وأمّا المالح، فخيره ما كان طريّا قريب العهد بالتمليح. وأحمده الممقور «1» بالخلّ والتّوابل.
وأمّا طبعه، فجميع السمك بارد رطب، لكن بعضه أسخن بالقياس إلى مزاج السمك مثل الكوسج «2» والمارماهيج «3» .
وأمّا أفعاله وخواصّه، فالطّرىّ منه يولّد البلغم المائىّ مرخ للأعصاب، غير موافق إلا للمعدة الحارّة جدّا. قال: وجلد السمك المعروف «بسيفيانوس» «4» فى ناحية بيت المقدس إن ذرّ رماد جلده فى عيون «5» المواشى أذهب بياضها. والمالح من أصناف السمك يخرج السّلّاء «6» من المناشب «7» . قال: ورأس «سماريس» «8» محرقا يقلع اللحم(10/308)
الزائد فى القروح ويمنع سعتها ويقلع الثآليل «1» واليوث «2» . وماء السمك المالح ينفع من القروح العفنة ويغسلها. قال: واذا احتقن بسلاقة المالح مرارا نفع من وجع الورك. والسمك الصغار الذى تسمّيه أهل الشام «3» ومصر «الصّير» إذا تمضمض صاحب القلاع «4» الخبيث بالمرّىّ «5» الذى يتّخذ منه نفعه. و «الرّعّاد» الحىّ إذا قرّب من رأس المصدوع أخدره [عن الحسّ «6» بالصداع] . قال: وجلد «سيفيانوس» تحكّ به الأجفان الجربة فينفع، وجلده المحرق أيضا يدخل فى أدوية العين؛ ويذهب «7» الاكتحال به مع الملح الظّفرة «8» ، وأكله مقليّا «9» يورث غشاوة العين بل جميع السمك؛ ورءوس(10/309)
السّمكات المملوحة المجفّفة تنفع اللهاة «1» الوارمة، وعلاج جيّد من شقاق المقعدة «2» .
وغراء السمك يلقى فى الأحساء فينفع نفث الدّم. قال: وحوصلة سيفيانوس تليّن البطن مع صعوبة انهضامها. قال: ورأس المالح [من «3» ] سماريس محرقا يجعل على عضّة الكلب الكلب ولسعة العقرب فينفع ذلك، وكذلك كلّ سمكة. ومرقة كلّ سمك تنفع من السموم المشروبة والنّهوش. قال: [والسمك «4» ينفع من عسر النّفس والرّبو واليرقان ويسهّل البلغم وينفع من خناق الرّحم] .
وقد وصف الشعراء السمك فى أشعارها؛ فمن ذلك قول ابن الرّومى يخاطب رئيسا «5» ويستدعى منه سمكا:
عسرت علينا دعوة «6» السّمك ... أنّى وجودك ضامن الدّرك
اعلم وقيت الجهل أنك فى ... قصر تلته مطارح الشّبك
وبنات «7» دجلة فى فنائكم ... مأسورة فى كلّ معترك(10/310)
بيض كأمثال السبائك بل ... مشحونة بالشحم كالعكك «1»
حسنت مناظرها وساعدها ... طعم كحلّ معاقد التّكك
فليصطد الصيّاد حاجتنا ... يصطد مودّتنا بلا شرك
وقال أبو الفتح كشاجم:
ومحجوبة بالماء عن كل ناظر ... ولكنها فى حجبها تتخطّف
أخذنا عليهنّ السبيل بأعين ... رواصد إلّا انّها ليس تطرف
فجئنا «2» بها بيض المتون كأنّها ... خناجر فى أيماننا تتعطّف
وقال أبو عبادة البحترىّ وذكر بركة:
لا يبلغ السمك المقصور «3» غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها
يعمن فيها بأوساط مجنّحة ... كالطير تنفض فى جوّ خوافيها
وقال أبو طالب المأمونىّ فى المقلىّ منه:
ماويّة فضيّة لحمها ... ألذّ ما يأكله الآكل
يضمّها من جلدها جوشن «4» ... مذيّل «5» فهو لها شامل
لوّنت من فضّتها عسجدا ... بالقلى لما ضافنى نازل(10/311)
وقال أيضا:
مائيّة فى النار مصليّة» ... يصبغ من فضّتها عسجد
كأنّما جلدتها جوشن ... مزرفن «2» الصّنعة أو مبرد
وقال عطاء بن يعقوب يصف سمكة من رسالة يستدعى بها صديقا، جاء منها: «قد أهدى لنا صديق سمكه، قد لبست من جلدها شبكه؛ تشبه حملا شكلا وقدّا، أو جرابا قد امتلأ زبدا؛ كأنها أرادت أن تحارب نجم السّماك، أو حوت الأفلاك؛ فلبست من جلدها جوشنا مزرّدا «3» . وسلّت من ذنها سيفا مجرّدا» .
وقال خالد بن صفوان ليزيد بن المهلّب يصف سمكا: «أتيت ببنات بيض البطون، زرق العيون، سود المتون، حدب الظهور، معقّفات الأذناب، صغار الرءوس، غلاظ القصر «4» ، عراض السّرر» .
هذا ما اتفق إيراده فى السمك المطلق. فلنذكر أصنافا من أنواع الأسماك.
ذكر شىء من أنواع الأسماك
وأنواع الأسماك كثيرة جدّا، منها ما يعرفه الناس، ومنها ما لم يعرفوه، ومنها ما يكون فى أماكن من البحار دون غيرها. وقد ذهب بعضهم أنّ كلّ حيوان(10/312)
فى البرّ يكون مثله فى البحر. فلنورد فى هذا الفصل ما أمكن إيراده، وهو الدّلفين، والرّعّاد، والتّمساح، والسّقنقور، والسّلحفاة، واللّجأة، والفرس النهرىّ، والجند بيدستر والقندس «1» ، والقاقم، والضّفادع، والسّرطان، وشىء من عجائب الحيوان المائىّ، على حكم الاختصار حيث تعذّر الاستيعاب.
فأمّا الدّلفين
- وهو كالزّق المنفوخ، وله رأس صغير جدّا. وهو يوجد فى بحر النيل يقذفه البحر الملح إليه. ويقال: ليس فى دوابّ البحر ماله رئة «2» غيره؛ فلذلك يسمع له التنفّس والنّفخ، وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى الأسباب فى نجاته؛ فإنه لا يزال يدفعه الى البرّ [حتى ينجيه «3» ] . وهو من أقوى الدوابّ المائيّة.
ولا يؤذى ولا يأكل غير السمك. وربما ظهر على وجه الماء وهو نائم كالميّت.
وهو يلد ويرضع. وأولاده تتبعه حيث ذهب؛ ولا يلد إلّا فى الصيف. وفى طبعه الأنس بالناس وخصوصا الصبيان. وإذا صيد جاءت الدّلافين لقتال صائده، فإذا أطلقه لها انصرفت. وأهل المراكب فى البحر الفارسىّ اذا رأوه استبشروا به وأيقنوا ببلوغ الأرب سيّما الغزاة.
وأمّا الرّعّاد
- ويكون فى نيل مصر، ولم أسمع به فى غيره. وفيه من الخاصيّة أنه لا يستطيع أحد من الناس أن يمسّه. ومتى وضع الانسان يده عليه(10/313)
نزعها بحركته وصاح صيحة منكرة ربما دهش الإنسان لها؛ ويجد الرجل فى فؤاده خفقانا من ذلك. وهو متى وقع فى شبكة الصيّاد ارتعدت يداه عند إخراج الشبكة من الماء أو جذب الحبل، فيعلم أنه قد وقع له السمك الرّعّاد.
وأمّا التّمساح
- وهو أيضا لا يكون إلا فى نيل مصر؛ وزعم قوم أنه يوجد فى مهران «1» السّند، لزعمهم أنه من النيل. وهو شديد البطش فى الماء. وهو يعظم إلى أن ينتهى فى الطول إلى عشرين ذراعا فى عرض ذراعين. ويفترس الفرس والإنسان. ولا يقوى على قتاله من الحيوان إلّا الجاموس. وله يدان ورجلان وذنب طويل يضرب به ويلفّ. وهو لا يصاد إلّا أن يضرب فى إبطيه، ومنهما مقتله. ويقال: إنه إذا أراد السّفاد خرج هو والأنثى إلى البرّ فيقلبها على ظهرها ويستبطنها؛ فإذا فرغ قلبها لأنها لا تتمكّن من الانقلاب لقصر يديها ورجليها ويبس ظهرها. وهى تبيض فى البرّ، فما وقع فى الماء صار تمساحا وما بقى فى البرّ صار سقنقورا. والتّمساح يحرّك فكّه الأعلى دون الأسفل، ولسانه معلّق به. ويقال:
إنه ليس له مخرج، وإنّ جوفه إذا امتلأ خرج إلى البرّ وفتح فمه فيجىء طائر صغير أرقط فينقر بمنقاره ما فى جوفه ويخرجه، وذلك غذاء الطائر وراحة للتمساح.
وفى رأس هذا الطائر شوكة فإذا غلّق «2» التمساح فمه عليه نخسه بها فيفتحه. ويقال:
إن للتمساح ستين سنّا وستين عرقا، ويسفد ستين مرّة، ويبيض ستين بيضة.(10/314)
ويوجد فى جلده ممّا يلى بطنه سلعة «1» كالبيضة فيها رطوبة لها رائحة كالمسك، وتنقطع رائحتها بعد أشهر.
ووصفه شاعر فقال:
وذى هامة كالتّرس يفغر عن فم ... يضمّ على مثل الحسام المثلّم
ويفترّ عن مثل المناشير ركّبت ... على مشفر مثل القليب المهدّم
مشى فى شواة من فقارة غيلم ... وسقّف «2» لحيا عن مناكب شيهم
وأمّا السّقنقور
- ويسمى الحرذون البحرىّ. ويقال: إنه ورل مائىّ.
ومنه ما هو مصرىّ، وما هو هندىّ، وما يتولّد فى بحر القلزم وببلاد الحبشة. وهو يغتذى فى الماء بالسمك وفى البرّ بالقطا. وأنثاه تبيض عشرين بيضة وتدفنها فى الرّمل، فيكون ذلك حضنها. وجلده خشن مدبّج بالسواد والصفرة. وهو إذا عضّ إنسانا وسبقه الإنسان إلى الماء فاغتسل منه مات السقنقور؛ وإن سبق السقنقور الإنسان إلى الماء مات الإنسان. وبين السقنقور وبين الحيّة عداوة عظيمة، متى ظفر أحدهما بصاحبه قتله.
وقال الشيخ الرئيس: أجود السقنقور ما صيد فى الرّبيع وقت هيجانه.
وأجود أعضائه السّرّة. وهو ينفع من العلل الباردة فى العصب. وملحه يهيج الباه فكيف لحمه، وخصوصا لحم سرّته وما يلى كليتيه وخصوصا شحمها.(10/315)
وأمّا السّلحفاة واللّجأة
- يقال: إنّ اللّجأة تبيض فى البرّ، فما أقام به سمّى سلحفاة، وما وقع فى البحر سمّى لجأة. فأمّا ما يبقى فى البرّ فإنه يعظم حتى لا يكاد الرجل الشديد يحمله. وقد رأيت فى سنة سبع وسبعمائة بالقاهرة المعزّيّة سلحفاة تحمل الرجل وتمشى به وهو قائم على ظهرها. وما ينزل البحر يعظم حتى لا يكاد الحمار يحمله؛ وربما وجد منها ما زنته أربعمائة رطل. وتبيض أنثاه أربعمائة بيضة. وهى تحضن بيضها بالنظر إليه والرّصد له لا غير. وللذّكر نزكان وللأنثى فرجان. والذكر يطيل المكث فى السّفاد. والعرب تكنيها «أمّ طبق» .
ويزعمون أنها تبيض تسعا وتسعين بيضة، وتبيض تمام المائة بيضة يخرج منها أسود (أى ثعبان) . وهو مولع بأكل الحيّات؛ وإذا أكل الأفعى أكل صعترا جبليّا؛ فإذا أكثر من أكل الحيّات والصّعتر هلك. وله تحيّل فيما يصيده من الطائر، وهو أنه يصعد من الماء ويتمرّغ فى التراب ويأتى موضعا قد سقط الطير عليه ليشرب، فيخفى على الطير بكدرة لونه التى اكتسبها من الماء والتراب، فيصيد منها ما يكون له قوتا ويدخل به الماء فيموت الطائر فيأكله.
ووصفها شاعر فقال:
وسلحفاة سمج ... سكونها والحركه
شبّهتها بديلم ... ىّ ساقط فى معركه
مستتر بترسه «1» ... عمّن عسى أن يهلكه(10/316)
وقال أبو بكر الخوارزمىّ يصف لجأة:
بنت ماء بدت لنا من بعيد ... مثل ما قد طوى البحارىّ؟؟؟ «1» سفره
رأسها رأس حيّة وقراها «2» ... ظهر ترس وجلدها جلد صخره
مثل فهر «3» العطّار دقّ به العط ... ر فحلّت «4» طرائق الطّيب ظهره
يقطع الخوف رأسها فإذا ما ... أمنته فرأسها مستقرّه
وقال آخر:
لحى الله ذات فم أخرس ... تطيل من العىّ وسواسها
تكبّ على ظهرها ترسها ... وتظهر من جلّها فاسها «5»
إذا الحذر أقلق أحشاءها ... وضيّق بالخوف أنفاسها
تضمّ الى نحرها كفّها ... وتدخل فى جوفها راسها
وأمّا الفرس النّهرىّ
- وهو عظيم الجثة، وخلقه خلق الفرس، إلا أنّ وجهه أوسع؛ وله أظلاف كالبقرة؛ وذنبه مثل ذنب الخنزير؛ وصوته يشبه صوت الفرس. وهو لا يوجد إلّا فى نيل مصر. وهو يخرج من الماء الى البرّ، ويرعى(10/317)
الزرع. واذا قصد الزرع لا يبتدئ من أوّله، ولكنه يجوز منه قطعة بقدر ما يأكل ويبتدئ منها بحيث يكون وجهه إلى البحر. وهو يقتل التمساح ويقهره. وأهل الديار المصريّة إذا رأوا أثر حافره فى البرّ تباشروا بزيادة النيل وكثرة الخصب.
وفى سنة اثنتين وسبعمائة طلع الفرس النهرىّ إلى البرّ بالجيزة وأبعد عن البحر، فتحيّل عليه وقتل. وأهل النّوبة يصيدونه كثيرا، ويتّخذون من جلده سياطا يسوقون بها الإبل.
وأمّا الجند بيدستر
- وهو السّمّور، ويسمى «كلب الماء» .
ولا يوجد إلا ببلاد القفجاق «1» وما يليها. وهو على هيئة الثعلب، أحمر اللّون، لا يدان له، وله رجلان وذنب طويل، ورأسه كرأس الإنسان، ووجهه مستدير. وهو يمشى متّكئا على صدره كانه يمشى على أربع، وله أربع خصى: ثنتان ظاهرتان وثنتان باطنتان. وهو إذا رأى الصيّادين يجدون فى طلبه لأجل الجند بيدستر، وهو خصيتاه الظاهرتان، قطعهما بفيه ورمى بهما إليهم؛ إذ لا حاجة لهم إلا بهما.
فإن لم يرهما الصيّادون وداموا فى الجدّ فى طلبه استلقى على ظهره ليريهم الدّم، فيعلمون أنه قطعهما فينصرفون عنه. وهو إذا قطع الظاهرتين ظهر الباطنتان وعوّض عنهما غيرهما. وفى داخل الخصية شبه الدّم أو العسل زهم الرائحة سريع التّفرّك إذا جفّ. ويقال: إنه يوكّر «2» على الأرض ويولد «3» عليها ويرعى فيها، ويهرب إلى الماء ويعتصم به؛ ويمكنه أن يلبث فى قعره حابسا لنفسه زمانا ثم يخرج [الى الهواء «4» ] .(10/318)
وأمّا حيوان القندس «1» والقاقم
- فالقندس يغتذى بالسمك والنّبات.
ويقال: إنّ فيه سادة وعبيدا؛ وإنه يتّخذ مساكن مرتّبة على ترتيب مساكن الناس.
والسادة يتّخذون فى بيوتهم صففا «2» مرتفعة يكونون عليها، وفى أسفلها مواضع للعبيد، ولبيوتهم أنفاقا إلى البرّ وأبوابا إلى النهر. وبعض هذا الحيوان يغير على بعض.
والسادة لا تتكسّب، وإنما يتكسّب لها العبيد. ويعرف جلد السيّد من جلد العبد بحسن لونه وبصيصه «3» . وأهل تلك البلاد يسلخون خراطيم القندس والسّمّور ويتعاملون بها كما يتعامل بالدّنانير والدراهم بحيث يكون عليها ختم الملك. وجلد هذا الحيوان هو الذى يعمل شرابيش «4» الأمراء وأطواق التّشاريف ودوائرها.
والقاقم: حيوان يشبه السّنجاب إلّا أنه أبرد منه وأرطب؛ ولهذا هو أبيض يقق. وهو يجلب من بحر الخزر. وجلده يشبه جلد الفنك «5» .
وأما الضفادع
- وهى أصناف كثيرة، تكون من سفاد وغير سفاد. وهى تبيض فى البرّ وتعيش فى الماء. والذى من غير سفاد يتولّد من المياه الضعيفة، ومن العفونات، وغبّ الأمطار الغزيرة، حتى يتوهّم المتوهّم أنه يسقط من السّحاب لكثرة ما يرى منه على الأسطحة عقيب المطر. ويقال: إنه يخلق فى تلك الساعة.(10/319)
والضّفدع من الحيوان الذى لا عظم له. وفيه ما ينقّ. وما ليس ينقّ. وليس صوت ما ينقّ من فيه ولكنه من جلود رقاق تكون إلى جانب أذنيه؛ فإذا أراد النقيق انفتحت فيخرج الصوت منها. وهى تنطبق فى زمن الشتاء فلا تنفتح حتى يعتدل الجوّ.
قال الجاحظ: والضّفدع لا يصيح ولا يمكنه الصياح حتى يدخل حنكه الأسفل الماء، فإذا صار فى فيه بعض الماء صاح؛ ولذلك لا تسمع للضفادع نقيقا إذا كنّ خارجات من الماء. قال: والضفادع تنقّ، فإذا أبصرت النار أمسكت. وتوصف بحدّة السمع إذا كانت خارج الماء. ويضرب بها المثل فى السمع والحذر، فيقال: «أحذر من ضفدع» و «أسمع من ضفدع» . وقال شاعر يصف الضفادع:
ومقعدات زانهنّ أرجل ... كقعدة الناكح حين ينزل
يكسين وشيا وعيون تكحل
وقال آخر:
دعتك فى فاضة «1» مدنّرة ... ليس لها طرّة ولا هدب
قد نسجت من زبرجد فجرى ... بين تضاعيف نسجها الذّهب
يظلّ صمتا نهاره فإذا ... أدركه الليل بات يصطخب
وهو وإن لم يغطّ مقلته ... جفن ولا امتدّ خلفه ذنب
يعجبنى ما أراه منه ففى ... خلقته واختلافها عجب(10/320)
وأمّا السّرطان وما قيل فيه
- وهو ذو فكّين ومخالب وأظفار حداد، كثير الأسنان، صلب الظّهر، سريع العدو، وعيناه على كتفيه، وفمه فى صدره، وفكّاه مشقوقان من جانبين. وله ثمانى أرجل. وهو يمشى على جانب واحد؛ ويستنشق الماء والهواء معا. وهو يسلخ جلده فى السنة ستّ مرات. ويتّخذ بجحره بابين، أحدهما إلى الماء والثانى إلى البرّ. فإذا سلخ جلده سدّ عليه ما يلى الماء خوفا من السمك وترك ما يلى البرّ مفتوحا؛ فإذا جفّت رطوبته واشتدّ، فتح ما يلى الماء وطلب معاشه.
قال شاعر يصفه:
فى سرطان الماء أعجوبة ... ظاهرة للخلق لا تخفى
مستضعف المنّة لكنّه ... أبطش من حاربته كفّا
يسفر للناظر عن جملة ... متى مشى قدّرها نصفا
وقال أبو عبيد «1» البكرىّ فى كتابه المترجم بالمسالك والممالك: إنّ ببحر الصين سرطانات تخرج كالذراع والشبر، فإذا صارت الى البرّ عادت حجارة وانقلبت عن الحيوانيّة؛ والأطباء يتخذون منها كحلا يجلو البياض.(10/321)
ذكر شىء من عجائب الحيوان المائىّ
وعجائب البحر كثيرة جدّا لا يستغرب ما نذكر منها؛ ولذلك قيل: «حدّث عن البحر ولا حرج» . وقد حكى صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر فى كتابه، قال: رأيت فى بعض المجاميع المجهولة أنّ فى بعض البحار شاة شعراء تكون فى البرّ مع البهائم حين الرّعى؛ فإذا فرغت من رعيها عادت إلى الماء، وتأكل السمك.
قال: وذكر لها خواصّ. قال: وذكر بعضهم دابّة سمّاها «خزّ الماء» ولم يسمّ المكان الذى تكون فيه، وقال: إنها مثال ابن عرس أو أكبر قليلا، سباحتها فى الماء كجريها فى البرّ، لها وبر ناعم تعمل منه ثياب الخزّ، وهذا الوبر موجود تأتى به التّجّار من البحر الرومىّ يباع بالقاهرة، ويسمّونه صوف السمك؛ وهو أخضر اللّون؛ ويقال: إنه إذا طلع من البحر يكون أبيض يققا، فإذا صار إلى البرّ وأصابه النسيم انقلب إلى الخضرة. وهم يغزلونه ويلحمون به الثياب المسداة بالحرير، وقيمته لا تقصر عن قيمة الحرير وربما يزيد عليه. وأرخص ما ابتعته أنا حسابا عن وزن كلّ مائة درهم أربعين درهما. وبه تخنق الأفاعى بمصر، تفتل منه خيوط تسمّى إذا خنق بها الأفاعى حبال الخناق، لها نفع فى تحليل مرض الخناق.
ويقال: إن ببحر الرّوم- وربما بغيره أيضا- حيوانا يسمّونه «بنات الماء» يشبهن «1» النساء، لهنّ شعور سباط «2» ، ألوانهنّ إلى السّمرة، ذوات فروج عظام وثدىّ، ولهنّ قهقهة وضحك وكلام لا يفهم؛ وربما يقعن لأصحاب المراكب وغيرهم(10/322)
فينكحونهنّ فيجدون لنكاحهنّ لذّة عظيمة ثم يعيدونهنّ إلى البحر. وفى البحر أيضا أمثال الرجال، يقال: إنّهم يظهرون [بالإسكندريّة «1» و] بالبرلس ورشيد فى صورة الإنسان بجلود لزجة، لهم بكاء وعويل إذا وقعوا فى أيدى الناس؛ [وذلك أنهم ربما برزوا عن البحر إلى البرّ يتشمّسون فيقع بهم الصيّادون «2» ] ؛ فإذا سمع الناس بكاءهم أطلقوهم رحمة لهم.(10/323)
الباب الثامن وهو الذيل على القسم الخامس من الفن الثالث
[ويشتمل «1» هذا الباب] على ذكر شىء مما وصفت به آلات الصيد فى البرّ والبحر ووصف رماة البندق، وما يجرى هذا المجرى.
ذكر شىء مما قيل فى رماة البندق
- ومما وصفت به الجلاهق «2» وهو قسىّ البندق. من ذلك ما كتب به أبو إسحاق الصّابى من رسالة إلى [أبى الفرج «3» ] محمد بن العباس [بن فسابخش «4» ] ، جاء منها: «أقبلت رفقة الرّماة قد برزت قبل الذّرور «5» والشروق، وشمّرت عن الأذرع والسّوق؛ مقلّدين خرائط شاكلت السيوف بحمائلها ونياطاتها «6» ، وناسبتها فى آثارها ونكاياتها؛ تحمل من البندق الملموم، ما هو فى الصحّة والاستدارة كاللؤلؤ المنظوم؛ كأنما خرط بالجهر «7» ، فجاء(10/324)
كبنات الفهر؛ قد اختير طينه، وملك «1» عجينه؛ فهو كالكافور «2» المصّاعد فى اللّمس والمنظر، وكالعنبر الأذفر فى الشمّ والمخبر؛ مأخوذ من خير مواطنه، مجلوب من أطيب معادنه؛ كافل بمطاعم حامليه، محقّق لآمال آمليه؛ ضامن لحمام الحمام، متناول لها من أبعد مرام؛ يعرج إليها وهو سمّ ناقع، ويهبط بها وهى رزق نافع» .
ومنها فى وصف القسىّ: «وبأيديهم قسىّ مكسوّة بأغشية السّندس، مشتملة منها «3» بأحسن ملبس؛ مثل الكماة فى جواشنها ودروعها، والجياد فى جلالها «4» وقطوعها؛ حتى إذا جرّدت من تلك المطارف، وانتضيت «5» من تلك الملاحف؛ رأيت منها قدودا مخطفة «6» رشيقه، وألوانا معجبة أنيقه؛ صلبة المكاسر «7» والمعاجم، نجيبة المنابت والمناجم؛ خطّيّة الأسماء والمناسب، سمهريّة الأعراق والمناصب؛ ركّبت من شظايا الرّماح الداعسه، وقرون الأوعال الناخسه «8» ؛ فحازت الشرف من طرفيها، واستولت عليه(10/325)
بكلتا يديها؛ قد انحنت انحناء المشيخة النّسّاك، وصالت صيال الفتية الفتّاك؛ واستبدلت من قديمها فى عزّ «1» الفوارس، بحديثها من نفيس الملابس؛ وانتقلت من جدّها فى طراد المغارات «2» ، إلى هزلها فى طرد المسهرات «3» ؛ ظواهرها صفر وارسه «4» ، ودواخلها سود دامسه؛ كأنّ شمس أصيل طلعت على متونها، أو جنح ليل اعتكر فى بطونها؛ أو زعفرانا جرى فوق مناكبها، أو غالية جمدت على ترائبها «5» ؛ أو قضبان فضة أذهب شطرها وأحرق شطر، أو حبّات رمل اعتنق «6» السود منها صفر» .
وجاء منها فى وصف الوتر:
«فلمّا توسّطوا تلك الروضه، وانشروا فى أكناف «7» تلك الغيضه؛ وثبتت للرّمى أقدامهم، وشخصت للطير أبصارهم؛ وتروها «8» بكل وتر فوق «9» سهمه منه، وهو مفارق للسهم وخارج عنه؛ مضاعف عليها من وترين، كأنّه شخص ذو جسدين، أو عناق «10» ضمّ(10/326)
ضجيعين؛ فى وسطه عين كشرجة كيس مختوم، أو سرّة بطن خميص مهضوم؛ تروع قلب الطير بالإنباض، وتصيب منها مواقع الأغراض» .
وقال ضياء الدين بن الأثير الجزرىّ من رسالة فى وصف القسىّ. وذكر الرّماة، جاء منها:
«وإذا تناولوها بأيديهم قلت: أهلّة طالعة فى أكفّ أقمار، وإذا مثّل غناؤها وغناؤهم قلت: منايا مسوقة «1» فى أيدى أقدار؛ وتلك قسىّ وضعت للّعب لا للنّضال، ولردى الطير لا لردى الرجال. فإذا نعتها ناعت قال: إنها جمعت بين وصفى اللين والصلابه، وصيغت من نوعين «2» غريبين فحازت معنى الغرابه؛ فهى مركّبة من حيوان ونبات، مؤلّفة منهما [على «3» ] بعد الشّتات؛ هذا من سكان البحر وسواحله، وهذا من سكان البرّ ومجاهله. ومن صفاتها أنها لا تتمكّن من البطش إلا حين تشدّ، ولا تنطلق فى شأنها إلا حين تعطف وتردّ. ولها بنات أحكم تصويرها، وصحّح تدويرها؛ فهى فى لونها صندليّة الإهاب، وكأنها صيغت لقوّتها من حجر لا من تراب؛ فإذا «4» حذفها نحو الأطيار [أحد «5» ] ، قيل: وتصعد من الأرض من جبال فيها من برد، فلا ترى حينئذ إلا قتيلا بالمقتل الذى لا يجب فى مثله من قود؛ فهى كافلة من تلك الأطيار بقبض نفوسها، ومنزلة لها من السماء على أمّ رءوسها» .(10/327)
ومن إنشاء المولى الفاضل شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبى الكاتب- أمتع الله ببقائه، وزاد فى علوّه وارتقائه- رسالة فى رمى البندق، وصف فيها الرّماة، ومواضع الرّمى ووقته، والقسىّ، وأفعال الرّماة، وجميع طير الواجب «1» ، لم أقف فيما طالعته لمتقدّم ولا متأخّر [على «2» ] أجمع لهذا الفن منها؛ وهى مما يستعين بها الكاتب على إنشاء ما يقصده من قدم «3» البندق فى أى نوع أراد من طير الواجب. وقد أوردتها بجملتها؛ لحسن التئامها، واتّساق نظامها؛ وجودة ترتيبها، وبديع تهذيبها. وهى:
«الرّياضة- أطال الله بقاء الجناب الفلانىّ، وجعل حبّه كقلب عدوّه واجبا، وسعده كوصف عبده للمسارّ جالبا وللمضارّ حاجبا- تبعث النفس على مجانبة الدّعة والسكون، وتصونها عن مشابهة الحمائم فى الرّكون إلى الوكون «4» ؛ وتحضّها على أخذ حظّها من كلّ فنّ حسن، وتحثّها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللّسن؛ وتأخذ بها طورا فى الجدّ وطورا فى اللّعب، وتصرّفها فى ملاذّ السموّ فى المشاقّ التى يستروح إليها التّعب؛ فتارة تحمل الأكابر والعظماء فى طلب الصيد على مواصلة السّرى، ومقاطعة الكرى؛ ومهاجرة الأوطار، ومهاجمة الأخطار؛ ومكابدة الهواجر «5» ،(10/328)
ومبادرة الأوابد التى لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر؛ وذلك من محاسن أوصافهم التى يذمّ المعرض عنها، وإذا كان المقصود من مثلهم جدّ الحرب فهذه صورة لعب يخرج إليها منها؛ وتارة تدعوهم إلى البروز إلى الملق «1» ، وتحدوهم فى سلوك طريقها مع من هو دونهم على ملازمة الصدق ومجانبة الملق؛ فيعتسفون إليها الدّجى، إذا سجى؛ ويقتحمون فى بلوغها حرق «2» النهار، إذا انهار؛ ويتنعّمون بوعثاء السفر، فى بلوغ الظّفر؛ ويستصغرون ركوب الخطر، فى إدراك الوطر؛ ويؤثرون السهر على النوم، والليلة على اليوم؛ والبندق على السهام، والوحدة على الالتئام.
ولمّا عدنا من الصيد الذى اتّصل بعلمه حديثه، وشرح له قديم أمره وحديثه؛ تقنا إلى أن نشفع صيد السّوانح برمى الصوادح، وأن نفعل فى الطير الجوانح بأهلّة القسىّ ما تفعل الجوارح؛ تفضيلا لملازمة الارتحال، على الإقامة فى الرّحال «3» ؛ وأخذا بقولهم:
لا يصلح النفس إذ كانت مدبّرة ... إلّا التّنقّل من حال إلى حال
فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها، وتسير من الأفق الغربىّ إلى جانب رمسها؛ وتغازل عيون النّوّار بمقلة أرمد، وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض الى وجوه العوّد؛ فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق، أو عليل يقضى بين صحبه بقايا مدّة الرّمق؛ وقد اخضلّت عيون النّور لوداعها، وهمّ الروض بخلع «4» حلّته المموّهة بذهب شعاعها.(10/329)
والطلّ فى أعين النّوّار تحسبه ... دمعا تحيّر لم يرقأ ولم يكف
كلؤلؤ ظلّ عطف الغصن متّشحا ... بعقده وتبدّى منه فى شنف «1»
يضمّ من سندس الأوراق فى صرر ... خضر ويخبا من الأزهار فى صدف
والشمس فى طفل الإمساء تنظر من ... طرف غدا وهو من خوف الفراق خفى
كعاشق سار عن أحبابه وهفا ... به الهوى فتراءاهم على شرف
إلى أن نضا المغرب عن الأفق ذهب قلائدها، وعوّضه عنها من النجوم بخدمها وولائدها «2» ؛ فلبثنا بعد أداء الفرض لبث الأهلّه، ومنعنا جفوننا أن ترد النوم إلّا تحلّه؛ ونهضنا وبرد الليل موشّع «3» ، وعقده مرصّع؛ وإكليله مجوهر، وأديمه معنبر «4» ؛ وبدره فى خدر سراره مستكنّ، وفجره فى حشى مطالعه مستجنّ؛ كأنّ امتزاج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل، وكأنّ ثريّاه لامتداده معلقة بأمراس كتّان إلى صمّ جندل.
ولاحت نجوم الليل زهرا كأنّها ... عقود على خود «5» من الزّنج تنظم
محلّقة فى الجوّ تحسب أنها ... طيور على نهر المجرّة حوّم
إذا لاح بازى الصبح ولّت يؤمّها «6» ... إلى الغرب خوفا منه نسر ومرزم(10/330)
إلى حدائق ملتفّه، وجداول محتفّه؛ إذا جمّش النسيم غصونها اعتنقت اعتناق الأحباب، وإذا فرك من المياه متونها انسابت فى الجداول انسياب الحباب «1» ، ورقصت فى المناهل رقص الحباب «2» ؛ وإن لثم ثغور نورها حيّته بأنفاس المعشوق، وإن أيقظ نواعس ورقها غنّته بألحان المشوق؛ فنسيمها وان، وشميمها لعرف الجنان عنوان، ووردها من سهر نرجسها غيران، وطلّها فى خدود الورد منبثّ «3» وفى طرر الريحان حيران؛ وطائرها غرد، وماؤها مطّرد؛ وغصنها تارة يعطفه النسيم اليه فينعطف، وتارة يعتدل تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف؛ مع ما فى تلك الرياض من توافق المحاسن وتباين الترتيب؛ إذ كلّما اعتلّ النسيم صحّ الأرج وكلّما خرّ الماء شمخ القضيب.
فكأنّما تلك الغصون إذا ثنت ... أعطافها رسل «4» الصّبا أحباب
فلها إذا افترقت من استعطافها ... صلح ومن سجع الحمام عتاب
وكأنّها حول العيون موائسا ... شرب وهاتيك المياه شراب
فغديرها كأس وعذب نطافها «5» ... راح وأضواء النجوم حباب
تحيط بملق نطافها صاف، وظلال دوحها ضاف، وحصاها لصفاء مائها فى نفس الأمر راكد وفى رأى العين طاف؛ إذا دغدغها «6» النسيم حسبت ماءها بتمايل الظّلال فيه يتبرّج ويميل؛ وإذا اطّردت عليه أنفاس الصّبا ظننت أفياء تلك الغصون(10/331)
فيه تارة تتموّج وتارة تسيل؛ فكأنّه محبّ هام بالغصون هوى فمثّلها فى قلبه، وكأنّ النسيم كلف بها غار من دنوّها إليه فميّلها عن قربه.
والسّرو مثل عرائس ... لفّت عليهنّ الملاء
شمّرن فضل الأزر عن ... سوق خلاخلهنّ ماء
والنهر كالمرآة تب ... صر وجهها فيه السماء
وكأنّ صوافّ «1» الطير المبيضة بتلك الملق خيام، أو ظباء بأعلى الرّقمتين قيام، أو أباريق فضّة رءوسها لها فدام «2» ، ومناقيرها المحمّرة أوائل ما انسكب من المدام؛ وكأنّ رقابها «3» رماح أسنّتها من ذهب، أو شموع أسود رءوسها ما انطفأ وأحمره ما التهب. وكنّا كالطير الجليل عدّه، وكطراز العمر الأوّل جدّه.
من كلّ أبلج كالنّسيم لطافة ... عفّ الضّمير مهذّب الأخلاق
مثل البدور ملاحة وكعمرها ... عددّا ومثل الشّمس فى الإشراق
ومعهم قسىّ كالغصون فى لطافتها ولينها، والأهلّة فى نحافتها وتكوينها، والأزاهر فى ترافتها وتلوينها؛ بطونها مدبّجه، ومتونها مدرّجه؛ كأنّها الشّولّة «4» فى انعطافها، أو أرواق الظّباء «5» فى التفافها؛ لأوتارها عند القوادم أوتار «6» ، ولبنادقها(10/332)
فى الحواصل أوكار؛ إذا انتصبت لطير ذهب من الحياة نصيبه، وإن أنبضت «1» لرمى بدا «2» لها أنها أحقّ به ممّن يصيبه. ولعل ذاك الصّوت زجر لبندقها أن يبطئ فى سيره، أو يتخطّى الغرض إلى غيره؛ أو وحشة لمفارقة أفلاذ «3» كبدها، أو أسف على خروج بنيها عن يدها؛ على أنها طالما نبذت بنيها بالعراء، وشفعت لخصمها التحذير بالإغراء.
مثل العقارب أذنابا معقّدة ... لمن تأمّلها أو حقّق النّظرا
إن مدّها قمر منهم وعاينه ... مسافر الطير فيها أو نوى «4» سفرا
فهو المسىء اختيارا إذ نوى سفرا ... وقد رأى طالعا فى العقرب القمرا
ومن البنادق كرات متّفقة السّرد، متّحدة العكس والطّرد؛ كأنّما خرطت من المندل «5» الرّطب أو عجنت من العنبر الورد؛ تسرى كالشّهب فى الظلام، وتسبق إلى مقاتل الطير مسدّدات السّهام.
مثل النجوم إذا ما سرن فى أفق ... عن الأهلّة لكن نونها راء «6»
ما فاتها من نجوم اللّيل إن رمقت ... إلّا ثبات «7» يرى فيها وأضواء(10/333)
تسرى ولا يشعر الليل البهيم بها ... كأنّها فى جفون الليل إغفاء
وتسمع الطير إذ تهفو قوادمه ... خوافقا فى الدّياجى وهى صمّاء
تصونها جرأوة «1» كأنّها جرج «2» درر، أو درج غرر، أو كمامة ثمر؛ أو كنانة نبل، أو غمامة وبل؛ حالكة الأديم، كأنّما رقمت بالشّفق حلّة ليلها البهيم.
كأنّها فى وصفها مشرق ... تنبثّ منه «3» فى الدّجى الأنجم
أو ديمة قد أطلعت قوسها ... ملوّنا وانبثقت تسجم
فاتخذ كلّ له مركزا، وتقاضى من الإصابة وعدا منجزا، وضمن له السعد أن يصبح لمراده محرزا.
كأنّهم فى يمن أفعالهم ... فى نظر المنصف والجاحد
قد ولدوا فى طالع واحد ... وأشرقوا فى مطلع واحد
فسرت علينا من الطير عصابه، أظلّتنا من أجنحتها سحابه؛ من كلّ طائر أقلع يرتاد مرتعا، فوجد ولكن مصرعا، وأسفّ «4» يبغى ماء جماما فورد ولكن السمّ منقعا، وحلّق فى الفضاء يبتغى ملعبا فبات هو وأشياعه سجّدا للقسىّ وركّعا؛ فتبرّكنا بذلك الوجه الجميل، وتداركنا أوائل ذلك القبيل.(10/334)
فاستقبل أوّلنا «تمّا» «1» تمّ بدره، وعظم فى نوعه قدره؛ كأنه برق كرع فى غسق؛ أو صبح عطف على بقيّة الدّجى «2» عطف النّسق؛ تحسبه فى أسداف المنى غرّة نجح، وتخاله تحت أذيال الدّجى طرّة صبح؛ عليه من البياض حلّة وقار، وله كرة من عنبر فوق منقار من قار. له عنق ظليم، والتفاتة ريم، وسرى غيم يصرّفه نسيم.
كلون المشيب وعصر الشّباب ... ووقت الوصال ويوم الظّفر
كأنّ الدّجى غار من لونه ... فأمسك منقاره ثم فرّ
فأرسل إليه عن الهلال نجما، فسقط منه ما كبر بما صغر حجما؛ فاستبشر بنجاحه، وكبّر عند صياحه، وحصّله من وسط الماء بجناحه.
وتلاه «كىّ «3» » نقىّ اللّباس، مشتعل شيب الراس، كأنّه فى عرانين شيبه لاوبله كبير أناس «4» ؛ إن أسفّ فى طيرانه فغمام، وإن خفق بجناحه فقلع له بيد النّسيم زمام؛ ذو غببة «5» كالجراب ومنقار كالحراب، ولون يغرّ فى الدّجى كالنّجم ويخدع فى الضّحى كالسّراب؛ ظاهر الهرم، كأنّما يخبر عن عاد ويحدّث عن إرم.
إن عام فى زرق الغدير حسبته ... مبيضّ غيم فى أديم سماء(10/335)
أوطار فى أفق السماء ظننته ... فى الجوّ شيخا عائما فى ماء
متناقض الأوصاف فيه خفّة ال ... جهّال تحت رزانة العلماء
فثنى الثانى إليه عنان بندقه، وتوخّاه فيما بين رأسه وعنقه، فخرّ كمارد انقضّ عليه نجم من أفقه؛ فتلقّاه الكبير بالتكبير، واختطفه قبل مصافحته الماء من وجه الغدير.
وقارنته «إوزّة» حلّتها دكناء، وحليتها حسناء؛ لها فى الفضاء مجال، وعلى طيرانها خفّة ذوات التبرّج وخفر ربّات الحجال؛ كأنّما عبّت فى ذهب، أو خاضت فى لهب؛ تختال فى مشيتها كالكاعب، وتتأنّى فى خطوها كاللّاعب «1» ؛ وتعطو بجيدها كالظّبى الغرير، وتتدافع فى سيرها مشى القطاة إلى الغدير.
إذا أقبلت تمشى فخطرة كاعب ... رداح «2» وإن صاحت فصولة حازم «3»
وإن أقلعت قالت لها الريح ليت لى ... خفا ذى الخوافى أو قوى ذى القوادم
فأنعم بها فى البعد زاد مسافر ... وأحسن بها فى القرب تحفة قادم
فلوى الثالث جيده إليها، وعطف بوجه قوسه عليها؛ فلجّت فى ترفّعها ممعنه، ثم نزلت على حكمه مذعنه؛ فأعجلها عن استكمال الهبوط، واستولى عليها بعد استمرار القنوط.(10/336)
وحاذتها «لغلغة» تحكى لون وشيها، وتصف حسن مشيها؛ وتربى عليها بغرّتها، وتنافسها فى المحاسن كضرّتها؛ كأنّها مدامة قطبت «1» بمائها، أو غمامة شفّت عن بعض نجوم سمائها.
بغرّة بيضاء ميمونة ... تشرق فى اللّيل كبدر التّمام
وإن تبدّت فى الضّحى خلتها ... فى الحلّة الدّكناء برق الغمام
فنهض الرابع لاستقبالها، ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها؛ فجدّت فى العلوّ مغذّه «2» ، وتطاردت أمام بندقه ولولا طراد الصّيد لم تك لذّه؛ وانقضّ عليها من يده شهاب حتفها، وأدركها الأجل لخفّة «3» طيرانها من خلفها؛ فوقعت من الأفق فى كفّه، ونفر «4» ما فى بقايا صفّها عن صفّه.
وأتت فى أثرها «أنيسة» آنسه، كأنها العذراء العانسه، أو الأدماء الكانسه «5» ؛ عليها خفر الأبكار، [وخفّة ذوات الأوكار «6» ] وحلاوة المعانى التى تجلى على الأفكار؛ ولها أنس الرّبيب، وإدلال الحبيب، وتلفّت الزائر المريب، من خوف الرّقيب؛ ذات عنق كالإبريق، أو الغصن الوريق، قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشّقيق؛ وصدر بهىّ الملبوس، شهىّ إلى النّفوس، كأنّما رقم فيه النّهار بالليل أو نقش فيه العاج بالآبنوس «7» ؛ وجناح ينجيها من العطب، يحكى لونه المندل الرّطب إلّا «8» أنّه حطب.
مدبّجة الصدر تفويفه ... أضاف إلى اللّيل ضوء النهار
لها عنق خاله من رآه ... شقائق قد سيّجت «9» بالبهار(10/337)
فوثب الخامس منها «1» إلى الغنيمه، ونظم فى سلك رميه تلك الدّرّة اليتيمة «2» ؛ وحصل بتحصيلها بين الرّماة على الرتبة الجسيمه.
وأتى على صوتها «حبرج» تسبق همّته جناحه، ويغلب خفق قوادمه صياحه؛ مدبّج المطا، كأنما خلع حلّة منكبيه على القطا؛ ينظر من لهب، ويخطو على رجلين من ذهب.
يزور الرّياض ويجفو الحياض ... ويشبه فى اللّون كدر القطا
ويهوى الزّروع ويلهو بها ... ولا يرد الماء إلا خطا
فبدره السادس قبل ارتفاعه، وأعان قوسه بامتداد باعه؛ فخرّ على الألاءة «3» كبسطام بن قيس «4» ، وانقضّ عليه راميه فخصله «5» بحذق وحمله بكيس.
وتعذّر على السابع مرامه، ونبا به عن بلوغ الأرب مقامه؛ فصعد هو وترب له إلى جبل، وثبت فى موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل. فعنّ له «نسر» ذو قوادم شداد، ومناسر حداد، كأنه من نسور لقمان بن عاد؛ تحسبه فى السماء ثالث أخويه، وتخاله فى الفضاء قبّته المنسوبة إليه؛ قد حلق كالفقراء راسه، وجعل ممّا قصر من الدّلوق الدّكن لباسه؛ واشتمل من الرّياش العسلىّ إزارا، واختار(10/338)
العزلة فلا يجد له إلّا فى قنن الجبال الشواهق مزارا؛ قد شابت نواصى الليالى وهو لم يشب، ومضت الدهور وهو من الحوادث فى معقل أشب.
مليك طيور الأرض شرقا ومغربا ... وفى الأفق الأعلى له أخوان
له حال فتّاك وحلية ناسك ... وإسراع مقدام وفترة وان
فدنا من مطاره، وتوخّى ببندقه عنقه فوقع فى منقاره؛ فكأنما هدّ منه صخرا، أو هدم بناء مشمخرّا؛ ونظر إلى رفيقه، مبشرا له بما امتاز به عن فريقه.
وإذا به قد أظلّته «عقاب» كاسر، كأنما أضلّت صيدا أفلت من المناسر؛ إن حطّت فسحاب انكشف، وإن قامت «1» فكأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العنّاب والحشف؛ بعيدة ما بين المناكب، إذا أقلعت لجّت فى علوّ كأنّما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب.
ترى الطير والوحش فى كفّها ... ومنقارها ذا عظام مزاله
فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمّت غزاله
فوثب إليها الثامن وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها، ورماها بأوّل بندقة فما أخطأ قادمة جناحها؛ فأهوت كعود صرع، أو طود صدع؛ قد ذهب باسها، وتذهّب بدمها لباسها؛ وكذلك القدر يخادع الجوّ عن عقابه، ويستنزل الأعصم «2» من عقابه؛ فحملها بجناحها المهيض «3» ، ورفعها بعد الترفّع فى أوج جوّها من الحضيض؛ ونزلا إلى الرّفقه، جذلين بربح الصّفقه.(10/339)
فوجد التاسع قد مرّ به «كركىّ» طويل السّفار، سريع التّفار؛ شهىّ الفراق»
، كثير الاغتراب يشتو بمصر ويصيف بالعراق؛ لقوادمه فى الجوّ هفيف «2» ، ولأديمه لون سماء طرأ عليها غيم خفيف؛ تحنّ إلى صوته الجوارح، وتعجب من قوّته الرّياح البوارح؛ له أثر حمرة فى رأسه كوميض جمر تحت رماد، أو بقيّة جرح تحت ضماد؛ أو فصّ عقيق شفّت عنه بقايا ثماد؛ ذو منقار كسنان، وعنق كعنان «3» ؛ كأنّما ينوس، على عودين من آبنوس «4» .
إذا بدا فى أفق مقلعا ... والجوّ كالماء تفاويفه
حسبته فى لجّة مركبا ... رجلاه فى الأفق مجاديفه
فصبر له حتى جازه «5» مجليّا، وعطف عليه مصلّيا؛ فخرّ مضرّجا بدمه، وسقط مشرفا على عدمه. وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون، وأصابه القدر بحبة من حمأ مسنون؛ فكثر «6» التكبير من أجله، وحمله راميه من على وجه الأرض برجله.
وحاذاه «غرنوق» حكاه فى زيّه وقدره، وامتاز عنه بسواد رأسه وصدره؛ له ريشتان ممدودتان من رأسه إلى خلفه، معقودتان من أذنيه مكان شنفه.
له من الكركىّ أوصافه ... سوى سواد الصدر والرّاس
إن شال رجلا وانبرى قائما ... ألفيته هيئة برجاس(10/340)
فأصغى العاشر له منصتا، ورماه ملتفتا؛ فخرّ كأنّه صريع الألحان، أو نزيف «1» بنت الحان؛ فأهوى إلى رجله بيده وأيده «2» ، وانقضّ عليه انقضاض الكاسر على صيده.
وتبعه فى المطار «صوغ «3» » ، كأنّه من النّضار مصوغ؛ تحسبه عاشقا قد مدّ صفحته، أو بارقا قد بثّ لفحته.
طويلة رجلاه مسودّة ... كأنّما منقاره خنجر
مثل عجوز رأسها أشمط ... جاءت وفى قمّتها «4» معجر «5»
فاستقبله الحادى عشر ووثب، ورماه حين حاذاه من كثب؛ فسقط كفارس تقطّر عن جواده، أو وامق أصيبت حبّة فؤاده؛ فحمله بساقه، وعدل به إلى رفاقه.
واقترن به «مرزم» له فى السماء سمىّ معروف، ذو منقار كصدغ «6» معطوف؛ كأنّ رياشه فلق «7» اتّصل به شفق، أو ماء صاف علق بأطرافه علق.
له جسم من الثّلج ... على رجلين من نار
إذا أقلع ليلا قل ... ت برق فى الدّجى سارى(10/341)
فانتحاه الثانى عشر ميمّما، ورماه مصمّما؛ فأصابه فى زوره، وحصّله من فوره، وحصل له من السرور ما خرج به عن طوره.
والتحق به «شبيطر «1» » كأنه مدية مبيطر «2» ؛ ينحطّ كالسيل ويكرّ على الكواسر كالخيل، ويجمع من لونه بين ضدّين يقبل منهما بالنهار ويدبر بالليل؛ يتلوّى فى منقاره الأيم «3» ، تلوّى التّنّين فى الغيم.
تراه فى الجوّ ممتدّا وفى فمه ... من الأفاعى شجاع أرقم ذكر
كأنه قوس رام عنقه يدها ... ورأسه رأسها والحيّة الوتر
فصوّب الثالث عشر إليه ببندقه، فقطع لحيه «4» وعنقه؛ فوقع كالصّرح الممرّد، أو الطّراف «5» الممدّد.
واتّبعه «عنّاز «6» » أصبح فى اللّون ضدّه، وفى الشكل ندّه؛ كأنه ليل ضمّ الصبح إلى صدره، أو انطوى على هالة بدره.
تراه فى الجوّ عند الصبح حين بدا ... مسودّ أجنحة مبيضّ حيزوم
كأسود حبشىّ عام فى نهر ... وضمّ فى صدره طفلا من الرّوم(10/342)
فنهض تمام القوم إلى التّتمّه، وأسفرت عن نجح الجماعة تلك الليلة المدلهمّه؛ وغدا ذلك الطير الواجب واجبا «1» ، وكمل العدد به قبل أن تطلع الشمس عينا أو تبرز حاجبا؛ فيالها ليلة حصرنا بها الصوادح فى الفضاء المتّسع، ولقيت فيها الطير ما طارت به من قبل على كلّ شمل مجتمع؛ وأضحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النّظام، أو شرب كأنّ رقابهم من اللّين لم يخلق لهنّ عظام؛ وأصبحنا مثنين على مقامنا، منثنين بالظّفر إلى مستقرّنا ومقامنا؛ داعين للمولى جهدنا، مذعنين له قبلنا أو ردّنا؛ حاملين ما صرعنا الى بين يديه، عاملين على التشرّف بخدمته والانتماء إليه.
فأنت الذى لم يلف من لا يودّه ... ويدعو له فى السرّ أو يدّعى له
فإن كان رمى أنت توضح طرقه ... وإن كان جيش أنت تحمى رعيله «2»
والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل، ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل.
ومن إنشاء المولى علاء «3» الدّين علىّ بن عبد الظاهر [فى] قدمة بندق.
ابتدأها بأن قال: «الحمد لله مهيّئ أسباب الارتياح، ومهنّئ أوقات الانشراح، ومطلق الأيدى فى الاقتناص فليس عليها فى صيد ذوات الجناح جناح؛(10/343)
ومزيّن السماء بمصابيح «1» أنوارها، وموشّى الأرض بروضها ونوّارها؛ ومنوّر الأيام بشموسها والليالى بأقمارها، ومطرّز مطارف الآفاق بمطار أطيارها. والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله وصحبه الذين أنجدهم الله من ملائكته بأولى أجنحه، وأهوى بصرائعهم «2» وأوهى قوى ممانعهم بعزائمهم المنجحه.
وبعد، فإنّ القنص شغفت به قلوب ذوى العزائم؛ وصيّرته عنوانا للحرب إذ حمام الحمام فيه على الفرائس حوائم؛ تلتذّ نفوسهم بالمطاردة فيه وترتاح، وتهواه فلو تمكنت لركبت اليه أعناق الرياح؛ ترد منه مورد الظّفر، وتتمتّع فيه بنزه تقسّم الحسن فيهن بين السمع والبصر، وتتملّى عند السرور إليه برياض دبّجها صوب من المطر لا صوب من الفكر، ويطوى من الأرض ما نشرت أيدى السماء به برودا أبهى من الحبر «3» ؛ فتارة تستنزل من العواصم الظباء العواصى، وآونة تقتنص الطير وقد تحصّنت من بروج السّحب فى الصّياصى «4» ببعوثها الدّانية من كلّ قاصى. وأحسن أنواعه الذى جمع لمعاينه بين روضة ورياضه، وغدر مفاضه؛ ومغازلة عيون النّور وهى تدمع حين طرفها بذيله نسيم الصباح، ومباكرة اللذّات من قبل أن ترشف شمس الضحى ريق الغوادى من ثغور الأقاح؛ رمى البندق الذى هو عقلة المستوفز «5» ، وانتهاز غفلة الطائر المتحرّز؛ ونزهة القلوب التى إن طالت لا تملّ؛ وإن اجتاز المتنزّه بموطنها لم يؤجر «6» . أحلى من صيد الظباء، وأشهى من لمح ملح الحسناء؛(10/344)
لا يحتاج إلى ركض جواد، ولا يجتاح فيه خفض العيش جواد «1» ، ولا يهاجر متعاطيه إلى الهواجر، ولا يحجر على نفسه فى الإفضاء إلى المحاجر «2» ؛ أربابه يرتاضون فى الروضة الغنّاء، ويسمعون من نغمات الأوتار وشدو الأطيار مختلف الألحان والغناء؛ ويمتطون الليل طرفا، ويستنيرون من النجوم شموعا لا تقطّ ولا تطفا؛ قد اتخذ كل منهم مقاما أكرم به من مقام، وهام باللذة فترك كرائم كراه وكذا عادة المستهام؛ وسبح فى لجج الليل وكرع فى نهر النهار، وتجلّى فى حلل الصدق وتخلى عن خلل العار.
يهوون لذّة القنص فى الليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفّس، ويرسلون رسل المنايا إلى صرائعهم فما تتنفّس. إذا برزوا عند الغروب توارت شمس الأصيل حياء، وذهبت فى حلّتها الذهبيّة حين بهروها سنا وسناء؛ تراهم كالزّهر أو الأزهار، أو عقد نظم باللّجين والزّمرّد والنّضار؛ أوجههم فى أفلاك قسيّهم أقمار، كولدان جنان، وأعطاف أغصان؛ قد طاف بهم سياج المسرّة وأحدق، وحلّوا بثياب سندس خضر وإستبرق؛ كأنّ الأرض ضاهت بهم السماء، فصيّرت قسيّهم أفلاكها، وغررهم نجومها، وعزائمهم صواعقها وبنادقهم رجومها؛ يخفق منهم قلب كلّ خافقه، وتقدم بعوثهم على ذوات القوادم فبينا هى مترافقة إذا بها متفارقه، وكأن صوافّ الطير لديهم فى جوّ السماء، سطور فى صفيحة زرقاء؛ أو كأنها فى التئامها، عقود درّ فى نظامها؛ يفرطون سلكها، ويقرّبون هلكها، ويغدرون بها فى الغدر، ويجسرون عليها فى الجسور، وتقايض بنادقهم صرائعهم فيصير وكر الطير الجراوة وجراوة البنادق حواصل الطيور. وإذا أسفروا وجه صباح، سمعت للطير صياحا والطرب كلّه فى ذلك الصياح؛ وإن عشوا مقاماتهم وجه عشاء رأيت الطير وهى لدى محاريب(10/345)
قسيّهم وهى سجود وركّع، طرائح من بيض وسود كأنّ أديم الأرض منهنّ أبقع.
وإن تعلّقوا بأذيال الليل وسجفه، وباتوا فى عطفه؛ احتمى منهم بشهبه، وتستّر فى حجبه؛ وتوارى عنهم البدر بذيل الغمام، وهال هالته أن تبدو لقسيّهم الموتّرة بالحمام.
إلى غير ذلك مما التزموه من محاسن أوصاف وأوصاف محاسن، ووردوه من مناهل مصافاة ماؤها غير آسن، ووجدوه من طيب عيش ما لانوا معه ولا استكانوا إلى المساكن؛ وحفظوه من صناعتهم من شروط وأوضاع، ووقفوا فى مقاماتهم من مطيع ومطاع؛ يرعون قدر كبيرهم، ولا يراع بينهم قلب صغيرهم؛ ويتناصفون فى أحكامهم، فالحكم واحد على آمرهم ومأمورهم. إن تفرّقوا فهم على قلب رجل واحد، وإن اختلفت منهم المقاعد فقد اتفقت منهم المقاصد. ما خلا جوّهم من واجب الطاعه، ولا علا بينهم كبير إلّا بذلوا فى خدمته جهد الاستطاعة؛ وأضحوا وأمرهم عليهم محتوم، وأمسوا وما فيهم إلا من له مقام معلوم؛ بأيديهم قسىّ قاسيه، قضبانها قاضيه؛ منعطفة جافيه، بعوثها فى الخوافى خافيه؛ تمثّلها الأفكار فى ساحة الفضاء، كزوارق مبثوثة فى لجّة الماء. وكيف لا! وهى تحمل المنايا إلى الطير، وإن لم تكن سائرة فلها بعوث سريعة السير؛ كأنّ صانعها قصد وضعها كالأهلّة واقترح، أو حكى بمدبّج أثوابها قوس قزح؛ وكأن ظهرها «1» وقد تنوّعت به من الغروز مدارجه، مدر سحيق ورس دبّ عليه من النمل دارجه؛ إذا حطّت عنها أوتارها كانت عصا لربّها فيها مآرب ومغانم، يوجس الطير فى نفسه منها خيفة وكيف لا! وهى فى شكل الأراقم؛ متضادّة تجفو وتلين، موتورة وغيرها حزين؛ تضمّها أنامل(10/346)
من يسراهم هى أيمن من يمين عرابة «1» بن أوس، ويطلع كلّ منهم فى فلكها والطّالع القمر فى القوس؛ لا تعتصم منها الطّرائد بالخباء فى وكر الدّجنّه، ولا يخفيها اتخاذها الظّلماء جنّه؛ ولا يوقّيها نزقها، ولا ينقيها «2» ملقها ولا تنجح بخفق الجناح، ولا تستروح بمساعدة الرياح؛ لها بنادق كأنها حبات القلوب لونا، وأشكال العقود كونا؛ كأنما صبغت من ليل وصيغت من شهب، أو صنعت من أديم للسّحب؛ تفرد من الطير التّؤام، وتجمع بين روحها والحمام؛ قد تحاماها النّسران فاتخذا السماء وكرا، واتفقا أن يصبحا شفعا ويمسيا وترا؛ تقبض منها الأيدى عند إطلاقها رائحة رابحه، جارحة من الطير كلّ جارحه، لا ترى صادحة إلا صيّرتها صائحه. قلب كلّ طير منها طائر، وكيف لا وهى للسّهام ضرائر؛ تضرم النار لإشواء الطّريدة قبل مفارقتها للأوتار، وتقتنص من الجوارح كلّ مستخف بالليل وسارب بالنّهار؛ تهيج كامن الغنيمة وتستثير، وتبدو كأنما عجنت من صندل وعبير.
ولما كان من هو واسطة عقد هذه الأوصاف، والرافل فى برودها الموشيّة للأطراف؛ والمبدع فى فنّه، والجامع بين فضيلة الرمى وحسنه؛ والمستنطق لسان قومه بالإحسان، والحافظ شروطه فى طهارة العرض وصدق اللسان؛ والرامى الذى(10/347)
بلغ بهمّته غاية المرام، وضاهى ببندقه السّهام؛ وكان يوم كذا وكذا خرج إلى برزته المباركة وصرع طيرين فى وجه واحد، وأبان عن حسن الرمى وسداد الساعد؛ وأضحى بينهما كثيرا بين قومه، وجعلهما لهم وليمة فى يومه؛ وهما «تمّ» كأنما صيغ «1» من فضّه، أو تدرّع من النهار حلّة مبيضّه؛ أو غاير بياضه الليل فلطم وجهه بيد ظلمائه، فاقتصّ منه وخاض فى أحشائه؛ لجناحه هفيف فى المطار، تسمع منه نغمة الأوتار. و «لغلغة» كأنها كوّنت من شقيق وغمام، أو مزج لونها بماء ومدام؛ لها غرّة لو بدت فى الليل خلتها بدرا، وإن أسفرت عند الصباح حسبتها فجرا؛ وحملها فلان وفلان، وقطع شبقه «2» فلان وادّعى لفلان؛ وعاد الرامى قرير العين، مملوء اليدين؛ إذا فخر غيره بواحدة فخر بآثنتين؛ معظّما بين أترابه، مكرّما لدى أحبابه؛ ألبسه الله من السرور أزهى أثوابه. بمنّه وكرمه.
ومما ورد فى وصف الجلاهق نظما
- قال أبو الفرج الببغّاء يصفها:
ومرنان «3» معبّسة ضحوك ... مهذّبة الطبائع والكيان
مغالبة وليس بها حراك ... وباطشة وليس لها يدان
لها فى الجارح النّسب المعلّى ... وإن هى خالفته فى المعانى
تطير مع البزاة بلا جناح ... فتسبقها إلى قصب الرّهان
وتدرك ما تشاء بغير رجل ... ولا باع يطول ولا بنان
وتلحظ ما يكلّ الطرف عنه ... بلا نظر يصحّ ولا عيان
لها عضوان من عصب ولحم «4» ... وسائر جسمها من خيزران(10/348)
يخاطب فى الهواء الطير منها ... بلفظ ليس يصدر عن لسان
فإن لم تصغ أردتها بطعن ... ينوب الطين فيه عن السّنان
مقرطقة ممنطقة خلوب ... مهفهفة مخفّفة الجران
مذكّرة مؤنّثة تهادى ... من الأصباغ فى حلل القيان
معمّرة تزايد كلّ يوم ... شبيبتها على مرّ الزمان
كأنّ الله ضمّنها فبانت ... لنا فى الرّزق عن أوفى ضمان
أعزّ على العيون من المآقى ... وأحلى فى النفوس من الأمانى
إذا ما استوطنت يوما مكانا ... تولّى الجدب عن ذاك المكان
وقال أبو الفتح كشاجم:
وثيقة مدمجة الأوصل ... محنّية عوجاء كالهلال
تعود إن شئت إلى اعتدال ... باطنها «1» لعاقل الأوعال
والظهر منها لقنا الأبطال ... يجمعها أسمر ذو انفتال
فى وسطه من صنعة المحتال ... مثال عين غير ذى احولال
تقذى «2» بصدفات من الصّلصال ... أمضى من السّهام والنّبال
قذى يقرّ أعين الآمال ... فاقعة الصّفرة كالجريال «3»
رخيصة تغنم كلّ غال ... تؤمن منها ونية الكلال
تعول فى الجدب وفى الإمحال ... وقد يكون الصّقر كالعيال(10/349)
مطيّها عواتق «1» الرجال ... فى غلف ممدودة طوال
كم أفضلت على ذوى إفضال ... وكم أنالت من أخى نوال
وقرّبت للطّير من آجال
وقال أيضا فيها من أبيات:
وفى يسارى من الخطّىّ محكمة ... متى طلبت بها أدركت مطلوبى
للوعل باطن شطريها ومعظمها ... من عود شجراء ظمياء الأنابيب
تأنّق القين «2» فى تزيينها فغدت ... تومى بأحسن تفضيض وتذهيب
فى وسطها مقلة منها تبيّن ما ... يرمى فما مقتل «3» عنها بمحجوب
فقمت والطير قد حمّ الحمام لها ... على سبيلى فى عادى وتجويبى «4»
حتى إذا اكتحلت بالطين مقلتها ... صبّت عليهنّ حتفا جدّ مصبوب
فرحت جذلان لم تكدر مشارب ل ... ذّاتى ولم تلق آمالى بتخييب
ذكر شىء مما قيل فى سبطانة «5»
قال أبو الفرج الببّغاء:
وجوفاء حاملة تهتدى ... إلى كل قلب بمقروحه
مقوّمة القدّ ممشوقة ... مهفهفة الجسم ممسوحه(10/350)
مثقّفة فمها عينها ... تبشّر قلبى بتصحيحه
فإن هى والجارح استنهضا ... الى الصّيد عاقته عن ريحه
إذا المرء أودعها سرّه ... لتخفيه باحت بتصريحه
موات تعيش إذا ما أعاد ... لها النافخ الرّوح من روحه
هى السّبطانة فى شكلها ... ففى القلب جدّ تباريحه
تحطّ أبا الفرخ عن وكره ... وتستنزل الطير من لوحه «1»
وقال أبو طالب المأمونىّ:
مثقّفة جوفاء تحسب زانة «2» ... ولكنها لا زجّ فيها ولا نصل
تسدّد نحو الطير وهو محلّق ... فينفذ عنها للردى نحوه الرّسل
يطير إلى الطير الرّدى فى ضميرها ... فيجرى كما يجرى ويعلو كما يعلو
فيعقل ما تنجو به فكأنّما ... يمدّ إليه «3» من بنادقها حبل
ذكر شىء مما قيل فى عيدان الدّبق «4»
قال عبد الله بن المعتز فيها ملغزا:
وما رماح غير جارحات ... ولسن «5» فى الدّماء والغات
ولسن «6» للطّراد والغارات ... يخضبن لا من علق الكماة(10/351)
بريق حتف منجز العدات ... مكتمن ليس بذى إفلات «1»
ينشب فى الصدور واللّبّات ... فعل إسار «2» فلّق السّيات
على عواليها مركّبات ... أسنّة لسن موقّعات «3»
من قصب الريش مجرّدات ... يحسبن فى الهواء شائلات
أذناب جرذان منكّسات
وقال أبو الفتح كشاجم:
وآسرات مثل مأسورات ... ممكّنات غير ممكنات
مؤمّلات غير مكذبات ... صوادق التعجيل للعدات
نواظر الأشكال ذاهبات ... كواسر ولسن ضاريات
ولا بما يصدن عالمات ... بمثل ريق النحل مطليّات
أقتل من سمائم الحيّات ... لو صلحت شيئا من الآلات
ووصلت بالزّجّ والشّباة ... كانت مكان النّبل للرّماة
حوامل للطير ممسكات ... تعلّق الأحباب بالحبّات
كأنها فى النعت والصفات ... أذناب ما دقّ من الحيّات
أغدر بالورق المغرّدات ... فيها من الفتيان بالقينات
فهنّ من قتلى ومن عناة ... بلا فكاك وبلا ديات(10/352)
ذكر شى مما قيل فى الشّباك
قال السّرىّ الرّفّاء يصف شبكة:
وجدول بين حديقتين ... مطّرد مثل حسام القين
كسوته واسعة القطرين ... تنظر فى الماء بألف عين
راصدة كلّ قريب الحين ... تبرزه مجنّح الجنبين
كمدية مصقولة المتنين ... كأنما صيغ من اللّجين
وقال أبو الفرج الببّغاء يصف شبكة العصافير:
رقراقة فى السّراب تحسبها ... على الثّرى حلّة من الزّرد
كالدّرع لكنها معوّضة ... عن المسامير كثرة العقد
سائرها أعين مفتّحة ... لا ترتضى نسبة إلى جسد
ذكر ما قيل فى الشّصّ، وهو الصّنانير
- قال كاتب أندلسىّ يصفه من رسالة: «صنانير، كأظفار السّنانير؛ قد عطفها القين كالراء، وصيّرها الصّقل كالماء؛ فجاءت أحدّ من الإبر، وأرقّ من الشّعر؛ كأنها مخلب صرد «1» ، أو نصف حلقة من زرد» .
وقال أبو الفتح كشاجم:
من كان يحوى صيده الفضاء ... وللبزاة عنده ثواء
وطال بالكلب له العناء ... فإن صيدى ما حواه الماء
بمخلب ساعده رشاء ... يظلّ والماء له غطاء(10/353)
كما طوت هلالها السماء ... كأنه من الحروف راء
فهو ونصف خاتم سواء ... يحمل سمّا اسمه غذاء
وعطبا فيه لنا إحياء ... تدمى به القلوب والأحشاء
عاد إذا ساعده القضاء ... أمتعنا القريس «1» والشّواء
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم كمل الجزء التاسع «2» من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للشيخ العلامة شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب البكرى التّيمىّ القرشىّ نسبا المعروف بالنّويرى رحمه الله. ويليه الجزء العاشر «3» المتعلق بالنباتات، على يد كاتبه، فقير رحمة ربه المعين، الفقير نور الدين بن شرف الدين بن أحمد العاملىّ بلدا، الشافعىّ مذهبا، وذلك فى مستهلّ شهر رمضان المعظم قدره سنة 966 هـ.(10/354)
[مقدمة الجزء الحادي عشر]
بيان عن أصول الجزء الحادى عشر
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب
فى دار الكتب المصرية من نسخ هذا السفر نسختان كاملتان مأخوذتان بالتصوير الشمسىّ، كتبت إحداهما في شوّال سنة 966 هجرية بخط نور الدين العاملىّ، وهى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ا) ، ونسبت الأخرى الى خط المؤلّف فى جمادى الأولى سنة 922 هجرية، وهى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ب) وقطعة من نسخة أخرى مأخوذة بالتصوير الشمسىّ تبتدئ من الفنّ الرابع فى النبات صفحة 1 وتنتهى فى السطر الثامن من صفحة 138 فى الكلام على الخوخ، وقد نبهنا على ذلك فى موضعه، ولم يكتب عليها اسم كاتبها، ولا تاريخ نسخها، وهذه القطعة هى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ج) ، وليس التحريف والطمس والنقص في إحدى هذه النسخ الثلاث بأقلَّ من الأخريين، بل إن هذه النسخ تكاد تكون متفقة فى ذلك بالرغم من اختلافها فى الخط ونسبة إحداها الى خط المؤلّف، كما يتبين ذلك من مراجعة الحواشى الكثيرة التى ذيلنا بها صفحات هذا السفر. وعسى أن نكون قد وفّقنا فى تصحيحه الى ما نقصد اليه فى جميع الكتاب، من إصلاح التحريف، وتكميل الناقص، وضبط الملتبس، وتفسير الغريب، وغير ذلك من الأغراض التى بيّنّاها فى الأجزاء السابقة.(مقدمةج 11/1)
وقد تم طبع هذا السفر فى عهد من يفتخر العلم والأدب بعنايته الوافية الوافره ورعايته السامية الساهرة؛ وأياديه الجسيمه، ونعمه العظيمه، التى لا يحيط بها عدّ ولا إحصاء، ولا يقوم بحقها حمد ولا ثناء:
«مولانا صاحب الجلالة الملك فؤاد الأوّل»
أدام الله ظلّه، وأيّد ملكه، وأقرّ عينه وعين شعبه بحراسة ولىّ عهده:
«أمير الصعيد صاحب السموّ الأمير فاروق»
وفى هذا المقام نرى- عرفانا بالجميل، وتقديرا الجهود المخلصين- أننا مدينون بجزيل الثناء وعظيم الحمد لتلك العناية المشكوره، والجهود الموفّقة المبروره؛ التى بذلها ويبذلها حضرة صاحب العزة المربّى الكبير (الأستاذ محمد أسعد برادة بك) مدير دار الكتب المصرية، فقد خطت هذه الدار فى عهده الميمون خطوات واسعة فى سبيل التقدّم والرقىّ، حتى أصبح منهلها العذب أقرب موردا، والانتفاع بما فيها من الذخائر أيسر على الطالب.
كما أنه من الحقّ علينا أن نقدّم عظيم الشكر ووافر الثناء الى العالم الجليل حضرة صاحب الفضيلة (السيد محمد الببلاوى) مراقب إحياء الآداب العربية.
وإلى حضرة الأديب الفاضل (الأستاذ أحمد زكى العدوى) رئيس القسم الأدبى، على ما أسدياه الينا فى هذا العمل من الآراء القيّمة، والإرشادات السديدة.
والله نسأل أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، وأن يلهمنا السداد فيما نقول ونعمل.
مصحّحه أحمد الزين(مقدمةج 11/2)
فهرس الجزء الحادي عشر
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى
.... صفحة
الفن الرابع- فى النبات 1
القسم الأوّل- فى أصل النبات وما تختص به أرض دون 4
أرض، وتتصل به الأقوات والخضراوات والبقولات
الباب الأوّل- فى أصل النبات وترتيبه
فى ترتيبه من ابتدائه الى انتهائه 5
- فى ترتيب أحوال الزرع 6
الباب الثانى- فيما تختص به أرض دون أرض، وما يستأصل 7
شأفة النبات الشاغل للأرض عن الغراسة والزراعة
ما تختص به أرض دون أرض 7
- ما يستأصل النبات الشاغل للأرض عن الغراسة والزراعة 11
الباب الثالث- فى الأقوات والخضراوات: 11
الحنطة وما قيل فيها 13
- الشعير 15
- ما وصف به الشعراء الزرع وشبهوه به 16
- الحمص 17
- الباقلى 18
- أفعاله وخواصه 19
- ما وصفه به الشعراء وشبهوه به 20
- الأرز 23
- الخشخاش وما ينتج عنه من عصارته 23
- ما وصف به من الشعر 25
- الكتان وما قيل فى بزره وتشبيهه 26
- ما وصف به من الشعر 27
- الشهدانج 28
- ما قاله الشعراء فى وصف ورقه وهو المعروف بالحشيش 29
- البطيخ وما قيل فيه 30
- البرى منه وهو الحنظل 30
- البستانى 30
- ما جاء فى وصفه وتشبيهه 32
- ما قيل فى الأصفر 33
- ما قيل فى الدستنبويه 36
- القثاء والخيار وما قيل فيهما 38
- ما جاء فى وصفهما وتشبيهما من الشعر 38
- القرع وما قيل فيه 41
- الباذنجان وما قيل فيه 43
- ما وصف به من الشعر 44
-
ما قيل فى السلق 45
- القنبيط والكرنب 48
- السلجم- وهو اللفت- 51
ما وصف به السلجم من الشعر 51
- ما قيل فى الفجل 52
- ما وصف به الفجل من(مقدمةج 11/3)
الشعر 55
- الجزر وما قيل فيه 55
- الشقاقل- وهو الجزر البرّىّ- 56
ما وصف به الجزر من الشعر 57
- البصل وما قيل فيه 57
- ما وصف به البصل من الشعر 59
- الثوم وما قيل فيه 59
- ما وصف به الثوم من الشعر 61
- الكراث وما قيل فيه 61
- الريباس وما قيل فيه 64
- ما وصف به الريباس من الشعر 64
-
الهليون وما قيل فيه 65
- ما وصف به الهليون من الشعر 67
- الهندبا وما قيل فيها 67
- النعنع وما قيل فيه 69
- ما قيل فى وصف نبات النمام من الشعر 71
- الجرجير وما قيل فيه 72
- السذاب وما قيل فيه 73
- الطرخون وما قيل فيه 76
-
الاسفاناخ وما قيل فيه 77
- طبعه وأفعاله 77
- البقلة الحمقاء 78
- توليدها 78
- طبعها وفعلها 78
- الحماض وما قيل فيه 79
- الرازيانج وما قيل فيه 81
- النبطى 81
- الرومى 82
- ما وصف به الرازيانج من الشعر 83
- الكرفس وما قيل فيه 83
القسم الثانى- فى الأشجار
الباب الأوّل- فيما لثمره قشر لا يؤكل: 86
اللوز وما قيل فيه 86
- ما وصفه به الشعراء وشبهوه 88
- الجوز وما قيل فيه 89
- أفعاله وخواصه 89
- ما وصفه به الشعراء وشبهوه 90
- الجلوز وما قيل فيه 91
- ما وصفه به الشعراء وشبهوه 91
- الفستق وما قيل فيه 92
- ما وصفه به الشعراء وشبهوه 93
- الشاهبلوط وما قيل فيه 95
- قال شاعر يصفه 95
- شجر الصنوبر وما قيل فيه 96
- ما وصف به الصنوبر وشبه به من الشعر 98
- الرمان والجلنار 100
- ما قيل فيهما من الشعر- فمن ذلك ما وصف به الرمان وشبه به 101
- ما وصف به الجلنار 104
- الموز وما قيل فيه 105
- ما وصف به وشبه من الشعر 106
- ما وصف به وشبه النارنج 111
- ما وصف به وشبه (الليمو) (الليمون) 116
الباب الثانى- فيما لثمره نوى لا يؤكل: 117
النخل وما قيل فيه 117
- أسماء النخلة من حين تبدو صغيرة الى أن تكبر وكذلك الرطب من حين يكون طلعا الى أن يصير رطبا 118
- فصل فى نعوتها 118
- ما وصف به النخل من الشعر 119
- الجمار وما قيل فيه 124
- ما وصف به الجمار والطلع من الشعر 124
- ما وصف به الطلع 124
- البلح والبسر والتمر 126
- ما قيل فى وصف البلح والبسر من الشعر 126
- ووصفوا الرطب والتمر 128
- النارجيل 129
- ما قيل فى وصف النارجيل من الشعر 130
- الفوفل 130
- الكاذى 131
- الخزم 131
- الزيتون وما قيل فيه 131
- ما وصف به الزيتون من الشعر 132
- الخرنوب وما قيل فيه 132
- ما وصف به الخرنوب من(مقدمةج 11/4)
الشعر 133
- الإجاص وما قيل فيه 134
- ما وصف به الإجاص من الشعر 135
- ومما وصف به القراسيا 136
- الزعرور وما قيل فيه 137
- ما وصف به الزعرور من الشعر 137
- الخوخ وما قيل فيه 138
- ما وصف به من الشعر 138
- المشمش وما قيل فيه 140
- ما وصف به المشمش من الشعر 141
- العناب وما قيل فيه 142
- ما وصف به العناب من الشعر 142
- النبق وما قيل فيه 144
- ما وصف به النبق من الشعر 144
الباب الثالث- فيما ليس لثمره قشر ولا نوى: 146
العنب وما قيل فيه 146
- طبعه 147
- ما وصفت به الكروم والأعناب نظما ونثرا 148
- التين وما قيل فيه 153
- المختار من التين وما قيل فى طبعه وخواصه 154
- ما وصفه به الشعراء وشبهوه 158
- ما وصف به على سبيل الذم 160
- التوت وما قيل فيه 160
- ما وصفه به الشعراء 162
- التفاح وما قيل فيه 162
-
ما وصفه به الشعراء 164
- السفرجل وما قيل فيه 168
- ما وصف به نظما ونثرا 169
- الكمثرى وما قيل فيها 172
- ما وصفها به الشعراء 173
- اللفاح وما قيل فيه 175
- ما وصفه به الشعراء 177
- الأترج وما قيل فيه 178
- أفعاله وخواصه 179
- ما وصفه به الشعراء 180
القسم الثالث- فى الفواكه المشمومة
الباب الأوّل- فيما يشم رطبا ويستقطر: 184
الورد وما قيل فيه 184
- ما جاء فى وصف الورد نظما ونثرا 189
- ومما قيل فى ذم الورد ومدحه 192
- ما وصف به الورد الأبيض 193
- ما وصف به الورد الأصفر 194
- ما وصف به الورد الأزرق 195
- ما قيل فى الورد الأسود 195
- ما جاء فيه نثرا 196
- النسرين وما قيل فيه 214
- ما جاء فى وصفه 214
- البان وما قيل فيه- وهو شجر الخلاف- 215 ما جاء فى باكورة خلاف 217
- النيلوفر وما قيل فيه 219
- ما جاء فى وصفه 221
الباب الثانى- فيما يشم رطبا ولا يستقطر: 226
البنفسج وما قيل فيه 226
- أفعاله وخواصه 226
- ما جاء فى وصفه 226
- النرجس وما قيل فيه 229
- ما جاء فى وصفه 230
- الياسمين وما قيل فيه 236
- ما جاء فى وصفه 236
- الآس وما قيل فيه 239
- طبعه 240
- أفعاله وخواصه 240
- ما جاء فى وصفه 241
- الزعفران وما قيل فيه 242
- ما جاء فى وصفه 244
- الحبق وما قيل فيه 247
- كلام لابن سينا فى طبع الباذروج وخواصه 250
- المرماحوز 251
- المرزنجوش 251
- الفلنجمشك 252
- ما وصفت به الرياحين 252(مقدمةج 11/5)
... صفحة
القسم الرابع- فى الرياض والأزهار ويتصل به الصموغ والأمنان والعصائر 256
الباب الأوّل- فى الرياض وما وصفت به نظما ونثرا: 256
متنزهات الدنيا الأربع فمنها صغد سمرقند 257
- شعب بوان 257
- نهر الأبلة 260
- غوطة دمشق 261
- ما وصفت به الرياض نثرا ونظما 262
- قد أكثر الشعراء فى وصف الرياض والغصون 263
الباب الثانى- فى الأزهار: 271
الخيرى وما قيل فيه 271
- ما وصف به من الشعر 271
- السوسن وما قيل فيه 273
- ما جاء فى وصفه 275
- الآذريون وما قيل فيه 277
- ما جاء فى وصفه 277
- الخرم وما قيل فيه 279
- ما وصف به الخرم من الشعر 280
- الشقيق وما قيل فيه 281
- ما جاء فى وصفه 282
- ما وصف به البهار 285
- الأقحوان وما قيل فيه 286
- ما وصفه به الشعراء 289
الباب الثالث- فى الصموغ: 291
الكافور وما قيل فيه 292
- الكهربا وما قيل فيه 295
- علك الأنباط 297
- علك الروم 297
- علك البطم 298
- صمغ الينبوت (صوابه التنوب) 299
- صمغ قوفى 299
- الكثيراء 299
- الكندر 299
- الفربيون 301
- الصبر 304
- المر 307
- الكمكام 309
- الضجاج 309
- الأشق 310
- تراب القىء 311
- القنة 312
- الحلتيت 313
- الأنزروت 315
- السكبينج 315
- السادوران 317
- دم الأخوين 317
- الميعة 318
- صمغ قبعرين 320
- المقل الأزرق 321
- الصمغ العربى 322
- القطران 323
- الزفت 325
الباب الرابع- فى الأمنان: 225
العسل والشمع 325
- اللك 326
- القرمز 326
- اللاذن 326
- الافتيمون 327
- القنبيل 328
- الورس 328
- الترنجبين 328
- الشير خشك 329
- المنّ 329
- الكشوث 329
- سكر العشر 330(مقدمةج 11/6)
بيان أهمّ الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء مرتّبة على حروف المعجم
إخبار العلماء بأخبار الحكماء- للقفطى.
إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى- لشهاب الدين القسطلّانى.
أزهار الأفكار فى جواهر الأحجار- للتيفاشى.
الأسباب والعلامات- لنجيب الدين السمرقندى.
الأغانى- لأبى الفرج الأصبهانى.
أقرب الموارد فى فصح العربية والشوارد- لسعيد الخورى الشرتونى اللّبنانى.
الألفاظ الفارسية المعرّبة- للسيد أدّى شير.
بحر الجواهر- لمحمد بن يوسف الطبيب المعروف بالهروى.
بدائع البدائه- للوزير جمال الدين أبى الحسن على بن ظافر الأزدى المصرى.
البرهان القاطع- وهو معجم فارسى تأليف محمد حسين بن خلف التبريزى.
بغية الوعاة فى طبقات اللغوييّن والنحاة- للجلال السيوطى.
تاج العروس من جواهر القاموس- لمحب الدين أبى الفيض السيد محمد مرتضى الزبيدى الحنفى.
تاج اللغة وصحاح العربية- لأبى نصر إسماعيل بن حماد الجوهرىّ الفارابى.
تذكرة داود.
تقويم البلدان- لأبى الفداء.
التهذيب فى اللغة- للأزهرى.
حسن المحاضرة- للجلال السيوطى.
الحشائش- لديسقور يدوس.
حياة الحيوان- للدميرى.(مقدمةج 11/7)
خاص الخاص- للثعالبى.
خريدة القصر وجريدة أهل العصر- للوزير أبى عبد الله محمد بن محمد بن أبى الرجاء الكاتب الأصبهانى.
دائرة المعارف- للبستانى.
الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة- لابن حجر.
دستور العلماء، ويعرف بجامع العلوم- للأحمد نكرى.
ديوان البحترى.
ديوان ابن الرومى.
ديوان ابن زيدون.
ديوان الحيوان- للسيوطى.
ديوان السرىّ الرفّاء.
ديوان ابن الساعاتى، المعروف بمقطّعات النيل.
ديوان المتنبىّ.
ديوان ابن المعتز.
ديوان مؤيّد الدين الطّغرائىّ.
ديوان المعانى- لأبى هلال العسكرى.
ديوان أبى الفتح كشاجم.
رسالة الحسين بن نوح القمرى فى تفسير المصطلحات الطبية.
رسائل الصاحب بن عباد.
رسالة فى تفسير بعض المصطلحات الطبية لم يعرف مؤلّفها، وهى ضمن مجموعة مخطوطة ومحفوظة بمكتبة تيمور تحت رقم 667 طب.
زهر الاداب وثمر الألباب- للحصرى القيروانى.
سحر البلاغة وسر البراعة- للثعالبى.
سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون- لابن نباتة.(مقدمةج 11/8)
الشذور الذهبية فى الاصطلاحات الطبية- لمحمد بن عمر بن سليمان التونسى.
شرح الأدوية المفردة من قانون ابن سينا- للكازرونى.
شرح الرضى على الشافية.
شرح الرضى على الكافية.
شرح ديوان أبى تمام- للخطيب التبريزى.
شرح العكبرىّ على ديوان المتنبى.
الشعر والشعراء- لابن قتيبة الدينورى.
شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل- لشهاب الدين أحمد الخفاجى.
صبح الأعشى فى صناعة الإنشاء- للقلقشندى.
عبث الوليد- لأبى العلاء المعرّى.
عمدة المحتاج فى علمى الأدوية والعلاج، ويعرف بالمادة الطبية- للسيد أحمد افندى الرشيدى.
عيون الأنباء فى طبقات الأطباء- لابن أبى أصيبعة.
فقه اللغة- للثعالبى.
الفلاحة النبطية- لأبى بكر بن وحشية.
فوات الوفيات- لابن شاكر الكتبى.
قلائد العقيان- للفتح بن خاقان.
قاموس الأطباء وناموس الألبّاء- للشيخ مدين بن عبد الرحمن الطبيب الشهير بالقيصونى.
قاموس المحيط- لمجد الدين الفير وزابادى.
القانون فى الطب- للشيخ الرئيس أبى على بن سينا.
كشاف اصطلاحات الفنون- للتهانوى.
كوكب الروضة- للسيوطى.
لسان العرب- لابن منظور.
مباهج الفكر ومناهج العبر- للورّاق الكتبى.
مجموع الأصمعيّات.
محاضرات الأدباء- للراغب الأصبهانى.(مقدمةج 11/9)
المخصص- لابن سيده.
المصباح المنير- للفيومى.
مطالع البدور فى منازل السرور- لعلاء الدين على بن عبد الله البهائى.
معجم البلدان- لأبى عبد الله ياقوت الحموى.
معجم ما استعجم- للبكرى.
معجم أسماء النبات- للدكتور أحمد عيسى.
مفاتيح العلوم- للخوارزمى.
معجم الأدباء- ويعرف بارشاد الأريب لمعرفة الأديب- لياقوت.
المشتبه فى أسماء الرجال- للحافظ الذهبى.
ما يعوّل عليه فى المضاف والمضاف اليه- للمحبّى.
أسماء الملابس عند العرب- لدوزى.
المغرب فى ترتيب المعرب- للمطرّزى.
المعرّب والدخيل- للشيخ مصطفى المدنى.
المعرّب من الكلام الأعجمى- لأبى منصور الجواليقى.
مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار- لابن فضل الله العمرى.
من غاب عنه المطرب- للثعالبى.
المعجم الفارسى الانجليزى- لاستاين جاس.
مفتاح الطب- لأبى الفرج بن هندو.
مفردات ابن البيطار.
المنهج المنير فى معرفة أسماء العقاقير- لم يعلم اسم مؤلّفه.
المنهاج- لابن جزلة.
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة- لابن تغرى بردى.
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب- للمقرى.
نهاية الأرب فى فنون الأدب- للنويرى.
وفيات الأعيان- لابن خلّكان.
يتيمة الدهر- للثعالبىّ.(مقدمةج 11/10)
الجزء الحادي عشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه التوفيق «1» [والإعانة، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما «2» ]
الفنّ الرابع «3» فى النّبات
وهذا الفنّ وإن جلّ مقداره، وحسنت آثاره، وأشرقت أنواره، وزها نوّاره؛ وتفيّأت خامات «4» زروعه، ونبتت أصوله تحت فروعه؛ وتدبّجت «5» خمائله، وتأرّجت بكره وطابت أصائله؛ وابتهج إغريضه «6» ، واتّسق نضيده؛ وتسلسلت غدران مائه وزهت «7» أرضه على سمائه؛ وتعدّدت منافعه، وعذبت منابعه؛ وكان منه ما هو للنفس(11/1)
قوتا، وما حكت ألوانه زمرّدا وياقوتا؛ وما أشبه اللّجين والعقيان، وما غازل بعيونه مقل الحسان؛ وما نسبت إليه الوجنات فى احمرارها، وألوان العشّاق فى اصفرارها؛ وأشبهته القدود عند تمامها، والثغور فى انتظامها؛ والنّهود فى بروزها وارتفاعها والخصور فى هيفها والسّرر فى اتّساعها؛ وما اختلفت ألوانه وطعوم ثماره وإن ائتلفت أراضى مغارسه ومجارى أنهاره؛ وما تضوّع عرفه وفاح نشره، وحسن وصفه ولاح بشره؛ وبقيت آثاره بعد ذبوله أحسن منها يوم زفافه «1» ، وحصل الانتفاع به فى حالتى غضاضته وجفافه؛ ووصفه الطبيب فى دوائه وعلاجه، ونصّ عليه الحكيم فى أقراباذينه «2» ومنهاجه؛ وكان هذا الفنّ أحد شطرى النّامى، وقسيم النوع الحيوانىّ؛ فإنّا «3» لم نقصد بإيراده استيعاب نوعه، واستكمال جنسه، واستيفاء منافعه والإحاطة بمجموعه، ولا تصدّينا لذلك، ولا تعرّضنا لخوض هذه اللّجج وطروق هذه المهالك، لأمور: منها تعذّر الإمكان، وضيق الزّمان؛ ولأنّ هذا الفنّ عجز عن حصره فلاسفة الحكماء، ومشاهير «4» الأطبّاء؛ وسكّان البوادى، ومن جمعتهم الرّحاب(11/2)
وضمّتهم النّوادى «1» ، ومن لا زموا النبات من حين استهلّت عليه الأنواء وباكرته الغوادى؛ فاطلع كلّ منهم على ما لم يطّلع الآخر عليه، وشاهد ما لم تنته فكرة غيره اليه؛ وعلم التّركمانىّ منه ما لم يعلمه البدوىّ، وعرف الجبلىّ ما لم يعرفه النّبطىّ؛ وصنّف فيه الحكماء الكتب المطوّله، وأظهروا من منافعه ومضارّه كلّ فائدة خفيّة وخاصّيّة مهمله؛ وتعدّدت فيه تصانيفهم، وتواردت واشتهرت تآليفهم؛ ومع ذلك فما قدروا على حصره، ولعلّهم لم يقفوا إلّا على جزء يسير من شطره؛ بل قصدنا بإيراده أن نذكر منه ما عليه وصف للشّعراء، ورسائل للبلغاء والفضلاء؛ لأنّ ذلك ممّا لا يستغنى عنه المحاضر، ويضطرّ اليه الجليس والمسامر؛ وينتفع به الكاتب فى كتابته، ويتّسع به على المنشئ مجال بلاغته؛ فأوردنا منه ما هو بهذه السبيل، واستقصينا ما هو من هذا القبيل؛ وان كنّا زدنا فى بعضه على هذا الشّرط، وخرجنا عن هذا الخطّ؛ وتعدّينا من وصفه الى ذكر منافعه ومضارّه، وانتهينا إلى إيراد بارده وحارّه؛ ورطبه ومعتدله ومحرقه وقابضه ومليّنه ومطلقه؛ ونبّهنا على توليده وأصله، وخساسته وفضله؛ فهذه الزيادة إنّما وردت على سبيل الاستطراد، لا على حكم الالتزام والاستعداد، وهى مما تزيد هذا الفنّ إلى حسنه حسنا، وتبدو بها فضائله فرادى ومثنى؛ ووصلنا فنّ النّبات بالصّموغ والأمنان «2» ، لأنّهما من توابعه وفروعه، وحلبنا ألبان «3» التكملة «4» له بهما من ضروعه؛ وألحقنا(11/3)
ذلك بقسم يشتمل على أصناف الطّيب والبخورات، والغوالى والمستقطرات؛ فختمنا الفنّ منه «1» بمسك، ونظمناه معه فى سلك؛ وحصرنا هذا الفنّ وما يتعلّق به فى خمسة أقسام تندرج تحتها أبواب، ولخّصناه من أكرم أصول وأعرق أنساب وأوثق أسباب.
القسم الأوّل من هذا الفنّ فى أصل النّبات وما تختصّ به أرض دون أرض
وتتّصل به الأقوات والخضراوات «2» والبقولات، وفيه ثلاثة أبواب:
الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفنّ فى أصل النّبات وترتيبه
[أما أصل النّبات]
قال المسعودىّ فى كتابه المترجم (بمروج الذهب ومعادن الجوهر) : إنّ آدم عليه السّلام لمّا أهبطه الله تعالى الى الأرض خرج من الجنّة ومعه ثلاثون قضيبا مودعة أصناف الثمرة، منها عشرة لها قشر، وهى الجوز واللّوز والجلّوز والفستق والبلّوط والشّاهبلّوط والصّنوبر والنّارنج والرّمّان والخشخاش.
ومنها عشرة لثمرها نوى، وهى الزّيتون والرّطب والمشمش والخوخ والإجّاص والغبيراء والنّبق والعنّاب والمخَّيط «3» والزُّعرور؛ ومنها عشرة ليس لها قشر ولا نوى(11/4)
وهى التّفّاح والسّفرجل والكمّثرى والعنب والتّين والأترجّ والخرنوب والتّوت والقثّاء والبطّيخ؛ وقال أبو عبيد البكرىّ فى كتابه المترجم (بالمسالك والممالك) : إنّ إسحاق بن العبّاس بن محمّد الهاشمىّ حكى عن أبيه أنّه تصيّد يوما بناحية (صنعاء) «1» فأصابته السماء فمال الى أحوية «2» أعراب فمكث عندهم يوما وليلة والغيث منسجم، لا ينحسم، فلمّا أصبح قال: لقد أنزل الله الليلة خيرا كثيرا؛ فقام ربّ البيت الى كساء كان قد نصبه بين أربع أخشاب يصيبه المطر، فلمسه بيده، فقال؛ ما أنزل الله الليلة خيرا؛ ثمّ ليلة أخرى كذلك، وليلة أخرى؛ فلمّا كان فى اليوم الثالث قال: نعم قد أنزل الله خيرا فى هذه اللّيلة؛ فسأله العبّاس بن محمّد عن ذلك، فأتاه بكفّ من البزور تناولها من جوف ذلك الكساء، وقال: إنّ حبّ البقل والعشب والكلإ إنّما ينزل من السماء. هذا ما ورد فى أصل النّبات.
وأمّا ترتيبه من ابتدائه إلى انتهائه
- فقد حكى الثّعالبىّ فى (فقه اللغة) قال: أوّل ما يبدأ النّبت فهو بارض، فاذا تحرّك قليلا فهو جميم؛ [فاذا «3» عمّ الأرض فهو عميم] فاذا اهتزّ وأمكن أن يقبض عليه قيل: «اجثألّ» ، فاذا اصفرّ ويبس فهو هائج، فاذا كان الرّطب تحت اليابس فهو غميم، فاذا كان بعضه هائجا وبعضه أخضر(11/5)
فهو شميط، فاذا تهشّم وتحطّم فهو هشيم وحطيم «1» ، فاذا اسودّ من القدم فهو الدّندن «2» فاذا يبس ثم أصابه المطر فآخضّر فذاك النّشر.
وقيل فى مثله: اذا طلع أوّل النّبت قيل: «أوشم، وطرّ» ، فاذا زاد قليلا قيل: «طفّر» فاذا غطّى الأرض قيل: «استحلس» ؛ واذا صار بعضه أطول من بعض قيل: «تناتل» ، فإذا تهيّأ لليبس قيل: «اقطارّ» فاذا يبس وانشقّ قيل: «تصوّح» ، فاذا تمّ يبسه قيل: هاجت الأرض هياجا؛ والله أعلم بالصواب.
فصل فى ترتيب أحوال الزرع
هو ما دام فى البذر فهو الحبّ، فاذا انشق الحبّ عن الورقة فهو الفرخ والشّطء، فاذا طلع رأسه فهو الحقل، فاذا صار أربع ورقات أو خمسا قيل: كوّث «3» تكويثا، فاذا طال وغلظ قيل «استأسد» ، فاذا ظهرت قصبته قيل «قصّب» ، فاذا ظهرت فيه السّنبلة قيل: «سنبل» ثم اكتهل. وأحسن من جميع ذلك وأبلغ قوله عزّ وجلّ: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ
، قال الزّجّاج: «آزر الصّغار الكبار حتّى استوى بعضه ببعض» . وقال غيره: «فساوى الفراخ الطّوال فاستوى طولهما» وقال ابن الأعرابىّ: أشطأ الزرع، اذا فرّخ (وأخرج شطئه) فراخه، (فآزره) ، أى أعانه؛ والله أعلم.(11/6)
الباب الثانى من القسم الأوّل من الفنّ الرابع فيما تختصّ به أرض دون أرض وما يستأصل شأفة النّبات الشاغل للأرض عن الزراعة
أمّا ما تختصّ به أرض دون أرض
- فقد حكى أبو بكر بن وحشيّة أنواعا من النّبات توجد فى أرض ولا توجد فى غيرها، فقال: إنّ فى بلاد سجلماسة «1» شجرة ترتفع نصف قامة أو أرجح؛ ورقها كورق الغار، إذا عمل منها إكليل ولبسه الرجل على رأسه ومشى أو عدا أو عمل عملا لم ينم ما دام ذلك الإكليل على رأسه، ولا يناله من ضرر السهر وضعف القوّة ما ينال من سهر وعمل؛ وقال:
وفى بلاد الإفرنجة «2» شجرة إذا قعد إنسان تحتها نصف ساعة من النّهار مات، وإن مسّها ماسّ أو قطع منها غصنا أو ورقة أو هزّها مات؛ وفى جزيرة «3» من جزائر الصّقالبة نبات فى قدر البقل «4» ، ورقه يشبه ورق السّذاب، إذا ألقى الأصل منه بورقه وأغصانه بعد غسله من التراب الذى فيه، وجعل فى الماء البارد، وترك فيه ساعة من نهار، سخن ذلك الماء كسخونته إذا أو قدت تحته النار، وكلّما دام فيه اشتدّت حرارته حتى لا يمكن أن يمسّ، وإذا خرج من الماء برد الماء لوقته؛ وقال:
فى بلاد رومية شجرة لطيفة تنبت على شاطىء نهر «5» هناك، ورقها كورق الحمّص(11/7)
طولها ذراعان، إذا جمع شىء من ورقها وأغصانها ودقّ واعتصر ماؤه، وجفّفت العصارة، فإن شرب منها رجل مقدار دانق ونصف بخمر «1» أنعظ إنعاظا شديدا ويجامع ما شاء من غير كلال ولا ضعف، فاذا أحبّ أن يزول ذلك الإنعاظ عنه قام فى ماء بارد إلى نصف صدره ساعة، فإنّ ذلك يزول عنه، ويرجع إلى حالته الأولى؛ قال: وفى بلد من بلاد الرّوم يقال له: (سفانطس) «2» نبات يرتفع عن الأرض نحو الذراع له ورق كورق السّلق، الورقة نحو ذراع، وليس له ساق يقوم عليها، إذا أخذ أصل هذا النّبات- وهو أصل كبير مستدير الى الطّول- وقشر وطبخ، وأكله الّذى يحمّ زالت عنه الحمّى بعد أكلة أو أكلتين أىّ حمّى كانت، وكذلك إن بخّر بورقه بعد تجفيفه مرّة أو مرّتين؛ قال: وببلاد الهند نبات لا تحرقه النار؛ وفيها شجرة إذا قطع شىء(11/8)
من أغصانها وألقى على الأرض تحرّك، وربّما سعى كما تسعى الحيّات ودبّ «1» ؛ وفيما يلى مهبّ الشّمال شجرة تسمع منها فى فصلى الربيع والخريف «2» همهمة إنسان يريد أن يتكلّم وربّما نطقت بلغة الهند كلمة بعد كلمة، وتسمّى هذه الشجرة الشّمس، وصورتها على صورة الإنسان؛ وفى بلاد التّاكيان «3» شجرة تضىء باللّيل كالسّراج، بحيث إنّ النّاس إذا سلكوا بقربها باللّيل استغنوا بضوئها عن مصباح، ويسمّونها شجرة القمر. ومن الشجر والنّبات المشهور الّذى لا يوجد إلّا ببقاع مخصوصة: البلسان، وهو فى أرض المطريّة على ساعة من القاهرة المعزّيّة، فى بقعة مخصوصة معروفة، تسقى من بئر مخصوص هناك؛ والفلفل، يقال: إنه لا ينبت الّا بالمنيبارات «4» من بلاد الهند والمراد بالنّبات هنا: كماله وتحصيل مغلّه، وإلّا فقد رأيته أنا وقد زرع ببستان بأرض (أشموم طناح «5» ) من الدّيار المصريّة فى سنة أربع وتسعين وستّمائة، ونبت وصار نباته بقدر الذّراع، وكاد يعقد الحبّ؛ وأخبرنى من اختبره فى غير هذه السنة المذكورة أنّه لا يتمّ عقد حبّه ولا يتكوّن، وأنّهم يستعملون فروعه فى الطّعام فتقوم مقام الفلفل؛ وشجر الكافور لا ينبت إلّا فى بقاع مخصوصة يأتى ذكرها إن شاء الله(11/9)
فى موضعها من هذا الكتاب فى هذا الجزء، وكذلك اليبروح «1» الصّنمىّ لا يوجد إلّا فى بلد بعينه، والباب فى هذا متّسع، وليس فى استقصائه فائدة توجب البحث عنه أو إيراده.
وممّا يناسب هذا الفصل ما حكى عن أبى بكر بن وحشيّة أيضا أنّه إذا خلط بزر الكرنب ببزر السّلجم- والسّلجم، هو اللّفت- وتركا ثلاثة أشهر ثمّ زرعا خرج البزر كلّه سلجما، فاذا أخذ من بزر هذا السّلجم وزرع خرج كرنبا.
وحكى عنه أيضا أنّه اذا أحرق النّعنع والجرجير فى موضع ند بقرب شجرة أو زرع، وخلط الرّماد بالتّراب، وأضيف إليهما قشر بيض الحمام، ودفن ذلك فى الأرض على مقدار دون الشّبر، وصبّ عليه الماء أربعة أيّام، ثمّ يسقى على عادة النّعنع والجرجير، أخرج شجر الدّلب «2» ، فاذا نبت فليحوّل ويغرس فى موضع آخر، فإنّه يثبت، وزعم أنّ ذلك لا يتمّ إلّا أن يكون فى نيسان إذا قارب القمر الشّمس فى برج الحمل أو الثّور؛ والله أعلم.(11/10)
وأمّا ما يستأصل النّبات الشاغل للأرض عن الغراسة «1» والزّراعة
- فقد ذكر أبو بكر بن وحشيّة من ذلك أشياء كثيرة، ثم قال: وأجود ذلك أن يزرع البنج «2» فى الأرض الّتى تنبت فيها هذه الحشائش، ويسقى الماء، فاذا كبر وأزهر يقلع، ويؤخذ التّرمس وورق الخلاف «3» فيلقيان على البنج وهو رطب، ويدقّ الجميع جملة حتّى يختلط، وينثر منه فى تلك الأرض، فإنه يحرق الثّيل «4» والشّوك وجميع الحشائش الّتى هى أعداء الزّرع؛ قال: أو يسحق التّرمس وثمر الطّرفاء وورق الخلاف مع أغصانه سحقا ناعما، ويعتصر ماء البنج الرّطب وماء ورق الآس ويخلط الماءان، ويبلّ بهما المسحوق يوما وليلة، ثمّ يصبّ على الثّيل وعلى أصول الشّوك وغير ذلك من الحشائش الدّغلة، فإنّه يأكلها ويجفّفها؛ قال: أو يعمل(11/11)
معول من نحاس، ويحمى بالنّار حتّى يصير كالجمر، ثم يغمس فى دم تيس كما يسقى الحديد، يصنع به ذلك مرارا، ثمّ يقطع به الثّيل والشّوك والعوسج والقصب وغير ذلك من الحشائش الكبار الغلاظ المضرّة بالزرع؛ فإنّ كلّ نبات قطع به لا ينبت بعد ذلك أبدا، لكنّه متى أصاب المعول شيئا من كرم أو نبات فإنّه يؤذيه؛ قال:
أو تقلع أصول النّبات المضرّة بالزّراعة والغراسة «1» ، ويؤخذ الماء العذب فيغلى فى قدر نحاس غليانا جيّدا مرارا، يوقد عليه بخشب الصّنوبر، ويدقّ الحلتيت «2» والخردل والخربق «3» دقّا ناعما، وتضاف الى الماء، ويصبّ منه وهو حارّ فى الأصول «4» الّتى قلعت، فإنّ نباتها لا يعود أبدا؛ أو يلقى الزّفت والخمر فى ماء عذب، ويغلى فى قدر نحاس حتّى يذوب الزّفت، ويصبّ وهو حارّ فى تلك الأصول المقلوعة، ومقدار ما يصبّ منه فى كلّ أصل ربع رطل؛ قال: وأمّا ما يقلع الحلفاء فهو أن يزرع التّرمس والخربق فى الأرض التى تظهر فيها، فاذا انتهيا فى بلوغ غايتهما يقلعان(11/12)
بأصولهما، ويلقيان على الأرض، ويضربان بالخشب حتى يتهرّأ، ويجرى عليهما الماء، ويتركان حتّى يعفنا، فإنّهما يأكلان أصول الحلفاء وما عداها من الحشائش المضرّة؛ قال: ومن أراد قلع شجرة عظيمة لا يمكن الأكرة «1» قلعها، فليحفر حول أصلها، فإذا انكشف صبّ فيه خلّا قد أغلى فيه الزّفت، ثم يطمر «2» بالتّراب فإنه يهرّىء ذلك الأصل ويفتّته وييبّسه، وإن كان يابسا سقط بنفسه؛ والله أعلم.
الباب الثّالث من القسم الأوّل من الفنّ الرابع فى الأقوات والخضراوات
ويشتمل هذا الباب على الحنطة والشّعير والحمّص والباقلّى والأرزّ، وما قيل فى الخشخاش والكتّان والشّهدانج «3» والبطّيخ والقثّاء والخيار والقرع والباذنجان والسّلق والقنّيط والكرنب والسّلجم والفجل والجزر والبصل والثّوم والكرّاث والريباس والهليون والهندبا والنعنع والجرجير والسّذاب والطّرخون والإسفاناخ والبقلة الحمقاء والحمّاض والرّازيانج والكرفس.
فأمّا الحنطة وما قيل فيها
- فقد حكى الشيخ أبو الحسن الكسائىّ- رحمه الله- فى بدء الدنيا؛ أنّ الحبّة أوّل ما خرجت من الجنّة كانت قدر بيض النّعام، ألين من الزّبد، وأحلى من العسل، ولم تزل زاكية زمن آدم وشيث(11/13)
- عليهما السلام- الى زمن إدريس- عليه السّلام- فلمّا كثر الناس نقص الحبّ عن مقداره إلى مقداره إلى أصغر منه، ثمّ كان كذلك إلى أيام فرعون، فنقص عن مقداره إلى أيّام إلياس- عليه السلام-، ثمّ نقص حتّى صار قدر بيض الدّجاج الى أيّام عيسى بن مريم- عليه السلام- فنقص فى زمنه حتّى صار مثل بيض الحمام، الى أن قتل يحيى بن زكريّا- عليهما السلام- فصار قدر البندق، فكان كذلك الى أيّام عزير، فلمّا قالت اليهود: (عزير بن الله) نقص إلى ما ترى، وقيل:
بل صار قدر الحمّص، ثمّ صار إلى هذه الغاية.
وقال وهب بن منبّه: وكان الزرع فى زمن آدم- عليه السّلام- على طول النخل.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: أجود الحنطة المتوسّطة فى الصّلابة العظيمة السّمينة الملساء «1» ، الّتى بين الحمراء والبيضاء؛ والحنطة السوداء رديئة الغذاء؛ وطبع الحنطة حارّ معتدل فى الرّطوبة واليبوسة، وسويقها «2» الى اليبس، وهو بطىء الانحدار، كثير النّفخ، لابدّ من حلاوة تحدره بسرعة، وغسل بالماء الحارّ حتّى يزيل نفخه؛ وقال فى الأفعال والخواصّ: الحنطة الكبيرة والحمراء أكثر غذاء، والحنطة المسلوقة بطيئة الهضم نفّاخة، لكنّ غذاءها إذا استمرئت كثير؛ والحوّارى «3» قريب من النّشا، لكنّه أسخن؛ والنّشا بارد رطب لزج؛ قال: والحنطة تنقّى الوجه، ودقيقها والنّشا خاصة بالزّعفران دواء للكلف «4» ؛ قال: والحنطة النّيئة والمطبوخة المسلوقة(11/14)
من غير طحن ولا تهرئة كالهريسة، والهريسة إن أكلت ولّدت الدّود، قال:
والحنطة مدقوقة مذرورة على عضّة [الكلب الكلب «1» ] نافعة.
وأمّا الشّعير
- فقد قال الشيخ الرئيس: طبع الشّعير بارد يابس فى الأولى وهو جلاء، وغذاؤه أقلّ من غذاء الحنطة، وماء الشّعير أغذى «2» من سويقه، وكلاهما يكسر حدّة الأخلاط؛ وهو نافخ «3» ، قال: واذا طبخ بخلّ «4» ثقيف ووضع ضمادا على الجرب المتقرّح أبرأه، ويضمد به مع السّفرجل والخلّ على النّقرس «5» ؛ ويمنع سيلان الفضول الى المفاصل؛ قال: وماؤه ينفع من أمراض الصدر؛ واذا شرب ببزر الرازيانج «6» أغزر اللّبن؛ ويضمد بدقيقه وإكليل الملك «7» وقشر الخشخاش لوجع الجنب؛ قال: وماؤه ردىء للمعدة، وسويقه يمسك البطن؛ وماؤه مبرّد يرطّب الحمّيات:
أمّا للحارّة فساذجا، وأمّا للباردة فمع الكرفس والرّازيانج؛ والله أعلم.(11/15)
وأمّا ما وصف به الشعراء الزّرع وشبّهوه به
- فمنه قول القاضى عياض:
انظر إلى الزرع وخاماته «1» ... تحكى وقد مالت أمام الرّياح
كتائبا تجفل مهزومة ... شقائق «2» النّعمان فيها جراح
وقال ظافر الحدّاد الإسكندرىّ:
كأنّ سنابل حبّ الحصيد ... وقد شارفت وقت إبّانها
مكانس «3» مضفورة ربّعت ... وأرخى فاضل خيطانها
وقال ابن رافع:
انظر الى سنبل الزّروع وقد ... مرّت عليه الجنوب والشّمل «4»
كأنّه البحر فى تموّجه ... يعلو مرارا به ويستفل(11/16)
وقال آخر:
يا حبّذا سنبلة ... تبدو لعين المبصر
كأنّها سلسلة ... مضفورة من عنبر
[وأمّا الحمّص «1» ]
- فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى (كتاب «2» الأدوية المفردة) : الحمّص أبيض وأحمر وأسود وكرسنّىّ «3» ؛ ومن الأصناف بستانىّ وبرّىّ والبرّىّ أحدّ وأمرّ وأشدّ تسخينا، ويفعل أفعال البستانىّ فى القوّة، ولكنّ غذاء البستانىّ أجود من غذاء البرّىّ، وقال فى طبعه: الأبيض حارّ يابس فى الأولى، والأسود أقوى؛ وقال فى خواصّه: كلاهما مفتّح «4» مليّن، وفيه تقطيع، ولا شىء فى أشكاله أغذى منه للرّئة؛ ورطبه أكثر توليدا للفضول من يابسه؛ قال: والحمّص يجلو النّمش»
، ويحسّن الّلون طلاء وأكلا، وينفع من الأورام الحارّة والصّلبة وسائر الأورام و [ما كان «6» منها فى] الغدد، ودهنه ينفع من القوباء؛ ودقيقه للقروح الخبيثة والسّرطانيّة والحكّة؛ قال: وينفع من وجع الظهر، ومن البثور الرّطبة فى الرأس؛ ونقيعه ينفع من وجع الضّرس وأورام اللّثة الحارّة والصّلبة، والأورام الّتى تحت(11/17)
الأذنين؛ قال: وهو يصفّى الصّوت؛ قال: وطبيخه نافع للاستسقاء واليرقان «1» ويفتّح سدد الكبد والطّحال، خصوصا الكرسنّىّ والأسود، قال: ويجب ألّا يؤكل الحمّص فى أوّل الطعام ولا فى آخره؛ بل فى وسطه؛ قال: وطبيخ الأسود يفتّت الحصاة فى المثانة والكلى بدهن اللّوز والفجل والكرفس؛ وجميع أصناف الحمّص تخرج الجنين؛ وهو ردىء لقروح المثانة؛ ويزيد فى الباه جدّا؛ ونقيعه اذا شرب على الرّيق أنعظ بقوّة؛ وكلّه مليّن للبطن؛ وقال بعضهم: إنّه إن نقع فى الخلّ وأكل منه على الرّيق، وصبر عليه نصف يوم قتل الدّود.
وأمّا الباقلّى «2»
- فقد قال فيه الشيخ الرئيس: منه مصرىّ، ومنه نبطىّ «3» والنّبطىّ أشدّ قبضا، والمصرىّ أرطب وأقلّ غذاء، والرّطب أكثر فضولا؛ قال:
ولولا بطء هضمه وكثرة نفخه ما قصر فى التغذية عن كشك الشّعير، بل دمه «4» أغلظ وأقوى؛ قال: وأجوده السّمين الأبيض السالم من السّوس؛ وأردأه الطرىّ؛ وإصلاحه إطالة نقعه وإجادة طبخه وأكله بالفلفل والملح والحلتيت «5» والصّعتر «6»(11/18)
وطبعه قريب من الاعتدال، وميله الى البرد واليبس أكثر؛ وفيه رطوبة فضليّة خصوصا فى الرّطب منه؛ قال والقوم الّذين يجعلون برد الباقلّى فى الدرجة الثانية «1» يفرطون.
وأمّا أفعاله وخواصّه
- فإنّه يجلو قليلا، وينفخ، والمقلىّ منه قليل النّفخ، ولكنّه أبطأ انهضاما؛ والمطبوخ فى قشره كثير النّفخ، والنّبطىّ أشدّ قبضا ولا يجلو؛ قال: والباقلّى يولّد أخلاطا غليظة، وقد قضى إبّقراط «2» بجودة غذائه واذا قشر وشقّ نصفين ووضع على نزف قطعه؛ ومن خواصّه أنّه يقطع بيض الدّجاج اذا علفت منه، وأنّه يرى أحلاما مشوّشة «3» ، وأنّه يحدث الحكّة، خصوصا طريّه؛ ومن خواصّه أنّه اذا نمدت به عانة الصّبىّ منع نبات الشّعر، وكذلك اذا كرّر على الموضع المحلوق، ويجلو البهق من الوجه والكلف والنّمش، ويحسّن اللّون لا سيّما مع قشوره، واذا ضمد به بالشّراب على الخصية نفع ورمها؛ وينفع من تشنّج المفصل؛ ويضمد بمطبوخه النّقرس مع شحم الخنزير، وان خلط مع عسل ودقيق الحلبة «4» نفع من أو رام الحلق؛ وضماده جيّد لورم الثّدى وتجبّن اللّبن فيه؛ والمطبوخ منه بخلّ وماء ينفع من الإسهال المزمن، وخصوصا اذا كان بقشره(11/19)
وينفع من السّحج «1» ، ولا سيّما النّبطىّ، وسويقه أيضا ينفع من ذلك حسوا وضمادا هذا [ما قاله «2» فيه.
وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه به
- فمن ذلك قول الصّنوبرىّ] :
فصوص زمرّد فى غلف درّ ... بأقماع حكت تقليم ظفر
وقد خاط الرّبيع لها ثيابا ... بديع «3» اللّون من خضر وصفر
وقال أيضا فيه:
ونبات باقلّاء «4» يشبه نورها ... بلق الحمام مشيلة «5» أذنابها
وقال العسكرىّ:
ويزهى ورد باقلّى ... كأطواق الشّفانين «6»(11/20)
وقال أبو الفتح كشاجم:
وباقلاء حسن المجرّد ... مسك الثّرى شهد الجنى «1» غضّ ندى
كالعقد إلّا أنّه لم يعقد ... أو الفصوص فى أكفّ الخرّد
أو كبنات «2» الّلؤلؤ المنضّد ... فى طىّ أصداف من الزّبرجد
وقال فيه «3» أيضا:
وكأنّ ورد الباقلاء دراهم ... قد ضمّخت أوساطها بالعنبر
وكأنّه من فوق متن «4» غصونه ... يرنو بمقلة أقبل «5» أو أحور
وقال أيضا «6» :
ولاح ورد الباقلاء ناظرا ... عن مقلة تفتح جفنا عن حور
وقال أبو طالب المأمونىّ:
وباقلاء أزهر ... مثل سموط الجوهر
تضمّه أوعية ... مثل الحرير الأخضر
أوساطه مخطفة «7» ... مثل خصور ضمّر(11/21)
أطرافه مذروبة «1» ... مسروقة من أنسر
فطرف كمخلب ... وطرف كمنسر «2»
وقال ابن وكيع التّنّيسىّ «3» :
كأنّ ورد الباقلاء إذ بدا ... لناظريه أعين فيها حور
كمثل [ألحاظ] «4» اليعافير «5» إذا ... روّعها من قانص فرط الحذر
كأنّه مداهن من فضّة ... أوساطها بها من المسك أثر
وقال أيضا فيه:
كأنّ أوراق ورد ... للباقلاء بهيّه
خواتم من لجين ... فصوصها حبشيّه
وقال آخر:
لى نحو ورد الباقلا «6» ... إدمان لهو ولهج
كأنّما مبيضّه ... يلوح من ذاك الدّعج «7»(11/22)
خواتم من فضّة ... فيها فصوص من سبج «1»
وأما الأرزّ
- فقال الشيخ: هو حارّ يابس، ويبسه أظهر من حرّه؛ وقالوا: إنّه أحرّ من الحنطة؛ وهو يغذو غذاء صالحا؛ واذا طبخ باللّبن ودهن اللّوز كان غذاؤه أكثر وأجود، وسقط تجفيفه وعقله، وخصوصا اذا نقع ليلة فى ماء النّخالة؛ قال: وفيه جلاء؛ ومطبوخه بالماء يعقل؛ والمطبوخ باللّبن يزيد فى الباه ولا يعقل. ولم أقف على شىء من الشّعر فيه فأورده.
وأمّا الخشخاش وما ينتج عنه من عصارته
- فقال الشيخ الرئيس «2» :
وعصارة الخشخاش المصرىّ الأسود هى الأفيون؛ قال: والمختار منه الرّزين الحادّ الرائحة الهشّ السّهل الانحلال فى الماء، لا ينعقد فى الذّوب وينحلّ فى الشّمس والأصفر منه الصّافى اللّون الضعيف الرائحة مغشوش، وغشّه بالماميثا «3» ؛ وهو يغشّ بلبن الخسّ البّرىّ؛ ويغشّ بالصّمغ فيكون برّاقا صافيا جدّا؛ وطبعه بارد يابس فى الرابعة؛ وأفعاله وخواصّه، هو مخدّر مسكّن لكلّ وجع سواء شرب أم طلى به والشّربة منه مقدار عدسة كبيرة، ولا تزاد شربته على دانقين «4» ؛ ويمنع الأورام(11/23)
الحارّة؛ وفيه تجفيف للقروح، «واذا طلى «1» به باللّبن سكّن وجع النّقرس «2» » ؛ قال:
وامّا أفعاله فى الرأس، فهو منوّم؛ واذا أذيب بدهن الورد وقطر منه فى الأذن سكّن وجعها إذا أضيف إليه المرّ والزّعفران، ويسكّن الصّداع المزمن؛ ويسكّن السّعال المبرّح؛ وهو يحبس الإسهال، وينفع من السّحج «3» وقروح الأمعاء؛ وإذا عدم كان بدله ثلاثة أضعافه من بزر البنج وضعفه من بزر اللّفّاح «4» .(11/24)
وأمّا ما وصف به من الشّعر
- فمن ذلك قول الشّمشاطىّ «1» :
وخضراء قد نيطت على حسن حالها ... بإكليلها لمّا استطالت قناتها
مضمّنة حبّات درّ كأنّها ... لهم خير ما أمّ وهنّ بناتها
وقال الحصكفىّ «2» :
وغادة زاد فيها اللّحظ تكريرا ... قدّ يضيف «3» إلى التأنيث تذكيرا
لها على الرأس إكليل يحيط به ... أو جمّة «4» قصّ أعلاها شوابيرا «5»
كانّها قبّة من فوقها شرف ... جوفاء قسّمها البانى مقاصيرا
حبلى بعدّة أولاد وما افترعت ... عذراء تحكى لنا العذراء تطهيرا
تضمّ شمل أطيفال اذا درجوا ... رأيت شملهم المنظوم منثورا
عهدى بها فوق ساق ترجحنّ «6» بها ... زمرّذا ثم عادت بعد كافورا(11/25)
وقال ابن وكيع:
وخشخاش كأنّا منه نفرى ... قميص زبرجد عن جسم درّ
كأقداح من البلّور صينت ... بأغشية من الدّيباج خضر
وأمّا الكتّان وما قيل فى بزره وتشبيهه
- فقال الشيخ الرئيس:
بزر الكتّان حارّ فى الأولى، معتدل فى الرّطوبة واليبوسة، وإنّه مع النّطرون والتّين ضماد للكلف «1» والبثور اللّبنيّة «2» ؛ وينفع من تشنّج «3» الأظفار وتشقّقها وتقشّرها اذا خلط بشمع وعسل؛ ودخانه ينفع من الزّكام، وكذلك دخان الكتّان؛ وينفع من السّعال البلغمّى، وخصوصا المحمّص منه؛ وهو ردىء للمعدة، عسر الهضم، ومقليّه يعقل البطن؛ واذا طبخ وجلس فيه نفع من لذع يكون فى الرّحم وأورام؛ وكذلك الأمعاء؛ وينفع من قروح المثانة والكلية؛ قال: وطبيخ بزر الكتّان اذا حقن به مع دهن الورد عظمت منفعته فى قروح الأمعاء.
«ونبات الكتّان فى غاية ما يكون من البهجة والنّضارة وحسن الألوان «4» » .
وقد وصفه الشعراء بأوصاف وشبّهوه بأشياء؛ فمن ذلك قول ابن الرّومىّ:(11/26)
وحلس «1» من الكتّان أخضر ناضر «2» ... يباكره «3» دانى الرّباب «4» مطير
اذا درجت فيه الرّياح «5» تتابعت ... ذوائبه حتّى يقال غدير
وقال أبو الفتح كشاجم:
كأنّما الكتّان فيه إذ عقد ... ونشر الأوراق زرقا فى المدد «6»
آثار قرص من محبّ فى جسد
وقال ابن وكيع:
ذوائب كتّان تمايل فى الضّحى ... على خضر أغصان من الرّىّ ميّد
كأنّ اصفرار الزّهر فوق اخضرارها ... مداهن تبر ركّبت فى زبرجد
وقال آخر فى الأزرق.
كأنّه حين يبدو ... مداهن اللّازورد
اذا السماء رأته ... تقول هذا فرندى(11/27)
وأمّا الشّهدانج «1»
- ويقال فيه: الشاهدانق «2» فورقه الحشيش «3» ، وهو بزر شجرة القنّب؛ قال الشيخ الرئيس: ومن الشّهدانج بستانى معروف، ومنه برّىّ، قال حنين: إن البرّىّ شجرة تخرج فى القفار على قدر ذراع، ورقها يغلب عليه البياض، وثمرها كالفلفل، ويشبه حبّها حبّ السّمنة «4» ، وهو حبّ ينعصر منه الدّهن؛ قال: وطبعه حارّ يابس فى الثالثة؛ وهو يطرد الرّياح، ويجفّف، وهو عسر الانهضام، ردىء الخلط، قوىّ الإسخان، ومقلوّه أقلّ ضررا؛ قال: واذا طبخت أصول القنّب البرّىّ وضمدت بها الأورام الحارّة فى المواضع الصّلبة الّتى فيها كيموسات «5» لاحجة «6» سكّنت الحارّة وحلّلت الصّلبة، وهو مصدّع بحرارته، وعصارته تقطر لوجع الأذن السّددىّ «7» ، ولرطوبة الأذن، وكذلك ورقه ودهنه قلّاع للحزاز «8» فى الرأس(11/28)
وهو يظلم البصر، ويضعف المعدة، ويجفّف المنىّ، ولبن الشّهدانج البرّىّ يسهل برفق، ونصف رطل من عصيره يحلّ الاعتقال، ويطلق البلغم والصّفراء، ويذهب مذهب القرطم «1» ؛ هذا ما قاله فيه.
وقال بعض الشّعراء فى ورقه:
عاطيت من أهوى وقد زارنى ... كالبدر وافى ليلة البدر
والنّهر قد مدّ على متنه ... شعاعه جسرا من التّبر
خضراء كافوريّة رنّحت ... أعطافه من شدّة السّكر
يفعل منها درهم فوق ما ... تفعل أرطال من الخمر
فراح نشوان بها غافلا ... لا يعرف الحلو من المرّ
قال وقد لان بها أمره ... فبات مردودا إلى أمرى
قتلتنى، قلت: نعم سيّدى ... قتلين بالسّكر وبالنّجر «2»
وقال آخر:
يا ساقى القوم أدر بينهم ... خضراء تغنيهم عن الخمر
حشيشة تجعل كلّ امرئ ... منهم حشيشيّا ولا يدرى
وقال آخر: ربّ ليل قطعته ونديمى ... شاهدى وهو مسمعى وسميرى
مجلسى مسجد وشربى من خضراء ... تزهى حسنا بلون نضير(11/29)
قال لى صاحبى وقد لاح «1» منها ... نشرها مزريا بنشر العبير
أمن المسك؟ قلت: ليست من المسك ... ولكنها من الكافور
وأمّا البطّيخ وما قيل فيه
- فقال الثّعالبىّ فى فقه اللغة: أوّل ما يخرج البطّيخ يكون قعسرا، ثمّ خضفا، وهو أكبر من ذلك، ثم يكون قحّا، ثم يكون بطّيخا.
وهو نوعان
: برّىّ وبستانىّ؛
فالبّرىّ
، هو الحنظل، ومنه ذكر ومنه أنثى؛ فالذّكر ليفىّ، والأنثى رخو أبيض سلس؛ والمختار منه الأبيض منه الأبيض الشديد البياض الّلّين، فإنّ الأسود منه ردىء، والصّلب ردىء؛ وذكر فيه الشيخ الرئيس خواصّ ومنافع يطول شرحها؛ قال: وطبعه حارّ فى الثالثة «2» ؛ زعم الكندىّ أنّه بارد رطب؛ قال: وقد بعد عن الحقّ بعدا شديدا.
وأما البستانىّ
- فهو ثلاثة أصناف: هندىّ «3» وصينىّ وخراسانىّ؛ فالهندىّ هو الذى يسمّى بمصر: الأخضر، وبالمغرب: الدّلّاع، وبالحجاز: الحبحب، وبالشأم:
الزّبش «4» ؛ والصّينىّ هو الّذى يسمّى بمصر والشأم: الأصفر «5» ؛ والجيّد منه الثقيل الخشن الأصفر؛ وفيه يقول بعض الشّعراء:(11/30)
ثلاث هنّ فى البطّيخ زين ... وفى الإنسان منقصة وذلّه
خشونة جسمه والثّقل فيه ... وصفرة لونه من غير علّه
اذا شقّقته يوما تراه ... بدورا أشرقت منها أهلّه
والخراسانىّ هو الّذى له رقبة مستطيلة معوجّة، ويسمّى بمصر: العبدلىّ نسبة الى عبد الله بن طاهر، فإنّه الّذى نقله من خراسان اليها؛ وقد عدّ بعض الأطبّاء فى البطّيخ صنفا آخر، وهو لطيف الشكل، عطر الرائحة، منقوش بالحمرة والصفرة والسّواد؛ منه ما يكون بقدر الكفّ، وأكبر من ذلك، ومنه المستطيل، ويسمّى بالعراق: الدّستنبوى «1» ، واحدته دستنبويه؛ وفى الشأم «2» : الشّمّام، واحدته شمّامة؛ وفى الصّعيد الأعلى يسمّونه: اللّفّاح، وهو خطأ، لأنّ اللّفّاح صنف آخر؛ ولهم فى بعض بلاد الصّعيد الأعلى من الدّيار المصريّة صنف آخر من أصناف البطّيخ الأصفر يسمّونه: الشّتوىّ، وهو مستطيل الشّكل، غير جافّ، يشبه القثّاء، رقيق الجلد جدّا، وهم غالبا لا يقطعونه بالسّكّين، وإنّما يمتصّون البطّيخة فيخرج ما فيها، ويبقى جلدها شبه الظّرف؛ وأكثر ما رأيت هذا الصنف بإسنى من عمل مدينة قوص.
قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى البطّيخ- ولم يميّزه بأصنافه، بل أطلق اسم البطّيخ، فقال: طبعه بارد فى أوّل الثانية، رطب فى آخرها؛ وإذا جفّف بزره لم يكن مرطّبا، بل يجفّف فى الأولى، وأصله مجفف، وقال فى أفعاله وخواصّه:(11/31)
النّضيج منه لطيف، والنّىء كثيف، وغير النّضيج فى طبع القثّاء، وفيه تفتيح كيفما كان؛ قال: والنّضيج منه وغير النّضيج جاليان؛ وبزره أقوى جلاء؛ ويستحيل إلى أىّ خلط وافق فى المعدة؛ وهو إلى البلغم أشدّ ميلا منه إلى الصّفراء، فكيف إلى السوداء! وهو ينقّى الجلد، وينفع من الكلف «1» والبهق والحزاز «2» ، وخصوصا إذا عجن جوفه كما هو بدقيق «3» الحنطة وجفّف فى الشمس؛ وإذا ألصق قشره بالجبهة منع من النوازل إلى العين؛ قال: وإذا أكل وجب أن يتبع طعاما آخر، فإنه اذا لم يتبع شيئا آخر غثّى وقيّأ، وليشرب عليه المحرور سكنجبينا «4» ، والمرطوب كندرا «5» أو زنجبيلا: مربّى أو شرابا؛ قال: وهو يدرّ البول نضيجه ونيئه؛ وينفع من الحصاة فى الكلية؛ قال: وإذا فسد البطّيخ فى المعدة استحال الى طبيعة سميّة، فيجب إخراجه بسرعة إذا ثقل؛ هذا ما قاله الشيخ.
وأمّا ما جاء فى وصفه وتشبيهه
- فقد وصفه الشعراء وشبّهوه؛ فمن ذلك ما قيل فى الأخضر منه، قال أبو طالب المأمونىّ:
ومبيضّة فيها طرائق خضرة ... كما اخضرّ مجرى السيل من صيّب المزن
كحقّة عاج ضبّبت بزبرجد ... حوت قطع الياقوت فى عطب «6» القطن(11/32)
وقال آخر:
رأيتها فى كفّ جلّابها ... وقد بدت فى غاية الحسن
كسلّة خضراء مختومة ... على الفصوص الحمر فى القطن
وقال محمد بن شرف القيروانىّ:
ما أطفأت جمر الوقيد ... لمشتك «1» وقدا ووهجا
كإداوة «2» أكريّة «3» ... مملوءة ماء وثلجا
رتقاء لم يسلك بها ... غرز الأشافى «4» قطّ نهجا
تزهو بلونى خضرة ... هذا انتهى وأخوه لجّا
كزمرّد وزبرجد ... رصّعن للكافور درجا
أو وجه ذى خجل تبر ... قع بالمصبّغ أو تسجّى «5»
وقال آخر:
ومال إلى بطيخة ثمّ شقّها ... وفرّقها ما بين كلّ صديق
صفائح بلّور بدت فى زبرجد ... مرصّعة فيها فصوص عقيق
ومنه ما قيل فى الأصفر- قال أبو طالب المأمونىّ:
وبطّيخة «6» مسكيّة عسليّة ... لها ثوب ديباج وعرف مدام(11/33)
محقّقة ملء الأكفّ كأنّها ... من الجزع «1» كبرى لم ترض بنظام
لها حلّة من جلّنار «2» وسوسن «3» ... معمّدة بالآس «4» غبّ غمام
تمازج فيها لون حبّ وعاشق ... كساه الهوى والبين لون سقام
وأبدى لنا التحزيز تخضيب كاعب ... غلاميّة ذات اعتدال قوام
إذا فصّلت للأكل كانت أهلّة ... وإن لم تفصّل فهى بدر تمام
وقال آخر:
أتانا الغلام ببطّيخة ... وسكّينة جمّلوها «5» صقالا
فقطّع بالبرق شمس الضّحى ... وناول كلّ هلال هلالا
وقال آخر:
خلناه لمّا حزّز البطّيخ فى ... أطباقه بصقيلة الصّفحات(11/34)
بدرا يقدّ من الشموس أهلّة ... بالبرق بين الشّهب فى هالات
وقال قاضى القضاة نجم الدّين بن البارزىّ:
[يقطّع «1» بالسّكّين بطّيخة ضحى ... على طبق فى مجلس لان صاحبه
كشمس ببرق قدّ بدرا أهلّة ... لدى هالة فى الأفق شتّى «2» كواكبه
وقد تقدّم «3» إيرادهما فى تشبيه سبعة أشياء بسبعة أشياء.
وقال أبو هلال العسكرىّ] :
وجامعة لأصناف «4» المعانى ... صلحن «5» لوقت إكثار وقلّه
فإحداهنّ تبرز فى عباء ... وأخراهنّ فى حبر وحلّه
ومنها ما تشبّهه بدورا ... فإن قطّعتها رجعت أهلّه
وقال أيضا:
ولون واحد يلقى ... فيأتينا بألوان(11/35)
بسمران وسودان ... وحمران وصفران
كوشى فى يدى واش ... وشهد فى يدى جانى
فمن أدم ومن بقل ... وريحان وأشنان
وقال آخر:
بطّيخة تعطيك من لونها ... حظّين من ريح ومن طعم
كأنّها فى ذوقها شهدة ... أو جونة «1» العطّار فى الشّمّ
وقال أبو الفتح كشاجم:
وزائر زار وقد تعطّرا ... أسرّ شهدا وأذاع عنبرا
وأودعت منه اللهاة سكّرا ... ينفث فى الأنوف مسكا أذفرا
ملتحفا للحرّ ثوبا أصفرا ... معمّدا من الحرير أخضرا
يظنّه الناظر إن تصوّرا ... دبّ الدّبى بمتنه فأثّرا
وقال أيضا فيه:
يا جانى البطّيخ من غرسه ... جنيت منه ثمر الحمد
لم يأتنا حتّى أتتنا له ... روائح أذكى من النّدّ
بظاهر أخشن من قنفذ ... وباطن أنعم من زبد
كأنّما تكشف منه المدى ... عن زعفران شيب بالشّهد
ومنه ما قيل فى الدّستنبويه- فمن ذلك ما قاله مؤيّد الدّين الطّغرائىّ:
كرات دستنبوية نضّدت ... مختلفات الشّكل والمنظر
فمستدير الشّكل ذو سمرة ... كأنّه جمجمة العنبر(11/36)
ولا بس للنّور ذو نمرة ... والحسن كلّ الحسن فى الأنمر «1»
وعسجدىّ اللّون ذو صفرة ... ضمّ إلى ترب له أحمر
كأنّه المرّيخ فى لونه ... قارنه فى برجه المشترى
وقال آخر «2» :
يا حبّذا «3» تحيّة ... رحت بها مسرورا
مخزنة «4» من ذهب ... قد ملئت كافورا
وقال السرىّ:
وأغنّ كالّرشإ «5» الرّبيب «6» ... نشا خلال الرّبرب «7»
فى خدّه ورد حما ... هـ من القطاف بعقرب «8»(11/37)
حيّا بدستنبوية ... مثل السّنان المذهب
وقال فيها:
صفراء «1» ما عنّت لعينى ناظر ... إلّا توهّمها سنانا مذهبا
وأمّا القثّاء والخيار وما قيل فيهما
- فقد قال الشيخ الرئيس:
طبع القثّاء بارد رطب فى «2» الثانية؛ وهو يسكّن «3» الحرارة والصّفراء، ولكنّ كيموسه «4» ردىء مستعدّ للعفونة، ومهيّج لحميّات صعبة؛ وبزره خير من بزر الخيار، قال:
واذا وضع ورقه «5» مع العسل على الشّرى «6» البلغمىّ نفع منه؛ واذا شمّه صاحب الغشى «7» الحارّ انتفع به وانتعش؛ وهو مسكّن للعطش، جيّد للمعدة، وفيه إدرار وتليين، وينفع من أوجاع المذاكير؛ وهو يوافق المثانة؛ قال: وورقه ينفع من عضة الكلب الكلب.
وأمّا ما جاء فى وصفهما وتشبيههما من الشّعر
- فمن ذلك ما قيل فى القثّاء، قال عبد الرّحيم بن رافع القيروانىّ «8» :
أحبب بقثّاء أتانا ... فوق أطباق منضّد(11/38)
كمضارب قد حدّدت ... أجرامهنّ من الزّبرجد
نعم الدّواء إذا الهواء ... من الهواجر قد توقّد
وقال السّرىّ الرّفّاء:
وعقفاء مثل هلال السماء ... ولكنّها لبست سندسا
عراقيّة لم يذب جسمها ... هزالا ولم تجس «1» فيما جسا
زبرجدة حسنت منظرا ... وكافورة بردت ملمسا
على رأسها زهرة غضّة ... كنجم الظلام اذا عسعسا
حبانا بها مغرس طيّب ... من الأرض أكرم به مغرسا
لها أخوات لطاف القدود ... اذا ما تبرّجن خضر الكسا
محجّبة عن شموس النهار ... وبارزة لنسيم المسا
تقوّس فى حين ميلاده ... ولم أر ذا صغر قوّسا
يطول اللّسان بإطرائها ... ويصبح عن ذمّها أخرسا
وقال أبو بكر الخوارزمىّ:
يا ربّ قثّاء قريب «2» المورد ... درّ الحشا زمرّد المجرّد(11/39)
شخت «1» الرّءوس أصور «2» المقلّد ... مثل ذنابى ريش ديك أعقد «3»
قد التوى فوق الثّرى الرّطب النّدى ... كما يلوذ «4» أسود بأسود «5»
ذى زغب وفيه لين الأجرد ... كالخدّ بين الملتحى والأمرد
كأنّه فى اللّون والتأوّد ... صوالج ركّبن من زبرجد
يكاد للّين وللتقصّد «6» ... تجنيه ألحاظ الفتى قبل اليد
لمّا حصدناه قريب المحصد «7» ... هشّا وجدنا منه ما لم يوجد
ماء كطعم السّكّر الطّبرزد «8» ... وذوب شهد سائلا فى جمد «9»
وقال شاعر فى الخيار:
انظر إلى عرف الخيار ولونه ... كروائح الرّيحان للمخمور(11/40)
فكأنّ ظاهره زبرجد «1» أخضر ... وكأنّ باطنه من البلّور
وقال آخر:
خيار حين تنسبه خيار ... وريحان السرور به اخضرار
كأنّ نسيمه أنفاس حبّ ... فليس لمغرم عنه اصطبار
وقال أبو هلال العسكرىّ:
زبرجدة فيها قراضة فضّة ... فإن رجعت تبرا فقد خسّ أمرها
تلمّ بنا طورين فى كلّ حجّة ... فيكثر فينا خيرها ثمّ شرّها
فعند المصيف ليس يفقد نفعها ... وعند الخريف ليس يعدم «2» ضرّها
وأمّا القرع وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس: القرع بارد رطب فى الثانية؛ والمسلوق منه يغذو غذاء يسيرا؛ وهو سريع الانحدار؛ وإن لم يفسد قبل الهضم بسبب لم يتولّد منه خلط ردىء؛ ويفسد فى المعدة بمخالطة خلط ردىء أو إبطاء مقام كسائر الفواكه؛ والخلط الّذى يتولّد منه تفه إلّا أن يغلب عليه شىء يخالطه؛ وان خلط بالسّفرجل كان خلطه محمودا للصّفراويّين؛ وكذلك ماء الحصرم وماء الرّمّان، لكن ضرره بالقولون «3» يتضاعف، قال: ومن خاصّيّته أنّه يتولّد منه غذاء(11/41)
مجانس لما يصحبه؛ فاذا أكل بالخردل تولّد منه خلط حرّيف، أو بالملح تولّد منه خلط مالح، أو مع القابض تولّد منه خلط قابض؛ وهو بالجملة ضارّ لأصحاب السّوداء والبلغم، جيّد للصّفراويّين؛ قال: والمربّى منه لا يدخل فى الأدوية، ولا يؤثّر شيئا من تبريد ولا تسخين، ولكن يستعمل للّذة؛ وعصارته تسكّن وجع الأذن الحارّ، وخصوصا مع دهن الورد؛ وينفع الأورام الدّماغيّة»
والسّرسام «2» ، وهو نافع لوجع الحلق؛ قال: وسويق القرع «3» مانع من السّعال ووجع الصّدر الكائنين [من حرارة «4» ] ؛ وطبيخه ينفع من الفضول الحارة فى المعدة ويزلقها؛ وكذلك شراب صبّ فى تجويفه ثمّ استعمل، ويسعط بعصارته لوجع الأسنان؛ وهو ممّا يولّد بلّة المعدة جدّا، ويقطع العطش؛ والنّىء منه ضارّ بالمعدة جدّا حتّى للصّبيان «5» والفتيان؛ واذا طبخ ماؤه بالعسل(11/42)
وجعل فيه نطرون ليّن البطن، فهو ينفع من الحميّات. ولم أقف فيه على شىء من الشّعر فأورده «1» .
وأما الباذنجان «2» وما قيل فيه
- فقد قال ابن وحشيّة فى كتاب (أسرار القمر) فى توليده: وإن أردتم الباذنجان فخذوا خصيتى التّيس وعروقا من عروق الباذنجان فألقوها على الخصيتين بعد أن تجعلوا الخصيتين فى الأرض، وخذوا إحدى كليتيه واجعلوها فوق العروق، واطمروا «3» ذلك فى الأرض، فإنّه بعد أربعة أسابيع تنبت منه شجرة [الباذنجان «4» ] ، فاذا نبتت فحوّلوها إلى موضع آخر فإنّها تنمو؛ هذا ما قيل فى توليده، والله أعلم بالصّواب.
وقال الشيخ الرئيس: إنّ العتيق منه ردىء، والحديث أسلم. كأنّه أراد بالعتيق: الّذى طال مكثه فى الأرض؛ والحديث: الّذى قرب عهده بالغراسة «5» .
وقال فى طبعه: الصحيح أنّ قوّته الغالبة عليه الحرارة واليبوسة «6» . وردّ بهذا القول(11/43)
على من زعم أنّه بارد؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: إنّه يولّد السّوداء، ويولّد السّدد، وإنّه يفسد اللّون ويصفّره، ويسوّد البشرة، ويورث الكلف، ويولّد السّرطانات والصّلابات، والجذام والصّداع فى الرأس، وينتّن «1» الفم، ويولّد سدد الكبد والطّحال، إلّا المطبوخ منه بالخلّ فانّه ربّما فتّح سدد الكبد؛ قال:
والباذنجان يولّد البواسير، لكنّ سحيق أقماعه المجفّفة فى الظّلّ طلاء نافع للبواسير، قال: وليس للباذنجان نسبة الى عقل أو إطلاق، ولكنّها «2» اذا طبخت فى الدّهن أطلقت «3» ، أو فى الخلّ حبست «4» ؛ هذا ما قاله الشيخ فيه.
وأمّا ما وصف به من الشّعر
- فقال بعض الشعراء يصف المدوّر منه:
أهدت لنا الأرض من عجائبها ... ما سوف يزهو بمثله وقتى
اذا أجاد الّذى يشبّهه ... وأحكم الوصف منه فى النّعت
قال:
كرات الأديم قد حشيت «5» ... بسمسم قمّعت بكيمخت «6»(11/44)
وقال آخر «1» :
وابذنج «2» بستان أنيق رأيته ... على طبق يحكى لمقلة رامق
قلوب ظباء أفردت عن جسومها ... على كلّ قلب منهم كفّ باشق «3»
وقال آخر:
ومستحسن عند الطّعام مدحرج ... غذاه نمير الماء فى كلّ بستان
تطلّع من أقماعه فكأنّه ... قلوب نعاج فى مخالب عقبان
وقال آخر:
وكأنّما الابذنج سود حمائم ... أو كارها روض الرّبيع المبكر
لقطت مناقرها الزبرجد سمسما ... فاستودعته حواصلا من عنبر
وأمّا ما قيل فى السّلق
- فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم السّلق فخذوا من ورق الخسّ وورق الخطمىّ فدقّوهما حتّى يختلطا، وليكونا «4» رطبين، ثمّ خذوا عروقا من عروق التّيس فألبسوها ذلك المخلوط، ثمّ اطمروها «5» فى الأرض، فإنّه يخرج من ذلك السّلق.
قال الشيخ الرئيس: والسّلق صنفان: أسود لشدّة الخضرة «6» ، وهو المعروف(11/45)
[وأبيض «1» ] ؛ وطبعه عند بعضهم حارّ يابس فى الأولى؛ وفى الحقيقة أنّه مركّب القوّة، وعند بعضهم هو بارد؛ قال: ولا شكّ أنّ فى أصله رطوبة؛ قال: ولا شكّ أنّ فى أصله رطوبة؛ قال: وفيه بورقيّة «2» ملطّفة؛ وفيه تحليل وتجفيف «3» وتليين؛ وفى الأسود قبض، وخاصّة مع العدس «4» ؛ قال: وجميع السّلق ردىء الكيموس «5» ، وجميعه قليل الغذاء كسائر البقول؛ وعصارته وطبيخ ورقه ينفعان من شقاق «6» البرد، ومن داء الثّعلب «7» ، ومن الكلف إذا استعمل ورقه ضمادا بعد غسل الموضع بنطرون؛ ويقلع الثّآليل «8» ، وعصيره يقتل القمل، وتضمد به الأورام مسلوقا فيحلّلها وينضجها، وينفع من التّوث «9» ضمادا يحلّلها؛ وورقه(11/46)
جيّد مطبوخا لحرق النّار، وينفع من القوابى «1» طلاء بالعسل، ويسعط ماؤه مع مرارة الكركىّ فيذهب اللّقوة «2» ، وينفع من قروح الأنف؛ وماؤه فاترا يقطر فى الأذن فيسكّن الوجع؛ ويغسل بمائه الرأس فيذهب النّخالة «3» ؛ وأصله ردىء للمعدة، مغث «4» ، وأكثر ذلك لبورقيّته؛ قال: وتفتيحه لسدد الكبد أشدّ من تفتيح الملوخيّا «5» ، خاصّة مع الخردل والخلّ، وكذلك الطّحال، ويجب أن يؤكل بالمرّىّ «6» والتّوابل؛ قال: وجميعه يولّد النّفخ والقراقر «7» ويمغص؛ وهو جيّد للقولنج «8» إذا أخذ بالّتوابل والمرّىّ. ولم أقف على شىء من الشّعر فيه فأورده.(11/47)
وأمّا القنّبيط والكرنب
- فقال ابن وحشيّة: وإن أردتم توليد القنّبيط فخذوا منه رأسا بعد موته، فاغمسوه فى عكر الخلّ غمستين بينهما ساعة، ثمّ اتركوه فى الأرض، ودقّوا كفّا من جبن عتيق، واجعلوه فوقه، واطمروه بالتراب، فإنّه بعد أربعة أسابيع يخرج القنّبيط. ومن خصائص هذا النبات أنّه إذا وقع عليه خلّ العنب قبل طبخه لم ينضج؛ وكذلك إذا سلق وعمل عليه الخلّ فإنّه يصلب؛ ومتى زرع تحت كرم فسد الكرم؛ ويقال: إنّ بزره إذا قدم على أربع سنين وزرع بعد ذلك تحوّل سلجما، فإن زرع ذلك السّلجم تحوّل كرنبا «1» .
وقال فى توليد الكرنب: وإن أردتم الكرنب فخذوا أظلاف التّيس الأربعة فانقعوها فى السّمن ثلاثا؛ ثمّ اجعلوها فى الأرض، وغطّوها بشعر لحية التيس ثمّ اطمروا ذلك فى رمل، واطرحوا فوقه التراب، فإنه ينبت منه الكرنب.
وقال الشيخ الرئيس فى طبع الكرنب: الأصل «2» أرطب من الورق؛ والبرّىّ أسخن وأيبس، وجملته حارّ فى الأولى، يابس فى الثانية؛ قال: والكرنب منه بستانىّ «ومنه بحرىّ «3» » ومنه برّىّ، ومنه كرنب الماء، والبرّىّ أمرّ وأحدّ وأبعد من أن يكون غذاء؛ وطبيخ أصل الكرنب بماء الرّمّان طيّب؛ والقنّبيط غليظ الغذاء، مغلّظ للدّم(11/48)
إذا لم ينحلّ رسخ إلى نواحى الثّندؤة «1» والجنب وأوجع، ولا يكون منتقلا كالرّيحىّ «2» ؛ قال: وأمّا أفعاله وخواصّه، فهو منضج مليّن مجفّف، خصوصا إذا طبخ وصبّ عنه الماء الأوّل؛ ورماد قضبانه قوىّ التجفيف، وله خاصّيّة فى تسكين الأوجاع؛ وغذاؤه يسير؛ ودمه ردىء؛ وإذا طبخ بلحم سمين أو دجاج جاد قليلا؛ قال:
والبرّىّ والبحرىّ والبستانىّ ينضج الفلغمونيات «3» ، وهو يدمل «4» ، ويمنع سعى الخبيثة «5» ويجعل ببياض البيض على الحرق؛ قال: وهو ينفع من الرّعشة؛ ومع الحلبة قد(11/49)
يجعل على النّقرس «1» ؛ قال: وطبيخه وبزره يبطىء «2» بالسّكر؛ وإذا استعطت عصارته «3» نقّى الرأس، ومن خواصّه تجفيف اللّسان، وهو منوّم، وهو مظلم للبصر مع أنّه يقع فى الأكحال؛ قال: ويتغرغر بعصيره أو طبيخه مع دهن الخلّ من الخوانق «4» ؛ وأكله يصفّى الصّوت؛ وهو ردىء للمعدة؛ وعصيره بالنّبيذ نافع من الطّحال واليرقان «5» ؛ وبيضه «6» بطىء الهضم؛ وهو يدرّ البول والطّمث: «وإذا احتمل «7» هو أو عصارته مع دقيق الشّيلم «8» » أو زهره «9» قتل الجنين، وإذا احتمل بزره بعد الجماع أفسد المنىّ؛(11/50)
قال: ورماد أصله يفتّت الحصاة؛ وعصارته مع الشّراب للنّهوش «1» ؛ وهو نافع من عضّة الكلب الكلب.
ولم أقف على شعر [فيهما «2» ] فأذكره؛ والله الموفّق.
وأمّا السّلجم
- وهو اللّفت- فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم السّلجم فخذوا عرق الشّوك المعقّد فخزّوا من عقده ثلاثا كبارا، ثم خذوا رأس عنز بعد موتها فأدخلوا الثلاث عقد فيه، ثمّ اطمروه فى الأرض، واجعلوا فوقه كيله «3» من الماء، فإنّه بعد أربعين يوما ينبت الورق ظاهرا، ويعمل الأصل بعد ذلك وأكثروا من سقيه الماء فإنّه ينمى «4» ......
وقال شاعر «5» يصفه:
كأنّما السّلجم لمّا بدا ... فى حسنه الرائق من غير مين
قطائع «6» الكافور ملمومة ... لمبصريها أو كرات اللّجين(11/51)
وقال آخر:
يا حبّذا السّلجم من مأكل ... بنفعه فاق جميع البقول
كم فيه من منفعة جمّة ... إحصاؤها من غير مين يطول
وأمّا ما قيل فى الفجل
- فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم الفجل فخذوا من قرون المعز قرنين فانقعو هما فى بول النّاس سبعة أيّام، ثم اغرسوهما فى الأرض، وذرّوا عليهما شيئا يسيرا من حلتيت «1» ، واسقوهما ماء المطر يوما بعد يوم فإنّ ذلك ينبت لكم الفجل بعد أحد وعشرين يوما.
وقال الشيخ الرئيس: أقوى ما فى الفجل بزره، ثمّ قشره، ثمّ ورقه، ثمّ لحمه؛ ودهنه فى قوّة دهن الخروع، إلّا أنّه أشدّ حرارة منه. وقال فى طبعه: الرّطب «2» منه حارّ فى الأولى؛ وبزره حارّ فى الثالثة؛ وهو يولّد الرياح، لكنّ بزره يحلّلها؛ وفيه تلطيف؛ وغذاؤه بلغمىّ؛ وهو قليل مع ذلك؛ وفيه جوهر سريع إلى التّعفّن؛ قال: وإن خلط معه دقيق الشّيلم «3» أنبت الشعر فى داء الثعلب «4» ؛(11/52)
وإذا ضمد به مع عسل قلع الآثار العارضة تحت العين والقروح الخبيثة واللّبنيّة «1» ؛ وبزره مع الخلّ يقلع قرحة غنغرانا «2» قلعا تامّا، وكذلك على القوباء؛ وبزره ينفع من النّمش الكائن فى الأعضاء وسائر الألوان الغريبة وآثار الضّرب والكلف؛ وهو مع الكندس «3» [بخلّ «4» ] طلاء يذهب البهق الأسود، وخصوصا فى الحمّام؛ وهو يكثر القمل فى الجسد؛ قال: وبزره يدفع الضّربان الّذى فى المفاصل؛ وهو جيّد لوجع المفاصل جدّا؛ وهو يضرّ الرأس والأسنان والحنك؛ وعصارته ودهنه نافعان من الرّيح فى الأذن جدّا؛ وهو ضارّ بالعين، إلّا أنّه يجلو اذا قطر ماؤه فيها، ويذهب الآثار الّتى تحت المأق؛ وقال ابن ماسويه: إنّ ورقه يحدّ البصر؛ قال: والمطبوخ(11/53)
منه صالح للسّعال العتيق والكيموس «1» الغليظ المتولّد فى الصّدر؛ قال: وإن طبخ بسكنجبين «2» وتغرغر به نفع من الخناق «3» ، وفيه مع ذلك مضرّة بالحلق؛ قال: وهو ردىء للمعدة مجشّىء، وبعد الطعام مليّن للبطن، منفذ للغذاء؛ وقبل الطعام يطفى الطّعام ولا يدعه يستقرّ؛ وهو يسهّل القىء، وخصوصا قشره بالسّكنجبين؛ ويوافق الجنب والطّحال ضمادا؛ وبزره بالخلّ يقىّء «4» جدّا، ويحلّل ورم الطّحال؛ قال ابن ماسويه:
وإن أكل بعد الطعام هضم، وخاصّة ورقه؛ وماء ورقه يفتّح سدد الكبد، ويزيل اليرقان «5» ؛ وقال بعضهم: ورقه يهضم؛ وبزره وجرمه «6» محلّلان للنّفخ فى البطن، ويسهّلان خروج الطّعام، ويشهّيان، ويذهبان وجع الكبد؛ وماؤه جيّد للاستسقاء؛ قال:
وهو ينفع من نهش الأفاعى، وبالشراب من لسع العقرب؛ وبزره ينفع من السّموم(11/54)
والهوامّ؛ وإن وضعت شدخة منه على العقرب ماتت، وجرّب ماؤه فى ذلك فكان أقوى؛ وإن لدغت العقرب من أكل فجلا لم تضرّه؛ هذا ما ورد من منافعه ومضارّه.
وقال بعض الشعراء يصفه:
احبب بفجل قد أتتنى به ... عند مسائى ذات أوقار «1»
كأنّه فى يدها إذ بدا ... مقشّرا فى وقت إفطارى
قضبان بلّور وإلّا فما ... يجمد «2» من قطر النّدى الجارى
وقال آخر:
احبب بفجل قد أتانا به ... طبّاخنا من بعد تقشير
منضّد فى طبق خلته ... من حسنه قضبان بلّور
وأمّا الجزر وما قيل فيه
- فقال ابن وحشيّة فى توليده: إن أخذتم نابى الخنزير فدهنتمو هما بالزّيت، وجعلتم فى كلّ جانب من جانبى النابين الحادّين بعرة جمل، وطمرتموهما فى الأرض خرج عن ذلك الجزر الحلو الجيّد؛ وإن طمرتم قرنين من كبشين من كلّ واحد قرنا مدهونا بالّزيت خرج من ذلك الجزر. وقال أيضا:
وأن أردتم الجزر فخذوا أصل السّلجم فشقّوه نصفين، واجعلوا فى جوفه من البصل فى كلّ رأس بصلتين، واحدة فى أعلاه، وأخرى فى أسفله، وليكونا أصلين، ثمّ ادهنو هما بالزّيت، واطمروهما «3» بالتراب، فانّ ذلك يعمل أصلا هو الجزر، ويظهر ورقه على وجه الأرض.(11/55)
وقال الشيخ الرئيس: قال ديسقور يدوس: من الجزر صنف ورقه أصغر من ورق الرّازيانج وفى صورته، وساقه إلى شبر، وفقّاحه «1» أصفر، وله كصومعة «2» الكزبرة والشّبث «3» ، وله ثمر أبيض حادّ طيّب الرائحة والمضغ؛ والثانى «4» يشبه الكرفس الرّومىّ حرّيف محرق طيّب الرّائحة؛ والثالث ورقه كورق الكزبرة، أبيض الفقّاح، شبثىّ الصّومعة والثمرة، وله كأقماع الجوز محشوّة بزرا كمّونيّا فى هيئته وحدّته؛ قال:
وطبع الجزر حارّ فى آخر الثانية، رطب فى الأولى؛ وينفع بزره، وورقه اذا دقّ وجعل على القروح المتأكّلة نفع منها؛ والجزر ينفع من ذات الجنب، ومن السّعال [المزمن «5» ] ؛ وهو عسر الهضم؛ والمربّى «6» أسهل هضما، وينفع من الاستسقاء؛ ويسكّن المغص، ويدرّ، خصوصا البرّىّ، وخصوصا بزره، وكذلك ورقه؛ ويهيج الباه، وخاصّة البستانىّ «7» ، فإنه أشدّ نفخا، وليس يفعل ذلك بزر البرّىّ.
وأمّا الشّقاقل
«8» - وهو الجزر البرّىّ إن عدّ فى الجزر- فهو أهيج للباه(11/56)
من البستانىّ؛ ويدرّ الطّمث والبول. ورايت على حاشية (كتاب الأدوية المفردة) للشيخ الرئيس فى النسخة التى نقلت منها بخطّ من لعلّه استدرك على الشيخ ما صورته: الجزر نوعان: بستانىّ وبرّىّ؛ والمحلّى «1» عند ديسقوريدوس هاهنا هو (دوقو) ؛ وله ثلاثة أصناف، وليس هو من الجزر، ولمّا خلط الشيخ فى الماهيّة خلط فى المنافع. ودوقو، هو الجزر «2» البرّىّ؛ هذا ما رأيته فى الجزر.
وقال شاعر يصفه ويشبّهه:
انظر إلى الجزر الّذى ... يحكى لنا لهب الحريق
كمديّة من سندس ... فيها نصاب من عقيق
وقال ابن رافع:
انظر الى الجزر البديع كأنّه ... فى حسنه قضب من المرجان
أو راقه كزبرجد فى لونها ... وقلوبه صيغت من العقيان
وأمّا البصل وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس أبو علّى بن سينا: إنّه حارّ فى الثالثة، وفيه رطوبة فضليّة؛ وأمّا أفعاله، فهو ملطّف مقطّع، وفيه مع قبضه جلاء وتفتيح قوىّ، وفيه نفخ وجذب للدّم إلى خارج، ولا يتولّد من غير المطبوخ منه غذاء يعتدّ به، وغذاء الذى طبخ أيضا خلط غليظ؛ قال: وللبصل المأكول خاصيّة، ينفع من ضرر المياه، وهو يحمّر الوجه، وبزره يذهب البهق(11/57)
ويدلك به حول موضع داء الثّعلب «1» فينفع جدّا؛ وهو بالملح يقلع الثّآليل «2» ؛ وماؤه ينفع القروح الوسخة، وينفع مع شحم الدّجاج لسحج «3» الخفّ؛ واذا سعط ماؤه نقىّ الرأس؛ ويقطر فى الأذن لثقل الرأس والطّنين والقيح فى الأذنين؛ والإكثار منه يسبت «4» ؛ وهو ممّا يضرّ العقل لتوليده الخلط الرّدىء؛ وهو يكثر اللّعاب، وعصارته تنفع من الماء النازل فى العين، وتجلو البصر؛ ويكتحل ببزره «5» بالعسل لبياض العين؛ وماؤه مع العسل ينفع من الخناق؛ قال: والبصل يفتّح أفواه البواسير؛ وجميع أنواع البصل تهيّج الباه؛ وماؤه مدرّ للبول»
ومليّن للطّبيعة، وينفع من عضّة الكلب الكلب اذا نطل عليها ماؤه بملح وسذاب؛ قال: والبصل المأكول يدفع ضرر السّموم «7» ؛ قال بعضهم: لأنّه يولّد فى المعدة خلطا رطبا كثيرا يكسر عادية السّموم.(11/58)
قال شاعر يصفه:
يكثرن من لبس الثّياب تستّرا ... كتم الحسود ليطمئنّ «1» الحارس
فاذا نظرت الى الثّياب وجدتها ... أثواب زور ليس فيها لا بس
وقال ابن وكيع يصفه من أرجوزة:
فاعمد الى مدوّر من البصل ... فإنّه أكثر أعوان العمل
يحكى لعينيك احمرار قشره ... إذا رماه ناظر بفكره
غلائلا حمرا على جسوم ... بيض رطاب من جسوم الرّوم
وأمّا الثّوم وما قيل فيه
- فقال الشيخ: منه البستانىّ المعروف، ومنه الثّوم الكّراثىّ، والثّوم البرّىّ؛ وفى البرّىّ مرارة وقبض، وهو المسمّى ثوم الحيّة؛ والكرّاثىّ مركّب القوّة من الثّوم والكرّاث؛ مسخّن ومجفّف فى الثالثة إلى الرابعة، والبرّىّ أكثر من ذلك؛ والثّوم مليّن يحلّ النفخ جدّا، مقرّح للجلد، ينفع من تغيّر البلاد «2» ؛ واذا شرب بطبيخ الفوتنح «3» الجبلىّ قتل القمل والصّئبان؛ ورماده اذا طلى بالعسل(11/59)
على البهق نفع؛ وينفع من داء الثعلب الكائن من الموادّ العفنة؛ والثّوم البرّىّ يلصق الجراحات الخبيثة إذا وضع عليها طريّا؛ واذا احتقن بالثّوم نفع من عرق النّسا «1» ، لأنّه يسهل دما وأخلاطا، قال: والثّوم مصدّع للرأس، وطبيخه ومشويّه يسكّن «2» وجع الأسنان، وكذلك المضمضة بطبيخه، وخصوصا اذا خلط بالكندر «3» ؛ قال: والثّوم مضعف للبصر، ويجلب بثورا فى العين، ويصفّى الحلق مطبوخا؛ وينفع من السّعال المزمن، ومن أوجاع الصّدر من البرد؛ ويخرج العلق من الحلق؛ واذا جلس فى طبيخ ورق الثّوم وساقه أدرّ البول والطّمث وأخرج المشيمة، وكذلك إذا احتمل أو شرب؛ واذا دقّ منه مقدار درهمين «4» مع ماء العسل أخرج البلغم؛ وهو يخرج الدّود؛ وفيه إطلاق للطّبع؛ وأمّا فعله فى الباه فإنّه لشدّة تجفيفه وتحليله قد يضرّ، فإن طبخ فى الماء حتّى انحلّت فيه حدّته لم يبعد أن يكون ما يبقى منه فى مسلوقه قليل الحرارة لا يجفّف، وتتولّد منه مادّة المنىّ؛ قال: والثّوم نافع للسع(11/60)
الهوامّ ونهش الحيّات إذا سقى بشراب «1» ؛ قال: وقد جرّبنا ذلك؛ وكذلك من عضّة الكلب الكلب؛ واذا ضمد بالثّوم وبورق التّين وبالكّمون على عضّة موغالى «2» نفع؛ هذا ما أورده الشيخ فيه.
وقال شاعر يصفه «3» :
يا حبّذا ثومة فى كفّ طاهية ... بديعة الحسن تسبى كلّ من نظرا
أبصرتها وهى من عجب تقلّبها ... كصرّة من دبيقىّ «4» حوت دررا
وقال آخر:
الثّوم مثل الّلوز إن قشّرته ... لولا روائحه وطعم مذاقه
كالنّذل غرّك منظرا فإذا ادّعى ... لفضيلة ينمى إلى أعراقه
وأمّا الكرّاث وما قيل فيه
- فمنه الشّامىّ والنّبطىّ، ولكلّ منهما توليد ذكره أبو بكر بن وحشيّة فى كتاب (أسرار القمر) فقال: وان أردتم الكرّاث الشّامىّ(11/61)
فخذوا مقلة «1» واحدة فاغمسوها فى سكبينج «2» محلول ببول أىّ بول اتّفق، ثمّ اطمروها فى التراب، واسقوها الماء، فإنها تنبت بعد ثلاثين يوما، وتعمل أصولا جيادا.
وإن أردتم الكرّاث النّبطىّ فخذوا قشر الجوز فألقوه على قير «3» مغلىّ، واتركوه قليلا بقدر ما يعلق به من القير شىء يسير على أطرافه وجوانبه، وما لم يعلق به شىء فردّوه الى أن يعلق، ثمّ اجمعوا ذلك القشر وادفنوه فى التّراب، وألقوا عليه قبل التراب شيئا من خردل مسحوق، ثمّ اسقوه الماء، فإنّه ينبت فى أحد وعشرين يوما كرّاثا نبطيّا.
قال الشيخ الرئيس: الكرّاث منه شامىّ، ومنه نبطىّ، ومنه الّذى يقال له:
كرّاث برّىّ، وهو بين الكرّاث والثّوم، وهو أشبه بالدّواء منه بالطعام؛ والنّبطىّ أدخل فى المعالجات من الشّامىّ؛ وطبع النّبطىّ حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية؛ والبرّىّ أحرّ وأيبس، ولذلك هو أردأ؛ والشّامىّ مع السّمّاق «4» للثّآليل «5» ، ويذهب الشّرى «6»(11/62)
ومع الملح للقروح الخبيثة؛ والبرّىّ لقرح «1» الثّدى؛ قال: وهو يقطع الرّعاف. وقال غيره: ماء الكرّاث النّبطىّ يقطع الرّعاف وسيلان الدّم اذا خلط به شىء من كندر «2» مسحوق. قال الشيخ: ويبخّر ببزره مع القطران للسّنّ الّتى فيها دود؛ وأكله مصدّع، يخيّل أحلاما رديئة؛ ورماده مع [دهن «3» ] ورد وخلّ خمر لوجع الأذن وطنينها؛ وهو ممّا يفسد اللّثة والأسنان، وخصوصا [الشامىّ؛ وهو يضرّ البصر؛ وهو مع ماء الشّعير للرّبو الكائن من مادّة غليظة، وخصوصا النّبطىّ، وخصوصا «4» ] مع العسل؛ وينفع من أورام الرّئة وينضجها، ويعطى من بزره درهمان مع مثله حبّ الآس لنفث الدّم؛ والبرّىّ منه ردىء للمعدة، أردأ من الشّامىّ «5» ؛ والكرّاث كلّه نفّاخ؛ وقال روفس: إنّه يقطع الجشاء الحامض؛ قال الشيخ: وهو بالجملة بطىء الهضم؛ وهو يدرّ البول والطّمث، لا سيّما النّبطىّ والبرّى؛ ويضرّان المثانة والكلية «6» ؛ ومسلوقه ينفع البواسير مأكولا وضمادا، ويحرّك الباه، وكذلك بزره مقلوّا؛ قال:
وبزره مقلوّا مع حبّ الآس للزّحير «7» ودم المقعدة؛ ويجلس فى طبيخ ورقه بماء؛(11/63)
وهو نافع من انضمام الرّحم والصّلابة فيها؛ وطبيخ أصوله إسفيد باجة «1» بدهن القرطم أو دهن اللّوز أو شيرج «2» نافع للقولنج «3» ؛ ولم أقف فيه على شعر فأورده.
وأمّا الرّيباس «4» وما قيل فيه
- فقال الشيخ: الرّيباس له قوّة حمّاض «5» الأترجّ والحصرم؛ وهو بارد يابس فى الثانية؛ وهو مطفىء، قاطع للدم، يسكّن الحرارة، وينفع من الطاعون، ويحدّ البصر إذا اكتحل بعصارته؛ وينفع من الإسهال الصّفراوىّ؛ وينفع من الحصبة والجدرىّ والوباء «6» .
قال أبو بكر الخوارزمىّ يصفه:
ولعبة عاج فى قميص مورّد ... أسافله خضر وأزراره حمر
كأنّ يديها والأنامل خضّبت ... وشدّت على أطرافها خرق خضر(11/64)
وقال آخر:
ونبات لم يكتس «1» الورق الخض ... ر ولم يغذه نسيم الهواء
لا ولا كان فى الثّرى فتغذّيه ... بتسكابها يد الأنواء
جاء مثل السّياط «2» أو ... كالمساويك وبعض يحكى عصىّ الرّعاء
لذّ طعما وعمّ نفعا فأىّ النّقل «3» ... منه نلقى وأىّ الدّواء
قوله: «لا ولا كان فى الثّرى» ، يشير إلى أنّه لا ينبت إلّا فى الثّلج.
وقال آخر:
ومكنونة من بنات الثّرى ... تجمّع بالباب خطّابها
تمدّ يدا أبرزت كفّها ... يجرّ الزّمرّد عنّابها
وأمّا الهليون «4» وما قيل فيه
- فقال ابن وحشيّة فى توليده: متى دفنت أطراف قرون الكباش مع ورق السّلق، وسقيا «5» بالماء، نبت من ذلك الهليون؛(11/65)
قال: وإن أخذ من الهليون قضيب واحد وطلى بالعسل، ومرّغ فى رماد البلّوط «1» وألبس طينا، وطمر فى الأرض، خرجت منه عدّة عيدان كثيرة القضبان، بيض فى غاية البياض، وربّما كان فى بعضها حمرة حولها صفرة، وربّما كان فى بعضها حمرة حولها صفرة، وربمّا خالطها خضرة وتوريد.
وقال الشيخ الرئيس فيه: طبعه معتدل عند جالينوس؛ قال: إنّه ليس فيه إسخان ولا تبريد إلّا الصّخرىّ «2» ؛ قال الشيخ: أقول: لا يبعد عن الحرارة، وكلّما أخذ يصلب اشتدّ حرّه؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: قوّته جالية، تفتّح سدد الأحشاء كلّها، خصوصا الكبد والكلية؛ وفيه تحليل، خصوصا الصّخرىّ؛ قال: ويشرب طبيخه لوجع الظّهر وعرق النّسا «3» ؛ واذا طبخ أصله بالخلّ وكذلك بزره «4» فهو جيّد لوجع الضّرس؛ وينفع من اليرقان «5» ؛ قال: والأغلب يقولون فيه: إنّه ينفع من القولنج «6» البلغمىّ؛ وطبيخ أصوله يدرّ البول وينفع عسره، ويزيد فى الباه؛ وبزره إذا احتمل «7» أدرّ الطّمث، ويفتّح سدد الكلى؛ قال: واذا طبخ بالشّراب نفع من نهشة الرّتيلاء «8» ؛ وطبيخه يقتل- فيما يقال- الكلاب.(11/66)
وقال شاعر يصفه:
وباقة هليون أتت وهى غضّة ... فشبّهتها تشبيه ذى اللّبّ والفضل
برشق نبال جمعت من زبرجد ... مشنّفة الأعلى مفضّضة الأصل
وقال أبو الفتح كشاجم:
لنا رماح فى أعاليها أود «1» ... مثقّفات الجسم فتل كالمسد «2»
منتصبات فى انفراج كالعمد ... مكسوّة من صبغة «3» الفرد الصّمد
ثوبا من السّندس من فوق جسد ... قد أشربت حمرة لون تتّقد «4»
وأمّا الهندبا وما قيل فيها
- فقال ابن وحشيّة: إن أردتم الهندبا فخذوا من أصول الأشنان «5» فدقّوه واخلطوا به ورق الهندبا مدقوقا، وصبّوا عليه اليسير من الزّيت، وخمّروه فى إناء ثلاثة أيّام، ثم اجعلوه فى الأرض، واطمروه بالتراب فإنّه يخرج بعد أربعة عشر يوما هندبا؛ قال: وان أردتموه أيضا فخذوا رجل ديك فآنقعوها فى خلّ ممزوج بماء يوما وليلة، ثمّ انقعوها فى بول البقر ثلاثة أيّام، ثم اطمروها فى الأرض، فإنّه يخرج من ذلك نوع آخر من الهندبا؛ والّذى ينبت من أصول الأشنان أشدّ مرارة وأغلظ ورقا، لكنّه أنفع للكبد.(11/67)
قال الشيخ الرئيس: الهندبا منه برّىّ ومنه بستانىّ؛ وهو صنفان: عريض الورق، ودقيقه؛ وأنفعه للكبد أمرّه؛ وقال فى طبعه: إنّه بارد فى [آخر «1» ] الأولى ويابسه يابس فى الأولى، ورطبه رطب فى آخر الأولى؛ والبستانىّ أبرد وأرطب؛ قال: وقد تشتدّ مرارته فى الصّيف فيميل الى حرارة لا تؤثّر؛ والبرّىّ أقلّ رطوبة وهو الطّر خشقوق «2» ؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: انّه يفتّح سدد الأحشاء والعروق، وفيه قبض صالح وليس بشديد، وماؤه مع الإسفيدّاج «3» والخلّ عجيب فى تبريد ما يراد تبريده طلاء؛ قال: ويضمد به النّقرس «4» ، وينفع من الرّمد الحارّ؛ ولبن الهندبا البرّىّ يجلو بياض العين؛ ويضمد به مع دقيق الشعير للخفقان، ويقوّى القلب؛ واذا حلّ خيار «5» شنبر فى مائه وتغرغر به نفع من أورام الحلق؛ وهو يسكّن الغثى، ويقوّى المعدة، وهو خير «6» الأدوية لمعدة بها مزاج حارّ؛ والبرّىّ أجود للمعدة من البستانىّ؛(11/68)
وقيل: إنّه موافق لمزاج الكبد كيف كان؛ أمّا الحارّ فشديد الموافقة له، وليس يضرّ البارد ضرر سائر أصناف البقول الباردة؛ قال: واذا أكل مع الخلّ عقل البطن؛ وهو نافع لحمّى الرّبع «1» والحمّيات الباردة؛ وإذا جعل ضمادا مع أصوله للسع العقرب والهوامّ والزّنابير والحيّة وسامّ أبرص نفع، وكذلك مع السّويق.
وأمّا النّعنع وما قيل فيه
- فقال ابن وحشيّة: هو أحد منابت «2» أنواع تحت جنس واحد يسمّى الفودنج «3» ؛ والفودنج خمسة ضروب: جبلىّ «4» وصخرىّ، وبرّىّ «5» ، ونهرىّ «6» ، وبستانىّ؛ فالجبلىّ والصّخرىّ والبرّىّ واحد؛ وأمّا النّهرىّ فالنّمّام «7» ؛ والبستانىّ: النّعنع، وكلاهما نوع واحد، وذلك أنّ النّمّام لمّا نقل من شطوط الأنهار إلى البساتين صار نعنعا، ونقصت ريحه، وكبر ورقه وطال لكثرة ريّه وشربه.(11/69)
وقال فى توليده: وإن أردتم فودنجا بستانيّا فخذوا رجلى دجاجة وادهنوهما بعكر الزّيت، وادفنوهما فى التراب ثلاثة أيّام، ثمّ اغرسوهما فى الأرض واجعلوا الأصابع إلى فوق، ثمّ اجعلوا فوقها «1» عود سذاب عرضا، ثمّ نقّطوا عليه زيتا، ثم ألقوا عليه التراب، واتركوه ثلاثا، ثمّ صبّوا عليه زيتا فى اليوم الرابع مقدار ما تعلمون أنّ شيئا من الزّيت قد وصل إليه، فإنّه يخرج بعد أحد وعشرين يوما نعنعا ذكىّ الرائحة.
وقال الشيخ الرئيس فى النّمّام: النّمّام، هو السّيسنبر؛ وطبعه حارّ فى الثالثة يابس إليها؛ وهو يقاوم العفونات، ويقتل القمل، وينفع من الأورام الباردة «2» ؛ وإذا طبخ بالخلّ وخلط بدهن الورد [ولطخ «3» به الرأس نفع من النّسيان ومن اختلاط الذّهن] ؛ ويتضمّد بورق البرّىّ منه على الجبهة للصّداع؛ وهو نافع للفواق «4» إذا شرب بشراب «5» ، وبزره أقوى، وينفع من أورام الكبد الباردة، ويخرج الجنين الميّت؛ والبرّىّ منه اذا شرب بشراب منع من تقطير البول، وأخرج الحصاة وينفع من المغص، ويضمد به لسع الزّنابير، ويشرب للسعها منه وزن درهمين فى سكنجبين «6» .(11/70)
وقال فى النّعناع: هو حارّ يابس فى الثانية، وفيه رطوبة فضليّة، وقوّة مسخّنة قابضة؛ وهو ألطف البقول المأكولة جوهرا، واذا تركت طاقات منه فى اللّبن لم يتجبّن، واذا شربت عصارته بالخلّ قطعت سيلان الدم من الباطن؛ وهو مع السّويق ضماد للدّبيلات «1» ؛ وتضمد به الجبهة للصّداع، وخصوصا مع سويق الشّعير، وتدلك به خشونة اللّسان فتزول، ويمنع قذف الدّم ونزفه، ويعقد اللّبن فى الثّدى ضمادا، ويسكّن ورمه؛ وهو يقوّى المعدة ويسخّنها، ويسكّن الفواق ويهضم، ويمنع القىء البلغمىّ والدّموىّ، وينفع من اليرقان «2» ، وخصوصا شرابه؛ وهو يعين على الباه لنفخ فيه، ويقتل الدّيدان؛ واذا احتمل قبل الجماع منع الحبل؛ وهو نافع لعضّة الكلب الكلب.
قال أبو إسحاق الحضرمىّ فى النّمّام:
أرى النّمّام بالصّوت الفصيح ... ينادى الشّرب «3» حىّ على الصّبوح
بدا لك فى مطارفه وأبدى ... روائح تستقلّ بكلّ ريح
فقم واعص النّصيح وكن مطيعا ... لنا فالعيش عصيان النّصيح
وقال آخر:
حيّيتها بتحيّة فى مجلس ... بقضيب نمّام من الرّيحان
فتطيّرت منه وقالت: ألقه ... لا تقربنّ مضيّع الكتمان(11/71)
وقال آخر:
لا بارك الله فى النّمّام إنّ له ... اسما قبيحا من الأسماء مهجورا
لو لم ينمّ على العشّاق سرّهم ... ما كان فيهم بهذا الاسم مشهورا
وقال ابن رشيق- وخالف الأوّل «1» فيه-:
لم كره النّمّام أهل الهوى ... أساء إخوانى وما أحسنوا
إن كان نمّاما فتنكيسه ... من غير تكذيب لهم مأمن «2»
وأمّا الجرجير وما قيل فيه
- فقال ابن وحشيّة: وان أردتم جرجيرا فخذوا خنفساء كبيرة، ومن ورق الباذرنبويه «3» ثلاثة قضبان، واسحقوه مع الخنفساء، ثم خذوا سبع حبّات حمّص أسود، واقلوها، وألبسوها الذى سحقتم، واطمروه «4»(11/72)
فى الأرض، ولا تسقوه الماء، ولتكن أرضا نديّة بالقرب من نبات يسقى دائما فإنّه يخرج من ذلك الجرجير.
وقال الشيخ الرئيس: الجرجير منه برّىّ ومنه بستانىّ؛ وبزر الجرجير هو الّذى يستعمل فى الطّبيخ بدل الخردل؛ وهو حارّ فى الثالثة، يابس فى الأولى، وفى رطبه رطوبة فى الأولى، وهو مليّن منفّخ، وماؤه بمرارة البقر ينفع لآثار القروح؛ وهو مصدّع؛ خصوصا اذا أكل وحده، والخسّ يمنع هذا الضرر منه، وكذلك الهندبا والرّجلة؛ وهو مدرّ للّبن، وفيه هضم للغذاء؛ والبرّىّ منه مدرّ للبول محرّك للباه والإنعاظ، خصوصا بزره؛ واذا أكل وشرب عليه الشّراب «1» الرّيحانىّ فهو درياق لعضّة ابن عرس.
وأمّا السّذاب وما قيل فيه
- فقال ابن وحشيّة: ان أردتم سذابا فخذوا رجلى ديك فانقعوهما فى عصارة الفودنج «2» البرّىّ أربعة أيّام، ثم اغمسوهما فى الزّيت واغرزوهما فى الأرض، واجعلوا فوق أصابع كلّ رجل حجرين «3» من الكندر أكبر ما تقدرون عليه، ثمّ طاقة من سذاب يابس عرضا، واطمروه فى التراب، فإنّه بعد أحد وعشرين يوما يخرج منه السّذاب، فحوّلوه من منبته الى بقعة أخرى، فانّه يشتدّ ويقوى؛ ومن خاصّيّة السّذاب أنّ الحائض اذا مسّته بيدها جفّ؛ وهو اذا زرع فى أصل شجرة التين نقصت حرارته وحرافته لما بينهما من الموافقة.(11/73)
وقال الشيخ الرئيس: أوفق السّذاب البستانىّ ما ينبت عند شجرة التّين؛ وطبع السّذاب الرّطب منه حارّ يابس فى الثانية، واليابس حارّ يابس فى الثالثة:
واليابس البرّىّ حارّ يابس فى الرابعة؛ وهو مقطّع محلّل مفشّ «1» جدّا، منقّ للعروق مقرّح قابض؛ وهو مع النّطرون على البهق الأبيض وعلى الثآليل «2» والتّوث «3» نافع ويذهب رائحة الثّوم والبصل، وينفع من داء الثّعلب «4» ؛ واذا دقّ «5» وضمد به مع الملح عضو أحدث عليه ورما حارّا؛ واذا جعل على خنازير «6» الحلق والإبط حلّلها(11/74)
والصّمغ أقوى فى جميع ذلك؛ واذا جعل مع السّمن «1» والعسل على القوابى «2» ومع الخلّ والإسفيداج «3» على النّملة «4» والحمرة «5» [نفع «6» ] وينفع من الفالج وعرق النّسا وأوجاع المفاصل شربا وضمادا بالعسل، ويضمد به مع السّويق للصّداع المزمن؛ وعصارته المسخّنة فى قشور الرّمّان تقطر فى الأذن فتنفعها «7» ، وتسكّن الوجع والطّنين والدّوىّ، وتقتل الدّود، وتطلى بها قروح الرأس؛ وهو يحدّ البصر، وخصوصا عصارته مع عصارة الرازيانج والعسل كحلا وأكلا، وقد يضمد به مع السّويق على ضربان العين، وطبيخ الرّطب منه مع الشّبث «8» اليابس نافع لوجع الصّدر وعسر النّفس على ما شهد به روفس(11/75)
ويضمد به مع التّين للاستسقاء اللّحمىّ «1» ، ويسقى شراب طبخ فيه السّذاب، واذا شرب من بزره من درهم إلى درهمين للفواق البلغمىّ سكّنه؛ وهو يمرئ ويشهّى ويقوّى المعدة، وينفع من الطّحال؛ وهو مجفّف للمنىّ ويقطعه، ويسقط شهوة الباه ويحقن به مع الزّيت لأوجاع القولنج، ويوضع بالعسل على قروح المقعدة، ويغلى فى الزّيت ويشرب للدّيدان؛ قال: والنوعان يستفرغان فضول البدن بالإدرار؛ ويضمد به وبورق الغار»
على الأنثيين لأورامهما، وأكله ينفع من الحمّى النافض «3» والتمريخ بدهنه؛ وهو يقاوم السّموم، والإكثار من أكل البرّىّ قاتل «4» . ولم أقف على وصف فيه فأورده.
وأمّا الطّرخون «5» وما قيل فيه
- فهو صنفان: بابلىّ، وهو طويل الورق؛ ورومىّ، وهو مدوّر، قال ابن وحشيّة فى توليده: وان أردتم الطّرخون فخذوا(11/76)
من عروق العشر «1» وورقه فدقّوا ذلك دقّا يسيرا بلاسحق، ثمّ صرّوه فى صرّة واحدة أو صرر فى ورق الفجل الكبار، واطمروه فى الأرض، فإنه يخرج لكم منه الطّرخون.
وقال الشيخ الرئيس: قالوا: إن العاقر قرحا هو أصل الطّرخون الجبلىّ؛ قال:
وطبعه الظاهر أنّه حارّ يابس الى الثانية، وإن كانت فيه قوّة مخدّرة؛ قال:
وقال بعض من لا يعتمد عليه: إنّه بارد يابس. قال الشيخ: وهو مجفّف للرّطوبات، وفيه تبريد ما، واذا مضغ وأمسك فى الفم نفع القلاع «2» ؛ وهو يحدث وجع الحلق؛ وهو عسر الهضم؛ وهو يقطع شهوة الباه.
وأمّا الإسفاناخ وما قيل فيه
- أمّا توليده فقال ابن وحشيّة فيه: خذوا عروق الخطمىّ «3» ولفّوا عليها من ورق الخسّ الرّطب، وانقعوها فى الشّيرج يوما ثمّ اطمروها فى التراب، فإنّها تنبت بعد سبعة أيّام إسفاناخا.
وأمّا طبعه وأفعاله
- فقال الشيخ: هو بارد رطب فى آخر الأولى، وهو مليّن، وفيه قوّة جالية غسّالة، ويقمع الصّفراء، وينفع من أوجاع الظّهر الدّمويّة ونافع من وجع الصّدر والرّئة.(11/77)
وأمّا البقلة الحمقاء «1»
- وهى اليرسا «2» ، وتسمّى الرّجلة «3» والفرفحين «4» -.
أمّا توليدها
- فقد قال «5» : وان أردتم يرسا- وهى البقلة الحمقاء- فخذوا عروق القطن وورقه رطبين فدقّوهما دقّا يسيرا وغرّقوهما باللّبن الّذى قد أنبذ «6» فيه الحمّص، ثمّ اطمروه فى الأرض، فإنّه بعد أسبوع تنبت منه هذه البقلة.
والذى نعرفه نحن من أمرها أنّها تنبت فى أرض قصب السكّر من غير معالجة.
وأمّا طبعها وفعلها
- فقال الشيخ الرئيس: إنّ طبعها بارد فى الثانية «7» رطب فى آخرها، وإنّ فيها قبضا يمنع النّزف والسّيلانات المزمنة، وغذاؤها قليل غير(11/78)
مذموم «1» ؛ وهى قامعة للصّفراء جدا؛ قال: ومن خاصّيّتها أنّها تحكّ بها الثّآليل «2» فتقلعها؛ وهى ضماد للأورام الحارّة الّتى يتخوّف عليها الفساد، وللحمرة «3» ، وتنفع البثور فى الرأس غسلا بها، وتسكّن الصّداع الحارّ الضّربانىّ؛ وتنفع من الرّمد، وتدخل فى الأكحال والإكثار منها يحدث الغشاوة؛ وتنفع التهاب المعدة شربا وضمادا؛ وتنفع الكبد الملتهبة، وتمنع القىء، وتنفع من أوجاع الكلى والمثانة وقروحهما، وتقطع شهوة الباه؛ وزعم ما سرجويه أنّها تزيد فى الباه. قال الشيخ: ويشبه أن يكون ذلك فى الأمزجة الحارّة اليابسة؛ وهى تحبس نزف الدّم من الحيض؛ وينفع ماؤها من البواسير الدّامية، ومن الحمّيات الحارّة؛ قال: وإن شويت وأكلت قطعت الإسهال.
وأمّا الحمّاض وما قيل فيه
- فقال ابن وحشيّة: وإن أردتم الحمّاض فخذوا من اليرسا «4» ثلاثا أو أربعا فانقعوها فى ماء وخلّ ثلاثة أيّام، ثمّ خذوا عرقا(11/79)
من عروقها أو عرقين فآجعلو هما فى الأرض، واجعلوا الطاقات المنقوعة فوقهما ثم صبّوا عليها ذلك الخلّ الممزوج، واطمروها، فإنّها تنبت لكم الحمّاض.
وقال الشيخ الرئيس: الحمّاض منه بستانىّ «1» ومنه برّىّ «يقال له: السّلق البرّىّ، وليس فى البرّىّ كلّه كما يقال حموضة، بل لعلّ فى بعضه حموضة؛ والبرّىّ أقوى فى كلّ شىء؛ وطبعه بارد يابس فى الثانية، وبزره بارد فى الأولى، يابس فى الثانية، وفيه قبض، وفى التّفه منه تحليل يسير، والحامض أقبض؛ والذى ليس شديد الحموضة أغذى، وهذا هو الشبيه بالهندبا؛ وكلّه يقمع الصّفراء؛ وخلطه محمود؛ وأصله بالخلّ ينفع لتقشير الأظفار؛ واذا طبخ بالشّراب نفع ضماده من البرص والقوباء؛ وقيل: إنّ أصله إذا علّق فى عنق صاحب الخنازير «2» انتفع به؛ وأصله بالخلّ للجرب المتقرّح والقوابى «3» ؛ وطبيخه بالماء الحارّ ينفع من الحكّة، وكذلك هو نفسه فى الحمّام؛ واذا تمضمض بعصارته نفع من وجع السّنّ، وكذلك بمطبوخه فى الشّراب؛ وينفع من الأورام الّتى تحت الأذن؛ وينفع من اليرقان الأسود بالشّراب؛ ويسكّن الغثيان؛ ويؤكل لشهوة الطّين؛ وبزره يعقل البطن؛ وقد(11/80)
قيل: إنّ فى ورقه تليينا ما، وفى بزره عقل مطلق؛ وقال بعضهم: إنّ بزر الحمّاض غير مقلوّ فيه إزلاق وتليين؛ وأصله مدقوقا لسيلان الرّحم وتفتيت حصاة الكلية إذا شرب فى شراب، واللزّوجة الّتى فيه تنفع من السّحج العارض من يبس الثّفل «1» ؛ وهو ينفع من لسع العقرب، وخصوصا البرّىّ؛ وإن استعمل بزره قبل لسع العقرب لم يضرّ لسعها.
وأمّا الرّازيانج «2» وما قيل فيه
- فقال ابن وحشيّة: ان أخذتم أخثاء «3» الخنزير فخلطتموها بدمه، ولففتموها فى شىء من جلده، ثم طمرتموها بالتراب الّذى له نزّ وفيه رطوبة، خرج عن ذلك الرّازيانج.
قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: «والرّازيانج نبطىّ ورومىّ.
فأمّا النّبطىّ
- فمنه برّىّ، ومنه بستانى «4» » ؛ والبرّىّ أشدّ حرارة ويبسا، وأولى بالثالثة؛ وأمّا البستانىّ فتكون حرارته فى الثانية؛ قال: والرّازيانج يفتّح السّدد(11/81)
ويحدّ البصر، خصوصا صمغه؛ وينفع من ابتداء الماء، وزعم إبّقراطيس «1» أنّ الهوامّ ترعى بزر الرّازيانج الطّرىّ ليقوّى بصرها، والأفاعى والحيّات تحكّ أعيانها عليه إذا خرجت من مآويها بعد الشتاء استضاءة للعين، ورطبه يغزر اللّبن، وخصوصا البستانىّ، ويدرّ البول والطّمث؛ والبرّىّ خاصّة يفتّت الحصاة؛ وفيهما «2» منفعة للكلية والمثانة؛ والبرّىّ ينفع من تقطير البول، وينقّى النّفساء؛ واذا أكل بزره مع أصله عقل؛ وينفع من الحميّات المزمنة؛ وطبيخه بالشّراب «3» ينفع من نهش الهوامّ؛ ويدقّ أصله ويجعل طلاء من عضّة الكلب الكلب.
«وأمّا الرّومىّ «4»
- وهو الّذى بزره الأنيسون» - فقال جالينوس: هو حارّ فى الثانية، يابس فى الثالثة. وقال الشيخ: هو مفتّح مع قبض يسير؛ وهو مسكّن للأوجاع، محلّل للرّياح، وخصوصا إن قلى، وفيه حدّة يقارب بها الأدوية المحرقة وينفع من التهيّج فى الوجه، وورم الأطراف؛ واذا بخّر به واستنشق برائحته «5» سكّن الصّداع؛ وإن سحق وخلط به دهن الورد وقطر فى الأذن أبرأ ممّا يعرض فى باطنها(11/82)
من صدع عن صدمة أو ضربة، وينفع من السّبل «1» المزمن، «ويسهّل النّفس «2» » ويدرّ اللّبن، ويقطع العطش الكائن عن الرّطوبات البورقيّة؛ وينفع من سدد الكبد والطّحال، ومن الرّطوبات؛ ويدرّ البول والطّمث الأبيض، وينقّى الرّحم من سيلان الرّطوبات البيض؛ ويحرّك الباه، وربّما عقل البطن؛ وهو يفتّح سدد الكلى ويدفع ضرر السّموم والهوامّ، والله أعلم.
وقال ابن وكيع فى الرّازيانج:
أخذت من كفّ الغزال الأحور ... غصنا من البسباس «3» ممطورا طرى «4»
كأنّه فى عين كلّ مبصر ... مذبّة من الحرير الأخضر
وأمّا الكرفس وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس: الكرفس منه جبلىّ ومنه برّىّ، ومنه بستانىّ، ومنه ما ينبت فى الماء وبقربه؛ وهو أعظم من البستانى(11/83)
وقوّته كقوّته «ومنه «1» نوع يسمّى سمرنيون «2» » أعظم من البستانىّ أجوف السّاق إلى البياض، وقد يختلف بالبلاد، فمنه رومىّ، ومنه غيره؛ قال: وأقواه الرومىّ ثمّ «3» الجبلىّ؛ وطبعه فى أولى الحرارة، وثانية اليبوسة. وقال روفس: البستانىّ رطب إلّا أصله، فهو يابس اتّفاقا؛ قال: وهو محلّل للنّفخ، مفتّح للسّدد، مسكّن للأوجاع؛ ومربّاه أوفق للمحرور؛ والبرّىّ ينفع لداء الثّعلب «4» ، ولتشقيق الأظفار والثآليل «5» وشقاق «6» البرد؛ والبستانىّ مطيّب للنّكهة جدّا؛ والبرّىّ مقرّح إذا ضمد به ولذلك ينفع من الجرب والقوباء، ومن الجراحات الى أن تنختم، خصوصا سمرنيون «7» وسمرنيون يوافق جميع أجزائه عرق النّسا؛ والكرفس البستانىّ يدخل فى أضمدة «8» أوجاع العين؛ وينفع من السّعال، وخصوصا سمرنيون؛ وكذلك ضيق النّفس(11/84)
وعسره؛ وهو من أدوية «1» أو رام الثّدى الحارّة؛ وينفع الكبد والطّحال؛ ويحرّك الجشاء لتحليله؛ وليس سريع الانهضام والانحدار؛ وفى بزر الكرفس تغثية وتقيىء إلّا أن يقلى؛ قال: وقال بعضهم: إنّ جميع أصله نافع للمعدة. ويقول روفس:
لا، بل قد يجلب إليها رطوبات رديئة حادّة؛ وقال جالينوس: إنّه ممّا يصلح أن يؤكل مع الخسّ، فإنّه يعدل برد الخسّ؛ وبزره ينفع من الاستسقاء، وينقّى الكبد ويسخّنها؛ وهو يدرّ البول والطّمث؛ وهو ردىء للحوامل؛ وهو ينقّى الكلية والمثانة والرّحم، وينفع من عسر البول، ويخرج المشيمة، خصوصا سمرنيون ويملأ الرّحم رطوبة حرّيفة إذا أدمن أكله. قال: وقال بعضهم: الكرفس يهيّج الباه، حتى قال: يجب أن تمنع المرضعة من تناوله لئلّا يفسد لبنها لهيجان شهوة الباه؛ والرّومىّ جيّد لقولون «2» والمثانة والكلية؛ وطبيخه مع العدس يتقيّأ به بعد شرب السّمّ؛ واذا لسعت العقرب من أكله اشتدّ به الأمر. انتهى القسم الأوّل.(11/85)
القسم الثانى من الفنّ الرابع فى الأشجار
وفيه ثلاثة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفنّ فيما لثمره قشر لا يؤكل
ويشتمل هذا الباب على اللّوز والجوز والجلّوز والفستق والشّاه بلّوط والصّنوبر والرّمّان والموز والنّارنج واللّيمون.
فأمّا اللّوز وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس فى طبيعته: الحلو معتدل إلى رطوبة، والمرّ حارّ يابس فى الثانية؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: فى جميع أصناف اللّوز جلاء وتنقية وتفتيح، لكن الحلو أضعف من المرّ فى تفتيحه، لأنّه ملطّف، ودهنه أخفّ من جرمه؛ والمرّ ينفع من الكلف والنّمش والاثار، ويبسط تشنّج الوجه؛ وأصل المرّ اذا طبخ وجعل على الكلف كان دواء قويّا؛ وأكل اللّوز الحلو يسمّن؛ والمربّى بالشّراب جيّد للشّرى «1» ، ويطلى به بالعسل الساعية «2» والنّملة ويطلى به بالخلّ أو بالشّراب على القوابى «3» ، والمرّ أبلغ فى ذلك؛ وهو جيّد لوجع(11/86)
الأذن والّدوىّ فيها، وخصوصا المرّ دهنا ومسحوقا [بحاله «1» ] وممسوحا «2» ؛ واذا غسل الرأس به وبالشراب نقىّ الرّطوبة والحزاز «3» ونوّم؛ واذا شرب المرّ قبل الشراب منع السّكر، وخصوصا خمسين عددا؛ وشجر اللّوز المرّ إذا دقّ ناعما وخلط بالخلّ ودهن الورد وضمد به الجبين نفع الصّداع، وكذلك دهن اللّوز المرّ ينفع منه؛ وهو يقوّى البصر؛ واللّوز المرّ مع نشا «4» الحنطة جيّد لنفث الدّم؛ وينفع من السّعال المزمن والرّبو وذات الجنب، وخصوصا دهن الحلو؛ وسويق اللّوز نافع من السّعال ونفث الدّم؛ وهو يفتّح سدد الكبد والطّحال، وخصوصا المرّ، فإنّه يفتّح السّدد العارضة فى أطراف العروق؛ واذا أكل الطرىّ بقشره نقىّ بلّة المعدة؛ وهو عسر الهضم، جيّد الخلط، قليل الغذاء؛ واذا كان بالسّكّر انحدر سريعا؛ ودهن المرّ ينقّى الكلية والمثانة ويفتّت الحصاة، خصوصا مع الإيرساء «5» شربا، وربّما نفع ضمادا معه ومع دهن(11/87)
الورد «1» ؛ وينفع لأوجاع الرّحم وأورامها الحارّة وصلابتها وعسر البول ووجع الكلّى؛ ويحتمل «2» فيدرّ الطّمث؛ والحلو نافع من القولنج لجلائه؛ والمرّ أنفع؛ ودهنه أخفّ من جرمه «3» . قال: وينفع من عضّة الكلب الكلب.
وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه
- فمن ذلك قول ابن المعتزّ:
ثلاثة أثواب على جسد رطب ... مخالفة الأشكال من صنعة الرّبّ
تقيه الرّدى فى ليله ونهاره ... وان كان كالمسجون فيها بلا ذنب
وقال آخر:
أما ترى اللّوز حين ترجله «4» ... عن الأفانين كفّ مقتطف
وقشره قد جلا القلوب لنا ... كأنّها الدّرّ داخل الصّدف
وقال آخر «5» :
جاء بلوز أخضر ... أصغره ملء اليد
كأنّما زئبره ... نبت عذار الأمرد
كأنّما قلوبه ... من توأم ومفرد
جواهر لكنّما ال ... أصداف من زبرجد(11/88)
وقال أبو طالب المأمونىّ:
ومستجنّ عن الجانين ممتنع ... بحلّة لم تحكها كفّ نسّاج
درّ تكوّن من عاج تضمّنه ... فى البرّ لا البحر أصداف من السّاج
وقال آخر فى لوزة بقلبين:
ومهد إلينا لوزة قد تضمّنت ... لمبصرها قلبين فيها تلاصقا
كأنّهما حبّان فازا بخلوة ... على رقبة فى مجلس فتعانقا
وأمّا الجوز وما قيل فيه
- فقال الشيخ: هو حارّ، ودرياقه للمحرورين السّكنجبين، ولضعفاء المعدة المربّى بالخلّ، وهو حارّ فى الثانية «1» يابس فى أوّلها ويبسه أقلّ من حرّه، وفيه رطوبة غليظة تذهب إذا عتق.
وأمّا أفعاله وخواصّه
- ففى مقلّوه قبض؛ وورقه وقشره كلّه قابض للنّزف؛ وقشره المحرق مجفّف بلا لذع؛ ودهن العتيق منه كالزّيت العتيق، وجلاء العتيق قوىّ، ولبّه الممضوغ يجعل على الورم السّوداوىّ المتقرّح فينفع؛ وصمغه نافع للقروح الحارّة منثورا عليها وفى المراهم؛ وهو مع عسل وسذاب ينفع التواء العصب؛ وعصارة ورقه تفتّر وتقطر فى الأذن فتنفع من المدّة. وقيل: إنّه مثقّل للّسان مبثّر للفم، وعصارة قشره وربّه «2» يمنع «3» الخناق، ويضرّ بالسّعال؛ وهو عسر الهضم ردىء للمعدة، والمربّى والرّطب أجود للمعدة وأقلّ ضررا؛ والمربّى بالعسل نافع للمعدة(11/89)
الباردة؛ وقشره يحبس نزف الطّمث؛ والمربّى نافع للكلية الباردة؛ ورماد قشره يمنع الطّمث شربا بالشراب وحملا «1» ؛ والجوز مع التّين والسّذاب دواء لجميع السّموم ومع البصل والملح ضماد على عضّة الكلب الكلب وغيره.
وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه
- فمن ذلك قول شاعر:
جاء «2» بجوز أخضر ... مكسّر «3» مقشّر
كأنّما أرباعه ... مضغة علك الكندر»
وقال آخر:
والجوز مقشور يروق كأنّه ... لونا وشكلا مصطكى ممضوغ
وقال أبو طالب المأمونىّ:
ومحقّق التدوير يبعد نفعه ... من كفّ من يجنيه ما لم يكسر
درّ يسوغ لآكليه يضمّه ... صدف تكوّن جسمه من عرعر «5»
متدرّع فى السّلم فوق غلالة «6» ... درعا مظاهرة بثوب أخضر(11/90)
وأمّا الجلّوز وما قيل فيه
- فالجلّوز، هو البندق؛ وقد سمّى ابن سينا الصّنوبر بالجلّوز، وقال فى البندق: هو إلى حرارة ما ويبوسة قليلة «1» ، وفيه من القبض أكثر ممّا فى الجوز؛ وفيه نفخ، ويولّد الرّياح فى البطن؛ واذا قلى وأكل مع فلفل قليل أنضج الزّكام؛ وقال إبّقراط «2» : البندق يزيد فى الدّماغ، وإذا أكل بماء العسل نفع من السّعال المزمن، وهو بطىء الهضم، ويهيّج القىء، وينفع من النّهوش وخصوصا مع التّين والسّذاب «3» للدغ العقرب.
وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه
- فمن ذلك قول شاعر:
ولقد شربت مع الغزال مدامة ... صفراء صافية بغير مزاج
فتفضّل الظّبى الغرير ببندق ... شبّهته ببنادق من ساج
وكسرته فرأيت صوفا أحمرا ... قد لفّ فيه بنادق من عاج
وقال ابن رافع:
جلّوزة من كفّ ظبى غزل ... رمى بها نحوى كمثل جلجل
أو كرة قد ثلّثت من صندل ... تكسر عن حريرة لم تغزل(11/91)
محمرّة فوق بياض يعتلى ... من حسنها «1» المستظرف المستكمل
فى مطعم الشّهد وعرف المندل
وأمّا الفستق وما قيل فيه
- فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم فستقا فخذوا كبد الماعز فشقّوها، وادفنوا فيها عظم صلب الطّاووس، وأهرقوا فوقها عصارة الشّاهترج «2» ، واطمروها «3» فى الأرض، فإنه بعد سبعة وعشرين يوما تخرج منها شجرة الفستق.
وقال الشيخ الرئيس: طبعه أشدّ حرارة من الجوز؛ وهو حارّ يابس «4» فى آخر الثانية؛ وفيه رطوبة؛ وزعم بعضهم أنّه بارد، وقد أخطأ؛ وهو يفتّح سدد الكبد لمرارته وعطريّته؛ وفيه عفوصة؛ وغذاؤه يسير جدّا؛ وهو جيّد للمعدة، خصوصا الشامىّ الشبيه بحبّ الصّنوبر؛ وهو يفتّح منافذ الغذاء، ودهنه ينفع من وجع الكبد الحادث من الرطوبة والغلظ. قال [فإن «5» ] قال قائل: «لم أجد له فى المعدة كبير(11/92)
مضرّة ولا منفعة» أقول: بل يمنع الغثيان، وتقلّب المعدة، ويقوّى فمها؛ وهو ينفع من نهش الهوامّ، خصوصا اذا طبخ بالشّراب.
وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه
- فمن ذلك ما قاله أبو إسحاق الصّابى:
والنّقل «1» من فستق حديث ... رطب تبدّى به الجفاف
لى فيه تشبيه فيلسوف ... ألفاظه عذبة خفاف
زمرّد صانه حرير ... فى حقّ عاج له غلاف
وقال آخر:
زمرّدة «2» ملفوفة فى حريرة ... لها حقّ عاج فى غلاف أديم
وقال أبو بكر الصّنوبرىّ:
وحظّى من نقل اذا ما نعتّه ... نعتّ لعمرى منه أحسن منعوت
من الفستق الشامىّ كلّ مصونة ... تصان عن الأحداق فى بطن تابوت
زبرجدة ملفوفة فى حريرة ... مضمّنة درّا مغشّى بياقوت
وقال آخر:
وفستق مستلذّ ... من بعد شرب الرّحيق
كأنه حين ترنو ... إليه عين الرّموق
حقّ من العاج يحوى ... زبرجدا فى عقيق(11/93)
وقال آخر يصف الضّاحك:
ومهد إلينا فستقا غير مطبق ... به زاد إحسانا على كلّ محسن
كأنّ انفتاحا منه دلّ على الّذى ... به من كمين فى حشاه مضمّن
ظماء من الأطيار حامت ففتّحت ... مناقيرها ثم استعانت بألسن
وقال آخر:
انظر الى الفستق المجلوب حين أتى ... مشقّقا فى لطيفات الطّوامير «1»
والقلب ما بين قشريه يلوح لنا ... كألسن الطّير من بين المناقير
وقال آخر:
كأنّما الفستق المملوح حين بدا ... مفتّح القشر موضوعا على طبق
وقد بدا لبّه للعين، ألسنة ... للطّير عطشى بها شىء من الرّمق
وقال آخر «2» :
وضاحك أجفانه ... لم تكتحل بالوسن
لم أدر عن أفئدة ... تبسم أم عن ألسن
كعاشق كلّفه الغرام ... ما كلّفنى
إذا أخذت قلبه ... لم ينتفع بالبدن
وقال أبو بكر بن القرطبيّة:
صدف أبيض نقى ... ذو بهاء ورونق(11/94)
مسفر «1» عن جوهر ... أخضر فيه مطبق
كلّ صيغ يعزى الى ... لونه قيل فستقى
وأمّا الشّاه «2» بلّوط وما قيل فيه
- فالشّاه بلّوط هو القسطل؛ قال ابن وحشيّة: وان أردتم الشّاه بلّوط فخذوا كليتى الخنزير وقرنى غزال، فاغرزوا فى طرفى القرنين الكليتين، وادفنوا ذلك فى الأرض، واسقوه من الماء بقدر وصوله إليه، فإنّه ينبت فى أربعة وعشرين يوما شجرة تحمل الشّاه «3» بلّوط...... «4» .
قال شاعر يصفه:
يا حبّذا القسطل المجرّد عن ... قشريه بعد الجفاف فى الشجر
كأنّه أوجه الصّقالبة ال ... بيض وفيها تكرمش «5» الكبر(11/95)
وأمّا شجر الصّنوبر وما قيل فيه
- فشجر الصّنوبر صنفان، ذكر وأنثى؛ فالذّكر هو الأرز، وهو لا يثمر، ومنه القطران؛ والأنثى صنفان، صنف كبيرا لحبّ، وصنف صغيره، يسمّى قضم «1» قريش وقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: خذوا من شجرة الخرنوب الشامىّ من عروقها الطّوال، فلفّوها على قرنى ثور، وانقعوها فى الزّيت سبعة أيّام، ثمّ اجعلوها فى الأرض، واسحقوا الكندر «2» وذرّوه عليها اذا غرست، فانّها تنبت شجر الصّنوبر.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فيه «3» - وسمّاه الجلّوز وقال: هو حبّ الصّنوبر الكبار، وهو أفضل «4» غذاء من الجوز، لكنّه أبطأ انهضاما؛ وهو مركّب من جوهر مائىّ وأرضىّ، والهوائيّة فيه قليلة؛ قال: وفى لحاء شجره قبض كثير؛(11/96)
والدّود الّذى فيه فى قوّة الذّراريح «1» ؛ ولحاؤه «2» ينفع من إحراق الماء الحارّ، «ويلصق «3» الجراحات ذرورا» ومن القروح «4» الحرقيّة «5» ؛ وفيه قوّة مدملة «6» ؛ وفى لحائه من القبض ما يبلغ أن يشفى السّحج «7» إذا وضع عليه ضمادا أو ذرورا؛ ويصلح لمواقع الضربة ويدمل؛ وورقه أصلح لذلك لأنّه أرطب؛ والغرغرة بطبيخ قشره تجلب بلغما كثيرا؛ واذا سلق لحاؤه بالخلّ وتمضمض به نفع وجع الأسنان؛ ودخانه نافع من انتثار الأشفار. قال: ويغذو غذاء قويّا غليظا غير ردىء؛ ويصلح للرّطوبات الفاسدة فى الأمعاء؛ وهو بطىء الهضم، ويصلح هضمه: أمّا للمبرودين فالعسل وللمحرورين فالطّبرزذ»
، ويزداد بذلك جودة غذاء؛ والمنقوع منه فى الماء تذهب(11/97)
حدّته وحرافته ولذعه؛ ويبرىء من أوجاع العصب والظّهر وعرق النّسا؛ وهو نافع للاسترخاء، وينقّى الرّثة ويخرج ما فيها من القيح والخلط الغليظ، ويهيّج الباه، وخصوصا المربّى منه؛ وينفع من القيح والحصاة فى المثانة؛ وهو مع التّمر والتّين ينفع من لدغ العقرب.
وقال فى قضم «1» قريش: إنّه جيّد لقروح الكلى والمثانة.
وأمّا ما وصف به الصّنوبر وشبّه به من الشعر
- فمن ذلك قول بعض الشعراء:
صنوبر أطيب موجود ... نلت به غاية مقصودى
كأنّه حين حبانى به ... من خصّ بالإنعام والجود
حبّ لآل مشرق لونه ... فى جوف أدراج من العود
ونحوه قول الشاعر:
صنوبر ظلت به مولعا ... لأنّه أطيب موجود
كأنّه الكافور فى لونه ... تحويه أدراج من العود
وقال أبو بكر الصّنوبرىّ- وذكر انتسابه إليه-:
وإذ عزينا إلى الصّنوبر لم ... نعز إلى خامل من الخشب(11/98)
لا بل «1» الى باسق الفروع علا ... مناسبا فى أرومة الحسب
مثل خيام الحرير تحملها ... أعمدة تحتها من الذّهب
كأنّ ما فى ذراه من ثمر ... طير وقوع على ذرا القضب
باق على الصّيف والشّتاء إذا ... شابت رءوس النّبات لم يشب
محصّن الحبّ فى جواشن «2» قد ... أمنّ «3» فى لبسها من الحرب
حبّ حكى الحبّ صين فى قرب «4» ال ... أصداف حتّى بدا من القرب
ذو نثّة «5» ما ينال من عنب ... ما نيل من طيبها ولا رطب
يا شجرا حبّه حدانى أن ... أفدى بأمّى محبّة وأبى
فالحمد لله إنّ ذا لقب ... يزيد فى حسنه على النّسب
وقال ابن رافع القيروانىّ:
يا حسنة فى العين من صنوبر ... يحكى لنا جماجما من عنبر
يفلق عن حبّ إذا لم يكسر ... مصندل إن شئت أو معصفر
كمثل أصداف نفيس الجوهر(11/99)
وأمّا الرّمّان والجلّنار «1»
- فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: الرمّان الحلومنه بارد إلى الأولى رطب فيها؛ والحامض يابس «2» فى الثانية؛ والحامض يقمع الصّفراء، ويمنع سيلان الفضول إلى الأحشاء، وخصوصا شرابه؛ وهو جلّاء مع القبض؛ وحبّ الرّمّان مع العسل طلاء للدّاحس «3» والقروح الخبيثة؛ وأقماعه للجراحات، ولا سيّما المحرقة. قال: والحلو مليّن؛ وجميعه قليل الغذاء جيّده؛ والمزّ «4» منه ربّما كان أنفع للمعدة من التّفّاح والسّفرجل، لكنّ حبّه ردىء؛ وأقبض أجزائه الأقماع. قال: وحبّ الرّمّان بالعسل ينفع من وجع الأذن؛ وهو طلاء لباطن الأنف؛ وينفع حبّه مسحوقا مخلوطا بالعسل من القلاع «5» طلاء؛ وان طبخت الرّمّانة الحلوة بالشراب ثم دقّت كما هى وضمدت بها الأذن نفع من ورمها منفعة جيّدة؛ وشراب الرّمّان وربّه نافعان من الخمار؛ وعصارة الحامض تنفع من الظّفرة «6» ؛ وهو يخشّن الصّدر والحلق؛ والحلو يليّنهما ويقوّى الصّدر؛ واذا سقى حبّ الرّمّان فى ماء المطر منع نفث الدّم؛ وجميعه ينفع من الخفقان، ويجلو الفؤاد؛ والمرّ ينفع(11/100)
من التهاب المعدة؛ والحلو يوافق المعدة؛ والحامض يضرّها، ومع ذلك فحبّ الرّمّان يضرّ المعدة؛ وسويقه مصلح لشهوة الحبالى، وكذلك ربّه؛ خصوصا الحامض؛ ويمصّه المحموم بعد غذائه فإنّه يمنع صعود البخار. قال: والحامض أكثر إدرارا للبول من الحلو؛ وكلاهما مدرّ؛ وسويق الرّمّان ينفع من الإسهال الصّفراوىّ؛ وقشور أصل الرّمّان بالنّبيذ تخرج الدّيدان. قال: والحلو يضرّ أصحاب الحمّيات الحارّة.
وقال فى الجلّنار «1» : هو زهر رمّان برّىّ، فارسىّ او مصرىّ، قد يكون أحمر وقد يكون أبيض، وقد يكون مورّدا، وعصارته فى طبعها كعصارة لحية التّيس «2» ؛ قوّته قوّة شحم الرّمّان؛ وطبعه بارد فى آخر الأولى، يابس فى الثانية؛ وأفعاله وخواصّه، هو مغرّ، حابس لكلّ سيلان، ويولّد السّوداء؛ وهو جيّد للّثة الدّامية ويدمل الجراحات والقروح والعقور والشّجوج ذرورا؛ وهو يقوّى الأسنان المتحرّكة؛ وهو يعقل، وينفع من قروح الأمعاء وسيلان الرّحم ونزفها.
وأمّا ما قيل فيهما من الشعر
- فمن ذلك ما وصف به الرّمّان وشبّه به، قال أبو هلال العسكريّ:(11/101)
حكى الرّمّان أوّل ما تبدّى ... حقاق زبرجد يحشون درّا
فجاء الصيف يحشوه عقيقا ... ويكسوه مرور القيظ تبرا
ويحكى فى الغصون ثدىّ حور ... شققن غلائلا عنهنّ خضرا
وقال آخر:
خذوا صفة الرّمّان عنّى فإنّ لى ... بيانا عن الأوصاف غير قصير
حقاق كأمثال الكراة تضمّنت ... فصوص بلخش «1» فى غشاء حرير
وقال آخر:
لله رمّانة من فوق دوحتها ... مثالها ببديع الحسن منعوت
فالقشر حقّ نضار ضمّ داخله ... والشّحم قطن له والحبّ ياقوت
وقال آخر:
رمّانة صبغ الزّمان أديمها ... فتبسّمت فى خضرة «2» الأغصان
فكأنّما هى حقّة من صندل «3» ... قد أودعت خرزا من المرجان «4»
وقال ابن قسيم الحموىّ:
ومحمرّة من بنات الغصو ... ن يمنعها ثقلها أن تميدا
منكّسة التّاج فى دستها ... تفوق الخدود وتحكى النّهودا
تفضّ فتفترّ عن مبسم ... كأنّ به من عقيق عقودا(11/102)
كأنّ المقابل «1» من حسنها ... ثغور تقبّل منها خدودا
وقال آخر:
رمّانة مثل نهد الكاعب الرّيم ... تزهى بشكل ولون غير مذموم
كأنّها حقّة من عسجد ملئت ... من اليواقيت نثرا غير منظوم
وقال محمّد بن «2» عمر المقرئ «3» الكاتب:
ورمّان رقيق القشر يحكى ... ثدىّ «4» الغيد فى أثواب لاذ «5»
إذا قشّرته طلعت علينا ... فصوص من عقيق أو بجاذى «6»
وقال آخر:
ولاح رمّاننا فأبهجنا ... بين صحيح وبين مفتوت
من كلّ مصفرّة مزعفرة ... تفوق فى الحسن كلّ منعوت
كأنّها حقّة فإن فتحت ... فصرّة من فصوص ياقوت
وقال آخر:
ولابسة صدفا أصفرا ... أتتك وقد ملئت جوهرا
حبوبا كمثل لثات الحبيب ... رضابا إذا شئت أو منظرا(11/103)
وقال آخر:
طعم الوصال «1» يصونه طعم النّوى ... سبحان خالق ذا وذا من عود
فكأنّها والخضر من أوراقها ... خضر الثّياب على نهود الغيد
وأنشدنى الشيخ شهاب الدّين أحمد بن الجبّاس «2» الدّمياطىّ لنفسه فى ذى الحجّة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فى رمّانة مشقوقة يتساقط منها الحبّ:
كتمت هوى قد لجّ فى أشجانها ... وحشت حشاها من لظى نيرانها
فتشقّقت من حبّها عن حبّها ... وجدا وقد أبدت خفا كتمانها
رمّانة ترمى «3» بها أيدى النّوى ... من بعد ما رمّت «4» على أغصانها
فاعجب وقد بكت «5» الدّموع عقائقا ... لا من مآقيها ولا أجفانها
ومنه ما وصف به الجلّنار- قال أبو فراس الحمدانىّ:
وجلّنار مشرق ... على أعالى الشجره
كأنّ فى أغصانه ... أحمره وأصفره(11/104)
قراضة من ذهب ... فى خرقة معصفره
وقال ابن وكيع:
وجلّنار بهىّ ... ضرامه يتوقّد
بدا لنا فى غصون ... خضر من الرّىّ ميد
يحكى فصوص عقيق ... فى قبّة من زبرجد
وقال آخر:
كأنّما الجلّنار لمّا ... أظهره العرض للعيون
أنامل كلّها خضيب ... تنشر لاذا «1» على الغصون
وقال أبو الحسن «2» الشّمشاطىّ:
وبدا الجلّنار مثل خدود ... قد كساها الحياء لون عقار
صبغة الله كالعقيق تراه ... أحمرا ناصعا «3» لدى الاخضرار
وأمّا الموز وما قيل فيه
- فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: وان خلطتم باليبروح «4» مثل وزنه من التّمر، وعجنتموهما عجنا جيّدا، ثمّ زرعتموهما(11/105)
وتعاهدتم ذلك بالسقى الكثير، خرج منه شجر الموز؛ وكذلك إن لجن القلقاس بالتّمر خرج منهما الموز، إلّا أنّ ما ينبت عن اليبروح أكبر موزا، وأشدّ حلاوة.
وقال الشيخ الرئيس: الموز مليّن؛ والإكثار منه يورث السّدد، ويزيد فى الصّفراء والبلغم بحسب المزاج؛ وهو نافع للخلق «1» والصّدر؛ وهو ثقيل على المعدة؛ ويجب أن يتناول المحرور بعده سكنجبينا «2» بزوريّا، والمبرود عسلا. قال: وهو يزيد فى المنىّ، ويوافق الكلى، ويدرّ البول.
وأمّا ما وصف به وشبّه من الشّعر
- فمن ذلك قول ابن الرّومىّ:
إنّما الموز إذ تمكّن منه ... كاسمه مبدلا من الميم فاءا
وكذا فقده العزيز علينا ... كاسمه مبدلا من الزاى تاءا
فهو الفوز مثلما فقده المو ... ت لقد عمّ فضله الأحياءا
ولهذا التأويل سمّاه موزا ... من أفاد المعانى الأسماءا(11/106)
نكهة عذبة وطعم لذيذ ... فنعيم متابع نعماءا
لو تكون القلوب مأوى طعام ... نازعته قلوبنا الأحشاءا
وقال فيه أيضا:
للموز إحسان بلا ذنوب ... ليس بمعدود ولا محسوب
يكاد من موقعه المحبوب ... يسلمه البلع إلى القلوب
وقال الصّاحب جمال الدّين علىّ بن ظافر:
كأنّما الموز إذا ... ما جاءنا بالعجب
أنياب أفيال صغا ... ر طلّيت بالذّهب
ونحوه قول الآخر- وكأنّه مأخوذ منه-:
موز حلا فكأنّه ... عسل ولكن غير جارى
ذو باطن مثل الأقاح «1» ... وظاهر مثل النّضار
يحكى إذا قشّرته ... أنياب أفيال صغار
وحكى صاحب (بدائع البدائه) أنّ الحسن بن رشيق ومحمّد بن شرف القيروانىّ اجتمعا فى مجلس المعزّ بن باديس وبين يديه موز، فاقترح على كلّ واحد منهما أن يعمل فيه شيئا، فقال ابن شرف:
يا حبّذا الموز وإسعاده ... من قبل أن يمضغه الماضغ
لان إلى أن لا محسّ له ... فالفم ملآن به فارغ(11/107)
سيّان قلنا مأكل طيّب ... فيه وإلّا مشرب سائغ
إن قيل فيما قد حلا طيّب ... فالموز حلو طيّب بالغ
أحلى مذاقا من دماء العدا ... أمكن منها أسد والغ
وقال ابن رشيق- وتواردا فى المعنى والقافية-:
موز سريع سوغه ... من قبل مضغ الماضغ
مأكلة لاكل ... ومشرب لسائغ
فالفم من لين به ... ملان مثل فارغ
يخال وهو بالغ ... للحلق غير بالغ
ثمّ سألهما فى مثل ذلك، فقال محمد بن شرف:
هل لك فى موز إذا ... ذقناه قلنا حبّذا
فيه شراب وغذا ... يزيل كالماء القذى
لو مات من تلذّذا ... به لقلنا: ذا بذا
وقال ابن رشيق:
لله موز لذيذ ... يعيذه المستعيذ
فواكه وشراب ... به يفيق «1» الوقيذ «2»
ترى القذى العين فيه ... كما يريها النّبيذ
فانظر إلى هذا التّوارد العجيب المرّة بعد المرّة.
وقال نجم الدّين بن إسرائيل يصفه:
أنعت لى موزا شهىّ المنظر ... مستحكم النّضج لذيذ المخبر(11/108)
كأنّه فى جلده المعصفر ... لفّات زبد عجنت بسكّر
وأنشدنى الشيخ الفاضل شهاب الدّين أحمد بن منصور الدّمياطىّ- عرف بابن الجبّاس- فى ذى الحجّة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة لنفسه وأجاد:
كأنّما الموز فى عراجنه «1» ... وقد بدا يانعا على شجره
فروع شعر برأس غانية ... عقّص من بعد ضمّ منتشره
كأنّ من ضمّه وعقّصه ... أرسل شرّابة «2» على أثره
كأنّ أمشاطه مكاحل من ... زمرّد نظّمت على قدره
كأنّما زهره الأنيق وقد ... شقّق عنه كمام مستتره
نظام ثغر يزينه شنب «3» ... ممتزج شهده بمعتصره
كأنّ قامات سوقه عمد ... حنت «4» أواوينها على جدره
كأنّ أشجاره وقد نشرت ... ظلال أوراقها على ثمره
حاملة طفلها على يدها ... تقيه حرّ الهجير فى خمره
كأنّما ساقه الصّقيل وقد ... بدت عليه رقوم معتبره «5»(11/109)
ساق عروس أميط مئزرها ... فبان وشى الخضاب فى حبره «1»
تصاغ من جوهر «2» خلاخلها ... فتنجلى والنّثار من زهره
حدائق خفّفت «3» سناجقها «4» ... كأنّها الجيش أمّ فى زمره
وكلّ آياته فباهرة ... تبين فى ورده وفى صدره
كأنّما عمره القصير حكى ... زمان وصل الحبيب فى قصره
كأنّ عرجونه المشيب أتى ... يخبر أن حانه «5» انقضا عمره
كأنّه البدر فى الكمال وقد ... أصيب بالخسف فى سنا قمره
كأنّه بعد قطعه وقد اصفرّ ... لما نال من أذى حجره «6»
متيّم قد أذابه كمد ... يبيت من وجده على خطره
معلّق بالرّجاء، ظاهره ... يخبر عمّا أجنّ من خبره
يطيب ريحا ويستلذّ جنى ... على أذى زاد فوق مصطبره
كأنّه الحرّ حال محنته ... يزيد صبرا على أذى ضرره(11/110)
وأمّا ما وصف به وشبّه النّارنج «1»
- فمن ذلك قول شاعر:
لله أنجم نارنج توقّدها ... يكاد ينجاب عن لألائه الغسق
تبدو لعينيك فى لألائها ولها ... من الغصون بروج دوحها الأفق
تجنى به اليد جمرا ليس يطفئه ... غيث ولا اليد إذ تجنيه تحترق
كأنّه مستعار الشّبه من سفن «2» ... مذهّب أو حباه لونه الشّفق
وقال آخر:
تأمّلها كرات من عقيق ... تروقك فى ذرا دوح وريق
صوالج من غصون ناعمات ... غذتها درّة العيش الأنيق
تخال غصونها فيها نشاوى ... بأيديهم كئوس من رحيق
عجبت لها شربن الماء ريّا ... وفى لبّاتها لهب الحريق
وقال آخر يصف نارنجة:
يا ربّ نارنجة يلهو النديم بها ... كأنّها كرة من أحمر الذّهب
أو جذوة حملتها كفّ قابسها ... لكنّها جذوة معدومة اللهب
وقال آخر:
ومورقة فى صيفها وشتائها ... يحار النّهى فى أرضها وسمائها
اذا ما زهى الكانون يوما بجمره ... نظرت إليه تحت فضل ردائها
أرى الماء يطفى كلّ نار ونارها ... تزيد حياة ما تغذّت بمائها(11/111)
كرات عقيق أم خدود كواعب ... بدت وهى حمر من صباغ «1» حيائها
وقال آخر:
انظر إلى منظر يلهيك منظره ... بمثله فى البرايا يضرب المثل
نار تلوح على الأغصان فى شجر ... لا الماء يطفى ولا النّيران تشتعل
وقال آخر يصف نارنجة نصفها أحمر ونصفها أخضر:
وبنت أيك دنا من لمسها قزح «2» ... فلاح منها على أرجائها أثر
يبدو لعينيك منها منظر عجب ... زبرجد ونضار صاغه المطر
كأنّ موسى كليم الله أقبسها ... نارا وجرّ عليها كفّه الخضر
وقال الصّاحب بن عبّاد:
بعثنا من النارنج ما طاب عرفه ... ونمّت على الأغصان منه نوافج «3»
كرات من العقيان أحكم خرطها ... وأيدى النّدامى حولهنّ صوالج
وقال أبو الحسن الصّقلىّ:
تنعّم بنارنجك المجتنى ... فقد حضر السعد لمّا حضر
فيا مرحبا بقدود الغصون ... ويا مرحبا بخدود الشجر
كأنّ السماء همت بالنّضار ... فصاغت لها الأرض منه أكر(11/112)
وقال ابن المعتزّ:
كأنّما النّارنج لمّا بدت ... صفرته فى حمرة كاللهيب
وجنة معشوق رأى عاشقا ... فاصفرّ ثمّ احمرّ خوف الرّقيب
وقال السّرىّ الرّفّاء:
وبديعة أضحى الجمال شعارها ... صبغ الحيا «1» صبغ الحياء إزارها
حلّت عقال نسيمها وتوشّحت ... وبالأرجوان وشدّدت أزرارها
فالعين تحسر إن رأت إشراقها ... والنفس تنعم إن رأت «2» أخبارها
فكأنّها فى الكفّ وجنة عاشق ... عبث الحياء بها فأضرم نارها
محمولة حملت عجاجة عنبر ... فإذا سرى ركب النّسيم أثارها
أمنت على أسرارها ريح الصّبا ... وهنا «3» فضيّعت الصّبا أسرارها
وكأنّما صافحت منها جمرة ... أمنت يمينك حرّها وشرارها
ما أحسب النّارنج إلّا فتنة ... هتك الزّمان لناظر أستارها
عشقت محاسنه العيون فلو رنت ... أبدا اليه ما قضت أو طارها
وقال آخر «4» :
سقيا لأيّامنا ونحن على ... رءوسنا نعقد الأكاليلا
فى جنّة ذلّلت لقاطفها ... قطوفها الدّانيات تذليلا(11/113)
كأنّ نارنجها «1» يلوح على ... أغصانها حاملا ومحمولا
سلاسل من زبرجد حملت ... من ذهب أحمر قناديلا
وقال آخر «2» :
وأشجار نارنج كأنّ ثمارها ... حقاق عقيق قد ملئن من الدّرّ
تطالعنا بين الغصون كأنّها ... خدود غوان «3» فى ملاحفها الخضر
أتت كلّ مشتاق بريّا حبيبه ... فهاجت له الأحزان من حيث لا يدرى
وقال آخر:
حدائق أشجار كإقبال دولة ... عليك أو البشرى أتت لقعيد
أنارت بنارنج لريّاه «4» فى الحشا ... مواقع وصل من فؤاد عميد
اذا ما حنى أغصانه فكأنّه ... صوالجة الأصداغ فوق خدود
وقال آخر:
وأغصان مقوّمة حسان ... ومنها ما يرى كالصّولجان
كأنّ بها ثديّا ناهدات ... غلائلها صبغن بزعفران
وقال آخر «5» يصف نارنجا مختلف الألوان:
رياض من النّارنج كالأمن والمنى ... جمعن ومثل النّوم بعد التسهّد(11/114)
تجلّى العشا عن ناظرى كلّ ناظر ... وتجلو الصّدى عن قلب ذى اللّوعة الصّدى
فمن أخضر غضّ النّبات كأنّه ... مشارب مينا «1» أو حقاق زمرّد
ومن أحمر كالأرجوان إذا بدا ... وكالرّاح صرفا أو كخدّ مورّد
ومن أصفر كالصّبّ، يبدو كأنّه ... كرات أديرت من خلاصة عسجد
اذا لاح فى أشجاره «2» فكأنّه ... شموس «3» عقيق فى «4» قباب زبرجد
وقال آخر:
أهدى لنا النّارنج عند قطافه ... أكرا تروق بمنظر وبمنخبر
ببواطن من ياسمين أبيض ... وظواهر من جلّنار أحمر
وقال آخر:
كانت هديّته لنا نارنجة ... كالفهر «5» لفّت فى حرير أصفر
صفراء تحسب أنّها قد جدّرت ... فترى ببهجتها «6» انتثار مجدّر «7»
فسألتها عمّا يغيّر لونها ... قالت سألت فخذ جواب مخبّر
كنّا حبائب فوق غصن ناعم ... أوراقه مثل الفرند الأخضر(11/115)
فرمى الزّمان وصالنا بتفرّق ... فلذاك صفرة وجنتى وتغيّرى
وقال ابن وكيع التّنّيسىّ:
انظر إلى النّارنج فى بهجاته ... يلوح فى أفنان هاتيك الشّجر
مثل دبابيس «1» نضار أحمر ... أو كعقيق خرطت منه أكر
وقال أبو الحسن الصّقلّىّ:
ونارنجة بين الرياض نظرتها ... على غصن رطب كقامة أغيد
اذا ميّلتها الرّيح مالت كأكرة ... بدت ذهبا فى صولجان زمرّد
وأمّا ما وصف وشبّه به اللّيمو «2»
- فمن ذلك قول الشاعر:
انظر إلى اللّيمون فى شكله ... وحسنه لمّا بدا للعيان
كأنّه بيض دجاج وقد ... لطّخه العابث بالزّعفران
وقال السرىّ الرّفّاء:
واصطبحناها على نهر ... بصفو الماء يجرى
ظلّلته شجرات ... عطرها أطيب عطر
فلك أنجمه اللّيمو ... فمن بيض وصفر
أكر من فضّة قد ... شابها تلويح تبر
وقال آخر:
يا ربّ ليمونة حيّا بها قمر ... حلو المقبّل ألمى بارد الشّنب «3»
كأنّها كرة من فضّة خرطت ... فاستودعوها غلافا صيغ من ذهب(11/116)
الباب الثانى من القسم الثّانى من الفنّ الرابع فيما لثمره نوى لا يؤكل
ويشتمل هذا الباب على عشرة «1» أصناف، وهى النّخل وما يشبهه، وهو النّارجيل، والفوفل والكاذىّ «2» والخزم، ثمّ الزّيتون والخرنوب والإجّاص والقراسيا «3» والزّعرور والخوخ والمشمش والعنّاب والنّبق.
فأمّا النّخل وما قيل فيه
- فقال الله تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ
؛ وقال عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنّها مثل المسلم؛ فحدّثونى ما هى» ؟ فوقع الناس فى شجر البوادى؛ قال عبد الله:
ووقع فى نفسى أنّها النّخلة، فاستحييت؛ ثمّ قالوا: حدّثنا ما هى يا رسول الله؟ قال:
«هى النخلة» ؛ قال عبد الله: فحدّثت أبى بما وقع فى نفسى؛ فقال: لأن تكون قلتها أحبّ إلىّ من كذا وكذا.
وفى لفظ عنه، قال: كنّا عند النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأتى بجمّار، فقال:
«إنّ من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم» الحديث.(11/117)
وفى لفظ عنه- رضى الله عنه- أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ من الشجر لما بركته كبركة المسلم» وساق الحديث.
وللنّخلة أسماء نطقت بها العرب من حين تبدو صغيرة إلى أن تكبر، وكذلك الرّطب من حين يكون طلعا إلى أن يصير رطبا؛ تقول العرب لصغار النخل:
الجثيث والهراء والودىّ والفسيل والأشاء «1» .
وقال الثّعالبىّ فى (فقه اللّغة) : إذا كانت النخلة صغيرة فهى الفسيلة والوديّة.
فاذا كانت قصيرة تناولها اليد فهى القاعد؛ «وفى «2» (غريب المصنّف) : العضيد، والجمع:
عضدان» . فإذا صار لها جذع [لا «3» ] يتناول منه المتناول فهى جبّارة. فإذا ارتفعت عن ذلك فهى الرّقلة والعيدانة. فاذا زادت فهى باسقة. فاذا تناهت فى الطّول مع انجراد فهى سحوق.
فصل فى نعوتها
اذا كانت النخلة على الماء فهى كارعة ومكرعة. فاذا حملت فى صغرها فهى مهتجنة. فاذا كانت تدرك فى أوّل النخل فهى بكور. فاذا كانت تحمل سنة وسنة(11/118)
لا تحمل فهى سنهاء. فاذا كان بسرها ينتثر وهو أخضر فهى خضيرة. فاذا دقّت من أسفلها وانجرد كربها فهى صنبور. فاذا مالت فبنى تحتها دكّان تعتمد عليه فهى رجبيّة «1» . فاذا كانت منفردة عن أخواتها فهى عوانة.
ويقال للطّلع «2» : الكافور، والضّحك «3» ، والإغريض. فإذا انعقد سمّته «4» السّياب «5» .
فاذا اخضرّ قبل أن يشتدّ سمّته الجدال. فإذا عظم فهو البسر. فإذا صارت فيه طرائق فهو المخطّم. فاذا تغيّرت البسرة إلى الحمرة فهى شقحة. فاذا ظهرت الحمرة فهو الزّهو «6» ، وقد أزهى. فاذا بدت فيه نقط «7» من الإرطاب نصفها فهى المجزّع «8» . فإذا بلغ ثلثيها فهى حلقانة. فإذا جرى الإرطاب فيها فهى منسبتة.
وللشّعراء فى النّخل أوصاف، فمن ذلك ما أنشده الأصمعىّ «9» :
غدت سلمى تعاتبنى وقالت ... رأيتك لا تريغ «10» لنا معاشا(11/119)
فقلت لها: أما يكفيك دهم ... اذا أمحلت «1» كنّ لنا رياشا «2»
بوارك ما يبالين اللّيالى ... ضربن «3» لنا وللأيّام جاشا «4»
اذا ما الغاديات ظلمن «5» مدّت ... بأسباب ننال بها انتعاشا
ترى أمطاءها «6» بالبسر هدلا «7» ... من الألوان ترتعش ارتعاشا
وعن الشّعبىّ قال: كتب قيصر إلى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- إنّ «8» رسلى أخبرونى أنّ بأرضك شجرة كالرجل القائم تفلّق عن مثل آذان الحمر، ثمّ يصير مثل اللّؤلؤ، ثم يعود كالزّمرّد الأخضر، ثمّ يصير كالياقوت الأحمر والأصفر(11/120)
ثمّ يرطب فيكون كأطيب فالوذ «1» اتّخذ، ثمّ يجفّ فيكون عصمة «2» للمقيم، وزادا للمسافر فإن كان رسلى صدقونى فهى الشجرة الّتى نبتت على مريم بنت عمران. فكتب اليه عمر- رضى الله عنه-: إنّ رسلك صدقوك، وهى الشجرة الّتى نبتت على مريم، فاتق الله، ولا تتّخذ عيسى إنّ رسلك صدقوك، وهى الشجرة الّتى نبتت على مريم، فاتق الله، ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله.
أخذ عبد الصّمد بن المعدّل هذه التشبيهات، فقال يصف النّخل فى أرجوزة أوّلها:
حدائق ملتفّة الجنان ... رست بشاطى ترع ريّان
تمتار «3» بالأعجاز للأذقان ... لا ترهب المحل من الأزمان
إن هى أبدت زينة المردان «4» ... لا حت بكافور على إهان «5»
يطلع منها كيد الإنسان ... إذا بدت ملمومة البنان
علّت بورس «6» أو بزعفران ... حتّى اذا شبّه بالآذان(11/121)
من حمر الوحش لدى العيان ... شقّقه علجان ماهران
عن لؤلؤ صيغ على قضبان ... مصوغة «1» من ذهب خلصان
ثمّ يرى للسّبع والثّمانى ... قد حال مثل الشّذر «2» فى الجمان
يضحك عن مشتبه الأقران ... كأنّه فى ناضر الأغصان
زمرّد لاح على تيجان ... حتّى إذا تمّ له شهران
وانسدلت عثاكل القنوان ... كأنّها قضب من العقيان
فصّلن بالياقوت والمرجان ... رأيته مختلف الألوان
من قانىء أحمر أرجوانى ... وفاقع أصفر كالنّيران
مثل الأكاليل على الغوانى «3»
ونحوه قول أبى هلال العسكرىّ:
ونخيل وقفن فى معطف الرّم ... ل وقوف الحبشان فى التّيجان
شربت بالأعجاز حتّى تروّت ... وتراءت بزينة الرّحمن
طلع الطّلع فى الجماجم منها ... كأكفّ خرجن من أردان
فتراها كأنّها كمت «4» الخي ... ل توافت مصرّة «5» الآذان(11/122)
أهو الطّلع أم سلاسل عاج ... حملت فى سفائن العقيان
ثمّ عادت شبائها تتباهى ... بأعل شبائه أقران
خرزات من الزّبرجد خضر ... وهبتها السّلوك للقضبان
ثمّ حال النّجار واختلف الشّكل ... فلاحت بجوهر ألوان
بين صفر فواقع تتباهى ... فى شماريخها وحمر قوانى
وقال النّمر بن تولب:
ضربن العرق فى ينبوع عين ... طلبن معينه حتّى روينا
بنات الدّهر لا يخشين محلا ... اذا لم تبق سائمة بقينا
كأنّ فروعهنّ بكلّ ريح ... عذارى بالذوائب ينتضينا «1»
وقال النابغة:
صغار النّوى مكنوزة ليس قشرها ... اذا طار قشر التّمر عنها بطائر
من الواردات الماء بالقاع تستقى ... بأعجازها قبل استقاء الحناجر
وقال السّرىّ الرّفّاء:
وكأنّ ظلّ النّخل حول قبابها ... ظلّ الغمام إذا الهجير توقّدا
من كلّ خضراء الذّوائب زيّنت ... بثمارها جيدا لها ومقلّدا
خرقت أسافلهنّ أعماق الثّرى ... حتّى اتّخذن البحر فيه «2» موردا(11/123)
شجر إذا ما الصّبح أسفر لم ينح ... للأمن طائره ولكن غرّدا
وقال شهاب الدّين الشّطنوفىّ:
كأنّ النّخيل الباسقات وقد بدت ... لناظرها حسنا قباب زبرجد
وقد علّقت من حولها [زينة لها] ... قناديل ياقوت بأمراس عسجد
وأمّا الجمّار وما قيل فيه- فالجمّار، هو رأس النّخل، واذا قطعت الجمّارة لا تعيش النخلة بعدها أبدا.
وقال الشيخ الرئيس: طبعه بارد فى الثانية، يابس فى الأولى؛ وهو قابض؛ وينفع من خشونة الحلق؛ ويقبض الإسهال والنّزف؛ وينفع من لسع الزّنبور ضمادا.
وقال شاعر يصفه:
جمّارة كالماء تبدو لنا ... ما بين أطمار من اللّيف
جسم رطيب اللّمس لكنّه ... قد لفّ فى ثوب من الصّوف
وأمّا ما وصف به الطّلع- فمن ذلك قول كشاجم:
أفدى الّذى أهدى إلينا طلعة ... أهدت إلى قلب المشوق بلابلا
فكأنّما هى زورق من صندل ... قد أو دعوه من اللّجين سلاسلا
وقال ابن وكيع:
طلع هتكنا عنه أستاره ... من بعد ما قد كان مستورا
كأنّه لمّا بدا ضاحكا ... فى العين تشبيها وتقديرا
[درج «1» من الصّندل قد أودعت ... فيه يد العطّار كافورا](11/124)
وقال محمّد بن القاسم العلوىّ:
وطلع هتكنا عنه جيب قميصه ... فيا حسنه فى لونه حين هتّكا
حكى صدر خود من بنى الرّوم هزّها ... سماع فشقّت عنه ثوبا ممسّكا
وقال كشاجم «1» :
ولا بس ثوبا من الحرير ... مضمّخ الظاهر بالعبير
مضمّن الباطن ثوب «2» نور ... يفترّ عن مكنونة الثّغور
كأنّما فتّ من الكافور
وقال أيضا:
قد أتانا الّذى بعثت إلينا ... وهو شىء فى وقتنا معدوم
طلعة غضّة أتتنا تحاكى ... سفطا فيه لؤلؤ منظوم
وقال الرّبيع «3» بن أبى الحقيق اليهودىّ يرثى كعب بن الأشرف:
ذو «4» نخيل فى تلاع جمّة ... تخرج الطّلع كأمثال الأكف(11/125)
وأمّا البلح والبسر والتّمر
- فروى عن عامر بن سعد عن أبيه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تصبّح كلّ يوم سبع تمرات- يعنى «1» عجوة- لم يضرّه فى ذلك اليوم سمّ ولا سحر» خرّجه البخارىّ فى صحيحه.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ طبعهما «2» بارد يابس فى الثانية؛ والبسر أقبض من القسب «3» ؛ واذا أكل وشرب الماء على أثره نفخ، وان كان أوّل ما يحلو قرقر أكثر، ويحدثان السّدد فى الأحشاء؛ وطبيخ البسر يسكّن اللهيب مع حفظ الحرارة الغريزيّة؛ والإكثار منهما يولّد فى البدن أخلاطا غليظة؛ والبسر يصدّع، وكثيره يسكر؛ وهما رديئان للصّدر والرّئة، ويحدثان السّدد فى الكبد، وهضمهما بطىء؛ والهشّ أقلّ هضما؛ وغذاؤهما يسير، وكلّ واحد منهما يعقل البطن. قال: والبلح يغزر البول؛ واذا شرب بخلّ عفص منع سيلان الرّحم ونزف البواسير؛ وكثرة استعمالهما توقع فى القشعريرة «4» .
وقد وصف الشعراء البلح والبسر فى أشعارهم
- فمن ذلك ما قاله ابن وكيع التّنّيسىّ فى البلح:
أما ترى النّخل طارحا «5» بلحا ... جاء بشيرا بدولة الرّطب(11/126)
كأنّه والعيون تنظره ... إذا بدا زهره على القضب
مكاحل من زمرّد خرطت ... مقمّعات الرءوس بالذّهب
وقال عبد الصمد:
كأنّه فى ناضر الأغصان ... زمرّد لاح على تيجان
وقال كمال الدّين بن بشائر الإخميمىّ- وهو عصرىّ-:
حيّا بها رائحة ... كالمسك للمستنشق
وقال شبّهها لنا ... فقلت غير مطرق
مكحلة مخروطة ... من دهنج «1» موثّق
سدادها من ذهب ... وميلها من ورق «2»
وقال شاعر يصف البسر الأحمر:
أما ترى النّخل حاملات ... بسرا حكى لونه الشّقيقا
كأنّما خوصه عليه ... زمرّد مثمر عقيقا
[وقال ابن «3» المعتزّ] :
كقطع الياقوت يانعات ... بخالص التّبر مقمّعات
[وقال فى «4» الأصفر] :
أما ترى البسر الّذى ... قد حاز كلّ العجب
كيف غدا فى لونه ... كعاشق مكتئب
مكاحل من فضّة ... قد طليت بالذّهب(11/127)
ووصفوا الرّطب والتّمر- فمن ذلك ما قاله محمد بن شرف القيروانىّ:
ومطبوخ بغير عقيد «1» نار ... عزمت على جناه بآبتكار
توابيت تبدّت من عقيق ... مقمّعة بمسبوك النّضار
ترى لصفاء جوهرها نواها ... كألسنة العصافير الصّغار
وقال ابن الرّومىّ:
بعثت ببرنىّ «2» جنىّ كأنّه ... مخازن تبر قد ملئن من الشّهد
مختّمة الأطراف تنقدّ قمصها ... عن العسل الماذىّ «3» والعنبر الهندى
تنقّل من خضر الثياب وصفرها ... الى حمرها ما بين وشى الى برد
فكم لبثت فى شاهق لا ترى به ... ولا تجتنى باللّحظ إلّا من البعد
ألّذ من السّلوى وأحلى من المنى ... وأعذب من وصل الحبيب على الصّمدّ
وقال محمد بن شرف القيروانىّ [فى التّمر «4» ] :
أما ترى التّمر يحكى ... فى الحسن للنّظّار
مخازنا من عقيق ... قد قمّعت بنضار
كأنّما زعفران ... فيه مع الشّهد جارى
يشفّ مثل كئوس ... مملوءة من عقار(11/128)
[وحيث «1» ] انتهينا من وصف النخل وثمرته على اختلافها إلى ما وصفناه فلنذكر أعجوبة نقلها محمّد بن علىّ «2» بن يوسف بن جلب راغب فى تاريخ مصر فى حوادث سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة فقال: اتّفق يوم النّوروز «3» فى هذه السنة لسبع خلون من شهر ربيع الأوّل، فأكل الناس الرّطب قبل النّوروز، ولم يبق فى النّخل شىء من الرّطب، ثمّ حمل النّخل حملا ثانيا، فأكل الناس البلح والبسر مرّة ثانية؛ ولم يتّفق مثل هذا فى سنة من السّنين، ولا سمع فى تاريخ إلى وقتنا هذا.
ولنصل ذكر النخل بما يشبهه، وهو النّارجيل والفوفل والكاذىّ والخزم.
فأمّا النّارجيل
- ويسمّى الرّانج، وسمّاه ابن سينا الجوز الهندىّ، وهو المشهور من أسمائه على ألسنة العوامّ- فهى نخلة طويلة تميل بمرتقيها حتّى تدنيه من الأرض للينها، ولها أقناء، يكون فى القنو الكريم ثلاثون نارجيلة، ولها لبن يسمّى(11/129)
الأطواق «1» ، يشرب، حلو، يسكر سكرا معتدلا؛ وأهل الهند يصنعون من النّارجيل الرّطب سكّرا، إلّا أنّه لا ييبس ويكون كالرّمل «2» .
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فيه: جيّده الطرىّ الشديد البياض؛ ويجب أن يؤخذ عنه قشر لبّه. قال: وطبعه حارّ فى أوّل الثانية، يابس فى الأولى، وفيه رطوبة فضليّة؛ والرّطب منه رطب فى الأولى. وقال فى أفعاله وخواصّه: هو ثقيل، غير ردىء الغذاء؛ وقشر لبّه لا ينهضم. قال: ويجب ألّا يتناول عليه الطعام إلّا بعد ساعة؛ ودهنه الطرىّ أفضل كيموسا من السّمن، ولا يلزج المعدة؛ ودهنه للبواسير، وخصوصا دهن العتيق منه، لا سيّما مع دهن المشمش مشروبا من كلّ واحد مثقال.
وقال كشاجم يصفه:
وذات قشر أسود حشوها ... كافورة موموقة المنظر
قد نشرت فى رأسها وفرة ... تسترها عن ناظر المبصر
كأنّها جمجمة ألبست ... ذوائبا من خالص العنبر
وأمّا الفوفل
- فقال أبو حنيفة: هى نخلة مثل نخلة النّارجيل، تحمل كبائس فيها الفوفل مثل التّمر، فمنه أسود، ومنه أحمر. وقال الشيخ الرئيس: قوّة الفوفل قريبة من قوّة الصّندل؛ وهو مبرد بقوّة، قابض؛ وهو جيّد للأورام الحارّة الغليظة؛ وموافق لمن به التهاب فى عينه.(11/130)
وأمّا الكاذىّ «1»
- فقال «2» : هى نخلة، إلّا أنّها لا تطول طول النّخل، فاذا أطلعت الطّلعة قطعت قبل أن تنشقّ، ثمّ تلقى فى الدّهن، وتترك حتّى يأخذ الدّهن رائحتها، فيتطيّب به، فإن تركت الطّلعة حتّى تنشقّ صار بلحا، ويتناثر ولم توجد له رائحة.
وأمّا الخزم «3»
- فقال «4» : هو شجرة كالدّوم، له أقناء وبسر أسود إذا أينع إلّا أنّه مرّ عفص لا يأكله الناس؛ وتتّخذ من خوصه وعسبه «5» الحبال، فلا يكون شىء أقوى منها.
وأمّا الزّيتون وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس: الزّيتون يغذو قليلا؛ وورق البرّىّ جيّد للدّاحس «6» ، ويمنع العرق مسحا؛ وصمغ البرّىّ ينفع من(11/131)
الجرب المتقرّح والقوابى «1» ، وينفع الغشاوة والبياض، ويجلو العين ووسخ قروحها ويخرج الجنين.
وماء الزّيتون المملّح يحقن به لعرق النّسا؛ وورقه يطبخ بماء الحصرم حتّى يصير كالعسل، وتطلى به الأسنان المتأكّلة فينفعها «2» ؛ وعصارة ورقه للجحوظ.
قال: والزّيتون الأسود مع نواه من جملة البخورات للرّبو وأمراض الرئة؛ والزّيتون الغليظ المملوح يثير الشهوة، ويقوّى المعدة، ويولّد كيموسا قابضا؛ والمخلّل أقبل الجميع للهضم وأسرعه.
وقال ابن وكيع يصفه:
انظر إلى زيتوننا ... فيه شفاء المهج
بدا لنا كأعين ... شهل «3» وذات دعج
مخضرّه زبرجد ... مسودّه من سبج «4»
وأمّا الخرنوب وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس: أصلحه الخرنوب الشامىّ المجفّف؛ وهو قابض، والرّطب منه مطلق. قال: واذا دلكت الثآليل(11/132)
بالخرنوب النّبطىّ الفجّ دلكا شديدا أذهبها ألبتّة؛ والمضمضة بطبيخه جيّدة لوجع الأسنان؛ والرّطب من الشامىّ ردىء «1» للمعدة لا ينهضم؛ واليابس أبطأ انهضاما. قال:
والجلوس فى طبيخه يقوّى المعدة «2» ؛ وفيه إدرار؛ والنّبطىّ نافع من سيلان الطّمث المفرط أكلا واحتمالا «3» . وقال جالينوس: ليت «4» هذه الشجرة لم تجلب إلى بلاد «5» أخرى. وحكى أنّ سليمان عليه السّلام كان من عادته أن يعتكف فى البيت المقدّس المدد الطّوال، وكانت تخرج له فى كلّ يوم من محرابه شجرة، فيسألها عن اسمها فتخبره، فخرجت له شجرة الخرنوب، فسألها عن اسمها، فأخبرته، فبكى، وقال:
نعيت إلىّ نفسى؛ فقيل له فى ذلك، فقال: الخرنوب خراب؛ ومات بعد ذلك بقليل؛ وقال شاعر فيه:
لمّا أتى الخرنوب فى طبق ... حنّت اليه النّفوس والمهج
كأنّه فى كمال حالته ... حبّ عقيق أصدافها سبج(11/133)
وأمّا الإجّاص «1» وما قيل فيه
- فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده:
إن خلطتم اليبروح «2» بورق العنّاب ومثل نصف وزن اليبروح كندسا «3» ، وزرعتموه فى أىّ البلاد، خرج عن ذلك شجر الإجّاص الحامض؛ وإن أردتموه حلوا فاخلطوا مع اليبروح خمير دقيق الشعير والحنطة مختلطين، وقد طال اختمارهما حتى حمضا، فإنّه يخرج عنه شجر الإجّاص الحلو، وذلك بعد أن يخلط بما تقدّم، ومن الخمر الحديث برطل.
وقال الشيخ الرئيس فى الإجّاص: البستى منه أقوى من الأسود، والأصفر أقوى من الأحمر، والأبيض الكبير «4» ثقيل قليل الإسهال، والأرمنىّ أحلى الجميع(11/134)
وأشدّه إسهالا، وأجوده الكبار السّمينة؛ وطبعه بارد فى أوّل الثانية رطب فى آخرها. وقال فى أفعاله وخواصّه: صمغه ملطّف قطّاع مغرّ؛ وفى الدّمشقىّ عقل وقبض عند ديسقوريدس؛ وقال «1» جالينوس: والذى لم ينضج فيه قبض وغذاؤه قليل، وليؤكل قبل الطعام، ويشرب المرطوب بعده ماء العسل والنّبيذ وصمغه ملحم للقروح، وبالخلّ يقلع القوباء. وخاصّة إن كان معه عسل أو سكّر وخصوصا فى الصّبيان؛ وورقه اذا تمضمض بمائه منع من النوازل الى اللّوزتين «2» واللهاة؛ واذا اكتحل بصمغه قوّى البصر؛ والمزّ «3» منه يسكّن التهاب القلب، وهو أشدّ قمعا للصّفراء؛ والحلو منه يرخى المعدة بترطيبه ويبردها؛ وبالجملة لا يلائمها؛ والحلو منه أشدّ إسهالا للصّفراء؛ والرّطب أشدّ إسهالا من اليابس؛ والدّمشقىّ يعقل البطن عند بعضهم؛ والبرّىّ ما دام لم ينضج جدّا «4» ففيه قبض إجماعا. وقال جالينوس: إنّ ديسقوريدس أخطأ فى قوله: إنّ الدّمشقىّ يقبض، بل هو مسهل وصمغه يفتّت الحصاة، وماؤه يدرّ الطّمث، وكلّما صغر كان أقلّ إسهالا.
وقال سليمان «5» بن بطّال الأندلسىّ يصفه:
بعثت ما يندر لكنّه ... فى وصفه النّاعت لم يبرر «6»(11/135)
جيشا من الزّنج ولكنّه ... جيش متى يلقى العدا يقهر
ينفى لك الصّفراء مهزومة ... والزّنج أعداء بنى الأصفر
وقال آخر:
كأنّما الإجّاص فى صبغه ... مسترق فى اللّون صبغ المهج
لم يخط «1» فى لون وفى منظر ... مستحسن الوصف وعرف «2» أرج
قطائع «3» العنبر ملمومة ... أو خرزات خرطت من سبج «4»
وممّا وصف به القراسيا «5»
- قال شاعر:
وحبوب كأنّها حدق الأع ... ين سود دموعهنّ دماء
مائلات «6» مثل النّجوم علينا ... فى بروج لها الغصون سماء
واذا ما نثرتها ففصوص ... صبغتها بمائها الظّلماء
من يذقها يذق رضاب غزال ... فهى والخمر فى المذاق سواء(11/136)
وأمّا الزّعرور وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس: الزّعرور يسمّى مثلّث العجم «1» ، ومنه نوع تسمّيه اليونانيّون هيقيليمون «2» ، وربّما سمّوه التّفاح البرّىّ؛ وشجره يشبه شجر التّفاح حتّى فى ورقه، إلّا أنّه أصغر منه، عفص الطّعم؛ وهو قابض، يقمع الصّفراء، ويحبس السيلانات أكثر من كلّ ثمرة.
وفى وصفه يقول ابن رافع:
كأنّما الزّعرور لمّا بدا ... فى حسن تقدير ومرأى أنيق
جلاجل مخضوبة عندما «3» ... أو خرزات خرطت من عقيق
يضوع من ريّاه إمّا هفا ... به نسيم الرّيح مسك فتيق(11/137)
وقال أيضا فيه:
انظر إلى زعرورنا المنعوت ... نكهته كالعنبر المفتوت
كأنّه فى الوصف والنّعوت ... بنادق من أحمر الياقوت
وأمّا الخوخ وما قيل فيه
- فالشاميّون يسمّونه الدّراقن-؛ قال الشيخ الرئيس: طبع الخوخ بارد فى أوّل الثانية، رطب فى الأولى دون آخرها، ورطوبته سريعة العفونة؛ وهو مليّن، وفيه قبض ما، وأقبضه المقدّد، وفيه منع للسّيلان؛ والفجّ منه قابض أيضا؛ واذا قطر ماء ورقه فى الأذن قتل الدّيدان؛ ودهنه ينفع من الشّقيقة «1» وأوجاع الأذن الحارّة والباردة؛ والنّضيج منه جيّد للمعدة «2» ، وفيه تشهية للطّعام؛ ويجب ألّا يؤكل على غيره فيفسد عليه ويفسده، بل يقدّم على الطّعام؛ وقديده بطىء الهضم ليس بجيّد الغذاء. قال: واذا ضمدت بورقه السّرّة قتل ديدان البطن، وكذلك إن شربت عصارة فقّاحه «3» وورقه؛ والنّضيج منه يليّن البطن؛ والفجّ عاقل. قال: وقد قال بعضهم: إنّه يزيد فى الباه، ويشبه أن يكون ذلك للأبدان الحارّة «4» .
وأمّا ما وصف به من الشّعر
- فمن ذلك قول شاعر:
فى الخوخ أعجوبة لناظره ... ما مثلها جاء فى الأحاديث(11/138)
كأنّه وجنة الحبيب وقد ... أثّر فيها قرص البراغيث
وقال أبو بكر الصّنوبرىّ:
أهدى الينا الزمان خوخا ... منظره منظر أنيق
من كلّ مخصوصة بحسن ... معناه فى مثلها دقيق
صفراء حمراء مستفيد ... بهجتها «1» التّبر والعقيق
ذات أديمين ذا بهار «2» ... لمجتنيه، وذا شقيق «3»
كوجنة ألبست خلوقا «4» ... فزال عن بعضها الخلوق(11/139)
وقال أبو بكر بن القرطبيّة:
وطيّب الرّيق عذب آب فى آب «1» ... وزار مشتملا فى زىّ أعراب
فى مخمل الثّوب لم تخمل رآسته ... بين الفواكه من نقص ولا عاب
خالسته نظرى فآحمرّ من خجل ... ثمّ انثنى معرضا عنّى كمرتاب
من اسمه فيه مقلوبا ومبتدأ ... أربى على اللّوز فى تطريز جلباب
وقال أيضا:
وبنت ندى مخطّطة الأعالى ... بمجمرّ كلون الأرجوان
كوجنة غادة خافت رقيبا ... فغطّتها بمجمرّ البنان
وقال أبو هلال العسكرىّ:
وخوخة ملء يد الجانية ... تملك لحظ الأعين الرّانيه
مصفرّة الوجنة محمرّة ... كأنّها عاشقة ساليه
وأمّا المشمش وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس: أجود المشمش الأرمنىّ، فإنّه لا يسرع إليه الفساد ولا الحموضة؛ واذا أكل المشمش فيجب أن يؤخذ من المصطكا والأنيسون بالسويّة وزن درهم أو درهمين فى خمر صرف أو نبيذ زبيب أو نبيذ عسل. قال: وطبعه بارد رطب فى الثانية، ودهن نواه حارّ يابس فى الثانية «2» ، وخلطه سريع العفونة؛ وهو «3» يسكّن العطش؛ ودهن نواه ينفع(11/140)
من البواسير؛ وهو يولّد الحمّيات لسرعة تعفّنه؛ ونقيع المقدّد منه ينفع من الحمّيات الحارّة.
وقد وصفه الشعراء وشبّهوه
- فمن ذلك قول بعض الشعراء:
افدى حبيبا جاءنى متحفا ... بمشمش أحلى من السّكّر
فخلته حين تأمّلته ... بنادقا من ذهب أحمر
وقال ابن وكيع:
بدا مشمش الأشجار يذكو شهابه ... على خضر أغصان من الرّىّ ميّد
حكى وحكت أشجاره فى اخضرارها ... جلاجل تبر فى قباب زبرجد
وقال ابن رشيق:
كأنّما المشمش لمّا بدت ... أشجاره وهو بها يلتهب
خضر قباب الملك حفّت بها ... جلاجل مصقولة من ذهب
وقال ابن المعتزّ:
ومشمش بان منه أعجب العجب ... يدعو النفوس الى اللّذّات والطّرب
كأنّه فى غصون الّدوح حين بدا ... بنادق خرطت من خالص الذّهب
وقال ابن الرّومىّ:
قشر من الذّهب المصفّى حشوه ... شهد لذيذ طعمه للجانى
ظلنا لديه ندير فى كاساتنا ... خمرا تشعشع «1» كالعقيق القانى
وكأنّما الأفلاك من طرب بنا ... نثرت كواكبها على الأغصان(11/141)
وقال أيضا يذمّه:
اذا ما رأيت الدّهر بستان مشمش ... فأيقن يقينا أنّه لطبيب
يغلّ له ما لا يغلّ لربّه ... يغلّ مريضا حمل كلّ قضيب
وأمّا العنّاب وما قيل فيه
- فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم العنّاب الكبار فخذوا بطّيخة هنديّة فقوّروا رأسها من جهة الرأس، واحشوا اليبروح «1» فيها، وأعيدوا القوارة فى موضعها، وصبّوا اللّبن الحامض بزبده عليها وازرعوها فى الأرض، وعمّقوا لها الحفر قليلا، واسقوها فى أوّل زرعها، فإنّها تخرج شجرة تحمل عنّابا كبارا كأمثال الإجاص اللّطيف.
وقال الشيخ: أجود العنّاب أعظمه؛ وطبعه بارد إلى الأولى معتدل فى اليبوسة والرطوبة، وهو إلى قليل رطوبة؛ وينفع حدّة الدّم الحارّ. قال: أظنّ ذلك لتغليظه «2» الدّم، وتلزيجه إيّاه. قال: والّذى يظنّ من أنّه يصفّى الدّم ويغسله ظنّ لست أميل اليه؛ وغذاؤه يسير، وهضمه عسير. قال: والقول الجيّد فيه ما قاله جالينوس:
«ما وجدت للعنّاب فى حفظ الصّحّة ولا إزالة المرض أثرا، لكن وجدته عسير الهضم، قليل الغذاء» . قال الشيخ: والعنّاب ينفع الصّدر والرّئة، وهو ردىء للمعدة. وقيل: إنّه نافع لوجع الكلية والمثانة؛
وقد وصفه الشعراء وشبّهوه
- فمن ذلك قول ابن القرطبيّة:
أما ترى شجر العنّاب موقرة ... بكلّ أحمر لمّاع من الخرز(11/142)
وقد تدلّت به الأغصان مائلة ... مثل العثا كيل من صدر إلى عجز
وقد حمته عن الأيدى أسنّتها ... حذار مفترس أو خوف منتهز
وقال أبو طالب المأمونىّ:
يروقنى العنّاب ... فبى اليه انصباب «1»
اذ لاح لى منه أطرا ... ف من أحبّ الرّطاب
يحكى فرائد درّ ... لها العقيق إهاب
وقال ابن رافع:
أحبب بعنّاب بدا أنيق ... كمثل لون وجنة المعشوق
أو خرز لمّت من العقيق ... أو كقلوب الطّير فى التحقيق
جاءت بها شغواء «2» رأس نبق «3» ... كأنّما اشتقّ من الشّقيق
أو كان يسقى بجنى الرّحيق ... أحلى من السّكّر فى الحلوق
فى نكهة العنبر والمخلوق
وقال أيضا فيه:
كأنّما العنّاب لمّا بدا ... يلوح فى أعطاف غصن أنيق
تطريف من تطريفها من دمى ... أو خرزات خرطت من عقيق
أو كقلوب الطّير جاءت بها ... أفراخها شغواء فى رأس نيق
وقال فيه:
كأنّما العنّاب فى دوحه ... لمّا تناهى حسنه واستتم
أقراط ياقوت تبدّت لنا ... أو انمل قد طرّفت بالعنم(11/143)
وأمّا النّبق وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس: الرّطب من النّبق واليابس فيهما تجفيف وتلطيف؛ ودخان السّدر شديد القبض؛ والنّبق قابض وخصوصا سويقه «1» ، ويمنع تساقط الشّعر، ويطوّله، ويقوّيه، ويليّنه؛ وورق السّدر يليّن الورم الحارّ ويحلّله؛ وينفع من الرّبو وأمراض الرّئة؛ وهو مقوّ للمعدة عاقل للطبيعة؛ وينفع من نزف الحيض والطّمث، ومن قروح الأمعاء، خصوصا سويقه؛ وينفع من الإسهال الكائن بسبب ضعف المعدة. قال: والسّدر يحتقن بطبيخه، ويشرب لهذه العلل، ولسيلان الرّحم.
وقد وصفه الشعراء وشبّهوه
- فمن ذلك قول شاعر:
وأشجار نبق قد تكامل حسنها ... أتت بغريب فى الثّمار بديع
فمن أحمر قان وأصفر فاقع ... ويانع مخضرّ كزهر ربيع
[وقال آخر] :
وسدرة كل يوم ... من حسنها فى فنون
كأنّما النّبق فيها ... وقد بدا للعيون
جلاجل من نضار ... قد علّقت فى الغصون
وقال كشاجم من أبيات:
فى ظلّ سدر مثمر دانى العذب ... فيه لأنواع من الطّير صخب
اذا الرّياح زعزعت تلك الشّعب ... أهدى لنا بنادقا من الذّهب(11/144)
وقال عبد الله بن المعتزّ:
انظر إلى النّبق الّذى ... فيه الشّفاء لكلّ ذائق
فكأنّه فى دوحه ... واللّيل ممدود السّرادق
ذهب تبهرجه الصّيارف ... صار حبّا للمخانق «1»
وقال أبو الفرج الببغاء:
انظر إلى النّبق البديع المنظر ... الطّيّب الرّيح اللّذيذ المخبر
أحلى مذاقا من مذاق السّكّر ... كخرز من كهرباء أصفر(11/145)
الباب الثالث من القسم الثانى من الفنّ الرابع فيما ليس لثمره قشر ولا نوى
ويشتمل هذا الباب على ثمانية أصناف، وهى العنب والتّين والتّوت والتّفّاح والسّفرجل والكمّثرى واللّفّاح والأترجّ
فأمّا العنب وما قيل فيه
- فشجرة العنب: الكرمة، والجمع كرم وكروم. والجفنة: الكرمة؛ ويقال فيها: الجفنة بفتحتين «1» . ويقال للقضيب منها: الحبلة وقيل: الحبلة، أصل الكرمة: والقضيب: السّرغ بغين معجمة، والجمع سروغ، رواه أبو عمرو عن ثعلب؛ وقال أبو بكر: السّرغ بعين غير معجمة: قضيب من قضبان الكرم. وفى القضيب الأبنة، والجمع أبن، وهى العقد التى تكون فيه. فاذا أخرج القضيب ورقه قيل: قد أطلع. فاذا ظهر حمله قيل: قد أحثر «2» وحثر. فاذا صار حصرما قيل: حصرم؛ ويقال للحصرم: الكحب، الواحدة كحبة؛ ولما تساقط من العنب: الهرور. فاذا اسودّ نصف حبّه «3» قيل: شطّر تشطيرا. فإذا اسودّت الحبّة إلّا دون نصفها قيل: قد حلقم يحلقم. فاذا اسودّ بعض حبّه قيل: قد أوشم(11/146)
إيشاما؛ ولا يقال للعنب الأبيض: أوشم. فاذا فشا فيه الإيشام قيل: قد أطعم.
فاذا أدرك غاية الإدراك قيل: ينع وأينع وطاب. والعنقود معروف ما دام عليه حبّه. فاذا أكل فهو شمراخ. ويقال لمعلق الحبّ من الشّمراخ: القمع؛ ويقال اذا جنى: قد قطف قطافا. فاذا يبس، فهو الزّبيب والعنجد «1» . والقطف: العنقود؛ وفى التنزيل: (قطوفها دانية) .
قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: الأبيض أحمد من الأسود اذا تساويا فى سائر الصّفات من المائيّة والرّقّة والحلاوة وغير ذلك؛ والمتروك بعد القطف يومين أو ثلاثة خير من المقطوف فى يومه.
وأمّا طبعه
- فإنّ قشره بارد يابس بطىء الهضم؛ وحشوه حارّ رطب؛ وحبّه بارد يابس؛ والمقطوف منه فى الوقت ينفخ؛ والمعلّق حتّى يضمر قشره جيّد الغذاء، مقوّ للبدن؛ وغذاؤه شبيه بغذاء التّين فى قلّة الرّداءة وكثرة الغذاء، وان كان أقلّ من غذاء التّين؛ والنّضيج أقلّ ضررا من غير النّضيج؛ واذا لم ينهضم العنب كان غذاؤه فجّا نيئا؛ وغذاء العنب بحاله أكثر من غذاء عصيره، ولكنّ عصيره أسرع نفوذا وانحدارا. قال: والزّبيب صديق الكبد والمعدة؛ والعنب والزّبيب بعجمهما جيّد «2» لأوجاع المعى؛ والزّبيب ينفع الكلى والمثانة؛ والعنب المقطوف فى الوقت يحرّك البطن وينفخ؛ وكلّ عنب فإنّه مضرّ للمثانة؛ والله أعلم.(11/147)
وأمّا ما وصفت به الكروم والأعناب نظما ونثرا
- فمن ذلك ما قاله مؤيّد الدّين الطّغرائىّ:
وكرمة أعراقها فى الثّرى ... بعيدة المنزع والمضرب
كريمة تلتفّ أغصانها الغضّة ... بالأقرب فالأقرب
تمتاح من قعر الثّرى ريّها ... أشطانها «1» عفوا «2» ولم تجذب «3»
ألقحها الرّيح وصوب الحيا ... والشمس فى المشرق والمغرب
فأعقبت حائلها «4» بعد ما ... عاشت زمانا وهى لم تعقب
ووضعتها «5» نخبا تنتمى ... الى أب أكرم به من أب
وألحفتها خضر أوراقها ... مغذوّة بالحلب الأعذب
وأسلمتها الشمس من صبغة ... التلويح للأغرب «6» فالأغرب
فمهرت فيها «7» وجاءت بما ... يبهر من مستحسن معجب(11/148)
وبدّلت خضر عناقيدها ... بالأدهم اليحموم «1» والأشهب
واستسلفت ماء وجاءت به ... مدامة كالقبس الملهب
ولم تزل بالرّفق حتّى اكتسى ... لجينها من صبغها المذهب
فالأشقر المنتوج من نسلها ... سليل ذاك الأشهب المنجب
ترى الثّريّا من عناقيدها ... تلوح فى أخضر كالغيهب
ألقابها شتّى وألوانها «2» ... متّفقات النّجر والمنصب
كم درّة فيها وكم جزعة «3» ... صحيحة التّدوير لم تثقب
كأنّما الحالك منها لدى ... أبيضها اللامع كالكوكب
جيلان «4» من زنج وروم غدت ... فى جنن خضر لها تختبى «5»
كأنّما تحمل حبّاتها ... أكارع النّغران «6» بالمخلب
أطيب بها حلّا «7» ومحظورة ... فى كرمها أو كأسها أطيب(11/149)
وقال آخر «1» :
رحنا إلى حديقة ... بكلّ حسن محدقه
كأنّما عنقودها ... زنج جنوا فى سرقه
فأصبحت رءوسهم ... على الذّرا معلّقه
وقال ابن المعتزّ:
ظلّت عنا قيدها يخرجن من ورق ... كما احتبى الزّنج فى خضر من الأزر
وقال النّاجم:
معرّش للكروم منتشر ... أوراقه الخضر دون مرآها
فكلّ كرم هو السماء دجى ... وكلّ عنقوده «2» ثريّاها
وقال الرّفّاء:
يحملن «3» أوعية المدام كأنّما ... يحملنها بأكارع النّغران «4»
وقال الصّاحب بن عبّاد:
وحبّة من عنب قطفتها ... تحسدها العقود فى التّرائب
كأنّها من بعد تمييزى لها ... لؤلؤة قد ثقبت من جانب
وقال ابن المعتزّ:
وحبّة من عنب ... من المنى متّخذه
كأنّها لؤلؤة ... فى بطنها زمرّذه(11/150)
وقال البادنىّ «1» :
وعناقيد تراها ... اذ تمايلن مميلا
ركّبت فيها لآل ... لم تثقّب فتزولا
وقال عبد المحسن الصورىّ يصف عنبا أهدى إليه وهو مغطّى بورقه:
جاءنا منك تحفة أنا «2» منها ... أبدا فى تضاعف السّرّاء
عنب أسود كأنّ عليه ... حللا من حنادس الظّلماء
خلته فى خلال أوراقه الخض ... ر ولون اسوداده والصّفاء
كقموع «3» على أنامل خود ... لحن من كمّ لاذة «4» خضراء
وقال ابن الرومىّ يصف العنب الرّازقىّ «5» :
كأنّ الرازقىّ وقد تباهى ... وتاهت بالعناقيد الكروم
قوارير بماء الورد ملآى ... تشفّ ولؤلؤ فيها يعوم(11/151)
وتحسبه من العسل المصفّى ... اذا اختلفت عليك به الطّعوم
فكلّ مجمّع منه ثريّا ... وكلّ مفرّق منه نجوم
وقال فيه أيضا:
ورازقىّ مخطف «1» الخصور ... كأنّه مخازن البلّور
قد ضمّنت مسكا إلى الشّطور ... وفى الأعالى ماء ورد جورى «2»
لم يبق منه وهج الحرور ... إلّا ضياء فى ظروف نور
له مذاق العسل المشور «3» ... ورقّة الماء على الصّدور
ونفحة «4» المسك مع الكافور ... لو أنّه يبقى على الدّهور
قرّط آذان الحسان الحور ... بلا فريد وبلا شذور
وقال أبو الوليد بن زيدون وقد أهداه:
قد بعثناه ينفع الأعضاء ... حين يجلو بلطفه السّخناء «5»
جاء يزهى بمستشفّ رقيق ... خدع العين رقّة وصفاء
تنفذ العين منه فى ظرف نور ... ملأته أيدى الشّموس ضياء
اكسبته الأيّام برد هواء ... فهو جسم قد صيغ نارا وماء «6»
منظر يبهج القلوب وطعم ... يسكر النفس شهده استمراء(11/152)
فضل السابق المقدّم فى السّنخ «1» ... فأزرى بطعمه إزراء
غير أنّى بعثت هذا غذاء ... يشتهيه الفتى وذاك دواء
ملطف يبرد المزاج اذا جا ... ش بحرّ ويقمع الصفراء
ومعين لواصل الصّوم يسرى ... برده فى الحشا ويروى الظّماء
فاقبل النّزر شافعا لأياديك ... الّتى بعضها يفوت الثّناء
وقال أبو طالب المأمونىّ يصف الزّبيب الطّائفىّ:
وطائفىّ من الزّبيب به ... ينتقل الشّرب «2» حين ينتقل
كأنّه فى الإناء أوعية ... من النّواجيد «3» ملؤها عسل
وأمّا التّين وما قيل فيه
- فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن خلطتم من اليبروح «4» الرّطب أصلا وفرعا، ومثل وزنه من العسل والشّمع، وزرعتموه فى الأرض كما تزرعون سائر الأشياء، وصببتم عليه وقت زرعه من الماء ما تعلمون أنه قد وصل اليه، ثمّ تركتموه ولم تزيدوه، خرج من ذلك التين الأصفر الشديد الحلاوة؛ وإن خلطتم باليبروح أربع ثومات وبصلة، وسحقتم الجميع، وزرعتموه(11/153)
خرج عن ذلك التّين الأسود المتوسّط بين السواد الشديد، والأحمر، وهو الّذى ينفط «1» الفم. وأخبرنى من يرجع إلى قوله ويوثق بنقله من حكّام المسلمين أنّ بثغر الإسكندريّة صنفا من التّين أسود يسمّى الغرابىّ، اذا نضج يكتب بالبياض فربّما وجد فى بعضه مكتوبا اسم الله تعالى؛ وأخبرنى أيضا أنّه رأى ذلك كثيرا؛ وأخبرنى أنّه أخبر من ثقات أنّه فيه ما يوجد مكتوبا عليه: (لا إله إلّا الله محمد رسول الله) ؛ وسألته: هل يتحيّل على ذلك بشىء؟ فقال: لا، وأنّه خلقة من الله تعالى؛ فسبحان القادر على كلّ شىء.
وأمّا المختار من التّين وما قيل فى طبعه وخواصّه
- فقد قال الشيخ الرئيس: أجود التّين الأبيض ثمّ الأحمر ثمّ الأسود؛ والشديد النّضج منه خيره، وقريب من ألّا يضرّ؛ واليابس محمود فى أفعاله، إلّا أنّ الّدم المتولّد منه غير جيّد إلّا أن يكون مع الجوز فيجود كيموسه، وبعد الجوز اللّوز؛ وأخفّ الجميع الأبيض. وطبعه: الرّطب منه حارّ قليلا؛ ورطبه كثير المائيّة، قليل الدّوائيّة؛ والفجّ منه جلّاء إلى البرد ما هو إلّا لبنه؛ واليابس منه حارّ فى الأولى فى آخرها لطيف. قال: واليابس منه قوىّ الجلاء، منضج محلّل؛ واللّحيم أكثر إنضاجا؛ وفيه تغرية وتقطيع وتلطيف. قال: والتين أغذى من سائر الفواكه؛ وعصارة ورقه قويّة التسخين والجلاء؛ وفيه تليين نافع «2» يدفع العفونات إلى الجلد. قال:
وفى تناوله تسكين للحرارة؛ ولبنه يجمد الذوائب من الدّماء والألبان، ويذيب الجامد؛ والرّطب منه سريع الغور والنّفوذ فى المعدة وفى البدن. قال: وشراب التّين لطيف(11/154)
ردىء الخلط. قال: ولقضبان التّين من اللّطافة ما يهرّئ اللّحم إذا طبخ بها؛ وفى الجمّيز قوّة جاذبة من عمق البدن وتحليل لما جذب. قال: والفجّ منه يطلى به، ويضمد به على الخيلان «1» والثّآليل «2» وأصنافها والبهق، وكذلك ورقه؛ وتناوله يصلح اللّون الفاسد، وينضج الدّماميل. قال: ولبن الجمّيز وعصارة ورقه يقلعان آثار الوشم وبقيروطىّ «3» على شقاق «4» البرد. قال: وتضمد به الأورام الصّلبة، وبالجميّز مطبوخا مع دقيق الشّعير؛ والفجّ منه على البهق؛ وينضج الدّماميل، ويجذب رطبه الحصف «5» ؛ وطبيخه ينفع لأورام الحلق وأورام أصول الأذنين غرغرة كذلك مع قشور الرّمّان، وللدّاحس «6» مع الفانيذ «7» ، ويضرّ اليابس أورام الكبد والطّحال بحلاوته؛ وأمّا اذا كان الورم صلبا لم يضرّ ولم ينفع، إلّا أن يخلط بالملطّفات المحلّلات فينفع جدّا؛(11/155)
والجمّيز شديد التحليل للأورام العسرة. قال: وطبيخ التّين برغوة الخردل يطلى به على الحكّة: وورقه ينفع من القوباء؛ وإن استعمل مع قشور الرّمّان أبرأ الدّاحس «1» ، ومع القلقند «2» لقروح الساقين الخبيثة؛ ولبن الجمّيز ملزق للجراحات. قال ورطب التّين ويابسه ينفع الصّرع «3» ؛ ويقطر طبيخه مع رغوة الخردل فى الأذن التى بها طنين؛ وينفع لبنه أو عصارة قضبانه قبل أن تورق اذا جعل فى السّنّ المتأكّلة؛ وينفع استعماله على أورام ما تحت الأذن ضمادا؛ والفجّ منه يبرئ قروح الرأس ذرورا؛ ولبنه مع العسل ينفع الغشاوة الرّطبة فى العين وابتداء الماء وغلظ الطّبقات؛ وتدلك بورقه خشونة الأجفان وجربها؛ والرّطب واليابس ينفعان من خشونة الحلق ويوافقان الصّدر وقصبة الرئة، وشراب التّين يدرّ اللّبن؛ وينفع من السّعال المزمن وأوجاع الصّدر؛ وينفع من أورام القصبة والرّئة. قال والتّين يفتّح سدد الكبد(11/156)
والطّحال. وقال جالينوس: رطبه ردىء للمعدة، ويابسه ليس بردىء، فإن أكل بالمرّىّ «1» نقىّ فضول المعدة؛ وهو ممّا يقطع العطش الّذى يكون من بلغم مالح؛ و [يابسه «2» ] يهيج العطش، وينفع من الاستسقاء، خصوصا بالأفسنتين «3» ؛ وربّ «4» شرابه نافع للمعدة، ويقطع شهوة الطعام. قال: والتّين سريع النّفوذ بجلائه، واليابس يضرّ بالكبد والطّحال الورمين بجلائه فقط، فإن كان الورم صلبا لم يضرّ ولم ينفع.
قال: ولاستعماله على الرّيق منفعة عجيبة فى تفتيحه مجارى الغذاء، وخصوصا مع الجوز واللّوز. قال: وجميع أصناف التّين غير موافق لسيلان الموادّ إلى المعدة؛ ورطبه ويابسه ينفع «5» الكلى والمثانة؛ وعصارة ورقه تفتّح أفواه عروق المقعدة؛ ورطبه يليّن ويسهل قليلا، خصوصا اذا أكل منه بلوز مدقوق، وكذلك لصلابة «6»(11/157)
الرّحم، وكذلك إن خلط بالنّطرون والقرطم وأخذ قبل الطعام؛ ويحتمل لبنه بصفرة البيض فينقّى الرّحم ويدرّ الطّمث؛ ويتّخذ فى ضماد الأرحام مع الحلبة، وفى حقن المغص مع السّذاب؛ ويسقى من ماء رماد خشبه المكرّر لمن به إسهال ودوسنطاريا «1» أوقيّة ونصف. قال: ولبنه ينفع من لسعة العقرب مروخا «2» ، وكذلك الرّتيلاء «3» ؛ ويجعل الفجّ منه أو الورق الطّرىّ على عضّة الكلب الكلب فينفع؛ ويضمد به مع الكرسنّة على عضّة ابن عرس فينفع، هذا ملخّص ما أورده الشيخ فى أفعاله وخواصّه؛ والله أعلم بالصّواب.
وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه
- فمن ذلك قول أسامة بن مرشد «4» ابن منقذ:
أما ترى التّين فى الغصون بدا ... ممزّق «5» الجلد مائل العنق
كأنّه ربّ نعمة سلبت ... أصبح بعد الجديد فى خلق(11/158)
أو كأخى شرّة أغيظ وقد ... مزّق جلبابه من الحنق
مثل نهود الأبكار صورته ... لو لم يناد عليه فى الطّرق
قد عقدته يد السّموم لنا ... فالوذج الدّوح غير محترق
فالشّهد والزّعفران مع عرق الورد ... وحبّ الخشخاش فى نسق
فقم بنا نحوه «1» نباكره ... قبل جفاف النّدى عن الورق
ولا تمل بى إلى سواه فلا ... أميل عنه ما دمت ذا رمق
وقال إبراهيم بن خفاجة:
وسود الوجوه كلون الصّدود ... تبسّمن تحت عبوس الغبش «2»
اذا ما تجلّى بياض الضّحى ... تطلّعن فى وجهه كالنّمش
كأنّى أقطّف منها ضحى ... ثدىّ صغار بنات الحبش
وقال أبو الفتح كشاجم يصف تينا أصفر وأسود:
أهلا بتين جاءنا ... منضّدا على طبق
يحكى الصّباح بعضه ... وبعضه يحكى الغسق
كسفرة «3» مضمومة ... قد جمّعت بلا حلق
وقال أيضا فى تين أصفر:
قم قد أتى ضوء الصّباح المسفر ... يا صاح نغتنم الحياة وبكّر
نلمم بتين لذّ طعما واكتسى ... حسنا وقارب منظرا من مخبر
لطفت معانيه لطافة عاشق ... فى لون مشتاق حليف تفكّر(11/159)
كالثّلج بردا فى صفاء التّبر فى ... ريح العبير وفوق طعم السّكّر
يحكى لنا ما صفّ فى أطباقه ... خيما تلوح من الحرير الأخضر
[وقال آخر «1» ] :
ما التّين إلّا سيّد الثّمار ... بلا امتراء وبلا ممارى
كأنّه إذ لاح فى الأشجار ... أطراف أثداء من الجوارى
أو أكر صيغت من النّضار
وأمّا ما وصف به على سبيل الذّم- فمنه قول محمد بن شرف القيروانىّ:
لا مرحبا بالتّين لمّا أتى ... يسحب كاللّيل عليه وشاح «2»
ممزّق الجلباب يحكى لنا ... هامة زنجىّ عليها جراح
[وقال آخر] :
لا أشتهى ما عشت تينا فما ... أقبحه مذكنت فى عينى
لأنّه بين ومن ذا الّذى ... يحبّ أن يسمع بالبين
وأمّا التّوت وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا:
التّوت صنفان: أحدهما هو الفرصاد الحلو، وهو يجرى مجرى التّين فى الإنضاج(11/160)
إلّا أنّه «أردأ غذاء «1» » وأفسد دما، وأقلّ، وأردأ للمعدة؛ وله سائر أحوال التّين ولكنّه دونه؛ وأمّا المزّ الّذى يعرف بالتّوت الشّامىّ فليكن أكثر كلامنا فيه؛ وطبعه الحلو حارّ رطب؛ والحامض الشامىّ هو الى البرد والرّطوبة؛ وفى التّوت قبض وتبريد؛ وعصارته قابضة؛ وخصوصا إذا طبخت فى إناء نحاس؛ ويمنع سيلان الموادّ إلى الأعضاء، وخصوصا الفجّ منه. قال: واذا طبخ ورقه وورق الكرم وورق التّين الأسود بماء المطر سوّد الشّعر؛ والحامض يحبس أورام الفم والحلق وورقه ينفع للذّبحة والخوانق؛ والحامض ينفع القروح الخبيثة مجفّفه وعصارته؛ وربّ «2» الحامض نافع لبثور الفم؛ والتّمضمض بعصارة ورق الحامض جيّد للسّنّ الوجعة؛ والتّوت ردىء للمعدة يفسد فيها، وخصوصا الفرصاد؛ واذا لم يفسد الفرصاد فى المعدة بسرعة لم يضرّ؛ ويجب أن تؤكل جميع أصنافه قبل الطعام وعلى معدة لا فساد فيها؛ وأمّا الشامىّ فلا يضرّ معدة صفراويّة؛ وليس فيه من رداءة الموافقة للمعدة ما فى الفرصاد؛ وهو يشهّى الطعام ويزلقه، ويخرجه بسرعة؛ والعفص المجفّف المملّح من التّوت يحبس البول شديدا، وينفع من الدّوسنطاريا؛ ودمعة التّوت تسهل؛ وفى لحائه تنقية وإسهال؛ وفى الحلو سرعة انحدار؛ وفى جميع أصناف التّوت إدرار للبول؛ واذا شرب من عصارة ورقه أوقيّة ونصف نفع من لسع الرّتيلاء «3» ، وليّن الطبيعة.(11/161)
وأمّا ما وصفه به الشّعراء
- فمن ذلك قول محمد بن شرف القيروانىّ:
انظر إلى توت الجنان الّذى ... وافى به النّاطور «1» فى جام
يحكى جراحا دمها سائل ... لدى جسوم من بنى حام
وقال بعض الأندلسيّين وقد أهداه:
تفاءلت بالتّوت التأتّى لزورة ... وذلك فأل ما علمت صدوق
فأهديته غضّا حكى حدق المها ... له منظر بالحسن منه يروق
فذا سبج لمّا يرى باسوداده ... وذا لاحمرار اللّون منه عقيق
وقال ابن الرّومىّ «2» :
ومختضبات من نجيع دمائها ... اذا جنيت فى بكرة الغدوات
تكاد بأن «3» تفطا «4» إذا ما لمستها ... فأرحمها من سائر الثّمرات
وأمّا التّفّاح وما قيل فيه
- فقال الشيخ: أعدل التّفّاح الشامىّ؛ والتّفه منه ردىء قليل المنافع، وكذلك الفجّ؛ وطبعه، العفص والقابض والحامض بارد غليظ؛ والحلومائىّ أميل إلى الحرارة من غيره، وان كان الغالب البرد، فهى «5» مختلفة؛(11/162)
وكذلك أوراقها وأشجارها مختلفة؛ وبالجملة فإنّ الغالب فى جوهره رطوبة فضليّة باردة. قال: وفيه منع للفضول، وخصوصا فى ورقه؛ وفى التّفّاح نفخ فيما ليس بحلو؛ والحامض والفجّ مولّد «1» للعفونات والحميّات لخاميّة «2» خلطهما وفجاجتهما؛ وخلط الحامض ألطف من خلط القابض؛ وشراب التّفّاح عتيقه خير من طريّه، لتحليل البخارات الرديئة؛ وورقه ولحاؤه يدملان، وكذلك عصارة القابض منه؛ وإدمان أكل التّفّاح يحدث وجع العصب؛ والتّفّاح يقوّى القلب، خصوصا العطر الشّامىّ؛ والمشوىّ فى العجين نافع لقلّة الشّهوة؛ وينفع من الدّود ومن الدّوسنطاريا «3» وأوفقه للدّوسنطاريا العفص «4» ؛ وسويق «5» التّفّاح يقوّى المعدة، ويمنع القىء؛ والحلو والحامض إذا صادف «6» فى المعدة خلطا غليظا ربّما حدره فى البراز، وان كانت خالية حبس؛ والتّفّاح نافع من السّموم، وكذلك عصارة ورقه.(11/163)
وأمّا ما وصفه به الشّعراء
- فمن ذلك قول ابن المعتزّ:
وتفّاحة حمراء خضراء غضّة ... مضمّخة بالطّيب من كلّ جانب
تكامل فيها الحسن حتّى كأنّها ... تورّد خدّ فوق خضرة شارب
وقال العسكرىّ:
وتفّاحة صفراء حمراء غضّة ... كخدّ محبّ فوق خدّ حبيب
أحيّا بها طورا وأشرب مثلها ... من الراح من كفّى أغنّ ربيب
وقال الرّقّىّ:
وتفّاحة غضّة ... عقيقيّة الجوهر
تندّت بماء الرّبي ... ع فى روضها الأخضر
فجاءت كمثل العرو ... س فى لاذها «1» الأحمر
ذكرت بها الجلّنار ... فى خدّك الأزهر
فملت سرورا بها ... إلى القدح الأكبر
وأنت لنا حاضر ... وان كنت لم تحضر
وقال آخر:
تفّاحة تذكر صفو الودّ ... وتبعث النفس لحفظ العهد
كأنّها مقطوفة من خدّ ... نسيمها يحكى نسيم الورد
وقال أبو بكر بن دريد:
وتفّاحة من سوسن صيغ نصفها ... ومن جلّنار نصفها وشقائق
كأنّ النّوى قد ضمّ من بعد فرقة ... بها خدّ معشوق الى خدّ عاشق(11/164)
وقال أبو الوليد بن زيدون وقد أهدى تفّاحا:
أتتك بلون الحبيب الخجل ... تخالط لون المحبّ الوجل
ثمار تضمّن إدراكها ... هواء أحاط بها معتدل
تأتّى لتدريج تلطيفها ... فمن حرّ شمس إلى برد ظل
إلى أن تناهت شفاء العليل ... وأنس الخليل ولهو «1» الغزل
فلو يجمد الراح لم يعدها ... وان هى ذابت فراح يحل
قبولكها نعمة غضّة ... وفضل بما جئته متّصل
وقال أبو نواس- ومنه أخذ ابن زيدون-:
الخمر تفّاح جرى ذائبا ... كذلك التّفّاح خمر جمد
فاشرب على جامدها ذوبها ... ولا تدع لذّة يوم لغد
وقال ابن المعتزّ:
تفّاحة معضوضة ... كانت «2» رسول القبل
كأنّ فيها وجنة ... تنقّبت بالخجل
تناولت كفّى بها ... ناحية من أملى
لست أرجّى غير ذا ... يا ليت هذا دام لى
وقال آخر:
فدّيت من حيّا بتفّاحة ... فى خلع التّوريد من وجنته
نسيمها يخبرنى أنّها ... تسترق الأنفاس من ريقته
لمّا حكت نوعين من حسنة ... قبّلتها شوقا إلى نكهته(11/165)
وقال الصّنوبرىّ:
فتناولت منه صادقة الرّي ... ح تسمّى صديقة الأرواح
وشّحتها يداه من خالص التّب ... ر بسطر يجول جول الوشاح
كسيت صبغة الملاحة لمّا ... صبغت صبغة الخدود الملاح
وقال آخر:
تخال تفّاحتها ... فى لونها وقدّها
تناولتها كفّها ... من صدرها وخدّها
وقال ابن رشيق:
وتفّاحة من كفّ ظبى أخذتها ... جناها من الغصن الّذى مثل قدّه
حكت لمس نهديه وطيب نسيمه ... وطعم ثناياه وحمرة خدّه
وقال ابن عبّاد:
ولمّا بدا التّفّاح أحمر مشرقا ... دعوت بكأسى وهى ملآى من الشّفق
وقلت لساقينا أدرها فإنّها ... خدود عذارى قد جمعن على طبق
وقال محمّد بن سعيد:
بديعة اللّون من نور السّرور بها ... فى كلّ حسن وطيب يضرب المثل
جاءتك فى حلّة بيضاء مشرقة ... فى حمرة كاتّقاد النار تشتعل
أو قهوة مزجت أو نصف لؤلؤة ... بنصف ياقوتة حمراء تتّصل
وقال آخر:
قال جالينوس فى حكمته ... لك فى التّفّاح فكر وعجب
هو روح «1» النّفس، من جوهرها ... وبها شوق اليه وطرب(11/166)
ومزاج «1» القلب ينفى همّه ... ويجلّى الحزن عنه والكرب
وقال ابن الرّومىّ- وهو ممّا يكتب على تفّاحة-:
أرسلنى عاشق بحاجته ... فجئت بين الرّجاء والوجل «2»
لا تخجلنّى بالردّ حسبك ما ... ترى بخدّى من حمرة الخجل
وقال أبو الفتح البستىّ:
فتى جمع العلياء علما وعفّة ... وبأسا وجودا لا يفيق فواقا «3»
كما جمع التّفّاح حسنا ونضرة ... ورائحة محبوبة ومذاقا
[وقال آخر «4» ] :
أكلت تفّاحة فعاتبنى ... خلّ رآها كخدّ معشوقه
وقال خدّ الحبيب تأكله ... فقلت لا، بل أمصّ من ريقه
وقال آخر:
لا آكل التّفّاح دهرى ولو ... جنته كفّى من جنان الخلود
تالله لا أتركه عن قلى ... لكنّنى أتركه للخدود(11/167)
وأمّا السّفرجل وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس: السّفرجل إذا غسل برماد أغصانه وورقه كان كالتّوتياء «1» ؛ والمشوىّ منه أخفّ وأنفع؛ وصورة شيّه أن يقوّر ويخرج حبّه ويجعل فيه العسل، ويطيّن خرمه، ويودع الرّماد؛ قال:
وطبع السّفرجل بارد فى آخر الأولى، يابس فى أوّل الثانية؛ وهو قابض مقوّ، وزهره قابض، وكذلك دهنه؛ والحلو أقلّ قبضا، وحبّه مليّن بلا قبض؛ وهو يمنع سيلان الفضول إلى الأحشاء، ويحبس العرق؛ ودهنه ينفع من شقاق «2» البرد، ومن النّملة «3» والقروح الجربة «4» . قال: وكثرة أكله تولّد وجع العصب، ومشويّه يوضع على أورام العين الحارّة؛ وعصارته نافعة من انتصاب «5» النّفس والرّبو، وتمنع نفث الدّم؛ وحبّه ينفع من خشونة الحلق، ويليّن قصبة الرئة؛ ولعابه «6» أيضا يرطب يبس القصبة؛ والسفر جل ينفع من القىء والخمار؛ ويسكّن العطش، ويقوّى المعدة القابلة للفضول شرابه ونقيعه ومطبوخه؛ وشرابه مقوّ للشهوة الساقطة جدّا، ونيئه «7» يقوّى المعدة،(11/168)
ويمنع القىء البلغمىّ؛ والسفرجل مدرّ؛ والمطبوخ بالعسل أشدّ إدرارا، وربّما أطلق ولم يعقل؛ ويولّد القولنج والمغس، وينفع من الدّوسنطاريا؛ ويحبس نزف الطّمث؛ وينفع من حرقة البول اذا قطرت عصارته ودهنه فى الإحليل؛ ودهنه ينفع الكلى والمثانة؛ واذا أكل من السفرجل على الطّعام أطلق، حتّى إنّه إذا استكثر منه أخرج الطعام قبل الانهضام؛ ويحقن بطبيخه لنتوء المقعدة والرحم؛ هذا ما قاله الشيخ فى السفرجل.
وأمّا ما وصف به نظما ونثرا
- فمن ذلك ما قاله السّرىّ الرّفّاء «1» :
لك فى السفرجل منظر تحظى به ... وتفوز منه بشمّه ومذاقه
هو كالحبيب سعدت منه بحسنه ... متأمّلا وبلثمه وعناقه
يحكى لك الذّهب المصفّى لونه ... وتزيد بهجته على إشراقه
فالشّكل من أعلاه يحكى شكله «2» ... ثدى الكعاب الى مدار نطاقه
والشّكل من سفلاه يحكى سرّة ... من شادن يزهى على عشّاقه
وقال آخر:
سفرجلات خرطها ... مثل الثّدىّ النّهّد
زهر «3» حكت بلونها ... صبغة ماء العسجد
وقال أبو محمد الدّاودىّ:
غصون السفرجل ملتفّة ... فمعتدل القدّ أو منثنى(11/169)
وقد لاح فى زئبر شامل ... كصفراء فى معجر «1» أدكن «2»
وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ:
وسفرجل عنى المصيف بحفظه ... فكساه قبل البرد خزّا أغبرا «3»
صوغ من الذّهب المصفّى، نشره ... مسك اذا حضر النّدىّ تعطّرا
يحكى نهود الغانيات وتحتها ... سرر لهنّ حشين مسكا أذفرا
يزهى بملمسه وطيب مذاقه ... ومشمّه ويروق عينك منظرا
وقال شاعر أندلسىّ:
سفر جلة جمعت أربعا ... نظمن لها كلّ معنى عجيب
صفاء النّضار وطعم العقار ... ولون المحبّ وريح الحبيب
وقال آخر:
ومصفرّة تختال فى ثوب سندس ... وتعبق عن مسك ذكىّ التنفّس
لها ريح محبوب وقسوة قلبه ... ولون محبّ حلّة السّقم قد كسى
وقال آخر:
متحفى بالسفرجل ... لا أحبّ السفرجلا
اسمه لو عقلته ... سفر جلّ واعتلى
[وقال آخر «4» ] :
أتحفتنا بهديّة ... نقضت وصالك أوّلا(11/170)
أرأيت من يهدى إلى ... من يصطفيه سفرجلا
أو ما علمت بأنّه ... سفر وآخره جلا
ومن رسالة لأبى عبد الله محمّد بن أبى الخصال الأندلسىّ، جاء منها فى السفرجل:
وقد بعثت منه [ما يقوم «1» ] مقام الشاهد، وينوب عن ثدى الناهد؛ فدونكها مخلّفة «2» البدر، محلّقة «3» الصّدر، قد لبست الحسن باطنا وظاهرا، واستوفت الطّيب أوّلا وآخرا؛ كأنّها من طباعك طبعت، أو من فضائلك ألّفت وجمعت؛ كلّا إنها بذكرك غذيت، وعلى غاياتك «4» حذيت.
ومنها: من كلّ ساهرة الشّذا، نائمة عن الأذى؛ دوحها لدن، وفوحها عدن؛ من وسائط السلوك، وندامى الملوك؛ لو ألفاها جذيمة «5» لاستغنى عن مالك(11/171)
وعقيل، أو ظفر بها بلال لسلا عن شامة «1» وطفيل، ولم يعبأ بإذخر «2» وجليل، أما إنها لو حلّت نديّا، وتمثّلت بشرا سويّا، لنطقت بالصّواب، وأتت بالحكمة وفصل الخطاب؛ ونثرت فى الطبّ دقائق، ووضعت فى الزهد رقائق؛ ولم لا! وهى تهدى للإيمان، وتدلّ على الجنان؛ وتحكى طوبى طيبا «3» ؛ وحسبك بها أولى ما سمت بها النّفس، وواحدة ميّز بها الجنس، وهاكها قد تعرّضت لقبولك، وانفردت كما انفردت بتأميلك. [والله أعلم «4» ] .
وأمّا الكمّثرى وما قيل فيها
- فقال الشيخ الرئيس: وفى بلادنا «5» نوع يقال له: شاه أمرود كثير اللحم، شديد الاستدارة، رقيق القشرة، حسن اللون؛ كأنه(11/172)
ماء سكّر معقود، طيّب الرائحة جدّا، اذا سقط من شجرته إلى الأرض اضمحلّ، وهذا لا مضرّة فيه من أصناف الكمّثرى. وقال فى طبعه «1» : الكمثرى المعروف «2» بالصّينىّ بارد فى الأولى، يابس فى الثانية، والشاه أمرود معتدل رطب؛ وقال فى أفعاله «3» وخواصه: جميع أصنافه قابض [يدخل «4» ] فى ضمادات حبس الموادّ، وقد يجلو يسيرا؛ وأما المعروف بشاه أمرود فى بلاد خراسان دون غيرها فهو مليّن للطّبيعة، حسن الكيموس «5» جدّا. قال: وهو يدمل الجراحات، خصوصا البرّىّ المجفّف، وهو يدبغ المعدة؛ والصّينىّ خاصّة يقوّى المعدة، ويقطع العطش، ويسكّن الصفراء. قال: وهو يعقل البطن، خصوصا المجفّف منه، قال: وفى الكثمرى خاصّيّة إحداث القولنج «6» ، فيجب أن يشرب بعده ماء العسل بالأفاويه «7» .
وأمّا ما وصفه به الشّعراء
- فمن ذلك قول ظافر الحدّاد الإسكندرىّ:
لله وافد كمّثرى ذكرت به ... ما كنت أعهد فى أيّامى الاول(11/173)
لم أدنه من فمى إلا وأحسبه ... من النهود لذيذ العضّ والقبل
فذقت من طعمه ما كاد يبلغ بى ... ما ذقت من رشف محبوب على عجل
أكرم بزورته لو أنها اتصلت ... أو أنه كان فيها غير منفصل
لو كنت أملك حكم الأرض ما حملت ... نبتا سواه على سهل ولا جبل
وقال أبو الفتح كشاجم «1» :
أحضرنا النّاطور من بستانه ... فى طبق ينطق عن إحسانه
لونا من الرائع فى أوانه ... أهدى له «2» الجوهر من ألوانه
ما احمرّ أو ما اصفرّ من مرجانه ... مثل تروك «3» الجيش فى ميدانه
مذهبة فى الهام من فرسانه ... شيب بريق الشّهد فى أغصانه
أنور فى الناظر من إنسانه
وقال آخر- وقد أهداه-:
بعثت بها ولا آلوك حمدا ... تحيّة «4» ذى اصطناع واعتلاق
خدود أحبة راءين صبّا ... وعدن على ارتماض واحتراق(11/174)
فحمّر بعضها خجل التّلاقى ... وصفّر بعضها وجل الفراق
وأمّا اللّفّاح وما قيل فيه
- فاللفاح هو ثمر نبات يسمّى اليبروح «1» الصّنمىّ، وليس هو اللفّاح المعدود فى صنف البطيخ الّذى يقال له الدّستنبو؛ ويقال: إنّها شجرة سليمان بن داود- عليهما السلام- التى كان منها تحت فص خاتمه؛ ومنبت قضبها وورقها الظاهر وسط رأس الصنم؛ وتكون منابتها فى الجبال والكروم؛ وقال التّميمىّ: اليباريح سبعة، وسيّدها الصنمىّ. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى كتاب الأدوية المفردة من القانون فى اليبروح: هو أصل اللّفّاح البرّىّ، وهو أصل كلّ لفّاح، «كبير» «2» شبيه بصورة الناس، فلهذا سمّى باليبروح، فإنّ اليبروح اسم الصنم الطبيعى «3» . قال: وطبعه بارد فى الثانية «4» يابس اليها؛ وفيه قليل حرارة على ما ظن بعضهم. قال: وأما الأصل فقوىّ مجفّف، وقشر الأصل ضعيف، والورق يستعمل مجفّفا ورطبا فينفع الفالج «5» . وقال فى خواصه: هو مخدّر، وله دمعة وعصارة؛ وعصارته أقوى من دمعته، ومن أراد أن يقطع له عضو سقى ثلاثة(11/175)
أوبولوسات «1» فى شراب فيسبت «2» . وقيل: إنّ الأصل منه اذا طبخ به العاج ستّ ساعات ليّنه وأسلس قياده. قال: واذا دلك بورقه البرش أسبوعا ذهب من غير تقريح، وخصوصا إن وجد رطبا، ولبن اللفاح يقلع النّمش والكلف بلا لذع؛ قال:
ويستعمل على الأورام الصّلبة [والخنازير «3» ] فينفع؛ واذا دقّ الأصل ناعما وجعل بالخلّ على الحمرة أبرأها؛ وأصله بالسّويق «4» ضماد لأوجاع المفاصل؛ والإكثار من شمّ اللفاح يورث السّكتة؛ وخصوصا الأبيض الورق؛ وقد يتّخذ منه شراب يزيل السّهر، وهو أن يجعل من قشور أصله ثلاثة أمناء «5» فى مطريطوس «6» شرابه حلو،(11/176)
ويسقى منه ثلاثة قواثوسات «1» ؛ وقد تطبخ القشور ايضا فى الشراب طبخا يأخذ الشراب قواها؛ ويستعمل للإسبات منه شىء كثير؛ وللإنامة «2» أقلّ؛ وقوم من الأطباء يجلسون صاحبه فى الماء الشديد البرد حتّى يفيق. قال: ودمعته من أدوية العين، تسكّن الوجع المفرط؛ ويضمد بورقه أيضا؛ واذا احتمل نصف أو بولوس «3» من دمعته أخرج الجنين؛ وبزره ينقّى الرّحم إذا شرب؛ واذا احتملته المرأة قطع نزف الرّحم؛ ولبن اللفّاح يسهل البلغم والمرّة؛ وإذا تناول الصبىّ الطفل اللفّاح بالغلط حصل له قىء وإسهال.
وأمّا ما وصفه به الشعراء
- فمن ذلك قول بعض الشعراء:
أتانا المصيف بلفّاحه ... فطاب ولو فاته لم يطب
نجوم بلا فلك دائر ... ولكنّ أوراقه كالقطب
روائحه من شذا مسكة ... وأجسامه أكر من ذهب
وقال أبو هلال العسكرىّ:
انظر إلى اللفّاح تنظر معجبا ... يجلو عليك مفضّضا فى مذهب(11/177)
تعلو مفارقه قلانس أخفيت ... من تحتهنّ دراهم لم تضرب
[وقال آخر «1» ] :
للعين والعرنين فى يبروحة ... لون المحبّ وعبقة «2» المعشوق
صفراء طيّبة النّسيم كأنها ... بلّورة محشوّة بخلوق «3»
وأمّا الأترجّ وما قيل فيه
- فقال أبو بكر بن وحشيّة فى كتاب (أسرار القمر) : وإن خلطتم بأصل اليبروح وفروعه أصل الجزر وورقه أجزاء سواء وطمرتموه فى الأرض، خرج عن ذلك شجر الأترجّ، وإن أضفتم اليهما «4» البطّيخ الفجّ «5» خرجت عنه الشجرة الحاملة للأترجّ الكبير الطيّب الرائحة؛ وإن أردتم أترجّا إلى البياض شديد الرّيح فاخلطوا باليبروح والجزر أصلا وورقا [عرق «6» ] شجرة التّين الأصفر.(11/178)
وقال الشيخ الرئيس فى طبع الأترجّ: قشره حارّ فى الأولى، يابس فى آخر الثانية؛ ولحمه حارّ فى الأولى؛ رطب فيها؛ وقال قوم: بل هو بارد رطب فى الأولى، وبرده أكثر؛ وهو الأصحّ؛ وحمّاضه «1» بارد يابس فى الثالثة؛ وبزره حارّ فى الأولى، مجفّف فى الثالثة.
وأمّا أفعاله وخواصّه
- فإنّ لحمه ينفخ، وورقه يسكّن النّفخ، وفقّاحه ألطف، وحمّاضه قابض كاسر للصّفراء، وبزره وقشره محلّل «2» ؛ واذا جعل قشره فى الثياب منع السّوس؛ ورائحته تصلح فساد الهواء والوباء؛ وحمّاضه يجلو اللّون ويذهب الكلف؛ وحراقة قشره طلاء جيّدة للبرص؛ وطبيخه يطيّب النّكهة؛ وهو مسمّن؛ وقشره يطيّب النّكهة أيضا إمساكا فى الفم؛ وحمّاضه نافع من القوباء طلاء؛ ودهنه نافع من استرخاء العصب والفالج «3» . وحمّاضه ردىء للعصب، واذا اكتحل بحمّاضه ازال يرقان العين؛ وحمّاضه يسكّن الخفقان الحارّ، والمربّى جيّد للحلق والرّئة، لكن حمّاضه ردىء للصدر؛ ولبّ الأترجّ اذا طبخ بالخلّ وسقى منه نصف أسكرّجة «4» قتل العلقة المبلوعة وأخرجها؛ ولحمه ردىء للمعدة، ينفخ، بطىء(11/179)
الهضم، لكن ورقه مقوّ للمعدة والأحشاء؛ وقشره اذا جعل فى الأطعمة كالأبازير «1» أعان على الهضم؛ ونفس قشره لا ينهضم لصلابته؛ وطبيخه يسكّن القىء؛ وربّه- وهو ربّ الحمّاض- نافع «2» للمعدة؛ قال: ويجب أن يؤكل الأترجّ مفردا لا يخلط بطعام لا قبله ولا بعده؛ ولحمه يورث القولنج؛ وحمّاضه يحبس البطن، ويمنع «3» من الإسهال الصفراوىّ؛ وبزره ينفع من البواسير؛ وفى بزره قوّة مسهلة؛ وعصارة حمّاضة تسكّن غلمة النساء؛ ووزن درهمين من بزره بالشراب والطّلاء والماء الحارّ مقاوم للسّموم كلّها، وخصوصا سمّ العقرب شربا وطلاء؛ وقشره قريب من ذلك؛ وعصارة قشره تنفع من نهش الأفاعى شربا؛ و [قشره «4» ] ضمادا.
وأمّا ما وصفه به الشعراء
- فمن ذلك قول ابن الرومىّ:
كلّ الخلال الّتى فيكم محاسنكم ... تشابهت منكم الأخلاق والخلق
كأنكم شجر الأترجّ طاب معا ... حملا ونورا وطاب الأصل «5» والورق
وقال حجظة:
أترجّة كالمسك فى طيبه ... والتّبر فى بهجة إشراقه(11/180)
كأنّها فى كفّ أستاذنا ... مخلوقة من طيب أخلاقه
وقال علىّ بن سعيد الأندلسىّ:
ومصفرّة اللّون لا من هوى ... تكابد منه علاقات هم
ولكن كساها سموم الهجير ... جلابيب تبر بتضريج دم
وأكسبها طيب نشر العبير ... وريح الحبيب إذا ما يشم
عروس تزفّ إلى شاهها «1» ... على كفّ أغيد مثل الصّنم
وقال علىّ بن رشيق فى المعزّ بن باديس:
أترجّه سبطة الأطراف ناعمة ... تلقى النفوس بحظّ غير منحوس
كأنّها بسطت كفّا لخالقها ... تدعو بطول بقاء لابن باديس
وقال آخر:
كأنّما الأترجّ فى لونه ... وشكله المستظرف المنظر
أبارق تسقط عنها العرا ... مسبوكة من ذهب أحمر
وقال آخر «2» :
يا حبّذا أترجّة ... تحدث فى النفس الطّرب
كأنّها كافورة ... لها غشاء من ذهب
وقال السرىّ الرّفّاء:
وقريبة من كلّ قلب إن بدت ... للمرء أدناها إليه وقرّبا
أروى القلوب نسيمها وتلهّبت ... حسنا فأذكت فى القلوب تلهّبا(11/181)
فكأنّها ذهب حوى كافورة ... فغدا بريّاها وراح مطيّبا
صفراء «1» ما عنّت لعينى ناظر ... إلّا توهّمها سنانا مذهبا
وقال فيه:
يا حبّذا «2» أترجّة ... رحت بها مسرورا
اذ جاءنى يحملها ... ظبى يباهى الحورا
شبّهتها فى كفّه ... وقد كساها النّورا
مخزنة «3» من ذهب ... قد ملئت كافورا
وقال الزاهى:
وذات جسم من الكافور فى ذهب ... دارت عليه حواشيه بمقدار
كأنّها وهى قدّامى ممثّلة ... فى رأس دوحتها تاج من النّار
وقال ابن دريد:
جسم لجين قميصه ذهب ... زرّ على لعبة من الطّيب
فيه لمن شمّه وأبصره ... لون محبّ وريح محبوب(11/182)
وقال أبو الفتح كشاجم:
يا حبّذا «1» يومنا ونحن على ... رءوسنا نعقد الأكاليلا
فى جنّة ذلّلت لقاطفها ... قطوفها الدّانيات تذليلا
كأنّ أترجّها تميس به ... أغصانها حاملا ومحمولا
سلاسل من زبرجد حملت ... من ذهب أصفر قناديلا
وقال أبو بكر بن القرطبيّة:
جسم من النور فى ثوب من النّار ... كأنّه ذهب من فوق بلّار «2»
وابيضّ باطنه واصفرّ ظاهره ... كأنّه درهم من تحت دينار
وقالت عليّة بنت المهدىّ متطيّرة به:
أترجّة قد أتتك لطفا ... لا تقبلنها وإن سررت
لا تهو أترجّة فإنّى ... رأيت مقلوبها هجرت
وقال العباس بن الأحنف:
أهدى له أحبابه أترجّة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر
خاف التلوّن إذ أتته لأنّها ... لونان باطنها خلاف الظاهر
وقال آخر:
أمات إذ حيّا بأترجّة ... فهمت منها كنه تأويله
لمّا تطيّرت بمنكوسها «3» ... ضمّ بنانا لى بتقليله(11/183)
ومن الأترجّ صنف صغير مخطّط بخضرة وصفرة، وفيه طول، يسمّى شمّام «1» الأترجّ، وفيه يقول ابن طباطبا:
ومخطفات كأنّ الحبّ أخطفها ... هيف الخصور ثقيلات المآخير
صفر الثياب كأنّ الدهر ألبسها ... بناضر «2» النبت ألوان الدنانير «3»
القسم الثالث من الفنّ الرابع فى الفواكه المشمومة
، وفيه بابان
الباب الأول من هذا القسم من هذا الفنّ فيما يشمّ رطبا ويستقطر
ويشتمل هذا الباب على أربعة أنواع، وهى الورد والنّسرين والخلاف «4» والنّيلوفر.
فأمّا الورد وما قيل فيه
- فالورد ألوان، أشهرها الأحمر والأبيض؛ وقال صاحب كتاب (نشوار المحاضرة) : إنه رأى وردا أصفر، ووردا أسود حالك(11/184)
السواد، له رائحة ذكية، ورأى بالبصرة وردة نصفها أحمر قانئ، ونصفها أبيض ناصع، وكأنّها مقسومة بقلم؛ وفيه ماله وجهان: أحمر وأبيض؛ ويقال: إنه ربما وجد ورد أحد وجهى الورقة منه أحمر قانئ، والآخر أصفر، ومن ألوان الورد الأزرق، وهذا اللون يقال إنّه يتحيّل فيه، بأن تسقى شجرة الورد الأبيض الماء المخلوط بالنيل «1» ، فيصير الورد أزرق، وقد يتحيّل على الأسود بمثل ذلك؛ والله تعالى أعلم.
ومما يدلّ على وجود هذه الألوان وأنّها غير منكورة أن الشعراء وصفوها فى أشعارهم فذكروا الأصفر والأزرق والأسود على مانورده ان شاء الله [تعالى «2» ] بعد ذكر منافع الورد وخواصّه.
قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: والورد مركّب من جوهر مائىّ وأرضىّ وفيه حرارة «3» وقبض، ومرارة مع قبض، وقليل حلاوة، وفى مائيّته انكسار حرافة «4» بسبب الشىء الذى لأجله [حلا «5» ] ومرّ، وفيه لطافة تنفذ «6» قبضه، فكثيرا ما يحدث الزّكام. قال: والقوّة المرّة تثبت فيه مادام طريّا، فاذا يبس قلّت مرارته، ورطبه(11/185)
يسهل اذا شرب منه وزن عشرة دراهم؛ والمسمّى منه بالورد المنتن حارّ، وأصله كالعاقر «1» قرحا محرق؛ وقال فى طبعه:
ذكر جالينوس أن الورد ليس بشديد البرد بالقياس [إلينا «2» ] ، ويقول: يجب أن يكون باردا فى الأولى؛ قال الشيخ، أقول: ويبسه فى أوّل الثانية، لا سيّما فى الجافّ؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: تجفيفه أقوى من قبضه، لأنّ مرارته أقوى من قبض طعمه؛ وهو مفتّح جلّاء، ويسكّن حركة الصفراء؛ وبزره أقوى ما فيه قبضا، وكذلك الزّغب الّذى فى وسطه؛ وفى جميعه تقوية للأعضاء الباطنة، ولا يجاوز قبضه منع التحليل؛ واليابس أقبض وأبرد. قال: واذا استعمل الورد فى الحمّام أصلح نتن العرق؛ ويتّخذ منه غسول على هذه الصفة، وهى أن يؤخذ من الورد الّذى لم تصبه نداوة- ويترك حتى يضمر- أربعون مثقالا، ومن سنبل «3»(11/186)
الطّيب خمسة مثاقيل، ومن المرّ ستّة مثاقيل، تعمل أقراصا صغارا. قال: وربّما زادوا فيها من القسط «1» والسّوسن درهمين درهمين، فربّما جعلها النساء فى المخانق علاجا من ذفر العرق. قال قوم: إنّه يقطع الثّآليل «2» كلّها اذا استعمل مسحوقا، وهو ينفع من القروح، ولا سيّما السّحج «3» بين الأفخاذ وفى المغابن «4» ، وينبت اللحم فى القروح العميقة «5»(11/187)
وادّعى قوم أنه يخرج السّلّاء «1» والشّوك مسحوقا؛ وهو مسكّن للصّداع رطبه وطبيخ مائه، ودهنه معطّس بل شمّه نفسه؛ وقال قوم: تعطيسه لحبسه البخار، ولعلّ ذلك لتضادّ قوّتيه: الجالية «2» والمانعة فى الأدمغة الرقيقة الفضول؛ وشمّه نفسه معطّس لمن هو حارّ الدماغ؛ وبزره يشدّ اللّثة؛ وهو يسكّن وجع العين من الحرارة، وكذلك طبيخ يابسه صالح لغلظ الجفون اذا اكتحل به، وكذلك دهنه وعصارته؛ قال: وإنما ينفع من الرّمد اذا قطعت منه زوائده البيض «3» . قال:
واذا تجرّع ماء الورد نفع من الغشى؛ قال: والورد جيّد للكبد والمعدة؛ ومربّاه بالعسل يقوّى المعدة، وهو الجلنجبين «4» ، ويعين على الهضم؛ ودهن الورد يطفئ التهاب المعدة، وكذلك طلاء المعدة بالورد نفسه؛ وشرابه نافع لمن فى معدته استرخاء؛ قال: وهو يسكّن وجع المقعدة طليا عليها بريشة، ووجع الرحم من الحرارة، وكذلك طبيخ يابسه «5» ؛ وهو نافع لأوجاع المعى «6» ، ويحتقن بطبيخه لقروح المعى «7» ، وشرابه يشرب لذلك؛ قال: والنّوم على المفروش منه يقطع الشّهوة؛ هذا ما قاله الشيخ فى الورد، والذى جرّبته أنا منه أنّ زهر الورد الأصفر يجفّف ويسحق بالملح فيكون دواء جيّدا للجراح يلحمها بسرعة.(11/188)
وأمّا ما جاء فى وصف الورد نظما ونثرا
- فقال أبو العلاء صاعد الأندلسىّ:
ودونك يا سيّدى وردة ... يذكّرك المسك أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطّت بأكمامها راسها
وقال أبو عبادة البحترىّ:
أتاك الربيع الطّلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلّما
وقد نبّه النّوروز «1» فى غسق الدّجى ... أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما
يفتّحه برد النّدى فكأنّما ... يبثّ حديثا بينهنّ مكتّما
وقال محمد بن عبد الله بن طاهر- ويروى لعلّى بن الجهم-:
أما ترى شجرات الورد مظهرة ... لنا بدائع قد ركّبن فى قضب
كأنّهنّ يواقيت يطيف بها ... زبرجد وسطه شذر من الذهب
وقال الناشى:
قضب الزبرجد قد حملن شقائقا ... أثمارهنّ قراضة العقيان
وكأنّ قطر الطّلّ فى أهدابه ... دمع مرته فواتر الأجفان
وقال ابن طاهر- ويروى لابن بسام:
أما ترى الورد يدعو للورود الى ... خمر معتّقة فى لونها صهب
مداهن من يواقيت مركّبة ... على الزّبرجد فى أجوافها ذهب(11/189)
كأنّه حين يبدو من مطالعه ... صبّ يقبّل حبّا وهو يرتقب
خاف «1» الملال اذا طالت إقامته ... فظلّ يظهر أحيانا ويحتجب
[وقال العماد الأصفهانىّ «2» ] :
قلت للورد ما لشوكك يدمى ... كلّ ما قد أسوته من جراح
قال لى هذه الرياحين جند ... أنا سلطانها وشوكى سلاحى
وقال آخر:
الورد أحسن منظر ... تستمتع الألحاظ منه
فاذا انقضت أيّامه ... أتت الخدود تنوب عنه
وقال أبو طالب الرّقّىّ:
ووردة فى بنان معطار ... حيّت بها فى بديع أسرار
كأنّها وجنة الحبيب وقد ... نقّطها عاشق بدينار
وقال أبو هلال العسكرىّ:
مرّ بنا يهتزّ فى خطوه ... كالغصن «3» غبّ العارض السارى
شممت «4» فى وجنته وردة ... جاءت من المسك بأخبار(11/190)
تلوح فى حمرتها صفرة ... كالخدّ منقوطا بدينار
وقال آخر:
كأنّما الوردة لمّا بدت ... فى كفّ من أهوى ويهوانى
حمرة خدّيه وفى وسطها ... صفرة لونى حين يلقانى
وقال آخر:
جمع الورد خصالا ... لم تكن فى نظرائه
حسن لون جعل الزّه «1» ... رة من تحت لوائه
ونسيما عطّر المجلس من فرط ذكائه ... فاذا غاب وولىّ
عوّض الناس بمائه
وقال آخر:
وذى لونين لون المسك فيه ... يروق بحمرة فوق اصفرار
كمعشوقين ضمّهما اعتناق ... على حدثان عهد بالمزار
وقال الطّغرائىّ:
ألم تر أنّ جند الورد وافى ... بصفر «2» فى مطارده وحمر
أتى مستلئما بالشوك فيه ... نصال زمرّد وتراس تبر
فجلّى بالسرور هموم قلبى ... وطارد بالنشاط بنات صدرى
فما عذرى إذا أنا لم أقابل ... أياديه بسكر أو بشكر(11/191)
ومما قيل فى ذم الورد ومدحه
- قال ابن الرّومى:
يا مادح الورد لا تنفكّ عن غلط ... ألست تنظره فى كف ملتقطه
كأنّه سرم بغل حين يخرجه ... عند البراز وباقى الرّوث فى وسطه
وقال ابن المعتزّ فى الردّ عليه:
يا هاجى الورد لا حيّيت من رجل ... غلطت والمرء قد يؤتى «1» على غلطه
هل تنبت الأرض شيئا من أزاهرها ... اذا تحلّت يحاكى الوشى «2» فى نمطه
أحلى وأشهر من ورد له أرج ... كأنّما المسك مذرور على وسطه
كأنّه خدّ حبّى حين ملّكنى ... حلّ السراويل بعد الطّول من سخطه
وقال العسكرىّ:
أفضّل الورد على النرجس ... لا أجعل الأنجم كالأشمس
ليس الذى يقعد فى مجلس ... مثل الّذى يمثل فى المجلس
وكتب أبو دلف الى عبد الله بن طاهر.
أرى ودّكم كالورد ليس بدائم ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد
وحبّى لكم كالآس «3» حسنا ونضرة ... له زهرة تبقى اذا فنى الورد(11/192)
فأجابه ابن طاهر [يقول «1» ]
وشبّهت ودّى الورد وهو شبيهه ... وهل زهرة إلّا وسيّدها الورد
وودّك كالآس المرير مذاقه ... وليس له فى الطّيب قبل ولا بعد
وممّا وصف به الورد الأبيض
[قول «2» ] محمد بن قيس:
جاءت بورد أبيض ... شبّهته عند العيان
بمداهن من فضّة ... فيها بقايا زعفران
وقال السّرىّ الرفّاء:
وروض كساه الغيث اذ جاد «3» دمعه ... مجاسد وشى من بهار «4» ومنثور «5»
بدا أبيض الورد الجنىّ كأنّما ... تنسّم «6» للنّاشى «7» بمسك وكافور
كأنّ اصفرارا منه تحت ابيضاضه ... برادة تبر فى مداهن بلّور(11/193)
وقال ابن المعتزّ:
أتاك الورد مبيضّا مصونا ... كمعشوق تكنّفه صدود
كأنّ وجوهه لمّا توافت ... بدور فى مطالعها سعود
بياض فى جوانبه احمرار ... كما احمرّت من الخجل الخدود
وممّا وصف به الأصفر
قول شاعر:
رعى الله وردا غدا أصفرا ... بهيّا نضيرا يحاكى النّضارا
وسقّى غصونا به أثمرت ... وحمّلن منه شموسا صغارا
وقال الطّغرائىّ:
شجرات ورد أصفر بعثت «1» ... فى قلب كلّ متيّم طربا
سبكت «2» يد الغيم اللّجين لها ... وكسته صبغا مونقا عجبا
من «3» ذا رأى من قبلها شجرا ... سقى اللّجين فاثمر الذّهبا
خرطت «4» نهود زبرجد حملت ... أجوافها من عسجد لعبا
فاذا الصّبا فتقت كمائمها ... سحرا وماد الغصن وانتصبا
شبهتها بخريدة طرحت ... فى الخضر من أثوابها لهبا «5»(11/194)
وممّا وصف به الورد الأزرق
- قال بعض الشعراء وقد وصف بستانا:
وبه وارد من الورد قد أينع ... فى رقّة الهواء اللّطيف
شبّهوه بدمعة العاشق الآ ... لف نالته جفوة من أليف
فهو يحكيه رقّة ومثال ال ... قرص «1» لونا فى خدّ ظبى تريف «2»
ورق أزرق كزرق يواقيت ... تطلّعن من لجين مشوف «3»
ومما قيل فى الورد الأسود
قول «4» مؤيّد الدّين الطّغرائىّ «5» :
لله أسود ورد ظلّ يلحظنا ... من الرّياض بأحداق اليعافير «6»
كأنّها وجنات الزّنج نقّطها ... كفّ الإمام «7» بأنصاف الدّنانير(11/195)
وقال آخر فيه:
وورد أسود خلناه لمّا ... تنشّق نشره ملك الزّمان
مداهن عنبر غضّ وفيها ... بقايا من سحيق الزعفران
وأما ما جاء فيه نثرا
- فقال أبو حفص عمر بن برد الأصغر رسالة قدّم فيها الورد على سائر الرّياحين، وهى رقعة خاطب بها ابن جهور: أمّا بعد يا سيّدى ومن أنا أفديه، فإنّه ذكر بعض أهل الأدب المتقدّمين فيه، وذوى الظّرف المعتنين بملح معانيه؛ أنّ صنوفا من الرّياحين، وأجناسا من نوار البساتين، جمعها فى بعض الأزمنة خاطر خطر بنفوسها، وهاجس هجس فى ضمائرها، لم يكن لها «1» بدّ من التفاوض فيه والتّحاور، والتحاكم من أجله والتناصف؛ وأجمعت على أنّ ما ثبت فى ذلك من العهد، ونفذ من الحلف؛ ماض على من غاب شخصه، ولم يئن «2» منها «3» وقته؛ فقام قائمها فقال: يا معشر الشّجر، وعامّة الزّهر؛ إن اللّطيف الخبير الّذى خلق المخلوقات، وذرأ «4» البريّات؛ باين بين أشكالها وصفاتها، وباعد بين منحها وأعطياتها، فجعل عبدا وملكا، وخلق قبيحا وحسنا؛ فضّل على بعض بعضا حتى اعتدل بعدله الكلّ، واتّسق على لطف قدرته الجميع؛ وانّ لكلّ واحد منها جمالا فى صورته، ورقّة فى محاسنه، واعتدالا فى قدّه، وعبقا فى نسيمه، ومائيّة فى ديباجته؛ قد عطفت علينا الأعين، وثنيت إلينا الأنفس، وزهت بمحاضرتنا المجالس؛ حتّى سفرنا بين الأحبّة، ووصلنا أسباب القلوب، وتحمّلنا لطائف(11/196)
الرّسائل، وصيغ فينا القريض، وركّبت فى محاسننا الأعاريض، فطمح بنا العجب، وازدهانا الكبر، وحملنا تفضيل من فضّلنا، وإيثار من آثرنا، على أن نسينا الفكر فى أمرنا، والتمهيد لعواقبنا، والتّطييب لأخبارنا؛ وادّعينا الفضل بأسره، والكمال بأجمعه؛ ولم نعلم أنّ فينا من له المزيّة علينا، ومن هو أولى بالرآسة منّا؛ وهو الورد الذى إن بذلنا الإنصاف من أنفسنا، ولم نسبح فى بحر عمانا، ولم نمل مع هوانا؛ دنّا له، ودعونا اليه؛ فمن لقيه منّا حيّاه بالملك؛ ومن لم يدرك زمن سلطانه، ودولة أوانه؛ اعتقد ما عقد عليه، ولبّى الى مادعى اليه؛ فهو الأكرم حسبا، والأشرف زمنا؛ إن فقد عينه لم يفقد أثره، أو غاب شخصه لم يغب عرفه؛ وهو أحمر والحمرة لون الدّم، والدّم صديق الرّوح؛ وهو كالياقوت المنضّد، فى أطباق الزّبرجد، عليها فريد العسجد؛ وأمّا الأشعار فبمحاسنه حسنت، وباعتدال زمانه وزنت.
وفى فصل منها: وكان ممّن حضر هذا المجلس من رؤساء النّوّار والأزهار، النّرجس الأصفر والبنفسج والبهار؛ والخيرىّ- وهو «1» النّمّام- فقال النرجس(11/197)
الأصفر: والذى مهّد لى فى حجر الثّرى، وأرضعنى ثدى الحيا؛ لقد جئت «1» بها أوضح من لبّة الصّباح، وأسطع من لسان المصباح؛ ولقد كنت أستر «2» من التعبّد له، والشغف به، والأسف على تعاقب «3» الموت دون لقائه؛ ما أنحل جسمى ومكّن سقمى؛ وإذ قد أمكن البوح بالشّكوى، فقد خفّ ثقل البلوى؛ ثمّ قام البنفسج فقال: على الخبير والله [سقطت، أنا والله «4» ] المتعبّد له، والداعى اليه والمشغوف به، وكفى ما بوجهى من ندب «5» ؛ ولكن فى التأسّى بك أنس؛ ثم قام البهار فقال: لا تنظرنّ الى غضارة نبتى «6» ، ونضارة ورقى؛ وانظر إلىّ وقد صرت حدقة باهتة «7» تشير اليه، وعينا شاخصة تندى بكاء عليه.(11/198)
ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى
ثمّ قام الخيرىّ فقال: والّذى أعطاه الفضل دونى، ومدّ له بالبيعة يمينى؛ ما اجترأت قطّ إجلالا له، واستحياء منه، على أن أتنفّس «1» نهارا، أو أساعد فى لذّة صديقا أو جارا، فلذلك جعلت اللّيل سترا، واتّخذت جوانحه كنّا. فلمّا استوت آراؤها قالت: إنّ لنا أصحابا، وأشكالا وأترابا؛ لا نلتقى بها فى زمن، ولا نجاورها فى وطن؛ فهلم فلنكتب بذلك عقدا ينفذ على الأقاصى والأدانى؛ فكتبوا رقعة نسختها: هذا ما تحالف عليه أصناف الشجر، وضروب «2» الزّهر؛ وسميّها «3» وشتويّها، وربعيّها وقيظيّها؛ حيث ما نجمت من تلعة «4» أو ربوة، وتفتّحت فى قرارة «5» أو حديقة؛(11/199)
عند ما راجعت من بصائرها، وألهمت من رشادها، واعترفت بما أسلفت من هفواتها؛ وأعطت للورد قيادها، وملّكته أمرها؛ وعرفت أنّه أميرها المقدّم بخصاله فيها، والمؤمّر بسوابقه «1» عليها؛ واعتقدت له السمع والطاعة، والتزمت له الرّقّ والعبوديّة، وبرئت من كلّ زهر نازعته نفسه المباهاة له، والانتزاء «2» عليه؛ فى كلّ وطن، ومع كلّ زمان؛ فأيّة زهرة قصّ عليها لسان الأيّام هذا الحلف، فلتتعرّف إرشادها منه «3» ، وقوام أمرها به؛ [والله أعلم «4» ] .
ومن رسالة لبعض فضلاء أصبهان ممّن ذكرهم العماد الأصبهانىّ فى الخريدة «5» وصف فيها الرياض والرّياحين، وفضّل الورد على جميعها، وهى رسالة مطوّلة فى هذا النوع وغيره، جاء منها: فى يوم استعار نضارته من عصر الصّبا، واكتسى صحّته من عليل الصّبا؛ ونجمت فيه نجوم الرّبيع، خالية من المقابلة «6» والتّربيع؛(11/200)
وتقابل «1» إشراق زهره ونهاره، فراق يجرى «2» جداوله وأنهاره؛ وأقبل فيه جيشه بفوارسه وجياده، وعساكره وأجناده، بين رافع لواء زبرجدىّ، وحامل مطرد «3» عسجدىّ، وصاحب رداء لازوردىّ «4» ؛ ومعلم «5» قد أطلق عنانه، ورامح قد خضب سنانه؛ وأخذت الأرض زينتها وزخارفها، ولبست حليتها ومطارفها «6» ؛ ومادت كثبانها(11/201)
بخمائلها، وماست قضبانها فى غلائلها؛ فبرزت بين جبين متوّج، وخدّ مضرّج؛ وصدغ مخلّق «1» ، وخصر ممنطق؛ ونادت الشمس بلسان الجذل:
يا بعد ما بين برج الجدى «2» والحمل ... وفصّل فصل الرّبيع الرياض
عقودا ورصّع منها حليّا ... وفاخر بالأرض أفق السّماء
فحلّى الثّرى بنجوم الثّريّا
ونثر منثوره «3» ياقوتا ودرّا وزمرّذا، وجمع بين ضدّين: من برد برد وتوقّد جذا؛ فشمخ بالمناكب، على الكواكب؛ وتاه بالضّوج «4» ، على الأوج؛ وطاول بالاكام علا الرّكام «5» ؛ فهنالك برز النرجس من بين الرّياحين، وقال: الصمت لا يحمد(11/202)
فى كلّ حين؛ ومن لم يفصح بتعريف نفسه، وتفضيل يومه على أمسه، فهو مغبون فى جنسه، أنا حدق الحدائق، ونزهة الرّامق؛ أخطر بين جسد زبرجدىّ، وفرع كافورىّ وعسجدىّ؛ إلىّ ينسب حسن العيون، وعندى يوجد ضعف الجفون:
تنافس فىّ نفوس الكرام ... اذا ما أديرت كئوس المدام
فأسبى الجليس اذا ما حضرت ... بلحظ الفتاة وقدّ الغلام
فأيقظ لمباهلته الأقحوان، وقال: الآن آن ظهورى وحان؛ ما هذه العجرفة والتّباهى! لقد نطقت بعجائب النّواهى؛ وتالله ما صدقت سنّ بكرك «1» ، ولا امتاز عرفك من نكرك؛ فبم تتيه على أقرانك، وتتكبّر على سجرائك «2» وأخدانك؟! أنسيت تنكيس رأسك بين النّدماء، وإمساك رمقك ببلّة من الماء، وأنّك لا تبيت إلّا موثقا محبوسا، ولا تشمّ إلا صاغرا منكوسا، ولا تستخدم إلّا قائما، ويا سوء يومك اذا أصبحت نائما؟! ألا عطفت علىّ جيد الالتفات، وأشرت إلىّ بأحسن الصّفات، فقلت: لله درّك من زهر كملت محاسنه، وصفا من غديره آسنه، وتبسّم عن مؤشّر «3» الثغور، وجمع فرعه بين لونى التبر والكافور؛ فتتوّج بالتيجان المشرقه(11/203)
المرصّعة بخلاصة النّضار والرّقه «1» ؛ ألم تعلم أنّى فوز المغانى، ونزهة الرانى، ومباسم الغوانى؟ لا يحكم لشاعر بالإحسان، أو ينسب إلىّ حسن ثغور الحسان.
أنا زهر الرّبا ونور الرياض ... وعيون ترنو بغير اغتماض
لن ترانى إلّا بشاطى غدير ... باسما أو مضاحكا لحياض
فشقّ الشقيق عن زفير ووجيب، ولدغه بحمة لسان مجيب، وقال: لقد تجاوزت بنفسك مدى الحدّ، وضربت فى افتخارك بكهام فليل الحدّ؛ أليس ندى الطّلّ يزينك، وإغبابه يشينك؟ ومتى نضب غديرك، بدا تغييرك؛ ما أراك بغير مضاهاة الثغور تفتخر، فهل هى على الحقيقة إلّا عظم نخر؟ بل أنا نزهة الناظر، وبغية الحاضر «2» ؛ جسدى من قضبان الياقوت، وفرعى من المسك المفتوت.
أفوق اذا مست بين الريا ... ض زهوا على مائسات القدود
وأفضل لونا وحسنا اذا ... حضرت على حسن لون الخدود
فمالت اليه الخزامى «3» ، وكادت تميل به جذابا والتزاما؛ وقالت: «أسمع جعجعة»
ولا أرى طحنا» وقعقعة «5» ولا أنظر إلّا شنّا، لقد ارتكبت جللا، واستغزرت «6» غللا؛(11/204)
ما أقبح عاقبة العجل، وأقرب الواثق «1» من الخجل! حتّام تنبض «2» ولا تزمى، وإلام تومض ولا تهمى؟ أبكتمة لونك تفتخر، وبعظم كونك تشمخرّ، ألست الخشن الجلده، الدموىّ البرده، البعيد عن محلّ التقريب والشّمّ، الطريد عن رتبة التقبيل والضّمّ؟ لكن أنا الملبس «3» المشار اليه، والعطر المنصوص عليه، مدحت بالطّيب واللّون، وتخيّرت للتسربل والصّون؛ وجمّعت منّى الحلل، وتوّجت منّى الكلل.
واللّون، وتخيّرت للتسربل والصّون؛ وجمّعت منّى الحلل، وتوّجت منّى الكلل.
فضلت على زهر الربيع برتبة ... بها صدق الراوون للشعر إذ قالوا
كأنّ الخزامى جمّعت لك حلّة ... عليك بها فى الطّيب واللّون سربال
فأنهضت لمعارضتها البنفسج، وألجم جواد مناضلتها وأسرج، وقال: يا ساكنة الشّهباء «4» ، لقد جئت بالداهية الدّهياء، أضبح «5» الثعالب، وإرسال «6» الأرانب، ما يغنى عنك وصف الشعراء، وأنت منبوذة بالعراء؛ بعدت عن محاسن أخلاق البريّة وقربت من مراتع البهائم البرّيّة؛ وحرمت برد نسيم العراق؛ وضعفت «7» ساقك عن(11/205)
حمل ساق؛ إنما أنا نزهة الأمصار، ومسرّة الأبصار؛ وطيب النّفوس، وربيب الكئوس، المحمول على الرءوس، المحبوب الى الرئيس والمرءوس؛ ذو العرق الذكىّ والعرف المسكىّ:
رئيس الرّياحين المضيف بلونه ... جمالا الى ورد الخدود المضرّج
اذا ما جنان الأرض بالنّور «1» زخرفت ... فتعريفها من طيب زهر البنفسج
فغضب لذلك جورىّ «2» الورد، ووثب لو استطاع وثبة الورد «3» ؛ ثم قال: أركزا «4» كأحاديث الضّبع «5» . وزمجرة كرمجرة السّبع. ذهب بك الشتاء وبرده. وشغل عنك الرّبيع وورده. أطعت هوى النفس الأمّاره، ونطقت بحضرة الإماره؛ وأنت لا تنقضى ساعتك حتّى تربدّ، ولا ينصرم يومك حتى تذبل وتسودّ؛ ثم تستحيل أوراقك، ويفارقك وراقك «6» . وتشعث قمّتك. وتنزر قيمتك. أتراك لولا قرص الخدود، هل كنت فى الألوان «7» بمعدود؟. أما علمت أنّى مدعوّ بالأمير المقدّم(11/206)
والميمون المقدام. أنا الزائر فى كلّ عام، القادم بمسرّة الخاصّ والعامّ. لا تشرف الأيّام إلّا باسمى؛ ولا تفتخر الأجسام إلّا بمشابهة جسمى؛ فبى يفتن «1» النظر، وأنا السيّد المنتظر. واذا انقضت مدّتى، وقضيت عدّتى. أقصدتنى حنيّة «2» الفرقة بسهام الفرق، واستولى علىّ والى «3» الحرق. فولّد تلهّبى رشحا من العرق، قام لهم مقامى. وساوى عندهم بين رحلتى ومقامى؛ يعرّض كلّ وقت بذكرى، ويعرّف لديهم نكرى، ويجدّد عندهم شكرى.
أخلّف نفسى عندهم بعد رحلتى ... فسيّان قربى ان تأمّلت والبعد
وقد فضّل الكندىّ «4» بى عند قوله ... فإنّك «5» ماء الورد إن ذهب الورد
ومن انشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانىّ فى شهور سنة ستّ وسبعمائة، رسالة ترجمها (بأنوار السعد، ونوّار المجد، فى المفاخرة بين النّرجس والورد) ، قال: الحمد لله الذى أضحك ثغور الأزهار، بكاء عيون الأمطار، وأنطق خطباء الأطيار، على منابر الاشجار؛ وعقد عليها من النّوّار إكليلا، وأمر الغزالة أن تسلّ عليها عند بروزها من الإبريز سيفا صقيلا؛ حمى حدائقها بأحداق نرجسها، فنمّ لسان النسيم بطيب نفسها؛ أبدع فى تركيب حلّها وعقدها، فثغور(11/207)
الأقحوان تقبّل خدود وردها؛ خلخلت سوقها فضلات الجداول، واطّردت أنهارها كالأيم «1» وقد حثّ بأطراف العوامل «2» ، فحكت المبارد متونا، والحيّات بطونا؛ أحمده على نعمه التى تأرّج نشرها، وبدا على جبين الدهر بشرها؛ حمدا تخضلّ من ترادف سيبها «3» أغصانه، وتثمر بأنواع السعادة أفنانه؛ وأصلّى على سيّدنا محمد الذى عطّر الكون مسكىّ رسالته، ووطّد القواعد الشرعيّة مرهف بسالته؛ صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما توّجت الغمائم رءوس الرّبا، وسحب ذيل الصّبا على أزهار روضها مهبّ الصّبا؛ وبعد، فإنّ أولى ما وقعت المفاخرة بين غصنين نشآ فى جنّه، وبارقتين تألّقتا فى دجنّه؛ وزهرتين تفتّحتا فى كمامه، وقطرتين صدرتا من غمامه؛ ولمّا كان النرجس والورد قريعى هذه الصّفات، وقارعى هذه الصّفاة، تطاول كلّ منهما الى انه النديم، والخلّ الّذى لا يملّه الحميم؛ طالما عطّر بنشره الأكوان، وغازل بعيونه الغزلان؛ وأنارت شموس سعوده، وقبّلت حمرة خدوده؛ أحببت أن أقيمهما فى موقف المناضلة، وأشخّصهما «4» فى معرض المفاضلة؛ ليبرهن كلّ منهما على ما ادّعى أنّه فى وطابه، ويبدى شعائر ما تقلّده وتحلّى به؛ فبالامتحان يظهر الزّيف، ولا يقبل الحيف؛ فعندها حدّق النرجس بأحداقه، وقام على قصبة ساقه؛ وتهيأ لمناضلة خصمه، وشرع يبدى شرائع حكمه؛ وقال: أشبهت العيون وأشبهت الخدود فلا فرق، ولقد علمت ما بينهما مثل ما بين القدم والفرق «5» ؛ فأنا حارس مجلس(11/208)
الشراب، والنديم المعوّل عليه بين الأحباب؛ تسمّيت بأحسن الأسامى، فلست لى بمسامى؛ تسمّت بى الحسان، ومست فى حلل مصبّغات الألوان؛ ولو اعتبرت بحمرة خجلك، وتشقيق جيوب حللك؛ ما قمت فى موقف المفاخر، ولا فهت ببنت شفة فى معرض المفاخر؛ فتضرّج خدّ الورد حمره، وأوقد من الغيظ لمناضلته جمره؛ وقال: مت بداء الحسد فقد علاك اصفراره، وأين منك الطّرف كما ادّعيت ولم يبد عليك احوراره؛ صدقت، ولكن أنت أشبه بالعين المخصوصة باليرقان والصفرة المنوطة بالأيهقان «1» ؛ فلقد عشت عيونك السقيمة من أشعّة شموسى ووقفت على قصب ساقك حيث استقرّ كرسىّ جلوسى؛ فأنا دائرة الجمال، المشتملة على قطب الكمال، ربّتنى الدرارىّ «2» بدرّها، وقلّدتنى نفيس درّها؛ فنشرت أعلامى العقيانيّة على زهرتها، وأشبهت شكلها وحسن زهرتها؛ فهزّ النرجس رماحه الزبرجديّه، فتلقّاها الورد بحجفته «3» الذهبيّة، وقال «4» : اردد هذه العقود النفيسة الى هواديها، فقد علم كذبك حاضرها وباديها؛ والطم خدودك حزنا على فوات مقامى وقصورك عن بلوغ مرامى؛ من أين لك مداهن درّ حشوهنّ عسجد؛ لست أبالى(11/209)
بنفسك تصوّب أم تصعّد؛ أما ترانى قد نشرت على رماح من زبرجد طالما حرست حمى الرياض، ولبست أحسن اللّباس وهو البياض، وقمت خطيبا على منبر الصّين «1» حمى الرياض، ولبست أحسن اللّباس وهو البياض، وقمت خطيبا على منبر الصّين وقلّدت إمرة الرياحين؟ فأنا ناطر «2» هذا الفضل، وناظر هذا الفصل؛ سبقتك الى الوجود مكانا «3» أعدم مكانك، ولم يرض زمانى يجاور زمانك، لبثك «4» على وجه البسيطة قليل، وحالك- كما علمت- ليس بالجليل؛ تتلوّن كما يتلوّن الغول، من أحمرك وأصفرك وأبيضك المملول «5» ؛ فلقد رماك ابن الرومىّ بسهام هجائه، وجعلك عرضة لنوائب الدهر ولأوائه «6» ؛ حيث قال:
كأنه سرم بغل حين يخرجه ... الى البراز وباقى الرّوث فى وسطه
وحيث مدحنى وقال:
أين العيون من الخدود نفاسة ... ورآسة لولا القياس الفاسد
فمثل هذه المسبّة لا يضمحلّ أثرها، ولا ينقطع خبرها؛ ولله درّ القائل:
النرجس الغضّ له رتبة ... أشبه شىء بالعيون المراض
قام على قضبانه مبديا ... فخاره المشهود بين الرياض(11/210)
ولو لم أغمض عن مساويك عينى، وأترك للصلح [موضعا «1» ] بينك وبينى، لكنت أبديت أضعاف مساويك، لأننى فى الرتبة غير مساويك؛ فعندها اشتعل الورد من كلامه، وظهر على جسده أثر كلامه؛ وقال: لقد تعدّيت طورك وستعرف جورك وكورك «2» ؛ لكن قحة العيون مخصوصة بالأنذال، والتجرّى على الملوك من شعائر الجهّال؛ فأنا سلطان الرياحين، وبذلك وقّع لى فى سائر الدواوين؛ كأننى وجنة حبّ وقد نقّطت بدينار، أو أنامل خود عندميّة ضمّت على قراضة نضار؛ أشبهت الشموس شكلا، وفقت البدور مثلا؛ أنظم كما تنظم العقود، وأصل كما يصل الحبيب بعد الصدود، وأمّا افتخارك بالحراسة فهى محلّ الأسقاط، والوظيفة المنوطة بالأنباط؛ وأمّا كونك سبقتنى فهو على حكم الحجبه، والمبشّر بوصولى وإن كان أضمر بغضه لا حبّه؛ فلمّا علم أوان حطّ رحالى حثّ رحاله، وأشاع فى أصحابه ارتحاله؛ وقال: قد أظلّنا وصول ملك لا يجارى، ورئيس لا يبارى؛ وأين زمانك من زمانى، ومكانك من مكانى؟ لا أظهر إلا والثّرى قد اكتسى سندسىّ أديمه وفاح مسكىّ نسيمه؛ وخطبت أطياره، واخضلّت أزهاره؛ وصدحت بلابله، وتأرّجت خمائله؛ واطّردت أنهاره، وتعانقت أغصانه وأشجاره؛ بزغت شموسى فى فلك غياضه، وتكلّل خدّى عرقا من أنداء رياضه؛ فأنا بينها الطّراز المذهّب، والملك المعظّم المهذّب؛ اذا برزت فى لياليك المعتمه، وظهرت فى أراضيك المقتمه؛ وسهرت عيونك فى ليل شتائك «3» ، وقاسيت برد مائك وطول عنائك؛ ولكم بين الشتاء والربيع، كما بين الرئيس والوضيع؛ يا جبلىّ الطباع، لقد صرّتك «4» رياحى، وصفّرت(11/211)
عينك حمرة خمرة ارتياحى؛ وأمّا ثلبك بقصر مدّتى، وسرعة بلى جدّتى؛ فدليل على عدم عقلك؛ وسقوط معقولك ونقلك؛ أما علمت أنّ المكثر للزيارة مملول، وعقد ودّه محلول؛ لو بقيت الشمس على الدوام، لملّتها أنفس الأنام؛ ولك بذلك عبره، وأنت فى هذا الموطن من أهل الخبره؛ لمّا أقمت ملّك الناشق، ولم يعرّج عليك العاشق؛ ولقد عجبت من رقاعة عصّبت رأسك بالحماقه، وادّعيت شبه العيون وأنت أشبه شىء بصفرة بيض على رقاقه؛ إن ذهبت عينك لم يبق لك أثر، كلّا ولا يوجد لمجدك خبر؛ لكن أنا ان ذهبت عينى فأثرى على أردان الأماجد يفوح، وعلى ممرّ الأعصر يغدو ويروح؛ فأنا أثر بعد عين، فدع عنك التحلّى بالمين؛ ولله درّ القائل:
يا حبّذا الورد مذ حيّا بطلعته ... وعطّر الأفق منه نشره العبق
كالشمس شكلا ونشر المسك رائحة ... واللؤلؤ الرّطب فى تضريجه عرق
فعميت عيون النرجس من بزوغ أنواره، ونكّست أعلامه الزبرجديّة لنضارة نوّاره؛ فعندها قال الورد: هذه الشقراء «1» والميدان، ان كانت لك خبرة بمبارزة الأقران؛ فلمّا أورده لظى الحرب، ولم يكن من رجال الطّعن والضرب، وألزمه الحجّة، وعرّفه المحجّه؛ وبان بهرجه من إبريزه، وتحقّق موادّ تبريزه؛ دمعت عينه أسفا، على ما أبداه من الجفا؛ ثم قال: ما أنا أوّل من بحث بظلفه عن حتفه وجدع مارن أنفه بكفّه؛ لقد قيل: عادات السادات، سادات العادات؛ وعادة الملك- أدام الله انهمار السّحب على خمائله الذهبيه، وأطلع فى فلك الاعتلاء أنواره الشمسية- الصفح عمّن كثر ندمه، وزلّت قدمه؛ ومن نشر أعلام(11/212)
الاستغفار، خليق أن يقبل منه ما يبديه من الاعتذار؛ وما أنا أوّل من هفا ولا أنت أوّل من عفا؛ ليت شعرى، أين حياؤه من وقاحتى، وأين رشاقته من كثافتى؛ الخفارة لائحة عليه، وأمور الرياحين تساق اليه؛ فعندها قال الورد: من شأننا الصفح عما أتيته، فقد جنيت ثمار الندم بما جنيته؛ فكن قرير العين، ولا تعد لمثلها فالمؤمن لا يلدغ «1» من جحر مرتين؛ واحذر أن تطاول من هو أعلى منك محلّه وأبهج فى ارتداء السيادة حلّه؛ والآن فقد تولّد من بياضك وحمرتى اجتماع «2» ، والتأم شعث أمرنا بعد أن طار شعاع «3» ؛ أما علمت أنّ الامتحان، يظهر رتبة الإنسان؛ ومن سعادة جدّك، وقوفك عند حدّك؛ فكن لما قلته بالمرصاد، وان عدت لمثلها فترقّب أوّل «4» النحل وآخر صاد؛ ونسأل الله تعالى أن يهدينا الى الرّشد، وأن يذهب عنا ضغائن الحسد؛ بمنّه وكرمه؛ [انه على ما يشاء قدير، وبالإجابة «5» جدير] .(11/213)
وأما النّسرين «1» وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا:
طبع النسرين حار يابس فى الثالثة «2» ؛ وهو منقّ ملطّف، وزهره أخصّ بذلك، وينفع من برد العصب، ويقتل الديدان فى الأذن؛ وينفع من الطّنين والدّوىّ؛ وينفع من وجع الأسنان؛ والبرّىّ تلطخ به الجبهة فيسكّن الصّداع؛ وهو يفتّح سدد المنخرين؛ واذا شرب مع أربع درخميات «3» سكّن القىء، ويسكّن الفؤاق وخصوصا البرّىّ منه؛ والله أعلم.
وأما ما جاء فى وصفه
- فقال شاعر [منشدا «4» ] :
أكرم بنسرين تذيع الصّبا ... من نشره مسكا وكافورا
ما إن رأينا قطّ من قبله ... زبرجدا يثمر بلوّرا
وقال آخر:
انظر لنسرين يلوح ... على قضيب أملد
كمداهن من فضّة ... فيها برادة عسجد
حيّتك من أيدى الغصو ... ن بها أكفّ زبرجد(11/214)
وقال عبد الرحمن «1» بن علىّ النحوىّ:
زان حسن الحدائق النّسرين ... فالحجا فى رياضه مفتون
قد جرى فوقه اللّجين وإلّا ... فهو من ماء فضّة مدهون
أشبهته طلى الحسان بياضا ... وحوته شبه القدود غصون
وقال آخر فيه ملغزا:
ومشموم له عرف ذكىّ ... وفى تصحيفه بعض الشّهور «2»
اذا أسقطت خمسيه تراه ... عيانا فى السماء «3» وفى الطّيور
وأوّله «4» وآخره سواء ... وباقيه يشحّ به ضميرى
وأما البان «5» وما قيل فيه
- فقال أبو على بن سينا فى ماهية البان: حبّه أكبر من الحمّص، الى البياض، وله لبّ ليّن دهنىّ؛ وطبعه حارّ فى الثالثة، يابس(11/215)
فى الثانية. وقال: إنه منقّ، خصوصا لبّه، يقطع الأخلاط الغليظة، ويفتّح مع الخلّ والماء سدد الأحشاء. قال: وقشره قابض، ولا يخلو دهنه من قبض وفى جميعه جلاء وتقطيع؛ وحبّه ينفع من البرش والنّمش والكلف والبهق وآثار القروح وكذلك دهنه. [قال «1» : وينفع من الأورام الصّلبة كلّها إذا وقع فى المراهم، ومن الثّآليل «2» ، وهو بالخلّ ينفع من التقشّر والجرب المتقرّح والبثور اللّبنيّة «3» ؛ وهو يسخّن العصب، ويليّن التشنّج وصلابات العصب، وخصوصا دهنه] . قال: وينفع من الرّعاف لقبضه، ودهنه يوافق وجع الأذن والدوىّ فيها، خصوصا مع شحم البطّ؛ وطبيخ أصله ينفع من وجع الأسنان مضمضة؛ وهو ينفع من صلابة الطّحال والكبد اذا شرب بخلّ ممزوج وزن درهمين منه؛ والمثقال من حبّه يسهل بلغما خاما «4» اذا شرب بالعسل، وكذلك دهنه اذا احتملت فتيلة مغموسة فيه.(11/216)
وأما ما جاء فى باكورة الخلاف
- قال شاعر:
أوّل ثغر الربيع مبتسما ... نور خلاف درّ مضاحكه
قضبانه القانئات فى لمع ... من لؤلؤ وضح «1» مسالكه
بشير صدق جاء الربيع به ... يخبر أن زيّنت ممالكه
وقال آخر:
عود خلاف أتى وفاقا ... من الملاهى بلا خلاف
مرصّع قشره بنور ... ألّف من لؤلؤ ولاف «2»
وقال أبو عبادة البحترىّ «3» :
هذا الربيع كأنما أنواره ... أولاد فارس فى ثياب الروم
وترى الخلاف كشارب من قهوة ... ثمل الى شرب المدامة يومى
بسط البسيطة سندسا وتبرقعت ... قلل المياه «4» بلؤلؤ منظوم
وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ:
غصون الخلاف اكتست فانبرت ... لها الطير دارسة شدوها
مقدّمة لورود الربي ... ع تشخص أبصارنا نحوها
أحسّت برحلة فصل الشتا ... فجاءت وقد قلبت فروها(11/217)
وقال [آخر، وهو شهاب الدين أحمد، عرف بأبى «1» ] جلنك «2» الحلبىّ:
لله «3» بستان حللنا دوحه ... فى لذة «4» قد فتّحت أبوابها
والبان تحسبه سنانير رأت ... بعض «5» الكلاب فنفّشت أذنابها
وكتب الصاحب بن عبّاد- وقد أهدى باكورة خلاف- قد نوّرت «6» لتنوير الخلاف فضائل لا تحصى، ومحاسن يطول أن تستقصى؛ منها أنه أوّل ثغر يتبسم عند الربيع ويضحك، ودرّ يعقد على القضبان ويسلك؛ ولتمايله ادّكار لقدود «7» الأحباب، وتهييج لسواكن الاضطراب؛ وحمل الىّ قضيب منه ذاته متعادله، ولذّاته متقابله؛ فأنفذته مع رقعتى هذه اليك، وسألت الله أن يعيده ألف حول عليك. قال، وقلت «8» :(11/218)
وقضيب من الخلاف بديع ... مستخصّ بأحسن الترصيع
قد نعى شرّة الشتاء الينا ... وسعى فى جلاء وجه الربيع
وحكى من أحبّ عرفا وظرفا ... واهتزازا يثير نار الضلوع
وأمّا النّيلوفر «1» وما قيل فيه
- فقال ابن التلميذ: النّيلوفر اسم فارسىّ معناه النيلىّ الأجنحة، والنيلىّ الأرياش. وربما سمى بالفارسية «2» اسما معناه كرنب الماء؛ وسماه جالينوس: كرنب الماء؛ وحبّه يسمّى حبّ العروس، وفيه حلاوة.
وقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: ان أخذتم ظلفى الغزال من يديه، وقرنيه جميعا، وطمرتم ذلك فى التراب الندىّ، خرج من ذلك النبات الذى يسمّى شاكريا «3» ، وهو النّيلوفر، وقال أيضا: وان أخذتم عينى الغزال وقرنيه وظلفا واحدا من يديه، وطمرتم ذلك فى التراب، خرج منه الشاكريا الأزرق؛ فان طمرتم ظلفيه من رجليه وقرنه الأيسر مع كفّ من بعره، خرج منه الشاكريا الأحمر؛ فان نقصتم من هذا أحد ظلفى رجليه، خرج الشاكريا الأصفر. قال: والهند(11/219)
تسّميه نينوفر، والنّبط تسمّيه نيلوفريا، والعرب تسميه نيلوفه، والفرس تسميه نيلوفر «1» .
وقال الشيخ الرئيس أبو على بن سينا: والنّيلوفر «2» الهندىّ فى حكم اليبروح «3» ؛ وأقواه الأبيض الأصل؛ وبزره أقوى من حبّه «4» . قال: وطبعه بارد رطب فى الثانية «5» ؛ وشرابه شديد التطفئة، ملطّف جدّا، وأصله بالماء على البهق نافع خصوصا الأسود، وأصله مع الزفت على داء الثعلب «6» ، وخصوصا الأسود؛ وشرابه جيّد للسّعال والشّوصة «7» . قال: وأصله ينفع من الأورام الحارّة؛ وأصله وبزره للقروح؛ وأصله ينفع أورام الطّحال شربا وضمادا، وينفع «8» الاحتلام، ويكسر شهوة(11/220)
الباه اذا شرب منه درهم بشراب الخشخاش؛ وهو يجمد المنىّ بخاصيّة فيه، وخصوصا أصله؛ وهو منوّم، مسكّن للصّداع الحارّ الصفراوىّ، لكنّه يضعف؛ وأصله ينفع من الإسهال المزمن وقروح المعى وأوجاع المثانة ضمادا؛ وبزره أقوى فى كل شىء، حتى إنه يمنع نزف الحيض؛ وأصل الأصفر منه وبزره اذا شربا «1» نفعا سيلان الرطوبة المزمنة من الرحم؛ وشرابه مليّن للبطن، نافع من الحمّيات الحارّة، شديد التطفئة «2» ؛ [والله المستعان «3» ] .
وأمّا ما جاء فى وصفه
- فقال أبو بكر الزّبيدىّ «4» الأندلسىّ:
وبركة «5» أحيا بها ماؤها ... من زهرها كلّ نبات عجيب
كأنّ نيلوفرها عاشق ... نهاره يرقب وجه الحبيب
حتى اذا الليل بدا نجمه ... وانصرف المحبوب خوف الرقيب(11/221)
أطبق جفنيه عسى فى الكرى ... يبصر من فارقه عن قريب
وقال آخر «1» :
يا حبّذا بركة نيلوفر ... قد جمّعت من كلّ فنّ عجيب
أزرق فى أحمر فى أبيض ... كقرصة فى صحن خدّ الحبيب
كأنه يعشق شمس الضحى ... فانظره فى الصبح وعند المغيب
اذا تجلّت يتجلّى لها ... حتى اذا غاب سناها يغيب
يرنو اليها مبصرا يومه ... ولا يحاشى نظرات الرقيب
لا يبتغى وجها سوى وجهها ... فعل محبّ مخلص فى حبيب
وقال التّنوخىّ «2» :
فكأنّه فى الماء صاحب مذهب ... أغراه وسواس بأن لم يطهر
وقال آخر «3» :
كلّنا باسط اليد ... نحو نيلوفر ندى
كدبابيس عسجد ... نصبها من زبرجد
وقال آخر «4» :
اشرب على بركة نيلوفر ... محمرّة الأوراق خضراء
كأنّما أزهارها أخرجت ... ألسنة النار من الماء(11/222)
وقال آخر:
ونيلوفر صافحته الرياح ... وعانقه الماء صفوا ورنقا
تخيّل أوراقه فى الغدي ... ر ألسنة النار حمرا وزرقا
وقال آخر:
صفر الدّرارى «1» تضمّها شرف ... مفتضح عند نشرها العطر
تحملها خيزرانة ذبلت ... ذبول صبّ أذابه الهجر
وقال ابن الرومىّ»
:
يرتاح للنّيلوفر القلب الذى ... لا يستفيق من الغرام وجهده
والورد أصبح فى الروائح عبده ... والنرجس المسكىّ «3» خادم عبده
يا حسنه فى بركة قد أصبحت ... محشوّة مسكا يشاب بندّه
وكأنّه فيها وقد لحظ الصّبا ... ورمى المنام ببعده وبصدّه
مهجور حبّ ظلّ يرفع رأسه ... كالمستجير بربّه من ضدّه
وكأنّه إذ غاب عند مسائه ... فى الماء فانحجبت نضارة قدّه
صبّ يهدّده الحبيب بهجره ... ظلما فغرّق نفسه من وجده
وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ:
ونيلوفر أعناقه أبدا صفر ... كأنّ به سكرا وليس به سكر(11/223)
اذا انفتحت أوراقه فكأنّها ... وقد ظهرت ألوانها البيض والصّفر
أنامل صبّاغ صبغن بنيله ... وراحتها بيضاء فى وسطها تبر
وقال السّرىّ الرّفّاء:
وبركة حفّت بنيلوفر ... ألوانه بالحسن منعوته
نهاره ينظر عن مقلة ... ساجية الألحاظ مبهوته
وإن بدا الليل فأجفانه ... فى لجّة البركة مسبوته
كأنّما كلّ قضيب له ... يحمل فى أعلاه ياقوته
وقال آخر «1» :
وبركة تزهو بنيلوفر ... نسيمه يشبه نشر الحبيب
مفتّح الأجفان فى يومه «2» ... حتى اذا الشمس دنت للمغيب
أطبق جفنيه على حبّه ... وغاض فى البركة خوف الرقيب
وقال آخر «3» :
تحبّ «4» الشمس لا تبغى سواها ... وتلحظها بمقلة مستهام
اذا غابت تكنّفها اشتياق ... فنامت كى تراها فى المنام
وقال الرّفّاء:
يا حسن نيلوفر شغفت به ... يمنحه الماء صفو مشروبه
كأنّه عاشق به ظمأ ... توهّم الماء ريق محبوبه(11/224)
وقال آخر:
وشاخص نحو عين الشمس يرمقها ... حتى اذا غربت أغضى بتنكيس
تراه من قطع المرجان فى قضب ... زرق الشوابير «1» أمثال الدّبابيس
كأنّه ودروع الماء تشمله ... تحت الشّعاع أكاليل الطّواويس
وقال آخر:
ونيلوفر قد لاح فى زىّ فاقد ... حبيبا فمنه يستعير لباسه
يظلّ نهارا شاخص الطّرف لاحظا ... ويغمس جنح الليل فى الماء راسه
كأنّ عليه للظّلام مراقبا ... فيهرب منه أو يخاف اختلاسه
وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ:
نيلوفر يسبح فى لجّة ... عليه ألوان من اللّبس
مظاهر ثوب حداد على ... ثوب بياض علّ بالورس
فالشّطر من أعلاه فى مأتم ... وشطره الأسفل فى عرس
مغمّض طول الدّجى ناعس ... جفونه تفتح فى الشمس(11/225)
الباب الثانى من القسم الثالث من الفنّ الرابع فيما يشمّ [رطبا «1» ] ولا يستقطر
ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى البنفسج والنرجس والياسمين والآس والزعفران والحبق
فأما البنفسج وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا:
طبع البنفسج بارد رطب فى الأولى. وقال قوم: انه حارّ فى الأولى. قال:
ولا شكّ فى برودته.
وأمّا أفعاله وخواصّه
، فقيل: انه يولّد دما معتدلا؛ وهو يسكّن الأورام الحارّة ضمادا مع سويق الشعير؛ وكذلك ورقه. قال: ودهن البنفسج طلاء جيّد للجرب؛ وهو يسكّن الصّداع الدّموىّ شمّا وطلاء. قال: وينفع من الرمد الحارّ «2» ومن السّعال الحارّ؛ ويليّن الصدر، خصوصا المربّى منه بالسكّر؛ وشرابه نافع من ذات الجنب والرّئة والتهاب المعدة؛ وشرابه ينفع من وجع الكلى؛ ويابسه يسهل الصفراء؛ و [شرابه أيضا «3» ] يليّن الطبيعة برفق.
وأما ما جاء فى وصفه
- فقال أبو القاسم بن هذيل الأندلسىّ- ويروى لابن المعتزّ-:
بنفسج جمّعت أوراقه فحكت «4» ... كحلا تشرّب دمعا يوم تشتيت(11/226)
أو لا زورديّة أوفت «1» بزرقتها ... وسط الرياض على زرق اليواقيت
كأنّه وضعاف القضب تحمله ... أوائل النار فى أطراف كبريت
وقال آخر فى معناه:
بنفسج بذكىّ الريح مخصوص ... ما فى زمانك إذ وافاك تنغيص
كأنّما شعل الكبريت منظره ... أو خدّ أغيد بالتخميش مقروص
وقال أبو الحسن العقيلىّ:
اشرب على زهر البنفسج قهوة ... تنفى الأسى عن كلّ قلب مكمد
فكأنه قرص بخدّ خريدة ... أو أعين زرق كحلن بإثمد
وقال آخر:
ماس البنفسج فى أغصانه فحكى ... زرق الفصوص على بيض القراطيس
كأنّه وهبوب الريح يعطفه ... بين الحدائق أعراف الطّواويس
وقال آخر:
أهدت إلىّ بنفسجا ... أحبب بمهدية البنفسج
فكأنّه هى فى اللّطا ... فة والذّكاء إذا تأرّج
أوراقه اللهب «2» المطلّ ... على الذّبالة حين تسرج
أو إثر «3» قرص مؤلم ... فى وجنة الخدّ المضرّج(11/227)
وقال آخر فى الأبيض منه- وذكر ممدوحا-:
كأنّ البنفسج فيما حكى ... من الطّيب أخلاقك المونقه
يلوح فتحسب طاقاته ... فصوصا من الفضّة المحرقه
وقال أبو الحسن الشاطبىّ- ويروى لابن الرومىّ-:
اشرب على زهر البنف ... سج قبل تأنيب الحسود
فكأنّما أوراقه ... آثار قرص فى الخدود
[وقال آخر «1» ] :
وكأنّ البنفسج الغضّ يحكى ... أثر اللّطم فى خدود الغيد
وقال أبو هلال العسكرىّ:
وبحافاتها البنفسج يحكى ... أثر القرص فى خدود العذارى
وقال الميكالىّ فيه متفائلا به:
يا مهديا لى بنفسجا أرجا ... يرتاح قلبى له وينشرح
بشّرنى عاجلا مصحّفه ... بأنّ ضيق الأمور ينفسح
وتطيّر آخر به فقال:
يا مهديا لى بنفسجا سمجا ... أودّ لو أنّ أرضه سبخ
أنذرنى عاجلا مصحّفه ... بأنّ عقد الحبيب ينفسخ
وقال صالح بن يونس:
بنفسج جاء فى حداد ... ووردنا فى معصفرات
فاشرب على مأتم وعرس ... جلّا جميعا عن الصّفات(11/228)
ومن رسالة لأبى العلاء عطاء بن يوسف السّندىّ يصف طاقة بنفسج، قال:
سماويّة اللّباس، مسكيّة الأنفاس؛ واضعة رأسها على ركبتها كعاشق مهجور ينطوى على قلب مسجور؛ كبقايا النّقش فى بنان الكاعب، أو النّقس فى أصابع الكاتب؛ أو الكحل فى ألحاظ الملاح، المراض الصّحاح؛ الفاترات الفاتنات، المحييات القاتلات؛ لازورديّة أوفت زرقتها على زرق اليواقيت، كأوائل النار فى أطراف كبريت؛ أو كأثر القرص فى خدود العذارى
أو عذار خلعت فيه العذارا
وأمّا النّرجس وما قيل فيه
- فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده:
ان أردتم النرجس فخذوا قرنى الغزال، فاقطعوا كلّ قرن نصفين، وانقعوهما فى بول البقر سبعة أيّام، ثم اقلعوا عينى الغزال، واجعلوهما فوق رءوس القرون، واطمروهما فى الأرض فى أوّل ساعة من يوم الجمعة، فإنّه بعد خمسة عشر يوما ينعقد نرجسا مفتّحا. وإن أردتموه مضعّفا فخذوا الثّوم، ثم شقّوا البصل، واجعلوا الثّومة فى وسطها، ولتكن سنّا واحدة، ثم ضمّوا على الثّومة نصفى بصلة النرجس، واغرسوها فى الأرض، فإنّه ينبت النرجس المضاعف؛ وان أردتم المضاعف الذى بعض ورقه أخضر وبعضه أصفر، فخذوا سنّا من الثّوم، وخذوا عصارة ورق بصل النرجس، وانقعوا السّنّ فى العصارة ثلاثة أيام، ثمّ أدخلوها فى البصلة، واغرسوها فى الأرض، فإنّها تنبت بعد أيّام قلائل. وقال أبو علىّ بن سينا: انّ أصل النرجس يخرج الشّوك والسّلّاء «1» ، وخصوصا مع دقيق الشّيلم «2» والعسل. قال:(11/229)
والنرجس يجلو الكلف والبهق، وخصوصا أصله بالخلّ، وينفع أصله من داء الثّعلب «1» ؛ ويعجن أصله مع العسل والكرسنّة فيفجّر الدّماميل «2» العسرة النّضج؛ ويضمد بأصله على أورام العصب. قال: والنرجس يجفّف الجراحات، ويلزقها إلزاقا شديدا؛ ودهنه ينفع للعصب. قال: وينفع من الصّداع الرّطب السّوداوىّ «3» وكذلك دهنه، وهو أوفق؛ ويصدّع الرءوس الحارّة؛ واذا أكل أصله هيّج القىء؛ واذا شرب منه أربعة دراهم بماء العسل أسقط الأجنّة الأحياء والأموات؛ ودهنه يفتّح انضمام الرّحم، وينفع من أوجاعها.
وأمّا ما جاء فى وصفه
- فقال أبو نواس الحسن بن هانئ:
لدى نرجس غضّ القطاف كأنّه ... اذا ما منحناه العيون عيون
مخالفة فى شكلهنّ بصفرة ... مكان سواد والبياض جفون
وقال أبو الفتح محمود «4» كشاجم:
كأنّما نرجسنا ... وقد تبدّى من كثب
أنامل من فضّة ... يحملن كأسا من ذهب(11/230)
وقال أبو بكر الصّنوبرىّ «1» :
أضعف قلبى النرجس المضعف ... ولا عجيب إن صبا مدنف
كأنّه بين رياحيننا ... أعشار آى ضمّها مصحف
وقال آخر «2» :
ونرجس الى حدا ... ئق الرياض محدق
كأنّما صفرته ... على بياض يقق
أعشار جزء ذهّبت ... من ورق فى ورق
وقال أبو بكر بن حازم:
ونرجس ككئوس التّبر لائحة ... من الزّبرجد قد قامت بها ساق
كأنهنّ عيون هدبها ورق ... لهنّ من خالص العقيان أحداق
وقال الصّنوبرىّ:
ونرجس مضعف تضاعف من ... هـ الحسن فى أبيض وفى أصفر
الدّرّ والتّبر فيه قد خلطا ... للعين والمسك فيه والعنبر
وقال أيضا يصفه فى منابته:
أرأيت أحسن من عيون النرجس ... أو من تلاحظهنّ وسط المجلس
درّ تشقّق عن يواقيت على ... قضب الزبرجد فوق بسط السّندس
أجفان كافور حشين بأعين ... من زعفران ناعمات الملمس
مغرورقات «3» فى ترقرق طلّها ... ترنو بعين الناظر المتفرّس(11/231)
فاذا تنشّقها تنفّس ناشق ... عن مثل ريح المسك أىّ تنفّس
وحكى تدانى بعضها من بعضها ... يوما تدانى مؤنس من مؤنس
واذا نعست من المدام رأيتها ... ترنو اليك بأعين لم تنعس
وقال ابن الرّومىّ «1» :
ونرجس كالثّغور مبتسم ... له دموع المحدّق الشّاكى
أبكاه قطر النّدى وأضحكه ... فهو من القطر ضاحك باكى
[وقال آخر «2» ] :
قد عكفنا على عيون من النّرجس ... بيض مصفرّة الأحداق
ذابلات الأجفان كالعاشق الوا ... قف يشكو الهوى على فرد ساق
وقال شاعر أندلسىّ:
انظر الى نرجس فى روضة أنف ... غنّاء «3» قد جمعت شتّى من الزّهر
كأنّ ياقوتة صفراء قد طبعت ... فى غصنه حولها ستّ من الدّرر
[وقال آخر «4» ] :
أبصرت باقة «5» نرجس ... فى كفّ من أهواه غضّه
فكأنّها قضب الزّبر ... جد قمّعت ذهبا وفضّه(11/232)
[وقال ابن عبّاد «1» ] :
عمرى لقد راق طرفى حسن زاهرة ... تميس فى سندسيّات من الورق
أبدت لنا عجبا منها حديقتها ... عينا من التّبر فى جفن من الورق «2»
وقال أبو الفضل الميكالىّ:
أهلا بنرجس روض ... يزهى بحسن وطيب
يرنو بعينى غزال ... على قضيب رطيب
وفيه معنى خفىّ ... يزينه فى القلوب
تصحيفه إن نسقت ال ... حروف برّ حبيب
[وقال آخر «3» ] :
لمّا أطلنا عنه تغميضا ... أهدى لنا النّرجس تعريضا
فدلّنا ذاك على أنّه ... قد اقتضانا الصّفر والبيضا
وقال أبو هلال العسكرىّ:
ونرجس مثل أكفّ خرّد ... درن علينا بكئوس الذهب
ناولنيه مثله فى حسنه ... فحلّ من قلبى عقد الكرب
مبتسم عنه وناظر به ... هذا لعمرى عجب فى عجب
وقال أيضا فيه «4» :
ونرجس قام فوق منبره ... مثل عروس تجلى وتشتهر(11/233)
نام النّدى فى عيونه سحرا ... فاعتاده فى منامه سهر
لم يغتمض والظلام حلّ به ... كأنّما فى جفونه قصر
تحيّر الطّلّ فى مدامعه ... فليس يرقا وليس ينحدر
كدمعة الصّبّ كاد يسكبها ... فردّها فى جفونه الحذر
وقال ابن المعتزّ:
وعجنا الى الرّوض الذى طلّه النّدى ... وللصّبح فى ثوب الظّلام حريق
كأنّ عيون النرجس الغضّ بينه ... مداهن درّ حشوهنّ عقيق
اذا بلّهنّ القطر خلت دموعها ... بكاء جفون كحلهنّ خلوق
وقال ابن الرومىّ يفضّله على الورد:
خجلت خدود الورد من تفضيله ... خجلا تورّدها عليه شاهد
لم يخجل الورد المورّد لونه ... إلا وناحله. الفضيلة عاند
للنرجس الفضل المبين وإن أبى ... آب وحاد عن الطريقة حائد
فصل القضيّة أنّ هذا قائد ... زهر الرّبيع وأنّ هذا طارد
شتّان بين اثنين هذا موعد ... بتسلّب الدنيا وهذا واعد
واذا احتفظت به فأمتع صاحب ... بحياته لو أنّ حيّا خالد
يحكى مصابيح السماء وتارة ... يحكى مصابيح الوجوه تراصد
ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المدامة والسّماع يساعد
إن كنت تطلب فى الملاح سميّه ... يوما فإنك لا محالة واجد
والورد إن فتّشت فرد فى اسمه ... ما فى الملاح له سمّى واحد
هذى النجوم هى التى ربّينها ... بحيا السحاب كما يربّى الوالد
فانظر الى الولدين من أوفاهما ... شبها بوالده فذاك الماجد(11/234)
أين العيون من الخدود نفاسة ... ورآسة لولا القياس الفاسد
وقال أيضا فيه:
وأحسن ما فى الوجوه العيون ... وأشبه شىء بها النّرجس «1»
[وقال أيضا «2» ] :
وزعفرانيّة فى اللّون تحسبها ... اذا تأمّلتها فى ثوب كافور
كأنّ حبّ سقيط الطّلّ بينهما ... دمع تحيّر فى أجفان مهجور
وقال عبد الله بن المعتزّ:
عيون اذا عاينتها فكأنّما ... مدامعها من فوق أجفانها درّ
محاجرها بيض وأحداقها صفر ... وأجسامها خضر وأنفاسها عطر
[وقال محمد بن يزيد المبرّد «3» ] :
نرجسة لا حظنى طرفها ... تشبه دينارا على درهم
وقال عبيد الله بن عبد الله:
ترنو بأحداقها اليك كما ... ترنو اذا خافت اليعافير
مثل اليواقيت قد نظمن على ... زبرجد بينهنّ كافور
كأنّها والعيون ترمقها ... دراهم وسطها دنانير(11/235)
وأمّا الياسمين وما قيل فيه
- فالياسمين والياسمون اسم «1» فارسىّ؛ وهو نوعان: برّىّ، ويسمّى بهرامج «2» ، وتسمّيه العرب الظّيّان «3» ؛ وبستانىّ، وهو أصفر وأبيض، والأبيض أطيب رائحة. قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: طبع الأبيض أسخن من الأصفر، والأصفر من «4» الأرجوانىّ؛ وهو بالجملة حارّ يابس فى الثانية. قال: وهو يلطّف الرّطوبات؛ ودهنه ينفع المشايخ. قال: وهو يذهب الكلف رطبه ويابسه، وكثرة شمّه تورث الصّفار «5» ؛ ودهنه نافع للأمراض الباردة فى العصب؛ ورائحته مصدّعة، لكنّها مع ذلك تحلّ «6» الصّداع الكائن عن البلغم اللّزج اذا شمّت؛ والخالص من دهنه يرعف المحرور اذا شمّه لوقته.
وأما ما جاء فى وصفه
- فقال أبو إسحاق الحضرمىّ يصفه قبل تفتّحه:(11/236)
خليلىّ هبّا وانفضا عنكما الكرى ... وقوما الى روض وكأس «1» رحيق
فقد لاح رأس الياسمين منوّرا ... كأقراط درّ قمّعت بعقيق
يميل على ضعفى الغصون كأنّما ... له حالتا ذى غشية ومفيق
اذا الرّيح أدّته الى الأنف خلته ... نسيم جنوب ضمّخت بخلوق
وقال آخر:
وروضة نورها يرفّ ... مثل عروس اذا تزف
كأنّما الياسمين فيها ... أنامل مالها أكفّ
[وقال آخر «2» ] :
كأنّ الياسمين الغضّ لمّا ... أدرت عليه وسط الرّوض عينى
سماء للزبرجد قد تبدّت ... لنا فيها نجوم من لجين
وقال آخر:
وياسمين عبق النّشر ... يزرى بريح العنبر الشّحرى «3»
يلوح من بين غصون له ... كمثل أقراط من الدّرّ
وقال المعتمد بن عبّاد:
كأنّما ياسميننا الغضّ ... كواكب فى السماء تبيضّ
والطّرق الحمر فى بواطنه ... كخدّ عذراء مسّه عضّ(11/237)
وقال الشّمشاطىّ فى دوحة «1» جمعت بين الأبيض والأصفر:
وياسمين قد بدا لونين ... قراضة من ورق «2» وعين
ركّب فى زبرجد نوعين ... فالبيض منه فى عيان العين
مثل ثغور البيض غير مين ... والصّفر لون عاشق ذى بين
وقال أحمد بن عبد الرحمن القرطبىّ:
ولفّاء خلناها سماء زبرجد ... لها أنجم زهر من الزّهر الغضّ
تناولها الجانى من الأرض قاعدا ... ولم أر من يجنى النجوم من الأرض
وقال شاعر يتطيّر به:
أصبحت أذكر بالرّيحان رائحة ... منكم وللنفس بالرّيحان إيناس
وأهجر الياسمين الغضّ من حذر ال ... ياس إذ قيل فى شطر اسمه ياس
وقال آخر:
لا مرحبا بالياسمين ... وان غدا للرّوض زينا
صحّفته فوجدته ... متقابلا ياسا ومينا
ونظيره قول الآخر:
وياسمين إن تأمّلته ... حقيقة أبصرته شينا
لأنّه ياس ومين ومن ... أحبّ قطّ الياس والمين(11/238)
وقال [ابن] «1» الحدّاد فى عكس ذلك:
بعثت بالياسمين الغضّ مبتسما ... وحسنه فاتن للنّفس والعين
بعثته منبئا عن صدق معتقدى ... فانظر تجد لفظه ياسا من المين
وأمّا الآس وما قيل فيه
- فالآس نوعان: برّىّ وبستانىّ؛ فالبرّىّ هو الّذى يسمّى بدمشق: قف انظر «2» ، سمّى بذلك لحسنه؛ وورقه يشبه ورق البستانىّ، إلا أنّه أعرض منه؛ وطرفه محدّد، يشبه سنان الرّمح؛ واليونان تسمّى الآس: مرسينى؛ وتسمّيه العامّة: مرسينا «3» . وقال ابن وحشيّة فى توليده: وان خلطتم بأصل اليبروح عيدان الشّبث وورق الجرجير وسحقتم ذلك سحقا جيّدا وزرعتموه فى الأرض، وهو كهيئة الكبّة، وصببتم فوق الكبّة الماء، وطمرتموه فى التراب، خرجت عن ذلك شجرة الآس الطويل الورق. وان أردتم المدوّر الورق فاخلطوا مع أصل اليبروح ورق الآس الطويل، ونصف وزن أصل اليبروح من ورق النّبق، فانه يخرج الآس المدوّر الورق. قال: وان أردتم الآس الأزرق اللّون، فاخلطوا بأصل اليبروح ورق النّيل، واعجنوا معهما من أصل الزيتون وعروقه، واطمروه «4» فإنّه يخرج عنه الآس الأزرق.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى الآس: أقواه الذى يضرب الى السواد، لا سيّما الخسروانىّ «5» المستدير الورق، لا سيّما الجبلىّ «6» ؛ وأجود زهره الأبيض؛ وعصارة ثمرته أجود.(11/239)
وأمّا طبعه
ففيه حرارة لطيفة، والغالب عليه البرد، ويشبه أن يكون برده فى الأولى، ويبسه فى حدود الثانية.
وأمّا أفعاله وخواصّه
، فإنّه يحبس الإسهال والعرق وكلّ نزف وكلّ سيلان الى عضو؛ واذا تدلّك به فى الحمّام قوّى البدن، ونشّف الرطوبات التى تحت الجلد؛ وهو ينفع من كل نزف لطوخا وضمادا ومشروبا، وكذلك ربّه وربّ ثمرته؛ وقبضه أقوى من تبريده؛ وهو يسرع جبر العظام؛ وليس فى الأشربة ما يعقل وينفع أوجاع الرئة والسّعال غير شرابه؛ ودهنه وعصارته [وطبيخه «1» ] تقوّى أصول الشّعر؛ وورقه اليابس يمنع صنان الآباط؛ ورماده ينقّى الكلف، ويجلو البهق. قال: والآس يسكّن الأورام والحمرة «2» والنّملة «3» والبثور والقروح والشّرى «4» وحرق النار «5» ؛ وورقه يضمد به بعد تخبيصه بزيت وخمر؛ ويابسه اذا ذرّ على الدّاحس «6» نفعه؛ واذا طبخت(11/240)
ثمرته بالشراب واتّخذت ضمادا أبرأت القروح الّتى فى الكفّين والقدمين وحرق النار وتمنعه عن التنفّط، ومن «1» استرخاء المفاصل. قال: والآس يحبس الرّعاف ويجلو الحزاز «2» ، ويجفّف قروح الرأس، وقروح الأذن؛ وينفع شرابه من استرخاء اللّثة؛ وورقه اذا طبخ بالشراب وضمد به سكّن الصّداع الشديد؛ واذا شرب شرابه قبل الشراب منع الخمار؛ والآس يسكّن الرمد والجحوظ؛ واذا طبخ مع سويق الشّعير أبرأ أورام العين؛ والآس يقوّى القلب، ويذهب الخفقان؛ وثمرته تنفع من السّعال؛ وهو يقوّى المعدة، خصوصا ربّه؛ وحبّه يمنع سيلان الفضول الى المعدة؛ وهو جيّد فى منع درور الحيض؛ وماؤه يعقل الطبيعة، ويحبس الإسهال؛ وطبيخ ثمرته ينفع من سيلان رطوبات الرّحم؛ وينفع تضميده للبواسير؛ وينفع من ورم الخصية؛ وطبيخه ينفع من خروج المقعدة والرّحم؛ وهو ينفع من عضّ الرّتيلاء «3» ، وكذلك ثمرته اذا شربت بشراب، وكذلك من العقرب.
وأما ما جاء فى وصفه
- فقال الأخيطل الأهوازىّ:
للآس فضل بقائه ووفائه ... ودوام نضرته على الأوقات(11/241)
الجوّ أغبر وهو أخضر والثرى ... يبس ويبدو ناضر الورقات
قامت على قضبانه ورقاته ... كنصال نبل جدّ مؤتلقات
وقال آخر:
وغادة أهدت الى إلفها ... قضيب آس زاد فى ظرفها
كأنّما خضرة أوراقه ... بقيّة الحنّا على كفّها
وقال آخر «1» فى باقة «2» آس:
ومشمومة مخضرّة اللّون غضّة ... حوت منظرا للناظرين أنيقا
اذا شمّها المعشوق خلت اخضرارها ... ووجنته فيروزجا وعقيقا
وقال ابن وكيع:
خليلىّ ما للآس يعبق نشره ... اذا هبّ أنفاس الرّياح العواطر
حكى لونه أصداغ ريم معذّر ... وصورته آذان خيل نوافر
وأمّا الزّعفران وما قيل فيه
- فالزّعفران يسمّى الجادىّ «3» بالدالين المهملة والمعجمة، والجساد، والرّيهقان، والكركم.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: جيّده الطرىّ، الحسن اللون، الذكىّ الرائحة، على شعره قليل بياض غير كثير، ممتلئ صحيح سريع «4» الصّبغ، غير متكرّج «5»(11/242)
ولا متفتّت؛ وطبعه حارّ فى الثانية، يابس فى الأولى. وقال فى أفعاله وخواصّه:
هو قابض محلّل منضج مفتّح. قال: وقال الخوزىّ: إنّه لا يغيّر «1» خلطا ألبتّة بل يحفظها «2» على السويّة «3» ، ويصلح العفونة، ويقوّى الأحشاء؛ وشربه يحسّن اللّون؛ وهو محلّل للأورام، وتطلى به الحمرة. قال: وهو مصدّع، يضرّ الرأس؛ وهو منوّم، واذا سقى فى الشّراب أسكر؛ وينفع من الورم الحارّ فى الأذن؛ وهو يجلو البصر، ويمنع النوازل اليه، وينفع من الغشاوة، ويكتحل به للزّرقة المكتسبة من الأمراض؛ وهو مقوّ للقلب، مفرّح يشمّه المبرسم «4» وصاحب الشّوصة «5» للتنويم، وخصوصا دهنه، ويسهّل النّفس، ويقوّى «6» النفس. قال: وهو مغث يسقط(11/243)
الشهوة بمضادّته «1» الحموضة التى فى المعدة وبها «2» الشّهوة، لكنّه يقوّى المعدة لما فيه من الحرارة والدّبغ والقبض. وقال قوم: الزعفران جيّد للطّحال. قال: وهو يهيج الباه، ويدرّ البول، وينفع من صلابة الرّحم وانضمامها والقروح الخبيثة فيها اذا استعمل بموم «3» أو محّ مع ضعفه زيتا. وزعم بعضهم أنّه سقاه للطّلق المتطاول فولدت للساعة. قال: وثلاثة مثاقيل منه تقتل بالتفريح؛ واذا عدم فبدله وزنه قسط «4» ، وربع وزنه قشور السّليخة «5» .
وأما ما جاء فى وصفه
- فقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ:
وحديقة للزعفران تأرّجت ... وتبرّجت فى نسج وشى مونق
شكت الحيال «6» فألقحتها «7» نطفة ... من صوب غادية الغمام المغدق
حتى اذا ما حان وقت ولادها ... فتق الصّبا منها الذى لم يفتق
عذراء حبلى قمّطت أولادها ... حمرا وصفرا فى الحرير الأزرق(11/244)
وكأنّما اقتتلوا فأصفر خائف ... بحذاء قان بالدّماء مغرّق
وقال آخر:
وكأنّ ورد الزعفران مضاحك ... قد جمّعت لعس «1» المقبّل واللّمى «2»
أو أنصل فوق التراب سديدة ... قد فارقت بعد الرّماية أسهما
وقال آخر:
للزعفران اذا ما قاسه فطن ... فضل على كلّ ورد زاهر أنق «3»
كأنه ألسن الحيّات قد شدخت ... رءوسها فاكتست من حمرة العلق
من لابس حمرة من وجه ذى خجل ... ولابس صفرة من وجه ذى فرق
لا شىء أعجب من لونيهما وهما ... نشوان «4» تربان «5» فى مهد وفى خرق
فرعان مختلف معناهما وهما ... نتيجتا جوهر فى الأصل متّفق.
وقال آخر «6» :
طلع الزعفران مثل زجاج «7» ... قد تنضّلن «8» من سهام غلاء «9»(11/245)
وتراءى كأنّه شعل الكبريت ... ليلا ضياؤها فى غطاء
ورق فيه زرقة تجلب الله ... وو يسى عيانه كلّ رائى
يتفرّى عن قانئات حسان ... مثل هدب معصفر من رداء
قائمات كأنّها ألفات ... خطّطت فى الطّراز ذات استواء
يتنقّبن للرّجال غدوّا ... ثم يسفرن ضحوة للنّساء
يتبرّجن فى ثياب الثّكالى ... ويعرّين منه بعد اكتساء
زىّ عرس ومأتم ذا لدى خ ... ير عشاء وذا لشرّ «1» عشاء
مثل غمّ قد انجلى عن سرور ... ونعيم قد انتضى عن بلاء
وقال أبو بكر الخوارزمىّ:
أما ترى الزعفران الغضّ تحسبه ... جمرا بدا فى رماد الفحم مضطرما
كأنّه بين أطراف تحف به ... طرائق الدّم فى خدّين قد لطما
دم عيانا ومسك نشر رائحة ... فى طيبه وكذاك المسك كان دما
[وقال آخر «2» ] :
شبّهت روض الزّعفران بشاطر «3» ... سلب النّصارى واليهود شعارها
كصحيفة من سندس عنيت «4» بها ... كفّ صناع قوّمت أسطارها(11/246)
وكأنّما ألفاتها قد توّجت ... بمجامر تذكى النسائم «1» نارها
من كلّ فاقعة تلفّع دائما ... بدخان كبريت تجرّ إزارها
متقنّعات فى الدّجى فاذا بدا ... للصّبح إسفار سفرن خمارها
والشمس طالعة على أخواتها ... واذا توارت أسبلت أستارها
وأمّا الحبق وما قيل فيه
- فالحبق أنواع، تطلق عليها العامّة الرّيحان؛ ومن «2» أسمائه الباذروج، وهو «3» الحماحم. ويسمّى «4» الباذر نجبويه والباذر نبويه،(11/247)
واسمه «1» بالفارسية: المرماحوز «2» ، ومنه ما سمّى الفرنجمشك «3» بالفاء والباء؛ ورائحته كرائحة القرنفل؛ ويقال فيه فلنجمشك، وأفلنجمشك؛ وكلّها فارسيّة. ومنه ما يسمّى(11/248)
بالفارسيّة: الشاهسفرم «1» ، ومعناه ملك الرّياحين «2» ؛ والعرب تسمّيه: الضّيمران «3» والضّومران؛ ومنه حبق الفتى «4» : المرزجوش والمرزنجوش «5» والمردقوش «6» والعبقر «7» . ومنه ما يسمّى المرو والزّغبر والزّبغر، وهو المرو الدقيق الورق. والصّعترىّ «8» ، وريحان «9»(11/249)
الكافور، ويسمّى «1» بالفارسيّة (سوسن) واناه «2» ، وشكله شكل المنثور، ورائحته رائحة الكافور الرّياحىّ «3» .
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى طبائع الرّياحين: الباذروج «4» طبعه حارّ فى الأولى الى الثانية، يابس فى أوّل الأولى، وفيه رطوبة فضليّة. قال: وفيه قبض وإسهال، فإنّه يقبض، إلّا أن يصادف فضلا مستعدّا، فاذا صادف خلطا أسهله؛ وفيه تحليل وإنضاج ونفخ، ويسرع الى التعفّن؛ ويولّد خلطا رديئا سوداويّا؛ وبزره ينفع من تتولّد فيه السّوداء؛ واذا طلى بالخلّ ودهن الورد على الأورام الحارّة نفع؛ وعصارته قطورا تنفع الرّعاف، لا سيّما بخلّ خمر وكافور؛ وهو مما يسكّن العطاس من مزاج، ويحرّكه من مزاج؛ وهو ينفع من ضربان العين ضمادا: ويحدث ظلمة البصر مأكولا لتخليط رطوبته وتبخيرها؛ وعصارته تقوّى(11/250)
البصر كحلا؛ وهو يقوّى القلب جدّا، ويجفّف الرئة والصدر، وسكرّجة «1» من مائه تنفع من سوء التنفّس؛ وماؤه يدرّ اللّبن؛ وبزره ينفع من عسر البول؛ واذا وضع على لسع الزّنابير والعقارب سكّنه.
وأمّا المرماحوز «2»
- فهو حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية؛ وهو لطيف محلّل مسكّن للرّياح، مفتّح للسّدد البلغميّة حيث كانت؛ والإكباب على نطوله يحلّل البخار والصّداع البارد؛ وهو يقوّى المعدة وينشّف رطوبتها، ويقوّى الأمعاء.
وأمّا المرزنجوش «3»
- فهو حارّ يابس فى الثالثة «4» ؛ وهو لطيف محلّل مفتّح؛ وهو طلاء جيّد على الأورام البلغميّة؛ ودهنه ضماد للفالج المميل العنق الى خلف ولغيره من الفالج؛ ويفتّح سدد الدّماغ؛ وينفع من الشّقيقة «5» والصّداع والرّطوبة والرياح الغليظة، ومن وجع الأذن نطولا «6» وقطورا؛ وتجعل فيها قطنة مغموسة(11/251)
فى دهن المرزنجوش فتنفع من انسدادها؛ وطبيخه ينفع من الاستسقاء، ومن عسر البول، والمغص؛ ودهنه ينفع من انضمام الرّحم المؤدّى إلى احتقانها «1» ؛ وهو مع الخلّ ضماد للسع العقرب.
وأمّا الفلنجمشك «2»
- فهو أعدل من المرزنجوش والنّمام، وأقلّ يبسا؛ وهو يفتّح السّدد العارضة فى الدّماغ والمنخرين شمّا وطلاء وأكلا؛ وينفع الخفقان العارض من البلغم والسّوداء فى القلب «3» ؛ وهو جيّد للبواسير.
وأمّا ما وصفت به الرّياحين
- فقال السّرىّ الرّفّاء:
وبساط ريحان كماء زبرجد ... عبثت «4» بصفحته الجنوب فأرعدا
يشتاقه الشّرب «5» الكرام وكلّما ... مرض النّسيم سروا «6» اليه عوّدا
وقال أبو الفضل الميكالىّ:
أعددت محتفلا ليوم فراغى ... روضا غدا إنسان عين الباغ «7»(11/252)
روضا يروض هموم قلبى حسنه ... فيه لكأس اللهو أىّ مساغ
فاذا انثنت قضبان ريحان به ... حيّت «1» بمثل سلاسل الأصداغ
وقال أبو هلال العسكرىّ:
وخضر تجمع الأعجاز منها ... مناطق مثل أطواق الحمام
لها حسن العوارض حين تبدو ... وفيها لين أعطاف الغلام
وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ:
مراضيع من الرّيحان تسقى ... سقيط الطّلّ أو درّ العهاد
ملابسهنّ خضر مشبعات «2» ... تشير بزيّهنّ الى السواد
اذا ذرّت عليها المسك ريح ... وجاد بفيضهنّ يد الغوادى
تخلّلها الرياح فسرّحتها ... صنيع المشط فى اللّمم الجعاد
جرت وهنا بها وسرت عليها ... فطاب نسيمها فى كلّ وادى
وقال ابن أفلح الأندلسىّ:
وحماحم «3» كأسنّة ... فى كل معتدل قويم
أو أنجم نزعت «4» لتح ... رق كلّ شيطان رجيم
أو مثل أعراف الدّيو ... ك لدى مبارزة الخصوم(11/253)
أو كالشّقيق تحرّشت ... بفروعه أيدى النسيم
أو ثاكل صبغت بنا ... نا من دم الخدّ اللّطيم
وقال آخر:
وريحان تميس به غصون ... يطيب بشمّه شرب الكئوس
كسودان لبسن ثياب خزّ ... وقد تركوا «1» مكاشيف الرّءوس
وقال آخر:
أما ترى الرّيحان أهدى لنا ... حماحما منه فأحيانا
تحسبه فى طلّه والنّدى ... زمرّدا يحمل مرجانا
وقال آخر فى الشاهسفرم «2» :
وقامة «3» ريحان أنيق نباتها ... غذاها نمير الماء سقيا على قدر
تكلّل أعلاها بنظم محبّر ... وضاق عليها الزّىّ بالورق الخضر
وفاحت بنشر طيّب الشّمّ عاطر ... له نشوات المسك فى سائر العطر
فأصبح شاها للرّياحين كلّها ... فليس لها ما دام شىء من الأمر
وقال أبو سعيد الأصفهانىّ:
[وشمّامة مخضرّة اللّون غضّة ... حوت منظرا للناظرين أنيقا «4»(11/254)
اذا شمّها المعشوق خلت اخضرارها ... ووجنته فيروزجا وعقيقا]
وقال ابن وكيع فى الصّعترىّ «1» :
صعترىّ أدقّ من أرجل النّم ... ل وأذكى من نفحة الزّعفران
كسطور كسين نقطا وشكلا ... من يدى كاتب ظريف البنان
وقال أبو بكر الخوارزمىّ:
وصفت ريحانا اذا ما وصفه ... واصفه قيل له: زد فى الصّفه
دقّقه صانعه ولطّفه ... كأنّه وشم يد مطرّفه
أو خطّ ورّاق أدقّ أحرفه ... أو زغبات طائر مصفّفه
أو حلّة مخضرّة مفوّفه
وقال صاعد الأندلسىّ فى الأترنجانىّ «2» :
لم أدر قبل ترنجان مررت به ... أنّ الزمرد أغصان وأوراق
من طيبه سرق الأترجّ نكهته ... يا قوم حتّى من الأشجار سرّاق
وقال آخر وأجاد:
ذكىّ العرف مشكور الأيادى ... كريم عرقه «3» يسلى الحزينا
أغار على التّرنج وقد حكاه ... وزاد على اسمه ألفا ونونا(11/255)
القسم الرابع من الفنّ الرابع فى الرّياض والأزهار، ويتّصل به الصّموغ والأمنان والعصائر «1»
، وفيه أربعة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفن فى الرياض وما وصفت به نظما ونثرا
اتّفق جوّابو الأقطار أنّ مستنزهات «2» الدنيا أربعة مواضع
؛ وهى صغد سمرقند «3» ، وشعب بوّان، ونهر الأبلّة، وغوطة دمشق؛ وقد رأيت أن أصف هذه المستنزهات بصفاتها التى شاهدتها ونقلت إلىّ؛ وأخبارها التى عاينتها وقصّت أنباؤها علىّ؛ فقلت فى ذلك: ألذّ ما تمتّعت بحسنه النواظر، وأبهى ما ارتاحت النفوس الى أزهاره النّواضر؛ وصف رياض تاهت الأرض على السماء بأزهارها؛ وباهت أنوار الكواكب بنورها ونوّارها.(11/256)
فمنها صغد سمرقند
- الذى تحفّ به بساتين كست زهرتها من الأرض عاريها «1» ، وأصبح للسماء بكاء فى جوانبها وللرّوض ابتسام فى نواحيها؛ تتخلّلها قصور يتضاءل سنا النّجم فى آفاقها، وتحتجب الغزالة عند طلوعها حياء من بهجتها وإشراقها.
ومنها شعب بوّان «2»
- الذى غدت مغانيه «3» مغانى للزّمان، وقصرت الألسن عن وصف محاسنه وطالت إلى اقتطاف ثمره البنان؛ تكاد شمسه تغرب عند الإشراق، ولا تتخلل أشجاره إلا والحياء يعيدها فى قبضة الإطراق؛ يستغنى بغدرانه عن صوب الصّيّب، ولقد أبدع فى وصفه أبو الطّيّب:
مغانى الشّعب طيبا «4» فى المغانى «5» ... بمنزلة الرّبيع من الزمان(11/257)
ولكنّ الفتى العربىّ فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنّة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
[طبت فرساننا والخيل حتّى ... خشيت وان كرمن من الحران] «1»
غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان «2»
فسرت وقد حجبن الشمس عنّى ... وجئن من الضّياء بما كفانى
وألقى الشرق «3» منها فى ثيابى ... دنانيرا تفرّ من البنان
لها ثمر تشير اليك منه ... بأشربة وقفن بلا أوانى «4»
وأمواه يصلّ «5» بها حصاها ... صليل الحلى فى أيدى الغوانى
اذا غنّى الحمام الورق فيها ... أجابتها أغانىّ القيان
ومن بالشّعب أحوج من حمام ... اذا غنّى وناح الى بيان «6»(11/258)
وقد يتقارب «1» الوصفان جدّا ... وموصوفاهما متباعدان
يقول بشعب «2» بوّان حصانى ... أعن هذا تسير الى الطّعان
أبوكم آدم سنّ المعاصى ... وعلّمكم مفارقة الجنان
وأجاد السّلامىّ حيث قال:
اشرب على الشّعب واحلل روضة أنفا «3» ... قد زاد فى حسنه فازدد به شغفا
إذ ألبس الهيف من أغصانه حللا ... ولقّن العجم من أطياره نتفا
ونمّرت «4» حسنه الأغصان مثمرة ... من نازع قرطا أو لابس شنفا «5»
والماء يثنى على أعطافها أزرا ... والريح تعقد من أطرافها شرفا
والشمس تخرق من أشجارها «6» طرفا ... بنورها فترينا تحتها طرفا
من قائل نسجت درعا مفضّضة ... أو قائل ذهّبت أو فضّضت صحفا
ظلّت تزفّ الى الدنيا محاسنها ... وتستعيد لها الألطاف والتّحفا
من عارض وكفا «7» أو بارق خطفا ... أو طائر هتفا أو سائر وقفا(11/259)
ولست أحصى حصى الياقوت فيه ولا ... درّا أصادفه فى مائه صدفا
بظنّ من وقفت فيه الشجون به ... أنّ الصّبابة شابت والهوى «1» خرفا
تعسّف «2» الشوق فيه كلّ ذى شجن ... والشوق ألطفه ما كان معتسفا
فاحلل عرا الهمّ واشربها معتّقة ... رقّ النسيم مباراة لها وصفا
ومنها نهر الأبلّة «3»
- الّذى طوله أربع فراسخ، ورءوس نخله على وجه الأرض شوارف وأصولها فى الثّرى رواسخ؛ بجانبيه بساتين إن هبّ النسيم بأغصانها تعانقت وتمايلت، وإن لعب بأفنانها تناظرت وتماثلت؛ كأنّما غرست فى يوم واحد شجراته، وقامت على خطّ الاستواء نخلاته؛ وفيه يقول التّنوخىّ شاعر اليتيمة:(11/260)
واذا نظرت إلى الأبلّة خلتها ... من جنّة الفردوس حين تخيّل
كم منزل فى نهرها الى السّرور ... بأنّه فى غيره لا ينزل
فكأنّما تلك القصور عرائس ... والزهر وشى فهى فيه ترفل
غنّت قيان الطّير فى أرجائه ... هزجا يقلّ له الثقيل الأوّل
وتعانقت تلك الغصون فأذكرت ... يوم الوداع وعيرهم تترحّل
ربع الربيع بها فحاكت كفّه ... حللا بها عقد الهموم تحلّل
فمدبّج وموشّح ومدّنر ... ومعمّد ومحبّر ومهلّل «1»
فتخال ذا عينا وذا ثغرا وذا ... خدّا يعضّض تارة ويقبّل
ومنها غوطة «2» دمشق
- الّتى هى شرك العقول وقيد الخواطر، وعقال النفوس ونزهة النواظر، خلخلت الأنهار أسؤق أشجارها، وجاست المياه خلال ديارها؛ وصافحت أيدى النسيم أكفّ غدرانها، ومثّلت فى باطنها موائس أغصانها؛ يخال سالكها أن الشمس قد نثرت على أثوابه دنانير لا يستطيع أن يقبضها ببنان «3» ، ويتوهّم المتأمّل لثمراتها أنّها أشربة قد وقفت بغير أوان «4» فى كلّ أوان؛ فيالها(11/261)
من رياض من لم يطف بزهرها من قبل أن يحلّق «1» فقد قصّر، ومن غياض من لم يشاهدها فى إبّانها فقد فاته من عمره الأكثر.
وهذه الأربعة الأماكن أجمع جوّابوا الأقطار على تفضيلها على ما عداها، وتمييزها على ما سواها.
وللناس فى وصف الرياض محاسن سنذكر منها النّزر اليسير،
ونقتصر على لمعة ليس لنضارتها نظير.
فمن ذلك قول الثّعالبىّ فى (سحر البلاغة وسرّ البراعة) : روضة رقّت حواشيها وتأنّق واشيها؛ أشجارها كالعرائس فى حللها وزخارفها، والقيان فى وشيها ومطارفها؛ باسطة زرابيّها «2» وأنماطها، ناشرة حبرها ورياطها؛ كأنّما احتفلت لوفد، أو هى من.
حبيب على وعد.
ومن كلامه «3» أيضا: روضة قد تضوّعت بالأرج الطّيب أرجاؤها، وتبرّجت فى ظلل الغمام صحراؤها؛ وتنافحت بنوافج «4» المسك أنوارها، وتفاوضت «5» بغرائب المنطق أطيارها؛ بها أشجار كأنّ الخرّد أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلّتها عقودها.(11/262)
ومن كلام الفتح بن خاقان فى (قلائد العقيان) : حتى استقرّوا «1» بالرّوض فحلّوا منه ذرا أيك ربيع مفوّفة بالأزهار، ومطرّزة بالجداول والأنهار؛ والغصون تختال فى أدواحها، وتنثنى فى أكفّ أرواحها.
ومن كلامه أيضا: روض مفترّ المباسم، معطّر الرياح النّواسم؛ قد صقل الربيع حوذانه «2» ، وأنطق بلبله وورشانه «3» ، وألحف غصونه برودا مخضرّه، وجعل إشراقه للشمس ضرّه، وأزاهيره تنير على الكواكب، وتختال فى خلع الغمائم السّواكب.
ومن كلامه: روضة لم يجل فى مثلها ناظر، ولم تدّع حسنها الخدود النّواضر؛ غصون تثنّيها الرياح، ومياه لها انسياح؛ وحدائق تهدى الأرج والعرف، وتبهج النفس وتمتع الطّرف.
ومن كلامه: روضة قد تأرّجت نفحاتها، وتدبّجت ساحاتها، وتفتّحت كمائمها، وأفصحت حمائمها؛ وتجرّدت جداولها كالبواتر، ورمقت أزهارها بعيون الجآذر «4» .
وقد أكثر الشعراء فى وصف الرّياض والغصون- فمن ذلك قول ابن الرّومىّ:(11/263)
حيّتك عنّا شمال طاف طائفها ... فى جنّة قد حوت روحا وريحانا
هبّت سحيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرّا بها وتداعى الطير إعلانا
ورق تغنّى على خضر مهدّلة ... تسمو بها وتشمّ «1» الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزّه عطفيه نشوانا
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة:
سقيا لها من بطاح أنس ... ودوح حسن بها مطلّ
فما ترى غير وجه شمس ... أطلّ فيه عذار ظلّ
وقال أيضا من أبيات:
والرّوض محنىّ المعاطف خلته ... نشوان تعطفه الصّبا فيميل
ريّان فضّضه النّدى ثم انجلى ... عنه فذهّب صفحتيه أصيل
وقال الأخيطل الأهوازىّ [منشدا] :
الروض ينشر رفرفا «2» وحريرا ... ومطارفا من سندس وحبيرا
حلّ الربيع نقاب كلّ خميلة ... فأراك من صور النبات سفورا
غيد القوام اذا النسيم أمالها ... ألقين عند صدورهنّ نحورا
ينحلّ عنهنّ النّدى فتخال ما ... ينحلّ عنها لؤلؤا منثورا
كسل النعيم يدبّ فى حركاتها ... فيريك فى أعطافهنّ فتورا
وقال أبو عبادة البحترىّ:
هذى الرياض بدا لطرفك نورها ... فأرتك أحسن من رباط السّندس(11/264)
ينشرن وشيا مذهبا ومدبّجا ... ومطارفا نسجت لغير الملبس
وأرتك كافورا وتبرا مشرقا ... فى قائم مثل الزّمرد أملس
متمايل الأعطاف فى حركاته ... كسل النعيم وفترة المتنفّس
متحلّيا من كلّ حسن مونق ... متنفّسا بالمسك أىّ تنفّس
وقال التّنوخىّ:
أما ترى الروض قد وافاك مبتسما ... ومدّ نحو النّدامى للسّلام يدا
فأخضر ناضر فى أبيض يقق ... وأصفر فاقع فى أحمر نضدا
مثل الرّقيب بدا للعاشقين ضحى ... فاحمرّ خجلا واصفرّ ذا كمدا
وقال أبو بكر الصّنوبرىّ:
تشبّه الرّوض بالحبائب قد ... زاد المحبّين فى محبّتها
كم من قدود هناك من قضب ... تميل من لينها ونعمتها
كم وجنة خالها يلوح لنا ... سواده فى صفاء حمرتها
وكم ثنايا تسبى بنكهتها ... وكم عيون تصبى بلحظتها
تسارق «1» الغمز غمز خائفة ... رقيبها من خفاء نظرتها
وقال أبو طاهر [بن] «2» الخبزأرزىّ:
وروضة راضها النّدى فغدا ... لها من الزّهر أنجم زهر
تنشر فيها أيدى الرّبيع لنا ... ثوبا من الوشى حاكه الفطر(11/265)
وقال منصور بن الحاكم:
روضة غضّة علاها ضباب ... قد تجلّت خلالها الأنوار
فهى تحكى مجامرا مذكيات ... قد علاها من البخور بخار
وقال سعيد بن حميد مقسما:
لا وزهر الرياض تجرى عليها ... باكيات «1» ضواحك النّوّار
صافحتها الرياح فاعتنق الرو ... ض ومالت طواله للقصار
لائذا بعضه ببعض كقوم ... فى عتاب مكّرر واعتذار
ما خلفناك بالقبيح ولا الذمّ ... على البعد واقتراب المزار
وقال أبو هلال العسكرىّ:
وروضة حالية الصدور ... كاسية البطون والظهور
محمودة المخبور والمنظور ... مونقة المطوىّ والمنشور
معجبة الظاهر والمستور ... ضاحكة كالوافد المحبور
باكية كالعاشق المهجور ... شذّرها الغيث بلا شذور
شقائق كناظر المخمور ... وأقحوان كثغور الحور
ونرجس كأنجم الدّيجور ... والطّلّ منثور على المنثور
يرصّع الياقوت بالبلّور
وقال أيضا:
لبس الماء والهواء صفاء ... واكتسى الروض بهجة وبهاء
فكأنّ النّهاء «2» صرن رياضا ... وكأنّ الرياض عدن نهاء(11/266)
وكأنّ الهواء صار رحيقا ... وكأنّ الرحيق صار هواء
وتخال السماء بالليل أرضا ... وترى الأرض بالنهار سماء
جلّلتها الأنوار زهرا وصفرا ... يوم ظلّت تنادم «1» الأنواء
فتراها ما بين نور ونوء ... تتكافا تبسّما وبكاء
وتظلّ الأشجار تتّخذ الحسن ... قميصا أو الجمال رداء
وترى السّرو كالمنابر تزهى ... وترى الطير فوقها خطباء
وقال كشاجم:
أرتك يد الغيث آثارها ... وأعلنت الأرض أسرارها
وكانت أكنّت لكانونها ... خبيئا فأعطته آذارها
فما تقع العين إلّا على ... رياض تصنّف أنوارها
يفتّح فيها نسيم الصّبا ... خباها ويهتك أستارها
ويسفح فيها دماء الشّقيق ... ندّى ظلّ يفتضّ أبكارها
ويدنى إلى بعضها بعضها ... كضمّ الأحبّة زوّارها
كأنّ تفتّحها بالضّحى «2» ... عذارى تحلّل أزرارها
تغضّ لنرجسها أعينا ... وطورا تحدّق أبصارها
اذا مزنة سكبت ماءها ... على بقعة أشعلت نارها
وقال البسّامىّ «3» :
أما ترى الأرض قد أعطتك زهرتها ... مخضرّة واكتسى بالنّور عاريها(11/267)
فالسماء بكاء فى جوانبها ... وللربيع ابتسام فى نواحيها
وقال آخر:
قهقه زهر الربيع فاستبشر ... واكتست الأرض مطرفا أخضر
ترى ربيعا نوّاره ذهب ... ماء لجين حصباؤه جوهر
عطّل صبّاغه الخدود بما ... ورّد من صبغها وما عصفر
لابس قمص من العقيق على ... غلائل من زبرجد أخضر
وقال المعوّج:
حقاق من النّوّار مزرورة العرا ... على قطع الياقوت واللؤلؤ الغضّ
فهنّ على الأغصان أحقاق فضّة ... وبالأمس كانت مطبقات على الغمض
وقال ابن الساعاتىّ:
لله ما شقّ من جيب الرياض بها «1» ... وحبّذا من ذيول السّحب ما سحبا
يا ضاحك الومض والأنواء باكية ... أشبهت لمياء إلّا الظّلم «2» والشّنبا
وقال أيضا:
يا حبّذا زمن الربيع ودوحه ... قيد النواظر بل عقال الأنفس
وافاك يبسم والغمام معبّس ... فاعجب لطلعة باسم ومعبّس
جليت عرائسه فهمّ قلوبنا ... واللهو بين مقوّض ومعرّس «3»(11/268)
أنفاسه من عنبر وسماؤه ... من لؤلؤ وبساطه من سندس
وقال أبو عبادة البحترىّ:
ولا زال مخضرّ من الروض يانع ... عليه بمحمرّ من النّور جاسد
يذكّرنى ريّا الأحبّة كلّما ... تنفّس فى جنح من الليل بارد
وقال السّروىّ «1» :
غدونا على الرّوض الّذى طلّه النّدى ... سحيرا وأوداج الأباريق تسفك
فلم أر شيئا كان أحسن منظرا ... من النّور يجرى دمعه وهو يضحك
وقال آخر:
حظّ عين وحظّ سمع ربيعا ... ن وتغريد بلبل وهزار
فى جلاء من الزمان ووجه الأرض ... يكسى وشائع النّوّار
بابيضاض محدّق «2» باخضرار ... واصفرار مبطّن باحمرار
كلّما أشرقت شموس الأقاحى ... خلت إحدى الشّموس شمس النهار
وقال كشاجم:
وروض عن صنيع الغيث راض ... كما رضى الصديق عن الصديق
اذا ما القطر أسعده صبوحا ... أتمّ له الصنيعة فى الغبوق
يعير الرّيح بالنفحات ريحا ... كأنّ ثراه من مسك سحيق
كأنّ الطّلّ منتثرا عليه ... بقايا الدّمع فى خدّ المشوق
كأنّ غصونه سقيت رحيقا ... فماست ميس شرّاب الرحيق(11/269)
كأنّ شقائق النّعمان فيه ... محضّرة كئوسا من عقيق
كأنّ النرجس البرّىّ فيه ... مداهن من لجين للخلوق
يذكّرنى بنفسجه بقايا ... صنيع اللّطم فى الخدّ الرقيق
وقال ابن سكّرة الهاشمىّ:
أما ترى الروضة قد نوّرت ... وظاهر الرّوضة قد أعشبا
كأنّما الأرض سماء لنا ... نقطف منها كوكبا كوكبا
وقال علىّ بن عطيّة البلنسىّ:
أديراها على الزّهر المندّى ... فحكم الصّبح فى الظّلماء ماضى
وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض
وما غربت نجوم اللّيل لكن ... نقلن من السّماء الى الرياض
وقال شاعر أندلسىّ:
وفتيان صدق عرّسوا تحت دوحة ... وما لهم غير النبات فراش
كأنّهم والنّور يسقط فوقهم ... مصابيح تهوى نحوهنّ فراش
وقال أبو محمد الحسن بن علىّ بن وكيع التّنّيسىّ:
أسفر عن بهجته الدهر الأغر ... وابتسم الروض لنا عن الزّهر
أبدى لنا فصل الربيع منظرا ... بمثله تفتن ألباب البشر
وشيا ولكن حاكه صانعه ... لا لابتذال اللّبس لكن للنظر
عاينه طرف السماء فانثنت ... عشقا له تبكى بأجفان المطر
فالأرض فى زىّ عروس فوقها ... من أدمع القطر نثار من درر
وشى طواه فى الثّرى صيانة ... حتّى اذا ملّ من الطّىّ نشر(11/270)
وقال أبو طاهر [بن] «1» أبى الرّبيع:
وكأنّ مولىّ «2» الرياض ضرائر ... تزهى بخضرتها على الخضراء
قد أبرزت زهراتها وازّيّنت ... وتعطّرت وتبرّجت للرّائى
والنّور منحسر القناع كما بدت ... للناظرين محاسن العذراء
والنبت ريّان المهزّة مائل ... شرق محاجر زهره بالماء
الباب الثانى من القسم الرابع من الفنّ الرابع فى الأزهار
ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى الخيرى- وهو المنثور- والسّوسن، والآذريون والخرّم، والشّقيق، والبهار، والأقحوان
فأمّا الخيرىّ
«3» وما قيل فيه- فالخيرىّ هو المنثور- وهو مما أولع الشعراء بوصفه.
فمن ذلك قول ابن وكيع التّنّيسىّ:
انظر الى المنثور فى ميدانه ... يرنو إلى الناظر من حيث نظر
كجوهر مختلف ألوانه ... أسلمه سلك نظام فانتثر(11/271)
وقال آخر:
انظر الى المنثور ما بيننا ... وقد كساه الطلّ قمصانا
كأنّما صاغته أيدى الحيا ... من أحمر الياقوت قضبانا
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة يذكر كونه لا تظهر رائحته إلّا ليلا:
وخيريّة بين النّسيم وبينها ... حديث اذا جنّ الظلام يطيب
يدبّ مع الإمساء حتّى كأنّما ... له خلف أستار الظّلام حبيب
وقال أبو هلال العسكرىّ:
ألوان منثور يريك حسنها ... ألوان ياقوت زها فى عقده
يا حسنها فى كفّ من يشبهها ... فانظر إلى النّدّ بكفّ ندّه
من أشهل «1» كعينه وأبيض ... كثغره وأحمر كخدّه
وأصفر مثل صريع حبّه ... إذا تغشّته غواشى صدّه
وقال آخر:
عجبت من الخيرىّ أمتع فى الدّجى ... وأصبح ريّاه مع الصّبح تحجب
فخلت الرّيا طبعا له مثل ناسك ... يرائى نهارا وهو باللّيل يشرب
وقال آخر:
ما أكرم الخيرىّ فى فعله ... يسهر إذ نور الرّبا ناعس
كأنّما خاف عليه العدا ... فهو له فى ليله حارس
وقال ابن الحدّاد:
عاف النهار مخافة الرقباء ... فسرى يضمّخ حلّة الظّلماء(11/272)
يطوى شذاه عن الأنوف نهاره ... ويجود فى الظّلماء بالإفشاء
متهتّك فى طبعه متستّر ... وكذا تكون شمائل الظّرفاء
لمّا رأى حبّ الأنوف لعرفه ... لبس الغياهب خيفة الرّقباء
كالطّيف لا يصل الجفون لسهدها ... ويهبّ فيها ساعة الإغفاء
وقال أبو العلاء السّروىّ:
أهدى إلىّ فنون الشّوق والأرق ... نسيم رائحة الخيرىّ فى طبق
كأنّه عاشق يطوى صبابته ... صبحا وينشرها فى ظلمة الغسق
وكلّ ذى لوعة فاللّيل راحته ... والليل أخفى لو يل الواله القلق
وقال آخر:
ينمّ مع الإظلام طيب نسيمه ... ويخفى مع الإصباح كالمتستّر
كعاطرة ليلا لوعد محبّها ... وكاتمة صبحا نسيم التعطّر
وقال ابن الرّومىّ:
خيرىّ ورد أتاك فى طبقه ... قد ملأ الخافقين من عبقه
قد خلع العاشقون ما صنع الهجر ... بألوانهم على ورقه
وأما السّوسن «1» وما قيل فيه
- فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا(11/273)
فى طبع السّوسن: الأبيض البستانىّ منه حارّ يابس فى الثانية؛ والإيرساء «1» أشدّ تسخينا وتجفيفا؛ والإيرساء هو أصل السّوسن الاسمانجونى. قال وأصله جلّاء، مجفّف باعتدال؛ ودهنه ألطف وأشدّ تحليلا وتليينا مطيّبا كان أم غير مطيّب؛ والإيرساء أقوى فى جميع ذلك؛ وهو قابض، وفيه شفاء للأوجاع والعفونات؛ وينفع من الكلف والنّمش، وخصوصا أصله؛ وينقّى الوجه غسلا به ويصقله، ويزيل تشنّجه «2» ؛ وإن دقّ بزره وورقه ناعما وعمل منه ضماد بالشراب على الحمرة «3» نفعها، وكذلك على الأورام البلغميّة الفجّة «والجرب المتقرّح «4» والخشكريشات «5» » وأصله ينفع من حرق الماء الحارّ، لأنه مجفّف مع جلاء وباعتدال، وكذلك ورقه مطبوخا، والأحسن أن يكون استعماله بدهن الورد وعصارة الإيرساء، وغيره يطبخ فى الخلّ والعسل فى إناء من نحاس للقروح المزمنة والجراحات. والبستانىّ أفضل الأدوية لحرق(11/274)
الماء الحارّ؛ وهو جيّد لانقطاع العصب؛ وتتخذ «1» من أصل البرّىّ مضمضة لوجع الأسنان؛ ويوافق دهنه قروح الرأس والنّخالة؛ واذا قطر فى الأذن سكّن الدّوىّ؛ وهو ردىء للمعدة، وخصوصا دهنه؛ ودهنه محلّل مليّن لصلابة الرّحم شربا وتمريخا؛ وكذلك اذا طبخ أصله بدهن الورد، ولا نظير له فى أمراض الرّحم، وكذلك دهن الإيرساء؛ ويخرج الجنين؛ وينفع من المغص؛ [و] «2» اذا طبخ أصله وحده بالخلّ أو مع بزر البنج «3» ودقيق الحنطة سكّن الأورام الحارّة العارضة للأنثيين؛ واذا شرب من دهنه مقدار أوقيّة ونصف أسهل؛ ويصلح لأصحاب إيلاوس «4» الصّفراوىّ؛ ودهن الإيرساء يفتّح أفواه البواسير، وكذلك أصل السّوسن كيف كان؛ وهو ينفع من لسع الهوامّ، خصوصا العقرب هو وعصارته وشرابه وبزره شربا؛ ودهنه درياق [للبنج] .
وأما ما جاء فى وصفه
- فقال الأخيطل الأهوازىّ:
سقيا لأرض اذا ما نمت أرّقنى «5» ... بعد الهدوء بها قرع النّواقيس(11/275)
كأنّ سوسنها فى كلّ شارفة «1» ... على الميادين أذناب الطّواويس
وقال أيضا فيه:
وكأنّ سوسنها سبائك فضّة ... غضّ النبات فأزرق أو أحمر
حملت سقيط الطّلّ فى ورقاته ... فكأنّه متبسّم مستعبر
وقال الصّنوبرىّ- ويروى للرّفّاء-:
انظر الى السّوسن فى منبته ... فانّه نبت عجيب المنظر
كأنّه ملاعق من ذهب ... قد خطّ فيها نقط من عنبر
وقال آخر:
انظر الى السّوسن فى ... جماله المنعوت
مثل كئوس خرطت ... من أزرق الياقوت
وقال آخر:
يا ربّ سوسنة قبّلتها شغفا ... وما لها غير نشر المسك من ريق
مصفرّة الوجه مبيضّ جوانبها ... كأنّها عاشق فى حجر معشوق
وقال آخر:
إن كان وجه الربيع مبتسما ... فالسّوسن المجتنى ثناياه
يا حسنه ضاحكا له عبق ... كطيب ريح الحبيب ريّاه
وقال شاعر أندلسىّ:
سوسنة بيضاء أوراقها ... فيها خطوط من سواد خفى
كأنّه دارس خطّ بدت ... أشكاله فى الرّقّ من مصحف(11/276)
وقال شاعر متطيّرا بإهدائه:
[يا ذا «1» الذى أهدى لنا السّوسنا ... ما كنت فى إهدائه محسنا]
أوّله سوء فقد ساءنى ... يا ليت أنّى لم «2» أر السّوسنا
[وقال آخر] :
سوسنة أعطيتنيها فما ... كنت بإعطائى لها محسنه
أوّلها سوء فان جئت بالآخر ... منها فهو سوء سنه
وأمّا الآذريون «3» وما قيل فيه
- فالآذريون ورد أصفر لا ريح له ألبتّة؛ وهو صنف من الأقحوان، ومنه ما نوّاره أحمر. وقال ابن البيطار فى جامعه:
انّه نوّار ذهبىّ، فى وسطه [رأس صغير «4» ] أسود، واسمه بالفارسيّة: آذركون، ومعناه لون النار.
وقال أبو علىّ بن سينا: طبعه حارّ يابس فى الثالثة؛ وانه ينفع من داء الثعلب مسحوقا بخلّ؛ ورماده بالخلّ لعرق النّسا. وقال ديسقوريدوس: إنّ الحبلى اذا مسّته أو تحمّلت منه أسقطت من ساعتها؛ وهو ينفع من السّمومات كلّها وخصوصا اللّدوغ.
وأما ما جاء فى وصفه
- فقال شاعر يصفه:
تاه الربيع بآذريونه وزها ... لمّا بدا منه فى جنح الدّجى أرج(11/277)
كأنّ أغصانه فيروزج «1» بهج ... من فوقه ذهب فى وسطه سبج «2»
وقال التّنوخىّ:
وآذريون مثل خدّ متيّم ... لأحشائه خوف «3» الفراق وجيب
شموس لها من حين تطلع شمسها ... [طلوع] وفى وقت الغروب غروب
تفتّح إن لاحت سرورا بضوئها ... كما سرّ بالرأى المصيب مصيب
وتنضمّ إن جاء الظلام كأنّه ... رقيب عليها والضياء حبيب
وقال ابن وكيع:
قم فاسقنى صافية ... تسلب قلبى فكره
فى روضة كأنّها ... خريدة فى حبره
كأنّ آذريونها ... أسوده وأحمره
سحيق مسك مودع ... فى خرق معصفره
وقال عبد الله بن المعتزّ:
كأنّ آذريونها ... تحت «4» سماء هاميه
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه(11/278)
وقال آخر:
أظرف بآذريونة أبصرتها ... فى الروض تلمع كاتّقاد الكوكب
وكأنّها لمّا تكامل حسنها ... مسك تفتّت فى إناء مذهب
وكأنّما تشريفها من فوقها ... حبب يفرّج عن رحيق أكهب «1»
وقال السّرىّ الرّفّاء:
وروضة آذريون «2» ذرّ بوسطها «3» ... نوافج «4» مسك هيّجت قلب مهتاج
تراها عيونا بالنّهار روانيا ... وعند غروب الشمس أزرار ديباج
وقال الطّغرائىّ:
وكأنّ آذريون روضتنا ... كانون فحم حوله لهب
أوجام جزع وسطه سبج ... أو سؤر مسك جامه ذهب
وأما الخرّم وما قيل فيه
- فالخرّم هو الخزامى «5» ؛ وهو عند المغاربة السّوسن الأزرق.(11/279)
قال ابن الرّومىّ يصفه:
وخرّم فى صبغة الطيالسه ... يحكى الطّواويس غدت مطاوسه «1»
كأنّما تلك الفروع المائسه «2» ... تغمسها فى اللّازورد «3» غامسه
وقال الشّمشاطىّ يصفه:
وخرّم مثل لون اللازورد جرى ... منها «4» على فضّة بيضاء جاريها
كأنّهنّ خدود اللّاطمات ضحى ... أو الطّواويس حلّتها خوافيها
ما عمّضت لعيون «5» الشمس أعينها ... إلّا على لمع من نورها فيها
وقال شاعر أندلسىّ:
عاف لون البياض ثوب أخيه «6» ... وتبدّى فى حلّة زرقاء
لتراه العيون فى حلّة يحكى ... سنا نورها أديم السماء(11/280)
لو حواها الطاووس أصبح لا شكّ ... مهنّا بملك طير الهواء
عزّة فى طباعه وعلوّ ... قد أنافا به على العلياء
وأما الشّقيق وما قيل فيه
- فالشقيق يسمّى الشّقائق والشّقر.
قال أبو الخير العشّاب: فى ألوانه الأبيض والأسود والأحمر والوردىّ والرّمادىّ والأصفر؛ وفيه بستانىّ وبرّىّ؛ فالبستانىّ، هو الخشخاش الأبيض.
قال: ومن أنواعه شقائق «1» النّعمان، ومن الشقائق نوع يسمّى الماميثا «2» ، ولونه أصفر فاقع.
وقال أبو علىّ بن سينا: هو حارّ فى الثانية، رطب؛ وهو جلّاء محلّل. قال:
يسوّد الشّعر اذا خلط بقشر الجوز؛ واذا استعمل ورقه وقضبانه كما هو أو مطبوخا حسّن الشّعر. قال: ويابسه ينفع من القروح الوسخة؛ وعصارته سعوط لتنقية الرأس والدّماغ؛ وأصله يمضغ لجذب الرطوبات من الرأس؛ وعصارته «3» نافعة من ظلمة البصر وبياضه وآثار قروح العين؛ واذا طبخ بالطّلاء وتضمّد به [أبرأ] «4»(11/281)
الأورام الصّلبة؛ واذا طبخ ورقه بقضبانه بحشيش السّعتر «1» وأكل أدرّ اللّبن؛ وهو يدرّ الطّمث «2» ؛ والله أعلم.
وأمّا ما جاء فى وصفه
- فقال ابن الرّومىّ:
تصوغ لنا كفّ الربيع حدائقا ... كعقد عقيق بين سمط لآلى
وفيهنّ نوّار الشقائق قد حكى ... خدود غوان نقّطت بغوالى
وقال أبو الفتح كشاجم «3» :
فرّج القلب «4» غاية التفريح ... ابتهاجى ما بين روض بهيج
فكأنّ الشّقيق فيه أكاليل ... عقيق على رءوس زنوج
[وقال آخر «5» ] :
طرب الشقائق للحمام وقد شجا ... شجو القيان فشقّ فضل ردائه(11/282)
وتحيّرت ما بين إثمد مأقه ... فى الخدّ دمعته وبين حيائه
فكأنّه الحبشىّ يصبغ «1» جسمه ... فثيابه مخضلّة بدمائه
[وقال القاضى عياض «2» ] :
انظر «3» الى الزّرع وخاماته ... تحكى وقد مالت أمام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح
[وقال الصّنوبرىّ «4» ] :
كم خدود مصونة من شقيق ... لم تبذّل للّثم أو للعضاض
اعترض ناظر الشقيق ففيه ... طرف ما يملّها ذو اعتراض
جمم «5» سرّحت بلا مشط «6» أو ... طرر قصّصت بلا مقراض
حمرة فوق خضرة وسواد ... بين هذين معلم ببياض
وقال أيضا فيه:
وجوه شقائق تبدو وتخفى ... على قضب تميد بهنّ ضعفا
تراها كالعذارى مسبلات ... عليها من عميم «7» النّبت سجفا
تنازعت الخدود الحمر حسنا ... فما إن أخطأت منهنّ حرفا(11/283)
اذا طلعت أرتك السّرج تذكى ... وان غربت أرتك السّرج تطفا
تخال اذا هى اعتدلت قواما ... زجاجات ملئن الخمر صرفا
يزيد بهنّ روض الحزن حسنا ... اذا ما زهرهنّ بهنّ حفّا
وقال أيضا من أبيات:
وكأنّ محمرّ الشّقيق ... اذا تصوّب أو تصعّد
أعلام ياقوت نشرن ... على رماح من زبرجد
[وقال آخر] :
شقيقة شقّ على الورد ما ... قد لبست من كثرة الصّبغ
كأنّها فى حسنها وجنة ... يلوح فيها طرف «1» الصّدغ
وقال الأخيطل الأهوازىّ:
هذى الشقائق قد أبصرت حمرتها ... فوق «2» السواد «3» على أعناقها الذّلل
كأنّه دمعة قد غسّلت «4» كحلا ... جالت «5» بها وقفة فى وجنتى خجل «6»
وقال كشاجم من أبيات:
فانظر بعينك أغصان الشقائق فى ... فروعها زهر فى الحسن أمثال(11/284)
من كلّ مشرفة الأوراق ناضرة ... لها على الغصن إيقاد وإشعال
حمراء من صبغة البارى بقدرته ... مصقولة لم ينلها قطّ صقّال
كأنّما وجنات أربع جمعت ... فكلّ واحدة فى صحنها خال
وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ:
وترى شقائقه خلال رياضها ... أوفت مطاردها على أزهارها
فكأنّها والريح تصقل خدّها ... والسّحب تملؤها بصوب قطارها
أقداح ياقوت لطاف أترعت ... راحا فبات المسك سؤر قرارها
وكأنها وجنات غيد أحدقت ... بخدودها حمرا خطوط عذارها
وأمّا ما وصف به البهار «1»
- فمن ذلك قول الصّنوبرىّ:
وروضة لا يزال يبتسم النّوار ... فيها ابتسام مسرور
كأنّما أوجه البهار بها ... وقد بدت أوجه الدنانير
وقال أحمد بن برد الأندلسىّ:
تأمّل فقد شقّ البهار مقلّصا «2» ... كمائمه عن نوره الخضل النّدى
مداهن تبر فى أنامل فضّة ... على أذرع مخروطة من زبرجد(11/285)
وقال ابن درّاج «1» القسطلّىّ «2» من أبيات:
بهار يروق بمسك ذكى ... وصبغ بديع وخلق عجب
غصون الزبرجد قد أورقت ... لنا فضّة موّهت بالذهب
[وقال آخر] :
بهر البهار عيوننا فقلوبنا ... مسحورة بجماله السّحّار
كسواعد من سندس وأكفّها ... من فضّة حملت كئوس نضار
وأمّا الأقحوان «3» وما قيل فيه
- فقال أبو الخير العشّاب: الأقحوان هو البابونج؛ وهو نوعان: نوع ينبت فى الجبال الباردة جدّا، ونوع يزرع فى البساتين؛ فما كان جبليا فهو البابونج، وما كان مزروعا فهو أقحوان؛ ومنه ما زهره أصفر كلّه؛ ومنه ما زهره أبيض، وفى وسطه لمعة صفراء؛ ومنه الحوذان «4» ، وورقه يشبه ورق الخيرىّ «5» الأصفر؛ وهو مشرّف تشريف المنشار، ويعرف برأس الذّهب؛ ويسمّى بمصر: الكركاش؛ وأهل مصر يعتنون بأمره فى وقت نزول الشمس برج الحمل، ويحتفلون به، فيخرج كثير من عوامّهم وبعض الجند وغيرهم الى البرّ(11/286)
ويقطعونه فى الساعة التى تحلّ الشمس فيها الحمل «1» بمناخل من الذهب يصوغونها برسمه، أو بدنانير؛ ومنهم من يتكلّم بكلام شبه الرّقية، لا ينطق بغيره ما دام يحصده، ويجمعون ما يقطعونه من ذلك بالذهب، ويدّخرونه فى صناديقهم، ويزعمون أنّ من قطعه على وضعه «2» ملك فى تلك السنة بعدد ما يقطعه منه دنانير إن قطعه بالذهب، ودراهم إن قطعه بالفضّة.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: طبع الأقحوان حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية. قال: وهو مسخّن منضج، مفتّح للسّدد، وفى الأحمر منه قبض ومنع لأنواع السّيلان، مع ما فيه من التحليل؛ وهو يدرّ العرق، وكذلك دهنه مسوحا؛ ويفتّح أفواه العروق، محلّل، ملطّف للأورام والبثور، محلّل للورم الحارّ فى المعدة والدم الجامد فيها؛ وينفع جميع الأورام الباردة؛ وينفع من النّواصير؛ ويقشّر الخشكريشات «3» والقروح النّضيجة «4» ؛ وينفع من جراحات العصب، ومن التواء العصب اذا بلّت صوفة بطبيخه ووضعت عليه؛ وهو مسبت؛ واذا شمّ رطبه نوّم؛ ودهنه نافع من أوجاع الأذن؛ وهو ينفع من الرّبو اذا شرب يابسه «5» كما يشرب الإفتيمون «6» .(11/287)
قال: وهو ردىء لفم المعدة، إلا أنّه يحلّل يابسا «1» ، ويجفّف ما يتحلّب «2» اليها؛ ويحلّل الدم الجامد فيها.
قال: وهو يدرّ بقوّة، ويحلّل الدم الجامد فى المثانة بماء العسل، ويفتّت الحصاة، واذا شرب مع زهره وفقّاحه فى الشّراب أدرّ الطّمث، وكذلك احتمال دهنه فانّه يدرّ بقوّة، واحتمال دهنه يحلّل صلابة الرّحم، ويفتّح الرّحم؛ ويشرب يابسا بالسّكنجبين كما يشرب الإفتيمون فيسهل سوداء وبلغما؛ وينفع من أورام(11/288)
المقعدة الحارّة؛ ويفتّح البواسير هو ودهنه؛ وينفع من ادرة «1» الماء بعد أن تشقّ؛ وينفع من القولنج «2» ووجع المثانة، وصلابة الطّحال، هذه منافعه الطّبيّة.
وأمّا ما وصفه «3» به الشعراء
- فقد أكثر الشعراء من تشبيهه بالثغور وتشبيه الثغور به، وتشبيه الثغور به أكثر فى أشعارهم من تشبيهه بالثغور؛ وقد أجاد ظافر الحدّاد الإسكندرىّ فى وصفه حيث قال:
والأقحوانة تحكى ثغر غانية ... تبسّمت عنه من عجب ومن عجب
فى القدّ والبرد والرّيق الشهىّ وطيب ... الرّيح واللّون والتفليج والشّنب
كشمسة «4» من لجين فى زبرجدة ... قد شرّفت حول مسمار من الذهب
[وقال آخر] :
والأقحوانة تجلى «5» وهى ضاحكة ... عن واضح غير ذى ظلم ولا شنب
كأنّها شمسة من فضّة حرست ... خوف الوقوع بمسمار من الذهب
وهذا والذى قبله من بديع التشبيه؛ وهو أجود من تشبيهها بالثغور وأصنع فإنّها لا تشبّه بالثغر حقيقة إلّا من وجه واحد، وهذا قد شبّهها ووصفها بجميع صفاتها وهيئتها.(11/289)
وقال ابن عبّاد:
ومن لؤلؤ فى الأقحوان منظّم ... على ذكت مصفرّة كالفرائد
يذكّرنا ريّا الأحبّة كلّما ... تنفّس فى جنح من الليل بارد
وقال آخر:
كلّ يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء
وسطها جمّة من الشّذر حفّت ... بثغور من فضّة بيضاء
وقال جمال الدين علىّ بن أبى منصور «1» المصرىّ:
انظر فقد أبدى الأقاح «2» مباسما ... ضحكت بدرّ فى قدود زبرجد
كفصوص درّ لطّفت أجرامها ... قد نظّمت من حول «3» شمسة عسجد
[وقال آخر] :
ظفرت يدى للأقحوان بزهرة ... باهت بها فى الرّوضة الأزهار
أبدت ذراع زبرجد وأناملا ... من فضّة فى كفّها دينار
[وقال آخر] :
كأنّ نور الأقاحى ... إذ لاح غبّ القطر
أنامل من لجين ... أكفّها من تبر(11/290)
[وقال آخر] :
لدى أقحوانات يطفن بناضر ... من الورد محمّر الثياب نضيد
اذا الريح هزّتها توهّمت أنها ... ثغور هوت قصدا لعضّ خدود
الباب الثالث من القسم الرابع من الفنّ الرابع «1» فى الصّموغ
ويشتمل هذا الباب من الصّموغ على ثمانية وعشرين صنفا. وهى الكافور والكهربا، وعلك الأنباط، وعلك الرّوم- وهو المصطكا- وعلك البطم وصمغ الينبوت «2» ، وصمغ قوفىّ «3» ، والكثيراء، والكندر، والفربيون، والصّبر، والمرّ والكمكام «4» ، والضّجاج، والأشّق، وتراب القىء، والقنّة، والحلتيت، والأنزروت والسّكبينج، والسادوران «5» ، ودم الأخوين، والميعة، وصمغ قبعرين «6» ، والمقل الأزرق والصّمغ العربىّ، والقطران، والزّفت.(11/291)
فأما الكافور «1» وما قيل فيه
- فهو أشرف الصّموغ قدرا، وأحقّها بالتقديم وأحرى؛ لفضله فى التركيب، ودخوله فى أصناف الأدوية والطّيب؛ ويقال فيه: (القافور) بالقاف بدل الكاف؛ ويقال: إنّه صمغ شجرة سفحيّة بحريّة «2» عظيمة تظلّ مائة رجل، تكون بأطراف الهند. وتزعم التّجار أنّه يوجد فى الشجرة الواحدة أصناف من الكافور، فيميّزون كلّ صنف على حدته؛ وله مظانّ: منها (فنصور) «3» وهى جزيرة محيطها سبعمائة فرسخ، وتعرف أرضها بأرض الذهب؛ والكافور المنسوب اليها أفضل ممّا عداه، ومن مظانّه موضع يعرف بأربشير «4» ، ومنها الزّابج «5» ؛ والمنسوب اليها أدنى أصنافه. قالوا: وكيفيّة جمعه أن تقصد شجرته فى وقت معلوم من السنة فتحفر حولها حفرة، ويجعل فى الحفرة إناء كبير، ثم يقبل الرّجل وبيده فأس عظيمة، وهو ملثّم، مسدود الأنف، ويمكّن الإناء من أصل الشجرة، ثمّ يضربها(11/292)
بالفأس ضربة، ويطرح الفأس من يده، ويهرب خشية أن يفور فى وجهه ما يخرج من الشجرة من الكافور، فانّه متى أصاب وجهه قتله، ويجمع ما يخرج من الشجرة عقيب تلك الضربة فى ذلك الإناء الموضوع فى أصلها، فاذا برد فى الإناء جعلوه فى أوعية وقطعوا تلك الشجرة، وتركوها حتى تجفّ، ثم تقطع أجزاء صغارا أو كبارا. وذهب آخرون الى أنّه بين اللّحاء والعود مثل الصّمغ قطعا صغارا وكبارا.
وقال آخرون: بل يشقّون الخشب فيجدون الكافور فى قلب العود منظّما مثل الملح، فيقلعونه منه، وهذا هو الأصحّ عندهم. وقد زعم آخرون أنّ الكافور يلتقط من شجر فى غياض ملتفّة فى سفوح جبال، وبين تلك الغياض والبحر مسيرة أيّام وأنّ الببور «1» تألف تلك الغياض، ولا يصل أحد إلى التقاطه خوفا منها إلّا فى وقت معلوم من السنة، وهو زمن هياج هذا الحيوان، لأنّه اذا هاج مرض، فتخرج إناثه وذكوره الى البحر فتستشفى بمائه نحوا من شهر، فيلتقط فى ذلك الوقت.
قالوا: ولولا ذلك لكان الكافور كثيرا جدا.
والكافور أصناف:
أفضلها الرّباحىّ «2» ، وأجود الرّباحىّ الفنصورىّ «3» . قالوا:(11/293)
ولا يوجد هذا الصّنف إلّا فى رءوس الشجر وفروعها، ولونه أحمر ملمّع، ثم يصعّد هناك فيكون منه الكافور الأبيض، وإنّما سمّى الكافور رباحيّا، لأن أوّل من وقع عليه ملك يقال له: (رباح) ، فنسب اليه؛ ومن الرّباحىّ صنف يسمّى المهنشان «1» وهو حبّ أبيض برّاق، ناعم الفرك، ذكىّ الرائحة؛ ومنه صنف يعرف بالبرتك «2» ناعم الفرك، ذكىّ الرائحة، وليس له صفاء المهنشان، وبعده صنف يعرف بالسّرحان «3» وهو أكبر حبّا من المهنشان، إلّا أنّه كثير الخشب، ولونه يضرب الى السواد ناعم الفرك، ومنه صنف يسمّى موطيان «4» ، ناعم الفرك، يضرب الى الحمرة، ومنه صنف يسمّى المهاى لبصيصه، وهو حبّ أحمر الظاهر أبيض فى الفرك، جافّ الجوهر، ومنه صنف يعرف بالرقرق «5» ، وصنف يعرف بالإسفرك «6» ، وهو غثاء الكافور، وبعده صنف يسمّى الكندج «7» ، يشبه لونه نشارة الساج «8» ، إلّا أن فيه لينا(11/294)
ودهانة، وفى حبّه كبر، اذا كسر وجد داخله أسود، فاذا فرك وجد أبيض، وكلّ هذه الأصناف لا تدخل إلّا فى الأدوية، إلّا الرّباحىّ المجلوب من أرض (فنصور) فانّه لا ينبغى أن يستعمل إلّا فى الطّيب لجودته وحسنه، وقد ذكر محمد بن أحمد ابن سعيد التّميمىّ المقدسىّ فى كتابه المترجم (بجيب العروس) من الكافور أصنافا كثيرة، منها الذى أوردناه.
وقال أبو علىّ بن سينا: طبع الكافور بارد يابس فى الثالثة، واستعماله يسرع الشّيب، ويمنع الأورام الحارّة، واذا خلط بالخلّ أو مع عصير البسر أو مع ماء الآس «1» أو ماء الباذروج «2» منع الرّعاف؛ و [نفع] الصّداع [الحارّ «3» ] ؛ وهو يقوّى حواسّ المحرور؛ وهو يقطع الباه، ويولّد حصى الكلية والمثانة.
وأمّا الكهربا وما قيل فيه
- فالكهربا يسمّى مصباح الرّوم. وقال عبد الله بن البيطار فى مفرداته: من زعم أنّ الكهربا صمغ الحور الرّومىّ فليس قوله بصحيح. والكهربا صنفان: منها ما يجلب من بلاد الرّوم والمشرق؛ ومنها ما يوجد بالأندلس فى غربيّها عند سواحل البحر تحت الأرض، ويوجد فى واحات مصر. ويقال: إنّه رطوبة تقطر من الدّوم من ورقه، شبيهة بالعسل، يكون(11/295)
منها الكهربا، وقد يوجد فى داخلها الذّباب والتّين والحجارة. وأمّا من زعم أنّه صمغ الحور «1» الرّومىّ المعروف بالتّوز «2» ، فيقول: إنّ صمغته ذهبية، تسيل فى النّهر الّذى يسمّى أمريدانوس «3» ، فتجمد فيه، فيكون منه الكهربا؛ ولهذا الشجر ثمرة تسمّى السّدد «4» والكهربا يجذب التّبن الى نفسه، ولذلك يسمّى كاه «5» ربا، أى سالب التّبن؛ وأجوده الشّمعىّ اللّون.
وقال ابن سينا: طبع الكهربا حارّ قليلا، يابس فى الثالثة «6» ؛ وهو قابض وخصوصا للدّم من أىّ موضع كان. قال، وقال بعضهم: إنّه يعلّق على الأورام(11/296)
الحارّة فينفع منها؛ وهو يحبس الرّعاف؛ واذا شرب منه نصف مثقال بماء بارد نفع من الخفقان؛ ويمنع من نفث الدّم [جدّا «1» ؛ وهو يحبس القىء؛ ويمنع الموادّ الرديئة عن المعدة؛ ومع المصطكا يقوّى المعدة] وهو يحبس نزف الرّحم والمقعدة، وينفع من الزّحير.
وأمّا علك الأنباط
- فهو صمغ شجرة الفستق، يستخرج منها كسائر الصّموغ، وذلك أنّهم يعقرون الشجرة فى مواضع كثيرة، فيسيل من تلك العقور فيجمع ويجفّف فى الشمس، ولونه أبيض كمد، وفى طعمه شىء من مرارة.
وأمّا علك الرّوم
- فهو المصطكا- ويسمّى مصطيجا «2» - وأجوده ما كان له بريق، وكان أحمر مشربا، وأبيض، والأصفر دونهما.
وقال أبو علىّ بن سينا فيه: الطبع حارّ يابس فى الثالثة «3» ؛ وهو قابض محلّل؛ ودهن شجرته ينفع من الجرب، حتّى جرب المواشى والكلاب؛ ويصبّ طبيخ ورقه وعصارته على القروح فتنبت اللّحم، وكذلك على العظام المكسورة فتجبر؛ ومضغه يحلب البلغم من الرأس وينقّيه، وكذلك المضمضة به تشدّ اللّثة؛ وهو يقوّى المعدة والكبد، ويفتق الشهوة، ويطّيب المعدة، ويحرّك الجشاء، ويذيب البلغم؛ وينفع والكبد، ويفتق الشهوة، ويطيّب المعدة، ويحرّك الجشاء، ويذيب البلغم؛ وينفع من أورام المعدة والكبد فى الوقت؛ ويقوّى الكبد والأمعاء وينفع من أورامهما؛(11/297)
وطبيخ أصله وقشره ينفع من دوسنطاريا «1» والسّحج «2» ، وكذلك نفس ورقه؛ وينفع من نزف الدّم من الرّحم وجميع أوجاع الأرحام وسيلان رطوباتها الرّديئة، ومن نتوء الرّحم والمقعدة، وكذلك دهن شجرته. قال: ويدرّ «3» .
وأمّا علك البطم
- فهو صمغ شجرة الحبّة الخضراء «4» . ويؤتى به من بلاد المغرب وبلاد فلسطين وسورية وما جاورها. وقال ابن البيطار «5» : العلك أنواع:(11/298)
أفضلها علك الرّوم، وبعده علك البطم، وبعده صمغ الينبوت «1» ، وهو صمغ شجر قضم قريش، وهو الصّنوبر الصّغير، وبعده صمغ القوفىّ، وهو الأرز. وقالوا: الينبوت هو الخرنوب النّبطىّ.
وأمّا الكثيراء
- فقال أبو حنيفة الدّينورىّ: الكثيراء ممدود؛ هكذا نطقت به العرب، وهو صمغ القتاد. وهى شجرة «2» شوكة تكون بأرض خراسان؛ وهى أيضا توجد فى الجبال المطلّة على طرابلس الشأم، ورأيتها أنا تنبت بجبل «3» الثّلج، وهى جمم، لا ترتفع عن الأرض أكثر من نصف ذراع، يكون فيها الكثيراء.
وقال ابن سينا: طبع الكثيراء بارد الى يبس؛ وفيه تجفيف.
وأمّا الكندر
- فهو اللّبان «4» . والكندر كلمة فارسيّة. وهو لا يكون إلّا بالشّحر «5» من اليمن؛ وشجرته لا ترتفع أكثر من ذراعين، ومنابتها الجبال، وورقها مثل(11/299)
ورق الآس، وثمرتها مثل ثمرته، لها مرارة فى الفم؛ وعلكها يظهر فى أماكن تقصّ «1» بالفئوس.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: أجود الكندر الأبيض «2» المدحرج؛ الدّبقىّ»
الباطن، الذهبىّ المكسر؛ وطبعه حارّ فى الثانية، مجفّف فى الأولى؛ وقشره مجفّف فى حدود الثالثة. قال: وهو حابس للدّم؛ والاستكثار منه يحرق الدّم؛ ودخانه أشدّ تجفيفا وقبضا؛ وإذا خلط الكندر فى العسل ووضع على الدّاحس «4» أذهبه، وقشوره جيّدة لآثار القروح؛ وينفع بالخلّ والزّيت لطوخا من الوجع المسمّى مرميقيا «5» ، وهو وجع يعرض منه «6» فى البدن كالثّآليل «7» ، مع شىء كدبيب النمل؛ واذا خلط بالخلّ والزّفت ولطخ به فى ابتداء حدوث الثّآليل الّتى تسمّى النملة «8» ازالها، ويدخل فى الضّمادات المحلّلة لأورام الأحشاء؛ وهو مدمل «9» جدّا، وخصوصا للجراحات الطريّة، ويمنع الخبيثة «10»(11/300)
من الانتشار، ويصلح للقروح الكائنة من الحرق، ويقطع نزف الدم الرّعافىّ اذا خلط بزفت أو زيت أو بلبن، ويدمل قروح العين، وينضج الورم المزمن فيها؛ ودخانه ينفع من الورم الحارّ؛ ويقطع سيلان رطوبات العين؛ ويدمل القروح الرديئة؛ وينفع من السّرطان فى العين؛ وإذا خلط بقيموليا «1» ودهن الورد نفع الأورام الحارّة الّتى تعرض فى ثدى النّفساء «2» ؛ ويدخل فى أدوية قصبة الرّئة؛ وهو يحبس القىء، وينفع الهضم، ويحبس نزف الدّم من الرّحم والمقعدة؛ وينفع من دوسنطاريا «3» ؛ ويمنع من انتشار القروح الخبيثة «4» اذا اتّخذت منه فتيلة؛ وينفع من الحميّات البلغميّة.
وأمّا الفربيون «5»
- ويسمّى اللّبانة المغربيّة- فشجرته تشبه شجرة القنا «6»(11/301)
فى شكلها؛ وصمغها مفرط فى الحدّة، يحذره من يستخرجه لإفراط حدّته، فيعمدون إلى كروش «1» الغنم فيغسلونها ويشدّونها على ساق الشجرة، ثم يطعنونها بعد ذلك بمزاريق، فينصبّ منها فى الكرش صمغ كثير، كأنّه ينصبّ من إناء؛ ويخرج من شجره صنفان: منه ما هو صاف يشبه الأنزروت «2» ؛ ومنه ما يشبه السكّر؛ وأكثر ما يوجد شجره ببلاد البربر، خصوصا بجبل درن «3» ، وهو عساليج عريضة كالألواح، مثل عساليج الخسّ، بيض، لها شعب، وهى مملوءة لبنا، ولا ينبت حول شجره نبات آخر. ومنه صنف آخر ينبت ببلاد السّودان، وشجرته شوكة كثيرة الأغصان، تنبسط على الأرض. ويقال إن ببلاد إفريقية شجرة صمغها الفربيون، وإن الصّمغ يسيل منها فيجمد؛ وبعض أهل البلد يشرط الشجرة، ويعلّق على موضع الشّرط ما تسيل(11/302)
فيه تلك الرطوبة، ولا يمسّون الشجرة بأيديهم، ولا تلك الرطوبة، لأنها سم قاتل مشيط، يحرق كلّ ما لامسه أو باشره من أبدان الناس.
وقال الشيخ الرئيس: إنّ قوّة الفربيون تتغيّر بعد ثلاث أو أربع سنين؛ والعتيق منه يضرب الى الشّقرة والصّفرة؛ ولا يداف فى الزّيت إلّا بصعوبة؛ والحديث خلاف ذلك. قال بعضهم: إنه اذا جعل فى إناء مع الباقلّى المقشّر انحفظت قوّته. قال: وجيّده الحديث الصافى الأصفر الى الشّقرة، الحادّ الرائحة، الشديد الحرافة؛ وغير هذا فهو مغشوش بالعنزروت «1» والصّمغ «2» ؛ وهو جال، وله قوّة لطيفة محرقة جلّاءة؛ والحديث منه أشدّ إسخانا من الحلتيت «3» ، على أنه لا صمغ كالحلتيت فى إسخانه؛ ويخلط ببعض الأشربة المعمولة بالأفاويه فينفع من عرق النّسا؛ ويمرخ به الفالج والخدر فينفع جدّا؛ واذا اكتحل به كان جاليا، ولكن يدوم لذعه النّهار كلّه، فلذلك يخلط بالعسل. قال: وينفع من برد الكلى؛ وينفع أصحاب القولنج؛ والشّربة منه مع بعض البزور وماء العسل ثلاثة أو بولوسات «4» . وقال بعضهم: إنّه يضمّ فم الرّحم ضمّا شديدا حتّى يمنع الأدوية المسقطة أن تسقط الجنين؛ ويسهل البلغم اللّزج الناشب فى الوركين والظهر والامعاء فيما قالوا. قال، وقال بعضهم: إنّ من نهشه شىء من الهوامّ فشقّ جلد رأسه وما يليه حتّى يظهر القحف، ويجعل فيه من هذا(11/303)
الصّمغ مسحوقا، ثمّ يخيطه، لم يصبه مكروه. قال: وثلاثة دراهم منه تقتل فى ثلاثة أيّام تقريحا للمعدة والمعى.
وأمّا الصّبر
- فهو من الصّموغ؛ وصفة شجرته فيما قيل: أن ورقها يشبه ورق الإسقيل «1» ، عليه رطوبة تلصق باليد، وفى حرفى كلّ ورقة شبه الشّكوك، قصير متفرّق، وعرقها واحد؛ وهذه الشجرة تنبت ببلاد الهند كثيرا، وفى بلاد المغرب «2» .
ويقال: إنّها ثلاثة أصناف: الأسقطرىّ، والعربىّ، والسّمنجانىّ «3» ؛ ويقال أيضا:
إن نباته كنبات الراسن «4» الأخضر، غير أنّ ورق الصّبر أطول وأعرض وأغلظ، وهو(11/304)
كثير الماء جدّا؛ ويلقى فى المعاصر، ثم يدقّ بالخشب، ويداس بالأقدام حتّى يسيل عصيره، ويترك حتّى يثخن، ثم يجعل فى الجرب «1» ، ويشمّس حتّى يجفّ؛ وأجوده الأسقطرىّ، وأسقطرى جزيرة قريبة من ساحل اليمن. وقال إسحاق ابن عمران: الصّبر ثلاثة أصناف، فمنه الأحمر الأسقطرىّ، ومنه الأسود الفارسىّ ومنه الأحمر الملمّع بصفرة، ويؤتى به من اليمن.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: أجود الصّبر الأسقطرىّ؛ وماؤه كماء الزّعفران، ورائحته كالمرّ، بصّاص «2» ، منفرك؛ نقىّ من الحصى؛ والعربىّ دونه فى الصّفرة والرزانة والبصيص؛ والسّمنجانىّ ردىء، منتن الرائحة، قليل الصّفرة، لا بصيص له؛ واذا عتق الصّبر اسودّ. قال: وطبعه حارّ فى «3» الثانية يابس فيها، وقيل: حارّ يابس فى الثالثة، وليس كذلك. وقوّته قابضة مجفّفة منوّمة؛ والهندىّ كثير المنافع؛ مجفّف بلا لذع؛ وفيه قبض يسير؛ وهو بالعسل يدمل الدّاحس «4» المتقرّح؛ وبالشراب إذا جعل على الشّعر المتساقط منع تساقطه؛ وهو ينفع أورام الدّبر والمذاكير، وخاصّة أورام العضل الّتى على جانبى اللّسان اذا كان بالشّراب أو العسل؛ وهو صالح للقروح العسرة الاندمال، وخصوصا فى الدّبر والمذاكير والأنف والفم؛ وينفع من أوجاع المفاصل، وينقّى الفضول الصّفراويّة الّتى فى الرأس؛ واذا طلى به على الجبهة والأصداغ «5»(11/305)
نفع من الصّداع، وهو من الأدوية النافعة من مرض «1» الأذن. قال: وفى الطّبّ القديم أنّ الصّبر يسهل السوداء، وينفع من الماليخوليا «2» ؛ والصّبر الفارسىّ يذكىّ العقل، ويحدّ الفؤاد. قال: والصّبر ينفع من قروح العين وجربها وأوجاعها ومن حكّة المآقى، ويجفّف رطوبتها؛ وينقّى الفضول الصّفراويّة والبلغميّة التى فى المعدة اذا شرب منه ملعقتان بماء بارد أو فاتر؛ ويصلح الحرقة والالتهاب الكائنين فى اللهاة، وربّما نفع أوجاع المعدة فى يوم واحد؛ ويفتّح سدد الكبد؛ لكنّه يضرّ بالكبد، وهو يزيل اليرقان بإسهاله. قال: ودرخمى ونصف منه بماء حارّ يسهل، وثلاث درخميات «3» تنقّى تنقية كاملة؛ والمعتدل درخميان بماء العسل يسهل بلغما وصفراء؛ وهو أصلح مسهل للمعدة؛ والمعسول «4» أضعف إسهالا لكنّه أنفع للمعدة؛ وخلطه بالعسل ينقص قوّته حتّى يكاد لا يسهل. قال: وإذا شرب العربىّ منه كرب وأمغص وأسهل، ونقبت «5» قوّته إلى صفاقات المعدة إلى يوم(11/306)
أو يومين، وسقى الصّبر أيّام البرد خطر؛ وربّما أسهل دما؛ وقد يجعل بالشراب الحلو على البواسير النابتة وشقاق المقعدة، ويقطع الدم السائل منها. قال: وبدله مثلاه حضض «1» .
وأمّا المرّ
- فهو صمغ شجرة تكون ببلاد المغرب شبيهة بالشجرة الّتى تسمّى باليونانية: الشوكة المصريّة، تشرط فتخرج منها هذه الصّمغة، فتسيل على حصر وبوارىّ قد أعدّت لذلك؛ ومنه ما يوجد على ساق الشّجرة.
وقال أبو علىّ بن سينا: أجود المرّ ما هو الى البياض والحمرة، غير مختلط بخشب شجرته، طيّب الرائحة، وطبعه: حارّ يابس فى الثانية؛ وهو مفتّح محلّل للرّياح؛ وفيه قبض وإلزاق وتليين؛ ودخانه يصلح لما يصلح هو «2» ، ولكنّه أشدّ تجفيفا؛ وهو يمنع التعفّن، حتى إنّه يمسك الميت ويحفظه من التغيّر والنّتن، ويجفّف الفضول؛ واذا خلط بدهن الآس واللّاذن أعان على تقوية الشّعر وتكثيفه، ويجلو آثار القروح ويطيّب نكهة الفم اذا أمسك فيه؛ ويزيل البخر، ويلطخ بالشراب والشّبّ على الآباط فيزيل صنانها، ويلطخ بالعسل والسّليخة «3» على الثّآليل، وهو نافع من الأورام(11/307)
البلغميّة، ويدمل الجروح والقروح، ويكسو العظام العارية، ويستعمل بالخلّ على القوابى «1» ، ويبرئ الجراحات المتعفّنة؛ ورائحته مصدّعة للرأس «2» ؛ واذا تمضمض به بشراب وزيت شدّ الأسنان جدّا وقوّاها، ومنع من تأكّلها؛ ويشدّ اللّثة، ويذهب رطوبتها؛ ويجفّف قروح الرأس؛ ويلطخ به المنخران للنوازل المزمنة فيحبسها؛ وقد يسعط بوزن «3» دانق منه فينقّى الدّماغ؛ وهو يجلو آثار القروح فى العين، ويجلو البياض، وينفع من خشونة الأجفان، ويحلّل المدّة فى العين بغير لذع، وربّما حلّل الماء فى ابتداء نزوله إذا كان رقيقا؛ وهو جيّد للسّعال المزمن الرّطب، ومن الرّبو «4»(11/308)
وأوجاع الجنب، ويصفّى الصوت، ويجعل تحت اللّسان ويبلع ماؤه لخشونة الحلق؛ وينفع من استرخاء المعدة والنفخة فيها؛ ويدرّ الحيض، وخصوصا الاحتقان به بماء السّذاب أو ماء الأفسنتين «1» أو ماء التّرمس؛ ويخرج الأجنّة والدّيدان؛ ويليّن انضمام فم الرّحم؛ ويسقى بالشراب للسع العقرب.
وأمّا الكمكام
- فهو صمغ شجرة الضّرو؛ ويقال: إنّه ورقها؛ وقيل:
لحاؤها «2» ؛ وهو يسيل لزجا أسود مثل القار، وشجرته تشبه شجرة البطم «3» . وقيل:
إنها تشبه شجرة البلّوط العظيمة، إلّا أنّها ألين وأنعم، وتثمر عناقيد مثل عناقيد البطم إلّا أنّها أكبر.
وأمّا الضّجاج
- فقال أبو حنيفة الدّينورىّ: [الضّجاج «4» ] ، مثل شجر اللّبان «5» يكون فى جبل يقال له: (قهوان) من أرض عمان، وهو صمغ أبيض تغسل به الثياب فينقّيها مثل الصّابون؛ ولهذه الشجرة حبّ مثل الآس، أسود، يلذع اللّسان.(11/309)
وأمّا الأشّق «1»
- ويقال فيه وشّق وأشّج- ولصاق «2» الذهب، والكلخ، وهو صمغ «3» الطّرثوث، وهو نبات ينبت تحت أصول الحمّيض «4» ؛ وهو صنفان: حلو يؤكل ولونه أحمر؛ ومرّ، ولونه أبيض. وقال الخليل: هو نبات مستطيل دقيق يضرب إلى حمرة. وقيل: انّه صمغ نبات يشبه القنا «5» فى شوكه «6» ، ينبت فى بلاد نينوى «7» على ما زعم ديسقوريدوس. وقال أبو علىّ بن سينا: هو حارّ فى آخر الثانية، يابس فى الأولى، وتجفيفه وتحليله قوىّ «8» ؛ وفيه تليين وجذب للأورام «9» والفضول؛ واذا طلى به(11/310)
أو ضمد نفع من الخنازير «1» والصّلابات والسّلع؛ وهو نافع للجراحات الرديئة، يأكل اللحم الخبيث، وينبت الجيّد؛ واذا سقى بالعسل أو بماء الشعير نفع أوجاع المفاصل؛ واذا ضمد به بالعسل والزفت حلّل تحجّر المفاصل؛ وهو يليّن خشونة الأجفان والجرب، ويجلو البياض، وينفع رطوبات العين؛ وينفع من الرّبو وعسر النّفس اذا لعق بعسل أو بماء الشّعير؛ وينفع من الخوانق التى من البلغم والمرّة السّوداء؛ وإذا طلى به نفع من الاستسقاء؛ وهو يدرّ البول حتّى يبول الدم، ويقتل الدّود «2» ويخرج الجنين حيّا أو ميتا؛ وإذا لطخ به الأنثيان بخلّ «3» [ليّن] صلابتهما.
وأمّا تراب القىء
- ويسمّى الكنكرزد «4» - فهو صمغ الحرشف «5» والحرشف يسمّى خسّ الكلب؛ وهو ينبت على شطوط الأنهار وسواقى المياه وعليه شوك متفشّج «6» .(11/311)
وأمّا القنّة
- فهو بالفارسيّة البارزد «1» ، وشجره صنفان: صنف زبدىّ ضعيف الورق «2» أبيض؛ والآخر كثيف ثقيل؛ وهو ثلاثة أنواع برّىّ وعربىّ، وجبلىّ وأجوده العسلىّ الصافى اللون. وقال ديسقور يدوس هو صمغ نبات يشبه القنا فى شكله ينبت فى بلاد سورية؛ وأجوده ما كان شبيها بالكندر، وكان متقطّعا، نقيّا يدبق باليد؛ وهو يغشّ بالأشّق «3» ودقيق الباقلاء. وقال أبو علىّ بن سينا: طبعه حارّ فى الثانية، مجفّف فى الثالثة؛ وقوّته مليّنة محلّلة؛ وهو مما يفسد اللحم، وفيه تسخين وإلهاب وجذب؛ وهو يقلع العدسيّات، وينفع من الخنازير «4» ويطلى به على القروح اللّبنيّة «5» بالخلّ، وينفع من تشنّج العضل، ومن الصّداع؛ واذا شمّه المصروع انتعش؛ وينفع من وجع الضّرس والسّنّ المتأكّلة فى الحال؛ وينفع من الأوجاع الباردة فى الأذن، ويحلّل أورامها وأوجاعها بغير أذى اذا حلّ فى دهن السّوسن وفتّر وقطر؛ وينفع من الرّبو والسّعال المزمن؛ ويدرّ الطّمث بقوّة؛ ويسقط الأجنّة، وينفع من اختناق الرّحم سقيا بالشراب؛ ويزيل عسر البول؛ وهو ترياق للسّمّ الّذى تسقاه السّهام اذا سقى بشراب، ولسموم الحيّات والعقارب؛ ودخانه يطرد الهوامّ؛ وبدله السّكبينج «6» .(11/312)
وأمّا الحلتيت
- فهو صمغ شجرة الأنجذان «1» ، وهو نوعان: أحدهما أبيض وهو المأكول؛ والآخر أسود، منتن الرائحة. وقال أبو حنيفة الدّينورىّ: نباته الرّمل الذى بين بست «2» وبلاد القيقان «3» ، والحلتيت صمغ يخرج من أصل ورقه بان يشرط أصله وساقه. وقال أبو على بن سينا: طبعه حارّ فى أوّل الرابعة، يابس فى الثانية؛ وهو يكثر الرّياح ويطردها بتحليله، وهو مع ذلك نفّاخ مقطّع، ويحلّل الدم الجامد فى الجوف، وينفع من داء الثعلب «4» لطوخا بالخلّ والفلفل؛ واذا استعمل فى المأكولات حسّن اللّون، ويقلع الثّآليل «5» المسماريّة، واذا جعل على الأورام الخبيثة نفعها؛ واذا شرب بماء الرّمّان نفع من شدخ العضل؛ وينفع من أوجاع(11/313)
العصب مثل التمدّد والفالج بأن يؤخذ منه، [أوبولوس «1» ] ويخلط بالشّمع، ويبلع أو يشرب بالشراب مع فلفل وسذاب؛ واذا تغرغر به قلع العلق من الحلق وهو جيّد لابتداء الماء فى العين كحلا بعسل؛ واذا أديف «2» فى الماء وتجرّع صفّى الصوت، ونفع من خشونة الحلق المزمنة؛ وان تحسّى بالبيض نفع من السّعال المزمن والشّوصة «3» الباردة، وإن استعمل بالتّين اليابس نفع من اليرقان؛ وهو ممّا يضرّ بالمعدة والكبد؛ وينفع من البواسير؛ ويقوّى الباه، ويدرّ البول؛ وينفع من المغص، ومن قروح الأمعاء، ومن حمّى الرّبع «4» ، واذا جعل على عضّة الكلب الكلب والهوامّ خصوصا العقرب والرّتيلاء «5» فإنه ينفع من جميع ذلك شربا وطلاء بالزيت؛ ويدفع ضرر السّهام المسمومة:(11/314)
وأمّا الأنزروت
فهو صمغ شجرة شائكة، وفيه مرارة، ومنه أبيض وأحمر، ويكون بجبال فارس؛ وأجوده الشبيه باللّبان.
وقال ابن سينا: قال بعضهم: هو حارّ فى الثانية «1» ، يابس فى الأولى؛ وهو يسكّن الأورام كلّها ضمادا، ويأكل اللّحم المّيت؛ وينفع من الرّمد والرّمص؛ وهو يسهل البلغم الغليظ.
وأما السّكبينج «2»
- فقال ديسقور يدوس: هو صمغ نبات يشبه القنا فى شكله، ينبت فى البلاد التى يقال لها: (ماه «3» ) ويسمّيه اليونان: (سكافتيون «4» ) .
وقال ابن سينا: هو صمغ شجرة لا منفعة فيها، بل فى صمغها. قال: وأجود نوعيه الأكثف الأصفى، الّذى يضرب داخله الى الحمرة، وخارجه الى البياض، وينحلّ فى الماء سريعا؛ وخيره الأصفهانىّ. قال: وطبعه حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية؛(11/315)
وهو محلّل ملطّف، مفشّ «1» ، مسخّن، جال؛ وينفع من الفالج؛ ويسهل المادّة التى فى الوركين حقنة وشربا، وكذلك أوجاع المفاصل الباردة؛ ويحلّل الصّداع البارد والرّيحىّ «2» ؛ وينفع من الصّرع، ومن ظلمة العين كحلا، ومن غلظ الأجفان ومن الآثار فى العين، وهو أفضل الأدوية للماء النازل فيها، وإن سحق بالخلّ وجعل على الشّعيرة «3» أذهبها؛ وهو نافع من وجع الصدر والجنب، ومن السّعال المزمن، يسقى بماء السّذاب المعصور ثلاثة أرباع درهم لسوء النّفس؛ وهو ينقّى الصدر، ويخرج الأخلاط النّيئة؛ وهو نافع من الاستسقاء؛ ويخرج الماء الأصفر؛ وينفع من القولنج «4» حقنة وشربا ومن المغص؛ ويخرج الحصاة، ويزيد [فى] الباه، وينفع من أوجاع الأرحام؛ وإذا شرب أدرّ الطّمث، وقتل الجنين؛ ويخرج الخلط اللّزج والماء الأصفر؛ وهو ينفع من الحميّات الدائرة؛ وإذا سقى فى الشراب أفاد لسع الهوامّ، ومن جميع السّموم القاتلة.(11/316)
وأما السّادوران «1»
- فهو شىء أسود شبيه بالصّمغ مثل حصى السّبج «2» يتكوّن فى التجويفات الكائنة فى أصول أشجار الجوز «3» الكبار العتيقة اذا تجوّفت أصولها، فإذا قطعت الشجرة وجد فى وسطها، ولونه محلولا الى الصّفرة «4» ، وله بصيص اذا كسر.
وأما دم الأخوين «5»
- ويسمّى القاطر «6» - فقال أبو حنيفة الدّينورىّ:
هو صمغ أحمر يؤتى به من جزيرة سقطرى «7» ، ويسمّى الأيدع، ودم التّنّين، ودم الثعبان. ويقال: إنّه دموع شجرة كبيرة ببلاد الهند، معروفة هناك.(11/317)
وأمّا الميعة «1»
- فهى صنفان: سائلة، ويابسة، وكلاهما دسم «2» مرّ؛ ومنها صنف هو صمغ شجرة تشبه شجرة السّفرجل، أجوده «3» ما كان لونه أشقر دسما يميل الى البياض؛ ومن هذا الصّنف ما هو أسود هشّ كالنّخالة، وهو رومىّ.
وقال اسحاق بن عمران: شجرة الميعة شجرة جليلة كشجرة «4» التّفاح، ولها ثمرة بيضاء أكبر من الجوز تشبه عيون «5» البقر الأبيض، يؤكل الظاهر منها، وفيه مرارة وثمرته الّتى داخل النوى دسمة، يعتصر منها دهن هو «6» الميعة اليابسة، ومنه تستخرج الميعة السائلة.(11/318)
وقال ابن جريح: الميعة تسيل من شجرة تكون فى بلاد الرّوم تتحلّب منها، ثم تؤخذ فتطبخ، وتعتصر أيضا من لحاء تلك الشجرة، فما عصر فهو الميعة السائلة وما طبخ فهو الميعة اليابسة.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى الميعة- وسماها لبنى- قال:
ويقال للسائلة: عسل اللّبنى والأصطرك «1» ، وهو دمعة شجرة [كالسّفرجل «2» ] . قال:
وأجود أصناف الميعة السائل بنفسه، الشّهدىّ، الصّمغىّ، والطيّب الرائحة الضارب الى الصّفرة. قال: وطبع الميعة حارّ فى الأولى يابس فى الثانية، وله قوّة منضجة، مليّنة جدّا، مسخّنة محلّلة، ودخانه شبيه بدخان الكندر؛ وفيه تخدير بالطبع، ودهنه الذى يتّخذ بالشأم مليّن تليينا قويّا؛ وينفع الصّلابات فى اللّحم، ويطلى به على البثور الرّطبة واليابسة مع الأدهان؛ ويطلى به على الجرب الرّطب واليابس؛ وهو طلاء جيّد عليه؛ وهو يقوّى الأعضاء وينفع تشبّك المفاصل جدّا شربا وطلاء؛ ورطبه ويابسه يحبس «3» النّزلة تبخيرا؛ وهو غاية للزّكام؛ وفيه قوّة مسبتة «4» ، لا سيّما فى دهنه؛ وينفع من السّعال المزمن والبلغم ووجع الحلق ويصفّى صوت الأبحّ مع تليين شديد؛ وهو يهضم، ويليّن الطبيعة، ويدرّ البول والطّمث إدرارا صالحا شربا واحتمالا؛ ويليّن صلابة الرّحم؛ واليابسة تعقل البطن؛(11/319)
قال: واذا شرب من الميعة السائلة [مثقال «1» ] مع مثله «2» من صمغ اللّوز أسهل بلغما من غير أذى. وبدل الميعة جندبادستر «3» ، ومثلاه من دهن الياسمين.
وأمّا صمغ قبعرين «4»
-: فقال ديسقور يدوس: هو صمغ شجرة تكون ببلاد(11/320)
العرب «1» ، وفيه شبه يسير من المرّ «2» إلّا أنّه كريه المطعم زهم. وزعم قوم أنّه السّندروس «3» .
وقال آخرون: هو اللّك «4» . قال ابن البيطار: وليس «5» كما زعموا.
وأمّا المقل «6» الأزرق
- فيسمّى كورا «7» ، ويعرف بالمقل المكّىّ، وبمقل اليهود، والمقل الهندىّ، وإن كان لا يوجد إلّا بأرض العرب، ومنه صقلّىّ؛ ومنه عربىّ؛ وهو صمغ يشبه الكندر، طيّب الرائحة، وشجرته كشجرة اللّبان، وأكثر نباته بأرض اليمن فيما بين الشّحر وعمان بجبل هناك، ولشجره ثمر يسمّى ديميس «8»(11/321)
اذا كان رطبا، فاذا يبس فهو الوقل، والّذى يؤكل منه يسمّى الحتّىّ «1» . وقال أبو الخير العشّاب: المقل المكّىّ هو صمغ الدّوم، لأنّ الدّوم هناك يدرك ويصمغ، وليس فى سائر البلاد كذلك إلّا بمكّة لا غير.
وأما الصمغ العربىّ
- فهو صمغ القرظ، وهو الّذى يستعمل فى المركّب ولا يصلح بغيره، فإنّه ينحلّ فى الماء بسرعة من غير تعقيد، وما عداه من الصّموغ التى تجمع من أشجار الفواكه متى جعل فى المركّب أفسده. ولهم أيضا صمغ السّمّاق «2» وصمغ السّذاب «3» ، وصمغ الخطمىّ «4» ؛ ومن الصّموغ التى جرت عليها التسمية بالعربىّ صمغ الإجّاص، وصمغ الدّاميثا، وهو شجر ببلاد فارس؛ وصمغ اللّوز، وصمغ الزّيتون البرّىّ والبستانىّ، والبرىّ يشبه السّقمونيا «5» فى لونه، ومنه ما هو أحمر، وصمغ السّرو؛(11/322)
ومن الصّموغ الرّاتينج «1» وهو القلفونيا «2» ؛ ومنه ما هو أبيض، ومنه ما هو أسود وهو صمغ الصّنوبر الذّكر.
وأما القطران
- فهو معدود من الصّموغ، وشجرته تسمّى شربين، وهى شجرة عظيمة، لها ثمر يشبه ثمر السّرو، غير أنّه أصغر منه، والقطران دهن يخرج منه، فأجوده ما كان صافيا، كريه الرائحة: وقال الزمخشرىّ فى تفسير قوله تعالى:
(سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ)
، هو ما يحلب من شجر يسمّى الأبهل «3» فيطبخ، فتدهن به الإبل الجرب فيحلق الجرب لحدّته وحرّه، وهو أسود اللون، منتن الرائحة.(11/323)
وقال أبو علىّ بن سينا: القطران حارّ يابس فى الرابعة، وهو يقتل القمل والصّئبان؛ وهو يقوّى اللحم الرّخو، وخصوصا دهنه من الجرب، حتّى جرب الحيوان من ذوات الأربع، وينفع من شدخ العضل واجتماع الدّم والقيح فيها، وهو دواء لداء الفيل «1» لعوقا ولطوخا. قال: وهو أعظم شىء فى تسكين الصّداع البارد طلاء للرأس ويقطر فى الأذن فيقتل دودها، ويقطر فيها بماء الزّوفا «2» للطّنين والدّوىّ، وينفع الأسنان المتأكّلة، وهو يحدّ البصر، ويجلو آثار القروح فى العين، ولعق أوقيّة ونصف منه ينفع لقروح الرئة، وينفع من السّعال العتيق، ويقتل الدود فى الأمعاء وخصوصا الاحتقان به؛ ويدرّ الطّمث، ويقتل الجنين، ويفسد المنىّ، واذا لطخ به الذّكر قبل الجماع منع الحبل، وينفع من تقطير البول، ويضمد به على نهش الحيّة ذات القرن، واذا أذيب فى شحم الأيّل «3» ومسحت به الأعضاء لا تقربها الهوامّ.
وأمّا الزّفت
- فيكون من شجر التّنّوب «4» وغيره من ضروب الصّنوبر، وهو قريب من دهن القطران.(11/324)
الباب الرابع من القسم الرابع من الفنّ الرابع فى الأمنان
ويشتمل هذا الباب على العسل والشّمع واللّكّ والقرمز واللّاذن والأفتيمون والقنبيل والورس والتّرنجبين «1» والشّيرخشك «2» والمنّ والكشوث وسكّر العشر
فأما العسل والشّمع
- فقد قال التميمىّ فى المرشد: إنّ العسل منّ يسقط من الهواء بكلّ بلد وبكلّ إقليم من الأمصار المسكونة، وسقوطه على أنواع كثيرة من الأزهار والنّوّار والأوراق يلتقطه النّحل الّذى قد ألهمه الله جمعه وإلقاءه إيّاه فى كوائره التى هو ساكنها، وهى أقرصة «3» شهده، ويدّخره لقوته عند حلول الشتاء عليه وانقطاعه عن الطّيران وعند حصار الأمطار والثلوج له. وزعم كثير من الفلاسفة والأطبّاء أن الشّمع الّذى تتخذ منه النحل مساكنها، وتربّى فيه فراخها، وتوعى فيه أعسالها، نوع من المنّ الساقط من الهواء؛ والله تعالى أعلم.(11/325)
وأمّا اللّكّ
- فيقال إنّه يسقط على قضبان الكروم فى بلاد الهند فينعقد عليها. وزعم قوم أنّه صمغ يلقط من قضبان الكروم؛ والله أعلم.
وقال ابن سينا: إنّه ينفع من الخفقان، ويقوّى الكبد، وينفع من اليرقان والاستسقاء.
وأمّا القرمز
- فقد قال أبو الخير فى كتاب النبات: القرمز طلّ يقع فى العام الكثير الرّطوبات والأنداء على شجر البلّوط والتّنّوب فينعقد على خشبه حبّ أبيض اللّون مثل حبّ الكرسنّة «1» ، فاذا انتهى ونضج وكان فى قدر الحمّص صار لونه أحمر قانئا برّاقا، فيجمع فى شهر ابريل ومايه، فيجفّف ويخزن لتصبغ به الثياب؛ ومن خاصيّته أنّه لا يصبغ به إلّا ما كان من حيوان، كالحرير، والصوف، وان هو لم يجمع خرج منه دود صغار، ويصنع على نفسه نسجا مثل نسج العنكبوت، ويموت فيه.
وأما اللّاذن
- فهو منّ يسقط بجزيرة قبرس على شجر ترعاه الأغنام، فاذا باكرت الرّعى من تلك الأشجار علق اللّاذن بلحى التّيوس وخراطيمها وأظلافها، فيجمع منها بأمشاط معدّة له. وأمّا ما يجمع من الشجر فإنّه يكون فى خزائن الملوك لطيب رائحته.
وقال ابن سينا: أجوده الدّسم الرّزين القبرسىّ الطيّب الرائحة، الّذى هو الى الصّفرة ولا رمليّة فيه، وينحلّ كلّه فى الدّهن فلا يبقى منه ثفل؛ والاسود القارىّ غير جيّد؛ وطبعه حارّ فى آخر الأولى، يابس فى الثانية؛ والذى يكون فى البلاد الجنوبيّة أسخن. قال: وقال الخوزى: إنه بارد قابض؛ وليس كذلك. قال: وهو لطيف جدّا، فيه يسير قبض، منضج للرّطوبات الغليظة اللّزجة يحلّلها باعتدال فيه؛(11/326)
وفيه قوّة حادّة «1» مسخّنة مفتّحة لأفواه العروق؛ ويدخل فى تسكين الأوجاع؛ وهو ينبت الشّعر ويكثّفه ويكثّره ويحفظه، خصوصا مع دهن الآس ومع الشّراب؛ ويقطر منه مع دهن الورد فى الأذن الوجعة؛ ويدخل فى علاج الصّداع والضّربان وينفع من السّعال، ويحلّل أورام الرّحم محتملا «2» ؛ ويخرج الجنين الميّت والمشيمة تدخينا «3» به؛ وإذا شرب بشراب عتيق عقل البطن وأدرّ البول.
وأمّا الأفتيمون
- فهو منّ يسقط من الهواء على صنف من الصّعاتر «4» برياض «5» جزيرة اقريطش «6» وبرقة «7» وفى جبال بيت المقدس.
وأمّا القنبيل
- فهو شبيه بالورس، يسقط فى اليمن مثل الرمل الأحمر وتمازج حمرته صفرة ظاهرة فيه. ويقال: إنّه يوجد أيضا بخراسان على وجه الأرض غبّ المطر فيجمع.(11/327)
وأمّا الورس
- فهو منّ يسقط بأرض الصّين والهند والحبشة وأرض [اليمن «1» ] على ورق شجر يشاكل الباذروج «2» ، فتجمع الشجرة بما عليها منه، وتلقى فى الشمس حتى تنشف، ثم تنفض على أنطاع الأدم فيسقط ورقها وعليه الورس متعلّقا به، ولونه أحمر، فاذا طحن صار أصفر، وأجوده الهندىّ، ثم الحبشىّ، ثم اليمانىّ.
وأما التّرنجبين «3»
- فمعناه عسل النّدى، وهو يسقط ببلاد خراسان وما وراء النهر على العاقول، ويسمّى «4» الحاج «5» ؛ وقد يقع على سعف النخل ببلاد قسطيلية «6» ، وعلى ورق الأثل. وورق الطّرفاء.
وقال ابن سينا: أجوده الطرىّ الأبيض؛ وطبعه معتدل الى الحرارة؛ وهو مليّن، صالح الجلاء، وينفع من السّعال؛ ويليّن الصدر، ويسكّن العطش، ويسهل الصّفراء برفق، وإسهاله بخاصيّة فيه؛ والشّربة عشرة مثاقيل الى عشرين مثقالا.
وأما الشّير خشك
«7» - فقال ابن البيطار، قال «8» علماؤنا الشّير خشك طلّ يقع من السماء بهراة من بلاد خراسان على شجر الخلاف، حلو الى الاعتدال. وقال(11/328)
التّميمىّ: أمّا كيفيّته فإنّه حبّ أبيض مثل حبّ التّرنجبين، بل هو أكبر، وهو قريب من مزاج الكافور وطعمه ورائحته، واذا بقى فى اليد انحلّ ودبق باليد.
وأمّا المنّ
«1» - فهو يسقط على ورق البلّوط «2» والسّدر والخوخ والمشمش مثل العسل، فما تخلّص منه كان أبيض، وما لم يتخلّص وجمع بورقه كان أخضر وسقوطه يكون بجبال ربيعة ومضر وجبال الشأم الى نحو دمشق والساحل.
وأما الكشوث
«3» - فقال التّميمىّ: الكشوث يسقط بأرض العراق على شجر يشاكل الباذروج «4» ، وهو مركّب من قوى مختلفة من مرارة وعفوصة.
وقال ابن سينا: طبعه حارّ قليلا فى أوّل الأولى يابس فى آخر الثانية؛ وهو منقّ يخرج الفضول اللّطيفة من العروق وينقّيها؛ وهو يقوّى المعدة، وخصوصا المقلىّ منه؛ وإذا شرب بالخل سكّن الفؤاق؛ وهو يفتّح سدد الكبد والمعدة ويقوّيهما؛ وماؤه عجيب لليرقان؛ وهو ينقّى الأوساخ عن بطن الجنين؛ ويدرّ البول والطّمث؛ وينقّى سيلان الرّحم؛ وبزره وماؤه ينفع «5» من الحميّات العتيقة جدّا.(11/329)
وأمّا سكّر العشر
- فقال التّميمىّ: هو طلّ يسقط على شجر العشر بأرض اليمن والحجاز، فان أصابه الهواء جمد. وقال أبو حنيفة الدّينورىّ: العشر ضرب من العضاه، ينبت صعدا، عريض الورق، وله سكّر يخرج من فصوص شعبه «1» ؛ والله أعلم بالصواب.
كمل الجزء الحادى عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النّويرىّ- رحمه الله- ويليه الجزء الثانى عشر، وأوّله:
القسم الخامس من الفنّ الرابع فى أصناف الطّيب والبخورات والغوالى والنّدود والمستقطرات والأدهان والنضوحات وأدوية الباه والخواصّ والحمد لله رب العالمين(11/330)
استدراك
ورد فى صفحة 25 سطر 6 لفظ «شوابير» وذكرنا فى الحاشية رقم 5 من هذه الصفحة أننا لم نجد للشوابير معنى يناسب السياق، واستظهرنا أنه محرف عن لفظ آخر. وقد رأينا بعد ذلك فى بعض الكتب ما يفيد أن لفظ الشوابير صحيح لا تحريف فيه، وقد بيّنّا المراد به فى الحاشية رقم 1 من صفحة 225، فانظرها.(11/331)
بيان عن الجزء الثانى عشر
من كتاب نهاية الأرب فى دار الكتب من نسخ هذا الجزء نسختان مأخوذتان بالتصوير الشمسىّ كتبت إحداهما فى القرن الثامن الهجرى قبل وفاة المؤلف، ونسب خطها إليه وهى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ب) وكتبت الثانية فى القرن التاسع بخط نور الدين العاملىّ، وهى المشار إليها فى الحواشى بحرف (ا) وليست إحدى النسختين بأقل تحريفا ولا تصحيفا من الأخرى، بل التحريف فيهما يكاد يكون متفقا كما نبهنا على ذلك فى الأجزاء السابقة، غير أن النسخة المنسوب خطها الى المؤلف والمشار اليها فى الحواشى بحرف (ب) ، تمتاز عن الأخرى بقلة النقص فى الألفاظ والعبارات، فاذا وجدت كلمة أو جملة سقطت من الناسخ فى النسخة المشار اليها بحرف (ا) فكثيرا ما تجد هذه الكلمة أو الجملة ثابتة فى النسخة الأخرى.
ويلاحظ أن المؤلف قد لخص كتاب (جيب العروس وريحان النفوس) لمحمد بن أحمد التميمى المقدسىّ فى الأبواب التسعة الأول من هذا الجزء فى أصناف الطّيب والبخورات والغوالى والنّدود والمستقطرات والأدهان والنّضوحات؛ ولم نقف على هذا الكتاب فى خزانة من خزائن الكتب الموجودة فهارسها بين أيدينا، فكنا نرجع فى تصحيح ما ورد فى هذا الجزء من التحريف والتصحيف الى ما بين أيدينا من كتب القدماء والمحدثين فى علوم الطب والنبات وأنواع الطّيب، منبّهين فى الحواشى على كل مصدر رجعنا اليه فى تصحيح الكلمة أو الجملة متحرّين بقدر الإمكان وجه الصواب فى ضبط أسماء النبات والأدوية والعقاقير(مقدمةج 12/1)
التى وردت فى هذا الجزء، فلا نضبط اسما من هذه الأسماء إلا إذا ورد بضبطه نص صريح لا يحتمل التأويل فيما لدينا من الكتب الموثوق بمؤلّفيها ومصحّحيها.
وعسى أن نكون قد وفّقنا فى تصحيح هذا الجزء الى ما نقصد إليه فى جميع أجزاء هذا الكتاب: من إصلاح التحريف، وتكميل الناقص، وشرح الغريب، وغير ذلك مما بيّناه من الأغراض فى أوائل الأجزاء السابقة.
وقد تم طبع هذا الجزء فى عهد (حضرة صاحب الجلالة) فاروق الأوّل ملك النيل وحفيد إسماعيل أدام الله على البلاد ظله، وأعلى برعايته وعنايته العلم وأهله.
آمال أمّته به معقودة ... والله يكفل هذه الآمالا
لا زال شعبك من سحابك يرتعى ... روضا يمدّ على البلاد ظلالا
وفى هذا المقام نرى عرفانا بالجميل، وتقديرا لجهود المخلصين أننا مدينون بجزيل الثناء وعظيم الحمد لتلك العناية المشكورة التى بذلها ويبذلها حضرة صاحب العزة الأستاذ العالم، والمدير الحازم (الدكتور منصور فهمى بك مدير دار الكتب المصرية) .
فقد خطت الدار فى عهده الميمون خطوات واسعة فى سبيل التقدّم والرقىّ، حتى أصبح منهلها العذب أقرب موردا، والانتفاع بما فيها من الذخائر أيسر على الطالب.
كما أنه من الحق علينا أن نقدّم عظيم الشكر الى حضرة صاحب الفضيلة (السيد محمد الببلاوى مراقب إحياء الآداب العربية) وإلى حضرة الأديب الفاضل (الأستاذ أحمد زكى العدوى رئيس القسم الأدبى) على ما يبذلان من جهد فى سبيل إنهاض هذا القسم وتقدّمه.
والله أسأل أن يوفّقنا إلى الخير فى القول والعمل.
مصحّحه أحمد الزين(مقدمةج 12/2)
فهرس الجزء الثانى عشر
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب
القسم الخامس من الفن الرابع فى أصناف الطيب والبخورات والغوالى والندود والمستقطرات والأدهان والنضوحات وأدوية الباه والخواص...... 1
الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفن فى المسك وأنواعه...... 1
الباب الثانى فى العنبر وأنواعه ومعادنه..... 16
الباب الثالث فى العود وأنواعه ومعادنه وأصنافه...... 23
ذكر تطرية العود الأبيض وإظهار دهانته وإكسابه سوادا...... 37
الباب الرابع فى الصندل وأصنافه ومعادنه...... 39
الباب الخامس فى السنبل الهندى وأصنافه، والقرنفل وجوهره- فأما السنبل الهندىّ...... 43
وأما أصله...... 43
وأما القرنفل وجوهره...... 45
الباب السادس فى القسط وأصنافه...... 49
الباب السابع فى عمل الغوالى والندود- أما عمل الغوالى- فأما الوقت الذى يصلح أن تعمل فيه- وأما الالات التى تصلح لعملها وسحق أجزائها فيها...... 52(مقدمةج 12/3)
وأما كيفية عملها وأخذ أجزائها...... 53
غالية من غوالى الخلفاء...... 53
غالية حجاجية تسمى الساهرية...... 55
غالية هشام بن عبد الملك...... 56
صفة غالية أخرى من كتاب محمد بن العباس...... 58
غالية متوسطة نسبها التميمى الى كتاب أبى الحسن المصرى...... 59
غالية تسمى الساهرية ختم بها التميمى باب الغوالى...... 59
وأما عمل الندود- الند المستعينىّ...... 60
وأما الند الذى أجمع الناس عليه...... 61
صفة ند آخر...... 61
صفة ند كانت «بنان» العطارة تصنعه للواثق بالله...... 62
صفة ند آخر كانت تصنعه لجعفر المتوكل على الله...... 63
صفة الند الذى كانت أم الخليفة المقتدر بالله تصنعه وتبخر به الكعبة وصخرة بيت المقدس فى كل جمعة...... 64
صنعة ند آخر عن أم أبيها بنت جعفر بن سليمان، وهو الذى يسمى اللفيف الشريف...... 64
وأما الذى يصنع فى عصرنا هذا بالديار المصرية...... 65
ذكر كيفية عمل الند فى وقتنا هذا ومفرداته ومقاديره- فالنوع الأول المثلث...... 66
وأما النوع الثانى وهو المعتدل...... 67
وأما النوع الثالث وهو السوقى...... 68(مقدمةج 12/4)
ذكر صفة خلط أجزاء الندّ وتركيبه...... 68
الباب الثامن فى عمل الرامك والسك من الرامك والأدهان- فأما عمل الرامك والسك...... 70
وأما الأدهان وما قيل فيها...... 78
ذكر دهن البان وحبه ومعادنه وكيفية طبخه...... 78
وأما كيفية إخراج دهنه...... 80
وأما كيفية طبخه بالأفاويه حتى يصير يانا مرتفعا- فمنه كوفى ومنه مدنى ... 80
أما الكوفى...... 81
وأما البان المدنى...... 81
صنعة بان آخر من تركيب التميمىّ...... 83
صنعة نش البان على رأى أبى عمران البانى...... 91
وأما نشه على ما ورد فى كتاب العطر المؤلف للمعتصم بالله...... 91
وأما دهن الزنبق وما قيل فيه- فمنه أصلى خالص، ومنه مولد- فأما الخالص...... 92
وأما المولد...... 93
وأما دهن الحماحم وما قيل فيه...... 95
وأما دهن الخيرى وما قيل فيه- فمنه أصلى ومنه مولد- فأما الأصلى الخالص- وأما المولد...... 96
وأما دهن التفاح وما قيل فيه...... 99
وأما الأدهان المركبة العطرة...... 101
صنعة دهن آخر من الكتاب المصنف للمعتصم بالله...... 103(مقدمةج 12/5)
صنعة دهن آخر يسمى دهن السيدة...... 104
صنعة دهن آخر صنع للمأمون من كتاب يوحنا بن ماسويه...... 105
صنعة دهن برمكى مبخر من كتاب يوحنا بن ماسويه...... 108
صنعة دهن آخر كان يعمل للعباس بن محمد...... 109
صنعة دهن العنبر من كتاب ابن العباس...... 110
وأما الأدهان التى تصلح الشعور وتكثرها الخ- فمنها دهن متخذ من حب القطن يكثر الشعور ويسوّدها ويذهب بالحاصة ويصفى اللون...... 110
صنعة دهن يصنع من دهن نوى المشمش يجود الشعر ويكثره ويذهب بالحاصة، وينفع شعر الرأس واللحية منقول من كتاب المعتصم...... 114
صنعة دهن آخر يجود الشعر ويطوله ويكثفه ويقوّى أصوله ويذهب بالحاصة...... 116
صنعة دهن فاغية الحناء يصلح لشعور النساء...... 118
الباب التاسع فى عمل النضوحات والمياه المستقطرة وغير المستقطرة ... الخ فأما النضوحات...... 120
صفة عمل نضوح نقلته من كتاب الزهراوى يدخل فى أصناف الطيب، ويستعمل للشرب...... 122
وأما المياه المستقطرة وغير المستقطرة- فمنها ماء الجورين...... 123
وأما ماء الصندل...... 124
صفة تصعيد ماء القرنفل 124
صفة تصعيد ماء السنبل...... 124
صفة تصعيد ماء الكافور...... 124(مقدمةج 12/6)
صفة تصعيد ماء الزعفران عن ابن ماسويه...... 125
تصعيد آخر استنبطه التميمى...... 125
صفة تصعيد ماء الورد الطيب الذى يسمى الغنج...... 126
تصعيد ماء ورد آخر ألفه التميمى يستخرج من الورد اليابس...... 127
تصعيد ماء ورد ملوكى مرتفع عن ابن العباس...... 128
صعيد ماء المسك وماء الورد...... 128
وأما تصعيد ماء الخلوق من كتاب الزهراوىّ...... 128
تصعيد ماء خلوق آخر من كتاب أبى الحسن المصرى 129
صعيد ماء خلوق آخر من كتابه أيضا...... 129
وأما ماء الميسوس...... 130
صنعة ميسوس نادر أخذ عن بختيشوع الطبيب من كتاب العطر المؤلف للخليفة المعتصم بالله...... 130
صنعة نوع آخر من الميسوس عن بختيشوع أيضا من كتابه المذكور...... 134
وأما ماء التفاح ونضوحه الذى يصنع منه...... 136
صنعة عقيد ماء التفاح من كتاب أبى الحسن المصرى 137
صنعة نضوح ماء التفاح مما ألفه التميمى وركبه فجاء غاية فى الطيب...... 138
وأما ماء العنب المطيب والعقيد المصنوع منه...... 139
صنعة أخرى لماء العنب المطيب من كتاب محمد بن العباس...... 140
الباب العاشر فى الأدوية التى تزيد فى الباه وتلذذ الجماع وما يتصل بذلك من أدوية الذكر والأدوية المعينة على الحبل والمانعة منه، وغير ذلك- ذكر الأطعمة النافعة لذلك...... 142(مقدمةج 12/7)
صفة لون يزيد فى الباه...... 144
صفة هريسة...... 145
وأما الأشربة المركبة التى تزيد فى الباه...... 146
ذكر الأدوية المركبة النافعة التى تزيد فى الباه وتغزير المنىّ...... 148
ذكر دواء آخر عجيب الفعل فى زيادة المنىّ...... 150
صفة دواء آخر يزيد فى الباه ويصفى اللون وينفع الكبد والمعدة...... 151
دواء آخر يهيج شهوة الجماع ويصلح لمن انقطعت شهوته فإنه يقوّيها ويزيد فيها...... 152
صفة لبانة تمضغ تزيد فى الباه الخ...... 158
ذكر الجوارشنات التى تزيد فى الباه وتغزر المنى- صفة جوارش يغزر المنى...... 160
صفة جوارش يقوّى الباه ويزيد فى الشهوة...... 161
صفة جوارش التفاح يقوّى المعدة ويزيد فى الباه...... 161
ذكر المربيات المقوّية للشهوة والمعدة والباه...... 162
صفة عمل الراسن المربى، وهو مسخن للكلى والظهر محرّك لشهوة الباه...... 163
صفة عمل الشقاقل المربى يقوّى المعدة والشهوة، ويزيد فى الباه...... 164
صفة عمل الجزر المربى الذى يزيد فى الباه...... 164
صفة عمل الإهليلج الكابلى المربى...... 165
صفة عمل التفاح المربى...... 166
صفة عمل الجوز المربى وهو مما يزيد فى الباه...... 166
ذكر السفوفات التى تزيد فى الباه...... 167(مقدمةج 12/8)
ذكر الحقن والحمولات المهيجة للباه والمغزرة للمنى والمسمنة للكلى...... 168
وأما الحمولات التى تحدث الإنعاظ الشديد...... 174
ذكر المسوحات والضمادات التى تزيد فى الباه المقوية للذكر...... 176
وأما الضمادات التى تزيد فى الباه وتعين على الجماع...... 181
ذكر الأدوية الملذذة للجماع...... 183
ذكر الأدوية التى تعظم الذكر وتصلبه...... 187
ذكر الأدوية التى تضيق فروج النساء وتسخنها وتجفف رطوبتها...... 190
وأما الأدوية التى تسخن القبل...... 195
وأما الأدوية التى تجفف رطوبة الفرج...... 196
ذكر الأدوية التى تطيب رائحة البدن وتعطره...... 198
صفة قرص حاد يقطع الصنان...... 199
دواء آخر يقطع رائحة العرق...... 199
صفة دواء آخر يذهب رائحة الإبط ولا يحتاج بعده الى دواء آخر...... 199
صفة دواء آخر يطيب البدن وينفع أصحاب الأمزجة الحارة...... 200
صفة دواء آخر يقطع العرق وينفع أصحاب الأمزجة الحارة...... 200
ذكر الأدوية التى تجلو الأسنان من الصفرة والسواد وتطيب رائحة الفم والنكهة- فأما السنونات التى تجلو الأسنان...... 201
صفة سنون آخر يقوى الأسنان ويجلوها...... 203
وأما الأدوية التى تطيب رائحة الفم والنكهة...... 203
صفة حب آخر يزيل البخر...... 204(مقدمةج 12/9)
صفة حب آخر ملوكى...... 205
صفة حب آخر يطيب النكهة...... 206
ذكر الأدوية التى تعين على الحبل والأدوية التى تمنعه- أما الأدوية التى تعين عليه...... 207
صفة دواء آخر وهو من الأسرار...... 209
وأما الأدوية التى تمنع الحبل...... 210
ذكر الأدوية التى تنقص الباه وتمنع من الجماع وتسكن الشهوة وهذه الأدوية منها مفردة ومنها مركبة- أما المفردة...... 212
وأما المركبات- فمنها أغذية وأدوية- أما الأغذية...... 213
وأما الأدوية...... 214
صفة دواء آخر يقطع شهوة الجماع البتة وهو من الخواص...... 215
الباب الحادى عشر فيما يفعل بالخاصية...... 217
ذكر الخواص المختصة بالنساء والنكاح التى استقرئت بالتجربة...... 217
خاصية من خواص الهنود...... 217
سر آخر لجعفر الطوسىّ...... 218
ذكر شىء من الخواص غير ما تقدّم ذكره- من ذلك طلسم يجعل على المائدة فلا يقرّبها ذباب...... 223
ذكر نبذة من خواص الحروف والأسماء...... 225(مقدمةج 12/10)
أهم المصادر التى رجعنا إليها فى تصحيح هذا الجزء
إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى.
أخبار الهند والصين للسيرافى.
إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى لشهاب الدين القسطلانى.
أقرب الموارد لسعيد الخورى الشرتونى اللبنانى.
الألفاظ الفارسية المعربة للسيد أدّى شير.
الأنساب للسمعانى.
الإيضاح فى أسرار النكاح للشيرازى.
بحر الجواهر للهروى.
البرهان القاطع وهو معجم فارسى تأليف محمد حسين بن خلف التبريزى.
البلدان لليعقوبى.
تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدى.
تاريخ ابن الأثير.
تاريخ الطبرى.
تبصير المنتبه بتحرير المشتبه للحافظ شهاب الدين أحمد بن على بن حجر العسقلانى.
تذكرة داود.
تقويم البلدان لأبى الفداء.
التنبيه والإشراف للمسعودى.
حياة الحيوان للدميرى.
خرائط الإدريسىّ.
شذرات الذهب فى أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلى.
الشذور الذهبية فى الاصطلاحات الطبية لمحمد بن عمر التونسى.
شرح الأدوية المفردة من قانون ابن سينا للكازرونى.(مقدمةج 12/11)
شرح تحفة الملوك للتمرتاشى.
شرح الرضى على الكافية.
الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينورى.
صبح الأعشى للقلقشندى.
عجائب الهند لبزوك الرامهرمزى.
عمدة المحتاج المعروف بالمادة الطبية للرشيدى.
عيون الأنباء فى طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة.
الفلاحة النبطية لأبى بكر بن وحشية.
الفهرست لابن النديم.
قاموس الأطباء للقيصونى.
قاموس المحيط لمجد الدين الفير وزابادى.
القانون لابن سينا.
كتاب (كليرتسديل) فى قواعد اللغة الفارسية.
كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى.
كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون لحاجى خليفة.
لب اللباب فى تحرير الأنساب للجلال السيوطى.
لسان العرب لابن منظور.
لطائف الإشارات فى أسرار الحروف والعبارات للبونى.
ما لا يسع الطبيب جهله لابن الكتبى.
ما يعول عليه فى المضاف والمضاف اليه للمحبّى.
مجموعة فى أصول علم البحار لأحمد بن ماجد بن أبى الركائب النجدى.
المخصص لابن سيده.
مشتبه النسبة لعبد الغنى بن سعيد المصرى.
المصباح المنير للفيومى.(مقدمةج 12/12)
المضاف والمنسوب للثعالبى.
مطالع البدور فى منازل السرور للغزولى الدمشقى.
معجم أسماء النبات للدكتور أحمد عيسى بك.
معجم البلدان لياقوت.
المعجم الفارسى الإنجليزى لاستاينجاس.
معجم ما استعجم للبكرى.
المعرب من الكلام الأعجمى للجواليقى.
المعرب والدخيل للمدنى.
مغنى اللبيب لابن هشام.
مفاتيح العلوم للخوارزمى.
المفردات لابن البيطار.
المكتبة الجغرافية.
منهاج الدكان ودستور الأعيان لأبى المنى المعروف بالكهيل العطار الإسرائيلى.
المنهج المنير فى معرفة أسماء العقاقير لم يعلم اسم مؤلفه.
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة لابن تغرى بردى.
نخبة الدهر لابن أبى طالب الأنصارى الصوفى.
نزهة المشتاق للإدريسىّ.
نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى.
الوافى بالوفيات لصلاح الدين الصفدى.(مقدمةج 12/13)
الجزء الثاني عشر
[تتمة فن الرابع في النبات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
القسم الخامس من الفنّ الرابع فى أصناف الطّيب والبخورات والغوالى والنّدود والمستقطرات والأدهان والنّضوحات وأدوية الباه والخواصّ
وفيه أحد عشر بابا
الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفنّ فى المسك «1» وأنواعه
قال محمد بن أحمد «2» بن الخليل «3» بن سعيد التّميمىّ المقدسىّ فى كتابه المترجم(12/1)
(بجيب «1» العروس وريحان النفوس) : المسك أصناف كثيرة، وأجناس مختلفة؛ فأرفعها وأفضلها التّبّتىّ، ويؤتى به من موضع يقال له: (ذو سمت) «2» ، بينه وبين (التّبّت) «3» مسيرة شهرين، فيصار به إلى (التّبّت) ، ثم يحمل إلى خراسان. قال: وأصل المسك من بهيمة ذات أربع، أشبه شىء بالظّبى الصغير. وقد ذكرنا غزال المسك فى (الباب الثالث من القسم الثانى من الفنّ الثالث) ، وهو فى السفر التاسع «4» من هذه النسخة(12/2)
فلا فائدة فى إعادته. وقد ذكروا فى صفة تحصيل المسك من هذا الحيوان أقوالا نحن نذكرها؛ فزعم قوم أنّ الغزلان تذبح وتؤخذ سررها «1» بما عليها من الشّعر «2» ويكون فيها دم عبيط «3» ، وربّما كانت السرّة كثيرة الدم، وربّما كانت كبيرة واسعة قليلة الدم، فيجمع فيها دم عدّة سرر، ويصبّ فيها الرّصاص وهو ذائب وتخيّط بالخوص، وتعلّق فى حلق مستراح مدّة أربعين يوما، ثم تخرج وتعلّق فى موضع آخر حتّى يتكامل جفافها، وتشتدّ رائحتها، ثم تصيّر النّوافج «4» فى مزاود(12/3)
صغار، وتخيّط، وتحمل من التّبّت إلى خراسان. قال: وقال أحمد بن أبى يعقوب مولى بنى العبّاس: ذكر لى جماعة من العلماء بمعدن المسك أنّ معادنه بأرض (التّبّت) وغيرها معروفة، قد ابتنى الجلّابون فيها بناء يشبه المنار فى طول عظم الذّراع، فتأتى هذه البهيمة الّتى من «1» سررها يتكوّن المسك فتحكّ سررها بتلك المنار، فتسقط السّرر هنالك، فيأتى إليه الجلّابون فى وقت من السنة قد عرفوه، فيلتقطون ذلك مباحا لهم، فإذا وردوا به إلى (التّبّت) عشّر «2» عليهم.
وقال قوم: إنّ «3» هذه الدابّة خلقها الله تعالى معدنا للمسك، فهى تثمره فى كلّ سنة وهو فضل دموىّ يجتمع من جسمها إلى سررها فى كلّ عام فى وقت معلوم، بمنزلة الموادّ التى تنصبّ إلى الأعضاء؛ فإذا حصل فى سررها ورم وعظم، مرضت له وتألّمت حتّى يتكامل؛ فإذا بلغ وتناهى حكّته بأظلافها «4» ، فيسقط فى تلك المفاوز والبرارىّ، فيخرج اليه الجلّابون فيأخذونه. قال: وهذا أصّح ما قيل فى باب المسك. قال: ويشهد بصحّة ذلك ويوافقه ما حكاه محمد بن العبّاس المسكىّ فى كتابه: أنّ تجار المسك من أهل الصّغد «5» يذكرون أنّ المسك سرّة دابّة(12/4)
فى صورة ضخامة الظّبى، لها قرن واحد فى وسط رأسها. قال: ومن قرنها وعظم جبهتها تتّخذ النّصب المعروفة بنصب (الختو) «1» . قال: وذكروا أنّها تهيج فى وقت معلوم من السنة، فترم مواضع سررها، ويجتمع إليها دم غليظ أسود يفيض إليها من سائر أجسادها، وأنه يشتدّ وجعها، فتأتى مواضع فيها تراب ليّن كهيئة المراغة فى تلك البرارىّ، بين المراغة منها وبين الأخرى مسافة ليست بالقريبة وتلك الظّبىّ «2» لا تنزع سررها فى غير تلك المراغات، قد ألفت التّمعّك فيها، والتمرّغ فى تربها، واعتادته على ممرّ السنين؛ فإذا نالها ذلك أمسكت عن الرّعى وعن ورود المياه، ولا تزال تتقلّب فيه حتّى تسقط تلك السّرر عنها، وهى دم عبيط. قال: وربّما سقطت قرونها أيضا كما يفصل الإيّل «3» قرنه فى كلّ سنة. قال: وربّما اجتمع فى المراغة الواحدة مائتان من تلك الظّباء، فإذا ألقت تلك السّرر خرج شباب أهل الصّغد وأهل التّبّت «4» فى وقت الإمكان إلى تلك المفاوز الّتى فيها تلك المراغات(12/5)
فيتفرّقون فى طلب النّوافج، فربّما وجدوا فى المراغة ألوفا من تلك السّرر: من بين رطب وجامد ويابس. قال: واذا سقطت السّرّة عن الظّبى كان فى ذلك إفاقته وصحّته فيثبت حينئذ فى الرّعى وورود الماء. وقال محمد بن العباس: أجود المسك الصّغدىّ، وهو ما اشتراه تجار خراسان من التّبّت «1» وحملوه على الظهر الى خراسان ثم يحمل من خراسان إلى الآفاق؛ ثم «2» يتلوه فى الجودة المسك الهندىّ، وهو ما وقع من التّبّت إلى أرض الهند، ثم حمل إلى الدّيبل «3» ، ثم حمل فى البحر الى سيراف «4» وعدن «5»(12/6)
وعمان «1» ، وغيرها من النواحى، وهو دون الصّغدىّ؛ ويتلو الهندىّ المسك الصّينىّ وهو دونه، لطول مكثه فى البحر، وما يلحقه من عفونة هوائه، ولعلّة أخرى وهى اختلاف المرعى فى الأصل. قال: وأفضل المسك ما كان مرعى غزلانه حشيشا يقال له: الكدهمس «2» ، ينبت بالتّبّت وقشمير، أو بأحداهما. وذكر أحمد بن أبى «3» يعقوب أنّ اسم هذه الحشيشة الكندهسة. قال: وأفضل ما يرعى هذا الحيوان بعد هذه الحشيشة السّنبل الهندىّ، يريد سنبل «4» الطّيب، فإنّه ينبت بأرض(12/7)
الهند وبأرض التّبّت كثيرا، وما كان يرعى السّنبل فإنّ المسك المتكوّن منه يكون وسطا دون الصّنف الأوّل. قال: وأدنى المسك ما كان مرعى حيوانه حشيشة يسمّى أصلها: «المرو «1» » ؛ ورائحة تلك الحشيشة كرائحة المسك، إلا أنّ المسك أقوى(12/8)
وأذكى رائحة. قال محمد «1» بن أحمد بن العبّاس المسكىّ «2» : وقد ذكر بعض العرب أنّ دابّة المسك ترعى شجر الكافور، واستدلّ على ذلك بقول الشاعر العكلىّ «3» :
تكسو المفارق واللّبّات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور درّاج «4»
والقصب: المعى؛ ومنه قول النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت عمرو «5» بن(12/9)
لحىّ يجرّ قصبه فى النار» . وقال محمد بن أحمد: هذا رأى بدوىّ، وليس برأى عالم يعتمد على نقله. وقال الحسين بن يزيد السّيرافىّ- وهو من أهل الخبرة ببرّ الصّين وبحرها، ومسالكها وممالكها-: إنّ الأرض الّتى بها ظباء المسك الصّينىّ والتّبّتىّ أرض واحدة لا فرق بينهما، وأهل الصّين يجمعون من المسك ما قرب منهم وكذلك أهل التّبّت. قال: وإنما فضّل المسك التّبّتىّ على المسك الصّينىّ لأمرين:
أحدهما أنّ ظباء المسك الّتى فى حدود التّبّت ترتعى سنبل»
الطّيب، وما يلى منها أرض الصّين ترتعى سائر الحشائش؛ والثانى أنّ أهل التّبّت يتركون النّوافج بحالها؛ وأهل الصّين ربّما يغشّون فيها، ولسلوكهم بها فى البحر وما يلحقها من الأنداء؛ فأمّا إذا ترك أهل الصّين المسك فى نوافجه من غير غشّ، وأحرز فى البرانىّ، وحمل إلى أرض العرب، فلا فرق بينه وبين التّبّتىّ فى الجودة.
قال وأجود المسك كلّه ما حكّته الظّباء على أحجار الجبال، وذلك أنّ المادّة الغليظة الدّمويّة اذا انصبّت إلى سرر الظّباء اجتمعت «2» فيها كاجتماع الدم فيما يعرض من الدّماميل، فاذا أدرك وأضجر الظّباء، حكّت السّرر بالحجارة بحدّة وحرقة فيسيل ما فى السّرر على أطراف الحجارة؛ فاذا خرج عنها جفّت السّرر واندملت وعادت المادّة «3» فآجتمعت فيها «4» ، فيخرج أهل التّبّت فى طلب هذا الدم السائل ولهم به معرفة، فيلتقطونه ويجعلونه فى النّوافج، ويحملونه إلى ملوك خراسان، وهو نهاية المسك جودة وفضلا، إذ هو ممّا أدرك على حيوانه، فصار فضله على غيره من المسك(12/10)
كفضل ما يدرك من الثّمار على أشجاره على ما يقطف قبل بلوغه وإدراكه. قال:
وغير هذا من المسك فإنّما «1» تصاد ظباؤه بالشّرك وبالسّهام، وربّما قطعت النّوافج عن الظّباء قبل إدراك المسك فيها. قال: على أنّه إذا قطع عن ظبائه كان كريه الرائحة مدّة طويلة إلى أن يجفّ على طول الأيّام، فيستحيل مسكا. قال: وظباء المسك كسائر الظّباء المعروفة فى القدر واللّون ودقّة القوائم، وافتراق الأظلاف، وانتصاب القرون وانعطافها، غير أنّ لكلّ واحد منها نابين رقيقين أبيضين، خارجين من فيه فى فكّه الأسفل، قائمين فى وجه الظّبى كنابى الخنزير، فى طول الفتر أو دونه، على هيئة ناب الفيل.
وقال أحمد بن أبى يعقوب: أفضل المسك التّبّتىّ، ثم بعده [المسك] الصّغدى، وبعد الصّغدىّ المسك الصّينىّ، وأفضل الصّينى ما يؤتى به من خانقو «2» ، وهى المدينة العظمى الّتى هى مرفأ الصّين الّتى ترسى بها مراكب تجار المسلمين، ثم يحمل فى البحر الى الزّقاق «3» ، فإذا قرب من بلد الأبلّة «4» ارتفعت(12/11)
رائحته، فلا يمكن التجار أن يستروه من العشّارين «1» ، فإذا خرج من المركب جادت رائحته، وذهبت عنه رائحة البحر. [ثم «2» المسك الهندىّ، وهو ما يقع من التّبّت الى الهند، ثم يحمل إلى الدّيبل، ثم يجهّز فى البحر] ، وهو دون الأوّل؛ وبعد الهندىّ من المسك القنبارى «3» ، وهو مسك جيّد، إلا أنّه دون التّبّتىّ فى القيمة والجوهر واللّون والرائحة، يؤتى به من بلد يقال له: قنبار «4» بين «5» الصّين والتّبّت؛ وربّما غالطوا به فنسبوه إلى التّبّت. قال: ويتلوه فى الجودة المسك الطّغزغزىّ، وهو مسك رزين يضرب إلى السواد، يؤتى به من أرض التّرك الطّغزغز «6» تجلبه التجار فيغالطون به، إلا أنّه ليس له جوهر ولا لون؛ وهو بطىء السّحق لا يسلم من الخشونة؛ ويتلوه فى الجودة المسك القصارىّ «7» ، يؤتى به من بلد يقال لها «8» قصار، بين الهند والصّين. قال: وقد يلحق بالصّينى، إلّا أنّه دونه فى القيمة(12/12)
والجوهر والرائحة. قال: والمسك الجرجيرىّ «1» ، وهو مسك يشاكل التّبّتىّ ويشبهه وهو أصفر حسن، زعر «2» الرائحة. وبعده المسك العصمارىّ «3» ، وهو أضعف أنواع المسك كلّها، وأدناها قيمة، يخرج من النافجة «4» التى زنتها أوقيّة زنة درهم واحد من المسك. ثم المسك الجبلىّ، وهو ما يؤتى به من ناحية أرض السّند من أرض المولتان «5» ، وهو كبير النّوافج، حسن اللون، إلّا أنّه ضعيف الرائحة. وقال: أجود المسك فى الرائحة والمنظر ما كان تفّاحيّا، تشبه رائحته رائحة التّفّاح اللّبنانىّ، وكان لونه تغلب عليه الصّفرة، وكان بين الجلال والدّقاق وسطا؛ ثم الذى يليه وهو أشدّ سوادا منه، إلّا أنّه يقاربه فى الرائحة والمنظر، وليس مثله؛ ثم الذى هو(12/13)
أشدّ سوادا منه، وهو أدناه قدرا وقيمة. وقال: بلغنى أنّ العلماء بالمسك من تجار أهل الهند يذكرون أنّ المسك ثلاثة أنواع، لا يخرجونه عن ذلك، فالنوع الأوّل- وهو أفضله وأجوده- المسك الأصلىّ الخلقة المعروف؛ ونوعان آخران متّخذان:
أحدهما يتخذ من أخلاط يابسة تكون عندهم من نبات أرضهم، وليس فيه من المسك الأصلىّ شىء، وهم يأمرون باستعماله وابتياعه من مواضع أصوله وما يليها من البلاد ومن الّذين يعرفونه، وهم أهل التّبّت؛ والآخر يتّخذونه وينهون عنه وعن ابتياعه والمتّجر فيه، وذلك أنّه يتغيّر ويفسد إذا أقام. قال: ونوع آخر، وهو مسك يجلب من قشمير «1» الداخلة وما حولها، وليس بجيّد؛ وهو يقارب المسك المصنوع المنهىّ عنه، ويكون هو أيضا متّخذا وغير متّخذ، وهو على نصف القيمة من المسك الجيّد. قال: والمسك فى طبعه حادّ لطيف غوّاص «2» ، جيّد لوجع الفؤاد، مقوّ للقلب، قاطع للدّم إذا ضمد به الجرح؛ ويدخل فى أكحال(12/14)
العين وفى كثير من المعاجين الكبار؛ واذا جعل بدلا من الجندبيدستر «1» فإنّه أقرب الأشياء إليه فى طبعه وفعله. وقال محمد بن أحمد: فأمّا المسك المنسوب الى دارين، فهو من نوع المسك الهندىّ؛ تجلبه التجار الى دارين: جزيرة «2» بالبحرين ترفأ اليها سفن تجّار الهند، ويحمل منها إلى المواضع؛ وليست دارين بمعدن للمسك.(12/15)
الباب الثانى من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى العنبر «1» وأنواعه ومعادنه
قال محمد بن أحمد التّميمىّ: حدّثنى أبى عن أبيه عن أحمد بن أبى يعقوب أنه قال: العنبر أنواع كثيرة، وأصناف مختلفة، ومعادنه متباينة؛ وهو يتفاضل بمعادنه وبجوهره؛ فأجود أنواعه وأرفعه وأفضله وأحسنه لونا وأصفاه جوهرا وأغلاه قيمة، العنبر الشّحرىّ، وهو ما قذفه بحر الهند إلى ساحل الشّحر من أرض اليمن؛ وزعموا أنّه يخرج من البحر فى خلقة البعير أو «2» الصخرة الكبيرة. قال التّميمىّ:
والأصل الصحيح فيه أنه ينبع من صخور فى قرار الأرض ومن عيون، ويجتمع فى قرار البحر؛ فاذا تكاثف وثقل جذبته «3» طبيعة الدّهانة «4» التى فيه، واضطرّته إلى الانقطاع من المواضع التى يتعلّق بها عند خروجه من الأرض، وطلعت به إلى وجه الماء(12/16)
فطفا على وجه الماء وهو جار ذائب؛ ومنه ما تقطّعه الأمواج فتخرجه الى السواحل قطعا كبارا وصغارا. قال: وحدّثنى أبى عن أبيه عن أحمد بن أبى يعقوب قال:
تقطّعه الرّيح وشدّة الموج فترمى به إلى السواحل وهو يفور، لا يدنو منه شىء لشدّة حرّه وفوارانه؛ فاذا أقام أيّاما وضربه الهواء جمد، فيجمعه الناس من السواحل المتّصلة بمعادنه. قال: وربّما أتت السمكة العظيمة التى يقال لها: «البال «1» » فابتلعت من ذلك العنبر الصافى وهو يفور، فلا يستقرّ فى جوفها حتى تموت وتطفو، ويطرحها البحر إلى الساحل؛ فيشقّ جوفها، ويستخرج ما فيه من العنبر، وهو العنبر السّمكىّ(12/17)
ويسمّى أيضا: المبلوع. قال: وربّما طرح البحر قطعة «1» العنبر فيبصرها طير أسود شبيه بالخطّاف، فيأتى اليها ويرفرف بجناحيه، فإذا دنا منها وسقط عليها تعلّقت مخاليبه ومنقاره فيها فيموت ويبلى، ويبقى منقاره ومخاليبه»
فى العنبر، وهو العنبر المناقيرىّ «3» . قال النّميمىّ:
وزعم الحسين بن يزيد السّيرافىّ أنّ الذى يقع من العنبر الى سواحل الشّحر شىء تقذفه الأمواج إليها من بحر الهند، وأنّ أجوده وأفضله ما يقع الى بحر البربر وحدود بلاد الزّنج وما والاها، وهو «4» الأبيض المدوّر، والأزرق النادر. قال: ولأهل هذه النواحى نجب يركبونها مؤدّبة يركبون «5» عليها فى ليالى القمر على سواحلهم، وهذه النّجب تعرف العنبر، وربّما نام الراكب عليها أو غفل، فإذا رأى النجيب العنبر على الساحل برك بصاحبه، فينزل ويأخذه. قال: ومنه ما يوجد فوق البحر طافيا فى عظم(12/18)
الثّور. قال: وبعد العنبر الشّحرىّ العنبر الزّنجىّ، وهو الّذى يؤتى به من بلاد الزّنج إلى عدن، وهو عنبر أبيض؛ وبعده العنبر الشّلاهطىّ «1» ، وهو يتفاضل، وأجود الشّلاهطىّ الأزرق الدّسم الكثير الدّهن، وهو الذى يستعمل فى الغوالى «2» . وبعد الشّلاهطىّ العنبر القاقلّىّ، وهو أشهب «3» ، جيّد الرّيح، حسن المنظر، خفيف، وفيه يبس يسير، وهو دون الشّلاهطىّ لا يصلح للغوالى ولا للتّغلية «4» والتّطهير «5» إلّا(12/19)
عن ضرورة؛ وهو صالح للذّرائر «1» والمكلّسات «2» ؛ ويؤتى بهذا العنبر من بحر قاقلّة إلى عدن؛ وبعد القاقلّىّ العنبر الهندىّ، يؤتى به من سواحل الهند الداخلة، فيحمل إلى البصرة وغيرها؛ وبعده الزّنجىّ، يؤتى به من ساحل الزّنج؛ وهو شبيه بالهندىّ ويقاربه. هكذا ذكر التّميمىّ فى (جيب العروس) ، فإنّه يجعل الزّنجىّ بعد الشّحرىّ وذكر الزّنجىّ أيضا بعد الهندىّ. وقال: وعنبر يؤتى به من الهند يسمّى الكرك «3» بالوس وينسب إلى قوم من الهند يجلبونه، يعرفون بالكرك بالوس، يأتون به الى قرب عمان، يشتريه منهم أصحاب المراكب. قال: وأمّا العنبر المغربىّ، فإنّه دون هذه الأنواع كلّها، يؤتى به من بحر الأندلس، فتحمله التّجار إلى مصر؛ وهو شبيه فى لونه بالعنبر الشّحرىّ، وقد يغالط به فيه. قال التّميمىّ: وأفضل العنبر وأجوده ما جمع قوّة رائحة وذكاء بغير زعارّة «4» . وقال أحمد بن أبى يعقوب: قال لى جماعة من أهل العلم بالعنبر: إنه بجبال ثابتة فى قرار البحر، مختلفة الألوان، تقتلعه الرّياح وشدّة اضطراب البحر فى الأشتية الشديدة، فلذلك لا يكاد يخرج فى الصيف. قال:
وألوان العنبر مختلفة، منها الأبيض، وهو الأشهب؛ ومنها الأزرق، والرّمادىّ(12/20)
والجرارىّ، وهو الأبرش؛ والصّفائح، وهو الأصفر والأحمر، وهما أدنى العنبر قدرا؛ [والله أعلم «1» ] .
ومن العنبر صنف يسمّى المند «2» ، ويوجد على سواحل من البحر
- قال التّميمىّ: أخبرنى جماعة من أهل المعرفة بالعطر وأصنافه وأنسابه أنّ دابّة تخرج من البحر فترمى به من دبرها، وأنّ تلك الدابّة فى صورة البقر الوحشىّ، فيؤخذ وهو ليّن يمتدّ، فما كان منه عذب الرائحة حسن الجوهر، فهو أفضله وأجوده.
والمند أصناف، أجودها الشّحرىّ وهو أسود، فيه صفرة تخضب اليد إذا لمس؛ ورائحته كرائحة العنبر اليابس، إلّا أنّه لا بقاء له على النار؛ ويستعمل فى الغوالى «3» اذا عزّ العنبر الشّلاهطىّ «4» ؛ ومن المند الزّنجىّ، وهو نظير الشّحرىّ فى المنظر، ودونه فى الرائحة؛ وهو أسود بغير صفرة؛ ومنه الخمرىّ، وهو يخضب اليد وأصول الشّعر خضابا جيّدا، ولا ينفع فى الطّيب؛ ومنه السّمكىّ، وهو المبلوع كما قدّمنا ذكره، وهو فى لونه شبيه بالقار، وهو ردىء فى الطّيب، للسّهوكة «5» التى يكتسبها من السّمك «6» . وقال(12/21)
التّميمىّ: طبع العنبر حارّ، وفيه شىء من يبس؛ وهو مقوّ للقلب، مذكّ للحواسّ محلّل للرّطوبات، نافع للشيوخ؛ وقد تضمد به المفاصل المنصبّ اليها الرّطوبات فتنتفع به نفعا جيّدا، ويقوّيها؛ ويستعمل فى الجوارشنات «1» وكبار المعاجين وفى المعاجين المقوّية للمعدة والقلب؛ ويسعط «2» به فيحلّل علل الدّماغ. قال: وقد تصطنع منه شمّامات فيشمّها من بهم اللّقوة «3» والفالج، فينتفعون بروائحها.(12/22)
الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الرابع فى العود وأنواعه ومعادنه وأصنافه
قال محمد بن أحمد التّميمىّ: أخبرنى أبى عن أبيه عن جماعة من أهل العلم والمعرفة بالعود أنّه شجر عظام بمواضع من أرض الهند؛ وهى معادن له، وأنّ منه ما يجلب من أرض (قشمير) الداخلة، [و «1» ] من أرض (سرنديب) ومن (قمار «2» ) وما اتّصل بتلك النواحى؛ وذكروا أنّه لا تصير له رائحة إلّا بعد أن يعتق وينجر ويقشر، فاذا نفى عنه قشره وجفّف حمل «3» إلى «4» كلّ ناحية. قال: وأخبرنى بعض العلماء به أنه يكون من قلب الشجر، وأنّه ليس كلّ ما فى الشجرة عودا، وأنّه بمنزلة قلب شجرة الآبنوس «5»(12/23)
والعنّاب والزيتون والأنواع الّتى داخلها من جوهر الخشب فيه دهانة «1» ، وما فى خارجها خشب أبيض لا دهانة فيه، وربّما كان فيه كمثل الطرائق والشامات فى الشجرة فيقطع، ويقشر البياض منه، ويدفن فى التراب، فيقيم سنين حتى يأكل التّراب ما عليه وما فى داخله من الخشب، ويبقى العود، ولا يعمل التراب فيه. وإلى نحو هذا القول ذهب محمد بن العبّاس. وقال محمد بن العبّاس أيضا: وأخبرنى جماعة من أهل (الأبلّة «2» ) أنّ العود المعروف بالهندىّ يكون فى أودية بين جبال شواهق متوعّرة، لا وصول لأحد اليها لصعوبة المسلك، وأنّ العود يكون فى غياض بتلك الأودية، فيتكسّر بعض ذلك الشجر على طول الأيّام، وتتعفّن منه أصول بعض الشجر من الأمطار والسّيول، فيأكل التراب والماء والهواء ما فيه من الخشب، ويبقى صميم العود وخالصه وجوهره، فإذا كثرت الأمطار وجرت السّيول أخرجته من تلك الأودية إلى البحر، فتقذفه الأمواج إلى الساحل فيجمعه الناس ويلتقطونه وينقلونه الى الجهات. وقد حكى بعض من تردّد إلى بلاد الهند من التّجار قال: لم أرشجر العود، ولا رأيت من رآه؛ قيل له:
وكيف لم تره وقد تردّدت الى بلاد الهند، ومنها يجلب؟ قال: لأنّ التجّار الذين يجلبونه إلى «3» الهند اذا قدموا بمراكبهم إلى الموانى بالهند يقفون بالمراسى بحيث يرى(12/24)
من بالموانى مراكبهم، ولا يرون من فيها، فإذا شاهدوها أخلوا الفرضة والمينا من عشيّة، ولا يظهر منهم أحد بها، فيأتى أصحاب تلك المراكب إلى المينا وينقلون جميع ما معهم الى الفرضة، ويفرد «1» كلّ تاجر منهم بضاعته، ويتركونها ويخرجون فيقفون على مراسيهم، ويصبح أهل المدينة فيأتون الى تلك البضائع، [ويجعلون «2» الى جانب كلّ بضاعة بضاعة نظيرها، ويتركونها، ويخلون الفرضة، فيعود التجّار وينظرون الى ما جعل لهم بدل بضائعهم، فمن رضى بالعوض أخذه وترك بضاعته ومن لم يرض به تركهما جميعا؛ ويصبح أهل المدينة فيأتون إلى تلك البضائع] فما وجدوه منها قد أخذ عوضه علموا أنّ صاحبه رضى بالبيع، وما وجدوه باق هو وعوضه علموا أنّ صاحب البضاعة لم يرض بالعوض، فيزاد حتّى يرضى؛ فهذا دأبهم مع الذين يجلبون العود، وليس فيهم من رآهم. وحكى الحاكى، أنّه حكى أنّ بعض أهل المدينة كمن لهم فى مكان يراهم منه ولا يرونه، فرأى وجوههم وجوه كلاب، وبقيّة أجسامهم أجسام الآدميّين.
وأمّا أنواع العود ومعادنه وأصنافه
- فهو أنواع كثيرة، وأصناف متباينة؛ فأفضله وأجلّه وأنفسه المندلىّ، وهو الهندىّ؛ وإنّما سمّى المندلىّ نسبة الى معدنه «3» .(12/25)
«والمندلىّ هو «1» الهندىّ» . قالوا: وهو يجلب من ثلاثة مواضع من أرض الهند، فأفضل ذلك القامرونىّ، وهو ما جلب من القامرون؛ والقامرون «2» : مكان مرتفع من الهند. وقيل: بل هو منسوب إلى نوع من شجر العود يسمّى القامرون وهو أغلى العود ثمنا، وأرفعه قدرا. قال: وهو قليل لا يكاد أن «3» يجلب إلّا فى [بعض «4» ] الحين؛ وهو عود رطب جدّا، شديد سواد اللّون، رزين، كثير الماء. وقال الحسين بن يزيد السّيرافىّ فى (أخبار الهند) : إنّ الصنم المعروف بالمولتان «5» - وهو بقرب المنصورة «6» - يقصده الرجل من مسيرة ثلاثة أشهر يحمل على ظهره أفخر العود الهندىّ(12/26)
والقامرونىّ. قال: وقامرون: بلد يكون فيه فاخر العود، ويتجشّم الهندىّ المشقّة فى حمله حتى يأتى به إلى هذا الصنم فيدفعه إلى السّدنة ليبخّروا به الصّنم، وإنّ هذا العود القامرونىّ فيه ما قيمة المنّ «1» منه مائتا دينار؛ وإنّه ربّما ختم عليه فانطبع وقبل الختم [للينه «2» ] . قال: والتّجار يبتاعونه من هؤلاء السّدنة؛ ولمّا غلب المسلمون على المولتان «3» قلعوا هذا الصنم وكسروه، فأصابوا تحته من هذا العود، فأخذوه.
والصّنف الثانى من الهندىّ، السّمندورىّ، ويجلب من بلاد سمندور «4» ، وهى «5»(12/27)
بلد سفالة «1» الهند؛ والسّمندورىّ يتفاضل، فأجوده الأزرق، الكثير الماء، الصّلب الرزين، الذى يصبر على النار؛ ومن الناس من يفضّل الأسود على الأزرق، ومنهم من يفضّل الأزرق على الأسود؛ وتكون القطعة الضّخمة منه منّا «2» واحدا، ويسمّى لطيب رائحته ريحان العود؛ وأفضل العود بعد السّمندورىّ [العود] القمارىّ ويؤتى به [من] قمار «3» ، وهى أرض سفالة الهند؛ وهو أيضا يتفاضل؛ وأجوده الأسود والأزرق، الكثير الماء، الرزين الصّلب، الذى لا بياض فيه، ويبقى على النار ويكون فى القطعة منه نصف رطل الى ما دون ذلك. قال أحمد بن أبى يعقوب:
وله سنّ نضيج جيّد، كثير الماء. قال: ولا يجتمع فى صنف من أصناف العود ما يجتمع فى العود الهندىّ من الحلاوة والمرارة والخمرة «4» والبقاء والصبر على النار.
وحكى محمد بن العبّاس المسكىّ فى كتابه فى سبب تفضيل العود الهندىّ وتقديمه على غيره، واستعمال الخلفاء له، فقال: العود الهندىّ أرفع أجناس العود وأفضلها(12/28)
وأجودها، وأبقاها على النار، وأعبقها بالثياب. قال: ولم تكن التّجار تجلبه فى الجاهليّة ولا ما بعدها، إلى آخر أيّام بنى أميّة، ولا ترغب فى حمله، لأجل المرارة التى فى رائحته؛ وإنّما كانت الأكاسرة تتبخّر بالمندلىّ والقمارىّ «1» والسّمندورىّ والصّنفىّ لشدّة حلاوة روائحها. وزعم أنّ تلك الحلاوة تولّد القمل فى الثّياب. قال:
ولم يكن الهندىّ يعرف فى هذه الأمصار، ولا كانت التّجّار تجلبه مع معرفتها بفضله فلمّا كان فى آخر أيّام الدّولة الأمويّة عند ما كثر الاختلاف بينهم، وقلّت الأموال فى أيديهم، شرعوا فى مصادرات الرّعايا، وأخذوا الأموال من غير وجوهها وتعرّضوا إلى أموال الأوقاف والأيتام، فتعرّض ولاة خراسان لبرمك ولولده وطالبوهما بالأموال، وكان تحت يد برمك أوقاف جليلة، فهرب هو وولده من أعمال خراسان الى بلاد الهند، فأقاموا بها الى أن ظهرت الدّولة العبّاسيّة، فرأى الحسين بن برمك طيبة العود الهندىّ وزهد التّجّار فيه، فاستجاده، واشترى منه واستكثر؛ ثم قدم خالد بن برمك وأخوه الحسين وأهلهما على المنصور أبى جعفر لمّا أفضت الخلافة اليه، فاصطنعهم وأدناهم وقرّبهم؛ فدخل الحسين يوما على المنصور وهو يتبخّر بالعود القمارىّ، فأعلمه أنّ عنده ما هو أطيب منه رائحة [وأنه «2» حمله معه من الهند؛ فأمره المنصور بحمل ما عنده منه، فحمله اليه، فآستجاده المنصور، وأمر أن يكتب إلى الهند فى حمل الكثير منه، ولم تكره تلك المرارة(12/29)
والزّعارّة «1» التى فى رائحته] ، لأنّها تقتل القمل، وتمنع من تكوّنه فى الثّياب؛ وله عبق بالثياب وبقاء فيها. قال: فلمّا اختارت الخلفاء والملوك العود الهندىّ وآثرت البخور «2» به، سقط قدر ما عداه من أصناف العود، وعزّ العود الهندىّ. قال محمد ابن أحمد: وبعد العود القمارىّ فى الفضل والجودة العود القاقلّىّ، ويجلب من جزائر فى بحر قاقلّة، وهو عود دسم له بقاء فى الثياب، وفى ريحانيّة «3» خمرة «4» ؛ وهو حسن اللّون شديد الصّلابة، إلّا أنّ قتاره «5» ربّما تغيّر على النّار، فينبغى أنّه إذا استعمل وبخّر به لا يستقصى إلى أن تنتهى النّار إلى القتار. قال ابن أبى يعقوب: وبعد العود القاقلّىّ العود الصّنفىّ، ويجلب من بلد يقال له الصّنف بناحية الصّين؛ وبين(12/30)
الصّنف والصّين جبل لا يسلك، وهو أجلّ «1» الأعواد وأبقاها فى الثياب؛ ومنهم من يفضّله على القاقلّىّ، ويرى أنّه أطيب وأعبق وآمن من القتار؛ ومنهم أيضا من قدّمه على القمارىّ. قالوا: وأجود الصّنفىّ الأسود، الكثير الماء، ويكون فى القطعة منه المنّ «2» والأكثر والأقلّ. قالوا وشجر العود الصّنفىّ أعظم من شجر الهندىّ والقمارىّ. وبعد الصّنفىّ العود الصّندفورىّ. ويجلب من بلد الصّندفور «3» .
ويقال: إنّه صنف من الصّنفىّ، إلّا أنّه ليس بالقطع الكبار؛ وهو حلو الرائحة حسن اللّون، رزين صلب، لا حق بقيمة الجيّد من الصّنفىّ. وبعد الصّندفورىّ العود الصّينىّ، وهو عود حسن اللّون، أوّل رائحته يشاكل رائحة الهندىّ، إلّا أنّ(12/31)
قتاره «1» غير محمود، وأفضله نوع منه يسمّى القطعىّ «2» ، وهو رطب حلو، طيّب الرائحة؛ ويؤتى به من الصّين؛ وتكون القطعة منه نصف رطل وأكثر وأقلّ.
قال أحمد بن أبى يعقوب: ومن العود أيضا صنف يسمّى القشور، رطب أزرق؛ وهو أعذب رائحة من القطعى، ودونه فى القيمة. قال: ومن الصّينىّ أيضا أصناف أخر، وهى دون كلّ هذه الأصناف: منها المنطائىّ «3» ، وهو المانطائىّ قطعه كبار ملس سود، لا عقد فيها، ليست روائحها بمحمودة، تصلح للأدوية والسّفوفات والجوارشنات. ومنه صنف يعرف بالجلّابىّ «4» ؛ وصنف يعرف باللّواقىّ وهو اللّوقينىّ؛ وهى أعواد متقاربة فى القيمة.
قال التّميمىّ: ومن الناس من رتّب العود الصّينىّ غير ترتيب أحمد بن أبى يعقوب فقالوا: إنّ أفضل العود الصّينىّ العود القطعىّ «5» ، وبعده العود الكلهىّ «6» ، وهو عود رطب(12/32)
يمضغ، وفيه زعارّة «1» وشدّة مرارة، للدّهانة «2» الّتى فيه، وهو من [أعبق] الأعواد فى الثّياب وأبقاها. وبعد الكلهىّ العود العولاتى «3» ، وهو عود يجلب من (جزيرة العولات «4» ) بناحية قمار «5» من أرض الهند. وبعده اللّوقينىّ، ولوقين: طرف من أطراف الهند، وهو دون هذه الأعواد فى الرائحة والقيمة؛ وله خمرة «6» فى الثّياب. وبعد اللّوقينىّ المانطائىّ «7» ، وهو(12/33)
من شجر بجزيرة تسمّى ما نطاء؛ وقيمته مثل قيمة اللّوقينىّ؛ وهو خفيف، ليس بالحسن اللّون. وبعد المانطائىّ العود الريطائىّ «1» ، وهو من جزيرة تسمّى ريطاء، وهو دون المانطائىّ فى الرائحة والقيمة، يدخل فى أعمال المثلّثات «2» والبرمكيّات «3» . وبعد العود الرّيطائىّ العود القندغلى «4» ، ويؤتى به من ناحية (كله «5» ) وهو ساحل الزّنج، وهو يشبه القمارىّ، إلّا أنّه لا طيب لرائحته. وبعده العود السّمولىّ، وهو عود حسن المنظر فيه حمرة «6» ، وله بقاء فى الثياب وعلى النار؛ وقتاره «7» غير محمود، وهو سريع القتار. وبعد السّمولىّ العود الرانجىّ «8» ، وهو عود يشبه قرون الثور، لا ذكاء له ولا بقاء؛ وهو ساقط(12/34)
القيمة، وهو أردأ أنواعه وأدناها. وبعده صنف يقال له: المحرّم، سمّى بذلك لأنه كان قد وقع الى البصرة، فشكّ الناس فيه، فحرّمه السلطان، فسمّى المحرّم، وهو من أدنى أصناف العود. وقال محمد «1» بن العبّاس المسكىّ «2» فى كتابه: أفضل العود كلّه وأجوده المندلىّ، وبعده العود السّمندورىّ، وأجود السّمندورىّ الأزرق، الكثير الماء الرزين، الصّلب، الغليظ، الذى لا بياض فيه، الباقى على النار، الكثير الغليان وقوم يفضّلون الأسود منه، وآخرون يفضّلون الأزرق؛ ويكون فى القطعة الضخمة منه منّ «3» . ثمّ العود القمارىّ، وأجود القمارىّ الأسود، النقىّ من البياض، الرّزين الباقى على النار. قال: وربّما كان فيه شهبة يسيرة؛ وبعد القمارىّ الصّنفىّ الغليظ الكثير الماء، وقد يوازى القمارىّ فى بعض الحالات، وربّما فضّل عليه، وهما عودان يتقاربان فى الصّفة، وتكون القطعة من الصّنفىّ رطلين وأقلّ. وبعد الصّنفىّ القاقلّىّ، وهو عود أسود، فيه بعض شهبة، أشبه شىء بالعود(12/35)
القمارىّ فى منظره؛ وهو عود حلو، طيّب الرائحة. وبعد القاقلّىّ العود الريركى وهو عود صلب، خفيف، قليل الصّبر على النار، حسن المنظر واللّون، ويشبه القاقلّىّ؛ ويؤتى به من بلاد سفالة الهند. وبعده العود العطكىّ، يؤتى به من الصّين وهو عود رطب حلو طيّب، دون الصّنفىّ، وفوق «1» القاقلّىّ. ثم صنف من العود يسمّى: القشور، وهو عود طيّب الرائحة، رطب، أزرق، عدب، رائحته مثل رائحة القطعى، وهو دونه فى القيمة، وبعده المانطائىّ «2» ، وهو جنس من العود الصّينىّ، وهو قطع كبار ملس لا عقد فيها، وليست رائحته طيّبة، وهو يصلح للأدوية والجوارشنات «3» . قال: وكذلك الجلّابى، واللّواقى، والبربطائىّ «4» ، والبوطاجىّ هذه الأصناف لا خير فيها، ولا طيب لروائحها؛ وهذه الأجناس يسمونها: الأشباه.
قال: وأمّا العود المسمّى: الإفليق، فإنّه يجلب من أرض الصّين، ويكون فى العظم مثل الخشب الرّيحىّ «5» الغليظ، يباع المنّ «6» منه بدينار وأقلّ وأكثر، والعود من قشوره؛ وأمّا داخله وقلبه فخشب أبيض خفيف مثل الخلاف؛ وإذا وضع على الجمر وجد(12/36)
له فى أوّله رائحة حلوة طيّبة، فإذا أخذت النار منه ظهرت له رائحة جزازيّة «1» رديئة كرائحة الشّعر. هذا ما أمكن إيراده من أصناف العود وأجناسه ومعادنه، وهو معنى ما أورده التّميمىّ فى (جيب العروس) .
ذكر تطرية العود الأبيض وإظهار دهانته وإكسابه «2» سوادا
قال التّميمىّ فيما نقله عن أبى بكر بن محمد بن أحمد المرندج «3» المعروف بابن البوّاب:
يؤخذ من العود ما كان أبيض الظاهر، إلّا أنّ فيه رزانة تدلّ على دهانة «4» كامنة فيه فيبرى برية يسيرة، ويعمد إلى قعر قدر برام»
فيثقّب «6» حتّى يصير كهيئة المنخل، ويعمد(12/37)
إلى قدر من نحاس أو غير نحاس يكون رأسها بمقدار قعر القدر المبخّش «1» ، بحيث إنها متى انطبقت عليها لا يخرج من البخار شىء، ويصبّ فى القدر ماء، ويجعل ذلك المثقّب على فم القدر، ويطيّن، ويجعل العود فيها «2» ، وتغطّى بغطاء محكم، ويوقد تحت القدر السّفلى وقيدا جيّدا حتّى يصعد بخار الماء إلى العود من تلك الأبخاش «3» ويفتقده بعد مضىّ ساعة، ثم يكشفه ويقلّبه تقليبا جيّدا، ثم يغطّيه، ويتعاهده ساعة بعد ساعة إلى أن يظهر له أنّ دهن العود قد ظهر، ويمتحن ذلك بأن يمسح القطعة منه فى خرقة، فإذا أثّرت الدّهانة «4» فيها فليخرج وينشر فى طست حتّى يبرد ويرفعه.(12/38)
الباب الرابع من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى الصّندل «1» وأصنافه ومعادنه
والصّندل أصناف: أفضلها الأصفر الدّسم، الرزين العود، الّذى كأنّه قد مسح بالزّعفران، الذكّى الرائحة؛ ويسمّى المقاصيرىّ، واختلف فى سبب تسميته بهذا الاسم ونسبته اليه، فقال قوم: هى نسبة إلى بلد تسمّى (مقاصير) . وقال قوم:
إنّ بعض الخلفاء من بنى العبّاس أمر بأن تصنع منه مقاصير لأمّهات أولاده وخواصّ سراريّه، فسمّى بذلك؛ والأوّل أصحّ. وقيل: إنّه يجلب من بلدين من أطراف الهند، إحداهما مقاصير، والأخرى تسمّى الجور؛ فما جلب من مقاصير فهو المقاصيرىّ، وما جلب من الجور فهو الجورىّ. قالوا: وهو شجر عظام؛ وإنّه يقطع وهو رطب، ويقشر؛ وله من فوق قلبه الأصفر خشب ليس بالذّكىّ الرّيح إلّا أنّه صندل يضرب إلى البياض، وهو الصّندل الأبيض؛ وفى روائحه ضعف(12/39)
عن رائحة القلب الدّسم. وأجوده ما اصفرّ وذكت رائحته ولم يكن فيه زعارّة «1» .
ويلى الصندل الأصفر الصندل الأبيض، الطّيب الرّيح، الّذى هو من جنس المقاصيرىّ، لا يخالفه إلّا بالبياض؛ وبعده الصّندل الأبيض الّذى يضرب لونه الى السّمرة، وهو الجورىّ السّبط، الصّلب العود، الّذى يجلب من الجور، وهو صندل صلب سبط، ضعيف الرائحة، وله رائحة طيّبة، إلّا أنّها دون رائحة ما قبله. ويلى الجورىّ صنفان: أحدهما أصفر فيه زعارّة وطيب؛ والاخر يضرب فى لونه الى الحمرة، وفيه أيضا زعارّة ريح وجدّة، وما لونه منهما الى الصّفرة فإنّه يسمّى «الساوس» ؛ وقيل: «الكاوس «2» » ، وقد تفتق «3» بهما الذّرائر؛ ويدخلان فى المثلّثات «4» والبخورات. وبعدهما صندل جعد الشّعرة، لا سباطة له، اذا شقّق كان جعدا كتجعيد خشب الزيتون؛ وهو أذكى أصناف الصّندل، ولا يستعمل فى شىء سوى البخورات والمثلّثات؛ وبعده الصّندل الأحمر الشديد الحمرة؛ ويستعمل لتبريد الأورام الحارّة؛ وهو حسن اللّون، ثقيل الوزن، لا رائحة له ولا خاصّيّة غير تحليل الأورام الحارّة، وتتّخذ منه المنجورات والمخروطات، كالدّوىّ، والعتائد «5»(12/40)
وأدوات الشّطرنج ومهارك «1» النّرد وأشباه ذلك؛ ويتّخذ ذلك من الأبيض فيما يحتاج إلى لونين. والصندل الأحمر أيضا يحكّ على الحجارة الخشنة بالماء، ويطلى به على الأورام الحارّة كما ذكرنا، وعلى الماشرا «2» ، وعلى كلّ موضع من الجسد تظهر فيه حمرة دمويّة، وعلى النّقرس «3» الحادّ المتولّد من فساد الدم فى بدء العلّة، ليقوّى العضو(12/41)
ويمنع من انصباب المادّة اليه. قال التّميمىّ: وبعد الصندل الأحمر صنف يعرف بالنّجارىّ «1» ، وهو خشب صلب لا رائحة له، ولا يدخل فى شىء من الطّيب، وإنّما تتّخذ منه المنجورات والمخروطات التى ذكرناها، وذلك لصلابته ورزانته. قال:
وجميع أنواع الصّندل الّتى ذكرناها يؤتى بها من سفالة الهند.
فالأصفر الطيّب الرائحة المقاصيرىّ يدخل فى طيب النساء الرّطب واليابس وفى البرمكيّات والمثلّثات والذّرائر؛ وتتّخذ منه قلائد؛ ويدخل فى الأدوية وفى ضمادات الكبد والمعدة؛ وهو بارد منشّف محلّل للأورام.(12/42)
الباب الخامس من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى السّنبل «1» الهندىّ وأصنافه والقرنفل وجوهره
فأمّا السّنبل الهندىّ
- فقد قال أحمد بن أبى يعقوب: السنبل أصناف، وأجوده العصافير الحمر الألوان، المسلّل، والمسلّل هو الذى قد نقّى من زغبه ومسح منه، وبقى عصافير مجرّدة، واذا أمسكه الإنسان بكفّه ساعة ثم اشتمّه كانت رائحته كرائحة التّفّاح أو نحوها؛ ثم الذى يليه، وهو نوع من العصافير أصفر «2» كثير البياض والشّمط، طيّب الرائحة، قريب من الأوّل. ثم أدناه، وهو دقاق من السّنبل وجلال، ليس ممّا يدخل فى جيّد العطر.
وأمّا أصله
- فهو حشيشة تنبت بأرض الهند، وببلد التّبّت «3» أيضا.
وقيل: إنّها تنبت فى أودية بالهند كما ينبت الزّرع، ثم تجفّ فيأتى قوم فيحصدونه ويجمعونه. وقيل: إنّ الأودية التى ينبت فيها هذا السّنبل كثيرة الأفاعى وليس يأتيها أحد إلّا وفى رجله خفّ طويل غليظ منعّل بالخشب أو الحديد.(12/43)
قالوا: وتلك الأفاعى ذوات قرون فيها السّمّ القاتل الذى يقال له: (البيش) ؛ فيقال: إنّه من قرون الأفاعى. وقال قوم من أهل العلم: إنّه نبات «1» ينبت بتلك الأودية؛ وهو ضربان: ضرب خلنجىّ، يضرب فى لونه إلى الصّفرة، وهو أفضله؛ وضرب آخر يضرب إلى السواد، وهم يعرفونه فيتوقّونه؛ وربّما جهله بعضهم فمات عند مسّه، سيّما «2» إن كانت يده قد عرقت، أو هى رطبة. وقد كان بعض الخلفاء يأمر بأن يوكّل بالمراكب التى تأتى من بلد الهند إلى الأبلّة وغيرها من الفرض من يكشف السّنبل ويعتبره، فيخرج منه البيش، فيؤخذ بكلبتين من حديد وليس يمسّه أحد إلّامات لوقته، فكان يجمع ذلك فى وعاء ويلقى فى البحر.(12/44)
وأمّا القرنفل «1» وجوهره
- فقال أحمد بن أبى يعقوب: القرنفل كلّه جنس واحد، وأفضله وأجوده الزّهر، القوىّ اليابس الجافّ الذّكىّ، الحرّيف الطّعم الحلو الرائحة؛ ومنه الزّهر، ومنه الثمر؛ والزّهر منه هو ما صغر وكان مشاكلا لعيدان فروع الخربق «2» الأسود فى المنظر. والثمر منه ما غلظ وشاكل نوى التّمر، أو عجم الزّيتون. وقيل: هو ثمر شجر عظام «3» يشبه شجر السّدر. وقال آخرون: يشبه شجر(12/45)
الأترجّ. وقال آخرون: هو ثمر شجر ورقه الساذج «1» الهندىّ، واستدلّوا على ذلك بما فى طعم الساذج من القرنفليّة. قال: ويجلب من بلاد سفالة الهند وأقاصيها؛ وله بالمواضع التى هو بها روائح ذكيّة ساطعة الطّيب جدّا، حتى إنّهم يسمّون أماكن القرنفل: «ريح الجنّة» ، لذكاء رائحته. وهو حارّ يابس، لطيف غوّاص، مقوّ للقلب نافع لبعض الأكباد التى فيها عفونة، قاطع للغثيان المولّد من الرّطوبة والقىء الكائن من التّخمة والهيضة «2» ؛ وإذا دقّ مع التّفّاح الشامىّ واعتصر ماؤه مع شىء من قلوب النّعناع وأعطى الوصب نفعه؛ وقطع عنه الغثيان والقىء؛ وهو يطيّب النّكهة؛ والذّكر منه- وهو الزّهر- أقوى من فعل الأنثى. قال: وقد يصعّد منه ماء يفوق فى الطّيب ماء الورد، ويدخل فى كثير من مكلّسات «3» الطّيب والذّرائر، وفى كثير(12/46)
من المعاجين الكبار والأدوية، وفى عامّة طيب النساء، وفى اللّخالخ «1» والمخمّرات كلّها.
وقال محمد بن العبّاس المسكىّ «2» : رأيت قوما ببغداد يدورون على الصّيارفة يشترون منهم الدّنانير المروانيّة التى أمر بضربها عبد الملك بن مروان، وعلى سكّتها: «الله أحد» ؛ فسألتهم عن ذلك، فذكروا أنّها تحمل فى البحر فى أكياس قد كتب على كلّ كيس منها اسم صاحبه ووزنه، فإذا صاروا بالقرب من جزيرة عظيمة بناحية سفالة الهند وضعوا «3» الأناجر «4» ، وشدّوا المراكب ناحية، وركبوا قوارب ومعهم تلك الأكياس وأنطاع قد كتب على كلّ نطع منها اسم صاحبه أيضا؛ فيخرجون إلى موضع من تلك الجزيرة، فيبسط كلّ واحد منهم نطعه، ويحمل كيسه فوق النّطع مغطّى ببعض النّطع، حتّى اذا فعل ذلك جماعتهم، وعادوا إلى القوارب، ورجعوا إلى المراكب آخر النهار، باتوا ليلتهم تلك فى مراكبهم، ثمّ غدوا فى القوارب إلى الجزيرة، فيجدون فوق كلّ نطع من أنطاعهم من القرنفل بحسب ماله من(12/47)
المال، ولا يجدون الأكياس؛ فإن رضى القوم بما وجدوا من القرنفل على أنطاعهم أخذوه، ومن لم يرض منهم تركه وعاد إلى مركبه، ثم يعود فى اليوم الثانى فيجد كيسه بحاله، ولا يرى للقرنفل أثرا، ولا تقع عين أحد من التّجار على أحد ممّن هو فى تلك الجزيرة، ولا يقفون على موضع القرنفل ولا على شجره. وهذه الحكاية شبيهة بما ذكرناه فى أمر العود. قال التّميمىّ: وقد كان وقع إلىّ ذكر هذا بعينه؛ وزعم الّذى أخبرنى: أنّهم قديما كانوا يجدون أكياسهم مع القرنفل على الأنطاع بحالها، فكان الرجل إن اختار القرنفل حمله وترك الكيس، وإن اختار المال أخذه وترك القرنفل، الى أن غدر التّجار بهم فى بعض السنين، فحملوا المال والقرنفل، وانقطع جلب القرنفل سنين كثيرة، وغلا حتّى لم يقدر عليه، ثمّ عادوا ولزموا العدل مع أهل الجزيرة، فصاروا عند ذلك لا يجدون فوق الأنطاع غير القرنفل فإن رضوا به حملوه، وإن سخطوا تركوه ليلتهم، ثم عادوا فى اليوم الثانى فوجدوا أموالهم. وهذه الحكاية نحو ما قدّمناه فى العود.(12/48)
الباب السادس من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى القسط «1» وأصنافه
ويقال فيه: الكست «2» بالكاف والتاء، بدل القاف والطاء؛ وقد تكرّرت الأحاديث الصحيحة النبويّة- على قائلها أفضل الصلاة والسلام- بمنافعه وما فيه من الأشفية؛ فمنها ما رواه البخارىّ بسنده عن أمّ قيس «3» بنت محصن أخت عكاشة،- وكانت من المهاجرات الأول اللّاتى بايعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أنّها قالت: أتيت «4» النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم بآبن لى قد علّقت «5» عليه «6» من(12/49)
العذرة «1» فقال النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «اتّقوا الله، على «2» ما تدغرون «3» أولادكم بهذه الأعلاق «4» ، عليكم بهذا العود الهندىّ فإنّ فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب» يريد الكست، يعنى القسط.
وللقسط أصناف ذكرها محمّد بن أحمد التّميمىّ فى جيب العروس فقال:
منه ما يجلب من بلاد الحبشة؛ ومنه البحرىّ الذى يسمّى الجلود؛ وأجوده الأبيض الرقيق القشرة الّذى هو كأمثال الأصابع وأكبر، والمشقّق اليابس. ويقال: إنّهم يأكلونه فى بلادهم رطبا. وقال محمد بن العبّاس المسكىّ «5» : أخبرنى بعض البحريّين أنّه يكون فى جبال الماهات «6» ، ينبت فى شقوق الصّخور وأعالى الجبال؛ ويقال(12/50)
له [الكى «1» ] ويؤكل «2» ، غير أنّه ردىء الجوهر، اذا جفّ لا تكون له صلابة، ويشبه أصله أصل الكرفس الجبلىّ، وكذلك ورقه يشبه ورق الكرفس الجبلىّ أيضا.
قال المسكىّ: فلمّا صرت إلى الجبل جرّبت ذلك فوجدته كما قال، ورأيته كثيرا فى جبال أبهر «3» وزنجان «4» . قال التّميمىّ: ومن القسط الحلو أيضا صنف آخر غليظ الرائحة يسمّى القرنفل، ليس بطائل، ويدخل فى الدّخن «5» .
وأمّا القسط المرّ- وهو الهندىّ- فيجلب من أرض الهند؛ وأجوده ما ابيضّ ورزن؛ ومن الهندىّ صنف يضرب إلى السواد لا خير فيه. قال: ومن المرّ نوع يسمّى القرنفلىّ، ليس بطائل. وهذا النوع من القسط والذى يضرب الى السواد أدناه وأسقطه ثمنا وقيمة. والقسط المرّ الأبيض يدخل فى كثير من الأدوية والمعاجين الكبار؛ ومنه يعمل دهن القسط؛ ويشرب فينتفع به من أوجاع الجنبين والخواصر ويدرّ البول ويفتّح سدد الكبد؛ وهو حارّ يابس قوىّ الحرارة [واليبس «6» ] .(12/51)
الباب السابع من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى عمل الغوالى «1» والنّدود
أمّا عمل الغوالى
- فقد قال الزّهراوىّ «2» فى كتابه: والغالية ينقسم عملها إلى ثلاثة أقسام: الأوّل فى الوقت الذى تعمل فيه؛ والثانى الآلة التى تصلح أن تعمل فيها؛ والثالث كيفيّة عملها.
فأمّا الوقت الذى يصلح أن تعمل فيه
- فوجه السّحر قبل طلوع الشمس، لاعتدال الهواء فيه، وإن وافق أن يكون فصل الربيع فهو أفضل ويتوقّى أن يكون حالة وقت هبوب الرّيح، بل فى وقت سكونه.
وأمّا الآلات التى تصلح لعملها وسحق أجزائها فيها
- فأفضل ما سحق المسك فى هاون ذهب خالص، أو صلاية زجاج، بفهر زجاج؛ وأن يذاب العنبر فى محارة من حجر، أو فى مدهن من حجر أسود، أو زجاج؛ أو فى مدهن ذهب، او فضّة مموّهة بالذّهب، ويرفع فى إناء من ذهب أو زجاج.(12/52)
وأمّا كيفيّة عملها [وأخذ «1» ] أجزائها
- فهو أن يأخذ من المسك الجيّد أوقيّة فيسحقه برفق لئلّا يحترق من شدّة السّحق، ثم ينخله بمنخل شعر صفيق «2» وإن أمكن نخله من غير سحق فهو أجود، ثمّ يأخذ من العنبر الطّيب نصف أوقيّة فيذوّبه فى مدهن على ألطف ما يكون من النار، فاذا كاد يذوب قطّر عليه شيئا من دهن البان المطيّب، ثم ينزله بعد أن يذوب، ويعتبره بأنامله، فإن كان فيه رمل أخرجه، ثم يلقيه على المسك فى الصّلاية؛ ويحذر أن يكون العنبر حارّا فإنّ حرارته تفسد المسك؛ ثم يسحق الجميع فى الصّلاية برفق حتّى يمتزج العنبر بالمسك، ويجردهما بصفيحة ذهب لطيفة، ولا يجردهما بنحاس ولا بحديد فإنّهما يفسدانهما، ثم يرفع الغالية بالبان على حسب ما يحبّ من رقّتها أو ثخنها؛ وليس للبان حدّ يوقف عنده. وإن أراد أن يجعل المسك مثل العنبر أو دونه فعل. هذا ما ذكره الزّهراوىّ فى الغالية. وقد ذكر محمد بن أحمد التّميمىّ فى كتابه المترجم (بجيب العروس) فى باب الغوالى كثيرا منها، نذكر من ذلك ما كان يعمل للخلفاء والملوك والأكابر.
فمن ذلك غالية من غوالى الخلفاء
عن أحمد بن أبى يعقوب: يؤخذ من المسك التّبّتىّ النادر مائة مثقال، يسحق بعد تنقيته من أكراشه وشعره، وينخل بعد السّحق بالحرير الصّينىّ الصّفيق، ويعاد سحقه ونخله، ويكرّر «3» حتى يصير كالغبار؛(12/53)
ثم يؤخذ تور «1» مكّىّ أو زبديّة «2» صينىّ، فيجعل فى أيّهما حضر من البان الجيّد النادر قدر الكفاية، ويقطّع فيه من العنبر الشّحرىّ الأزرق الدّسم خمسون مثقالا وترفع الزّبديّة بما فيها من البان والعنبر على نار فحم ليّنة لا دخان لها ولا رائحة فتفسده، ويحرّك بملعقة من ذهب أو فضة حتى يذوب العنبر، ثم ينزله عن النار، فإذا فتر طرح المسك فيه، ويضرب باليد ضربا جيّدا حتى يصير جزءا واحدا، ثم يرفع ذلك فى إناء من الذهب أو الفضّة، وليكن ضيّق الرّأس ليمكن تصميمه، أو فى برنيّة زجاج نظيفة، ويسدّ رأسها بصمامة حرير صينىّ محشوّة بالقطن، لئلّا يتصاعد ريحها. قال: فهذه أجود الغوالى كلّها، وإن جعل العنبر نظير المسك فلا بأس. وهذه الغالية المتساوى فيها المسك والعنبر كانت تعمل لحميد الطّوسىّ «3» ؛ وكانت تعجب المأمون جدّا؛ وكانت هذه الغالية تعمل لأمّ جعفر، إلّا أنّهم كانوا يضيفون الى البان نظير ربعه من دهن الزّنبق «4»(12/54)
الرّصافىّ «1» النّيسابورىّ؛ وكانوا يصنعون هذه الغالية لمحمد بن سليمان، إلّا أنّهم كانوا يجعلون مع البان والزّنبق شيئا من دهن البلسان «2» الخالص؛ وكانوا أيضا يصنعون لأمّ جعفر غالية يسمّونها غالية العنبر، وذلك أنّهم يجعلون لكلّ ثلاثة أجزاء من المسك عشرة أجزاء من العنبر، وترتيب عملها كما تقدّم.
غالية حجّاجيّة تسمّى الساهريّة «3»
يؤخذ من المسك التّبّتىّ عشرة مثاقيل، ومن العنبر عشرة مثاقيل، ومن العود الهندىّ المسحوق مثقال واحد، ومن الزّعفران مثقال واحد؛ فيحلّ العنبر بدهن البان الكوفىّ الجيّد ودهن الزّنبق النّيسابورىّ، فإذا ذاب العنبر ينزل عن النار(12/55)
ويترك حتّى يفتر؛ ثم يلقى المسك المسحوق المنخول والعود والزّعفران عليه ويضرب «1» ضربا جيّدا محكما، وربّما فتق «2» بشىء من الكافور، ويرفع فى ظرف ويسدّ رأسه كما تقدّم؛ والله أعلم بالصّواب.
غالية هشام بن عبد الملك- وهى غالية صفراء
يؤخذ من السّنبل «3» العصافير وزن أربعة دراهم، ومن الصّندل المقاصيرىّ «4» ثلاثة دراهم، ومن العود الهندىّ الجيّد أوقيّتان؛ وتدقّ هذه الأصناف، وتنخل بحريرة، وينعّم سحقها بعد النّخل، وتلقى عليها من الزعفران القمّىّ «5» المطحون أوقيّة منخولة بحريرة، ويخلط جميع ذلك، ثمّ يؤخذ الزّبيب الطائفىّ والمرزنجوش «6» الرّطب(12/56)
والنّمّام «1» الرّطب، فتنقع الثلاثة ليلة فى ماء وتمرس وتصفّى وتعجن بها الأخلاط أو تعجن بطلاء عتيق عجنا جيّدا، وتلصق فى باطية «2» ، وتبخّر بالنّدّ ثلاثة أيّام، وتقلّب كلّ سبع تبخيرات مرّة؛ ثم يؤخذ لها من السّكّ «3» المثلّث أو المنصّف خمسة عشر مثقالا فتسحق سحقا جيّدا، وتنخل بحريرة، ويؤخذ نصف السّكّ وتعجن به وهو رطب(12/57)
ثم يقرّص «1» ويترك ثلاثة أيّام فى الظّلّ، ولا يدنيه من الشمس، فإذا جفّ يسحق فى صلاية، وينخل بحريرة؛ ثمّ يذاب له من العنبر الأزرق أوقيّة ببان الغالية المرتفع الجيّد، وتلقى عليه بقيّة السّكّ وتلك الأخلاط، ويضرب؛ ثم تلقى عليه أوقيّة ونصف من المسك التّبّتىّ المسحوق المنخول بالحريرة، ويضرب فيه بالأصابع حتّى يختلط، ثمّ يوعى، ويحكم سدّه كما تقدّم.
صفة غالية أخرى من كتاب محمّد بن العبّاس
يؤخذ من العود الهندىّ الجيّد المطحون المنخول عشرة دراهم، فيجعل فى قدح ويصبّ عليه ماء ورد، ويسحق به، ويسقى ماء الورد ثلاث مرّات، ثم يؤخذ من سكّ المسك خمسة عشر درهما، فتسحق، وتنخل، وتلقى على العود المحلول بماء الورد، ويسحقان جميعا حتّى يجفّ ماء الورد، ويسقيانه، ويسحقان، ثم يسقيان ثلاث مرّات حتّى يصيرا كالهباء، ثم يحلّ العنبر بدهن البان، ويلقى عليه العود والمسك بعد أن ينزل عن النار، ويحرّك بعود، ولا يحرّك بجريدة ولا ظفر، فإذا(12/58)
اختلط ردّ إلى الصّلاية وسحق حتى يصير كالعلك، ثم يذرّ عليه من المسك المسحوق بحسب ما يريده صاحبه.
غالية متوسّطة نسبها التّميمىّ الى كتاب أبى الحسن المصرىّ «1»
يؤخذ من المسك ثلاثة مثاقيل، ومن العنبر الأزرق مثقال، ومن سكّ «2» المسك المرتفع مثقالان، ومن العود الهندىّ مثقالان، ومن بان الغالية ثلاث أواقىّ؛ يحلّ العنبر فى البان بنار ليّنة، وينعّم سحق العود والمسك والسّكّ، وتخلط، وتلقى على العنبر المحلول وهو فاتر، وتضرب ضربا جيّدا حقّ تستوى.
غالية تسمّى الساهريّة «3» ختم بها التّميمىّ باب الغوالى
وقال فيها: من أحبّ أن يحلّها بالبان فهى غالية لا بعدها؛ ومن تطيّب بها يابسة بماء الورد فهى أطيب ما يكون من المسوحات.
وصفة عملها، أن يؤخذ من المسك التّبّتىّ مثقال، ومن السّكّ المثلّث مثقالان ومن العود الهندىّ ثلاثة مثاقيل، ومن العنبر الشّحرىّ مثقال؛ يسحق كلّ واحد منها بمفرده سحقا ناعما، وينخل بحريرة، إلّا العنبر فإنه يقرّض، ويحلّ فى تور «4» من(12/59)
حجارة، أو فى زبديّة «1» صينىّ؛ ثم يلقى عليه العود والسّكّ، ويخلطان به خلطا جيّدا ويجعل ذلك على الصّلاية؛ فاذا برد وجمد يسحق وينخل بحريرة، ويضاف اليه المسك المسحوق، ويسحق ذلك جميعا، ويرفع؛ فمن أراد أن يستعمل ذلك غالية يحلّ المثقال منه فى مثقال من دهن البان المفتّر، ومن أراد أن يستعمله مسوحا يحلّه بماء الورد.
وأمّا عمل النّدود
- فقد ذكر التّميمىّ منها أنواعا كثيرة؛ فمنها النّدّ المستعينىّ كان يصنع للمستعين بالله العبّاسىّ. قال: يؤخذ من العود الهندىّ خمسون مثقالا ومثله من المسك التّبّتىّ، ومن العنبر الشّحرىّ الأزرق الدّسم خمسون ومائة مثقال ومن الكافور الرّياحىّ «2» ثلاثة مثاقيل؛ يسحق العود والمسك والكافور سحقا ناعما كلّ واحد منها بمفرده، وينخل المسك بالحريرة، ويحلّ العنبر فى عبّاسيّة «3» صينىّ أو فى برام «4» ، ويلقى المسحوق عليه بعد أن ينزل عن النار، ويعجن به عجنا جيّدا(12/60)
ثم يمدّ على الرّخامة، ويقطّع شوابير «1» ، ويصفّ على منخل حتّى يجفّ ويرفع. قال:
وأمّا النّد الذى أجمع الناس عليه، فهو أن يؤخذ من العود الجيّد خمسون مثقالا، ومثله من المسك التّبّتىّ، ويحلّ لذلك من العنبر الهندىّ أو الشّحرىّ مائة مثقال وثلاثة مثاقيل، ويعجن بالمسك، ويمدّ شوابير، ويجفّف، ويرفع.
صنعة ندّ آخر
قال التّميمىّ، تركيبه لأبى سعيد يانس الفارسىّ، فجاء غاية فى الجودة؛ يؤخذ من العود الهندىّ القامرونىّ «2» أو العود القمارىّ «3» عشرة مثاقيل، ومن المسك التّبّتىّ المنقّى من أكراشه وشعره عشرون مثقالا، يسحق كلّ واحد منهما بمفرده، وينخل بحريرة صينيّة ثم يجمعان على الصّلاية، ويضاف إليهما من الكافور الفنصورىّ «4» مثقال واحد، ويحلّ(12/61)
لذلك من العنبر الشّحرىّ «1» الأزرق ثلاثون مثقالا فى تور حجر أو فى عبّاسيّة صينىّ حلّا لطيفا بنار ليّنة، بعد أن يقرّض العنبر ليسرع انحلاله، وسبيل التّور أن يحمل على النار قبل أن يلقى فيه العنبر، ليقلّ مكث العنبر على النار، فاذا انحلّ العنبر أنزل عن النار وألقى فيه المسك والعود والكافور بعد إنعام سحقها «2» ، ويضرب ذلك مع العنبر فى التّور بملعقة من فضّة أو حديد ضربا جيّدا حتى يصير جميعه جزءا واحدا؛ ثم تبلّ سكّين ويمسح بها ما تعلّق على الملعقة، ويوضع على قطعة من الرّخام ملساء قد مسح وجهها بالماء، وتبلّ اليد، ويؤخذ بها من المعجون، ويفتل على الرّخامة فتلا متساويا ويقطّع شوابير بسكّين مبلولة بالماء، على ما يراه من المقادير؛ وإن خشيت أن يبرد المعجون فيجمد، جعلت التّور الّذى فيه المعجون على رماد حارّ.
صفة ندّ كانت بنان «3» العطّارة تصنعه للواثق بالله
يؤخذ من العود الجيّد الهندىّ مائة مثقال، ومن سكّ «4» المسك خمسون مثقالا ومن المسك التّبّتىّ ثلاثون مثقالا، ومن الكافور الرّياحىّ «5» تسعة مثاقيل؛ يسحق كلّ واحد منها على انفراده سحقا ناعما، ثم تجمع كلّها على الصّلاية، وتسحق حتّى تختلط(12/62)
وتلتئم؛ ثم تؤخذ لها مائتا مثقال من العنبر الهندىّ أو الشّحرىّ «1» فيحلّ فى تور برام أو غضارة «2» صينىّ «3» ؛ فاذا ذاب ينزل عن النار، وتلقى عليه المسحوقات، وتخلط به وتعجن عجنا جيّدا، ثم تعمل منه «4» أقراص أو شوابير «5» ، وزن كلّ قطعة منها مثقال، وتجفّف.
صفة ندّ [آخر] كانت تصنعه لجعفر المتوكّل على الله
يؤخذ من العود الهندىّ القامرونىّ «6» عشرون مثقالا، ومن السّكّ «7» المثلّث خمسة عشر مثقالا، ومن الكافور الرّياحىّ مثقالان، ومن المسك التّبّتىّ ستّة مثاقيل، ومن السّكّ الأصفر الطوامير مثقال واحد، ومن الزّعفران الرّوذراورىّ «8» المسحوق مثقال؛(12/63)
يسحق كلّ واحد بمفرده، ثم تجمع على الصّلاية، وتسحق؛ ويؤخذ من العنبر الهندىّ خمسون مثقالا، فيقرّض، ويذاب فى تور مكّىّ، وتخلط فيه الأصناف نحو ما تقدّم، ويقطّع شوابير «1» .
صفة النّدّ الّذى كانت أمّ الخليفة المقتدر «2» بالله تصنعه وتبخّر به الكعبة وصخرة بيت المقدس فى كلّ جمعة
يؤخذ من المسك التّبّتىّ المنقّى من الأكراش مائة مثقال، يسحق، وينخل ويحلّ له من العنبر الشّحرىّ، وينزل عن النار، فاذا فتر ألقى عليه المسك بمفرده من غير عود ولا غيره، ويضرب ضربا جيّدا، ثم يمدّ على الرّخامة، ويقطّع شوابير ويبخّر به. قال التّميمىّ: كان رئيس الخدم ببيت المقدس يهدى إلى والدى من هذا النّدّ فيحلّه والدى بالبان، فتجىء منه غالية لا شىء أطيب منها.
صفة ندّ آخر عن أمّ «3» أبيها بنت جعفر بن سليمان- وهو الذى يسمّى اللّفيف «4» الشريف-
قال التّميمىّ: ولا شىء فى النّدّ أرفع منه- يؤخذ من العود الهندىّ القامرونىّ «5»(12/64)
أوقيّة، فيدقّ وينخل، ويسحق على الصّلاية، ويؤخذ له من السّكّ «1» المثلّث نصف أوقيّة، ومن المسك التّبّتىّ المنقّى من أكراشه، المسحوق المنخول نصف أوقيّة ويجمع الجميع، ويسحق على الصّلاية؛ ويؤخذ من العنبر الهندىّ الأزرق الدّسم أوقيّتان، ويقرّض ويذاب فى تور على نار ليّنة نحو ما تقدّم، ثم يلقى عليه العود والسّكّ والمسك، ويعجن ذلك، ويمدّ على صلاية، ويقطّع شوابير «2» ، ويجفّف ويرفع. قال التّميمىّ: أجمع العلماء بأمر العطر وأعمال الطّيب أنّ السّكّ اذا كان مثلّثا فله فى النّدّ معنى جيّد وخمرة، والبخور الّذى يدخل فيه يكون له عبق فى الثياب، سيّما «3» فى بلد مصر والبلاد المعروفة بالعفن. قال: وملاك البخور كلّه جودة العنبر والمسك والعود والكافور والنار الّتى يبخّر بها، وألّا يكون فى الفحم شىء من الزّهومة، فإنّ ذلك يفسد البخور، ويقطع رائحته. وبسط التّميمىّ القول فى النّدود، وقد أوردنا منها ما فيه كفاية؛ وهذه النّدود كلّها الّتى ذكرناها كانوا يصنعونها للبخور خاصّة.
وأمّا الّذى يصنع فى عصرنا هذا بالديار المصرية
- فهو نادر اذا عنى به يصلح للحمل والادّخار والبخور على النار، وتعمل منه عنابر «4» مختلفة الأشكال والمقادير، من الأكر والوردات والشّوابير «5» ، وغير ذلك، وتنظم قلائد(12/65)
ومعاضد «1» ووشاحات وسبحا، وغير ذلك، ويجعلها الناس بين ثيابهم اذا لبسوها ويمشون بها، ويجلسون ويرقدون وهى لا تتغيّر ولا تتكسّر، ويكسر بعض الأكرة «2» منها أو الوردة أو الخرزة فتستعمل فى البخور وغيره، وتبقى بقيّتها فى جملة العنبر المنظوم، ولا يضرها الكسر، ولا يتفتّت منها شىء البتّة إلّا إن قرض بالسّنّ أو قطع بالشّفرة أو «3» المدية؛ وإذا طال مكثه صلح وجاد وصلب، وعبق ريحه على النار، إلّا أنّه متى اختلط بالياسمين ضعف ريحه؛ وإذا تمادت عليه المدد وكثر استعماله وأفسده العرق الردىء كسّر وأضيف اليه شىء من العنبر الخام الشّحرىّ وجن به، ثم بالمسك المسحوق، وأعيد كما كان، أو على أىّ صفة أرادها صاحبه فيجىء غاية فى الجودة، وربّما كان أجود وأنفع من الأوّل؛ وها نحن نذكر كيفيّة عمله ومفرداته ومقاديره؛ والله أعلم.
ذكر كيفيّة عمل النّدّ فى وقتنا هذا ومفرداته ومقاديره
والنّدّ فى وقتنا هذا يسمّى العنبر، فاذا أطلق عندهم اسم العنبر كان هو المراد؛ ويميّز العنبر الأصلىّ إذا أريد بأن يقال فيه: العنبر الخام؛ وهذا النّدّ الّذى يتداوله الناس فى وقتنا هذا ثلاثة أنواع:
فالنوع الأوّل المثلّث
، وهو أجودها وأعطرها؛(12/66)
وصفة تركيبه ومقادير أجزائه أن يؤخذ له من العنبر الجيّد الشّحرىّ «1» الرزين الدّسم جزء، ونظيره من العود الهندىّ الجيّد، ونظيره أيضا من المسك التّبّتىّ، ويجعل العود براية أجزاء صغارا، ثم يقلى على نار ليّنة، ويطحن بعد ذلك طحنا ناعما ويسحق المسك بعد تنقيته ممّا لعلّه فيه من شعر أو غيره، ثم يقرّض العنبر صغارا ويوضع فى قدر برام لطيفة شبه رأس الخوذة «2» على نار فحم ليّنة حتى يحمرّ، ويلقى ذلك العنبر الخام فى القدر، ويحرّك بملعقة من النّحاس مدوّرة الرأس، ثقيلة، لها ساعد فاذا ذاب العنبر يلقى عليه العود المطحون شيئا بعد شىء، ويحرّكان حتّى يختلطا ويصيرا جزءا واحدا، ويجعل العنبر والعود فتائل، ويقسّم المسك على نسبة تلك الفتائل، وتعجن به عجنا جيّدا على حجر يمنىّ معدّ لذلك حتى تختلط به؛ ثم يقطّع ويجعل أكرا بحسب ما يريد، ويرفع. وهذا أجود ما يصنع من أنواع النّدّ فى وقتنا هذا، إلّا أنّه يكون ليّنا لا يكاد يستعمل للّباس «3» ، بل يحمل فى الجيوب ويبخّر به، ويشمّ، ويوضع بين الثياب، ونحو ذلك.
وأمّا النوع الثانى- وهو المعتدل
- فأجزاؤه أن يؤخذ من العنبر الخام الجيّد عشرة مثاقيل، ومن النّدّ العتيق الجيّد عشرة مثاقيل، ومن العود الجيّد المطحون عشرون مثقالا؛ ويؤخذ لذلك من المسك الجيّد ما أحبّ المستعمل ويركّب على ما نذكره «4» .(12/67)
وأمّا النوع الثالث- وهو السّوقىّ
- فأجزاؤه أن يؤخذ لكلّ عشرة مثاقيل من العنبر الخام عشرة مثاقيل من العنبر العتيق، وثلاثون مثقالا من العود المطحون ومن المسك.
ذكر صفة خلط أجزاء النّدّ وتركيبه
أوّل ذلك أن يضع القدر البرام «1» المعدّة لذلك على نار فحم ليّنة، ويكون وضعه للقدر على جنبها، ثم يكسّر العنبر العتيق ويضعه فى القدر، فاذا سخن هرسه بالملعقة النّحاس المعدّة لذلك، فاذا انهرس ونعم رفعه من القدر الى وعاء آخر نظيف ثم يمسح القدر، ويكسّر العنبر الخام قطعا صغارا، ويوضع فى القدر على أثر السّخونة ويحرّك بالملعقة حتّى يذوب؛ ثم توضع القدر على النار، ويلقى على العنبر من العود المطحون شىء بعد شىء الى أن يختلط بعضه ببعض ويصيرا جزءا واحدا، ثم يلقى عليه العنبر العتيق، ويخلط بالملعقة حتى يختلط بهما «2» ، ثم يصبّ على ذلك ماء ورد بقدر واعتدال، ويجسّ بالإبهام والسّبّابة، فإن قبل الفتل أخذ منه شيئا بعد شىء وفتله فتائل على الحجر اليمنىّ المعدّ لذلك؛ فإذا صار جميعه فتائل- وهو الفتل الأوّل- وضع القدر على النار، ووضع بعض الفتائل فيها ويصبّ عليها ماء ورد بقدر، ويعجنها عجنا جيّدا، ثم يعيدها على الحجر، ويعجنها(12/68)
بالمسك حتى يختلط بها، بحيث لا يضع المسك على النار اللّيّنة، فاذا اختلط المسك بها فتلها فتائل، ثم يقطّعها أجزاء متساوية على قدر ما يريد، ويضمّه «1» بأصابعه الثلاث:
الإبهام والسّبّابة والوسطى حتى يدخل بعضه فى بعض، ثم يدوره تدويرا جيّدا فى كفّه حتّى يندمج ويصطحب «2» ، ثم ينخسه «3» بمسلّة برفق، وينقشه بعد ذلك بالمشطاب «4» المعدّله، وان كان ساذجا دوّره على الرّخامة. هذه كيفيّة عمله وأجزاؤه؛ فإن نقص عن ذلك منع من بيعه.(12/69)
الباب الثامن من القسم الخامس من الفن الرابع فى عمل الرّامك والسّكّ من الرامك والأدهان
فأمّا عمل الرّامك والسّكّ
- فالرامك هو أصل السّكّ الّذى لا يمكن عمله إلّا منه، وصفة عمل الرامك على ما أورده محمد بن أحمد بن سعيد التّميمىّ المقدسىّ فى كتابه المترجم (بجيب العروس وريحان النفوس) ، وقال: إنه استنبطه ودبّره برأيه- يشير الى هذه الصفة التى نذكرها الآن، وإلّا فالرامك قديم، نقله هو عن غيره ممن كان قبله «1» -؛ فقال التّميمىّ فى هذه النسخة «2» : يعمد إلى العفص النّقىّ الأبيض الجيّد، فيدقّ وينخل، ويعتّق بعد طحنه سنة. قال: ومن الناس من يطبخه بالماء حتّى ينشف الماء، فيستغنى بطبخه عن تعتيقه، وإنّما يراد تعتيقه ليسلس وتذهب منه زعارّة «3» العفصيّة وطعمها، وطبيخه يفعل ذلك. قال: وتعتيقه أجود. قال:
ثم يؤخذ لكلّ عشرة أرطال من العفص المنخول المعتّق خمسة أرطال من الزّبيب العينونىّ «4» اللّحم المنقّى من عيدانه، ويؤخذ من البلح الحديث ما قد لقط من تحت(12/70)
نخله بعد نضجه، ويجفّف، ويحكم تجفيفه، وينزع نواه، خمسة أرطال، فينقع الزّبيب والبلح فى الشّراب الرّيحانىّ «1» يوما وليلة، ومن لم ينقعهما فى الشراب فلينقعهما فى الميسوس «2» الطيّب، أو فى الماء القراح، ثم يرفعان على النار، فيغليان غليانا جيّدا حتّى ينضجا، ولا تبقى فيهما قوّة، ويعتصر ماؤهما، فتعجن به العشرة «3» أرطال العفص المطحون المنخول عجنا جيّدا حتى يصير مثل الحساء أو أرقّ منه ثم يرفع فى طنجير «4» نحاس غليظ على نار ليّنة، فيطبخ وهو يحرّك بإسطام «5» حديد، ولا يفتر تحريكه، ويحترز المتولّى لطبخه، بأن يتلثّم، ويلفّ على يديه ورجليه ما يصونهما أن يقع عليهما من ذلك، حتّى اذا غلظ وصار أشقر أنزله عن النار. قال: ومن الناس من يضيف اليه وقت طبخه من عقيد «6» العنب على كلّ عشرة أرطال رطلا واحدا مع ماء الزّبيب وماء البلح؛ ومنهم من يقتصر على مائهما فقط، فإذا انتهى(12/71)
أنزله عن النار، وصبّه على بوارىّ «1» قصب، بعد أن يبرد، ويبسط عليها بسطا رقيقا مستويا بشىء قد دهن بدهن خيرىّ «2» ؛ ثم يعلّق البوارىّ بعد جفافه عليها فى سقف بيت كنين من الغبار سنة كاملة، بحيث يصل اليها مهبّ ريح الشّمال؛ فهذا عمل الرامك الذى هو أصل السّكّ.
فإذا أحببت أن تصنع منه سكّا فاقلع الرامك عن البوارىّ، ودقّه، واطحنه طحنا ناعما، واسقه أمراق الأفاويه التى يطبخ بها البان، وسنذكرها فى فصل الأدهان- إن شاء الله تعالى-؛ واذا أردت ذلك تجمع أمراق الأفاويه بعد تصفية البان عنها، وغسلها من دهنيّة البان، وسلقها وتصفيتها، فيعجن بها عجنا جيّدا كما عجن أوّلا بماء الزّبيب والبلح، وترفعه على النار وأنت تحرّكه دائما بالإسطام تحريكا جيّدا، وقد تحرّزت ممّا يتطاير منه كما تقدّم، حتى إذا شرب(12/72)
تلك الأمراق وقوى، برّدته فى سطول «1» ، وصببته على البوارىّ كما فعلت أوّل مرّة، فتعتّقه أربعة أشهر حتّى يجفّ، ثم تدقّه وتطحنه وتنخله، وتأخذ لكلّ منّ «2» منه من الهرنوة «3» وزن ثلاثة دراهم، ومن الصندل المقاصيرىّ «4» نصف أوقيّة(12/73)
ومن العود القمارىّ «1» الدّقّ «2» الجيّد نصف أوقيّة، ومن الزعفران المسحوق وزن درهمين، ومثقالا واحدا أو مثقالين- إن أحببت- من نافجة «3» مسك طريّة الفتاق قد نتف ما عليها من الشّعر وحلق، وقرّضت تقريضا صغيرا، ودقّت دقّا ناعما ومن دهن الخيرىّ «4» الكوفىّ الخالص نصف أوقيّة، ومن العسل الماذىّ «5» نصف أوقيّة؛ يعجن جميع ذلك بالسّكّ عجنا جيّدا، ويترك ثلاثة أشهر أو أربعة حتّى يجفّ ويتكامل جفافه؛ ثم يدقّ ويطحن، ويعجن بميسوس «6» ، ويطرح فى كلّ منّ منه من المسك ثلاثة مثاقيل، يعجن بها عجنا جيّدا، ويقرّص أقراصا صغارا ويترك حتّى يجفّ. قال: فهذا أذكى أبواب السّكّ وأصلحه.
فإن أردت أن تصنع منه سكّا مثلّثا أو منصّفا أو دون ذلك، فآعمد إلى كلّ عشرة مثاقيل من السّكّ الأصلىّ الّذى قدّمنا ذكره، فأنعم دقّها وسحقها، وأضف إلى العشرة مثاقيل- ان أردته مثلّثا- من المسك خمسة مثاقيل؛ وإن أردته منصّفا فأضف الى العشرة مثاقيل مثلها من المسك؛ وإن أردته دون المثلّث فأضف الى العشرة مثاقيل ثلاثة مثاقيل، وأنعم عجنه به، وقرّصه، واختمه، وجفّفه؛ فهذه صفة السّكّ المنصّف والمثلّث وما دونه، وهو أفضل أنواع السّكّ وأشرفها.(12/74)
صنعة سكّ آخر
يؤخذ من الرامك بعد تجفيفه على البوارىّ «1» كما تقدّم رطلان، يدقّ «2» وينخل ويسقى من أمراق الأفاويه نحو ما ذكرناه؛ ثم يؤخذ لذلك من العود السّنّ القمارىّ «3» المسحوق أوقيّة ونصف، ومن الصّندلى المقاصيرىّ «4» الأصفر الدّسم ثلاث أواقىّ ومن السّنبل «5» العصافير أوقيّة، ومن الهرنوة «6» أوقيّة، ومن القرنفل الزّهر أوقيّة، ومن الهال «7»(12/75)
نصف أوقيّة، ومن الزّعفران المائىّ «1» أوقيّتان؛ يدقّ ذلك، ويطحن وينخل، ويلقى على السّكّ فى الطّنجير وهو على نار ليّنة، ويصبّ عليه من دهن الخيرىّ «2» الكوفىّ(12/76)
الخالص أوقيّتان، ومن العسل الماذىّ «1» الأبيض أوقيّتان، ويحرّك ساعة، ثم يوضع عن النار، ويبسط على باريّة «2» بعد أن يبرد، ويعتّق سنة، ثم يقلع فيدقّ دقّا ناعما ويعجن بميسوس أو بماء قراح، ويلقى على كلّ منّ «3» منه من المسك ربع مثقال بعد سحقه، ومن العسل خمسة دراهم، ويقرّص ويختم. قال التّميمىّ: هذه الأفاويه- فيما أرى- كثيرة لرطلين عفصا؛ وأنا أرى أن يكون العفص سبعة أرطال بالبغدادىّ، فإنّه «4» يحتمل ذلك.
صنعة رامك وسكّ آخر
ذكر التّميمىّ عن أحمد بن أبى يعقوب أنّه عمله، وأنّه أجود ما يكون من السّكّ. قال ابن أبى يعقوب: صفة عمل الرّامك أن يؤخذ من العفص البالغ الجيّد، فيرضّ «5» ، ويصيّر فى قدر كبيرة، ويصبّ عليه من الماء ما يغمره، ثم يطبخ أيّاما، ويزاد فى مائه كلّما نشف حتى ينضج، ثم يخرج العفص فيجعل فى شمس حارّة حتّى يجفّ، ويرفع ذلك الماء الذى طبخ فيه، ويؤخذ ما جلس فيه من العفص فيجفّف، ويضاف الى العفص، ويدقّ، وينخل بمنخل شعر، ثم يردّ إلى القدر؛ ويصبّ عليه ماء كثير، ويطبخ به يومين أو ثلاثة حتى تذهب العفصيّة(12/77)
منه، ثم يسحق على صلاية حتّى يجفّ، ويصنع منه أمثال العلك؛ فهذا عمل الرامك، ولم يذكر فيه البلح ولا الزّبيب.
قال: فاذا أردت أن تصنع من هذا الرامك سكّا فخذ منه ستّة أجزاء، ومن نوافج المسك جزءا واحدا، فتنزع الشّعر عن النّوافج، وتقرّضها، وتدقّها دقّا شديدا وتطحنها، ثم اخلطها بالستّة أجزاء، واسحق الجميع على الصّلاية بالماء أو بالشراب أو بالنّضوح حتى يستوى، ثم يقرّص، فاذا جفّ فخذ منه ستّة أجزاء، ومن المسك التّبّتىّ جزءا واحدا، واسحق المسك، وحلّ السّكّ بماء ورد، وأضفه اليه بالعجن الجيّد، وقرّصه يأتك سكّا طيّبا.
فإن أردت أن تعمل منه منصّفا أو مثلّثا أو غير ذلك، فاسحقه، وألق على كل مثقال منه نصف مثقال من المسك، أو ثلث مثقال، أو دون ذلك، واعجنه به وقرّصه.
قال: فهذا أفضل ما يعمل من السّكّ.
وأمّا الأدهان «1» [وما قيل «2» فيها]
- فهى كثيرة، نقتصر منها على ما يدخل فى أصناف الطّيب والغوالى، مثل دهن البان، ودهن الزّنبق، ودهن الحماحم ودهن الخيرىّ، ودهن التّفّاح، والأدهان المركّبة العطرة، وأدهان تصلح الشّعور.
ولنبدأ بذكر دهن البان وحبّه ومعادنه وكيفيّة طبخه
- قال محمد بن أحمد التّميمىّ: شجر البان شجر عظيم، يحمل حبّا ألطف من البندق(12/78)
فى مقدار حبّ النّبق، مستديرا، ذا ثلاثة حدود كحدود «1» أزجّة «2» النّشّاب، يكسر فيخرج من جوفه حبّ أبيض دهنىّ، تعتريه مرارة يسيرة؛ ومنابته بينبع من أرض الحجاز، وبأرض عمان «3» ، وباليمن.
قال: ومنه شىء ينبت بأرض مصر، وشىء يجلب من أرض الشّراة «4» وناحية البلقاء «5» ، وشىء ينبت على شاطئ البحيرة «6» المنتنة ما بين زغر «7»(12/79)
وأريحا «1» ؛ وأجوده اليمنىّ والحجازى؛ وأجود حبّه ما كان قشره يضرب الى السّواد؛ وأمّا الأبيض القشر فإنّه ردىء، يعرض له الفوران عند طبخه.
وأمّا كيفيّة إخراج دهنه
- فإنّه يؤخذ هذا الحبّ فيطحن فى أرحية معدّة له، ثم يجعل فى قدر نحاس كبيرة تسع عشر كيالج وأكثر بالكيلجة «2» الشاميّة، ومقدار كلّ كيلجة ثمن «3» إردبّ بالكيل المصرىّ، ويكون الحبّ المطحون قد ملأ ثلثى القدر ويصبّ عليه من الماء ما يغمره، وزيادة أربع أصابع مفتوحة، ويوقد تحته بالحطب الجزل «4» حتّى يغلى، فيطبخ نصف يوم، وكلّما نقص الماء يزاد، حتى إذا انتصف النّهار يقطع عنه الوقود، ويترك حتّى يبرد، ثم يلقط ما طلع فوقه من الدّهن ويجمع فى آنية حتى لا يبقى من الدّهن شىء؛ فهذا استخراج حبّ البان.
وأمّا كيفيّة [طبخه «5» ] بالأفاويه حتى يصير بانا مرتفعا
- فمنه كوفىّ ومنه مدنىّ.(12/80)
أمّا الكوفىّ
- فقال أحمد بن أبى يعقوب مولى ولد العبّاس فيه: يؤخذ الدّهن المستخرج من حبّ البان، فيجعل فى قدر برام «1» كبيرة، ويطبخ بمثله من الماء الصافى، ولا يزال يطبخ أيّاما، وكلّما نشف الماء نقل إلى قدر أخرى، ويصبّ عليه من الماء الصافى نظير الدّهن، ويطبخ حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن؛ يفعل ذلك به ثلاث مرّات؛ ثم يطبخ بالماء الصافى والورد الذى لم يتفتّح ثلاثة أيّام؛ ثم يطبخ بالماء والصندل الأصفر المقاصيرىّ المخروط أيّاما ثلاثة حتّى تذهب عنه رائحة الدّهن؛ ثم يطبخ بالعود الهندىّ السّنّ والماء الصافى يومين أو ثلاثة ثم يطبخ بسكّ المسك المنصّف المسحوق بماء الورد يوما، وهذا الطبخ الّذى بالسّكّ وماء الورد يسمّى: النّشّ، ويسمّى بانه: البان المنشوش.
قال: ثم ينزل ويصفّى، ثم ينشّ بعد طبخه بالسّكّ وماء الورد بالمسك التّبّتىّ المسحوق المحلول بماء الورد الجورىّ نشّا جيّدا حتّى ينشف عنه ماء الورد، ويأخذ البان قوّة المسك.
وأمّا البان المدنىّ
- فإنّ أهل المدينة يطبخونه بالأفاويه الطيّبة مثل(12/81)
السّليخة «1» والسّنبل «2» والقرنفل والكبابة «3» والهرنوة «4» والصّندل الأصفر المخروط، وسنّ العود(12/82)
الأسود، يطبخونه بكلّ واحد من هذه الأصناف أيّاما مع الماء الصافى؛ ثم يبرّد ويطبخ بالصّنف الآخر حتّى ينتهى- على ما نصفه إن شاء الله [تعالى]- إلّا أنّ هذا الدّهن لا يصلح للغوالى، لأنّه يتغلّب على روائح العنبر والمسك بروائح الأفاويه وحدّتها، فلا تستعمله الملوك إلّا أن تدهن به أيديها فى الشتاء، وتستعمله النساء فى أطيابهنّ وخمرهنّ.
صنعة بان آخر
- قال التّميمىّ فيه: هذا بان ركّبته أنا، واخترعته رأيا من ذات نفسى، فجاء غاية فى الطّيب؛ وهو أن ينقّى من حبّ البان البالغ فى شجره ما كان قشره يضرب إلى السواد، فتنقّى منه مقدار ما يخرج لك من الدّهن زيادة على ثلاثين منّا، وذلك يخرج من مائة منّ من الحبّ البالغ إذا طحن وطبخ وأحكم طبخه- على ما قاله أبو عمران موسى اليهودىّ المعروف بالبانىّ «1» . وقال أبو سعيد اليهودىّ العطّار- وكان عالما بعمل البان وعلاجه وطبخه-: إنّ الكيلجة الفلسطينيّة تخرج منا «2» من الدّهن، وكلّ كيلجة وربع نصف ويبة بالكيل المصرىّ والويبة سدس إردبّ، فتجعل من الثلاثين منا عشرين منا أوّلا، وعشرة أمناء ثانيا.
قال: فاذا حصّلت من حبّ البان ما يخرج لك ذلك، وطحنته، وجمعت(12/83)
دهنه كما تقدّم، تعمد الى قدر برام «1» لم يدخلها شىء من الدنس، تسع أربعين منا- فتصبّ فيها من دهن البان عشرين منّا بعد أن يجلس «2» ، وتصفّيه؛ ثم تعمد الى منوين من السّليخة «3» الحمراء تكون قضبانا دقاقا، فتغلى لها من الماء فوق غمرها، وتصبّه عليها فى إناء غضار «4» أو صفر، وتكمر «5» الإناء ليرجع بخار الماء اليها وتتركها منقوعة يوما وليلة، أو يومين. ورأى أبو سعيد أن تغلى على النار بعد نقعها ثم يصفّى ماء السّليخة على دهن البان، وتعاود بماء ثان فتغلى به أيضا حتى تخرج قوّتها، وتصفّيه على دهن البان أيضا، وتطبخه حتى ينشف الماء ويبقى الدّهن فترفعه فى قراريب «6» بعد ترويقه؛ ثم تعمد إلى السّليخة فتغمرها بماء ثالث «7» ، وتطبخها به(12/84)
طبخة خفيفة لتستخرج قوّتها، ثم تصفّيها، وتطبخ بالماء الّذى يخرج منها العشرة «1» أمناء البان الثانية، وتعزلها فى قراريب «2» مفردة؛ فإن كانت السّليخة قد ضعفت بعد استخراجك منها الماء الأوّل فقوّها بنصف منّ آخر لتطيّب به العشرة أمنان الثانية؛ وكذلك تفعل فى كلّ نوع من الأنواع التى نذكرها إذا استخرجت ماءه الأوّل ورأيته يضعف عن أن يطيّب البان الثانى فقوّه بشىء منه طرىّ، ثم تنقع من السّليخة»
الحمراء التّفّاحيّة المنسوفة منّا ونصف منّ فى ماء حارّ يوما وليلة، ثم تغليه وتصفّيه على العشرين منّ «4» بان المطبوخة بالسّليخة فى القدر، ثم صبّ عليه من الماء ما تكمّله به حتى يصير الماء نظير الدّهن، واطبخه على الرسم حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن فأعده فى قراريبه، ثم انقع السّليخة أيضا فى ماء ثان، وقوّها إن ضعفت، واطبخ بها العشرة أمناء الدّهن الثانية كما تقدّم؛ ثم برّده، وأعده فى قراريبه؛ ثم خذ من قرفة «5»(12/85)
القرنفل الحارّة الذّكيّة منوين فدقّهما تهشيما، ثم اغل لهما عشرين منا من الماء وصبّه عليهما، واكمره «1» بالغطاء يومين وليلتين، ثم اغله بهما غلية واحدة، وصفّه على البان الأوّل، واطبخه نصف يوم حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن، فبرّده، وأوعه وأحكم سدّه، وانقع القرفة أيضا بماء حارّ، وقوّها بربع منّ، ودعها يوما وليلة ثم اغلها، وصفّ ماءها على البان الثانى حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن، فبرّده وأعده إلى ظروفه، وأحكم سدّها.
قال: فإن أحببت أن ترفعه بالقرنفل- وهو أفضل-، فخذ من القرنفل الجيّد(12/86)
الحبّ المنسوف نصف منّ، فهشّمه، واغل له من الماء عشرين منا، وصبّه عليه وهو حارّ، وغطّه يومين وليلتين، ثم صفّه على البان الأوّل فى القدر، واطبخه به وافعل فى طبخه نحو ما تقدّم؛ وانقع القرنفل المسلوق فى سبعة أمناء من الماء الحارّ ثم اغله، واطبخ به البان الثانى كما تقدّم؛ ثم خذ من البسباسة «1» الحمراء نصف منّ فانقعها فى عشرة أمنان من الماء الحارّ يوما وليلة، وصفّ الماء على البان، واطبخه به كما تقدّم، وافعل فى البان الثانى كما تقدّم، ثم يطبخ بماء الورد بعد البسباسة؛ ثم خذ من الورد الفارسىّ الأحمر المنقّى من أقماعه منوين، واغل لهما من الماء الصافى عشرين منا، وصبّها عليهما، واكمره بما يردّ بخاره فيه، ودعه فيه يومين ثم صفّه على البان الأوّل من غير أن تغليه، واطبخه به على الرسم، وصبّ على الورد عشرة أمناء من الماء الحارّ، وقوّه بنصف منّ من الورد الطرىّ، وصفّه على البان(12/87)
الثانى، واطبخه به كما تقدّم؛ ثم خذ من السّنبل «1» العصافير الجيّد منا واحدا، واغل له من الماء عشرين منا، وصبّه عليه، واكمره بما يردّ بخاره فيه يومين؛ ثم اسلقه سلقة خفيفة، وصفّه على البان الأوّل، واطبخه على الرسم، وقوّ السّنبل بثمن منّ وانقعه يوما وليلة فى ثمانية أمنان من الماء؛ واغله على النار، وصفّه على البان الثانى، واطبخه به كما تقدّم؛ ثم خذ من الهرنوة «2» منّا وربع منّ فهشّمه «3» ، واغل له من الماء عشرين منا، وصبّه عليها «4» ، واكمره حتّى ينعكس بخاره اليها، واتركه يومين وصفّه على البان الأوّل، واطبخه به؛ ثم قوّ الهرنوة بثمن منّ منها، وانقعها فى عشرة أمناء من الماء الحارّ؛ وصفّه على البان الثانى، واطبخه به كما تقدّم؛ ثم خذ من الصّندل الأصفر المقاصيرىّ «5» الدّسم منا وأوقيّتين، واخرطه خرطا رفيعا على نطع واجعله فى سفن «6» ، واغل له عشرين منا ماء، وصبّه عليه، واكمره يومين وليلتين، ثم اغله به، وصفّه على البان الأوّل فى القدر، واطبخه به حتّى ينشف الماء، وبرّده، وأعده إلى ظروفه؛ ثم قوّ الصّندل بأوقيّتين، وانقعه يوما وليلة واغله؛ ثم صفّه على البان الثانى، واطبخه به نحو ما تقدّم؛ ثم خذ من العود(12/88)
الأسود السّنّ نصف منّ أو ثلثى منّ إن أحببت فانقعه فى الماء الحارّ، واتركه فيه ثلاثة أيّام وثلاث ليال، ثم اغله على النار، وصفّه على البان الأوّل، وثنّ العود وثلّثه بالماء الحارّ والغليان، واجمع ماءه الثانى والثالث، وصبّهما على البان الأوّل واطبخه بالمياه الثلاثة حتى ينشف الماء ويبقى الدّهن، ثم برّده وأعده إلى ظروفه ثم اغل العود بخمسة أمناء ماء غليانا جيّدا، واطبخ به البان الثانى حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن، فبرّده وأودعه فى ظروفه.
قال: فهذا البان الأوّل الذى لا بعده، والثانى الذى دونه، ولم يبق إلّا نشّه «1» بالمسك وسكّ المسك، على ما نصف إن شاء الله تعالى.
قال التّميمىّ: ورأيت أبا سعيد العطّار يؤثر أن يهشّم القرفة والقرنفل والهرنوة، ويجمع ذلك مع السّنبل فى إناء كبير، ويصبّ عليه من الماء الحارّ ثلاثين منّا، وينقعه فيه يومين وليلتين، ثم يصفّى ويعزل، ويصبّ على الأفواه «2» ماء حارّا عشرين منّا، ويصفّى على الماء الأوّل فى سفن «3» ؛ ثم يطبخ به البان الأوّل فى ثلاث سقيات وهو على النار، كلّما نشف ثلث الماء صبّ عليه الثلث الآخر فإذا انتهى يبرّد ويوعى فى ظروفه حتى تثنّى الأفواه بماء ثان للبان الثانى، وتطبخ به على الرسم.(12/89)
وقال: هذا أروح وأخفّ مؤونة من تكرار الطبخ بكلّ نوع على حدته إلّا الصّندل والعود، فإنّه لابدّ من طبخهما بماء، كلّ منهما على الانفراد.
قال: ورأى سعيد بن عمّار البانىّ وأبو عمران بن الحارث البانىّ أن يطبخ البان بالماء والأفاويه جميعا بعد نقعها، ولا يصفّى الماء عنها.
وقالا: طبيخه بالأفاويه مع الماء أقوى له، لأن «1» البان ينمحق «2» فى الأفاويه.
وقال سعيد بن عمّار: تسلق الأفاويه بعد إخراجها من البان، كلّ صنف منها على انفراده، ويؤخذ ماء كلّ صنف منها على حدته، ويترك بما بقى فيه من البان ويعجن به السّكّ «3» كما ذكرناه قبل.
قال التّميمىّ: وأنا أرى عجن السّكّ بأفواه «4» قويّة منقوعة خيرا وأفضل. وقال:
عرضت هذه النّسخة «5» التى اخترعتها- وهى الّتى تقدّم ذكرها- على أبى عمران موسى بن الحران البانىّ فعجب من ذلك، وقال: والله إنّ هذه الطريق لطريقى فى عمل البان وطريق كلّ حاذق، ما عدوت منها شيئا، وما كنت أظنّ أحدا يصل إلى علم مثل هذا من عند نفسه من غير أن يأخذه عن صانع؛ [والله أعلم] .(12/90)
صفة نشّ «1» البان على رأى ابى عمران البانىّ
قال أبو عمران: إذا أردت (نشّ) البان فاسحق للعشرين منّا منه بعد أن يبرد ويجلس «2» من المسك التّبّتىّ مثقالين، ومن سكّ المسك المرتفع أربعة مثاقيل وانخلهما بحريرة، واعجنهما بماء ورد، ثم حلّهما بماء الورد بعد عجنهما حتى يصيرا مثل الحساء، وصبّهما على البان «3» الذى تريد نشّه فى قدر جديدة معدّة للنّشّ واجعله على الكانون الذى يسمّونه (نافخ نفسه «4» ) ، أو غيره، وأوقد تحته بنار فحم، وحرّكه بقصبة فارسيّة دائما وهو يغلى حتى ينشف ماء الورد، وعلامة ذلك أن يعلق المسك والسّكّ برأس القصبة مثل الشّمع أو مثل الغالية، فأنزله عند ذلك عن النار واتركه حتّى يبرد، وارفعه.
وأمّا نشّه على ما ورد فى كتاب «5» العطر المؤلّف للمعتصم بالله-
فهو أن تأخذ من البان الأصلىّ الأوّل الجيّد رطلين، فتجعلهما فى طنجير برام جديد لم يدخله شىء غير البان، ثم خذ لهما من السّكّ «6» المثلّث المرتفع أوقيّة، ومن العود(12/91)
الهندىّ أوقيّة، واسحق كلّ واحد منهما، وانخله بحريرة، ثم اعجنهما بماء الورد حتّى يصيرا أرقّ من الحساء المصنوع من الدقيق، وصبّهما على البان فى الطّنجير وارفعه على نار ليّنة حتى يغلى غليانا رفيقا وأنت تحرّكه دائما بأنبوبة قصب فارسىّ حتّى ينشف ماء الورد، ويعلق السّكّ والعود برأس الأنبوبة، فأنزله حينئذ عن النار، ودعه حتّى يبرد، وصفّه فى إنائه، ثم انزع ما فى أسفل الطّنجير من السّكّ والعود بزأس سكّين، أو بملعقة من حديد، واعزله لعمل الغالية؛ ثم اغسل الطّنجير غسلا جيّدا، وجفّفه، وأعد اليه البان الّذى نششته بالسّكّ والعود، واسحق للرّطلين من المسك أوقيّة، ومن العنبر الشّحرىّ أوقيّة، وانخل المسك بحريرة صفيقة، والعنبر بخامة «1» ، ثم اجمعهما على الصّلاية، واسحقهما جميعا، ثم حلّهما بماء الورد مثلما حللت السّكّ والعود، وصبّهما فى الطّنجير على البان، وارفعه على نار ليّنة، وأدم تحريكه بأنبوبة القصب. ولا تغفل عن تحريكه، وتكون ناره الآن ألين من النار الأولى التى نششت بها السّكّ والعود، فاذا نشف ماء الورد وتعلّق المسك برأس القصبة، فأنزله عن النار، وبرّده، وارفعه.
قال: ونشّ على أثره بما بقى فى الطّنجير من ثفل «2» المسك والعنبر بانا ثانيا يكون دون الأوّل.
وأمّا دهن الزّنبق «3» وما قيل فيه
- فمنه أصلىّ خالص، ومنه مولّد؛ فأمّا الخالص فمعروف، ولم أقف على كيفيّة عمله فأذكرها.(12/92)
وأمّا المولّد
- فقد ذكره التّميمىّ، ونقله عن الكتاب المؤلّف للمعتصم فقال: تأخذ من الشّيرج الرائق منّا، فتصبّه فى طنجير برام «1» ، ثم تأخذ من ورد النّسرين «2» أوقيّة، ومن بزر الشاهسفرم «3» غير المفروك وورقه من كلّ واحد منهما أوقيّة، ومن بزر النّسرين نصف أوقيّة، ومن زهر الياسمين الأبيض الطرىّ الغضّ لقاط يومه نصف رطل، ومن بزر الورد الأحمر الطرىّ نصف أوقيّة، ومن قضبان قلوب «4» شجر البلسان «5» الطريّة خمسة قضبان أو ستّة، وإن تعذّرت الطرية فخذ من لحائه الجافّ(12/93)
أوقيّة ونصف أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر نصف أوقيّة؛ واقسم هذه الأصناف وانقعها فى ماء ورد ونضوح وماء ريحان مصعّد من كلّ واحد نصف رطل، واتركها يوما وليلة منقوعة، ثم ألق ذلك على الدّهن مع الياسمين الطرىّ الأبيض، ثم ارفعه على نار ليّنة، وحرّكه بشقّة قنا حتى تنشف المياه الّتى نقعت فيها الأصناف، فأنزل الطّنجير عن النار، وأحكم تغطيته لوقته، واتركه إلى الغد، ثم صفّ الدّهن عن الثّفل، فاذا برد فألق على كلّ منّ من هذا الدّهن رطلا من الزّنبق المصرىّ الجيّد ثم بعه على أنّه زنبق خالص.
قال: وإن شئت فخذ من دهن الشّيرج الرائق العتيق، واجعله فى دستجة «1» ، وألق على كلّ رطل منه فى بكرة النهار الأوّل من زهر الياسمين الطرىّ الأبيض الّذى لا نداوة فيه أوقيّة، وسدّ رأسه «2» ، واجعله طول النّهار فى شمس حارّة؛ ثم افتحه من الغد، وألق عليه من الياسمين نصف أوقيّة، ودرّجه فى كلّ يوم بنقصه «3» درهما حتّى يبقى وزن درهم، فألقه فيه فى كلّ يوم إلى تمام أربعة عشر يوما، ثم اقطع عنه الياسمين، ودعه أربعة عشر يوما فى الشمس حتّى ينطبخ؛ فإذا انضمّ الزّهر الذى ألقيته فى الدّهن، فألق عليه فى كلّ يوم وزن درهم أو درهمين من زهر الياسمين سبعة أيّام، ثم دعه سبعة أيام، وألق عليه سبعة أيّام، ثم اقطع الإلقاء عنه ودعه فى الشمس تمام ستّين يوما حتّى يجفّ الزهر؛ ثم صفّه على شقّة غربال وخذ ما صفا منه فأودعه القوارير، وأحكم سدّها؛ فهذا زنبق غاية لا بعده.(12/94)
وأمّا دهن الحماحم «1» [وما قيل فيه «2» ]
- فقال محمد بن العبّاس: يؤخذ من رءوس الحماحم السّود أوّل ما تظهر قبل أن تبرز، ومن ورقه «3» الصغير الأخضر الذى يجنى منه، فيعزل، ويؤخذ تور «4» حجارة، أو برمة جديدة، تغسل غسلا جيّدا ويصبّ فيها قدر رطل ماء ورد جورىّ، ويطرح فيه الحماحم والورق مع عشرين حبّة من حبّ القرنفل الزّهر، ويصبّ على ذلك من دهن الخيرىّ «5» الكوفىّ الفائق والزّنبق السابورىّ لكلّ عشرة رءوس من الحماحم الضخمة رطل من الخيرىّ والزّنبق ثم اغله بنار فحم لينة حتّى ينضج الحماحم؛ ثم خذ مثقال عود هندىّ مسحوق ومثله من السّكّ «6» المرتفع، ونصف مثقال من الكافور، ووزن دانق «7» من المسك(12/95)
يعجن ذلك بزنبق، ويبخّر، ويقلّب بعد كلّ ثلاث بندات «1» ، ثم يصفّى الدّهن من فوق الحماحم؛ وتعصر حتّى لا يبقى فيها شىء من الدّهن، ثم صبّ الدّهن على الأفاويه المبخّرة، ويحرّك فى باطية، ويترك أربعة أيّام حتّى يصفو؛ ثم تبخّر قارورة نظيفة بسكّ وكافور وعود؛ ثم صبّ فيها الدّهن، وحلّ فيه من المسك ثلث مثقال أو أكثر فإذا أردت استعمال شىء من الدّهن فحرّك القارورة. ومن أحبّ أن يزيده دهنا مبخّرا ويفتقه «2» بشىء من كافور فعل.
وأمّا دهن الخيرىّ «3»
- فمنه أصلىّ، ومنه مولّد:
فأمّا الأصلىّ الخالص
فلم أقف على كيفيّة عمله.
وأمّا المولّد
- فقد ذكره التّميمىّ عن الكتاب المؤلّف للمعتصم، فقال: تأخذ من الشّيرج الصافى منّا فتصبّه فى طنجير «4» برام، وتأخذ له من بزر الحماحم وزن ثلاثة(12/96)
دراهم، ومن بزر الأفرنجمشك «1» خمسة دراهم، ومن ورقه عشرة دراهم، ومن ورق الحماحم وقلوبه «2» ستّة عشر درهما رطبا كان أو يابسا، ومن بزر الخيرى «3» الخمرىّ والاسمانجونىّ «4» الطرىّ النقىّ من خضرته من كلّ واحد خمسة دراهم، ومن بزر الخيرىّ الأصفر أربعة دراهم، ومن ورق الورد الأبيض ربع أوقيّة، ومن قلوب «5» الأترجّ الورق الرّطب وورده المفتّح وورد النارنج الطرىّ وقشره من كلّ واحد(12/97)
نصف أوقيّة، ومن قلوب النّمّام «1» الطرىّ أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر ربع أوقيّة؛ يرضّ الصّندل مع ما كان من الأوراق اليابسة والبزور، وينقع بماء الورد وبماء زهر الخيرىّ «2» المصعّد يومين، وتلقى الأزهار والأوراق وماء الورد والخيرىّ المنقوع فيه على الدّهن، ويوقد تحته «3» بنار ليّنة، وأنت تحرّكه تحريكا مستمرّا بشقّة قنا، حتى إذا علمت أنّ الدّهن قد قبل روائح ما استودعته، أنزلت الطّنجير وغطّيته ليلة ثم تصفّى الدّهن فى القوارير، وإن شئت خلطته بدهن خيرىّ فجعلت على المنّ منه من هذا الدّهن رطلا، أو على الرّطل منه منّا، فإنّه يأتى غاية فى الطّيب؛ وقد يباع هذا الدّهن مفردا بسعر الخيرىّ الخالص. قال: وإن أردت أن تجعل منه غير مطيّب، فخذ الشّيرج واجعله فى قارورة، وألق على كلّ رطل من الشّيرج أوقيّة ونصفا من زهر الخيرىّ الخمرىّ والاسمانجونىّ «4» الطرىّ الّذى لقط عند غروب(12/98)
الشمس، وتلقيه فيه من أوّل الليل، ثم تعلّق القارورة فى بئر ماء عشرة أيّام، ثم تجعلها فى الشمس عشرة أيّام، وتضع فيه فى كلّ عشيّة من زهر الخيرىّ «1» الاسمانجونىّ «2» والخمرىّ لقاط وقته «3» فى كلّ «4» يوم وزن ثلاثة دراهم، ثم يعاد الى البئر عشرة أيّام؛ ثم يخرج ويعلّق فى الشمس، ويجدّد «5» له زهر كرّة «6» ثالثة، ويترك فى الشمس حتّى يجفّ ورقه، ويصفّى بمنخل فيأتى دهن خيرىّ يضرب المثل بطيبه «7» ؛ والله أعلم بالصواب.
وأمّا دهن التّفّاح وما قيل فيه
- فأجوده ما ألّفه التّميمىّ فقال: تأخذ من دهن الخيرىّ ودهن الورد من كلّ واحد نصف منّ»
، فتخلطهما فى ظرف وتأخذ من ورق الآس الغضّ ما أحببت، فتدقّه بشىء من الماء القراح، وتستقطره(12/99)
فى قابلة «1» ، وتأخذ مما قطر منه زنة مائة درهم، ومن ماء الزعفران المصعّد «2» خمسين درهما، وتخلطهما فى برنيّة، وتصبّ عليهما من ماء الورد ثلاث أواقىّ، وتدقّ من المحلب المقشّر مائة درهم، وتعجنه بنصف أوقيّة ميعة حمراء سائلة عجنا شديدا وتعزله، ثم تأخذ من قشور التّفّاح الشامىّ البالغ الطرىّ رطلا فتلقيه فى المياه وتغليها عليه، ثم تمرسه مرسا جيّدا، وأنزله عن النار، ثم ألق فيه أوقيّة من فاغية «3» الحنّاء وجرزة من ورق النّمّام «4» الطرىّ، وتلقى المحلب المعجون بالميعة فى الدّهن وتضربه به ضربا جيّدا، وتسحق له من القرنفل مثقالين، ومن السّنبل مثقالين وتنخل ذلك، وتضيف اليه أوقيّة ذريرة «5» ممسّكة مفتوقة، وتعجن الجميع بنضوح عتيق، وتخمّره يومين فى باطية بالعود والكافور، وألقه فى الدّهن الّذى حللت فيه(12/100)
المحلب، واضربه به، ثم اقلبه على المياه الّتى فيها قشور التّفّاح والفاغية والنّمّام «1» وأحكم سدّ رأس الإناء، وضعه فى شمس حارّة سبعة أيّام، وحرّكه فى كلّ يوم ثم ارفعه بعد الأسبوع فى طنجير على نار ليّنة، واطبخه حتّى ينشف الماء، ثم برّده واقطف الدّهن فى ظرف مبخّر، وافتقه «2» بمسك وكافور من كلّ واحد سدس مثقال؛ فهذا دهن التّفّاح الفاخر.
وأما الأدهان المركّبة العطرة
- فقد ذكر منها التّميمىّ وغيره كثيرا؛ وقد اقتصرنا منها على أطيبها وأجودها وأعطرها.
فمنها دهن ألّفه التّميمىّ فجاء غاية، وسمّاه: الدّهن الفيح «3» ، تعمل منه غالية رفيعة.
قال: وهذا الدّهن يفوق البان طيبا، وتدهن منه فى الشتاء الأطراف والوجه فيفوق كلّ دهن طيّب؛ تأخذ من دهن الورد الفارسىّ الطرىّ ثلاث أواقىّ، ومن الزّنبق السابورىّ الرّصافىّ «4» أو المصرىّ أوقيّتين، ومن دهن البنفسج أوقيّتين، ومن دهن الخيرىّ أوقيّتين، ومن البان المنشوش «5» بالمسك أوقيّتين، ومن دهن النرجس أوقيّة؛ تجمع هذه(12/101)
الأدهان فى خماسيّة «1» ، ثم تأخذ من العود الجيّد الفائق وزن درهم ونصف، ومن الصّندل الأصفر المحلول بماء الورد المخمّر بالزّهر والنّمّام «2» وزن درهم، ومن السّكّ المرتفع وزن درهم، ومن زهر القرنفل الذكىّ نصف مثقال، ومن الهرنوة «3» مثل ذلك ومن السّليخة «4» التّفّاحيّة وزن درهم، فتدقّ ذلك وتسحقه، وتنخله بحريرة، ثم تضيف إلى هذه الأصناف من الزّعفران القمّىّ «5» المسحوق وزن دانقين، ومن الكافور الرّياحىّ «6» نصف مثقال، ومن المسك ربع مثقال، ومن النّدّ مثقالا، تسحق المسك والنّدّ وتضيف اليهما الكافور بعد سحقه على الانفراد والزّعفران؛ ثم تعجن الجميع بشىء من الدّهن، وتقطّر فيه من دهن البلسان «7» زنة دانق، ومن دهن الأترجّ زنة دانقين وتضربه ضربا جيّدا، ثم تخلطه بالدّهن، وتضربه به حتّى يختمر، وتقيم سبعة أيّام تضربه كلّ يوم، وتبخّره فى السبعة أيّام إحدى وعشرين بندة برمكيّة رفيعة، وبمثلها(12/102)
من العود الصّرف، وبمثلها من العود والكافور، وتضربه بالبخور والثّفل الّذى فيه ضربا جيّدا فى كلّ مرّة تبخّره، فإنّه يأتى عجبا فى الطّيب والذّكاء؛ فإن أحببت رفعه فحلّ له نصف مثقال من العنبر الأزرق بشىء منه، وألق فيه ربع مثقال من المسك المسحوق؛ واضربه به حتى يصير مثل الغالية؛ ثم صبّه عليه، وأنعم ضربه، فإنّه يرفعه ويطيّبه.
صنعة دهن آخر من الكتاب المصنّف للمعتصم بالله
تأخذ من العود الهندىّ أوقيّة، ومن السّنبل مثقالا، ومن الصّندل الأصفر مثقالا، ونصف مثقال من الورد؛ يدقّ ذلك، ويخمّر بمثقال من سكّ «1» مسك محلول بماء الورد، مرفوع على النار، فتخمّره به ليلة، ثم يسحق حتّى يجفّ بالسّحق وينخل بحريرة، ويعجن بزنبق «2» سابورىّ مرتفع، ويدخّن بمثلّثة «3» ، ثم تهضمه «4» بعود وكافور، ثم يفتق بما أحبّ صاحبه من مسك وعنبر، ويؤخذ له من دهن الخيرىّ العراقىّ نصف رطل، ومن دهن الزعفران نصف رطل، ومن البان نصف رطل منشوش «5» ؛ تجمع هذه الأدهان فى إناء، وتبخّرها بالعود والكافور، ثم اخلطها(12/103)
بالمعجون المبخّر، واضربها به ضربا جيّدا، واستودعه القوارير، وافتقه بما أحببت من مسك وعنبر.
صنعة دهن آخر يسمّى دهن السيّدة
تأخذ من الزّنبق «1» من الزّنبق الرّصافىّ المرتفع ثلاث أواقىّ، ومن دهن الورد الفارسىّ أوقيّة ونصفا، ومن دهن الخيرىّ «2» الخالص أوقيّة، تجمع هذه الأدهان الثلاثة فى إناء واحد، ثم تأخذ لها من الهرنوة «3» وزن درهمين ونصف، ومن القرنفل الزّهر مثل ذلك، ومن الكبابة «4» درهمين، ومن جوزبوا «5» مثل ذلك(12/104)
وبسباسة «1» درهما، وزعفرانا درهما، ومن الكافور ثلث مثقال، تسحق الأفواه سحقا جيّدا، وتعجن بقليل من الدّهن، وتلطّخ فى باطن برنيّة، ويبخّر الدّهن بالعود والكافور، ثم تصبّه فى البرنيّة على الفتاق «2» المبخّر، وتضربه به ضربا جيّدا، وتطرح فيه ثلاثة قلوب من قلوب الأترجّ، وإن قطّرت فيه وزن نصف درهم من دهن الأترجّ أغناك عن قلوب الأترجّ وجاء أطيب، فإذا برد وجلس «3» فصفّ الدّهن واستعمله على انفراده، ويؤخذ ثفله فيعمل فى غمر»
الحمّام، فإنّه يكون عطرا طيّبا.
صنعة دهن آخر صنع للمأمون من كتاب يوحنّا بن ماسويه
تأخذ من الزّنبق السابورىّ خمسين درهما، ومن دهن الورد الفارسىّ الرفيع مثل ذلك، ومن دهن الخيرىّ «5» الرفيع مثله؛ تجمع الأدهان الثلاثة فى باطية أو قدح زجاج أو برنيّة رحبة الفم، ثم يؤخذ من الورد خمسة مثاقيل، ومن الصّندل المقاصيرىّ «6» الأصفر خمسة مثاقيل، ومن القاقلّة مثقال، ومن الكبابة «7» مثقال، ومن القرنفل مثقال؛(12/105)
يدق ذلك وينخل، ويعجن بزنبق «1» سابورىّ عجنا يابسا، ويبسط فى باطية أو قدح زجاج أو برنيّة بسطا رقيقا، وتبخّره بعود صنفىّ «2» وكافور رياحىّ «3» وسكّ «4» مسك فائق ثلاثة أيّام فى كلّ يوم ثلاث بندات «5» بالغداة، وثلاث بندات بالعشىّ؛ فاذا أردت أن تصبّ عليه الدّهن فبخّره أيضا بنصف مثقال عود هندىّ، ونصف مثقال كافور رياحىّ، ونصف مثقال عنبر؛ تجمع ذلك جميعا، وتقطّع عليه من الزعفران الشّعر زنة دانق؛ ثم تبخّر بجميعها الأفاويه الّتى عجنتها فى برنيّة رحبة ضيّقة الفم ثلاث «6» تبخيرات، ثم تبخّر الدّهن على انفراده سبع بندات بالعود والكافور، وتصبّه على إثر تبخيرك للفتاق الممسّك فى البرنيّة، وتسدّ رأسها، وتضرب الدهن فيها بالفتاق حتّى ينحلّ به ويمتزج، وتسدّ رأس البرنيّة على الدّهن والثّفل سدّا جيّدا حتّى يبرد «7» ؛ ثم أفرغ الدّهن(12/106)
فى قدح، وبخّر البرنيّة، وأعد الدّهن اليها، تفعل ذلك حتى ينفد ما أعددته للتبخير من العود والعنبر والكافور والزعفران، فاذا فرغ ذلك فحلّ الأفاويه المبخّرة فيه، وحرّكها به حتّى تختلط به، ودعه يومين وليلتين، ثم صفّه عن الأفاويه، وارفعه فى قارورة ضيّقة الفم، وأحكم سدّها، ثم صبّ على الثّفل الذى صفّيت عنه الدّهن من الزّنبق «1» السّابورىّ ثلاثين درهما، ومن دهن الورد الفارسىّ مثل ذلك، ومن دهن الخيرىّ الكوفىّ مثل ذلك بعد أن تجمع هذه الأدهان الثلاثة فى برنيّة، وتبخّرها بالعود والكافور حتّى تشبع؛ ثم تصبّها اذا برد بخورها على الثّفل، وتضربها به ضربا جيّدا، وتحرّكه تحريكا جيّدا سبعة أيّام، فى كلّ يوم ثلاث مرّات؛ فإذا أردت رفعه ألقيت فيه زنة درهم من الزعفران المطحون، وزنة دانق ونصف من الكافور الرّياحىّ «2» المسحوق، وزنة دانق من المسك المسحوق، وزنة درهم من العنبر المحلول على النار بشىء منه وتضربه بذلك ضربا جيّدا؛ ثم تصفّى الدّهن الثانى عن الثّفل فى قوارير، وتحكم سدّ رءوسها، ويؤخذ الثّفل ويستعمل فى لخالخ «3» الحمّام، فإنّه نهاية؛ والله أعلم.(12/107)
صنعة دهن برمكىّ مبخّر من كتاب يوحنّا بن ماسويه
تأخذ من البان الرفيع ثلاثين درهما، ومن الزّنبق السابورىّ مثله، ومن دهن الورد الفارسىّ مثله، وتأخذ من العود الهندىّ أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر أوقيّة ومن جوزبوا «1» أوقيّة، ومن القرنفل الزّهر أوقيّة، ومن الهرنوة «2» أوقية، ومن البسباسة «3» نصف أوقيّة، ومن السّكّ «4» المرتفع الأوّل أوقيّة، ومن المسك ثلاثة مثاقيل، ومن العنبر مثقالين؛ تدقّ جميع الأفواه كلّ واحد على حدته، وتنخل بحريرة، ويحلّ العنبر ببان الغالية، ويعجن به الجميع بعد أن يحلّ بزنبق سابورىّ عجنا يابسا، ويصيّر فى برنيّة رحبة الجوف واسعة الفم، ويبسط فيها بسطا رقيقا، ويبخّر يوما بالقسط «5» الحلو ويوما بالعود النّىء، ويوما بالصّندل الأصفر، ويوما بالزعفران، ويوما بالسّكّ الرفيع، ويوما بالعود، ويوما بالعود والكافور والعنبر؛ ثم يؤخذ من كل واحد منها نصف مثقال، ويقطّع ويبخّر؛ فإذا انتهى تبخيره فصبّ الدّهن عليه، وحرّكه فيه تحريكا جيّدا، واتركه يوما وليلة، ثم صفّ الدّهن عن الأثفال فى برنيّة قد بخرّتها بمثقال مسك ومثقال عنبر، ونصف مثقال كافور رياحىّ، وسدّ رأسها سدّا جيّدا؛ فهذا الدّهن البرمكىّ الرفيع الّذى اتخذه جعفر بن يحيى لهارون الرشيد؛ ثم تأخذ بعد ذلك من الزّنبق السابورىّ ودهن الخيرى الكوفىّ الرفيع ودهن الورد الفارسىّ من كلّ واحد خمسين درهما، فتصبّ ذلك على الأثفال، وتضربها به بعد أن تبخّرها بالعود(12/108)
والكافور سبع مرّات، وتضرب الأثفال بها «1» فى قارورة نظيفة، وصفّه «2» عنها ويكون ذلك للّخالخ «3» ولشعور النّساء. والدّهن الثانى يلتحق «4» بالأوّل. قال التّميمىّ:
وهذا الدّهن البرمكىّ يقوم مقام الغالية.
صنعة دهن آخر [كان] يعمل للعبّاس بن محمّد
يؤخذ من السّنبل ثلاثة مثاقيل، ومثقال من القرنفل، وثلاثة مثاقيل من براية العود الهندىّ، ووزن نصف درهم بسباسة «5» ، ووزن دانقين قاقلّة «6» ، ومثلها من المحلب «7» المقشّر؛ تدقّ هذه الأصناف، وتنخل بمنخل صفيق، وتعجن بماء الورد الطيّب والزّنبق الخالص، وتبخّر بعود مطرّى سبع بندات «8» ، ثم يترك «9» حتّى يبرد(12/109)
فاذا برد فاقلبه، ودخّنه سبع مرّات، ثم صبّ عليه رطلا من الزّنبق السابورىّ الخالص بعد تبخيره مفردا بالعود والكافور، وحرّكه «1» به، فاذا اختلط فدعه يوما وليلة حتى يجلس «2» ؛ ثم صفّه فى قارورة جديدة مبخّرة، وادّهن منه متى أحببت.
صنعة دهن العنبر من كتاب ابن العبّاس
تؤخذ قارورة ضيّقة الرأس، فيدهن باطنها بدهن، وتبخّر بعنبر قوىّ الرائحة حتّى تكمد وتسودّ من دخان العنبر؛ فإذا اسودّت فصبّ فيها قدر ثلثيها من دهن الخيرىّ «3» المفتوق «4» بالمسك، واضرب الدّهن فى القارورة ضربا جيّدا حتّى يختلط به ذلك السواد الذى اكتسبته القارورة من دخان العنبر؛ ثم يستعمل، فمن أحبّ تقويته حلّ مثقالا من العنبر بشىء يسير منه، ثم يضربه [به «5» ] ضربا جيّدا.
وأمّا الأدهان الّتى تصلح الشّعور وتكثّرها وتبسطها «6» وتسوّدها وتذهب ما بها من الحاصّة «7» وتطوّلها وتقوّى أصولها
- فمنها دهن متّخذ من حبّ القطن يكثّر الشّعور ويسوّدها ويذهب بالحاصّة ويصفّى اللون.(12/110)
يؤخذ من لبّ حبّ القطن منوان، فيدقّ حتّى يصير مثل المحّ «1» [وتستخرج دهنه «2» ] كما تستخرج دهن اللّوز؛ فاذا استخرجت من دهنه منا «3» فصيّره فى طنجير برام «4» وخذ له من السّنبل «5» أوقيّة، ومن القرنفل نصف أوقيّة، ومن المرزنجوش «6» المجفّف نصف أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر نصف أوقيّة، ومن القاقلّة «7» أوقيّة، ومن الورد الفارسىّ الأحمر أوقيّة، ومن بزر الشاهسفرم نصف أوقيّة، ومن بزر الافرنجمشك «8» نصف أوقيّة، ومن الزّعفران نصف أوقيّة، ومن الإذخر «9» أوقيّة، ومن(12/111)
السّعد «1» الكوفىّ المقشور وورد الأترجّ وورد النارنج ولبّ حبّ الأترجّ ولبّ حبّ الأترجّ المقشّر وبزر النّمّام وحبّ الآس الرّطب من كلّ واحد أوقيّة، ومن البلح الأحمر المنزوع النّوى إن كان رطبا فأربع أواقىّ، وإن كان يابسا فأوقيّة، ومن الشّير «2» أملج الأسود بعد دقّه ونخله(12/112)
ثلاث أواقىّ؛ تجمع هذه الأصناف، وتلقى فى قدر، وتصبّ عليها من الماء غمرها وزيادة أربع أصابع، وتصب عليها أيضا من ماء الآس الأخضر رطلا، ومن النّضوح المعتّق منّا، وتنقع فى ذلك يومين وليلتين، ثم يصبّ دهن حبّ القطن عليها، وترفع على نار ليّنة، ويوقد تحتها برفق حتّى ينشف الماء، وتدخل روائح الأفاويه فى الدّهن؛ فإذا انتهى إلى هذا الحدّ فخذ من اللّاذن الرّطب نصف أوقيّة وحلّه على نار ليّنة بزنبق رصافىّ حتّى يصير مثل الغالية، وألق من الكافور سدس مثقال بعد سحقه، ومن المسك المسحوق قيراطين، وإن أحببت فسدس مثقال واضربهما جميعا فى اللّاذن المحلول بالزّنبق ضربا جيّدا، ثم أنزل الطّنجير عن النار وغطّه بطبق ينطبق على رأسه، وإن كان طبخه فى قدر نحاس فهو أجود وأمكن للتغطية، وألق فوق الطبق خشبة، ودعه بقيّة يومه وليلته حتّى يبرد الدّهن ويصفو ثم اقطعه عن الثّفل، واجعله فى إناء واسع، واضرب فيه اللّاذن المحلول والكافور والمسك ضربا جيّدا حتّى تختلط به؛ وان كان فاترا فهو أجود؛ ثم ارفعه فى قوارير مبخّرة، وأحكم سدّها، ودعه حتّى يختمر «1» ، ثم استعمله، فإنّه غاية فى الطّيب والنفع.(12/113)
صنعة دهن يصنع من دهن نوى المشمش يجوّد الشّعر ويكثّره ويذهب بالحاصّة «1» ، وينفع شعر الرأس واللّحية منقول من كتاب المعتصم
تعصر من دهن نوى المشمش منّا «2» ، وتدعه حتّى يروق ويصفو، ثم تأخذ له من المحلب «3» الأبيض المقشور والقرنفل وسكّ «4» المسك والبنك «5» والورد اليابس الأحمر والقاقلّة «6» والمرو «7» الأبيض والمرزنجوش «8» المجفّف والأفرنجمشك «9» المجفّف والشّاهسفرم «10»(12/114)
المجفّف والصّندل الأصفر وورق الأترجّ المجفّف وورد الياسمين المجفّف والسنبل «1» العصافير والهرنوة «2» ، من كلّ واحد أوقيّة؛ تدقّ هذه الأصناف، وتنخل نخلا جريشا «3» وتعجن بماء ورد ونضوح عتيق فى توربرام، وتصبّ عليها من ماء الورد غمرها وزيادة إصبعين؛ فإن كان الثلثان ماء ورد والثلث نضوحا كان أطيب، وتترك فيه يوما وليلة؛ فإذا أصبحت فألقه فى طنجير برام، وصبّ عليه أيضا من ماء الورد والنّضوح، وأوقد تحته، حتى إذا استحقّ صببت الدّهن عليه وأوقدت تحت الطّنجير وأنت تحرّكه دائما تحريكا شديدا حتى ينشف ماء الورد والنّضوح ويبقى الدّهن وحده؛ فأنزل الطّنجير عن النار، وصبّ عليه من ماء الآس الرّطب الّذى قد رششت عليه الماء ودققته وعصرته وروّقته بخرقة رطلا ونصفا؛ ثم أعده إلى النار، وأوقد تحته حتّى ينشف ماء الآس؛ ثم أنزله، وألق فيه قيراطين «4» من المسك المسحوق، وثلاثة قراريط من الكافور المسحوق، وحرّكه تحريكا جيّدا؛ ثم غطّه وغمّه بخشبة، واتركه بقيّة يومه وليلته حتّى يبرد ويصفو؛ ثم صفّه فى القوارير، وارفعه.
قال التّميمىّ: وإن حللت فيه وهو حارّ نصف أوقيّة من اللّاذن الرّطب وفتقته «5» به زاد طيبا ونفعا للشّعر. وهذا الدّهن صنعته أنا بالقاهرة فى سنة خمس عشرة وسبعمائة فجاء غاية فى الطّيب والنفع.(12/115)
صنعة دهن آخر يجوّد الشّعر ويطوّله ويكثّفه ويقوّى أصوله ويذهب بالحاصّة، ألّفته «1» منه
يؤخذ من الإهليلج»
الأسود والبليلج «3» وشير أملج «4» ونيلوفر «5» أصفر وأحمر مجفّفا(12/116)
وخبث «1» الحديد، من كلّ واحد نصف أوقيّة؛ يدقّ ذلك وينخل، ويسحق بماء الآس الأخضر، ويربّب «2» حتى يصير عليه من ماء الآس نحو رطل؛ ثم يؤخذ من دهن الحلّ «3» الصافى الجيّد رطلان، ومن ماء البئر ستّة أرطال، ومن ماء ورق الآس رطل آخر؛ فيجمع ذلك فى قدر أو طنجير، وتوقد تحته وقيدا ليّنا وأنت تحرّكه دائما بإسطام «4» حديد صغير حتّى تعلم أنّ الماء قد نشف أو قارب أن ينشف، ثم تحلّ لذلك من اللاذن الرّطب أوقيّة بأوقية دهن رازقىّ «5» رصافىّ «6» على نار ليّنة، فاذا انحلّ(12/117)
فصبّه فى القدر على النار، واغله غلية حتّى تعلم أنّه قد بلغ ونشف ماؤه، ثم برّده «1» وصفّ الدّهن بخرقة حرير، واجعله فى قارورة، وتدهن منه فى كلّ مرّة بوزن درهمين، فإنّه نافع لما وصف.
صنعة دهن فاغية «2» الحنّاء يصلح لشعور النّساء
قال التّميمىّ: «هذا ممّا ألفّته» ، وهو أن تأخذ من دهن الحلّ «3» الطّرىّ المخلوع السّمسم غير المملوح، ومعنى المخلوع أن يسلق سمسمه بعد قشره وغسله وتجفيفه سلقة ليّنة، ويجفّف على مسح «4» فى الشمس، ولا يقلى، فإنّ المقلوّ لا يقبل روائح الأزهار، ولا يملّح فى سلقه بملح، فإنّ الملح يقطع روائح الطّيب؛ فإذا أخذت الدّهن فصيّره فى طنجير أو قدر حجارة، وألق فيه من فاغية الحنّاء فى أوّل يوم منّا، وفى اليوم الثانى نصف منّ، ودرّجه حتى تتمّ الفاغية ثلاثة أمنان، ويسخّن الدّهن فى كلّ يوم حتى يحمى حين تلقى عليه الفاغية، فاذا كملت فيه ثلاثة أمنان فآصبب عليه من ماء الآس المصعّد نصف منّ، ومن ماء الزعفران نصف منّ، ومن ماء الورد نصف منّ، ثم ارفعه على نار ليّنة حتّى تنشف المياه عنه ويبقى الدّهن؛(12/118)
فاذا نشف الماء فأنزله، وغمّه بالغطاء، واتركه حتّى يبرد، واستخرج ما فيه من فاغية «1» بمصفاة؛ ثم اعصرها حتّى يخرج ما فيها من الدّهن بحريرة، وأودعه القوارير.
ولم يذكر التّميمىّ مقدار الدّهن.
وقال يوحنّا بن ماسويه فى صنعة دهن الفاغية: تأخذ من دهن الحلّ الطرىّ غير المملوح ثلاثة أرطال، فاجعلها فى طنجير أو قدر حجارة؛ وخذ لذلك من فاغية الحنّاء وقلوبه «2» زنة منوين فألقه فيه مفروكا، وإن كان يابسا فدقّه جريشا واصبب عليه من الماء ثلاثة أرطال، وارفع الطّنجير على نار ليّنة حتّى يذهب الماء ويبقى الدّهن، فارفعه فى قوارير.
قال: وهو جيّد لشعور النساء، مصلح لها، جيّد للتّمريخ، يستعمله الرّجال والنساء؛ [والله أعلم] .(12/119)
الباب التاسع من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى عمل النّضوحات والمياه المستقطرة وغير المستقطرة
مثل ماء الجورين «1» ، وماء الصّندل، وماء الخلوق، وماء الميسوس وماء التّفّاح، وماء العنب، وتصعيد المياه
فأمّا النّضوحات
- فليس المراد بها فى هذا الباب النّضوحات الّتى تصنع للشّرب، بل المراد بها النّضوحات الّتى تدخل فى أصناف الطّيب. وقد ذكر التّميمىّ منها كثيرا، وهى غير متباعدة فى الأعمال، ولا متنافية فى المقادير؛ ثم اختار منها نضوحا، قال: إنّه ألّفه فجاء جيّدا، وهو: يؤخذ من التمر المنقّى من أقماعه، المنزوع النوى عشرون رطلا، فتنقع فى الماء يوما وليلة، ثم تطبخ فى قدر نحاس مؤنّكة «2» فإذا نضج التّمر فصفّ عنه ماءه من غير أن يمرس أو يمسّ؛ ثم يؤخذ من الاس الغضّ الطرىّ المخروط من عيدانه رطلان، فيدقّ دقّا جريشا، ويعجن بشىء من ماء التمر، ويبخّر بقسط مرّ وبراية عود وصندل وأظفار «3» خمسة أيّام، فى كلّ(12/120)
يوم ثلاث بندات «1» بالغداة، وثلاثا بالعشىّ، وتقلّبه حتى يأخذ روائح البخور؛ ثم دقّه بشىء من ماء التمر، وألقه عليه، وارفعه على النار حتّى يذهب من الماء النصف، ثم صفّه براووق، واتركه حتّى يغلى، فإذا غلى وهدأ غليانه فخذ له من السّنبل والأفلنجة «2» والقرنفل والقرفة والهال «3» بوا والكبابة «4» والقاقلّة «5» ، من كلّ واحد ثلاثة دراهم؛ ودقّ هذه الأصناف دقّا جريشا، ويضاف اليها من الزعفران نصف درهم، وتعجن بشىء من النّضوح، وابسطها فى باطية أو قدح، وبخّرها بآلقسط الطّيّب والعود والكافور، ثم اضربها به ضربا جيّدا وطيّن رأس الظّرف، ولا تفتحه إلّا بعد ثلاثة أشهر.(12/121)
صفة عمل نضوح نقلته من كتاب الزّهراوىّ يدخل فى أصناف الطّيب، ويستعمل للشّرب،
وهو:
يؤخذ من عصير العنب مائة رطل فيغلى عليه «1» حتّى يظهر ريمه «2» ، ويقطف عنه؛ فإذا صفا فخذله من ورق الآس ثلاثة أرطال، ومن التّفاح الشامىّ عشرين حبّة ومن السفرجل الممسوح من زغبه عشرين حبّة، ومن التّفاح الشامىّ عشرين حبّة ومن السفرجل الممسوح من زغبه عشرين حبّة، ومن قشور الأترجّ الأخضر ثلاثة أرطال؛ وألق ذلك على العصير، واطبخه على النار حتّى يبقى منه النصف واتركه حتّى يبرد، ثم أوعه فى آنية الزّجاج، ودقّ الأفاويه الحارّة الوافرة، واعجنها بشىء منه، وبخّرها بالقسط الطيّب والعود والكافور، واضربها به، واضرب به أيضا شيئا من الكادىّ «3» ، ومثقالا من دهن الأترجّ، وطيّبه «4» ، ويستعمل بعد تعتيقه.(12/122)
قال الزّهراوىّ فى كتابه: إنّه ينقص النّصف؛ ولم يزد «1» على ذلك.
فمن أراده للطّيب فهو كاف؛ وأمّا من أراده للشّرب فلا بدّ أن يغليه حتّى يبقى منه الثّلث؛ ولا يجوز استعماله بأقلّ من ذلك.
وأمّا المياه المستقطرة وغير المستقطرة
-
فمنها ماء الجورين
«2» ، وهو الّذى كان يصنع للخلفاء؛ يؤخذ من ماء الورد الجورىّ خمسة أرطال، تجعل فى زجاجة ويطرح عليها من العود الطيّب الهندىّ أوقيّة بعد دقه جريشا؛ ثم يغطّى فم الزّجاجة ويلفّ بملحفة نظيفة، ويترك خمسة أيّام؛ ثم تصفّيه بعد ذلك فى قرعة التقطير ويقطّر الماء برفق وحكمة، ويرفع فى قارورة؛ ثم يؤخذ رطلان من الماء، ويطرح فيهما من الزّعفران الشّعر خمسة دراهم، وجوزبوا «3» درهمان، ويجمع الجميع فى قرعة التقطير وتترك القرعة مسدودة الفم يوما وليلة، ثم تجعل فى فرن التقطير، ويوقد تحتها وقودا معتدلا بنار حطب لا دخان لها؛ فاذا رأيت الماء قد بدأ يقطر فاقطع النار ساعة وتكون قد أعددت قيراط «4» مسك وقيراط عنبر، وحبّتين من الكافور، كلّ ذلك مسحوقا، وألقه فى القرعة، ثم سدّ رأسها، وأعدها إلى النار؛ فإذا بدأ الماء أن يقطر فأغلق باب الفرن، فإنّ الماء يقطر أبيض؛ فإذا تغيّر الى الصّفرة فارفع الأوّل فى قارورة، وسدّ رأسها بشمع، واجمع الماء الأصفر فى قارورة ثانية؛ فاذا تغيّر الى الحمرة فارفع القارورة الثانية، واجعل قارورة ثالثة، فإنّه يقطر أحمر، فاذا فتر التقطير فارفع الماء الثالث، واجعل كلّ ماء على حدة؛ فهذا ماء الجورين.(12/123)
وأمّا ماء الصّندل
- فقال الزّهراوىّ: يؤخذ من الصّندل المقاصيرىّ «1» الأصفر أوقيّتان، تنقعان فى رطل ونصف من الماء المشروب يوما وليلة؛ ثمّ يصعّد مثل ماء الجورين؛ وإن عملته من ماء الورد فهو أبلغ؛ وكذلك تصعيد العود، ويكونان قد طحنا قبل نقعهما.
صفة تصعيد ماء القرنفل
يؤخذ من زهر القرنفل الذّكىّ الحرّيف أوقيّة، تدقّ وتنخل، ويضاف اليها زنة دانق من الكافور المسحوق، ويحلّ بمنّ ونصف من ماء الورد، ويضرب به ويترك يوما وليلة؛ ثم يصعّد كما تقدّم.
صفة تصعيد ماء السّنبل
يؤخذ من السّنبل العصافير الأحمر أوقيّتان، يدقّ، ويعجن بماء الورد وماء النّمّام «2» ، ويترك ليلة مخمّرا؛ ثمّ يضاف اليه من الغد من ماء الورد منا «3» ، ويضرب به ضربا جيّدا؛ ثم يصعّد بنار ليّنة كما تقدّم.
صفة تصعيد ماء الكافور
يؤخذ من الكافور الرّياحىّ مثقالان، يسحق سحقا جيّدا، ثم تصبّ عليه من ماء الورد رطلا، أو رطلين إن أحببت الكثرة؛ واضربه به ضربا جيّدا شديدا حتى(12/124)
يصير أبيض؛ ثم طيّن له قرعة بطين الحكمة «1» ، وتفقّدها ثلاثة أيّام حتّى لا يبقى فى طينها شقّ؛ ثم تنصب على الأتون، ويصبّ فيها الماء الذى ضرب به الكافور ويركّب عليها الانبيق «2» ، ويوقد تحتها بنار فحم ليّنة حتّى يصعد، فإنّه يصعد منه ماء كافور يفوق كلّ طيب؛ ثم اثنه «3» بماء ورد بغير كافور، فيأتى ماء كافور دون الأوّل.
تصعيد ماء الزّعفران عن ابن ماسويه
يؤخذ رطل زعفران مسحوق، ويصبّ عليه من الماء رطلان، ويترك يوما وليلة؛ ثم يضرب بالغداة، ويحرّك باليد، ويدلك دلكا جيّدا، ثم يصفّى بخرقة رقيقة، ويجعل الماء فى قرعة، ويصعّد؛ ومن أحبّ ألّا يصفّيه يصعّده بثفله.
تصعيد آخر استنبطه التّميمىّ
قال: يؤخذ من الزعفران الشّعر أوقيتان، فيجعل فى برنيّة زجاج، ويصبّ عليه من ماء الورد منّ، ويسدّ رأسها، ويترك يوما وليلة؛ ثم يسحق له من القرنفل الزّهر مثقال، ومن الكافور مثقال، ويضربان به ضربا جيّدا؛ ثم يصعّد بالقرعة(12/125)
والانبيق على الماء، فإنّه يخرج منه ماء عجيب فى الطّيب؛ ثم يثنّى بالماء القراح فيخرج منه ماء ثان دون الأوّل.
صفة تصعيد ماء الورد الطيّب الّذى يسمّى الغنج «1»
يؤخذ من ورق الورد الطرىّ الأحمر، ويسحق لكلّ رطل منه نصف درهم جوزبوا «2» ، ونصف درهم من القرنفل الزّهر، ومن المسك قيراط «3» ، ومن الكافور نصف قيراط، وتذرّ على ورق الورد بعد أن يرشّ عليه ماء ورد جورىّ، ويجعل فى قرع «4» التقطير فى كلّ قرعة رطلان؛ ويركّب عليها الانبيق، ويستقطر بخار الماء؛ فإذا قطر من الرطلين ربع رطل عزل ذلك الماء الأوّل؛ ثم تركّب على القرعة قابلة «5» أخرى، ويستقطر فيها ما بقى فى الورق من الماء، وهو نحو ربع رطل أو أكثر وارفعه على نوعين: أوّل وثان، وأحكم سدّ رءوس القوارير؛ وإن أردت أن تأمن(12/126)
عليه التعطّن «1» وأن يصفو، فاسحق لكلّ منّ من ماء الورد قدر حبّتين «2» نوشادرا «3» معدنيّا وألقه فيه قبل سدّ رأس القارورة، فإنّه يصفّيه؛ وإن جمعت الماء الأوّل فى إناء وألقيت النوشادر فيه، وتركته ثم أوعيته فى القوارير كان أجود، وتصنع بالثانى مثل ذلك.
تصعيد ماء ورد آخر ألّفه التّميمىّ يستخرج من الورد اليابس
يؤخذ من الورد الأحمر الفارسى الجيد فينقّى من أقماعه، وينقع منه رطل واحد فى منوين ماء ورد جورىّ يومين وليلتين، فى برانىّ مسدودة الرءوس؛ ثم يصبّ عليه من الماء العذب أربعة أمثال وزنه، ويسحق له من الكافور مثقال، ومن القرنفل ثلاثة دراهم، ومن المسك قيراطان، ويضرب ذلك به، ثم يقسم فى قرعتين أو ثلاثة؛ تفعل ذلك قبل إلقائك الكافور والقرنفل، ثمّ تلقى فى كلّ قرعة من الفتاق «4» حقّها، وتضرب ما فيها من الورد والماء ضربا جيّدا، ويركّب عليها الانبيق ويستقطر ماؤه، فإنّه يأتى منه ماء ورد لا بعده فى الطّيب؛ ثم تصبّ على الثّفل ماء ثانيا نحو ثلاثة أرطال، وتستقطره، فإنّه يخرج منه ماء ورد ثان لا حق بالأوّل.(12/127)
تصعيد ماء ورد ملوكىّ مرتفع عن ابن العبّاس
يؤخذ من حبّ السّمسم المربّى بالمسك، فيسحق مع شىء من الكافور على صلاية، ويجعل لكلّ عشرة مثاقيل من حبّ السّمسم زنة دانق من الكافور ويجعل منه فى كلّ قرعة مثقالان مخلوطان بورق الورد الأحمر العربىّ؛ ثم يستقطر فإنه يقطر منه ماء ورد أدكى من كلّ طيب؛ وإن سحقت لكلّ قرعة زنة دانقين من زهر القرنفل، أو نصف درهم، خرج ماء عجيبا حسن «1» الرائحة عبقا.
تصعيد ماء المسك وماء الورد
قال التّميمىّ: تأخذ من المسك دانقا؛ ومن ماء الورد الجورىّ رطلا بالبغدادىّ فتسحق المسك، واضربه بماء الورد، واتركه فيه ساعة؛ ثم اجعله فى القرعة وركّب على رأسها الانبيق، وصعّده على هباء «2» الماء، فإنّه يطلع منه ماء مسك لا بعده؛ ومن أحبّ الزيادة فى المسك أو النقصان فعل؛ ويصعّد على أثره ماء ورد بغير مسك، فإنّه يأتى ماء مسك دون الماء الأوّل.
وأمّا تصعيد ماء الخلوق من كتاب الزّهراوىّ
قال: يؤخذ جوزبوا وبسباسة وسكّ، من كلّ واحد أوقيّة؛ كافور نصف أوقيّة؛ قرنفل أوقيّة، سنبل وقاقلّة «3» وكبابة، من كل واحد نصف أوقيّة، زعفران أوقيّة؛ تدقّ(12/128)
هذه الأصناف، وتحلّ بماء الورد، وتبخّر بالعود والكافور فى يوم وليلة خمس عشرة مرّة، ويكون العود والكافور سواء فى التّجزئة، ثم تلقى على ذلك من ماء الورد عشرة أرطال، ويجعل فى قرعة التقطير، ويوقد تحته بنار فحم ليّنة حتّى يصعد جميع الماء ويبقى الثّفل، فإن أردت أن تزيده ماء آخر على الثّفل وتصعّده ثانيا فافعل، وارفع كلّ ماء على حدّة؛ والله أعلم.
تصعيد ماء خلوق آخر من كتاب أبى الحسن المصرىّ
يؤخذ من القرنفل والسّنبل والهرنوة والصّندل والزّعفران، من كلّ واحد جزء، ومن الورد الأحمر المنزوع الأقماع جزءان؛ يدقّ الجميع، وينخل، ويعجن بزنبق، ويبخّر بقسط مرّ وحلو وظفر «1» ولاذن ثلاثة أيّام، ويقلّب بين كلّ ثلاث بندات «2» ؛ ثم يبخّر بعود وكافور ثلاثة أيّام؛ ثم يفتق بجوزبوا وبسباسة وسكّ مسك وعود لكلّ رطلين منه نصف أوقيّة من جميع الفتاق، ودرهمان من الكافور الرياحىّ ومثقال من دهن البلسان، ويحلّ بماء ورد حتّى يصير كالحساء، ويجعل فى قرعة التقطير، ويستقطر، ثم يخرج وفيه نداوة بعد أن يثنّى بماء ورد آخر، ويجعل ثفله فى اللّخالخ.(12/129)
تصعيد ماء خلوق من كتابه أيضا
يؤخذ من الزّعفران عشرة دراهم، ومن القاقلّة «1» والصّندل وحبّ «2» العروس والقرنفل والمحلب، من كلّ واحد وزن درهمين، وسنبل وقرفة «3» قرنفل ومصطكاء وجوزبوا من كلّ واحد وزن درهم، ومثل الزعفران وسائر هذه الأفاويه من الورد الفارسىّ الأحمر؛ يدقّ الجميع، وينخل، ويعجن بعسل نحل صاف منزوع الرّغوة، مضروب بالنّضوح المعتّق، ويبخّر بقسط وظفر حتّى يشبع، ثم بعود وكافور ثلاثة أيّام ثم بزعفران وكافور ثلاثة أيّام؛ ثم يؤخذ من الرّيحان الغضّ الأخضر أربعة وعشرون درهما، فتدقّ وتعجن بصفو النّضوح، ويبخّر الرّيحان بقسط وظفر «4» ، ويخمّر ليلة ثم يخلط بالخلوق، ويضرب به ضربا جيّدا، وتقطّر عليه قطرات من دهن البلسان أو دهن الكادىّ «5» ؛ ويسحق من الكافور الرّياحىّ «6» مثقال فيعجن به، ويضرب به ضربا جيّدا، ويحلّ جميع ذلك بمنوين من ماء الورد، ومنوين من ماء النّمّام «7» المصعّد؛ ثم يصعّد على ما تقدّم، فإنّه يأتى غاية فى الطّيب والذّكاء. قال: وهذا أطيب ما يستخرج من ماء الخلوق.(12/130)
وأمّا ماء الميسوس
- فهو ممّا يدخل فى النّضوحات، وتنقع به الأفاويه وتخمّر به اللّخالخ «1» ، وغير ذلك من أصناف الطّيب؛ وعمله على طرق كثيرة، نذكر أقربها وأجودها إن شاء الله تعالى.
صنعة ميسوس نادر أخذ عن بختيشوع «2» الطبيب من كتاب العطر المؤلّف للخليفة المعتصم بالله
قال: يؤخذ من القسط المرّ وقصب «3» الذّريرة والساذج «4» الهندىّ والقرنفل الزّهر(12/131)
وقشور عيدان السّليخة «1» الحمراء والبسباسة «2» الذّكيّة والأشنة «3» الهنديّة واليمانيّة بعيدانها من كلّ واحد ستّ أواقىّ، ومن السّنبل «4» العصافير أوقيّتان، ومن الميعة «5» السائلة الحمراء أو البيضاء ستّ أواقىّ، ومن دهن البلسان «6» ستّ أواقىّ، ومن الزّعفران القمّىّ «7» المسحوق خمس أواقىّ، ومن المسك خمسة مثاقيل؛ تدقّ الأصناف اليابسة وتطحن، ويسحق المسك والزّعفران سحقا ناعما، ويدافان بالطّلاء «8» الرّيحانىّ الذّكىّ وتحلّ الميعة بدهن البلسان، ويصبّ على الجميع من عسل النحل ستّ أواقىّ(12/132)
ويضرب بالأصناف ضربا جيّدا وهو حارّ، ويداف ذلك بالطّلاء «1» ، وتعجن به الأفواه عجنا جيّدا، ثم يؤخذ من ورد السّوسن الأبيض الطرىّ ثمانمائة وردة عددا فتقطع أصول ورقها بالأظفار، ويمسح من الصّفرة التى تكون فى داخله بخرقة ناعمة كتّان جديدة، ثم تفرش الورق فى إناء، راقا «2» من الورق، وراقا من الأدوية حتى تأتى على السّوسن والأدوية، ثم تصبّ على ذلك من الطّلاء الذّكىّ خمسة وعشرين رطلا بالبغدادىّ، وتغطّى الإناء بغطاء ينطبق عليه، وتستوثق منه ويطيّن بطين حرّ مخلوط بشعر العنز المدقوق المنخول؛ ويرفع فى بيت كنين، فى ظلّ ممّا يواجه ريح الشّمال، ويترك ستّة أشهر، ثم يفتح ويصفّى فى القوارير. قال:
فإنّه ينفع- بإذن الله- من الإغماء الشديد، وفرط الغثيان والقىء والاستطلاق والهزال وضعف الطبائع، ومن الغمّ الشديد، وضعف المعدة والكبد؛ وقد ينفع فى «3» الضّمادات، وتعصب به المفاصل، ويوضع منه على قرطاس وتضمد به المعدة.(12/133)
صنعة نوع آخر من الميسوس عن بختيشوع «1» أيضا من الكتاب المذكور
تؤخذ من السّوسن الأبيض أربعمائة سوسنة، فيقطع ورقها، وتمسح الصّفرة التى داخله، ويبسط على ثوب كتّان جديد، وينثر عليه من الملح الأندرانىّ «2» ويجفّف فى الظّلّ؛ ثم خذ له من القسط المرّ والساذج «3» الهندىّ والحمامى «4» الحمراء وقشور(12/134)
عيدان السّليخة «1» الحمراء والقرنفل وقصب «2» الذّريرة الطيّبة من كلّ واحد أوقيّتين ومن المصطكاء وسنبل الطّيب والعود الهندىّ، من كلّ واحد أوقيّة، ومن الزّعفران نصف أوقيّة، ومن الميعة «3» الحمراء السائلة ودهن البلسان من كلّ واحد أربع أواقىّ ومن المسك أربعة مثاقيل؛ تدقّ هذه الأصناف جريشا، وتنعم سحق المسك والزعفران، ويجمعان بالميعة السائلة ودهن البلسان، وتصبّ على ذلك أربع أواقىّ من عسل النحل، ويعجن به (يعنى الزعفران والمسك) عجنا جيّدا؛ ثم يحلّ بالطّلاء ويعرك، وتأخذ برنيّة من زجاج واسعة الرأس، كبيرة، فتبسط فيها راقا «4» من ورق السّوسن وراقا من الأخلاط حتّى ينتهى ذلك؛ ثم صبّ عليه من الطّلاء الجيّد العتيق الذكىّ الرائحة الّذى لم يوضع فى الشمس عشرين رطلا، وتصبّ عليه بعد ذلك الزعفران والمسك المدافين بدهن البلسان والميعة والعسل المحلول بالطّلاء فوق رأس البرنيّة، وليكن للبرنيّة غطاء ينطبق عليها، وتجعل تحت الغطاء خرقة كتّان جديدة، وتشدّ فوق الخرقة بقرطاس مصرىّ، ثمّ بالغطاء، ثم تطيّن البرنيّة بالطّين الحرّ والشّعر وتبن الكتّان، وتجعل البرنيّة فى طاق يلى ريح الشّمال، ولا تقابل بها الريح استقبالا، بل اجعلها منحرفة عنها أدنى انحراف، واتركها ستّة أشهر ثم استعمله.(12/135)
قال: وبعض الحكماء الأطبّاء يزيد فيه كبابة «1» وفلنجة «2» وزرنبادا «3» من كلّ واحد أوقيّتين.
وأمّا ماء التّفّاح ونضوحه الّذى يصنع منه
- فقال التّميمىّ عن أحمد ابن أبى يعقوب فى صنعة ماء التّفّاح الشامىّ الطيّب: تؤخذ من التّفّاح الشامىّ الجيّد السالم من العفن والتشنّج «4» خمسمائة حبّة، فتمسح، ثم تشقّق كلّ تفّاحة أربعة ويلقى ما فيها من الحبّ وما يجاوره، ثم تقطّع صغارا فى مراكن «5» خضر، ثم تدقّ دقّا جيّدا فى هاون حجارة، ثمّ تعتصر فى كرباسة «6» نظيفة طيّبة الرّيح مبخّرة، ثم تدقّ مرّة ثانية، وتعتصر حتّى لا يبقى فيها شىء من الماء، ثم يروّق، ويصبّ فى تور حجارة، أو طنجير حجارة، ويطبخ بنار فحم ليّنة من فحم كرم جزل، فإذا ذهب من الماء أقلّ من الثلث فاطرح فيه قرنفلا صحيحا وقطعا من صندل أصفر دقاقا(12/136)
واغله بهما حتى ينقص الثلث وزيادة يسيرة، ثم ارفق بالنار حتّى يبلغ نقصه النصف ثمّ أنزله عن النّار، ودعه حتّى يبرد، ثم صفّه، وأعده إلى الطّنجير وأخرج الصندل والقرنفل منه، وأوقد تحته برفق، فإذا غلى ثانية فاطرح فيه عودا مرضوضا مثل رضّ الخشخاش، أو أجلّ منه قليلا، واغله به حتّى يذهب ثلث ما بقى وزيادة فيكون نقصه عن أصله قد زاد عن ثلثيه، ثم اطرح فيه من السّكّ «1» المرتفع سكّ الغالية، ولا تكثر تحته النار إلّا بقدر ما يغلى غليانا رفيقا، فاذا رأيته قد انعقد وصار مثل الخلوق- وهو الى الرقّة ليس بخاثر «2» - فأنزله عن النار، واتركه فى الإناء يوما وليلة، ثم خذ قارورة ليست بالواسعة الرأس ولا بالضيّقة قدر ما تدخلها اليد، فبخّرها بسبع قطع عود مخمّر وندّ وقطع عنبر، ثم صفّ ذلك الماء وصّه فيها، وسدّ رأسها ما استطعت بخرقة، وطيّنه، ثم اتركه ثلاثة أيّام، حتى إذا كان فى اليوم الثالث فاسحق له لكلّ رطل من الماء مثقالا من مسك، ومثقالا من عنبر شحرىّ مداف، واضرب ذلك بالماء ضربا جيّدا، وحرّك القارورة سبعة أيّام، واتركها شهرا، ثم استعمله بعد ذلك.
صنعة عقيد ماء التّفّاح من كتاب أبى الحسن المصرىّ «3»
قال: يعتصر ماء التّفّاح على ما تقدّم، ثم يجعل فى طنجير برام أو برمة بعد ترويقه وتصفيته، ويطبخ على النار حتّى يذهب منه النصف والربع، ثم ينزل(12/137)
عن النار، ويبرّد، ويسحق لكلّ رطل منه وزن نصف درهم من القرنفل الزّهر وحبّتى مسك، وحبّتى كافور سحقا جيّدا، وتضرب به، ويجعل فى آنية زجاج ويحكم سدّ رأسها، ويرفع إلى وقت الحاجة إليه.
صفة نضوح ماء التّفّاح ممّا ألّفه التّميمىّ وركّبه فجاء غاية فى الطّيب
قال: تأخذ من التّفّاح الشامىّ البالغ النّضيج خمسمائة حبّة، فتعصر ماءها على ما تقدّم، وترفعه على النار فى قدر نحاس مؤنّكة «1» ، وتوقد تحته حتى تنشقّ عنه رغوته، فإذا تشقّقت فالقطها عنه حتّى يصفو وينصقل وجهه، ثم خذ له من العود الجيّد والسّنبل العصافير والقرنفل الزّهر والقاقلّة»
والهال بوا والهرنوة «3» والقرفة والجوزة «4» ، من كلّ واحد وزن درهم، يدقّ ذلك دقّا جريشا، وينخل بمنخل شعر واسع، ويشدّ فى خرقة شرب «5» فيها عنه فضل، وتدلّى بخيط فى قدر ماء التّفّاح(12/138)
ويغلى عليها، وتمرس الخرقة ساعة بعد ساعة حتّى تخرج قوّة الأفواه فى ماء التّفّاح ولا تزال توقد تحته وقيدا ليّنا حتّى يذهب نصف الماء وربعه، فإذا بقى منه الربع فأنزله عن النار، واعتصر الخرقة فيه، ثم أخرجها وجفّف ما فيها من أثفال الأفواه فإنّها تصلح للضّمادات الّتى تصلح المعدة، فإذا فتر ماء التّفّاح فاسحق له من المسك مثقالا، ومن الكافور نصف مثقال، ومن سكّ المسك مثقالا، ومن الزعفران المطحون نصف مثقال، واجمع ذلك فى زبديّة «1» ، وصبّ عليه من مطبوخ ماء التّفّاح ما تعجنه به، ثم أذبه حتى يصير مثل الخلوق، ثم صبّه فيه، واضربه به ضربا جيّدا، واجعله فى ظروف، وأحكم سدّها، فإنه يأتى عجيبا فى الطّيب.
وأمّا ماء العنب المطيّب والعقيد المصنوع منه
- وقد سماه التّميمىّ بهذه التسمية، ونقله من كتاب العبّاس بن خالد وغيره- فقال فى عمل ماء العنب المطيّب: تأخذ من عصير العنب الأسود زقّين أو ثلاثة، فتصبّه فى إناء، وتتركه يومين، ثم تروّقه فى إناء آخر حتّى يصفو، واجعله فى طنجير برام، وأوقد تحته بنار ليّنة، وانزع رغوته، فإذا صفا فخنله من الزّرنب «2» والفلنجة «3» من كلّ واحد أوقيّة واجعلهما فى خرقة شرب خفيفة، وتشدّ وتعلّق فى الطّنجير، ويطبخ وهى فيه(12/139)
وتمرس ساعة بعد ساعة حتّى يذهب من ماء العنب النصف، ثم أنزله عن النار وبرّده يوما وليلة، ثم روّقه، وخذله من المسك مثقالين، ومن الكافور الرياحىّ مثقالا ونصف مثقال، ومن الزعفران نصف أوقيّة، ومن العود المسحوق المنخول نصف أوقيّة؛ ثم اجمع ذلك فى زبديّة، وحلّه بشىء من العصير المطبوخ، ثم صبّه فيه، واضربه ضربا جيّدا، واجعله فى قوارير، وسدّ رءوسها، ويكون أقلّ من ملوها «1» ، فإنّه يغلى ويفور؛ وينبغى أن يحرّك فى كلّ يوم تحريكا شديدا إلى أن يسكن غليانه ويستعمل بعد شهور.
صنعة أخرى لماء العنب المطيّب من كتاب محمد بن العبّاس
يؤخذ من العنب الأبيض الكثير الماء فيعصر فى إناء نظيف، ويجعل الماء فى طنجير، ويوقد تحته وقود ليّن حتى تنزع رغوته ويصفو، ثم خذ له قرفة قرنفل وسنبل، فيدقّ ذلك دقّا ناعما؛ ويلقى فيه وهو على النار بعد أن ينقص نصفه ثم يغلى «2» عليه ساعة، وينزل، ويترك حتّى يبرد يوما وليلة، ثم يصفّى «3» براووق ويجعل فى إناء غضار «4» ، ويفتق بمسك وكافور رياحىّ وعود مطحون، فإن كان فى زمن(12/140)
الحرّ فأخرجه بالليل إلى صحن الدار مغطّى، ويردّ بالنهار إلى موضع بارد كنين ولا يترك فى مكان ند «1» ، ثم يجعل بعد إحكام سدّه وتطيينه فى موضع كنين إلى أن يدرك، ويستعمل فى وقت الحاجة اليه.
ووصف التّميمىّ أعمالا كثيرة لماء العنب، إلّا أنّها لا تبعد عن هذه النّسخ الّتى أوردناها ولا تنافيها إلا بكثرة الأفاويه وقلّتها، ولم يقل فى شىء منها: إنّه ينقص أكثر من النصف؛ وفيه على هذه الصفة ما فيه، وبعيد أن تفارقه النشاة «2» مطلقا اذا لم يزد عن النصف؛ فأمّا من أراد استعماله على الوجه المباح عند أكثرهم فإنه يغليه حتى لا يبقى منه إلّا دون الثلث.(12/141)
الباب العاشر من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى الأدوية التى تزيد فى الباه وتلذّذ الجماع «1» وما يتّصل بذلك من أدوية الذّكر والأدوية المعينة على الحبل والمانعة منه وغير ذلك
إعلم- وفّقنا الله وإيّاك- أنّ علاج الباه يحتاج إلى أدوية لإصلاح باطن البدن وظاهره.
أمّا باطنه فإصلاحه «2» بالأدوية المستعملة، من الأطعمة والأدوية المركّبة والجوارشنات «3» والمربّيات والسّفوفات والحقن والخمولات.
وأمّا ظاهره فإصلاحه بالمسوحات والضّمادات والأدوية الملذّذة بالجماع.
ذكر الأطعمة النافعة لذلك
- من ذلك صفة عجّة «4» تزيد فى الباه:
يؤخذ حمّص وباقلاء «5» وبيض «6» وبصل أبيض، يطبخ ذلك بلبن حليب حتّى يتهرّأ(12/142)
ويصفّى عنه اللّبن؛ ثم يطرح فى مهراس «1» ويدقّ ناعما حتّى يختلط «2» ... ؛ وتؤخذ صفرة عشر بيضات فتطرح عليه، ويجعل جميع ذلك فى مقلى، ويقلى بزيت «3» ، وتعمل عليه الأبازير، ولا يترك حتّى يحترق، بل يؤكل قبل نضجه.
صفة عجّة أخرى
يؤخذ هليون «4» رخص «5» ولوبياء «6» وبصل أبيض وحمّص؛ يسلق جميع ذلك(12/143)
حتّى يتهرّأ، ويؤخذ من صفرة البيض ما يحتاج اليه، ويجعل على المسلوق بعد دقّه ويطرح عليه شىء من شحم الإوزّ، ويغلى بزيت مغسول «1» ، ويؤكل قبل نضجه، فإنّه غاية فى زيادة الباه.
صفة لون يزيد فى الباه
تؤخذ فراريج مسمّنة قد علفت الحمّص والباقلاء واللّوبياء، تذبح وتغسل ويؤخذ حمّص يسلق ببصل كثير، وينشّف، ويرضّ بشحم ثلاثة فراريح، ويحشى به فرّوج من المسمّنة، ويطبخ إسفيد باجة رطبة، ويكون ملحها ملح السّقنقور «2» ويذرّ عليه «3» دار صينىّ وزنجبيل وابازير؛ ثم يجعل الفرّوج بعد نضجه على رغيف سميذ «4» قليل الملح والخمير، ويترك الرّغيف فى المرق حتّى يتشرّبه، ثم يؤكلان، فإنّ ذلك نهاية.(12/144)
صفة هريسة
يؤخذ من الحنطة النقيّة المقشورة، ثم تجعل فى قدر، ويجعل معها مثل خمسها من الحمّص والباقلاء واللّوبياء، ثم يجاد طبخها، ثم يؤخذ من عصارتها جزءان، ومن اللّبن الحليب البقرىّ جزء، ومن النارجيل مثل ربع اللّبن، ويلقى فيه من شحم الإوزّ والبطّ؛ ويسلق بلحم الهريسة، ويخلط جميع ذلك بالأوّل؛ ويضرب حتّى يصير هريسة، ويكون ملحها ملح السّقنقور، وتؤكل، فإنّها تزيد فى الباه.
صفة لون آخر
يؤخذ لحم حمل سمين، يطبخ إسفيد باجا «1» ، ويطرح معه حمّص وبصل كثير وخولنجان «2»(12/145)
وصفرة البيض، ويطيّب بالأبازير وملح السّقنقور «1» ويؤكل فإنّه غاية.
قال صاحب كتاب (الإيضاح) : إنّ الأطعمة الّتى تزيد فى الباه هى الطّباهجات «2» والاسفيدباجات واللّوبياء والهرائس والمطجّنات والأمخاخ وما يجرى مجرى ذلك.
وأمّا الأشربة المركّبة الّتى تزيد فى الباه
- فقد وصف منها محمد ابن زكريا الرازىّ وغيره أصنافا، فقال: يؤخذ من لبن البقر الحليب رطلان من بقرة فتيّة صفراء، يجعل فيه ترنجبين «3» أبيض، ويطبخ بوقود شديد حتّى يغلظ(12/146)
ويصير مثل العسل، وتؤخذ منه فى كلّ يوم أوقيّة على الريق، وأكثر من ذلك.
وقال: هذا لأصحاب الأمزجة الحارّة اليابسة.
آخر يصلح لأصحاب الأمزجة الباردة اليابسة
يؤخذ من اللّبن الحليب رطل، وتسحق عشرة دراهم دارصينىّ سحقا ناعما حتّى تصير مثل الكحل، وتلقى على اللّبن، ويترك ساعة، ثم يشرب قدحا بعد قدح ويخضخض لئلّا يرسب الدارصينىّ فيه، وليشرب قبل الطعام وبعده قليلا قليلا بدل الماء عند العطش حتّى يأتى على اللّبن والدار صينىّ بكماله، ويكون الغذاء طباهجا بلحم ضأن فتىّ، ويشرب عليه نبيذا صرفا، يفعل ذلك أسبوعا، ولا يجامع فيه، فإنّه يولّد منيّا كثيرا، ويهيّج تهييجا عظيما. قال: وينبغى أنّه اذا هاجت منه حدّة وحرارة أن يقطع، فإن لم تسكن الحدّة والحرارة فصد وأسهل وسقى ماء الشّعير ويترك اللحم والشراب أياما، ويقلّل الغذاء. قال الرازىّ: إلّا أنّ هذا التدبير يجمع امتلاء كثيرا؛ ولا يقرب هذا الدواء من بدنه غير نقىّ، فإنّه يحمّ لا محالة. فأما النقىّ البدن، القليل الدم، الساكن الحدّة، فنعم الدواء هوله، وهو دواء قوىّ فى فعله.
صفة شراب آخر
يؤخذ من حليب البقر رطلان؛ وقيل رطل، ويلقى عليه من التّرنجبين «1» الأبيض الخراسانىّ زنة عشرين درهما، ويطبخ برفق حتّى يصير فى قوام «2» العسل ثم تؤخذ منه فى كلّ غداة أوقيّة على الرّيق، فإنّه نهاية فى زيادة الباه.(12/147)
صفة شراب آخر
يؤخذ ماء البصل وماء الهليون «1» وسمن البقر ولبنها، من كلّ واحد جزء، ومن بزر الجرجير وبزر اللّفت من كلّ واحد كفّ؛ يدقّان ويلقيان فى المياه واللّبن، ويغلى ذلك على النار، ويصفّى؛ وتشرب منه أوقيّة وهو حارّ، فإنّه جيّد.
ذكر الأدوية المركّبة النافعة لزيادة الباه وتغزير المنىّ
يؤخذ بزر رازيانج وبزر جرجير، من كلّ واحد خمسة مثاقيل؛ يسحقان ويعجنان بلبن البقر، ويحبّب كالباقلاء، ويؤخذ منه مثقال، ويدخل بعده الحمّام، ويمرخ البدن فى الحمّام بزيت وخلّ وعصارة عنب الثعلب، فإنّه نافع.
صفة دواء آخر
يؤخذ من ماء البصل الأبيض جزء، ومن العسل جزءان؛ يطبخ ذلك على نار ليّنة حتّى يذهب ماء البصل، ويؤخذ من العسل عند النوم ملعقتان، فإنّه نافع جيّد لأصحاب الأمزجة الباردة.
دواء آخر
يؤخذ عاقرقرحى «2» وبزر الرشاد «3» وبزر الأترجّ وفلفل، من كلّ واحد مثقال؛(12/148)
دار صينىّ وشقاقل «1» وبزر الجزر وزنجبيل، من كلّ واحد مثقالان. [حلتيت «2» نصف مثقال؛ تجمع هذه الأدوية بعد دقّها، وتعجن بعسل منزوع الرّغوة، وترفع؛ الشربة منه مثقالان] .(12/149)
ذكر دواء آخر عجيب الفعل فى زيادة الباه
يؤخذ حسك «1» يابس، يدقّ ويسحق سحقا ناعما، ويعتصر من ماء الحسك الرّطب، ويسقى به المسحوق فى الشمس حتّى يشرب ثلاثة أمثال وزن المسحوق ثم تؤخذ منه خمسة مثاقيل؛ عاقرقرحى خمسة مثاقيل، وزنجبيل مثقال، وسكّر طبرزذ «2» خمسة مثاقيل؛ يدقّ جميع ذلك، وينخل، ويعجن بعسل قد ربّى فيه الزّنجبيل ويرفع؛ الشربة منه مثقالان بماء فاتر، أو بلبن حليب، فإنّه لا مثال له فى معناه.
دواء آخر
يؤخذ من الحمّص اليابس، ينقع فى ماء الجرجير حتّى يربو؛ ثم يجفّف، ويقلى بسمن بقر على نار ليّنة؛ وتؤخذ منه خمسة مثاقيل، تسحق وتنخل وتعجن بعسل منزوع الرّغوة؛ ويلقى على العسل وهو حارّ دار صينىّ وقرفة وقرنفل ومصطكاء، من كلّ واحد مثقال، ويخلط ذلك خلطا جيّدا، ويرفع؛ والشربة منه مثقالان بماء حارّ أو بلبن البقر.(12/150)
صفة دواء آخر يزيد فى الباه، ويصفّى اللّون، وينفع الكبد والمعدة
يؤخذ إهليلج كابلىّ وهندىّ منزوع النّوى وبليلج وأملج «1» وفلفل ودارفلفل وزنجبيل وسعد وشيطرج «2» وقشور الأترّج المجفّف وبرادة الإبروتوبال «3» الحديد وسمسم مقشور، من كلّ واحد مثقال؛ تجمع هذه الأدوية مسحوقة منخولة وتلتّ بسمن البقر، وتعجن بعسل منزوع الرّغوة، وترفع؛ والشّربة منه درهم فى أوّل يوم، ثمّ درهمان فى اليوم الثانى، وثلاثة دراهم فى اليوم الثالث، هكذا إلى سبعة أيّام، يزيد فى كلّ يوم زنة درهم، ويكون استعماله لذلك عند النوم.(12/151)
دواء آخر يهيج شهوة الجماع ويصلح لمن انقطعت شهوته فإنّه يقوّيها، ويزيد فيها
يؤخذ الحندقوق «1» وشقاقل وبزر اللّفت وبزر الزّراوند «2» وبزر(12/152)
البصل الأبيض وحبّ الخشخاش وبزر الجرجير وبزر الأنجرة «1» وبزر خصى «2» الثّعلب، من كلّ واحد مثقالان ونصف مثقال(12/153)
ومن كلى السّقنقور «1» وعلك الأنباط «2» وقسط «3» وبصل الفأر «4» المشوىّ من كلّ واحد مثقال واحد ونصف؛ فلفل أبيض وسمسم مقشور ودارفلفل «5»(12/154)
وزنجبيل وزعفران، من كلّ واحد مثقال؛ أدمغة الدّيوك الصّغار، وأدمغة العصافير من كلّ واحد [ثلاثة مثاقيل «1» ، خصى الدّيوك ثلاثة مثاقيل؛ أدمغة الحملان الرّضّع خمسة مثاقيل؛ بيض الشّبّوط (اللّجأة) «2» ولحمه من كلّ واحد] خمسة مثاقيل؛ قنّة «3» مثقال واحد ونصف؛ تدقّ البزور اليابسة؛ وتذاب القنّة مع العلك بخمسة مثاقيل عسل؛ وتنقّى الأدمغة والخصى من العروق؛ ويطرح ذلك فى صلاية؛ ويخلط(12/155)
بالسّحق؛ فإن احتاج الى عسل فزده الى أن يترطّب؛ ثم يجعل فى إناء؛ ويختم رأسه ويرفع مدّة أربعين يوما، ويفتح بعد ذلك، ويستعمل؛ الشربة منه مثقال بأوقيّة من ماء الجرجير، ويؤكل عليه اسفيدباج «1» بحمّص وبصل وسمن بقر، فإنّه نهاية فيما ذكرناه.
دواء آخر
يؤخذ جزر برّىّ وبزر اللّفت ودارفلفل وقاقلّة»
وبزر جرجير وقرنفل وخولنجان «3» وزرّ ورد وبزر كرّاث وزنجبيل وبسباسة «4» ، من كلّ واحد أربعة مثاقيل؛ تجمع هذه الحوائج مسحوقة منخولة، وتعجن بقدر ما تحتاج اليه من العسل المنزوع الرّغوة وترفع؛ الشربة منه مثقالان بلبن البقر الحليب، أو بشراب حلو.
صفة دواء آخر عجيب الفعل
يؤخذ عود هندىّ وكافور وزعفران وجوزبوا وقرفة وقرنفل وصندلان: أحمر وأبيض، وسعد ودارصينىّ وشيطرج «5» ونارمشك «6»(12/156)
وساذج «1» هندىّ، وبصل العنصل، ولحاء الغار «2» ، ولحاء أصل الكبر «3» ، وخربق «4» أسود، وسندروس «5» ، وكندر «6» من كلّ واحد أربعة دراهم؛(12/157)
يدقّ كلّ واحد منها على حدة، وتخلط جميع الأصناف بالسّحق، ويعجن بعسل منزوع الرّغوة، ويرفع فى إناء، ويترك ستّة أشهر، ثم يستعمل بعد ذلك، الشربة منه مثقال بماء العسل.
صفة لبانة تمضغ تزيد فى الباه، وتنعظ إنعاظا شديدا، وتهيج فلا يسكن حتّى تنزع من فم الماضغ
قال شهاب الدّين عبد الرحمن بن نصر الشّيرازىّ صاحب كتاب (الإيضاح) :
هذه اللّبانة كان يستعملها بعض ملوك مصر.
قال: وله فيها قصّة طويلة لم نذكرها رغبة فى الاختصار. قال: وهذا من الأسرار الخفيّة [فآعرفه «1» ] .
يؤخذ من قشر البلاذر «2» الخارج أوقيّة، تقرّض بالمقراض صغارا، ويجعل(12/158)
فى برمة فخّار، ويصبّ عليه من دهن البطم «1» مقدار ما يغمره، ثم يؤخذ لبان ذكر عشرون درهما، يسحق ناعما، ويلقى عليه فى البرمة، ويوقد تحته بنار ليّنة حتّى ينعقد، ثم يلقى عليه من المحمودة «2» الصفراء على كلّ أوقيّة من الدّواء نصف دانق؛ فإذا انعقد جميعه فآرفعه عن النار، واجعله فى إناء زجاج؛ فإذا أردت استعماله فخذ منه وزن درهم وامضغه، فإنّه ينعظ للوقت إنعاظا قويّا؛ فإذا أردت الإنعاظ يسكن فأخرجها من فيك؛ والقطعة الواحدة منه تستعمل ثلاث مرّات ثم يرمى بها.(12/159)
قال: وربّما قطع ما هاج من الإنعاظ باستعمال هذه اللّبانة، وهى:
يؤخذ من الشّيرج الطرىّ «1» جزء، ومن السكّر جزء، ومن اللّبان الأبيض ثلث جزء ويطرح فيه لكلّ أوقيّة من الدواء زنة دانق من الكافور، ويعقد الجميع على نار ليّنة ثم ينزل ويرفع، ويستعمل منه عند الحاجة زنة درهم يمضغ، فإنّه يسكّن ما هاج.
ذكر الجوارشنات «2» الّتى تزيد فى الباه وتغزر المنىّ صفة جوارش يغزر المنىّ
يؤخذ سنبل وقرنفل ودارفلفل «3» ودارصينىّ وقاقلّة، من كلّ واحد مثقال؛ شلجم «4» مثقال ونصف، كمّون منقوع فى خلّ خمر يوما وليلة مقلّو أربعة مثاقيل، ومصطكاء مثقالان ونصف، مسك سدس مثقال، سكّر طبرزذ خمسة مثاقيل؛ تجمع هذه الحوائج بعد سحقها ونخلها، وتعجن بعسل منزوع الرّغوة، وتبسط على رخام «5» ، وتقطّع وتستعمل.(12/160)
صفة جوارش يقوّى الباه وبزيد فى الشّهوة
يؤخذ قرنفل وجوزبوا وبسباسة وألسنة العصافير «1» وأصل الإذخر «2» وزنجبيل ودارصينىّ ومصطكاء وعود هندىّ وزعفران، من كلّ واحد مثقالان؛ قاقلّة ولبان ذكر من كلّ واحد مثقال، أشنة «3» ثلاثة مثاقيل، مسك ربع مثقال، سكّر عشرة مثاقيل؛ يحلّ السكّر بماء الورد على النار، ويلقى عليه عسل نحل منزوع الرّغوة، ويعقد بالأدوية بعد سحقها، ويبسط على رخام، ويقطّع ويستعمل فإنّه غاية.
صفة جوارش التّفّاح، يقوىّ المعدة ويزيد فى الباه
يؤخذ تفّاح شامىّ مقشّر الخارج، منقّى الدّاخل، تطبخ منه خمسة أرطال بخمسة عشر رطلا من الماء حتّى ينشف الماء؛ ثم يؤخذ رطل عسل نحل، ورطل سكّر ورطل ماء ورد، ويلقى جميع ذلك على التّفّاح حتّى ينعقد على النار؛ ثم يلقى عليه زعفران(12/161)
وسنبل وقرنفل ودار صينى وزنجبيل ومصطكاء، من كلّ واحد مثقال، لسان ثور «1» شامىّ مثقالان، عود هندىّ ثلاثة مثاقيل، تدقّ هذه الأصناف، وتنخل قبل إلقائها عليه؛ ثم تبسط على رخام «2» ، وتقطّع، وتستعمل.
ذكر المربّيات المقوّية للشّهوة والمعدة والباه
قال صاحب (كتاب الإيضاح) : لا بدّ لسائر المربيّات من هذه الأفاويه وهى: زنجبيل، ودارصينى، وقرفة، وقرنفل، وهال «3» ، وجوزبوا «4» ، ومصطكاء، وعود هندىّ، من كلّ واحد أوقيّة، زعفران نصف أوقيّة؛ سكّ «5» مثقالان، مسك نصف(12/162)
مثقال؛ تدقّ هذه الأصناف دقّا جريشا، وتجعل فى خرقة كتّان، وتشدّ «1» شدّا متحلحلا «2» ويعلّق «3» منها فى كلّ مربّى لكلّ رطل أوقيّة.
صفة عمل الرّاسن» المربّى، وهو مسخّن للكلى والظّهر محرّك لشهوة الباه
تؤخذ عشرة أرطال راسن يقطّع بقدر الإصبع، وينقع فى ماء وملح مدّة عشرين يوما، ويغيّر عليه الماء والملح فى كلّ خمسة أيّام أو ثلاثة؛ ثم يصيّر فى قدر(12/163)
ويصبّ عليه من الماء الحلو ما يغمره، ومن العسل ثلاثة أرطال، ويغلى حتّى يلين؛ وتلقى عليه الأفاويه مصرورة «1» فى خرقة كما وصفنا، ثم يرفع ويستعمل.
صفة عمل الشّقاقل «2» المربّى يقوّى المعدة والشهوة ويزيد فى الباه
يؤخذ شقاقل كبار خمسة أرطال، ينقع فى ماء عشرة أيّام «3» ، ثم يلقى فى قدر حجارة، ويغلى عليه غلية خفيفة، ثم يخرج ويقشّر، ويردّ الى القدر؛ ويصبّ عليه من العسل ما يغمره، ويغلى عليه «4» ، وتلقى عليه الأفاويه معلّقة كما وصفنا ويجعل فى برنيّة مدهونة، ويغسل ظاهر البرنيّة بالماء فى كلّ خمسة أيّام حتّى يبرد لئلّا يحمض ويفسد، ويستعمل عند الحاجة.
صفة عمل الجزر المربّى الّذى يزيد فى الباه
يؤخذ من نحاتة أجواف «5» الجزر عشرة أرطال، فيجعل فى قدر حجارة، ويلقى عليه من الماء ما يغمره، ثم يلقى عليه ثلاثة أرطال من عسل النحل، ويطبخ بنار ليّنة حتّى يتهرّأ، ثم يخرج من الماء (والعسل «6» ) ، وينشّف ويبرّد؛ ثم يلقى(12/164)
عليه من العسل ما يغمره؛ ويردّ الى القدر، ويغلى عليه غلية يسيرة، ويبرّد، ويجعل فى إناء، ويتعاهد غسل ظاهر الإناء حتّى يبرد ولا يحمض، ويكون قد طرح فيه الأفاويه على الرّسم [والله أعلم «1» ] .
صفة عمل الإهليلج «2» الكابلىّ المربّى
يؤخذ من الإهليلج الكابلىّ الغليظ «3» «ما أحبّ «4» الأخذ» فيجعل فى إناء «5» ، ويصبّ عليه من الماء ما يغمره، ويلقى فيه من رماد البلّوط ما يكفيه، ويترك ثلاثة أيّام ويغيّر عليه الماء والرّماد؛ يفعل به ذلك أربع مرّات «الى تمام اثنى «6» عشر يوما» ؛ ثم يغسل بالماء العذب ثلاث مرّات، ثم يطبخ بماء الشّعير طبخا ليّنا، ويخرج منه ويمسح مسحا رفيقا لئلّا ينسلخ، ثم تثقب كلّ إهليلجة بالإبرة فى عشرة مواضع ثم يجعل فى برنيّة خضراء، ويلقى عليه من عسل «7» النحل ما يغمره بعد أن تنزع رغوته ويغسل ظاهر الإناء مرارا على ما تقدّم، وذلك بعد أن تلقى عليه الأفاويه فى خرقة على الرسم.(12/165)
صفة عمل التّفّاح المربّى
يؤخذ من التّفّاح الجيّد الّذى لا عيب فيه [قدر «1» ] خمسين حبّة، يقشر، وينقّى ما فى باطنه من الحبّ وما يجاوره، ويصيّر فى قدر، ويلقى عليه من عسل النحل ما يغمره، ويغلى عليه «2» يسيرا؛ وتعلّق فيه الأفاويه، ويجعل بعد ذلك فى برنيّة من الزجاج، ويتعاهد غسل ظاهرها بالماء فى كلّ ثلاثة أيّام حتّى يبرد، ويستعمل فإنّه يقوّى المعدة، ويشدّ القلب، ويزيد فى الباه.
صفة عمل الجوز «3» المربّى، وهو ممّا يزيد فى الباه
يؤخذ من الجوز الطرىّ الأخضر الّذى لم يصلب قشره، فيسلب عنه قشره الخارج، وإن كان داخله قشر قد صلب يقشر عنه أيضا، ويصيّر فى قدر حجارة ويصبّ عليه من عسل النحل ما يغمره، ويغلى عليه غليانا خفيفا، ويصيّر فى برنيّة زجاج، وتعلّق فيه الأفاويه، ويتعاهد غسل الإناء «4» كما تقدّم.(12/166)
ذكر السّفوفات الّتى تزيد فى الباه فمن ذلك صفة سفوف
يؤخذ إشقيل «1» مشوىّ وفانيذ «2» وبوزيدان «3» وبزر سذاب، وحبّ الشّهدانج «4» وألسنة العصافير «5» من كلّ واحد ثلاثة مثاقيل؛ شقاقل «6» مثقال ونصف، خشخاش وبزر البصل، وبزر الجرجير من كلّ واحد مثقالان؛ تجمع هذه الأصناف بعد دقّها ونخلها، ويستفّ منها مثقال ونصف بشراب حلو ممزوج، فإنّه غاية.(12/167)
سفوف آخر يزيد فى الباه
تؤخذ ألسنة العصافير وبزر الجرجير وبزر اللّفت، من كلّ واحد مثقالان «1» ؛ يدقّ ذلك، ويستفّ منه مثقال بشراب حلو، أو بعقيد العنب، فإنّه جيّد نافع إن شاء الله [تعالى] .
ذكر الحقن والحمولات المهيّجة للباه والمغزرة للمنىّ والمسمّنة للكلى
هذه الحقن والحمولات إنّما جعلتا لمن عجز عن تناول ما قدّمناه من الأدوية إمّا لكثرة حرارتها، أو كراهية لمذاقها، أو لإحراقها «2» مزاج المستعمل لها، فالحقن والحمولات تنوبان منابها، وتقومان مقامها فى الفعل، إلّا أنّ هذه الحقن لابدّ أن تتقدّمها حقنة تغسل الأمعاء، ثم يحتقن بها بعد ذلك فتكون أسرع فعلا وأنجح نفعا.
فمن ذلك [صفة «3» حقنة تغسل الأمعاء وتنقّيها
يؤخذ بابونج «4» وبزر كتّان وحلبة وشبث، من كلّ واحد سبعة مثاقيل،(12/168)
وبطم وحسك «1» أربعة عشر مثقالا، تين «2» أربعة عشر مثقالا؛ يطبخ جميع ذلك بخمسة أرطال من الماء، ويغلى حتّى يبقى منه رطل، ويصفّى، ويؤخذ من هذا الماء نصف رطل، ويضاف إليه من الشّيرج خمسة عشر مثقالا، وسكّر أحمر سبعة مثاقيل ثم يحقن به.
صفة حقنة أخرى تغسل الأمعاء
يؤخذ لعاب بزر قطونا «3» ، ولعاب»
بزر كتّان، ولعاب الحلبة، وماء السّلق «5» المعتصر(12/169)
ولعاب الخطمىّ «1» ، من كلّ واحد خمسة «2» مثاقيل؛ ثم يجعل فى ذلك من البورق «3» والسكّر الأحمر من كلّ واحد خمسة مثاقيل، ومن الشّيرج عشرة مثاقيل، ثم يحقن به، فإنه نافع لما ذكرناه إن شاء الله؛ فهذه الحقن الّتى تتقدّم أوّلا.
صفة حقنة تسمّن الكلى وتزيد فى الباه
يؤخذ من دهن الجوز نصف رطل، يلقى فيه من الحسك نصف رطل، ومن لبن البقر رطل ونصف، وفانيذ «4» وزنجبيل وبزر هليون «5» ، من كلّ واحد أوقيّة؛ يغلى(12/170)
على النار، ويصفّى ماؤه؛ ويؤخذ منه أربعة عشر مثقالا، ومن دهن الزّنبق أربعة مثاقيل، ومن دهن البان أربعة مثاقيل، ثم يحقن به، فإنّه نافع لذلك] .
صفة حقنة أخرى تسمّن الكلى وتزيد فى الباه
يؤخذ رأس كبش وأكارعه ونصف أليته، [ويرضّ «1» الجميع، ويوضع فى قدر؛ ثم يوضع عليه ربع رطل حمّص] ؛ ومثل «2» ذلك حنطة ولوبياء حمراء، ومن الشّبث والبابونج وبزر اللّفت ومرزنجوش «3» ، من كلّ واحد سبعة مثاقيل، حسك خمسة عشر مثقالا؛ تطبخ بعشرة أرطال ماء حتى يتهرّأ الجميع، ويصفّى، ويؤخذ من ذلك الماء والدّسم رطل «4» ، ويلقى عليه من سمن البقر أوقيّة، ومن اللّبن الحليب أوقيّتان ومن دهن البان نصف أوقيّة؛ ثم يحقن به ثلاث ليال متوالية عقيب تلك الحقنة الّتى تغسل الأمعاء، فإنّه عجيب الفعل.
صفة حقنة أخرى تنفع من انقطاع الجماع، وتقوّى الشهوة وتسخّن الكلى، وتزيد فى الباه زيادة حسنة
يؤخذ بزر كتّان وبزر نرجس وبزر فجل وبابونج «5» من كلّ واحد أوقيّة، حلبة(12/171)
ثلاث أواقىّ، أنجرة أوقيّة، حنطة أربع أواقىّ، سمن «1» ثلاث أواقىّ، تمر «2» عشرون عددا لبّ «3» القرطم البرىّ والبستانىّ من كلّ واحد أوقيّتان، مرزنجوش «4» ثلاث أواقىّ يطبخ جميع ذلك بعشرة أرطال ماء حتّى يبقى منه الثّلث، ويمرس، ويصفّى ويؤخذ دهن سوسن ودهن نرجس ودهن زنبق ودهن خيرىّ «5» وعسل نحل من كل واحد أوقيّة، يخلط الجميع «بالماء الأوّل» ، ويؤخذ منه نصف رطل ويحقن به فإنه نافع.
صفة حقنة أخرى
يؤخذ لبن ضأن واذنا الخروف وحنطة وشعير وحلبة وشحم دجاج، وشحم بطّ وفراخ [حمام «6» ] وبابونج وخطمىّ وحسك وشبث «7» وتين وعنّاب وسيسبان «8»(12/172)
وبزر كتّان، من كلّ واحد جزء؛ ويطبخ جميع ذلك بماء حتّى يتهرّأ، ويصفّى، ويخلط معه شيرج ودهن بنفسج ودهن خيرىّ ودهن بطم «1» ، ودهن جوز، وسمن بقر، ثم يحقن به على ما تقدّم فإنّه غاية فى النفع.
صفة حقنة أخرى من كتاب الرّازىّ تهيج الباه
يؤخذ رطل من دهن الجوز، ويلقى فيه رطل حسك، وثلاثة أرطال من حليب البقر، وأوقيّة زنجبيل وأوقيّة فانيذ «2» ، ويطبخ حتّى يغلى مرارا؛ ثم يصفّى ويؤخذ منه أوقيّتان، وزنبق نصف أوقيّة، ودهن بان نصف أوقيّة، ويحتقن به ولا يجامع عشر ليال، فإنّه عجيب. هذه الحقن.(12/173)
وأمّا الحمولات الّتى تحدث الإنعاظ الشديد
- يؤخذ بزر جزر وبزر جرجير، ولعبة «1» ، ولبّ حبّ القطن، أجزاء متساوية، يعجن بماء الراسن «2» أو بماء الجرجير، وتعمل من ذلك فتيلة، ويتحمّل بها، فإنّها تنعظ إنعاظا عجيبا.
صفة أخرى
يؤخذ من شحم كلى السّقنقور «3» فيذاب بدهن السّوسن، ويذرّ عليه من لبّ حبّ القطن وعاقرقرحى «4» وزنجبيل بعد سحق ذلك ونخله، وتعمل منه فتيلة ويتحمّل بها.(12/174)
صفة أخرى «1»
يؤخذ من شحم كلى السّقنقور وشحم البقر، والشّمع، يسلأ «2» ذلك، وتلقى عليه أدمغة العصافير «3» الدّوريّة، وتعمل منه فتيلة، ويتحمّل بها] .
صفة أخرى
يؤخذ قنطريون «4» مسحوق، وزفت، وشمع، يذاب بدهن سوسن، وتعمل منه فتيلة، ويتحمّل بها، فإنّها تنعظ إنعاظا عجيبا.(12/175)
صفة أخرى
تؤخذ قطعة حلتيت «1» فتجعل فى ثقب الذّكر بقدر ما تلذع، ثم تشال منه، فإنّه ينعظ إنعاظا قويّا؛ وإذا حصل اللّذع يقطر فى ثقب الذّكر دهن بنفسج.
هذا ما يعالج به الباطن؛ فلنذكر الأدوية النافعة للظاهر من المسوحات والضّمادات والأدوية الملذّذة للجماع» .
ذكر المسوحات والضّمادات الّتى تزيد فى الباه، المقويّة للذّكر صفة مسوح يمرخ به القضيب فيهيج شهوة الجماع ويزيد فى الباه
يؤخذ عاقرقرحى، وبسباسة، ودارفلفل، من كلّ واحد مثقالان؛ قنّة «3» وأفربيون «4»(12/176)
من كلّ واحد مثقال؛ جندبا «1» دسترو بزر الجرجير، من كلّ واحد نصف مثقال؛ دهن النّرجس عشرة مثاقيل؛ شمع أبيض أربعة مثاقيل؛ تسحق الأدوية اليابسة ويذوّب الشّمع والقنّة مع الدّهن على النار؛ ثم تلقى عليها الأدوية المسحوقة، ثم يرفع، ويمرخ به القضيب والعانة، فإنّه جيّد مفيد لما ذكر.
صفة مسوح آخر يمرخ به الذّكر والعانة، يزيد فى الإنعاظ ويسخّن الكلى والمثانة
تؤخذ عصارة حشيشة الكلب- وهى الفراسيون «2» - تدق وتحلّ بالدّهن ويمرخ بها.(12/177)
مسوح آخر يمرخ به الذّكر يزيد فى الإنعاظ
تؤخذ مرارة ثور فحل، وعسل نحل منزوع الرّغوة، وقليل عاقرقرحى «1» ؛ يخلط الجميع، ويمسح به.
مسوح آخر ملوكىّ
يؤخذ أفربيون وزنجبيل وعاقرقرحى «2» ، من كلّ واحد مثقال، ومسك نصف مثقال؛ تجمع بدهن البلسان «3» ، ويمرخ بها القضيب وما يليه، فإنّها نهاية.
مسوح آخر ينعظ ويزيد فى الباه، ويعين على الجماع إذا مرخ به القضيب والعانة
يؤخذ السّقنقور «4» وقضيب الايّل «5» المجفّف، والحشيشة المسمّاة خصى الثّعلب «6» من كلّ واحد مثقال، ومن بزر العاقر قرحى وبزر الجرجير، من كلّ واحد أربعة مثاقيل فربيون مثقالان، بيض العصافير الدّوريّة «7» ثلاث بيضات، تجعل فى إناء زجاج ويصبّ عليها شىء من قطران ودهن سوسن مقدار ما يغمرها ويطفو عليها؛ ويسدّ رأس الإناء، ويدفن فى الزّبل مدّة أربعين يوما، يبدّل عليه الزّبل فى كلّ سبعة(12/178)
أيّام، ثم يخرجه بعد ذلك، ويصفّى عنها الدّهن؛ ويلقى فى الدّهن سبعة مثاقيل من علك البطم «1» ؛ وتسحق الأدوية اليابسة، ويخلط الجميع بالعجن الجيّد؛ ويصبّ عليه من دهن السّوسن حتّى يصير فى قوام المرهم الرّطب، ثم يرفع لوقت الحاجة؛ فاذا أراد العمل به مرخ به القضيب وما قرب منه، فإنّه يفعل فعلا عجيبا.
مسوح آخر
يؤخذ دهن خيرىّ ودهن نرجس، من كلّ واحد نصف رطل؛ يجعل ذلك فى طنجير، ويلقى عليه دارفلفل «2» وعاقرقرحى «3» وزنجبيل ودار صينىّ من كلّ واحد أوقيّة؛ جند بيدستر «4» نصف أوقيّة؛ يغلى ذلك على النار غليانا جيّدا، ويمرس ويصفّى، ويرفع فى إناء زجاج، ثم يدهن به القضيب وما حوله، فإنّه يفعل فى الإنعاظ فعلا جيّدا قويّا.
مسوح آخر
تؤخذ مرارة التّيس ويطلى بها الذّكر وما حوله والحقوان، فإنّ ذلك يقوّى على الباه «5» ... أمرا عجيبا.(12/179)
مسوح آخر يلطخ به الذّكر المرخى القليل القيام
يؤخذ بورق «1» وورس «2» ، ويعجنان بعسل منزوع الرّغوة، ثم يلطخ به الذّكر وما حوله، ويدمن ذلك أيّاما، فإنّه عجيب الفعل.
مسوح آخر
يؤخذ من شحم الضّبّ ولحمه فيطبخان، ويؤخذ دهنه ويخلط بزنبق، ويدهن به الذّكر، فإنّه يزيد فى الإنعاظ، ويقوّى الباه ... «3» أمرا عظيما.
مسوح آخر
تؤخذ العصافير وقت هيجانها فتذبح على دقيق العدس، ويلتّ بدمها، ويبندق ويجفّف، فإذا أراد الجماع فليأخذ بندقة ويحلّها بزيت، ثم يطلى بها أسفل القدمين؛ ولا يطأ على الأرض، بل يكون على الفراش، فإنّه ينعظ إنعاظا قويّا، وإن وطئ على الأرض بطل فعل الدّواء.(12/180)
مسوح آخر
تؤخذ مرائر العصافير الدّوريّة الذكور وتخلط بدهن زنبق خالص، ثم يؤخذ باذروج «1» وشهدانج فيدقّان جميعا دقّا ناعما، ثم يخلطان بالمرائر والدّهن، ويرفع ذلك فى قارورة، فإذا أراد الجماع يمسح منه تحت القدمين وعلى القضيب والأنثيين ولا يطأ على الأرض، فإنّه يرى من قوّة الباه أمرا عجيبا.
مسوح آخر
يؤخذ قضيب الإيّل فيحرق، ويعجن رماده بشراب عتيق، ثم يطلى به القضيب ويمرخ به، ويطلى ما حوله، فإنّه ينعظ إنعاظا شديدا جدّا؛ فهذه المسوحات.
وأمّا الضّمادات التى تزيد فى الباه وتعين على الجماع
فيؤخذ رماد قضيب الإيّل وعاقرقرحى وفربيون وفلفل أبيض، من كلّ واحد جزء؛ تسحق وتجمع، وتعجن بشراب عتيق، ويضمد الذّكر بها والانثيان، فإنّها تزيد فى الباه.
صفة ضماد يجعل على الظّهر، يزيد فى الباه، ويقوّى الإنعاظ
يؤخذ فلفل وعاقرقرحى وفربيون، من كلّ واحد مثقالان ونصف؛ حلتيت «2» مثقال وربع؛ دهن بلسان «3» ودهن قسط، من كلّ واحد خمسة مثاقيل؛ دارفلفل «4»(12/181)
وجوزبوا، من كلّ واحد مثقالان؛ تسحق الأدوية اليابسة سحقا ناعما جدّا؛ وتحلّ بالأدهان؛ وتمدّ على خرقة، وتوضع على الظّهر، فإنّه يرى العجب.
صفة ضماد يجعل على الإبهام من الرّجل اليمنى، يزيد فى الباه ويقوّى الجماع
يؤخذ من عود اليسر «1» خمسة عشر مثقالا، ومن صمغ البطم «2» وصمغ عربىّ وفلفل من كلّ واحد عشرة مثاقيل؛ خرء الفأر والحشيشة المسمّاة خصية الثعلب، من كلّ واحد خمسة مثاقيل، ومقل «3» أزرق وعاقرقرحى وزنجبيل وفربيون وسكبينج «4» وجوزبوا(12/182)
من كلّ واحد أربعة مثاقيل، ويؤخذ سامّ أبرص فينقع فى الخلّ الحامض أربعين يوما، ويخرج ويجفّف؛ ويؤخذ شحم ودك الكلى وقنّة وشمع أبيض، من كلّ واحد عشرة مثاقيل؛ تجمع الصّموغ والأصناف، ويذوّب ما يذوب منها، وتخلط به بقيّتها بعد دقّها، فإذا اختلطت خلطا جيّدا يمدّ منها على خرقة حرير أو صوف وتوضع على إبهام الرّجل اليمنى، فإنّه يرى منه أمرا عجيبا.
ذكر الأدوية الملذّذة للجماع «1»
منها صفة دواء يطلى به الإحليل عند الجماع يزيد فى الباه واللّذّة؛ يؤخذ جوزبوا «2» وفلفل ودارفلفل «3» وعاقرقرحى وزنجبيل وسنبل وخولنجان»
وسكّر، من كلّ واحد مثقالان «5» ؛ فيسحق كلّ صنف منها على انفراده ثم تجمع بالسحق، وتنخل، وتعجن بالعسل الّذى قد ربّى فيه الزنجبيل والشّقاقل ويمسح بها الذّكر، فإنّه يرى منه عند الجماع لذّة عظيمة.(12/183)
صفة دواء آخر
يؤخذ عاقرقرحى وزنجبيل ودار صينىّ وسكّر «1» ، من كلّ واحد مثقالان «2» ونصف؛ تجمع هذه الأصناف بعد سحقها ونخلها، وتعجن بماء الرازيانج «3» الرّطب، وتحبّب مثل حبّ الفلفل، وتجفّف فى الظّلّ؛ ثم تسحق ثانيا، وتطرح فى دهن رازقىّ «4» ويطلى بها الذّكر، فإنّه جيّد.(12/184)
صفة دواء آخر يزيد فى اللّذّة عند الجماع
يؤخذ [سكّر] طبرزذ وكبابة وعاقرقرحى «1» ، من كلّ واحد مثقالان «2» ؛ تجمع بعد سحقها ونخلها، وتعجن بماء الرازيانج الرّطب، وتحبّب مثل الفلفل، وتجفّف فى الظّلّ؛ فإذا احتاج اليها طرح منها فى الفم حبّة، واستعمل ما انحلّ منها؛ أو تحلّ فى دهن ويمسح بها الذّكر، ويجامع، فإنّه يرى منه لذّة عظيمة.
صفة دواء آخر يحدث من اللّذّة ما لا يوصف
يؤخذ رازيانج يابس محمّص، وفلفل، ودارفلفل، وزنجبيل، وعاقرقرحى ودار صينىّ، وجوزبوا «3» وقردمانا «4» وسكّر طبرزذ، من كل واحد مثقالان «5» ؛ تجمع(12/185)
مسحوقة منخولة، وتحلّ بماء الرازيانج الرّطب أو بماء الباذروج الرّطب حتّى تصير فى قوام الطّلاء؛ ثم ترفع فى إناء زجاج، ويسدّ رأسه عشرة أيّام، ويخضخض فى كلّ يوم ثلاث مرّات، ثم يمسح منه الذّكر بعد ذلك، ويترك حتّى يجفّ ثمّ يجامع بعد جفافه؛ ويحرص أن ينحلّ وهو يجامع؛ ولا يترك رأس الإناء مفتوحا فإنّ الهواء يذهب بقوّة الدواء. قال: فمن استعمل هذا الدواء لم تصبر المرأة عنه.
صفة دواء آخر يزيد فى اللّذّة
تؤخذ مرارة ذئب، وعسل «1» نحل، وماء الرازيانج الرّطب، من كلّ واحد خمسة مثاقيل؛ فلفل ودارصينىّ وزنجبيل وغاقر قرحى، من كلّ واحد مثقال؛ تسحق الأدوية اليابسة، وتنخل، وتلقى فى المرارة والماء والعسل، وتخضخض فى إناء «زجاج» «2» ، ويغطّى فمه حتّى لا يصل إليه الهواء؛ ويمسح منه على الذّكر وقت الجماع، فإنّ المرأة تجد لذلك لذّة عظيمة.
صفة دواء آخر
تؤخذ مرارة دجاجة سوداء، ويضاف إليها شىء [يسير «3» ] من الزنجبيل «4» المسحوق ويطلى بهما الذّكر، فإنّ المرأة تلتذّ به.
وحيث ذكرنا من أدوية الباه ما ذكرنا، فلنذكر ما قيل فى الأدوية الّتى تعظّم الذّكر وتصلّبه، والأدوية الّتى تضيّق فروج النّساء وتجفّف رطوبتها.(12/186)
ذكر الأدوية الّتى تعظّم الذّكر وتصلّبه
قد أجمع (جالينوس) ومن تابعه من الحكماء على أنّ الدّلك الدائم والتّمريخ بالأدهان والأشياء المليّنة والتنطيل «1» بالماء الحارّ والدّلك بالزيت والزفت، تعظّم كلّ عضو فى الجسد؛ ولا خلاف عندهم أنّ هذا العضو اذا فعل به ذلك عظم ونما وزاد عن حالته الّتى هو عليها، فاذا اجتمع مع ذلك هذه الأدوية الّتى نذكرها- وهى ممّا اتّفق الأطباء على جودتها وصحّتها- فإنّ ذلك أبلغ وأسرع.
فمن ذلك صفة دواء يعظّم الذّكر ويصلّبه ويعين على الجماع
يؤخذ بورق «2» أرمنىّ وسنبل، من كلّ واحد مثقالان، علق طوال عشر عددا؛ يجفّف العلق، ويسحق مع البورق والسّنبل حتّى يصير جميع ذلك كالهباء؛ ثم يصبّ عليه لبن حليب وعسل أجزاء متساوية، من كلّ واحد منهما عشرة مثاقيل، ويمرس باليد حتّى يختلط، ثم يطلى به الذّكر ليلة؛ ثم يغسل بالماء الحارّ من الغد، ويدلك بالخطمىّ «3» دلكا قويّا حتّى يحمرّ، ثم يغسل، ثم يعاد عليه الدواء والدّلك قبل الدواء وبعده، فإنّه جيّد.
صفة دواء آخر يعظّم الذّكر ويحسّن منظره
يؤخذ شمع أحمر، وزفت، وعلك بطم، وزيت فلسطينىّ، من كلّ واحد خمسة(12/187)
مثاقيل، أنزروت «1» وبورق أرمنىّ مذوّبان «2» بلبن الأتان أربعة مثاقيل- وهو أن تأخذ الأنزروت والبورق فتسقيهما لبن الأتان ثم [تجفّفهما] وتسحقهما، [وتسقيهما «3» ] ثمّ تجفّفهما حتّى يشربا ثلاثة مثاقيل لبن- ويؤخذ من العلق الطّوال المجفّف ثلاثة مثاقيل؛ ويسحق الجميع، ويذوّب الشّمع والزّفت والعلك والزيت، وتلقى عليها الأدوية المسحوقة، وتخلط خلطا جيّدا، ويمدّ منها على خرقة، وتوضع الخرقة على الذّكر بعد دلكه إلى أن يحمرّ، وتبيّت عليه ليلة، ويغسل باكر النهار بالماء الحلو «4» الحارّ، ويدلك أيضا، ويعاد عليه الدواء إلى أن يبلغ فى العظم ما تريد فاتركه.(12/188)
صفة دواء آخر لذلك
يؤخذ إشقيل مشوىّ وفربيون وعاقرقرحى ودارفلفل «1» ، من كلّ واحد جزء؛ يسحق ذلك سحقا ناعما، ويعجن بالعسل، ويطلى منه القضيب، ويترك ليلة، ثم يغسل باكر النهار بالماء الحارّ، ويدهن بدهن زنبق، فإنّه يعظم جدّا.
دواء آخر
يؤخذ باذروج «2» أخضر، يمضغ حتّى ينعم مضغه، ويدلك به الذّكر دلكا جيّدا فإنّه يعظّمه.
صفة دواء آخر
يؤخذ علق طوال طريّة، تجفّف وتسحق، ثم تربّب بدهن حتّى تصير كالمرهم ثم يطلى بها الذّكر، فإنّها تعظّمه جدّا.
صفة دواء آخر
يطبخ الزفت بالزّيت، ثم يمدّ على خرقة، ويوضع على الذّكر، ثم يقلع بعد ساعة ويغسل بالماء الحارّ، ثم تعيد الدواء عليه حتّى يبلغ من العظم ما تريد.
وإن تقرّح الذّكر من بعض الأدوية التى تقدّم ذكرها، فامسحه بدهن زنبق ودهن بنفسج و «3» شمع أبيض. قال: وإن دلك الدّكر باللّبن الحليب من ضرع الشاة ثلاثة أيّام فإنه يعظم؛ والله أعلم بالصواب.(12/189)
ذكر الأدوية الّتى تضيّق فروج النّساء وتسخّنها وتجفّف رطوبتها
قال عبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشّيرازىّ: اعلم أنّ كمال لذّة الوطء لا تحصل للرّجل حتّى تجتمع فى الفرج ثلاثة أوصاف، وهى الضّيقة والسّخونة والجفاف من الرطوبة؛ فإذا نقص منها وصف واحد أو وصفان فقد نقص من اللّذّة الّتى تحصل للرّجل عند الجماع بمقدار ذلك؛ وإن عدمت هذه الأوصاف الثلاثة من الفرج، لم يحصل بوطئه لذّة البتّة.
ثم قال: واعلم أنّ الولادة وكثرة الجماع يوسّعان الفرج، ويذهبان لذته؛ فينبغى أن يتدارك من هذه الأدوية بما يصلحه ليرجع إلى حالته الأولى.
فمن ذلك صفة دواء يضيّق الفرج
يؤخذ جلد ابن آوى «1» محرقا، وأظلاف المعز محرقة، وحافر حمار محرق، وجوز ماثل «2»(12/190)
محرق، وسرطان «1» بحرىّ محرق، وبسفايج «2» محرق، وسعتر «3» فارسىّ، من كلّ واحد وزن درهم؛ يسحق الجميع ناعما، ويعجن بدهن البان، ويرفع؛ ثم تتحمّل منه المرأة بزنة دانق فى كلّ شهر ثلاث مرّات كلّ عشرة أيّام مرّة، ولا يكون فى وقت الحيض ويكون حرق الأدوية بمقدار ما تسحق من غير مبالغة فى الإحراق، فإنّه يضيّق القبل حتّى تصير المرأة كالبكر.(12/191)
صفة دواء آخر
يؤخذ أفسنتين «1» وحمامى «2» وعصفر «3» وصمغ البطم «4» وجلّنار «5» وقيصوم «6» ودار شيشعان «7» ، من كلّ واحد زنة درهمين؛ تدقّ وتعجن بزيت، وتتحمّل منها المرأة بصوفة تسعة أيّام متوالية، فإنّه مجرّب لذلك.(12/192)
صفة دواء آخر فيه منافع
يؤخذ «1» بسباسة ومرزنجوش «2» وسعتر برّىّ وقشور الكندر وإذخر وخيرىّ «3» وورد أحمر، وقشور الرّمّان وقشور الكبر «4» والتّرمس «5» من كلّ واحد مثقال، يسحق ذلك، ويعجن بدهن البان، وتتحمّل منه المرأة نهارا، وتخرجه ليلا.(12/193)
صفة دواء آخر يضيّق القبل
يؤخذ سكّ مسك وزعفران، ويصبّ عليهما شراب ريحانىّ، ويغلى «1» غليانا جيّدا، ثم تشرّب منه «2» خرقة كتّان، وترفع لوقت الحاجة؛ فاذا أرادت المرأة استعمالها قطعت قطعة، وتحمّلت بها قبل الجماع بيوم وليلة، فإنّه يضيّق المحلّ، ويطيّب رائحته.
دواء آخر
يؤخذ رامك «3» وأقاقيا «4» وسنبل وسعد؛ يسحق الجميع، ويعجن بشراب، وتتحمّل منه المرأة بصوفة.
دواء آخر
يؤخذ شبّ وعفص وقلقند «5» ، من كلّ واحد جزء؛ يدقّ الجميع، ويعجن بشراب ويصيّر مثل النّوى، وتتحمّل منه المرأة.(12/194)
دواء آخر
يؤخذ زاج «1» وشبّ، من كلّ واحد جزء، يسحقان، ثم يعجنان بماء الحصرم ويصيّران شبه النّوى، وتتحمّل المرأة بواحدة منه قبل الجماع، وتمكث ساعة حتّى تنحلّ فى فرجها، فهذه أدوية تضيّق الفرج.
وأمّا الأدوية الّتى تسخّن القبل
فيؤخذ شحم الدّجاج، وشحم البطّ، وزبل الغنم ودهن ناردين «2» ، وصمغ اللّوز، من كلّ واحد جزء؛ زعفران ومرّ، من كلّ واحد ربع جزء؛ تذاب الشّحوم بالدّهن وتذرّ عليها الأدوية اليابسة بعد سحقها، وتتحمّل منه المرأة بصوفة وهو فاتر، فإنّه جيّد مجرّب.
دواء آخر مثله
يؤخذ مرزنجوش «3» ، وقشور الكندر، وصعتر برّىّ، وبسباسة «4» ، من كلّ واحد(12/195)
جزء؛ يسحق الجميع، ويعجن بدهن ناردين «1» أو دهن بان، ثم تتحمّل منه المرأة فإنّه بليغ جيّد الفعل.
صفة دواء آخر
يؤخذ أفسنتين رومىّ وسنبل «2» ودار صينىّ ومرارة ثور يابسة وسعتر؛ يسحق الجميع، ويعجن بشراب صرف، وتستعمله المرأة مرارا فإنّه جيّد.
وأمّا الأدوية الّتى تجفّف رطوبة الفرج-
فقال الحكماء: إذا كثرت رطوبة فرج المرأة كان أنفع علاجها الإسهال بالإيارجات «3» والحبوب واستعمال هذه الأدوية.
فمنها [صفة «4» ] دواء يجفّف الرطوبة
يؤخذ شبّ وإثمد «5» ، من كلّ واحد جزء؛ يسحقان، وتتحمّل المرأة منهما ذرورا، فإنّه جيّد.(12/196)
صفة دواء آخر مثله
يؤخذ صنوبر «1» وسعد «2» ، من كلّ واحد جزء؛ يدقّ ذلك ناعما، ويطبخ بشراب وتشرّب منه خرقة كتّان، وتتحمّل منه المرأة، فإنّه نافع.
صفة دواء آخر
يؤخذ عفص وجفت «3» البلّوط وجلّنار «4» ، من كلّ واحد ملء كفّ؛ يطبخ ذلك بالماء طبخا جيّدا، ويرفع فى إناء، وتستنجى منه المرأة قبل الجماع، فإنّه غاية.
دواء آخر
يؤخذ تمر برنىّ «5» وسمن وعسل وأنيسون ولبن، من كلّ واحد جزء، ويجعل ذلك فى قدر نظيفة، ويغمر بالماء أربع أصابع، ثم يطبخ طبخا جيّدا حتّى يغلظ وتتحمّل منه المرأة.
قال حنين بن إسحاق: ينبغى ألّا يستعمل فيه ماء البتّة، بل يطبخ بالعسل والسمن حتّى يغلظ ويرفع، ويستعمل، فإنّه يقطع الرطوبة من الفرج، ويسكّن الضربان، ويصلح للنّفساء؛ والله أعلم بالصواب.(12/197)
ذكر الأدوية الّتى تطيّب رائحة البدن وتعطّره فمنها [صفة «1» ] طلاء يطيّب رائحة البدن
يؤخذ نمّام «2» ونعنع ومرزنجوش وورق التّفّاح، من كلّ واحد جزء «3» ، ثم يجعل عليه «4» من الماء ما يغمره وزيادة أربع أصابع؛ ويطبخ حتّى ينقص الثّلث، ويصفّى ويطلى به البدن، فإنّه يطيّبه ويقطع سهوكته.
دواء آخر
يؤخذ آس ومرزنجوش وسعد وقشور الأترجّ وورقه وأشنة «5» وصندل، من كلّ واحد جزء؛ يسحق جميع ذلك، ويرفع؛ فاذا أراد استعماله حلّ منه قليلا بدهن آس أو دهن ورد، أو بماء فاتر، ويمرخ به البدن، فإنّه جيّد.
دواء آخر مثله
يؤخذ مرداسنج «6» وتوتياء ورماد ورق السّوسن ومرّ وصبر وورد، من كلّ واحد جزء، يدقّ ذلك، ويسحق؛ ويستعمل مثل الأوّل لطوخا أو ذرورا.(12/198)
صفة قرص حادّ يقطع الصّنان
يؤخذ صندل وسليخة وسكّ مسك وسنبل وشبّ ومرّ وورد أحمر، من كلّ واحد جزء، ومن التوتياء والمرداسنج، من كلّ واحد ثلاثة أجزاء، ومن الكافور نصف جزء؛ تجمع هذه الأصناف بعد سحقها، وتعجن بماء الورد، وتقرّص وتستعمل بعد التجفيف.
دواء آخر يقطع رائحة العرق
يؤخذ ورد وسكّ وسنبل وسعد وشبّ ومرّ، من كلّ واحد جزء؛ تدقّ هذه الأصناف دقّا ناعما، وتحلّ بماء الورد، وتستعمل لطوخا، فإنّه جيّد لما ذكرنا.
صفة دواء آخر يذهب رائحة الإبط، ولا يحتاج بعده إلى دواء آخر
يؤخذ راسن مجفّف محرق وزراوند «1» طويل محرق، وورق رند «2» محرق، ونوى زعرور «3» محرق، ونوى الزيتون الأخضر محرقا، وقرطاس «4» محرق، وزجاج «5» فرعونىّ(12/199)
محرق، وزعفران، من كلّ واحد جزء؛ تسحق سحقا ناعما حتّى تصير مثل الكحل وتعجن بالماء المعتصر من الآس، وتحبّب، وتجفّف فى الظّلّ، ثم يشرط تحت الإبط شرطان يسيران، ويسحق ذلك الحبّ، ويدلك به ذلك الموضع والدّم يجرى، ويترك عليه يوما وليلة، ثم يغسل، فلا تعود تظهر رائحته أبدا.
صفة دواء آخر يطيّب البدن، وينفع أصحاب الأمزجة الحارّة
يؤخذ سعد «1» ، وساذج «2» ، وفقّاح الإذخر «3» ، وميعة «4» سائلة «5» ، من كلّ واحد عشرة مثاقيل، ورد يابس، وأطراف الآس، من كلّ واحد مثقالان، يبلّ السّعد وفقّاح الإذخر والساذج بشراب ريحانىّ «6» ، ثم تسحق، وتعجن بالشّراب وتقرّص، وتجفّف، ثم تسحق، ويطرح عليها الورد وأطراف الآس مسحوقين ويذاب زعفران بماء الورد، ويخلط مع الأدوية، ويجفّف ذلك كلّه فى الظّلّ ثم يسحق بعد جفافه، ويجعل ذرورا؛ فإذا أراد استعماله دخل الحمّام، وتنظّف من كلّ درن، ثم خرج وتنشّف من العرق، ثم نثر على بدنه من هذا الدّواء، فإنّه نهاية فى قطع رائحة العرق.
صفة دواء آخر يقطع العرق، وينفع أصحاب الأمزجة الحارّة
يؤخذ دار صينىّ وسنبل هندىّ، وأظفار وقسط «7» ، من كلّ واحد جزء؛ ومن(12/200)
طين البحر «1» وإسفيداج «2» مغسول، من كلّ واحد نصف جزء، شيح وشقاقل «3» من «4» كلّ واحد ثلاثة أجزاء «5» ، زعفران وورد يابس، من كلّ واحد ثلث جزء؛ تسحق الأدوية اليابسة بماء الزعفران والآس بعد أن تحلّ بشراب ريحانىّ ويستعمل، فإنّه جيّد.
ذكر الأدوية الّتى تجلو الأسنان من الصّفرة والسواد وتطيّب رائحة الفم والنّكهة
فأمّا السّنونات «6» الّتى تجلو الأسنان- فمنها، يؤخذ قرن ايّل «7» محرق، وملح أندرانىّ «8» ، وزبد البحر، من كلّ واحد جزء؛ ورق أثل محرق، وأصول القصب(12/201)
المحرق جزءان؛ شاذنج «1» ربع جزء، خزف صينىّ جزء؛ يدقّ الجميع، ويخلط ويستنّ «2» به.
سنون آخر
يؤخذ من قشور الرمّان جزءان، ومن عروق الچنار «3» والشّبّ والعقيق «4» ، من كلّ واحد جزء، يدقّ «5» وينخل، ويستنّ به، فإنّه غاية.(12/202)
صفة سنون آخر يقوّى الأسنان ويجلوها
يؤخذ ملح أندرانىّ، يسحق، ويشدّ فى قرطاس، ويلقى على الجمر، فإذا احمرّ أخذ وأطفئ فى قطران، ثم يؤخذ منه جزء، ومن زبد البحر ودار صينىّ ومرّ وسعد ورماد الشّنج «1» ، من كلّ واحد جزء؛ ومن السّكّر ثلاثة أجزاء، ومن الكافور عشرة «2» أجزاء؛ يسحق ويستنّ به، فإنّه جيّد.
وأمّا الأدوية الّتى تطيّب رائحة الفم والنّكهة- فمنها دواء
يؤخذ ورد أحمر منزوع الأقماع، وصندل أبيض، وسعد، من كلّ واحد عشرة دراهم؛ سليخة»
وسنبل وقرفة [وقرنفل «4» ] وجوزبوا «5» ، من كلّ واحد أربعة دراهم؛(12/203)
قشور الأترجّ المجفّفة وورقه، وإذخر وأشنة «1» ، من كلّ واحد خمسة دراهم سكّر وعود هندىّ ومصطكاء وبسباسة وسكّ «2» ، من كلّ واحد درهمان، كافور نصف درهم؛ مسك نصف دانق؛ تدقّ الأصناف دقّا ناعما، وتعجن بماء ورد، أو بماء ورق الأترجّ، وتحبّب بقدر الحمّص، وتمسك فى الفم، فإنّه جيّد مجرّب.
صفة حبّ آخر يزيل البخر
يؤخذ صبر صمغ «3» ثلاثة دراهم، وفلفل وقرنفل وخولنجان وعاقرقرحى «4» ، من كلّ واحد درهم؛ مسك وكافور من كلّ واحد دانق؛ تدقّ هذه الأصناف دقّا ناعما وتعجن بشراب «5» ريحانىّ، وتحبّب، وتستعمل كما تقدّم.
صفة حبّ آخر ينفع من البخر
يؤخذ هال «6» وقاقلّة «7» وجوزبوا ودارصينى وخولنجان، من كلّ واحد ثلاثة دراهم(12/204)
ورد أحمر وصندل أبيض من كلّ واحد خمسة دراهم، كافور نصف درهم، مسك زنة دانق؛ يدقّ الجميع دقّا ناعما، ويعجن بماء ورد، ويحبّب مثل الحمّص، وتمسك فى الفم منه حبّة واحدة.
صفة دواء آخر
تؤخذ سليخة، ودارصينىّ، ورامك، وهال، وفقّاح الإذخر «1» ، وأصول السّوسن وكبابة وأشنة «2» ؛ تسحق هذه الأدوية، [وتعجن «3» ] بماء ورد، وتحبّب مثل الحمّص وتجعل فى الفم منها تحت اللّسان فى كلّ يوم واحدة، فإنه جيّد.
صفة حبّ آخر ملوكىّ ذكره التّميمىّ فى كتابه، وقال: إنّه أخذه عن أحمد بن أبى يعقوب؛ وهو:
يؤخذ من العود الهندىّ سبعة دراهم، ومن القرنفل والبسباسة «4» من كلّ واحد منهما أربعة دراهم، ومن الكبابة والقاقلّة «5» من كلّ واحد ثلاثة دراهم، ومن السّعد «6»(12/205)
الكوفىّ الأبيض والصّندل «1» المقاصيرىّ من كلّ واحد خمسة دراهم، ومن سكّ «2» المسك مثقال، ومن الكافور نصف مثقال؛ تسحق هذه الأصناف، وتعجن بماء الورد وتحبّب بقدر الحمّص أو أكبر، وتجفّف فى الظّلّ، ويأخذ منه «3» حبّة بالغداة فيديرها فى فمه حتّى تذوب، ويفعل مثل ذلك عند النوم.
وقال: هذا الحبّ إن شئت استعملته على هذه الصفة. وإن شئت تبخّرت منه.
وإن شئت سحقت منه حبّة وأذبتها بماء ورد، وتطيّبت بها.
وإن شئت سحقتها مثل الذّريرة وتطيّبت بها يابسة.
وإن حللت منه بالبان المنشوش «4» كان مسوحا طيّبا شبيها بالغالية «5» .
وإن حللت منه ثلاث حبّات أو أربعا بماء ورد ومسحت به على جسدك فى الحمام، كان طيبا لا بعده.
صفة حبّ آخر مثله يطيّب النّكهة، ويستعمل كما تقدّم أيضا
يؤخذ عنبر ومسك وسكّ مسك وعود هندىّ، من كلّ واحد جزء؛ كافور رياحىّ «6» ربع جزء، زعفران وقرنفل من كلّ واحد نصف جزء؛ تسحق هذه الأصناف، وتجمع، ويكون سحق العنبر مع العود، ثم يعجن جميع ذلك بماء الورد(12/206)
ويحبّب كما تقدّم، ويستعمل حبّة بالغداة، وأخرى عند النوم، فانّه ينفع لما ذكرناه وينفع الخفقان وعلل القلب. وقد أخذ هذا الفصل حقّه، فلنرجع الى أدوية الباه.
ذكر الأدوية الّتى تعين على الحبل، والأدوية الّتى تمنعه
أمّا الأدوية الّتى تعين عليه- فمنها صفة دواء: يؤخذ حبّ «1» البلسان ومقل «2» أزرق وجاوشير «3» وباذاورد «4» ، من كلّ واحد مثقال؛ تدقّ أفرادا، وتجمع(12/207)
بالسّحق، وتحلّ بشراب، ويطلى بها الذّكر، ويجامع بعد جفافه، ويحرص على أن ينحلّ الدواء فى الفرج قبل الإنزال، فإنّه نافع مجرّب.
صفة دواء آخر
يؤخذ أفربيون وعاقرقرحى وجند بيدستر وسنبل وقسط وميعة «1» سائلة، من كلّ واحد مثقالان «2» ؛ يسحق «3» وينخل، ثم يجمع، ويحلّ بالميعة، ويرطّب بشراب «4» ريحانىّ، ويطلى الذّكر منه، وتجامع [المرأة بعد جفافه، فإنّه نافع لذلك لا يخرم «5» سيّما «6» اذا كان عقيب طهر المرأة.(12/208)
دواء آخر
يؤخذ ورق الغبيراء «1» ، يجفّف، ويسحق سحقا ناعما، ويعجن بمرارة البقر، ويطلى به الذّكر، ويجامع] ، فإنه يزيد فى الباه ويعين على الحبل.
دواء آخر
يؤخذ بول الفيل، وتسقى منه المرأة وهى لا تعلم، ثمّ يجامعها، فإنّها تحبل لوقتها بإذن الله تعالى.
صفة دواء آخر وهو من الأسرار
يطلى الذّكر بلبن حليب، ويترك حتّى يجفّ، ثم يجامع عقيب طهر المرأة فإنّه غاية لذلك. قال صاحب كتاب (الإيضاح) : ينبغى لمن استعمل دواء من هذه الأدوية أن يقصد الجماع فى الوقت الذى تطهر فيه المرأة من طمثها.
قال: وينبغى أن يرفع وركيها عند الإنزال، ويكون رأسها منكّسا إلى أسفل فإنّ ذلك ممّا يعين على الحبل.
قال: وينبغى أنّه إذا أحسّ بالإنزال أن يميل على جنبه الايمن، وكذلك إذا نزع فإنّ الولد يكون ذكرا إن شاء الله تعالى.(12/209)
وأمّا الأدوية التى تمنع الحبل
- فيحتاج الرجل مع الأدوية أن يكون اعتماده [فى الجماع «1» ] بضدّ «2» ما تقدّم، وذلك أن يجعل إنزاله قبل إنزالها، وأن ينهض عنها بسرعة، ولا يجامعها عقيب الظّهر.
وأمّا الأدوية
- فمنها صفة دواء يمنع من الحبل ويسقط الجنين:
يؤخذ سذاب مجفّف ونطرون، من كلّ واحد جزء؛ يسحقان وينخلان ويحلّان بماء السّذاب الرّطب، ويطلى بذلك الإحليل، ويجامع.
دواء آخر مثله
تؤخذ قنّة «3» ، تسحق بعصارة السّذاب وماء الكسبرة الخضراء حتّى تترطّب ويطلى بها الذّكر، ويجامع، فإنّه يمنع الحبل ويسقط الجنين.
صفة دواء آخر يفعل فعل ما تقدّم
يؤخذ أبهل «4» مثقالان؛ ورق سذاب مجفّف، وفودنج «5» يابس، من كلّ واحد نصف(12/210)
مثقال؛ فوّة «1» وسقمونيا «2» ونطرون، من كلّ واحد مثقال؛ يدقّ ذلك وينخل ويسحق، ثم يجمع، ويحلّ بماء السّذاب الرّطب، أو بماء طفئ فيه الحديد [ويجامع به «3» ] فإنّه شديد فى منع «4» الحبل وإسقاط الأجنّة.(12/211)
وحيث ذكرنا ما قدّمناه من الأدوية التى تزيد فى الباه وتغزر المنىّ، وأشباه ذلك، وما وصلناه به، فلنذكر الأدوية الّتى تنقص الباه، وتسكّن الشهوة، فإنّه قد يحتاج الى ذلك فى بعض الأوقات.
ذكر الأدوية الّتى تنقص الباه وتمنع من الجماع وتسكّن الشهوة وهذه الأدوية منها مفردة ومنها مركّبة
أمّا المفردة
- فمنها البقلة الحمقاء، وهى الرّجلة، وتسمّى الفرفحين «1» أيضا، ومنها الخسّ «2» ، والقرع، والشّهدايج «3» ، والعدس، والجمّار، والشّعير «4» ، والأشياء الحامضة كالحصرم والتّوت، والرّمّان الحامض، وحمّاض «5» الأترجّ، والخلّ، وعنب الثعلب «6» ، ومنها البطّيخ والخيار والقثّاء والسّفرجل والمشمش «7» وأشباه ذلك؛ ومنها الفودنج والمرماحوز والمرزنجوش «8»(12/212)
والحرمل «1» والكمّون «2» وبزر قطونا «3» والكافور والبنج «4» والورد والخلاف والإسفاناج وكلّ دواء بارد يابس، فهذه المفردات.
وأمّا المركبّات- فمنها أغذية وأدوية.
أمّا الأغذية
- فمنها السّمّاقيّات، والحصرميّات «5» ، واللّيمونيّات، والسّكباج «6» والمصوص «7» ، والمضيرة «8» ، والعدس، والتّمريّة، والزّبيبيّة، وما أشبه ذلك ممّا فيه خلّ أو حموضة.(12/213)
وأمّا الأدوية
- فمنها صفة دواء يقطع الشهوة، ويجمد المنىّ.
تؤخذ كسبرة يابسة محمّصة، وبزر قثّاء، وبزر نرجس، وبزر كتّان، وجلّنار «1» وتحمّص البزور كلّها.
ويؤخذ سمّاق، وحرمل «2» وبنج «3» أبيض، وقلقطار «4» وقلقند «5» ، وصندل أبيض من كلّ واحد جزء؛ تجمع هذه الأدوية بعد سحقها ونخلها، وتعجن بالماء المعتصر(12/214)
من الورد «1» والرّجلة، وتحبّب مثل الحمّص، وتجفّف فى الظّلّ، وترفع فى إناء زجاج ويسدّ رأسه من الهواء، فإذا احتيج اليه اذيبت منه واحدة بلعاب بزر قطونا «2» ، ويطلى به الإحليل فى كلّ أسبوع ثلاث مرّات. وإن طليت به «3» فقار الظّهر وتكرّر ذلك أيّاما متواليات قطع النّسل وأمات شهوة الجماع.
صفة دواء آخر يقطع شهوة الجماع البتّة، وهو من الخواصّ
تؤخذ خصية السّقنقور «4» اليمنى، تجفّف، وتسحق، وتذاب بماء السّذاب الرّطب، فمن شرب منه زنة قيراط قطع شهوته ونسله.
صفة دواء آخر
يضعف الإحليل ويكسر حدّته ولا يدعه ينتشر البتّة، وهو الّذى يستعمله كثير من الرّهبان.
يؤخذ توبال النحاس، وتوبال «5» الحديد، وتوتياء هندىّ، وشعر دبّ، وشعر ثعلب محرقان، وجلّنار محرق، وجفت «6» البلّوط، وكافور، وجوز السّرو محرقا، وصندل أبيض(12/215)
من كلّ واحد جزء «1» ، تجمع بعد سحقها ونخلها، وتعجن بالماء المعتصر من السّلق وتحبّب مثل الحمّص، وتجفّف فى الظّلّ، وترفع فى إناء من الزّجاج، ويسدّ رأسه فإذا احتيج اليه تؤخذ منه حبّة تحلّ بماء الكسبرة الخضراء، ويطلى بها الذّكر ويرشّ منها أيضا فى السّراويل.(12/216)
الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفنّ [الرابع «1» ] فيما يفعل بالخاصّيّة
إعلم- وفّقنا الله وإيّاك- أنّ الخواصّ كثيرة لا تكاد تنحصر، ولا تتعلل أفعالها، فأحببنا أن نذكر منها طرفا نختم به هذا الفنّ.
ولنبدأ بما هو متعلّق بالنكاح، ليكون القول فيه يتلو بعضه بعضا.
ذكر الخواصّ المختصّة بالنساء والنكاح الّتى استقرئت بالتجربة
«2» ............... ............... ............... .............
خاصّيّة من خواصّ الهنود
وهى، تأخذ رأس غراب أسود فأفرغ «3» دماغه، واجعل موضع الدّماغ «4» شيئا من تراب الموضع الّذى تجلس فيه المرأة الّتى تريد، وشيئا يسيرا من زبل الحمام، واجعل(12/217)
فى ذلك «1» سبع شعيرات، وادفنه فى الأرض فى موضع ند؛ فاذا نبت الشّعير وصار طول أربع أصابع، فخذ منه، ثم ادلك به يدك، وامسح به على وجهك وذراعيك ثم استقبل به تلك المرأة ولا تكلّمها، فإنها تسعى فى أثرك، ولا تطيق الصبر عنك.
قال: وهو من الأسرار الخفيّة، فاعرفه.
سرّ آخر
قال صاحب الخواصّ: خذ أظفار الهدهد وأظفار نفسك، فأحرقهما جميعا واسحقهما حتّى يصيرا ذرورا؛ ثم اجعل ذلك فى قدح طلاء، واسقه أىّ امرأة أردت وهى لا تعلم، فإنّها تميل اليك، وتحبّ القرب منك جدّا.
سرّ آخر لجعفر الطّوسىّ
قال: إذا أخذت لسان ضفدعة خضراء، ووضعته على قلب امرأة نائمة أخبرتك بجميع ما عملت فى ذلك اليوم.
قال: وإن بخّرت فراش امرأة بشىء من ضفدعة خضراء وهى لا تعلم ثم نامت عليه، فإنّها تتكلّم فى نومها بجميع ما عملته.
قال: وكذلك اذا أخذت عين الرّخمة أو عين كلب ميّت وأصل الخسّ ثم ربطت ذلك فى خرقة كتّان؛ ووضعته على سرّة امرأة نائمة، أخبرتك بجميع ما عملته.
وقال حنين بن إسحاق: اذا أردت أن تعلم أنّ المرأة بكر أو ثيّب، فمرها أن تأخذ ثومة مقشورة وتنخسها «2» فى عدّة مواضع، ثم تحملها فى فرجها ليلة، فاذا أصبحت(12/218)
فاستنكهها «1» ، فإن وجدت رائحة الثّوم فى فيها فهى ثيّب، وإن لم تجد فيه رائحة فهى بكر. وبذلك أيضا تعرف حملها، فإن وجدت للثّوم رائحة فهى غير «2» حامل وإن لم تجدها فهى حامل.
قال: وإذا أردت أن تختبر حال امرأة، وهل بقيت تحمل أم «3» لا فمرها أن تأخذ زراوندا «4» مدحرجا، وتسحقه بمرارة البقر، ثم تحمله بعد طهرها ليلة، فاذا أصبحت، فان وجدت طعمه فى فيها فهى تحمل، وإلّا فهى عاقر.
وقال صاحب كتاب (فردوس الحكمة) : إذا تبخّرت المرأة بحافر فرس أو حافر بغل أو حافر حمار أسقطت الولد والمشيمة؛ واذا تحمّلت «5» به بعد الجماع لم تحبل.
قال: ومن طلى ذكره بمرارة دجاجة سوداء ثمّ جامع امرأة لم تحمل بعد ذلك أبدا.
وقال جابر بن حيّان: إذا أخذت المرأة حبّة خروع وغمّضت عينيها وابتلعتها لم تحبل سنة.
قال: وإن ابتلعت حبّتين لم تحمل سنتين؛ وإن ابتلعت ثلاثا فثلاث، وكذلك كلّما «6» زادت كانت كلّ حبّة بسنة.(12/219)
قال: وإذا أخذ رأس خشّاف «1» ووضع تحت رأس امرأة عند الجماع، لم تحبل من ذلك الوطء.
قال: وإن أخذ شوكران «2» وسحق وعجن بلبن رمكة «3» وجعل فى صرّة، وربط فى عضد المرأة الأيسر، لم تحبل أبدا ما دام عليها.
قال: وإن شربت المرأة بول كبش لم تحبل أبدا. [وكذلك «4» إن شربت من رغا «5» الجمل الهائج لم تحبل أبدا] .
وقال شرك «6» الهندىّ: إذا أردت ذهاب غيرة المرأة فلا تغار من ضرّتها ولا من وطء جارية، فاسقها دماغ أرنب بشراب وهى لا تعلم.
قال: وإن سقيت مرارة ذئب بعسل وهى لا تعلم ذهبت غيرتها.
ومما يذهب غيرة المرأة أن تسقى غبار دقيق الشّعير من الرّحى الدائرة بماء المطر فإنّه جيّد فى ذهاب الغيرة.(12/220)
قالوا: وإذا شدّت فى مقنعة «1» امرأة دودة حمراء وهى لا تعلم هاجت شهوتها واغتلمت أمرا «2» عظيما.
واذا أخذ من الزّنجار «3» جزء، ومن النّشادر نصف جزء، وجعلا فى الماء الّذى تستنجى به المرأة؛ اغتلمت وطلبت الجماع.
وكذلك إذا أخذ من الأقحوان «4» والأبهل «5» والأشنان «6» الأحمر من كلّ واحد جزء ودقّ ذلك، وسحق، وعجن بدهن البان، وحملته المرأة، ثارت بها شهوة الجماع.(12/221)
[واذا أخذ قضيب الثّور الأحمر وجفّف فى الظّلّ، وسحق، وشربت منه المرأة وزن مثقال بنبيذ صرف، قطع عنها شهوة الجماع «1» ] .
واذا أخذت قضيب الذئب قبل طلوع الشمس أو بعد غروبها بحيث لا تراه الشمس، وقطّعته، ثم جفّفته فى الظّلّ، وسحقته، وأسقيته امرأة، فإنّها تبغض الرجال، وتذهب عنها شهوة الباه.
واذا أخذت شجرة مريم «2» وسحقتها وعجنتها بماء النّعناع، وحبّبتها كلّ حبّة زنة نصف دانق، وسقيت منها امرأة حبّة، انقطعت شهوتها سنة.
وكذلك مهما زدت كانت كلّ حبّة بسنة.(12/222)
ذكر شىء من الخواصّ غير ما تقدّم ذكره من ذلك طلسم «1» يجعل على المائدة فلا يقربها ذباب
يؤخذ كندس «2» وزرنيخ أصفر، وكمأة «3» يابسة، أجزاء متساوية؛ يسحق جميع ذلك، ويعجن بماء بصل العنصل «4» ، ويجعل منه مثال «5» ، «ويدهن بالزّيت» «6» فإنّ الذّباب لا يقرب من المكان الّذى يوضع فيه.(12/223)
سامّ أبرص اذا جعل فى قصبة فارسيّة أحد رأسيها مسدود، ثم يسدّ الآخر بشمعة، وتعلّق القصبة بما فيها على من به عرق النّسا على وركه من الجانب الّذى به الوجع، فإنّ وجعه يتناقص بقدر ما يضعف سامّ أبرص، فاذا مات فى القصبة زال الوجع كلّه.
الافسنتين «1» الرّومىّ يمنع السوس عن الثياب؛ وفساد الهوامّ؛ ويمنع الحبر والمداد أن يتغيّرا، والكاغد أن يعثّ أو يقرّض.
قشر الأترجّ اذا جعل فى الثّياب حماها من السّوس.
[الساذج «2» الهندىّ اذا نثر فى الثّياب حفظها من السّوس «3» ] .
الخربق «4» اذا جعل مع الثياب التى ترفع لم يقربها السّوس.
عود الرّيح «5» وورق النّعناع مثل ذلك.
يكتب على بيضتين بعد سلقهما وقشرهما، على الأولى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
؛ وعلى الثانية: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
؛ ويكتب بعد ذلك على كلّ منهما(12/224)
قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ
وتعطى الأولى للمرأة، والثانية للرّجل؛ ويعطى كلّ منهما لصاحبه البيضة الّتى أعطيها يأكلها، فإنّ ذلك يحلّ المعقود.
مرارة الخطّاف إن شربت وشرب فى عقبها اللّبن الحليب، سوّدت شعر اللّحية والرأس.
إذا غرز فى طرف القرع قطع من حديد وهو متّصل بأصله، ولم ينفذ إلى الجانب الآخر، وطلى عليه بالطّين الأصفر، وترك فى أصله إلى أن يدرك ويجفّ ويؤخذ ما فى جوفه، وهو كالحبر، ويحلّ بعسل نحل من غير نار، ويستعمل منه فى كلّ غداة قدر البندقة- وان حلّ بربّ العنب فهو أجود، وهو الميبختج «1» - فإنّه يسوّد الشّعر إن داوم عليه.
ذكر نبذة من خواصّ الحروف والأسماء
خواصّ الحروف والأسماء كثيرة، قد ذكرها البونىّ «2» ؛ فمنها ما عرفوا تأثيراته بطوالع، وقيّدوه بأوقات؛ ومنها ما ليس له وقت مخصوص، وهو الّذى أورد منه فى هذا الموضع ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ جمال الدين أبو العبّاس أحمد بن أبى الحسن القرشىّ البونىّ- رحمه الله تعالى- فى كتابه المترجم (بلطائف الإشارات فى أسرار الحروف العلويّات «3» ) :(12/225)
من نقش حرف الحاء فى فصّ خاتم ثمانى مرّات، ونقش معه «يا حىّ يا حليم يا حنان يا حكيم» ، أمن من الحمّيات كلّها.
وإن هو جعله فى ماء وسقى منه المحمومين خفّف ما بهم.
وان داموا على شرب ذلك الماء والابتراد به ذهبت الحمّيات كلّها.
وكذلك ينفع المحرورين من أهل الصّفراء.
قال: ولا يكثر من لبسه كبير السّنّ.
قال: ومن خاصّيّته تعطيل حركة النّكاح.
قال: وإن حمله الشابّ فهو أوفق للتّختّم به، ولا يحمله فى يوم السبت ولا فى يوم الاثنين، ويحمله فيما عداهما من الأيّام.
وفيه لمن أمسكه ذهاب العطش وكثرة شرب الماء.
وان علّق فى بستان نمى ثمره، وكثرت نضارته.
قال: ومن قال عند طلوع الشمس: «يا حىّ يا حليم يا حنّان يا حكيم» ومن الأسماء المقدّسة ما أوّله حاء فى زمن القيظ، يذكر ذلك حتّى تنقلب الشمس فى رأى عينه خضراء وهو ناظر اليها، لم يحسّ فى يومه [ذلك «1» ] ألم الحرّ.
قال: ومن كتب اسمه «2» «الجبّار وذا الجلال» فى بطاقة أىّ وقت شاء وهو على طهارة، وجعلها فى خاتمه أو بين عينيه وقت جلوسه بين الناس، رزقه الله الهيبة والتعظيم.(12/226)
ومن كتب اسم الله «الجميل والجواد» فى بطاقة أىّ وقت شاء، وتختّم بها أو حملها وقت دخوله بين أحبابه أو منزله، حسّنه الله تعالى، وجمّل ظاهره وباطنه.
قال: ومن كتب «محمّد رسول الله» خمسة وثلاثين مرّة، «أحمد رسول الله» خمسة وثلاثين مرّة فى يوم جمعة بعد صلاة الجمعة وحملها معه، رزقه الله تعالى قوّة فى الطاعة، وتقوية على البرّ كلّه، وكفاه الله تعالى همزات الشياطين.
وإن هو أدام النظر الى تلك البطاقة كلّ يوم عند طلوع الشمس وهو يصلّى على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، كثرت رؤياه للنّبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ويسّر الله تعالى عليه فى يومه ذلك أسباب السعادة، وذلك بحسن القبول وعقد النيّة وصفاء الباطن.
قال: ومن نقش اسم الله (الخبير) على فصّ مهما «1» يكن يوم الجمعة أو يوم الاثنين أوّل ساعة من النهار، واحتمل هذا الفصّ فى فمه، لم ينله وصب العطش.
وإن هو جعله فى كوز ماء وشرب منه، أسرع له الرّىّ، ولم يطلب الماء بعده.
ومن كتب: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ
أربع مرّات، وعلّقها عليه، لم يقربه شيطان، ولم يصبه، ولا يقرب البيت الّذى يكون فيه.
قال: ومن كتب الصاد ستّين مرّة فى بطاقة وحملها غلب خصمه.
ومن علّقها عليه وهو صائم، أمن من الجوع بإذن الله تعالى.
قال: ومن كتب الصاد ستّين مرّة فى عصابة، وعصّب بها من يشتكى الصّداع، برئ إن شاء الله تعالى.(12/227)
وقال: إذا نقش حرف الطاء فى لوح من مشمش «1» والشمس فى السعود تسع طاءات، وخمس هاءات وحملها إنسان، قهر الله عنه قلوب الجبّارين من الشياطين والإنس، وربّما أنه كثيرا «2» ما يرى النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم.
ومن استدام إمساكه على غير طهارة، أورثه ذلك حمّى الدّقّ «3» .
قال: ولا بسه يحبّ أعمال البر كلّها، ولا يقدر أن يبقى ساعة بغير طهارة.
وإن علّق على من يشتكى ألم الرأس، هوّن الله تعالى عليه ذلك.
وإن ألقاه فى كوز الماء وشرب من ذلك الماء، رأى بركة فى ذاته من محبّة الخير، وانشراح الباطن، واتساع الصّدر.
قال: ومن كتبها فى تسع من الشّهر، أو ثمانية عشر، أو فى سبعة وعشرين عددها، وخمس هاءات معها، وعلّقها على نفسه، أمن من الهوامّ.(12/228)
قال: ومن نقش حرف العين سبعين مرّة يوم الجمعة وقت الأذان، فى خرقة حرير بيضاء، وركّبها على خاتم قلعىّ «1» أو قمر «2» ، وتختّم «3» به، نطق بالحكمة، ويسّر الله عليه الفهم الثاقب؛ ويكون تعليقه بإزاء قلبه، ولا يعلّقه عليه عند نومه، فإنّه يرى خيالات كثيرة.
قال: ومن أكثر من ذكر اسمه «4» (العزيز) ، نال عزّة فى دينه إن يكن من أهل الديانات، وعزّة فى دنياه إن يكن من أهل الدنيا.
قال: ومن كتب حرف القاف فى زيادة الهلال مائة مرّة ومحاه بماء وشربه أمن من الرّطوبات العارضة، وجاد فهمه، وقوى حفظه؛ ولا يداوم ذلك لئلّا يفرط به اليبس.
ومن كتبه فى ورقة رند مائة مرّة، وغلاها فى زيت زيتون، ودهن به المفلوجين وأهل النّزلات الهوائيّة، نفعهم.
قال: ومن ذكر من أسماء الله تعالى ما فيه قاف كاسمه (القادر) و (القيّوم) و (القوىّ) ، وما أشبه ذلك، فمن استعمل ذلك الذّكر ممّن يشتكى الضّعف والفزع واستدام عليه بعقد نيّة وجمع همّة، رزقه الله تعالى القوّة، ويسّر له أسباب الخروج من الجزع.(12/229)
قال: ومن نقش حرف الكاف فى خاتم عشرين مرّة، أو كتبه فى خرقة حرير، وطواها، وجعلها تحت فصّ خاتم، فإنّ لا بسه لا يردّ كلامه إلا بخير؛ وينفع لملاقاة الجبّارين ودفع ضررهم.
قال: ومن نقش حرف النون بالعربىّ «1» فى فصّ خاتم خمس نونات، وعلّقه على من يشتكى معدته أو خفقان قلبه على موضع الألم، سكن بإذن الله تعالى.
قال: ومن كتب حرف الواو ستّ مرّات فى ورقة وعلّقها عليه، أمن من الصّداع العارض من اليبوسة، وحسبه «2» .
ومن نقشه فى فصّ مها «3» أو فضّة وجعله فى فيه، وكان به بلغم يجفّف الفم، فإنّه يكون برأه إن شاء الله تعالى.
ومن علّقه عليه أمن من حمّى الرّبع «4» .
والخواصّ كثيرة؛ وفيما أوردناه منها كفاية.(12/230)
كمل الجزء الثانى»
عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للنّويرىّ رحمه الله تعالى، ويليه الجزء الثالث عشر، وأوّله:
(الفنّ الخامس فى التاريخ) والحمد لله رب العالمين(12/231)
[مقدمة الجزء الثالث عشر]
بيان
يوجد من نسخ هذا الجزء بدار الكتب المصرية نسختان كاملتان مأخوذتان بالتصوير الشمسىّ؛ وقطعة غير كاملة من نسخة أخرى مأخوذة بالتصوير الشمسى أيضا، وقد نبهنا على الموضع الذى تنتهى عنده هذه القطعة فى إحدى الحواشى.
أما خطوط النّسخ الثلاث: فإحداها مكتوبة بخط نور الدين العاملى فى سنة 966 هـ. وثانيتها مكتوبة بخط الشيخ عبد الرحمن بن ابراهيم الجبرتى الحنفى فى سنة 966 أيضا. والثالثة منسوب خطها إلى المؤلف كما نص على ذلك فى بعض الأجزاء الأخرى منها.
أما التحريف والتصحيف فى هذه الأصول فيكاد يكون متفقا فى جميعها؛ غير أننا وجدنا أن بعض هذه النسخ قد سقطت منها عبارات وجدناها مثبتة فى النسخ الأخرى، فكملنا بعضها من بعض كى يكون الجزء نسخة كاملة من جميع هذه الأصول.
ومما ينبغى التنبيه عليه في هذا الموضع أن المؤلف قد نقل موضوعات هذا الجزء عن كتابين: أحدهما «يواقيت البيان فى قصص القرآن» لأبى إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ؛ والثانى «المبتدأ» لأبى الحسن محمد بن عبد الله المعروف بالكسائى؛ وقد بحثنا فى محفوظات دار الكتب عن اسمى هذين الكتابين فلم نجدهما، غير أننا وجدناهما باسمين آخرين؛ فكتاب الثعلبى مكتوب عليه:
«قصص الأنبياء المسمى بالعرائس» . وكتاب الكسائى يسمى «بالعرائس» أيضا؛ ويسمى أيضا «نفائس العرائس» كما هو مكتوب على بعض نسخه المخطوطة.
وفى «كشف الظنون» أنه يسمى «خلق الدنيا وما فيها» . والأوّل مطبوع بالمطبعة البهية بالقاهرة عام 1301 هـ. والثانى مخطوط سنة 803 هـ.
ومما يرجح لدينا أن هذين الكتابين هما اللذان أشار إليهما المؤلف ونقل عنهما وإنما تغيّر اسماهما دون مسمّاها، مراجعة ما فيهما على ما نقله المؤلف فى هذا الجزء عنهما ملخصا، والاتفاق التام فى العبارات بين المنقول والمنقول عنه.(مقدمةج 13/1)
ويلاحظ أنه قد ورد فى هذا الجزء نقلا عن الكتابين المذكورين كثير من الأسماء العبرانية التى تعوّد المؤرخون القدماء ذكرها فى كتبهم فى الكلام على بدأ الخليقة وقصص الأنبياء، وهذه الأسماء لم نقف على نصوص صريحة تدل على الصواب فى ضبطها، والصحة فى تقييد حروفها.
وقد بحثنا فيما بين أيدينا من مصادر التاريخ الكثيرة عنها للوثوق من صحتها فوجدنا تلك المصادر مختلفة كل الاختلاف فيها، حتى لا تجد كتابا متفقا مع غيره فى كتابتها.
لهذا رأينا أن نبقى تلك الأسماء كما هى فى الأصول، إلا ما وجدناه مضبوطا بخطّ موثوق بكاتبه.
وعسى أن نكون قد وفقنا فى هذا الجزء إلى ما قصدنا إليه فى الأجزاء السابقة من تصحيح التحريف، وتكميل النقص، وضبط الملتبس من الألفاظ، وغير ذلك مما سردناه فى الكلام على تصحيح الأجزاء السابقة.
وقد تمّ طبعه فى عهد من اعتز العلم بنصره، وازدهت الآداب فى عصره وقويت آمال لغة العرب فيه، واختالت زهوا بأياديه:
حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم «فاروق الأوّل» حفظه الله
ولا يفوتنا فى هذا المقام أن نذكر بالشكر والثناء تلك الجهود العظيمة التى بذلها ويبذلها حضرة صاحب العزة العالم الكبير «الدكتور منصور فهمى بك» مدير عام دار الكتب المصرية، واهتمامه الصادق بإخراج هذه الكتب فى أقرب وقت ممكن على أحسن وجه وأكمله، تحقيقا لما تتوق إليه الأمة العربية جمعاء من إحياء لغتها وآدابها بنشر الكتب الثمينة فى الدين واللغة والأدب والتاريخ وغيرها من أنواع العلوم.
ونسأل الله سبحانه أن يجعل عملنا خالصا لوجهه
مصحّحه أحمد الزين
القاهرة فى 7 شوّال سنة 1357 هـ. (29 نوفمبر سنة 1938 م)(مقدمةج 13/2)
فهرس الجزء الثالث عشر
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ
.... صفحة
الفن الخامس فى التاريخ ويشتمل على خمسة أقسام 1
القسم الأوّل من الفن الخامس فى مبدأ خلق آدم وحواء عليهما السلام ودخولهما الجنة، وما كان بينهما وبين إبليس لعنه الله وهبوطهما إلى الأرض واجتماعهما بعد الفرقة، وخبر حرثه وزرعه، وحمل حواء ووضعها، وخبر ابنى آدم هابيل وقابيل، ونبوة آدم عليه السلام ووفاته، وخبر شيث وأولاده، وقصة إدريس ونوح وهود وصالح عليهم السلام، وخبر أصحاب البئر المعطلة والقصر المشيد، وخبر أصحاب الرس، وفيه ثمانية أبواب 3
الباب الأوّل من هذا القسم فى مبدأ خلق آدم وحواء عليهما السلام وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما- ذكر خلق آدم عليه السلام 10
ذكر دخول الروح فيه 11
ذكر سجود الملائكة لآدم 12
ذكر خلق حواء عليها السلام 13
ذكر عرض الأمانة على آدم عليه السلام 14
ذكر خبر إبليس والطاوس والحية 15(مقدمةج 13/3)
ذكر خروج آدم وحواء من الجنة 18
ذكر سؤال إبليس لعنه الله 19
ذكر سؤال آدم عليه السلام 20
ذكر سؤال حواء عليها السلام 21
ذكر توبة آدم عليه السلام 23
ذكر أخذ الميثاق على ذرية آدم عليه السلام 25
ذكر اجتماع آدم بحواء 26
ذكر بناء آدم وزرعه وحرثه 28
ذكر حمل حواء عليها السلام وولادتها 30
ذكر مبعث آدم عليه السلام إلى أولاده 31
ذكر قتل قابيل هابيل 32
ذكر وفاة آدم عليه السلام 34
ذكر وفاة حواء 35
الباب الثانى من القسم الأول من الفن الخامس فى خبر شيث بن آدم عليهما السلام وأولاده 35
ذكر قتال شيث قابيل 36
الباب الثالث من القسم الأول من الفن الخامس فى أخبار إدريس النبى عليه السلام 38
الباب الرابع من القسم الأول من الفن الخامس فى قصة نوح عليه السلام وخبر الطوفان 42
ذكر مبعث نوح عليه السلام 43(مقدمةج 13/4)
ذكر عمل السفينة 46
ذكر خبر دعوة نوح على ابنه حام ودعوته لابنه سام 49
ذكر وصية نوح ووفاته 50
ذكر خبر أولاد نوح عليه السلام من بعده 50
الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى قصة هود عليه السلام مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم 51
ذكر مبعث هود عليه السلام 52
ذكر خبر وفد عاد إلى الحرم يستسقون لهم 56
ذكر إرسال العذاب على قوم هود 58
ذكر خبر مرثد ولقمان 60
ذكر خبر إرم ذات العماد وقصة شديد وشدّاد بنى عاد 61
الباب السادس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى قصة صالح عليه السلام مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم 71
ذكر ميلاد صالح عليه السلام 73
ذكر مبعثه عليه السلام 75
ذكر خروج الناقة 80
ذكر خبر عقر الناقة وهلاك ثمود 82
الباب السابع من القسم الأوّل من الفن الخامس فى أخبار أصحاب البئر المعطلة والقصر المشيد وما كان من أمرهم وهلاكهم 86
الباب الثامن من القسم الأوّل من الفن الخامس فى خبر أصحاب الرس وما كان من أمرهم 88(مقدمةج 13/5)
القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وخبره مع نمروذ وقصة لوط وخبر إسحاق ويعقوب وقصة يوسف وأيوب وذى الكفل وشعيب، وفيه سبعة أبواب- الباب الأوّل منه فى قصة إبراهيم الخليل عليه السلام وخبره مع نمروذ بن كنعان ذكر خبر نمروذ بن كنعان 96
ذكر الآيات التى رآها نمروذ قبل مولد إبراهيم عليه السلام 99
ذكر حمل أم إبراهيم عليه السلام وطلوع نجمه 100
ذكر ميلاد إبراهيم عليه السلام 102
ذكر خروج إبراهيم عليه السلام من الغار واستدلاله 102
ذكر معجزة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام 105
ذكر مبعث ابراهيم عليه السلام 107
ذكر سؤال إبراهيم عليه السلام فى إحياء الموتى 108
ذكر آية لإبراهيم عليه السلام 108
ذكر خبر تكسير إبراهيم الأصنام وإلقائه فى النار 111
ذكر خبر صعود نمروذ إلى السماء على زعمه 113
ذكر خبر إرسال البعوض على نمروذ وقومه 114
ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام 115
ذكر خبر ميلاد إسماعيل عليه السلام ومقامه وأمه فى البيت المحرّم 115
ذكر خبر بشارة إبراهيم بإسحاق عليهما السلام 118
ذكر خبر الذبيح وفدائه 120
ذكر وفاة إبراهيم عليه السلام 122(مقدمةج 13/6)
الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة لوط عليه السلام وقلب المدائن 123
ذكر خبر نزول العذاب على قوم لوط وقلب المدائن 125
الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر إسحاق ويعقوب عليهما السلام 128
ذكر مبعث يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام 129
الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام- ذكر خبر ميلاد يوسف عليه السلام 130
ذكر رؤيا يوسف عليه السلام وكيد إخوته له 131
ذكر رجوع إخوة يوسف إلى يعقوب- ذكر كلام الذئب بين يدى يعقوب 133
ذكر خبر خروج يوسف من الجب وبيعه من مالك بن دعر 134
ذكر خبر بيع يوسف من عزيز مصر 135
ذكر خبر يوسف وزليخا 136
ذكر خبر النسوة اللاتى قطعن أيديهن 138
ذكر إلهام يوسف عليه السلام التعبير 140
ذكر خبر الخباز والساقى 140
ذكر رؤيا الملك وتعبيرها وما كان من أمر يوسف وولايته 141
ذكر حاجة زليخا إلى الطعام وزواج يوسف بها 144
ذكر دخول إخوة يوسف عليه السلام فى المرة الأولى 145
ذكر خبر دخولهم عليه فى المرة الثانية 147(مقدمةج 13/7)
ذكر خبر دخولهم عليه فى الدفعة الثالثة 152
ذكر خبر حديث الصاع 152
ذكر دعوة يوسف عليه السلام وارتحاله عن بلد الريان 155
ذكر خبر وفاة يوسف عليه السلام 156
الباب الخامس من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة أيوب عليه السلام وابتلائه وعافيته 157
ذكر كشف البلاء عن أيوب عليه السلام 163
الباب السادس من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر ذى الكفل 164
الباب السابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر شعيب النبى عليه السلام 167
ذكر مبعث شعيب عليه السلام 169
ذكر خبر الظلة 172
القسم الثالث من الفن الخامس يشتمل على قصة موسى بن عمران عليه السلام وخبره مع فرعون وخبر يوشع بن نون وإلياس واليسع وغيلا واشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود ويونس بن متى وجرجيس وبلوقيا وزكريا وعمران ومريم وعيسى عليهم السلام وأخبار الحواريين وفيه ستة أبواب- الباب الأول من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة موسى بن عمران وهارون عليهما السلام وخبر فرعون وابتداء أمره وغرقه، وأخبار بنى إسرائيل، وخبر قارون، وحروب موسى عليه السلام 173
خبر فرعون وابتداء أمره، وكيف توصل إلى الملك 173
ذكر خبر قتل الملك واستيلاء فرعون على ملكه وما كان من أمره 175
ذكر خبر آسية بنت مزاحم وزواج فرعون بها 177
ذكر شىء من الآيات التى رآها فرعون قبل مولد موسى عليه السلام 178(مقدمةج 13/8)
ذكر خبر قتل الأطفال 178
ذكر خبر ميلاد موسى وما كان من أمره وإلقائه فى التابوت 179
ذكر دخول التابوت فى دار فرعون ورجوع موسى إلى أمه 180
ذكر شىء من عجائب موسى عليه السلام وآياته 182
ذكر خبر القبطى وخروج موسى من مصر 183
ذكر خبر ورود موسى مدين وما كان بينه وبين شعيب وزواجه ابنته 184
ذكر خبر خروج موسى عليه السلام من أرض مدين ومناجاته ومبعثه إلى فرعون 186
ذكر خبر مسير موسى إلى مصر واجتماعه بأخيه هارون وأمه 189
ذكر خبر دخول موسى عليه السلام إلى فرعون وما كان من أمره معه 190
ذكر خبر العصا حين صارت ثعبانا واليد البيضاء 191
ذكر خبر السحرة واجتماعهم وما كان من أمرهم وإيمانهم 192
ذكر خبر حزقيل مؤمن آل فرعون 194
ذكر خبر بناء الصرح وما قيل فيه 196
ذكر خبر الآيات التسع 197
ذكر خبر مسخ قوم فرعون 198
ذكر خبر قتل الماشطة 206
ذكر خبر قتل آسية بنت مزاحم امرأة فرعون 206
ذكر خبر انقطاع النيل وكيف أجراه الله عز وجل لفرعون 207
ذكر خبر غرق فرعون وقومه 207
ذكر خبر ذهاب موسى عليه السلام لميقات ربه وطلبه الرؤية وخبر الصاعقة والإفاقة 210(مقدمةج 13/9)
ذكر خبر الألواح ونزول العشر كلمات 214
ذكر خبر السامرى واتخاذه العجل وافتتان بنى إسرائيل به 223
ذكر خبر رجوع موسى إلى قومه وما كان من أمرهم 226
ذكر خبر امتناع بنى إسرائيل من قبول أحكام التوراة ورفع الجبل عليهم وإيمانهم 229
ذكر خبر الحجر الذى وضع موسى عليه السلام ثيابه عليه 230
ذكر خبر طلب بنى إسرائيل رؤية الله تعالى وهلاكهم بالصاعقة وكيف أحياهم الله عز وجل وبعثهم بعد موتهم 230
ذكر خبر قارون 232
ذكر خبر موسى والخضر عليهما السلام 240
ذكر خبر البقرة وقتل عاميل 244
ذكر بناء بيت المقدس وخبر القربان والتابوت والسكينة وصفة النار 252
ذكر ما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر 255
ذكر خبر النقباء ومسيرهم إلى أريحا وقصة عوج بن عوق وخبر التيه 260
ذكر مسير موسى- عليه السلام- وبنى إسرائيل لحرب الجبارين ودخولهم القرية 265
ذكر خبر مدينة بلقاء وخبر بلعم بن باعورا وما يتصل بذلك 267
ذكر خبر وفاة هارون عليه السلام 274
ذكر خبر وفاة موسى بن عمران عليه السلام 275(مقدمةج 13/10)
الجزء الثالث عشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
وبه توفيقى وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
الفنّ الخامس فى التاريخ
ويشتمل على خمسة أقسام قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ)
؛ وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)
؛ إلى غير ذلك من الآى.
والتاريخ ممّا يحتاج إليه الملك والوزير، والقائد والأمير، والكاتب والمشير والغنىّ والفقير؛ والبادى والحاضر، والمقيم والمسافر.
فالملك يعتبر بما مضى من الدّول ومن سلف من الأمم، والوزير يقتدى بأفعال من تقدّمه ممّن حاز فضيلتى السيف والقلم؛ وقائد الجيش يطّلع منه على مكايد الحرب، ومواقف الطعن والضرب؛ والمشير يتدبّر الرأى فلا يصدره إلّا عن روية ويتأمّل الأمر فكأنه أعطى درجة المعيّة وحاز فضيلة الألمعيّه «1» ؛ والكاتب يستشهد به فى رسائله وكتبه، ويتوسّع به إذا ضاق عليه المجال فى سربه «2» ، والغنىّ يحمد الله تعالى(13/1)
على ما أولاه من نعمه ورزقه من نواله، وينفق مما آتاه الله إذا علم أنه لابدّ من زواله وانتقاله؛ والفقير يرغب فى الزهد لعلمه أن الدنيا لا تدوم، ولتيقّنه أن سعتها بضيقها لا تقوم. ومن عدا هؤلاء يسمعه على سبيل المسامره، ووجه المحاضرة والمذاكره؛ والرغبة فى الاطلاع على أخبار الأمم، ومعرفة أيام العرب وحروب العجم.
فقد تبيّن بهذه المقدّمة تعويل الأمر عليه، وميل المرء إليه.
وسأورد إن شاء الله فى هذا الفنّ جملا من تواريخ الأمم السالفة والعصور الخاليه، وأطرّزه من القصص والسّير بما تصبح به صفحات الطروس حاليه.
ولمّا رأيت غالب من أرّخ فى الملة الإسلامية وضع التاريخ على حكم السنين ومساقها، لا الدّول واتّساقها؛ علمت أن ذلك ربما قطع على المطالع لذّة واقعة استحلاها، وقضيّة استجلاها؛ فانقضت أخبار السنة ولا استوعب تكملة فصولها ولا انتهى إلى جملتها وتفصيلها؛ وانتقل المؤرّخ بدخول السنة التى تليها من تلك الوقائع وأخبارها، والممالك وآثارها، والدولة وسيرها، والحالة وخبرها؛ فتنقّل من الشرق إلى الغرب، وعدل عن السّلم إلى الحرب؛ وعطف من الجنوب إلى الشمال وتحوّل من البكر إلى الآصال؛ وقد تجول به خيل الاستطراد فيبعد، وتحول بينه وبين مقصده السّنون فيغور «1» تارة وتارة ينجد، فلا يرجع المطالع إلى ما كان قد أهمّه إلّا بعد مشقّة، وقد يعدل عنه إذا طالت المسافة وبعدت عليه الشّقّة.
فاخترت أن أقيم التاريخ دولا، ولا أبغى عن دولة إذا شرعت فيها حولا؛ حتى أسردها من أوائلها إلى أواخرها، وأذكر جملا من وقائعها ومآثرها؛ وسياقة أخبار ملوكها، ونظم عقود سلوكها؛ ومقرّ ممالكها، وتشعّب مسالكها.(13/2)
فإذا انقضت مدّتها، وانقرضت عدّتها؛ وانتقلت من العين إلى الأثر، ومن العيان إلى الخبر؛ رجعت إلى غيرها فقفوت أثرها، وشرحت خبرها، وبيّنت خبرها؛ وذكرت أسبابها، وسردت أنسابها؛ وبدأت بأصلها، وتفوّهت بأخبار من نبغ من أهلها؛ واستقصيتها دولة بعد دوله، وجالت بى خيول المطالعة جولة ناهيك بها من جوله؛ ورغبت مع ذلك فى الاختصار دون الاقتصار «1» ، وأوردت ما يحتاج إلى إيراده من غير تكرار ولا إكثار.
فإن عرضت واقعة كانت بين ملكين كان وقتهما واحدا، وكان الدهر لأحدهما على الآخر مساعدا؛ شرحتها بجملتها فى أخبار الظاهر منهما؛ وأحلت فى أخبار المغلوب عليها، واكتفيت بإيرادها فى أحد الموضعين ولم أعرّج فى الآخر إلا بالإشارة إليها.
وجريت فى تقسيم هذا الفنّ على القاعدة التى تقدّمت فيما قبله من الفنون ليكون أبسط للنفوس وأنشط للخواطر وأقرّ للعيون؛ وجعلته خمسة أقسام، ووضعته على أحسن اتّساق وأكمل انتظام.
القسم الأوّل فى مبدأ خلق آدم- عليه السلام- وحوّاء وأخبارهما ومن كان بعد آدم إلى نهاية خبر أصحاب الرّس، وفيه ثمانية أبواب:
الباب الأوّل- فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام- وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما.
الباب الثانى- فى خبر شيث بن آدم- عليهما السلام- وأولاده.
الباب الثالث- فى أخبار إدريس النبىّ عليه السلام.(13/3)
الباب الرابع- فى قصّة نوح- عليه السلام- وخبر الطّوفان.
الباب الخامس- فى قصة هود- عليه السلام- مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم.
الباب السادس- فى قصّة صالح- عليه السلام- مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم.
الباب السابع- فى أخبار أصحاب البئر المعطّلة والقصر المشيد وهلاكهم.
الباب الثامن- فى خبر أصحاب الرّس، وما كان من أمرهم.
القسم الثانى فى قصة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- وخبره مع النمروذ [لعنه الله] وقصّة لوط وخبر إسحاق ويعقوب، وقصّة يوسف وأيّوب وذى الكفل وشعيب- عليهم السلام- وفيه سبعة أبواب:
الباب الأوّل- فى قصة إبراهيم الخليل- عليه السلام- وأخبار نمروذ بن كنعان.
الباب الثانى- فى خبر لوط مع قومه وقلب المدائن.
الباب الثالث- فى خبر إسحاق ويعقوب- عليهما السلام.
الباب الرابع- فى قصّة يوسف بن يعقوب- عليهما السلام.
الباب الخامس- فى قصّة أيوب- عليه السلام- وابتلائه وعافيته.
الباب السادس- فى خبر ذى الكفل بن أيوب- عليهما السلام.
الباب السابع- فى خبر شعيب- عليه السلام- وقصّته مع مدين. «1»(13/4)
القسم الثالث يشتمل على قصّة موسى بن عمران- عليه السلام- وخبره مع فرعون وخبر يوشع ومن بعده وخبر حزقيل وإلياس واليسع وغيلا وأشمويل وطالوت وجالوت وداود وسليمان وسعيا وإرمياء وخبر بختنصر وخراب بيت المقدس وعمارته وما يتصل بذلك من خبر عزير وقصّة يونس بن متّى وخبر بلوقيا وخبر زكريا ويحيى وعمران ومريم وعيسى- عليهم السلام- وخبر الحوارييّن وما كان من أمرهم وخبر جرجيس، وفيه ستة أبواب:
وذيّلت على هذا القسم ذيلا يشتمل على أبواب أربعة، ذكرت فيها ما قيل فى الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى- عليه السلام- إلى الأرض، وأخبار المهدىّ والدجّال، ونزول عيسى- عليه السلام- ومدّة إقامته فى الأرض ووفاته وما يكون بعده، وشيئا من أخبار الحشر والمعاد.
وإنما ذكرت هذا الذيل فى هذا الموضع- وإن كان غير داخل فى فنّ التاريخ- لأن النفوس لما كانت مائلة إلى الاطّلاع على أخبار ما مضى من الزمان ومن سلف من الأمم، فميلها إلى الاطّلاع على ما يظهر فى مستقبل الزمان أكثر وتشوّقها إليه أوفر؛ فأوردت ما أذكره لهذا السبب، ولأنّ كتابنا هذا ليس مبناه على مجرّد التاريخ بل هو كتاب أدب، لا تخرجه هذه الزيادة عن شرطه.
الباب الأوّل- فى قصّة موسى بن عمران وهرون عليهما السلام وغرق فرعون، وأخبار بنى إسرائيل وخبر قارون وحروب موسى وخبر الجبّارين وبلعم وغير ذلك.(13/5)
الباب الثانى- فيما كان بعد موسى بن عمران- عليه السلام- وهو أخبار يوشع وخبر حزقيل وإلياس واليسع وغيلا وأشمويل وطالوت وجالوت وداود وسليمان- عليهم السلام- ومن بعدهم.
الباب الثالث- فى أخبار سعيا وإرمياء وخبر بختنصّر وخراب بيت المقدس وعمارته، وما يتّصل بذلك من خبر عزير.
الباب الرابع- فى قصّة ذى النّون يونس بن متّى- عليه السلام- وخبر بلوقيا.
الباب الخامس- فى خبر زكريّا ويحيى وعمران ومريم ابنته وعيسى ابن مريم عليهم السلام.
الباب السادس- فى أخبار الحوارييّن الذين أرسلهم عيسى وما كان من أمرهم وخبر جرجيس.
التذييل على هذا القسم، وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل- فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم عليه السلام.
الباب الثانى- فى خبر نزول عيسى إلى الأرض وقتل الدجّال وخروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم وهلاكهم، ووفاة عيسى عليه السلام.
الباب الثالث- فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى بن مريم الى النفخة الأولى.
الباب الرابع- فى أخبار يوم القيامة والحشر والمعاد والنفخة الثانية فى الصّور.(13/6)
القسم الرابع فى أخبار ملوك الأصقاع، وملوك الأمم والطوائف، وخبر سيل العرم؛ ووقائع العرب فى الجاهليّة، وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل- فى أخبار ذى القرنين المذكور فى كتاب الله عزّ وجلّ.
الباب الثانى- فى أخبار ملوك الأصقاع، وهم ملوك مصر والهند والصين والترك وجبل الفتح.
الباب الثالث- فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم، وهم ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف من الفرس، والملوك الساسانيّة منهم، وملوك اليونان والسريان والكلدانيّين والروم والصقالبة والنّوبرد «1» والفرنجة والجلالقة وطوائف السودان.
الباب الرابع- فى أخبار ملوك العرب، وما يتّصل بها من خبر سيل العرم.
الباب الخامس- فى أيّام العرب ووقائعها فى الجاهليّة.
القسم الخامس فى أخبار الملّة الإسلاميّة وذكر شىء من سيرة نبينا محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وأيام الخلفاء من بعده- رضى الله عنهم- والدولة الأمويّة والعباسيّة والعلويّة ودول ملوك الإسلام وأخبارهم، وما فتح الله عليهم، وفيه اثنا عشر بابا(13/7)
الباب الاوّل- فى سيرة سيّدنا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-.
الباب الثانى- فى أخبار الخلفاء من بعده: أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ، وابنه الحسن- رضى الله عنهم-.
الباب الثالث- فى أخبار الدولة الأمويّة بالشأم وغيره.
الباب الرابع- فى أخبار الدولة العباسيّة بالعراق ومصر.
الباب الخامس- فى أخبار الدولة الأمويّة بالأندلس، وأخبار الأندلس بعد انقراض دولتهم.
الباب السادس- فى أخبار افريقية وبلاد المغرب ومن وليها من العمّال، ومن استقلّ بالملك.
الباب السابع- فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيّين فى الدولتين: الأمويّة والعباسيّة فقتل دونها بعد مقتل الحسين بن علىّ- رضى الله عنهما-.
الباب الثامن- فى أخبار صاحب الزّنج والقرامطة والخوارج ببلاد الموصل.
الباب التاسع- فى أخبار من استقلّ بالملك والممالك فى البلاد الشرقيّة والشّماليّة فى خلال الدولة العبّاسيّة، وهم ملوك خراسان وما وراء النهر والجبال وطبرستان وغزنة والغور وبلاد السّند والهند، كالدولة السامانيّة، والدولة الصّفّارية، والدّولة الغزنويّة، والدولة الغوريّة، والدولة الدّيلميّة الختلّيّة.
الباب العاشر- فى أخبار ملوك العراق وما والاه، وملوك الموصل والديار الجزيريّة والديار البكريّة والبلاد الشاميّة والحلبيّة، كالدولة الحمدانيّة، والدولة الدّيلميّة البويهيّة، والدّولة السّلجقيّة، والدولة الأتابكيّة.(13/8)
الباب الحادى عشر- فى أخبار الدولة الخوارزميّة والدولة الجنكزخانيّة وهى دولة التتار (جنكزخان وأولاده) وما تفرّع منها.
الباب الثانى عشر- فى أخبار ملوك الديار المصريّة الّذين ملكوا فى خلال الدولة العباسيّة نيابة عن خلفائها، وهم الملوك الطّولونيّة والملوك الإخشيديّة، ومن استقلّ بملكها وانتزعها وأخراجها من يد نوّاب خلفاء الدولة العباسيّة، وهم الملوك العبيديّون الّذين انتسبوا إلى العلويّين، وما كان من أمرهم من ابتدائه إلى انتهائه وما ملكوه من بلاد المغرب، وكيف استولوا على الديار المصريّة والبلاد الشاميّة والثغور الساحليّة، وانقراض دولتهم، وقيام الدولة الأيّوبيّة وأخبار ملوكها بمصر والشأم إلى حين انقراضها، وقيام دولة الترك ومن ملك منهم وما حازوه من الأقاليم وما فتحوه من الممالك واستنقذوه من أيدى الأفرنج والأرمن والتّتار وغيرهم وما استقرّ فى ملك هذه الدولة من الممالك إلى حين وضعنا لهذا التأليف فى سنة «1» وسبعمائه فى أيام مولانا السلطان السيّد الأجل المالك (الملك الناصر) ، ناصر الدنيا والدين، محمد ابن السلطان الشهيد المالك، الملك المنصور سيف الدنيا والدين (قلاوون) الصالحىّ، خلّد الله تعالى ملكه على ممّر الزمان، وسقى عهد والده صوب الرحمة والرضوان.
هذا جملة ما اشتمل عليه هذا الفنّ من الأقسام والأبواب، والله تعالى المرشد والهادى والموفّق إلى الصواب، بمنّه وكرمه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.(13/9)
القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام- ودخولهما الجنة، و....
ما كان بينهما وبين إبليس- لعنة الله- وهبوطهما إلى الأرض واجتماعهما بعد الفرقة، وخبر حرثه وزرعه، وحمل حوّاء ووضعها، وخبر ابنى آدم هابيل وقابيل، ونبوّة آدم- عليه السلام- ووفاته، وخبر شيث وأولاده، وقصّة إدريس ونوح وهود وصالح- عليهم السلام- وخبر أصحاب البئر المعطّلة والقصر المشيد، وخبر أصحاب الرّس وفيه ثمانية أبواب
الباب الأوّل- من هذا القسم فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام- وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما.
ذكر خلق آدم عليه السلام
خلق الله تبارك وتعالى آدم- عليه السلام- من تراب، بدليل قوله عزّ وجلّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)
وقوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)
وقوله تعالى إخبارا عن إبليس:
(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) *
وهذا أمر بيّن واضح لا خلاف فيه، ولا يحتاج إلى زيادة فى إقامة دليل وإيضاح.
وقيل: إنما سمّى آدم لأن الله تعالى خلقه من أديم الأرض.
وعن وهب بن منبّه أن راسه من الأرض الأولى، وعنقه من الثانية، وصدره من الثالثة، ويديه من الرابعة، وبطنه وظهره من الخامسة، وفخذه ومذاكيره وعجزه من السادسة، وساقيه وقدميه من السابعة.(13/10)
وعن عبد الله بن عبّاس- رضى الله عنهما- أنّ الله تعالى خلقه من الأقاليم السبعة.
وقيل: إن عزرائيل أخذ من تراب الأرض كلّها أبيضها وأحمرها وأسودها وعذبها ومالحها، فهو مخلوق من ذلك التراب.
قال: ولمّا خلقه الله- عزّ وجلّ- وصوّره على هذه الصّورة الآدميّة، أمر الملائكة أن يحملوه ويضعوه على باب الجنّة عند ممرّ الملائكة، وكان جسدا لا روح فيه، فكانت الملائكة يعجبون من خلقته وصورته، لأنّهم لم يكونوا راؤا مثله قط وكان إبليس يطيل النظر إليه ويقول: ما خلق الله تعالى هذا إلّا لأمر. وربما دخل فيه، فاذا خرج قال: إنه خلق ضعيف، خلق من طين أجوف، والأجوف لا بدّله من مطعم ومشرب.
ويقال: إنه قال للملائكة: ما تعملون إذا فضّل هذا المخلوق عليكم؟ فقالوا:
نطيع أمر ربّنا ولا نعصيه. فقال إبليس: إن فضّله علىّ لأعصينّه، وإن فضّلنى عليه لأهلكنّه.
ذكر دخول الرّوح فيه قال: ولما أراد الله تعالى نفخ الرّوح فيه أمر بروحه فغمست فى جميع الأنوار وليست كأرواح الملائكة ولا غيرها من المخلوقات.
قال الله تعالى (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) *
الاية.
وقال تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)
الآية.
قال: فأمرها الله تعالى أن تدخل فى جسد آدم بالتأنّى دون الاستعجال فرأت مدخلا ضيّقا حرجا؛ فقالت: يا ربّ، كيف أدخل؟ فنوديت «ادخلى كرها واخرجى كرها» . فدخلت من يافوخه إلى عينيه، ففتحها آدم ونظر إلى(13/11)
نفسه طينا، ثم صارت إلى أذنيه، فسمع تسبيح الملائكة، وجعلت الروح تمّر فى رأسه والملائكة ينظرون إليه، ثم صارت إلى الخياشيم، فعطس، فانفتحت المجارى المسدودة؛ وصارت إلى اللّسان؛ فقال آدم: «الحمد لله الذى لم يزل ولا يزول» وهى أوّل كلمة قالها. فناداه الرب: «يرحمك ربّك يا آدم، لهذا خلقتك، وهذا لك ولذرّيتك» . وسارت الروح فى جسده حتى بلغت الساقين، فصار آدم لحما ودما وعظما وعروقا، غير أنّ رجليه من طين؛ فذهب ليقوم فلم يقدر وهو قوله تعالى: (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا) .
فلمّا صارت إلى الساقين والقدمين استوى قائما على قدميه يوم الجمعة.
فقيل: إنّ الروح استوت فى جسده فى خمسمائة عام عند نزول الشمس.
ذكر سجود الملائكة لآدم
قال: فلمّا استوى قائما أمر الله الملائكة بالسجود له؛ فسجدوا كلّهم إلّا إبليس، كما أخبر الله تعالى عنه؛ قال الله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)
الآيات.
قال: وكان السجود لآدم يوم الجمعة عند الزوال، فبقيت الملائكة فى سجودها إلى العصر.
قال وعلّم الله تعالى آدم الأسماء كلّها واللغات بأجمعها.
قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: علّمه حتى لغة الحيتان والضفادع وجميع ما فى البرّ والبحر، ثم أمر الملائكة أن يحملوه على أكتافهم، ويطوفون به فى طرائق السموات؛ ففعلوا ذلك.(13/12)
ثم أمر جبرئيل أن ينادى فى صفوف الملائكة أن يجتمعوا؛ فاجتمعوا واصطفّوا عشرين ألف صفّ، ووضع لآدم منبر الكرامة، وعليه ثياب السندس الأخضر وله ضفيرتان محشوّتان بالمسك والعنبر بطوله، وعلى رأسه تاج من ذهب مرصّع بالدرّ والجوهر؛ فانتصب على المنبر، وسلّم على الملائكة، فأجابته بردّ السلام وخطب فحمد الله، ثم ذكر علم السموات والأرضين وما فيهما، وذلك قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) .
ونزل آدم عن منبره، فجىء بقطف من عنب أبيض فأكله، وهو أوّل شىء أكله من طعام الجنّة، ثم أخذته سنة فنام.
ذكر خلق حوّاء عليها السلام
قال: ولمّا نام آدم خلق الله تعالى حوّاء من جنبه الأيسر، من ضلعه مما يلى الشّرسوف، وهو ضلع أعوج، قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها)
فكانت على طول آدم وحسنه وجماله، إلّا أنها أرقّ جلدا منه، وأحسن صوتا، ولها ضفائر مرصّعة محشوّة بالمسك تسمع لذوائبها خشخشة، فجلست عند رأسه، فانتبه فرآها، فتمكّن حبّها من قلبه؛ فقال: يا ربّ، من هذه؟ قال: أمتى حوّاء. فقال: يا ربّ لمن خلقتها؟ قال:
لمن أخذها بالأمانة، وأصدقها الشكر. قال: يا ربّ، أنا أقبلها على هذا فزوّجنيها.
فزوّجها إياه قبل دخول الجنة على الطاعة والتقوى والعمل الصالح، ونثرت عليهما(13/13)
الملائكة من نثار الجنّة، وأوحى الله إلى آدم، أن اذكر نعمتى عليك، فإنّى خلقتك ببديع فطرتى، وسويتك بشرا على مشيئتى، ونفخت فيك من روحى، وأسجدت لك ملائكتى، وحملتك على أكتافهم، وجعلتك خطيبهم، وأطلقت على لسانك جميع اللّغات، وجعلت ذلك كلّه فخرا وشرفا لك، وهذا إبليس قد أبلسته «1» ولعنته حين أبى أن يسجد لك، وقد ختمت كرامتى لك بأمتى حوّاء، وقد بنيت لكما دار الحيوان «2» من قبل أن أخلقكما بألفى عام، على أن تدخلاها بعهدى وأمانتى.
ذكر عرض الأمانة على آدم عليه السلام
قال الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) .
قال: وهى أن يكافأوا على الإحسان، ويعذّبوا على الإساءة؛ فأبوا؛ فعرضت على آدم، فقيل له: إن أطعت كافأتك بالإحسان، وخلّدتك فى الجنان؛ وإن تركت عهدى أخرجتك من دارى، وعذّبتك بنارى، فقبل آدم الأمانة، فعجب الملائكة من ذلك؛ ثم مثّل له ولحوّاء إبليس، وقيل له: (هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) .
ثم ناداهما الرب: إنّ من عهدى إليكما وأمانتى أن تدخلا الجنة (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)
. فقبلا هذه العهود كلّها.
ثم أمر الله تعالى بإدخالهما الجنّة، فحمل آدم على الفرس الميمون، وحوّاء وراءه على الناقة، والملائكة عن اليمين والشمال وأمامهما وخلفهما حتى بلغوا باب الجنّة ودخلا واستقرّ بجنّة عدن فى وسط الجنّة بعد أن طافا بالجنان، فقدّم إليهما من(13/14)
فواكه الجنّة فأكلا، فكانا فى الجنّة خمسمائة عام من أعوام الدنيا فى أتمّ السرور وأنعم الأحوال.
ذكر خبر إبليس والطاوس والحيّة
قال: ولمّا سمع إبليس أن الله تعالى أباح لآدم أن يأكل من ثمار الجنّة إلّا شجرة واحدة، فرح بذلك، وقال: لأخرجنّهما من الجنة. ثم مرّ مستخفيا فى طرقات السموات حتى وقف على باب الجنّة، فإذا الطاوس قد خرج من الجنة وله جناحان إذا نشرهما غطّى بهما سدرة المنتهى، وله ذنب من الزمرّد الأخضر على كلّ ريشة منه جوهرة بيضاء، وعيناه من الياقوت الأحمر؛ وهو أطيب طيور الجنّة صوتا وتغريدا؛ وكان يخرج ويمرّ فى السموات يخطر فى مشيته ويرجع إلى الجنّة.
فلما رآه إبليس كلّمه بكلام ليّن، وقال: أيّها الطائر العجيب الخلق الطيّب الصوت، من تكون من طيور الجنة؟ فقال: أنا الطاوس، فمالك أيها الشّخص كأنّك مرعوب تخاف من طالب يطلبك؟ قال إبليس: أنا من ملائكة الصّفيح «1» الأعلى من زمرة الكروبييّن «2» ، وقد أحببت أن أنظر إلى الجنّة وإلى ما أعدّ الله فيها لأهلها فهل لك أن تدخلنى الجنّة وأنا أعلّمك ثلاث كلمات من قالها لا يهرم ولا يسقم ولا يموت؟ فقال له: وأهل الجنّة يموتون؟ قال: نعم ويسقمون ويهرمون إلّا من كانت عنده هذه الكلمات، وحلف له على ذلك، فوثق به الطاوس ولم يظنّ أحدا يحلف بالله كاذبا؛ فقال: ما أحوجنى إلى هذه الكلمات، غير أنّى أخاف أن يستخبرنى (رضوان) عنك، ولكنى أبعث إليك الحيّة فإنّها سيّدة دوابّ الجنة.(13/15)
قال: وجاء الطاوس إلى الحية وهى يومئذ على صورة الجمل، ولها زغب كالعبقرىّ «1» ما بين أبيض وأحمر وأسود وأخضر، ولها عرف من اللؤلؤ، وذوائب من الياقوت ورائحة كرائحة المسك والعنبر، وكان مسكنها فى جنّة المأوى، وكانت تساير آدم وحوّاء فى الجنة، وتخبرهما بالأشجار.
فلما أخبرها الطاوس بالخبر أسرعت الحية نحو باب الجنة، فتقدم إبليس إليها وقال لها كقوله للطاوس، وحلف لها؛ فقالت: حسبك، ولكن كيف أدخلك؟ فقال: إنى أرى ما بين نابيك فرجة، وهى تسعنى. ففتحت الحيّة فاها، فوثب وقعد بين نابيها، فصار نابها إلى آخر الدهر سمّا، وضمّت الحيّة شفتيها، ودخلت الجنّة ولم يكلّمها رضوان للقضاء السابق؛ فلمّا توسّطت الجنّة قالت: أخرج وعجّل. قال: إن حاجتى من الجنّة آدم وحوّاء، فإنى أريد أن أكلّمهما من فيك، فإن لم تفعلى ذلك فما أعلّمك الكلمات، فجاءت إلى حوّاء فقال إبليس من فيها: يا حوّاء، ألست تعلمين أنّى معك فى الجنة، وأحدّثك بكلّ ما فيها، وأنا صادقة فى كلّ ما حدّثتك به؟ قالت حوّاء: نعم؛ قال إبليس:
يا حوّاء، أخبرينى ما الّذى أحلّ لكما ربّكما من هذه الجنة وحرّم عليكما؟ فأخبرته بما نهاهما عنه؛ فقال إبليس: لماذا نهاكما عن شجرة الخلد؟ فقالت حوّاء: لا أعلم بذلك؛ قال: أنا أعلم، إنما نهاكما لأنه أراد ألّا يفعل بكما ما فعل بالعبد الذى مأواه تحت شجرة الخلد.
هذا وحوّاء تظنّ أن الخطاب لها من الحيّة؛ فوثبت حوّاء عن سريرها لتنظر إلى العبد، فخرج إبليس من فيها كالبرق، فقعد تحت الشجرة، فأقبلت(13/16)
حوّاء فوقفت بالبعد منه ونادته: من أنت أيها الشخص؟ قال: خلق من خلق الله، خلقنى من ناركما تريننى، وأنا فى هذه الجنة منذ ألفى عام، خلقنى كما خلقكما بيده، ونفخ فىّ من روحه، وأسجد لى ملائكته، وأسكننى جنّته، ونهانى عن أكل هذه الشجرة، فكنت لا آكل منها، حتى نصحنى بعض الملائكة وقال لى: كل منها، فإنّ من أكل منها كان مخلّدا فى الجنّة أبدا. فأكلت منها، فأنا فى الجنة إلى وقتى هذا، قد أمنت الهرم والسقم والموت والخروج من الجنّة.
ثم قال: والله (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)
ثم نادى: يا حوّاء اسبقى وكلى قبل زوجك، فمن سبق كان له الفضل على صاحبه. فأقبلت حوّاء إلى آدم وهى مستبشرة فرحة، فأخبرته بخبر الحيّة والشخص، وأنه قد حلف لها بأنّه لها لمن الناصحين، فذلك قوله تعالى:
(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ)
؛ وتقدّمت حوّاء إلى الشجرة ولها أغصان لا تحصى، وعلى الأغصان سنابل، كل حبة منها مثل قلال هجر «1» ، ولها رائحة كالمسك، أبيض من اللبن وأحلى من العسل؛ فأخذت منها سبع سنابل من سبعة أغصان، فأكلت واحدة وادّخرت واحدة، وجاءت بخمس إلى آدم.
قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: لم يكن لآدم فى ذلك أمر ولا إرادة بل كان فى سابق العلم، لقوله تعالى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)
. فتناول آدم السنابل من يدها، وقد نسى العهد الذى أخذ عليه من أجلها، فذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)
فذاق من الشجرة كما ذاقت حواء؛ قال الله تعالى: (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) .(13/17)
قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: والذى نفسى بيده ما ساغ آدم من تلك السنابل سنبلة واحدة حتى طار التاج عن رأسه، وعرى من لباسه، وانتزعت عنه خواتمه، وسقط كلّ ما كان على حوّاء من لباسها وحلّيها وزينتها، وناداهما كلّ ما طار عنهما: «يا آدم طال حزنك، وعظمت رزيّتك، وعليك السّلام إلى يوم اللّقاء» . ولم يبق عليهما من لباسهما شىء، (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ)
؛ ونظر كلّ منهما إلى سوءة صاحبه؛ وهرب إبليس فسار مستخفيا فى طرائق السموات، وصاح آدم صيحة عظيمة، ولم يبق فى الجنة شىء إلّا لامه، وانقبضت عنه الأشجار؛ فلمّا كثرت عليه الملامات مرّ هاربا على وجهه، فالتفّت عليه شجرة الطّلح وأمسكته ونادته: إلى أين تهرب يا عاصى؛ واضطربت الملائكة لذلك؛ والله الموفّق للصواب.
ذكر خروج آدم وحوّاء من الجنة
قال: وأمر الله جبرئيل فجاء إلى آدم وقبض على ناصيته، وخلّصه من الشجرة؛ فلما صار به إلى باب الجنة وأخرج رجله اليمنى وبقيت اليسرى، نودى: يا جبريل قف به على باب الجنّة حتى يخرج معه أعداؤه الذين حملوه على أكل الشجرة لكى يراهم ويرى ما يفعل بهم. فوقفه هنالك، فناداه الربّ: يا آدم إنّما خلقتك لتكون عبدا شكورا، لا لتكون عبدا كفورا. قال: يا ربّ أسألك أن تعيدنى إلى تربتى التى خلقتنى منها لأكون ترابا كما كنت أوّل مرّة. قال: يا آدم، كيف أعيدك إلى تربتك وقد سبق علمى أن أملأ من ظهرك الجنّة والنار.
وأخرج آدم حوّاء وقد استترت بورقة من ورق الجنة بإذن الله؛ فلمّا رأت آدم صاحت وقالت: يا لها من حسرة؟ فوقفت خارج الجنّة، ثم أتى بالطاوس وقد(13/18)
طعنته الملائكة حتى قطعت ريشه، وجبريل يجرّه ويقول: اخرج من الجنة خروج الأبد، فإنّك شؤم أبدا ما بقيت؛ ثم أتى بالحية وقد جذبتها الملائكة جذبا شديدا، وهى ممسوخة «مبطوحة» على بطنها لا قوائم لها، وصارت ممدودة مشوّهة، ومنعت النطق فصارت خرساء، مشقوقة اللسان، فقالت لها الملائكة: لا رحمك الله ولا رحم من يرحمك.
ثم حجبت حوّاء عن آدم من هناك؛ ومرّ به جبريل فى طرائق السموات، ونظرت إليه الملائكة عريانا ففزعت منه، وقالت: إلهنا، هذا آدم بديع فطرتك أقله عثرته. وآدم قد ترك يده اليمنى على رأسه، واليسرى على سوأته، ودموعه تجرى على خدّيه، وكلّما مرّ على ملإ من الملائكة يوبّخونه على نقض عهد ربّه وميثاقه، وأكثروا عليه فى الملامة والتوبيخ؛ فقال لهم: يا ملائكة ربّى، ارحمونى ولا توبّخونى، فالّذى جرى علىّ بقضاء ربّى، حيث قال: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)
الآية.
ذكر سؤال إبليس- لعنه الله تعالى-
قال: وقال إبليس: يا ربّ أضللتنى وأغويتنى وأبلستنى، وكان ذلك فى سابق علمك (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) *
وهى النفخة الأولى، (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) .
قال الله تعالى (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) .
قال إبليس: أنظرتنى فأين يكون مسكنى؟ قال: إذا هبطت إلى الأرض فمسكنك المزابل. قال: فما قراءتى؟ قال: الشعر والغناء. قال: فما مؤذّنى؟ قال: المزمار.(13/19)
قال: فما طعامى؟ قال: ما لم يذكر اسمى عليه. قال: فما شرابى؟ قال: الخمور.
قال: فما بيتى؟ قال: الحمّامات؛ قال: فما مجلسى؟ قال: الأسواق. قال: فما شعارى؟ قال: لعنتى. قال: فما دثارى؟ قال: سخطى. قال: فما مصايدى؟
قال: النساء. قال: فوعزّتك لا أخرجت محبّة النساء من قلوب بنى آدم أبدا.
قيل له: يا ملعون، فإن ربّك لا ينزع التوبة من ولد آدم حتى يتغرغر بالموت، (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) .
ذكر سؤال آدم- عليه السلام-
قال: فعند ذلك قال آدم: يا ربّ هذا إبليس قد أعطيته النّظرة، وقد أقسم بعزّتك أنّه يغوى أولادى، فبماذا أحترز من مكايده؟ فنودى، يا آدم، إنّى قد مننت عليك بثلاث خصال، واحدة لى، وهى أن تعبدنى لا تشرك بى شيئا؛ وواحدة لك، وهى ما عملت من صغيرة أو كبيرة من الحسنات فلك بالحسنة عشر وإن عملت سيئة فواحدة بواحدة، وإن استغفرتنى غفرتها لك وأنا الغفور الرحيم؛ وواحدة بينى وبينك، وهى أنّ منك المسألة ومنّى الإجابة، فابسط يدك وادعنى فإنّى قريب مجيب.
فصاح إبليس حسدا لآدم وقال: كيف أكيد ولد آدم الآن؟ فنودى:
يا ملعون (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشّيطان إلّا غرورا) . قال إبليس: زدنى يا ربّ؛ قال لا يولد لآدم ولد إلّا يولد لك سبعة: قال: ربّ زدنى؛ قال: زدتك أن تجرى منهم مجرى الدم فى عروقهم، وتسكن فى صدورهم.
فقال: يا ربّ حسبى؛ ثم قال علام أهبط إلى الأرض؟ قال: على الإياس من رحمتى.(13/20)
قال: ثم نظر آدم إلى الحيّة وقال: ربّ هذه اللعينة هى التى أعانت عدوّى علىّ، فبماذا أتقوّى عليها؟ فقيل له: قد جعلت مسكنها الظلمات، وطعامها التراب فإذا رأيتها فاشدخ رأسها.
وقيل للطاوس: مسكنك أطراف الأنهار، ورزقك ممّا تنبته الأرض من حبّها، وألقى عليك المحبّة حتى لا تقتل.
ذكر سؤال حوّاء- عليها السلام-
قال: ثم قالت حوّاء: إلهى خلقتنى من ضلع أعوج، وجعلتنى ناقصة العقل والدين والشهادة والميراث، وضربتنى بالنجاسة، وحرمتنى الجمعة والجماعات؛- وذكرت مشقّة الحمل والولادة- فأسألك أن تعطينى مثل ما أعطيتهم.
فقيل لها: قد وهبت لك الحياء والأنس والرحمة، وكتبت لك من ثواب الحبل والولادة ما لو رأيته لقرّت به عيناك، فأىّ امرأة ماتت فى ولادتها حشرتها فى زمرة الشهداء. قالت: حسبى يا ربّ.
قال: ثم أمر الله بعد ذلك أن يهبطوا إلى الأرض؛ قال الله تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)
. فهبط آدم من باب التوبة، وحوّاء من باب الرحمة، وإبليس من باب اللّعنة، والطاوس من باب الغضب، والحيّة من باب السّخط، وكان ذلك وقت العصر.
قال السّدّى: فمن هذه الأبواب تنزل التوبة والرحمة واللّعنة والغضب والسّخط.
قال وهب: خلق الله آدم يوم الجمعة، وفيه دخل الجنّة وأقام فيها نصف يوم مقدار خمسائة عام، وأهبط بين الظهر والعصر من باب يقال له (المبرم) «1» وهو حذاء البيت المعمور.(13/21)
قال كعب: أهبط آدم إلى بلاد الهند على جبل من جبالها يقال له (بوذ) وهو جبل محيط بأرض الهند؛ وأهبطت حوّاء بجدّة، وإبليس بدستميسان «1» ، والحيّة أصفهان، والطاوس بالبحر؛ ففرّق الله بينهم فلم ير بعضهم بعضا حينا، ولم يكن على آدم يوم أهبط إلّا ورقة من أوراق الجنة، فذرتها الرياح فى بلاد الهند فصارت معدنا للطيّب.
وأخذ آدم فى البكاء مائة عام حتى نبت من دموعه العود والزنجبيل والصندل والكافور وأنواع الطيّب، وامتلات الأودية بأطيب الأشجار؛ وبكت حوّاء فنبت من دموعها القرنفل والأفاوية؛ وكانت الريح تحمل كلامه إليها وكلامها إليه.
ثم أنبت الله- عزّ وجلّ- لآدم الشّعر واللّحية، وكان قبل ذلك أمرد وجسده كالفضّة، فتألّم لذلك ألما شديدا.
قال وهب: أوّل من علم بهبوط آدم من حيوان الأرض النّسر، وكان قد ألف الحوت، فجاء إليه وقال له: إنى رأيت اليوم خلقا عظيما ينقبض وينبسط، ويقوم ويقعد، ويجىء ويذهب. فقال الحوت: إن كان ما تقوله حقّا فقد حان ألّا يكون لى معه مقرّ فى البحر ولا لك فى البرّ، وهذا الوداع بينى وبينك. فجاء النّسر إلى آدم وألفه، وجاءه الوحش والطير وألفوه وبكوا لبكائه دهرا طويلا، فلمّا أضجرهم ذلك نفروا عنه ولم يبق عنه إلّا النّسر وحده وهو لا يفتر عن البكاء.
قال وهب: بكى آدم حتى بكت الملائكة لبكائه وقالوا: «إلهنا أقله عثرته» .(13/22)
قال: وبقى من دموعه فى الأرض- بعد أن كفّ عن البكاء- ما شربه الوحش والطير والهوامّ مائة عام؛ وكان لدموعه رائحة كالمسك، ولذلك كثر الطيّب فى الهند.
وقال كعب: بكى آدم ثلاثمائة عام لا يرفع رأسه إلى السماء وهو يقول: «إلهى بأىّ وجه أنظر إلى السماء» . فألهم الله سائر الحيوانات أن تأتى لآدم وتعزّيه فى مصيبته، فعزّاه جميعها ونهته عن البكاء، وأمرته بالتسبيح والتقديس.
ذكر توبة آدم عليه السلام
قال: فعند ذلك أمر الله تعالى جبريل أن يهبط على آدم، وقال له: «إن آدم بديع فطرتى قد أبكى أهل سمواتى وأرضى، ولا يذكر غيرى، ولم يخف سواى، وهو أوّل من حمدنى، وأوّل من دعانى بأسمائى الحسنى، وأنا الرحمن الّذى سبقت رحمتى غضبى، وهذه الكلمات قد خصصت بها آدم لتكون له توبة، وتخرجه من الظلمات إلى النور» . فهبط عليه جبريل بالكلمات ولها نور عظيم، فقال: «السلام عليك يا طويل البكاء والحزن» ؛ فلم يسمعه آدم لغليان صدره؛ فناداه بصوت رفيع:
السلام عليك يا آدم. وأمرّ جناحه على صدره ووجهه حتى هدّأ من بكائه، وسمع الصوت فقال: أبنداء السّخط تنادى، أم بنداء الإحسان والغفران؟ قال: بل بنداء الرحمة والغفران، يا آدم: لقد أبكيت ملائكة السموات والأرض، فدونك هذه الكلمات، فإنّها كلمات الرحمة والتوبة.
قال كعب: كانت الكلمات ما قالها يونس فى ظلمات ثلاث: (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- كانت: (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) .(13/23)
وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: كانت «لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسى فتب علىّ يا خير التوّابين» .
قال الله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) .
قال: فلمّا قالها آدم انتشر صوته فى الافاق، فقالت الأرض والشجر والجبال:
«أقرّ الله عينك يا آدم، وهنّاك الله بتوبتك» . وأمره الله أن يبعث بالكلمات إلى حوّاء؛ فحملتها الريح إليها، فقالتها، فتاب الله عليها.
قال: ولمّا فرغ آدم من الدعاء والسجود قال له جبريل: ارفع رأسك. فرفعه وإذا قد رفع له حجاب النّور، وفتحت له السموات، ونودى بالتوبة والرضوان وقيل له: يا آدم، إنّ الله قد قبل توبتك. فذهب ليقوم فلم يقدر لأنه كان قد رسب فى الأرض كعروق الشجر، فآقتلعه جبريل، فصاح صيحة شديدة للألم الذى أصابه، وقال: «ماذا تفعل الخطيئة» ؟
ثم ضرب جبريل بجناحه الأرض فانفجرت عين ماء معين برائحة كالمسك فاغتسل آدم منها، ثم كساه الله حلّتين من سندس الجنّة، وبعث الله تعالى ميكائيل إلى حوّاء، فبشرها بالتوبة، وكساها كذلك؛ وسأل آدم جبريل عنها؛ فأخبره أن الله قد قبل توبتها، وأنه يجمع بينهما فى أشرف الأعياد وأكرم البقاع.
قال: وأمر الله عزّ وجلّ الملائكة والحيوانات أن يقربوا من آدم ليهنّئوه فأتوه وهنّأوه كما كانوا عزّوه.
ثم أمر الله تعالى جبريل أن يضع يده على رأس آدم ليقصّر من طوله، وكان إذا قام وصل رأسه إلى السماء، فيسمع تسبيح الملائكة، فلمّا قصر اغتمّ لفقد ذلك، فقال له جبريل: لا يغمّك ذلك فإن الله يفعل ما يريد.(13/24)
وامره الله ببناء بيت يحاذى البيت المعمور ليطوف به هو وأولاده من بعده كما رأى الملائكة تفعل حول البيت المعمور؛ فبناه.
وقد ذكرنا صفة بنائه فى الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الأوّل من هذا الكتاب فى خصائص البلاد، وهو فى السفر الأوّل، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا. فلنذكر غير ذلك.
قال: وسار آدم من موضعه إلى موضع البيت؛ والله الهادى.
ذكر أخذ الميثاق على ذرّية آدم- عليه السلام-
قال: وأوحى الله تعالى إلى آدم: أنّى أريد أن آخذ على وديعتى الّتى فى ظهرك الميثاق، فأحاطت الملائكة بآدم فى أحسن صورهم، فوقعت الرّعدة على آدم من الخوف، فضمّه جبريل إلى صدره، واضطرب الوادى وارتجّ، فقال جبريل:
اسكن فإنّك أوّل شاهد على الميثاق الذى يأخذه الله على ذريّة آدم. فسكن، ومسح الله تعالى على ظهر آدم كما شاء، وقال: «انظر يا آدم إلى من يخرج من ظهرك» فأوّل من بادر وكان أسرع خروجا نبيّنا محمد- صلّى الله عليه وسلّم- فأجاب بالتلبية ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول: أنا أوّل من يشهد لك بالتوحيد، ويقرّ لك بالعبوديّة، وأشهد أنّى عبدك ورسولك. فهو- صلّى الله عليه وسلّم- أوّل الأنبياء فى الخلق، وآخرهم فى البعث، وفى ذلك من الحكمة الإلهيّة والقدرة الربّانيّة ما لم يخف على ذى لبّ وفهم، وليس هذا موضع ذكر ذلك. ثم أجابت الطبقة الثانية من النبيّين والمرسلين نبيّنا بعد نبىّ فى نورهم وبهائهم، ثم خرجت زمرة من المؤمنين بيض الوجوه، معلنين بالتوحيد، فوقفوا دون النبيّين.
ثم مسح الله مسحة أخرى فخرج (قابيل) بن آدم مبادرا وقد تبعه أهل الشّمال فوقفوا ذات الشّمال كلّهم سود الوجوه. ثم قيل لآدم: «انظر إلى ولدك هؤلاء(13/25)
لتعرفهم بأسمائهم وأزمانهم» فنظر إلى أهل اليمين فضحك منهم، وبارك عليهم؛ ونظر إلى أهل الشّمال فلعنهم وصرف وجهه عنهم؛ ثم استنطقهم الله تعالى فقال:
(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا)
وأقررنا.
قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: أمّا أهل اليمين فأجابوا بالسرعة، وأمّا أهل الشّمال فأجابوا بالتثاقل. قال الله تعالى «يا ملائكتى أشهدوا على ذرّيّة آدم بأنهم أقرّوا أنّى ربّهم لا يجحدوننى شيئا، وأن آدم قد بارك على أهل يمينه، ولعن أهل شماله، فأهل اليمين فى جنّتى برحمتى، وأهل الشّمال فى النار بما جحدوا من حقّى» .
ثم ردّهم الله إلى ظهره كما أخرجهم بقدرته.
قال وهب: إذا كان يوم القيامة وحشر الخلق لفصل القضاء قيل: يا آدم، «ابعث بعث الجنّة إلى الجنّة، وبعث النار إليها» . فيعرفهم بصورهم وأسمائهم؛ فيقول: «نعم يا ربّ» ؛ ويراهم كما رآهم فى الذرّيّة، ويقبل عليهم بوجهه ويقول:
أنسيتم عهد ربّكم وشهادتكم له بأنّه الله الواحد الأحد؟ فيقولون ما أخبرنا الله تعالى به عنهم: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ)
يعنون قابيل بن آدم، لأنه أوّل من عصى ربّه؛ ثم يقولون: (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)
يعنون إبليس وقابيل؛ فيقبض آدم بشماله من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحدا بيمينه إلى الجنة؛ ثم يقول: يا ربّ هل وفيت؟ فيقال له: نعم ادخل الجنّة برحمتى.
ذكر اجتماع آدم بحوّاء
قال: وأقبل ملك إلى حوّاء وهى جالسة بجدّة على ساحل البحر، فقال لها:
«خذى لباسك وانطلقى إلى الحرم» ؛ ثم رمى لها بقميص وخمار من الجنّة، وتوارى(13/26)
عنها حتى لبست القميص وتخمّرت بالخمار، ومضت إلى مكّة فدخلت الحرم من شرقيّه يوم الجمعة من شهر المحرّم؛ فأمرها الملك أن تقعد على جبل المروة؛ وإنّما سميّت المروة لقعود المرأة عليها.
قال وهب: دخلت حوّاء الحرم قبل آدم بسبعة أيّام، ودخل آدم من غربىّ مكّة وحوّاء من شرقيّها، فصار آدم إلى جبل الصفا، فناداه: «مرحبا بك يا صفىّ الله» ، فسمّى الصّفا لذلك؛ وناداه الربّ: يا آدم، فقال: «لبيّك اللهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك» . فصار ذلك سنّة فى الحجّ والعمرة.
ثم أوحى الله إليه: «اليوم حرّمت مكّة وما حولها» . فهى حرام إلى يوم القيامة. فقال آدم: يا رب، إنك وعدتنى أن تجمع بينى وبين حوّاء فى هذا المقام. فنودى: إنّها أمامك على المروة، وأنت على الصّفا، فانظر إليها ولا تمسّها حتى تقضى المناسك. فهبط آدم إليها، والتقيا، وفرح كلّ منهما بصاحبه، وسعى هو من الصفا، وسعت هى من المروة، فكانا يجتمعان بالنهار، فإذا أمسيا رجع إلى الصفا، ورجعت إلى المروة، فكانا كذلك حتى دخل ذو القعدة، فأعاد آدم التلبية وعقد الإزار، ولم يزل يلبّى حتّى دخل ذو الحجّة؛ فهبط جبريل وعلّمه المناسك وكساه ثوبا أبيض لإحرامه، وطاف به، وعرّفه المناسك، وأمره أن يطوف بالبيت سبعا؛ فلمّا فعل ذلك قال له جبريل: «حسبك يا آدم قد أحللت» ؛ فانطلق آدم إلى حوّاء فاجتمع بها فى ليلة الجمعة فحملت من ساعتها.
قال كعب: ما حملت حوّاء حتّى رأت الحيض ففزعت وأخبرت آدم بذلك فمنعها من الصّلاة أيّام حيضها حتّى ينقطع الدم؛ ثم جاءها ملك فوقفها على زمزم(13/27)
وقال لادم: اركض برجلك فى هذا الموضع. فركضها، فانفجرت الأرض بإذن الله عين ماء معين؛ فكبّر آدم وحوّاء، وهمّت أن تشرب فمنعها وقال: «حتى يأذن لى ربّى» . فاغتسلت حوّاء، وكان فى ذوائبها بقيّة من مسك الجنّة، ففاحت الدنيا.
ذكر إبناء آدم وزرعه وحرثه
قال: ثم أوحى الله تعالى إلى آدم: «أنك إن لم تعمر هذه الدنيا لم يعمرها أحد من أولادك، فاعمرها» . فبنى له مسكنا يأوى إليه هو وحوّاء؛ ثم أخذ بعد ذلك فى الحرث والزرع وحفر الآبار؛ وجاءه جبريل بالحبة وهى على قدر بيض النّعام، بيضاء فى لون الثلج وأحلى من العسل؛ وجاءه بثورين من ثيران الفردوس وجاءه بالحديد؛ فلمّا نظر آدم إلى الحبّ صاح صيحة عظيمة، وقال: ما لى ولهذا الحبّ الّذى أخرجنى من الجنّة.
قال: «هذا رزقك فى الدنيا، لأنك اخترته فى الجنّة، فهو غذاء لك ولذرّيّتك» .
ثم قال له جبريل: يا آدم، قم فكن حرّاثا زرّاعا، وأتاه بالنار وقد غمسها فى سبعين ماء حتّى اعتدلت وكمنت فى الحديد والحجر، وأمره أن يوقد النار ويلين الحديد، ويتّخذ منه مطرقة وسندانا، ففعل؛ ثم اتخذ مدية يذبح بها، وفأسا يحفر بها ويكسر، ومحراثا يحرث به الأرض، ونيرا؛ كلّ ذلك وجبريل يعلّمه.
قال وهب: أوّل ما اتخذ آدم من الحديد سندان ومطرقة وكلبتان؛ ثم اتخذ بعد ذلك آلة النجارة، وأتاه جبريل بكبش من الجنّة، فنحره آدم، وأكل هو وحوّاء من لحمه، واتخذا مقراضا فجزّا به الصوف من الكبش، وغزلاه، واتخذا منه(13/28)
جبّتين بغير كمّين، وكساءين، فاكتسى كلّ واحد منهما جبّة وكساء، فلما مسّت جلّدهما خشونة الصوف بكيا شوقا إلى السندس والإستبرق؛ فقيل لهما: «هذا لباس أهل الطاعة فى الدنيا» . وجىء بالأشجار التى ذكرناها فى الفن الرابع من هذا الكتاب، وهو فنّ النباتات؛ وقد قدّمنا ذكرها فيما سلف منه.
وعن كعب أن الذى جاء بالحبّ ميكائيل، لأنّه الموكّل بالحبّ والقطر والنبات.
قال: فقام آدم فعقد النّير على عنقى الثورين؛ ثم حرث وبذر، وكان يقف على الزرع ويقول: متى يدرك؟. فيسمع هاتفا يقول: (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)
؛ وكان الزرع فى طول النخل، والسنبلة فى طول مائة ذراع، بيضاء كالفضّة.
قال كعب: فلمّا استحقّ الزرع كان آدم يحصد، وحوّاء تجمع؛ ثم علّم آدم الدّراسة والتذرية والطحن والعجن والخبز؛ ثم أكلا وشربا فأصابتهما النفخة والقرقرة فى بطونهما؛ فتجشّأ آدم جشاء متغيّرا، وتغيّر عليه بدنه وثقل؛ فلمّا ثقلت عليهما بطونهما أمرهما الملك أن يتبرّزا إلى الصحراء لقضاء الحاجة؛ فلمّا رأيا ذلك من أنفسهما بكيا بكاء شديدا، وقالا: «هذا الذى أورثنا ذنبنا» .
ثم أمرهما الملك أن يمسحا بالمدر، ثم يغتسلا بالماء؛ ثم علّمهما الوضوء فتوضا وضوء الإسلام؛ ثم أمرهما بالصلاة، فكان أوّل صلاة صلّاها آدم الظهر.
وكان آدم ربّما اشتغل عن صلاته ولا يعرف الأوقات، فأعطاه الله ديكا ودجاجة، فكان الديك أبيض أفرق «1» أصفر الرجلين، كالثور العظيم، وكان يضرب بجناحه عند أوقات الصلاة ويقول: سبحان من يسبّحه كلّ شىء سبحان الله وبحمده، يا آدم: الصلاة يرحمك الله.(13/29)
قال: وأخذ آدم فى الغرس حتى غرس كلّ ما على وجه الأرض من أنواع الثمار والأشجار، وأخذت الأرض زهرتها؛ وكان آدم يأكل من بقول الأرض ونباتها.
قال وهب: أوّل بقلة زرعها آدم الهندبا، وأوّل ما زرع من الرياحين الحنّاء، ثم الآس.
ذكر حمل حوّاء- عليها السلام- وولادتها
قال: وواقع آدم حوّاء فى ليلة الجمعة، فحملت بذكر وأنثى، وأسقطتهما فى الشهر الثامن، فكان أوّل سقط فى الدنيا؛ ثم حملت ثانيا كذلك، فأصابهما مثل الأوّل؛ ثم حملت ثالثة. قال الله تعالى: (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) .
قال: فجاء إبليس إلى حوّاء وقال: أتحبّين أن يعيش فى بطنك؟ قالت:
نعم. قال: سميّه (عبد الحارث) .
وقال ابن حبيب عن ابن عباس: أنها لمّا وضعته جاء إبليس وقال:
ألا تسمّيانه باسمى؟ قالت له حوّاء: ما اسمك؟ فذهب ولم يتسّم، ثم عاد إليهما فقال: كيف تريدان أن تسمّياه؟ قالا: نسمّيه (عبد الله) . قال: أفتظنّان أنّ الله يترك عبده عندكما إن سمّيتماه (عبد الله) ، لا والله لا يدعه عندكما حتى يقبضه، ولكن سمّياه (عبد شمس) فإنّه يبقى ما بقيت الشمس. فأطاعاه وسمّياه (عبد شمس) ؛ فمات صغيرا. قال الله تعالى: (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) .
قال وهب: أوحى الله إليهما «أنكما أطعتما إبليس فى هذه التسمية، فهلّا سمّيتماه عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد الرحيم» فجزعا لذلك جزعا شديدا، وقالا:
«لا حاجة لنا فى هذا المولود» . فأماته الله.(13/30)
ثم حملت بذكر وأنثى، فلما وضعتهما سمّتهما (عبد الله) (وأمة الله) ؛ ثم وضعت بطنا آخر فسمّتهما (عبد الرحيم) (وأمة الرحيم) ؛ ولم تزل كذلك حتى وضعت مائة بطن؛ ثم وضعت بعد ذلك هابيل وأخته فى بطن، ثم قابيل وأخته فى بطن، حتى وضعت عشرين ومائة بطن ذكر وأنثى، فتناسلوا وكثروا.
ذكر مبعث آدم- عليه السلام- إلى أولاده
قال: ثم بعث الله عزّ وجلّ آدم إلى ذرّيّته رسولا، وذلك فى أوّل ليلة من شهر رمضان، وخصّه بالوحى، وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة فيها سور مقطّعة الحروف، لا يتّصل حرف بحرف، وهو أوّل كتاب أنزل، وهو بألف لغة فيها الفرائض والسنن والشرائع والوعد والوعيد وأخبار الدنيا، وبيّن له فيها أهل كل زمان وصورهم وسيرهم، وما يحدث فى الأرض حتى المأكل والمشرب.
ثم أمره الله تعالى أن يكتبها بالقلم، فأخذ جلود الضأن فدبغها حتى صارت رقّا، وكتب فيها الحروف التسعة والعشرين، وهى فى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، أوّلها (ا) : معناها، أنا الله الواحد الأحد الذى لم يزل. (ب) : بديع السموات والأرض. (ت) : توحّد فى ملكه، وتواضع كلّ شىء لعظمته. (ث) :
ثابت لم يزل ولا يزال. (ج) : جميل الفعال، جواد، جليل المقال. (ح) : حليم على من عصاه، حميد عند من أنشاه. (خ) خبير ببواطن الأشياء وظواهرها، خالق كلّ شىء. (د) : ديّان يوم الدين، دان من خلقه. (ذ) : ذو الفضل العظيم، والعرش المجيد، ذو الطّول القديم. (ر) : ربّ الخلائق رزّاق رءوف رحمن رحيم. (ز) :
زرّاع زرع من غير بذر، زائد لمن شكر، زيّن كلّ شىء برحمته. (س) : سريع الحساب، سميع الدعاء، سريع الإجابة. (ش) : شديد العقاب والبطش، شاهد(13/31)
كلّ نجوى. (ص) : صمد صادق الوعد. (ض) : ضياء السموات والأرض، ضمن لأوليائه المغفرة. (ط) : طاب من أخلص له من المطيعين، طوبى لمن أطاعه.
(ظ) : ظهر أمره، وظفر أهل محبّته بالجنّة. (ع) : عليم عالم علّام علا بالربوبيّة.
(غ) : غياث المستغيثين، غنىّ لا يفتقر. (ف) : (فعّال لما يريد) ، فرد ليس له شريك. (ق) : قيّوم، (قائم على كلّ نفس بما كسبت) ، قدير قاهر. (ك) كريم كان قبل كلّ شىء، كائن بعد كلّ شىء، كافى كلّ بليّة. (ل) : (له ما فى السّموات وما فى الأرض) ، وله الخلق والأمر. (م) : مالك يوم الدين، متكبّر محسن محمود متين معبود منعم من قبل ومن بعد. (ن) : نور السموات والأرض ناره معدّة لأهل عذابه. (و) : ولىّ المؤمنين، ويل لمن عصاه، (ويل للمطفّفين) . (هـ) :
هاد هدى من الضلالة من قدّر له ذلك برحمته ومشيئته، (لا) : لا إله إلا الله الواحد القهّار، الّذى لا إله إلّا هو العزيز الحكيم. (ى) : يعلم ما فى السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى وما تخفى الصدور.
قال: فلما نزلت هذه الحروف علّمها آدم لولده، فتوارثها ولده، إلى أن بعث الله تعالى إدريس، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وأنزل عليه هذه الحروف.
ذكر قتل قابيل هابيل
قال: ودعا آدم ابنيه (هابيل) (وقابيل) - وكان يحبّهما من بين أولاده- فذكر لهما ما كان من أمره ودخوله الجنة، وسبب خروجه، وغير ذلك، ثم أمرهما أن يقرّبا قربانا، وكان هابيل صاحب غنم، وقابيل صاحب زرع، فأخذ هابيل من غنمه كبشا سمينا لم يكن فى غنمه خير منه، فجعله قربانا؛ وأخذ قابيل من زرعه أدناه فقرّبه؛ فنزلت من السماء نار بيضاء لا حرّ ولا دخان فيها، فأحرقت قربان(13/32)
هابيل، ولم تحرق قربان قابيل، فداخله الحسد من ذلك، وقال: إن أولاد هذا تفتخر على أولادى من بعدى، فو الله لأقتلنه. قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ.
قال: ثم رجعا من منّى- وهو موضع القربان- يريدان أباهما وهابيل أمام قابيل؛ فعمد قابيل إلى حجر فضرب به رأس أخيه (هابيل) فقتله، ثم مرّ على وجهه هاربا. قال الله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ
؛ وإذا هو بغرابين قد اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، وجعل يبحث فى الأرض برجليه حتى حفر حفرة ودفن فيها المقتول؛ فقال قابيل فى نفسه ما أخبر الله تعالى به عنه: يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
فلمّا أبطآ على آدم خرج فى طلبهما، فأصاب هابيل مقتولا، فساءه ذلك واغتمّ غمّا شديدا، وكانت الأرض لمّا شربت دمه تغيّرت الأشجار عن نضارتها، فيقال: إن آدم قال:
تغيّرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح
تغيّر كلّ ذى لون وطعم ... وقلّ بشاشة الوجه المليح
قتل «1» قابيل هابيلا أخاه ... فوا أسفى على الوجه الصبيح(13/33)
ثم حمل آدم هابيل على عاتقه وهو باك، ثم دفنه، وبكى عليه هو وحوّاء أربعين يوما، فأوحى الله تعالى إليه أن كفّ عن بكائك، فإنّى سأهب لك غلاما زكيّا على صورة هابيل يكون أبا النبييّن والمرسلين. فسرّى عنه، وجامع حوّاء فحملت بشيث واسمه (هبة الله) فلمّا وضعته كان على صفة هابيل وصورته؛ فلمّا ترعرع وبلغ بعث الله تعالى له قضيبا من سدرة المنتهى فى صفاء الجوهر، ورزق الله شيئا الأولاد فى حياة آدم؛ والله أعلم.
ذكر وفاة آدم- عليه السلام-
قال: وكان آدم لمّا أخرج الله تعالى الذريّة من ظهره رأى داود- عليه السلام- وحسن صورته، فسأل عنه وعمّا رزقه الله تعالى من العمر؛ فقيل له: إنه نبىّ الله داود، وإن عمره الذى كتب الله له أربعون سنة. فقال: يا ربّ زد فى عمره.
قال: ذلك الذى كتبت له. فقال: يا ربّ فإنّى قد وهبته من عمرى ستّين سنة.
فلمّا انقضى من عمره تسعمائة سنة وأربعون سنة أتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلت علىّ، لأنّ ربّى كتب لى ألف سنة. قال: ألم تهب منها لولدك داود ستّين سنة؟ قال: لا. قال: فجحد آدم وجحدت ذرّيته من بعده، ونسى فنسيت.
وقيل فى عمر داود: ستون سنة، وإن آدم وهبه أربعين سنة؛ والله أعلم.
فلما استكمل عدّته أمر الله بقبض روحه، فعهد إلى ابنه شيث وأوصاه، وسلّم إليه التابوت، وكان فيه نمط من الجنّة أبيض أهداه الله تعالى لآدم، فيه صور الأنبياء والفراعنة من ذرّيّته؛ فنشر آدم النّمط وأراه لابنه شيث، فنظر إليه، ثم أمر بطيّه ووضعه فى التابوت؛ وعمد آدم إلى طاقات من شعر لحيته فوضعها فى التابوت وقال له: يا بنىّ، إنك لا تزال مظفّرا على أعدائك ما دامت هذه الشعرات سودا(13/34)
فإذا ابيضّت فاعلم أنّك ميّت، فأوص إلى خير أولادك. وأوصاه بقتال أخيه قابيل.
ثم قبض الله تعالى نبيّه آدم فى يوم الجمعة بعد أن استكمل ألف سنة، وصلّت عليه الملائكة صفوفا، وصلّى عليه شيث، ودفن- عليه السلام-.
وقيل: كانت وفاته بالهند، فلما كان زمن الطوفان حمل نوح معه تابوت آدم فى السفينة، ثم دفنه ببيت المقدس.
ذكر وفاة حوّاء
قال: ولمّا توفّى آدم- عليه السلام- لم تعلم حوّاء بموته حتى سمعت بكاء الوحش والسباع والطير، ورأت الشمس منكسفة؛ فقامت من قبّتها فزعة أن يكون حلّ بشيث ما حلّ بهابيل، وصارت إلى قبّة آدم فلم تره، فصاحت صيحة عظيمة، فأقبل إليها شيث وعزّاها وأمرها بالصبر، فلم تصبر دون أن صرخت ولطمت وجهها ودقّت صدرها، فأورثت ذلك بناتها إلى يوم القيامة؛ ثم لزمت قبره أربعين يوما لا تطعم؛ ثم مرضت مرضا شديدا ودام بها حتى بكت الملائكة رحمة لها؛ ثم قبضت- رحمة الله عليها- فغسلها بناتها، وكفّنت من أكفان الجنة ودفنت إلى جنب آدم- عليهما السلام- ورأسها إلى رأسه، ورجلاها عند رجليه.
وقيل: كانت وفاتها بعد مضىّ سنة من وفاة آدم.
الباب الثانى من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى خبر شيث ابن آدم- عليهما السلام- وأولاده
قال: ولمّا مات آدم- عليه السلام- أسند وصيّته إلى ابنه شيث، وكان ممّا أوصاه به التمسّك بالعروة الوثقى، وشهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بمحمّد رسول الله؛(13/35)
وقال له: يا بنىّ؛ إنى رأيت اسمه مكتوبا على سرادق العرش وأبواب الجنان وأطباق السموات وأوراق شجرة طوبى؛ فهذه وصيّتى إليك. ثم نزع خاتمه من اصبعه ودفعه إليه، وتسلّم منه التابوت، ثم قال له: إن الله سيعطيك ثوب المجاهدة، فحارب أخاك قابيل، فإن الله تعالى ينصرك عليه. وكان شيث حين الوصية إليه ابن أربعمائة سنة، فأطاعه أولاد أبيه، وصار إليه الفرس الميمون، وكان أغرّ محجّلا إذا صهل أجابته الدوابّ كلّها بالتسبيح.
ذكر قتال شيث قابيل
قال: ثم أمر الله تعالى شيث بن آدم بقتال قابيل، وكان قابيل قد اعتزل فى ناحية من الأرض، فعمرها، وخدع أختا له فأحبلها، ورزق منها أولادا كثيرة فسار إليه شيث بجميع أولاده، وتقلّد سيف أبيه، وكان بين يديه عمود من الياقوت تحمله الملائكة يضىء بالليل والنهار؛ وسار وقد أحدقت به الملائكة، فتوجّه إبليس إلى قابيل وأعمله خبر أخيه، فتأهّب للقائه وقد داخله الفزع؛ ثم جاء شيث فقابله، فاقتتلا، فانكبّ قابيل على وجهه، فأخذه شيث أسيرا، وأسر جماعة من أولاده.
ثم أقبلت الملائكة إلى قابيل فسلكوه فى سلسلة من سلاسل جهنّم، وغلّوا يده إلى عنقه، وساقوه بين يدى شيث مهانا وهو يقول: يا شيث احفظ الرّحم بينى وبينك. فقال: لا رحم بيننا بعد أن قتلت أخاك ظلما.
ثم أمر شيث الملائكة فساقوه مغلولا إلى عين الشمس بالمغرب، فلم يزل مواجها للشمس حتى مات كافرا، وصارت ذريّته عبيدا وإماء لشيث وأولاده.
ثم أخذ شيث بعد ذلك فى عمارة المدن حتى بنى نيّفا على ألف مدينة فى كلّ مدينة منارة ينادى عليها: (لا إله إلا الله، آدم صفوة الله، محمد رسول الله) .(13/36)
وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هو وأولاده، حتى عمرت الدنيا؛ وأنزل الله تعالى على شيث خمسين صحيفة، فكانوا يقرأونها ويعملون بما فيها من غير عداوة ولا تباغض ولا تحاسد ولا فسق بينهم؛ وكان إبليس يحسد شيئا وأولاده، فأقبل إبليس إليه فى صورة امرأة حسناء، فقال لها: من أنت؟ قالت: امرأة أرسلنى الله إليك لتتزوّج بى، ولست من بنات آدم. فقال: إن ربى لم يأمرنى بذلك ولا أخبرنى عنك، وما أظنك إلا إبليس. فضحك وقال: إنما أنا امرأة من نساء الجنة، ولا تعص ربّك وتزوّج بى؛ وجعل إبليس يتزيّن له حتى كاد يفتنه؛ فنادته الملائكة: يا نبىّ الله، إنه عدوّك إبليس. فقبض شيث عليه وهمّ بقتله؛ فقال:
خلّ عنّى فإنى من المنظرين، ولكن أعطيك الميثاق أنّى لا أتعرّض إليك بعدها.
فأطلقه ولم يعد إليه.
وولد لشيث (أنوش) على طوله وحسنه؛ فجعله شيث مكانه والخليفة من بعده، وسلّم إليه التابوت، وأوصاه بقتال أولاد قابيل.
ومات شيث وله سبعمائة سنة وعشرون سنة.
وقيل: بل عاش بعد آدم مائتى سنة، وعهد إلى ابنه (أنوش) فقام على أولاده بالطاعة ثلاثمائة عام.
وعهد من بعده إلى ابنه (قينان) ، فعمّر بعد أبيه مائتين وخمسين سنة.
وعهد إلى ابنه (مهلائيل) ، وكثر فى زمانه بنو آدم، وكان منزلهم الحرم فضاق بهم، فقسّم الأرض بينهم خمسة أقسام، وأرسل خمسة نفر من صلحاء قومه يقيمون لهم شرائع آدم- عليه السلام- ويتولّون الحكومة بينهم، وهم ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهؤلاء الذين لمّا فقدوا بلغ من وجد قومهم(13/37)
عليهم أن جعلوا لهم تماثيل يتسلّون بها؛ وترامى الأمر إلى أن عبدها القرن الذى تلاهم، فكان ذلك هو السبب لعبادة الأوثان.
ثم قام بالأمر بعد (مهلائيل) ابنه (أخنوخ) ، وهو إدريس.
الباب الثالث من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى أخبار إدريس النبى- عليه السلام-
واسمه أخنوخ، وإنما سمّى إدريس لكثرة دراسته الكتب؛ وهو أوّل من بعث من بنى آدم؛ وهو أوّل من خطّ بالقلم بعد شيث، وأوّل من كتب فى الصحيفة؛ وكان مشتغلا بالعبادة ومجالسة الصالحين حتى بلغ فآنفرد للعبادة، فجعله الله تعالى نبيّا، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، وورّثه صحف شيث وتابوت آدم.
وكان يعيش من كسب يده؛ وكان خيّاطا، وهو أوّل من خاط الثياب ولبسها وكانوا قبل ذلك يلبسون الجلود، حتى أتت عليه أربعون سنة، فبعثه الله تعالى إلى أولاد قابيل، وكانوا جبابرة، وقد اشتغلوا باللهو والغناء والمزامير والطنابير وغير ذلك، وعبدوا الأصنام؛ وكان إدريس يدعوهم ثلاثة أيّام، ويعبد الله أربعة.
وحكى عن وهب أنّه أوّل من اتّخذ السلاح، وجاهد فى سبيل الله، ولبس الثياب، وأظهر الأوزان والأكيال، وأنار علم النجوم.
وكان إدريس شديد الحرص على دخول الجنة، وكان قد رأى فى الكتب أنّه لا يدخلها أحد دون الموت، فبينما هو يسبح فى عبادته إذ عرض له ملك الموت فى صورة رجل فى نهاية الجمال؛ فقال له إدريس: من أنت؟ قال: عبد من عبيد الله أعبده كعبادتك. واصطحبا، فكان إدريس يأكل من رزق الله، وهو لا يطعم شيئا؛ فسأله عن ذلك؛ فأخبره أنه ملك الموت؛ فقال له: جئت لقبض(13/38)
روحى؟ قال: لا، ولو أمرنى الله بذلك ما أمهلتك، ولكنّه أمرنى أن أصطحبك.
فسأله إدريس أن يقبض روحه؛ فقال له: وما تريد بذلك وللموت كرب عظيم؟
قال: لعل الله تعالى يحيينى فأكون أكثر فى عبادته. فأمره الله بقبض روحه فقبضها، وأحياه الله تعالى لوقته.
ثم قال إدريس له بعد حين: هل تستطيع أن تقفنى على جهنّم؟ قال:
ما حاجتك إلى ذلك ولها من الأهوال ما لا تطيق أن تنظر إليه، وما لى سبيل إلى ذلك، ولكنى أقفك على طريق مالك خازنها، والله أعلم بحاجتك. فاحتمله ووقفه على طريق مالك، فلما رآه كشر فى وجهه، فكادت روحه تخرج، فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى مالك: وعزّتى وجلالى لا رأى عبدى إدريس بعد كشرتك سوءا، إرجع إليه وقفه على شفير جهنّم ليرى ما فيها. فوقفه مالك على شفيرها ونظر إلى ما فيها من الأهوال، فلولا أن ثبّته الله تعالى لصعق؛ ثم أعاده إلى مكانه، فاحتمله ملك الموت إلى الأرض، فعبد الله عزّ وجلّ حينا؛ ثم قال لملك الموت:
هل لك أن تدخلنى الجنّة لأرى ما أعدّ الله تعالى لأهل طاعته من النعيم؟ فقال:
حاجتك إلى الله تعالى، ولكنّى أحملك وأقف على طريق رضوان خازن الجنان فسله حاجتك. ففعل ذلك؛ فلما رآه رضوان قال: من هذا؟ قال: إدريس نبى الله يريد أن ينظر إلى نعيم الجنان. قال: «ذلك إلى ربّى» . فأوحى الله تعالى إلى رضوان: أنّى قد علمت ما يريد عبدى إدريس، وقد أمرت غصنا من أغصان شجرة طوبى أن يتدلّى إليه فيلتفّ به ويدخله الجنّة، فإذا دخل فأقعده فى أعلى موضع؛ فلمّا دخلها إدريس ورأى ما فيها من النعيم قال له رضوان: أخرج الآن.
قال له إدريس: أيدخل الجنّة من يخرج منها؟ فحاجّه فى ذلك، فأرسل الله تعالى له ملك الموت، فقال له إدريس: ما حاجتك؟ إنك لن تسلّط على قبض روحى(13/39)
مرّتين، فاذهب. فرجع ملك الموت إلى ربّه عزّ وجلّ وقال: إلهى قد علمت ما قال إدريس. قال الله تعالى: إنه حاجّك بكلامى، فذره فى جنتى. فذلك قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا.
هذا ما أورده الكسائىّ- رحمه الله- فى كتاب المبتدأ «1» .
ونقل الشيخ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ- رحمه الله- فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) وفى تفسيره أيضا فى سبب رفع إدريس عليه السلام، قال: وكان سبب رفعه على ما قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما- وأكثر الناس: أنه سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس، فقال: يا رب إنى مشيت يوما فتأذّيت منها، فكيف من يحملها خمسمائة عام فى يوم واحد؟! اللهم خفّف عنه من ثقلها، واحمل عنه حرّها. فلمّا أصبح الملك وجد من خفّة الشمس وخفّة حرّها ما لا يعرف؛ فقال: يا رب، خلقتنى لحمل الشمس، فما الّذى قضيت فىّ؟ فقال:
أما إنّ عبدى إدريس سألنى أن أخفّف عنك ثقلها وحرّها، فأجبته. قال: يا ربّ اجمع بينى وبينه، واجعل بينى وبينه خلّة. فأذن الله تعالى له؛ فأتى إدريس حتى إنّ إدريس ليسأله، فكان ممّا سأله أن قال: أخبرت أنّك أكرم الملائكة عند ملك الموت وأمكنهم عنده، فاشفع لى إليه أن يؤخّر أجلى فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخّر الله نفسا إذا جاء أجلها. قال إدريس: قد علمت ذلك، ولكنّه أطيب لنفسى. قال: نعم أنا مكلّمه لك، فما كان يستطيع أن يفعل لأحد من بنى آدم فهو فاعله لك. ثم حمله ملك الشمس على جناحه، فرفعه إلى السماء(13/40)
ووضعه عند مطلع الشمس؛ ثم أتى ملك الموت، فقال: لى إليك حاجة. قال:
أفعل كلّ شىء أستطيعه. فقال له: صديق لى من بنى آدم يتشفّع بى إليك أن تؤخّر أجله. فقال: ليس ذلك إلىّ، ولكن إن أحببت أعلمه أجله مى يموت فيتقدّم فى نفسه. قال: نعم. فنظر فى ديوانه، فأخبره باسمه، فقال: إنك كلّمتنى فى إنسان ما أراه يموت أبدا. ثم قال: إنى لأجده يموت عند مطلع الشمس.
قال: فإنّى أتيتك وتركته هناك. قال: فانطلق فإنّه قد مات، فو الله ما بقى من أجل إدريس شىء. فرجع الملك فوجده ميتا.
قال: وقال وهب: كان يرفع له فى كلّ يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض فى زمانه. فعجبت منه الملائكة، فاشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن الله تعالى فى زيارته، فأذن له، فأتاه فى صورة غلام؛ وكان إدريس يصوم الدهر كلّه فلمّا كان فى وقت إفطاره دعاه إلى الطعام، فأبى أن يأكل معه، وفعل ذلك ثلاث ليال، فقال له إدريس فى الليلة الثالثة: إنّى أريد أن أعلم من أنت. قال:
أنا ملك الموت، استأذنت ربّى أن أزورك وأن أصاحبك، فأذن لى فى ذلك.
فقال له إدريس: فلى إليك حاجة. قال: وما هى؟ قال: اقبض روحى؛ فأوحى الله تعالى إليه: «اقبض روحه» . ففعل، ثم ردّها الله تعالى إليه بعد ساعة، فقال له ملك الموت: فما الفائدة فى سؤالك قبض الروح؟ قال: لأذوق كرب الموت وغمّه فأكون له أشدّ استعدادا.
ثم قال: لى إليك حاجة أخرى، قال: وما هى؟ قال: ترفعنى إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنّة والنار. فأذن الله تعالى له فى ذلك، فلمّا قرب من النار قال:
لى إليك حاجة. قال له: وما تريد؟ قال: تسأل مالكا حتى يفتح لى أبوابها فأردها. ففعل؛ ثم قال له إدريس: فكما أريتنى النار فأرنى الجنّة. فذهب إلى(13/41)
الجنّة فاستفتح، ففتحت له أبوابها، فأدخله الجنّة؛ فقال له ملك الموت: اخرج منها لتعود إلى مقرّك. فتعلّق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى ملكا حكما بينهما؛ فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ*
وقد ذقته. وقال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها
وقد وردتها. وقال تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ
فلست أخرج. قال الله تعالى لملك الموت: دعه فإنه بإذنى دخل الجنّة، وبأمرى يخرج. فهو هناك، فتارة يعبد الله فى السماء الرابعة، وتارة يتنعّم فى الجنّة.
الباب الرابع من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى قصة نوح- عليه السلام- وخبر الطوفان
قال الكسائىّ- رحمه الله تعالى- قال وهب بن منبّه: لمّا رفع الله تعالى إدريس- عليه السلام- ترك إدريس فى الأرض ولده متوشلح، فتزوّج بامرأة يقال لها: (ميشاخا) ؛ فولدت له ولدا سمّاه (لمك) ، وكان يرجع إلى قوّة وبطش وكان يضرب بيده الشجرة العظيمة فيقتلعها من أصلها، وكان على وجهه نور نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ فخرج فى يوم إلى البرّيّة فرأى امرأة فى نهاية الجمال وبين يديها غنم ترعاها، فأعجبته، فسألها عن نفسها، فقالت: أنا قينوش بنة براكيل بن محويل من أولاد قابيل بن آدم. فقال: ألك زوج؟ قالت: لا. قال: فما سنّك؟
قالت: مائة وثمانون. قال: لو كنت بالغة لتزوّجتك- وكان البلوغ يومئذ لاستيفاء مائتى سنة- فقالت: كان عندى أنك تريد أن تفضحنى، فأمّا إذا أردت الزواج فقد أتى علىّ مائتا سنة وعشر سنين. فخطبها من أبيها، وأرغبه بالمال؛ فزوّجه بها فحملت منه بنوح- عليه السلام- فلما كان وقت الولادة ولدته فى غار خوفا على(13/42)
نفسها وولدها من الملك لكونها تزوّجت بمن ليس منهم؛ فلمّا وضعته هناك وأرادت الانصراف قالت: وانوحاه. وانصرفت، فبقى فى الغار أربعين يوما؛ ثم توفّى أبوه لمك؛ فاحتملته الملائكة ووضعته بين يدى أمّه مزيّنا مكحولا، ففرحت به وربّته حتى بلغ.
وكان ذا عقل وعلم ولسان وصوت حسن، واسع الجبهة، أسيل الخدّ، وكان يرعى الغنم لقومه مدّة، وربما عالج التجارة؛ ثم كره مجاورة قومه لعبادتهم الأصنام.
وكان لهم ملك يقال له درمشيل؛ وكان جبّارا عاتيا قويّا، وهو أوّل من شرب الخمر واتّخذ القمار وقعد على الأسرة واتخذ الثياب المنسوجة بالذهب وأمر بصنعة الحديد والنحاس والرصاص؛ وكان هو وقومه يعبدون الأصنام الخمسة:
ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا؛ ثم اتخذ ألف صنم وسبعمائة صنم على صور شتّى، واتخذ لها كراسىّ من الذهب والفضة، وأقام لها الخدم يخدمونها؛ فاعتزلهم نوح إلى البرارىّ ولم يخالطهم حتى بعثه الله تعالى نبيّا؛ والله أعلم بالصواب.
ذكر مبعث نوح عليه السلام
قال: فأمر الله تعالى جبريل- عليه السلام- أن يهبط إلى نوح ويبشره بالنبوّة والرسالة؛ فهبط جبريل عليه، وجاءه بوحى الله أن يسير إلى درمشيل الملك وقومه ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى؛ فأقبل نوح إلى قومه من يومه- وكان يوم عيدهم وقد نصبوا أصنامهم على أسرّتها وكراسيّها، وهم يقرّبون القرابين لها، وكانوا إذا فعلوا ذلك يخرّون لها سجّدا ويشربون الخمر، ويضربون بالصّنج، ويأتون النساء كالبهائم من غير تستّر- فجاءهم وهم يزيدون على تسعين زمرة، كلّ زمرة لا يحصون كثرة، فاخترق الصفوف حتى صار فى وسط القوم، وسأل الله تعالى أن ينصره(13/43)
عليهم؛ فلما أرادوا السجود للأصنام نادى: أيها القوم، إنى قد جئتكم بالنصيحة من عند ربّكم أدعوكم إلى عبادته وطاعته، وأنهاكم عن عبادة هذه الأصنام (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) *
. فخرقت دعوته الأسماع، وهوت الأصنام عن كراسيّها، وسقط الملك عن سريره مغشيّا عليه، فلمّا أفاق قال: يا أولاد قابيل، ما هذا الصوت الّذى لم أسمع مثله؟ قالوا: أيّها الملك، هذا صوت رجل منّا اسمه نوح بن لمك كان يجانبنا قبل ذلك بجنونه، والآن قد اشتدّ عليه فقال ما قال. فغضب الملك واستدعاه، فأتوه به بعد أن ضربوه الضرب الشديد؛ فقال له: من أنت، فقد ذكرت آلهتنا بسوء؟ قال: أنا نوح بن لمك رسول ربّ العالمين، جئتكم بالنصيحة من عند ربّكم لتؤمنوا به وبرسوله، وتهجروا هذه الأصنام والقبائح. فقال درمشيل:
إنّك قد جئتنا بما لا نعرفه، ولا نعتقد أنك عاقل، فإن كان بك جنّة فنداويك أو فقر فنواسيك. قال: يا قوم، ما بى جنون ولا حاجة إلى ما فى أيديكم، ولكنّى أريد أن تقولوا: لا إله إلا الله وإنى نوح رسول الله. فغضب درمشيل وقال:
لولا أنه يوم عيد لقتلناك.
فأوّل من آمن به امرأة من قومه يقال لها: (عمرة) فتزوّجها فأولدها (ساما) (وحاما) (ويافث) وثلاث بنات؛ ثم آمنت به امرأة أخرى من قومه يقال لها: (والعة) فتزوّجها فأولدها كنعان؛ ثم نافقت وعادت إلى دينها.
وكان نوح يخرج فى كلّ يوم فى أندية لقومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى فيضربونه حتى يغشى عليه، ويجرّون برجله فيلقونه على المزابل، فاذا أفاق عاد إليهم بمثل ذلك، ويعاملونه بمثله؛ حتى أتى عليه ثلاثمائة سنة وهو على هذه الحال؛ ثم مات ملكهم درمشيل، وملك بعده ابنه بولين، وكان أعتى وأطغى من أبيه- وكان نوح يدعوهم فى القرن الرابع على عادته، فيضربونه ويشتمونه، وربما سفوا(13/44)
عليه التراب ويقولون: إليك عنا يا ساحر يا كذّاب. ويضعون أصابعهم فى آذانهم؛ فينصرف عنهم ويعود إليهم، وإذا خلا بالرجل منهم دعاه، وهم لا يزدادون إلّا عتوّا وتمرّدا واستكبارا، وذلك قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً
الآيات.
ثم دعاهم حتى استكمل ستّة قرون؛ فلمّا دخل القرن السابع مات ملكهم (بولين) واستخلف عليهم ابنه (طفردوس) - وكان على عتوّ أبيه- وكان نوح يأتى أصنامهم بالليل وينادى بأعلى صوته: يا قوم، قولوا (لا إله إلا الله، وإنى نوح رسول الله) .
فتنكّس الأصنام؛ وكانوا يضربون نوحا ضربا شديدا، ويدوسون بطنه حتى يخرج الدم من أنفه وأذنيه؛ وكان الرجل منهم عند وفاته يوصى أولاده ويأخذ عليهم العهد ألا يؤمنوا به؛ ويأتى الرجل بابنه إلى نوح ويقول: يا بنىّ انظر إلى هذا فإنّ أبى حملنى إليه وحذّرنى منه، فاحذره أن يزيلك عمّا أنت عليه فإنّه ساحر كذّاب. وهو بعد ذلك يدعوهم؛ فضجّت الأرض إلى ربّها وقالت: ما حلمك على هؤلاء؟
وضجّ كلّ شىء إلى ربّه من عتوّهم، ونوح يدعوهم ويذكّرهم بآيات الله؛ فلمّا كان فى بعض الأيّام إذا هو برجل من كبار قومه قد أقبل بولده يحذّره منه؛ فضرب الغلام بيده إلى كفّ تراب وضرب به وجه نوح، فعند ذلك قال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلّا فاجرا كفّارا. فأمّنت الملائكة على دعوته، فمنع الله عنهم القطر والنبات؛ فعلم نوح أنّ الله مهلك قومه؛ فأحبّ أن يؤمن بعضهم إن لم يؤمنوا كلّهم؛ فأوحى الله تعالى(13/45)
إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
ذكر عمل السفينة
قال: وأوحى الله تعالى إليه أن يتّخذها فى ديار قومه، وأن يجعلها ألف ذراع طولا وخمسائة عرضا وثلاثمائة ارتفاعا، فأعدّ آلات النّجارة، وشرع فى عملها وأعانه أولاده ومن آمن من قومه، والناس يسخرون منه ويقولون: بعد النبوّة صرت نجّارا، ونحن نشكو القحط، وأنت تبنى للغرق. قال الله تعالى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
؛ وكانوا يأتون السفينة بالليل فيشعلون فيها النار ولا تحترق، فيقولون: هذا من سحرك يا نوح.
وجعل نوح رأس السفينة كرأس الطاوس، وعنقها كعنق النّسر، وجؤجؤها كجؤجؤ الحمامة، وكوثلها كذنب الديك، ومنقارها كمنقار البازى، وأجنحتها كأجنحة العقاب؛ ثم غشّاها بالزفت، وجعلها سبع طبقات لكلّ طبقة باب؛ فلمّا فرغ من بنائها نطقت بإذن الله وقالت: لا إله إلا الله إله الأوّلين والآخرين، أنا السفينة، من ركبنى نجا، ومن تخلّف عنّى غرق، ولا يدخلنى إلّا أهل الإخلاص.
فقال نوح لقومه: أتؤمنون؟ قالوا: هذا قليل من سحرك. ثم استأذن ربّه فى الحج، فأذن له؛ فلمّا خرج همّ القوم بإحراقها، فأمر الله الملائكة فاحتملوها إلى الهواء، فكانت معلّقة حتى عاد من حجّه. ولمّا قضى مناسكه رأى تابوت «1» آدم عن يمين الكعبة، فسأل ربّه فى ذلك التابوت فأمر الملائكة فحملوه إلى دار(13/46)
نوح- وكانت يومئذ فى مسجد الكوفة- فلمّا رجع من حجّه نزلت السفينة من الهواء، ثم أوحى الله إليه: أن قد دنا هلاك قومك فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ
. ثم أمره الله تعالى أن ينادى فى الوحش والسباع والطير والهوامّ والأنعام؛ فوقف على سطح منزله، ونادى: «هلمّوا إلى السفينة المنجّية» . فمرّت دعوته إلى الشرق والغرب والبعد والقرب، فأقبلت إليه أفواجا.
فقال: إنّما أمرت أن أحمل من كلّ زوجين اثنين؛ فأقرع بينهم، فأصابت القرعة من أذن الله فى حمله، وكان معه من بنى آدم ثمانون إنسانا بين رجل وامرأة؛ فلما كان فى مستهلّ شهر رجب نودى من التنّور وقت الظهر: قم يا نوح فاحمل فى سفينتك من كلّ زوجين اثنين من الذكر زوجا ومن الأنثى زوجا، فحملهم. وكان معه جسد آدم وحوّاء؛ وتباطأ عليهم الحمار فى صعوده، لأن إبليس تعلّق بذنبه؛ فقال نوح بالنبطيّة: على سيطان، يعنى ادخل يا شيطان؛ فدخل ومعه إبليس فرآه نوح فقال: يا ملعون، من أدخلك؟ قال: أنت حيث قلت: على سيطان:
فعاهده ألا يغوى أهل السفينة ما داموا فيها؛ ثم أوحى الله إلى جبريل أن يأمر خزنة الماء أن يرسلوه بغير كيل ولا مقدار وأن تضرب المياه بجناح الغضب. ففعل ذلك، ونبعت العيون، وهطلت السماء (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)
وكان ماء السماء أخضر، وماء الأرض أصفر؛ وأمر الله الملائكة أن يحملوا البيت الى سماء الدنيا؛ وكان الحجر يومئذ أشدّ بياضا من الثلج؛ فيقال إنه اسودّ من خوف الطّوفان؛ وقال نوح عند ركوبه السفينة ما أخبرنا الله عنه فى كتابه العزيز: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ(13/47)
فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
قال: كان ابنه هذا كنعان.
قال: وكانوا لا يعرفون الليل من النهار إلّا بخرزة كانت مركّبة فى صدر السفينة بيضاء، فاذا نقص ضوءها علموا أنّه النهار، واذا زاد علموا أنّه اللّيل؛ وكان الديك يصيح عند أوقات الصلاة؛ وعلا الماء على الجبال أربعين ذراعا؛ وسارت السفينة حتى بلغت موضع الكعبة، فطافت سبعا، ونطقت بالتلبية؛ وكانت لا تقف فى موقف إلّا وتناديه: يا نوح هذه بقعة كذا، وهذا جبل كذا؛ حتى طافت به الشرق والغرب ورجعت إلى ديار قومه، فقالت: يا نبىّ الله، ألا تسمع صلصلة السلاسل فى أعناق قومك؟ قال الله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً
؛ ولم تزل السفينة كذلك ستّة أشهر آخرها ذو الحجة.
وقيل: كان ركوب نوح ومن معه السفينة لعشر خلون من شهر رجب وذلك لتتمّة ألفى سنة ومائتى سنة وخمسين سنة من لدن أهبط الله تعالى آدم- عليه السلام- وخرجوا منها فى العاشر من المحرّم بعد مضىّ ستة أشهر؛ ثم استقرّت على جبل الجودىّ، قال الله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ.
قال: ثم فتح نوح باب السفينة، فنظر إلى الأرض بيضاء من عظام قومه؛ وبعث الغراب لينظر ما بقى على وجه الأرض من الماء؛ فأبطأ، فبعث الحمامة(13/48)
فانطلقت شرقا وغربا وعادت مسرعة، فقالت: يا نبىّ الله، هلكت الأرض ومن عليها، وأما الماء فإنى لا أراه إلّا ببلاد الهند، ولم تبق على وجه الأرض شجرة إلّا الزيتون، فإنّها على حالها. فأوحى الله تعالى الى نوح: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ
فخرج من السفينة وأخرج من فيها، وأعاد الله الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والأشجار والنبات كما كانت، وتفرّق الوحش والسباع والطيور وغيرها فى الأرض؛ وأمر نوح فبنيت قرية فى أسفل جبل الجودىّ وسمّيت (قرية ثمانين) على عددهم.
قيل: هى الجزيرة؛ وهى أوّل قرية بنيت على وجه الأرض بعد الطّوفان ثم قسم نوح الأرض بين أولاده الثلاثة: سام وحام ويافث، فأعطى سام الحجاز واليمن والشأم، فهو أبو العرب، وأعطى حام بلاد المغرب فهو أبو السّودان وأعطى يافث بلاد المشرق، فهو أبو الترك.
ثم أوحى الله- عزّ وجلّ- الى نوح أن يردّ التابوت الى المكان الذى أخذ منه، فردّه.
ذكر خبر دعوة نوح على ابنه حام ودعوته لابنه سام
قال: ولما استقرّ الأمر قال نوح لبنيه: إنى أحب أن أنام، فإننى لم أتهنّأ بالنوم منذ ركبت الفلك. فوضع رأسه فى حجر ابنه حام، فهبّت الريح فكشفت عن سوءته، فضحك حام، وغطّاه سام؛ فانتبه فقال: ما هذا الضحك؟ فأخبره سام، فغضب وقال لحام: أتضحك من سوءة أبيك؟ غيّر الله خلقتك، وسوّد وجهك. فاسودّ وجهه لوقته. وقال لسام: سترت عورة أبيك، ستر الله عليك فى هذه الدنيا، وغفر لك فى الآخرة، وجعل من نسلك الأنبياء والأشراف، وجعل من نسل حام الإماء والعبيد، وجعل من نسل يافث الجبابرة والأكاسرة والملوك العاتية.(13/49)
ذكر وصيّة نوح ووفاته
قال كعب: بعث الله- عزّ وجلّ- نوحا إلى قومه وله مائتان وخمسون سنة ولبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما، وعاش بعد الطّوفان مائتى سنة؛ فلمّا حضرته الوفاة دعا بابنه سام وقال له: أوصيك يا بنىّ باثنين، وأنهاك عن اثنين: أوصيك «بشهادة أن لا إله إلا الله» ، فإنّها تخرق السموات السبع، لا يحجبها شىء، والثانية أن تكثر من قولك: «سبحان الله وبحمده» ، فإنها جامعة الثواب؛ وأنهاك عن الشّرك بالله، والاتّكال على غير الله. فلمّا فرغ من ذلك أتاه ملك الموت، فسلّم عليه فقال: من أنت؟ فقد ارتاع قلبى من سلامك. قال: أنا ملك الموت، جئت لقبض روحك. فتغيّر وجهه وجزع، فقال له: ما هذا الجزع، ألم تشبع من الدنيا فى طول عمرك؟ قال: ما شبّهت ما مضى من عمرى فى الدنيا إلّا بدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. فناوله ملك الموت كأسا فيها شراب وقال: اشرب هذا حتى يسكن روعك. فلمّا شربه خرّ ميتا- عليه السلام- والله الموفّق.
ذكر خبر أولاد نوح- عليه السلام- من بعده
فأما حام فإنه واقع زوجته فولدت غلاما وجارية سودا «1» ، فأنكرهما حام؛ فقالت امرأته: «لحقتك دعوة أبيك» . فلم يقربها حينا؛ ثم واقعها فولدت مثلهما فتركها حام وهرب على وجهه؛ فلما كبر الولدان الأوّلان خرجا فى طلب أبيهما حتى بلغا قرية على شاطىء البحر، فنزلاها، وواقع الغلام أخته فحملت منه وولدت غلاما وجارية؛ وأقاما فى ذلك الموضع لا مأكل لهما إلّا السمك؛ فرجع(13/50)
حام فى طلب ولديه فلم يجدهما، فاغتمّ لذلك؛ ثم ماتت امرأته، فخرج الولدان الآخران فى طلب أخويهما حتّى صارا الى قرية أخرى على الساحل خربة؛ فنزلاها فسمع بهما الأخوان اللّذان فى البطن الأوّل، فلحقا بهما؛ ونزلوا هناك، ووطئ كلّ منهما أخته؛ فرزقوا أولادا، وكثر منهم النسل، وانتشروا فى أعلى الأرض على ساحل البحر؛ فمنهم النّوبة والزّنج والبربر والهند والسند وجميع طوائف السودان.
وأمّا يافث بن نوح، فإنه صار إلى المشرق، فولد له هناك خمسة أولاد «1» : جومر وتيرس وأشار وسفويل ومياشخ؛ فمن جومر جميع الصّقالبة والروم وأجناسهم؛ ومن تيرس جميع الترك والخزر وأجناسهم؛ ومن مياشخ جميع أصناف العجم؛ ومن أشار يأجوج ومأجوج؛ ومن سفويل جميع الأرمن:
وأما سام بن نوح فولد خمسة أولاد: أرفخشذ، وهو أب العرب؛ ولاوذ وهو أبو العمالقة؛ وأشور، وهو أبو النسناس؛ وعيلم، وهو أبو العادية [الأولى] ، وإرم، وهو أبو عاد وثمود؛ ورزق غيرهم ممّن لم يعقب.
الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى قصة هود- عليه السلام- مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم
قال وهب: كان ملك عاد الأكبر اسمه الخلجان بن عاد بن العوص بن إرم ابن سام؛ وكان قومه يرجعون إلى فصاحة وشعر، وكان له ثلاثة أصنام: صدا وهبا، وصمو؛ وكان ملكهم قد حلّى هذه الأصنام بأنواع الحلّى، وطيّبها، وجعل لها عدّة من الخدم بعدد أيّام السنة؛ فعتوا فى المعاصى، وانهمكوا على عبادة(13/51)
الأصنام؛ وكان فيهم رجل من أشرافهم اسمه الخلود بن معيد بن عاد، وكان له بسطة فى الخلق وقوّة فى الجسم، مع الحسن والفصاحة؛ وكان إذا قيل له: لم لا تتزوّج وقد بلغت سنّ أبيك؟ يقول: رأيت فى المنام كأن سلسلة بيضاء قد خرجت من ظهرى، ولها نور كالشمس، وقيل لى: إذا رأيت هذه السلسلة قد خرجت من ظهرك ثانية فتزوّج بالتى تؤمر بتزوّجها؛ ولم أرها بعد، وقد عزمت على التزوّج.
وقام ليعبر بيت الأصنام يدعو بالتوفيق فى التزوّج، فلما همّ بالدخول لم يقدر، وسمع هاتفا يقول: يا خلود، ما لمن فى ظهرك والأصنام؟ فلم يعد إليها. ثم رأى بعد ذلك فى منامه السلسلة وقد خرجت من ظهره وقائلا يقول: «قم يا خلود فتزوّج بابنة عمك» فانتبه وخطبها وتزوّجها، وواقعها فحملت بهود؛ وأصبح القوم وهم يسمعون من جميع النواحى: هذا هود قد حملت به أمّه، ويلكم، إن لم تطيعوه هلكتم.
ووضعته أمّه فى ليلة الجمعة، فوقعت الرّعدة على قبائل عاد، ولم يعلموا ما حالهم؛ فعلموا أنه قد ولد لخلود ولد، فقال بعضهم لبعض: ليكونن لهذا الولد شأن فاحذروه. فخرج أحسن الناس وجها، وأكملهم عقلا، وسمّته أمّه عابر، فرأته أمّه ذات يوم يصلّى، فقالت: لمن هذه العبادة يا بنىّ؟ قال: لله الذى خلقنى وخلق الخلق. قالت: أليس هى لأصنامنا؟ قال: إنّ أصنامكم لا تضرّ ولا تنفع وإنما الشيطان قد زين لكم عبادتها. قالت: اعبد إلهك يا بنىّ، فقد رأيت منك حين كنت حملا وطفلا عجائب كثيرة.
ذكر مبعث هود عليه السلام
قال: ولم يزل هود فى ديار قومه يجادلهم فى أصنامهم، حتى أتت عليه أربعون سنة؛ فبعثه الله- عزّ وجلّ- إلى قومه رسولا، وأتاه الوحى، فانطلق إليهم وهم(13/52)
متفرّقون فى الأحقاف، وهى الرمال والتّلال- وكانت مساكنهم ما بين عمان إلى حضرموت إلى الأحقاف إلى عالجة- فأتاهم فى يوم عيد لهم وقد اجتمع الملوك على الأسرّة والكراسىّ، وملكهم الخلجان على سرير من ذهب وهو متوّج وقد أحدقت به قبائل عاد، وهم فى اللهو والطرب؛ فلم يشعروا إلا وهود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ
وهذه الأصنام التى تعبدونها هى الّتى أغرقت قوم نوح، ولستم أكرم على ربّكم منهم؛ فآستغفروا ربّكم من عبادة هذه الأصنام. والأصنام ترتجّ؛ فقال له ملكهم: ويحك يا هود، أقبل إلىّ. فتقدّم إليه، فلما صار بين يدى الملك صاح صيحة أجابه الوحش والسباع: أبلغ «1» ولا تخف. فامتلأت قلوب الناس خوفا، فقام إليه رجل منهم وقال: يا هود، صف لنا إلهك. فوصف عظمة الله، وأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
- وكان الذى سأله عمرو بن الحلى- فلمّا فرغ من كلامه قال له الملك: يا هود، أتظن أنّ إلهك يقدر علينا وهذه كثرة جموعنا وشدّة قوّتنا؟
قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
فأوّل من آمن بهود رجل من قومه يقال له جنادة بن الأصمّ وأربعون من بنى عمّه؛ ثم انصرف إلى منزله.
فلمّا كان من الغد أقبل جنادة وبنو عمّه حتى وقفوا على جماعة من سادات قومه، فقال: يا قوم لا تمنعكم مرارة الحق أن تقبلوه، ولا حلاوة الباطل أن تتركوه؛ وهذا ابن عمّكم هود قد عرفتم صدقه، وقد أتاكم من عند الله رسولا وواعظا فاتقوا الله وأطيعوه. وحذّرهم، فحصبوه وشتموه، فرجع إلى هود.(13/53)
فلما كان من الغد خرج هود فوقف عليهم وقال: يا قوم لا تبدّلوا نعمة الله كفرا. وأخذ يعظهم؛ فكذّبوه وواجهوه بالقبائح؛ فبقى على ذلك دهرا طويلا يلاطفهم وهم على كفرهم وعتوّهم؛ فأعقم الله أرحام نسائهم، فلم تحمل امرأة منهم؛ فشكوا ذلك إلى الملك، فأمرهم أن يخرجوا أصنامهم ويقرّبوا القرابين إليها؛ ففعلوا ذلك؛ فأتاهم هود وقال: يا قوم ألا تفزعون إلى الله الّذى خلقكم وأعطاكم هذه النعمة والقوّة، فإنه مجيبكم إذا سألتموه، ويزيدكم ملكا إلى ملككم وقوّة إلى قوّتكم وهو أن تقولوا معى: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإنى هود عبده ورسوله» وإن لم تفعلوا ذلك ضربكم الله بالذلّ والنّقمة، وهبّت عليكم الريح العقيم حتّى تذركم فى دياركم هشيما. فلمّا سمعوا ذلك منه ضربوه حتى سال الدم على وجهه وهو يقول:
«إلهى قد أبلغت وأنذرت» .
وأقبل إلى هود بعد انصرافه رجل من قومه يعرف بمرثد بن عاد، وقال:
يا هود، إنّى قد جئتك فى أمر، فإن أخبرتنى به فأنت رسول الله. قال له هود:
يا مرثد، كنت البارحة نائما مع زوجتك فواقعتها، فقالت لك: أتظنّ أنى قد حملت؟
فقلت لها: إنى صائر غدا إلى هود، فإن أخبرنى بهذا الكلام آمنت به. فقال مرثد:
أشهد أنّك رسول الله حقا؛ ولكن أخبرنى هل حملت؟ قال: نعم حملت بولدين ذكرين يكونان من أمّتى، سيخرجان من بطنها سليمين مؤمنين؛ وستلد لك عشرة أبطن فى كلّ بطن ذكران، ويكونان من أمّتى. فوثب مرثد وقبّل رأس هود وكان من خيار أصحابه، وجعل مرثد يقول:
من كان يصدق يوما فى مقالته ... فإنّ هودا رسول صادق القيل
نبىّ صدق أتى بالحقّ من حكم ... وقد أتانا ببرهان وتنزيل
فالحمد لله حمدا دائما أبدا ... مضاعفا «1» شكره فى كلّ تفصيل(13/54)
ثم انصرف مرثد إلى امرأته وأخبرها، فآمنت؛ وكان مرثد يكتم إيمانه ويجالس قومه، فإذا سمعهم يذكرون هودا بسوء يقول: مهلا يا بنى عمّ فإنه كأحدكم وابن عمّكم.
قال: ثم اجتمعوا فى متنزّه لهم وملكهم ونصبوا أصنامهم؛ فأقبل هود عليهم وقال: يا قوم اعبدوا الله فإن هذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع. فقال الرؤساء من قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً.
فنادوه من كلّ ناحية: يا هود أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ.
وكان القوم يشتمونه ويضربونه ويدوسونه تحت أرجلهم حتى يظنّوا أنه قد مات، ثم يولّون عنه ضاحكين؛ فيقوم غير مكترث بفعلهم؛ فلما أكثر عليهم قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
فآمن به فى ذلك اليوم رجل يقال له نهيل.(13/55)
قال: ولم يزل هود فيهم يحذرهم وينذرهم العذاب سبعين عاما؛ فلما رأى أنهم لا يؤمنون دعا الله تعالى أن يبتليهم بالقحط، فإن آمنوا وإلّا يهلكهم بعذاب لم يهلك به أحدا قبلهم ولا بعدهم؛ فاستجاب الله تعالى دعوته، وأمره باعتزالهم بمن معه من المؤمنين، فآعتزلهم فأمسك الله عنهم المطر، وأجدبت الأرض ولم تنبت ومات عامّة المواشى؛ فصبروا على ذلك أربع سنين حتى يئسوا من أنفسهم، وهمّوا أن يؤمنوا؛ فنهاهم الملك عن ذلك وصبّرهم؛ فأجمعوا رأيهم أن يبعثوا رجالا منهم إلى الحرم يستسقون لهم؛ والله الفعّال.
ذكر خبر وفد عاد إلى الحرم يستسقون لهم
قال وهب: فجمعوا الهدايا، واختاروا سبعين رجلا من أشرافهم، وجعلوا لكلّ عشرة منهم رئيسا، من جملتهم مرثد المؤمن؛ فسار وهو يدعو عليهم؛ فلما أشرفوا على الحرم إذا بهاتف يقول:
قبّح الله قوم عاد وذلّوا ... إنّ عادا أشرّ أهل الجحيم
سيّروا الوفد كى يسقوا غياثا ... فسيسقون من شراب الحميم
فدخلوا الحرم والملك يومئذ معاوية بن بكر، وكانوا أخواله، فسألهم عما جاء بهم فأخبروه بخبر هود وبما حلّ بعاد، وأنّهم قد لجأوا إلى الحرم للاستسقاء؛ فأنزلهم معاوية فى منزل الضيافة، وأطعمهم وسقاهم شهرا؛ فشغلهم اللهو عن الاستسقاء؛ فبلغ الملك (الخلجان) ذلك، فبعث إلى معاوية يسأله أن يأمرهم بالاستسقاء، فكره مواجهتهم بذلك فيقولون: «قد تبرّم بضيافتنا» فدعا بالجرادتين- وهما قينتان لمعاوية- فقال لهما: إذا شرب القوم ودبّ فيهم الشراب فغنيّاهم بهذه الأبيات، وهى:
بأبى من خلق الخل ... ق بنى سام وحام
سادة سادوا جميع ال ... خلق فى الخلق التّمام(13/56)
نصب الدهر عليهم ... حربه دون الأنام
فسقى الله بنى عا ... د من الصّوب الغمام
فأجابهما رجل من الوفد يقال له الجعد بن القيل:
علّلينا- زانك اللّ ... هـ- بأكواب المدام
وبماء فامزجيها ... تستريحى من ملام
فلما لم يكترثوا بالصوت الأوّل قالت:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم «1» ... لعلّ الله يمنحكم غماما
غماما صوبها هطل مغيث ... يروّى السّهل طرّا والإكاما
من العطش الشديد فليس نرجو ... بها الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم عياما «2»
وأنّ الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعادىّ سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التّماما
فقبّح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحيّة والسلاما
أفيقوا أيّها الوفد السّكارى ... لقومكم فقد أضحوا هياما
فقد طال المقام على سرور ... ألا يا قيل ويك ذر المداما
قال: فانتبه الناس وقاموا فاغتسلوا ولبسوا ثيابا جددا، وكسوا البيت بالكسوة التى حملوها له؛ فجعل ينفضها؛ فقال مرثد: يا قوم، إنّ ربّ هذا البيت لا يقبل الهديّة إلّا من مؤمن، فهل لكم أن تؤمنوا بهود؟ فقالوا: يا مرثد:
إنّ كلامك يدلّ على إيمانك به، ونحن لا نؤمن به أبدا.
فأنشأ يقول:(13/57)
أرى عادا تمادى «1» في ضلال ... وقد عدلوا عن الأمر الرشيد
بما كفرت بربّهم جهارا ... وحادوا رغبة عن دين هود
فاجتمعوا يستسقون، فقال واحد منهم:
يا ربّ عاد اسقينّ عادا ... إنّك حقّا ترحم العبادا
فاسق البساتين وذى البلادا ... أجواد «2» غيث تتبع العهادا
وجعل كلّ واحد منهم يتكلّم بما حضره من ذلك. ثم تكلّم مرثد بن سعد- وهو المؤمن الّذى يكتم إيمانه- وقال: اللهمّ إنا لم نأتك إلى حرمك إلّا لأرض تسقيها، أو أمّة تحييها.
فأوحى الله إلى ملك السحاب أن ينشر لهم ثلاث غمامات: بيضاء وحمراء وسوداء؛ وجعل السوداء مشوبة بغضبه، فارتفعت البيضاء، وتبعتها الحمراء خلفهما السوداء، فارتفعت حتى رأى الوفد جميع الغمامات؛ ففرحوا واستبشروا ثم نودوا: يا قيل، اختر لقومك من هذه السحائب. فنظر فقال: أمّا البيضاء فإنها جهام لا ماء فيها؛ وأمّا الحمراء فإنها إعصار ريح. فاختار السوداء. فنودى:
يا قيل، اخترت رمادا أرمدا، لا يبقى من قوم عاد أحدا، إلا تراهم فى الديار همّدا.
ذكر إرسال العذاب على قوم هود
قال: وأوحى الله إلى (مالك) خازن جهنّم أن يقبض على سلاسل السوداء وليكن عليها ألف من الزبانية.
قال كعب: إن هذه السلسلة غمست فى سبعين واديا من أودية الزمهرير ولولا ذلك لذابت الجبال من حرّها.(13/58)
فمدّت الزبانية السلاسل، وجعلت السحابة ترمى بشرر كالجبال، وخرجت عليهم من واد يقال له: (وادى الغيث) فنظروا إليها فقال بعضهم لبعض: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا
قال الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها.
وأخرج القوم أصنامهم ونصبوها على أسرتها؛ فأمر الله تعالى خازن الريح العقيم أن يفتح بعض أطباقها، فانطلقت ناشرة أجنحتها بعدد قبائل عاد؛ فلمّا عاينوا الملائكة يطوفون حول السحاب تيقّنوا العذاب، فأدخلوا النساء والولدان فى الحصون وخرجوا ونشروا أعلامهم وأوتروا قسيّهم، وأفرغوا السهام بين أيديهم، والرياح ساكنة تنتظر أمر ربّها، وهود قائم ينذرهم العذاب، وهم يقولون: ستعلم يا هود من أشدّ منا قوّة وبطشا. حتى إذا كانت صبيحة الأربعاء، خرجت الريح عليهم فى يوم نحس مستمرّ، فكانت فى اليوم الأوّل شهباء، فلم تترك على وجه الأرض شيئا إلّا نسفته نسفا؛ وفى اليوم الثانى صفراء، فاقتلعت الأشجار؛ وفى اليوم الثالث حمراء، فدمّرت كلّ شىء مرّت عليه؛ فلم يزل يجرى فى كلّ يوم لون والنساء ينظرن إلى فعلها بقومهنّ، فجعلن يقلن شعرا:
ألا قد ذهب الدّه ... ر بعمرو ذى العليّات
وبالحارث والقمقا ... م طلّاع الثّنيّات
ومن سدّ مهب الري ... ح فى وقت البليّات
واستمرت الريح سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً
، أى دائمة؛ فلما كان فى اليوم الثامن اصطفّت القوم صفوفا، كلّ واحد إلى جنب أخيه، وهم عشرة صفوف؛ فجعل ملكهم الخلجان يشجّعهم ويقول:(13/59)
ما بال «1» عاد اليوم خائفينا؟ ... أمن مهبّ الريح يجزعونا؟
لقد خشيت أن يكونوا دونا ... إنّ البنين تعقب البنينا
هذا والرّيح تمزّقهم، فكانت تدخل فى ثوب الرجل فتحمله فى الهواء، ثم ترميه على رأسه ميتا. قال الله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ.
فلم يبق منهم إلا الملك أخّره الله تعالى ليرى مصارع قومه، وهو يردّ الريح بصدره، فجاءت الريح فدخلت من فيه وخرجت من دبره، فمات؛ ثم مرّت الريح نحو الوفد، فحملتهم من الأرض إلى الهواء، فألقتهم على وجوههم؛ فماتوا عن آخرهم.
قال: وهود فى حظيرة بمن معه من المؤمنين لا يصيبهم منها إلا ما تلين له الجلود.
قال الله تعالى وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ.
قال: وارتحل هود ومن معه من أرض عاد إلى الشّحر من بلاد اليمن؛ فنزلوا هناك حولين، ثم مات.
ويقال: إنه دفن بأرض (حضرموت) ؛ والله أعلم.
ذكر خبر مرثد ولقمان
قال: وخرج من وفد عاد مرثد، ولقمان بن عاد، فدخلا مكة منفردين، فدعوا الله تعالى لأنفسهما؛ فقيل لهما: قد أعطيتما مناكما، فاختارا لأنفسكما، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود. فقال مرثد: اللهم أعطنى برّا وصدقا. فأعطى ذلك. وقال لقمان: «يا ربّ عمرا» . فقيل له: اختر لنفسك بقاء سبع بقرات صفر عفر(13/60)
فى جبل وعر، لا يمسّهن ذعر؛ وإن شئت بقاء سبع نوايات من تمر، مستودعات فى صخر، لا يمسّهن ندى ولا قطر؛ وإن شئت بقاء سبعة أنسر كلّما هلك نسر أعقب من بعده نسر. فاختار الأنسر، فكان يأخذ الفرخ منها حين يخرج من بيضته، فإذا مات أخذ غيره، فكان كلّ نسر يعيش ثمانين سنة، حتى انتهى إلى السابع، فكان آخرها لبد؛ فلما مات لبد مات معه لقمان، وهو لقمان النسور.
ولنصل هذا الباب بخبر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ
، وقصّة شديد وشدّاد.
ذكر خبر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ
وقصّة شديد وشدّاد بنى عاد
قد ذكرنا خبر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ
فيما تقدّم من كتابنا هذا على سبيل الاختصار وذلك فى (الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الأوّل فى المبانى القديمة) وهو فى السفر الأوّل من هذه النسخة؛ ورأينا إيراده فى هذا الباب بما هو أبسط من ذلك لتعلّقه به.
قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ.
روى أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) عن منصور عن سفيان عن أبى وائل أنّ رجلا يقال له: (عبد الله بن قلابة) خرج فى طلب إبل له قد شردت، فبينما هو فى بعض صحارى عدن فى تلك الفلوات، إذ وقف على مدينة عليها حصن، حول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال؛ فلمّا دنا منها ظنّ أن فيها من يسأله عن إبله فلم ير داخلا فيها ولا خارجا منها، فنزل عن ناقته وعقلها، وسلّ سيفه، ودخل من باب الحصن، فاذا هو ببابين عظيمين لم ير فى الدنيا أعظم منهما ولا أطيب رائحة(13/61)
وإذا خشبهما من أطيب عود، وعليهما نجوم من ياقوت أصفر وياقوت أحمر ضوءها قد ملأ المكان؛ فلما رأى ذلك عجب، ففتح أحد البابين، فاذا هو بمدينة لم ير الراءون مثلها قطّ، وإذا هو بقصور تتعلّق، تحتها أعمدة من زبرجد وياقوت وفوق كلّ قصر منها غرف مبنيّة بالذهب والفضّة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعلى كلّ باب من أبواب تلك القصور مصراع كمصراع باب المدينة من عود طيّب، قد نضّدت عليه اليواقيت؛ وقد فرشت تلك القصور باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران ولم ير هنالك أحدا، فأفزعه ذلك، ثم نظر إلى الأزقّة فاذا فى كلّ زقاق منها أشجار قد أثمرت، تحتها أنهار تجرى؛ فقال: هذه الجنّة التى وصفها الله تعالى لعباده فى الدنيا الحمد لله الذى أدخلنى الجنة. فحمل من لؤلؤها وبنادق المسك والزعفران ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ولا ياقوتها لأنّها كانت مشتبكة فى أبوابها وجدرانها وكان اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران منثورة بمنزلة الرمل فى تلك القصور والغرف؛ فأخذ منها ما أراد، وخرج؛ ثم سار يقفو أثر ناقته حتى رجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه، وأعلم الناس بخبره، وباع ذلك اللؤلؤ، وكان قد اصفرّ وتغيّر من طول الزمان الذى مرّ عليه، ففشا خبره وبلغ معاوية، فأرسل رسولا إلى صاحب (صنعاء) ، وكتب بإشخاصه، فسار حتى قدم على معاوية، فخلا به وسأله عمّا عاين؛ فقصّ عليه أمر المدينة وما رأى فيها؛ فاستعظم ذلك، وأنكر ما حدّث به، وقال:
ما أظنّ ما يقول حقّا. ثم قال: يا أمير المؤمنين، معى من متاعها الّذى هو مفروش فى قصورها وغرفها وبيوتها. قال له: ما هو؟ قال: اللؤلؤ والبنادق.
فشمّ البنادق فلم يجد لها ريحا؛ فأمر ببندقة منها فدقّت، فسطع ريحها مسكا وزعفرانا؛ فصدّقه عند ذلك؛ ثم قال معاوية: كيف أصنع حتى أسمع باسم هده المدينة ولمن هى ومن بناها؟ والله ما أعطى أحد مثلما أعطى سليمان بن داود(13/62)
وما أظنّ أنه كان له مثل هذه المدينة. فقال بعض جلسائه: ما تجد خبر هذه المدينة إلّا عند (كعب الأحبار) فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إليه ويأمر بإشخاصه ويغيّب عنه هذا الرجل فى موضع ويسمع كلامه منه وحديثه ووصف المدينة حتّى يتبيّن أمر هذه المدينة فعل، فإنّ كعبا سيخبر أمير المؤمنين بخبرها وأمر هذا الرجل إن كان دخلها، لأن مثل هذه المدينة على هذه الصفة لا يستطيع هذا الرجل دخولها، إلّا أن يكون سبق فى الكتاب دخوله إيّاها فيعرف ذلك.
فأرسل معاوية إلى (كعب الأحبار) وأحضره ثم قال له: يا أبا إسحاق إنّى دعوتك لأمر رجوت أن يكون علمه عندك. فقال له: يا أمير المؤمنين «على الخبير سقطت» فسلنى عما بدا لك. فقال له: أخبرنا يا أبا إسحاق، هل بلغك أن فى الدنيا مدينة مبنيّة بالذهب والفضّة، عمدها زبرجد وياقوت، وحصا قصورها وغرفها اللؤلؤ، وأنهارها فى الأزفة تحت الأشجار؟ قال: والّذى نفس كعب بيده لقد ظننت أن سأتوسّد «1» يمينى قبل أن يسألنى أحد عن تلك المدينة وما فيها ولكن أخبرك بها يا أمير المؤمنين ولمن هى، ومن بناها.
أمّا المدينة فهى حقّ على ما بلغ أمير المؤمنين وعلى ما وصفت له.
وأمّا صاحبها الّذى بناها فشدّاد بن عاد.
وأمّا المدينة فهى إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها فى البلاد.
فقال له معاوية: يا أبا إسحاق، حدّثنا بحديثها- يرحمك الله-. فقال كعب:
نعم يا أمير المؤمنين، إن عادا كان له ابنان يسمّى أحدهما «شديدا» والآخر «شدّادا» ؛ فهلك عاد، فبقيا وملكا وتجرّآ، فقهرا أهل البلاد، وأخذاها عنوة(13/63)
وقسرا، حتى دان لهما جميع الناس، فلم يبق أحد من الناس فى زمانهما إلّا دخل فى طاعتهما، لا فى شرق الأرض ولا فى غربها؛ وإنهما لمّا صفا لهما ذلك وقرّ قرارهما مات شديد بن عاد، وبقى شدّاد، فملك وحده، ولم ينازعه أحد ودانت له الدنيا كلّها؛ فكان مولعا بقراءة الكتب القديمة، وكان كلّما مرّ فيها بذكر الجنة دعته نفسه لتعجيل تلك الصفة لنفسه الدنيّة عتوّا على الله وكفرا؛ فلما وقر ذلك فى نفسه أمر بصنعة تلك المدينة الّتى هى إرم ذات العماد، وأمر على صنعتها مائة قهرمان، مع كلّ واحد ألف من الأعوان. ثم قال: انطلقوا إلى أطيب فلاة من الأرض وأوسعها، واعملوا فيها مدينة من ذهب وفضّة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ، تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد، وعلى المدينة قصور، من فوق القصور غرف، ومن فوق الغرف غرف، واغرسوا تحت القصور غروسا فيها أصناف الثمار كلّها، وأجروا فيها الأنهار حتى تكون تحت تلك الأشجار جارية، فإنّى أسمع فى الكتب صفة الجنة، وإنى أحبّ أن أتخذ مثلها فى الدنيا، أتعجل سكناها. فقال له قهارمته:
كيف لنا بالقدرة على ما وصفت لنا من الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة نبنى منها مدينة كما وصفت لنا؟ فقال لهم شدّاد: ألستم تعلمون أن ملك الدنيا كلّها بيدى؟ فقالوا: بلى. قال: انطلقوا إلى كلّ موضع فيه معدن من معادن الزبرجد والياقوت والذهب والفضة، وكلّفوا من كلّ قوم رجلا يخرج لكم ما فى كلّ معدن من تلك الأرض؛ ثم انظروا إلى ما فى أيدى الناس من ذلك فخذوه، سوى ما يأتيكم به أصحاب المعادن، فإنّ معادن الدنيا فيها كثير من ذلك، وما فيها ممّا لا تعلمون أكثر وأعظم ممّا كلّفتكم من صنعة هذه المدينة.
قال: فخرجوا من عنده، وكتب معهم إلى كلّ ملك من ملوك الدنيا يأمره أن يجمع لهم ما فى بلده من الجواهر، ويحفر معادنها؛ فانطلق القهارمة، وبعث الكتب(13/64)
إلى الملوك بأخذ كلّ ما يجدونه فى أيدى الناس عشر سنين من الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة، ويبعثون بذلك إلى فعلة إرم ذات العماد. وخرج الفعلة يطلبون موضعا كما وصفه لهم شدّاد.
فقال معاوية: يا أبا إسحاق، كم كان عدد أولئك الملوك الذين كانوا تحت يد شدّاد؟ قال: كانوا مائتين وستّين ملكا.
قال: فخرج عند ذلك الفعلة والقهارمة، فتفرّقوا فى الصحارى ليجدوا ما يوافق غرضه؛ فوقعوا فى صحراء عظيمة نقيّة من الجبال والتلال. وإذا هم بعيون مطّردة؛ فقالوا: هذه صفة الأرض التى أمرنا بها؛ فأخذوا منها بقدر ما أمرهم به من العرض والطول، ثم عمدوا إلى مواضع الأزقّة فأجروا فيها قنوات الأنهار؛ ثم وضعوا الأساس من صخور الجزع اليمانىّ، وعجنوا طين ذلك الأساس من دهن البان والمحلب؛ فلمّا فرغوا من وضع الأساس بعث بالعمد والذهب والفضّة من جهة الملوك؛ فتسلّمها الوزراء والقهارمة، وأقاموا حتى فرغوا من بنائها على ما أراد شدّاد.
فقال معاوية: يا أبا إسحاق، إنى لأحسبهم أقاموا فى بنائها زمنا من الدهر.
قال: نعم يا أمير المؤمنين. إنى لأجد فى التوراة مكتوبا أنهم أقاموا فى بنائها ثلاثمائة سنة. فقال معاوية: كم كان عمر شدّاد؟ فقال: سبعمائة سنة. فقال معاوية: لقد أخبرتنا عجبا، فحدّثنا. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّما سمّاها الله تعالى إرم ذات العماد الّتى لم يخلق مثلها فى البلاد، للعمد التى تحتها من الزبرجد والياقوت وليس فى الدنيا مدينة من الزبرجد والياقوت غيرها، فلذلك قال الله تعالى: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ.
وقال كعب: إنّهم لما أتوه فأخبروه بفراغهم منها قال: انطلقوا واجعلوا عليها حصنا، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند كلّ قصر ألف علم، ويكون فى كلّ(13/65)
قصر وزير من وزرائى، ويكون كلّ علم عليه ناطور. فرجعوا فعملوا تلك القصور والأعلام والحصن؛ ثم أتوه فأخبروه بالفراغ ممّا أمرهم به.
قال: فأمر شدّاد ألف وزير من خاصّته أن يهيّئوا أسبابهم، ويعوّلوا على النقلة إلى إرم ذات العماد، وأمر رجالا أن يسكنوا تلك الأعلام ويقيموا فيها ليلهم ونهارهم، وأمر لهم بالعطاء والأرزاق، وأمر من أراد من نسائه وخدمه بالجهاز إلى إرم ذات العماد؛ فأقاموا فى جهازهم عشر سنين؛ ثم سار الملك شدّاد بن عاد بمن أراد، وتخلّف من قومه فى عدن من أمره بالمقام بها.
قال: فلمّا استقلّ وسار إليها ليسكن فيها، وبلغ منها موضعا بقى بينه وبين دخوله إليها مسيرة يوم وليلة، بعث الله تعالى عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء، فأهلكتهم جميعا، ولم يبق منهم أحد، ولم يدخل شدّاد ولا من كان معه إرم ذات العماد، ولم يقدر أحد منهم على الدخول فيها حتى الساعة.
فهذه صفة إرم ذات العماد، وأنّه سيدخلها رجل من المسلمين فى زمانك ويرى ما فيها، فيحدّث بما عاين، ولا يسمع منه ولا يصدّق. فقال معاوية:
يا أبا إسحاق، فهل تصفه لنا؟ قال: نعم، هو رجل أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج فى طلب إبل له ندّت فى تلك الصحارى فيقع على إرم ذات العماد، فيدخلها ويحمل ممّا فيها. والرجل جالس عند معاوية.
فالتفت كعب فرأى الرجل، فقال: هو هذا يا أمير المؤمنين قد دخلها، فاسأله عما حدّثتك به. فقال معاوية: يا أبا إسحاق، إنّ هذا من خدمى، ولم يفارقنى. قال كعب: قد دخلها وإلّا سوف يدخلها، وسيدخلها أهل هذا الدين فى آخر الزمان. قال معاوية: يا أبا إسحاق، لقد فضّلك الله على غيرك من العلماء(13/66)
ولقد أعطيت من علم الأوّلين والآخرين ما لم يعطه أحد. فقال: والّذى نفس كعب بيده، ما خلق الله تعالى فى الأرض شيئا إلّا وقد فسّره فى التوراة لعبده موسى تفسيرا، وإن هذا القرآن أشدّ وعيدا (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) *
والله الهادى للصواب.
قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- وقال الشعبىّ: أخبرنا دغفل الشيبانىّ عن رجل من أهل (حضرموت) يقال له: بسطام، أنه وقع على حفيرة شدّاد بن عاد فى جبل من جبال حضرموت مطلّ على البحر.
قال: وكنت أسمع من صباى إلى أن اكتهلت بمغارة فى جبل من جبالنا بحضرموت وهيبة الناس لدخولها، فلم أحتفل بما كنت أسمع من ذلك؛ فبينما أنا فى نادى قومى إذ تناشدوا حديث تلك المغارة وأطنبوا فى ذكرها ووصفوا موضعها؛ فقلت لقومى: إنى غير منته حتى أدخلها، فهل فيكم من يساعدنى؟ فقال فتى منهم حدث السنّ: أنا أصاحبك. فقلت: يابن أخى، أو تجسر على ذلك؟
قال: عندى ما عند أشدّ رجل من رباطة الجأش وشدّة القلب. فهيّأنا شمعة وحملنا معنا إداوة عظيمة مملوءة ماء وطعاما مقدار ما قدرنا على حمله؛ ثم مضينا نحو ذلك الجبل الذى فيه المغارة- وكان مشرفا على المكان الذى يركب أهل حضرموت منه البحر- فلما انتهينا إلى باب المغارة حزمنا علينا ثيابنا؛ وأشعلنا الشمعة؛ ثم ذكرنا الله تعالى، ودخلنا ومعنا تلك الإداوة وذلك الطعام، فإذا بمغارة عظيمة عرضها عشرون ذراعا، وطولها علوا نحو خمسين ذراعا؛ فمشينا فيها هونا فى طريق أملس مستو، ثم أفضينا إلى درجات عالية عرض الدرجة عشرون ذراعا فى سمك عشر أذرع، فحملنا أنفسنا على نزول تلك الدرجات فقلت لصاحبى: هلمّ، إلىّ يديك. فكنت آخذ بيده حتى ينزل، فإذا نزل وقام فى الدرجة تعلّقت بطرف الدرجة وتسيّبت حتى تنال رجلاى منكبيه؛ فلم نزل(13/67)
كذلك وذلك دأبنا عامّة يومنا، حتى نزلنا ذلك الدّرج وكانت مقدار مائة درجة؛ فأفضينا إلى أزج عظيم محفور فى الجبل، فى طول مائة ذراع، فى عرض أربعين ذراعا، وسمكه فى السماء نحو مائة ذراع، وفى صدره سرير من ذهب مفصّص بأصناف الجواهر، وفوقه رجل عظيم الجسم، قد أخذ طول هذا الأزج وعرضه وهو مضطجع على ظهره كهيئة النائم، وعليه سبعون حلّة بمقدار طوله وعرضه منسوجة تلك الحلل بقضبان الذهب والفضة، وإذا فى ذلك الأزج نقب عرضه ذراعان، وارتفاعه ثلاث أذرع، خارج إلى فضاء لم ندر ما هو، وإذا على رأس السرير لوح من ذهب، فيه كتاب بالمسند- وهو كتاب عاد كانت تكتبه فى زمانها- محفور ذلك الكتاب فى اللوح حفرا؛ فقلعناه ودنونا من الرجل فمسسنا تلك الحلل فصارت رميما، وبقيت قضبان الذهب قائمة، فجمعناها وكانت مقدار مائة رطل، فحملناها فى أزرنا، وأردنا قلع شىء من تلك الجواهر المفصّص بها السرير، فلم نقدر عليه لوثاقته، فتركناه؛ وهجم علينا الليل، ونحن فى ذلك الأزج وعرفنا ذلك بذهاب ذلك الضوء الذى كان يدخل من ذلك النّقب، فبتنا ليلتنا فى ذلك الأزج، وطفئت الشمعة التى كانت معنا؛ فلما أصبحنا قلت لصاحبى:
ما ترى؟ قال: أما الرجوع من حيث جئنا فلا سبيل إليه، لارتفاع الدّرج، وأنا لا نستطيع صعودها، لا سيّما والشمعة قد طفئت، ولكن هلّم لنلزم هذا الضوء الذى نراه فى هذا النقب، فإنى أرجو أن يخرج بنا إلى الفضاء إن شاء الله تعالى.
فقلت له: لعمرى إنّ هذا لهو الرأى.
قال: فانطلقنا بما معنا من تلك القضبان من الذهب، وحملناها مع ذلك اللوح الذهب الذى كان عند رأس السرير، ومشينا فى ذلك النّقب نتبع ذلك الضوء، فلم نزل نمشى فيه فى طريق ضيق مقدار مائة ذراع حتى خرجنا منه إلى(13/68)
كهف فى ذلك الجبل كهيئة الحائط، وقد حفّ بذلك الكهف البحر؛ فجلسنا على باب ذلك النّقب ثلاثة أيّام نتموّن بقيّة ما كان معنا من الماء والطعام؛ فلمّا كان فى اليوم الرابع نظرنا إلى مركب قد أقبل فى البحر فلوّحنا إلى من فيه، فأرسلوا إلينا القارب، فنزلنا من باب ذلك النقب نزولا شاقّا حتى وثبنا إلى القارب بما معنا، ثم خرجنا من البحر فقسمنا ذلك الذهب بيننا، وصار ذلك اللّوح إلىّ بقسطى.
قال: ثم إنّ أنفسنا دعتنا إلى العودة إلى ذلك السّرب ممّا يلى النّقب من جهة البحر، فركبنا قاربا وسرنا فى البحر نحو المكان الذى كنّا فيه، فنزلنا منه، فخفى علينا فعلمنا أنّا لم نرزق من ذلك المكان إلّا ما أخذناه، فرجعنا.
قال: ومكث ذلك اللوح عندى حولا وأنا لا أجد من يقرؤه، حتى أتانا رجل حميرىّ من أهل صنعاء كان يحسن قراءة تلك الكتابة، فأخرجت إليه اللوح فقرأه، فإذا فيه مكتوب هذه الأبيات:
اعتبر بى أيّها المغ ... رور بالعمر المديد
أنا شدّاد بن عاد ... صاحب الحصن العتيد
وأخو القوّة والبأ ... ساء والملك الشديد
وبفضل الملك والع ... دّة فيه والعديد
دان أهل الأرض طرّا ... لى من خوف وعيدى
وملكت الشرق والغر ... ب بسلطان شديد
فأتى هود وكنّا ... فى ضلال قبل هود
فدعانا- لو قبلنا ... هـ- إلى الأمر الرشيد
فعصيناه ونادي ... نا ألا هل من محيد
فأتتنا صيحة ته ... وى من الأفق البعيد(13/69)
فتوافينا كزرع ... وسط بيداء حصيد
وقد ساق أبو إسحاق الثعلبىّ أيضا هذه الأبيات بهذا السند دون القصّة فى تفسيره (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) وفيها فى البيت الرابع بدل قوله:
... طرا لى من خوف وعيدى
دان أهل الأرض لى من ... خوف وعدى ووعيدى
قال أبو إسحاق- رحمه الله- قال دغفل الشيبانىّ: سألت علماء حمير عن شدّاد بن عاد، فقلت: إنه أصيب وكان قد دنا من إرم ذات العماد، فكيف وجد شلوه فى تلك المغارة وهى بحضرموت؟ فقالوا: إنّه لمّا هلك هو ومن معه بالصيحة، ملك بعده مرثد بن شدّاد، وقد كان أبوه خلّفه على ملكه بحضرموت فأمر بحمل أبيه إلى حضرموت، فحمل مطلّيا بالصبر والكافور، فأمر أن تحفر له تلك المغارة، واستودعه فيها على ذلك السرير الذهب؛ والله تعالى أعلم.
هذا ما أورده- رحمه الله- من خبر إرم ذات العماد وخبر شديد وشدّاد بنى عاد.
وقد ذكر فى هذه الأبيات هود النبىّ- عليه السلام- فى قوله:
فأتى هود وكنّا ... فى ضلال قبل هود
الأبيات الخمسة.
وقد تقدّم فى خبر هود وهلاك عاد بالريح العقيم، أن ملكهم القائم بأمرهم فى زمن هود كان اسمه الخلجان بن الوهم بن عاد، وأنه هلك بالريح العقيم إثر هلاك قومه، ولم يرد أنّه آمن بالله تعالى؛ وهذه الأبيات تدلّ على ندم قائلها؛ ومقتضى هذا السياق فيه دلالة على أن شدّاد بن عاد هذا المذكور آنفا، وابنه مرثد بن شدّاد وخبر إرم ذات العماد، كان قبل مبعث هود- عليه السلام- والله تعالى أعلم.
ولنرجع إلى قصص الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-(13/70)
الباب السادس من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى قصة صالح- عليه السلام- مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم
قال الكسائىّ: قال كعب: لما أهلك الله- عزّ وجلّ- عادا، جاءت ثمود وعمرت الأرض، وكانوا بضع عشرة قبيلة، فى كلّ قبيلة زيادة عن سبعين ألفا سوى النساء والذرّيّة، وكثروا حتى صاروا فى عدد عاد وأكثر، وكانوا ذوى بطش وقوّة وتجبّر وكفر وفساد، وكانت منازلهم ما بين الحجاز إلى الشأم، وهى ديار الحجر من وادى القرى، وكان ملكهم جندع بن عمرو بن عاد بن ثمود بن إرم بن سام ابن نوح.
وقيل فى نسبه: إنّه جندع بن عمرّد بن عمرو بن الدّميل بن عاد بن ثمود ابن عائذ بن إرم بن سام، وكانت طائفة ممّن آمنت بهود يذكرون له كيف أهلك الله قوم عاد بالريح العقيم، وكيف كانت سيرة هود فيهم؟ فيقول: إنّما هلكت عاد لأنها لم تكن تشيّد بنيانها: ولا تنصح آلهتها، وكان بنيانهم على الأحقاف التى هى الرمال، ونحن أشدّ قوّة وبناء وبلادا، ونحن نتخذ الجبال بيوتا فننحتها فى الصخر لئلّا يكون للرّيح عليها سبيل، ونحن نعبد آلهتنا حقّ العبادة.
قال كعب: كانت قوّة الرجل منهم أن ينحت فى الجبل بيتا طوله مائة ذراع فى عرض مثل ذلك، ويضربه بصفائح الحديد، ويغلّق بابا من حديد مصمّت لا يفتحه إلّا القوىّ منهم، وكانت منازلهم أوّلا بأرض كوش فى بلاد عالج «1» ، فانتقلوا إلى هذه البلاد لكثرة جبالها.(13/71)
قال: ثم اجتمع كبراؤهم إلى ملكهم جندع، وقالوا: نريد أن نتّخذ لأنفسنا إلها نعبده، لم يكن مثله لقوم عاد ولا قوم نوح. فأذن فى ذلك، فنحتوا صنما من جبل يقال له: (الكثيب) وجعلوا وجهه كوجه الإنسان، وعنقه وصدره كالبقر ويديه ورجليه كالخيل، وضربوه بصفائح الذهب والفضّة، وعقدوا على رأسه تاجا، ورصّعوه بالدرّ والجوهر؛ فلمّا كمل خرّوا له سجّدا؛ وقرّبوا القربان، وأقبلوا إلى الملك فقالوا له: اخرج إلى هذا الإله الّذى أتعبنا أنفسنا فى اتّخاذه. فخرج الملك إليه فى زينته وأصحابه؛ فلما رأوه خرّوا له سجّدا؛ ثم أمر الملك أن يتخذ له بيت، وأن يسقّف بصفائح الذهب والفضّة، ويرصّع بالجوهر، وتفرش أرضه بالدّيباج؛ وأمر أن تتّخذ لسائر الأصنام بيوت، وأن يتخذ سرير من العاج والابنوس على عرض البيت، قوائمه من الفضّة، وأن تعلّق قناديل الفضّة بسلاسل الذهب وأمر أن يجعل للبيت مصراعان فى كلّ مصراع مائة حلقة من الذهب والفضّة ويعلّق عليهما ستران، وسمّاهما ستور العزّ، ووضع الصنم على ذلك السرير، وسائر الأصنام الصغار على كراسىّ العاج والآبنوس؛ وأمر أن يندب لخدمة الأصنام رجل من أشراف قومه وأحسنهم وأنسبهم؛ فقالوا: ليس فى ثمود أشرف نسبا وأجمل وجها من كانوه «1» . فاستدعاه وقرّبه وتوّجه وسوّده، وجعله على خدمة الأصنام؛ فقبل ذلك، وتفرّغ لخدمتها وعبادتها، وقوم ثمود يعبدون ذلك الصنم، وقد ازدادوا عتوّا وتجبّروا وكفرا وفسادا، والله تعالى يزيدهم سعة وخصبا، وهم يرون أن ذلك كلّه من بركات أصنامهم.(13/72)
ذكر ميلاد صالح- عليه السلام-
قال: فبينما كانوه «1» فى بيت الأصنام إذ تحرّكت نطفة صالح فى ظهره، وصار لها نور على عينيه، وسمع هاتفا يقول: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)
ألا بعدا وسحقا لثمود لكفرهم، وهذا صالح بن كانوه يصلح الله به الفساد.
ففزع من ذلك، وذهب ليتقدّم إلى الصنم الأكبر، فنطق بإذن الله وقال: مالى ومالك يا كانوه، مثلك يخدمنى وقد استنارت الأرض بنور وجهك للنور الذى فى ظهرك؟! ثم تنكّس الصنم عن سريره، فأعاده كانوه وأعوانه إلى السرير، وبلغ الملك ذلك، فاغتمّ له؛ فقال له أصحابه: إنّ هذا لسوء خدمة كانوه فإنّه لا يوفّى الآلهة حقّها فى الخدمة. وهمّوا بقتله، فأخفاه الله تعالى عن عيونهم؛ فلمّا كان الليل هبط عليه ملك من السماء، فاحتمله وهو نائم، وألقاه فى واد على أميال من ديار قومه وهو لا يدرى فى أى موضع هو، فنظر غارا فى جبل هناك، فدخله ليكنّه من حرّ الشمس ونام، فضرب الله على أذنه مائة سنة، وفقده قومه، ونصبوا لخدمة أصنامهم رجلا منهم يقال له: داود بن عمرو، فبينما هم كذلك وقد خرجوا فى يوم عيد لهم إذ نطقت الأشجار بإذن الله وقالت: يا آل ثمود، ألا تعتبرون، إنّ الله يخرج لكم فى السنة من الثمار مرّتين، ثم تكفرون بنعمة ربّكم وتعبدون سواه. ونطقت المواشى كذلك فعمدوا إلى الأشجار فقطّعوها، وعقروا المواشى؛ فنطقت السباع ونادت من رءوس الجبال: ويلكم يا آل ثمود، لا تقطعوا هذه الأشجار وتذبحوا هذه المواشى وقد نطقت بالحقّ. فخرجوا إلى السباع بالأسلحة وهى تهرب من بين أيديهم(13/73)
وتستغيث بالله وتقول: اللهم طهّر أرضك بنبيّك صالح، وارفع به الفساد. والقوم يسمعون ذلك ويقولون: قد كفر هؤلاء بآلهتنا.
قال: وكان لكانوه فى ديار قومه امرأة يقال لها: (رعوم) وهى كثيرة البكاء عليه منذ فقدته؛ فبينما هى ذات ليلة وإذا بغراب نعق، فقامت لتنظر إليه، فرأته على مثال الغراب، ورأسه أبيض، وظهره أخضر، وبطنه أسود وهو أحمر الرجلين والمنقار، وأخضر الجناحين؛ فقالت: أيها الطائر، ما أحسنك! فقال: أنا الغراب الّذى بعثت إلى قابيل فأريته كيف يوارى سوءة أخيه، وأنا من طيور الجنّة، وإنى أراك باكية حزينة. فقالت: إنى فقدت زوجى منذ مائة عام. فقال: اتبعينى فانّى أرشدك إليه. فتبعته، وطويت لها الطريق حتى وقفها على باب الغار، ونادى الطائر: قم يا كانوه، قم بقدرة الله. فقام ودخلت إليه زوجته، فواقعها، فحملت- بإذن الله تعالى- بصالح. وقبض الله كانوه لوقته؛ وعادت رعوم والغراب يدلّها على منزلها؛ فلما انقضت مدّة حملها، وضعت فى ليلة الجمعة من شهر المحرم، فوقعت هزّة شديدة فى بلاد ثمود لمولده، وخرّت الوحوش والسباع ساجدة لله تعالى، وأصبحت الأصنام وقد تنكّست؛ فأقبل داود وأخبر الملك بخبرها؛ فجاء بأشراف ورفعوها على مراتبها وأسرّتها، وتقدّم الملك إلى الصنم الأكبر وقال: ما دهاك؟ فناداهم إبليس منه:
قد ولد فيكم غلام يدعوكم إلى دين هود ليس عليكم منه بأس.
فخرج الملك ومن معه مستبشرين؛ ونشأ صالح، حتى إذا بلغ سبع سنين أقبل على قومه وهو يقول: يا آل ثمود، تنكرون حسبى ونسبى، أنا فلان بن فلان. فيقولون: إنك من أحسبنا وأنسبنا؟ حتى إذا بلغ عشر سنين إذا أقبل عليهم ملك من أولاد سام، كان يغزوهم(13/74)
فى كلّ سبع سنين مرّة فيسلب أموالهم؛ فوثب صالح إلى سيف أبيه وسلاحه وخرج يعدو، وإذا هو بالملك جندع وسادات قومه قد اجتمعوا، وقد انتزع الملك منهم أموالهم، وهم لا يستطيعون دفعه عنها لكثرة جموعه؛ فصاح بهم صالح صيحة أزعجتهم، وألقى الله الرعب فى قلوبهم، واستنقذ منهم جميع ما أخذوه من قومه.
فعجب جندع وأصحابه منه، وأقبلوا يقبّلون صالحا ويكرمونه؛ فخشى الملك على ملكه أن يعزلوه ويولّوا صالح بن كانوه، فهمّ أن يقتله، ودسّ إليه جماعة من خواصّه فدخلوا منزله، فأيبس الله أيديهم عنه، وأخرس ألسنتهم؛ فعلم الملك أنّه معصوم، فبعث يسأله فيهم؛ فدعالهم، فأطلق الله أيديهم والسنتهم، وبقى صالح مكرّما معظّما فى قومه.
ذكر مبعثه- عليه السلام-
قال: ولمّا أتى عليه أربعون سنة بعثه الله- عزّ وجلّ- رسولا إلى قومه؛ فجاءه جبريل بالوحى عن الله، وأمره أن يدعوهم الى قول لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ*
والإقرار بأن صالحا عبده ورسوله، وترك عبادة الأصنام، وأعلمه بما سيظهر على يديه من العجائب.
قال: فأقبل صالح إلى قومه فى يوم عيد لهم وقد نصبوا أصنامهم واجتمعوا على يمينها وشمالها، والملك جندع مشرف عليهم ينظر إليهم وإلى قربانهم؛ فتقدّم حتى وقف على الملك وقال: قد علمت نصحى لك أبدا، وقد جئتك رسولا أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّى صالح رسول الله. فقال الملك له: إن قبائل ثمود لا ترضى أن يكون مثلك رسولا إليهم، غير أنى أنظر فيما تقول، فعد إلىّ غدا.(13/75)
ثم أصبح الملك ودعا بأشراف قومه، وأحبرهم بخبر صالح؛ فقالوا: أحضره حتى نسمع ما يقول. فأحضره فقال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ
فقال له نفر منهم: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ
فقال له الملك: كيف خصّك ربّك بالرسالة من بيننا، ورفعك علينا وفى قبائل ثمود من هو أعزّ منك؟ فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ*
ثم قال: يا قوم اتقوا الله وأطيعون، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ
، أى ليّن وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ
أى حاذقين فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ* قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
قال: فأقبل الملك عليهم وقال: قد عرفتم صالحا فى حسبه ونسبه، وأنا رجل منكم؛ فما تقولون؟ وما عندكم من الرأى فى أمره؟ قالوا: أيّها الملك أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
قال الله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ.
قال: فآمن به منهم جماعة، وخرج صالح من عند الملك، فأمره الله تعالى أن يبنى مسجدا لنفسه ولمن معه من المؤمنين. فأعانته الملائكة على بنائه؛ فلمّا كمل جاءه جبريل بشجرة فغرسها على باب المسجد. وأنبع الله له عينا من الماء العذب.(13/76)
وكان صالح يخرج فى كلّ يوم إلى قبيلة من قومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى ويعظهم بأيّام عاد وما حلّ بهم فيقول الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ
فكان المستضعفون يقولون: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
والمتكبّرون يقولون: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.
ولم يزل صالح يدعوهم حتّى استكمل سبعين عاما؛ ثم أعقم الله نساءهم وجفّت أشجارهم فلم تثمر، ولم تضع لهم بقرة ولا شاة.
ثم لم يزل يدعوهم حتى استكمل مائة سنة وهم لا يزدادون إلا كفرا؛ فلمّا أيس منهم خرج يريد أن يدعو عليهم بالهلاك، وقال لقومه: لا تبرحوا حتى أعود إليكم. وقصد جبلا فطاف به حتى أمسى، فنظر إلى عين ماء، فتقدّم وتوضأ وقام ليصلّى ويدعو على قومه، فرأى فى الجبل كهفا، فدخله فرأى فيه سريرا من الذهب، عليه فرش الحرير، وفى وسط الكهف قنديل؛ فعجب من ذلك، وصعد على السرير، فضرب الله على أذنه فنام أربعين سنة؛ وأخذ قومه فى العبادة؛ فكان يموت منهم الوحد بعد الواحد، فيدفن إلى جانب المسجد، ويكتب على قبره:
«هذا فلان بن فلان» .
قال: ثم بعث الله- عزّ وجلّ- صالحا من نومته، فخرج من الكهف وتوضّأ وصلّى ركعتين، وأراد أن يدعو على قومه؛ فقيل له: لا تعجل عليهم، فإنّ عجلتك غيّبتك عن قومك أربعين سنة.
فعاد إلى قومه، وإذا برسوم وآثار لا يعرفها، وأشرف على مسجده وهو خراب ليس فيه إلّا الملائكة يحفظونه من فسّاق أهل ثمود؛ فقال: إلهى ما فعل(13/77)
أهل هذا المسجد؟ فنادته الملائكة: مات بعضهم ورجع الباقون إلى دينهم الأوّل لمّا أيسوا منك.
ثم أمره الله تعالى أن يأتى قومه ويدعوهم إلى عبادة الله والكفّ عن عبادة الأصنام؛ فأقبل وهم مجتمعون فى يوم عيدهم ومعهم ملكهم، فناداهم: قولوا (لا إله إلا الله وإنى صالح رسول الله) يا قوم إنى أرسلت إليكم مرّة وهذه أخرى.
فتحيّروا وتساقطت أصنامهم، ونطقت الدوّاب: جاء الحقّ من ربّنا. قال له الملك: من أنت؟ قال: أنا صالح. قال: أليس قد بقى صالح فينا طويلا وغاب عنّا منذ مدّة طويلة؟ ما أنت إلّا ساحر جئتنا بعده. وهمّ بقتله.
وكان للملك ابن عمّ يقال له: هذيل، فقال: يا صالح، لا نحتاج إلى نصحك فانصرف عنّا. فقال: يا هذا أما إنك ميت فى يومك هذا أنت وأهلك وولدك فى وقت كذا وكذا، وفى غد يموت أبوك وأمّك، فبادر إلى الإيمان، فإن آمنت أحياك الله وجعلك حجّة على قبائل ثمود.
فانصرف الرجل وهم ينظرون إلى الوقت الذى ذكره صالح؛ فلما جاء الوقت مات الرجل وأهله وولده، وانتشر الخبر فى قبائل ثمود، ومات أبوه وأمّه من الغد؛ فعجب الناس وجزعوا، وخاف الملك.
وأقبل صالح فقال: يا آل ثمود، كيف كان هذا الميّت عندكم؟ قالوا: خير رجل حتى مات. قال: فإن أحياه الله بدعائى، أتؤمنون بى وبإلهى وتبرأون من أصنامكم؟ قالوا: نعم. فجاء صالح إلى الميت فدعا ربّه، ثم ناداه باسمه فقال: لبّيك يا نبىّ الله، وقام وهو يقول: (لا إله إلا الله صالح عبد الله ورسوله) .(13/78)
فلما عاين قومه ذلك ازدادوا كفرا، ودخلوا على صنمهم وشكوا ما يلقونه من صالح؛ فنطق إبليس من جوفه وقال: انصرفوا إلى ما أنتم عليه؛ وإذا رأيتم صالحا فقولوا: ائتنا ببرهان كما أتى به هود ونوح.
فخرجوا مسرورين حتى أتوا صالحا، فقال لهم: قد رأيتم وسمعتم كلام الوحش والطير وإحياء الموتى وغير ذلك من الآيات ما فيه كفاية، فأىّ آية تريدون؟
قالوا: نخرج نحن وأنت إلى هذا الوادى، وندعو وتدعو، وننظر أىّ الدعوتين تستجاب؛ وتواعدوا إلى يوم عيدهم.
فلمّا كان فى ذلك اليوم اجتمعوا وخرجوا بأصنامهم وزينتهم؛ وأقبل صالح يخترق صفوفهم؛ حتّى وقف أمام ملكهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله. قالوا: أرنا آية. قال: ما تريدون؟ قالوا: اخرج لنا ناقة من هذه الصخرة ونؤمن بك ونعلم أنّك صادق. قال: إنّ ذلك هيّن على ربّى، ولكن صفوها لى.
فأقبل القوم يصف كلّ منهم صفة حتى أكثروا. فقال الملك: إنّ هؤلاء قد أكثروا وأنا أصفها بما فى قلبى: تكون ناقة ذات فرث ودم ولحم وعظم وعصب وعروق وجلد وشعر يخالطه وبر، وتكون شكلاء «1» شقراء هيفاء، ولها ضرع كأكبر ما يكون من القلال، يدرّ من غير أن يستدرّ، يشخب لبنا غزيرا صافيا، ويكون لها فصيل يتبعها على مثالها، فإذا رغت أجابها بمثل رغائها، ويكون حنينها الإخلاص لربّك بالتوحيد، والإقرار لك بالنبوّة، فإن أخرجتها على هذه الصفة آمنّا.
فأوحى الله إليه: أن أعطهم ما سألوا. فقال لقومه: إن الله قد شفّعنى فى حاجتكم، فإن أخرجتها تؤمنون؟ قالوا: نعم، على شرط أن يكون لبنها ألذّ(13/79)
من الخمر وأحلى من العسل. قال: إن أخرجها ربّى تؤمنون؟ قالوا: نعم على شرط أن يكون لبنها فى الصيف باردا، وفى الشتاء حارّا، لا يشربه مريض إلّا برئ، ولا فقير إلّا استغنى. قال: إن أخرجها ربّى أتؤمنون؟ قالوا: نعم، على شرط ألّا ترعى من مراعينا، بل فى رءوس الجبال وبطون الأودية، وتذر ما على الأرض لمواشينا، قال: إن أخرجها ربّى أتؤمنون؟ قالوا: نعم، على شرط أن يكون الماء لنا يوما ولها يوما، ولا يفوتنا اللّبن، وتدخل علينا بالعشيّات فى بيوتنا وتسمّى كلّ واحد منّا باسمه، وتنادى: «ألا من أراد اللّبن» ؟ فيخرج ويضع ما يريد تحت ضرعها، فيمتلئ لبنا من غير احتلاب. قال أتؤمنون حقيقة؟ قالوا:
نعم. قال صالح: قد شرطتم شرائط كثيرة، وأنا أشترط عليكم: لا يركبها أحد منكم، ولا يرميها بحجر ولا سهم، ولا يمنعها من شربها ولا فصيلها.
قالوا: هذا لك يا صالح. فأخذ عليهم المواثيق.
ذكر خروج الناقة
قال: فلمّا انتهت شروطهم وشروطه، وأخذ عليهم المواثيق، قام وصلّى ركعتين، ودعا، فاضطربت الصخرة وتمخّضت، وتفجّر من أصولها الماء، والقوم ينظرون، وسمعوا دويّا كدوىّ الرعد، فرفعوا رءوسهم، فإذا بقبّة تنقضّ من الهواء فانحدرت على الصخرة وحولها الملائكة؛ ثم تقدّم صالح إلى الصخرة فضربها بقضيب كان بيده، فاضطربت وتشامخت صعدا؛ ثم تطامنت إلى موضعها؛ ثم خرج رأس ووثبت من جوفها على الصفة كأنّها قطعة جبل، فوقفت بين يدى الملك وقومه وهى أحسن ممّا وصفوا، وهى تنادى: (لا إله إلا الله، صالح رسول الله) .
ثم مر جبريل على بطنها بحربة، فخرج فصيلها على لونها.(13/80)
ثم نادت: «أنا ناقة ربّى، فسبحان من خلقنى وجعلنى آية من آياته الكبرى» .
فلما رأى الملك ذلك قام عن سريره وقبّل رأس صالح، وقال: يا معشر قبائل ثمود، لا عمى بعد الهدى، أنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن صالحا رسول الله.
وآمن معه فى ذلك اليوم خلق كثير من أهل مملكته وغيرهم؛ فلمّا رأى داود خادم الأصنام ذلك نادى بصوت رفيع: يا آل ثمود، ما أسرع ما صبوتم إلى هذا الساحر، إن كانت الناقة قد أعجبتكم فهلّموا إلى آلهتكم فسلوها حتى تخرج لكم أحسن منها.
فوقفوا عن الإيمان، وعمدوا إلى شهاب أخ الملك، فملّكوه عليهم؛ ودخل جندع المدينة فكسر الصنم الذى كان يعبده، وفرّق أمواله على المؤمنين، ولبس الصوف، وعبد الله حقّ عبادته، وكانت الناقة تتّبع صالحا كاتّباع الفصيل لأمّه؛ فلمّا كان بعد ذلك أقبلت ثمود على صالح، وقالوا: إن لم نمسّ الناقة بسوء يصرف ربّك عنّا عذابه؟ قال: نعم، إلى منتهى آجالكم. وكانت الناقة تخرج وفصيلها خلفها، فتصعد إلى رءوس الجبال، ولا تمرّ بشجرة إلّا التفّت عليها أغصانها فتأكل أطايب أوراقها؛ ثم تهبط إلى الأودية فترعى هناك، فإذا أمست تدخل المدينة وتطوف على دور أهلها، وتنادى بلسان فصيح: ألا من أراد منكم اللّبن فليخرج.
فيخرجون بآنيتهم، فيضعونها تحت ضرعها، واللّبن يشخب حتى تمتلئ الآنية؛ فإذا اكتفوا عادت إلى المسجد، وتسبّح الله حتى تصبح؛ ثم تخرج إلى المرعى وهذا دأبها.
قال: وكان للقوم بئر يشربون منها ليس لهم سواها، فإذا كان يوم الناقة تأتى وتدلّى رأسها فتشربه وتقول: «الحمد لله الذى سقانى من فضل مائه، وجعلنى حجّة على آل ثمود» .(13/81)
وكانت تمجّ من فيها إلى فم الفصيل حتّى يروى؛ فإذا كان يوم القوم أتوا البئر ونزحوا ما فيها؛ وكانت الناقة تقول إذا أصبحت: إلهى كلّ من شرب من لبنى وآمن بك وبرسولك فزده إيمانا ويقينا، ومن لم يؤمن بك وبرسولك فاجعل ما يشرب من لبنى فى بطنه داء لا دواء إنّك على كلّ شىء قدير.
ذكر خبر عقر الناقة وهلاك ثمود
قال: فلما كانت تدعو بذلك صار القوم إذا شربوا لبنها اعترتهم الحكّة فى أبدانهم؛ فاجتمعوا وقالوا: ليس لنا فى هذه من خير؛ وأجمعوا على عقرها؛ وكانت فيهم امرأة يقال لها: عنيزة بنت غنم بن مجلز «1» ، وتكنى أمّ غنم، وهى من بنات عبيد «2» بن المهل، وكانت امرأة ذؤاب «3» بن عمرو، وهى عجوز مسنّة، ولها أموال ومواش، ولها أربع بنات من أجمل النساء، وبجوارها امرأة يقال لها: صدوف بنت المحيّا بن فهر، ولها أيضا مواش كثيرة؛ فدعتا قومهما إلى عقر الناقة، فلم يجيبوهما إلى ذلك؛ فبينما صدوف كذلك إذ مرّ بها رجل يقال له الحباب «4» - وكان مولعا بالنساء- فعرضت نفسها عليه على أن يعقر الناقة؛ فامتنع، فقالت له:
لقد جبن قلبك، وقصرت يدك. وتركته؛ وأقبلت على ابن عمّ لها يقال له:
مصدع «5» فكشفت عن وجهها، وعرضت نفسها عليه على أن يصدقها عقر الناقة؛ فأجاب. وأقبلت صدوف إلى عنيزة فأخبرتها بذلك، ففرحت به. قالت: إلّا أنه منفرد، ولكن قومى إلى عزيز ثمود قدار، فإنه شابّ لم يتزوّج، فاعرضى عليه بناتك(13/82)
لعلّه يفعل؛ ففعلت عنيزة ذلك، وزيّنت بناتها، وأقبلت بهنّ إلى قدار، وكان أقبح رجل فى ثمود، وكان فى عينيه زرقة، وكأنّهما عدستان، وأنفه أفطس ولحيته بطوله، غير أنه كان يمرّ بالشجرة العظيمة فينطحها برأسه فيكسرها؛ فلمّا رأته عنيزة رجعت ببناتها إلى صدوف، وقالت: من تطيب نفسه أن يزوّج مثل هؤلاء من هذا؟ فلم تزل بها حتى رجعت بهنّ إليه، وعرضتهنّ عليه؛ فاختار منهنّ (الرّباب) ، وأجاب إلى عقر الناقة، واجتمع إليه «مصدع وأخوه «1» ورعين «2» وداود خادم الأصنام وريّان ولبيد والمصرد وهزيل «3» ومفرّج «4» » فهؤلاء التسعة الذين ذكرهم الله فى كتابه، قال الله تعالى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ.
فطافوا بأجمعهم على قبائل ثمود وأعلموهم بما أجمعوا عليه من عقر الناقة؛ فرضى بذلك كبيرهم وصغيرهم، واجتمع هؤلاء التسعة بسيوفهم وقسيّهم، وذلك فى يوم الأربعاء، وقعدوا ينتظرون الناقة، فأقبلت حتى قربت من البئر؛ فنادت عنيزة:
يا قدار، اليوم يومك، فأنت السيّد فى قومك. قال الله: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ.
قال: فشدّ قدار قوسه ورماها بسهم فأصاب لبّتها، وهو أوّل من رماها، ثم مصدع، وأقبلوا عليها بالسيوف فقطّعوها، وأنذرت فصيلها، فهرب إلى رأس جبل، ودعا باللّعنة على ثمود، فأتبعه القوم وعقروه، وتقاسموا لحمه.(13/83)
وحكى الثعلبىّ فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) : أنّ الفصيل لمّا عقرت الناقة أتى جبلا منيعا يقال له: صور «1» . وقيل: اسمه فاره؛ وأن صالحا لمّا بلغه عقر الناقة أقبل إلى قومه، فخرجوا يتلقّونه ويعتذرون إليه ويقولون: إنّما عقرها فلان وفلان، ولا ذنب لنا.
فقال لهم صالح: أنظروا، هل تدركون فصيلها؟ فعسى أن تدركوه فيرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله تعالى إلى الجبل أن يتطاول؛ فتطاول فى السماء حتى ما يناله الطير؛ وجاء صالح، فلمّا رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه؛ ثم دعا ثلاثا فانفرجت الصخرة حتّى دخلها؛ فقال صالح: بكلّ دعوة أجل يوم فتمتّعوا فى داركم ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب.
نرجع إلى رواية الكسائىّ، قال: وصاح قدار بأصحابه: هلمّوا. فقدموا فأمرهم أن يقطّعوا لحم الناقة؛ فقطّعوا وطبخوا وقعدوا للأكل والشرب، وصالح لا يعلم بذلك، فنادته الوحوش: يا صالح، هتكت ثمود حرمة ربّها، وتعدّوا أمره.
فأقبل بالمؤمنين من قومه؛ فلمّا رآها بكى وقال: إلهى أسألك أن تنزل على ثمود عذابا من عندك.
فأوحى الله إليه: أن أنذر قومك بالعذاب. فبشّرهم بعذاب الله. فقالوا له: افعل ما بدا لك، فقد عقرناها، وقد أنذرت بالعذاب منذ بعيد وما نرى له أثرا. فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
. وبات القوم ليلتهم، فلمّا أصبحوا تفجّرت آثار وطء الناقة بعيون الدم، وظهرت الصفرة فى ألوانهم؛ فقالوا: يا صالح، ما هذا التغيّر فى ألواننا وبلادنا؟ قال:(13/84)
غضب ربّكم عليكم. فأجمعوا على قتله، وقالوا: إذا قتلناه امتنع عنّا سحره ولا تمكنه الإساءة إلينا. فتقدّم التسعة لقتله عند ما أقبل الليل، فوقف لهم جبريل ورمى كلّ واحد منهم بحجر فقتله.
فلمّا كان من الغد نظرت ثمود إليهم وقد قتلوا، فقالوا: هذا من فعل صالح.
فعزموا على الهجوم عليه وقتله، فأمره الله تعالى بالخروج من المسجد، فجاءوا ليقتلوه فما رأوه، وأصبحوا فى اليوم الثانى وقد أحمرّت وجوههم، وفى اليوم الثالث اسودّت، فأيقنوا بعذاب الله، وحفروا لأنفسهم حفائر، ولأهليهم وأولادهم ولبسوا الأنطاع، وجلسوا فى الحفائر ينتظرون العذاب، وصالح يخوّفهم وينذرهم عذاب الله وهم لا يبالون به.
فلما كان فى اليوم الرابع- وهو صبيحة الأحد- أرسل الله تعالى جبريل فنشر جناح غضبه، وأتاهم بشرارة من نار لظى، وجعل يرميهم منها بجمر متوهّج كأمثال الجبال، وثمود باركة فى حفائرها.
وأخذ جبريل بتخوم الأرض، فزلزلت بيوتهم وقصورهم، ثم نشر جناح غضبه على ديار ثمود، وصاح صيحة، فكانوا كما قال الله تعالى: فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ.
ثم أقبلت سحابة سوداء على ديارهم، فرمتهم بوهج الحريق سبعة أيّام حتّى صاروا رمادا.
فلمّا كان فى اليوم الثامن انجلت السحابة وطلعت الشمس، وجاء صالح بمن معه من المؤمنين، فطاف بديارهم، واحتملوا ما قدروا عليه من أموالهم وارتحل بقومه إلى أرض الشأم، فنزل بأرض فلسطين، وأقام- عليه السلام- حتى مات.(13/85)
الباب السابع من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى أخبار أصحاب البئر المعطّلة والقصر المشيد وما كان من أمرهم وهلاكهم
قال الكسائىّ: قال كعب: لمّا قبض الله تعالى نبيّه صالحا عليه السلام بأرض فلسطين، خرج أصحابه إلى بلاد اليمن فتفرّقوا فرقتين: فنزلت إحداهما بأرض عدن، وهم أصحاب البئر المعطّلة، والثانية صارت إلى (حضرموت) (والقصر المشيد) وهو قبل البئر؛ والذى بناه رجل يقال له: جند بن عاد، وذلك لأنه رأى ما نزل بقوم هود من الريح، فعزم على بناء قصر مشيد، فبالغ فى تشييده، وانتقل إليه، وكان له قوّة عظيمة، فكان يقتلع الشجرة، ويمرّ بيده فى الجبل فيخرقه وكان مولعا بالنساء، فتزوّج زيادة عن سبعمائة امرأة، ورزق من كلّ أمرأة ذكرا وأنثى؛ فلمّا كثر ولده وقومه طغى فى الأرض وتجبّر، وكان يقعد فى أعلى قصره مع نسائه فلا يمرّ به أحد إلّا أمر بقتله؛ فلمّا كثر فساده أهلكه الله بصيحة جبريل جاءته من قبل السماء فأهلكته هو وأولاده وقومه.
قال الكسائىّ: ولا يجسر أحد أن يدخل إلى القصر ممّا نزل بسكّانه.
قال: ويقال: إنّ فيه حيّة عظيمة، وإنّه يسمع من داخله أنين كأنين المريض.
وأما البئر المعطّلة- فهى بأرض عدن، وكان أهلها على دين صالح، وكان المطر ينقطع عنهم فى بعض الأوقات حتّى يبلغ بهم الجهد، فيحملون الماء من بلد بعيد، فأعطاهم الله تعالى هذه البئر على ألّا يشركوا به شيئا، ويعبدوه حقّ عبادته وكانوا معجبين بها، قد بنوها بألوان الصخور، وبنوا حولها حياضا بعدد قبائلهم؛ وكان لهم ملك يسوسهم، فلما مات حزنوا عليه حزنا عظيما؛ فأقبل عليهم إبليس وقال:(13/86)
ما بالكم بهذا الحزن؟ قالوا: كيف لا نكون كذلك وقد فقدنا ملكنا مع إحسانه إلينا. قال: إنّه لم يمت، ولكنّه احتجب عنكم لغضبه عليكم، ولكونكم لم تعبدوه.
وانطلق إبليس فآتخذ لهم صنما على صورة الملك، ونصبه على سريره، وقال:
هلمّوا إلى الملك فاسمعوا كلامه.
فأقبلوا حتى وقفوا من وراء السّتر، ووقف إبليس فى جوف الصنم شيطانا يكلّمهم بلغة لا ينكرون أنّها لغة الملك؛ ثم قال إبليس: استمعوا. فكلّمهم الشيطان من الصنم وقال: يا آل ثمود، مالى أراكم تبكون؟ قالوا: لفقدك. قال: قد كذبتم، لو كنتم تحبّوننى كما تقولون كنتم عبدتمونى، وقد كنت فيكم أربعمائة سنة ما فيكم من سجد لى سجدة واحدة، والآن فقد ألبسنى ربّى ثوب الألوهيّة، فصيّرنى فيكم لا آكل ولا أشرب، ولا أنام، وأخبركم بالغيوب، فاعبدونى وسمّونى ربّا، فإنى أقربكم إلى ربّى زلفى.
قالوا: يأيها الملك، فلو رأينا وجهك. فرفع إبليس الحجاب حتى رأوه فلم ينكروا من صفاته شيئا، فخرّوا له سجّدا، واتخذوه ربّا؛ وكان فيهم رجل من خيار قوم صالح اسمه حنظلة بن صفوان، ففارقهم ولحق بالحرم، وعبد الله حينا فرأى فى منامه قائلا يقول له: قد أمرك ربّك أن تصير إلى قومك وتحذّرهم عذابه إن لم يرجعوا عن عبادة الأصنام، وتذكّرهم العهود فى البئر، وإن لم يؤمنوا غار ماء البئر حتى يموتوا عطشا.
فآنتبه وخرج من ساعته حتى أتى قومه، فأنذرهم ووعظهم، فهمّوا بقتله فعطّل الله تعالى بئرهم حتّى لم يجدوا فيها قطرة، فأتوا إلى صنمهم فلم يكلّمهم، وأتتهم صيحة من السماء، فهلكوا عن آخرهم.
ويقال: إنّ سليمان صفّد شياطين وحبسهم بهذه البئر؛ والله أعلم.(13/87)
الباب الثامن من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى خبر أصحاب الرّس وما كان من أمرهم
قال الكسائىّ: قال كعب: إنّ أصحاب الرّس كانوا بحضرموت، وكانوا كثيرا، فبنوا هناك مدينة كانت أربعين ميلا فى مثل ذلك، فاحتفروا لها القنوات من تحت الأرض، وسمّوها رسّا، وكان ذلك أيضا اسم ملكهم؛ فأقاموا فى بلدهم دهرا طويلا يعبدون الله تعالى حقّ عبادته؛ ثم تغيّروا عن ذلك وعبدوا الأصنام وكان ممّا أحدثوه إتيان النساء فى أدبارهنّ والمبادلة بهنّ، فكان كلّ منهم يبعث بآمرأته إلى الآخر، فشقّ ذلك على النساء، فأتاهنّ إبليس فى صورة امرأة وعلّمهن السّحاق ففعلنه، وهم أوّل من أتى النساء فى أدبارهنّ وساحق؛ فاشتهرت هذه القبائح فيهم.
فبعث الله إليهم رسولا اسمه حنظلة. وقيل: خالد بن سنان. وقيل:
ابن صفوان. فدعاهم إلى طاعة الله، ونهاهم عن عبادة الأصنام وفعل القبائح وحذّرهم وذكّرهم ما حلّ بمن قبلهم من الأمم؛ فكذّبوه؛ فوعظهم دهرا طويلا وهم لا يرجعون، فضربهم الله بالقحط، فقتلوا نبيّهم وأحرقوه بالنار؛ فصاح بهم جبريل صيحة فصاروا حجارة سودا، وخسفت مدينتهم.
وقيل: إن هذه المدينة لم يرها إلّا ذو القرنين، وإنّه رآهم حجارة، ورأى النساء ملتصقات بعضهنّ ببعض، ورأى الملوك على الأسرّة وبين أيديهم الجنود قائمة، بأيديهم الأعمدة والأسلحة، وقد صاروا كلّهم حجارة سودا.
هذا ما حكاه الكسائىّ.
وقال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- قال سعيد بن جبير والكلبىّ والخليل بن أحمد- دخل كلام بعضهم فى بعض، وكلّ قد أخبر بطائفة من حديث(13/88)
أصحاب الرسّ: أنّهم بقيّة ثمود وقوم صالح، وهم أصحاب البئر التى ذكرها الله تعالى فى كتابه وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ.
قال: وكانوا بفلج اليمامة نزولا على تلك البئر.
وكلّ ركيّة لم تطو بالحجارة والآجرّ فهى رسّ؛ وكان لهم نبىّ يقال له: (حنظلة ابن صفوان) . وكان بأرضهم جبل يقال له: (فلج) مصعد فى السماء ميلا وكانت العنقاء تأتيه، وهى أعظم ما يكون من الطير، وفيها من كلّ لون، وسمّوها العنقاء لطول عنقها، وكانت تكون فى ذلك الجبل وتنقضّ على الطير فتأكلها فجاعت ذات يوم وأعوزها الطير، فانقضّت على صبىّ فذهبت به، فسميّت عنقاء مغرب، لأنّها تغرب بما تأخذه وتذهب به، ثم انقضّت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمّتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين، فشكوا ذلك إلى نبيّهم؛ فقال: اللهم خذها واقطع نسلها، وسلّط عليها آفة تذهب بها.
فأصابتها صاعقة فآحترقت، فلم ير لها أثر بعد ذلك.
قال: ثم إنّ أصحاب الرسّ قتلوا نبيّهم، فأهلكهم الله تعالى.
قال الثعلبىّ: وقال بعض العلماء: بلغنى أنّه كان رسّان: أمّا أحدهما فكان أهله أهل بذر وعمود، وأصحاب غنم ومواش، فبعث الله إليهم نبيّا فقتلوه، ثم بعث الله رسولا آخر وعضّده بولىّ، فقتلوا الرسول، وجاهدهم الولىّ حتى أفحمهم؛ وكانوا يقولون: إلهنا فى البحر. وكانوا على شفير البحر؛ وكان يخرج إليهم من البحر شيطان فى كلّ شهر خرجة فيذبحون عنده، ويتّخذون ذلك اليوم عيدا؛ فقال لهم الولىّ: أرأيتم إن خرج إلهكم الّذى تدعونه وتعبدونه إلىّ وأطاعنى أتجيبونى إلى ما دعوتكم إليه؟ قالوا: بلى. وأعطوه على ذلك العهود والمواثيق، فانتظر حتى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكبا على أربعة أحوات، وله عنق(13/89)
منقلب، وعلى رأسه مثل التاج؛ فلمّا نظروا إليه خرّوا سجّدا؛ وخرج الولىّ إليه وقال: ائتنى طوعا أو كرها باسم الله الكريم.
فنزل عند ذلك عن أحواته؛ فقال له الولىّ: ائتنى راكبا لئلا يكون القوم فى شكّ. فأتى الحوت وأتت به الحيتان حتى أفضوا إلى البرّ يجرّونه ويجرّهم؛ ثم كذّبوه بعد ما رأوا ذلك، ونقضوا العهود؛ فأرسل الله تعالى عليهم ريحا تقذفهم فى البحر ومواشيهم وما كانوا يملكون من ذهب وفضّة وآنية؛ فأتى الولى الصالح إلى البحر حتّى أخذ التّبر والفضّة والأوانى، فقسمها على أصحابه بالسويّة على الصغير والكبير، وانقطع ذلك النسل.
وأمّا الرسّ الآخر
- فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ، وذلك النهر بمنقطع أذربيجان، بينهما رسّ أرمينية، فإذا قطعته مدبرا دخلت فى حدّ أرمينية وإذا قطعته مقبلا دخلت فى حدّ أذربيجان، وكان من حولهم من أهل أرمينية يعبدون الأوثان، ومن قدّامهم من أهل أذربيجان يعبدون النيران، وكانوا هم يعبدون الجوارى العذارى، فإذا تمّت لإحداهنّ ثلاثون سنة قتلوها واستبدلوا غيرها، وكان عرض نهرهم ثلاثة فراسخ، وكان يرتفع فى كلّ يوم وليلة حتّى يبلغ أنصاف الجبال الّتى حوله، ولا ينصبّ فى برّ ولا بحر، وإذا خرج من حدّهم يقف ويدور ثم يرجع إليهم، فبعث الله إليهم ثلاثين نبيّا فى شهر واحد، فقتلوهم جميعا فبعث الله إليهم نبيّا وأيّده بنصره، وبعث معه وليّا، فجاهدهم فى الله حقّ جهاده.
ثم بعث الله تعالى ميكائيل حين نابذوه- وكان ذلك فى أوان وقوع الحبّ فى الزرع، وكانوا إذ ذاك من أحوج ما يكون إلى الماء- فبحر «1» نهرهم فى البحر(13/90)
فانصبّ ما فى أسفله، وأمّا عيونه من فوق فسدّها، ثم بعث الله تعالى خمسائة ألف ملك من الملائكة أعوانا له، ففرّغوا ما بقى فى نهرهم.
ثم أمر الله تعالى جبريل فنزل فلم يدع فى أرضهم عينا ولا نهرا إلّا أيبسه بإذن الله تعالى.
وأمر ملك الموت فانطلق إلى المواشى فأماتها فى ربضة واحدة.
وأمر الرياح الأربع: الجنوب والشمال والدّبور والصّبا فضمّت ما كان لهم من متاع، وألقى الله تعالى عليهم السّبات.
ثم خفقت الرياح الأربع بذلك المتاع أجمع فشتّتته فى رءوس الجبال وبطون الأودية.
وأمر الله الأرض فابتلعت ما كان لهم من حلىّ وتبر وآنية؛ فأصبحوا لا ماشية عندهم ولا بقر ولا مال يرجعون إليه ولا ماء يشربون ولا طعام يأكلون، فآمن بالله تعالى عند ذلك قليل منهم، وهداهم الله تعالى إلى غار فى الجبل له طريق إلى خلفه، فنجوا، وكانوا أحدا وعشرين رجلا وأربع نسوة وصبيّين، وكان عدّة الباقين من الرجال والنساء والذرارىّ ستّمائة ألف، فماتوا عطشا وجوعا، ولم تبق منهم باقية.
ثم عاد القوم إلى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها، فدعا القوم عند ذلك مخلصين أن يحييهم الله تعالى بماء وزرع وماشية، وأن يجعل ذلك قليلا لئلّا يطغوا. فأجابهم الله تعالى إلى ذلك، وأطلق لهم نهرهم، وزادهم على ما سألوه.
فأقام أولئك القوم على طاعة الله تعالى باطنا وظاهرا حتى مضوا وانقرضوا؛ فحدث من بعدهم من نسلهم قوم أطاعوا الله تعالى فى الظاهر، ونافقوا فى الباطن؛(13/91)
وأملى الله تعالى لهم، ثم بعث الله عليهم عدوّهم ممّن قاربهم وخالفهم، فأسرع فيهم القتل، وبقيت منهم شرذمة، فسلّط الله عليها الطاعون، فلم يبق منهم باقية وبقى نهرهم ومنازلهم مائتى عام لا يسكنها أحد.
ثم أتى الله بعد ذلك بقرن فنزلوها وكانوا صالحين سنين، ثم أحدثوا فاحشة وجعل الرجل منهم يدعو ابنته وأخته وزوجته فيلقى بهنّ جاره وأخاه وصديقه يلتمس بذلك البرّ والصلة؛ ثم ارتفعوا عن ذلك إلى نوع آخر، ترك الرجال النساء حتى شبقن، واشتغلن عن الرجال، فجاءت النساء شيطانة فى صورة امرأة- وهى الولهانة بنت إبليس- فشبّهت للنساء ركوب بعضهن بعضا؛ وعلمتهنّ كيف يصنعن؛ فأصل ركوب النساء النساء منها؛ فسلّط الله تعالى على ذلك القرن صاعقة من أوّل ليلتهم، وخسفا فى آخر اللّيل، وصيحة مع الشمس، فلم تبق منهم باقية وبادت مساكنهم.
قال الثعلبىّ: ولا أحسب مساكنهم اليوم مسكونة.
وقال أبو إسحاق الثعلبىّ أيضا: وروى علىّ بن الحسين زين العابدين عن أبيه الحسين بن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنهم- أن رجلا من أشراف بنى تميم يقال له: عمرو، أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنى عن أصحاب الرس وأى عصر كانوا فيه؟ وأين كانت منازلهم؟ ومن كان ملكهم؟ وهل بعث الله تعالى إليهم رسولا أو لا؟ وبماذا هلكوا؟ فإنّى أجد فى كتاب الله تعالى ذكرهم ولا أجد خبرهم.
فقال له: لقد سألتنى عن حديث ما سألنى عنه أحد قبلك، ولا يحدّثك به أحد بعدى.(13/92)
كان من قصّتهم يا أخا تميم أنهم كانوا يعبدون شجرة صنوبر يقال لها:
ساب درحب «1» ، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها: دوسات «2» كانت أنبطت لنوح بعد الطوفان، وكان لهم اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرّس من بلاد المشرق، ولم يكن يومئذ فى الأرض نهر أغزر ولا أعذب منه ولا قرى أكثر سكّانا وعمرانا منها؛ وذلك قبل سليمان بن داود، وكان من أعظم مدائنهم اسفيدبا «3» ، وهى التى كان ينزلها ملكهم، وكان يسمّى بركون «4» بن عابور بن بلوش بن سارب بن النّمروذ بن كنعان، وفيها العين والصّنوبرة، وقد غرسوا فى كلّ عين حبّة من تلك الصنوبرة، فنبتت الحبّة وصارت شجرة عظيمة، وحرّموا ماء تلك العيون والأنهار، لا يشربون منها ولا أنعامهم، ومن فعل ذلك منهم قتلوه ويقولون: هى مياه آلهتنا، ولا ينبغى لأحد أن ينقص من حياتها، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرسّ الّذى عليه قراهم؛ وقد جعلوا فى كلّ شهر من السنة فى كلّ قرية عيدا يجتمع أهلها ويضربون على تلك الشجرة مظلّة من الحرير، فيها من أصناف الصّور؛ ثم يأتون بشياه وبقر فيذبحونها قربانا للشجرة، ويشعلون فيها النيران، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتارها وبخارها فى الهواء، وحال بينهم وبين النظر إلى السماء، خرّوا سجّدا، ويتلون ويتضرّعون إليها أن ترضى عنهم.
وكان الشيطان يجىء فيحرّك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبىّ: عبادى قد رضيت عنكم، فطيبوا نفسا، وقرّوا عينا. فيرفعون عند ذلك رءوسهم، ويشربون الخمر، ويضربون بالمعازف؛ فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم، ثم ينصرفون؛ حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى، اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم، فضربوا عند الصّنوبرة(13/93)
والعين سرادقا من ديباج، عليه من أنواع الصّور، له اثنا عشر بابا، كلّ باب لأهل قرية منهم؛ ويسجدون للصنوبرة خارجا من السرادق، ويقرّبون لها الذبائح أضعاف ما يقرّبون للأشجار الّتى فى قراهم؛ فيجىء إبليس عند ذلك فيحرّك الشجرة تحريكا شديدا، ويتكلّم من جوفها كلاما جهرا، ويعدهم ويمنّيهم بأكثر ممّا وعدهم به الشياطين كلّهم؛ فيرفعون رءوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون ولا يتكلّمون [معه] ؛ فيداومون الشرب والعزف، فيكونون على ذلك اثنى عشر يوما بلياليها بعدد أعيادهم فى السنة؛ ثم ينصرفون؛ فلما طال كفرهم بالله تعالى وعبادتهم غيره، بعث الله إليهم نبيّا من بنى إسرائيل من ولد يهوذ بن يعقوب، فلبث فيهم زمنا طويلا يدعوهم إلى الله تعالى، ويعرّفهم ربوبيّته؛ فلا يتّبعونه ولا يسمعون مقالته؛ فلما رأى شدّة تماديهم فى البغى والضلالة وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح، وحضر عيد قريتهم العظمى قال: يا ربّ إنّ عبادك أبوا تصديقى ودعوتى لهم، فما زادوا إلّا تكذيبى والكفر بك، وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضرّ، فأيبس شجرهم أجمع، وأرهم قدرتك وسلطانك.
فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كلّه، فها لهم ذلك وتضعضعوا، فصاروا فرقتين: فرقة قالت: سحر هذا الرجل الّذى زعم أنّه رسول ربّ السماء، ألهاكم ليصرف وجوهكم عنها إلى إلهه؛ وفرقة قالت: بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيها، ويدعوكم إلى عبادة غيرها، فحجبت حسنها وبهاءها لكى تغضبوا لها، فتنتصروا منه.
فأجمعوا رأيهم على قتله، فاتخذوا مثال بئر، واتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثم أرسلوها إلى قرار العين واحدة فوق الأخرى مثل البرانج، ونزحوا(13/94)
ماء العين، ثم حفروا فى قرارها بئرا ضيّقة المدخل عميقة، وأرسلوا فيها نبيّهم، وألقوا عليه فيها صخرة عظيمة؛ ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا: الآن نرجو رضا آلهتنا عنّا إذا رأت أنا قد قتلنا من كان يقع فيها، ويصدّ عن عبادتها.
فبقوا عامّة يومهم يسمعون أنين نبيّهم، وهو يقول: سيّدى، ترى ضيق مكانى وشدّة كربى، فارحم ضعف ركنى وقلّة حيلتى، وعجّل قبض روحى ولا تؤخّر إجابة دعوتى. حتى مات عليه السلام.
فقال الله تعالى لجبريل: انظر عبادى هؤلاء الّذين غرّهم حلمى، وأمنوا مكرى، وعبدوا غيرى، وقتلوا رسولى؛ وأنا المنتقم ممّن عصانى ولم يخش عذابى وإنّى حلفت بعزّتى لأجعلنّهم عبرة ونكالا للعالمين.
فبينما هم فى عيدهم إذ غشيتهم ريح عاصف حمراء، فتحيّروا وذعروا منها وانضمّ بعضهم إلى بعض، ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقّد؛ وأظلّتهم سحابة سوداء، فألقت عليهم كالقبّة حجرا يلتهب نارا، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص فى النار؛ نعوذ بالله من غضبه ودرك نقمته «1» .(13/95)
القسم الثانى من الفنّ الخامس فى قصّة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- وخبره مع نمروذ، وقصّة لوط، وخبر إسحاق ويعقوب، وقصّة يوسف وأيّوب وذى الكفل وشعيب
وفيه سبعة أبواب
الباب الأوّل منه فى قصّة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- وخبر نمروذ بن كنعان.
ولنبدأ من هذه القصّة بخبر نمروذ؛ ثم نذكر قصّة إبراهيم- عليه السلام- لتعلّق قصّته به، لأنّ إبراهيم ولد فى زمانه، وآيته الكبرى معه.
ذكر خبر نمروذ بن كنعان
هو نمروذ بن كنعان بن كوش، وهو أحد ملوك الدنيا الأربعة الّذين ملكوا شرقها وغربها.
وقد ورد أنهم مؤمنان وكافران: فالمؤمنان سليمان بن داود والإسكندر ذو القرنين المذكور فى سورة الكهف؛ والكافران: شدّاد بن عاد ونمروذ ابن كنعان.
وقد قيل: بدل شدّاد بختنصّر.
قال الكسائىّ: قال وهب: لمّا أهلك الله تعالى أهل الرسّ بالمسخ ومن تقدّمهم بما ذكرناه، أنشأ قرونا آخرين، فكان ممّن أنشأ من ولد حام بن نوح كوش ابن قرظ بن حام، وكان جبّارا شديد القوّة عظيم الخلق، له مخاليب كالسّباع وهو الذى أنشأ كوثاربّا من أرض العراق، وولد له بها ولد سمّاه كنعان، وكان له(13/96)
ولد آخر يقال له: الهاص؛ فلما مات كوش استقل الهاص بالملك دون كنعان واستقلّ كنعان بالصيد، وولع به حتّى ألهاه عن طلب الملك؛ وكان مع ذلك شديد البطش والقوّة، فبينما هو يتصيّد إذ رأى امرأة ترعى بقرات، فأعجبته فراودها عن نفسها، فامتنعت واعتذرت بزوجها؛ فقال: ويلك، هل على وجه الأرض من يطاولنى وأنا من ولد كوش، ونحن ملوك الأرض؟ فضحكت المرأة كالمستهزئة، وقالت: لا تذكر الملوك وأنت رجل صيّاد.
ثم أقبل زوجها فقتله كنعان وأخذ المرأة ووطئها، فحملت بنمروذ، ونقلها كنعان إلى قصره، فكانت من أحظى نسائه؛ ثم قتل أخاه بعد ذلك، واستقلّ بالملك.
ثم رأى فى منامه كأنّه صارع إنسانا فصرعه وقال: أنا مشئوم أهل الأرض ومنزلى الظلمة. وقد أجّلتك حتّى أخرج من ظلمتى هذه إلى ضوء الدنيا.
فانتبه مرتاعا، وأحضر أصحاب علم النجوم، وقصّ رؤياه عليهم؛ فقالوا:
سيولد مولود هو الآن فى بطن أمّه يكون هلاكك على يديه.
وتبيّن حمل الراعية- وكان اسمها شلخاء- وكانت تسمع من بطنها صوتا عجيبا، فسمعه كنعان فقال: ويحك، هذا ليس بآدمىّ؛ وإنما هو شيطان؛ وهمّ أن يدوس بطنها ليقتل من فيه؛ فهتف به هاتف: مه يا كنعان، ليس إلى قتله سبيل.
فلمّا كملت مدّة الحمل وضعته أسود أحول أفطس أزرق العين؛ وخرجت حيّة من حجر فدخلت فى أنفه، ففزعت شلخاء؛ وأخبرت كنعان بخبره؛ فقال: اقتليه فإنّه شؤم. فقالت: لا تطيب نفسى بقتله. قال: فاحتمليه واطرحيه فى البرّيّة.(13/97)
فاحتملته الى البرّيّة، فمرّت براعى بقرات فعرضته عليه، فأخذه، وعادت الى منزلها؛ فلمّا وضعه الراعى بين البقر نفرت وتفرّقت وعسر عليه جمعها؛ وأقبلت امرأته فأخبرها بخبر الغلام؛ فقالت: اقتله فإنّه شؤم. فأبى وقال: اطرحيه فى النهر.
فطرحته فى نهر عظيم، فألقاه الماء إلى البرّ؛ فقيّض الله له نمرة فأرضعته وانصرفت؛ فرأته امرأة من قرية هناك فعجبت وأخبرت أهل القرية، فخرجوا إليه واحتملوه وربّوه وسمّوه نمروذ، فلمّا بلغ جعل يقطع الطريق ويغير على النواحى، واجتمع له جمع كثير، فبلغ خبره كنعان، فجعل يبعث إليه بقائد بعد قائد وهو يهزمهم؛ وعظم أمره حتى صار فى جيش عظيم؛ فسار الى كوثاربا وقاتل كنعان، فهزم جيوشه وظفر به، وقتله وهو لا يعلم أنه أبوه، واحتوى على ملكه؛ ثم أخذ فى غزو الملوك حتّى ملك الشرق وسائر ممالك الدنيا؛ ثم رجع الى كوثاربّا فاستدعى وزراءه وقال: أريد أن أبنى بنيانا عظيما لم أسبق إلى مثله. فدلّوه على تارح وذكروا أنّه عارف بأمر النجارة والبناء؛ فأحضره ومكّنه من خزانته، وأمره بإنشاء قصر عظيم؛ فخرج تارح وشرع فى بنائه، وتأنّق فيه، وأجرى فيه الأنهار؛ فلمّا كمل ورآه نمروذ خلع على تارح، وجعله وزيره.
وأخذ نمروذ فى التكبّر حتى ادّعى الألوهية.
وكان مولعا بعلم النجوم، فأتقنه؛ فجاءه إبليس فى صورة شيخ وسجد له وقال: إنك قد أتقنت علم النجوم؛ وعندى علم ما هو أحسن منه، وهو السحر والكهانة. فعلّمه ذلك، ثم حسّن له عبادة الأصنام، فدعا بتارح وأمره أن يتخذ له صنما على صورته، ويتّخذ لقومه أصناما أخرى؛ فاتخذها تارح من الجوهر والذهب والفضّة والقوارير والخشب على أقدار الناس، وكلّها على صورة نمروذ حتى اتّخذ سبعين صنما، وأمر نمروذ قومه أن يتّخذوها؛ ففعلوا ذلك وانهمكوا(13/98)
فى عبادتها، وكلّمهم الشياطين من أجوافها؛ فعبدوها حتّى لم يعرفوا سواها وطغوا وبغوا، وأكثروا الفساد فى الأرض، حتى ضجّت الأرض والسماء والوحش والطير إلى ربّها منهم.
ذكر الآيات التى رآها نمروذ قبل مولد إبراهيم- عليه السلام-
قال: كان أوّل ذلك أنّه صعد فى بعض الأيّام إلى سريره، فانتفض من تحته انتفاضا شديدا، وسمع هاتفا يقول: تعس من كفر بإله إبراهيم. فقال لتارح وهو واقف عنده: سمعت ما سمعت؟ قال: نعم. قال: فمن هو إبراهيم؟ قال:
لا أعرفه.
فأرسل إلى السحرة وسألهم عن إبراهيم، وأخبرهم بما سمع؛ فقالوا: لا نعرف إبراهيم ولا إلهه.
ثم توالت عليه الهواتف، ونطقت الوحش والطير والسباع بمثل ذلك؛ ثم رأى الرّؤى فى منامه.
فكان منها أنّه رأى كأنّ القمر قد طلع من ظهر تارح، وألقى نوره كالعمود الممدود بين السماء والأرض؛ وسمع قائلا يقول: جاء الحق ونظر إلى الأصنام وهى ترتعد، فاستيقظ وقصّ رؤياه على تارح، فقال: أيّها الملك، إنّى فى الأرض كالقمر لكثرة عبادتى لهذه الأصنام. فقال له نمروذ: صدقت.
وانصرف تارح حتى دخل بيت الأصنام، فإذا هى قد سقطت عن كراسيّها منكّبة على أوجهها؛ فأمر خدمها بإعادتها، وعجب من ذلك.
قال: ثم رأى فى منامه كأنّ نورا ساطعا بين السماء والأرض، وقوما يسلكون فيه ينزلون إلى الأرض، ويصعدون إلى السماء، وإذا برجل من أحسن الناس وجها(13/99)
فى ذلك النور، وأولئك يقولون: نصرك إله السماء، فبك تحيا الأرض بعد موتها.
فانتبه ودعا بالسّحرة والكهنة والمنجّمين، وذكر لهم رؤياه، وأقسم إن كتموه تأويلها عذّبهم وجعلهم طعما للسباع. فطلبوا أمانه، فأمّنهم، فقالوا: رؤياك تدلّ على مولود من أقرب الناس إليك، يرث ملكك، ويرتفع ذكره إلى السماء والشرق والغرب ويهلكك، وأنه لا يأتيك ومعه سلاح ولا جند. فتبسّم نمروذ وقال: إن كان كذلك فأمره هيّن. ثم قال لهم: فممّن يكون؟ قالوا: من ظهر أقرب الناس إليك، ولا نعلم أكثر من هذا.
ثم قال: ليس أحد أقرب إلىّ من ابنى كوش ووزيرى تارح؛ ثم أمر بآبنه كوش فضرب عنقه؛ وأمر بقتل الأطفال حتى قتل مائة ألف طفل؛ ثم دعا بالمنجّمين فقال: انظروا هل استرحت ممّن كنت أخافه؟ قالوا: ما حملت به أمّه بعد.
وأخذ فى ذبح الأطفال حتى ضجّت الخلائق إلى الله تعالى.
ذكر حمل أمّ إبراهيم- عليه السلام- وطلوع نجمه
قال: وعبر تارح يوما إلى الأصنام فاضطربت اضطرابا شديدا؛ فسجد لها فأنطقها الله، فقالت: يا تارح، جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ
ووافى نمروذ ما كان يحذره، فخرج خائفا وجلا حتى دخل على أمرأته وذكر لها ذلك؛ فقالت: وأنا أخبرك بعجب، كنت قعدت عن الحيض منذ كذا وكذا، وقد حضت فى يومى هذا.
فقال: اكتمى أمرك لئلّا يبلغ الملك. فلما طهرت هتف به هاتف: يا تارح صر إلى زوجتك ليخرج النور الّذى على وجهك. فلمّا سمع ذلك مرّ هاربا على وجهه فإذا هو بملك يقول: أين تريد؟ ارجع فردّ الأمانة الّتى فى ظهرك.(13/100)
فانصرف إلى منزله ولم يجسر أن يقرب امرأته؛ فأصبح وإذا بنور ساطع على وجهه؛ وكان هو الّذى يقرّب إلى الأصنام الطعام والشراب كلّ ليلة، وينصرف الى منزله فتأكله الشياطين؛ فقرّب الطعام إليها، فأقبلت الشياطين لتأكله، فرأوا الملائكة هناك فولّوا هاربين، وبقى الطعام على حاله؛ فلمّا أصبح تارح رآه على حاله فظنّ أن الأصنام ساخطة عليه، فعكف عليها لترضى عنه، فأبطأ عن منزله، فأتته امرأته؛ فلمّا خلت به فى بيت الأصنام تحرّكت شهوته، وهمّ بمواقعتها، فقالت:
ألا تستحى، أتفعل هذا بين يدى آلهتك؟ فواقعها، فحملت منه بإبراهيم- عليه السلام- فنكّست الأصنام، وظهر نجم إبراهيم وله طرفان: أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب؛ فعجب الناس منه؛ ورآه نمروذ فتحيّر؛ فلمّا أصبح سأل المنجّمين عنه، فقالوا: هذا نجم جديد طلع يدلّ على مولود جديد من أولاد الأكابر، يرتفع شأنه، ويخشى عليك منه. فهتف به هاتف يقول: يا عدوّ الله، هذا المولود قد حملت به أمّه والله مهلكك على يديه.
قال: فلمّا استكملت أمّة تسعة أشهر قالت لأبيه: إنى أحبّ أن أدخل بيت الأصنام فأسألها أن تخفّف عنّى أمر الولادة؛ فإذن لها فى ذلك، وتربّص بها إلى اللّيل خوفا أن يعلم الناس بحملها؛ فلمّا دخلت بيت الأصنام تنكّست عن كراسيّها فخرجت فزعة، فإذا هى بنمروذ فى قومه، وبين أيديهم الشّموع والمشاعل؛ فقال نمروذ: من هذا؟ قالت: زوجة عبدك تارح؛ فأراد أن يقول: اقبضوها فقال: خلّوها؛ فأقبلت إلى منزلها مذعورة، فجاءها الطلق، فأقبل إليها ملك من عند الله تعالى وقال: لا تخافى وانهضى فضعى ما فى بطنك. فتبعته حتّى أدخلها الغار، وهو الّذى ولد فيه إدريس ونوح- عليهما السلام-.(13/101)
ذكر ميلاد إبراهيم- عليه السلام-
قال: ودخلت أمّه الغار فوجدت فيه جميع ما تحتاج إليه، وخفّف الله عنها الطلق، فولدته فى ليلة جمعة، وهى ليلة عاشوراء؛ فلمّا سقط إلى الأرض قطع جبريل سرّته، وأذّن فى أذنه، وكساه ثوبا أبيض؛ ثم عاد بها الملك إلى منزلها فرجعت خفيفة كأن لم تلد، وقال لها الملك: اكتمى أمرك وما قد رأيت. فدخلت منزلها، وجاء تارح فرآها نشطة خفيفة، فقالت: إن الذى كان فى بطنى لم يكن ولدا، وإنّما كانت ريحا وقد انفشّت عنّى. ففرح بذلك، وألقى الله تعالى على نمروذ النسيان فى أمر إبراهيم؛ فلمّا كان فى اليوم الثالث خرجت أمّه إلى الغار فرأت الوحش والسباع على بابه، فتوهّمت أن يكون هلك؛ فدخلت فرأته على فراش من السندس، وهو مدهون مكحول، فتحيّرت وعلمت أنّ له ربّا، ورجعت إلى منزلها وأخبرت تارح الخبر، فنهاها عن العود إلى الغار، فكانت تروح إليه سرّا فى كلّ ثلاثة أيّام تنظر إليه وتعود، حتى تمّ له حولان، فأتاه جبريل بطعام من الجنّة، فأطعمه وسقاه؛ فلمّا استكمل أربع سنين جاءه ملك بكسوة من الجنّة، وسقاه شربة التوحيد وقال: اخرج الآن منصورا.
ذكر خروج إبراهيم- عليه السلام- من الغار واستدلاله
قال: ولمّا قال له الملك ذلك خرج عند غروب الشمس، فجعل ينظر إلى السموات، فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي
يعنى على سبيل الاستفهام، أى أهذا ربّى؟. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى(13/102)
الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وهبط جبريل- عليه السلام- فقال له: انطلق إلى أبيك وأمّك ولا تخف فإن الله معك. فخرج إبراهيم وجبريل معه حتى وقفه على الباب وقال: هذا بيت أبيك، فدونك هو. فاستأذن إبراهيم وقال: أدخل؟ قال تارح: ادخل. فلمّا دخل نظر إليه فعجب من حسنه وجماله، وقامت أمّه مسرعة إليه واعتنقته وقالت: ولدى وعزّة نمروذ. فقال لها: لا تحلفى بعزّة نمروذ، فإن العزة لله الّذى خلقنى فى بطنك وأخرجنى منك، وكلأنى وربّانى وهدانى.
فارتعد تارح من كلامه وقال لأمّه: أخشى أن تزول عنّى هذه المنزلة بسببه.
ونظر إليه وقال: ما أحسنك! فلولا ما وقع فى قلبى من محبّتك لرفعت خبرك إلى نمروذ.
ثم بكى تارح خوفا عليه أن يقتل، فقال له: يا أبت لا تخف علىّ من القتل فإن الله يعصمنى من نمروذ. فقال له: ألك ربّ غير نمروذ، وله مملكة الأرض شرقها وغربها، وله ثلاثمائة صنم؟ فقال إبراهيم: بل ربّى الله الّذى لا إله إلّا هو خالق السموات والأرض وما بينهما لا شريك له.
وبلغ خبر إبراهيم بعض أقارب تارح، فدخل عليه وقال: ما هذا الغلام الجميل؟
قال: هو ابنى ولد لى على كبر. قال: فما الّذى بلغك من قوله عن نمروذ وأصنامنا؟
قال تارح: هو ما بلغكم، فكلّموه حتى يعود إلى ديننا. فحاجّه قومه وخوّفوه بعذاب نمروذ، وهو يجادلهم ويحتجّ عليهم، ويذكر عظمة ربّه حتى عجزوا عنه فذلك قوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ
الآيات إلى قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ.(13/103)
فانصرفوا عنه، وخاف تارح أن يسعوا به وبولده إلى نمروذ، فقال: يا إبراهيم كفّ عن هذا الكلام حتّى استخلفك على خزانة الأصنام فقد كبرت. فقال:
يا أبت، إنّ المعبود هو الله، والأصنام لا تضرّ ولا تنفع.
فغضب تارح وأقبل على نمروذ، فسجد له، وقال: إن المولود الذى كنت تحذره هو ولدى، ولم يولد فى دارى، ولا أعلم به حتّى الآن، وقد جاءنى وهو غلام يعقل ويفهم، ويزعم أن له ربا سواك، وقد أعلمتك فاصنع ما أنت صانع.
فلمّا سمع نمروذ ذلك داخله الرعب وقال: صفه. فوصفه. قال نمروذ:
هو الّذى رأيته فى منامى. وقال لأعوانه: ائتونى به. فأتوه به، فردّد النظر إليه وقال: احبسوه إلى غد؛ فلمّا أصبح أحضره وقد أمر بتزيين قصره بأعظم زينة، وهوّل عليه بجنوده وأصناف السلاح؛ فالتفت إبراهيم إلى الناس يمينا وشمالا وقال: ما تَعْبُدُونَ
؟ فذلك قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ
إلى قوله: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ
ثم قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ
إلى قومه: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ
ثم التفت وقال:
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ
إلى قوله: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ.
فلمّا فرغ من كلامه قال له نمروذ، يا إبراهيم، تقع فى دينى وأنا الّذى خلقتك ورزقتك؟ قال: كذبت، إنّ خالقى ورازقى وخالق الخلق ورازقهم، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ*
فبهت الناس، ووقعت فى قلوبهم محبّته لحسنه وحسن كلامه؛ فالتفت نمروذ إلى تارح وقال: إنّ ولدك صغير لا يدرى ما يقول ولا يجوز لمثلى فى قدرتى وعظم مملكتى أن أعجّل عليه؛ فخذه إليك، وأحسن إليه وحذّره بأسى حتى يرجع عما هو فيه.(13/104)
فأخذه تارح وانصرف إلى منزله، وقال: يا بنىّ، إنّ لى عليك حقّا. وأسألك بحقّى عليك أن تلازمنى فى عملى وبيع هذه الأصنام كما يفعل إخوتك. قال: كيف أبيع ما أبغضه؟ قال: ما عليك أن تبيعها؟ وأخرج له صنمين صغيرا وكبيرا، وقال:
بع هذا بكذا، وهذا بكذا. قال: يا أبت أنت تعبد هذه الأصنام على أنّها ترزقك وهى الّتى خلقتك؟ قال: نعم. فقال له ما أخبرنا الله به فى قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا* يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا
فغضب تارح من قوله وقال: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا
قال إبراهيم: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا.
وقال: وكان إبراهيم يخرج ومعه غلامان ومعهما صنمان، فيقول: من يشترى ما لا يضرّ ولا ينفع ولا يدفع الذّباب عن نفسه؛ وكان يغمسهما فى الماء ويقول:
اشربا. ويشدّ الحبل فى أرجلهما ويجرّهما، والناس يعظمون ذلك ولا يجسرون يكلّمونه لمكان أبيه من نمروذ.
ذكر معجزة لإبراهيم- عليه الصلاة والسلام-
قال: وبينما إبراهيم قاعدا إذ جاءته امرأة عجوز، فقالت: بعنى أحد هذين الصنمين، واختر لى أجودهما. فقال: هذا أكثر حطبا من هذا. قالت: لست أريده للوقود، وإنّما أريد أن أعبده، فقد كان لى إله سرق فى جملة ثياب كثيرة(13/105)
لى، وأنا أريد أن أشترى هذا الصنم فأعبده حتى يردّ علىّ رحلى. قال لها إبراهيم:
إنّ الإله الّذى يسرق لو كان إلها لحفظ الثياب وحفظ نفسه، فكم لك تعبدينه؟
قالت: كنت أعبده ونمروذ منذ كذا وكذا سنة. قال: بئس ما صنعت، هلا عبدت ربّ السموات والأرض حتى يردّ عليك ما سرق منك، فإن عاد ما لك تؤمنين؟ قالت: نعم.
فدعا إبراهيم ربّه فإذا بالمسروق بين يديه قد جاء به جبريل؛ فقال لها إبراهيم:
هذا رحلك. فأخذته العجوز وكسرت الصنم، وقالت تبّا لك ولمن عبدك دون الله. وآمنت، وجعلت تطوف فى المدينة وتقول: يأيّها الناس اعبدوا الله الّذى خلقكم ورزقكم، وذروا ما كنتم عليه من عبادة الأصنام.
فبلغ خبرها نمروذ، فأحضرها وأمر بقطع يديها ورجليها وفقء عينيها؛ فاجتمع إبراهيم والناس لينظروا إليها- وهو إذ ذاك لم يبلغ الحلم- فدعا لها بالصبر وقال: إلهى إنّك قد هديتها، أسألك أن تجعلها آية. فردّ الله عينيها ويديها ورجليها وارتفعت فى الهواء وهى تنادى: ويلك يا نمروذ، أنا الّذى قد فعلت بى ما فعلت هأنا أرقى إلى الجنان.
وكان لنمروذ خازن «1» يقال له: بهرام، فقام وقال: آمنت أيّتها المرأة بالذى خصّك بهذه الكرامة، وآمن فى ذلك اليوم خلق كثير من وجوه القوم؛ فأمر نمروذ فنشروا بالمناشير وألقوا للأسود فلم تأكلهم؛ وارتجت المدينة بزلزلة عظيمة وترادفت معجزات إبراهيم- عليه السلام-(13/106)
ذكر مبعث إبراهيم- عليه السلام-
قال: فلمّا تمّ لإبراهيم أربعون سنة، جاءه جبريل بالوحى من الله، وأرسله إلى نمروذ، فأقبل إبراهيم ووقف على باب نمروذ ونادى بأعلى صوته: يا قوم، قولوا:
«لا إله إلّا الله وإنّى إبراهيم رسول الله» . فآنتشر الصوت على جميعهم؛ فأحضر نمروذ الوزراء والبطارقة، وأجلسهم فى مجالسهم، وأقام جنوده، وأحضر الأسود والفيلة بسلاسلها، وأقيمت صفوفا عن يمين الدار ويسارها؛ وأمر بدخول إبراهيم؛ فدخل وقال: «باسم الله العظيم» فلمّا توسّط الدار قال بصوت رفيع: يا قوم قولوا: «لا إله إلّا الله خالق كلّ شىء» .
ثم تقدّم إلى نمروذ؛ فقال له بعض وزرائه: من أنت؟ قال: أنا إبراهيم بن تارح رسول ربّ العالمين، أدعوكم إلى عبادته. قال له: من ربّك؟ قال: الذى خلق الناس جميعا. قال نمروذ: إنّ ملكى أعظم من ملكه. قال إبراهيم: الملك والسلطان لله ربّ العالمين. قال: لقد تجرّأت علىّ يا إبراهيم، وأنت تعلم أنّى خلقتك ورزقتك.
فاضطرب سرير نمروذ، وقال إبراهيم: كذبت يا نمروذ، إنّ الله هو الّذى خلقك وخلق الناس أجمعين، ورزقك ورزقهم، وأنت تكفر بنعمته وقد رأيت بعض الآيات؟ قال: هات غير ذلك. فوصف إبراهيم قدرة الله. قال نمروذ: فما الّذى يفعل من قدرته؟ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ
قال نمروذ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ
. قال: كيف تفعل؟ قال: أخرج من الحبس من قد وجب عليه القتل فأطلقه، وأقتل الّذى لم يجب عليه.
قال إبراهيم: إنّ ربّى لا يفعل كذلك، بل الميّت يحييه، والحىّ يميته من غير قتل، ولكن يا نمروذ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.(13/107)
ذكر سؤال إبراهيم- عليه السلام- فى إحياء الموتى
قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
قال: فأخذ ديكا أبيض وغرابا أسود وحمامة خضراء وطاوسا، وقطع رءوسها، وخلط الدم بالدم والريش بالريش؛ ثم جزّأها أجزاء متساوية، وجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا، وجعل رءوسها بين أصابعه؛ ثم دعاها، فانضمّ كلّ جزء إلى بعضه، وخرجت الرءوس من بين أصابع إبراهيم، فصار كل رأس إلى بدنه.
قال: والتفت إبراهيم إلى نمروذ وقال: كيف ترى قدرة إلهى؟ قال: ليس هذا ببديع من سحرك. وأمر به فقيّد وغلّت يده، وأدخل المضيق تحت الأرض وفيه الحيّات والعقارب فلم يضرّه ذلك.
وجاءه جبريل فبشّره عن الله بالنصر، وألبسه حلّة خضراء، وفرش له فرشا من السندس، وأتاه بطعام فأكل وقال له: اصبر كما صبر الأنبياء من قبلك.
ذكر آية لإبراهيم- عليه السلام-
قال: وكان إبراهيم يسلّى أهل السجن، ويذكّرهم بالجنّة والنار؛ فقام إليه رجل وقال: يا إبراهيم، أنا من ملوك العرب، وأنا ابن ملكهم، وكنّا أربع إخوة فغضب الملك علينا فحبسنى هاهنا، وحبس الآخر بالمشرق، والآخر بالمغرب والرابع باليمن، فهل يقدر ربّك أن يجمع بيننا؟ قال: نعم. ودعا إبراهيم ربّه، فإذا بالأخوين وقد انقضّا من المشرق والمغرب. فبلغ ذلك نمروذ، فأحضرهم وقال:(13/108)
من جمع بينكم؟ قالوا: إلهنا بدعاء إبراهيم. فأحضر إبراهيم وقال: ائتنا بالأخ الرابع من اليمن. فقال: إنّه قد مات ودفن. فقال نمروذ: ادع ربّك حتّى يأتينا بقبره.
فدعا إبراهيم، فأمر الله الملك الموكّل بالأرض أن يخترق بالقبر إلى إبراهيم؛ فخرج القبر من تحت الأرض إلى دار نمروذ، فقال إبراهيم للثلاثة: هذا قبر أخيكم. فقالوا: أيّها الملك، إن كان حقّا ما يقول فليدع ربّه ليحييه وينظر إليه ويكلّمه.
فصلّى إبراهيم ركعتين، وسأل الله أن يحييه؛ فانشق القبر، وخرج الرجل منه وهو يشتعل نارا ويقول: هذا جزاء من عبد الأصنام ورغب عن دين الله.
فقام بهرام الخازن ونزع ما كان عليه من لباس نمروذ، وآمن بالله وبإبراهيم.
فقال له نمروذ: لقد عمل سحره فيك. وأمر بهم نمروذ فشدّت أيديهم وأرجلهم ووضعت عليهم أساطين، فلم يؤلمهم ثقلها؛ فبهت نمروذ ثم قال: عودوا لطاعتى فأنا الذى خففت عنكم ثقل هذه. فقال خازنه: قم حتى نضع عليك واحدة منها وخفّفها عن نفسك.
فغضب نمروذ وأحرقهم بالنار حتى صاروا رمادا؛ فردّ الله عليهم أرواحهم فقاموا على أرجلهم يقرّون بعظمة الله؛ فعجب الناس، ولم يدر نمروذ ما يفعل؛ فأمر بهم فألقوا فى الحبس بين حيّات وعقارب، فبقوا فيه أربعين يوما، ولم يطعموا شيئا؛ فجاءت أمّ إبراهيم إلى نمروذ وسألته فى إطلاقه، فأمر بإخراجه هو ومن آمن به، وفى ظنّه أنّهم قد ماتوا؛ فأخرجهم فإذا هم فى أحسن صورة؛ فعجب(13/109)
وقال: يا إبراهيم، من أطعمك وسقاك؟ قال: ربّى أطعمنى وسقانى، فآمن به يا نمروذ، فقد رأيت آياته وعظمته.
فغضب نمروذ ثم أقبل على تارح وقال له: قد كنت أتخوّف من ابنك، لأنّى كنت أظنّ له شوكة من الجنود، والآن فليس عنده إلّا السحر، وقد وهبته لك.
فأخذه أبوه وأخرجه من دار نمروذ، وقال له: يا بنىّ، امش حتى أدخلك على هذه الأصنام لعلّك تميل إليها. فقال إبراهيم: سوءة لك أيّها الشيخ. ثم قال:
أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟
ثم قال: يا قوم قولوا: لا إله إلّا الله وإنّى إبراهيم رسول الله تفلحوا. فكذّبوه، فقال له أبوه: يا بنىّ ما تخشى سطوة الملك.
فقال: يا أبت إنّ الله يعصمنى من مكايده.
قال: ثم ابتلاهم الله- عزّ وجلّ- بالقحط، وقلّت عندهم الأقوات؛ وكان بظاهر المدينة كثيب من الرمل، فتعبّد إبراهيم فيه، ودعا ربّه أن يحوّله طعاما. فحوّله الله، فكان المؤمنون ينالون منه ما يريدون، والكفّار يسجدون لنمروذ ويأخذون منه القوت.
وكان قد جمع الأقوات فى سراديب عنده، فأطعمهم حتى نفد أكثرها ولم يبق إلّا قوت أهله وعشيرته؛ فشرع الناس يؤمنون ويزيدون فى كل يوم؛ فشقّ ذلك على نمروذ، وطلب إبراهيم وقال له: اخرج من بلدى فقد أفسدت قومى بسحرك. فقال إبراهيم: لم أخرج وأنا أحقّ منك؟ وخرج من عنده فأحضر نمروذ تارح وقال له: إن ابنك قد آذانى فى أهل مملكتى، ولولا منزلتك عندى لبطشت به. فقال: إنّنى قد هجرته، ولست راضيا بصنعه، فافعل به ما بدا لك.(13/110)
ذكر خبر تكسير إبراهيم الأصنام وإلقائه فى النار
قال كعب: وكان لأهل كوثربّا عيد يخرجون إليه فى كلّ سنة، فيتعبّدون هناك أيّاما؛ وكان بعيدا من البلد؛ فلمّا حضر ذلك العيد قال تارح لإبراهيم: اخرج معنا إلى عيدنا. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ
، يعنى لعبادتكم الأصنام فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ
إلى عيدهم، ولم يبق فى بلدهم إلّا الصّغار والهرمون.
فقام إبراهيم ودخل بيت الأصنام- وكان القوم قد وضعوا الطعام بين أيديها- فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ
استهزاء بهم؛ وكانت فى جانب البيت فأس، فأخذها وكسر بها هذا الصنم، وكسر يد هذا الصنم ورجل هذا ورأس هذا. قال الله عزّ وجلّ: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ
وترك كبيرهم كما أخبر الله تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ
ثم علّق الفأس فى عنق الصنم الأكبر ورجع إلى منزله.
وأقبل القوم بعد فراغهم من عيدهم، فرأوا أصنامهم على ذلك؛ فقالوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ* قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ
وبلغ الخبر نمروذ. قال: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
يعنى عذابه. فلمّا أتوا به قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ* قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ
قال بعضهم لبعض: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ
فصاحوا من كلّ ناحية: أفتأمرنا بذلك وأنت تعلم أنّها لا تسمع ولا تبصر. فقال إبراهيم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
فقال القوم لنمروذ ما أخبرنا الله تعالى عنهم: قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.(13/111)
وكان لنمروذ تنّور من حديد يحرق فيه من غضب عليه، فأمر به فأسجر فطرح إبراهيم فيه، فلم تضرّه النار بقدرة الله؛ فلمّا رأى نمروذ ذلك جمع أهل مملكته واستشارهم، فأشاروا أن يحبسه ويجمع له الحطب الكثير، ويضرم فيه النار، ثم يلقيه فيه إذا صار جمرا. وقالوا: إنّه لا يقدر يسحر النار الكبيرة، ولا يعمل سحره فيها.
فعند ذلك حبسه وأمر بجمع الأحطاب؛ فيقال: إنّ الدوابّ امتنعت من حملها إلّا البغال، فأعقمها الله عقوبة لذلك؛ فجمعوا من الأحطاب ما لا يحصى كثرة؛ وأمر أن تحفر حفيرة واسعة، وبنى حولها حائطا عاليا، وألقى فيها تلك الأحطاب وأضرم فيها النار والنّفط ثلاثة أيّام، فكان لهبها يصيب الطائر فى الجوّ فيحرق.
قال: وهمّوا بطرح إبراهيم فيها، فلم يقدروا يقربوا منها.
فيقال: إنّ إبليس أتاهم فى صورة شيخ، وصنع لهم المنجنيق، ولم يكونوا يعرفونه قبل ذلك، ووضعوا إبراهيم فى كفّة المنجنيق، ورموا به وهو يدعو الله أن ينصره عليهم؛ فعارضه جبريل وهو فى الهواء، وقال له: ألك حاجة يا إبراهيم؟
قال: أمّا إليك فلا، بل حسبى الله ونعم الوكيل.
فلمّا قرب من النار قال الله عزّ وجلّ: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ.
قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: لو لم يقل «وسلاما» لمات إبراهيم من شدّة البرد.
فبرد حرّها وأخضرت الأشجار التى احترقت ورست بعروقها.
فلمّا أصبح نمروذ جلس فى مكان مشرف ينظر إلى ما أصاب إبراهيم من النار؛ فكشف عن بصره فإذا هو برجل فى وسطها على سرير، عليه ثياب خضر وإلى جنبه رجل آخر؛ وخلق كثير وقوف من ورائهما؛ فدعا بصاحب المنجنيق(13/112)
وقال له: كم ألقيت فى النار؟ قال: إبراهيم وحده. فعجب وعجبت الناس وقال: اذهبوا وانظروا من القاعد على السرير ومن إلى جنبه وحوله. فأتوا فإذا هم بإبراهيم على أحسن صورة، فأخبروا نمروذ، فقال: ائتونى به. فقالوا: لا نستطيع الوصول إليه لحرّ النار. فنادوه: يا إبراهيم، أخرج إلينا. فخرج إلى نمروذ وقال له: ما أعجب سحرك يا إبراهيم! قال: ليس هذا بسحر، وإنما هو من قدرة الله تعالى. قال: فمن الّذى عن يمينك؟ قال: ملك جاءنى من عند ربّى بشّرنى انّ الله اتّخذنى خليلا. فقال نمروذ: لأصعدنّ إلى السماء وأقتل إلهك.
ذكر خبر صعود نمروذ إلى السماء على زعمه
قال: وأمر نمروذ أن يتّخذ له تابوت مربّع، ويكون له بابان: باب إلى السماء وباب إلى الأرض، وجوّع أربعة نسور، وسمّر أربعة رماح فى أركان التابوت، وعلّق اللحم فى أعلاها، وشدّ النسور بأوساطها إلى الرماح، وجلس فى التابوت ومعه وزيره، وحمل معه قوسا ونشّابا، وأطبق البابين، فرفعت النسور رءوسها فنظرت إلى اللّحم، فطارت صاعدة، وارتفعت فى الهواء؛ فقال لوزيره:
افتح الباب الذى يلى الأرض وانظر كيف هى؟ قال: أراها كأنّها قرية. قال:
فأنظر إلى السماء. فقال: هى كما رأيناها ونحن فى الأرض. ولم يزل يصعد حتى قال: أما الدنيا فلا أراها إلا سوادا ودخانا، والسماء كما رأيناها.
وارتفعت النسور حتى كادت تسقط إلى الأرض؛ فعارضه ملك وقال: ويلك يا نمروذ؛ إلى أين؟ قال: أريد محاربة إله إبراهيم. قال: ويحك، إنّ بينك وبين سماء الدنيا خمسمائة عام، ومن فوق ذلك ما لا يعلمه إلّا الله. فخرّ الوزير ميتا؛ فأخذ نمروذ القوس ووضع فيه السهم، وقال: أنا لك يا إله إبراهيم، ورمى بالسهم إلى الهواء، فيقال: إنّ ذلك السهم عاد إليه ملطّخا بالدم بإذن الله.(13/113)
وأمر الله جبريل أن يضرب التابوت بجناحه، فيلقيه فى البحر؛ فضربه فمرّ يهوى به حتى ألقاه فى البحر؛ وأمر الله الأمواج أن تلقيه إلى الساحل؛ فلمّا وصل إلى البرّ خرج وقد ابيضّت لحيته لما عاين من الأهوال، وتوصّل من بلد إلى بلد حتى أتى المدينة، فدخل منزله ليلا فأنكره الناس لشيبه، ثم عرفوه؛ وجاءه إبراهيم فقال: كيف رأيت قدرة ربّى؟ قال: قد قتلت ربّك. قال: إنّ ربّى أعظم من ذلك، ولكن هل لك قوّة- مع كثرة جنودك- أن تقاتلنى؟ قال: نعم.
ذكر خبر إرسال البعوض على نمروذ وقومه
قال: وأمر نمروذ جنوده فاجتمعوا لحرب إبراهيم وهم لا يحصون كثرة؛ وخرج إبراهيم فى سبعين من قومه الذين آمنوا فى الصحراء، فأرسل الله عليهم البعوض حتى امتلأت منه الدنيا، ولدغت جيش نمروذ؛ فمات من لدغها خلق كثير، والتجأ الباقون إلى الدّور، وأغلقوا الأبواب وأسبلوا الستور؛ فلم تغن عنهم شيئا؛ وانفرد نمروذ عن جيشه، ودخل منزله وأغلقت الأبواب، وأرخيت الستور، واستلقى على سريره، فجاءت بعوضة فقعدت على لحيته، فهمّ بقتلها، فدخلت منخره وصعدت إلى دماغه؛ فعذّبه الله بها أربعين يوما لا ينام ولا يطعم؛ ثم شقّت رأسه وخرجت فى كبر الفرخ، فمات.
وقيل: إنّه اتخذ إرزبّة من حديد، فكان صديقة الّذى يضرب بها رأسه فانفلق رأسه بضربة فخرجت كالفرخ وهى تقول: هكذا يهلك الله أعداءه، وينصر أنبياءه، ويسلّط رسله على من يشاء.
وأرسل الله الزلازل على المدينة، فخرّبت.
قال: وجاء لوط وهو ابن أخى إبراهيم، وآمن به، وآمنت سارة، فتزوّج بها إبراهيم.(13/114)
ذكر هجرة إبراهيم- عليه السلام-
قال: وجمع إبراهيم أصحابه الّذين آمنوا به، وسار يريد الشأم، فجاء إلى (حرّان) فأقام بها مدّة من عمره، وترك بها طائفة من المؤمنين، وسار حتى أتى الأردنّ وكان اسم ملكها صادوق، فمرّ به وهو فى منظرة له، فنظر إلى سارّة مع إبراهيم فأحضرهما، وقال لإبراهيم: من أنت؟ قال: أنا خليل الله إبراهيم. وذكر له ما كان من أمر نمروذ. فقال له: من هذه؟ قال: هى أختى. فقال: زوّجنيها.
قال: هى أعلم بنفسها منّى، وإنّها لا تحلّ لك. فاغتصبها منه، وقام إلى مجلس آخر وأمر بحملها إليه. فدعا إبراهيم الله تعالى، فارتجّ المجلس بالملك، ويبست يده فقال لسارّة: ألا ترين ما أنا فيه؟ قالت: لأنّك أغضبت خليل الله.
قال: فتضرّع إلى إبراهيم؛ فسأل الله فى ردّ يده عليه؛ فأوحى الله إليه:
لا أطلقه دون أن أخرجه من ملكه ويسلم؛ فأسلم وخرج عن الملك، ووهب سارّة هاجر، وهى أمّ إسماعيل.
قال وارتحل إبراهيم حتى أتى الأرض المقدّسة فنزلها.
وقد روينا هذه القصة بسندنا إلى البخارىّ- رحمه الله- وسنذكر الحديث- إن شاء الله تعالى- فى أخبار طرطيس أحد الملوك بمصر، فقد ورد أنه صاحب القصة؛ والله أعلم.
ذكر خبر ميلاد إسماعيل- عليه السلام- ومقامه وأمّه فى البيت المحرّم
قال: وأقام إبراهيم بالأرض المقدّسة ما شاء الله أن يقيم حتى كبرت سارّة وأيست من الولد، فخافت من انقطاع نسل إبراهيم- عليه السلام- فوهبته هاجر فقبلها، وواقعها، فحملت بإسماعيل، ووضعته كالقمر وفى وجهه نور نبيّنا محمد(13/115)
صلّى الله عليه وسلّم؛ فأحبّته سارّة حتى بلغ من عمره سبع سنين، فداخلت الغيرة سارّة، ولم تطق أن ترى إبراهيم مع هاجر، فقالت: يا نبىّ الله، إنى لا أحبّ أن تكون هاجر معى فى الدار، فحوّلها حيث شئت.
فأوحى الله إليه أن انقلها إلى الحرم؛ وجاءه جبريل بفرس من الجنّة، فقال له: يا إبراهيم، احمل هاجر وإسماعيل على هذا الفرس. فأركب إبراهيم هاجر وإسماعيل من ورائها، وسار بهما حتى بلغ الحرم.
فأوحى الله إليه أن أنزل بهما هاهنا. فأنزلهما بالقرب من البيت، وهو يومئذ أكمة حمراء كالربوة من تخريب الطوفان. ثم قال إبراهيم لهاجر: كونى هاهنا مع ولدك فإنى راجع، فبذلك أمرنى ربّى. فلما أراد إبراهيم أن ينصرف قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.
ثم رجع وتركهما هناك ولا ثالث لهما إلّا الله تعالى.
فلما علا النهار، واشتدّ الحرّ، ونفد ما معهما من الماء، قامت هاجر تعدو يمينا وشمالا فى طلب الماء فلم تجده؛ فعادت إلى إسماعيل فرأته يبحث بأصابعه فى موضع بئر زمزم وقد نبع الماء؛ فسجدت لله، وأخذت تجمع الحصا حول العين لئلّا ينتشر الماء وهى تقول: زمّ زمّ يا مبارك.
فناداها جبريل: لا تخافى وأبشرى، فإن الله سيعمر هذا المكان.
قال وهب: لولا أن هاجر جمعت الحصا حول الماء لتمّت العين نهرا جاريا على وجه الأرض إلى يوم القيامة.
قال: وأقبل ركب من اليمن يريدون الشأم، وطريقهم على الحرم، فرأوا الطير تهوى إلى الأرض، فقالوا: إن الطير لا تنقضّ إلّا على الماء والعمارة.(13/116)
وأقبلوا فرأوا هاجر وإسماعيل والعين؛ فسألوها، فقالت: أنا جارية خليل الله إبراهيم وهذا ابنه، خلّفنا وانصرف إلى الشأم.
فآستأذنوها فى الماء؛ فأذنت لهم. ثم قالوا: هل أحد ينازعك على هذا الماء؟
قالت: لا، فإنّ الله أخرجه لى ولولدى. قالوا: إن حضرنا بأهالينا وسكّنا فى جواركم هل تمنعيننا من هذا الماء؟ قالت: لا، فإنه لله يشربه خلق الله.
فرجعوا إلى بلدهم، واحتملوا أهاليهم وأتوا الحرم بها وبمواشيهم، فصاروا لهما أنسا.
ونشأ إسماعيل حتى بلغ مبلغ الرجال، فكان يخرج إلى الصيد معهم ويرجع وماتت أمه هاجر، وتزوّج إسماعيل منهم، وبلغ إبراهيم خبر موت هاجر، فاشتاق إلى إسماعيل، فاستأذن سارّة فى ذلك، فأذنت له، فجاءه جبريل بفرس فركبه وسار حتى وقف على بيت ولده إسماعيل بالحرم، فقال: السلام عليكم يا أهل المنزل.
فقالت له المرأة: إن صاحب البيت غائب. فقال إبراهيم: إذا رجع فقولى له:
ابدل عتبة دارك، فإنّى لا أرضاها لك. وانصرف إلى الشأم.
فلما عاد إسماعيل أخبرته بالخبر، فقال: صفيه لى. فوصفته؛ فقال: الحقى بأهلك.
فجاء أهلها وقالوا: ما الذى كرهت منها؟ قال: لأنها لم تعرف لخليل الله قدرا.
ثم تزوّج امرأة من جرهم، فأولدها إسماعيل ستّة أبطن، فاشتاق إبراهيم إلى ولده، فجاءه جبريل بفرس فركبه وسار إلى الحرم، وقد عمر ذلك المكان بجرهم؛ فوقف على باب إسماعيل وقال: السلام عليكم يا أهل المنزل. فبادرت المرأة وسلّمت عليه، وقالت: فدتك نفسى، إن صاحب المنزل غائب، وإنه يعود عن قريب. قال: هل عندك طعام؟ قالت: نعم، عندنا خير كثير. وجاءته بطبق(13/117)
عليه لحم مشوىّ من الصيد، وقدح فيه ماء. قال: فهل غير هذا من حب أو زبيب! قالت: يا عمّاه، ما هذا طعام بلدنا، ولكنّه يجلب إلينا، فانزل بنا وتناول طعامنا. قال: إنّى صائم، ولكن علىّ ذرق «1» الطير فاغسليه. وحوّل قدمه عن الفرس، ووضعه على المقام؛ فغسلته «2» ، فقال: إذا جاء زوجك فسلّمى عليه وقولى له: الزم عتبة بابك فقد رضيتها لك. وانصرف.
فلما رجع إسماعيل من الصيد أخبرته الخبر فقال: لقد كنت كريمة علىّ وقد صرت الآن أكرم بإكرامك أبى خليل الله إبراهيم.
ثم اشتاق إبراهيم إلى ولده ثالثا، وذلك بعد ثلاث وعشرين يوما، فجاء إليه ولقيه، وأمره الله أن يبنى البيت، فبناه؛ وأتاه جبريل فعلّمه مناسك الحجّ.
وقد تقدّم ذكر ذلك مبيّنا فى الباب الثانى من القسم الخامس من الفنّ الأوّل وهو فى السفر الأوّل من كتابنا هذا، فلا حاجة لنا فى إعادته.
قال: ورجع إبراهيم إلى البيت المقدّس، وأوحى الله إليه أن يرسل لوطا نبيا إلى سذوم؛ فأرسله.
وكان من أمره ما نذكره فى أخباره فى الباب الّذى يلى هذا الباب- إن شاء الله تعالى-.
ذكر خبر بشارة إبراهيم بإسحاق- عليهما السلام-
قال: وبعث الله الملائكة إلى إبراهيم حين أرسلهم بالعذاب على قوم لوط وأمرهم أن يبشّروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب؛ فأتوه على صورة البشر وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل ودريائيل.(13/118)
قال: فأتوه مفاجأة على خيولهم، ودخلوا عليه منزله ففزع منهم، حتى قالوا:
سَلاماً
. فسكن خوفه، وقال: سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
ورحّب بهم وأجلسهم وقام إلى زوجته سارّة وأمرها بخدمتهم؛ فقالت: عهدى بك وأنت أغير الناس.
قال: هو كما تقولين، وإنّما هؤلاء أضياف أخيار. ثم قام إلى عجل سمين فذبحه وشواه، وقرّبه إليهم، ووقفت سارّة لخدمتهم، فجعل إبراهيم يأكل ولا ينظر إليهم وهو يظنّ أنهم يأكلون؛ فرأت سارّة أنّهم لا يأكلون؛ فنبهّته على ذلك، فقال:
أَلا تَأْكُلُونَ
؟ وداخله الخوف من ذلك، ثم قال: لو علمت أنّكم لا تأكلون ما قطعت العجل عن البقرة.
فمد جبريل يده نحو العجل، وقال: قم بإذن الله. فاشتدّ خوف إبراهيم وقال:
إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ* قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ
إلى قوله إِلَّا الضَّالُّونَ.
قال: وكانت سارّة واقفة هناك، فقالت: «أوّه» فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ
قال الله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ
أى حاضت فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
ولم تعلم أنّهم ملائكة؛ فقال لها جبريل: يا سارّة، كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
. قال إبراهيم: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ* لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ
ثم عاد جبريل إلى صورته، فعرفه إبراهيم، وعرّفه أنهم يقصدون قوم لوط بالعذاب؛ فاغتم إبراهيم شفقة على لوط وأهله، ثم قال: امضوا حيث تؤمرون.
وكان من أمر قوم لوط ما نذكره.(13/119)
قال: وحملت سارّة بإسحاق فى الليلة الّتى خسف الله فيها بقوم لوط، ووضعته وعلى وجهه نور أضاء منه ما حولها؛ فدخل إبراهيم وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
وربّته سارّة حتى بلغ سبع سنين.
ذكر خبر الذبيح وفدائه
قال: وكان إسحاق يخرج مع أبيه إلى بيت المقدس، فبينما إبراهيم فى مصلّاه إذ غلبته عينه فنام، فأتاه آت فى منامه وقال: إن الله يأمرك أن تقرّب قربانا.
فلمّا أصبح عمد إلى ثور فذبحه وفرّق لحمه على المساكين، فلما كان الليل رأى فى منامه الّذى أتاه وهو يقول: يا إبراهيم، إنّ الله يأمرك أن تقرّب له قربانا أعظم من الثور. فلمّا انتبه ذبح جملا وفرّق لحمه على المساكين. ثم رآه فى الليلة الثالثة وهو يقول: إنّ الله يأمرك أن تقرّب قربانا أعظم من الثور والجمل. قال إبراهيم:
وما هو؟ فأشار إلى ولده إسحاق؛ فانتبه فزعا، وأقبل على إسحاق وقال له: ألست تعطينى يا بنىّ؟ قال: بلى، ولو كان فى ذبح نفسى.
فانصرف إبراهيم إلى منزله، وأخذ الشّفرة والحبل، فوضعهما فى مخلاته وقال: يا إسحاق، امض بنا إلى الجبل.
فلما مضيا أقبل إبليس إلى سارّة وقال لها: إنّ إبراهيم قد عزم على ذبح إسحاق فالحقيه وردّية. قالت: ولم يذبحه؟ قال: إنّه زعم أن ربّه أمره بذلك. قالت:
إن كان الأمر كذلك فإنّه صواب إذا أراد رضى ربّه. وقالت: اللهم اصرف نزغ الشيطان. فولّى عنها هاربا، وتبع إسحاق فناداه: إنّ أباك يريد أن يذبحك.
فقال إسحاق لأبيه: يا أبت ألا تسمع إلى هذا الهاتف ما يقول؟ قال: يا بنىّ امض ولا تلتفت إليه، فسأخبرك.(13/120)
فلما انتهيا إلى رأس الجبل قال: إبراهيم: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
فحمد إبراهيم ربّه على ذلك؛ فنودى من السماء: أليس الله قد وصفك بالحلم فكيف لا ترحم هذا الطفل؟ قال: إن الله قد أمرنى بذلك. فقال إسحاق:
يا أبت عجّل أمر ربّك قبل أن ينال منّا الشيطان.
فنزع إبراهيم قميصه وربطه بالحبل، وكبّه على جبينه وهو يقول: الحمد لله باسم الله الفعّال لما يريد. ووضع الشفرة على حلقه، فلمّا همّ بذبحه انقلبت الشفرة، فارتعدت يد إبراهيم، فقال له إسحاق: يا أبت، حدّ الشفرة، واصرف وجهك عنّى حتى لا ترحمنى. قال: يا بنىّ، قد فعلت حتى لو قطعت بها المجنّ لقطعته بحدّها.
ثم وضع إبراهيم الشفرة على حلقه ثانيا، وهمّ بقطع أوداجه؛ فانقلبت؛ فقال إبراهيم: لا حول ولا قوّة إلا بالله. فقال: أصبت فى قولك يا أبت ولكن حدّ شفرتك لتذبحنى ذبحا، ولا تجزع. فحدّ إبراهيم المدية حتى جعلها كالنار ووضعها على حلق إسحاق، فسمع إبراهيم هدّة «1» عظيمة ومناديا يقول: يا إبراهيم خذ هذا الكبش فاذبحه عن ابنك، فهو قربان عنه، وهذا اليوم جعل عيدا لك ولولدك من بعدك.
فالتفت إبراهيم إلى الجبل، وإذا هو بكبش أملح أقرن، قد انحدر من الجبل وهو يقول: خذنى يا إبراهيم فآذبحنى عن ابنك، فأنا أحق منه بالذبح، فأنا كبش هابيل بن آدم.(13/121)
فحمد إبراهيم ربّه على ذلك، وذبح الكبش؛ فأتت نار من السماء بغير دخان فأكلته حتى لم يبق إلّا رأسه؛ وانصرف إبراهيم وإسحاق ورأس الكبش معهما إلى منزل إبراهيم، وأخبر سارّة بما جرى.
قال: ثم توفّيت سارّة بعد ذلك، وتزوّج إبراهيم بامرأة من الكنعانيين وأولدها ستّة أولاد فى ثلاثة أبطن.
وإبراهيم أوّل من صافح وعانق وفرق الشعر بالمشط ونتف الإبط واستاك واكتحل واختتن بالقدوم.
ذكر وفاة إبراهيم- عليه السلام-
قال: فبينما إبراهيم على باب داره، وإذا هو بملك الموت وقد وافاه فى أحسن صورة؛ فسلّم عليه؛ فأجابه وقال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أمرنى الله بقبض روحك. فكره إبراهيم الموت؛ ثم تصوّر له فى صورة شيخ كبير، ودخل على إبراهيم وقال: هل من طعام؟ فقدّم إليه طعام على طبق، فجعل ملك الموت يتناول الطعام، ويخيّل إلى إبراهيم أنه يلوّث وجهه وعنقه، وأنّه لا يستقرّ فى بطنه.
فقال له إبراهيم: أيّها الشيخ، ما بال هذا الطعام لا يستقرّ فى بطنك؟ قال: يا خليل الله، إنى قد شخت، ولست أتمكّن منه إلّا على هذا الوجه. قال: فكم تعدّ من السنين؟ قال: قد جزت مائتى سنة. قال إبراهيم: وأنا فى المائتين إلّا سنة، وإذا مضى علىّ مائتين أصير كذا؟ [قال: نعم «1» ] .
فدعا إبراهيم ربّه أن يقبضه. فجاءه ملك الموت؛ فقال: يا ملك الموت قد اشتقت إليك منذ رأيت ذلك الشيخ على تلك الصورة، فاقبض روحى.
فقبض روحه صلى الله عليه وسلّم.(13/122)
الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصّة لوط- عليه السلام- وقلب المدائن
هو لوط بن هاران بن تارح، وتارح هو آزر أبو إبراهيم- عليه السلام- وكان لوط قد شخص مع عمّه إبراهيم- عليهما السلام- من المدائن إلى أرض الشأم، مؤمنا به، مهاجرا معه، ومع إبراهيم تارح وسارّة بنت ماحور؛ فلمّا انتهوا إلى حرّان هلك تارح بها وهو باق على كفره؛ وسار إبراهيم ولوط وسارّة إلى الشأم؛ ثم مضوا إلى مصر وبها فرعون من الفراعنة يقال له: سنان بن علوان ابن عبيد بن عوج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام؛ ورجعوا إلى أرض الشأم فنزل إبراهيم فلسطين، وأنزل لوطا الأردن، فكان هناك إلى أن بعثه الله نبيا.
قال: وأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى إبراهيم أن يرسل لوطا نبيّا إلى (سذوم) ، وكانت خمس مدائن؛ وهى: (صامورا) «1» (وصابورا) (وسذوم) (ودومة) «2» (وعامورا) ، وهى المؤتفكات، وكان أعظمها (سذوم) وعلى كلّ مدينة سور عظيم مبنىّ بالحجارة والرّصاص، وعليهم ملك يقال له: (سذوم) من بيت نمروذ بن كنعان، وكان أهل هذه المدائن قد خصّوا بحذف الحصا والحبق «3» في المجالس وعبادة الأصنام، وكانوا حسان الوجوه، فأصابهم قحط، فأتاهم إبليس فقال:
إنما أصابكم القحط لأنّكم منعتم الناس من دوركم ولم تمنعوهم من بساتينكم. فقالوا:(13/123)
كيف السبيل إلى المنع؟ قال: اجعلوا السنّة بينكم إذا دخل بلدكم غريب سلبتموه ونكحتموه فى دبره، فإذا فعلتم ذلك لم تقحطوا.
فخرجوا إلى ظاهر البلد فتصوّر لهم إبليس فى صورة غلام أمرد، فنكحوه وسلبوه، فطاب لهم ذلك حتى صار فيهم عادة مع الغرباء، وتعدّوا إلى أهل البلد، وفشا بينهم؛ فأرسل الله إليهم لوطا، فبدأ بمدينة (سذوم) وبها الملك، فلما بلغ وسط السوق قال: يا قوم اتقوا الله وأطيعون وارجعوا عن هذه المعاصى التى لم تسبقوا إليها، وانتهوا عن عبادة الأصنام، فإنّى رسول الله إليكم.
فكان جوابهم أن قالوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
وبلغ الخبر الملك، فقال: «ائتونى به» فلمّا وقف بين يديه سأله:
من أين أقبل؟ ومن أرسله؟ ولماذا جاء؟ فأخبره أن الله أرسله. فوق فى قلبه الخوف والرعب، وقال: إنما أنا رجل من القوم، فآدعهم فإن أجابوك فأنا منهم.
فدعاهم فقالوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ
. فقال لهم: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ* رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ.
فلبث فيهم عشرين سنة يدعوهم إلى الله وهم لا يجيبونه.
ثمّ توفيت امرأته، فتزوّج بامرأة من قومه كانت قد آمنت به، فأقام معها أعواما وهو يدعوهم حتى صار له فيهم أربعون سنة وهو يدعوهم بما أخبر الله به ويقول: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ
الايات، وهم لا يزدادون إلا كفرا وإصرارا وتماديا على أفعالهم الذميمة، فضجّت الأرض منهم.(13/124)
ذكر خبر نزول العذاب على قوم لوط وقلب المدائن
قد ذكرنا فى قصّة إبراهيم أن الله- عزّ وجلّ- أرسل الملائكة إليه وبشّروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وأخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط، وقال لهم: امضوا حيث تؤمرون.
فاستووا على خيولهم. وساروا إلى المدائن وهم على صفة البشر، فأتوا المدائن وقت المساء، فرأتهم ابنة لوط- وهى الكبرى من بناته وهى تستقى الماء- فتقدّمت إليهم وقالت: ما لكم تدخلون على قوم فاسقين؟ ليس يضيفكم إلّا ذلك الشيخ. فعدلت الملائكة إلى لوط، فلما رآهم اغتمّ غمّا شديدا مخافة عليهم من شرّ قومه، ثم قال لهم: من أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع بعيد، وقد حللنا بساحتك، فهل لك أن تضيفنا الليلة؟ قال: نعم، ولكن أخاف عليكم من هؤلاء الفاسقين- عليهم لعنة الله- قال جبريل لإسرافيل: هذه واحدة- وكان الله قد أمرهم ألّا يدمّروا على قومه إلّا بعد أربع شهادات من لوط ولعنته عليهم- ثم أقبلوا إليه وقالوا: يا لوط، قد أقبل علينا الليل، فاعمل على حسب ذلك.
قال: قد أخبرتكم بأنّ قومى يأتون الرجال من العالمين- عليهم لعنة الله- فقال جبريل لإسرافيل: هذه ثانية. ثم قال لهم لوط: انزلوا عن دوابّكم واجلسوا هاهنا حتى يشتدّ الظلام، وتدخلون ولا يشعر بكم أحد منهم- عليهم لعنة الله- قال جبريل: هذه ثالثة. ثم مضى لوط والملائكة وراءه، فدخل المنزل، وأغلق الباب، وقال لامرأته: إنك قد عصيت الله أربعين سنة وهؤلاء ضيفانى قد ملأوا قلبى خوفا، فاكتمى علىّ أمرهم حتى يغفر الله لك ما مضى. قالت: نعم. ثم خرجت وبيدها سراج كأنها تشعل، فطافت على عدّة(13/125)
من القوم، فأخبرتهم بجمالهم وحسنهم، فعلم لوط بذلك، فأغلق الباب وأوثقه؛ فأقبل الفسّاق وقرعوا الباب. فناداهم لوط: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ* قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ
ثم كسروا الباب، ودخلوا، فقالوا له: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ.
فوقف لوط على الباب الذى دونه ضيفانه وقال: لا أسلم ضيفانى إليكم دون أن تذهب نفسى.
فتقدّم بعضهم ولطم وجهه، وأخذ بلحيته، ودفعوه عن الباب، فقال: أوّه لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ
ثم قال: إلهى خذ لى بحقّى من هؤلاء الفسقة والعنهم لعنا كبيرا. فقال جبريل عند ذلك: هذه أربعة. وقام جبريل ففتح الباب وقال للوط: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ
فهجم القوم.
ودخلوا وبادروا نحو الملائكة، فطمس الله أعينهم، واسودّت وجوههم.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ
فجاءت طائفة أخرى ونادوهم: اخرجوا لندخل. فنادوا: يا قوم، هؤلاء قوم سحرة سحروا أعيننا فأخرجونا. فأخرجوهم، وقالوا: يا لوط، حتى نصبح نريك وبناتك. وخرجوا فقال لوط للملائكة: بماذا أرسلتم؟ فأخبروه، فقال: متى؟ قالوا: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
ثم قال له جبريل: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ
فجمع لوط أهله وبناته ومواشيه، وأخرجه جبريل من المدينة، وقال له: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ
ومضى لوط(13/126)
بمن معه، وجبريل قد بسط جناح الغضب، وإسرافيل قد جمع أطراف المدن ودريائيل قد جعل جناحه تحت الأرض، وملك الموت قد تهيّأ لقبض أرواحهم حتى إذا برز عمود الصبح صاح جبريل صيحة: يا بئس صباح قوم كافرين.
وقال ميكائيل: يا بئس صباح قوم فاسقين. وقال دريائيل: يا بئس صباح قوم ظالمين. وقال إسرافيل: يا بئس صباح قوم مجرمين. وقال عزرائيل: يا بئس صباح قوم غافلين.
فاقتلع جبريل هذه المدن عن آخرها، ثم رفعها حتى بلغ بها الى البحر الأخضر وقلبها، فجعل عاليها سافلها. قال الله تعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى * فَغَشَّاها ما غَشَّى
يعنى رمى الملائكة إيّاهم بالحجارة من فوقهم.
قال: واستيقظ القوم، وإذا هم بالأرض تهوى بهم، والنيران من تحتهم والملائكة تقذفهم بالحجارة.
قال: ومن كان من القوم بغير مدائنهم ممّن كان على دينهم وفعلهم أتاه حجر فقتله.
قال: وبقى يخرج من تحت «1» المدائن دخان منتن، لا يقدر أحد يشمّه لنتنه، وبقيت آثار المدائن. قال الله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
قال: ومضى لوط إلى إبراهيم- عليهما السلام- فذلك قوله عزّ وجلّ:
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ* وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.(13/127)
الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر إسحاق ويعقوب- عليهما السلام-
قال: ولمّا قبض الله تعالى إبراهيم الخليل- عليه السلام- سكن إسماعيل الحرم، وإسحاق الشأم ومدين، وسكن معه سائر أولاد إبراهيم، وبعثه الله إلى الأرض المقدّسة نبيّا ورسولا، فأقام بينهم نحوا من ثمانين سنة، وكفّ بصره فبينما هو نائم الى جنب امرأته إذ تحرّكت شهوته، فقالت: وفيك بقيّة يا إسحاق؟
فواقعها مرّة فحملت بذكرين: وهما يعقوب والعيص- على ما ذكرناه فى الأنساب- وهو فى الباب الرابع من القسم الأوّل من الفنّ الثانى، وهو فى الجزء الثانى من هذا الكتاب، وذكرنا أيضا أولاد العيص فيه.
قال: ثم قبض الله تعالى نبيّه إسحاق، فقسم ما كان له من بقر وخيل وغنم وغير ذلك بالسوية، ومات؛ فغلب العيص على مال يعقوب، واغتصبه إياه وقصد قتله؛ فقالت له أمّه: الحق بخالك (لابان) وإخوته بحرّان، فإنّهم مؤمنون من آل إبراهيم.
فتوجّه يعقوب إلى حرّان، فأكرمه خاله، وزوّجه ابنته، وسلّم إليه ما بيده من المال، وكانت ابنته هذه الكبرى، واسمها (ليا) «1» فرزق منها روبيل «2» وشمعون «3» ، ثم ذكرين: لاوى «4» ويهوذا، وتوفيت؛ فزوّجه خاله ابنته الثانية واسمها(13/128)
سروريّة «1» ، فولدت له ولدين: دانا ونفتالى «2» ؛ ثم توفّيت، فزوّجه الثالثة فأولدها ذكرين يساخر «3» وزبولون، وماتت؛ فزوّجه ابنته الرابعة، واسمها راحيل- وكانت أحسن بناته- وذلك بعد أن استكمل يعقوب من عمره أربعين سنة، فجاءه الوحى يومئذ وهو بحرّان وقد ماتت أمّه.
ذكر مبعث يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام
قال: ولما أتاه الوحى أقبل على خاله لابان، وشكره على فعله، وقال: إن ربّى بعثنى رسولا إلى أرض كنعان. فزوّده بخيل وغنم وبقر وغير ذلك، وقال:
امض لما أمرك به ربّك. فخرج يعقوب ومعه أولاده العشرة «4» وامرأته يريد أرض كنعان، فبلغ خبر نبوّته أخاه العيص، فغضب لذلك، وعارضه فى طريقه بجموعه؛ فراسله يعقوب مع ابنه روبيل، وذكّره الأخوّة والرحم، فزبر «5» روبيل وردّه؛ ثم التقيا، فظفّر الله يعقوب بالعيص بقوّة النبوّة، فاحتمله وألقاه على الأرض وجلس على صدره، وقال له: كيف رأيت صنع الله بك يا عيص؟ ثم رقّ له وقام عن صدره واعتنقه، فاعترف العيص بفضله عليه، وسأله أن يعفو عمّا سلف منه فى حقّه؛ فاستغفر له يعقوب ودعا له، وانصرف العيص إلى بلده، وأقبل يعقوب(13/129)
إلى أرض كنعان، فبنيت له دار متّسعة، سكنها بأهله وأولاده، وكان بأرض كنعان ملك يقال له: سحيم، فدعاه يعقوب إلى الإيمان بالله، فلم يكترث به قال: فإنّى مجاهدك. قال: بمن تجاهدنى وليس معك أحد؟ قال: أجاهدك بالله وملائكته وهؤلاء أولادى.
وأقبل يعقوب بأولاده والملك فى حصنه، فقال: يا بنىّ، جاهدوا فى الله حقّ جهاده. فقال ابنه شمعون: أنا أكفيك هذا الحصن. وأقبل وضرب باب الحصن برجله فتساقطت حيطانه، وصاح صيحة عظيمة فمات الملك وأكثر من بالحصن. ودخل يعقوب الحصن، وغنم ما كان فيه؛ فكانت هذه معجزة ليعقوب، وبلغ ذلك أهل كنعان، فوقع الرعب فى قلوبهم، فآمنوا بيعقوب- عليه السلام-.
الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصّة يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام
وهذه القصة تدخل فيها بقيّة أخبار يعقوب وما كان من أمره ووفاته وخبر الأسباط أولاده.
ذكر خبر ميلاد يوسف- عليه السلام-
قال: ولمّا رجع يعقوب من غزاته دخل على امرأته راحيل فواقعها فحملت بيوسف وببنيامين أخيه، فوضعتهما، فجاء يوسف كالقمر، فربّته أمّه حتى صار عمره سنتين، وماتت أمه؛ فلمّا بلغ عمره عشر سنين أمر يعقوب بجذعة من غنمه، فذبحت، وصنعت طعاما، وجمع أولاده على الطعام يأكلون، فأقبل(13/130)
مسكين وسأل وأكثر السؤال، واشتغل يعقوب عنه ولم يأمرهم بإطعامه، حتى انصرف السائل.
فلما فرغ يعقوب من أكله قال: أعطيتم السائل شيئا؟ فقالوا: إنك لم تأمرنا بشىء. فجاءه الوحى: يا يعقوب، قد جاءك مؤمن فقير مريض شمّ رائحة طعامك فلم تطعمه، وأحرقت قلبه، فلأحرقنّ قلبك. فاغتم يعقوب.
ذكر رؤيا يوسف- عليه السلام- وكيد إخوته له
قال: ولما بلغ اثنتى عشرة سنة رأى رؤياه وقصّها على أبيه. قال الله تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ* قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ
إلى قوله:
عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
قال: فسمع إخوته الرؤيا، فداخلهم الحسد، وقالوا ما أخبر الله به عنهم:
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ* قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.
قال: فاتفقوا وجاءوا إلى أبيهم، فقالوا: يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
. فقال لهم يعقوب: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ* قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ.(13/131)
قال: وأحبّ يوسف ذلك، فدعا يعقوب بسلّة فيها طعام وكوز ماء، وقال:
إذا جاع فأطعموه من هذا الطعام، وإذا عطش فاسقوه؛ وأخذ عليهم العهود بردّه وشيّعهم بنفسه، وجلس على تلّ عال ينظر إليهم حتى غابوا عنه؛ فندم على إرساله ثم رجع إلى منزله؛ وجعل إخوة يوسف يمنعون فى السير، وهو يمشى وراءهم ولا يلحقهم، ويناديهم: «قفوا لى» . فلم يقفوا. ويقول: «اسقونى» . فلم يسقوه؛ وكسر شمعون الكوز وقال: قل لأحلامك الكاذبة حتى تسقيك. ورمى (لاوى) سلّة الطعام فى الوادى؛ فعلم يوسف أنهم قد عزموا على أمر، فناداهم وناشدهم الله والرحم، وذكّرهم بعهود أبيه، فلطمه أحدهم فأكبّه؛ وساروا ويوسف يعدو وراءهم حتى بلغوا موضع أغنامهم، فأرادوا قتله؛ فقال لهم يهوذا: إن قتلتموه حلّ بكم ما حلّ بقابيل حين قتل أخاه. فأجمعوا أن يجعلوه فى غيابت الجب وطلبوا له جبّا عميقا فوجدوه، فجرّوه إليه وهو يبكى، وقال لهم يهوذا: يا بنى يعقوب لقد ذهبت الرحمة من قلوبكم. قالوا: فنردّه إلى أبيه فيحدّثه بما فعلناه به؟ قال:
فإن طرحتموه فى الجبّ لا يبلغ قعره حتى يموت، ولكن دلّوه بحبل. ولم يكن معهم حبل، فذبحوا شاة، وقدّوا جلدها كالحبل، ودلّوه به؛ فلما نزل إلى الجبّ امتلأ نورا، وأتاه جبريل وقال له: لا تخف فإنّ الله معك. وكان فى الجبّ حجر عظيم، فسطّحه جبريل بجناحه فصار كالطبق وأجلسه فيه، وأتاه بطعام من الجنّة فأكل، وأتاه بقميص فلبسه، وبفراش من الجنة، وآنسته الملائكة فى الجبّ.
قال الله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.(13/132)
قال: ثم قالوا: ماذا نقول لأبينا؟ قال بعضهم: إنّه كان يخاف عليه من الذئب، فنقول: إن الذئب أكله. فعمدوا إلى جدى فذبحوه على قميصه، وألصقوا بالدم شيئا من شعر الجدى، ورجعوا إلى أبيهم.
ذكر رجوع إخوة يوسف إلى يعقوب
قال: ولمّا قربوا من عريش يعقوب أخذوا فى البكاء والعويل، فرأتهم ابنة يعقوب، فنزلت إلى أبيها باكية، وقالت: رأيت إخوتى متفرّقين يبكون، وروبيل يقول: «يا يوسف يا يوسف» . فصاح يعقوب، وخرّ على وجهه؛ فدخلوا عليه وقالوا: يا أبانا، جلت المصيبة وعظمت الرزيّة إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ
قال الله تعالى:
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ
وأخذ يعقوب القميص. ونظر إليه فلم ير فيه أثر خدش فقال: يا بنىّ، ما للذئب وأكل أولاد الأنبياء؟ وأخذ يبكى؛ ثم قال: اخرجوا فى طلب هذا الذئب، وإلّا دعوت عليكم فتهلكوا. فخرجوا فأخذوا ذئبا عظيما وجعلوا يضربونه ويجرّونه، حتى جاءوا به إلى أبيهم، فقال: كيف عرفتموه؟
قالوا: لأنه ذئب كبير، وكان يتعرّض لنا فى غنمنا.
ذكر كلام الذئب بين يدى يعقوب
فقال يعقوب: سبحان من لو شاء لأنطقك بحجّتك. فنطق الذئب وقال:
لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، يا نبىّ الله، إنى ذئب غريب، فقدت ولدا لى فجئت فى طلبه حتى بلغت بلدك، فأخذنى هؤلاء وضربونى وكذبوا علىّ؛ والذى أنطقنى ما أكلت ولدك، وكيف يأكل الذئب أولاد الأنبياء؟ فأطلقه يعقوب.(13/133)
ذكر خبر خروج يوسف من الجبّ وبيعه من مالك بن دعر
قال: وأقبل قوم من بلاد اليمن يريدون أرض مصر، فخرج بعضهم فى طلب الماء، فرأى نورا يسطع من البئر، فأدلى دلوه، فتعلّق به يوسف، فآجتذبه، فنظر اليه فرآه، فقال للّذى كان معه: يا بُشْرى هذا غُلامٌ
. فأخرجوه.
قيل: وذلك فى اليوم الرابع من إلقائه فى الجبّ، وكان إخوته على رأس جبل فنظروا إلى اجتماع القافلة على الجبّ، فعدوا إليهم، وقالوا: هذا عبد لنا أبق منذ أيام، ونحن فى طلبه، فإن أردتم بعناه منكم.
ثم قالوا ليوسف بالعبرانية: إن أنكرت العبوديّة انتزعناك من أيديهم وقتلناك.
فسأله أهل القافلة فقال: «إنى عبد» ، أراد لله.
وكان رئيس القافلة مالك بن دعر، فاشتراه منهم بأقل من عشرين درهما.
قيل: تنقص درهما. وقيل: تزيد درهمين. وقيل: اشتراه بأربعين درهما والله أعلم. فاقتسموها بينهم.
قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ
ثم قالوا لمالك: هذا عبد آبق سارق، قيّده حتى لا يهرب منك ولا يسرق.
فقيده وأركبه ناقة، وكتب يهوذا كتاب البيع، وساروا حتى بلغت القافلة قبر أمّ يوسف، فلم يتمالك أن رمى بنفسه على القبر وبكى؛ فافتقدوه فلم يروه، فبعثوا فى طلبه، فوجدوه وقد اتكأ على القبر؛ فلطمه واحد منهم، وقالوا: هلّا كان هذا البكاء قبل اليوم حتى كنّا لا نشتريك؟ وساروا به حتى دخلوا مصر، فغيّر مالك لباس يوسف، وعبر به، فاجتمع الناس على القافلة، ورأوا يوسف فعجبوا لحسنه وجماله.(13/134)
ذكر خبر بيع يوسف من عزيز مصر
قال: وواعدوا مالكا على بيعه بباب الملك ريّان بن الوليد، فزيّن يوسف بأحسن زينة، وأقعده على كرسىّ، وأقبل عزيز مصر واسمه قطفير «1» ، واجتمع التجار وقام الدلّال ونادى عليه؛ فبكى يوسف، وتزايد القوم حتى بلغ يوسف مالا لا يحصى كثرة؛ واستقرّ بيعه من قطفير، وأحضر الأموال.
وقد اختلف الرّواة فى كميّة الثمن، فمنهم من لم يحدّه، بل قال: مالا كثيرا.
ومنهم من قال: إنّ عزيز مصر تلقّى القافلة، واشتراه من مالك بن دعر بعشرين دينارا، ونعلين، وثوبين أبيضين. وقد عزى هذا القول إلى ابن عبّاس- رضى الله عنهما-.
وروى عن وهب بن منبّه أنه أقيم فى السوق، وتزايد الناس فى ثمنه، فبلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرا؛ فابتاعه العزيز بهذا الثمن.
نرجع إلى سياق الكسائىّ:
قال: فوقف عليه رجل من بلاد كنعان على ناقة، فمدّت عنقها، وجعلت تشمّ يوسف، فسأل يوسف صاحب الناقة بالعبرانيّة: من هو؟ فأخبره أنه من أرض كنعان؛ فقال له: اقرئ يعقوب سلامى اذا رجعت، وصف له صفتى.
فلمّا عاد الكنعانىّ أخبر يعقوب بذلك؛ فقال يعقوب: سلنى حاجة بهذه البشارة. قال: ادع لى أن الله يكثر ولدى ومالى. فقال: اللهمّ أكثر ولده وماله وأدخله الجنة.(13/135)
قال: ثم دنا مالك «1» من يوسف فقال له: أنا يوسف بن يعقوب بن إبراهيم الخليل؛ وأخبره بخبر إخوته. فصاح مالك وقال: والله ما علمت فاستغفر لى فإنى من أولاد مدين بن إبراهيم. فبكى يوسف، وقال له مالك: أسألك أن تدعو الله يرزقنى ولدا. فدعا الله فرزقه أربعة وعشرين ولدا؛ وعاش مالك حتى رأى يوسف وهو عزيز مصر.
قال: ودخل قطفير منزله ويوسف معه، فرأته زليخا- وكانت أحسن نساء زمانها- فقال لها زوجها قطفير: قد اشتريت هذا الغلام لنتّخذه ولدا فإنا لم نرزق ولدا. قال الله تعالى: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً.
ذكر خبر يوسف وزليخا
قال: ولمّا رأته زليخا عجبت لحسنه، ولا طفته، وقالت: لا ينبغى لمثلك أن يباع عبدا. ويوسف ساكت؛ وكان لا يأكل من ذبائحهم، فقالت له: لم لا تأكل من ذبيحتنا وتقبل كرامتنا ولى هذا البستان أريد أن تحفظه. فقال يوسف: أفعل ذلك. فكان يوسف يتعاهده حتى عمر ببركته، وهو يأكل من نباته، فوقعت محبّته فى قلب زليخا، فكتمت ذلك حتى كاد يظهر عليها، فأتتها دايتها، وقالت: يا سيدة نساء مصر، اخبرينى بقصّتك. فذكرت ما بها من حبّ يوسف؛ فأمرتها أن تتزيّن بأحسن زينتها؛ ففعلت، وجلست على سرير وأحضرت يوسف، فوقف بين يديها وهو لا يعلم ما يراد منه؛ وأغلقت الداية أبواب المجلس من خارج؛ فعلم عند ذلك مراد زليخا- وكان عمره ثمان عشرة سنة-؛ قال(13/136)
الله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
قال: فرمت بتاجها وهمت به. قال الله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ.
قالوا: همّ بضربها. وقيل: بردعها. وقيل: لما حصل عنده من الهمّ.
ولا تعويل على ما نقله أهل التاريخ: أنّه همّ بها كما همّت به.
قالوا: وكان البرهان الذى رآه أنه سمع صوتا من ورائه، فالتفت، فرأى صورة يعقوب وهو عاضّ على يديه يقول: «الله الله يا يوسف» .
وقيل: خرجت كفّ من الحائط مكتوب عليها: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ
؛ ثم انصرفت الكفّ وعادت زليخا لمراودته، فخرجت الكف ثانية مكتوب عليها: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ
ثم عادت فخرجت الكف ثالثة وعليها مكتوب: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.
قال: فلمّا نظر يوسف إلى البرهان، بادر إلى الباب؛ فعدت زليخا خلفه فلحقته عند الباب، فجذبت قميصه فقدّته من دبر؛ وإذا قطفير قد أقبل. قال الله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ.
قال: فلمّا نظرت زليخا إليه لطمت وجهها، وقالت: أيّها العزيز، هذا يوسف الّذى اتخذناه ولدا دخل يراودنى عن نفسى.
ثم قالت: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ* قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي
فهمّ قطفير أن يضرب يوسف بسيف، فأنجاه الله منه؛(13/137)
وكان فى المجلس صغير ابن شهرين- وهو ابن داية زليخا- فتكلّم بإذن الله وقال: لا تعجل يا قطفير، أنا سمعت تخريق الثوب. قال الله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ* وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ
ثم لم ينطق الصبىّ بعد ذلك حتى بلغ حدّ النطق، وهذا الصبىّ أحد من تكلّم فى المهد. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
؛ وأقبل على يوسف وقال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا
الحديث لا يسمعه أحد. وقال لزليخا: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ.
وخرج قطفير من منزله، وعادت زليخا لمراودته؛ فامتنع عليها.
ذكر خبر النسوة اللاتى قطّعن أيديهنّ
قال: وفشا فى المدينة، وشاع عند نساء الأكابر خبرها، فعتبنها عليه، وهو قوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
فلمّا بلغها ذلك من قولهنّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً.
قال: استدعت امرأة الكاتب والوزير وصاحب الخراج وصاحب الديوان.
وقيل: إنّ النساء اللاتى تكلّمن فى أمر زليخا امرأة الساقى وامرأة الخباز وامرأة صاحب الديوان وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب؛ والله أعلم.
قيل: إنها قدّمت إليهنّ صوانىّ الأترج وصحاف العسل: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً
وزيّنت يوسف، وقالت: إنّك عصيتنى فيما مضى، فإذا دعوتك الآن فاخرج. فأجابها إلى ذلك؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ(13/138)
إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ.
قال: كنّ يأكلن الأترجّ بالسّكاكين فنالهنّ من الدهش والحيرة ما قطّعن أيديهنّ «1» وتلوّثت بالدماء ولم يشعرن؛ فقالت لهنّ زليخا ما حكاه الله عنها: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ.
وقيل: إنّ النساء خلون به ليعدّلنه «2» لها، فراودته كلّ واحدة منهنّ عن نفسه لنفسها، ثم انصرفن إلى منازلهنّ.
ثم دعته زليخا وراودته، وتوعّدته بالسجن إن لم يفعل؛ فقال يوسف ما أخبر الله به عنه: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ.
قال: فلمّا أيست زليخا منه مضت إلى الملك ريّان بن الوليد- وكانت لا تردّ عنه- فقالت: إنّى اشتريت عبدا، وقد استعصى علىّ، ولا ينفع فيه الضرب والتوبيخ، وأريد أن أحبسه مع العصاة. فأمر الملك بحبسه، وأن يفرج عنه متى اختارت؛ فأمرت السجّان أن يضيّق عليه فى محبسه ومأكله ومشربه؛ ففعل ذلك؛ فأنكره العزيز، وأمر أن ينقل إلى أجود أماكن السجن، ويفكّ قيده، وقال له: لولا أن زليخا تستوحش من إخراجك لأخرجتك، ولكن اصبر حتى ترضى عنك ويطيب قلبها.(13/139)
ذكر إلهام يوسف- عليه السلام- التعبير
ونزل جبريل على يوسف- عليه السلام- وبشّره أنّ الله قد ألهمه تعبير الرؤيا فعرفه بإذن الله عزّ وجلّ، وأنبت الله له شجرة فى محبسه يخرج منها ما يشتهيه.
ذكر خبر الخبّاز والساقى
قال: وغضب الملك ريّان بن الوليد على ساقيه شرهيا، وصاحب مطبخه شرها «1» ، فأمر بحبسهما، فحبسا فى السجن الذى فيه يوسف، فرأى الساقى رؤيا فسأل أهل السجن عن تأويلها، فدلّوه على يوسف؛ فأتاه وقال: قد رأيت رؤيا.
فقال له يوسف: قصّها. فقال: رأيت كأنّى فى بستان فيه كرمة حسنة؛ وفيها عناقيد سود؛ فقطعت منها ثلاث عناقيد وعصرتها فى كأس الملك، ورأيت الملك على سريره فى بستانه، فناولته الكأس فشربه، وانتبهت.
فقال صاحب المطبخ: وأنا رأيت مثل هذه الرؤيا، رأيت كأنى أخبز فى ثلاثة تنانير: أحمر وأسود وأصفر، ورأيت كأنّى أحمل ذلك الخبز فى ثلاث سلال إلى دار الملك، وإذا بطائر على رأسى يقول لى: قف فإنّى طائر من طيور السماء. ثم سقط على رأسى فجعل يأكل من ذلك الخبز، والناس ينظرون إليه وإلىّ، وانتبهت فزعا.
فقال يوسف: بئسما رأيت. ثم قال للساقى: إنّك تقيم فى السجن ثلاثة أيّام ويخرجك الملك فيسلّم إليك خزانته، وتكون ساقيه وصاحب خزانته. وأنت يا خباز بعد ثلاثة أيام تضرب رقبتك وتصلب وتأكل الطير من رأسك. فقال الخباز: إنى لم أرشيئا، وإنّما وضعت رؤياى هذه. فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ.(13/140)
ثم قال يوسف للساقى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ
وأعلمه أنّى محبوس ظلما.
فقال له: ما أبقى جهدا.
فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام كان من أمر السّاقى والخباز ما قاله لهما يوسف.
ثم هبط جبريل على يوسف وقال: إن الله يقول لك: نسيت نعمائى عليك فقلت للساقى يذكرك عند ربه، وهما كافران، فأنزلت حاجتك بمن كفر بنعمتى وعبد الأصنام دونى.
قال الله تعالى: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ.
قيل: الذى أنساه الشيطان ذكر ربه هو الساقى، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
وهو يبكى ويستغفر ويتضرع إلى الله؛ فأوحى الله إليه: أنى قد غفرت لك ذنبك، وأنه سيخرجك من السجن، ويجمع بينك وبين أبيك وإخوتك وتصدق رؤياك. فخرّ ساجدا لله تعالى.
ذكر رؤيا الملك وتعبيرها وما كان من أمر يوسف وولايته
قال: وقدّر الله عزّ وجلّ أن الملك- وهو الريّان بن الوليد بن ثروان بن أواسة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن نوح عليه السلام- رأى فى تلك الليلة رؤيا هالته؛ فدعا بالمعبّرين، فقالوا: إن هذه أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ
. فغضب الملك وقطع أرزاقهم؛ وذكّر الله الساقى؛ قال الله تعالى: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ
فتقدّم إلى الملك وذكر له خبر يوسف- وكان بين المدّتين «1» سبع سنين وسبعة(13/141)
أشهر- فأرسله الملك إليه وقال: أخبره برؤياى وأتنى بتأويلها. فأقبل الساقى إلى السجن واجتمع بيوسف، واعتذر له، وأخبره برؤيا الملك، وقال: هل عندك تعبير ذلك؟ قال: لا أفعل حتى ترجع إلى الملك وتسأله ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ
؛ فرجع الساقى إلى الملك وأخبره. فاستدعى النسوة، فأتى بمن كان يعيش منهن، فقال الملك: ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ
. فلما قلن ذلك قال الملك: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
؛ فلمّا دخل عليه أجلسه معه على السرير، وسأله عن اسمه ونسبه، فانتسب له، وذكر قصّته مع إخوته؛ فقال له الملك: قد سمعت ما رأيت فى منامى. ثم قصّها عليه، فقال: رأيت سبع بقرات سمان فى نهاية الحسن، ولكل بقرة قرون كبيرة، فحملتنى واحدة على قرنيها، فجعلت أصير من بقرة إلى بقرة حتّى طفت على الجميع؛ فبينما أنا كذلك وإذا بسبع بقرات عجاف مهازيل، فعمدت فأكلت كلّ واحدة من المهازيل واحدة من السمان، وبقيت الّتى أنا على قرنيها فلمّا تقدّمت المهزولة لأكلها، رمتنى عن قرنيها، فأكلتها المهزولة؛ ثم صار للمهازيل أجنحة، فطارت ثلاث نحو المشرق وثلاث نحو المغرب، وبقيت هناك واحدة؛ فبينما أنا كذلك وإذا أنا بسبع سنبلات فى نهاية الخضرة خرجن من ذلك الوادى، ثم لاحت فيهن سبع سنبلات يابسات، فآلتففن على الخضر حتى غلبن على خضرتهن، وإذا بملك قد أقبل وقال: يا ريّان. خذ هذا الرجل فأقعده على سريرك، فإنّه لا يصلح ما رأيت إلّا على يديه؛ فهذا ما رأيت.
فقال يوسف: أما السبع بقرات السمان فهى سبع سنين يكون فيها زرع وخصب فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ
فإنّه أبقى له.(13/142)
وأما البقرات العجاف، فإنّها سبع سنين فيها قحط وضيق، فتأكل ما حصدتم فى سنين الخصب إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ
فى بيوتكم.
وأما السنابل الخضر، فهى سنو الخصب، واليابسة سنو الجوع، والرجل الذى قال لك؛ أقعده على سريرك، فيكون صلاح ذلك على يديه فأنا هو؛ وقد أمرك ربى بهذا؛ فهذا تأويل رؤياك.
قال: فقال له ريّان: أشر علىّ الآن بمن أقدّمه فى هذا الأمر. فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.
قال: كيف يتهيّأ لك وأنت رجل عبرانىّ لا تعرف لغة أهل مصر؟ فقال:
إنّ الله ألهمنى جميع هذه الألسنة يوم دخلت مصر. فنزع الملك خاتمه، وجعله فى اصبع يوسف، وقال لأصحابه: هذا عزيز مصر وخليفتى، فآسمعوا له وأطيعوا.
قال الثعلبىّ: قال أهل الكتاب: لما تمت ليوسف فى الأرض ثلاثون سنة استوزره فرعون مصر. وكان مرادهم- والله أعلم- أنه لما استكمل ثلاثين سنة من عمره.
وحكى الثعلبىّ أن الملك عزل العزيز وولّى يوسف، ثم هلك العزيز عن قريب وكان يوسف يوم قضائه تضرب له قبّة من الديباج يجلس فيها للحكومة بين الناس وبقيّة الأيام يدور فى عمله ويأمر بالزراعة والحرث وعمر البيوت لخزن الحبوب بسنابلها، حتى ملأها، وخزن الأتبان حتى انقضت سنو الخصب ودخلت سنو القحط، فنهى عن الزراعة فيها لعلمه أن الأرض لا تثمر فيها شيئا؛ فأكلوا ما عندهم حتى نفد؛ فالتجأوا إلى الملك، فقال الملك: عليكم بالعزيز فإن فى يده خزائن الطعام. فجاءوه، فباعهم فى السنة الأولى بالدنانير والدراهم، وفى السنة الثانية بالحلىّ(13/143)
والجواهر، وفى الثالثة بالأراضى والعقار، وفى الرابعة بالإماء والعبيد، وفى الخامسة بأولادهم، وفى السنة السادسة بأنفسهم، حتى صاروا ملكا له وعبيدا، وأطعمهم فى السنة السابعة لأنهم صاروا عبيده وإماءه؛ والله أعلم.
ذكر حاجة زليخا إلى الطعام وزواج يوسف بها
يقال: إن زليخا أصابها من الحاجة ما أصاب غيرها. وابتاعت الطعام بجميع ما لها، وبقيت منفردة، فلم تجد بدّا من التعرّض ليوسف، فقعدت على طريقه وإذا هو قد أقبل فى مواكب عظيمة، فقامت وقالت: يا يوسف، سبحان من أعز العبيد بالطاعة، وأذّل السادات بالمعصية، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك من أولاد النبييّن.
فسألها يوسف. من أنت؟ فقالت: زليخا؛ وبكت وذكرت حاجتها إلى الطعام؛ فصرفها إلى منزلها، وردّ عليها أملاكها وأموالها، وبعث لها بمال جزيل وطعام كثير؛ ثم استأذن الله تعالى فى زواجها؛ فإذن له؛ فتزوّجها، وردّ الله عليها حسنها وجمالها؛ فلمّا دخل عليها وجدها بكرا؛ فعجب من ذلك؛ فقالت: يا نبىّ الله «والذى هدانى إلى دينك ما مسّنى ذكر قطّ، وما قدر علىّ العزيز» .
فيقال: إنه رزق منها عشرة أولاد فى خمسة أبطن.
وقد حكى الثعلبىّ أنّ العزيز قطفير لمّا هلك بعد عزله زوّج الملك يوسف بامرأته زليخا، وسماها الثعلبىّ فى كتابه: «راعيل» .
قال: وانتشر القحط حتى بلغ أرض كنعان؛ فقال يعقوب لبنيه: يا بنىّ، إنكم ترون ما نحن فيه من الضّر، وقد بلغنى أنّ عزيز مصر تقصده الناس فيمتارون منه(13/144)
ويحسن إليهم، وأنه مؤمن بإله إبراهيم، فاحملوا ما عندكم من البضاعة وتوجهوا إليه.
ففعلوا ذلك وساروا.
قال: وأقبل مالك بن دعر على يوسف ومعه أولاده، وهم أربعة وعشرون ولدا، كلّهم ذكور، فوقف بين يديه وحيّاه بتحيّة الملك، وقال: أيّها العزيز أتعرفنى؟ قال: إنّى أشبّهك برجل حملنى إلى هاهنا. قال: أنا هو.
فقرّبه وسأله عن الفتية، فقال: هم أولادى رزقتهم ببركة دعائك. فكساه وكساهم، وكفاهم من الطعام؛ وسأله: هل مرّ بأرض كنعان؟ قال: نعم وإنّهم لفى جهد، وقد رأيت الذين باعوك منّى مقبلين عليك يريدون أن يمتاروا.
ففرح يوسف.
ذكر دخول إخوة يوسف- عليه السلام- فى المرّة الأولى
قال: وأقبل إخوة يوسف فدخلوا مصر ليلا، وأناخوا رواحلهم بباب قصر أخيهم؛ فأشرف عليهم وقال: من أنتم؟ قالوا: نحن أولاد يعقوب النبىّ، قدمنا من أرض كنعان لنشترى القوت. فسكت، وأمر بتزيين قصره؛ وبات إخوته على الباب.
وأصبح يوسف فجلس على السرير، وتتوّج وتمنطق وتطوّق؛ ثم امر بإخوته؛ فدخلوا عليه- وهم عشرة، وتأخر عنهم بنيامين عند أبيه-.
قال الله تعالى: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ.
فسلّموا عليه، وحيّوه بتحيّة الملوك؛ فردّ عليهم وقال لهم: إنكم أولاد يعقوب النبىّ، فكيف لى بصدقكم؟ فقال له روبيل: نحن نأتيك بأخينا الّذى عند أبينا يخبرك بمثل ما أخبرناك به.
فأمر بأخذ بضاعتهم، وأن يكال لهم الطعام بقدر كفايتهم.(13/145)
ثم قال لأعوانه: اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم. قال الله تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ* قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ* وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
فوضعت فى رحل يهوذا؛ ثم سار القوم حتى أتوا إلى أرض كنعان، فدخلوا على أبيهم؛ فسألهم عن حالهم وما كان من أمرهم؛ وفتحوا رحالهم، فوجدوا بضاعتهم ردّت إليهم؛ فدخلوا على أبيهم وقالوا: يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا.
فقال: إنّ هذا الطعام حرام عليكم إلّا أن تؤدّوا ثمنه.
فقالوا: كيف نرجع إليه وقد ضمنّا له أن نأتيه بأخينا بنيامين؟
ثم قالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم: يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ* قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
فقال له يهوذا يا أبانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردّت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير* قال لن أرسله معكم حتّى تؤتون موثقا من الله لتأتنّنى به إلّا أن يحاط بكم فلمّا آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل.
ودعا يعقوب بقميص يوسف الّذى وردوا به عليه بالدم، فألبسه بنيامين وودّعهم وقال يا نبىّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرّقة وما أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلّا لله عليه توكّلت وعليه فليتوكّل المتوكّلون؛ ثم ساروا.(13/146)
ذكر خبر دخولهم عليه فى المرّة الثانية
قال: فلمّا بلغوا مصر ودخلوا على يوسف قرّبهم، ونظر إلى أخيه بنيامين وأدناه وأجلسه بين يديه.
قال الله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ.
ثم قال له: أرى كلّ واحد من هؤلاء مع أخيه، فما بالك منفردا؟ فقال: أيّها العزيز، كان لى أخ، ولا أدرى ما أصابه، غير أنّه خرج مع هؤلاء الإخوة إلى الغنم، فذكروا أنّ الذئب أكله، وردّوا قميصه هذا الّذى علىّ وهو ملطّخ بالدم.
فقال لهم يوسف: يا أولاد يعقوب، إنّ فيكم من يصيح بالأسد فيخرّ ميتا ومن يأخذ برجل الذئب فيشقّه اثنين، وفيكم من يقتلع الشجرة من أصلها، وفيكم من يعدو مع الفرس فيسبقه.
قالوا: نعم أيها العزيز. فقال: سوءة لكم ولقوّتكم إذ يعدو الذئب على أخيكم فيأكله. فقالوا: إذا جاء القضاء ذهبت القوى.
فسكت يوسف، ثم أمر لهم بخمس موائد، وأمر كلّ اثنين منهم أن يجلسا على مائدة؛ ثم وضعت أخرى بين يدى بنيامين، فبكى؛ فقال له: ما يبكيك؟ قال:
أيّها العزيز، إخوتى يأكلون كلّ واحد مع أخيه، وأنا وحدى، ولو كان أخى يوسف باقيا أكل معى.
فقال يوسف: يا فتى، أنا لك كالأخ، ثم نزل عن السرير وأكل معه.
فلمّا فرغوا من الأكل جعل يوسف يسألهم عن أرض كنعان وهم يخبرونه.
ثم خرج صبىّ من القصر يتثنّى، فنظر إليه بنيامين وبكى؛ فقال له يوسف:
ممّ بكيت؟ قال: هذا الصبىّ يشبه أخى يوسف، فبكيت لأجله.(13/147)
فقال يوسف: هل فيكم من حزن على يوسف؟ قالوا: نعم، كلّنا حزنّا عليه وبنيامين أشدّ منّا حزنا.
ثم قال: فما الّذى حملتم من البضاعة؟ قالوا: لم نحمل شيئا، لأنه لم يكن لنا شىء، غير أنا رددنا عليك البضاعة التى وجدناها فى رحالنا، لأنها ثمن الطعام الّذى حملناه من عندك.
فأمر أن يعطوا من الطعام ما تحمله إبلهم، وأمر غلمانه أن يجعلوا الصّواع فى رحل بنيامين؛ فكانوا يكيلون وإخوة يوسف يخيطون الأعدال، حتى فرغوا.
ورحل إخوة يوسف وهم لا يشعرون بالصّواع.
وقال الثعلبىّ: كانت السقاية مشربة يشرب فيها الملك، وكانت كأسا من ذهب مكلّلة بالجوهر، جعلها يوسف مكيالا يكال بها.
قال الله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ* قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ* قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ* قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ* قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ* قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.
فعند ذلك أمر يوسف أن تفتّش رحالهم. قال الله تعالى فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
الآية.
قال: فلما نظروا ذلك ضربوا بأيديهم على جباههم، وقالوا: ثكلتك أمّك فضحتنا يا بنيامين. قال: إنى لم أفعل ذلك. قالوا: من وضعه فى رحلك؟(13/148)
قال: الّذى جعل البضاعة فى رحالكم. فسكتوا، ثم قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرّها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شرّ مكانا والله أعلم بما تصفون.
قال الثعلبىّ: واختلف العلماء فى السرقة التى وصف بها يوسف، فقال سعيد وقتادة: سرق يوسف صنما لجدّه أبى أمّه وكان من ذهب، فكسره وألقاه فى الطريق.
وقال ابن جريج: أمرته أمّه- وكانت مسلمة- أن يسرق صنما لخاله كان يعبده.
وقال مجاهد: جاء سائل يوما، فسرق يوسف بيضة من البيت.
وقال ابن عيينة: دجاجة، فناولها السائل، فعيّروه.
وقال وهب: كان يخبأ الطعام من المائدة للفقراء.
وقال الضحاك وغيره: كان أوّل ما دخل على يوسف من البلاء أن عمّته بنت إسحاق كانت أكبر ولد إسحاق، وكانت لها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت، فحضنته عمّته وأحبّته حبّا شديدا فكانت لا تصبر عنه؛ فلما ترعرع وبلغ سنيّات وقع حبّه فى قلب يعقوب؛ فأتاها وقال: يا أختاه سلّمى إلىّ يوسف، فو الله ما أصبر عنه ساعة واحدة. فقالت:
ما أنا بتاركته.
فلما غلبها يعقوب قالت: فدعه عندى أياما أنظر إليه، لعل ذلك يسلينى عنه. ففعل ذلك يعقوب؛ فلمّا خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وهو صغير، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق(13/149)
فانظروا من أخذها. فالتمست فلم توجد؛ فقالت: اكشفوا أهل البيت.
فكشفوهم، فوجدوها مع يوسف؛ فقالت: والله إنّه ليسلّم لى أصنع فيه ما شئت- وكان ذلك حكم آل إبراهيم فى السارق- فأتاها يعقوب، فأخبرته بذلك؛ فقال: إن كان فعل ذلك فهو يسلّم إليك، ما أستطيع غير ذلك.
فأمسكته بعلّة المنطقة، فما قدر يعقوب عليه حتى ماتت، فهو الذى قال له إخوته: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ* فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا
أى يتناجون قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ* ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ.
قال: ثم تشاوروا فقالوا: إن هذا الملك وأهل مصر كفرة يعبدون الأصنام فتعالوا نتظاهر عليهم.
قال روبيل: أنا أكفيكم الملك وأعوانه.
وقال شمعون: أنا أكفيكم أمر العزيز وأعوانه.
وقال يهوذا: أنا أكفيكم الأسواق.
فعلم يوسف بذلك، فأحضرهم وقال: يا بنى يعقوب، ما الّذى غرّكم منّى؟
أحسنت إليكم مرّة بعد مرّة، وتفضّلت عليكم، وجنى أخوكم جناية فتشاورتم فى هلاك المدينة وأهلها، أتظنون أن هذه القوّة لكم دون غيركم؟ ثم ضرب برجله(13/150)
السّدّة التى كان عليها فطحطحها وكسر صفائح رخامها؛ ثم قال: لولا أنكم من أولاد الأنبياء لصحت بكم صيحة تخرّون على أذقانكم.
قال: وكان يهوذا قد عزم على أن يفعل شيئا، وكان على كتفه شعرة إذا غضب خرجت من جبّته فيقطر منها الدم، ثم يصيح صيحة فلا يسمعها أحد إلّا سقط مغشيّا عليه؛ وكان لا يسكن غضبه إلا أن يمسّه أحد من آل يعقوب؛ فدعا يوسف بابنه منسّا وقال: اذهب الى ذلك الكهل فمسّه بيدك، وتنحّ عنه من حيث لا يشعر بك. ففعل ذلك، فسكن غضبه؛ فقال يهوذا لإخوته: من الذى مسّنى منكم فقد سكن غضبى. قالوا: لم يمسّك غير ذاك الصبىّ. فقال: والله لقد مسّتنى يد من آل يعقوب.
فلمّا عسر عليهم ما عزموا عليه، عزموا على العود إلى أبيهم، وتركوا روبيل عند بنيامين.
قال: فلمّا انصرفوا دخل يوسف إلى منزله وأحضر بنيامين، وقال: أتعرفنى؟
قال: نعم، أنت العزيز، والله ما سرقت، فلا تعجل علىّ، فإنك موصوف بالإحسان.
فضمّه يوسف إلى صدره، وقال له: أنا أخوك يوسف. ثم كساه وسأله عن أبيه، فأخبره بما يقاسيه من أجله.
قال: ورجع إخوة يوسف إلى أبيهم فذكروا ما كان من خبر بنيامين، وأن روبيل أقام عنده.
قال: وكيف يسرق ولدى وهو من الذرّيّة الطيّبة؟ فقالوا له: واسأل القرية الّتى كنّا فيها والعير الّتى أقبلنا فيها وإنّا لصادقون* قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنّه هو العليم الحكيم* وتولّى عنهم وقال يأسفى على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم إلى قوله: ما لا تعلمون.(13/151)
قال: وأخذ فى البكاء حتى ضجر منه جيرانه، فأوحى الله إليه: أن كفّ عن بكائك فإنّى سأردّ عليك بصرك، وأجمع بينك وبين ولدك. فسكن وهدأ، ثم قال لبنيه: احملوا كتابى إلى العزيز. ودعا بابنته (دينة) وقال لها: اكتبى، بآسم إله إبراهيم، من يعقوب إلى عزيز مصر، إن الله أكرمنى بولد كان أحبّ أولادى إلىّ وقد فقدته وبكيت عليه حتى عميت، وكنت آنس بأخيه بنيامين الّذى حبسته عندك؛ وعجبت من أمر الصّواع؛ فإن أولاد الأنبياء لا يفعلون ذلك، وإنه مكذوب عليه؛ فإذا أتاك كتابى هذا فتفضّل علىّ بولدى وردّه علىّ فإنى أدعو الله أن يزيدك فضلا وكرامة.
وسلّم الكتاب اليهم، وقال: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ
الآية.
ذكر خبر دخولهم عليه فى الدفعة الثالثة
قال: وساروا حتى دخلوا مصر، فاستقبلهم روبيل ودخل معهم، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ
؛ وناولوه الكتاب؛ فقبّله وقرأه، ثم قال لهم: لو كنتم حملتم إلىّ هذا الكتاب قبل اليوم دفعته لكم، ولكنّى قد ألقيت حديثه إلى الملك، وأنا أكلّمه فيه.
ذكر خبر حديث الصاع
قال: ثم أمر يوسف بإحضار الصاع بين يديه وقال: اجتمعوا حتى أسأل هذا الصاع عنكم. فنقر الصاع فطنّ، فقال: يا بنى يعقوب، إنّ هذا الصاع يقول: إنكم تشهدون بالزور؛ وإنكم كذبتم فى قولكم: إن الذئب اكل أخاكم.(13/152)
قالوا: ما شهدنا بالزور قط، وما قلنا فى يوسف إلّا الحقّ. فنقر الصاع وقال:
أتدرون ما يقول؟ إنه يقول: إنكم حسدتم أخاكم، وأخرجتموه من عند أبيه وأردتم قتله، ثم ألقيتموه فى الجب المظلم البعيد القعر. ثم نقر ثالثا وقال: إنه يقول، ما كذبتك فيما أقول، ولقد أخرجوا أخاهم من الجب فباعوه بعشرين درهما عددا تنقص درهما، وأوصوا مشتريه أن يقيّده حتى يبلغ أرض مصر. فتغيّرت وجوه القوم، وقالوا: ما نعرف شيئا من هذا. ثم نقره رابعا وقال: إنه يقول:
وكتبوا كتاب البيع بخطّ يهوذا. فقال: أيّها العزيز، إنى لم أكتب شيئا وأنكره.
فقال: مكانكم حتى أعود إليكم. ودخل على زليخا وقال: هاتى تلك الصحيفة.
فأخرجتها له؛ فأخرجها إلى يهوذا وقال: أتعرف خطّك؟ قال: نعم. فألقاها إليه فرآها وهى خطّه؛ فقال: هى خطّى، «غير أنّى لم أكتبه باختيارى «1» ، وإنما كتبته على عبد أبق منّا» .
فغضب يوسف وقال: ألستم تزعمون أنكم من أولاد الأنبياء، ثم تفعلوا مثل هذا.
ثم قال لأعوانه: انصبوا عشرة أشجار على باب المدينة حتى أضرب أعناق هؤلاء وأصلّبهم؛ وأجعلهم حديثا لأهل مصر. فبكوا وقالوا: اقتلنا كيف شئت ولا تصلّبنا.
وأقبل بعضهم على بعض وقالوا: هذا جزاؤنا بما عاملنا به أخانا. فلمّا أقرّوا كلّهم بالذنب، رفع التاج عن رأسه، وقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون، وكان فى رأسه شامة مثلها فى رأس يعقوب؛ فلمّا نظروا إلى الشامة عرفوها وقالوا: ءإنّك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى قد منّ الله علينا إلى قوله: وهو أرحم الرّاحمين.(13/153)
فعمد يوسف إلى قميصه، وجعله فى قصبة من فضّة؛ ودفعه إلى يهوذا وخلع عليهم وطيّبهم، وقال: اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأئتونى بأهلكم أجمعين. فخرجوا، وسبقهم يهوذا بالقميص. قال الله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ.
قال: لمّا فصلت العير من أرض مصر حملت الريح رائحة القميص فشمّها يعقوب، فقال ذلك. ومعنى (تفنّدون) ، أى تكذّبون. فقال له أهله:
- وقيل: بنو بنيه- تالله إنّك لفى ضلالك القديم، معناه فى حبّك القديم ليوسف.
فلمّا وصل يهوذا بالقميص ودخل على يعقوب ألقاه على وجهه وقال:
خذها بشارة. فعاد بصره من ساعته، وخرّ ساجدا لله. قال الله تعالى: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً
الآية.
وجاء بنوه وقالوا: يا نبىّ الله، نحن الذين غيّبنا يوسف عنك، ونحن الذين تيناك بخبره وهو عزيز مصر. ثم قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
قال: وجاءه جبريل بناقة من نوق الجنّة، فاستوى عليها، وخرج من أرض كنعان يريد مصر ومعه أولاده وأهله، وهم ثمانية وسبعون إنسانا، فدعا لهم يعقوب فما دخل أولاده مصر إلّا وقد غفر لهم؛ وخرج يوسف لملتقى أبيه ومعه خلق كثير فلما رآه يوسف ترجّل عن فرسه وأبرك يعقوب ناقته، واعتنقا وبكيا، وقال يوسف: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين.(13/154)
قال الله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً
يعنى الأب والخال، وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
قال: وكان بين مفارقته ووقت الاجتماع أربع وثلاثون سنة.
وقال الحسن: كان بين خروج يوسف إلى يوم الالتقاء معه ثمانون سنة لم تجفّ عيناه.
وأقام يعقوب بمصر أربعين سنة. وقيل: أربعا وعشرين سنة؛ ثم أمره الله أن يرتحل الى أرض كنعان لاقتراب أجله؛ فارتحل ومات هناك، ودفن إلى جانب أبيه إسحاق.
وحكى الثعلبىّ- رحمه الله- أن يعقوب مات بمصر، وأوصى يوسف أن يحمل جسده إلى الأرض المقدّسة حتى يدفنه عند أبيه إسحاق وجدّه إبراهيم؛ ففعل ذلك، ونقله فى تابوت من ساج إلى البيت المقدّس، وخرج معه فى عسكره وإخوته وعظماء أهل مصر، ووافق ذلك اليوم وفاة عيصو، فدفنا فى يوم واحد، وكان عمرهما جميعا مائة سنة وسبعا وأربعين سنة، لأنّهما ولدا فى بطن واحد، وقبرا فى قبر واحد.
ذكر دعوة يوسف- عليه السلام- وارتحاله عن بلد الريّان
قال: ثم إنّ يوسف- عليه السلام- دعا أهل مصر إلى الإيمان سرّا وعلانية، فآمن به كثير منهم، وكسروا الأصنام، وصارت الغلبة للمسلمين؛ فاستدعاه ريان بن الوليد وقال له: أيها العزيز، إن أهل مصر كانوا يحبّونك وقد كرهوك بسبب أديانهم، فمالك وأديانهم؟ فقال يوسف: قد بلغنى ذلك(13/155)
وأنا رادّ عليك ما خوّلتنيه، ومتحول عنك وعن قومك بأهل ملّتى، فإنى لا أحبّ أن أكون من عبدة الأوثان.
وخرج يوسف هو وأولاده وإخوته وقومه الذين آمنوا حتى نزل الموضع الذى استقبل أباه يعقوب عنده؛ فجاءه جبريل وخرق له نهرا من النيل إلى هناك، وهو نهر الفيّوم، ولحق به كثير من الناس، وآمنوا، وابتنى مدينتين وسمّاهما بالحرمين وكان لا يدخلهما أحد إلّا يلّبى يقول: «لبّيك يا مفضّل إبراهيم بالنبوّة لبيّك» .
ولم يكن بأرض مصر أعمر منهما، وسار يوسف فى قومه سيرة الأنبياء حتى مات.
ذكر خبر وفاة يوسف- عليه السلام-
قال: ولمّا أدركته الوفاة أوصى إلى ابنه (أفرايم) أن يسوس قومه بالواجب وأن يكون معاندا لأهل مصر الذين يعبدون الأوثان، ويجاهدهم فى الله حقّ جهاده؛ ثم توفّى، وكانت زليخا قد ماتت قبله، وما تزوّج بعدها.
قال الثعلبىّ: قال أهل التاريخ: عاش يوسف بعد يعقوب ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة.
قالوا: ودفن فى بلده فعمر الجانب الذى يليها وأخصب، وقحط الجانب الآخر، فشكا أهله إلى الملك، فبعث إلى أفرايم أن ينقله فيدفنه فى الجانب الآخر وإن لم يفعل قاتله؛ فدفنه هناك، فحصب ذلك الجانب، وقحط الآخر، فكان يدفن سنة فى هذا الجانب، وسنة فى الآخر؛ ثم اجتمعت الاراء أن يدفن فى وسط النهر؛ ففعلوا ذلك، فخصب الجانبان ببركته، ولم يزل فى نهر النيل حتى بعث الله موسى- عليه السلام- فأمره الله أن يحمل تابوت يوسف؛ فأخرجه ونقله إلى بيت المقدس، فدفنه هناك، وموضع قبره معروف.(13/156)
الباب الخامس من القسم الثانى من الفنّ الخامس فى قصّة أيوب- عليه السلام- وابتلائه وعافيته
عن وهب بن منبّه أنه لم يكن بعد يوسف نبىّ إلّا أيوب، وهو أيّوب بن أموص ابن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم.
وكان أموص كثير المال والماشية، لم يكن فى أرض الشأم أغنى منه؛ فلما مات صار ذلك جميعه لأيوب؛ وكان أيوب يومئذ ابن ثلاثين سنة، فأحبّ الزواج فخطب رحمة بنت أفرايم بن يوسف؛ فتزوّجها، وكانت أشبه الخلق بيوسف وكانت كثيرة العبادة، فرزقه الله منها اثنى عشر بطنا، فى كلّ بطن ذكر وأنثى؛ ثم بعثه الله تعالى إلى قومه رسولا- وهم أهل حوران والبثنية- ورزقه الله حسن الخلق والرفق، فشرع لقومه الشرائع، وبنى المساجد، ووضع موائده للفقراء والأضياف؛ وأمر وكلاءه ألّا يمنعوا أحدا من زراعته وثماره، فكان الطير والوحش وجميع الأنعام تأكل من زرعه وبركة الله تزداد صباحا ومساء؛ وكانت كلّ مواشيه تحمل فى كلّ سنة بتوءم.
وكان أيّوب إذا أقبل الليل جمع من يلوذبه فى مسجده، ويصلّون بصلاته ويسبّحون بتسبيحه حتى يصبح، فحسده إبليس؛ وكان لا يمر بشىء من ماله وماشيته إلا رآه وهو مختوم بخاتم الشكر؛ وكان إذ ذاك يصعد إلى السموات ويقف فى أى مكان أحبّ منها، حتى رفع الله عيسى بن مريم، فحجب عن أربع سموات منها؛ حتى بعث الله نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فحجب عن جميعا فصعد إبليس فى زمن أيّوب- عليه السلام- وقال: يا ربّ إنى طفت الأرض ففتنت من أطاعنى إلّا عبادك منهم المخلصين. فنودى: يا ملعون، هل علمت(13/157)
بعبدى أيّوب؟ وهل نلت منه مع طول عبادته؟ وهل تستطيع أن تغيّره عن عبادتى؟ فقال إبليس: إلهى إنك ذكرته بالخير، وقد نظرت فى أمره فإذا هو عبد عافيته بعافيتك، ورزقته شكرك، ولم تختبره بالبلاء؛ فلو ابتليته بالمصائب لوجدته بخلاف ما هو عليه، فلو سلّطتنى على ماله لرأيته كيف ينساك.
فسلّطه الله على ماله؛ فآنقضّ وجمع العفاريت، وأخبرهم أنه سلّط على مال أيوب، وحضّهم على زرعه وأشجاره ومواشيه، فأحرقوا الأشجار، وصاحوا بالمواشى صيحة فماتت برعاتها.
قيل: وكان له ألف فرس وألف رمكة وألف بغل وبغلة، وثلاثة آلاف بعير، وألف وخمسمائة ناقة، وألف ثور، وألف بقرة، وعشرة آلاف شاة وخمسائة فدّان، وثلاثمائة أتان، مع ما يتبع ذلك من النّتاج؛ فهلك جميع ذلك؛ ثم أقبل إبليس إلى أيوب فى صورة راع من رعاته، وخيل له أن عليه وهج الحريق وقد اسودّ وجهه، وهو ينادى: يا أيّوب، أدركنى فأنا الناجى دون غيرى ما رأيت قطّ مثل هذا اليوم، رأيت نارا أقبلت من السماء فأحرقت أموالك، وسمعت نداء من السماء: هذا جزاء من كان مرائيا فى عمله يريد به الناس دون الله.
وسمعت النار تقول: أنا نار الغضب. فأقبل أيوب على صلاته، ولم يكترث به حتى فرغ منها، وقال: يا هذا، لقد كثّرت علىّ، ليست الأموال لى، بل هى لربّى يفعل فيها ما يشاء. فقال إبليس: صدقت.
وماج الناس بعضهم فى بعض، وقالوا: هلّا قبضها قبضا جميلا.
فشقّ ذلك على أيّوب من قولهم، ولم يجبهم، غير أنه قال: الحمد لله على قضائه وقدره. وانصرف إبليس عنه، وصعد الى السماء، فنودى: يا ملعون(13/158)
كيف وجدت عبدى أيّوب وصبره على ذهاب أمواله؟ فقال إبليس: إلهى إنك قد متّعته بالأولاد، فلو سلّطتنى عليهم لوجدته غير صابر. فنودى: يا ملعون اذهب فقد سلّطتك عليهم. فانقضّ إبليس على باب قصر أيّوب الّذى فيه أولاده فزلزله حتّى سقط عليهم، وشدخهم بالخشب، ومثّل بهم كلّ مثلة؛ فأوحى الله إلى الأرض: احفظى أولاد أيّوب فإنّى بالغ فيهم مشيئتى.
وأقبل إبليس إلى أيّوب وقال له: لو رأيت قصورك كيف تهدّمت، وأولادك وما حلّ بهم. ولم يزل يعدّ له ما حلّ بهم حتّى إبكاه؛ ثم ندم على بكائه، فاستغفر وخرّ ساجدا؛ وأقبل على إبليس وقال: يا ملعون، انصرف عنّى خائبا؛ فإن أولادى كانوا عارية عندى لله.
فانصرف وصعد إلى السماء، ووقف موقفه، فنودى: يا ملعون، كيف رأيت عبدى أيوب واستغفاره عند بكائه؟ فقال: إلهى إنّك قد متّعته بعافية نفسه، وفيها عوض عن المال، فلو سلّطتنى على بدنه لكان لا يصبر. فنودى: يا ملعون اذهب فقد سلّطتك على جسده إلّا عينيه ولسانه وقلبه وسمعه. فانقضّ إبليس عليه وهو فى مسجده يتضرّع الى الله ويشكره على جميع بلائه؛ فلمّا سمع إبليس ذلك منه اغتاظ، ولم يتركه يرفع رأسه من السجود حتى نفخ فى منخريه كالنار الملتهبة؛ فاسودّ وجهه، ومرّت النفخة فى سائر جسده؛ فتمعّط منها شعره، وتقرّح جميع بدنه، وورم فى اليوم الثانى، وعظم فى الثالث، واسودّ فى الرابع، وامتلأ قيحا فى الخامس، ووقع فيه الدود فى السادس، وسال منه الصديد فى اليوم السابع ووقع فيه الحكاك، فجعل يحكّه حتى سقطت أظافيره؛ فحكّ بدنه بالخروق والمسوح والحجارة، وكان إذا سقطت دودة من بدنه ردّها إلى موضعها، ويقول: كلى إلى أن يأذن الله بالفرج.(13/159)
فقالت له رحمة: يا أيوب، ذهب المال والولد، وبدء الضرّ فى الجسد.
فقال لها: يا رحمة، إنّ الله ابتلى الأنبياء من قبل فصبروا، وإن الله وعد الصابرين خيرا؛ وخرّ ساجدا لله تعالى، وقال: إلهى لو جعلت ثوب البلاء سرمدا وحرمتنى العافية، ومزّقتنى كلّ ممزّق، ما ازددت إلّا شكرا؛ إلهى لا تشمت بى عدوّى إبليس.
ثم قال لرحمة: انقلينى إلى موضع غير مسجدى، فإنّى لا أحبّ أن يتلوّث المسجد.
فانطلقت إلى قوم كان أيوب يحسن إليهم؛ فالتمست منهم أن يعينوها على إخراجه من المسجد؛ فقالوا: إنه قد غضب عليه ربّه بما كان فيه من الرياء، فليت كان بيننا وبينه بعد المشرقين. فرجعت رحمة واحتملته إلى الموضع الّذى كان يضع فيه الموائد للناس بالفضاء.
ثم قال لها: يا رحمة، إن الصدقة لا تحلّ علينا، فآحتالى فى خدمة الناس. وبكى وبكت، فكانت تخدم أهل البلد فى سقى الماء وكنس البيوت وإخراج الكناسات الى المزابل، وتتكسّب من ذلك ما تنفقه على أيّوب؛ فأقبل إبليس فى صورة شيخ، فوقف على أهل القرية وقال: كيف تطيب نفوسكم بمخالطة امرأة تعالج من زوجها هذا القيح والصديد وتدخل بيوتكم، وتدخل يدها فى طعامكم وشرابكم؟! فوقع ذلك فى قلوبهم ومنعوها أن تدخل بيوتهم.
قال: واشتد بأيّوب البلاء، ونتن حتى لم يقدر أحد من أهل القرية أن يستقرّ فى بيته لشدّة رائحته؛ فاجتمعوا على أن يرسلوا عليه الكلاب لتأكله؛ فأرسلوها فعدت حتى قربت منه وولّت هاربة ولم ترجع إلى القرية.(13/160)
ثم قال لرحمة: إنّ القوم قد كرهونى، فاحتالى فى نقلى عنهم.
فتوجّهت واتخذت له عريشا، واستعانت بمن يحمله؛ فأعانها الله بأربعة من الملائكة، فحملوه بأطراف النّطع إلى العريش، وعزّوه فى مصيبته ودعوا له بالعافية؛ واتخذت له رحمة فى العريش رمادا، فألقى نفسه عليه؛ ثم توجّهت فى طلب القوت، فردّها أهل القرية، وقالوا: إنّ أيّوب سخط عليه ربّه.
فعادت إليه باكية، وقالت: إنّ أهل القرية غلّقوا أبوابهم دونى. فقال:
إن الله لا يغلق بابه دوننا. فحملته إلى قرية أخرى، وصنعت له عريشا ودخلت القرية، فقرّبوها وأكرموها، وحملت فى ذلك اليوم عشرة أقراص من خمسة بيوت؛ ثم شمّ أهل القرية رائحة أيّوب بعد ذلك، فمنعوا رحمة أن تدخل إليهم، وقالوا: نحن نواسيك من طعامنا بشىء. فرضيت بذلك؛ فبينما هى تتردّد إلى أيّوب إذ عرض لها إبليس فى صورة طبيب وقال: إنى أقبلت من أرض فلسطين لما سمعت خبر زوجك، وقد جئت لأدويه، وأنا صائر إليه غدا فيجب أن تخبريه، وقولى له: يحتال فى عصفور أو طائر فيذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، ويأكله ويشرب عليه قدحا من خمر، ففرجه فى ذلك. فجاءت رحمة إلى أيّوب وأخبرته بذلك، فتبيّن الغضب على وجهه، وأخبرها أنه إبليس وحذّرها أن تعود لمثل ذلك؛ ثم أقبلت بعد ذلك إلى أيّوب بشىء من الطعام فعرض لها إبليس فى صورة رجل بهىّ على حمار، فقال: كأنى أعرفك، ألست رحمة امرأة أيّوب؟ قالت: بلى. قال: إنى أعرفكم وأنتم أهل غناء ويسار فما الّذى غيّر حالكم؟ فذكرت ما أصاب أيّوب من البلاء فى المال والولد والنفس قال: وفى أىّ شىء أصابتكم هذه المصائب؟ قالت: لأنّ الله أراد أن يعظم لنا الأجر على قدر بلائه.(13/161)
قال إبليس: بئس ما قلت، ولكن للسماء إله وللأرض إله؛ فأمّا إله السماء فهو الله؛ وأمّا إله الأرض فأنا، فأردتكم لنفسى فعبدتم إله السماء ولم تعبدونى ففعلت بكم ما فعلت، وسلبتكم نعمكم، وكلّ ذلك عندى، فاتّبعينى حتى تنظرى إلى ذلك، فإنّه عندى فى وادى كذا وكذا.
فلما سمعت (رحمة) ذلك منه عجبت، واتبعته غير بعيد حتى وقفها على ذلك الوادى، وسحر عينيها حتى رأت ما كانت فقدته من أموالهم. فقال:
أنا صادق أم لا؟ فقالت: لا أدرى حتى أرجع إلى أيّوب. فرجعت وأخبرته بذلك، فتألم وأنكر عليها وغضب؛ فسألته أن يعفو عنها ولا تعود؛ فقال:
قد نهيتك مرّة وهذه أخرى، وأقسم إن عافاه الله ليجلدنها مائة جلدة على كلامها لإبليس.
قال: ولبث أيّوب فى بلائه ثمانى عشرة سنة حتى لم يبق إلّا عيناه تدوران فى رأسه، ولسانه ينطق به، وقلبه على حالته، وأذناه يسمع بهما.
قال: وعجزت (رحمة) فى بعض الأيام عن تحصيل القوت، وطافت القرية حتى أتت إلى امرأة عجوز فشكت لها ذلك؛ فقالت العجوز: يا رحمة، قد زوّجت ابنتى، فهل لك أن تعطينى ضفيرتين من ضفائرك لأزين بهما ابنتى، وأعطيك رغيفين. فأجابتها رحمة إلى ذلك، وأخذت الرغيفين، وجاءت بهما إلى أيوب؛ فأنكرهما أيوب وقال: من أين لك هذين؟ فأخبرته بالقصة؛ فصاح أيوب وقال ما أخبر الله تعالى: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
فأوحى الله إليه: يا أيّوب، قد سمعت كلامك، وسأجزيك على قدر صبرك؛ وأمّا رحمة فلأرضينّها بالجنة.(13/162)
ذكر كشف البلاء عن أيّوب- عليه السلام-
قال: فلما كان يوم الجمعة عند زوال الشمس، هبط عليه جبريل فسلّم عليه فردّ عليه وقال: من أنت؟ قال: أنا جبريل؛ وبشّره بالشفاء، وأن الله قد وهب له أهله وماله وولده ومثلهم معهم لتكون آية، فبكى أيّوب من شدّة الفرح وقال:
الحمد لله الذى لم يشمت بى عدوّى إبليس. فقال له جبريل: قم يا أيّوب. فلم يستطع؛ فأخذ بيده وقال: قم بإذن الله. فقام على قدميه، فقال له جبريل:
اركض برجلك هذه الأرض. فركضها، فنبعت عين من الماء تحت قدميه أشدّ بياضا من الثلج وأحلى من العسل وأذكى من المسك؛ فشرب منه شربة فسقط ما فى بدنه من الدود، ثم أمره جبريل فاغتسل من تلك العين، فخرج ووجهه كالقمر وعاد إليه حسنه وجماله؛ ثم ناوله جبريل خلعتين، فأتزر بواحدة وارتدى بالأخرى؛ وناوله نعلين من الذهب شراكهما من الياقوت؛ وناوله سفرجلة من الجنّة؛ ثم قام إلى الصلاة، فأقبلت رحمة وقد طردها الناس من كلّ الأبواب؛ فلما صارت إلى ذلك المكان رأته وقد تغيّر، فظنت أنها قد أخطأت الطريق؛ فقالت: أيها المصلّى كلّمنى. فلم يكلّمها، وثبت فى صلاته؛ فقال له جبريل: كلمها. فقال:
ما حاجتك؟ قالت: هل عندك علم بأيوب المبتلى فإنّى خلّفته هاهنا ولست أراه.
فتبسّم أيوب وقال: إن رأيته عرفته؟ فقالت: والله إنّك لأشبه الناس به قبل بلائه. فضحك وقال: أنا أيوب. فبادرت إليه واعتنقته، وبشرهما جبريل بأولادهما وما فقداه من الأموال وغيرها ومثلهم معهم، وأمطر الله عليهم جرادا من ذهب؛ وكان له بيدران، فأرسل الله سحابتين فأفرغتا فى أحدهما ذهبا وفى الآخر فضة حتى فاض أحدهما على الآخر.(13/163)
قيل: إنه كان له بعد العافية أربعة آلاف وكيل، رزق كلّ واحد فى الشهر مائة مثقال من الذهب، وبين يديه اثنا عشر من البنين، ومثلهم من البنات وملّكه الله جميع بلاد الشأم، وأعطاه مثل عمره الّذى عمّره فى الماضى.
فلما أدركته الوفاة أوصى أولاده أن يخلفوه فى ماله كما كان يفعل مع الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل؛ ثم مات، وتوفيت امرأته قبله.
وقيل: بعده بقليل؛ فدفن إلى جانب العين التى أذهب الله بلاءه فيها.
قال الثعلبىّ- رحمه الله تعالى-: وكانت مدّة ابتلائه ثمانى عشرة سنة.
الباب السادس من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر (ذى الكفل)
اختلف العلماء فى (ذى الكفل) من هو؟ فقال الكسائىّ: هو ابن أيوب- عليهما السلام- وذكر قصته فقال:
لما قبض الله- عزّ وجلّ- أيوب عليه السلام سار ابنه حوميل- وهو أكبر أولاده- فى الناس سيرة أبيه، حتى خرج عليهم ملك من ملوك الشأم يقال له: لام بن دعام، فغلب على بلاد الشأم، وبعث إلى حوميل يقول: إنكم ضيّقتم علينا بلاد الشأم، وأريد منكم نصف أموالكم وتزوّجونى أختكم حتى أقرّكم على ما أنتم عليه، وإلّا سرت إليكم بخيلى ورجلى وجعلتكم غنيمة.
فأرسل إليه حوميل يقول: إن هذه الأموال التى فى أيدينا ليس لأحد فيها حق إلا الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل؛ وأما أختنا فإنّك من غير ديننا، فلا نزوّجها لك؛ وأما تخويفك لنا بخيلك ورجلك، فنحن نتوكّل على الله ربّنا، وهو حسبنا.(13/164)
فجمع الملك جنوده وقصدهم، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الكسرة على أولاد أيوب، وأسر بشير بن أيوب وجماعة معه؛ وانقلب حوميل بنفسه وجمع مالا عظيما ليحمله إلى الملك ويخلّص أخاه منه؛ فبينما هو فى ذلك إذ أتاه آت فى منامه فقال: لا تحمل هذا المال، ولا تخف على أخيك، فإن هذا الملك يؤمن، وتكون عاقبة أمره خيرا.
فلما أصبح قصّ رؤياه على إخوته، ففرحوا؛ فبلغ الملك توقّفه فى حمل المال فأرسل إليه يقول: احمل ما تكفل به أخاك من المال وإلّا أحرقته بالنار. فبعث إليه: إنى قد أمرت ألّا أحمل لك شيئا، فاصنع ما أنت صانع. فغضب الملك وأمر أن تجمع الأحطاب؛ فجمعت وألقى فيها النار والنّفط، وأمر ببشير فألقى فيها فلم تحرقه؛ فعجب الملك من ذلك، وآمن بالله، واختلط بعضهم ببعض، وزوّجوه أختهم، وسمى بشير ذا الكفل، وأرسله الله إلى الشأم؛ وكان الملك يقاتل بين يديه الكفار، فلم يزل كذلك حتى مات أولاد أيّوب؛ ثم مات الملك وغلب العمالقة على الشأم، إلى أن بعث الله- عزّ وجلّ- شعيبا رسولا.
وحكى الثعلبى فى تفسيره وقصصه فى قصّة ذى الكفل غير ما تقدّم، وساق القصّة تلو قصة اليسع، فقال: قال مجاهد: لما كبر اليسع قال: لو أنى استخلفت رجلا على الناس فعمل عليهم فى حياتى حتى أنظر كيف يعمل. فجمع الناس وقال:
من يتكفّل لى بثلاثة أستخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب.
فقام رجل شاب تزدريه العين قال: أنا. فردّه ذلك اليوم؛ وقال مثل ذلك فى اليوم الآخر؛ فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال: أنا. فاستخلفه؛ فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان. فأعياهم؛ فقال: دعونى وإياه. فجاءه(13/165)
فى صورة شيخ فقير حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل إلّا تلك النومة؛ فدقّ الباب؛ فقال: من هذا؟ فقال: شيخ مظلوم. ففتح الباب، فجعل يقص عليه قصته، فقال: إن بينى وبين قوم خصومة، وإنهم ظلمونى وفعلوا وفعلوا وفعلوا؛ وجعل يطوّل عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة؛ فقال له: إذا رحت فإنّى قد أخذ بحقك. فانطلق وراح، فكان فى مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ؟
فلم يره؛ فلما رجع وأخذ مضجعه أتاه ودقّ الباب، فقال: من هذا؟ قال: أنا الشيخ المظلوم. فقال: ألم أقل لك: إذا قعدت فأتنى. قال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نطيعك ونعطيك حقّك، وإذا قمت جحدونى.
قال: فانطلق، فإذا رحت فأتنى، ففائته القائلة، فراح فجعل ينظر فلا يراه وشقّ عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعنّ أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنى قد شق علىّ النعاس. فلما كانت تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل، فنظر فرأى كوّة فى البيت، فتسوّرها فإذا هو فى البيت، وإذا هو يدقّ الباب من داخل؛ فاستيقظ ذو الكفل، وقال: يا فلان، ألم آمرك ألّا تأذن لأحد علىّ؟ فقال:
أمّا من قبلى فما أتيت، فانظر من أين أتيت.
فقام إلى الباب فإذا هو مغلق والرجل معه فى البيت، فقال له: أتنام والخصوم ببابك؟ فقال: فعلتها يا عدوّ الله. قال: نعم، أعييتنى فى كل شىء ففعلت ما ترى لأغضبك، فعصمك الله منى، فسمّى ذا الكفل، لأنه متكفّل بأمر فوفى به.
وروى الثعلبىّ أيضا بسند رفعه إلى ابن عمر- رضى الله عنهما- قال:
سمعت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يحدّث حديثا لو لم أسمعه إلّا مرة أو مرتين لم أحدّث به، سمعته منه أكثر من سبع مرات.(13/166)
قال: كان فى بنى إسرائيل رجل يقال له: ذو الكفل، لا ينزع عن ذنب عمله، فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن تعطيه نفسها؛ فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة أرعدت وبكت؛ فقال: ما يبكيك؟ قالت: من هذا العمل ما عملته قطّ. قال: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن حملتنى عليه الحاجة. قال:
اذهبى فهى لك. ثم قال: والله لا أعصى الله أبدا. فمات من ليلته. فقيل:
«مات ذو الكفل» فوجدوا على باب داره مكتوبا: إنّ الله قد غفر لذى الكفل.
وقال أبو موسى الأشعرىّ- رضى الله عنه- إنّ ذا الكفل لم يكن نبيّا ولكنه كان عبدا صالحا، تكفّل بعمل رجل صالح عند موته، فكان يصلّى لله تعالى فى كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله- عزّ وجلّ- عليه الثناء.
وقيل: كان رجلا عفيفا، تكفل بشأن رجل وقع فى بلاء، فأنجاه الله تعالى.
وقيل: ذو الكفل، هو إلياس النبىّ عليه السلام.
وقيل: هو زكريا النبىّ عليه السلام؛ والله تعالى أعلم.
الباب السابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر شعيب النبى عليه السلام
هو شعيب بن صنعون بن عفّا بن نابت بن مدين بن إبراهيم عليه السلام.
قال: وعاش مدين عمرا طويلا، وكان قد تزوّج امرأة من العمالقة فولدت له أربعة بنين، ونسلوا فكثر عددهم فى حياة مدين، فلما رآى كثرة عقبه جمعهم وأشار عليهم أن يبنوا مدينة ويحصّنوها من العمالقة؛ ففعلوا ذلك، وجعلوا أبوابها من الحديد، وسمّوها مدين باسم أبيهم، وجعلوها محالّ لقبائلهم، فرغبت العمالقة(13/167)
فى مجاورتهم، وامتلأت المدينة من العمالقة ومن أهلها حتى ضاقت بهم، فخرجت العمالقة من مدين ونزلوا بالأيكة،- وكانت غيضة عن يمين مدين- فبنوا هناك الدّور لأنفسهم، واختلطوا بأهل مدين، وكان أهل مدين يعبدون الله، وأصحاب الأيكة يعبدون الأصنام، ولا يعدو بعضهم على بعض؛ وكان صنعون والد شعيب من العبّاد والعلماء بمدين، وتحته امرأة من العمالقة، فولدت له شعيبا فى نهاية الجمال؛ فلمّا كبر أعطاه الله فهما وعلما؛ وكان قليل الكلام دائم الفكر؛ وكان أبوه إذا تأمّل ضعفه ونحافته يقول: اللهم إنك كثّرت الشعوب والقبائل فى أرض مدين، فبارك لى فى شعيبى هذا. يعنى ولده. فرأى فى منامه أن الله تعالى قد بارك لك فى شعيبك هذا، وقد جعله نبيا إلى أهل مدين. فسمّى شعيبا لذلك.
وتوفّى والده فقام شعيب مقامه، وبرّز بالزهد على أهل زمانه، واشتهر بالعبادة.
قال: وكان ملك الأيكة- واسمه أبو جاد- قد اتخذ لقومه أصناما، وهى ثلاثون صنما، عشرة من الذهب حلّاها بالجوهر خاصّة به وبأولاده، والبقية من الفضة والنحاس والحجارة والحديد والخشب لبقية الناس.
قال كعب فى تفسير (أبجد) : إنها أسماء ملوك مدين.
وقيل: بل ملوك الأيكة، وهم أبو جاد وهوّز وحطّى وكلمن وسعفص وقرشت.
قال: وكان أهل مدين أصحاب تجارات يشترون الحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب، ويجلبون ذلك من سائر البلدان يتربّصون به الغلاء، وهم أوّل من تربّص؛ وكان لهم مكيالان: واف يكتالون به لأنفسهم عند الشراء، وناقص يكيلون به للإعطاء، وكذلك فى وزنهم؛ فكانوا على ذلك وشعيب بين أظهرهم وهو لا يخالطهم، وله غنم ورثها من أبيه يأكل من منافعها، وهو عظيم المحلّ عندهم.(13/168)
فبينما هو ذات يوم على باب منزله مشتغل بالذكر، إذ جاءه رجل غريب فقال: إنّ هؤلاء القوم يظلمون الناس، وإنى اشتريت منهم مائة مكيال بمائة دينار وقبضوا الثمن وزيادة، والذى كاله منهم نقص عشرين مكيالا. فقال له شعيب:
ارجع إليهم فلعلّهم قد غلطوا عليك. قال: قد راجعتهم فضربونى وسبّونى، وقالوا:
هذه سنّتنا فى بلدنا. والتمس الرجل من شعيب أن يساعده عليهم؛ فخرج شعيب معه حتى صار إلى سوقهم، وسألهم عن قصّته فلم ينكروها، وقالوا: ألم تعلم يا شعيب أنّ هذه سنّة آبائنا فى بلدنا؟ قال ليس هذا من السنة. فعذلهم، فلم يرجعوا إلى قوله وضربوا الرجل حتى أدموه، وانصرف شعيب إلى منزله.
ذكر مبعث شعيب- عليه السلام-
قال: فأتاه جبريل فى الحال، وأخبره أنّ الله قد بعثه رسولا إلى أهل مدين وأصحاب الأيكة وغيرهم ممّن يعبدون الأصنام، وأمره أن يدعوهم إلى عبادة الله وطاعته، وألّا يبخسوا الناس أشياءهم.
قال: وأقبل شعيب إلى أهل مدين وقال لهم ما أخبر الله تعالى به فى كتابه:
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ.
فلما سمعوا ذلك منه أجابوه بما أخبر الله به عنهم: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ(13/169)
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ* وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ* وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ.
ثم انصرف عنهم، وعاد إليهم من الغد وقد اجتمعوا مع ملكهم أبى جاد؛ فوقف عليهم ونهاهم عن عبادة الأصنام وبخس المكيال والميزان؛ فقالوا له:
يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ* قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.
فاستهزأ القوم به، فقال: ويا قوم اعملوا على مكانتكم إنّى عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إنّى معكم رقيب.
فكذّبه سفهاء قومه، كما أخبر الله عنهم: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ* قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ* فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ.
ثم قال له الملك: قد بلّغت رسالتك بزعمك، وقد سمعناها وأبينا، فلا تعد إلينا فترى ما لا طاقة لك به. فقال: أنا رسول الله إليكم، وإنى أعود أدعوكم حتّى ترجعوا إلى طاعة الله. فغضب الملك، وانصرف عنهم شعيب؛ وآمن به رجل من وزراء الملك، واستكتمه إيمانه، فكتمه شعيب؛ ثم عاد من الغد وقد خرج الملك(13/170)
ومن معه إلى سوقهم، وأخرجوا أصنامهم ونصبوها؛ وأمر الملك فى أهل مدين والأيكة: من سجد لأصنامنا فهو منّا، ومن أبى عذّبناه عذابا شديدا. فسجد القوم بأجمعهم للأصنام؛ فناداهم شعيب: إنّ هذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع، فاتركوا عبادتها. وحذرهم عذاب الله. فقالوا: إنك تدعونا بغير حجة، فهل لك حجة على دعواك النبوة؟ قال لهم شعيب: إن نطقت هذه الأصنام بصدق مقالتى أتؤمنون؟
قالوا: نعم. ورضى الملك بذلك؛ فتقدّم شعيب إلى الأصنام وقال لها: أيتها الأصنام، من ربّك؟ ومن أنا؟ تكلّمى بإذن الله. فنطقت بإذن الله وقالت: ربّنا الله وخالقنا وخالق كلّ شىء، وأنت رسول الله ونبيّه. وتنكّست عن كراسيّها ولم يبق منها صنم صحيح؛ وأرسل الله على قوم شعيب ريحا كادت تنسفهم نسفا فأسرع الملك ومن معه إلى منازلهم، وآمن بشعيب خلق كثير؛ ثم أصبح الملك ومن معه فخرجوا إلى سوقهم، ونصبوا ما كان قد بقى عندهم من الأصنام، وأمرهم بالسجود لها؛ فأتاهم شعيب ونهاهم وحذرهم فلم يرجعوا إليه، وأمر الملك أصحابه أن يقعدوا لشعيب ولمن معه كلّ مرصد، ويؤذوهم أشدّ الأذى؛ ثم قال الملك وقومه: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا
إلى قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ.
قال: وإذا بريح قد هاجت عليهم فيها من الحرّ والكرب ما لا طاقة لهم به حتى رموا أنفسهم فى الآبار والسراديب، واشتدّ الحرّ ودام عليهم مدّة وهم لا يزدادون إلا عتوّا وتمرّدا، وشعيب يدعوهم ويحذّرهم العذاب؛ فيقولون: لسنا نرى من عذاب ربّك إلا هذا الحرّ، ونحن نصبر عليه.
وأقاموا كذلك أعواما كثيرة وهم لا يؤمنون؛ فأرسل الله عليهم الذباب الأزرق، فكان يلدغهم كالعقارب، وربما قتل أولادهم؛ ثم تضاعف الحرّ عليهم(13/171)
فتحوّلوا من مدين إلى الأيكة، فتضاعف الحرّ عليهم، وتنقّلوا من الأودية إلى الغياض والحرّ يشتدّ عليهم، حتى اسودّت وجوههم، فأقبل إليهم شعيب ودعاهم إلى الإيمان؛ فنادوه: يا شعيب، إن كان ما نلقاه لكفرنا بك وبربك فزدنا منه فإنا لا نؤمن. فأوحى الله إليه أنّه مهلكهم، فتحوّل عنهم.
ذكر خبر الظّلّة
قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
قال: ولما كان من غد يوم مقالتهم ما قالوه لشعيب وهو يوم الأربعاء وإذا بسحابة سوداء قد ارتفعت فأظلّتهم، فاجتمعوا تحتها يستظلون بها من الحرّ فانطبقت عليهم حتى لم يبصر بعضهم بعضا؛ واشتدّ الحرّ؛ ثم رمت بوهجها وحرها حتى أنضجت أكبادهم وأحرقتهم وجميع ما كان على وجه الأرض، وشعيب والمؤمنون ينظرون إلى ما نزل بهم، ويتأمّلون مصارعهم، ولم ينلهم من ذلك مكروه. قال الله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ
يعنى صيحة جبريل فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ
ثم أقبل شعيب والمؤمنون ينظرون إلى مصارع القوم. قال الله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ
معناها، كيف أحزن عليهم.
ثم قسم شعيب أموال الكفار على قومه، وتزوّج بإمرأة من أولاد المؤمنين، ورزقه الله رزقا حسنا، ولم يزل بأرض مدين حتى كفّ بصره، وجاء موسى بن عمران من أرض مصر، وزوّجه ابنته- على ما نذكره إن شاء الله تعالى-.(13/172)
القسم الثالث من الفنّ الخامس يشتمل على قصة موسى بن عمران عليه السلام وخبره مع فرعون؛ و ...
خبر يوشع بن نون وإلياس واليسع وغيلا واشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود ويونس بن متى وجرجيس وبلوقيا وزكريا وعمران ومريم وعيسى، عليهم السلام، وأخبار الحواريين؛ وفيه ستة أبواب؛ والله أعلم بالصواب
الباب الأوّل من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة موسى بن عمران وهارون- عليهما السلام
- وخبر فرعون وابتداء أمره وغرقه، وأخبار بنى إسرائيل، وخبر قارون، وخروج موسى عليه السلام.
ولنبدأ بخبر فرعون وابتداء أمره، وكيف توصل إلى الملك، ثم نذكر قصة موسى عليه السلام معه، ليكون الكلام فى ذلك على سياقه.
فأمّا فرعون، فهو الوليد بن مصعب.
قال وهب: كان مصعب بن نسيم «1» بمصر يرعى البقر لقومه، وله امرأة يقال لها: راعونة، وهما من العمالقة؛ فأتت عليه مائة وسبعون سنة لم يرزق ولدا، فبينما هو فى برّيّة مصر إذا ببقرة قد ولدت عجلا؛ فتأوّه وحسد البقرة؛ فنادته: يا مصعب لا تعجل، فسيولد لك ولد مشئوم يكون من أهل جهنم. فرجع وذكر ذلك لأمرأته، وواقعها فحملت بفرعون، ومات أبوه قبل ولادتها؛ ثم ولدته أمّه وسمّته الوليد، وأخذت فى إرضاعه وتربيته حتى كبر، فأسلمته إلى النجارين؛ فأتقن صناعة النجارة؛ ثم ولع بالقمار، فعاتبته أمّه؛ فقال: كفّى عنى فأنا عون نفسى.(13/173)
فلزمه هذا اللقب، فكان يعرف بعون نفسه، فقامر فى بعض الأيام، فقمروه فى قميصه، وبقى فى خلق لا يستره؛ فاستحيا من الناس أن يروه كذلك؛ فهرب حتى صار إلى قرية من قرى مصر؛ فعرض نفسه على بقّال، فخدمه، وكان يضرب المشترين ويؤذيهم حتى نفروا من البقّال؛ فطردوه فعاد إلى مصر؛ وكانوا يقولون:
(فرّعون) .
قال: ورجع إليها وهو لا يملك إلّا درهما واحدا، فاشترى به بقلا وبطيخا وقعد يبيعه، فجاءه عريف الطريق وطالبه بحق الطريق؛ قال: وما هو؟ قال:
درهم. فتلاحيا؛ فترك فرعون رحله ومضى، وجعل يسرق وينقب، فيهرب مرة ويؤخذ أخرى.
فاتفق أن رجلا من العمالقة جمح به فرسه فعجز عن ضبطه، فوثب فرعون إلى الفرس وضبطه بلجامه؛ فقال له العمليقىّ: أراك جلدا قويّا. فاتخذه سائسا؛ فجعل يخدمه حتى مات الرجل وليس له وارث؛ فاحتوى فرعون على جميع ماله وحمله إلى أمّه، وأكل ذلك المال حتى فنى، وضاق به الأمر، فوقع فى قلبه أن يجلس على باب مقابر مصر ويطلب أرباب الجنائز بشىء، ويظهر أنه بإذن الملك؛ ففعل ذلك مدّة حتى اجتمع له مال عظيم؛ واتخذ له أعوانا وحفدا «1» يعينونه على ذلك؛ وكان الملك بعد أن أهلك الله الريان بن الوليد تتوارثه الفراعنة؛ واستقرّ فى سنجاب بن الوليد، وكان مكرما لبنى إسرائيل، وكانوا يعبدون الله علانية ويتلون الصحف جهرا.
قال: فماتت ابنة للملك؛ فحملت إلى المقبرة، فتعلق بها أعوان فرعون على العادة لأخذ القطيعة؛ فاتصل الخبر بالملك؛ فأمر بإحضاره وأراد قتله؛ فقص(13/174)
عليه قصّته. وفدى نفسه بما جمعه من المال؛ فعظم عند الملك وأقّره على عمله؛ فقرّر فرعون عند ذلك على جنائز الملوك ألف درهم، وعلى جنائز الوزراء سبعمائة والقوّاد خمسمائة، ثم إلى المائة، إلى الخمسين، إلى عشرة، إلى ثلاثة؛ فاجتمع الناس إلى الملك وحرّفوا رأيه عن هذه الحالة وقبّحوها عليه؛ فصرفه الملك عنها وأبطلها؛ وحمل إليه فرعون أموالا جمّة، وقال له: أيها الملك، إنّ جدّى كان على حرس أبيك، فاجعل ذلك إلىّ. فولّاه الحرس وأمره أن يشدّد فيه، ويقتل كلّ من لقيه بالليل كائنا من كان؛ وجعل الملك معه عدّة من الرجال والأعوان؛ فخرج فرعون واتخذ لنفسه قبّة فى وسط البلد، وكان يوجّه أعوانه، فمن أتوه به فى الليل أمر بقتله؛ فتقدّم عند الملك بذلك، لأنه أخاف أعداء الملك، وأمن الملك جانبهم بسببه، وخافه الناس، وجعل لنفسه حاجبا، ونفذت كلمته.
ذكر خبر قتل الملك واستيلاء فرعون على ملكه وما كان من أمره
قال: واتفق مرض بعض وزراء الملك- وكان الملك يأنس إليه ويقتدى برأيه- فأحبّ أن يزوره بالليل؛ فخرج منفردا وليس معه أحد من خدمه؛ فأخذه أعوان فرعون وأتوه به وهو يقول: ويلكم، أنا الملك سنجاب، وهم يظنون أنه يخدعهم بذلك، حتى أتوا به إلى فرعون، فأمر بقتله، فقتل؛ وبادر فرعون بمن معه- وكان فيهم كثرة- ودخل القصر، وكان لا يمنع منه؛ فاستوى على سرير الملك ووضع التاج على رأسه، وفتح الخزائن، وأحضر الوزراء وفرّق فيهم الأموال فرضوا به، وصاروا أولياء له.
قال: وأتاه إبليس وسجد بين يديه، وسمّاه إلها وربّا؛ ثم سجد له هامان- وكان غلاما لسنجاب- وسجد الوزراء والملوك والأعوان وغيرهم؛ وبعث(13/175)
إلى أسباط بنى إسرائيل، فدعاهم إلى الطاعة والسجود له؛ فسجدوا وقصدوا بالسجود الله تعالى.
ثم أقبل فرعون بعد ذلك على إبليس وقال: أيّها الشيخ، إنّك كنت مباركا وأنت أوّل من سجد لى، ثم جرى القوم بعدك على سنّتك، فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أهل مصر أشير على الملوك بمصالحهم. ثم قال لفرعون: اتخذ لقومك أصناما واحملهم على عبادتها، واتخذ لك صنما انفرد به أنت، واجعله إلها وربّا. فوافقه فرعون على ذلك، واتخذ له ثورا من ذهب يعبده، وأمر الناس بعبادة الأصنام؛ فعبدوها؛ فكان فرعون يعبد الثور، والقبط يعبدون الأصنام، وبنو إسرائيل يعبدون الله؛ فبلغه ذلك، فأحضر عبّادهم وقال: قد بلغنى أنكم مطيعون لى فى الظاهر، مخالفون لى فى الباطن، فاسجدوا لى. فأبوا ذلك، وكان فيهم جماعة من أولاد يوسف ويهوذا، فقتلهم، ثم قتل خلقا كثيرا، وتبعه الباقون وأسرّوا الإيمان؛ ثم إنّ فرعون استعبد الناس ووضع عليهم الخراج الكثير، وشقّ عليهم فى الأعمال.
هذا ما حكاه الكسائىّ- رحمه الله- فى خبر فرعون وابتداء أمره وسبب ملكه.
وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) : أن فرعون موسى هو أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريّان ابن أراشة بن ثروان بن عمرو بن فاران بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وكنّاه بهذه الكنية.
قال: وملك بعد أخيه قابوس بن مصعب؛ وذلك أنه لما مات الريان بن الوليد فرعون يوسف- عليه السلام- وذكر أنّه قد آمن بيوسف ومات قبل وفاة يوسف- عليه السلام- ملك بعده قابوس بن مصعب صاحب يوسف(13/176)
الثانى؛ فدعاه يوسف إلى الإسلام، فأبى، وكان جبّارا، وقبض الله تعالى يوسف فى ملكه، وطالت أيّام ملكه، ثم هلك؛ وقام بعده بالملك بعده أخوه أبو العباس الوليد ابن مصعب، ولم يذكر خلاف ذلك.
وقد قيل فى اسمه ونسبه وسبب ملكه غير ذلك، وسيرد- إن شاء الله تعالى- فى أخبار ملوك مصر الفراعنة ما ستقف عليه هناك- إن شاء الله تعالى- والله أعلم.
ذكر خبر آسية بنة مزاحم وزواج فرعون بها
قال: وكانت آسية بنة مزاحم من الصدّيقات، وهى مختلف فى نبوّتها ولا خلاف أنّها صدّيقة؛ وكانت بارعة الجمال؛ فبلغ فرعون خبرها وجمالها، فأرسل إلى أبيها مزاحم (أن ابعث إلىّ بآسية فإنها أمتى) . فدخل على فرعون وقال: إن ابنتى صغيرة لا تصلح. فكذّبه فرعون وقال: قد عرفت وقت ولادتها. فقال:
أيها الملك، فاجعل لها مهرا. فغضب فرعون وقال: احملها إلىّ، فإن رضيتها أكرمتها، وإلّا رددتها إليك. فقال له عمران: أيها الملك، لا تفضحنى فى ابنة أخى، ولكن أكرمها بخلعة ومهر. فأجابه إلى ذلك؛ فانصرف مزاحم وأخبر آسية بذلك وقال: إن امتنعت يكون ذلك هلاكى وهلاكك. قالت فكيف تكون مؤمنة عند كافر؟ فلم يزل بها حتى أجابت على كره منها؛ وحمل إليها فرعون عشرة آلاف أوقية من الذهب. ومثل ذلك من الفضّة، وجملة من أنواع الثياب والطّرف؛ وحملت إلى فرعون، فحماها الله منه حتى رضى منها بالنظر. وكان فرعون قد رأى قبل ذلك من الآيات ما دلّه على أن زوال ملكه يكون على يد فتى من بنى إسرائيل؛ فقال: ائتونى بعمران لأنه كبير فيهم لأصطنع إليه وإليهم معروفا. فأتى به، فخلع عليه وتوّجه، وجعله سيّد وزرائه، حتى كان هامان وغيره يحسدونه.(13/177)
ذكر شىء من الايات التى رآها فرعون قبل مولد موسى عليه السلام
فمن ذلك أنه هتفت به الهواتف تقول: ويلك يا فرعون، قد قرب زوال ملكك على يد فتى من بنى إسرائيل.
ثم رأى الرّؤى التى أزعجته وأفزعته؛ فكان منها أنه رآى شابا وقد دخل عليه وبيده عصا، فضربه بها على رأسه وقال: ويلك يا فرعون، ما أقل حياءك من خالق السموات، كلّما رأيت آية ازددت كفرا. ونظر إلى آسية فى المنام ولها جناحان تطير بهما بين السماء والأرض حتى دخلت السماء؛ ورأى الأرض قد انفرجت وأدخلته فى جوفها؛ فآنتبه فزعا، وقصّ رؤياه على أهل العبارة، فقالوا:
إنّها تدلّ على مولود يولد يسلبك ملك، ويزعم أنه رسول إله السماء والأرض ويكون هلاكك وقومك على يديه.
وكان فرعون قبل ذلك إذا عبّر عليهم رؤيا يقولون: هذه أضغاث أحلام ويكتمونه ما تدلّ عليه.
ذكر خبر قتل الأطفال
قال: فاستشار فرعون وزراءه وأهل مملكته؛ فأشاروا عليه بقتل من يولد من الذكور؛ فقتل اثنتى عشرة ألف امرأة وسبعين ألف طفل؛ وكان يعذّب الحوامل حتى يسقطن، حتى ضجّت الملائكة إلى ربّها؛ فأوحى الله إليهم بأن له أجلا وبشّرهم بموسى؛ وكان فرعون قد منع وزراءه وكبار أهل مملكته من الاجتماع بأهاليهم والخلوة بهنّ، لأنه كان قد بلغه أن المولود يكون من أقرب الناس إليه؛ وكان عمران ممن منع؛ وكان فرعون إذا نام لا يفارقه حتى يستيقظ؛ فبينما عمران ذات ليلة على كرسيه عند رأس فرعون إذا هو بامرأته وقد حملت إليه على جناح ملك من(13/178)
الملائكة؛ فلما نظر عمران إليها فزع وقال: ما حاجتك هاهنا؟ فسكتت؛ فقال له الملك: إن الله يأمرك يا عمران أن تأتى زوجتك على فراش فرعون ليكون ذلك هوانا له. فواقعها فحملت بموسى؛ ثم اغتسلا فى الحوض الذى فى دار فرعون؛ ثم حملها الملك وردّها إلى منزلها؛ وكان على باب فرعون ألف حاجب، والأبواب مغلّقة، فلم يغن عنه ذلك؛ ولما أصبح فرعون دخل عليه المنجّمون وقالوا: إن الذى تخافه قد حملت به أمّه وقد طلع نجمه. فأمر فرعون القوابل والحواضن أن يدرن على نساء بنى إسرائيل؛ ففعلن ذلك، ولم يعبرن بيت عمران لعلمهنّ بملازمته لفرعون ليلا ونهارا؛ فلما تمت أيّامها جاءها الطلق نصف الليل، وليس عندها إلا ابنتها، فوضعته ووجهه يتلألأ نورا.
ذكر خبر ميلاد موسى وما كان من أمره وإلقائه فى التابوت
قال: وأصبحت أمّ موسى وهى شديدة الفرح به والخوف عليه؛ وسمع فرعون فى تلك الليلة هاتفا يقول: ولد موسى وهلكت يا فرعون وتنكّست الأصنام.
فشدّد فرعون فى طلب المولود، فكانت أمّه ترضعه، وإذا خرجت فى حاجة ألقته فى التنّور بمهده وغطّته؛ ففعلت ذلك فى بعض الأيّام، وكانت أخته قد عجنت وأرادت أن تخبز، فسجرت التنور وهى لا تعلم أن موسى فيه؛ وجاء هامان والدايات فدخلوا دار عمران فلم يجدوا شيئا، ونظروا إلى التنور والنار تعلو منه، فانصرفوا؛ وجاءت أمّ موسى فرأت الأعوان والحرس قد خرجوا من منزلها، فكاد روحها يزهق من الغمّ؛ فدخلت المنزل بسرعة نحو التنور، فرأت النار فيه؛ فلطمت وجهها وقالت: ما نفعنى الحذر، أحرقتم ولدى. وانطلقت إلى التنور فرأت موسى ولم تمسّه النار؛ فأخرجته؛ ولمّا تم له أربعون يوما فزعت عليه، فاتخذت له تابوتا(13/179)
ووضعته فيه، وألقته فى اليمّ؛ وكان أبوه قد مات قبل ذلك ودفن، فلذلك اشتدّ خوف أمّ موسى.
قال الله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ.
قال: فلمّا أتت به لتلقيه فى النيل تصوّر لها إبليس فى صورة حيّة سوداء وقال: إن ألقيته فى اليمّ ابتلعته. فعلمت أنه إبليس؛ فسمعت النداء: وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
قال: فطرحته فى النيل. فقيل: إنه بقى فى الماء أربعين ليلة.
وقيل: ثلاثا.
وقيل: ليلة واحدة.
ذكر دخول التابوت فى دار فرعون ورجوع موسى إلى أمّه
قال: وأصبح فرعون فى اليوم الذى دخل فيه التابوت إلى قصره، فصعد أعلى القصر وأشرف فرأى التابوت والموج يلعب به؛ وكان لفرعون سبع بنات من غير آسية، بكلّ واحدة منهنّ نوع من البلاء والمرض؛ وكان الأطبّاء قالوا له: إنّ دواءهنّ أن يغتسلن فى النيل. فصنع لهنّ نهرا من النيل وأجراه فى وسط القصر يصب فى حوض عظيم؛ فكانت بناته يغتسلن فيه؛ فأمر الله الريح أن تلقى التابوت فى ذلك النهر وبنات فرعون فيه؛ فبادرت الكبرى وفتحته فإذا فيه موسى وله شعاع ونور؛ فلما لمسته أذهب الله ما بها من البلاء والمرض؛ فلمسته بنات فرعون واحدة بعد أخرى، فذهب ما بهنّ من الأمراض؛ وأقبلن بالتابوت إلى آسية؛ فلما رأته قبلته ولم تعلم أنه ابن عمّها؛ ثم أعادته إلى التابوت؛ وحملته جارية معها(13/180)
ومضت به إلى فرعون؛ فلمّا نظر إليه أرعد منه وقال: يا آسية، إنى أخاف أن يكون هذا عدوّى، ولا بدّلى من قتله. فقالت له: قرّة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.
وحكى الثعلبىّ أنها لما قالت: قرّة عين لى ولك، قال فرعون: قرّة عين لك، أمّا أنا فلا حاجة لى فيه.
قال أبو إسحاق: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذى يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عين كما أقرّت به لهداه الله تعالى كما هدى به امرأته ولكن الله تعالى حرمه ذلك» .
قال الكسائىّ: ولم تزل تتلطّف بفرعون حتى تركه، وأحضرت له المواضع فلم يرضعهنّ. قال الله تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ.
وأرسلت أمّ موسى ابنتها كلثم «1» ، قال الله تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.
قال: فدخلت قصر فرعون فرأته فى حجر آسية وقد امتنع أن يرضع؛ فتقدّمت إليها، فقالت هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون.
قال: ولم تعلم آسية أنها ابنة عمّها لرثائة ثيابها، لأنها دخلت فى حلبة المراضع؛ فالتفت إليها فرعون وقال: من هؤلاء القوم الّذين يكفلونه؟ قالت: قوم من آل إبراهيم. قال: اذهبى وائتنى بهم. فرجعت إلى أمّها وأخبرتها؛ فدخلت على فرعون وموسى بين يديه، فعرفتها آسية وقالت: خذى هذا الصبىّ وأرضعيه.
فلما أخذته التقم ثديها ورضع منه، وفرعون لا يعلم أنّها امرأة عمران؛ فقالت لها(13/181)
آسية: أحبّ أن تكونين عندى إلى أن يستغنى هذا الغلام عن الرضاع. فأقامت عند آسية سنتين حتى فطمته وفارقته مستبشرة فرحة.
وحكى الثعلبىّ أنها لم تقم عند آسية، بل أخذته وصارت إلى منزلها فأرضعته إلى أن تمّ رضاعه، وأعادته إلى آسية؛ والله أعلم.
ذكر شىء من عجائب موسى- عليه السلام- وآياته
قال: فلمّا صار موسى من أبناء ثلاث سنين، استدعاه فرعون وأجلسه فى حجره وجعل يلاعبه؛ فقبض على لحية فرعون؛ فتألّم لذلك وقال: لا شكّ أنّ هذا عدوّى. وهمّ بقتله؛ فقالت له آسية: إن الصبيان لهم جراءة ولعب من غير معرفة ولا عقل، وأنا أريك أنه لا يعقل؛ وأمرت بإحضار طست وطرحت فيه درّة وجمرة، وقدّمته إلى موسى، فأراد أن يأخذ الدرّة؛ فصرف جبريل يده عنها إلى الجمرة، فأخذها ورفعها إلى فيه، فاحترق لسانه، فقذفها من فيه وبكى بكاء شديدا؛ فقالت آسية لفرعون: علمت أنه لا يميّز بين الدرّة والجمرة؟ فسكن عند ذلك.
قال: فلمّا تمّ لموسى سبع سنين، جلس فى بعض الأيّام مع فرعون على سريره فقرصه فرعون، فغضب موسى ونزل عن السرير وضرب قوائمه برجله، فكسر قائمتين منه، فسقط فرعون عنه، وانهشم أنفه وسال الدم على لحيته؛ فبادر موسى ودخل على آسية وأعلمها بالخبر، وتبعه فرعون إليها وأراد قتله؛ فقالت: ألا يسرّك أن يكون ولدك بهذه القوّة يدفع أعداءك عنك؟ ولا طفته حتى سكن غضبه.
ثم ظهر له من المعجزات والآيات ما لا يظهر إلّا للأنبياء وفرعون يكرمه؛ والله الموفّق.(13/182)
ذكر خبر القبطىّ وخروج موسى من مصر
قال: ولما كبر موسى صار يركب من مراكب فرعون ويلبس من ملابسه؛ وكان يدعى: موسى بن فرعون؛ فامتنع بسببه الظلم عن بنى إسرائيل، ولم يعلم إلّا أنّ ذلك من قبل الرضاعة؛ واتفق ركوب فرعون، فركب موسى فى أثره والمدينة مغلّقة الأسواق، وليس بها أحد؛ قال الله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ
فكان الذى من شيعته فتى من بنى إسرائيل، والذى من عدوّه رجل من القبط، وهو طبّاخ لفرعون، وقد أخذ حطبا للطعام، وهو يريد الإسرائيلىّ على حمله وقد امتنع؛ فلما مرّ بهما استغاثه الإسرائيلىّ؛ فقال للطبّاخ: اتركه. فامتنع من تركه؛ فوكزه موسى فى صدره فمات؛ فندم موسى على قتله؛ قال الله تعالى: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ
الآيات.
قال: فأصبح فى المدينة خائفا يترقّب.
وجاء القبط وشكوا إلى فرعون أنّ بنى إسرائيل قتلوا رجلا منهم؛ فأمرهم أن يطوفوا على قاتله؛ وخرج موسى فى اليوم الثانى، فإذا الّذى استنصره بالأمس يستصرخه على قبطىّ آخر، والقبطىّ يقول: هذا الّذى قتل ابن عمّى بالأمس.
فقال الإسرائيلىّ: أعنى يا موسى على هذا، فإنّه يريد أن يحملنى إلى دار فرعون قال له موسى إنّك لغوىّ مبين.
قال: ثم لم يجد موسى بدّا من نصرة الإسرائيلىّ، فحسر عن ذراعيه، ودنا من القبطىّ؛ فظنّ الإسرائيلىّ أنّ موسى يريد أن يبطش به، فقال ما أخبر الله به عنه:(13/183)
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ.
فلمّا سمع القبطىّ كلام الإسرائيلىّ لموسى تحقق أن موسى قاتل ابن عمه؛ فدخل إلى دار فرعون وأخبره أن موسى هو الّذى قتل القبطىّ؛ قال: ومن أعلمك؟
فقصّ عليه القصة؛ فأذن فرعون لأولياء المقتول فى قتل موسى حيث وجدوه؛ فجاء حزقيل- وكان مؤمنا من آل فرعون- وأعلم موسى بالخبر.
قال الله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ.
ومضى بغير زاد ولا راحلة؛ فمرّ براع فى طريقه، فأعطاه موسى ثيابه، وأخذ جبّة الراعى وكساه، وسار فوصل إلى مدين فى اليوم السابع وقد أجهده الجوع.
قال: وكان موسى يسير بالليل ودليله النجم، فإذا جاء الصبح جاءه أسدان يدلّانه على الطريق؛ فكان هذا دأبه وهما كذلك حتى ورد مدين؛ والله الهادى.
ذكر خبر ورود موسى مدين وما كان بينه وبين شعيب وزواجه ابنته
قال الله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ
وكانتا ابنتى شعيب عليه السلام.(13/184)
قال: وكان الرّعاء إذا سقوا غطّوا البئر بصخرة لا يرفعها إلّا جماعة؛ فلمّا انصرفوا تقدّم موسى إلى الصخرة فوكزها برجله، فدحاها أربعين ذراعا على ضعفه من الجوع وسقى غنمهما.
قال الله تعالى: فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ.
قال: فتمنّى موسى فى ذلك الوقت شبعة من خبز الشعير؛ وانصرفت المرأتان إلى أبيهما وأخبرتاه بالخبر، فأرسل إحداهما إليه وقال: ائتينى به. قال الله تعالى: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا.
فقام موسى، وكانت تمرّ بين يديه فكشف الريح عن ساقيها؛ فقال لها:
تأخّرى ورائى ودلّينى على الطريق. فتأخّرت وكانت تقول: عن يمينك وعن شمالك. حتى دخلا مدين؛ وجاء إلى شعيب- وهو شيخ كبير وقد كفّ بصره- فسلّم عليه؛ فردّ عليه ورحّب به وسأله عن خبره. قال الله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
ثم دعا شعيب بالطعام فأكل؛ فقالت ابنته: يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القوىّ الأمين أرادت بالقوّة رفع الحجر عن رأس البئر واستقاءه بالدلو العظيمة، وأمانته أنّه أخّرها إلى خلفه.
فرغب فيه وقال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ.(13/185)
فتزوّج موسى صفورا «1» - وهى الصغرى منهما- وطلب عصا؛ فقالت له:
ادخل بيت أبى الّذى يأوى فيه فخذ عصاك. وكان فيه عصىّ كثيرة- فدخل موسى البيت وأخذ من العصىّ عصا حمراء؛ فقال له شعيب: هذه من أشجار الجنة أهداها الله إلى آدم، ثم صارت إلى شيث وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وكلّهم توكّأوا عليها، فلا تخرجنّها من يدك.
ثم أوصاه وحذّره من أهل مدين، وقال: إنّهم قوم حسدة، وإذا رأوك قد كفيتنى أمر غنمى حسدونى عليك، فدلّوك على وادى كذا وكذا، وهو كثير المرعى، وإنما فيه حيّة عظيمة تبتلع الغنم، فإن دلّوك عليه فلا تمرّ به، فإنّى أخاف عليك وعلى غنمى.
فخرج موسى بالغنم- وكانت يومئذ أربعين رأسا- وقال فى نفسه: إنّ من أعظم الجهاد قتل هذه الحيّة. وتوجه بالغنم إلى ذلك الوادى؛ فلمّا قار به أقبلت الحيّة إلى الغنم، فقتلها موسى ورعى غنمه إلى آخر النهار، وعاد إلى شعيب وأعلمه الخبر؛ ففرح بقتلها، وفرح أهل مدين وعظّموا موسى وأجلّوه؛ وقام موسى بغنم شعيب يرعاها ويسقيها، حتى انقضت المدّة التى بينهما، وبلغت أربعمائة رأس وعزم موسى على المسير.
ذكر خبر خروج موسى- عليه السلام- من أرض مدين ومناجاته ومبعثه إلى فرعون
قال: ولما أراد موسى الانصراف بكى شعيب وقال: يا موسى، إنّى قد كبرت وضعفت، فلا تضيّعنى مع كبر سنّى وكثرة حسّادى، وتترك غنمى شاردة لا راعى لها. قال موسى: إنّها لا تحتاج إلى راع، وقد طالت غيبتى عن أمّى(13/186)
وخالتى وهارون أخى وأختى. فقال شعيب: إنى أكره أن أمنعك. وأوصاه بابنته وأوصاها ألّا تخالفه؛ وسار موسى- عليه السلام- بأهله يريد أرض مصر حتى بلغ جانب وادى طوى فى عشيّة شديدة البرد؛ وجاء الليل وهبّت الرياح وغيّمت السماء؛ فأنزل موسى أهله وضرب خيمته على شفير الوادى، وأدخل أهله فيها؛ وهطلت السماء بالمطر؛ وكانت امرأته حاملا، فجاءها الطلق، فجمع حطبا وقدح الزناد فلم يور، فرماه وخرج من البيت، فرآى نارا.
قال الله تبارك وتعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ* فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
ولم يكن هناك نار بل نور.
قال الثعلبىّ: واختلفوا فى الشجرة ما كانت، فقيل: العوسجة. وقيل: العنّاب.
قال الكسائىّ: وأمر موسى بخلع نعليه؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى
إلى قوله: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى * قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى.
قال: لأنه كان يركزها فى الأرض ويعلّق عليها كساءه وإداوته ونعليه، ويقاتل بها السباع، ويستظلّ بها من الشمس.
قال الله تعالى: أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى
على مثال الثعبان العظيم.(13/187)
قال: فلمّا رآها تهتزّ كأنّها جانّ ولّى مدبرا ولم يعقّب.
فلما أمعن فى الهرب قال له جبريل: أتهرب من ربّك وهو يكلّمك؟ قال:
ما فررت إلّا من الموت. ورجع وهى بحالها؛ قال الله تعالى: خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى.
فأدخل يده فى فيها فإذا هى عصا؛ ثم قال الله له: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى
فذهب الخوف عن موسى؛ ثم أمره الله تعالى أن يذهب إلى فرعون، فقال: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى
. قال موسى: ربّ اشرح لى صدرى* ويسّر لى أمرى* واحلل عقدة من لسانى* يفقهوا قولى* واجعل لى وزيرا من أهلى* هارون أخى* اشدد به أزرى* وأشركه فى أمرى* كى نسبّحك كثيرا* ونذكرك كثيرا* إنّك كنت بنا بصيرا.
قال الله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى.
قال: ثم تذكّر موسى ما كان منه فقال: ربّ إنّى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون. فنودى: يا موسى لا تخف إنّى لا يخاف لدىّ المرسلون. ثم ذكّره الله منّته عليه فقال: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى
الآيات؛ ثم قال الله تعالى: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى * قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى * قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى * فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى.
قال: وكان الخطاب لموسى وحده، والرسالة له ولهارون.
قال: وأمّا ابنة شعيب فاشتدّ بها الطلق، وسمع سكّان الوادى من الجنّ أنينها، فأتوها وأوقدوا النار عندها، وقبلوها؛ وقيّض الله تعالى لها من ردّها إلى أبيها؛ والله المعين.(13/188)
ذكر خبر مسير موسى إلى مصر واجتماعه بأخيه هارون وأمّه
قال الكسائىّ: وسار موسى من الطّور حتى بلغ العمران؛ وكان هارون يومئذ وزيرا لفرعون على عادة أبيه لا يفارقه ليلا ولا نهارا؛ فبينما هو نائم إلى جنب سرير فرعون إذ أتاه آت فى منامه ومعه شراب فى كأس من الياقوت، وقال: يا هارون اشرب هذه الشربة فهى بشارة بقدوم أخيك من أرض مدين، وأنت شريكه فى الرسالة إلى فرعون.
فانتبه هارون فزعا وظنّ ذلك من الشيطان، وعاد إلى النوم، فعاوده القائل ثلاث مرّات؛ ثم قال له: قم إلى أخيك- وكانت الأبواب مغلّقة- فاحتمله الملك إلى قارعة الطريق وقال له: امض واستقبل أخاك. ثم أتاه جبريل بوحى الله وبشّره بالرسالة، وحمله إلى شاطئ النيل، وموسى إلى الجانب الآخر؛ فكان يكلّمه والريح تحمل كلامه إلى هارون؛ ثم أذن الله لهما أن يلتقيا؛ فجاء موسى إلى الجانب الآخر، فالتقيا؛ وبشّره بشركته فى الرسالة؛ ثم أقبلا إلى أمّهما وجبريل معهما، فطرق هارون الباب وأمّه فى صلاتها، فقامت من محرابها وقالت: من بالباب؟ فقال موسى: أنا ولدك موسى وأخى هارون. ففتحت الباب، ووقعت مغشّيا عليها من الفرح؛ ثم أفاقت؛ وذكر لها موسى ما كان من أمره؛ فسجدت لله تعالى؛ ثم حمل جبريل هارون وأعاده عند رأس فرعون؛ وأقام موسى بقيّة ليلته عند أمّه، وخرج من الغد متنكّرا، فنظر إلى ما أحدثه فرعون فى أرض مصر ورجع حتى أقبلت الليلة الثانية، فخرج وجاء إلى قصر فرعون وبه الحجّاب والحرس والجنود، فقرع الباب بعصاه، فانفتح ودخل حتى بلغ القبّة الأرجوانيّة، فانفتحت وعبرها وفرعون نائم بها، وهارون عند رأسه؛ فقام إليه هارون وقال: لقد عجلت يا أخى. وأخرجه؛ فانصرف، وغلّقت الأبواب كما كانت.(13/189)
فلمّا كان من الغد جاء إلى فرعون فعرفه بعضهم، وأنكره البعض، وجاء بعض الوزراء إلى فرعون وأخبره به، فأرعدت فرائصه، وأمر هامان أن يخرج إليه؛ فخرج وسأله عن اسمه، فأخبره أنه موسى؛ فعاد هامان إلى فرعون وأعلمه أنه هو؛ فنظر إلى هارون وقال: أيقدم أخوك ولم تعلمنى به؟ فقال: أردت ذلك وإنما خشيت غضبك.
ذكر خبر دخول موسى- عليه السلام- إلى فرعون وما كان من أمره معه
قال: وأمر فرعون أن يزيّن قصره، وجلس والتاج على رأسه، ووقف الوزراء عن يمينه وشماله، وأحضر موسى؛ فلمّا رآه عرفه، ثم قال له: من أنت؟ قال:
أنا عبد الله ورسوله وكليمه. قال: أنت عبد فرعون. قال: إن الله أعزّ من أن يكون له ندّ. قال له فرعون: إلى من أرسلت؟ قال: إليك وإلى جميع أهل مصر. قال: فبماذا؟ قال: أن يقولوا لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّى موسى عبده ورسوله. قال: فما حجّتك؟ فإنّ لكلّ مدّع بيّنة. قال: إن أتيتك ببيّنة تؤمن؟ قال: نعم. قال موسى: يا هارون، انزل عن الكرسىّ وبلّغ فرعون الرسالة.
فنزل وقال: يا فرعون. إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى
. فقال فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى * قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى
، الآيات.
فغضب فرعون على هارون، وأمر هامان بنزع ما عليه من اللباس؛ فنزعه حتى بقى بالسراويل، فألبسه موسى مدرعة الصوف؛ فاقشعرّ جلده؛ فنزل جبريل بقميص كوّنه الله تعالى فكان وألبسه إيّاه؛ فقال فرعون لهامان: احمل موسى(13/190)
وأخاه إلى منزلك ودارهما، فإن أطاعانى مكّنتهما من خزائنى، ولا أقطع أمرا دونهما. ففعل ذلك؛ فقالا له: يا هامان اشتر نفسك من ربّك. فضحك من قولهما، ثم أحضرهما من الغد إلى فرعون؛ فأقبل على موسى وقال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ* قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ
أى عن النبوّة فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ* وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ.
ثم قال: تذبّح أبناءهم وتستحيى نساءهم، فشكوك إلى ربّ العالمين. وكان فرعون متكئا، فاستوى جالسا وقال: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ* قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ
. فالتفت فرعون لمن حوله وقال: أَلا تَسْتَمِعُونَ.
قال موسى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
. قال فرعون: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
ذكر خبر العصا حين صارت ثعبانا واليد البيضاء
قال: وبينماهما فى المخاطبة وإذا بالعصا اضطربت فى كف موسى؛ فناداه جبريل: أطلقها يا نبىّ الله. فألقاها موسى فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ
كأعظم ما يكون؛ ثم تمثّل مثال الجمل البختىّ وقام على رجليه حتى أشرف برأسه على حيطان القصر وتنفّس نارا ودخانا، وعطف على قبّة فرعون فضربها فطحطحها، وجعلت لا تمرّ بشىء إلّا ابتلعته، وهاجت كالجمل المغتلم ولها صوت كالرعد؛ وأقبلت إلى قبّة فرعون وهو فيها، فوضعت لحيها الأسفل تحت القبة، ولحيها الأعلى فوقها، ورفعت القبّة(13/191)
ثمانين ذراعا فى الهواء، وقالت: يا فرعون، وعزّة ربّى لو أذن لى لابتلعتك بقصورك وأموالك. فلمّا نظر فرعون إلى ذلك وثب عن سريره- وهو أعرج- وجعل يعدو ويقول: يا موسى بحقّ التربية والرضاع، وبحقّ آسية كفّها عنّا.
فناداها، فأقبلت، فأدخل يده فى فيها، وقبض على لسانها فإذا هى عصا كما كانت؛ فعاد فرعون إلى مكانه وقال: يا موسى، لقد تعلّمت بعدى سحرا عظيما. قال:
يا فرعون، أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ
. قال فرعون: هل عندك سحر غير هذا؟ قال: نعم؛ فأدخل يده فى جيبه، ثم أخرجها وعليها نور وشعاع؛ قال الله تعالى:
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ* قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ* قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ.
ذكر خبر السّحرة واجتماعهم وما كان من أمرهم وإيمانهم
قال: فأمر فرعون بجمع السّحرة؛ فاجتمع إليه سبعون ألف ساحر؛ فاختار منهم سبعين ساحرا- وهم أحذق الخلق-.
وحكى الثعلبىّ عن عطاء قال: كان رئيسا السحرة بأقصى مدائن الصعيد وكانا أخوين؛ فلما جاءهما رسول فرعون قالا لأمّهما: دلّينا على قبر أبينا. فدلّتهما عليه؛ فأتياه فصاحا باسمه، فأجابهما؛ فقالا له: إن الملك قد وجّه إلينا أن نقدم إليه، لأنّه أتاه رجلان ليس معهما رجال ولا سلاح، ولهما عزّ ومنعة، وقد ضاق الملك ذرعا بهما، ومعهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لها شىء حتى تبتلع الحديد والخشب والحجارة. فأجابهما أبوهما: انظرا إذا هما ناما، فإن قدرتما أن تسلّا العصا فسلّاها، فإنّ الساحر لا يعمل سحره وهو نائم، فإن عملت العصا وهما نائمان فذلك(13/192)
أمر ربّ العالمين فلا طاقة لكما به ولا للملك ولا لجميع أهل الدنيا. فأتياهما خفية وهما نائمان ليأخذاها، فصدّتهما.
قال الكسائىّ: وبعث فرعون إلى موسى فأحضره وقال ما أخبر الله تعالى به عنه: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً* قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.
قال: ويوم الزينة هو أوّل يوم من السنة؛ فلمّا كان فى ذلك اليوم اجتمع الناس من أطراف أرض مصر فى صعيد واحد، فأخذ فرعون يقول للسحرة:
اجتهدوا أن تغلبوا موسى. قالوا إنّ لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين. قال فرعون:
نعم وإنّكم لمن المقرّبين.
وأقبل موسى وهارون وقد أحدقت بهما الملائكة، فرأى موسى الوادى وقد امتلأ من الحبال والعصىّ؛ فقال موسى: ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى.
قال: وكان فى السحرة ساحران عظيمان- وهما رأس السحرة- فقالا:
يا موسى إمّا أن تلقى وإمّا أن نكون أوّل من ألقى. فهمّ موسى أن يلقى، فمنعه جبريل، وأجرى الله على لسانه فقال: بل ألقوا؛ فألقوا وسحروا أعين النّاس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم. قال الله تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى
. فامتلأ الوادى من الحيّات، وجعلت يركب بعضها بعضا؛ وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون؛ قال الله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى * وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما(13/193)
صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى
فعندها زال خوفه وقال: ما جئتم به السّحر إنّ الله سيبطله إنّ الله لا يصلح عمل المفسدين. ثم ألقى عصاه فى وسط الوادى، فانكشف سحر السحرة، وبطل ما أظهروه من التخييل، فإذا هى حبال وعصىّ، وصارت عصا موسى ثعبانا له سبعة أرؤس، وعلى ظهره مثل الأزجّة «1» ، فابتلعت الحبال والعصىّ وجميع ما كان فى الوادى من الزينة؛ فقام فرعون ووزراؤه فوقفوا على تل ينظرون فعل الحية وهم خائفون؛ ثم حملت على السبعين رجلا فولّوا هاربين على وجوههم؛ ثم اجتمعوا بأجمعهم وقالوا: ما هذا بسحر. وخرّوا سجّدا؛ قال الله تعالى: أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
قال: فاغتمّ فرعون لذلك وقال للسحرة: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ.
وأمر أن يفعل بهم ذلك؛ فقالوا ما أخبر الله به تعالى عنهم: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى.
ثم صلبوا على سبعين جذعا بعد أن قطّع فرعون أيديهم وأرجلهم.
ذكر خبر حزقيل مؤمن آل فرعون
قد قيل: إن خبر مؤمن آل فرعون كان قبل خبر السحرة، وسياق الآيات يدل على أن خطابه لفرعون كان بعد خبرهم، وذلك أنه لما كان من أمر السحرة(13/194)
ما ذكرناه، قال الملأ من قوم فرعون ما أخبر الله تعالى به عنهم؛ قال الله تعالى:
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ
. وقال الله تعالى إخبارا عن فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ.
قال: فلمّا عزم فرعون على قتل موسى، أقبل حزقيل على القوم- وكان خازن فرعون وزوّج ماشطة بناته- فقال ما أخبر الله تعالى عنه: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ* يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا.
ففزع فرعون من قوله وقال: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ.
فخوّفهم المؤمن وقال ما أخبر الله تعالى به عنه: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ* مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ* وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ* يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
فلما سمع فرعون كلامه غضب وقال: كأنّك ممن اتبع موسى، فارجع عن ذلك وإلّا عاقبتك بأنواع العذاب. فقال له حزقيل: يا قوم اتّبعون أهدكم سبيل الرّشاد، الآيات.(13/195)
ثم قال: وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ* لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ* فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ
؛ ولحق بموسى وهارون، وفارق فرعون وقومه؛ قال الله تعالى:
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ.
وحكى الثعلبىّ أنّ فرعون قتله مع السحرة صلبا؛ ثم ذكر بعد ذلك أنه كان مع موسى عليه السلام لمّا فرق الله له البحر؛ والله تعالى أعلم.
ذكر خبر بناء الصرح وما قيل فيه
قال: ولما انقضى أمر السحرة أقبل فرعون على هامان وقال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً.
قال: فجمع هامان خمسين ألف صانع وصنع القرميد- وهو الآجر، وهامان أوّل من صنعه- فكانوا يبنون فيه ليلا ونهارا لا يفترون؛ فلمّا تكامل الصرح وارتفع ارتفاعا عظيما، أمر الله عزّ وجلّ جبريل فهدمه وجعل عاليه سافله ومات كلّ من كان فيه على دين فرعون، والمؤمنون يزيدون ويجتمعون إلى موسى عليه السلام.
وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- أن الصرح اجتمع فيه لبنائه خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء ممّن يطبخ الآجرّ والجصّ وينجر الخشب والأبواب ويضرب المسامير؛ فلم يزل يبنى ذلك الصرح؛ ويسّر الله تعالى له أمره(13/196)
استدراجا منه، فأتى الأمر فيه على ما يريد، إلى أن فرغ فى سبع سنين، فارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق منذ خلق الله السموات والأرض؛ فشقّ ذلك على موسى، فأوحى الله تعالى إليه: أن دعه وما يريد فإنّى مستدرجه ومبطل كلّ ما عمله فى ساعة واحدة.
قال: فلمّا تم بنيانه بعث الله عزّ وجلّ جبريل فضرب بجناحه الصرح، فقذف به على عسكر فرعون، فقتل منهم ألفى ألف رجل.
قالوا: ولم يبق أحد ممّن عمل فيه إلا أصابه موت أو حريق أو عاهة.
قال: وكان تدمير الله تعالى الصرح فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
قال: فلمّا رأى فرعون ذلك من أمر الله، وعلم أنّ حيلته لم تغن عنه شيئا عزم على قتال موسى ومن معه، وأمر أصحابه فنصبوا له الحرب؛ فلما رأى الله تعالى ذلك من فعل فرعون وقومه، وأنه حقّت عليهم كلمة العذاب، ابتلاهم الله تعالى بالعذاب والآيات.
ذكر خبر الآيات التسع
قال الكسائىّ: ثم أخذ الله تعالى قوم فرعون بالآيات التسع، فكان أوّل ما جاءهم الطوفان، فدام عليهم ثمانية أيام لا يرون فيها شمسا، حتى امتلات الأسواق والدّور، وأخذت فى الخراب؛ فالتجأوا إلى فرعون، فقال: سأكشف ذلك عنكم.
ودعا موسى وسأله أن يدعو برفع الطوفان ليؤمن به؛ فطمع موسى فى ذلك، فسأل الله تعالى، فرفع ذلك عنهم، فازدادوا كفرا، فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكل أشجارهم وزرعهم، ودام ثمانية أيّام، ففزعوا إلى فرعون، فوعدهم بصرفه عنهم وضمن لموسى إن صرفه عنهم آمن به؛ فدعا ربّه، فأرسل الله على الجراد ريحا باردة(13/197)
فقتلته، فلم يؤمنوا؛ فبعث الله عليهم القمّل فأكل جميع ما فى بيوتهم، وقرض ثيابهم وأبدانهم وشعورهم؛ فضجّوا إلى فرعون، فسأل موسى ووعده الإيمان؛ فسأل الله تعالى، فصرفه عنهم بعد ثمانية أيام وأماته، فازدادوا كفرا؛ فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع، فكانت تدخل فى طعامهم وشرابهم، وكانت لها رائحة منتنة فدامت ثمانية أيام؛ فسأل موسى؛ فلما كشفها الله عنهم لم يؤمنوا وازدادوا كفرا؛ فأمر الله تعالى موسى: أن اضرب بعصاك النيل. فضربه فتحوّل دما عبيطا، فاشتدّبهم العطش، فكان الإسرائيلىّ والفرعونىّ يأتيان إلى موضع واحد، فإذا أخذه الإسرائيلىّ يكون ماء، وإذا أخذه الفرعونىّ كان دما، فدام ذلك ثمانية أيّام حتى أجهدهم العطش وأشرفوا على الهلاك؛ فلمّا كشفه الله عنهم بدعوة موسى ازدادوا كفرا.
ذكر خبر مسخ قوم فرعون
قال: ولما لم يؤمنوا بهذه الآيات، قال موسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ؛
وكان الدعاء من موسى، والتأمين لهارون؛ فأوحى الله إليهما: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما
الآية.
قال: فطمس الله تعالى على كثير منهم، حتى أصبح الرجال والنساء والصبيان والأموال كلّها حجارة، فلم يؤمنوا؛ قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ.
قال عمر بن عبد العزيز فى تفسيره: كان أوّل الآيات العصا، واليد البيضاء والطّوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والطّمس والبحر حتى صار يبسا.
هذا ملخّص ما حكاه الكسائىّ.(13/198)
وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ فى قصصه عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق وغيرهم من أصحاب الأخبار- دخل حديث بعضهم فى حديث بعض- قالوا: لما آمنت السحرة وصلبهم فرعون، وانصرف موسى وهارون إلى عسكر بنى إسرائيل، أمر فرعون أن يكلّفوا بنى إسرائيل ما لا يطيقونه، فكان الرجل من القبط يجىء إلى الرجل من بنى إسرائيل فيقول له: انطلق معى فآكنس حشى «1» واعلف دوابّى واستق لى. وتجىء القبطية إلى الكريمة من بنى إسرائيل فتكلّفها ما لا تطيق، ولا يطعمونهم فى ذلك كلّه خبزا، واذا انتصف النهار يقولون لهم: اذهبوا فاكسبوا لأنفسكم. فشكوا ذلك إلى موسى، فقال لهم: استعينوا بالله واصبروا إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقّين. قالوا:
يا موسى: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، كنا نطعم اذا استعملونا من قبل أن تجيئنا، فلمّا جئتنا استعملونا ولا يطعموننا. فقال لهم موسى: عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم يعنى فرعون والقبط، ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون.
قالوا: فلمّا أبى فرعون وقومه إلّا الإقامة على الكفر، والتمادى فى الشر والظلم، دعا موسى ربّه وقال: ربّ إن عبدك فرعون طغى فى الأرض وبغى وعتا وإن قومه نقضوا عهدك وأخلفوا وعدك، ربّ فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومى عظة، ولمن بعدهم من الأمم عبرة. فتابع الله عليهم الآيات المفصّلات بعضها فى إثر بعض، فأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات، ثم بعث عليهم الطوفان (وهو الماء) أرسل عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بنى إسرائيل وبيوت القبط مشبّكة مختلطة بعضها فى بعض، فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا فى الماء(13/199)
إلى تراقيهم، فمن جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بنى إسرائيل من الماء قطرة وفاض الماء على وجه أراضيهم كذلك، فلم يقدروا على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا؛ ودام ذلك عليهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت؛ فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك يكشف عنّا هذا البلاء ونؤمن بك ونرسل معك بنى إسرائيل. فدعا موسى ربّه فرفع عنهم الطوفان، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل، وعادوا أشرّ مما كانوا عليه.
واختلف العلماء فى الطوفان ما هو؛ فقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-:
هو الماء أرسله الله تعالى عليهم.
وقال مقاتل: هو الماء طغى فوق حروثهم فأهلكها.
وقال الضّحاك: هو الغرق.
وقال مجاهد وعطاء: هو الموت الذريع.
وقال وهب: هو الطاعون بلغة أهل اليمن، أرسل الله الطّوفان على أبكار آل فرعون فقبضهنّ فى ليلة واحدة، فلم يبق منهنّ واحدة ولا دابة.
وقال أبو قلابة: الطّوفان هو الجدرىّ، والله تعالى أعلم.
قالوا: وأنبت الله تعالى لهم فى تلك السنة من الكلإ والزرع ما لم ينبت قبل ذلك، فأعشبت بلادهم وأخصبت، فقالوا: هذا ما كنّا نتمنّاه، وما كان هذا الماء إلّا نعمة لنا وخصبا. فأقاموا شهرا فى عافية؛ ثم بعث عليهم الجراد فأكل زرعهم وثمارهم وأوراق أشجارهم والزهر، حتّى إن كان ليأكل الأبواب والثياب والأمتعة وسقوف البيوت والخشب والمسامير حتى سقطت دورهم، والجراد لا يدخل بيوت بنى إسرائيل ولا يصيبهم من ذلك شىء؛ فعجّوا وضجّوا، وقالوا:(13/200)
يا موسى ادع لنا ربّك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بنى إسرائيل؛ فأعطوه عهد الله وميثاقه؛ فدعا موسى ربّه، فكشف الله تعالى عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت.
ويقال: إن موسى برز إلى الفضاء، فأشار إلى المشرق بالعصا فذهب الجراد من حيث جاء كأن لم يكن قطّ.
قالوا: فأقاموا شهرا فى عافية؛ ثم بعث الله عليهم القمّل، وذلك أن موسى أمر أن يمشى إلى كثيب أغبر بقرية من قرى مصر تدعى: (عين شمس) فمشى موسى إلى ذلك الكثيب- وكان عظيما- فضربه بعصاه، فانثال عليهم القمّل فتتّبع ما بقى من حروثهم وأشجارهم ونباتهم فأكله ولحس الأرض كلّها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضّه، وكان يأكل أحدهم الطعام فيمتلئ قمّلا، حتى إن أحدهم ليبنى الأسطوانة بالجصّ فيزلّقها حتى لا يرتقى فوقها شىء، ثم يرفع فوقها طعامه، فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن قمّلا، فما أصيبوا ببلاء كان أشدّ عليهم من القمّل؛ وأخذ القمل شعورهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولصق بجلودهم كالجدرىّ، ومنعهم النوم والقرار، ولم يستطيعوا له حيلة.
وقد اختلفوا فى القمّل ما هو؟ فروى عن أبى طلحة أنّه الذباب لا أجنحة له.
وروى معمر عن قتادة قال: القمّل أولاد الجراد.
وعن عبد الرحمن بن أسلم قال: هو البراغيث.
وقال عطاء: هو القمّل؛ دليله قراءة الحسن: «والقمل» بفتح القاف وسكون الميم.
وقال أبو عبيدة: هو الحمنان، وهو ضرب من القردان.(13/201)
وقال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس- رضى الله عنهم-: القمّل، هو السوس الذى يخرج من الحنظة والحبوب، فكان الرجل يخرج عشرة أقفزة فلا يردّ منها إلّا ثلاثة أقفزة؛ فلما رأوا ذلك شكوا إلى موسى وصاحوا وقالوا: يأيّها الساحر أى أيّها العالم إنا نتوب إلى الله ولا نعود، فادع لنا ربّك يكشف عنا هذا البلاء.
فدعا موسى ربه، فرفع الله تعالى عنهم القمّل بعد ما أقام عليهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت، ثم نكثوا العهد، وعادوا إلى خبث أعمالهم، وقالوا: ما كنا قطّ أحقّ أن نستيقن أن موسى ساحر إلّا اليوم، فيجعل الرمل والرماد دوابّ، فعلى ماذا نؤمن به ونرسل معه بنى إسرائيل؟ فقد أهلك زرعنا وحروثنا، وأذهب أموالنا، فما عسى أن يفعل أكثر مما فعل، وعزّة فرعون لا نصدّقه أبدا ولا نتبعه.
فدعا عليهم موسى بعد ما أقاموا شهرا فى عافية- وقيل أربعين يوما- فأوحى الله تعالى إليه وأمره أن يقوم على ضفّة النيل فيغرز عصاه فيه، ويشير بالعصا إلى أدناه وأقصاه وأعلاه وأسفله؛ ففعل موسى ذلك، فتداعت إليه الضفادع بالنّقيق من كلّ جانب حتى أعلم بعضها بعضا، وأسمع أدناها أقصاها؛ ثم خرجت من النيل مثل البحر تدبّ سراعا نحو باب المدينة، فدخلت عليهم فى بيوتهم بغتة، وامتلأت منها أفنيتهم وأبنيتهم وأطعمتهم؛ وكان أحدهم لا يكشف ثوبا ولا إناء ولا طعاما ولا شرابا إلّا وجد فيه ضفادع؛ وكان الرجل يجلس الى ذقنه فى الضفادع، ويهمّ أن يتكلّم فيثب الضفدع فى فيه؛ وكان أحدهم ينام على فراشه وسريره فيستيقظ وقد ركبته الضفادع ذراعا بعضها فوق بعض، وصارت عليه حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقّه الأخر؛ وكان أحدهم يفتح فاه لأكلته فتستبق الضفادع إلى فيه؛ وكانوا لا يعجنون إلّا انشدخت فيه، ولا يطبخون إلا امتلات القدر بالضفادع؛ وكانت تثب فى نيرانهم فتطفئها، وفى طعامهم فتفسده؛ فلقوا منها أذّى شديدا.(13/202)
وروى عن عكرمة عن ابن عبّاس- رضى الله عنهم- قال: كانت الضفادع برّيّة، فلمّا أرسلها الله على فرعون سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف أنفسها فى القدر وهى تفور، وفى التنانير وهى مسجورة، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء.
قال: فضجّوا إلى فرعون من أمر الضفادع، وضاق عليهم أمرهم حتى كادوا يهلكون، وصارت المدينة وطرقها مملوءة جيفا من كثرة ما يطأونها بأقدامهم، فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا ذلك إلى موسى، وقالوا: اكشف عنّا هذا البلاء فإنا نتوب هذه المرّة ولا نعوذ. فأخذ بذلك عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا الله تعالى فكشف عنهم الضفادع، فما كان منها حيّا لحق بالنيل؛ وأرسل الله تعالى ريحا على الميت منها فنحّته عن مدينتهم بعد ما قامت عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فأقاموا شهرا فى عافية؛ وقيل: أربعين يوما. ثم نقضوا العهود وعادوا إلى كفرهم وتكذيبهم؛ فدعا عليهم موسى، فأرسل الله تعالى عليهم الدم، وذلك أنّ الله تعالى أمر موسى أن يذهب إلى شاطئ النيل ويضربه بعصاه؛ ففعل ذلك، فسال النيل عليهم دما، وصارت مياههم كلّها دما عبيطا، فما يشربون من الأنهار والآبار إلّا وجدوا دما أحمر عبيطا؛ فشكوا ذلك إلى فرعون وقالوا؛ إنّا قد ابتلينا بهذا الدم، وليس لنا شراب. فقال: إنّه قد سحركم. فكان يجمع بين الرجلين على الإناء: القبطىّ والإسرائيلىّ فيسقيان من ماء واحد، فيخرج ماء القبطى دما، وماء الإسرائيلىّ عذبا؛ وكانا يقومان إلى الجرّة فيها الماء، فتخرج للإسرائيلىّ ماء وللقبطىّ دما، حتى إنّ المرأة من آل فرعون كانت تأتى المرأة من بنى إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول: اسقينى من مائك. فتغرف لها من جرّتها، وتصبّ لها من قربتها، فيعود فى الإناء دما، حتى إن كانت المرأة تقول لها: اجعليه فى فيك(13/203)
ثم مجيّه فى فمى. فتأخذ فى فيها ماء، فإذا مجّته فى فيها صار دما، والنيل على ذلك يسقى الزرع والشجر؛ فإذا ذهبوا ليستقوا من بين الزرع عاد الماء دما عبيطا.
قالوا: وإنّ فرعون اعتراه العطش فى تلك الأيّام، حتى إنه اضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة، فكان إذا مضغها يصير ماؤها فى فيه ملحا أجاجا ومرّا زعاقا؛ فمكثوا فى ذلك سبعة أيّام لا يأكلون ولا يشربون إلّا الدم؛ فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل. فدعا موسى ربّه فكشف عنهم ذلك، وأمر أن يضرب بعصاه النيل ضربة أخرى؛ ففعل فتحوّل صافيا كما كان، فلم يؤمنوا ولم يفوا بما عاهدوا عليه، وذلك قوله تعالى:
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ.
وقال نوف البكالىّ- وهو ابن امرأة كعب الأحبار-: مكث موسى فى آل فرعون عشرين سنة بعد ما غلب على السحرة يريهم الآيات: الجراد والقمّل والضّفادع والدم.
وقال الضحّاك: لمّا يئس موسى من إيمان فرعون وقومه، ورأى أنهم لا يزدادون إلا الطغيان والكفر والتمادى، دعا عليهم موسى وأمّن هارون. رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ.
فأجاب الله دعاءه، كما قال تعالى: قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما
الآية.
قال: وكان لفرعون وأصحابه من زهرة الدنيا وزينتها من الذهب والفضّة واليواقيت وأنواع الجواهر والحلىّ ما لا يحصيه إلا الله تعالى؛ وكان أصل ذلك المال مما جمعه يوسف- عليه السلام- فى زمانه أيّام القحط، فبقى ذلك(13/204)
فى أيدى القيط، فأوحى الله تعالى إلى موسى: أنّى مورث بنى إسرائيل ما فى أيدى آل فرعون من العروض والحلىّ، وجاعله لهم جهازا وعتادا إلى الأرض المقدّسة فاجعل لذلك عيدا تعتكف عليه أنت وقومك تشكروننى وتذكروننى فيه وتعظّموننى ذلك اليوم، وتعبدوننى فيه لما أريكم من الظّفر ونجاة الأولياء وهلاك الأعداء واستعيروا لعيدكم من آل فرعون الحلىّ وأنواع الزينة، فإنّهم لا يمتنعون عليكم للبلاء الحالّ بهم فى ذلك الوقت، ولما قذفت لكم فى قلوبهم من الرعب. ففعل موسى ذلك كما أمره الله تعالى، فأمر فرعون بزينة أهله وولده وما كان فى خزائنه من أنواع الحلىّ، فأعيرت بنى إسرائيل لما أراد الله تعالى بذلك أن يفىء على موسى وقومه أفضل أموال أعدائه بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا رجل؛ فلمّا دعا موسى عليهم مسخ الله تعالى الأموال الّتى بقيت فى أيديهم حجارة حتى النخل والرقيق.
وقال محمد بن كعب: سألنى عمر بن عبد العزيز عن الآيات الّتى أراهن الله تعالى فرعون وقومه؛ فقلت: الطّوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والعصا واليد البيضاء والطّمس وفلق البحر.
قال عمر: كيف يكون الفقه إلّا هكذا. ثم دعا بخريطة فيها أشياء ممّا كان أصيب لعبد العزيز بن مروان لمّا كان على مصر من بقايا آل فرعون، فأخرج البيضة مقسومة نصفين كأنّها الحجر، والجوزة مشقوقة نصفين وكأنها الحجر، والحمّصة والعدسة.
وروى ابن إسحاق عن رجل من أهل الشأم كان بمصر قال: ورأيت نخلة مصروعة كأنها الحجر.
قال: ورأيت إنسانا وما شككت أنه إنسان وإنّه لحجر؛ وكان المسخ فى أرقائهم دون أحرارهم، إذ العبيد من جملة أموالهم؛ فلم يبق لهم مال إلّا مسخه الله تعالى ما خلا الذى فى أيدى بنى إسرائيل من الحلىّ والجواهر وأنواع الزينة.(13/205)
قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: أوّل الايات العصا، وآخرها الطمس؛ وبلغنا أن الدنانير والدراهم صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا، وجعل سكّرهم حجارة، وبعض المسخ من الآدميين باق مشاهد إلى وقتنا هذا، وقد شاهدت أنا منه شخصا شكل خادم وهو جالس على كرسىّ بقرب البيت الأخضر ببلاد الجيزية، وذلك فى شهور سنة سبع عشرة وسبعمائة، ولعلّه من ذلك المسخ؛ والله أعلم.
ذكر خبر قتل الماشطة
قال: وكانت لبنات فرعون ماشطة- وهى امرأة حزقيل المؤمن- فبينما هى تمشط إحدى بناته إذ سقط المشط من يدها، فقالت: تعس من كفر بالله.
فقالت لها ابنة فرعون: إنما تريدين من كفر بأبى. فقالت: إنّما عنيت من كفر بإله موسى. فقامت إلى أبيها وأخبرته؛ فغضب وأحضرها وقال: ما الّذى بلغنى عنك؟ قالت: صدقوا، أنا مؤمنة بإله موسى، فاقض ما أنت قاض. فشدّها إلى أوتاد من حديد، وأحضر أولادها الثلاثة، وعرض عليها أن تؤمن به؛ فأبت، فذبحهم على صدرها وهى تحمد الله تعالى؛ ثم طرحها فى تنور من نحاس وأحرقها فيه وأحرق أولادها.
ذكر خبر قتل آسية بنت مزاحم امرأة فرعون
قال: لما قتل فرعون الماشطة، سمعت آسية الملائكة تعدها بالجنة، فقامت من مجلسها وهى تقول: يا إله موسى ألبسنى الصبر وارزقنى الشهادة وابن لى عندك بيتا فى الجنّة ونجّنى من فرعون وعمله ونجّنى من القوم الظّالمين، وخرجت على فرعون وهى حاسرة عن وجهها، وقالت له: يا ملعون، الى كم تقتل أولياء الله(13/206)
وتأكل رزق الله وتكفر نعمته ولا تشكره، وترى آياته ولا تعتبر بها؟ فقال لوزرائه:
قد أفسد علىّ موسى حتّى آسية؛ واستشارهم فى أمرها؛ فأشاروا عليه بقتلها، فأمر بنزع ما عليها؛ وشدّها إلى أوتاد فى الأرض، وضرب وتدين فى صدرها فماتت- رضى الله عنها-.
ذكر خبر انقطاع النيل وكيف أجراه الله عزّ وجلّ لفرعون
قال الكسائىّ: ثم بعث الله تعالى الظّلمة على أهل مصر ثلاثة أيام، فلم يعرفوا اللّيل من النهار، وانقطع عنهم النيل حتى أضرّبهم العطش؛ فشكوا ذلك إلى فرعون فأمر بجمع الجنود وخرج ليجريه؛ فلمّا قرب من مكانه انفرد عن القوم ونزل عن فرسه وقال: إلهى إنك إله السماء والأرض لا إله إلا أنت، وحلمك الذى يحملنى أن أسألك ما ليس لى بحق، والخلق خلقك، وقد علمت ما هم فيه من العطش وأنت المتكفّل بأرزاقهم؛ اللهم أجر لهم النيل. فما فرغ من كلامه حتى انصبّ النيل، وركب فرسه والنيل يجرى معه إن سار سار وإن وقف وقف، حتى دخل مصر، فسجد القوم له، وازدادوا كفرا؛ وعجب موسى وهارون لذلك.
ذكر خبر غرق فرعون وقومه
قال الكسائىّ: ولما رجع فرعون بجنوده وقد أجرى لهم النيل بزعمهم، دخل عليه جبريل فى صورة آدمىّ حسن الهيئة، فقال له: من أنت؟ قال: عبد من عبيد الملك جئتك مستعديا على عبد من عبيدى مكّنته من نعمتى، وأحسنت إليه كثيرا، فاستكبر وبغى وجحدنى حقّى وتسمّى باسمى، وادّعى فى جميع ما أنعمت عليه به أنّه له، وأنّه لا منعم عليه به. قال فرعون: بئس ذلك من العبيد. قال جبريل: فما جزاؤه عندك؟ قال: يغرق فى هذا البحر. فقال له جبريل: أسألك(13/207)
أن تكتب لى خطّك بذلك. فكتب له فرعون خطّا، وأخذه جبريل وجاء به إلى موسى، وأمره عن الله عزّ وجلّ أن يرتحل بقومه عن مصر؛ فنادى موسى فى بنى إسرائيل وأمرهم بالرحيل؛ فارتحلوا وهم يومئذ ستّمائة ألف.
قال الثعلبىّ: ستّمائة ألف وعشرون ألفا لا يعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة؛ ولكنّ هؤلاء المقاتلة سوى الذريّة. وأهل التوراة يقولون:
إنه لا يعدّ فيهم ابن خمسين سنة ولا ابن عشرين سنة، لا خلاف عندهم فى هذا ويزعمون أنه نصّ التوراة.
قال الكسائىّ: فلما سمع فرعون بارتحالهم أمر باجتماع جنوده؛ قال الله تعالى:
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ* وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ
. فاجتمعوا وهم لا يحصون كثرة.
قيل: إنّ هامان كان على مقدّمة فرعون بألف ألف وستّمائة ألف.
وقال الثعلبىّ: ألف ألف وسبعمائة ألف رجل على ألف ألف وسبعمائة ألف حصان.
قال: وقال ابن جريح: أرسل فرعون فى أثر موسى وقومه ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر، مع كل ملك ألف رجل؛ ثم خرج فرعون خلفهم فى الدّهم، وكان فى عسكره مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشّيات، وذلك حين طلعت الشمس وأشرقت؛ قال الله تعالى: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) .
قال الكسائىّ: وساروا حتى قربوا من موسى ومن معه، فقالوا: يا موسى، قد لحقنا فرعون بجنوده، والبحر أمامنا والسيف وراءنا. قال كلّا إنّ معى ربّى سيهدين.
فأوحى الله تعالى إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ
فضربه فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ
. وصار فيه اثنا عشر طريقا للأسباط الأثنى عشر(13/208)
فجعلوا يسيرون وموسى أمامهم وهارون وراءهم، وجعل الله بينهم فتحا ليرى بعضهم بعضا، وجاء فرعون ومن معه إلى البحر ورأى تلك الطرق فيه، فقال لهامان:
هذه تفرّقت من هيبتى. وقصد الافتحام فلم يطاوعه فرسه- وكان حصانا- ونفر من العبور؛ فأتاه جبريل على رمكة فى صورة آدمىّ، فدنا من فرعون وقال:
ما يمنعك من العبور؟ وتقدّم إلى جنبه، فاشتمّ فرس فرعون رائحة الرّمكة فتبعها ودخل فرعون وجنوده وجبريل أمامهم وميكائيل يسوق الناس، حتى لم يبق من جنود فرعون أحد على الساحل، فجاءه جبريل بخطّه؛ فلما رآه فرعون علم أنه هالك وانضمّت الطرق، وأغرق الناس، وفرعون ينظر إليهم؛ قال الله تعالى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
. فقال له جبريل: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.
ثم غرق فرعون وجميع من معه وبنو إسرائيل ينظرون إليهم؛ ثم قال:
بنو إسرائيل: إنّ فرعون لم يغرق. فأمر الله تعالى البحر فألقاه على الساحل.
قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.
قال: فلمّا عبر موسى البحر ببنى إسرائيل إلى الطّور، إذا هم فى طريقهم بقوم يعبدون الأصنام، قال الله تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
ثم قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضّلكم على العالمين، وذكّرهم بنعم الله تعالى عليهم، وأمرهم بالتوبة والاستغفار؛ ثم ساروا وفى قلوبهم حبّ الأصنام حتى قربوا من الطّور.(13/209)
ذكر خبر ذهاب موسى- عليه السلام- لميقات ربه وطلبه الرؤية وخبر الصاعقة والإفاقة
حكى أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسير قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
قال: كان ذلك فى شهر ذى القعدة وعشر من ذى الحجّة.
قال: وذلك أنّ موسى- عليه السلام- كان قد وعد بنى إسرائيل وهو بمصر إذا خرجوا منها وهلك عدوّهم أن يأتيهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون؛ فلمّا أهلك الله تعالى فرعون وقومه واستنقذ بنى إسرائيل من أيديهم، وأمّنهم من عدوّهم، ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، قالوا: يا موسى ائتنا بالكتاب الذى وعدتنا به. فسأل موسى ربّه تعالى ذلك؛ فأمره أن يصوم ثلاثين ليلة ثم يتطهّر «1» ويطهّر ثيابه ويأتى طور سيناء ليكلّمه ويعطيه الكتاب؛ فصام ثلاثين يوما؛ فلمّا صعد الجبل أنكر خلوف فمه، فاستاك بعود خرنوب.
وقال أبو العالية: أخذ من لحاء الشجر فمصّه؛ فقالت له الملائكة: كنا نشمّ من فمك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. فأوحى الله تعالى إليه أن صم عشرة أيّام أخر، وقال له: أما علمت يا موسى أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك؟
قال: وكانت فتنة بنى إسرائيل فى العشر ليالى التى زادها الله تعالى؛ فلما مضت أربعون ليلة تطهّر موسى وطهّر ثيابه لميقات ربّه؛ فلمّا أتى طور سيناء كلّمه ربّه وناجاه، وقرّبه وأدناه، كما قال تعالى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا.(13/210)
قال وهب: كان بين الله تعالى وبين موسى سبعون حجابا، فرفعها كلها إلّا حجابا واحدا، فسمع موسى كلام الله تعالى واشتاق إلى رؤيته وطمع فيها، فقال ما أخبر الله- عزّ وجلّ- به عنه فى كتابه، قال الله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ
. فقال الله تعالى له: لَنْ تَرانِي
وليس يطيق البشر النظر إلىّ فى الدنيا، من نظر إلىّ مات. قال: إلهى سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك، ولأن أنظر إليك ثم أموت أحبّ إلىّ من أن أعيش ولا أراك. فقال له تعالى: انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ
وهو أعظم جبل يقال له: (الزّبير) .
قال: وذلك أنّ الجبال لمّا علمت أن الله تعالى يريد أن يتجلّى لجبل منها تعاظمت وتشامخت رجاء أن يتجلّى الله تعالى لها، وجعل الزّبير يتواضع من بينها فلما رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينها، وخصّه بالتجلّى، قال الله تعالى: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي
. فتجلّى الله تعالى للجبل.
قال: واختلف العلماء فى معنى التجلّى؛ قال ابن عباس: ظهر نوره للجبل.
وقال الضحّاك: أظهر الله تعالى من نور الحجب مثل منخر الثور.
وقال عبد الله بن سلام وكعب: ما تجلّى من عظمة الله تعالى للجبل إلّا مثل سمّ الخياط حتى صار دكّا.
وقال السدّىّ: ما تجلّى منه إلّا قدر الخنصر.
وقال الحسن: أوحى الله تعالى إلى الجبل فقال: هل تطيق رؤيتى؟ فغار الجبل وساخ فى الأرض وموسى ينظر إليه حتى ذهب أجمع.(13/211)
قال أبو إسحاق: قال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: حكى لى عن سهل بن سعد الساعدىّ أنّ الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نورا قدر درهم، فجعل الجبل دكّا.
قال أبو بكر: فعذب إذ ذاك كلّ ماء، وأفاق كلّ مجنون، وبرأ كلّ مريض وزال الشوك عن الأشجار، واخضرّت الأرض واهتزّت. وخمدت نيران المجوس وخرّت الأصنام لوجوهها.
وقال السّدّىّ: ما تجلّى للجبل إلّا مقدار جناح بعوضة، فصار الجبل دكّا.
قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: ترابا.
وقال سفيان: ساخ حتى وقع فى البحر.
وقال عطية العوفىّ: صار رملا هائلا.
وقال الكلبىّ: جَعَلَهُ دَكًّا
، أى كسّر جبالا صغارا.
وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-:
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
قال: صار بعظمة الله ستّة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة: أحد، وورقان «1» ، ورضوى «2» . ووقعت ثلاثة بمكّة: ثور، وثبير وحراء. وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً
. قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-:
مغشيّا عليه.
وقال قتادة: ميّتا.
وقال الكلبىّ: خرّ موسى صعقا: يوم الخميس يوم عرفة، وأعطى التوراة يوم الجمعة يوم النحر.(13/212)
قال الواقدىّ: لمّا خرّ موسى صعقا قالت الملائكة: ما لابن عمران وسؤال الرؤية.
قال وهب: لما سأل موسى الرؤية أرسل الله تعالى الضّباب والصواعق والظّلمة والرعد والبرق فأحاطت بالجبل الّذى عليه موسى، وأمر الله تعالى ملائكة السموات أن يعرضوا على موسى أربعة فراسخ من كلّ ناحية؛ فمرّت ملائكة سماء الدنيا كثيران البقر، تتابع أفواههم التقديس والتسبيح بصوت عظيم كصوت الرعد الشديد؛ ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الثانية: أن اهبطوا على موسى. فهبطوا عليه مثل أسد لهم نحيب بالتسبيح والتقديس؛ ففزع موسى مما رأى وسمع واقشعرّ جلده، ثم قال: ندمت على مسألتى، فهل ينجينى من مكانى الّذى أنا فيه شىء؟ فقال له حبر الملائكة ورأسهم: يا موسى اصبر لما رأيت، فقليل من كثير رأيت. ثم هبطت ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور، لهم قصف ورجف بالتسبيح والتهليل والتقديس كجلب الجيش العظيم وكلهب النار؛ ثم هبطت عليه ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شىء من الّذين مرّوا به قبلهم، ألوانهم كلهب النار، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض، أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شىء من أصوات الّذين مرّوا به قبلهم؛ ثم هبطت عليه ملائكة السماء الخامسة فى سبعة ألوان، فلم يستطع موسى أن يتبعهم الطّرف، لم ير مثلهم ولا سمع مثل أصواتهم، وامتلأ جوف موسى فزعا، واشتدّ حزنه وكثر بكاؤه؛ ثم قال له حبر الملائكة ورأسهم: يابن عمران، مكانك حتّى ترى ما لا تصبر عليه؛ ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدى الّذى أراد أن يرانى؛ فعرضوا عليه وفى يد كلّ منهم حربة مثل النخلة الطويلة، نارها أشدّ ضوءا من الشمس، ولباسهم كلهب النّيران، إذا سبّحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم(13/213)
من ملائكة السموات، كلّهم يقولون بشدّة أصواتهم: سبّوح قدّوس ربّ العزّة أبدا لا يموت. وفى رأس كل ملك منهم أربعة أوجه؛ فلمّا رآهم رفع صوته يسبّح معهم ويبكى ويقول: ربّ اذكرنى ولا تنس عبدك، لا أدرى هل أتخلّص مما أنا فيه أم لا، إن خرجت احترقت وإن مكثت مت. فقال له كبير الملائكة ورئيسهم: قد أوشكت يا بن عمران أن يشتدّ خوفك وينخلع قلبك، فاصبر للذى سألت.
ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه فى ملائكة السماء السابعة، فقال: أروه إيّاه.
فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة ربّ العزّة، وردّدت ملائكة السموات أصواتهم جميعا؛ فارتج الجبل، واندكت كلّ شجرة كانت فيه، وخرّ موسى صعقا ليس معه روحه؛ فقلب الله تعالى الحجر الذى كان موسى عليه وجعله كهيئة القبّة لئلّا يحترق موسى؛ وأرسل الله عليه روح الحياة برحمته؛ فقام موسى يسبّح الله تعالى ويقول: آمنت أنّك ربّى وصدّقت أنه لا يراك أحد، فنجّنى، ومن نظر إلى ملائكتك انحلع قلبه، فما أعظمك وأعظم ملائكتك! أنت ربّ الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، لا يعدلك شىء، ولا يقوم لك شىء، تبت إليك، الحمد لك لا شريك لك ربّ العالمين.
ذكر خبر الألواح ونزول التوراة والعشر كلمات
قال الله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ* قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ* وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ.(13/214)
قال الثعلبىّ: ثم بعث الله جبريل- عليه السلام- إلى جنّة عدن فقطع منها شجرة، فاتخذ منها تسعة ألواح، طول كلّ لوح عشر أذرع بذراع موسى، وكذلك عرضه، وكانت الشجرة من زمرّد أخضر؛ ثم أمر الله تعالى جبريل أن يأتيه بسبعة أغصان من سدرة المنتهى؛ فجاء بها، فصارت جميعا نورا، وصار «1» النور قلما طاف فيما بين السماء والأرض فكتب التوراة، وموسى يسمع صرير القلم؛ فكتب الله تعالى له فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ
وذلك يوم الجمعة، فأشرقت الأرض بالنور؛ ثم أمر الله تعالى موسى أن يأخذها بقوّة ويقرئها قومه؛ فوضعت الألواح على السماء فلم تطق حملها لنقل العهود والمواثيق؛ فقالت: يا ربّ كيف أطيق حمل كتابك الكريم الثقيل المبارك؟ وهل خلقت خلقا يطيق حمل ذلك؟ فبعث الله تعالى جبريل وأمره أن يحمل الألواح فيبلغها موسى، فلم يطق حملها، فقال: يا ربّ من يطيق حمل هذه الألواح بما فيها من النور والبيان والعهود؟ وهل خلقت خلقا يطيق حملها؟ فأمدّه الله تعالى بملائكة يحملونها بعدد كلّ حرف من التوراة؛ فحملوها حتى بلّغوها موسى؛ فعرضوا له الألواح على الجبل، فانصدع الجبل وخشع، وقال: يا ربّ من يطيق حمل هذه الألواح بما فيها؟ فلمّا وضعتها الملائكة على الجبل بين يدى موسى- وذلك عند صلاة العصر- قبض موسى عليها فلم يطق حملها، فلم يزل يدعو حتّى هيأ الله تعالى له حملها؛ فحملها، فذلك قوله تعالى: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
قال: وأمّا العشر كلمات الّتى كتبها الله تعالى لنبيّه موسى فى الألواح- وهى معظم التوراة، وعليها مدار كلّ شريعة- فهى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
، هذا(13/215)
كتاب من الله الملك الجبّار العزيز القهار لعبده ورسوله موسى بن عمران، سبّحنى وقدّسنى، لا إله إلّا أنا فآعبدنى ولا تشرك بى شيئا، واشكر لى ولوالديك إلىّ المصير، أحيك حياة طيّبة؛ ولا تقتل النفس الّتى حرّم الله عليك فتضيق عليك السماء بأقطارها والأرض برحبها؛ ولا تحلف باسمى كاذبا فإنّى لا أطهّر ولا أزكّى من لم يعظّم اسمى؛ ولا تشهد بما لا يعى سمعك ولا تنظر عينك ولم يقف قلبك عليه فإنى أقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة، وأسائلهم عنها؛ ولا تحسد الناس على ما آتيتهم من فضلى ورزقى، فإنّ الحاسد عدوّ لنعمتى، ساخط لقسمتى؛ ولا تزن ولا تسرق فأحجب عنك وجهى، وأغلق دون دعوتك أبواب السموات؛ ولا تذبح لغيرى، فإنه لا يصعد إلىّ من قربان الأرض إلّا ما ذكر عليه اسمى؛ ولا تغدرنّ بحليلة جارك فإنّه أكبر مقتا عندى؛ وأحبّ للناس ما تحبّ لنفسك.
فهذه العشر كلمات؛ وقد أنزل الله- عزّ وجلّ- على نبيّنا محمد- صلّى الله عليه وسلّم- مثلها فى ثمانى عشرة آية، وهى قوله تعالى فى سورة بنى إسرائيل:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً* رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً* وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً* وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً* وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً* وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ(13/216)
خِطْأً كَبِيراً* وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا* وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا* وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا* وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا* وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا* كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً* ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً
ثم جمعها فى آيتين من سورة الأنعام، وهى قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
وقد روى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لمّا أعطى الله موسى الألواح نظر فيها وقال: يا ربّ لقد أكرمتنى بكرامة لم تكرم بها أحدا قبلى. قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ.(13/217)
وأخرج «1» الحافظ: تموت على حبّ محمد عليه السلام. قال موسى: يا ربّ وما محمد؟ قال: أحمد الذى أثبتّ اسمه على عرشى من قبل أن أخلق السموات والأرض بألفى عام، وإنه لنبيّى وحبيبى وخيرتى من خلقى، هو أحبّ إلىّ من جميع خلقى ومن جميع ملائكتى. قال: يا ربّ إن كان محمد أحبّ إليك من جميع خلقك فهل خلقت أمّة أكرم عليك من أمّتى.؟ قال الله تعالى: إنّ فضل أمّة محمد- عليه السلام- على سائر الأمم كفضله على سائر الخلق. قال: يا ربّ ليتنى رأيتهم.
قال: إنّك لن تراهم، ولو أردت أن تسمع كلامهم لسمعت. قال: يا ربّ فإنّى أريد أن أسمع كلامهم. قال: يا أمّه محمد. فأجبنا كلّنا من أصلاب آبائنا وأرحام أمّهاتنا: لبّيك اللهمّ لبّيك لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمّة محمد. إنّ رحمتى سبقت غضبى، وعفوى عقابى، قد أعطيتكم من قبل أن تسألونى، وقد أجبتكم من قبل أن تدعونى، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصونى، من جاء يوم القيامة يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبدى ورسولى دخل الجنة ولو كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر. وهذا قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
وروى الثعلبىّ أيضا بسند رفعه إلى (كعب الأحبار) أنّه رأى حبرا من أحبار اليهود يبكى، فقال له: ما يبكيك.؟ فقال له: ذكرت بعض الأمر. فقال كعب:
أنشدك الله إن أخبرتك بما أبكاك أتصدّقنى؟ قال: نعم. قال: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: إنى أجد أمّة هى خير أمّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يؤمنون بالكتاب الأوّل(13/218)
وبالكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجّال. فقال موسى: يا ربّ اجعلهم أمّتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. فقال له الحبر:
نعم. قال كعب: أنشدك بالله هل تجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: إنى أجد أمّة هم الحامدون، الرّعاة الشّمس «1» المحكّمون، إذا أرادوا أمرا قالوا: «نفعله إن شاء الله تعالى» فاجعلهم أمّتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى.
قال له الحبر: نعم. قال: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: ربّ إنّى أجد أمّة يأكلون كفّاراتهم وصدقاتهم.
قال: «وكان الأوّلون يحرقون صدقاتهم بالنار، غير أنّ موسى كان يجمع صدقات بنى إسرائيل فلا يجد عبدا مملوكا ولا أمة إلّا اشتراه ثم أعتقه من تلك الصدقة وما فضل حفر له حفيرة عميقة وألقاه فيها، ثم دفنه كيلا يرجعوا فيه» وهم المسبّحون والمسبّح لهم، وهم الشافعون والمشفّع لهم. قال موسى: يا ربّ اجعلهم أمّتى.
قال: هم أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله أتجد فى التوراة أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: إنّى أجد أمّة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر الله تعالى، وإذا هبط واديا حمد الله تعالى؛ الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيثما كانوا، يتطهّرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حين لا يجدون الماء؛ غرّ محجّلون من آثار الوضوء، فآجعلهم أمّتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: يا ربّ إنّى أجد أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها تكتب له، فإن عملها ضوعفت عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها تكتب عليه(13/219)
سيّئة مثلها. فاجعلهم أمتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم.
قال كعب: أنشدك الله أتجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال:
ربّ إنّى أجد أمّة مرحومة ضعفاء «يرثون «1» الكتاب الّذين اصطفينا» فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ
فلا أجد أحدا منهم إلّا مرحوما فاجعلهم أمتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب:
أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: يا ربّ إنّى أجد أمّة مرحومة، مصاحفهم فى صدورهم، يلبسون ألوان ثياب أهل الجنّة يصفّون فى صلاتهم صفوفا كصفوف الملائكة؛ أصواتهم فى مساجدهم كدوىّ النحل، لا يدخل النار منهم أحد إلّا من الحساب مثل ما يرمى الحجر من وراء الشجر. فاجعلهم أمتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال:
فعجب موسى من الخير الذى أعطاه الله محمدا وأمّته، وقال: يا ليتنى من أصحاب محمد. فأوحى الله تعالى إليه ثلاث آيات يرضيه بهنّ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي
إلى قوله: دارَ الْفاسِقِينَ
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.
قال: فرضى موسى كلّ الرضا.
ولنصل هذا الفصل بما ورد فى تفسير قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ
وقوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.
قال الثعلبىّ: قال أهل المعانى: هذا كقول القائل لمن يخاطبه: «سأريك غدا إلى ما تصير إليه حال من يخالف أمرى» على وجه الوعيد والتهديد.(13/220)
وقال مجاهد: سأريكم دار الفاسقين، يعنى مصيرهم فى الآخرة.
وقال الحسن: جهنّم.
وقال قتادة وغيره: سأدخلكم الشأم فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكّانها من الجبابرة والعمالقة.
وقال عطيّة العوفىّ: معناه سأريكم دار فرعون وقومه، وهى مصر.
قال أبو العالية: رفعت مصر لموسى حتّى نظر إليها.
وقال السدّىّ: دار الفاسقين: مصارع الفاسقين، ما يمرّون عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا.
وقال ابن كيسان: دار الفاسقين، يعنى إلى ما يصير قرارهم فى الأرض.
وقيل: الدار الهلاك، وجمعه أدوار؛ وذلك أن الله تعالى لمّا أغرق فرعون وقومه أمر البحر أن يقذف أجسادهم إلى الساحل؛ ففعل، فنظر إليهم بنو إسرائيل، فأراهم هلاك الفاسقين.
وقال يمان: يعنى مسكن فرعون.
وأما ما ورد فى تفسير قوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.
قوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى
، يعنى بنى إسرائيل أُمَّةٌ
جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِ
، أى يرشدون إلى الحق.
وقيل: معناه يهتدون ويستقيمون عليه ويعملون به وَبِهِ يَعْدِلُونَ
أى ينصفون من أنفسهم لا يجورون.(13/221)
قال السدّىّ: هم قوم بينكم وبينهم نهر من شهد.
وقال ابن جريح: بلغنى أن بنى إسرائيل لمّا قتلوا أنبياءهم وكفروا- وكانوا اثنى عشر سبطا- تبرّأ سبط منهم؛ واعتذروا وسألوا الله تعالى أن يفرّق بينهم وبينهم، ففتح الله تعالى لهم نفقا فى الأرض، فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصّين؛ فهم هناك حنفاء مسلمون مستقبلون قبلتنا.
قال الكلبىّ وربيع والضّحاك وعطاء: هم قوم من المغرب خلف الصين على نهر يحوى «1» الرمل يسمى نهر أوران «2» ، وليس لأحدهم مال دون صاحبه؛ يمطرون بالليل، ويصحون بالنهار ويزرعون، لا يصل إليهم منّا أحد ولا منهم إلينا وهم على الحقّ.
قال: وذكر عن النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم- أن جبريل ذهب به ليلة أسرى به إليهم؛ فكلّمهم؛ فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلّمون؟ قالوا: لا.
قال: هذا محمّد النبىّ الأمّىّ. فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله، إن موسى أوصانا وقال: من أدرك منكم أحمد فليقرأ منّى عليه السلام. فردّ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- على موسى وعليهم السلام؛ ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة سوى الصلاة والزكاة، فأمرهم بالصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت.
حكاه أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسيره.
نرجع إلى تتمّة أخبار موسى- عليه السلام-.(13/222)
ذكر خبر السامرى واتخاذه العجل وافتتان بنى إسرائيل به
قال الكسائىّ والثعلبىّ وغيرهما من أهل السير ما مختصره ومعناه: إن موسى- عليه السلام- لمّا توجّه إلى البقعة المباركة الّتى كلّمة الله تعالى فيها لميقات ربّه، استخلف أخاه هارون على بنى إسرائيل، وكان السامرىّ فيهم.
واختلف فيه، فقال قتادة والسدّىّ: كان السامرىّ من عظماء بنى إسرائيل من قبيلة يقال لها: (سامرة) «1» ولكنه عدوّ لله منافق.
وقال سعيد: كان السامرىّ من (كرمان) .
وقال غيرهم: كان رجلا صائغا من أهل باجرما، واسمه ميخا.
وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: اسمه موسى بن ظفر، وكان رجلا منافقا وقد أظهر الإسلام؛ وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل قلبه حبّ البقر، فلما ذهب موسى- عليه السلام- لميقات ربّه- وكان قد واعد قومه ثلاثين ليلة فأتمّها الله بعشر، كما أخبر الله عزّ وجلّ- فعدّ بنو إسرائيل ثلاثين، فلمّا لم يرجع إليهم موسى افتتنوا وقالوا: إنّ موسى أخلفنا الوعد؛ فاغتنمها السامرىّ ففعل ما فعل.
وقال قوم: إنهم عدّوا الليلة يوما واليوم يوما، وكان موسى قد واعدهم أربعين، فلمّا مضت عشرين يوما افتتنوا، فأتاهم السامرىّ وقال: إنّ موسى قد احتبس عنكم، فينبغى لكم أن تتّخذوا إلها، فإنّ موسى ليس يرجع إليكم، وقد تمّ الميقات. وإنما طمع فيهم السامرىّ لأنّهم فى اليوم الذى أنجاهم الله من فرعون وطلعوا من البحر، كان من أمرهم ما أخبر الله تعالى عنهم فى قوله: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا(13/223)
إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
فطمع السامرىّ فيهم واغتنمها، فلمّا تأخّر موسى عن الميقات- وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلّى آل فرعون كما قدّمنا؛ فلمّا فصل موسى قال هارون لبنى إسرائيل: إنّ حلّى القبط الّذى استعرتموه غنيمة، وإنّه لا يحلّ لكم؛ فاجمعوه فاحفروا له حفيرة وادفنوه حتى يرجع موسى فيرى فيه رأيه. ففعلوا ذلك، وجاءهم السامرىّ ومعه القبضة الّتى قبضها من أثر حافر فرس جبريل- عليه السلام-.
قالوا: وكان لجبريل- عليه السلام- فرس أنثى بلقاء يقال لها:
«فرس الحياة» لا تصيب شيئا إلّا حيى؛ فلما رأى السامرىّ جبريل على تلك الفرس عرفه وقال: إن لهذا الفرس لشأنا. وأخذ قبضة من تراب حافرها حين عبر جبريل البحر.
قالوا: وإنّما عرف السامرىّ خبر الفرس دون غيره من بنى إسرائيل، لأنّ فرعون لمّا أمر بذبح أولاد بنى إسرائيل جعلت المرأة إذا ولدت الغلام انطلقت به سرّا فى جوف الليل الى صحراء أو واد أو غار فى جبل فأخفته؛ فقيّض الله تعالى له ملكا من الملائكة يطعمه ويسقيه حتى لا يختلط بالناس، وكان الذى ولى كفالة السامرىّ جبريل عليه السلام، فجعل يمصّ من إحدى إبهاميه سمنا، ومن الأخرى عسلا، فمن ثمّ عرفه، ومن ثمّ الصبىّ إذا جاع يمصّ إبهامه فيروى من المص.
نرجع إلى خبر بنى إسرائيل مع السامرىّ.
قال: فلمّا أمرهم هارون بجمع الحلىّ وجمعوه، جاء السامرىّ بالقبضة فقال لهارون: يا نبىّ الله، أأقذفها فيه؟ فظنّ هارون أنّها من الحلىّ، وأنّه يريد بها ما يريد أصحابه، فقال له: اقذف. فقذفها فى الحفرة على الحلىّ، فصار عجلا جسدا له خوار.(13/224)
وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: أوقد هارون نارا وأمرهم أن يقذفوا الحلىّ فيها؛ فقذف السامرىّ تلك القبضة فيها وقال: «كن عجلا جسدا له خوار» . فكان كذلك للبلاء والفتنة.
ويقال: إنّ الّذى قال لبنى إسرائيل: «إنّ الغنيمة لا تحل لكم» هو السامرىّ، فصدّقوه وجمعوها، فدفعوها إليه فصاغ منها عجلا فى ثلاثة أيام ثم قذف فيه القبضة، فجثا وخار خورة ثم لم يعد.
وقال السدّىّ: كان يخور ويمشى؛ فلمّا أخرج السامرىّ العجل وكان من ذهب مرصّع بالحجارة كأحسن ما يكون، قال هذا إلهكم وإله موسى. فشبّه السامرىّ على أوغاد بنى إسرائيل وجهّالهم حتى أضلّهم وقال لهم: إنّ موسى قد أخطأ ربّه فأتاكم ربّه أراد أن يريكم أنه قادر على أن يدعوكم إلى نفسه بنفسه، وأنه لم يبعث موسى لحاجة منه إليه، وأنه قد أظهر لكم العجل ليكلّمكم من وسطه كما كلّم موسى من الشجرة.
قالوا: فلمّا رأوا العجل وسمعوا قول السامرىّ، افتتنوا غير اثنى عشر ألفا وكان مع هارون ستّمائة ألف، فعكفوا عليه يعبدونه من دون الله تعالى، وأحبّوه حبّا ما أحبّوا مثله شيئا قطّ؛ فقال لهم هارون: يا بنى إسرائيل إنّما فتنتم به وإنّ ربّكم الرّحمن فاتّبعونى وأطيعوا أمرى* قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى.
فأقام هارون بمن معه من المسلمين، وأقام من يعبد العجل على عبادته؛ وخشى هارون إن سار بمن معه من المسلمين إلى المفتتنين الضالّين أن يقول له موسى:
فرقت بين بنى إسرائيل.(13/225)
قال راشد بن سعد: لما واعد الله تعالى موسى أربعين يوما قال الله تعالى:
يا موسى، إنّ قومك قد افتتنوا من بعدك. قال: يا ربّ كيف يفتتنون وقد نجّيتهم من فرعون ومن البحر، وأنعمت عليهم؟ قال: إنهم اتخذوا العجل إلها من دونى وهو عجل جسد له خوار. قال: يا ربّ من نفخ فيه الرّوح؟ قال: أنا. قال:
أنت- وعزّتك- فتنتهم، إن هى إلّا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
قال: فلمّا رجع موسى من الميقات الى قومه وقرب منهم، سمع اللغط حول العجل وكانوا يرقصون حوله، ولم يخبر موسى أصحابه السبعين بما أخبره به ربّه تعالى من حديث العجل، فقالوا: هذا قتال فى المحلّة. قال موسى لهم: لا ولكنّها أصوات الفتنة، افتتن القوم بعدنا بعبادة غير الله تعالى.
ذكر خبر رجوع موسى إلى قومه وما كان من أمرهم
قال الله عزّ وجلّ: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ
وذلك أنّه لما رآهم حول العجل وما يصنعون فيه ألقى الألواح من يده فتكسّرت، فصعد عامّة الكلام الذى فيها، ولم يبق إلّا سدسها، ثم أعيدت له فى لوحين.
روى عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قال: ليس المعاين كالمخبر، قال الله تعالى لموسى: إن القوم قد افتتنوا فلم يلق الألواح، فلمّا عاين ألقى الألواح فكسرها.
قالوا: فلما رأى موسى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل، أخذ شعر رأس أخيه هارون بيمينه، ولحيته بشماله وقال له: يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا(13/226)
ألّا تتّبعن أفعصيت أمرى، هلّا قاتلتهم إذ علمت أنّى لو كنت فيما بينهم لقاتلتهم على كفرهم؟ فقال هارون: يابن أمّ؛ قال المفسّرون: كان هارون أخا موسى لأبيه وأمّه، ولكنّه أراد بقوله: يابن أمّ تقريبه واستعطافه عليه، لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنّى خشيت، إن أقاتلهم أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضا، فتقول: فرّقت بين بنى إسرائيل ولم ترقب قولى، ولم تحفظ وصيّتى حين قلت لك: اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين. وقال:
إنّ القوم استضعفونى وكادوا يقتلوننى فلا تشمت بى الأعداء ولا تجعلنى مع القوم الظّالمين. فقال موسى: ربّ اغفرلى ولأخى وأدخلنا فى رحمتك وأنت أرحم الرّاحمين.
قال: ثم أقبل موسى على السامرىّ فقال له: ما خطبك يا سامرى، أى ما أمرك وشأنك؟ فقال السامرىّ: بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرّسول، أى أخذت ترابا من أثر فرس جبريل فنبذتها وطرحتها فى العجل وكذلك سوّلت لى نفسى، أى زيّنت.
قال: فلمّا علم بنو إسرائيل أنهم قد أخطأوا وضلّوا فى عبادتهم العجل، ندموا على ذلك واستغفروا، كما قال الله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ
؛ فقال لهم موسى: يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم.
قالوا: كيف نتوب؟ قال: فاقتلوا أنفسكم، أى يقتل البرىء المجرم، ذلكم يعنى القتل خير لكم عند بارئكم.(13/227)
قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: أبى الله أن يقبل توبة بنى إسرائيل إلّا بالحال الّتى كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل.
وقال قتادة: جعل الله توبة عبدة العجل القتل لأنّهم ارتدّوا، والكفر مبيح للدّم.
وقال الكسائىّ: لمّا قال موسى لبنى إسرائيل: يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل، سألوه أن يتوب الله تعالى عليهم؛ فسأل الله تعالى، فأوحى الله تعالى إليه أنّه لا توبة لهم، لأنّ فى قلوبهم حبّ العجل، فاجمع رماد العجل وألقه فى الماء، وأمرهم أن يشربوا منه فإنه يظهر ما فى قلوبهم على وجوههم. ففعل ذلك؛ فلمّا شربوا لم يبق أحد ممّا فى قلبه مرض إلا اصفرّ وجهه ولونه وورم بطنه، ودام ذلك بهم، فقالوا: يا موسى، هل شىء غير التوبة الخالصة وقد أخلصنا فى توبتنا حتى لو أمرتنا بقتل أنفسنا فعلنا؟ فأوحى الله إليه: يا موسى قد رضيت بحكمهم على أنفسهم، فقل لهم: بقتلوا أنفسهم إن كانوا صادقين فى توبتهم. فقال لهم موسى ما أمرهم الله به: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
. فقالوا: كيف نقتل أنفسنا؟ قال: يقوم من لم يعبد العجل إلى من عبده فيقتله. فقاموا بالسيوف والخناجر إلى الّذين عبدوه وأرسل الله عليهم ظلمة فلم يبصر بعضهم بعضا، حتى كان الرجل يأتى إلى أخيه وأبيه وابن عمه وقرابته فيقتله وهو لا يعرفه، ولم يعمل السلاح فيمن لم يعبد العجل حتى خاضوا فى الدماء، وصاح النساء والصبيان إلى موسى: «العفو يا نبىّ الله» فدعا موسى الله بالعفو عنهم؛ فلم يعمل السلاح فيهم بعد ذلك، وقبل الله تعالى توبتهم، وارتفعت الظّلمة عنهم.(13/228)
قالوا: ثم همّ موسى بقتل السامرىّ، فأوحى الله تعالى إليه: لا تقتله فإنّه سخىّ، ولكن أخرجه عن قومك. فلعنه موسى وقال له ما أخبر الله تعالى به عنه:
(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ)
أى لعذابك فى القيامة. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً.
قال: وأمر موسى بنى إسرائيل ألّا يخالطوا السامرىّ ولا يقاربوه؛ فصار السامرىّ وحشيّا لا يألف ولا يؤلف ولا يدنو من الناس ولا يمسّ أحدا منهم فمن مسّه قرض ذلك الموضع بالمقراض، فكان ذلك دأبه حتى هلك.
ذكر خبر امتناع بنى إسرائيل من قبول أحكام التوراة ورفع الجبل عليهم وإيمانهم
قال الكسائىّ: ثم أقبل موسى على بنى إسرائيل بالتوراة وقال: هذا كتاب ربّكم فيه الحلال والحرام والأحكام والسنن والفرائض ورجم الزانى والزانية المحصنين وقطع يد السارق، والقصاص فى كل ذنب يكون منكم. فضجّوا من ذلك وقالوا:
لا حاجة لنا فى هذه الأحكام، وما كنا فيه من عبادة العجل كان أرفق بنا من هذا.
قال: فلمّا امتنعوا من قبول أحكام الله عزّ وجلّ قال موسى: يا رب قد علمت أنهم ردّوا كتابك وكذّبوا بآياتك. فأمر الله تعالى جبريل أن يرفع عليهم جبل طور سيناء فى الهواء؛ قال الله عزّ وجلّ: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاسْمَعُوا «1» قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا
؛(13/229)
فجعل الجبل يدنو منهم حتى ظنوا أنه يسقط عليهم؛ فآمنوا وخرجوا سجّدا على أنصاف وجوههم وهم ينظرون إلى الجبل بالنصف الاخر؛ فلأجل ذلك سجود اليهود كذلك. وردّ الجبل عنهم.
ذكر خبر الحجر الذى وضع موسى- عليه السلام- ثيابه عليه
قال: وكانوا إذا اغتسلوا لا يسترون عوراتهم، وإذا اغتسل موسى يستتر فظنوا أن فى بدنه عيبا، فتكلموا بذلك، وكان موسى- عليه السلام- إذا اغتسل وضع ثوبه على حجر وقرعه بعصاه فيتفجر الماء منه، فيغتسل ثم يلبس ثوبه؛ ففعل ذلك فى بعض الأيام، فلما أراد أن يلبس ثوبه انقلع الحجر من موضعه ومر على وجه الأرض وعليه ثوب موسى؛ فعدا موسى خلفه وهو يقول: «ثوبى يا حجر ثوبى يا حجر» ولم يزل يعدو حتى وقف على بنى إسرائيل، فنظروا إلى موسى ولا عيب فيه، فندموا على ما كان منهم؛ قال الله تعالى: (فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) .
ذكر خبر طلب بنى إسرائيل رؤية الله تعالى وهلاكهم بالصاعقة، وكيف أحياهم الله- عزّ وجلّ- وبعثهم من بعد موتهم
قال الله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
وذلك أن الله تعالى أمر موسى- عليه السلام- أن يأتيه فى ناس من بنى إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل؛ فاختار موسى- عليه السلام- سبعين رجلا من قومه من خيارهم، وكان قد اختار من كلّ سبط ستّة نفر، فصاروا اثنين وسبعين، فقال: إنما أمرت بسبعين، فليتخلّف منكم رجلان. فتشاحنوا على(13/230)
ذلك، فقال موسى: إن لمن قعد مثل أجر من خرج. فقعد يوشع بن نون وكالب ابن يوقنا «1» ، فقال موسى للسبعين: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. ففعلوا ذلك فخرج بهم موسى عليه السلام إلى طور سيناء لميقات ربه؛ فلما بلغوا ذلك الموضع قالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا. فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل وقع عمود الغمام عليه وتغشّى الجبل كلّه، فدخل فى الغمام وقال للقوم: ادنوا.
وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه عز وجل- وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه؛ فضرب دونه الحجاب، ودنا القوم حتى دخلوا فى الغمام وخرّوا سجّدا، وسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه؛ فأسمعهم الله تعالى: إنى أنا الله لا إله إلا أنا ذو الملك، أخرجتكم من أرض مصر فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى. فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة، أى لن نصدّقك، فأخذتهم الصّاعقة، وهى نار جاءت من السماء فأحرقتهم جميعا.
وقال وهب بن منبّه: أرسل الله عليهم جندا من السماء، فلما سمعوا حسّها ماتوا فى يوم وليلة.
فلما هلكوا جعل موسى- عليه السلام- يبكى ويتضرع ويقول: يا رب ماذا أقول لبنى إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، ولو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله- عزّ وجلّ- رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون. حكاه الثعلبىّ فى تفسيره.(13/231)
وقال الكسائىّ فى هذه القصة: أقبل بنو إسرائيل على موسى وقالوا: أرنا الله جهرة. فأوحى الله تعالى إليه: أكلّهم يريد ذلك؟ - وهو أعلم- فقال الصالحون منهم: إن الله أجل من أن نراه فى الدنيا.
وقال الباقون: إنما امتنع هؤلاء لضعف قلوبهم. فأوحى الله تعالى إليه: أن اختر منهم سبعين رجلا وسر بهم إلى جبل الطور؛ فسار بهم، ووقع الغمام على الجبل حتى أظله، وأتاه موسى وهم معه؛ فأمر الله تعالى الملائكة أن تهبط إلى الجبل بزيّها وصورها؛ فلما نظر بنو إسرائيل إليهم أخذتهم الرّعدة والخوف، وندموا على ما كان منهم، ونودوا من قبل السماء: يا بنى إسرائيل. فصعقوا كلّهم وماتوا.
وساق نحو ما تقدّم.
قال: ورجعوا إلى قومهم وخبّروهم بما رأوا.
ذكر خبر قارون
قال المفسرون: إنّ قارون كان ابن عمّ موسى، لأنه قارون بن يصهر ابن قاهث.
وقال ابن إسحاق: هو عمّ موسى، لأن يصهر بن قاهث تزوّج شميش «1» بنت ماويب بن بركيا بن يقشان بن إبراهيم، فولدت له عمران بن يصهر وقارون ابن يصهر.
فعلى هذا القول يكون عم موسى؛ وعلى قول الآخرين يكون ابن عمه، وعليه عامّة أصحاب التواريخ؛ وعليه أهل الكتاب، لا خلاف عندهم فى ذلك.(13/232)
قالوا: وكان قارون أعلم بنى إسرائيل بعد موسى وهارون وأفضلهم وأجملهم.
قال قتادة: وكان يسمى المبشور «1» لحسن صورته، ولم يكن فى بنى إسرائيل أقرأ للتوراة منه، ولكنّ عدوّ الله نافق كما نافق السامرىّ، فبغى على قومه، كما قال تعالى: (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) .
قال الثعلبىّ: واختلفوا فى معنى هذا البغى ما هو، قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان فرعون قد ملّك قارون على بنى إسرائيل، وكان يبغى عليهم ويظلمهم.
وقال عطاء الخراسانىّ وشهر بن حوشب: زاد عليهم فى الثياب شبرا.
وقال شيبان عن قتادة: بغى عليهم بالكبر والبذخ.
وقال سعيد عنه: بكثرة المال. وكان أغنى أهل زمانه وأثراهم، كما قال تعالى: (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)
أى تثقل وتميل بهم إذا حملوها لثقلها.
واختلف المفسرون فى عدد العصبة، فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى الخمسة.
وقال قتادة: ما بين العشرة إلى الأربعين.
وقال عكرمة: منهم من يقول: سبعين.
وقال الضحاك: ما بين الثلاثة إلى العشرة.
وقيل: هم ستون.
وروى جرير عن منصور عن خيثمة قال: وجدت فى الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون كانت وقر ستين بغلا غرّا محجّلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز.(13/233)
ويقال: إن قارون كان أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه- وكانت من حديد:- فلما ثقلت عليه جعلها من الخشب، فثقلت عليه، فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، تحمل معه على أربعين بغلا.
وقال بعضهم: أراد بالمفاتيح الخزائن. وإليه ذهب أبو صالح.
وقال أبو رزين: لو كان مفتاح واحد لأهل الكوفة كان كافيا.
واختلفوا فى سبب اجتماع تلك الأموال لقارون؛ فقيل: كان عنده علم الكيمياء.
قال سعيد بن المسيّب: كان موسى يعلم الكيمياء، فعلّم يوشع ثلث العلم، وعلّم كالب ثلثه، وعلّم قارون ثلثه؛ فخدعهما قارون حتى أضافا علمهما إلى علمه.
وحكى الكسائىّ: كان قارون من فقراء بنى إسرائيل، فأوحى الله إلى موسى أن يحلّى تابوت التوراة بالذهب، وعلّمه صنعة الكيمياء؛ فجاء قارون إلى أم كلثم أخت موسى- وقد قيل: إنها كانت زوجته- فسألها: من أين لموسى هذا الذهب؟ فقالت: إن الله تعالى قد علّمه صنعة الكيمياء. وكان موسى قد علّمها الصنعة، فتعلّمها قارون منها.
قالوا: فكان ذلك سبب أمواله، فذلك قوله كما أخبر الله تعالى عنه: (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) .
وقيل: معناه على علم عندى بالتصرّف فى التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب.
وقيل فى سبب جمعه تلك الأموال ما رواه الثعلبىّ بسنده عن أبى سليمان الدارانى انه قال: تبدّى إبليس لقارون وكان قارون قد أقام فى جبل أربعين سنة حتى(13/234)
غلب بنى إسرائيل فى العبادة، فبعث إبليس إليه شياطينه فلم يقدروا عليه؛ فأتاه وجعل يتعبد معه، وجعل قارون يتعبّد وإبليس يقهره فى العبادة ويفوقه؛ فخضع له قارون؛ فقال له إبليس: يا قارون، قد رضينا بهذا الذى نحن فيه، لا نشهد لبنى إسرائيل جماعة، ولا نعود مريضا، ولا نشهد جنازة؟
قال: فأحدره من الجبل إلى البيعة، فكانا يؤتيان بالطعام، فقال له إبليس:
يا قارون، قد رضينا أن نكون هكذا كلّا على بنى إسرائيل؟ فقال له قارون: فأىّ رأى عندك؟ قال: نكسب يوم الجمعة، ونتعبد بقية الجمعة.
قال: فكسبوا يوم الجمعة وتعبدوا بقيتها؛ فقال إبليس: قد رضينا أن نكون هكذا؟
قال قارون: فأىّ رأى عندك؟ قال: نكسب يوما ونتعبّد يوما فنتصدّق ونعطى.
قال: فلما كسبوا يوما وتعبّدوا يوما خنس إبليس وتركه، ففتحت على قارون أبواب الدنيا، فبلغ ماله- على ما رواه الثعلبىّ بسنده الى المسيّب بن شريك قال:
ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة، وكانت أربعمائة ألف ألف فى أربعين جرابا.
قال: فبغى وطغى حين استغنى، فكان أوّل طغيانه وعصيانه أنه تكبّر واستطال على الناس بكثرة الأموال، وكان يخرج فى زينته.
قال مجاهد: خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان وعليه المعصفرات.
وقال ابن أسلم: خرج فى سبعين ألفا عليهم المعصفرات.
قال: وذلك أوّل يوم ظهرت فيه المعصفرات فى الأرض.
وقال مقاتل: خرج على بغلة شهباء على سرج من الذهب عليه الأرجوان ومعه ألف فارس عليهم الديباج وعلى دوابّهم الأرجوان؛ ومعه ستّمائة جارية بيض عليهنّ الحلىّ والثياب الحمر، وهنّ على البغال الشهب.(13/235)
وحكى الكسائىّ أنّ قارون اتخذ سريرا من الذهب يصعد إليه بمراق، وعليه أنواع من فرش الديباج، وعلى رأسه تاج من الذهب مرصّع بالجوهر.
قالوا: فلما خرج فى بعض الأيام فى زينة عظيمة، تمنّى أهل الجهالة والخسارة مثل الّذى أوتيه، وقالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم: قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
فأنكر عليهم أهل العلم بالله تعالى، وقالوا لهم: اتقوا الله واعملوا ما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه، فإن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا من لذّات الدنيا وشهواتها؛ قال الله تعالى:
وَلا يُلَقَّاها
، أى لا يوفّق لهذه الكلمة إِلَّا الصَّابِرُونَ
، أى على طاعة الله وعن زينة الحياة الدنيا.
قالوا: ثم أوحى الله تعالى إلى نبيّه موسى- عليه السلام- أن يأمر قومه أن يعلّقوا فى آذانهم خيوطا أربعة، فى كل طرف خيط أخضر كلون السماء فقال موسى: يا رب لم أمرت بنى إسرائيل بتعليق هذه الخيوط الخضر فى آذانهم؟
فقال تعالى: إن بنى إسرائيل فى غفلة، وقد أردت أن أجعل لهم علما فى ثيابهم ليذكرونى به إذا نظروا إلى السماء، ويعلموا أنى منزل منها كلامى. فقال موسى:
يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا، فإن بنى إسرائيل تحقر هذه الخيوط؟ فقال له: يا موسى، إن الصغير من أمرى ليس بصغير، وإن لم يطيعونى فى الأمر الصغير لم يطيعونى فى الأمر الكبير.
قال: فدعا موسى بنى إسرائيل وأعلمهم بأمر الله تعالى؛ ففعلوا ذلك واستكبر قارون فلم يطعه، وقال: إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكى يتميزوا من غيرهم. فكان هذا أيضا من بغيه وعصيانه.(13/236)
قالوا: ولما قطع موسى البحر ببنى إسرائيل جعلت الحبورة- وهى رآسة المذبح وبيت القربان- لهارون عليه السلام؛ وكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم فيدفعونه إلى هارون، فيضعه على المذبح، فتنزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون فى نفسه من ذلك، وأتى موسى وقال له: يا موسى، لك الرسالة، ولهارون الحبورة، وليس لى من ذلك شىء، وأنا أقرأ للتوراة منكما، لا صبر لى على هذا.
فقال موسى: والله ما أنا جعلتها فى هارون، بل الله جعلها له. فقال قارون:
والله لا أصدّقك فى ذلك حتى ترينى بيّنة.
قال: فجمع موسى رؤساء بنى إسرائيل وقال: هاتوا عصيّكم. فجاءوا بها فخزمها وألقاها فى قبّته التى كان يعبد الله تعالى فيها؛ وجعلوا يحرسون عصيّهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا هارون قد اهتزّ لها ورق أخضر، وكانت من شجر اللوز فقال موسى: يا قارون، أترى هذا من فعلى؟ قال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر. وذهب قارون مغاضبا، واعتزل موسى بأتباعه؛ وجعل موسى يداريه للقرابة التى بينهما وهو يؤذيه فى كل وقت، ولا يزداد كلّ يوم إلا عتوّا وتجبّرا ومخالفة.
ويقال: إنه بنى دارا وجعل بابها من الذهب، وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بنى إسرائيل يغدون عليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدّثونه ويضاحكونه.
قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: ثم أنزل الله تعالى الزكاة على موسى؛ فلما وجبت الزكاة على بنى إسرائيل أتى قارون موسى فصالحه عن كلّ ألف دينار على دينار، وعن كلّ ألف درهم على درهم، وعن كلّ ألف شاة على شاة، وعن كلّ ألف(13/237)
شىء شيئا، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا، فلم تسمح بذلك نفسه، فجمع بنى إسرائيل وقال لهم: يا قوم، إن موسى قد أمركم بكل شىء فأطعتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم. فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فمر بما شئت. فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغىّ فنجعل لها جعلا على أن تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه. فأتوا بها، فجعل لها قارون ألف درهم. وقيل: ألف دينار. وقيل: طستا من ذهب. وقيل: حكمها؛ وقال لها: إنى أموّلك وأخلطك بنسائى على أن تقذفى موسى غدا إذا كان بنو إسرائيل متجمّعين.
فلما كان الغد جمع قارون بنى إسرائيل، ثم أتى موسى فقال: إنّ بنى إسرائيل قد اجتمعوا ينظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم وتبيّن لهم اعلام دينهم وأحكامهم وأحكام شرعهم. فخرج إليهم موسى وهم فى براح من الأرض، فقام فيهم خطيبا ووعظهم، وقال فيما قال: يا بنى إسرائيل، من سرق قطعت يده، ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة، وإن كانت له امرأة رجمناه حتى يموت. فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. قال: فإنّ بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. قال موسى:
أنا؟ قال: نعم. قال: ادعها فإن قالت فهو كما قالت. فدعيت؛ فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة، أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وعظّم عليها وسألها بالذى فلق البحر لبنى إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلّا صدقت. فلما ناشدها موسى تداركها الله تعالى بالتوفيق وقالت: لأن أحدث اليوم توبة أفضل من أوذى رسول الله. وقالت: لا والله بل كذبوا، ولكن جعل لى قارون جعلا على أن أقذفك بنفسى. فلما تكلّمت بهذا الكلام سقط فى يد قارون ونكّس رأسه، وسكت الملأ وعرف قارون أنه قد وقع فى مهلكة، وخرّ موسى ساجدا لله تعالى.(13/238)
وقال الكسائىّ فى قصّة هذه المرأة: إن قارون بعث إلى امرأة فاسقة كان موسى قد نفاها من عسكره، فقال لها: إنى أريد أن أتزوّج بك وأنقذك من هذا الفقر إن عملت ما أقول. قالت: وما هو؟ قال: إذا اجتمع بنو إسرائيل عندى فاحضرى وقولى: إن موسى دعانى إلى نفسه فلم أطاوعه، فأخرجنى من عسكره فانصرفت ودخلت على قارون من الغد- وقد اجتمع بنو إسرائيل عنده- فقالت: يا بنى إسرائيل، هذا ما لقى الأخيار من الأشرار؛ اعلموا أن قارون دعانى بالأمس وقال لى كذا وكذا، وأمرنى أن أكذب على نبىّ الله موسى؛ وكذب قارون إنما أخرجنى موسى من عسكره لفسادى، وقد تبت إلى الله تعالى من ذلك. فلما سمع قارون ذلك ندم، ولامه بنو إسرائيل، وبلغ موسى الخبر فغضب ودعا على قارون.
قالوا: وجعل موسى يبكى ويقول: يا رب إن عدوّك هذا قد آذانى وأراد فضيحتى، اللهم إن كنت رسولك فاغضب لى وسلّطنى عليه. فأوحى الله تعالى إليه: ارفع رأسك وأمر الأرض بما شئت تطعك. فقال موسى: يا بنى إسرائيل إن الله قد بعثنى إلى قارون كما بعثنى إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معى فليعتزل عنه. فاعتزل بنو إسرائيل قارون ولم يبق منهم إلا رجلان ثم قال موسى: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى كعابهم. ثم قال: يا أرض خذيهم.
فأخذتهم إلى ركبهم. ثم قال: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى حقيّهم. ثم قال:
يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى أعناقهم؛ وقارون وصاحباه فى كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشدونه؛ حتى روى فى بعض الأخبار: أنه ناشده سبعين مرة وموسى فى جميع ذلك لا يلتفت إليه، لشدّة غضبه عليه. ثم قال: يا أرض خذيهم. فانطقت عليهم الأرض؛ فأوحى الله إلى موسى: استغاثوا بك سبعين(13/239)
مرّة فلم ترحمهم ولم تغثهم، أما وعزتى وجلالى لو إياى دعوا لوجدونى قريبا مجيبا.
قال قتادة: ذكر لنا أن الله تعالى يخسف بهم فى كل يوم قامة، وأنه يتخلخل»
فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة.
قالوا: فلما خسف الله تعالى بقارون وصاحبيه أصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم: إن موسى دعا على قارون ليستبدّ بداره وكنوزه وأمواله. فدعا موسى حتى خسف الله تعالى بدار قارون وأمواله الأرض؛ وأوحى الله تعالى إلى موسى:
أنى لا أعبّد الأرض لأحد بعدك أبدا؛ فذلك قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ.
قال: فلما حلّت نقمة الله تعالى بقارون حمد المؤمنون الله تعالى، وندم الذين كانوا يتمّنون ماله وحاله، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ
. والله الفعّال.
ذكر خبر موسى والخضر- عليهما السلام-
وهذا الخبر إنما رجعت فيه واعتمدت على ما ورد فى الحديث الصحيح النبوىّ مما خرّجه البخارىّ- رحمه الله تعالى- فى صحيحه، ورويناه بسندنا عنه بسنده عن ابن عباس عن أبىّ بن كعب- رضى الله عنهم- عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم:
أن موسى «2» - عليه السلام- قام خطيبا فى بنى إسرائيل، فسئل: أىّ الناس(13/240)
أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه؛ فقال: بلى، عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك.
وورد فى الحديث الآخر من رواية البخارىّ: بلى عبدنا خضر. قال: أى ربّ ومن لى به؟ قال سفيان من روايته: أى ربّ وكيف لى به؟ قال: تأخذ حوتا فتجعله فى مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. وربما قال: فهو ثمّة.
فأخذ حوتا فجعله فى مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما؛ فرقد موسى عليه السلام، واضطرب الحوت فخرج فسقط فى البحر: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً
؛ فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار «1» مثل الطاق؛ فانطلقا يمشيان بقيّة يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال لفتاه:
آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً
؛ ولم يجد موسى النّصب حتى جاوز حيث أمره الله تعالى؛ قال له فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً
؛ فكان للحوت سربا ولهما عجبا.
قال له موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً.
فرجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجّى بثوب، فسلّم موسى، فردّ عليه فقال: وأنّى بأرضك السلام. قال: أنا موسى. قال: موسى بنى إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلّمنى ممّا علّمت رشدا. قال: يا موسى إنى على علم من علم الله علّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه. قال هَلْ أَتَّبِعُكَ
. قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَكَيْفَ(13/241)
تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً
. إلى قوله: أَمْراً
؛ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرّت بهما سفينة فكلّموهم أن يحملوهم؛ فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول؛ فلما ركبا فى السفينة جاء عصفور «1» فوقع على حرف السفينة فنقر فى البحر نقرة أو نقرتين «2» فقال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمى وعلمك من علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. «فأخذ الفأس «3» فنزع لوحا» .
قال: فلم يفجأ «4» موسى إلّا وقد قلع لوحا بالقدوم؛ فقال له موسى: ما صنعت؟
قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً* قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً
. وكانت الأولى من موسى نسيانا. فلمّا خرجا من البحر مرّا بغلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه يقلعه بيده هكذا- وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنّه يقطف شيئا- قال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً* قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً* فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ
مائلا، فَأَقامَهُ
- أومأ بيده هكذا وأشار سفيان كأنّه يمسح شيئا إلى فوق- قال:
قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا عمدت إلى حائطهم، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً* قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.(13/242)
قال النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم-: «وددنا أنّ موسى كان صبر فقصّ علينا من خبرهما» .
قال سفيان: قال النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم-: «يرحم الله موسى لو كان صبر لقصّ علينا من أمرهما» .
وقرأ ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: «أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا* وأمّا الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين» .
ثم قال لى سفيان: سمعته منه مرّتين وحفظته منه.
هذا حديث البخارىّ عن علىّ «1» بن عبد الله عن سفيان عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبىّ بن كعب؛ وقصّتهما فى كتاب الله تعالى:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً* وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً
الآيات، إلى قوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- فى قصصه أنّ الخضر- عليه السلام- اسمه بليا «2» بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام.
وروى حديثا عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما سمّى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، وإذا هى تهتزّ تحته خضراء.(13/243)
وروى عن مجاهد قال: إنما سمّى الخضر لأنه حيثما صلّى اخضرّ ما حوله.
قال الثعلبىّ: وكان الخضر فى أيام أفريدون الملك على قول عامّة أهل الكتب الأوّل.
قال: وقيل إنه كان على مقدّمة ذى القرنين الأكبر الذى كان فى أيام ابراهيم- عليه السلام- وذلك فى أيام مسيره فى البلاد، وأنه بلغ مع ذى القرنين نهر الحياة وشرب من مائه وهو لا يعلم ولا يعلم ذو القرنين، فخلّد، وهو حىّ إلى الآن؛ والله أعلم.
وسنذكر- إن شاء الله تعالى- فى السّفر الذى يلى هذا السفر خبره فى ظفره بماء الحياة فى أخبار ذى القرنين.
ذكر خبر البقرة وقتل عاميل
قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- فى تفسيره عن السّدىّ وغيره: إن رجلا كان فى بنى إسرائيل كان بارّا بأبيه، وبلغ من برّه به أن رجلا أتاه بلؤلؤة فابتاعها منه بخمسين ألفا، وكان فيها فضل وربح؛ فقال له البائع: اعطنى الثمن.
فقال: إن أبى نائم، ومفتاح الصندوق تحت رأسه، فأمهلنى حتى يستيقظ فأعطيك الثمن. فقال له البائع: أيقظ أباك وأعطنى المال. قال: ما كنت لأفعل ولكن أزيدك عشرة آلاف وأنظرنى حتى ينتبه. فقال الرجل: أنا أعطيك عشرة آلاف إن أيقظت أباك وعجّلت النقد. فقال: أنا أزيدك عشرين ألفا إن انتظرت انتباهه. ففعل ولم يوقظ أباه؛ فلما استيقظ أبوه أخبره بذلك، فدعا له وجزاه خيرا، وقال له: أحسنت يا بنىّ، وهذه البقرة لك بما صنعت. وكانت بقيّة بقر كانت لهم.(13/244)
قال: وقال ابن عبّاس ووهب وغيرهما: كان فى بنى إسرائيل رجل صالح له ابن طفل، وكان له عجلة، فأتى بها إلى غيضة وقال: اللهم إنى استودعتك هذه العجلة لابنى حتى يكبر. ومات الرجل، فشبّت العجلة فى الغيضة وصارت عوانا وكانت تهرب من كلّ من رامها؛ فلما كبر الأبن- وكان برّا بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث: يصلى ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمّه ثلثا؛ فإذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره، ويأتى به السوق فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويعطى والدته ثلثه.
وحكى الكسائىّ عن وهب قال: كان فى بنى إسرائيل عبد صالح، فمات وترك امرأته حاملا، فولدت غلاما، فسمّته ميشى، فكبر، وكان يحتطب من المواضع المباحة، وينفق على نفسه وأمه، وكان كثير العبادة؛ فلم يزل كذلك حتى كبر وضعف وعجز عن الاحتطاب.
قالوا: فقالت له أمه: إن أباك ورّثك عجلة وذهب بها إلى غيضة كذا واستودعها الله- عزّ وجلّ- فانطلق إليها وادع إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يردّها عليك، وإنّ من علامتها أنك إذا نظرت إليها يخيّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها- وكانت تسمّى المذهبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها- فأتى الفتى إلى الغيضة، فرآها ترعى، فصاح بها وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب. فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها وقادها، فتكلّمت بإذن الله- عزّ وجلّ- وقالت: أيّها الفتى البارّ بوالدته، اركبنى فإنّ ذلك أهون عليك. فقال: إنّ أمى لم تأمرنى بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها. فقالت البقرة: وإله بنى إسرائيل لو ركبتنى ما كنت تقدر(13/245)
علىّ أبدا، فانطلق فإنّك لو أمرت الجبل أن ينقطع من أصله وينطلق معك لفعل، لبرّك بوالدتك. فسار الفتى بها، فاستقبله عدوّ الله إبليس فى صورة راع فقال: أيها الفتى، إنى رجل من رعاة البقر، اشتقت إلى أهلى فأخذت ثورا من ثيرانى، فحملت عليه زادى ومتاعى، حتى إذا بلغت شطر الطريق ذهبت لأقضى حاجتى، فعدا الثور وسط الجبل وما قدرت عليه، وإنى أخشى على نفسى الهلكة، فإن رأيت أن تحملنى على بقرتك. فلم يفعل الفتى وقال له: اذهب فتوكّل على الله- عزّ وجلّ- فلو علم الله منك الصدق لبلّغك بلا زاد ولا راحلة.
فقال له إبليس: إن شئت فبعنيها بحكمك، وإن شئت فاحملنى عليها وأعطيك عشرا مثلها. فقال الفتى: إن أمّى لم تأمرنى بذلك. فبينا الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يديه، فنفرت البقرة هاربة فى الفلاة، وغاب الراعى، فدعا الفتى باسم إله إبراهيم، فرجعت إليه وقالت: أيها الفتى البارّ بوالدته، ألم تر إلى الطائر الذى طار، إنه إبليس عدوّ الله اختلسنى، أما إنه لو ركبنى ما قدرت علىّ أبدا، فلمّا دعوت بإله إبراهيم جاء ملك وانتزعنى من يد إبليس وردّنى إليك لبرّك بأمّك وطاعتك لها. فجاء بها الفتى إلى أمّه، فقالت له أمّه: إنك فقير لا مال لك ويشقّ عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها.
قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبعها بغير رضاى ومشورتى.
فكان ثمن البقرة فى ذلك الوقت ثلاثة دنانير، فانطلق بها الفتى إلى السوق فبعث الله- عزّ وجلّ- ملكا ليرى فى خلقه قدرته، وليخبر الفتى كيف برّه بوالدته، وكان الله تعالى به خبيرا؛ فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال:
بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضا والدتى. فقال له الملك: فأنا أعطيك ستة دنانير ولا تستأمر أمّك. فقال الفتى: لو أعطيتنى وزنها ذهبا لم آخذه إلّا برضا أمّى.(13/246)
فردّها إلى أمّه، وأخبرها الخبر، فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضا منى.
فانطلق بها إلى السوق، وأتى الملك، فقال: استأمرت والدتك؟ فقال الفتى:
إنها أمرتنى ألا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها. فقال الملك: فإنى أعطيك اثنى عشر دينارا على ألّا تستأمرها. فأبى ورجع إلى أمّه فأخبرها بذلك؛ فقالت: إنّ ذلك الرجل الذى يأتيك هو ملك من الملائكة يأتيك فى صورة آدمىّ ليختبرك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل الفتى ذلك؛ فقال له الملك: اذهب إلى أمّك فقل لها: أمسكى هذه البقرة، فإن موسى بن عمران يشتريها منكم لقتيل يقتل من بنى إسرائيل، فلا تبيعوها إلّا بملء مسكها دنانير. فأمسكوا البقرة، وقدّر الله على بنى إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة له على برّه بأمّه؛ وذلك أنه وجد قتيل فى بنى إسرائيل اسمه (عاميل) ولم يدر قاتله.
واختلفوا فى قاتله والسبب فى قتله؛ فقال عطاء والسدّىّ: كان فى بنى إسرائيل رجل كثير المال. وله ابن عم مسكين لا وارث له غيره، فلما أبطأ عليه موته قتله ليرثه.
قال: وقال بعضهم: كان تحت عاميل بنت عمّ له تضرب مثلا فى بنى إسرائيل بالحسن والجمال، فقتله ابن عمّها لينكحها.
وقال الكلبىّ: قتله ابن أخيه لينكح ابنته، فلمّا قتله حمله من قريته إلى قرية أخرى وألقاه هناك.
وقيل: ألقاه بين قريتين.
وقال عكرمة: كان لبنى إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا، لكل سبط منهم باب، فوجد قتيل على باب سبط، وجرّ إلى باب سبط آخر؛ فاختصم السّبطان فيه.(13/247)
وقال ابن سيرين: قتله القاتل ثم احتمله فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يطلب بثأره ودمه ويدّعيه عليه.
قالوا: فجاء أولياء القتيل إلى موسى- عليه السلام- وأتوه بأناس وادّعوا عليهم القتل، وسألوه القصاص؛ فسألهم موسى عن ذلك، فجحدوا، فاشتبه أمر القتيل على موسى- عليه السلام- ووقع بينهم خلاف.
قال الكلبىّ: وذلك قبل نزول القسامة فى التوراة، فسألوا موسى- عليه السلام- أن يدعو الله ليبيّن لهم ذلك؛ فسأل موسى- عليه السلام- ربّه عزّ وجلّ؛ فأمرهم بذبح بقرة؛ فقال لهم موسى ما أخبر الله تعالى به فى قوله:
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ
. أى تستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة؛ وإنما قالوا ذلك لتباعد ما بين الأمرين فى الظاهر، ولم يدروا ما الحكمة فيه. قال موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ
، أى من المستهزئين بالمؤمنين؛ فلما علم القوم أنّ ذبح البقرة عزم من الله عزّ وجلّ، سألوه الوصف، فذلك قوله تعالى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ.
قال: ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم؛ وإنما كان تشديدهم تقديرا من الله- عزّ وجلّ- وحكمة.
قال: ومعنى ادْعُ لَنا رَبَّكَ
. أى سل؛ وهكذا فى مصحف عبد الله:
«سل لنا ربّك يبيّن لنا ما هى وما سنّها» . قال موسى: إنه- يعنى الله عزّ وجلّ- يقول: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ
: لا كبيرة ولا صغيرة عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ
أى نصف بين السّنين.(13/248)
وقال الأخفش: العوان التى نتجت مرارا، وجمعه عون. فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ
:
من ذبح البقرة، ولا تكرروا القول. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.
قال ابن عبّاس: شديدة الصّفرة.
وقال قتادة وأبو العالية والربيع: صاف.
وقال سعيد بن جبير: صفراء القرنين والظّلف.
وقال الحسن: سوداء. والعرب تسمّى الأسود أصفر.
وقال العتبىّ: غلط من قال: الصفراء هاهنا السوداء، لأن هذا غلط فى نعوت البقر، وإنما هو من نعوت الإبل، وذلك أن السود من الإبل يشوب سوادها صفرة.
وقال آخر: إنه لو أراد السواد لما أكّده بالفقوع، لأنّ الفاقع: البالغ فى الصفرة، كما يقال: أبيض يقق، وأسود حالك، وأحمر قانئ، وأخضر ناضر. تَسُرُّ النَّاظِرِينَ
إليها، ويعجبهم حسنها وصفاء لونها، لأنّ العين تسرّ وتولع بالنظر إلى الشئ الحسن.
وقال علىّ- رضى الله عنه-: من لبس نعلا صفراء قلّ همّه، لأنّ الله تعالى يقول: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ* قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ
أسائمة أم عاملة إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
أى إلى وصفها.
قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «وايم الله لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد» . قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ
، أى مذلّلة للعمل. تُثِيرُ الْأَرْضَ
، أى تقلبها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ
أى بريئة من العيوب(13/249)
وقال الحسن: مسلّمة القوائم، ليس فيها أثر العمل. لا شِيَةَ فِيها
، قال عطاء: لا عيب فيها.
وقال قتادة: لا بياض فيها أصلا.
وقال مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد.
وقال محمد بن كعب: لا لون فيها يخالف معظم لونها. فلما قال هذا قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ
، أى بالوصف البيّن التامّ؛ فطلبوها فلم يجدوا كمال وصفها إلّا عند الفتى البارّ بوالدته؛ فاشتروها منه بملء مسكها ذهبا.
وقال السدّىّ: اشتروها بوزنها عشر مرّآت ذهبا.
وقيل: اشتروها بوزنها مرّة؛ قاله أبو عبيد.
وقيل: بوزنها مرّتين.
وقال الكسائىّ: إنهم أتوا إلى ميشى فى بيع البقرة فقال: لا أبيعها إلّا بحضرة موسى. فرضوا بذلك، وأخرج البقرة إلى موسى، قال: بكم تبيعها؟ قال: المساومة بينى وبينك لا خير فيها، لا أبيعها إلّا بملء جلدها ذهبا. فقال موسى لبنىء إسرائيل:
ذلك لتشديدكم على أنفسكم فشدّد الله عليكم. فضمنوا له ذلك، قال الله تعالى:
فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ
من غلاء ثمنها.
وقال محمد بن كعب: وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها.
وقال الكسائىّ: بوفاء المال؛ قال الله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
، يعنى عاميل. فَادَّارَأْتُمْ
: اختلفتم، قاله ابن عبّاس ومجاهد.
وقال الضحّاك: اختصمتم.(13/250)
وقال عبد العزيز بن يحيى: شككتم.
وقال الربيع بن أنس: تدافعتم. وأصل الدّرء: الدفع، يعنى ألقى هذا على هذا وهذا على ذاك، فدافع كلّ واحد عن نفسه لقوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ*
، أى يدفعون. قال الله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
يعنى القتيل ببعض البقرة.
واختلفوا فى هذا البعض ما هو.
فقال ابن عباس: ضربوه بالعظم الّذى يلى الغضروف، وهو المقبل.
وقال الضحّاك: بلسانها.
قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقوال، لأنّ المراد كان من إحياء القتيل كلامه، واللسان آلته.
وقال سعيد بن جبير: بعجم ذنبها.
قال يمان بن زرياب: وهو أولى التأويلات بالصواب، لأنّ العصعص أساس البدن الّذى ركّب عليه الخلق، وأنّه أوّل ما يخلق، وآخر ما يبلى.
وقال مجاهد: بذنبها.
وقال عكرمة والكلبىّ: بفخذها الأيمن.
وقال السدّىّ: بالبضعة الّتى بين كتفيها.
وقيل: بأذنها. ففعلوا ذلك، فقام القتيل- بإذن الله عزّ وجلّ- وأوداجه تشخّب دما، وقال: قتلنى فلان. ثم مات وسقط مكانه؛ قال الله تعالى:
كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.(13/251)
قال الكلبىّ: ثم قالوا بعد ذلك: «لم نقتله نحن» ، وأنكروا، فلم يكونوا قطّ أقسى قلبا ولا أشدّ تكذيبا منهم لنبيّهم عند ذلك، ولذلك يقول الله تعالى:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً.
قال الكلبىّ: يبست واشتدّت.
وقال أبو عبيدة: جفّت من الشدّة فلم تلن.
وقيل: غلظت.
وقيل: اشتدّت.
وقال الزّجاج: تأويل القسوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع.
قوله: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
، أى من بعد ظهور الدّلالات، فهى فى غلظها وشدّتها كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
، أى بل أشدّ قسوة.
ثم عدّد الله تعالى الحجارة وفضّلها على القلب القاسى، وقال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
، أى ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
ذكر بناء بيت المقدس وخبر القربان والتابوت والسكينة وصفة النار
وهذا البيت ليس هو البيت المقدّس الموجود الآن، وإنما هو الذى تسميه اليهود: «قبة الزمان» ويزعمون أن ذلك نص التوراة، وكان من خبر هذه القصة ما رواه الثعلبىّ بإسناده عن وهب بن منبّه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى- عليه السلام- أن يتّخذ مسجدا لجماعتهم. وبيت قدس للتوراة، وتابوتا للسكينة وقبابا للقربان، وأن يجعل لذلك المسجد سرادقات باطنها وظاهرها من الجلود(13/252)
الملبسة عليها، وأن تكون تلك الجلود من جلود ذبائح القربان، وحيالها من أصواف تلك الذبائح؛ وعهد إليه ألا تغزل تلك الحبال حائض، ولا يدبغ تلك الجلود جنب؛ وأمره أن ينصب تلك السرادقات على عمد من نحاس، طول كلّ عمود منها أربعون ذراعا، ويجعل فيها اثنى عشر قسما مشرجا «1» ، إذا نقضت صارت اثنى عشر جزءا يحمل كلّ جزء بما فيه من العمد سبط من الأسباط من بنى إسرائيل؛ وأمره أن يجعل سعة ذلك السرادق ستّمائة ذراع، وأن ينصب فيه سبع قباب، ستّ قباب منها مشبكة بقضبان الذهب والفضة، كلّ واحدة منهن منصوبة على عمود من فضة طول كل عمود منها أربعون ذراعا، وعليها أربعة دسوت ثياب، الباطن منها سندس أخضر، والثانى أرجوان أحمر، والثالث ديباج أصفر، والرابع من جلود القربان وقاية لها من المطر والغبار، وحبالها التى تمدّ بها من صوف القربان، وأن يجعل سعتها أربعين ذراعا، وأن ينصب فى جوفها موائد من فضّة مربّعة مرصّعة يوضع عليها القربان، سعة كلّ مائدة منها أربع أذرع، كلّ مائدة منها على أربع قوائم من فضّة، طول كلّ قائمة ثلاث أذرع، لا ينال الرجل منها إلّا قائما؛ وأمره أن ينصب بيت المقدس على عمود من ذهب، طوله سبعون ذراعا، وأن يضعه على سبيكة من ذهب أحمر طولها تسعون ذراعا، مرصّعة بألوان الجواهر، وأن يجعل أسفله مشبّكا بقضبان الذهب والفضّة، وأن يجعل حباله التى يمدّ بها من صوف القربان مصبوغة بألوان من أحمر وأصفر وأخضر؛ وأن يلبسه سبعة من الحلل، الباطن منها سندس أخضر، والثانى أرجوان أحمر، والثالث ديباج أصفر، والرابع من الحرير الأبيض، وسائرها من الدّيباج والوشى؛ والظاهر غاشية له من جلود القربان وقاية له من الأذى والندى؛ وأمره أن يجعل سعته سبعين ذراعا، وأن يفرش القباب(13/253)
بالقزّ الأحمر؛ وأمره أن ينصب فيه تابوتا من ذهب كتابوت الميثاق، مرصّعا بأنواع الجواهر والياقوت والزمرد الأخضر، وقوائمه من الذهب، وأن يجعل سعته سبع أذرع فى أربع أذرع، وعلوّه قامة موسى عليه السلام، وأن يجعل له أربعة أبواب: باب تدخل منه الملائكة، وباب يدخل منه موسى، وباب يدخل منه هارون، وباب يدخل منه أولاد هارون، وهم سدنة ذلك البيت وخزّان التابوت، وأمر الله نبيّه موسى أن يأخذ من كلّ محتلم من بنى إسرائيل مثقالا من الذهب فينفقه على هذا البيت، وأن يجعل باقى المال الذى يحتاج إليه فى ذلك من الحلىّ والحلل التى ورثها موسى وأصحابه من فرعون وأصحابه؛ ففعل موسى ذلك، فبلغ عدد رجال بنى إسرائيل ستّمائة ألف وسبعمائة وخمسين رجلا فأخذ منهم ذلك المال.
وأوحى الله تعالى إليه أنى منزّل عليكم من السماء نارا لا دخان لها ولا تحرق شيئا، ولا تنطفئ أبدا، لتأكل القرابين المتقبّلة، وتسرج منها القناديل الّتى فى بيت المقدس، وكانت من ذهب معلّقة بسلاسل من ذهب، منظومة باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر؛ وأمره أن يضع فى وسط البيت صخرة عظيمة من الرّخام، وينقر فيها نقرة لتكون كانون تلك النار التى ينزل بها من السماء؛ فدعا موسى أخاه هارون وقال له: إن الله تعالى قد اصطفانى بنار ينزلها من السماء لتأكل القرابين المقبولة ولتسرج منها القناديل، وأوصانى بها، وإنى قد اصطفيتك لها وأوصيتك بها. فدعا هارون ابنيه وقال لهما: إن الله تعالى قد اصطفى موسى بأمر وأوصاه به، وإنه قد اصطفانى له وأوصانى به، وإنى قد اصطفيتكما وأوصيتكما به. وكان أولاد هارون هم الذين يلون سدانة بيت المقدس وأمر القربان والنيران؛ فشربا ذات ليلة ثم ثملا، ثم دخلا البيت وأسرجا القناديل من هذه النار التى فى الدنيا، فغضب(13/254)
الله عليهما، وسلط عليهما تلك النار حتى أحرقتهما، وموسى وهارون يدفعان عنهما النار فلم يغنيا عنهما من الله شيئا؛ فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: هكذا أفعل بمن عصانى ممّن يعرفنى، فكيف أفعل بمن لا يعرفنى، والله أعلم.
ذكر ما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر
قال الله عز وجل: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.
قال أبو إسحاق الثعلبىّ: اختلفوا فى معنى الملوك؛ فروى عن أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة فهو ملك» .
وقال أبو عبد الرحمن الحبلىّ: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص- وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ - فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوى إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: وإنّ لى خادما. قال: فأنت من الملوك.
وقال الضحّاك: كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك.
وقال قتادة: وكانوا أوّل من ملك الخدم، وأوّل من سخّر لهم الخدم من بنى آدم.
وقال السدّىّ: يعنى وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم فى أيدى القبط بمنزلة أهل الجزية، فأخرجكم الله تعالى من ذلك الذلّ.
وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ
، يعنى من عالم زمانكم.
وقال مجاهد: يعنى المنّ والسلوى والحجر والغمام.(13/255)
قال: ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أن يسير ببنى إسرائيل إلى الأرض المقدّسة ويجاهد الجبّارين؛ فأخرجهم موسى- عليه السلام- لذلك، فقال: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
قال الثعلبىّ: اختلفوا فى الأرض المقدّسة ما هى.
فقال مجاهد: هى الطّور وما حوله.
وقال الضحاك: هى إيلياء وبيت المقدس.
وقال عكرمة والسدّىّ وابن يزيد: هى أريحا.
وقال الكلبىّ: دمشق وفلسطين وبعض الأردن.
وقال قتادة: الشأم كلّه.
قال الكسائىّ: فلمّا أخبرهم موسى بذلك قالوا: يا موسى إنّك قلت لنا حين أخرجتنا من مصر: إنّ الله تعالى بعثك لتنقذنا من عذاب فرعون، والآن فإنك تحملنا على ما هو أشقّ منه، وبيننا وبين الأرض المقدّسة المفاوز والقفار، وكيف ندخلها ولا زاد معنا ولا ماء؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، قل لهم: إنى منزّل عليهم المنّ والسلوى، وقد أمرت الحجر أن يتفجّر لهم بالماء العذب، وأمرت الغمام أن يظلّهم ويسير معهم حيث ساروا؛ وألا تنقب خفافهم ونعالهم؛ وأمرت ثيابهم أن يلبسها صغيرهم وكبيرهم.
فلما سمعوا ذلك طابت نفوسهم، وساروا نحو الأرض المقدّسة والغمام يظلّهم فى مسيرهم، والسماء تمطر عليهم بالمنّ، والريح بالسلوى، ويجدون كلّ ما يحتاجون إليه، ويضىء لهم بالليل عمود من النور، وتهبّ الريح على السلوى فتمعط ريشها فيطبخونها بغير تعب؛ ويقرع موسى- عليه السلام- الحجر فتفجّر لهم اثنتا عشرة(13/256)
عينا، تجرى كلّ عين إلى سبط من الأسباط؛ وثيابهم جدد بيض لا تخلق، وهم فى خفض ودعة.
وقال أبو إسحاق الثعلبىّ، كان ما أنعم الله تعالى به عليهم أنهم قالوا لموسى فى التّيه: أهلكتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفاوز لا ظلّ فيها. فأنزل الله تعالى عليهم غمامة بيضاء رقيقة ليست بغمام المطر أرق وأطيب وأبرد، فأظلّتهم وكانت تسير معهم إذا ساروا، وتدور عليهم من فوقهم إذا داروا؛ وجعل لهم عمودا من نور يضىء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر؛ فقالوا: هذا الظلّ والنور قد حصلا، فأين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ.
واختلفوا فيه؛ فقال مجاهد: هو شىء كالصمغ يقع على الأشجار، وطعمه كالشّهد.
وقال الضحّاك «1» : هو الطّرنجبين.
وقال وهب: الخبز الرّقاق.
وقال السدّىّ: عسل كان يقع فى السّحر من الليل فيأكلون منه.
وقال عكرمة: أنزل الله- عزّ وجلّ- عليهم مثل الزيت الغليظ.
وقيل: هو الزنجبيل.
وقال الزجّاج: جملة المنّ: ما يمنّ الله عزّ وجلّ به ممّا لا تعب فيه ولا نصب.
فكان ينزل عليهم كلّ ليلة ويقع على أشجارهم مثل الثلج، لكلّ إنسان منهم صاع كلّ ليلة؛ فقالوا: يا موسى، قتلنا هذا المنّ بحلاوته، فادع لنا ربّك أن يطعمنا اللحم. فدعا موسى عليه السلام، فأنزل الله- عزّ وجلّ- عليهم السّلوى.(13/257)
قالوا: واختلفوا فيه؛ فقال ابن عباس- رضى الله عنهما- وأكثر المفسّرين:
هو طائر يشبه السّمانى.
وقال أبو العالية ومقاتل: بعث الله- عزّ وجلّ- السحابة فمطرت السّمانى فى عرض ميل وقدر طول رمح فى السماء بعضه على بعض.
وقال عكرمة: طير يكون بالهند أكبر من العصفور.
فكان يأخذ كلّ واحد منهم ما يكفيه يوما وليلة من المنّ والسلوى، فإذا كان يوم الجمعة أخذوا ما يكفيهم عن يومين، لأنه لم يكن ينزل عليهم يوم السبت، فذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
ولا تدّخروا لغد. فجنوا لغد فقطع الله ذلك عنهم، ودوّد وفسد ما ادّخروا، فذلك قوله تعالى:
وَما ظَلَمُونا
معناه وما ضرّونا بالمعصية وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- أنه قال:
لولا بنو إسرائيل لم يخثر الطعام، ولم يخبث اللحم، ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها.
ثم قالوا: يا موسى، من أين لنا الشراب؟ فاستسقى لهم موسى؛ فأوحى الله تعالى إليه: أن أضرب بعصاك الحجر.
قال الثعلبىّ: واختلف العلماء فى الحجر؛ فقال وهب: كان موسى- عليه السلام- يقرع لهم أقرب حجر من عرض الحجارة فيتفجّر عيونا، لكلّ سبط عين، وكانوا أثنى عشر سبطا، ثم تسيل كلّ عين فى جدول إلى سبط؛ فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا. فأوحى الله تعالى إليه: لا تقرعنّ الحجارة بالعصا ولكن كلّمها تطعك لعلّهم يعتبرون. فكان يفعل ذلك. فقالوا: كيف بنا لو مضينا إلى الرمل وإلى الأرض التى ليس فيها حجارة؟ فأمر موسى فحمل معه حجرا، فحيثما نزل ألقاه.(13/258)
وقال آخرون: كان حجرا مخصوصا بعينه، والدليل عليه قوله: «الحجر» فأدخل الألف واللام للتعريف والتخصيص؛ وأمر أن يحمله، فكان موسى عليه السلام يضعه فى مخلاته، وإذا احتاجوا إلى الماء أخرجه وضربه بعصاه وسقاهم.
وقال أبو روق: كان الحجر من الغضار، وكان فيه اثنتا عشرة حفرة ينبع من كل حفرة ماء عذب، فيأخذونه، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه؛ فيذهب الماء؛ فكان كلّ يوم يستقى منه ستّمائة ألف.
وقال سعيد بن جبير: هو الحجر الذى وضع موسى عليه ثوبه لغسله ففرّ بثوبه؛ فلما وقف أتاه جبريل فقال: يا موسى، إن الله تعالى يقول لك: ارفع هذا الحجر فإنّ لى فيه قدرة، ولك فيه معجزة.
وقد تقدّم ذكر خبر الحجر.
وورد أيضا فى صحيح البخارىّ نحو ما تقدّم.
قال أبو إسحاق الثعلبىّ: وكان مما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل أنهم قالوا لموسى عليه السلام: من أين لنا اللباس؟ فخلّد الله تعالى ثيابهم التى عليهم حتى إنها لا تزيد على الأيام ومرورها إلّا جدّة وطراوة، ولا تخلق ولا تبلى، وتنمو على صبيانهم كما ينمون.
قال: ثم سئم بنو إسرائيل المنّ والسلوى، فقالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم:
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها.
واختلف فى الفوم ما هو؟ فقال ابن عبّاس: هو الخبز، تقول العرب:
«فوموا لنا» ، أى اختبزوا.(13/259)
وقال عطاء وأبو مالك: هو الحنطة، وهى لغة قديمة.
وقال العتبىّ: هو الحبوب كلّها.
وقال الكلبىّ والنضر بن شميل والكسائىّ والمؤرّج: هو الثّوم.
فقال لهم موسى عند ذلك: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ.
قالوا: مصرا من الأمصار، ولذلك نوّنه؛ ولو أراد مصر بعينها لقال: «مصر» ولم يصرفه، كقوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
وقال الضحّاك: هى مصر فرعون.
واليهود يزعمون أنّ موسى- عليه السلام- وبنى إسرائيل حرّم عليهم بنصّ التوراة الدخول إلى مصر حين خرجوا منها عند اتباع فرعون لهم وغرقه، وأنهم لم يدخلوها بعد ذلك. والله أعلم.
ولنرجع إلى أخبار النقباء وقتال الجبّارين.
ذكر خبر النقباء ومسيرهم إلى أريحا، وقصّة عوج بن عوق «1» وخبر التّيه
قال الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً.
قال الثعلبىّ: وذلك أن الله تعالى وعد موسى- عليه السلام- أن يورثّه وقومه الأرض المقدّسة، وهى الشأم، وكان يسكنها الكنعانيّون الجبّارون ووعدهم أن يهلكهم ويجعل أرض الشأم مسكن بنى إسرائيل؛ فلمّا استقرّت ببنى إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحا.(13/260)
«هكذا قال الثعلبىّ: بمصر «1» » .
واليهود تنكر ذلك، ويقولون: إن نص التوراة عندهم أن الله تعالى لما أغرق فرعون وقومه ونجّى موسى وبنى إسرائيل، تنقلوا من مكان إلى آخر. ويذكرون أسماء الأماكن بالعبرانية- وليست تعرف الآن- وكان فى خلال مسيرهم خبر التيه، وكلّ ما تقدّم ذكره من الأخبار يزعمون أنه فى التيه؛ والله أعلم.
نعود إلى سياق الثعلبىّ.
قال: فأمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحا وأرض الشأم، وهى الأرض المقدّسة وقال: يا موسى، إنى قد كتبتها لكم دارا وقرارا، فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدوّ، فإنى ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثنى عشر نقيبا، من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على «2» ما أمروا به.
فاختار موسى- عليه السلام- النقباء.
قال: وهذه أسماؤهم؛ «من سبط «3» روبيل شامل بن زكور. ومن سبط شمعون سافاط بن حرى. ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا. ومن سبط أبين حامل بن بكر(13/261)
ابن سورا. ومن سبط يوسف وهو سبط افرايم يوشع بن نون. ومن سبط بنيامين قلطم بن رقوق. ومن سبط زبولون خدى بن سورى. ومن سبط يوسف وهو سبط منشى بن يوسف جدّى بن سوشى. ومن سبط أشير شيانون بن ملكيل.
ومن سبط نفتالى حنا بن وقشى. ومن سبط دان جملائيل بن حمل. ومن سبط لاوى حولى بن مليكا» .
قال: فسار موسى ببنى إسرائيل حتى إذا دنوا من أرض كنعان- وهى أريحا- بعث هؤلاء النقباء إليها يتجسّون له الأخبار ويعلمون علمها؛ فلقيهم رجل من الجبّارين يقال له: عوج بن عوق، وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرين ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وثلاثا وثلاثين ذراعا.
قال ابن عمر- رضى الله عنهما-: وكان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها، ثم يأكله.
ويروى أنه أتى نوحا- عليه السلام- يوم الطّوفان فقال له: احملنى معك فى السفينة. فقال له: اذهب يا عدوّ الله فإنّى لم أومر بك؛ وطبّق الماء ما على وجه الأرض من سهل وجبل فما جاوز ركبتى عوج.
وعاش عوج ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدى موسى.
قال: وكان لموسى عسكر فرسخ فى فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم، ثم جاء إلى الجبل وقوّر منه صخرة على قدر العسكر، ثم حملها ليطبقها على العسكر، فبعث الله عليه الهدهد ومعه الطيور، وجعلت تنقر بمناقيرها حتى قوّرت الصخرة وانثقبت حتى وقعت فى عنق عوج. فطوّقته وصرعته، فأقبل موسى وطوله عشر أذرع وطول عصاه عشر أذرع، ونزا فى السماء عشر أذرع، فما أصاب إلّا كعبه وهو مصروع بالأرض، فقتله.(13/262)
قالوا: وأقبلت جماعة كثيرة ومعهم الخناجر حتى حزّوا رأسه؛ فلما قتل وقع على نيل مصر فسكره «1» سنة.
قالوا: وكانت أمّ عوج يقال لها: عناق، وهى إحدى بنات آدم لصلبه.
ويقال: إنها كانت أوّل من بغت على وجه الأرض، وكان كلّ إصبع من أصابعها ثلاث أذرع فى ذراعين، فى كلّ إصبع ظفران حادّان مثل المنجلين، وكان موضع مقعدها جريب من الأرض، فلمّا بغت بعث الله تعالى إليها أسودا كالفيلة وذئابا كالإبل، ونسورا كالحمر، وسلّطها عليها فقتلوها وأكلوها.
قالوا: فلمّا لقى عوج النقباء لقيهم وعلى رأسه حزمة حطب، فأخذهم وجعلهم فى حزمته، وانطلق بهم إلى امرأته، وقال: انظرى إلى هؤلاء الّذين يريدون قتالنا.
فطرحهم بين يديها وقال: ألا أطحنهم برجلى؟ قالت امرأته: لا، بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. ففعل؛ وجعلوا يتعرّفون أحوالهم.
وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلّا خمسة أنفس بينهم فى خيشة، ويدخل فى قشر شطر الرّمانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس.
قال: فلمّا خرج النقباء قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتم بنى إسرائيل خبر القوم ارتدّوا عن نبىّ الله، ولكن اكتموا وأخبروا موسى وهارون فيكونا هما يريان رأيهما. فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك؛ ثم انصرفوا إلى موسى- عليه السلام- وجاءوا بحبّة من عنبهم وقر رجل، ثم إنهم نكثوا العهد، وجعل كلّ واحد منهم ينهى سبطه عن قتالهم، ويخبرهم بما رآى، إلّا يوشع وكالب.
قال: فلمّا سمع القوم ذلك من النقباء رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: يا ليتنا متنا فى أرض مصر، وليتنا نموت فى هذه البريّة ولا يدخلنا الله أرضهم، فتكون نساؤنا وأولادنا وأموالنا غنيمة لهم.(13/263)
وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر؛ فذلك قوله تعالى إخبارا عنهم: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ.
فلما قالوا ذلك وهمّوا بالانصراف إلى مصر، خرّ موسى وهارون- عليهما السلام- سجّدا، وخرق يوشع وكالب ثيابهما، وهما الّلذان أخبر الله تعالى عنهما بقوله: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا
، أى يخافون الله.
وقرأ سعيد بن جبير (يخافون) بضم الياء.
قال: كانا من الجبّارين، فأسلما واتبعا موسى. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ
، لأن الله تعالى منجز وعده، وإنا أتيناهم فكانت أجسامهم عظيمة قويّة، وقلوبهم ضعيفة، فلا تخشوهم، وعلى الله فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين. فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة، وقالوا: يا موسى إنّا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون.
فلما قالوا ذلك غضب موسى وقال: ربّ إنّى لا أملك إلّا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين. وكانت عجلة عجلها موسى- عليه السلام- فظهر الغمام على قبّة الزمان، وأوحى الله تعالى إلى موسى: إلى متى يعصينى هذا الشعب، وإلى متى لا يصدّقون بالآيات؟ لأقتلنهم جميعا، ولأجعلنّ بدلهم شعبا أشدّ وأكثر منهم.
قال موسى: إلهى لو أنّك قتلت هذا الشعب كلّه كرجل واحد قالت الأمم الذين سمعوا: إنّما قتل هذا الشعب من أجل أنه لم يستطع أن يدخلهم الأرض المقدّسة، فقتلهم فى البرّيّة. وإنك طويل صبرك، كثيرة نعمك، وأنت تغفر الذنوب، وتحفظ الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء، فاغفر لهم ولا توبقهم.(13/264)
فقال الله تعالى: قد غفرت لهم بكلمتك، ولكن بعد ما سميّتهم فاسقين ودعوت عليهم، لأحرّمنّ عليهم دخول الأرض المقدّسة غير عبدىّ يوشع وكالب ولأتيهنّهم فى هذه البرّيّة أربعين سنة، ولتلقينّ جيفهم فى هذه القفار؛ وأمّا بنوهم الّذين لم يعملوا الخير والشرّ فإنهم يدخلون الأرض المقدّسة، فذلك قوله تعالى:
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ
في ستّة فراسخ، يسيرون كلّ يوم جادّين، حتى إذا سئموا وأمسوا، فإذا هم فى الموضع الّذى ارتحلوا منه وكانوا ستّمائة ألف مقاتل، مات النقباء العشرة الّذين أفشوا الخبر بغتة، وكلّ من دخل التيه ممّن جاوز عشرين سنة مات فى التّيه غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا أحد ممن قال: إنّا لن ندخلها أبدا.
فلما هلكوا وانقضت أربعون سنة، ونشأت النواشئ من ذراريّهم، ساروا إلى حرب الجبّارين، فذلك قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
والله المعين.
ذكر مسير موسى- عليه السلام- وبنى إسرائيل لحرب الجبّارين ودخولهم القرية
قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ.
اختلف المفسّرون فى القرية:
قال ابن عبّاس: هى أريحا، وهى قرية الجبّارين، وكان فيها بقيّة من عاد يقال لهم: العمالقة.
وقيل: هى بلقاء.(13/265)
وقال ابن كيسان: هى الشأم.
وقال الضحّاك: الرملة والأردنّ وفلسطين وتدمر.
وقال مجاهد: بيت المقدس.
وقال مقاتل: إيلياء. وقوله: رغدا، أى موسّعا عليكم.
والباب: باب من أبواب القرية، وكان لها سبعة أبواب.
وقال مجاهد: هو باب فى بيت المقدس يعرف إلى اليوم بباب حطّة.
وقيل: هو باب القبّة الّتى كان موسى يصلّى إليها.
وعن مجاهد أيضا: أنه باب فى الجبل الّذى كلّم الله تعالى عليه موسى كالفرضة.
وقوله: سجّدا، أى منحنين متواضعين.
وقال وهب: قيل لهم: ادخلوا الباب فإذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله عزّ وجلّ، وذلك أنّ موسى- عليه السلام- لما انقضت مدّة التيّه سار بالأبناء إلى القرية ودخلها، ودخل المؤمنون سجّدا كما أمرهم الله تعالى. وقوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ
، قال قتادة: حطّت عنّا خطايانا، أمروا بالاستغفار.
قال ابن عبّاس: يعنى لا إله إلا الله، لأنها تحطّ الذنوب.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.
قال مجاهد: طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم، فلم يخفضوا ولم يركعوا ولم يسجدوا، ودخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا قولا غير الذى قيل لهم، وذلك أنهم أمروا أن يقولوا: حطّة؛ فقالوا: (هطا سمعاثا) ، يعنون حنطة سمراء استخفافا بأمر الله تعالى؛ قال الله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ
، وذلك أنّ الله تعالى أرسل عليهم ظلمة وطاعونا، فهلك منهم فى ساعة واحدة سبعون ألفا.(13/266)
قال الكسائىّ: وغلب موسى على مدينة أريحا، وهرب من كان بها من الجبّارين.
وقيل: إنما دخل موسى الآن أرض كنعان، وإن مدينة أريحا فتحها يوشع ابن نون بعد وفاة موسى- عليه السلام- على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى أخبار يوشع.
ذكر خبر مدينة بلقاء وخبر بلعم بن باعورا وما يتّصل بذلك
قالوا: ولمّا دخل موسى ببنى إسرائيل أرض كنعان، سار منها يريد مدينة بلقاء.
قال مقاتل: سمّيت بلقاء لأنّ ملكها كان يقال له: بالق، وكان بها بلعم بن باعورا، وهو الذى أنزل الله تعالى فيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ
الآيات.
وقيل: نزلت الآيات فى غيره- على ما نذكره إن شاء الله تعالى آخر القصّة-.
واختلف أيضا فى اسمه ونسبه.
فقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: هو بلعم بن باعورا.
وقال ابن مسعود- رضى الله عنه-: بلعم بن ابر.
وقال مجاهد: بلعام بن باعر.
وقال الثعلبىّ: قال أكثر المفسّرين: هو بلعام بن باعورا بن أيدن بن مأرب ابن لوط، وكان من الكنعانيّين.
وقال عطية عن ابن عبّاس: هو من بنى إسرائيل.(13/267)
وقال على بن أبى طلحة عنه: هو من الكنعانيّين من مدينة الجبّارين.
وقال مقاتل: هو من مدينة بلقاء.
قالوا: فلمّا أقبل موسى ببنى إسرائيل إلى مدينة بلقاء، كان أهلها يعبدون الأصنام، فلمّا بلغ الملك مسير موسى- عليه السلام- إليه استشار أكابر دولته؛ فقالوا له: إنّ فرعون لم يطقه مع كثرة جنوده، فأنت أولى ألّا تطيقه، غير أنّ هاهنا رجلا يعرف ببلعام مجاب الدعوة، التمس منه أن يدعو عليهم ليكفيك ربّك أمر موسى. فبعث الملك إليه وأحضره وتحدّث معه فى أمر موسى؛ فقال: حتى أستأذن ربّى. ودخل بلعم مصلّاه واستأذن فى الخروج، فأوحى إليه أن هذا العسكرهم بنو إسرائيل، وعليهم موسى رسولى، ولا تخرج إليهم. فقال بلعم لرسل الملك: إنّ ربى قد منعنى من ذلك، فانصرفوا وعرّفوا الملك.
وكان لبلعم امرأة، فأهدى لها الملك هديّة نفيسة، وسألها أن تكلّم زوجها فى التوجّه مع الملك؛ فسألته؛ فقال: قد استأذنت ربّى فنهانى. فلم تزل به حتى استأذن الله ثانيا؛ فأوحى الله إليه: أنى نهيتك عن ذلك، والآن قد جعلت الأمر إليك. فطابت نفسه بالخروج مع الملك. حكاه الكسائىّ.
وقال الثعلبىّ فى تفسيره، وعزاه إلى ابن عباس وابن إسحاق والسدّىّ وغيرهم:
إن موسى- عليه السلام- لما قصد حرب الجبّارين ونزل أرض كنعان من أرض الشأم، أتى قوم بلعام- وكان عنده اسم الله الأعظم- فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلّها بنى إسرائيل، وإنّا قومك وبنو عمّك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج وادع الله أن يردّ عنّا موسى وقومه. فقال: ويلكم، هو نبىّ الله ومعه الملائكة والمؤمنون، كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟! وإنى إن فعلت ذلك ذهبت(13/268)
دنياى وآخرتى. فراجعوه فى ذلك، فقال: حتى أوامر ربّى.- وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به فى المنام- فآمر فى الدعاء عليهم، فقيل له فى المنام:
لا تدع عليهم. فقال لقومه: إنى قد نهيت عن الدعاء عليهم. فأهدوا إليه هديّة فقبلها، ثم راجعوه فى الدعاء عليهم، فقال: حتى أؤامر. فآمر فلم يجر إليه شىء فقال: قد آمرت فلم يجر إلىّ شىء. فقالوا: لو كره ربّك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك فى المرّة الأولى. فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن؛ فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بنى إسرائيل يقال له:
(حبّان) ؛ فلما سار عليها غير كثير ربضت، فنزل عنها فضربها، حتى إذا آلمها قامت، فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت، فنزل عنها وضربها حتى إذا آلمها أذن لها بالكلام، فتكلّمت حجّة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم، أين تذهب؟
ألا ترى الملائكة أمامى يردّوننى عن وجهى هذا؟ تذهب إلى نبى الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها؛ فخلّى الله سبيلها؛ فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل (حبّان) جعل يدعو عليهم، فلا يدعو بشرّ إلا صرف به لسانه إلى قومه؛ ولا يدعو لقومه بخير إلّا صرف لسانه إلى بنى إسرائيل؛ فقال قومه: يا بلعم أتدرى ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا. قال: فهذا مالا أملك. واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت منى الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلّا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جمّلوا النساء وزيّنوهنّ وأعطوهنّ السّلع، ثم أرسلوهنّ إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهنّ فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها؛ فإنّهم إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم. ففعلوا؛ فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى «1» بنت صعور برجل من عظماء بنى إسرائيل يقال له:(13/269)
زمزى بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم السلام- فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها؛ ثم أقبل حتى وقف على موسى فقال له: إنى أظنك ستقول: هذه حرام عليك. قال موسى: أجل، هى حرام عليك، لا تقربها. قال: فو الله لا نطيعك فى هذا. ثم دخل بها قبّته فوقع عليها فأرسل الله تعالى الطاعون على بنى إسرائيل فى الوقت؛ وكان فنحاص بن العيزار ابن هارون صاحب أمر موسى رجلا قد أعطى بسطة فى الخلق وقوّة فى البطش وكان غائبا حين صنع زمزى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس فى بنى إسرائيل فأخبر الخبر، فأخذ حربته، وكانت كلّها من حديد، ثم دخل عليهما القبّة وهما مضطجعان فنظمهما بحريته، ثم خرج بهما رافعا حربته إلى السماء قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته- وكان بكر العيزار- وجعل يقول: اللهمّ هكذا تفعل بمن يعصيك؛ ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بنى إسرائيل فى الطاعون- فيما بين أن أصاب المرأة إلى أن قتله فنحاص- فوجدوه قد أهلك منهم سبعين ألفا فى ساعة واحدة من النهار.
قال: فمن هناك يعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص من كلّ ذبيحة ذبحوها الخاصرة «1» والذراع واللّحية، لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار بن هارون.
قال الثعلبىّ أيضا: وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال لبلعام: ادع الله على موسى. فقال: إنه من أهل دينى فلا أدعو عليه. فنحت الملك خشبة ليصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان(13/270)
وقد وقفت، فضربها، فقالت: لم تضربنى وأنا مأمورة؟ فلا تظلمنى، وهذه نار أمامى قد منعتنى أن أمشى. فرجع فأخبر الملك؛ فقال: لتدعونّ عليه أو لأصلّبنّك.
فدعا على موسى باسم الله الأعظم ألّا يدخل المدينة، فاستجيب له، ووقع موسى فى التّيه بدعائه، فقال موسى: يا ربّ بأىّ ذنب وقعنا فى التّيه. فقال: بدعاء بلعام.
قال: ربّ بما سمعت دعاءه علىّ فاسمع دعائى عليه. فدعا موسى أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان. فسلخه الله مما كان عليه، ونزع منه المعرفة، فخرجت كحمامة بيضاء، فذلك قوله عز وجل فَانْسَلَخَ مِنْها.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيّب وأبو روق وزيد بن أسلم:
نزلت هذه الآية فى أميّة بن أبى الصّلت، وكانت قصته أنه كان فى ابتداء أمره قد قرأ الكتب وعلم أن الله عزّ وجلّ مرسل رسولا فى ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلّم- حسده وكان قد قصد بعض الملوك، فلما رجع مرّ بقتلى بدر، فسأل عنهم؛ فقيل: قتلهم محمد. فقال: لو كان نبيّا ما قتل أقرباءه. فلما مات أتت أخته فارعة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فسألها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- عن وفاة أخيها؛ فقالت: بينا هو راقد أتاه اثنان فكشفا سقف البيت ونزلا، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الّذى عند رجليه للّذى عند رأسه: أوعى؟ قال:
وعى. قال: أزكا «1» قال: أبى. [قالت] «2» : فسألته عن ذلك؟ فقال: خير أريد بى فصرف عنّى. ثم غشى عليه، فلمّا أفاق قال:(13/271)
كلّ عيش وإن تطاول دهرا ... صائر أمره إلى أن يزولا
ليتنى كنت قبل ما قد بدا لى ... فى قلال الجبال أرعى الوعولا
إنّ يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الصغير يوما ثقيلا
ثم قال لها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أنشدينى من شعر أخيك.
فأنشدته:
لك الحمد والنّعماء والفضل ربّنا ... ولا شىء أعلى منك جدّا وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزّته تعنو الوجوه وتسجد
وهى قصيدة طويلة، حتى أتت على آخرها.
وأنشدته قصيدته الّتى يقول فيها:
يوقف الناس للحساب جميعا ... فشقّى معذّب وسعيد
ثم أنشدته قصيدته الّتى يقول فيها:
عند ذى العرش تعرضون عليه ... يعلم الجهر والسّرار الخفيّا
يوم نأتى الرحمن وهو رحيم ... إنّه كان وعده مأتيّا
يوم آتيه- مثل ما قال- فردا ... ثم لا أدر «1» راشدا أم غويّا
أسعيدا إسعاده أنا أرجو ... أو مهانا بما اكتسبت شقيّا
إن أؤاخذ بما اجترمت فإنّى ... سوف ألقى من العذاب فريّا
ربّ إن تعف فالمعافاة ظنّى ... أو تعاقب فلم تعاقب بريّا
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آمن شعره وكفر قلبه. وأنزل الله تعالى فيه:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها
الآيات.(13/272)
ومنهم من قال: إنّ الآيات نزلت فى البسوس، وكان رجلا أعطى ثلاث دعوات مستجابة، وكانت له امرأة، وكان له منها ولد، فقالت: اجعل لى منها دعوة واحدة. فقال: لك فيها دعوة، فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلنى أجمل امرأة فى بنى إسرائيل. فدعا لها، فصارت أجمل امرأة فى بنى إسرائيل؛ فلما علمت أنّه ليس فيهم مثلها رغبت عنه، فغضب ودعا عليها، فصارت كلبة نبّاحة، فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار، قد صارت أمّنا كلبة نبّاحة والناس يعيّروننا بها، فادع الله أن يردّها إلى الحال الّتى كانت عليها. فدعا الله تعالى، فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات.
وقال أبو سعيد: نزلت فى أبى عامر بن نعمان بن صيفىّ الراهب الذى سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الفاسق، وكان قد ترهّب فى الجاهليّة ولبس المسوح وقدم المدينة، فقال للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا الذى جئت به؟ فقال:
جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم. قال: فأنا عليها، فقال له النبىّ صلّى الله عليه وسلّم:
لست عليها، ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها. ثم خرج إلى كفّار قريش.
وأخباره تذكر- إن شاء الله- فى سيرة سيّدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم.
فهذا ما قيل فى تفسير هذه الآية.
قال الكسائىّ: ونادى موسى فى قومه بعد رفع الطاعون عنهم: «أن احملوا» .
فحملوا واقتتلوا، فقتل الملك وبلعم، وانهزم الباقون، وغنم بنو إسرائيل من النساء والولدان شيئا كثيرا. والله تعالى أعلم بالصواب.(13/273)
ذكر خبر وفاة هارون عليه الصلاة والسلام
قال الكسائىّ:- وذكر وفاة هارون إثر خبر البقرة وقتل عاميل- قال:
لمّا كان بعد قتل عاميل نظر هارون إلى جبل فى التّيه بعيد من العسكر، فقال:
يا موسى، ألا نمضى إلى ذلك الجبل فننظر إلى خضرته ونضارته. فمضيا من الغد ومعهما أولاد هارون، فأتوه فإذا هو جبل كثير المياه والعشب والكهوف وفيه كهف واسع يسطع نورا، فدخلوه وإذا هم بسرير من ذهب عليه أنواع من الفرش، فصعد هارون إليه ونام، فجاء طوله، فهمّ أن ينزل، فأتاه ملك الموت فى صورة شابّ حسن، فقبض روحه، وغسّلته الملائكة، وصلّى موسى عليه، وسدّوا باب الكهف، وعاد موسى إلى بنى إسرائيل، فسألوه عن هارون، فأخبرهم بوفاته قالوا: بل قتلته. فقال: ماذا لقيت منكم يا سفهاء بنى إسرائيل، أقتل أخى وشقيقى؟ ثم دعا ربّه أن يريهم إيّاه على صورته. فأمر الله تعالى الملائكة أن يخرجوا سريره من الكهف، فأخرجوه وحملوه فى الهواء حتى نظرت إليه بنو إسرائيل، ثم نادت الملائكة: يا بنى إسرائيل، هذا سرير هارون قد قبضه الله تعالى إليه.
وقال أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسيره فى وفاة هارون- عليه السلام- قال السدّىّ: أوحى الله تعالى إلى موسى- عليه السلام- أنى متوفى هارون، فأت به جبل كذا وكذا. فانطلق موسى وهارون- عليهما السلام- نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم يريا شجرة مثلها، وإذا بيت مبنى، وفيه سرير عليه فراش واذا فيه ريح طيّبة، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه وقال: يا موسى، إنّى أحبّ أن أنام على هذا السرير. قال: نم عليه. قال: إنى أخاف أن يأتى ربّ هذا البيت فيغضب علىّ. قال موسى: لا ترهب، أنا أكفيك ربّ هذا البيت، فنم.(13/274)
قال: يا موسى، بل نم معى، فإن جاء ربّ البيت غضب علىّ وعليك جميعا. فلمّا ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسّه قال: يا موسى خدعتنى. فلمّا قبض- عليه السلام- رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بنى إسرائيل وليس معه هارون، قالوا: إن موسى قتل هارون وحسده لحبّ بنى إسرائيل له. فلمّا أكثروا عليه قام فصلّى ركعتين، ثم دعا الله تعالى، فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض؛ فصدّقوه.
وقال الثعلبىّ أيضا. وقال عمرو بن ميمون: مات هارون- عليه السلام- فى التّيه، ومات قبل موسى، وكانا خرجا فى التّيه إلى بعض تلك الكهوف، فمات هارون، فدفنه موسى، وانصرف إلى بنى إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قال:
مات. قالوا: كذبت، ولكنّك قتلته لحبّنا إيّاه- وكان محبّبا فى بنى إسرائيل- فتضرّع موسى إلى الله تعالى وشكا ما لقى من بنى إسرائيل؛ فأوحى الله إليه: أن انطلق بهم إلى قبره، فإنّى باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا وأنك لم تقتله. فانطلق بهم موسى إلى قبره، فنادى: يا هارون. فخرج من قبره ينفض رأسه؛ فقال:
أنا قاتلك؟ قال: لا، ولكنّى متّ. قال: فعد إلى مضجعك. فعاد- عليه السلام- وانصرفوا.
ذكر وفاة موسى بن عمران- عليه الصلاة والسلام-
قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- قال ابن إسحاق: كان موسى- عليه السلام- قد كره الموت وأعظمه، فأراد الله تعالى أن يحبّب إليه الموت ويكره إليه الحياة؛ وكان يوشع بن نون يغدو عليه ويروح، فيقول له موسى: يا نبىّ الله ما أحدث الله إليك. فيقول له يوشع: يا نبىّ الله، ألم أصحبك كذا وكذا سنة، فهل(13/275)
كنت أسألك عن شىء ممّا أحدث الله إليك حتى تكون أنت تبتدئ به وتذكره؟
ولا يذكر له شيئا.
فلما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحبّ الموت.
وعن وهب أنه قال- وذكر من كرامة موسى عليه السلام- أنه ضاق ببنى إسرائيل ذرعا لمّا كثّروا عليه؛ فأوحى الله تعالى إلى ألف نبىّ أن يكونوا أعوانا له؛ فلمّا مال الناس إليهم وجد موسى فى نفسه، فأماتهم الله تعالى لكرامته فى يوم واحد.
والذى صحّ لنا من خبر وفاة موسى- عليه السلام- ما ثبت فى صحيح البخارىّ وهو ما حدّثنا به الشيخان المسندان المعمّران: شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن أبى طالب نعمة بن حسن بن علىّ بن سنان الشّحنة الصالحىّ الحجّار، وستّ الوزراء أمّ محمد «1» (وزيرة) ابنة الشيخ الإمام العالم شمس الدين أبى حفص عمر ابن القاضى وجيه الدين أسعد بن المنجا التنوخىّ الدمشقيّان، قراءة عليهما، وأنا أسمع بالمدينة المنصوريّة بخطّ (بين القصرين بالقاهرة المعزّيّة) ، وذلك فى يوم السبت السابع من جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمائة، بقراءة الشيخ علاء الدين علىّ بن الماردينى، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزبيدىّ، قال: أخبرنا الشيخ أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزىّ الصوفىّ ثم الهروىّ، قال: أخبرنا الإمام جمال الدين أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود الداودىّ، قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن حمويه التنوخىّ، قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد ابن يوسف بن مطر الفهرىّ، قال: حدّثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن(13/276)
إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف الجعفىّ مولاهم البخارىّ- رحمه الله- قال:
حدّثنا محمود، حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكّه، فرجع إلى ربّه فقال: أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت. فردّ الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطّت به يده بكل شعرة سنة. قال: أى رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر. قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر.
قال الثعلبى: وكان عمر موسى- عليه السلام- مائة وعشرين سنة، عشرون منها فى ملك أفريدون، ومائة سنة فى ملك منوجهر، وبعث الله تعالى بعد موسى يوشع عليهما السلام.
كمل الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب البكرى التيمىّ القرشى المعروف بالنويرىّ- رحمه الله تعالى- ويليه الجزء الرابع عشر، وأوّله: الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الخامس فيما كان بعد موسى بن عمران عليهما السلام، وهو أخبار يوشع بن نون وحزقيل وإلياس واليسع وغيلا واشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود عليهم السلام.
والحمد لله رب العالمين(13/277)
استدراك
قد وقعت بعض أخطاء مطبعية يسيرة فى هذا الجزء، فرأينا أن نستدرك ما عثرنا عليه منها بعد الطبع، وهى فى ثلاثة مواضع:
(1) وقع فى صفحة 28 سطر 5 قوله: «إبناء» . والصواب «بناء» بغير ألف فى أوّله.
(2) وفى صفحة 173 سطر 9 قوله: «وخروج» . والصواب:
«وحروب» كما فى بعض النسخ.
(3) وفى صفحة 220 سطر 3 ما نصه: «أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفينا فمنهم ظالم لنفسه» الخ. وقد كتبنا فى الحاشية رقم 1 من هذه الصفحة ما يفيد أن قوله: «الذين» غير واضح موقعها من الإعراب فى هذه العبارة بخلاف موقعها من الآية المقتبسة منها، وهى قوله تعالى: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» اه. وقد تبين لنا أن قوله: «الذين اصطفينا» زائدة فى هذه العبارة التى وردت فى كلام المؤلف، فقد ورد هذا الكلام فى كتاب الثعلبى المنقول عنه هذا الكلام- مع اختلاف فى بعض ألفاظه، فليلاحظ- ونصه:
«أجد أمة مرحومة أصفياء يرثون الكتاب فمنهم ظالم لنفسه» الخ.(13/278)
كمل طبع «الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الأرب» بمطبعة دار الكتب المصرية فى يوم الثلاثاء 28 شوّال سنة 1357 (20 ديسمبر سنة 1938) محمد نديم ملاحظ المطبعة بدار الكتب المصرية(13/279)
(مطبعة دار الكتب المصرية 34/1937/2500)(13/280)
فهرس الجزء الرابع عشر
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى
الباب الثانى من القسم الثالث من الفنّ الخامس فيما كان بعد موسى ابن عمران عليهما السلام 1
ذكر خبر يوشع بن نون عليه السلام وفتح أريحا وغيرها 1
ذكر خبر حزقيل عليه السلام 6
ذكر خبر إلياس عليه السلام 9
ذكر دعاء إلياس على قومه وما حل بهم من القحط وخبر اليسع حين اتبع إلياس 24
ذكر رفع البلاء عن قوم إلياس بدعوته واستمرارهم على الكفر ورفع إلياس وهلاك آجاب الملك وامرأته، ونبوّة اليسع 26
ذكر نبوّة اليسع عليه السلام 28
ذكر خبر عيلى وأشمويل وما يتصل بذلك 31
ذكر ابتداء أمر أشمويل وكيف كانت نبوّته 32
ذكر خبر الملك طالوت وإتيان التابوت وخبر جالوت 36
ذكر قصة التابوت وصفته وما قيل فيه 38
ذكر إتيان التابوت إلى بنى إسرائيل وسبب عوده 42
ذكر مسير طالوت بالجنود وخبر النهر الذى ابتلوا به 44
ذكر خبر داود حين قتل جالوت الملك 45(مقدمةج 14/1)
ذكر خلافة داود عليه السلام ونبوّته ومبعثه إلى بنى إسرائيل وما خصه الله عز وجل به 54
ذكر خبر داود عليه السلام حين ابتلى بالخطيئة 61
ذكر ميلاد سليمان بن داود عليهما السلام 70
ذكر خبر أبشالوم بن داود 70
ذكر خبر الزرع الذى رعته الغنم وما حكم فيه سليمان عليه السلام 72
ذكر خبر الذين اعتدوا فى السبت 73
ذكر استخلاف داود ابنه سليمان عليهما السلام وخبر الصحيفة وابتداء أمر الخاتم 76
ذكر وفاة داود عليه السلام 80
ذكر نبوّة سليمان بن داود عليهما السلام وملكه 82
ذكر حشر الطير لسليمان بن داود عليهما السلام وكلامها له 82
ذكر خبر العنقاء فى القضاء والقدر 86
ذكر خبر خاتم سليمان عليه السلام 93
ذكر خبر حشر الجنّ لسليمان بن داود عليهما السلام 94
ذكر خبر مطابخه عليه السلام 95
ذكر خبر الرزق الذى سأل سليمان الله تعالى أن يجريه على يديه 96
ذكر خبر بناء بيت المقدس وابتداء أمره 97
ذكر خبر وادى النمل وما قيل فيه 103
ذكر خبر البعوض وما قيل فيه 104
ذكر خبر الخيل وما قيل فيها 105
ذكر خبر بساط سليمان عليه السلام 107
ذكر خبر صخر الجنىّ 108
ذكر صفة كرسىّ سليمان عليه السلام وما انتهى إليه أمره 109(مقدمةج 14/2)
ذكر خبر بلقيس وابتداء أمرها 111
ذكر خبر ميلاد بلقيس وكيف كان وسبب ملكها 113
ذكر خبر سليمان وبلقيس وسبب زواجه بها 116
ذكر صفة القصر الذى بنته بلقيس وصفة عرشها 123
ذكر خبر وادى القردة 124
ذكر خبر الرجل الذى قبض بأرض الهند 125
ذكر خبر الفتنة وذهاب خاتم سليمان عليه السلام ورجوعه إليه 125
ذكر عزم سليمان عليه السلام أن يطوف على نسائه 134
ذكر وفاة بلقيس زوجة سليمان عليه السلام 134
ذكر خبر وفاة سليمان بن داود عليهما السلام 135
الباب الثالث من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار شعيا وإرميا عليهما السلام وخبر بختنصر وخراب بيت المقدس وعمارته وما يتصل بذلك من خبر عزير وفتنة اليهود 142
ذكر قصة شعيا عليه السلام 142
ذكر قصة إرميا عليه السلام 149
ذكر خبر بختنصر وابتداء أمره وكيف ملك 153
ذكر خبر بختنصر مع دانيال 158
ذكر خبر عمارة بيت المقدس بعد أن خربه بختنصر وخبر الذى مرّ على قرية 164
الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى قصة ذى النون يونس ابن متّى عليه السلام وخبر بلوقيا 171
ذكر قصة ذى النون يونس بن متّى عليه السلام 171
ذكر خبر بلوقيا وما شاهد من العجائب 182(مقدمةج 14/3)
الباب الخامس من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار زكريا وابناه يحيى وعمران ومريم وعيسى بن مريم عليهم السلام 195
ذكر نسب زكريا وعمران عليهما السلام وما يتصل بذلك 195
ذكر ميلاد مريم بنة عمران عليه السلام 196
ذكر دعاء زكريا أن يرزقه الله عزّ وجل الولد ومولد يحيى بن زكريا 198
ذكر صفة يحيى بن زكريا وحليته 201
ذكر نبوّة يحيى عليه السلام وسيرته وزهده 201
ذكر مقتل يحيى بن زكريا وأبيه زكريا عليهما السلام 202
ذكر هلاك بنى إسرائيل وخراب بيت المقدس ثانيا 206
ذكر خبر حمل مريم بنة عمران بعيسى عليهما السلام 209
ذكر خبر ميلاد عيسى بن مريم عليهما السلام 213
ذكر رجوع مريم بعيسى عليه السلام بعد مولده الى قومها 218
ذكر خروج مريم وعيسى عليهما السلام الى مصر وما ظهر له من المعجزات فى مسيره ومدّة مقامه الى أن عاد 219
ذكر خبر زكريا عليه السلام مع هيرودس الملك وما كان من أمره 224
ذكر رجوع عيسى ومريم عليهما السلام من مصر 225
ذكر خبر الحواريين حين اتبعوا عيسى عليه السلام وآمنوا به 226
ذكر الخصائص والآيات والمعجزات التى أظهرها الله تعالى على يد عيسى عليه السلام بعد مبعثه 227
ذكر خبر سام بن نوح وغيره الذين أحياهم عيسى بإذن الله عز وجل 229
ذكر خبر يجمع عدّة معجزات من معجزات عيسى عليه السلام 233
ذكر خبر المائدة التى أنزلها الله عز وجل من السماء 236
ذكر ما قالته الشياطين الثلاثة فى عيسى بن مريم واتبعهم الناس بعدهم 243
ذكر خبر إبليس حين عارض عيسى عليه السلام وما خاطبه به وجوابه 244(مقدمةج 14/4)
ذكر خبر عيسى مع اليهود حين ظفروا به وأرادوا صلبه وقتله 246
ذكر خبر رفع عيسى عليه السلام أوّل مرة وهبوطه إلى الأرض ووصيته إلى الحواريين ورفعه ثانيا 247
ذكر وفاة مريم بنة عمران عليها السلام 248
الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه السلام وما كان من أمرهم مع من أرسلوا اليه وخبر جرجيس 250
ذكر خبر أخبار الحواريين 250
ذكر خبر يوحنا ويونس اللذين توجها إلى إنطاكية 250
ذكر خبر توما الحوارى مع ملك الهند وإيمانه به 255
ذكر خبر لوقا الحوارى مع ملك فارس 257
ذكر خبر جرجيس رحمة الله عليه 259
التذبيل على القسم الثالث من الفنّ الخامس 270
الباب الأوّل من التذبيل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم 271
ذكر خبر المتغلبين على البلاد وذلك مما يظهر من الفتن قبل نزول عيسى عليه السلام 272
ذكر خبر خروج المهدىّ 273
ذكر خبر خروج الدجّال وصفته وما يكون من أمره الى أن ينزل عيسى عليه السلام 275
الباب الثانى من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى خبر نزول عيسى بن مريم عليه السلام وقتله الدجّال وخروج يأجوج ومأجوج وفسادهم وهلاكهم ووفاة عيسى عليه السلام 277
ذكر نزول عيسى بن مريم عليه السلام 277
ذكر خبر يأجوج ومأجوج 278
الحديث الجامع لأخبار عيسى بن مريم عليه السلام والدجّال 281(مقدمةج 14/5)
الباب الثالث من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى بن مريم عليه السلام الى أن ينفخ إسرافيل فى الصور النفخة الأولى 285
ذكر خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها 285
ذكر خبر قيام الساعة والنفخة الأولى 286
الباب الرابع من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار يوم القيامة والحشر والمعاد والنفخة الثانية فى الصور 288
ذكر يوم القيامة وأسمائه 288
ذكر الحشر والمعاد والنفخة الثانية 289
حديث لقيط بن عامر 292
القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع وملوك الأمم والطوائف وخبر سيل العرم ووقائع العرب فى الجاهلية ويشتمل على خمسة أبواب 298
الباب الأوّل فى أخبار ذى القرنين الذى ذكره الله عز وجل فى كتابه العزيز فى سورة الكهف 298
ذكر أخبار ذى القرنين 298
ذكر خبر دخول ذى القرنين الظلمات مما يلى القطب الشمالىّ لطلب عين الحياة 309
الباب الثانى من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع وهم ملوك الهند والصين والترك وجبل الفتح وملوك مصر 319
ذكر أخبار ملوك الهند 319
ذكر تنصيب ابن البرهمن وهو الباهبود 321
ذكر أخبار ملوك الصين 324
ذكر أخبار ملوك الترك 332
ذكر جبل الفتح وما عليه من الملوك والأمم 334(مقدمةج 14/6)
الجزء الرابع عشر
تتمة الفن الخامس في التاريخ
تتمة القسم الثالث
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الخامس فيما كان بعد موسى بن عمران عليهما السلام
«1» وهو أخبار يوشع بن نون وحزقيل وإلياس واليسع وعيلى «2» وأشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود عليهم السلام
ذكر خبر يوشع «3» بن نون- عليه السلام- وفتح أريحا وغيرها
قال أبو إسحاق الثّعلبىّ- رحمه الله تعالى-: اختلف العلماء فيمن تولّى حرب الجبّارين وفيمن كان على يده الفتح، فقال قوم: إنما فتح أريحا «4» موسى(14/1)
- عليه السلام- وكان يوشع على مقدّمته فسار إليها بمن بقى من بنى إسرائيل ولم يمت فى التّيه، فدخلها يوشع بهم وقتل الجبّارين «1» الذين كانوا فيها، ودخلها موسى ببنى إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله تعالى أن يقيم، ثم قبضه الله تعالى، ولم يعلم أحد من الناس أين قبره. قال: وهذا أولى الأقاويل بالصدق. وقال الآخرون:
إنما قتل الجبّارين يوشع ولم يسر إليهم إلّا بعد موت موسى. وقالوا: إنما مات موسى وهارون- عليهما السلام- فى التّيه.
قالوا: فلما انقضت مدّة التّيه ومات موسى- عليه السلام- بعث الله تعالى يوشع بن نون نبيّا، فأخبرهم أنه نبىّ الله تعالى، وأنّ الله- عزّ وجلّ- قد أمره بقتال الجبّارين، فصدّقوه وبايعوه. فتوجّه ببنى إسرائيل الى أريحا ومعه تابوت «2» الميثاق، فأحاط بمدينة أريحا ستّة أشهر، فلمّا كان فى الشهر السابع نفخوا فى القرون «3» وضجّ الشعب ضجّة واحدة «4» ، فسقط سور المدينة، فدخلوها وقاتلوا الجبّارين، فهزموهم وهجموا عليهم يقتّلونهم، فكانت العصابة من بنى إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها، وكان القتال يوم الجمعة، فبقيت منهم بقيّة وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت، فخشى يوشع أن يعجزوه، فقال: اللهم اردد الشمس علىّ، وقال للشمس: إنك فى طاعة الله، وأنا فى طاعة الله. فسأل الشمس(14/2)
أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله قبل غروب الشمس، فردّت عليه الشمس وزيد له فى النهار ساعة واحدة حتى قتلهم أجمعين.
قالوا: ثم أرسل ملوك الأرمانيّين «1» بعضهم الى بعض- وكانوا خمسة «2» - فجمعوا كلمتهم على حرب يوشع وقومه، فهزمت بنو إسرائيل الملوك حتى أهبطوهم إلى ثنيّة حوران، «3» فرماهم الله تعالى بأحجار البرد، فكان من قتله البرد أكثر ممّن قتله بنو إسرائيل بالسيف، وهربت الملوك الخمسة، فاختفوا فى غار، فأمر بهم يوشع فأخرجوا، فقتلهم وصلبهم، ثم أنزلهم وطرحهم فى ذلك الغار، وتتّبع سائر ملوك الشأم فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشأم، وصار الشأم كلّه لبنى إسرائيل، وفرّق عمّاله فى نواحى الشأم.
وحكى الكسائىّ فى (كتاب المبتدا) أنّ يوشع أخذ فى الجهاد بعد وفاة موسى عليه السلام حتى فتح الله على يديه نيّفا وثلاثين مدينة من مدن الكفّار بأرض الشأم. قال: ثم سار ببنى إسرائيل الى أريحا لقتال الجبّارين، وكانوا قد عادوا إليها بعد أن فتحها موسى، فقاتلهم يوم الجمعة، وساق نحو ما تقدّم من حبس الشمس.
قال: وفسد على أهل علم النجوم علوم كثيرة من ذلك اليوم.
قال الكسائىّ: ولما فرغ يوشع بن نون من قتال الجبّارين بأريحا سار ببنى إسرائيل الى أرض بنى كنعان، فقاتلهم حتى قتل أكثر من ثلاثين ملكا، وفتح ثلاثين حصنا.(14/3)
قال الثعلبىّ فى تفسيره: ولمّا قتل يوشع الملوك واستباح الأموال جمع الغنائم فلم تنزل النار، فأوحى الله تعالى إلى يوشع أنّ فيها غلولا «1» ، فمرهم فليبا يعوك فبايعوه، فالتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلمّ ما عندك!. فأتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت والجوهر كان قد غلّه، فجعله فى القربان وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان.
قالوا: ثم مات يوشع فدفن فى جبل أفرائيم «2» ، وكان عمره مائة وستّا «3» وعشرين سنة، وتدبيره أمر بنى إسرائيل بعد وفاة موسى- عليه السلام- تسعا وعشرين سنة. وقال الكسائىّ: أربعين سنة. والله تعالى أعلم.
ولما مات استخلف على بنى إسرائيل كالب «4» بن يوقنّا، وهو من أولاد يهوذا بن يعقوب، وكان من الزّهاد، فسار فيهم أجمل سيرة حتى قبضه الله تعالى.
فاستخلف عليهم ابنه برشاناس «5» وكان نظير يوسف الصدّيق- عليه السلام- فى حسنه وجماله، فافتتن الناس به، فسأل الله تعالى أن يغيّر خلقته، فأصابه(14/4)
الجدرىّ، فتغيّرت خلقته، فأنكره الناس وأكثروا من سؤاله عن خبره، فشقّ ذلك عليه وشغله عن عبادته، فسأل الله تعالى أن يزيده تشويها، فاسترخى وجهه، وظهرت له أسنان طوال، وقبح حتى كره الناس أن ينظروا إليه، وعرفوا منه الاجتهاد فى عبادة الله تعالى وطاعته، فآختاروه وسمعوا له وأطاعوا، ولم يزل بين أظهرهم أربعين سنة ثم قبضه الله تعالى.
فقام بأمرهم العيزار «1» بن هارون بن عمران، وكان قد أسنّ ولا ولد له، فجعلوا يقولون: ما حرم الولد إلّا لذنب عظيم. فسأل الله الولد، فرزقه ولدا بعد كبر سنّه وإياس زوجته صفّوريّة «2» بنت عمّه موسى بن عمران وجدّد له قوّة، ولها جمالا وحسنا، وسمّى ولده «سباسبا» «3» وجاء عالما بالتوراة، فاستخلفه والده على بنى إسرائيل، فقام بأمرهم، وتزوّج بامرأة يقال لها صفّوريّة، فأولدها إلياس. هكذا نقل الكسائىّ.
وقال الثعلبىّ فى قصصه فى خبر ابن كالب وسمّاه «بوساقوس» : وأنه لمّا افتتن الناس به سأل الله تعالى أن يغيّر صورته مع سلامة حواسه وجوارحه فأصابه الجدرىّ. وقال: إنه لبث فيهم مائة سنة، ثم قبضه الله- عزّ وجلّ-. ولم يذكر العيزار وابنه، بل ذكر خبر حزقيل. والله تعالى أعلم.(14/5)
ذكر خبر حزقيل عليه السلام
قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- قالت العلماء: لمّا قبض الله تعالى كالب وابنه، بعث الله- عزّ وجل- حزقيل «1» إلى بنى إسرائيل، وهو حزقيل بن بوذى، ويلقّب بابن العجوز.
قال: وإنما لقّب بذلك لأن أمّه سألت الله تعالى الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها، وهو الذى أحيا الله تعالى القوم بعد وفاتهم بدعائه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ «2» .
قال قال أكثر المفسرين: كانت قرية يقال لها داوردان «3» قبل واسط وقع بها الطاعون، فخرج منها طائفة هاربين من الطاعون وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقى فى القرية، وسلم الذين خرجوا، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا سالمين. فقال الذين بقوا:
أصحابنا كانوا أحزم منّا، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون بها ثانية لنخرجنّ إلى الأرض التى لا وباء فيها. فوقع الطاعون من قابل. فهرب عامّة أهلها، فخرجوا حتى نزلوا واديّا أفيح «4» ، فلمّا نزلوا المكان الذى يبغون فيه الحياة والنجاة، إذا هم بملك من أسفل الوادى وآخر من أعلاه يناديهم كل واحد منهما أن موتوا «5» فماتوا.(14/6)
وقال الضحّاك ومقاتل والكلبىّ: إنّما فرّ هؤلاء من الجهاد؛ وذلك أنّ ملكا من ملوك بنى إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوّهم، فخرجوا فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت وأعتلّوا وقالوا لملكهم: إنّ الأرض التى نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء؛ فأرسل الله تعالى عليهم الموت، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا منه. فلمّا رأى الملك ذلك قال: اللهمّ ربّ يعقوب وإله موسى، قد ترى معصية عبادك فأرهم آية فى أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار من حكمك وقضائك. فلما خرجوا قال الله لهم: موتوا، فماتوا جميعا وماتت دوابّهم كموت رجل واحد، فما أتت عليهم ثلاثة أيام حتى انتفخوا وأروحت «1» أجسادهم، فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة «2» دون السّباع وتركوهم فيها.
قال: واختلفوا فى مبلغ عددهم، فقال عطاء الخراسانىّ: كانوا ثلاثة آلاف «3» .
وقال ابن عباس ووهب: أربعة آلاف. وقال مقاتل والكلبىّ: ثمانية آلاف.
وقال أبو روق: عشرة آلاف. وقال أبو مالك: ثلاثين ألفا. وقال السّدّى:
بضعة وثلاثين ألفا. وقال ابن جريج: أربعين ألفا. وقال عطاء بن أبى رباح:
سبعين ألفا.(14/7)
قالوا: فأتت عليهم مدّة وقد بليت أجسادهم، وعريت عظامهم، وتقطّعت أوصالهم، فمرّ بهم حزقيل النبىّ- عليه السلام- فوقف عليهم متفكّرا متعجّبا، فأوحى الله تعالى إليه: يا حزقيل، تريد أن أريك كيف أحيى الموتى؟ قال نعم، فأحياهم الله جميعا.
قال: هذا قول السّدّىّ وجماعة من المفسّرين. وقال هلال بن يساف وجماعة من العلماء: دعا حزقيل ربّه أن يحييهم فقال: يا ربّ لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك. فقال الله- عزّ وجل- أو تحبّ أن أفعل؟ قال نعم، فأحياهم.
وقال عطاء ومقاتل والكلبىّ: بل كانوا قوم حزقيل، فأحياهم الله- عز وجل- بعد ثمانية أيام؛ وذلك أنهم لمّا أصابهم ذلك خرج حزقيل فى طلبهم فوجدهم موتى، فبكى وقال: يا ربّ كنت فى قوم يحمدونك ويقدّسونك ويكبّرونك ويهلّلونك فبقيت وحيدا لا قوم لى. فأوحى الله تعالى إليه: إنى قد جعلت حياتهم إليك. فقال حزقيل: احيوا بإذن الله تعالى، فعاشوا.
وقال وهب: أصابهم بلاء وشدّة من الزمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا متنا فاسترحنا ممّا نحن فيه. فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى حزقيل: إنّ قومك قد ضجروا من البلاء، وزعموا أنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا، وأىّ راحة لهم فى الموت! أيظنّون أنّى لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت! فانطلق إلى جبّانة كذا، فإنّ فيها قوما أمواتا. فأتاهم، فقال الله- عزّ وجل-: قم فنادهم- وكانت أجسامهم وعظامهم قد تفرّقت، فرّقتها الطير والريح- فنادى حزقيل: أيتها العظام، إنّ الله يأمرك أن تكتسى اللحم. فاكتست جميعا اللحم، وبعد اللحم جلدا ودما وعصبا(14/8)
وعروقا، فكانت أجسادا، ثم نادى: أيتها الأرواح، إنّ الله تعالى يأمرك أن تعودى فى أجسادك. فقاموا جميعا عليهم ثيابهم التى كانوا فيها، وكبّروا تكبيرة واحدة.
قال: وزعم منصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك ربّنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم بعد ما أحياهم الله- عزّ وجل- وعاشوا دهرا يعرفون أنهم كانوا أمواتا، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد رميما مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التى كتب الله لهم. وقال ابن عباس- رضى الله عنهما- فإنها لتوجد اليوم فى ذلك السّبط من اليهود تلك الريح.
قال قتادة: مقتهم الله- عزّ وجل- على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقيّة آجالهم ليستوفوها، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم. فلمّا أحياهم الله- عزّ وجل- قال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
«1» . ثم تلا الثعلبىّ هذه القصّة بقصّة إلياس؛ وذكرها الكسائىّ تلو قصّة العيزار. والله الموفق للصواب.
ذكر خبر إلياس عليه السلام
قال الله عزّ وجل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
«2» . قال الكسائىّ- رحمه الله تعالى- قال كعب «3» : لمّا ولد إلياس- عليه السلام- ونسبه أنه إلياس ابن سباسبا «4» بن العيزار بن هارون. قال: وأمّه صفّوريّة، وجدّته أمّ أبيه(14/9)
صفّوريّة «1» بنت موسى بن عمران- عليه السلام- ظهر ليلة مولده أنوار أضاءت منها محاريب بنى إسرائيل. فلما نظرت ملوك بنى اسرائيل ذلك علموا أنه قد حدث حادث، فتعرّفوا الخبر، فقيل لهم: ولد مولود من ولد هارون ابن عمران.
قال: وكان إلياس على صورة موسى وقوّته، ونشأ أحسن نشأة.
وبنو إسرائيل يقولون: هذا الذى بشّرنا به العيزار، أن الله يهلك الملوك والجبابرة على يديه.
قال: فلمّا بلغ سبع سنين- وكان يحفظ التوراة- قال: يا بنى إسرائيل، إنى أريكم من نفسى عجبا. فصاح بهم صيحة انتشرت فيهم فأرعبت قلوبهم. فلما سكنت روعتهم همّوا بقتله، وقال بعضهم: هو ساحر، فهرب منهم وصعد إلى جبل وهم يتبعونه. فلمّا قربوا منه انفرج له الجبل فدخل فيه، وانصرف القوم.
فنمى الخبر إلى بعض ملوكهم فعذّبهم، ثم انفرج الجبل، وأقام إلياس به يأكل من المباحات حتى استكمل أربعين سنة، والناس قد أخذوا فى عبادة الأصنام وخاضوا فى المعاصى، فبعثه الله تعالى نبيّا ورسولا، وجاءه جبريل بالوحى، وأمره عن الله تعالى أن يتوجّه إلى الملوك والجبابرة الذين يعبدون الأصنام ويدعوهم إلى طاعة الله تعالى وعبادته، وأن يرسلوا معه بنى إسرائيل وأعطاه القوّة، وأمر النار والجبال والوحش بطاعته. فانطلق إلياس إليهم وهم فى سبعين قرية، كلّ قرية منها مدينة، فى كلّ مدينة جبّار يسوسهم، وكلّهم يعبدون صنما يدعى «بعلا» وهو على صورة امرأة، فصار إلياس إلى قرية من قراهم، وكان فيها ملك يقال له(14/10)
«آجاب» «1» ، فوقف بالقرب من قصره، وقرأ التوراة بأطيب نغمة، فسمعه الملك، فقال لامرأته: ألا تسمعين؟ ما أطيب هذا الصوت! فقامت المرأة إليه وأشرفت عليه من أعلى القصر وسألته عن حاله وخبره، فأخبرها أنه رسول الله. قالت:
وما حجّتك على دعواك؟ فاستدعى النار فجاءت إليه وشهدت بنبوّته وصدّقته، فأخبرت المرأة زوجها بما رأت منه، فجاء إليه وآمن به هو وامرأته، وأوصاه بالصبر والجهاد، وانصرف إلياس. حتى إذا كان يوم اجتماع القوم وقد خرجوا بزينتهم ونصبوا صنمهم بعلا وقف عليهم ودعاهم إلى الإيمان، فقال فيما أخبر الله تعالى به عنه: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ* أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ «2» * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ
«3» . فقالوا له: من أنت؟
فقال: أنسيتمونى بعد أن كنت فيكم ومعكم! أنا إلياس. فحثوا فى وجهه التراب ورموه بالحجارة من كلّ جانب. وكان ملكهم الأكبر يقال له «عاميل» ، فأمر بزيت فغلى فى قدر نحاس وقال لإلياس «4» : إن رجعت وإلّا طرحتك فيه!. فقال:
أنا وحيد فى أرضكم، فريد فى جمعكم، ولكنّى أريكم آية تدلّ على صدق دعواى أنّى رسول الله إليكم. فقال له الملك نعم. فقال إلياس: أيّتها النار اخمدى(14/11)
بإذن الله تعالى، فخمدت وسكن غليان الزيت، فعجب الناس من ذلك.
قال الملك: قد أتيت بحجّة، ولكن أمهلنا يومنا لننظر فى أمرك. ففارقهم وأتاهم من الغد ودعاهم، فجمع الملك ملوك قومه وعلماءهم وقال: ما تقولون فى هذا الرجل؟ فقال العلماء: إنّا نرى فى التوراة صفة هذا الرجل أنّه يبعث نبيّا تسخّر له النار والأسود والجبال، وأنه لا يسمع أحد صوته إلّا ذلّ وخضع له. فقال بعض علمائهم: أيها الملك، كذب هؤلاء فيما ذكروه، وهذا ساحر، فلا يهولنّك أمره.
فبسط العذاب على أولئك النفر، فاشتدّ ذلك على إلياس، وخالفه الملك «آجاب» الذى كان قد آمن به؛ ففارقته زوجته ولحقت بإلياس؟ وكانت من الصالحات.
قال: واتّخذ إلياس عريشا بالقرب من قصر الملك «عاميل» ، فأشرفت امرأة عاميل عليه فى بعض الليالى وهو يعبد الله تعالى، فنظرت الى عمود من نور من لدن العريش فى السماء، فآمنت ولحقت به، فأمر زوجها أن تلقى فى النار، فألقيت فيها، فدعا إلياس- عليه السلام- الله تعالى لها، فلم تعمل النار فيها شيئا، فأطلقها الملك، فلحقت بإلياس. ثم مات ولد لعاميل الملك فجزع عليه وتضرّع إلى صنمه فلم يغن عنه شيئا، فغضب وقال لإلياس: إن ابنى قد مات وعجز إلهى عن إحيائه، فهل تقدر أن تحييه؟ فقال: هذا على ربّى هيّن، ودعا الله تعالى، فقام الغلام يشهد أن لا إله إلا الله، وأن إلياس عبده ورسوله، فآمن الملك وخرج عن الملك وتبع إلياس ولبس الصوف وعبد الله تعالى حتى مات، وماتت زوجته وابنه.
واستمرّ القوم فى ضلالهم وكفرهم ما شاء الله، وإلياس يدعوهم فلا يجيبونه، فأوحى الله تعالى إليه أن ادعهم وأنذرهم، فإن آمنوا وإلّا حبست عنهم الغيث وابتليتهم.
بالقحط. فدعاهم فقالوا: إنّا لا نؤمن بك ولا بربّك، فاصنع ما أنت صانع.
فحبس الله- عزّ وجلّ- عنهم المطر، وغارت العيون وجفّت الأشجار، فأكلوا(14/12)
ما عندهم حتى نفد، ثم أكلوا المواشى حتى أكلوا الكلاب والسنانير والفيران، وبلغ بهم الجوع حتى كانوا يأكلون من مات منهم، وإلياس بينهم وهم لا يرونه، ويدعونه وهو لا يجيبهم، وكان الله تعالى قد جعل أمر أرزاقهم إليه، فأوحى الله إليه أن السماء والأرض ومن عليها قد بكت على هؤلاء، وقد هلك كثير من خلقى بسببهم، وكلّ يدعوك ولا ترحمهم، فأنصف خلقى يا إلياس، فإنى أعصى فأرزق، وأكفر فأحلم. ففزع إلياس وقال: يا ربّ ما غضبت إلّا لك، وأنت أعلم بمصالح عبادك.
فأوحى الله اليه أن سر إليهم وادعهم، فإن آمنوا وإلّا كنت أرأف بهم منك.
قال: فانطلق إلياس حتى صار إلى أوّل قرية من قرى مدينتهم، فمرّ بعجوز فقال لها: هل عندك طعام؟ فقالت: وحقّ إلهى بعل ما ذقت الخبز منذ مدّة. قال:
فهلّا تؤمنين بالله! فقالت: إنّ ابنى اليسع على دين إلياس، ولا أراه ينتفع به وقد أشرف على الموت من الجوع. فقال له إلياس: يا اليسع، أتحبّ أن تأكل الخبز؟
فصاح: كيف لى بالخبز! ومات؛ فبكت العجوز ولطمت. فقال لها: إن أحياه الله وجاءك بما تأكلين أتؤمنين بالله؟ قالت نعم. فدعا الله تعالى، فقام اليسع وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن إلياس رسول الله، ورزقهم الله تعالى خبزا ولبنا، فأكلوا، وآمنت العجوز، وخرجت تنذر قومها، فخنقوها فماتت، فاغتمّ اليسع لذلك.
فقال له إلياس: إن الله سيحييها ويجعلكما آية لقومكما. وخرج إلياس إلى قومه وقد اجتمعوا عليها يريدون أكلها؛ فصاح بهم، فتفرّقوا عنها وقالوا: إنك أنت إلياس حقّا، فدعا الله تعالى فأحياها، فأقبل القوم عليه وقالوا: ألا ترى ما نحن فيه منذ سبع سنين! قال: فهلّا دعوتم صنمكم بعلا ليكشف عنكم! قالوا: قد دعوناه فلم يغن شيئا. قال: فإن أغاثكم الله تعالى أتؤمنون؟ قالوا نعم. فسأل الله تعالى فأمطرهم، وجرت أنهارهم وأنبتت أرضهم، وأحيا الله من مات منهم من الجوع،(14/13)
فازدادوا كفرّا وعتوّا، فحذّرهم إلياس وأنذرهم وذكّرهم بنعمة الله عليهم. فقالوا:
إنّ القحط قد ارتفع عنّا وهيهات أن يعود أبدا، وإن عاد فلا نبالى، قد جمعنا فى منازلنا ما يكفينا زمنا طويلا. فدعا الله عليهم واعتزلهم، وقال: قد بلّغت الرسالة وأنك لا حق بالملائكة. فاستخلف اليسع على المؤمنين «1» ؛ فقال اليسع: يا نبىّ الله، إنى ضعيف بين قوم كافرين. فأوحى الله تعالى الى اليسع بذلك، وخرج إلياس عن ديار قومه فى يوم جمعة، فإذا هو بفرس يلتهب نورا، وله أجنحة ملوّنة، فناداه:
أقبل يا نبىّ الله. فاستوى على ظهره، وجاءه جبريل فقال: يا إلياس طرمع الملائكة حيث شئت، فقد كساك الله الريش، وقطع عنك لذّة المطعم والمشرب وجعلك آدميّا ملكيّا سماويّا أرضيّا.
قال: ونشر الفرس أجنحته فهو يطير مع الملائكة. ثم أرسل الله- عز وجل- العذاب على قومه، فأحدقت بهم سحابة من جهنّم، واعتزلهم المؤمنون، فأحدقت السحابة بالكفرة، فأمطرت عليهم حجارة من العذاب. قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ
«2» . قال: ثم انكشفت عن ديارهم وقد صاروا حمما سودا؛ قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
«3» .
قال: وأقام اليسع مع بنى إسرائيل حتى قبضة الله تعالى.(14/14)
هذا ما أورده الكسائىّ فى أخبار إلياس واليسع عليهما السلام.
وأمّا ما حكاه الثعلبىّ- رحمه الله- فى هذه القصة، فإنه قال:
قال ابن إسحاق والعلماء من أصحاب الأخبار: لمّا قبض الله حزقيل النبىّ- عليه السلام- عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل وظهر فيهم الفساد، ونسوا عهد الله تعالى إليهم فى التوراة حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله- عزّ وجل- فبعث الله تعالى اليهم إلياس نبيّا. قال الثعلبىّ: وهو إلياس ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون عليه السلام.
قال: وإنما كانت الأنبياء بعد موسى- عليه السلام- يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا وضيّعوا من أحكام التوراة، وبنو إسرائيل يومئذ متفرّقون فى أرض الشأم وفيهم ملوك كثيرة. وذلك أن يوشع لمّا فتح أرض الشأم بوّأها بنى إسرائيل وقسمها بينهم، فأحلّ سبطا منهم بعلبكّ ونواحيها، وهم سبط إلياس، فبعثه الله تعالى إليهم نبيّا، وعليهم يومئذ ملك يقال له «آجاب» «1» قد أضلّ قومه وجبرهم على عبادة الأصنام، وكان يعبد هو وقومه صنما يقال له «بعل» وكان طوله عشرين ذراعا، وكانت له أربعة وجوه، فجعل إلياس يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وهم فى ذلك لا يسمعون منه شيئا إلّا ما كان من أمر الملك الذى كان ببعلبكّ فإنه صدّقه وآمن به، وكان إلياس- عليه السلام- يقوّم أمره ويسدّده ويرشده، وكان لآجاب الملك هذا امرأة يقال لها «أرايل «2» » ، وكان يستخلفها على رعيّته إذا غاب عنهم فى غزاة(14/15)
أو غيرها، فكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتركب كما يركب، وتجلس فى مجلس القضاء فتقضى بين الناس، وكانت قتّالة للانبياء، وكان لها كاتب وهو مؤمن حكيم يكتمها إيمانه، وكان الكاتب قد خلّص من يدها ثلاثمائة نبىّ كانت تريد قتل كلّ واحد منهم إذا بعث، سوى الذين قتلتهم ممن يكثر عددهم؛ وكانت فى نفسها غير محصنة ولم يكن على وجه الأرض أفحش منها، وهى مع ذلك قد تزوّجت سبعة ملوك من ملوك بنى إسرائيل وقتلتهم كلّهم بالاغتيال؛ وكانت معمّرة حتى يقال: إنها ولدت سبعين ولدا. وكان لآجاب هذا جار من بنى إسرائيل رجل صالح يقال له «مزدكى» وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ومرمّتها، وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، فكانا يشرفان على تلك الجنينة ويتنزّهان فيها، ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها، وكان «آجاب» فى ذلك يحسن جوار «مزدكى» صاحبها ويحسن إليه، وامرأته «أرايل» تحسده على ذلك لأجل تلك الجنينة، وتحتال فى أن تغتصبها منه لمّا تسمع الناس يذكرون»
الجنينة، ويتعجّبون من حسنها ويقولون: ما أحرى أن تكون هذه الجنينة لأهل هذا القصر، ويتعجّبون من الملك وامرأته كيف لم يغصباها صاحبها. فلم تزل المرأة تحتال على العبد الصالح «مزدكى» أن تقتله وتأخذ جنينته، والملك ينهاها عن ذلك. ثم اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد وطالت غيبته، فاغتنمت المرأة غيبة الملك واحتالت على «مزدكى» صاحب الجنينة، وهو غافل عما تريد مقبل على عبادة ربه وإصلاح جنينته، فجمعت «أرايل» جمعا من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على «مزدكى» أنه سبّ زوجها الملك «آجاب» ، فأجابوها إلى ملتمسها من الشهادة عليه، وكان حكمهم فى ذلك(14/16)
الزمان على من سبّ الملك القتل إذا قامت البيّنة عليه بذلك. فأحضرت «مزدكى» وقالت: بلغنى أنك سببت الملك وعبته، فأنكر ذلك. فقالت: إنّ عليك شهودا، وأحضرت الشهود فشهدوا عليه بحضرة الناس، فأمرت بقتل «مزدكى» ، فقتل وأخذت جنينته غصبا، فغضب الله- عزّ وجل- عليهم للعبد الصالح. فلمّا قدم الملك من سفره قال لها: ما وفّقت وما أصبت، ولا أرانا نفلح بعده أبدا، وإن كنّا عن جنينته لأغنياء، قد كنّا نتنزّه فيها، وقد جاورنا وتحرّم بنا منذ زمان طويل، فأحسنّا جواره، وكففنا عنه الأذى لوجوب حقّه علينا، فختمت أمره بأسوأ حال الجوار. وما حملك على اجترائك عليه إلّا سفهك وسوء رأيك وقلّة عقلك وقلّة تفكّرك فى العواقب. فقالت: إنما غضبت لك وحكمت بحكمك. قال: أو ما كان يسعه حلمك ويحدوك عظم خطرك على العفو عن رجل واحد فتحفظين له جواره!.
قالت: قد كان ما كان.
فبعث الله تعالى إلياس- عليه السلام- إلى «اجاب» الملك وقومه، وأمره أن يخبرهم أنّ الله تعالى قد غضب لوليّه حين قتلوه بين أظهرهم ظلما، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردّا الجنينة على ورتة «مزدكى» أن يهلكهما، يعنى «آجاب» وامرأته، فى جوف الجنينة أشرّ ما يكون بسفك دمهما، ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرّى عظامهما من لحومهما، ولا يمتّعان بها إلا قليلا.
قال: فجاء إلياس- عليه السلام- إلى الملك وأخبره بما أوحى الله- عزّ وجل- إليه فى أمره وأمر امرأته والجنينة. فلمّا سمع الملك ذلك اشتدّ غضبه عليه، ثم قال له: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعونا إليه إلّا باطلا، والله ما أرى فلانا وفلانا- سمّى ملوكا منهم قد عبدوا الأوثان- إلّا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون(14/17)
ويتنعّمون مملّكين، ما ينقص من دنياهم أمرهم الذى تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل.
قال: وهمّ الملك بتعذيب إلياس وقتله. فلمّا سمع إلياس- عليه السلام- ذلك وأحسّ بالشّر، رفضه وخرج عنه. فلحق بشواهق الجبال، ودعا الملك «1» الناس إلى عبادة بعل، وارتقى إلياس- عليه السلام- أصعب جبل وأشمخه، فدخل مغارة فيه. فيقال: إنه بقى فيه سبع سنين شريدا طريدا خائفا، يأوى الشّعاب والكهوف، ويأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم فى طلبه قد وضعوا عليه العيون يتوكّفون «2» أخباره ويجتهدون فى أخذه، والله تعالى يستره ويدفع عنه. فلمّا تمّت له سبع سنين أذن الله تعالى فى إظهاره عليهم، وشفا غيظه منهم، فأمرض الله تعالى ابنا لآجاب الملك وكان أحبّ ولده إليه وأعزّهم عليه وأشبههم به، فأدنف «3» حتى يئس منه، فدعا صنمه بعلا؛ وكانوا قد فتنوا به وعظّموه حتى «4» جعلوا له أربعمائة سادن وكّلوهم به وجعلوهم أنبياءه، وكان الشيطان يوسوس إليهم بشريعة من الضلالة، فيبيّنونها للناس فيعملون بها، ويسمّونهم الأنبياء. فلمّا اشتدّ مرض ابن الملك طلب إليهم أن يشفعوا إلى بعل، ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء والعافية، فدعوه فلم يجبهم، ومنع الله تعالى بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج فى جوفه، وهم مجتهدون فى التضرّع إليه، وهو لا يزداد مع ذلك إلّا خمودا «5» . فلمّا طال عليهم ذلك قالوا لآجاب: إن فى ناحية الشأم آلهة أخرى، وهى(14/18)
فى العظم مثل إلهك، فابعث إليها أنبياءك فليشفعوا لك إليها، فلعلها أن تشفع لك إلى إلهك بعل فإنه غضبان عليك، ولولا غضبه عليك لقد كان أجابك وشفى لك ابنك.
قال آجاب: ومن أجل ماذا غضب علىّ وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت لم أسخطه ساعة قطّ؟ قالوا: من أجل أنّك لم تقتل إلياس وفرّطت فيه حتى نجا سليما وهو كافر بإلهك يعبد غيره، فذلك الذى أغضبه عليك. قال آجاب:
وكيف لى أن أقتل إلياس يومى هذا وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابنى وليس لإلياس مطلب، ولا يعرف له موضع فيقصد، فلو عوفى ابنى لتفرّغت لطلبه، ولم يكن لى همّ ولا شغل غيره حتى آخذه فأقتله فأريح إلهى منه وأرضيه.
قال: ثم اندفعت أنبياؤه الأربعمائة ليشفعوا الى إلأرباب التى بالشأم ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفى ابنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذى فيه إلياس أوحى الله- عزّ وجل- إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلّمهم، وقال له: لا تخف فإنّى سأصرف عنك شرّهم، وألقى الرعب فى قلوبهم.
فنزل إلياس- عليه السلام- من الجبل، فلمّا لقيهم استوقفهم فوقفوا، وقال لهم: إنّ الله- عزّ وجل- أرسلنى إليكم وإلى من وراءكم، فاستمعوا أيّها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم، فارجعوا إليه وقولوا له: إنّ الله تعالى يقول لك:
ألست تعلم يا آجاب أنّى أنا الله لا إله إلّا أنا إله بنى إسرائيل الذى خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم، أفجهلك وقلّة علمك حملك على أن تشرك بى وتطلب الشفاء لابنك من غيرى ممن لا يملكون لأنفسهم شيئا إلّا ما شئت. إنى حلفت باسمى لأغيظنّك فى ابنك ولأميتنّه فى فوره هذا حتى تعلم أنّ أحدا لا يملك له شيئا دونى.
فلمّا قال لهم إلياس هذا رجعوا وقد ملئوا منه رعبا. فلمّا صاروا إلى الملك قالوا له ذلك، وأخبروه أنّ إلياس انحطّ عليهم، وهو رجل نحيف طوال قد قشف(14/19)
وقحل «1» وتمعّط «2» شعره وتقشّر «3» جلده، عليه جبّة من شعر وعباءة قد خلّها «4» على صدره بخلال، فاستوقفنا، فلمّا صار معنا قذفت فى قلوبنا الهيبة والرّعب، وانقطعت ألسنتنا، ونحن فى هذا العدد الكثير وهو واحد، فلم نقدر على أن نكلّمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه حتى رجعنا إليك، وقصّوا عليه كلام إلياس عليه السلام. فقال آجاب: لا ننتفع بالحياة ما دام إلياس حيّا. ما الذى منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتونى به، وأنتم تعلمون أنه طلبتى وعدوّى. قالوا: أخبرناك بالذى منعنا منه ومن كلامه والبطش به. قال آجاب: ما يطاق إدا إلياس إلّا بالمكر والخديعة. فقيّض له خمسين رجلا من قومه ذوى قوّة وبأس، وعهد إليهم عهده، وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال به «5» وأن يطمعوه فى أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم، ليستنيم إليهم ويغترّ بهم، فيمكّنهم من نفسه، فيأتوا به الملك. فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذى فيه إلياس- عليه السلام- ثم تفرّقوا [فيه] «6» وهم ينادونه بأعلى أصواتهم ويقولون: يا نبىّ الله، ابرز لنا وأنت آمن على نفسك [فإنا قد آمنا بك وصدّقناك، وملكنا آجاب «7» ] ، وجميع بنى إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون:
قد بلّغتنا رسالة ربّك، وعرفنا ما قلت، وآمنّا بك، وأجبناك إلى ما دعوتنا، فهلمّ إلينا فأنت نبيّنا ورسول ربّنا، [فأقم «8» ] بين أظهرنا واحكم فينا؛ فإنّا ننقاد لما أمرتنا، وننتهى عمّا نهيتنا، وليس يسعك أن تتخلّف عنّا مع إيماننا وطاعتنا، فتداركنا وارجع إلينا. وكلّ هذا كان منهم مما كرة وخديعة. فلمّا سمع إلياس- عليه(14/20)
السلام- مقالتهم وقعت بقلبه وطمع فى إيمانهم وخاف الله تعالى وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر لهم ولم يجبهم بعد الذى سمع منهم. فلمّا أجمع على أن يبرز لهم رجع إلى نفسه فقال: لو أنّى دعوت الله- عزّ وجلّ- وسألته أن يعلمنى ما فى أنفسهم ويطلعنى على حقيقة أمرهم. فقال: اللهمّ إن كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لى فى البروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم.
فما استتمّ قوله حتى حصبوا «1» بالنار من فوقهم، فاحترقوا أجمعين.
قال: وبلغ آجاب الخبر فلم يرتدع، واحتال ثانيا فى أمر إلياس، وجهّز فئة أخرى مثل عدد أولئك أقوى منهم وأمكن فى الحيلة والرأى، فأقبلوا حتى ارتقوا قلل تلك الجبال [متفرقين «2» ] ، وجعلوا ينادون: يا نبىّ الله، إنّا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته. إنّا لسنا كالذين أتوك من قبلنا، إنّ أولئك فرقة نافقت وخالفتنا، فصاروا إليك ليكيدوك «3» من غير رأينا ولا علم منّا، وذلك أنهم حسدونا وحسدوك، وخرجوا إليك سرّا، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم، والان فقد كفاك ربّك أمرهم وأهلكهم بسوء نيّاتهم وانتقم لنا ولك منهم. فلمّا سمع إلياس- عليه السلام- مقالتهم دعا الله تعالى بدعوته الأولى، فأمطر الله عليهم النار، فاحترقوا عن آخرهم، كلّ ذلك وابن الملك فى البلاء الشديد من وجعه- كما وعده الله تعالى على لسان نبيّه إلياس- لا يقضى عليه فيموت، ولا يخفّف عنه من عذابه.
قال: فلمّا سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا ازداد غضبا إلى غضبه، وأراد أن يخرج «4» فى طلب إلياس بنفسه، إلّا أنه شغله عن ذلك مرض ابنه فلم يمكنه، فوجّه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذى هو كاتب امرأته رجاء أن يأنس به إلياس فينزل(14/21)
معه، وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءا. وإنما أظهر له ذلك لما اطّلع عليه من إيمانه، وكان الملك مع اطّلاعه يغضّ عنه لما هو عليه من الكفاية والأمانة والحكمة وسداد الرأى، فوجّهه نحوه، وأرسل معه فئة من أصحابه، وأوعز إلى الفئة دون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد أن يتخلّف عنهم، وإن جاء مع الكاتب واثقا به آنسا بمكانه لم يوحشوه ولم يروّعوه، ثم أظهر آجاب للكاتب الإنابة وقال: إنه قد آن لى أن أتوب وأتّعظ، وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذى فيه ابنى؛ وقد عرفت أنّ ذلك بدعوة إلياس، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقى منّا فنهلك بدعوته. فانطلق إليه وأخبره أنّا قد تبنا وأنبنا، وأنه لا يصلحنا فى توبتنا وما نريد من رضا ربّنا وخلع أصنامنا إلّا أن يكون إلياس بين أظهرنا يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بما يرضى به ربّنا. وأمر الملك قومه فاعتزلوا الأصنام، وقال له: أخبر إلياس بأنّا قد خلعنا آلهتنا التى كنّا نعبد وأرجأنا «1» أمرها حتى ينزل إلياس إلينا، فيكون هو الذى يحرقها ويهلكها وكان ذلك مكرا من الملك. فانطلق الكاتب والفئة حتى علوا الجبل الذى فيه إلياس- عليه السلام- ثم ناداه الكاتب، فعرف إلياس صوته، فتاقت نفسه إليه وأنس بمكانه وكان مشتاقا إلى لقائه، فأوحى الله تعالى إلى إلياس أن ابرز إلى أخيك الصالح فالقه وجدّد العهد به، فبرز إليه إلياس وسلّم عليه وصافحه، وقال له: ما الخبر؟ قال له المؤمن:
إنّه قد بعثنى إليك هذا الجبّار الطاغية وقومه، ثم قصّ عليه ما قالوا، ثم قال: وإنّى خائف إن رجعت إليه ولست معى أن يقتلنى، فمرنى بما شئت أن أفعله وأنتهى إليه، [إن شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته، وإن شئت جاهدته معك «2» ](14/22)
وإن شئت فأرسلنى إليه بما تحبّ فأبلّغه رسالتك، وإن شئت دعوت ربّك أن يجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا.
قال: فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى إلياس عليه السلام أنّ كلّ شىء جاءوك به مكر وخديعة ليظفروا بك، وأن «آجاب» إن أخبرته رسله أنّك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك إليه اتّهمه وعرف أنه قد داهن فى أمرك، فلم يأمن أن يقتله، فانطلق معه فإنّ فى انطلاقك معه عذره وبراءته عند آجاب، وإنى سأشغل عنكما آجاب، وأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له همّ غيره، وأميته على شرّ حال، فإذا مات فارجع عنه ولا تقم. فانطلق معهم حتى قدموا على آجاب، فلمّا قدموا عليه شدّد الله تعالى على ابنه الوجع، وأخذه الموت، فشغل الله تعالى آجاب وأصحابه بذلك عن إلياس، فرجع إلياس سالما إلى مكانه. فلمّا مات ابن آجاب وفرغوا منه وقلّ جزعه، انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذى جاء به، فقال:
ليس لى به علم، وذلك أنّه شغلنى عنه موت ابنك والجزع عليه، ولم أكن أحسبك إلّا قد استوثقت منه. فأضرب عنه آجاب وتركه لما كان فيه من الحزن على ابنه.
فلمّا طال الأمر على إلياس ملّ الكمون فى الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران وإلى الناس فنزل من الجبل، وانطلق حتى نزل بامرأة من بنى إسرائيل، وهى أمّ يونس ابن متّى [ذى النون، فاستخفى عندها ستة أشهر «1» ] ، ويونس يومئذ مولود يرضع، وكانت أمّ يونس تخدمه بنفسها، وتواسيه بذات يدها، ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها.
ثم إنّ إلياس سئم ضيق البيوت بعد مقامه بالجبال وسعتها، فأحبّ أن يلتحق بالجبال فخرج وعاد إلى مكانه، فجزعت أمّ يونس لفراقه وأوحشها فقده، ثم لم تلبث إلّا يسيرا حتى مات ابنها [يونس «2» ] حين فطمته، فعظمت مصيبتها فيه، فخرجت فى طلب إلياس، فلم تزل ترقى الجبال وتطوف [فيها «3» ] حتّى عثرت عليه ووجدته، فقالت:(14/23)
إنّى قد فجعت بموت ابنى بعدك، فعظمت فيه مصيبتى، واشتدّ لفقده بلائى، وليس لى ولد غيره، فارحمنى وادع ربّك- جلّ جلاله- فيحيى لى ابنى، ويجبر مصيبتى، وإنى قد تركته مسجّى لم أدفنه، وإنى قد أخفيت مكانه. فقال لها إلياس: ليس هذا ممّا أمرت به، وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرنى به ربّى، ولم يأمرنى بهذا. فجزعت المرأة وتضرّعت، فعطّف الله سبحانه وتعالى قلب إلياس عليها، فقال لها: ومتى مات ابنك؟ قالت: منذ سبعة أيام. فانطلق إلياس معها وسار سبعة أيام أخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها يونس ميتّا منذ أربعة عشر يوما، فتوضّأ وصلّى ودعا الله فأحيا الله تعالى يونس بن متّى بدعوة إلياس. فلمّا عاش وجلس وثب إلياس وانصرف وعاد إلى موضعه. والله أعلم.
ذكر دعاء إلياس على قومه، وما حلّ بهم من القحط وخبر اليسع حين اتّبع إلياس
قال: ولمّا طال عصيان قومه ضاق إلياس بذلك ذرعا وأجهده البلاء.
فأوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود: يا إلياس، ما هذا الحزن والجزع الذى أنت فيه! ألست أمينى على وحيى، وحجّتى فى أرضى، وصفوتى من خلقى! فسلنى أعطك فإنّى ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم. قال: تميتنى فتلحقنى بآبائى، فإنّى قد مللت بنى إسرائيل وملّونى، وأبغضتهم فيك وأبغضونى. فأوحى الله تعالى إليه: يا إلياس، ما هذا باليوم الذى أعرى منك الأرض وأهلها، وإنما قوامها وصلاحها بك وبأشباهك إن كنتم صبرتم قليلا، ولكن تسألنى فأعطيك.
قال إلياس: فإن لم تمتنى يا إلهى فأعطنى ثأرى من بنى إسرائيل. قال الله تعالى:(14/24)
وأىّ شىء تريد أن أعطيك يا إلياس؟ قال: تمكننى من خزائن السماء سبع سنين، فلا تنشئ «1» عليهم سحابة إلّا بدعوتى، ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلّا بشفاعتى، فإنهم لا يذلّهم إلّا ذلك. قال الله تعالى: يا إلياس، أنا أرحم بخلقى من ذلك وإن كانوا ظالمين. قال: ستّ سنين. قال: أنا أرحم بخلقى من ذلك وإن كانوا ظالمين. قال: فخمس سنين. قال: أنا أرحم بخلقى من ذلك وإن كانوا ظالمين، ولكنى أعطيك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك، فلا تنشأ «2» عليهم سحابة إلّا بدعوتك، ولا تنزل عليهم قطرة إلّا بشفاعتك. قال إلياس: فبأىّ شىء أعيش؟ قال: أسخّر جيشا من الطير تنقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التى لم تقحط. قال إلياس: قد رضيت. قال: فأمسك الله- عزّ وجلّ- عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدوابّ والهوامّ والشجر وجهد الناس جهدا شديدا وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان، وقد عرفه بذلك قومه، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز فى بيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا البيت وطلبوه، ولقى أهل ذلك المنزل منهم شرّا.
قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: أصاب بنى إسرائيل ثلاث سنين القحط، فمرّ إلياس- عليه السلام- بعجوز فقال لها: هل عندك طعام؟
قالت: نعم، شىء من دقيق وزيت قليل. فجاءته بشىء من الدقيق والزيت، فدعا فيهما بالبركة «3» ومسّهما، فبارك الله فى ذلك حتى ملأت جربها دقيقا وملأت(14/25)
خوابيها زيتا. فلمّا رأوا ذلك عندها قالوا: من أين لك هذا؟ قالت: مرّ بى رجل من حاله كذا وكذا، فوصفت صفته، فعرفوه وقالوا: ذلك إلياس؛ فطلبوه فوجدوه فهرب منهم.
ثم أوى ليلة إلى بيت امرأة من بنى إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع ابن أخطوب به ضرّ، فآوته وأخفت أمره، فدعا له فعوفى من الضرّ الذى كان به، واتّبع اليسع إلياس وآمن به وصدّقه ولزمه، وكان يذهب به حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسنّ وكبر، وكان اليسع غلاما شابّا.
ذكر رفع البلاء عن قوم إلياس بدعوته واستمرارهم على الكفر ورفع إلياس وهلاك آجاب الملك وامرأته، ونبوّة اليسع
قال: ثم أوحى الله تعالى إلى إلياس- عليه السلام- إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى بنى إسرائيل من البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر بحبس المطر عن بنى إسرائيل. فيزعمون- والله أعلم- أنّ إلياس قال:
يا ربّ دعنى أكن الذى أدعو لهم وآتيهم بالفرج ممّا هم فيه من البلاء الذى أصابهم لعلّهم أن يرجعوا وينزعوا عمّا هم عليه من عبادة غيرك. قيل له: نعم. فجاء إلياس- عليه السلام- إلى بنى إسرائيل فقال لهم: إنكم قد هلكتم جوعا وجهدا، وهلكت البهائم والدّوابّ والطير والهوامّ والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور.
فإن كنتم تحبّون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم هذه، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هى لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله- عزّ وجلّ- ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء. قالوا: أنصفت. فخرجوا بأوثانهم فدعوها(14/26)
فلم تستجب لهم، ولم تفرّج عنهم ما كانوا فيه [من البلاء «1» ] . ثم قالوا لإلياس:
يا إلياس، إن الله قد أهلكنا، فادع الله لنا. فدعا الله تعالى لهم ومعه «2» اليسع بالفرج ممّا هم فيه وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل التّرس على ظهر البحر وهم ينظرون، فأقبلت نحوهم وطبّقت الآفاق، ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر [فأغاثهم «3» ] وحييت بلادهم.
فلمّا كشف الله تعالى عنهم الضّرّ نقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم، ولم يقلعوا عن ضلالتهم، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه. فلمّا رأى إلياس- عليه السلام- ذلك دعا الله تعالى أن يريحه منهم؛ فقيل له- كما يزعمون-:
انظر «4» يوم كذا وكذا فاخرج فيه «5» إلى موضع كذا، فما جاءك من شىء فاركبه ولا تهبه. فخرج إلياس ومعه اليسع بن أخطوب، حتى إذا كانا بالموضع الذى أمر إلياس به، أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه، فوثب عليه إلياس، فانطلق الفرس به، فناداه اليسع، يا إلياس: ما تأمرنى؟ فقذف اليه إلياس بكسائى من الجوّ الأعلى، وكان ذلك علامة استخلافه إيّاه على بنى إسرائيل، فكان [ذلك «6» ] آخر العهد به. ورفع الله- عزّ وجلّ- إلياس من بين أظهرهم، وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب، وكساه الرّيش، فكان إنسيّا ملكيّا أرضيّا سماويّا، وسلّط الله على آجاب الملك وقومه عدوّا لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا [به «7» ] حتى رهقهم، فقتل(14/27)
آجاب وامرأته أرايل فى بستان مزدكى، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين فى تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمّت عظامهما «1» .
ذكر نبوّة اليسع عليه السلام
قال أبو إسحاق- رحمه الله تعالى-: ولمّا رفع الله تعالى إلياس- عليه السلام- نبّأ اليسع وبعثه رسولا إلى بنى إسرائيل، وأوحى إليه وأيّده بما أيّد به عبده إلياس؛ فآمنت به بنو إسرائيل، وكانوا يعظّمونه وينتهون إلى أمره، وحكم الله تعالى قائم فيهم إلى أن فارقهم اليسع عليه السلام.
قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- بسند رفعه إلى عبد العزيز بن أبى روّاد قال: إلياس والخضر- عليهما السلام- يصومان شهر رمضان بيت المقدس، ويوافيان الموسم فى كلّ عام.
وروى بسند رفعه إلى زيد مولى عون الطّفاوىّ «2» عن رجل من أهل عسقلان أنّه كان يمشى بالأردنّ نصف النهار، فرأى رجلا فقال له: يا عبد الله، من أنت؟
قال: فجعل لا يكلّمنى. فقلت: يا عبد الله، من أنت؟ قال: أنا إلياس. قال:
فوقعت علىّ رعدة، فقلت: أدع الله يرفع عنّى ما أجد حتى أفهم حديثك وأعقل عنك. قال: فدعا لى بثمان دعوات: يا برّ، يا رحيم، يا حنّان، يا منّان، يا حىّ، يا قيوم، ودعوتين بالسريانية لم أفهمهما. قال: فرفع الله عنّى ما كنت أجد، فوضع كفّه بين كتفى، فوجدت بردها بين ثديى. قال فقلت: يوحى إليك اليوم؟
قال: منذ بعث الله محمدا رسوله فإنه ليس يوحى إلىّ. قال قلت له: كم من الأنبياء اليوم أحياء؟ قال: أربعة، اثنان فى الأرض، واثنان فى السماء، فى السماء عيسى(14/28)
وإدريس، وفى الأرض إلياس والخضر. قلت: كم الأبدال «1» ؟ قال: ستون رجلا، خمسون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات؛ ورجلان بالمصّيصة «2» ، ورجلان بعسقلان، وستة فى سائر البلدان، كلّما أذهب الله واحدا جاء بآخر [مكانه «3» ] بهم يدفع الله عن الناس [البلاء «4» ] وبهم يمطرون. قلت: فالخضر أين يكون؟ قال:
فى جزائر البحر. قلت: فهل تلقاه؟ قال نعم. قلت: أين؟ قال: بالموسم.
قلت: فما يكون من حديثكما؟ قال: يأخذ من شعرى وآخذ من شعره. قال:
وذلك حين كان بين مروان بن الحكم وبين أهل الشأم قتال. قال: فقلت:
ما تقول فى مروان بن الحكم؟ قال: ما تصنع به! [رجل جبّار «5» ] عات على الله- عزّ وجلّ- القاتل والمقتول والشاهد فى النار.(14/29)
قال قلت: فإنى قد شهدت فلم أطعن برمح ولم أرم بسهم ولم أضرب بسيف، وأنا أستغفر الله- عزّ وجلّ- أن أعود إلى ذلك المقام أو مثله أبدا. قال:
أحسنت، هكذا فكن.
قال: فإنى وإيّاه قاعدان إذ وضع بين يديه رغيفان أشدّ بياضا من الثلج، أكلت أنا وهو رغيفا وبعض آخر ثم رفع، فما رأيت أحدا وضعه ولا أحدا رفعه.
قال: وله ناقة ترعى فى وادى الأردنّ، فرفع رأسه إليها، فما دعاها حتى جاءت فبركت بين يديه فركبها. قلت: أريد أن أصحبك. قال: إنك لا تقدر على صحبتى.
قلت: إنى خلو مالى زوجة ولا عيال. قال: تزوج، وإيّاك والنساء الأربع، إيّاك والناشز «1» ، والمختلعة «2» ، والملاعنة «3» ، والمبارئة «4» ، وتزوّج ما بدالك من النساء.
قال: قلت: فإنى أحبّ لقاءك. قال: إذا رأيتنى فقد رأيتنى، ثم قال:
إنى أريد أن أعتكف فى بيت المقدس فى شهر رمضان. قال: ثم حالت بينى وبينه شجرة، فو الله ما أدرى كيف ذهب.
فهذا ما أورده فى خبر إلياس واليسع- عليهما السلام-. والله أعلم.(14/30)
ذكر خبر عيلى «1» وأشمويل «2» وما يتّصل بذلك
قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- قال وهب بن منبّه: لمّا قبض الله تعالى اليسع- عليه السلام- خلفت فى بنى إسرائيل الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وكان عندهم التابوت يتوارثونه صاغرا عن كابر، فيه السّكينة «3» وبقيّة «4» ممّا ترك آل موسى وآل هارون، وكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدّمون التابوت إلّا هزم الله ذلك العدوّ. وكان الله- تبارك وتعالى- قد بارك لهم فى جبلهم، لا يدخله عدوّ، ولا يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم- فيما يذكرون- يضع التراب على الصّخرة ثم ينثر فيه الحبّ فيخرج الله تعالى له ما يأكله سنة هو وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكله سنة هو وعياله. فلمّا عظمت أحداثهم وكثرت ذنوبهم وتركوا عهد الله إليهم سلّط عليهم العمالقة- وهم قوم [كانوا «5» ] يسكنون غزّة وعسقلان وساحل بحر الروم ما بين مصر وفلسطين- وكان جالوت الملك منهم فظهروا على بنى إسرائيل، وغلبوهم على كثير من أرضهم وسبوا كثيرا من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاما، فضربوا عليهم الجزية،(14/31)
وأخذوا توراتهم، ومكثوا على اضطراب من أمرهم واختلاف من حالهم يتمادون أحيانا فى غيّهم وضلالتهم، فسلّط الله عليهم من ينتقم منهم ليراجعوا التوبة، حتى بعث الله تعالى فيهم طالوت ملكا. وكانت مدّة ما بين وفاة يوشع بن نون إلى نبوّة أشمويل أربعمائة سنة وستّين سنة، وكان آخر ملوكهم فى هذه المدّة رجل يقال له «إيلاف» وكان يدبّر أمرهم فى ملكه شيخ يقال له «عيلى» الكاهن، وكان حبرهم وصاحب قربانهم، وكانوا ينتهون إلى رأيه.
ذكر ابتداء أمر أشمويل وكيف كانت نبوّته
قال الثعلبىّ قال وهب: كان لأبى أشمويل امرأتان، إحداهما عجوز عاقر لم تلد، وهى أمّ أشمويل، والأخرى ولدت عشرة أولاد. وكان لبنى إسرائيل عيد من أعيادهم قد قاموا بشرائطه وقرّبوا فيه القرابين، فحضر أبو أشمويل وامرأتاه وأولاده العشرة ذلك العيد، فلمّا قرّبوا قربانهم أخذ كلّ واحد منهم نصيبه، فكان لأمّ الأولاد عشرة أنصباء، وللعجوز نصيب واحد، فعمل الشيطان بينهما ما يعمل بين الضرائر من الحسد والبغى، فقالت أمّ الأولاد [للعجوز «1» ] : الحمد لله الذى كثّرنى بولدى وقلّلك، فوجمت العجوز وجوما شديدا. فلمّا كان عند السّحر عمدت العجوز إلى متعبّدها فقالت: اللهمّ بعلمك وسمعك كانت مقالة صاحبتى واستطالتها علىّ بنعمتك التى أنعمت عليها، وأنت ابتدأتها بالنعمة والإحسان، فارحم ضعفى وارحمنى وارزقنى ولدا تقيّا رضيّا أجعله لك ذخرا فى مسجد من مساجدك، يعبدك ولا يكفرك، ويطيعك ولا يجحدك. وإذا رحمت ضعفى ومسكنتى وأجبت دعوتى، فاجعل لها علامة أعرفها بها. فلمّا أصبحت حاضت وكانت من قبل قد يئست من الحيض، فألمّ بها زوجها، فحملت وكتمت أمرها، ولقى بنو إسرائيل(14/32)
فى ذلك الوقت من عدوّهم بلاء وشدّة، ولم يكن فى بنى إسرائيل من يدبّر أمرهم، فكاوا يسألون الله تعالى أن يبعث لهم نبيّا يشير عليهم ويجاهدون عدوّهم معه، وكان سبط النبوّة قد هلك، فلم يبق منهم إلّا هذه المرأة الحبلى؛ فلمّا علموا بحبلها تعجّبوا وقالوا: إنما حبلت بنبىّ، لأن الآيسات لا يحبلن إلّا بالأنبياء، فأخذوها وحبسوها فى بيت رهبة أن تلد جارية فتبدل بها غلاما، لما ترى من رغبة بنى إسرائيل فى ولدها، فجعلت المرأة تدعو الله تعالى أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمّته «أشمويل» وقيل فيه «شمعون» . وتقول: سمع الله دعائى.
واختلف فى نسبه، فالذى يقول اسمه شمعون يقول: هو شمعون بن صفيّة بن علقمة بن أبى ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب.
وقال سائر المفسّرين: هو أشمويل، وهو بالعربية إسماعيل بن بالى «1» ابن علقمة بن حام بن النهر بن بهر بن صوف بن علقمة بن ماحت بن عموصا ابن عزريا.
قال مقاتل: هو من نسل هارون- عليه السلام-. وقال مجاهد: أشمويل ابن هلقاثا. والله أعلم.
قالوا: فلمّا كبر الغلام أسلمته أمّه يتعلّم التوراة فى بيت المقدس وكفله عيلى، فلمّا بلغ أشمويل الوقت الذى يبعثه الله- عزّ وجلّ- نبيّا أتاه جبريل(14/33)
وهو نائم إلى جنب عيلى الكاهن، وعيلى لا يأمن عليه أحدا، فدعاه بلحن الشيخ:
يا أشمويل، فقام فزعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه، دعوتنى؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام؛ فقال: يا بنىّ ارجع. فرجع فنام، ثم دعاه ثانيا، فأتاه فقال: أدعوتنى؟ فقال الشيخ: ما شأنك؟ فقال: أما دعوتنى؟ قال:
لا. قال أشمويل: فإنى سمعت صوتا فى البيت، وليس فيه غيرنا. فقال:
ارجع فتوضّأ وصلّ، فإذا دعيت باسمك فأجب وقل: لبّيك، أنا طوعك، فمرنى أفعل ما تأمرنى. ففعل الغلام ذلك، فنودى الثالثة، فقال: لبّيك أنا طوعك، فمرنى أفعل ما تأمرنى. فظهر له جبريل وقال: اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربّك، فإنّ الله تعالى قد بعثك إليهم نبيّا، وإن الله تعالى ذرأك يوم ذرأك [للنبوة «1» ] ورحم وحدة أمّك فى ذلك اليوم الذى تاهت عليها ضرّتها، ولا أحد اليوم أشدّ عضدا «2» ولا أطيب ولادة منك، فانطلق إلى عيلى [فقل له «3» ] إنك كنت خليفة الله على عباده، فبقيت زمانا تأمر بأمره، وحاكما بكتابه، وحافظا لحدوده؛ فلمّا امتدّ سنّك، ودقّ عظمك، وذهبت قوتّك، وفنى عمرك، وقرب أجلك؛ وصرت أفقر ما تكون إلى الله تعالى، ولم تزل فقيرا إليه، عطّلت الحدود، وعملت بالرّشا، وأضعت حكومات الخلق، حتى عزّ الباطل وأهله، وذلّ الحقّ وحزبه، وظهر المكر، وخفى المعروف، وفشا الكذب، وقلّ الصدق، وما الله عاهدك على هذا. ولا عليه استخلفك، فبئس ما ختمت به عملك، والله لا يحبّ الخائنين. فبلّغه هذه الرسالة، وقم بعده بالخلافة؛ فلمّا بلّغ أشمويل عيلى هذه الرسالة فزع وجزع.(14/34)
قالوا: وكان السبب فيما عاتب الله تعالى عبده عيلى ووبّخه عليه أنه كان له ابنان شابّان، فأحدثا شيئا فى القربان لم يكن فيه، وذلك أنه كان فى مسواط «1» القربان الذى يسوطونه «2» به كلّابان، فما أخرجا كان للكاهن الذى كان يسوطه، فجعل ابناه لهما كلاليب، فأوحى الله تعالى إلى أشمويل: انطلق إلى عيلى فقل له: منعك حبّ الولد أن تزجر ابنيك أن يحدثا فى قربانى وأن يعصيانى، فلأ نزعنّ الكهانة منك ومن ولديك ولأهلكنّك وإياهما. فأخبر أشمويل عيلى بذلك، ففزع فزعا شديدا وسار إليهم عدوّهم، فأمر عيلى ابنيه أن يخرجا بالناس ويقاتلا ذلك العدوّ، فخرجا وأخرجا معهما التابوت، فجعل عيلى يتوقّع الخبر؛ فجاءه رحل وهو قاعد على كرسيّه فأخبره أنّ الناس قد انهزموا، وأن ابنيه قتلا. قال: فما فعل بالتابوت؟ قال:
ذهب به العدوّ. فشهق عيلى ووقع ميّتا. فلمّا بلغ ملكهم إيلاف أن التابوت استلب، وأن عيلى قد مات كمدا مالت عنقه فمات كمدا.
قالوا: فلمّا ماتا وأخذ التابوت مرج «3» أمر بنى إسرائيل واجترأ عليهم عدّوهم فقالوا لأشمويل ما أخبر الله تعالى به عنهم فى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
«4» الآيات. وذلك بعد ما دبّر أشمويل أمرهم عشر سنين.(14/35)
وإنما كان قوام أمر بنى إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم، وكان الملك هو الذى يسير بالجنود ويقاتل العدوّ، والنبىّ يقيم له أمره ويشير عليه ويرشده، ويأتيه بالخبر من الله تعالى.
قال وهب: بعث الله تعالى أشمويل نبيّا، فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال، وكان من أمر جالوت الملك والعمالقة ما كان، فسألوه أن يبعث لهم ملكا؛ فقال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا
. فأجابوه بما قصّ الله تعالى فى كتابه: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
«1» الآية.
قال: فلمّا أخذ أشمويل ميثاقهم فى الطاعة والجهاد سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكا. والله أعلم بالصواب.
ذكر خبر الملك طالوت وإتيان التابوت وخبر جالوت
قالوا: ولما سألوا أشمويل أن يبعث لهم ملكا، سأل الله تعالى فى ذلك، فأتى بعصا وقرن «2» فيه دهن القدس، وقيل له: إنّ صاحبكم الذى يكون ملكا طوله طول هذه العصا؛ وقيل له: أنظر إلى القرن الذى فيه الدّهن فإذا دخل عليك رجل فنشّ «3» الدّهن الذى فى القرن فهو ملك بنى إسرائيل، فادهن به رأسه، وملّكه عليهم؛ فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها؛ وكان طالوت- واسمه بالسّريانيّة «شارك «4» »(14/36)
وبالعبرانيّة شاول «1» بن قيس بن أنيال بن ضرار بن أحرب بن أفيح بن آيش بن بنيامين ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- رجلا دبّاغا يعمل الأدم. قال وهب وعكرمة والسّدّى: كان سقّاء يسقى على حمار من النّيل، فضّل حماره، فخرج فى طلبه. وقال وهب: بل ضلّت حمر لأبى طالوت، فأرسله وغلاما له يطلبانها، فمرّا ببيت أشمويل فقال الغلام لطالوت: لو دخلنا على هذا النبىّ فسألناه عن أمر حمرنا ليرشدنا ويدعو لنا بخير. فقال نعم. فدخلا عليه، فبينما هما عنده يذكران شأن الحمر إذ نشّ الدّهن فى القرن فقام أشمويل وقاس طالوت بالعصا، فكانت على طوله، فقال لطالوت: قرّب رأسك. فقرّبه فدهنه بدهن القدس، ثم قال له: أنت ملك بنى إسرائيل، وقد أمرنى الله تعالى أن أملّكك عليهم. فقال طالوت: أنا؟ قال نعم. قال: أو ما علمت أن سبطى»
أدنى الأسباط فى بنى إسرائيل؟ قال بلى.
قال: أفما علمت أن بيتى أدنى بيوت بنى إسرائيل؟ قال بلى. قال: فبأىّ آية أكون ملكا؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره. فكان كذلك.
ثم قال لبنى إسرائيل: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ
«3» ؛ وإنما قالوا ذلك لأنه كان فى بنى إسرائيل سبطان: سبط نبوّة، وسبط مملكة؛ فكان سبط النبوّة سبط لاوى بن يعقوب،(14/37)
منهم موسى وهارون- عليهما السلام- وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب، منهم سليمان بن داود؛ ولم يكن طالوت من سبط النبوّة ولا المملكة، وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، وكانوا عملوا ذنبا عظيما؛ كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا، فغضب الله تعالى عليهم، ونزع النبوّة والمملكة منهم، فأنكر بنو إسرائيل ذلك وقالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ
قال أشمويل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً
، أى فضيلة وسعة فِي الْعِلْمِ
وذلك أنه كان أعلم بنى إسرائيل فى وقته. وقال الكلبىّ:
«فى العلم» بالحرب. وَالْجِسْمِ
يعنى بالطّول والقوّة؛ وكان يفوق الناس برأسه ومنكبيه؛ وإنما سمّى طالوت لطوله. وقال ابن كيسان: للجمال، وكان أجمل رجل فى بنى إسرائيل وأعلمهم وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
«1» .
قالوا: فما آية ذلك؟ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
«2» .
ذكر قصة التابوت وصفته وما قيل فيه
قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله-: قال أهل التفسير وأصحاب الأخبار:
إنّ الله تعالى أهبط تابوتا على آدم حين أهبط آدم إلى الأرض، فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الرّسل منهم، وآخر البيوت بيت محمد- صلى الله عليه وسلّم- وهو من ياقوتة حمراء، وإذا هو قائم يصلّى وعن يمينه الكهل المطيع،(14/38)
مكتوب على جبينه: هذا أوّل من يتّبعه من أمّته «أبو بكر الصدّيق» وعن يساره «الفاروق» ، مكتوب على جبينه: قرن من حديد لا تأخذه فى الله لومة لائم؛ ومن ورائه ذو النّورين آخذ بحجزته «1» ، مكتوب على جبينه: بارّ من البررة. ومن بين يديه «علىّ بن أبى طالب» شاهر سيفه على عاتقه، مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه المؤيّد بالنصر من عند الله. وحوله عمومته والخلفاء والنّقباء والكبكبة «2» الخضراء- وهم أنصار الله وأنصار رسوله- نور حوافر دوابّهم يوم القيامة مثل نور الشمس فى الدنيا.
وكان التابوت نحوا من ثلاثة أذرع فى ذراعين، وكان من عود الشّمشار «3» الذى تتّخذ منه الأمشاط، مموّها بالذهب، فكان عند آدم إلى أن مات، ثم عند شيث، ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم- عليه السلام- فلمّا مات كان عند إسماعيل، ثم كان عند قيذار بن إسماعيل، فتنازعه ولد إسحاق وقالوا: إنّ النبوّة قد صرفت عنكم، وليس لكم إلّا هذا النور الواحد، [يعنى نور محمد صلّى الله عليه وسلّم «4» ] فأعطنا التابوت. فكان قيذار يمتنع عليهم ويقول: إنه وصيّة لأبى، ولا أعطيه أحدا من العالمين.
قال: فذهب ذات يوم يفتح التابوت، فتعسّر عليه فتحه، فناداه مناد من السماء: مهلا يا قيذار، فليس لك إلى فتح هذا التابوت سبيل، إنه وصيّة نبىّ،(14/39)
لا يفتحه إلا نبىّ، فادفعه لابن عمّك يعقوب إسرائيل الله؛ فحمل قيذار التابوت على عنقه وخرج يريد أرض كنعان وكان بها يعقوب- عليه السلام- فلمّا قرب منه صرّ التابوت صرّة سمعها يعقوب، فقال لبنيه: أقسم بالله لقد جاءكم قيذار بالتابوت فقوموا نحوه. فقام يعقوب وأولاده جميعا إليه، فلمّا نظر يعقوب إلى قيذار استعبر باكيا وقال: يا قيذار، مالى أرادك متغيّرا وقوّتك ضعيفة، أرهقك عدوّ أم أتيت معصية بعد أبيك إسماعيل؟ قال: ما رهقنى عدوّ ولا أتيت معصية ولكن نقل من ظهرى نور محمد، فلذلك تغيّر لونى وضعف ركنى، قال: أفى بنات إسحاق؟ قال: لا، فى العربيّة الجرهميّة، وهى العامريّة، فقال يعقوب: بخ بخ! شرفا لمحمد، لم يكن الله- عزّ وجل- ليجريه إلا فى العربيّات الطاهرات يا قيذار، وأنا مبشّرك ببشارة. قال: وما هى؟ قال: اعلم أن العامريّة قد ولدت لك البارحة غلاما. قال قيذار: وما علّمك يابن عمّى وأنت بأرض الشأم وهى بأرض الحرم؟
قال يعقوب: علمت ذلك لأنى رأيت أبواب السماء قد فتحت، ورأيت نورا كالقمر الممدود بين السماء والأرض، ورأيت الملائكة ينزلون من السماء بالبركات والرحمة، فعلمت أنّ ذلك من أجل محمد- صلى الله عليه وسلّم- فسلم قيذار التابوت إلى يعقوب ورجع إلى أهله، فوجدها قد ولدت غلاما، فسمّاه «حملا» وفيه نور محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قالوا: وكان التابوت فى بنى إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى- عليه السلام- فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه، وكان عنده إلى أن مات، ثم تداوله أنبياء بنى إسرائيل إلى وقت أشمويل، وكان فيه ما ذكر الله تعالى فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ.(14/40)
قال الثعلبىّ: واختلفوا فى السكينة ما هى؟ فقال علىّ بن أبى طالب: السكينة ريح خجوج «1» هفّافة لها رأسان [كرأس الهرّة «2» ] ووجه كوجه الإنسان. وقال مجاهد:
رأس كرأس الهرّة، وذنب كذنب الهرّة وجناحان. وقال ابن إسحاق عن وهب عن بعض علماء بنى إسرائيل: السكينة، رأس هرّة ميّتة كانت إذا صرخت فى التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
وقال السّدّىّ عن أبى مالك عن ابن عبّاس: هى طست من ذهب من الجنة كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء. وقال بكّار بن عبد الله عن وهب: روح من الله تتكلم، إذا اختلفوا فى شىء تخبرهم ببيان ما يريدون. وقال عطاء بن أبى رباح:
هى ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها. وقال قتادة والكلبىّ: فعيلة من السكون أى طمأنينة من ربّكم، وفى أىّ مكان كان التابوت اطمأنّوا وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ.
قالوا: كان فيه عصا موسى ورضاض «3» الألواح، وذلك أنّ موسى لمّا ألقى الألواح تكسرت فوقع بعضها، وجمع ما بقى فجعله فى التابوت. وكان فيه أيضا لوحان من التوراة، وقفيز من المنّ الذى كان ينزل عليهم، ونعلا موسى، وعمامة هارون وعصاه. وكان التابوت عند بنى إسرائيل؛ وكانوا إذا اختلفوا فى شىء تكلّم وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم يستفتحون «4» به على عدوّهم، فلمّا عصوا وأفسدوا سلّط الله- عزّ وجلّ- عليهم العمالقة فاستلبوا التابوت كما تقدّم.(14/41)
ذكر إتيان التابوت إلى بنى إسرائيل وسبب عوده
قال أبو إسحاق: لمّا سلب العمالقة قوم جالوت التابوت كان جالوت صغيرا، فأتوا بالتابوت قرية من قرى فلسطين يقال لها أشدود «1» ، وجعلوه فى بيت صنم لهم ووضعوه تحت الصنم الأعظم، فأصبحوا من الغد والصنم تحته، فأخذوه ووضعوه فوقه، وسمّروا قدمى الصنم على التابوت، فأصبحوا من الغد وقد قطعت يد الصنم ورجلاه، وأصبح ملقّى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم كلّها منكّسة، فأخرجوه من بيت الصنم ووضعوه فى ناحية من مدينتهم، فأخذ أهل تلك الناحية وجع فى أعناقهم حتى هلك أكثرهم، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بنى إسرائيل لا يقوم له شىء، فأخرجوه عن مدينتكم، فأخرجوه إلى قرية أخرى، فبعث الله- عزّ وجلّ- على تلك القرية فأرا، يبيت «2» الرجل صحيحا فيقرضه الفأر فيصبح ميّتا قد أكلت ما فى جوفه، فأخرجوه منها إلى الصحراء ودفنوه فى مخرأة لهم، فكان كلّ من تبرّز هناك أخذه الباسور والقولنج «3» ؛ فتحيّروا؛ فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبى بنى إسرائيل من أولاد الأنبياء: لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم، فأخرجوه عنكم، فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة فحملوا التابوت عليها، ثم علّقوها على ثورين، ثم ضربوا جنوبهما، فأقبل الثوران يسيران، ووكّل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، فلم يمرّ التابوت(14/42)
بشىء من الأرض إلّا كان مقدّسا، فأقبلا حتى وقفا على أرض فيها حصاد لبنى إسرائيل فكسرا برتهما وقطعا حبالهما، ووضعا التابوت فيها ورجعا إلى أرضهما، فلم يرع بنى إسرائيل إلّا التابوت، فكبّروا وحمدوا الله تعالى.
وقال الكسائىّ: إنهم لمّا دفنوه إلى جنب الحشّ «1» وأخذهم الباسور أعادوه إلى الكنيسة. فغزاهم بعض الفراعنة فهزمهم ودخل الكنيسة، وأخذوا التابوت وهمّوا بفتحه فلم يقدروا فهمّوا «2» بكسره فلم يقدروا، فتركوه؛ فكان القوم يتشاءمون به لما كان يصيبهم من البلاء، فحوّلوه إلى خمس مدائن، فقال أهل المدينة الخامسة:
إن هذا البلاء يصيبكم بسبب هذا التابوت فأخرجوه. وساق نحو ما تقدّم.
وقوله تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ
أى تسوقه. فعند ذلك أقرّوا بملك طالوت.
وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعوه فى دار طالوت، فأقرّوا بملكه. قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
«3» .
قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما- إنّ التابوت وعصا موسى فى بحيرة «4» طبريّة، وإنهما يخرجان يوم القيامة. والله أعلم.(14/43)
ذكر مسير طالوت بالجنود وخبر النهر الذى ابتلوا به
قالوا: فلمّا أقرّوا بملك طالوت سألوه أن يغزو بهم، وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل. وقيل: ثمانون ألفا لم يتخلّف عنه إلّا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو ضرير لضرّه أو معذور لعذره؛ وذلك أنهم لما رأوا التابوت قالوا: قد أتانا التابوت، وهو النصر لا شكّ فيه؛ فسارعوا إلى الجهاد، فقال طالوت: لا حاجة لى فى كل ما أرى، لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها، ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوّج بامرأة ولم يبن بها؛ ولا يتبعنى إلّا الشابّ النشيط الفارع «1» . فاجتمع له ثمانون ألفا على شرطه- وكانوا فى حرّ شديد- فشكوا قلّة المياه فيما بينهم وبين عدوّهم، وقالوا: إنّ المياه لا تحملنا، فادع الله تعالى أن يجرى لنا نهرا. فقال لهم طالوت: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي
أى من أهل دينى وطاعتى؛ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي
؛ ثم استثنى فقال: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ.
قال الكسائىّ: لمّا سألوه أن يجرى لهم نهرا قال: أفعل- إن شاء الله- وسار بهم حتى إذا كانوا فى بريّة وفقدوا الماء وأجهدهم العطش، أتوه، فدعا أن يجرى الله تعالى لهم نهرا؛ فأوحى الله إليه ما أخبر به فى كتابه؛ قال الله تعالى:
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ
«2» الآية. قال: وهو نهر الأردنّ من بلاد فلسطين. وقال الثعلبىّ: قال ابن عبّاس والسّدّىّ: هو نهر فلسطين. وقال قتادة والربيع: هو نهر بين الأردنّ وفلسطين، عذب. قال الكسائىّ: قالوا: وما تغنى عنّا الغرفة ثم عرض لهم النهر فانهمكوا فى شربه. قال الله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ(14/44)
إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ
قال: واختلفوا فى القليل الذين لم يشربوا؛ فقال السّدّىّ: كانوا أربعة آلاف. وقال غيره: كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر؛ وهو الصحيح، لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لأهل بدر: «أنتم اليوم على عدّة أصحاب طالوت حين عبروا النهر» وكان أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر.
قالوا: فلم يزد هؤلاء على الغرفة فكانت كفاية لهم ولدوابّهم؛ فمن اغترف غرفة، كما أمر الله، نوّر الله قلبه وصحّ إيمانه، وعبر النهر سالما. والذين شربوا وخالفوا أمر الله- عزّ وجل- اسودّت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شطّ النهر وجبنوا عن لقاء العدوّ؛ فقال طالوت للذين عصوا ربهم: ارجعوا فلا حاجة لى بكم فرجعوا. قال الله تعالى: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ
«1» وإنّما قال ذلك الذين عصوا وشربوا قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
«2» .
ذكر خبر داود حين قتل جالوت الملك
قال الله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ
«3» .
قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله-: قال المفسّرون بألفاظ مختلفة ومعان متفقة: عبر النهر مع طالوت إيشى أبو داود فى ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود(14/45)
أصغرهم، فأتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمى بقذّافتى «1» شيئا إلّا صرعته. فقال:
أبشر يا بنىّ فإن الله- عزّ وجل- جعل رزقك فى قذّافتك؛ ثم أتاه مرّة أخرى فقال: يا أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا، فركبته وأخذت بأذنيه فلم يهجنى «2» ، فقال: أبشر يا بنىّ فإنّ هذا خير يريده الله بك. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه، إنى لأمشى بين الجبال فأسبّح فما يبقى جبل إلّا سبّح معى.
فقال: أبشر يا بنىّ فإنّ هذا خير أعطاكه الله عزّ وجل.
قالوا: فأرسل جالوت إلى طالوت، أن ابرز إلىّ أو أبرز إلىّ من يقاتلنى، فإن قتلنى فلكم ملكى، وإن قتلته فلى ملككم. فشقّ ذلك على طالوت، فنادى فى عسكره: من قتل جالوت زوّجته ابنتى وناصفته ملكى. فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد؛ فسأل طالوت نبيّهم- عليه السلام- أن يدعو، فدعا الله- عزّ وجل- فى ذلك، فأتى بقرن فيه دهن القدس، وتنّور من حديد، فقيل له:
إنّ صاحبكم الذى يقتل جالوت هو الذى يوضع هذا القرن على رأسه فيغلى الدّهن ثم يدهن به رأسه ولا يسيل على وجهه، يكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل فى هذا التنّور فيملأه لا يتقلقل فيه؛ فدعا طالوت بنى إسرائيل، فجرّبهم فلم يوافقه منهم أحد، فأوحى الله- عزّ وجل- إلى نبيّهم أن فى ولد إيشى من يقتل الله به جالوت، فدعا طالوت إيشى وقال له: اعرض علىّ بنيك. فأخرج له اثنى عشر رجلا أمثال السوارى، وفيهم رجل فارع عليهم؛ فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع فيردّده على التنّور. فأوحى الله- عزّ وجل- إليه:
إنّا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنّا نأخذهم على صلاح قلوبهم. فقال لإيشى:(14/46)
هل بقى لك ولد غيرهم؟ فقال لا. فقال النبىّ: ربّ إنه زعم أن لا ولد له غيرهم.
فقال كذب. فقال النبىّ: إن ربّى كذّبك. قال: صدق الله يا نبىّ الله، إنّ لى ابنا صغيرا يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فخلّفته فى الغنم يرعاها وهو فى شعب كذا. وكان داود- عليه السلام- رجلا قصيرا مسقاما «1» مصفارّا أزرق أشقر. فدعاه طالوت. ويقال: بل خرج طالوت إليه فوجد الوادى قد حال بينه وبين الزّربية التى كان يريح إليها، فوجده يحمل شاتين شاتين فيجيزهما السّيل ولا يخوض بهما الماء؛ فلمّا رآه [أشمويل «2» ] قال:
هذا هو لا شكّ فيه، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم. فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض؛ فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوّجك ابنتى وأجرى حكمك فى ملكى؟ قال نعم. قال: وهل أنست من نفسك شيئا تتقوّى به على قتله؟ قال: نعم، أنا أرعى فيجىء الأسد أو النّمر أو الذئب فيأخذ شاة فأقوم له فأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه. فردّه إلى عسكره؛ فمرّ داود- عليه السلام- فى الطريق بحجر فناداه: يا داود، احملنى فإنى حجر هارون الذى قتل بى ملك كذا، فحمله فى مخلاته. [ثم مرّ بحجر آخر فناداه: يا داود، احملنى فإنى حجر موسى- عليه السلام- الذى قتل به ملك كذا وكذا، فحمله فى مخلاته «3» ] . ثم مرّ بحجر آخر فقال:
احملنى فإنى حجرك الذى تقتل به جالوت، وقد خبأنى الله لك، فوضعه فى مخلاته.
فلما تصافّوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة، انتدب له داود، فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا، فلبس السلاح وركب الفرس، وسار قريبا، ثم انصرف فرجع إلى الملك، فقال من حوله: جبن الغلام. فجاء فوقف على الملك فقال:(14/47)
ما شأنك؟ قال: إنّ الله- عز وجل- إن لم ينصرنى لم يغن عنّى هذا السلاح شيئا، فدعنى أقاتل كما أريد. قال نعم. فأخذ داود مخلاته فتقلّدها، وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت، وكان جالوت من أشدّ الناس وأقواهم؛ وكان يهزم الجيوش وحده، وكان له بيضة فيها ثلاثمائة منّ حديدا، فلمّا نظر إلى داود ألقى فى قلبه الرّعب، فقال له: أنت تبرز لى؟ قال نعم- وكان جالوت على فرس أبلق، عليه السلاح التامّ- قال: تأتينى بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب؟
قال: نعم، لأنت شرّ من الكلب. قال: لا جرم لأقسّمنّ لحمك بين سباع الأرض وطير السماء. فقال داود: [باسم «1» الله و] يقسّم الله لحمك. وقال: بسم إله إبراهيم، وأخرج حجرا، ثم أخرج الآخر وقال: باسم إله إسحاق، ووضعه فى مقلاعه، ثم أخرج الثالث وقال: باسم إله يعقوب، ووضعه فى مقلاعه، فصارت كلّها حجرا واحدا، ودوّر المقلاع ورماه به، فسخّر الله تعالى له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة وخالط دماغه فخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلا، وهزم الله تعالى الجيش وخرّ جالوت قتيلا، فأخذه داود فجرّه حتى ألقاه بين يدى طالوت.
وقال الكسائىّ فى هذه القصة: كان مع طالوت سبعة إخوة لداود، وكان داود عند أبيه وهو صغير، فقال له أبوه: قد أبطأ علىّ خبر إخوتك مع طالوت، فاحمل إليهم طعاما وتعرّف لى خبرهم. فمضى داود ومعه مخلاة له فيها الطعام، وقد شدّ وسطه بمقلاع؛ فبينا هو يسير إذا ناداه حجر من الأرض: خذنى فأنا حجر أبيك إبراهيم. فأخذه؛ ثم ناداه حجر آخر: خذنى فأنا حجر أبيك إسحاق. فأخذه؛(14/48)
ثم ناداه حجر آخر: خذنى فأنا حجر أبيك يعقوب. فأخذه وسار حتى أتى العسكر، فنزل على إخوته، فلمّا كان من الغد تهيّأ الجيشان للمحاربة، فقال طالوت:
أيها الناس، من كفانى منكم أمر جالوت زوّجته ابنتى، وأشركته فى ملكى، وجعلته خليفتى من بعدى. فلم يجبه أحد إلّا داود؛ فخلع عليه وأركبه وطاف به فى معسكره؛ فلمّا كان من الغد ركبوا، وأقبل جالوت بجيوشه وهو على فيل، وكان طوله ثمانية عشر ذراعا، وطول داود عشرة أذرع، فقال المؤمنون: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً
«1» الآية.
فبرز جالوت بين الصفّين فبرز له داود، فقال له جالوت: إنك صغير ولا سلاح معك فارجع، فأبى ذلك، وأخذ تلك الأحجار فوضعها فى مقلاعه ورمى بها، فوقع أحدها بميمنة جالوت فهزمها، والثانى فى الميسرة فانهزموا، والثالث وقع على أنف بيضة جالوت فخرج من قفاه، فسقط جالوت ميّتا، وانهزم أصحابه.
قالوا: ولمّا قتل داود جالوت ذكر الناس داود وعظم فى أنفسهم، فجاء إلى طالوت وقال له: أنجز لى ما وعدتنى، وأعطنى امرأتى. فقال له طالوت: أتريد ابنة الملك بغير صداق، عجّل صداق ابنتى وشأنك بها. فقال له داود: ما شرطت علىّ صداقا، وليس لى شىء، فتحكّم فى الصداق «2» ما شئت وأقرضنى مهرها وعلىّ الأداء والوفاء لك. فقال طالوت: أصدقها نصيبك من الملك. فقالت بنو إسرائيل:
لا تظلمه وأنجز له ما وعدته به.
فلمّا رأى طالوت ميل بنى إسرائيل إلى داود وحسن رأيهم فيه قال:
لا حاجة لابنتى فى المال، ولا أكلّفك إلّا ما تطيق، أنت رجل جرىء، وفى جبالنا(14/49)
أعداء من المشركين غلف «1» فانطلق وجاهدهم، فإذا قتلت منهم مائتى رجل وجئتنى برءوسهم زوّجتك ابنتى. فأتاهم داود، وجعل كلّما قتل منهم رجلا احتزّ رأسه ونظمه فى خيط حتى نظم رءوسهم فجاء بها إلى طالوت، فألقاها إليه وقال: ادفع إلىّ امرأتى، فزوّجه ابنته وأجرى خاتمه فى ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبّوه وأكثروا من ذكره، فوجد طالوت من ذلك فى نفسه وحسده وأراد قتله.
قال وهب بن منبّه: وكانت الملوك يومئذ يتوكّأون على عصىّ فيغرزون فى أطرافها أزجة من حديد، وكان بيد طالوت منها واحدة، فى رأسها رمّانة من ذهب وفى أسفلها زجّ من حديد، وداود جالس قريبا منه فى ناحية البيت، فرماه بها بغتة ليقتله بها، فلمّا أحسّ داود بذلك حاد عن طريقها، وأمال نفسه عنها من غير أن يبرح من موضعه، فارتكزت فى الجدار، فقال له داود: عمدت إلى قتلى؟
قال طالوت: لا، ولكن أردت أن أقف على ثباتك فى الطّعان وربط جأشك للاقران. قال داود: فألفيته على ما قدّرته فىّ؟ قال: نعم، ولعلك فزعت. قال:
معاذ الله أن أخاف إلّا الله تعالى وأرجو إلا الله، ولا يدفع الشرّ إلا الله. فانتزعها من الجدار ثم هزّها هزّة منكرة وقال له: أثبت كما ثبتّ لك، فأيقن طالوت بالهلاك؛ فقال له: أنشدك الله والحرمة التى بينى وبينك إلّا ما صفحت؛ فقال داود: إن الله تعالى كتب فى التوراة أن اجز السيئة مثلها، واحدة بواحدة والبادى أظلم؛ فقال طالوت: ألا تقول قول هابيل لأخيه قابيل: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ
«2» . قال داود:
قد عفوت عنك لوجه الله تعالى.(14/50)
فلبث طالوت زمنا يريد قتل داود، فعزم على أن يأتيه ويغتاله فى داره، فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له: ذو العينين، فقالت لداود: إنك مقتول الليلة؛ قال: ومن يقتلنى؟ قالت: أبى، وأخبرته الخبر وقالت: لا عليك أن تغيب الليلة حتى تنظر مصداق ذلك. فأخذ داود زقّ خمر فوضعه فى مضجعه على السّرير وسجّاه ودخل تحت السّرير ودخل طالوت نصف الليل، فعمد إليه فضربه ضربة بالسيف فسالت الخمر، فلمّا وجد ريحها قال: رحم الله داود، ما كان أكثر شربه للخمر، وخرج، فلمّا أصبح علم أنه لم يصنع شيئا، فقال: إنّ رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق ألّا يدعنى حتى يطلب منى ثأره؛ فاشتدّ حجّابه وحرّاسه وأغلق دونه الأبواب، فأتاه داود ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله الحجّاب عنه وفتح له الأبواب، ودخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج. فلمّا استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها، فقال: رحم الله داود فهو خير منّى، ظفرت به فقصدت قتله، وظفر بى فكفّ عنّى، لو شاء لوضع هذا السهم فى حلقى وما أنا بالذى آمنه. فلمّا كانت الليلة القابلة أتاه ثانيا، وأعمى الله الحجّاب، فدخل وهو نائم، فأخذ إبريق طالوت الذى كان يتوضّأ به وكوزه الذى يشرب منه، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه، ثم خرج وهرب وتوارى؛ فلمّا أصبح ورأى ذلك نصب على داود العيون وطلبه أشدّ الطلب فلم يقدر عليه، ثم ركب طالوت يوما فوجد داود يمشى فى البرّيّة فقال: اليوم أقتل داود، وكان داود إذا فرّ لم يدرك، فركض داود حتى دخل غارا، فأمر الله العنكبوت أن تنسج، فنسجت عليه بيتا، وجاء طالوت إلى الغار فنظر الى بيت العنكبوت فقال: لو كان هاهنا لخرق بيت العنكبوت، فتركه ومضى، وانطلق داود إلى الجبل ومعه المتعبّدون، فجعل يتعبّد فيه.(14/51)
وطعن العلماء والعبّاد على طالوت فى شأن داود؛ فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن داود إلّا قتله. وأغرى بقتل العلماء، فلم يكن يقدر فى بنى إسرائيل على عالم [ويطيق قتله إلّا قتله «1» ] ولم يكن طالوت يحارب جيشا إلّا هزمه، حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فأمر جبّاره بقتلها، فرحمها الجبّار وقال: لعلّنا نحتاج إلى عالم فتركها.
ثم وقع فى قلب طالوت التوبة، وندم على ما فعل، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور ويبكى وينادى: أنشد الله عبدا يعلم لى التوبة إلّا أخبرنى. فلمّا كثر عليهم [بكاؤه «2» ] ناداه مناد من قبر: يا طالوت، أما ترضى [أنك «3» ] قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا، فازداد بكاء وحزنا، فقال له الجبّار:
مالك أيها الملك؟ قال: هل تعلم لى فى الأرض عالما أسأله؟ هل لى من توبة؟
قال الجبّار: هل تدرى ما مثلك؟ إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء، فصاح ديك فتطيّر به، فقال: لا تتركوا فى هذه القرية ديكا إلّا ذبحتموه. فلمّا أراد أن ينام قال لأصحابه: إذا صاح الدّيك فأيقظونا حتى ندّلج. فقالوا له:
وهل تركت ديكا يسمع صوته؟ وأنت هل تركت فى الأرض عالما؟! فازداد طالوت حزنا وبكاء؛ فلمّا رأى الجبّار ذلك قال له: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلّك أن تقتله؟ قال لا. فتوثّق منه الجبّار وأخبره أنّ المرأة العالمة عنده؛ قال:
فانطلق بى إليها حتى أسألها هل لى من توبة؟ - وكان إنما يعلم ذلك أهل بيت لهم علم بالاسم الأعظم «4» - فلمّا بلغ طالوت الباب قال له الجبّار: إنها إن رأتك فزعت، فخلّفه خلفه، ثم دخل عليها فقال لها: ألست أعظم عليك حرمة، أنجيتك من القتل وآويتك عندى؟ قالت بلى. قال: فإنّ لى إليك حاجة. قالت:(14/52)
وما هى؟ قال: هذا طالوت يسأل هل له من توبة؟ فقالت: لا والله ما لطالوت من توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر أشمويل؟ قال نعم. قالت: فانطلقوا بى إلى قبره، ففعلوا، فصلّت ثم نادت: يا صاحب القبر أخرج. فخرج أشمويل من قبره ينفض رأسه من التراب. فلمّا نظر إليهم ثلاثتهم. المرأة والجبّار وطالوت قال: مالكم! أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكنّ طالوت يسألك هل له من توبة؟
قال أشمويل: يا طالوت، ما فعلت بعدى؟ قال: لم أدع من الشرّ شيئا إلّا فعلته، وقد جئت أطلب التوبة. قال: كم لك من الولد؟ قال: عشرة رجال. قال:
ما أعلم لك من توبة إلّا أن تتخلّى عن مالك وتخرج أنت وولدك فى سبيل الله، ثم تقدّم ولدك حتى يقتلوا بين يديك، ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم. ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط ميّتا، ورجع طالوت أحزن ما كان، رهبة ألّا يتابعه أولاده، وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحل جسمه. فدخل عليه أولاده فقال لهم: أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تنقذوننى؟ قالوا: بلى، ننقذك بما قدرنا عليه. قال: فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول. قالوا: فاعرض علينا، فذكر لهم القصة. قالوا: فإنك لمقتول؟! قال نعم. قالوا: فلا خير لنا فى الحياة بعدك، قد طابت أنفسنا بالذى سألت. فتجهّز للغز وبماله وولده، فتقدّم ولده فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا؛ ثم تقدّم فقاتل بعدهم حتى قتل. فجاء قاتله إلى داود يبشّره وقال: قد قتلت عدوّك. فقال داود: ما أنت بالذى تحيا بعده. فضرب عنقه.
وحكى الكسائىّ: أنّ طالوت لمّا حسد داود على ما أوتى من القوّة، وهمّ بالغدر مرارا فلم يظفر به وظفر به داود فأبقى عليه، اعتذر له طالوت واتفقا؛ ثم مات أشمويل، فانضمّ بنو إسرائيل إلى داود واختلفوا على طالوت وحاربوه؛ فاستقلّ داود بالملك، وجاهد ببنى إسرائيل وقهر الأعداء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.(14/53)
ذكر خلافة داود عليه السلام ونبوّته ومبعثه إلى بنى اسرائيل وما خصه الله عزّ وجل به
هو داود بن إيشى «1» بن عويل بن باعد بن سلمون بن يحسون بن عمى بن مارب ابن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل- عليهم السلام- قال الله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
«2» قال الكسائىّ: لمّا مات أشمويل تفرّق بنو إسرائيل واشتغلوا باللهو، فبعث الله تعالى داود- عليه السلام- وأعطاه سبعين سطرا من الزّبور، وأعطاه حسن الصوت، فكان إذا سبّح سبّحت الجبال معه والطير والوحش؛ قال الله تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ
«3» أى مطيع، وقال أبو إسحاق الثعلبىّ: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: لمّا استشهد طالوت أتى بنو إسرائيل إلى داود فأعطوه خزانة طالوت وملّكوه على أنفسهم، وذلك بعد قتل جالوت بسبع سنين، ولم يجتمع بنو إسرائيل بعد يوشع بن نون على ملك واحد إلّا على داود عليه السلام.
قال: وخصّ الله تعالى نبيّه داود بخصائص:
منها: أنه أنزل عليه الزّبور بالعبرانية خمسين ومائة سورة، فى خمسين منها ما يكون من بختنصر وأهل بابل؛ وفى خمسين ما يكون من أهل إبرون؛(14/54)
وفى خمسين منها موعظة وحكمة؛ ولم يكن فيها حلال ولا حرام، ولا حدود ولا أحكام؛ وذلك قوله تعالى: (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «1» ) .
ومنها: الصوت الطيّب، والنغمة اللذيذة، والترجيع فى الألحان؛ ولم يعط الله تعالى أحدا من خلقه مثل صوته، فكان يقرأ الزّبور بسبعين لحنا بحيث يعرق المحموم ويفيق المغشىّ عليه.
وكان إذا قرأ الزبور برز إلى البرّيّة، فيقوم ويقرأ ويقوم معه علماء بنى إسرائيل خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، وتقوم الجنّ خلف الناس، وتقوم الشياطين خلف الجنّ، وتدنو الوحوش والسباع حتى تؤخذ بأعناقها، وتظلّه الطير مصيخة «2» ، ويركد الماء الجارى ويسكن الريح.
قال الثعلبىّ: وما صنعت المزامير والبرابط «3» والصّنوج إلّا على صوته، وذلك أنّ إبليس حسده واشتدّ عليه أمره، فقال لعفاريته: ترون ما دهاكم؟ فقالوا:
مرنا بما شئت. قال: فإنه لا يصرف الناس عن داود إلّا ما يضادّه ويحادّه «4» فى مثل حاله. فهيّأ المزامير والأعواد والأوتار والملاهى على أجناس أصوات داود- عليه السلام- فسمعها سفهاء الناس فمالوا إليها واغترّوا بها.
ومنها: تسبيح الجبال والطير معه؛ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «5» )
. وقوله تعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «6» )
. يقال: إن داود كان اذا تخلّل الجبال يسبّح الله تعالى جعلت الجبال(14/55)
تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبّح. ثم قال فى نفسه ليلة من الليالى: لأعبدنّ الله عبادة لم يعبد مثلها، فصعد الجبل، فلمّا كان فى جوف الليل وهو على جبل داخلته وحشة، فأوحى الله إلى الجبال: أن آنسى داود، فاصطكّت الجبال بالتسبيح والتهليل. فقال داود فى نفسه: كيف يسمع صوتى مع هذه الأصوات؟ فهبط عليه ملك وأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فوكزه برجله فانفرج له البحر، فانتهى إلى الأرض فوكزها برجله فانفرجت له الأرض، حتى انتهى إلى الحوت فوكزه برجله، فانتهى الى الصخرة، فوكز الصخرة برجله، فانفلقت فخرجت منها دودة تنشّ «1» ، فقال: إن الله تعالى يسمع نشيش هذه الدودة فى هذا الموضع. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان داود يفهم تسبيح الحجر والشجر والمدر.
ومنها: أن الله تعالى أكرمه بالحكمة وفصل الخطاب. قالوا: والحكمة:
الإصابة فى الأمور. واختلفوا فى فصل الخطاب، قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: بيان الكلام. وقال ابن مسعود والحسن: المعنى علم الحكم والنظر فى القضاء، كان لا يتتعتع «2» فى القضاء بين الناس. وقال علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه-: هو البيّنة على المدّعى واليمين على المدّعى عليه. وقال كعب:
الشهود والأيمان. وقال الشعبىّ: سمعت زيادا يقول: فصل الخطاب الذى أعطى داود: أمّا بعد. قال الأستاذ: وهو أوّل من قالها.
ومنها: السلسلة التى أعطاه الله إيّاها، ليعرف المحقّ من المبطل فى المحاكمة إليه. قال الثعلبىّ: روى الضحّاك عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال:
إنّ الله تعالى أعطى داود سلسلة موصولة بالمجرّة والفلك، ورأسها عند محراب داود(14/56)
حيث يتحاكم إليه، وكانت قوّتها قوّة الحديد، ولونها لون النار، وحلقها مستديرة، مفصّلة بالجوهر، مدسّرة بقضبان اللؤلؤ الرّطب، فلا يحدث فى الهواء حدث إلّا صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث؛ ولا يلمسها ذو عاهة إلّا برىء، وكان علامة دخول قومه فى الدّين أن يمسّوها بأيديهم ويمسحوا بأكفّهم على صدورهم. وكانوا يتحاكمون إليه، فمن تعدّى على صاحبه أو أنكره حقا أتوا السلسلة، فمن كان صادقا محقّا مدّ يده إلى السلسلة فنالها، ومن كان كاذبا ظالما لم ينلها؛ فكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة.
قال: فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلا جوهرة ثمينة، فلمّا استردّها منه أنكره ذلك، فتحا كما إلى السلسلة، فعلم الذى كانت عنده الجوهرة أن يده لا تنال السلسلة، فعمد إلى عكّازة فنقرها ثم ضمّنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر معه غريمه «1» عند السلسلة، فقال لصاحبها: ما أعرف لك من وديعة، إن كنت صادقا فتناول السلسلة، فتناولها بيده وقال للمنكر: قم أنت أيضا فتناولها، فقال لصاحب الجوهرة: إلزم عكّازتى هذه حتى أتناول السلسلة. فأخذها وقام الرجل وقال:
اللهم إن كنت تعلم أنّ هذه الوديعة التى يدّعيها علىّ قد وصلت إليه فقرّب منّى السلسلة. فمدّ يده وتناولها، فشكّ القوم وتعجّبوا، فأصبحوا وقد رفع الله تلك السلسلة.
وقال الكسائىّ فى خبر السلسلة: أوحى الله تعالى إلى داود أن ينصب سلسلة من حديد ويعلّق فيها جرسا، ففعل ذلك؛ وساق فى خبرها نحو ما تقدّم فى أمر المحقّ والمبطل.(14/57)
قال: وجاء خصمان فادّعى أحدهما على الآخر أنه أودعه جواهرا؛ فاعترف به وقال: أعدته إليه، فتقدّم المدّعى وتناول السلسلة فدنت منه حتى تناولها، ثم قال للمدّعى عليه: تناولها. وكان قد أخذ الوديعة فجعلها فى قناة مجوّفة، فناولها للمدّعى وقال: الزم عصاى هذه، ومدّ يده إلى السلسلة فدنت منه حتى كاد يتناولها؛ ثم ارتفعت وتدلّت إليه مرارا، ثم تناولها، فقال داود للمدّعى: لعلّ هذا قد سلّم وديعتك لأهلك. فرجع وسأل أهله، فقالوا: ما دفع إلينا شيئا. فعاد وأعلم داود، فأخذ داود القناة وشقّها، فطلعت الوديعة منها؛ وارتفعت السلسلة من ذلك اليوم.
قال الثعلبىّ: وكان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- إذا اشتبه عليه أمر الخصمين قال: ما أحوجكما إلى سلسلة بنى إسرائيل؟ كانت تأخذ بعنق الظالم فتجرّه إلى الحق جرّا. والله أعلم بالصواب.
ومنها: القوّة فى العبادة وشدّة الاجتهاد؛ قال الله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ
«1» ، أى القوّة فى العبادة إِنَّهُ أَوَّابٌ
أى توّاب مطيع مسبّح.
وكان داود يقوم الليل، ويصوم يوما ويفطر يوما، وما مرّت ساعة من الليل إلّا وفيها من آل داود قائم يصلّى، ولا يوم من الأيام إلّا وفيه منهم صائم.
ومنها: قوّة المملكة. قال الله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ
«2» أى قوّيناه، وقرأ الحسن: (وشدّدنا ملكه) بالتشديد. قال ابن عباس: كان أشدّ ملوك الأرض سلطانا؛ كان يحرس محرابه كلّ ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل. وقال السّدّىّ:
كان يحرسه فى كل يوم وليلة أربعة آلاف.(14/58)
وروى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رجلا من بنى إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود؛ فقال المستعدى: إن هذا قد غصبنى بقرى «1» . فسأل داود الرجل فجحده، وسأل الآخر البيّنة فلم تكن له بيّنة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر فى أمركما. فقاما من عنده، فأوحى الله تعالى إلى داود فى منامه أن يقتل الذى استعدى عليه، فقال: هذه رؤيا [ولست أعجل حتى أتبيّن «2» ] فأوحى الله تعالى إليه مرّة ثانية أن يقتله [فقال: هذه رؤيا، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله «3» ] أو تأتيه العقوبة من الله. فأرسل داود إلى الرجل فقال: إن الله تعالى قد أوحى إلىّ أن أفتلك. فقال: تقتلنى بغير بيّنة ولا تثبّت؟. فقال نعم، والله لأنفّذنّ أمر الله فيك. فلمّا عرف الرجل أنه قاتله قال: لا تعجل حتى أخبرك، إنّى والله ما أخذت بهذا الذنب، ولكنّى [كنت «4» ] اغتلت والد «5» هذا فقتلته. فأمر به داود فقتل؛ فاشتدّت هيبته عند بنى إسرائيل واشتدّ ملكه.
ويقال: كان لداود إذا جلس للحكم عن يمينه ألف رجل من الأنبياء، وعن يساره ألف رجل من الأحبار.
ومنها: شدّة البطش. فروى أنه ما فرّ ولا انحاز من عدوّ له قطّ، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الحديث الصحيح عن داود عليه السلام: «كان يصوم يوما ويفطر يوما «6» » .(14/59)
ومنها: إلانة الحديد له. قال الله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ
«1» . قالوا: وكان سبب ذلك أنّ داود- عليه السلام- لمّا ملك أمر بنى إسرائيل، كان من عادته أن يخرج للناس متنكّرا، فإذا رأى رجلا لا يعرفه تقدّم إليه وسأله، فيقول له: ما تقول فى داود واليكم هذا؟ أىّ رجل هو؟ فيثنون عليه ويقولون خيرا؛ فبينما هو ذات يوم إذ قيّض الله له ملكا فى صورة آدمىّ، فتقدّم داود إليه، فسأله على عادته، فقال له: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داود ذلك، فقال: ما هى يا عبد الله؟ قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال.
قال: فتنبّه داود لذلك، وسأل الله تعالى أن يسبّب له سببا يستغنى به عن بيت المال، فألان الله له الحديد، فصار فى يده مثل الشّمع والعجين والطّين المبلول، فكان يصرّفه بيده كيف شاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد.
وعلّمه الله تعالى صنعة الدروع فهو أوّل من اتّخذها وكانت قبل ذلك صفائح.
وقيل: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله ويتصدّق منها على الفقراء والمساكين، وذلك قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ
«2» الآية. وقوله: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ
أى دروعا كوامل واسعات وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ
، أى لا تجعل المسامير دقاقا فتنفلق، ولا غلاظا فتكسر الحلق.
فكان يفعل ذلك حتى جمع منه مالا.
وروى أنّ لقمان الحكيم رأى داود وهو يعمل الدّروع، فعجب من ذلك ولم يدر ما هو؟ فأراد أن يسأله، فسكت حتى فرغ داود من نسج الدروع، فقام وصبّها على نفسه وقال: نعم القميص هذا للرجل المحارب. فعلم لقمان ما يراد به، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. والله أعلم.(14/60)
ذكر خبر داود عليه السلام حين ابتلى بالخطيئة
قال الثعلبىّ- رحمه الله-: اختلف العلماء فى سبب امتحان الله تعالى نبيّه داود- عليه السلام- فقيل: إنه تمنّى يوما من الأيام على ربّه تعالى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه نحو الذى كان يمتحنهم به، ويعطيه من الفضل نحو الذى أعطاهم. قال: وروى السّدّىّ والكلبىّ ومقاتل عن أشياخهم دخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: كان داود- عليه السلام- قسم الدهر ثلاثة أيام «1» : يوما يقضى فيه بين الناس، ويوما لعبادة ربّه، ويوما يخلو فيه بنسائه وأولاده وأشغاله؛ وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب- عليهم السلام- فقال: يا ربّ إنّ الخير كلّه ذهب به آبائى الذين كانوا من قبلى. فأوحى الله تعالى إليه: أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها؛ ابتلى إبراهيم بالنّمرود وبذبح ابنه؛ وابتلى إسحاق بالذّبح وبذهاب بصره، وابتلى يعقوب بالحزن على يوسف، وإنك لم تبتل بشىء من ذلك. فقال داود عليه السلام:
ربّ فابتلنى بمثل ما ابتليتهم وأعطنى مثل ما أعطيتهم. فأوحى الله تعالى إليه:
إنك مبتلى فى شهر كذا فى يوم كذا فاحترس. فلمّا كان ذلك اليوم الذى وعده الله عز وجل دخل داود محرابه وأغلق بابه، وجعل يصلّى ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان، تمثّل له فى صورة حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن؛ فوقعت بين رجليه، فمدّ يده ليأخذها. وفى بعض الروايات: «ليدفعها إلى ابن له صغير» فلمّا أهوى إليها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها؛ فامتدّ إليها ليأخذها، فتنحّت، فتبعها فطارت حتى وقعت [فى كوّة «2» ] ، فذهب ليأخذها(14/61)
فطارت من الكوّة؛ فنظر داود عليه السلام أين تقع فيبعث إليها من يصيدها؛ فأبصر امرأة فى بستان على شطّ بركة لها تغتسل، هذا قول الكلبىّ. وقال السّدّىّ:
رآها تغتسل على سطح لها. وقال الكسائىّ: سقط الطائر على شجرة إلى جانب الحوض الذى تغتسل فيه نساء بنى إسرائيل. قالوا: فرأى داود امرأة من أجمل النساء خلقا، فعجب من حسنها، وحانت منها التفاتة، فأبصرت ظلّه، فنفضت شعرها فتغطّى بدنها، فزاده ذلك إعجابا بها؛ فسأل عنها، فقيل هى بتشابع بنت سالغ «1» ، امرأة أوريّا بن حنانا، وزوجها فى غزاة بالبلقاء «2» بعث مع يوآب «3» ابن صروية ابن أخت داود، فكتب داود إلى ابن أخته: أن أبعث أوريّا إلى موضع كذا وكذا، وقدّمه قبل التابوت؛ وكل من قدّم على التابوت لا يحلّ له أن يرجع وراءه [حتى يفتح الله على يديه «4» ] أو يستشهد، فبعثه أيوب وقدّمه، ففتح له، فكتب إلى داود بذلك؛ فكتب إليه أيضا: أن أبعثه إلى عدوّ كذا وكذا.
فبعثه، ففتح له؛ فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدوّ كذا أشدّ منه بأسا. فبعثه؛ فقتل فى المرّة الثالثة. فلمّا انقضت عدّة المرأة تزوّجها داود- عليه السلام- وهى أمّ سليمان عليه السلام.
وقال آخرون: كان سبب امتحانه أن نفسه حدّثته أن يطيق قطع يوم بغير مقارفة سوء.(14/62)
وقد روى الثعلبىّ فى ذلك بسند [سعيد بن «1» ] مطر عن الحسن قال: إن داود- عليه السلام- جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما للعبادة، ويوما للقضاء بين الناس «2» ، ويوما لبنى إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه.
فلمّا كان يوم بنى إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتى على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟ فأضمر داود فى نفسه أنه سيطيق ذلك. فلمّا كان يوم عبادته غلّق أبوابه، وأمر ألّا يدخل عليه أحد، وأكبّ على قراءة الزّبور؛ فبينما هو يقرأ إذا حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وقد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، فطارت فوقعت غير بعيد، ولم تؤيسه من نفسها، فما زال يتبعها حتى أشرف على أمرأة تغتسل، فأعجبه خلقها؛ فلمّا رأت ظلّه فى الأرض جللّت نفسها بشعرها، فزاده ذلك إعجابا بها؛ وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه: أن سر إلى مكان كذا وكذا- مكان إذا سار إليه قتل ولم يرجع- ففعل، فأصيب.
فخطبها داود وتزوّجها.
وقال بعضهم فى سبب ذلك ما رواه أبو إسحاق بسنده عن قتادة عن الحسن قال: قال داود- عليه السلام- لبنى إسرائيل حين ملك: والله لأعدلنّ بينكم.
ولم يستثن؛ فابتلى.
وقال أبو بكر الورّاق: كان سبب ذلك أن داود عليه السلام كان كثير العبادة، فأعجب بعمله وقال: هل فى الأرض أحد يعمل عملى؟ فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله عزّ وجلّ يقول: أعجبت بعبادتك والعجب(14/63)
يأكل العبادة، فإن أعجبت ثانيا وكلتك إلى نفسك. فقال: يا ربّ كلنى إلى نفسى سنة. قال: إنها لكثيرة. قال: شهرا. قال: إنه لكثير. قال:
فأسبوعا. قال: إنه لكثير. قال: فيوما. قال: إنه لكثير. قال: فساعة.
قال: فشأنك بها. فوكّل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحرب ووضع الزبور بين يديه، فبينما هو فى نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه؛ وكان من أمر المرأة ما كان.
قالوا: فلمّا دخل داود عليه السلام بامرأة أوريّا لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله عز وجل ملكين فى صورة إنسيّين، يطلبان أن يدخلا عليه، فوجداه فى يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه؛ فتسوّرا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلّى إلّا وهما بين يديه جالسان، فذلك قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ «1»
أى تجر وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ «2»
أى وسط الطريق إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ
كنى بالنّعاج عن النساء؛ والعرب تفعل ذلك. فَقالَ أَكْفِلْنِيها
. قال ابن عبّاس: أعطنيها. وقال ابن جبير عنه: تحوّل لى عنها. وقال أبو العالية: ضمّها إلىّ حتى أكفلها. وقال ابن كيسان: إجعلها كفلى، أى نصيبى. وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «3»
، أى غلبنى. وقرأ عبيد بن عمير: وعازّنى، من المعازّاة، وهى المغالبة.
قال داود: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ(14/64)
أى الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ «1» .
وروى السّدّىّ أن أحدهما لما قال: إِنَّ هذا أَخِي
الآية، قال داود- عليه السلام- للآخر: ما تقول؟ قال: إن لى تسعا وتسعين نعجة ولأخى هذا نعجة واحدة، وأنا أريد أن آخذها منه فأكمّل نعاجى مائة وهو كاره. قال داود: وهو كاره؟ قال نعم. قال: إذا لا ندعك وذلك، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا، يعنى طرف الأنف وأصل الجبهة. فقال: يا داود، أنت أحقّ أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريّاء إلا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرّضه للقتل حتى قتل وتزوّجت امرأته. فنظر داود- عليه السلام- فلم ير أحدا، فعرف ما قد وقع فيه؛ فذلك قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ
أى أيقن أَنَّما فَتَنَّاهُ
أى ابتليناه. قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنة داود النظر. قال الثعلبىّ: ولم يتعمد النظر إلى المرأة، ولكنه أعاد النظر اليها فصارت عليه «2» .
قال: فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير فى قصة امتحان الله تعالى داود عليه السلام. وقد روى عن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- قال:
«من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص معتقدا صحته جلدته حدّين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب «3» من الوزر والإثم، يرمى من قد رفع الله محلّه وأنابه من خلقه رحمة للعالمين وحجة للمجتهدين» !.
وقال القائلون بتنزيه المرسلين فى هذه القصة: إن ذنب داود- عليه السلام- إنما كان أنه تمنّى أن تكون له امرأة أوريّاء حلالا له، وحدّث نفسه بذلك، فاتفق(14/65)
غزو أوريّاء وتقدّمه فى الحرب وهلاكه. فلمّا بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجّع له كما [كان «1» ] يجزع على غيره من جنده إذا هلك، [ووافق قتله مراده، ثم تزوّج امرأته فعاتبه الله على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت «2» ] فهى عظيمة عند الله تعالى.
وقال بعضهم: ذنب داود أن أوريّاء كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها، فلما غاب فى غزاته خطبها داود، فتزوّجت منه لجلالته؛ فاغتمّ لذلك أوريّاء غمّا شديدا، فعاتبه الله تعالى على ذلك، حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها الأوّل، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة.
قالوا: فلما علم داود أنه ابتلى سجد فمكث أربعين ليلة ساجدا باكيا حتى نبت الزرع من دموعه، وأكلت الأرض من جبينه، وهو يقول فى سجوده: ربّ داود زل داود زلّة أبعد مما بين المشرق والمغرب، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا فى الخلوف من بعده. فجاء جبريل- عليه السلام- بعد أربعين ليلة فقال: يا داود، إن الله تعالى قد غفر لك الهمّ الذى هممت به.
فقال داود: عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لى، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: يا ربّ، دمى الذى عند داود؟
فقال جبريل: ما سألت ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلنّ. قال نعم. فعرج جبريل- عليه السلام- وسجد داود فمكث ما شاء الله، ثم نزل جبريل فقال:
قد سألت يا داود ربّك عن الذى أرسلتنى فيه فقال: قل لداود: إن الله يجمعكما يوم القيامة، فيقول له: هب لى دمك الذى عند داود؛ فيقول: هو لك يا ربّ، فيقول: فإن لك فى الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا.(14/66)
وروى الثعلبىّ بسند رفعه إلى ابن عبّاس وكعب الأحبار ووهب بن منبّه، قالوا جميعا: إن داود- عليه السلام- لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحوّلا عن صورتهما، فعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه.
وعلم داود أنه عنى به، فخرّ ساجدا أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب ولا يرفع رأسه إلّا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجدا، لا يرفع رأسه إلّا لحاجة لا بدّ منها ثم يعود، فسجد تمام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكى حتى نبت العشب حول رأسه، وهو ينادى ربه- عز وجل- ويسأله التوبة، ويدعو بدعاء «1» طويل ذكره الثعلبىّ، فى آخر كل كلمة منه:
سبحان خالق النور.
قال: فأتاه نداء: يا داود، أجائع أنت فتطعم، أظمآن أنت فتسقى، أمظلوم أنت فتنصر، ولم يجبه فى ذكر خطيئته بشىء. فصاح صيحة هاج منها ما حوله؛ ثم نادى: يا رب الذنب الذى أصبته. فنودى: يا داود، ارفع رأسك فقد غفرت لك. فلم يرفع رأسه حتى جاء جبريل- عليه السلام- فرفعه.
قال وهب: إن داود- عليه السلام- أتاه نداء: إنّى قد غفرت لك.
قال: يا رب، كيف وأنت لا تظلم أحدا؟ قال: اذهب إلى قبر أوريّاء، فناده وأنا أسمعه نداءك، فتحلّل منه. فانطلق حتى أتى قبره وقد لبس المسوح، فجلس ثم نادى: يا أوريّاء. فقال: لبيّك، من هذا الذى قطع علىّ لذّتى وأيقظنى؟ قال:
أنا داود. قال: ما جاء بك يا نبىّ الله؟ قال: أسألك أن تجعلنى فى حلّ مما كان منّى إليك. قال: وما كان منك إلىّ؟ قال: عرّضتك للقتل. قال: عرّضتنى للجنّة،(14/67)
فأنت فى حلّ. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، ألم تعلم أنى حكم عدل لا أقضى بالغيب والتغرير «1» ! ألا أعلمته أنك قد تزوّجت امرأته!.
قال: فرجع إليه فناداه؛ فأجابه فقال: من هذا الذى قطع علىّ لذّتى؟ قال:
أنا داود. قال: يا نبىّ الله، أليس قد عفوت عنك! قال: نعم، ولكن إنما فعلت ذلك لمكان امرأتك فتزوّجتها، فسكت ولم يجبه، وعاوده فلم يجبه، فقام عند قبره وحثا «2» التراب على رأسه ثم نادى: الويل لداود ثم الويل لداود إذا نصبت الموازين القسط [ليوم القيامة «3» ] ، سبحان خالق النور. الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم، سبحان خالق النور. الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور. الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقرّبه الزبانية مع الظالمين إلى النار، سبحان خالق النور.
قال: فأتاه نداء من السماء: يا داود، قد غفرت لك ذنبك، ورحمت بكاءك، واستجبت دعاءك، وأقلت عثرتك. قال: يا ربّ، كيف لى أن تعفو عنّى وصاحبى لم يعف عنّى؟ قال: يا داود، أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه، ولم تسمع أذناه، فأقول له: رضيت عبدى؟ فيقول: يا ربّ، من أين لى هذا ولم يبلغه عملى؟
فأقول له: هذا عوض من عبدى «4» داود، فأستوهبك منه فيهبك لى. قال: يا رب، الآن قد عرفت أنك قد غفرت لى. فذلك قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ «5» * فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ
، أى ذلك الذنب وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ «6»
أى وإنّ له بعد المغفرة عندنا يوم القيامة حسن مرجع.(14/68)
قال الثعلبىّ ورفعه إلى وهب بن منبّه قال: إن داود- عليه السلام- لما تاب الله تعالى عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا ترقا له دمعة ليلا ولا نهارا، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة، فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام، فجعل يوما للقضاء بين بنى إسرائيل، ويوما لنسائه، ويوما يسيح فى الفيافى والجبال والساحل، ويوما يخلو فى دار له فيها أربعة آلاف محراب؛ فيجتمع إليه الرّهبان، فينوح معهم على نفسه، ويساعدونه على ذلك. فإذا كان يوم سياحته يخرج فى الفيافى، فيرفع صوته بالمزامير، فيبكى وتبكى معه الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار؛ ثم يجىء إلى الساحل فيبكى وتبكى معه الحيتان ودوّاب البحر والسباع وطير الماء، فإذا أمسى رجع، فإذا كان يوم نوحه نادى مناد: إن اليوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده. قال: فيدخل الدار التى فيها المحاريب، فتبسط له فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها، ويجىء الرّهبان وهم أربعة آلاف، عليهم البرانس وفى أيديهم العصىّ، فيجلسون فى تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالنّوح والبكاء، ويرفع الرهبان معه أصواتهم، فلا يزال يبكى حتى تغرق الفرش من دموعه، ويقع داود مثل الفرخ يضطرب، فيجىء ابنه سليمان فيحمله، فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيّه، ثم يمسح بها وجهه ويقول: يا رب اغفر ما ترى. قال: فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله.
وقال ثابت: ما شرب داود شرابا بعد المغفرة إلّا ونصفه ممزوج بدموع عينيه.
وعن الأوزاعىّ قال: بلغنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قال:
«خدت الدموع فى وجه داود- عليه السلام- خديد الماء فى الأرض» .(14/69)
ذكر ميلاد سليمان بن داود عليهما السلام
قال الكسائىّ: كان لداود- عليه السلام- عدّة من الولد، فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث ملكه؛ فرزقه الله تعالى سليمان. فنودى إبليس عند ما حملت به أمه: يا ملعون، قد حمل فى هذه الليلة برجل يكون طول حزنك على يديه، ويكون أولادك له خدّاما. ففزع من ذلك وجمع الشياطين وأخبرهم بأمر المولود وما سمعه وقال: إنه لا يكون إلّا من داود، فإنه خير أهل الأرض.
قال: فلما وضعته أمه أتت الملائكة إلى داود وقالوا: أقرّ الله عينك به.
فبادر داود إلى منزله فرأى أعلام الملائكة منصوبة، فخرّ داود شكرا لله تعالى، وقرّب قربانا عظيما. ثم جاءه إبليس وقال: يا داود، أقرّ الله عينك بولدك، غير أنه يقتلك ويسلبك ملكك، فاقتله صغيرا وإلّا قتلك كبيرا، فغضب منه ولعنه، فانصرف وقد خاب أمله.
قال: ونشأ سليمان، فكان داود إذا تلا الزبور حفظ ما يتلوه لوقته، وحفظ التوراة، وكان يحكم بحضرة أبيه.
ذكر خبر أبشالوم بن داود
قال الكسائىّ: كان من خبر «أبشالوم «1» » أنه لما كان من أمر فتنة داود- عليه السلام- ما قدّمناه، تكلّم بعض بنى إسرائيل فى ذلك وجاءوا إلى «أبشالوم» وهو ابن بنت طالوت، وقالوا: إنّ أباك قد كبر وعجز عن سياستنا، وقد وقع(14/70)
فى هذه الخطيئة، وأنت أكبر أولاده، والرأى أن ندعو الناس إليك وتقوم مقامه، فتبع رأيهم وتولّى الملك. فخاف داود على نفسه من سفهاء بنى إسرائيل، ففارق منزله واعتزل القوم برجلين من أصحابه. ثم جاء رجل من بنى إسرائيل اسمه أحيتوفل «1» إلى أبشالوم وقال: إنه لا يستقيم أمرك إلّا بعد وفاة أبيك، والرأى أن تعاجله وتقتله ما دام فى الخطيئة، فهمّ بذلك ثم صرفه الله عنه. فلما غفر الله تعالى لداود ورجع إلى قومه اعتزل ابنه «أبشالوم» فى طائفة من بنى إسرائيل. فلمّا ولد سليمان أرسل داود ابن أخت «2» له يقال له: «يوآب «3» » إلى ابنه «أبشالوم» وقال:
سر إليه فإنه اعتزلنى خوفا على نفسه، وما كنت بالذى أقتل ولدى وقد تاب الله تعالى علىّ ورزقنى هذا الولد المبارك، فإن ظفرت به فائتنى به مكرّما، وإيّاك أن تقتله، فإنك إن قتلته قتلتك به. فسار إليه فى نفر من أصحابه، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أبشالوم ومن معه. فبينا هو فى هزيمته إذ مرّ بشجرة فعلق برنسه بها، وخرج الفرس من تحته، فأدركه يوآب فحمله الحرج «4» على قتله فقتله وتركه معلّقا فى الشجرة، ورجع إلى داود فأخبره الخبر، فغضب وقال: إنى قاتلك به لا محالة عاجلا أو آجلا.
قال الثعلبىّ: فلما حضرت داود الوفاة أمر سليمان أن يقتله، فقتله بعد فراغه من دفن أبيه.(14/71)
ذكر خبر الزرع الذى رعته الغنم وما حكم فيه سليمان عليه السلام
قال الكسائىّ: وبينما داود- عليه السلام- فى يوم قضائه وسليمان بين يديه، إذ تقدّم إليه قوم فقالوا: يا نبىّ الله، إنّا قوم حرثنا أرضا لنا وزرعناها وسقيناها حتى بلغت الحصاد، فجاء هؤلاء وأرسلوا أغنامهم فيها بالليل، فرعتها جميعا حتى لم يبق منها شىء. فقال داود لأصحاب الغنم: ما تقولون؟ قالوا: صدقوا.
فقال لأصحاب الزرع: كم قيمة زرعكم؟ قالوا: كذا وكذا. وقال لأرباب الغنم: كم قيمة أغنامكم؟ فذكروا قيمتها، فتقاربت القيم، فقال: ادفعوا أغنامكم إليهم بقيمة زرعهم. فقال سليمان: يا أبت إن أذنت لى تكلّمت. قال: يا بنىّ تكلم بما عندك.
فقال سليمان لأرباب الغنم: ادفعوا أغنامكم إلى هؤلاء ينتفعوا بأصوافها وألبانها ونتاجها، وخذوا أنتم أرضهم فاحرثوا وازرعوها واسقوها حتى يقوم الزرع على سوقه، فإذا بلغ الحصاد فسلّموا إليهم أرضهم بزرعها وخذوا أغنامكم، فرضوا جميعا بذلك. قال الله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً
«1» .
قال: ولما نظر مشايخ بنى إسرائيل إلى جلوس سليمان عن يمين أبيه مع صغر سنّه حسدوه على ذلك. فأوحى الله إلى داود أن يقيم سليمان خطيبا ليسمعهم من الحكمة ما ألهمه الله ليعلموا فضله عليهم. فجمع داود الناس حتى العبّاد والرّهبان وأهل السياحة إلى محرابه، وكانت سنّ سليمان يومئذ اثنتى عشرة سنة، فأخرجه داود إليهم وألبسه لباس النبيّين من الصوف الأبيض وقال: هذا ابنى قد أخرجته إليكم خطيبا ليورد عليكم مما علّمه الله تعالى. فجلس على منبر أبيه وحمد الله تعالى ووحّده، ووصف عجائب خلقه وصنعه؛ فسجدوا شكرا لله، ونظروا إليه بعد ذلك(14/72)
بالعين الرفيعة وأجلّوه، وأعطى سليمان فى حياة أبيه من العلم ما فسّر لبنى إسرائيل خطبة آدم ووصيّة شيث ورفع إدريس وغير ذلك.
ذكر خبر الذين اعتدوا فى السبت
قال الله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ
«1» . وقال تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ «2»
الآية.
قال الكسائىّ: وكان فى زمن داود- عليه السلام- قوم من بنى إسرائيل من أبناء الذين كانوا مع موسى؛ وكانوا ينزلون على ساحل البحر بقرية يقال لها:
«ايلة «3» » وكان الله قد حرّم على بنى إسرائيل أن يشتغلوا يوم السبت، وأوجب عليهم فيه العبادة؛ لأنّ موسى- عليه السلام- أمرهم بالعبادة يوم الجمعة فأبوا وقالوا:
لا ينبغى لنا أن نشتغل بعبادة الرب إلا فى اليوم الذى فرغ فيه من الخلق، وهو يوم السبت. فلمّا اختاروه شدّد الله عليهم فيه؛ قال الله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ «4»
. وكان موسى يأمر قومه بتعظيمه؛ فكانوا كذلك مدّة، وكان على ساحل البحر إلى جانب أيلة حجران أبيضان، وكانت الحيتان تخرج إلى أصلهما ليلة السبت ويوم السبت، لأنها كانت لا تصاد، فإذا أقبلت ليلة الأحد(14/73)
خرجت منهما إلى البحر، فيتعذّر عليهم صيدها فيه إلّا بمشقّة؛ فذلك قوله تعالى:
إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ «1»
. فجعل فسّاق أهل «أيلة» يقول بعضهم لبعض: إنما حرّم الله تعالى الاصطياد على آبائنا وأجدادنا لا علينا، ونحن لا ذنب لنا، وهذه الحيتان تكثر يوم السبت وليلته، فمن المحال تركها؛ فاصطادوها وطبخوها وشووا منها، فشمّ المؤمنون راحتها فى يوم السبت، فخرجوا إلى الفسّاق ووعظوهم وحذّروهم، فلم يكترثوا لذلك ولم ينتهوا عنه، فاجتمع المؤمنون على أبواب القرية بالسلاح ومنعوهم من دخولها، فاشتدّ ذلك على الفسّاق وشقّ عليهم أن يمتنعوا من الاصطياد فى يوم السبت لكثرة الحيتان فيه دون غيره من الأيام، فقالوا: إن هذه [القرية «2» ] مشتركة بيننا [وبينكم «3» ] ولا يحلّ لكم أن تمنعونا منها، فإمّا أن تصبروا على أفعالنا أو تقاسمونا القرية فننفرد عنكم. فتراضوا على ذلك وقاسموهم القرية، وبنوا بينهم حيطانا عالية وبابا يدخلون منه غير بابهم، وانفردت كلّ طائفة، واشتغل الفسّاق باللهو واللعب والاصطياد، وحفروا أنهارا صغارا من البحر إلى أبواب دورهم، فكانت الحيتان تأتيها فى يوم السبت، فإذا غربت الشمس همّت الحيتان بالرجوع إلى البحر، فيسدّون أفواه تلك الأنهار مما يلى البحر، ويصيدون تلك الحيتان. هذا والمؤمنون يخوّفونهم عذاب الله فلا يرجعون. فلمّا طال ذلك وتكرّر منهم قال بعض المؤمنين لبعض: إلى كم ننصح هؤلاء ولا يزيدون إلا تماديا وعتوّا! قال الله تعالى:
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً «4»
الآية.(14/74)
قال: واستغنى الفسّاق وكثرت أموالهم، واشتروا الضّياع وانهمكوا على الفسق.
فبلغ ذلك داود- عليه السلام- فلعنهم ودعا عليهم. فبينما هم فى منازلهم فى شرّ ما هم فيه إذ زلزلت قريتهم زلزلة عظيمة، ففزع المؤمنون وخرجوا من بيوتهم؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «1»
وقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ
«2» فالذين لعنوا على لسان داود هم هؤلاء الذين اعتدوا فى السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين سألوه نزول المائدة، فلمّا نزلت عليهم كفروا.
قال: فمسخ الله هؤلاء الذين اعتدوا فى السبت قردة، ومسخ أصحاب المائدة خنازير- وسنذكر إن شاء الله خبر أصحاب المائدة فى موضعه من أخبار عيسى عليه السلام- قال: فكان أحدهم يأتى حميمه من المؤمنين وعيناه تدرفان دمعا فيقول له: أنت فلان؟ فيشير برأسه، أى نعم. فيقول لهم المؤمنون: قد أنذرناكم عذاب ربكم وعقوبته فلم تتّعظوا، فنزل بكم ما نزل.
قال الثعلبىّ قال قتادة: صارت الشّبّان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلّا الذين نهوا وهلك سائرهم. قال: ثم برز الممسوخون من المدينة وهاموا على وجوههم متحيّرين، فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا، وكذلك لم يلبث مسخ فوق ثلاثة أيام، ولم يتوالدوا ولم يتناسلوا؛ بم بعث الله تعالى عليهم ريحا ومطرا فقذفهم فى البحر، فإذا كان يوم القيامة أعادهم الله إلى صورهم الأولى البشرية، فيدخلهم النار.
والله أعلم.(14/75)
ذكر استخلاف داود ابنه سليمان عليهما السلام وخبر الصحيفة وابتداء أمر الخاتم
قال الكسائى- رحمه الله-: ولمّا أتى على سليمان بضع وعشرون سنة نزل جبريل على داود بصحيفة، وأمره عن الله تعالى أن يجمع أولاده ويقرأ عليهم ما فى الصحيفة من المسائل، فمن أجاب عمّا فيها فهو الخليفة من بعده. فأحضر داود أولاده، وكان سليمان أصغرهم سنّا، وقرأ عليهم ما فى الصحيفة، فأقرّوا بالعجز عن معرفتها، وذلك بحضور مشيخة بنى إسرائيل، فقال داود- عليه السلام- لسليمان- عليه السلام-: أجب عن هذه المسائل. فقال: أرجو أن يهدينى الله تعالى إلى جوابها. فقال: يا سليمان، ما الشىء؟ قال: المؤمن. قال: فما بعض الشىء؟ قال: الفاجر. قال: فما لا شىء؟ قال: الكافر. قال: فما كلّ شى؟
قال: الماء. قال: فما أكبر شىء؟ قال: الشّرك. قال: فما أقلّ شىء؟ قال:
اليقين. قال: فما أمرّ شىء؟ قال: الفقر بعد الغنى. قال: فما أحلى شىء؟
قال: المال والولد. قال: فما أقبح شىء؟ قال: الكفر بعد الإيمان. قال:
فما أحسن شىء؟ قال: الرّوح فى الجسد. قال: فما أوحش شىء؟ قال: الجسد بلا روح. قال: فما أقرب شىء؟ قال: الآخرة [من الدنيا «1» ] . قال: فما أبعد شىء؟ قال: الدنيا من الآخرة. قال: فما أشرّ شىء؟ قال: المرأة السوء. قال:
فما خير شىء؟ قال: المرأة الصالحة.
قال: وكان داود يصدّقه عقب كل مسئلة، ثم التفت إلى بنى إسرائيل فقال:
ما أنكرتم من قول ابنى؟ قالوا: ما أخطأ فى شىء متّعك الله به، وبارك لنا ولك فيه.
قال: أترضون أن يكون خليفتى عليكم؟ قالوا نعم. هذا ما أورده الكسائىّ رحمه الله.(14/76)
وقد ذكر الثعلبىّ فى هذه القصة زيادات نذكرها. قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- قال أبو هريرة- رضى الله عنه-: نزل كتاب من السماء مختوم بخاتم من الذهب على داود فيه ثلاث عشرة «1» مسألة، فأوحى الله تعالى إليه أن اسأل عنها ابنك سليمان، فإن هو أخرجها فهو الخليفة من بعدك. قال: وإن داود- عليه السلام- دعا سبعين قسّيسا وسبعين حبرا، ولم يذكر أولاده. قال:
وأجلس سليمان بين أيديهم وقال له: يا بنىّ، إن الله أنزل من السماء كتابا فيه مسائل، وأمرت أن أسألك عنها، فإن أخرجتها فأنت الخليفة من بعدى. قال سليمان: اسأل يا نبىّ الله عما بدالك، وما توفيقى إلا بالله.
قال داود: أخبرنى يا بنىّ، ما أقرب الأشياء؟ وما أبعد الأشياء؟ وما آنس الأشياء؟ وما أوحش الأشياء؟ وما أحسن الأشياء؟ وما أقبح الأشياء؟ وما أقلّ الأشياء؟ وما أكثر الأشياء؟ وما القائمان؟ وما المختلفان؟ وما المتباغضان؟
وما الأمر الذى إن ركبه الرجل حمد آخره؟ وما الأمر الذى إن ركبه الرجل ذمّ آخره؟.
قال سليمان: أمّا أقرب الأشياء فالآخرة. وأما أبعد الأشياء فما فاتك من الدنيا.
وأما آنس الأشياء فجسد فيه روح. وأما أوحش الأشياء فالجسد بلا روح. وأما أحسن الأشياء فالإيمان بعد الكفر «2» . وأما أقبح الأشياء فالكفر بعد الإيمان.
وأما أقل الأشياء فاليقين. وأما أكثر الأشياء فالشكر. وأما القائمان: فالسماء(14/77)
والأرض. وأما المختلفان: فالليل والنهار. وأما المتباغضان: فالموت والحياة.
وأما الأمر الذى اذا ركبه الرجل حمد آخره فالحلم. وأما الأمر الذى اذا ركبه الرجل ذمّ آخره فالحدّة عند الغضب.
قال: ففكّوا الخاتم، فإذا جواب المسائل سواء على ما نزل من السماء. فقال القسّيسون والأحبار: لا نرضى حتى نسأله عن مسألة، فإن هو أخرجها فهو الخليفة.
قال: سلوه. قال سليمان: سلونى وما توفيقى إلا بالله. قالوا: ما الشىء الذى إذا صلح صلح كلّ شىء من الإنسان، وإذا فسد فسد كلّ شىء منه؟ قال: هو القلب. فقام داود وصعد المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرنى أن أستخلف عليكم سليمان. قال: فضجّت بنو إسرائيل وقالوا: غلام حدث يستخلف علينا وفينا من هو أعلم وأفضل منه! فبلغ ذلك داود، فدعا رءوس أسباط بنى إسرائيل وقال: إنه بلغتنى مقالتكم، فأرونى عصيّكم، فأىّ عصا أثمرت فإنّ صاحبها ولىّ هذا الأمر [بعدى] ؛ فقالوا: قد رضينا. فجاءوا بعصيّهم؛ فقال لهم داود: ليكتب كل رجل منكم اسمه على عصاه؛ فكتبوا. ثم جاء سليمان بعصاه فكتب عليها اسمه؛ ثم أدخلت بيتا وأغلق عليها الباب وسكّر بالأقفال، وحرسه رءوس أسباط بنى إسرائيل. فلما أصبح صلّى بهم الغداة؛ ثم أقبل وفتح الباب وأخرج عصيّهم كما هى، وعصا سليمان قد أثمرت وأورقت. قال: فسلّموا ذلك لداود، فأخذ ابنه سليمان ثم سار به فى بنى إسرائيل فقال: هذا خليفتى فيكم من بعدى.
قال وهب بن منبّه: لما استخلف داود ابنه وعظه فقال: يا بنىّ، إياك والهزل؛ فإنّ نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان. وإيّاك والغضب؛ فإن الغضب يستخفّ صاحبه. وعليك بتقوى الله وطاعته؛ فإنهما يغلبان كل شىء. وإيّاك(14/78)
وكثرة الغيرة على أهلك من غير شىء؛ فإن ذلك يورث سوء الظنّ بالناس وإن كانوا برآء. واقطع طمعك عن الناس؛ فإنه هو الغنى. وإياك والطمع فهو الفقر الحاضر.
وإياك وما يعتذر منه من القول والفعل. وعوّد نفسك ولسانك الصدق؛ والزم الإحسان؛ فإن استطعت أن يكون يومك خيرا من أمسك فافعل. وصلّ صلاة مودّع، ولا تجالس السفهاء، ولا تردّ على عالم ولا تماره فى الدّين. وإذا غضبت فألصق نفسك بالأرض وتحوّل من مكانك. وارج رحمة الله فإنها واسعة وسعت كل شىء.
قالوا: ثم إن سليمان بعد أن استخلف أخفى أمره وتزوّج امرأة واستتر عن الناس، وأقبل على العلم والعبادة. ثم إن امرأته قالت له ذات يوم: بأبى أنت وأمّى، ما أكمل خصالك وأطيب ريحك! ولا أعلم لك خصلة أكرهها إلّا أنك فى مئونة أبى «1» ، فلو أنك دخلت السوق فتعرّضت لرزق الله لرجوت ألا يخيبّك الله. قال سليمان: إنى والله ما عملت عملا ولا أحسنه، ثم دخل السّوق صبيحة يومه ذلك فلم يقدر على شىء، فرجع فأخبرها. فقالت له: يكون غدا إن شاء الله.
فلما كان فى اليوم الثانى مضى حتى انتهى إلى ساحل البحر وإذا هو بصيّاد، فقال له: هل لك أن أعينك وتعطينى شيئا؟ قال نعم، فأعانه. فلما فرغ أعطاه الصياد سمكتين، فأخذهما وحمد الله تعالى، ثم إنه شقّ بطن إحداهما فإذا هو بخاتم فى بطنها، فأخذه وصرّه فى ثوبه، وحمد الله تعالى، وجاء بالسمكتين إلى منزله، ففرحت امرأته بذلك، فأخرج الخاتم [ولبسه «2» فى إصبعه] ؛ فعكفت عليه(14/79)
الطير والريح، ووقع عليه بهاء الملك؛ ولم يلبث أبوه أن مات. [فلما ملك حمل المرأة وأبويها إلى إصطخر «1» ] .
وقد قيل فى أمر الخاتم غير ذلك- على ما أورده الكسائىّ- وسنذكره إن شاء الله تعالى بعد هذا فى أخبار سليمان عليه السلام.
ذكر وفاة داود عليه السلام
قال الكسائىّ: كان داود- عليه السلام- شديد الغيرة على النساء، ويغلق الأبواب عليهنّ إذا خرج، ويحمل المفاتيح معه. فقيل: إنه رجع يوما ففتح باب نسائه، فرأى رجلا فى داره ذا مهابة «2» . فقال له داود- وغضب-:
من أنت؟ ومن أدخلك دارى؟ قال: أدخلنى الدار من هو أولى بها منك، أنا الذى لا أهاب الملوك، ولا يمنعنى دونهم الحجّاب والجنود، وأفرّق بين الجمع، أنا ملك الموت. فارتعد داود وقال: دعنى أدخل إلى أهلى لأودّعهم. قال: لا سبيل إلى ذلك يا داود. فبكى وقال: من لبنى اسرائيل من بعدى؟ قال: ابنك سليمان.
قال: الآن طابت نفسى، امض لما أمرت به، فقبض روحه- عليه السلام- وغسّله سليمان وإخوته، وكفّنه بأكفان نزلت عليه من الجنة، وحمله إلى قبره،(14/80)
ودفن دون غار إبراهيم- عليه السلام- قال: وعكفت الطير على قبره أربعين يوما.
قال الثعلبىّ فى خبر وفاة داود: إن داود كانت له وصيفة تغلق الأبواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح ثم تنام، ويقبل داود على ورده فى العبادة. فأغلقت ذات ليلة الأبواب وجاءت بالمفاتيح ثم ذهبت لتنام، فرأت رجلا قائما فى وسط الدار فقالت: ما أدخلك هذه الدار! فإن صاحبها رجل غيور، فخذ حذرك. فقال:
أنا الذى أدخل على الملوك بغير إذن. فسمعه داود، وكان فى المحراب يصلّى، ففزع واضطرب وقال: علىّ به، فأتاه. فقال: ما أدخلك هذه الدار فى هذا الوقت بغير إذن؟! فقال: أنا الذى أدخل على الملوك بغير إذن. قال:
فأنت ملك الموت؟ قال نعم. قال: أجئت داعيا أم ناعيا؟ قال: بل ناعيا.
قال: فهلّا أرسلت إلىّ قبل ذلك وآذنتنى لأستعدّ للموت؟ قال: كم أرسلت إليك يا داود فلم تنتبه. قال: ومن كانت رسلك؟ قال: يا داود، أين أبوك إيشى؟
وأين أمّك؟ وأين أخوك؟ وأين قهرمانك فلان؟ قال: ماتوا كلهم. قال: أما علمت أنهم رسلى، وأن النوبة تبلغك! ثم قبضه.
قال أهل التاريخ: كان عمر داود مائة سنة، ومدّة ملكه أربعين سنة.
وقد تقدّم خبر آدم فيما وهب له من عمره «1» .(14/81)
ذكر نبوّة «1» سليمان بن داود عليهما السلام وملكه
قال الكسائىّ- رحمه الله-: ولما قام سليمان- عليه السلام- من عزاء أبيه داود وتفرّق الطير عن قبره، دخل محراب أبيه، فهبط عليه جبريل- عليه السلام- وقال له: إن الله تعالى يخصّك بالسلام ويقول لك:
الملك أحبّ إليك أو العلم؟. فخرّ سليمان ساجدا لله تعالى وقال: العلم أحبّ إلىّ من الملك، لأنه أنفع الأشياء. فأوحى الله تعالى إليه: إنك تواضعت وأخترت العلم على الملك، فقد وهبت لك العلم والملك، وأضفت إلى ذلك كمال العقل وزينة الخلق، ونزعت عنك العجب «2» ، وسأطوى لك الدنيا بأسرها حتى تطأها بجيشك وتشاهد عجائبها. فخرّ سليمان ساجدا لربّه، ورفع رأسه فإذا الرياح الثمانية قد وقفت بين يديه وقالت له: إن الله سخّرنا لك، فاركبنا إذا شئت إلى أىّ موضع شئت.
وأقبلت الوحوش والسّباع فوقفت بين يديه وقالت: إن الله أمرنا بالطاعة لك.
وأقبلت الطير وقالت: قد أمرنا أن نظلّك بأجنحتنا ولا نخالفك فى أمر. وفوّض الله- عز وجل- إلى سليمان أمر الدنيا شرقها وغربها.
ذكر حشر الطير لسليمان بن داود عليهما السلام وكلامها له
قال الكسائىّ: ولما آتاه الله النبوّة والملك أحبّ أن يستنطق الطير، فحشرت إليه، فكان جبريل يحشر طير المشرق والمغرب من البر «3» ، وميكائيل يحشر طير الهواء والجبال. فنظر سليمان إلى عجائب خلقها، وجعل يسأل كل واحد منها عن مسكنه(14/82)
ومعاشه فيخبره، وكان بين يديه سبعة ألوية من ألوية الأنبياء، يمسكها سبعة من الملائكة.
قال: ولما حشرت الطير له جاءته فوجا فوجا؛ فسلّمت عليه «الخطّافة» بثلاث «1» لغات وقالت: يا نبىّ الله، أنا ممن اختارنى نوح وحملنى فى السفينة، ومنّى تناسل كلّ خطّافة فى الدنيا، ودعا لى آدم وقال: إنك تدركين من أولادى من خلافته مثل خلافتى، تحشر إليه الوحوش والطيور والمردة، فإذا رأيته فأقرئيه منّى السلام. وقالت له: يا نبىّ الله، إن معى سورة تعجب الملائكة من نورها، ما أعطيت لأحد من بنى آدم غير أبيك إبراهيم، فإنها نزلت كرامة له يوم ألقى فى النار، فهل لك أن تسمعها منّى؟ قال نعم. فقرأت سورة الْحَمْدُ
حتى بلغت وَلَا الضَّالِّينَ
ومدّت صوتها بآمين وسجدت، وسجد معها سليمان عليه السلام.
ثم تقدّم «النّسر» وهو يومئذ فى صورة عظيمة فقال: السلام عليك يا ملك الدنيا، ما رأيت ملكا أعظم من ملكك، وإنى صحبت آدم وساعدته على كثرة حزنه، وأنا أوّل من علم بهبوطه إلى الأرض، وكنت معه إلى أن تاب الله عليه وقال: إنه يكون من ذرّيتى من يحشر له الطير، فإذا رأيته فأقرئه منىّ السلام؛ وقد أدّيت إليك وديعته، فاصطنعنى يا نبىّ الله، فإنى عليم بمعادن «2» الأرض وجبالها، ومعى آية عظيمة لا يفتر لسانى عنها، وهى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ «3»
. ثم سجد وسجد معه سليمان؛ فلمّا رفع رأسه جعله سليمان ملكا على سائر الطيور.(14/83)