإنى راجع فارجعوا. فسمى أهل مكة هذا الجيش جيش السّويق، يقولون: خرجوا يشربون السويق. قال: وقدم معبد ابن أبى معبد الخزاعى مكة بخبر مسير رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه، فقال صفوان بن أمية لأبى سفيان: قد نهيتك يومئذ أن تعد القوم وقد اجترءوا علينا ورأوا أن قد أخلفناهم.(17/155)
وقال عبد الله بن رواحة:
وعدنا أبا سفيان وعدا «1» فلم نجد ... لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما وافتقدت المواليا «2»
تركنا به أوصال عتبة وابنه ... وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا «3»
عصيتم رسول الله أفّ لدينكم ... وأمركم السّىء «4» الذى كان غاويا
فإنى وإن عنّفتمونى لقائل ... فدى لرسول الله أهلى وماليا
أطعناه لم نعد له فينا بغيره ... شهابا لنا فى ظلمة الليل هاديا
وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون، ورجعوا إلى المدينة.
وأنزل الله عز وجل فى شأن هذه الغزوة قوله تعالى: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) .
قال السّدّى: لما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه للمسير إلى بدر لميعاد أبى سفيان أتاهم المنافقون فقالوا: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم فعصيتمونا، وقد أتوكم فى دياركم [فقاتلوكم «5» ] وظفروا، فإن أتيتموهم فى ديارهم لا يرجع منكم أحد. فقالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
. فالناس فى هذه الآية أولئك المنافقون. وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أبى سفيان، فقالوا: قد جمعوا لكم جموعا.(17/156)
كثيرة فاخشوهم؛ فقالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
. فأنزل الله عز وجل (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ)
يعنى أبا سفيان وأصحابه (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)
فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم (فَزادَهُمْ «1» إِيماناً
يعنى تصديقا ويقينا وجرأة وقوّة. وقوله: «فانقلبوا» فانصرفوا ورجعوا «بنعمة من الله» أى بعافية لم يلقوا بها عدوا، وبرأت جراحتهم «وفضل» أى ربح وتجارة، وهو «2» ما أصابوا من السوق فربحوا (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)
لم يصبهم قتل ولا جرح ولم ينلهم «3» أذى ولا مكروه (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ)
في طاعة الله وطاعة رسوله «4» صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو ورضى عنهم. (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) .
[ثم «5» ] قال تعالى: (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
يعنى ذلك الذى قال لكم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم؛ من فعل الشيطان ألقى فى أفواهم لترهبوهم وتجبنوا عنهم «يخوّف أولياءه» أى يخوفكم «6» بأوليائه، يعنى يخوف المؤمنين بالكافرين، قال السدّى: يعظم أولياءه فى صدوركم لتخافوهم. وقرأ عبد الله بن مسعود «يخوّفكم أولياءه» قال: وكان أبىّ بن كعب [يقرأ «7» ] «يخوّفكم بأوليائه» «فلا تخافوهم وخافون» فى ترك أمرى «إن كنتم مؤمنين» مصدقين بوعدى فإنى متكفل لكم بالنصر والظفر.(17/157)
ذكر غزوة ذات الرّقاع «1» ، وخبر صلاة الخوف وقصة غورث بن الحارث المحاربى، وخبر جابر بن عبد الله
واختلف فى تسمية ذات الرقاع، فقيل: جبل فيه بقع حمر وبيض وسود.
وقيل: لأنهم رقعوا راياتهم. وقيل: ذات الرقاع، شجرة بذلك الموضع. وفى صحيح البخارى أنهم نقبت «2» أقدامهم، فلفّوا عليها الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع.
والله أعلم.
قال محمد بن سعد: كانت فى المحرم على رأس سبعة وأربعين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن إسحاق: كانت غزوة ذات الرقاع بعد غزوة بنى النضير فى الجمادى الأولى، فتكرن على رأس تسعة وثلاثين شهرا من الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذرّ الغفارىّ، ويقال: عثمان بن عفان. ولم يقل ابن سعد غير «3» عثمان رضى الله عنه.
وذلك أن قادما قدم المدينة يجلب «4» ، فأخبر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أن أنمارا وثعلبة قد جمعوا لهم الجموع. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم فى أربعمائة، ويقال: سبعمائة من أصحابه؛ فمضى حتى أتى محالّهم بذات الرقاع- وهو جبل فيه بقع فيها حمرة وسواد وبياض- فلم يجد فى محالّهم أحدا إلا نسوة، فأخذهن وفيهن جارية وضيئة، وهربت الأعراب إلى رءوس الجبال، وحضرت الصلاة، فخاف المسلمون أن يغيروا عليهم، فصلى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف.(17/158)
روى أبو محمد عبد الملك بن هشام بسنده إلى جابر بن عبد الله، قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطائفة ركعتين، ثم سلّم، وطائفة مقبلون على العدوّ، فجاءوا فصلى بهم ركعتين أخريين، ثم سلّم. وروى عنه أيضا من طريق آخر، قال:
صفنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفين، فركع بنا جميعا، ثم سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم جميعا، ثم سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسجد الذين يلونه معه، الصف الأوّل وتقدّم الصف الآخر حتى قاموا مقامهم، ثم ركع النبى صلّى الله عليه وسلّم جميعا، ثم سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسجد الذين يلونه معه، فلما رفعوا رءوسهم سجد الآخرون بأنفسهم سجدتين، وركع النبى صلّى الله عليه وسلّم بهم جميعا، وسجد كل واحد منهما بأنفسهم سجدتين. هكذا روى عن جابر في صلاة الخوف بذات الرقاع.
وروى ابن هشام أيضا بسنده إلى عبد الله بن عمر، رضى الله عنهما، فى صلاة الخوف، ولم يذكر ذات الرقاع، قال: يقوم الإمام وتقوم معه طائفة، وطائفة مما يلى عدوهم، فيركع بهم الإمام ويسجد بهم، ثم يتأخرون فيكونون مما بلى العدوّ، ويتقدّم الآخرون فيركع بهم الإمام ركعة ويسجد بهم، ثم تصلى كل طائفة بأنفسهم ركعة، فكانت لهم مع الإمام ركعة ركعة وصلوا بأنفسهم ركعة ركعة.
ذكر خبر غورث «1» بن الحارث المحاربىّ
لما أراد أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحماه الله منه وأمكن نبيه صلّى الله عليه وسلّم من عدوّه وعفوه عنه وكان من خبر غورث بن الحارث أنه قال لقومه من غطفان ومحارب:
ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به. وكان رسول(17/159)
الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه فاخترط «1» سيفه، ثم قال: من يمنعك منى؟ فقال: الله. فأرعدت يد غورث، وسقط سيفه، وضرب برأسه الشجرة حتى سال دماغه، فعفا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه، فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. ومن رواية الخطابىّ: أن غورث ابن الحارث المحاربىّ أراد أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يشعر به إلا وهو قائم على رأسه، منتضيا «2» سيفه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«اللهم اكفنيه بما شئت» . فانكبّ غورث من وجهه من زخلة «3» زلّخها بين كتفيه، وندر «4» سيفه من يده، وقيل: فيه نزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ)
الآية. وقيل:
نزلت فى غير هذه القصة.
ذكر خبر جابر بن عبد الله فى جمله، واستغفار النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لأبيه
روى محمد بن إسحاق بن يسار المطلبى عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذات الرّقاع من نخل «5» على جمل لى ضعيف، فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، جعلت الرّفاق تمضى، وجعلت أتخلّف، حتى أدركنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «مالك يا جابر» ؟ قلت:
يا رسول الله، أبطأ علىّ «6» جملى هذا؛ قال: «أنخه» ؛ فأنخته، وأناخ رسول الله صلّى الله(17/160)
عليه وسلّم، ثم قال: أعطنى هذه العصا من يدك، أو أقطع لى عصا من شجرة؛ قال: ففعلت. فأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنخسه بها نخسات، ثم قال:
اركب، فركبت، فخرج- والذى بعثه بالحق- يواهق «1» ناقته مواهقة.
قال: وتحدّثت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أتبيعنى جملك هذا يا جابر» ؟ قلت: يا رسول الله، بل أهبه لك؛ قال: «لا، ولكن بعنيه» ؛ قال:
قلت: فسمنيه؛ قال: «قد أخذته بدرهم» ؛ قلت: لا، إذا تغبنّى «2» يا رسول الله! قال: «فبدرهمين» ؛ قلت: لا. فلم يزل يرفع «3» لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ الأوقيّة؛ قلت: فقد رضيت «4» ؟ قال: «نعم» ؛ قلت: هو لك؛ قال: «أخذته» .
ثم قال: «يا جابر، هل «5» تزوجت بعد» ؟ قلت: نعم يا رسول الله؛ قال: «أثيّبا أم بكرا» ؟ قلت: بل ثيّبا؛ قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك» ؟ قلت: يا رسول الله، إن أبى أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رءوسهن وتقوم عليهن؛ قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنّا لو جئنا صرارا «6» أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت «7»
بنا، فنفضت نمارقها» . قلت: يا رسول الله ما لنا من نمارق؛ قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيّسا» .
فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذاك، فلما أمسى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل ودخلنا؛ قال: فحدّثت المرأة الحديث وما قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت:(17/161)
فدونك، فسمع وطاعة. قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل، فأقبلت به حتى أنخته على باب مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، [ثم «1»
جلست فى المسجد قريبا منه، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] فرأى الجمل، فقال: «ما هذا» ؟
قالوا: هذا جمل جاء به جابر؛ قال: «فأين جابر» ؟ فدعيت له، فقال: «يابن أخى خذ برأس جملك فهو لك» ودعا بلالا فقال له: «اذهب بجابر فأعطه أوقيّة» . قال:
فذهبت معه فأعطانى أوقية وزادنى شيئا يسيرا. قال: فو الله ما زال ينمى عندى ونرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا؛ يعنى يوم الحرّة «2» .
وقال محمد بن سعد: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل جابرا عن دين أبيه فأخبره، فاستغفر له رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى تلك الليلة خمسا وعشرين مرة.
قال: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعال «3»
بن سراقة بشيرا إلى المدينة بسلامته وسلامة المسلمين، وقدم صرارا يوم الأحد لخمس بقين من المحرّم- وصرار على ثلاثة أميال من المدينة، وهى بئر جاهلية على طريق العراق- وغاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة ليلة.
ذكر غزوة دومة الجندل
وهى بضم الدال؛ سميت بدومى «4»
بن إسماعيل لأنه كان نزلها، وهى غير دومة التى بفتح الدال.(17/162)
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل على رأس تسعة وأربعين شهرا من مهاجره، وذلك أنه بلغه صلّى الله عليه وسلّم أن «1»
يومة الجندل جمعا كثيرا، وأنهم يظلمون من مرّ بهم، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة- وهى طرف من أفواه الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أوست عشرة ليلة- فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى، وخرج لخمس ليال بقين من شهر ربيع الأوّل فى ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل من بنى عذرة، يقال له: مذكور؛ فلما دنا منهم إذا هم مغرّبون، وإذا آثار النّعم «2»
والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب. وجاء الخبر أهل دومة الجندل، فتفرّقوا، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بساحتهم، فلم يجد بها أحدا، فأقام بهاأياما، وبث السرايا وفرّقها، فرجعت ولم تصب منهم أحدا «3»
وأخذ منهم رجل واحد، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم، فقال: هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نعمهم؛ فعرض عليه الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة لعشر بقين من شهر ربيع الآخر، ولم يلق كيدا.
وفى هذه الغزوة وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيينة بن حصن أن يرعى بتغلمين «4»
وما والاه إلى المراض «5»
، والمراض على ستة وثلاثين ميلا من المدينة على طريق الرّبذة.(17/163)
ذكر غزوة بنى المصطلق «1» ، وهى غزوة المريسيع
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة خمس من الهجرة. حكاه محمد بن سعد.
وقال ابن إسحاق: كانت فى شعبان سنة ست؛ وجعلها بعد غزوة ذى قرد.
وكان سبب هذه الغزوة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن الحارث بن أبى ضرار سيّد بنى المصطلق سار فى قومه ومن قدر عليه من العرب، ودعاهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجابوه وتهيئوا للمسير، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريدة بن الحصيب الأسلمى للوقوف على حقيقة الخبر، فأتاهم وكلم الحارث ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخبر، فندب صلّى الله عليه وسلّم الناس، فأسرعوا فى الخروج، وقادوا الخيول، وهى ثلاثون فرسا، عشرة منها للمهاجرين وعشرون للأنصار، وخرج معه خلق كثير من المنافقين، لم يجتمعوا فى غزاة قط مثلها، واستخلف صلّى الله عليه وسلّم على المدينة زيد بن حارثة. وقال ابن هشام:
استعمل عليها أبا ذرّ الغفارى. قال: ويقال: نميلة بن عبد الله الليثى. قال ابن سعد: وكان معه صلّى الله عليه وسلّم فرسان: لزاز، والظّرب، وخرج يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، فبلغ الحارث بن أبى ضرار ومن معه مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتفرّق عنه من كان معه من العرب وخافوا خوفا شديدا، وانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المريسيع- وهو ماء لبنى المصطلق بينه وبين الفرع نحو من يوم، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد- فنزل به وضرب قبّته، ومعه صلّى الله عليه وسلّم من نسائه أمّهات المؤمنين رضى الله عنهنّ عائشة، وأم سلمة، وتهيّئوا للقتال، وصفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبى بكر.(17/164)
الصدّيق رضى الله عنه، ورواية الأنصار إلى سعد بن عبادة، فتراموا بالنّبل ساعة، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت من القوم إنسان، قتل منهم عشرة، وأسر سائرهم، وسبيت النساء والذّرارى، وغنمت النعم والشاء، ولم يستشهد من المسلمين إلّا رجل واحد، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأسارى فكتفوا، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب، وأمر بجمع الغنائم فجمعت، واستعمل عليها شقران مولاه، وقسم السبى والنعم والشاء، فعدلت الجزور بعشر من الغنم، وبيعت الرّثّة»
فيمن يريد «2»
، قال: وكانت الإبل ألفى «3»
بعير والشاء خمسة آلاف شاة، والسبى مائتى أهل بيت، وصارت جويرية بنت الحارث ابن أبى ضرار فى سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عم له «4»
. فكاتباها على تسع أواق من ذهب، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كتابتها، فأدّى «5»
عنها، وتزوّجها على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار أزواجه صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن سعد: وكان من السبى من منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغير فداء، ومنهم من أفدى، فافتديت «6»
المرأة والذرّيّة بست فرائض، وقدموا المدينة ببعض السبى، فقدم عليهم أهلوهم فافتدوهم، فلم تبق امرأة من بنى المصطلق إلّا رجعت إلى قومها. وكان شعار المسلمين يوم بنى المصطلق: يا منصور أمت أمت؛ وغاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزاته هذه ثمانية وعشرين يوما، وقدم المدينة لهلال رمضان.(17/165)
وفى هذه الغزاة تكلم عبد الله بن أبىّ بن «1»
سلول المنافق بما تكلم به من قوله:
(لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)
. ووقع حديث الإفك، وقد قدّمنا ذكر ذلك كلّه فى حوادث السنين بعد الهجرة، فى حوادث السنة الخامسة.
ذكر غزوات الخندق، وهى غزوة الأحزاب
وكانت فى ذى القعدة سنة خمس من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
حكاه ابن سعد. وقال ابن إسحاق: كانت فى شوّال.
قال محمد بن سعد ومحمد بن إسحاق وعبد الملك بن هشام، رحمهم الله تعالى، دخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: لما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى النضير وساروا إلى خيبر، خرج نفر من أشرافهم ووجوههم، منهم سلام بن أبى الحقيق، وحيىّ بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلى، وأبو عمّار الوائلى، فى نفر من بنى النضير، ونفر من بنى وائل، وهم الذين حزّبوا الأحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقدموا مكّة على قريش، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إنا «2»
سنكون معكم عليه حتى نستأصله؛ فقالت قريش لهم: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا «3»
خير أم دينه؟
فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ «4»
وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ(17/166)
اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)
قالوا: فلما قالت اليهود [ذلك «1»
] لقريش سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاجتمعوا لذلك، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان وسليما، ودعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعلموهم «2»
أن قريشا قد بايعوهم على ذلك، فأجابوهم «3»
واجتمعوا معهم؛ فتجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب، وكانوا أربعة آلاف، وعقدوا اللواء فى دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة بن أبى طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان بن حرب، ووافتهم بنو سليم بمرّ الظّهران، وهم سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شمس، حليف حرب بن أمية، وهو أبو أبى الأعور السّلمى الذى كان مع معاوية بصفّين، وخرجت بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدى، وخرجت غطفان وفزارة، معهما ألف بعير، يقودهم عيينة «4»
بن حصن بن حذيفة ابن بدر، وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرّى، وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم مسعر «5»
بن رخيلة بن نويرة بن طريف، وخرج معهم غيرهم.(17/167)
فكان جميع من وافى الخندق عشرة آلاف، وهم الأحزاب، وكانوا ثلاثة عساكر، ومرجع أمرهم إلى أبى سفيان بن حرب، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصولهم «1»
من مكة ندب «2»
الناس، وأخبرهم خبر عدوّهم، وشاورهم فى أمرهم، فأشار عليه سلمان الفارسىّ بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سفح سلع «3»
، وجعل سلعا خلف ظهره، وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ثم ضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترغيبا للمسلمين فى الأجر، فعملوا وجدّوا فى العمل ودأبوا «4»
، وأبطأ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن المسلمين فى ذلك العمل رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون «5»
بالضعف من العمل، ويتسلّلون إلى أهليهم بغير إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة، ذكرها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستأذنه، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى عمله فى الخندق، فأنزل الله تعالى فى أولئك من المؤمنين قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
ثم قال تعالى فى المنافقين: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً «6»
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ(17/168)
يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
ثم قال تعالى: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
قال: وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه. وروى محمد بن سعد [بسند «1» ] يرفعه إلى سهل بن سعد قال: جاءنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتافنا، فقال «2» صلّى الله عليه وسلّم: «لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة «3» » . وعن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب ينقل معنا التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول:
لا همّ «4» لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا
إنّ الأولى لقد «5» بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
[أبينا «6» ] يرفع بها صوته صلّى الله عليه وسلّم.
وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حفر الخندق معجزات نذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لمعجزاته، ومنها ما يتعيّن ذكره هاهنا، وهو ما حكاه محمد بن إسحاق عن جابر بن عبد الله قال:(17/169)
اشتدت على الناس فى بعض الخندق كدية «1» ، فشكوها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فو لذى بعثه بالحق لأنهالت حتى عادت «2» كالكثيب، لا تردّ فأسا ولا مسحاة.
قالوا: وفرغوا من حفر الخندق فى ستّة أيام، وكانوا يعلمون فيه نهارا وينصرفون ليلا، ورفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النساء والصبيان فى الآطام، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين لثمان مضين من ذى القعدة، وكان يحمل لواء المهاجرين زيد بن حارثة، ويحمل لواء الأنصار سعد بن عبادة. وأقبلت قريش ومن شايعها وتابعها، واجتمع إليها بعد فراغ الخندق، فصار الخندق بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهم، وظهور المسلمين إلى سلع، وخرج حيىّ ابن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظى، صاحب «3» عقد بنى قريظة، وكان قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قومه وعاقده، فأغلق كعب دون حيى باب حصنه، وأبى أن يفتح له، فناداه حيّى: ويحك يا كعب! افتح لى. قال: ويحك! إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. فعادوه مرارا، وهو يأبى عليه حتى [قال «4» له حيىّ] : والله إن «5» أغلقت دونى إلا عن جشيشتك «6» أن آكل معك «7» .(17/170)
فأحفظه «1» ذلك، ففتح له، فقال: ويحك يا كعب! جئتك بعزّ الدهر وببحر طام «2» ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، [ومن دونه «3» ] غطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى «4» على جانب أحد، وقد عاهدونى وعاقدونى على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. فقال له كعب:
جئتنى والله بذلّ الدهر، وبجهام «5» قد هراق ماءه، يرعد ويبرق، ليس فيه شىء، ويحك يا حيىّ! فدعنى وما أنا عليه، فإنى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل به حيى حتى سمح له، أن أعطاه «6» عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أدخل معك فى حصنك حتى يصيبنى ما أصابك. فنقض كعب بن أسد «7» عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى المسلمين وصحّ ذلك عنده كبّر، وقال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
قال: ونجم النفاق وفشل الناس، وعظم البلاء، واشتدّ الخوف، وخيف على الذرارىّ والنساء، وكانوا كما قال الله تعالى: (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)
قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعث سلمة بن أسلم فى مائتى رجل، وزيد بن حارثة فى ثلاثمائة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، وذلك أنه كان يخاف على الذرارى من بنى قريظة، وكان(17/171)
عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون وجاه العدوّ لا يزالون يعتقبون خندقهم ويحرسونه، والمشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب فى أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، [ويغدو «1» عمرو بن العاص يوما] ، ويغدو هبيرة بن أبى وهب يوما، ويغدو ضرار بن الخطّاب الفهرى يوما، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويجتمعون مرّة ويتفرّقون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقدّمون رماتهم فيرمون، فرمى حبّان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله «2» ، فقال: خذها وأنا ابن العرقة. ويقال:
رماه أبو أسامة الجشمى.
قال ابن هشام: ولما اشتدّ على الناس البلاء بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وإلى الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرّى، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى [بينه «3» و] بينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا:
يا رسول الله، أمر تحبّه فتصنعه، أم شىء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شىء تصنعه لنا؟ قال: بل شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم «4» من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد(17/172)
كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوامنها تمرة إلا قراء «1» أو بيعا، أفحين «2» أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال:
ليجهدوا علينا.
قال ابن سعد: ثم اجتمع رؤساؤهم أن يغدوا يوما، فغدوا جميعا ومعهم رؤساء سائر الأحزاب، وطلبوا مضيقا من الخندق يقتحمون «3» خيلهم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فلم يجدوا ذلك وقالوا: إن هذه لمكبدة ما كانت العرب تصنعها؛ فقيل لهم: إن معه رجلا فارسيا، فهو أشار عليه بذلك؛ قالوا: فمن هناك إذا، فصاروا إلى مكان ضيّق أغفله المسلمون، فعبر منه عكرمة بن أبى جهل، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطّاب، وهبيرة بن أبى وهب، وعمرو بن عبد ودّ [فجعل «4» عمرو بن عبد ودّ] يدعو إلى البراز، ويقول:
ولقد بححت من النداء ... لجمعهم هل من مبارز
وكان ابن تسعين سنة، فبرز إليه على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقال له: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلّتين إلّا أخذتها منه؛ قال له: أجل. قال له «5» : فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام؛ قال: لا حاجة لى بذلك؛ قال: فإنى أدعوك إلى النّزال؛ قال: يا بن(17/173)
أخى، فو الله ما أحبّ أن أقتلك؛ فقال له علىّ: ولكنى والله أحبّ أن أقتلك؛ فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علىّ فتنازلا وتجاولا، فقتله علىّ رضى الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق. وألقى عكرمة بن أبى جهل يومئذ رمحه وهو منهزم عن عمرو. فقال حسّان بن ثابت:
فرّ وألقى لنا رمحه ... لعلك عكرم لم تفعل
وولّيت تعدو كعدو الظّليم «1» ... منهم ما إن «2» تجور عن المعدل
ولم تلق ظهرك مستأنسا ... كأنّ قفاك قفا فرعل «3»
قال ابن سعد: وحمل الزبير بن العوّام على نوفل بن عبد الله بالسيف فضربه فشقّه باثنتين، ثم اتّعدوا أن يغدوا «4» من الغد، فباتوا «5» يعبّئون أصحابهم، وفرّقوا كتائبهم، ونحّوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتيبة غليظة فيها خالد بن الوليد، فقاتلوهم يومهم ذاك إلى هوىّ «6» من الليل، ما يقدرون أن يزولوا من موضعهم، ولم يصلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أصحابه ظهرا ولا عصرا ولا مغربا ولا عشاء حتى كشفهم الله تعالى، فرجعوا متفرّقين إلى منازلهم وعسكرهم، وانصرف المسلمون إلى قبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقام أسيد بن حضير على الخندق فى مائتين من المسلمين، وكرّ خالد بن الوليد فى خيل من المشركين يطلبون غرّة من المسلمين فناوشوهم ساعة ومع المشركين وحشىّ، فزرق الطفيل بن النعمان بمزراقة فقتله وانكشفوا، وصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قبّته فأمر بلالا فأذّن وأقام للظهر فصلّى، ثم بعد(17/174)
ذلك لكل صلاة إقامة إقامة، وصلّى هو وأصحابه ما فاتهم من الصلوات، وقال:
«شغلونا عن الصلاة الوسطى- صلاة العصر- ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا» .
ولم يكن لهم بعد ذلك قتال جميعا حتى انصرفوا، إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل طمعا فى الغرّة، قال: وحصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بضع عشرة ليلة. وقال ابن إسحاق: أقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن هلال بن حلاوة «1» بن الأشجع ابن ريث بن غطفان أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنى قد أسلمت، وإن قومى لم يعلموا بإسلامى، فمرنى بما شئت؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل «2» عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» . فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بنى قريظة، وكان لهم نديما فى الجاهلية، فقال:
يا بنى قريظة، قد عرفتم ودّى إياكم، وخاصّة ما بينى وبينكم؛ قالوا: صدقت، لست عندنا بمتّهم؛ فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم؛ البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تجلوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة «3» أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم «4» ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا «5» من أشرافهم، ليكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه؛ قالوا: لقد أشرت علينا بالرأى. ثم خرج حتى أتى قريشا،(17/175)
فقال لأبى سفيان ومن معه: قد عرفتم ودّى لكم وفراقى محمّدا، وإنه قد بلغنى أمر قد رأيت منه علىّ حقا أن أبلّغكموه نصحا لكم، فاكتموا عنى؛ قالوا:
نفعل؛ فما هو؟ قال: تعلّموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ [لك «1» ] من القبيلتين: قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم، ونعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أهلى وعشيرتى، وأحبّ الناس إلىّ، ولا أراكم تتّهمونى «2» ؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم؛ قال: فاكتموا عنى؛ قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثلما قال لقريش، وحذّرهم ما حذّرهم. فلما كانت ليلة السبت أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل، فى نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخفّ والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ فيما بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم:
إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذى نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى تناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم «3» الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا «4» إلى بلادكم وتتركونا، والرجل فى بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش(17/176)
وغطفان: والله إن الذى حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بنى قريظة:
إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا؛ فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذى ذكر لكم نعيم ابن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم، وقال أبو سفيان:
ألا أرانى أستعين بإخوة القردة والخنازير! فوقع الاختلاف والخذلان بينهم، وبعث الله عزّ وجلّ عليهم ريحا فى ليلة شاتية شديدة البرد، فكفأت القدور وطرحت الأبنية.
فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما وقع بينهم من الاختلاف أرسل حذيفة بن اليمان إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. قال حذيفة: دعائى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل فى القوم فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثنّ شيئا. فذهبت فدخلت فيهم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذى كان إلى جنبى، فقلت:
من أنت؟ فقال: فلان ابن فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع «1» والخفّ، وأخلفنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقينا من شدة الرّيح ما ترون، فارتحلوا فإنّى مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلىّ ألّا أحدث شيئا(17/177)
حتى آتيه، ثم لو «1» شئت، لقتلته بسهم. قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته الخبر. وسمعت غطفان ما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم وأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانصرف راجعا إلى المدينة والمسلمون ووضعوا السلاح. وكان شعار المسلمين فى غزوة الخندق ((حم لا ينصرون)) .
ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عن الخندق قال لأصحابه:
لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنّكم تغزوهم «2» . فكان كذلك.
قال ابن سعد: وكانت مدّة الحصار خمس عشرة ليلة، وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسبع ليال بقين من ذى القعدة سنة خمس. وقد ذكرنا ما قاله غيره فى ذلك.
ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة الخندق ومن قتل من المشركين
قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى: واستشهد من المسلمين فى غزوة الخندق أنس بن أوس بن عتيك من بنى عبد الأشهل، قتلة خالد بن الوليد؛ وعبد الله بن سهل «3» الأشهلىّ، وثعلبة بن عنمة بن عدىّ، قتله هبيرة بن أبى وهب؛ وكعب بن زيد(17/178)
من بنى دينار، قتله ضرار بن الخطّاب. وسعد «1» بن معاذ مات من جراحة بعد بنى قريظة، والطّفيل بن النعمان بن جشم.
وقتل من المشركين أربعة نفروهم: عثمان بن أمية بن منبّه بن عبيد بن السبّاق من بنى عبد الدار بن قصىّ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، وعمرو بن عبد ودّ، ويقال: وابنه حسل بن عمرو، قتلهما على بن أبى طالب رضى الله عنه.
ذكر ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة الخندق وما ورد فى تفسير ذلك
أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- فى أمر الخندق والأحزاب قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)
قال أبو إسحاق أحمد ابن محمد بن إبراهيم الثعلبى رحمه الله: قوله: ( «إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ» )
يعنى الأحزاب:
قريش وغطفان ويهود قريظة والنّضير. ( «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً» ) *
قال: وهى الصّبا «2» .
قال عكرمة: قالت الجنوب للشّمال ليلة الأحزاب: انطلقى بنصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت الشّمال: إن الحرّة «3» لا تسرى بالليل؛ وكانت الريح التى أرسلت(17/179)
عليهم الصّبا، قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» . قوله: «وجنودا لم تروها» هى الملائكة، ولم تقاتل يومئذ، قال المفسرون: بعث الله تعالى عليهم باللّيل ريحا باردة، وبعث الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطّعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها فى بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة فى جوانب عسكرهم حتى كان سيد كلّ حىّ يقول: يا بنى فلان، هلّم [إلى؛ فإذا اجتمعوا عنده قال: النّجاء النّجاء، أتيتم. لما بعث الله عليهم من الرعب، فانهزموا من غير قتال «1» ] .
قوله تعالى: (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)
قال: قوله: ( «إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ» )
يعنى من فوق الوادى من قبل المشرق، عليهم مالك بن عوف النّصرىّ، وعيينة ابن حصن الفزارى فى ألف من غطفان، ومعهم طليحة بن خويلد الأسدى فى بنى أسد، وحيّى بن أخطب فى يهود بنى قريظة. ( «وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» )
يعنى من بطن الوادى من قبل المغرب، وهو أبو سفيان بن حرب فى قريش ومن تبعه، وأبو الأعور السّلمى من قبل الخندق. وقال ابن إسحاق: الذين جاءوا من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوا من أسفل منهم قريش وغطفان. ( «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ» )
أى مالت وشخصت ( «وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» )
زالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع. ( «وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» )
قال: أما المنافقون فظنوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه سيغلبون ويستأصلون، وأما المؤمنون فأيقنوا أن ما وعدهم الله حقّ، وأنه سيظهر دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون.(17/180)
قوله تعالى: (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً)
قال: أى اختبروا ومحّصوا، ليعرف المؤمن من المنافق «وزلزلوا» : حرّكوا وخوّفوا «زلزالا» تحريكا «شديدا» .
قوله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)
قال: يعنى معتّب بن قشير وأصحابه ( «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» ) *
أى شكّ وضعف اعتقاد. وقد قدّمنا فى أخبار المنافقين ما تكلم به معتّب بن قشير فى هذه الغزوة.
قوله تعالى: (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً)
. ( «قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ» )
أى من المنافقين: وهم أوس بن قيظىّ وأصحابه؛ قال مقاتل: هم بنو سالم. قال ابن عباس رضى الله عنهما: قالت اليهود لعبد الله بن أبىّ وأصحابه من المنافقين: ما الذى يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان وأصحابه! فارجعوا إلى المدينة. (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ)
فى الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة بن الحارث (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ)
أى خالية ضائعة، وهى مما يلى العدوّ، وإنا لنخشى عليها العدوّ والسّرّاق، قال: وقرأ ابن عباس وأبو رجاء العطاردىّ «عورة» بكسر الواو، يعنى قصيرة الجدران فيها خلل وفرجة. وأخبر تعالى أنها ليست بعورة، إن يريدون إلا الفرار.
قوله تعالى: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها «1» وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً)
قال: يقول: لو دخل عليهم هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم المدينة (مِنْ أَقْطارِها)
جوانبها ونواحيها (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ)
الشرك «لأتوها» أى لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وكفروا (وَما تَلَبَّثُوا)
وما احتبسوا(17/181)
عن الفتنة (إِلَّا يَسِيراً)
ولأسرعوا إلى الإجابة إليها طيبة بها أنفسهم، قال: هذا قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن والفرّاء: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى هلكوا.
قوله تعالى: (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا)
قال: (عاهَدُوا اللَّهَ) *
أى من قبل غزوة الخندق «لا يولّون» عدوّهم «الأدبار» قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة همّوا يوم أحد أن يفشلوا مع بنى سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألّا يعودوا لمثلها، فذكر الله لهم الذى أعطوه من أنفسهم.
وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر، ورأوا ما أعطى الله تعالى أهل بدر من الكرامة والفضيلة، فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ. فساق الله تعالى ذلك إليهم فى ناحية المدينة.
وقال مقاتل والكلبى: هم السبعون رجلا الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة وقالوا له: اشترط لربك ولنفسك ما شئت؛ فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «اشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وأموالكم» . قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله؟ قال: «لكم النصر فى الدنيا والجنة فى الآخرة» . قالوا: قد فعلنا.
فذلك عهدهم (وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا)
أى عنه.
قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا)
قال «1» : أى الذى كتب عليكم «2» (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا)
إلى آجالكم، والدنيا كلّها قليل.(17/182)
قوله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً)
أى نصرة (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) *.
قوله تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا)
قال: «المعوّقين» المثبطين منكم للناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا) ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ)
الحرب (إِلَّا قَلِيلًا) *
دفعا وتعذيرا.
قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة «1» رأس، ولو كانوا لحما لألتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنه هالك. وقال مقاتل: نزلت فى المنافقين، وذلك أن اليهود أرسلوا إلى المنافقين وقالوا: ما الذى يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان ومن معه! فإنهم إن قدروا عليكم هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا، وإنا لنشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا، هلمّ إلينا. فأقبل عبد الله بن أبىّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبى سفيان ومن معه، وقالوا: ما ترجون من محمد؟ فو الله ما يرفدنا «2» بخير، وما عنده خير، ما هو إلا [أن «3» ] يقتلنا هاهنا، انطلقوا إلى إخواننا وأصحابنا. يعنى اليهود، فلم يزدد «4» المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا.
وقال ابن زيد: لما كان يوم الأحزاب انطلق رجل من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد أخاه، بين يديه شواء ورغيف ونبيذ، فقال: أنت هاهنا فى الشواء والرغيف والنبيذ ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الرماح والسيوف! فقال: هلم إلى هذا، والذى يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا؛ فقال: كذبت والذى(17/183)
يحلف به- وكان أخاه من أبيه وأمه- أما والله لأخبرن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أمرك. فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخبره، فوجده قد نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية.
قوله تعالى: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً)
قال: «أشحّة» بخلاء «عليكم» بالخير والنفقة فى سبيل الله، وصفهم الله تعالى بالجبن والبخل (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ)
في رءوسهم من الخوف والجبن، أى كدوران [أعين «1» ] الذى يغشى عليه من الموت (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ)
أى عضوكم ورموكم بألسنة حداد ذربة «2» ، وأصل السلق: الضرب.
قال قتادة: يعنى بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسم الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا، فإنا قد شهدنا معكم القتال، ولستم بأحق بالغنيمة منا؛ وأما عند الغنيمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق. (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ)
يعنى الغنيمة (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) .
قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا)
يعنى هؤلاء يحسبون الجماعات لم ينصرفوا عن قتالهم، وقد انصرفوا جبنا منهم وفرقا (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ)
أى يرجعوا إليهم كرّة ثانية (يَوَدُّوا)
من الخوف والجبن (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ)
أى خارجون إلى البادية (فِي الْأَعْرابِ)
أى معهم (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ)
أى يسأل بعضهم بعضا عن أخباركم، وما آل إليه أمركم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا)
يعنى رياء من غير حسبة، ولو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيرا.(17/184)
ثم قال تعالى مشيرا إلى المؤمنين: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً)
قال:
قوله: (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) *
أى سنّة صالحة، [أن «1» ] تنصروه وتؤازروه، ولا تتخلّفوا عنه، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه وعن مكان نصرته كما فعل هو، إذ كسرت رباعيته وجرح، وقتل عمّه حمزة، وأوذى بضروب الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم أيضا كذلك، واستنّوا «2» بسنّته (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)
أى فى الرخاء والبلاء، ثم ذكر المؤمنين بوعود الله تعالى، فقال: (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ)
الآية، قال: ووعد الله إيّاهم قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) .
قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)
قال: قوله: «صدقوا» أى وفوا به.
(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ)
يعنى فرغ من نذره ووفى بعهده وصبر على الجهاد حتى استشهد. والنحب: النذر، والنحب أيضا: الموت، قال ذو الرمّة:
عشيّة فرّ الحارثيّون بعد ما ... قضى نحبه فى ملتقى القوم هوبر «3»(17/185)
أى مات، قال مقاتل: قضى نحبه، أى أجله، فقتل على الوفاء، يعنى حمزة وأصحابه الذين استشهدوا بأحد، رضوان الله عليهم. وقيل: قضى نحبه، أى بذل جهده فى الوفاء بعهده، من قول العرب: نحب فلان فى سيره يومه وليلته؛ إذ مدّ فلم ينزل، قال جرير:
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا ... عشيّة بسطام جرين على نحب «1»
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)
قال ابن إسحاق: ينتظر ما وعد الله به من نصره، والشهادة على [ما «2» ] مضى عليه أصحابه. (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)
أى ما شكّوا وما تردّوا فى دينهم، وما استبدلوا به غيره.
ثم قال تعالى: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً)
يعنى قريشا وغطفان (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ)
أى بالملائكة والريح (وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً)
، وبيده الفضل والمنة.
ذكر غزوة بنى قريظة
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة سنة خمس من مهاجره.
وقال ابن إسحاق: فى شوّال منها.
قال محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد، دخل حديث بعضهما فى بعض، قالا:
لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخندق إلى المدينة هو والمسلمون،(17/186)
ووضعوا السلاح، فلما كانت الظهر أتى جبريل- عليه السلام- النبىّ صلّى الله عليه وسلّم معتجرا «1» بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها رحالة «2» عليها قطيفة من ديباج، فقال:
أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم؛ قال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت إلا من طلب القوم: إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير «3» إلى بنى قريظة، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا فأذّن فى الناس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم ألّا تصلّوا العصر إلّا فى بنى قريظة. واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا، فأعطاه لواءه، وقدّمه إلى بنى قريظة، فسار [علىّ «4» ] حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجع حتى لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث؛ قال: أظنّك سمعت منهم لى أذى؛ قال: نعم يا رسول الله؛ قال: لو رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصونهم قال لهم: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟
قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولا. ثم نزل صلّى الله عليه وسلّم على بئر من آبار بنى قريظة من ناحية أموالهم يقال لها: بئر أنّا؛ ويقال: بئر أنّى «5» ؛ وتلاحق به الناس، فأتى رجال من بعد العشاء «6» الآخرة لم يصلّوا العصر لقول رسول الله صلّى الله عليه(17/187)
وسلّم. لا يصلّين أحد العصر إلا ببنى قريظة. فشغلهم ما لم يكن منه بدّ فى حربهم وأبوا أن يصلّوا لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يأتوا بنى قريظة، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، وتخوّف ناس فوت الصلاة فصلّوا، فما عنّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا من الفريقين، ولا عابهم الله تعالى فى كتابه.
قال: وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم فى المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، فحاصرهم خمسة عشر يوما. قاله ابن سعد.
وقال ابن إسحاق: خمسا وعشرين ليلة أشد حصار حتى جهدهم الحصار، وقذف الله فى قلوبهم الرعب. وكان حيىّ بن أخطب دخل مع بنى قريظة فى حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد، فلما أيقنوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم:
يا معشر يهود، قد نزل بكم ما ترون، وإنى عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيّها شئتم، قالوا: وما هى؟ قال: نتابع هذا الرجل [و «1» ] نصدّقه، وفو الله لقد تبين لكم أنه نبىّ مرسل، وأنه الذى تجدونه فى كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم؛ قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره؛ قال: فإذا أبيتم هذه فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبينه، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمرى لنجدنّ النساء والأبناء؛ قالوا:
نقتل هؤلاء المساكين! فما خير العيش «2» بعدهم؟ قال: فإذا أبيتم علىّ هذه فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب من محمد وأصحابه غرّة؛ قالوا: تفسد علينا سبتنا، وتحدث فيه ما لم يحدث(17/188)
من كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؛ قال: ما بات منكم رجل منذ ولدته أمّه ليلة [واحدة «1» ] من الدهر حازما. ثم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ابعث إلينا أبا لبابة «2» بن عبد المنذر لنستشيره فى أمرنا؛ فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش «3» إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه، فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. وأشار بيده إلى حلقه، أى إنه الذبح، قال أبو لبابة: فو الله ما زلّت «4» قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده، وقال:
لا أبرح مكانى هذا حتى يتوب الله علىّ. قال: فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره وكان قد استبطأه قال: أما لو كان جاءنى لأستغفرت له، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه. فأنزل الله تعالى فيه: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
. قالت أم سلمة رضى الله عنها: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من السّحر وهو يضحك، فقلت: ممّ تضحك أضحك الله سنك يا رسول الله؟.
قال: تيب على أبى لبابة. قالت: فقلت: أفلا أبّشره يا رسول الله؟ قال:
بلى، إن شئت. فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله، حتى يكون رسول الله هو الذى يطلقنى بيده؛ فلما مرّ عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.(17/189)
قال ابن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطا فى الجذع ستّ ليال، تأتيه امرأته فى كلّ وقت صلاة، فتحلّه للصلاة، ثم تعود فتربطه.
هذا ما كان من أمر أبى لبابة؛ وأما يهود فإن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد «1» بن عبيد، وهم نفر من هدل، قال ابن إسحاق: ليسوا من بنى قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم، أسلموا فى الليلة التى نزل بنو قريظة فى صبيحتها على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظىّ فمرّ بحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه محمد بن مسلمة، فلما رآه قال: من هذا؟ قال: أنا عمرو بن سعدى- وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة فى غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: لا أغدر بمحمد أبدا- فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمنى عثرات «2» الكرام؛ ثم خلّى سبيله، فخرج على وجهه، فلم يدر أين توجّه من الأرض إلى آخر الدهر، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ذاك رجل نجّاه الله بوفائه؛ ومنهم من يزعم أنه أوثق. والله أعلم.
ذكر نزول بنى قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسؤال الأوس فيهم؛ وتحكيم سعد بن معاذ وحكمه فيهم بحكم الله تعالى وقتلهم
قال: ولما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت(17/190)
فى موالى إخواننا بالأمس ما قد علمت. يعنون بنى قينقاع لما أطلقهم «1» صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن أبىّ بن سلول «2» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى؛ قال: فذاك سعد بن معاذ. وكان سعد فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى خيمة لامرأة من أسلم يقال لها: رفيدة، كانت تداوى الجرحى محتسبة، فأتاه قومه فحملوه على حمار، ووطّئوا له بوسادة من أدم، ثم أتوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم يقولون له: يا أبا عمرو، أحسن فى مواليك، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما ولّاك «3» ذلك لتحسن فيهم؛ فلما أكثروا عليه قال: لقد أنى لسعد ألا تأخذه فى الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه [من قومه «4» ] إلى دار بنى عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بنى قريظة قبل أن يصل إليهم سعد، لكلمته التى سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيّدكم» . فأما المهاجرون من قريش فيقولون:
إنما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار؛ والأنصار يقولون: قد عمّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم؛ فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم؛ قال: وعلى من هاهنا؟
فى الناحية التى فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم؛ قال سعد:
فإنى أحكم فيهم أن نقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذرارىّ «5» والنساء. فقال(17/191)
له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة «1» أرقعة.
أى من فوق سبع سموات، ويقال: إن اليهود سألوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.
والله تعالى أعلم.
قال: ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة يوم الخميس لسبع خلون من ذى الحجة، وأمر بهم فأدخلوا «2» المدينة، فحبسهم فى دار بنت الحارث امرأة من بنى النجار، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق المدينة، فحفر بها خنادق، وجلس هو وأصحابه وبعث إليهم فأخرجوا إليه أرسالا «3» ، فضربت أعناقهم، وفيهم حيىّ بن أخطب، وكعب بن أسد، واختلف فى عددهم فقيل: كانوا ستمائة أو سبعمائة. وقيل: بين الثمانمائة والتسعمائة؛ قال: وقالوا لكعب بن أسد، وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالا:
يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفى كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعى لا ينزع، وأنه من ذهب [به «4» ] منكم لا يرجع؟ هو والله القتل! قال: وأتى بحيىّ ابن أخطب، وعليه حلّة [له «5» ] فقّاحية «6» قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة، لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل، ثم أقبل(17/192)
على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بنى إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوّال الثعلبىّ:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... وقلقل «1» يبغى العزّ كلّ مقلقل
وروى محمد بن إسحاق بسند يرفعه إلى عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أنها قالت:
لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة. قالت: والله إنها لعندى تحدّث معى، وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقتل رجالها فى السوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله؛ قلت لها: ويلك! مالك؟ قالت: أقتل؛ قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته؛ قالت: فانطلق بها، فضربت «2» عنقها، فكانت عائشة تقول: والله ما أنسى عجبا منها، طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل. قال الواقدىّ: واسم تلك المرأة: بنانة «3» امرأة الحكم القرظىّ؛ وكانت قتلت خلّاد بن سويد، طرحت عليه رحىّ، فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنقها بخلاد بن سويد. قال: وكان علىّ بن أبى طالب والزبير بن العوّام رضى الله عنهما يضربان أعناق بنى قريظة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس هناك.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهرى أن الزّبير بن باطا القرظىّ، وكان يكنى أبا عبد الرحمن- وكان قد منّ على ثابت بن قيس بن شمّاس فى الجاهليّة [يوم بعاث «4» ] أخذه فجزّ ناصيته ثم خلّى سبيله- فجاءه «5» ثابت يوم قريظة، وهو شيخ كبير فقال:(17/193)
يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفنى؟ فقال: وهل يجهل مثلى مثلك؛ قال: إنى قد آن أن أجزيك بيدك عندى؛ قال: إنّ الكريم يجزى الكريم؛ ثم أتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، قد كانت للزبير عندى يد، وله علىّ منّة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لى دمه؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هو لك؛ فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد وهب لى دمك؛ قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أهله وولده؛ قال: هم لك. فأتاه فقال:
إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أعطانى امرأتك وولدك، فهم لك؛ قال:
أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ما له؛ فقال: هو لك؛ فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أعطانى مالك فهو لك؛ قال: أى ثابت، ما فعل الذى كأنّ وجهه مرآة صينية يتراءى فيه «1» عذارى الحىّ، كعب بن أسد؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل سيّد الحاضر والبادى حيىّ بن أخطب؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل مقدّمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا كررنا «2» ، عزّال بن سموءل «3» ؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل المجلسان؟ يعنى بنى كعب بن قريظة، وبنى عمرو بن قريظة؛ قال: ذهبوا وقتلوا؛ قال: فإنى أسألك بيدى عندك «4» يا ثابت إلا ألحقتنى بالقوم، فو الله ما فى العيش(17/194)
بعد هؤلاء من خير، وما أنا بصابر لله قبلة «1» دلو ناضح حتى ألقى الأحبّة. فقدّمه ثابت فضرب عنقه. فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله «ألقى الأحبة» قال: يلقاهم والله فى نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا.
وفى هذه الواقعة يقول ثابت بن قيس:
وفت ذمّتى أنّى كريم وأننى ... صبور إذا ما القوم حادوا «2» عن الصبر
وكان زبير أعظم الناس منّة ... علىّ فلمّا شدّ كوعاه «3» بالأسر
أتيت رسول الله كيما أفكّه ... وكان رسول الله بحرا لنا يجرى
قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بقتل من أنبت منهم؛ فسألته سلمى بنت قيس بن المنذر أخت سليط بن قيس- وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت قد صلّت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء- على رفاعة بن سموءل القرظىّ، وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفها، فقالت: يا نبى الله، بأبى أنت وأمّى، هب لى رفاعة بن سموءل، فإنه قد زعم أنه سيصلى ويأكل لحم الجمل. فوهبه لها، فاستحيته.
قال: ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغنائم فجمعت، فاصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء عمرو بن قريظة، ثم أخرج الخمس من(17/195)
المتاع والسبى، ثم أمر بالباقى فبيع فيمن يزيد وقسمه بين المسلمين، وكانت السّهمان على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما، للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، وصار الخمس إلى محمية «1» بن جزء الزبيدى، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتق منه، ويهب، ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرّثّة، وهى السّقط من متاع البيت.
وقال محمد بن إسحاق: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن زيد الأنصارىّ أحد بنى عبد الأشهل بسبايا من سبايا بنى قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلا وسلاحا.
واستشهد يوم بنى قريظة من المسلمين: خلّاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الأنصارى الخزرجى، طرحت عليه رحى فشدخته شدخا شديدا، ومات أبو سنان ابن محصن بن حرثان، أخو بنى أسد بن خزيمة.
وأنزل الله عزّ وجل فى شأن بنى قريظة قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)
قال قوله: (الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ)
يعنى قريظة ظاهروا قريشا وغطفان (مِنْ صَياصِيهِمْ
أى حصونهم ومعاقلهم، واحدتها صيصية (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ
وهم الرجال (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً)
وهم النساء والذرارىّ (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها)
قال يزيد بن رومان [وابن «2» ](17/196)
زيد ومقاتل: يعنى خيبر. وقال قتادة: كنا نحدث أنها مكة. وقال الحسن:
فارس والروم. وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
ذكر سرية عبد الله بن عتيك إلى أبى رافع سلّام ابن أبى الحقيق النضرىّ بخيبر
قال محمد بن سعد فى طبقاته: كانت فى شهر رمضان سنة ستّ من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ابن إسحاق: كانت هذه السريّة بعد غزوة بنى قريظة. فتكون فى ذى الحجة سنة خمس من الهجرة، وهو الصحيح إن شاء الله، ويدلّ عليه أن محمد بن سعد لما ذكر عبد الله بن عتيك فى الطبقات قال فى ترجمته: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه فى ذى الحجة سنة خمس إلى أبى رافع سلّام بن أبى الحقيق بخيبر.
قال محمد بن إسحاق: لما أصابت الأوس كعب بن الأشراف قالت الخزرج:
والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا. فتذاكروا: من رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبى الحقيق، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قتله، فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج خمسة نفر، وهم: عبد الله ابن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعى، وخزاعىّ «1» بن أسود، حليف لهم من أسلم.
قالوا «2» : وكان أبو رافع بن أبى الحقيق قد أجلب فى غطفان ومن حوله من مشركى العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،(17/197)
فأمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، فخرجوا حتى قدموا خيبر فكمنوا، فلما هدأت الرّجل جاءوا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدّموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهوديّة، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهديّة. ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فعلوه بأسيافهم «1» ، قال ابن أنيس: وكنت رجلا أعشى لا أبصر، فاتكأت بسيفى على بطنه حتى سمعت خشّة فى الفراش، وعرفت أنه [قد «2» ] قضى، وجعل القوم يضربونه جميعا، ثم نزلوا وصاحت امرأته، فتصايح أهل الدار. قال ابن إسحاق: وكان عبد الله بن [عتيك «3» ] سيئ البصر، فوقع من الدرجة فوثئت «4» يده وثئا شديدا، قال ابن هشام: ويقال:
رجله؛ قالوا: فحملناه حتى أتينا منهرا من عيونهم- والمناهر؛ واحدتها منهرة، وهو فضاء يكون بين أفنية القوم يلقون فيها كناستهم- فدخلنا فيه.
قال محمد بن سعد: وخرج الحارث أبو زينب فى ثلاثة آلاف فى آثارهم يطلبونهم بالنيران، فلم يروهم، فرجعوا، ومكث القوم فى مكانهم يومين حتى سكن الطلب. قال ابن إسحاق: فقلنا: فكيف لنا أن نعلم بأن عدوّ الله قد مات؟ فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل فى الناس، فوجده ورجال من يهود حوله، وامرأته فى يدها مصباح تنظر فى وجهه وتحدّثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت [نفسى «5» ] وقلت: ابن عتيك بهذه البلاد!(17/198)
ثم أقبلت تنظر فى وجهه وتقول «1» : فاظ «2» وإله يهود. قال: فما سمعت كلمة كانت ألذّ فى نفسى منها؛ وجاءنا فأخبرهم بالخبر، قالوا: فاحتملنا صاحبنا، وقدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرناه بقتل عدوّ الله، واختلفنا عنده فى قتله، كلنا يدّعيه، فقال: هاتوا أسيافكم. فجئناه بها، فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله ابن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.
قال الشيخ شرف الدين [عبد المؤمن «3» ] بن خلف الدّمياطى رحمه الله فى سيرته:
وفى حديث آخر أن الذى قتله عبد الله بن عتيك وحده، قال: وهو الصواب.
والله أعلم.
وقال حسان بن ثابت الأنصارىّ فى قتل سلام بن أبى الحقيق وابن الأشرف:
لله درّ عصابة لاقيتهم ... يابن الحقيق وأنت يا بن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد فى عرين مغرف «4»
حتى أتوكم فى محلّ دياركم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفّف «5»
مستنصرين «6» لنصر دين نبيّهم ... مستصغرين لكلّ أمر مجحف «7»(17/199)
ذكر سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء، وهم بنو قرط وقريط من بنى كلاب
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعشر خلون من المحرم، على رأس تسعة وخمسين شهرا من مهاجره فى ثلاثين راكبا إلى القرطاء «1» ، وهم ينزلون بناحية ضرية «2» وبين ضريّة والمدينة سبع ليال، فقتل نفرا منهم، وهرب سائرهم، واستاق نعما وشاء، ولم يعرض للظّعن، وانحدر إلى المدينة، فخمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما جاء به، وفضّ ما بقى على أصحابه، فعدلوا الجزور بعشرين من الغنم، وكانت النعم مائة وخمسين بعيرا، والغنم ثلاثة آلاف شاة. وغاب سبع عشرة ليلة، وقدم لليلة بقيت من المحرّم.
ذكر غزوة بنى لحيان بناحية عسفان «3»
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ست من مهاجره على ما أورده محمد بن سعد. وقال محمد بن إسحاق: فى جمادى الأولى سنة ست.
وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد على عاصم بن ثابت وأصحابه- أصحاب الرّجيع- وجدا شديدا، فأظهر أنه يريد الشام.
قال ابن سعد: وعسكر لغرّة هلال شهر ربيع الأوّل فى مائتى رجل، معهم عشرون فرسا، واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، ثم أسرع المسير حتى انتهى إلى بطن غران، وبينها وبين عسفان خمسة أميال، حيث كان مصاب.(17/200)
أصحابه، فترحّم عليهم ودعا لهم، فسمعت [بهم «1» ] بنو لحيان، فهربوا «2» في رءوس الجبال فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين، فبعث السرايا فى كلّ ناحية، فلم يقدروا على أحد، ثم خرج حتى أتى عسفان، ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وهو يقول: «آيبون تائبون عابدون، لربّنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر فى الأهل والمال» . وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة.
ذكر غزوة الغابة، وهى غزوة ذى «3» قرد وهى على بريد من المدينة فى طريق الشام
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ست من مهاجره.
قالوا: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرون لقحة «4» ترعى بالغابة، وكان أبو ذرّ فيها، فأغار عيينة بن حصن ليلة الأربعاء فى أربعين فارسا فاستاقوها وقتلوا ابن أبى ذرّ.
وقال محمد بن إسحاق: وكان فيهم رجل من غفار وامرأة [له «5» ] ، فقتلوا الرجل وحملوا المرأة [فى اللقاح «6» ] . وجاء الصّريخ، فنودى: الفزع الفزع! فنودى:(17/201)
«يا خيل الله اركبى» ؛ وكان أوّل ما نودى بها؛ وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج غداة الأربعاء، فكان أوّل من أقدم المقداد بن عمرو، وعليه الدرع والمغفر شاهرا سيفه، فعقد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء فى رمحه، وقال: امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك. واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وخلّف سعد بن عبادة فى ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة. قال المقداد: فخرجت فأدركت أخريات العدوّ، وقد قتل أبو قتادة الحارث بن ربعىّ حبيب بن عيينة بن حصن، وغشّاه برده، فلما أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، فرأوا حبيبا مسجّى «1» ببرد أبى قتادة [فاسترجع «2» الناس، وقالوا: قتل أبو قتادة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس بأبى قتادة] ، ولكنه قتيل لأبى قتادة وضع عليه برده، لتعرفوا أنه صاحبه.
وقال ابن سعد: إن الذى قتل حبيبا هو المقداد بن عمرو، قتله وقتل قرفة «3» بن مالك بن حذيفة بن بدر؛ وإن أبا قتادة قتل مسعدة، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسه وسلاحه، وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا «4» وابنه عمرو بن أوبار، وهما على بعير واحد، فقتلهما. واستشهد من المسلمين يومئذ محرز بن نضلة، قتله مسعدة، وأدرك سلمة «5» بن الأكوع القوم وهو على رجليه، فجعل يراميهم بالنبل ويقول:
خذها وانا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرّضّع «6»(17/202)
حتى انتهى إلى ذى قرد- وهى ناحية خيبر ممّا يلى المستناخ- قال سلمة: فلحقنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس والخيول عشاء، فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش، فلو بعثتنى فى مائة رجل استنقذت ما فى أيديهم من السرح «1» ، وأخذت بأعناق القوم. فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «ملكت فأسجح «2» » ؛ ثم قال: «إنهم الآن ليقرون «3» في غطفان» . وذهب الصريخ إلى بنى عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد فلم تزل الخيل تأتى والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذى قرد، فاستنفذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقى، وهى عشرة، وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذى قرد صلاة الخوف، وأقام يوما وليلة يتحسّس الخبر، وقسم فى كلّ مائة من أصحابه جزورا ينحرونها، وكانوا خمسمائة، وقيل: سبعمائة.
ذكر سرية عكاشة بن محصن الأسدىّ إلى الغمر غمر «4» مرزوق، وهو ماء لبنى أسد على ليلتين من فيد
قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عكاشة بن محصن إلى الغمر فى أربعين رجلا، فخرج سريعا، فنذر «5» به القوم فهربوا، فنزلوا عليا بلادهم، ووجدوا دارهم خلوفا «6» ، فبعث عكاشة شجاع بن وهب طليعة، فرأى أثر النعم، فتحمّلوا فأصابوا ربيئة «7»(17/203)
لهم، فأمّنوه، فدلّهم على نعم لبنى عمّ له، فأغاروا عليها فاستاقوا مائتى بعير، وأرسلوا الرجل، وحدروا «1» النعم إلى المدينة، وقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يلقوا كيدا.
ذكر سرية محمد بن مسلمة إلى بنى ثعلبة بذى القصّة
قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محمد بن مسلمة إلى بنى ثعلبة، وهم بذى القصّة فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ من مهاجره، وبين ذى القصة وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، طريق الرّبذة، بعثه فى عشرة نفر فوردوا عليهم [ليلا «2» ] فأحدق به القوم وهم مائة رجل، فتراموا ساعة من الليل، ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم، ووقع محمد بن مسلمة جريحا، يضرب كعبه فلا يتحرك، وجردوهم من الثياب، ومر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة فحمله حتى ورد به المدينة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة بن الجرّاح فى أربعين رجلا إلى مصارع القوم فلم يجدوا أحدا، ووجدوا نعما وشاء، فساقه ورجع.
ذكر سرية أبى عبيدة بن الجرّاح إلى ذى القصّة
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ من مهاجره فى أربعين رجلا من المسلمين، وسبب ذلك أن بلاد بنى ثعلبة وأنمار أجدبت، ووقعت سحابة بالمراض إلى تغلمين، والمراض على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، فسارت بنو محارب وثعلبة وأنمار إلى تلك السحابة، واجتمعوا أن يغيروا على سرح المدينة وهو يرعى بهيفا- موضع على سبعة أميال من المدينة- فبعث رسول الله(17/204)
صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة ومن معه حين صلّوا المغرب، فمشوا ليلتهم حتى وافوا ذا القصّة مع عماية «1» الصبح- وهى «2» موضع فى طريق العراق- فأغاروا عليهم فأعجزوهم هربا فى الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم فتركه، وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه ورثة «3» من متاعهم. وقدم المدينة بذلك، فخمسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقسم ما بقى عليهم.
ذكر سرية زيد بن حارثة إلى بنى سليم بالجموم
قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة فى شهر ربيع الآخر سنة ست من الهجرة إلى بنى سليم، فسار هو ومن معه حتى ورد الجموم- ناحية بطن نخل عن يسارها، وبطن نخل من المدينة على أربعة برد- فأصابوا عليه امرأة من مزينة يقال لها: حليمة؛ فدلّتهم على محلّة من محالّ بنى سليم، فأصابوا فيها نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنيّة، فلما قفل زيد بن حارثة بما أصاب وهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمزنيّة نفسها وزوجها، فقال بلال ابن الحارث المزنىّ فى ذلك:
لعمرك ما أخنى «4» المسول ولا ونت «5» ... حليمة حتى راح ركبهما معا(17/205)
ذكر سرية زيد بن حارثة إلى العيص لعير قريش
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الأولى سنة ستّ من مهاجره فى سبعين ومائة راكب إلى العيص- وبينها وبين المدينة أربع ليال، وبينها وبين ذى المروة ليلة- وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام، فبعثه ومن معه ليتعرض لها، فأخذوها وما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسروا ناسا ممّن كان فى العير، منهم أبو العاص بن الربيع، وقدم بهم المدينة، فاستجار أبو العاص بزينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأجارته، ونادت فى الناس حين صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفجر: إنى قد أجرت أبا العاص. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [ما علمت «1» بشىء من هذا] قد أجرنا من أجرت. ورد عليه ما أخذ «2» له كما تقدّم.
ذكر سرية زيد بن حارثة إلى الطّرف إلى بنى ثعلبة
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الآخرة سنة ستّ من مهاجره إلى الطّرف- وهو ماء قريب من المراض، دون النّخيل، على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، طريق البقرة على المحجّة- فخرج إلى بنى ثعلبة فى خمسة عشر رجلا فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبّح زيد بالنّعم المدينة، وهى عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال، وكان شعارهم «أمت أمت» .(17/206)
ذكر سرية زيد بن حارثة إلى حسمى، وهى وراء وادى القرى
قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة إلى حسمى فى جمادى الآخرة أيضا، وذلك أن دحية بن خليفة الكلبى أقبل من عند قيصر صاحب الروم حين بعثه إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتابه، وقد أجازه «1» وكساه، ومع دحية تجارة له، حتى إذا كان بواد يقال له: شنار أو شنان «2» ؛ أغار عليه الهنيد بن عارض، وقيل: [ابن «3» عوص؛ وابنه عارض بن الهنيد، وقيل:] عوص ابن الهنيد؛ الضّلعيّان «4» فى ناس من جذام بحسمى، فقطعوا عليه الطريق وأخذوا ما معه، فلم يتركوا عليه إلا سمل «5» ثوب، فسمع بذلك نفر من بنى الضّبيب-[رهط «6» رفاعة بن زيد ممن كان أسلم وأجاب- فنفروا إلى الهنيد وابنه، وفيهم من بنى الضّبيب] النعمان بن أبى جعال حتى لقوهم فاقتتلوا، وانتمى يومئذ قرّة بن أشقر الضّفارىّ «7» ثم الضّلعىّ، فقال: أنا ابن لبنى؛ ورمى النعمان بسهم فأصاب ركبته، وقال: خذها وأنا ابن لبنى؛ ولبنى أمّه، ثم استنقذوا لدحية متاعه، وقدم دحية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة فى خمسمائة رجل وردّ معه دحية، فكان زيد يسير الليل ويكمن النهار ومعه دليل من بنى عذرة، فأقبل بهم حتى هجم بهم مع الصبح على القوم، فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد(17/207)
وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم، فأخذوا ألف بعير وخمسة آلاف شاة ومن النساء والصبيان مائة، فرحل رفاعة «1» بن زيد الجذامى فى نفر من قومه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدفع إليه كتابه الذى كان كتب له ولقومه ليالى قدم عليه فأسلم، وقال: يا رسول الله، لا تحرّم علينا حلالا ولا تحلّ لنا حراما.
فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقال أبو يزيد بن عمرو: يا رسول الله، أطلق لنا من كان حيّا، ومن قتل فهو تحت قدمىّ هاتين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: صدق أبو يزيد؛ فبعث معهم عليّا إلى زيد بن حارثة يأمره أن يخلّى بينهم وبين حرمهم وأموالهم، فتوجّه علىّ رضى الله عنه، فلقى رافع بن مكيث الجهنى بشير زيد بن حارثة على ناقة من إبل القوم، فردها علىّ عليهم، ولقى زيدا بالفحلتين «2» - وهى بين المدينة وذى المروة- فأبلغه [أمر «3» ] رسول «4» الله صلّى الله عليه وسلّم، فرد عليهم كلّ ما كان أخذ منهم.
ذكر سرية زيد بن حارثة إلى وادى «5» القرى
قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد ابن حارثة إلى وادى القرى أميرا فى شهر رجب سنة ست من الهجرة. ولم يذكر غير ذلك.(17/208)
ذكر سريّة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة «1» الجندل
قال محمد بن سعد رحمه الله: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه فى شعبان سنة ست من مهاجره، فأقعده بين يديه وعمّه بيده وقال: اغز بسم الله، وقاتل «2» في سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، لا تغلّ «3» ولا تغدر، ولا تقتل وليدا. وبعثه إلى كلب «4» بدومة الجندل، وقال: إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم. فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبىّ، وكان نصرانيا وهو رأسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام منهم على إعطاء الجزية، وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ وقدم بها المدينة، وهى أم أبى سلمة «5» بن عبد الرحمن.
ذكر سرية على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى بنى سعد بن بكر بفدك
قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بن أبى طالب رضى الله عنه فى شعبان سنة ست من الهجرة إلى بنى سعد بن بكر بفدك فى مائة رجل، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار على رضى الله عنه بمن معه، فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى انتهى(17/209)
إلى الهمج «1» - وهو ماء بين خيبر وفدك، وبين فدك والمدينة ست ليال- فوجدوا به رجلا فسألوه عن القوم فقال: أخبركم على أن تؤمّنونى؟ فأمّنوه فدلّهم، فأغاروا عليهم فأخذوا خمسمائة بعير وألفى شاة، وهربت بنو سعد بالظّعن ورأسهم وبربن عليم، فعزل علىّ رضى الله عنه صفىّ «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
لقوحا تدعى الحفدة»
، ثم عزل الخمس وقسم الغنائم على أصحابه، وقدم المدينة ولم يلق كيدا.
ذكر سريّة زيد بن حارثة إلى وادى القرى وقتل أم قرفة
كانت هذه السرية فى شهر رمضان سنة ست من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن زيد بن حارثة خرج فى تجارة إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان دون وادى القرى لقيه ناس من فزارة من بنى بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم، ثم استبلّ «4» زيد بن حارثة، وقدم على النبى صلّى الله عليه وسلّم، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم. حكاه محمد بن سعد فى طبقاته.
وقال محمد بن إسحاق: إن الذى أصاب زيد بن حارثة كان عند غزوة وادى القرى، فإنه أصيب بها ناس من أصحابه، وارتثّ «5» زيد من بين القتلى، ولعل هذه السرية هى التى كانت فى شهر رجب من السنة.(17/210)
قال ابن سعد: فخرج زيد بن حارثة بمن معه فكمنوا النهار وساروا الليل، ونذرت «1» بهم بنو بدر، ثم صبّحهم زيد وأصحابه وكبّروا وأحاطوا بالحاضر «2» ، وأخذوا أم قرفة، وهى فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة ابن بدر، فكان الذى أخذ الجارية سلمة بن الأكوع، فوهبها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوهبها صلّى الله عليه وسلّم لحزن بن أبى وهب، قال: وعمد قيس ابن المحسّر إلى أم قرفة، وهى عجوز كبيرة، فربط بين رجليها حبلا، ثم ربطها بين بعيرين ثم زجرهما فذهبا فقطّعاها «3» ، وقتل النعمان وعبد الله ابنا مسعدة بن حكمة بن مالك ابن بدر، وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك، فقرع باب النبى صلّى الله عليه وسلّم فقام إليه عريانا يجر ثوبه حتى اعتنقه وقبله، وسأله فأخبره بما ظفّره الله به.
ذكر سريّة عبد الله بن رواحة إلى أسير «4» بن رزام «5» اليهودىّ بخيبر
كانت هذه السريّة فى شوال سنة ستّ من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنه لما قتل أبو رافع سلّام بن أبى الحقيق كما ذكرنا أمرت يهود عليها أسير بن رزام، فسار فى غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجه عبد الله بن رواحة فى ثلاثة نفر من المسلمين فى شهر رمضان سرا(17/211)
فسأل عن خبره وغرّته «1» ، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، فبعث عليهم عبد الله بن رواحة فقدموا على أسير فقالوا له: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؛ قال: نعم، ولى منكم مثل ذلك؛ قالوا: نعم؛ فقالوا له:
إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع أسير فى ذلك، فخرج وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود، مع كل رجل رديف «2» من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة «3» ثبار ندم أسير، قال عبد الله ابن أنيس- وكان فى السريّة: فأهوى بيده إلى سيفى، ففطنت له ودفعت بعيرى فقلت: غدرا أى عدوّ الله! فعل ذلك مرتين، فنزلت فسبقت القوم حتى انفردت إلى أسير فضربته بالسيف، فأندرت «4» عامة فخذه وساقه، وسقط عن بعيره وبيده مخرش «5» من شوحط «6» ، فضربنى به فشجّنى مأمومة «7» ، وملنا على أصحابه فقتلناهم كلهم غير رجل واحد أعجزنا شدّا، ولم يصب من المسلمين أحد، ثم أقبلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحدّثناه الحديث، فقال: قد نجاكم الله من القوم الظالمين.
وتفل صلّى الله عليه وسلّم على شجّة عبد الله بن أنيس فلم تقح ولم تؤذه.(17/212)
ذكر سريّة كرز بن جابر الفهرى إلى العرنيّين
كانت هذه السرية فى شوّال سنة ست من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: قدم نفر من عرينة ثمانية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا واستوبئوا «1» المدينة، فأمر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى لقاحه، وكانت ترعى بذى الجدر- ناحية قباء قريبا من عير، على ستة أميال من المدينة- فكانوا فيها حتى صحّوا وسمنوا، فعدوا على اللقاح فاستاقوها، فأدركهم يسار مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه نفر، فقاتلهم، فقطعوا يده ورجله وغرزوا الشّوك فى لسانه وعينيه حتى مات، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فبعث فى أثرهم عشرين فارسا، واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهرىّ، فأدركوهم فأحاطوا بهم وأسروهم «2» وربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغابة، فخرجوا بهم نحوه، فلقوه بالزّغابة «3» بمجتمع السّيول، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وصلبوا هنالك. وأنزل الله تعالى على رسوله:
(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)
. فلم يسمل بعد ذلك عينا، وكانت اللقاح خمس عشرة لقحة غزارا فردوها إلى المدينة، ففقد منها لقحة تدعى الحناء، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها، فقيل: نحروها.(17/213)
ذكر سرية عمرو بن أمية الضّمرىّ وسلمة بن أسلم إلى أبى سفيان بن حرب بمكة
قال محمد بن سعد فى طبقاته: وذلك أن أبا سفيان بن حرب قال لنفر من قريش: ألا أحد يغترّ «1» محمدا فإنه يمشى «2» في الأسواق؟ فأتاه رجل [من «3» الأعراب] فقال: قد وجدت أجمع الرجال قلبا، وأشدّه «4» بطشا، وأسرعه «5» شدّا، فإن أنت قوّيتنى خرجت إليه حتى أغتاله، ومعى خنجر مثل خافية «6» النسر؛ قال: أنت صاحبنا؛ فأعطاه بعيرا ونفقة، وقال: اطو أمرك؛ فخرج ليلا فسار على راحلته خمسا وصبّح ظهر الحرّة صبح سادسة، ثم أقبل فسأل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دلّ عليه، فعقل راحلته، ثم أقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو فى مسجد بنى عبد الأشهل، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن هذا ليريد غدرا» . فذهب ليجنى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجدبه أسيد بن الحضير بداخلة «7» إزاره، فإذا بالخنجر، فسقط «8» في يده، وقال: دمى دمى! وأخذ أسيد بلبّته فذعته «9» ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اصدقنى، ما أنت؟» قال: وأنا آمن؟
قال: نعم؛ فأخبره بخبره، فخلّى عنه صلّى الله عليه وسلّم.(17/214)
وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضمرىّ، وسلمة بن أسلم ابن أبى «1» حريس إلى أبى سفيان بن حرب، وقال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه؛ فدخلا مكة، ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبى سفيان فعرفه، وأخبر قريشا بمكانه، فخافوه وطلبوه، وكان فاتكا فى الجاهلية، وقالوا: لم يأت عمرو لخير؛ فحشد له أهل مكة وتجمعوا، فهرب عمرو وسلمة، فلقى عمرو عبيد الله ابن مالك بن عبد الله «2» التميمى [فقتله «3» ] وقتل آخرين من بنى الدّيل، سمعه يتغنى ويقول:
ولست بمسلم ما دمت حيّا ... ولست أدين دين المسلمينا
ولقى رسولين لقريش بعثتهما يتحسّسان الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر، [فقدم «4» به المدينة] فجعل يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله يضحك؛ هكذا حكى محمد بن سعد.
وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث عمرو بن أميّة الضّمرى، ومعه جبّار بن صخر الأنصارىّ، وذلك بعد مقتل خبيب بن عدىّ وأصحابه، قال: فخرجا حتى قدما مكة، وحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج «5» ، ثم دخلا مكة ليلا، فقال جبّار بن صخر لعمرو:
لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين؛ قال عمرو: فطفنا وصلينا، ثم خرجنا نريد أبا سفيان، فو الله إنا لنمشى بمكة إذ نظر إلىّ رجل فعرفنى، فقال: عمرو بن أمية، والله إن قدمها إلا لشرّ؛ فقلت لصاحبى: النجاء؛ فخرجنا نشتدّ حتى أصعدنا فى جبل، وخرجوا فى طلبنا، حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا، فدخلنا كهفا(17/215)
فى الجبل فبتنا، وقد رضمنا»
دوننا حجارة، فلما أصبحنا غدا رجل من قريش يقود فرسا له، فغشينا ونحن فى الغار، فقلت: إن رآنا صاح بنا فنؤخذ فنقتل؛ قال: فخرجت إليه فضربته على ثدييه «2» بخنجر كنت قد أعددته لأبى سفيان، فصاح صيحة أسمع أهل مكة، ورجعت فدخلت مكانى، وجاءه الناس يشتدّون وهو بآخر رمق، فقالوا: من ضربك؟ قال: عمرو بن أمية. ومات لوقته، ولم يدلّ علينا، فاحتملوه، فقلت لصاحبى لما أمسينا: النجاء؛ فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة، فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب، فقال أحدهم: والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية، لولا أنه بالمدينة لقلت هو عمرو؛ قال: فلما حاذى عمرو الخشبة شدّ عليها واحتملها، وخرجا شدّا، وخرجوا وراءه، حتى أتى جرفا بمهبط مسيل يأجج، فرمى بالخشبة فى الجرف، فغيّبه الله عنهم، فلم يقدروا عليه. قال عمرو: وقلت لصاحبى: النجاء، حتى تأتى بعيرك فتقعد عليه، فإنى سأشغل عنك القوم؛ قال: ومضيت حتى خرجت على ضجنان «3» ، ثم أويت إلى جبل فدخلت كهفا، فبينا أنا فيه إذ دخل علىّ شيخ من بنى الدّيل أعور، فى غنيمة له؛ فقال:
من الرجل؟ قلت: من بنى بكر، فمن «4» أنت؟ قال: من بنى بكر؛ فقلت:
مرحبا؛ فاضطجع، ثم رفع عقيرته فقال:
ولست بمسلم ما دمت حيّا ... ولست أدين دين المسلمينا(17/216)
فقلت فى نفسى: ستعلم؛ فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسى فجعلت سيتها «1» في عينه الصحيحة، ثم تحاملت عليها حتى بلغت العظم، ثم خرجت حتى جئت العرج «2» ، ثم سلكت ركوبة «3» ، حتى إذا هبطت النّقيع «4» إذا رجلان من قريش من المشركين، كانت قريش بعثتهما عينا إلى المدينة يتحسّسان؛ فقلت: استأسرا؛ فأبيا، فرميت أحدهما بسهم فقتلته، ثم استأسر الآخر فأوثقته رباطا، وقدمت به المدينة.
ولم يذكر أحد منهما تاريخ هذه السريّة، فى أى شهر كانت، فأذكره.
ذكر غزوة الحديبية «5» وما وقع فيها من بيعة الرّضوان ومهادنة قريش وغير ذلك
كانت غزوة الحديبية فى ذى الحجة سنة ست من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال محمد بن سعد: استنفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه إلى العمرة، فأسرعوا وتهيئوا، ولبس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثوبين، وركب راحلته القصواء «6» وخرج، وذلك يوم الاثنين لهلال ذى القعدة، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم. وقال ابن إسحاق: استعمل على المدينة نميلة بن(17/217)
عبد الله اللّيثى. قال ابن سعد: ولم يخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه «1» بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف فى القرب، وساق بدنا «2» وساق أصحابه بدنا، فصلى الظهر بذى الحليفة: ثم دعا بالبدن التى ساق فجلّلت «3» ، ثم أشعرها «4» في الشقّ الأيمن وقلّدها «5» ، وأشعر أصحابه أيضا، وهى موجّهات إلى القبلة، وهى سبعون بدنة، فيها جمل أبى جهل الذى غنمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر، وأحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولبّى، وقدّم عبّاد بن بشر أمامه طليعة فى عشرين فارسا من خيل المسلمين، وفيهم رجال من المهاجرين والأنصار، وخرج معه صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين ألف وأربعمائة على الصحيح، وقيل: ألف وستمائة؛ ويقال: ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلا؛ وأخرج معه من أزواجه أم سلمة رضى الله عنها، وبلغ المشركين خروجه، فأجمع رأيهم على صدّه عن المسجد الحرام، وعسكروا ببلدح «6» وقدّموا مائتى فارس إلى كراع «7» الغميم، عليهم خالد بن الوليد، ويقال: عكرمة ابن أبى جهل.
قال محمد بن إسحاق: قال الزهرىّ: لما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبى- قال ابن هشام: ويقال: بسر- فقال:(17/218)
يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ «1» المطافيل، قد لبسوا جلود النور، وقد نزلوا بذى طوى، يعاهدون الله ألا ندخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد فى خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بينى وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابونى كان ذلك الذى أرادوا، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة، فما تظن قريش؟
والله لا أزال أجاهد على الذى بعثنى الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة «2» » .
قال محمد بن سعد: ودنا خالد بن الوليد فى خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبّاد بن بشر فتقدم فى خيله، فأقام بإزائه وصفّ أصحابه، وحانت صلاة الظهر، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاة الخوف، فلما أمسى صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه:
تيامنوا فى هذا الموضع العضل «3» - موضع منعطف فى الوادى- فإن عيون قريش بمرّ الظّهران وبضجنان. فسار حتى دنا من الحديبية، وهى طرف الحرم على تسعة أميال من مكة، فوقفت «4» يدا راحلته على ثنيّة تهبط على غائط القوم، فبركت.(17/219)
وقال أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبىّ فى تفسيره: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما كان بغدير الأشطاط «1» قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعىّ، فقال: إنى تركت كعب بن لؤىّ وعامر بن لؤى قد جمعا لك الأحابيش «2» ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت؛ فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: أشيروا علىّ، أترون أن نميل على ذرارى هؤلاء الذين عاونوهم «3» فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين، وإن يحبئوا [تكن «4» ] عنقا قطعها الله، أو ترون أن نؤمّ البيت فمن صدّنا عنه قاتلناه؟ فقام أبو بكر رضى الله عنه فقال: يا رسول الله، إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: فروحوا إذا؛ فراحوا، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبى، وذكر من قوله ومن جواب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قدمناه إلى قوله: أو تنفرد هذه السالفة. ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التى هم بها؟ فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فخرج بهم على طريق وعر حزن بين شعاب، فلما خرجوا منه، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضى إلى أرض سهلة عند منقطع الوادى، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه. ففعلوا،(17/220)
فقال: والله إنها للحطّة «1» التى عرضت على بنى إسرائيل فلم يقبلوها؛ ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس: اسلكوا ذات اليمين، فى طريق يخرجه على ثنية المرار «2» على مهبط من أسفل مكة، فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة «3» الجيش، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خالفهم عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش ينذرونهم، وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا سلك ثنيّة المرار بركت به ناقته، فقال الناس: حل «4» حل؛ فقال: ما حل؛ قالوا:
خلأت «5» القصواء؛ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلأت وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس «6» الفيل؛ ثم قال: والذى نفسى بيده لا تدعونى قريش إلى خطة يعظمون بها حرمات الله، وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» ؛ ثم قال للناس:
«انزلوا» فنزلوا بأقصى الحديبية على بئر قليلة الماء، إنما يتبرّضه «7» الناس تبرّضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكا الناس إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم العطش، فنزع سهما من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه، يقال له: ناجية بن عمير بن يعمر بن دارم، وهو سائق بدن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل فى تلك البئر فغرزه فى جوفها(17/221)
فجاش «1» الماء بالرّى، حتى صدروا «2» عنه؛ ويقال: إن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها، وناجية فى القليب يميح «3» على الناس، فقالت:
يأيها المائح دلوى دونكا ... إنى رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيرا ويمجّدونكا ... أرجوك للخير كما يرجونكا
فقال ناجية:
قد علمت جارية يمانية ... أنّى أنا المائح واسمى ناجية
وطعنة ذات رشاش واهية ... طعنتها تحت صدور العادية «4»
قال ابن إسحاق: ناجية بن جندب بن عمير الأسلمى؛ قال: وزعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذى نزلت بسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال محمد بن إسحاق والثعلبى: روى عن الزّهرى عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: فلما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعى فى نفر من قومه، وكانت خزاعة عيبة «5» نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة، فقال: إنى تركت كعب بن لؤى وعامر ابن لؤى قد نزلا أعداد «6» مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددناهم «7» مدة(17/222)
ويخلوا بينى وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلّا فقد جمّوا «1» ، فو الله لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتى، أو لينفذنّ الله أمره. قال بديل: سنبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا؛ فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا فى أن تحدثنا عنه بشىء؛ وقال ذوو الرأى منهم:
هات كما سمعته يقول؛ قال: سمعته يقول كذا وكذا. فحدثهم بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال لهم: إنه لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموه وجبهوه «2» وقالوا: إن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا يحدّث «3» بذلك عنا العرب؛ ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر ابن لؤىّ، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبلا قال: هذا رجل غادر.
وفى رواية: «فاجر» . فلما انتهى إليه وكلمه قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحوا مما قال لبديل بن ورقاء وأصحابه، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زيّان «4» ، وكان يومئذ سيّد الأحابيش، وهو أحد بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: هذا من قوم يتألّهون «5» ، فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه. فلما رأى الهدى يسيل «6» عليه من عرض الوادى فى قلائده، قد أكل أو باره «7» من طول الحبس عن محلّه «8» رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إعظاما(17/223)
لما رأى، فقال لهم ذلك؛ فقالوا له: يا حليس، إنما أنت أعرابى لا علم لك؛ فقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاهدناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاءه معظّما له؟ والذى نفس الحليس بيده لتخلّنّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد؛ فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس، ودعنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به؛ قال: ثم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عروة بن مسعود الثقفى، فقال لهم: يا معشر قريش، إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأنى ولد- وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس- وقد سمعت بالذى نابكم، فجمعت من أطاعنى من قومى، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتّهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد، أجمعت أوشاب «1» الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك «2» لتفضّها بهم؟ يا محمد، أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟
وإنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة [أبدا «3» ] وإنى لأرى وجوها وأوشابا من الناس خليفا «4» أن يفرّوا ويدعوك، وايم الله، لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا غدا عنك. وأبو بكر الصديق رضى الله عنه خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم قاعد، فقال لعروة:
امصص بظر «5» اللات، أنحن ننكشف عنه؟ - واللات طاغية ثقيف التى كانوا(17/224)
يعبدونها- فقال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبى قحافة؛ قال: أما والله لولا يد «1» كانت لك عندى لكافأتك بها، ولكن هذه بها. قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الحديد، فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل ألا تصل إليك؛ قال: فيقول عروة: ويحك! ما أفظّك وما أغلظك «2» ! قال:
فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» قال: أى غدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟ - وكان المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بنى مالك من «3» ثقيف، صحبهم فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أما الإسلام فقد قبلناه، وأما المال فإنه مال غدر، ولا حاجة لنا فيه» . قال: ولما قتلهم المغيرة تهايج الحيّان من ثقيف: رهط القتلى ورهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية، وأصلح ذلك الأمر، فلذلك قال للمغيرة ما قال- قال: ثم كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عروة بنحو ما كلم به أصحابه، فقام من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شىء إلا أخذوه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون «4» النظر إليه تعظيما(17/225)
له. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر فى ملكه، وكسرى فى ملكه، والنجاشىّ فى ملكه، وإنى والله ما رأيت ملكا فى قومه قطّ «1» يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخّم نخامة إلا وقعت فى كفّ رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا، فروا رأيكم.
وفى رواية قال: وإنه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خراش بن أمية الخزاعىّ إلى قريش بمكة، وحمله على بعير يقال له: الثّعلب، ليبلّغ أشرافهم ما قد جاء له، فعقروا الجمل وأرادوا قتل خراش، فمنعته الأحابيش، فخلّوا سبيله. قال:
وبعثت قريش أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا، فأخذوا وأتى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وكانوا رموا فى العسكر بالحجارة والنّبل. ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليبعثه إلى مكة، فيبلّغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسى، وليس بمكة من بنى عدىّ بن كعب أحد يمنعنى، وقد عرفت قريش عداوتى إيّاها، وغلظتى عليها، ولكنى أدلّك على رجل أعزّ بها منّى، عثمان بن عفان، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعثه إلى أبى سفيان ابن حرب وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا(17/226)
البيت ومعظما لحرمته. فخرج حتى أتى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فلما فرغ عثمان من الرسالة قال له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف؛ فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عثمان قتل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نبرح حتّى نناجز القوم» . ودعا الناس إلى البيعة.
ذكر بيعة الرّضوان
كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، قال الثعلبىّ: وكانت سمرة «1» . قال:
وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه أن عثمان بن عفّان قتل قال: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ؛ ودعا الناس إلى البيعة، قال: فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الموت. وقال عبد الله ابن مغفّل: كنت قائما على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك اليوم وبيدى غصن من السّمرة أذبّ عنه وهو يبايع الناس، فلم يبايعهم على الموت وإنما بايعهم على ألا يفرّوا. قال جابر بن عبد الله: فبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجدّ بن قيس أخو بنى سلمة، لكأنى أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته، مستترا بها عن الناس.
وكان أول من بايع بيعة الرضوان رجل من بنى أسد يقال له: [أبو «2» ] سنان ابن وهب. ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الذى ذكروا من أمر عثمان باطل. واختلف فى عدد أهل بيعة الرضوان، وهو مبنىّ على الاختلاف فى عدد(17/227)
أصحاب عمرة الحديبية كما تقدم، لم يتخلف منهم إلا الجدّ بن قيس، قالوا:
ولما بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى. روى أن رجلا جاء إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، فسأله عن عثمان رضى الله عنه، أكان شهد بدرا؟ قال: لا؛ قال: أكان شهد بيعة الرضوان؟ قال: لا؛ قال: فكان من الذين تولّوا يوم التقى الجمعان؟ قال:
نعم. قال: فانطلق الرجل؛ فقيل لعبد الله بن عمر: إن هذا يرى أنك قد عبته، قال: علىّ به؛ فأتى به فقال: أمّا بدر فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ضرب له بسهمه [وأجره «1» ] ؛ وأما بيعة الرضوان فقد بايع له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير من يد عثمان، وأما الذين تولّوا يوم التقى الجمعان فقد عفا الله عنهم، فاجهد علىّ جهدك «2» .
وأنزل الله عزّ وجلّ فى الّذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه البيعة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)
. قال الكلبىّ: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة. وقال ابن كيسان:
قوة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم. ثم قال تعالى: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)
وهو الجنة. وقوله تعالى فى السورة أيضا: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ)
من الصدق والوفاء (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) .
قيل: فتح خيبر؛ روى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» .(17/228)
ذكر هدنة قريش وما وقع فيها من الشروط
قال: ثم بعثت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهيل بن عمرو أخا بنى عامر بن لؤىّ، فقالوا: إيت محمدا فصالحه، ولا يكن فى صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد سهل أمركم، القوم مأتون إليكم بأرحامهم، وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهدى وأظهروا التلبية، لعلّ ذلك يلين قلوبهم» . فلبّوا من نواحى العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية، قال: وانتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتكلم فأطال، وتراجعا، ثم جرى الصلح بينهما، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقا؟ قال:
بلى؛ قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى؛ قال: أو ليسوا المشركين؟ قال:
بلى؛ قال: فعلام نعطى الدّنية «1» في ديننا؟ قال أبو بكر: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس نعصى «2» رأيه، فاستمسك بغرزه «3» ، حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق؛ قال عمر:
أو ليس كان يحدّثنا أنا سنأتى البيت نطوف به؟ قال: بلى؛ أفأخبرك أنك «4» تأتيه العام؟ قال: لا؛ قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال: ثم جاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألست رسول الله؟ قال: «بلى» قال: ألسنا على الحق(17/229)
وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى» ؛ قال: فلم نعطى الدنيّة فى ديننا إذا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصرى» . وفى رواية قال:
«إنى عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيّعنى» . قال عمر: ألست تحدّثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، هل أخبرتك أنك تأتيه العام؟» قال عمر: لا؛ قال: «فإنك آتيه ومطوّف به» . قال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلّا يومئذ، فما زلت أصوم وأتصدّق وأصلّى وأعتق من الذى صنعت [يومئذ «1» ] مخافة كلامى الذى تكلمت به حتى رجوت خيرا. قالوا «2» : ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم» ؛ فقال سهيل: أما الرحمن فلا أدرى ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم [كما كنت تكتب، قال المسلمون: لا والله لا تكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب: باسمك اللهم «3» » ] فكتبها، ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو» . فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والله إنى لرسول الله وإن كذّبتمونى» ؛ ثم قال لعلىّ: «امح رسول الله» . فقال: والله لا أمحوك أبدا. فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس يحسن يكتب فمحاه؛ ثم قال: «اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن(17/230)
بعض، وعلى أنه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا أو يبتغى من فضل الله فهو آمن على نفسه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو الشام، يبتغى من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، وعلى أنه من أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يردّوه عليه» . فاشتد ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جاءهم منا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم ورددناه إليهم فإن علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا» . وأن بيننا عيبة «1» مكفوفة، وأنه لا إسلال «2» ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه» . فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن فى عقد محمد وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن فى عقد قريش وعهدهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعلى أن تخلّوا بيننا وبين البيت [فنطوف «3» به.] » فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنك أخذتنا ضغطة «4» ، ولكن لك ذلك من العام المقبل؛ فكتب: وعلى أنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا، ولا تدخلها بالسلاح إلا السيوف فى القرب، وسلاح الراكب، وعلى أنّ هذا الهدى حيثما حبسناه محلّه، لا تقدّمه علينا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن نسوقه وأنتم تردّون وجوهه» ! قال: فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يوسف فى قيوده،(17/231)
وقد انفلت وخرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، وقال: يا محمد، قد تمت القضيّة بينى وبينك قبل أن يأتيك هذا، وهذا أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه إلينا؛ ثم جعل يجرّه ليردّه إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما ليفتنونى عن دينى؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا فى الله تعالى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا جندل، احتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عاقدنا بيننا وبين القوم عقدا وصلحا، وأعطيناهم على ذلك عهدا، وإنّا لا نغدر» . قال: فوثب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أبى جندل يمشى إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب- ويدنى قائم السيف منه- قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضنّ الرجل بأبيه.
قال: وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرجوا وهم لا يشكّون فى الفتح، لرؤيا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوا ذلك دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، وزادهم أمر أبى جندل شرّا إلى ما بهم، قالوا:
فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب، وفرغت القضيّة أشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين: أبا بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبى وقّاص، ومحمود بن مسلمة «1» أخا بنى عبيد الأشهل، ومكرز بن حفص بن الأخيف، وهو مشرك، وعلى بن أبى طالب، وكان هو كاتب الصحيفة. قال: فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه(17/232)
وسلّم من قضيته سار مع الهدى، وسار الناس، فلما كان الهدى دون الجبال التى تطلع على وادى الثنّية عرض له المشركون، فردّوا وجوهه، فوقف النبى صلّى الله عليه وسلّم حيث حبسوه، وهى الحديبية، وقال لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا» . قال: فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرّات؛ فلما لم يقم منهم أحد قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقى من الناس؛ فقالت له أم سلمة رضى الله عنها: يا نبىّ الله، اخرج ولا تكلّم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنتك، وتدعو حلّافك فيحلقك. فقام صلّى الله عليه وسلّم فخرج فلم يكلّم أحدا منهم كلمة حتى نحر بدنته ودعا حلّاقه فحلقه، وكان الذى حلقه ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعىّ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا «1» غمّا. قال عبد الله ابن عمر وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يرحم الله المحلّقين» . قالوا:
يا رسول الله، والمقصّرين؟ قال: «يرحم الله المحلقين» ؛ قالوا: يا رسول الله، والمقصّرين؟ قال: «يرحم الله المحلقين» ؛ قالوا: يا رسول الله، والمقصّرين؟
[قال «2» : «يرحم الله المقصّرين» ] قالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحّم على المحلّقين دون المقصّرين؟ قال: «لأنهم لم يشكّوا» . قال ابن عمر: وذلك أنه تربّص قوم قالوا: لعلّنا نطوف بالبيت.(17/233)
ذكر رجوع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ونزول سورة الفتح
قال الزّهرى: وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وجهه ذلك قافلا حتى كان بين مكّة والمدينة نزلت سورة الفتح: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) .
روى قتادة، عن أنس قال: لما رجعنا من غزوة الحديبية قد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فأنزل الله عزّ وجل: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)
الآية كلها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لقد أنزلت علىّ آية هى أحبّ إلىّ من الدنيا كلها) . وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسير فى بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه يسير معه ليلا، فسأله [عمر «1» ] عن شىء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، قال عمر رضى الله عنه: فحركت بعيرى حتى تقدمت أمام الناس، وخشيت أن يكون نزل فىّ قرآن، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلمت عليه، فقال: «لقد أنزلت علىّ الليلة آية لهى «2» أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس» . ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)
. وقد اختلف فى الفتح، ما هو؟ فقال قتادة عن أنس:
فتح مكة، وقال مجاهد والعوفىّ: فتح خيبر، وقال آخرون: فتح الحديبية، ويدل عليه ما روى عن مجمّع بن جارية الأنصارى،- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزّون «3» الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس؟ قالوا: أوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فخرجنا نوجف «4» ، فوجدنا النبى صلّى الله عليه وسلّم(17/234)
واقفا على راحلته عند كراع الغميم «1» ، فلما اجتمع إليه الناس قرأ: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)
فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم، والذى نفسى بيده إنه لفتح» . وقال الشعبىّ رحمه الله: فتح الحديبية، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، واطعموا نخل خيبر، وبلغ «2» الهدى محلّه، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال مقاتل بن حيّان: يسّرنا لك يسرا بيّنا.
وقال مقاتل بن سليمان: لما نزل قوله تعالى: (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ)
فرح بذلك المشركون والمنافقون وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدرى ما يفعل به وبأصحابه، ما أمرنا وأمره إلا واحد؛ فأنزل الله عز وجل بعد ما رجع من الحديبية:
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)
أى قضينا لك قضاء بينا (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)
فنسخت هذه الآية تلك. قال سفيان الثورى: (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ)
ما عملت فى الجاهلية (وَما تَأَخَّرَ)
كل شىء لم يعمله. وقال عطاء بن أبى مسلم الخراسانى: (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ)
يعنى ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك (وَما تَأَخَّرَ)
ذنوب أمتك بدعوتك. وقال الزيادىّ: أى لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) *
أى بالنبوة والحكمة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً
أى ويثبتك عليه، وقيل: يهدى بك، (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً)
غالبا، وقيل: معزّا.
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ)
، قال الثعلبىّ: أى الرحمة والطمأنينة. قال ابن عباس رضى الله عنهما:
بعث الله عز وجل نبيّه عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدّقوه زادهم(17/235)
الصلاة، [فلما صدّقوه «1» زادهم الزكاة] ، الصيام، فلما صدّقوه زادهم الحجّ، ثم زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله عز وجل: (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ)
أى تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان. وقال الضحّاك: يقينا مع يقينهم. وقال الكلبى: هذا فى أمر الحديبية. وروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ على الناس قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)
قالوا: هنيئا مريئا يا رسول الله، قد بين الله ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً)
ثم قال تعالى (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)
إن لم ينصر محمد والمؤمنون (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) *
بالذلّ والعذاب (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)
إلى قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)
ثم ذكر الله تعالى قصة البيعة، وقد تقدّمت.
ثم قال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)
قال ابن عباس ومجاهد: يعنى أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والدّيل، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادى، ليخرجوا معه حذرا من قريش(17/236)
أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت، وأحرم هو صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة وساق معه الهدى، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب وقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟ فتخلفوا عنه واعتلوا بالشغل، فأنزل الله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ)
، الآية. أى إذا انصرفت إليهم فعاتبتهم على التخلف عنك (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا)
ثم كذبهم فى اعتذارهم واستغفارهم، وأخبر عن إسرارهم وإضمارهم، فقال: «يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم» .
قوله تعالى: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)
وذلك أنهم قالوا:
إن محمدا وأصحابه أكلة رأس، فلا يرجعون، فأين تذهبون؟ انتظروا ما يكون من أمرهم. (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)
أى هالكين فاسدين، لا تصلحون لشىء من الخير. قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) .
قوله تعالى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا)
قال: (الْمُخَلَّفُونَ) *
أى عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ)
يعنى غنائم خيبر (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ)
أى إلى خيبر، فنشهد معكم قتال أهلها (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ)
معناه يريدون أن يغيّروا وعد الله الذى وعد أهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن غنائم أهل مكة، إذا «1» انصرفوا عنها عن صلح ولم يصيبوا منها شيئا. وقال ابن زيد:(17/237)
هو قوله عز وجل: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)
قال: والأول أصوب، لأن قوله تعالى: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً)
نزلت فى غزوة تبوك. قال: (كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ)
أى من قبل مرجعنا إليكم: إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب: (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا)
أى أن نصيب معكم من الغنائم.
قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)
، قال ابن عباس وعطاء بن أبى رباح وعطاء الخراسانىّ وعبد الرحمن بن أبى ليلى ومجاهد: هم فارس. وقال كعب الأحبار: الروم.
وقال الحسن: فارس والروم. وقال عكرمة: هوازن. وقال سعيد بن جيبر:
هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهرىّ ومقاتل:
بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى: (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)
ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضى الله عنه إلى قتال بنى حنيفة فعلمنا أنهم هم.
قوله تعالى: (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً)
قال ابن عباس رضى الله عنهما: لما نزلت هذه الآية قال أهل الزّمانة: «1» فكيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) *
يعنى عن التخلف عن الجهاد والقعود عن الغزو (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) *
يعنى فى ذلك (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) .(17/238)
ثم أخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم برضاه عن أهل بيعة الرضوان، فقال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)
، وقد تقدّم ذكر ذلك آنفا. ثم قال تعالى: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها)
. وهى الفتوح التى تفتح لهم إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ)
يعنى خيبر. وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لغزوة خيبر. ثم قال تعالى: (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)
قال: معناه «1» ووعدكم الله بفتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها لكم حتى يفتحها عليكم. واختلفوا فيها، فقال ابن عباس وعبد الرحمن بن أبى ليلى والحسن ومقاتل: هى فارس والروم، وقال الضحاك وابن زيد وابن إسحاق: هى خيبر، وعدها الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يصيبها، ولم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها حتى أخبرهم الله بها. وهى رواية عطية وباذان عن ابن عباس. وقال قتادة: هى مكة. وقال مجاهد: ما فتحوا حتى اليوم.
قوله تعالى: (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)
، قال: يعنى أسدا وغطفان وأهل خيبر. وقال قتادة: يعنى كفار قريش، (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) .
وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)
؛ واختلفوا فى هؤلاء، فقال أنس: إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من جبل التنعيم «2» عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم، فأخذهم(17/239)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلما «1» فأعتقهم، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وقد قدمنا ذكرهم.
وقال عبد الله بن مغفل: كنا مع النبى صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية فى أصل الشجرة، وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة، فرفعته عن ظهره، وعلى بن أبى طالب رضى الله عنه بين يديه يكتب كتاب الصلح وسهيل بن عمرو، فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا فى وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فخلى عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل الآية. وقيل: غير ذلك. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)
الآية. وهى قصة الحديبية وقد تقدم شرحها. وقوله تعالى:
(وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً)
، قال: قوله: (أَنْ تَطَؤُهُمْ)
أى تقتلوهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ)
، قال ابن زيد: إثم. وقال ابن إسحاق: غرم الدّية. وقيل: الكفارة، لأن الله عز وجل إنما أوجب على قاتل المؤمن فى دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم قاتله إيمانه الكفارة دون الدية. وقيل: هو أن المشركين يعيبونكم ويقولون: قتلوا أهل دينهم. والمعرّة المشقة، وأصلها من العرّ وهو الجرب. قال: فلولا ذلك لأذن لكم فى دخول مكة، ولكنه حال بينكم وبين ذلك. (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ)(17/240)
أى فى دين الإسلام «من يشاء» من أهل مكة قبل أن تدخلوها. قال: وقال بعض العلماء: قوله «لعذّبنا» جواب لكلامين أحدهما (وَلَوْلا رِجالٌ)
والثانى (لَوْ تَزَيَّلُوا)
أى تميّزوا. وقال قتادة فى قوله: (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ)
أى أن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركى مكة.
وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قول الله عز وجل: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً)
قال:
«هم المشركون من أجداد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وممن كان بعدهم فى عصره، كان فى أصلابهم المؤمنون، فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله الكافرين عذابا أليما» .
قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ)
، قال ابن إسحاق: يعنى سهيل بن عمرو حين حمى «1» أن تكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
وأن محمدا رسول الله. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)
، قال: كلمة التقوى يعنى الإخلاص؛ وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فى قوله تعالى:
(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى)
: «لا إله إلا الله» . وهو قول ابن عباس وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة والضحاك وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وعكرمة وطلحة بن مصرّف والربيع والسدّىّ وابن زيد. وقال عطاء الخراسانىّ: هى لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وعن علىّ رضى الله عنه قال: كلمة التقوى: لا إله إلا الله والله أكبر، وهو قول ابن عمر. وقال عطاء بن أبى رباح: هى لا إله إلا الله وحده لا شريك له،(17/241)
له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وعن الزهرىّ: كلمة التقوى هى بسم الله الرحمن الرحيم.
قوله تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)
، قال: الرؤيا التى أراها إياه فى مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام. قوله: (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا)
أى أن الصلاح كان فى الصلح. (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)
قيل: صلح الحديبية.
ثم قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً)
أى أنك نبىّ صادق فيما تخبر.
ثم وصف تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)
. قال الثعلبىّ رحمه الله تعالى: قوله: «محمّد رسول الله» تم الكلام هاهنا، يعنى الكلام الأوّل، ثم قال مبتدئا: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)
أى غلاظ لا تأخذهم فيهم رأفة. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)
أى متعاطفون متوادّون بعضهم على بعض. (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) *
أى يدخلهم جنّته.
«ورضوانا» يرضى عنهم. «سيماهم» علامتهم. (فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)
واختلف العلماء فى هذه السيماء، فقال قوم: هو نور وبياض فى وجوههم يوم(17/242)
القيامة، يعرفون بتلك العلامة أنهم سجدوا فى الدنيا؛ وهى رواية العوفى عن ابن عباس. وقال عطاء بن أبى رباح والربيع بن أنس: استنارت وجوههم من كثرة ما صلّوا. وقال شهر بن حوشب: يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال آخرون: هو السّمت الحسن والخشوع والتواضع. وقال منصور:
سألت مجاهدا عن قوله تعالى: (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ)
أهو الأثر يكون بين عينى الرجل؟ قال: لا، ربما يكون بين عينى الرجل مثل ركبة البعير، وهو أقسى قلبا من الحجارة، ولكنه نور فى وجوههم من الخشوع. وقال ابن جريح: هو الوقار والبهاء. وقال شمر بن عطية: هو التهيّج وصفرة الوجه وأثر السهر. وقال الحسن:
إذا رأيتهم حسبتهم مرضى، وما هم بمرضى. وقال عكرمة وسعيد بن جبير:
هو أثر التراب فى جباههم. وقال عطية الخراسانىّ: دخل فى هذه الاية كل من حافظ على الصلوات الخمس. (ذلِكَ مَثَلُهُمْ)
أى ذلك الذى ذكرت «مثلهم» صفتهم (فِي التَّوْراةِ) *
قال: وهاهنا تم الكلام. ثم قال: (وَمِثْلَهُمْ) *
صفتهم (فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ)
؛ قال أنس: «شطأه» نباته. وقال ابن عباس:
سنبله. وقال مجاهد والضحاك: ما يخرج تحت الحلقة «1» فينمو ويتم. وقال مقاتل:
هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه. وقال السدّى: هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى. وقال الفراء: الأشطأ: الزرع إذا نبت سبعا أو ثمانيا أو عشرا.
وقال الأخفش: فراخه، يقال: أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا فرّخ، قال الشاعر:
أخرج الشطء على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر
قال: وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، يعنى أنهم كانوا يكونون قليلا، ثم يزدادون ويكثرون ويقوون. قال قتادة: مثل أصحاب(17/243)
محمد صلّى الله عليه وسلّم فى الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. «فآزره» قوّاه وأعانه وشدّ أزره.
«فاستغلظ» ، فغلظ وقوى. «فاستوى» تم وتلاحق نباته وقام. (عَلى سُوقِهِ)
أصوله.
(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)
يعنى أن الله تعالى فعل ذلك بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضى الله عنهم ليغيظ بهم الكفار. قال الثعلبىّ بسند يرفعه إلى الحسن فى قوله عز وجل: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)
قال: محمد رسول الله. والّذين معه» ، أبو بكر. (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)
عمر بن الخطاب. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)
عثمان بن عفان (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً)
على بن أبى طالب. (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً) *
طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وأبو عبيدة. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)
، قال: هم المبشّرون، أولهم أبو بكر وآخرهم أبو عبيدة. (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ)
قال: نعتهم فى التوراة والإنجيل كمثل زرع. وقال:
الزرع: محمد صلّى الله عليه وسلّم. (أَخْرَجَ شَطْأَهُ)
أبو بكر الصديق. «فآزره» عمر بن الخطاب.
«فاستغلظ» عثمان؛ يعنى استغلظ عثمان للإسلام. (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ)
على بن أبى طالب، يعنى استقام الإسلام بسيفه. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ)
قال: المؤمنون.
(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)
قال: قول عمر لأهل مكة: لا نعبد الله سرّا بعد اليوم.
رضوان الله عليهم أجمعين.
ذكر خبر أبى بصير ومن لحق به وانضم إليه
قد اختلف فى اسمه، فقيل: عبيد بن أسيد بن جارية. وقال ابن إسحاق:
عتبة بن أسيد بن جارية. وعن أبى معشر قال: اسمه عتبة بن أسيد بن جارية بن(17/244)
أسيد بن عبد الله بن سلمة بن عبد الله بن غيرة بن عوف بن قسىّ، وهو ثقيف ابن منبّه بن بكر بن هوازن، حليف لبنى زهرة. وخبره وإن لم يكن داخلا فى جملة الغزوات والسرايا فليس هو مناف لها، وموجب إيرادنا إياه فى هذا الموضع لتعلقه بغزوة الحديبية، ولأن ردّه كان من شروط الهدنة. ونحن نورده هاهنا على ما أورده الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى، رحمه الله تعالى، فى كتابه المترجم بدلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، وما أورده أبو محمد عبد الملك بن هشام عن محمد ابن إسحاق رحمهم الله تعالى، يدخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا:
لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة انفلّت رجل من أهل الإسلام من ثقيف، يقال له: أبو بصير بن أسيد بن جارية الثقفىّ من المشركين، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسلما مهاجرا، وكان ممن حبس بمكة، فكتب فيه أزهر بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفىّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعثا رجلا من بنى عامر بن لؤىّ، ومعه مولى لهم، ويقال: كانا من بنى منقذ، أحدهما مولى والآخر من أنفسهم، اسمه جحش بن جابر، وكان ذا جلد ورأى فى أنفس المشركين، وجعل لهما الأخنس فى طلب أبى بصير جعلا، فقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا فى ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك» . فقال: يا رسول الله، أتردّنى إلى المشركين يفتنوثنى فى دينى؟ قال: «انطلق، فإن الله سيجعل لك فرجا(17/245)
ومخرجا» ، ودفعه إليهما، فخرجا به، حتى إذا كانا بذى الحليفة «1» سلّ جحش سيفه، ثم هزّه وقال: لأضربنّ بسيفى هذا فى الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال له أبو بصير: أو صارم سيفك هذا؟ قال: نعم؛ قال: ناولنيه أنظر إليه. فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد، ويقال: بل تناول أبو بصير سيف جحش بفيه، وهو نائم، فقطع به إساره، ثم ضربه به حتى برد؛ وطلب الآخر فجمز «2» مذعورا مستخفيا، حتى دخل المسجد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا» ؛ فأقبل واستغاث برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «ويحك! مالك؟» فقال: قتل صاحبكم صاحبى. وجاء أبو بصير يتلوه، فسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: وفت ذمتك يا رسول الله، وأدّى الله عنك، دفعتنى إليهما فتعرفت أنهم سيعذبوننى ويفتنوننى عن دينى، فقتلت المنفذىّ، وأفلتنى هذا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل أمّه مسعر «3» حرب لو كان معه رجال!» ، وجاء أبو بصير بسلبه فقال: خمّس يا رسول الله؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى إن خمسته لم أوف لهم بالذى عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت» . فخرج أبو بصير معه خمسة نفر كانوا قدموا مسلمين من مكة حيث قدم، ولم يطلبهم أحد، وساروا حتى نزلوا بين العيص وذى المروة من أرض جهينة، على طريق عيرات قريش مما يلى سيف البحر، لا تمر(17/246)
بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو- واسم أبى جندل العاص بن سهيل «1» على ما أورده الزبير بن بكار- فى سبعين راكبا أسلموا، فلحقوا بأبى بصير حين «2» بلغهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ويل امه مسعر حرب لو كان معه رجال» ، فقطعوا مادة قريش من طريق الشام. وكان أبو بصير يصلى لأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان هو يؤمهم، واجتمع إلى أبى جندل ناس من بنى غفار وأسلم وجهينة وطوائف من الناس، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، وهم مسلمون، فأقاموا مع أبى جندل وأبى بصير، لا تمرّ بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وقال أبو جندل فى ذلك:
أبلغ قريشا عن أبى جندل ... أنّا بذى المروة بالساحل
فى معشر تخفق راياتهم ... بالبيض فيها والقنا الذّبّل «3»
يأبون أن تبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحق لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولم يأتل»
فأرسلت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسأله بأرحامهم «5» إلا آواهم، وقالوا: لا حاجة لنا بهم. قال البيهقىّ: وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه غير حرج أنت فيه، فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره. فلما كان ذلك من أمرهم، علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يمنع(17/247)
أبا جندل من أبيه بعد القضية أن طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير لهم فيما أحبوا وكرهوا. وحكى البيهقى: أن هؤلاء هم الذين مرّ بهم أبو العاص بن الربيع فأخذوا ما معه، فلما بلغهم ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطلقوا من أسروا من أصحاب أبى العاص، وردّوا إليهم جميع ما أخذوه حتى العقال، وقد تقدم خبر أبى العاص، وقيل: إنما أخذ فى غير هذه السّريّة. والله أعلم.
قال: وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا إلى أبى بصير وأبى جندل يأمرهما أن يقدما عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم، ولا يعترضوا لأحد مرّ بهم من قريش وعيراتهم. فقدم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبى جندل وأبى بصير، وأبو بصير قد أشرف على الموت، فمات وكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو جندل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه ناس من أصحابه، ورجع سائرهم إلى أهليهم، وأمنت عيرات قريش.
ذكر غزوة خيبر وفتحها وما يتصل بذلك
قال محمد بن سعد: غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الأولى سنة سبع من مهاجره. وقال محمد بن إسحاق وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى:
فى المحرم من السنة. وخيبر على ثمانية برد من المدينة.
قالوا: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالتهيؤ لغزاة خيبر، واجلب «1» من حوله يريدون الغزاة معه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يخرجنّ معنا(17/248)
إلا راغب فى الجهاد» ، وشقّ ذلك على من بقى بالمدينة من اليهود، فخرج واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفارىّ، قاله ابن سعد والبيهقى. وقال ابن إسحاق:
استخلف نميلة بن عبد الله الليثى؛ وأخرج معه من أزواجه أم سلمة رضى الله عنها.
قال ابن إسحاق: لما سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خيبر قال فى مسيره لعامر بن الأكوع- وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع سنان-:
«انزل يابن الأكوع، فخذ لنا من هناتك «1» » ، فنزل يرتجز برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
إنا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا «2»
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يرحمك ربّك» . ومن رواية البيهقى:
«غفر لك ربّك» . قال: وما خص بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا قط إلا استشهد. قال ابن إسحاق: فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: وجبت والله يا رسول الله، لو متّعتنا بعامر؛ فقتل يوم خيبر شهيدا، رجع سيفه عليه وهو يقاتل، فكلمه كلما شديدا فمات.(17/249)
قال: ولما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة سلك على عصر «1» فبنى له فيه «2» مسجدا، ثم على الصهباء «3» ، ثم أقبل بجيشه حتى نزل بواد يقال له: الرّجيع، فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدّوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فلما سمعت غطفان بمنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خيبر جمعوا، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة «4» سمعوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حسّا، وظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم فأقاموا فى أهليهم وأموالهم، وخلوا بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين خيبر.
قال: ولما أشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على خيبر قال لأصحابه: «قفوا» فوقفوا، ثم قال: «اللهم ربّ السموات وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن، وربّ الشياطين وما أظللن، وربّ الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله» .
قال: ولما نزل بساحتهم ولم يتحركوا تلك الليلة، ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، وأصبحوا وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم، وغدوا إلى أعمالهم، معهم المساحى «5» ، والكرازن- وهى الفئوس- والمكاتل- وهى الزنابيل- فلما نظروا إلى(17/250)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: محمد والخميس «1» - يعنون الجيش- فولوا هاربين إلى حصونهم، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» ، ووعظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، وفرّق بينهم الرايات، ولم تكن الرايات إلا يوم خيبر، إنما كانت الأولوية «2» ، فكانت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السوداء من برد لعائشة أم المؤمنين رضى الله عنها تدعى العقاب، ولواؤه أبيض، ودفعه إلى على بن أبى طالب، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سعد بن عبادة؛ وكان شعارهم: «يا منصور أمت» ، وكانت حصون خيبر حصونا ذوات عدد، منها النّطاة، وحصن الصّعب ابن معاذ، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزّبير «3» ، هذه حصون النطاة. والشّقّ وبه حصون منها: حصن أبىّ، وحصن النّزار. وحصون الكتيبة منها: القموص، والوطيح، وسلالم. وسنذكر إن شاء الله فتحها حصنا حصنا. قال: وخرج مرحب اليهودىّ من حصنهم، قد جمع سلاحه وهو يقول:
قد علمت خيبر أنّى مرحب ... شاكى «4» السلاح بطل مجرّب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرّب «5»
إن حماى للحمى لا يقرب(17/251)
ثم يقول: هل من مبارز؟ فأجابه كعب بن مالك وهو يقول:
قد علمت خيبر أنى كعب ... مفرّج الغمّى جرىء صلب
إذ شبّت الحرب تليها الحرب ... معى حسام كالعقيق عضب «1»
نطاكم حتى يذال «2» الصعب ... نعطى الجزاء أو يفىء النّهب «3»
بكفّ ماض ليس فيه «4» عتب
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لهذا» ؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر، قتل أخى بالأمس؛ قال: «فقم إليه، اللهم أعنه عليه» . فخرج إليه حتى دنا منه، فحمل مرحب عليه فضربه، فاتّقاه بالدّرقة، فأمسكت سيفه، وضربه محمد بن مسلمة فقتله. وقد روى أن الذى قتل مرحبا على بن أبى طالب رضى الله عنه، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى اللواء عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ونهض من نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر، فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجبنّه أصحابه ويجبنّهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذته الشقيقة «5» فلم يخرج إلى الناس، فأخذ أبو بكر رضى الله عنه راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع، فأخذها عمر رضى الله عنه فقاتل قتالا شديدا أشدّ من القتال الأوّل، ثم رجع، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فقال: «أما والله لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، يأخذها عنوة» . وفى رواية قال: «يفتح الله على(17/252)
يديه» . فبات الناس يذكرون ليلتهم أيّهم يعظاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أين على بن أبى طالب» ؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكى عينيه؛ قال: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه سلمة بن الأكوع فدعاه، فجاء على بعير له حتى أناخ قريبا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو أرمد، قد عصب عينيه بشقّة برد قطرىّ «1» ، قال سلمة: فجئت به أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مالك؟» قال: رمدت؛ فقال: «ادن منى» فدنا منه فتفل فى عينيه، ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، وما وجعهما حتى مضى لسبيله، ثم أعطاه الراية وقال: «امض حتى يفتح الله عليك» قال:
يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: «انفذ على «2» رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فو الله لئن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النّعم» روى هذا الحديث أو نحوه أهل الصحة.
ومن رواية ابن إسحاق عن سلمة بن الأكوع قال: فنهض علىّ بالراية وعليه حلّة أرجوان حمراء، وقد أخرج خملها «3» ، فأتى مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن، وعليه مغفر معصفر، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكى السلاح بطل مجرّب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الحروب أقبلت تلهّب
كان حماى كالحمى لا يقرب(17/253)
فبرز له علىّ بن «1» أبى طالب فقال:
أنا الذى سمّتنى أمّى حيدرة «2» ... كليث غابات شديد قسورة «3»
أكيلكم بالسّيف كيل السّندرة «4»
فاختلفا ضربتين، فبدره علىّ رضى الله عنه فضربه، فقدّ الحجر والمغفر وفلق رأسه، حتى أخذ السيف فى الأضراس. ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أنى ياسر ... شاكى السلاح بطل مغاور «5»
إذا الليوث أقبلت تبادر ... إن حماى فيه موت حاضر
وهو يقول: هل من مبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوام رضى الله عنه، وهو يقول:
قد علمت خيبر أنى زبّار ... قرم «6» لقوم غير نكس «7» فرّار
أين حماة المجد «8» ؟ أين الأخيار؟ ... ياسر، لا يغررك جمع الكفّار
فجمعهم مثل السّراب الختّار «9»
فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: أيقتل ابنى يا رسول الله؟ قال: «بل ابنك يقتله إن شاء الله» ثم التقيا، فقتله الزبير. ومن رواية أخرى عن سلمة قال: فخرج(17/254)
على رضى الله عنه يهرول هرولة وإنّا لخلفه نتبع أثره، حتى ركز رأيته فى رضم حجارة تحت الحصن، فاطّلع إليه يهودى من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال:
أنا علىّ بن أبى طالب؛ فقال اليهودىّ: علوتم وما أنزل الله على موسى. وقال ابن إسحاق أيضا من رواية أبى رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال:
خرجنا مع علىّ رضى الله عنه حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علىّ بابا كان عند الحصن فترّس به عن نفسه، فلم يزل فى يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتنى فى نفر معى سبعة، أنا ثامنهم»
، نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه.
قال محمد بن إسحاق وأبو بكر البيهقى وغيرهما: إن بنى سهم من أسلم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، جهدنا وما بأيدينا من شىء؛ فلم يجدوا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا يعطيهم إياه؛ فقال: «اللهم وإنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوّة، وأن ليس بيدى شىء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها غناء، وأكثرها طعاما وودكا «2» » ، فغدا الناس، ففتح الله عليهم حصن الصّعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر منه طعاما وودكا. قال البيهقى:
وافتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصن ناعم، فانتقل من كان من يهود بحصن مصعب بن معاذ وحصن ناعم إلى قلعة الزّبير، ويقال: حصن ناعم أوّل ما افتتح من حصونهم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فمات. قال: وحصن(17/255)
الزبير حصن منيع فى رأس «1» قلّة، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم به ثلاثة أيام، فجاءه رجل من اليهود يقال له: غزال؛ فقال: يا أبا القاسم، تؤمننى على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النّطاة، وتخرج إلى أهل الشّق؟ فإن أهل الشق قد هلكوا رعبا منك، فأمّته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهله وماله، فقال اليهودى: إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، لهم دبول «2» تحت الأرض، يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإذا قطعت مشربهم عليهم أصحروا «3» لك. فسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا فقاتلوا أشدّ قتال، وقتل من المسلمين يومئذ نفر، وأصيب من يهود فى ذلك اليوم عشرة، وافتتحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان آخر حصون النطاة؛ فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النطاة تحوّل إلى أهل الشّق، وبه حصون، فكان أوّل حصن بدأ به صلّى الله عليه وسلّم حصن أبىّ، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قلعة يقال لها سموان؛ فقاتل عليها أهل الحصن قتالا شديدا، وخرج رجل من اليهود يقال له غزول؛ فدعا إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر، فاختلفا ضربات، ثم حمل عليه الحباب فقطع يده اليمنى من نصف الذراع، فسقط السيف من يده وهرب إلى الحصن، فتبعه الحباب فقطع عرقوبيه، فوقع، فذفّف «4» عليه، فخرج آخر فصاح: من يبارز؟ فبرز له رجل(17/256)
من المسلمين من آل جحش، فقتل الجحشىّ، وقام مكانه يدعو إلى البراز، فبرز له أبو دجانة، قد عصب رأسه بعصابة حمراء فوق المغفر، يختال فى مشيته، فبدره أبو دجانة فضربه فقطع رجليه، ثم ذفّف عليه وأخذ سلبه؛ درعه وسيفه: فنفله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، وأحجموا عن البراز، فكبّر المسلمون، ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه، يقدمهم أبو دجانة الأنصارىّ، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب من كان فيه من المقاتلة، وتقحموا الجدر كأنهم الظّبىّ إلى حصن النّزار، فعلّقوه وامتنعوا فيه، وزحف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أصحابه فقاتلهم، فكانوا أشدّ أهل الشّق رميا بالنبل والحجارة، حتى أصاب النبل ثياب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلقت به، فأخذ النبل فجمعها، ثم أخذ كفّا من حصباء، فحصب به حصنهم فرجف الحصن بهم، ثم ساخ فى الأرض حتى جاء المسلمون، فأخذوا أهله أخذا، ثم تحوّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الكتيبة، فافتتح القموص، حصن أبى الحقيق، وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه بصفيّة بنت حيىّ بن أخطب.
قالوا: ولما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنيهم: الوطيح والسّلالم، وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضع عشرة ليلة حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسيّرهم، وأن يحقن دماءهم. قال البيهقىّ: حصرهم أربعة عشر يوما وهم لا يطلعون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينصب المنجنيق «1» عليهم، فلما أيقنوا(17/257)
بالهلكة سألوا الصلح، وأرسل ابن أبى الحقيق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
أنزل فأكملك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» ، فنزل كنانة بن الربيع ابن أبى الحقيق فصالح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حقن دماء من فى حصونهم من المقاتلة، وترك الذريّة لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلّون بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة «1» ، وعلى البزّ إلا ثوبا على ظهر إنسان؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وبرئت منكم ذمّة الله وذمّة رسوله إن كتمتونى شيئا» فصالحوه على ذلك. وكان عند كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق كنز بنى النضير، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه، فجحد أن يكون يعلم مكانه، وقال: نفد فى النفقة والحروب؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كان أكثر من ذلك» ، ثم جاء رجل من يهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إنى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكنانة: «أرأيت إن وجدناه عندك، أقتلك؟» قال: نعم؛ فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقى، فأبى أن يؤدّيه، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الزّبير بن العوام به، فقال: «عذّبه حتى تستأصل ما عنده» ، فكان الزبير يقدح بزند فى صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. ويقال:
كان ذلك بعد فتح حصن القموص، وقبل فتح الوطيح والسّلالم.(17/258)
قال محمد بن إسحاق: ولما نزل أهل خيبر على الصلح سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعاملهم فى الأموال على النّصف؛ «على أنا إذا شئنا [أن «1» ] نخرجكم أخرجناكم» ، قال: ولما سمع أهل فدك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم افتتح حصون خيبر بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يسألونه أن يسيّرهم، وأن يحقن دماءهم، ويخلّوا له الأموال، ففعل؛ وكان ممن مشى بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهم فى ذلك محيّصة بن مسعود أخو بنى حارثة، ثم سألوا أن يعاملهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على النّصف كما عامل أهل خيبر، فأجابهم إلى ذلك؛ «على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم» ؛ فكانت خيبر فيئا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
ولما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبر قدم عليه جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه من أرض الحبشة ومن كان بقى بها من المسلمين، فقبّله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين عينيه والتزمه، وقال: «ما أدرى بأيهما أنا أسرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر!» .
ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة خيبر
قالوا: استشهد من المسلمين فى غزوة خيبر تسعة عشر رجلا. من قريش وحلفائهم خمسة نفر، وهم رفاعة بن مسروح، من بنى أمية بن عبد شمس، ومن حلفائهم ربيعة بن أكثم بن سخبرة، وثقف بن عمرو بن سميط، ومن حلفاء بنى أسد(17/259)
ابن عبد العزّى أبو عمير عبد الله بن الهبيب- ويقال ابن الهبيب- بن أهيب الليثىّ، ومسعود بن ربيعة، حليف لبنى زهرة، من القارة. ومن الأنصار أربعة عشر رجلا، وهم: بشر بن البراء بن معرور، مات من الشاة المسومة، وفضيل بن النعمان، ومسعود بن سعد بن قيس، ومحمود بن مسلمة، وأبو ضيّاح النعمان بن ثابت، والحارث بن حاطب، ممن شهد بدرا، وعروة بن مرّة بن سراقة، وأوس بن الفائد «1» ، وأنيف بن حبيب، وثابت بن إثلة «2» ، وطلحة، ومبشر، وعمارة بن عقبة، وعامر بن الأكوع الأسلمىّ، وكان قد برز له يهودى، فبرز إليه وهو يقول:
قد علمت خيبر أنى عامر ... شاكى السلاح بطل مغامر
واختلفا ضربتين، فوقع سيف اليهودىّ فى ترس عامر، ووقع سيف عامر عليه، فأصاب ركبة نفسه وساقه، فمات منها. قال سلمة بن الأكوع: فمررت على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يقولون: بطل عمل عامر؛ فأتيت نبى الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا شاحب أبكى، فقلت: يا رسول الله، أبطل عمل عامر؟ فقال: «ومن قال ذلك؟» قلت: بعض أصحابك؛ قال: «كذب من قاله، بل له أجره مرّتين، إنه لجاهد مجاهد» .
واستشهد الأسود الراعى- واسمه أسلم، وهو من أهل خيبر- وكان من حديثه ما حكاه محمد بن إسحاق وأبو بكر البيهقى رحمهما الله: أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محاصر لبعض حصون خيبر، ومعه غنم كان فيها أجيرا لرجل من(17/260)
يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض علىّ الإسلام؛ فعرضه عليه، فقال: فماذا لى إن أنا شهدت وآمنت بالله؟ قال: «لك الجنة إن أنت متّ على ذلك» ، فأسلم وقال: يا رسول الله، إنى كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم، وهى أمانة عندى، فكيف أصنع بها؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجها من عسكرنا، واحصب «1» وجوهها، فإن الله سيؤدى عنك أمانتك، وسترجع إلى ربّها» . ففعل الأسود وقال: ارجعى إلى صاحبك، فو الله لا أصحبك، فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن. ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلّى لله صلاة قطّ، فأتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضع خلفه، وسجّى بشملة كانت عليه، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله، لم أعرضت عنه؟ قال: «إن معه الآن زوجته من الحور العين» .
وقتل من يهود ثلاثة «2» وأربعون، منهم: الحارث أبو زينب، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، وكنانة بن أبى الحقيق، وأخوه.
ذكر قسم غنائم خيبر
قال محمد بن سعد: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغنائم فجمعت، واستعمل عليها فروة بن عمرو البياضىّ، وأمر بذلك فجزّئ خمسة أجزاء، وكتب فى سهم منها لله، وسائر السّهمان أغفال، فكان أوّل ما خرج سهم النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأمر ببيع الأربعة أخماس فيمن يزيد، فباعها فروة، وقسم ذلك بين(17/261)
أصحابه؛ وكان الذى ولى إحصاء الناس زيد بن ثابت، فأحصاهم ألفا وأربعمائة رجل، والخيل مائتى فرس، فكانت السّهمان على ثمانية عشر سهما، لكل مائة سهم، وكان الخمس الذى صار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعطى منه على ما أراه الله.
وقال محمد بن إسحاق: كانت المقاسم على أموال خيبر؛ على الشّق ونطاة والكتيبة، فكانت الكتيبة خمس الله، وسهم النبى صلّى الله عليه وسلّم وذوى القربى واليتامى والمساكين، وطعم أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبين أهل فدك بالصلح، منهم محيّصة بن مسعود، أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها ثلاثين وسقا «1» من شعير، وثلاثين وسقا من تمر، وكانت الشق ونطاة فى سهمان المسلمين؛ قال: وقسمت خيبر على أهل الحديبية، من شهد منهم ومن غاب، ولم يغب عنها إلّا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقسم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسهم من حضرها. وقال: وكان وادياها: وادى السّرير ووادى خاص، وهما اللذان قسمت عليهما خيبر، فكانت نطاة والشّق ثمانية عشر سهما، نطاة خمسة أسهم، والشق ثلاثة عشر سهما، فقسمت الشق ونطاة على ألف سهم وثمانمائة سهم، فكان لكلّ سهم رأس جمع إليه مائة رجل؛ قال: ثم قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكتيبة- وهو وادى خاص- بين قرابته ونسائه ورجال من المسلمين ونساء أعطاهم منها. وروى بشير بن يسار قال: لما افتتح النبى صلّى الله عليه وسلّم خيبر أخذها عنوة، فقسمها على ستة وثلاثين سهما، فأخذ لنفسه ولنوائبه وما ينزل به ثمانية عشر سهما، وقسم بين الناس ثمانية عشر سهما. والله أعلم.(17/262)
وروى أبو داود فى سنته بسنده إلى عقبة بن عامر أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لرجل: «أترضى أن أزوّجك فلانة؟» قال: نعم؛ وقال للمرأة: «أترضين أن أزوّجك فلانا؟» قالت: نعم. فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زوجنى فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، وإنّى أشهد كم أنّى أعطيتها من صداقها سهمى بخيبر. فأخذت سهما فباعته بمائة ألف.
ذكر تسمية من قسم لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتيبة التى خرجت للخمس وما أعطاهم منها
قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتيبة- وهو وادى خاص «1» - لفاطمة ابنته رضى الله عنهامائتى وسق، ولعلىّ بن أبى طالب مائة وسق، ولأسامة بن زيد مائتى وسق، وخمسين وسقا نوى، ولعائشة أم المؤمنين رضى الله عنها مائتى وسق، ولأبى بكر الصديق رضى الله عنه مائة وسق، ولعقيل بن أبى طالب مائة وسق وأربعين وسقا، ولبنى جعفر خمسين وسقا، ولربيعة بن الحارث مائة وسق، وللصلت بن مخرمة وابنيه مائة وسق؛ للصلت منها أربعون وسقا. وقال أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة قاسم بن مخرمة بن المطلب: أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأخيه الصلت مائة وسق من خيبر، ولأبى نبقة خمسين وسقا، ولركانة بن عبد يزيد خمسين وسقا، ولابن القاسم بن مخرمة أربعين وسقا، ولبنات عبيدة بن الحارث وابنه الحصين بن الحارث مائة وسق، ولبنى عبيد بن عبد يزيد ستين وسقا، ولابن(17/263)
أوس بن مخرمة ثلاثين وسقا، ولمسطح بن أثاثة وابن إلياس خمسين وسقا، ولأم رميثة أربعين وسقا، ولنعيم «1» بن هند ثلاثين وسقا، ولبحينة بنت الحارث ثلاثين وسقا، ولعجير بن عبد يزيد ثلاثين وسقا، ولأم الحكم «2» بنت الزبير بن عبد المطلب ثلاثين وسقا، ولجمانة بنت أبى طالب ثلاثين وسقا، ولعبد الله بن الأرقم الزهرى خمسين وسقا، ولعبد الرحمن بن أبى بكر أربعين وسقا، ولحمنة بنت جحش ثلاثين وسقا، ولأم الزبير أربعين وسقا، ولضباعة بنت الزبير أربعين وسقا، ولابن أبى خنيس ثلاثين وسقا، ولأم طالب أربعين وسقا، ولأبى نضرة عشرين وسقا، ولنميلة الكلبىّ خمسين وسقا، ولعبد الله بن وهب وابنيه تسعين وسقا، لابنيه منها أربعون وسقا، ولأم حبيب بنت جحش ثلاثين وسقا، ولملكو بن عبدة ثلاثين وسقا، ولنسائه صلّى الله عليه وسلّم سبعمائة وسق.
وقال ابن إسحاق أيضا: وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنسائه من فتح خيبر مائة وسق وثمانين وسقا، ولفاطمة ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة وثمانين وسقا، ولأسامة بن زيد أربعين وسقا، وللمقداد بن الأسود خمسة عشر وسقا، ولأمّ رميثة خمسة أوسق.
شهد عثمان بن عفان وعباس وكتب.
قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر خارصا «3» بين المسلمين ويهود فيخرص عليهم، فإذا قالوا: تعديت علينا؛ قال:
إن شئتم فلكم، وإن شئتم قلنا؛ فتقول يهود: بهذا قامت السموات والأرض.
ولم يخرص عليهم عبد الله إلا عاما واحدا ومات.(17/264)
وروى أبو داود رحمه الله فى سننه بسنده عن جابر بن عبد الله من رواية ابن جريج عن أبى الزبير عنه، قال: خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق، وإن اليهود لما خيرهم ابن رواحة أخذوا التمر وعليهم عشرون ألف وسق، ثم خرص «1» عليهم بعده جبّار بن صخر بن أمية بن خنساء، أخو بنى سلمة، فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسا فى معاملتهم، حتى عدوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن سهل، أخى بنى حارثة، فقتلوه، وكان قد خرج إليها فى أصحاب له يمتار «2» منها تمرا، فوجد فى عين قد كسرت عنقه، فاتهمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون بقتله، وجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل، وابنا عمه حويّصة ومحيّصة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتكلم عبد الرحمن- وكان أصغرهم، وهو صاحب الدم- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كبّر «3» كبّر» فسكت، وتكلم حويّصة ومحيّصة، ثم تكلم بعدهما، فذكروا قتل صاحبهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتسمّون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلمه إليكم؟» قالوا: يا رسول الله، ما كنا لنحلف على ما لا نعلم؛ قال: «أفيحلفون بالله خمسين يمينا ما قتلوه، ولا يعلمون له قاتلا، ثم يبرءون من دمه؟» ، فقالوا: يا رسول الله، ما كنا لنقبل أيمان يهود، ما هم فيه من الكفر أعظم أن يحلفوا على إثم. قال: فوداه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمائة ناقة.
قال «4» : واستقرت خيبر بيد يهود على ما عاملهم عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدة حياته، ثم أقرها أبو بكر رضى الله عنه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأيديهم على المعاملة، ثم أقرهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه صدرا من خلافته،(17/265)
ثم بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فى وجعه الذى قبضه الله فيه:
«لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» ؛ ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود، فقال: إن الله قد أذن فى إجلائكم، قد بلغنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» فمن كان عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليهود فليأتنى به أنفذه له، ومن لم يكن له عهد منه فليتجهز للجلاء. فأجلى عمر بن الخطاب من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
هذا ما كان من أمر خيبر على سبيل الاختصار، فلنذكر ما اتفق بعد فتح خيبر مما يتعين إلحاقه بهذه الغزوة لتعلقه بها، فمن ذلك خبر الشاة التى سمّ فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قدّمنا ذكر ذلك فى أخبار يهود، وهو فى الجزء الرابع عشر من هذه النسخة «1» ، ومنه خبر الحجاج بن علاط.
ذكر خبر الحجاج بن علاط وما أوصله إلى أهل مكة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى استوفى أمواله
قالوا: وكان الحجاج بن علاط السّلمىّ ثم البهزىّ أسلم وشهد خيبر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما فتحت خيبر قال: يا رسول الله، إن لى بمكة ما لا عند صاحبتى أم شيبة بنت أبى طلحة، ومال مفرّق فى تجار أهل مكة، فأذن لى يا رسول الله.
فأذن له، فقال: إنه لا بدّ لى يا رسول الله من أن أقول. قال: «قل» ، قال الحجاج:
فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنيّة البيضاء «2» رجالا من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد بلغهم أنه قد سار(17/266)
إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز؛ ريفا ومنعة ورجالا، فهم يتحسسون الأخبار، ويسألون الرّكبان، فلما رأونى قالوا: الحجاج بن علاط عنده والله الخبر؛ قال: ولم يكونوا قد علموا بإسلامى، فقالوا: أخبرنا يا أبا محمد، فإنه بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهى بلد يهود وريف بالحجاز؛ قال: قلت: قد بلغنى ذلك وعندى من الخبر ما يسركم؛ فالتبطوا «1» بجنبى ناقتى يقولون: إيه يا حجاج! قال:
قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة، فيقلتوه بين أظهرهم بمن أصاب من رجالهم. فقاموا وصاحوا بمكة، وقالوا: لقد جاءكم الخبر، وهذا محمد، إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال: قلت: أعينونى على جمع مالى بمكة على غرمائى، فإنى أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فلّ «2» محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى ما هنالك. قال: فقاموا فجمعوا لى مالى كأحثّ «3» جمع سمعت به. قال: وجئت صاحبتى فقلت: مالى- وقد كان لى عندها مال موضوع- لعلى الحق بخيبر، فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقنى التجار؛ قال:
فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عنّى، أقبل حتى وقف إلى جنبى وأنا فى خيمة من خيم «4» التجار، فقال: يا حجاج، ما هذا الخبر الذى جئت به؟
قال: قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم؛ قلت: فاستأخر عنى حتى أفرغ. قال: فلما فرغت من جمع كل شىء كان لى بمكة، وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت: احفظ علىّ حديثى يا أبا الفضل، فإنى أخشى الطلب ثلاثا، ثم قل ما شئت. قال: أفعل؛ قلت: فإنى والله تركت ابن أخيك(17/267)
عروسا على بنت ملكهم- يعنى صفيّة بنت حيىّ بن أخطب- ولقد افتتح خيبر، وانتثل «1» ما فيها، وصارت له ولأصحابه؛ قال: ما تقول يا حجاج! قلت: إى والله، فاكتم عنى، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ ما لى فرقا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك، فهو والله على ما تحب. قال: وسرت حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلّة له، وتخلّق «2» وأخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى الكعبة، فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلّد لحرّ المصيبة؛ قال: كلا، والله الذى حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنة ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها، فأصبحت له ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذى جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما فأخذ ماله، وانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه؛ قالوا: يا لعباد الله! انفلت عدوّ الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن. ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك.
ذكر انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن خيبر إلى وادى القرى، ونومهم عن صلاة الصبح
قالوا: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خيبر انصرف إلى وادى القرى، فنزل به مع غروب الشمس، ومعه غلام له يقال له: مدعم؛ أهداه إليه رفاعة بن زيد الجذامىّ، فبينا هو يضع رحل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه سهم غرب «3» فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«كلا والذى نفس محمد بيده إن شملته «4» لتحترق عليه فى النار» . كان غلّها(17/268)
من فىء المسلمين يوم خيبر، فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أصبت شراكين لنعلين لى؛ فقال: «يقدّ لك مثلهما من النار» .
قال أبو بكر أحمد البيهقىّ رحمه الله بسند يرفعه إلى أبى هريرة رضى الله عنه، وساق نحو الحديث فى قتل مدعم، ثم قال: وكانت يهود قد ثوى إليها ناس من العرب، فاستقبلونا بالرّمى حيث نزلنا، ولم نكن على تعبئة، وهم يصيحون من آطامهم، فعبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وصفّهم للقتال، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عبّاد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله. فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير ابن العوام فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه على بن أبى طالب رضى الله عنه فقتله ثم برز آخر، فبرز إليه أبو دجانة الأنصارىّ رضى الله عنه فقتله، حتى قتل منهم اثنا «1» عشر رجلا، كلما قتل رجل منهم دعى من بقى إلى الإسلام. قال: ولقد كانت الصلاة تحضر يومئذ فيصلى بأصحابه، ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله، فقاتلهم صلّى الله عليه وسلّم حتى أمسى، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوة، وغنم أموالهم، وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادى القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه، وترك الأرض والنخل بأيدى يهود، وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تيماء ما كان من أمر خيبر وفدك ووادى القرى صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجزية،(17/269)
وأقاموا بأيديهم أموالهم، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا إلى المدينة؛ فلما كان ببعض الطريق قال من آخر الليل: «من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام» ؟ وجاء فى الحديث: «من رجل يكلأ لنا الليل» ؟. فقال بلال:
أنا يا رسول الله. فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزل الناس فناموا، وقام بلال يصلى، فصلى ما شاء الله أن يصلى، ثم استند إلى بعيره واستقبل الفجر يرمقه فغلبته عينه فنام، فلم يوقظهم إلا مسّ الشمس، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول أصحابه استيقاظا، فقال: «ماذا صنعت بنا يا بلال» ؟ فقال: يا رسول الله أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك. قال: «صدقت» . ثم اقتاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [بعيره «1» ] غير كثير ثم أناخ، فتوضأ وتوضأ الناس، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة «2» ، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس، فلما سلّم أقبل على الناس فقال: «إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله عز وجل يقول: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)
«3» » .
وفى الحديث: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين استيقظ واستيقظ أصحابه أمرهم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادى، وقال: «إن هذا واد به شيطان» فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادى، ثم أمرهم أن ينزلوا وأن يتوضئوا ... الحديث بنحو ما تقدم.
ذكر سريّة عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى تربة «4»
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة سبع من مهاجره فى ثلاثين رجلا إلى عجز هوازن بتربة- وهى ناحية العبلاء، على أربع ليال من مكة، طريق صنعاء ونجران- وهى ناحية العبلاء على أربع ليال من مكة، طريق صنعاء ونجران- فأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالّهم «5» فلم يلق بها أحدا.
فانصرف راجعا إلى المدينة.(17/270)
ذكر سرية أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى بنى كلاب بنجد بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة سبع من مهاجره.
روى عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع أبى بكر رضى الله عنه إذ بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علينا، فسبى ناسا من المشركين فقتلناهم، وكان شعارنا:
أمت أمت. قال: فقتلت بيدى سبعة أهل أبيات من المشركين. وعنه أيضا قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر إلى فزارة. وهذا الذى صححه مسلم. وعن إياس بن مسلمة بن الأكوع قال: حدثنى أبى قال: غزونا فزارة وعلينا أبو بكر رضى الله عنه، أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علينا، فلما كان بينه وبين القوم ساعة أمرنا أبو بكر فعرّسنا «1» ، ثم شنّ الغار فورد الماء، فقتل من قتل وسبى من سبى. ثم [قال «2» سلمة: فرأيت عنقا «3» ] من الناس فيهم الذرارىّ، فخشيت أن يسبقونى إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فجئت بهم أسوقهم، وفيهم امرأة من بنى فزارة، معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر رضى الله عنه فنفلنى ابنتها، فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبا، فلقينى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السوق، فقال:
«يا سلمة، هب لى المرأة» . فقلت: يا رسول الله، قد أعجبتنى وما كشفت لها ثوبا؛ ثم لقينى من الغد فى السوق، فقال: «يا سلمة، هب لى المرأة، لله أبوك!» .
فقلت: هى لك يا رسول الله؛ فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل مكة، ففدى بها ناسا من المسلمين كانوا أسروا بمكة. روى هذا الحديث مسلم.(17/271)
ذكر سريّة بشير بن سعد الأنصارى إلى فدك
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة سبع من مهاجره فى ثلاثين رجلا إلى بنى مرّة بفدك، فخرج فلقى رعاء الشاء، فسأل عن الناس فقيل:
فى نواديهم، فاستاق النّعم والشاء، وانحدر إلى المدينة، فخرج الصريخ فأخبرهم فأدركهم «1» الدّهم «2» منهم عند الليل، فباتوا يرمونهم بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير وأصبحوا، فحمل المرّبون عليهم فأصابوا أصحاب بشير، وقاتل بشير حتى ارتثّ «3» وضرب كعبه، وقيل: قد مات. ورجعوا بنعمهم وشائهم، وقدم علبة بن زيد الحارثى يخبرهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدم بعده بشير بن سعد.
ذكر سريّة غالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان سنة سبع من مهاجره إلى بنى عوال «4» ، وبنى عبد بن ثعلبة، وهم بالميفعة، وهى وراء بطن نخل إلى النّقرة قليلا بناحية نجد، وبينها وبين المدينة ثمانية برد.
بعثه فى مائة وثلاثين رجلا، ودليلهم يسار، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهجموا عليهم جميعا، ووقعوا وسط محالّهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء فحدروه إلى المدينة، ولم يأسروا أحدا. وفى هذه السرية قتل أسامة بن زيد الرجل الذى قال لا إله إلا الله، وهو نهبك بن مرداس بن ظالم من بنى ذبيان بن بغيض، وقال ابن إسحاق: مرداس بن نهيك؛ حليف لهم من الحرقة من جهينة.
ونقل أبو عمر بن عبد البر أنه عامر بن الأضبط الأشجعىّ، وأن رسول الله صلّى الله(17/272)
عليه وسلّم وداه. قال أسامة: أدركته أنا ورجل من الأنصار، فلمّا شهرنا عليه السلاح قال: أشهد أن لا إله إلّا الله؛ فلم ننزع عنه حتّى قتلناه، فلمّا قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرناه خبره؛ فقال: «يا أسامة، من لك بلا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنه إنما قالها تعوّذا من القتل؛ قال:
«فمن لك بها يا أسامة» ؟ قال: فو الّذى بعثه بالحقّ إنه ما زال يردّدها علىّ حتّى لوددت أنّ ما مضى من إسلامى لم يكن، وكنت أسلمت يومئذ، وأنّى لم أقتله. قال: قلت: أنظرنى يا رسول الله، إنى أعاهد الله ألّا أقتل رجلا يقول: «لا إله إلا الله» أبدا. قال: «يقول بعدى يا أسامة» ، قلت: بعدك، وفى بعض طرق هذا الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأسامة حين قال: «يا رسول الله، إنما قالها تعوّذا من القتل» «هلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب» !.
ذكر سريّة بشير بن سعد الأنصارىّ إلى يمن «1» وجبار «2»
كانت هذه السريّة فى شوّال سنة سبع من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن جمعا من غطفان بالجناب «3» قد واعدهم عيينة بن حصن ليكون معهم ليزحفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا بشير بن سعد فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، فساروا حتى أتوا يمن وجبار، وهو نحو الجناب- والجناب يعارض سلاح «4» وخيبر ووادى القرى- فدنوا(17/273)
من القوم فأصابوا لهم نعما كثيرا، وتفرّق الرّعاء فحدّروا الجمع، فتفرّقوا ولحقوا بعلياء بلادهم، وخرج بشير بن سعد فى أصحابه حتى أتى محالّهم فلم يجد فيها أحدا، فرجع بالنّعم، وأصاب منهم رجلين، فأسرهما وقدم بهما المدينة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلما، فأرسلهما صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر سريّة ابن أبى العوجاء السّلمىّ إلى بنى سليم
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى الحجّة سنة سبع من مهاجره فى خمسين رجلا إلى بنى سليم، وذلك بعد انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة بعد عمرة القضاء، فخرج إليهم وتقدّمه عين لهم كان معه، فحذّرهم، فتجمّعوا، فأتاهم ابن أبى العوجاء وهم معدّون له، فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا إليه. فتراموا ساعة بالنّبل، وجعلت الأمداد تأتى حتى أحدقوا بهم من كلّ ناحية، فقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامّتهم، وأصيب ابن أبى العوجاء جريحا مع القتلى، ثم تحامل حتّى بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقدموا المدينة فى أوّل يوم من صفر سنة ثمان من الهجرة.
ذكر سريّة غالب بن عبد الله الليثىّ إلى بنى الملوح بالكديد «1»
كانت فى صفر سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. روى عن جندب بن مكيث الجهنىّ قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غالب ابن عبد الله الليثىّ، ثم أحد بنى كلب بن عوف فى سريّة، فكنت فيهم، وأمرهم أن يشنّوا الغارة على بنى الملوّح بالكديد- وهم من بنى ليث- قال: فخرجنا(17/274)
حتى إذا كنا بقديد «1» لقينا الحارث بن البرصاء، فأخذناه، فقال: إنما جئت أريد الإسلام. قلنا: إن تكن مسلما لم يضررك رباطنا يوما وليلة. قال: فشددناه وثاقا، وخلّفنا عليه رويجلا منّا أسود، وسرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس، فكمنّا فى ناحية الوادى، وبعثنى أصحابى ربيئة «2» ، فخرجت حتى آتى تلّا مشرفا على الحاضر «3» ، فاستندت فيه، فعلوت فى رأسه، فنظرت إلى الحاضر، فو الله إنّى لمنبطح على التلّ إذ خرج رجل منهم من خبائه، فقال لامرأته: إنى لأرى على التلّ سوادا ما رأيته فى أوّل يومى، فانظرى إلى أوعيتك، هل تفقدين منها شيئا؟
لا تكون الكلاب جرّت بعضها قال: فنظرت، فقالت: لا والله ما أفقد شيئا. قال:
فناولينى قوسى وسهمين، فناولته، فأرسل سهما فو الله ما أخطأ جنبى، فأنزعه فأضعه، وثبّت مكانى، ثم أرسل الآخر فوضعه فى منكبى، فأنزعه فأضعه، وثبتّ مكانى، فقال لامرأته: لو كان ربيئة لقد تحرّك، لقد خالطه سهماى لا أبا لك! فإذا أصبحت فابتغيهما فخذيهما لا تمضغهما الكلاب؛ قال: ثمّ دخل، وأمهلناهم حتى اطمأنّوا وتأمّوا- وكان وجه السّحر- شننّا عليهم الغارة، واستقنا النعم، فخرج صريخ القوم فى قومهم، فجاء ما لا قبل لنا به، فخرجنا بها نحدرها حتى مررنا بابن البرصاء فاحتملناه واحتملنا صاحبنا، وأدركنا القوم حتّى نظروا إلينا، ما بيننا وبينهم إلّا الوادى- وادى قديد- فأرسل الله تعالى الوادى بالسّيل من حيث شاء تبارك وتعالى من غير سحابة نراها ولا مطر، فجاء بشىء ليس لأحد به قوّة، ولا يقدر على أن يجاوزه، فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا، وإنّا لنسوق نعمهم(17/275)
ما يستطيع رجل منهم أن يجيز إلينا، ونحن نحدوها سراعا حتى فتناهم، فلم يقدروا على طلبنا، قال: فقدمنا بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن سعد: وكانوا بضعة عشر رجلا، وكان شعارهم يومئذ: أمت أمت!
ذكر سريّة غالب بن عبد الله الّليثى أيضا إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك
كانت فى صفر سنة ثمان من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد هيّأ الزبير بن العوّام رضى الله عنه، وقال له:
«سر حتى تنتهى إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد، فإن أظفرك الله بهم فلا تبق فيهم» ، وهيّأ معه مائتى رجل، وعقد له لواء، فقدم غالب بن عبد الله من الكديد، وقد أظفره الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزبير:
«اجلس» . وبعث غالب بن عبد الله فى مائتى رجل، فيهم أسامة بن زيد، فسار حتى انتهى إلى مصاب أصحاب بشير، فأصابوا نعما، وقتلوا قتلى.
ذكر سريّة شجاع بن وهب الأسدىّ إلى بنى عامر بالسّىّ «1»
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ثمان من الهجرة فى أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن بالسّىّ، من ناحية ركبة «2» ، من وراء المعدن «3» ، وهى من المدينة على خمس ليال، وأمره أن يغير عليهم، فسار حتى صبّحهم وهى غارّون، فأصابوا نعما كثيرا وشاء، فاستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وغابت هذه السريّة خمس عشرة ليلة.(17/276)
ذكر سريّة كعب بن عمير الغفارىّ إلى ذات أطلاح «1»
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ثمان من الهجرة فى خمسة عشر رجلا، فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، من أرض الشام، وهى من وراء وادى القرى، فوجدوا جمعا كثيرا من جمعهم، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنّبل، فلمّا رأى ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاتلوهم أشدّ القتال حتى قتلوا، وأفلت منهم رجل جريح، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فشقّ ذلك عليه، وهمّ بالبعث إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا إلى مواضع أخر، فتركهم.
ذكر سريّة مؤتة
ومؤتة «2» بأدنى البلقاء بالقرب من الكرك «3» .
كانت هذه السريّة فى جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة. وسبب بعث هذه السريّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث الحارث بن عمير الأزدىّ إلى ملك بصرى بكتاب، فلمّا نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسّانىّ، فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسول غيره، فاشتدّ ذلك عليه، وندب الناس فأسرعوا وعسكروا بالجرف «4» ، وهم ثلاثة آلاف،(17/277)
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمير القوم زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبى طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم» ، وعقد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء أبيض وسلّمه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام «إن أجابوا، وإلّا فاستعينوا عليهم بالله وقاتلوهم» ، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشيّعا لهم حتّى بلغ ثنيّة الوداع «1» ، فوقف وودّعهم وانصرف عنهم. فقال عبد الله بن رواحة:
خلف السلام على امرئ ودّعته ... فى النّخل خير مودّع «2» وخليل
فلمّا ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم، وردّكم صالحين غانمين!.
فقال ابن رواحة:
لكنّنى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزّبدا «3»
فى أبيات «4» أخر.
قال: فلمّا فصلوا «5» من المدينة سمع العدوّ بمسيرهم، فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف، وقدّم الطلائع أمامه،(17/278)
وقد نزل المسلمون معان «1» من أرض الشام، وبلغ الناس أن هرفل قد نزل مآب «2» من أرض البلقاء فى مائة ألف من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام والقين، عليهم رجل من بلىّ ثم أحد إراشة؛ يقال له: مالك بن زافلة «3» ، فأقاموا ليلتين لينظروا فى أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشجّعهم عبد الله ابن رواحة، وقال: يا قوم، والله إنّ التى تكرهون للّتى خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدّين الذى أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنّما هى إحدى الحسنين: إمّا ظهور «4» ، وإمّا شهادة. فقال الناس:
قد والله صدق ابن رواحة. قال: فمضى الناس حتّى إذا كانوا بتخوم «5» البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها المشارف، ثم دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة «6» ، ووافاهم المشركون، فجاء منهم ما لا قبل لأحد به من العدد والسلاح والكراع «7» والدّيباج والحرير والذهب(17/279)
فعبّأ المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عدرة يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى مسيرتهم رجلا من الأنصار يقال له: عباية بن مالك- ويقال: عبادة- ثم التقوا واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة رضى الله عنه براية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل طعنا بالرماح، ثم أخذ الراية جعفر بن أبى طالب، فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها «1» ، فكانت أوّل فرس عرقبت فى الإسلام، وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين فوجد فى أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا، ووجدنا فيما أقبل من بدنه «2» اثنتين وسبعين ضربة بسيف «3» وطعنة برمح.
وحكى أبو محمد عبد الملك بن هشام أن جعفر بن أبى طالب أخذ اللّواء بيمينه فقطعت يده، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله تعالى بذلك جناحين فى الجنّة يطير بهما حيث شاء.
وقال محمد بن إسحاق: كان جعفر يقاتل وهو يقول:
يا حبّذا الجنّة واقترابها ... طيّبة وباردا شرابها
والرّوم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها
علىّ إن لاقيتها ضرابها
قال: ولمّا قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الرّاية، ثم تقدّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه «4» ويتردّد بعض التردّد، ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... لتنزلنّ أو لتكرّهنّه(17/280)
إن أجلب الناس وشدّ والرّنّة «1» ... مالى أراك تكرهين الجنّة
قد طال ما قد كنت مطمئنّة ... هل أنت إلّا نطفة فى شنّة «2»
وقال أيضا رضى الله عنه:
يا نفس إلّا تقتلى تموتى ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنّيت فقد أعطيت ... إن تفعلى فعلهما هديت
وإن تولّيت فقد شقيت
يريد بقوله: «فعلهما» صاحبيه زيدا وجعفرا؛ ثم نزل. فأتاه ابن عمّ له بعرق «3» من لحم، فقال: شدّ بهذا صلبك، فإنّك قد لقيت فى أيّامك هذه ما لقيت.
فأخذه من يده فانتهس «4» منه نهسة، ثم سمع الحطمة «5» من ناحية الناس، فقال: وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه وتقدّم، فقاتل حتى قتل.
ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم، وقال: يا معشر الناس «6» ، اصطلحوا على رجل منكم؛ فقالوا: أنت؛ قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلمّا أخذ الراية دافع القوم، وحاشى «7» بهم، ثم انحاز وانحيز عنه، وانكشف. فكانت(17/281)
الهزيمة، فتبعهم المشركون، فقتل من قتل من المسلمين، ورفعت الأرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نظر إلى معترك القوم، فلما أخذ خالد بن الوليد اللواء قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الآن حمى الوطيس «1» » .
قال محمد بن إسحاق: ولمّا أصيب القوم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا» ، ثم صمت حتى تغيّرت وجوه الأنصار، وظنّوا أنّه قد كان فى عبد الله ابن رواحة بعض ما يكرهون؛ فقال: «ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا» .
قال ابن إسحاق: وكان قطبة بن قتادة العذرىّ حمل على مالك بن زافلة فقتله وهو على المائة ألف الّتى اجتمعت من العرب، فقال فى ذلك:
طعنت ابن زافلة بن الإراش ... برمح مضى فيه ثمّ انحطم «2»
ضربت على جيده ضربة ... فمال كما مال غصن السلم «3»
قال: ولمّا سمع أهل المدينة بإقبال جيش مؤتة تلقّوهم بالجرف، فجعل الناس يحثون فى وجوههم التراب ويقولون: يا فرّار، فررتم فى سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليسوا بفرّار، ولكنّهم كرّار إن شاء الله» .(17/282)
ذكر تسمية من استشهد من المسلمين يوم مؤتة
استشهد من قريش ومواليهم أربعة نفر، وهم: جعفر بن أبى طالب، وزيد ابن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومسعود بن الأسود بن حارثة ابن نضلة، ووهب بن سعد بن أبى سرح. واستشهد من الأنصار: عبد الله ابن رواحة، وعبّاد بن قيس، والحارث بن النعمان بن إساف، وسراقة بن عمرو وأبو كليب وجابر ابنا عمرو بن زيد، وعمرو وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عبّاد، رضوان الله عليهم أجمعين.
ذكر سريّة عمرو بن العاص إلى ذات السّلاسل «1»
وهى وراء وادى القرى، وبينها وبين المدينة عشرة أيام، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة. وسبب بعث هذه السريّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أنّ جمعا من قضاعة قد تجمّعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه فى ثلاثمائة من سراة «3» المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرسا، وأمره أن يستعين بمن يمرّ به من بلىّ «4» وعدرة وبلقين، فسار الليل وكمن النهار، فلمّا قرب من القوم بلغه أنّ لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث «5» الجهنىّ(17/283)
إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستمدّه، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجرّاح فى مائتين، وعقد له لواء، وبعث معه سراة المهاجرين والأنصار، وفيهم أبو بكر وعمر، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا، فلحق بعمرو؛ فأراد أبو عبيدة أن يؤمّ الناس، فقال عمرو: إنما قدمت علىّ مددا، وأنا الأمير، فأطاع له بذلك أبو عبيدة «1» ، وسار حتى وطئ بلاد بلىّ، ودوّخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين، ولقى فى آخر ذلك جمعا، فحمل عليهم المسلمون، فهربوا فى البلاد وتفرّقوا، ثم قفل وبعث عوف بن مالك الأشجعىّ بريدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فأخبره بقفولهم وسلامتهم وما كان فى غزاتهم.
ذكر سريّة أبى عبيدة بن الجرّاح، وهى سريّة الخبط «2»
بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة بن الجرّاح فى شهر رجب سنة ثمان من الهجرة فى ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وفيهم عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- إلى حىّ من جهينة بالقبليّة مما يلى ساحل البحر، وبينها وبين المدينة خمس ليال، فأصابهم فى الطريق جوع شديد، فأكلوا الخبط، وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم.
روى عن عبادة بن الصامت قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة إلى سيف «3» البحر، عليهم أبو عبيدة بن الجرّاح، وزوّدهم جرابا من تمر، فجعل يقوتهم إيّاه حتى صاروا إلى أن يعدّه لهم عدّا، ثم نفد التمر حتى كان يعطى كلّ رجل منهم كلّ يوم تمرة، فقسمها يوما بيننا، فنقصت تمرة عن رجل، قال: فوجدنا فقدها ذلك(17/284)
اليوم، فلمّا جهدنا الجوع أخرج الله لنا دابّة «1» من البحر فأصبنا من لحمها وودكها، «2» فأقمنا عليها عشرين ليلة حتى سمنّا وابتللنا «3» ، وأخذ أميرنا ضلعا من أضلاعها فوضعه على طريقه، ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منّا، فخرج من تحتها وما مسّت رأسه، فلمّا قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرناه خبرها، وسألناه عمّا صنعنا فى ذلك من أكلنا إيّاها، فقال: «رزق رزقكموه الله» .
قال ابن سعد: وانصرفوا ولم يلقوا كيدا.
ذكر سريّة أبى قتادة بن ربعىّ الأنصارىّ إلى خضرة وهى أرض محارب بنجد
قالوا: بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة ثمان من الهجرة ومعه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، وأمره أن يشنّ عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، فهجم على حاضر منهم عظيم، فأحاط به، فصرخ رجل منهم: يا خضرة وقاتل منهم رجال، فقتلوا من أشرافهم «4» ، واستاقوا النّعم، فكانت الإبل مائتى بعير، والغنم ألفى شاة، وسبوا سبيا كثيرا، وجمعوا الغنائم، فأخرجوا الخمس، وقسموا ما بقى على السريّة، فأصاب كلّ رجل منهم اثنا عشر بعيرا، وعدل البعير بعشر من(17/285)
الغنم، وصارت فى سهم أبى قتادة جارية وضيئة، فاستوهبها منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوهبها له، فوهبها صلّى الله عليه وسلّم لمحميّة بن جزء. وغابوا فى هذه السريّة خمس عشرة ليلة.
ذكر سريّة أبى قتادة بن ربعىّ الأنصارىّ إلى بطن إضم
كانت هذه السريّة فى أوّل شهر رمضان سنة ثمان من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قالوا: لمّا همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغزو أهل مكّة بعث أبا قتادة فى ثمانية نفر سريّة إلى بطن إضم- وهى فيما بين ذى خشب وذى المروة وبينها وبين المدينة ثلاثة برد- ليظنّ ظانّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توجّه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار، وكان فى السريّة محلّم بن جثّامة اللّيثى، فمرّ عامر بن الأضبط الأشجعىّ، فسلّم بتحيّة الإسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محلّم بن جثّامة فقتله لشىء كان بينهما، وسلبه بعيره ومتاعه، فلمّا لحقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل فيهم من القرآن قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ «1» )
الآية. فمضوا ولم يلقوا جمعا فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذى خشب، فبلغهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد توجّه إلى مكّة، فأخذوا على يين «2» ، حتى لقوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالسّقيا.(17/286)
ذكر غزوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح والسبب الّذى أوجب نقض العهد وفسخ الهدنة
كانت هذه الغزوة فى شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبية.
وسبب ذلك أنّه لمّا دخل شعبان من هذه السنة كلّمت بنو نفاثة- وهم من بنى بكر- أشراف قريش أن يعينوهم على خزاعة بالرّجال والسلاح، وكانت خزاعة قد دخلت فى عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعهده يوم الحديبية كما قدّمنا ذكر ذلك، ودخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدها، قالوا: فلمّا سألوهم ذلك وعدوهم ووافوهم بالوتير «1» متنكّرين متنقّبين، فيهم صفوان بن أميّة، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص بن الأخيف، فبيّتوا خزاعة ليلا، وهم غارّون «2» آمنون فقتلوا منهم عشرين رجلا، ثم ندمت قريش على ما صنعت، وعلموا أن هذا نقض للمدّة والعهد الّذى بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخرج عمرو بن سالم الخزاعىّ فى أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبرونه بالّذى أصابهم ويستنصرونه.
قال ابن إسحاق: قدم عمرو بن سالم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فوقف ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس فى المسجد بين ظهرانى الناس، فقال:
يا ربّ إنّى ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا «3»
قد كنتم ولدا وكنّا والدا ... ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا «4»(17/287)
فانصر هداك الله نصرا أبدا «1» ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجرّدا ... إن سيم خسفا وجهه تربّدا «2»
فى فيلق «3» كالبحر يجرى مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكّدا ... وجعلوا لى فى كداء رصّدا «4»
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذلّ وأقلّ عددا
هم بيّتونا بالوتير هجّدا ... وقتّلونا ركّعا وسجّدا «5»
يقول: قتلنا وقد أسلمنا، ويروى بدل قوله: ... قد كنتم ولدا وكنّا والدا
نحن ولدناكم فكنت ولدا
قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت يا عمرو بن سالم» .
وروى محمد بن سعد فى طبقاته، قال: فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يجرّ رداءه ويقول: «لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب ممّا أنصر منه نفسى» .
ثم عرض له سحاب، فقال: إن هذا السحاب ليستهلّ بنصر بنى كعب.
قال محمد بن إسحاق: وقدم بديل بن ورقاء فى نفر من خزاعة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بنى بكر عليهم(17/288)
ثم انصرفوا راجعين إلى مكّة، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه:
«كأنّكم بأبى سفيان قد جاءكم ليشدّ العقد ويزيد فى المدّة» ، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان «1» ، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليشدّ العقد، ويزيد فى المدّة، فقال له أبو سفيان: من أين أقبلت يا بديل؟ قال: تسيّرت فى خزاعة فى هذا الساحل وفى بطن هذا الوادى؛ قال: أو ما جئت محمّدا؟ قال: لا، وفارقه، فقال أبو سفيان: لئن كان بديل جاء إلى يثرب لقد علف النوى بها، فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففتّه، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمّدا؛ ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فدخل على ابنته أمّ حبيبة، وذهب ليجلس على فراش النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فطوته، فقال: يا بنيّة، ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش، أم رغبت به عنّى، قالت: بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحبّ أن تجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال: والله لقد أصابك بعدى يا بنيّة شرّ، ثم خرج حتّى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلّمه، فلم يردّ عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبى بكر وكلّمه أن يكلّم «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما أنا بفاعل؛ ثم أتى عمر بن الخطّاب فكلّمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فو الله لو لم أجد إلّا الذّرّ لجاهدتكم به؛ ثم دخل على علىّ بن أبى طالب، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعندها الحسن ابنها غلام يدب بين يديها، فقال: يا علىّ،(17/289)
إنّك أمسّ القوم بى رحما، وإنى قد جئت فى حاجة فلا أرجعنّ «1» كما جئت خائبا، فاشفع لى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمّد، هل لك أن تأمرى بنيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنىّ ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال: يا أبا الحسن، إنى أرى الأمور قد اشتدّت علىّ، فانصحنى، قال: والله ما أعلم شيئا يغنى عنك، ولكنّك سيّد بنى كنانة. فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عنّى شيئا؟ قال: لا والله، ما أظنّه، ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان فى المسجد فقال: أيّها الناس، إنّى قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره وانطلق، فلمّا قدم مكّة على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلّمته، فو الله ما ردّ علىّ شيئا، ثم جئت ابن أبى قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت ابن الخطّاب فوجدته أعدى العدوّ، ثمّ جئت «2» عليّا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علىّ بشىء صنعته، فو الله ما أدرى هل يغنى شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرنى أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا؛ قالوا:
ويلك، والله إن زاد الرجل على أن لعب منك «3» ، فما يغنى عنك ما فعلت «4» ، ثم تجهّز(17/290)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخفى مقصده، ثم أعلم الناس أنه سائر إلى مكّة، وامرهم بالجدّ والتهيّؤ، وقال: «اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها» . والله المعين.
ذكر خبر حاطب بن أبى بلتعة فى كتابه إلى أهل مكّة، وإعلام الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وأخذه الكتاب، وما أنزل الله عزّ وجلّ فى ذلك من القرآن
قال: ولمّا أجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسير إلى مكّة كتب حاطب ابن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأمر فى المسير إليهم، ثم أعطاه امرأة يقال إنها من مزينة- وقيل: هى سارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب- وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته فى رأسها ثم قتلت عليه قرونها وخرجت به، وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علىّ بن أبى طالب، والزبير بن العوّام رضى الله عنهما، وقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابا إلى قريش يحذّرهم ما قد أجمعنا فى أمرهم، فخرجا فأدركاها بالخليفة، خليفة بنى أبى أحمد، فاستنزلاها والتمسا فى رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علىّ: أحلف بالله لتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنفتّشنّك، فقالت: أعرض عنّى، فأعرض، فحلّت قرون «1» رأسها فاستخرجت الكتاب ودفعته إليه، فأتيا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا حاطبا فقال:
«ما حملك على هذا» ؟. قال: يا رسول الله، أما والله إنى لمؤمن بالله وبرسوله، ما غيّرت(17/291)
وما بدّلت، ولكنّنى امرؤ ليس لى فى القوم من أصل ولا عشيرة، ولى بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم، فقال عمر: يا رسول الله، دعنى أضرب عنقه، فإنّ الرجل قد نافق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك يا عمر، لعلّ الله قد اطّلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» .
هذه رواية محمد بن إسحاق.
وقال الشيخ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ رحمه الله: إن المرأة سارة مولاة عمرو بن صيفىّ بن هاشم بن عبد مناف، وإنها أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة إلى المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجهّز لفتح مكة، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمسلمة جئت» ؟ قالت: لا. قال: «أمهاجرة جئت» ؟ قالت: لا؛ قال: «فما حاجتك» ؟ قالت: كنت كثيرة العشيرة والأصل والموالى، وقد ذهبت موالى، واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطونى وتكسونى وتحملونى. قال لها: «فأين أنت من شباب أهل مكّة» ، وكانت مغنيّة نائحة، قالت: ما طلب منّى شىء بعد وقعة بدر: فحثّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنى عبد المطّلب وبنى المطّلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة؛ فأتاها حاطب بن أبى بلتعة حليف بنى أسد بن عبد العزّى، فكتب معها إلى أهل مكّة كتابا، وأعطاها عشرة دنانير.
قال الثعلبىّ: هذه رواية زاذان عن ابن عبّاس رضى الله عنهما، قال: وقال مقاتل بن حيّان: أعطاها عشرة دراهم وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكّة، وكتب فى الكتاب: «من حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكّة، إن(17/292)
رسول الله يريدكم، فخذوا حذركم» . فخرجت سارة، ونزل جبريل، فأخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا، وعمر، والزبير، وطلحة، وعمارا، والمقداد بن الأسود، وأبا مرثد، وكانوا كلّهم فرسانا، وقال لهم:
«انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ «1» فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبى بلتعة إلى المشركين، فخذوه منها، وخلّوا سبيلها، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها فى ذلك المكان الّذى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها كتاب، فبحثوها، وفتّشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا، فهمّوا بالرجوع، فقال علىّ رضى الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسلّ سيفه، وقال لها: أخرجى الكتاب وإلّا والله لأجردنّك، ولأضربنّ عنقك، فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذوائبها قد خبأته فى شعرها، فخلّوا سبيلها، ولم يتعرّضوا لما معها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: «هل تعرف الكتاب» ؟ قال: نعم، قال:
«ما حملك على ما صنعت» ؟ فقال: يا رسول الله، ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك من نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريبا فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلى، فأردت أن أنخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه، وأنّ كتابى لا يغنى عنهم شيئا، فصدّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعذره، فقام(17/293)
عمر بن الخطّاب فقال: يا رسول الله، دعنى أضرب عنق هذا المنافق؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم يوم بدر» .
وأنزل الله عزّ وجلّ فى شأن حاطب ومكاتبته المشركين قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ «1» )
، قال: أى من مكّة لأن آمنتم بالله ربّكم؛ قال: فى الكلام تقديم وتأخير، ونظم الآية:
(لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)
، ثم قال تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)
، ثم قال تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)
قال: يثقفوكم يروكم ويظهروا «2» ، (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ)
أى بالقتل، (وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ)
أى بالشتم، (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)
فلا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادّونكم.
قوله تعالى: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
قال: معنى الآية: لا تدعونّكم قراباتكم ولا أولادكم التى بمكة إلى خيانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم، ومظاهرتهم، فلن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم التى عصيتم الله لأجلهم(17/294)
(يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)
فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة، ويدخل أهل معصيته والكفر به النار.
قوله تعالى: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «1» )
الآية، ثم قال تعالى:
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «2» )
قال: قوله: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ «3» )
يعنى فى إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء؛ قال: فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم من المشركين فى الله، وأظهروا لهم العداوة والبراءة، فعلم الله تعالى شدّة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «4» )
؛ قال: ففعل الله عزّ وجل ذلك بأن أسلم كثير من مشركى مكّة، فصاروا للمؤمنين أولياء وإخوانا، وخالطوهم وناكحوهم.
قوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «5» )
معناه: أن تعدلوا فيهم بالإحسان والبرّ، واختلف العلماء فيمن نزلت فيهم هذه الآية، فقال ابن عباس: نزلت فى خزاعة، منهم هلال بن عويمر، وخزيمة، وسراقة بن مالك ابن جعشم، وبنو مدلج، وكانوا صالحوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على ألّا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا.(17/295)
وقال عبد الله بن الزبير: نزلت فى أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهم، وذلك أنّ أمّها قتيلة بنت عبد العزّى بن عبد أسعد من بنى مالك بن حسل قدمت عليها المدينة بهدايا وهى مشركة، فقالت أسماء: لا أقبل منك هديّة، ولا تدخلى علىّ بيتى حتى أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فسألت لها عائشة رضى الله عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تدخلها عليها منزلها، وتقبل هديّتها، وتحسن إليها، وتكرمها.
وقال مرّة الهمذانىّ وعطية العوفىّ: نزلت فى قوم من بنى هاشم، منهم العباس.
ثم قال تعالى: (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1» )
قال: وهم مشركو مكّة. فلنرجع إلى أخبار غزوة الفتح.
ذكر خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكّة، ومن جاءه فى طريقه قبل دخوله مكّة
قال: ولمّا تهيّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للغزاة بعث إلى من حوله من العرب فجلبهم، وهم أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لحقه فى الطريق، وكان المسلمون فى غزوة الفتح عشرة آلاف، واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم؛ قاله محمد بن سعد.
وقال محمد بن إسحاق، وأبو بكر أحمد البيهقى: استخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفارى، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر، فلمّا انتهى(17/296)
إلى الصلصل «1» قدم أمامه الزبير بن العوّام فى مائة من المسلمين، وصام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصام الناس حتى إذا كان بالكديد «2» بين عسفان «3» وأمج «4» أفطر، ونادى مناديه: من أحبّ أن يفطر فليفطر، ومن أحبّ أن يصوم فليصم.
قال ابن سعد: فلما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقديد «5» عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل.
قال محمد بن إسحاق: ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل مرّ الظّهران «6» وهو فى عشرة آلاف من المسلمين، فسبّعت «7» سليم، وبعضهم يقول: ألّفت مزينة، وفى كلّ القبائل عدد وإسلام، وأوعب معه المهاجرون والأنصار. قال: ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بعض الطريق لقيه عمّه العباس بن عبد المطلب.
قال ابن هشام: لقيه بالجحفة «8» مهاجرا بعياله، وكان قبل ذلك بمكّة على سقايته، وقد قدّمنا أنه أسلم عند انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة بدر، قال: ولقيه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة، لقياه بنيق العقاب «9» بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه، وكلّمته أمّ سلمة رضى الله عنها فيهما، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك، وابن عمتك وصهرك.
فقال: «لا حاجة لى بهما، أما ابن عمى فهتك عرضى، وأما ابن عمّتى وصهرى فهو الذى قال لى بمكة ما قال» ، فلما خرج الخبر بذلك إليهما ومع أبى سفيان بنىّ له(17/297)
قال: والله لتأذننّ لى أو لآخذنّ بيد بنىّ هذا، ثم لنذهبنّ فى الأرض حتى نموت عطشا وجوعا؛ فلمّا بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رقّ لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه، فأسلما، وأنشد أبو سفيان بن الحارث يتعذر ممّا كان قد مضى من فعله، فقال:
لعمرك إنّى يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللّات خيل محمد
لكا لمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أوانى حين أهدى واهتدى
هدانى هاد غير نفسى ودلّنى ... على الحقّ من طرّدت كلّ مطرّد «1»
أصدّ وأنأى جاهدا عن محمد ... وأدعى وإن لم أنتسب من محمد
هم ما هم من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذا رأى يلم «2» ويفنّد
أريد لأرضيهم ولست بلائط ... مع القوم ما لم أهد فى كلّ مقعد «3»
فقل لثقيف: لا أريد قتالها ... وقل لثقيف تلك: غيرى أوعدى
فما كنت فى الجيش الذى نال عامرا ... وما كان عن جرّا لسانى ولا يدى
قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... نزائع «4» جاءت من سهام «5» وسردد
قال: ولمّا بلغ إنشاده قوله: «من طرّدت كل مطرّد» ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى صدره وقال: «أنت طرّدتنى كل مطرّد» .
قال: ولمّا نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ الظّهران نزلها عشيّا، وأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، وقد عميت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر(17/298)
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال العباس بن عبد المطلب: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.
قال العبّاس: فجلست على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك «1» ، فقلت: لعلّى أجد بعض الحطّابة أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتى مكّة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة.
ذكر مجىء العبّاس بأبى سفيان بن حرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسلام أبى سفيان، وخبر الفتح
قال العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه: وكان أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء قد خرجوا فى تلك الليالى يتحسّسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به، فو الله إنّى لأسير على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبى سفيان وبديل ابن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ ولا عسكرا، فيقول له بديل: هذه والله خزاعة قد حمستها «2» الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ وأقلّ أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال العباس: فعرفت صوته، فقلت:
يا أبا حنظلة، فعرف صوتى، فقال: يا أبا الفضل، قلت: نعم، قال: مالك فداك أبى وأمّى! قلت: ويحك يا أبا سفيان! هذا رسول الله فى الناس، واصباح قريش والله!(17/299)
قال: فما الحيلة فداك أبى وأمّى!، قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك، فاركب فى عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأستأمنه لك؛ قال: فركب خلفى، ورجع صاحباه؛ قال: فجئت به، كلّما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا عليها قالوا: عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلته، حتى مررت بنار عمر ابن الخطّاب.
قال ابن سعد: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل عمر تلك الليلة على الحرس؛ قال العباس: فقال عمر: من هذا؟ وقام إلىّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابّة قال: أبو سفيان عدوّ الله! الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتدّ نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركضت البلغة فسبقته، فاقتحمت عن البلغة، ودخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخل عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن منه بغير عقد ولا عهد، فدعنى أضرب عنقه. قال العبّاس، قلت: يا رسول الله، قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دونى، فلمّا أكثر عمر فى شأنه قلت: مهلا يا عمر، فو الله أن لو كان من رجال بنى عدىّ بن كعب ما قلت هذا، ولكنّك قد عرفت أنّه من رجال بنى عبد مناف؛ فقال عمر: مهلا يا عبّاس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إلىّ من إسلام الخطّاب لو أسلم، وما بى إلا أنى قد عرفت أن إسلامك كان أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اذهب به يا عبّاس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به» ؛ قال: فذهبت به إلى رحلى، فبات عندى، فلما أصبح غدوت(17/300)
به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن «1» لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله» ، قال: بأبى أنت وأمّى! ما أحملك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد؛ قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله» ؟؛ قال: بأبى أنت وأمى! ما أحملك وأكرمك وأوصلك! أما والله هذه فإنّ فى النفس منها حتّى الآن شيئا؛ فقال له العبّاس: ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك؛ قال: فشهد شهادة الحقّ، فقلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحبّ هذا الفخر، فاجعل له شيئا.
قال: «نعم، من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» ؛ فلمّا ذهب لينصرف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عبّاس، احتبسه بمضيق الوادى عند خطم الجبل «2» حتى تمرّ به جنود الله فيراها» . قال: فخرجت به حتى حبسته حيث أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أحبسه؛ قال: ومرّت القبائل على راياتها كلّما مرّت قبيلة قال: يا عبّاس، من هذه؟. فأقول: سليم، فيقول: ما لى ولسليم، ثم تمرّ القبيلة، فيقول: من هذه؟
فأقول: مزينة، فيقول: ما لى ولمزينة، حتى مرّت القبائل، فما تمرّ قبيلة إلّا سألنى عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لى ولبنى فلان! حتى مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كتيته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار- وإنّما سمّيت بالخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها- وهم لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال:
سبحان الله يا عبّاس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(17/301)
فى المهاجرين والأنصار، فقال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قلت: ويحك! إنها النبوّة، قال: فنعم إذا، ثم قلت: النّجاة «1» إلى قومك، فسار حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشار به، فقالت:
اقتلوا الحميت «2» الدّسم الأحمس، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم! لا تغرنّكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دارى فهو آمن، قالوا:
قاتلك الله! وما تغنى عنّا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. والله يؤيّد بنصره من يشاء.
ذكر دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكّة شرّفها الله تعالى صلحا، ودخول خالد بن الوليد ومن معه من القبائل عنوة
قال: ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذى طوى «3» ، وقف على راحلته معتجرا «4» بشقّة برد حبرة حمراء وإنه ليضع رأسه تواضعا لله تعالى حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إنّ عثنونه ليكاد يمسّ واسط الرحل، ثم فرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجيش من ذى طوى، وكانت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ مع سعد بن عبادة رضى الله عنه، فأمر رسول الله صلّى الله(17/302)
عليه وسلّم الزبير بن العوّام، وكان على المجنّبة اليسرى أن يدخل فى بعض الناس من كدى «1» ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل ببعض الناس من كدء «2» ، فلمّا وجّه سعد للدخول قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، وفى رواية تستحلّ الكعبة؛ فسمعها عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقال: يا رسول الله، اسمع ما قال سعد بن عبادة، ما نأمن أن يكون له فى قريش صولة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلىّ بن أبى طالب: «أدركه فخذ الراية منه، فادخل أنت بها» . حكاه ابن إسحاق.
وقال محمد بن سعد: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ الراية من سعد ودفعها لابنه قيس بن سعد.
وذكر يحيى بن سعد الأموىّ فى السّير: أن سعد بن عبادة لمّا أخذ الراية مرّ على أبى سفيان، فقال سعد إذ نظر إليه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كتيبة الأنصار حتّى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟
فإنه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنه قاتلنا، وقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا؛ وإنى أنشدك الله فى قومك، فأنت أبرّ الناس وأوصلهم وأرحمهم.
وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، والله ما نأمن سعدا أن تكون منه فى قريش صولة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشا» . وقال ضرار بن الخطّاب الفهرىّ يومئذ:(17/303)
يا نبىّ الهدى إليك لجا «1» حىّ قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السّماء
والتقت حلقتا البطان على القوم ... ونودوا بالصيلم الصّلعاء «2»
إنّ سعدا يريد قاصمة الظهر ... بأهل الحجون والبطحاء
خزرجىّ لو يستطيع من الغيظ ... رمانا بالنّسر والعوّاء «3»
وغر الصّدر لايهمّ بشىء ... غير سفك الدّما وهتك النساء
قد تلظّى على البطاح وجاءت ... عنه هند بالسّوءة السّوآء
إذ ينادى بذلّ حىّ قريش ... وآبن حرب بدا من الشّهداء
فائن أقحم اللواء ونادى ... يا حماة اللّواء أهل اللّواء
ثم ثابت إليه من بهم الخز ... رج والأوس أنجم الهيجاء
لتكوننّ بالبطاح قريش ... فقعة القاع فى أكفّ الإماء «4»
فانهينه فإنّه أسد الأس ... د لدى الغاب والغ فى الدماء
إنّه مطرق يريد لنا الأم ... ر سكوتا كالحيّة الصّمّاء «5»
قال: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سعد بن عبادة فنزع اللواء من يده، وجعله بيد قيس ابنه، ورأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن اللواء لم يخرج(17/304)
عنه إذ صار إلى ابنه، وأبى سعد أن يسلّم اللواء إلّا بأمارة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعمامته، فعرفها سعد، فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد، وكان على المجنّبة اليمنى، أن يدخل ببعض الناس من اللّيط أسفل مكّة، وكان معه: أسلم، وسليم وغفار، ومزينة، وجهينة، وقبائل من العرب، وأقبل أبو عبيدة بن الجرّاح بالصفّ من المسلمين ينصبّ لمكّة بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أذاخر «1» ، حتى نزل بأعلى مكة، وضربت له هناك قبّة، ونهى عن القتال، وعبر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأماكن التى أمرهم صلّى الله عليه وسلّم أن يدخلوا منها، لم يلقوا كيدا، إلّا خالد بن الوليد فإن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل، وسهيل بن عمرو جمعوا جمعا من قريش، ووقفوا بالخندمة «2» ليقاتلوا خالد بن الوليد، ويمنعوه من الدخول، وشهروا السلاح وروموا بالنّبل، فصاح خالد فى أصحابه وقاتلهم، فقتل أربعة وعشرون رجلا من قريش، وأربعة نفر من هذيل، وانهزموا أقبح هزيمة، فلما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ثنيّة أذاخر رأى البارقة «3» فقال: «ألم أنه عن القتال» ؟ فقيل:
يا رسول الله، إنّ خالد بن الوليد قوتل فقاتل؛ فقال: «قضاء الله خير» ، وقتل من المسلمين رجلان كانا سلكا طريقا غير طريق خالد فقتلا، وهما كرز بن جابر الفهرىّ، وحبيش «4» بن خالد الخزاعىّ. قاله محمد بن سعد.(17/305)
وقال ابن إسحاق: قتل من المشركين يومئذ اثنا عشر أو ثلاثة عشر رجلا. وقال:
وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بنى بكر يعدّ سلاحا ويصلح منه قبل دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت له امرأته: لماذا تعدّ ما أرى؟ قال:
لمحمد وأصحابه، قالت: والله ما أراه يقوم لمحمّد وأصحابه شىء؛ قال: والله إنى لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فمالى علّه ... هذا سلاح كامل وألّه «1»
وذو غرارين سريع السّلّة «2»
ثم شهد يوم الخندمة، فلما انهزم القوم دخل على امرأته وقال: أغلقى علىّ بابى؛ قالت: فأين الذى كنت تقول؟ فقال:
إنّك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة
وأبو يزيد قائم كالمؤتمة «3» ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمه
يقطعن كلّ ساعد وجمجمة ... ضربا فلا تسمع إلا غمغمه «4»
لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لا تنطقى فى اللّوم أدنى كلمه «5»
قال ابن هشام: ويروى للرعّاش الهذلىّ.(17/306)
وكان ممن فرّ يومئذ هبيرة بن أبى وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهو زوج أمّ هانئ بنت أبى طالب أخت علىّ لأبويه؛ فأسلمت، وهرب هبيرة إلى نجران، وقال معتذرا من فراره:
لعمرك ما ولّيت ظهرى محمّدا ... وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل
ولكننى قلّبت أمرى فلم أجد ... لسيفى غناء إن ضربت ولا نبلى
وقفت فلمّا خفت ضيعة موقفى ... رجعت لعود كالهزير إلى الشّبل
قال ابن هشام: وكان شعار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة وحنين والطائف: شعار المهاجرين: يا بنى عبد الرحمن، وشعار الخزرج:
يا بنى عبد الله، وشعار الأوس: يا بنى عبيد الله؛ وكان الفتح يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان.
ذكر من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتلهم يوم فتح مكّة وسبب ذلك، ومن قتل منهم، ومن نجا بإسلامه
قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر أصحابه بقتل ستّة نفر وأربع نسوة، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم: عكرمة بن أبى جهل، وهبّار ابن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح، ومقيس بن صبابة الليثى، والحويرث ابن نقيذ بن وهب، وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمىّ، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وفرتنى، وقريبة.(17/307)
فأمّا عكرمة بن أبى جهل فإنه هرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمّنه، فخرجت فى طلبه إلى اليمن حتى أتت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم وحسن إسلامه.
حكى الزبير بن بكّار قال: لما أسلم عكرمة قال: يا رسول الله، علّمنى خير شىء تعلمه أقواله؛ فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله» ، فقال عكرمة: أنا أشهد بهذا، وأشهد بذلك من حضرنى، وأسألك يا رسول الله أن تستغفر لى؛ فاستغفر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال عكرمة: والله لا أدع نفقة كنت أنفقها فى صدّ عن سبيل الله إلّا أنفقت ضعفها فى سبيل الله، ولا قتالا قاتلته إلّا قاتلت ضعفه؛ ثم اجتهد فى الجهاد والعبادة حتى استشهد رحمه الله فى خلافة عمر بن الخطّاب بالشام؛ وقيل: استشهد فى آخر خلافة أبى بكر، قيل: فى يوم اليرموك. وقيل: فى يوم مرج «1» الصّفّر، وقيل: أجنادين «2» . والله أعلم.
وأما عبد الله بن سعد بن أبى سرح، فإنه كان قد أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحى؛ فارتدّ ورجع إلى قريش، فلما كان يوم الفتح فرّ إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه، وهو أخوه من الرضاعة، فغيّبه حتى أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستأمن له بعد أن اطمأن الناس؛ فزعموا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صمت طويلا، ثم قال: «نعم» ؛ فلما انصرف عنه عثمان قال لمن حوله من أصحابه: «لقد صمّت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» ،(17/308)
فقال رجل من الأنصار: فهلّا أو مأت إلىّ يا رسول الله؟ فقال: «إن النبىّ لا يقتل بالإشارة» ، ثم أسلم عبد الله بن سعد بعد ذلك.
وأمّا مقيس بن صبابة، فإن أخاه هشام بن صبابة كان قد صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة بنى المصطلق بالمريسيع، فأصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدوّ، فقتله خطأ، فقدم مقيس هذا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة، وأظهر الإسلام، وقال:
يا رسول الله، جئتك مسلما، وجئتك أطلب دية أخى، فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدية أخيه، فأقام غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكّة مرتدّا، فنذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتله لذلك، فقتله نميلة بن عبد الله؛ رجل من قومه.
وأما الحويرث بن نقيذ فقتله على بن أبى طالب رضى الله عنه، لأنه كان يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان العباس بن عبد المطلب حمل بنتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة وأمّ كلثوم من مكّة يريد بهما المدينة، فرمى بهما الحويرث إلى الأرض.
وأمّا عبد الله بن خطل، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله لأنه كان مسلما، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصدّقا «1» ، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه وهو مسلم، فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا، فيصنع له طعاما، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا، فقتله ثم ارتدّ، وكانت فرتنى وقريبة قينتاه تغنيّان بهجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقتل ابن خطل(17/309)
سعيد بن حريث المخزومىّ، وأبو برزة الأسلمىّ، اشتركا فى دمه، وقتلت إحدى قينتيه وهربت الأخرى، حتى استؤمن لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمّنها.
وهند بنت عتبة أسلمت. ولما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيعة على النساء، ومن الشرط فيها ألّا يسرقن ولا يزنين، قالت: وهل تزنى الحرّة أو تسرق يا رسول الله؟ فلما قال: «ولا تقتلن أولادكن» ، قالت: قد ربّيناهم صغارا، وقتّلتهم أنت ببدر كبارا، أو نحو هذا من القول، وشكت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ زوجها أبا سفيان شحيح لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها، فقال: «خذى من ماله بالمعروف ما يكفيك أنت وولدك» .
وأما سارة فاستؤمن لها، فأمّنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وأما هبّار فإنه هرب فلم يوجد، ثم أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه.
ذكر إسلام أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب
روى محمد بن إسحاق بسنده إلى أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما قالت: لما وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذى طوى قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده: أى بنيّة، اظهرى بى على جبل أبى قبيس- قالت: وكان قد كفّ بصره- فأشرفت به عليه فقال لها: أى بنيّة؛ ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا، قال: تلك الخيل؛ قالت: وأرى رجلا يسعى بين يدى ذلك السواد مقبلا ومدبرا؛ قال: أى بنيّه، ذلك الوازع،- يعنى الذى يأمر الخيل ويتقدّم إليها- ثم قالت: قد والله انتشر السواد؛ فقال: قد والله إذا دفعت الخيل، فأسرعى بى إلى بيتى؛ قالت: فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل(17/310)
إلى بيته؛ قالت: وفى عنق الجارية طوق من ورق «1» ، فتلقّاها رجل فاقتطعه من عنقها، فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هلّا تركت الشيخ فى بيته حتى أكون أنا آتيه فيه» ؟ قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحقّ أن يمشى إليك من أن تمشى إليه أنت، فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: «أسلم» ، قالت: فأسلم؛ قالت: فدخل به أبو بكر وكأنّ رأسه ثغامة «2» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «غيّروا هذا من شعره» ، ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال:
أنشد الله والإسلام طوق أختى؛ فلم يجبه أحد؛ قالت: فقال: أى أخيّة، احتسبى طوقك، فو الله إنّ الأمانة فى الناس اليوم القليل.
وأسلم عبد الله بن الزبعرى عام الفتح وحسن إسلامه، وكان ممن يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ الأذى فى الجاهلية، فأسلم واعتذر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقبل عذره، وكان شاعرا مجيدا، فقال يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وله فى مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى فى كفره، منها قوله:
منع الرقاد بلابل وهموم ... والليل معتلج الرّواق بهيم «3»
ممّا أتانى أنّ أحمد لامنى ... فيه فبتّ كأننى محموم
يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة سرح اليدين غشوم «4»(17/311)
إنى لمعتذر إليك من الذى ... أسديت إذ أنا فى الضّلال مقيم
أيام تأمرنى بأغوى خطّة ... سهم، وتأمرنى بها مخزوم
وأمدّ أسباب الردى ويقودنى ... أمر الغواة، وأمرهم مشئوم
فاليوم آمن بالنبىّ محمّد ... قلبى ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة وانقضت أسبابها ... وأتت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والدىّ كلاهما ... وارحم فإنك راحم مرحوم
وعليك من سمة المليك علامة ... نور أغرّ وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبّة برهانه ... شرفا وبرهان الإله عظيم
ذكر دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، وطوافه بالبيت ودخوله الكعبة، وما فعل بالأصنام
قال: ولما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة واطمأنّ النّاس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته يستلم الرّكن بمحجن فى يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده وطرحها، ثم وقف على باب الكعبة فقال:
«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ألا كلّ مأثره «1» أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمىّ هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاجّ؛ ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلّظة، مائة من الإبل، أربعون منها فى بطونها أولادها؛ يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وتعظّمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب» ، ثم تلا قوله(17/312)
تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1» )
؛ ثم قال: «يا معشر قريش، ما ترون أنّى فاعل فيكم» ؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم؛ قال: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء» ؛ ثم جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فقام إليه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه ومفتاح الكعبة فى يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السّقاية؛ فقال: «أين عثمان بن طلحة» ؟ فدعى له، فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء» ؛ حكاه محمد بن إسحاق.
وقال محمد بن سعد: دفع إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المفتاح وقال:
«خذوها يا بنى أبى طلحة تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم» ؛ ودفع السقاية إلى العبّاس بن عبد المطّلب.
قال عبد الملك بن هشام: حدّثنى بعض أهل العلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصوّرا فى يده الأزلام يستقسم بها، فقال: «قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام، (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «2» )
ثم أمر بتلك الصور كلّها فطمست.
قال: ودخل الكعبة ومعه بلال بن رباح، فأمره أن يؤذّن، فأذّن وأبو سفيان بن حرب وعتّاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتّاب بن أسيد: أكرم الله أسيدا ألّا يكون سمع هذا فيسمع ما يغيظه؛ فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه محقّ لاتّبعته؛ فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا(17/313)
لو تكملت لأخبرت عنّى هذه الحصى؛ فخرج عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قد علمت الّذى قلتم» ، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك.
وقال أبو محمد بن هشام بسند يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل مكّة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرّصاص، فجعل النبى صلّى الله عليه وسلّم يشير بقضيب فى يده إلى الأصنام ويقول: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)
«1» ، فما أشار صلّى الله عليه وسلّم إلى صنم منها فى وجهه إلّا وقع لقفاه، ولا لقفاه إلّا وقع لوجهه، حتى ما بقى منها صنم إلّا وقع.
قال محمد بن سعد: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما، وكان أعظمها هبل، وساق الحديث نحو ما تقدّم، فقال تميم بن أسد الخزاعىّ فى ذلك:
وفى الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا
قال: ولما كان من الغد يوم الفتح خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الظهر فقال: «إن الله قد حرّم مكّة يوم خلق السموات والأرض، فهى حرام إلى يوم القيامة، ولم تحلّ لى إلّا ساعة من نهار، ثم رجعت لحرمتها بالأمس، فليبلّغ شاهدكم غائبكم، ولا يحلّ لنا من غنائمها شىء» ، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة خمس عشرة ليلة يصلّى ركعتين ركعتين، وبثّ السرايا، ثم خرج إلى حنين.
ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى العزّى وهدمها
قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى العزّى ليهدمها، وذلك بعد الفتح، لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان، فخرج فى ثلاثين فارسا(17/314)
من أصحابه حتى انتهوا إليها فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: «هل رأيت شيئا» ؟ قال: لا، قال: «فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها» ؛ فرجع خالد وهو متغيّظ، فجرّد سيفه، فخرجت إليه امرأة عربانة سوداء تاثرة «1» الرأس فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها اثنتين، ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: «نعم، تلك العزّى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا» ، وكانت لقريش وجميع بنى كنانة، وكانت أعظم أصنامهم، وكان سدنتها بنو شيبان من بنى سليم.
ذكر سريّة عمرو بن العاص إلى سواع وكسره
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان بعد الفتح أيضا إلى سواع، وهو صنم هذيل ليهدمه؛ قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟
قلت: أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهدمه. قال: لا تقدر على ذلك؛ قلت: لم؟ قال: تمتّع؛ قلت: حتى الآن أنت فى الباطل ويحك! وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابى فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئا؛ ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
ذكر سريّة سعد بن زيد الأشهلىّ إلى مناة
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان أيضا إلى مناة- وكانت بالمشلّل «2» للأوس والخزرج وغسّان- ليهدمها، فخرج فى عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعليها سادن، فقال له السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة؛ قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشى إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل(17/315)
وتضرب صدرها؛ فقال السادن: مناة دونك بعض غضباتك؛ ويضربها سعد بن زيد فيقتلها، ويقبل إلى الصنم معه أصحابه، ولم يجدوا فى خزانتها شيئا، وانصرف راجعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان ذلك لست بقين من شهر رمضان.
ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة بن عامر ابن عبد مناة بن كنانة، وهو يوم الغميصاء
قالوا: لما رجع خالد بن الوليد من هدم العزّى، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقيم بمكة، بعثه فى شوّال إلى بنى جذيمة بن عامر، وكانوا أسفل مكة على ليلة منها بناحية يلملم؛ داعيا إلى الإسلام، ولم يبعثه مقاتلا، فخرج فى ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبنى سليم، فانتهى إليهم خالد بن الوليد، فقال: ما أنتم؟
قالوا: مسلمون، قد صلّينا وصدّقنا بمحمد، وبنينا المساجد فى ساحاتنا، وأذّنّا فيها؛ قال: فما بال السلاح عليكم؟ فقالوا: إنّ بيننا وبين بعض العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم، فأخذنا السلاح؛ قال: فضعوا السلاح؛ قال:
فوضعوه، فقال لهم: استأسروا؛ فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعض وفرّقهم فى أصحابه، فلما كان فى السّحر نادى خالد: من كان معه أسير فليدافّه؛ أى فليجهز عليه بالسيف.
فأمّا بنو سليم فقتلوا من كان فى أيديهم، وأمّا المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم، فبلغ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ما صنع خالد، فقال: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد» ؛ وبعث علىّ بن أبى طالب فودى «1» لهم قتلاهم وما ذهب منهم.(17/316)
وقد حكى أبو الفرج على بن الحسين الأصفهانى «1» ، خبر هذه السريّة فى قصة عبد الله بن علقمة أحد بنى عامر بن عبد مناة بن كنانة وخبر مقتله، وذكر خبره مع حبيشة، فروى بسند رفعه إلى ابن دأب قال: كان من حديث عبد الله بن علقمة أنه خرج مع أمه وهو إذ ذاك يفعة: دون المحتلم، لتزور جارة لها، وكانت لها بنت يقال لها: حبيشة إحدى بنات عامر بن عبد مناة، فلما رآها عبد الله بن علقمة أعجبته ووقعت فى نفسه؛ فانصرف وترك أمّه عند جارتها، فبقيت عندها يومين، ثم أتاها ليرجعها إلى منزله، فوجد حبيشة قد زيّنت لأمر كان فى الحىّ، فازداد بها عجبا، وانصرف بأمّه فى غداة تمطر، فمشى معها وجعل يقول:
فما أدرى بلى إنّى لأدرى ... أصوب القطر أحسن أم حبيش
حبيشة والذى خلق الهدايا ... وما إن عندها للصبّ عيش «2»
قال: فسمعت ذلك حبيشة، فتغافلت عنه، وكرهت قوله، ثم مشى مليّا فإذا هو بظبى على ربوة من الأرض، فقال:
يا أمّتا خبّرينى غير كاذبة ... وما يريد مسول الحق بالكذب
أأنت أحسن أم ظبى برابية ... لابل حبيشة فى عينى وفى أربى
قال: فزجرته أمّه، وقالت: ما أنت وهذا، أنا مزوّجتك بنت عمّك، فهى أجمل من تلك، وأتت امرأة عمّه فأخبرتها خبره وقالت: زيّنى ابنتك له، ففعلت وأدخلتها عليه، فلما رآها أطرق، فقالت له أمّه: أيهما الآن أحسن؟
فقال:(17/317)
إذا غيّبت عنّى حبيشه مرّة ... من الدهر لم أملك عزاء ولا صبرا
كأنّ الحشا حرّ السعير يحشّه «1» ... وقود الغضى فالقلب مضطرم جمرا
قال: وجعل يراسل الجارية وتراسله، حتى علقته كما علقها، وكثر قوله الشعر فيها، فمن ذلك قوله «2» :
حبيشة هل جدّى وجدّك جامع ... بشملكم شملى وأهلكم أهلى؟
وهل أنا ملتّف بثوبك مرّة ... بصحراء بين الأيكتين إلى النّخل؟
ومرتشف من ريق ثغرك مرّة ... كراح ومسك خالطا عسل النّحل
فلما بلغ أهلها خبره، حجبوها عنه مدّة، وهو يزيد غراما بها، ويكثر قوله الشعر فيها، فأتوها فقالوا لها: عديه السّرحة، فإذا أتاك فقولى له: نشدتك الله إن أحببتنى فما على الأرض شىء أبغض إلىّ منك، ونحن قريب نسمع ما تقولين؛ فواعدته، وجلسوا قريبا يسمعون، وجلست عند السرحة، وأقبل عبد الله لموعدها، فلمّا دنا منها دمعت عينها، والتفتت حيث أهلها جلوس، فعرف أنهم قريب، فرجع، وبلغه ما أمروها به أن تقوله، فأنشأ يقول:
فلو قلت ما قالوا لزدت جوى جو «3» ... على أنه لم يبق ستر ولا صبر
ولم يك حبّى عن نوال بذلته ... فيسلينى عنك التجلّد والهجر «4»
وما أنس م الأشياء لم أنس دمعها ... ونظرتها حتى يغيّبنى القبر(17/318)
قال: وبعث النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على أثر ذلك خالد بن الوليد إنى بنى عامر، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلّا قاتلهم، فصبحهم خالد بالغميصاء وقد علموا به وخافوه، وكانوا قد قتلوا الفاكه بن الوليد وعمّه الفاكه بن المغيرة فى الجاهلية، فلمّا صبحهم خالد ومعه بنو سليم وهم يطلبونهم بمالك ابن خالد بن صخهر بن الشريد، وإخوته كرز وعمرو والحارث، وكانوا قتلوهم فى موطن واحد. فلما صبحهم خالد ورأوا معه بنى سليم زادهم ذلك نفورا، فقال لهم خالد: أسلموا، فقالوا: نحن مسلمون؛ قال: فألقوا سلاحكم وانزلوا، قالوا: لا والله؛ فقال لهم حذيم «1» بن الحارث أحد بنى أقرم: يا قوم، لا تلقوا سلاحكم، فو الله ما بعد وضع السلاح إلّا القتل؛ قالوا: والله لا نلقى سلاحنا ولا ننزل، فما نحن لك ولا لمن معك بآمنين؛ قال خالد: فلا أمان لكم؛ فنزلت فرقة منهم فأسروهم، وتفرّق بقيّة القوم فرقتين؛ فأصعدت فرقة وسفلت أخرى.
قال ابن دأب: فأخبرنى من لا أتّهم عن عبيد الله بن أبى حدود الأسلمىّ قال: كنت يومئذ فى جند خالد، فبعثنا فى إثر ظعن مصعدة يسوق بها فتية، فقال:
أدركوا أولئك؛ فخرجنا فى أثرهم حتى أدركناهم، فمضوا ووقف لنا غلام على الطريق، فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا ويرتجز ويقول:
أرخين أطراف الذّيول وارتعن «2» ... مشى حييّات كأن لم يفزعن
إن يمنع اليوم نساء تمنعن
فقاتلنا طويلا، فقتلناه ومضينا، حتى لحقنا الظّعن، فخرج إلينا غلام كأنه الأوّل، فجعل يقاتلنا ويقول:(17/319)
أقسم ما إن خادر ذو لبدة «1» ... يرزم «2» بين أيكة ووهده
يفرس ثنيان الرجال وحده ... بأصدق الغمداة منّى نجده
فقاتلناه حتى قتلناه، وأدركنا الظّعن، وإذا فيهن غلام وضىء به صفرة فى لونه كالمنهوك، فربطناه بحبل، وقدّمناه لنقتله، فقال: هل لكم فى خير؟ قلنا:
ما هو؟ قال: تدركون بى الظعن أسفل الوادى ثم تقتلوننى؛ قلنا: نفعل؛ فخرجنا حتى نعارض الظّعن بأسفل الوادى، فلمّا كان بحيث يسمعون الصوت، نادى بأعلى صوته: اسلمى حبيش، عند فقد العيش؛ فأقبلت إليه جارية بيضاء حسناء؛ فقالت: وأنت فأسلم على كثرة الأعداء، وشدّة البلاء؛ قال: سلام عليك دهرا، وإن بقيت عصرا؛ فقالت: وأنت سلام عليك عشرا، وشفعا ووترا، وثلاثة تترى؛ فقال:
إن يقتلونى يا حبيش فلم يدع ... هواك لهم منّى سوى غلّة الصدر
فأنت الّتى أخليت لحمى من دمى ... وعظمى وأسبلت الدموع على نحرى
فقالت له:
ونحن بكينا من فراقك مرّة ... وأخرى وآسيناك فى العسر واليسر
وأنت فلا تبعد فنعم فتى الهوى ... جميل العفاف والمودّة فى ستر
فقال لها:
أريتك إن طالبتكم فوجدتكم ... بحرّة «3» أو أدركتكم بالخوانق «4»
ألم يك حقّا أن ينوّل عاشق ... تكلّف إدلاج السّرى والودائق»(17/320)
فقالت: بلى والله، فقال:
فلا ذنب لى قد قلت إذ نحن جيرة ... أثيبى بودّ قبل إحدى الصّفائق «1»
أثيبى بودّ قبل أن تشحط النّوى ... وينأى الخليط بالحبيب المفارق
قال ابن أبى حدود: فقدّمناه فضربنا عنقه، فاقتحمت الجارية من خدرها حتى أهوت نحوه، فالتقمت فاه، فنزعنا منها رأسه، وإنها لتتبّع نفسها «2» حتى ماتت مكانها، وأفلت من القوم غلام من بنى أقرم يقال له السّميدع حتى اقتحم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره ما صنع خالد وشكاه. قال ابن دأب:
فأخبرنى صالح بن كيسان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل أنكر عليه أحد ما صنع» ؟ قال: نعم، رجل أصفر «3» ربعة، ورجل طويل أحمر؛ فقال عمر رضى الله عنه: أنا والله يا رسول الله أعرفها، أمّا الأوّل فهو ابنى، وأمّا الآخر فمولى أبى حذيفة، وكان خالد قد أمر كلّ من أسر أسيرا أن يقتله، فأطلق عبد الله بن عمر وسالم مولى أبى حذيفة أسيرين كانا معهما، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ بن أبى طالب بعد فراغه من حنين، وبعث معه بإبل وورق، وأمره أن يديهم، فوادهم. ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأله، فقال:
قدمت عليهم فقلت لهم: هل لكم أن تقبلوا هذا بما أصيب منكم من القتلى والجرحى، وتحلّلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّا علم وممّا لم يعلم؟، فقالوا:
نعم، قال: فدفعته إليهم، وجعلت أديهم حتى إنّى لأدى ميلغ «4» الكلب،(17/321)
وفضلت فضلة فدفعتها إليهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقبلوها» ؟
قلت: نعم؛ قال: «فو الذى أنا عبده لذاك أحبّ إلىّ من حمر النّعم» .
وروى أبو الفرج أيضا «1» بسند رفعه إلى عمر بن شبّة، قال: قالوا: يروى أن خالدا أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فسئل عن غزاته بنى جذيمة، فقال:
إن أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحدّثت، فقال: «تحدّث» ، فقال:
لقيناهم بالغميصاء بعد وجه الصبح، فقاتلناهم حتى كاد قرن الشمس يغيب، فمنحنا الله عز وجل أكتافهم، فاتبعناهم نطلبهم، فإذا غلام له ذوائب على فرس فى أخريات الناس، فبوّأت «2» له الرمح فوضعته بين كتفيه. فقال: لا إله، فقبضت الرمح، فقال: إلّا اللّات أحسنت أو أساءت، فهشمته هشمة أرديته بها، ثم أخذته أسيرا، فشددته وثاقا، ثم كلّمته فلم يكلّمنى، واستخبرته فلم يخبرنى؛ فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بنى جذيمة يسوق بهنّ المسلمون، فقال:
يا خالد، فقلت: ما تشاء؟ فقال: هل أنت واقفى «3» على هذه النسوة؟ فأبيت، فآلى «4» علىّ أصحابى، ففعلت، وفيهنّ جارية تدعى حبيشة، فقال: لها: ناولينى يدك، فناولته يدها فى ثوبها، فقال: اسلمى حبيش. قبل نفاد العيش. فقالت: حييّت عشرا، وتسعا تترى، وثمانيا أخرى، فقال:
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بنخلة «5» أو أدركتكم بالخوانق
ألم يك حقّا أن ينوّل عاشق ... تكلّف إدلاج السّرى والودائق(17/322)
فقالت: بلى، فقال:
فقد قلت إذ أهلى وأهلك جيرة ... أثيبى بودّ قبل إحدى الصّفائق
أثيبى بودّ قبل أن تشحط النّوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق
فإنى لا ضيعت سرّ أمانة ... ولا راق عينى بعد عينك رائق «1»
قال خالد: فغاظنى ما رأيت من غزله وشعره فى حاله تلك، فقدّمته فضربت عنقه، فأقبلت الجارية تسعى حتى أخذت برأسه فوضعته فى حجرها، وجعلت ترشفه وتقول:
لا تبعدن يا عمرو حيّا وهالكا ... ولا يبعدنّ المدح مثلك من مثلى «2»
ولا تبعدن يا عمرو حيّا وهالكا ... فقد عشت محمود الثّنا ماجد الفعل
فمن لطراد الخيل تشجر بالقنا ... وللنّحر يوما عند قرقرة البزل «3»
فما زالت تبكى وتردّد هذه الأبيات حتى ماتت، وإنّ رأسه لفى حجرها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد وقفت لى يا خالد وإن سبعين ملكا لمطيفون بك يحضّونك على قتل عمرو حتى قتلته» . والله أعلم.
ذكر غزوة حنين، وهى إلى هوازن وثقيف
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة ثمان من مهاجره، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكّة، مشت أشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض، وحشدوا وأوعبوا وبغوا، وجمع أمرهم مالك بن عوف النّصرى، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، وأمرهم فجاءوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا بأوطاس «4» ، وجعلت الأمداد تأتيهم.(17/323)
قال محمد بن إسحاق: اجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلّها، ونصر، وجشم كلها، وسعد بكر، وناس من بنى هلال، وهم قليل. قال: ولم يشهدها من قيس عيلان إلّا هؤلاء، وغابت عنها من هوازن كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم؛ قال: وفى بنى جشم دريد بن الصّمّة، وهو شيخ كبير ليس فيه شىء إلا التّيمّن برأيه ومعرفته بالحرب. قال: وفى ثقيف سيّدان لهم فى الأحلاف: قارب بن الأسود ابن مسعود بن معتّب، وفى بنى مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه «1» .
وقال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى: كان على ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفىّ. قال: وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف.
قال ابن إسحاق: وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف. قال: ولما نزل مالك بأوطاس، اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصّمّة، والصّمّة: معاوية الأصغر بن بكر ابن علقة، وقيل: علقمة بن خزاعة بن غزيّة بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن فى شجار له يقاد به- والشّجار الهودج- فلما نزل دريد قال: بأىّ واد أنتم؟ قالوا:
بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس «2» ، ثم قال:
مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار «3» الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل:
هذا مالك، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار(17/324)
الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال: ولم؟ قال:
أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، قال: فأنقض به،- أى صاح- ثم قال: راعى ضأن والله! وهل يردّ المنهزم شىء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدّ والجدّ؛ ولو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال:
ذانك الجذعان من «1» عامر لا ينفعان ولا يضرّان، يا مالك: إنك لم تصنع بتقديم البيضة، بيضة «2» هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ادفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم ألق الصّبّاء «3» على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك، قد أحرزت أهلك ومالك، قال: لا والله، لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعنىّ يا معشر هوازن أو لأتّكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهرى. وكره أن يكون لدريد بن الصّمّة فيها ذكر ورأى، قالوا:
أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتنى.
يا ليتنى فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
أقود وطفاء الزّمع ... كأنها شاة صدع «4»(17/325)
ثم قال مالك بن عوف للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدّة رجل واحد؛ قال: وبعث مالك بن عوف عيونا من رجاله، فأتوه وقد تفرّقت أوصالهم من الرّعب، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا، على خيل بلق، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فلم يردّه ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
قال ابن إسحاق: ولما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخبرهم بعث إليهم عبد الله بن أبى حدود الأسلمىّ، وأمره أن يدخل فى الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، ففعل؛ ثم أقبل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فأجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسير إلى هوازن لقتالهم، وذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال: «أعرنا سلاحك نلق به عدوّنا» ؛ فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: «بل عاريّة مضمونة حتى نؤدّيها إليك» ؛ قال: ليس بهذا بأس؛ فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة يوم السبت لستّ ليال خلون من شوّال فى اثنى عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح بهم مكة، وألفان من أهل مكة.
قال الثعلبىّ: قال مقاتل: كانوا أحد عشر ألفا وخمسمائة.
وقال الكلبىّ: كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قطّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن نغلب اليوم من قلّة» ، حكاه ابن إسحاق.
وقال محمد بن سعد: قال ذلك أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه. قال الثعلبىّ:
ويقال: بل قال ذلك رجل من المسلمين يقال له: سلمة بن سلامة.(17/326)
قال ابن سعد: وخرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناس من المشركين كثير، منهم صفوان بن أمية.
قال محمد بن إسحاق بسند يرفعه إلى الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين، ونحن حديثو عهد بالجاهلية، وكان لكفار قريش ومن سواهم من العرب سدرة «1» عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط. يأتونها كل سنة يعلّقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما؛ قال:
فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله. جعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: «الله أكبر، قلتم والذى نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى: (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)
«2» إنها السّنن، لتركبن سنن من كان قبلكم» ، قالوا: وانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوّال، فلما كان من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم فى وادى حنين، وأوعز إليهم أن يحملوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حملة واحدة، وعبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فى السحر. وصفّهم صفوفا، ووضع الألوية والرايات فى أهلها مع المهاجرين: لواء يحمله علىّ بن أبى طالب، وراية يحملها سعد بن أبى وقّاص، وراية يحملها عمر بن الخطّاب، ولواء الخزرج يحمله حباب بن المنذر- ويقال: سعد بن عبادة- ولواء الأوس مع أسيد بن حضير، وفى كل بطن من الأوس والخزرج لواء وراية يحملها رجل منهم مسمّى. وكذلك قبائل العرب فيها الألوية والرايات يحملها قوم منهم مسمّون، وكان رسول الله صلّى الله عليه(17/327)
وسلّم قد قدم سليما من يوم خرج من مكة، واستعمل عليهم خالد بن الوليد، فلم يزل على المقدّمة حتى قدم الجعرّانة. قال: وانحدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وادى حنين على تعبئته، وركب بغلته البيضاء «دلدل» ، ولبس درعين والمغفر والبيضة، فاستقبلهم من هوازن شىء لم يروا مثله قطّ من السواد والكثرة، وذلك فى غبش «1» الصبح وخرجت الكتائب من مضيق الوادى وسعته، فحملوا حملة، وانكشفت الخيل خيل بنى سليم مولّيه، وتبعهم الناس منهزمين، وانحاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات اليمين، وجعل يقول: يا أنصار الله وأنصار رسوله، أنا عبد الله ورسوله، وثبت معه يومئذ أبو بكر، وعمر، والعباس بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان واسمه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أمّ أيمن بن عبيد فى أناس من أهل بيته وأصحابه.
قال الكلبىّ: كان حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ثلاثمائة من المسلمين، وانهزم سائر الناس عنه، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول للعباس: ناد، يا معشر الأنصار، يا أصحاب السّمرة «2» ، يا أصحاب سورة البقرة، فنادى- وكان صيّتا- فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها يقولون: يا لبّيك يا لبّيك! فحملوا على المشركين، فأشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إلى قتالهم فقال: «الآن حمى الوطيس «3» .
أنا النبىّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب»(17/328)
ثم قال للعباس بن عبد المطلب: ناولنى حصيات، فناوله حصيات من الأرض، ثم قال: «شاهت الوجوه» ورمى بها وجوه المشركين، وقال: «انهزموا وربّ الكعبة» وقذف الله فى قلوبهم الرعب، وانهزموا لا يلوى أحد منهم على أحد.
قال محمد بن إسحاق: لما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جفاة مكّة الهزيمة، تكلّم رجال بما فى أنفسهم من الضّغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه فى كنانته، وصرخ جبلة بن الحنبل وهو مع أخيه صفوان بن أمية: ألا بطل السّحر اليوم! فقال له صفوان: اسكت فضّ الله فاك! فو الله لأن يربّنى «1» رجل من قريش أحبّ إلىّ من أن يربّنى رجل من هوازن؛ وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة: اليوم أدرك ثأرى من محمد- وكان أبوه قتل يوم أحد- اليوم أقتل محمدا. قال: فبادرت لأقتله، فأقبل شىء حتى غشّى فؤادى، فلم أطق ذلك، فعلمت أنه ممنوع منّى.
وفى رواية أخرى، قال شيبة بن عثمان: استدبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين وأنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان، وعثمان بن طلحة. فأطلع الله رسوله على ما فى نفسى، فالتقت إلىّ وضرب فى صدرى وقال: «أعيذك بالله يا شيبة» ، فأرعدت فرائصى، فنظرت إليه وهو أحبّ إلىّ من سمعى وبصرى فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأنّ الله أطلعك على ما فى نفسى.
وروى محمد بن إسحاق بسنده إلى العبّاس قال: إنى لمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخذ بحكمة «2» بغلته البيضاء وقد شجرتها «3» بها، وكنت امرأ جسيما شديد الصوت،(17/329)
ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين رأى ما رأى من الناس « [أين «1» ] أيها الناس» ، فلم أر الناس يلوون على شىء، فقال: «يا عباس، اصرخ، يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السّمرة» قال: فأجابوا لبّيك لبّيك، قال: فيذهب الرجل ليثنى بعيره فلا يقدر على ذلك، ويأخذ درعه فيقذفها فى عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلى سبيله، فيؤمّ الصوت حتى ينتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا؛ فأشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ركائبه، فنظر إلى مجتلد «2» القوم، فقال: «الآن حمى الوطيس» .
قال جابر بن عبد الله: فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتّفين عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن إسحاق: والتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأى أمّ سليم ابنة ملحان، وكانت مع زوجها أبى طلحة، وهى حازمة وسطها ببرد لها. وإنها لحامل بعبد الله بن أبى طلحة، ومعها جمل أبى طلحة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أمّ سليم» ؟ قالت: نعم، بأبى وأمّى يا رسول الله! اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك فإنهم لذلك أهل؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أو يكفى الله يا أمّ سليم» ؟ قال: ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أمّ سليم؟ قالت: خنجر أخذته إن دنا منّى أحد من المشركين بعجته «3» به.(17/330)
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثنى أبى إسحاق بن يسار أنه حدّث عن جبير ابن مطعم قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد «1» الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت، فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادى، لم أشكّ أنها الملائكة، ولم تكن إلّا هزيمة القوم.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجّه بعضهم نحو نخلة «2» ، وتبعت خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سلك فى نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثّنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان- وهو ابن الدّغنّة- دريد بن الصّمّة وهو فى شجار له أى هودج، فأخذ بخطام جمله وهو يظنّ أنه امرأة، فأناخ به، فإذا هو شيخ كبير والغلام لا يعرفه، فقال له دريد: ما تريد بى؟ قال: أقتلك؛ قال: ومن أنت؟ قال:
أنا ربيعة بن رفيع السّلمىّ، ثم ضربه بسيفه فلم يغن فيه شيئا، فقال: بئس ما سلّحتك أمّك! خذ سيفى هذا من مؤخر الرّحل فى الشّجار، ثم اضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدّماغ، فإنّى كذلك كنت أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمّك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصّمة. فربّ والله يوم قد منعت فيه نساءك؛ فقتله. ولمّا رجع ربيعة إلى أمّه أخبرها بقتله إيّاه، فقالت: أما والله لقد أعتق أمّهات لك ثلاثا.
قال ابن هشام: ويقال إن الذى قتل دريد بن الصّمّة هو عبد الله بن قنيع ابن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة؛ قال: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى آثار من توجّه قبل أوطاس أبا عامر الأشعرىّ، فأدرك بعص من انهزم، فناوشوه القتال، فقتل منهم أبو عامر تسعة مبارزة وهو يدعو كلّ واحد منهم إلى الإسلام(17/331)
ويقول: اللهم اشهد؛ ثم برز له العاشر معلما بعمامة صفراء، فضرب أبا عامر فقتله. واستخلف أبو عامر أبا موسى الأشعرىّ، فقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل قاتل أبى عامر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اغفر لأبى عامر واجعله من أعلى أمتى فى الجنّة» ، ودعا لأبى موسى.
وقال ابن هشام فى خبر أبى عامر: إنه قتل تسعة مبارزة يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فيقتله أبو عامر، وبقى العاشر، فحمل كلّ منهما على صاحبه، فدعاه أبو عامر إلى الإسلام وقال: اللهم اشهد عليه، فقال الرجل: اللهم لا تشهد علىّ، فكفّ عنه أبو عامر، فأقلت، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رآه قال: «هذا شريد أبى عامر» ، ورمى أبا عامر أخوان: العلاء وأوفى ابنا الحارث من بنى جشم ابن معاوية، فأصاب أحدهما قلبه. والآخر ركبته، فقتلاه، وولى الناس أبو موسى فحمل عليهما فقتلهما.
وقال أبو الفرج الأصفهانى: إن الذى رمى أبا عامر فأصاب ركبته هو سلمة ابن دريد «1» بن الصّمّة. وإنه ارتجز فقال:
إن تسألوا عنّى فإنّى سلمه ... ابن سمادير «2» لمن توسّمه
أضرب بالسيف رءوس المسلمة
قال: وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة فوقف فى فوارس من قومه على ثنيّة من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضى ضعفاؤكم وتلحق أخراكم، فوقف حتى مضى من لحق بهم من منهزمة الناس.(17/332)
قال ابن هشام: وبلغنى أنّ خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنيّة، فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا ترى قوما واضعى رماحهم بين آذان خيلهم، طويلة بوادّهم «1» فقال: هؤلاء بنو سليم، ولا بأس عليكم منهم؛ فلمّا أقبلوا سلكوا بطن الوادى، ثم طلعت خيل أخرى تتبعها، فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى قوما عارضى رماحهم أغفالا «2» على خيلهم، فقال: هؤلاء الأوس والخزرج، ولا بأس عليكم منهم؛ فلما انتهوا إلى أصل الثنيّة سلكوا طريق بنى سليم، ثم طلع فارس فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى فارسا طويل البادّ واضعا رمحه على عاتقه، عاصبا رأسه بملاءة حمراء، فقال: هذا الزبير بن العوّام، وأحلف باللات ليخالطنّكم، فاثبتوا له، فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية، أبصر القوم فصمد لهم، فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها.
قالوا: ولما انهزم القوم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل من قدر عليه، فحنق المسلمون عليهم، فقتلوا الذرّيّة والنساء، فمرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بامرأة قد قتلها خالد بن الوليد، فقال: «ما هذه» ؟ قالوا:
امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبعض من معه: «أدرك خالد بن الوليد فقل له: إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة» ؛ وأنزل الله تعالى فى يوم حنين قوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ)
«3»(17/333)
قال الثعلبىّ: قال سعيد بن جبير: أمدّ الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين «1» .
وقال الحسن ومجاهد: كانوا ثمانية آلاف.
وقال الحسن: كانوا ستة عشر ألفا؛ قال سعيد بن جبير: حدثنى رجل كان فى المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقفوا لنا حلبة شاة، فلمّا كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشّهباء- يعنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فتلقّانا رجال بيض الثياب حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إيّاها. يعنى الملائكة.
قال: وفى الخبر أنّ رجلا من بنى نصر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال:
أين الخيل البلق، والرجال عليهم ثياب بيض؟ ما كنا نراكم فيهم إلّا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلّا بأيديهم، فأخبروا النبى صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال: «تلك الملائكة» .
وقال محمد بن سعد: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم.
قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم حنين من بنى هاشم أيمن بن عبيد، ومن بنى أسد يزيد بن زمعة بن الأسود، ومن الأنصار سراقة بن الحارث ابن عدىّ، ومن الأشعر بين أبو عامر.
وقال ابن سعد: ورقيم بن ثعلبة بن زيد بن لوذان، واستحرّ القتل فى بنى نصر ابن معاوية، ثم فى بنى رئاب، فقال عبد الله بن قيس، وكان مسلما: هلكت(17/334)
بنو رئاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجبر مصيبتهم» . قال:
وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسبايا والأموال فجمعت، وحدرت إلى الجعرانة، وعليها مسعود بن عمرو الغفارىّ، فوقف بها بالجعرانة حتى انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة الطائف وهم فى حظائرهم يستظلّون بها من الشمس، ثم قسمها صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر سرية الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ إلى ذى الكفّين
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة ثمان عند منصرفه من غزوة حنين، وتوجّهه إلى الطائف ليهدم ذا الكفّين صنم عمرو بن حممة الدّوسىّ، وأمره أن يستمدّ قومه ويأتيه بالطائف، فخرج سريعا إلى قومه، فهدم ذا الكفّين وجعل يحشّ النار فى وجهه ويقول:
يا ذا الكفّين لست من عبّادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
إنى حششت «1» النار فى فؤادكا
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام، وقدم الطفيل معه بدبّابة «2» ومنجنيق.
ذكر غزوة الطائف
غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة ثمان من مهاجره، وذلك أنه لمّا انهزمت هوازن وثقيف يوم حنين، وجمعت السبايا والغنائم، سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حنين يريد الطائف، وقدّم خالد بن الوليد على مقدّمته،(17/335)
وقد كانت ثقيف رمّوا حصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس، دخلوا حصنهم وأغلقوه عليهم وتهيئوا للقتال، وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسلك على نخلة اليمانيّة، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرّغاء من ليّة «1» ، فابتنى بها مسجدا يصلّى فيه.
قال ابن إسحاق: وأقاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ببحرة الرّغاء حين نزلها بدم، وهو أوّل دم أقيد به فى الإسلام رجل من بنى أسد قتل رجلا من هذيل فقتل به؛ قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بليّة بحصن مالك ابن عوف، فهدم، ثم سلك فى طريق يقال لها: الضّيفة، فسأل عن اسمها. فقال:
«ما اسم هذه الطريق» ؟ فقالوا: الضّيقة، فقال: «بل هى اليسرى» ، ثم خرج منها على نخب «2» حتى نزل تحت سدرة يقال لها: الصادرة، قريبا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «إمّا أن تخرج وإمّا أن نخرّب عليك حائطك» ؛ فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإخرابه؛ ثم مضى حتى نزل قريبا من حصن الطائف وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنّبل رميا شديدا حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا.
قال ابن إسحاق: وهم «3» سعيد بن سعيد بن العاص، وعرفطة بن جناب، حليف لهم من أسد بن الغوث.
وعبد «4» الله بن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما، رمى فاندمل جرحه، ثم انتقض «5» بعد ذلك فمات منه فى خلافة أبيه.
ومن بنى مخزوم عبد الله بن أبى أميّة بن المغيرة.(17/336)
ومن بنى كعب عبد الله بن عامر بن ربيعة، حليف لهم.
ومن بنى سعد بن ليث جليحة بن عبد الله.
ومن الأنصار ثابت بن الجذع، والحارث بن سهل بن أبى صعصعة، والمنذر بن عبد الله، ورقيم بن ثابت بن ثعلبة الأوسىّ.
قال: فارتفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه صلّى الله عليه وسلّم من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبّتين.
وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانية عشر يوما، ويقال: خمسة عشر يوما، ونصب عليهم المنجنيق، ورمى عليهم به، وأهل الطائف أوّل من رمى بالمنجنيق فى الإسلام.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان يوم الشّدخة «1» دخل نفر من المسلمين تحت دبّابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنّبل، فقتل منهم رجال، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقطع أعنابهم وتحريقها، فقطع المسلمون قطعا ذريعا، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إنى أدعها لله وللرّحم» ، وندى منادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ» ؛ فخرج منهم بضعة عشر رجلا، منهم: أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودفع كلّ رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشقّ ذلك على أهل الطائف، ولم يؤذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى فتح الطائف، فاستشار نوفل بن معاوية الدّيلىّ، فقال: «ما ترى» ؟ فقال:
ثعلب فى حجر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضررك.(17/337)
قال محمد بن إسحاق: وبلغنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر رضى الله عنه: «يا أبا بكر؛ إنى رأيت أنّى أهديت لى قعبة مملوءة زبدا، فنقرها ديك فهراق ما فيها» ؛ فقال أبو بكر: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وأنا لا أرى ذلك» .
قال: ثم إن خويلة بنت حكيم بن أميّة السّلميّة، وهى امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله، [أعطنى «1» ] إن فتح الله عليك الطائف حلىّ بادية بنت غيلان ابن سلمة، أو حلىّ الفارعة بنت عقيل، وكانتا من أحلى نساء قريش. قال: فذكر؟؟ لى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «وإن كان لم يؤذن لى فى ثقيف يا خويلة» ؟
فخرجت خويلة فذكرت ذلك لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ما حديث حدّثتنيه خويلة فزعمت أنك قد قلته؟؛ قال: «قد قلته» . قال: أو ما أذن فيهم يا رسول الله؟
قال: «لا» ، قال: أفلا أؤذّن بالرحيل؟ قال: «بلى» قال: فأذّن عمر فى الناس بالرحيل؛ فضجّ الناس من ذلك، وقالوا: نرحل ولم تفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاغدوا على القتال» ؛ فغدوا، فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنا قافلون إن شاء الله» ؛ فسرّوا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرتحلون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك، وقال لهم: «قولوا لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ؛ فلما ارتحلوا واستقلوا قال: «قولوا آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون» ؛ وقيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، ادع على ثقيف؛ فقال: «اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» .(17/338)
ذكر مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الجعرانة وقسم مغانم حنين، وما أعطاه المؤلّفة
قال ابن إسحاق: ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الطائف رجع إلى الجعرانة فانتهى إليها ليلة الخميس لثلاث خلون من ذى القعدة، فأقام بها ثلاثة عشر يوما، وقسم الفىء.
قال محمد بن سعد: كان السّبى ستة آلاف، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، والورق أربعة آلاف أوقية فضّة، فاستأنى «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسّبى أن يقدم عليه وفدهم، وبدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلّفة قلوبهم أوّل الناس.
قالوا: فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل. قال:
وابنى يزيد؟ قال: «أعطوه أربعين أوقيّة ومائة من الإبل» ؛ قال: وابنى معاوية؟
فأعطاه أربعين أوقيّة ومائة من الإبل، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه إياها، وأعطى النّضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة مائة من الإبل، وأعطى أسيد بن جارية الثّقفىّ مائة من الإبل، وأعطى العلاء ابن جارية الثقفىّ خمسين بعيرا، وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرا، وأعطى الحارث بن هشام مائة من الإبل، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل، وأعطى صفوان بن أميّة مائة من الإبل، وأعطى قيس بن عدىّ مائة من الإبل، وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الإبل، وأعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزّى مائة من الإبل، وأعطى هشام بن عمرو العامرىّ(17/339)
خمسين من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس التميمىّ مائة من الإبل، واعطى عيينة ابن حصن مائة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل، وأعطى العبّاس بن مرداس أربعين من الإبل، وقيل: أربعة، فقال فى ذلك:
كانت نهابا تلافيتها ... بكرىّ على المهر فى الأجزع «1»
وإيقاظى القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبى ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع «2»
وقد كنت فى الحرب ذاتدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع «3»
إلّا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع «4»
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس فى المجمع «5»
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقطعوا عنّى لسانه» ، فأعطوه حتى رضى، قيل: أعطاه مائة من الإبل.
قال ابن سعد: أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك كلّه من الخمس، وهو أثبت الأقاويل عندنا، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم، ثم فضّها «6» على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربع من الإبل، وأربعون شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنى عشر من الإبل، أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس لم يسهم للفرس الزائد.(17/340)
ذكر قدوم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم وردّ السبايا إليهم
قال: وقدم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم أربعة عشر رجلا، ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرضاعة، فسألوه أن يمنّ عليهم بالسّبى.
قال ابن إسحاق بسنده إلى عبد الله بن عمرو: إنّ وفد هوازن وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنّا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا.
قال: وقام رجل من هوازن، أحد بنى سعد بن بكر يقال له: زهير، يكنى بأبى صرد، فقال: يا رسول الله، إنما فى الحظائر «1» عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللّاتى كنّ معك يكفلنك، ولو أنا ملحنا «2» للحارث بن أبى شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل الذى نزلت به، رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين.
وحكى أبو عمر بن عبد البرّ أن أبا صرد زهير بن صرد أنشد عند ذلك:
امنن علينا رسول الله فى كرم ... فإنّك المرء نرجوه وننتظر «3»
امنن على بيضة قد عاقها قدر ... ممزّق شملها، فى دهرها غير «4»
يا خير طفل ومولود ومنتجب ... فى العالمين إذا ما حصّل البشر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر(17/341)
فامنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها درر
إذ كنت طفلا صغيرا كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتى وما تذر
لا تجعلّنا كمن شالت نعامته «1» ... واستبق منّا فإنّا معشر زهر
يا خير من مرحت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
إنا لنشكر آلاء وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
إنّا نؤمّل عفوا منك تلبسه ... هذى البريّة إذ تعفو وتنتصر
فاغفر عفا الله عما أنت واهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظّفر
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم» ؟ فقالوا: يا رسول الله، خيّرتنا بين أموالنا وأحسابنا، فردّ إلينا أبناءنا ونساءنا فهو أحبّ إلينا؛ فقال لهم: «أمّا ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صلّيت الظهر فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله فى أبناءنا ونسائنا؛ فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم» ، ففعلوا ما أمرهم به؛ فقال: «أمّا ما كان لى ولبنى عبد المطّلب فهو لكم» ، وقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وقالت الأنصار مثل ذلك؛ فقال الأقرع بن حابس: أمّا أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أمّا أنا وبنو فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أمّا أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: يقول عباس لبنى سليم: وهّنتمونى «2» ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(17/342)
«إنّ هؤلاء القوم جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت بسببهم، وخيّرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان عنده منهم شىء فطابت نفسه أن يردّه فسبيل ذلك، ومن أبى فليردّ عليهم، وليكن ذلك قرضا علينا، فله بكل إنسان ستّ فرائض من أوّل ما يفىء الله علينا» قالوا: رضينا وسلّمنا، فردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم، ولم يتخلّف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنّه أبى أن يردّ عجوزا صارت فى يده منهم، ثم ردّها بعد ذلك.
وقد حكى محمد بن إسحاق سبب تمسّك عيينة بها وردّها، قال: فقال حين أخذها: أرى عجوزا إنى لأحسب لها فى الحىّ نسبا، وعسى أن يعظم فداؤها؛ فلما ردّ الناس السّبايا بستّ فرائض أبى أن يردّها، فقال له زهير بن صرد: خذها عنك، فو الله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد ولا درّها بماكد «1» ؛ فردّها بستّ فرائض حين قال له زهير ما قال. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كسا السبى قبطيّة قبطيّة، والقباطى: ثياب بيض تتّخذ من الكتّان بمصر.
وحكى محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى فى ترجمة عيينة بن حصن فى هذه القصة قال: لمّا قدم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وردّ عليهم السبى، كان عيينة قد أخذ رأسها منهم، فنظر إلى عجوز كبيرة فقال: هذه أمّ الحىّ، لعلّهم أن يغلوا بفدائها، وعسى أن يكون لها فى الحىّ نسب. فجاء ابنها إلى عيينة فقال:
هل لك فى مائة من الإبل؟ قال: لا، فرجع عنه، فتركه ساعة، وجعلت العجوز تقول لابنها: ما إربك فىّ بعد مائة ناقة، اتركه فما أسرع ما يتركنى بغير فداء؛(17/343)
فلما سمعها عيينة قال: ما رأيت كاليوم خدعة، والله ما أنا من هذه إلا فى غرور؛ ولا جرم والله لأبعدنّ أثرك منّى؛ قال: ثم مرّ به ابنها فقال له عيينة: هل لك فيما دعوتنى إليه؟ فقال: لا أزيدك على خمسين؛ فقال عيينة: لا أفعل؛ ثم لبث ساعة، فمرّ به وهو معرض عنه، فقال له عيينة: هل لك فى الذى بذلت لى؟، قال له الفتى: لا أزيدك على خمس وعشرين فريضة؛ قال عيينة: والله لا أفعل، فلما تخوّف عيينة أن يتفرق الناس ويرتحلوا قال: هل لك إلى ما دعوتنى إليه إن شئت؟: فقال الفتى: هل لك إلى عشر فرائض؟ قال: لا أفعل؛ فلما رحل الناس ناداه عيينة: هل لك إلى ما دعوتنى إليه إن شئت؟ قال الفتى: أرسلها وأحمدك، قال: لا والله ما لى حاجة بحمدك؛ فأقبل عيينة على نفسه لائما لها ويقول: ما رأيت كاليوم أمر أنكد، قال الفتى: أنت صنعت هذا بنفسك، عمدت إلى عجوز كبيرة، والله ما ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد ولا صاحبها بواجد، فأخذتها من بين من ترى؛ فقال له عيينة: خذها لا بارك الله لك فيها؛ قال: فيقول الفتى: يا عيينة، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كسا السبى فأخطأها من بينهم الكسوة، فهل أنت كاسيها ثوبا؟ قال: لا، والله ما لها ذاك عندى، قال: لا تفعل؛ فما فارقه حتى أخذ منه سمل ثوب، ثم ولّى الفتى وهو يقول: إنك لغير بصير بالفرض، قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كسا السبى قبطيّة قبطية، والقباطى: ثياب بيض تتّخذ من الكنّان بمصر.
قال محمد بن إسحاق: وسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد هوازن عن مالك بن عوف ما فعل؟ فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف؛ فقال: «أخبروا مالكا إن هو أتانى مسلما رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل» ، فأخبر بذلك،(17/344)
فخرج من الطائف فأدرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجعرانة أو بمكّة، فردّ عليه أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه. وقال حين أسلم منشدا:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... فى الناس كلّهم بمثل محمّد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشأ يخبرك عمّا فى غد
وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها ... بالسّمهرىّ وضرب كلّ مهنّد
فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر فى مرصد «1»
فاستعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل:
ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفا؛ لا يخرج لهم سرح «2» إلّا أغار عليه، حتى ضيّق عليهم، فقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو الثقفىّ فى ذلك:
هابت الأعداء جانبنا ... ثم تغزونا بنو سلمه
وأتانا مالك بهم ... ناقضا للعهد والحرمه
وأتونا فى منازلنا ... ولقد كنّا أولى نقمه
ذكر تسمية من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرها عند قسم مغانم حنين
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله: بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرهم وأعطاهم يوم الجعرانة من غنائم حنين: أبو سفيان ابن حرب، ومعاوية بن أبى سفيان، وطليق بن سفيان بن أميّة، وخالد بن أسيد(17/345)
ابن أبى العيص «1» ، وشيبة بن عثمان بن أبى طلحة، وأبو السنابل بن بعكك بن الحارث، وعكرمة بن عامر بن هاشم، وزهير بن أبى أميّة بن المغيرة، والحارث بن هشام بن المغيرة، وخالد بن هشام بن المغيرة، وهشام بن الوليد بن المغيرة، وسفيان بن عبد الأسد بن عبد الله، والسائب بن أبى السائب بن عائذ، ومطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة، وأبو جهم بن حذيفة بن غانم؛ العدويّان، وصفوان بن أميّة بن خلف الجمحى، وأحيحة بن أميّة بن خلف، وعمير بن وهب بن خلف، وعدىّ بن قيس ابن حذافة السّهمى، وحويطب بن عبد العزّى، وهشام بن عمرو بن ربيعة، ونوفل ابن معاوية بن عروة بن صخر الدّيلى، وعلقمة بن علاثة بن عوف، ولبيد بن ربيعة بن مالك، وخالد بن هوذة بن ربيعة بن عمرو بن عامر، وحرملة بن هوذة ابن ربيعة، ومالك بن عوف بن سعيد بن يربوع، وعبّاس بن مرداس السّلمىّ، وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارىّ، والأقرع بن حابس بن عقال المجاشعىّ
ذكر مقالة الأنصار فى أمر قسم الفىء، وما أجابهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورضّاهم به
قال ابن إسحاق بسند يرفعه إلى أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أنه قال:
لما أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أعطى من تلك العطايا فى قريش وفى قبائل العرب، ولم يكن فى الأنصار منها شىء، وجدوا فى أنفسهم حتى كثرت بهم القالة، حتى قال قائلهم: لقى والله رسول الله قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحىّ من الأنصار قد وجدوا عليك فى أنفسهم لما صنعت فى هذا الفىء الذى أصبت؛ قسمت فى قومك، وأعطيت عطايا عظاما(17/346)
فى قبائل العرب، ولم يكن فى هذا الحىّ من الأنصار منها شىء. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد» ؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلّا من قومى؛ قال: «فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة» ، فخرج سعد فجمعهم فيها، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتنى عنكم، وجدة وجدتموها فى أنفسكم؟ ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم» ! قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل ثم قال: «ألا تجيبوننى يا معشر الأنصار؟» ؛ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟، لله ولرسوله المنّ والفضل، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا مكذّبا فصدّقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم من لعاعة «1» من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رحالكم! فو الذى نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرا من الأنصار، ولو سلكت الناس شعبا «2» وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» ؛ قال: فبكى القوم حتّى أخضلوا «3» لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسما وحظّا؛ ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّقوا، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة معتمرا، وذلك ليلة الأربعاء لثنتى عشرة ليلة مضت من ذى القعدة، فأحرم بعمرة، ودخل مكّة، فطاف وسعى وحلق رأسه، ورجع إلى الجعرانة من ليلته.(17/347)
ذكر استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد على مكّة ورجوعه إلى المدينة
قال محمد بن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عمرته استخلف عتّاب بن أسيد على مكّة، وخلّف معه معاذ بن جبل يفقّه الناس فى الدّين ويعلّمهم القرآن.
قال ابن هشام: لما استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد على مكة رزقة كلّ يوم درهما، فقام فخطب الناس فقال: أيّها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم، قد رزقنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم درهما كلّ يوم، فليست بى حاجة إلى أحد.
قال: وحجّ عتّاب بالناس فى سنة ثمان على ما كانت العرب تحجّ عليه.
قال ابن سعد: ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة سلك فى وادى الجعرانة، حتى خرج على سرف «1» ، ثم أخذ الطريق إلى مرّ الظّهران «2» ، ثم إلى المدينة، فقدمها صلّى الله عليه وسلّم فى بقية ذى القعدة أو فى أوّل ذى الحجّة.
وقال ابن هشام: لستّ بقين من ذى القعدة. والله أعلم.
ذكر سريّة عيينة بن حصن الفزارىّ إلى بنى تميم
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المحرم سنة تسع من مهاجره إلى بنى تميم فى خمسين فارسا من العرب، ليس فيهم مهاجرىّ ولا أنصارىّ، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم فى صحراء- وكانوا فيما بين السّقيا وأرض بنى تميم، وقد(17/348)
حلّوا وسرّحوا ماشيتهم، فلما رأوا الجمع ولّوا- وأخذ منهم أحد عشر رجلا؛ ووجدوا فى المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّا، فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحبسوا فى دار رملة بنت الحارث، فقدم فيهم عدّة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب، والزّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، ورباح بن الحارث بن مجاشع، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم ابن سعد، وعمرو بن الأهتم، وربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو، والقعقاع بن معبد، ووردان بن محرز، ومالك بن عمرو، وفراس بن حابس، وكان من شأنهم وكلام خطيبهم وشاعرهم ما نذكر ذلك فى أخبارهم فى وفادات العرب إن شاء الله تعالى، وذلك فى السفر السادس عشر من كتابنا هذا من هذه النسخة «1» .
قال: وردّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأسرى والسّبى.
قال ابن إسحاق: وكان ممّن قتل يومئذ من بنى العنبر: عبد الله وأخوان له بنو وهب، وشدّاد بن فراس، وحنظلة بن دارم. وكان ممّن سبى يومئذ أسماء بنت مالك، وكأس بنت أرىّ، ونجوة بنت نهد، وجميعة بنت قيس، وعمرة بنت مطر.
ذكر خبر الوليد بن عقبة بن أبى معيط مع بنى المصطلق
قال محمد بن سعد: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة ابن أبى معيط إلى بالمصطلق من خزاعة يصدّقهم، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنوّ الوليد خرج منهم عشرون رجلا يتلقّونه بالجزور والغنم فرحا به، فلما رآهم ولّى راجعا إلى المدينة، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم لقوه(17/349)
بالسلاح يحولون بينه وبين الصّدقة، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وبلغ ذلك القوم، فقدم الرّكب الّذين لقوا الوليد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر على وجهه، فنزل فى ذلك قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)
«1» ، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن، وبعث معهم عبّاد بن بشر يأخذ صدقات أموالهم، ويعلّمهم شرائع الإسلام، ويقرئهم القرآن، ففعل، وأقام عندهم عشرا، ثم انصرف إلى المدينة.
ذكر سريّة قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى صفر سنة تسع من مهاجره إلى حىّ من خثعم بناحية تبالة فى عشرين رجلا، وأمره أن يشنّ الغارة عليهم، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلا، فسألوه فاستعجم عليهم، وجعل يصبح بالحاضر ويحذّرهم، فضربوا عنقه، ثم أمهلوا حتى نام الحاضر، فشنّوا عليهم الغارة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وساق المسلمون النّعم والشاء والنساء إلى المدينة، وجاء سيل فحال بينهم وبين قطبة، فما يجدون إليه سبيلا، وكانت سهامهم بعد الخمس لكلّ رجل أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم.
ذكر سريّة الضحّاك بن سفيان الكلابىّ إلى بنى كلاب كانت فى شهر ربيع الأوّل سنة تسع من الهجرة
قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيشا إلى القرطاء «2» عليهم الضحّاك ابن سفيان بن عوف الكلابىّ، ومعه الأصيد بن سلمة بن قرط، فلقوهم بالزّجّ «3» ،(17/350)
زجّ لاوة، فدعوهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموا، فلحق الأصيد أباه سلمة، وسلمة على فرس له فى غدير الزّجّ، فدعا أباه إلى الإسلام، وأعطاه الأمان، فسبّه وسبّ دينه، فضرب الأصيد عرقوبى فرس أبيه، فلمّا وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز سلمة رمحه فى الماء، ثم استمسك به، حتى جاءه أحدهم فقتله، ولم يقتله ابنه، وفى هذه السريّة وفى الضحّاك بن سفيان يقول عبّاس بن مرداس:
إنّ الذين وفوا بما عاهدتم ... جيش بعثت عليهم الضّحّاكا
أمرته ذرب اللّسان «1» كأنه ... لمّا تكنّفه العدوّ يراكا
طورا يعانق باليدين وتارة ... يفرى الجماجم صارما بتّاكا «2»
ذكر سريّة علقمة بن مجزّز المدلجىّ إلى الحبشة
كانت هذه السريّة فى شهر ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أنّ ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدّة، فبعث إليهم علقمة بن مجزّز فى ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة فى البحر وقد خاض إليهم، فهربوا منه، فلمّا رجع تعجّل «3» بعض القوم إلى أهليهم، فأذن لهم، وفيهم عبد الله بن حذافة السّهمىّ، فأمّره علقمة على من تعجّل، وكانت فيه دعابة، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال لهم: عزمت عليكم إلّا تواثبتم فى هذه النار، فقام بعض القوم حتى ظنّ أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا، إنما كنت أضحك معكم؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «من أمركم بمعصية فلا تطيعوه» .(17/351)
ذكر سريّة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى الفلس صنم طيئ
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الآخر سنة تسع فى خمسين ومائة رجل من الأنصار إلى الفلس (صنم طيئ) ليهدمه- (والفلس بضم الفاء وسكون اللام) - بعثهم على مائة بعير وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنّوا الغارة على محلّة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفلس وخرّبوه وملأوا أيديهم من السّبى والنّعم والشاء، وفى السبى أخت عدىّ بن حاتم، وهرب عدىّ إلى الشام؛ وكان من خبره ما نذكره إن شاء الله فى أخبار الوفود. قال:
ووجدوا فى خزانة الفلس ثلاثة أسياف: رسوب، والمخذم، واليمان؛ وثلاثة أدرع، فلمّا نزلوا ركك «1» اقتسموا الغنائم، وعزل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفيّة «2» : رسوب، والمخذم، ثم صار له بعد السيف الآخر، وعزل الخمس وعزل آل حاتم فلم يقسمهم، حتى قدم بهم المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر سريّة عكّاشة بن محصن الأسدى إلى الجناب
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الآخر سنة تسع من مهاجره إلى الجناب، أرض عذرة وبلىّ، ولم يذكر ابن سعد من خبره غير ذلك.
ذكر غزوة تبوك
كانت غزوة تبوك فى شهر رجب سنة تسع من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان سببها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أنّ الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام، وأنّ هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لحم،(17/352)
وجدام، وعاملة، وغسان، وقدّموا مقدّماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس إلى الخروج، وأعلمهم المكان الذى يريد ليتأهّبوا لذلك، وبعث إلى مكّة وإلى قبائل العرب يستنفرهم، وذلك فى حرّ شديد، وأمرهم بالصدقة، فحملوا صدقات كثيرة، وقووا فى سبيل الله.
قال ابن هشام: أنفق عثمان بن عفّان رضى الله عنه فى جيش العسرة فى غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم ارض عن عثمان فإنّى عنه راض» .
وجاء البكاءون وهم سبعة: سالم بن عمير، وهرمىّ بن عبد الله أخو بنى واقف، وعلبة بن زيد أخو بنى حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازنىّ، وعمرو بن عنمة، وسلمة بن صخر، والعرباض بن سارية الفزارىّ.
قال: وفى بعض الرّواة من يقول: إنّ فيهم عبد الله بن مغفّل المزنىّ، ومعقل ابن يسار، وبعضهم يقول: البكاءون بنو مقرّن السبعة، وهم من مزينة، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستحملونه، فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» ؛ فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون، فعذرهم الله تعالى.
قال: وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ ناسا من المنافقين يجتمعون فى بيت سويلم اليهودىّ، يثبّطون الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضّحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا، فقال الضحّاك فى ذلك:
كادت وبيت الله نار محمّد ... يشيط بها الضحّاك وابن أبيرق(17/353)
فظلت وقد طبّقت كبس سويلم ... أنوء على رجلى كسيرا ومرفقى «1»
سلام عليكم لا أعود لمثلها ... أخاف، ومن تشمل به النار يحرق
وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى التخلّف من غير علّة، فأذن لهم، وهم بضعة وثمانون رجلا.
وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم، فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم، وهم اثنان وثمانون رجلا؛ ذكر أنهم نفر من بنى غفار، وكان عبد الله بن أبىّ بن سلول قد عسكر على ثنيّة الوداع فى حلفائه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكره بأقلّ العسكرين، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستخلف على عسكره أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه، فصلّى بالناس، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة، فلمّا سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تخلّف عبد الله بن أبىّ، ومن كان معه، وتخلّف نفر من المسلمين من غير شكّ ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك، وهلال بن أميّة، ومرارة بن الرّبيع، وأبو خيثمة مالك بن قيس السّالمى، وأبو ذرّ الغفارىّ؛ وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتّخذوا لواء أو راية، ومضى صلّى الله عليه وسلّم لوجهه يسير بأصحابه حتى قدم تبوك فى ثلاثين ألفا من الناس، والخيل عشرة آلاف فرس، فأقام بها عشرين ليلة يصلّى ركعتين ركعتين، ولحقه بها أبو خيثمة وأبو ذرّ.
قال محمد بن إسحاق فى سبب مسير أبى خيثمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنه جاء يوما إلى أهله بعد أن سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّاما فى يوم(17/354)
حارّ، فوجد امرأتين له فى عريشين «1» لهما فى حائطه، قد رشّت كلّ واحدة منهما عريشها وبردّت له فيه ماء، وهيّأت طعاما، فلمّا دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله فى الضّحّ «2» والرّيح والحرّ، وأبو خيثمة فى ظلّ بارد، وطعام مهيّأ، وامرأة حسناء، فى ماله مقيم، ما هذا بالنّصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهيّأ لى زادا، ففعلتا، ثم قدّم ناضحه «3» فارتحله، ثم خرج فى طلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أدركه حين نزل تبوك.
قال: ولمّا دنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كن أبا خيثمة» ؛ قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة؛ فلمّا أناخ أقبل فسلّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «أولى لك يا أبا خيثمة» !، ثم أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فقال: خيرا ودعا له.
وأما أبو ذرّ الغفارىّ، فإنه أدرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أثناء الطريق، وكان بعيره قد أبطأ عليه، فحمل متاعه على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أدركه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«رحم الله أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» فكان كذلك.
قال: وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبوك وهرقل يومئذ بحمص، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى أكيدر.(17/355)
ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك
قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بتبوك خالد بن الوليد فى أربعمائة وعشرين فارسا سريّة إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل، وأكيدر من كندة، قد ملكهم، وكان نصرانيّا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخالد بن الوليد: «إنّك ستجده يصيد البقر» . فخرج خالد فى شهر رجب سنة تسع من الهجرة حتى كان من حصن أكيدر بمنظر العين فى ليلة مقمرة وصائفة، وهو على سطح له، ومعه امرأته، فبالت البقر تحكّ بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته:
ما رأيت مثل هذا قطّ؟ قال: لا والله؛ قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فأسرج له، وركب وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له: حسّان، وخرجوا لمطاردة البقر، فلما خرجوا تلقّتهم خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشدّت عليه، فاستأسر أكيدر، وامتنع أخوه حسان، وقاتل حتى قتل، وكان عليه قباء من ديباج مخوّص «1» بالذهب، فاستلبه خالد، وبعث به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم، ويتعجّبون منه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتعجبون من هذا؟
فو الّذى نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة أحسن من هذا» . قال: ولما أسر أكيدر وقتل حسّان، هرب من كان معهما، فدخل الحصن، وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل، وصالحه على ألفى بعير، وثمانمائة فرس، وأربعمائة درع وأربعمائة رمح، فعزل للنبى صلّى الله عليه وسلّم صفيّا خالصا، ثم أخرج الخمس، وقسم(17/356)
ما بقى بين أصحابه، ثم خرج خالد بأكيدر وبأخيه مصاد. وكان فى الحصن- وبما صالحه عليه قافلا إلى المدينة، فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأكيدر، فأهدى له هديّة، وصالحه على الجزية، وحقّن دمه، ثم خلّى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال بجير بن بجرة:
تبارك سائق البقرات إنّى ... رأيت الله يهدى كلّ هاد
فمن يك حائدا عن ذى تبوك ... فإنّا قد أمرنا بالجهاد
قال محمد بن إسحاق: ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تبوك أتاه يحنّة ابن رؤبة صاحب أيلة «1» ، فصالح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء «2» وأذرح «3» ، فأعطوه الجزية، وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليحنّة كتابا، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبىّ رسول الله ليحنّة بن رؤبة وأهل أيلة؛ سفنهم وسيّارتهم فى البر والبحر، لهم ذمّة الله ومحمد النبى، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنّه لا يحول ماله دون نفسه. وإنّه طيّب لمن أخذه من الناس، وإنّه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من برّ أو بحر» .
قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل على حرسه بتبوك عبّاد ابن بشر. ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يلق كيدا.(17/357)
وقدم المدينة فى شهر رمضان من السنة، وجاءه من كان قد تخلّف عنه، فحلفوا له، فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب بن مالك وصاحبيه حتى نزلت توبتهم، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى آخر هذه الغزوة.
قال: وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنهاهم، وقال: «لا تزال عصابة من أمّتى يجاهدون على الحقّ حتّى يخرج الدجّال» .
وكان فى غزوة تبوك وقائع غير ما قدّمناه، قد رأينا إيرادها فى هذا الموضع.
منها خبر مرور رسول الله بالحجر.
ومنها ما أنزل فى أمر المنافقين.
ومنها خبر الثلاثة الّذين خلّفوا، وما أنزل من توبتهم.
ذكر خبر مرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر وما قاله لأصحابه
قال محمد بن إسحاق: لمّا مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سفره إلى تبوك بالحجر من مدين، نزلها، واستقى الناس من بئرها، فلمّا راحوا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. «لا تشربوا من مائها شيئا، ولا يتوضّأ منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه للإبل ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلّا ومعه صاحب له» ، ففعل الناس ما أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إلّا أنّ رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر فى طلب بعير له، فأما الّذى ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه «1» ؛ وأما الذى ذهب فى طلب بعيره(17/358)
فاحتملته الرّيح حتى طرحته بجبل طيئ، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال: «ألم أنهكم ألّا يخرج منكم أحد إلّا ومعه صاحبه» ! ثم دعا الّذى أصيب «1» فشفى، وأمّا الآخر فإن طيّئا أهدته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة.
قال ابن هشام: بلغنى عن الزّهرىّ أنه قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر سجّى «2» ثوبه على وجهه، واستحثّ راحلته، ثم قال: «لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلّا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم» .
قال ابن إسحاق: لمّا أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا، فأرسل لله تعالى سحابة فأمطرت حتّى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء.
وفى هذه الغزوة ضلّت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال زيد بن لصيب «3» ما قال، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال، فأخبر بشأنها، ووجدت كما وصف صلّى الله عليه وسلّم على ما قدّمنا ذلك فى أخبار المنافقين.
ذكر أخبار المنافقين وما تكلّموا به فى غزوة تبوك وما أنزل الله عز وجل فيهم من القرآن
كان ممّن أنزل الله عزّ وجلّ فيه من القرآن ما أنزل فى غزوة تبوك الجدّ ابن قيس، وهو الذى قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لى ولا تفتنّى؛ وقد تقدّم خبره مع أخبار المنافقين.(17/359)
وقال قوم منهم: لا تنفروا فى الحرّ زهادة فى الجهاد؛ فأنزل الله عزّ وجل فيهم:
(وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)
«1» ، وقال رهط من المنافقين: منهم وديعة ابن ثابت أخو بنى عمرو بن عوف، ورجل من أشجع، حليف لبنى سلمة يقال له:
مخشّ بن حميّر- وقيل: مخشىّ «2» - وغيرهما بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا، والله لكأنكم غدا بهم مقرّنين فى الحبال، يقولون ذلك إرجافا وترهيبا للمؤمنين.
فقال مخشىّ: والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كلّ رجل منّا مائة جلدة، وأنا ننفلت أو ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمار بن ياسر: «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل لهم: بلى قد قلتم كذا وكذا» ، فانطلق إليهم عمّار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلّى الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب.
وقال مخشىّ: يا رسول الله، قعد بى اسمى واسم أبى، فأنزل الله تعالى قوله:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)
«3» . فكان مخشىّ بن حمير ممن عفى عنه، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة، ولم يوجد له أثر. والله الموفق للصواب.(17/360)
ذكر خبر الثلاثة الذين خلّفوا، وما أنزل فيهم وفى المعذّرين من الأعراب
والثلاثة الذين خلّفوا لم يتخلّفوا عن شكّ ولا نفاق، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة، وكان من خبرهم ما حدّثنا به الشيخان المعمّران المسندان شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى طالب نعمة الصالحىّ الحجّار، وست الوزراء أمّ محمد وزيرة بنت القاضى شمس الدين عمر بن أسعد بن المنجى التّنوخيّة الدّمشقيّان قراءة عليهما، وأنا أسمع فى جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبعمائة بالمدرسة المنصورية بالقاهرة المعزّيّة، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزبيدى، قال: حدّثنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزى قراءة عليه ونحن نسمع، قال: حدّثنا الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودىّ، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمّويه السّرخسىّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ابن مطر الفربرىّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخارىّ، قال: حدّثنا يحيى بن بكير، قال: حدّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أنّ عبد الله بن كعب بن مالك،- وكان قائد كعب من بنيه حين عمى- قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حين تخلّف عن قصّة تبوك قال كعب: لم أتخلّف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة غزاها إلا فى غزوة تبوك، غير أنى كنت تخلفت فى غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلّف عنها، إنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد؛ ولقد شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(17/361)
ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أن لى بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر فى الناس منها.
كان من خبرى أنى لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّى حين تخلفت عنه فى تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندى قبله راحلتان قطّ حتى جمعتهما فى تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوّا كثيرا، فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذى يريد، والمسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان.
قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيّب إلّا ظن أنّه سيخفى له ذلك، ما لم ينزل فيه وحى الله عزّ وجلّ، وغزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظّلال، وتجهّز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكى أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول فى نفسى: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بى حتى شمّر بالناس الجدّ. فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه، ولم أفض من جهازى شيئا، فقلت: اتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، ورجعت فلم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت، ولم أقض شيئا، فلم يزل بى حتّى أسرعوا وتفرّط «1» الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتنى فعلت، فلم يقدر لى ذلك، فكنت إذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فطفت فيهم أحزننى أنّى لا أرى إلّا رجلا مغموصا «2» عليه بالنفاق، أو رجلا ممّن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرنى(17/362)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس فى القوم بتبوك:
«ما فعل كعب» ؟ فقال رجل من بنى سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه ونظره فى عطفيه «1» . فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله، ما علمت عليه إلّا خيرا، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغنى أنه توجه قافلا حضرنى همّى، وطفقت أتذكّر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا، واستعنت على ذلك بكل ذى رأى من أهلى، فلما قيل إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أظلّ «2» قادما راح عنى الباطل، وعرفت أنّى لم أخرج منه أبدا بشىء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم يجلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلّمت عليه تبسّم تبسّم المغضب، ثم قال: «تعال» ، فجئت أمشى حتى جلست بين يديه، فقال لى: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك» ؟ فقلت: بلى والله، إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا «3» ، ولكنّى والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّى ليوشكن الله أن يسخطك علىّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد «4» علىّ فيه إنى لأرجو فيه عقبى الله، لا والله ما كان لى من عذر، والله ما كنت قطّ أقوى(17/363)
ولا أيسر منّى حين تخلّفت عنك؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضى الله فيك» ، فقمت وثار رجال من بنى سلمة فاتبعونى، فقالوا لى: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما اعتذر إليه المتخلّفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فو الله ما زالوا يؤنّبونى حتى أردت أن أرجع فأكذّب نفسى، ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحدا؟ قالوا:
نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك؛ فقلت: من هما؟
قالوا: مرارة بن الربيع العمرى، وهلال بن أمية الواقفىّ، فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة؛ فمضيت حين ذكروهما لى.
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا- أيّها الثلاثة- من بين من تخلّف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكّرت فى نفسى الأرض، فما هى بالتى أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأمّا صاحباى فاستكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف فى الأسواق، فلا يكلمنى أحد، وآتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول فى نفسى: هل حرّك شفتيه بردّ السلام علىّ أم لا؟ ثم أصلّى قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتى أقبل إلىّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عنى، حتى إذا طال علىّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبى قتادة، وهو ابن عمّى، وأحبّ الناس إلىّ، فسلّمت عليه، فو الله ما ردّ علىّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك الله، هل تعلمى أحبّ الله ورسوله؟(17/364)
فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناى، وتولّيت حتى تسوّرت الجدار.
قال: فبينا أنا أمشى بسوق المدينة إذا نبطىّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟، فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءنى دفع إلىّ كتابا من ملك غسّان، فإذا فيه: «أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك» . فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيمّمت «1» بها التنور، فسجرته «2» بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتينى، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك.
فقلت: أطلّقها؟ أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربنّها، وأرسل إلى صاحبى مثل ذلك، فقلت لامرأتى: الحقى بأهلك فكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أميّة- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: «لا، ولكن لا يقربنّك» قالت: إنه والله ما به حركة إلى شىء، والله مازال يبكى مذكان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لى بعض أهلى:
لو استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى امرأتك، كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدرينى ما يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أستأذنته فيها وأنا رجل شابّ! فلبثت بعد ذلك عشر(17/365)
ليال حتى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كلامنا؛ فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التى ذكر الله، قد ضاقت علىّ نفسى، وضاقت علىّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى «1» على جبل سلع بأعلى صوته:
يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل «2» صاحبىّ مبشّرون، وركض رجل إلىّ فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءنى الذى سمعت صوته يبشرنى، نزعت ثوبىّ فكسوته إباهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتلقّانى الناس فوجا فوجا يهنّئوننى بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك.
قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس حوله الناس، فقام إلىّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وهنّأنى، والله ما قام إلىّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ؛ قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال:(17/366)
«لا، بل من عند الله» ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ استتار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنّا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إنّ من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسول الله؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» ، قلت: فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر، وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجّانى بالصدق، وإنّ من توبتى ألا أحدّث إلّا صدقا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن ممّا أبلانى، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومى هذا كذبا، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقى «1» ، فأنزل الله تعالى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)
«2» .
قال كعب: فو الله ما أنعم الله علىّ من نعمة قطّ بعد أن هدانى للإسلام أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحى شرّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ(17/367)
لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)
«1» .
قال كعب: وكنا تخلفنا- أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حلفوا «2» فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.
وليس الذى ذكر الله مما خلّفنا تخلّفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
انتهت غزوة تبوك، فلنذكر ما سواها من السرايا.
ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى بنى عبد المدان بنجران
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم فى شهر ربيع الأوّل سنة عشر من مهاجره، ولم يذكر من خبر هذه السريّة غير هذا فنذكره.
ذكر سريّة على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى اليمن
يقال: بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرتين: إحداهما فى شهر رمضان سنة عشر من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم، وعقد له لواء، وعمّه بيده، وقال:
«امض لا تلتفت، فاذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك» ، فخرج فى ثلاثمائة فارس، وكانت أوّل خيل دخلت إلى تلك البلاد، وهى بلاد مذحج، ففرق أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك، وجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمىّ، فجمع إليه ما أصابوا، ثم لقى جمعهم(17/368)
فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا ورموا بالنّبل، ثم حمل عليهم علىّ رضى الله عنه بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا، فتفرقوا وانهزموا، فكفّ عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام، وقالوا:
نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حقّ الله، وجمع علىّ الغنائم فحمّسها، وقسم على أصحابه بقية المغنم، ثم قفل، فوافى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة حين قدمها للحج سنة عشر. حكاه ابن سعد «1» .
وقال محمد بن إسحاق، لما رجع علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه من اليمن إلى مكة، دخل على فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجدها قد حلّت فقال: مالك يا بنت رسول الله «2» ؟ قالت: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نحلّ بعمرة فحللنا، ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما فرغ من الخبر عن سفره، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ أصحابك» قال: يا رسول الله، إنى أهللت بما أهللت؛ قال: «فارجع فاحلل كما حلّ أصحابك» قال: يا رسول الله، إنّى قلت حين أحرمت: اللهم إنى أهلّ بما أهلّ به نبيّك وعبدك ورسولك محمد، قال: «فهل معك من هدى» ؟ قال: لا، فأشركه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى هديه، وثبت على إحرامه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى فرغا من الحجّ، ونحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهدى.
قال: ولما أقبل علىّ من اليمن تعجّل إلى رسول الله، واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذى كان مع علىّ، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل؛ قال:(17/369)
ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجمّلوا إذا قدموا فى الناس؛ قال:
انزعها ويلك! قبل أن تنتهى بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فانتزع الحلل من الناس فردّها فى البزّ، فاشتكى الناس عليّا، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا، فقال: «أيها الناس، لا تشتكوا عليّا، فو الله إنه لأخشن فى ذات الله» أو «فى سبيل الله «1» » .
ذكر سريّة أسامة بن زيد بن حارثة إلى أرض الشّراة «2» ناحية البلقاء
وهذه السريّة هى آخر سريّة جهّزها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات قبل إنفاذها، وكانت لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فيها أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسعد بن أبى وقّاص، وسعيد بن زيد، وقتادة بن النعمان، وسلّم بن أسلم بن حريش، فتكلم قوم وقالوا: نستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غضبا شديدا، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتنى عن بعضكم فى تأميرى أسامة؟ ولئن طعنتم فى إمارتى أسامة لقد طعنتم فى إمارتى أباه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليقا، وإنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحبّ الناس إلىّ، وإنهما لمخيلان لكلّ خير، فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم» ، ثم نزل فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأوّل، وخرج الناس إلى الجرف، فتوفّى رسول الله صلّى(17/370)
الله عليه وسلّم قبل خروج هذه السريّة، فلما ولّى أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، كان أوّل ما بدأ به بعث أسامة.
هذا ما أمكن إيراده من غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسراياه.
فلنذكر حجّه وعمره صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمره
قالوا: حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل هجرته إلى المدينة حجّتين، ولم يحجّ بعد الهجرة إلّا حجّة الوداع، وهى فى السنة العاشرة، وكانت فريضة الحجّ نزلت فى السنة السادسة من الهجرة، وفتحت مكّة فى سنة ثمان، فاستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد، فحج بالناس تلك السنة، وفى السنة التاسعة حج أبو بكر الصّدّيق رضوان الله عليه بالناس كما قدّمنا ذكر ذلك فى مواضعه، فلما كان فى السنة العاشرة أذّن فى الناس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجّ، فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعمل مثل عمله، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة مغتسلا مدّهنا مترجّلا متجرّدا فى ثوبين صحاربيّن: إزار ورداء، وذلك يوم السبت لخمس ليال بقين من ذى القعدة سنة عشر من مهاجره، واستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدىّ- ويقال: سباع ابن عرفطة الغفارىّ- قالوا: وصلّى الظهر بذى الحليفة ركعتين، وأخرج معه نساءه كلهنّ فى الهوادج، وأشعر هديه وقلّده، ثم ركب ناقته، فلما استوى عليها بالبيداء أحرم من يومه، وكان على هديه ناجية بن جندب، وقيل: إنه أهلّ بالحج مفردا، وقيل: قرنه بعمرة، ومضى صلّى الله عليه وسلّم يسير المنازل ويؤمّ أصحابه فى الصلاة فى مساجد له قد بناها الناس، فكان يوم الاثنين بمرّ الظّهران، فغربت له الشمس بسرف، ثم أصبح فاغتسل ودخل مكة نهارا وهو على راحلته القصواء، وكان تحته(17/371)
صلى الله عليه وسلّم رحل رثّ عليه قطيفة لا تساوى أربعة دراهم، وقال: «اللهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» ، فدخل من أعلى مكة من كداء حتى انتهى إلى باب بنى شيبة، فلما رأى البيت رفع يديه فقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرّفه وعظّمه ممّن حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما وبرّا» ؛ ثم بدأ فطاف بالبيت، ورمل «1» ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر، وهو مضطبع «2» بردائه، ثم صلّى خلف المقام ركعتين، ثم سعى بين الصفا والمروة على راحلته من فوره ذلك، وكان قد اضطرب بالأبطح، فرجع إلى منزله، فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب بمكة بعد الظهر، ثم خرج يوم التروية إلى منى، فبات بها، ثم غدا إلى عرفات، فوقف بالهضاب منها، وقال: «كلّ عرفة [موقف إلّا بطن عرنة «3» ] » ، فوقف على راحلته يدعو، فلما غربت الشمس دفع فجعل يسير العنق «4» حتى جاء المزدلفة، فنزل قريبا من الغار، فصلى المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ثم بات بها، فلما برق الفجر صلّى الصبح، ثم ركب راحلته، فوقف على قزح «5» وقال: «كلّ المزدلفة موقف إلّا بطن محسّر «6» » ، ثم دفع قبل طلوع الشمس، فلما بلغ إلى محسر أوضع «7» ، ولم يزل يلّبى حتى رمى جمرة العقبة، ثم نحر الهدى وحلق رأسه، وأخذ من شاربه وعارضيه، وقلم أظفاره، وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن، ثم أصاب الطّيب، ولبس القميص، ونادى مناديه بمنّى: إنها أيّام أكل وشرب وباءة، وجعل يرمى الجمار فى كلّ يوم عند زوال الشمس، ثم خطب الغد من يوم النّحر بعد الظهر(17/372)
على ناقته القصواء، ثم صدر يوم الصدر الآخر، وقال: «إنما هنّ ثلاث يقيمهنّ المهاجر بعد الصّدر» ، يعنى بمكة، ثم ودّع البيت، ثم انصرف راجعا إلى المدينة.
ذكر الخطبة التى خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قال محمد بن إسحاق: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبته التى بيّن فيها ما بيّن، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
«أيها الناس، اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلّى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كلّ ربا موضوع، وإن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا العبّاس بن عبد المطلب موضوع كله، وأن كلّ دم فى الجاهلية موضوع، وأن أوّل دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وكان مسترضعا فى بنى ليث، فقتلته هذيل- فهو أوّل ما أبدأ به من دماء الجاهلية» .
«أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنّه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به، ممّا تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم» .
«أيها الناس، إن النّسىء زيادة فى الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرم الله فيحلّوا ما حرّم الله ويحرّموا ما أحلّ الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب مضر الّذى بين جمادى وشعبان» .(17/373)
«اما بعد أيّها الناس، فإن لكم على نسائكم حقّا، ولهنّ عليكم حقّا، عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهنّ ألّا يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ فى المضاجع، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهنّ شيئا، وإنكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنّى قد بلّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا، أمرا بيّنا: كتاب الله وسنّة نبيّه» .
«أيها الناس، اسمعوا قولى واعقلوه، تعلّمن أن كلّ مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لأمرئ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس، فلا تظلمنّ أنفسكم، اللهم هل بلّغت» ، فقال الناس: اللهم نعم، فقال: «اللهم اشهد» .
وقال ابن إسحاق أيضا: حدّثنى يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبّاد، قال: كان الرجل الذى يصرخ فى الناس بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بعرفة ربيعة بن أميّة بن خلف. قال: يقول له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«قل يأيّها الناس إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يقول: هل تدرون أىّ شهر هذا؟ فيقوله لهم، فيقولون: الشهر الحرام، فيقول لهم: «إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة شهركم هذا» ، ثم يقول: «قل يأيّها الناس، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يقول هل تدرون أىّ بلد هذا؟» قال:
فيصرخ به؛ قال: فيقولون: البلد الحرام، قال: فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا» ، ثم يقول: «قل يأيّها الناس، إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يقول هل تدرون أىّ يوم هذا» ؟(17/374)
فيقولون: يوم الحجّ الأكبر؛ قال: فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا» .
وعن عمرو بن خارجة قال: بعثنى عتّاب بن أسيد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حاجة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واقف بعرفة، فبلغته، ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنّ لغامها «1» ليقع على رأسى، فسمعته وهو يقول: «أيها الناس؛ إن الله قد أدى إلى كل ذى حقّ حقّه، وإنه لا تجوز وصيّته لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادّعى إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» .
وأمّا عمره صلّى الله عليه وسلّم
فقد روى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: اعتمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أربع عمر: عمرة الحديبية، وهى عمرة الحصر، وعمرة القضاء من قابل، وعمرة الجعرانة، والرابعة التى مع حجّته.
وعن قتادة: قلت لأنس بن مالك: كم اعتمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؟ قال:
أربعا، عدّ منها عمرته مع حجّته، وقد قدّمنا ذكر عمرة الحديبية مع الغزوات، وذكرنا عمرة الجعرّانة عند ذكرنا لقسم مغانم حنين، وعمرته مع حجّته قد اختلف فيها.
وأمّا عمرة القضاء
فقد أوردها بعض أهل السّير فى الغزوات، وترجم عليها: «عمرة القضيّة» ، وحجّة من أوردها فى الغزوات أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج معه السلاح، ولم يخرج به(17/375)
صلى الله عليه وسلّم لقصد الغزاة، وإنما خرج به احتياطا. وكان من خبر هذه العمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما استهل هلال ذى القعدة سنة سبع من مهاجره أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التى صدّهم المشركون عنها بالحديبية، وألا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منها إلا من مات أو قتل بخيبر، وخرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوم من المسلمين عمّارا ممن لم يشهدا الحديبية، فكانوا فى عمرة القضيّة ألفين، واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة أبا ذر الغفارىّ، حكاه ابن سعد- وقال ابن إسحاق:
عويف بن الأضبط الدّيلىّ- وساق صلّى الله عليه وسلّم ستّين بدنة، وجعل على هدية ناجية بن جندب الأسلمىّ.
قال ابن سعد: وحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السلاح والبيض والدّروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذى الحليفة، قدّم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح، واستعمل عليه بشير بن سعد، وأحرم صلّى الله عليه وسلّم من باب المسجد، ولبّى والمسلمون معه يلبّون. ومضى محمد بن مسلمة فى الخيل إلى مرّ الظّهران فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه، فقال: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبّح هذا المنزل غدا إن شاء الله، فأتوا قريشا بالخبر، ففزعوا، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمرّ الظهران، وقدّم السلاح إلى بطن يأحج حيث [ينظر «1» ] إلى أنصاب الحرم، وخلّف عليه أوس بن خولىّ الأنصارى فى مائتى رجل، وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال، فقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهدى أمامه، فحبس بذى طوى، وخرج على راحلته القصواء(17/376)
والمسلمون متوشّحون السيوف، محدقون به صلّى الله عليه وسلّم يلبّون، فدخل على الثنية التى تطلعه على الحجون، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمام راحلته وهو يقول:
خلّوا بنى الكفّار عن سبيله ... خلّوا فكلّ الخير فى رسوله
يا ربّ إنّى مؤمن بقيله ... أعرف حقّ الله فى قبوله
نحن قتلناكم «1» على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
قال ابن هشام: قوله «نحن قتلناكم على تأويله» إلى آخر الأبيات، لعمّار بن ياسر فى غير هذا اليوم.
قال ابن سعد: ولما ارتجز ابن رواحة قال له عمر بن الخطّاب: إيّها «2» يابن رواحة! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر، إنى أسمع» ؛ فأسكت عمر، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إيها «3» يابن رواحة!، قل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده» ، فقالها ابن رواحة. ولم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبى حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه، وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم، ثم طاف بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه وقد وقف الهدى عند المروة قال: «هذا المنحر، وكلّ فجاج مكّة منحر» ، فنحر عند المروة، وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناسا منهم أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقيموا على السلاح، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم؛ ففعلوا، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة ثلاثا. وتزوج ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، فلما كان عند الظهر من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزّى(17/377)
فقالا: قد انقضى أجلك، فاخرج عنّا، فأمر أبا رافع فنادى بالرحيل وقال: لا يمسينّ بها أحد من المسلمين، وأخرج عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب من مكة، وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل سرف وتتامّ الناس إليه، وأقام أبو رافع بمكة حتى أمسى، فحمل إليه ميمونة، فبنى عليها صلّى الله عليه وسلّم بسرف، ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا.
كمل الجزء السابع عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للتويرىّ رحمه الله. ويليه الجزء الثامن عشر وأوّله: (وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) .(17/378)
[صورة ما جاء فى آخر هذا الجزء بنسخة ا]
«كمل الجزء الخامس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للإمام النويرى رحمه الله، وكان الفراغ منه يوم الاثنين المبارك سلخ جمادى الأولى من شهور سنة سبع وستين وتسعمائة، وذلك على يد كاتبه نور الدين بن شرف الدين العاملىّ بلدا، الشافعىّ مذهبا، غفر الله له ذنوبه، وستر عيوبه، ولمن يدعو له بالمغفرة والرحمة ولوالديه. آمين» .
[صورة ما جاء فى آخر هذا الجزء أيضا بنسخة ج]
«كمل الجزء الخامس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم البكرى التيمى القرشى المعروف بالنويرى عفا الله عنهم، ووافق الفراغ من كتابته فى يوم الاثنين المبارك لسبع خلون من شهر رمضان المعظم عام اثنين وعشرين وسبعمائة أحسن الله تقضّيها بالقاهرة المعزّيّة. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء السادس عشر:
ذكر وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .(17/379)
فهرس المراجع
1 الاستيعاب لابن عبد البر، حيدرآباد 1318 أسد الغابة فى معرفة الصحابة، الوهية 1280 الإصابة فى تمييز الصحابة، الشرفية بمصر 1325 الأغانى، طبع بولاق 1285 الأغانى، طبع دار الكتب المصرية.
الإكمال لابن ماكولا، مخطوطة دار الكتب 17 مصطلح حديث إمتاع الأسماع للمقريزى، طبع لجنة التأليف والترجمة 1941 البداية والنهاية لابن كثير، السعادة بمصر 1351 تاريخ ابن الأثير، ليدن 1895 تاريخ الطبرى، ليدن 1889 م.
تفسير الطبرى، بولاق. 1330
تفسير القرطبى، طبع دار الكتب المصرية.
دلائل النبوّة للبيهقى، مخطوطة دار الكتب رقم 212 حديث ديوان الأعشين، بيانه 1927.
ديوان حسان بن ثابت، الرحمانية 1347 2 ديوان الحماسة، طبع بن 1838 م.
الروض الأنف للسهيلى، الجمالية 1332 السيرة النبوية لابن هشام، طبع الحلبى 1355 شرح السيرة لأبى ذر الخشنى، هندية بمصر 1329 شرح المواهب اللدنية للزرقانى، بولاق 1278 صحيح البخارى، بولاق 1296 صحيح مسلم، بولاق 1290 طبقات ابن سعد: ليدن 1322 الكشف والبيان للثعلبى، مخطوطة دار الكتب برقمى 256، 797 تفسير.
عيون الأثر، القدسى 1356 معجم البلدان، جوتنجن 1899 م.
معجم ما استعجم للبكرى، مطبعة لجنة التأليف والترجمة 1945 م.
مغازى الواقدى، كلكتا 1855 م.(17/381)
استدراك
ورد فى صفحة 53 سطر 6 البيت الآتى كما فى الأصلين:
ولسنا على الأدبار تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما
وصوابه هكذا:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
وهو للحصين بن الحمام المرّى من قصيدة له أوّلها:
تأخّرت أستبقى الحياة فلم أجد ... لنفسى حياة مثل أن أتقدما
يقول: نحن لا نولّى فنجرح فى ظهورنا فتقطر دماؤنا على أعقابنا؛ ولكن نستقبل السيوف بوجوهنا؛ فإن إصابتنا جراح قطرت دماؤنا على أقدامنا. انظر لسان العرب (مادة دمى) ، والحماسة للتبريزى ص 93، والشعر والشعراء ص 630(17/383)
فهرس الجزء الثامن عشر
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ
وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة قبل الهجرة 1
وفد غفار، وقصة أبى ذرّ الغفارىّ، وسبب إسلامه وإسلام أخيه وأمّه، ثم إسلام غفار 2
طعام أبى ذرّ من ماء زمزم، وظهور فائدته وبركته، وما قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 4
وفد أزد شنوءة، وكيف كان إسلام ضماد 7
وفد همدان 8
عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهمدان 11
وفادة الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ وإسلامه، وذكر إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم 13
وفادة نصارى الحبشة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما نزل فيهم من القرآن 15
من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقبل الفتح 16
وفد عبس 17
وفد سعد العشيرة، وذكر صنمها فرّاص وتحطيمه 18(مقدمةج 18/1)
وفد جهينة 18
وفد مزينة 19
وفد سعد بن بكر، وذكر ما كان من ضمام بن ثعلبة، رسول سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 20
وفد أشجع 22
وفد خشين والأشعرين وسليم وإسلام الخنساء 23
وفد دوس 26
وفد أسلم 27
وفد جذام 28
من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد فتح مكة وفد ثعلبة وأسد، وما نزل فى ذلك من القرآن 30
وفد تميم، وما وقع فى ذلك من مفاخرة بين تميم والأنصار بالخطب والشعر، وما نزل فى وفد تميم من القرآن 32
وفد فزارة، واستسقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم 41
وفد مرّة 42
وفد محارب، وكلاب 43
وفد رؤاس بن كلاب 44
وفد عقيل بن كعب، وكتاب رسول الله لهم 45
وفد جعدة، وقشير بن كعب 47
وفد بنى البكّاء، وما ظهر فى ذلك من بركة رسول الله لبشر بن معاوية 48
وفد كنانة وبنى عبد بن عدىّ 49
وفد باهلة، وهلال بن عامر، ووفود زياد بن عبد الله 50(مقدمةج 18/2)
وفد عامر بن صعصعة، وخبر عامر بن الطّفيل وأربد بن قيس، ومحاولة عامر وأربد اغتيال رسول الله، وما ظهر فى ذلك من عصمة الله رسوله، ونزول القرآن فى ذلك 51
خبر أحد طواغيت العرب 57
وفد ثقيف وإسلامها وهدم اللّات، وما فى ذلك من حصار الطائف، واستخدام الدبابات 59
عهد رسول الله لثقيف، وإرساله أبا سفيان لهدم اللّات 63
قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دينا من مال اللّات 65
وفد عبد القيس 65
وفد بكر بن وائل 67
خبر أعشى قيس، وذكر قصيدته التى مدح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 68
وفد تغلب، وحنيفة 72
خبر مسيلمة الكذّاب، وادّعائه النبوة 73
وفد شيبان، وخبر قيلة بنت مخرمة مع حريث بن حسان فى شأن الدّهناء 74
وفادات أهل اليمن وفد طيئ وخبر زيد الخيل، وعدىّ بن حاتم 76
خبر عدىّ بن حاتم، وبعث رسول الله عليّا لهدم صنم طيئ وأسره سفّانة بنت حاتم 77
وفد تجيب 81
وفد خولان 82
وفد جعفىّ، وخبر الموءودة والوائدة التى سألوا عنهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 83
وفد مراد، وخبر فروة بن مسيك المرادىّ 84(مقدمةج 18/3)
وفد زبيد، وأخبار عمرو بن معدى كرب 85
وفد كندة والهيئة الممتازة التى ظهروا بها 87
وفد الصّدف وسعد هذيم 89
وفد بلىّ وبهراء 90
وفد عذرة 91
وفد سلامان 92
وفد كلب، وعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأهل دومة الجندل 93
وفد جرم، وخبر عمرو بن سلمة، وأنه كان يتلقّى القرآن من المسافرين وهو ابن ستّ 94
وفد الأزد وأهل جرش 96
وفد غسان، ووفد الحارث بن كعب 98
عهد رسول الله لعمرو بن حزم 100
وفد عنس 103
وفد الدارييّن وما كتب لهم به رسول الله، وما اختص به تميم الدارىّ وإخوته 104
وصف المؤلف للعهد النبوىّ الذى كتبه لتميم كما رآه فى بيت التميميين، ونص العهد 105
وفد الرّهاويّين 107
وفد غامد والنّخع، وذكر رؤيا رآها زراة بن عمر وفسّرها له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 108
وفد بجيلة، وبعث رسول الله جرير بن عبد الله البجلىّ لهدم ذى الخلصة وما ظهر من بركة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 110
وفد خثعم 111
وفد حضر موت، وذكر وائل بن حجر الحضرمىّ ملك الحضارم 112(مقدمةج 18/4)
كتاب رسول الله لوائل بن حجر، وما فيه من جوامع الكلم، وأصول الأحكام 113
وفد مخوس بن معدى كرب أحد أقيال كندة 114
وفد أزد عمان، وإرسال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العلاء بن الحضرمىّ إلى عمان ليعلمهم الشرائع 114
وفد غافق وبارق، وكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبارق 115
وفد ثمالة والحدّان 116
وفد مهرة، وعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم 117
وفد حمير، وعهد رسول الله لهم، وذكر رسل رسول الله إلى زرعة ذى يزن 118
وفد جيشان، وسلول 120
وفد نجران وسؤالهم رسول الله، وما أنزل الله فيهم من القرآن 121
ما يتوارثه رؤساء نجران من ذكر نبينا صلّى الله عليه وسلّم فى كتبهم 123
تفسير آيات من أوائل سورة آل عمران 124
ذكر آية المباهلة وتفسيرها، وما كان من تخوّف النصارى من المباهلة 134
كتاب أمير المؤمنين عمر لنجران 137
خبر إسلام الجنّ ودعائهم قومهم إلى الإيمان عند سماعهم القرآن 138
ذكر إخبار الجنّ أصحابهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 141
خبر سواد بن قارب، وإخبار الجنّ له بمبعث رسول الله، وإنشادهم الشعر فى ذلك 142
خبر خفاف بن نضلة الثقفىّ 146
أول خبر قدم المدينة عن مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان من الجنّ 147(مقدمةج 18/5)
خبر تميم الدارىّ بما سمع من الجنّ 147
خبر أبى خريم فاتك، وما سمع من الجنّ عن مبعث رسول الله 147
خبر مالك بن نفيع 149
خبر ذباب وكلام الصنم فرّاص- أو فرّاض- وظهور جنىّ له فى صورة كلب وحديثه له 150
ما روى عن ربيعة بن أبى براء من إخبار الجنّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم 154
ذكر رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الملوك وكتبه إليهم 156
ما نقش فى خاتمه عليه والسلام 157
ذكر تكلم رسله بلغة من أرسلوا إليهم بإلهام من الله، وخطبته فى رسله حين بعثهم 157
إرسال عمرو بن أمية الضّمرىّ إلى النجاشى ملك الحبشة 157
تزويج النجاشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة، وإصداقه إياها عنه 158
إرسال دحية الكلبىّ إلى قيصر ملك الروم، وكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه 158
حديث هرقل مع ركب قريش فى أمره عليه السلام 159
ما حصل من الروم عند سماعهم قراءة الكتاب النبوىّ، وقول ابن الناطور صاحب إيلياء 161
إرسال عبد الله بن حذافة السّهمىّ إلى كسرى 163
إرسال حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس 164
إرسال شجاع بن وهب الأسدىّ إلى الحارث الغسانىّ ملك البلقاء 165
إرسال سليط بن عمرو العامرىّ إلى هوذة بن على ملك اليمامة 166
إرسال العلاء بن الحضرمىّ إلى المنذر ملك البحرين، ومعه أبو هريرة 166(مقدمةج 18/6)
بعثه صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى ملكى عمان 167
بعثه المهاجر بن أمية إلى ملك اليمن 168
بعثه أبا موسى الأشعرىّ ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وجرير بن عبد الله البجلىّ إلى ذى الكلاع وذى عمرو 168
ذكر كتابه إلى جبلة بن الأيهم 169
إرساله الأمراء والعمال إلى الأقطار الإسلامية 169
أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ المؤمنين خديجة أوّل أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 170
سودة بنت زمعة 173
عائشة بنت أبى بكر الصدّيق 174
حكم من سبّ أبا بكر أو سبّ عائشة 175
حفصة بنت عمر بن الخطاب 176
زينب بنت خزيمة 178
أمّ سلمة هند بنت أبى أمية 179
زينب بنت جحش بن رئاب 180
ثناء عائشة على زينب بنت جحش 181
جويرية بنت الحارث 182
ريحانة بنت زيد بن عمر 184
أمّ حبيبة رملة بنت أبى سفيان، وذكر زواجها وهى بالحبشة 184
صفية بنت حيى بن أخطب 186
رؤيا صفية قبل زواجها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم 187
ميمونة بنت الحارث 188(مقدمةج 18/7)
ذكر من تزوّجهنّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يدخل بهنّ ومن دخل بهنّ وطلقهنّ، ومن وهبت نفسها له فاطمة بنت الضحاك 190
عمرة بنت يزيد بن الجون 192
العالية بنت ظبيان، وأسماء بنت النعمان 192
أميمة بنت شراحيل 194
قتيلة بنت قيس 195
عمرة بنت معاوية الكندية، وأسماء بنت الصّلت 196
مليكة بنت كعب الليثى 197
ابنة جندب بن ضمرة الجندعىّ 197
الغفارية، وخولة بنت الهذيل، وشراف بنت خليفة الكلبية 198
خولة بنت حكيم، وليلى بنت الخطيم 199
ليلى بنت حكيم الأنصارية، وأم شريك غزية 201
الشّنباء 203
من خطبهنّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يتفق تزويجهنّ أمّ هانئ بنت أبى طالب، وضباعة بنت عامر بن قرط 204
صفية بنت بشامة، وجمرة بنت الحارث، وسودة القرشية 205
أمامة بنت عمه حمزة 206
أزواجه صلّى الله عليه وسلّم من العرب وأزواجه من غيرهم 206
الخلاف فى عدد من تزوّجهنّ 207
سراريه صلّى الله عليه وسلّم 207(مقدمةج 18/8)
أولاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إبراهيم 208
وفاة إبراهيم وتأثره عليه السلام وما قاله حينئذ 210
زينب 211
رقية 212
فاطمة 213
أمّ كلثوم 214
ذكر أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحارث 215
قثم بن عبد المطلب، والزبير، وحمزة، والعباس 216
استسقاء عمر بالعباس 217
دعاء الاستسقاء 218
أولاد العباس 219
أبو طالب، وأبو لهب 220
عبد الكعبة، وحجل، وضرار، والغيداق 221
ذكر عمات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفية 221
عاتكة بنت عبد المطلب، وأروى، وأميمة 222
برّة بنت عبد المطلب، وأمّ حكيم البيضاء 223
خدم رسول الله الأحرار وعددهم أنس بن مالك 223
هند وأسماء ابنا حارثة، وربيعة بن كعب 224(مقدمةج 18/9)
عبد الله بن مسعود 225
عقبة بن عامر، وبلال بن رباح، وسعد مولى أبى بكر 226
ذو مخمر بن أخى النجاشى، وبكير بن شدّاخ، وأبو ذرّ الغفارىّ 227
أسلع بن شريك، وأبو سلام الهاشمىّ 228
موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، وثوبان بن بجدد 229
أبو كبشة، وأنسة، وشقران، ورباح، ويسار 230
أبو رافع، وأبو مويهبة، ورافع، وفضالة، ومدعم، وكركرة 231
زيد، وعبيد، وطهمان، ومابور، وواقد، وأبو ضميرة، وحنين 232
أبو عسيب، وسفينة، وأبو هند، وأنجشة 233
أنيسة، وأبو لبابة، ورويفع، وسعد 234
ذكر جماعة أخر من الموالى 234
موالى رسول الله من النساء 235
حراسه وكتّابه 236
رفقاؤه النجباء 237
صفاته الذاتية 237
وصف خاتم النبوّة 242
صفة شعره وطوله 242
عدد شيبه 243
ما كان يخضب به 244
صفاته المعنوية 245
ما ورد فى أكله وشربه ونومه والأصناف التى أكل منها، وأحبّ مأكول إليه 246(مقدمةج 18/10)
نومه صلّى الله عليه وسلّم وضحكه 248
نكاحه صلّى الله عليه وسلّم وما يتصل به 249
خلقه، وحلمه، واحتماله، وعفوه، وبعض من عفا عنهم 250
جوده، وكرمه، وسخاؤه، وسماحته 253
شجاعته، ونجدته 254
حياؤه، وإغضاؤه 256
حسن عشرته وأدبه وبسط خلقه صلّى الله عليه وسلّم 256
عمله مع أصحابه 258
شفقته ورأفته ورحمته لجميع الخلق 259
وفاؤء وحسن عهده وصلته للرّحم 260
تواضعه صلّى الله عليه وسلّم 262
قصيدة فى شىء من صفاته 264
عدله وأمانته وعفته وصدق لهجته 265
وقاره وصمته وتؤدته ومروءته وحسن هديه 266
زهده فى الدنيا 267
خوفه من الله وطاعته له وشدة عبادته 268
نظافة جسمه، وطيب ريحه وعرقه، ونزاهته عن الأقذار، وعورات الجسد 270
حديث هند بن أبى هالة وما تضمنه من أوصافه الذاتية والمعنوية 271
مجلسه وما كان يصنع فيه 277
سيرته فى جلسائه 278
أحواله وما ناله من شدّة العيش فى دنياه 279(مقدمةج 18/11)
تطيبه ولباسه وألوانه وأصنافه، وطوله وعرضه 283
الثياب الصّفر 284
الثياب الخضر والسواد من ثيابه، وأصناف لباسه وطولها وعرضها، والصوف وما ورد فيه 285
الحبرة من برود اليمن والسندس والحرير، وما ورد أنه لبسها ثم تركها 286
ما ورد فى ثيابه- صلى الله عليه وسلّم- القطنية وأنواعها 287
صفة إزرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعائه عند لبسه جديدا 288
فراشه ووسادته 289
ما لبسه من الخواتم، والخلاف فى ذلك 290
نعله وخفاه ومرآته وقدحه وغير ذلك من أثاثه 292
ما ورد فى حجامته وحجّامه، وما قال فى الحجامة 294
سلاحه وأصنافه وأسماؤه 296
ذكر دوابه من الخيل والبغال والحمير وأسمائها 299
ذكر أنعامه من إبل وغنم وأسمائها وعددها 301
معجزاته 302
أعظم معجزاته صلّى الله عليه وسلّم وهى القرآن، ووجوه إعجازه 303
الكلام على انشقاق القمر 308
رجوع الشمس بعد غروبها، وحبسها 310
نبع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم 311
تفجير الماء وانبعاثه وتكثيره ببركته ودعائه 312
تكثير الطعام ببركته ودعائه 314
كلام الشجرة وشهادتها له بالنبوّة 318(مقدمةج 18/12)
قصة حنين الجذع إليه 320
نطق الجمادات له 321
كلام الحيوانات وسكونها إذا رأته صلّى الله عليه وسلّم 323
تسخير الأسد لسفينة مولاه صلّى الله عليه وسلّم 327
كلام الأموات والأطفال له 328
إبراء المرضى وذوى العاهات بريقه صلّى الله عليه وسلّم 330
شفاء الجراحات بتفله 332
إجابة دعائه 333
انقلاب الأعيان بلمسه ومباشرته 335
إخباره بالغيوب 337
عصمته من الناس 342
ما جمعه الله له من العلوم والمعارف 344
القصيدة الشّقراطيسية فى معجزاته، وصفاته صلّى الله عليه وسلّم 347
ما أنزل عليه عند اقتراب أجله 359
استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لأهل البقيع 361
ذكر ابتداء وجعه واستئذانه نساءه أن يمرض فى بيت عائشة 363
خطبته وأمره بسد الأبواب إلى مسجده إلا باب أبى بكر 364
ما قاله فى مرضه لأبى بكر 366
أمره أبا بكر أن يصلى بالناس فى مرضه 367
ما اتفق فى مرضه ولدّه 372
الكتاب الذى أراد أن يكتبه ثم تركه لما وقع عنده من التنازع 373
وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند المرض 374
ما قاله عمر عند ما كثر اللغط، والاختلاف فى حضرته صلّى الله عليه وسلّم 374(مقدمةج 18/13)
ذكر أقوال العلماء فى الاعتذار عن عمر 375
اختلاف العلماء فى معنى الحديث: «أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا» 376
ما وصّى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه 378
الدنانير التى قسمها فى مرضه الذى مات فيه 380
تخيير رسول الله بين الدنيا والآخرة عند الموت 382
ما قاله رسول الله عند نزول الموت به 383
ذكر وفاته 383
وفاته فى حجر عائشة 384
ما حدث عند وفاته فى الناس من شك فى وفاته وهلع البعض، وخطبة أبى بكر فيهم 385
غسل رسول الله، وتعزية الحضر عليه السلام فيه 388
تكفينه 391
الصلاة عليه 392
قبره ولحده وفرشه، ومن دخل قبره، ووقت دفنه، ومدة حياته 393
وقت دفنه ومدة مرضه، وسنّه 395
ميراثه وما روى فيه 396
ما نال أصحابه من الحزن على فقده 398
رثاؤه صلّى الله عليه وسلّم والقصائد فى رثائه 399(مقدمةج 18/14)
الجزء الثامن عشر
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[تتمة الباب الأول من القسم الخامس في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه توفيقى
ذكر وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يتّصل بذلك
كانت أكثر وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السنة التاسعة من الهجرة؛ ولذلك سمّيت سنة الوفود. وذلك أنّ العرب إنما كانوا ينتظرون فتح مكة وإسلام هذا الحىّ من قريش؛ فلما فتح الله عز وجل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم مكة- شرفها الله تعالى- وأسلم من أسلم من قريش، وفدت عند ذلك وفادات العرب من كل قبيلة وجهة، ودخلوا فى دين الله أفواجا، كما قال الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.
وقد رأينا إيراد ذلك على نحو ما أورده أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع فى طبقاته الكبرى، ونذكر ما أورده ابن سعد ممّن ذكرهم أبو محمد عبد الملك ابن هشام رحمه الله، إلا أنّا نبدأ من ذلك بذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة قبل هجرته إلى المدينة، ثم نذكر من وفد عليه صلّى الله عليه وسلّم بعد هجرته إلى المدينة وقبل فتح مكّة، نقدّمهم على حسب السابقة، ثم نذكر من عدا هؤلاء من الوفود الذين وفدوا فى سنة تسع وما بعدها؛ نرتّبهم على ما رتّبهم محمد ابن سعد فى طبقاته فى التقديم والتأخير، ونستثنى منهم من تقدّم ذكره؛ فنقول وبالله التوفيق:(18/1)
ذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكّة قبل الهجرة
وفد عليه صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة غفار، وأزد شنوءة، وهمدان، والطّفيل بن عمرو الدّوسىّ، ونصارى الحبشة.
ذكر وفد غفار وقصّة أبى ذرّ الغفارىّ فى سبب إسلامه
روى الشّيخ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى رحمه الله فى كتابه المترجم ب «دلائل النبوة» بسنده إلى عبد الله بن الصّامت، قال قال أبوذرّ رضى الله عنه:
خرجنا عن قومنا غفار، وكانوا يحلّون الشّهر الحرام، فخرجت أنا وأخى أنيس وأمنّا، فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذى مال وذى هيئة «1» ، فأكرمنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، قال:
فجاء خالنا فنثا «2» علينا ما قيل له؛ فقلت له: أمّا ما مضى من معروفك فقد كدّرته، ولا جماع «3» لك فيما بعد. قال: فقرّبنا صرمتنا «4» فاحتملنا عليها [ويغطّى خالنا ثوبه فجعل يبكى «5» ] وانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكّة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتينا الكاهن فحبّر «6» أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها. قال أبو ذرّ: وقد صلّيت يا بن أخى قبل أن ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاث سنين. قال ابن الصامت: فقلت لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجّه؟ قال: أتوجّه حيث وجّهنى «7» الله؛ أصلّى عشاء(18/2)
حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأنى خفاء «1» - يعنى الثوب- حتى تعلونى الشمس. فقال أنيس: إنّ لى صاحبا «2» بمكة فاكفنى حتى آتيك. فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث «3» علىّ، ثم أتانى فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلا بمكة يزعم أن الله أرسله على دينك «4» . قال: قلت ماذا يقول الناس فيه؟ قال: يقولون إنه شاعر وساحر وكاهن. قال: وكان أنيس أحد الشّعراء- وفى رواية عنه:
والله ما سمعت بأشعر من أخى أنيس- لقد ناقض اثنى عشر شاعرا فى الجاهلية أنا أحدهم. قال فقال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشّعر «5» فلم يلتئم، وما يلتئم والله على لسان أحد بعدى أنه شعر، وو الله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال: قلت له هل أنت كافىّ حتى أنطلق فأنظر؟
فقال: نعم! وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا «6» له وتجهّموا. فانطلقت حتى قدمت مكة، فتضعّفت «7» رجلا منهم فقلت: أين هذا الذى تدعونه الصابئ؟
قال: فأشار إلىّ، الصابئ «8» ! فمال علىّ أهل الوادى بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علىّ. قال: فارتفعت حين ارتفعت كأنّى نصب «9» أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عنّى الدّم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، ولقد لبثت يا بن أخى ثلاثين من بين ليلة ويوم ومالى طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسّرت عكن بطنى، وما وجدت على كبدى سخفة جوع «10» . قال: فبينما أهل مكة فى ليلة(18/3)
قمراء إضحيان «1» ، قد ضرب الله على أصمخة أهل مكة فما يطوف بالبيت أحد غير امرأتين وهما تدعوان إسافا ونائلة «2» ، فأتتا علىّ فى طوافهما فقلت: أنكحا إحداهما الأخرى، فما ثناهما ذلك عما قالتا «3» . فأتتا علىّ فقلت: هن مثل الخشبة غير أنّى لا أكنى، فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا! قال: فاستقبلهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل، فقال لهما: ما لكما؟
قالتا: الصّابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: ما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وصاحبه [فاستلم الحجر ثم طاف بالبيت هو وصاحبه «4» ] ثم صلّى، فلما قضى صلاته قال أبو ذرّ: فأتيته فكنت أوّل من حيّاه بتحيّة الإسلام؛ فقال: «وعليك ورحمة الله» ، ثم قال: «ممن أنت» ؟
قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضع يده على جبينه، فقلت فى نفسى:
كره أنى انتميت إلى غفار، قال: فأهويت لآخذ بيده، فقدعنى «5» صاحبه وكان أعلم به منّى، ثم رفع رأسه فقال: «متى كنت هاهنا» ؟ قلت: منذ ثلاثين من ليلة ويوم «6» ، قال: «فمن كان يطعمك» ؟ قلت: ما كان لى من طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتّى تكسّرت عكن بطنى، وما وجدت على كبدى سخفة جوع، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها مباركة، إنها طعام طعم «7» ، وشفاء سقم» فقال أبو بكر: يا رسول الله! إيذن لى فى إطعامه الليلة، ففعل، فانطلق رسول الله(18/4)
صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابه، فجعل يقبض لنا من زبيب الطّائف، فكان ذاك أوّل طعام أكلته بها، قال: فغبرت «1» ما غبرت، ثم أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى وجّهت إلى أرض ذات نخل لا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عنّى قومك لعل الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم» ؛ قال: فانطلقت حتى أتيت أخى أنيسا فقال لى: ما صنعت؟ قلت: أسلمت وصدّقت، قال: فما بى رغبة عن دينك، فإنى قد أسلمت وصدّقت. ثم أتينا أمّنا، فقالت: مابى رغبة عن دينكما، فإنى قد أسلمت وصدقت، قال: ثم احتملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم قبل أن يقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وكان يؤمّهم خفاف بن إيماء ابن رحضة الغفارىّ، وكان سيّدهم يومئذ «2» ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمنا؛ فقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأسلم بقيّتهم؛ وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله! إخواننا «3» ؛ نسلم على الذى أسلموا عليه. فأسلموا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله» .
وهذه الرواية فى خبر إسلام أبى ذرّ؛ قد روى مسلم فى صحيحه نحوها، وهى تخالف رواية البخارىّ.
وروى البيهقىّ عن أبى ذرّ قال: كنت ربع «4» الإسلام، أسلم قبلى ثلاثة نفر وأنا الرابع؛ أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد(18/5)
أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله، فرأيت الاستبشار فى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما، قال: لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الوادى، فاعلم لى علم هذا الرجل الذى يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ايتنى؛ فانطلق حتى قدم مكة وسمع من قوله ثم رجع، فقال:
رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعت منه كلاما ما هو بالشعر. قال: ما شفيتنى فيما أردت، فتزوّد وحمل شنّة له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علىّ بن أبى طالب؛ فقال: كأنّ الرجل غريب، قال: نعم، قال انطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه لا يسألنى عن شىء ولا أسأله، فلما أصبحت من الغد رجعت إلى المسجد، وبقيت يومى حتى أمسيت وصرت إلى مضجعى، فمرّ بى علىّ بن أبى طالب، فقال: أما آن للرّجل أن يعرف منزله؟ فأقامه وذهب به معه، وما يسأل واحد منهما صاحبه عن شىء، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه علىّ معه، ثم قال: ألا تحدّثنى ما الذى أقدمك هذا البلد؟ قال:
إن أعطيتنى عهدا وميثاقا لترشدنى فعلت؛ ففعل؛ فأخبره علىّ أنه نبىّ، وأنّ ما جاء به حقّ، وأنّه رسول الله، قال: فإذا أصبحت فاتّبعنى، فإنى إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأنّى أريق الماء، فإن مضيت فاتبعنى حتى تدخل مدخلى، قال:
فانطلقت أقفوه حتى دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخلت معه وحبيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتحيّة الإسلام، فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فكنت أوّل من حياه بتحية الإسلام، فقال: «وعليك السلام، من(18/6)
أنت» ؟ قلت: رجل من غفار، فعرض علىّ الإسلام، فأسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجع إلى بلاد قومك، وأخبرهم، واكتم أمرك عن أهل مكة، فإنى أخشاهم عليك» ، فقلت: والذى نفسى بيده لأصرحنّ بها بين أظهرهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فثاب «1» القوم إليه فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكبّ عليه وقال: ويلكم! أولستم تعلمون أنّه من غفار، وأنّ طريق تجاركم إلى الشام عليهم! وأنقذه منهم، ثم عاد إلى مثلها، وثاروا «2» إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه، ثم لحق بقومه. وكان هذا أوّل إسلام أبى ذرّ.
ومن رواية الّليت بن سعد عن يزيد بن أبى حبيب قال: قدم أبو ذرّ على النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة فأسلم، ثم رجع إلى قومه، فكان يسخر بآلهتهم، ثم إنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فلمّا رآه وهم فى اسمه، فقال:
«أنت أبو نملة» ؟ قال: أنا أبو ذرّ، قال: «نعم أبو ذرّ» .
ذكر وفد أزد شنوءة وكيف كان إسلام ضماد
روى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ- رحمه الله- بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم، قال: قدم ضماد «3» مكة، وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقى من هذه الرياح، فسمع سفهاء الناس «4» يقولون: إنّ محمدا(18/7)
مجنون، فقال: آتى هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدىّ، قال: فلقيت محمدا، فقلت: إنى أرقى من هذه الرياح، وإن الله يشفى على يدى من يشاء، فهلمّ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادى له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله» ثلاث مرات، فقال: تالله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السّحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلمّ يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال له:
«وعلى قومك» ؟ فقال: وعلى قومى، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة فمرّوا بقوم ضماد، فقال صاحب الجيش للسريّة: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل منهم: مطهرة»
، فقال: «ردّوها عليهم فإنهم قوم ضماد» . رواه مسلم فى صحيحه.
وروى القاضى عياض بن موسى فى كتابه المترجم ب (الشّفا، بتعريف حقوق المصطفى) : أن ضمادا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعد علىّ كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر «2» ، هات يديك أبايعك.
ذكر وفد همدان
قال محمد بن سعد رحمه الله تعالى: أخبرنا هشام بن محمد، قال: حدثنا حبّان ابن هانئ بن مسلم بن قيس بن عمرو بن مالك بن لأى الهمدانىّ ثم الأرحبىّ «3» عن أشياخهم، قالوا: قدم قيس بن مالك بن سعد «4» بن مالك بن لأى الأرحبىّ على رسول(18/8)
الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة، فقال: يا رسول الله أتيتك لأومن بك وأنصرك؛ فقال له: «مرحبا بك، أتأخذونى بما فىّ يا معشر همدان» ؟ قال: نعم؛ بأبى أنت وأمّى، قال: «فاذهب إلى قومك، فإن فعلوا فارجع أذهب معك» ، فخرج قيس إلى قومه، فأسلموا واغتسلوا فى جوف المحورة «1» - وهو ماء يغتسلون فيه- وتوجّهوا إلى القبلة، ثم خرج «2» بإسلامهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: قد أسلم قومى وأمرونى أن آخذك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم وافد القوم قيس» ، وقال: «وفّيت وفّى الله بك» ، ومسح بناصيته، وكتب عهده على قومه همدان: أحمورها «3» وعربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا، فإنّ لهم ذمّة الله وذمّة رسوله ما أقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة؛ وأطعمه ثلاثمائة فرق «4» ، من خيوان مائتان: زبيب وذرة شطران «5» ، ومن عمران الجوف «6» مائة فرق برّ، جارية أبدا من مال الله.
ومن طريق آخر له قال: عرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفسه بالموسم على قبائل العرب، فمرّ به رجل من أرحب يقال له: عبد الله بن قيس بن أمّ(18/9)
غزال، فقال: «هل عند قومك من منعة» ؟ قال: نعم، فعرض عليه الإسلام، فأسلم، ثم إنه خاف أن يخفره قومه «1» فوعده الحجّ من قابل، ثم وجّه الهمدانىّ يريد قومه، فقتله رجل من بنى زبيد يقال له ذباب، ثم إن فتية من أرحب قتلوا ذبابا الزّبيدىّ بعبد الله بن قيس. هذا قبل الهجرة.
وأما بعد الهجرة، فقد روى محمد بن إسحق رحمه الله، قال: قدم وفد همدان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منهم مالك بن نمط، وأبو ثور وهو ذو المشعار، ومالك بن أيفع، وضمام بن مالك السّلمانى، وعميرة بن مالك الخارفّى، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرجعه من تبوك، وعليهم مقطّعات الحبرات «2» والعمائم العدنيّة، برحال الميس «3» على المهريّة «4» والأرحبيّة «5» ، ومالك بن نمط، ورجل آخر؟؟ رتجزان بالقوم؛ يقول أحدهما:
همدان خير سوقة وأقيال «6» ... ليس لها فى العالمين أمثال
محلّها الهضب «7» ومنها الأبطال ... لها إطابات «8» بها وآكال(18/10)
ويقول الآخر:
إليك جاوزن سواد الرّيف ... فى هبوات «1» الصّيف والخريف
مخطّمات بجبال اللّيف «2»
فقام مالك بن نمط بين يديه، ثم قال: يا رسول الله! نصيّة «3» من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج «4» ، متّصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم فى الله لومة لائم، من مخلاف «5» خارف ويام وشاكر، أهل السّود «6» والقود، أجابوا دعوة الرسول، وفارقوا آلهات الأنصاب، عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع «7» ، وما جرى اليعفور «8» بضلع. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم الحىّ همدان، ما أسرعها إلى النّصر، وأصبرها على الجهد، ومنهم أبدال «9» ، وفيهم أوتاد الإسلام» ، وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا؛ فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب من [محمد «10» ] رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب «11» الهضب وحقاف «12» الرّمل، مع(18/11)
وافدها ذى المشعار مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها «1» ووهاطها «2» وعزازها «3» ، يأكلون علافها «4» ، ويرعون عافيها «5» ، لنا منهم من دفئهم «6» وصرامهم «7» ما سلّموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصّدقة الثّلب «8» والنّاب والفصيل «9» والفارض «10» والدّاجن «11» والكبش الحورىّ «12» ، وعليهم فيها الصّالغ «13» والقارح «14» ما أقاموا الصلاة وآتوا الزّكاة، لهم بذلك عهد الله وذمام رسول الله عليه السلام، وشاهدهم المهاجرون والأنصار «15» » .(18/12)
ذكر وفادة الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ وإسلامه
قال محمد بن إسحق رحمه الله تعالى: كان الطّفيل بن عمرو الدّوسى يحدّث أنه قدم مكّة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها، فمشى إليه رجال من قريش- وكان الطّفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا- فقالوا له: يا طفيل! إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذى بين أظهرنا قد أعضل بنا، قد فرّق بين جماعتنا، وشتّت أمرنا، وإنما قوله كالسّحر يفرّق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه، ولا تسمعن منه شيئا. قال الطّفيل: فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت على ألّا أسمع منه شيئا ولا أكملّه، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا «1» فرقا «2» من أن يبلغنى شىء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه «3» ! قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يصلّى عند الكعبة، فقمت منه قريبا، فأبى الله إلّا أن يسمعنى بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت فى نفسى: واثكل أمّى؛ والله إنّى لرجل لبيب شاعر، وما يخفى علىّ الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته، فاتبعته حتى إذا دخل بيته [دخلت عليه «4» ] فقلت: يا محمد إنّ قومك قد قالوا لى كذا وكذا- للذى قالوا- فو الله ما برحوا يخوّفوننى أمرك حتى سددت أذنى بكرسف ألا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنى قولك، فسمعت قولا حسنا، فاعرض علىّ أمرك. قال:(18/13)
فعرض علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام، وتلا علىّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قطّ أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت، وشهدت شهادة الحقّ، فقلت: يا نبىّ الله! إنى امرؤ مطاع فى قومى، وأنا راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لى آية تكون لى عونا عليهم فيما أدعوهم إليه.
فقال: «اللهم اجعل له آية» ، فخرجت إلى قومى، حتى إذا كنت بثنيّة تطلعنى على «1» الحاضر وقع نور بين عينى مثل المصباح؛ قلت: اللهم فى غير وجهى! إنّى أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت فى وجهى لفراقى دينهم، قال: فتحوّل النّور فوقع فى رأس سوطى، فجعل الحاضر يتراءون ذلك النّور فى سوطى كالقنديل المعلّق، وأنا أهبط إليهم من الثّنية حتى جئتهم، فأصبحت فيهم، قال: فلما نزلت أتانى أبى وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عنّى يا أبت، فلست منك ولست منّى، قال: لم يا بنىّ؟ قلت: أسلمت وتابعت دين محمد، قال:
أى بنىّ! فدينى دينك، قلت: فاذهب واغتسل، وطهّر ثيابك، ثم تعال حتى أعلّمك مما علّمت، فذهب فاغتسل وطهّر ثيابه ثم جاء، فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتنى صاحبتى، فقلت: إليك عنّى فلست منك ولست منّى، قالت: لم؟ بأبى أنت وأمّى! قلت: فرّق بينى وبينك الإسلام، وتابعت دين محمد عليه السلام. قالت: فدينى دينك، قلت: فاذهبى إلى حنا ذى الشّرى «2» - قال ابن هشام: ويقال حمى ذى الشّرى- فتطهّرى منه.(18/14)
قال: وكان ذو الشّرى صنما لدوس، وكان الحنا حمى حموه له، وبه وشل من ماء يهبط من جبل، [قال] فقالت: بأبى أنت وأمّى، أتخشى على الصّبيّة «1» من ذى الشّرى شيئا؟ قلت: [لا، أنا ضامن لك «2» ] ، قال: فذهبت فاغتسلت، ثم جاءت، فعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطئوا علىّ، ثم جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، فقلت له: يا نبىّ الله! إنّه قد غلبنى على دوس الزّنى «3» ، فادع الله عليهم، فقال: «اللهمّ اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم» ، قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام، حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ثم أسلموا بعد ذلك، ووفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما نذكر ذلك- إن شاء الله تعالى- فيمن وفد بعد الهجرة.
ذكر وفد نصارى الحبشة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم
قال محمد بن إسحق: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النّصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه فى المسجد، فجلسوا إليه وكلّموه، وسألوه- ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة- فلما فرغوا من مسألته صلّى الله عليه وسلّم دعاهم إلى الله، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدّمع، ثم استجابوا لله تعالى وآمنوا به(18/15)
وصدّقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره، فلمّا قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام فى نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرّجل، فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدّقتموه بما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم! فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا. ويقال: إن النّفر من أهل نجران. والله أعلم. فيقال فيهم أنزل الله قوله:
«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ»
. إلى قوله: «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «1» »
: وقيل: إنما نزلت هذه الآيات فى النّجاشى وأصحابه، والآيات التى فى سورة «المائدة» قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ»
. إلى «الشّاهدين «2» » ، وكان ممّن وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة الأوس والخزرج، وقد تقدم ذكرهم فى بيعة العقبة.
ذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقبل الفتح
وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقبل فتح مكّة: عبس، وسعد العشيرة، وجهينة، ومزينة، وسعد بن بكر، وأشجع، وخشين، والأشعرون، وسليم، ودوس، وأسلم، وجذام.(18/16)
ذكر وفد عبس
قال محمد بن سعد: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسعة رهط من بنى عبس فكانوا من المهاجرين الأوّلين، منهم ميسرة «1» بن مسروق، والحارث بن الربيع- وهو الكامل- وقنان «2» بن دارم، وبشر بن الحارث بن عبادة، وهدم «3» بن مسعدة، وسباع بن زيد، وأبو الحصن بن لقمان، وعبد الله بن مالك، وفروة بن الحصين بن فضالة فأسلموا؛ فدعا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخير، وقال:
«أبغونى رجلا يعشركم أعقد لكم لواء» فدخل طلحة بن عبيد الله فعقد لهم لواء، وجعل شعارهم: يا عشرة.
وقال من طريق آخر: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عيرا لقريش أقبلت من الشام [فبعث «4» ] بنى عبس فى سرية وعقد لهم لواء، فقالوا: يا رسول الله! كيف نقسم غنيمة إن أصبناها ونحن تسعة؟ قال: «أنا عاشركم» .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قدم ثلاثة نفر من بنى عبس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إنه قدم علينا قوم «5» فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش هى معاشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم من أعمالكم شيئا، ولو كنتم بصمد «6» وجازان «7» » .(18/17)
ذكر وفد سعد العشيرة
قال محمد بن سعد بسنده إلى عبد الرحمن بن أبى سبرة الجعفىّ قال: لمّا سمعت سعد العشيرة بخروج النبى صلّى الله عليه وسلّم وثب ذباب- رجل من بنى أنس الله بن سعد العشيرة- إلى صنم يقال له فرّاص فحطمه، ثم وفد إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، وقال:
تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلّفت فرّاصا بدار هوان
شددت عليه شدّة فتركته ... كأن لم يكن والدّهر ذو حدثان»
فلمّا رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعانى
فأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألقيت فيها كلكلى وجرانى «2»
فمن مبلغ سعد العشيرة أنّنى ... شريت الّذى يبقى بآخر فانى
ذكر وفد جهينة
قال ابن سعد: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وفد إليه عبد العزّى بن بدر بن زيد بن معاوية الجهنىّ، ومعه أخوه لأمه أبو روعة وهو ابن عم له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعبد العزّى: «أنت عبد الله» وقال لأبى روعة: «أنت رعت العدوّ إن شاء الله» وقال: «من أنتم» ؟ قالوا:
بنو غيّان، قال: «أنتم بنو رشدان» وكان اسم واديهم غوى فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رشدا، وقال لجبلى جهينة الأشعر والأجرد: «هما من جبال الجنة(18/18)
لا تطؤهما فتنة» ، وخطّ لهم مسجدهم، وهو أوّل مسجد خطّ بالمدينة، وجاء من جهينة عمرو بن مرّة الجهنىّ. روى عنه محمد بن سعد بسنده إليه قال: كان لنا صنم، وكنا نعظّمه، وكنت سادنه، فلما سمعت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسرته، وخرجت حتى أقدم المدينة على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقدمت فأسلمت وشهدت شهادة الحقّ، وآمنت بما جاء به من حلال وحرام، فذلك حين أقول:
شهدت بأنّ الله حقّ وأنّنى ... لآلهة الأحجار أوّل تارك
وشمّرت عن ساقى الإزار مهاجرا ... إليك أجوب الوعث بعد الدّكادك «1»
لأصحب خير النّاس نفسا ووالدا ... رسول مليك النّاس فوق الحبائك «2»
قال: فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأجابوه إلّا رجلا واحدا ردّ عليه قوله، فدعا عليه عمرو بن مرّة فسقط فوه، فما كان يقدر على الكلام، وعمى واحتاج.
ذكر وفد مزينة
وهذا الوفد هو أوّل ما بدأ به محمد بن سعد من الوفود فى طبقاته، فقال: كان أول من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مضر أربعمائة من مزينة «3» ، وذلك فى شهر رجب سنة خمس، فجعل لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهجرة فى دارهم وقال: «أنتم مهاجرون حيث كنتم فارجعوا إلى أموالكم» فرجعوا إلى بلادهم.
وقال محمد بن سعد بسند يرفعه إلى أبى مسكين، وأبى عبد الرحمن العجلانىّ، «4»(18/19)
قالا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من مزينة، منهم خزاعىّ بن عبد نهم «1» فبايعه على قومه مزينة، وقدم معه عشرة منهم، فيهم بلال بن الحارث، والنعمان ابن مقرّن «2» ، ثم خرج إلى قومه فلم يجدهم كما ظنّ فأقام، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسّان بن ثابت، فقال: «اذكر خزاعيّا ولا تهجه» فقال حسّان:
ألا أبلغ خزاعيا رسولا ... بأنّ الذّمّ يغسله الوفاء
وأنّك خير عثمان بن عمرو ... وأسناها إذا ذكر السّناء
وبايعت الرّسول وكان خيرا ... إلى خير وآداك «3» الثّناء
فما يعجزك أو ما لا تطقه ... من الأشياء لا تعجز عداء
قال: و «عداء» بطنه الذى هو منه. فقام خزاعىّ فقال: يا قوم! قد خصّكم شاعر الرجل، فأنشدكم الله «4» . قالوا: فإنّا لا ننبو عليك «5» ؛ فأسلموا ووفدوا على النبى صلّى الله عليه وسلّم. فدفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء مزينة يوم الفتح إلى خزاعىّ، وكانوا يومئذ ألف رجل.
ذكر وفد سعد بن بكر
قال محمد بن إسحق: بعثت بنو سعد بن بكر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منهم يقال له ضمام «6» بن ثعلبة- قال ابن سعد: فى شهر رجب سنة خمس «7» -(18/20)
قال ابن إسحق بسنده إلى ابن عباس: فقدم وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله «1» ، ثم دخل المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس فى أصحابه. قال: وكان ضمام رجلا جلدا «2» أشعر ذا غديريتين، فأقبل حتّى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أصحابه، فقال أيّكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أنا ابن عبد المطلب» . قال: أمحمّد؟ قال: «نعم» . قال: يابن عبد المطلب! إنى سائلك ومغلظ عليك فى المسئلة، فلا تجد «3» في نفسك. قال: «لا أجد فى نفسى، فاسأل عما بدا لك» قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولا؟ قال: «اللهمّ نعم» قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله امرك أن تأمرنا أن نعبده وحده، لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: «اللهمّ نعم» . قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلّى هذه الصلاة الخمس؟ قال: «نعم» .
قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة: الزّكاة، والصّيام، والحج وشرائع الإسلام كلّها، ينشده عن كلّ فريضة منها كما ينشده فى التى قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإنّى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وسأودّى هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتنى عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف إلى بعيره راجعا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن صدق ذو العقيصتين «4» دخل الجنة»(18/21)
قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أوّل ما تكلم به: بئست اللّات والعزّى! فقالوا: مه يا ضمام! اتّق البرص، اتق الجذام، اتّق الجنون! قال: ويلكم! إنهما والله لا ينفعان ولا يضران، إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا، فاستنقذكم «1» به مما كنتم فيه، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمّدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، ونهاكم عنه، قال: فو الله ما أمسى من ذلك اليوم فى حاضره «2» رجل أو امرأة إلا مسلما.
قال: يقول عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.
ذكر وفد أشجع
قال «3» : وقدمت أشجع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الخندق، وعام الخندق سنة خمس من الهجرة، وهم مائة، رأسهم مسعود «4» بن رخيلة بن نويرة ابن طريف، فنزلوا شعب سلع «5» ، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمر لهم بأحمال التمر، فقالوا: يا محمد! لا نعلم أحدا من قومنا أقرب دارا منك منّا، ولا أقلّ عددا، وقد ضقنا بحربك وبحرب قومك، فجئنا نوادعك، فوادعهم.
ويقال: بل قدمت أشجع بعد ما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بنى قريظة، وهم سبعمائة فوادعهم. ثم أسلمو بعد ذلك.(18/22)
ذكر وفد خشين
قال أبو عبد الله محمد بن سعد: قدم أبو ثعلبة الخشنىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتجهّز إلى خيبر، فأسلم وخرج معه فشهد خيبر، ثم قدم بعد ذلك سبعة نفر من خشين فنزلوا على أبى ثعلبة، فأسلموا وبايعوا ورجعوا إلى قومهم.
ذكر وفد الأشعرين
قالوا: وقدم الأشعرون «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم خمسون رجلا؛ منهم أبو موسى الأشعرى، ومعهم رجلان من عكّ. وقدموا فى سفن فى البحر، وخرجوا بجدّة، فلما دنوا من المدينة جعلوا يقولون:
غدا نلقى الأحبّة ... محمّدا وحزبه
ثم قدموا فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سفره بخيبر، فلقوه صلّى الله عليه وسلّم فبايعوه وأسلموا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الأشعرون فى الناس كصرّة فيها مسك» «2» .
ذكر وفد سليم
قالوا: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من بنى سليم، يقال له قيس ابن نسيبة «3» ، فسمع كلامه، وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كلّه، ودعاه رسول الله(18/23)
صلى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فأسلم ورجع إلى قومه، فقال: قد سمعت برجمة «1» الروم، وهينمة «2» فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكاهن، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمد شيئا من كلامهم، فأطيعونى وخذوا بنصيبكم منه. فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلقوه بقديد «3» وهم سبعمائة. ويقال:
كانوا ألفا. وفيهم العباس بن مرداس السّلمى، وأنس بن عبّاس بن رعل، وراشد بن عبد ربه «4» ، فأسلموا وقالوا: اجعلنا فى مقدّمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدّم «5» ، ففعل ذلك بهم. وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راشدا رهاطا «6» وفيها عين يقال لها عين الرّسول. قال: وكان راشد يسدن «7» صنما لبنى سليم، فرأى يوما ثعلبين يبولان عليه، فقال:
أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالب
ثم شدّ عليه فكسره. وأتى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ما اسمك» ؟
قال: غاوى بن عبد العزّى، فقال: «أنت راشد بن عبد ربّه» فأسلم وحسن إسلامه وشهد الفتح. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير بنى سليم راشد» وعقد له على قومه.(18/24)
وروى محمد بن سعد أيضا، عن هشام بن محمد، قال حدّثنى رجل من بنى سليم من بنى الشّريد، قال: وفد رجل منا يقال له قدد «1» بن عمّار على النبى صلّى الله عليه وسلّم، وعاهده على أن يأتيه بألف من قومه على الخيل؛ وأنشأ يقول:
شددت يمينى إذ أتيت محمّدا ... بخير يد شدّت بحجزة مئزر
وذاك امرؤ قاسمته نصف دينه ... وأعطيته كفّ «2» امرئ غير أعسر
ثم أتى قومه فأخبرهم الخبر، فخرج معه تسعمائة، وخلّف فى الحىّ مائة، وأقبل يريد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فنزل به الموت، فأوصى إلى ثلاثة رهط من قومه؛ وهم: عباس بن مرداس وأمّره على ثلاثمائة، وجبّار بن الحكم وأمره على ثلاثمائة، والأخنس بن يزيد وأمّره على ثلاثمائة. وقال: ايتوا هذا الرحل حتى تقضوا العهد الذى فى عنقى ثم مات، فمضوا حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أين الرجل الحسن الوجه، الطويل اللسان، الصادق الأيمان» ؟.
قالوا: يا رسول الله! دعاه الله فأجابه، وأخبروه خبره؛ فقال: «أين تكملة الألف الذين عاهدنى عليهم» ؟. قالوا: خلّف مائة فى الحىّ مخافة حرب «3» كان بيننا وبين بنى كنانة، قال: «ابعثوا إليها فإنه لا يأتيكم فى عامكم هذا شىء تكرهونه» . فبعثوا إليها فأتته بالهدّة «4» وعليها المنقع «5» بن مالك بن أمية، فشهدوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفتح وحنين. وللمنقع يقول العباس بن مرداس:
القائد المائة التى وفّى بها ... تسع المئين فتمّ ألف أقرع «6»(18/25)
وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة خنساء بنت عمرو بن الشّريد السّلمية الشاعرة- واسمها تماضر بنت عمرو بن الشّريد بن رباح بن ثعلبة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم- أنها قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع قومها من بنى سليم فأسلمت معهم. قال: فذكروا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يستنشدها، ويعجبه شعرها، فكانت تنشده، وهو يقول:
«هيه «1» يا خناس» ويومئ «2» بيده. وشهدت الخنساء القادسيّة مع بنيها الأربعة.
وسنذكر إن شاء الله خبرها معهم يوم القادسية، ووصيتها لهم فى الحرب فى خلافة عمر بن الخطاب، عند ذكرنا لفتح القادسية.
ذكر وفد دوس «3»
قالوا: لمّا أسلم الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ- كما تقدم- دعا قومه فأسلموا، وقدم معه منهم المدينة سبعون أو ثمانون أهل بيت. وفيهم أبو هريرة وعبد الله ابن أزيهر الدّوسىّ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر، فساروا إليه فلقوه هناك، فيقال: إنه قسم لهم من غنائم خيبر، ثم قدموا معه المدينة. فقال الطّفيل ابن عمرو: يا رسول الله! لا تفرّق بينى وبين قومى، فأنزلهم حرّة «4» الدّجاج، فقال أبو هريرة حين خرج من دار قومه:(18/26)
يا طولها من ليلة وغنائها ... على أنّها «1» من بلدة الكفر نجّت
وقال عبد الله بن أزيهر: يا رسول الله! إن لى فى قومى سلطة ومكانا فاجعلنى عليهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أخادوس، إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا، فمن صدق الله نجا، ومن آل إلى غير ذلك هلك.
إن أعظم قومك ثوابا أعظمهم صدقا، ويوشك الحقّ أن يغلب الباطل» .
وروى أبو عمر بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: بلغنى أنّ دوسا إنّما أسلمت فرقا من قول كعب بن مالك الأنصارى الخزرجى:
قضينا من تهامة كلّ وتر ... وخيبر ثم أغمدنا السّيوفا «2»
نخيّرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهنّ: دوسا أو ثقيفا
[فقالت دوس: انطلقوا فخذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف «3» ] .
ذكر وفد أسلم
قالوا: قدم عمير بن أفضى فى عصابة من أسلم، فقالوا: لقد آمنا بالله ورسوله، واتّبعنا منهاجك، فاجعل لنا عندك منزلة، تعرف العرب فضيلتنا، فإنّا إخوة الأنصار، ولك علينا الوفاء، والنّصر فى الشّدّة والرّخاء، فقال رسول(18/27)
الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها» . وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأسلم، ومن أسلم من قبائل العرب ممن يسكن السّيف «1» والسّهل كتابا؛ فيه ذكر الصدقة والفرائض فى المواشى. وكتب الصّحيفة ثابت ابن قيس، وشهد أبو عبيدة وعمر بن الخطاب رضى الله عنهم.
ذكر وفد جذام
قالوا: قدم رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامىّ «2» ، ثم أحد بنى الضّبيب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الهدنة قبل خيبر، وأهدى له عبدا وأسلم، فكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا؛ فيه: «هذا كتاب من محمد رسول الله، لرفاعة بن زيد إلى قومه، ومن دخل معهم، يدعوهم إلى الله، فمن أقبل ففى حزب الله، ومن أبى فله أمان شهرين» فأجابه قومه وأسلموا. قال ابن إسحق وغيره: وبعث فروة بن عمرو بن النّافرة الجذامىّ، ثم النّفاثىّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، واسم رسوله مسعود بن سعد وهو من قومه، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابه، وقبل هديته، وأجاز رسوله باثنتى عشرة أوقية ونشّ «3» ، وكتب إلى فروة جواب كتابه. وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان «4» وما حولها من أرض الشام، فلما بلغ الروم إسلامه طلبوه فحبسوه عندهم؛ فقال: فى محبسه ذلك:(18/28)
طرقت سليمى موهنا أصحابى ... والرّوم بين الباب والقروان «1»
صدّ الخيال وساءه ما قد رأى ... وهممت أن أغفى «2» وقد أبكانى
لا تكحلنّ العين بعدى إثمدا «3» ... سلمى ولا تدننّ للإتيان
ولقد علمت أبا كبيشة أنّنى ... وسط الأعزّة لا يحصّ «4» لسانى
فلئن هلكت لتفقدنّ أخاكم ... ولئن بقيت لتعرفنّ مكانى
ولقد جمعت أجلّ ما جمع الفتى ... من جودة وشجاعة وبيان
قال: فلما أجمعت الرّوم لصلبه على ماء لهم بفلسطين يقال له عفراء «5» قال:
ألا هل أتى سلمى بأنّ حليلها ... على ماء عفرا فوق إحدى الرّواحل «6»
على ناقة لم يضرب الفحل أمّها ... مشذّبة أطرافها بالمناجل
قال: ولما قدّموه ليضربوا عنقه قال:
أبلغ سراة المؤمنين بأنّنى ... سلم لربىّ أعظمى ومقامى
فضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء.
هذا ما تلخص لنا من أخبار من وفد بعد الهجرة وقبل الفتح، فلنذكر من وفد بعد الفتح.(18/29)
ذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد فتح مكة شرّفها الله تعالى وعظمها
ولنبدأ من ذلك بذكر وفد ثعلبة؛ لأنه أوّل وفد كان بعد الفتح. ثم نذكر من وفد فى سنة تسع من الهجرة وما بعدها، ونورده نحو ما أورده أبو عبد الله محمد بن سعد فى طبقاته، إلا أنا نستثنى منهم من قدّمنا ذكره بحكم سابقتهم، وتقدّم إسلامهم.
ذكر وفد ثعلبة
قال أبو عبد الله محمد بن سعد رحمه الله: لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة «1» ، فى سنة ثمان من الهجرة، قدم عليه أربعة نفر، وقالوا:
نحن رسل من خلفنا من قومنا، ونحن وهم مقرّون بالإسلام، فأمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضيافة، وأقاموا أياما ثم جاءوا ليودّعوه فأمر بلالا أن يجيزهم، كما يجيز الوفد، فجاء بنقر «2» من فضّة فأعطى كل رجل منهم خمس أواق، وقال:
«ليس عندنا دراهم» وانصرفوا إلى بلادهم.
ذكر وفد أسد
قال محمد بن سعد: قدم عشرة رهط من بنى أسد بن خزيمة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى أوّل سنة تسع من الهجرة، فيهم حضرمىّ بن عامر، وضرار ابن الأزور، فقال حضرمىّ: يا رسول الله! أتيناك نتدرّع الليل البهيم «3» ، فى سنة(18/30)
شهباء «1» ، ولم تبعث إلينا بعثا، فنزل فيهم قوله عز وجل: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» .
قال: وكان معهم قوم من بنى الزّنية وهم بنو مالك بن مالك بن ثعلبة بن دودان ابن أسد، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنتم بنو الرّشدة» .
وقال أبو إسحق أحمد بن محمد الثعلبىّ رحمه الله: إنّ نفرا من بنى أسد، ثم من بنى الحلاف «3» بن الحارث بن سعيد، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فى سنة جدبة، فأظهروا شهادة أن لا إله إلا الله، ولم يكونوا مؤمنين فى السّر، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون ويروحون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقولون: أتتك الرب بأنفسها، على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والعيال والذّرارىّ- يمنّون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. ويريدون الصّدقة، ويقولون:
أعطنا. فأنزل الله عز وجل فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «4»
الآيات. وقيل: نزلت فى الأعراب: مزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار. وكانوا يقولون: آمنّا بالله؛ ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلّفوا، فأنزل الله فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا
أى انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسّبى وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ
فأخبر تعالى أن حقيقة الأيمان التصديق بالقلب، وأن الإقرار باللسان، وإظهار شرائعه بالأبدان، لا يكون إيمانا دون الإخلاص الذى محلّه القلب.(18/31)
ذكر وفد تميم
قال أبو عبد الله محمد بن سعد: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث بشر بن سفيان. ويقال: النّحّام «1» العدوىّ على صدقات بنى كعب من خزاعة، فجاء وقد حلّ بنو احيهم بنو عمرو بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، فجمعت خزاعة مواشيها للصدقة، فاستنكرت ذلك بنو تميم، وأبوا وابتدروا القسىّ، وشهروا السّيوف، فقدم المصدّق «2» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره «3» ؛ فقال: «من لهؤلاء القوم» ؟ فانتدب لهم عيينة بن حصن، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى خمسين فارسا من العرب، ليس فيهم مهاجرىّ ولا أنصارىّ فأغار عليهم، فأخذ منهم أحد عشر رجلا، وإحدى عشرة امرأة، وثلاثين صبيا، فجلبهم إلى المدينة، فقدم فيهم عدّة من رؤساء بنى تميم، منهم عطارد بن حاجب، والزّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، والأقرع بن حابس، ورياح ابن الحارث، وعمرو بن الأهتم، وغيرهم كما ذكرنا ذلك فى الغزوات فى خبر سريّة عيينة. قال ويقال: كانوا تسعين أو ثمانين رجلا.
قال ابن إسحق: والحتات بن يزيد أحد بنى دارم. قال: ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارىّ، قالوا: فدخلوا المسجد وقد أذّن بلال بالظهر؛ والناس ينتظرون خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعجلوا واستبطئوه، فنادوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وراء حجراته: يا محمد! اخرج إلينا. فخرج رسول(18/32)
الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقام «1» بلال، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر، ثم أتوه؛ فقال الأقرع بن حابس: يا محمد، ايذن لى، فو الله إنّ حمدى لزين، وإنّ ذمّى لشين. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذبت، ذاك الله تبارك وتعالى» . حكاه ابن سعد.
وحكى محمد بن إسحق أنهم قالوا: يا محمد، جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا. قال: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» ، فقام عطارد بن حاجب، فقال:
الحمد لله الذى له علينا الفضل والمنّ؛ وهو أهله الذى جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق وأكثره عددا، وأيسره عدّة، فمن مثلنا فى الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولى فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدّد مثل ما عدّدنا، وإنّا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا «2» من الإكثار فيما أعطانا، وإنّا نعرف [بذلك] «3» ] . أقول هذا «4» لأن تأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا. ثم جلس.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس بن الشّمّاس أخى بنى الحارث ابن الخزرج: «قم فأجب الرجل فى خطبته» . فقام ثابت فقال:
الحمد لله الذى السموات والأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره، ووسع كرسيّه علمه، ولم يك شىء قطّ إلا من فضله، وكان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه(18/33)
كتابه، وائتمنه على [خلقه «1» ] فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم المهاجرون من قومه وذوى رحمه؛ أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا. ثم كان أوّل الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحن؛ فنحن أنصار الله، ووزراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه فى الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا.
أقول هذا وأستغفر الله لى وللمؤمنين والمؤمنات. والسلام عليكم.
فقام الزّبرقان بن بدر، فقال:
نحن الكرام فلا حىّ يعادلنا ... منّا الملوك وفينا تنصب البيع «2»
[ويروى: «وفينا يقسم الرّبع» ، بدل «تنصب البيع «3» » ] . ... وكم قسرنا من الأحياء كلّهم
عند النّهاب وفضل العزّ يتّبع ... ونحن يطعم عند القحط مطعمنا
من الشّواء إذا لم يؤنس القزع «4» ... بما ترى الناس تأتينا سراتهم
من كلّ أرض هويّا ثم نصطنع «5»
[ويروى:
من كلّ أرض هوانا ثم نتّبع «6» ](18/34)
فننحر الكوم عبطا فى أرومتنا ... للنّازلين إذا ما أنزلوا شبعوا «1»
فلا ترانا إلى حىّ نفاخرهم ... إلّا استقادوا وكانوا الرأس يقتطع
فمن يفاخرنا فى ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع
إنّا أبينا ولم يأبى «2» لنا أحد ... إنّا كذلك عند الفخر نرتفع
قال محمد بن إسحق: وكان حسان بن ثابت غائبا، فبعث إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال حسان: جاءنى رسوله فأخبرنى أنه إنما دعانى لأجيب شاعر بنى تميم، فخرجت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أقول:
منعنا رسول الله إذ حلّ وسطنا ... على أنف راض من معدّ وراغم
منعناه لمّا حلّ بين بيوتنا ... بأسيافنا من كلّ باغ وظالم
ببيت حريد عزّه وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم «3»
هل المجد إلّا السّودد «4» العود والنّدى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
قال: فلما انتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقام شاعر القوم فقال ما قال، عرضت فى قوله وقلت على نحو ما قال. قال: ولما فرغ الزّبرقان من إنشاده، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحسّان بن ثابت: «قم فأجب الرجل» فقام حسّان فقال:(18/35)
إنّ الذّوائب من فهر وإخوتهم ... قد بيّنوا سنّة للناس تتّبع «1»
يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع «2»
[ويروى:
يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذى شرعوا «3» ]
قوم إذا جاربوا ضرّوا عدوّهم ... أو حاولوا النّفع فى أشياعهم نفعوا «4»
سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع «5»
إن كان فى الناس سبّاقون بعدهم ... فكلّ سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع النّاس ما أوهت أكفّهم ... عند الرّقاع ولا يوهون ما رقعوا «6»
إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجد بالذّرى متعوا «7»
أعفّة ذكرت فى الوحى عفّتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم طمع «8»(18/36)
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسّهم من مطمع طبع «1»
إذا نصبنا لحىّ لا ندبّ لهم ... كما يدبّ إلى الوحشيّة الذّرع «2»
تسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزّعانف من أظفارها خشعوا «3»
لا يفخرون إذا نالوا عدوّهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع «4»
كأنّهم فى الوغى والموت مكتنع ... أسد بحلية فى أرساغها فدع «5»
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همّك الأمر الذى منعوا «6»
فإنّ فى حربهم فاترك عداوتهم ... شرّا يخاض عليه السّمّ والسّلع»
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشّيع «8»
أهدى لهم مدحتى قلب يؤازره ... فيما أحبّ لسان حائك صنع «9»
فإنّهم أفضل الأحياء كلّهم ... إن جدّ بالناس جدّ القول أو شمعوا «10»(18/37)
وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله: حدّثنى بعض أهل العلم بالشعر من بنى تميم أن الزّبرقان بن بدر لمّا قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وفد بنى تميم، قام فقال:
أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند احتضار المواسم «1»
بأنّا فروع الناس فى كلّ موطن ... وأن ليس فى أرض الحجاز كدارم «2»
وأنّا نذود المعلمين إذا انتخوا ... ونضرب رأس الأصيد المتفاقم «3»
وأنّ لنا المرباع فى كلّ غارة ... نغير بنجد أو بأرض الأعاجم «4»
فقام حسان بن ثابت فأجابه، فقال:
هل المجد إلّا السّودد العود «5» والنّدى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
نصرنا وآوينا النّبىّ محمدا ... على أنف راض من معدّ وراغم
بحىّ حريد أصله وثراؤه «6» ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
نصرناه لمّا حلّ وسط ديارنا ... بأسيافنا من كلّ باغ وظالم(18/38)
جعلنا بنينا دونه وبناتنا ... وطبنا له نفسا بفىء «1» المغانم
ونحن ضربنا الناس حتّى تتابعوا ... على دينه بالمرهفات الصّوارم «2»
ونحن ولدنا من قريش عظيمها ... ولدنا نبىّ الخير من آل هاشم «3»
بنى دارم لا تفخروا إنّ فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم «4»
هبلتم، علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم «5»
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا فى المقاسم
فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيّا كزىّ الأعاجم «6»
وأفضل ما نلتم من المجد والعلا ... ردافتنا عند احتضار المواسم «7»
قالوا: فلما فرغ حسّان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبى، إنّ هذا الرجل لمؤتّى له «8» ، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ولهم أحلم منّا. ونزل فى وفد بنى تميم قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
«9» .(18/39)
قال محمد بن سعد: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قيس بن عاصم:
«هذا سيّد أهل الوبر» وردّ عليهم الأسرى والسّبى، وأمر لهم بالجوائز كما كان يجيز الوفد؛ ثنتى عشرة أوقية ونشّا «1» ، وهى خمسمائة درهم.
قال ابن إسحق: وكان عمرو بن الأهمّ قد خلّفه القوم فى ظهرهم «2» ، وكان أصغرهم ستّا، فقال قيس بن عاصم، وكان يبغض عمرو بن الأهتم: يا رسول الله! إنه قد كان رجل منّا فى رحالنا وهو غلام حدث، وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما أعطى القوم، فبلغ عمرو بن الأهتم ما قاله قيس فيه؛ فقال:
ظللت مفترش الهلباء «3» تشتمنى ... عند النبىّ فلم تصدق ولم تصب
إن تنقصونا فإنّ الرّوم «4» أصلكم ... والرّوم لا تملك البغضاء للعرب
وإنّ سوددنا عود وسوددكم ... مؤخّر عند أصل العجب والذّنب «5»
وروى أن الزّبر قان فخر يومئذ فقال:
يا رسول الله، أنا سيّد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب منهم، آخذ لهم بحقوقهم، وأمنعهم من الظّلم، وهذا يعلم ذلك. وأشار إلى عمرو بن الأهتم. فقال عمرو:
إنه شديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع فى أدانيه. فقال الزّبرقان: والله لقد كذب يا رسول الله، وما منعه من أن يتكلم إلا الحسد.(18/40)
فقال عمرو: أنا أحسدك؟! فو الله إنّك لئيم الخال، حديث المال، أحمق الولد، مبغض فى العشيرة، والله ما كذبت فى الأولى، ولقد صدقت فى الثانية.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من البيان لسحرا» .
ذكر وفد فزارة واستسقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم
قال ابن سعد: لمّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تبوك، قدم عليه وفد بنى فزارة، بضعة عشر رجلا؛ فيهم خارجة بن حصن، والحرّ ابن قيس بن حصن، وهو أصغرهم، على ركاب عجاف، فجاءوا مقرّين بالإسلام.
وسألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بلادهم، فقالوا: يا رسول الله، أسنتت بلادنا، وهلكت «1» مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث «2» عيالنا، فادع لنا ربك. فصعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنبر ودعا، فقال: «اللهمّ اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، فأحى بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا «3» ، مريئا «4» مريعا «5» ، مطبقا «6» واسعا، عاجلا غير آجل، ناقعا غير ضارّ. اللهمّ اسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق. اللهمّ اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» فمطرت، فما رأوا السماء ستّا «7» ، فصعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنبر، فدعا، فقال: «اللهمّ حوالينا ولا علينا، على الآكام والظّراب «8» ، وبطون الأودية، ومنابت الشّجر» . قال: فانجابت «9» السماء عن المدينة انجياب الثوب.(18/41)
وفى صحيح البخارىّ عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أصابت الناس سنة «1» على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب على المنبر يوم الجمعة، قام أعرابى فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا أن يسقينا، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه، وما فى السماء قزعة «2» سحاب، قال: فثار «3» سحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، قال: فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد [الغد «4» ] والذى يليه إلى الجمعة الأخرى. فقام ذلك الأعرابى- أو رجل غيره «5» - فقال: يا رسول الله، تهدّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه، فقال: «اللهمّ حوالينا ولا علينا» قال: فما جعل يشير بيديه إلى ناحية من السماء إلّا تفرّجت «6» ، حتى صارت المدينة فى مثل الجوبة «7» ، حتى سال الوادى وادى قناة «8» شهرا. قال: فلم يأت أحد من جهة إلا حدّث بالجود «9» .
ذكر وفد مرّة
قال: قدم وفد بنى مرّة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند مرجعه من تبوك فى سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلا، رأسهم الحارث بن عوف؛ فقالوا:
يا رسول الله، إنّا قومك وعشيرتك، ونحن قوم من لؤىّ بن غالب. فتبسّم(18/42)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: «أين تركت أهلك» ؟ قال: بسلاح «1» وما والاها. قال: «كيف تركت البلاد» ؟ قال: والله إنّا لمسنتون «2» ، فادع الله لنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اسقهم الغيث» وأمر بلالا أن يجيزهم، فأجازهم بعشرة أواق، عشرة أواق فضّة، وفضّل الحارث بن عوف، أعطاه ثنتى عشرة أوقية. فرجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد مطرت فى اليوم الذى دعا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر وفد محارب
قال: قدم وفد محارب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة عشر، فى حجّة الوداع، وهم عشرة نفر، منهم سواء بن الحارث، وابنه خزيمة بن سواء، فأنزلوا دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء؛ فأسلموا وقالوا:
نحن على من وراءنا، ولم يكن أحد فى تلك المواسم أفظّ ولا أغلظ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بنى محارب. قال: ومسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجه خزيمة «3» بن سواء، فصارت له غرّة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفد، وانصرفوا إلى أهليهم.
ذكر وفد كلاب
قال: قدم وفد كلاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع من الهجرة، وهم ثلاثة عشر رجلا، فيهم لبيد بن ربيعة، وجبّار بن سلمى، فأنزلهم(18/43)
دار رملة بنت الحارث، فقالوا: يا رسول الله، إنّ الضحاك بن سفيان سار فينا بكتاب الله، وبسنّتك التى أمرته، وإنه دعانا إلى الله، فاستجبنا لله ولرسوله، وإنه أخذ الصّدقة من أغنيائنا فردّها على فقرائنا.
ذكر وفد رؤاس بن كلاب
روى عن أبى نفيع طارق بن علقمة الرؤاسىّ أنه قال: قدم رجل منّا يقال له عمرو بن مالك بن قيس الرّؤاسىّ على النبى صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: حتى نصيب من بنى عقيل بن كعب مثل ما أصابوا منّا، فخرجوا يريدونهم، وخرج معهم عمرو بن مالك فأصابوا فيهم، ثم خرجوا يسوقون النّعم، فأدركهم فارس من بنى عقيل، يقال له ربيعة بن المنتفق بن عامر ابن عقيل، وهو يقول:
أقسمت لا أطعن إلّا فارسا ... إذا الكماة لبسوا القوانسا «1»
قال أبو نفيع: فقلت نجوتم يا معشر الرّجّالة سائر اليوم، فأدرك العقيلىّ رجلا من بنى عبيد بن رؤاس: يقال له المحرّش بن عبد الله بن عمرو بن عبيد بن رؤاس، فطعنه فى عضده فأخبلها «2» ، فاعتنق المحرّش فرسته، وقال: يا آل رؤاس! فقال ربيعة: رؤاس خيل أو أناس؟! فعطف على ربيعة عمرو بن مالك فطعنه فقتله. قال: ثم خرجنا نسوق النّعم، وأقبل بنو عقيل فى طلبنا حتى انتهينا إلى تربة «3» ، فقطع ما بيننا وبينهم وادى تربة، فجعل بنو عقيل ينظرون إلينا فلا يصلون(18/44)
إلى شىء فمضينا. قال عمرو بن مالك: فأسقط فى يدى، وقلت: قتلت رجلا، وقد أسلمت وبايعت النبى صلّى الله عليه وسلّم! فشددت يدى فى غلّ إلى عنقى، ثم خرجت أريد النبى صلّى الله عليه وسلّم، وقد بلغه ذلك، فقال: «لئن أتانى لأضربنّ ما فوق الغلّ من يده» قال: فأطلقت يدى، ثم أتيته فسلّمت عليه فأعرض عنّى فأتيته عن يمينه فأعرض عنّى، فأتيته عن يساره فأعرض عنّى، فأتيته من قبل وجهه، فقلت: يا رسول الله، إن الربّ ليترضّى [فيرضى «1» ] ، فارض عنّى رضى الله عنك. قال: «قد رضيت عنك» .
ذكر وفد عقيل بن كعب
قال محمد بن السّائب: حدّثنا رجل من بنى عقيل بن كعب، عن أشياخ قومه، قالوا: وفد منّا من بنى عقيل بن كعب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربيع ابن معاوية بن خفاجة بن عمرو بن عقيل، ومطرّف بن عبد الله، وأنس بن قيس ابن المنتفق، فبايعوا وأسلموا، وبايعوه على من وراءهم من قومهم، فأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقيق عقيق بنى عقيل، وهى أرض فيها عيون ونخل وكتب لهم بذلك كتابا فى أديم أحمر: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى محمد رسول الله ربيعا ومطرّفا وأنسا؛ أعطاهم العقيق ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وسمعوا وأطاعوا» . ولم يعطهم حقّا لمسلم، وكان الكتاب فى يد مطرّف. ووفد عليه أيضا لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر بن عقيل، فأعطاه ماء يقال له النّظيم وبايعه على قومه.(18/45)
قال: وقدم عليه أبو حرب بن خويلد بن عامر بن عقيل، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه القرآن، وعرض عليه الإسلام، فقال: أما وايم الله لقد لقيت الله أو لقيت من لقيه، فإنّك لتقول قولا لا نحسن مثله، ولكن سوف أضرب بقداحى هذه على ما تدعونى إليه، وعلى دينى الذى أنا عليه، وضرب بالقداح، فخرج على سهم الكفر، ثم أعاد فخرج عليه ثلاث [مرّات «1» ] .
فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أبى هذا إلّا ما ترى، ثم رجع إلى أخيه عقال «2» بن خويلد، فقال له: قلّ خيسك. أى قلّ خيرك. فقال: هل لك فى محمد ابن عبد الله؟ يدعو إلى دين الإسلام، ويقرأ القرآن، وقد أعطانى العقيق إن أنا أسلمت، فقال له عقال: أنا والله أخطّك أكثر مما يخطّك محمد، ثم ركب فرسه وجرّ رمحه على أسفل العقيق، فأخذ أسفله وما فيه من عين، ثم إنّ عقالا قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض عليه الإسلام، وجعل يقول له: «أتشهد أن محمدا رسول الله» ؟ فيقول: أشهد أن هبيرة بن النّفاضة نعم الفارس يوم قرنى لبان «3» . ثم قال: «أتشهد أن محمدا رسول الله» ؟ قال: «أشهد أنّ الصّريح تحت الرّغوة» «4» ، ثم قال له الثالثة: «أتشهد» ؟ قال: فشهد وأسلم.(18/46)
قال: ثم قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحصين بن المعلّى بن ربيعة ابن عقيل، وذو الجوشن «1» الضّبابىّ فأسلما.
ذكر وفد جعدة
قال محمد بن سعد: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرّقاد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب، فأعطاه صلّى الله عليه وسلّم بالفلج «2» ضيعة، وكتب له كتابا وهو عندهم.
ذكر وفد قشير بن كعب
قال: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من بنى قشير، قبل حجة الوداع وبعد حنين، فيهم ثور بن عزرة بن عبد الله بن سلمة بن قشير فأسلم، فأقطعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطيعة «3» ، وكتب له بها كتابا. وفيهم حيدة «4» بن معاوية ابن قشير، وفيهم قرّة بن هبيرة بن سلمة الخير بن قشير فأسلم، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكساه بردا، وأمره أن يتصدّق على قومه؛ أى يلى الصدقة «5» .(18/47)
ذكر وفد بنى البكّاء
قال: وفد ثلاثة نفر من بنى البكّاء على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع، فيهم معاوية بن ثور بن عبادة بن البكّاء، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له بشر، والفجيع بن عبد الله، ومعهم عبد عمرو البكّائى وهو الأصمّ، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الرحمن، وكتب له بمائه الذى أسلم عليه «ذى القصّة «1» » . وكان عبد الرحمن من أصحاب الصّفّة «2» ، فأنزلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنزل وضيافة، وأجازهم ورجعوا إلى قومهم.
وقال معاوية للنبى صلّى الله عليه وسلّم: إنى أتبرك بمسّك وقد كبرت، وابنى هذا برّ بى فامسح وجهه، فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجه بشر بن معاوية، وأعطاه أعنزا عفرا «3» ، وبرّك عليهنّ «4» ، وكانت السّنة «5» تصيب بنى البكّاء ولا تصيبهم، وفى ذلك يقول محمد بن بشر بن معاوية:
وأبى الذى مسح الرسول برأسه ... ودعا له بالخير والبركات
أعطاه أحمد إذ أتاه أعنزا ... عفرا نواجل لسن باللّجبات «6»
يملأن رفد الحىّ كلّ عشيّة ... ويعود ذاك الملء بالغدوات «7»
بوركن من منح وبورك مانحا ... وعليه منّى ما حييت صلاتى «8»(18/48)
ذكر وفد كنانة وبنى عبد بن عدىّ
قالوا: وفد واثلة بن الأسقع الليثىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجهز إلى تبوك، فصلّى معه الصّبح، فقال: «من أنت؟ وما جاء بك؟ وما حاجتك» ؟ فأخبره عن نسبه، وقال: أتيتك لأومن بالله ورسوله؛ [فقال رسول الله: «1» ] «فبايع على ما أحببت وكرهت» . فبايعه ورجع إلى أهله فأخبرهم؛ فقال أبوه: والله لا أكلّمك كلمة أبدا، وسمعت أخته كلامه فأسلمت وجهّزته، فخرج راجعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجده قد سار إلى تبوك.
فقال: من يحملنى عقبة «2» وله سهمى؟ فحمله كعب بن عجرة حتى لحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهد معه تبوك. وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع خالد بن الوليد إلى أكيدر، فجاء بسهمه «3» إلى كعب بن عجرة، فأبى أن يقبله وسوّغه إياه، وقال: إنما حملتك لله تعالى.
قال: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد بنى عبد بن عدى، وفيهم الحارث بن أهبان، وعويمر بن الأخرم، وحبيب وربيعة ابنا ملّة، ومعهم رهط من قومهم؛ فقالوا: يا محمد، نحن أهل الحرم وساكنوه «4» ، وأعزّ من به، ونحن لا نريد قتالك، ولو قاتلت غير قريش قاتلنا معك، ولكنا لا نقاتل قريشا. وإنا لنحبك ومن أنت منه، فإن أصبت منّا أحدا خطأ فعليك ديته، وإن أصبنا أحدا من أصحابك فعلينا ديته. فقال: «نعم» فأسلموا.(18/49)
ذكر وفد باهلة
قال: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطرّف بن الكاهن الباهلىّ بعد الفتح وافدا لقومه، فأسلم وأخذ لقومه أمانا، وكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا فيه فرائض الصّدقات.
ثم قدم نهشل بن مالك الوائلىّ من باهلة على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وافدا لقومه، فأسلم وكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولمن أسلم من قومه كتابا فيه شرائع الإسلام. كتبه عثمان بن عفّان.
ذكر وفد هلال بن عامر
قالوا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من بنى هلال، فيهم عبد عوف بن أصرم بن عمرو بن شعيثة «1» فأسلم؛ فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله. وفيهم قبيصة بن المخارق، فقال: يا رسول الله، إنّى حملت عن قومى حمالة «2» فأعنّى فيها؛ قال: «هى لك فى الصّدقات إذا جاءت» .
قالوا: ووفد زياد بن عبد الله بن مالك، فلما دخل المدينة، توجه إلى منزل ميمونة بنت الحارث زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكانت خالة زياد- أمّه عزّة بنت الحارث، وهو يومئذ شاب- فدخل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو عندها، فلما رآه غضب ورجع، فقالت: يا رسول الله، هذا ابن أختى، فدخل إليها ثم خرج حتى أتى المسجد ومعه زياد، فصلّى الظهر، ثم أدنى زيادا فدعا له، ووضع يده على رأسه، ثم حدرها على طرف أنفه. فكانت بنو هلال تقول: مازلنا نتعرّف البركة فى وجه زياد. قال الشاعر لعلىّ بن زياد:(18/50)
يابن الذى مسح النبىّ برأسه ... ودعا له بالخير عند المسجد
أعنى زيادا لا أريد سواءه ... من غائر أو متهم أو منجد «1»
ما زال ذاك النور فى عرنيه ... حتى تبوّأ بيته فى الملحد
ذكر وفد عامر بن صعصعة وخبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس
قال محمد بن سعد: قدم عامر بن الطّفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وأربد بن ربيعة بن مالك بن جعفر.- قال ابن إسحق: وأربد بن قيس ابن جزء «2» بن خالد بن جعفر، وجبّار بن سلمى بن مالك بن جعفر-[على رسول الله «3» صلّى الله عليه وسلّم]-.- قال ابن سعد- فقال عامر بن الطّفيل: يا محمد، مالى إن أسلمت؟ قال: «لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم» . قال: أتجعل لى الأمر من بعدك؟ قال: «ليس ذلك لك ولا لقومك» قال: أفتجعل لى الوبر ولك المدر؟ «4» قال: «لا، ولكنّى أجعل لك أعنّة الخيل، فإنك امرؤ فارس» . قال:
أو ليست لى؟! لأملأنها عليك خيلا ورجلا «5» . ثم ولّيا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اكفنيهما، اللهمّ واهد بنى عامر وأغن الإسلام عن عامر» - يعنى ابن الطّفيل.
وقال ابن إسحق: قدم عامر بن الطّفيل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا عامر، إن الناس قد أسلموا فأسلم،(18/51)
فقال: والله لقد كنت آليت ألّا أنتهى حتّى تتبع العرب عقبى، وأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش! ثم قال لأربد بن قيس: إذا قدمنا على الرجل فإنى سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف. فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عامر بن الطّفيل. يا محمد، خالّنى «1» . قال:
«لا والله حتى تؤمن بالله وحده» ، فجعل يكرر هذا القول ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعيد عليه مقالته، وهو فى ذلك ينتظر من أربد ما أمره به، فلم يصنع أربد شيئا، وكان آخر ما قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما والله لأملأنّها عليك خيلا ورجلا، فلما ولّى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفنى عامر ابن الطّفيل» فلما خرجوا من عنده قال عامر لأربد: ويلك! أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندى على نفسى منك، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال له أربد: لا أبا لك! لا تعجل علىّ، والله ما هممت بالذى أمرتنى به من أمره إلا دخلت بينى وبين الرجل، حتى لا أرى غيرك! أفأضربك بالسيف! قال: وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطّفيل الطاعون فى عنقه، فمال إلى بيت امرأة من بنى سلول، فجعل يقول: يا بنى عامر، غدّة كغدّة البكر، وموت فى بيت سلوليّة «2» ! قال: ومات فواراه أصحابه، وخرجوا حتى قدموا أرض بنى عامر، فأتاهم قومهم فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ فقال: لا شىء، والله لقد(18/52)
دعانا إلى عبادة شىء لوددت أنه عندى الآن فأرميه بالنّبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه «1» ، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.
وقال أبو إسحق أحمد بن محمد الثعلبىّ فى هذه القصة، بسند يرفعه إلى عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما، قال: أقبل عامر بن الطّفيل وأربد بن ربيعة يريدان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالمسجد جالس فى نفر من أصحابه، فدخلا المسجد فاستشرف «2» الناس لجمال عامر، وكان أعور، وكان من أجمل الناس، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، هذا عامر ابن الطّفيل قد أقبل نحوك، فقال: «دعه فإن يرد الله به خيرا يهده» فأقبل حتى قام عليه. فقال: يا محمد، مالى إن أسلمت؟ فقال: «لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين» . قال: تجعل لى الأمر بعدك؟ قال: «ليس ذلك إلىّ، إنما ذلك إلى الله عز وجل، يجعله حيث يشاء» . قال تجعلنى على الوبر وأنت على المدر؟. قال: «لا» . قال: فماذا تجعل لى؟ قال: «أجعل لك أعنّة الخيل تغزو عليها» . قال: أو ليس ذلك لى اليوم؟! قم معى أكلّمك. فقام معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتنى أكلّمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف؛ فجعل يخاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويراجعه، فدار أربد خلف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فاخترط من سيفه شبرا، ثم حبسه الله عزّ وجلّ عنه فلم يقدر على سلّه، وجعل عامر يومىء إليه، فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال: «اللهم(18/53)
اكفنيهما بما شئت» . فأرسل الله عزّ وجلّ على أربد صاعقة فى يوم صائف فأحرقته، وولّى عامر هاربا، وقال: يا محمد، دعوت ربّك فقتل أربد، والله لأملأنّها عليك خيلا جردا «1» ، وفتيانا مردا «2» ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«يمنعك الله ذلك وأبناء قيلة» يعنى الأوس والخزرج. فنزل عامر بيت امرأة سلوليّة وأنشأ يقول:
تخيّر أبيت اللّعن إن شئت ودّنا ... وإن شئت حربا ذات بأس ومصدق
وإن شئت فتيانا بكفّى أمرهم ... يكبّون كبش العارض المتألّق
فلما أصبح ضمّ عليه سلاحه، وقد تغيّر لونه، وهو يقول:
لعمرى وما عمرى علىّ بهينّ ... لقد شان حرّ الوجه طعنة مسهر «3»
وقد علم المزنوق أنّى أكرّه ... على جمعهم كرّ المنيح المشهّر «4»
إذا ازورّ من وقع السّنان زجرته ... وأخبرته أنّى امرؤ غير مقصر «5»
وأخبرته أنّ الفرار خزاية ... على المرء ما لم يبد عذرا فيعذر «6»
لقد علمت عليا هوازن أنّنى ... أنا الفارس الحامى حقيقة جعفر(18/54)
فجعل يركض فى الصحراء ويقول: ابرز يا ملك الموت! ثم أنشأ يقول:
ألا قرّب المزنوق «1» إذ جدّ ما أرى ... لتعريض يوم شرّه غير حامد
ألا قرّباه إنّ غاية جرينا ... إذا قرب المزنوق بين الصّفائد
بنو عامر قومى إذا ما دعوتهم ... أجابوا ولبىّ منهم كلّ ماجد
ويقول: واللّات لئن أصحر «2» إلىّ وصاحبه- يعنى ملك الموت- لأنفذتهما برمحى.
قال: فلما رأى الله عزّ وجلّ ذلك منه، أرسل ملكا فلطمه بجناحه، فأرداه فى التراب، وخرجت على ركبته غدّة عظيمة فى الوقت، فعاد إلى بيت السّلوليّة وهو يقول: غدّة كغدّة البعير، وموت فى بيت سلولية. ثم دعا بفرسه فركبه، ثم أجراه حتى مات على ظهره.
قال: فرثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بجملة من المراثى؛ فمنها هذه الأبيات:
قضّ اللّبانة لا أبا لك واذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيّب «3»
ذهب الذين يعاش فى أكنافهم ... وبقيت فى خلف كجلد الأجرب «4»
يتلذّذون ملاذة ومجانة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشعب «5»
فتعدّ عن هذا وقل فى غيره ... واذكر شمائل من أخ لك معجب «6»(18/55)
إنّ الرّزيّة لا رزيّة مثلها ... فقدان كلّ أخ كضوء الكوكب»
من معشر سنّت لهم أباؤهم ... والعزّ لا يأتى بغير تطلّب
يا أربد الخير الكريم جدوده ... أفردتنى أمشى بقرن أعضب «2»
وقال أيضا فيه:
ما إن تعدّى المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد «3»
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السّماك والأسد «4»
يا عين هبلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم فى كبد «5»
فجّعنى الرّعد والصّواعق بالفا ... رس يوم الكريهة النّجد «6»
قال: وأنزل الله عزّ وجلّ فى هذه القصّة: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يعنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَحْفَظُونَهُ
يعنى تلك المعقبات مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
. ثم قال تعالى مشيرا لهذين: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ «7» .(18/56)
أى ملجإ يلجئون إليه. وقد قيل: والٍ
يلى أمرهم، ويمنع العذاب عنهم. ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً
. قال: خَوْفاً
للمسافر يخاف أذاه ومشقّته. وَطَمَعاً
للمقيم يرجو بركته ومنفعته. وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ «1»
قال الحسن: شديد الحقد «2» .
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: شديد الأخذ. وقد روى الثعلبىّ أيضا، عن إسحق الحنظلىّ، عن ريحان بن سعيد الشّامى، عن عبّاد بن منصور، قال سألت الحسن عن قوله عز وجل: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ
الآية.
قال: كان رجل من طواغيت العرب، فبعث إليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم نفرا ليدعوه إلى الله عز وجل ورسوله أن يؤمن، فقال لهم: أخبرونى عن ربّ محمد هذا الذى تدعونى إليه ما هو؟ وممّ هو؟ من دهب أم فصّة أم حديد أم نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته، وانصرفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا رجلا أكفر قلبا، ولا أعتى على الله منه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فجعل لا يزيدهم على مثل مقالته الأولى وأخبث، «3» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» فرجعوا، فبيناهم عنده ينازعونه ويدعونه ويعظمون عليه، وهو يقول هذه المقالة؛(18/57)
إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم، فرعدت وبرقت فرمت بصاعقة فاحترق «1» الكافر وهم جلوس، فجاءوا يسعون ليخبروا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا لهم: احترق صاحبكم.
قالوا لهم: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الساعة:
وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ
الآية. والله أعلم فى أيهما نزلت.
ولنرجع إلى تتمة خبر وفد عامر بن صعصعة.
قال محمد بن سعد فى طبقاته: وكان فى الوفد عبد الله بن الشّخّير، فقال: يا رسول الله، أنت سيدنا، وذو الطّول علينا. قال: «السيّد الله، لا يستهوينّكم الشيطان» .
قالوا: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علقمة بن علاثة بن عوف، وهوذة بن خالد بن ربيعة وابنه، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه جالسا إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أوسع لعلقمة» فأوسع له، فجلس إلى جنبه، فقصّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرائع الإسلام، وقرأ عليه قرآنا، فقال: يا محمد، إن ربّك لكريم، وقد آمنت بك، وبايعت على عكرمة بن خصفة أخى قيس، وأسلم هوذة وابنه وابن أخيه.
وروى ابن سعد عن عون بن أبى جحيفة السّوائىّ عن أبيه قال: قدم وفد بنى عامر وكنت معهم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فوجدناه بالأبطح فى قبّة حمراء، فسلّمنا عليه، فقال: «من أنتم» ؟ قلنا: بنو عامر بن صعصعة. قال:
«مرحبا بكم أنتم منّ وأنا منكم» .(18/58)