ونخرت «1» وكفرت، وعبست وبسرت «2» ؛ وأبدأت وأعدت، [وأبرقت وأرعدت «3» ] و «هممت ولم أفعل وكدت [وليتنى «4» ] » ولولا [أنّ] للجوار ذمّة، وللضيافة حرمة؛ لكان الجواب فى قذال الدّمستق «5» ، ولكنّ النعل حاضرة إن عادت العقرب، والعقوبة ممكنة إن أصرّ المذنب؛ وهبها لم تلاحظك بعين كليلة عن عيوبك، ملؤها حبيبها، وحسن فيها من تودّ، وكانت إنما حلّتك بحلاك «6» ، ووسمتك بسيامك؛ ولم تعرك شهاده، ولا تكلّفت لك زياده؛ بل صدقتك سنّ بكرها «7» فيما ذكرته عنك، ووضعت الهناء «8» مواضع النّقب فيما نسبته إليك؛ ولم تكن (كاذبة فيما أثنت «9» به عليك) ،(7/282)
فالمعيدىّ «1» تسمع به لا أن تراه، هجين «2» القذال، أرعن السّبال؛ طويل العنق والعلاوة «3» ، مفرط الحمق والغباوة؛ جافى الطبع، سيّئ الجابة «4» والسّمع؛ بغيض الهيئة، سخيف الذّهاب والجيئة؛ ظاهر الوسواس، منتن الأنفاس؛ كثير المعايب، مشهور المثالب؛ كلامك تمتمة، وحديثك وغمغمة؛ وبيانك فهفهة، وضحكك قهقهة؛ ومشيك هرولة، وغناك مسألة؛ ودينك زندقة، وعلمك مخرقة
مساو «5» لو قسمن على الغوانى ... لما أمهرن إلا بالطّلاق
حتى إنّ باقلا «6» موصوف بالبلاغة إذا قرن بك، وهبنّقة «7» مستحقّ لاسم العقل إذا نسب منك «8» ، وأبا غبشان «9» محمود منه سداد الفعل إذا أضيف إليك،(7/283)
وطويسا «1» مأثور عنه يمن الطائر إذا قيس عليك؛ فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم؛ والخيبة منك ظفر، والجنّة معك سقر؛ كيف رأيت لؤمك لكرمى كفاء، وضعتك لشرفى وفاء؟ وأنّى جهلت أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها، والطير إنّما تقع على ألّافها؟ وهلّا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن نادى المؤمن والكافر لا يتراءيان، وقلت: الخبيث والطيّب لا يستويان «2» ، وتمثلت:
أيها «3» المنكح الثريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
وذكرت أنّى علق لا يباع ممن زاد، وطائر لا يصيده من أراد، وغرض لا يصيبه إلا من أجاد؛ ما أحسبك إلا كنت قد تهيّأت للتهنئة، وترشّحت للترفئة؛ أولى لك، لولا أنّ جرح العجماء «4» جبار، للقيت ما لقى من الكواعب يسار «5» ؛ فما همّ إلا بدون(7/284)
ما هممت به، ولا تعرّض «1» إلا لأيسر ما تعرّضت له؛ أين ادّعاؤك رواية الأشعار، وتعاطيك حفظ السّير والأخبار؟
بنو دارم أكفاؤهم آل مسمع ... وتنكح فى أكفائها الحبطات «2»
وهلّا عشّيت «3» ولم تغترّ، وما أمّنك «4» أن تكون وافد البراجم، أو ترجع بصحيفة المتلمّس «5» ، وأفعل بك ما فعله عقيل بن علفة «6» بالجهنىّ إذ جاءه خاطبا فدهن اسنته بزيت وأدناه من قرية «7» النمل؟ ومتى كتر تلاقينا، واتصل ترائينا؛ فيدعونى اليك(7/285)
ما دعا ابنة «1» الخسّ الى عبدها من طول السواد، وقرب الوساد؟ وهل فقدت الأراقم «2» فأنكح فى جنب «3» ، أو عضلنى «4» همّام بن مرّة فأقول: «زوج من عود، خير من قعود» ؟ ولعمرى لو بلغت هذا المبلغ لارتفعت عن»
هذه الحطّة، وما رضيت بهذه الخطّة؛ ف «النار ولا العار» و «المنيّة ولا الدّنيّة» والحرّة تجوع ولا تأكل بثدييها:
فكيف وفى أبناء قومى منكح ... وفتيان هزّان «6» الطوال الغرانقة
ما كنت لأتخطّى المسك الى الرّماد، ولا لأمتطى الثّور دون الجواد؛ فإنما يتيمّم من لا يجد ماء، ويرعى الهشيم من عدم الجميم «7» ، ويركب الصّعب من لا ذلول(7/286)
له؛ ولعلك «1» إنما غرّك من علمت صبوتى اليه، وشهدت مساعفتى له، من أقمار العصر، ورياحين المصر؛ الذين هم الكواكب علوّ همم، والرياض طيب شيم
من تلق منهم تقل: لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التى يسرى بها السارى «2»
فيحنّ «3» قدح ليس منها؛ ما أنت وهم؟ وأين تقع منهم؟ وهل أنت إلّا واو عمرو فيهم، وكالوشيظة «4» فى العظم بينهم؟ وان كنت إنما بلغت قعر تابوتك «5» ، وتجافيت لقميصك عن بعض قوتك؛ وعطّرت أردانك، وجررت هميانك؛ واختلت فى مشيتك، وحذفت فضول لحيتك؛ وأصلحت شاربك، ومططت حاجبك؛ ودققت خطّ عذارك، واستأنفت عقد إزارك؛ رجاء الا كتتاب «6» فيهم، وطمعا فى الاعتداد منهم؛ فظننت عجزا، وأخطأت استك الحفرة؛ والله لو كساك محرّق «7»(7/287)
البردين، وحلّتك مارية «1» بالقرطين؛ وقلّدك عمرو «2» بالصّمصامة، وحملك الحارث «3» على النّعامة؛ ما شككت فيك، ولا تكلمت بملء فيك؛ ولا سترت أباك، ولا كنت إلا ذاك؛ وهبك ساميتهم فى ذروة المجد والحسب، وجاريتهم فى غاية الظرف والأدب؛ ألست تأوى الى بيت قعيدته لكاع؟ اذ كلّهم عزب خالى الذراع؛ وأين من أنفرد به، ممن لا أغلب إلا على الأقلّ الأخسّ منه؟ وكم بين من يعتمدنى بالقوّة الظاهرة، والشهوة الوافرة؛ والنفس المصروفة الىّ، واللذة الموقوفة علىّ؛ وبين آخر قد نزحت بيره، ونضب غديره؛ وذهب نشاطه، ولم يبق إلا ضراطه؛ وهل كان يجمع لى فيك إلا الحشف «4» وسوء الكيلة. ويقترن علىّ بك إلا الغدّة والموت فى بيت سلوليّة «5» ؟
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذلّ الحرص أعناق الرجال
(وهذا الشعر لأبى العتاهية يخاطب به سلم بن عمرو، ويلومه على حصرصه، ويتلوه) :
هب الدنيا تصير اليك عفوا ... أليس مصير ذاك الى زوال
ما كان أحقّك بأن تقدر بذرعك، وتربع على ظلعك؛ ولا تكون براقش «6» الدالّة(7/288)
على أهلها «1» ، وعنز السوء المستثيرة لحتفها؛ فما أراك إلا قد سقط العشاء بك على السّرحان «2» ، وبك لا بظبى أعفر «3» ، قد أعذرت إن أغنيت شيّا، وأسمعت لو ناديت حيّا؛ وقرعت عصا العتاب، وحذّرت سوء العقاب. «إنّ العصا قرعت لذى الحلم» «والشىء «4» تحقره وقد ينمى» . فإن بادرت بالندامة، ورجعت على نفسك بالملامة؛ [كنت «5» ] قد اشتريت العافية لك بالعافية منك؛ وإن قلت: «جعجعة ولا طحنا» و «ربّ صلف تحت الراعدة «6» » وأنشدت:
لا يؤيسنّك من مخبّأة ... قول تغلّظه وإن جرحا
فعدت لما نهيت عنه، وراجعت ما استعفيت منه؛ بعثت من يزعجك إلى الخضراء «7» دفعا، ويستحثّك نحوها وكزا وصفعا؛ فاذا صرت «8» بها عبث أكّاروها «9»(7/289)
بك، وتسلّط نواطيرها «1» عليك؛ فمن قرعة معوجّة تقوّم فى قفاك، وفجلة منتنة يرمى بها تحت خصاك؛ لكى تذوق وبال أمرك، وترى ميزان قدرك.
فمن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى «2» .
وقال أيضا فى رقعة خاطب بها ابن جهور- وهى من رسائله المشهورة- أوّلها:
يا مولاى وسيّدى الذى ودادى له، واعتدادى به، واعتمادى عليه- أبقاك الله ماضى حدّ العزم، وارى زند الأمل، ثابت عهد النعمة- إن سلبتنى أعزّك الله لباس إنعامك، وعطّلتنى من حلى إيناسك، وغضضت عنى طرف حمايتك؛ بعد أن نظر الأعمى الى تأميلى لك، وسمع الأصمّ ثنائى «3» عليك، وأحسّ الجماد باستنادى اليك؛ فلا غرو قد يغصّ بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتى الحذر من مأمنه، وتكون منيّة المتمنّى فى أمنيّته «والحين «4» قد يسبق جهد الحريص» وإنّى لأتجلّد، وأرى الشامتين أنّى لا أتضعضع «5» ، وأقول:(7/290)
هل أنا إلّا يد أدماها سوارها، وجبين عضّه «1» إكليله، ومشرفىّ «2» الصقه بالأرض صاقله، وسمهرى «3» عرضه على النار مثقّفه، وعبد ذهب «4» سيّده مذهب الذى يقول:
فقسا ليزدجروا «5» ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم
والعتب «6» محمود عواقبه، والنّبوة «7» غمرة ثم تنجلى، والنكبة «سحابة صيف عن قريب تقشّع «8» » وسيّدى إن أبطأ معذور «9» .
فإن يكن الفعل الذى ساء واحدا ... فأفعاله اللاتى سررن ألوف «10»
فليت شعرى ما الذنب الذى أذنبت ولم يسعه العفو؟ ولا أخلو من أن أكون بريئا فأين العدل؟ أو مسيئا فأين الفضل؟ وما أرانى إلا لو أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت، وقال لى نوح: «اركب معنا» فقلت: «سآوى إلى جبل يعصمنى(7/291)
من الماء» وتعاطيت فعقرت «1» ، وأمرت ببناء صرح لعلّى أطّلع إلى إله موسى «2» ، وعكفت على العجل «3» ، واعتديت فى السّبت «4» ، وشربت من النهر الذى ابتلى به جنود طالوت «5» ، وقدت الفيل لأبرهة «6» ، وعاهدت قريشا على ما فى الصحيفة «7» ، وتأوّلت فى بيعة العقبة «8» ،(7/292)
ونفرت الى العير ببدر «1» ، وانخذلت «2» بثلث الناس يوم أحد، وتخلّفت عن صلاة العصر فى بنى قريظة «3» ، وجئت بالإفك على عائشة «4» ، وأبيت «5» من إمارة أسامة،(7/293)
وزعمت أن خلافة أبى بكر كانت فلتة «1» ... وروّيت رمحى من كتيبة خالد «2»
ومزّقت الأديم الذى باركت يد الله فيه «3» ، وضحّيت بالأشمط الذى عنوان السجود به «4» ، وكتبت الى عمر بن سعد [أن] جعجع «5» بالحسين، وبذلت لقطام.(7/294)
ثلاثة آلاف وعبدا وقينة ... وضرب علىّ بالحسام المخذّم «1»
وتمثّلت عند ما بلغنى من وقعة الحرّة «2» :
ليت أشياخى ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل «3»
قد قتلنا القرن «4» من أشياخهم ... وعدلناه ببدر فاعتدل «5»
ورجمت الكعبة «6» ، وصلبت العائذ بها على الثنيّة؛ لكان فيما جرى علىّ ما يحتمل أن يسمّى نكالا، ويدعى ولو على المجز عقابا.
وحسبك من حادث بامرئ ... يرى حاسديه له راحمينا(7/295)
فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح، ونبأ جاء به فاسق؛ والله ما غششتك بعد النصيحة، ولا انحرفت عنك بعد الصاغية «1» ، ولا نصبت «2» لك بعد التشيّع فيك، ففيم عبث الجفاء بأذمّتى، وعاث فى مودّتى «3» ؟ وأنّى غلبنى المغلّب، وفخر علىّ الضعيف «4» ، ولطمتنى غير ذات سوار «5» ؟ وما لك لم تمنع منى قبل أن أفترس، وتدركنى ولمّا أمزّق «6» ، [أم كيف لا تتضرّم «7» جوانح الأكفاء حسدا لى على الخصوص بك، وتتقطّع أنفاس(7/296)
النّظراء منافسة فى الكرامة عليك] وقد زاننى اسم خدمتك، [وزهانى وسم نعمتك «1» ] وأبليت [البلاء «2» ] الجميل فى «3» سماطك، وقمت المقام المحمود على بساطك.
ألست الموالى فيك نظم قصائد ... هى الأنجم اقتادت مع الليل أنجما «4»
وهل لبس الصباح إلا بردا طرّزته بمحامدك، وتقلّدت الجوزاء إلا عقدا فصّلته بمآثرك، وبثّ المسك إلا حديثا أذعته «5» بمفاخرك؛ «ما يوم حليمة «6» بسرّ» وحاش لله أن أعدّ من العاملة الناصبة، وأكون كالذّبالة المنصوبة تضىء للناس وهى تحترق.
وفى فصل منه: ولعمرى ما جهلت [أن] «7» الرأى فى أن أتحوّل إذا بلغتنى الشمس، ونبا بى المنزل، وأضرب عن المطامع التى تقطع أعناق الرجال، ولا أستوطئ العجز فيضرب بى المثل: «خامرى «8» أمّ عامر» وإنى مع المعرفة بأن الجلاء(7/297)
سباء، «1» والنّقلة مثلة، لعارف أن الأدب الوطن الذى لا يخشى «2» فراقه، والخليط الذى لا يتوقّع زواله «3» ؛ والنّسب «4» الذى لا يخفى، [والجمال [الذى] لا يخفى؛ ثم ما قران السّعد للكواكب أبهى أثرا، ولا أسنى خطرا، من اقتران غنى النفس به، وانتظامها نسقا معه؛ فإنّ الحائز لهما، الضارب بسهم فيهما- وقليل ما هم «5» -] أينما توجّه ورد منهل برّ، وحطّ «6» فى جناب قبول، وضوحك قبل إنزال رحله «7» ، وأعطى حكم الصبىّ على أهله
وقيل له: أهلا وسهلا ومرحبا ... فهذا مبيت صالح وصديق
غير أنّ الموطن محبوب، والمنشأ مألوف؛ واللبيب يحنّ إلى وطنه، [حنين النجيب «8» إلى عطنه] ؛ والكريم لا يجفو أرضا فيها قوابله، ولا ينسى بلدا فيه مراضعه؛ وأنشد قول الأوّل:
أحبّ بلاد الله ما بين منعج «9» ... إلىّ وسلمى «10» أن يصوب سحابها(7/298)
بلاد بها «1» عقّ الشّباب تمائمى ... وأوّل أرض مسّ جلدى ترابها
هذا إلى مغالاتى فى تعلّق «2» جوارك، ومنافستى فى الحظّ من قربك، واعتقادى أنّ الطمع فى غيرك طبع «3» ، والغنى من سواك عناء، والبدل منك أعور «4» ، والعوض لفاء «5» .
وإذا نظرت إلى أميرى زادنى ... ضنّا به نظرى إلى الأمراء «6»
«كلّ الصّيد فى جوف الفرا» و «فى كلّ شجر نار، واستمجد المرخ «7» والغفار» ؛ فما هذه البراءة ممن تولّاك، والميل عمّن يميل إليك؟ وهلّا كان هواك فيمن هواه فيك، ورضاك لمن رضاه لك؟(7/299)
يا من «1» يعزّ علينا أن نفارقهم ... وجداننا كلّ شىء بعدكم عدم
أعيذك ونفسى من أن «2» أشيم خلّبا، واستمطر جهاما «3» ، وأكدم غير مكدم، وأشكو شكوى الجريح إلى العقبان والرّخم؛ وإنما أبسست «4» لك لتدرّ، وحرّكت لك الحوار «5» لتحنّ؛ وسريت لك «6» ليحمد المسرى «7» إليك؛ بعد اليقين من أنك إن شئت عقد أمرى تيسّر، ومتى أعذرت فى فكّ أسرى «8» لم يتعذّر؛ وعلمك يحيط بأنّ المعروف ثمرة النعمة، والشفاعة زكاة المروءة، وفضل الجاه تعود به صدقة.
واذا امرؤ «9» أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنّها من ماله
لعلّى ألقى العصا بذراك «10» ، وتستقرّ بى النوى فى ظلّك، فتستلذّ جنى شكرى من غرس عارفتك، وتستطيب عرف ثنائى من روض صنيعتك؛ وأستأنف التأدّب(7/300)
بأدبك «1» ، والاحتمال على مذهبك؛ فلا أوجد للحاسد مجال لحظة، ولا أدع للقادح مساغ لفظة؛ والله ميسّرك «2» من إطلابى هذه الطّلبة «3» ، وإشكائى «4» من هذه الشكوى لصنيعة تصيب بها طريق المصنع، ويد تستودعها أحفظ مستودع؛ حسبما أنت خليق له، وأنا منك حرىّ به؛ فذلك بيده، وهيّن «5» عليه. وشفعها بأبيات فقال:
الهوى فى طلوع تلك النجوم ... والمعنى فى هبوب ذاك النسيم
سرّنا عيشنا الرقيق الحواشى ... لو يدوم السرور للمستديم
وطر ما انقضى إلى أن تقضّى ... زمن ما ذمامه بالذّميم
زار مستخفيا وهيهات أن يخ ... تفى البدر فى الظلام البهيم
فوشى الحلى إذ مشى وهفا الطّي ... ب إلى حيث كاشح بالنّميم
أيها المؤذنى بظلم الليالى ... ليس يومى بواحد «6» من ظلوم(7/301)
ما ترى البدر إن تأمّلت والشم ... س هما «1» يكفان دون النجوم
وهو الدهر ليس ينفك ينحو ... بالمصاب العظيم نحو العظيم
بوّأ الله جهورا أشرف السّؤد ... د فى السّرّ «2» واللّباب الصميم
واحد سلّم الجميع له الفض ... ل وكان الخصوص وفق العموم
قلّد الغمر ذا التجارب «3» فيه ... واكتفى جاهل بعلم عليم
ومنها فى ذكر اعتقاله:
سقم لا أعاد منه وفى الع ... ائد أنس يفى ببرء السقيم
نار بغى سرت إلى جنّة الأر ... ض بياتا فأصبحت كالصريم
بأبى أنت إن «4» تشأتك بردا ... وسلاما كنار إبراهيم
للشفيع الثناء «5» ، والحمد فى صو ... ب الحيا للرياح لا للغيوم
ثم قال: هاكها أعزّك الله يبسطها الأمل، ويقبضها الخجل؛ لها ذنب التقصير، وحرمة الإخلاص، فهب ذنبا لحرمة، واشفع نعمة بنعمة؛ لتأتى الإحسان من جهاته، وتسلك الفضل من طرقاته؛ إن شاء الله تعالى.(7/302)
ومن كلام أبى عبد الله محمد بن أبى الخصال من جواب لابن بسّام
- وكان قد كتب إليه يسأله إنفاذ بعض رسائله ليضمّنها كتابه الذى ترجمه بالذخيرة، فكتب:
وصل من السيّد المسترقّ، والمالك المستحقّ- وصل الله أنعمه لديه، كما قصر الفضل عليه- كتابه البليغ، واستدراجه المريغ «1» ؛ فلولا أن يصلد «2» زند اقتداحه، ويردّ طرف افتتاحه؛ وتقبض يد انبساطه، وتغبن صفقة اغتباطه؛ للزمت معه قدرى، وظنّ بسرّه صدرى؛ لكنه بنفثة سحره يستنزل العصم فتجنب «3» ، ويقتاد الصّعب فيصحب، ويستدرّ الصخور فتحلب؛ ولما جاءنى كتاب ابتداه، وقرع سمعى نداه؛ فزعت «4» إلى الفكر، وخفق القلب بين الأمن والحذر؛ فطاردت من الفقر أو ابد قفر، وشوارد عفر، تغبر «5» فى وجه سائقها، ولا يتوجّه اللّحاق إلى وجيهها ولاحقها «6» ؛ فعلمت أنها الإهابة والمهابة، والإجابة والاسترابة؛ حتى أيأستنى الخواطر،(7/303)
وأخلفتنى المواطر، إلا زبرجا «1» يعقب جوادا، وبهرجا لا يحتمل انتقادا؛ [وأنى لمثلى والقريحة مرجاة «2» ] والبضاعة مزجاة؛ ببراعة الخطاب، ويراعة الكتاب، ولولا دروس معالم البيان، واستيلاء العفاء على هذا اللسان؛ ما فاز لمثلى فيه قدح، ولا تحصّل لى فى سوقه ربح؛ ولكنه جوّ خال، ومضمار جهّال؛ وأنا أعزك الله أربأ بقدر الذخيرة، عن هذه النّتف الأخيرة؛ وأرى أنها قد بلغت مداها، واستوفت حلالها؛ وإنما أخشى القدح فى اختيارك، والإخلال «3» بمختارك؛ وعذرا اليك- أيدك الله- فإنى خطّطت والنوم مغازل، والقرّ نازل؛ والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجّاج.
ثم أخذ فى وصف السراج كما ذكرناه فى الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الأوّل فى السّفر الأوّل من هذا الكتاب.
ومن كلام الوزير الفقيه أبى القاسم محمد بن عبد الله بن الجدّ «4» ،
من رسالة خاطب بها ذا الوزارتين أبا بكر المعروف بابن القصيرة- وقد قربت بينهما المسافة ولم يتفق اجتماعهما-:
لم أزل- أعزك الله- استنزل قربك براحة الوهم، عن ساحة النجم؛ وأنصب لك شرك المنى، فى خلس الكرى «5» ، وأعلّل فيه نفس الأمل، بضرب سابق المثل:(7/304)
ما أقدر الله أن يدنى على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول «1»
فما ظنّك به وقد نزل على مسافة يوم [وطالما نفر عن حبالة نوم «2» ] ، ودنا حتى همّ بالسلام، وقد كان من خدع الأحلام، وناهيك «3» من ظمئى وقد حمت حول المورد الخصر، وذممت الرّشاء «4» بالقصر، ووقف بى ناهض القدر، وقفة العير بين الورد والصّدر؛ فهلّا وصل ذلك الأمل بباع، وسمح الزمن باجتماع؛ وطويت بيننا رقعة الأميال، كما زويت مراحل «5» أيّام وليال؛ وما كان على الأيّام لو غفلت قليلا، حتى أشفى بلقائك غليلا، وأتنسّم من روح مشاهدتك نفسا بليلا؛ ولئن أقعدتنى بعوائقها عن لقاء حرّ، وقضاء برّ؛ وسفر قريب، وظفر غريب؛ فما تحيّفت «6» ودادى، ولا ارتشفت مدادى؛ ولا غاضت كلامى، ولا أحفت أقلامى «7» ؛ وحسبى بلسان النّبل «8» رسولا، وكفى بوصوله أملا وسولا؛ ففى الكتاب بلغة الوطر، ويستدلّ على العين بالأثر؛ على أنى إنما وحيت «9» وحى المشير باليسير، وأحلت فهمك على المسطور فى الضمير؛ وإن فرغت للمراجعة ولو بحرف، أو لمحة طرف؛ وصلت صديقا، وبللت ريقا؛ وأسديت يدا، وشفيت صدى؛ لا زالت أياديك بيضا، وجاهك عريضا؛ ولياليك أسحارا، ومساعيك أنوارا.(7/305)
ومن كلام أبى عبد الله محمد بن الخيّاط
من رقعة طويلة الى الحاجب المظفّر، أوّلها:
حجب الله عن الحاجب المظفّر أعين النائبات، وقبض دونه أيدى الحادثات.
وجاء منها: ورد له كتاب كريم جعلته عوض يده البيضاء فقبلته، ولمحته بدل غرّته الغرّاء فأجللته؛ كتاب ألقى عليه الحبر «1» حبره، وأهدى اليه السحر فقره؛ أنذر «2» ببلوغ المنى، وبشّر بحصول الغنى؛ تخيّر له البيان فطبّق مفصله، ورماه البنان «3» فصادف مقتله؛ ووصل معه المملوك والمملوكة اللذان سمّاهما هديّة، وتنزّه كرما أن يقول عطيّة؛ همّة ترجم السّماكين، ونعمة تملأ الأذن والعين؛ وما حرّك- أيده الله- بكتابه ساكنا بحمده، ولا نبّه نائما عن قصده؛ كيف وقد طلعت الشمس التى صار بها المغرب شرقا، وهبّت الريح التى صار بها الحرمان رزقا؛ صاحب لواء الحمد، وفارس ميدان المجد.
وهى رقعة طويلة قد ذكرنا منها فى المديح فصلا لا فائدة فى إعادته.
ومن كلام أبى حفص عمر بن برد الأصغر الأندلسى،
فمن ذلك أمان كتبه لمن عصى وعاود الطاعة:
أما بعد، فإن الغلبة لنا والظهور عليك جلباك «4» إلينا على قدمك، دون عهد ولا عقد يمنعان من إراقة دمك؛ ولكنا بما وهب الله لنا من الإشراف على سرائر «5»(7/306)
الرّياسة، والحفظ لشرائع السياسة؛ تأمّلنا من ساس جهتك قبلنا فوجدنا يد سياسته خرقاء، وعين حراسته عوراء، وقدم مداراته شلّاء، لأنه غاب عن ترغيبك فلم ترجه، وعن ترهيبك فلم تخشه؛ فأدتك حاجتك إلى طلاب المطامع الدنيّة، وقلّة مهابتك الى التهالك على المعاصى الوبيّة؛ وقد رأينا أن تظهر فضل سيرتنا فيك، وتعتبر بالنظر فى أمرك، فمهّدنا لك الترغيب لتأنس إليه، وظلّلنا لك الترهيب لتفرق منه، فإن سوّت الحالتان طبعك، وداوى الثّقاف والنار عودك، فذلك بفضل الله عليك، وبإظهاره حسن السياسة فيك؛ وأمان الله تعالى مبسوط منّا، ومواثيقه بالوفاء معقودة علينا؛ وأنت الى جهتك مصروف، وبعفونا والعافية منا مكنوف، إلّا أن تطيش الصّنيعة عندك فتخلع الرّبقة، وتمرق من الطاعة، فلسنا بأوّل من بغى عليه، ولست بأوّل من تراءت لنا مقاتله من أشكالك إن بغيت، وانفتحت لنا أبواب استئصاله من أمثالك إن طلبت.
ومن كلامه يعاتب بعض إخوانه:
أظلم لى جوّ صفائك، وتوعّرت علىّ طرق إخائك؛ وأراك جلد الضمير على العتاب، غير ناقع الغلّة من الجفاء؛ فليت شعرى ما الذى أقصى بهجة ذلك الودّ، وأذبل زهرة ذلك العهد؛ عهدى بك وصلتنا تفرق من اسم القطيعة، ومودّتنا تسأل عن صفة العتاب ونسبة الجفاء، واليوم هى آنس بذلك من الرضيع بالثدى، والخليع بالكأس؛ وهذه ثغرة إن لم تحرسها المراجعة، وتذك فيها عيون الاستبصار «1» توجّهت منها الحيل على هدم ما بنينا، ونقض ما اقتنينا؛ وتلك نائحة الصفاء، والصارخة «2» بموت الإخاء؛ لا أستند «3» أعزك الله من الكتاب إليك- وان رغم أنف(7/307)
القلم، وانزوت أحشاء القرطاس، وأجرّ «1» فم الفكر، فلم يبق فى أحدها إسعاد لى على مكاتبتك، ولا بشاشة عند محاولة مخاطبتك- لقوارص «2» عتابك، وقوارع ملامك [التى أكلت أقلامك «3» ] ، وأغصّت «4» كتبك، وأضجرت رسلك، وضميرى طاو لم يطعم تجنيا عليك، ونفسى وادعة لم تحرّك ذنبا إليك، وعقدى مستحكم «5» لم يمسسه وهن فيك؛ وأنا الآن على طرف الإخاء معك، فإما أن تبهرنى بحجّة فأتنصّل «6» عندك، وإما أن تفى بحقيقة فأستديم خلّتك «7» ، وإما أن تأزم «8» على يأسك فأقطع حبلى منك؛ كثيرا ما يكون عتاب المتصافين حيلة تسبر المودّة بها، وتستثار دفائن «9» الأخوة عنها، كما يعرض الذهب على اللهب، ويصفّى المدام بالفدام «10» ، وقد يخلص الودّ على العتب خلوص الذهب على السبك، فأما إذا أعيد وأبدى وردّد وتوالى فإنه يفسد غرس الإخاء، كما يفسد الزرع توالى الماء.
ومن كلام أبى الوليد بن طريف
من جواب عن المعتمد الى ذى الوزارتين ابن يحفور صاحب شاطبة بسبب أبى بكر بن عمّار:(7/308)
وقفت «1» على «2» الإشارة الموضوعة من قبلك على إخلاص دلّ «3» على وجوه السلامة، المستنام فيها الى شرف محتدك وصفاء معتقدك أكرم استنامة؛ بالشفاعة فيمن أساء لنفسه حظّ الاختيار، وسبّب لها سبب النكبة والعثار؛ بغمطه لعظيم النعمة؛ وقطعه لعلائق العصمة؛ وتخبّطه فى سنن غيّه واستهدافه، وتجاوزه فى «4» ارتكاب الجرائم وإسرافه؛ حتى لم يدع للصلح موضعا، وخرق ستر الإبقاء بينه وبين مولى النعمة عنده فلم يترك فيه مرقعا؛ وقد كان قبل استشراء رأيه، وكشفه لصفحة المعاندة، وإبدائه غدره فى جميع جناياته مقبولا، وجانب الصفح له معرّضا مبذولا؛ لكن عدته جوانب الغواية، عن طرق الهداية؛ فاستمرّ على ضلاله، وزاغ عن سنن اعتداله؛ وأظهر المناقضة، وتعرّض بزعمه الى المساورة والمعارضة؛ فلم يزل يريغ «5» الغوائل، وينصب الحبائل؛ ويركب فى العناد أصعب المراكب، ويذهب منه فى أوعر المذاهب؛ حتى علقته تلك الأشراك التى نصبها، وتشبّثت به مساوى المقدّمات التى جرّها وسبّبها؛ فذاق وبال فعله، «ولا يحيق المكر السّىّء إلّا بأهله» ولم يحصل فى الأنشوطة التى تورّطها، والمحنة التى اشتملت عليه وتوسّطها؛ إلا ووجه العفو له قد أظلم، وباب الشفاعة فيه قد ابهم «6» ؛ ومن تأمّل أفعاله الذميمة، ومذاهبه اللئيمة؛ رأى أنّ الصفح عنه بعيد، والإبقاء عليه داء حاضر عتيد.
وفى فصل منه: ففوّق لمناضلة الدولة نباله، وأعمل فى مكايدها جهده واحتياله؛ ثم لم يقتصر على ذلك بل تجاوزه الى إطلاق لسانه بالذمّ الذى صدر عن(7/309)
لؤم نجاره، والطعن الشاهد بخبث طويّته وإضماره؛ ومن فسد هذا الفساد كيف يرجى استصلاحه، ومن استبطن مثل غلّه كيف يؤمّل فلاحه؛ ومن لك بسلامة الأديم «1» النّغل، وصفاء القلب الدّغل؛ وعلى ذلك فلا أعتقد عليك فيما عرضت به من وجه الشفاعة غير الجميل، ولا أتعدّى فيه حسن التأويل؛ ولو وفدت شفاعتك فى غير هذا الأمر الذى سبق فيه السيف العذل، وأبطل عاقل «2» الأقدار فيه الإلطاف والحيل؛ لتلقّيت بالإجلال، وقوبلت ببالغ المبرّة والاهتبال «3» .
ومن كلام ذى الوزارتين أبى «4» المغيرة بن حزم من رسالة.
لم أزل أزجر للقاء سيّدى السانح، وأستمطر الغادى والرائح «5» ؛ وأروم اقتناصه ولو بشرك المنام، وأحاول اختلاسه ولو بأيدى الأوهام؛ وأعاتب الأيّام فيه فلا تعتب، وأقودها اليه فلا تصحب؛ حتى إذا غلب الياس، وشمت الناس؛ وضربت بى الأمثال، فقيل: أكثر الآمال ضلال؛ تنبّه الدهر من رقدته، وحلّ من عقدته؛ وقبل منّى، وأظهر الرضى عنّى؛ وقال: دونك ما طمح «6» فقد سمح «7» ، وإليك فقد دنا ما قد جمح؛ فطرت بجناح الارتياح، وركبت الى الغمام كواهل الرّياح؛ وقلت:
فرصة تغتنم، وركن يستلم؛ وطرقت روضة [العلم «8» ] عميمة الأزهار، فصيحة الأطيار؛(7/310)
ريّا الجداول، باردة الضحى والأصائل؛ وطفت بكعبة الفضل مصونة الحبر «1» ، ملثومة الحجر؛ عزيزة المقام، معمورة المشعر الحرام؛ فما شئنا من محاضرة، تجمع بين الدنيا والآخرة؛ بين يدى نثر يدنى الإعجاز، ونظم ما أشبه الصدور بالأعجاز؛ وحديث تثقّف العقول بآرائه «2» ، وتروّى بصافى مائه؛ فحين شمخ بالظّفر أنفى، واهتزّ لنيل الأمل عطفى- والدهر يضحك سرّا، ويتأبّط شرّا؛ وقد أذهلنى الجذل عن سوء ظنّى به، وأوهمنى نزوعه «3» عن ذميم مذهبه- أتت ألوانه، وفسا «4» ظربانه؛ ونادى: ليقم من قعد، وينتبه من رقد؛ إنما فترت تلك الفترة، ليكون ما رأيت عليك حسرة؛ وسمحت لك مرّة، لتذوق من الأسف عليها كأسامرّة؛ فرأيت وقد غطّى على بصرى، وعقلت وكنت فى عمياء من خبرى؛ وقلت: هو الذى أعهده من لؤمه، وأعرفه من شؤمه؛ فما وهب، إلا وسلب؛ ولا أعطى، إلا ساعات كإبهام القطا؛ فيا له من قادر ما ألأم قدرته، وذابح ما أحدّ شفرته! ولو تسلّط علينا، من يظهر شخصه إلينا، لأدركته رماحنا، [وعصفت به رياحنا «5» ] ؛ لكنه أمير من وراء سجف، يسعى بلا رجل ويصول بلا كفّ.
ومن كلام الوزير الكاتب أبى محمد بن عبد الغفور الى بعض إخوانه-
وكان قد وصف له امرأة ومدحها وحضّه على زواجها، وكان لذلك الصديق امرأة سوداء- فأجابه ابن عبد الغفور:(7/311)
بينما كنت ناظرا من المرآة فى شعر أحمّ «1» ، ورأس أجمّ، لا أخاف معه الذم؛ إذ تقدّم رسولك إلىّ، يخطب بنت فلان علىّ؛ ويرغّب منها فى سعة مال، وبراعة جمال؛ ويقسم إنها لبرة بالزوج بريكة، لا تحوجه عند النوم الى أريكة؛ ولو يسّرت- وعياذا بالله- لهذا النكاح، لرزقت قبل الولد منها آلة النّطاح «2» ؛ ولا حاجة لى بعد الدّعة والسكون، [الى حرب زبون، وقراع بالقرون «3» ] ، ولو حملت الىّ تاج كسرى وكنوز قارون؛ فاطلب لهذه السّلعة المباركة مشتريا غيرى، ولا تسقها ولو فى النوم الى ... «4» ؛ وابتعها ولو بأرفع الأثمان إلى نفسك، وأضف عاجها النفيس الى أبنوس «5» عرسك؛ ولا عذر لها فى النّشوز والإعراض، فإنما يحسن السواد الحالك بالبياض؛ والله يمدّك بقرنين قبل الحين، ويضع لك صنعتين «6» وبيلين، فيسقطك بهذا النكاح الثانى للفم كما أسقطت بالأوّل لليدين.
كمل السفر السابع من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للنويرى رحمه الله تعالى- ويليه الجزء الثامن منه، وأوّله:
ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل(7/312)
فهرس الجزء الثامن
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري
.... صفحة
ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل محيى الدين أبى على عبد الرحيم البيسانى 1
ذكر شىء من رسائل الإمام الفاضل ضياء الدين أبى العباس أحمد بن أبى عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن عمر بن عبد المنعم الأنصارى القرطبىّ 51
ذكر شىء من إنشاء المولى القاضى الفاضل محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر 101
ذكر شىء من إنشاء المولى الماجد علاء الدين علىّ بن فتح الدين محمد بن محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر 126
ذكر شىء من إنشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى 149
ذكر شىء من الأبيات الداخلة فى هذا الباب 163
ومما يتصل بهذا الباب ويلتحق به ويحتاج الكاتب الى معرفته والاطلاع عليه الحجة البالغة والأجوبة الدامغة 166
هفوات الأمجاد وكبوات الجياد 175
ذكر شىء من الحكم 181
ومن الأبيات المناسبة لهذا الفصل 189
ذكر كتابة الديوان وقلم التصرف وما يتصل بذلك 191
ذكر اشتقاق تسمية الديوان ولم سمى ديوانا ومن سمّاه بذلك 195
ذكر ما تفرّع عن كتابة الديوان من أنواع الكتابات 195(مقدمةج 8/1)
... صفحة
ذكر مباشرة ديوان الجيش وسبب وضع الدواوين وأوّل من وضعها فى الإسلام 196
وأما دواوين الأموال 198
ذكر ما يحتاج اليه كاتب الجيش 200
وأما مباشرة الخزانة 213
وأما مباشر بيت المال 217
وأما مباشر أهراء الغلال 219
ذكر مباشرة البيوت السلطانية:- فيحتاج مباشر الحوائج خاناه الى أمور 221
وأما الشراب خاناه 224
وأما الطشت خاناه 225
وأما الفراش خاناه 226
وأما السلاح خاناه 227
ذكر جهات أموال الهلالىّ ووجوهها وما يحتاج اليه مباشروها 228
ذكر الجزية الواجبة على أهل الذمة وما ورد فيها من الأحكام الشرعية الخ:- أما الأحكام الشرعية 234
وأما ما اصطلح عليه كتّاب التصرّف فى زماننا هذا من استخراجها وموضع إيرادها فى حسباناتهم 241
وأما نسبتها فى الإقطاعات الجيشية 241
وأما ما يلزم مباشر الجوالى وما يحتاج إلى عمله 242
ذكر جهات الخراجىّ وأنواعه وما يحتاج اليه مباشره 245
أما الديار المصرية وأوضاعها وقوانينها وما جرت عليه قواعدها الخ 246
وأما جهات الخراجىّ بالشأم وكيفيتها وما يعتمد عليه مباشروها 255
ومن أبواب الخراجىّ الخ 261(مقدمةج 8/2)
وأما ما يشترك فيه الهلالىّ والخراجىّ ويختلف باختلاف أحواله:- أما المراعى 262
وأما المصايد 262
وأما الأحكار 264
وأما أقصاب السكّر ومعاصرها:- قاعدتها الكلية التى لا تكاد تختلف فى الديار المصرية 264
ذكر كيفية الاعتصار والطبخ وتقدير المتحصّل 267
وأما أقصاب الشأم 271
ذكر أوضاع الحساب وما يسلكه المباشر ويعتمده فيها:- تعليق اليوميّة 273
ذكر ما ينتج عن التعليق من الحسبانات بعد المخازيم:- فأما الختم 275
وأما التوالى:- توالى الغلال 276
ولهم أيضا توال يسمونها توالى الارتفاع 277
ولهم أيضا توالى الاعتصار 278
وأما الأعمال 278
فأما أعمال الغلال والتقاوى 278
وأما عمل الاعتصار 278
وأما عمل المبيع 280
وأما عمل المبتاع 281
وأما عمل الجوالى 281
وأما عمل الخدم والجنايات والتأديبات 282
وأما السياقات 282
فأما سياقة الأسرى والمعتقلين 283
وأما سياقة الكراع 283
وأما سياقة العلوفات 284(مقدمةج 8/3)
... صفحة
وأما سياقات الأصناف والزرد خاناه والعدد والآلات والخزائن والبيمارستانات 284
وأما الارتفاع 285
ومن أبواب المضاف ما يضاف بالقلم 287
ومن وجوه المضاف الغريبة الخ 287
وأما الحواصل المعدومة المساقة بالأقلام 290
وان انفصل الكاتب أثناء السنة الخ 292
ومما يلزم الكاتب رفعه المحاسبات-: محاسبة أرباب النقود الجيشية والمكيلات الخ 293
ومنها محاسبات أرباب الأجر والاستعمالات 294
ومما يلزم الكاتب رفعه ضريبة أصول الأموال ومضافاتها الخ 294
ويلزمه رفع المؤامرات 296
ويلزمه رفع ضريبة ما يستأدى من الحقوق 296
ومما يلزمه رفعه فى كل سنة تقدير الارتفاع 297
ويلزمه فى كل ثلاث سنين رفع الكشوف الجيشية 297
وأما المقترحات 297
ذكر أرباب الوظائف وما يلزم كلا منهم مع حضور رفقته ومع غيبتهم وما يسترفعه كل مباشر عند مباشرته وما يلزمه عمله-: اما المشدّ أو المتولّى 298
وأما الناظر على ذلك 299
وأما صاحب الديوان 300
وأما مقابل الاستيفاء 300
وأما المستوفى 301
وأما المشارف 304
وأما الشاهد 304
وأما العامل 304(مقدمةج 8/4)
بيان
ليس لدينا من نسخ هذا الجزء غير نسخة واحدة مأخوذة بالتصوير الشمسى ومحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2570 تاريخ، وهى المشار اليها فى بعض حواشى هذا الجزء بحرف (ا) ، وقطعتين من نسختين أخريين أخذتا بالتصوير الشمسى وحفظتا بدار الكتب المصرية: إحداهما تحت رقم 416 (معارف عامة) ؛ وهى المشار اليها فى بعض حواشى الجزء بحرف (ب) وتنتهى فى السطر التاسع من صفحة 69 من هذا الجزء؛ وقد نبّهنا الى موضع انتهائها فى حواشيه؛ والثانية تحت رقم 551 (معارف عامة) ، وهى المشار اليها فى بعض الحواشى بحرف (ج) وتبتدئ من السطر السادس من صفحة 101 وتنتهى فى السطر السادس من صفحة 113 وقد نبهنا على موضع انتهائها فى الحواشى أيضا.
وليس التحريف فى هاتين القطعتين بأقلّ منه فى النسخة الأولى، فإن التحريف فى جميع هذه الأصول يكاد يكون متفقا، كما يتبين ذلك مما كتبناه فى بعض الحواشى إذ نقول: «فى كلا الأصلين» أو «فى كلتا النسختين كذا؛ وهو تحريف» أو «تصحيف» .
وعلى كل حال فقد بذلنا ما نستطيع فى إصلاح المحرّف والمصحّف من كلماته، وتكميل الناقص من جمله؛ وتحقيق أعلامه وضبطها، وضبط الملتبس من ألفاظه، وتفسير غريبه، وإيضاح الغامض من عباراته، وشرح ما أشكل من أبياته ونسبتها الى قائليها، وشرح ما فيه من أسماء البلاد والأمكنة، والتنبيه على ما فى هذا الجزء- ولا سيّما فى كتابة الديوان- من الكلمات العاميّة، والألفاظ الاصطلاحية التى لم ترد فيما لدينا من كتب اللغة، وبيان المراد منها؛ فإن المؤلف قد استعمل بعض(مقدمةج 8/5)
هذه الكلمات جريا على مصطلح كتّاب الدواوين فى استعمالها؛ كما أننا لم ندع التنبيه أيضا على ما استعمله المؤلف فى هذا الباب (أى كتابة الديوان) من مخالفات لغويّة فى صيغ الجموع وتعدية الأفعال، كأن يعدّى الفعل بنفسه ومقتضى اللغة أن يتعدّى بالحرف، أو العكس، أو أن يعدّيه بحرف واللغة تقتضى تعديته بحرف آخر؛ وغير ذلك مما استعمله المؤلف متّبعا فيه اصطلاح كتّاب الدواوين فى ذلك العهد ولم نجده فى كتب اللغة التى بين أيدينا؛ ولم نغيّر بعض هذه الاستعمالات، بل أبقينا الأصل فيها على حاله لعلمنا أنها ترد كثيرا فى عبارات كتّاب الدواوين، وأوّلنا ما يستطاع تأويله منها.
أمّا الصعوبات التى صادفناها فى تصحيح هذا الجزء فإننا لم نكد نجد صفحة من أصوله التى بين أيدينا خالية من عدّة كلمات وعبارات محرّفة أو مصحّفة غير مستقيمة المعنى ولا واضحة الغرض، يحتاج إصلاحها إلى زمن طويل، وبحث غير قليل، وتحفّظ من الخطإ، وحسن اختيار فى المحو والإثبات، وتفهّم لما يقتضيه السياق من المعانى والأغراض، ومعرفة بأساليب الكتّاب ومصطلحاتهم فى كل عصر، ليكون المحو والإثبات تابعين لما تقتضيه هذه الأساليب وتلك المصطلحات وخبرة بالكتب وأغراضها، ومكان الفائدة منها، لئلا يضيع الزمن فى البحث عنها وتصفّح جملتها.
أمّا طريقتنا فى التصحيح فقد كنّا نقف بالكلمة المحرّفة أو العبارة المغلقة فنحملها على ما يستطاع حملها عليه من المعانى، ونقلّبها على ما تحتمله من الوجوه، ونقرأ مادّة الكلمة فيما لدينا من كتب اللغة، ونرجع إلى ما نعرفه من مظانّها، فاذا لم يستقم المعنى بعد ذلك قلّبنا حروفها بين التحوير والتغيير، والتقديم والتأخير، والحذف والزيادة،(مقدمةج 8/6)
والإعجام والإهمال، حتى يستقيم المعنى ويظهر الغرض، منبهين فى الحواشى على ما كان فى الأصل من حروف هذا اللفظ ووجه اختيار غيره وإثباته مكانه.
وقد تمّ طبع هذا الجزء فى عهد المدير الحازم، والمربىّ الفاضل، الأستاذ «محمد أسعد براده بك» مدير دار الكتب المصرية.
فلا يسعنا فى هذا المقام إلا أن نشكره الشكر الجزيل على ما بذله ويبذله من العناية الصادقة بهذه الكتب، وما يسديه إلى مصححيها من الإرشادات القوية، والاراء السديدة.
كما لا يفوتنا أن نثنى الثناء الجميل على حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ «السيد محمد الببلاوى» مراقب إحياء الاداب العربيّة على حسن معاونته بما لديه من المعلومات الواسعة عن الكتب وأغراضها، والبحوث ومظانّها. ونسأل الله سبحانه حسن المعونة والتوفيق فى العمل.
مصحّحه أحمد الزين(مقدمةج 8/7)
أسماء أهمّ الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء
وهى مرتبة على حروف المعجم ومبين فيها ما هو مطبوع فى غير مصر وما هو مخطوط أو مأخوذ بالتصوير الشمسى، ورقمه فى دار الكتب المصرية.
أساس البلاغة، لجار الله أبى القاسم محمود بن عمر الزمخشرى.
الأغانى، لأبى الفرج على بن الحسين الأصفهانى.
إرشاد الأريب الى معرفة الأديب، وهو معجم الأدباء لأبى عبد الله ياقوت الرومى الحموى.
أعيان العصر وأعوان النصر، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى المأخوذ منه بالتصوير الشمسى بعض أجزاء محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1091
تاريخ.
الأمالى، لأبى علىّ القالى.
الإرشاد الشافى على متن الكافى فى العروض والقوافى، وهو الحاشية الكبرى للسيد محمد الدمنهورى.
أقرب الموارد فى فصح العربية والشوارد، لسعيد الخورى الشرتونى اللّبنانى.
إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى، لشهاب الدين أحمد بن محمد الخطيب القسطلانى.
إخبار العلماء بأخبار الحكماء، للوزير جمال الدين أبى الحسن على بن يوسف القفطى، طبع أوربا.(مقدمةج 8/8)
الأحكام السلطانية، لأبى الحسن على بن محمد بن حبيب المعروف بالماوردى طبع أوربا ومصر.
الأوائل، لأبى هلال العسكرى، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2705 تاريخ.
الأطعمة المعتادة، المأخوذ منه بالتصوير الشمسى نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 51 علوم معاشية؛ ولم يعلم مؤلّفه.
بدائع الزهور فى وقائع الدهور، المشهور بتاريخ مصر، لمحمد بن أحمد المعروف بابن إياس المصرى.
تاريخ العينى، المسمى بعقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان، للحافظ بدر الدين محمود، المعروف بالعينى المأخوذ منه بالتصوير الشمسى نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1584 تاريخ.
تاج العروس، وهو شرح القاموس، لمحب الدين السيد محمد مرتضى الحسينى الواسطى الزبيدى.
تاج اللغة وصحاح العربية، لأبى نصر اسماعيل بن حمّاد الجوهرىّ الفارابى.
التذكرة الصفدية، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى، المحفوظ منها بدار الكتب المصرية بعض أجزاء مخطوطة تحت رقم 420 أدب.
تاريخ أبى الفداء، وهو المختصر فى أخبار البشر، للملك المؤيد أبى الفداء، المعروف بصاحب حماة.
تاريخ ابن الأثير، وهو المسمى بالكامل، لعز الدين على بن أبى الكرم المعروف بابن الأثير الجزرىّ، طبع ليدن.
تاريخ الأمم والملوك، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، طبع أوربا.(مقدمةج 8/9)
تمام المتون شرح رسالة ابن زيدون، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى، طبع بغداد.
التحفة السنية فى أسماء البلاد المصرية، لشرف الدين يحيى المعروف بابن الجيعان.
الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى.
الجامع لديوان الأدب، فى اللغة، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 25 لغة تأليف أبى ابراهيم اسحاق بن ابراهيم الفارابى.
حاشية الخضرى، على شرح ابن عقيل على الفية ابن مالك.
حاشية الصبّان، على شرح الأشمونى على ألفية ابن مالك.
الحاوى الكبير، فى الفقه، لأبى الحسن على بن محمد بن حبيب البصرى المعروف بالماوردى، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 82 فقه شافعى.
خريدة القصر وجريدة أهل العصر، للوزير أبى عبد الله محمد بن محمد بن أبى الرجاء الكاتب الأصبهانى. وهذا الكتاب مأخوذ منه بالتصوير الشمسى بعض أجزاء محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 4255 أدب.
الخراج، ليحيى بن آدم بن سليمان القرشى.
الخراج، لأبى يوسف يعقوب صاحب الإمام أبى حنيفة.
خطط المقريزى، وهو المسمى بالمواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار.
ديوان الشريف الرضىّ.
ديوان جرير.
ديوان الحماسة، لأبى تمّام حبيب بن أوس الطائى.(مقدمةج 8/10)
ديوان أبى الطيّب المتنبىّ.
دائرة المعارف، للبستانى.
درّة الغوّاص فى أوهام الخواصّ، تأليف أبى محمد القاسم بن على الحريرى.
الروضتين فى أخبار الدولتين، لشهاب الدين أبى شامة المقدسى.
روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى، للسيد محمود بن عبد الله الألوسى البغدادى.
زهر الآداب وثمر الألباب، لأبى اسحاق ابراهيم بن على المعروف بالحصرى القيروانى.
سقط الزند، لأبى العلاء المعرّى.
سيرة ابن هشام، وهو عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميرىّ.
سرح العيون، شرح رسالة ابن زيدون، لجمال الدين أبى بكر محمد بن محمد المعروف بابن نباتة المصرىّ.
شرح التنوير على سقط الزند، لأبى يعقوب يوسف بن طاهر النحوىّ.
شرح ديوان أبى تمّام حبيب بن أوس الطائى، لأبى زكريا يحيى بن على المعروف بالخطيب التبريزى؛ وهذا الكتاب محفوظة منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 50 أدب ش.
شرح حماسة أبى تمّام، لأبى زكريا يحيى بن على المعروف بالخطيب التبريزى.
شرح ديوان أبى الطيّب المتنبىّ، وهو المسمى بالتبيان لأبى البقاء عبد الله بن الحسين المعروف بالعكبرى.
شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل، لشهاب الدين الخفاجى.(مقدمةج 8/11)
شرح كافية ابن الحاجب فى النحو، لرضىّ الدين محمد بن الحسن الإسترابادى النحوىّ.
صبح الأعشى فى كتابة الإنشا، لشهاب الدين القلقشندى.
صحيح البخارى.
الطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد، لكمال الدين أبى الفضل الإدفوى.
طبقات الشعراء، تأليف أبى عبد الله محمد بن سلّام الجمحىّ البصرىّ، طبع أوربا.
الطبقات الكبرى، لأبى محمد بن عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة الدينورى.
عيون الأخبار، لأبى محمد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة الدينورى.
العقد الفريد، لأحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبىّ.
الفاضل من كلام القاضى الفاضل، اختيار جمال الدين أبى بكر المعروف بابن نباتة المصرىّ، وهذا الكتاب مأخوذة منه نسخة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 3882 أدب.
القاموس، لمجد الدين الفيروزابادى.
قوانين الدواوين، للأسعد بن مماتى.
لسان العرب، لأبى الفضل جمال الدين المعروف بابن منظور الإفريقىّ المصرىّ.
لزوم ما لا يلزم، لأبى العلاء المعرّى.
مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار، لشهاب الدين المعروف بابن فضل الله العمرى القرشى؛ وهذا الكتاب مأخوذة منه نسخة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2568 تاريخ.
مغنى اللبيب، لجمال الدين بن هشام الأنصارى.(مقدمةج 8/12)
ملخّص تاريخ الخوارج، للشيخ محمد شريف سليم.
المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى، لأبى المحاسن جمال الدين المعروف بابن تغرى بردى وهذا الكتاب محفوظة منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1113 تاريخ.
المصباح المنير، لأحمد بن محمد المقرى الفيومى.
المغرب فى ترتيب المعرب، لأبى الفتح ناصر بن عبد السيد المطرّزى.
محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، لأبى القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى.
المستطرف فى كل فن مستطرف، لشهاب الدين أحمد الأبشيهى.
معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، لأبى الفتح عبد الرحيم العباسى.
معيد النعم ومبيد النقم، لتاج الدين عبد الوهاب بن تقى الدين السبكى، طبع أوربا.
المعرّب والدخيل، للشيخ مصطفى المدنى، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 64 لغة.
المعرّب من الكلام الأعجمى، لأبى منصور موهوب المشهور بالجواليقى، طبع أوربا.
معجم البلدان، لياقوت، طبع أوربا.
مقدّمة ابن خلدون.
المعجم الفارسى الإنجليزى، تأليف ستاين جاس.
مفاتيح العلوم، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الخوارزمىّ، طبع أوربا.(مقدمةج 8/13)
مناقب الليث بن سعد، للحافظ أبى الفضل شهاب الدين أحمد الشهير بابن حجر العسقلانى.
المخصّص، فى اللغة، لأبى الحسن على بن اسماعيل المعروف بابن سيده.
مفردات الأدوية والأغذية، لضياء الدين أبى محمد عبد الله بن أحمد الأندلسى المعروف بابن البيطار.
نهاية الأرب فى فنون الأدب، للنويرى.
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، للأمير أبى المحاسن جمال الدين المعروف بابن تغرى بردى المأخوذ منه نسخة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1343 تاريخ.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لشمس الدين المعروف بابن خلّكان.
يتيمة الدهر فى شعراء أهل العصر، لأبى منصور عبد الملك بن محمد الثعالبى النيسابورى.(مقدمةج 8/14)
الجزء الثامن
[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]
[تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و ... ]
[تتمة الباب الرابع عشر في الكتابة وما تفرع من أصناف الكتاب]
[تتمة ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام]
[تتمة ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل الأسعد محيى الدين
أبى علىّ عبد الرحيم ابن القاضى الأشرف [أبى المجد «1» علىّ] بن «2» الحسن بن الحسين ابن أحمد بن اللّخمىّ الكاتب المعروف بالبيسانىّ- رحمه الله تعالى- إليه انتهت صناعة الإنشاء ووقفت، وبفضله أقرّت أبناء البيان واعترفت، ومن بحر علمه رويت ذو والفضائل واغترفت؛ وأمام فضله ألقت البلاغة عصاها «3» ، وبين يديه استقرّت «4» بها نواها؛ فهو كاتب الشرق والغرب فى زمانه وعصره، وناشر ألوية الفضل فى مصره وغير مصره؛ ورافع علم البيان لا محاله، والفاصل بغير إطاله؛ وقد أنصف بعض الكتّاب فيه، ونطق من تفضيله بملء فيه؛ حيث قال:(8/1)
كلّ فاضل بعد الفاضل فضله، وكلّ قد عرف له فضله؛ وستقف إن شاء الله من كلامه على السحر الحلال، فتروى صداك من ألفاظه بالعذب الزّلال؛ فمن ذلك قوله: وافينا «1» قلعة نجم [وهى «2» نجم] فى سحاب، وعقاب فى عقاب «3» ؛ وهامة لها الغمامة عمامه، وأنملة اذا خضبها الأصيل كان الهلال لها «4» قلامه.
ومن رسائله ما كتب به الى النظام أمير حلب: ورد كتاب المجلس السامى- حرس الله به نظام المجد [وأطلق فيه «5» لسان الحمد] ، ودامت مساعيه مصافحة ليد السعد، وأحسن له التدبير فى اليومين: من قبل ومن بعد- فمرحبا بمقدمه، وأهلا بمنجمه؛ والشوق تختلف وفود «6» صروفه، وتتنوّع صنوف ضيوفه؛ فلا بد أن تتبعّض اذا تبعّضت المسافات، وتبرد وتخمد اذا عبّدت «7» ودنت الطّرقات؛ ولو بمقدار ما يدنو اللقاء على الرسول السائر، بالكتاب الصادر، والخيال الزائر، بالحبيب العاذر، والنسيم الخاطر، من رسائل الخواطر؛ وقد وجدت عندى أنسا لا أعهده؛ وعددت نقص البعد أحد اللقاءين، كما كنت أعدّ زيادة البعد أحد النأيين؛ فزاده الله من القلوب(8/2)
حظوه، ولا أخلاه من بسط يد وقدم فى حظّ وحظوه «1» ؛ ووقفت على هذا الكتاب المشار اليه وما وقفت عنه لسانا شاكرا، ولا صرفت عنه طرفا ناظرا، وبلغت من ذلك جهدى وإن كان قاصرا، واستفرغت له خاطرى وما أعدّه اليوم خاطرا؛ ومما أسرّ به أن يكون فى الخدمة السلطانية- أعلاها الله ورفعها، ووصلها ولا قطعها، وألّف عليها القلوب وجمعها، واستجاب فيها الأدعية وسمعها- من يكثّر قليلى، ويشفى فى تقبيل الأرض غليلى، فإن تقبيل سيدنا كتقبيلى؛ فلو شرب صديق وأنا عطشان لأروانى، ولو استضاء بلمعة فى الشرق وأنا فى الغرب لأرانى؛ كما أنّ الصّديق اذا مسّته نعمة وجب عنها شكرى، واذا وصلت اليه يد منعم وصلتنى وتغلغلت الىّ ولو كنت فى قبرى.
ومنها: وأعود الى جواب الكتاب، الأخبار لا تزال غامضة إلى أن يشرحها، ومقفلة إلى أن يفتحها؛ بخلاف حالى مع الناس، فإن القلوب لا تزال سالمة إلا أن يجرحها، والهموم خفيفة إلا أن يرجّحها؛ والحقّ من جهته ما تحقّق، وما استنطق بشكر من أنطق؛ وفى الخواطر فى هذا الوقت موجود يجعلها [فى «2» ] العدم، ويخرجها من الألم الى اللّم «3» ، ويعادى بين الألسنة والأسماع وبين العيون والقلم؛ وكلّما قلّت الحيلة المشكوك فى نجحها، فتح الله باب الحيلة المطموع فى فتحها؛ وهى من فضل الله سبحانه والاستجارة بالاستخاره، فتلك تجارة رابحة وكلّ تجارة لا تخلو من خساره؛ والله تعالى يجمع كلمة المسلمين على يد سلطاننا، ولا يخلينا منه ومن [بنيه «4» ] حلّى زماننا، وشنوف إيماننا، ويسعدنا من أكابرهم بتيجان رءوسنا، ومن أصاغرهم بخواتم أيماننا؛(8/3)
ولو تفرّغت العزمة الفلانية لهذا الكلب العدوّ فترجم كلبه، وتكفّ غربه؛ وتذيقه وبال أمره، وتطفئ شرار شرّه، وتعجّل له عاقبة خسره؛ فقد غاظ المسلمين وعضّهم، وفلّ جموعهم وفضّهم؛ وما وجد من يكفى فيه ويكفّه، ويشفى الغليل منه بما يشفّه «1» ؛ ولو جعل السلطان- عزّ نصره- غزو هذا الطاغية مغزاه «2» ، وبلاده مستقرّ عسكره ومثواه، لأخذ الله الكافر بطغواه؛ ولأبقى ذكرا، وأجرى فى الصحيفة أجرا؛ ولأطفأ الحقد الواقد، بالحديد البارد، وغنم المغنم البارد، وسدّد الله ذلك العزم الصادر والسهم الصارد «3» ؛ فلا بدّ أن يجرى سيّدنا هذا الذكر، ولو لما أحتسبه أنا من الأجر؛ وما أورده المجلس عن فلان من صفو شربه، وأمن سربه؛ واستقراره تحت الظلّ الظليل السلطانى- جعله الله ساكنا، وأحلّه منه حرما آمنا- ومن معافاته فى نفسه وولده وجماعته، وأهل ولائه وولايته، فقد شكرت له هذه البشرى، وفرحت بما يسّر الله ذلك المولى له من اليسرى؛ غير أنى أريد أن أسمع أخباره منه لا عنه وبمباشرته لا باستنابته، فلا عرفت مودّته من المودّات الكسالى، ولا أقلامه إلا بلبس السواد- على أنها مسرورة سارّة لا ثكالى؛ واذا قنع صديقه منه بفريضة حجيّة، لا تؤدّى إلا فى ساعة حوليّه، فإن يبخل بها ذلك الكريم فقد انتحل الاسم الآخر- أعاذه الله منه، وصرف عنه لفظه كما صرف معناه عنه؛ وللمودّة عين لا يكحلها اذا رمدت إلا إثمد مداد الصديق، وما فى الصبر وسع لصحبة أيام العقوق بعد صحبة أيام العقيق؛ وقد بلغنى أنّ ولد المذكور نزع «4» وترعرع، ونفع(8/4)
وأينع؛ وخدم فى المجلس السلطانىّ، فسررت بأن تجمع فى خدمته الأعقاب والذّرارى؛ والله تعالى يحفظ علينا تلك الخدمة جميعا، ولا يعدمنا من يدها سحابا ولا من جنابها ربيعا؛ وقد فتح سيّدنا بابا من الأنس ونهجه، وأوثر ألّا يرتجه؛ بمكاتباته التى يده فيها بيضاء، ويد الأيام عندى خضراء؛ بحيث لا يستوفى على الحساب، فى كل جواب؛ وأنا فى هذه الأحوال أوثر العزلة وأبدأ فيها بلسانى وقلمى، وأتوخّى أن أشبّه حالة وجودى بعدمى؛ فإنى أرى من تحتها أروح ممن فوقها، ومن خرج منها أحظى ممن أقام بها؛ وللمودّات مقرّ ما هو إلا الألسنه، والقلوب قضاة لا تحتاج الى بيّنه.
وكتب [جوابا «1» ] أيضا الى آخر وهو: وقفت على كتاب الحضرة- يسر الله مطالبها وجمّل عواقبها، وصفّى من الأكدار مشاربها، وحاط من غير الأيّام جوانبها، ووسّع فى الخيرات سبلها ومذاهبها؛ ووقاها ووقى ولدها، وأسعدها وأسعد يومها وغدها؛ وجمع الشمل بها قريبا، وأحدث لها فى كلّ حادثة صنعا غريبا- من يد الحضرة الفلانيّة- لا عدمت يدها ومدّها، وأدام الله سعدها- وشكرت الله على [ما «2» ] دلّ عليه هذا الكتاب من سلامة حوزتها «3» ، ودوام نعمتها؛ وسبوغ كفايتها؛ وسألته سبحانه أن يصحّ جسمها، ويميط همّى وهمّها؛ فهما همان لا يتعلّقان إلا بخدمة المخدوم- أجارنا الله فيه من كلّ هم، وأجرى بتخصيصه السعد الأعمّ، واللّطف الأتمّ- وعرفت ما أنعمت بذكره من المتجدّدات بحضرته، ومن الأمور الدالّة على سعادته وقوّته؛ وللأمور أوائل وأواخر، وموارد ومصادر؛ فنسأل الله سبحانه أن يجعل(8/5)
العواقب لكم، والمصادر إليكم، والنعمة عندكم، والنّصرة خاصّة بسلطانكم، والكفاية مكتنفة بجماعتكم «1» ؛ وقد قاربت الأمور بمشيئة الله أن تسفر وجوهها، والخواطر أن يستروح مشدوها «2» ، «إنّ الله لذو فضل على النّاس» وفى كلّ أقدار الله الخيرة، وفى حكمته أنه جعل الخيرة محجوبة تحت أستار الأقدار؛ وقد علم الله تقسّم فكرى لما هى عليه من المشقّات المحمولة بالقلب والجسد، والأمور الحاضرة فى اليوم والمستقبلة فى غد؛ وهى فى جانب الخير، والخير يعمّ الوكيل لصاحبه، ومن أصلح جانبه مع الله كان الله جديرا بإصلاح جانبه.
ومنه: وعليه السلام الطيّب الذى لو مرّ بالبهيم لأشرق، أو بالهشيم لأورق؛ وكتبها الكريمة إن تأخّرت فمأموله، وان وصلت فمقبوله؛ وان أنبأت بسارّ فمشهوره وان أنبأت بشرّ فمستوره؛ وخادمها فلان يخدم مجلسها خدمة الخادم لمخدومه، ويكرر التسليم على وجهه الكريم المحفوف من كلّ قلب بحبّه، ومن كلّ سلام بتسليمه.
وكتب أيضا: وصل كتاب الحضرة- وصل الله أيّامها بحميد العواقب، وبلوغ المآرب، وصحبت الدهر [على خير «3» ما صحبه صاحب] ، وأنهضنا بواجب طاعته، فإنه بالحقيقة الواجب- وكلّ واجب غيره غير واجب- من يد فلان، فرجوت أن يكون طليعة للاقتراب، ومبشّرا بالإياب، ومخبرا بعودها الذى هو كعود الشباب لو يعود الشباب؛ وأعلمنى من سلامة جسمها، وقلبها من همّها؛ ما شكرت الله عليه، واستدمت العادة الجميلة منه، وسألته أن يوزعها «4» شكر النعمة فيه؛ وعرفت الأحوال جملة من كتابها، وكلّها(8/6)
تشهد بتوفيق سلطاننا، وبأيّامه التى تعود بمشيئة الله بإصلاح شانه وشاننا؛ والذى مدّه ظلّا، يمدّه فضلا؛ فالفضل الذى فى يديه، فى يخلق الله الذى أحالهم فى الرزق عليه؛ فكيفما دعونا لأنفسنا، وكيفما كانت أسنّة رماحه فهى نجوم حرسنا، فلا عدمت أيامه التى هى أيام أعيادنا، ولا لياليه التى هى ليالى أعراسنا.
ومن أجوبته: ورد على الخادم- أدام الله أيام المجلس وصفّاها من الأكدار، وأبقى بها من تأثيراته أحسن الآثار، وأسمع منه وعنه أطيب الأخبار وجعل التوفيق مقيما حيث أقام، وسائرا أينما سار- كتابه الكريم، الصادر عن القلب السليم، والطبع الكريم، والباطن الذى هو كالظاهر كلاهما المستقيم؛ ولا تزال الأخبار عنّا محجمه، والأحاديث مستعجمه؛ والظنون مترجّحه «1» ، والأقوال مسقمة ومصحّحه؛ الى أن يرد كتابه فيحقّ الحقّ ويبطل الباطل، ويتّضح الحالى ويفتضح العاطل؛ ويعرف الفرق ما بين تحرير قائل، وتحوير ناقل «2» ؛ فتدعو له الألسنة والقلوب وتستغفر بحسناته الأيام من الذنوب؛ والشجاعة شجاعتان: شجاعة فى القلب وشجاعة فى اللسان؛ وكلتاهما لديه مجموع، ومنه وعنه مروىّ ومسموع؛ وذخائر الملوك هم الرجال، وآراء الحزماء هى النصال، ومودّات القلوب هى الأموال، ومجالس آرائهم هى المعركة الأولى التى هى ربما أغنت عن معارك القتال؛ والله تعالى يمدّ المسلمين به حال تجمّعهم على جهاد الكفّار، ويلهمهم أن يبذلوا فى سبيله النفس والسيف والدّرهم والدينار؛ ويزيل ما فى طريق المصالح من الموانع، ويفطم السيوف عن الدّماء الإسلاميّة ويحرّم عليها المراضع؛ ويجعل للمجلس فى ذلك اليد العليا، والطريقة المثلى، ويجمع له بين خيرى الآخرة والأولى؛ والأحوال هاهنا بمصر مع بعد سلطانها(8/7)
وتمادى غيبته عن مباشرة شانها؛ على ما لم يشهد مثله فى أوقات السكون فكيف فى أوقات القلق، على من يحفظ الله به من فى البلاد من الجموع ومن فى الطّرقات ومن الرّفق؛ والأمير الولد صحيح فى جسمه وعزمه، متصرّف فى مصالحه على عادته ورسمه؛ جعله الله نعم الخلف المسعود، وأمتعه بظلّ المجلس الممدود، فى العمر الممدود؛ وعرف الخادم أن المجلس ناب عنه مرّة بمجلس فلان ويشكر على ما سلف من ذلك المناب، ويستزيد ما يستأنفه من الخطاب؛ والبيت الكريم أنا فى ولائه وخدمته كما قيل:
إنّ قلبى لكم لكالكبد الحرّى ... وقلبى لغيركم كالقلوب
يسرّنى أن يمدّ الله ظلّهم، وأن يجمع شملهم؛ كما يسوءنى أن تختلف آراؤهم ولا تنتظم أهواؤهم؛ وهذا المولى يبلغنى أنه سدّ وساد، وجدّ وجاد، وخلف من سلف من كرام هذا البيت من الآباء والأجداد؛ واشتهرت حسن رعايته لمن جعله الله من الرعايا وديعه، وحسن «1» عنايته بمن جعله الله له من الأجناد شيعه؛ وإذ بلغنى ذلك سررت له ولابنه ولجدّه، وعلمت أنه لم يمت من خلّفه لإحياء مجده؛ ومن استعمله بحسن فقد أراد الله به حسنا، ومن أحسن إلى خلق الله كان الله له محسنا؛ إن الله أكرم الأكرمين، وأعدل العادلين؛ وكتب المجلس السامى ينعم بها متى خفّ أمرها، وتيسّر حملها، وتفرّغ وقته لها؛ والثقة حاصلة بالحاصل من قلبه، وعاذرة وشاكرة فى المبطئ «2» والمسرع من كتبه؛ ورأيه الموفّق إن شاء الله تعالى.
وكتب: ورد كتاب الحضرة السامية- أحسن الله لها المعونه، ويسّر لها العواقب المأمونه، وأنجدها على حرب الفئة الكافرة الملعونه- بخبر خروج الخارج(8/8)
من قلعة كذا، وما صرّح به من الخوف الذى ملأ الصدور، والاستحثاث فى مسير العسكر المنصور؛ وكلّ ضيقة «1» وردت على القلوب ففزعت فيها إلى ربّها فرجت فرجه وأذكى لها اليقين سرجه؛ ولم تشرك معه غيره مستعانا، ولم تدع معه من خلقه إنسانا؛ فما الضّيقة وإن كانت منذرة إلا مبشّره، والخطة وإن كانت وعرة إلا ميسّره؛ لا جرم أن هذا الكتاب أعقبه وصول خبر نهضة فلان- نصر الله نهضاته، وأدّى عنه مفترضاته- فاستنهض العساكر، وقوتل العدوّ الكافر؛ فنفّس ذلك الخناق، وتماسكت الأرماق؛ وما أحسب أنّ الأمر يتمادى مع القوم، بل أقول: لا كرب على الإسلام بعد اليوم؛ تتوافى بمشيئة الله ولاة الأطراف، ويزول من نفس العدوّ وسمعه ما استشعره بين المسلمين من الخلاف؛ ويجتمعون إن شاء الله على عدوّهم، ويذهب الله بأهل دينه ما كان [من فساد «2» ] أعدائه فى أرضه وعلوّهم؛ وقد شممنا رائحة الهدنة بطلب الرسول، وبخبر هلاك ملك الألمان الذى هو بسيف الله مقتول، والموت سيف الله على الرقاب مسلول.
ومنها: فأما ما أشار إليه من القلاع التى شحنها «3» ، والحصون التى حصّنها؛ والأسلحة التى نقلها إليها، والأفوات التى ملأ بها عيون مقاتلتها وأيديها؛ فإن الله يمنّ عليه بأن يسّره لهذه الطاعه، ورزقه لها الاستطاعه؛ فكم رزق الله عبدا رزقا حرمه منه وفتح عليه بابا من الخير وصرفه عنه؛ لا جرم أنه وفّى قوما أجرهم بغير حساب، ووقف(8/9)
قوما بموقف مناقشة الحساب، الذى المصرف عنه إلى ما بعده من العذاب؛ الآن والله ملّك الملك العادل ماله الذى أنفقه، وأودعه لخير مستودع من الذى رزقه؛ وشتّان بين الهمم: همّة ملك ذخر ماله فى رءوس القلاع لتحصين الأموال، وهمّة ملك أودع ماله فى أيدى المقاتلة لتحصين القلاع
يبنى الرجال وغيره يبنى القرى ... شتّان بين مزارع ورجال
والحمد لله الذى جعل ماله له مسرّه، يوم يرى الذين يكنزون الذهب والفضّة المال عليهم حسره؛ ما أحسب أحدا من هذه الأمّة إن كان عند «1» الله من أهل الشهادات بين يديه، وإن كان كريم الوفادة لديه؛ إلا تلقّاه شاكرا لهذا السلطان شاهدا بما يولى هذه الأمّة من الإحسان، «وفى ذلك فليتنافس المتنافسون» سيحصد الزارعون ما زرعوا، والله يزيده توفيقا إلى توفيقه، ويلهم كلّ مسلم [القيام «2» ] بمفترض برّه ويعيذه من محذور عقوقه؛ وأنا أعلم أنّ الحضرة تفرد لى شطرا من [زمانها المهم، لكتاب تلقيه «3» الىّ، وخبر سارّ تورده علىّ؛ وأنا أفرد شطرا من] زمانى لشكرها، وأسرّ والله لها بتوفيق الله فى جميع أمرها، فإن الذّاكر لها بالخير كثير، فزاد الله طيب ذكرها؛ ورأيه الموفّق فى أن يجرينى على كنف العادة، و [لا «4» ] يقطع عنى هذه المادّة؛ إن شاء الله تعالى.
وكتب: ورد كتاب المجلس السامى- نصر الله عزائمه، وأمضى فى رءوس الأعداء صوارمه، وشدّ به بنيان الإسلام ودعائمه، واستردّ به حقوق الإسلام من(8/10)
الكفر ومظالمه، وأخلف نفقاته فى سبيل الله ومغارمه، وجعلها مغانمه- وكان العهد به قد تطاول، والقلب فى المطالبة ما تساهل، ولمحت أشغاله بالطاعة التى هو فيها وما كلّ من تشاغل تشاغل؛ فهنّأه الله بما رزقه، وتقبّل فى سبيل الله ما أنفقه وعافى الجسم الذى أنضاه فى جهاد عدوّه وأخلقه، وقد وفق من أتعب نفسا فى طاعة من خلقها، وجسما فى طاعة من خلقه؛ فهذه الأوقات التى أنتم فيها أعراس الأعمار، وهذه النفقات التى تجرى على أيديكم مهور الحور فى دار القرار؛ قال الله سبحانه فى كتابه الكريم: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
وأما فلان وما يسّره الله له، وهوّنه عليه، من بذل نفسه وماله، وصبره على المشقّات واحتماله، وإقدامه فى موقف الحقائق قبل رجاله؛ فتلك نعمة الله عليه، وتوفيقه الذى ما كلّ من طلبه وصل اليه؛ وسواد العجاج فى تلك المواقف، بياض ما سوّدته الذنوب من الصحائف «يا ليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما» فما أسعد تلك الوقفات، وما أعود بالطّمأنينة تلك المرجفات «1» ؛ وقد علم الله سبحانه وتعالى منّى ما علم من غيرى من المسلمين من الدعاء الصالح فى الليل إذا يغشى، ومن الذكر الجميل لكم فى النهار إذا تجلّى؛ والله تعالى يؤيّد بكم إيمانكم، وينصركم وينصر سلطانكم، ويصلحكم ويصلح بكم زمانكم، ويشكر هجرتكم التى لم تؤثروا عليها أهليكم ولا أموالكم ولا أوطانكم؛ ويعيدكم إليها سالمين سالبين، غانمين غالبين؛ إنه على كل شىء قدير.
وكتب: وصل كتاب الحضرة السامية- أيد الله عزمها، وسدّد سهمها وجعل فى الله همّها، ووفّر فى الخيرات قسمها- مبشّرا بالحركة الميمونة السلطانيّة(8/11)
إلى العدوّ خذله الله، ومسير المسلمين- نصرهم الله- تحت أعلامه أعلاها الله؛ ومباشرة العدوّ واستبشار المسلمين بما أسعدهم الله من الجراءة عليه، ومن إضمار العود اليه؛ وهذه مقدّمة لها ما بعدها، وهى وان كانت نصرة من الله فما نقنع بها وحدها فالهمّة العالية [السلطانيّة] للحرب التى تسلب الأجسام رءوسها، والسيوف حدّها؛ فإن الجنّة غالية الثمن، والخطاب بالجهاد متوجّه الى الملك العادل دون ملوك الأرض وإلا فمن؟ فهذه تشترى بالمشقّات، كما أن الأخرى- أعاذنا الله منها- رخيصة الثمن وتشترى بالشهوات؛ والحضرة السامية نعم القرين ونعم المعين، وفرض ذى اللهجة المبين، أن يستجيش ذا القوة المتين، وكلمة واحدة فى سبيل الله أنمى من ألوف المقاتلة والمئين؛ والله تعالى يوسّع إلى الخيرات طرقها، ويطلق بها منطلقها، ويمتع الإخوان بخلقها الكريم فما منهم إلا من يشكر خلقها؛ ورأيها الموفّق فى إجرائى على العادة المشكورة من كتبها، وإمطارى من خواطرها، لا عدمت صوب سحبها.
ومن كتاب كتبه الى القاضى محيى الدين بن الزكىّ: بعد أن أصدرت هذه الخدمة الى المجلس- لا عدمت عواطفه وعوارفه، ولطائفه ومعارفه؛ وأمتع الله الأمة عموما بفضائله وفواضله، ونفعهم بحاضره كما نفعهم بسلفه الصالح وأوائله، وعادى الله عدوّه ودلّ سهامه على مقاتله-[ورد كتاب «1» منه فى كذا وما بقيت أذكر الإغباب، فإن سيّدنا يقابله] بمثله، ولا العتاب فإن سيدنا يساجله بأفيض من سجله؛ ولا ألقى عليه من قولى قولا ثقيلا، ولا أقابل به من قوله قولا جليّا(8/12)
جليلا؛ فقد شبّ «1» عمرو عن الطّوق، وشرف البراق عن السّوق؛ وذلك العمرو «2» ما برح محتنكا «3» والطّوق للصّبىّ، وذلك البراق حمى لا يقدّم إلا للنّبىّ؛ ومع هذا فلا تقلّص عنّى هذه الوظيفه، واعتقدها من قرب الصحيفه؛ فإنك تسكّن بها قلبا أنت ساكنه وتسرّبها وجها أنت على النوى معاينه.
وكتب إلى العماد: كانت كتب المجلس- لا غيّر الله ما به من نعمه ولا قطع عنه موادّ فضله وكرمه، ولا عدمت الدنيا خطّ قلمه وخطو قدمه؛ وأعاذنا الله بنعمة وجوده من شقوة عدمه- تأخّرت وشقّ علىّ تأخّرها، وتغيّرت علىّ عوائدها والله يعيذها مما يغيّرها؛ ثم جاءت ببيت ابن حجاج:
غاب ما غاب ووافا ... نى على ما كنت أعهد «4»
وأجبته ببيت الرّضىّ:
ومتى تدن النوى بهم ... يجدوا قلبى كما عهدوا
كتابة لا ينبغى ملكها إلا لخاطره السليمانىّ، وفيض لا يسند إلا عن «5» نوح قلمه(8/13)
الطّوفانىّ، أوجبت على كل بليغ أن يتلو، «ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانىّ» وبالجملة فالواجب على كلّ عاقل ألّا يتعاطى ما لم يعطه، وأن يدخل باب مجلس سيّدنا ويقول حطّه؛ فأما ما أفاض فيه من سكون الأحوال بتلك البلاغة فقد كدت أسكر لما استخرجته من تلك المحاسن التى لو أن الزمان الأصم يسمع لأسمعته، ولو أن الحظّ الأشم يخضع لأخضعته؛ وبالجملة فإنه لا يشنأ زمن أبقى من سيّدنا نعمة البقيّة التى مهما وجدت فالخير كلّه موجود، والمجد بحفيظته مشهود؛ وكما تيسّرت راحة جسمه، فينبغى أن يقتدى به قلبه فى راحة من همّه؛ وأعراض الدنيا متاع المتاعب، وقد رفع الله قدره، وإلا فهذه الدنيا وهدة إليها مصاب المصائب؛ والحال التى هو الآن عليها عاكف [إلا «1» ] من علم يدرسه، وأدب يقتبسه، وحريم عقائل يذبّ عنه ويحرسه؛ هى خير الأحوال، فالواجب الشكر لواهبها، والمسرّة بالإفضاء إلى عواقبها؛ وما ينقص شىء من المقسوم، وإن زاد عند المجلس فليس من حظّه، ولكن من حظّ السائل والمحروم؛ فلا يسمح المجلس بكتاب من كتبه على يد من الأيدى التى لا تؤدّى، ولا يؤمن أن تكون أناملها حروف التعدّى، وهى إحدى ما تعلّقت به الشهوات من اللذّات، وهو ينعم بها على عادته فى كفّ ضراوة القلب ودفع عاديته؛ موفّقا إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى القاضى محى الدين بن الزكىّ أيضا: كان كتابى تقدّم الى المجلس السامى- أدام الله نفاذ أمره، وعلو قدره، وراحة سرّه ونعمة يسره؛ وأجراه على أفضل ما عوّده، وأسعد جدّه وأصعده، وأحضره أمثال العام المقبل وأشهده؛ ولا زال يلبس الأيّام ويخلعها، ويستقبل الأهلّة ويودّعها(8/14)
وهو محروس فى دنياه ودينه، مستلئم من نوب الدهر بدرع يقينه، كاشف لليل الخطب بنور جبينه، وليوم الجدب بفيض يمينه؛ وأعماله مقبوله، ودعواته على ظهر الغمام محموله؛ والدنيا ترعاه وهى تأتى «1» برغمها، والآخرة تدّخر له وهو يسعى لها سعيها- من أيدى عدّة من المسافرين، ولثقتى بهم ما قدّرت «2» أسماءهم، ولضيق صدرى بتأخير كتب المجلس ما حفظتها.
وجاء منها: وما كأنا إلا أن دعونا الله سبحانه دعوة الأوّلين أن يباعد بين أسفارنا، وأردنا أن يقطع بيننا وبين أخبارنا؛ فأجيبت الدّعوه، ولا أقول لسابق الشّقوه، ولكن للاحق الحظوه؛ فإن مكابدة الأشواق الى الأبرار، تسوق الى الجنّة ولا تسوق إلى النار، وأقسم اننى بالاجتماع به فى تلك الدار، أبهج منى بالاجتماع به لو أتيح فى هذه الدار؛ فعليه وعلىّ من العمل ما يجمع هنا لك سلك الشمل ويصل جديد الحبل؛ فثمّ لا يلقى العصا إلا من ألقى هنا «3» العصيان، وهناك لا تقرّ العين إلا ممن سهرت منه هاهنا العينان؛ فلا وجه لجمع اسمى مع اسمه فى هذه الوصيّة مع علمى بسوء تقصيرى، وخوفى من سوء مصيرى، ولكن ليزيد سيّدنا من وظائفه وعوارفه،- فكلّ فعله تفضّل من فضله- ما يخلّصنى بإخلاصه فإننى أستحق شفاعته لشفعة جوار قلبى لقلبه، وهذا معنى ما بعث على شغل الكتّاب به، مع علمى باستقرار نفسه النفيسة، إلا أنه- أبقاه الله- قد أبعد عهدى من كتبه ما يقع التفاوض فيه، والمراجعة عنه؛ والخواطر فى هذا الوقت منقبضه، والشواغل لها معترضه، وأيام العمر فى غير ما يفرض من الدنيا للآخرة(8/15)
منقرضه؛ ومتجدّد نوبة بيروت قد غمّت كلّ قلب، وهاجت المسلمين أشواقا الى الملك الناصر، وذكرى بما ينفعه الله به من كلّ ذاكر، وأخذ الناس فى الترحّم على أوّل هذا البيت والدعاء للحاضر والآخر- وليس إن شاء الله بآخر، فما ادّخر المولى لهذه الحرب مجهودا، ولا فلّلت عسكرا مجرورا ولا مالا ممدودا
فإن كان ذنبى أنّ أحسن مطلبى ... إساة ففى سوء القضاء لى العذر
ومنه: وسيّدنا يستوصى «1» بالدار بدمشق فقد خلت، وإنما الناس نفوس الديار؛ وأنا أعلم أن سيّدنا فى هذا الوقت مشدوه الخاطر عن الوصايا، ومشغول اللسان بتنفيذ ما ينفّذه مما هو منتصب له من القضايا؛ فما فى وقته فضلة ولكن فضل، وسيّدنا يحسن فى كلّ قضيّة من بعد كما أحسن من قبل؛ فهو الذى جعل بينى وبين الشام نسبا [وأنشأنى فيه الى أن ادّخرت «2» عقارا ونشبا] فعليه أن يرعى ما أقناه «3» ، وينفى الشّوك عن طريق اليد إلى جناه؛ والجار إلى هذا التاريخ ما اندفع جوره، ولا أدرك غوره؛ يعد لسانه ما تخلف يده، ويدّعى يومه ما يكذّبه فيه غده؛ وأنا على انتظار عواقب الجائرين، وقد عرف الغيظ منّى ألفاظا مجهولة ما كنت أسمح بأن أعرفها، وكشف مستورا من أسباب الحرج ما يسرّنى أن أكشفها لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وأسوأ خلقا من السيّىء الخلق من أحوجه إلى سوء الخلق؛ وما ذكرت هذا ليذكر، ولا طويت الكتاب عليه لينشر، والسرّ عند سيّدنا ميت وهو يقضى حقّه بأن يقبر.(8/16)
وكتب: أدام الله أيام المجلس وخصه من لطفه بأوفر نصيب، ومنحه من السعادة كلّ عجيب وغريب، وأراه ما يكون عنه بعيدا مما يؤمّله أقرب من كلّ قريب- الخادم يخدم وينهى وصول كتاب كريم تفجّرت فيه ينابيع البلاغه، وتبرّعت [له «1» ] بالحكم أيدى البراعه؛ وجاد منه بسماء مزينة بزينة الكواكب، وهطل منها لأوليائه كلّ صوب ولأعدائه كلّ شهاب واصب «2» ، وتجلّى فما الغيد الكواعب؛ وما العقود فى التّرائب، وتفرّق منه جيش الهمّ فانظر ما تفعل الكتب فى الكتائب؛ وما ورد إلا والقلب إلى مورده شديد الظما، وما كحل به إلا ناظره الذى عشى عن الهدى وقرب من العمى؛ وما نار إبراهيم بأعظم من نوره، ولا سروره- صلّى الله عليه وسلّم- حين نجا أعظم يوم وصوله من سروره؛ فحيّا الله هذه اليد الكريمة التى تنهلّ بالأنواء وتجزل سوابغ النعماء؛ وتعطى أفضل عطاء يسرّها فى القيامه، وتحوز به أفضل أنواع الكرامه؛ فأما شوقه لعبده فالمولى- أبقاه الله- قد أوتى فصاحة لسان، وسحب ذيل العىّ على سحبان؛ ولو أنّ للخادم لسانا موات «3» ، وقلبا يقال له هى «4» هات؛ لقال(8/17)
ما عنده، وأذكر عهده وودّه؛ وباح بأشواقه، وذمّ الزمن على اعتياقه؛ وأما تفضّله بكذا فالخادم ما يقوم بشكره، ولا يقدّره حقّ قدره؛ وقد أحال «1» مكافأة المجلس على ملىء «2» قادر، ومسرّة خاطرة عليه يوم تبلى السرائر؛ والله تعالى يصله برزق سنىّ يملأ إناه، ويوضح هداه؛ ولا يخلى المجلس من جميل عوائده، ويمنحه أفضل وأجزل فوائده إن شاء الله تعالى.
ومن مكاتباته يتشوّق الى إخوانه وأودّائه، ومحبّيه وأوليائه- كتب إلى بعضهم:
أأحبابنا هل تسمعون على النوى ... تحيّة عان أو شكيّة عاتب
ولو حملت ريح الشّمال إليكم ... كلاما طلبنا مثله فى الجنائب
أصدر العبد هذه الخدمة وعنده شوق يغور به وينجد، ويستغيث من ناره بماء الدمع فيجيب وينجد؛ ويتعلّل بالنسيم فيغرى ناره بالإحراق، ويرفع النواظر إلى السّلوان فيعيدها الوجد فى قبضة الإطراق؛ أسفا على زمن تصرّم، ولم يبق إلا وجدا تضرّم، وقلبا فى يد البين المشتّ يتظلّم
ليالى نحن فى غفلات عيش ... كأنّ الدّهر عنّا فى وثاق
فلا تنفّس خادمه نفسا إلا وصله بذكره، ولا أجرى كلاما إلا قيّده بشكره، ولا سار فى قفر إلا شبّه برحيب صدره، ولا أطلّ على جبل إلا احتقره بعلىّ قدره، ولا مرّ بروضة إلا خالها تفتّحت أزهارها عن كريم خلقه ونسيم عطره، ولا أوقد المصطلون نارا إلا ظنّهم اقتبسوها من جمره، ولا نزل على نهر إلا كاثر دمعه ببحره(8/18)
سقى الله تلك الدار عودة أهلها ... فذلك أجدى من سحاب وقطره
لئن جمع الشّمل المشتّت شمله ... فما بعدها ذنب يعدّ لدهره
فكيف ترى أشواقه بعد عامه ... اذا «1» كان هذا شوقه بعد شهره
بعيد قريب منكم بضميره ... يراكم «2» اذا ما لم تروه بفكره
ترحّل عنكم جسمه دون قلبه ... وفارقكم فى جهره دون سرّه
اذا ما خلت منكم مجالس ودّه ... فقد عمرت منكم مجالس شكره
فيا ليل لا تجلب عليهم بظلمة ... وطلعة بدر الدين طلعة بدره
ونسأل الله تعالى أن يمنّ بقربه ورحاب الآمال فسائح، وركاب الهموم طلائح والزمن المناظر «3» بالقرب «4» مسامح؛ هنالك تطلق أعنّة الآمال الحوابس، ويهتزّ مخضرّا من السعود عود يابس
وما أنا من أن يجمع الله شملنا ... بأحسن ما كنا عليه بآيس
وقد كان الواجب تقديم عتبه، على تأخير كتبه؛ ولكنه خاف أن يجنى ذنبا عظيما ويؤلم قلبا كريما
ولست براض من خليل بنائل ... قليل ولا راض له بقليل «5»(8/19)
وحاشى «1» جلاله من الإخلال بعهود الوفاء، ومن انحلال عقود الصفاء، وما عهدت عزمه القوىّ فى حلبة الشوق إلا من الضعفاء، وحاشية خلقه إلا أرقّ من مدامع غرماء الجفاء
من لم يبت والبين يصدع قلبه ... لم يدر كيف تقلقل الأحشاء
وكتب أيضا فى مثل ذلك: كتب مملوك المولى الأجلّ عن شوق قدح الدمع من الجفون شرارا، وأجرى من سيل الماء نارا، واستطال واستطار فما توارى أوارا، ووجد على تذكّر الأيام التى عذبت «2» قصارا، والليالى التى طابت فكأنما خلقت جميعها أسحارا
وبى غمرة للشوق من بعد غمرة ... أخوض بها ماء الجفون غمارا
وما هى إلا سكرة بعد سكرة ... اذا هى زالت لا تزال خمارا
رحلتم وصبرى والشباب وموطنى ... لقد رحلت أحبابنا تتبارى
ومن لم تصافح عينه نور شمسه ... فليس يرى حتى يراه نهارا
سقى الله أرض الغوطتين «3» مدامعى ... وحسبك سحبا قد بعثت غزارا
وما خدعتنى مصر عن طيب دارها ... ولا عوضتنى بعد جارى جارا
أدار الصّبا لا مثل ربعك مربع ... أرى غيرك الربع الأنيس قفارا(8/20)
فما اعتضت أهلا بعد أهلك جيرة ... ولا خلت دار الملك بعدك دارا
وما ضرّ اليد الكريمة التى أياديها بيض فى ظلمات الأيّام، وأفعالها لا يقوم بمدحها إلا ألسنة الأسنّة والأقلام؛ لو قامت للمودّة بشرطها، ومحت «1» خطّ الأسى بخطّها؛ وكتبت ولو شطر سطر ففرّغت قلبا من الهمّ مشحونا، وأطلقت صبرا فى يد الكمد مسجونا؛ ونزّهت ناظر المملوك فى رياض منثورة الحلى، وحلّت عهوده بمكارم مأثورة العلا
وما كنت أرضى من علاك بذا الجفا ... ولكنه من غاب غاب نصيبه
ولو غيركم يرمى الفؤاد بسهمه ... لما كان ممن قد أصاب يصيبه
وما لى فيمن فرق الدهر أسوة ... كأن محبّا ما نآه حبيبه
والمملوك مذ حطّت مصر أثقاله، وجهّز الشام رحاله؛ وألقت النوى عصاها وحلّت الأوبة عراها؛ يكتب فلا يجاب، ويستكشف «2» الهمّ بالجواب فلا ينجاب
يا غائبا بلقائه وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب
ومتى يصفّى الله ورد الحياة من التكدير، ويتحقّق بلقائه أحسن التقدير «وهو على جمعهم إذا يشاء قدير» .
وزمان مضى فما عرف الأوّل ... إلا بما جناه الأخير
أين أيّامنا بظلّك والشّم ... ل جميع والعيش غضّ نضير(8/21)
وحوشى المولى أن يكون عونا على قلبه، وأن يرحل إثره الرّى على «1» سربه، وأن ينسيه بإغباب الكتب ساعات قربه، وأن يحوجه الى إطلاق لسانه بما يصون السمع الكريم عنه من عتبه «2» ؛ الأخ فلان مخصوص بسلام كما تفتّحت عن الورد كمائمه، وكما توضّحت عن القطر غمائمه
اذا سار فى ترب «3» تعرّف تربها ... بريّاه والتفّت عليها لطائمه «4»
وقد تبع الخلق الكريم فى الإغباب والجفوه، وأعدت عزائمه قلبه فاستويا فى الغلظة والقسوه
ان كنت أنت مفارقى ... من أين لى فى الناس أسوه
وهب أن المولى اشتغل- لا زال شغله بمسارّه، وزمنه مقصورا على أوطاره- فما الذى شغله عن خليله، وأغفله عن تدارك غليله؟ هذا وعلائقه قد تقطّعت وعوائقه قد ارتفعت؛ وروضة هواه قد صارت بعد الغضارة هشيما، وعهوده قد عادت بعد الغضاضة رميما
إن عهدا لو تعلمان ذميما ... أن تناما عن مقلتى أو تنيما
وما أولى المولى أن يواصل بكتبه عبده، ويجعل ذكره عقده، ولا ينساه ويألف بعده، ويستبدل غيره بعده.
وكتب أيضا:
أكذا كلّ غائب ... غاب عمّن يحبّه
غاب عنه بشخصه ... وسلا عنه قلبه(8/22)
ولو أن لى يدا تكتب، او لسانا يسهب؛ أو خاطرا يستهلّ، أو فؤادا يستدلّ؛ لوصفت إليه شوقا إن استمسك بالجفون نثر عقدها، أو نزل بالجوانح أسعر وقدها؛ أو تنفّس مشتاق أعان على نفسه، وظنّه استعاره من قبسه؛ أو ذكر محبّ حبيبا خاله خطر فى خلده، وتفادى من أن يخطر به ذكر جلده
حتى كأنّ حبيبا قبل فرقته ... لا عن أحبّته ينأى ولا بلده
بالله لا ترحموا قلبى وإن بلغت ... به الهموم فهذا ما جنى بيده
ولولا رجاؤه أنّ أوقات الفراق سحابة صيف تقشعها الرياح، وزيارة طيف يخلعها الصباح؛ لاستطار فؤاده كمدا، ولم يجد ليوم مسرّته أمدا؛ ولكنه يتعلّل بميعاد لقياه، ويدافع ما أعلّه بلعلّه أو عساه
غنى فى يد الأحلام لا أستفيده ... ودين على الأيّام لا أتقاضاه
ومن غرائب هذه الفرقه، وعوارض هذه الشّقة؛ أنّ مولاى قد بخل بكتابه وهو الذى يداوى به أخوه غليل اكتئابه، ويستعديه على طارق الهمّ إذا لجّ فى انتيابه
كمثل يعقوب ضلّ يوسفه ... فاعتاض عنه بشم أثوابه
وهب أنّ فلانا عاقه عن الكتب عائق، واختدع ناظره كمن هو فى ناضر عيش رائق؛ فما الذى عرض لمولانا حتى صار جوهر ودّه عرضا، وجعل قلبى لسهام إعراضه غرضا؟
بى منه ما لو بدا للشمس ما طلعت ... من المكاره أو للبرق ما ومضا «1»
وما عهدته- أدام الله سعادته- إلا وقد استراحت عواذله، وعرّى «2» به أفراس(8/23)
الصّبا ورواحله؛ إلا أن يكون قد عاد إلى تلك اللّجج، ومرض قلبه فما على المريض حرج؛ وأيّا «1» ما كان ففى فؤادى اليه سريرة شوق لا أذيعها ولا أضيعها، ونفسى أسيرة غلّة لا أطيقها بل أطيعها
وانى لمشتاق اليك وعاتب ... عليك ولكن عتبة لا أذيعها
والأخ النّظام- أدام الله انتظام السعد ببقائه، وأعدانى على الوجد بلقائه- مخصوص بالتحية إثر التحيّه، ووالهفى على تلك السجيّة السخيّة؛ وردت منها البابلىّ معتّقا، وظلت من أسر الهموم بلقائها معتقا
خلائق إما ماء مزن بشهدة ... أغادى بها أو ماء كرم مصفّقا «2»
وقد اجتمعت آراء الجماعة على هجرانى، ونسوا كلّ عهد غير عهد نسيانى
وما كنتم تعرفون الجفا ... فبالله ممّن تعلّمتم.
وكتب أيضا: إن أخذ العبد- أطال الله بقاء المجلس وثبت رفعته وبسط بسطته، ومكن قدرته، وكبت حسدته- فى وصف أشواقه إلى الأيام التى كانت قصارا وأعادت الأيام بعدها طوالا، والليالى التى جمعت من أنوار وجهه شموسا ومن رغد العيش فى داره ظلالا
وجدت اصطبارى بعدهنّ سفاهة ... وأبصرت رشدى بعدهنّ ضلالا
وإن أخذ فى ذكر ما ينطق به لسانه من ولاء صريح، ويعتقده جنانه من من ثناء فصيح «3»(8/24)
تعاطى منالا لا ينال بعزمه ... وكلّ اعتزام عن مداه طليح
ولكنه يعدل عن هذين إلى الدعاء بأن يبقيه الله للإسلام صدرا، وفى سماء الملّة بدرا، وفى ظلمات الحوادث فجرا؛ وأن يجمع الشّمل بمجلسه وعراص الآمال مطلوله «1» وسهام القرب على نحور البعد مدلوله، وعقود النوى بيد اللّقاء محلوله؛ «وما ذلك على الله بعزيز» .
فقد «2» يجمع الله الشّتيتين بعد ما ... يظنّان كلّ الظنّ أن لا تلاقيا
وما رمت به النوى مراميها، ولا سلكت به الغربة مواميها «3» ؛ إلا استنجد شوقه من الجفون هاميا، واستدعى من الزّفرة ما يعيد مسلكه من الجوانح داميا، وصدر عن منهل الماء العذب النمير ظاميا، وتعلّل بالأمانى فى الاجتماع «وآخر «4» ما يبقى الإياس الأمانيا «5» » والسلوة أن الطريق بحمد الله أسفرت «6» عن فضل اجتهاده، وفضيلة جهاده؛ ونصرة الإسلام، وإعلاء الأعلام؛ وخدمة المجلس الفلانى- أعزّ الله نصره، وأسعد بها جدّه، وبلغ بها قصده، وأمضى فى الكفر حدّه؛ وأورى بها للإسلام قدحا، وشرفت حديثا وشرحا، وأجهدت الأعداء إثخانا «7» وجرحا(8/25)
وأبقى بها فى جبهة الدهر أسطرا ... اذا ما انمحى خطّ الكواكب لا تمحى
اذا جاء نصر الله فالفتح بعده، وقد جاء نصر الله فليرقب الفتحا فأما الخادم فيودّ ألّا يزال لشرف محصّلا، ولتلك اليد الكريمة مقبّلا، وللغرّة المتهلّلة كالصباح مستقبلا
محيّا اذا حيّاك منه بنظرة ... فتحت به بابا من اللطف مقفلا
ويرى أن خير أوقاته ما كان فيه بالحاشية الفلانيّة مكاثرا، وتحت ظلال ألويتها سائرا
فثمّ ترى معنى السعادة ظاهرا ... وثمّ ترى حزب الهداية ظاهرا
والخادم يؤثر من المجلس المواصلة بالمراسم «1» [التى يعدّ أيامها «2» من المواسم] ، ويقابل بها أوجه المسارّ طلقة المباسم؛ ويرتقبها ارتقاب الصّوّام للأهلّه، والرّوّاد لمواقع السحائب المنهلّة.
وكتب عن الملك الناصر صلاح الدين الى تقى الدين بن عبد الملك:
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها ... فلى بجنوب الغوطتين جنون
وما ذكرتها النفس إلا استفزّنى ... الى طيب ماء النّير بين «3» حنين
وقد كان شكّى فى الفراق مروّعى ... فكيف أكون اليوم وهو يقين(8/26)
كم جهد ما تسلّى القلوب، وتسرّى «1» الكروب؛ لا سيّما إذا كان الذى فارقته أعلق بالأكباد من خلبها «2» ، وأقرب الى القلوب من حجبها؛ وهل يستروح إلا أن يفضّ ختام الدمع، ويخترق حجاب السمع، ويستغيث بسماء العيون ذات الرّجع «3» ، لتجود أرض الخواطر ذات الصدع؛ وهنا لك أوفى ما يكون الشوق جندا، وأورى ما يورى الوجد زندا
إلى زفرة أو عبرة مستباحة ... لهذى مراح عنده ولذى مغدى
وقد علم الله أنّى مذ فارقته ما دعانى الذكر إلا لبّيته بجواب من ماء الغليل غير قليل ولا ذكرت خلقه الجميل إلا ورأيت الصبر الجميل غير جميل
وغير كثير فيه وجد كثير ... ولوعة قيس والتياح «4» جميل
أهيم برسم فيك للمجد واضح ... وهاموا برسم للغرام محيل «5»
وقد كتبت اليه حتى كاد يشيب له المداد، لو لم يخلع عليه الناظر حلّة السواد وحبّة الفؤاد، فما ردّ، وجار عن خلقه الكريم فإنه قطّ ما ودّ «6» وصدّ؛ وأوثر منه ألّا يحكم الفراق علىّ فيشتطّ، ولا يمكن اللوعة من مهجتى فتخبط «7»
فجد لى بدرّ من بحارك إننى ... من الدمع فى بحر وليس له شطّ(8/27)
بكفّ بها للحرب والسلم آية ... فيحيى لديها الخطّ أو يقتل «1» الخطّ
ونسأل الله الرغبة فى اجتماع لا يكدر ورده، ولا ينثر عقده، ولا يعزب عن آفاق الوفاق سعده
وما كان حكمى أن أفارق أرضكم ... ولكنّ حكم الله لسنا نردّه
وكتب عنه أيضا إلى عز الدين فرّوخ شاه «2» :
أحبابنا لو رزقت الصبر بعدكم ... لما رضيت به عن قربكم عوضا
إنى لأعجب أنّى بعد فرقتكم ... ما صحّ جسمى إلا زادنى مرضا
أنبيكم عن يقين أنّ قلبى لو ... أضحى مكان جناحى طائر نهضا
هذا ولو أنه بالعهد فيك وفى ... لكان حين قضى الله الفراق قضى
كتبت- أطال الله بقاء المولى الولد- عن قريحة قريحه «3» ، وإنسان مقلة جريح فى جريحه، ولوعة صريحه، وذكرة اذا ذكر الصبر كانت طريحه
وليل بطىء طلوع الصبا ... ح شوقا الى القسمات «4» الصّبيحه
أبحت فؤادى وأنت المباح «5» ... وما كان من حقّه أن تبيحه
وما أصحبت «6» فى قتال العذول ... أعنّة قلب عليهم جموحه(8/28)
معنّى بريح شمال الشآم ... لقد عذّب الله بالريح روحه
فلا روّح الله من قربكم ... فؤادى بخطرة يأس مريحه
ولولا التعلّل بأبنية المنى الخادعه، والنزول بأفنية الاسا «1» الواسعه؛ لتصدّعت أكباد وتفطّرت، وتجدّلت «2» أفراس دموع وتقطّرت «3»
يا صاحبى إنّ الدموع تنفّست ... فدع الدموع تبيح ما قد أضمرت
قد كنت أكتم عن وشاتى سرّها ... ولقد جرى طرف الحديث كما جرت
لله ليلات قرنّ نجومها ... بل بدرها بوجوه عيش أقمرت
أغلت على السّلوان شوقكم فما ... باعت كما أمر الغرام من اشترت
ومذ فارقت تلك الغرّة البدريّه، والطلعة العزيزة العزّيّه؛ ما ظفرت بشخصه نوما ولا بكتابه يوما
فوا عجبا حتى ولا الطيف طارقا! ... وأعجب له «4» فى الحرب نثر كتائب
بكفّ أبت «5» فى السّلم نظم كتاب ... يحاسبنى فى لفظة بعد لفظة
ومعروفه يأتى بغير حساب
ولو رضيت- وكلّا- بأن أحمل من هذا الجفاء كلّا؛ لما رضى به لخلقه الرّضى، ولأخذ بقول الرّضىّ:(8/29)
هبونى «1» أرضى فى الإياس بهجركم ... أترضى لمن يرجوك ما دون وصله
والرغبة مصروفة العنان إلى الله أن يبيح من اللقاء منيعا، وينتج من اللّطف صنيعا
لو تأخذون بساعة ... من وصلكم عمرى جميعا
لرغبت فى أن تشترى ... ان كنت ترضى أن تبيعا
ومفارقين مع الصّبا ... عزما «2» فهل أرجو الطلوعا «3»
أقسمت لو رجعوا لأع ... قبنى الصّبا معهم رجوعا
هبكم منعتم [قربكم «4» ] ... ولبستم بعدا منوعا
أفتمنعون بكم ضلو ... عاقد شفين بكم ولوعا «5»
ما غايتى إلا الدمو ... ع وأستقلّ لك الدموعا
وكتب [أيضا رحمه «6» الله تعالى] يتشوق:
فيا رب إن البين أنحت صروفه ... علىّ وما لى من معين فكن معى
على قرب عدّالى وبعد أحبّتى ... وأمواه أجفانى ونيران أضلعى
هذه تحيّة القلب المعذّب، وسريرة الصبر المذبذب، وظلامة عزم السلو المكذّب؛ أصدرتها الى المجلس وقد وقدت فى الحشى نارها، الزّفير أوارها، والدموع شرارها، والشوق أثارها وفى الفؤاد ثارها:(8/30)
لو زارنى منكم خيال هاجر ... لهدته فى ظلماته أنوارها
أسفا على أيّام الاجتماع التى كانت مواسم لسرور الأسرار، ومباسم لثغور الأوطار؛ وتذكّرا لأوقات عذب مذاقها، وعذّب فراقها «1» ؛ وروّحت بكرها، وزوّعت ذكرها
والله ما نسيت نفسى حلاوتها ... فكيف أذكر أنّى اليوم أذكرها
ومذ فارقت الجناب النّورىّ- لا زال جنى جنابه نضيرا، وسنا سنائه «2» مستطيرا؛ وملكه فى الخافقين خافق الأعلام، وعزّه على الجديدين جديد الأيام؛ لم أقف منه على كتاب يخلف سواد سطوره ما غسل الدمع من سواد ناظرى، ويقدم «3» ببياض منظومه ومنثوره ما وزعه البين من سواد «4» خاطرى
ولم يبق فى الأحشاء إلا صبابة «5» ... من الصبر تجرى فى الدموع البوادر
وأسأله المناب «6» بشريف الجناب، وأداء فرض، تقبيل الأرض؛ حيث تلتقى وفود(8/31)
الدنيا والآخره، وتغمر البيوت العامرة المنن الغامره؛ ويظلّ الظلّ غير منسوخ بهجيره، وينشر المجد بشخص لا تسمح الدنيا بنظيره
تظاهر فى الدنيا بأشرف ظاهر ... فلم ير أنقى منه غير ضميره
كفانى عزّا أن أسمّى بعبده ... وحسبى هديا أن أسير بنوره
فأىّ أمير ليس يشرف قدره ... إذا ما دعاه صادقا بأميره
وإننى فى السؤال بكتبه أن يوصلها ليوصل بها لدى تهانئ تملأ يدى، ويودع بها عندى مسرّة تقتدح فى الشكر زندى
عهدتك ذا عهد هو الورد نضرة ... وما هو مثل الورد فى قصر العهد
وأنا أرتقب كتابه ارتقاب الهلال لتفطر عين عن الكرى صائمه، وترد نفس على موارد الماء حائمه.
وكتب أيضا يتشوّق:
لا عتب أخشاه لقطع كتابكم ... واسمع فعذرى بعده لا يعتب
مهما وجدتك فى الضمير ممثّلا ... أبدا تناجينى إلى من أكتب
كتب عبد حضرة مولاه- حرس الله سمّوه، وأدام مزيد علائه ونموّه «1» ، وقرن بالمسارّ رواحه وغدوّه، وكبت حاسده وأهلك عدوّه- عن سلامة ما استثنى فيها الدهر إلا ألم فراقه، وعافية موصولة بمرض قلب لا أرجو موعد إفراقه «2»
لو لم يكن إنسان عينى سابحا ... لخشيت حين بكيت من إغراقه(8/32)
وعندى اليه «1» وجد يكلم الضلوع، ويتكلّم بألسنة الدموع؛ والنفس قريبة استعبار، لذكر أوقات السرور القصار، وأنوارها التى يكاد سنا برقها يخطف الأبصار «2» .
شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سرار «3»
إذ العيش غضّ وريق، والمهج لم يتقسّمها التفريق، ولا سار منها إلى بلد فريق وبقى فى بلد فريق، ولا سقاها كؤوس وجد للجفون المترعة تريق
ثملت منها ومالى ... سوى الغرام رحيق
وإلى الله الشكوى من شوق فى الصّميم، وصبر راحل وغرام لا يريم، كأنه غريم
زعموا أنّ من تباعد يسلو ... لا ومحيى العظام وهى رميم
ولقد استغرب وصول الرفاق وقد صفرت من كتابه الكريم عيابهم، ولو زاره لعدّه تحفة الخصيص «4» بالتخصيص، وأدرك به بغية الحريص، ورأى للدّهر المذنب مزيّة التمحيص، وصال به على نوائب الأيام المنتابه صولة لا يجد عنها من محيص
وحسبتنى لوصوله ... يعقوب بشّر بالقميص(8/33)
هنالك يرتع فى تلك الرّياض التى غصونها أسطارها، وشكلها أطيارها، وألفاظها نوّارها، ومعانيها ثمارها، وبلاغتها أنهارها، وجزالتها تيارها
إن أظلمت للنفس فيها ليلة ... قمر المعانى عندنا سمسارها «1»
ويتلقّاه قبل يده بقلبه، ويكاد يسبق ضميره إلى أكله وشربه
ويظنّه والطرف معقود به ... شخص الرقيب «2» بدا لعين محبّه
وإذا ضنّ مولاه بمأثوره، جاد عليه بميسوره؛ ... «3»
فكأنّنى أهديت للشمس السّنا ... وطرحت ما بين المصاحف دفترا
وعلى كلّ حال فيسأله أن يواصله من مراسمه بما ينتظره ناظره ليجد نورا، وقلبه ليستشعر به سرورا، وخاطره ليجعله بينه وبين الهمّ سورا؛ وألّا يخلى رفقة من كتاب ولو بالقلائد القلائل من درر أقلامه، ودرارىّ كلامه.
وكتب: لو استعار الخادم- أدام الله نعمة المجلس- أنفاس البشر كلاما، وأغصان الشجر أقلاما؛ وبياض النهار أطراسا، وسواد الليل أنفاسا «4» ؛ ما عبّر عن الوجد الذى عبّرت عنه عبراته، ولا عن الشوق الذى لا يستثير مثله معبدا «5»(8/34)
إذا هزجت «1» فى الثقيل الأوّل نبراته «2» ؛ أسفا على ما عدمه فى هذه الطريق، من ذلك المحيّا الطّليق، والخلق الذى هو بكل مكرمة خليق، والصفات التى يحسن بها كلّ حسن ويليق، ويعذر كلّ جفن يسفح ذخيرته شوقا إليها ويريق
قفا أو خذا فى العذل أىّ طريق ... فما أنا من سكر الهوى بمفيق
أما والهوى إنّ الهوى لأليّة ... يعظّمها فى الحبّ كلّ مشوق
لو أنّ الهوى مما تصحّ هباته ... لقاسمت منه قلب كلّ صديق
وما زار ناظر خادمه الكرى إلا تمثّل له مولاه طيفا يهمّ أن يتعلّق بأذياله، وقبل تمويه ناظره على قلبه فى وصاله
وودّ أن سواد الليل مدّ له ... وزاد فيه سواد القلب «3» والبصر
ولقد وجد طعم الحياة لبعده مرّا، وقال بعده للذّتى العين والقلب: مرّا
وها هو يرجو فى غد [وعد «4» ] يومه ... لعلّ غدا يأبى «5» لمنتظر عذرا
وإلى الله سبحانه وتعالى يرغب أن يجعله بالسلامة مكنوفا، وصرف الحدثان عن ساحته مكفوفا «6» ، وعنان الصّروف عن فنائه مصروفا، ووفود الرجاء على أرجائه عكوفا؛ وأن يمتع الوجه «7» بوصفه الذى هو أشرف من كلّ وجه موصوفا(8/35)
من كان يشرك فى علاك فإنّنى ... وجّهت وجهى نحوهنّ حنيفا
وقد «1» كان ينتظر كتابا يشرّفه ويشنفه، ويستخدمه على الأوامر ويصرّفه؛ ويجتنى ثمر السرور غضّ المكاسر ويقتطفه؛ فتأخّر ولم يحدث له التأخير ظنّا، ولا صرفه [عن] أن يعتقد أنّ مولاه لا تحدث له الأيام بخلا بفضله ولا ضنّا
ولو تصرف السحب الغزاز عن الثّرى ... لما انصرفت عن طبعك الشّيم الحسنى
وهو ينتظر من الأمر والنهى ما يكون عمله بحسبه، ويثبت له عهد الخدّام بنسبه
ومن عجب أنّى أحنّ إليهم ... وأسأل عنهم من أرى وهم معى
وتطلبهم عينى وهم فى سوادها ... ويشتاقهم قلبى وهم بين أضلعى.
وكتب أيضا: كتبت والعبرات تمحو السطور، ويوقد ماؤها نار الصدور ويهتك «2» وجدا كان تحت السّتور، ويرسل من بين أضلعى نفس الموتور
قد ذكرنا عهودكم بعد ما طالت ... ليال من بعدها وشهور
عجبا للقلوب كيف أطاقت ... بعدكم! ما القلوب إلّا صخور
وما وردت الماء إلّا وجدت له على كبدى وقدا لا بردا، ولا تعرّضت لنفحات النسيم إلا أهدى إلىّ جهدا، ولا زارنى طيف الخيال إلا وجدنى قد قطعت طريقه سهدا، ولا خطف «3» لى البارق الشّامىّ إلا باراه قلبى خفوقا ووقدا
وأيسر ما نال منّى الغليل ... ألا أحسّ من الماء بردا(8/36)
فسقى الله داره ما شربت [من «1» ] الغمام، وأيّامنا بها وبدور ليالى تلك الأيّام تمام
ذمّ اللّيالى «2» بعد منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام «3»
وكان قد وصل منه كتاب كالطّيف أو أقصر زورا، وكالحبّ أو أظهر جورا، والربيع أو أبهر نورا، والنجم أو أعلى طورا، والماء الزلال أو أبعد غورا؛ فنثرت عليه قبلى، وجعلت سطوره قبلى «4» بل قبلى «5» ، ووردت منه موردا
أهلا به وعلى الإظماء «6» أنشده ... لو بلّ من غللى أبللت من عللى
إلا أنه- أبقاه الله- ما عزّزه «7» بثان، ... ولا آنس غريبه، وإنى وإيّاه غريبان
وكم ظلّ أو كم بات عندى كتابه ... سمير ضمير أو جنان جنان
وأرغب إليه- لا زالت الرّغبات اليه-، وأسأله- لا خيّم السؤال إلا لديه-؛ أن يلاطف بكتابه قلبى، ويمثّل لى بمثاله أيّام قربى(8/37)
والله لولا أنّنى ... أرجو اللّقا لقضيت نحبى
هذا وما فارقتكم «1» ... لكنّنى فارقت قلبى.
وكتب جواب كتاب ورد عليه:
شكرت لدهرى جمعه الدار مرّة ... وتلك يد عندى له لا أضيعها
وطلعة مولانا يطالع عبده ... وكلّ ربوع كان فيها ربوعها
فؤاد سقاه لا يعود غليله ... وعين رأته لا تفيض دموعها
ورد على الخادم كتاب المجلس- أعلى الله سلطانه وأثبته، وأرغم أنف عدوّه وكبته، وأصماه بسهام أسقامه وأصمته؛ ولا أخلى الدنيا من وجوده، كما لم يخل أهلها من جوده، ولا عطّل سماء المجد من صعوده، كما لم يعطّل أرضها من سعوده- وهو كتاب ثان يثنى إليه عنان الثناء، ويصف لى حسن العهد على التّناء، ويستنهض الأدعية الصالحة فى الأطراف والآناء، ويبشّر الخادم بأنه وإن كان بعيد الدار فإنه بمثابة المقيم فى ذلك الفناء، وأن هذه الخدمة التى أنعم الله عليه بها وثيقة الأساس على الدهر شامخة البناء؛ فقام له قائما على قدمه، وسجد فى الطّرس ممثّلا سجود قلمه، واسترعى الله العهد على أنه تعالى قد رعى ما أودعه فى ذمّة كرمه؛ وصارت له نجران «2» علاقة خير صرف إليها وجهه فكأنها قبله، ودعا بنى الآمال إلى اعتقاد فضل مالكها فكأنّما يدعوهم إلى(8/38)
ملّه؛ والله يوزعه شكر هذا الافتقاد «1» على البعاد، ولا يخله من هذا الرأى الجميل الذى هو ملجأ الاستناد؛ وعقد الاعتقاد؛ والخادم لا ينفكّ متطلّعا لأخبار المولى فترده مفضلة ومجمله، ومفصّلة ومجمله؛ ويعرف منها ما يعرف به موقع اللطف بالمولى فى أحواله، ومكان النجح فى آماله؛ وأنّه بحمد الله فى نعمة منه- لا غيّر الله ما به منها، ولا صرفها عنه ولا صرفه عنها- فيجدّد لله الشكر والحمد، ويبلّغه ما يبلغه منها المراد والقصد؛ ونسأل الله ألّا يخلى الدولة الناصريّة منه ناصرا لسلطانها، وعينا لأعيانها؛ وسيفا فى يد الإسلام يناضل عن حقّه، وفرعا شريفا يشهد مرآه بشرف عرقه؛ والرأى أعلى فى إجرائه على ما عوّد من هذا الإنعام، وزيادته شرفا بالاستنهاض- إن صلح له- والاستخدام.
ومن جواب آخر: ورد كتاب المجلس- أدام الله واردات الإقبال على آماله، و [لا] سلبت «2» الأيام نعمتى جميله وإجماله، ولا انحطّ قدر بدره عن درجتى تمامه وكماله، وأحسن جزاءه عن ميثاق «3» الفضل الذى نهض باحتماله- ووقفت منه على ما لا يجد الشكر عنه محيدا، وآنست «4» به القلب الذى كان وحيدا، وعددت يوم وصوله السعيد عيدا، ووردت منه بئرا معطّلة «5» وحللت قصرا مشيدا؛ ولا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها، وتلك الغاية ليست فى وسعى، ولا تعلم نفس إلا ما طرق سمعها، وتلك المحاسن ما طرق مثلها سمعى، ولا تتناول يد إلّا ما وسعه ذرعها، وهذه الأوابد الأباعد ما طالها ذراعى ولا استقلّ بها ذرعى.(8/39)
ومن آخر: خلّد الله أيّام المجلس، وعضّد الملّة الحنيفيّة منه بحاميها، والأركان الإسلاميّة من سيفه بشائدها وبانيها، وأمتع الدولة المحمديّة بعزمته التى حسنت الكفاية بها، فلا غرو أن تحسن الكفاية فيها؛ ولا عدمت الدنيا نضرة بأيّامه النّضيره، والدين نصرة بأعلامه النصيره؛ المملوك يقبّل التراب الذى يوما يستقرّ بحوافر «1» سيله، ويوما يستقرّ بحوافر خيله- فلا زال فى يوم السلم جوده سحابا صائبا، ويوم الحرب شهابا ثاقبا- وينهى أنه وردت عليه المكاتبة التى استيقظت بها آماله من وسنها، وأفادته معنى من الجنّة فإنها أذهبت ما بالنفوس من حزنها، وتلقّى المملوك قبلها «2» بالسجود والتقبيل، وتحلّى بعقود سطورها فهيهات بعد هذا شكوى التعطيل؛ واكتحل من داء السهد بإثمدها «3» ، وأدار على الايّام كأس مرقدها «4» ، وأسمعته نغم النّعم التى هى أعجب إلى النفس من نغمات معبدها، وأطالت الوقوف عليها ركاب طرفه [فما وقوف ركاب «5» طرفة] ببرقة «6» ثهمدها؛ وضرع إلى من يشفّع وسائل المتضرّعين،(8/40)
ويملأ مواقع آمال المتوقّعين؛ أن يغلّ عنه كلّ يد للخطوب بسيطه، ويفكّ به كلّ ربقة «1» للأيّام بأعناق بنيها «2» محيطه.
ومن آخر: رفع الله عماد الإسلام ببقاء المجلس، وبسط ظلّه على الخلق، وملّك يده الكريمة قصب السّبق، وجمع بتدبيره بين ناصيتى الغرب والشرق؛ وألّف لقدرته طاعتى الجهر والسرّ، وصرّف بعزمته زمامى النّهى والأمر، وأحرز لجدّه مسّرّتى الأجر والنصر، وقطّ «3» بفتكته شوكتى النفاق والكفر- وردت على المملوك مكاتبة كريمة رفعها حيث ترفع العمائم، ومدّ اليد اليها كما تمدّ إلى الغمائم؛ وفضّها، بعد أن قضى باللّثم فرضها، واستمطرت نفسه سماءها فأرضت أرضها؛ وكاد المملوك يتأمّلها لولا أنّ دمع الناظر إلى العين سبقه، على أنه دمع قد تلوّن بتلوّن الأيّام فى فراقه، فلو فاض لعصفر «4» الكتاب وخلّقه «5» ؛ فلا أعدمه الله المولى حاضرا وغائبا، ومشافها ومكاتبا، وأحلّه»
فى جانب السعادة ويعزّ على المملوك أن يحلّ من مولاه جانبا.
ومن آخر: ورد كتابه ووقفت على ما أودعه من فضل خطّ وفصل خطاب، وعقائل عقول ما كنا لها من الأكفاء وإن كنا «7» من الخطّاب، وآثار أقلام(8/41)
تناضل عن الملّة نضال النّصال، وكأنها فضل سبق «1» لما تحوزه من حقّ السّبق وخصل «2» الخصال؛ فأعيذ الإسلام من عدمه، ولا عدم بسطة تلمه، وثبوت قدمه؛ فإنه الآن عين الآثار، وأثر الأعيان، وخاطر الحفظ إلا أنّ الخطوب تصحب فيه خواطر النّسيان؛ وليّن اهتصر الدهر سطوا «3» ، واختصر خطوا «4» ؛ وإنه سيف يمان إن قدم عهدا، فقد حسن فرندا «5» ، وخشن حدّا؛ وأجرى نهرا، وأورى شررا؛ واخضرّ خميله، وقطع الأيّام جميله؛ وضارب الأيّام فأجفلت «6» عن مضاربه ضرائبها «7» ، وشردت عن عزمه غرائبها؛ ولبسها حتى أنهجت «8» بواليا، ثم اختار منها أياما وأبى أن يلبسها لياليا؛ لا جرم أن صحيفته البيضاء شعار شعره، وروضة علمه الغنّاء «9» قد جلت أنوار نوره، وزواهر زهره؛ فالزمان لا يعدو عليه بزمانة تعدو، ولا يتجاوز أوقاته إلّا موسومة بمحاسنه ولا يعدو؛ حتى يمتّ إليه «10» عدوّ يلتفت «11» أمس، ويروى اليوم(8/42)
أنّ قرابته من فضله أمسّ؛ والله يعلم أنّنى لأرى له ولا أرى فيه، وأسدّ عنه كلّ خرق تعجز عنه يد رافيه؛ ضنّا بالصدور أن تخلو من صدر كقلبها، ومحاماة عن حقوق تقدمته التى أوجبها أن تعارض بسلبها.
ومن آخر: وصل كتاب الحضرة فجعل مستقرّه النّعمة فى الصدور، وأخرجتنى ظلمات خطّه إلى نور السرور؛ ووقفت وكأنّى واقف على طلل من الأحبّة قد بكى عليه السحاب بطلّه، وابتسم له الروض عن أخبار أهله وآثار منهلّه؛ فلم أزل أرشف مسك سطوره ولماها، وأنزّه العين والقلب بين حسنها وجناها؛ وأطلق عنان شوق جعلت الأقلام له لجما، وحسبت النّقس ليلا، والكتاب طيفا، والوقوف عليه حلما؛ إلى أن قضت النفوس وطرا، وحملت الخواطر خطرا، وقرنت «1» بما ظنّه سحابا ما ظنّه مطرا؛ هذا على أنه قريب العهد بيد النّعماء، فإن هرب فمن ماء إلى ماء.
ومن آخر: فلمّا وقف على الكتاب جدّد العهد بلثمه ما لم يصل إلى اليد [التى «2» ] بعثته، وشفى القلب بضمّه عوضا عن الجوانح التى نفثته
وأين المطامع من وصله ... ولكن أعلّل قلبا عليلا.
ومن آخر: وصل كتابه، وكان من لقائه طيفا إلا أنه أنس بالضّحى، وأثار حرب الشوق وكان قطب الرّحى
تخطّى إلىّ الهول والقفر دونه ... وأخطاره لا أصغر الله ممشاه.(8/43)
ومن كلامه رحمه الله يصف بلاغة كتاب، قال: كتاب إلى نحرى ضممته، وذكرت به الزمن الذى ما ذممته، وأكبرت قدره فحين تسلّمته [استلمته «1» ] والتقطت زهره فحين لمحته استملحته، وامتزج بأجزاء نفسى فحين لحظته حفظته؛ وجمعت بينه وبين مستقرّه من صدرى، واستطلت به مع قصره على حادثات دهرى، وجعلت سحره بين سحرى «2» ونحرى، واستضأت به ورشفته فهو نهارى وهو نهرى؛ فإن أردت العطر بلا أثر أمسكت مسكه بيدى، وإن أردت السكر بلا إثم أدرت كأسه فى خلدى؛ فلله أنامل رقمته، ما أشرف آثارها! وخواطر أملته، ما أشرق أنوارها! ولم أزل متنقلا منه بين روضة فيها غدير، وليلة فيها سمير؛ وإمارة لها سرير، ومسرّة أنالها طليق أسير، ونعمة أنا لها عبد بل بها أمير؛ حتى أدبرت عنى جيوش الأسى مفلوله، وقصرت عنّى يد الهمّ مغلوله؛ وملئت منّى مسامع المكارم حمدا، وخواطر الصنائع ودّا؛ وحطّ الأمل بربعى رحله، وأنبت الربيع بفنائى بقله؛ ولبست من الإقبال أشرف خلعه، ووردت من القبول أغزر شرعه، وانتجعت من رياض الرجاء أرجى نجعه.
وقال أيضا من آخر: هذا من عفو الخواطر، فكيف إذا استدعى المجلس خطّيّة «3» خطّه فجاءت تعسل «4» ، وحشد حشود بلاغته فأتت من كل حدب «5» تنسل!.(8/44)
ومن آخر: ورتع فى رياض بلاغته التى لم يقتطفهنّ من قبله غارس ولا جان، واجتلى الحور المقصورات فى الطروس التى لم يطمثهنّ «1» إنس قبله ولا جانّ؛ وغنى بتلك المحاسن غنى خيرا من المال، واعتقد «2» فيها كنوزا إذا شاء أنفق منها الجمل، وإذا شاء أمسك منها الجمال.
وقال أيضا: كتاب اشتمل على بديع المعانى وباهرها، وزخرت بحار الفضل إلا أننى ما تعبت فى استخراج جواهرها؛ بل سبحت حتى تناولتها، وجنحت إلىّ فما حاولتها؛ واقتبست من محاسن أوصافه، وبدائع أصنافه؛ نكتا استقلت أجسادها بالارواح، وزهيت جيادها بما فيها من الغرر والأوضاح؛ فيا لله من بدائع وروائع، ولطائف وطرائف! فيها ما تشتهى الأنفس وتلذّ الأعين، وما يقرّط الأسماع ويقرّط «3» الألسن؛ فكأنه طرف طرف «4» صوبه مدرار، وعلم علم منصوب فى رأسه نار؛ صحّح السحر وإن كان ظنّا، وفضح الدّرّ إذ كان أبرع معنى، وأسنى حسنا، وأدنى مجنى، وأغنى مغنى؛ فما ضره تأخير زمانه، مع تقدّم بيانه؛ ولا من سبقه فى عصره، مع أنه قد سبق فى شعره.(8/45)
ومن آخر: ولله هو من كتاب لمّا وقفت عليه الغلّة شفاها، ورأت وردها كلّ ماء غيره سفاها «1» ، ووطّأ مضاجع أنسها بعد أن كان الشوق يقلّب «2» الجنوب على سفاها «3» ؛ فلا عدم ودّها الذى به عن كلّ مودّة سلوة، ولا برحت كفاية الله تحلّها فى الذّرا وتعلى قدرها فى الذّروه، ولا فقد مما ينعم به أىّ نعمه، ولا مما ينشيه أىّ نشوه.
ومن آخر: كتاب كريم تبسّم إلىّ ضاحكا، وظنّ مداده أنه قد جلا سطره علىّ حالكا؛ فما هو إلّا سواد الحدقة منه انبعثت الأنوار، وما هو إلا سويداء «4» ليلة الوصل اشتملت على دجى تحته نهار، فلله هو من كتاب استغفر الدهر ذنب المشيب بسواده، واستدرك الزمان غلطه بسداده.
ومن آخر: كتاب تقارعت الجوارح عليه فكادت تتساهم، فقالت اليد:
أنا أولى به، شددت على مولاه ومولاى عقد خنصرى، ورفعت اسمه فوق منبرى؛ وقبضت عليه قبضتى، وبسطت فى بسط راحته وقت الدّعاء راحتى؛ وقالت العين:
أنا أولى به، أنا وعاء شخصه، والىّ يرجع القلب فى تمثيله ونصّه «5» ؛ وأنا سهرت بعد رحيله وحشة، وأنا إذا ذكر هجير القلب عللته «6» رشّة بعد رشّة؛ فقال القلب:
طمعتها فى حقّى لأنى غائب، وهل أنت لى يايد إلّا خادم؟ وهل أنت لى(8/46)
يا عين إلا حاجب؟ أنا مستقرّه ومستودعه، ومرتعه ومشرعه، وأنا أذكره وبه أذكركما، وأحضره ولخدمته أحضركما؛ فاليد استخدمها مرّة فى الكتابة إليه، ومرّة فى شدّ الخنصر عليه؛ ومرّة فى الإشارة الى فضله، ومرّة فى الدعاء بكلّ صالح هو من أهله؛ والعين استخدمتها فى ملاحظة وجهه آئبا، وفى توقع لقائه غائبا «1» ؛ وفى السهد شوقا الى قربه، والمطالعة لما يخرج أمرى بكتبه من كتبه؛ فهنالك سلّمتا واستجرّتا «2» ، وألقتا واستأخرتا؛ وكدت أرشف نقسه «3» لأنقله الى سويداه، لولا أنّ سواد العين قال: أنا أحوج الى الاستمداد من هداه.
ومن كلامه رحمه الله تعالى ما ركّب نصف قرائنه على نصف بيت نحو قوله:
وصل كتاب مولاى بعد ما ... أصات «4» المنادى للصلاة «5» فأعتما
فلما استقرّ لدىّ، «تجلّى الذى من جانب البدر أظلما» فقرأته، «بعين اذا استمطرتها أمطرت دما» وساءلته، «فساءلت مصروفا عن النطق أعجما» ولم يردّ جوابا، «وماذا عليه لو أجاب المتيّما» وردّدته قراءة، «فعوجلت دون الحلم أن أتحلما» وحفظته، «كما يحفظ الحرّ الحديث المكتّما» وكرّرته، «فمن حيثما واجهته قد تبسّما» وقبّلته، «فقبّلت درّا فى العقود منظّما» وقمت له، «فكنت بمفروض(8/47)
المحبّة قيّما» وأخلصت لكاتبه، «وليس «1» على حكم الحوادث محكما» ولم أصدّفه «2» ، «ولكنّه قد خالط اللحم والدما» وأرّخت وصوله، «فكان لأيام المواسم موسما» وداويت عليل «حشا ضرّ ما فيه من النار ضرّما» وشفيت غليل «فؤاد أمنّيه وقد بلغ الظما» فأما تلك الأيام التى «حماها من «3» اللوم المقام على الحمى» والليالى العذاب التى «ملأن نحور الليل بيضا «4» وأنجما» [فإنّى «5» لأذكرها، «بصبر كما قد صرّمت قد تصرّما» ] وأرسل «6» الزفره «فلو «7» صافحت رضوى لرضّ «8» وهدّما» وأرسل العبره، «كما أنشأ «9» الأفق السحاب المديّما «10» » وأخطب السلوه، «فأسأل معدوما وأقفل «11» معدما»(8/48)
فأما الشكر فإنما «أفضّ به مسكا عليك مختما» وأقوم منه بفرض «أرانى به دون البريّة أقوما» وأوفّى واجب قرض، «وكيف توفّى الأرض قرضا من السما» .
وقال أيضا: وصل «1» كتاب الحضرة بعد أن عددت الليالى لطلوع صديعه «2» «وقد عشت دهرا لا أعدّ اللياليا» ، وبعد أن انتظرت القيظ والشتاء لفصل ربيعه «فما للنوى ترمى بليلى المراميا» ! واستروحت إلى نسيم سحره، «إذا الصيف ألقى فى الديار المراسيا» ومددت يدى لاقتطاف ثمره، «فلله ما أحلى وأحمى المجانيا «3» !» ووقفت على شكواه من زمانه، «فبث لشكواه من الدهر شاكيا» وعجبت لعمى الحظّ عن مكانه «وقد جمع الرحمن فيه المعانيا» وتوقّعت له دولة يعلو بها الفضل «إذا هزّ من تلك اليراع عواليا» ورتبة يرتقى صهوتها بحكم العدل «فربّ مراق يعتددن مهاويا» وإلى الله أرغب فى إطلاع سعوده، «زواهر فى أفق المعالى زواهيا» وفى إنهاض عثرات جدوده، «فقد أعثرت بعد النهوض المعاليا» .
وقال أيضا:
وصل من الحضرة
كتاب به ماء الحياة ونقعة ال ... حيا فكأنى إذ ظفرت به الخضر
ووقف عبدها منه على
عقود هى الدرّ الذى أنت بحره ... وذلك ما لا يدّعى مثله البحر(8/49)
ورتعت منه فى
رياض [يد «1» ] تجنى وعين وخاطر ... تسابق فيها النّور والزهر والثّمر «2»
وكرعت منه فى حياض
تسرّ مجانيها اذا ما جنى الظما ... وتروى مجاريها اذا بخل القطر
وما زلت منه أنشد
كانّى سار فى سريرة ليلة ... فلمّا بدا كبّرت إذ طلع الفجر
ووافى على ما كنت أعهد ف
خلت بأنّ العين من سحب كفّه ... فمن ذى ومن ذى [فيه «3» ] ينثر الدرّ
وأسترجع فائت الدنيا من مورده
وما كان عندى بعد ذنب فراقه ... بأنّى أرى يوما به يعد الدهر
ونفّس عن النفس بأبيض ثماده «4» ، ... وعن العين بأسود إثمده
به لهما سبح طويل فهذه ... على خاطر برد وفى خطر «5» بدر
وجدّد اليه أشواقا جديدها
يمرّ به ثوب الجديدين دائما ... فيبلى ولا تبلى وإن بلى الدهر
وذكّر أياما لا يزال يستعيدها
وهيهات أن يأتى من الدهر فائت ... فدع عنك هذا الأمر قد قضى الأمر.(8/50)
وكلام «1» القاضى الفاضل- رحمه الله- كثير، بأيدى الناس منه عدّة مجلّدات، أخبرنى من أثق بقوله من القضاة الحكام الأعيان أنه يزيد على خمسين مجلّدا قد جمعت، أما ما لم يجمعه الناس فكثير جدا؛ وقد نقل بعض من أرّخ، أنه وجد للقاضى الفاضل مسوّدات كتب صدرت عنه وأجوبة تزيد اذا جمعت على مائة مجلّد، ولا يحتمل الحال أن نورد له أكثر مما أوردناه، ورسائله المختارة كثيرة قد يكون فيها أجود مما اخترناه ونحوه، وإنما أوردنا له ما حضر فى هذا الوقت، إذ لم يمكن البحث عن كلامه والاستقصاء، وإن كان كلّ رسائله مختارة رحمه الله.
ذكر شىء من رسائل الشيخ الإمام الفاضل ضياء الدين
أبى العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العابد القدوة أبى عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن عمر «2» بن عبد المنعم الأنصارىّ القرطبىّ رحمه الله،- وكانت وفاته بقنا من أعمال قوص فى سنة اثنتين وسبعين وستمائة- كتب إلى شيخنا الإمام العلّامة تقىّ الدين محمد ابن الشيخ الإمام الحبر مجد الدين أبى الحسن علىّ بن وهب بن مطيع القشيرىّ المعروف بابن دقيق العيد رحمهم الله تعالى: تخدم المجلس العالى صفات يقف الفضل عندها، ويقفو الشرف مجدها، وتلتزم المعالى حمدها؛ وسمات يبتسم ثغر الرياسة منها، وتروى أحاديث السيادة عنها؛ الصدرىّ الرئيسىّ المفيدىّ؛ معان استحقّها بالتمييز، واستوجبها بالتبريز، وسبكته الإمامة لها فألفته خالص الإبريز؛ ومعال أقرّته فى سويدائها، وأطلعته فى سمائها،(8/51)
وألبسته أفضل صفاتها وأشرف أسمائها؛ العلّامىّ الفاضلىّ التقوىّ؛ نسب اختص به اختصاص التشريف، لا تعريفا «1» فالشمس تستغنى عن التعريف؛ لا زالت إمامته كافلة بصون الشرائع، واردة من دين الله وكفالة أمّة رسول الله أشرف الموارد وأعذب الشرائع «2» ، آخذة بآفاق سماء الشرف فلها قمراها والنجوم الطّوالع «3» ، قاطعة أطماع الآمال عن إدراك فضله وما زالت تقطّع أعناق الرجال المطامع «4» ، صارفة عن جلاله مكاره الأيام صرفا لا تعتوره القواطع، ولا تعترضه الموانع؛ وينهى ورود عذرائه التى «لها الشمس خدن «5» والنجوم ولائد» وحسنائه التى «لها الدرّ لفظ والدّرارى «6» قلائد» ومشرّفته التى «لها من براهين البيان شواهد» وكريمته التى «لها الفضل ورد والمعالى موائد «7» ووديعته التى «لها بين أحشائى وقلبى معاهد»
وآيته الكبرى التى دلّ فضلها ... على أن من لم يشهد الفضل جاحد
وأنك سيف سلّه الله للهدى ... وليس لسيف سلّه الله غامد(8/52)
فلمثلها يحسن صوغ السوار، ولفضلها يقال: «أناة أيها الفلك المدار» وإنها فى العلم أصل فرع نابت، والأصل علّة النشأة والقرار، وفرع أصل «1» ثابت، والفرع فيه الورق والثمار؛ هذه التى وقفت قرائح الفضلاء على استحسانها، وأوقفتنى «2» على قدم التعبّد لإحسانها، وأيقنت أنّ مفترق الفضائل مجتمع فى إنسانها، وكنت أعلم علمها بالأحكام الشرعية فاذا هى فى النثر ابن مقفّعها، وفى القصائد أخو حسّانها؛ هذه وأبيك أمّ الرسائل المبتكره، وبنت الأفكار التى هذّبتها الآداب فهى فى سهل الإيجاز البرزة «3» وفى صون الإعجاز المخدّره، والمليئة ببدائع البدائه، فمتى تقاضاها متقاض لم تقل: «فنظرة الى ميسرة» ؛ والبديعة التى لم توجّه اليها الآمال فكرها لاستحالة غير مسبوق بالشعور، ولم تسم اليها مقل الخواطر لعدم الإحاطة بغيب الصدور قبل الصدور، والبديهة التى فصّل البيان كلماتها تفصيل الدرر بالشذور؛ إنّ كلمها ليميس فى صدورها وإعجازها، ويختال فى سطورها وإعجازها، وتنثال «4» عليها أغراض المعانى بين إسهابها وإيجازها؛ فهى فرائد ائتلفت من أفكار الوائلىّ والإيادىّ، وقلائد انتظمت انتظام الدرارىّ، ولطائم «5» فضّت عن العنبر الشّحرىّ «6» والمسك الدارىّ «7» ؛ لا جرم أن غوّاصى الفضائل ظلوا فى غمراتها خائضين، وفرسان(8/53)
الكلام أضحوا فى حلباتها راكضين، وأبناء البيان تليت عليهم آياتها «فظلّت أعناقهم لها خاضعين» .
ما إن لها فى الفضل مثل كائن ... وبيانها أحلى البيان وأمثل
فالعجز عنها معجز «1» متيقّن ... ونبيّها بالفضل فينا مرسل
ما ذاك إلا أنّ ما يأتى به ... وحى الكلام على اليراعة ينزل
بزغت شمسا لا ترضى غير صدره فلكا، وانقادت معانيها طاعة لا تختار سواه ملكا، وانتبذت بالعراء فلا تخشى إدراك الإنكار ولا تخاف دركا، وندّت شواردها فلا تقتنصها الخواطر ولو نصبت هدب الجفون شركا
فللأصائل «2» فى عليائها سمر ... إن الحديث عن العلياء أسمار «3»
وللبصائر هاد من فضائلها ... يهدى أولى الفضل إن ضلّوا وإن جاروا
بادى الإبانة لا يخفى على أحد ... «كأنه علم فى رأسه نار»
أعجب بها من كلم جاءت كغمام الظّلال على سماء الأنهار! وسرت كعليل النسيم عن أندية الأسحار، وجليت محاسنها كلؤلؤ الطلّ على خدود الأزهار، وتجلّت كوجنة الحسناء فى فلك الأزرار، وأهدت نفحة الروض متأوّد الغصن بليل الإزار، فأحيتنا بذلك النفس المعطار، وحيّتنا بأحسن [من «4» ] كأسى لمى وعقار، وآسى ريحان وعذار؛(8/54)
ولؤلؤى حبب وثغر، وعقيقى شفة وخمر، وربيعى زهر ونهر، وبديعى نظم ونثر؛ ولم أدر ما هى أثغور ولائد؟ أم شذور قلائد؛ أم توريد خدود، أم هيف قدود؛ أم نهود صدور، أم عقود نحور؛ أم بدور ائتلفت فى أضوائها، أم شموس أشرقت فى سمائها؟
جمعن شتيت الحسن من كلّ وجهة ... فحيّرن أفكارى وشيّبن مفرقى
وغازلها قلبى بودّ محقّق ... وواصلها ذكرى بحمد مصدّق
وما كنت عشّاقا لذات محاسن ... ولكن من يبصر جفونك يعشق
ولم أدر والألفاظ منها شريفة ... الى البدر تسمو أم إلى الشمس ترتقى
إنما هى جملة إحسان يلقى الله الرّوح من أمره على قلبها، أو روضة بيان «تؤتى أكلها كلّ حين بإذن ربّها» ؛ أو ذات فضل اشتملت على ذوات الفضائل، وجنت ثمر العلوم فأجنتها بالضحى والأصائل؛ أو نفس زكت فى صنيعها، ونفث روح القدس فى روعها؛ فسلكت سبل البيان ذللا، وعدمت مماثلا فأضحت فى أبناء المعالى مثلا؛ وسرت الى حوز الأمانى والأنام نيام، فوهب لها واهب النعم أشرف الأقسام؛ فجادت فى الإنفاق، ولم تمسك خشية إملاق، وقيّدت نفسها فى طلق «1» الطاعة فجاءها توقيع التفضيل على الإطلاق
أبن لى معزاها أخا الفهم إنها ... الى الفضل تعزى أم الى المجد تنسب
هى الشمس إلّا أنّ فكرك مشرق ... لإبدائها عندى وصدرى مغرب
وقد أبدعت فى فضلها وبديعها ... فجاءت الينا وهى عنقاء مغرب «2»(8/55)
فأعرب عن كلّ المعانى فصيحها ... بما عجزت عنه نزار ويعرب
ومذ أشرقت قبل التناهى بأوجها ... عفا فى سناها بدر تمّ وكوكب
تناهت علاء والشباب رداؤها ... فما ظنكم بالفضل والرأس أشيب
لئن كان ثغرى بالفصاحة باسما ... فثغرك بسّام الفصاحة أشنب
وإن ناسبتنى بالمجاز بلاغة ... فأنت إليها بالحقيقة أنسب
ومذ وردت سمعى وقلبى فإنها ... لتؤكل حسنا بالضمير وتشرب
وإنى لأشدو فى الورى بثنائها ... كما ناح فى الغصن الحمام المطرّب
وتشهد أبناء البيان إذا انتدوا ... بأنى من قسّ الإيادى أخطب
وإنّى لتدنينى الى المجد عصبة ... كرام حوتهم «1» أوّل الدهر يثرب
وانّى إذا خان الزمان وفاءه ... وفىّ على الضراء حرّ مجرّب
إباء أبت نفسى سواه وشيمة ... قضى لى بها فى المجد أصل مهذّب
ونفس أبت الا اهتزازا إلى العلا ... كما اهتزّ يوم الرّوع رمح ومقضب «2»
ولى نسب فى الأكرمين تعرّفت ... إليه المعالى فهو ريّان «3» مخصب «4»
نمته أصول فى العلاء أصيلة ... لها المجد خدن والسيادة مركب
تلاقى عليه المطعمون تكرّما ... اذا احمرّ «5» أفق بالمجرّة «6» مجدب
من اليمنيّين الذين سما بهم ... الى العزّ بيت فى المعالى مطنّب(8/56)
قروا تبّعا بيض المواضى ضحاءه «1» ... وكوم «2» عشار بالعشيّات تضهب «3»
فرحّله الجود العميم ومنصل «4» ... له الغمد شرق والذوائب مغرب
وهم «5» نصروا والدين عزّ نصيره ... وآووا وقد كادت يد الدين تقضب
وخاضوا غمار الموت فى حومة الوغى ... فعاد نهارا بالهدى وهو غيهب
أولئك قومى حسبى الله مثنيا ... عليهم وآى الله تتلى وتكتب
هذه اليتيمة أيدك الله ملحتها الإحماض «6» ، وتحليتها «7» الألفاظ فى أبعاض الاعتراض لتسرح مقل «8» الخواطر فى مختلفات الأنواع، ويتنوع «9» الوارد على القلوب والأسماع، وإلا فلا تماثل فى الأدوات، وان وقع التماثل فى الذوات، كالجمع بين النّوريّة فى(8/57)
السراج والشمس، واشتمال الإنسانيّة على «1» القلامة والنفس، والتوارد الإدراكىّ بين كلّىّ بالعقل، وجزئىّ بالحسّ «2» ؛ وكالعناصر فى افتقار الذوات اليها، وان تميّزت الحرارة عليها؛ وكالمشاركة الحيوانيّة فى البضعة اللسانيّة، واختصاص الناطقيّة بالذات الإنسانيّة؛ فسيّدنا ثمر الروض ونسيمه، وسواه ثراه وهشيمه، وزهره وأنداؤه، وغيره شوكه وغثاؤه؛ والبدر وإشراقه، وسواه هلاليّته ومحاقه؛ اشتراك فى الأشخاص، وامتياز فى الخواصّ؛ ومشابهة فى الأنواع والأجناس، ومغايرة فى العقول والحواسّ؛ كالورد والشّقيق، والقهرمان «3» والعقيق؛ تماثلا فى الجواهر والأعراض، وتغايرا فى تمييز الأغراض؛ فسيّدنا من كلّ جنس رئيسه، ومن كلّ جوهر نفيسه؛ وأما حسناء المملوك على مذهبهم فى تسمية القبيح بالحسن، والحسن بالقبيح، والضرير بالبصير والأخرس بالفصيح؛ فما صدّت ولا صدّت يمنى»
كاسها. ولا شذّت فى مذهب ولائه عن اطّراد قياسها، ولا زوت عن وجه جلالته وجه إيناسها، ولا جهلت أنه فى العلوم الشرعيّة ابن أنسها، وفى المعانى الأدبيّة أبو نواسها؛ ولا خفى عنها أن سيّدنا مجرى اليمين «5» ، وفى وجه السيادة إنسان المقلة وغرّة الجبين، والدرّة فى تاج الجلالة(8/58)
والشّذرة فى العقد الثمين؛ وأنه الصدر الذى يأرز «1» العلم إلى صدره، وتقترح «2» عقائل المعانى من فكره، وتأتمّ الهداة ببدره، وتنتمى «3» الهداية الى سرّه، وانّها فى الإيمان بمحمديّته أمّ عمارة «4» لا أمّ عمره؛ وانّه غاية فخارها؛ ونهاية إيثارها، [وآية نهارها «5» ] ومستوطن إفادتها بين شموس فضائله وأقمارها؛ فكيف تصدّ وفيه كلّيّة أغراضها، ومنه علّيّة جملتها وأبعاضها، وفى محلّه قامت حقائق جواهرها وأعراضها؛ لكنّها توارت بالحجاب، ولاذت بالاحتجاب؛ وقرب بالمجلس الكمالى ليكمّل ما بها من نقص كمال وكمال عيب، وتجمع بين حقيقتى إيمان الشهادة والغيب، وتعرض على الرأى التقوىّ سليمة الصدر نقيّة الجيب، وأشهد أنها جاءت تمشى على استحياء وليست كبنت شعيب «6» ؛ هذا ولم تشاهد وجه حسنائه، ولا عاينت سكينة «7» حسينه وهند «8»(8/59)
أسمائه، ولا قابلت نيّر فضله وبدر سمائه؛ أقسم لقد كان يصرفها الوجل، ويقيّدها الخجل؛ عالمة أنّ البحر لا يساجل، والشمس لا تماثل؛ والسيف لا يخاشن، والبدر لا يحاسن؛ والأسد لا يكعم «1» ، والطّود لا يزحم؛ والسحاب لا يبارى، والسيل لا يجارى؛ وأنّى تبلغ الفلك هامة المتطاول، «وأين الثريّا من يد المتناول» ؛ تلك عوارف استولت على المعالى استيلاءها على المعالم، وشهدت لها الفضائل بالسيادة شهادة النبوّة بسيادة قيس بن عاصم «2» ؛ ولا خفاء بواضح هذا الصواب، عند مقابلة البداية بالجواب؛
فالشمس أوضح من ضياء الأنجم ... ما البيّن الأعلى كداج مظلم
يا مثريا من كلّ علم نافع ... أيقاس مثر فى العلوم بمعدم
أو كفت «3» فضلك فى رذاذ غمائمى ... ما للرذاذ يد بنوء المرزم «4»
وانصبّ بحرك فى ربيع «5» خواطرى ... ما للربيع وفيض بحر أعظم
وسللت سيف العلم أبيض مخذما ... كالبرق يلمع فى غمام مثجم «6»
فللت حدّى معضد «7» فى راحتى ... ما للكهام وحدّ أبيض مخذم «8»(8/60)
يا سابقا جهدى «1» مصلّى عفوه ... ما للسّكيت «2» يد بعفو مظهم «3»
بذّ السوابق فى العلوم وحازها ... بالكسب منه والتراث الأعظم
العلم علم محمد وكفى به ... وعلىّ الباب المبلّغ فاعلم
ما كنت أوّل محجم عن مورد ... عذبت موارده لقرن مجحم «4»
سابقت سبّاقا شأوت «5» بيانهم ... ببديع نثر أو بليغ منظّم
وسقيت بالكأس الكبيرة منهما ... لما سقوا بالأصغر المتثلّم
حتى اذا سابقته وهو «6» ابن بح ... رأو أبو بحر إليه ينتمى
طارت فضائله إلى عليائها ... بجناح فتخاء «7» ونسر قشعم
وسما به العلم الأجلّ محلّه ... حتى توقّل «8» فى المحلّ الأعظم
ومشى حضارا «9» فانثنيت مقصّرا ... أتجول خيلى فى مقرّ الهيثم «10»(8/61)
لا عار إن عضلت بدائه فكرتى ... بابن المقفّع أو بنجل الأهتم «1»
يا أعلم الفضلاء لست مقاولا ... فصحى بناتك «2» باللسان الأعجم
لو حاولت فكرى مساواة لها ... يوما لجاءت بالغراب الأعصم «3»
أقتصر فللبيان فى بحر فضائله سبح طويل، وللسعى فى غاياته معرّس ومقيل، وللمحامد ببثينة محاسنه صبابة جميل، وإنّى وإن كنت كثّير عزّة ودّه، إلا أنّى فى حلبة الفضل لست من فرسان ذلك الرّعيل؛ لا سيّما وقد وردت مشرع ألفاظه التى راقت معانيها، ورقّت حواشيها، وأدنت ثمرات الفضل من يمين جانيها؛ فجاءت كالنسيم العليل، والشذا من نفحة الأصيل، والشراب البارد والظلّ الظليل
طبع تدفّق رقّة وسلاسة ... كالماء عن متن الصفاة يسيل
كالمقلة الحسناء زان جفونها ... كحل وأخرى زانها التكحيل
والروضة الغناء يحسن عرفها ... وتزاد حسنا والنسيم عليل
والخاطر التقوىّ كمّل ذاته ... علما وليس لكامل تكميل
والله تعالى يبقيه جامعا للعلوم جمع الراحة بنانها، رافعا له رفع القناة سنانها، حافظا له حفظ العقائد أديانها، والقلوب إيمانها(8/62)
ليضحى نديما للمعالى كأنه ... نديما صفاء مالك وعقيل «1»
ويصبح ظلّ الفضل من فىء ظلّه ... على كنف الإسلام وهو ظليل
وينشأ أبناء العلوم وكلّهم ... بحسنائه فى العاشقين جميل
دلالته فى الفضل من ذات نفسه ... وليس على شمس النهار دليل
وكتب- رحمه الله تعالى- رسالة الى الصاحب شرف الدين الفائزىّ «2» عند ما ورد عليه كتاب يذكر أن رسول الخليفة وصل يلتمس إجابة الملك المعزّ «3» أوّل ملوك الترك إلى صلح الملك الناصر صلاح الدين يوسف «4» - وقد كان الناس يذكرون أن الملك الناصر يريد أن يهجم بعساكره على الديار المصرية، وأنه لا يجيب إلى الصلح، [فلما «5» ] جاء الرسول بذلك ظهر للناس خلاف ما ظنّوه-:(8/63)
لأمرك أمر الله بالنجح عاضد ... فصل آمرا فالدهر سيف وساعد
وقل ما اقتضت علياك فالعزّ قائم ... بأمرك والمجد المؤثّل «1» قاعد
ونم وادعا فالجدّ يقظان حارس ... لمجدك والعادى لبأسك راقد
فما تبرم الأيّام ما الله ناقض ... ولا تنقض الأيّام ما الله عاقد
وقد برزت بكر المكارم والعلا ... وفى جيدها من راحتيك قلائد
فحفّت بها الأملاك وهى مواهب ... وسارت بها الرّكبان وهى محامد
وزفّت لها النعماء وهى مصادر ... رفعنا لها الأمداح «2» وهى موارد
فنثّرها الإحسان وهى لآلئ ... ونظّمها الإفضال وهى فرائد
فلا زلت محروس العلا يا ابن صاعد ... وجدّك فى أفق السيادة صاعد
تسرّ بك الدنيا ويبتهج الورى ... وتستوكف النّعمى وتحوى المقاصد
ورد كتاب كريم، ونبأ عظيم؛ لم تجر ينبوعه جياد الأقلام، ولم تجد بنوئه عهاد الأيام، ولم تظفر بمثله أعياد الإسلام؛ فتلى على عذبات «3» المنابر، وجلى على آماق الأبصار وأحداق البصائر؛ وكانت بشراه البكر العوان «4» ، لما ابتدأت «5» به من البشارة(8/64)
ولما تلده من البشائر، وطليعة المسارّ التى واجهت الآمال ووجه السعد سافر، ومقدّمة الأمن التى لا يسرّ بها إلا مؤمن ولا يساء بها إلّا كافر؛ وتحيّة الله التى أحيت قلوب العباد، ومنّة «1» الله التى سكنت لها السيوف فى الأغماد، ونعمة الله التى عمّت كلّ حاضر وباد؛ ورحمة الله التى رحم بها هذه الأمّة وما زال بالمؤمنين رحيما، وفضل الله على هذه الملّة «2» وكان فضل الله عليها عظيما؛ وسعادة سارت بها الأيام الى المقام المعزّىّ بين الخبب والتقريب، ومركب عزّ قدّمته عناية الله تقدمة الجنيب، وكتابا عنايته «3» هذا عطاء الله، وعنوانه «نصر من الله وفتح قريب» ، وسلّم «4» جلّل وجه الإسلام برد لباسه القشيب، وسلامة جنت يمين الإيمان ثمر غصنها الرطيب، وعزّ ألبس الملك خلع شبابه بعد ما خلع غبار الوقائع [عليه «5» ] رداء المشيب، وشمس سعادة منذ طلعت فى أفقها لم تجنح للمغيب، ولطف خفىّ قعد له كلّ حمد وقام به كلّ خطيب، ومملكة تسمعها الأيّام: قفا نضحك بمسارّ الإنعام لا قفا نبك من ذكرى حبيب، وغنيمة باردة حازتها يد الملك ولسان السنان غير ناطق وكفّ السيف غير خضيب
بتسديد «6» رأى لو رأته أميّة ... لما احتفلت «7» يوما بقتل شبيب «8»(8/65)
الى غير ذلك من فكرة صاحبيّة شرفيّة سكن الملك تحت ظلالها ونام، وقعد بأمرها وقام؛ وتحرّكت لها العزائم، وسكنت لها الصوارم، واستنزلت العصم وذعرت العواصم، وهمم إذا سمت سامت السماء واذا همّت أهمت الغمائم، وعزّ تحت ظل ظلاله الشرف مقيم وفى خدمته المجد قائم، وعزم استيقظ له جفن النصر والسيف فى جفنه نائم، وسيف حزم على عاتق الملك منه نجاد وفى يد جبّار السموات منه قائم؛ وآراء استفتح عقائلها فأنجبت «1» ، ورمى غرض إصابتها فأكثبت، (أى أصابت «2» ) وأعمل رائدها فاستيقظت له الهمم والأنام نيام، وجلس فى صدور رياستها والعالمون قيام، وتدبير أحكم بإبرام النقض ونقض الإبرام، وذعر به رابض الأسد وأنس به نافر الآرام؛ وأجال به خيله فى مسارى الأرقم، ومقرّ الهيثم، وأمضاه فى مضايق خطبه فأغناه عن سنّ السّنان وشفة اللهذم؛ هذا ولما «3» صدقت عزائم المملكة التى نظم الله قلادة ملكها فليس لها انتثار، ولمعت كواكب أسلها «4» فى ليل الرّهج وسماء الغبار، وبنت حوافر خيلها سورا من متراكم النّقع المثار، وحصّنتها يد الله بما أظهرته من(8/66)
كامن الغيب وأخفته «1» من طلائع الأقدار، وحضنتها «2» رعاية الله وله من القدر أعوان ومن الملائكة أنصار
فعمّت عموم اللّيل واللّيل مظلم ... وجاءت مجىء الصبح والصبح مشرق
ومدّت غماما من سنابك خيلها ... بسلّ المواضى المشرفيّات يبرق
فى كتائب إذا سارت سوابقها ملأت عرض الغبراء، واذا نشرت خوافقها سترت وجه الخضراء؛ وكادت تذعر الآساد بمواضى حتوفها، وتسكن المنايا تحت ظلال سيوفها؛ لا سيما إذا أنجمت «3» أنجم عواليها، ولمعت بروق مواضيها؛ وجاءت خيلها كالصخر الأصمّ والطود الأشم أعجازها وهواديها؛ من كلّ كميت «4» حلو فى الإزار، بين الشّقرة والاحمرار، كأنه ورديّة العقار
يحسّ وقع الرزايا وهى نازلة ... فينهب الجرى نفس الحادث «5» المكر
وكلّ أشقر «6» كأنما قدّ أديمه من لهب النار، معار رداء الحسن، وأحقّ الخيل(8/67)
بالركض المعار «1» ، لا تعلق به المذاكى «2» يوم رهان ولا تشقّ له الحوادث وجه غبار كأنما لبس ثوبا من خالص النّضار
عتاق لو جرت والريح شأوا ... لفاتته وأوثقه «3» إسار
غدت ولها حجول من لجين ... وراحت وهى من علق نضار
وكلّ أدهم كريم النّجار، غذىّ اللّبان «4» الغزار، كأنما فصّلت ثيابه من سواد الليل وصيغت حجوله من بياض النهار
بأغرّ يبتسم الصباح بوجهه ... حسنا ويسفر عن محيّا مسفر
خلع الظلام عليه فضل ردائه ... وثنى من التحجيل ثوب مقصّر
وكلّ أشهب أفرغ فى قالب الكمال، وجيهىّ»
الأب أعوجىّ «6» الخال، إن مشى ضاق بزهوه فسيح المجال، وإن سعى رأيت البرق ملجما بالثريّا مسرجا بالهلال، كأنّما انتعل خدّ الجنوب واشتمل بثوب «7» الشّمال(8/68)
من الجياد التى لم تبد فى رهج ... إلّا أرتك بياض الصبح فى غسق
ولا جرين مع النّكباء «1» فى طلق «2» ... إلّا احتقرت التماع البرق فى الأفق
وكلّ مطهّم إن ركض قلق السماط لركضه، وخلت بعضه منفصلا عن بعضه وإن مشى رأيت الطود فى سمائه والرياح فى أرضه؛ وإن خطا ظننته يرتع فى روض المجرّة ويكرع فى حوض الغمام، وخلته الأشمّ من ابنى شمام «3» ، همّه جهة الأمام وصوته حركة اللجام، كأنه قطعة من سماء أو ظلّة من غمام
جرى «4» والريح فى طلقى رهان ... فقامت دونه ومضى أماما
ومدّ من السنابك ثوب غيم ... ولم أر قبلها ثوبا غماما
عليها كلّ كمىّ لابس الحرب ولابسته «5» ، ومارسها ومارسته؛ وكتبت عليه المواضى فى صدره كتابا أعجمته أطراف الأسل، وجنى ثمر الحديد أحلى عنده من العسل وسار إلى مهج الأبطال كسيف القضاء وحثّ «6» الأجل؛ له حنكة الأشيب ونجدة الغلام، وصنعة الضرب الفدّ والطعن التّؤام، والفتكات التى تطلع صبح الصوارم(8/69)
فى ليل القتام، والفعلات التى لها فتكات الأورق «1» فى النّقد وصولات الأسد فى السّوام
يمشى الى الموت عالى الكعب معتقلا ... أظمى «2» الكعوب كمشى الكاعب الفضل «3»
يحسن فى بحار الدروع سبح «4» الفوارس، بين بدور اليلب «5» ونجوم القوانس «6» ؛ من كلّ سابغة لا تصل إليها ألسنة الحداد، كأنها أثواب الأراقم خيطت بأعين الجراد؛ كفيلة بحماية الأنفس وصيانة المهج، تنير مسالك لابسها فى دياجى الرّهج، إنما هى البحر ولا حرج «7»
اذا ما مشوا فى السابغات حسبتهم ... سيولا وقد سالت بهنّ الأباطح
وكلّ أبيض هندىّ تألّفت من الملح أبعاضه، البرد جسمه والبرق إياضه؛ المفارق مغاربه والأجفان مطالعه، والأنفس موارده والمنايا منابعه؛ لو أثمر لأنبت رءوسا ولو تفجّر لسال نفوسا، ولو تكشّف صافى حديده لرأيت فيه عبوسا(8/70)
سليل «1» النار دقّ ورقّ حتى ... كأنّ أباه أورثه السّلالا
ودبّت فوقه حمر المنايا ... ولكن بعد ما مسخت نمالا
وكل أسمر اذا انتحى فهو صاح واذا انثنى فهو نشوان، واذا ورد دم القلب فهو ظمآن القناة ريّان السنان؛ اذا خطب النواصى وخط «2» ، واذا كتبت المواضى نقط؛ واذا قصرت يد القرن طال، واذا صليت نار الحرب العوالى صال
توهّم كلّ سابغة غديرا ... فرنّق «3» يشرب الحلق الدّخالا «4»
وكلّ صفراء رقشاء «5» الأديم، كانها أرقم الصّريم «6» ؛ لها فلك بالرزيّة دائر، وسهم بالمنيّة طائر، إن ركب فهو مقيم وإن نزل فهو سائر؛ مع عزائم بنت على «7» الدولة سورا، وجعلت بينها وبين الذين لا يؤمنون بالدولة المعزّيّة حجابا مستورا؛ على أنها غنيمة لم تحتج إلى الإيجاف والإيضاع، وطلبة ألفاها على طرف الثمام «8» وحبل الذراع «9» ؛ وعناية جاءت على اختيار المراد ومراد الاختيار، ونعمة كرّت هى والتوفيق فى قرن(8/71)
وجرت والسعادة فى مضمار، ومنحة ركضت بها الى المقام المعزّىّ سوابق الأقدار ومعنى خفى من نعم الله لم تلجه عقائل الأفكار؛ واذا سبقت عناية الله فليس لأمر حتمه الله رافع، واذا لحظت السعادة امرأ وقفت دونه آمال المطالب وتقطّعت خلفه أعناق المطامع، واستولت يمينه على آفاق سماء «1» الشرف فلها قمراها والنجوم الطوالع، وهذه مواهب لا تدركها دقائق الأسطرلاب «2» ولا درج الشمس ولا رصد الطوالع
لعمرك ما تدرى الضّوارب بالحصا ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع.
وينهى «3» أنّ حاملها من عقدت عليه الملوك خناصرها، واختصّ منها بالصحبة ناصرها؛ وله فضل لا يذاد عن منهل العلم سوامه، ولا تجهل فى مسالك الشرف(8/72)
أعلامه؛ وله نفس سمت حتى أخذت سماء السيادة بيمينها، وهمّة اذا رأيت ذاتها الكريمة توسّمت الرّياسة فى جبينها، وأبوّة لا تتّجر من المعالى إلّا فى ثمينها؛ وقد أكلته السنة بل السنوات، وترادفت عليه الملمّات بل المؤلمات؛ وقد صيّر الجناب الزينىّ لما يحاوله ذريعه، وورد المنهل الرّحب وإنه لعذب الشريعه، وقد أصاب به مولانا طريق المصنع فألبسه ثياب الصنيعه؛ ومولانا أولى من أولاه شرف جلاله ونظر اليه بعين كريمة يقابل بها ما يقابله من كرم خلاله؛ فالإبريز قد يشتبه إلّا على نقّاده، والغيث قد يخلف إلا «1» على روّاده، والماء قد يأجن إلا على ورّاده؛ وسيّدنا مصعبىّ الهمم وهذا ابن قيس «2» رقيّاته، ومهلبىّ الشّيم وهذا حبيب أبنائه «3» ، وواثقىّ الإحسان وهذا فى الجلالة ابن [أبى «4» ] دواده وفى الأدب ابن زيّاته «5» ؛ فليضعه حيث(8/73)
وضعته السيادة صدرا، وليطلعه كما أطلعته الفضائل بدرا؛ وليصرف اليه عناية تعلّق بها الحمد علاقة غيلان «1» بميّه، والحكم «2» بأميّه؛ وهو يعلم- أدام الله أيامه- أن المناصب عرائس، والصنائع قلائدها، والولايات مآدب، والمكارم موائدها، والليالى- كما علمت- حبالى، والسيّئات والحسنات ولائدها؛ وخير من لبس ثوب نعمة كاهل هذا الإمام، وإن الحسنة اليه لأشرف مواهب الأيام، فاغتنمها فإنّها غاية الأغتنام؛ وأعيذ مولانا بالله أن يجعل نظره إليه لمحا، أو يضرب عنه الذكر صفحا، أو يكون مولانا روضة ثم لا يجد هذا الصدر منها نفحا، ومطلع آفاق الشرف ثم لا يستوضح هذا الملتمس من أفقها صبحا.
ومثل صدر هذه الرسالة لبعض الكتاب المتقدّمين «3» :
الحمد لله مقلّب القلوب، وعالم الغيوب؛ الجاعل بعد عسر يسرا، وبعد عداوة ودّا، وبعد تحارب اجتماعا، وبعد تباين اقترابا؛ رأفة منه بعباده ولطفا، وتحنّنا عليهم وعطفا؛ لئلا يستتمّهم «4» التتايع، فى التدابر والتقاطع؛ وليكونوا بررة إخوانا، وعلى الحقّ أعوانا؛ لا يتنكّبون منهجا، ولا يركبون من الشبهة ثبجا؛ بغير دليل يهديهم(8/74)
قصد المسالك، ولا مرشد يذودهم عن درك المهالك؛ أحمده على نعمه التى لا يحصى الواصفون إحصاءها، ومننه التى لا تحمل الخلق أعباءها؛ حمدا يتجدّد على ممرّ الأزمان والدهور، ويزيد على فناء الأحقاب والعصور؛ وإنّ أحقّ ما استعمله العاملون ولحق به التالون، وآثره المؤمنون، وتعاطى بينهم المسلمون؛ فيما ساء وسرّ، ونفع وضرّ؛ ما أصبح به الشّمل ملتئما، والأمر منتظما؛ والفتق مرتتقا؛ والسيف مغمودا ورواق الأمن ممدودا؛ فحقنت به الدماء، وسكنت معه الدهماء، وانقمع به «1» الأعداء؛ واتصل به السرور، وأمنت معه الشرور؛ وليس بذلك أولى، والى إحراز الثواب به أدنى من الصلح الذى أمر الله تبارك وتعالى به، وخصّ وعمّ ورغّب «2» .
ولنعد الى كلام الشيخ ضياء الدين بن القرطبى
فمن ذلك ما كتب به أيضا الى الصاحب شرف الدين الفائزىّ جوابا عن كتاب شفاعة يوصى على أخيه نجم الدين، فأجابه الشيخ: يخدم الجناب الشرفىّ- رفع الله قدره بين أوليائه، وأطاب ذكره فى مقام عليائه؛ وأطال عمره مقترنا بعزّه، وأقرّه فى كنف سلامته وكهف حرزه- وردت الأوامر المطاعه، المقابلة بالسمع والطاعه؛ فى حق أخى المملوك مولانا نجم الدين، فتلقّى راية طاعتها بيمينه، وأقرّها من تعظيمه فى أسرّة جبينه، وأحلّها من شرف الامتثال فى مستودع دينه؛ وقابل حاملها بأوفر ترحيبه، وأقرب تقريبه؛ وواجهه بإجلال الأخوّه، وخلال «3» البنوّه؛ وأحلّه كنف قلبه، وأودعه بين شغاف «4» القلب وخلبه «5» ، وأعاده الى معهود ولائه وحسبه؛ وقرّر له(8/75)
فى كلّ شهر عشرة دنانير وهى نهاية قدرته، وأعلمه أنّها أعود نفعا من ولايته وأقرب عونا من إمرته؛ وعاهد الله ألا يتعرّض لجنديّة أبدا، ولا يمدّ لطلب ولاية يدا؛ ولا يقف بين يدى الأمراء بعدها، ولا يتجاوز بجلالة أبويه حدّها، ولا يهمل شرف نسبته التى لم تصاعر «1» [لها «2» ] الأيّام خدّها؛ وأخذ عليه عهود الله والمملوك فى الوفاء مهما عهدها؛ وقد توجّه الى المشارع الصاحبيّة التى استعذب وردها والمكارم الشرفيّة التى ألف حمدها، والصنائع الإحسانيّة التى وجد فى مرارة الفقر حلوها وفى حرارة الغربة بردها؛ وعاود عشّ الفضل الذى منه درج، وبيت الكرم الذى اليه دخل ومنه «3» خرج، وسماء الإحسان التى أطلعت نجم إمامته فعرّج عليها وإليها عرج، وبحر المعروف الذى اذا أطنب لسان ثنائه قالت شواهد بيانه: «حدّث عن البحر ولا حرج» ؛ ومولانا يضعه تحت كنفه، ويرفعه لله ولسلفه، ويقابله الجناب الشرفىّ بما عرفه من شرفه؛ ويعينه على جاريه الذى هو مادّة رفقه، وأوّل ما أجراه الله على يد مولانا من رزقه؛ بكتاب يجزل له العزمات وينميها «4» ، ويسكن روح الحياة فى جسد فاقته ويبقيها؛ فهو ذو ضرّاء لا تسدّها إلا القناعه، وذو فاقة لا ترفعها إلا السّعة التى تمدّ باعه؛ والله يجعل مولانا وقاية لمن لجأ إليه، وإعانة لمن اعتمد عليه؛ إن شاء الله تعالى.(8/76)
وكتب إليه أيضا شفاعة فى بعض الأعيان
فقال:
وينهى أنّ الله تعالى متولّى سرائر عباده، ومجازيهم على مخالفة أمره وإن كان على وفق مراده؛ أعدّ دارى ثوابه وعقابه، وحذّر أولى العقوبة من أليم عذابه؛ ثم عمّت رحمته فشفّع فى العصاه، وعفا عن الجناه؛ فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ
ثم بذلت عوارف الإحسان، وعواطف الحنان؛ حتى شفع الى خلقه، فى العفو عن حقّهم وحقّه؛ صفة كرم رحمانيّه، وصلة عفو إحسانيّه، وصنائع الطاف ربانيّه، فشفع إلى الصدّيق فى مسطح، فقال:
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
فقدّم موجبات العطف بما قدّم من القرابة والمسكنة والمهاجرة، ثم تلقّاها من أجر الآخرة بكرم المجازاة وربح المعاملة، وحسن جزاء المنعم، تعريفا بمواقع الإحسان، وتكريما لنوع الإنسان؛ ومملوك مولانا فلان الذى أنزل حاجته بعبدك «1» ، وقصده قبل قصدك؛ وأسكن حريمه مجاورا لحريمه وتشفّع به إلى صدر الزمن وكريمه، واستوهبه الذنب وإن كان معترفا بعظيمه؛ والصنع الجميل ثمرة الأيام، والفضل أثبتته ألسن الأقلام؛ ولله لحظات تلحظ عباده ويرحم الراحمين، ويجزى المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين؛ وإن مولانا «2» عقال الشرف وذو الفضل الانف «3» ، والعارف فى صنائع الإحسان كيف تؤكل الكتف؛ وقد أحلته(8/77)
على ملاءة «1» أياديك، وألبسته ملاءة معاليك، وأحللته بضمان الله كنف ناديك؛ وأنت الكريم أخلاقا ونسبا، والطّيّب أعراقا وأبا، والصّدر الذى إذا سامته الأيّام خطّة ضيم ابى، وإذا أوطأته مهانة «2» وخسفا نبا؛ وأحقّ من قبل هذه الشفاعة كرمك «3» وأولى من رعاها شيمك، والمعالى جنود الشرف وأحقّ علم رفع «4» عليها علمك؛ والله تعالى يبقيه للأنام ملاذا، وللأمل معاذا، ويهب عزمه مضاء وقلمه نفاذا؛ إن شاء الله تعالى.
وكتب الى «5» قاضى القضاة تاج الدين بن خلف:
يخدم الجناب التاجىّ- أدام الله شرف الملّة ببقائه، وأعلى كلمة الأمّة بعلائه وأجرى ألسنة الأقلام بثنائه، ورفع ألوية أوليائه بولائه- وينهى ورود مشرّفته الّتى تجلّت فى سماء السيادة حسنا، وسهلت لفظا وجزلت معنى، وغدا لسان الإحسان عليها يثنى، وعنان الفضائل اليها يثنى؛ وقد أخذت برقاب المعانى، وأطربت إطراب المثانى، وبعثت روح الحياة الى روح الأمانى، وثنت إلى فضلها الأوّل عنان الثانى
فحىّ «6» هلا بالمكرمات وبالعلا ... وحىّ هلا بالفضل والسّؤدد المحض(8/78)
لا جرم أنّ المملوك سجد لله ثم لجلالة «1» ذلك الاستغفار، وقبول كلمات الاعتذار؛ وعلم أنّ مولانا لبس حلّة التواضع لتمام شرف الاصطناع، وليحوز أقسام السيادة بالصدر الرّحب والخلق الوساع «2»
سجيّة «3» نفس شرّف الله مجدها ... بما شاء من فضل لديها ومن حلم
وسؤدد آباء وكسب سيادة ... تضمّ إلى عزّ العلا شرف العلم
هذا مع إساءتنا التى تسوّد وجوه الأمل، ويقضى كفرها- لولا إيمان مولانا- بإحباط العمل، على أنها ملازمة المعلولات للعلل
وما كنت جانى فتنة غير أنّها ... إذا وقعت أردت مسيئا ومحسنا
ولو رشقتنى مصميات سهامها ... لألفت لها حكما من الله بيّنا
وإن جلال الله يشهد أنّنى ... بذلت من الوسع الذى كان ممكنا
وحذّرت حتى لم أجد متحرّزا «4» ... وأسمعت لكن لم أجد ثمّ أذّنا «5»
وكانت صعاب «6» تقتضيها مشيئة ... وهل لقضاء الله ردّ إذا دنا
وأما إشارة مولانا إلى الحاجب الذى هو لمولانا أشرف من حاجب بن زراره بما «7» أودعه أثناء تلك الكلم من لطيف الإشارة وشريف العباره؛ فجزاء مولانا على الله فى جبره لقلب المملوك المنصدع، وصلة أمله المنقطع.(8/79)
وكتب إلى الصاحب قاضى القضاة بدر الدين السنجارى-
وهو يوم ذلك متولى الحكم والوزارة بالديار المصرية:
لا زال الإسلام يستضىء ببدره، والإيمان يأرز «1» إلى صدره، والشرف يتضاءل عند قدر جلالته وجلالة قدره، والآمال والآجال مصرّفة بين بسطة نعمته وسطوة قهره، هذه على ذكره وهذه على شكره، والمكارم والمحامد تتعلّق وتتألّق هذه بنشره وهذه ببشره، والعزم والرأى إذا فلّ أو فال «2» استغاث واستضاء هذا بنصره وهذا بفكره
ولا غرو أن تثنى الوزارة جيدها ... إلى ناظم فى جيدها عقد فخره
الى أحوذىّ «3» الرأى إن ناب معضل ... أراك جلىّ الأمر إيحاء سرّه
إذا استغزر الذهن «4» الذكىّ تضاءلت ... له فكرتا قيس «5» الذكاء وعمره «6»(8/80)
فيطلع رأيا واضحا من سداده ... كما انشقّ برد الليل عن ضوء فجره
إلى سؤدد أجرت معاليه خيله ... سوابق غرّا «1» فى بهيمات دهره
وكم سابق أجرى إلى غاية العلا ... ولكن طوى سبقا ملاءة حضره
بحلم تجلّى فى أسرّة وجهه ... وجود تجلّى من طلاقة بشره
يمينا لقد أضحت جلالة قدرها ... على شرف المقدار من دون قدره
سطّرها المملوك بعد ما لبست الوزارة حلّة فخرها، وسحبت ذيل افتخارها، وبدا معصم شرفها فى حلية سوارها، وتجلت معانيها بين شموس فضلها وأقمارها، وجنينا الغضّ من زهرها، والطيّب من ثمرها، وحمدنا جميل تأثيرها وحميد آثارها
وحيّت على بعد المدى نفثاتها ... بأطيب من رند «2» الرّبا وعرارها «3»
واجتلى المملوك حسناء إحسانها فما ضارعتها البدور مذ فارقت سرارها، ولا الأنجم ولو نظم الفلك أنوارها، ولا الروضة وقد عقدت الغمائم إزارها «4» ، ولا أطلال ميّة وقد دبجت يد الأنواء «5» أزهارها، ولا أردان عزّة «وقد أوقدت بالمندل «6» الرطب(8/81)
نارها» ؛ صلة جاءت كبرد الشباب «1» ، وبرد الشراب؛ اقتضابا قبل السؤال، وابتداء الآمال؛ والمملوك يحضر عقيبها ليجتلى وجه المنعم قريبا، ويجتنى غصن النّعم رطيبا
ومتى لم أقم بشكرك للنا ... س خطيبا فلا وقيت الخطوبا
وكتب الى الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب بهاء «2» الدين على بن محمد المعروف بابن حنّاء «3» :
رفع الله قدر الجناب الصاحبىّ التاجىّ فى شرف الأقدار، وأجرى بإرادته وسعادته سوابق الأقدار، وألبسه حلية الشرف التى هى على رأس رياسته تاج وفى معصم سيادته سوار، وحلّة النعم التى ينكمش «4» لأجلها ردن المساءة وينسحب بمثلها ذيل المسار، وأمضى عزائم آرائه التى اذا سطت يوم البأس نفذت نفوذ(8/82)
السهم ومضت مضاء الغرار «1» ، واذا سرت فى ليل الخطب هدت هداية النجم ووضحت وضوح النهار، وأرضى همّته التى اذا همّت أغنت عن الأبيض المرهف والأسمر الخطّار، واذا أمّت شأت «2» ناصية الحنفاء «3» وبذّت قاصية الخطّار «4» ؛ وأرهف أقلامه التى اذا أجراها أثبتت خال النّقس، فى وجنة الطرس، وطرّزت بالظلماء أردية الشمس؛ واذا هزّها أنست هزّ العوامل، وأصابت من الأمر الكلى والمفاصل، وإذا أمضاها لنعمة أو لنقمة فللجانى لعاب الأفاعى القواتل، وللعافى أرى «5» الجنى اشتارته أيد عواسل؛ ولا زال ربعه مربعا للجلال ومصيفا، ومرتعا لسوام الآمال وخريفا، ومشرعا وارد الظلال وريفا؛ وحرما آمنا تجبى اليه ثمرات الحمد وتجنى منه ثمرات الرّفد، وتقف المعالى عليه «وقوف مطايا الشوق بالعلم «6» الفرد» ؛ فإنه الربع الذى وقفت به الآمال وقوف غيلان «7» بدارميّه، وعكفت [عليه «8» ] المحامد «9»(8/83)
عكوف توبة على حبّ الأخيليّة «1» ؛ والجناب [الذى «2» ] فاءت ظلاله وفاضت مواهبه وجاءت مذانبه «3» ، وجادت سحائبه، وجلّت شيمه وتجلّت غياهبه؛ فى روض المعالى الذى فاحت سائمه، وناحت حمائمه، ومنشإ المجد حيث شاب فأرخيت ذوائبه وشبّ فقطّعت تمائمه، وبيت الرياسة الذى اذا دنوت حباك بإكرامه واذا نأيت حيّتك مكارمه، وصدر السيادة الذى خضعت له الأعناق هيبة «لأبلج لا تيجان إلا عمائمه»
ولا زال بدرا فى سماء سيادة ... يشار إليه فى الورى بالأنامل
بسيط مساعى المجد يركب نجده ... من الشرف الأعلى وبذل الفواضل
إذا سيل «4» أغنى السامعين جوابه ... وان قال لم يترك مقالا لقائل
محدّد أيام الحياة فكلّها ... لطالب علم أو لقاصد نائل
وينهى ولاء مخبوءا بسويداء قلبه، موضوعا بين شغافه وخلبه؛ وثناء مسموعا فى محافل الأنام، معلنا «5» فى صحائف الحمد بألسنة الأقلام، جديدا على ذهاب الليالى واختلاف الأيام؛ ودعاء سابق أراعيل «6» الرياح، ووضحت أنوار إجابته وضوح(8/84)
الصباح، وطار الى ملإ القبول بقادمة كقادمة الجناح؛ وتحية اذا واجهت وجه الجهام أمطر، واذا هزّت أعطاف الكهام»
أثّر؛ أرقّ من النسيم السّحرى، وأعطر من العنبر الشّحرىّ؛ وأصفى من ماء المناقع «2» ، وأحلى من «جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع «3» » يرى ذلك فى شرع المروءة واضحا واجبا «4» ... ؛ تحيّة من أولى النعمة فشكرها وعرف العارفة وما أنكرها، وآمن بيده البيضاء من غير سوء ومذ آمن بها ما كفرها؛ كيف لا وقد امتزج بحبها لحمه ودمه، وسبّح بحمدها قلمه وفمه، وجرت شيم حمده على أعرق جيادها والخيّر من سبقت به إلى شكر المنعم شيمه؛ لا سيّما وقد جنى الطّيب من ثمارها، وورد العذب من أنهارها «5» ؛ فلا أعدم الله مولانا صنائع الإحسان الذى انعقدت عليه كلمة الإجماع، وأنشده لسان المحامد عن شرف الاصطناع
فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع «6»
ولا زال اللطف صدى صوته إذا دعا، والنجح قرين مساعيه أنّى سعى، وحاكم الفضل يصدّق دعواه حوز كلّ فضيلة كيف ادّعى؛ حضر المملوك مهنّئا نفسه بهنائه، ساعيا فى خدمته سعى الأجدل «7» فى هوائه، والنجم فى سمائه؛ من ملازمة(8/85)
وجهه الذى ألقى الله عليه محبّة منه فاستنار، واكتسى حلّة الحياء فألبسته حلّة الوقار؛ واجتلته المقل فرأت رونق الخفر عليه باديا، وائتمت به الهداة فألفته نجما فى سماء السيادة هاديا؛ وقالت الأمانى فى ظلّه فأنشأ جوده قائلا:
نزلت على آل المهلّب شاتيا «1»
ورأيته والناس مؤمنون من ليث «2» عليه مهابة فكانوا الكروان «3» أبصرن بازيا «4» ؛ أبّهة الجلاله، وجلالة الأصاله؛ وأصالة الشرف، وشرف الفضل الأنف، ورياسة ورّثها خير سلف لخير خلف، وشيم علّمته فى المعالى كيف تؤكل الكتف؛ فصادف ركابه العالى قد استقلّ، وحلّ من دارة العزّ حيث حلّ؛ فأقام رجاء أن يعاين أسرّة جبينه، ويقبّله كتقبيل الندى فى يمينه؛ وحين جنحت الشمس الى مستقرّ الأنوار وطوى الفلك بيد القدرة رداء النهار، وأشرف اليوم من خشية «5» طيّه على شفا جرف هار؛ وثوّب «6» داعى العصر وحيعل، وعاين نيّر الفلك فى وجه السماء كعين الأقبل «7» ؛(8/86)
ثنى عنانه إلى مثوى قراره، وانثنى يسابق أدهم ليله بأشهب نهاره؛ وعلى الرغم أخفق مسعاه، ولم يقل «1» قلبه الشوق الذى دعاه؛ لكن سار وأقام خالص ولائه وعاد بعد ما أودع الحفظة مرفوع دعائه؛ فعرّف الله مولانا بركات هذا الشهر الذى سارت به إلى إحسانه مطايا أيامه، وجعله مثبتا لحسناته ممحّيا «2» لآثامه، وحلّاه بالمقبول «3» من صيامه والمشهور من قيامه؛ وأراه صدر برّه أثلج، ووجه بدره أبلج، وثغر ابتسامه عن رضوان القبول أفلج؛ ورقّاه درج تضاعف حسناته، ولقّاه من كرم الله مذخور إحسانه وموعود هباته؛ وأراه الأمل فى بنيه، وأرانا فيهم ما رأينا فيه؛ فهو غاب «4» العلم وهم أغصانه وشجره، ومطهّم السابقين وهم حجوله وغرره؛ وانى لألمح «5» من مخايل شرفهم وشرف مخايلهم، وشمائل شيمهم وشيم شمائلهم؛ نجابة «6» تضعهم من الرّياسة فى أنفها، ومن السيادة بمكان شنفها؛ فهم جذوة فضل مبرقه، ودوحة علم مورقه ونبعة سيادة معرقه، وشموس معال فى أفق كلّ شرف مشرقه؛ سمت بهم أصالة النسب، وفضيلة الأدب المكتسب، وجمعوا بين شرف العمومة والخؤولة فى كرم المنتسب؛ فللعلا ألسن تثنى محامدها على الحميد من فعلهم وشيمهم، وللندى مواهب عزيت مذاهبها «7» الى العليّين من كرمهم وهممهم؛ لا زالت محاسنهم قلائد الأجياد وأيّامهم مواسم الأعياد، وحرمهم المخصب بالمكارم سواء العاكف فيه والباد؛ إن شاء الله تعالى.(8/87)
وكتب الى القاضى شمس الدين الأصفهانى الحاكم-
وكان بالأعمال القوصيّة- رحمهما الله تعالى-:
أوضح الله صنائع المجلس فى بهيم الآمال غررا، ونظم أياديه فى أجياد الأيّام دررا، وصفّى مشارع أمانيّه إن كان مشرع الأمانىّ كدرا، ولا زال الإسلام يشدو بحمده مفتخرا، والأيّام تتلو مجده سورا، والشرع المحمدىّ يكون بمضائه فى ذات الله منتصرا
فقد نشرت يمناك أردية العلا ... تحلّى بلاد الله بالدين «1» والعلم
وأمضيت أمر الله فى شرع أحمد ... وقيّدت شكر الله فى مطلق الحكم
وترضى كلا الخصمين فى السّخط والرضا ... كأنك تعطى الخصم ما كان للخصيم
الى غير ذلك من محاسن وضحت وضوح النجم فى الليل البهيم، وسرت الى الحمد سرى المجدّ الى الشرف الصميم، وحدّثت عن مساعيه فجاءت بالنثر البديع والدرّ النظيم، وأثنت عليه ثناء وارف الروض على واكف الوبل بألسنة النسيم
وهزّت جناحى فضله وجلاله ... الى درك العلياء من غاية المجد
وقالت معاليه لى المجد كلّه ... فما ابنة ذى «2» البردين والفرس الورد(8/88)
فلا عدمه الإسلام إماما فاضلا، وحكما فاصلا، وساعيا الى غايات الفضائل واصلا، وفاعل حسنات صيّر الحاصل من ثنائه باقيا والباقى من عمله الصالح حاصلا؛ المجلس- أدام الله أيامه- يعلم أن الأيام مسّتنى بحدّ شباتها، ورمتنى عن قوس أذاتها، وجنتنى الحنظل من شجراتها، والمرّ من ثمراتها، وأضرمت من نار ألمى ما لم تطفئه مقلتى بفيض عبراتها
كأنى لم أطلع بأفق سمائها ... ولم أتقلّب فى ثياب سماتها
ولم أك منها فى سويداء قلبها ... مخايل من هدى العلا وهداتها
- أستغفر الله- فإنها استرجعت ما لم يكن مستحقّا، وأبقت إن شاء الله لمجلسه السامى ما كان حقّا، وأسكنته «1» - أدام الله نعمته- وفلك السعادة شرقا ومطلع الشمس أفقا، وأحلّته «2» من كنف السيادة قلبا ومن رأس الرّياسة فرقا
وتطلعه الآمال خير غمامة ... فتلمعه برقا وتوكفه ودقا
وتبقيه للدين الحنيفىّ عصمة ... وللهدى والإضلال إن أبهما فرقا
وتبرزه فى صدر كلّ فضيلة ... كما بذّ شأو الفاضلين بها سبقا
حضر مملوك مولانا الولد [وقد «3» ] رفع من المحامد الشمسيّة لواء، والتزم العبوديّة والإخلاص ولاء، وعمر الأفنية ودادا والأندية ثناء؛ وقال: أحسن مولانا حين أساءت الأيام، وأولى نعمة حاتمية وإنها أشرف الإنعام(8/89)
وما لى لا أثنى عليه بصالح ... وأشكره والشكر بعض حقوقه
وأملأ من حسن الثنا كلّ مسمع ... وإنّى لأخشى بعد إثم عقوقه
ثم سار وقلبى يتبعه، ودمعى يشيعه، ولسانى يستحفظه الله ويستودعه؛ وعليه من الديون ما أحاط به إحاطة الجفون بمقلها، والأغماد بمنصلها «1» ؛ لتوالى هذه المغارم التى طمّ جداها «2» ، والمظالم التى عم رداها، والمحنة التى ملكتنى يداها؛ من خراج طمى بحر ظلمه، وزاد على حدّ «3» الجور رسمه وخصصت من بين هذا العالم بوسمه «4» ؛ للزوم قام بوصفى فتبعه لازمه، ومعنى وجب لذاتى فاستحال عدمه؛ وقد كان المملوك وولده فيما سلف يجودان بما يجدان لقانع ومعترّ، وغنىّ ومضطرّ؛ صيانة للأعراض من أعراض اللّوم، ورغبة فى صلة حمد الأمس بفائد «5» اليوم؛ وسجيّة نفس تأنف من علاقة الذم؛ وإن كان هذا فيما لا يجب فالقياس فيما يجب انبعاث النفس اليه من حتم المروءة أمضى»
، والدّين بأداء الواجب أقضى؛ لانه(8/90)
مؤيّد بإبرام الشرع، وقد صحّ هذا القياس بجامعيّة الأصل والفرع؛ لكن ضاقت «1» يد القدرة عن نفاذها، واعتاضت من وابل الثروة برذاذها؛ واذا توافرت القرائن أفادت فوق ما تفيد غلبات الظنون من مدار الشرعيّات عليها، وانتهاء غالب الأحكام إليها؛ وقد كان المملوك حرّك عزائم سيّدنا قاضى القضاة- شرّف الله قدره، وأدام على الإسلام أمره- إلى تحرّيها «2» العلوم الكريمة بما هى عالمه، وحكمها بما هى حاكمه؛ ليكون «3» له مستند يدفع أقوال المتعرّضين، ويصرف اعتراض المعترضين؛ ولئلّا يقف له واقف فيجرى قلمه الشريف بأمر جازم يجب الوقوف على مثاله، والمسارعة إلى امتثاله؛ فيعزّ استدراك الأمر بعد إحكامه، ويكون السعى فى معارضته كالنقض لأحكامه؛ فكتب بما يقف مولانا عليه، وتشير مروءته وديانته اليه؛ ويقرّر مع نائبه «4» ما يقف عنده، ولا يتجاوز حدّه؛ غير ذاكر عن مولانا منعا ينفّر عنه الرّواه «5» ، ولا مشنّع «6» بكتّاب سيّدنا قاضى القضاه؛ بل يكون كالشافع، اذا صمّم الخصم اعتذر بما هو لهذه المصالح كالجامع؛ ليكون المملّك «7» فى إرضائه بحسب الإمكان ويرى الخصم ما أخذه بعد اليأس نوعا من الإحسان؛ فالنفوس اذا منعت كلّ المنع طلبت كلّ الطلب، وتعلّقت فى درك أغراضها بكل سبب؛ وإذا أخذت بالكلام(8/91)
البيّن «1» ، وعوملت بالسهل «2» الليّن؛ بعد درء سورتها «3» بالمنع، ودفع شهوتها بالدفع؛ اتّسق حكم الأشياء وانتظم، وانشعب صدع هذا الجرح والتأم؛ وجرى الأمر على سداد بحفظ النظام وحفظ الحرمة والحفظ للشارع، ولذلك قال: «أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم» لا سيما مع شهادات ضروراتهم؛ بسط الله يمين سيدنا فى المعالى كما بسط لسانه فى المعالم، وقيّد عليه لسان المحامد كما أطلق يده بالمكارم «4» ؛ وعليه تحية الله التى توالى عليه نفحاتها، وتهدى إلى آماله العالى [من «5» ] مقترحاتها.
وكتب إلى شهاب الدين محمود متولى سمهود «6» من عمل قوص-
وكان بينهما مودّة، فاستدعاه للسلام عليه- فكتب:
إلينا فإنا قد حللنا بأرضكم ... على فرط شوق لابن عثمان دائم
وزرناك محمودا كما زار أحنف «7» ... لنيل الأمانى ربع قيس بن عاصم «8»(8/92)
ولسنا بغاة للندى والتماسه ... وان كنت معروف الندى والمكارم
ولكن وفاء بالإخاء لمن وفى ... وقد خان حتى حدّ سيفى وقائمى
وجدتك ذخرى والزمان محاربى ... كما كنت عونى والزمان مسالمى
فلا غرو أن أثنى اليك أعنّتى ... كما قد ثنت يمناى خنصر خاتمى
يهدى الى المجلس السامى الشرفىّ تحيّة الله التى تحملها أنفاس النسيم معطّرة بعرف الرياض، مكلّلة بأندية الكرم الفيّاض؛ تغاديه فى السحر والمقيل، وتراوحه فى الطّفل والأصيل، وتشاهد محاسنه «1» المقل أحسن من محاسن بثينة فى وجه جميل؛ وأثنيته «2» التى تنتظم فى الأجياد انتظام القلائد، وترد على الأسماع ورود الهيم «3» على عذاب الموارد؛ ويوليه «4» من حبّه مزيّة الاختصاص، ومن موالاته السوانح التى لا تمتد إليها يد الاقتناص؛ فهو نسيم الأنس، ومسرّة النفس، وذخر اليوم والأمس؛ مصعبىّ الهمم، مهلّبى الشيم «5» ، حاتمىّ الكرم؛ فاق أخلاقا، وراق أعراقا؛ وسما نفسا، وطلع فى سماء الشرف شمسا
وألفيته فى نفسه وولائه ... وحسن معانيه كما انتظم الدرّ
وضاع شذا أنفاسه فانتشقته ... على النأى منه مثلما ابتسم الزهر
ولاحت معاليه بآفاق مجده ... كما لاح فى ليل التّمام لنا بدر(8/93)
لا حرم إتيانى «1» اليه، وإيثار تسليمى عليه؛ مع أنى كنت أعهد له خلوة حلوة مع الله ووقفة على بابه، والتجاءه فى جنح الليل إلى جنابه، ودمعة يرسلها إذا استرسل فى محرابه؛ وضراعة يتابعها خشوعه، وزفرة يشتمل عليها قلبه وتفرّق عنها ضلوعه
فيا ليت شعرى هل أقامت بثينة ... على عهدها أم قد ثنتها الشواغل
وهل ذلك الودّ الذى كان بيننا ... بوادى الخزامى مثل ما كان أوّل «2»
وكتب اليه- رحمهما الله- يستدعى منه ثلاثة أسهم ومليات «3» - وقد أوردنا بعض هذه الرسالة فى الفن الأوّل فى السواقى، ونوردها فى هذا الموضع بجملتها لتكون متتابعة يتلو بعضها بعضا-:
والسيف يندب فى الوغى فيهزّه ... ندب الكمىّ الى مضاء غراره
والحرّ أولى بانتداب خلاله ... لمؤمّل فيه قضا أوطاره
فلذلك حرّكت العزائم العالية المولويّة الشرفيّة- أدام الله علاها، ورفع لواها وأودع أسماع الأنام ثناها؛ ولا زالت مرفّهة السرائر، منوّرة الضمائر، سائرة فى قطب المعالى سير الفلك الدائر، آخذة بحظها من شرف المفاخر، جامعة بين درك إحسان(8/94)
الله فى اليوم الأوّل واليوم الآخر- تحريك الطّسميّة «1» عزائم الأسود بن عفار «2» وبعثتها إلى إنالة الأمل انبعاث الهمم العربيّة يوم ذى قار «3» ، واستجشت عزائمها استجاشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عزائم الأنصار، واستنجدتها استنجاد العثمانيّة بالهاشميّة يوم الدار «4» ، واستحثثتها سرعة الإجابة استحثاث أدهم الليل أشهب النهار؛ فإنها(8/95)
للتى ثنيت عليها خنصر الاعتماد، وصرفت اليها عقيدة الاعتداد «1» ، وجعلتها من القلب فى سويدائه ومن المقلة فى السواد، واعتمدت عليها اعتماد بكر على الحارث بن عباد «2» ؛ لا جرم أنها والحمد لله تعالى ساعية لآمالى متى استسعيتها، وصدى صوتى متى دعوتها وفاتحة كتاب المحامد متى تلوتها؛ وأعيذها بالله أن تنكب عن قضائها «3» ، أو تقف دون غاية انقضائها؛ وإنها لأورق «4» فرعا من أفنان السّلمه «5» ، وأعراق أصلا فى الوفاء من أصل السّلمه «6» ، وأرشق سهما فى كنانة سلمه «7» وأوثق فى حفاظ المودّة من ابن شبرمه «8» ؛ يقين(8/96)
أحطت بأنبائه، إحاطة رسول ابن داود «1» يوم إنبائه؛ فلا أشكّ فى «2» شرف نفسها وسموّ نجمها ووضوح شمسها، وزيادة يومها فى الوفاء على أمسها «3» ، كما لا تشكّ الإياديّة فى فصاحة قسّها، ولا العامريّة فى علاقة قيسها؛ وقد توجّه اليه حاملها لحمل السهام التى أسهمت له من الموالاة «4» أوفر أقسامها، ونشرت رداء ذكره على أفئدة قلوبها وألسنة أقلامها؛ عند اشتداد الحاجة إليها، وجرّ ثقل السواقى عليها؛ وحركة الحرّ التى حلّت شمسه برج حملها «5» ، وتوالت جيوش جنوده بين صدور ظباها وأطراف أسلها؛ تجفّف أنداء الثرى، وتعيد عنبر «6» الأرض عثيرا، وتشيب مفارق نباتها، وتذيق الممات «7» أكباد حبّاتها؛ فاستنصر العزائم العالية المولوية الشرفيّة فى إطفاء لهبه واقتضينا إعانته قبل انتضاء «8» قضبه، وبعثنا لمحلّ الهمة الشرفيّة قبل سطوته على قضبه «9» وقصبه؛ لتجرى جداولها على صفحة الثرى مستفيضه، وتجنى ثمرات رياضها من(8/97)
أنداء همّته أريضه «1» ؛ وتغازل مقل النفوس لحظات أزهارها، وتفتن أفنان «2» فنونها بنوح بلبلها وهزارها، ويبوح شذا الروض عن «3» سرّها وآثارها «4» ؛ هذا مع أنّها خطبت حسن إحسانه، وتقلّدت جميل برّه وجزيل امتنانه؛ والربيع منمنم العذار، موشّى الإزار؛ قد لبس رداء شبابه، وماس فى خضر ترابه وخضل ربابه «5» ؛ يهزّ أعطاف سنائه «6» ، ويخطر فى برد هوائه وبرد مائه، فكلّل وجنات نوره ببرد أندائه؛ والثرى عنبرىّ الأديم، سحرىّ النسيم، رندىّ الشميم؛ موشّح بقلائد غدرانه، مغازل بعيون نرجسه بسّام بثغر أقحوانه؛ لا يغرّد «7» ذبابه ولا يطرّب، ولا يصرّ «8» بسحراته الجندب؛ تطلع شمسه محتجبة فى ضبابها «9» ، مقنّعة من سحابها؛ جارية فى أثناء حبكها «10» ، جائلة فى أدنى فلكها؛ تسعى فتسرع، وتكاد أن تغرب حين تطلع؛ والجوّ معقود الأزرار، فاختىّ «11»(8/98)
الإزار؛ غيمه منسكب، ونوره منسحب؛ وليله يضمّ أطراف نهاره، ويلفّ وجهه فى حاشية إزاره؛ ينفى القذاة «1» عن مائه، ويجمع الحواسّ على جلوائه «2» ، ويعشى المقل من ضوء سنائه
فلو أن ليلى زارنى طيف أنسها ... وماء شبابى قاطر فى ذوائبى
ضممت عليها البرد ضمّة آلف ... وألصقت أحشائى بها وترائبى
ولكن أتتنى بعد ما شاب مفرقى ... وودّعت أحبابى له وحبائبى
والحاجة داعية إلى ثلاثة أسهم، كأنها هقعة «3» الأنجم؛ ممتدّة امتداد الرمح، مقوّمة تقويم القدح؛ غير مشعثة الأطراف، ولا معقّدة الأعطاف، ولا مسوّسة الأجواف؛ تحاسن الغصون بقوامها، والقدود بتمامها؛ وتخالف هيفها بامتلاء خصورها، وتساوى [بين «4» ] هواديها وصدورها؛ معتدلة القدود، ناعمة الخدود؛ مع مليات «5» أخذت النار فيها مأخذها فاسودّت، وتطاولت عليها مدّة الجفاف فاشتدّت؛ وترامت بها مدّة القدم، كأنها فى حيّز العدم؛ صلاب المكاسر، غلاظ المآزر؛ تشبه أخلاقه فى هيجاء السّلم، وتحكى «6» صلابة آرائه فى نفاذ الرأى ومضاء العزم؛ تكظم على الماء بقبضها «7» ، فتجود على الأرض بفيضها؛ تمدّ يد أيدها «8» فى اقتضاء إرادتها، وتطلع(8/99)
طلوع الأنجم فى فلك إدارتها؛ وتعانق أخواتها معانقة التشييع، فآخر التسليم أوّل التوديع؛ على أنها تؤذن بحقائق الاعتبار، وتجرى جرى الفلك المدار فى فناء الأعمار
تمرّ كأنفاس الفتى فى حياته ... وتسعى كسعى المرء أثناء عمره
يفارق خلّ خلّه وهو سائر ... على مثل حال الخلّ فى إثر سيره
ويعلمه التّدوار لو يعقل الفتى ... بأن مرور العمر فيه كمرّه
فمن أدركت أفكاره سرّ أمرها ... فقد أدركت أفكاره سرّ أمره
ومن فاته الإدراك أدركه الردى ... إذا جرّعت أنفاسه كأس مرّه
هذه آخر خطوات القلم، ومنتهى خطرات الكلم؛ فقم فى سرعة وصولها وتعجيل رسولها
بعزم [غدا] ينسى لمروان عزمه ... براهط «1» إذ جاشت عليه القبائل
غير معتمد عليه، ولا مفوّض أمرا اليه؛ فلم أعتمد عليه اعتماد الصّوفه «2» ، وإنما هو العماد عند أهل الكوفة «3» ؛ وإنما هو حمار سير، وذنب طير؛ يحمل ورقة مطويّة عن(8/100)
علمه، مزويّة عن فهمه؛ «كما يحمل الزّند الشرار إلى العظم» والله تعالى يحلّه من السعادة أشرف آفاقها، ويحرسه فى طفل الشمس وإشراقها
ويجريه من ألطافه نحو غاية ... تبلّغه الألطاف حلو مذاقها
ويلبسه فخر السيادة والعلا ... كما لبست أسماء «1» فخر نطاقها
إن شاء الله تعالى.
ذكر شىء من إنشاء المولى [القاضى «2» الفاضل البارع الأصيل] الأجل محيى الدين عبد الله [بن عبد «3» الظاهر] رحمه الله تعالى
كان رحمه الله من أجلّ كتاب العصر، وفضلاء المصر؛ وأكابر أعيان الدّول والذى افتخر بوجوده أبناء عصره على الأول؛ له من النظم الفائق ما راق صناعة وحسنا، ومن النثر الرائق ما فاق بلاغة ومعنى؛ فقصائده مدوّنة «4» مشهوره، ورسائله بأيدى الفضلاء ودفاترهم مسطوره؛ وكلامه كاد يكون «5» لأهل هذه الصناعة وعليهم(8/101)
حجّه، وطريقه فى البلاغة أسهل طريق وفى الفصاحة أوضح محجّه؛ وهو رحمه الله ممن عاصرته «1» ولسوء الحظ لم أشاهد محيّاه الوسيم، ولم أفز بالنظر إلى طلاقة وجهه الكريم؛ والذى أورده من كلامه هو ممّا نقلته من خطّه، وتلقّيته ممّن سمعه من لفظه؛ فمن كلامه- رحمة الله عليه- ما كتبه عن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحىّ- رحمه الله- إلى ملك الغرب، كتب:
تحيّات الله التى تتابع وفودها وتتوالى، وتشرق نجومها وتتلالا، وتنفق إسرافا ولا تخاف من ذى العرش إقلالا؛ تخصّ الحضرة السنيّة السّريّة، العالميّة العادليّة المستنصريّه؛ ذخيرة أمير المؤمنين، وعصمة الدنيا والدين، وعدّة الموحّدين؛ لا زالت سماؤها بالعدل مغدقة الأنواء مشرقة الأنوار، ورياضها بالفضل مورقة الأغصان مونقة الثمار؛ ولا برحت ضوالّ الأمانى فى أبوابها تنشد، وقصائد القصود «2» فى اتصافها تنشد؛ وسرى الآمال عند صباح أمرها يحمد، وأحاديث الكرم عن جودها ترسل والى وجودها تسند؛ وسلامه الذى يكاثر نسيم الروض الأنيق، ويفاخر جديده عتيق «3» المسك وأين الجديد من العتيق؛ يغاديان تلك الأنداء «4» المباركة مغاداة الغوادى(8/102)
من «1» وابل المطر، ويراوحانها مراوحة الرّقّة للأصل والبكر؛ حيث العزّة القعساء يمتدّ رواقها، والنعمة الغرّاء تخصف «2» أوراقها، والدّيمة الوطفاء «3» يتوالى إغداقها، ويتتالى إغراقها؛ وحيث العدل منشور الجناح، والحقّ مشهور السلاح، والإنصاف مبرور الأقسام لطالبه باق لا يزاح؛ سجيّة تتوارث توارث الفخار، ومزيّة تستأثر بالهداية استئثار النجوم بالأنوار، وشيم تستصحب استصحاب الأهلّة للإبدار؛ فلذلك يتلفّت الأمل اليها تلفّت السارى الى تبلّج الصباح، ويرتاح الى تلقّى إحسانها ارتياح الظامئ إلى ارتشاف الماء القراح؛ ويحتمى بها فى المطالب احتماء الليث بالغابه، ويستمدّ إسعافها استمداد الحديقة من السحابة؛ ويهزّ عدلها كما هزّ الكمىّ المرهف، وينبّه فضلها تنبيه النسيم جفن الزهر الأوطف «4» ؛ فيناجى بالجؤور «5» ، ويلتمس لها حسن الصنع الذى لا يزال مبتسم الثغور؛ فمما قصّ عليه من مناجاته، وطوى عليه طويّة مفاوضاته؛ أنّ القاضى زين الدين بن حباسة من بيت أسلف سلفه جميلا، وغدا هو على مكارمه دليلا؛ وكان له غلام قد سيّر معه جملة «6» ... والاحتفال الحفىّ «7» مسئول(8/103)
فى تقدّم يجيب النجاح داعيه، ويغدو الفلاح مراوحه ومغاديه؛ واعتناء يستخلص حقّه ممن عليه اعتدى، ويرى من قبسه نورا يجد به هدى؛ فببارقة يضىء لديه الحالك، وبلمحة يهتدى «بحيث اهتدت أمّ النجوم الشوابك «1» » ؛ وما هو إلا رسم يرسم به وقد قرب البعيد، وآب الشريد؛ وخاف الخائف، وكفّ الجانف «2» ؛ وجمعت الضّوالّ، وضاق على المختزل «3» واسع المجال؛ مهابة قد سكنت القلوب، وسياسة قوى الطالب بها وضعف المطلوب، وعزّة لا يزال الرجاء ينيب إليها فيما ينوب؛ وأىّ مطلب تناجى فيه الآلاء المباركة فلا يصحب قياده، ويستسقى له مزن ولا تعاهد عهاده «4» ؛ وأىّ ذاهب لا يسترجع به ولو أنه عشيّات «5» الحمى، وأى فائت لا يردّ ولو أنه زمن الشبيبة المعسول اللّمى؛ وحسب العانى أن يحطّ برحابها رحاله، أو أن يوفد إلى أبوابها آماله؛ وقد تبادرت إليه المناجح متسابقه، وانتظمت لديه المصالح متناسقه؛ فحينئذ يفعم إناء تأميله، ويستوعب الإحسان لجملة «6» قصده وتفصيله؛ ويناديه(8/104)
السعد من تلك البقعة المباركه، فيوافيه التوفيق بصحائف القبول تحملها الملائكه؛ أمتع الله ببركاتها التى امتدّ رواقها، وأنار الحالك إشراقها؛ ولا زالت يراوحها تسليم عطر النفحه، وتصافحها تحيّات جميلة الصفحة؛ بمنّه وكرمه.
وكتب رسالة صيديّة عن «1» السلطان الملك الظاهر إلى الأمير عز الدين الحلّىّ «2» نائب السلطنة بالقلعة:
هذه المكاتبة إلى المجلس لا توارت شموس أنسه، ولا أذبلت ثمار غرسه ولا برح غده فى السعد مربيا على يومه ويومه على أمسه؛ تتضمّن إعلامه بأنا خرجنا إلى الصيد المبارك بجنود تملا السهل والجبل، وتستحيى الشمس منها فتستتر فى سحابها من كثرة الخجل؛ تسير على الأرض منها جبال، وتأوى الرمال منها الى أورف ظلال؛ وتوجّهنا إلى جهة الطّرّانة «3» وإذا بحشود «4» الوحوش قد توافدت، وعلى مناهل المناهج قد تواردت؛ والأجل يسوقهم، والبيد تعقّهم»
، والمنايا تعوقهم؛(8/105)
ولم تزل أيدى الخيل تجمعهم فى صعيد، وتطوى بهم سطورا فى طروس البيد؛ حتى أحاطت بهم إحاطة الفلك بالنجوم الزواهر، والأجفان بالعيون النواظر؛ وجرّدت السيوف فظنّتها غدرا، ورميت النبال فحسبتها شررا؛ وعزلت «1» الرماح بالسهام وحيّتها السّلام «2» بالسّلام، وسكنت نهارا من العجاج فى ظلام؛ وضاقت عليها الأرض بما ربحت، وأدركت المنيّة منها ما طلبت؛ وراسلتها المنايا، وأهدت اليها رياحين تحايا؛ فمن صريع وصديع وطريح وطريد، وجريح ومقبل وشريد، وقائم وحصيد؛ ولم تسلم فى هذا اليوم غير غزالة السماء فإنها استترت بالغيوم، وخافت أن يكون الهلال قد نصب فخّا لصيدها وصيد غيرها من النجوم؛ والموت «3» أسر كلّ مهاة مهابه، ونال الحتف من كل طلا «4» طلابه؛ وفتكت الظّبا بالظّبى، وقالت السهام لأجيادها: مرحبا؛ وثنينا الأعنّة والشفار قد أنهلت، والظهور قد أثقلت؛ والكنس «5» خاوية على عروشها، والبيد قد أوحشت من وحوشها؛ وما نشتمل عليه من محبّة المجلس وإيثاره، ونجده من الوحشة له مع دنوّ داره؛ وسروره بما عساه لنا يتجدّد، وحبوره بما يرد من جهتنا وهذا لا نشكّ فيه ولا نتردّد؛ أوجب أن نخصّه به ونتحفه، ونصفه له على جليّته إذ كنّا بالتخصيص به لن ننصفه؛ وقد بعثنا إليه منه قسما، ولم تنس عند ذكرنا أنفسنا له اسما.(8/106)
وكتب عن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى صاحب اليمن جواب كتاب عزّى فيه السلطان عن ولده الملك الصالح علاء «1» الدّين علىّ- وكان الكتاب الذى ورد فى ورق أزرق، وسيّره فى كيس اطلس أزرق، والعادة أن يكون فى كيس أطلس أصفر-:
أعزّ الله نصرته وأحسن بتسليته الصبر على كل فادح، والأجر على كلّ مصاب قرح القرائح، وجرح الجوارح، وأوفد من تعازيه كلّ مسكّن طاحت «2» به من تلقاء صنعاء اليمن الطوائح، وكتب له جزاء المصبّر عن جار من دمع طافح، على جار لسويداء القلب صالح «3» ؛ المملوك يخدم خدمة لا يذود المواصلة بها حادث، ولا يؤخّرها عن وقتها أمر كارث، ولا تنقصها عن تحسينها «4» وترتيبها بواعث الاختلاف ولا اختلاف البواعث؛ ويطلع العلم الكريم على ورود مثال كريم لولا زرقة طرسه؛ وزرقة لبسه، لقال: «وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم» ؛ يتضمّن ما كان حدث من رزء تلافاه الله بناسيه، وتوافى هو والصبر فتولّى التسليم تبيين عاسيه «5»(8/107)
وتمرين قاسيه؛ فشكرنا الله على ما أعطى وحمدناه على ما أخذ، وما قلنا: هذا جزع قد انتبه إلا وقلنا: هذا تثبّت قد انتبذ «1» ، ولا توهمنا أن فلذة كبد قد اختطفت إلّا وشاهدنا حولنا من ذرّيّتنا- والحمد لله- فلذ؛ وأحسنّا الاحتساب، ودخلت الملائكة علينا من كلّ باب، ووفّانا الله أجر الصابرين بغير حساب؛ ولنا- والشكر لله- صبر جميل لا نأسف معه على فائت ولا نأسى على مفقود، وإذا علم الله حسن الاستنامة إلى قضائه والاستكانة إلى عطائه عوّض كلّ يوم ما يقول المبشّر به:
هذا مولى مولود؛ وليست الإبل بأغلظ أكبادا ممن له قلب لا يبالى بالصدمات كثرت أو قلّت، ولا بالتباريح حقرت أو جلّت، ولا بالأزمات إن هى توالت أو تولّت، ولا بالجفون إن ألقت ما فيها من الدّموع والهجوع وتخلّت؛ ويخاف من الدهر من لم يحلب أشطره، ويأسف على الفائت من لا تنتابه الخطوب الخطره؛ على أن الفادح بموت الولد الملك الصالح- رضى الله عنه- وإن كان منكيا «2» والنائج بشجوه وإن كان مبكيا، والنائج «3» بذلك الأسف وإن كان لنار الأسى مذكيا؛ فإن وراء ذلك من تثبيت الله ما ينسفه نسفا، ومن إلهامه الصبر ما يجدّد لتمزيق القلوب أحسن ما به يرفا؛ وبكتاب الله وبسنة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عندنا حسن اقتداء نضرب به عن كلّ رثاء صفحا، وما كنّا مع الله- والمنّة لله- نعطى لمن يؤنّب ويؤبّن «4» أذنا ولا نعيرها لمن يلحى؛ إذ الولد الذاهب مرّ فى رضوان الله تعالى سالكا(8/108)
طريقا لا عوج فيها ولا أمتا «1» ، وانتقل سارّا بارّا صالحا وما هكذا كلّ الموتى نعيا ولا نعتا؛ وان كان نفعنا «2» فى الدنيا فها نحن بالصدقات والترحّم عليه ننفعه، وان كان الولد عمل أبيه- وقد رفع الله روح ولدنا فى أعلى علّيّين تحقّق أنه العمل الصالح «والعمل الصّالح يرفعه» ؛ وفيما نحن بصدده من اشتغال بالحروب، [ما «3» ] يهوّن ما يهول من الكروب؛ وفيما نحن عاكفون عليه من مكافحات الأعداء [ما «4» ] بين المرء وبين قلبه يحول، ومله عن تخيّل أسف فى الخاطر يجول
اذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمرّ به الوحول «5»
ولنا بحمد الله ذرّيّة درّيّة «6» ، وعقود والشكر لله كلّها درّيّة
اذا سيّد منهم خلا قام سيّد ... قؤول لما قال الكرام فعول «7»(8/109)
ما منهم الا من نظر سعده ومن سعده ينتظر، ومن يحسن أن يكون المبتدا وأن تسدّ حاله بكفالته وكفايته مسدّ «1» الخبر «والشمس طالعة إن غيّب القمر» لا سيّما من الدين به إذ هو صلاحه أعرف، ومن إذا قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهى قيل: هذا خير منه من أعلى بناء سعد أشرف «2» ؛ وعلى كلّ حال لا عدم إحسان المولى الذى يتنوّع فى برّه، ويعاجل قضاء الحقوق فتساعف مرسومه فى توصيله طاعة بحره وبرّه؛ وله الشكر على مساهمة المولى فى الفرح والترح، ومشاركته فى الهناء إذا سنح، وفى الدمع اذا سفح؛ وما مثل مكارم المولى من يعزب مثل ذلك عن علمها، ولا يعزى الى غير حكمها وحلمها؛ وهو- أعزه الله- ذو التجارب التى مخضت له من هذه وهذه الزّبده، وعرضت عليه منهما الهضبة والوهده؛ والرغبة الى الله تعالى فى أن يجعل تلك المصيبة للرزايا خاتمه وكما لم يجعلها للظهور قاصمة فلا يجعلها لعرا الشكر فاصمه «3» ، وان يجعلها بعد حمل هذا الهمّ وفصاله على عليه فاطمه؛ وأن يحبّب الينا كلّ ما يلهى عن الأموال والأولاد من غزو وجهاد، وأن يجعلنا ليس يحدّ لدينا على مفقود تأدّبا مع الله غير السيوف فإنها تعرف بالحداد، وألّا تقصف رماحنا إلا فى فود أو فى فؤاد، ولا تحوّل(8/110)
سروج خيلنا من ظهر جواد فى السّرايا إلّا إلى ظهر جواد، وألا تشقّ لدينا إلا أكباد أكناد «1» ، ولا تجزّ «2» غير شعور ملوك التتار تتوّج «3» بها رءوس الرماح ويصعد بها على قمم الصّعاد «4» ؛ والله يشكر للمولى سعى مراثيه التى لولا لطف الله بما صبّرنا «5» به لأقامت الجنائز، واستخفّت «6» النحائز، ولهوت بالنفوس فى استعمال الجائز من الأسف وغير الجائز، ولا شغل الله لبّ المولى [بفادحه] ، ولا خاطره بسانحة من الحزن ولا بارحه ولا أسمعه بغير المسرّات من هواتف الإبهاج صادحه؛ بمنّه وكرمه.
ومن إنشائه رحمه الله تقليد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بولاية عهد السلطنة
من أبيه السلطان الملك المنصور- سقى الله عهدهما صوب الرحمة- وهو:
الحمد لله الذى لم يزل له السمع «7» والطاعة فيما أمر، والرضا والشكر فيما هدم من الأعمار وما عمر، والتفويض فى التعويض «8» إن غابت الشمس وبقى القمر(8/111)
نحمده على أن جعل سلطاننا ثابت الاركان، نابت الأغصان، كلّ روضة من رياضه ذات أفنان؛ لا تزعزعه ريح عقيم «1» ، ولا يخرجه رزء عظيم عن الرضا والتسليم، ولا يعتبط «2» من جملته كريم إلا ويغتبط من أسرته بكريم؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزيد قائلها لله تفويضا، وتجزل له تعويضا وتحسن له على «3» الصبر الجميل فى كل خطب جليل تحريضا؛ ونشهد أن محمدا عبده الذى أنزل فى التسلية به: «وما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل» والنبىّ الذى أوضح الله به المناهج وبيّن السّبل؛ صلّى الله عليه وعلى آله ما تجاوبت المحابر والمنابر فى «4» البكر والأصل؛ وما بدّدت عقود ونظّمت، ونسخت آيات وأحكمت ونقضت أمور وأبرمت، وما عزمت «5» آراء فتوكّلت وتوكلت فعزمت؛ ورضى الله عن أصحابه الذين منهم من كان للخليقة نعم الخليفة، ومنهم من لم يدرك أحد فى تسويد النفس الحصيفة «6» ولا فى تبييض الصحيفة مدّه ولا نصيفه «7» ، ومنهم من يسرّه الله(8/112)
لتجهيز جيش العسرة «1» فعرف الله ورسوله معروفه، ومنهم من عمل صالحا أرضى ربه فأصلح فى ذريّته الشريفه؛ وبعد، فإن من الطاف الله بعباده، واكتناف عواطفه ببلاده «2» ؛ أن جعلنا كلّما وهى للملك ركن شديد شيّدنا ركنا عوضه، وكلّما اعترضت للمقادير جملة بدّلنا آية مكان آية وتناسينا تجلّدا تلك الجملة المعترضه؛ فلم نحوج اليوم لأمسه وإن كان حميدا، ولا الغارس لغرسه وإن كان ثمره يانعا وظلّه مديدا؛ فأطلعنا فى أفق السلطنة كوكب سعد «3» كان لحسن الاستخلاف معدّا، ومن لقبيل المسلمين خير ثوابا وخير مردّا، ومن بشّر الله به الأولياء المتقين وينذر به من الأعداء قوما لدّا، ومن لم يبق [إلّا به «4» ] أنسنا بعد ذهاب الذين نحبّهم [وبقى «5» ] كالسيف(8/113)
فردا، والذى ما أمضى حدّه [فى «1» ] ضريبة إلا قدّ البيض «2» والأبدان قدّا، ولا جهّز «3» راية كتيبة إلا
أغنى «4» غناء الذاهبين ... وعدّ «5» للأعداء عدّا
ولا بعثه جزع فقال: «كم من أخ لى صالح» إلا لقيه ورع فقال: «وخلقت يوم خلقت «6» جلدا» ؛ وهو الذى بقواعد السلطنة الأدرى وقوانينها الأعرف، وعلى الأولياء الأعطف وبالرعايا الأرأف، والذى ما قيل لبناء ملك: هذا عليه قد وهى إلا وقيل: هذا بناء مثله منه أسمى ملكا وأشرف، والذى ما برح النصر يتنسّم من مهابّ(8/114)
تأميله والفلاح، ويتبسّم ثغره فتتوسّم الثغور من تبسّمه النجاح، وينقسم نوره على البسيطة فلا مصر من الأمصار إلا وهو يشرئبّ الى ملاحظة جبين عهده الوضّاح ويتّفق اشتقاق النعوت فيقول التسلّى للتملّى سواء الصالح والصلاح؛ والذى ما برح لشعار السلطنة الى توقّله «1» وتنقّله أتمّ حنين، وكأنّما كوشفت الإمامة العبّاسيّة بشرف مسمّاه فيما تقدّم من زمن من سلف من حين «2» ، فسمّت ووسمت باسمه أكابر الملوك [وأخاير «3» السلاطين] فخوطب كلّ منهم مجازا لا كهذه الحقيقة ب «خليل» أمير المؤمنين؛ والذى كم جلا بهاء جبينه من بهيم، وكم غدا الملك بحسن رأيه «4» ويمن آرائه يهيم وكم أبرأ مورده العذب هيم عطاش ولا ينكر الخليل اذا قيل عنه: إنه إبراهيم «5» ؛ ومن تشخص الأبصار لكماله يوم ركوبه حسيره، وتلقى البنان سلاحها ذهلا وهى لا تدرى لكثرة الإيماء إلى جلاله إذا يبدو مسيره؛ والذى ألهم الله الأمّة بجوده ووجوده صبرا جميلا، وآتاهم من نفاسة كرمه وحراسة سيفه وقلمه تأمينا وتأميلا، وعظم فى القلوب والعيون، بما من برّه سيكون، فسمّته الأبوّة الشريفة ولدا «6» وسمّاه الله: خليلا؛ ولمّا تحتّم من تفويض أمر الملك اليه ما كان الى(8/115)
وقته المعلوم قد تأخّر، وتحيّن «1» حينه فكمل بزيادة «2» كزيادة الهلال حين بادر تمامه فأبدر؛ اقتضى حسن المناسبة لنصائح الجمهور، والمراقبة لمصالح الأمور، والمصاقبة «3» لمناحج البلاد والثغور، والمقاربة «4» من فواتح كل أمر ميسور؛ أن نفوّض اليه ولاية العهد الشريف بالسلطنة الشريفة المعظّمه، المكّرمة المفخّمة المنظّمة؛ وأن تبسط يده المنيفة لمصافتحها بالعهود، وتحكيمها فى العساكر والجنود، وفى البحور والثغور وفى التّهائم والنجود؛ وأن يعقد بسيفها وقلمها كلّ قطع ووصل، وكلّ فرع وأصل وكلّ نصر ونصل؛ وكلّ ما يحمى سرحا، ويهمى منحا، وفى المثيرات فى الإعداء «5» على الأعداء نقعا وفى المغيرات صبحا؛ وفى المنع والإطلاق، وفى الإرفاد «6» والإرفاق وفى الخميس إذا ساق «7» ، وفى الخمس «8» اذا انساق، وفى السيوف «إذا بلغت التّراقى وقيل:
من راق» ، وفى الرماح إذا التفّت الساق منها بالساق؛ وفى المعاهدات والهدن(8/116)
وفى الفداء بما عرض من عرض وبالبدن للبدن «1» ، وفيما ظهر من أمور الملك وما بطن، وفى جميع ما تستدعيه بواعثه فى السرّ والعلن، وتسترعيه «2» نوافثه من كبت وكتب متفرّقين أو فى قرن؛ عهدا مباركة عوذه «3» وتمائمه، وفواتحه وخواتمه، ومناسمه «4» ومواسمه، وشروطه ولوازمه
[على «5» عاتق الملك الأغرّ نجاده ... وفى يد جبّار السموات قائمه]
لا رادّ لحكمه، ولا ناقض لبرمه «6» ، ولا داحض لما أثبتته الأقلام من مكنون علمه.
ويزيده «7» مرّ الليالى جدّة ... وتقادم الأيام حسن شباب(8/117)
وتلزم السنون والأحقاب، استيداعه حتى «1» الذّرارىّ والأعقاب؛ فلا سلطان ذا قدر وقدره، وذا أمر وإمره؛ ولا نائب فى مملكة قربت أو بعدت، ولا مقدّم جيوش أتهمت أو أنجدت؛ ولا راعى ولا رعيّه، ولا ذا حكم فى الأمور الشرعيّه؛ ولا قلم إنشاء ولا قلم حساب، ولا ذوى أنساب ولا ذوى أسباب؛ إلا وكلّ داخل «2» فى قبول عقد هذا العهد الميمون، ومتمسّك بمحكم آيات كتابه المكنون والتسليم لنصّه الذى شهدته من الملائكة الكرام الكاتبون؛ وأمست بيعته بالرضوان محفوفه، والأعداء يدعونها تضرّعا وخيفه، فليشكروا الصنع الذى بعد أن كانت الخلفاء تسلطن الملوك قد صار سلطانهم يقيم لهم من ولاة العهد خليفة بعد خليفه؛ وأمّا الوصايا فأنت يا ولدنا الملك الأشرف- أعزّك الله- بها الدّرب ولسماع شدوها وحدوها الطّرب، الذى للّغو لا يضطرب؛ فعليك بتقوى الله فإنها ملاك سدادك، وهلاك أضدادك؛ وبها يراش جناح نجاحك، ويحسن اقتداء اقتداحك؛ فاجعلها دفين جوانح تأمّلك ووعيك، ونصب عينى أمرك ونهيك؛ والشرع الشريف فهو قانون الحقّ المتّبع، وناموس «3» الأمر المستمع؛ وعليه مدار إيعاء كلّ إيعاز «4» ، وبه يتمسّك من أشار «5» وامتاز، وهو جنّة والباطل نار(8/118)
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ
؛ فلا تخرج فى كلّ حال عن لوازمه وشروطه ولا تنكب عن معلّقه ومنوطه؛ والعدل، فهو مثمّر غروس الأموال، ومعمر بيوت الرجاء والرجال، وبه تزكو الأعمار والأعمال؛ فاجعله جامع أطراف مراسمك، وأفضل أيّام مواسمك؛ وسم به فعلك، وسمّ به فرضك ونفلك؛ ولا تفرد به فلانا دون فلان ولا مكانا دون مكان، واقرنه «1» بالفضل، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ
؛ وأحسن التخويل، وأجمل «2» التنويل، وكثّر لمن حولك التموين والتمويل؛ وضاعف الخير فى كلّ مضاف لمقامك، ومستضيف «3» بإنعامك، حتى لا تعدم فى كلّ مكان وكلّ زمان من النعماء ضيافة الخليل «4» ؛ والثغور، فهى للممالك مباسمها فاجعل نواجذها تفترّ عن أحسن ثنايا الصّون، ومراشفها شنبة «5» الشّفاه «6» بحسن العون؛ ومنها بما يحمى السّرح منها، وأعنها بما يدفع المكاره عنها؛ فإنها للنصر مقاعد، وبها حفظ البلاد من كلّ مارّ من الأعداء مارد؛ وأمراء الجيوش، فهم السّور الواقى بين يدى كلّ(8/119)
سور، وما منهم إلّا بطل بالنصر مشهور كما سيفه مشهور؛ وهم ذخائر الملوك وجواهر السلوك، وأخاير الأكابر الذين خلصوا من الشكوك؛ وما منهم إلا من له حرمات «1» سلفت، وحقوق عرفت، وموات على استلزام «2» الرعاية للعهود وقفت؛ فكن لجنودهم «3» متحبّبا، ولمرابعهم مخصبا، ولمصالحهم مرتّبا، ولآرائهم مستصوبا وللاعتضاد بهم مستصحبا، وفى حمدهم مطنبا، وفى شكرهم مسهبا؛ والأولياء المنصوريّين الذين هم كالأولاد، ولهم سوابق أمتّ من سوابق الإيجاد «4» ؛ وهم من عملت استكانة «5» من «6» قربنا، ومكانة من قلبنا، وهم المساهمون فيما ناب، وما برحوا للدولة الظفر والناب؛ فأسهم لكلّ منهم من احترامك نصيبا، وأدم لهم ارتياحك، وألن «7» جماحك وقوّ بهم سلاحك، تجد منهم ضروبا، وتر كلّا منهم فى أعدائك ضروبا؛ وكما أنّا نوصيك بجيوش الإسلام، كذلك نوصيك بالجيش الذى له المنشآت فى البحر كالأعلام؛ فهو جيش الأمواه والأمواج، المضاف الى الأفواج من جيش الفجاج؛ وهو الجيش السّليمانىّ فى إسراع السّير، وما سمّيت شوانيه «8» غربانا إلا ليجمع بها لنا(8/120)
ما اجتمع لسليمان صلّى الله عليه وسلّم من تسخير الريح والطير؛ وهى من الديار المصريّة على ثبج البحر الأسوار، فإن قذفت قذفت الرعب فى قلوب الأعداء وإن أقلعت «1» قلعت منهم الآثار؛ فلا تخله من تجهيز جيشه، وسكّن طيش البحر بطيشه؛ فيصبح لك جيشان كلّ منهما ذو كرّ وفرّ، هذا فى برّ بحر وهذا ببحر برّ؛ وبيوت العبادات فهى التى الى مصلّى سميّك خليل الله تنتهى محاريبها، وبها لنا ولك وللمسلمين سرى الدعوات وتأويبها «2» ؛ فوفّها نصيبها المفروض غير منقوص، ومر برفعها وذكر اسم الله فيها حسب الأمر المنصوص؛ وأخواتها من بيوت الأموال الواجدات»
الواجبات من حيث أنها كلّها بيوت لله هذه للصّلاة وهذه للصلات؛ وهذه كهذه فى رفع المنار، وجمع المبارّ، واذا كانت تلك مما أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فهذه ترفع ويذكر فيها اسمه حتى على الدرهم والدينار؛ فاصرف اليها اجتهادك فيما يعود [عليها] بالتثمير، كما يعود على تلك بالتنوير؛ وعلى هذه بإشحانها «4» بأنواع الصروف، كإشحان «5» تلك باستواء الصفوف؛ فإنها إذا أصبحت مصونه، احتملت بحمد الله المعونه(8/121)
وكفلت بالمؤونة وبالزيادة على المؤونه، فتكمّل هذه لكلّ ولىّ دنياه كما كمّلت تلك لكل ولىّ دينه؛ وحدود الله، فلا يتعدّاها أحد، ولا يرأف فيها ولد بوالد ولا والد بولد؛ فأقمها وقم فى أمرها حتى تنضبط أتم الضبط، ولا تجعل يد القتل مغلولة إلى عنقها ولا تبسطها كلّ البسط، فلكلّ من الجنايات والقصاص شرط شرطه الله وحدّ حدّه فلا يتجاوز أحد ذلك الحدّ ولا يخرج عن ذلك الشرط؛ والجهاد فهو الدّيدن المألوف من حين نشأتنا ونشأتك فى بطون الأرض وعلى ظهور الخيل فمل على الأعداء كل الميل، وصبّحهم من فتكاتك بالويل بعد الويل، وارمهم بكلّ شمّرىّ «1» قد شمّر من يده عن الساعد ومن رمحه عن الساق ومن جواده الذّيل «2» ؛ واذهب بهم فى ذلك كلّ مذهب، وأبن «3» بنجوم الخرصان «4» كلّ غىّ وغيهب وتكثّر «5» فى غزوهم من الليل بكلّ أدهم ومن الشّفق بكلّ أحمر وأشقر [ومن الأصيل بكلّ أصفر «6» ] ومن الصبح بكلّ أشهب، وانتهب «7» أعمارهم واجعلها آخر ما يسلب(8/122)
وأوّل ما ينهب؛ ونرجو أن يكون الله قد خبأ لك من الفتوحات ما يستنجزها لك صادق وعده، وأن ينصر بك جيوش الإسلام فى كلّ إنجاد وإتهام وما النصر إلا من عنده؛ وبيت الله المحجوج من كلّ فجّ، المقصود من كل نهج؛ يسّر سبيله، ووسّع الخير وأحسن تسبيله «1» ، وأوصل من برّك لكلّ من الحرمين ما هو «2» له، لتصبح ربوعه بذلك مأهوله؛ واحمه ممّن يرد فيه بإلحاد بظلم، وطهّره من كلّ مكس «3» وغرم؛ ليعود نفعك على البادى والعاكف، ويصبح واديه وناديه مستغنيين بذلك عن السحاب الواكف؛ والرّعايا، فهم للعدل زروع، وللاستثمار فروع، ولاستلزام «4» العمارة شروع «5» ؛ فمتى جادهم غيث أعجب الزّرّاع نباتهم، ونمت بالصلاح أقواتهم، وصلحت بالنّماء أوقاتهم، وكثرت للجنود مستغلّاتهم، وتوافرت زكواتهم، وتنوّرت مشكاتهم «والله يضاعف لمن يشاء» ؛ هذا عهدنا للسيّد الأجلّ الولد الملك الأشرف صلاح الدنيا والدّين، فخر الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين- أعزّنا الله ببقائه- فليكن(8/123)
بعروته متمسّكا، وبنفحته متمسّكا «1» ؛ وليتقلّد سيف هذا التقليد، ويفتح مغلق كلّ فتح منه بخير إقليد «2» ، وها نحن قد كثّرنا لديه جواهره فدونه ما يشاء تحليته:
من تتويج مفرّق وتختيم أنامل وتسوير زند وتطويق جيد، ففى كلّ ذلك تبجيل وتمجيد؛ والله تعالى يجعل استخلافه للمتقين إماما، وللدين قواما، وللمجاهدين اعتصاما، وللمعتدين انقصاما، ويطفئ بمياه سيوفه نار كلّ خطب حتى تصبح كما أصبحت نار سميّه صلّى الله عليه وسلّم بردا وسلاما؛ إن شاء الله تعالى.
وكلامه رحمه الله كثير ورسائله مشهورة، وبيد الناس من إنشائه ما لو استقصيناه لطال وانبسط، وقد قدّمنا فى كتابنا هذا من كلامه فى باب التهانى بالفتوح ما تجده فى موضعه ونختم كلامه بشىء من أدعية الملوك، وهى:
ومكّن الله له فى الأرض، وجعل طاعته واجبة وجوب الفرض، وأيّد آراءه بالملائكة فى الحلّ والعقد والإبرام والنقض.
آخر: وأنجز له من النصر صادق وعده، وجعل الملوك من عبيده والملائكة من جنده، ومتّعه بما وهبه من الملك الذى لا ينبغى لأحد من بعده.
آخر: وحفظه بمعقّبات من أمره، وحمى حمى الدين بقصار بيضه وطوال سمره، وجعل قدر مملكته فى الدهر كليالى قدره، وألبس أولياءه من طاعته ما يجرّون أذيال فخره.(8/124)
آخر: ولا زالت الدنيا بعدله مخضرّة الوهاد والرّبا، والامال بفضله قائلا لها النجح: مرحبا، والأقدار لنصره مسدّدة السهام مرهفة الظّبا، والأيّام لا تعدم من جميل أثره وجليل تأثيره فعلا مطربا، ووصفا مطيّبا. وجعلت ملكه موصولا بحبل لا يحلّ عقده، وحرمه محروسا بسيف التوفيق لا يفلّ حدّه. ولا زالت راياته ألسنة تنذر أعداءه بالفرار، وتبشّر أولياءه بالقرار، وآراؤه أعلاما عالية المنار واضحة الأنوار. وأنجز له عداته فى عداته، وجعل النصر والتوفيق مصاحبين لآرائه وراياته. وأناله النصر الذى يغنيه عن الحيلة والحول، وعقد السعد بعرا «1» ما يمضيه من الفعل والقول، وبوّأ أولياءه جنّة من النصر ما فيها غائلة وجنّة من العزّ ما فيها غول. وقصم بمهابته كلّ جبّار عنيد، وعصم كلّ من يأوى من رجائه إلى ركن شديد. وآتاه من التأييد سلطانا نصيرا، وجعل جيشه أكثر قوى وأقوى نفيرا. ولا زالت الآمال بسحابه مخضرّة الرّبا والوهاد، والتأييد بتمكينه مناديا فى كلّ ناد، والدنيا بملكه مسرورة الأسرار «2» حالية الأجياد، والأقدار لأمره متكفّلة بالنفاد «3» .
وطرّز بأيامه ملابس السّير، وأحلّ أمره أعلى هضبات النصر والظّفر، وحلّى أجياد الممالك من عدله وبذله بأشرف الدّرر، ولا برح القدر يوافق قصوده «4» فيقول للقدر:(8/125)
«لقد جئت على قدر» . وأتمّ نعمته عليه كما أتمّها «1» ، وعمر بعدله الآفاق وعمّها، وأوضح مناهج كرمه لمن قصدها وأمّها، وأنجز عداته فى عداته فأصماها وأصمّها. وأتمّ نعمته عليه كما أتمها على أبويه من قبله، وحمى حمى الدين بنصره وفضله، وكسا الدنيا بملكه حلّة فخار معلمة بإحسانه وعدله، وجعل أقاليم الأرض معمورة بسلطانه مغمورة بعطائه وبذله.
ذكر شىء من إنشاء المولى الماجد السالك
من طريقى الفضل والفضائل أوضح الطرق وأنهج المسالك، المفصح بلسان براعته والموضح بأنوار بلاغته ما أبهم واستبهم من ليل العىّ الحالك، المتصرّف بقلمه وكلمه لوثوق «2» ملوك الإسلام بديانته وأمانته وأصالته ونزاهته فى الأقاليم والثغور والحصون والممالك، العامر بفضله وفضائله والغامر بجوده ونائله باطن وظاهر من أمّله وأمّ له من زائر وقاطن ومارّ وسالك؛ فينفصل هذا عن بابه وهو بجوده مغمور، وهذا عن مجلسه وقلبه بولائه لما أولاه من إحسانه معمور؛ وهذا وهو ينفق الجمل من ماله، وذاك وهو يجود على المعدم من فضل نواله؛ والآخر وقد امتلأ صدره سرورا، وأشرق وجهه بهجة ونورا؛ وانطلق لسانه من عقاله بعد تقييده، وانبسط أمله لطلب الفضائل لمّا ظفر بمعدنها بعد تعقيده «3» ؛ فتجده وقد اعتلق «4» منه جملا واعتنق جمالا، وأنفق الدّرر بعد ضنّه بالأصداف فهو لا يخشى عدما ولا يخاف إقلالا؛ والمولى المعنىّ(8/126)
بهذه المعالى التى ابتسمت ثغورها، وتحلّت نحورها؛ والمكارم التى جادت سحائبها وامتدّت مذانبها «1» ، وترادفت مواهبها، واتّسعت مذاهبها؛ والفضائل التى لجنابه الكريم تعزى ولفضله العميم تنتسب، والسيادة التى شادها لنفسه لاستغنائه عمّا مهدته له آباؤه النّجب، والمراد بهذه الأوصاف التى
خلّيت والحسن تأخذه ... تنتقى منه وتنتخب «2»
هو لسان الدولة ويمينها، وسفير المملكة وأمينها؛ وجامع أشتات الفضائل، وناظم أخبار الأواخر وسير الأوائل؛ وسيّد الرؤساء وجليس الملوك، ومؤلّف كتاب نظم السلوك؛ المولى المالك علاء الدين علىّ ابن المولى المرحوم فتح الدين محمد ابن المولى المرحوم محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر، ذو الفضائل والمآثر، والنسب العريق والأصل الطاهر، والسبب الوثيق والفضل الباهر؛ فهذه نبذة من أوصافه أثبتناها، ولمعة من محاسنه أوردناها، أسام لم تزده معرفة وإنما لذّة ذكرناها؛ وله- أعزّه الله وأوفر نعمه لديه، وأتمّ نعمته عليه كما أتمها على أبويه؛ وأرانا فى نجله الكريم ما رأيناه فى سلفه وفيه، وأنطق الواصف لمحاسنهم بملء فيه- من الرسائل البليغه، والتّقاليد البديعه؛ والعهود التى عاهدتها البلاغة ألا تتعدّاها فوفت بعهدها، وأقسمت معانيها أنها لم تقصد سواه من قبل لعلمها أنّ غيره لا يوفّيها حقّ قصدها؛ وسنورد إن شاء الله من كلامه ما هو بالنسبة الى مجموعه نبذة يسيره، ونرصّع فى كتابنا هذا من فضائله لمعة خطيره؛ ونرفع بما نضعه فيه من كلامه قدر هذا التصنيف، ونطرّز به(8/127)
أردان هذا التأليف، ولا نحتاج إلى التعريف بمكانه وتمكّنه من هذه الصناعة فالشمس تستغنى عن التعريف؛ ونحن الآن نعتذر من التقصير فى الانتهاء إلى وصف محاسنه، ونعترف بالعجز عن إدراك كنه مناقبه الشريفة وميامنه؛ ونأخذ فى ذكر كلامه لنمحو ذنب التقصير بحسن الإخبار «1» ، ونسأل الصفح عن اختصارنا واجب حقّه ونرجو قبول كلمات الاعتذار فمن إنشائه ما كتبه عن الخليفة المستكفى بالله أبى الربيع سليمان- جمّل الله به الدين، وأيّد ببقائه الإسلام والمسلمين- للسلطان الملك المظفّر ركن الدين بيبرس المنصورىّ فى شوّال سنة ثمان وسبعمائة، ابتدأه بأن قال:
هذا عقد شريف انتظمت به عقود مصالح الممالك، وابتسمت ثغور الثغور ببيعته التى شهدت بصحّتها الكرام الملائك؛ وتمسّكت النفوس بمحكم عقده النّضيد ومبرم عهده «2» النظيم، ووثقت الآمال ببركة ميثاقه فتقرأه الألسنة مستفتحة فيه بقول الله الكريم: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذى جعل الملّة الإسلاميّة تأوى من سلطانها الى ركن شديد، وتحوى من مبايعة «3» مظفّرها كلّ ما كانت ترومه من تأييد التأييد، وتروى أحاديث النصر عن ملك لا يملّ من نصرة الدّين الحنيفىّ وإن ملّ الحديد من الحديد؛ مؤتى ملكه من يشاء من عباده وملقى مقاليده للولىّ الملىّ «4» بقمع أهل عناده؛ ومانحه من لم يزل بعزائمه ومكارمه(8/128)
مرهوبا مرغوبا، وموليه [ومولّيه «1» ] من غدا محبوّا من الأنام بواجب الطاعة محبوبا وباسط أيدى الرغبات لمن حكم له كمال وصفه ووصف كماله بأن يكون مسئولا مخطوبا ومفوّض «2» أمره ونهيه إلى من طالما صرف خطّيّه عن حمى الدين أخطارا وخطوبا؛ والحمد لله مجرى الأقدار برفع الأقدار، ومظهر سرّ الملك فيمن أضحى عند الإمامة العباسيّة بحسن الاختبار من المصطفين الأخيار، جامع أشتات الفخار، ورافع لواء الاستظهار «3» ، ودافع لاواء «4» الأضرار، بجميل الالتجاء الى ركن أمسى بقوّة الله تعالى عالى المنار وافى المبارّ، بادى الآثار الجميلة فى «5» الإيثار؛ والحمد لله على أن قلّد أمور السلطنة الشريفة لكافلها وكافيها، وأسند عقدها وحلّها لمن يدرك بكريم فطنته وسليم فطرته عواقب الأمور من مباديها، وأيّد الكتائب الإيمانيّة بمن لم تزل عواليه تبلّغها من ذرا الأمانىّ معاليها؛ يحمده أمير المؤمنين على إعلاء كلمة الإيمان بأعيان أعوانها، وإعزاز نصرها بأركان تشييدها وتشييد أركانها؛ ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة [لا] تبرح الألسن ترويها، والقلوب تنويها، والمواهب تجزل لقائلها تنويلا وتنويها؛ ويشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أكمل نبىّ وأفضل مبعوث، وأشرف مورّث لأجلّ موروث؛ صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة تنمو بركاتها وتنمّ «6» ، وتخصّ حسناتها وتعمّ؛ ورضى الله عن عمّه العباس بن عبد المطلب جدّ أمير المؤمنين، وعن أبنائه الأئمّة المهديّين؛ الذين ورثوا الخلافة كابرا عن كابر، وسمت ووسمت بأسمائهم ونعوتهم(8/129)
ذرا المنابر؛ أما بعد، فإن الله تعالى لمّا عدق «1» لمولانا أمير المؤمنين مصالح الجمهور وعقد له البيعة فى أعناق أهل الإيمان فزادتهم نورا على نور؛ وأورثه عن أسلافه الطاهرين إمامة خير أمّه، وكشف بمصابرته من بأس العدا غمام كلّ غمّه؛ وأنزل عليه السكينة فى مواطن النصر والفتح المبين، وثبّته عند تزلزل الأقدام وثبّت به قلوب المؤمنين؛ وأفاض عليه من مهابة الخلافة ومواهبها ما هو من أهله، وأتمّ نعمته عليه كما أتمّها على أبويه من قبله؛ بايع الله تعالى على أن يختار للتمليك على البرايا، والتحكيم فى الممالك والرّعايا؛ من أسّس بنيانه على التقوى، وتمسّك من خشية الله سبحانه بالسبب الأقوى؛ ووقف عند أوامر الشرع الشريف فى قضائه وحكمه، ونهض لأداء فرض الجهاد بمعالى عزمه وحزمه؛ وكان المقام الأشرف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ المظفّرىّ الركنىّ، سلطان الإسلام والمسلمين، سيّد الملوك والسلاطين؛ ناصر الملّة المحمّديّه، محيى الدولة العباسيّه (أبو الفتح بيبرس) قسيم أمير المؤمنين- أعزّ الله تعالى ببقائه حمى الخلافة وقد فعل، وبلغ فى دوام دولته الأمل- هو الملك الذى انعقد الإجماع على تفضيله، وشهدت مناقبه الطاهرة باستحقاقه لتحويل الملك [اليه «2» ] وتخويله؛ وحكم التوفيق والاتفاق بترقّيه إلى كرسىّ السلطنة وصعوده، وقضت الأقدار بأن يلقى اليه أمير المؤمنين أزمّة عهوده؛ والذى كم خفقت قلوب الأعادى عند رؤية رايات نصره، ونطقت ألسنة الأقدار بأن سيكون مليك عصره وعزيز مصره؛ واهتزّت أعطاف المنابر شوقا للافتخار باسمه، واعتزّت الممالك بمن زاده الله بسطة فى علمه وجسمه؛ وهو الذى ما برح(8/130)
مذ نشأ يجاهد فى الله حقّ جهاده، ويساعد فى كل معركة بمرهفات سيوفه ومتلفات صعاده، ويبدى فى الهيجاء صفحته للصّفاح فيقيه الله ويبقيه ليجعله ظلّه فى الأرض على عباده وبلاده، فيردى الأعداء فى مواقف تأييده فكم عفّر من خدّ لملوك الكفر تحت سنابك جياده؛ ويشفى بصدور سيوفه صدور قوم مؤمنين، ويسقى ظماء أسنّته فيرويها من مورد ورود «1» المشركين؛ ويطلع فى «2» سماء الملك من غرر رأيه نيّرات لا تأفل ولا تغور، ويظهر من مواهبه ومهابته ما تحسّن به انمالك وتحصّن به الثغور؛ فما من حصن أغلقه «3» الكفر إلا وسيفه مفتاحه، ولا ليل خطب دجا إلا وغرّته الميمونة صباحه، ولا عزّ أمل لأهل الإسلام إلّا وكان فى رأيه المسدّد نجاحه، ولا حصل خلل فى قطر «4» من الممالك إلّا وكان بمشيئة الله تعالى وبسداد تدبيره صلاحه؛ ولا اتّفق مشهد غزو إلا والملائكة بمضافرته فيه أعدل شهود، ولا تجدّد فتوح للإسلام إلا جاد فيه بنفسه وأجاد، «والجود بالنفس أقصى غاية الجود» كم أسلف فى غزو الأعداء من يوم أغرّ محجّل، وأنفق ماله ابتغاء مرضات الله فحاز النصر المعجّل والأجر(8/131)
المؤجّل؛ وأحيا من معالم العلوم ودوارس المدارس كلّ داثر، وحثّه إيمانه على عمارة بيوت الله تعالى الجامعة لكلّ تال وذاكر، «إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر» ؛ وهو الذى ما زالت الأولياء تتخيّل مخايل السلطنة فى أعطافه معنى وصوره، والأعداء يرومون إطفاء ما أفاضه الله عليه من أشعّة أنواره «ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره» ؛ طالما تطاولت إليه أعناق الممالك فأعرض عنها جانبا، وتطفّلت «1» عليه «2» فغدا لها رعاية لذمّة الوفاء مجانبا؛ حتى أذن الله سبحانه لكلمة سلطانه أن ترفع وحكم له بالصعود فى درج الملك الى المحلّ الأعلى والمكان الأرفع، وأدّى له من المواهب ما هو على اسمه فى ذخائر الغيوب مستودع؛ فعند ذلك استخار الله تعالى سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين (المستكفى بالله) جعل الله الخلافة [كلمة «3» ] باقية فى عقبه، وأمتع الإسلام والمسلمين بشريفى حسبه ونسبه- وعهد إلى المقام العالى السلطانىّ بكلّ ما وراء سرير خلافته، وقلّده جميع ما هو متقلّده من أحكام إمامته؛ وبسط يده فى السلطنة المعظّمه، وجعل أوامره هى النافذة وأحكامه [هى «4» ] المحكّمه؛ وذلك بالدّيار المصريّة والممالك الشاميّه، والفراتيّة والحلبيّة «5» والساحليّه، والقلاع والثغور المحروسة والبلاد الحجازيّة واليمانيّه؛ وكلّ ما هو من الممالك الإسلاميّة الى خلافة أمير المؤمنين منسوب، وفى أقطار إمامته محسوب؛ وألقى إلى أوامره أزمّة البسط والقبض(8/132)
والإبرام والنقض، والرفع والخفض، وما جعله الله فى يده من حكم الأرض، ومن إقامة سنّة وفرض؛ وفى كلّ هبة وتمليك، وتصرّف فى ولاية أمير «1» المؤمنين من غير شريك؛ وفى تولية القضاة والحكام، وفصل القضايا والأحكام؛ وفى سائر التّحكّم فى الوجود، وعقد الألوية والبنود، وتجنيد الكتائب والجنود، وتجهيز الجيوش الإسلامية فى التأييد لكلّ مقام محمود؛ وفى قهر الأعداء الذين نرجو بقوّة الله تعالى أن يمكّنه من نواصيهم، ويحكّم قواضبه فى استنزالهم من صياصيهم، واستئصال شأفة عاصيهم؛ حتى يمحو الله بمصابيح سيوفه سواد خطوب الشّرك المدلهمّه، وتغدو سراياه فى اقتلاع قلاع الكفر مستهمّه «2» ؛ وترهبهم خيل بعوثه وخيالها فى اليقظة والمنام، ويدخل فى أيّامه أهل الإسلام مدينة السلام بسلام؛ تفويضا تامّا عامّا منضّدا منظّما، محكما محكّما؛ أقامه مولانا أمير المؤمنين فى ذلك مقام نفسه الشريفه، واستشهد الكرام الكاتبين فى ثبوت هذه البيعة المنيفه؛ فليتقلّد المقام الأشرف السلطانىّ- أعزّ الله نصره- عقد هذا العهد الذى لا تطمح لمثله الآمال، وليستمسك منه بالعروة الوثقى التى لا انفصام لها ولا انفصال؛ فقد عوّل أمير المؤمنين على يمن أرائك «3» التى ما برحت الأمّة بها فى المعضلات تستشفى، واستكفى بكفايتك وكفالتك فى حياطة الملك فأضحى وهو بذلك (المستكفى) ؛ وهو يقصّ عليك من أنباء الوصايا أحسن القصص، وينصّ لديك ما أنت آخذ منه بالعزائم اذا أخذ(8/133)
غيرك فيه بالرّخص؛ فإن نبّهت على التقوى فطالما تمسّكت منها بأوثق عروه، وإن هديت الى سبيل الرشاد فما زلت ترقى منه أشرف ذروه؛ وإن استرهفنا «1» عزمك الماضى الغرار، واستدعينا حزمك الذى أضاء به دهرك وأنار «2» واستنار؛ فى إقامة منار الشرع الشريف، والوقوف عند أمره ونهيه فى كل حكم وتصريف؛ فما زلت- خلّد الله سلطانك- قائما بسننه وفرضه، دائبا فى رضى الله تعالى بإصلاح عقائد عباده فى أرضه؛ وما برح سيفك المظفّر للأحكام الشرعيّة خادما، ولموادّ الباطل حاسما، ولأنوف ذوى الزّيغ والبدع مرغما؛ وكلّ ما نوصيك به من الخير فقد جبلت عليه طباعك، ولم يزل مشتدّا فيه ساعدك ممتدّا إليه باعك؛ غير أننا نورد لمعة اقتضاها أمر الله تعالى فى الاقتداء بالتذكرة فى كتابه المبين، وأوجبها نصّ قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
، ويندرج تحت أصولها فروع يستغنى بدقيق ذهنه الشريف عن نصّها، وبفكره الثاقب عن قصّها؛ فأعظمها للملّة نفعا، وأكثرها للباطل دفعا؛ الشرع الشريف، فليكن- أعزّ الله نصره- عاملا على تشييد قواعد أحكامه، وتنفيذ أوامر حكّامه؛ فالسعيد من قرن أمره بأمره، ورضى فيه بحلو الحق ومرّه؛ والعدل، فلينشر لواءه حتى يأوى اليه الخائف وينكفّ بردعه حيف كلّ حائف؛ ويتساوى فى ظلّه الغنىّ والفقير، والمأمور والأمير؛ ويمسى الظلم فى أيامك وقد خمدت ناره، وعفت آثاره؛ وأهمّ ما احتفلت به العزائم، واشتملت عليه همم الملوك العظائم «3» ، وأشرعت له الأسنّة وأرهفت من أجله الصوارم؛ أمر الجهاد الذى جعله الله سبحانه حصنا للإسلام وجنّه، واشترى(8/134)
فيه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة؛ فجنّد له الجنود وجمّع له الكتائب واقض فى مواقفه على الأعداء من بأسك بالقواضى القواضب؛ واغزهم فى عقر الدار، وأرهف سيفك البتّار، لتأخذ منهم للمسلمين بالثار؛ والثغور والحصون، فهى سرّ الملك المصون، وهى معاقل النفوس «اذا دارت رحى الحرب الزّبون «1» » ؛ فلتقلّد أمرها لكفاتها، وتحصّن حماها بحماتها، وتضاعف لمن بها أسباب قوّتها ومادّة أقواتها؛ وأمراء الإسلام، وجنود الإيمان، فهم أولياء نصرك، وحفظة شامك ومصرك؛ وحزبك الغالب، وفريقك الذى تفرق منه قلوب العدوّ فى المشارق والمغارب؛ فليكن المقام العالى السلطانىّ- نصره الله تعالى- لأحوالهم متفقّدا وببسط وجهه لهم متودّدا؛ حتى تتأكّد لمقامه العالى طاعتهم، وتتجدّد لسلطانه العزيز ضراعتهم؛ وأما غير ذلك من المصالح فما برح تدبيره الجميل لها ينفّذ ورأيه الأصيل بها يشير، ولا يحتاج مع علمه بغوامضها الى إيضاحها «ولا ينبئّك مثل خبير» والله تعالى يخصّ دولته من العدل والإحسان بأوفر نصيب، ويمنح سلطانه ما يرجوه من النصر المعجّل والفتح القريب؛ بمنّه وكرمه.
وكتب تقليدا مظفّريّا للأمير سيف الدين سلار المنصورىّ بنبابة السلطنة الشريفة
فى سنة ثمان وسبعمائة، وهو:
الحمد لله الذى شيّد ركن الإسلام بسيفه المنتضى، وجدّد للملك مزيد التأييد بكافله الذى ما برح وفاؤه للملوك الأواخر والأوائل مرتضى، وأنجز من وعوده الاتفاق والتوفيق ما كان من ذمّة الدهر مقتضى، جامع شمل الأوامر والنواهى بتفويضها(8/135)
الى من تبيت العدا من مهابته على جمر الغضى، ومنيل المنى بمواهبه التى تحوز موادّ الاختيار وتجوز أمد الرضا، وملقى مقاليد التدبير الى من أضحى جميل التأثير اذا تصرّف فى الرفع والخفض حكم القضا، ومصرّف أزمّة الأمور فى يد من غدا ثابت العزمات فى الأزمات، فما أظلم خطب إلا انجلى بمصابيح آرائه وأضا؛ نحمده على أن عضّد دولتنا بالكافل الكافى الذى اختاره الله لنا على علم، ومنح أيّامنا موالاة الولىّ الذى جمعت فيه خلّتان يحبّهما الله ورسوله: وهما الأناة والحلم؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مشرقة الأنوار، مغدقة سحبها بأنواء المنن الغزاز؛ ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى بعثه الله لإقامة شعائر الإيمان، وخصّ ملّته فى الدنيا والآخرة باليمن والأمان؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من أضحى بفضل السّبق للإيمان به صدّيقه وصديقه، وأمسى لفرط الألفة أنيسه فى الغار ورفيقه؛ ومنهم من ضافره فى إظهار النبوّة ووازره «1» ، وظاهره على إقامة منارها بإطفاء كل تائرة وإخماد كلّ نائره «2» ؛ ومنهم من ساعد وساعف فى تجهيز جيش العسره «3» ، وأحسن وحسّن مع إخوانه المؤمنين الصحبة والعشره؛ ومنهم من كان سيفه الماضى الحدّ، ومهنّده الذى كم فلّ بين يديه الجموع فما اعترض إلا قطّ «4» ولا اعتلى إلا قدّ؛ وسلّم تسليما كثيرا؛ أما بعد، فان الله تعالى لما هنّأ لنا مواهب الظّفر، وهيّأ لنا من الملك موادّ إدراك المنى وبلوغ الوطر، وأيدنا من أنصارنا بكلّ ذى فعل أبرّ ووجه أغرّ؛ وشدّ أزرنا بمضافرة سيف يزهى الملك بتقليده، وأمدّنا بمؤازر تتصرّف المنى والمنون(8/136)
بين وعده ووعيده؛ وجب علينا أن نحوط دولتنا بمن لم تزل حقوق مودّته بحسن الثناء حقيقه، وعهود محبّته فى ذمام الوفاء متمكّنة وثيقه، وطريقته المثلى فى المحاسن والإحسان مشهورة ولا نرى مثلا لتلك الطريقه؛ وتقلّد كفالة ممالكنا للولىّ الذى ما برح يتلقّى أمورنا بفسيح صدره، ويتوقّى حدوث كلّ ما نكرهه فينهض فى دفعه بصائب رأيه وثاقب فكره؛ وكان الجناب الكريم العالى الأميرىّ الكبيرىّ العالمىّ العادلىّ الكافلىّ المؤيّدىّ الزعيمىّ الغياثىّ «1» المسندىّ الممهّدىّ المثاغرىّ المظفّرىّ المنصورىّ السّيفىّ، معزّ الإسلام والمسلمين، سيّد أمراء العالمين؛ سند الممالك، مدبّر الدّول، مقدّم العساكر، أمير الجيوش، كهف الله، حصن الأمّة، نصرة الملوك والسلاطين، (سلار المنصورىّ) نائب السلطنة المعظّمة، وكافل الممالك الاسلامية،- أعز الله نصره- هو واسطة عقد الأولياء، وسيف الدولة الفاتك بالأعداء، والذى أسلف فى نصرة الإسلام حقوقا غدت مرقومة فى صحف الفخار، واستأنف فى مصالح الأمّة المحمديّة تدبيرات أظهر بها أسباب التأييد على الأعداء والاستظهار؛ كم أصلح بيمن سياسته ذات البين، وكم أبهج ببركة تأتّيه «2» وتأنّيه كلّ قلب وأقرّ كلّ عين؛ وكم ساس من ملك فأضحى ثابت الأساس، وجعل شعاره دفعا للباس ونفعا للناس؛ ما عوهد إلا وأوفى، ولا عوند إلا وعفّ وعفا، ولا استشفى فى طبّ معضلة إلا وشفى، ولا استدرك تدبيره فارط «3» أمر كان على شفا؛ فما يومه فى الفضل بواحد، ولا أحد لمثل محاسنه الجميلة بواجد؛ لعزماته فى مواقف الجهاد السوابق(8/137)
الغرّ المحجّله، ولتدبيراته فى مصالح العباد والبلاد المنافع المعجّلة والمؤجّله؛ وهو الذى خافت مهابته الكتائب، وأمّلت مواهبه الرغائب «1» ، ولعبت «2» سطواته للعدا خيالا فى المراقد وخيلا فى المراقب، وامتطى من الشهامة كاهلها فأحجم عنه لمّا أقدم كلّ محارب، وصدق من نعته بالسيف، فلو لم ينعت به لقيل: هذا سيف يفتك بالضّريبة ولا تفلّ له مضارب؛ وكم لقى بصدره الألوف من التتار- خذلهم الله- والمنايا قد بلغت من النفوس المنى، وأمضى سيفه فى الحروب وما شكا الضنى؛ وحمل حملة فرّق بها كلّ شمل للكفّار اجتمع، وقطع أعناق العدافى رضى الله تعالى ولا ينكر السيف إذا قطع؛ ووصل من العلياء إلى غاية تزاحم الكواكب بالمناكب، وتفرّد بأمر الجيوش فأضحى بدر الكتائب وصدر المواكب؛ إذا جاش الجيش ثبت عند مشتجر الرماح، وإذا أظلم ليل النّقع وضحت أسارير جبينه وضوح الصباح، وإذا أقدم فى كتيبة «رأيت البرّ بحرا من سلاح» واذا رفعت راياته يوم الوغى كبّرت بالظّفر على ألسنة الرماح، وإذا كان فى جحفل كانت عزائمه للقلب قلبا وصوارمه جناحا للجناح، وإذا قدر فى السلم عفا لكنه فى الحرب قليل الصفح بيّن الصّفاح؛ وهو الذى ما برحت أيدى انتقامه تهدم من أهل الشرك العمائر والأعمار، وبروق سيوفه تذهب بالنفوس لا بالأبصار، ويمن يمينه وصبح جبينة هذا يستهلّ بالأنواء وذا بالأنوار؛ اقتضى حسن الرأى الشريف أن نوفى حقوق مودّته التى أسلفها لنا فى كل نعمى وبوسى، وأن نضاعف علوّ مكانه من أخوّتنا ليكون منا كهرون(8/138)
من موسى؛ فلذلك رسم بالأمر الشريف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ المظفّرىّ الركنى- لا برح يوفى بعهود الأولياء ويفى، ويمنح من أخلص النّية فى ولائه البرّ الخفىّ والفضل الحفى- أن تكون كلمة الجناب الكريم العالى الأميرىّ السيفىّ المشار إليه- أعزّ الله نصره- نافذة فى كفالة الممالك الإسلاميّة، متحكّمة فى نيابة السلطنة المعظّمة، وأوامره المطاعة فى إمرة الجيوش وحياطة الثغور التى غدت بدوام كفالته متبسّمة؛ على أجمل عوائده «1» ، وأكمل قواعده؛ نيابة ثابتة الأساس، نامية الغراس؛ لا يضاهى فيها ولا يشارك، ولا يخرج شىء من أحوالها عن رأيه المبارك؛ فليبسط نهيه وأمره فى التدبير والإحكام، وليضبط الممالك حتى لا تسامى ولا تسام؛ وليطلع من آرائه فى سماء الملك نجوما بها فى المصالح يهتدى، وليرفع من قواعده ما يخفض به قدر العدا؛ وليضاعف ما ألفته الأمّة من عدله، وليجر على أكرم عاداته من نشر إنصافه وشمول فضله، وليعضّد جانب الشرع المطهّر فى عقده وحلّه، وتحريمه وحلّه؛ ولينفذ كلمته على ما هو من ديانته مألوف، وليستكثر من الافتداء بأحكامه فى النهى عن المنكر والأمر بالمعروف؛ وأمراء الإسلام وجنوده، فهم ودائع سرّه، وصنائع شكره، وطلائع نصره، وما منهم إلا من غذى بلبان «2» درّه، وغدا [من «3» ] ثناء «4» عصره متقلدا لعقود درّه؛ فليستخدم حنوّه عليهم وإشفاقه، وليوال إليهم برّه وإرفاده وإرفاقه؛ والوصايا كثيرة لكنها منه تستملى، والتنبيهات على المصالح منه تستفاد نقلا وعقلا، وما زلنا نستضئ فى المهمّات بيمن آرائه التى جمعت للمصالح شملا؛ فمثله لا يدلّ على صواب وهو المتفرّد بالسداد، والخبير بتفريج كرب الخطوب والسيوف(8/139)
غامضة الجفون فى الأغماد؛ والله تعالى يمتعنا من بركة كفالته بالخلّ الموافى «1» والأخ المواسى، ويشدّ أزر سلطاننا من مضافرته بمن أمسى جبل الحلوم «2» الرواسى؛ إن شاء الله تعالى.
ومن انشائه أيضا أعزه الله تعالى مقامة عملها فى سنة اثنتين وسبعمائة،
على لسان من التمسها منه، فقال:
حكى أليف الغرام، وحليف السّقام؛ وقتيل العيون، وصريع الجفون؛ وفريسة الأسود، والمصاب بنبال الحدق السود؛ عن قصّته فى هواه، وقضيته التى كان فى أوّلها غناه، وفى آخرها عناه «3» ؛ قال: لم أزل فى مدّة العمر أترقّب حبيبا أتلذّذ بحبّه، وأتنعّم بقربه؛ وأحيا بانعطافه، وأسكر من ريقه بسلافه؛ وأستعذب العذاب فيه، وأرشف خمر الرضاب من فيه، وأقتطف ورد السرور من وجنتيه وأجتنيه؛ وأكتسى به لطفا، وأكتسب بمصاحبته ظرفا؛ حتى ظفرت يداى بمن رقّ وراق، ولطفت حدائق معانيه حتى كادت تخفى عن الأحداق
لطفت معانيه فهبّ مع الصّبا ... ورقيبه بهبوبه لا يعرف
قد جمع أوصاف المحاسن والمعانى، وفاق كلّ مليح فليس له فى الحسن ثانى؛ أما قوامه، فقد ملك الفؤاد فأضحى ملكا عادلا، واستباح النفوس من اعتداله فلا غرو إن أضحى لها قاتلا(8/140)
عجبا لقدّك ما ترنّح مائلا ... إلا وقد سلب الغصون شمائلا
وأما لحاظه فقد غنيت عن الكحل بالكحل، وأذابت حبّات القلوب فى حبّ تلك المقل
وإذا رأيت الطرف يعمل فى الحشا ... عمل الأسنّة فالقوام مثقّف
إلى غير ذلك من وجه كالبدر فى تمامه، يعلوه من شعره ما يصير به كالبدر تحت غمامه
قمر تبلّج وجهه فى حندس ... من شعره فأضاء منه الحندس
ومقبّل أشهى من الراح، وأعطر من زهر الربا تفتّحت أكمامه عند الصباح
ومقبّل عذب كأنّ ... رضابه برد وراح
وخدّ أمسى شقيق الشّقيق «1» ، ومبسم يرشف من شفاهه العقيق الرحيق
شفة كمحمرّ العقيق ... ومبسم مثل الأقاح «2»
وصدغ سال على خدّه القانى، وامتدّ كدمع محبّه الأسير العانى
صبّ له دمع كصدغك سائل ... فعساك يا مثرى الجمال تواسى
وخصر لطف ودقّ، وعلاه كثيب ردف فأثقله حتى ضنى ورقّ
يا ردفه رفقا على خصره ... بينكما حرمة جيران
الى غير ذلك من أنواع حسن قصر عن وصفها قلمى، وعجز عن حصرها كلمى؛ وأشفقت من شرحها خوفا أن أنمّ عليه، أو أذكر ما تفرّد به من الحسن فأكون(8/141)
قد أشرت اليه؛ وأنا قد تدرّعت ثوب الكتمان، وتستّرت حتى غاض من الدمع وأغضى الطرف وسكت اللسان
يقولون من هذا الذى متّ فى الهوى ... به كلفا يا ربّ لا علموا الذى
غير أنّى قد متعت بذكر ملاحته فؤادى، ولا بدّ أن أوردها مجملة لأكمد «1» بلفظها «2» المعادى
حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلّا وجنتاه وريقه
هلال ولكن أفق قلبى محلّه ... غزال ولكن سفح عينى عقيقه
بديع التثنّى راح قلبى أسيره ... على أن دمعى فى الغرام طليقه
أقرّ له من كل حسن جليله ... ووافقه من كل معنى دقيقه
من التّرك لا يصبيه وجد إلى الحمى ... ولا ذكر بانات الغوير «3» يشوقه
ولا حلّ فى حىّ تلوح قبابه ... ولا ساق فى ركب يساق وسيقه «4»
ولا بات صبّا للفريق «5» وأهله ... ولكن إلى خاقان يعزى فريقه
يهدّد منه الطرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الريق من لا يذوقه
على خدّه جمر من الحسن مضرم ... يشبّ ولكن فى فؤادى حريقه
له مبسم ينسى المدام بريقه ... ويخجل نوّار الأقاحى بريقه(8/142)
قال الراوى: فأعلمته ما خامر قلبى من هواه، وبذلت نفسى ابتغاء لرضاه
بثثت له سرّى ونحن بروضة ... فمالت لتصغى للحديث غصون
فتلقّى ضراعتى بالرّحب والإقبال، وسفر عن وجه الرضا فبشّرت نفسى ببلوغ الآمال؛ وقلت «1» :
تذلّلت فى الشكوى إليه فرقّ لى ... حنوّا لدمعى فى الهوى وتذلّلى
غزال لبست السّقم خلعة جفنه ... على أننى فيه خلعت تجمّلى
تعدّل بالأعذار حتى خدعته ... بسحر الرّقى أفديه من متعلّل
فراقب إغفاء الرقيب وهجعة السّمير ... وراعى حين غفلة عذّلى
ووافى أخا الأشواق حلف صبابة ... أسير هوى من وجده فى تململ
فلم أر روضا كان أحسن بهجة ... - لعمر الهوى- من وجهه المتهلّل
فأعظمت مسراه وقبّلت خاضعا ... ثرى خطوه شكرا الفضل التطوّل
وانعطف علىّ انعطاف الغصن الرطيب، وتمازجت قلوبنا حتى أشكل علىّ أينا «2» الحبيب؛ وفزت منه ببديع جمال تلذّ به النفوس، ورشفت من رضابه أحلى ما ترشفه الأفواه من شفاه الكؤوس
تعلّقته صائدا للقلوب ... بألحاظه سالبا للنّهى
بديع الجمال إذا ما بدا ... ترى فيه للعين مستنزها «3»
فكم فيه للعين من روضة ... وكم فيه للنفس من مشتهى(8/143)
يا حسنه لمّا أتى بوعد وعلى غير وعد، ويا لذاذة قربه ويا حرارة ما ذقناه بعدها من هجر وصدّ؛ فلم نزل على ذلك مدّة أغفى الدهر عنّا فيها، أقضّى حياة طابت تلذّذا وترفيها
رعى الله محبوبا نعمت بوصله ... وقد بعدت عنّا الغداة عيون
حتى شعر بنا الدهر الخؤون، ورمانى بسهم فرقة أبعدت المنى وجلبت المنون؛ وعلم بما كتمناه الرقيب، وعجز عن داء قلبى الطبيب
لو كان للعشاق حظّ فى الهوى ... ما كان يخلق فى الزمان فراق
فتجرّعت بعد الشّهد علقما، ولم أستطع أفتح «1» من الحزن فما؛ وهمت فى ساحة الشوق والالتياح «2» ، وفضحتنى الأدمع التى طال بها على المحبّين الافتضاح
لا جزى الله دمع عينىّ خيرا ... وجزى الله كلّ خير لسانى
نمّ دمعى فليس يكتم شيئا ... ووجدت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طىّ ... فاستدلّوا عليه بالعنوان
فاذا هو مرّ المذاق، وأمنع الدمع فيقول: وهل خبأتنى لأعظم من يوم الفراق
أبى الوجد أن يخفيه قلب متيّم ... يكابده والدمع يبديه والضّنى(8/144)
وكم ذاب القلب حسره، وتفتّتت الكبد فى تلك الفتره؛ على خلوة أبثّ فيها حزنى، وأفسح فيها المجال الذى ضاق به عطنى؛ فلم أظفر بخلوة فى لمحة بصر، ولا فزت بذكر كلمة أفرّج بها ما عرض من حصر
تعرّضت من شوق إليه فأعرضا ... ولولا الهوى لم أمنح الحبّ مبغضا
وبحت إليه أنّ عندى رياضة «1» ... عليه وما تلك الرّياضة عن رضا
قضى حبّه أنّى إذا عزّ فى الهوى ... أذلّ وإنى قد رضيت بما قضى
لقلبى من عينيه سقم وصحّة ... فكم مرّة فى الحبّ داوى وأمرضا
مضى لى به عيش بكيت لفقده ... وهيهات أن يرتدّ عيش إذا مضى
وبليت «2» برقيب قد سلب الله من قلبه الإيمان، وسلّطه علىّ بغلظ الطباع وفظاظة اللسان؛ كأنه شيطان لا بل هو بعينه، لكنّه أربى عليه فى بهتانه ومينه؛ يحاقّ «3» على الكلمة الواحده، ولا يسمح بأن طرفى يمتدّ إلى تلك المحاسن التى غدت القلوب بها واجده؛ يودّ لو غطّى على بصرى، ويبدلنى مغيبى من محضرى؛ لا يفتر عن اللّوم والعذل، ولا يرى أن يقضى ساعاته إلّا فى بذل الحيل؛ يرغب فى شتات شملى، وانقطاع وصلى؛ وليس لى فى دفعه حيله، ولا فى الانتقام منه وسيله؛ وما زال حتى أحال الحبيب عن وداده، وكدر ما صفا من حسن ظنّه واعتقاده؛ وأنا أروض نفسا كادت تذوب، وأتسلّى بأيام وصاله وأقول: لعلها ترجع وتؤوب
لئن ذقت مرّ الصبر أو ملح أدمعى ... لقد أعذبت تلك المذاقات منهلى(8/145)
فلم يقنع الدهر لى بذلك، ولا رضى بالصدّ والعذل والهجر الذى هو أعظم المهالك؛ حتى قضى بالفرقة والبعاد، ورمتنى النوى بسهم فلم يخطئ الفؤاد؛ وكنت أتعلّل بالنظر، وأقول: مشاهدة هذا الوجه القمرىّ عندى أكبر وطر؛ حتى منعت الوصال والمشاهده، وندبت قلبى القريح بأدمع عينى الجامده
أحباب قلبى لقد قاسيت بعدكم ... نوائبا صيرتنى فى الهوى مثلا
وقد تعجّبت أنّى بعد فرقتكم ... أحيا وأيسر ما لاقيت «1» ما قتلا
وانقطعت عنّى الرسائل، وذهبت لذاذة ما اعتدته من تلك الوسائل
هل مخبر عنكم يعيش بقربه ... ميت الرجا والصبر بعد إياس
أحبابنا قسما بساعة وصلنا ... لم أكتحل من بعدكم بنعاس
غبتم فعندى بالفراق مآتم ... فمتى تعود بعودكم أعراسى
وذوى غصن السرور بعد أن كان رطيبا، وفقدت لنداء ألمى مجيبا؛ وأغلقت باب الدّعه، وأسبلت هواطل أدمعى قائلا للأجفان: لا تخشى فأنت متفقة من سعه؛ ولولا التعلّل بالذكرى، والتأمّل «2» فى حسنه «3» الذى تشكّل فى مرآة القلب فسرّ سرّا؛ لقلت:
كأنّك قد ختمت على ضميرى ... فغيرك لا يمر على لسانى
ولى عين تراك وأنت تنآى ... كما ترنو إليك وأنت دانى
وأقرب ما يكون هواك منّى ... إذا ما غاب شخصك عن عيانى(8/146)
شغلت عن الورى بصرى وسمعى ... كأنهما بحبّك مفردان
فهأنا لا أعاين ما بدا لى ... سواك ولا أصيخ لمن دعانى
ثم إنّى فارقت الحياه، وبذلتها راغبا فى هواه؛ ولم أزل كذلك الى أن ظهرت آثار قربه، وسرى النسيم عطرا فعلمت قرب ركبه
وأذكرنى ذاك الصّبا «1» زمن الصّبا ... وما الشوق إلا ما تجدّد بالذكر
فكاد قلبى يطير للقائه، ولولا تستّره بحجب الفؤاد لخرج من قوّة برحائه؛ وتذكرت كيف يكون اللقاء والاجتماع، والرقباء قد أزمعوا على المنع والدّفاع، وقلت: فارقنى على غير رضا، وجفانى من غير ذنب، ونآى عنّى من غير وداع؛ وهأنا فى غيابه وحضوره، وسخطه وسروره؛ لا أحول عن ودّه، ولا أرى إلا الوفاء بعهده
هيهات ما وجدى عليك بزائل ... فإلام يطنب فى الملامة عاذلى
ناشدتك العهد القديم ومنا ... بلوى الصّريم وبانه المتمايل «2»
هل تعلمنّ سوى هواك وسيلة ... تدنى رضاك وقد جهلت وسائلى
أدنيتنى حتى إذا تيّمتنى ... بمحاسن ومعاطف «3» وشمائل
وبحسن وجه لو تجلّى فى الدجى ... سجد الصباح لضوئه المتكامل
ونواظر سحّارة لجفونها ... فضل الصناعة «4» لا لساكن بابل «5»(8/147)
ووقعت من قلبى بودّ قد جرى «1» ... مجرى دمى بجوانحى ومفاصلى
قاطعتنى وسمعت قول حواسدى ... وصرمت من بعد الوصال حبائلى «2»
ولرب ليل بتّ فيه مسهّدا ... فردا أسامر لوعتى وبلابلى
أطوى على حرّ الغرام أضالعا ... يطوين فيه «3» على قداح «4» النابل «5»
وهأنا أترقّب وصله، وأتوقّع عدله.
أتراه من جور الصبابة ينصف ... ويرقّ للعانى عليه ويعطف
صبّ يرى السّلوان عنه محرّما ... فله إليه تولّه وتلهّف
يا أهل كاظمة «6» وحقّ هواكم ... قسما بكم وبغيركم لا يحلف
مشتاقكم ألف الصبابة فيكم ... فكأنه لسواكم لا يعرف
فعدوه منكم بالوصال تعلّة ... ولكم بأن تعدوا الوصال ولا تفوا
وحياتكم «7» يرعاكم فى بعدكم ... ولقربكم فى بعدكم «8» يتشوّف(8/148)
وليس لى ما أمت به إلا صدق الغرام، والإقدام فى حبّه «1» على ارتكاب «2» الحمام
جدّد عهود تواصل وتلاق ... واستبق لى رمقا فليس بباق
واشفع إلى ما رقّ من ترف الصّبا ... من وجنتيك برقّة الأخلاق
ما حقّ ذى قلب صفا لك ودّه ... تقطيعه بقطيعه وفراق
مع ذا وذا كيف استهنت فكن أنا ال ... موثوق «3» بى مولاى فى الميثاق
قال الراوى: فسمع شكواى وما أشكى «4» ، وقابل رقّتى بجفوة بها القلب أنكى «5» والطرف أبكى؛ ولفق أعذارا، وأقسمت عليه أن يزور فلم ير لقسمى إبرارا هذا ما اتّفق إيراده من كلامه- أدام الله علوّه- فى هذا الموضع، وسنورد إن شاء الله من كلامه أيضا ما تقف عليه فى آخر فن الحيوان فى السفر الذى يليه إن شاء الله تعالى.
ذكر شىء من إنشاء المولى الفاضل الصدر الكبير الكامل؛ البارع الأصيل، الأوحد النبيل؛ تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى
هو الذى أتقن صناعة الأدب فى غرّة شبابه، وبرزّ على من اكتهل فى طلبها وشاب فى الترقّى الى رتبها، فما ظنّك بأترابه؛ وجارى «6» ذوى الفضل فى «7» الأقطار اليمنيّة(8/149)
فطلع مجلّى «1» الحلبة، وبارى نجباء الأفاضل بالمملكة التّعزّيّة «2» وكان المؤمّل «3» منهم بالنسبة إليه أرفعهم رتبه؛ وسما إلى سماء البلاغة فكان نجمها الزاهر، وارتقى إلى أفلاك البراعة فكان نيّرها الباهر، ورام من سواه الارتقاء إلى محلّه والمناوأة «4» لفضله فغدا وهو فى ذيول حيرته عاثر؛ فعند ذلك علموا عجزهم عن إدراك غاياته، واعترفوا بالتقصير عن مجاراته ومباراته؛ وحين لم يجد لفضله مجاريا، ولا عاين لفضائله مباريا؛ صار بها كالغريب وإن كان فى أهله ووطنه، والفريد «5» مع كثرة أبنائه وإخوان زمنه؛ فسمت «6» به نفسه إلى طلب العلوم من مظانّها، والاحتواء عليها فى إبّانها؛ واللّحاق بأعيان أهلها، والاختلاط بمن ارتدى بأردية فضلها؛ ورؤية من توشّح بقلائدها، وترشّح لبذل فوائدها ونظم فرائدها؛ ففارق الأقطار اليمنيّة وهى تسأله التأنّى، وتبذل لرضاه الرغبة والتمنّى؛ وهو لا يجيب مناديها ولا يعرّج على ناديها، ولا يميل الى حاضرها ولا ينظر الى باديها؛ وصرف وجهه عنها، ونفض يده منها؛ والتحق «7» بالديار(8/150)
المصريّه، وانبتّ «1» فى طلب العلوم بأجمل سريرة وأحسن سيرة وأخلص نيّه؛ فبلغ فيها «2» مناه، وأدرك بها ما تمنّاه؛ وغدا وثغر فصاحته بالعلوم أشنب، وبرد بلاغته بالآداب مذهب
تناهى علاء والشباب رداؤه ... فما ظنّكم بالفضل والرأس أشيب
ولما عاينه أعيان أهل هذا الوادى، وشاهدوه يبكّر فى طلب العلوم ويغادى؛ تلقّوه بالإكرام والترحيب، وقابلوه بالتبجيل والتقريب، وأنزلوه بالمحلّ الأرفع والفناء الخصيب؛ وعاملوه بمحض الوداد، وساواه شبابهم بالإخوة ومشايخهم بالأولاد؛ وخلطوه بالنفس والمال، وظهر له فى ابتداء أمره بقرائن الأحوال حسن المآل؛ فأصبح من عدول المصر، وأمسى وهو من أعيان العصر؛ فشكر عاقبة مسيره وحمد صباح سراه، وأجابه لسان الفضائل بالتّلبية لمّا دعاه؛ ثم ارتحل الى الشأم فجعل دمشق مقرّ وطنه، وموطن سكنه؛ ومحلّ استفادته وإفادته، ونهاية رحلته وغاية إرادته؛ فعامله أهلها بفوق «3» ما فى نفسه، فحمد يومه بها على أمسه؛ وغدا لأهل المصرين شاكرا، ولمناقبهم تاليا ولمحاسنهم ذاكرا؛ وله من النظم ما رقّت حواشيه، وراقت معانيه؛ ومن النثر ما عذب وصفا، وكمل بلاغة ولطفا؛ وحسن إعجازا، وتناسب صدورا وأعجازا؛ وقد قدّمنا من كلامه فى هذا الكتاب ما باسمه ترجمناه، ولفضائله نسبناه؛ مما تقف عليه فى مواضعه، وتغتذى بلبان مراضعه؛ فلنورد له(8/151)
فى هذا الباب غير ما تقدّم إيراده وما تأخّر، ونأخذ لتصنيفنا من بلاغته بالنصيب الأوفى والحظّ الأوفر.
فمن إنشائه كتاب عن الخليفة المستكفى بالله أمير المؤمنين أبى الربيع سليمان لملك «1» اليمن-
عمله تجربة لخاطره عند ما رسم بمكاتبته، ابتدأه بأن قال:
أما بعد حمد الله مانح القلوب السليمة هداها، ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبتداها؛ وموفّق من اختاره الى محجّة صواب لا يضلّ سالكها، ولا تظلم عند اختلاف الأمور العظام مسالكها؛ وملهم من اصطفاه اقتفاء آثار السنن النبويّه، والعمل بموجب القواعد الشرعيّه؛ والانتظام فى سلك من طوّقته الخلافة عقودها، وأفاضت على سدّته الجليلة برودها؛ وملّكته أقاصى البلاد، وناطت بأحكامه السديدة أمور العباد؛ وسارت تحت خوافق أعلامه الملوك الأكاسره، وسرت «2» بأحكامه النيّرة مناجح الدنيا ومصالح الآخره؛ وتبختر «3» كلّ منبر من ذكره فى ثوب من السيادة معلم، وتهلّلت من ألقابه الشريفة أسارير كلّ دينار ودرهم؛ يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببنى العباس منوطه، وجعلها كلمة باقية فى عقبه الى يوم(8/152)
القيامة محوطه؛ ويصلّى على ابن عمه محمد الذى أحمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن، وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن؛ صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة فذادوا عن مواردها، وتجهّزوا «1» لتشييد المعالم الدينيّة فأقاموها على قواعدها؛ صلاة دائمة الغدوّ والرواح، متصلا أوّلها بطرّة الليل وآخرها بجبين الصباح؛ هذا وإن الذين الذى فرض الله على الكافّة الانضمام الى شعبه، وأطلع فيه شموس هداية تشرق من مشرقه ولا تغرب فى غربه؛ جعل الله حكمه بأمرنا منوطا، وفى سلك أحكامنا مخروطا «2» ؛ وقلّدنا من أمر الخلافة سيفا طال نجاده، وكثر أعوانه وأنجاده «3» ؛ وفوّض إلينا أمر الممالك الإسلاميّة فإلى حرمنا تجبى ممراتها، ويرفع الى ديواننا العزيز نفيها وإثباتها؛ يخلّف الأسد إن مضى فى غابه شبله، ويلفى فى الخبر والخبر مثله؛ ولما أفاض الله علينا حلّة الخلافة، وجعل حرمنا الشريف محلّ الرحمة والرافه؛ وأقعدنا على سدة خلافة طالما أشرقت بالخلائف من آبائنا، وابتهجت بالسادة الغطاريف»
من أسلافنا؛ وألبسنا خلعة هى من سواد السؤدد مصبوغه، ومن(8/153)
سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغه؛ وأمضينا على سدّتنا أمور الخاصّ والعامّ، وقلّدنا أرباب الكفاية كلّ إقليم من عملنا ممن تصلح سياسته على الدوام؛ واستكفينا بالكفاة من عمّالنا على أعمالنا، واتخذنا مصر دار مقامنا، وبها سدة مقامنا لما كانت فى هذا العصر قبّة الإسلام، وفيئة «1» الإمام، وثانية دار السلام؛ تعيّن علينا أن نتصفّح جرائد عمّالنا، ونتأمّل نظام أعمالنا؛ مكانا فمكانا، وزمانا فزمانا؛ فتصفّحناها فوجدنا «2» قطر اليمن، خاليا من ولايتنا فى هذا الزمن، والعادة مستمرّة بأن لم تزل نوّابنا فى بلاد اليمن «3» ؛ عرّفنا هذا الامر من اتخذناه للممالك الإسلاميّة عينا وقلبا، وصدرا ولبّا؛ وفوّضنا اليه أمر الممالك الإسلامية فقام فيها قياما أقعد الأضداد، وأحسن فى ترتيب ممالكنا نهاية الإصدار وغاية الإيراد؛ وهو السلطان الأجلّ السيّد الملك الناصر، لا زالت أسباب المصالح على يديه جاريه، وسحائب الإحسان من أفق راحته ساريه؛ فلم يعدّ جوابا لما رسمناه، ولا عذرا عما ذكرناه؛ إلا تجهيز شرذمة من حجافله المنصوره، وتعيين أناس من فوارسه المذكوره؛ يقتحمون الأهوال، ولا يعبأون(8/154)
بتغيّرات الأحوال؛ يرون الموت مغنما إن صادفوه، وشبا المرهف مكسبا إن صافحوه؛ لا يشربون سوى الدماء مدامه، ولا يلبسون غير التّرائك «1» عمامه؛ ولا يعرفون طربا إلا ما أصدره «2» صليل الحسام من غنا، ولا ينزلون قفرا إلا وأنبت ساعة نزولهم عن صهوات خيلهم قنا؛ ولما وثقنا منه بإنفاذهم راجعنا رأينا الشريف فاقتضى أن نكاتب من بسط يده فى ممالكها، وملك جميع مسالكها؛ واتخذ أهلها خولا، وأبدى فى خلال ديارها من عدم سياسته خللا؛ فبرز مرسومنا الشريف النبوىّ أن نكاتب من قعد على تخت مملكتها، وتصرّف فى جميع أمور دولتها؛ فطولع بأنه ولد السلطان الملك المظفّر يوسف بن عمر الذى له شبهة «3» تمسّك بأذيال المواقف المستعصميّة «4» ، وهو مستصحب الحال على زعمه، أو ما علم الفرق بين الأحياء والأموات؟ أو ما تحقّق الحال بين النفى والإثبات؟ أصدرناها إلى الرّحاب التّعزّيّه «5» ، والمعالم اليمنيّه؛ تشعر من تولّى فيها فاستبدّ، وتولّى كبره فلم يعرّج على أحد؛ أنّ أمر اليمن ما برحت حكّامنا ونوّابنا تحكم فيه بالولاية الصحيحه، والتفويضات التى هى غير جريحه «6» ؛ وما زالت تحمل إلى بيت المال المعمور ما تمشى به الجمال وئيدا «7» ، وتقذفه بطون الجوارى «8» الى ظهور(8/155)
اليعملات «1» وليدا؛ وتطالعنا بأمر مصالحه ومفاسده، وبحال معاهده ومقاصده «2» ؛ ولك أسوة بوالدك السلطان الملك المظفّر، هلّا اقتفيت ما سنّه من آثاره، ونقلت ما دوّنته أيدى الزمن من أخباره؛ واتصل بمواقفنا الشريفة أمور صدرت منك: منها «3» - وهى العظمى التى ترتّب عليها ما ترتّب- قطع الميرة عن البيت الحرام، وقد علمت أنه واد غير ذى زرع، ولا يحلّ لأحد أن يتطرّق إليه بمنع؛ وكفتك الآية «4» دليلا على ما صنعت، وبرهانا على ما فعلت؛ ومنها انصبابك «5» على تفريغ مال بيت المال فى شراء «6» لهو الحديث، ونقض العهود القديمة بما تبديه من حديث؛ ومنها تعطيل أجياد المنابر من عقود اسمنا، وخلوّ تلك الأماكن من أمر عقدنا وحلّنا؛ ولو أوضحنا لك ما اتصل بنا من أمرك لطال، ولا اتسعت فيه [دائرة «7» ] المقال؛ رسمنا بها والسيف يودّ لو سبق القلم حدّه، والعلم المنصور يحب لو فات القلم واهتزّ بتلك الروابى قدّه؛ والكتائب المنصورة تختار لو بدرت «8» عنوان الكتاب و [أهل «9» ] العزم والحزم يودّون اليك إعمال الرّكاب؛ والجوارى المنشآت قد(8/156)
تكوّنت من ليل ونهار، وبرزت كصور الفيلة «1» لكنها على وجه الماء كالأطيار، وما عمدنا «2» الى مكاتبتك إلا للإنذار، وما جنحنا لمخاطبتك الا للإعذار؛ فأقلع عما أنت بصدده من الخيلاء والإعجاب، وانتظم فى سلك من استخلفناه على أعمالنا فأخذ بيمينه ما أعطى من كتاب؛ وصن بالطاعة نفوس من زعمت أنهم مقيمون تحت لواء علمك، ومنتظمون فى سلك أوامر كلمك، وداخلون تحت طاعة قلمك؛ فلسنا نشنّ الغارات على من نطق بالشهادتين لسانه وقلبه، وامتثل أوامر الله المطاعة عقله ولبّه؛ ودان الله «3» بما يجب من الدّيانه، وتقلّد عقود الصلاح والتحف بمطارف «4» الأمانه؛ ولسنا ممن يأمر بتجريد سيف الا على من علمنا أنه خرج عن طاعتنا، ورفض كتاب الله ونزع عن مبايعتنا؛ [فأصدرنا «5» ] مرسومنا هذا اليه يقصّ عليه من أنباء حلمنا ما أطال مدّة دولته، وشيّد قواعد صولته؛ ويستدعى منه رسولا إلى مواقفنا الشريفه، ورحاب ممالكنا المنيفه؛ لينوب عنه فى قبول الولاية مناب نفسه، وليجنى بعد ذلك ثمار شفقاتنا إن غرس شجر طاعتنا ومن سعادة المرء أن يجنى ثمار غرسه؛ بعد أن يصحبه من ذخائر الأموال ما كثر قيمة وخفّ حملا، وتغالى «6» فى القيمة «7» رتبة وحسن مثلا؛ واشرط على نفسك فى كل(8/157)
سنة قطيعة «1» ترفعها الى بيت المال، وإيّاك ثم إيّاك أن تكون عن هذا الأمر ممن مال؛ ورتّب جيشا مقيما تحت لواء علم السلطان الأجلّ الملك الناصر للقاء العدوّ المخذول التتار، ألحق الله أوّلهم بالهلاك وآخرهم بالبوار؛ وقد علمت تفاصيل أحوالهم المشهوره، وتواريخ سيرهم المذكوره؛ واحترص «2» على أن يخصك من هذا المشرب السائغ أوفى نصيب، و [أن تكون «3» ] ممن جهّز جيشا فى سبيل الله فرمى بسهم فله أجر كان مصيبا أو غير مصيب؛ ليعود رسولك من دار الخلافة بتقاليدها وتشاريفها حاملا أهلّة أعلامنا المنصوره، شاكرا برّ موافقنا المبروره؛ وإن أبى حالك «4» إلا أن استمررت على غيّك، واستمرأت مرعى بغيك؛ فقد منعناك التصرّف فى البلاد، والنظر فى أحكام العباد؛ حتى تطأ خيلنا العتاق مشمخرّات حصونك، وتعجّل حينئذ ساعة منونك؛ وتمسى لهوادى قلاعك عقودا، ولعرائس حصونك نهودا؛ وما علّمناك غير ما علمه قلبك، ولا فهّمناك غير ما حدسه «5» لبّك؛ فلا تكن كالصغير تزيده كثرة التحريك نوما، ولا ممن غرّه الإمهال يوما فيوما؛ وقد أعلمناك ذلك فاعمل بمقتضاه، موفّقا إن شاء الله تعالى؛ والحمد لله وحده.(8/158)
ومن إنشائه تقليد السلطان الملك الناصر لما ترك الديار المصرية وأقام بالكرك «1» -
وكتب له بذلك من ديوان الإنشاء عن الملك المظفّر ركن الدين، فلم يمكن الكاتب الإطناب، ولا وسعه «2» غير الاختصار، فلم يرضه الكتاب، وعمل جماعة منهم فى ذلك تجربة لخواطرهم ولم يكتب بشىء منها فعمل هو-:
الحمد لله مدبّر الأمر على ما يشاء فى عباده، ومنقّل الحال على حكم اختياره ووفق مراده، ومجرى أسباب الممالك على يد من اختاره من عباده لإصدار الأمر وإيراده، ومجيب من أصبح قاصدا بابه الشريف والزهادة فيما حوله من اعتقاده، ومعزّ من أضحى له من حقونا «3» ركن استند إليه الدهر فى استناده، يلبّى دعوة مرامه حيث كان من بلاده؛ ويجيب داعى نداه وإن بعد فيكون أقرب من سرّه الى فؤاده؛ يذبّ عن حوزة نسائه ببيض مرهفاته وسمر صعاده، ويحمى بيضة جاهه بالغلب من أشياعه والجرد من جياده؛ نحمده على أن جعل موالاتنا لهذا البيت الشريف المنصورىّ تستديم عهوده، وتلتحف من المحافظة على مراضيه الشريفة فى كلّ حال بروده؛ وترد من القيام بواجب حقّه أعذب منهل شرعه الصفاء وسنّه، وأكّد موالاته الوفاء وحسن الوفاء من شعار أهل السّنّة؛ ونشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع أعلام الهدى بكلمها، وتخمد نار الشرك بنور هداية(8/159)
علمها وعلمها، وتطهّر أديم البسيطة من أرجاس الكفرة بالحدّين من غربى «1» صمصامها وقلمها، وتروى كلّ قطر أصبح ما حلا من قطرى عدلها ونعمها؛ ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى كانت الزهادة ملاك أمره و [الملوك «2» ] تحت وطأة أقدامه، والملائكة يحفّونه من حوله «3» ومن أمامه، ومعادن الذهب تعرض عليه فيساوى لديه لزهادته بين نضاره ورغامه؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تحاكى أرج الصّبا وقد سرى عن خزامه «4» ، وتضاهى فتيق «5» المسلك وقد تنفّس عن ختامه، مشفوعة إلى يوم القيامة برضوانه وسلامه؛ وبعد، فإنه لما كان المقام العالى الملكىّ الفلانىّ هو الذى ربّته الممالك فى حجرها وليدا، وخوّلته السلطنة الشريفة من نفائس ذخائرها طارفا وتليدا؛ وبوّأته من مراتب العز أقصى غاية لا ترام، وأبادت بمرهفه البتّار جمع التتار الطّغام؛ واستخدمت لطاعته جيشين:
جيش نهار بكّر فيه مواليه على أعدائه بسابق خيله ومرهف حسامه، وجيش ليل تبسط أولياء دولته أكفّهم للدعاء ببقائه فى جنح ظلامه؛ طالما هزّت المنابر أعطافها طربا عند ذكر اسمه، وازدادت وسامة الدّينار حسنا لمّا شرّفها بحسن(8/160)
وسمه ورسمه؛ وتلت أوصاف بأسه ألسنة خرصانه «1» ، ورجعت سوابق الهمم عن التطاول للمطاولة فى ميدانه، وقالت فوارس الحروب لمّا رأت كرّه: هذا سباق لسنا من رهانه؛ كم فرّق بجيشه اللهام «2» جيشا أرمد جفن الشمس بقتامه، ونصر الأحزاب يوم الكريهة بالعاديات من خيله والمرسلات من سهامه، فالدهر يشكر مواقف إقدامه، والعدل ينشر منشور فضله وسديد أحكامه؛ والممالك تثنى على عليائه بالسداد، والمسالك تهدى لسالكها ما خصّها به من أمنها المعتاد؛ والناس فى ظلّ عدل لياليه [خلقت «3» ] كما شاءوا أسحارا، والوحش والغنم كلّ منهما قد جعل صاحبه جارا؛ ومواطن العلوم أمست تطرّز بمحاسن أوصافه، وحكّام الشرع الجليل أضحت تميس فى حلل عدله وإنصافه؛ والأماكن التى تشدّ لها الرحال يفترّ ثغرها عن عدله، والمشاعر المعظّمة قد حمى حوزتها بالسهم من نصله والشهم من رجله «4» ؛ تنقّل فى مراتب الملك صغيرا الى أن اشتدّ بالعزم القوىّ كاهله، واستوطن ربع العزّ مذ كان يجتلى بدوره وتجتليه عقائله؛ فلم تبق له مأربة إلا قضاها، ولا حالة إلا ابتلاها، ولا غمّة إلا جلاها، ولا آية شكر إلا تلاها؛ الى أن قمع بحدّ(8/161)
سيفه كلّ مجترى، وقال للسحابة كما قيل: امطرى «1» ؛ رأى «2» أن الموارد الدنيويّة لا بدّ لها من مصادر، وأن أوائل الأمور تستدعى الأواخر، وأن للزهادة فى الدنيا وإن عظم قدرها الشأن الكبير، وأن الانقطاع الى الله تعالى منهل صفو لا يقبل شوائب التكدير؛ وقوى عزمه فى الرّحلة عن مقرّ ملكه الى أعزّ حصونه المنيعه، بل الى أجلّ معاقله الشامخة الرفيعه؛ قاصدا بها الانفراد، عالما بأن الله يطلع على خفيّات الفؤاد؛ فرحل ركابه العالى ونظام المملكة من حسن الهيئة قائم على ساق، وقلوب كفّال الممالك الشريفة متّفقة على الاتفاق؛ واثقا بأن للملك من أولياء بيته الشريف كلّ ولىّ عهد لا تخفر لديه الذمم، وكلّ سلطان أفق «3» تضؤل دون عزمه الهمم؛ يحمى بيضة خدره من كلّ متطاول إليها، ويقصّر أسباب الحرص من كلّ شأن «4» عليها؛ واختار الانفراد، وتيقّن أنّا لا نعدل عمّا أراد؛ ونصب عمد خيامه الشريفة على سفح روض الكرك النّضر، وحلّ منه رأس شاهقة نبتها خضر؛ ورغب فى الزهادة وشعارها، واستوت «5» عنده الدنيا فى حالتى إقبالها وإدبارها؛ فاقتضى اعتناؤنا الشريف أن نبلّغه من مآربه الشريفة أقصى المرام، وأن نساعده فى كلّ أمر يعرف منه الموافقة منّا على الدوام؛ وأن ننظم الأمر فى سلك الإرادة على مراده، وأن نبادر إلى راحة سرّه الشريف وفؤاده؛ ولسوف نعامل مقامه العالى بكلّ احترام يصل(8/162)
إليه تفصيلا وإجمالا، ونراعى معه أدب أسلافه الكرام حالا فحالا، وإنّا لا نخليه من تجهيز مثال يتضمّن من محاسنه سيرا وأمثالا، ولولا عرف السلطنة ونظام المملكة يقتضيان ذلك ما جهّزنا إلى بابه الشريف مثالا، فلذلك خرج الأمر الشريف بكذا وكذا.
هذا ما اتفق إيراده فى هذا الفصل من رسائل الكتّاب، وكتّاب العصر- أعزّهم الله تعالى- كثير، وكلامهم مشهور، ومدوّن بأيدى الناس ومحفوظ فى صدورهم، ولم نشترط أن نورد لجميعهم فنلتزم الشرط، ولو فعلنا ذلك لطال الكتاب وخرج عن شرطه، وانما خصصنا هؤلاء بالذكر لتعلّقنا بهم، واتصال سببنا فى الوداد بسببهم.
ذكر شىء من الأبيات الداخلة فى هذا الباب «1»
فمن ذلك قول بعض الشعراء:
إنّى لعظم تشوّقى ... وشديد وجدى واكتئابى
أصبحت أحسد من يفو ... ز بقربكم حتى كتابى
وقال آخر:
وما تأخّر كتبى عنك من ملل ... طوبى «2» لودّك يا بن السادة النّجب
لكن حسدت كتابى أن يراك وما ... أراك فاخترت إمساكى عن الكتب(8/163)
[وقال «1» آخر] :
عقت الرسائل طامعا أن نلتقى ... فأبى الزمان يتيح لى ما أطلب
وتأخّرت كتبى فقلت أعاتب ... فى ذاك أنت علىّ أم متعتّب «2»
فإذا «3» وجدتك فى الضمير ممثّلا ... أبدا تناجينى إلى من أكتب
وقال آخر:
الكتب تكتب للبعي ... د وانت من قلبى قريب
فإذا وجدتك فى الفؤا ... د فمن أكاتب أو أجيب
وقال آخر:
لو أنّ كتبى بقدر الشوق واصلة ... كانت إليك مع الأنفاس تتّصل
لكنّنى والذى يبقيك لى أبدا ... على جميل اعتقادى فيك أتّكل
وقال آخر:
وفى الكتب نجوى من يعزّ لقاؤه ... وتقريب من لم يدن منه مزار
فلم تخلنى «4» منها وتعلم أنّها «5» ... لعينى وقلبى قرّة وقرار
وقال آخر:
سألتك عوّذنى بكتبك إنّ لى ... شياطين شوق لا تفارق مضجعى
إذا استرقت أسرار فكرى تمرّدا ... بعثت إليها فى الدجى شهب أدمعى(8/164)
وقال آخر:
أتبخل بالقرطاس والخط عن أخ ... وكفّاك أندى بالعطايا من المزن
لعمرى لقد قوّى جفاؤك ظنّتى ... وأوهن تأميلى وما كان ذا وهن
وقال آخر:
أظنّ القراطيس فى مصركم ... تخوّنها ريب دهر خؤون
فلو أنها صفحات الخدو ... د يكتب فيها بماء الجفون
لما أعوزتك ولكن جفوت ... فألقيت شأنى خلال الشؤون
وقال المتنبّى فى جواب كتاب ورد عليه:
بكتب الأنام كتاب «1» ورد ... فدت يد كاتبه كلّ يد
يعبّر عما له عندنا ... ويذكر من شوقه ما نجد
وقال أبو الفتح البستىّ:
لمّا أتانى كتاب منك مبتسم ... عن كل فضل وبرّ غير محدود
حكت معانيه فى أثناء أسطره ... آثارك البيض فى أحوالى السود
وقال آخر:
طلع الفجر من كتابك عندى ... فمتى باللقاء يبدو الصباح
وقال آخر:
ولمّا أتانى بعد هجر كتابكم ... وفيه شفاء الواله الدنف المضنى
سررت به حتى توهّمت أنه ... كتابى وقد أعطيته بيدى اليمنى(8/165)
وقال آخر:
نفسى الفداء لغائب عن ناظرى ... ومحلّه فى القلب دون حجابه
لولا تمتّع مقلتى بلقائه ... لوهبتها لمبشّرى بكتابه
وقال آخر:
ورد الكتاب مبشّرا ... نفسى بأوقات «1» السرور
وفضضته فوجدته ... ليلا على صفحات نور
مثل السوالف والخدو «2» ... د البيض زينت بالشعور
أنزلته منّى بمنزلة ... القلوب من الصدور
وقال آخر فى كتاب عدم فلم يصل إليه:
نبّئت أنّ كتابا ... أرسلته مع رسول
ملأته منك طيبا ... فضاع قبل الوصول
ومما يتصل بهذا الباب ويلتحق «3» به، ويحتاج الكاتب إلى معرفته والاطلاع عليه الحجّة البالغة والأجوبة الدامغة.
فمن ذلك فى التنزيل قوله عزّ وجل: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
وقوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.(8/166)
وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ.
وقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا.
وقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
وقال تعالى فى الدّلالة على إثبات نبوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ* أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
، فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعرف فى قريش بالصادق الأمين وقوله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
ولمّا بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معشر قريش لو قلت لكم إنّ خيلا تطلّع عليكم من هذا الجبل كنتم تصدّقونى «1» ؟ قالوا: نعم؛ قال:(8/167)
فإنّى «نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ»
فلمّا أقرّوا بصدقه خاطبهم بالإنذار، ودعاهم إلى الإسلام. فهذه حجج من الكتاب والسنّة لا جواب عنها ولمّا انتهى إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوم السّقيفة أنّ الأنصار قالت: منّا أمير ومنكم أمير؛ قال علىّ: فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوصى بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؛ قالوا: وما فى هذا من الحجة عليهم؟ قال: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم.
ولمّا قال الحباب بن المنذر فى يوم السّقيفة أيضا: أنا جذيلها «1» المحكّك وعذيقها «2» المرجّب، إن شئتم كررناها جذعة «3» ، منّا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجرىّ شيئا فى الأنصارىّ ردّه عليه الأنصارىّ، وإن عمل الأنصارىّ شيئا فى المهاجرىّ ردّه عليه المهاجرىّ؛ أراد عمر الكلام، فقال أبو بكر رضى الله عنه: على رسلك «4» ، نحن المهاجرين أوّل الناس إسلاما، وأوسطهم دارا، وأكرم الناس حسبا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة «5» فى العرب، وأمسّهم رحما بالرسول صلّى الله(8/168)
عليه وسلّم، أسلمنا قبلكم، وقدّمنا فى القرآن عليكم، وأنتم إخواننا فى الدّين، وشركاؤنا فى الفىء، وأنصارنا على «1» على العدوّ، آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا، نحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تدين العرب الا لهذا الحىّ من قريش. قالوا: قد رضينا وسلّمنا.
قال بعض اليهود لعلى رضى الله عنه: ما دفنتم «2» نبيّكم حتى اختلفتم؛ فقال: انما اختلفنا عليه «3» لا فيه، ولكنكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
وقال حاطب بن أبى بلتعة: لما بعثنى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الى المقوقس ملك الإسكندريّة بكتابه، أتيته وأبلغته الرسالة، فضحك ثم قال: كتب إلىّ صاحبك يسألنى أن أتّبعه على دينه، فما يمنعه إن كان نبيا أن يدعو الله فيسلّط علىّ البحر فيغرقنى فيكتفى مؤنتى، ويأخذ ملكى؟ قلت: ما منع عيسى عليه السلام إذ أخذته اليهود فربطوه فى حبل، وحلقوا وسط رأسه، وجعلوا عليه إكليلا من شوك، وحملوا خشبته التى صلبوه عليها على عاتقه، ثم أخرجوه وهو يبكى حتى نصبوه على الخشبة ثم طعنوه حيّا بحربة حتى مات- على زعمكم- فما منعه أن يدعو الله فينجيه ويهلكهم، ويكتفى مؤنتهم، ويظهر هو وأصحابه عليهم؟ وما منع يحيى بن زكريّا حين سألت امرأة الملك الملك أن يقتله فقتله وبعث برأسه اليها حتى وضع بين يديها أن يسأل الله أن يحميه ويهلكهم؟ فأقبل على جلسائه وقال: والله إنه لحكيم، وما تخرج الحكم إلّا من عند الحكماء.(8/169)
وخطب معاوية بن أبى سفيان ذات يوم وقال: إن الله تعالى يقول:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)
فما نلام نحن؛ فقام اليه الأحنف بن قيس فقال له: يا معاوية، إنا والله ما نلومك على ما فى خزائن الله، وإنّما نلومك على ما آثرك الله [به «1» ] «2» علينا من خزائنه فأغلقت بابك دونه.
وقال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أحمق قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! قال: قومك أشدّ حماقة إذ قالوا: «اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم» أفلا قالوا: اهدنا له.
وقيل: مرّت امرأة من العرب بمجلس من مجالس بنى نمير، فرماها جماعة منهم بأبصارهم، فوقفت ثم قالت: يا بنى نمير، لا أمر الله تعالى أطعتم، ولا قول الشاعر سمعتم، قال الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)
وقال الشاعر «3» :
فغضّ الطرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فما اجتمع منهم بعد ذلك اثنان فى مجلس.
وقيل: استعمل عتبة بن أبى سفيان رجلا من أهله على الطائف، فظلم رجلا من أزد شنوءة، فأتى الأزدىّ عتبة فقال:
أمرت من كان مظلوما ليأتيكم ... فقد أتاكم غريب الدار مظلوم(8/170)
ثم ذكر ظلامته، فقال عتبة: إنّى أرى أعرابيّا جافيا، والله ما أحسبك تدرى كم تصلّى فى اليوم والليلة؛ فقال: إن أنبأتك ذلك تجعل لى عليك مسألة؟ قال:
نعم؛ فقال الأعرابىّ:
إنّ الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهنّ أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيّع
قال: صدقت فاسأل؛ فقال: كم فقار ظهرك؟ فقال: لا أدرى؛ قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟ فأمر بردّ ظلامته عليه.
وقال الحجّاج بن يوسف ليحيى بن سعيد بن العاصى «1» : بلغنى أنّك تشبه إبليس فى قبح وجهك؛ قال: وما ينكر الأمير من أن يكون سيّد الإنس يشبه سيّد الجنّ؟.
وقال لسعيد بن جبير: اختر لنفسك أىّ قتلة شئت؛ قال: اختر أنت فإنّ القصاص أمامك.
وحكى أن حويطب «2» بن عبد العزّى بلغ عشرين ومائة سنة، ستين فى الجاهليّة وستين فى الإسلام، فلما ولى مروان بن الحكم المدينة دخل عليه حويطب، فقال له مروان: لقد تأخّر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك «3» الاحداث؛ فقال: والله لقد «4» هممت(8/171)
بالإسلام غير مرّة كلّ ذلك يعوقنى أبوك عنه «1» وينهانى، ويقول: أتدع دين آبائك «2» [لدين «3» محدث] ؟! أما أخبرك عثمان ما كان قد لقى من أبيك حين أسلم.
وقيل: لمّا ظفر الحجّاج بابن الأشعث وأصحابه أمر بضرب أعناقهم، حتى أتى على رجل من تميم، فقال التميمىّ: أيها الأمير، والله لئن «4» أسأنا فى الذنب ما «5» أحسنت فى العقوبة؛ فقال الحجاج: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ الله تعالى يقول: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)
فو الله ما مننت ولا فاديت «6» ؛ فقال الحجّاج: أفّ «7» لهذه الجيف، أما كان منهم من يحسن مثل هذا؟ وأمر بإطلاق من بقى وعفا عنهم.
وحكى أن الرشيد سأل موسى بن جعفر فقال: لم قلتم إنّا ذرّيّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجوّزتم للناس أن ينسبوكم اليه ويقولوا: يا [بنى «8» ] نبىّ الله وأنتم(8/172)
بنو علىّ، وانما ينسب الرجل إلى أبيه دون جدّه؛ فقرأ «1» : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ)
وليس لعيسى أب، وانما لحق بذرّيّة الأنبياء من قبل أمّه؛ وكذلك ألحقنا بذرّيّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قبل أمّنا فاطمة- عليها السلام- وأزيدك يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)
ولم يدع صلّى الله عليه وسلّم فى مباهلة «2» النصارى غير فاطمة والحسن والحسين «3» ، وهما «4» الأبناء.
قيل: لما ولّى يحيى بن أكثم قضاء البصرة استصغر الناس سنّه، فقال له رجل: كم سنّ القاضى- أعزّه الله-؟ فقال: سنّ عتّاب «5» بن أسيد حين ولّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضاء مكّة. فجعل جوابه احتجاجا.
قال يزيد بن عروة: لمّا مات كثير لم تتخلّف بالمدينة امرأة ولا رجل عن جنازته، وغلب النساء عليها، وجعلن يبكينه ويذكرن عزّة فى ندبهنّ له؛ فقال(8/173)
أبو جعفر محمد بن علىّ الباقر: أفرجوا «1» لى عن جنازة كثيّر لأرفعها، فجعلنا ندفع النساء عنها ومحمد بن علىّ يقول: تنحّين يا صويحبات يوسف؛ فانتدبت له امرأة منهن فقالت: يا بن رسول الله، لقد صدقت، إنّا لصويحباته، ولقد كنّا له خيرا منكم له؛ فقال أبو جعفر [لبعض مواليه «2» ] : احتفظ بها حتى تجيئنى «3» بها إذا انصرفت؛ قال: فلما انصرف أتى بها وكأنّها شررة النار؛ فقال لها محمد بن علىّ: إيه «4» ، أنت القائلة: إنّكنّ ليوسف خير منّا؟ قالت: نعم، تؤمّننى غضبك يا بن رسول الله؟
فقال: أنت آمنة من غضبى فأنبئينى؛ فقالت: نحن دعوناه إلى اللّدّات من المطعم والمشرب والتمتّع والتنعّم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه فى الجبّ وبعتموه بأنجس الأثمان، وحبستموه فى السجن؛ فأيّنا كان عليه أحنى، وبه أرأف؟ فقال محمد:
لله درّك! لن تغالب امرأة إلّا غلبت؛ ثم قال لها: ألك بعل؟ فقالت: لى من الرجال من أنا بعله؛ فقال أبو جعفر: ما أصدقك! مثلك من تملك الرجل «5» ولا يملكها؛ فلمّا انصرفت قال رجل من القوم: هذه فلانة «6» بنت معقب «7» .
وقال المأمون ليحيى بن أكثم: من الذى يقول:
قاض يرى الحدّ فى الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس(8/174)
فقال: يا أمير المؤمنين، هو «1» الذى يقول:
شاهدنا «2» يرتشى وحاكمنا ... يلوط والراس شرّ ما راس
لا أحسب الجور ينقضى و «3» على الأمّة ... وال من آل عبّاس
قال ومن هو؟ قال: أحمد بن [أبى «4» ] نعيم؛ فأمر بنفيه إلى السّند «5» .
وحكى أنّ أهل الكوفة تظلّموا إلى المأمون من عامل ولّاه عليهم؛ فقال:
ما علمت فى عدد عمّالى أعدل ولا أقوم بأمر الرعيّة ولا أعود بالرفق عليهم منه؛ فقام رجل من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحد أولى بالعدل والإنصاف منك، فاذا كان الأمر على هذه الصفة فينبغى أن تعدل فى ولايته بين أهل البلدان، وتسوّى بنا «6» أهل الأمصار، حتى يلحق أهل كلّ بلد من عدله وإنصافه مثل الذى لحقنا، فاذا فعل أمير المؤمنين ذلك فلا يخصّنا منه أكثر من ثلاث سنين؛ فضحك المأمون وعزل العامل عنهم.
ولنصل هذا الفصل بذكر هفوات الأمجاد وكبوات الجياد «7»
وقد رأيت بعض أهل الأدب ممن يستحقّ الأدب تعرّض فى هذا الفصل الى ذكر قصص(8/175)
الأنبياء- صلوات الله عليهم- كآدم ويوسف وداود وسليمان فكرهت ذلك منه، ونزّهت كتابى عنه- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
فكانت هذه هفوة من المسلمين غفرها الله وعفا عنها.
وقال الأحنف بن قيس: الشريف من عدّت سقطاته.
وقال النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث «1» أىّ الرجال المهذّب
وقالوا: كلّ صارم ينبو، وكلّ جواد يكبو.
وكان الأحنف بن قيس حليما سيّدا يضرب به المثل، وقد عدّت له سقطات فمن ذلك أنه نظر الى خيل لبنى مازن فقال: هذه خيل ما أدركت بالثار، ولا نقصت الأوتار «2» ؛ فقال له سعيد بن القاسم المازنىّ: أمّا يوم قتلت أباك فقد أدركت بثارها؛ فقال الأحنف: لشىء ما قيل: «دع الكلام حذر الجواب» - وكانت بنو مازن قتلت [أبا «3» ] الأحنف فى الجاهليّة.
ومنها أنه لمّا خرج مع مصعب بن الزبير أرسل اليه مائة ألف درهم، ولم يرسل الى زبراء «4» جاريته بشىء، فجاءت حتى وقفت بين يدى الأحنف، ثم أرسلت عينيها؛(8/176)
فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما لى لا أبكى عليك إذ لم تبك على نفسك، أقعدتها وتذر مرو الرّوذ «1» تجمع بين غارين «2» من المسلمين؛ فقال: نصحتنى والله فى دينى إذ لم أتنبّه لذلك؛ ثم أمر بفسطاطه فقوّض، فبلغ ذلك مصعبا فقال: ويحكم، من دهانى فى الأحنف؟ فقيل: زبراء، فبعث إليها بثلاثين ألف درهم، فجاءت حتى أرخت عينيها بين يديه؛ فقال: ما لك يا زبراء؟ قالت: عجبت لأحوالك فى «3» أهل البصرة، تزفّهم كما تزفّ العروس، حتى اذا ضربت بهم فى نحور أعدائهم أردت أن تفتّ فى أعضادهم؛ قال: صدقت والله، يا غلام دع الفساطيط؛ فاضطرب العسكر بمجىء «4» زبراء مرّتين.
ومن سقطاته التى عدّت عليه أن عمرو بن الأهتم «5» دسّ إليه رجلا ليسفّهه، فقال له: يا أبا بحر، من كان أبوك فى قومه؟ قال: كان من أوسطهم، لم يسدهم ولم يتخلّف عنهم؛ فرجع إليه ثانية، ففطن الأحنف إلى أنه من قبل عمرو، فقال:(8/177)
ما كان مال أبيك؟ قال: كانت له صرمة «1» يمنح منها ويقرى، ولم يكن أهتم سلّاحا.
وقيل: إن الحسن «2» سئل عن قوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)
فقال: إن كان لسريّا، وإن كان لكريما؛ فقيل له: من هو؟ قال: المسيح؛ فقال له حميد «3» بن عبد الرحمن: أعد نظرا، إنما السرىّ: الجدول؛ فأنعم «4» له، وقال:
يا حميد، غلبنا عليك الأمراء.
ومات ولد طفل لسليمان «5» بن علىّ، فأتاه الناس بالبصرة يعزّونه وفيهم شبيب بن شيبة وبكر «6» بن حبيب السّهمىّ؛ فقال شبيب: أليس يقال: إنّ الطفل لا يزال(8/178)
محبنظئا «1» بباب الجنّة حتى يدخل أبواه؟ فجاء بظاء معجمة؛ فقال له بكر «2» بن حبيب: محبنطئا، بطاء مهملة؛ فقال شبيب: إلّا أنّ من بين لابتيها يعلم أنّ القول كما أقول «3» ؛ فقال بكر: وخطأ ثان، ما للبصرة لابتان «4» ، أذهبت إليه «5» بالمدينة؟.
(من بين لابتيها: أى «6» حرتيها) .
قيل: جلس محمد بن عبد الملك»
يوما للمظالم، وحضر فى جملة الناس رجل زيّه زىّ الكتّاب، فجلس بإزاء محمد، ومحمد ينقد الأمور وهو لا يتكلّم، ومحمد يتأمّله؛ فلما خفّ المجلس قال له: ما حاجتك؟ قال: جئتك- أصلحك الله- متظلّما؛ قال: ممّن؟ قال: منك، ضيعة لى فى يد وكيلك يحمل إليك غلّتها، ويحول بينى وبينها؛ قال: فما تريد؟ قال: تكتب بتسليمها إلىّ؛ قال: هذا يحتاج فيه إلى شهود وبيّنة وأشياء كثيرة؛ فقال له الرجل: الشهود هم البيّنة، وأشياء كثيرة عىّ منك؛ فخجل محمد وهاب الرجل، وكتب له بما أراد.(8/179)
ووصف ذو «1» الرّمّة لعبد «2» الملك بن مروان بالذكاء وحسن الشعر، فأمر بإحضاره، فلما دخل عليه أنشده قصيدة أفتتحها بقوله: «ما بال عينك منها الماء ينسكب» وكانت عينا عبد الملك تدمعان دائما، فظنّ أنه عرّض به، فغضب وقال: مالك ولهذا السؤال يا بن اللّخناء؟ وقطع إنشاده، وأمر بإخراجه.
ودخل أبو النجم «3» على هشام بن عبد الملك وأنشده أرجوزته التى أوّلها:
«الحمد لله الوهوب المجزل «4» » حتى انتهى إلى قوله يصف الشمس عند الغروب:
«وهى على الأفق كعين الأحول» ، واستدرك سقطة لسانه، وقطع إنشاده، وعلم أنها زلّة، لأنّ هشاما كان أحول، فقال له هشام كمّل إنشادك ويلك وأتمم البيت، وأمر بوجء «5» عنقه وإخراجه من الرّصافة «6» .(8/180)
قال المدائنىّ: كان رجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام فى زمن المهدىّ، فأخذ وحمل إليه، فلمّا مثل بين يديه اعتذر، فرأى منه المهدىّ نبلا وفضلا، فعفا عنه وخلطه بجلسائه؛ ثم قال له يوما: أنشدنى شيئا من شعر زهير، فأنشده قصيدته التى أوّلها: «لمن الديار بقنّة «1» الحجر» حتى أتى على آخرها؛ فقال المهدىّ: مضى من يقول مثل هذا؛ فقال السّمرىّ: وذهب والله من يقال «2» فيه مثله؛ فاستشاط «3» المهدىّ غضبا، وأمر أن يجرّ برجله، وألّا يؤذن له بعدها.
ولنختم ما ذكرناه من أمر كتابة الإنشاء بشىء من الحكم.
ذكر شىء من الحكم
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحكمة ضالّة المؤمن» .
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: لكلّ جواد كبوه، ولكلّ حكيم هفوه؛ ولكلّ نفس ملّة «4» ، فاطلبوا لها طرائف الحكمة.
ومن الحديث النبوىّ- صلوات الله تعالى وسلامه على قائله- ممّا يدخل فى هذا الفصل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه عمله» . «خير الأمور أوسطها» «5» . «كلّ ميسّر لما خلق له» .(8/181)
«زر غبّا تزدد حبّا» . «الوحدة خير من قرين السوء» . «البركة فى الحركة» .
«صلوا أرحامكم ولو بالسلام» . «من كثر سواد قوم فهو منهم» . «ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى» . «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنّما الغنى غنى النفس» .
وقال أبو بكر الصّدّيق- رضى الله عنه-: صنائع المعروف تقى مصارع السوء.
وقال علىّ بن أبى طالب: استغن عمّن شئت فأنت نظيره، واحتج إلى من شئت فأنت أسيره، وأفضل على من شئت فأنت «1» أميره.
قال بعض الشعراء:
وإذا ما الرجاء أسقط بين الناس ... فالناس كلّهم أكفاء
وقال لقمان لابنه: ثلاثة لا يعرفون إلّا فى ثلاثة مواضع: لا يعرف الحليم إلّا وقت الغضب، ولا الشجاع إلا فى الحرب اذا لاقى الأقران، ولا أخوك إلا عند حاجتك.
وقال عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه: أحبّكم إلينا قبل أن نختبركم «2» أحسنكم صمتا، فإذا تكلّم فأبينكم منطقا، فإذا اختبرناكم فأحسنكم فعلا.
وفى رواية: أحبّكم إلينا أحسنكم اسما، فإذا رأيناكم فأجملكم منظرا، فإذا اختبرناكم فأحسنكم مخبرا.
وخطب علىّ رضى الله عنه يوما فقال فى خطبته: وأعجب ما فى الإنسان قلبه، له أمداد «3» من الحكمة، وأضداد من خلافها، فإذا سنح له الرجاء هاج به(8/182)
الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وإن أسعد بالرضا نسى التحفّظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد ما لا أطغاه الغنى، وإن عضّته فاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع أقعده الضعف، فكلّ تقصير به مضرّ، وكلّ إفراط له مفسد.
ومن كلامه- رضى الله عنه-: فرض الله تعالى الإيمان تطهيرا من الشّرك، والصّلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة سببا للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحجّ تقوية للبدن، والجهاد عزّ للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوامّ «1» ، والنهى عن المنكر ردعا للسفهاء، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم، وترك شرب الخمر تحصينا للعقل، ومجانبة السرقة إيجادا «2» للعفّة، وترك الزنى تصحيحا للنّسب، وترك اللواط تكثيرا للنسل، والشهادات استظهارا على المجاحدات، وترك الكذب تشريفا للصدق، والسلام أمانا من المخاوف، والإمامة نظاما للأمّة، والطاعة تعظيما للإمامة «3» .
وقال فرفوريوس «4» : لو تميزت الأشياء بأشكالها لكان الكذب مع الجبن، والصدق مع الشجاعة، والراحة مع اليأس، والتعب مع الطمع، والحرمان مع الحرص، والعزّ مع القناعة، والأمن «5» مع العفاف، والسلامة مع الوحدة.(8/183)
وقال آخر: الشكر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن «1» ، والقرابة محتاجة إلى المودّة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنّجدة محتاجة إلى الجدّ.
وقال حكيم يونانىّ: السعادات كلّها فى سبعة أشياء: حسن الصورة، وصحّة الجسم، وطول العمر، وكثرة العلم، وسعة ذات اليد، وطيب الذكر، والتمكّن من الصديق والعدوّ.
وقال بعض الأدباء- وقد سئل عن العيش- فقال: فى الغنى فإنى رأيت الفقير لا يلتذّ بعيش أبدا؛ فقال له السائل: زدنى، قال: فى الصحّة، فإنى رأيت المريض لا يلتذّ بعيش أبدا؛ فقال له: زدنى، قال: فى الأمن، فإنى رأيت الخائف لا يلتذّ بعيش أبدا؛ قال: زدنى؛ قال: لا أجد مزيدا. وهذا الكلام مأخوذ من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«من أصبح آمنا فى سربه «2» ، معافى فى بدنه، عنده «3» قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها» .
وقال فيلسوف: كثير من الأمور لا تصلح إلّا بقرنائها: لا ينفع العلم بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق.(8/184)
وقالوا: المنظر يحتاج إلى القبول، والحسب إلى الأدب، والسرور إلى الأمن، والقربى إلى المودّة، والمعرفة إلى التجارب، والشرف إلى التواضع، والنجدة إلى الجدّ «1» .
وقال علىّ رضى الله عنه: يغلب المقدار على التقدير، حتى تكون الآفة فى التدبير.
أخذه ابن الرومىّ فقال:
غلط الطبيب علىّ غلطة مورد ... عجزت موارده «2» عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنّما ... غلط الطبيب إصابة المقدار
وقال: اذا انقضت المدّه، كان الهلاك فى العدّة.
وقال القدماء: لا خير فى القول إلّا مع الفعل، ولا فى المنظر إلّا مع المخبر، ولا فى المال إلّا مع الجود، ولا فى الصديق إلّا مع الوفاء، ولا فى الفقه إلّا مع الورع، ولا فى الصدقة إلّا مع حسن النيّة، ولا فى الحياة إلّا مع الصحّة، ولا فى السرور إلّا مع الأمن.
قال بعض بنى تميم: حضرت مجلس الأحنف بن قيس وعنده قوم مجتمعون، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الكرم، منع الحرم؛ ما أقرب النّقمة من أهل البغى! لا خير فى لذّة تعقب ندما؛ لن يهلك من قصد، ولن يفتقر من زهد؛ ربّ هزل قد عاد جدّا؛ من أمن الزمان خانه، ومن تعظّم عليه أهانه؛ دعوا المزاح فإنه(8/185)
يؤرّث «1» الضغائن؛ وخير القول ما صدّقه الفعل؛ احتملوا من أدلّ عليكم، واقبلوا عذر من اعتذر إليكم؛ أطع أخاك وإن عصاك، وصله وإن جفاك؛ أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك؛ وإيّاكم ومشاورة النساء؛ واعلم أنّ كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم؛ ومن الكرم، الوفاء بالذمم؛ ما أقبح القطيعة بعد الصّلة؛ والجفاء بعد اللّطف، والعداوة بعد الودّ! لا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل؛ واعلم أنّ لك من دنياك، ما أصلحت به مثواك، فأنفق فى حقّ ولا تكوننّ خازنا لغيرك؛ واذا كان الغدر موجودا فى الناس فالثقة بكلّ أحد عجز؛ اعرف الحقّ لمن عرفه لك؛ واعلم أنّ قطيعة الجاهل، تعدل صلة العاقل، قال: فما رأيت كلاما أبلغ منه، فقمت وقد حفظته. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ومن كلام علىّ رضى الله عنه: من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره؛ ومن سلّ سيف البغى قتل به؛ ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها؛ ومن هتك حجاب أخيه انهتكت عورات بيته «2» ؛ ومن نسى خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن تكبّر على الناس زلّ؛ ومن سفه على الناس شتم؛ ومن خالط العلماء وقّر، ومن خالط الأنذال حقر؛ ومن أكثر من شىء عرف به؛ والسعيد من وعظ بغيره؛ وليس مع قطيعة الرحم تقى، ولا مع الفجور غنى؛ رأس العلم الرفق، وآفته الخرق؛ كثرة الزيارة تورث الملالة.
وقال موسى بن جعفر: ما تسابّ «3» اثنان إلّا انحطّ الأعلى إلى مرتبة الأسفل.(8/186)
وقال آخر: ما تسابّ اثنان إلا غلب ألأمهما.
وقال الحسن بن علىّ بن موسى الرّضا: اعلم أن للحباء «1» مقدار فإن زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقدارا فإن زاد عليه فهو جبن، وللاقتصاد مقدارا فإن زاد عليه فهو بخل.
قال مهدىّ بن أبان: قلت لولّادة العبديّة- وكانت من أعقل النساء-:
إنّى أريد الحج فأوصينى، قالت: أوجز فأبلغ، أم أطيل فأحكم؟ فقلت: ما شئت؛ فقالت: جد تسد، واصبر تفز؛ قلت: أيضا؛ قالت: لا يبعد غضبك حلمك، ولا هواك علمك؛ وق دينك بدنياك، وق عرضك بعرضك؛ وتفضّل تخدم، واحلم تقدّم؛ قلت: فبمن أستعين؟ قالت: بالله؛ قلت: من الناس؛ قالت: الجلد النشيط، والصالح الأمين؛ قلت: فمن أستشير؟ قالت: المجرّب الكيّس، أو الأديب الأريب؛ قلت: فمن أستصحب؟ قالت: الصديق المسلّم، أو المؤاخى «2» المتكرّم؛ ثم قالت: يا بناه، إنك تفد إلى ملك الملوك فانظر كيف يكون مقامك بين يديه.
وقال حكيم: من الذى بلغ جسيما فلم يبطر «3» ، واتّبع الهوى فلم يعطب؛ وجاور النساء فلم يفتتن، وطلب إلى اللئام فلم يهن، وواصل الأشرار فلم يندم، وصحب السلطان فدامت سلامته.(8/187)
وقال: الاعتبار يفيدك «1» الرشاد، وكفاك أدبا لنفسك ما كرهت من غيرك.
وكان يقال: عليكم بالأدب فإنه صاحب فى السّفر، ومؤنس فى الوحدة، وجمال فى المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة.
وقال بعضهم: احذر كلّ الحذر من أن يخدعك «2» الشيطان فيمثّل لك التوانى فى صورة التوكّل، ويورثك الهوينى «3» بالإحالة على القدر، فإن الله تعالى أمر بالتوكّل عند انقطاع الحيل، وبالتسليم للقضاء بعد الإعذار، فقال تعالى: «خُذُوا حِذْرَكُمْ» *
«وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» .
وقال آخر: لا تجاهد الطلب جهاد الغالب، ولا تتّكل على القدر اتّكال المستسلم، فإنّ ابتغاء الفضل «4» من السنّة، والإجمال فى الطلب من العفّة، وليست العفّة بدافعة رزقا، ولا الحرص بجالب فضلا.
وقالوا: عشر خصال فى عشرة أصناف أقبح منها فى غيرهم: الضيق فى الملوك، والغدر فى الأشراف، والكذب فى القضاة، والخديعة فى العلماء، والغضب فى الأبرار، «5» والحرص فى الأغنياء، والسّفه «6» فى الشيوخ، والمرض فى الأطبّاء، والزّهو فى الفقراء، والفجور فى القرّاء «7» .(8/188)
وقالوا: ثمانية إذا أهينوا «1» فلا يلوموا إلّا أنفسهم: الآتى طعاما لم يدع إليه، والمتأمّر على ربّ البيت فى بيته، وطالب المعروف «2» من غير أهله، وراج منن الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين لم يدخلاه، والمستخفّ بالسلطان، والجالس مجلسا ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه.
ومن الأبيات المناسبة لهذا الفصل قول الأضبط بن قريع:
لكلّ ضيق من الهموم سعه ... والمسى والصبح لا بقاء معه
فصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل وأقص القريب إن قطعه
وخذ من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه
لا تحقرنّ «3» الفقير علّك أن ... تركع «4» يوما والدهر قد رفعه
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
وقال أحيحة:
فما يدرى الفقير متى غناه ... ولا يدرى الغنىّ متى يعيل «5»
ولا تدرى إذا أزمعت أمرا ... بأىّ الأرض يأتيك المقيل(8/189)
وقال الصّلتان العبدىّ «1» :
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كرّ «2» الغداة ومرّ العشى
إذا ليلة هرّمت «3» يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتى
نروح ونغدو لحاجتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضى
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقى
وقال المتنبّى:
ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال
وقد جمع من شعر أبى الطيّب فى ذلك ما وافق كلام أرسطوطاليس فى الحكمة؛ فمن ذلك قول أرسطوطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم «4» دون بلوغ الشهوة.
قال المتنبّى:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت فى مرادها الأجسام
وقال أرسطوطاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكىّ والفصد اللّذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها. نقله المتنبّى إلى شعره فقال:(8/190)
لعلّ عتبك محمود عواقبه ... فربّما صحّت الأجساد بالعلل
وقال أرسطوطاليس: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدّها عن ذلك إحدى علّتين: إمّا علّة دينيّة خوف معاد، أو علّة سياسيّة خوف سيف قال المتنبّى:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
هذا ما اتفق إيراده فى هذا الباب من أمر كتابة الإنشاء، وكلام الصحابة والخلفاء، وذوى الفصاحة من الأمراء، وبلاغات الخطباء والفصحاء، ورسائل الفضلاء والبلغاء، وفقر الكتّاب والأدباء، وحكم أوائل الحكماء؛ وهو ممّا يضطرّ الكاتب إليه، ويعتمد فى الاطلاع على ما خفى من أمر هذه الصناعة عليه؛ وهى إشارات إلى مجموعها، ورشفات من ينبوعها؛ وباب يتوصّل منه إلى رحابها، وسلّم يرتقى عليه إلى هضابها، ومسيل عذب يتّصل بعبابها؛ فقد وضح لك أيّها الطالب السبيل، وظهر لك أيّها الراغب قيام الدليل؛ وفيما أوردناه كفاية لمن تمسّك بهذه الصناعة ورغب فيها، وغنية لمن تأمّل مقاصدها وتدبّر معانيها؛ فلنذكر كتابة الديوان والتصرّف.
ذكر كتابة الديوان وقلم التصرف وما يتصل بذلك
قد ذكرنا فى أوّل هذا الباب فى السفر السابع من هذا الكتاب اشتقاق الكتابة، ولم سمّيت بذلك، وذكرنا أيضا أصلها وشرفها وفوائدها، فلا حاجة إلى إعادته فى هذا الموضع، فلنذكر الآن ما يتعلّق بقلم الديوان والتصرّف والحساب؛ وإن كنا قدّمنا ذكر كتّاب الإنشاء لما هم بصدده من الصدارة والوجاهه، والنبالة والنباهه؛ والفصاحة والصباحه، والنزاهة والسماحه؛ والأمانة والديانه، والسيادة والصيانه؛(8/191)
ولما تصدّوا له من كتم أسرار الدّول، وتردّوا به من محاسن الأواخر ومآثر الأول، والتحفوا به من مطارف الفضائل والمكارم، وتحلّوا به من صفات الأفاضل والأكارم؛ الى غير ذلك من مناقبهم الجمّه، وأياديهم التى وضحت غررا فى ليالى الخطوب المدلهمّه؛ فكتّاب الحساب أكثر تحقيقا، وأقرب إلى ضبط الأموال طريقا، وأدلّ برهانا، وأوضح بيانا، قال الله تعالى فى كتابه العزيز: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا
وذهب بعض المفسرين لكتاب الله تعالى فى قوله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
، أى كاتب حاسب.
وروى البخارىّ عن أبى حميد الساعدىّ قال: «استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الأسد «1» على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللّتبيّة «2» فلمّا جاء حاسبه» فقد صحّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاسب؛ وبكتّاب الحساب تحفظ الأموال وتضبط الغلال؛ وتحدّ قوانين البلاد؛ وتميّز الطوارف من التّلاد؛ لم يفخر كتّاب الإنشاء بمنقبة إلا فخروا بمناقب، ولا سموا إلى مرتبة إلّا وقد رقوا إلى مراتب؛ ولا تميّزوا برسالة «3» إلّا ولهؤلاء فيها القدح المعلّى، ولا نسبوا إلى نباهة إلّا ومحلّهم فيها(8/192)
المحلّ الأرفع ومقامهم المقام الأعلى؛ ولا اتصفوا بكتمان سرّ إلّا اتصف هؤلاء بمثله، ولا شهروا ببذل برّ إلا وهؤلاء هم أعيان أهله؛ ثم اختصّ كتّاب التصرف بأمور منع أولئك منها، وأطلقت أقلامهم فى أقلام «1» حبست أقلام أولئك عنها؛ وارتقوا إلى قلل مراتب كبت جيادهم عن إدراك غايتها، وتسنّموا ذرا مناصب لا تمتدّ الآمال «2» إلى أكثر من نهايتها؛ ولسنا نقيمهم فى محلّ المناظره، ولا نوقفهم فى موقف المكاثرة والمفاخره؛ بل لكلّ طائفة فضل لا ينكر، وفضائل هى أشهر من أن تملى وتسطّر؛ ولمّا انتهيت فى كتابى هذا إلى باب الكتابة، أردت أن أضرب عن ذكر كتابة التصرّف صفحا، ولا أعيرها من النظر لمحا، وأقتصر على كتابة الإنشاء جريا على عادة من صنّف، وقاعدة من ألف؛ فسألنى بعض إخوانى أن أضع فى ذلك ملخّصا يعلم منه المباشر كيف المباشره، ويستضىء به فيما يسترفعه «3» أو يرفعه من ضريبة وموافره «4» ؛ فأوردت «5» هذه النّبذة إزالة «6» لسؤاله، وتحقيقا لآماله؛ وذكرت من صناعة الكتابة ما هو بالنسبة الى مجموعها قطرة من بحرها، وشذرة من عقود درّها؛ ممّا «7» لا بدّ للمبتدى من الإحاطة بعلمه، والوقوف عند رسمه؛ وحين وضعت ما وضعت من هذه الصناعة لم أقف قبل ذلك على كتاب فى فنّها(8/193)
مصنّف، ولا انتهيت إلى فصل «1» مترجم بها أو مؤلّف؛ ولا لمحت فى ذلك إشاره، ولا سمعت من لخّص فيها عباره؛ ولا من تفوّه فيها ببنت شفة ولسان، ولا من صرّف ببنان «2» بلاغته فى ميادينها العنان؛ حتى أقتدى بمثاله، وأنسج «3» على منواله؛ وأسلك طريقه فى الإجاده، وأحذو حذوه فى الإفاده؛ بل وجدتها مقفلة الباب، مسبلة الحجاب؛ قد اكتفى كلّ كاتب فيها بعلمه، واقتصر على حسب فهمه؛ فراجعت فيها الفكره، وعطفت بالكرّة بعد الفرّه؛ ثم قرعت بابها ففتح بعد غلقه «4» ، ورفعت حجابها ففتق بعد رتقه؛ وامتطيت صهوتها «5» فلانت بعد جماحها، وارتقيت ذروتها فظهر للفكرة طريق نجاحها؛ فشرعت عند ذلك فى تأليف ما وضعته «6» ، وترصيف «7» ما صنّفته؛ وبدأت باشتقاق تسمية الديوان، ولم سمّى ديوانا، ثم ذكرت ما تفرّع من كتابة الديوان من أنواع الكتابات، وأوّل ديوان وضع فى الإسلام، وسبب وضعه، ثم ذكرت ما يحتاج اليه كلّ مباشر من كيفيّة المباشرة وأوضاعها، وما استقرّت عليه القواعد العرفيّة، والقوانين الاصطلاحيّة، وما يرفعه كلّ مباشر ويسترفعه «8» ، والأوضاع الحسابية، على ما ستقف إن شاء الله تعالى عليه، وترجع فيما أشكل من أمورها إليه.(8/194)
ذكر اشتقاق تسمية الديوان ولم سمّى ديوانا ومن سمّاه بذلك
قد اختلف فى تسمية الديوان ديوانا على وجهين: أحدهما أنّ كسرى اطّلع ذات يوم على كتّاب ديوانه، فرآهم يحسبون مع أنفسهم، فقال: ديوانه:
أى مجانين؛ فسمّى موضعهم بهذا الاسم، ثم حذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفا للاسم، فقيل: ديوان. والثانى أن الديوان بالفارسيّة اسم للشياطين، فسمّى الكتّاب باسمهم لحذقهم بالأمور «1» ، ووقوفهم على الجلىّ والخفىّ، وجمعهم لما شذّ «2» وتفرّق، واطلاعهم على ما قرب وبعد، ثم سمّى مكان جلوسهم باسمهم، فقيل:
ديوان. هذا ما قيل فى تسميته «3» على ما حكاه الماوردىّ فى الأحكام السلطانيّة؛ والله أعلم.
ذكر ما تفرّع عن كتابة الديوان من أنواع الكتابات
هذه الكتابة تنقسم إلى أقسام ووظائف: أصول وفروع، وهى: مباشرة الجيوش، ومباشرة الخزانة، وبيت المال، وأهراء «4» الغلال، ومباشرة البيوت، ومباشرة الهلالىّ «5» ، ومباشرة الخراجىّ، ومباشرة الأقصاب والمعاصر ومطابخ السكّر؛ ويحتاج مباشر كلّ وظيفة من هذه الوظائف إلى معرفة قواعد يأتى ذكرها إن شاء الله تعالى؛ ولنبدأ بذكر مباشرة الجيوش.(8/195)
ذكر مباشرة ديوان الجيش وسبب وضع الدواوين وأول من وضعها فى الإسلام
وديوان الجيش هو أوّل ديوان وضع فى الإسلام «1» ، وضعه عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- فى خلافته؛ وقيل: بل وضع فى عهد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ويدلّ على ذلك أن البخارىّ- رحمه الله- ترجم على هذا بقوله: باب كتابة الإمام الناس، قال: حدّثنا محمد بن يوسف، قال: حدّثنا سفيان عن الأعمش عن أبى وائل عن حذيفة: قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «اكتبوا لى من تلفّظ بالإسلام من الناس، فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل» وقد روى البخارىّ أيضا بسنده عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: «جاء رجل إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنّى اكتتبت «2» فى غزوة كذا وكذا، وامرأتى حاجّة؛ قال: ارجع فاحجج مع امرأتك» واختلف الناس فى سبب وضعه فى أيّام عمر، قال قوم: سببه أنّ أبا هريرة- رضى الله عنه- قدم بمال من البحرين، فقال له عمر رضى الله عنه: ماذا(8/196)
جئت به؟ قال خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر وقال: أتدرى ما تقول؟ قال:
نعم، مائة ألف خمس مرات؛ فقال عمر: أطيّب «1» هو؟ فقال: لا أدرى؛ فصعد عمر رضى الله عنه المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس، قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا، وإن شئتم عددنا [لكم عدّا «2» ] ؛ فقام إليه رجل فقال:
يا أمير المؤمنين، قد رأيت الأعاجم يدوّنون ديوانا لهم، فدوّن أنت [لنا «3» ] ديوانا.
وقال آخرون: بل سببه أنّ عمر- رضى الله عنه- بعث بعثا وعنده الهرمزان «4» ، فقال لعمر: هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلّف رجل منهم وأخلّ «5» بمكانه فمن أين يعلم صاحبك «6» ؟ فأثبت لهم ديوانا؛ فسأله عن الديوان حتى فسّره له.
وروى [عابد بن يحيى] عن [الحارث «7» ] بن نفيل أن عمر رضى الله عنه استشار المسلمين فى تدوين الدواوين، فقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: تقسم فى كلّ سنة ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك منه شيئا؛ وقال عثمان بن عفّان- رضى الله عنه-: أرى مالا كثيرا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر؛ فقال خالد بن الوليد: قد كنت بالشأم(8/197)
فرأيت ملوكها دوّنوا ديوانا، وجنّدوا جنودا، [فدوّن «1» ديوانا، وجنّد جنودا] فأخذ بقوله، ودعا عقيل بن أبى طالب ومخرمة «2» بن نوفل وجبير بن مطعم- وكانوا من كتّاب قريش- فقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فبدءوا ببنى هاشم فكتبوهم، ثم أتبعوهم قوم أبى بكر، ثم عمر وقومه، وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة «3» ، ثم رفعوا ذلك إلى عمر رضى الله عنه، فلمّا نظر فيه قال: لا، [ما «4» ] وددت أنّه كان هكذا، ولكن ابدءوا بقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله؛ فشكره العباس رضى الله عنه على ذلك؛ وكان ذلك فى المحرّم سنة عشرين من الهجرة، وقيل فى سنة خمس عشرة،- والله أعلم-؛ فلما استقرّ ترتيب الناس فى الدواوين على قدر «5» النسب المتصل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضّل بينهم فى العطاء على قدر السابقة فى الإسلام. وسنذكر إن شاء الله فى خلافة عمر رضى الله عنه ما فرضه من العطاء لكلّ طائفة على ما ستقف عليه- إن شاء الله تعالى- فى موضعه من فنّ التاريخ؛ وهو فى السفر السابع عشر من كتابنا هذا؛ فهذا كان سبب وضع ديوان الجيش.
وأما دواوين الأموال
- فإنها كانت بعد ظهور الإسلام بالشام والعراق على ما كانت عليه قبل الإسلام، فكان ديوان الشأم بالروميّة لأنه كان من ممالك(8/198)
الروم؛ وكان ديوان العراق بالفارسيّة لأنه كان من ممالك الفرس؛ فلم يزل أمرهما جاريا على ذلك إلى زمن عبد الملك بن مروان، فنقل ديوان الشأم إلى العربيّة فى سنة إحدى وثمانين من الهجرة؛ وكان سبب نقله- على ما حكاه المدائنىّ- أن بعض كتّاب الروم فى ديوانه أراد ماء لدواته، فبال فى الدواة، فبلغه ذلك فأدّبه، وأمر سليمان بن سعد أن ينقل الديوان إلى العربيّة، فسأله أن يعينه بخراج الأردن «1» سنة، ففعل وولّاه الأردنّ، وكان خراجه مائة ألف وثمانين ألف دينار، فلم تنقض السنة حتى فرغ من الديوان ونقله، وأتى به عبد الملك فدعى سرجون «2» كاتبه فعرضه عليه فغمّه وخرج كئيبا، فلقيه قوم من كتّاب الروم، فقال لهم: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم.
وأما ديوان العراق-
فكان سبب نقله إلى العربيّة أنّ كاتب الحجّاج بن يوسف كان زاذان فرّوخ، وكان معه صالح بن عبد الرحمن يكتب بين يديه بالعربيّة والفارسيّة، فأوصله زاذان فرّوخ إلى الحجّاج، فخفّ على قلبه، فقال صالح لزاذان فرّوخ «3» إنّ الحجّاج قد قرّبنى ولا آمن أن يقدّمنى عليك؛ فقال: لا تظنّ ذلك فهو إلىّ أحوج منّى إليه، لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيرى؛ فقال له صالح: والله لو شئت أن أحوّل الحساب إلى العربيّة لفعلت؛ فقال: فحوّل منه ورقة أوسطرا حتى أرى، ففعل؛ ثم قتل زاذان فرّوخ فى حرب عبد الرحمن بن الأشعث، فاستخلف(8/199)
الحجّاج صالحا مكانه، فذكر له ما جرى بينه وبين زاذان فرّوخ فأمره أن ينقله، فأجابه إلى ذلك وأجله فيه أجلا حتى نقله إلى العربيّة، فلمّا عرف مردانشاه بن زاذان فرّوخ ذلك بذل له مائة ألف درهم ليظهر للحجّاج العجز عنه، فلم يفعل؛ فقال له: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسيّة.
وكان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان يقول: لله درّ صالح ما أعظم منّته على الكتّاب!.
هذا ما حكى فى ابتداء نقل الدواوين، فلنرجع إلى الجيش وما يحتاج إليه مباشره.
ذكر ما يحتاج اليه كاتب الجيش على ما استقر فى زماننا «1» هذا من المصطلح
يحتاج كاتب الجيش إلى أن يرصّع «2» أسماء أرباب الإقطاعات والنقود والمكيلات من الأمراء على اختلاف طبقاتهم،
والمماليك السلطانيّة، وأجناد الحلقة، وأمراء التّركمان والعربان؛ ويضع لذلك جريدة مقفّاة على حروف المعجم يثبت فيها أسماءهم، ويذكر الاسم وابتداء إمرته أو جنديّته فى أىّ سنة كانت من السنين الهلاليّة لاستقبال ما يكتب من مغلّ السنة الخراجيّة، وعمن انتقل إليه الإقطاع؛(8/200)
ويرمز قبالة كلّ اسم إلى عبرة «1» إقطاعه رمزا لا تصريحا، ويشير فى جندىّ الحلقة إلى مقدّمه، ويعيّن فى اسم التّركمانىّ أو البدوىّ ما قدّمه إلى الإصطبلات السلطانيّة والمناخات من الخيل والجمال، وفى عربان مصر المقرّر عليهم فى مقابلة الإقطاعات من التّقادم «2» وإقامة خيل البريد فى المراكز، وغير ذلك من نقل الغلال، وما هو مقرّر عليهم فى ابتداء أمرهم عند خروج الإقطاعات بأسمائهم، وغير ذلك على جارى العادة، فإن انتقل أحد منهم من إقطاع إلى غيره فى ذلك العمل بعينه وضع تحت إقطاعه الأوّل ما صورته: ثم انتقل إلى غيره بمقتضى منشور تاريخه كذا عن فلان المنتقل إلى غيره، أو المتوفّى، أو المفارق، أو غير ذلك؛ فإن كان على سياقته فى إقطاعه الأوّل قال: على سياقته؛ وضبط تاريخ الأوّل؛ وإن كان لاستقبال مغلّ أو شىء من مغلّ ميّزه، واحتاج إلى محاسبة ربّ الإقطاع على إقطاعه الأوّل؛ والمحاسبات غالبا إنما تقع بعد وفاة الأمير أو الجندىّ، أو انفصاله بوجه من وجوه الانفصالات، وأما ما دام فى الخدمة فهى يتلو بعضها بعضا؛ وصورة المحاسبة أن يقيم تاريخ منشوره إلى تاريخ انفصاله أو نقلته، ويعقد على ذلك جملة، ويوجب له عن نظير خدمته استحقاقا، وينظر إلى ما قبضه من المغلّات فيجمعها، فإن كان قبضه نظير خدمته فلا شىء له ولا عليه، وإن زاد قبضه على مدّة خدمته استعاد منه ما زاد بنسبته، وإن كانت خدمته أكثر من قبضه أفرج له عن نظير ما فضل له؛ ومن العادة فى غالب الأوقات أن يسقط من استحقاق أرباب الإقطاعات فى كل سنة أحد عشر يوما وربع يوم، وهى التفاوت بين السنة الشمسيّة والقمريّة، ويبرز له ما بقى(8/201)
ويعطيه المثل من نسبة البارز، وقد سومح بذلك فى بعض الأوقات دون بعض؛ وهذه الجريدة تسمّى الجريدة الجيشيّة.
ويحتاج إلى بسط جريدة إقطاع صورتها:
أنه يرصّع «1» الأعمال كلّ عمل وبلاده وضياعه وكفوره وقراه وجزائره وجروفه وجهات الهلالىّ والجوالى، وغير ذلك من معالمه وحدوده «2» والجهات المستظهر بها والبذول «3» ، وسائر ما هو متعلّق بذلك المكان؛ ويذكر عبرة «4» البلد الجيشيّة، وما استقرّ عليه حال متحصّلها أخيرا، وإن كان بالشأم ذكر العبرة الجيشيّة ومتحصّل البلد لثلاث سنين:
مبقلة «5» ومتوسّطة ومجدبة، ثم يشطب «6» قبالة كلّ جهة أسماء مقطعيها، وما هو باسم كلّ واحد منهم، ليتحرّر «7» له بذلك هل استوعب الإقطاع جملة النواحى والجهات، ويتميّز له ما بقى من المحلولات؛ وإن انتقل ربّ إقطاع من إقطاع إلى غيره بادر بشطبه لوقته فى موضعه لئلا يدخل عليه الوهم «8» والاختلاف.(8/202)
ويحتاج إلى أن يتعاهد مباشرى المعاملات والبرور «1»
بطلب الكشوف الجيشيّة فى كل ثلاث سنين ويشطبها «2» على ما عنده لتتحرّر «3» عنده العبر «4» ، ويتميّز له ما تعيّن من الزيادة والنقص.
ويحتاج أيضا إلى بسط جريدة ثالثة بأسماء أرباب النقود والمكيلات خاصّة،
لأنه يحتاج أن يفرج لكلّ منهم فى كلّ سنة عن نقده ومكيله بمقتضى ما شهد به منشوره، وعادة قبضه وجهته، أو ممّا تعيّن بقلم الاستيفاء إن كان، فإذا أفرج لكلّ منهم شطب «5» تاريخ إفراجه قبالة اسمه لتنضبط له بذلك تواريخ قبوضهم ويأمن من التّكرار والغلط؛ وهذه الجريدة هى فرع من الجريدة الجيشيّة، فإنه يبسطها منها.
ويحتاج فى أجناد «6» الحلقة السلطانيّة
إلى أن يضيف كل جماعة منهم إلى مقدّم مشهور من أعيانهم ممن هو متميّز الإقطاع، ويقيم عليهم نقيبا يعرف مساكنهم ومظانّهم، فإذا طلبوا جمعهم، أو طلب أحد منهم أحضره، ويسمّى هذا المقدّم: مقدّم الحلقة؛ ويضيف كلّ جماعة من أمراء الطّبلخاناه «7» وأمراء العشرات،(8/203)
ومقدّمى الحلقة، ومضافيهم إلى مقدّم كبير من أمراء المائة، ويسمّى هذا الأمير:
مقدّم الألف؛ ويحتاج إلى أن يضع لهاتين الطائفتين «1» جريدة عدّة، يضع فيها اسم مقدّم الألف وعدّته من غير تفصيل لأسمائهم وقبالة اسمه عبرة «2» إقطاعه، ما هو لخاصّه، وما هو لأصحابه؛ ثم أمراء الطّبلخاناه كلّ أمير وعدّته، وعبرة إقطاعه، على ما تقدّم فى مقدّم الألف، ويرتّبهم فى التقديم والتأخير على مراتبهم؛ ثم أمراء العشرات كذلك؛ ثم يذكر مقدّمى الحلقة فيعيّن اسم المقدّم ونسبته وأتباعه إن كان له أتباع، وعبرة إقطاعه، ثم يذكر مضافيه من الحلقة على هذا الحكم، ويرتّبهم بحسب مراتبهم، يبدأ فى كلّ تقدمه باسم المقدّم، ويختم باسم النقيب، ليسهل عليه طلب كلّ جندىّ من مقدّمه، ويطلبه مقدّمه من نقيبه؛ وإن انتقل أمير أو جندىّ من مقدّم ألف أو مقدّم حلقة وانضاف إلى مقدّم آخر نقله لوقته لئلّا يضطرب عليه حالهم، ويلتبس أمرهم؛ وكذلك أيضا يفعل فى المماليك السلطانيّة من إضافة كلّ جماعة منهم إلى مقدّم من أعيانهم، ويميّز أرباب الوظائف منهم: من السلاحداريّة «3» والحربداريّة والرّمحداريّة والجمقداريّة «4» والزّردكاشيّة «5»(8/204)
والبندقداريّة «1» ومن السّقاة «2» والجمداريّة «3» والخزنداريّة «4» والحرّاس «5» والبشمقداريّة «6» وغيرهم؛ ويضيف كلّ جماعة من كلّ طائفة منهم إلى متعيّن من جملتهم، ويجمع عدّة كلّ طائفة ويقدّم عليهم أمثلهم؛ وأمّا المماليك الكتابيّة «7» أرباب الجامكيّات «8» فينسب كلّ جماعة منهم إلى طبقة مقدّمها من الطواشيّة، وينسب المماليك البرجيّة «9»(8/205)
الى مساكنهم ومقدّمهم، والبحريّة «1» إلى مراكزهم ومقدّمهم، والأوشاقيّة الّذين إقامتهم بالإسطبل إلى المقدّم عليهم من الطواشيّة، ويرجع سائر المماليك السلطانيّة إلى مقدّمهم الكبير، ولا يكون فى الغالب إلّا من الطواشيّة الأمراء.
ويحتاج أيضا الى أوراق أخر تتضمن أسماء أمراء الميمنة وأمراء الميسرة، والجالس
- وهو المقدّم- أمام قلب الجيش، وهذه الأوراق تكون جمليّة يستغنى فيها بذكر مقدّمى الألوف دون مضافيهم.
ويتلو هذه الأوراق أوراق أخر- تتضمّن أسماء الأمراء الذين جرت عادتهم بصحبة ركاب السلطان فى الصّيد والركوب للمتنزّهات وفى الميادين للّعب بالكرة، وفى غير ذلك؛ هذا ما يحتاج إليه فى الأمراء والمماليك السلطانيّة ورجال الحلقة.
وأما أجناد الأمراء فإنّ مباشر الجيش يسترفع «2» من دواوينهم أوراقا بعدّة أجناد كلّ أمير منهم، يصدرها كاتب عدّة «3» الأمير على عدّة نسخ بحسب المباشرين للجيش، ويقول فى صدرها ما مثاله: عرض رفعه «4» المملوك فلان الفلانىّ على ما استقرّ عليه الحال إلى آخر كذا، والعدّة خاصّته، وكذا كذا طواشيّا؛ ويشرح أسماء(8/206)
الجند، وما أقطع باسم كلّ منهم من إقطاع ونقد ومكيل، مبتدئا برأس المدرّج ومن يليه فى الجند، ثم مماليك الأمير وألزامه، ويختمهم بالنقيب، ثم يعيّن فى آخر المدرّج ما بقى الخاصّ الأمير من النواحى والجهات، وما عليه منه لأصحابه من نقد ومكيل إن كان؛ ويلزمه عمل مسير على نواحى الإقطاع يشطب «1» كلّ جهة بأسماء من أقطعت لهم، وما بقى منها للخاصّ إن كان فإن كان منشور الأمير قد عيّن فيه ما هو لخاصّه وما هو لأصحابه فليس له أن يقتطع من المعيّن لجنده ما يضيفه لخاصّه، ولا يمنع أن يقطع من خاصّه زيادة لأصحابه؛ وهذه القاعدة لاحقة بقواعد الفقه، فإنّ له التصرّف فى ماله دون مال غيره، وله أن يميّز بعضهم على بعض بحسب أحوالهم ومراتبهم؛ فإذا رفعت إليه هذه الأوراق عرض جند كلّ أمير فى مجلس ولىّ الأمر بمشهد من الأمراء وغيرهم، فمن أجاز ولىّ الأمر عرضه حلّاه «2» قبالة اسمه، ويعيّن فى حلاه سنّه ولونه وقامته، ثم يذكر حلية وجهه، ويصف ما يتميّز به عن غيره من أثر فى وجهه أو غير ذلك؛ ومن ردّه ولىّ الأمر من العرض طولب الأمير بإقامة غيره، فإذا أقامه وعرضه وأجاز ولىّ الأمر عرضه حلّاه عند ذلك، وعيّن تاريخ عرضه إن كان عرضه بعد يوم العرض الشامل؛ ويرقم المباشر بقلمه على رأس أوراق العرض تاريخ عرض الجند؛ وتستحقّ هؤلاء الجند الإقطاعات والنقود والهلالىّ من تاريخ عرضهم وتدوينهم فى الديوان، والأمير من تاريخ منشوره؛ فإن مات جندىّ منهم أو فارق الخدمة أقام الأمير عوضه، وعرضه على ولىّ الأمر، وأثبت اسمه بالديوان؛ وإن قطعه الأمير فلا يخلو قطعه:
إمّا أن يكون لسبب كالعجز ونحوه فله ذلك، وإما أن يكون بغير سبب فلا يخلو:(8/207)
إما أن يكون قطعه له فى قرب زمن إدراك المغلّ فلولىّ الأمر منعه من ذلك، أو فى غير وقت المغلّ، فإن عرض من هو أكفى منه وأقدر على الجنديّة أجيز، وإن عرض من هو دونه منع أميره من ذلك، وألزم باستمرار الكافى أو إقامة من يماثله فى الكفاية والقدرة؛ وإذا عرض الأمير أصحابه فى السنة الثانية جدّد كاتبه أوراقا بالعرض نظير الأولى، وشطب «1» كاتب الجيش حلى «2» الجند من العرض الأوّل، ثم يقابلها بالصورة الجديدة «3» فى وقت العرض الثانى، فإن وافقت وطابقت أجازه، وإن اختلفت الحلى وتباينت ردّه وطالع ولىّ الأمر به ليقع الإنكار على من تجاسر على فعل ذلك لما فيه من التلبيس؛ فهذه هى القواعد التى استقرّت فى زماننا والله أعلم.
ويحتاج الكاتب إلى تحرير شواهده وحفظها،
فإن كان بين يدى السلطان ورسم له بإقطاع أمير أو جندىّ كتب مثالا بالإقطاع، وكتب السلطان أو نائبه بقلمه أعلى المثال ما مثاله: يكتب؛ وعيّن ناظر الجيش بقلمه تحت خطّ السلطان أو نائبه ما مثاله: رسم أن يكتب باسم فلان لاستقبال مغلّ سنة كذا، ولاستقبال كذا من مغلّ سنة كذا؛ وخلّد الكاتب هذا الشاهد عنده، وكتب مثالا ثانيا مربّعا بما مثاله: رسم بالأمر الشريف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ الفلانىّ- ويدعو للسلطان- أن يقطع ويقرّر باسم فلان الفلانىّ- وينعته بما يستحقّ- ما رسم له به الآن من الإقطاع والنقد والمكيل إن كان فيه نقد أو مكيل فى السنة، خارجا(8/208)
عن الجوالى «1» والمواريث الحشريّة «2» والرّزق «3» الإحباسيّة، إن كان الإقطاع بالديار المصريّة؛ وإن كان بالشام قال: خارجا عن الملك والوقف، ثم يقول: خبز «4» فلان الفلانىّ، إن كان عن أحد؛ وإن كان من الخاصّ أو مستجدّا أو مستظهرا به عيّنه، ويذكر خاصّته وعدّته وأتباعه، أو بمفرده، ثم يعيّن جهات إقطاعه، ويثبت هذا المثال الثانى فى الديوان، وتشمله علامة السلطان ونائبه، ثم يخلّد بديوان الإنشاء، وهو شاهد الموقّع، ويكتب منشوره بمقتضى ذلك المثال، وتشمله علامة السلطان وخطّ نائبه ووزيره بالامتثال، ويثبت بديوان الجيش ثم بالدواوين؛ وإن كان الكاتب فى جهة خارجة عن باب الملك من الممالك الشاميّة وأمره النائب بإقطاع أحد كتب مثالا بالإقطاع، وكتب النائب بأعلاه: يكتب، ثم يكتب عليه الناظر نحو ما تقدّم، وهو شاهد الكاتب، ثم يكتب المثال الثانى فى ورقة مربّعة بما مثاله: رسم بالأمر الشريف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ الفلانىّ أن يقطع ويقرّر باسم فلان ما رسم له به الآن من الإقطاع، ويعيّن خبز «5» من كان وسبب حلّه عنه، إما بوفاة، أو بمفارقة، أو بانتقال إلى غيره، أو غير ذلك من الأسباب الموجبة لإخراج الإقطاع عنه،(8/209)
ويكتب نائب السلطنة عليه بالتّرجمة، ويترجم عليه الناظر بقلمه تحت خطّ النائب بما مثاله: المملوك فلان يقبّل الأرض وينهى أن هذا مثال كريم باسم فلان المرسوم إثباته فى جملة الأمراء والمماليك السلطانيّة، أو البحريّة، أو رجال الحلقة المنصورة، أو رجال التّركمان، أو العربان، أو الجبليّة بالمملكة الفلانيّة، أو بالجهة الفلانيّة «1» بما رسم له به الآن من الإقطاع عن فلان، والعدّة خاصّته «2» ، وكذا كذا طواشيا، أو بحسب ما يكون لاستقبال ما عيّن فيه على ما شرح باطنه، والأمر فى ذلك معذوق «3» بإمضائه أو بما يؤمر به من الأبواب. ثم يثبت بديوان الجيش، ويجهّز إلى باب السلطان، فإذا وصل إلى الباب كتب عليه الناظر ومن معه من الرّفاق بالمقابلة، وقوبل به، ثم تشمله علامة السلطان أو نائبه بالكتابة، ويخلّده كاتب الجيش بالباب عنده، ويكتب مثالا من جهته على ما تقدم، فإذا خرج المنشور الشريف ووصل الى تلك المملكة شمل خطّ نائبها بالامتثال، وكتب عليه ناظر الجيش ورفقته بالثبوت تحت خط ناظر الجيش بالباب ورفاقه، ثم يثبت بالدواوين، ويفرج لربّ الإقطاع على حكمه، ويثبت إفراجه، ويسلّم اليه إقطاعه؛ فهذه شواهد المناشير والأمثلة.
وأما غيرها من شواهد الكشوف فعلى حسب الوقائع؛ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ويحتاج إلى ضبط أسماء من توجّه بدستور «4» إلى جهة من الجهات،
ويراعى انقضاء مدّة الدّستور، ثم يكشف عنه، ويطالب مقدّمه به،(8/210)
وكذلك من توجّه إلى الحجاز وغيره، وكذلك من تخلّف عن العود مع الجيش المجرّد فى المهمّات، فيراعى ذلك حسب الطاقة والإمكان، وإن تعذّرت عليه معرفة من تأخّر بعينه يستعلم «1» أخبارهم مجملة من مقدّميهم ونقبائهم.
ويحتاج إلى أنه مهما انحلّ من الإقطاعات،
أو تعيّن من تفاوت المدد عمّن درج «2» وفارق «3» وانتقل «4» ، أو ما تعيّن فى خلال المدد بين منفصل ومتّصل يحرّر ذلك، ويكتب به حوطة «5» جيشيّة يضمّنها اسم ربّ الإقطاع المتّصل ونواحى إقطاعه ونقده ومكيله إن كان، ويعيّن استقبال الحوطة، ويميّز ما استحقّه الديوان من المغلّ، وتصدر الى ديوان التصرّف بعد شمولها بالعلامة وثبوتها، ويطالب المستوفى «6» بكتابة رجعة بوصول ذلك إليه ليبرأ من عهدته، ويلزم المثبتون التعريف بذلك وإضافة ما يتحصّل منه، فإن أخّر كاتب الجيش إصدار الحوطات الى ديوان التصرّف حتى يفوت الزمن الذى يمكن فيه تحصيل ما فيها، كان تحت دركه «7» وتبعته؛ والله أعلم.(8/211)
ويحتاج مباشر الجيش إلى مراجعة جرائده:
الجيشيّة والإقطاعيّة وأوراق العدّة فى كلّ وقت من غير احتياج إلى كشف، لتكون على خاطره أسماء الجند ونواحى إقطاعهم، فإنه بصدد أن يسأل عن شىء من ذلك بين يدى ملك أو نائب، فإن أخّر الجواب بالجملة «1» إلى أن يكشف عنه ربّما ينسب إلى عجز فيتعيّن أن يكون على خاطره من جليّات الأحوال ما يجيب به فى المجلس على الفور، ولا يتأتّى له ذلك إلا بمراجعة حسابه ومداومة النظر فيه، والناظر إلى ذلك أحوج من غيره من المباشرين، لأنه المسؤول والمخاطب فى غالب الأوقات؛ والله أعلم بالصواب.
ويحتاج أيضا إلى معرفة الحلى «2» واختلافها
على ما نذكره فى فصل الوراقة «3» ، ولا بدّ له من معرفة الأوضاع التى اصطلح عليها كتّاب الجيوش فى كتابة الحلىّ من الاختصار؛ فهذه أمور كليّة لا بدّ لمباشر الجيش من معرفتها وإتقانها.
ويتجنّب «4» مباشر الجيش أن يرقم بقلمه عدّة جيش تصريحا، لما يتعيّن من إخفاء عدّته وذكر تكثيره، فإنه إن وضع ذلك بقلمه لا يأمن من الاطّلاع عليه(8/212)
فيشيع «1» ويذيع، وقد يتّصل بالعدوّ والمعاند «2» والمناوئ فيترتّب عليه من الفساد ما يترتّب وهذا باب يجب على كاتب الجيش الاحتفال «3» به، والاحتراز من الوقوع فيه، وكتمانه عن سائر الناس؛ وإن دعته الضرورة الى تسطير ذلك خشية «4» أن يسأله ولىّ الأمر عن شىء منه، فليكن وضعه لذلك رمزا خفيّا يصطلح عليه مع نفسه لا يعرفه إلا هو، أو من له دربة بمباشرة الجيش.
ويتجنّب أن يكشف عبرة «5» إقطاع أو متحصّله، أو يذكر ذلك لأحد إلا بمرسوم ولىّ الأمر، ثم يذكره باللفظ دون الخط، ووجوه الاحتراز كثيرة، وهى بحسب الوقائع، فيتعيّن على مباشر الجيش ملاحظة ذلك والاحتراز من الوقوع فيما ينتقد عليه، أو يصل سبب ضرر منه إليه؛ هذا ما أمكن إيراده مما يحتاج مباشر الجيش إلى اعتماده؛ والله أعلم.
وأما مباشرة الخزانة
- فالعمدة فيها على العدالة والأمانة، لأن خزائن الملوك فى هذا العصر لسعتها، وكثرة حواصلها، وعظم ذخائرها لا تنضبط بسياقه، فإنه لو طولب كاتب الخزانة بعمل سياقه لحواصلها عن سنة احتاج إلى أن ينتصب لكتابتها سنة كاملة لا يشتغل فيها بغيرها، فإذا تحرّرت سياقه السنة فى آخر السنة الثانية وكشفها مباشر الأصل وحرّرها فى مدّة أخرى من السنة الثالثة فاتت المصلحة المستقبلة، وتعطّل على المباشر ما بعد تلك السنة، لاشتغاله بنظر «6» تلك السّياقة، فإذا تقرّر عجز(8/213)
الكاتب عن عمل السّياقة بهذه المقدّمة فقد تعيّن أنّ «1» العمدة فى مباشرتها على الأمانة والعدالة؛ ومع ذلك فيحتاج كاتبها إلى أمور:
منها ضبط ما يصل «2» إليه من حمول الأموال والأصناف،
ويقابل ما يصل منها على رسائله، ويحرّره بالوزن والذّرع والعدد والأحمال على اختلاف أجناسه وأنواعه وأوصافه، ويميّز ما يصل إليه من الأقاليم والثغور والأعمال والممالك، وما يصل من الهدايا والتّقادم «3» على اختلافها، فيضيف كلّ نوع إلى نوعه، وصنف إلى صنفه؛ وكذلك يحرّر ما يبتاعه من الأصناف التى تدعو الضرورة اليها وجرت العادة بابتياعها.
ومنها معرفة عوائد «4» أرباب الصّلات والإنعام،
ومصاريف «5» أرباب المناصب عند ولاياتهم، وما جرت عليه عوائدهم «6» من الإنعام فى خلال مباشراتهم بالأسباب الموجبة لذلك وغير الأسباب، وعوائد أرباب التّقادم والصنّاع وغيرهم.
ومنها ضبط ما يصل إلى الخزانة من تقادم الملوك والنوّاب،
ويقابل ما يصل منها فى الوقت الحاضر على ما تقدّم، ويحرّر زيادته من نقصه، ويكون ذلك على خاطره،(8/214)
فإن سأله ولىّ الأمر عنه أجابه، وإلّا فلا يبدؤه؛ ويضبط عادات مهاداة الملوك وما جهّز إلى كلّ منهم فى السنين الخالية، وما كان قد وصل من هداياهم، وما جرت عليه عادات رسلهم وقصّادهم «1» من التشاريف والإنعام.
ومنها ضبط ما جرت به العادة من كسا أرباب العوائد «2» المقرّرة فى كلّ سنة
على اختلاف طبقاتهم من أرباب الرتب والمناصب والمماليك السلطانيّة وغيرهم، وتواريخ صرف الكسوة اليهم.
ومنها تجهيز ما جرت العادة بأن يجهّز فى خزائن الصحبة عند استقلال ركاب السلطان من مقرّ ملكه،
إما إلى الصيد والنزهة، وإما لكشف ممالكه «3» عند انتقاله من مملكة إلى أخرى، أو فى حروبه عند ملاقاة الأعداء، فيجهّز ما جرت به العادة فى ذلك، ولا يزيد عليه إلا بمرسوم ولىّ الأمر، ولا يستكثر من استصحاب صنف من الأصناف عند توجّهه إلى معدن ذلك الصنف ومظنته، ولا إلى الخزانة منه بحمله «4» ، بل يستصحب منه ما يكون معه ذخيرة واحتياطا، إذ لو طلب الملك ذلك الصنف فى مسيره قبل وصوله إلى معدن ذلك الصنف كان معه منه ما يسدّ به الضرورة، ولا يعتذر بأنه ما استصحبه معه بحكم توجّهه إلى معدنه، وأنه فعل ذلك للمصلحة الظاهرة، فإن الملوك لا تحتمل مثل ذلك، ولا تصبر على أن يفقد(8/215)
من ذخائرها ما تطلبه؛ ويستكثر من استصحاب الصنف المعدوم فى ذلك الوجه الذى يتوجّه إليه، ويحمل منه ما يعلم أنه يكفيه فى مسيره وعوده؛ والله أعلم.
ومنها «1» ضبط ما يتسلّمه الصّنّاع
من مزركش وخيّاط وفرّاء ونجّاد «2» وسرّاج وخردفوشى «3» وغيرهم بالوزن والذّرع والعدد، ويحرزه عند استعادته من صانعه.
ومنها تحرير ما يصل إليه من الأقمشة من دار الأعمال
وما جرت به العادة أن يحمل منها فى كلّ مدّة ليطالب به إن تأخّر عن وقته؛ وإن قلّ صنف من الأصناف عنده يبادر بمطالعة وزير المملكة أو مدبّرها بذلك ليخلص من عهدته، وعلى وزير المملكة ومدبّرها طلب ذلك الصنف من مظانّه وحمله إلى الخزانة.
وأما ملبوس الملك المختصّ بنفسه وعادته فى التفصيل والحبس «4» والطّول والسّعة فهو أمر متعلّق برأس نوبة الجمداريّة «5» ، وهو المقدّم عليهم، فعليه أن يحضر إلى الخزانة ويختار من الأقمشة ما يعلم أنه ملائم لخاطر السلطان وموافق لغرضه، فيفصّل منه ما يراه على ما يراه من أنواع التفصيل، وعلى معلّم الخيّاطين الدّرك فى طوله وسعته وهندامه، ولا يستغنى المباشر عن معرفة ذلك، ولا يستغنى أيضا عن معرفة(8/216)
قيم الأشياء على اختلافها وعادة التفصيل والتّرفئة «1» والجندرة «2» والحشو ليشارك ربّ كل صنعة فى صناعته بنظره ولسانه، ولا يكون فى ذلك مقلّدا جملة، بل يشاركهم فيما هم فيه، وعليهم الدّرك دونه فيما لعلّه يعرض فى ذلك من خلل إن وقع، لأن هذه الصناعات زائدة على وظيفته ولازمة لأولئك؛ فأيّما رجل اجتمعت فيه هذه الأوصاف تعيّن على ولىّ الأمر ندبه لمباشرة الخزانة، وقرّر له كفايته، وألزمه إن امتنع.
وأما مباشر بيت المال
- فعمدته على ضبط ما يدخل إليه وما يخرج منه، ويحتاج فى ضبط ما يصل إليه من الأموال إلى أن يقيم لكلّ عمل من الأعمال وجهة من الجهات أوراقا مترجمة باسم العمل أو الجهة، ووجوه أموالها، فإذا وصل إليه المال وضع الرسالة الواصلة قريبة من ذلك العمل «3» ، ثم شطبها «4» بما يصحّ عنده من الواصل إليه، وذلك بعد وضعه فى تعليق المياومة، فإن صحّ الواصل صحبة الرسالة كتب لمباشر ذلك العمل رجعة بصحّته، وإن نقص ضمّن رجعته: من جملة كذا؛ واستثنى بالعجز والردّ، وبرز بما صحّ، وأعاد الردّ على مباشر ذلك العمل وأثبت فى بيت المال ما صحّ فيه، فإن كان العجز عن اختلاف الصّنج «5» عيّنه فى رجعته(8/217)
ولا شىء على مباشر العمل، وإن كان مع اتفاقها فلا يعتدّ لمباشر العمل أو الجهة إلا بما صحّ فى بيت المال.
ويحتاج كاتب بيت المال إذا عمل جامعة لسنة إلى أن يضمّ كلّ مال وصل إليه إلى ما هو مثله، من الخراج والجوالى والأخماس وغير ذلك بحسب ما يصل اليه، ويفصّل جملة كلّ مال بنواحيه التى وصل منها، ويستشهد فيه برسائل الحمول، ويضيف إلى جملة ما انعقد عليه صدر الجامعة من الأموال ما انساق عنده من الحاصل إلى آخر السنة التى قبلها، ويفذلك «1» [بعد «2» ذلك] ، ويعرف ما لعلّه صرفه من نقد بنقد فى تواريخه، ويستقرّ بالجملة بعد ذلك؛ ثم يشرع فى الخصم، فيبدأ منه بما حمله إلى المقام على يد من حمل على يده وتسلّمه، من الخزنداريّة «3» والجمداريّة وغيرهم إن كان، ثم يذكر ما نقله إلى الخزانة ويستشهد فيه برجعاته، وما نقله إلى الحوائج خاناه والبيوت والعمائر وغيرها بمقتضى استدعاءات «4» هذه الجهات ووصولات مباشريها، وفى أرباب الجامكيّات «5» والرواتب والصّلات بمقتضى الاستئمارات «6» والتواقيع السلطانيّة؛ فإذا تكامل الحمل والمصروف عقد عليهما جملة وساق ما بقى إلى الحاصل؛ والله أعلم.
وطريق مباشر بيت المال فى ضبط المصروف أن يبسط جريدة على ما يصل إليه من الاستدعاءات «7» والوصولات من الجهات، وأسماء أرباب الاستحقاقات(8/218)
والجامكيّات والرواتب والصّلات، وما هو مقرّر لكلّ منهم فى كلّ شهر بمقتضى تواقيعهم أو ما شهدت به الاستثمارات القديمة المخلّدة فى بيت المال، ويشطب «1» قبالة كل اسم ما صرفه له على مقتضى عادته إما نقدا من بيت المال، أو حوالة تفرّع «2» على جهة تكون مقرّرة له فى توقيعه، ويوصل إلى تلك الجهة ما فرّعه عليها، وكذلك إذا أحال ربّ استحقاق غير ثمن مبيع «3» أو غيره على جهة عادتها تحمل إلى بيت المال سوّغ «4» ذلك المال فى بيت المال، وأوصله إلى تلك الجهة، والتسويغ «5» فى بيت المال هو نظير المجرى «6» ؛ وإذا وصل إليه استدعاء من جهة من الجهات أو وصول وضعه فى جريدته، وخصمه بما يقبضه لربّه، ويشهد عليه بما يقبضه، ويورد جميع ذلك فى تعليق المياومة.
وأما مباشر أهراء «7» الغلال
- فمبنىّ أمره أيضا على ضبط ما يصل إليه، وما يصرف من حاصله؛ ويحتاج فى مبدإ مباشرته إلى تحرير ما انساق من حواصل الغلال بأصنافها، وإن أمكنه تمييز ذلك بيّنه، ويكون أتقن لعمله؛ ثم يبسط جريدة يرصّع «8» فيها أسماء نواحى الخاصّ السلطانىّ التى تصل الغلال منها إلى الأهراء(8/219)
فإذا جاءته رسالة من جهة «1» من تلك الجهات وضعها تحت اسم الجهة وعبر «2» ما وصل قرينها، فإن صحّ صحّتها كتب لتلك الجهة رجعة بالصّحة، وإن نقص فلا يخلو: إما أن يكون المركب أو الظهر الذى حمل ذلك الصنف قد سفّر من ديوان الأصل، أو سفّره مباشر العمل من جهته، فإن كان قد سفّر من ديوان التسفيرات طالب مباشر الأهراء مقدّم رجال المركب والأمين المسفّر عليه بالعجز، وألزمهما بحمله، فإن كان قد سفّر من الأعمال كان درك ذلك على من سفّره، ومباشر الأهراء بالخيار بين أن يطالب محضر الغلّة بالعجز، أو يرجع على مباشر العمل به، ويكون مباشر العمل هو المطالب لمن سفّره، والأولى طلب محضر الغلّة، فإنه إذا أطلقه ورجع إلى المباشر الذى سفّره فقد يعود إلى العمل وقد لا يعود، فإن لم يعد كان مباشر الأهراء قد أضرّ بمباشر العمل، لأنه ألزمه الغرم «3» مع قدرته وتمكّنه من استرجاعه ممن عدا عليه، ويكون هو أيضا ممن شارك فى التفريط؛ وإن وصلت إليه الغلّة متغيّرة تغيّرا ظهر له منها أنها خلطت بغيرها، إما بوصول عين تلك الغلّة اليه، أو بقرينة الحال التى يعلم منها أن تلك الغلة لا يوجد مثلها من فلّاح، ولا يعتدّ بها من خراج السلطنة لظهور غلثها «4» ، أو وصلت إليه الغلّة مبلولة بللا ظاهر التزيد عند الكيل وتتميّز «5» نظير ما أخذ منها، فله أن يعمل لذلك معدّلا، وهو أن يكيل منها جزءا معلوما ويغربله حتى يصير مثل العين التى عنده، أو بتخفيف ذلك حتى يعود إلى حالته(8/220)
الأولى، ويحرّر العجز على هذا الحكم، ويطالب به محضر الغلّة؛ وينبغى له أن يبدأ بصرف ما وصل إليه من الغلال المبلولة ولا يخلطها بغيرها، فإنها بعد بللها لا تحمل طول البقاء؛ هذا ما يعتمده فى القبض.
وأما فى المصروف، فإن كان لصاحب جراية أو صلة أو إنعام أو تقا «1» لفلّاح صرف ذلك من عرض حاصله، ويراعى فى صرف التّقاوى أن «2» تكون من أطيب الغلال وأفضلها، لأنه يجنى ثمرة ذلك عند استيفاء الخراج؛ وإن كان ما يصرفه مما ينقله إلى الطواحين برسم المخابز، أو للاسطبلات والمناخات برسم العليق غربله، وحرّر نقصه، وأورده فى جامعته من الفذلكة «3» واستقرار الجملة؛ ومباشرة الأهراء مناسبة فى أوضاعها لمباشرة بيت المال.
ذكر مباشرة البيوت السلطانية
وهى الحوائج خاناه، والشراب خاناه، والطشت خاناه، [والفراش خاناه «4» ] ، والسلاح خاناه؛ وأمر «5» البيوت معذوق «6» بأستاذ الدار.
فيحتاج مباشر الحوائج خاناه إلى أمور: منها ما يحتاج إليه من راتب السّماط العامّ والطارئ- وهو الطعام الثانى الذى يمدّ بعد قيام السلطان من المجلس العامّ، ويأكله(8/221)
خواصّ الملك ومن يحضره بين يدى السلطان، وهو أخصّ من السّماط الأوّل- وطارئ الطارئ وهو الطعام الثالث الذى يمدّ بعد رفع الطارئ، ومنه يأكل الملك وخواصّه، وقد يأكل السلطان من الطارئ الذى قبله؛ فيحرّر ما يحتاج إليه من لحوم وتوابل وخضراوات وأبازير «1» وتحال وقلوب «2» وطيب وبخور وأحطاب وغير ذلك؛ ولذلك عندهم معدّل قد عرفوه فلا يتجاوزه، فإنه إن صرف زيادة عنه بغير سبب ظاهر خرج عنه «3» وكان تحت دركه.
ومنها معرفة مقادير الأسمطة فى أوقات المهمّات والأعياد ليجرى الأمر فيها على العادة، ولا يتجاوزها إلا بمرسوم.
ومنها تعاهد أسماء الحوائج خاناه، فيستدعى ما يراه قد قلّ عنده منها قبل نفاده بوقت يمكن فيه تحصيله، فإن أخّر طلب ذلك إلى أن ينفد، أو طلبه فى وقت ولم يبق عنده منه ما يكفيه إلى أن يأتيه ذلك الصنف من بلد آخر كان المباشر تحت درك إهماله «4» ، ومتى طلب ذلك فى وقته وطالع ولىّ الأمر به فقد خلص من عهدته.
ويحتاج إلى بسط أسماء من يعامل «5» بالحوائج خاناه من قصّاب وحيوانىّ وطيورىّ وغيرهم، ويحصر «6» لكلّ منهم ما أحضره فى كلّ يوم، فإذا اجتمع له من ذلك(8/222)
ما يقتضى محاسبته جرّد له محاسبة ضمّ فيها كلّ صنف إلى صنفه وثمّنه، إما بتعريف الحسبة، أو بعادة استقرّت له، وأحاله بمبلغ ما وجب له على بيت المال، أو استدعى من بيت المال ما ينفق منه «1» وأشهد عليه بقبض ذلك.
ويحتاج أيضا إلى بسط أسماء أرباب الرواتب السلطانيّة وأرباب الصّلات، وما لكلّ منهم فى كلّ يوم، وخصمه بقبوضهم مياومة أو مشاهرة، صنفا أو حوالة؛ ويراعى حال من مرض من المماليك السلطانيّة ونقل من اللّحم إلى المزاوير «2» أو المساليق «3» فيقطع مرتّبه من اللحم فى مدّة مرضه، ونظير ذلك من التوابل فى مدّة مرضه.
ويحتاج إلى معرفة عادات الرّسل الواردين، والأضياف «4» المتردّدين، ومرتّب الصدقة فى شهر رمضان، وعادات الأضاحى والصّلات فى عيد النحر، فيجرى الأمر على حكم العادة؛ ويضبط جميع ما يصل إليه من ديوان المتجر ومطابخ السكّر وغيرها، ويكتب لهم بما يحملونه إليه من الأصناف؛ ويضبط أيضا ما استقرّ فى كلّ ليلة من الوقود من شمع وزيت، ويصرف على ما استقرّ عنده، وإذا سلّم شمع الوقود إلى الطّشتداريّة وزنه عليهم، وعبره «5» عند إعادته فى بكرة النهار ليتميّز له النقص؛(8/223)
ويضبط غير ذلك مما يصل إليه وينزل عنده من عادات من قنع «1» وتبتّل، وغير ذلك من جميع ما يرد وما يرتّب ويزاد ويقطع.
وأما الشراب خاناه
- وهى بيت يشتمل على أنواع المشروب من المياه على اختلافها، والسكّر والأشربة والدّرياقات «2» والسّفوفات والمعاجين والأقراص والأقسما «3» والفقّاع «4» والبلح والأبقال والحلويّات «5» والجوارشات «6» والفواكه، وما يجرى هذا المجرى؛ وأمر هذا البيت الخاصّ «7» معذوق «8» بأمير مجلس، والعامّ بأستاذ الدار؛ فيحتاج مباشر هذه الوظيفة الى ضبط ما يصل إليه من جميع هذه الأصناف،(8/224)
وما يستعمله من ذلك فى عقد الأشربة والحلويّات، وما يعقده للمشروب وما يصرفه من ذلك، ومعرفة عادات الأسمطة والطّوارئ والرواتب المقرّرة فى كلّ يوم، فيجرى الأمر فيها على العادة المستقرّة، وما يستدعيه السلطان على حسب الاتفاق، وما يصرف للمرضى من المماليك السلطانيّة من أنواع الأشربة والمعاجين وغيرها بمقتضى أوراق الأطبّاء؛ هذا ما يعتمد عليه مباشرها والله أعلم.
وأما الطّشت «1» خاناه
- فهى بيت تكون فيه آلة الغسل والوضوء، وقماش «2» السلطان البياض «3» الذى لا بدّ له من الغسل، وآلة الحمّام، وآلات الوقود؛ فيكون فى هذا البيت من الآلات: الطّشوت والأباريق والسخّانات والطاسات والكراسىّ والستائر واللّبابيد «4» المختصّة بالحمّامات والسّجادات والنّمرقات «5» والمناشف وفوط الخدمة ومقاعد الجلوس من الجوخ والبسط، وغير ذلك، والمباخر وأنواع البخورات والطّيب والغوالى «6» وماء الورد والممسّك، وغير ذلك من الأصناف التى تلائم هذا البيت؛ ويستدعى ما يحتاج اليه برسم هذا البيت من الحوائج خاناه والخزانة؛ والله أعلم.(8/225)
وأما الفراش خاناه
- فيكون فيها أنواع الفرش والخيام والخركاهات «1» والتّخوت وقصور الخشب التى تنصب فى الدهاليز، وحمّامات الخشب التى تنقل على الظّهر فى الأسفار، وما يتعلّق بذلك من اللّبابيد «2» وشلائت «3» النوم وغير ذلك؛ وهو بيت متّسع فيه حواصل كثيرة لها قيم جليلة تحتاج الى ضبط ومعرفة، فإن «4» مباشر هذا البيت يحتاج الى معرفة ما يحتاج الى استصحابه فى أسفار السلطان لخاصّته «5» ولمماليكه على اختلاف طبقاتهم ووظائفهم، وما ينصب برسم آدر «6» السلطان ومن يتبعها من الخدّام وما ينصب برسم البيوت السلطانيّة الخزائن فما دونها، وما ينصب لأرباب الوظائف من المباشرين الذين يكونون فى صحبة الرّكاب السلطانىّ، ومن غير المباشرين الذين يكونون فى صحبة الرّكاب السلطانىّ، ومن غير المباشرين حتى الكلاب السلطانيّة والكلابزيّة «7» والجوارى؛ ويميّز بين خيام «8» الصيد والنّزه والأسفار والحروب، وغير ذلك من الحركات التى يحتاج فيها إلى استصحاب الخيام(8/226)
ولكلّ حركة منها ما جرت به العادة من خيام المقام والسّفر «1» ؛ ويعرض ما يسلّمه للفرّاشين عليهم، ويضبط صفاته عند السّفر، ويستعيده منهم عند العود بعرض ثان، وكذلك ما يسلّمه لأرباب الوظائف؛ ويضبط أيضا ما يتسلّمه الصّنّاع الذين يفصّلون الخام الجديد وغيره من آلات الفراش خاناه: من قماش بياض «2» ومصبوغ وغزل وجلود ومشمّعات وشعر وأخشاب، وغير ذلك، ويعرف عوائدهم «3» فى الأجر، ويحاسبهم على ما يستحقّونه من الأجر بحسب أعمالهم فيحيلهم بمبلغه.
وأما السلاح خاناه
- فهى من أعظم البيوت وأهمّها، وأمرها راجع الى أمير سلاح؛ وعلى المباشر فيها «4» حفظ ما يدخل إليها، وضبط ما يخرج منها مما يتسلّمه السلاح داريّة والزّردكشيّة «5» والحرب داريّة والرّمح داريّة من أنواع السلاح وأصنافه إذا ركب السلطان أو جلس فى المجلس العامّ، واستعادته منهم، وإعادته لهم، والاعتداد لهم بما أنعم به السلطان وذهّبه مما كان بأيديهم؛ ويوصل ما يصل إلى السلاح خاناه من خزائن السلاح وغيرها، وما يصل اليه من سيوف الأمراء الذين يرسم باعتقالهم، وما يحمل اليه من سلاح من توفّى من الأمراء على جارى العادة. «ويميّز «6» ذلك من غيره» وعليه أن ينبّه أمير سلاح على ما عنده من العدد التى يخشى عليها التلف(8/227)
بتطاول المدّة ليأمر بكشفها وإصلاحها: من مسح ودهان وصقل وجلاء وشحذ «1» وتثقيف وخرز، وغير ذلك.
وجميع ما قدّمنا ذكره من البيوت ليس بشىء من صناعة الكتابة العلميّة، بل العمليّة خاصّة، فإن علوم الكتابة إنما تظهر فى نظم الحسبانات، ولا نظم فيما قدّمناه؛ والعمدة فى صناعة الكتابة على مباشرة الهلالىّ والخراجىّ على ما يأتى بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
ذكر جهات أموال الهلالىّ ووجوهها «2» وما يحتاج إليه مباشرها
والهلالىّ عبارة عمّا تستأدى أجوره مشاهرة، كأجر الأملاك المسقّفة من الآدر «3» والحوانيت والحمّامات والأفران وأرحية «4» الطواحين الدّائرة بالعوامل «5» ، والراكبة على المياه المستمرّة الجريان، لا الطواحين التى تدور بالمياه الشّتويّة فى بعض نواحى الشام، فإنها تجرى مجرى الخراجىّ، وسنذكر ذلك إن شاء الله فى موضعه؛ ومما نورد فى أبواب الهلالىّ عداد الأغنام والمواشى، ومن الهوائىّ «6» الجهات الهلاليّة المضمونة والمحلولة؛ والذى يعتمد عليه مباشره أن يتخيّر لكلّ جهة من يستأجرها بقيمتها، وما لعلّه يتعيّن(8/228)
من الحيطة «1» ، ويلزم المستأجر بكتابة إجارة شرعيّة لمدّة معلومة بأجرة معيّنة؛ ويخلّدها فى ديوانه؛ وإن كانت الجهة هوائيّة ألزم ضامنها بكتابة حجّة بمبلغ الضّمان، وطالبه بمن يكفله من الضّمّان الأملئاء «2» القادرين بالمال «3» فى الذمّة، فإن تعذّر فبالوجه «4» ؛ فإذا خلّدت الحجّة عنده كتب له من ديوانه تقريرا عيّن له فيه استقبال مدّة ضمانه، ومبلغ الضمان وأقساطه مبسوطة «5» أو منجّمة «6» ، ويذكر فيه ما يستأديه من رسوم تلك الجهة على ما تشهد به الضرائب المخلّدة فى الدّيوان، وسلّم اليه؛ فإذا تكاملت عنده إجارات الأملاك وحجج الضّمان بسط على ذلك جريدة يشرح فيها الجهة، واسم مستأجرها أو ضامنها، واستقبال مدة إيجاره «7» أو ضمانه، ومبلغ الأجرة أو الضّمان فى السنة والشهر واليوم؛ وإنما ذكرنا اليوم لما يتحصّل من أقساط أيّام سلوخ «8» الشهور الناقصة، ولما كانت العادة جارية به من استخراج قسط يوم التعديل من سائر ضمّان الجهات(8/229)
الهوائيّة، وهو قسط يوم واحد فى سلخ ثلاث سنين يؤخذ من الضّمان خالصا للديوان زيادة على الأقساط، وهذا يستأدى فى بعض أقاليم الشأم؛ وإنما أوردناه خشية الإخلال به؛ ويكون بسطه لذلك فى يمنة القائمة إلى الشطر المكسور المعتاد الذى يتخلّله خيط الجريدة؛ فإن اتّفق فى جهة زيادة فى أثناء السنة قرّرها فى تعليق المياومة، ووضعها فى الجريدة بما صورته: ثم استقرّت باسم فلان لاستقبال التاريخ الفلانىّ بكذا وكذا، العبرة «1» كذا، والزيادة كذا؛ ويحاسب المستأجر أو الضامن المنفصل عمّا استحقّ عليه إلى حين انفصاله، ويلزمه بالقيام به، وذلك بعد أن يعرض على الضامن المستقرّ ما زاد عليه، فإن اختار قبول الزيادة على نفسه قبل ذلك منه، وكان ذلك له، فإن زيدت عليه فى الوقت زيادة ثانية لم يكن له الاستمرار فى الجهة إلا بزيادة على تلك الزيادة الثانية؛ وإذا انقضت مدّة مستأجر وضامن وأراد الخروج من تلك الجهة، فإن كان قد غلّق «2» ما عليه من الأجرة أو الضّمان لم يكن للمباشر إلزامه بالاستمرار بها، وإن انطرد «3» عليه باق كثيرا كان أو قليلا لزمه استئناف عقد جديد نظير العقد الأوّل؛ هذا اصطلاحهم فى الديوان، ولهم اصطلاحات أيضا نحن نذكر ما تيسّر منها، إذ لا تمكن الإحاطة بجميعها لاختلاف أحوال المباشرات، ولو استقصينا ذلك لطال؛ فمن اصطلاحاتهم أن المباشر يسلّم للمستأجر الطاحون عند أذان المغرب من اليوم الذى حصل فيه الإيجار أو الزيادة لاستقبال(8/230)
اليوم الثانى، ويسلّم الحمّام من وقت التسبيح، ويسلّم بقيّة الجهات لاستقبال غرّة النهار؛ وإذا دخل ضامن نيلة «1» قوّم للمنفصل ماله بالخوابى من مياه الأصباغ المختلفة بالقيمة العادلة، ولا يمكّن من أخذ ذلك من المصبغة لما فيه من الإضرار بهما، أما ضرر المنفصل فلفساد المياه، وأما ضرر المتصل فلأنه يتعطّل مدّة إلى أن تختمر له مياه غيرها، ولا يمكّن ضامن المصبغة المنفصل من أخذ خابية وإن كانت ملكه، بل القيمة عنها؛ هذا اصطلاحهم؛ وليحترز مباشر الجهات الهلاليّة من قبول زيادة بسطا فى جهة منجّمة قد مضت أقساطها الخفيفة «2» وبقيت الأقساط الكبار، لما يحصل فى ذلك من التّفاوت والنقص على الدّيوان مع وجود الزيادة الظاهرة، مثال ذلك أن تكون جهة مضمونة فى كلّ سنة بأربعة آلاف درهم منجّمة، قسط ستة شهور ألف درهم، وقسط الستة شهور الثانية ثلاثة آلاف، فانقضت الستّة الأول، وحصلت زيادة فى الجهة فى أوّل الستّة «3» الثانية مبلغ خمسمائة درهم فى السنة على أن تكون قسطين، فيصير بمقتضى البسط قسط الستّة شهور الثانية ألفين ومائتين وخمسين درهما، وهى على الضامن المنفصل بثلاثة آلاف، فتكون هذه الزيادة على هذا الحكم نقصا؛ فيراعى المباشر ذلك، فإنه متى وقع فيه خرج عليه وكان مخرجا لازما؛ ومهما استخرجه المباشر من مستأجر أو ضامن أو أجراه بوصول «4» لربّ استحقاق أو ثمن صنف، أو غير ذلك من وجوه المصارف أورده فى تعليق المياومة، وصورة وضعه لذلك أن يرصّع «5» المحضر أو المجرى عن يمنة القائمة، ويخصم عن يسرتها قبالة(8/231)
المجرى، فيقول فى يمنتها: من جهة فلان كذا، وفى مقابلته: ينصرف فى كذا؛ ثم يشطب «1» المحضر والمجرى من تلك الجهة فى يسرة قائمة الجريدة التى بسطها قبالة كلّ اسم استخرج منه أو أجرى عليه، يفعل ذلك فى مدّة السنة، ويرمز على تعليقه إشارة الخدمة على الجريدة، وصورته [له «2» ] ؛ وكذلك اذا كتب وصولا رمز عليه إشارة الكتابة، وصورته له؛ فإذا انقضت السّنة عمل محاسبة كلّ جهة بما استخرجه من مستأجرها أو ضامنها وأجراه عليه، وعقد على ذلك جملة، فان كان المستخرج والمجرى نظير الأجرة أو الضّمان فقد تغلّقت «3» تلك الجهة عن تلك السنة، وإن زاد المستخرج على الأجرة أورده فى حسابه مضافا، ويسمّيه: زائد مستخرج، على ما يأتى بيانه فى كيفيّة الأوضاع الحسابيّة، واعتدّ «4» له بذلك فى السنة المستقبلة؛ وإن تعيّن للضامن أو المستأجر اعتداد بما يجب الاعتداد به كباطلة الحمّامات من انقطاع المياه عنها أو وقوفها فيها، وإصلاح القدور، وعطل العمائر، وبطالة الطواحين لانقطاع المياه وانكسار الأحجار أو السهام أو العدد، أو حصول جائحة «5» أرضيّة أو سمائيّة كانقطاع الأجلاب «6» عن الجهات الهوائيّة بسبب مداومة الأمطار، أو سقوط الثلوج، أو طروق عدوّ للبلاد، أو حادثة عطّلت تلك الجهة بسببها اعتدّ له بقسط تلك المدّة محسوبا(8/232)
«هذا «1» إذا شرط ذلك فى تقريره «2» » على ما يأتى شرح ذلك؛ هذا ما يعتمد عليه المباشر للجهات الهلاليّة فى أصولها.
وأما مضافاتها فلا فرق بينها وبين سائر الأموال، وسيرد الكلام إن شاء الله على ذلك مفصّلا؛ وقد اصطلح بعض مباشرى الجهات على إيراد أحكار البيوت والحوانيت، وريع البساتين التى تستخرج أجورها «3» مشاهرة، ومصايد السمك، ومعاصر الشّيرج «4» والزيت فى مال الهلالىّ؛ ومنهم من يوردها فى أبواب الخراجىّ، وهو الأليق، وإنما نبّهنا عليه لبيان الاختلاف فيه، ولا أرى فى إيراد ريع البساتين فى مال الهلالىّ وجها، بل يتعيّن ألّا يرد إلا فى أبواب الخراجىّ؛ وإن قال قائل منهم: قد يكون فى أرض البستان مسكن يستحقّ أجرة، قلنا: إن أمكن إفراد ذلك المسكن بأجرة معيّنة تقيّد أمواله فى أموال الهلالىّ دون البستان، وان تعذّر إفراده وأوجرا بعقد واحد فالمسكن هنا فرع البستان، والفرع يتبع الأصل ولا ينعكس، هذا ما خلّصناه من حال مال الهلالىّ «5» ، فلنذكر الجوالى.(8/233)
ذكر الجزية الواجبة على أهل الذمّة و ...
ما ورد فيها من الأحكام الشرعيّة وأوّل من ضربها وقرّرها على الرءوس وما اصطلح عليه كتّاب التصرّف فى زماننا من استخراجها وموضع إيرادها فى الحساب ونسبتها فى الإقطاعات الجيشيّة وما يلزم مباشرها من الأعمال وما يحتاج إليه والله أعلم
أما الأحكام الشرعيّة
فالأصل فى وجوبها قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ
وقد ورد فى هذه الآية تأويلات ذكرها أقضى القضاة أبو الحسن علىّ بن محمد بن حبيب الماوردىّ- رحمه الله- فى الأحكام السلطانيّة، نحن نذكرها على ما أورده، قال: أما قوله: «الّذين لا يؤمنون بالله» فأهل الكتاب [وإن «1» ] كانوا معترفين بأن الله سبحانه واحد، فيحتمل [نفى «2» ] هذا الإيمان بالله تأويلين، أحدهما: لا يؤمنون بكتاب الله سبحانه وهو القرآن، والثانى: لا يؤمنون برسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن تصديق الرّسل إيمان بالمرسل؛ وقوله: «وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» *
يحتمل تأويلين، أحدهما: لا يخافون وعيد اليوم الآخر وإن كانوا معترفين بالثواب والعقاب، والثانى: لا يصدّقون بما وصفه الله تعالى من أنواع العذاب؛ وقوله تعالى: «وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»
يحتمل تأويلين،(8/234)
أحدهما: ما أمر الله سبحانه بنسخه من شرائعهم، والثانى: ما أحلّه لهم وحرّمه عليهم؛ «ولا يدينون دين الحقّ» فيه تأويلان، أحدهما: ما فى التوراة والإنجيل من اتّباع الرسول- وهو قول الكلبىّ-، والثانى: الدخول فى دين الإسلام- وهو قول الجمهور-، وقوله: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» *
فيه تأويلان، أحدهما: من أتباع «1» الذين أوتوا الكتاب، والثانى: من الّذين ملّتهم الكتاب، لأنهم فى اتّباعه كإيتائه «2» ؛ وقوله: «حتّى يعطوا الجزية» فيه تأويلان، أحدهما: حتى يدفعوا الجزية، والثانى حتى يضمنوها، لأنه بضمانها يحب الكفّ عنهم؛ وفى الجزية تأويلان، أحدهما:
أنها من الأسماء المجملة التى لا يعرف منها ما أريد بها إلا أن يرد بيان «3» ، والثانى: أنها من الأسماء العامّة التى يجب إجراؤها على عمومها إلا ما خصصه دليل؛ واسمها مشتق من الجزاء، وهو إما جزاء على كفرهم، أو جزاء على أماننا لهم؛ وفى قوله: «عن يد» [تأويلان، أحدهما: عن غنى «4» وقدرة، والثانى: أن يعتقدوا أن لنا فى أخذها منهم يدا وقدرة عليهم؛ وفى قوله] : «وهم صاغرون» تأويلان، أحدهما: أذلّاء مساكين «5» ، والثانى: أن تجرى عليهم أحكام الإسلام. وقال غيره: الصّغار أن يضرب على فكّ الذمىّ برءوس الأنامل عند قيامه بالجزية ضربا لطيفا غير مؤلم. وقال الماوردىّ:(8/235)
فيجب على ولىّ الأمر أن يضرب الجزية على رقاب من دخل فى الذمّة من أهل الكتاب ليقرّوا بها فى دار الإسلام؛ ويلتزم لهم ببذلها حقّين: أحدهما الكفّ عنهم، والثانى الحماية لهم، ليكونوا بالكفّ آمنين، وبالحماية محروسين؛ روى نافع عن ابن عمر رضى الله عنهم قال: آخر ما تكلّم به النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «احفظونى فى ذمّتى «1» » قال الماوردىّ: ولا تؤخذ من مرتدّ ولا دهرىّ ولا عابد وثن، وأخذها أبو حنيفة من عبدة الأوثان من العجم، ولم يأخذها منهم إذا كانوا عربا «2» ؛ وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وكتابهم التوراة والإنجيل، وتجرى المجوس مجراهم فى أخذ الجزية منهم؛ وتؤخذ من الصابئين «3» والسامرة»
اذا وافقوا اليهود والنصارى فى أصل معتقدهم وان خالفوهم فى فروعه، ولا تؤخذ منهم إن خالفوا اليهود والنصارى فى أصل معتقدهم؛ ومن جهلت حاله أخذت جزيته، ولا تؤكل ذبيحته؛ والجزية تجب على الرجال الأحرار «5» العقلاء، ولا تجب على صبىّ ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، لأنهم أتباع وذرارىّ؛ ولو تفرّدت امرأة منهم [عن «6» ] أن تكون تبعا لزوج أو نسيب لم تؤخذ منها الجزية، لأنها تبع لرجال قومها وإن كانوا أجانب(8/236)
منها؛ ولو تفرّدت امرأة فى دار الحرب فبذلت الجزية للمقام فى دار الإسلام لم يلزمها ما بذلته، وكان ذلك منها كالهبة لا يؤخذ منها إن امتنعت؛ ولا تؤخذ الجزية من خنثى مشكل، فإن زال «1» إشكاله وبان رجلا أخذت منه فى مستقبل أمره وماضيه؛ واختلف الفقهاء فى قدر الجزية، فذهب أبو حنيفة إلى تصنيفهم ثلاثة أصناف:
أغنياء يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهما، وأوساط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهما وضرب «2» يؤخذ منه اثنا عشر درهما، [فجعلها مقدّرة الأقلّ والأكثر «3» ] ومنع من اجتهاد الولاة فيها.
وقال مالك: لا يقدّر أقلّها ولا أكثرها، وهى موكولة إلى اجتهاد الإمام فى الطرفين.
وذهب الشافعىّ إلى أنها مقدّرة الأقلّ بدينار لا يجوز الاقتصار على أقلّ منه، وعنده أنها غير مقدّرة الأكثر، يرجع فيه إلى اجتهاد الولاة، ويجتهد رأيه فى التسوية بين جميعهم، أو التفضيل «4» بحسب أحوالهم، فإذا اجتهد رأيه فى عقد الجزية معهم على مراضاة أولى الأمر منهم صارت لازمة لجميعهم ولأعقابهم قرنا بعد قرن، ولا يجوز لوال بعده أن يغيّره «5» الى زيادة عليه أو نقصان منه.(8/237)
ويشترط عليهم فى عقد الجزية شرطان: مستحقّ ومستحبّ، أما المستحقّ فستة «1» أشياء: أحدها ألّا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له، والثانى ألّا يذكروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتكذيب له ولا ازدراء به، والثالث ألّا يذكروا دين الإسلام بذمّ له ولا قدح فيه، والرابع ألّا يصيبوا مسلمة بزنى ولا باسم نكاح، والخامس ألّا يفتنوا «2» مسلما عن دينه ولا يتعرّضوا لماله ولا دمه «3» ، والسادس ألّا يعينوا أهل الحرب ولا يؤووا أغنياءهم؛ فهذه الستة حقوق ملتزمة بغير شرط، وإنما تشترط إشعارا لهم، وتأكيدا لتغليظ العهد عليهم، فيكون انتهاكها بعد الشرط نقضا لعهدهم.
وأما المستحبّ فستة أشياء: أحدها تغيير هيآتهم بلبس الغيار «4» وشدّ الزّنّار «5» ، والثانى ألّا يعلموا على المسلمين فى الأبنية، ويكونوا إن لم ينقصوا مساوين لهم، والثالث ألّا يسمعوهم أصوات نواقيسهم، ولا تلاوة كتبهم، ولا قولهم فى عزير والمسيح، والرابع ألّا يجاهروهم بشرب خمورهم، ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم، والخامس أن يخفوا «6» دفن موتاهم ولا يجهروا بندب عليهم ولا نياحة، والسادس أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقا وهجنا، ولا يمنعوا من ركوب البغال والحمير؛ قال: فهذه الستة المستحبّة(8/238)
لا تلزم بعقد الذّمّة حتى تشترط فتصير بالشرط ملتزمة، ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضا للعهد، لكن يؤخذون «1» بها إجبارا «2» ، ويؤدّبون «3» عليها زجرا، ولا يؤدّبون إن لم يشترط ذلك عليهم، ويحتاط «4» به.
[وتجب الجزية عليهم «5» ] فى كل سنة مرّة واحدة بعد انقضائها «6» بالشهور الهلاليّة، ومن مات منهم فى أثناء السنة أخذ من تركته بقدر ما مضى منها، ومن أسلم كان ما لزم من جزيته دينا فى ذمّته يؤخذ منه؛ وأسقطها أبو حنيفة بإسلامه وموته؛ ومن بلغ من صغارهم، أو أفاق من مجانينهم استقبل به حول [ثم أخذ «7» ] بالجزية ويؤخذ الفقير بها إذا أيسر، وينتظر بها إذا أعسر؛ ولا تسقط عن شيخ ولا زمن، وقيل: تسقط عنهما وعن الفقير؛ ولأهل العهد إذا دخلوا دار الإسلام الأمان على نفوسهم وأموالهم، ولهم أن يقيموا فيها أربعة أشهر بغير جزية، ولا يقيموا سنة إلا بجزية، وفيما بين «8» الزمانين خلاف؛ ويلزم الكفّ عنهم كأهل الذمّة، ولا يلزم الدفع عنهم؛ واذا أمّن بالغ عاقل من المسلمين حربيّا لزم أمانه كافّة المسلمين، والمرأة(8/239)
فى بذل الأمان كالرجل، والعبد فيه كالحرّ؛ وقال أبو حنيفة: لا يصحّ أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له فى القتال؛ وإذا «1» تظاهر أهل الذّمّة والعهد بقتال المسلمين كانوا حربا لوقتهم، يقتل مقاتلهم، ويعتبر حال من عدا المقاتلة منهم بالرضا بفعلهم والإنكار له؛ وإذا امتنع أهل الذمّة من أداء الجزية كان نقضا لعهدهم؛ وقال أبو حنيفة: لا ينتقض به عهدهم إلّا أن يلحقوا بدار الحرب، وتؤخذ منهم جبرا كالدّيون؛ وإذا نقض أهل الذمّة عهدهم لم يستبح بذلك قتلهم، ولا غنم أموالهم، ولا سبى «2» ذراريّهم ما لم يقاتلوا، ووجب إخراجهم من بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مأمنهم من أدنى بلاد الشّرك، فإن لم يخرجوا طوعا أخرجوا كرها؛ فهذه هى الأحكام الشرعيّة فى أمر الجزية.
وأوّل ما ضربت الجزية وجعلت على الرءوس فى خلافة عمر «3» بن الخطّاب
- رضى الله عنه- وكانت قبل ذلك تحمل قطائع؛ واختلف: هل استأداها سلفا أو عند انقضاء الحول.(8/240)
وأما ما اصطلح عليه كتّاب التصرّف
فى زماننا هذا من استخراجها وموضع إيرادها فى حسباناتهم، فهم يستخرجونها سلفا وتعجيلا فى غرّة السنة، وفى بعض الأقاليم تستخرج قبل دخول السنة بشهر أو شهرين؛ وتورد فى الحسبانات قلما مستقلّا بذاته، بعد الهلالىّ وقبل الخراجىّ، وسبب تأخيرها عن الهلالىّ أنها تستأدى مسانهة، وسبب تقدّمها على الخراجىّ ما ورد من وجوبها مشاهرة على الأشهر من أقوال الفقهاء؛ وقد تقدّم ذكر الحكم فيمن أسلم أو مات فى أثناء الحول، وأنه لا يلزمه منها إلا بقدر ما مضى من السنة قبل إسلامه أو وفاته، فلذلك وردت بين الهلالىّ والخراجىّ.
وأما نسبتها فى الإقطاعات الجيشيّة عند خروج إقطاع ودخول آخر «1» فإنها تجرى مجرى المال الهلالىّ،
لأنها تستخرج على حكم شهور السنة الهلاليّة دون الشمسيّة؛ فإن تعجّلها مقطع فى غرّة السنة على العادة وخرج الإقطاع عنه فى أثنائها بوفاة أو نقلة إلى غيره استحقّ منها نظير ما مضى من شهور السنة إلى حين انتقاله، لا على حكم ما استحقّ من المغلّ؛ ويستحقّ المتّصل من «2» استقبال تاريخ منشوره كعادة النقود «3» ؛ وإن تخلّل بين المنفصل والمتّصل مدّة كان قسطها للديوان، يرد فى جملة المحلولات من الإقطاعات.(8/241)
وأما ما يلزم مباشر الجوالى وما يحتاج الى عمله،
فالذى يلزمه أن يبسط جريدة على أسماء الذمّة «1» بمقتضى الضريبة المرفوعة إليه، أو الكشف الذى كشفه إن كان العمل «2» مفتوحا «3» أو مستجدّا، يبدأ فيها بذكر أسماء اليهود، ويثنّى بالسامرة»
لأنّهم شعب منهم، ويثلّث بالنصارى، وإن كان فى عمله طائفة من الصابئة والمجوس ذكرهم بعد النصارى؛ وفى بعض بلاد الشأم تؤخذ الجزية من طائفة تعرف بالشّمسيّة، يوحّدون الله تعالى وينكرون نبوّة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يقول بنبوّة عيسى عليه السّلام وأن لا نبىّ بعده؛ ويكون بسط الكاتب لهذه الجريدة على التقفية إذا كانت الأسماء كثيرة، ليسهل عليه بذلك الكشف والشطب، وإذا استخرج جالية أوردها فى تعليق المياومة؛ وكتب له بها وصولا «5» ، وشطبها عن اسم من استخرجت منه فى جريدته، ويرمز فى تعليقه إشارة الكتابة والخدمة على ما تقدّم بيانه فى الهلالىّ.
ويحتاج مباشر الجوالى فى كلّ سنة إلى إلزام رئيس اليهود ورئيس السامرة وقسّيس النصارى أو أسقفّهم «6» بكتابة أوراق يسمّونها: الرّقاع بمن عند كلّ منهم من الرواتب «7» ، وما لعلّه استجدّ «8» من الطّوارئ «9» والنّوابت، ويعيّن فى آخر الرّقاع من(8/242)
اهتدى بالإسلام، ومن هلك بالموت، ومن تسحّب «1» من العمل، وإلى أىّ جهة توجّه، ويجعل تلك الرّقاع شاهدا عنده بعد الإشهاد فيها على «2» الصادرة عنه بأنه لم يخلّ بشىء من الأسماء، ويلزمه بكتب مشاريح بمن ضمّن رقاعه أنه اهتدى أو هلك أو تسحّب كلّ اسم بمشروح، ويخلّد المشاريح عنده ويشطبها «3» على جريدته؛ والكتّاب فى إيراد من اهتدى ونزح وهلك مختلفون: فمنهم من يوصل العدّة المستقرّة عنده عن يمنة العمل «4» ، ويستثنى بالتعدية عمّن اهتدى وهلك وتسحّب، كلّ اسم بمقتضى مشروحه المشهود فيه، ويبرز بما تحرّر بعد ذلك؛ ومنهم من يوصل الجميع على ما استقرّت عليه الحال الى آخر السنة الماضية، ويستخرج ممّن استخرج منه، ويعتدّ «5» بما يجب على المهتدى والهالك والمتسحّب محسوبا فى باب المحسوب قبل فذلكة الواصل فى الرّقاع- على ما نبيّنه إن شاء الله فى الأوضاع الحسابيّة- ويكون ما على النازحين موقوفا الى أن يتحرّى أمرهم؛ فإن عاد أحد منهم الى ذلك الإقليم ولم يكن قد قام بالجزية فى بلد آخر استخرجت منه، ووردت فى باب المضاف فى حساب السنة، وإن كان قد قام بالجزية فى بلد آخر وأحضر وصول مباشر تلك الجهة بما اعتدّ له(8/243)
به عن تلك السنة، نقل «1» مبلغ الوصول على تلك الجهة التى حضر وصولها قربت أو بعدت، واستشهد فى حسابه بمقتضى الوصول؛ وكلتا الطريقتين سائغة عند الكتّاب؛
وأما النّوابت «2» والطّوارئ
فإنها ترد فى باب المضاف باتفاق الكتّاب فى أوّل سنة، وتستقرّ أصلا فى السنة التى تليها وما بعدها؛ ويحتاج المباشر الى تفقّد أحوال النوابت فى كلّ مدّة لاحتمال بلوغ صبىّ فى أثناء الحول، واختبار ذلك بأمور شرعيّة واصطلاحيّة: أما الشرعية فبإنبات «3» الشّعر الخشن «4» ، أو بكمال خمس «5» عشرة سنة؛ وأما اصطلاحيّة فبانفراق رأس الأنف، وغلظ الصوت، وبظهور شىء «6» على حلمة الثّدى من باطنه كالتّرمسة، وبأن يدار خيط على عنق الصبىّ مرّتين تحريرا، ثم يوضع طرف الخيط بين أسنانه وتدخل أنشوطة «7» فى رأسه، فإن دخلت دلّ ذلك على بلوغه، وإلا فلا؛ واصطلح بعض مباشرى الجوالى فى بعض الأقاليم على إلزام عرفاء الذمّة «8» بالمطالعة بكل صبىّ يولد لوقته، وبمن هلك منهم، ويرصّع «9» أسماءهم(8/244)
فى جريدة مفردة بهم، فمن بلغ عمره ثلاث عشرة سنة استخرج منه الجزية سواء ظهرت أمارات بلوغه أم لا، ويلازم المباشر الكشف والتنقيب عمّن لعلّه أخفى من الرواتب، أو استجدّ من الطّوارئ والنّوابت ولم يرد الدفع، فمن ظهر له أمره استخرج الجالية منه لاستقبال وجوبها عليه، ويقابل من أخفاه بالإهانة والنكال؛ والمباشرة تظهر ما لا تحيط به الكتب؛ هذا ما يتعلّق بالجوالى، فلنذكر الخراجىّ- إن شاء الله تعالى-.
ذكر جهات الخراجىّ وأنواعه وما يحتاج اليه مباشره
والخراجىّ عبارة عما يستأدى مسانهة مما «1» هو مقرّر على الأراضى المرصدة للزراعة والنخل والبساتين والكروم والطواحين السنويّة التى تدور أحجارها بمياه السيول فى الجهات «2» الشاميّة، وما يستأدى من خدم الفلّاحين، ويسمّى ذلك بمصر:
الضّيافة، وبالشأم: رسم الأعياد والخميس، وهو أغنام ودجاج وكشك «3» وبيض- على ما استقرّ على كلّ جهة- وهو إنما يكون على النواحى الإقطاعيّة غالبا، وأما فى نواحى الخاصّ فلا يستأدى، لما هو مقرر على الأراضى بمصر من الحقوق التى تستخرج دراهم، وبالشأم من التّضييف «4» المقرّر عليهم فى أيّام الفتح «5» عن مدّة ثلاثة(8/245)
أيّام؛ ومن أبواب الخراجىّ ما يستأدى بالشأم فى خدمة رؤساء الضّياع فى مقابلة ما لهم من المطلق والولاة والوكلاء والنّقباء والصّيارفة والكيّالين والضّوئيّة «1» فى مقابلة ما يستأدونه من الرسم، وذلك يرد فى أبواب المضاف؛ والخراجىّ تختلف أحكامه وقواعده بمصر والشام؛ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
أما الديار المصريّة وأوضاعها وقوانينها وما جرت عليه قواعدها على ما استقرّ فى زماننا هذا وتداوله الكتّاب،
فقانون الديار المصريّة مبنىّ على ما يشمله الرّى من أراضيها ويعلوه النيل؛ وقد ذكرنا فى باب الأنهار فى الفن الأوّل من كتابنا هذا نيل مصر، ومبدأه، والاختلاف فيه، وما يمرّ عليه من البلاد، وكيفيّة الانتفاع به من حفر التّرع، وضبط الجسور، وتصريف المياه عن الأراضى بعد ريّها؛ ونيل مصر هو من أعاجيب الدنيا، وقد روى عن ذى القرنين أنه كتب كتابا عمّا شاهده من عجائب الوجود فذكر فيه كلّ عجيبة، ثم قال فى آخره: وذلك ليس بعجب، ولكنّ العجب نيل مصر، ولولا ما جعل الله تعالى فيه من حكمة هذه الزيادة فى زمن الصيف على التدريج حتى يتكامل رىّ البلاد، وهبوط الماء عنها عند بدء وقت الزراعة لفسد أمر هذا الإقليم، وتعذّرت سكناه، إذ ليس به أمطار كافية ولا عيون سارحة «2» تعمّ أراضيه، وليس ذلك إلا فى بعض إقليم الفيّوم؛ فسبحان من بيده الخلق والأمر القادر على كلّ شىء، والمدبّر لكلّ شىء، سبحانه وتعالى لا إله إلّا هو.(8/246)
والذى يحتاج إليه مباشر الخراج بمصر ويعتمد عليه فى مباشرته أنه اذا شمل الرّىّ أرض الجهة التى يباشرها أن يبدأ بإلزام خولة «1» البلاد برفع قوانين الرّىّ، وصورتها أن يكتب فى صدر القانون ما مثاله: قانون رفعه كلّ واحد من فلان وفلان الخولة والمشايخ بالناحية الفلانيّة، بما شمله الرّىّ وعلاه النّيل المبارك من أراضى الناحية لسنة كذا وكذا الخراجيّة، وهو من الفدن «2» ؛ ويذكرون جملة قانون البلد، ويفصّلونه بالرّىّ والشّراقى، فالرّىّ: ما شمله النيل. والشراقى: ما لم يشمله؛ وللرّى تفصيل: منه ما هو نقاء «3» ، ومنه ما هو مزروع، وخرس، وغالب، ومستبحر؛ ويفصّل بقبائله «4» ، ويشرح فى كل قبالة هذا التفصيل؛ والنقاء: هو الطين السواد «5» الذى يصلح للزراعة وينبت فيه اذا لم يزرع الكلأ الصالح للرّعى «6» ، ويسمّى نباته بصعيد مصر:
الكتّيح «7» ، وهو نبات تستغنى به الخيل والدوابّ والماشية عن البرسيم «8» . وأما المزروع:(8/247)
فهو ما عادته أن يزرع فى كلّ سنة. وأما الخرس: فهو الأرض التى تنبت فيها الحلفاء «1» ، فلا تزرع إلا بعد قلعها منها وتنظيفها، وقطيعته «2» دون قطيعة النّقاء.
وأما الغالب: فهو ما غلبت على أرضه الحلفاء وتكاثفت فلا تقلع إلّا بكلفة، وقطيعته دون قطيعة الخرس، وقلّما يزرع، وأكثر ما يكون الخرس والغالب ببلاد الصعيد الأعلى «3» لسعتها، وكثرة أرضها، وتعطيلها من الزراعة سنة بعد أخرى. وأما المستبحر: فهو أراضى الخلجان المشتغلة التى تستمرّ المياه فيها إلى أن يفوت زمن الزراعة، فمنها ما يبوّر، ومنها ما يزرع مقاثئ «4» ، وقطيعته متوسّطة، وتكون غالبا بالدراهم دون الغلّة. وعندهم أيضا الترطيب «5» : وهو الذى تخلّلت المياه باطن أرضه شبه النّزّ «6» ولم تعلها، ولا تصلح لغير المقاثئ؛ فاذا رفع الى المباشر قانون الرّى أشهد فيه على رافعيه «7» بأن الأمر على ما تضمّنه؛ ثم ينظر المباشر إلى سنة يكون نيلها نظير نيل تلك السنة، ويبرز الكشوف، ويحضّر البلد «8» البلد على الفلّاحين القراريّة نظير ما حضّروه فى السنة الموافق نيلها لنيل تلك السنة الحاضرة «9» ، ويشهد على كلّ مزارع بما يسجّله من(8/248)
أراضى كلّ قبالة «1» وقطيعتها المستقرّة، ويعيّن منها ما هو بحقوق وما هو بغير حقوق، والحقوق: دراهم يقوم بها المزارع عن كلّ فدّان غير الغلّة، وتكون من أربعة دراهم إلى درهمين، والغلّة بحسب قطيعة الأرض وعادتها، وأكثر ما عرف من الخراج عن كلّ فدّان- وهو أربعمائة قصبة بالقصبة الحاكميّة «2» ، والقصبة ستة أذرع وثلثا ذراع بذراع القماش- ثلاثة «3» أردابّ، وهذه الأرض جزيرة بالأقصر من أعمال قوص، وأقلّ ما علمناه من القطيعة عن كل فدان سدس إردبّ، وهى فى الأراضى التى غلبت عليها الأخراس وقلّ الانتفاع بها، فهى تسجّل بهذه القطيعة عليها، وتنصلح فى المستقبل؛ وأما الأراضى التى تسجّل بالدراهم فأكثر ما علمناه بأراضى الجيزيّة «4» قبالة فسطاط مصر عن كلّ فدّان مائتان وخمسون درهما، وهو كثير فى أراضيها وسجّل فى بعض السنين ثلاثة أفدنة بألف درهم، ولم تستقرّ هذه القطيعة، وهذه الأراضى تزرع غالبا كتّانا؛ فاذا تكامل تحضير «5» البلد على المزارعين القراريّة والطّوارئ نظم المباشر أوراقا بجملة ما اشتمل عليه التحضير، مفصّلة بالأسماء والقبائل «6» والجزائر(8/249)
والجروف، وتكتب عليها الشهود الذين حضّر «1» البلد بحضورهم، ثم يصرف لكلّ مزارع ما جرت العادة به من التّقاوى «2» بحسب ما يسجّله، ويكون ما يصرفه من التقاوى من أطيب الغلال وأفضلها وأنصعها، ثم يبسط جريدة على أوراق السجلّات يشرح فيها اسم كلّ فلّاح وما يسجّله من الفدن «3» ، ويفصّل ذلك بقبائله وجهاته وقطائعه؛ فاذا نبت الزرع واستوى على سوقه ندب عند ذلك من يباشر مساحة الأراضى:
من شادّ وعدول ذوى خبرة بعلم المساحة، وكاتب عارف خبير أمين، وقصّابين:
وهم الذين يقيسون الأراضى بالأحكام «4» الحاكميّة المحرّرة؛ فيمسحون الأراضى المزروعة بأسماء أربابها وقبائلها، ويعيّنون أصناف المزروعات بها، ويكون مباشر والمساحة قد بسطوا أيضا سجلّات التحضير، فإذا تكاملت المساحة نظم مباشروها أوراقا يسمّونها:
المكلّفة، يترجم صدرها بما مثاله مكلّفة تأريج «5» : هو الأوراق التى يبسطها مباشر المساحة بما فى السّجلّات ويختمها «6» بما انتهت اليه المساحة. والفنداق: هو عبارة عن التعليق، وهو الذى تكتب فيه المساحات حال قياسها. فإذا انتهت ترجمة صدر المكلّفة عقد(8/250)
جملة فدنها «1» فى صدرها وفصّلها بأصناف المزروعات وأسماء المزارعين، فإن طابقت المساحة السّجلّات من غير زيادة ولا نقص قال: وذلك بمقتضى السّجلّات، وإن تميّزت قال: ما تضمّنته السّجلّات كذا، زائد المساحة كذا، وان نقصت ذكر ما صحّ بمقتضى مساحته، وكمّله بالقلم تتمّة «2» ؛ وإن نقص مزارع عن سجلّه فى قبالة وزاد على سجلّه فى قبالة أخرى كمّل عليه «3» ما نقص بمقتضى سجلّه، وأورد ما زاد فى القبالة الأخرى زيادة، ولا ينقل الزائد إلى الناقص، ويلزمه المباشر بالقيام بخراج ما نقص من تلك القبالة وما زاد فى الأخرى؛ هذا مصطلحهم، وليس هو منافيا للشرع، إلا أنّنى أرى فى هذا النقص تفصيلا هو طريق العدل والحقّ، وهو إن كان النقص مع وجود أرض بائرة «4» بتلك القبالة لزمه القيام بخراج النقص، لأنه عطّلها مع قدرته على الانتفاع بها وزراعتها؛ ويسلّم إليه من الأراضى البائرة التى شملها الرّىّ بتلك القبالة نظير ما نقص عنده لينتفع بما لعلّه نبت فى تلك الأرض من الكلإ؛ وإن كان النقص مع تغليق «5» أرض تلك القبالة بالزراعة فلا شىء عليه لأنه لم يتسلّم ما بسجلّه، ويعتدّ له بما لعلّه زاد على تسجيل غيره بتلك القبالة، فإنه يعلم بالضرورة القطعيّة أن الذى زرع بها أكثر مما بسجلّه أخذ من جملة سجلّ غيره؛ وإن صحّت تلك القبالة فى «6» جميع المزارعين بمقتضى سجلّاتهم بغير زيادة، ونقص عند واحد بعينه(8/251)
جميع ما اشتملت عليه المساحة بها، فإن وافق جملة قانونها تعيّن أن الخلل إنما جاء من قبل المباشر، لأنه سجّل فى قبالة أكثر من قانونها، فلا يلزم المزارع بالنقص؛ هذا هو العدل والإنصاف، فمن خرج عنه فقد ظلم وحاف؛ فاذا تكمّلت تكملة المساحة وضع المباشر زائد مساحة كلّ اسم تحت اسمه، وضمّه إلى سجلّه، ورفع «1» الجملة بالعين والغلّة، وأضاف [إلى «2» ] كلّ اسم ما لعلّه قد تسلّمه من تقاو وقروض، وما عليه من عشر ووفر ورسوم، وما لعلّه انساق من الباقى الى آخر السنة الماضية إن كان؛ وهم «3» يضيفون عشر التقاوى، وهو حرام لا شبهة «4» فى أخذه، وهو الرّبا بعينه، فإنه يقرض الرجل عشرة فيأخذها أحد عشر؛ ويضيفون أيضا فى بعض البلاد عشر العشر فيقبض كلّ مائة إزدب مائة إدربّ واحد عشر إردبا؛ وإنما اشتدّت هذه المظالم وأحدثت من قبل أرباب البذول «5» الذين يقترفون «6» المظالم ولا يجدون من يردعهم ويردّهم عنها فتستمرّ، وهى من السنن السيئة التى عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.(8/252)
ثم يعقد المباشر على جميع ذلك جملة ويشطبها «1» بما يستخرجه منه ويحصّله، والذى تنعقد عليه الجملة هو ما تعيّن عليه للديوان أنجب زرعه أو لم ينجب؛ ومهما استخرجه منه وحصّله وأحال به كتب به وصولا؛ فإذا غلّق «2» كلّ اسم ما عليه أجاز عليه إشارة التغليق، وإن بقى عليه شىء ممّا تعيّن عليه طرده للباقى؛ هذا حكم الأرض التى تسجّل بالغلّة؛ وأما ما يسجّل بالنقد فإنه تتساوى عليه ثلاثة أقساط أو قسطان: قسط من ثمن البرسيم الأخضر عند إدراكه وبيعه لربيع الخيل، وقسط من الكتّان عند قلعه إن كان، وقسط عند إدراك المغلّ والمقاثئ، ومنهم من يسجّل بالنقد الحاضر جملة واحدة فى وقت السجلّ؛ هذا حكم خراج الزراعة.
وأما الخراج الراتب،
فهو لا يكون إلا بالنقد عينا «3» أو فضّة؛ وهو خراج السواقى والبساتين والنّخيل؛ وذلك أن أربابه يقاطعون «4» الديوان على فدن «5» معيّنة بمبلغ معيّن عن كلّ فدان فى كلّ سنة يقومون به فى أوقات معلومة، رويت الأرض أو شرّقت «6» ؛ وهم يحفرون فى تلك الأراضى آبارا بقدر ما يعلمون أن المياه التى تطلع منها تروى تلك الأراضى، ويركّبون على أفواه الآبار السواقى(8/253)
المتّخذة من أخشاب السنط وما ناسبه، المشهورة بالخرير «1» التى تعين على رفع الماء ويسمّونها بديار مصر: المحال «2» ، وبحماة: النواعير، إلا أن النواعير تدور بالماء، وهذه تدور بالأبقار؛ ويزرعون عليها بتلك الأراضى ما أحبّوه واختاروه من أصناف المزروعات والغروس لا يطالبون عليها بغير الخراج المقرّر، إلا أن ينصبوا «3» القصب فلا يقتصر منهم عند ذلك على الخراج، بل للديوان على الأقصاب مقرّر يستأديه عن كلّ فدّان؛ ويستأدى خراج الراتب على أقساط فى زمن الثمار والأعناب والفواكه وعند ضرب الوسمة «4» - وهى النّيل الذى يصبغ به اللون الأزرق- وخراج الراتب يستأدى ممن هو عليه، زرع أرضه أو عطّلها، وهو لا يبطل بوفاة المقاطع «5» على الأرض، بل ينتقل على ورثته، ويطالبون به أبدا ما تعاقبوا وتناسلوا، ولا يوضع عنهم إلا إن ابتلع البحر الأرض المقاطع عليها بعد أن يعملوا بذلك مشاريح «6» تثبت عند حاكم البلد أن البحر ابتلع «7» تلك الأراضى بكمالها أو بعضها، ولا ينهض مباشر الناحية أو ناظر العمل(8/254)
بوضعه مع وجود المحضر «1» الثابت «2» ، بل يحضر المقاطع على الأرض أو من انتقلت اليه بالإرث أو الابتياع الى باب السلطان، ويرفع قصّة الى الوزير بصورة الحال، ويوقّع عليها بقلمه أن «3» يوضع عنه من خراج الراتب بقدر ما ابتلعه البحر بمقتضى المحضر، ويستمرّ حكم ما بقى، ويكتب على ظهر قصّته: توقيع شريف سلطانىّ؛ ويثبت بدواوين الباب السلطانىّ، ثم يثبت بديوان العمل الجامع، ثم ينزل فى ديوان البلد التى بها تلك الأرض، وبوضع عند ذلك من الضريبة الديوانية؛ هذا حكم الخراج بالديار المصريّة وقاعدته والعادة فيه.
وأما جهات الخراجىّ بالشام وكيفيّتها وما يعتمد عليه مباشروها
- فإن قانون البلاد الشاميّة مبنىّ على نزول الغيث، ووقوع الأمطار فى إبّانها وأوقات «4» الاحتياج اليها، فمن ذلك المطر المسمّى: الوسمىّ، وهو الذى يقع فى فصل الخريف، وعند وقوع هذا المطر يخدّ «5» شقّ الأراضى المكروبة «6» بالسّكك «7» ، ثم يبذر الحبّ فيها، ويعاد شقّ الأرض عليه ليخفى عن الطير «8» خشية التقاطه، فإذا نزل عليه المطر الثانى(8/255)
بعد ذلك نبت وبرز إلى وجه الأرض، وهو عند ذلك يسمّى: الأحوى «1» ، ثم لا تزال الأمطار تسقيه والأنواء تغذيه حتى يصير غثاء، ثم يقع عليه بعد ذلك المطر المسمّى بالمطر الفاطم، وهو غالبا يكون فى شهر نيسان، ثم يعقد فيه الحبّ بعد ذلك، وينتهى على عادة الزرع؛ هذا حكم ما يزرع على الوسمىّ.
ومن أراضى الشأم [نواح «2» ] يغبّها «3» الوسمىّ فيزرع سكّانها «4» الحبّ عفيرا، ومعنى ذلك أنهم يزرعون فى الأرض الحبّ قبل إبّان الزرع وينتظرون وقوع الأمطار عليه؛ ومن غريب ما اتّفق فى بعض السنين أنهم أودعوا الحبّ الأرض على عادتهم فلم تسقط عليه الأمطار فى تلك السنة، فاستمرّ فى الأرض إلى العام القابل، وأيس أهل البلاد منه، وزرعوا فى السنة الثانية شطر الأراضى التى كانت كرابا غير مزروعة- فإن عادتهم بسائر بلاد الشأم أن كلّ فلّاح يقسم الأراضى التى بيده شطرين، فيزرع شطرا، ويريح شطرا، ويتعاهده بالحرث لتقرع الشمس باطن الأرض، ثم يزرعه فى القابل ويريح الشطر الذى كان به الزرع؛ هذا دأبهم، خلافا لأراضى الديار المصريّة، فإنها تزرع فى كلّ سنة- فلما وقعت الأمطار نبت الشطران معا، وأقبلت الزراعات فى تلك السنة، فتضاعف المغلّ، وهذا غريب نادر الوقوع.(8/256)
ومن أراضى الشأم ما يسقى بالمياه السارحة من الأنهار والعيون، وتكون مقاسمة أرضه أوفر من مقاسمة ما يسقى بالأمطار، وقيمة الأملاك بها أرفع «1» وأغلى من تلك، ويكون غالبا فى الأراضى المستفلة «2» ؛ والله تعالى أعلم.
والذى يعتمده مباشر الخراج ببلاد الشأم أنه يبدأ بإلزام رؤساء البلاد بتغليق «3» أراضيها بالزراعة والكراب «4» ؛ ومصطلحهم فى ذلك أن يقولوا: أحمر وأخضر، يعنون بالأحمر: الكراب، وبالأخضر: الزرع شتويّا «5» أو صيفيّا، ويعنون بالشّتوىّ:
القمح والشعير والشّوفان «6» والفول والحمّص والعدس والكرسنّة «7» والجلبّان «8» والبستيلية(8/257)
وهى التى تسمّى بمصر: البسلّى «1» ، وبالساحل الطرابلسىّ: الحالبة؛ ويعنون بالصيفىّ:
الذّرة والدّخن والسّمسم والأرزّ والحبّة السوداء والكسبرة والمقاثئ «2» والوسمة «3» والقرطم «4» والقطن والقنّب «5» ؛ ويكتب عليهم بذلك مشاريح أنهم لا يبوّرون شيئا من الأراضى ومن بوّر شضيئا منها كان عليه القيام بريع «6» الغامر من «7» نسبة العامر؛ فإذا زرعت الأراضى وبدا صلاح الزرع، وأخذ الفول فى العقد خرج الوكلاء على الزراعة إلى النواحى يحفظون الزراعة من التّطرّق إلى شىء منها، ويلازمونها إلى أن تحصد وتنقل إلى البيادر «8» ؛ فعند ذلك يخرج الأمر بحفظ ما يصل إلى البيادر، ويأخذون فى الدّراس؛ فإذا تكامل وطابت البيادر ولم يبق إلا التّذرية أخرج مذرّيا- ووظيفة المذرّى أنه يلزمهم بتخليص الغلال من الأقصال وتنظيفها؛ فإذا فعلوا ذلك وخلصت الغلال من الأتبان والأقصال وصارت بيادر صافية خرج والى العمل ومباشروه إلى تلك الجهة، وتقدّموا «9» بتوزيع بيادرها على ضريبة الناحية وعادتها فى المقاسمة، مناصفة- وذلك فى أراضى السّقى-، ومثالثة ومرابعة- وهو فى غالب(8/258)
البلاد-، ومخامسة ومسادسة- وذلك فى المزارع والنواحى الخالية من السكّان التى يزرعها المستكرون «1» -، ومسابعة ومثامنة- وذلك فى النواحى المجاورة لسواحل البحر والمتاخمة لأطراف بلاد العدوّ؛ فإذا فرغ توزيعها أخذ المباشرون ما يخصّ الديوان من التوازيع، ثم يحزر «2» ما لعلّه تأخّر من الغلال فى عرصات البيادر والأقصال وأعقاب التّبّانات والعفائر، ويؤخذ منه ما يخصّ الديوان من «3» نسبة المقاسمة، ويكمّل على الفلّاح على حكم ضريبة ذلك العمل؛ وفى بعض النواحى يكون من المواسطة «4» ، فتفرد لها توزيعه بمفردها، ثم يؤخذ من حاصل الفلّاح بعد الرسوم عشر ما بقى له؛ وهذا غير مطّرد فى جميع البلاد، فإنّ فى جهات الأوقاف والبرّ وما يناسبها لا يؤخذ العشر إلا من النصاب الشرعىّ؛ وفى نواحى الخواصّ والإقطاعات يؤخذ ممّا بقى للفلّاح من كلّ عشرة أجزاء جزءا ممّا قلّ أو كثر بحسابه؛ وفى بعض الأقاليم لا يؤخذ العشر من المزارعين الذّمّيّة؛ وأما النواحى الإقطاعيّة والأملاك التى أعشارها ديوانيّة فمنها ما عليه ضريبة مقرّرة تؤخذ فى كلّ سنة زاد المغلّ أو نقص، ومنها ما يندب له من يقف على النواحى ويحزر «5» ما بها من الغلال ويقدّر العشر عنها، ويكون هذا الحزر والزرع قائم أو حصيد قبل دراسه، ثم يستعاد بعد ذلك من الفلّاحين ما لعلّه(8/259)
عليهم من التقاوى «1» والقروض، وتكون بمفردها مرصدة لتقاوى، السنة الآتية؛ ثم يعتبر ما يتحصّل من الغلال على اختلاف أصنافها بالكيل المتعامل به فى ذلك الإقليم، وتعمل بذلك مخازيم «2» على العادة مفصّلة بالأسماء وأصل المقاسمة والرسوم والعشر وما لعلّه استعيد من التقاوى والقروض؛ وعند تكامل قسم نواحى كلّ عمل ينظم على المخازيم عمل «3» بالمتحصّل على ما نشرحه إن شاء الله تعالى فى الأوضاع الحسابيّة؛ هذا ما يعتمده فى الغلال.
وأما الخرّوب والزيتون والقطن والسّمّاق «4» والفستق والجوز واللّوز والأرزّ فإنّ الوكلاء تستمرّ على حفظ ذلك إلى أن يصير فى بيادره، ويقسم على حكم الضريبة ويحصّل ويورد على المتحصّل؛ وفى بعض الأعمال الشاميّة نواح مفصولة «5» ومضمّنة «6» على أربابها بشىء معلوم يؤخذ منهم عند إدراك المغلّ من غير توكيل ولا مقاسمة، وهى نظير المتأجرات «7»(8/260)
بالديار المصريّة؛ ولفظ الفصل «1» بالشأم كلّه كلمة فرنجيّة، واستمرّ استعمالها فى البلاد الساحليّة التى ارتجعت من أيدى الفرنج جريا على عادتهم.
وأما خراج العين فهو مقرّر على البساتين والشجريّات والكروم والمقاثئ ويستخرج على حكم الضريبة عند إدراك كلّ صنف.
ومن أبواب «2» الخراجىّ الخدم التى تقدّم «3» ذكرها، ومقرّر القصب والبريد «4» والبسط، وعشر العرق «5» ، وغير ذلك مما يطول شرحه، الّا أن جميع ما يستخرج من الأراضى منسوب الى الخراج.
ومن أبواب الخراجىّ الأحكار على ما فيها من الاختلاف؛ ومهما استخرجه المباشر وحصّله من ذلك يعتمد فى إيراده نحو ما شرحناه فى الهلالىّ: من إيراده فى تعليق المياومة، وشطبه على الجريدة المبسوطة على أبوابه؛ هذا حكم الهلالىّ والجوالى والخراجىّ؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/261)
وأما ما يشترك فيه الهلالىّ والخراجىّ ويختلف باختلاف أحواله فجهات،
وهى المراعى والمصايد والأحكار؛
أما المراعى
«1» - فالذى يرد منها فى أبواب الهلالىّ ما استقرّ حكمه بجهة، وتقرّر فى كل سنة، وصار ضريبة مقرّرة؛ فمن المباشرين من يقبضه على شهور السنة، ويستخرجه أقساطا، ويورده فى جملة أبواب الهلالىّ؛ والذى يرد منه فى أبواب الخراجىّ هو ما يستخرج من أرباب المواشى فى كلّ سنة عند هبوط نيل مصر ونبات الكلإ، فى مقابلة ما رعته مواشيهم من نبات الأرض، وهو يزيد وينقص بحسب كثرة المواشى وقلّتها؛ وعادتهم فيه أن يندب لمباشرة ذلك مشدّ «2» وشهود وكاتب، ويعدّوا الأغنام وغيرها، ويستخرجوا من أربابها عن كلّ رأس شيئا معلوما بحسب ضريبة تلك الجهة وعادتها؛ وهو على هذا الوجه لا ينبغى إيراده إلا فى أبواب الخراجىّ؛ ومن الكتاب من «3» يورده فى أبواب الهلالىّ، وهو غلط.
وأما المصايد
«4» - فمنها أيضا ما يورد فى أبواب الهلالىّ كالنواحى التى تصاد(8/262)
بها الأسماك على الدوام، مثل ثغر دمياط والبرلّس «1» وجنادل «2» ثغر أسوان وأشباه ذلك بالديار المصريّة، وبالشأم مثل نهر العاصى «3» وبحيرة طبريّة، وغيرهما من الأنهار والبرك؛ ومنها ما يرد فى أبواب الخراجىّ، وهو ما يصاد من الأسماك عند هبوط نيل مصر ورجوع الماء من المزارع الى بحر النيل؛ والعادة فى ذلك اذا انتهت زيادة النيل وشرع الماء فى مبادئ النقص سكروا «4» أفواه التّرع، وسدّوا أبواب القناطر التى عليها حتى يرجع الماء (ويتكاثف «5» مما يلى المزارع) ثم ينصبون الشّباك، ويصرفون المياه، فيأتى السمك وقد اندفع مع الماء الجارى، فيجد الشباك تحول بينه وبين الانحدار مع الماء، فيجتمع فيها، ثم يخرج منها الى البرّ، فيوضع على نخاخ «6» ويملّح ويودع فى الأمطار، وأكثر ما يكون ذلك فى طول الإصبع ونحوه «7» ؛ وله أسماء: منها البلطىّ «8»(8/263)
والرّاى «1» والبنّىّ «2» وغير ذلك، وما يؤكل منه طريّا بعد قليه يسمّونه الإبسارية «3» ؛ ومنها ما يكون بقدر الفتر، ويسمّى الشال «4» ، وهو يملّح أيضا «5» ؛ فهذا الذى يتعيّن إيراده فى أقلام الخراجىّ، ومنهم من يورده فى الهلالىّ، ومن الكتاب من يورد المصايد والمراعى قلما مستقلّا بعد الجوالى وقبل الخراجىّ.
وأما الأحكار
- فقد تقدّم الكلام عليها عند ذكرنا للهلالىّ.
وهذه الاختلافات بين الكتّاب هى بحسب آرائهم وعادات النواحى وما استقرّت عليه قواعدها؛ وإنما أوردنا ذلك على سبيل التنبيه عليه، وذكر مصطلح الكتّاب فيه.
وأما أقصاب السكّر ومعاصرها
- فهى «6» تختلف بحسب الأماكن والبقاع والنواحى والديار المصريّة والشأم، وتختلف أيضا فى الديار المصريّة بحسب الأعمال والنواحى والأراضى؛ وقاعدتها الكليّة التى لا تكاد تختلف فى الديار المصريّة أن تختار لها الأراضى الجيّدة الدّمثة «7» التى شملها الرّىّ وعلاها النيل، ويقلع ما بها من الحلفاء وتنظّف؛ ثم تبرش بالمقلقلات- وهى محاريث كبار- ستة وجوه، وتجرّف(8/264)
حتى تمهّد، ثم تبرش ستة وجوه أخرى وتجرّف- ومعنى البرش الحرث «1» -؛ فإذا صلحت وطابت ونعمت وصارت ترابا ناعما وتساوت بالتجريف تشقّ عند ذلك بالمقلقلات، ويرمى القصب فيها قطعتين: [قطعة «2» ] مثنّاة «3» ، وقطعة مفردة؛ وذلك بعد أن تجعل أحواضا وتفرز لها جداول يصل الماء منها الى تلك الأحواض، ويكون طول كلّ؟؟؟ منها ثلاثة أنابيب كوامل وبعض أنبوبة من أعلى القطعة وبعض أخرى من أسفلها؛ و؟؟؟ برسم النّصب من الأقصاب ما قصرت أنابيبها، وكثرت عيونها؛ فإذا تكامل النّصب أعيد التراب عليه؛ وصورة النصب أن تكون القطعة ملقاة لا قائمة؛ ثم يسقى من حال نصبه فى أوّل فصل الربيع فى كلّ أسبوع مرّة؛ فإذا نبت القصب وصار أوراقا ظاهرة على وجه الأرض نبتت معه الحلفاء والبقلة «4» الحمقاء، فعند ذلك تعزق أرضه- ومعنى العزق أن تنكش الأرض وينظّف ما نبت مع القصب- ويتعاهد «5» بذلك «6» مرّة بعد أخرى إلى أن يغزر القصب ويقوى ويتكاثف، فلا يتمكّن العزّاق من الأرض، فيقال فيه عند ذلك: طرد القصب عزّاقه، وذلك عند بروز الأنبوب منه؛ ومجموع ما يسقى بالقادوس ثمانية وعشرون ماء.(8/265)
والعادة أن الذى ينصب من الأقصاب على كلّ محال «1» بحرانىّ «2» - أى «3» مجاور للبحر- إذا كان مزاح «4» العلّة «5» بالأبقار «6» الجياد مع قرب أرشية الآبار ثمانية أفدنة؛ ويحتاج إلى ثمانية أرؤس بقرا؛ فإذا»
كانت الآبار بعيدة عن مجرى النيل لا يقوم المحال بأكثر من ستة أفدنة الى أربعة أفدنة؛ فإذا طلع النيل وارتفع سقى القصب عند ذلك ماء الراحة؛ وصفة ذلك أنه يقطع عليه من جانب جسر يكون قد أدير عليه ليقيه من الغرق عند ارتفاع الماء بالزيادة، فيدخل الماء من تلك الثّلمة التى فرضت من الجسر، ويعلو على وجه أرضه نحوا من شبر، فتسدّ «8» عند ذلك، ويمنع الماء من الوصول اليه، ويترك ذلك الماء عليه مقدار ساعتين أو ثلاث الى أن يسخن، ثم يصرف عنه من جانب آخر إلى أن ينضب، ثم يجدّد عيه الماء مرّة أخرى؛ يتعاهد بذلك مرارا فى أيّام متفرّقة بقدر معلوم، ثم يفطم بعد ذلك؛ هذا هو القصب الذى يوفّى حقّه فى أيّام متفرّقه بقدر معلوم، ثم يفطم بعد ذلك؛ هذا هو القصب الذى يوفّى حقّه فى حرثه ونصبه «9» وسقيه وعزقه وغير ذلك؛ فما نقص من ذلك كان المباشر قد أخلّ به إلا النصب على الرّىّ وسقى ماء الراحة فإنه أمر ربّانىّ لا قدرة للمباشر على استجلابه.(8/266)
ولا غنية للقصب عن القطران قبل أن يحلو، فإنه يمنع السوس من الوصول إليه؛ وصفة ذلك أنهم يجعلون القطران فى قادوس مبخوش «1» من أسفله، ويسدّ ذلك البخش «2» بشىء من الحلفاء، ويعلّق القادوس على جدول الماء، ويمزج القطران بالماء فيقطر من خلال ذلك البخش المسدود، ويمتزج قطره بالماء الذى يصل الى القصب، ويحصل به المقصود.
وإن خشى المباشر على القصب من فساد الفأر أدار حوله حيطانا رقيقة مقلوبة الرأس إلى خارج أرض القصب تسمّى حيطان الفأر، وتصنع من الطين المخلوط بالتبن فتمنع الفأر من الوصول إلى القصب، فإنه إذا تسلّق فى «3» الحائط وانتهى إلى آخرها منعته تلك الحافة المقلوبة وأصابت رأسه فيسقط إلى الأرض.
هذا ما يلزم المباشر الاحتفال به واعتماده فى أمر القصب.
فإذا كان فى أوّل كيهك من شهور القبط كسرت الأقصاب وقشرت، ونقلت إلى المعاصر؛ وإذا كان فى أوان نصب القصب من السنة الثانية حرقت آثار الأقصاب وسقيت وعزقت كما تقدّم، فتنبت أرضها القصب؛ ويسمّونه بمصر:
الحلفة، ويسمّون الأوّل: الرأس؛ وقنود «4» الخلفة فى الغالب أجود من قنود الرأس.
ذكر كيفية الاعتصار والطبخ وتقدير المتحصّل
الذى جرت عليه العادة بالديار المصرية أن الأقصاب إذا نقلت من المكسر إلى المعصرة على ظهور الجمال أو الحمير وضعت فى مكان برسمها يسمّى دار القصب،(8/267)
بها وترات وحطب ورجال مرصدون لإصلاح القصب بالسكاكين الكبار التى «1» مقدار حديدها ثلثا ذراع، فى عرض سدس ذراع فى سمك إبهام، فينظّفون عيدان القصب، ويقطعون من أعلاه ما ليس فيه حلاوة، ويسمّونه اللّكلوك «2» ، وينظّفون اسفل العود ممّا لعلّه به من عروق وطين؛ ويسمّى هذا الإصلاح التطهير؛ ثم ينقل من تلك الوترات الى وترات أخر مؤبّدة بأعلى حائط عريض مرتفع عن الأرض، أحد جانبى الحائط مما يلى دار القصب، والوجه الآخر إلى بيت آخر يسمّى بيت النّوب «3» ؛ وعلى ذلك الحائط رجال جالسون فى مقاعد أعدّت لهم، وبأيديهم السكاكين التى ينظّف بها القصب، والوترات المؤبّدة أمامهم، فيجمع الرجل منهم عدّة عيدان من القصب، ويضعها على الوترة، ويقطّعها قطعا صغارا فتسقط فى بيت النّوب؛ ثم تنقل من بيت النّوب الى الحجر فى أفراد «4» تسمّى العيارات «5» متساوية المقادير؛ فيوضع ذلك القصب المقطّع تحت الحجر؛ ويدوّر الحجر عليه الأبقار الجياد فيعصره؛ وينزل ما يخرج منه من الماء فى أبخاش «6» فى القاعدة التى تحت الحجر إلى مكان ضنك «7»(8/268)
معدّ له؛ فإذا انتهى ذلك القصب من العصر تحت الحجر نقل إلى مكان آخر، ثم يجعل فى قفاف متّخذة من الحلفاء مشّبكة الأسافل والجوانب، ويلقى تحت دولاب التّخت «1» ، ويدور الدولاب عليه بالأعواد حتى يأخذ حدّه، ويخرج ما بقى فيه من الماء؛ ويجتمع ما تحصّل من ماء القصب من الحجر والتّخت فى مكان واحد؛ ثم ينقل ذلك الماء فيصفّى من منخل موضوع فى قفص معدّ له، وينزل ما يخرج الى مكان متصل يسمّونه البهو «2» ، له عيار معلوم محرّر؛ فإذا امتلأ من ذلك الماء المصفّى نقل إلى المطبخ، وصفّى تصفية ثانية فى قدر كبيرة يسمّونها الخابية يصبّ فيها بعد التصفية جميع ما كان فى البهو، وهو ستون مطرا «3» من ماء القصب ضريبة كلّ مطر نصف «4» قنطار باللّيثىّ على التحرير- والرطل اللّيثىّ مائتا درهم- فيكون ما فى الخابية ثلاثة آلاف رطل وهو ما كان فى البهو؛ ثم يوقد عليها من خارج المعصرة إلى أن يغلى الماء غليانا كثيرا، وينقص نقصا معلوما، فعند ذلك يبطل الوقيد «5» عنها؛ فإذا سكن غليانها نقل ما فيها من الماء المسلوق فى يقاطين كبار، فى كلّ قرعة منها خشبة منجورة طويلة كالساعد نافذة فى جانبى القرعة، ويصبّ فى أكسية من الصوف(8/269)
تحتها دنان كبار فيصفّى الماء منها تصفية ثالثة، ويستقرّ فى تلك الدّنان؛ ثم ينقل من الدنان فى دسوت «1» إلى القدور، فيطبخ فيها إلى أن يأخذ حدّه من الطبخ؛ ويحتاج كلّ حجر الى خابية وثمانى قدور لطبخ ما يعتصر تحت الحجر والتّخت؛ ثم ينقل بعد طبخه فى دسوت من النّحاس، لكلّ دست منها قبضتان من الخشب مسمورتان فى أعلاه يقبض الرجل عليهما ليقياه حرارة الدّست؛ ويصبّ ذلك المطبوخ- ويسمّى إذ ذاك المحلب- فى أباليج من الفخّار ضيّقة «2» الأسافل، متسعة الأعالى، مبخوش فى أسفل كلّ أبلوجة منها ثلاثة أبخاش «3» مسدودة بقشّ القصب، وهذه الأباليج موضوعة فى مكان يسمّى بيت الصبّ، فيه مصاطب مبنيّة مستطيلة تشبه المذاود «4» ، ويجعل تحت كلّ أبلوجة من تلك الأباليج قادوس يقطر فيه ما يتخلّص من رقيق ذلك المحلب «5» - وهو العسل القطر- ثم يخدمها الرجال بالكرانيب «6» مرّة بعد أخرى حتى تمتلئ تلك الأباليج، وهى تختلف، فمنها ما يسع أكثر من قنطار، وأقلّ منه؛ فإذا امتلأت وتكاملت خدمتها وأخذت فى الجفاف نقلت من بيت الصبّ الى بيت الدفن «7» ؛ فتعلّق فيه على قواديس يقطر فيها ما بقى من أعسالها.(8/270)
وأما أوساخ الأقصاب التى تنظّف منها فى دار القصب فإنها تعتصر على انفرادها، وتطبخ بمفردها، وتسمّى الخابية، وهى أردأ من عسل القصب.
ولما يتحصّل من الاعتصار أسماء وعبر «1» : منها الضريبة، ومنها الوضعة «2» ، ومنها اليد؛ فالضريبة عبارة عن ثمانى أياد؛ واليد ملء خابية؛ والخابية ثلاثة آلاف رطل من عصير القصب بالرطل اللّيثىّ كما تقدّم؛ فتكون الضربية أربعة وعشرين ألف رطل من الماء، يجمد منها مع جودة القصب وصلاحه من القند خمسة وعشرون قنطارا إلى خمسة عشر قنطارا، ومن الأعسال اثنا عشر قنطارا إلى ثمانية قناطير؛ ونهاية ما يتحصّل من الفدان القصب ثلاث ضرائب: منها قند وقطر ضريبتان ونصف وعسل خابية نصف ضريبة مقدارها أربعة وعشرون قنطارا بالمصرىّ؛ ومن الأقصاب ما يفسد فلا يجمد طبيخ مائه ولا يصير قندا، فيطبخ عسلا، ويسمّونه المرسل؛ وهذا الذى ذكرناه من الوضع «3» والمتحصّل والتسمية اصطلاح بلاد قوص من الصعيد الأعلى بالديار المصريّة، وهو وإن اختلف فى غيرها من البلاد فلا يبعد من هذا الترتيب.
وأما أقصاب الشأم
- فهى تختلف أوضاعها بحسب البقاع والنواحى والأعمال، فمنها ما هو بالسواحل الطّرابلسيّة والبيروتيّة والعكّاويّة؛ ولهم اصطلاح فى نصب الأقصاب واعتصارها: فمنها ما يعتصر بحجارة الماء، ومنها ما يعتصر بالأبقار، ومنها ما يعتصر بالسّهام «4» ؛ وليس ذكرها وبسط القول فيها من المهمّات التى(8/271)
تقتضى الانصباب «1» اليها؛ والذى قدّمنا ذكره أيضا من أمر أقصاب مصر هو على الحقيقة فلاحة ودولبة «2» ، وليس هو كتابة، وهو للمباشر زيادة على صناعته، على أنه لا يستغنى عن معرفته والاطلاع عليه.
وعمدة المباشر فى الاعتصار ضبط ما يتحصّل، وحراسته من السارق والخائن والمفرّط؛ ويلزم مباشر الاعتصار أن ينظم فى كلّ يوم وليلة مخزومة»
بما اعتصر وبما تحصّل؛ فإذا انتهى الاعتصار نظم عملا «4» شاملا لجميعه على ما نشرحه فى الأوضاع الحسابيّة.
والقند إذا جفّ وأخذ حدّه من البياض نقل إلى مطابخ السكّر، فيحلّ بالماء وشىء من اللبن الحليب، ويطبخ فيصير منه السكّر البياض «5» والقطارة؛ ويتحصّل من كلّ «6» قنطار من القند ربعه وسدسه سكّرا، وثلثه وربعه قطارة؛ ومنه ما يكرّر ثانيا فيصير فى غاية البياض والنقاء، وقطارته تقارب قطر النبات؛ ومنه أيضا ما يطبخ نباتا؛ وهذه أمور جمليّة يستدلّ منها على المقاصد، والمباشرة تشمل ما لا يمكن إيراده فى كتاب، وتظهر ما لا يكاد ينحصر بخطاب، فلنذكر الأوضاع الحسابيّة.(8/272)
ذكر أوضاع الحساب وما يسلكه المباشر ويعتمده فيها
أوّل ما يحتاج اليه كلّ مباشر أن يضع له تعليقا ليوميّته،
يذكر فيه تاريخ اليوم والشهر من السنة الهلاليّة، ويذكر فيه جميع ما يتجدّد ويقع فى ذلك اليوم فى ديوانه:
من محضر ومستخرج ومجرى ومبتاع «1» ومباع ومبيع ومصروف، وما يتجدّد من زيادات فى الأجر والضمانات، وعطل، وتقرير أجائر، وترتيب أرباب استحقاقات على جهات، وتنزيل «2» من يستخدمه، وصرّف من يصرفه من أرباب الخدم، وغير ذلك بحيث لا يخلّ بشىء مما وقع له فى مباشرته قلّ أو جلّ؛ وهذا التعليق هو أصل المباشرة، فمن ضبط اليوم انضبط ما بعده «3» ؛ وكلّ المباشرين فى وضعه سواء، يضع الشاهد «4» فيه ما يضعه العامل «5» فإذا كان فى آخر النهار قوبل على مجموعه بين المباشرين، ويساق ما يحتاج إلى سياقته من العين والغلّة والأصناف.(8/273)
ثم يكتب العامل مخزومة يورد فيها المستخرج والمحضر والمجرى والمصروف «1» ،
ويرفعها على عدّة نسخ بحسب المسترفعين؛ وإن شاحّه «2» المسترفع لزمه أن يوردها فيما أورده فى مياومته من سائر المتجدّدات والأحوال، فيصير بها المسترفع الغائب كالمباشر الحاضر، وتشمل المخزومة خطّ من هو مباشر: من ناظر مباشرة فمن دونه؛ وقد قدّمنا ذكر بسط الجرائد على الأموال والغلال، وكيفيّة خدمتها فى الأصول؛ ونظير ذلك أن يبسط أسماء أرباب الاستحقاقات وأرباب المصاريف تلو أصول الأموال ومضافاتها، ويضع لكلّ اسم ما يستحقّه مشاهرة ومسانهة عينا وغلّة، أو ثمن صنف أو غير ذلك؛ ثم يشطب قبالة كلّ اسم ما قبضه مفصّلا بتواريخه من جهة قبضه، لتسهل عليه بذلك محاسبة كلّ نفر «3» عند الاحتياج الى محاسبته كما شرحناه فى الأصول؛ ولا بدّ لكلّ مباشر من جريدة على هذه الصفة تشتمل على الأصل والخصم؛ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(8/274)
ذكر ما ينتج عن التعليق من الحسبانات بعد المخازيم «1»
وهى الختم والتّوالى والأعمال والسياقات التى «2» تلك كلّها شواهد الارتفاع:
فأما الختم
- فتختصّ بجهات العين من سائر الأموال؛ وكيفيّتها أنه إذا مضت على المباشر مدّة لا تتجاوز أحد عشر شهرا فما دون الشهر إلى عشرة أيام- وما دون «3» الشهر لا يقع إلا عند انفصال كاتب فى أثناء الشهر أو اقتراح مقترح- نظم «4» حسابا سمّاه الكتّاب فى مصالحهم: الختمة، يشرح فى صدرها ما مثاله بعد البسملة: ختمة بمبلغ المستخرج والمجرى من أموال الجهات، أو المعاملة الفلانيّة لاستقبال كذا، والى آخر كذا؛ ويذكر أسماء المباشرين فيقول: بولاية فلان، ونظر فلان، ومشارفة فلان، وكتابة فلان؛ ويعقد فى صدرها جملة على ما استخرجه فى تلك المدّة وأجراه من أصول الأموال، يفصّل ذلك بسنيه، ويشرحه بجهاته وأسماء أربابه وتواريخ محضره ومجراه، إلى نهاية ذلك؛ ثم يقول: وأضيف إلى ذلك ما وجبت إضافته؛ يبدأ بالحاصل المساق إلى آخر المدّة التى قبلها، ثم يذكر ما لعلّه استخرجه من الجهات التى ترد فى باب المضاف، وما ورد من أثمان المبيعات والمصالحات والخدم، وما لعلّه اقترضه، وما لعلّه حصّل من المواريث «5» الحشريّة والمجتذبات والتأديبات، وما لعله اعتدّ به لمعاملة أخرى ونقل عليه «6» ، إلى غير ذلك من أبواب(8/275)
المضاف على اختلافها. مما يطول شرحه لو استقصى؛ ثم يفذلك «1» على الأصل والإضافة؛ وإن صرف نقدا بنقد ذكره بعد الفذلكة، واستقرّ بالجملة بعده وإلّا فالفذلكة بمفردها؛ ثم يخصم تلك الجملة بما لعلّه حمله أو نقله على «2» معاملة أخرى أو صرفه، ويذكر الحمل بتواريخه ورسائله، واسم من حمل على يده، والمنقول كذلك والمصروف بأسماء أربابه وتواريخه، ثم يسوق إلى التحصيل «3» إن انطرد «4» له حاصل وإلّا فيقول فى آخرها: ولم يبق حاصل فنذكره.
وقد اقترح فى بعض الممالك الشاميّة فى بعض السنين على المباشرين أن يضمّنوا ختمهم ما يوردونه فى الأصل من جهات الأصول- كلّ جهة من المستخرج والمجرى- الأصل مختوما والخصم مفصّلا بجهاته؛ مثال ذلك أن يقول فى الأصل:
الجهة الفلانيّة فى التاريخ الفلانىّ كذا [و] كذا درهما؛ ويذكر تحت ذلك التاريخ خصم تلك الجملة؛ وفى الخصم إذا ذكر اسم ربّ استحقاق وما وصل اليه فى كل تاريخ يقول: التاريخ الفلانىّ؛ ويعيّن جهاته؛ ويشطب المسترفع الأصل على الخصم؛ وفى هذا تضييق كثير على المباشر، ولم يستقرّ ذلك، وعادت الأوضاع على ما بيّنّاه؛ هذا مصطلحهم فى الختم؛ والله أعلم.
وأما التوالى
- فهى إذا أطلقت أريد بها توالى الغلال؛ وكيفيتها أنه إذا مضت مدّة على ما قدّمناه فى شرح الختم نظم كاتب الجهة حسابا للغلّة اسمه التالى(8/276)
يشرح فى صدره بعد البسملة: قال بما انساق حاصلا من الغلال بالجهة الفلانيّة إلى آخر المدّة الفلانيّة، مضافا مخصوما إلى آخر كذا؛ ويذكر أسماء المباشرين على ما تقدّم، ثم يوصل فى صدره ما انساق إلى آخر المدّة التى قبلها من الغلال على اختلافها، ويفسّر «1» الغلال بسنيها، ويضيف اليه ما لعلّه انضاف «2» من متحصّل ومبتاع وقرض وغير ذلك؛ ثم يفذلك عليه، ويذكر بعد الفذلكة ما لعلّه وقع من تبديل صنف بصنف لوجود ذلك الصنف وعدم غيره، إما فيما قبضه أو فيما صرفه، وما لعلّه أبيع «3» وثمّن، وما لعلّه ينقل من كيل إلى كيل؛ ويستقرّ بالجملة بعد ذلك على ثمن ما أبيع وما استقرّ من الغلال بعد التبديل والتنقيل، ويستخرج ثمن البيع بمقتضى ختمة تلك المدّة، وهى شاهده؛ ويخصم بالمحمول والمنقول والمصروف على اختلافه؛ ويفصّل ذلك بتواريخه على ما شرحناه فى الختمة، ويسوق الحاصل من الغلّة إن كان؛ هذا مصطلحهم فى توالى الغلال.
ولهم أيضا توال يسمّونها توالى الارتفاع
- تشتمل على العين والغلّة والأصناف، ولا تعمل إلّا عند اقتراحها؛ وصورتها أن يوصل فى صدر تالى الارتفاع ما انساق آخر الارتفاع الذى قبله من الحاصل والباقى عينا وغلّة؛ ويفصّله بسنيه؛ ثم يضيف اليه ما استحقّ فى تلك السنة أصلا ومضافا، ويخصم بالخصم السائغ المقبول، ويطرده بعد ذلك إلى حاصل وباق.(8/277)
ولهم أيضا توالى الاعتصار
- وصورتها أن يوصل ما انساق حاصلا آخر [المدّة «1» ] على الاعتصار أو تاليه «2» ، ويضيف ما لعلّه تحصّل من قطر وغيره، ويفذلك عليه، ويكرّر منه ويبيع، ويستقرّ بالجملة، ويخصم، ويسوق إلى الحاصل.
وأما الأعمال
- وهى تختلف-: فمنها أعمال متحصّل الغلال والتقاوى، وأعمال الاعتصار، وأعمال المبيع، وأعمال المبتاع، وأعمال الجوالى، وأعمال الخدم والتأديبات والجنايات «3» .
فأما أعمال الغلال والتقاوى
- فكيفيّتها أن يشرح فى صدر العمل بعد البسملة ما مثاله: عمل بما تحصّل من الغلال بالناحية الفلانيّة لمغلّ سنة كذا وكذا الخراجيّة، المدرك فى شهور سنة كذا وكذا الهلاليّة، مضافا إلى ذلك ما «4» وجبت إضافته، ويوصل فى صدره ما تحصّل من الغلال على اختلافها وأكيالها مفصّلا بأسماء الفلّاحين؛ ويضيف إليه ما لعلّه استعاده من التّقاوى والفروض أو حصّله من رسوم أو غير ذلك؛ ويفذلك عليه؛ فمن الكتّاب من يسوقه بجملته حاصلا، ويخصم بمقتضى التالى؛ ومنهم من يخصم بما حمله وصرفه فى مدّة تحصيله للمغلّ، ويسوق ما بقى إلى الحاصل، ويستغنى بذلك عن تال لتلك المدّة.
وأما عمل الاعتصار
- فصورته أن يترجم فى صدره بعد البسملة بما مثاله: عمل بما تحصّل من اعتصار الأقصاب بالجهة الفلانيّة لاعتصار أفصاب سنة(8/278)
كذا وكذا الخراجيّة؛ ويقول فى يمنة العمل: عن كذا وكذا فدانا أو منظرة «1» إن كان بالأغوار، أو قسما إن كان بالسواحل؛ ويفصّل الفدن بما فيها رأسا «2» وما فيها خلفة إن كان بمصر، ومقنطرا «3» أو قائما «4» إن كان بالشأم، ويبرز عن يسرته بكميّة ما تحصّل فيقول: من أصناف الحلو كذا وكذا قنطارا، ويفصّل ذلك بالقند والأعسال على اختلافها: من المرسل وانقطر والحر والأسطروس «5» والمردودة؛ والمرسل هو من القصب الذى لا يجمد ولا يصير قندا. والقطر هو ما يتحصّل من قطر أباليج القند. والحرّ هو ما يتحصّل من أطراف الأقصاب، وهذه الأطراف يسمّونها بالشأم: العيكون «6» ، ولا يعتصرونها ألبتّة، بل ترصد للنّصب «7» ، فإنّهم يستغنون(8/279)
بها عن العيدان «1» ، ومنهم من يسمّى الحرّ المردودة. وأما الأسطروش «2» : فهو ما يعمل من جرادة وجوه الأباليج حال الطبخ، وما يتأخّر على البوارىّ «3» عند خلعه بالشأم.
وأما الخابية «4» فهى ما يتحصّل من الأوساخ والرّيم «5» . والمرسل والحرّ والخابية لا تعرف بالشأم ألبتّة، وإنما يعرفون القطر والأسطروش «6» ؛ ثم يذكر بعد ذلك تفصيل المتحصّل بجهاته إن كان بمصر- يفصّل كلّ ساقية وفدنها وما يحصّل منها من الضرائب- وتفصيل الأقصاب الرأس والخلفة، ويذكر اسم الطبّاخ؛ ثم يبيع من عرض ذلك ويثمّن، ويستقرّ بالجملة، ويحمل ويصرف ويسوق إلى الحاصل.
وأما عمل المبيع
- فصورته أن يقول فى صدره بعد البسملة: [عمل «7» ] بما بيع من الغلال والأصناف بالجهة الفلانيّة لمدّة كذا وكذا؛ ويعقد على الثمن جملة، ثم يفصّلها بأصنافها، يذكر عن يمنة القائمة الصنف، وفى الوسط السعر إن كان سعرا واحدا، وإلّا فيقول مكانه: بأسعار تذكر، وفى اليسرة الثمن، ثم يفصّله بأسماء مبتاعيه؛ فإذا كمّل ذلك أضاف ما انساق له آخر العمل الذى قبله(8/280)
من أثمان المبيعات؛ ويفصّل ذلك بأسماء من تأخّر عليه منها شىء إن كان؛ ثم يفذلك على الجملة، ويستخرج من عرضه بمقتضى ختم المدّة، ويسوق إلى الباقى دون الحاصل.
وأما عمل المبتاع
- فيقول فى صدره: عمل بالمبتاع بالجهة الفلانيّة من الأصناف التى نذكر لمدّة كذا وكذا؛ ويعقد على ثمن المبتاع جملة يجعلها عن يمنة نصف القائمة، ويبرز بالأصناف المبتاعة إن أمكن، وإلّا فيقول: ما يذكر؛ ويشرح ما ابتاعه صنفا صنفا بتواريخه، وأسماء من ابتاع منهم، وأسعاره، ويضيف إلى جملة الثمن ما لعلّه تأخّر عليه من ثمن ما ابتاعه فى العمل الذى قبله، ويفصّله بأسماء أربابه؛ ويفذلك على ذلك، ويخصم بما صرفه من عرضه بمقتضى ختم المدّة، ويسوق إلى متأخّر أو فائض «1» إن كان قد سلف عليه [شىء «2» ] .
وأما عمل الجوالى
- فيقول فى صدره ما مثاله بعد البسملة: عمل بما وجب من مال الجوالى بالمعاملة «3» الفلانيّة لسنة كذا وكذا الهلاليّة مخصوما مساقا إلى آخر المدّة؛ ويوصل ما كان قد استقرّ من الأنفار «4» على ما تقدّم «5» ؛ ويضيف النوابت والطوارئ «6» بأسمائها ومللها، وما لعلّه انساق باقيا إن كان، وقلّما يكون، ويفذلك(8/281)
على ذلك؛ ثم يذكر بعد الفذلكة من اهتدى بالإسلام، أو هلك بالموت، أو تسحّب «1» إلى عمل آخر على ما قدّمناه «2» من الاختلاف فى ايراد ذلك فى هذا الموضع، والاستثناء به فى الصدر بالتعدية «3» أو إيراده فى باب المحسوب؛ وكلّ ذلك سائغ فى الوضع؛ ثم يستقرّ بالجملة بعد ذلك، ويستخرج بمقتضى الختم، ويسوق ما لعلّه انساق إلى الباقى؛ وإن عاد اليه متسحّب «4» أو نازح وبيده وصول «5» من مباشر عمل آخر اعتدّ له به، وأورده فى باب المحسوب، وفذلكه على الجملة.
وأما عمل الخدم والجنايات والتأديبات
- فصورته أن يوصل فى صدر العمل بعد الترجمة عليه ما تعيّن من أموال الخدم أو ما تقرّر من الجنايات والتأديبات، يذكر فيه الأسماء والجرائم؛ ويضيف إلى ذلك ما لعلّه انساق قبل تقرير هذا المال آخر العمل الذى قبله؛ ويفذلك عليه؛ ويستخرج من عرضه بمقتضى ختم المدّة، ويعتدّ بما لعلّه رسم بالمسامحة به مما كان قرّر، ويسوق ما ينطرد بعد ذلك إلى الباقى؛ فهذه هى الأعمال.
وأما السياقات
- فهى مختلفة: فمنها «6» سياقة الأسرى والمعتقلين، وسياقة الكراع «7» ، وسياقة العلوفات، وسياقات الأصناف والعدد.(8/282)
فأما سياقة الأسرى والمعتقلين
- فصورتها أن يوصل فى صدرها عدّة من انساق عنده الى آخر المدّة التى قبلها، ويفصّلها بالمعتقلين وأسمائهم وجرائمهم، والأسرى ومللهم وأجناسهم؛ ويضيف اليها ما لعلّه تجدّد عنده من معتقل أو أسير، ويفذلك عليها، ثم يذكر من أفرج عنه: إما بمقتضى المراسيم «فيذكر تواريخها وأسماء من حضرت على يده، ومن تسلّم المعتقل» وإما بالهداية الى دين الإسلام من الأسرى «فيذكر اسم المهتدى وجنسه، ومن أىّ الملل كان، وتاريخ إسلامه والإفراج عنه، أو من فودى به، أو من تسحّب «1» ، أو من هلك بالموت بعد اعتبار ما يجب اعتباره فى الهالك؛ ويستقرّ بالجملة بعد ذلك؛ واستقرار الجملة هو الحاصل.
وأما سياقة الكراع
«2» - فهى سياقة تشتمل على الخيل والجمال والدوابّ والأبقار والأغنام؛ وصورتها أن يوصل الكاتب ما انساق عنده حاصلا آخر السياقة التى قبلها؛ ويضيف «3» [الى] ذلك ما لعلّه ابتاعه بتواريخه وأسماء من ابتيع منهم، وما لعلّه نتج، وما لعلّه اجتذب؛ ويفذلك على ذلك؛ ثم يذكر بعد ذلك ما باعه من عرض الجملة وما نفق «4» وتنبّل «5» وذكّى «6» ؛ ويستقرّ بالجملة على ما استقرّ من حيوان وجلود وثمن، ويصرف وينقل ما لعلّه صرفه أو نقله، ويسوق الى الحاصل.(8/283)
ويحتاج المباشر لذلك الى ملاحظة أحوال الأغنام، ومعرفة أوقات نتاجها وما يكون منها توأما، واستقبال النّتاج لينضبط له نتاج النّتاج.
وأما سياقة العلوفات
-[فصورتها «1» ] أن يوصل فى صدرها ما صرفه على الكراع فى المدّة التى نظم لها السّياقة، ثم يفصّل ذلك كلّ صنف من الكراع وعدده فى الزيادة والنقص، وما صرفه على ذلك النوع فى كلّ مدّة، فى اليوم كذا فى المدّة كذا، والزيادة والنقص على حسب الاتفاق، ويراعى فى ذلك ما تضمّنته سياقة الكراع؛ وإن صرف علوفة لطارئ لا يستقرّ عنده ميّزه فى التفصيل من المستقرّ فيقول: المستقرّ كذا والطارئ كذا إضافة إلى هذه السياقة؛ ولا فذلكة، ويتجنّب أن يصرف علوفة عن أيّام نقص «2» الشهور الهلاليّة، وهى ستة أيام فى السنة فإن ذلك من المخرّج اللازم، وكذلك أيّام الربيع.
وأما سياقات الأصناف والزّردخاناه «3» والعدد والآلات والخزائن والبيمارستانات «4»
- فإنه لا يمكن استيعابها لمؤلّف كتاب، وقلّما عملت فيما كثر،(8/284)
وإنما تعمل فيما قلّ من الأصناف؛ وصفتها إذا أمكن عملها أن يوصل ما عنده من الأصناف مفصّلة، ويضيف إليها ما ابتاعه أو ما وصل اليه، ويفذلك على ذلك ثم يذكر بين الفذلكة واستقرار الجملة ما يرد من الأبواب: من المنتقل «1» والمستهلك وغير ذلك على كثرته؛ وإذا استقصى ما يرد بين الفذلكة واستقرار الجملة زاد على مائة باب لا يعرفها إلا أفاضل الكتّاب ومن له حذق بهذه الصناعة، واختلفت مباشراته وتكررت؛ فاذا ذكر ما وقع عنده استقرّ حينئذ بالجملة على ما قام عليه ميزان عمله؛ ثم يخصم بما يسوغ الخصم به، ويسوق إلى حاصله.
فهذه هى الختم والتّوالى والأعمال والسياقات، وهى شواهد الارتفاع.
وأما الارتفاع
- فهو العمل الجامع الشامل لكلّ عمل؛ وصورة وضعه أن يشرح الكاتب فى صدره بعد البسملة ما مثاله: عمل بما اشتمل عليه ارتفاع المعاملة «2» الفلانيّة لمدّة سنة كاملة، أوّلها المحرّم سنة كذا وكذا، وآخرها سلخ ذى الحجّة منها، ممّا اعتمد فى إيراد ذلك الهلالىّ والجوالى للسنة المذكورة، والخراجىّ والأقصاب لسنة كذا وكذا الخراجيّة، مضافا إلى ذلك ما وجبت إضافته، مفذلكا عليه، وما استقرّت عليه الجملة، مخصوما «3» مساقا إلى حاصل، وما اعتدّ به محسوبا إن كان، وما اشتملت عليه فذلكة الواصل، وما انساق إلى الباقى والموقوف فى المدّة؛ ويذكر أسماء المباشرين كما قدّمناه فى الختمة؛ وإن انفصل أحد من المباشرين(8/285)
فى أثناء تلك السنة وباشر آخر بعده قال: بمباشرة فلان الى آخر المدّة الفلانيّة وفلان بعده الى آخر المدّة؛ ويقول فى صدره عن يسرة نصف القائمة: ما مبلغه من الذهب كذا، ومن الدراهم كذا، ومن الغلات كذا، ومن الأقصاب كذا، ومن الأصناف كذا، ومن الكراع كذا؛ يفصّل ذلك بسنيه، ثم يأخذ فى تفصيل كلّ مال بجهاته، فيبدأ بمال الهلالىّ، يذكر كلّ جهة، واسم مستأجرها أو ضامنها، واستقبال عقد إجارته أو تقريره، ويوجب عليه فى الشهر وفى السنة، الى أن يستوعب أبواب الهلالىّ، ويشطب فى مسوّدته التى ينظمها لنفسه قبالة كلّ جهة ما استخرجه بمقتضى ختمات المستخرج ليقوم له ميزان كلّ جهة فى الباقى والفائض «1» ؛ ولا يلزمه هذا العمل فى الحساب المرفوع منه؛ فاذا انتهت أبواب الهلالىّ ذكر الجوالى واعتمد فيها كذلك؛ ثم يذكر الخراجىّ، ويفصّله بأقلامه وجهاته مستقصى واضحا جليّا، ويعتمد من الشطب قبالة كلّ جهة ما تقدّم شرحه؛ فاذا تحرّرت له جهات الأصول قال:
وأضيف الى ذلك ما وجبت إضافته؛ ويعقد على المضاف جملة، ويذكر أبوابه يبدأ فيها بالحاصل والباقى المساقين «2» آخر العمل الذى قبله، ويعقد عليهما جملة، ثم يقول: الحاصل كذا، والباقى كذا؛ ويفصّل ما أمكن تفصيله من الحاصل بسنيه ويفصّل الباقى بجهاته وأسماء أربابه وسنيه وأسماء مباشريه إن أمكن، ويشطب فى مسوّدته قبالة كلّ اسم ما لعلّه استخرجه من عرض ما هو عليه كما تقدّم؛ ثم يذكر جهات مضاف السنة الحاضرة، يبدأ بما هو مستقرّ من الأموال التى ترد [فى] جهات المضاف، ويشطب قبالة كلّ اسم ما تقدّم بيانه؛ ثم يذكر بعد ذلك ما لعلّه وصل اليه أو اعتدّ به: من الأموال والغلال على اختلافها، وأثمان المبيعات(8/286)
والمواريث «1» الحشريّة والمجتذبات والجنايات والتأديبات والقروض والأصناف المبتاعة، يستقصى أبواب المضاف على حسب ما ورد عنده منها فى طول السنة بمقتضى ما ورد فى الشواهد التى ذكرناها بحيث لا يخلّ منها بشىء.
ومن أبواب المضاف ما يضاف بالقلم
- ولا أصل له، بل يكلّمه الكاتب على نفسه فى حسابه لينطرد نظيره الى الباقى، ويقوم به الميزان، وهو نظير التقاوى «2» والقروض؛ وكتّاب الشأم يفعلون ذلك دون كتّاب الديار المصريّة، وهم على الصواب فى إيراده، لأن الكاتب إذا أورد نظير التقاوى والقروض انطرد له الى الباقى نظير ذلك، وصحّ ميزان العمل، فإنه لا يمكن أن ينطرد الى الباقى إلا بإضافة نظيره، فاذا انطرد الى الباقى وجب إيراده [فى] المضاف فى السنة الثانية وما بعدها الى أن يستخرج ويحصّل؛ وكتّاب مصر يقتصرون فى ذلك على أعمال التقاوى والقروض؛ والتحرير ما يورد كتّاب الشأم فى ذلك.
ومن وجوه المضاف الغريبة: المستعاد نظير المعاد،
مثال ذلك أن يكون المباشر أحال ربّ استحقاق على ضامن جهة بمبلغ بمقتضى وصول «3» أجراه(8/287)
واعتدّ به لضامن تلك الجهة، واعتدّ على ربّ الاستحقاق بمبلغه، وقطع الباقى والمتأخّر بعده، وصدر حسابه بذلك، فأعيد «1» عليه وصوله فى أثناء السنة الثانية فمثل هذا تجب إضافته وإضافة نظيره، فيكون خصم إضافته الأولى المعاد على الضامن، وخصم الثانية الباقى المساق، ويكمّل لربّ الاستحقاق نظير ذلك المبلغ فى محاسبته- على ما يأتى بيانه فى المحاسبات؛ فاذا استوعب ما ورد عنده من أبواب المضاف فذلك على ذلك فيقول: فذلك الأصل وما أضيف اليه؛ ويعقد على الفذلكة جملة، ومعناها أن يضمّ ما عقد عليه الجملة فى صدر الارتفاع الى ما عقد عليه جملة المصاريف، فتشتمل الفذلكة على الجملتين، ويفصّل ذلك عينا وغلّة وأصنافا وكراعا على ما تقدّم، ويفصّل ما هو متميّز بسنيه؛ وما لم يتميّز كالحواصل من العين والكراع وغير ذلك يقول فيه: ما لم يتميّز بسنة؛ ويشرحه؛ ثم يذكر الأبواب التى ترد بين الفذلكة واستقرار الجملة على اختلافها بحسب ما وقع عنده منها، يبدأ بالصرف من نقد إلى نقد، والمبدّل من صنف إلى صنف، والمنتقل من سنة إلى سنة، ومن كيل إلى كيل ومن وزن إلى وزن، ومن عدد إلى وزن، ومن وزن إلى عدد، ومن صفة إلى صفة وما وقع من مبيع ومثمّن ونافق «2» ومستهلك، وغير ذلك؛ وقد جمع بعض فضلاء الكتّاب جميع ذلك واختصره فى لفظتين فقال: هو عبارة عن منقول ومعدوم؛ وإذا نظرت إلى حقيقة هاتين اللفظتين وجدت جميع هذه الأبواب وإن كثرت مندرجة فيها «3» ، كما أن جميع الكلام لا يتعدّى أن يكون اسما أو فعلا أو حرفا؛ فإذا انتهت هذه الأبواب قال: واستقرّت الجملة بعد ذلك على ... ويذكر ما استقرّت عليه الجملة بمقتضى(8/288)
قيام ميزانه، ويفصّله بسنيه، ثم يقول: استخرج من ذلك وتحصّل ... ويذكر المستخرج بمقتضى الختم، فيشرح ما استقرّت عليه جملة الختمة الأولى، وما اشتملت عليه فذلكتها بعد وضع الحاصل من الجهة «1» الثانية وما بعدها لئلا يتكرّر عليه؛ ويحصّل بمقتضى الأعمال والتّوالى والسّياقات على هذا الحكم؛ ويفصّل المستخرج والمتحصّل بسنيه، ثم يختصم ما استخرجه وحصّله، فيبدأ فى الخصم بالحمل من الأموال، والحمول من الغلال والأصناف، والمساق من الكراع؛ ويتلوه ما لعلّه نقله على «2»
معاملة أخرى مفصّلا بأبوابه ومعقود الجملة على كل باب فيها؛ فإذا تكامل له الخصم فى العين والغلّة والمواشى والأصناف ساق ما تأخّر من جملة ما استخرجه وحصّله إلى حاصل، ويفصّله بالعين والغلّة والصنف وغيره، فيكون ما حمله ونقله وصرفه وساقه إلى الحاصل خصم ما استخرجه وحصّله؛ ثم يذكر بعد سياقة الحاصل ما لعلّه ورد عنده «3» من المحسوب على اختلافه: من عطلة، ويذكر أسبابها، وما لعلّه ثبت من الجوائح الأرضيّة «4» والسمائيّة «5» بمقتضى المحاضر «6» الشرعيّة إذا برزت المراسيم بالحمل على حكمها؛ فيذكر كلّ جهة واسم مستأجرها أو ضامنها، وتاريخ محضر الجائحة، وتاريخ المرسوم بحمل الأمر على حكمه، وجملة المبلغ المتروك بسبب ذلك، وما لعلّه سومح به من البواقى المساقة، وغير ذلك ممّا هو داخل فى باب(8/289)
المحسوب؛ وسائر المسامحات ترد بعد سياقة الحاصل، وترد فى أماكن نذكرها بعد إن شاء الله تعالى؛ فإذا استوعب الكاتب جملة ما عنده من المحسوب فى بابه قال بعد ذلك: فتلك جملة المستخرج والمتحصّل والمحسوب؛ ويعقد عليه جملة يفصّلها بسنيها وأقلامها؛ ويسمّون هذه الفذلكة فذلكة الواصل؛ وما بقى بعد ذلك مما استقرّت عليه الجملة بعد هذه الفذلكة تعيّنت سياقته إلى الباقى والموقوف، فيطرده باقيا وموقوفا، أو باقيا بغير موقوف، معقود الجملة، مفصّلا بالسنين والجهات والأسماء والمباشرات، ويميّز ما يرجى استخلاصه وتحصيله منه وما لا يرجى؛ وما انعقد عليه الباقى والموقوف واشتملت عليه فذلكة الواصل هو خصم ما استقرّت عليه جملة الارتفاع.
وأما الحواصل المعدومة المساقة بالأقلام
- ولا حقيقة لوجودها، وإنما يوردها الكتّاب حفظا لذكرها، كالحواصل المسروقة والمنهوبة- فإنه إذا رسم بالمسامحة بها فقد اختلفت آراء الكتّاب فى إيرادها على وجوه كثيرة: منها ما يسوغ، ومنها ما لا يجوز فعله، ونحن نذكر أقوالهم وطرقهم فى ذلك، ونوضح ما يجوز منها وما لا يجوز، ونذكر ما ينبغى أن يسلك فيها: فمن الكتّاب من يرى أن ينقل هذا الحاصل بين الفذلكة واستقرار الجملة من الحاصل الى الباقى، ولا يورده فى باب المستخرج، ويطرده إلى الباقى، ويورده فى باب المسموح بعد سياقته الحاصل؛ وهذا لا يجوز، وفى إيراده على هذا الوجه غلط وسوء صناعة، لأن الحاصل لا يجوز نقله إلى الباقى، والباقى أيضا، فلا بدّ أن يكون باسم إنسان أو أناس، فإن ساقه باقيا باسم مباشره فقد أتى بغير الواقع، وعرّض المباشر الى الغرامة، ولا يفيده، إذ «1» مرسوم المسامحة يتضمّن المسامحة بحاصل معدوم، وقد انتقل هذا من تسمية الحاصل إلى الباقى.(8/290)
ومن الكتّاب من يرى استثناءه من جملة المستخرج، ثم يورده أيضا [فى] باب «1» المسموح؛ وفى هذا أيضا ما فيه من نقله من الحاصل إلى غيره تسمية، فإنه لا عبرة عند ذلك بتسميته ولا بنسبته إلى الباقى والموقوف؛ وإن نقل فلا يجوز، لأن الحواصل لا يجوز نقلها إلى تسمية أخرى ألبتّة؛ فهذه الوجوه لا تجوز فى صناعة الكتابة.
وأما الذى يجوز فى هذا فوجوه «2» : منها أن يكمّله الكاتب فى باب المستخرج من ذلك، ويخصم إلى نهاية المصروف، ويقول قبل سياقة الحاصل: ما نقل رسم بالمسامحة به عن الحاصل المعدوم المساق بالقلم حفظا لذكره، بمقتضى مرسوم «3» تاريخه كذا؛ ويشرح مقاصد المرسوم، وسبب عدم الحاصل، وجملته؛ ويكتفى بذلك عن إيراده فى باب المسموح؛ ويعقد جملة الخصم على الحمل والمصروف «4» والمسموح به.
ومنها أنه إذا ساق الحاصل بعد الحمل والمصروف يقول: من جملة كذا بعد مأمنه ما سومح به عن الحاصل المعدوم والمساق بالقلم؛ ويشرح ما تقدّم، ويبرز بالحاصل بعد ذلك.
ومنها أن يستثنيه عند «5» ذكر المضاف، فيقول عند إضافة الحاصل ما صورته! الحاصل المساق إلى آخر السنة الحاليّة من جملة كذا بعد مأمنه ما عدم فى تاريخ كذا(8/291)
وورد فى سياقات الحاصل حفظا لذكره، ورسم بالمسامحة به بمقتضى مرسوم شريف تاريخه كذا؛ ويعيّن جملة المسموح به، وهى جملة المعدوم، ويبرز بما بقى، ويستثنيه أيضا من المستخرج عند ما يستشهد بالختم والتّوالى والأعمال.
فهذه صورة نظم الارتفاع وشواهده التى قدّمناها قبله؛ والارتفاع هو جلّ العمل، وقاعدة الكتابة، والجامع لسائر ما يرد فى المعاملة.
وإن انفصل الكاتب أثناء السنة لزمه أن ينظم لما مضى من السنة فى مباشرته حسابا يسمّونه بالشأم الملخّص، وبمصر التالى، وهو نظير الارتفاع فى نظمه، إلا أنه يكون لما دون السنة، والملخّص عند المصريّين هو الارتفاع، ويلزم الكاتب المباشر بعده عمل ملخّص أو تال يتلوه لما بقى من المدّة، ثم يعمل جامعة على الملخّصين أو «1» التاليين، وهما شاهداها «2» ؛ ويستغنى الكاتب فى إيراد المستخرج والمتحصّل والمصروف عن الاستشهاد بالختم والتّوالى والأعمال، ويستشهد بهذين الملخّصين فيقول: ما تضمّنه ملخّص مدة كذا وكذا [كذا «3» ] وما تضمّنه ملخّص مدّة كذا وكذا كذا؛ وقد تكون الملخصات أكثر من اثنين بحسب الاستبدال «4» بالأعمال.(8/292)
ومما يلزم الكاتب رفعه المحاسبات
- وتختلف:
فمنها محاسبة أرباب النقود الجيشيّة والمكيلات والجامكيّات «1» والجرايات،
وأرباب الوظائف والرواتب والصّلات عما هو مستقرّ مشاهرة أو مسانهة؛ وهذه المحاسبة تنظم من الجريدة المبسوطة على أسمائهم، المشتملة على كمّيّة استحقاقاتهم، المشطوبة بقبوضهم؛ وصورة عملها أن يقول الكاتب: محاسبة لأرباب النقد والمكيل والقرارات «2» والجامكيّات والرواتب والصّلات بالمعاملة الفلانيّة الاستقبال مدّة كذا، والى آخر كذا؛ ويعقد جملة صدرها على ما يستحقّ لهم فى تلك المدّة المعيّنة من عين وغلّة وأصناف، ويضيف الى تلك الجملة ما تأخّر لهم الى آخر المدّة التى قبلها، ويفذلك على ذلك، ويقبضهم ما صرفه لهم بمقتضى ختم المدّة وأعمالها وتواليها، ويعتدّ عليهم بما لعلّه انساق فائضا «3» على من قبض منهم زيادة على استحقاقه فى المدّة التى قبلها، ثم يطرد ما انساق لهم الى متأخّر، وما انساق عليهم الى فائض، ثم يفصّل ذلك بالأسماء، فيضع الاسم ويذكره واستحقاقه فى الشهر وعن المدّة، ويضيف اليه ما لعلّه تأخّر له إن كان، ويفذلك عليه، ويخصم بقبضه، ويسوق إلى متأخّر إن بقى له، أو فائض إن زاد قبضه على استحقاقه؛ ومن كان منهم قد تعجّل قبل تلك المدّة زيادة على استحقاقه استحقّ له ما وجب له فى المدّة، واعتدّ عليه بما انساق فائضا «4» ؛ وما لعلّه صرفه له فى تلك المدّة يسوقه «5» إلى متأخّر أو فائض «6» ، يفعل ذلك فى جميع الأسماء.(8/293)
وهذه المحاسبة إذا كان الكاتب مستمرّ المباشرة عملها لسنة، وان انفصل قبل استكمال السنة أو اقترحها مقترح عليه لزمه عملها؛ والله أعلم.
ومنها محاسبات أرباب «1» الأجر والاستعمالات «2» ،
ويعتمد الكاتب فيها نظير تلك، إلا أنه لا يستحقّ لكلّ نفر «3» إلّا بمقدار عمله، ويضيف إليه ما لعلّه تأخّر له ويفذلك عليه، ويخصمه بالقبض والاعتداد بالمسلف ان كان؛ وهذه المحاسبة على منوال تلك، إلا أنها تعمل بمفردها.
ومما يلزم الكاتب رفعه ضريبة أصول الأموال ومضافاتها عن كلّ سنة كاملة،
يذكر فيها كلّ جهة من جهات الهلالىّ، واسم مستأجرها أو ضامنها، ومبلغ إجارتها أو تقرير ضمانها مشاهرة ومسانهة، واستقبال العقد، وتاريخ الحجّة المكتتبة به، ويشطب «4» قبالتهاأسماء كفلاء «5» ضامن الجهة؛ ويذكر الجوالى ويفصّلها بالأسماء والملل، ويفصّل الخراجىّ بجهاته وأقلامه، والأحكار بأسماء أربابها؛ وإن كان بتلك المعاملة «6» شىء من نواحى الخاصّ(8/294)
ذكر كلّ ناحية، واسم رئيسها، وحدودها وعدّة فدنها «1» الرومية «2» والكادية «3» والعاطلة، وأسماء من بها من الفلّاحين القراريّة «4» ، وما يبذره كلّ فدان من الشّتوىّ والصيفىّ، وريعه فى الثلاث سنين المقبلة «5» والمتوسّطة والمجدبة، وشروط المقاسمة، وما على كلّ فدان من الحقوق والرسوم، وما بها من المطلق، وما فيها من جهات العين وما عليها من الخدم «6» والضيافات، وغير ذلك من معالمها بحيث لا يخلّ بشىء من جميع أحوال القرية، بل يوضحها إيضاحا شافيا كافيا حتى يعلم الغائب عنها جليّة أمرها كالحاضر فيها.
فإذا تكامل ذكر جهات الأصل «7» فى هذه الضريبة ذكر جهات المضاف الراتبة كالخدم وما يناسبها، وذكر فى آخرها ما تتعيّن إضافته من المتوفّر من العين والغلّة على اختلاف ضرائبه؛ وهذه القواعد تكون فى ضياع الشأم.(8/295)
ويلزمه رفع المؤامرات
- وتسمّى ضرائب المستقرّ إطلاقه- وهى تشتمل على أسماء من هو مرتّب على تلك المعاملة: من ربّ نقد ومكيل ومقرّر «1» وصدقة، يذكر اسم كلّ واحد واستحقاقه مشاهرة ومسانهة، ويعقد على ذلك جملة فى صدر المؤامرة مشاهرة ومسانهة؛ فإن كان فى حصن ذكر فى صدر الأوراق عدّة أرباب الاستحقاقات، ثم يفصّلهم بوظائفهم وأسمائهم من الخرجيّة «2» والأقجيّة «3» وغيرهم.
ويلزمه رفع ضريبة ما يستأدى من الحقوق،
يذكر فيها ما يستأديه ضامن كلّ جهة من رسومها وحقوقها، وما لعلّه يستأدى بالدّروب من الخفر «4» ، وغير ذلك من سائر ما يستأدى من حقوق تلك المعاملة، وما لعلّه يقتطع من أرباب النقود والمكيلات وغيرهم من الوفر والمقتطع على اختلاف الضرائب، بحيث لا يخلّ بشىء منها، لتعلم بذلك أحوال تلك الجهة، فلا يمكن للضّمّان أن يستأدوا زيادة على ذلك، لما فيه من تجديد الحوادث على الرعيّة.(8/296)
ومما يلزمه رفعه فى كلّ سنة تقدير الارتفاع
- وهو الارتفاع بعينه إلا أنه لا يضيف فيه حاصلا ولا باقيا، ولا يفصّل فيه الجوالى بالأسماء، بل يعقد الجملة فى صدره على ما يستحقّ بتلك المعاملة من جهات الأصول والمضاف، ويخصم بالمرتّب عليها عن سنة كاملة، ويسوقه إلى خالص أو فائض «1» ، ليظهر بذلك ميزان تلك الجهة.
هذا ما يلزم المباشر رفعه مشاهرة ومسانهة.
ويلزمه فى كل ثلاث سنين رفع الكشوف الجيشيّة،
يذكر فيها أسماء النواحى العامرة والغامرة، والفدن الكادية «2» والعاطلة وما تقدّم شرحه فى الضريبة: من ذكر البذار والرّيع والشروط والمطلق وغيره؛ ثم يذكر المتحصّل منها فى ثلاث سنين لثلاث مغلّات، يعقد على ذلك جملة، ويفصّله بسنيه وأقلامه، ولا يخلّ بشىء مما بكلّ ناحية من الحقوق الديوانيّة والإقطاعيّة، ويعقد فى صدر الكشف جملة على عدّة النواحى وعدّة الفدن، وجملة جهات العين والغلّة، مفصّلا بالمعاملات «3» ؛ هذه هى الحسابات اللازمة.
وأما المقترحات- فلا يمكن ضبطها، إلّا أنه مهما اقترح مما يكون سائغ الاقتراح ممكن العمل لزم الكاتب عمله.
وحيث انتهينا إلى هذه الغاية فلنذكر أرباب الوظائف.(8/297)
ذكر أرباب الوظائف وما يلزم كلا منهم مع حضور رفقته ومع غيبتهم وما يسترفعه كل مباشر عند مباشرته وما يلزمه عمله
أما المشدّ «1» أو المتولّى
- فالذى يحتاج إلى استرفاعه عند مباشرته ضرائب أصول الأموال والمرتّب عليها ليعلم حال المعاملة، وما بها من الخالص، أو عليها من الفائض؛ ويسترفع أوراقا بالحاصل والباقى والفائض والمتأخّر «2» ، ليعلم أحوال الناس ومحاسباتهم، ويعلم ممّن يطلب وإلى من يصرف؛ والذى يلزمه عمارة البلاد، واستجلاب من نزح منها، وإقامة السطوة، وإظهار المهابة والحرمة، وتسهيل السّبل، وإقامة الخفراء عليها، وتشييد منار الشرع الشريف، والتسوية بين القوىّ والضعيف؛ ويلزمه استخراج الأموال من سائر جهاتها ووجوهها المستحقّة «3» فى مباشرته، والبواقى التى رفعت إليه بعد تحقيقها بحيث لا ينطرد إلى الباقى الدرهم الفرد؛ ومتى انساق فى مباشرته شىء لزمه؛ ويلزمه تقرير الجنايات «4» والتأديبات على أرباب الجرائم لتنحسم بذلك موادّ المفسدين.(8/298)
وأما الناظر على ذلك
- فيحتاج عند مباشرته الى استرفاع ضرائب أصول الأموال ومضافاتها، والمستأدى من الحقوق، وضرائب «1» بما استقرّ إطلاقه، وأوراق الحاصل والباقى، وأوراق الفائض والمتأخّر، وتقدير الارتفاع، والكشوف الجيشيّة، ويطالب بمخازيم «2» المياومة لاستقبال مباشرته، والختم والتّوالى عند مضىّ المدّة، والأعمال وسائر الحسبانات المتقدّم ذكرها فى أوقاتها، وما لعلّه يقترحه ممّا يسوغ اقتراحه ويمكن عمله؛ والذى يلزمه الاجتهاد فى عمارة نواحى الخاصّ، وتمييز الجهات ونموّها «3» ، والنظر فى أحوال المعاملات «4» ، وإزاحة أعذارها، وتقرير قواعدها، واختبار من بها من المباشرين، والكشف عن أحوالهم، وكتب «5» كلّ واحد منهم بما يلزمه مباشرة وعملا، ويتصفّح ما يرد عليه من الحسبانات الصادرة عنهم؛ وينظر فيما يتجدّد من أحوال المعاملات «6» وما يطرأ من الحوادث على اختلافها مما لا يحصره ضبط، بل هو بحسب ما يقع؛ وإنما جعلنا هذه الإشارات أنموذجا يستدلّ بها على ما بعدها؛ ويقيّد بخطّه الاستدعاءات والإفراجات والمراسيم والتواقيع وغير ذلك مما جرت به العادة: من الكتابة بالمقابلة والثبوت والتّمحية «7» والاعتماد وغير ذلك.(8/299)
وأما صاحب الديوان
- فإنه يسترفع ما يسترفعه الناظر من المعالم خاصّة، وليس [له] أن يسترفع الارتفاعات ولا شواهدها؛ فإن استرفعها لزمه من دركها «1» ما يلزم المستوفى؛ وهو يكتب على ما يكتب عليه الناظر، وله زيادة على ذلك:
وهى الترجمة على التذاكر والاستدعاءات، والكتابة على تواقيع المباشرين بأخذ خطوطهم عند استخدامهم، والكتابة على محرّراتهم بالتخليد، والكتابة على تذاكر المخرّج والمردود الصادرة عن مستوفى العمل بأن يجيب المباشرون عنها بما يسوغ قبوله، والكتابة بقبول الجواب عند عوده إن كان سائغا، والكتابة على الحساب الصادر عن المباشرين بتخليده [فى] ديوان الاستيفاء بعد أن يتصفّحه وتظهر له سياقة «2» أوضاعه؛ وكلّ عمل لا يكون له صاحب ديوان قام الناظر بهذه الوظيفة إلّا الكتابة بقبول الحساب.
وأما مقابل الاستيفاء
- وهو بمنزلة الشاهد فى ديوان الأصل- فله أن يسترفع المعالم لنفسه فى كلّ سنة، ويسترفع نتيجة الحسبانات اللازمة التى تصدّر الى الديوان العالى بالباب الشريف، ويضبط «3» مياومة المجلس، ويكتب على ما يكتب عليه المستوفى، ويكتب على الحسبانات الواصلة من جهة المباشرين بتاريخ حضورها إلى الديوان قبل تخليدها [فى] ديوان الاستيفاء، ويسدّ «4» بقلمه تواريخ التذاكر والمراسيم، ويتصفّح ما يصدر عن المستوفى من المخرج والمردود(8/300)
ويطالب بحمل ما ثبت منه، ويطالب أرباب الخطوط والبذول «1» بما يستحقّ عليهم وينيب شاد «2» الدواوين عنه «3» ، ويكتب فى كلّ يوم بما يطالب به؛ واذا لم يكن للديوان مقابل قام المستوفى بوظيفته.
وأما المستوفى
- فله أن يسترفع سائر الحسبانات اللازمة، وما تدعو إليه حاجته من المقترحات فى المدد الماضية والحاضرة مما يمكن عمله، فاذا صار الحساب إليه مشمولا بخطّ صاحب الديوان بتخليده ومؤرّخا حضوره بخطّ المقابل تصفّحه واستوفى تفاصيله على جمله أصلا وخصما، وشطب ما يحتاج إلى شطبه- كلّ عمل على شواهده- وخرّج وردّ ما يتعيّن تخريجه وردّه، وكتب بذلك مطالعة تعرض على المقابل، فإذا وافقه عليها عرضت على صاحب الديوان وكتب بالإجابة عنها، ثم يطالب المباشر بالإجابة عمّا تجب الإجابة عنه، وإضافة ما تجب إضافته [الى «4» ] حساب المدّة التالية لتلك المدّة، وحمل ما يجب حمله؛ وتكون إضافته فى الحساب منسوبة إلى قلم مستدركه؛ فإن أخّر استيفاء الحسبانات وشطبها وتخريج «5» ما يلوح فيها ومضت عليها مدّة يمكن فيها العمل، كان(8/301)
ما يتعيّن فيها لازما له إذا عنّت «1» ، وإلا فتلزمه إعادة ما تناوله من الجامكيّة «2» عن تلك المدّة، ويطالب من صدر عنه الحساب بما يلزمه؛ ويتعيّن على المستوفى أنه إذا رفع اليه حساب معاملة تأمّل «3» خطوط المباشرين على عاداتهم، [و] «4» نظر فيه «5» بعد ذلك، فإن تغيّرت عن العادة، فإن كان بزيادة تأكيد فلا بأس، وإن كان بإخلال مثل أن يكتب الشاهد على الحساب بالمقابلة، وعادته أن يكتب: «الأمر على ما شرح» يلزمه الكشف عن موجب ذلك؛ ويلزم المستوفى ضبط مياومة المجلس، وكتابة الكشوف بخطّه والتذاكر ونسخ المحرّرات، وتعيين الجهات لأربابها بعد كتابة الناظر بتعيين الجهة، وعليه نظم جوامع التقدير بعد عمل موازينها وتحريرها وشطبها على التقادير الصادرة عن المباشرين وجوامع الحواصل: من العين والغلال والكراع «6» والأصناف المعدودة والموزونة والمذروعة «7» والسلاح خاناه والعدد والآلات وغير ذلك، يسدّ على ما أمكن سدّه جملة، وما لا يمكن نثره أقلاما يستشهد فيها بما رفع اليه من جهة المباشرين؛ وكذلك يعتمد فى جامعة البواقى، يعقد عليها جملة، ويفصّلها بمعاملاتها وجهاتها وسنيها وأسماء(8/302)
مباشريها، وما يرجى منها وما لا يرجى بمقتضى أوراق المباشرين؛ وكذلك يعتمد فى جامعة الفائض والمتأخّر وغير ذلك من الجوامع؛ وعليه عمل ما يطلب من الأبواب من المقترحات والمطاولات؛ ويلزمه عمل المقايسات وفوائد المتأخّر، وغير ذلك من لوازم قلم الاستيفاء؛ ويلزمه محاسبات أرباب النّقد والكيل المرتّبين على ما تعيّن بقلم الاستيفاء، فيحاسبهم على استحقاقاتهم، ويعتدّ «1» عليهم بما ثبت مما عيّنه لهم بقلمه؛ ويلزمه التنبيه على خوالص المعاملات وطلبها: حملا «2» الى بيت المال، أو حوالة على ما يعيّنه بقلمه؛ ويلزمه تخريج تفاوت «3» المدد والمحلولات «4» وغير ذلك؛ ويلزمه التفريع «5» بما يصل اليه من الحوطات الجيشيّة لوقته على ما جرت به العادة.
ووظيفة الاستيفاء كبيرة، كثيرة الأعمال، لا تنحصر لوازمها فى كتاب، وانما هى بحسب الوقائع.
فاذا انفصل المستوفى من المباشرة فليس له أن يأخذ ورقة من حسابه الذى استرفعه أو وضعه بقلمه، ويتلقّاه المباشر بعده.(8/303)
وأما المشارف
- فله أن يسترفع عند مباشرته معالم الجهة ليستعين بها على المباشرة: من ضرائب وتقادير «1» وحاصل وباق وفائض ومتأخّر وغير ذلك؛ وهو مطلوب بتحقيق الحواصل، وله الختم عليها؛ وهو مطلوب بنظم سائر الحسبانات اللازمة والمقترحة إن تسحّب «2» العامل أو مات، ومع وجود العامل إن كان قد التزم عند مباشرته العمل؛ وتلزمه المقابلة مع العامل على الحساب الصادر عنهما، وسياقة التعليق معه، والكتابة على الوصولات «3» والحسبانات؛ وهو مطلوب بجميع ما يطلب به العامل من المخرّج وغيره.
وأما الشاهد
- فيلزمه ضبط تعليق المياومة، والكتابة على الوصولات والحسبانات؛ ومتى فقد العامل والمشارف لزمه رفع الحساب اللازم دون المقترحات؛ ولا بدّ له من جريدة مبسوطة على الأصل والخصم.
وأما العامل
- فقد قدّمنا ذكر ما يحتاج إليه كلّ مباشر من ضبط تعليق المياومة «4» وبسط الجريدة وخدمتها فى الأصل والخصم أوّلا فأوّلا، والتيقّظ لذلك وأنّ من أهمله فقد قصّر فى مباشرته وأخلّ بوظيفته؛ والعامل أحرى بجميع ذلك ممن سواه من سائر المستخدمين، لما هو مطلوب به من نظم الحسبانات وموقعه «5» من(8/304)
عمل المقترحات والأجوبة عن المخرّج والمردود، وأنه هو الملتزم لذلك «1» دون غيره وأنه لا يلزم من سواه شىء من الأعمال مع وجوده.
وقد ذكرنا تلخيص قواعد هذه الكتابة والمباشرين وأوضاعهم ولوازمهم والأوضاع الحسابيّة وغير ذلك من معالم المباشرات، مجملا غير مفصّل، وبعضا من كلّ، وقليلا من كثير، إذ لو استقصينا ذلك لطال ولتعذّر لاختلاف المباشرات والوقائع والأوضاع والآراء؛ ولقد حصل الاجتماع لجماعة من مشايخ أهل هذه الصناعة ممّن اتّخذها حرفة من مبادئ عمره إلى أن طعن فى سنّه، وما منهم إلا من يخبر أنه يستجدّ «2» له فى كلّ وقت من أحوال المباشرات ما لم يسمع به قبل، ولا طرأ «3» له فيما سلف من عمره؛ فكيف يمكن حصر ما هو بهذه السبيل؟! وفيما نبّهنا عليه مقنع لطالب هذه الصناعة، والعمدة فيها على الدّربة والمباشرة، وقد قيل:
ولا بدّ من شيخ يريك شخوصها ... وإلّا فنصّ العلم عندك «4» ضائع
كمل الجزء الثامن من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى- رحمه الله تعالى- ويليه الجزء التاسع وأوّله:
ذكر كتابة الحكم والشروط(8/305)
استدراك راجعنا هذا الجزء بعد طبعه فبدت لنا فى تفسير بعض ألفاظه معان أخرى نرجّحها على ما كتبناه أوّلا فى حواشيه فرأينا أن نستدركها فى آخره خدمة للعلم وتتميما للفائدة.
ص س 60 9 «بنوء المرزم» وكتبنا على قوله: «المرزم» ما نصه: المرزم: «من أرزم الرعد اذا اشتدّ صوته» اهـ ومع صحة هذا الضبط واحتمال اللفظ لذلك التفسير المتقدّم فإننا نرجّح أن يضبط: «المرزم» بكسر الميم وفتح الزاى، وهو من نجوم المطر قال فى اللسان: «المرزمان، نجمان من نجوم المطر، وقد يفرد» .
193 11 «من ضريبة وموافرة» وكتبنا على قوله: «وموافرة» ما نصه:
«فى الأصل: «وموامرة» بالميم؛ وهو تحريف» اهـ وقد بدا لنا بعد أنّ للفظ «المؤامرة» معنى مصطلحا عليه بين كتاب الدواوين، وتصح إرادته فى هذا الموضع؛ فقد ورد فى مفاتيح العلوم ص 56 طبع أوربا ما نصه: «المؤامرة عمل تجمع فيه الأوامر الخارجة فى مدّة أيام الطمع، ويوقّع السلطان فى آخره بإجازة ذلك؛ وقد تعمل المؤامرة فى كل ديوان تجمع ما يحتاج اليه من استثمار واستدعاء توقيع» اهـ وانظر صفحة 296 من هذا الجزء.
202 5 «والبذول» ؛ وكتبنا على هذه الكلمة ما نصه: «كذا فى الأصل؛ ولم نجد من معانى هذه الكلمة ما يناسب سياق ما هنا» اهـ ويظهر لنا أن البذول فى هذا الموضع جمع بذل؛ والمراد ما يبذله السلطان من الإقطاعات لخواصّه وأجناده؛ وقد نبهنا على هذا المعنى فى الحاشية رقم 1 من صفحة 301، فانظره.(8/306)
ص س 202 8 «مبقلة» وكتبنا على هذه الكلمة ما نصه: «فى الأصل: «مقبلة» ، وفيه قلب صوابه ما أثبتنا كما يرشد اليه عطف المتوسطة والمجدبة عليه الخ» .
ومع جواز ما اخترناه واستقامة الكلام به فقد بدا لنا أنه يصح أن يراد بقوله: «مقبلة» ، السنة التى تقبل بالنبات، أى تجىء به.
وقد ذكرنا هذا المعنى فى الحاشية رقم 5 من صفحة 295، فانظره.
203 1 «ويحتاج الى أن يتعاهد مباشرى المعاملات» ولم نفسّر لفظ المعاملات فى هذا الموضع، وقد فسرناه فى الحاشية رقم 3 من صفحة 281، فانظره.
204 13 كلمة «الزردكشية» وكتبنا عن هذه الكلمة ما نصه: «الزردكشية» هم لابسو الدروع؛ وكش باللغة الفارسية معناه لابس انظر المعجم الفارسى الإنجليزى تأليف ستاين جاس مادة (كشيدن) .
هذا ما كتبناه فى تفسير هذا اللفظ؛ وقد وقفنا بعد ذلك على أنهم يريدون بالزردكاشية: صانعو الزرد والأسلحة انظر صبح الأعشى ج 4 ص 12 ونحن نرجّح هذا المعنى ونؤثره على الأوّل.
229 3 قوله: «فإن تعذر فبالوجه» وكتبنا فى تفسير هذه العبارة ما نصه:
«الظاهر أنه يريد بالوجه هنا: الجاه، أى إن تعذر الكفيل ذو المال والغنى قبلت الكفالة بذى الجاه وإن لم يكن غنيا» اهـ وقد بدا لنا بعد ذلك فى تفسير هذه العبارة معنى آخر نرجّحه على الأوّل، وهو أن الكفالة بالوجه هى أن يضمن الكافل إحضار المكفول بوجهه، أى بذاته، اذا طلب منه أن يحضره؛ فمعنى العبارة إذن أنه إن تعذّر الكفيل بالمال قبلت الكفالة بأن يحضر الكافل شخص المكفول.(8/307)
[مقدمة الجزء التاسع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
بيان عن الجزء التاسع
من نهاية الأرب
فى دار الكتب من نسخ هذا الجزء نسخة واحدة كاملة مأخوذة بالتصوير الشمسىّ، وقطعة من نسخة أخرى مأخوذة بالتصوير الشمسىّ أيضا، تبتدئ من (الفنّ الثالث فى الحيوان الصامت) فى صفحة 224، وقد شمل التحريف والتصحيف ألفاظ هذا الجزء فى كلتا النسختين بظلمة كثيفة لا يكاد يبدو فيها الصواب إلا بالتفكير الطويل والبحث المستقصى، فما زلنا نستخرج الصحيح من المعتلّ، ونتعرّف الصواب من الخطإ بما يجاوره ويتصل به من الألفاظ الصحيحة التى لم يمسّها مسخ ولا تحريف، مراعين فى ذلك سياق الكلام وما تقتضيه أساليب الكتّاب والشعراء فى مختلف العصور والبيئات، مستعينين بعد ذلك بالمصادر الكثيرة التى بين أيدينا، من دواوين الشعراء ورسائل الكتّاب وكتب المحاضرات والمنتخبات الأدبية ومصنّفات اللغة وغيرها من علوم العربية، والمعجمات المختصّة بأسماء الرواة وأنسابهم، وما ألّفه العلماء فى الأمكنة والبلاد وضبط أسمائها وتعيين مواقعها، وغير ذلك من أنواع المؤلّفات التى تراها مفصّلة بعد فى بيان الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء، كلّ نوع منها فيما يتعلّق به من أغراضه وأبوابه، غير مكتفين من كلّ كتاب بنسخة واحدة، بل جمعنا ما استطعنا جمعه من نسخه لنتخيّر أصحّها رواية وأقومها لفظا؛ منبّهين فى الحواشى على اختلاف(مقدمةج 9/1)
هذه النّسخ فى رواياتها وعلى ما نرجّحه منها؛ وعسى أن نكون قد وفّقنا فى هذا الجزء الى ما نقصد إليه فى جميع أجزاء هذا الكتاب من إصلاح المحرّف من ألفاظها، وتكميل ما نقص من عباراتها، وتفسير غريبها، وشرح ما أشكل من جملها وأبياتها، وضبط ما التبس من ألفاظها، وتحقيق ما اشتملت عليه من أسماء الأمكنة والبلاد والقبائل والأشخاص وضبطها على الوجه الصحيح، والتنبيه على كثير مما ورد فيها من الألفاظ والصّيغ والعبارات الدّخيلة والعامّيّة، وغير ذلك من الأغراض.
ومما ينبغى التنبيه عليه فى هذا الموضع أننا لم نضع لفظا مكان لفظ آخر فى الأصل إلا إذا كان التحريف فى لفظ الأصل ظاهرا لا يستقيم به المعنى على وجه من الوجوه، بشرط أن يتقارب اللفظان فى رسم الحروف تقاربا يجعلهما كالمتّفقين، ليكون الظنّ أرجح فى اشتباه اللّفظين على الناسخ، والاحتمال أقرب فى تحريف أحدهما عن الآخر، مؤثرين فى ذلك النقل عن المصادر الموثوق بمؤلّفيها، منبّهين فى الحواشى على ما كان فى الأصل من حروف هذا اللّفظ ووجه اختيار غيره والمصدر الذى أخذناه عنه؛ سواء أكان هذا اللفظ منقولا عن كتاب، أم كان من عندنا؛ فاذا أفاد لفظ الأصل معنى يستقيم به الكلام على وجه من الوجوه ولو كان ضعيفا أبقيناه على حاله لم نغيّر منه حرفا، وإن بدا لنا من الألفاظ ما هو أفضل منه وأقرب إلى السياق أثبتناه فى الحواشى، كما أننا لم نضبط علما من الأعلام المشتمل عليها هذا الجزء إلا إذا ورد بضبطه نصّ صريح لا يحتمل التأويل فيما لدينا من الكتب الموثوق بمؤلّفيها ومصحّحيها، فاذا ورد هذا الاسم فى الكتب مضبوطا بالقلم ولم نجد من النصوص الدالّة على ضبطه ما نطمئن إليه، نبّهنا على ذلك فى الحواشى، فنقول:
«كذا ضبط هذا الاسم بالقلم لا بالعبارة فى كتاب كذا» .(مقدمةج 9/2)
وإنّ من النعم الكبرى على العلم والأدب التى لا يفى بحقّها شكر، ولا يقوم بحمدها نثر ولا شعر، تلك العناية العظيمة والرعاية الكبرى من مولانا مليك البلاد، وشبل إسماعيل (صاحب الجلالة فؤاد الأوّل) أيّد الله ملكه، وأدام ظلّه، وحرس للبلاد ولىّ عهده (سموّ الأمير فاروق) فقد تمّ فى عهده السعيد طبع كثير من الكتب النافعة فى مختلف الفنون، والكشف عن ثروة علميّة واسعة مما تركه السلف تذكرة للخلف.
ولا يفوتنا فى هذا المقام أن نذكر بالشكر والثناء هذا الجهد العظيم الذى بذله ويبذله المدير الحازم والمربّى الفاضل الأستاذ (محمد أسعد برّادة بك) مدير دار الكتب المصريّة، واهتمامه الصادق باخراج هذه الكتب فى أقرب وقت ممكن على أحسن وجه وأكمله، تحقيقا لما تتوق إليه الأمّة العربيّة جمعاء من إحياء لغتها وآدابها بنشر الكتب الثمينة فى الدين واللغة والأدب والتاريخ، وغيرها من أنواع العلوم.
كما لا يفوتنا أن نثنى الثناء الجميل على حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ (السيد محمد الببلاوى) مراقب إحياء الآداب العربية على ما يسديه الى مصحّحى هذه الكتب من الإرشادات القويمة، والآراء السديدة؛ ونسأل الله سبحانه التسديد فى القول، والتوفيق فى العمل
مصحّحه أحمد الزين
تحريرا بالقاهرة فى يوم الأربعاء 15 محرّم سنة 1352 10 مايو سنة 1933(مقدمةج 9/3)
فهرس الجزء التاسع
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى
ذكر كتابة الحكم والشروط وما يتّصف به الكاتب ويحتاج اليه 1
أما اشتراط العدالة والديانة والأمانة 2
وأما طلاقة العبارة وذلاقة اللسان 3
وأما حسن الخط 3
وأما معرفة العربية 4
وأما معرفة الفقه 4
وأما علم الحساب والفرائص 5
وأما معرفة صناعة الوراقة 6
ذكر صورة ما اصطلح عليه الكتّاب من أوضاع الوراقة 6
ذكر كيفية ما يصنعه الكاتب فى كلّ واقعة 9
أما الإقرارات وما يتّصل بها من الرهن والضمان 10
وأما الحوالة 17
فصل وأما الشركة 17
وأما القراض 19(مقدمةج 9/4)
وأما العارية 20
وأما الهبة والنحلة 20
وأما الصدقة والرجوع 22
وأما التمليك 23
وأما البيوع 24
وأما الرد بالعيب والفسخ 73
فى مقايلة تكتب على ظهر المبايعة 73
وأما الشفعة 74
وأما السلم والمقايلة فيه 84
وأما القسمة والمناصفة 85
وأما الأجائر 88
وأما المساقاة 103
وأما الوصايا والشهادة على الكوافل بالقبوض 104
وأما العتق والتدبير وتعليق العتق 110
وأما الكتابة 113
وأما النكاح وما يتعلق به 115
وأما أقرار الزوجين بالزوجية واعتراف الزوج بمبلغ الصداق وما يتصل بذلك من فرض الزوجة والإشهاد عليها بقبض الكسوة 124
وأما الطلاق وما يتصل به من الفروض الواجبة 126
وأما تعليق الطلاق وفسخ النكاح 131
وأما نفى ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة 134(مقدمةج 9/5)
وأما الوكالات 135
وأما المحاضر على اختلافها 137
وأما الإسجالات 145
وأما الكتب الحكمية 152
وأما التقاليد الحكمية 155
وأما الأوقاف والتحبيسات 156
المؤتلف والمختلف من أسماء نقلة الحديث 160
المؤتلف والمختلف من نسب رجال الحديث 179
وأما من ينسخ العلوم 214
وأما من ينسخ التاريخ 214
وأما من ينسخ الشعر 217
ذكر كتابة التعليم وما يحتاج من تصدّى لها إلى معرفته- فأما تعليم الابتداء 218
وأما تعليم الانتهاء 220
الفن الثالث فى الحيوان الصامت 224
القسم الأوّل من هذا الفن فى السباع وما يتصل بها من جنسها، وفيه ثلاثة أبواب
الباب الأوّل فى الأسد والببر والنمر
أما أسماء الأسد 226
وأما أصناف الآساد وأجناسها 227(مقدمةج 9/6)
وأما عاداتها فى حملها ووضعها وحضانتها 228
وأما عادتها فى وثباتها وثباتها وأفعالها وصبرها وسرعة مشيها وأكلها 229
وأما ما فى الآساد من الجراءة والجبن 230
ذكر شىء مما وصف به الأسد نظما ونثرا 234
وأما الببر وما قيل فيه 242
ذكر ما قيل فى النمر 243
ما قاله الشعراء فى وصف النمر 245
الباب الثانى من القسم الأوّل من الفن الثالث فيما قيل فى الفهد والكلب والذئب والضبع والنمس- ذكر ما قيل فى الفهد
ما قيل فى وصف الفهود من النظم والنثر 248
ذكر ما قيل فى الكلاب 254
(فصل) قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 255
ذكر دلائل النجابة والفراهة فى كلاب الصيد 260
ذكر شىء مما وصفت به كلاب الصيد نظما ونثرا 261
ذكر ما قيل فى الذئب 270
ذكر ما وصف به الذئب 272
ذكر ما قيل فى الضبع 274
ذكر ما قيل فى النمس 276(مقدمةج 9/7)
الباب الثالث من القسم الأوّل من الفنّ الثالث فيما قيل فى السنجاب والثعلب والدب والهرّ والخنزير
فأما السنجاب ذكر ما وصف به السنجاب 278
ذكر ما قيل فى الثعلب 279
ذكر ما وصف به الثعلب 281
ذكر ما قيل فى الدبّ 282
ذكر ما قيل فى الهرّ 283
ذكر ما وصف به الهرّ 285
ذكر ما قيل فى الخنزير 299
ذكر ما وصف به الخنزير 301
القسم الثانى من الفن الثالث فى الوحوش والظباء وما يتصل بها من جنسها
وفيه ثلاثة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم فيما قيل فى الفيل والكركدّن والزرافة والمها والإيّل
ذكر ما قيل فى الفيل 302
ذكر شىء مما وصف به الفيل نظما 308
ذكر ما قيل فى الكركدّن 315
ذكر ما قيل فى الزرافة 317(مقدمةج 9/8)
ذكر ما وصفت به الزرافة 318
ذكر ما قيل فى البقر الوحشية- وهى المها، والأيّل- أما سنّها 322
وأما ما قيل فى المها 322
ذكر ما وصفت به المها 322
وأما ما قيل فى الأيّل 324
ذكر ما قيل فى امتناعه عن شرب الماء مع حاجته إليه 325
الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثالث فيما قيل فى الحمر الوحشية والوعل واللمط
ذكر ما قيل فى الحمر الوحشية 326
ذكر ما وصفت به الحمر الوحشية من النثر والنظم 327
ذكر ما قيل فى الوعل 329
ذكر ما وصف به الوعل 330
ذكر ما قيل فى اللمط 331
الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثالث فى الظبى والأرنب والقرد والنعام
ذكر ما قيل فى الظبى 332
فصل وممّا يلتحق بهذا النوع غزال المسك 333
ذكر ما وصف به الغزال من الشعر 333
ذكر ما قيل فى الأرنب 334
منافع الأرنب 335(مقدمةج 9/9)
ذكر ما وصف به الأرنب 336
ذكر ما قيل فى القرد 336
ذكر ما قيل فى النعام 339
ذكر ما وصفت به النعامة 340
القسم الثالث من الفن الثالث فى الدواب والأنعام؛
وفيه ثلاثة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم فى الخيل
ذكر ما ورد فى ابتداء خلق الخيل 343
ذكر ما ورد فى فضل الخيل وبركتها وفضل الإنفاق عليها 346
ذكر ما جاء فى فضل الطّرق 353
ذكر ما جاء من دعاء الفرس لصاحبه 354
ذكر ما ورد من أن الشيطان لا يخبل من فى داره فرس عتيق ولا يدخل دارا فيها فرس عتيق 355
ذكر ما جاء فى التماس نسل الخيل والنهى عن خصائها والرخصة فيه والنهى عن هلبها وجزّ أعرافها ونواصيها 356
ذكر ما قيل فى أكل لحوم الخيل من الإباحة والكراهة 358
ذكر ما جاء فى النهى عن عسب الفحل وبيع مائه 360
ذكر ما جاء فى إكرام الخيل ومنع إذالتها 360
ذكر ما ورد من الأمر بارتباط الخيل وما يستحبّ من ألوانها وشياتها وذكورها وإناثها 361(مقدمةج 9/10)
ذكر ترجيح إناث الخيل على فحولها وترجيح فحولها على إناثها وما جاء فى ذلك 365
ذكر ما ورد فى شؤم الفرس وما يذمّ من عصمها ورجلها 366
ذكر ما جاء فى سباق الخيل وما يحلّ منه وما يحرم 368
وأما أسماء السوابق فى الحلبة 373
ومما يتصل بهذا الفصل ترتيب عدو الفرس 375
كيفية تضمير الخيل 375
ذكر ما يقسم لصاحب الفرس من سهام الغنيمة والفرق فى ذلك بين العراب والهجن والبراذين 375
ذكر سقوط الزكاة فى الخيل 378
تمّ الفهرس(مقدمةج 9/11)
بيان اهمّ الكتب والمصادر التى رجعنا إليها فى تصحيح هذا الجزء مرتبة على حروف المعجم
(إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى) لشهاب الدين القسطلّانى.
(الإرشاد الشافى على متن الكافى فى علمى العروض والقوافى) للدمنهورى.
(أساس البلاغة) للزمخشرى.
(أسماء الوحوش) للاصمعى.
(الإصابة فى تمييز الصحابة) لابن حجر العسقلانى.
(الأغانى) لأبى الفرج الأصفهانى.
(أقرب الموارد) لسعيد الخورى الشرتونى اللبنانى.
(الإكمال فى رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والانساب) لابن ماكولا.
(الأنساب) للسمعانى.
(الأموال) لأبى عبيدة.
(بدائع الزهور فى وقائع الدهور) وهو تاريخ مصر لابن إياس.
(تاج العروس) وهو شرح القاموس للزبيدى.
(تاج اللغة وصحاح العربية) للجوهرى.
(تاريخ ابن الأثير) .
(تاريخ الأدب او حياة اللغة العربية) للمرحوم حفنى بك ناصف.
(تاريخ بغداد) للخطيب.(مقدمةج 9/12)
(تاريخ الطبرى) .
(تبصير المنتبه بتحرير المشتبه) لابن حجر العسقلانى.
(تقريب التهذيب فى أسماء الرجال) له أيضا.
(التبيان) وهو شرح ديوان أبى الطيب المتنبّى، للعكبرىّ.
(تحفة ذوى الأرب فى مشكل الأسماء والنسب) لابن خطيب الدهشة.
(تقويم البلدان) لأبى الفداء.
(تكملة القواميس العربية) لدوزى.
(تهذيب الكمال فى أسماء الرجال) لأبى الحجاج المزّى.
(جواهر العقود ومعين القضاة والموقّعين والشهود) لأبى عبد الله الأسيوطىّ.
(حاشية الصبّان) على شرح الأشمونى.
(الحيوان) للجاحظ.
(حياة الحيوان) للدميرى.
(الخطط) للمقريزى.
(خلاصة تذهيب تهذيب الكمال فى أسماء الرجال) لصفىّ الدين الخزرجىّ.
ديوان أبى نواس.
ديوان ابن حمديس.
ديوان الحيوان، للسيوطى.
ديوان ابن هانئ الأندلسىّ.
ديوان عروة بن الورد.
ديوان الأخطل.
ديوان الأرّجانى.(مقدمةج 9/13)
ديوان ابن خفاجة.
ديوان ابن المعتزّ.
(ديوان المعانى) لأبى هلال العسكرى.
(الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة) لابن بسام.
(رشحات المداد فيما يتعلّق بالصافنات الجياد) للبخشىّ الحلبىّ.
(شذرات الذهب فى أخبار من ذهب) لابن العماد الحنبلى.
(شرح الأشمونى) على ألفية ابن مالك.
(شرح الرضى) على الكافية.
(شرح ابن هشام) على قصيدة بانت سعاد.
(شرح المنهج) لشيخ الإسلام زكريا الأنصارى.
(شرح مقامات بديع الزمان الهمذانى) للأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده.
(شرفنامه- وهو كتاب باللغة الفارسية فى تاريخ الأكراد) - للأمير شرفخان البدليسى.
(شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل) لشهاب الدين الخفاجىّ.
(شرح النووى) على صحيح مسلم.
(صبح الأعشى فى صناعة الإنشاء) للقلقشندى.
صحيح البخارى.
(طبقات الشافعية الكبرى) لابن السبكىّ.
(الطبقات الكبرى) لابن سعد.
(عقد الأجياد فى الصافنات الجياد) للسيد محمد الجزائرى الحسنى.
(العقد الفريد) لابن عبد ربه.(مقدمةج 9/14)
(عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان) لبدر الدين العينى.
(العمدة فى صناعة الشعر ونقده) لابن رشيق القيروانى.
(فتح العزيز وهو الشرح الكبير للرافعىّ على كتاب الوجيز) للغزالى.
(الفتاوى الهندية) لجماعة من أفاضل الهند رئيسهم الشيخ نظام الدين.
(فهرست ابن النديم) .
(فضل الخيل) للحافظ شرف الدين الدمياطى.
(القاموس المحيط) لمجد الدين الفيروزابادى.
(قوانين الدواوين) للأسعد بن مماتى.
(القانون) لابن سينا.
(قلائد العقيان) للفتح بن خاقان.
(كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون) لحاجى خليفة.
(الكوكب المشرق فيما يحتاج اليه الموثّق) لمحمد بن عبد الله الحسن الجروانى.
(الكامل للمبرّد) .
(لب اللباب فى تحرير الأنساب) للجلال السيوطى.
(لسان العرب) لابن منظور.
(المصباح المنير) للفيومى.
(معجم ما استعجم) للبكرى.
(معجم البلدان) لياقوت الحموى.
(المشترك وضعا والمختلف صقعا) له أيضا.
(مختصر أخبار مصر) لعبد اللطيف البغدادى.
(محيط المحيط) لبطرس البستانى.(مقدمةج 9/15)
(مبادئ اللغة) لأبى عبد الله الخطيب الإسكافى.
(المخصّص) لابن سيده.
(المغرب فى ترتيب المعرب) للمطرّزى.
(المعرّب والدخيل) للشيخ مصطفى المدنى.
(المعرّب من الكلام الأعجمى) لأبى منصور الجواليقى.
(المعجم الفارسى الإنجليزى) لستاينجاس.
(المؤتلف والمختلف من أسماء نقلة الحديث) للحافظ عبد الغنى بن سعيد المصرى.
(مشتبه النسبة) له أيضا.
(المشتبه فى أسماء الرجال) لشمس الدين الذهبىّ.
(المكتبة الأندلسية) طبع أسبانيا، وهى تشتمل على عدّة كتب، وهى (الصلة) لابن بشكوال، (والتكملة لكتاب الصلة) للقضاعى، (والمعجم) لابن الأبار، (وبغية الملتمس فى تاريخ رجال أهل الأندلس) للضبى، (وتاريخ علماء الأندلس) لابن الفرضى.
(المكتبة الجغرافية) طبع ليدن، وهى تشتمل على عدّة كتب، وهى (مسالك الممالك) للإصطخرى، (والمسالك والممالك) لابن حوقل، (وأحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم) للبشّارى المقدسى، (ومختصر كتاب البلدان) لابن الفقيه، (والمسالك والممالك) لابن خرداذبة، (والتنبيه والإشراف) للمسعودىّ.
(ما خالف فيه الإنسان البهيمة) لقطرب.
(المرصّع فى الآباء والأمهات والأبناء والبنات والأدواء والذوات) لابن الأثير.
(مباهج الفكر ومناهج العبر) لجمال الدين الوطواط الورّاق.
(محاضرات الأدباء) للراغب الأصبهانى.(مقدمةج 9/16)
(مروج الذهب) للمسعودى.
(ما يعوّل عليه فى المضاف والمضاف إليه) للمحبّى الحموى.
(مجمع الأمثال) للميدانى.
(المعجب فى تلخيص أخبار المغرب) لمحيى الدين عبد الواحد التميمى المراكشى.
(مطمح الأنفس ومسرح التأنّس فى ملح أهل الأندلس) للفتح بن خاقان.
(مسند الإمام أحمد) .
(نهاية الأرب) لشهاب الدين النويرىّ.
(النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية وهى سيرة السلطان يوسف صلاح الدين الأيوبى) للقاضى ابن شدّاد.
(نسب عدنان وقحطان) لأبى العباس المبرّد.
(نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) للمقرّى.
(نكت الهميان فى نكت العميان) لصلاح الدين الصفدى.
(الوافى بالوفيات) له أيضا.
(النهاية فى غريب الحديث) لابن الأثير.
(وفيات الأعيان) لابن خلّكان.
(الوجيز) للغزالى.
(يتيمة الدهر) للثعالبى.(مقدمةج 9/17)
الجزء التاسع
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]
[تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و..]
تتمة باب الرابع عشر في ذكر الكتاب والبلغاء والكتابة و..
تتمة ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام
ذكر كتابة الحكم والشروط وما يتّصف به الكاتب ويحتاج اليه
ينبغى أن يكون كاتب الحكم والشروط عدلا، ديّنا، أمينا، طلق العبارة فصيح اللسان، حسن الخطّ؛ ويحتاج مع ذلك إلى معرفة علوم وقواعد تعينه على هذه الصناعة، لا بدّ له منها، ولا غنية عنها: وهى أن يكون عارفا العربيّة والفقه متقنا علم الحساب، محرّرا القسم والفرائض، دربا بالوقائع، خبيرا بما يصدر عنه من المكاتبات الشرعيّة، والإسجالات الحكميّة على اختلاف أوضاعها، وأن يكون قد أتقن صناعة الوراقة «1» وعلم قواعدها، وعرف كيفيّة ما يكتب فى كلّ واقعة وحادثة:
من الدّيون على اختلافها، والحوالات، والشّركات، والقراض، والعارية، والهبة والنّحلة، والصدقة والرجوع، والتمليك، والبيوع، والردّ بالعيب والفسخ، والشّفعة والسّلم، والمقايلة «2» ، والقسمة والمناصفة «3» ، والأجائر على اختلافها، والمساقاة، والوصايا(9/1)
والشهادة على الكوافل بالقبوض «1» ، والعتق، والتدبير، وتعليق العتق، والكتابة «2» ، والنكاح وما يتعلّق به، وإقرار الزّوجين بالزوجيّة عند عدم كتاب الصّداق، واعتراف الزوج بمبلغ الصّداق، والطلاق، وتعليق الطلاق «3» ، وفسخ النكاح، ونفى ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة، والوكالات، والمحاضر، والإسجالات، والكتب الحكميّة والتقاليد، والأوقاف، وغير ذلك، على ما نوضّحه ونبيّنه ان شاء الله تعالى. فنقول وبالله التوفيق:
أما اشتراط العدالة والديانة والأمانة
- فلأنّه يتصرّف بشهادته فى الأموال والدّماء والفروج، فإذا لم يكن فيه من الدّيانة والعدالة والأمانة ما يستمسك به، ويقف عند أوامر الشرع الشريف ونواهيه بسببه؛ تولّاه- والعياذ بالله تعالى- الشيطان بالغرور، وأوقعه فى محظور يتوقّع فى الدار الآخرة منه وقوع المحذور؛ وربّما انكشفت فى الدّنيا عورته، وبدت سريرته؛ وإذن هو المعنىّ والمشار اليه بقولهم:
«شاهد الزور قتل ثلاثة: نفسه والمشهود له والمشهود عليه» فلم يفز ممّا ارتكبه بطائل، بل جمع لنفسه بين نكال عاجل وعقاب آجل، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.(9/2)
وأما طلاقة «1» العبارة وذلاقة اللسان
- فلأنه يجلس بين يدى الحاكم فى مجلسه العامّ، ويحضره من يحضره: من العلماء والفقهاء، وذوى المناصب، وأصحاب الضرورات، وخصوم المحاكمات على اختلاف طبقاتهم وأديانهم؛ وهو المتصدّى لقراءة ما يحضر فى المجلس: من إسجالات حكميّة، ومكاتيب شرعيّه؛ وكتب مبايعات، ووثائق إقرارات؛ وقصص وفتاوى، وغير ذلك مما يتّفق فى المجلس؛ فمتى لم يكن الكاتب طلق العبارة فصيح اللّسان، جيّد القراءة حسن البيان؛ تعذّرت قراءة ذلك عليه ولكن فى المجلس، فرمقته العيون شزرا، وتلمّظت «2» به الألسن سرّا؛ ونظر بعض القوم بسببه بعضا، وكان عندهم فى الرتبة سماء فغدا أرضا؛ ثم تتعدّى هذه المفسدة الى إفساد المكتوب، والتباس المعنى المراد والأمر المطلوب؛ وذلك لأنّه إذا توقّف فى القراءة احتاج إلى إعادة اللّفظة وتكريرها، وترديد الكلمة وتدويرها؛ فتشكل قراءته على سامعه ومستكتبه، ويكون قد أخلّ برتبته ومنصبه.
وأما حسن الخطّ
- فلأنه مندوب إليه فى مثل ذلك، وله من الفوائد ما لا يحصى، ولأنّ المكتوب إذا كان حسن الخطّ قبلته النفوس، وانشرحت له ومالت إليه؛ وإذا كان على خلاف ذلك كرهته وملته وسئمته؛ وقد ذكرنا ما قيل(9/3)
فى حسن الخطّ وما وصفت به الكتابة عند ذكرنا لكتابة الإنشاء «1» ، فلا فائدة فى إعادته هنا.
وأما معرفة العربيّة
- فلأنّه إنّما يكتب عن حاكم المسلمين فى الأمور الشرعيّة، فلا يجوز أن يصدر عنه لحن بلفظه، فكيف إذا سطّره بقلمه!؟ فإن وقع ذلك كان من أقبح العيوب وأشنعها، وربّما أخلّ بالمقصود، وحرّف المعنى المراد وأخرجه عن وضعه، ونقله إلى غير ما أريد به، سيّما «2» فى شروط الأوقاف.
وأما معرفة الفقه
- فلأنه يجلس بين يدى حاكم عالم، لا يكاد يخلو مجلسه غالبا من الفقهاء والعلماء، فيوردون المسائل أو تورد عليهم، فيحصل البحث فيها فيتكلّم كلّ من القوم بما علمه بقدر اشتغاله ونقله، فإذا كان الكاتب عاريا من الفقه والمدارسة ومطالعة كتب العلوم الشرعيّة اقتضى ذلك عدم مشاركته لهم فيما هم فيه فيصير بمثابة الأجنبىّ من المجلس، وهو فى ذلك بين أمرين: إمّا أن يسكت، فلا فرق بينه وبين جماد شغلت به تلك البقعة التى جلس فيها؛ أو يتكلّم بما لا يعلم، فيردّ عليه قوله، فيحصل له الخجل فى ذلك المجلس الحفل، ويستزريه القوم؛ هذا من هذا الوجه؛ ثم هو فيما يكتبه عن الحاكم أو فى أصل «3» المكتوب بين أمرين: إمّا أن يجيد ويبرز المكتوب وهو محرّر على مقتضى قواعد الفقه، فلا بدّ له فيه من الاستعانة بالغير وتقليده، بحيث إنه لو سئل عن معنى أجاد فيه وأحسن لعجز عن الجواب؛ وإمّا أن يستقلّ بنفسه فيكتب غير الواجب، فيكون قد أفسد المكتوب على أهله(9/4)
ولزمه غرم ما أفسد من القراطيس والرّقوق «1» ، وكلتاهما خطّة خسف ما فيهما «2» حظّ لمختار؛ وربّما اغترّ جاهل ممن تلبّس بالكتابة لوثوقه من نفسه بمعرفة مصطلح الوراقة دون الفقه، فيظنّ أنه استغنى بذلك عنه، وهذا غلط وجهل، لأنه قد يقع له من الوقائع ما لم يعلمه، فلا يخلّصه منه إلا تصريفه على القواعد الشرعيّة؛ ولا يعتمد الكاتب على اطّراد قاعدة الأشباه والنظائر، فيقيس الشىء على ما يظنّ أنّه شبهه أو نظيره، وقد لا يكون كذلك، فإنّ الفقه أمر نقلّى لا عقلىّ، فلا بدّ للكاتب من معرفته؛ والله أعلم.
وأما علم الحساب والفرائض
- فلأنه لو وقع فى المجلس قسمة شرعيّة بين ورثة أو شركة «3» ، ولم تكن له معرفة «4» بهذا العلم، كان ذلك عجزا منه وتقصيرا(9/5)
ونقصا فى صناعته؛ ويقبح به أن يعتمد على غيره فيه ويقلّده، ويرجع اليه فى المجلس الذى هو ممّن يشار اليه فيه، فيصير فى ذلك المجلس تابعا بعد أن كان متبوعا، ومقلّدا لغيره، ومسطّرا بقلمه ما لم يعرفه وما هو أجنبىّ عنه؛ هذا إن اتّفق أن يحضر المجلس من له معرفة بهذا العلم؛ فأمّا إن خلا المجلس ممن يعلم ذلك جملة كان أشدّ لتوقيف «1» الأمر وتعطيله، ودفعه من وقت الى آخر، وفى هذا من النقص والتقصير والإخلال برتبته، وعدم الاتصاف بالكمال فى صناعته، ما لا يخفى على متأمّل.
وأما معرفة صناعة الوراقة فى الأمور التى ذكرناها
- فلذلك من الفوائد ما لا يخفى على ذى لبّ، لأنّ الكاتب إذا أخرج المكتوب من يده بعد إتقانه وتحرير ألفاظه على ما استقرّ عليه الاصطلاح: من التقديم والتأخير ومتابعة الكلام وسياقته، وترصيعه وترصيفه، حسن موقعه، وعذبت ألفاظه، واشرأبّت له النفوس، ولو بلغ الكاتب فى الفقه والعربيّة واللغة ما عساه أن يبلغ ولم يدر المصطلح، وخرج الكتاب من يده وقد حرّره على قواعد الفقه والعربيّة من غير أن يسلك فيه طريق الكتّاب واصطلاحهم، مجّته الأسماع، ولم تقبله النفوس كلّ القبول، وثقل على قارئه وسامعه؛ والله أعلم.
فهذه لمعة كافية من فوائد ما قدّمناه ممّا يحتاج الكاتب الشّروطىّ الى معرفته؛
[ذكر ما اصطلح عليه الكتاب من أوضاع الوراقة]
فلنذكر الآن صورة ما اصطلح عليه الكتّاب من أوضاع الوراقة فى الأمور التى قدّمنا ذكرها على ما استقرّ عليه الحال فى زماننا هذا، ممّا يضطرّ إليه المبتدئ، ولا يكاد يستغنى عنه المنتهى؛ فنقول:(9/6)
أوّل ما ينبغى أن يبدأ به الكاتب فيما يصدر عنه من جميع المكاتيب الشرعيّة حين ابتدائه بكتابة شىء منها أن يكتب:
(بسم الله الرّحمن الرّحيم) ثمّ يصلّى على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ يكتب لقب المشهود عليه وكنيته واسمه، ولقب أبيه وجدّه وكنيتيهما واسميهما، إن كانوا ممّن يلقّبون ويكنّون، وإلّا فأسماؤهم كافية؛ وينسب المشهود عليه إلى قبيلته، أو صناعته وحرفته أو مجموع ذلك؛ وذلك بحسب ما تقتضيه رتبته وحاله فى علوّ القدر والرفعة؛ فإن كان من ذوى الأقدار المشهورين ذكر ألقابه وكناه، ونسبه إلى قبيلته وحرفته، إن كانت ممّا تزيده رفعة وتعريفا؛ وإن كان غير مشهور برتبة أو منصب لكنّه ممّن يعرفه الشهود بالحلية والنّسب قال: «وشهود هذا المكتوب به عارفون» واستغنى بذلك عن وصف حليته «1» ؛ وإن كان ممّن عرفه بعضهم ولم يعرفه البعض قال: «وبعض شهوده به عارفون» وذكر حليته؛ وإن كان ممّن لا يعرفه الشهود جملة ذكر حلاه وضبطها على ما نشرحه عند ذكرنا للحلى؛ ثم يذكر المشهود له ويسلك فى ألقابه ونعوته وكناه وتعريفه نحو ما تقدّم فى المشهود عليه بحسب ما تقتضيه حاله أيضا ويذكر بعد ذلك ما اتفقا عليه. فاذا انتهى الى آخر الكلام فيه أرّخ المكتوب باليوم من الشهر، وبما مضى من سنين الهجرة النبويّة؛ ولا بأس بأن يؤرّخه بالساعة من اليوم، لاحتمال تعارض مكتوب آخر فى ذلك اليوم يناقض هذا المكتوب، مثال ذلك أنّ امرأة طلّقت فى يوم قبل دخول الزوج المطلّق بها، فتزوّجت فى يومها، وتمادى الأمر على ذلك، ثم ادّعى مدّع أنها تزوّجت قبل وقوع الطلاق(9/7)
ولم يكن فى الكتاب ما يمنع دعواه؛ فانه يحتاج فى مثل هذا ونحوه إلى تحديد الطلاق والزواج بالساعات، فإنّ فيه إزالة للشكّ، وحسما لمادّة الالتباس؛ فاذا كملت كتابة المكتوب استوعبه الكاتب قراءة، فإن كان على السّداد والتحرير أشهد فى ذيله عليهما بما اتّفقا عليه، أو على المقرّ بما أقرّ به، وذلك بحسب ما تقتضيه الحال.
وإن احتاج المكتوب إلى إصلاح: من كشط أو ضرب أو إلحاق حرّره، واعتذر فى ذيل المكتوب تلو التاريخ قبل وضع رسم الشهادة عمّا أصلحه فيقول فيه: «مصلح على «1» كشط كذا وكذا، وفيه ضرب ما بين كلمة كذا الى كلمة كذا» إن كان الضرب قد أخفى ما كان تحته؛ وإن كانت الأحرف المضروب عليها ظاهرة قال: «فيه ضرب على كذا وكذا، وفيه ملحق بين سطوره أو بهامشه كذا وكذا» ويشرح ذلك، ثم يقول: «وهو صحيح فى موضعه، معمول به، معتذر عنه بخطّ كاتبه» .
وإن كان المكتوب فى درج «2» موصول بالإلصاق، أو رقّ «3» مخروز الأوصال أشار على فواصل الأوصال بقلمه إشارة له يعرفها وتعرف عنه: إمّا علامته أو اسمه؛ ويكتب فى آخر أسطره عدد أوصال المكتوب، وعدّة أسطره؛ وقد أهمل الكتّاب ذلك فى غالب مكاتيبهم، وهو زيادة حسنة فى التحرير؛ والله أعلم.(9/8)
وإن كان المكتوب نسخا متعدّدة ككتب الأوقاف كتب عند رسم شهادته فى كلّ نسخة عدد النّسخ؛ والقاعدة عندهم فى هذه الصناعة أنّ الكاتب كلّما زادها عرفانا «1» زادته بيانا؛ فيكون هذا دأبه فى كلّ ما يكتبه أو غالبه؛ والله أعلم بالصواب.
*** ولنذكر كيفيّة ما يصنعه الكاتب فى كلّ واقعة على معنى ما أورده «أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المخزومىّ «2» ،
المعروف بابن الصّيرفىّ فى مختصره الذى ترجمه «بمختصر المكاتبات البديعة فيما يكتب من أمور الشريعة» الذى قال فيه إنه اختصره من كتابه المترجم «بجامع العقود فى علم المواثيق والعهود» .(9/9)
أما الإقرارات وما يتصل بها من الرهن والضمان
- فسبيل الكاتب فيها أنّه إذا أقرّ رجل لرجل بدين كتب: أقرّ فلان عند شهوده طوعا إقرارا صحيحا شرعيّا بأن فى ذمته بحقّ صحيح شرعىّ لفلان من الذهب المسكوك «1» ، أو من الدراهم النّقرة «2» المتعامل بها يومئذ كذا وكذا، إن كان نقدا.
وإن كان غلّة «أو صنفا «3» من الأصناف الموزونة أو المعدودة أو غير ذلك» قال: من الغلال الطيّبة النقيّة السالمة من العيوب والغلث «4» ؛ ويعيّن الغلّة، وينسبها الى جهتها فيقول إن كان بالدّيار المصريّة: الصعيديّة، أو البحريّة، أو الفيّوميّة؛ وإن كان بالشأم أو بغيره نسبها الى جهتها فيقول: البلقاويّة «5» ، أو «الحورانيّة» «6» أو السواديّة «7» ، أو الجبليّة «8» ، أو المرجيّة «9» ، أو غير ذلك من النواحى؛ يعيّنها بناحيتها(9/10)
وبأصنافها، وبأكيالها؛ ويذكر الجملة وينصّفها فيقول: «النصف من ذلك تحقيقا لأصله وتصحيحا لجملته كذا وكذا» ؛ ثم يقول: «يقوم له بذلك على حكم الحلول وسبيله، أو التنجيم» «1» ؛ أو يقول: «على ما يأتى ذكره وبيانه، فمن ذلك ما يقوم به على حكم الحلول كذا، وما يقوم به فى التاريخ الفلانىّ كذا» على حسب ما يقع عليه الاتّفاق؛ ثم يقول: «وأقرّ المقرّ المذكور بأنه ملىء بالدّين المعيّن، قادر عليه وأنّه قبض العوض عنه» ؛ فإن كان ذلك على حكم الحلول اكتفى فيه بالشهادة على المقرّ دون المقرّ له؛ وإن كان لأجل فلا غنية عن الشهادة على المقرّ له بأنّه صدّقه على ذلك فإنه لو ادّعى الحلول فيما وقعت الشهادة فيه على المقرّ بمفرده بأنّه إلى أجل، كان القول قوله مع يمينه؛ «2» وكذلك فى الشهادة بالغلّة أو الصنف، هل ذلك محمول إلى منزل المقرّ له، أو هو موضوع بمكان آخر، فإنّ «3» فى الشهادة عليهما معا قطعا للنزاع والاختلاف؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يجوز أن يشهد فى الإقرار إلا على حرّ بالغ عاقل، أو مريض مع حضور حسّه وفهمه، ويجوز أن يكتب على العبد البالغ وتتبع به ذمّته بعد عتقه.(9/11)
وان كان الدّين المقرّ به ثمن مبيع كتب فى آخر المكتوب: وهذا الدّين هو ثمن ما ابتاعه المقرّ من المقرّ له، وتسلّمه، وهو جميع الشىء الفلانىّ، أو جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا، الجارى ذلك فى يد البائع وملكه وتصرّفه على ما ذكرا «1» -- ويذكر المبيع ويصفه- وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق «2» بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك «3» فى صحّة البيع «4» حيث يجب شرعا. ويؤرّخ المكتوب، ويشهد عليهما معا.
وإن كان الدّين لرجل واحد [أو اثنين «5» أو جماعة] على اثنين أو على جماعة قال:
أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان وفلان إقرارا صحيحا شرعيا بأن فى ذمّتهم بحقّ صحيح شرعىّ بالسويّة بينهم أو على مقتضى ما وجب عليهم، لكلّ واحد من فلان وفلان؛ ويعيّن المقرّ به نقدا كان أو صنفا على حكمه فى الحلول والأجل والمدد، ويعيّن لكلّ واحد من المقرّ لهم ما يخصّه، إن كان بينهم تفاوت، أو بالسويّة بينهم؛ ويشهد على من أقرّ بالملاءة «6» وقبض العوض على ما تقدّم.(9/12)
وإن تضامنوا وتكافلوا قال: وكلّ واحد منهم ضامن فى ذمّته ما فى ذمّة الآخر من ذلك للمقرّ لهم بإذن كلّ واحد منهم للآخر فى الضمان والأداء والرجوع؛ وأقرّوا بأنهم مليئون بما ضمنوه؛ ويؤرّخ.
وإن كان كلّ واحد من المقرّين يقوم بما عليه من الدّين من غير ضمان ولا كفالة لغيره فلا بأس بأن يبرهن الكاتب على ذلك بأن يقول: «من غير ضمان ولا كفالة» .
فصل
وان حضر من يضمن فى الذمّة كتب بعد تمام الإقرار: «وحضر بحضور المقرّ المذكور فلان، وأشهد عليه طوعا منه أنّه ضمن ما فى ذمّة المقرّ المذكور من الدّين المعيّن للمقرّ له على حكمه» .
وإن كان الدّين على حكم الحلول فحضر من يضمنه فى ذمّته إلى أجل، عيّنه فى حقّ الضامن إلى الأجل، وأشهد عليه بالملاءة بما ضمنه؛ فان كان بإذن المضمون قال: «بإذنه له فى الضمان والأداء والرجوع عليه» ، وإن تبرّع الضامن بالضمان صحّ ضمانه، ويقول الكاتب: «إنّه ضمن الدّين المعيّن تبرّعا واختيارا، من غير إذن صادر من المضمون، وليس للضامن أن يرجع على ذمّة المضمون بما يقوم به عنه» .
وإن حضر من يضمن الوجه والبدن دون المال فلا يجوز إلّا بإذن المضمون؛ ومثال ما يكتب فى ذلك أن يقول: وحضر بحضوره فلان، وضمن وكفل إحضار وجه وبدن المقرّ المذكور للمقرّ له المذكور، متى التمس إحضاره منه فى ليل أو نهار، أو فى مدّة معلومة أحضره له؛ وذلك بإذنه له فى ذلك.
وينحلّ هذا الضمان عن الضامن بموت «1» المضمون دون سفره وغيبته؛ والله أعلم.(9/13)
وإن رهن المقرّ عند المقرّ له رهنا على دينه كتب ما مثاله: وبعد تمام ذلك ولزومه رهن المقرّ المذكور عند المقرّ له توثقة «1» على الدّين المذكور، وعلى كلّ جزء منه ما ذكر أنّه فى يده وملكه وتصرّفه، وهو جميع الشىء الفلانىّ- ويوصف ويحدّد إن كان له حدود- رهنا صحيحا، شرعيّا، مقبوضا، مسلّما ليد «2» المقرّ له من المقرّ الراهن بإذنه له فى ذلك، بعد النّظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والإيجاب والقبول الشرعيّين، والتسلّم والتّسليم «3» .
فإذا استعار الرهن بعد ذلك كتب ما مثاله: ثمّ بعد ذلك استعار الراهن من المرتهن المذكور الرهن المذكور لينتفع به، مع بقاء حكم الرّهن، استعارة شرعيّة، من غير فسخ شىء من أحكامه، وصار ذلك بيد الراهن المذكور وقبضه وحوزه.
فإن استقرّ الرهن تحت يد المرتهن كتب: واعترف المرتهن بأنّ الرهن المذكور باق تحت يده وحوزه، وعليه إحضاره عند وفاء الدّين؛ ويؤرّخ.
فصل
وإن حضر من أعار المقرّ شيئا ليرهنه على ما فى ذمّته كتب فى ذيل المسطور:
وحضر بحضور المقرّ المذكور فلان، وأشهد عليه طائعا مختارا أنّه أعار المقرّ المذكور جميع الشىء الفلانىّ- ويوصف ويحدّد إن كان له حدود- ليرهن ذلك عند المقرّ له على ما فى ذمّته له من الدّين المعيّن أعلاه؛ ويعيده «4» بسؤاله فى ذلك، عارية(9/14)
صحيحة شرعيّة مسلّمة مقبوضة، وذلك بعد النظر، والمعاقدة الشرعيّة، والإيجاب والقبول؛ وأذن المعير للمستعير أن يرهن ذلك عند المقرّ له على الدّين المذكور، ويسلّمه له التسليم الشرعىّ، ثم يستعيد ذلك منه ليعيده إلى المعير المالك لينتفع به، مع بقاء عينه على حكم الرهن.
وإن كان المستعير الراهن ينتفع بالرهن كتب: وأن يستعيد المستعير الرهن لينتفع به دون المعير، مع بقائه «1» على حكم الرهن.
وان كان الرهن تحت يد المرتهن كتب: وهذا الرهن المذكور تحت يد المرتهن حفظا لما له، وصيانة لدينه، وعليه أن يعيده عند وفاء الدّين للمستعير ليسلّمه للمعير.
فإن وكّل الراهن وكيلا فى بيع الرهن عند استحقاق الدّين ووفاء ما عليه كتب:
ثمّ بعد تمام ذلك ولزومه وكّل المقرّ المذكور فلان بن فلان فى قبض الرهن المذكور ممّن هو تحت يده برضا المرتهن، وبيعه «2» ممّن يرغب فى ابتياعه بما يراه من الأثمان وقبض الثمن، وتسليم المبيع لمبتاعه؛ وكتب ما يجب اكتتابه، وقضاء ما عليه من الدّين المعيّن فيه للمقرّ له وأخذ الحجّة منه، والإشهاد على المقرّ له بقبض الدّين المذكور منه «3» على «4» المقرّ؛ وكالة صحيحة شرعيّة، قبلها منه قبولا سائغا «5» ، أقامه فى ذلك مقام نفسه، ورضيه «6» واختاره.(9/15)
وإن أراد المرتهن أن ينزل عن الرهن كتب خلف المسطور: أقرّ فلان وهو المقرّ له بالدّين باطنه، اقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه نزل عن رهنيّة العين المعيّنة باطنه، المرتهنة عنده على دينه المعيّن باطنه، نزولا صحيحا شرعيّا، وأبطل حقّه فى وثيقة الرهن المذكور، وسلم الرهن للراهن المذكور وهو على صفته الأولى فتسلّمه منه بغير حادث غيّره عن صفته؛ وذلك بعد النظر والمعرفة، والإحاطة بذلك علما وخبرة.
فصل
اذا أقرّ ربّ الدّين أنّ الدّين المقرّ له به كان من مال غيره كتب: أقرّ فلان وهو المقرّ له باطنه، عند شهوده طوعا إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه لمّا داين فلانا المقرّ المذكور «1» باطنه بالدّين المعيّن باطنه- وهو كذا وكذا- كان ذلك من مال فلان دون ماله، وأنّ اسم المقرّ له باطنه كان على سبيل النيابة والوكالة، وأنّه كان أذن له فى معاملة المقرّ المذكور باطنه بالدّين المذكور على حكمه، ومداينته؛ وصدّقه المقرّ له «2» على ذلك تصديقا شرعيّا؛ وبمقتضى ذلك وجبت له مطالبة المقرّ باطنه بالدّين المعيّن فيه واستخلاص حقّه منه، وقبضه على الوجه الشرعىّ.
فصل
فان أقرّ المقرّ له بأنّ الدّين أو ما بقى منه صار لغيره كتب على ظهر المكتوب:
أقرّ فلان- وهو المقرّ له باطنه- إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّ الدّين المعيّن باطنه، أو أنّ الذى بقى من الدّين المعيّن باطنه- وهو كذا وكذا- صار ووجب من وجه صحيح(9/16)
شرعى لا شبهة فيه لفلان، وصدّقه على ذلك، وقبل منه هذا الاقرار لنفسه قبولا سائغا؛ وبحكم ذلك وجبت له مطالبة المقرّ باطنه بالدّين المعيّن على الوجه الشرعىّ.
وأما الحوالة- فسبيل الكاتب فيما يكتب فيها أنه اذا كان لرجل داين على آخر وأحال به كتب على ظهر مسطور الدّين ما مثاله: أقرّ فلان- وهو المقرّ له باطنه- عند شهوده إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه أحال فلانا على ذمّة فلان المقرّ المذكور باطنه بما له فى ذمّته من الدّين المعيّن باطنه، وهو كذا وكذا، على الحكم المشروح باطنه، وذلك نظير ما لفلان المحال فى ذمّة فلان المحيل من الدّين الذى اعترف به عند شهوده، وهو نظير المبلغ المحال به فى القدر والجنس والصفة والاستحقاق حوالة صحيحة شرعيّة، قبلها منه قبولا سائغا، ورضى ذمّة المحال عليه؛ تعاقدا على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة، وافترقا عن تراض؛ وبحكم ذلك برئت ذمّة المحيل المبدإ «1» بذكره من الدّين الذى كان فى ذمّته، براءة صحيحة شرعيّة، وقبل كلّ منهما ذلك من الآخر لنفسه قبولا شرعيّا، وبه شهد عليهما؛ ويؤرّخ.
(فصل) «2»
وأمّا الشّركة
- فهى تصحّ فى الذّهب والفضّة؛ وسبيل الكاتب فيها أنّه اذا اتّفق اثنان على الشّركة، فأخرج كلّ واحد منهما مالا وخلطاه، وأرادا المكاتبة بينهما(9/17)
كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان عند شهوده «1» إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّهما اشتركا على تقوى الله تعالى، وإيثار طاعته، وخوفه ومراقبته، والنصيحة من كلّ منهما لصاحبه، والعمل بما يرضى الله تعالى فى الأخذ والعطاء؛ وهو «2» أنّ كلّا منهما أخرج من ماله كذا وكذا، وخلطا ذلك حتى صار شيئا واحدا، لا يتميّز بعضه من بعض وجملته كذا وكذا، ووضعا أيديهما عليه، وتراضيا على أنّهما يبتاعان به من المكان الفلانىّ أو المدينة الفلانيّة ما أحبّا واختارا من أصناف البضائع وأنواع المتاجر ويجلسان به فى حانوت بالبلد الفلانىّ، إن كان اتّفاقهما على ذلك؛ وإن كانا يسافران به كتب: ويسافران به الى البلاد الفلانيّة» فى البرّ والبحر العذب والملح أو أحدهما دون الآخر على حسب اتّفاقهما، ويتولّيان معا ذلك بأنفسهما ومن يختارانه من وكلائهما ونوّابهما، على ما يريان فى ذلك من الحظّ والمصلحة ويبيعان ذلك بالنّقد دون النّسيئة «3» ، ويسلّمان المبيع، ويتعوّضان بالثمن ما أحبّا واختارا، ويديران هذا المال فى أيديهما على ذلك حالا بعد حال، وفعلا بعد فعل، ومهما فتح الله فى ذلك من ربح وفائدة بعد إخراج رأس المال والمؤن والكلف وحقّ الله تعالى إن وجب، كان الربح بينهما مقسوما نصفين بالسويّة؛ تعاقدا على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة شفاها بالإيجاب والقبول؛ وأذن كلّ واحد منهما لصاحبه فى البيع والشراء، والأخذ والعطاء، فى غيبة صاحبه وحضوره، إذنا شرعيّا؛ وعلى كلّ منهما أداء الأمانة، وتجنّب الخيانة، وتقوى الله فى السرّ والعلانية والنصيحة لصاحبه، ومعاملة شريكه بالمعروف والإنصاف.(9/18)
وإن تسلّم أحدهما المال دون الآخر كتب بعد ذكر جملته: تسلّمه جميعه فلان، وصار بيده وقبضه وحوزه، ليبتاع به ما أراد من البلاد الفلانيّة من أصناف البضائع، وأنواع المتاجر، ويجلس به فى حانوت أو يسافر به؛ ويكمّله على ما تقدّم.
وأما القراض
«1» - فاذا دفع رجل لرجل مالا يعمل فيه، أو لجماعة من الناس كتب ما مثاله: أقرّ فلان عند شهوده إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه قبض وتسلّم من فلان من الذهب العين كذا وكذا، أو من الدراهم الجيّدة المتعامل بها كذا وكذا- ولا يجوز فى الدراهم المغشوشة- وصار ذلك نقده وقبضه وحوزه، على سبيل القراض الشرعىّ الجائز بين المسلمين؛ وأذن ربّ المال له أن يشترى بذلك ما أحبّه واختاره من المدينة الفلانيّة من أصناف البضائع، وأنواع المتاجر على اختلافها، وتباين أجناسها ويسافر به أين شاء من بلاد المسلمين فى الطّرق المأمونة، أو فى البحر العذب والملح ويبيع ذلك بالنّقد دون النسيئة، ويتعوّض بقيمته ما أراد من أنواع المتاجر، ويعود به الى البلد الفلانىّ، ويبيعه بالنّقد دون النسيئة، ويدير هذا المال فى يده على ذلك حالا بعد حال، وفعلا بعد فعل، ومهما أطلعه الله فى ذلك من ربح وفائدة بعد إخراج رأس المال والوزن «2» والكلف وحقّ الله تعالى إن وجب، كان الربح مقسوما بينهما نصفين، أو أثلاثا: لربّ المال الثلثان، وللعامل بحقّ عمله الثلث؛ تعاقدا على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة بالإيجاب والقبول؛ والتفرّق بالأبدان عن تراض وقبل كلّ منهما ذلك لنفسه قبولا شرعيّا، وعلى هذا العامل المذكور الأمانة وتجنّب الخيانة، وتقوى الله فى السرّ والعلانية فى بيعه وابتياعه وجميع أفعاله، وحفظه هذا المال على عادة مثله، وإيصاله عند وجوب ردّه؛ ويؤرّخ.(9/19)
وإن كان القراض بيد جماعة فلا يصحّ أن يتكافلوا فى الذمّة، ويصحّ ضمان الوجه «1» .
وأما العارية
- فإنّ الرجل إذا أعار لابنته شورة «2» تتجمّل بها، أو أعار لرجل دارا أو عبدا أو غير ذلك كتب الكاتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه أعار لابنته لصلبه فلانة البكر البالغ، التى اعترف برشدها عند شهوده، ما ذكر أنّه له وفى ملكه ويده وتصرّفه، وصدّقته على ذلك، وهو جميع الشّورة الآتى ذكرها فيه، وهى كذا وكذا- وتوصف وتذكر الأوزان والقيم، وإن كان المعار دارا حدّها ووصفها- عارية صحيحة شرعيّة مسلّمة مقبوضة بيد المستعيرة من المعير، بإذنه لها فى ذلك وذلك بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، وعلى هذه المستعيرة حفظ ذلك والانتفاع به فى منزلها بالموضع الفلانىّ، والتجمّل به، وألّا تخرج ذلك من يدها إلى أن تعيده الى المعير على الصفة المذكورة، وعلمت مقدار العارية وما يلزم فيها؛ ويؤرّخ.
وأما الهبة والنّحلة
- فإنّ الرجل اذا وهب لأجنبىّ دارا أو غير ذلك أو وهب لولده «3» لصلبه فلان «4» الرجل الرشيد مالا أو غيره كتب الكاتب: أقرّ فلان(9/20)
بأنّه وهب لولده لصلبه فلان الرجل الرشيد، الذى اعترف بأنّه لا حجر له عليه ما ذكر أنّه له وفى ملكه ويده وتصرّفه، وهو جميع الدّار التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- هبة صحيحة شرعيّة جائزة ماضية، بغير عوض عنها ولا قيمة قبلها منه قبولا شرعيّا، وتسلّم الموهوب له من الواهب «1» ما وهب له فيه «2» التسلّم الشرعىّ، وصار بيده وقبضه وحوزه، فبحكم ذلك وجب له التصرّف فيها تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم، وأقرّا بأنّهما عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة النافذة «3» .
فإن وهب الرجل دارا لولده الطفل أو لولده البالغ الذى هو تحت حجره كتب موضع القبول ما مثاله: قبل الواهب ذلك من نفسه لولده المذكور، بحكم أنّه تحت حجره وولاية نظره قبولا صحيحا شرعيّا، وتسلّم من نفسه لولده المذكور ما وهب فيه «4» التسلّم الشرعىّ، ورفع عنه يد ملكيّته، ووضع عليه يد نظره وولايته، وأقرّ بأنه عارف بذلك المعرفة الشرعيّة.
فإن نحل الرجل ولده الطفل مالا أو غير ذلك كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه نحل (أى دفع) لولده لصلبه فلان الطفل، أو المراهق، الذى تحت حجره وولاية نظره ما ذكر أنّه له وفى يده وملكه وتصرّفه، وهو جميع الشىء الفلانىّ- ويوصف بما يليق به- نحلة صحيحة شرعيّة، جائزة مرضيّة، قبلها له من نفسه، وصار ذلك بيده ملكا لولده المذكور، وأقرّ بأنّه عارف بما نحله.(9/21)
وإن نحل ولده البالغ أو الأجنبىّ كتب نحو ما تقدّم الّا القبول والتسلّم فإنه يقول: قبل ذلك لنفسه قبولا صحيحا شرعيّا، وتسلّم منه ما نحله إيّاه فيه بإذنه وصار بيده وقبضه وحوزه، ومالا من جملة أمواله، وأقرّا بأنهما عارفان بذلك المعرفة الصحيحة الشرعيّة النافية للجهالة.
وأما الصدقة والرجوع
- فإنّ الرجل إذا تصدّق على ولده الطفل أو البالغ أو على أجنبىّ، كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه تصدّق على ولده الطفل الذى تحت حجره وولاية نظره فلان؛ وان كان بالغا كتب: «البالغ الرشيد باعتراف والده» برّا به، وحنوّا عليه، وابتغاء بذلك وجه الله الكريم، وطلبا لثوابه الجسيم بما ذكر أنه له وفى يده وتصرّفه، وهو جميع الدار الفلانيّة التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- صدقة صحيحة شرعيّة جائزة ماضية نافذة، قبلها من نفسه لولده، أو قبلها الولد البالغ الرشيد لنفسه، على نحو ما تقدّم فى الهبة والنّحلة من القبول والتسلّم.
واذا أراد الأب أو الجدّ وإن علا، والأمّ والجدّة وإن علت الرجوع عن الصدقة والهبة والتمليك اذا كان بغير عوض، كتب الكاتب على ظهر المكتوب ما مثاله:
أشهد فلان على نفسه طائعا مختارا أنّه رجع فى الدّار المذكورة الموصوفة المحدودة باطنه، التى كان تصدّق بها على ولده المذكور باطنه فلان، رجوعا صحيحا شرعيّا، وأعادها الى ملكه ويده وتصرّفه، وأبطل حكمها، ونقض شرطها، وتسلّمها تسلّم مثله لمثلها، وأقرّ بأنّه عارف بها المعرفة الشرعيّة؛ ويؤرّخ.(9/22)
وأما التمليك- فمنه ما هو بعوض، وما هو بغير عوض،
فأما ما كان بعوض
«1» فيكتب «2» [فيه] «3» ما مثاله: ملّك فلان لفلان جميع الدار الفلانيّة الجارية فى يده وملكه وتصرّفه التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- تمليكا صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا؛ قبض الفقير المملّك ذلك من المملّك له بإذنه، وصار بيده وحوزه ومالا من جملة أمواله، عوضا عما ملّكه فيه فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك «4» فى ذلك.
وأما ما كان بغير عوض،
فيكتب [فيه] «5» : ملّك فلان لفلان جميع الدار- وتوصف وتحدّد نحو ما تقدّم- تمليكا صحيحا شرعيّا، جائزا نافذا مرضيّا، بغير عوض عن ذلك ولا قيمة، قبلها منه قبولا صحيحا شرعيّا، وسلم هذا المملّك لفلان المملّك ما ملّكه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وحوزه، ملكا من جملة أملاكه؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وأنّهما نظراها وأحاطا بها(9/23)
علما وخبرة، تعاقدا على ذلك معاقدة شرعيّة بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا بالأبدان عن تراض؛ ويؤرّخ.
وإذا أقرّ رجل بأنّ داره ملك لغيره [كتب «1» ] : أقرّ فلان عند شهوده طوعا إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّ جميع الدّار التى بيده وتصرّفه- وتوصف وتحدّد- ملك فلان ملكا صحيحا شرعيّا دونه ودون كلّ أحد بسببه «2» ، وأنّ ملكه لهذه الدّار سابق على هذا الإقرار ومقدّم عليه؛ وصدّقه المقرّ له على ذلك تصديقا شرعيّا وقبل منه هذا الإقرار لنفسه قبولا شرعيّا، وأقرّا بأنّهما عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وسلم المقرّ المذكور للمقرّ له جميع الدار المذكورة، فتسلّمها منه وصارت بيده وقبضه وحوزه، وأقرّ المقرّ المذكور بأنّه لا حقّ له فى هذه الدار ولا طلب بسبب ولا ملك ولا استحقاق منفعة بوجه من الوجوه الشرعيّة كلّها على اختلافها، وتصادقا على ذلك.
وأما البيوع
- فإنّه إذا ابتاع رجل دارا أو حصّة من دار أو غير ذلك كتب الكاتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من فلان جميع الدّار الكاملة أرضا وبناء، الآتى ذكرها ووصفها وتحديدها فيه، التى ذكر البائع أنّها له وفى ملكه ويده وتصرّفه؛ وإن كان عمرها كتب: «ومعروفة بإنشائه وعمارته» .
وإن كان المبيع حصّة من دار كتب: جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا غير مقسوم من «3» جميع الدار التى ذكر البائع أنّ(9/24)
هذه الحصّة المذكورة له وفى يده وملكه وتصرّفه بجميع حقوقها ومرافقها وما يعرف بها وينسب إليها.
فإن استثنى البائع مكانا منها غير داخل فى البيع كتب بعد ذلك: خلا الموضع الفلانىّ، فإنّه خارج عن هذا العقد، غير داخل فى هذا البيع، وعلم به المشترى ورضى به. ثمّ يقول: شراء صحيحا شرعيّا قاطعا ماضيا جائزا نافذا، بثمن مبلغه كذا وكذا؛ تقابضا وتفرّقا بالأبدان عن تراض، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، وضمان الدّرك «1» فى المبيع حيث يجب شرعا.
وإن أراد الكاتب تحسين ألفاظه وتنميقها وتكثيرها فيما لا يضرّ بالعقد ولا يفسد البيع كتب بعد تنصيف الثمن: دفعه المشترى المذكور للبائع المذكور من خالص ماله وصلب حاله، تامّا وافيا، وأقبضه له بعد وزنه ونقده، فقبضه البائع المذكور منه وتسلّمه بتمامه وكماله موزونا منتقدا، وصار بيده وقبضه وحوزه مالا من جملة أمواله؛ وبحكم ذلك برئت ذمّة المشترى المقبوض منه من الثمن المذكور براءة صحيحة [شرعيّة] «2» براءة قبض واستيفاء؛ وسلم البائع المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه خاليا لا شاغل له، ولا مانع له منه، ولا دافع [له عنه] «3» ، وصار بيده وقبضه وحوزه، ملكا من أملاكه، يتصرّف فيه تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم من غير مانع ولا معترض، ولا رافع ليد بوجه ولا سبب، وذلك بعد نظرهما لجميع «4» ذلك، ومعرفتهما إيّاه، وإحاطتهما به علما وخبرة نافيين للجهالة، وتعاقدهما على ذلك كلّه(9/25)
المعاقدة الصحيحة الشرعيّة المعتبرة شفاها بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا بالأبدان من مجلس العقد التفرّق الشرعىّ عن تراض منهما، وضمان الدّرك «1» فى صحّة البيع «2» حيث يوجبه الشرع الشريف وتقتضيه أحكامه.
وإن اشترط أحدهما الخيار لنفسه ثلاثة أيّام كتب بعد قوله: «عَنْ تَراضٍ» *
:
وانقضاء مدّة الخيار الشرعىّ الذى اشترطه البائع لنفسه خاصّة، أو المشترى، أو الذى اشترطاه لأنفسهما، وهو ثلاثة أيّام من تاريخ العقد.
وإن كانا لم يتفرّقا من مجلس العقد كتب عوض التفرّق بعد الإيجاب والقبول:
واختار كلّ من المتعاقدين المذكورين إمضاء البيع المذكور بينهما فى المبيع المعيّن وإلزامه وإبرامه وتمام إحكامه ونفوذه على الوجه الشرعىّ، والقانون المرضىّ، وضمان «3» الدّرك على ما تقدّم.
وإن أحضر البائع «4» من يده كتابا يشهد له بصحّة ملكه للمبيع كتب: وأحضر هذا البائع «5» من يده كتابا يتضمّن ابتياعه الدّار المذكورة، وأصولا «6» له، وسطّر «7» عليها فصولا بهذه المبايعة، وتسلّم المشترى ذلك توثقة «8» له، وحجّة لليوم ولما بعده.(9/26)
وإن كان البائع «قد استعاد الحكم «1» على ما بقى» على ملكه منها أو من غيرها كتب عوض «وتسلّم المشترى ذلك» : ثمّ بعد ذلك استعادها البائع بحكم ما بقى على ملكه منها أو من غيرها» .
وإن كان فى ملك المشترى حصّة متقدّمة ثمّ ابتاع حصّة أخرى كتب: وقد كمل للمشترى المذكور بما فى ملكه متقدّما وبهذه المبايعة ملك جميع كذا وكذا سهما أو ملك جميع الدار المذكورة، وصدّقه البائع على ذلك.
وإن كان فى المبيع عيب واشترطه البائع كتب بعد تمام العقد ولزومه: أعلم البائع المشترى أنّ الدّار المبيعة واقعة «2» الجدران، مختلّة «3» البنيان، سبخة الأرض والحيطان مائلة الجدر والزّروب «4» ، مكسورة القوائم والأعراق «5» ، مسوّسة الأخشاب؛ الى غير ذلك ممّا لعلّه يكون فيها من عيب؛ ورضى المشترى بذلك.
وإن كان وكيلا فى الشراء كتب: وعلم المشترى أنّ الدار المذكورة معيبة «6» - أو على ما يصفها به من العيوب- وقال: إنه أعلم موكّله بذلك ورضى به.
وإن كان البيع بناء دون الأرض كتب: جميع البناء القائم على الأرض المحتكرة «7» دارا أو طاحونة أو غير ذلك، الجارى هذا البناء فى يد البائع وملكه وتصرّفه على(9/27)
ما ذكر؛ ويكمّل المبايعة على ما تقدّم شرحه وبيانه؛ ويكتب فى آخرها: وعلم المشترى المذكور أنّ الأرض الحاملة لهذا البناء المذكور محتكرة، ومبلغ الحكر «1» عنها فى كلّ سنة أو فى كلّ شهر كذا وكذا، ورضى بذلك.
وإن كان المشترى وكيلا كتب: وقال: إنّه أعلم موكّله بذلك، ورضى به.
وإن كان المبيع أرضا دون البناء أو أرضا كشفا «2» كتب: جميع قطعة الأرض الحاملة لبناء البائع؛ أو جميع الساحة الكشف «3» التى لا بناء عليها، الجارية فى يد البائع وملكه وتصرّفه؛ ويذرع ويحدّد، ويكمّل المبايعة على ما تقدّم.
فصل
وان كان المبيع بئرا كتب: جميع بناء البئر المعينة «4» ومكانها من «5» الأرض، المبنيّة بالطوب الآجرّ والطين والجير.
وإن كانت نقرا كتب: جميع البئر المنقورة للماء «6» المعين.(9/28)
وإن كان صهريجا كتب: جميع الصّهريج المبنىّ بالطوب الآجرّ والطين والجير المتلّص «1» المبيّض بالخافقىّ «2» الذى برسم خزن الماء العذب.
وإن كان بئرا همّاليّة كتب: جميع بناء الهمّاليّة «3» ومكانها من الأرض، المبنيّة بالطوب الآجرّ والطين والجير، الجارى ذلك فى يد البائع وملكه وتصرّفه، وهى فى الموضع الفلانىّ؛ ويذرع ويحدّد ذلك، إن أمكن ذلك.
وإن كان المبيع نخلا دون الأرض كتب: جميع النخل القائم فى الأرض الوقف على الشىء الفلانىّ، الخارجة عن هذا البيع، ومكان «4» كلّ نخلة من الأرض، الجارى النخل المذكور فى يد البائع وملكه وتصرّفه على ما ذكر، الذى ذلك فى الموضع الفلانىّ؛ ويذكر عددها.
وإن كانت الأرض مملوكة للبائع وأراد أن يبيع النخل بمغارسها «5» كتب: جميع النخل النابت فى الأرض الآتى «6» ذكرها فيه، وجميع أماكنها من الأرض، الجارى(9/29)
النخل والأرض بكمالهما فى يد البائع المذكور وملكه وتصرّفه على ما ذكر، باع من ذلك النخل المذكور ومواضع مغارسها، وتبقّى على ملكه بقيّة الأرض فإنها غير داخلة فى هذا البيع؛ وهذه الأرض بالموضع الفلانىّ؛ وعدّة النخل كذا وكذا. ويحدّد الأرض، ويكمّل المبايعة؛ ويكتب فى آخر المكتوب: ولهذا المشترى العبور فى الأرض المذكورة والاستطراق «1» فيها الى النخل المذكور بحقّ شرعىّ.
وان كان المبيع ثمرا ونخلا كتب: جميع ثمر النخل الجارى ذلك فى ملكه ويده وتصرّفه على ما ذكر، الذى ذلك بالموضع الفلانىّ؛ وعدّتها كذا كذا نخلة، إن أمكن؛ ويحدّد الأرض، ثم يقول: التى بدا صلاحها، وطاب أكلها، واحمرت واصفرّت، وجاز بيعها بشرط القطع؛ وإن شرط التّبقية كتب: بشرط التّبقية إلى أوان الجذاذ، «2» شراء صحيحا شرعيّا؛ ويكمّل «3» المبايعة.
فصل
وان كان المبيع مركبا كتب: جميع المركب العشارىّ «4»(9/30)
أو الخضارىّ «1» ، أو الدّرمونة «2» ، أو الناريّة «3» ، أو الشّختور «4» ، أو الحرّاقة «5»(9/31)
أو الشلودة «1» ، أو الدلاج «2» ، أو الكبكة «3» ، أو غير ذلك، وجميع عدّتها المتّخذة برسمها، الآتى ذكر ذلك ووصفه، الجارى ذلك فى يد البائع وملكه وتصرّفه على ما ذكر؛ وصفة المركب أنّها طول كذا كذا ذراعا بالذراع «4» النّجّارىّ «5» ، ومحملها كذا وكذا إردبا بالكيل المصرىّ؛ وصفة العدّة أنها صار قطعة واحدة، وبرأسه جامور «6» ، وقريّة «7» ثلاث قطع(9/32)
وقوسان، وقلع مزوّى «1» من قماش القطن، أو الملحم «2» ، أو غيره، عدّته كذا وكذا بيلمانا «3» أو قلع ستارة مكمّلة حبال «4» القنّب أو القطن، ورجل «5» طويلة قطعة أو قطعتان، وفراش «6» ، وكذا وكذا مجذافا «7» ، وإسقالة «8» برّ أو أكثر من ذلك(9/33)
ومذراة «1» أو أكثر، وعروس «2» ، وقلوس «3» ، وقرايا «4» ، وغير ذلك من آلات المركب وعدده؛ فما زاد عن ذلك ذكره، وما نقص وصفه؛ ثم يقال «5» : «وهذا المركب مدسور «6» السّفل والعلو، مسدود الشوبين «7» ، مغطّى الخنّين» «8» ؛ وإن كان له مرساة «9» من حديد وصفها وذكر زنتها؛ ويكمّل المبايعة.(9/34)
وإن كان المبيع بالغا عبدا أو أمة «أو كانا غير بالغين «1» » كتب: جميع العبد، أو الغلام، أو الوصيف «2» ، أو المملوك، أو الجارية، أو الأمة، أو الوصيفة، الجارى، أو الجارية فى يد البائع وملكه، المقرّ «3» له بالرّقّ والعبوديّة، المدعوّ فلانا؛ ويذكر جنسه ودينه، ثم يقول: وحليته: ... ويذكرها.
وإن كان «4» دون البلوغ كتب: جميع الغلام الذى بيده وملكه وتصرّفه على ما ذكر، المراهق، أو المعصر «5» ، إن كانت جارية؛ ويعيّن البكارة إن كانت؛ ثمّ يقول: «شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا» ؛ ويكمّل المبايعة.
وإن كان بالمبيع عيب ذكره، فيكتب: وعلم المشترى أنّ به أو بها المرض الفلانىّ- ويعيّنه، ويعدّد الأمراض والعيوب وآثار الكىّ وغير ذلك إن كان- ورضى به، ودخل «6» عليه.(9/35)
وإن كان المبيع عبدا بجارية أو العكس كتب: جميع العبد الذى بيد البائع- على نحو ما تقدّم- بجميع الجارية الفلانيّة الجنس، المسلمة؛ تقابضا «1» وتفرّقا بالأبدان، بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، وضمان الدّرك «2» فى ذلك حيث يجب شرعا؛ وإن كان فى أحدهما عيب ذكره.
فصل
وإن كانت الدار المبيعة فى بلد والمتبايعان فى بلد آخر كتب التخلية عوض التسليم، فيقول: وخلّى البائع المذكور بين المشترى وبين ما باعه إيّاه فيه «3» تخلية شرعيّة، ووجب «4» له بذلك قبض المبيع وتسلّمه بمقتضى هذا الابتياع الشرعىّ؛ وأقرّا أنهما «5» عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة قبل تاريخه، ونظراه النظر الشرعىّ، تعاقدا هذه «6» المبايعة بينهما معاقدة شرعيّة مشافهة بالإيجاب والقبول.(9/36)
واذا دفع المشترى للبائع من الثمن جوهرة، أو سيفا، أو خاتما بفصّ «1» ثمين، أو غير ذلك ممّا «2» تجهل قيمته، كتب: شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه من الذهب، أو من الدراهم كذا وكذا، وبجوهرة نفيسة، أو لؤلؤة نقيّة، مجهولة القيمة، مرئيّة «3» حال العقد؛ تقابضا وافترقا؛ ويكمّل المبايعة.
وإن حضر من يضمن درك «4» البائع فيما باعه وقبض ثمنه كتب: وحضر بحضور البائع المذكور فلان، وضمن فى ذمّته درك البائع فيما باعه وقبض الثمن بسببه «5» ، ضمانا شرعيّا فى ماله، بإذنه له فى ذلك، وأقرّ أنه «6» ملىء «7» بما فى ضمانه.
فصل
وإن أبرأ البائع ذمّة المشترى من الثمن كتب: بثمن مبلغه كذا وكذا، أبرأ البائع المذكور ذمّة المشترى منه براءة صحيحة شرعيّة، براءة إسقاط، قبلها منه قبولا شرعيّا، ولم تبق للبائع المذكور قبل المشترى المذكور مطالبة بسبب الثمن ولا شىء منه، ولا عوض عنه ولا عن شىء منه، وسلم البائع المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه بعد النظر والرضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة.(9/37)
وان كان البيع بثمن مؤجّل أو منجّم «1» كتب: بثمن مبلغه كذا وكذا يقوم له بذلك جملة واحدة فى التاريخ الفلانىّ، أو فى كلّ شهر يمضى كذا وكذا، على حسب ما يقع عليه الاتّفاق.
فصل
وإن اشترى رجل من رجل دارا بماله فى ذمّته من الدّين كتب ما مثاله:
شراء صحيحا شرعيّا، بما للمشترى فى ذمّة البائع من الدّين الحالّ الذى اعترف به البائع عند شهوده، وهو كذا وكذا، وصدّقه المشترى على ذلك، وسلم البائع للمشترى ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، وذلك بعد النظر والرضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك فى ذلك وبحكم ذلك برئت ذمّة البائع من الدّين الذى كان قبله للمشترى، ولم تبق للمشترى عنده مطالبة بسبب ذلك، وتصادقا على ذلك.
فصل
وإن كان لرجل على رجل دين فباعه دارا بثمن معلوم، ثم قاصّه «2» بماله فى ذمّته من الدّين، أو امرأة اشترت من زوجها دارا بثمن حالّ وقاصّته بصداقها، كتب(9/38)
ما مثاله: اشترى فلان بن فلان من فلان جميع الدار الفلانيّة- كما تقدّم شرحه- شراء «1» صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا حالّ «2» ، وسلم البائع للمشترى ما باعه إيّاه فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، [ومالا] «3» من جملة أمواله، وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض؛ وضمان الدّرك «4» فى ذلك؛ ثمّ بعد [تمام] «5» ذلك ولزومه قاصّ «6» المشترى المذكور البائع المذكور الثمن المذكور بماله فى ذمّة البائع من الدّين الذى اعترف به عند شهوده، وهو نظير الثمن المذكور فى القدر والجنس والصفة والاستحقاق، مقاصّة «7» صحيحة شرعيّة، قبل كلّ منهما ذلك لنفسه قبولا شرعيّا، ولم تبق لكلّ منهما مطالبة قبل الآخر بسبب ثمن، ولا مثمّن ولا دين، ولا غيره، ولا حجّة، ولا مسطور، ولا ذهب، ولا فضّة، ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة على اختلافها لما مضى من الزمان وإلى يوم تاريخه، وتصادقا على ذلك.(9/39)
وإذا اشترى جماعة من جماعة دارا ورثوها كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان وفلان وفلان بما لهم لأنفسهم بالسويّة بينهم أثلاثا؛ وإن كانوا متفاوتين فى الابتياع كتب: «فمن ذلك ما اشتراه فلان المبدأ «1» بذكره بماله لنفسه كذا، وما اشتراه فلان بماله لنفسه كذا، وما اشتراه فلان بماله لنفسه كذا» ؛ وإن كان منهم من اشترى حصّة لموكّله قال: «وما اشتراه فلان لموكّله بإذنه وأمره وتوكيله وماله كذا حسب ما وكّله فى ابتياع ما يذكر فيه «2» ، وفى التسليم والتسلّم اللّذين يشرحان فيه «3» ، على ما يشهد به من يعيّنه فى رسم شهادته آخره، أو على ما ذكر الوكيل المشترى» من فلان وفلان وفلان الإخوة الأشقّاء، أو لأب، أولاد فلان بن فلان الفلانىّ، جميع الدار «4» الكاملة الجارية فى أيدى البائعين وملكهم وتصرّفهم بالسويّة بينهم أثلاثا، المنتقلة إليهم بالإرث الشرعىّ عن والدهم فلان المذكور، بحكم أنّه توفّى إلى رحمة الله تعالى قبل تاريخه، وخلّف من الورثة المستحقّين لميراثه المستوعبين جميعه شرعا أولاده لصلبه الإخوة الأشقّاء، وهم البائعون المذكورون أعلاه الذين رزقهم من زوجته التى كانت فى عصمته وعقد نكاحه فلانة، بغير شريك لهم فى ميراثه، ولا حاجب يحجبهم عن استكماله بوجه ولا سبب، وترك من جملة ما خلّفه هذه الدار المذكورة، قسمت بينهم بالفريضة الشرعيّة أثلاثا بالسويّة بينهم؛(9/40)
وإن كانت وفاة والدهم ثابتة عند حاكم ذكرها، ثم يقول: وهذه الدار بالبلد الفلانىّ، بالحارة الفلانيّة، بالخطّ الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه من الذهب أو من الدراهم كذا وكذا بين «1» البائعين بالسويّة، من مال المشترين المذكورين على قدر ما ابتاعه كلّ منهم فيه «2» ، تقابضوا، وتفرّقوا بالأبدان، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، وضمان الدّرك فى ذلك.
وإن ضمن كلّ من البائعين درك الآخر كتب: «وكلّ واحد من البائعين ضامن فى ماله وذمّته درك الآخرين المذكورين فيما باعاه وقبضا الثمن بسببه ضمانا شرعيّا فى ماله وذمّته، بإذن كلّ منهم للآخرين فى الضمان والأداء والرجوع، وأقرّ كلّ واحد منهم أنّه «3» ملىء بما ضمنه، وقادر عليه» .
وإن صدّق كلّ منهم الآخر على صحّة ملكه لما باعه كتب: «وصدّق كلّ واحد منهم الآخر على صحّة ملكه لما باعه فيه وقبض الثمن بسببه تصديقا شرعيّا» .
وإن حضر من يضمن فى الذمّة كتب: «وحضر بحضورهم فلان، أو كلّ واحد من فلان وفلان، وضمن كلّ منهم وكفل فى ذمّته درك البائعين المذكورين فيما باعوه وقبضوا الثمن بسببه، ضمانا شرعيّا، بإذن كلّ منهم للآخر فى ذلك، وأقرّ كلّ منهم أنّه «4» ملىء بما ضمنه، قادر عليه» .(9/41)
وإذا ابتاع رجل لموكّله حجر طاحون «1» أو غيرها «2» كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان لموكّله فلان بماله وإذنه وتوكيله إيّاه فى ابتياع ما يذكر فيه «3» ، وفى التسليم والتسلّم اللّذين يشرحان فيه «4» ، بشهادة من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ أو يقول:
«على ما ذكر» ؛ وإن كان بيده وكالة كتب: «حسب ما تشهد به الوكالة التى بيده، الثابته بمجلس الحكم العزيز بالمكان الفلانىّ» ، من فلان، جميع حجر الطاحون «5» الفارسىّ «6» وعدّتها «7» ، الداخل ذلك فى عقد هذا البيع، الجارى ذلك فى يد البائع المذكور وملكه وتصرّفه على ما ذكر، وهى بالمكان الفلانىّ؛ ويصف الطاحون «8» والعدّة التى بها، وهى التوابيت «9» والحجارة النجديّة وقواعد الصّوّان، ويصف جميع العدّة، ويحدّد الطاحون «10» ، ويذكر الثمن، ويكتب: دفعه المشترى المذكور من مال موكّله للبائع المذكور، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، وبحكم ذلك برئت ذمّة المشترى المذكور والمشترى له فيه «11» من الثمن المذكور ومن وزنه ونقده، براءة صحيحة شرعيّة(9/42)
براءة قبض واستيفاء، وسلم البائع للمشترى ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه لموكّله المذكور، وصار بيده وقبضه وحوزه ملكا لموكّله، وذلك بعد النظر والمعرفة الشرعيّة والمعاقدة والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك «1» حيث يوجبه الشرع الشريف.
فصل
إذا باع الوكيل عن موكّله حمّاما كتب: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من فلان القائم فى بيع ما يذكر فيه «2» بالثمن الذى تعيّن فيه «3» ، وقبض الثمن، وتسليم المبيع لمبتاعه، عن موكّله فلان، حسب ما يشهد على موكّله بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ وإن كان بيده وكالة كتب: «حسب ما يشهد بذلك كتاب الوكالة «4» الذى بيده، الثابت حكمه بمجلس الحكم العزيز بالمكان الفلانىّ» ؛ ويشرح مقاصد الثّبوت، ثم يكتب:
جميع الحمّام المعروفة «5» بدخول الرجال والنساء، وقدورها الرّصاص الأربع، وميازيبها «6» النّحاس والرّصاص، ومستوقدها، وبيت نارها، الآتى ذكر جميع ذلك فيه «7» ، الجارى جميع ذلك فى يد البائع ملكا لموكّله المبيع عنه، على ما ذكر الوكيل البائع، وذلك بالبلد الفلانىّ، بالموضع الفلانىّ- ويوصف ويحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه(9/43)
كذا وكذا، ودفع المشترى الثمن من ماله للبائع المذكور، فتسلّمه منه لموكّله المذكور وصار بيده وقبضه وحوزه، وسلم «1» البائع المذكور للمشترى ما باعه إيّاه عن موكّله فتسلّمه منه، وصار بيده وملكه وحوزه، وذلك بعد النظر ... ؛ ويكمّل على ما تقدّم.
واذا ابتاع الأخرس الأصمّ دارا،
كتب: اشترى فلان الأخرس اللسان، الأصمّ الأذنين، الصحيح البصر والعقل والبدن، العارف بما يلزمه شرعا الخبير بالبيع والشراء والأخذ والعطاء، كلّ ذلك بالإشارة المفهومة عنه، المعلومة عند البائع وعند شهود هذا المكتوب، القائمة مقام النطق، التى لا تجهل ولا تنكر من فلان الفلانىّ جميع الدار الفلانيّة ... ؛ ويكمل نحو ما تقدّم.
واذا ابتاع رجل من آخر دارا بثمن معيّن مقبوض وكتب بينهما مكتوب على ما تقدّم، ثم حضر المشترى وادّعى أنه كان ابتاع الدار لموكّله
كتب على ظهر المكتوب: أقرّ فلان- وهو المشترى المذكور باطنه- أنه «2» لمّا ابتاع الدار الموصوفة الحدود فى باطنه فى التاريخ الفلانىّ من فلان «3» بالثمن المعيّن وهو كذا وكذا، كان وكيلا فى ابتياعها عن فلان بإذنه وأمره وتوكيله إيّاه فى ذلك وأنّ اسمه على سبيل النيابة «4» والوكالة، وأنّ الثمن المعيّن باطنه من مال هذا المقرّ له(9/44)
فيه «1» وصلب حاله، وصدّقه على ذلك تصديقا شرعيّا، وقبل منه هذا الإقرار لنفسه وسلم له الدار المذكورة، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه، ملكا له وأقرّ المقرّ له أنه كان قد أذن له فى ذلك ووكّله فى ابتياعها الوكالة الشرعيّة، وصدّقه المقرّ، وأقرّا أنّهما عارفان بالدار المذكورة المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وبحكم هذا الإقرار صارت هذه الدار المذكورة ملكا للمقرّ له دون المقرّ، ودون كلّ احد بسببه «2» ولم يبق للمقرّ فيها حقّ ولا طلب، وتصادقا على ذلك تصادقا «3» شرعيّا، ويؤرّخ.
وإذا ابتاع رجل من آخر دارا، ومات البائع ولم يكن بينهما مكاتبة فأراد ورثته مكاتبة ببراءة ذمّة مورّثهم والإشهاد له بذلك،
كتب ما مثاله:
أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان [وفلان] «4» الإخوة الأشقّاء، أو غير الأشقّاء، أولاد فلان عند شهوده «5» طوعا إقرارا شرعيّا، أنّ «6» والدهم المذكور توفّى إلى رحمة الله تعالى فى التاريخ الفلانىّ، وأنه كان قبل تاريخ وفاته فى تاريخ كذا وكذا باع لفلان جميع الدار الفلانيّة، الجارية فى يده وملكه وتصرّفه- وتوصف وتحدّد- بما مبلغه كذا وكذا، بيعا صحيحا شرعيّا قاطعا ماضيا جائزا نافذا، وأنّ المشترى المذكور(9/45)
دفع إليه جميع الثمن من ماله، وصلب حاله، بتمامه وكماله، وسلم والدهم البائع هذا المشترى المذكور الدار المذكورة، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض وصدّقهم المشترى المقرّ له على ذلك، واعترف كلّ من المقرّين والمشترى أنهم «1» عارفون بالدار المذكورة المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وأقرّوا أنّ البائع المذكور كان عارفا بها، وتصادقوا على ذلك، واعترف المشترى المذكور أنّ الدار المذكورة بيده وتصرّفه، وجارية فى ملكه، وأنّه سأل الورثة المذكورين الإشهاد على أنفسهم بذلك، فأجابوا سؤاله، وأشهدوا على أنفسهم براءة لذمّة أبيهم، ومراعاة لحقه عليهم وأقرّ المقرّون أنّهم «2» لا يستحقّون فى هذه الدار ملكا، ولا يدا، ولا إرثا، ولا موروثا ولا حقّا من الحقوق الشرعيّة، وأنّ المشترى المذكور المقرّ له مالك لهذه الدار دونهم ودون كلّ أحد بسببهم «3» ، وتصادقوا على ذلك، وقبل منهم المشترى هذا الإقرار قبولا شرعيّا؛ ويؤرّخ.
اذا «4» ابتاع رجل من بائع قد ثبت رشده بعد الحجر عليه
كتب ما مثاله:
هذا ما اشترى فلان من فلان البالغ الرشيد، الثابت رشده فى مجلس الحكم العزيز بالبلد الفلانىّ، عند القاضى فلان ... «5»(9/46)
«1» ... من نفقة ومؤونة وكسوة ولوازم شرعيّة، ولكونه ليس له موجود غير ما يذكر فيه «2» ، وأنّ والده لا تلزمه نفقته بحكم ماله من هذا الموجود، اشترى من نفسه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا «3» فى جميع الدار الفلانيّة التى بالمكان الفلانىّ، أو الدار الكاملة- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، وقبضه المشترى من نفسه لولده المذكور المبيع عليه «4» ، من مال أخيه فلان الطفل المشترى له فيه «5» ، الذى تحت يده وحوطه، وصار ذلك فى حوزه لولده فلان المبيع عليه «6» وتسلّم من نفسه الدار المذكورة لولده المشترى له، وذلك بعد مشاهدته لها ونظره إيّاها، ومعرفته بها المعرفة الشرعيّة، كلّ ذلك بالمعاقدة الشرعيّة الجائزة(9/47)
باع على ولده فلان المثنّى باسمه المذكور، واشترى لولده فلان المبدإ «1» باسمه فيه من نفسه على ما شرح أعلاه، واعترف أنّ «2» الثمن المذكور هو ثمن المثل يومئذ لا حيف فيه ولا شطط، ولا غبينة»
ولا فرط «4» ولا بخس ولا وكس، ولا تفاوت «5» فيه بوجه ولا سبب، وقبل ذلك من نفسه لولده المشترى له فيه قبولا صحيحا شرعيّا وضمن الدّرك «6» حيث يوجبه الشرع الشريف.
اذا ابتاع رجل دارا من نفسه لنفسه- وهو أن يكون له ولد تحت حجره، ولولده دار، فأراد أن يشتريها لنفسه من ولده
- كتب ما مثاله: اشترى فلان من ماله لنفسه من نفسه جميع الدار الكاملة، الجارية فى يده ملكا لولده لصلبه فلان الطفل الذى تحت حجره وكفالته وولاية نظره، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة، والغبطة «7» الزائدة على ثمن المثل، أو لمصلحة اقتضت ذلك، وهذه(9/48)
الدار بالبلد الفلانىّ، بالخطّ الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا، قبض الثمن من نفسه لولده عن داره التى ابتاعها منه لنفسه وصار بيده وقبضه وحوزه، ويصرفه فى مصالح ولده المذكور، وتسلّم من نفسه لنفسه الدار المذكورة، وصارت بيده ملكا له، ورفع عنها يد نظره وولايته، ووضع عليها يد ملكه وحيازته، وأقرّ أنه «1» عارف بالدار المذكورة، وأنّه نظرها النظر الشرعىّ وأحاط بها علما وخبرة نافية للجهالة؛ ويؤرّخ.
اذا أراد أمين الحكم- وهو الناظر على الأيتام من قبل الحاكم- أن يبيع دارا على «2» يتيم محجور عليه
كتب محضرا بالقيمة، وأثبته عند الحاكم بشهادة شهود القيمة والمهندسين، وأشهر «3» الدار بحضرة عدلين؛ وصفة المحضر فى فصل المحاضر؛ فإذا ثبت المحضر وأراد البيع وكتب كتاب المبايعة، فسبيل الكاتب أن يكتب:
هذا ما اشترى فلان من القاضى فلان أمين الحكم العزيز بالبلد الفلانىّ، القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان بن فلان المحجور عليه من قبل الحكم العزيز، لما دعت حاجته إليه: من نفقة ومؤونة وكسوة ولوازم شرعيّة، وذلك بإذن سيّدنا قاضى القضاة فلان الحاكم المشار اليه فى بيع الدار التى تذكر فيه، بالثمن الذى تعيّن فيه وقبضه، وفى تسليم الدار لمبتاعها، الإذن الشرعىّ، يشهد عليه بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخر هذا المكتوب؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدار الفلانيّة(9/49)
الجارية فى يده ملكا لفلان المحجور عليه- وتعيّن فيه- وله بيعها، وقبض ثمنها وتسليمها لمبتاعها بطريق شرعىّ؛ وإن صدّقه المشترى قال: «وصدّقه المشترى على ذلك تصديقا شرعيّا» وهى الدار التى بالبلد الفلانىّ، بالخطّ الفلانى- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، دفعه المشترى من ماله لأمين الحكم العزيز، فتسلّمه منه وصار بيده وقبضه لفلان المذكور المحجور عليه، وسلّم أمين الحكم العزيز المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وملكه وحوزه وتصرّفه، وذلك بعد النظر والرضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة والتفرّق بالأبدان عن تراض.
وإن شرط أمين الحكم الخيار
كتب: «وانقضاء مدّة الخيار الشرعىّ الذى اشترطه أمين الحكم البائع لنفسه ثلاثة أيّام» ، والسبب فى هذه المبايعة احتياج المبيع عليه إلى نفقة ومؤونة وكسوة ولوازم شرعيّة، وثبوت ذلك عند الحاكم المذكور وثبت عنده أيضا- أيّد الله أحكامه- أنّ قيمة الدّار المذكورة كذا وكذا وهو الثمن المعيّن أعلاه، ثبوتا صحيحا شرعيّا، بشهادة ذوى عدل: هما فلان وفلان ومهندسين: هما فلان وفلان؛ فحينئذ تقدّم إذن الحاكم المذكور بالنّداء على الدّار المذكورة، وإشهارها «1» بصقعها وغيره فى مظانّ الرغبة فيها مدّة ثلاثة أيّام، آخرها اليوم الفلانيّ، فلم يسمعا «2» من بذل زيادة على ذلك، وقد أقام كلّ من شاهدى القيمة والمهندسين(9/50)
وشاهدى النّداء شهادته بما يشهد به فيه «1» عند الحاكم المذكور، وأعلم تحت رسم شهادتهم علامة الأداء على الرسم المعهود حسب ما تضمّنه المحضر الشرعىّ المؤرّخ بكذا وكذا، وبأعلاه علامة الثّبوت، ومثالها كذا وكذا، فلمّا تكامل ذلك عند الحاكم المذكور، وسأله «2» من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته «3» الإذن لأمين الحكم المذكور فى بيع الدار المذكورة بالثمن المذكور؛ والإشهاد عليه بما ثبت عنده فأجاب الحاكم المذكور سؤاله، وأشهد عليه بثبوت ذلك عنده على الوجه الشرعىّ وأذن لأمين الحكم فى بيع ذلك على ما شرح أعلاه، فشهد على الحاكم المذكور بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره، فامتثل أمين الحكم ذلك، وعاقد المشترى المذكور على ذلك كذلك «4» على ما شرح أعلاه، وبمضمونه شهد على المتعاقدين بتاريخ كذا وكذا.
اذا مات رجل وترك دارا وفى ذمّته لزوجته صداق وأثبتته، واشترت الدار من أمين الحكم بمبلغ صداقها،
فالذى يفعل فى ذلك أنّ الزوجة تحضر عدلين [يشهدان] «5» بشخصه وهو ميت، ويكتبان لها فى ذيل صداقها «6» أنّهما عايناه ميتا؛ وإن كانا شاهدى الصداق كان ذلك أجود، وإن لم يكونا عايناه شهدا بالاستفاضة؛(9/51)
ثم يؤدّى «1» شهود العقد والتشخيص عند الحاكم، ثم تحلّف الزوجة، ويكتب الحلف، وصورة ما يكتب: أحلفت المشهود لها أعلاه، أو باطنه، فلانة المرأة الكاملة ابنة فلان بالله الذى لا إله إلّا هو، يمينا شرعيّة، مؤكّدة مستوفاة جامعة لمعانى الحلف، إنّها مستحقّة فى تركة المصدق المسمّى باطنه فلان مبلغ صداقها عليه وإنّ الشاهدين بذلك صادقان فيما شهدا لها [به] «2» من ذلك، وإنّ ذمّته لم تبرأ من الصداق المذكور ولا من شىء منه، وإنّها ما قبضته ولا شيئا منه ولا تعوّضت عنه ولا عن شىء منه، ولا أبرأته منه ولا من شىء منه، ولا أحالت به ولا بشىء منه، ولا اختلعت «3» به ولا بشىء منه، ولا برئ «4» إليها منه، ولا من شىء منه بقول ولا فعل، وإنّها تستحقّ قبض ذلك من تركته حال حلفها، وإنّ من يشهد لها به صادق فيما يشهد لها به من ذلك، فحلفت كما أحلفت بالتماسها لذلك، وحضور من يعتبر حضوره [على] «5» الأوضاع الشرعيّة، بعد تقدّم الدّعوى المسموعة وما ترتّب(9/52)
عليها بتاريخ كذا وكذا. ويشهد شهود الحلف فى آخره بما صورته: «حضرت الحلف المذكور وشهدت به» .
وإن كان صداقها لم يثبت إلا بشهادة عدل واحد أحلفت على ذلك، ويكتب حلفها، وهو: أحلفت الزوجة، المشهود لها فيه، فلانة المشخّصة لمستحلفها بالله الذى لا إله إلّا هو يمينين شرعيّتين «1» مؤكّدتين مستوفاتين جامعتين لمعانى الحلف معتبرتين شرعا: إحداهما أنّها محقّة فيما ادّعت به على زوجها المصدق المذكور فلان، وهو مبلغ صداقها عليه، الشاهد به كتابها، وهو كذا وكذا، وأنّ شاهدها بذلك صادق فيما شهد لها به من ذلك، واليمين «2» الثانية أنّها تستحقّ قبض المبلغ المذكور من تركته، وأنّها ما قبضت ذلك ولا شيئا منه، كما تقدّم ذكره فى الحلف الأوّل إلى التاريخ. ثمّ يكتب بعد ذلك إسجال الحاكم، ومثاله: هذا ما أشهد عليه سيّدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة، أو أقضى القضاة فلان، الحاكم بالمكان الفلانىّ، «3» من حضر مجلس حكمه ومحلّ قضائه وولايته، فى اليوم الفلانىّ من الشهر الفلانىّ، من السّنة الفلانيّة «4» ... بعد صدور دعوى محرّرة، مقابلة بالإنكار(9/53)
على الوجه المعتبر الشرعىّ، بشهادة العدول الذين أعلم تحت رسم شهادتهم بالأداء فى باطنه، ويمين المشهود لها فيه «1» فلانة على استحقاقها فى ذمّة المصدق المسمّى باطنه فلان «2» مبلغ صداقها عليه، وهو كذا وكذا، على ما تضمّنه الصداق باطنه، أو على ما تضمّنه فصل الاسترجاع «3» المسطّر باطنه، المؤرّخ بكذا، [وقال «4» كلّ منهم: إنّه عارف بالمصدق والزوجة المذكورين، وما علم مغيّرا لشهادته إلى أن أقامها عنده] بشروط الأداء المعتبرة شرعا، وشخّص له الشهود المشهود لها تشخيصا معتبرا، وقبل ذلك منهم القبول السائغ فيه، وسطّر ما جرت العادة به من علامة الأداء والتشخيص على الرسم المعهود فى مثله، وذلك بعد ثبوت وفاة المصدق المذكور الثّبوت الشرعىّ وأحلفت الزوجة المشهود لها المذكورة على استحقاقها ذلك بالله العظيم الذى لا إله(9/54)
إلّا هو، اليمين الثابتة «1» الشرعيّة المسطّرة فى فصل الحلف باطنه على ما نصّ وشرح فيه، فحلفت كما أحلفت بالتماسها لذلك، وحضور من يعتبر حضوره على الأوضاع الشرعيّة فى تاريخ الحلف المذكور؛ ولما تكامل ذلك كلّه عنده وصحّ لديه- أحسن الله إليه- سأله من جاز سؤاله الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك عنده، فأجابه إلى سؤاله، وتقدّم بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه الكريم، وأشهد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة على حجّته إن كانت، وهو فى ذلك نافذ القضاء والحكم ماضيهما، بعد تقدّم الدّعوى الموصوفة «2» وما ترتّب عليها، وحضر سماع الدّعوى وإقامة البيّنة القاضى فلان أمين الحكم العزيز، واعترف بأنّه لا مطعن له فى ذلك، فحينئذ أذن الحاكم فى إيصال الحقّ لمستحقّه «3» شرعا، ووقع الإشهاد فيه بتاريخ كذا وكذا.
ثمّ يكتب ابتياعها من أمين الحكم فى ذيل الإسجال «4» ... : هذا ما اشترت فلانة المرأة الكاملة ابنة فلان- وهى المشهود لها باطنه المستحلفة فيه-(9/55)
لنفسها من القاضى فلان أمين الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة، القائم فى بيع ما يذكر فيه على المصدق المسمّى المحلّى «1» باطنه فلان، فيما «2» ثبت عليه من صداق زوجته المشترية المذكورة بمجلس الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة، وهو كذا وكذا، وفى المقاصّة «3» الشرعيّة على الأوضاع الشرعيّة المعتبرة، بإذن صحيح شرعىّ من يد قاضى القضاة فلان الحاكم بالجهة الفلانيّة لأمين الحكم المذكور فى ذلك، اشترت منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الكاملة الجارية فى يده وتصرّفه منسوبة لملك فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى، وهى «4» بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا حالّ «5» ، وسلم البائع أمين الحكم المذكور للمشترية المذكورة ما ابتاعته منه فيه، فتسلّمته منه، وصار بيدها وقبضها وملكها وحوزها، ومالا من جملة أموالها، وذلك بعد النظر والرضا والمعرفة والتفرّق بالأبدان عن تراض وأقرّت المشترية المذكورة أنّ «6» الدّار المذكورة جارية فى ملك زوجها المذكور، ثمّ بعد تمام ذلك ولزومه قاصّ القاضى فلان أمين الحكم العزيز البائع المذكور المشترية بما فى ذمّتها من الثمن المذكور ما ثبت لها على المبيع عليه من الصداق المذكور، وهو كذا وكذا، وهو قدر الثمن المذكور وصفته وجنسه وحلوله «7» ، مقاصّة «8» شرعيّة برّأت(9/56)
ما فى «1» ذمّة المبيع عليه من الصداق، وبرّأت ما فى «2» ذمّة المشترية من الثمن براءة صحيحة شرعيّة، براءة إسقاط، وذلك بعد أن ثبت عند سيّدنا قاضى القضاة فلان بشهادة من يضع خطّه آخره، من العدول والمهندسين المندوبين لتقويم الأملاك أهل الخبرة بذلك، أنّ قيمة الدار المذكورة جميع الثمن المذكور، وأنّه قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيه ولا شطط، ولا غبينة «3» ولا فرط «4» ، وأنّ الحطّ والمصلحة فى البيع بذلك؛ ويؤرّخ. ثمّ يكتب شهود القيمة والمهندسين خطوطهم أنّ الثمن المذكور هو ثمن المثل يومئذ، ويؤدّون «5» عند الحاكم، ويعلم تحت رسم شهادتهم، ثم يكتب شهود المعاقدة الشهادة عليهما «6» بالابتياع [وأنّه] قد تمّ ذلك.
وإن كانت الزوجة لم تشتر بل اشترى غيرها لنفسه
كتب ما مثاله:
هذا ما اشترى فلان من القاضى فلان أمين الحكم العزيز، القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان المصدق فيما «7» ثبت عليه من صداق زوجته فلانة بمجلس الحكم العزيز(9/57)
- وهو كذا وكذا- وفى «1» وفاء الصّداق المذكور للزوجة المذكورة، وذلك بإذن صحيح شرعىّ من سيّدنا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة فلان الحاكم بالجهة الفلانيّة وشهد عليه بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الكاملة «2» الجارية فى يده وتصرّفه ملكا لفلان المتوفّى المبيع عليه. وتوصف وتحدّد، ويذكر الثمن، ويقال: قبضه أمين الحكم من المشترى المذكور، وصار بيده وحوزه، وسلم البائع للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه ومالا من جملة أمواله، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض؛ والسبب فى هذه المبايعة أنّ فلانة زوجة فلان المتوفّى المذكور أثبتت صداقها فى مجلس الحكم العزيز عند الحاكم المذكور على زوجها المذكور، بشهادة العدول المشار إليهم فى الإسجال المذكور، الذين أعلم تحت رسم شهادتهم علامة الأداء آخره، وقال كلّ منهم: إنّه عارف بالمصدق والزوجة المذكورين، وما علم مغيّرا لشهادته إلى أن أقامها عنده بشروط الأداء. وشخّص الزوجة المذكورة، وقبله «3» فى ذلك، وأعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء والتعريف بالتشخيص على الرسم المعهود فى مثله(9/58)
وأحلف الزوجة المذكورة بالله الذى لا إله إلّا هو اليمينين «1» الشرعيّتين، الجامعتين لمعانى الحلف، المشروحتين فى مسطور الحلف بكذا وكذا، وذلك بحضور من يعتبر حضوره؛ فلما تكامل ذلك عند الحاكم المذكور سألت الزوجة الحاكم المذكور إيصالها إلى «2» مبلغ صداقها المشهود لها به من موجود زوجها المذكور، فأذن الحاكم لأمين الحكم العزيز فى بيع ذلك، وقبض ثمنه، وإيصال الزوجة المذكورة إلى «3» ما ثبت لها فى ذمّة زوجها من الصّداق المذكور، والإشهاد عليها بقبض ذلك، إذنا شرعيّا، فشهد عليه بذلك من يضع خطّه آخره، وذلك بعد أن ثبت عند الحاكم المذكور أنّ هذه القيمة المبيع بها قيمة المثل يومئذ، وأنّ الحظّ والمصلحة فى البيع بذلك، يشهد به المحضر المؤرّخ بكذا وكذا، وفيه خطّ جماعة من العدول والمهندسين أرباب الخبرة بالعقار وتقويمه وذلك بعد أن شهد أمين الحكم المذكور أنّ الدار المذكورة أقامت «4» بيد الدلّالين على العقار ليشهروها فى الشوارع والأسواق الجارية بها العادة أيّاما متوالية بحضرة عدلين:(9/59)
هما فلان وفلان، فكان الذى انتهى [إليه] «1» البذل فيها من هذا المشترى كذا وكذا، وهو الثمن المذكور؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع الإشهاد على الحاكم المذكور وأمين الحكم والمشترى بما نسب الى كلّ منهم فيه بتاريخ كذا وكذا.
ثمّ يكتب خلف الصداق قبض الزوجة، ومثال ذلك: أقرّت فلانة المرأة الكاملة عند شهوده طوعا أنّها قبضت وتسلّمت من القاضى فلان أمين الحكم العزيز جميع مبلغ صداقها الذى فى ذمة زوجها فلان المتوفّى المذكور، وهو كذا وكذا، وصار بيدها وقبضها وحوزها، وهو ثمن الدّار التى باعها أمين الحكم العزيز على زوجها فلان لأجل وفاء صداقها المذكور، فبحكم ذلك برئت ذمّة المصدق من الصداق المذكور براءة صحيحة شرعيّة، براءة قبض واستيفاء؛ ويؤرّخ.
إذا باع الوصىّ دارا بالغبطة «2» الزائدة على ثمن المثل بغير حاجة لمن هو تحت الحجر
فالطريق فى ذلك أن يكتب محضرا بالقيمة يشهد فيه شهود القيمة والمهندسون وينادى عليها بحضرة عدلين، ويثبت ذلك عند الحاكم؛ وصورة المحضر فى باب المحاضر؛ ثم يكتب المبايعة، وصورة ما يكتب: هذا ما اشترى فلان لنفسه من فلان القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان بن فلان الذى هو تحت ولاية نظره بمقتضى الوصيّة المفوّضة اليه من والده، الثابتة بمجلس الحكم العزيز وعدالته، ونسختها ...
وأرخها «3» ... وأسماء شهودها ... والحاكم الذى ثبتت عنده ... وصورة علامته ... -(9/60)
وإن اختصر ولم يذكر نسختها فذلك كاف- لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة، وحسن النظر، والغبطة «1» الزائدة على ثمن المثل، حسب ما يشهد بذلك محضر القيمة والغبطة «2» المشروح آخره، الثابت بمجلس الحكم العزيز الثبوت الشرعىّ يشهد على الحاكم بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا، تقابضا وتفرّقا بالأبدان عن تراض، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة؛ والسبب فى هذه المبايعة أنّ الوصىّ البائع المذكور نجّز محضرا يتضمّن مسير أرباب الخبرة بالعقار وتقويمه والعدول والمهندسين المندوبين من مجلس الحكم العزيز لذلك- وهم فلان وفلان شاهدا القيمة، وفلان وفلان المهندسان- الى الدّار «3» المذكورة، وشاهدوها، وأحاطوا بها علما وخبرة، وذكروا أنّ القيمة عنها كذا وكذا، وأنّها قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «4» ولا فرط «5» ، وأنّ الحظّ والمصلحة فى بيع الدار المذكورة بزيادة كذا وكذا لتتمّة كذا وكذا، وهو الثمن المعاقد عليه، وأقام كلّ منهم شهادته عند القاضى فلان بذلك، وأعلم تحت شهادتهم ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول، ثم أشهرت «6» الدار المذكورة بحضرة عدلين:
هما فلان وفلان، فى صقعها وغيره من الأصقاع ومظانّ الرّغبة مدّة ثلاثة أيّام فلم يحضر من بذل زيادة على ذلك، وقد أقام كلّ من شاهدى النداء شهادته عند الحاكم المذكور بذلك، وأعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء حسب ما تضمّنه(9/61)
المحضر المذكور المؤرّخ بكذا وكذا، الذى بأعلاه علامة الثبوت، ومثالها كذا وكذا وشهد على الحاكم بثبوت ذلك عنده من يعيّنه فى رسم شهادته آخر هذا المكتوب؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع الإشهاد «1» على الوصىّ البائع والمشترى بما نسب إلى كلّ منهما بعاليه بتاريخ كذا وكذا.
وإن كان الوصىّ باع بإذن الحاكم كتب ذلك كما تقدّم فى حقّ أمين الحكم؛ ويجوز أن يبيع «2» الوصىّ بغير محضر، وإنّما المحضر أقطع للتنازع، وأدفع للطاعن.
اذا باع الوصىّ دارا على يتيم للحاجة من غير أن يثبت الحاجة ولا القيمة
فذلك جائز، وإنّما يخاف من التنازع؛ فإذا أراد ذلك كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من فلان وصىّ فلان بن فلان على ولده لصلبه فلان الطفل الذى هو تحت حجره وولاية نظره، متصرّفا فيما له وعليه بمقتضى الوصيّة التى بيده، الثابتة فى مجلس الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة، القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان الطفل الذى تحت حجره وولاية نظره، لما دعت اليه الحاجة من نفقته وكسوته ولوازمه الشرعيّة، وأنّه ليس له موجود غير هذه الدار المذكورة، وليس منها أجرة تكفيه، ولما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النظر؛ اشترى(9/62)
منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الفلانيّة، الجارية فى يده وتصرّفه ملكا لفلان المبيع عليه- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، دفعه المشترى المذكور من ماله للبائع المذكور، فقبضه منه وتسلّمه، وصار بيده وقبضه وحوزه لفلان المبيع عليه، وسلم الوصىّ البائع المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه وصار بيده وملكه وحوزه، ومالا من أمواله، وذلك بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك فى صحّة البيع «1» ، وبعد أن اعترف الوصىّ البائع أنّ الثمن المذكور هو قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيه ولا شطط ولا غبينة «2» فيه ولا فرط «3» ، وصدّقه المشترى على ذلك؛ ويؤرّخ.
إذا ابتاع الوصىّ دارا ليتيم على يده
كتب ما مثاله:
هذا ما اشترى فلان لفلان بن فلان الطفل الذى فى حجره وكفالته وولاية نظره، بماله الذى تحت يده، المنتقل إليه بالإرث عن والده المذكور، الذى كان فى حال حياته وصّاه عليه، وجعله ناظرا فى مصلحته، وذلك بمقتضى الوصيّة التى بيده، الثابتة بمجلس الحكم الشريف وعدالته، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النظر؛ اشترى له بقضيّة ذلك وحكمه من فلان جميع الدار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد، ويكمّل المبايعة على ما تقدّم- وذلك بعد أن اعترف الوصىّ بأن الثمن المذكور هو ثمن المثل، لا حيف فيه ولا شطط، وصدّقه البائع على ذلك؛ ويؤرّخ.(9/63)
إذا عوّض الرجل ابنته الطفلة دارا بدار «1» لها
كتب ما مثاله:
حضر الى شهوده فى يوم تاريخه فلان، وأشهد على نفسه طوعا أنه عوّض ابنته لصلبه فلانة الطفلة، التى تحت حجره وكفالته وولاية نظره- لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النظر- جميع الدّار التى بيده وملكه وتصرّفه- على ما ذكر- بجميع «2» الدّار التى بيده وتصرّفه ملكا لابنته المذكورة- وتوصف وتحدّد- لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة والغبطة، ولعلمه أنّ الدّار التى عوّض ابنته بها «3» - وهى المبتدأ بذكرها- أجود من الدّار التى تعوّضت منها وأعمر، وأكثر أجرة وقيمة، معاوضة صحيحة جائزة، قبلها من نفسه لابنته، وسلّمها من نفسه لنفسه لابنته المذكورة، ورفع عنها يد ملكه، ووضع عليها يد ولايته ونظره، وأخرج الدّار الفلانيّة المثنّى بذكرها من ملك ابنته المذكورة إلى ملكه، وسلّمها من نفسه لنفسه وصارت بيده وقبضه وحوزه، ومالا من جملة أمواله، ورفع عنها يد نظره وولايته ووضع عليها يد ملكه، كلّ ذلك بحقّ هذا التعويض، وبحكم ذلك صارت الدار المبتدأ بذكرها ملكا لابنته المذكورة دونه ودون كلّ أحد بسببه «4» ، وصارت الدّار(9/64)
المثنّى بذكرها ملكا له دون ابنته المذكورة ودون كلّ أحد بسببها، وأقرّ بأنه عارف بذلك المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وأنّه رآها الرؤية المعتبرة، وأحاط بها علما وخبرة؛ ويؤرّخ.
[اذا] «1» اعترف رجل بأنه كان من مدّة باع لرجل دارا
كتب ما مثاله:
أقرّ فلان بأنه كان بتاريخ كذا وكذا باع لفلان جميع الدّار الكاملة، التى كانت يوم تعاقدهما عليها فى يده وملكه وتصرّفه، على ما ذكر- وتوصف وتحدّد- بيعا صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، وأنّه قبض الثمن منه لنفسه، وتسلّمه وصار بيده وقبضه وحوزه، وأنّه «2» من التاريخ المذكور اشتراها منه بالثمن المعيّن أعلاه وسلّمه له، وتسلّم منه الدار المذكورة أعلاه، وصارت بيده وقبضه وحوزه، ومالا من جملة أمواله؛ وأقرّا بأنّهما كانا تعاقدا على ذلك كذلك من التاريخ المذكور معاقدة صحيحة شرعيّة شفاها بينهما بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا عن تراض؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها، وأنّهما نظراها قبل ذلك، وأحاطا بها علما وخبرة نافية للجهالة، وضمن البائع المذكور درك «3» ما باعه فيه وقبض ثمنه بسببه ضمانا شرعيّا، ولم تبق لكلّ منهما مطالبة قبل الآخر بسبب من الأسباب، ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة، وأنّ الدّار صارت ووجبت بطريق الابتياع المذكور ملكا لفلان المقرّ له ملكا صحيحا شرعيّا دون البائع ودون كلّ أحد بسببه؛ ويؤرّخ.(9/65)
إذا كان البائع هو السلطان
كتب ما مثاله: هذا كتاب مبايعة شرعيّة، جائزة مرضيّة؛ أمر بكتبه وتسطيره، وإنشائه وتحريره؛ واستيفاء مقاصده، واستكمال معانيه وفوائده، المولى السيّد الأجلّ السلطان المالك الملك الفلانىّ أبو فلان- وتذكر ألقابه ونعوته الملوكيّة وسلطنته على العادة، ويدعى له بما يدعى للملوك من النصر والاقتدار وغير ذلك- وأشهد على نفسه الشريفة من حضر مقامه الشريف من العدول الواضعى خطوطهم آخره أنه باع لفلان جميع كذا؛ ويكمّل المبايعة.
إذا اشترى للسلطان وكيله قدّم اسم السلطان،
وهو أن يكتب: هذا ما اشترى للمولى السيّد الأجلّ السّلطان المالك الملك الفلانىّ، وكيله فلان، بماله المبارك النّامى، وتوكيله إيّاه فى ابتياع ما يذكر فيه بالثمن الذى تعيّن فيه، والتسليم والتسلّم اللّذين يشرحان «1» فيه، يشهد عليه- خلّد الله ملكه- بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ من فلان «2» جميع الشىء الفلانىّ؛ ويكمّل.
وان كان البائع وكيل بيت المال
كتب مشروح على العادة بالشهادة على بعض المهندسين، مثاله: مشروح رفعه كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بالبلد الفلانىّ، بقضيّة حال الدّار الكاملة، الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة «3»(9/66)
التى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شاهدا «1» الدار المذكورة على الصفة المشروحة أعلاه، وأحاطا بها علما وخبرة، وكتب هذا المشروح ليثبت علمه بالديوان المعمور؛ ويؤرّخ.
ثمّ يكتب مكتوب على المهندسين، ويشهد فى آخره شهود القيمة، مثاله:
يقول كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بالبلد الفلانىّ: إنّهما سارا «2» صحبة فلان وكيل بيت المال المعمور الى حيث الدار الآتى ذكرها ووصفها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة «3» ، وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وأحاطا بها علما وخبرة، وقوّماها بما مبلغه كذا وكذا، وقالا: إنّ ذلك قيمة المثل التى لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «4» ولا فرط «5» ، وأنّ الحظّ والمصلحة فى البيع بذلك؛ ويؤرّخ.
وتكتب على ظهره «6» حجّة على سماسرة العقار، صورتها: يقول كلّ واحد من فلان وفلان المناديين على العقار: إنّهما أشهرا «7» ما ذكر «8» باطنه فى مظانّ الرّغبات، ومواطن الطلبات، فى صقعها وغيره من الأصقاع دفعات متفرّقة، وأوقات متعدّدة، فلم(9/67)
يسمعا من بذل زيادة على ما قوّم باطنه؛ ويؤرّخ، ويشهد عليهما فيه. ثمّ تكتب قصّة باسم المشترى للمقام الشريف السلطانىّ، ويكتب عليها صاحب الدّيوان ويجاوب وكيل بيت المال المعمور، ويخرج الحال على ظهرها، ثم يوقّع «1» صاحب الدّيوان بحمل المبلغ إلى بيت المال المعمور، فاذا حمل وقّع صاحب الدّيوان وتلصق الحجّة على القصّة، فاذا كمل ذلك عاقد «2» وكيل بيت المال، وصورة المكاتبة:
هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من القاضى فلان، وكيل بيت المال المعمور والقائم فى بيع ما يذكر فيه بأحكام الوكالة التى بيده، المفوّضة إليه من المقام الشريف السلطانىّ الملكىّ الفلانىّ الذى جعل له فيها بيع ما هو جار فى أملاك بيت المال المعمور، وغير ذلك على ما نصّ وشرح فيها، وما مآله الى بيت المال المعمور بالقضايا الشرعيّة، الثابتة وكالته فى مجلس الحكم العزيز الثبوت الشرعىّ، المتوّجة بالعلامة الشريفة، ومثالها كذا وكذا؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الفلانيّة، الجارية فى رباع المواريث «3» الحشريّة، الموروثة عن فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى، أو التى أظهرها الكشف- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا دينارا أو درهما حالّة، وذلك محمول الى بيت المال المعمور [على ما شهد «4» به وصول بيت المال المعمور] المشروح فى آخره؛ وتسلّم المشترى(9/68)
المذكور ما ابتاعه بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وانقضاء أمد الخيار الشرعىّ الذى اشترطه البائع على المشترى المذكور، وهو ثلاثة أيّام؛ وأقرّ المشترى المذكور أنّ ذلك صائر فى أملاك بيت المال المعمور؛ والسبب فى هذه المبايعة أنّ المشترى المذكور رفع قصّة باسمه أنهى فيها: ...
- وتنقل الى آخرها- فوقّع على ظهرها من جهة متولّى الدّيوان المعمور ما مثاله:
«ليذكر ما بذل «1» عليه «2» للدّيوان المعمور» ؛ ... «3» ومثاله: ... - وينقل إلى عند «4» الصفات المحدودة، ويكتب تاريخه- ثمّ تلاه توقيع كريم، ومثاله: ليتقدّم المجلس ... - وينقل جميع ما فيه- ثمّ تلاه جواب متولّى الوكالة الشريفة بما مثاله:
«المملوك فلان الوكيل» ... - وينقل- ثم نجّز المشترى المذكور وصولا»
من بيت المال المعمور شاهدا له بحمل الثمن المذكور، ونسخته بعد البسملة ... - وينقل ما فيه- ثمّ تلاه توقيع كريم، إذا كان- وينقل جميع ما فيه- وذلك كلّه بعد أن أخذت الحجّة الملصقة بأعلى التوقيع الدّيوانىّ، المتضمّنة الإشهاد على كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار أنّ القيمة المعيّنة فيها- وهى كذا وكذا- قيمة المثل يومئذ- وتشرح الى آخر التاريخ- بشهادة فلان وفلان سماسرة(9/69)
العقار، بأنّهما أشهرا «1» ذلك على ما تضمّنته «2» ؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع «3» الإشهاد على القاضى فلان وكيل بيت المال المعمور والمشترى بما نسب إلى كلّ منهما؛ ويؤرّخ.
وان باع وكيل بيت المال بغير توكيل بيع بل بحجّة قيمة
كتب: هذا ما اشترى فلان من فلان وكيل بيت المال المعمور- كما تقدّم- جميع قطعة الأرض الحاملة لبناء المشترى، الآتى ذكرها وذرعها «4» وتحديدها فيه، الجارية فى أملاك بيت المال المعمور، مضافة الى ديوان المواريث «5» الحشريّة، أو ديوان الأحكار، وهى بالمكان الفلانىّ- وتذرع وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا الجميع حالّ محمول إلى بيت المال المعمور، على ما شهد به وصول «6» بيت المال المعمور المشروح فى آخره، وتسلّم المشترى المذكور ما ابتاعه بعد النّظر والرّضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وانقضاء أمد الخيار الذى اشترطه البائع على المشترى، وهو ثلاثة أيّام؛ وأقرّ المشترى المذكور أنّ الأرض المذكورة جارية فى ديوان المواريث؛ وذلك بعد اكتتاب حجّة تتضمّن الإشهاد على كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار- وتشرح كما تقدّم- والشهادة على(9/70)
السماسرة؛ فحينئذ استظهر «1» القاضى فلان البائع على المشترى بكذا وكذا، فتكون جملة ما تقرّر من القيمة «2» والاستظهار ورسم الوكالة جميع الثمن المذكور أعلاه؛ ثم بعد ذلك حضر وصول «3» من بيت المال المعمور شاهد له بحمل الثمن المذكور، نسخته كذا وكذا، وعلى ظهره توقيع كريم، مثاله كذا وكذا «4» ... ؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه «5» وقع الإشهاد؛ ويؤرّخ.
وان كان المشترى أجرى باسمه «6» الثمن من بيت المال وأنعم عليه به
كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان بن فلان؛ ويذكر الثمن، ويقول:
«وهو مجرى من بيت المال المعمور» ؛ ويكمّل المبايعة نحو ما تقدّم، ويكتب:
«ثمّ أحضر المشترى توقيعا شريفا سلطانيّا بالإنعام عليه بالثّمن» ؛ وينقل إلى آخره؛ والله أعلم بالصواب.
إذا اشترت امرأة من وكيل بيت المال دارا جارية فى رباع المواريث «7» الحشريّة بما لها فى ذمّته «8» ،
ثم قاصّت «9» بما لها(9/71)
فى رباع ديوان المواريث، يكتب: [هذا «1» ] ما اشترت [فلانة «2» ] من وكيل بيت المال- كما تقدّم- جميع الدار الكاملة الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة- على ما ذكرت المشترية- المقبوضة عن فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى، وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه من الدراهم كذا وكذا، الجميع حالّ، وتسلّمت «3» المشترية ما ابتاعته بعد النظر والرّضا والمعرفة والمعاقدة- نحو ما تقدّم- ثم بعد ذلك قاصّ «4» القاضى فلان المشترية المذكورة بالذى توجّه على الديوان المعمور إيفاؤه من تركة زوج المشترية المذكورة فلان وهو مبلغ صداقها عليه، الثابت لها بمجلس الحكم العزيز، ومبلغه كذا وكذا، وهو نظير الثمن المذكور فى قدره وجنسه وحلوله، مقاصّة «5» صحيحة شرعيّة، برئت بها ذمّة المشترية من الثمن، وذمّة زوجها من نظير ذلك الصداق؛ والسبب فى هذه المبايعة والمقاصّة «6» أنّ المشترية المذكورة أثبتت صداقها على زوجها فلان فى مجلس الحكم العزيز، ومبلغه كذا وكذا، المؤرّخ الصداق بكذا وكذا، وأسجل لها الحاكم على نفسه- وهو القاضى فلان- بثبوت ذلك عنده، والحكم به، وأشهد لها على نفسه بذلك، وذلك بعد استحلافها اليمين الشرعيّة، المؤرّخ الحلف بكذا وكذا؛ ثم بعد ذلك رفعت المشترية قصّة مترجمة باسمها، مثالها: المملوكة ... ؛ ويشرح ما فيها(9/72)
وما تضمّنه التوقيع «1» كما تقدّم، ويشرح مسطور القيمة نحو ما تقدّم.
هذا ما اتّفق «2» إيراده فى البيوع على اختلاف «3» الوقائع؛ والله أعلم.
وأما الردّ بالعيب والفسخ
- فإنه اذا اشترى رجل من آخر دارا أو عبدا أو أمة أو دابّة، واطّلع على عيب يوجب الردّ بالعيب، وأراد الإشهاد بذلك، كتب ما مثاله: حضر إلى شهوده فى يوم تاريخه فلان، وأشهد عليه أنه ابتاع «4» قبل تاريخه من فلان جميع الشىء الفلانىّ، وأنّه اطّلع فى يوم تاريخه على أنّ به عيبا قديما مزمنا يوجب الردّ، وهو الشىء الفلانىّ- ويذكر العيب- وأنه حين اطّلاعه على العيب حضر إلى شهوده على الفور، واختار فسخ البيع وردّ المبيع على بائعه بالعيب المذكور، وأنّه باق على طلب الردّ، واستعادة الثمن الذى أقبضه له، ورفع يده عن التصرّف فى الشىء الفلانىّ رفعا تامّا؛ ويؤرّخ.
فى مقايلة «5» تكتب على ظهر المبايعة،
ومثالها: أقرّ كلّ واحد من فلان- وهو المشترى باطنه- وفلان- وهو البائع باطنه- بأنّهما تقايلا أحكام(9/73)
المبايعة المشروحة باطنه، وهى [فى «1» ] جميع الدّار الموصوفة المحدودة، التى كان فلان المبدأ «2» باسمه ابتاعها من فلان المثنّى باسمه بالثمن المعيّن فى باطنه، وهو كذا وكذا مقايلة صحيحة شرعيّة؛ ودفع البائع المذكور للمشترى المذكور جميع الثمن بتمامه وكماله فقبضه منه، وتسلّمه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ ورفع المشترى يده عن الدّار المذكورة، وسلّمها للبائع على صفتها الأولى، فتسلّمها منه، وذلك بعد النظر والمعرفة والتفرّق بالأبدان عن تراض.
وأما الشّفعة
«3» - فالذى يكتب فيها أنّه اذا اشترى رجل حصّة من دار وحضر مالك بقيّة الدار فطلب الحصّة بالشّفعة، وصدّقه المشترى على ذلك، كتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه كلّ واحد من فلان بن فلان، وفلان بن فلان- وهو المشترى المذكور باطنه- وأعلم فلان المبتدأ بذكره فلانا المشترى باطنه- أنّ فى ملكه من الدّار الموصوفة المحدودة باطنه كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى «4» جميع الدّار المذكورة، وأنّه يستحقّ أخذ الحصّة التى ابتاعها منها بالشّفعة الشرعيّة، وأنّه قام على الفور «5» عند سماعه بابتياع الحصّة المذكورة باطنه(9/74)
من غير إمهال، واجتمع بالمشترى المذكور، وأعلمه بما ذكر؛ فحينئذ صدّقه المشترى على صحّة ذلك جميعه تصديقا شرعيّا، والتمس منه القيام له بنظير الثمن الذى دفعه المشترى «1» المذكور باطنه عن الحصّة المذكورة باطنه؛ فأحضره إليه بكماله، وهو كذا وكذا، وأقبضه له، فقبضه منه، وتسلّمه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ وسلم المشترى المذكور باطنه لفلان المبتدإ بذكره المستشفع «2» المذكور الحصّة المذكورة، ومبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى جميع الدّار الموصوفة المحدودة باطنه، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه عن هذه «3» الشفعة؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة، وبحكم ذلك كمل لفلان المستشفع «4» بما فى ملكه متقدّما وبهذه الحصّة ملك جميع الدّار المذكورة بالشّفعة المذكورة، ولم يبق لفلان المشترى المذكور باطنه فى الدّار المذكورة حقّ ولا طلب بسبب ملك، ولا يد، ولا ابتياع، ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة؛ وبمضمونه شهد؛ ويؤرّخ.
إذا ادّعى رجل على رجل أنّ الحصّة التى ابتاعها من شريكه يستحقّها بالشّفعة ولم يصدّقه على ذلك،
وكلّفه إثبات الملك وقبول «5» القسمة- فالذى يفعل فى ذلك أن يثبت المدّعى ابتياعه عند الحاكم(9/75)
ثم يثبت محضرا بقبول القسمة؛ فإن لم يكن معه كتاب ابتياع كتب محضرا بأنّه مالك لحصّته من الدّار، وصيغة المحضر: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخره- وهم من أهل الخبرة الباطنة «1» فيما شهدوا به فيه «2» - أنّهم يعرفون فلانا معرفة صحيحة شرعيّة، ويشهدون أنّه مالك لجميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا غير مقسوم من جميع الدّار الفلانيّة، التى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- ملكا صحيحا شرعيّا، من وجه صحيح شرعىّ، وأنّه متصرّف فى الحصّة المذكورة بالسكن والإسكان والإجارة والعمارة، وأنّها باقية فى ملكه ويده وتصرّفه إلى الآن، ولم تخرج عنه بتمليك «3» ، ولا بيع، ولا هبة، ولا إقرار، ولا صدقة، ولا غيرها ولا بوجه من وجوه الانتقالات كلّها، وهم بالدّار فى مكانها عارفون، وأنّ تلك «4» الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى الدّار المذكورة ابتاعها «5» فلان بن فلان من فلان بن فلان شريك فلان متنجّز «6» هذا «7» المحضر، وأنّ متنجّزه قام فى طلب الحصّة المبيعة وأخذها من المشترى المذكور بالشّفعة الشرعيّة بحكم أنّه مالك للحصّة المشهود بها ملكا شرعيّا متقدّما على ابتياع المشترى المدّعى عليه(9/76)
وأنّه قام على الفور «1» فى طلب الحصّة المبيعة من المشترى من غير تأخير ولا عاقة «2» ؛ يعلمون ذلك ويشهدون به بسؤال «3» من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ؛ ثم يشهد فيه الشهود عند الحاكم. ثمّ يكتب تحته محضرا بأنّ الدّار المذكورة قابلة للقسمة «4» ، وصيغته: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخره- وهم من أهل الخبرة بالعقار وتقويمه وقسمته- أنّهم ساروا بإذن صحيح شرعىّ من القاضى فلان الحاكم بالجهة الفلانيّة إلى حيث الدّار الآتى ذكرها فيه، الجارية منها حصّة مبلغها كذا وكذا سهما فى ملك فلان متنجّز المحضر الأوّل المستشفع «5» فيه «6» ، وحصّة مبلغها كذا وكذا سهما فى ملك المشترى المدّعى عليه الشفيع «7» المذكور، منتقلة إليه بالابتياع الشرعىّ [من شريك «8» ] المستشفع «9» المذكور، لكشف حالها، ومعرفة جملتها وتفصيلها، وسبب طلب الشّفعة من متنجّز هذا المحضر فيها «10» ، بحكم ابتياع المشترى الشفيع «11» لحصّته «12» فيها ودخوله على المستشفع «13» ، وأنّها هل تتهيّأ فيها قسمة التعديل بالأجزاء(9/77)
المقتضية «1» لخير الشّريك؟ فألفوها فى البلد الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وتأمّلوها وأحاطوا بها علما وخبرة، فوجدوها قابلة لقسمة التعديل الموجبة لخير الشّريك وشهدوا أنّها تمكن قسمتها جزأين، أو تمكن قسمتها ثلاثة أجزاء، ومهما كان، على قدر ملك كلّ واحد من الشركاء، كلّ جزء مساو للجزء الآخر فى القيمة والانتفاع به؛ شهدوا بذلك بسؤال من جاز سؤاله، وسوّغت «2» الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ، ويشهد فيه عند الحاكم.
ثمّ يكتب إسجال الحاكم، وصورته: هذا ما أشهد على نفسه سيّدنا ومولانا قاضى القضاة فلان من حضر مجلس حكمه ومحلّ ولايته- وهو يومئذ نافذ القضايا والأحكام، ماضى النقض والإبرام- أنّه ثبت عنده وصحّ لديه بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوجه الشرعىّ، مضمون المحضرين المسطّرين باطنه:
أحدهما- وهو الأوّل- مضمونه: أنّ فلان بن فلان المستشفع المدّعى مالك لجميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما شائعا غير مقسوم فى «3» جميع الدّار الموصوفة المحدودة ملكا صحيحا شرعيّا، من وجه صحيح شرعىّ، وأنه متصرّف فى الحصّة المذكورة بالسكن والإسكان والإجارة والعمارة، وأنّها باقية على ملكه وفى يده وتصرّفه إلى الآن، لم تخرج عنه بتمليك «4» ، ولا بيع، ولا هبة، ولا إقرار، ولا صدقة(9/78)
ولا بوجه من وجوه الانتقالات كلّها، وأنّ الشهود الواضعى رسم شهادتهم آخر المحضر المذكور بالدّار المذكورة عارفون «1» فى صقعها ومكانها، وأنّ ملكه للحصّة سابق على ابتياع فلان المدّعى عليه الشراء المذكور للحصّة التى ابتاعها من شريك فلان المستشفع المشروح فى المحضر الأوّل، وأنّ متنجّز «2» المحضر قام فى طلب الحصّة المبيعة وأخذها من المشترى بالشّفعة على الفور، بحكم «3» أنّه مالك للحصّة المشهود له بها، وأنّ ملكه متقدّم على ابتياع الشفيع «4» المشترى؛ وقد أقام كلّ من الشهود شهادته بذلك عند الحاكم المذكور، على ما تضمّنه المحضر الأوّل المؤرّخ بكذا وكذا، وقبل ذلك منه القبول السائغ، وأعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود؛ والمحضر الثانى يتضمّن أنّ الدّار المذكورة قابلة للقسمة الموجبة لخير الشريك وأنّ القسمة تتهيّأ فيها على ما شرح فى «5» المحضر الثانى؛ وأقام كلّ من الشهود شهادته بذلك عند الحاكم المذكور، على ما تضمّنه المحضر الثانى المؤرّخ بكذا وكذا، وقبل ذلك منه القبول السائغ الشرعىّ، وسطّر ما جرت العادة به تحت رسم شهادته من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله؛ فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه- أحسن الله إليه- أشهد عليه بثبوت المحضرين المذكورين لديه على الوجه الشرعىّ؛ وحينئذ سأل فلان متنجّز «6» المحضرين المدّعى الحاكم المذكور الحكم بمقتضى ما ثبت(9/79)
عنده، فأجابه إلى سؤاله، وأوجب الشّفعة المذكورة، وألزم الحاكم المشار اليه المدّعى بالقيام للمشترى «1» المدّعى عليه بالثمن الذى ابتاع به الحصّة من شريك المدّعى المذكور، وهو كذا وكذا، وحكم على فلان المشترى «2» المدّعى عليه بتسليم الحصّة التى ابتاعها من شريك المستشفع «3» - وهى كذا وكذا سهما- لفلان المدّعى متنجّز المحضرين المذكورين، بحكم ثبوتهما عنده؛ فحينئذ أشهد فلان المشترى الشفيع «4» عليه أنّه قبض من المستشفع «5» نظير الثمن الذى قام به للبائع «6» - وهو كذا وكذا- عن الحصّة التى ابتاعها، وصار بيده وقبضه وحوزه، وسلم للمدّعى المستشفع «7» المذكور الحصّة الثابت أخذها منه بالشّفعة- وهى كذا وكذا سهما- فتسلّمها منه، وصارت بيده وملكه وحوزه، ملكا من جملة أملاكه، ومالا من جملة أمواله، وأضافها الى ما يملكه من الدّار المذكورة من الحصّة المشهود له بها، فقد كمل له جميع الدّار المذكورة؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جاز سؤاله الإشهاد على نفسه بذلك ... «8» ... وأبقى كلّ ذى حجّة على حجّته، وهو(9/80)
فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها، وتقدّم «1» - أدام الله أيّامه- بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه متضمّنا لذلك، وذلك بعد قراءة ما تضمّنه باطنا وظاهرا، وأشهد الشفيع «2» والمستشفع «3» عليهما بما نسب الى كلّ منهما فيه، وذلك بتاريخ كذا وكذا.
وان كان بعض الثمن عروضا «4» ، والمشترى يعترف بأنّ المستشفع له حصّة فى الدّار،
وأنّ الدّار قابلة للقسمة، ولم يعترف بقيمة العروض «5» ، وطلب منه الثّمن وتحليفه على ذلك، فردّ عليه الثّمن «6» وأخذ الحصّة بالشّفعة بعد التّرافع إلى الحاكم- فسبيل الكاتب أن يكتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه من ذكر أنّه حضر الى مجلس الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة عند سيّدنا القاضى فلان الحاكم بها، كلّ «7» واحد من فلان ابن فلان، وفلان بن فلان، وهو المشترى باطنه، وذكر فلان المبتدأ بذكره أنه يستحقّ أخذ الحصّة المبيعة بما طلب باطنه- ومبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى «8» جميع الدّار الموصوفة المحدودة باطنه، التى ابتاعها المثنّى(9/81)
بذكره من شريك المبتدإ بذكره فلان البائع باطنه- بحكم ما يجرى فى ملكه من الدّار المذكورة؛ وأنّه حين علم بابتياع المشترى للحصّة المعيّنة قام على الفور «1» فى طلب الشّفعة، وأحضر المشترى المذكور للحاكم المذكور، وادّعى عليه هذه الدّعوى وأنّ الدّار قابلة للقسمة، وأنّ قيمة العروض التى أخذها البائع باطنه كذا وكذا درهما وأنّه لم يكتم «2» قيمتها إلّا تحيّلا منه فى إقصاء «3» حقّه عن الشّفعة، وسأل سؤاله عن ذلك؛ فسأله الحاكم عن ذلك، فصدّق المدّعى [فى] «4» صحّة ما ادّعاه، وفى كلّ العروض «5» التى سلّمها للبائع المذكور باطنه، وأنّه ما يعلم قيمتها؛ فطلب يمينه على ذلك، فأبى أن يحلف، وردّ عليه اليمين، فأحلف الحاكم المدّعى على قيمة العروض، فحلف أنّ قيمتها كذا وكذا درهما، اليمين الشرعيّة المستوفاة، بمحضر من خصمه المذكور، وسأل المدّعى الحاكم المذكور الحكم له على خصمه بما يوجبه الشرع الشريف، فأجابه الى سؤاله وحكم له بوجوب الشّفعة على خصمه حكما صحيحا شرعيّا، وأوجب عليه القيام بنظير الثّمن، وهو كذا وكذا، وقيمة العروض، وهى كذا وكذا، وأوجب على المشترى تسليم الحصّة؛ فحينئذ أشهد المشترى المذكور على نفسه أنّه تسلّم نظير الثّمن، وهو كذا(9/82)
وكذا «1» ... وصار بيده وقبضه وحوزه؛ وأشهد المدّعى المستشفع «2» أنّه تسلّم من المشترى الشفيع «3» جميع الحصّة المعيّنة باطنه تسلّما شرعيّا، وصارت بيده وقبضه وحوزه وملكه، وذلك بعد النظر والمعرفة؛ فقد كمل للمدّعى المستشفع «4» بما فى ملكه متقدّما وبهذه الحصّة ملك جميع الدّار المذكورة؛ ويؤرّخ.
فى استشفاع الأب لابنه «5» المحجور عليه، وكذلك الوصىّ وأمين الحكم، مع تصديق المشترى له على دعواه،
يكتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان- وهو كافل ولده فلان المراهق، أو الطفل الذى تحت حجره وكفالته وولاية نظره-، وفلان- وهو المشترى المذكور باطنه- عند شهوده طوعا بأنّ فلانا المبتدأ بذكره كافل ولده المذكور اجتمع بفلان المثنّى بذكره، وأعلمه بأنّ فى ملك ولده لصلبه فلان المذكور جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى جميع الدّار المذكورة ... «6» بحكم تقدّم ملك ولده(9/83)
للحصّة المذكورة التى فى يد والده المذكور، وبحكم أنّ الدّار قابلة للقسمة وأنّ الثّمن الذى قام به المشترى المذكور للبائع المذكور «1» هو ثمن المثل يومئذ، وقيمة العدل، وأنّه قام فى طلبها على الفور، لما رأى لولده فى ذلك من الحظّ والمصلحة وأنّ المشترى صدّقه على جميع ذلك تصديقا شرعيّا، والتمس منه القيام بنظير ما كان دفعه ثمنا عن الحصّة، وهو كذا وكذا، وأنّه أجابه الى ذلك، وسلم له من مال ولده فلان نظير الثّمن المذكور، وهو كذا وكذا، فقبض ذلك منه، وتسلّمه، وسلم المشترى المذكور له الحصّة المذكورة بحقّ الاستشفاع «2» ، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه، ملكا لولده فلان، وأضافها الى ما فى يده من الحصّة الجارية فى ملك ولده؛ وبحكم ذلك كمل لولده المذكور جميع الدّار المذكورة باطنه؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة؛ [ويؤرّخ] .
وأما السّلم «3» والمقايلة «4» فيه
- فاذا أسلم رجل لرجل ثمنا فى قمح أو حبوب «5» أو غير ذلك كتب ما مثاله: أقرّ فلان عند شهوده بأنّه أسلم الى فلان من الدراهم(9/84)
كذا وكذا، وسلّمها له، فتسلّمها منه فى مجلس العقد، وصارت بيده وقبضه وحوزه على حكم السّلم الشرعىّ فى كذا وكذا- ويعيّن ذلك ويصفه- يقوم له بذلك فى التاريخ الفلانىّ، محمولا الى المكان الفلانىّ، أو موضوعا بالمكان الفلانىّ؛ تعاقدا أحكام هذا السّلم بينهما معاقدة صحيحة شرعيّة بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا من مجلس العقد بالأبدان عن تراض؛ ويؤرّخ.
فإن تقايلا فى السّلم كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان [المسلم] «1» وفلان المسلم اليه بأنّهما تقايلا أحكام السّلم الذى كانا تعاقدا عليه بينهما باطنه مقايلة صحيحة شرعيّة، وفسخا أحكامه فسخا شرعيّا، وسلم فلان المسلم اليه لفلان المسلم المبلغ المذكور باطنه، وهو كذا وكذا، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، ولم يبق لكلّ منهما قبل الآخر حقّ من الحقوق الشرعيّة بسبب السّلم المذكور، ولا بسبب شىء منه، وتصادقا على ذلك؛ ويؤرّخ.
وأما القسمة والمناصفة
«2» - فاذا كان بين شريكين دار، وحصل الاتّفاق بينهما على قسمتها، فالذى يكتب فى ذلك: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان بأنّ لهما وفى ملكهما وتصرّفهما بالسوية بينهما- لا مزيّة لأحدهما على الآخر- جميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد- ملكا صحيحا شرعيّا؛ وأنّ ملكهما لذلك سابق لهذا الإقرار ومتقدّم عليه؛ وأنهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة، وأنّ يديهما فيها(9/85)
متصرّفتان تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم، من غير مانع ولا معترض، ولا رافع ليد بسبب من الأسباب، وتصادقا على ذلك كلّه تصادقا «1» شرعيّا؛ وأنّهما فى يوم تاريخه اتّفقا وتراضيا على قسمة ذلك جزءين: قبليّا، وبحريّا، صفة القبلىّ كذا- ويحدّد- وصفة البحرىّ كذا- ويحدّد-؛ ثم بعد تمام ذلك اشترى فلان من شريكه فلان جميع النّصف الشائع فى جميع الجزء القبلىّ، وكمّل لفلان جميع الجزء البحرىّ؛ وتصادقا على ذلك تصادقا «2» شرعيّا؛ ويؤرّخ.
وإن كانا أحضرا رجلين من المهندسين كتب فى ذيل المكاتبة: وذلك كلّه بعد أن أحضرا رجلين من أهل الهندسة والخبرة بمساحة الأراضى وذرعها وقسمتها، والآدر «3» وقيمتها- وهما فلان وفلان- الى الموضع المذكور وشاهداه، وأحاطا به علما وخبرة، وقسماه بينهما جزأين، لا مزيّة لأحدهما على الآخر؛ وأنّهما اتّفقا وتراضيا على ذلك، ورضيا قولهما، وأمضيا فعلهما.
وإن كان بينهما قرعة كتب ما مثاله: وذلك كلّه بعد قرعة شرعيّة رضيا بها وحصل الاتّفاق على ما ذكر أعلاه.
وإن كان بينهما حوانيت واقتسماها بالتعديل على القرعة كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان بأنّ لهما بالسويّة بينهما جميع الحوانيت- ويذكر عددها وصفتها وتحديدها نحو ما تقدّم- وأنّهما فى يوم تاريخه رغبا فى قسمتها بينهما بالتعديل والقرعة الشرعيّة، وأحضرا رجلين من أهل الهندسة والخبرة بالأراضى وذرعها وقيمة العقار وقسمته- وهما فلان وفلان- الى الحوانيت(9/86)
المذكورة، وشاهداها، وأحاطا بها علما وخبرة، وقسماها بينهما قسمة عادلة شرعيّة بالذّرع والقيمة والمنفعة، وأقرعا «1» بينهما فى ذلك قرعة شرعيّة، جائزة مرضيّة؛ فكان الذى حصل لفلان المبتدإ بذكره جميع الحوانيت- وتعدّ وتوصف وتحدّد- التى قيمتها كذا وكذا، الجميع حقّه وحصّته من جملة الحوانيت المذكورة؛ والذى حصل لفلان المثنّى بذكره جميع الحوانيت- ويذكر فيها ما تقدّم-؛ وسلم كلّ واحد منهما للآخر ما وجب عليه تسليمه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة؛ تعاقدا «2» أحكام هذه القسمة بينهما معاقدة صحيحة شرعيّة شفاها بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا بالأبدان عن تراض؛ وأقرّ كلّ واحد منهما بأنّه لا حقّ له ولا طلب فيما صار لصاحبه مما ذكر أعلاه بوجه من الوجوه الشرعيّة على اختلافها؛ وتصادقا على ذلك، ورضى كلّ منهما بهذه القسمة واعترفا بأنّ الذى قوّم به كلّ موضع قيمة المثل يومئذ لا حيف فيها ولا شطط.
فى صفة ميراث «3» - يكتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان وفلان الإخوة أولاد فلان بأنّ والدهم المذكور توفّى ولم يخلّف من الورثة سواهم، وأنهم مستحقّون لميراثه، مستوعبون لجميعه، بغير شريك لهم فى ميراثه، ولا حاجب(9/87)
يحجبهم عنه [بوجه] «1» ولا سبب، وترك لهم موروثا عنه جميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد-؛ فلمّا كان فى يوم تاريخه تداعوا إلى قسمة ذلك، فقسم بينهم على الوجه الشرعىّ، فتميّز لكلّ واحد منهم الثلث شائعا فيها، ووضع كلّ واحد منهم يده على ما تميّز له منها بهذا الإرث وضعا تامّا، وعرفه وعرف مقداره، وصار بيده وتصرّفه وملكه وحوزه بالإرث الشرعىّ المشروح أعلاه، يتصرّف كلّ منهم فيما صار إليه تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم، من غير مانع، ولا دافع، ولا رافع ليد، ولا معترض بوجه ولا سبب؛ وأقرّوا بأنّهم عارفون بالدّار المذكورة المعرفة الشرعيّة، ونظروها، وأحاطوا بها علما وخبرة، وتصادقوا على ذلك كلّه، وقبل كلّ منهم هذا الإقرار لنفسه من «2» الآخر قبولا شرعيّا؛ والله مع المتّقين.
وأما الأجائر
- فإذا استأجر رجل من رجل دارا كتب ما مثاله:
استأجر فلان من فلان جميع الدّار الجارية فى يده وملكه وتصرّفه، على ما ذكر وصدّقه المستأجر على ذلك، إن صدّقه.
وإن كانت الدار وقفا عليه كتب: الجارية فى يده وتصرّفه وقفا عليه تناهت «3» منافعها إليه.(9/88)
وإن كانت فى عقد إجارته نبّه على ذلك، فيكتب: الجارية فى يده وتصرّفه وعقد إجارته بالإيجار الشرعىّ من فلان.
وإن كان يؤجر عن موكّله كتب: الجارية فى يده وتصرّفه ملكا لموكّله فلان، وله إيجارها، وقبض أجرتها عنه بطريق الوكالة الشرعيّة التى بيده.
وإن كانت حصّة من دار كتب: جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا من جميع الدّار وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- لينتفع بها فى السكن والإسكان، ووقود النيران- إن أذن له فى ذلك- لمدّة كذا وكذا، أوّل ذلك يوم تاريخه، أو اليوم الفلانىّ من الأشهر الماضية «1» ، بأجرة مبلغها فى كلّ شهر من شهورها كذا وكذا قسط كلّ شهر فى سلخه، أو مستهلّه؛ وتسلّم ما استأجره بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعية، والتفرّق بالأبدان عن تراض؛ ويؤرّخ.
وإن استأجر مدّة كلّ يوم بعض النهار بأجرة حالّة مقبوضة أو أبرأه منها كتب ما مثاله: استأجر فلان من فلان جميع الحانوت- ويوصف ويحدّد كما تقدّم- لمدّة سنة كاملة، أو أقلّ أو أكثر، لينتفع بذلك فى السكن والإسكان طول المدّة فى كلّ يوم من أوّل النهار إلى الوقت الفلانىّ منه، خلا بقيّة(9/89)
النّهار واللّيل، فإنّ منفعته باقية فى يد الآجر وتصرّفه، ينتفع بذلك كيف شاء، بأجرة مبلغها عن جميع هذه المدّة كذا وكذا حالّة، قبضها الآجر من المستأجر، وتسلّمها.
وإن كان أبرأه منها كتب: حالّة، أبرأه الآجر منها براءة صحيحة شرعيّة، براءة إسقاط، قبلها منه؛ وتسلم ما استأجره بعد النّظر والرّضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة.
ان استأجر من رجل بماله فى ذمّته من الدّين كتب: ... لمدّة سنة كاملة، أوّلها يوم تاريخه، بما للمستأجر فى ذمّة الآجر من الدّين الحالّ الذى اعترف به عند شهوده، وهو كذا وكذا؛ وتسلّم ما استأجره؛ ويكمّل.
فصل وإن استأجر من رجل دارا لمدّة، ثم استأجر مدّة ثانية قبل انقضاء المدّة الأولى
كتب: ... لمدّة سنة كاملة مستأنفة «1» على مدّته الأولى، أوّلها اليوم الفلانىّ من الشهر الفلانىّ، بحكم أنّ الدّار مستأجرة معه على «2» [مدّة] «3» معلومة آخرها اليوم الفلانىّ، وقد استؤنفت هذه المدّة الثانية زيادة على تلك المدّة الأولى إجارة صحيحة شرعيّة، بأجرة مبلغها كذا وكذا؛ [تعاقدا على ذلك] «4» معاقدة شرعيّة(9/90)
شفاها بالإيجاب والقبول؛ واعترف المستأجر بأنّ الدّار المذكورة فى يده وتصرّفه وأنّه عارف بها المعرفة الشرعيّة.
فصل وإن استأجر بأجرة حالّة ثم قاصّه «1» المستأجر بماله فى ذمّته
كتب: ... بأجرة مبلغها عن جميع المدّة كذا وكذا حالّة- ويكمّل الإجارة-؛ ثمّ بعد ذلك قاصّ «2» المستأجر المذكور الآجر المذكور بماله فى ذمّته من الدّين الذى اعترف به عند شهوده- وهو نظير الأجرة المذكورة فى القدر والجنس والصّفة والحلول- مقاصّة «3» شرعيّة، قبل كلّ منهما ذلك لنفسه قبولا شرعيّا؛ ولم تبق لكلّ منهما مطالبة قبل الآخر بسبب دين ولا أجرة ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة كلّها.
وإن استأجر جماعة من رجل أرضا لبناء «4» وغيره كتب ما مثاله:
استأجر فلان وفلان وفلان من فلان جميع قطعة الأرض الطين السواد، الجارية فى يد المؤجر «5» وملكه، وهى بالمكان الفلانىّ، ومساحتها كذا وكذا قصبة بالقصبة الحاكميّة «6» ، وذرعها كذا وكذا ذراعا بذراع العمل «7» ، ليبنوا عليها ما أرادوا بناءه، ويحفروا(9/91)
فيها ما أرادوا حفره: من الآبار المعينة «1» وآبار السّراب «2» والقنىّ والمجارى، ويعلّوا ما أرادوا تعليته، ويزرعوا ويغرسوا ما أحبّوا زراعته وغرسه، وينتفعوا بها كيف شاءوا على الوجه الشرعىّ، لمدّة ثلاثين سنة كوامل، أوّلها يوم تاريخه؛ ويكمل.
وإن كان كلّ منهم يقوم بما عليه برهن على «3» ذلك، وكذلك إن تضامنوا.
وإن استأجر وكيل دارا لموكله [من جماعة]
«4» كتب: استأجر فلان لموكّله فلان بإذنه وتوكيله إيّاه فى استئجار ما يذكر فيه بالأجرة التى تعيّن فيه للمدّة التى تذكر فيه، وفى تسلّم ما استأجره له، التوكيل الشرعىّ، على ما ذكر، أو على ما تشهد به الوكالة التى بيده؛ من فلان وفلان وفلان جميع الدّار الكاملة، الجارية فى ملكهم ويهم وتصرّفهم بالسويّة، أو بقدر حصصهم- وتوصف وتحدّد وتذكر المدّة والأجرة- ما هو لفلان عن أجرة حصّته كذا، وما هو لفلان كذا، [وما هو لفلان «5» كذا] ؛ وتسلّم ما استأجره لموكّله بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة.(9/92)
وإن آجر رجل دارا عن موكّله
كتب: استأجر [فلان] «1» من فلان القائم فى إيجار ما يذكر فيه عن موكّله فلان، بالأجرة التى تعيّن فيه، للمدّة التى تذكر فيه؛ وفى تسليم ما يؤجر لمستأجره، حسب ما تشهد به الوكالة التى بيده؛ استأجر منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع ... ويكمّل؛ والله أعلم بالصواب.
فصل فى معاقدة حمولة «2»
عاقد فلان بن فلان السّيروان «3» فلانا على حمله وحمل محارمه وزاده «4» - وهو كذا وكذا رطلا- من البلد الفلانىّ الى البلد الفلانىّ، على ظهر جماله التى بيده وتصرّفه، بما مبلغه كذا وكذا، قبضه منه؛ تعاقدا معاقدة شرعيّة بعد النظر والمعرفة والإحاطة بذلك علما وخبرة، وعليه الشروع فى ذلك من يوم كذا وكذا.(9/93)
فصل وإن استأجر دارا بدار
كتب: استأجر فلان من فلان جميع الدار الفلانيّة الجارية فى يد الآجر، لمدّة كذا وكذا، بجميع الدّار الجارية فى يد المستأجر- ويحدّد كلّا منهما- وتسلّم كلّ منهما ما وجب له تسلّمه من الآخر «1» تسلّما شرعيّا وصار بيده، وذلك بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة؛ ويؤرّخ.
فصل وإن استأجر مركبا
كتب طولها ومحملها وعدّتها ... «2» لينتفع بها فى حمل الغلال والرّكبان، فى البحر الفلانىّ؛ وإن كان فى بحر النيل قال: «مصعدا «3» ومنحدرا» ؛ ويكمّل كما تقدّم.
فصل وإن استأجر بغلا أو حمارا
كتب: ... «4» جميع «5» الحمار، لينتفع به فى حمله وحمل قماشه «6» من المكان الفلانىّ الى المكان الفلانىّ، أو فى حمل ما يختاره من القماش «7» والأثاث، ونقل الحواصل على ظهره على قدر طاقته، لمدّة كذا وكذا؛ ويكمّل.(9/94)
فصل إذا أجر رجل عبده أو ولده
كتب: أجر فلان ولده لصلبه فلانا المراهق الذى تحت حجره وولاية نظره، لفلان، ليعمل عنده فى صناعة كذا فى حانوته بالمكان الفلانىّ، لمدّة كذا، بأجرة مبلغها فى كلّ يوم كذا من استقبال تاريخه؛ تعاقدا [على] ذلك معاقدة شرعيّة بالإيجاب والقبول والتسليم الشرعىّ.
وان أجر نفسه كتب: أجر فلان نفسه لفلان، ليعمل عنده فى صناعة كذا؛ ويكمّل.
فصل وإن أجرت امرأة نفسها لمطلّقها
كتب: أجرت فلانة نفسها لمطلّقها الطلقة الأولى- أو مهما كان من عدد الطلاق- فلان، فى رضاع «1» ابنها منه وحضانته وغسل خرقه، وتسريح رأسه، والقيام بمصالحه فى منزلها بالمكان الفلانىّ لمدّة كذا؛ ويكمّل؛ والله أعلم بالصواب.
وإذا أجر رجل دارا على ولده الطفل أو أجر الوصىّ أو أمين الحكم
كتب: استأجر فلان من فلان القائم فى إيجار ما يذكر فيه على ولده لصلبه فلان الطفل الذى هو تحت حجره وكفالته، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة.(9/95)
وإن كان الاجر الوصىّ كتب: القائم فى إيجار ذلك على فلان المحجور «1» عليه بطريق الوصيّة الشرعية التى بيده، وقبض الأجرة، وتسليم ما يأجره لمستأجره.
وإن كان أمين الحكم هو الآجر كتب: القائم فى إيجار ما يذكر فيه على فلان المحجور عليه من قبل الحكم العزيز؛ فإن كان الحاكم أذن كتب: «وذلك بإذن من سيّدنا القاضى فلان الدّين له فى ذلك» ؛ جميع «2» الدّار؛ ويكمّل.
وإن شهد بقيمة الأجرة شرحه «3» فى ذيل الإجارة.
فصل وإن استأجر رجل لولده دارا أو الوصىّ أو أمين الحكم
كتب ما مثاله: استأجر فلان لولده الذى تحت حجره وولاية نظره، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة.
وإن كان الوصىّ فكما تقدّم؛ أو أمين الحكم فنحوه؛ ويذكر إذن الحاكم؛ والله أعلم.
إذا استأجر الوصىّ من يحجّ عن الميّت
كتب ما مثاله: أقرّ فلان ابن فلان بأنّه أجر نفسه لفلان وصىّ فلان المتوفّى الى رحمة الله تعالى، القائم(9/96)
فى معاقدته بالوصيّة الشرعيّة التى بيده، الثابتة بمجلس الحكم العزيز، لأن يحجّ بنفسه عن فلان الموصى المذكور حجّة الإسلام الواجبة عليه؛
وإن كانت غير واجبة
كتب: «لأن يحجّ عنه حجّة تطوّع» على أن يتوجّه من المكان الفلانىّ فى عام تاريخه قاصدا لأداء حجّة الإسلام وعمرته فى «1» البحرين العذب والملح، أو فى «2» البحر الملح، أو فى «3» البرّ، ويحرم من الميقات «4» الذى يجب على مثله، فينوى حجّة مفردة كاملة، أو يدخل الى الحرم الشريف بمكّة- شرّفها الله تعالى- فينوى عنه الحجّة المذكورة كاملة بأركانها وواجباتها وشروطها وسننها ثمّ يعتمر عنه عمرة من ميقاتها مكمّلة فروضها على الأوضاع الشرعيّة؛ وهو بالخيار(9/97)
إن شاء أفرد، وإن شاء أقرن «1» ؛ وينوى فى جميع أفعاله وقوع ذلك عن المتوفّى الموصى المذكور، وأجر ثوابه «2» له؛ ومتى وقع منه إخلال يلزمه فيه فداء، أو وجب عليه دم كان ذلك متعلّقا به وبماله، دون مال الموصى المتوفّى؛ المشروح جميع ذلك فى كتاب الوصيّة المذكورة؛ عاقده على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة بالأجرة المعيّنة أعلاه «3» وهى كذا وكذا، قبضها منه وتسلّمها، وصارت بيده وقبضه وحوزه، من مال الموصى المذكور الذى فرضه فى ذلك، وأذن فى تسليمه؛ وذلك بعد أن تبيّن أنّ الآجر المذكور حجّ عن نفسه الحجّة الواجبة عليه؛ ويؤرّخ.
إذا استأجر رجل من وكيل بيت المال أرضا ليبنى عليها أو جدرا يعمد «4» عليها أو سطحا أو غير ذلك،
كتب مشروحا، وأخذ فيه خطّ شهود القيمة والمهندسين، ثم يكتب الإجارة، ويشرح فى ذيلها المشروح؛ وإن كانت بتوقيع مثل توقيع المبايعة كتب فى آخر الإجارة مثل ما يكتب فى المبايعة وهو أن يقول: والسبب فى هذه الإجارة أنّ المستأجر المذكور رفع قصّة ... وتشرح.(9/98)
وصيغة المشروح: مشروح رفعه كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بقضيّة حال قطعة الأرض الآتى ذكرها وذرعها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان المواريث «1» الحشريّة- وتذرع وتحدّد- تأمّلاها «2» بالنظر، وأحاطا بها علما وخبرة؛ وقالا: إنّ الأجرة عنها لمن يرغب فى استئجارها لينتفع بها كيف شاء وأحبّ واختار على الوجه الشرعىّ، ويبنى عليها ما أحبّ بناءه، ويعلّى ما أراد تعليته ويحفر الآبار المعينة «3» وآبار السراب «4» والقنىّ، ويشقّ الأساسات «5» ، ويخرج الرّواشن «6» .
وإن كان المؤجر سطوحا أو جدرا أو عقودا «7» كتب زنة ما يبنيه، وهو أن يقول: «فتكون زنة ما يبنيه ويعلّيه عليها كذا وكذا قنطارا» لمدّة ثلاثين سنة كوامل ما مبلغه «8» كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا، وباقى ذلك- وهو كذا- يقوم به منجّما فى سلخ كلّ سنة تمضى من تاريخه كذا؛ وقالا: إنّ ذلك أجرة المثل يومئذ، لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «9» ولا فرط «10» ، وإنّ الحظّ والمصلحة فى إيجار ذلك بهذه الأجرة، ويؤرّخ.
ومن الكتّاب من يكتب أوّل المشروح ما صورته: لمّا رسم بعمل مشروح بقضيّة حال الموضع الآتى ذكره فيه، الجارى فى ديوان المواريث الحشريّة «11» ، امتثل(9/99)
المرسوم كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار، وسارا الى الموضع المذكور، فألفياه بالمكان الفلانىّ؛ ويوصف ويحدّد؛ ويكمّل المشروح نحو ما تقدّم.
ثمّ يكتب الإجارة، وصيغتها: استأجر فلان من القاضى فلان وكيل بيت المال المعمور، القائم فى إيجار ما يذكر فيه بأحكام الوكالة التى بيده، المفوّضة اليه من المقام الشريف، التى جعل له فيها إيجار ما هو جار فى أملاك بيت المال المعمور وغير ذلك، على ما نصّ وشرح فيها، وما مآله الى بيت المال المعمور بالقضايا الشرعيّة، الثابتة وكالته بمجلس الحكم، المتوجّة وكالته بالعلامة الشريفة، ومثالها كذا وكذا؛ استأجر منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع قطعة الأرض التى لا بناء بها، أو الحاملة لبناء المستأجر، الآتى ذكرها وذرعها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة «1» ؛ أو جميع السّطح، أو الجدر، ليبنى على ذلك ما أحبّ وأراد بالطوب والطين والجير والجبس وآلة العمارة ما زنته كذا وكذا قنطارا- هذا يكون فى السّطح أو فى الجدار؛ وأمّا الأرض فلا- لمدّة كذا وكذا سنة، أوّلها يوم تاريخه، بأجرة مبلغها عن جميع هذه المدّة كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا بما فيه من المستظهر «2» [به] «3» وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به منجّما، فى سلخ كلّ سنة من استقبال تاريخه كذا وكذا؛ وتسلّم ما استأجره بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة؛ وأقرّ المستأجر(9/100)
بأنّ الأرض جارية فى ديوان المواريث «1» الحشريّة؛ وذلك بعد أن تنجّز «2» المستأجر المذكور مشروحا يتضمّن الإشهاد على كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بأنّهما سارا إلى ما ذكر أعلاه، وذكرا من الذّرع والتحديد ما وافق أعلاه، وقالا: «إنّ الأجرة فى ذلك عن كلّ سنة كذا وكذا» ؛ ويذكر ما تضمّنه المشروح، ورسم شهادة العدل فلان والعدل فلان بأنّ الأجرة المعيّنة فيه أجرة المثل يومئذ؛ ثم بعد تمام ذلك أحضر المستأجر من يده وصولات «3» بيت المال شاهدة له بحمل المال المذكور ونسخها كذا وكذا؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع «4» الإشهاد على القاضى فلان الآجر والمستأجر بما نسب الى كلّ واحد منهما فيه؛ ويؤرّخ «5» .
وإن أجر نائب وكيل بيت المال المعمور أرضا فى ديوان الأحباس
كتب ما مثاله: استأجر فلان من القاضى فلان النائب عن القاضى فلان وكيل بيت المال المعمور، القائم فى إيجار ما يذكر فيه عن مستنيبه المذكور بأحكام الوكالة التى بيد مستنيبه، المفوّضة اليه من المقام الشريف، التى لمستنيبه فيها إيجار ما هو جار فى أملاك بيت المال المعمور وأوقاف الأحباس المعمورة، وغير ذلك، على ما نصّ وشرح فيها، وما مآله الى بيت المال المعمور بالقضايا الشرعيّة، وأن يستنيب عنه(9/101)
فى ذلك من يراه، الثابتة وكالته فى مجلس الحكم العزيز الثبوت الصحيح الشرعىّ؛ ويشهد على وكيل بيت المال المعمور بالإذن لنائبه المذكور فى ذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ استأجر منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع قطعة الأرض الآتى ذكرها وذرعها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان الأحباس المعمور، الذى صاحب الدّيوان «1» به يومئذ فلان، ومشارف «2» الأحكار به فلان، الاذن كلّ منهما للآجر فى الإيجار المذكور، يشهد عليهما بذلك شهوده؛ وهى بالمكان الفلانىّ؛ وتوصف وتحدّد ويكمّل الإجارة كما تقدّم.
إذا كان بستانا فأجر الأرض وساقى «3» على الأنشاب
«4» كتب ما مثاله:
استأجر فلان من فلان جميع قطعة الأرض السواد، المتخلّلة بالأنشاب «5» الآتى(9/102)
ذكرها فيه، ومساحتها كذا وكذا فدانا بالقصبة الحاكميّة «1» ؛ الجارية الأرض المذكورة فى يده وعقد إجارته، أو فى ملكه، وجميع بناء البئر المعينة «2» والساقية المركّبة على فوّهتها، المكمّلة العدّة والآلة، الذى ذلك بالموضع الفلانىّ؛ وصفة الأنشاب «3» أنّها النخل والكرم والتين «4» والزيتون والرمّان، وغير ذلك، بحدود ذلك وحقوقه، خلا الأنشاب «5» ومواضع مغارسها، فإنّها خارجة عن عقد هذه الإجارة، لمدّة ... ؛ ويكمّل كما تقدّم.
وأما المساقاة
- فإنّه إن كتبها فى ذيل الإجارة كتب ما مثاله: ثمّ بعد ذلك ساقى الآجر المستأجر ... ويكمّل.
وإن لم يكتبها فى ذيلها كتب ما مثاله: ساقى فلان مالك الأنشاب «6» الآتى ذكرها فيه فلان بن فلان على الأنشاب «7» القائمة فى الأرض الآتى ذكرها فيه، الجارى ذلك فى يد فلان المبتدإ بذكره، وهى الأرض التى بالموضع الفلانىّ، ومساحتها كذا وكذا فدانا بالقصبة الحاكميّة «8» ؛ وصفة الأنشاب «9» المساقى عليها أنّها النخل والكرم وكذا وكذا، بحسب ما يكون؛ ويحيط بذلك حدود أربعة- وتذكر- مساقاة صحيحة شرعيّة جائزة نافذة، لمدّة سنة كاملة، أوّلها يوم تاريخه، على أن يتولّى سقى(9/103)
ذلك وتنظيفه وتأبيره «1» وغرسه وإصلاحه بنفسه، وبمن يستعين به؛ ومهما أطلعه الله تعالى من ثمر كان مقسوما بينهما على ألف جزء، جزء واحد لفلان «2» المبتدإ بذكره مالك الأنشاب، وباقى «الأجزاء» «3» لفلان المثنّى بذكره المساقى؛ وذلك بعد إخراج المؤن والكلف وحقّ الله تعالى إن وجب؛ تعاقدا على ذلك معاقدة شرعيّة، وسلم فلان المالك لفلان المساقى جميع الأنشاب المذكورة، فتسلّمها منه للعمل عليها، وصارت بيده وحوزه، وذلك بعد النظر والمعرفة، والإحاطة بجميع ذلك علما وخبرة.
وفى المساقاة على اللّيف والسّعف والكرناف «4» خلاف: فإن كان يعدّ من الثمرة جاز «5» ، وإن لم يعدّ منها لم يجز.
وأما الوصايا والشهادة على الكوافل بالقبوض «6» وما يلتحق «7» بذلك
فاذا أوصى رجل رجلا كتب ما مثاله: هذا كتاب وصيّة اكتتبه فلان، حذرا من(9/104)
هجوم الموت عليه»
، وعملا بالسنّة النبويّة، وامتثالا لأمر «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الندب إلى الوصيّة؛ وأشهد على نفسه فى حال عقله، وتوعّك «3» جسمه، وحضور حسّه، وثبوت فهمه، وجواز أمره؛ وهو عالم بأركان الإسلام، عارف بالحلال والحرام؛ متمسّك بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عالم بالموت وحقيقته والقبر ومسألته؛ متيقّن بالبعث والنشور، والصّراط والعبور؛ والجنّة والنّار، والخلود والاستقرار، غير محتاج الى تعليم ولا تكرار؛ أنّ الذين له من الورثة المستحقّين لميراثه «4» المستوعبين لجميعه: زوجته فلانة بنة فلان، التى لم تزل فى عصمته وعقد نكاحه إلى الآن؛ وأولاده منها، وهم فلان وفلان [وفلان] ، بغير شريك لهم فى ميراثه ولا حاجب يحجبهم عن استكماله؛ وأشهد على نفسه أنّ الذى عليه لزوجته كذا وكذا ولفلان كذا وكذا، وأنّ ذلك باق فى ذمّته إلى الآن؛ وأنّ الذى له من الدّين على فلان كذا وكذا، وعلى فلان كذا وكذا، وأنّ ذلك باق فى ذمّتهما إلى الآن، وأنّ الجارى فى ملكه كذا وكذا- ويعيّن ماله إن كان-؛ وأشهد على نفسه أنّه دبّر «5» مملوكه فلانا تدبيرا «6» صحيحا شرعيّا، وقال له: «أنت حرّ بعد موتى، تخرج من ثلث مالى المفسوح لى فى إخراجه» ؛ وأشهد على نفسه أنّه أوصى فلان بن فلان، وجعل له أنه اذا نزل به حادث الموت الذى كتبه الله على خلقه، وساوى فيه بين بريّته، يحتاط على جميع موجوده، ويقبضه(9/105)
ويحرزه تحت يده، ثم يبدأ من ثلث ماله بتجهيزه وتغسيله وتكفينه ومواراته فى قبره بمن «1» يراه أهلا لذلك على الأوضاع الشرعيّة، والسنّة النبويّة؛ ثم يسارع الى قضاء ديونه الواجبة عليه، وإبراء ذمّته؛ ثم يفرز من ثلث ماله كذا وكذا، ليستأجر به رجلا مشهورا بالخير والصلاح، عارفا بأداء الحجّ، ممن حجّ عن نفسه، ليحجّ عنه، على أن ينشئ السفر من البلد الفلانىّ فى البرّ والبحر على ما يراه، بنيّة الحجّ عن هذا الموصى المذكور، فيحرم من الميقات «2» الواجب عليه فى طريقه، ويؤدّى عنه حجّة الإسلام وعمرته الواجبتين عليه شرعا، مكمّلتين بأركانهما وشروطهما وواجباتهما وسننهما على الأوضاع الشرعيّة، والسّنن المرضيّة، وينوى فى جميع أفعاله وقوع ذلك عن الموصى المذكور؛ وللوصىّ الناظر أن يسلّم اليه المبلغ المذكور فى ابتداء سفره، ليكون عونا له على هذه العبادة؛ وعلى المؤجر أن يشهد على نفسه بأداء ذلك عن الموصى ليثبت علمه عند الوصىّ المذكور؛ كلّ ذلك من رأس ماله؛ ثم يبيع ما يرى بيعه، ويقبض ثمنه، ويستخلص ماله من دين على أربابه، ويحرّر جميع ذلك؛ ثم يعود فيفرّق من ثلث ماله المفسوح له فى إخراجه، فيقوّم العبد المذكور ويخرج قيمته من ثلث ماله ويثبت عتقه؛ وإن تصدّق بشىء يذكره فى هذا الموضع، وهو أن يقول: «ثمّ يخرج لفلان كذا، ولفلان كذا، ويقف عنه الموضع الفلانىّ» - كلّ ذلك على ما يعيّنه «3» -؛(9/106)
ثم يقسم ثلثى المال وما يفضل من الثلث المفسوح له فى إخراجه على ورثته بالفريضة الشرعيّة، فيسلّم البالغ الرشيد حصّته، ويبقى تحت يده للمحجور عليهم ما يتعيّن لهم من نقد وعروض «1» وعقار وغير ذلك، فيصرف لهم وعليهم على النظر والاحتياط إلى حين بلوغهم وإيناس رشدهم، وينفق عليهم بالمعروف، ويصرف عليهم ما تدعو الحاجة إلى صرفه؛ فمن بلغ منهم أشدّه، وآنس الناظر عليه منه صلاحه ورشده، سلّم إليه ما عساه يبقى له تحت يده من ذلك، ويشهد عليه بقبضه؛ أوصى بجميع ذلك وصيّة صحيحة شرعيّة ثابتة فى حياته، معمولا بها بعد وفاته، أقامه فيها مقام نفسه، لعلمه بدينه وعدالته وأمانته، وله أن يستنيب عنه فى ذلك من يراه؛ فإن تعذّر تصرّف فلان الوصىّ كان الوصىّ فى ذلك فلانا، فإن تعذّر كان لحاكم «2» المسلمين بالمكان الفلانىّ.
اذا عزل الموصى وصيّه بغيره
كتب: هذا ما أشهد عليه فلان أنّه عزل وصيّه فلانا عن وصيّته التى كان وصّاه بها عزلا شرعيّا، ورجع عنها؛ وأشهد عليه أنّه أسند وصيّته إلى فلان، وجعله وصيّا، وأقامه مقام نفسه؛ ويؤرّخ.
فصل اذا كلّف الحاكم الوصىّ بإثبات أهليّته
كتب على ظهر الوصيّة ما مثاله: شهد الشهود الواضعو خطوطهم آخر هذا المحضر- وهم من أهل الخبرة الباطنة «3» بما شهدوا به- أنّهم يعرفون فلانا الوصىّ المذكور باطنه معرفة صحيحة(9/107)
شرعيّة؛ ويشهدون أنّه أهل لما فوّضه إليه فلان الموصى باطنه المتوفّى الى رحمة الله تعالى من الوصيّة المشروحة باطنه، وأنّه كاف «1» للتصرّف، عدل لهم وعليهم؛ يعلمون ذلك ويشهدون به بسؤال من جاز سؤاله.
فصل فى إسجال الوصيّة ومحضر الوصىّ
يكتب على ظهر الوصيّة: هذا ما أشهد عليه سيّدنا القاضى فلان الحاكم بالعمل «2» الفلانىّ على نفسه الكريمة من حضر مجلس حكمه وقضائه [أنه ثبت عنده «3» وصحّ لديه] بعد صدور دعوى محرّرة، مقابلة بالإنكار على الوضع الشرعىّ، بشهادة من أعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء، مضمون الوصيّة- ويذكر تاريخها- وبآخرها رسم شهادة العدلين المذكورين؛ وقال كلّ واحد من هذين العدلين: إنه شهد على الموصى والوصىّ بما نسب الى كلّ منهما فيه، وهو بهما عارف، وإنّ الموصى توفّى الى رحمة الله تعالى فى اليوم الفلانىّ، وما علم مغيّرا لشهادته الى أن أقامها عند الحاكم بشروط الأداء المعتبرة؛ وأعلم تحت رسم شهادة «4» كل منهما علامة الأداء والتعريف(9/108)
على الرسم المعهود بما رأى معه قبول شهادتهما؛ وأشهد عليه أيضا أنّه ثبت عنده وصحّ لديه، بعد صدور دعوى محرّرة، مقابلة بالإنكار على الوضع المعتبر الشرعىّ بشهادة عدلين، هما فلان وفلان- عرفهما فقبل شهادتهما بما رأى معه قبولها- جميع ما تضمّنه المحضر المكتتب فى ذيل هذه الوصيّة- ويذكر مضمونه وتاريخه- وبآخره رسم شهادة الشاهدين المذكورين؛ وقال كلّ منهما: إنه بما شهد عالم وبفلان الوصىّ المذكور عارف، وما علم مغيّرا لشهادته إلى أن أقامها بشروط الأداء؛ وأعلم تحت رسم شهادة كلّ منهما علامة الأداء والتعريف على الرسم المعهود فى مثله؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة إجابته الإشهاد على نفسه الكريمة بثبوت ذلك لديه، والحكم به، فأجابه إلى سؤاله، وأشهد عليه بثبوت ذلك عنده على الوجه الشرعىّ، وأطلق يد الوصىّ فى تنفيذ الوصيّة المذكورة باطنه على الوجه المشروح فيها، وحكم بذلك وأمضاه، ونفّذه وارتضاه وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وذلك بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها بتاريخ كذا وكذا.
فصل إذا قبضت الكافلة نفقة ولدها
كتب: أقرّت فلانة المرأة الكاملة ابنة فلان، كافلة ولدها فلان بن فلان الطفل، عند شهوده، بأنها قبضت وتسلّمت من فلان وصىّ زوجها فلان المذكور والد ولدها كذا وكذا، وذلك عوضا عن نفقة ولدها لبطنها المذكور، لمدّة كذا وكذا شهرا، آخرها يوم تاريخه؛ وصار ذلك بيدها وقبضها وحوزها، من مال الموصى المذكور؛ ويؤرّخ.(9/109)
فصل إذا خلف الموصى زوجة مشتملة على حمل، فوضعت وأراد الوصىّ إثبات ذلك
كتب: شهد من أثبت اسمه آخره من الرجال الأحرار المسلمين، شهدوا شهادة لا يشكّون فيها ولا يرتابون، أنّ فلانة وضعت الحمل الذى كانت مشتملة عليه من زوجها فلان المتوفّى الى رحمة الله تعالى ولدا ذكرا- واسمه فلان- فى اليوم الفلانىّ، وهو فى قيد الحياة الى الآن، وهم بها وبولدها عارفون؛ ولمّا سألهم من جاز سؤاله أجابوا سؤاله.
وأما العتق والتدبير وتعليق العتق
- فإذا أعتق السيّد عبده كتب:
هذا ما أشهد عليه فلان أنّه أعتق فى يوم تاريخه أو قبل تاريخه مملوكه فلانا المقرّ له بالرّقّ والعبودية، المدعوّ «1» فلانا، الفلانىّ الجنس، المسلم؛ وإن كان دون البلوغ كتب: «مملوكه المراهق، الماسك بيده عند شهوده المدعوّ فلانا» - ويذكر حلاه- عتقا صحيحا شرعيّا منجّزا، لوجه الله الكريم وطلب ثوابه العميم، يوم يجزى الله المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين، ولقول النبى صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة «2» مؤمنة أعتق الله بكلّ عضو منها عضوا(9/110)
منه «1» حتى الفرج بالفرج» صار [به] «2» فلان حرّا من أحرار المسلمين، لا سبيل لاحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ، فإنه لمعتقه، ولمن يستحقّه من بعده.
فإن أعتق نصف عبد وهو موسر كتب: أعتق جميع النصف من جميع العبد المقرّ له بالرّقّ والعبوديّة؛ ويكمّل العتق، ثم يكتب: «وأقرّ المعتق بأنه فى يوم تاريخه موسر بقيمة النصف الثانى» ؛ ويؤرّخ.
ثمّ يكتب خلف العتق تقويم حصّة الشريك وتكملة العتق، ومثال ما يكتب:
أقرّ فلان بأن شريكه فلانا أعتق ما يملكه من العبد المذكور باطنه، وهو النصف وهو موسر، وأنّهما أحضرا رجلين خبيرين بقيمة الرقيق، وهما فلان وفلان، وقوّما النصف من العبد المذكور يوم العتق بكذا وكذا، وأنّهما رضيا قولهما، وعلما أنّها قيمة المثل يوم ذاك، وأنّ فلانا المعتق دفع ذلك لشريكه، فقبضه منه وتسلّمه؛ وبحكم ذلك عتق النصف الثانى من العبد على فلان عتقا شرعيّا، وصار العبد بكماله حرّا من أحرار المسلمين، لا سبيل لأحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ.(9/111)
فصل اذا علّق رجل عتق عبده على موته ليخرج من رأس ماله
كتب: أقرّ فلان بأنّه علّق عتق عبده فلان على موته فى آخر يوم من أيام حياته «1» المتقدّم على وفاته، لاستكمال عتق عبده المذكور من رأس ماله؛ تلفّظ بذلك بتاريخ كذا.
فصل اذا دبّر «2» رجل عبده
كتب ما مثاله: دبّر «3» فلان مملوكه فلانا، الفلانىّ الجنس، المقرّ له بالرّقّ والعبوديّة، تدبيرا «4» صحيحا شرعيّا، وقال له: «متى متّ فأنت حرّ بعد موتى، تخرج من ثلث مالى المفسوح لى فى إخراجه» ؛ فبحكم ذلك صار حكمه حكم المدبّر؛ ويؤرّخ.
فإن أقرّ الورثة بخروج المدبّر من ثلث المال الموروث، أو أقرّ الوصىّ بذلك
كتب ما مثاله: أقرّ فلان وفلان [وفلان] «5» أولاد فلان بأنّ العبد المسمّى باطنه الذى كان والدهم دبّره تدبيرا شرعيّا، قوّمه أهل الخبرة والمعرفة بقيمة الرقيق، فكانت قيمته كذا وكذا، وأنّها قيمة عادلة يكمل خروجها من ثلث مال متوفّاهم؛ وبحكم ذلك صار العبد حرّا من أحرار المسلمين، لا سبيل لأحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ؛ ويؤرّخ.(9/112)
وأما الكتابة
«1» - فإذا كاتب رجل عبده كتب ما مثاله: كاتب فلان مملوكه الذى بيده وملكه، المقرّ له بالرّقّ، المدعوّ فلانا، الفلانىّ الجنس، المسلم لما علم فيه من الخير والديانه، والعفّة والأمانة؛ ولقوله تعالى: (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً)
، على مال جملته كذا وكذا، يقوم به منجّما، فى سلخ كلّ شهر كذا وكذا من استقبال تاريخه، وأسقط عنه السيّد من ذلك قسط النّجم «2» الأخير، وهو كذا وكذا وأبرأه منه، لقول الله عزّ وجلّ: (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ)
؛ مكاتبة صحيحة شرعيّة؛ وأذن له سيّده فى التكسّب والبيع والشراء؛ فمتى أوفى ذلك كان حرّا من أحرار المسلمين، له مالهم، وعليه ما عليهم، لا سبيل لأحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ؛ ومتى ما عجز ولو عن الدرهم الفرد كان باقيا على حكم العبوديّة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «المكاتب قنّ «3» ما بقى عليه درهم» ؛ وبمضمونه شهد بتاريخ كذا وكذا.
فإن وفّى العبد مال الكتابة كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنّه قبض وتسلّم من مملوكه فلان المسمّى باطنه جميع المبلغ المعيّن باطنه، وهو كذا وكذا، على حكم التنجيم باطنه، وصار ذلك بيده وقبضه وحوزه، فبحكم ذلك صار فلان حرّا من أحرار المسلمين، على ما تقدّم؛ ويؤرّخ.(9/113)
فصل وإن عجز المكاتب عن أداء ما كوتب عليه
كتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه فلان، وأشهدهم على نفسه أنه كان كاتب عبده المذكور باطنه [المكاتبة] «1» المشروحة باطنه الى المدّة المعيّنة [باطنه] «2» ، وزادت مدّة ثانية، واستحقّ عليه كذا وكذا عن قسط كذا وكذا شهرا، ولم يقم له بها، وصدّقه العبد على ذلك واعترف بأنّه عاجز عن القيام بما حصل عليه، وأنّه سأله بعد الاستحقاق الصبر عليه إلى يوم تاريخه ليسعى فى تحصيل ما بقى عليه ... «3» ... لقوله صلى الله عليه وسلم:
«المكاتب قنّ ما بقى عليه درهم» ؛ وتصادقا على ذلك؛ ويؤرّخ.
وان كانا تحاكما عند حاكم
كتب ما مثاله: حضر إلى شهوده فى يوم تاريخه من ذكر أنّه حضر الى مجلس الحكم عند سيّدنا الفقير الى الله تعالى فلان الحاكم بالعمل الفلانىّ، كلّ «4» واحد من فلان بن فلان ومملوكه، وادّعى فلان المبتدأ باسمه على مملوكه عند الحاكم المذكور أنّه كاتبه على مال جملته كذا وكذا؛ فمتى أوفى ذلك كان حرّا من أحرار المسلمين؛ ومتى عجز عن أدائه ووفائه ولو عن درهم(9/114)
واحد كان قنّا باقيا على العبوديّة، وأنّ المدّة المذكورة «1» انقضت، فاستحقّ عليه كذا وكذا درهما، ولم يقم له بها؛ وأنه صبر عليه مدّة ثانية، آخرها يوم تاريخه، ولم يقم له بشىء منها؛ فسأل الحاكم المملوك عن ذلك، فصدّق سيّده فى دعواه، واعترف بأنه عاجز عن الوفاء، وأنّه لم يقدر على تحصيل ما بقى؛ فحينئذ سألا الحاكم المذكور الحكم لهما بما يوجبه الشرع الشريف، فأذن له «2» الحاكم المذكور فى فسخ المكاتبة المذكورة، لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم: «المكاتب قنّ ما بقى عليه درهم» ؛ فحينئذ فسخ السيّد المكاتبة المذكورة فسخا شرعيّا، وأبطل حكمها، وأشهد عليهما بذلك بتاريخ كذا وكذا.
وأما النكاح وما يتعلّق به
فاذا زوّج الوالد ابنته بإذنها أو زوّجها وهى غير بالغ
كتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان فلانة البكر البالغ ابنة فلان، صداقا تزوّجها به، على بركة الله تعالى وعونه، وحسن توفيقه ومنّه ملك به عصمتها، واستدام به- إن شاء الله- صحبتها؛ مبلغه كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا، قبضته الزوجة وتسلّمته، أو قبضه والد الزوجة لها بإذنها- وإن كانت تحت حجره كتب: «قبضه للزوجة والدها، ليصرفه فى مصالحها» - وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به منجّما، فى سلخ كلّ سنة من استقبال تاريخه كذا وكذا- وإن كان الصداق بكماله على حكم الحلول كتب: «عجّل لها الزوج من ذلك كذا وكذا، وباقى ذلك فى ذمّته على حكم الحلول» - وولى تزويجها إيّاه بذلك والدها المذكور- ويحلّى «3» فى هذا الموضع إن كان ممّن لا يعرف-(9/115)
بحقّ ولايته عليها شرعا، وبإذنها له فى ذلك ورضاها، بشهادة من يعيّنه فى رسم شهادته، أو على ما ذكر- وإن كانت دون البلوغ كتب: «بحقّ ولايته عليها شرعا، لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النّظر» - بعد أن وضح للقاضى فلان عاقد الأنكحة بالمكان الفلانىّ بالتولية الشرعيّة عن القاضى فلان أن الزوجة المذكورة بكر بالغ، خالية من موانع النّكاح الشرعيّة، وأنّها ممّن يجوز العقد عليها شرعا، وأنّ أباها المذكور مستحقّ الولاية عليها شرعا بشهادة جماعة «1» من المسلمين وهم فلان وفلان؛ فتقدّم «2» حينئذ بكتابته، وزوّجها والدها المذكور من الزوج المذكور على الصّداق المعيّن، وقبله الزوج لنفسه ورضيه؛ والله تعالى مع المتّقين؛ ويؤرّخ.
وان اعترف الأب برشدها
كتب: واعترف والد الزوجة المذكورة بأنّ ابنته رشيدة، جائزة التصرّف، لا حجر عليها.
وان كان العقد لم يحضره كاشف «3» حاكم
كتب إلى «4» عند «و «5» بإذنها له فى ذلك ورضاها» وباشر والدها المذكور عقد النكاح بنفسه، وزوّجها من خاطبها المصدق على الصداق المذكور، وقبله الزوج لنفسه؛ ويؤرّخ.(9/116)
وان زوّجها العاقد بإذنها وإذن أبيها، أو بإذنها خاصّة إذا لم يكن لها ولىّ
كتب: وولى تزويجها إيّاه بذلك القاضى فلان عاقد الأنكحة الشرعيّة بالتولية الشرعيّة عن فلان «1» ، بإذنها وإذن والدها له فى ذلك ورضاهما، بعد أن وضح عند فلان العاقد أنّها بكر بالغ، كما تقدّم.
وإن كان الزوج ممّن مسّه الرّقّ وعتق
كتب: وعلمت الزوجة المذكورة ووالدها أنّ الزوج المذكور مسّه الرقّ وعتق، ورضيا بذلك.
وإن كانت الزوجة بكرا وزوّجها من له الولاية عليها شرعا، كالأب أو الجدّ الأعلى،
أو الأخ، أو ابن الأخ، أو العمّ، أو ابن العمّ، أو المعتق، أو ابنه أو وليّه، كتب: وولى نزويجها بذلك فلان- ويذكر نسبته منها «2» - بحقّ ولايته [عليها] شرعا، وبإذنها له فى ذلك ورضاها.
وإن كانوا جماعة إخوة كتب اسم أمثلهم «3» ، بإذنها له، وإذن بقيّة إخوتها الأشقاء- وهم فلان وفلان- له، وإذنها لإخوتها فى هذا الإذن.
وإن زوّجها الحاكم بإذنها وإذن أوليائها أو أحدهم ذكر «4» ، بشهادة من يعيّنه فى رسم شهادته آخره.
وان كانت الزوجة ثيّبا
كتب كما تقدّم، ويكتب: بعد أن حضر الى العاقد المذكور من عرّفها عنده، وهما فلان وفلان، شهدا «5» أنّهما يعرفان هذه الزوجة معرفة(9/117)
شرعيّة، وأنّها خالية من جميع موانع النكاح الشرعيّة، ومنذ طلّقها زوجها فلان الذى دخل بها وأصابها، الطلقة الأولى الخلع «1» ، أو الثانية، أو الثلاث، أو الرجعيّة التى انقضت عدّتها ولم يراجعها، المسطّرة على ظهر صداقها أو حاشيته، المؤرّخة بكذا وكذا، لم تتّصل بزوج غيره الى يوم تاريخه.
وإن طلّقها قبل الدخول والاصابة كتب ونبّه عليه.
وان كان زوجها توفّى عنها
كتب: ومنذ توفّى عنها زوجها فلان من مدّة تزيد على أربعة أشهر وعشرة أيام لم تتّصل بعده بزوج إلى الآن.
وان طلقها ومات عنها وهى حامل ووضعت
كتب: وإنّ زوجها [طلّقها، و «2» ] توفّى عنها، وهى مشتملة منه على حمل، ووضعته، وانقضت عدّتها بحكم وضعها.
وان كان عن فسخ
«3» كتب: ومنذ فسخ الحاكم فلان نكاحها من زوجها فلان فى التاريخ الفلانىّ [و] انقضت «4» عدّتها، لم تتّصل بزوج إلى يوم تاريخه.(9/118)
وإن راجع رجل امرأته من طلقة أو طلقتين
كتب: هذا ما أصدق فلان مطلّقته الطلقة الأولى الخلع، أو الثانية، المؤرّخة قرينته «1» أو باطنه، أو المكتتبة فى براءة محرّرة تاريخها كذا وكذا.
وان زوّجها الحاكم عند غيبة وليّها
نبّه عليها «2» بأن يكتب: وولى تزويجها إيّاه فلان «3» ، بعد أن وضح عنده بشهادة فلان وفلان خلوّها من الموانع الشرعيّة؛ وأنّه لا ولىّ لها حاضر سوى الحاكم العزيز، بحكم غيبة وليّها فلان- ويعيّن نسبته «4» منها- فى مسافة تقصر فيها الصلاة، وأنّ هذا الزوج كفء لها الكفاءة الشرعيّة فى الدّين والنّسب والحرّيّة؛ فحينئذ زوّجها الحاكم المذكور من الزوج المذكور على الصداق المعيّن، وقبله الزوج لنفسه ورضيه؛ ويؤرّخ.
وان زوّج الحاكم امرأة عضلها «5» وليّها وقد دعيت الى كفء
كتب: وولى تزويجها إيّاه بذلك القاضى فلان، بإذنها له فى ذلك ورضاها وبحكم أنّ والدها المذكور حضر إلى القاضى فلان، وسألته ابنته المذكورة أن يزوّجها من الزوج المذكور لمّا ثبتت كفاءته عند الحاكم، فامتنع، فوعظه القاضى فلان وأعلمه بماله من الأجر فى تزويجها، وما عليه من الإثم فى المنع، فلم يرجع إلى عظته وأصرّ على الامتناع، وعضلها «6» العضل الشرعىّ؛ وقال بمحضر من شهوده: «عضلتها «7» فلا أزوّجها» ؛ وبعد أن حضر إلى الحاكم المذكور كلّ واحد من فلان وفلان(9/119)
وشهدا عنده أنّ الزوجة المذكورة خالية من جميع موانع النكاح الشرعيّة، وأنّ أباها المذكور عضلها العضل الشرعىّ، وأنّ هذا كفء لها الكفاءة الشرعيّة فى النّسب والدّين والصناعة «1» والحرّيّة؛ فلمّا وضح له ذلك من أمرها أذن بكتبه فكتب وزوّجها من الزوج المذكور على الصداق المعيّن، وقبله الزوج لنفسه ورضيه.
فصل إذا زوّج الصغير أو المراهق للصغيرة [أو «2» ] المعصرة
«3» كتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان عن ولده لصلبه فلان- ويذكر سنّه- الذى تحت حجره وكفالته وولاية نظره، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة فى دينه ودنياه فلانة البكر- ويعيّن سنّها- ابنة فلان التى تحت حجر والدها المذكور وكفالته وولاية نظره، لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة، صداقا مبلغه كذا وكذا عجّل لها من ذلك من ماله عن ولده المذكور كذا وكذا، قبضه منه والدها لابنته المذكورة ليصرفه فى مصالحها- وإن كان من مال ولده [كتب «4» : «من مال ولده المذكور] الذى تحت يده وحوطه «5» » - وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به(9/120)
الولىّ من ماله عن ولده، فى سلخ كلّ سنة من استقبال العقد بينهما كذا وكذا؛ أو من «1» مال ولده المذكور الذى تحت يده وحوزه؛ وولى تزويجها إيّاه بذلك والدها المذكور، بحقّ ولايته عليها شرعا، بعد أن وضح للقاضى فلان أنّها بكر معصر «2» لم يعقد عليها عقد إلى يوم تاريخه؛ أو يكتب: «خالية من جميع موانع النكاح الشرعيّة» ؛ وأنّ أباها مستحقّ الولاية عليها شرعا، بشهادة فلان وفلان؛ فلمّا وضح ذلك عنده أذن بكتبه فكتب، وزوّجها والدها من الزوج المذكور على الصداق المعيّن، وقبله والد الزوج لولده قبولا شرعيّا.
وإن كان من مال الصغير كتب فى آخر الكتاب: «وشهدت البيّنة أنّ المهر المذكور مهر مثلها على مثله «3» ، لا حيف فى ذلك ولا شطط» ويؤرّخ.
فصل فى صداق المحجور عليه من قبل الحاكم
يكتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان المحجور عليه من قبل الحكم العزيز عند ما دعت حاجته إلى النكاح، وتاقت نفسه إليه، وذكر ذلك للقاضى فلان أمين الحكم بمحضر من شهوده، وسأله الإذن له فى ذلك، فأذن له فيه بالصداق الآتى ذكره الإذن الصحيح الشرعىّ، فلانة «4» بنة فلان، وتزوّجها به «5» ؛ أصدقها على بركة الله تعالى صداقا مبلغه كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا، قبضته الزوجة المذكورة(9/121)
من القاضى فلان أمين الحكم العزيز، من مال هذا الزوج الذى له تحت يده وصار بيدها وقبضها وحوزها، وباقى الصداق- وهو كذا وكذا- مقسّط فى سلخ كلّ سنة كذا وكذا، وولى تزويجها إيّاه بذلك ... ويكمّل؛ ويكتب فى آخره:
وشهدت البيّنة أنّ الصداق المذكور مهر مثلها «1» على مثله.
وإن تزوّج رجل امرأة محجورا عليها كتب فى القبض: «بيد الوصىّ أو أمين الحكم، ليصرفه فى مصالحها» . ويكتب فى آخره: «وشهدت البيّنة أنّ هذا المهر مهر المثل» .
فصل اذا أصدق رجل عن موكّله
كتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان عن موكّله فلان بإذنه له فى ذلك وتوكيله- ويشرح الوكالة إن كانت مفوّضة أو مقيّدة على الزوجة بعينها- يشهد بذلك على الموكّل من يعيّنه فى رسم شهادته من شهود هذا العقد، فلانة البكر البالغ؛ أو المرأة الكاملة؛ ويكمّل. ويكتب فى القبول: «وقبل هذا الوكيل المذكور عقد هذا النكاح لموكّله فلان على الصداق المعيّن قبولا شرعيّا» ويؤرّخ.
فصل اذا تزوّج الحرّ أمة
كتب: هذا ما أصدق فلان فلانة مملوكة فلان المقرّة لسيّدها بالرقّ والعبوديّة، عند ما خشى على نفسه العنت «2» ، وخاف الوقوع فى المحظور لعدم الطّول، وأنّه ليس فى عصمته زوجة، ولا يقدر على صداق حرّة على ما شهد له به من يعيّنه فى رسم شهادته، صداقا تزوّجها به، مبلغه كذا وكذا(9/122)
وولى تزويجها إيّاه بذلك سيّدها المذكور بحقّ ولايته عليها شرعا- ولا يفتقر إلى إذنها- ويكمّل الصداق. ويكتب: «وشهدت البيّنة أنّ الزوج المذكور فقير ليس له موجود ظاهر، ولا مال باطن، ولا له قدرة على نكاح حرّة، ولا فى عصمته زوجة، وأنّه عادم للطّول» .
وان تزوّج العبد حرّة
كتب: هذا ما أصدق فلان مملوك فلان، المقرّ لسيّده بالرقّ والعبوديّة، بسؤال منه لسيّده، وإذن سيّده له فى ذلك الإذن الصحيح الشرعىّ، وشهد عليه بذلك شهود هذا الكتاب، فلانة بنة فلان، صداقا تزوّجها به، جملته كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا، قبضته الزوجة من مال سيّده الذى بيده بإذن سيّده له فى ذلك، وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به سيّده لها عن عبده من ماله، فى سلخ كلّ سنة تمضى من تاريخ العقد كذا وكذا- وان كان من مال العبد من كسبه ذكره- وأذن له سيّده فى السعى والتكسّب والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وولى تزويجها ... ويكمّل.
ويكتب فى آخره: «وعلمت الزوجة المذكورة أنّ الزوج مملوك، ورضيت بذلك» . وان كان لهما أولياء كتب رضاهم.
فصل وان زوّج السيّد جاريته لعبده
كتب ما مثاله: هذا كتاب تزويج اكتتبه فلان لعبده فلان من أمته «1» فلانة، المقرّ له كلّ منهما بالرقّ والعبوديّة، وهو أنّه أشهد على نفسه أنّه زوّج عبده المذكور لأمته المذكورة تزويجا صحيحا شرعيّا بسؤال كلّ منهما لسيّده المذكور فى ذلك، وقبل الزوج المذكور من سيّده عقد(9/123)
هذا النكاح لنفسه قبولا شرعيّا. ولا يعيّن الصداق؛ ولا اعتبار بإذنها؛ وإن كشفه «1» عاقد كتب كما تقدّم «2» .
فصل وان تزوّج رجل أخرس بامرأة ناطقة
كتب: هذا ما أصدق فلان الأخرس اللّسان، الأصمّ الاذان «3» ، العاقل، الذى يفهم ما يجب عليه شرعا، كلّ ذلك بالإشارة المفهومة عنه، يعلمها منه شهوده، ولا ينكرها منه من يعلمها عنه فلانة بنة فلان، ويكمّل على ما تقدّم.
ويكتب عند القبول: «وقبل الزوج لنفسه هذا العقد بالإشارة المفهومة عنه» .
وان كانا أخرسين
كتب: هذا ما أصدق فلان فلانة، وكلّ منهما أخرس لا ينطق بلسانه، أصمّ لا يسمع بآذانه «4» ، صحيح العقل والبصر، عالم بما يجب عليه شرعا، كلّ ذلك بالإشارة المفهومة عنه، يفهمها من كلّ منهما شهود هذا العقد صداقا تزوّجها به؛ ويكمّل كما تقدّم.
وان كان الزوج مجبوبا كتب فى آخر الكتاب: «وعلمت الزوجة أنّ الزوج مجبوب، لا قدرة له على النكاح، ورضيت به» .
وأمّا إقرار الزوجين بالزوجيّة واعتراف الزوج بمبلغ الصداق وما يتصل بذلك من فرض الزوجة والإشهاد عليها بقبض الكسوة(9/124)
فيحتاج فى إقرار الزوجين بالزوجيّة الى تسطير محضر بأنّهما زوجان متناكحان ويشهد فيه جماعة من المسلمين الذين يعلمون ذلك، ثم يكتب كتاب الإقرار وصورته: أقرّ فلان وفلانة بأنّهما زوجان متناكحان بنكاح صحيح شرعىّ، وأنّ الزوج منهما دخل بالزوجة وأصابها، وأولدها «1» على فراشه ولدا ذكرا يسمّى فلانا- إن كان- وأنّ الزوجة المذكورة لم تبن من الزوج المذكور بطلاق بائن ولا رجعىّ «2» ولا فسخ ولا غيره؛ ومنذ تزوّجها إلى الآن أحكام الزوجيّة قائمة بينهما، وتصادقا على ذلك، واعترف الزوج بأنّ فى ذمّته مبلغ صداقها عليه الذى عدم «3» ، وهو كذا وكذا.
وإن «4» كشفه عاقد كتب: وذلك بعد أن وضح للعاقد فلان بشهادة فلان وفلان مضمون ما أقرّا به فيه؛ فحينئذ أذن فى كتبه؛ ويؤرّخ.
فصل فى فرض زوجة
إن فرض الرجل على نفسه كتب: فرض قرّره على نفسه فلان لزوجته فلانة التى دخل بها وأصابها، واستولدها على فراشه- إن كان ذلك- لما تحتاج إليه من طعام وإدام وماء وزيت وصابون حمّام «5» ، فى غرّة كلّ يوم كذا وكذا حسب ما اتّفقا على ذلك وتراضيا عليه، وذلك خارج عمّا يوجبه الشرع الشريف لها.(9/125)
وإن قرّره حاكم كتب: هذا ما أشهد على نفسه القاضى فلان أنّه فرض على فلان لزوجته فلانة لما تحتاج إليه من نفقة ومؤونة وماء وزيت وصابون حمّام فى كلّ يوم كذا وكذا، وذلك خارج عمّا يلزمه لها من اللوازم الشرعيّة غير ذلك؛ قرّر ذلك الحاكم عليه، وأوجبه فى ماله، ورضيت الزوجة به.
فصل وإن قبضت المرأة كسوتها
كتب: أقرّت فلانة بأنّها قبضت وتسلّمت من زوجها فلان كسوتها الواجبة عليه شرعا، وهى ثوب وسراويل ومقنعة «1» ، وذلك عن فصل واحد، أوّله يوم تاريخه، وصار ذلك بيدها وقبضها وحوزها. وكذلك إن قبضت كسوة ولدها الطفل.
وأما الطلاق وما يتصل به من الفروض الواجبة
- فإذا طلّق الرجل زوجته قبل الدخول كتب: طلّق الزوج المسمّى باطنه فلان زوجته المسمّاة باطنه فلانة قبل الدخول بها والإصابة، طلقة واحدة بانت منه بذلك، بحكم أنّه لم يدخل بها ولم يصبها، وبحكم ذلك تشطّر الصداق المعقود عليه باطنه نصفين سقط عنه النصف، وبقى النصف الثانى.
فإن طلّق الزوج الزوجة قبل الدخول بها على ما يتشطّر لها من الصداق
كتب ما مثاله: سألت الزوجة المسمّاة «2» باطنه فلانة زوجها فلانا(9/126)
الذى لم يدخل بها ولم يصبها- وتصادقا على ذلك- أن يخلعها من عصمته وعقد نكاحه على ما يتشطّر «1» من الصداق باطنه، أو على ما يتّفقان عليه، فأجابها إلى سؤالها وقبل منها العوض المذكور، وطلّقها عليه الطلقة المسئولة، بانت منه بذلك وملكت نفسها عليه، وبحكم ذلك تشطّر «2» الصداق المعقود عليه باطنه نصفين سقط عنه النصف، وبرئت ذمّته من النصف الثانى بحكم هذا.
وإن سأل الأب «3» أو غيره الزوج أن يطلّق زوجته على نظير ما بذله له فى ذمّته «4» ، ثم أحال المطلّق مطلّقته بذلك
كتب: سأل فلان فلانا- وهو الزوج المسمّى باطنه- أن يخلع زوجته فلانة المسمّاة باطنه التى لم يدخل بها ولم يصبها؛ أو التى دخل بها وأصابها، بطلقة واحدة: أولى أو ثانية، أو ثالثة، على «5» ما بذله فى ذمّته، وهو كذا وكذا، من ذلك ما هو حالّ كذا وكذا، وما هو مؤجّل كذا وكذا؛ فأجابه الى سؤاله، وقبل منه العوض المذكور وطلّق زوجته طلقة واحدة أولى خلعا «6» بانت بها منه، وملكت نفسها عليه، وبحكم هذا الطلاق تشطّر «7» الصداق المذكور نصفين، سقط عنه النصف، وبقى فى ذمّته النصف الثانى، وأقرّ المطلّق بأنّه قبض من السائل مبلغ الحالّ الذى اختلع له به(9/127)
واعترف أيضا بأنّه قبض نصف المعجّل باطنه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ ثم بعد تمام ذلك ولزومه أحال المطلّق المذكور مطلّقته المذكورة على أبيها بالمبلغ المؤجّل وهو نظير نصف مؤخّر الصداق المعيّن باطنه فى قدره وجنسه وصفته واستحقاقه حوالة شرعيّة، قبلها منه لها والدها، بحكم أنّها تحت حجره وولاية نظره، قبولا شرعيّا، وبحكم ذلك وجبت لها مطالبة أبيها.
فإن طلّق طلقة رجعيّة بعد الدخول
كتب: طلّق الزوج المسمّى باطنه فلان زوجته المسمّاة باطنه فلانة، التى دخل بها وأصابها، طلقة واحدة أو ثانية رجعيّة، يملك بها رجعتها ما لم تنقض عدّتها، فاذا انقضت فلا سبيل له عليها ولا رجعة إلّا بأمرها ورضاها وعقد جديد لها عليه، على ما يوجبه الشرع الشريف.
وإن استرجعها «1» منها
«2» كتب: ثمّ بعد ذلك استرجع «3» المطلّق المذكور مطلّقته؛ أو أقرّ بأنه استرجع «4» مطلّقته من الطلقة الأولى، أو الثانية، استرجاعا «5» شرعيّا، وردّها، وأمسكها، وصار حكمها حكم الزوجات؛ ويؤرّخ.
فإن طلّقها ثلاثا
كتب: طلّق فلان زوجته فلانة التى دخل بها وأصابها طلاقا ثلاثا، حرمت عليه بذلك، (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) .
فإن اختلعت المرأة من «6» زوجها على أن يطلّقها
كتب: سألت فلانة زوجها فلانا الذى دخل بها وأصابها أن يخلعها من عصمته وعقد نكاحه على(9/128)
مؤخّر صداقها عليه، الشاهد به كتابه «1» المتعذّر حضوره، وهو كذا وكذا، فأجابها الى سؤالها، وقبل منها العوض المذكور، وطلّقها عليه طلقة واحدة أولى خلعا، أو ثانية خلعا، أو ثالثة، بانت منه بذلك، وملكت نفسها عليه، وأقرّت بأنّها لا تستحقّ عليه صداقا، ولا بقيّة من صداق، ولا نفقة ولا كسوة ولا حقّا من حقوق الزوجيّة كلّها.
والعبد لا يملك إلّا طلقتين. وإذا طلّق المجبوب لا يكتب فى طلاقه إصابة.
وإن وكّل رجلا أن يطلّق عنه
كتب: سألت فلانة فلان بن فلان الوكيل عن زوجها فلان، القائم عنه فى طلاقها بالوكالة التى جعل له فيها أن يطلّق عنه زوجته المذكورة طلقة واحدة أولى خلعا على مؤخّر صداقها عليه، وهو كذا وكذا، المشروح ذلك فى الوكالة المؤرّخة بكذا وكذا، أن يطلّقها عن موكّله فلان المذكور بطلقة واحدة أولى خلعا على جميع مؤخّر صداقها، وهو كذا وكذا؛ فأجابها الى سؤالها، وقبل منها العوض المذكور، وطلّقها عن موكّله طلقة واحدة أولى خلعا، بانت منه بها، وملكت نفسها عليه، فلا تحلّ له إلّا بعد عقد جديد وأقرّت بأنّها لا تستحقّ عليه صداقا، كما تقدّم.
فصل فى فرض امرأة مطلّقة ظهرت حاملا
يكتب ما مثاله: فرض قرّره على نفسه فلان لمطلّقته [الطلقة «2» ] الأولى أو الثانية، أو الثلاث، فلانة المرأة الكاملة، المشتملة منه على حمل، وتصادقا على(9/129)
ذلك، عوضا عما تحتاج اليه من طعام وإدام وماء، فى كلّ يوم من الأيّام كذا وكذا قسط كلّ يوم فى أوّله من استقبال تاريخه، حسب ما اتّفقا على ذلك وتراضيا عليه وذلك خارج عمّا يوجبه الشرع الشريف لها، وأذن لها أن تقترض على ذمّته بقدر ما قرّر لها عند تعذّر وصول ذلك اليها، وتنفقه عليها، وترجع به عليه، إذنا شرعيّا قبلته منه.
فإن قرّر على نفسه لولده
كتب: فرض قرّره على نفسه فلان لولده الطفل، الذى فى كفالة والدته مطلّقته فلانة، لما يحتاج اليه من طعام وادام وماء وزيت وصابون حمّام، فى كلّ يوم من الأيّام كذا وكذا من استقبال تاريخه، حسب ما اتّفقا وتراضيا عليه، وذلك خارج عمّا يوجبه الشرع الشريف، وأذن لها أن تقترض على ذمّته، وتنفق على ولدها، وترجع به عليه، إذنا شرعيّا.
فان قرّر لوالده أو والدته
كتب ما مثاله: فرض قرّره على نفسه فلان لوالدته «1» فلانة، بحكم عجزها وفقرها وحاجتها، لما تحتاج اليه من طعام وإدام وزيت وصابون، فى كلّ يوم كذا وكذا؛ ويكمّل.
فصل إذا قرّر القاضى للمحجور عليه من ماله له ولزوجته
كتب: هذا ما أشهد على نفسه القاضى فلان الفارض أنّه قرّر لفلان المحجور عليه بيد الحكم العزيز ولزوجته فيما له من أجرة العقار المنسوب إليه، الّذى تحت نظر الحكم العزيز، لما يحتاجان إليه من طعام وإدام وماء وزيت، فى كلّ يوم كذا وكذا من استقبال تاريخه، قسط كلّ(9/130)
يوم فى أوّله، وقرّر له ولزوجته وللخادم عوضا عن كسوتهم لفصل الصيف كذا وكذا ولفصل الشتاء كذا وكذا؛ وبذلك شهد عليه؛ ويؤرّخ.
وأما تعليق الطلاق وفسخ النكاح
- فإذا علّق الزوج طلاق زوجته على سفره، أو أنّه يسافر «1» بها، كتب على ظهر كتابه ما مثاله: قال الزوج المسمّى باطنه فلان لزوجته فلانة، التى دخل بها وأصابها: «متى سافرت عنك من البلد الفلانىّ، واستمرّت غيبتى عنك شهرا واحدا ابتداؤه من حين سفرى، أو متى سفّرتك إلى بلد من البلاد بنفسى أو وكيلى، أو متى تسرّيت عليك بأمة فأنت طالق ثلاثا» ؛ تلفّظ بذلك عند شهوده؛ ويؤرّخ.
فصل إذا سافر الزوج عن زوجته وتركها بغير نفقة ولا كسوة، وأرادت فسخ نكاحها منه
، كتب محضر بالغيبة، مثاله: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخر هذا المحضر- وهم من أهل الخبرة الباطنة «2» فيما شهدوا به فيه «3» - أنّهم يعرفون كلّ واحد من فلان وفلانة معرفة صحيحة شرعيّة، ويشهدون أنّهما زوجان متناكحان بنكاح صحيح شرعىّ دخل الزوج منهما بالزوجة، وأولدها «4» على فراشه ولدا ذكرا، أو أولادا- إن كان ذلك؛ وان كان لم يدخل بها كتب: «وانّ الزوج لم يدخل بها، ولم يصبها، وأنّها(9/131)
عرضت نفسها عليه ليدخل بها فامتنع من ذلك، وأخّره الى وقت آخر» - وأنّه سافر عنها بعد ذلك من البلد الفلانىّ، وتوجّه الى البلاد الفلانيّة، من مدّة تزيد على أشهر سنة تتقدّم على تاريخه، وهى مطاوعة له؛ وأنّه تركها معوزة عاجزة عن الوصول إلى ما يجب لها عليه، من النفقة والكسوة واللّوازم الشرعيّة، بحكم أنّه ليس له موجود حاضر، ولا مال متعيّن، وقد تضرّرت «1» بسبب غيبته عنها، وتعذّر وصول ما يجب لها عليه شرعا من جهته ومن جهة أحد بسببه «2» ، وأنّها لم تجد من يقرضها على ذمّته، ولا من يتبرّع بالإنفاق عليها عنه، وأنّه مستمرّ الغيبة عنها الى الآن، وأنّها مستمرّة على الطاعة له؛ يعلمون ذلك ويشهدون به بسؤال من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ.
فاذا وضع الشهود رسم شهادتهم، وأدّوا «3» عند الحاكم،
كتب على ظهره الحلف بعد حلفها «4» ، وصورته: أحلفت المشهود لها باطنه فلانة بالله العظيم الذى لا إله إلّا هو، اليمين الشرعيّة المستوفاة، الجامعة لمعانى الحلف، المعتبرة شرعا، أنّ الزوج المذكور معها باطنه فلانا سافر عنها من البلد الفلانىّ، متوجّها إلى البلد الفلانىّ من مدّة تزيد على سنة كاملة تتقدّم على تاريخه، وهى مطاوعة له، وانّه تركها معوزة عاجزة عن الوصول إلى ما يجب لها عليه، من النفقة والكسوة واللّوازم الشرعيّة، بحكم أنّه ليس له موجود- ويصف كلّ ما فى المحضر الى عند «5» «وأنّها(9/132)
مستمرّة على الطاعة له» - وأنّ من شهد لها باطنه صادق فيما شهد لها به؛ فحلفت كما أحلفت، بالتماسها لذلك على الأوضاع الشرعيّة، وبحضور من يعتبر حضوره شرعا، بعد تقدّم الدّعوى وما ترتّب عليها؛ ويؤرّخ.
ثمّ يكتب الإسجال قرين الحلف أو تحته، وهو: هذا ما أشهد على نفسه الكريمة سيّدنا العبد الفقير الى الله تعالى فلان الحاكم، من حضر مجلسه من العدول الواضعى خطوطهم آخره، أنّه ثبت عنده وصحّ لديه فى اليوم الفلانىّ، بعد دعوى محرّرة مقابلة بالإنكار على الوجه الشرعىّ، بشهادة «1» من أعلم تحت رسم شهادته باطنه وزكّى لديه التزكية الشرعيّة على الوجه المعتبر الشرعىّ، مضمون «2» المحضر المسطّر باطنه «على ما نصّ «3» وشرح فيه بكذا وكذا» ثبوتا صحيحا شرعيّا؛ وقد أقام كلّ من الشهود به «4» شهادته عنده بذلك، وأعلم تحت رسم شهادة كلّ منهم ما جرت به العادة، وأحلفت الزوجة المذكورة الحلف المشروح فيه؛ فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه وعظها، وأعلمها بمالها من الأجر فى الصبر على البقاء فى عصمة زوجها المذكور، فأبت الصبر، وذكرت أنّ ضرورتها تمنعها من ذلك، وسألت الحاكم المذكور الإذن لها فى فسخ نكاحها من زوجها المذكور؛ فحين زالت الأعذار من إجابتها «5» أذن لها الحاكم المذكور فى فسخ نكاحها من زوجها المذكور؛ وأشهدت(9/133)
على نفسها شهود هذا الإسجال أنّها فسخت نكاحها من زوجها المذكور، واختارت فراقه- وإن كان الحاكم هو الفاسخ كتب: «فحينئذ سألت برّ «1» الحاكم فسخ نكاحها من زوجها المذكور، وأصرّت على ذلك؛ فحين زالت الأعذار من إجابتها قدّم خيرة الله تعالى، وأجابها الى ما التمسته، وفسخ نكاحها من زوجها المذكور الفسخ الصحيح الشرعىّ، وفرّق بينهما» - فلمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جازت مسألته وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته، التقدّم بكتابة هذا الإسجال، والإشهاد عليه بذلك، فأجابه الى سؤاله، وتقدّم بكتابته «2» ، فكتب عن إذنه، وأشهد على نفسه بذلك فى مجلس حكمه وقضائه- وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما- وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته ان كانت، وذلك بعد تقدّم الدعوى الموصوفة وما ترتّب عليها. ويشهد على الزوجة أيضا بما نسب اليها.
وأما نفى ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة
- فإنّه اذا أراد السيّد نفى ولد جاريته بعد الوطء والاستبراء على قول من قال «3» به كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنّه كان قبل تاريخه وطئ مملوكته فلانة- ويذكر جنسها- المسلمة المقرّة له بالرقّ والعبوديّة، ثم استبرأها بعد الوطء استبراء صحيحا شرعيّا، وأنّه لم يطأها بعد(9/134)
الاستبراء، وأنّها بعد ذلك أتت بولد، وسمّته فلانا، وأنّه الان فى قيد الحياة، وأنّ هذا الولد ليس منه ولا من صلبه، ولا نسب بينه وبينه؛ وحلف على ذلك بالله العظيم اليمين الشرعيّة، وأشهد عليه بحضورها بتاريخ كذا وكذا.
وان أقرّ بأنّه استولد جاريته
كتب: أقرّ فلان بأنّه كان قبل تاريخه وطئ مملوكته التى بيده وملكه، المقرّة له بالرقّ والعبوديّة، المدعوة فلانة، الفلانيّة الجنس؛ الوطء الصحيح الشرعىّ، فى حال مملكته «1» لها على فراشه، واستولدها عليه ولدا ذكرا يسمّى فلانا، الطفل يومئذ، وهو الآن فى قيد الحياة، وأنّه من صلبه ونسله، ونسبه [لاحق «2» ] بنسبه، وصدّقته على ذلك.
واما الوكالات
- فاذا وكّل رجل رجلا وكالة مطلقة كتب: وكّل فلان فلانا فى المطالبة بحقوقه كلّها، وديونه بأسرها، من غرمائه وخصومه قبل من كانت وحيث تكون، والمحاكمة بسببها عند القضاة والحكّام وخلفائهم وولاة أمور الإسلام، والدّعوى على غرمائه وخصومه، واستماع الدّعوى عليه وردّ الأجوبة عنها بما يسوغ شرعا، والحبس «3» والإطلاق والترسيم «4» والملازمة(9/135)
والإفراج، وأخذ الكفلاء والضّمناء بالوجه «1» والمال، وقبول الحوالات على الأملئاء «2» وإثبات حججه ومساطيره، وإقامة بيّناته، وقبض كلّ حقّ متوجّه له قبضه بكلّ طريق شرعىّ، والإشهاد على الحكّام والقضاة بما يثبت له شرعا، وطلب الحكم من الحكّام، وفى إيجار ما يجرى فى ملكه من العقار الكامل «3» والمشاع «4» لمن يرغب فى استئجاره بما يراه من الأجر: حالّها ومنجّمها ومؤجّلها ومعجّلها، لما يراه من المدد: قليلها وكثيرها، وقبض الأجرة، واكتتاب ما يجب اكتتابه فى ذلك، وتسليم ما يؤجره- ومهما وكّله فيه كتبه وعيّنه بما يليق تعيينه «5» -؛ وكّله فى ذلك كلّه وكالة شرعيّة قبلها منه قبولا شرعيّا، وأذن له أن يوكّل عنه فى ذلك كلّه وفيما شاء منه من شاء، ويعزله متى شاء، ويعيده متى أراد.
فإن وكّله وأراد ألّا يعزله
كتب فى ذيل الوكالة: ثمّ بعد تمام ذلك ولزومه قال الموكّل لوكيله: «متى عزلتك فأنت وكيل متصرّف لا منصرف» .
فاذا أراد عزله
كتب على ظهر الوكالة: قال الموكّل لوكيله: «متى عدت وكيلى فأنت معزول» ؛ وبحكم ذلك العزل بطل تصرّفه فى الوكالة المشروحة باطنه؛ ويؤرّخ.(9/136)
واذا وكّل ذمّىّ مسلما قدّم اسم الوكيل،
فيكتب: هذا كتاب وكالة اكتتبه لفلان فلان الذّمّىّ، وأشهد على نفسه أنّه وكّله فى كيت وكيت؛ ويكمّل كما تقدّم.
وأما المحاضر على اختلافها
فسنذكرها، اذا أراد أمين الحكم أن يبيع على يتيم للحاجة كتب محضرا بالقيمة، مثاله: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخره- وهم من أهل الخبرة بالعقار وتقويمه- أنهم ساروا بإذن شرعىّ الى حيث الدّار الكاملة الآتى ذكرها ووصفها وتحديدها فيه، المقوّمة بكمالها، أو المقوّم منها حصّة مبلغها كذا وكذا سهما، ملك فلان المحجور عليه، لتباع عليه فى نفقته ومؤونته ولوازمه الشرعيّة، وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وتأمّلوا ذلك بالنظر، وأحاطوا به علما وخبرة، وقوّموا الحصّة المذكورة بما مبلغه كذا وكذا وقالوا: «إنّ ذلك قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «1» ولا فرط «2» وإنّ الحظّ والمصلحة فى البيع بذلك» .
فإن كان بالغبطة على القيمة
«3» كتب كما تقدّم الى قوله: «لتباع عليه» لما له فى ذلك من الحظّ والمصلحة والغبطة «4» الزائدة على قيمة المثل، وهى الدّار [التى] «5» بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وتأمّلوا ذلك بالنظر، وأحاطوا به(9/137)
علما وخبرة، وقوّموا الحصّة بكذا وكذا درهما، وقالوا: «إنّ ذلك قيمة المثل- نحو ما تقدّم- وإنّ الحظّ والمصلحة والغبطة فى بيع الحصّة المذكورة بزيادة كذا وكذا» ؛ وبذلك وضعوا خطوطهم؛ ويؤرّخ.
فان قوّمت لتباع فيما ثبت على المتوفّى من صداق زوجته، أو من دين
، كتب أوّل المحضر كما تقدّم، وقيل: المنسوبة لفلان المتوفّى الى رحمة الله تعالى، لتباع عليه فيما ثبت فى ذمّته من صداق زوجته فلانة، الثبوت الصحيح الشرعىّ؛ أو فيما ثبت عليه من دين شرعىّ لفلان، حسب ما يشهد بذلك مسطوره الذى بيده، الذى ثبت بمجلس الحكم العزيز؛ ويكمّل كما تقدّم.
فصل فى محضر وفاة وحصر ورثة
يكتب: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخر هذا المحضر- وهم من أهل الخبرة الباطنة فيما شهدوا به- أنّهم يعرفون فلان بن فلان، وورثته الاتى ذكرهم فيه، معرفة صحيحة شرعيّة؛ ويشهدون أنّه توفّى الى رحمة الله تعالى بالبلد الفلانىّ من مدّة كذا وكذا، وخلّف من الورثة المستحقّين لميراثه المستوعبين لجميعه زوجته فلانة التى لم تزل فى عصمته وعقد نكاحه الى حين وفاته، وأولاده منها أو من غيرها- ويذكر أبويه إن كانا أو أحدهما- بغير شريك لهم فى ميراثه، ولا حاجب يحجبهم عنه بوجه ولا سبب؛ يعلمون ذلك ويشهدون «1» به بسؤال من جازت مسألته وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ.(9/138)
فصل اذا مات رجل وخلّف أبوين وأخوين
كتب ما مثاله: شهد الشهود أنهم يعرفون فلانا ووالديه الآتى ذكرهما فيه، ويشهدون بالخبرة الباطنة أنّه خلّف وارثيه: والده فلانا، ووالدته فلانة، بغير شريك لهما فى ميراثه، ولا حاجب يحجبهما حجب حرمان عن استكماله؛ ويشهدون أنّ المتوفّى له أخوان، وهما فلان وفلان؛ وبحكم ذلك يكون للأب من ميراثه النصف والثلث، وللأمّ السدس، بحكم أنّ الأخوين حجباها عن الثلث الى السدس حجب تنقيص «1» للفريضة «2» الشرعيّة، لا حجب حرمان؛ يعلمون ذلك ويشهدون به.
وان مات رجل فى بلد بعيدة واستفاض موته وشهد به بالاستفاضة
كتب كما تقدّم «3» ، [و «4» ] : أنّهم يعرفون فلانا، ويشهدون بالاستفاضة الشرعيّة بالشائع الذائع، والنقل الصحيح المتواتر، أنّه مات الى رحمة الله تعالى من مدّة كذا وكذا بالمدينة الفلانيّة؛ ويشهدون أنّه خلّف من الورثة ... ويكمّل.(9/139)
فصل إذا مات قوم بعد قوم
يكتب: ... «1» أنّهم يعرفون فلان بن فلان وورثته الآتى ذكرهم، ومن توفّى منهم على الترتيب الآتى ذكره فيه، معرفة صحيحة شرعيّة؛ ويشهدون أنّ فلانا المبتدأ بذكره توفّى إلى رحمة الله تعالى بالبلد الفلانىّ، وخلّف من الورثة المستحقّين لميراثه المستوعبين لجميعه زوجته فلانة التى لم تزل فى عصمته وعقد نكاحه إلى حين وفاته، وأولاده «2» منها، وهم فلان وفلان، ثم توفّيت الزوجة بعده فى تاريخ كذا وكذا، وخلّفت من الورثة المستحقّين لميراثه أولاده لصلبه، وهم- ويسمّيهم- يعلمون ذلك ويشهدون به؛ ويكمّل، ويؤرّخ. وهذا مثال فقس عليه.
فصل إذا مات العبد وخلّف سيّده
كتب: شهد «3» من أثبتوا أسماءهم «4» آخره- وهم من أهل الخبرة الباطنة فيما شهدوا به- أنّهم يعرفون كلّ واحد من فلان ومملوكه [فلان] «5» ، الفلانىّ الجنس، المسلم، ويشهدون أنّ فلانا المثنّى باسمه توفّى إلى رحمة(9/140)
الله تعالى، وخلّف سيّده المذكور، الذى لم يزل فى ملكه إلى حين موته؛ وأنّه مستحقّ لجميع ما يخلّفه بغير شريك له فى ميراثه، ولا حاجب يحجبه عنه.
وإن كان قد أعتقه ومات
كتب كما تقدّم «1» ، [و] : أنّهم يعرفون فلان ابن فلان، وعتيقه فلان بن فلان، معرفة صحيحة شرعيّة، ويشهدون أنّه مات الى رحمة الله تعالى، وأنّه كان مملوكا لفلان، وأنّه أعتقه عتقا منجّزا قبل موته، ولم يخلّف من الورثة سواه، بغير شريك له فى ميراثه؛ ويكمّل.
فصل إذا أراد إثبات ملكه لدار
كتب ما مثاله: ... «2» ... أنّهم يعرفون فلان بن فلان، ويشهدون أنّه مالك لجميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد- ملكا صحيحا شرعيّا، وأنّه متصرّف فيها بالسكن والإسكان والإجارة والعمارة وقبض الأجرة، وأنّها باقية فى يده وملكه وتصرّفه الى الآن، لم تخرج عنه بتمليك «3» ولا بيع ولا إقرار ولا صدقة، ولا بوجه من الوجوه الشرعيّة كلّها على اختلافها، وأنّها باقية على ملكه وتصرّفه وحيازته الى يوم تاريخه؛ وهم بالدّار المذكورة فى مكانها عارفون؛ يعلمون ذلك ويشهدون به.(9/141)
فصل إذا أثبت رجل أنّه باع بالإجبار والإكراه
كتب: ... أنّهم يعرفون كلّ واحد من فلان وفلان، ويشهدون أنّ فلانا المبتدأ باسمه جبر فلانا المثنّى باسمه وخوّفه واعتقله وضربه وأوجعه، وطلب منه بيع داره التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- بغير ثمن، وأن يشهد عليه بالبيع وقبض الثمن، وأنّه امتنع من ذلك، فأعاد عليه الضرب، وهدّده بالقتل، وسجنه، ولم يزل على ذلك حتى جبره وأكرهه، وابتاعها منه بكذا وكذا، واعترف بقبضها، وأنّه وضع يده عليها، وتسلّمها من مدّة كذا وكذا، وهم بالدّار عارفون؛ يعلمون ذلك ويشهدون به.
وان كان جبره حتّى باعه بدون القيمة كتب صدر المحضر كما تقدّم؛ وطلب منه بيع الدّار بكذا وكذا، وأنّ قيمتها أزيد من ذلك، وأنّه امتنع من ذلك، فضربه وسجنه، وأعاد عليه العقوبة، وأكرهه وجبره إلى أن باعه الدّار المذكورة بالثمن المذكور، وقبضه منه، وأنّه دون قيمتها، وأنّ قيمتها أضعاف ذلك، وأنّه وضع يده عليها، وتسلّمها من مدّة كذا وكذا؛ يعلمون ذلك....
فصل فيما يكتب بعيب فى جارية
شهد الشهود المسمّون آخره- وهم من أهل الخبرة الباطنة «1» بالرقيق وعيبه «2» - أنّهم نظروا الجارية المدعوّة فلانة، الفلانيّة الجنس، التى بيد فلان متنجّز «3» هذا(9/142)
المحضر، الذى ذكر أنّه ابتاعها من فلان، نظر مثلهم لمثلها، بمحضر من الخصمين المذكورين، فوجدوا بها من العيوب المرض الفلانىّ، وأنّ ذلك مرض مزمن متقدّم على تاريخ العهدة «1» التى أظهرها المشترى من يده، المؤرّخة بكذا وكذا؛ وأنّ ذلك عيب منقص «2» للثمن؛ يعلمون ذلك ويشهدون به.
فصل إذا شهد لإنسان أنه من أهل الخير
كتب: ... ويشهدون أنّه من أهل الخير والصلاح، والعفّة والفلاح؛ والصّيانة والأمانه، والثّقة والدّيانه؛ محافظ على صلاته، أهل لأن يجلس بين أطهر المسلمين، وأنّه [محقّ] «3» فى جميع أفعاله، صادق فى جميع أقواله؛ يعلمون ذلك....
فصل اذا شهد برشد إنسان
كتب: ... ويشهدون أنّه رشيد، صالح فى دينه، مصلح لماله، مستحقّ لفكّ الحجر عنه، غير مبذّر ولا مفرّط، حسن «4» التصرّف؛ يعلمون ذلك....(9/143)
فصل فى نسب رجل شريف
... ويشهدون بالاستفاضة الشرعيّة، بالشائع الذائع، والنقل الصحيح المتواتر، [أنّه «1» ] شريف النّسب، صحيح الحسب، من ذريّة الحسين بن علىّ- رضى الله عنهما- من أولاد الصلب، أبا عن أب، إلى أن يرجع نسبه إليه، ويدلى «2» بأصله إلى أصل الحسين؛ يعلمون ذلك ويشهدون به.
فصل فى عدالة رجل
... ويشهدون شهادة علموا صحّتها، وتيقّنوا معرفتها، لا يشكّون فيها ولا يرتابون، أنّه من أهل الصدق والوفاء، والعفّة والصّفاء؛ صادق فى أقواله، محقّ فى أفعاله؛ حسن السيره، طاهر السريره؛ متيقّظ فى أموره، سالك شروط العدالة وأفعالها؛ صالح لأن يكون من العدول المبرّرين «3» ، والأعيان المعتبرين، مستحقّ أن يضع خطّه فى مساطير المسلمين، عدل رضىّ لهم وعليهم؛ يعلمون ذلك ويشهدون به.
فصل فى إعسار رجل
... ويشهدون أنّه فقير لا مال له، معسر لا حال له، عاجز عن وفاء ما عليه من الدّيون، أو عن شىء منها؛ يعلمون ذلك....(9/144)
فصل فى إسلام ذمّىّ
يكتب: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه من ذكر أنّه حضر الى مجلس فلان- أدام الله أيّامه- فلان «1» بن فلان الفلانىّ، وأشهدهم على نفسه أنّه تلفّظ بالشهادتين المعظّمتين، وهما شهادة أن لا إله الّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون، وأنّ عيسى عبد الله ونبيّه، ومريم أمة الله، وأنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيّين، وأفضل المرسلين، وأنّ شريعته أفضل الشرائع وملّته أفضل الملل، وأنّ ما جاء به عن الله حقّ؛ وقال: «أنا برئت من كلّ دين يخالف دين الإسلام» ، ودخل فى ذلك طالبا «2» مختارا؛ وأشهد عليه بذلك، وتلفّظ به بتاريخ كذا وكذا.
فإن أسلم يهودىّ كتب موضع عيسى: وأنّ موسى عبد الله ونبيّه، وأنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، وشريعته أفضل الشرائع، وأنّ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شريعة موسى وجميع الشرائع؛ وقال: «أنا مسلم برئت من كلّ دين يخالف دين الإسلام، ومن كلّ ملّة تخالف ملّة محمد صلى الله عليه وسلم» ؛ وأشهد على نفسه بتاريخ ... «3» .
وأما الإسجالات
- فهى بحسب الوقائع، وقد ذكرنا منها فى أثناء ما قدّمناه ما هو وارد فى مواضعه، فلنذكر ما لم نورده هناك؛ فمن ذلك إسجال بثبوت العدالة.(9/145)
قد استقرّت القاعدة بين الناس فى إسجالات العدالة ان يبتدئ الكاتب بخطبة يذكر فيها شرف العدالة وعلوّها، وارتفاع رتبتها وسموّها؛ ويصف المعدّل بأوصاف تليق به بحسب حاله ورتبته، وأصالته وأبوّته؛ ولا حجر على الكاتب فيما يأتى به من القرائن والفقر والكلام المسجوع ما لم يتعدّ به حقّ المنعوت، أو يخرج به عن طوره ورتبته، ويراعى مع ذلك قيود الشرع وضوابطه؛ والكاتب فيها بحسب «1» قدرته وتصرّفه فى أساليب الكلام وبراعة الاستهلال واختيار المعانى؛ فاذا انتهى إلى آخر الخطبة وذكر أوصاف المعدّل قال: فلذلك استخار الله تعالى سيّدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة، حاكم الحكّام؛ وينعته بنعوته، ويذكر مذهبه وولايته للدّولة القاهرة السلطانيّة الملكيّة الفلانيّة، بالولاية الصحيحة الشرعيّة، المتّصلة بالمواقف الشريفة النبويّة، الإماميّة العبّاسيّة، (المستكفى) أمير المؤمنين- أعزّ الله به الدّين، وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين- وأشهد على نفسه من حضر مجلس حكمه وقضائه، وهو يومئذ نافذ القضايا والأحكام ماضى النقض والإبرام، وذلك فى اليوم المبارك؛ ويكتب الحاكم التاريخ بخطّه؛ ثمّ يكتب الكاتب: أنّه ثبت عنده وصحّ لديه بالبيّنة العادلة المرضيّة، التى ثبتت بمثلها الحقوق الشرعيّة، عدالة فلان- وينعته بما يستحقّه- ثبوتا ماضيا شرعيّا معتبرا تامّا مرضيّا؛ وحكم بعدالته، وقبول قوله فى شهادته؛ وأجاز ذلك وأمضاه واختاره وارتضاه، وألزم ما اقتضاه مقتضاه؛ وأذن سيّدنا قاضى القضاة فلان لفلان المحكوم بعدالته فى تحمّل الشهادات وأدائها، لتحفظ الحقوق على أربابها وأوليائها؛(9/146)
وسمع شهادته فقبلها وأجازها، وأمره أن يرقم على حلل «1» الطروس طرازها؛ وبسط قلمه بسطا كلّيّا، ونصبه بين الناس عدلا مبرّرا «2» مرضيّا، وأجراه مجرى أمثاله من العدول المبرّرين «3» ، وسلك به مسلك الشهداء المتميّزين؛ وتقدّم- أدام الله تعالى أيّامه- بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه الكريم فى التاريخ المقدّم ذكره أعلاه المكتب بخطّه الكريم، شرّفه الله تعالى. والكاتب فى ذلك بحسب ما توصله إليه عباراته.
فصل فى ثبوت إقرار متبايعين
يكتب: هذا ما أشهد على نفسه الكريمة سيّدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة، حاكم الحكّام فلان- وتستوفى ألقابه ونعوته وولايته، ويدعى له- من حضر مجلس حكمه وقضائه، وهو نافذ القضاء والحكم ماضيهما، أنه ثبت عنده وصحّ لديه- أحسن الله اليه- فى المجلس المذكور، بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوجه المعتبر الشرعىّ، بشهادة العدول الثلاثة- أو بحسب ما يكونون- الّذين أعلم تحت رسم شهادتهم بالأداء فى باطنه، إقرار «4» فلان وفلان بما نسب إلى كلّ منهما فى كتاب الإقرار باطنه على ما شرح فيه، وهو مؤرّخ بكذا وكذا، وبآخره رسم شهادتهم، وقد أرّخ شاهدان منهم شهادتهما بتاريخ الكتاب، والثالث أرّخ شهادته بكذا وكذا [و «5» ] جميع ما تضمّنه كتاب الابتياع المشروح باطنه- ويذكر جميع ما فيه-(9/147)
وقد أقاموها بذلك عند سيّدنا قاضى القضاة فلان الحاكم المذكور بشروط الأداء المعتبرة فيما عيّنه كلّ منهم فى خطّه باطنه فى التاريخ [المذكور «1» ] ، وقبل ذلك «2» منهم القبول السائغ فيه، وأعلم تحت رسم شهادتهم فى باطنه علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله، وثبت ذلك عنده ثبوتا شرعيّا؛ فلمّا تكامل ذلك عند سيّدنا قاضى القضاة فلان الحاكم المذكور سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته، الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك عنده، والحكم بموجبه على الوجه «3» المشروح فيه، ... «4» ... وأبقى كلّ ذى حجّة على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها، وتقدّم- أدام الله أيّامه، وأعزّ أحكامه- بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه متضمنا لذلك وذلك بعد قراءة ما يحتاج الى قراءته فى كتاب الإقرار، ووقع الإشهاد بذلك بتاريخ كذا وكذا.(9/148)
مثال إسجال بثبوت مبايعة بشهود الأصل «1» وشهود الفرع «2» على نائب الحكم
هذا ما أشهد على نفسه العبد الفقير الى الله تعالى أقضى «3» القضاة فلان، خليفة الحكم العزيز بالمكان الفلانىّ عن سيّدنا العبد الفقير الى الله تعالى قاضى «4» القضاة فلان، من حضره من العدول، أنّه ثبت عنده فى مجلس حكمه ومحلّ نيابته فى اليوم الفلانىّ، بعد صدور دعوى محرّرة مقابلة بالإنكار على الوضع الشرعىّ بشهادة عدول الأصل الثلاثة، وهم- ويسمّيهم- وشاهدى الفرع، وهما فلان وفلان، وهم الذين أعلم الحاكم المذكور تحت رسم شهادتهم بالأداء آخر «5» الابتياع المذكور باطنه، إقرار «6» المتبايعين المسمّيين باطنه بما نسب اليهما فيه، على ما نصّ وشرح فيه، المؤرّخ بكذا وكذا، وبآخره رسم شهادة العدول الثلاثة المشار إليهم؛ [وقد أقام شهود الأصل «7» ] شهادتهم بذلك عند الحاكم المذكور بشروط الأداء(9/149)
وقبل ذلك منهم القبول السائغ فيه؛ وقد أقام شاهدا الفرع المذكوران شهادتهما على أصلهما العدل فلان بما تحمّلاه عنه، وهو أنّه شهد على المتعاقدين المذكورين باطنه بما نسب الى كلّ منهما فيه، وأنّه ذكر لهما ذلك، وأشهدهما على شهادته به، على ما تضمّنه رسم شهادتهما آخر الابتياع باطنه، فى حال سوغ سماع شهادة الفرع على أصله، عند سيّدنا القاضى فلان الحاكم المذكور، وقبلها منهما القبول السائغ فيه وسطّر تحت رسم شهادة كلّ منهما ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله؛ وانّه ثبت عنده- أعزّ الله أحكامه- فى المجلس المذكور على الوضع الشرعىّ، بشهادة عدلين من العدول الثلاثة الأصول، وهما فلان وفلان أنّ البائع المذكور لم تزل يده متصرّفة فيما باعه الى حين انتقاله من يده الى يد هذا المشترى المسمّى باطنه؛ وقد أقام كلّ منهما شهادته بذلك عنده، وقبلها منه القبول السائغ فيه، وسطّر ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله- وان كانت المبايعة ثبتت بعدلين وشهد أنّ البائع مالك لما باعه كتب:
«أنّه ثبت عنده فى المجلس المذكور بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوضع الشرعىّ المعتبر، بشهادة عدلين، هما فلان وفلان، إقرار المتبايعين باطنه، وهو أنّ فلانا اشترى من فلان جميع كذا وكذا- ويشرح ما فى المبايعة- وبآخرها رسم شهادتهما، وقد أقاماها عند الحاكم على المشترى والبائع بما نسب الى كلّ منهما باطنه وأنّ البائع المذكور مالك لما باعه فيه، وشخّصاه له، فقبل ذلك منهما القبول السائغ فيه، وسطّر ما جرت العادة به من علامة الأداء والتشخيص على الرسم المعهود» - فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه سأله من جاز سؤاله التقدّم بكتابة هذا الفصل وتضمينه الإشهاد عليه بثبوت ذلك لديه، والحكم على المتبايعين المذكورين بما(9/150)
نسب إليهما بأعاليه، وتضمينه ملك البائع المذكور لما باعه فيه «1» ؛ فأعذر- أعزّ الله أحكامه- إلى البائع المذكور: هل له مطعن فيما شهد [به «2» ] عليه فيه «3» ، أو فى من شهد؟ فأقرّ فى المجلس المذكور بأنّه لا مطعن له فى ذلك ولا فى شىء منه؛ فعند ذلك أجاب السائل الى سؤاله، فكتب عن إذنه، وحكم على المتبايعين المذكورين بما نسب إليهما بأعاليه، وبصحّة ملك البائع المذكور لما باعه بعد قراءة ما تضمّنه باطنه «4» على شهود هذا الإسجال، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، وذلك بعد تقدّم الدعوى المحرّرة وما ترتّب عليها؛ ووقع الإشهاد بذلك بتاريخ كذا وكذا.
فصل فى ثبوت إسجال حاكم على حاكم
هذا ما أشهد عليه سيّدنا العبد الفقير الى الله تعالى قاضى القضاة فلان من حضره من العدول، أنّه ثبت عنده وصحّ لديه فى مجلس حكمه ومحلّ ولايته، بعد صدور دعوى محرّرة مقابلة بالإنكار على الوضع الشرعىّ، بشهادة العدول الذين أعلم تحت رسم شهادة كلّ منهم بالأداء فى باطنه، إشهاد قاضى القضاة فلان الحاكم بالعمل الفلانىّ بما نسب إليه فى إسجاله المسطّر أعلاه، على ما نصّ وشرح فيه، وهو مؤرّخ بكذا وكذا؛ وقد أقام كلّ من الشهود شهادته بذلك عند القاضى فلان الحاكم(9/151)
المبتدإ باسمه بشروط الأداء على الرسم المعهود عنده فى مثله؛ فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه- أحسن الله إليه- سأله من جاز سؤاله الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وتنفيذه وإمضاءه والحكم به، فأجابه الى سؤاله، وتقدّم بكتابته فكتب عن إذنه الكريم، وأشهد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وتنفيذه وإمضائه وأنّه حكم به وارتضاه، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وهو فى ذلك نافذ الحكم والقضاء ماضيهما، بعد تقدّم الدّعوى المسموعة وما ترتّب عليها- وإن حضر من أشهد عليه أنّه لا مطعن له فى ذلك كتب: «وحضر إقامة البيّنة فلان، واعترف بأنّه لا مطعن له فى ذلك ولا فى من شهد به» - ووقع الإشهاد به بتاريخ ... «1» .
فهذه أمثلة ذكرناها؛ والكاتب المجيد المتصرّف يكتب بقدر الوقائع، ويتصرّف فى الألفاظ، ما لم يخلّ بالمقاصد، ولا يدخل عليها من الألفاظ ما يفسدها.
وأما الكتب الحكميّة- فاذا ثبت عند حاكم من الحكّام أمر وسأله المحكوم له كتابا حكميّا لجميع القضاة كتب ما مثاله بعد البسملة: هذه المكاتبة الحكميّة الى كلّ من تصل اليه من قضاة المسلمين وحكامهم- ويدعو لهم- من مجلس الحكم العزيز بالعمل الفلانىّ عن سيّدنا قاضى القضاة فلان، الحاكم بالعمل الفلانىّ- ويدعى له- أنّه ثبت عنده وصحّ لديه فى مجلس حكمه وقضائه بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوضع الشرعىّ، بشهادة عدلين، وهما فلان وفلان، جميع «2» ما تضمّنه مسطور الدّين المتّصل أوّله بآخر كتابى هذا، الذى مضمونه- وينقل الى آخره- وبآخره رسم شهادة العدلين المشار اليهما؛ وقد أقام كلّ منهما شهادته عنده أنّه بالمقرّ المذكور عارف؛ وقبل ذلك منهما القبول(9/152)
السائغ، وسطّر تحت رسم شهادتهما ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله، وذلك بعد أن ثبتت عنده على الوضع الشرعىّ بشهادة عدلين- هما فلان وفلان الواضعا «1» رسم شهادتهما فى مسطور الدّين المذكور- الغيبة الشرعيّة وأقام كلّ منهما شهادته عنده بغيبة المقرّ المذكور، وقالا: «إنّهما به عارفان» ، وقبل ذلك منهما القبول الشرعىّ، وسطّر تحت رسم شهادتهما ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله، وأحلف المقرّ له بالله العظيم، اليمين الشرعيّة المتوجّهة عليه، المؤرّخة فى مسطور الحلف المكتتب على ظهر المسطور أو الملصق بذيل مسطور الدين، بالتماسه لذلك على الأوضاع الشرعيّة، ثبوتا «2» شرعيّا معتبرا؛ وأنّه حكم بذلك وأمضاه، وألزم بمقتضاه، على الوجه الشرعىّ، مع إبقاء كلّ ذى حجّة معتبرة على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها؛ ولمّا تكامل ذلك كلّه عنده وصحّ لديه- أحسن الله اليه- سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة أجابته، المكاتبة عنه بذلك، فأجابه الى سؤاله، وتقدّم بكتابة هذا الكتاب الحكمىّ فكتب عن إذنه؛ فمن وقف عليه من قضاة المسلمين وحكّامهم واعتمد تنفيذه وإمضاءه حاز الأجر والثواب، والرضا «3» وحسن المآب؛ وفّقه الله وإيّانا لما «4» يحبّه ويرضاه؛ وكتب عن مجلس الحكم العزيز بالعمل الفلانىّ فى اليوم الفلانىّ- ويؤرّخ- مثال العلامة بعد البسملة كذا وكذا، وعدد أوصاله كذا وكذا؛ ويختم الكتاب.(9/153)
ثم يكتب عنوانه، ومثال ما يكتب: «من فلان بن فلان الحاكم بالعمل الفلانىّ» ويشهد عليه بثبوت ذلك عنده.
ويكتب أيضا فى مثل ذلك- وهو أبلغ- ما صورته: هذا كتاب حكمىّ محرّر مرضىّ؛ تقدّم بكتابته وتسطيره، وتنجيزه وتحريره، العبد الفقير الى الله تعالى قاضى القضاة فلان- ويدعى له- الحاكم بالدّيار المصريّة، أو غيرها، للدّولة الفلانيّة، بالولاية المتّصلة بالمواقف الشريفة- نحو ما تقدّم فى إسجال العدالة- الى كلّ من يصل اليه من قضاة المسلمين وحكّامهم ونوّابهم وخلفائهم- ويدعو لهم- متضمّنا «1» أنّه ثبت عنده وصحّ لديه؛ ويكمّل كما تقدّم.
فصل اذا ورد مثل هذا الكتاب من قاض الى قاض- مثاله من قاضى القضاة بدمشق الى قاضى القضاة بمصر
- كتب على ظهره ما مثاله: هذا ما أشهد على نفسه سيّدنا ومولانا قاضى القضاة فلان، الحاكم بالقاهرة ومصر المحروستين وسائر الدّيار المصريّة- ويدعى له- أنّه ورد عليه الكتاب الحكمىّ الصادر عن مصدره قاضى القضاة فلان الحاكم بدمشق- وهو الكتاب المشروح باطنه- ورودا صحيحا شرعيّا، موثوقا به، مسكونا اليه؛ وشهد بوروده عن مصدره قاضى القضاة فلان الحاكم بدمشق المحروسة كلّ واحد من العدول المستورين، أو المزكّين «2» وهم- ويسمّيهم- عند سيّدنا قاضى القضاة فلان، وقالا: «إنّ الحاكم المذكور(9/154)
أشهدهما على نفسه بما تضمّنه الكتاب الحكمىّ المسطّر باطنه، بعد قراءته على مصدره بحضرتهما وحضور من يعتبر حضوره» وانّ قاضى القضاة فلانا سمع شهادتهما فقبلها القبول السائغ؛ ولمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته، الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وأنّه قبله قبول أمثاله من الكتب الحكمية قبولا شرعيّا، وحكم به وأمضاه، وألزم بمقتضاه؛ فأجاب السائل الى سؤاله، وأشهد على نفسه بذلك، وذلك كلّه بعد تقدّم الدعوى المسموعة فى ذلك وما ترتّب عليها، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما؛ وذلك بتاريخ....
وأما التقاليد الحكميّة
- فيبتدئ الكاتب فى صدرها بعد البسملة بخطبة يورد فيها ما تؤدّيه إليه عبارته، وتبلّغه إيّاه فصاحته وبلاغته؛ ثم يكتب: ولمّا كنت «1» أيّها القاضى فلان- وينعته بما يستحقّه- ممّن اتّصف بكذا وكذا واشتغل بكذا وكذا، واستحقّ كذا وكذا، استخرت الله تعالى، واستنبتك عنّى فى القضاء والحكم فى العمل الفلانىّ، فى جميع أعماله وبلاده وسائر أقطاره؛ فتولّ ما ولّيتك، وباشر ما عذقته «2» بك، وصن أموال الناس عن الضّياع، وزوّج من لا ولىّ له عند «3» الشروط المعتبرة الأوضاع؛ واضبط الأحكام بشهادة الثّقاة العدول وميّز بين المردود منهم والمقبول؛ وراع أحوال النوّاب فى البلاد، وأرهم يقظة تردع(9/155)
بها المفسد عن الفساد- ويذكر غير ذلك من الوصايا، ويوصيه فى آخرها بتقوى الله تعالى- وكتب عن مجلس الحكم العزيز بالعمل الفلانىّ؛ ويؤرّخ.
وأمّا تقاليد قضاة القضاة فتتعلّق بكتّاب الإنشاء؛ وهذا مثال، والكاتب يتصرّف بحسب نباهته ومعرفته وعلمه.
وأما الأوقاف والتحبيسات
- فهى بحسب آراء أربابها فيما يوقفونه «1» ويحبسونه على أبواب القربات، وأنواع الأجر والمثوبات؛ وسنذكر منها قواعد يقاس عليها- إن شاء الله تعالى- فمن ذلك ما إذا كان لرجل دار وأراد أن يوقفها «2» عليه «3» وعلى أولاده من بعده ونسلهم وعقبهم، فسبيله فى ذلك أن يملّك الدّار لغيره «4» ، ويكتب التمليك على ما تقدّم «5» ؛ ثم يقول: وبعد تمام ذلك ولزومه أشهد عليه فلان المقرّ له فيه شهود هذا المكتوب طوعا منه واختيارا، أنّه وقف وحبّس وسبّل وحرّم «6» وأبّد، وتصدّق(9/156)
بما هو له وفى يده وملكه وتصرّفه، ورآه وعرفه، وأحاط به علما وخبرة؛ وهو جميع الدّار الموصوفة المحدودة أعلاه، على فلان بن فلان المقرّ المملّك المذكور أعلاه أيّام حياته، ثمّ من بعده على أولاده، وأولاد أولاده، وأولاد أولاد أولاده أبدا ما تناسلوا دائما، وما تعاقبوا، للذّكر مثل حظّ الأنثيين، يتناقلونه بينهم كذلك الى حين انقراضهم، يحجب الآباء منهم والأمّهات أولادهم وأولاد أولادهم وإن سفلوا؛ فإن لم يكن له «1» ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك، كان نصيبه لإخوته الموجودين حين موته، للذّكر مثل حظّ الأنثيين، يحجب الآباء منهم والأمّهات أولادهم وأولاد أولادهم؛ فإن لم يوجد من أولاد الموقوف عليه وأولاد أولاده أحد كان ذلك وقفا مصروفا ريعه على مصالح المسجد الذى بالموضع الفلانىّ- ويوصف ويحدّد- برسم عمارته ومرمّته وفرشه ووقود مصابيحه وشراء ما يحتاج اليه من الزّجاج والنّحاس والحديد، ومن يقوم بخدمته والأذان فيه، ومن يؤمّ فيه بالمسلمين فى الصلوات الخمس المكتوبة المفروضة على سائر المسلمين، على ما يراه الناظر فى ذلك؛ فإن تعذّر الصرف عليه بوجه من الوجوه كان ذلك وقفا على الفقراء والمساكين أينما كانوا وحيثما وجدوا من الديار المصريّة أو الشأم، أو عمل من الأعمال، أو بلد من البلاد، على ما يراه الناظر فى ذلك من مساواة وتفضيل، وإعطاء وحرمان؛ ومتى أمكن الصرف الى ما ذكر من مصالح المسجد كان الوقف عليها والصرف إليها، يجرى الحال فى ذلك كذلك الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ على أنّ للنّاظر فى هذا الوقف والمتولّى عليه أن يؤجره لمن شاء(9/157)
ما شاء من المدد: طوالها وقصارها، بما يراه من الأجر: المعجّلة أو المؤجّلة أو المنجّمة؛ أو يكتب: «وعلى الناظر فى هذا الوقف أن يؤجره لسنة كاملة فما دونها، بأجرة المثل فما فوقها» ولا يتعجّل أجرة، ولا يدخل عقدا على عقد إلّا أن يجد فى مخالفة ذلك مصلحة ظاهرة، أو غبطة ظاهرة «1» ، فيؤجره لمدّة كذا وكذا ولمن شاء، ويستغلّ أجره بوجوه الاستغلال الشرعيّة، فما حصل من ريعه بدأ منه بعمارته ومرمّته وإصلاحه وما فيه بقاء عينه ودوام منفعته، ثم ما فضل بعد صرفه لمستحقّه على ما شرح أعلاه؛ وجعل الواقف النّظر فى هذا الوقف والولاية عليه لفلان الموقوف عليه أوّلا، ثم من بعده لأولاده وأولاد أولاده، ينظّر كلّ منهم على حصّته فى حال استحقاقه وعلى حصّة من تعذّر نظره من المستحقّين لصغر أو سفه أو غيبة أو عدم أهليّة، أو سبب من الأسباب، الى حين تمكّنه من النظر، فيعود حكمه حكم باقى المستحقّين فى النظر على حصّته وحصّة غيره؛ فإن تعذّر النظر من أحدهم أو من جميعهم بسبب من الأسباب، أو انقرضوا ولم يوجد منهم أحد، كان النظر فى ذلك لحاكم المسلمين؛ وان عاد إمكان النظر الى مستحقّى الوقف أو إلى أحد منهم قدّم فى النظر على غيره؛ ومن عدمت منهم أهليّته وكان له ولىّ ينظر فى ماله كان النظر له على حصّته فى هذا الوقف دون غيره من المستحقّين ومن الحاكم؛ يجرى الحال فى ذلك كذلك وجودا وعدما، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ ولكلّ ناظر فى هذا الوقف أن يستنيب عنه فى ذلك من هو أهل له؛ وعلى كلّ ناظر فى هذا(9/158)
الوقف أن يتعهّد إثباته عند الحاكم بحفظه بتواتر الشّهادات واتّصال الأحكام، وله أن يصرف فى كلفة إثباته ما جرت العادة به من ريع هذا الوقف؛ وقف فلان المبتدأ باسمه جميع ذلك على الجهات المعيّنة، بالشروط المبيّنة، على ما شرح أعلاه؛ وقفا صحيحا شرعيّا مؤبّدا، وحبسا دائما سرمدا، وصدقة موقوفة، لاتباع ولا توهب، ولا تملّك، ولا ترهن، ولا تتلف بوجه تلف، قائمة على أصولها محفوظة على شروطها، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ وقبل هذا الموقوف عليه ذلك لنفسه قبولا شرعيّا، وتسلّم الموقوف عليه الدّار المذكورة وصارت بيده وقبضه وحوزه؛ وذلك بعد النظر والمعرفة، والإحاطة به علما وخبرة؛ فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر إخراجه عن أهله، وحرام على من غيّره أو بدّله (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
فصل اذا وقف رجل دارا على أولاده وعلى من يحدثه الله من الأولاد، ثمّ على المسجونين ثمّ على فكّ الأسرى، ثمّ على الفقراء والمساكين،
كتب ما مثاله: هذا كتاب وقف صحيح شرعىّ، وحبس صحيح «1» مرضىّ، تقرّب به واقفه الى الله تعالى رغبة فيما لديه وذخيرة له يوم العرض عليه؛ يوم يجزى الله المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين؛ اكتتبه فلان، وأشهد على نفسه أنّه وقف وحبّس وسبّل وحرّم وأبّد وتصدّق(9/159)
بما هو له وفى يده وملكه وتصرّفه، وعرفه ورآه، وأحاط به علما و [خبرة «1» ] .
«2» ...
...
[المؤتلف والمختلف من أسماء نقلة الحديث]
[عقّار «3» بالعين والقاف والراء: عقّار «4» بن] المغيرة بن شعبة، وغيره؛ وغفار، هو أبو غفار «5» ، عن «6» أبى تميمة، وأبو غفار «7» غالب التّمّار.(9/160)
(وعبيس) (وعنبس) عبيس، هو ابن ميمون أبو عبيدة، وأمّ عبيس، امرأة كانت تعدّب فى الله أعتقها «1» أبو بكر الصدّيق- رضى الله عنه-؛ وعنبس، هو ابن عقبة، وعنبس ابن إسماعيل القزّاز، وغيرهما.
(وعبّاد) (وعباد) (وعياذ) (وعباد) فأمّا عبّاد، فكثير؛ وعباد بضمّ العين، هو قيس بن عباد، تابعىّ كبير؛ وعياذ بكسر العين وياء مثنّاة وذال معجمة، هو عياذ بن عمرو «2» ، له صحبة، وأهبان بن عياذ مكلّم «3»(9/161)
الذئب، وعياذ بن أبى العيذ، وعياذ بن مغراء؛ وعباد «1» بكسر العين وباء موحّدة:
ربيعة بن عباد، له صحبة، وعباد العبدىّ.
(وعمارة) (وعمارة) عمارة بالضم، كثير؛ وبكسر العين: واحد، هو أبىّ بن عمارة، له صحبة.
(وعابس) (وعائش) عابس، كثير؛ وعائش، هو ابن أنس، وعبد الرحمن بن عائش الحضرمىّ.
(وعدثان) (وعدنان) أمّا عدثان، فهو فى نسب غافق «2» بن «3» العتيك بن عكّ «4» بن عدثان؛ وعدنان، هو عدنان بن أحمد بن طولون.(9/162)
(وعلىّ) (وعلىّ) ... «1» ... علىّ بضم العين وتشديد الياء، هو علىّ بن رباح، والأصبغ بن علقمة بن علىّ.
(وعيشون) (وعيسون) (وعبسون) أمّا عيشون، فهو عبد الله بن عيشون «2» الحرّانىّ، ومحمد بن عيشون؛ وأمّا عيسون، فهو عبد الحميد بن أحمد بن عيسى، هذا «3» يعرف بعيسون، ومحمّد بن عيسون الأنماطىّ؛ وأمّا عبسون، فهو محمد بن أحمد بن عبسون البغدادىّ.
(وعتيق) (وعتيق) الأوّل بالفتح، كثير؛ وعتيق بالضم، هو عتيق بن محمّد.
(وعتبة) (وعنبة) (وغنيّة) (وعبية «4» ) أما عتبة بضم العين، فكثير؛ وأمّا عنبة بكسر العين وبعدها نون، فهو أبو عنبة الخولانىّ، أدرك الجاهليّة والإسلام، والحارث بن عنبة الكوفىّ؛ وأمّا غنيّة بالغين(9/163)
المعجمة ونون وياء، فعبد الملك بن حميد بن أبى غنية والد يحيى؛ وأمّا عبيّة، فاسم مشهور «1» .
(وعبّاس) (وعيّاش) (وعيّاس) (وعنّاس) فأمّا عبّاس، فكثير؛ وأمّا عيّاش، فجماعة، منهم عيّاش بن أبى ربيعة؛ وأمّا عيّاس بالياء المثنّاة من تحت والسين المهملة، فهو أبو العيّاس، يروى عن سعيد بن المسيّب؛ وأمّا عنّاس بالنون والسين المهملة، فهو عنّاس بن «2» خليفة.
(وعبدان) (وعيدان) (وعيدان) فعبدان، اسم مشهور؛ وعيدان بفتح العين، هو ربيعة بن عيدان «3» ؛ وأمّا عيدان «4» بكسر العين، فهو واحد من المحدّثين.
(وعقيل) (وعقيل) اسمان مشهوران.
(وعتّاب) (وغياث) كذلك.(9/164)
(وعليم) (وعلثم) أمّا عليم، فهو الذى يروى عن سلمان الفارسىّ؛ وأمّا علثم، فهو والد عمار ابن علثم.
(وعيسى) (وعبسىّ) أمّا الأوّل، فاسم مشهور معروف؛ والثانى بفتح العين وتسكين الباء الموحّدة وكسر السين، فهو عبسىّ «1» بن قاشىّ «2» ، اجتمع بأحمد بن حنبل.
(وعثيم) (وغنيم) الأوّل: اسم جماعة، منهم عثيم بن نسطاس، روى عن سعيد المقبرىّ؛ وغنيم بالغين المعجمة والنون: غنيم بن قيس، أبو العنبر، أدرك النّبىّ صلى الله عليه وسلم ورآه.
(وعتيبة) (وعيينة) الأوّل: الحكم بن عتيبة، وعتيبة «3» عن بريد «4» بن أصرم عن علىّ؛ وأمّا عيينة، فكثير.(9/165)
(وعديس) (وعدبّس) عبد الرحمن «1» بن عديس، له صحبة؛ وعدبّس بالباء الموحّدة، هو جدّ عبد الله ابن أحمد بن وهيب بن عدبّس، وأبو العدبّس منيع بن سليمان.
(وعفير) (وغفير) الأوّل بالعين المهملة: جماعة؛ والثانى بالإعجام، هو الحسن بن غفير.
(وعدىّ) (وعدىّ) الأوّل بالفتح، كثير؛ والثانى بالضم، هو زياد بن عدىّ.
(وعائذ) (وعابد) الأوّل بالياء المثنّاة من تحت والذال المعجمة، كثير؛ والثانى بالباء الموحّدة والدال المهملة: حبيس «2» بن عابد، وعابد بن عمر «3» بن مخزوم.(9/166)
(وغزوان) (وعزوان) الأوّل بالإعجام، كثير؛ والثانى بالعين المهملة، هو عزوان بن زيد «1» الرّقاشى روى عن «2» الحسن البصرىّ.
(وغنّام) (وعثّام) الأوّل: غنّام، بدرىّ، وتسمّى به غيره؛ والثانى: عثّام بن علىّ.
(وغرير) (وعزيز) و (عزيز) (وعزير) الأوّل بالغين معجمة وراء مهملة مكرّرة، هو غرير بن حميد «3» بن عبد الرحمن ابن عوف؛ والثانى عزيز بالعين «4» المهملة مضمومة وزاى مكررة معجمة، هو محمّد ابن عزيز الأيلىّ، ومحمّد بن عزيز «5» السّجستانىّ صاحب غريب القرآن؛ والثالث عزيز بفتح العين المهملة وكسر الزاى الأولى المعجمة، هو والد خيثمة؛ قال خيثمة بن عبد الرحمن: «كان اسم أبى فى الجاهليّة عزيزا، فسمّاه النبىّ صلى الله عليه وسلم(9/167)
عبد الرحمن» . والرابع عزير بالزاى والياء المثنّاة «1» تحت: أحمد بن عبيد الله حمار العزير.
(وغرّون «2» ) (وعزّون «3» ) الأوّل: من شيوخ الموصل؛ والثانى: بالعين المهملة، هو جدّ علىّ بن الحسين ابن عزّون «4» .
(وغنىّ) (وعتىّ) الأوّل: عطيّة بن غنىّ؛ والثانى: عتىّ بن ضمرة، عن أبىّ بن كعب.
(وفضيل) (وفصيل) الأوّل، كثير؛ والثانى بالفاء والصاد المهملة مكسورة: الحكم بن فصيل يروى عن خالد الحذّاء، عن نافع، عن ابن عمر.
(وفريس) (وقريش) الأوّل بفاء مفتوحة وسين مهملة، هو فريس بن صعصعة؛ والثانى، كثير.
(وفرج) (وفرح) (وفرخ) الأوّل بالجيم: جماعة؛ والثانى بالحاء المهملة: قليل، منهم فرح بن رواحة؛ والثالث بالخاء المعجمة والراء الساكنة، هو جدّ عبد الله بن محمّد بن فرخ «5» الواسطىّ.(9/168)
(وفتح) (وفنّج) الأوّل اسم مشهور؛ والثانى بالفاء والنون والجيم: واحد، روى [عبد الله «1» ابن] وهب بن منبّه عن أبيه، قال: «حدّثنى فنّج» ... «2» .
(وقهم) (وفهم) الأوّل بالقاف، هو النّهّاس بن القهم «3» ؛ والثانى بالفاء، هو فهم بن عبد الرحمن، وغيره.
(وكثير) (وكنيز) (وكثيّر «4» ) (وكبير) (وكنيز «5» )(9/169)
الأوّل بالفتح والثاء المثلّثة: اسم مشهور؛ والثانى بالفتح والنون والزاى معجمة، هو بحر بن كنيز السّقّاء؛ والثالث كثير بضم الكاف وتشديد الياء، هو كثيّر بن عبد الرحمن؛ والرابع كبير بالفتح والباء الموحّدة والياء الساكنة، هو أبو أميّة كبير والد جنادة الأزدىّ؛ والخامس كنيز بضم الكاف وفتح النون، هو كنيز الخادم كان يحدّث بمصر.
(وكبشة) (وكيّسة) الأوّل، كثير؛ والثانى بالياء والسين، هو أبو كيّسة «1» البراء بن قيس، وكيّسة بنت أبى بكرة «2» الثّقفى.
(ومسلم) (ومسلّم) ... «3» .(9/170)
(ومخلد) (ومخلّد) الأوّل بتسكين الخاء، كثير؛ والثانى بضم الميم وفتح الخاء وتشديد اللام: مسلمة «1» ابن مخلّد، له صحبة، والحارث بن مخلّد، عن أبى هريرة رضى الله عنه.
(ومعاوية) (ومغوية) الأوّل، معروف؛ والثانى بالغين المعجمة، هو أبو راشد الأزدىّ، وفد على النّبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: «ما اسمك» ؟ فقال: «عبد العزّى» ، قال:
«أبو من» ؟ قال: «أبو مغوية» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّا، ولكنّك عبد الرحمن أبو راشد» .
(ومبشّر) (وميسّر) الأوّل، اسم مشهور؛ والثانى، هو ميسّر بن عمران بن عمير، مولى عبد الله بن مسعود، وعلىّ بن ميسّر، كوفىّ.
(ومعمر) (ومعمّر) اسمان مشهوران.
(ومعبد) (ومعيد) الأوّل، كثير؛ والثانى، هو أبو معيد حفص بن غيلان.
(ومسور) (ومسوّر) الأوّل بكسر الميم وتسكين السين المهملة، كثير؛ والثانى، هو بضم الميم وفتح السين وتشديد الواو، وهو مسوّر «2» بن يزيد المالكىّ الكاهلىّ؛ له صحبة.(9/171)
(ومرثد) (ومزيد) (ومريد) (ومزبّد «1» ) الأوّل بفتح الميم وسكون الراء المهملة والثاء المثلّثة، كثير؛ والثانى مزيد بالزاى والياء، هو الوليد بن مزيد [صاحب «2» ] الأوزاعىّ، ومزيد بن هلال، «ووالد يزيد «3» ابن مزيد، [ومزيد «4» ] بن عبد الله» ؛ والثالث مريد بضم الميم والراء المهملة والياء المثنّاة من تحت، هو مريد، روى عن أيّوب السّختيانىّ؛ والرابع مزبّد «5» ، هو [صاحب «6» النوادر، بالزاى والباء المعجمة بواحدة] .(9/172)
(ومحرز) (ومحرّر) (ومجزّز) الأوّل: محرز بن زهير، له صحبة؛ والثانى محرّر بالحاء والراءين المهملتين هو محرّر «1» بن أبى هريرة، ومحرّر بن قعنب؛ والثالث مجزّز بالجيم وزايين معجمتين هو مجزّز المدلجىّ القائف، وهو فى الصحابة.
(ومغيث) (ومعتّب) (ومعتب) الأوّل: مغيث بن بديل، ومغيث بن أبى بردة، ومغيث «2» زوج بريرة، له صحبة وغيرهم؛ والثانى معتّب، هو ابن قشير، ومعتّب بن أبى معتّب، وغيرهما؛ والثالث معتب، نسمّى به جماعة «3» .
(ومزاحم) (ومراجم) الأوّل، مشهور؛ والثانى مراجم بالراء المهملة والجيم: عوّام بن مراجم.
(ومسهر) (ومشهّر) الأوّل، فيه جماعة؛ والثانى [وبربن «4» ] مشهّر «5» ، له صحبة.(9/173)
(ومشكان) (ومسكان) ... «1» ...
(ومشرح) (ومسرّح) ... «2» ...
(ومسبّح) (ومسيح) (ومسيح) (ومشنّج) الأوّل، هو مسبّح بن حاتم العكلىّ، وغيره؛ والثانى مسيح بفتح السين المهملة وسكون الياء، هو تميم بن مسيح؛ وبكسر السين المهملة، هو عبد العزيز بن مسيح «3» ؛(9/174)
والرابع مشنّج بالشين المعجمة والنون والجيم، هو سمعان بن مشنّج «1» ، روى عن سمرة ابن جندب.
(ومثنّى) (وميثاء) الأوّل، مشهور كثير؛ والثانى ميثاء بالياء المثنّاة من تحت والثاء المثلّثة، هو أبو الميثاء المستظلّ «2» بن حصين، وأبو الميثاء أيّوب بن قسطنطين، مصرىّ وأبو الميثاء، عن أبى ذرّ.
(ومنبّه) (ومنية) الأوّل، كثير؛ والثانى، قليل، منهم يعلى بن منية، وهو ابن أميّة، ومنية بنت عبيد بن أبى برزة.
(ونافع) (ويافع) الأوّل بالنون، كثير؛ والثانى بالياء، هو يافع بن عامر.
(ونصر) (ونضر) اسمان معروفان.
(ونميل) (وثميل) الأوّل بالنون: اسماعيل بن نميل؛ والثانى بالثاء المثلّثة: ثميل الأشعرىّ، عن أبى الدّرداء.
(ونعيم) (ويغنم)(9/175)
الأوّل بالنون، كثير؛ والثانى بالياء وغين معجمة، هو يغنم بن سالم بن قنبر ضعيف جدّا.
(ونزار) (وبراز) الأوّل بالنون، جماعة؛ والثانى بالباء، هو أشعث «1» بن براز، من أهل البصرة، له مناكير.
(ونصير «2» ) (ونضير) (ونضير) (وبصير «3» ) الأوّل: نصير بن الفرج، وغيره؛ والثانى: نضير بنون مضمومة وضاد معجمة هو نضير بن زياد؛ والثالث نضير بنون مفتوحة وضاد معجمة مكسورة، هو نضير ابن قيس؛ والرابع: [أبو «4» ] بصير، روى عنه أبو إسحاق «5» السّبيعىّ، وأبو بصير عتبة بن أسيد.
(والنّجّار) (والنّحّاز)(9/176)
الأوّل بالجيم والراء: أيّوب بن النّجّار، والنّجّار «1» جدّ الأنصار؛ والثانى النّحّاز بالحاء والزاى، هو النّحّاز «2» بن جدىّ «3» .
(ونجبة) (وتحية) الأوّل بالنون والجيم والباء، هو نجبة بن صبيغ «4» ، عن أبى هريرة، والمسيّب ابن نجبة؛ والثانى تحية بالتاء والحاء والياء، هو الحكم بن أبى تحية «5» .
(ونائل) (ونابل) (وناتل) الأوّل بالياء: نائل بن نجيح، ونائل بن مطرّف؛ والثانى بالباء الموحّدة هو نابل صاحب العباء «6» ، عن ابن عمر، وأيمن بن نابل؛ والثالث ناتل بالتاء المثنّاة هو ناتل الشامىّ، وهو ناتل بن قيس، عن أبى هريرة.
(ونجيب) (ونجيت) الأوّل بالنون والجيم، هو أبو النّجيب، عن أبى سعيد الخدرىّ- رضى الله عنه- واسمه ظليم، والنّجيب بن السّرىّ؛ والثانى نجيت، هو أبو بكر بن نجيت «7» البغدادىّ الدّقّاق.(9/177)
(وواقد) (ووافد) الأوّل بالقاف، كثير؛ والثانى وافد بالفاء، قليل، منهم وافد بن سلامة، ووافد ابن موسى.
(ووقاء «1» ) (ووفاء) فأمّا وقاء «2» بالقاف، فهو وقاء «3» بن إياس؛ وأمّا وفاء بالفاء، فهو ابن شريح، ووفاء بن سهيل.
(وهدبة) (وهديّة) هدبة بالباء الموحّدة، هو ابن المهال، وهدبة بن خالد أخو أميّة؛ وأمّا هديّة بالياء المثنّاة، فهو هديّة بن عبد الوهّاب، ومحمد بن هديّة الصّدفىّ، ويقال:
«ابن هديّة» ، ويزيد بن هديّة.
(ويسرة) (وبسرة) الأوّل: يسرة بن صفوان؛ والثانى بسرة بالباء الموحّدة، هو أبو بسرة، عن البراء «4» ، وبسرة بنت صفوان، لها صحبة.
(وياسر) (وباشر) (وناشر) الأوّل ياسر، كثير؛ وباشر، هو أبو «5» حازم باشر؛ وناشر بالنون، هو والد أبى ثعلبة الخشنىّ جرثوم؛ وقيل فيه: «ناشب» .(9/178)
هذا ما اتفق إيراده من مؤتلف الأسماء ومختلفها على سبيل الاختصار ممّا ألّفه الشيخ عبد الغنىّ بن سعيد بن علىّ بن سعيد بن بشر بن مروان الأزدىّ «1» ، الحافظ المصرىّ- رحمه الله تعالى-؛ وقد ألّف أيضا كتابا آخر فى المنسوب من رجال الحديث الى قبيلة أو بلدة أو صنعة، ممّا يأتلف فى صورة الخطّ ويختلف فى المعنى «2» ، لا بأس أن نورد منه نبذة.
[المؤتلف والمختلف من نسب رجال الحديث]
فمن ذلك الأبلّىّ: نسبة إلى الأبلّة «3» ؛ واليها ينسب نهر الأبلّة الذى هو أحد متنزّهات الدنيا الأربعة «4» . والأيلىّ: نسبة إلى أيلة، وأيلة على شاطئ «5» البحر، يمرّ عليها الحاجّ المصرىّ فى مسيره الى مكّة وعوده، وإليها تنسب العقبة، وهى على عشر مراحل من القاهرة. ولهم «6» أيضا (الأبلىّ «7» ) : نسبة الى (أبلة «8» ) بالأندلس.(9/179)
ومنه «1» (الأسيدىّ) والأسيّدىّ) فالأولى بالفتح: نسبة الى آل أسيد بن أبى العيص؛ والأسيّدىّ بالضم وتشديد «2» الياء: نسبة الى بطن من تميم، منهم حنظلة بن الرّبيع، وأخوه رياح «3» ، لهما صحبة.
ومنه «4» (البصرىّ) (والنّصرىّ) ... «5» ...
(والبكرىّ) (والنّكرىّ) فالبكرىّ: نسبة الى أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه، وإلى بكر؛ والنّكرىّ بالنون، يقال: إنّهم «6» من عبد القيس، منهم عمرو بن مالك.(9/180)
(والبحرانىّ) (والنّجرانىّ) ... «1» ...
(والبشيرىّ) (والتّسترىّ) ... «2» ...
(والبستىّ) (والبشتىّ) الأوّل: نسبة الى بست، من سجستان؛ والثانى: الى بشت، قرية من قرى نيسابور.
(والبلخىّ) (والثّلجىّ)(9/181)
البلخىّ: نسبة الى بلخ «1» ؛ والثّلجىّ: محمّد بن شجاع الثّلجىّ.
(والبزّاز) (والبزّار) ... «2»
(والتّيمىّ) (والتّيمىّ) فالتّيمىّ بتسكين الياء: نسبة الى تيم «3» بن مرّة بن كعب، وتيم الرّباب؛ وأمّا التّيمىّ بتحريك الياء، فهم «4» بطن من بنى غافق.
(والثّاتىّ) (والبانى) (والبابىّ) أمّا الثّاتىّ، فهو إبراهيم بن يزيد أبو «5» خزيمة الثّاتىّ قاضى مصر، وثات: قبيلة من حمير؛ وأمّا البانى، فهو محمّد بن إسحاق؛ وأمّا البابىّ، فمنهم زهير بن نعيم البابىّ وغيره، ولعلّها نسبة إلى الباب: قرية «6» من قرى حلب.(9/182)
(والثّورىّ) (والتّوّزىّ) (والبورىّ) (والنّورىّ) فالثّورىّ: نسبة إلى ثور بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة؛ وأمّا التّوّزىّ [بالزاى «1» بعد تاء معجمة من فوقها بنقطتين، فأبو يعلى محمّد بن الصّلت التّوّزىّ؛ وأمّا البورىّ بالباء المعجمة بواحدة، فمحمّد بن عمر بن حفص البورىّ البصرىّ العنزىّ، كان بمصر ... ؛ وأمّا النّورىّ] ، فأبو الحسن النّورىّ الصوفىّ البغدادىّ.
(والجريرىّ) (والحريرىّ) [والجريرىّ «2» ] (والحزيزىّ) .
أمّا الجريرىّ «3» بالجيم مضمومة، فجماعة، منهم سعيد «4» بن إياس، وأبان «5» بن تغلب وعبّاس «6» بن فرّوخ «7» ؛ وأمّا الحريرىّ بالحاء المهملة، فكثير؛ وأمّا الجريرىّ بالجيم المفتوحة، فجماعة ينسبون الى جرير بن عبد الله البجلىّ؛ وأما الحزيزىّ بالحاء المهملة وزايين، فنسبة إلى قرية اسمها حزيز «8» .
(والجندعىّ) (والخبذعىّ)(9/183)
فالجندعىّ: نسبة إلى جندع، من ليث، وليث من مضر بن نزار؛ وأمّا الخبذعىّ فهم بطن من همدان.
(والجبيرىّ) (والحبترىّ) (والخيبرىّ) فالجبيرىّ جماعة، منهم سعيد بن عبد الله بن زياد بن جبير، وغيره؛ وأمّا الحبترىّ، فنسبة إلى حبتر، وحبتر من كعب، ثمّ من خزاعة؛ وأمّا الخيبرىّ، فأظنّها نسبة إلى خيبر «1» .
(والحنّاط) (والخيّاط) (والخبّاط) جماعة من المحدّثين.
(والحبرىّ «2» ) (والحيرىّ) (والجيزىّ) (والخبرىّ) (والحترىّ) فأمّا الحبرىّ «3» ، فهو الحسين بن الحكم الحبرىّ «4» ؛ وأمّا الحيرىّ، فنسبة إلى الحيرة محلّة بنيسابور؛ وأمّا الجيزىّ، فنسبة إلى جيزة فسطاط مصر؛ وأما الخبرىّ، فنسبة الى قرية من قرى شيراز، منها الفضل بن حمّاد الخبرىّ؛ وأمّا الحترىّ، فهو أبو عبد الله الحترىّ.
(والحرّانىّ) (والحرابىّ) فالحرّانىّ: نسبة الى حرّان، من مدن الجزيرة «5» ؛ والحرابىّ، هو أحمد بن محمّد شيخ البغداديّين.(9/184)
(والحنّائىّ) (والجبإىّ) (والجبائىّ) (والجنّابىّ «1» ) أمّا الحنّائىّ بالحاء المهملة والنون، فإبراهيم بن علىّ الحنّائىّ؛ وأمّا الجبإىّ بالجيم والباء، فهو شعيب الجبإىّ، منسوب إلى جبل «2» باليمن؛ وأمّا الجبّائىّ بالجيم المضمومة والباء الموحّدة، فهو أبو علىّ الجبّائىّ «3» المتكلّم؛ وأمّا الجنّابىّ بالجيم والنون والباء الموحّدة، فهو محمّد بن علىّ بن عمران الجنّابىّ» .
(والخزّاز) (والخرّاز) (والجرّار) (والجزّار) أمّا الخزّاز بالخاء والزايين المعجمات، فعدد كثير، منهم النّضر بن عبد الرحمن «5» وأحمد بن «6» علىّ، وغيرهما؛ وأمّا الخرّاز بالخاء والراء والزاى، فجماعة، منهم عبد الله ابن عون الخرّاز، وغيره؛ وأما الجرّار بالجيم والراء المكرّرة المهملة، فعبد الأعلى بن أبى المساور الجرّار، وعيسى بن يونس الرّملىّ الجرّار، وهو الفاخورىّ؛ وأما الجزّار فنسبة إلى صنعة الجزارة.(9/185)
(والخضرمىّ) (والحضرمىّ) فأمّا الخضرمىّ بالخاء المعجمة المجرورة، فهم عدّة يسكنون بأرض الجزيرة «1» ؛ وأمّا الحضرمىّ بالحاء المهملة، فخلق كثير؛ يرجعون إلى حضرموت «2» .
(والحمصىّ) (والحمّصىّ) فالحمصىّ: منسوب إلى حمص «3» ؛ والحمّصىّ قليل، وهو إبراهيم بن الحجّاج بن منير الحمّصىّ، كان يقلى الحمص.
(والخضرىّ) (والحصرىّ) (والخضرىّ «4» ) فأمّا الخضرىّ بالخاء والضاد، [فأبو «5» ] شيبة الخضرىّ «6» ؛ وأمّا الحصرىّ فسعيد بن محمّد الحصرىّ، وغيره؛ وأمّا الخضرىّ، فهو فقيه أهل مرو أبو عبد الله محمد بن أحمد.(9/186)
(والخوزىّ) (والجورىّ) (والجوزىّ) ... «1»
(والحسنىّ) (والخشنىّ) (والحبشىّ) (والخيشىّ) ... «2»
(والختّلىّ) (والجبّلىّ) (والحبلىّ) (والختلّىّ) (والجبلىّ) فأمّا الختّلىّ بضم الخاء وتشديد التاء المثنّاة، فنسبة الى ختّل «من بلاد «3» الدّيلم(9/187)
وإليها تنسب الدّولة الدّيلميّة الختّليّة» ؛ وأمّا الجبّلىّ بالجيم المفتوحة «1» والباء الموحّدة المشدّدة «2» ، فنسبة الى جبّل: قرية بين «3» بغداد «4» وواسط؛ وأمّا الحبلىّ بالحاء المهملة والباء الموحّدة، فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحملىّ «5» ، صاحب عبد الله ابن عمرو «6» ، رضى الله عنهما؛ وأمّا الختلّى «بضم «7» الخاء وضم التاء المثنّاة وتشديد اللام» فنسبة الى ختلّ «8» ؛ وأمّا الجبلىّ، فنسبة إلى جبلة «9» الشأم.(9/188)
(والخصيبىّ) والحصينىّ ... «1» ...
(والخرقىّ) (والحرقىّ) ... «2» ... الثانى: نسبة الى الحرقة بنت النّعمان «3» .
(والدّهنىّ) (والذّهبىّ) الدّهنىّ بضم الدال المهملة وكسر النون: نسبة إلى حىّ «4» من بجيلة ... «5» ...
(والرّهاوىّ) (والرّهاوىّ) بالفتح «6» : منسوب إلى قبيلة «7» ، منهم مالك بن مرارة الرّهاوىّ، له صحبة؛ وبالضم: نسبة الى بلد الرّها، من أرض الجزيرة.(9/189)
(والرّياحىّ) (والرّباحىّ) فالرّياحىّ بكسر الراء المهملة وفتح الياء المثنّاة من تحت: إلى بطن «1» من تميم بن مرّة؛ والرّباحىّ بفتح الراء والباء الموحّدة: منسوب الى قلعة رباح بالأندلس.
(والرّبذىّ) (والزّيدىّ) فالرّبذىّ بالراء المهملة والباء الموحّدة المفتوحة والذال المعجمة: نسبة إلى الرّبذة «2» ؛ والزّيدىّ بالزاى المعجمة: نسبة إلى زيد العلوى، وإلى مذهبه.
(والرّفاعىّ) (والرّقاعىّ) ... «3» ...
(والزّمّانىّ»
) (والرّمّانىّ «5» ) فالزّمّانى بكسر الزاى المعجمة: عبد الله بن معبد؛ والرّمّانىّ بالراء المهملة:
جماعة، منهم علىّ بن عيسى النحوىّ المتكلّم، وغيره.
(والزّينبىّ) (والزّبيبىّ) ... «6» ...(9/190)
(والزّبيدىّ) والزّبيدىّ) بالضم: نسبة الى قبيلة «1» ، منهم عمرو بن معديكرب؛ وبالفتح: نسبة إلى زبيد؛ من أرض اليمن.
(والزّبادىّ) (والزّيادىّ) فالزّبادىّ بفتح الزاى المعجمة، جماعة، منهم خالد بن عامر «2» الزّبادىّ «3» ؛ والزّيادىّ بكسر الزاى المعجمة: نسبة إلى زياد.
(والسّلمىّ) (والسّلمىّ) بضم السين المهملة وفتحها ... «4» ...
(والسّذابىّ «5» ) (والشّذائىّ «6» )(9/191)
فالسّذابىّ بالسين المهملة، هو عمر بن محمّد السذابىّ؛ وبالشين المعجمة والياء المثنّاة من تحت، هو أبو الطّيّب الشّذائىّ الكاتب، واسمه محمد بن أحمد.
(والسّبإىّ «1» ) (والشّنإىّ) (والسّنائىّ) فأما السّبإى «2» بالسين المهملة والباء الموحّدة، فنسبة ترجع إلى سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان؛ وأمّا الشّنإىّ بالشين المعجمة والنون، فنسبة إلى أزد شنوءه؛ وأمّا السّنائى، فرجل نعرفه، كان يلقّب «3» عزّ الدّين السّنائىّ؛ وقد أورد «4» فى هذا الموضع النّسائىّ بتقديم النون على السين، نسبة إلى نسا «5» من خراسان؛ والأفصح فيها النسوى.
(والسامرّىّ) (والسامرىّ) الأوّل: نسبة إلى سامرّا «6» ؛ والثانى: نسبة معروفة إلى السامرىّ وفى المحدّثين إبراهيم بن [أبى «7» ] العبّاس السّامرىّ.(9/192)
(والسّبيىّ «1» ) (والشّيبىّ) (والسّيبىّ) (والسّبنىّ) (والسّينىّ) (والسّبتىّ) أمّا السّبيىّ بالسين المهملة والباء الموحّدة والياء باثنتين من تحتها، فهو أبو طالب السّبيىّ «2» ، ينسب إلى قرية من قرى الرّملة، تسمّى سبية «3» ؛ وأمّا الشّيبىّ، فنسبة إلى شيبة بن عثمان، من بنى عبد الدّار بن قصىّ، من سدنة «4» الكعبة؛ وأمّا السّيبىّ «5» بالسين مهملة، تليها ياء مثنّاة من تحتها، بعدها باء موحّدة، فهو صبّاح ابن هارون أبو مروان؛ وأمّا السّبنىّ، بالسين المهملة والنون بعد الباء الموحّدة فهو أحمد بن إسماعيل السّبنىّ «6» ؛ وأمّا السّينىّ، فقبيل من الأكراد يعرفون بالسّينيّة؛ وأمّا السّبتىّ «7» ، فشيخ صالح متأخّر، مدفون بقرافة مصر؛ والسّينىّ، والسّبتىّ لم يذكرهما عبد الغنىّ.
(والشّامىّ) (والسّامىّ) فالشّامىّ بالشين المعجمة: نسبة إلى الشأم؛ والسّامىّ بالسين المهملة: قوم ينسبون إلى سامة بن لؤىّ بن غالب، منهم إبراهيم بن الحجّاج [صاحب الحمّادين «8» :(9/193)
حمّاد بن سلمة] وحمّاد بن زيد؛ وعلىّ «1» بن الحسن «2» السّامىّ، وعمر بن موسى السّامىّ ومحمّد بن عبد الرحمن السّامىّ الهروىّ، ويحيى بن حجر، وبشر «3» بن حجر.
(والسّجزىّ) (والسّحرىّ) (والشّجرىّ) فأمّا السّجزىّ بفتح «4» السين المهملة، وبالجيم والزاى المعجمة، فعدد كبير ينسبون إلى سجستان «5» ؛ وأمّا السّحرىّ بكسر السين، وبالحاء والراء المهملات، فهو عبد الله بن محمّد السّحرىّ «6» ؛ وأمّا الشّجرىّ بالشين المعجمة والجيم والراء المهملة فإبراهيم بن يحيى الشّجرىّ «7» .
(والشّيبانىّ) (والسّيبانىّ) (والسّينانىّ) أمّا الشّيبانىّ، فنسب معروف؛ وأمّا السّيبانىّ بالسين المهملة، تليها ياء مثنّاة من تحتها وباء موحّدة، فهو يحيى بن أبى عمرو السّيبانىّ «8» ، وأيّوب بن سويد الرّملىّ؛(9/194)
وأمّا السّينانىّ بكسر السين المهملة، تليها ياء مثنّاة من تحتها ونون، فهو الفضل بن موسى السّينانىّ، ينسب إلى قرية من قرى مرو.
(والسّبخىّ) (والسّنجىّ) (والسّبحىّ) (والشّيخىّ «1» ) أمّا السّبخىّ بالباء الموحّدة والخاء المعجمة، فهو فرقد بن يعقوب السّبخىّ «2» العابد؛ وأمّا السّنجىّ بالنون والجيم، فهو أبو داود سليمان بن معبد السّنجىّ «3» ، خراسانىّ؛ وأمّا السّبحىّ بضم السين المهملة، وبالحاء المهملة، قبلها باء موحّدة، فهو أبو بكر السّبحىّ «4» ؛ وأمّا الشّيخىّ، فجماعة نعرفهم من الأمراء يقال لهم:
الشّيخيّة؛ ويصلح أن يضاف إلى هذه الترجمة السّيحىّ «5» والشّيحىّ «6» .
(والشّعبىّ) (والشّعبىّ) [والشّغبىّ «7» ] فالشّعبىّ بفتح الشين المعجمة، هو عامر بن شراحيل الشّعبىّ «8» ؛ وأمّا الشّعبىّ بضمّها، فهو معاوية بن حفص الشّعبىّ «9» ؛ وأمّا الشّغبىّ بالشين والغين المعجمة(9/195)
فهو زكريّا بن عيسى الشّغبىّ، منسوب إلى شغب: منهل «1» بين طريق مصر والشأم.
(والشّعيثىّ) (والشّعيبىّ) فالشّعيثىّ: نسبة إلى شعيث بلعنبر «2» من بنى تميم؛ وأمّا الشّعيبىّ، فنسبة إلى من اسمه شعيب.
(والشّنّىّ) (والشّبّىّ) (والسّنّىّ) (والبسّىّ) [فأمّا «3» الشّنّىّ بالشين المعجمة والنون، فعدّة، منهم عقبة بن خالد الشّنّىّ البصرىّ، عن الحسن البصرىّ، روى عنه مسلم بن ابراهيم؛ والعبّاس بن جعفر ابن زيد بن طلق العبدىّ الشّنّىّ؛ وأمّا الشّبّىّ] ، فهو محمّد بن هلال بن بلال «4» الشّبّىّ «5» ؛ وأمّا السّنّىّ بالنون، فهو الحافظ ابن السّنّىّ «6» الدّينورىّ؛ وأمّا البسّىّ، فهو أبو محجن توبة بن نمر قاضى مصر، بطن «7» من حمير يقال لهم: «البسّيّون» .(9/196)
(والضّبّىّ) (والضّنّىّ) فالضّبّىّ: نسبة إلى «ضبّة» «1» ؛ وأمّا الضّنّىّ بالنون وكسر الضاد، فهو أبو يزيد الضّنّىّ «2» ، يروى عن ميمونة مولاة النبىّ صلى الله عليه وسلم.
(والصّرارىّ) (والضّرارىّ) (والصّرّارىّ «3» ) فأمّا الصّرارىّ، فهو محمد بن عبد الله الصّرارىّ «4» ، يروى عن عطاء بن أبى رباح؛ وأمّا الضّرارىّ بكسر الضاد المعجمة، فهو محمد بن إسماعيل الضّرارىّ «5» ؛ وأمّا الصّرّارىّ بفتح الصاد المهملة والراء المهملة المشدّدة، فأبو القاسم بكر بن الفضل بن موسى النّعالىّ الصّرّارىّ: نسبة إلى صنعة النّعال الصّرّارة «6» .
(والصّائغ) (والضّائع) فالصائغ: نسبة إلى صنعة الصّياغة؛ والضّائع، هو عثمان بن بلج «7» الضّائع.(9/197)
(والصّعدىّ) (والصّغدىّ) فالصّعدىّ، هو محمد بن إبراهيم بن مسلم الصّعدىّ «1» ؛ وأمّا الصّغدىّ بضم الصاد المهملة وتسكين الغين المعجمة، فهو أيّوب بن سليمان الصّغدىّ، وإسحاق «2» بن إبراهيم بن منصور الصّغدىّ؛ أراها نسبة إلى الصّغد «3» بسمرقند، وهو أحد متنزّهات الدنيا الأربعة «4» .
(والصّباحىّ) (والصّباحىّ) فالصّباحىّ بضم الصاد، هو أبو خيرة «5» الصّباحىّ «6» ، له صحبة؛ وأمّا الصّبّاحىّ بفتح الصاد وتشديد الباء الموحّدة، فهو يزيد بن سعيد الصّبّاحىّ «7» ، يروى عن مالك ابن أنس حديثين.
(والطّيبىّ) (والطّينىّ) (والطّبنىّ) (والطّيّبىّ)(9/198)
فالطّيبىّ بالطاء والياء المعجمة باثنتين من تحتها وباء موحّدة، هو أحمد بن إسحاق بن نيخاب «1» الطّيبىّ «2» ؛ وأمّا الطّينىّ بالياء المثنّاة من أسفل والنون، فهو عبد الله ابن الهيثمّ الطّينىّ «3» ؛ وأمّا الطّبنىّ بالباء الموحّدة والنون، فنسبة إلى مدينة «4» بالمغرب منها علىّ بن منصور الطّبنىّ، وغيره؛ وأمّا الطّيّبىّ، فنسبة إلى الطّيّبة: بلد بإقليم الغربيّة بمصر، وبلد بالشرقيّة «5» ، وقرية بالسوداء «6» من الشأم تسمّى «طيّبة «7» الاسم» وهذه النسبة إلى الطّيّبة لم يذكرها عبد الغنىّ.
(والعابدىّ) (والعائدىّ «8» ) (والعائذىّ) فالعابدىّ بالباء الموحّدة والدال المهملة: نسبة إلى عابد بن عمر بن مخزوم منهم عبد الله بن المسيّب القرشىّ العابدىّ، وعبد الله بن عمران العابدىّ صاحب سفيان بن عيينة؛ «وأمّا العائدىّ «9» ، فهم من ولد عائد بن عمرو بن مخزوم، فقد(9/199)
اجتمع فى مخزوم عابد وعائد» ؛ وأمّا العائذيّون بالذال المعجمة، فهم من ولد عمران ابن مخزوم أيضا.
(والقينىّ) (والقتبىّ) فأمّا القينىّ بالياء المثنّاة من تحتها والنون، فجماعة، منهم عبد الله بن نعيم القينىّ «1» وغيره؛ وأمّا القتبىّ بضم القاف وفتح التاء المثنّاة من فوقها وبالباء الموحّدة، فهلال «2» ابن العلاء، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة؛ وأضاف عبد الغنىّ إلى هذه الترجمة العتبىّ «3» ، وهو محمد بن عبيد الله العتبىّ «4» الأخبارىّ.
(والعوقىّ) (والعوفىّ) أمّا بالقاف، فهو أبو نضرة منذر بن مالك العوقىّ «5» صاحب أبى سعيد الخدرىّ، ومحمد بن سنان العوقىّ؛ وأمّا العوفىّ «6» بالفاء، فهو عطيّة العوفىّ، وأحمد ابن إبراهيم العوفىّ.(9/200)
(والعتقىّ) (والغيفىّ) فالعتقىّ بضم العين المهملة وفتح التاء المثنّاة من فوقها وبالقاف، هو الحارث ابن سعيد العتقىّ «1» ، وأبو عبد الرحمن محمد بن عبد «2» الله العتقىّ «3» المقرئ، له تاريخ فى المغاربة؛ وأما الغيفىّ بالغين المعجمة والياء المثنّاة من تحتها والفاء، فالنسبة فيها إلى (غيفة) : قرية من قرى مصر بقرب بلبيس مدينة الشرقيّة، منها الحسين «4» بن إدريس بن عبد الكبير الغيفىّ.
(والعودىّ) (والعوذىّ) ... «5» ...
(والعمرىّ) (والعمرىّ) (والغمرىّ) ... «6» ...(9/201)
(والعبادىّ) (والعبادىّ) (والعبّادىّ) ... «1» ...
(والعبدىّ) (والعيذىّ) ... «2» ...
(والعبسىّ) (والعنسىّ) (والعيشىّ) فأمّا العبسىّ، فنسبة إلى عبس، منهم جماعة من الصحابة؛ وأمّا العنسى «3» بالنون فجماعة، منهم عمّار بن ياسر؛ وأمّا العيشىّ «4» ، فجماعة كثيرة، منهم أميّة بن بسطام وحمّاد بن عيسى.(9/202)
(والقيسىّ «1» ) (والفيشىّ «2» ) فالقيسىّ: نسبة إلى قيس «3» ؛ والفيشىّ بالفاء والشين: نسبة إلى قرية من قرى مصر يقال لها: فيشة.
(والعرفىّ «4» ) (والعرقىّ) (والعرقىّ «5» ) فالعرفىّ، هو أبو عبد الله العرفىّ «6» الحجازىّ؛ والعرقىّ، هو عروة بن مروان الرّقّىّ «7» العرقىّ «والعرقىّ «8» : نسبة الى (عرقة) ، من عمل طرابلس الشأم، لم يذكرها عبد الغنىّ» .(9/203)
(والغبرىّ) (والعنزىّ) (والعترى) (والعنزى «1» ) فأمّا الغبرىّ بالغين المعجمة المضمومة والباء المفتوحة بواحدة والراء المهملة فهم كثير، من بنى غبر «2» ، منهم عبّاد بن شرحبيل، وعبّاد بن قبيصة؛ وأمّا العنزىّ بالعين المهملة والنون والزاى، فنسبة إلى عنزة: حىّ من ربيعة؛ وأمّا العترىّ «3» فجماعة، منهم بكّار بن سلام العترىّ؛ وأمّا العنزىّ بفتح العين وسكون النون وكسر الزاى، فمنهم عامر بن ربيعة العنزى؛ وعنز من ربيعة بن نزار.
(والفزارىّ) (والقرارىّ) فالفزارىّ: نسبة إلى بنى فزارة؛ والقرارىّ بالقاف والراء المهملة المكرّرة، قليل منهم أبو الأسد سهل القرارىّ؛ وقرار: قبيلة «4» .(9/204)
(والفلّاس) (والقلّاس «1» ) فالفلّاس بالفاء، هو أبو حفص عمرو بن علىّ الصيرفىّ الفلّاس؛ والقلّاس بالقاف والسين المهملة «2» ، هو أبو بكر محمد بن هارون القلّاس.
(والقتبانىّ) (والفتيانىّ) فالقتبانىّ بالقاف: جماعة، منهم عيّاش بن عبّاس القتبانىّ «3» ، وأبو معاوية المفضّل بن فضالة بن عبيد القتبانىّ قاضى مصر؛ وأمّا الفتيانىّ بالفاء، فبطن «4» من بجيلة الكوفة، منهم رفاعة بن «5» عاصم.
(والقبائىّ) (والقنّائىّ) (والقيانىّ) (والقبّانىّ) (والقنائىّ) (والقبّانىّ «6» )(9/205)
فالقبائىّ بضم القاف: نسبة لمن «1» سكن قباء «2» ؛ وأمّا القنّائىّ بضم القاف أيضا وبالنون، فهو [أبو «3» ] إسحاق [إبراهيم بن «4» أحمد] بن علىّ القنّائىّ «5» الكاتب «6» ؛ وأمّا القيانىّ بكسر «7» القاف وبالياء المثنّاة من تحتها والنون «8» ، فهو عبدوس بن المعلّى القيانىّ والقيانة، بطن من غافق؛ وأمّا القبّانىّ بفتح «9» القاف وبالباء الموحّدة والنون، فهو علىّ(9/206)
ابن الحسين القبّانىّ؛ وأمّا القنائىّ، فنسبة لمن «1» يكون من قنى من أعمال الدّيار المصريّة، على مرحلة من مدينة قوص؛ وأمّا القبّانىّ «2» ، فنسبة لمن «3» يزن بالقبّان والقنائىّ «4» والقبّانىّ لم يذكرهما «5» عبد الغنىّ رحمه الله.
(والفريابىّ) (والقرنانىّ) فأمّا الفريابىّ، فنسبة إلى فرياب «6» من خراسان؛ وأمّا القرنانىّ بالقاف والنونين فهو شريك بن سويد التّجيبىّ ثمّ القرنانىّ، من بنى القرنان «7» .(9/207)
(والقرنىّ) (والقربىّ) فأمّا القرنىّ، فنسبة إلى بطن من مراد، منهم أويس القرنىّ؛ وأمّا القربىّ فالحكم بن سنان.
(والغزّىّ «1» ) (والغرّىّ «2» ) فالغزّىّ: نسبة إلى مدينة غزّة بالشأم؛ «والغرّىّ «3» : طائفة من الأكراد يسمّون الغرّية» ، لم يذكرهم عبد الغنىّ.
(والقروىّ) (والفروىّ) فالقروىّ بالقاف: نسبة إلى القيروان من المغرب؛ والفروىّ بالفاء: هم رهط أبى علقمة عبد الله بن محمد الفروىّ «4» .(9/208)
(والقبّاب) (والقتّات) فالقبّاب بباءين موحّدتين، هو عبد الله بن محمد بن محمد بن فورك «1» القبّاب الأصبهانىّ، وقيل فيه: «القتّات» ؛ والقتّات بتاءين مثنّاتين من فوقهما، هو أبو يحيى زاذان، روى عن مجاهد، وأبو عمرو محمد بن جعفر القتّات.
(والقطرىّ «2» ) (والفطرىّ»
) فالقطرىّ بالقاف، هو محمد بن [عبد «4» ] الحكم؛ والفطرىّ بالفاء، هو محمد بن موسى، روى عن سعيد المقبرىّ.
(والقوصىّ) (والقوصىّ) فالقوصىّ بضم القاف وتسكين الواو: نسبة لمن يكون من أهل مدينة (قوص) من الدّيار المصريّة؛ والقوصىّ بفتح القاف والواو: نسبة لمن يكون من قرية (القوصة) من إقليم مصر، من مرج بنى هميم، لم يذكرهما عبد الغنىّ رحمه الله.
(والكسائىّ) (والكشانىّ)(9/209)
الأوّل بكسر الكاف وفتح السين المهملة، هو علىّ بن حمزة الكسائىّ النحوىّ أحد القرّاء السبعة؛ وأمّا الكشانىّ بضم «1» الكاف وبالشين المعجمة والنون، فهو محمد بن حاتم الكشانىّ «2» النحوىّ.
(والكليبىّ) (والكلينىّ) الأوّل: نسبة معروفة إلى كليب؛ والكلينىّ بالنون، هو محمد بن يعقوب الكلينىّ «3» ؛ من الشّيعة.
(والكنانىّ) (والكتّانىّ) فالأوّل: نسبة إلى كنانة «4» ؛ والثانى بالتاء المشدّدة، هو محمد بن الحسين الكتّانىّ وأحمد بن عبد الواحد الكتّانىّ، وغيرهما.
(والكرجىّ) (والكرخىّ) (والكرجىّ)(9/210)
فالكرجىّ: نسبة إلى الكرج «1» ؛ [والكرخىّ «2» : نسبة إلى الكرخ] محلّة ببغداد؛ والكرجىّ: إلى الكرج، طائفة من الأكراد «3» أتراك.
(واللهبىّ) (واللهبىّ) فاللهبىّ بفتح اللام: نسبة إلى أبى لهب؛ وأمّا اللهبىّ بكسر اللام وسكون الهاء فنسبة إلى قبيلة من الأزد.
(والمازنىّ) (والمأربىّ) فالمازنىّ: نسبة إلى مازن أخى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة «4» بن قيس عيلان بن مضر، وغيره؛ وأمّا المأربىّ بالراء المهملة والباء الموحّدة، فهم جماعة من مأرب باليمن، إليها ينسب سدّ مأرب الذى كان بنى بسبب سيل العرم، وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.(9/211)
(والنّجّارىّ) (والبخارىّ) فالنّجّارى: نسبة إلى بنى النّجّار من الأنصار؛ والبخارىّ: نسبة إلى مدينة بخارى بما وراء النّهر.
(والنّاجىّ) (والباجىّ) (والتّاجىّ) فالنّاجىّ بالنون: نسبة إلى بنى ناجية من سامة بن لؤىّ؛ وأمّا الباجىّ بالباء الموحّدة، فنسبة إلى (باجة) من مدن المغرب «1» ؛ وأمّا التّاجىّ، فجماعة من الأتراك ينسبون إلى مواليهم ممّن لقبه تاج الدّين.
(والنّحّاس) (والنّخّاس) فالنّحّاس بالحاء: الذى يصنع أوانى النّحاس؛ والنّخّاس بالخاء، هو دلّال «2» الرقيق.
(والبجلىّ) (والبجلىّ) (والنّخلىّ «3» ) فالبجلىّ بالجيم المفتوحة: من بجيلة؛ وأمّا البجلىّ بسكون الجيم، فهم رهط من سليم بن منصور، يقال لهم: بنو بجلة، نسبوا إلى أمّهم «4» بجلة بنت هنأة بن مالك(9/212)
ابن فهم الأزدىّ؛ وأمّا النّخلىّ بالخاء المعجمة والنون قبلها، فعمران النّخلىّ «1» روى عنه شريك بن عبد الله القاضى، وإبراهيم بن محمد أبو «2» عبد الله النّخلىّ «3» صاحب التاريخ.
(والهمدانىّ) (والهمذانىّ) فالأوّل: منسوب إلى همدان، قبيلة مشهورة من اليمن؛ والثانى: نسبة إلى مدينة همذان «4» .
(واليزنىّ) (والبرتىّ) فأمّا اليزنىّ، فنسبة إلى سيف بن ذى يزن الحميرىّ؛ وأمّا البرتىّ بالباء الموحّدة والراء المهملة والتاء المثنّاة من فوقها، فمنهم أحمد بن محمد بن عيسى البرتىّ «5» . وذكر عبد الغنىّ فى هذا الموضع (البزّىّ) (والبرّىّ) (والبرّىّ) فقال: أمّا البزّىّ بالباء المعجمة بواحدة والزاى المعجمة، فهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبى بزّة، صاحب القراءة، يروى عن ابن كثير؛ وأمّا البرّىّ بالباء المضمومة الموحّدة والراء المهملة، فمنهم عثمان بن مقسم البرّىّ «6» أبو سلمة «7» ؛ وأمّا البرّىّ بباء مفتوحة موحّدة فهو علىّ بن بحر [بن «8» ] برّىّ.(9/213)
هذا مختصر ما ألّفه عبد الغنىّ- رحمه الله تعالى- وفيه زيادة فى مواضع نبّهنا عليها؛ ولم يكن الغرض بإيراد ما أوردناه من المؤتلف والمختلف استيعابه وحصره وإنّما كان الغرض التنبيه على ذلك، وأنّ الناسخ يحتاج إلى ضبط ما يرد عليه من هذه الأسماء وأمثالها، وتقييدها والإشارة عليها؛ وقد أخذ هذا الفصل حقّه، فلنذكر غير ذلك من شروط الناسخ وما يحتاج إلى معرفته.
وأمّا من ينسخ العلوم
، كالفقه واللّغة العربيّة والأصول وغير ذلك، فالأولى له والأشبه به ألّا يتقدّم إلى كتابة شىء منها إلّا بعد اطّلاعه على ذلك الفنّ وقراءته وتكراره، ليسلم من الغلط والتحريف، والتبديل والتصحيف؛ ويعلم مكان الانتقال من باب إلى باب، ومن سؤال إلى جواب؛ ومن فصل إلى فصل، وأصل إلى فرع أو فرع إلى أصل؛ ومن تنبيه إلى فائده، واستطراد لم يجر الأمر فيه على قاعده؛ ومن قول قائل، وسؤال سائل؛ ومعارضة معارض، ومناقضة مناقض؛ فيعلم آخر كلامه، ومنتهى مرامه؛ فيفصل بين كلّ كلام وكلام بفاصلة تدلّ على إنجازه، ويبرز قول الآخر بإشارة يستدلّ بها على إبرازه؛ وإلّا فهو حاطب ليل لا يدرى أين يفجأه الصباح، وراكب سيل لا يعرف الغدوّ من الرواح.
وأمّا من ينسخ التاريخ-
فإنه يحتاج إلى معرفة أسماء الملوك وألقابهم ونعوتهم وكناهم، خصوصا ملوك العجم والتّرك والخوارزميّة والتّتار فإنّ غالب أسمائهم أعجميّة لا تفهم إلّا بالنقل، ويحتاج الناسخ إذا كتبها إلى تقييدها بضوابط وإشارات وتنبيهات تدلّ عليها؛ وكذلك أسماء المدن والبلاد والقرى والقلاع والرّساتيق «1» والكور(9/214)
والأقاليم، فينبّه على ما تشابه منها خطّا واختلف لفظا، وما تشابه خطّا ولفظا واختلف نسبة، نحو (مرو) ، (ومرو) ؛ إحداهما (مرو الرّوذ «1» ) ، والأخرى (مرو الشّاهجان «2» ) ؛ (والقاهرة) ، (والقاهرة) ؛ إحداهما (القاهرة المعزّيّة «3» ) ، والأخرى (القلعة القاهرة «4» ) التى هى (بزوزن «5» ) التى أنشأها مؤيّد الملك صاحب (كرمان «6» ) ، فإنّ الناسخ متى أطلق اسم القاهرة ولم يميّز هذه بمكانها ونسبتها تبادر ذهن السامع إلى القاهرة المعزّية لشهرتها دون غيرها؛ وأمّا فى أسماء الرجال، فمثل عبيد الله بن زياد، وعبيد الله بن زياد، فالأوّل عبيد الله بن زياد بن أبيه، وزياد هذا، هو ابن سميّة الذى ألحقه معاوية بن أبى(9/215)
سفيان بأبيه، واعترف بأخوّته، وكان عبيد الله هذا يتولّى أمر العراق بعد أبيه إلى أيّام مروان بن الحكم؛ والثانى عبيد الله بن زياد بن ظبيان؛ وخبرهما يشبه مسائل الدّور، فإنّ عبيد الله بن زياد بن أبيه قتله المختار «1» [بن] أبى عبيد الثّقفىّ والمختار بن أبى عبيد قتله مصعب «2» بن الزّبير، ومصعب بن الزّبير قتله عبيد «3» الله بن زياد بن ظبيان؛ فإذا لم يميّز كلّ واحد منهما بجدّه ونسبه أشكل «4» ذلك على السامع وأنكره ما لم تكن له معرفة بالوقائع، واطّلاع على الأخبار؛ فأمثال ذلك وما شاكله يتعيّن(9/216)
على الناسخ تبيينه؛ وكذلك أسماء أيّام العرب، نحو أيّام الكلاب «1» بضمّ الكاف، وأيّام الفجار «2» بكسر «3» الفاء وبالجيم، وغير ذلك، فينبّه على ذلك كلّه، ويشير إليه بما يدلّ عليه.
وأمّا من ينسخ الشّعر
- فإنّه لا يستغنى عن معرفة أوزانه، فإنّ ذلك يعينه على وضعه على أصله الذى وضع عليه؛ ويحتاج إلى معرفة العربيّة والعروض ليقيم وزن البيت إذا أشكل عليه بالتفعيل، فيعلم هل هو على أصله وصفته(9/217)
أو حصل فيه زحاف «1» من نقص به أو زيادة «2» ، فيثبته بعد تحريره، ويضع الضبط فى مواضعه، فإنّ تغييره يخلّ بالمعنى ويفسده، ويحيله عن صفته المقصودة؛ فإذا عرف الناسخ هذه الفوائد وأتقنها، وحرّر هذه القواعد وفنّنها «3» ، وأوضح هذه الأسماء «4» وبيّنها، وسلسل هذه الأنساب وعنعنها؛ ... «5» ... والمرغوب فى علمه وكتابته، فليبسط قلمه عند ذلك فى العلوم، ويضع به المنثور والمنظوم؛ ولنذكر كتابة التعليم.
ذكر كتابة التعليم وما يحتاج من تصدّى لها إلى معرفته
وكتابة التعليم تنقسم إلى قسمين: تعليم ابتداء، وتعليم انتهاء
فأمّا تعليم الابتداء
- فهو ما يعلّمه الصبيان فى ابتداء أمرهم؛ وأوّل ما يبدأ به المؤدّب من تعليم الصبىّ أن يكتّبه حروف المعجم المفردات؛ فإذا علمها(9/218)
الصبىّ وعرف كيف يضعها، وميّز بين المعجم والمهمل منها امتحنه «1» المؤدّب بتقطيعها وسؤاله عنها على غير وضعها «2» ، مثل أن يسأله عن النون، ثمّ الجيم، والضاد ونحو ذلك؛ فإذا أجابه عمّا فرّقه وعكسه عليه علم من ذلك أنّه أتقن هذه الحروف فيهجّيه الحروف بعد ذلك حرفا حرفا، كلّ حرف وهجاءه فى المنصوب والمجرور والمرفوع والمجزوم، فإذا عرف هجاء هذه الحروف وأتقنه، وامتحنه نحو ما تقدّم جمع له بعد ذلك كلّ حرف إلى آخر كتابة، من الباء والجيم والدال والراء والسين والصاد والطاء والعين والفاء والكاف واللام والميم، يبدأ بالباء مع الألف وما بعدها ثم يكتّبه البسملة، ويأخذ فى تدريجه فى الكتابة، وتدريبه فى استخراج الحروف بالهجاء وما يتولّد منها إذا «3» اجتمعت، إلى أن يقوى فيها لسانه ويده «4» ، ويقرأ ما يكتب له، ويكتب ما يقترح عليه من غير منبّه له ولا مساعد؛ فهذه كتابة الابتداء؛ ولا ينبغى أن يتصدّى لها إلّا من اشتهرت ديانته وحسن اعتقاده والتزامه طريق السنّة، ومن كان بخلاف ذلك، أو ممّن طعن فيه بوجه من وجوه المطاعن وجب على ناظر الحسبة «5» منعه.(9/219)
وأمّا تعليم الانتهاء
- فهو كتابة التجويد، وهى أصل جميع ما قدّمناه من الكتابات، ويحتاج من تصدّى لها إلى إتقان أقلام الكتابة، ومعرفة أوضاعها على ما وضعه الوزير أبو علىّ بن مقلة «1» حين عرّب الخطّ ونقله من الكوفيّة «2» إلى التوليد، ثم عمدته على طريق علىّ بن هلال الكاتب المعروف بابن البوّاب «3» وما وضعه من أقلام الكتابة، ومعرفة الأقلام الأصول الخمسة، وهى قلم المحقّق، وقلم النسخ وقلم الرّقاع، وقلم التّواقيع، وقلم الثّلث؛ فهذه الأقلام الخمسة هى الأصول؛ ثم تتفرّع عنها أقلام أخر نذكرها بعد إن شاء الله تعالى؛ وقد ذكر لهذه التسمية أسباب واشتقاقات، فقالوا: إنّ قلم المحقّق إنّما سمّى بذلك لأنّه أصل الكتابة، وهو يحتاج(9/220)
إلى التحقيق فى وضع الحروف وتركيبها؛ وقلم النّسخ، لأنه تنسخ به الكتب ولذلك وضع بحيث أنّ الكتب لا تحسن كتابتها بغيره، لاعتدال أسطره، ودقّة حروفه والتئام أجزائه؛ وقلم الرّقاع لأنه وضع لكتابة الرّقاع المرفوعة فى الحوائج؛ ألا ترى ما على الرّقاع به «1» من البهجة؟ ولو كتبت بغيره ما حسن موقعها من النّفوس؛ وقلم التواقيع «2» لأنّه وضع لتكتب به التواقيع «3» الصادرة عن الخلفاء والملوك؛ وقلم الثّلث لكتابة المناشير التى تكتب فى قطع الثّلث «4» ؛ هذا ما قيل فى سبب تسمية هذه الأقلام بهذه الأسماء.
وأمّا ما يتفرّع عن هذه الأقلام الخمسة التى ذكرناها
فلكلّ قلم منها غليظ وخفيف ومتوسّط، فقلم المحقّق يتفرّع عنه خفيفه، ويتفرّع(9/221)
عنه أيضا قلم الرّيحان «1» ؛ وقلم النّسخ يتفرّع عنه قلم المتن، وهو غليظه، وقلم الحواشى وهو خفيفه، وقلم المنثور، وهو الذى يفصل بين كلّ كلمة وكلمة ببياض؛ وقلم الرّقاع يتفرّع عنه قلم الغبار «2» ، وهو خفيفه، وينزل منه بمنزلة الحواشى من النّسخ، وهو الذى تكتب به الملطّفات «3» والبطائق «4» ، ويتفرّع عنه أيضا قلم المقترن، وهو ما يكتب سطرين مزدوجين، وقد يكتب بغير قلم الرّقاع، لكن لم تجر عليه هذه التسمية، وفى الرّقاع مسلسل؛ وقلم التّواقيع منه ما هو مسلسل، وهو ما يتّصل بعض حروفه ببعض بتشعيرات رقيقة تلتفّ على الحروف؛ وقلم الثّلث يتفرّع عنه وعن المحقّق جميعا قلم يسمّى قلم الأشعار «5» ؛ ولهم أيضا قلم الذّهب «6» ، وهو قد يكون تارة ثلثا وتارة تواقيع إلّا أنه يكون خاليا من التشعير بسبب ترميكه باللّون المغاير للون الذّهب، والترميك هو أن يحبس الحرف بلون غير لونه بقلم رقيق جدّا؛ ولهم أيضا قلم الطّومار «7»(9/222)
ومنه كامل وغير كامل، فالكامل: الذى إذا جمعت الأقلام كلّها كانت فى غلظه وهو الذى يكتب به على رءوس الدّروج؛ وغير الكامل، هو الطّومار المعتاد؛ فهذه هى الأصول وما يتفرّع عنها. ولهم أيضا أسماء أخر، منها قلم الطور «1» وقلم المنهج، وقلم الطّمغاوات «2» ، وأسماء غير هذه اصطلح عليها الكتّاب؛ فإذا أتقن الكاتب ما ذكرناه من هذه الأقلام وحرّرها، وعرف أوضاعها وقواعدها، وكيفيّة وضع الحروف، وموضع ترقيقها وتغليظها، والمكان الذى تكتب فيه بسنّ القلم وبصدره، وأين يضع الحرف الآخر منه، إلى غير ذلك من شروطها وقواعدها، واتّصف بما قدّمناه فى المؤدّب من الدّيانة والخير والعفّة وحسن الطريقة وصحّة الاعتقاد والتزام السّنّة، فقد استحقّ أن يتصدّى للتعليم والإفادة، ويتعيّن على الطالب الرجوع إليه، والاقتداء بطريقته، والكتابه على خطّه والتزام توقيفه.(9/223)
[الفنّ الثالث «1» فى الحيوان الصامت]
قد جمعت فى هذا الفنّ- أعزّك الله تعالى- من أجناس الحيوان بين الكاسر والكاشر «2» ، والنافر «3» والطائر؛ والصائد والصائل، والناهق والصاهل؛ والحامل والحالب، والّلادغ واللّاسب «4» ؛ والكانس والسانح «5» ، والراسخ والسائح «6» ؛ فمن أسد انفرد عظما بنفسه، وترفّع عن الإلمام بما سواه من جنسه؛ إن وطئ أرضا مالت الوحوش عن آثاره، أو قصد جهة نفرت من جواره؛ وإن فغرفاه «7» أبرز المدى وإن مدّ خطاه قرّب المدى؛ ونمر حديد النّاب، موشّى الإهاب؛ وفهد سريع الوثوب والاختطاف، وكلب إن طفئت النّيران فهو الجالب للأضياف؛ وضبع إن رأت قتيلا طافت به ومالت إليه، وذئب ما رأى بصاحبه دما إلّا أغار عليه؛ إلى غير ذلك من أنواع الوحوش والآرام، والخيل والبغال والأنعام؛ وذوات السّموم القواتل منها وغير القواتل، وأصناف الطّير التى تكون تارة محمولة وتارة حوامل؛ وآونة تختطف من الهواء، وحالة تقتنص الوحش من البيداء؛ وما شاكل منها الكلب(9/224)
والبهيمه، وما حبس لسماع صوته فعلت قيمته كلّ قيمه؛ وما ينوح ويغرّد، وما يتلو ويردّد؛ وميّزت كلّ حيوان منها بمحاسنه ومناقبه، ونبذته بمعايبه ومثالبه؛ ولولا خشية الإطاله، لوصفت كلّ حيوان منها برساله؛ لكنّى استغنيت بما ألّفته من منقولى، عمّا أصنّفه من مقولى؛ وعلمت أنّنى أقصر عن حقّ هذه الرتبة فأحجمت وأقف دون بلوغ هذه الحلبة فأمسكت؛ وقد تقدّمنى من بالغ [فى] هذا وأطنب ووجد المقال [فبسط «1» ] القول وأسهب «2» ، وحاز المعانى فما ترك لسواه مذهب «3» ؛ فاختصرت عند ذلك المقال، واقتصرت على هذه النّبذة التى أشبهت طيف الخيال؛ ووضعته على أحسن ترتيب، ورتّبته على أجمل تقسيم وتبويب؛ وهو يشتمل على خمسة أقسام.
القسم الأوّل من هذا الفنّ فى السباع وما يتّصل بها من جنسها،
وفيه ثلاثة [أبواب «4» ]
الباب الأوّل فى الأسد والببر والنّمر
[ذكر ما قيل في الأسد]
ولنبدأ بذكر أسماء الأسد، ثم نذكر ما قيل فى أصناف الآساد وأجناسها وعاداتها فى افتراسها، وما فيها من الجراءة والجبن، وما وصف به الأسد نظما ونثرا ثم نذكر ما سواه، فنقول- وبالله التوفيق-:(9/225)
أمّا أسماء الأسد
- فقد بسط الناس فيها القول وزادوا، فمنهم من عدّ له ألف اسم فما دون ذلك، وقد اقتصرنا منها على أشهرها.
فمن أسمائه: الأسد، والأنثى أسدة ولبؤة؛ والشّبل والحفص: جروه؛ والشّبلة «1» والحفصة «2» : الأنثى؛ وكناه: أبو الأشبال، وأبو الحارث؛ ومن أسمائه الأعلام:
بيهس «3» ، وأسامة، وهرثمة، وكهمس؛ ومن صفاته: الصّمّ، والصّمّة، والمصدّر والصّمصامة «4» ، والهزبر، والقسورة، والدّلهمس، والضّيغم، والغضنفر، والهمام والدّوكس «5» ، والدّوسك، والعلندس «6» ، والعنابس «7» ، والسّيد، والدّرباس، والفرافر(9/226)
[والقصاقص «1» ] ، والقضاقض، والرّئبال، والضّيثم؛ والخنابس، وعثمثم، والخنابش «2» :
اللّبؤة إذا استبان حملها، وكذلك الآفل؛ والهرس «3» : الشديد المراس «4» .
وأمّا أصناف الآساد وأجناسها
- فالذى يعرفها الناس منها صنفان:
أحدهما مستدير الجثّة، والآخر طويلها، كثير الشّعر؛ وعدّ أرسطو من هذا النوع ضروبا كثيرة، حكى عن بعض من تكلم فى طبائع الحيوان قبله أنّ فى أرض الهند سبعا- سمّاه باليونانيّة «5» - فى عظم الأسد وخلقته، ما خلا وجهه فإنّه شبيه بوجه الإنسان ولونه شديد الحمرة، وذنبه شبيه بذنب العقرب، وفى طرفه «6» حمة «7» ، وله صوت يشبه صوت الزّمّارة [وهو قوىّ «8» ] ، ويأكل الناس؛ وذكر أنّ من السباع ما يكون فى عظم الثور وفى خلقته، له قرون سود، طويلها، فى قدر الشّبر، إلّا أنّه [لا «9» ] يحرّك(9/227)
الفكّ الأعلى كما يحرّكه «1» الثّور، ولرجليه أظلاف مشقوقة، وهو قصير الذّنب بالنسبة إلى نوعه، ويحفر الأرض بخرطومه، ويستفّ التراب، وإذا جرح هرب، فإن طلب رمح «2» برجليه، ورمى برجيعه على بعد.
وأما عاداتها فى حملها ووضعها وحضانتها
«3» - فقد قال صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر: إنّ أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان يقولون: إنّ اللّبؤة لا تضع إلّا جروا واحدا، وتضعه بضعة «4» لحم ليس فيها حسّ ولا حركة، فتحرسه من غير حضانة «5» ثلاثة أيّام، ثم يأتى أبوه بعد ذلك فينفخ فى تلك البضعة المرّة بعد المرّة حتّى تتحرّك وتتنفّس وتنفرج الأعضاء وتشكّل الصورة، ثم تأتيه أمّه فترضعه ولا يفتح عينيه إلّا بعد سبعة أيّام من تخليقه»
؛ واللّبؤة ما دامت ترضع لا يقربها الدّكر ألبتّة؛ فإذا مضى على الجر وستّة أشهر كلّف الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريج وطارد الذّكر الأنثى، فإن كانت صارفا «7» أمكنته من نفسها، وإن لم تكن كذلك منعته(9/228)
ودفعته عن نفسها، وبقيت مع جروها بقيّة الحول وستّة أشهر من الثانى، وحينئذ تألف الذّكر وتمكّنه من نفسها؛ والله أعلم.
وأمّا عادتها [فى] وثباتها وثباتها وأفعالها وصبرها وسرعة مشيها وأكلها
- فإنّ للأسد [من] بعد الوثبة، واللّصوق بالأرض، والإسراع فى الحضر اذا هرب، والصبر على الجوع، وقلّة الحاجة إلى الماء، ما ليس لغيره من السّباع؛ قالوا: وربّما سار فى طلب القوت ثلاثين فرسخا، وهو لا يأكل فريسة غيره من السباع، وإذا شبع من فريسته تركها، ولم يعد إليها ولو جهده الجوع، وإذا أكل أكلة يقيم يومين وليلتين بلا طعام لكثرة امتلائه، ويلقيه بعد ذلك شيئا يابسا مثل جعر «1» الكلب، وإذا بال رفع إحدى رجليه كالكلب، وإذا فقد أكله صعب خلقه، وإذا امتلأ بالطعام فهو وادع، وأكل الجيف أحبّ إليه من أكل اللّحم [الغريض «2» الغضّ] ، وهو لا يفترس الإنسان للعداوة ولكن للطّعم، فإنّه لو مرّ به وهو شعبان لم يتعرّض له، وهو ينهس «3» ولا يمضغ، ويوصف بالبخر «4» ، ولحم الكلب أحبّ اللّحمان إليه، ويقال: إنّ ذلك لحنقه عليه، فإنه إذا أراد التّطواف فى جنبات القرى ألحّ «5» الكلب فى النّباح عليه والإنذار به، فينهض الناس ويتحرّزون منه، فيرجع(9/229)
بالخيبة، فهو إذا أراد ذلك بدأ بالكلب ليأمن إنذاره؛ ومن شأنه أنّه إذا أكثر من أكل اللّحم وحسو الدّم وحلت نفسه منهما، طلب الملح ولو كان بينه «1» وبين عرّيسته «2» خمسون ميلا.
وأمّا [ما «3» ] فى الآساد من الجراءة والجبن
فجرأته معروفة مشهوره،
غير منكوره، فمنها أنّه يقبل على الجمع الكثير من غير فزع ولا اكتراث بأحد ولا مهابة له، وقد شاهدت أنا ذلك عيانا، وهو أنّنى ركبت ليلة فى شوّال سنة اثنتين وسبعمائة من (بيسان «4» الغور) إلى (قراوى «5» ) فى نحو خمسة عشر فارسا وجماعة من الرجال بالقسىّ والتّراكيش «6» - وكانت ليلة مقمرة- فعارضنا أسد، ثمّ بارانا وسايرنا على يمنة طريقنا عن غير بعد، بل أقرب من رشقة حجر، لا أقول: من كفّ قوىّ فكان كذلك مقدار ربع ليلة، فلمّا أيس من الظّفر بأحد منّا لتيقّظنا قصّر عنّا، ثم تركنا إلى جهة أخرى. قالوا: والأسد الأسود أكثر جراءة وجهالة وكلبا على الناس؛ قالوا: وإن ألجئ الأسد إلى الهرب أو أحسّ بالصيّادين تولّى وهو يمشى(9/230)
مشيا رفيقا، وهو مع ذلك متلّفت «1» يظهر عدم الاكتراث، فإن تمكّن منه الخوف هرب عجلا حتى يبلغ مكانا يأمن فيه، فإذا علم أنّه أمن مشى متّئدا، وإن كان فى سهل وألجئ إلى الهرب جرى جريا شديدا كالكلب، وإن رماه أحد ولم يصبه شدّ عليه، فإن أخذه لم يضرّه، وإنّما يخدشه ثمّ يخلّيه، كأنّه منّ عليه بعد الظّفر به وهو إذا شمّ أثر الصيّادين عفا أثره بذنبه.
وأمّا جبنه
- فمنه أنّه يذعر من صوت الدّيك، ومن نقر الطّست وحسّ الطّنبور «2» ، ويفزع من رؤية الحبل الأسود والديك الأبيض والسّنّور والفأرة، ويدهش لضوء النار، ويعتريه ما يعترى الظّباء والوحوش من الحيرة عند رؤيتها وإدمان النظر اليها والتعجّب منها، حتى يشغله ذلك عن التحفّظ والتيقّظ.
قالوا: والأسد لا يألف شيئا من السّباع، لأنّه لا يرى له فيها كفؤا فيصحبه، ولا يطأ شىء منها على أثر مشيه، ومتى وضع جلد الأسد مع سائر جلودها تساقطت شعورها؛ والأسد لا يدنو من المرأة الطامث «3» ، وهو إذا مسّ بقوائمه شجر البلّوط «4» خدر «5» ولم يتحرّك من مكانه، وإذا غمره الماء ضعف وبطلت قواه، فربّما ركب الصبىّ على ظهره وقبض على أذنيه ولا يستطيع عن نفسه دفاعا؛ وأخبرنى بعض من سكن(9/231)
غور «1» الشأم أنّ بعض الغوارنة «2» رأى أسدا فى بعض الأيام وهو رابض على حافة نهر الأردنّ «3» ، وظهره إلى الماء، وذنبه فيه، وهو يرشّ على ظهره وجنبيه بذنبه وكان الغورىّ من جانب الشّريعة «4» [الآخر «5» ] فبادر بعبور الماء، وعدّى الى جهة الأسد برفق وسكون حتّى صار وراءه، ثم قبض الغورىّ على مرقّى فخذى الأسد وجذبه إلى الماء، فهمّ الأسد بالوثوب وضرب الأرض بيديه، فانسحل «6» الرمل من(9/232)
تحتهما، ولم يستطع إثباتهما عليه، فانحدر إلى الماء، وركبه الغورىّ، وقبض على أذنيه، وضربه بسكّين معه فقتله؛ والغوارنة «1» تتحيّل على قتل السباع بأمور كثيرة مواجهة، والذى وقع لهذا الرجل نادر الوقوع لم أسمع أنّه وقع لغيره، وهو أمر مستفاض «2» عند الغوارنة «3» .
قالوا: والأسد لا تفارقه الحمّى، ولذلك الأطبّاء يسمّونها داء الأسد، وعظامه عاسية «4» جدّا، وإن دلك بعضها ببعض خرجت منها النّار كما تخرج من الحجارة وكذلك فى جلده من القوّة والصّلابة ما لا يعمل فيه السلاح إلّا من مراقّ «5» بطنه؛ والأسد طويل العمر؛ وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ شحم الأسد يحلّل الأورام الصّلبة.(9/233)
ذكر شىء مما وصف به الأسد نثرا ونظما
قال أبو زبيد الطائىّ يصفه لعثمان بن عفّان- رضى الله عنه- وكان قد لقيه: أقبل يتضالع «1» من بغيه، ولصدره نحيط «2» ، ولبلاعيمه غطيط «3» ؛ ولطرفه وميض ولأرساغه نقيض «4» ؛ كأنّما يخبط هشيما، أو يطأ صريما «5» ؛ وإذا «6» هامة كالمجنّ «7» ، وخدّ كالمسنّ؛ وعينان سجراوان «8» ، كأنّهما سراجان؛ وقصرة «9» ربله «10» ، ولهزمة «11» رهله؛ وساعد(9/234)
مجدول، وعضد مفتول؛ وكفّ شثنة «1» البراثن، ومخالب كالمحاجن «2» ؛ وفم أشدق «3» كالغار الأخرق «4» ؛ يفترّ عن معاول مصقوله، غير مفلوله؛ فهجهجنا «5» به ففرفر «6» وبربر «7» ، ثمّ زأر فجرجر؛ ثم لحظ فخلت البرق يتطاير من جفونه، عن شماله ويمينه؛ فأرعشت الأيدى، واصطكّت الأرجل؛ وحجظت «8» العيون، وساءت الظنون، ولحقت الظهور بالبطون.
ووصفه بعض الأعراب «9» فقال: له عينان حمراوان مثل وهج الشّرر، كأنّما نقرتا بالمناقير فى عرض حجر؛ لونه ورد، وزئيره رعد؛ هامته عظيمه، وجبهته(9/235)
شتيمه «1» ؛ نابه شديد، وشره عتيد «2» ؛ إذا استقبلته قلت: أقرع، وإذا استدبرته قلت:
أفرع «3» ؛ لا يهاب إذ اللّيل عسعس «4» ، ولا يجبن إذا الصبح تنفّس؛ ثم أنشد:
عبوس شموس مصلخدّ «5» مكابر «6» ... جرىء على الأقران للقرن قاهر
براثنه شثن «7» وعيناه فى الدّجى ... كجمر الغضى فى وجهه الشرّ طائر
يدلّ بأنياب حداد كأنّها ... إذا قلّص الأشداق عنها خناجر
ومن التهويلات فى وصف الأسد قول الشاعر:
إيّاك لا تستوش «8» ليثا مخدرا «9» ... للهول فى غسق الدّجى دوّاسا
مرسا «10» كأمراس «11» القليب جدوله «12» ... لا يستطيع له الأنام مراسا(9/236)
شثن البراثن كالمحاجن عطّفت ... أظفاره فتخالها أقواسا
لان الحديد لجلده فإهابه ... يكفيه من دون الحديد لباسا
مصطكّة أرساغه بعظامه ... فكأنّ بين فصولها «1» أجراسا
وإذا نظرت إلى وميض جفونه ... أبصرت بين شفورها «2» مقباسا
وقال آخر:
توقّ- وقاك «3» ربّ الناس- ليثا ... حديد النّاب والأظفار وردا
كأنّ بملتقى اللّحيين منه ... مذرّبة «4» الأسنّة أو أحدا
وتحسب لمح عينيه هدوءا «5» ... ورجع زئيره برقا ورعدا
تهاب الأسد حين تراه منه «6» ... اذا لاقينه «7» فى الغاب فردا
تصدّ عن الفرائس حين يبدو ... وكانت قبل تانف أن تصدّا(9/237)
وقال أبو الطّيّب المتنبّى- رحمه الله-:
ورد إذا ورد البحيرة «1» واردا «2» ... ورد الفرات زئيره والنّيلا
متخضّب بدم الفوارس لابس ... فى غيله «3» من لبدتيه غيلا
فى وحدة الرّهبان إلّا أنّه ... لا يعرف التحريم والتّحليلا
وقعت على الأردنّ «4» منه بليّة ... نظمت «5» بها هام الرفاق تلولا
يطأ البرى «6» مترفّقا «7» من تيهه ... فكأنّه آس يجسّ عليلا
ويردّ غفرته «8» إلى يافوخه ... حتّى تصير لرأسه إكليلا(9/238)
قصرت مخافته الخطا فكأنّما ... ركب الكمىّ جواده مشكولا
وقال عبد الجبّار بن حمديس:
وليث مقيم فى غياض منيعة ... أمير على الوحش المقيمة فى القفر
يوسّد شبليه لحوم فوارس ... ويقطع كاللّصّ السبيل على السّفر
هزبرله فى فيه نار وشفرة ... فما يشتوى لحم القتيل على الجمر
سراجاه عيناه إذا أظلم الدّجى ... فإن بات يسرى باتت الوحش لا تسرى
له جبهة مثل المجنّ ومعطس ... كأنّ على أرجائه صبغة الحبر «1»
يصلصل «2» رعد من عظيم زئيره ... ويلمع برق من حماليقه «3» الحمر
له ذنب مستنبط منه سوطه ... ترى الأرض منه وهى مضروبة الظهر
ويضرب جنبيه به فكأنّما ... له فيهما طبل يحضّ على الكرّ
ويضحك فى التّعبيس فكّيه عن مدى ... نيوب «4» صلاب ليس تهتمّ بالفهر «5»
يصول بكفّ عرض شبرين عرضها ... خناجرها أمضى من القضب البتر
يجرّد منها كلّ ظفر كأنّه ... هلال بدا للعين فى أوّل الشهر.
وقال بشر بن عوانة الفقعسىّ «6» يصف ملاقاته الأسد وما كان بينهما:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا(9/239)
إذا لرأيت ليثا رام ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
تبهنس «1» إذ تقاعس «2» عنه مهرى ... محاذرة فقلت: عقرت مهرا
أنل قدمىّ ظهر الأرض إنّى ... وجدت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له وقد أبدى نصالا ... مذرّبة «3» ووجها مكفهرّا
يدلّ بمخلب وبحدّ ناب ... وباللّحظات تحسبهنّ جمرا
وفى يمناى ماضى الحدّ أبقى ... بمضربه قراع الموت أثرا «4»
ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكاظمة «5» غداة لقيت عمرا
وقلبى مثل قلبك لست «6» أخشى ... مصاولة ولست «7» أخاف ذعرا(9/240)
وأنت تروم للأشبال قوتا ... وأطلب «1» لابنة الأعمام مهرا
ففيم تروم مثلى أن يولّى ... ويترك فى يديك النفس قسرا «2» ؟!
نصحتك فالتمس يا ليث غيرى ... طعاما إنّ لحمى كان مرّا
ولمّا ظنّ أنّ الغشّ نصحى ... وخالفنى كأنّى قلت هجرا
دنا «3» ودنوت من أسدين «4» راما ... مراما كان إذ طلباه وعرا
يكفكف غيلة إحدى يديه ... ويبسط للوثوب علىّ أخرى
هززت له الحسام فخلت أنّى ... شققت «5» به من الظلماء فجرا
حساما لو رميت به المنايا ... لجاءت نحوه تعطيه عذرا
وجدت له بجائفة»
رآها ... بمن كذبته ما منّته غدرا «7»(9/241)
بضربة فيصل تركته شفعا ... وكان كأنّه الجلمود وترا
فخرّ مضرّجا بدم كأنّى ... هدمت به بناء مشمخرّا
وقلت له: يعزّ علىّ أنّى ... قتلت مناسبى جلدا وقهرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا
تحاول أن تعلّمنى فرارا ... لعمر أبيك قد حاولت نكرا
فلا تبعد لقد لاقاك حرّ ... يحاذر أن يعاب فمتّ حرّا
وأمّا الببر [وما قيل «1» فيه]
فهو سبع هندىّ، ويقال: حبشىّ؛ وهو فى صورة أسد كبير، أزبّ «2» ملمّع بصفرة وسواد، ويقال: إنّه متولّد بين الزّبرقان «3» واللّبؤة؛ وفى طبعه أنّه يسالم النّمر وغيره من السباع ما لم يستكلب، فاذا استكلب خافه كلّ شىء كان يسالمه، وهو والأسد متوادّان أبدا، ومودّته معه كمودّة الخنافس والعقارب والحيّات والوزغ؛ ويقال: إنّ الأنثى منه تلقح بالريح، ولهذا يقال: إنّ عدوه يشبه الرّيح سرعة، ولا يقدر أحد على صيده؛ وإنّما تسرق جراؤه فتحمل فى مثل القوارير من زجاج، ويركض بها على الخيول السوابق، فإن أدركهم أبوها رمى اليه بقارورة منها، فيشتغل بالنظر إليها والفكرة «4»(9/242)
فى إخراج جروه منها، فيفوته الآخذ لها؛ وزعم قوم أنه إذا استكلب ورآه الأسد رقد له حتّى يبول فى أذنه خوفا منه ورهبة له؛ هكذا نقل صاحب مباهج الفكر ومناهج العبر، ولم أقف على شعر فى وصف الببر ولا رسالة فأوردها.
ذكر ما قيل فى النّمر
والنّمر له أسماء، منها السّبندى والسّبنتى، والطرح «1» : [ولده «2» ] ، وجمعه طروح؛ والتلوة «3» والختعة: [الأنثى «4» ] .
وزعم أهل البحث عن طبائع الحيوان والاطّلاع على أسراره أنّ النّمرة لا تضع ولدها إلّا وهو مطوّق بأفعى، وهى تعيّث «5» وتنهش «6» إلّا أنّها لا تقتل؛ وفى طبع النّمر وعادته أنّه يشبع لثلاثة أيّام، ويقطعها بالنوم، ثمّ يخرج فى اليوم الرابع، ومتى لم يصد لم يأكل، ولا يأكل من صيد غيره كالأسد، وينزّه نفسه عن أكل الجيف ولو مات جوعا؛ وهو لا يأكل لحوم الناس إلّا للتداوى من داء يصيبه؛ وفيه(9/243)
زعارّة «1» خلق، وحدّة نفس، وتجهّم وجه، وشدّة غيظ، ولهذا يقال فى الرجل إذا اشتدّ غضبه وكثر غيظه على عدوّه: «لبس له جلد النّمر» ، أى «2» تخلّق بأخلاقه؛ والنّمر بعيد الوثبة، وربّما وثب أربعين ذراعا صعودا إلى مجثمه الذى يأوى اليه، وقد شوهد وهو يثب فى اللّيل فيصير فى داخل زريبة الغنم فيأخذ الشاة فيحذفها إلى خارج الزّريبة، ثمّ يثب فيسبقها إلى الأرض، ويتناولها من الهواء قبل أن تسقط على الأرض؛ ومن خصائصه الغريبة أنّ المعضوض منه يطلبه الفأر حيث كان، ويقصده ليبول عليه، فإن ظفر به وبال عليه مات؛ والناس يحترزون على من يجرحه النّمر غاية الاحتراز، والفأر يطلب المجروح كلّ الطلب، ومن أعجب ما سمعت أنّ إنسانا جرحه النّمر فاحترز على نفسه من الفأر، فركب فى مركب، ووقف به فى الماء وقد وثق بذلك، وظنّ أنّ الفأر لا يصل إليه، فاتّفق لنفوذ القضاء المقدّر الذى لا حيلة فى دفعه أنّ حدأة اختطفت فأرا من الأرض، وطارت فخاذت المجروح فلمّا سامته الفأر بال عليه فمات. وقد وجد فى بعض الكتب القديمة: أنّ النّمر إذا عضّ إنسانا أخذ زهر السّمّاق «3» ودلك به الجرح، فإنّ الفأر لا يقاربه، ويكون فى ذلك شفاؤه؛ وأخبرنى من عاين ذلك عند التّجربة؛ والنّمر يحبّ شرب الخمر، وبها يصاد، فإنه اذا سكر نام؛ وزعموا أنّه يتولّد بينه وبين اللّبؤة سبع يسمّى الذراع «4» على قدر الذئب العظيم، كثير الجراءة، لا يأوى معه شىء من السباع والوحوش.(9/244)
ووصف كشاجم النّمر من طرديّة «1» فقال:
وكالح كالمغضب المهيج ... جهم المحيّا ظاهر النّشيج «2»
يكشر عن مثل مدى العلوج «3» ... أو كشبا أسنّة الوشيج
مدبّج الجلد بلا تدبيج ... كأنّه من نمط «4» منسوج
تريك فيه لمع التدريج ... كواكبا لم تك فى بروج
ولم أقف فى وصف النّمر على غير ذلك فأذكره.(9/245)
الباب الثانى من القسم الأوّل من الفنّ الثالث فيما قيل فى الفهد والكلب والذئب والضبع والنّمس
ذكر ما قيل فى الفهد
يقال للذّكر: الفهد، وللأنثى: فهدة «وهما البنّة، ولذلك يكنى أبابنّة «1» » ، وجروه الهوبر، والأنثى هبيرة «2» ؛ قال أرسطو: إنّ الفهد متولّد بين أسد ونمرة، أو لبؤة ونمر؛ ويقال: إنّ الفهدة إذا حملت وثقل حملها حنا عليها كلّ ذكر يراها من الفهود، ويواسيها من صيده، فاذا أرادت الولادة هربت إلى موضع قد أعدّته لنفسها، حتى اذا علّمت أولادها الصيد تركتها؛ وبالفهد يضرب المثل فى شدّة النوم؛ قال بعض الشعراء:
رقدت مقلتى وقلبى يقظا ... ن يحسّ الأمور حسّا شديدا
يحمد النّوم فى الجواد كمالا ... يمنع الفهد «3» نومه أن يصيدا(9/246)
وقال الجاحظ: قال صاحب «1» المنطق: والفهد إذا اعتراه الداء الذى يقال له:
(خانقة الفهود) أكل العذرة فبرأ منه؛ قال: والسباع تشتهى رائحة الفهود، والفهد يتغيّب عنها «2» ، وربّما قرب بعضها من بعض فيطمع الفهد فى نفسه، فإذا أراده الفهد «3» وثب عليه السبع «4» فأكله؛ قالوا: وليس شىء فى الحيوان فى جرم الفهد إلّا والفهد أثقل منه وأحطم لظهر الدابّة؛ والإناث أصعب خلقا وأكثر جراءة وإقداما من الذكور؛ ومن خلق الفهد الحياء، وذلك أنّ الرّجل يمرّ بيده على سائر جسده فيسكن لذلك، فإذا وصلت يده إلى مكان الثّفر «5» قلق حينئذ وغضب؛ ويقال: أوّل من صاد بالفهد كليب وائل، وقيل: همّام بن مرّة، وكان صاحب لهو وطرب؛ وأوّل من حمله على الخيل يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، وأكثر من اشتهر باللّعب بها أبو مسلم الخراسانىّ صاحب الدّعوة العبّاسيّة، وأوّل من استسنّ حلقة «6» الصيد المعتضد بالله؛ والمواضع التى توجد فيها الفهود ما يلى بلاد الحجاز إلى اليمن، وما يلى(9/247)
الحجاز إلى العراق، وما يلى بلاد الهند الى تبّت «1» ، وتوجد أيضا فى برّيّة عيذاب من أعمال قوص من الدّيار المصريّة.
وقد ولع الشعراء والفضلاء بوصف الفهود نظما ونثرا؛ فمن ذلك قول أبى إسحاق الصابى فى رسالة طرديّة «2» جاء منها: ومعنا فهود أخطف من البروق، وأسرع من السهم حين المروق؛ وأثقف «3» من اللّيوث، وأجرى من الغيوث؛ وأمكر من الثعالب وأدبّ من العقارب؛ خمص الخصور قبّ «4» البطون، رقش «5» المتون؛ حمر الآماق خزر «6» الأحداق، هرت «7» الأشداق؛ عراض الجباه غلب «8» الرّقاب، كاشرة عن أنياب كالحراب؛ تلحظ الظّباء من أبعد غاياتها، وتعرف حسّها من أقصى نهاياتها؛ تتبع مرابضها وآثارها، وتشمّ روائحها وأبشارها.(9/248)
ومن رسالة طرديّة لضياء الدّين نصر الله بن الأثير الجزرىّ يصف فهدا بعد ان ذكر ظبيا، قال: فأرسلنا عليه فهدا سلس الضّريبه «1» ، ميمون النقيبه، منتسبا إلى نجيب من الفهود ونجيبه؛ كأنما ينظر من جمره، ويسمع من صخره، ويطأ من كلّ برثن على شفره؛ وله إهاب قد جبل «2» من ضدّين: بياض وسواد، وصوّر على أشكال العيون فتطلّعت إلى انتزاع الأرواح من الأجساد؛ وهو يبلغ المدى الأقصى فى أدنى وثباته، ويسبق الفريسة ولا يقبضها إلّا عند التفاته.
وقال أحمد بن زياد بن أبى كريمة يصفها بعد أن وصف الكلب من ابيات:
بذلك أبغى الصيد طورا وتارة ... بمخطفة الأكفال «3» رحب التّرائب
مرقّقة الأذناب نمر «4» ظهورها ... مخطّطة الاذان غلب «5» الغوارب(9/249)
مدنّرة «1» ورق «2» كأنّ عيونها ... حواجل «3» تستوعى «4» متون الرّواكب
اذا قلّبتها فى الحجاج «5» حسبتها ... سنا ضرم فى ظلمة الليل ثاقب
مولّعة «6» فطس «7» الأنوف عوابس ... تخال على أشداقها خطّ كاتب(9/250)
نواصب للآذان حتّى كأنّها «1» ... مداهن، للإجراس «2» من كلّ جانب
ذوات «3» أشاف «4» ركّبت فى أكفّها ... نوافذ فى صمّ الصخور نواشب
ذراب «5» بلا ترهيف قين «6» كأنّها ... تعقرب أصداغ الملاح الكواعب
فوارس ما لم تلق حربا، ورجلة «7» ... إذا آنست بالبيد شهب «8» الكتائب(9/251)
تروّ وتسكين يكون دريئة ... لهنّ «بذى الأسراب «1» » فى كلّ لاحب «2»
تضاءل حتّى ما تكاد تبينها ... عيون لدى الضّبرات «3» غير كواذب
حراص يفوت البرق أمكث «4» جريها ... ضراء «5» مبلّات «6» بطول التّجارب
توسّد أجياد الفرائس «7» أذرعا ... مرمّلة «8» تحكى عناق الحبائب
وقال ابن المعتزّ:
ولا صيد إلّا بوثّابة ... تطير على أربع كالعذب «9»
ملمّعة «10» من نتاج الرّياح ... تريك على الأرض شيئا عجب(9/252)
تضمّ الطريد إلى نحرها ... كضمّ المحبّة من لا يحب
إذا ما رآى عدوها خلفه ... تناجت ضمائره بالعطب
لها مجلس فى مكان الرّديف ... كتركيّة قد سبتها العرب
ومقلتها سائل كحلها ... وقد حلّيت سبحا من ذهب
متى أطلقت من قلاداتها ... وطار الغبار وجدّ الطلب
غدت وهى واثقة أنّها ... تقوم بزاد الخميس اللّجب
وقال محمد بن أحمد السّرّاج يصفه:
وأهرت «1» الشّدق فى فيه وفى يده ... ما فى الصوارم والخطّيّة الذّبل
تساهم اللّيل فيه والنهار معا ... فقمّصاه «2» بجلباب من المقل
والشمس مذ لقّبوها بالغزالة لم ... تطلع لناظره إلّا على وجل
وقال آخر:
وأهرت «3» الشّدق بادى السّخط مطّرح الحياء ... جهم المحيّا سيئ الخلق
والشمس مذ لقّبوها بالغزالة أعطته ... الرّشاء «4» جدا «5» من ثوبها اليقق «6»(9/253)
ونقّطته حباء «1» كى يسالمها ... على «2» المنايا نعاج «3» الرمل بالحدق
وقال آخر:
تغاير اللّيل فيه والنهار معا ... فحليّاه بجلباب من الحدق
والشمس مذ لقّبوها بالغزالة لم ... تطلع على وجهه من شدّة الحنق «4»
ذكر ما قيل فى الكلاب
يقال: إن بين الكلب والضّبع عداوة شديدة، وذلك أنه إذا كان فى مكان مرتفع ووطئت الضّبعة «5» ظلّه فى القمر رمى نفسه إليها مخذولا فأكلته؛ ويقال: إنّ الإنسان متى حمل لسان ضبع لم ينبح عليه كلب؛ ومتى دهن كلب بشحمها جنّ؛ وفى طبع الكلب أنه يحمى ربّه، ويحمى حريمه شاهدا وغائبا، ونائما ويقظان؛ والكلب أيقظ الحيوان عينا فى وقت حاجته «6» الى النوم، وأنومها نهارا عند استغنائهم عن حراسته؛ ومن عجيب أمره أنه يكرم الجلّة من الناس وأهل الوجاهة؛ فلا ينبح على أحد منهم، وربّما حاد عن طريقهم [وينبح «7» ] على الأسود والوسخ الثوب والزّرىّ الحال والصغير.(9/254)
وأمّا ما فى الكلب من المنافع الطيّبة
- فقد قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ بول الكلب يستعمل على الثآليل «1» ، ودم الكلب لنهوشه «2» ولسمّ السهام «3» الأرمنيّة «4» ؛ وقال إبراهيم بن هرمة- رحمة الله تعالى عليه-:
أوصيك خيرا به فإنّ له ... سجيّة لا أزال أحمدها
يدلّ ضيفى علىّ فى غسق الليل ... إذا النار نام موقدها
وقال أيضا:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلّمه من حبّه وهو أعجم
فصل
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فى كتاب الحيوان: وزعموا أنّ ولد الذئب [من الكلبة «5» ] يقال له: الدّيسم، وروى لبشّار بن برد فى ديسم العنزىّ أنه قال:
أديسم يا ابن الذئب من نسل زارع ... أتروى هجائى سادرا غير مقصر
قال: وزارع، اسم الكلب، يقال للكلاب: أولاد زارع؛ قال: وزعم صاحب «6» المنطق أنّ أصنافا أخر من السباع المتزاوجات المتلاقحات مع اختلاف الجنس والصورة(9/255)
معروفة النّتاج مثل الذئاب التى تسفد الكلاب فى أرض رومية «1» ؛ قال: وتتولّد أيضا كلاب سلوقيّة بين ثعالب وكلاب؛ قال: وبين الحيوان الذى يسمّى باليونانيّة «طاغريس «2» » والكلب تحدث هذه الكلاب الهنديّة؛ قال: وليس يكون ذلك من الولادة الأولى؛ هذا ما حكاه الجاحظ عن صاحب المنطق. وحكى الجاحظ عن بعض البصريّين عن بعض أصحابه، قال: وزعموا أنّ النّتاج الأوّل يخرج صعبا وحشيّا لا يلقّن ولا يؤلّف؛ وزعم لى بعضهم عن رجل من أهل الكوفة من بنى تميم أنّ الكلبة تعرض لهذا السبع حتى تلقح، ثم تعرض لمثله مرارا حتى يكون جرو البطن الثالث قليل الصعوبة يقبل التلقين، وأنّهم يأخذون إناث الكلاب ويربطونها فى تلك البرارىّ، فتجىء هذه السباع فتسفدها، قال: وليس فى الأرض أنثى يجتمع على حبّ سفادها، ولا ذكر يجتمع له من النّزاع «3» إلى سفاد الأجناس المختلفة أكثر فى ذلك من الكلب والكلبة؛ وقال: اذا ربطوا هذه الكلاب الإناث فى تلك البرارىّ، فإن كانت هذه السباع هائجة سفدتها، وإن لم تكن السباع هائجة فالكلبة مأكولة؛ قال الجاحظ: ولو تمّ للكلب معنى السّبع وطباعه ما ألف الإنسان واستوحش «4» من السّبع، وكره الغياض، وألف الدّور، واستوحش من البرارىّ(9/256)
وجانب القفار، وألف المجالس والدّيار؛ ولو تمّ له معنى البهيميّة فى الطبع والخلق والغذاء ما أكل الحيوان، وكلب «1» على الناس، نعم حتّى ربّما وثب على صاحبه؛ وذكر من معايب الكلب وذمّه، فقال: إنّه حارس محترس منه، ومؤنس شديد الإيحاش من نفسه، وأليف كثير الجناية «2» على إلفه، وانما قبلوه «3» حين قبلوه على أن ينذرهم بموضع السارق، وتركوا طرده لينبّههم على مكان المبيّت «4» ، وهو أسرق من كلّ سارق، وأدوم جناية من ذلك المبيّت»
، فهو سرّاق وصاحب بيات، وأكّال للحوم الناس إلّا أنّه يجمع «6» سرقة الليل مع سرقة النهار، ثم لا تجده أبدا يمشى فى خزانة «7» أو مطبخ أو فى عرصة دار أو فى طريق أو برارىّ، أو على ظهر جبل أو فى بطن واد إلّا وخطمه «8» أبدا فى الأرض يشمّم ويستروح؛ وإن كانت الأرض بيضاء حصّاء «9» ، أو دوّيّة «10» ملساء، أو صخرة خلقاء «11» ، حرصا وجشعا، وشرّها وطمعا، نعم حتّى(9/257)
تجده أيضا لا يرى كلبا إلّا شمّ استه، ولا يشمّ غيرها منه، ولا تراه يرمى بحجر أبدا إلّا رجع إليه فعضّ عليه، لأنه لمّا كان لا يكاد يأكل إلّا شيئا رموا به اليه صار ينسى لفرط شرهه وغلبة الجشع على طبعه أنّ الرامى إنما «1» أراد عقره أو قتله، فيظنّ لذلك أنه إنّما أراد إطعامه والإحسان اليه، كذلك يخيّل اليه فرط النّهم، وتوهمه غلبة الشّره، ولكنّه رمى «2» بنفسه على الناس عجزا ولؤما، وفسولة «3» ونقصا، وخاف السباع واستوحش من الصّحارى؛ وسمعوا بعض المفسّرين يقول فى قوله عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)
: إنّ المحروم هو الكلب؛ وسمعوا فى المثل:
«اصنع المعروف ولو إلى كلب» ، فلذلك عطفوا عليه، واتّخذوه فى الدّور، على أنّ ذلك لا يكون إلّا من سفلتهم وأغبيائهم، ومن قلّ تقزّزه «4» ، وكثر جهله، وردّ الآثار إمّا جهلا وإمّا معاندة؛ ووصف «5» فى ذمّه ومعايبه ما ذكره صاحب الدّيك من ذمّ الكلاب، وتعداد أصناف معايبها ومثالبها، من لؤمها وخبثها «6» وضعفها وشرهها وغدرها وبذائها وجهلها وتسرّعها ونتنها وقذرها، وما جاء فى الآثار من النّهى(9/258)
عن اتّخاذها وإمساكها، ومن الأمر بقتلها وإطرادها «1» ، ومن كثرة جناياتها وقلّة ودّها «2» ، وضرب المثل بلؤمها ونذالتها وقبحها وسماجة نباحها وكثرة أذاها وتقذّر «3» المسلمين من دنوّها «4» ، وأنّها تأكل لحوم الناس، وأنّها مطايا الجنّ، ونوع من المسخ، وأنّها تنبش القبور، وتأكل الموتى، وأنّها يعتريها الكلب من أكل لحوم الناس، إلى غير ذلك من مساويها، ثم ذكر قول من عدّد محاسنها وصنّف مناقبها وأخذ فى ذكر أسمائها وأنسابها وأعراقها وتفدية الرجال لها، وذكر كسبها وحراستها ووفائها وإلفها وجميع منافعها، والمرافق التى فيها، وما أودعت من المعرفة الصحيحة والفطنة العجيبة، والحسّ اللّطيف، والأدب المحمود، وصدق الاسترواح، وجودة الشّمّ، وذكر حفظها وإتقانها واهتدائها، وإثباتها لصور أربابها وجيرانها، ومعرفتها بحقوق الكرام، وإهانتها اللّئام، وصبرها على الجفاء، واحتمالها للجوع، وشدّة منّتها «5» وكثرة يقظتها، وعدم «6» غفلتها، وبعد أصواتها، وكثرة نسلها، وسرعة قبولها ولقاحها مع «7» اختلاف طبائع ذكورتها «8» والذّكورة «9» من غير جنسها، وكثرة أعمامها وأخوالها(9/259)
وتردّدها فى أصناف السّباع، وسلامتها من أعراق البهائم، وغير ذلك من محاسنها؛ وأورد ذلك بألفاظ طويلة، وأدلّة كثيرة، واستطرادات يطول الشرح فى ذكرها فأضربنا عن ذلك رغبة فى الاختصار؛ فلنذكر ما يحتاج الكاتب الى الاطّلاع عليه ويدور فى ألفاظ الكتّاب من وصف كلاب الصّيد، التى لا بدّ للكاتب من معرفة جيّدها وأفعالها، ليضمّنه ما يصدر عنه من الرسائل الطّرديّة، فنقول: دلائل النّجابة والفراهة «1» فيها تعرف من خلقتها وألوانها ومولدها.
أمّا فى الخلقة
- فقد قالوا: طول ما بين اليدين والرجلين، وقصر الظّهر وصغر الرأس، وطول العنق، وغضف «2» الأذنين، وبعد ما بينهما، وزرقة «3» العينين ونتوء الجبهة وعرضها، وقصر اليدين.
وأمّا فى الألوان
، فإنه يقال: السّود أقلّ صبرا على الحرّ والبرد، والبيض أفره اذا كنّ سود العيون؛ وقد قال قوم: إنّ السّود أصبر على البرد وأقوى.
وأمّا فى ولادتها
- فإنه يقال: إذا ولدت الكلبة جروا واحدا كان أفره «4» من أبويه، وإن ولدت ذكرا وأنثى كان الذكر أفره «5» ، وإن ولدت ثلاثة فيها أنثى شبه الأمّ كانت أفره «6» الثلاثة، وإن كان فى الثلاثة ذكر واحد فهو أفره «7» .(9/260)
ذكر شىء ممّا وصفت به كلاب الصيد نثرا ونظما
قال أبو إسحاق الصّابى يصفها من رسالة طرديّة: ومعنا كلّ كلب عريق المناسب، نجيح المكاسب؛ حلو الشمائل، نجيب المخايل؛ حديد الناظرين، أغضف «1» الأذنين، أسيل الخدّين، مخطف «2» الجنبين؛ عريض الزّور «3» ، متين الظّهر؛ أبىّ النفس، ملهب الشدّ؛ لا يمسّ الأرض إلّا تحليلا «4» وإيماء، ولا يطؤها إلّا إشارة وإيحاء.
وقال بعض الشعراء:
أبعث كلبا يكسر اليحمورا «5» ... مجرّبا مدرّبا صبورا
يأنف أن يشاكل الصّقورا ... منفردا بصيده مغيرا
ذا شية تحسبها حريرا ... قد حبّرت نقوشها تحبيرا
إذا جرى حسبته المقدورا ... يكاد للسرعة أن يطيرا
حتفا «6» لما عنّ له مبيرا «7» ... أعجز أن أرى له نظيرا(9/261)
وقال أبو نواس:
هجنا بكلب طالما هجنا به ... ينتسف «1» المقود من جذابه «2»
كأنّ متنيه لدى انسلابه «3» ... متنا شجاع «4» لجّ فى انسيابه
كأنّما الأظفور فى قنابه «5» ... موسى صناع ردّ فى نصابه «6»
تراه فى الحضر «7» إذا هاهى «8» به ... يكاد أن يخرج من إهابه
ترى سوام الوحش إذ تحوى به ... يرحن أسرى ظفره ونابه
وقال أيضا:
كأنّ لحييه «9» لدى افتراره «10» ... شكّ «11» مسامير على طواره «12»(9/262)
سمع «1» إذا استروح «2» لم تماره ... إلّا بأن يطلق من عذاره
فانصاع «3» كالكوكب فى انحداره ... لفت المشير موهنا «4» بناره
شدّا «5» إذا أخصف «6» فى إحضاره ... خرّق أذنيه شبا أظفاره.
وقال بعض الأندلسيّين «7» :
[وأغضف «8» تلقى أنفه فكأنّما ... يقود به نور من الصبح أنور]
إذا ألهبته شهوة الصّيد طامعا ... رأيت عقيم الرّيح عنه تقصّر(9/263)
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة:
ومورّس «1» السربال يخلع قدّه «2» ... عن نجم رجم فى سماء غبار
يستنّ فى سنن الطريق وقد عفا ... قدما فيقرأ أحرف الآثار
عطف الضّمور سراته «3» فكأنّه ... والنّقع يحجبه هلال سرار «4»
يفترّ عن مثل النّصال وإنّما ... يمشى على مثل القنا الخطّار
وقال آخر:
ومؤدّب الآساد يمسك صيده ... متوقّفا «5» عن أكله كالصائم
صبّ «6» اذا ما صاد عانق صيده ... طرب المقيم إلى لقاء القادم(9/264)
وقال آخر:
وما الظّبى منه فى حشاشة «1» نفسه ... ولكنّه كالطفل فى حجر أمّه
يلازمه دون اخترام «2» كأنّما ... تعلّق خصم عند قاض بخصمه
وقال ابن المرغرىّ «3» النصرانىّ الأندلسىّ منشدا:
لم أر ملهّى لذى اقتناص ... ومكسبا مقنع الحريص
كمثل خطلاء «4» ذات جيد ... أتلع «5» مصفرّة القميص
كالقوس فى شكلها ولكن ... تنفذ كالسهم للقنيص
لو أنّها تستثير برقا ... لم يجد البرق من محيص
محبولة «6» الظهر لم يخنه ... لحوق بطن به خميص
اتّخذت أنفها دليلا ... قاد إلى الكانس العويص(9/265)
وكلبة «1» تاهت على الكلاب ... بجلدة صفراء كالزّرياب «2»
تنساب مثل الحيّة المنساب «3» ... كأنّها تنظر من شهاب «4»
وقال أحمد بن زياد بن أبى كريمة يصف كلب صيد من قصيدة طويلة، أوّلها:
وغبّ غمام مزّقت عن سمائه ... شآمية «5» حصّاء جون السحائب «6»
مواجه «7» طلق لم يردّد جهامه ... تذاؤب «8» أرواح الصّبا والجنائب
بعثت وأثواب الدّجى قد تقلّصت ... بغرّة مشهور من الصبح ثاقب(9/266)
وقد لاح ناعى الليل حتّى كأنّه ... لسارى الدجى فى الفجر قنديل راهب
بها ليل «1» لا يثنيهم عن عزيمة ... وإن كان جمّ الرّشد لوم «2» الأقارب
لتجنيب «3» غضف كالقداح لطيفة ... مشرّطة «4» آذانها بالمخالب
تخال سياطا فى صلاها «5» منوطة ... طوال الهوادى «6» كالقداح الشوازب «7»
اذا افترشت خبتا «8» أثارت بمتنه ... عجاجا وبالكذّان «9» نار الحباحب «10»(9/267)
تفوت خطاها الطّرف سبقا كأنّها ... سهام مغال «1» أو رجوم الكواكب
طراد الهوادى «2» لاحها «3» كلّ شتوة ... بطامسة الأرجاء مرت «4» المسارب
تكاد من الأحراج «5» تنسلّ كلّما ... رأت شبحا لولا اعتراض المناكب
تسوف «6» وتوفى كلّ نشز «7» وفدفد «8» ... مرابض «9» أبناء النّفاق «10» الأرانب
كأنّ بها ذعرا يطير قلوبها ... أنين المكاكى «11» أو صرير الجنادب(9/268)
تدير عيونا ركّبت فى براطل «1» ... كجمر الغضى خزرا «2» ، ذراب الأنايب «3»
إذا ما استحثّت لم يجن «4» طريدها ... لهنّ ضراء «5» أو مجارى المذانب «6»
وإن باصها «7» صلتا «8» مدى الطّرف أمسكت ... عليه بدون الجهد سبل المذاهب
تكاد تفرّى «9» الأهب عنها إذا انتحت ... لنبأة «10» شخت «11» الجرم عارى الرواجب «12»(9/269)
كأنّ غصون الخيزران متونها ... إذا هى جالت فى طراد الثّعالب
كواشر عن أنيابهنّ كوالح ... مذلّقة «1» الآذان شوس «2» الحواجب
كأنّ بنات القفر «3» حين تفرّقت ... غدون عليها بالمنايا الشواعب
ذكر ما قيل فى الذئب
والذئب له أسماء نطقت بها العرب، ذكره ذئب، والأنثى ذئبة وسلقة وسيدانة «4» ، ويكنى أبا جعدة، ومن أسمائه: نهشل، وأويس، وذؤالة، وأشبة، ونشبة، وكساب، وكسيب «5» ، والعسعاس، والعسّاس، والخيعل، والعملّس، والطّملّ «6» ، والشّيذمان «7» ، والشّيمذان، والخيتعور، والقلّيب، والعلّوش، ورئبال، والسّرحان(9/270)
ومصدّر، والعسول، والنّسول، والخاطف، والأزلّ، والأرسح: القليل لحم الوركين، والعمرّد. ويقال لولد الذئب: جرموز، والأنثى: جعدة «1» .
ويقال: إن الذئب إذا لم يجد ما يأكله استعان بإدخال النسيم فى فيه، فيقتات به؛ وجوفه يذيب العظم، ولا يذيب نوى التمر؛ وقال بعض من اعتنى بسرّ طبائع الحيوان: إنه لا يلتحم عند السّفاد إلا الذئب والكلب، وهو يسفد مضطجعا على الأرض، وذكره عظم؛ والذئب موصوف بالانفراد والوحدة وشدّة التوحّش؛ وإذا خفى عليه موضع الغنم عوى ليؤذنهم بمكانه، ويعلمهم بقربه، فاذا حضرت الكلاب إلى الناحية التى هو فيها راغ عنها الى جهة الغنم التى ليس فيها كلب؛ وهو لا يعود إلى فريسة بعد أن يشبع منها؛ وهو ينام بإحدى عينيه ويفتح الأخرى، فإذا اكتفت النائمة وأخذت حقّها من النوم فتحها ونام بالأخرى؛ فهذا أبدا دأبه فى نومه؛ وهو قوىّ حاسّة الشّمّ، قيل: إنّه يشمّ من فرسخ؛ وأكثر ما يعترض الغنم وقت الصبح عند توقّعه فترة الكلاب ونومها؛ ومن عادة الذئاب أنّه إذا افترس ذئبان شاة قسماها على شطرين بينهما بالسويّة؛ والذئب إذا وطئ ورق العنصل «2» مات لوقته؛ وبينه وبين الغنم معاداة عظيمة، فمنها أنّه إذا جمع بين وتر عمل من أمعاء ذئب وبين أوتار عملت من أمعاء الغنم وضرب بها(9/271)
لا يسمع لها صوت؛ واذا اجتمع جلد شاة مع جلد ذئب تمعّط «1» جلد الشاة؛ والذئب إذا كدّه الجوع عوى، فتجتمع له الذئاب، ويقف بعضها إلى بعض، فمن ولّى منها وثب الباقون عليه فأكلوه، وهو إذا تعرّض لإنسان وخاف العجز عنه عوى، فيسمعه غيره من الذئاب، فتقبل على الإنسان، فإذا أدمى الإنسان منها واحدا وثب الباقون على المدمى فمزّقوه وتركوا الإنسان، ولذلك قال بعض الشعراء «2» يعاتب صديقا له أعان عليه فى مصيبة نزلت به:
وكنت كذئب السوء لمّا رأى دما ... بصاحبه يوما أعان على الدّم
والذئب لا يواجه الإنسان، وإنما يأتيه من ورائه، فإن وجد الإنسان ما يسند ظهره إليه عجز الذئب عن افتراسه.
وقد وصف الشعراء الذئب بما ذكرناه من عادته وطبعه، فقال حميد بن ثور:
ونمت كنوم الذئب عن ذى حفيظة ... أكلت طعاما دونه وهو جائع
ترى طرفيه يعسلان «3» كليهما «4» ... كما اهتزّ عود النّبعة المتتابع
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقى ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
وقال إبراهيم بن خفاجة:
ولربّ روّاغ هنالك أنبط «5» ... ذلق «6» المسامع أطلس «7» الأطمار(9/272)
يجرى على حذر فيجمع بسطه «1» ... يهوى فينعطف انعطاف سوار
والعرب تقول فى أمثالها: «أحمق من جهيزة» قالوا: وجهيزة عرس الذئب، لأنّها تدع ولدها وترضع ولد الضّبع «2» ، وهو معنى قول ابن جذل «3» الطّعان:
كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت ... بنيها ولم ترقع بذلك مرقعا
وقول الآخر:
كانوا كتاركة بنيها جانبا ... سفها وغيرهم تربّ وترضع
ويقولون: إنّ الضّبع إذا قتلت أو صيدت فإنّ الذئب يأتى أولادها باللّحم وأنشدوا قول الكميت:
كما خامرت فى حضنها «4» أمّ عامر ... لدى الحبل «5» حتّى عال «6» أوس عيالها
وأوس، هو الذئب كما تقدّم «7» فى أسمائه.(9/273)
ذكر ما قيل فى الضبع
يقال: إنّ الضّبع كالأرنب، تكون مرّة «1» ذكرا ومرّة «2» أنثى، وهم يسمّون الذكر والأنثى: الضبع «3» والذّيخ «4» ، ومن أسمائها: حضاجر، وجيأل، وجعار، وقثام، ونقاث، والعرفاء، لطول عرفها، والعثواء لنفول «5» شعرها، والعرجاء، والخامعة، وأمّ عامر وأمّ هنبر «6» ، وأمّ خنّور؛ وولدها الفرعل؛ وحجرها الوجار. والضبعة «7» مولعة بنبش القبور، وإنّما ذلك لشهوتها فى لحوم الناس؛ ومن عاداتها إذا كان القتيل بالعراء وورم وانتفخ ذكره تأتيه فتركبه وتقضى حاجتها منه، ثم تأكله؛ وهى متى رأت إنسانا نائما حفرت تحت رأسه، فاذا مال رأسه وظهر حلقه ذبحته بأسنانها، وشربت دمه؛ وهى فاسقة، لا يمرّ بها حيوان من نوعها إلّا تعرّضت له حتّى يعلوها؛(9/274)
والعرب تضرب المثل بها فى الفساد، فإنّها إذا وقعت فى الغنم عاثت، ولم تكتف بما يكتفى به الذئب؛ وإذا اجتمع الذئب والضّبع فى الغنم سلمت، فإنّ كلّ واحد منهما يمنع صاحبه، ولذلك تقول العرب فى دعائها للغنم: «اللهمّ ضبعا وذئبا» ؛ والضبع إذا وطئت ظلّ الكلب فى القمر وهو على سطح وقع فتأكله؛ وإذا دخل الرجل وجارها ولم يسدّ منافذ الضوء، ثمّ صار إليها من الضياء ولو بقدر سمّ الخياط، وثبت إليه فقتلته؛ وان أخذ معه حنظلا أمن سطوتها؛ وتوصف بالحمق والموق «1» ، وذلك لأنّ من يريدون صيدها يقفون على باب وجارها ويقولون: «أطرقى أمّ طريق «2» ، خامرى «3» أمّ عامر» فاذا سمعت كلامهم انقبضت، فيقولون: «ابشرى بكمر «4» الرّجال، ابشرى بشاء هزلى وجراد عظلى «5» » وهم مع ذلك يشدّون يديها ورجليها وهى ساكنة لا تتحرّك، ولو شاءت لأجهزت عليهم وقتلتهم وخلّصت نفسها؛ وهذا(9/275)
القول فيما أظنّ من خرافات العرب؛ والضبع تلد من الذئب جروا «1» يسمّى العسبار، ويكون منفردا بنفسه، لا يألف السّباع، ويثب على الناس والدوابّ؛ وهى توصف بالعرج، وفيها يقول بعض الأعراب «2» :
من العثو «3» لا يدرى أرجل شمالها ... بها الظّلع «4» لمّا هرولت أم يمينها
ذكر ما قيل فى النّمس
والعرب تسمّى النّمس الظّربان، وسمّاه أبو عبيد «5» الظّرباء «6» ؛ وهو على قدر الهرّ، وفى قدر الكلب القلطىّ «7» ؛ وهو منتن الرّيح ظاهرا وباطنا، ولونه إلى الشّبهة، طويل الخطم «8» جدّا، وليس له أذنان إلّا صماخان، قصير اليدين، وفيهما براثن حداد، طويل الذّنب، ليس لظهره فقار، ولا فيه مفصل، بل عظم واحد من مفصل(9/276)
الرأس إلى مفصل الذّنب، وربّما ضربه من ظفر به من الناس بالسيف فلا يعمل فيه حتى يصيب طرف أنفه، لأنّ جلده فى قوّته كالقدّ؛ ولفسوه ريح كريهة حتّى إنّه يصيب الثوب فلا تذهب رائحته منه حتّى يبلى، وهو يفسو فى الهجمة «1» من الإبل فتتفرّق ولا تجتمع لراعيها إلّا بعد تعب؛ والعرب تضرب المثل فى تفريق الجماعات به، فيقولون: «فسا بينهم الظّربان» ؛ وهو لأهل مصر كالقنافذ لأهل سجستان فى قتله الثعابين؛ قالوا: ولو لاه لأكلتهم؛ ومن عادته أنّه إذا رأى الثعبان دنا منه ووثب عليه، فاذا أخذه تضاءل فى الطول حتّى يبقى شبيها بقطعة حبل، فينطوى الثعبان عليه، فاذا انطوى نفخ الظّربان بطنه ثمّ زفر زفرة فيتقطّع الثعبان قطعا؛ قال الجاحظ: وفسو الظّربان أحدّ أسلحته، لأنّه يدخل على الضّبّ فى حجره وفيه حسوله «2» وبيضه، فيأتى أضيق موضع فى الحجر فيسدّه بيده، ويحوّل دبره فلا يفسو ثلاث فسوات حتّى يخرّ الضّبّ سكران مغشيّا عليه، فيأكله؛ وله جراءة على تسلّق الحيطان فى طلب الطير، فان هو سقط نفخ بطنه حتّى يمتلئ جلده، فلا يضرّه السقوط؛ قالوا: وهو يشبه السّمّور «3» ، وذهب بعضهم إلى أنّه هو، وإنّما البقعة التى هو فيها غيّرت وبره.(9/277)
الباب الثالث من القسم الأوّل من الفنّ الثالث فيما قيل فى السّنجاب والثعلب والدّبّ والهرّ والخنزير
فأما السّنجاب
- فهو حيوان معروف، حسن الوبر، ظهره أزرق اللّون، وبطنه أبيض، ومنه ما يكون ظهره أحمر، وهو ردىء الجنس؛ مبخوس الثّمن؛ وهذا الحيوان سريع الحركة، فاذا أبصر الانسان صعد الشجرة العالية، وهى مأواه؛ وهو كثير ببلاد الصّقالبة والخزر، «ومزاجه بارد رطب، وقيل «1» : حارّ رطب لسرعة حركته» ؛ قال أبو الفرج الببغاء:
قد بلونا الذّكاء فى كلّ ناب «2» ... فوجدناه صنعة السّنجاب
حركات تأبى السكون وألحا ... ظ حداد كالنار فى الالتهاب
خفّ جدّا على النفوس فلوشا ... ء ترامى «3» مجاورا للتصابى
واشتهت قربه العيون إلى أن ... خلته عندها أخا للشباب
لابس جلدة إذا لاح خلنا ... بها فى مزرّة «4» من سحاب
لو غدا كلّ ذى ذكاء نطوقا ... ردّ فى ساعة الخطاب جوابى(9/278)
ذكر ما قيل فى الثعلب
هو ذو مكر وخديعة وتحيّل فى طلب الرزق، فمن تحيّله أنّه يتماوت وينفخ بطنه ويرفع قوائمه، حتّى يظنّ به أنه قد مات، فاذا قرب منه حيوان وثب عليه فصاده؛ ومنه أنه إذا دخل برج الحمام وكان شبعان قتلها ورمى بها، فاذا جاع عاد «1» إليها فأكلها، وكذلك يفعل مع الدّجاج؛ وهو أيضا من الحيوان الذى سلاحه سلاحه، وهو أنتن من سلاح الحبارى «2» ، فاذا تعرّض للقنفذ لقيه القنفذ بشوكه واستدار كالكرة، فيسلح الثعلب عليه، فلا يتمالك القنفذ أن ينسدخ «3» ، فيقبض الثعلب على مراقّ «4» بطنه؛ ومن ظريف ما يحكى عنه أنّ البراغيث إذا كثرت فى فروته تناول صوفة بفمه، ثم يدخل النهر برفق وتدريج، والبراغيث تصعد إذا قاربها الماء حتّى تجتمع فى تلك الصوفة التى فى فيه، فعند ذلك يلقيها فى الماء ويخرج منه؛ والذئب يطلب أولاد الثعلب، فإذا ولد له وضع ورق العنصل «5» على باب وجاره فلا يصل الذئب إليه، لأنّه متى وطئ العنصل «6» مات لوقته؛ ويقال: إنّ قضيب الثعلب فى خلقة الأنبوب، وأحد شطريه عظم، والآخر عصب ولحم؛ وربّما(9/279)
يسفد الثعلب الكلبة فتأتى منه بولد فى خلقة السّلوقىّ الذى لا يقدر على مثله؛ وفرو الثعلب من أجود الأوبار وأفضلها، ومنه الأسود والأبيض والخلنجىّ «1» ، وأدونه الأعرابىّ لقلّة وبره، وما كان منه ببلاد الترك يسمّى البرطاسىّ «2» لكثافة وبره وحسن لونه، ووبره أنواع، منها السار سينا «3» [والبرطاسىّ «4» والغبب «5» والنيفق «6» ؛ قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا «7» ] : والثعلب فيه تحليل، وفراؤه أسخن الفراء، تنفع المرطوبين لتحليلها [آلات المفاصل «8» ] ؛ قال: واذا طبخ الثعلب فى الماء وطليت به المفاصل الوجعة نفع نفعا جيّدا، وكذلك الزيت الذى يطبخ فيه حيّا أو مذبوحا فإنّه يحلّل ما فى المفاصل، وشحمه يسكّن وجع الأذن إذا قطر فيها؛ ورئته المجفّفة نافعة لصاحب الرّبو جدّا، والشّربة منها وزن درهمين «9» [والله أعلم بالصواب «10» ، وإليه المرجع] [والمآب] .(9/280)
قال أبو الفرج الببغاء يصفه:
وأعفر المسك تلقاه فتحسبه ... من أدكن «1» الخزّ مخبوء بخيفان «2»
كأنّ أذنيه فى حسن انتصابهما ... إذا هما انتصبا للحسّ «3» زجّان «4»
يسرى ويتبعه من خلفه ذنب ... كأنّه حين يبدو ثعلب ثانى
فلا يشكّ الذى بالبعد يبصره ... فردا بأنّهما فى الخلقة اثنان
وقال آخر:
جاؤا بصيد عجب من العجب ... أزيرق العينين طوّال «5» الذنب
تبرق عيناه إلى ضوء الشّهب(9/281)
ذكر ما قيل فى الدّبّ
والدّبّ مختلف الطبائع، يأكل ما تأكله السّباع، ويرعى ما ترعاه الدوابّ، ويتناول ما يأكله الناس؛ وفى طبعه أنّه إذا كان أوان السّفاد خلا كلّ ذكر بأنثاه، والذكر يسفد أنثاه مضطجعة على الأرض، وهى تضع جروها فدرة لحم غير مميّز الجوارح، فتهرب به من موضع إلى آخر خوفا عليه من النّمل، وهى مع ذلك تلحسه حتى تنفرج أعضاؤه ويتنفّس، وفى ولادتها صعوبة، فيزعم بعض من فحص عن طبائع الحيوان أنّ الدّبّة تلد من فيها، وأنّها إنّما تلده ناقص الخلق شوقا إلى الذّكر وحرصا على السّفاد، وهى لشدّة شهوتها تدعو الآدمىّ الى وطئها؛ وفيما حكى لى أنّ إنسانا كان سائرا فى بعض الغياض لمقصده، فصادف دبّة، فأخذته وأومأت إليه بالإشارة أن يواقعها، ففهم عنها وفعل، فلمّا فرغ عمدت الى أقدامه فلحست مواطئها حتّى نعمت «1» ، ولم تزل تكرّر لحسها وتمرّ بلسانها عليها حتّى بقى الرجل يعجز عن الوطء بها على الأرض، فعند ذلك أمنت هربه وتركته، فكانت تغدو وتتكسّب وترجع إليه بما يأكله وهو يواقعها، وهى تتعاهد «2» لحس رجليه، فلم يزل كذلك حتّى مرّ عليه جماعة من السّفر، فناداهم، فأتوه وحملوه على دوابّهم وساروا به. قالوا:
والأنثى اذا هربت من الصيّادين جعلت جراءها بين يديها، فإذا اشتدّ خوفها عليهم بأن أدركها من يطلبها صعدت بأولادها إلى الأشجار؛ وفى الدّبّ من القوّة والشدّة ما يقطع العود الضخم من الشجرة العاديّة «3» التى لا تقطعها الفأس إلّا بعد تعب،(9/282)
ثم يأخذه بيديه، ويقف على قدميه كالإنسان، ويشدّ به على الفارس، فلا يصيب شيئا إلا أهلكه «1» ؛ وفى طبع هذا الحيوان من الفطنة العجيبة لقبول التأديب والتعليم ما هو مشاهد لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، هذا مع عظم جثّته، وثقل جسمه، لكن لا يطيع معلّمه إلّا بعنف وضرب شديد وتعمية لذكوره؛ وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ دم الدّبّ ينضج الأورام الحارّة سريعا؛ والله أعلم بالصواب.
ذكر ما قيل فى الهرّ
والهرّ ضربان: وحشىّ وأهلىّ، وهو يشبه الأسد فى الصورة والأعضاء والوثوب والافتراس والعدو، إلّا أنّه أقلّ جراءة من الأسد وأكثرها من سائر الحيوان؛ وهو يناسب الانسان فى أحوال، منها: أنّه يعطس ويتثاءب ويتمطّى، ويتناول الشىء بيده، ويغسل وجهه وعينيه بلعابه؛ وفيه «2» أنّ الأنثى تحدث لها قوّة وشجاعة عند السّفاد، ولهذا فإنّ الذكر يهرب منها عند فراغه، وتكون هذه الشجاعة فى الذّكر قبل السّفاد، فاذا سفد انتقلت إلى الأنثى، والذّكر إذا هاج صرخ صراخا منكرا يؤذى به من يسمعه لبشاعته؛ والأنثى تحمل فى السنة مرتين، ومدّة حملها خمسون يوما، وفى أخلاق بعضها أنّها اذا ولدت تأكل أولادها، ويقال: إنّها إنّما تأكلهم لفرط حبّها لهم؛ وقيل: بل من جنون يعرض لها عند الولادة وجوع؛ والله أعلم؛ وفى هذا الحيوان من الأخلاق الحميدة أنّه يرعى حقّ(9/283)
التربية والإحسان إليه، ويقبل التأديب، وربّما ربّى فى حانوت السّمّان «1» والجزّار وفى الدّور بين الدّجاج والحمام وغير ذلك من المطاعم التى يحبّها الهرّ ويأكلها فلا يتعرّض لها بفساد، ولا يأكل منها ما لم يطعمه، وربّما حفظها من غيره، وقاتل دونها، مع ما فيه من الافتراس والاختلاس؛ وفى طبع الهرّ وعادته أنّه إذا أطعم شيئا أكله فى موضعه ولم يهرب، واذا خطفه أو سرقه هرب به، ولا يقف إلّا أن يأمن على نفسه؛ وفى بعضها من الجراءة ما يقتل الثعبان والعقرب؛ وإذا أرادت الهرّة ما يريد صاحب الغائط أتت موضع تراب فى زاوية من زوايا الدّار، فتبحث حتّى تجعل لها حفرة، ثم تدفن فيها ما تلقيه، وتغطّيه من ذلك التراب، ثم تشمّ أعلى التراب، فإن وجدت رائحة زادت عليه ترابا حتى تعلم أنّها أخفت المرئىّ والمشموم، فإذا لم تجد ترابا خمشت وجه الأرض، وزعم بعض الأطبّاء أنّ ستر الهرّة لذلك لحدّة رائحته، فإنّ الفأرة إذا شمّته نفرت منه الى منقطع تلك الرائحة؛ وهو يقبل التعليم ويؤدّب حتى يألف الفأر مع ما بينهما من شدّة العداوة، فيحصل بينهما من المؤالفة الظاهرة والملاءمة ما إنّ الفأر يصعد على ظهر الهرّ، وربّما عضّ أذنه، فيصرخ الهرّ ولا يأكله، ولا يخدشه لخوفه من مؤدّبه، فإذا أشار إليه مؤدّبه بأكله وثب عليه على عادته وأكله، وهذا أمر مشاهد غير منكور يفعله الطّرقيّة «2» ويفرّجون «3» الناس عليه «4» ؛(9/284)
وفى طبع الهرّ أنّه لا يأكل السّخن ولا الحامض، ومتى دهن أنفه بدهن الورد مات سريعا؛ وهو إذا قاتل الثعبان يضع يده على أنفه، ويقاتل بيده الأخرى، وإنّما يفعل ذلك حذرا على نفسه، فإنّ الثعبان متى ضربه فى أنفه مات، ويضربه فى سائر جسده فلا يضرّه ذلك، بل يلحس مكان نهش الثّعبان بلسانه وهو يقاتله.
وقد وصفه الشعراء والأدباء برسائل وأبيات.
فمن ذلك رسالة أنشأها أبو [جعفر»
] عمر الأوسىّ الأندلسىّ المعروف بابن صاحب الصّلاة «2» - ونسبت هذه الرسالة لأبى [نصر «3» ] الفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان- يخاطب بها بعض اخوانه ويوصيه على «4» كتبه، وهى: وفى علمك- أعزّك الله- ما استودعته ديانتك، واستحفظته أمانتك؛ من كتبى التى هى أنفس ذخائرى وأسراها «5» ، وأحقّها بالصيانة وأحراها؛ وما كنت أرتضى فيها بالتّغريب،(9/285)
لولا التّرجّى لمعاودة الطلب عن قريب؛ ولا شكّ أنّها منك ببال، وبمكان تهمّم «1» واهتبال؛ لكن ربّما طرقها من مردة الفئرة طارق، وعاث فيها كما يعيث الفاسق المارق؛ فينزل «2» فيها قرضا، ويفسدها طولا وعرضا؛ إلّا أن يطوف عليها هرّ نبيل، ينتمى من القطاط إلى أنجب قبيل؛ له رأس كجمع «3» الكفّ، وأذنان قد قامتا «4» على صفّ؛ ذواتا لطافة ودقّه، وسباطة ورقّه؛ يقيمهما عند التشوّف، ويضجعهما عند التخوّف؛ ومقلة مقتطعة من الزجاج المجزّع «5» ، وكأنّ ناظرها من العيون البابليّة منتزع؛ قد استطال الشعر حول أشداقه، وفوق آماقه؛ كإبر مغروزة على العيون، كما أحكمت «6» برد أطرافها القيون «7» ؛ له ناب كحدّ المطرد «8» ، ولسان كظهر المبرد؛ وأنف أخنس «9» وعنق أوقص «10» ، وخلق سوىّ غير منتقص، أهرت «11» الشّدقين، موشّى(9/286)
الساعدين والساقين [ململم «1» اليدين] والرجلين؛ يرجّل بها «2» وبره «3» ترجيل ذوى الهمم، لما شعث «4» من اللّمم؛ فينفض ما لصق به من الغبار، وعلق من الأوبار، ثم يجلوه بلسانه جلاء الصّيقل للحسام، والحمّام للأجسام؛ فينفى قذاه، ويوارى أذاه؛ ويقعى إقعاء الأسد إذا جلس، ويثب وثبة النّمر «5» إذا اختلس؛ له ظهر شديد، وذنب مديد؛ يهزّه هزّ السّمهرىّ المثقّف، وتارة يلويه لىّ الصّولج المعقّف؛ تجول يداه فى الخشب والأرائك، كما تجول فى الكسايد حائك «6» ؛ يكبّ على الماء حين يلغه «7» ، ويدنى منه فاه ولا يبلغه؛ ويتّخذ من لسانه رشاء ودلوا، ويعلم به إن كان الماء ملحا أو حلوا؛ فتسمع للماء خضخضة من قرعه، وترى للّسان نضنضة «8» من جرعه؛ يحمى داره حماية النّقيب، ويحرسها حراسة الرقيب؛ فإن رأى فيها كلبا، صار عليه إلبا «9» ؛ وصعّر خدّه(9/287)
وعظّم قدّه، حتّى يصير ندّه «1» ؛ أنفة من جنابه «2» أن يطرق، وغيرة على حجابه أن يخرق؛ وإن رأى فيها هرّا، وجف «3» اليه مكفهرّا؛ فدافعه بالساعد الأشدّ، ونازعه منازعة الخصم الألدّ؛ فإذا أطال مفاوضته، وأدام مراوضته؛ أبرز برثنه لمبادرته، وجوشنه «4» لمصادرته؛ ثمّ تسلّل إليه لواذا، واستحوذ عليه استحواذا؛ وشدّ عليه شدّه، وضمّه من غير مودّه؛ فأنسل وبره إنسالا «5» ، وأرسل دمه إرسالا؛ بأنياب عصل «6» ، أمضى من نصل؛ ومخلب كمنقار «7» الصّخر، درب بالاقتناص والعقر؛ فيصيّر «8» قرنه ممزّق الإهاب، مستبصرا «9» فى الذّهاب، قد أفلت من بين أظفار وأنياب، ورضى من الغنيمة بالإياب؛ هذا وهو يخاتله دون جنّه، ويقاتله بلا سيوف ولا أسنّه؛ وإنّما جنّته، منّته «10» ؛ وشفاره،(9/288)
أظفاره؛ وسنانه، أسنانه؛ إذا سمعت الفئرة منه مغاء «1» ، لم تستطع له إصغاء؛ وتصدّعت «2» قلوبها من الحدر، وتفرّقت جموعها شذر مذر؛ تهجع العيون وهو ساهر، وتستتر الشخوص وهو ظاهر؛ يسرى من عينيه بنيّرين وضّاحين، تخالهما فى الظلام مصباحين؛ يسوف «3» الأركان، ويطوف بكلّ مكان؛ ويحكى فى ضجعته السوار تحنّيا، وقضيب الخيزران تثنّيا؛ ثم يغطّ إذا نام، ويتمطّى إذا قام؛ ولا يكون بالنار مستدفئا، ولا للقدر مكفئا؛ ولا فى الرّماد مضطجعا، ولا للجار منتجعا؛ بل يدبّر بكيده، وينتصر على صيده؛ قد تمرّن «4» على قتل الخشاش «5» ، وافترس الطير فى المسارح والأعشاش؛ يستقبل الرياح بشمّه، ويجعل الاستدلال أكبر همّه؛ ثم يكمن للفأر حيث «6» يسمع لها خبيبا «7» ، أو يلمح من شيطانها «8» دبيبا؛ فيلصق بالأرض، وينطوى بعضه فى بعض، حتى يستوى «9» منه الطّول والعرض؛ فاذا تشوّفت الفأرة من حجرها، وأشرفت بصدرها ونحرها؛ دبّ اليها دبيب الصّلّ(9/289)
وامتدّ إليها امتداد الظّلّ؛ ثم وثب فى الحين عليها [وجلب «1» الحين اليها] ؛ فأثخنها جراحا، ولم يعطها براحا؛ فصاحت من شدّة أسره، وقوّة كسره؛ وكلّما كانت صيحتها أمدّ، كانت قبضته عليها أشدّ، حتّى يستأصل أوداجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها مخرجة الذّماء «2» ، مضرّجة بالدّماء؛ وان كان جرذا مسنّا، لم يضع عليه سنّا؛ وإن كان درصا «3» صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفّقا على قفاه؛ ليزداد منه تشهّيا وبه تلهّيا؛ ثم تلاعب به تلاعب الفرسان بالأعنّه، والأبطال بالأسنّه؛ فإذا أوجعه عضّا، وأوعبه «4» رضّا؛ أجهز فى الفور عليه، وعمد بالأكل اليه؛ فازدرد منه أطيب طعمه، واعتدّه أهنأ نعمه؛ ثم أظهر بالالتعاق «5» شكره، وأعمل فى غيره فكره؛ فرجع إلى حيث أثاره، ويتبع «6» فيه آثاره؛ راجيا أن يجد فى رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه فى الردى، حتّى يفنى جميع العدى؛ وربّما انحرف عن هذه العوائد «7» ، والتقط فتات الموائد «8» ، بلاغا «9» فى الاحتماء، وبرّا بالنّعماء، فماله على خصاله ثمن «10» ، ولا جاء(9/290)
بمثاله زمن؛ وقد أوردت- أعزّك الله- من وصفه فصلا مغربا، وهزلا مطربا؛ إخلاصا من الطويّة واسترسالا، وتسريحا للسجيّة وإرسالا، على أنّى لو استعرت فى وصفه لسان أبى «1» عبيد، وأظهرت فى نعته بيان أبى زبيد «2» ؛ ما انتهيت فى النطق إلى خطابك، ولا احتويت فى السّبق على أقصابك؛ والله يبقيك لثمر النّبل جانيا، ولدرج الفضل بانيا.
وقال ابن طباطبا يصف هرّة بلقاء:
فتنتنى بظلمة وضياء ... إذ تبدّت بالعاج والآبنوس
تتلقّى الظلام من مقلتيها ... بشعاع يحكى شعاع الشّموس
ذات دلّ قصيرة كلّما قا ... مت تهادت، طويلة فى الجلوس
لم تزل تسبغ الوضوء وتنقى ... كلّ عضو لها من التنجيس
دأبها ساعة الطهارة دفن ال ... عنبر الرّطب فى الحنوط اليبيس «3»(9/291)
وقال أبو بكر الصّنوبرىّ من أبيات- وذكر الجرذان «1» -:
ذاد همّى بهنّ «2» أورق «3» تركىّ «4» ... السّبالين أنمر «5» الجلباب
ليث غاب خلقا وخلقا فمن عا ... ينه قال: إنّه ليث غاب
قنفذ فى ازبراره «6» وهو ذئب ... فى اغترار «7» وحيّة فى انسياب
ناصب طرفه إزاء الزّوايا ... وإزاء السّقوف والأبواب
ينتضى الظّفر حين يظفر فى الحر ... ب وإلا فظفره فى قراب
يسحب الصّيد فى أقلّ من اللّم ... ح ولو كان صيده فى السحاب
ومنها «8» :
قرّطوه «9» وقلّدوه وعالو «10» ... هـ أخيرا وأوّلا بالخضاب(9/292)
فهو طورا يبدو بنحر عروس ... وهو طورا يمشى على عنّاب
حبّذا ذاك صاحبا فهو فى الصحة ... أو فى من سائر الأحباب
وقال أبو بكر بن العلّاف يرثى هرّا-، وقد قيل: إنما رثى بها ابنه، لأنّه تعرّض إلى حريم بعض الأكابر فاغتالوه وقتلوه؛ وقيل: بل رثى بها عبد الله بن المعتزّ، وورّى بهرّ خوفا من المقتدر «1» بالله، فقال:
يا هرّ فارقتنا ولم تعد ... وكنت منّا بمنزل الولد
وكيف ننفكّ عن هواك وقد ... كنت لنا عدّة من العدد
تمنع عنّا الأذى وتحرسنا ... بالغيب من خنفس «2» ومن جرد «3»
وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السّدد «4»
يلقاك فى البيت منهم عدد «5» ... وأنت تلقاهم بلا عدد «6»
وكان يجرى- ولا سداد لهم- ... أمرك فى بيتنا على سدد
حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد
وحمت حول الرّدى بظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد
وكان قلبى عليك مرتعدا ... وأنت تنساب غير مرتعد(9/293)
تدخل برج الحمام متّئدا ... وتخرج الفرخ غير متّئمد
وتطرح الرّيش فى الطريق لهم ... وتبلع اللّحم بلع مزدرد
أطعمك الغىّ لحمها فرأى ... قتلك أربابها من الرّشد
كادوك دهرا فما وقعت وكم ... أفلتّ من كيدهم ولم تكد «1»
حتّى إذا خاتلوك واجتهدوا ... وساعد النفس «2» كيد مجتهد
صادوك غيظا عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد
ثمّ شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يربعوا «3» على أحد
لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد
فحين كاشفت «4» وانتهكت وجا ... هرت وأسرفت غير مقتصد
أذاقك الموت من أذاق «5» كما ... أذقت أطياره يدا بيد
كأنّهم يقتلون طاغية ... كان لطاغوته «6» من العبد «7»(9/294)
فلو أكبّوا على القرامط «1» أو ... مالوا على زكرويه «2» لم يزد
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلّا قنعت بالقدد «3»
ما كان أغناك عن تسوّرك ال ... برج ولو كان جنّة الخلد
لا بارك الله فى الطعام إذا ... كان هلاك النّفوس فى المعد
كم أكلة داخلت حشاشره ... فأخرجت روحه من الجسد
أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد
هذا بعيد من القياس وما ... أعزّه «4» فى الدّنوّ والبعد(9/295)
ولم تكن لى بمن دهاك يد ... تقوى على دفعه يد الأبد «1»
ولا تبيّن حشو جلدك عن «2» ... د الذّبح من طاقة ومن جلد
كأنّ حبلا حوى- بحوزته «3» - ... جيدك للذّبح «4» كان من مسد
كأنّ عينى تراك مضطربا ... فيه وفى فيك رغوة الزّبد
وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد
فجدت بالنفس والبخيل بها ... كنت ومن لم يجد بها يجد «5»
عشت حريصا يقوده طمع ... ومتّ ذا قاتل بلا قود
فما سمعنا بمثل موتك إذ ... متّ ولا مثل عيشك النّكد
عشنا بخير وكنت تكلؤنا ... ومات جيراننا من الحسد
ثمّ تقلّبت فى فراخهم ... وانقلب «6» الحاسدون بالكمد
قد انفردنا بمأتم ولهم ... بعدك بالعرس أىّ منفرد
قد كنت فى نعمة وفى سعة ... من المليك المهيمن الصّمد(9/296)
تأكل من فأر بيتنا رغدا ... وأين بالشاكرين «1» للرغد
قد كنت بدّدت شملهم زمنا ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد
وفتّنوا الخبز فى السّلال «2» فكم ... تفتّتت للعيال من كبد
فلم يبقّوا لنا على سبد ... فى جوف أبياتنا «3» ولا لبد
وفرّغوا قعرها وما تركوا ... ما علّقته يد على وتد
ومزّقوا من ثيابنا جددا ... فكلّنا فى مصائب جدد
فاذهب من البيت خير مفتقد ... واذهب من البرج شرّ مفتقد
ألم تخف وثبة الزمان وقد ... وثبت فى البرج وثبة الأسد؟
أخنى على الدار فيه بالأمس «4» ... ومن قبلها على لبد «5»(9/297)
ولم يدع فى عراصها أحدا ... ما بين عليائها إلى السّند «1»
عاقبة البغى لا تنام وإن ... تأخّرت مدّة من المدد
من لم يمت يومه يمت غده ... أو لا يمت فى غد فبعد غد
والحمد لله لا شريك له ... فكلّ شىء يرى إلى أمد
وفيه «2» أيضا:
يا هرّ بعت الحقّ بالباطل ... وصرت لا تصغى إلى عاذل
إذا أتيت البرج من خارج ... طارت قلوب الطّير من داخل
علما بما تصنع فى برجها ... فهى على خوف من الفاعل
قد كنت لا تغفل عن أكلها ... ولم يكن ربّك بالغافل
فانظر إلى ما صنعت بعد ذا ... عقوبة المأكول بالآكل
ما زلت يا مسكين مستقتلا ... حتّى لقد منّيت «3» للقاتل
قد كنت للرحمة مستأهلا ... إذ لم أكن منك بمستاهل
وقال أيضا:
يا ربّ بيت ربّه ... فيه تضايق مستقرّه
لمّا تكاثر فأره ... وجفاه بعد الوصل هرّه(9/298)
وسعى إلى برج امرئ ... فيه الفراخ كما يسرّه
ظنّ المنافع أكلها ... فإذا منافعها تضرّه
ذكر ما قيل فى الخنزير
والخنزير مشترك بين السبعيّة والبهيميّة، فالذى فيه من السبعيّة الناب، وأكل الجيف؛ والذى فيه من البهيميّة الظّلف، وأكله العشب والعلف؛ والخنزير موصوف بالشّبق وكثرة السّفاد، حتى إنّ الأنثى يركبها الذّكر وهى ترجع «1» ، فربّما قطعت أميالا وهو على ظهرها، ويرى الرائى أثر ستّة أرجل ممّن لا يعرف ذلك، فيظنّ أنّ فى الدّوابّ ماله ستّة أرجل؛ والخنزيرة تضع عشرين خنّوصا «2» ، وتحمل من ماء «3» واحد، وتضع لمضىّ ستّة [أشهر «4» ] من حملها؛ وقال الجاحظ: إنّها تضع فى أربعة أشهر؛ والخنزير ينز وإذا تمّت له ثمانية أشهر، والخنزيرة إذا تمّت لها ستّة أشهر اشتهت السّفاد، ولكن لا تجىء أولادها كما يريدون «5» ؛ وأجود النزو أن يكون ذلك منه وهو ابن عشرة أشهر إلى ثلاث سنين؛ وإذا كانت الخنزيرة بكرا ولدت جراء ضعافا «6»(9/299)
وكذلك البكر من كلّ شىء، وإذا بلغت الخنزيرة خمسة عشر سنة لا تلد بعدها، وهى أنسل الحيوان، والذّكر أقوى الفحول على السّفاد، وأطولها مكثا فيه؛ ويقال:
إنه ليس شىء من ذوات الأنياب ما للخنزير من القوّة فى نابه، وربّما طال ناباه «1» حتّى يلتقيا، فيموت عند ذلك جوعا، لأنّهما يمنعانه من الأكل، وهو متى عضّ كلبا سقط شعر الكلب، وإذا أراد محاربة الأسد جرّب نفسه قبل الإقدام عليه بأن يضرب شجرة بنابه، فإن قطعها حارب الأسد، وإلا هرب منه ولم يقاتله؛ وأخبرنى من رآه وقد جرّب نفسه فى شجرة وضربها بأنيابه، فتمكّنت أنيابه منها وثبتت فيها، فأراد الخلاص فعجز، فجاء الأسد إليه وهو على تلك الحالة فافترسه؛ قالوا: ويعترى ذكوره داء الحلاق «2» واللّواط، فربّما يرى الخنزير وقد ألجأه أكثر من عشرين خنزيرا إلى مضيق، ثم ينزو عليه الأمثل فالأمثل، إلى أن يبلغ آخرهم؛ والخنزير إذا قلعت إحدى عينيه هلك عاجلا؛ ويقول الأطبّاء: إنه متى فسد من عظام الإنسان عظم ووضع فى مكانه عظم من عظام الخنزير قبلته الطبيعة ونبت عليه اللّحم؛ وحكى أرسطو أنّ عمر الخنزير من خمسة عشر سنة إلى عشرين سنة؛ وقلّما ذكر الفضلاء والشعراء الخنزير فى رسائلهم وأشعارهم، وسأثبت فى هذا الموضع ما وقفت عليه فى هذا المعنى.(9/300)
فمن ذلك ما كتب به عطاء بن يعقوب الغزنوىّ يعرّض فيها بقاض، قال منها:
وما مثل فلان فى استنابته «1» إلا كمثل رجل رأى فى المنام أنّه يضاجع خنزيرا، فبكر إلى المعبّر ليعبّر منامه تعبيرا؛ فقال المعبّر: يا برذعة الحمير، ما غرّك بالخنزير؟ ألين ملمسه، أم «2» حسن معطسه؛ أم شكاه الرّشيق، أم طرفه العشيق «3» ؛ أم لقاؤه البهج، أم قباعه «4» الغنج؛ أم شعره الرّجل، أم ثغره الرّتل «5» ؟.
وقال القاضى [محيى الدّين بن] عبد الظاهر فى الخنزير:
وخنزير له ناب تراه ... اذا عنّ افتراس غير نابى
كمثل الكلب لا بل منه أجرا «6» ... ويحقر أن يشبّه بالكلاب
فذاك لنخوة يعزى وهذا ... يقلّل نخوة الرجل المهاب
بنصّ للكتاب غدا حراما ... وحلّل أكله أهل الكتاب(9/301)
القسم الثانى من الفنّ الثالث فى الوحوش والظّباء وما يتّصل بها من جنسها
، وفيه ثلاثة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم فيما قيل فى الفيل والكركدّن والزّرافة والمها والأيّل
ذكر ما قيل فى الفيل
يقال: إنّ الفيل مولّد بين الجاموس والخنزير، ولذلك يزعم بعض من بحث عن طبائع الحيوان أنّ الفيلة مائيّة الطباع بالجاموسيّة والخنزيريّة اللّتين فيها، وبعضها يسكن الماء، وبعضها لا يسكنه؛ ويقال: إنّ الفيلة صنفان: فيل، وزندبيل «1» ، وهما كالبخت والعراب، والبقر والجاموس، والخيل والبراذين، والفأر والجرذان، والنمل والذّرّ؛ وبعضهم يقول: إنّ الفيل الذّكر، والزّندبيل «2» الأنثى؛ وقال بعضهم:
إنّ الزّندبيل «3» هو عظيم الفيلة والمقدّم عليها فى الحرب، وفيه يقول بعض الشعراء:
ذاك الذى مشفره طويل ... وهو من الأفيال زندبيل «4»
وقال آخر:
وفيله كالطّود زندبيل «5»
وقال آخر:
من بين أفيال وزندبيل «6»(9/302)
وخرطوم الفيل أنفه، وبه يوصل الطعام والشراب إلى فيه، وبه يقاتل وبه يصيح، وليس صوت الفيل على مقدار جثّته؛ ولسانه مقلوب، طرفه إلى داخل فيه، وأصله خارج، وهو على العكس من سائر الحيوانات؛ والهند تزعم أنّه لولا ذلك لتكلّم، وهم يعظّمون الفيلة ويشرّفونها على سائر الحيوانات؛ والفيل يتولّد فى أرض الهند والسّند والزّنج، وبجزيرة سرنديب «1» ؛ وهو أعظمها خلقا، وينتهى فى عظم الخلق الى أن يبلغ فى الارتفاع عشرة «2» أذرع؛ وفى ألوانها الأسود والأبيض والأبلق والأزرق؛ وهو اذا اغتلم أشبه الجمل «3» فى ترك الماء والعلف حتى ينضمّ «4» إبطاه، ويتورّم رأسه، وربّما استوحش لذلك بعد استئناسه، والفيل ينزو إذا مضى له من العمر خمس سنين، والأنثى تحمل سنتين، وإذا حملت لا يقربها الذّكر، ولا ينزو عليها إذا وضعت إلّا بعد ثلاث سنين، ولا ينزو إلّا على فيلة واحدة، وله عليها غيرة شديدة؛ وإذا أرادت الفيلة أن تضع دخلت النهر فتضع ولدها فى الماء، لأنّها تلد قائمة؛ والذكر يحرسها ويحرس ولدها من الحيّات، وذلك لعداوة بينهما؛ قالوا: وأنثيا الفيل داخل بدنه قريبا من كليتيه، ولذلك هو يسفد سريعا كالطير، لأنهما قريبتان من القلب فتنضحان المنىّ بسرعة؛ ويقال: إنّ الفيل يحقد كالجمل؛ والهند يجعلون نابى الفيل قرنيه، وفيها الأعقف والمستقيم؛ قال المسعودىّ فى مروج الذهب: وربّما بلغ(9/303)
الناب الواحد منها خمسين ومائة منّ «1» ؛ ورأيت أنا من أنياب الفيلة ما طوله يزيد على أربعة «2» أذرع ونصف، وهو معقّف، شاهدت ذلك بمدينة قوص فى سنة سبع وتسعين وستّمائة، ورأيت فيها نابين أظنّهما أخوين بهذه الصفة، وهما معقّفان، وغلظهما مناسب لطولهما؛ والفيل يحمل بنابيه على الجدار الوثيق فيهدمه؛ ولم تزل ملوك غزنة «3» إلى سبكتكين ومن بعدهم من الملوك الغزنويّة تفتتح بالفيلة المدن، وتهدم بصدماتها الحصون، وأشهرهم بذلك يمين الدّولة محمود بن سبكتكين، على ما ستقف- إن شاء الله تعالى- عليه فى تاريخ الدّولة الغزنويّة؛ والفيل سريع الاستئناس بالناس؛ وفى طبعه أنّه إذا سمع صوت الخنزير ارتاع ونفر واعتراه الفزع؛ وقال المسعودىّ: إنّه لا يثبت للهرّ، وإذا رآه فرّ منه؛ وقال: إنّ رجلا كان بالمولتان «4» من أرض الهند «5» يدعى هارون بن موسى مولى الأزد «6» ، وكان شاعرا شجاعا ذا رياسة فى قومه ومتعة بأرض السّند مما يلى بلاد المولتان «7» [وكان «8» ] فى حصن له هناك، فالتقى مع بعض ملوك الهند، وقد قدّمت الهند أمامها الفيلة، فبرز هارون أمام الصفّ(9/304)
وقصد عظيم الفيلة، وقد خبأ سنّورا تحت ثيابه؛ فلمّا دنا فى حملته من الفيل أبرز الهرّ له، فانهزم الفيل وولّى عند مشاهدته للهرّ، فانهزم الجيش وقتل الملك الهندىّ، ولهارون بن موسى قصيدة فى ذلك نذكرها- إن شاء الله تعالى- عند ذكر وصف الفيل؛ والفيل إذا ورد الماء الصافى كدّره قبل أن يشربه كعادة الخيل، وهو قليل الاحتمال للبرد، واذا عام فى الماء استتر كلّه إلّا خرطومه؛ ويقال: إنّه يصاد باللهو والطرب والزّينة وروائح الطّيب؛ والزّنوج تصيده بحيلة غير ذلك، وهى أنّهم يعمدون إلى نوع من الأشجار، فيأخذون ورقه ولحاءه ويجعلونه فى الماء الذى تشربه الفيلة، فاذا وردته وشربت منه سكرت، فتسقط إلى الأرض، ولا تستطيع القيام، فتقتلها الزّنوج بالحراب، ويأخذون أنيابها ويحملونها إلى بلاد عمان، وتنقل منها إلى البلاد؛ وأمّا أهل النّوبة فإنّهم اذا أرادوا صيدها للبقاء عمدوا إلى طرقها التى ترد الماء منها، فيحفرون هناك أخاديد ويسقّفونها بالخشب الضعيف، ويسترونها بالنبات والتراب، فاذا مرّ الفيل عليها انكسرت به تلك الأخشاب الضعيفة، فيسقط فى الأخدود، فعند ذلك يتبادر اليه جماعة من الرجال بأيديهم العصىّ الرّقاق، فيضربونه الضرب الوجيع، فاذا بلغ به الألم خرج اليهم رجل منهم مغاير للباسهم، فيضربهم، ويصرفهم عنه، فينصرفون، ويقف هو بالقرب من الفيل ساعة، ثمّ ينصرف، فإذا أبعد وغاب عن الفيل رجع أولئك القوم وعاودوا ضربه حتى يؤلموه، فيعود ذلك الرجل فيريه أنّه ضربهم، فيتفرّقوا عنه، يفعلون ذلك به أياما والرجل يؤانس الفيل، ويأتيه بالمأكل والماء حتّى يألفه ويقرب منه، فيقال: إنّه ينام بالقرب منه، ويخرج أولئك، فإذا رآهم الفيل قد أقبلوا أيقظه بخرطومه برفق، وأشار اليه أن يردّهم عنه، فيفعل على عادته، فاذا علم أنّ الفيل(9/305)
استأنس وزال استيحاشه وألف ذلك الرجل، حفروا أمامه بتدريج وتوطئة، فيطلع وقد سلس قياده، وزال عناده، ثمّ يحملونه فى المركب إلى الديار المصريّة فى جملة التّقادم «1» الموظّفة عليهم؛ وبأرض الهند فيلة غير وحشيّة تستأنس إلى الناس، وتتناتج بينهم، ويقاتلون عليها فى حروبهم، فيجتمع للملك الواحد من ملوك الهند منها عدّة كثيرة، وأكثرها يأوى المروج والغياض كالبقر والجاموس فى بلادنا؛ قال المسعودىّ: وهى تهرب من المكان الذى فيه الكركدّن، فلا ترعى فى موضع تشمّ فيه رائحته؛ وللفيلة بأرض الهند آفة عظيمة من الحيوان، وهو الذى يعرف بالزبرق «2» أصغر من الفهد، أحمر اللّون برّاق العينين، سريع الوثبة، يبلغ فى وثبته الى خمسين ذراعا وأكثر، فإذا أشرف على الفيلة رشّ عليها ببوله، فيحرقها، وربّما لحق الإنسان فمات؛ وهذا الوحش إذا أشرف على أحد من أهل الهند التجأ إلى أكبر شجر السّاج، وارتقى الى أعلاها، فيأتى هذا الوحش اليها ويثب، فإن أدركه رشّ عليه ببوله، فأحرقه وإن عجز عنه وضع رأسه بالأرض وصاح صياحا عجيبا، فتخرج من فمه قطع من الدّم، ويموت من ساعته، ويحترق من الشجرة ما يقع بوله عليه؛ قالوا: وللهند طيب يجمعونه من جباه الفيلة ورءوسها، فإنّها إذا اغتلمت عرفت «3» هذه الأماكن(9/306)
منها عرفا كالمسك، فهم يستعملونه لظهور الشّبق فى الرجال والنساء، وهو يقوّى النّفس، ويشجّع القلب؛ قالوا: والفيل يشبّ إلى تمام ستّين سنة، ويعمّر مائتى سنة؛ [وأكثر «1» ؛ وحكى أرسطو أنّ فيلا ظهر عمره أربعمائة سنة؛ وحكى بعض المؤرّخين أنّ فيلا سجد لأبرويز، ثمّ سجد للمعتضد، وبينهما الزمان الذى ذكره أرسطو] واعتبر ذلك بالوسم؛ ووقفت على حكاية تناسب ما نحن فيه، أحببت أن أثبتها فى هذا الباب، وهى: حكى الامام الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهانىّ فى كتابه الموسوم (بحلية الأولياء) ، قال: حدّثنا محمد بن الحسن، قال: حدّثنا عبد الوارث ابن بكير: أنّ أبا عبد الله القلانسىّ ركب البحر، فعصفت عليهم الرّيح فى مركبهم، فدعا أهل المركب وتضرّعوا، ونذروا النّذور، فقالوا: أى عبد الله؛ كلّنا قد عاهد الله ونذر نذرا إن أنجانا الله، فانذر أنت نذرا، وعاهده عهدا؛ فقلت: أنا مجرّد من الدنيا، ما لى وللنّذر؛ فألّحوا علىّ فيه؛ فقلت: لله علىّ إن خلّصنى ممّا أنا فيه لا آكل لحم الفيل؛ فقالوا: ما هذا النّذر؟ وهل يأكل لحم الفيل أحد؟ فقلت: كذا وقع فى سرّى، وأجراه الله على لسانى؛ فانكسرت السفينة، ووقعت فى جماعة من أهلها الى الساحل، فبقينا أيّاما لم نذق ذواقا، فبينا نحن قعود إذا نحن بولد فيل، فأخذوه فذبحوه وأكلوا من لحمه، وعرضوا علىّ أكله، فقلت: أنا نذرت وعاهدت الله أن لا آكل لحم الفيل، فاعتلّوا علىّ بأنّى مضطر، ولى فسخ العهد لاضطرارى، فأبيت عليهم، وثبتّ على العهد، فأكلوا وامتلأوا وناموا، فبينما هم نيام إذ جاءت الفيلة تطلب ولدها، وتتبع أثره، فلم تزل تشمّ الرائحة حتّى انتهت إلى عظام ولدها، فشمّتها، ثمّ جاءت وأنا أنظر اليها، فلم تزل تشمّ واحدا واحدا، فكلّما شمّت من(9/307)
واحد رائحة اللّحم داسته برجلها أو بيدها فقتلته، حتّى قتلتهم كلّهم، ثمّ أقبلت الىّ، فلم تزل تشمّنى فلم تجد منّى رائحة اللحم، فأدارت مؤخّرها وأومأت إلىّ بخرطومها أن اركب؛ فلم أقف على ما أومأت به، فرفعت ذنبها ورجلها، فعلمت أنّها تريد منّى ركوبها، فركبتها واستويت عليها، وأومأت إلىّ أن استو، فاستويت على شىء وطىء، فسارت سيرا عنيفا إلى أن جاءت بى فى ليلتى الى موضع زرع وسواد، فأومأت الىّ أن انزل، وبركت برجلها حتّى نزلت عنها، فسارت سيرا أشدّ من سيرها بى، فلمّا أصبحت رأيت زرعا وسوادا «1» وناسا، فحملونى إلى ملكهم، وسألنى ترجمانه، فأخبرته بالقصّة وبما جرى على القوم، فقال لى: أتدرى كم المسير الذى سارت بك اللّيلة؟
فقلت: لا، فقال: مسيرة ثمانية أيّام سارت بك فى ليلة، فلبثت عندهم إلى أن حملت ورجعت؛ والله أعلم بالصواب.
ذكر شىء مما وصف به الفيل نظما
من ذلك ما قاله الأرّجانىّ من أبيات وصف فيها مجلس ممدوحه، فقال:
والفيل فى ذيل السّماط «2» له ... زجل «3» يهال له الفتى ذعرا
فى موقف الحجّاب يؤمر أو ... ينهى فيمضى النهى والأمرا
أذنان كالتّرسين تحتهما ... نابان كالرّمحين إن كرّا
يعلو له فيّاله ظهرا «4» ... فيظلّ مثل من اعتلى قصرا(9/308)
وقال عبد الكريم النّهشلىّ يصفه:
وأضخم هندىّ النّجار تعدّه ... ملوك بنى ساسان إن نابها دهر
يجىء كطود جائل فوق أربع ... مضبّرة «1» لمّت كما لمّت الصّخر
له فخذان كالكثيبين لبّدا ... وصدر كما أوفى من الهضبة الصدر
ووجه به أنف كراووق «2» خمرة ... ينال به ما تدرك الأنمل العشر
وجبّان «3» لا يروى القليب صداهما ... ولو أنّه بالقاع منهرت «4» حفر «5»
وأذن كنصف البرد تسمعه النّدا ... خفيّا وطرف ينفض العيب مزورّ
ونابان شقّا لا يريد سواهما ... قناتين سمراوين طعنهما بتر
له لون ما بين الصباح وليله ... إذا نطق العصفور أو صوّت الصقر
وقال ابن طباطبا:
أعجب بفيل آنس وحشىّ ... بهيمة فى فطنة الإنسىّ
يفهم عن سائسه «6» الهندىّ ... غيب معانى رمزه الخفىّ
مثل السدى «7» الموثّق المبنىّ ... منزّه فى خلقه السّوىّ(9/309)
عن لين مشى ركب المطىّ ... ذى ذنب مطوّل ثورىّ
فى مثل ردف الجمل البختىّ «1» ... منخفض الصوت طويل العىّ
يطوف كالمزدجر المنهىّ ... يرنو بطرف منه شادنىّ «2»
فى قبح وجه منه خنزيرىّ ... خرطومه كجعبة التّركىّ
حكى فما من سمك بحرىّ ... تبصره فى فيه ذا هوىّ
كالدّلو إذ تهوى إلى القرىّ «3» ... يصبّ فى مصهرج مطوىّ
ناباه فى هولهما المخشىّ ... كمثل قرنى ناطح طورىّ «4»
أذناه فى صبغهما الفضّىّ ... كطيلسانى ولدى ذمّىّ
ساسه عليه ذو رقىّ ... منتصب منه على كرسىّ
يطيعه فى أمره المأبىّ ... كطاعة القرقور «5» للنّوتىّ «6»
وقال آخر منشدا:
من يركب الفيل فهذا الفيل ... إنّ الذى يحمله «7» محمول
على تهاويل لها تهويل ... كالطّود إلّا أنّه يجول(9/310)
وقال ابن الرومىّ:
يقلّب جثمانا عظيما موثّقا ... يهدّ بركنيه الجبال إذا زحم
ويسطو بخرطوم يطاوع أمره ... ومشتبهات «1» ما أصاب بها غنم «2»
ولست ترى بأسا يقوم لبأسه ... إذا أعمل النابين فى البأس أو صدم
وقال هارون بن موسى مولى الأزد يصفه ويذكر خوفه من الهرّ:
أليس عجيبا بأن خلقة «3» ... لها فطن الإنس فى جرم فيل
وأظرف من مشيه زوله «4» ... بحلم يجلّ عن الخنشليل «5»
وأوقص «6» مختلف خلقه ... طويل النّيوب قصير النّصيل «7»
ويلقى العدوّ بناب عظيم ... وجوف رحيب وصوت ضئيل
وأشبه شىء إذا قسته ... بخنزير برّ وجاموس غيل
ينازعه كلّ ذى أربع ... فما فى الأنام له من عديل(9/311)
ويعصف «1» بالببر بعد النّمور «2» ... كما تعصف «3» الريح بالعندبيل «4»
وشخص ترى يده أنفه ... فإن وصفوه «5» فسيف صقيل
وأقبل كالطّود هادى الخميس ... بهول شديد أمام الرّعيل
ومرّ يسيل «6» كسيل الأتىّ ... بوطء خفيف وجسم ثقيل
فإن شمته زاد فى هوله ... بشاعة أذنين فى رأس غول
وقد كنت أعددت هرّا له «7» ... قليل التّهيّب «8» للزّندبيل «9»
فلمّا أحسّ به فى العجاج ... أتانا الإله بفتح جليل
فسبحان خالقه وحده ... إله الأنام وربّ الفيول
وقال أبو الحسن الجوهرىّ يصف الفيل من قصيدته التى أوّلها:
قل للوزير «10» وقد تبدّى ... يستعرض الكرم المعدّا(9/312)
أفنيت أسباب العلا ... حتّى أبت أن تستجدّا
لو مسّ راحتك السحا ... ب لأمطرت كرما ومجدا
لم ترض بالخيل التى ... شدّت إلى العلياء شدّا
وصرائم الرأى التى ... كانت على الأعداء جندا
حتّى دعوت إلى العدى «1» ... ما لا يلام إذا تعدّى
متقمّصا تيه العلو ... ج وفطنة أعيت معدّا
متعسّفا طرق العوا «2» ... لى حين لا يستاق «3» قصدا
فيلا كرضوى «4» حين يل ... بس من رقاق الغيم بردا
مثل الغمامة ملّئت ... أكنافها برقا ورعدا
رأس «5» كقلّة شاهق ... كسيت من الخيلاء جلدا
فتراه من فرط الدّلا ... ل مصعّرا فى الناس خدّا
يزهى «6» بخرطوم كمث ... ل الصّولجان يردّ ردّا
متمدّد كالأفعوا ... ن تمدّه الرّمضاء مدّا
أو كمّ راقصة تشي ... ر به إلى النّدمان «7» وجدا(9/313)
أو كالمصلّب شدّ جن ... باه إلى جذعين شدّا
وكأنّه بوق يحرّ ... كه لينفخ فيه جدّا
يسطو بساريتى لجي ... ن يحطمان الصّخر هدّا
أذناه مروحتان أس ... ندتا الى الفودين عقدا
عيناه غائرتان ضيّ ... قتا لجمع الضوء عمدا
فكّ كفوّهة الخلي ... ج يلوك طول الدهر حقدا
تلقاه من بعد فتح ... سبه غماما قد تبدّى
متنا «1» كبنيان الخور «2» ... نق ما يلاقى الدّهر كدّا
ردفا كدكّة عنبر ... متمايل الأوراك نهدا
ذنبا كمثل السوط يض ... رب حوله ساقا وزندا
يخطو على أمثال أع ... مدة الخباء إذا تصدّى
أو مثل أميال «3» نضد ... ن من الصخور الصّمّ نضدا
متورّد «4» حوض المنيّ ... ة حين لا يشتاق وردا
متملّق «5» فكأنّه ... متطلّب ما لن يودّا «6»(9/314)
متلفّع بالكبريا ... ء كأنّه ملك مفدّى
أدنى إلى الشىء البعي ... د يراد من وهم وأهدى
أذكى من الإنسان حتّ ... ى لو رأى خلا لسدّا
لو أنّه ذو لهجة ... وفّى كتاب الله سردا
عقّته أرض الهند حت ... ى حلّ من زهو هرندا «1»
قل للوزير: عبدت حت ... ى قد أتاك الفيل عبدا
سبحان من جمع المحا ... سن عنده قربا وبعدا
ذكر ما قيل فى الكركدّن
والكركدّن من الحيوان الشديد القوّة، القليل العدد؛ وهو شبيه بالجاموس إلا أنه أغلظ «2» وأعتى وأنبل «3» منه، وله قرن غليظ غير طويل فى جبهته، وقرن آخر ألطف منه؛ وقد ذكره صاحب المنطق فى كتاب الحيوان وسمّاه الحمار الهندىّ؛ وقال الجاحظ فى كتاب الحيوان: وإنّما قلّ عدد هذا الجنس لأنّ الأنثى منه منها ما تكون نزورا «4» ، وأيّام حملها ليست أقلّ من أيّام حمل الفيلة؛ وهذا الحيوان يكون بأرض الهند وبلاد الحبشة؛ وتزعم الهند أنّه اذا كان ببلاد لم يرع شىء من الحيوان شيئا فى أكناف تلك البلاد هيبة له وخضوعا وهربا منه، وليس هو ببلاد الحبشة كذلك، بل يختلط به غيره من الحيوان؛ قال الجاحظ: وقد قالوا فى ولدها وهو(9/315)
فى بطنها قولا لولا أنّه ظاهر على ألسنة الهند لكان اكثر الناس بل كثير من العلماء يدخلونه فى الخرافة، وذلك أنّهم يزعمون أنّ أيّام حملها اذا كادت أن تتمّ ونضجت «1» وسخنت وجاء وقت الولادة فربّما أخرج الولد رأسه من ظبيتها «2» فأكل من أطراف الشجر، فاذا شبع أدخل رأسه، حتى اذا تمّت أيّامه، وضاق به مكانه، وأنكرته الرحم، وضعته مطيقا قويّا على الكسب والحضر، لا يعرض له شىء من السباع؛ وهذا القول أيضا ذكره المسعودىّ؛ قال: واذا اغتلم الفيل فى بلاد الهند لا يقوم له شىء من الوحوش إلّا الكركدن، فإنه يقتحم عليه، فيحجم عنه ويذهب عنه سكر الاغتلام؛ وقيل: إنّه يطعن الفيل بقرنه فيموتا جميعا، فمنهم من يقول:
إنّه يثقل عليه فلا يستطيع أن يخرج قرنه من جوفه، فيكون ذلك سبب حتفهما؛ ومنهم من يقول: إنّ قرنه من السّموم التى تقتل الفيل، ودم الفيل من السّموم التى إذا وقعت على قرن الكركدّن مات؛ وحكى لى من يرجع إلى قوله، ويعتمد على نقله من الحبوش «3» أنّ الكركدّن ببلاد الحبشة إذا رأى الرجل قصده ليقتله، فيعمد الرجل إلى شجرة فيتعلّق بها، فيحاوله الكركدّن، فربّما كسر تلك الشجرة وأهلكه، فان بال الرجل على أذن الكركدّن هرب وأسرع الحضر فلا يقف ولا يعود اليه، فيسلم منه؛ والله أعلم بالصواب.(9/316)
ذكر ما قيل فى الزّرافة
والزّرافة فى كلام العرب: الجماعة، وإنّما سمّيت الزّرافة زرافة لاجتماع صفات عدّة من الحيوان فيها، وهى عنق الجمل، وجلد النّمر، وقرن الظّبى، وأسنان البقر، ورأس الإيّل «1» ؛ وزعم بعض من تكلّم فى طبائع الحيوان أنّها متولّدة من حيوانات، ويقال: إنّ السبب فى ذلك اجتماع الوحوش والدوابّ فى القيظ فى شرائع «2» المياه، فتسافد، فيلقح منها ما يلقح، ويمتنع ما يمتنع، فربّما سفد الأنثى من الحيوان ذكور كثيرة، فتختلط مياهها، فيجىء فيها خلق مختلف الصّور والألوان والأشكال؛ والفرس تسمّى الزّرافة (اشتركا و پلنك) وتفسير (اشتر) : بعير؛ وتفسير (كاو «3» ) : بقرة؛ وتفسير (پلنك) : الضبع «4» ؛ وهذا موافق لما ذهبت إليه العرب من كونها مركّبة الخلق من حيوانات شتّى؛ والجاحظ ينكر هذا القول، ويقول: هو جهل شديد، لا يصدر عمّن لديه تحصيل، لأنّ الله عزّ وجلّ يخلق ما يشاء على ما يشاء، وهو نوع من الحيوان قائم بنفسه كقيام الخيل والحمر، وما يحقّق ذلك أنه يلد مثله؛ وهذا غير منكور، فإنّا نحن رأينا زرافة بالقاهرة ولدت زرافة أخرى شبهها، وعاشت إلى(9/317)
الآن؛ وصفة الزّرافة أنّها طويلة اليدين والعنق جدّا، منها ما يزيد طوله على عشرة «1» أذرع، قصيرة الرجلين جدّا، وليس لرجليها ركب «2» ، وإنّما الرّكب «3» ليديها كسائر البهائم؛ وهى تجترّ وتبعر، وفى طبع هذا الحيوان التودّد للناس والتآلف بهم.
وقد وصفها الشعراء وشبّهوها فى أشعارهم، فمن ذلك ما قاله عبد الجبّار بن حمديس الصّقلّىّ:
ونوبيّة فى الخلق فيها خلائق ... متى ما ترقّ العين فيها تسفّل
اذا ما اسمها ألقاه فى السمع ذاكر «4» ... رأى الطّرف منها ما «5» عناه بمقول
لها فخذا قرم «6» وأظلاف قرهب «7» ... وناظرتا رئم وهامة أيّل «8»
كأنّ الخطوط البيض والصفر أشبهت ... على جسمها ترصيع عاج بصندل
ودائمة الإقعاء فى أصل خلقها ... اذا قابلت أدبارها عين مقبل
تلفّت أحيانا بعين كحيلة ... وجيد على طول اللّواء المظلّل(9/318)
وتنفض رأسا فى الزّمام كأنّما ... تريك [ «1» له فى الجوّ نفضة أجدل «2»
اذا طلع النّطح «3» استجادت نطاحه ... برأس] له هاد «4» على السّحب معتلى
وعرف «5» رقيق الشعر تحسب نبته ... اذا الريح هزّته ذوائب سنبل
وتحسبها من مشيها إن تبخترت ... تزفّ الى بعل عروسا وتنجلى
فكم منشد قول امرئ القيس عندها ... (أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل)
وقال عمارة اليمنىّ- وقد وصف تصاوير دار منها زرافة-:
وبها زرافات كأنّ رقابها ... فى الطول ألوية تؤمّ العسكرا
نوبيّة المنشا تريك من المها ... روقا ومن بزل المهارى مشفرا
جبلت على الإقعاء من إعجابها ... فتخالها للتيّه تمشى القهقرى
وقال أبو علىّ بن رشيق منشدا:
ومجنونة أبدا لم تكن ... مذلّلة الظهر للراكب
قد اتصل الجيد من ظهرها ... بمثل السّنام بلا غارب
ملمّعة مثلما لمّعت ... بحنّاء وشى يد الكاعب(9/319)
كأنّ الجوارى كنّفنها «1» ... تخلّج «2» من كلّ ما جانب
وقال أيضا:
وأتتك «3» من كسب الملوك زرافة ... شتّى الصفات للونها «4» أثناء «5»
جمعت محاسن ما حكت فتناسبت ... فى خلقها وتنافت الأعضاء
تحتثّها «6» بين الخوافق مشية ... باد عليها الكبر والخيلاء
وتمدّ جيدا فى الهواء يزينها ... فكأنّه تحت اللّواء لواء
حطّت مآخرها وأشرف صدرها ... حتّى كأنّ وقوفها إقعاء
وكأن فهر الطّيب «7» ما رجمت به ... وجه الثّرى لو لمّت «8» الأجزاء
وتخيّرت دون الملابس حلّة ... عيّت بصنعة مثلها صنعاء(9/320)
لونا كلون الذّبل «1» إلّا أنّه ... حلّى وجزّع بعضه الجلّاء
أو كالسحاب المكفهرّة خطّطت «2» ... فيها البروق وميضها إيماء
أو مثلما صدئت صفائح جوشن «3» ... وجرى على حافاتهنّ جلاء
نعم التجافيف «4» التى قد درّعت «5» ... من جلدها لو كان فيه وقاء
وقال محمد بن شرف القيروانىّ:
غريبة أشكال غريبة دار ... لها لون خطّى فضّة ونضار
فلون لها لون البياض وصفرة ... كما مزجت بالماء كأس عقار
وآخر ما بين اسوداد وحمرة ... كما احمرّ مسودّ الدخان بنار
أعيرت شخوصا وهى فى شخص واحد ... تحيّر فى نشز لها وقفار
تقوم على ما بين ظلف وحافر ... له جسم جلمود وصبغة قار
وأربعة تحكى سبائك عسجد ... تطير بها فى الأرض كلّ مطار
لها عنق قد خالط الجوّ تحته ... طوال لها تخطو أمام قصار
وذات قرى وعر الركوب وإنّما ... أجلّت بذا «6» عن ذلّة وصغار
لها عجبة «7» التّيّاه عجبا بنفسها ... ولكنّ ذاك العجب تحت وقار(9/321)
ذكر ما قيل فى البقر الوحشية- وهى المها- والأيّل»
ولنبدأ بذكر ترتيب سنّها، ثم نذكر ما قيل فيها؛ أمّا سنّها- فقد قالت العرب: ولد البقرة الوحشيّة ما دام يرضع فهو فزّ وفرقد وفرير؛ فإذا ارتفع عن ذلك فهو يعفور وجؤذر، وبحزج «2» ؛ فإذا شبّ فهو مهاة فإذا أسنّ فهو قرهب؛ هذا ما قيل فى سنّها.
وأمّا ما قيل فى المها
- فذكر من بحث عن طبائع الحيوان أنّ من طباعها الشبق والشهوة؛ وأنّ الأنثى إذا حملت هربت من الذّكر خوفا من عبثه بها فى الحمل؛ والذكر لفرط شهوته يركب الذكر؛ واذا ركب واحد منها شمّ الباقى روائح الماء منه، فيثبن «3» عليه، ولا يمنع ما يثب عليه بعد ذلك؛ ولم أقف من أحواله على غير هذا الذى أوردته، فلنذكر ما وصف به.
فمن ذلك ما قاله كاتب أندلسىّ من رسالة طرديّة، جاء منها: وعنّ لنا سرب نعاج يمشين رهوا «4» كمشى العذارى، ويتثنّين زهوا تثنّى السّكارى؛ كأنّما تجلّل «5» بالكافور جلودها، وتضمّخ بالمسك قوائمها وخدودها «6» ؛ وكأنّما لبسن الدّمقس سربالا، واتّخذن السّندس سروالا.(9/322)
من كلّ مهضمة الحشا وحشيّة ... تحمى مداريها «1» دماء جلودها
وكأنّما أقلام حبر كتّبت ... بمداد عينيها طروس خدودها
فأرسلنا أولى الخيل على أخراها «2» ، وخلّيناها وإيّاها «3» ؛ فمضت مضىّ السّهام، وهوت هوىّ السّمام «4» ؛ فجالت فى أسرابها يمينا وشمالا؛ فكأنّما أهدت لآجالها «5» آجالا؛ فمن متّق بروقه «6» ، وكاب أتاه حتفه من فوقه.
وقال الأخطل يصف ثورا:
فما به «7» غير موشىّ أكارعه ... إذا أحسّ بشخص ماثل «8» مثلا «9»
كأنّ عطّارة باتت تطيف به ... حتّى تسربل ماء الورس وانتعلا
كأنّه ساجد من نضح ديمته ... مقدّس «10» قام تحت اللّيل فابتهلا
ينفى التراب بروقيه وكلكله ... كما استماز رئيس المقنب «11» النّفلا «12»(9/323)
وقال عدىّ بن الرّقاع يصف ثورين يعدوان:
يتعاوران من الغبار ملاءة ... بيضاء محكمة هما نسجاها
تطوى إذا وردا مكانا جاسيا «1» ... وإذا السنابك أسهلت نشراها
وقال الطّرمّاح يصف عدوه بسرعة:
يبدو وتضمره البلاد كأنّه ... سيف على شرف يسلّ ويغمد
وأما ما قيل فى الأيّل
«2» - فهو من أصناف البقر الوحشيّة، وهذا الحيوان يسمن كثيرا، واذا سمن اختفى خوفا أن يصاد لسمنه؛ وهو مولع بأكل الحيّات، يطلبها فى كلّ موضع، فإن انجحرت أخذ الماء بفمه، ونفخه فى الحجر، فتخرج له ذنبها فيأكلها، حتّى اذا انتهى إلى رأسها تركه خوفا من السّم، وربّما لسعته فتسيل دموعه إلى نقرتين تحت محاجر عينيه تدخل فى كلّ واحدة منهما الإصبع، فتجمد تلك الدموع فتصير كالشّمع، تتّخذ درياقا لسمّ الحيّات، وهو البازهر «3» الحيوانىّ؛ قالوا: واذا لسعته الحيّات أكل السّراطين «4» فيبرأ ويبرئه أكل التفّاح أيضا وورق شجره؛ وهو لا تنبت له قرون إلّا بعد أن تمضى له سنتان من عمره، فاذا نبت قرناه نبتا مستقيمين كالوتدين، وفى الثالثة يتشعّبان، ولا يزال التشعّب فى زيادة الى تمام ستّ سنين، وحينئذ يكونان كالشجرتين على رأسه، ثم(9/324)
بعد ذلك يلقى قرونه فى كلّ سنة، ثم تنبت، واذا نبتا عرّضهما للشمس حتى يصلبا، وهما اذا كبرا على رأسه منعاه من الجرى؛ ولا يكاد يفلت اذا طلبته الخيل؛ وإذا ألقى قرونه علم أنّه ألقى سلاحه، فهو لا يظهر؛ قال الجاحظ: قال صاحب المنطق «1» : إنّ أنثى الأيّل اذا وضعت ولدا أكلت مشيمتها فتظنّ أنّه شىء تتداوى به من علّة النّفاس؛ وزعم أرسطو أنّ هذا النوع يصاد بالصفير والغناء، وهو لا ينام ما دام يسمع ذلك، ومن أراد صيده من الصيّادين شغله «2» بعضهم بالتّطريب، ويأتيه البعض من خلفه، فاذا رأوه مسترخية أذناه وثبوا عليه؛ واذا اشتدّ عليه العطش من أكل الحيّات أتى غدير الماء واشتمّه، ثم انصرف عنه، يفعل ذلك أربعة أيّام، ثم يشرب فى اليوم الخامس، وإنّما يمتنع من شرب الماء خوفا على نفسه من سريان السّم فى جسده مع الماء؛ والله أعلم.
قال بعض الشعراء:
هجرتك لا قلى منّى ولكن ... رأيت بقاء ودّك فى الصّدود
كهجر الظامئات الماء لمّا ... تيقّنّ المنايا فى الورود
تذوب نفوسها ظمأ وتخشى ... هلاكا فهى تنظر من بعيد
وقال آخر فى مثل ذلك:
وما ظامئات طال فى القيظ ظمئها «3» ... فجاءت وفى الأحشاء غلى المراجل
فلمّا رأين الماء عذبا وقد أتت ... إليه رأين الموت دون المناهل(9/325)
فولّت ولم تشفى «1» صداها وقد طوت ... حشاها على وخز الأفاعى القواتل
بأعظم من شوقى إليك وحسرتى ... عليك ولم ألتذّ منك بطائل
الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثالث فيما قيل فى الحمر الوحشيّة والوعل واللّمط «2»
ذكر ما قيل فى الحمر الوحشيّة
والحمار الوحشىّ يسمّى العير والفرأ؛ وبه «3» ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل «4» ، فقال: «كلّ الصّيد فى جوف الفرإ» ؛ ويقال: إنّه ينزو إذا بلغ ثلاثين شهرا من عمره؛ وهو يوصف بشدّة الغيرة؛ ويقال: إنّ الأنثى إذا ولدت(9/326)
جحشا كدم «1» الذكر قضيبه، فالإناث تعمل الحيلة فى إبقائه، قتهرب به من أبيه، وتكسر رجله ليستقرّ بذلك المكان، وهى تتعهده وترضعه، فاذا انجبرت رجله وقويت وصحّت، وأمكنه المشى عليها، يكون قد حصل فيه من القوّة والجرى ما يدفع به عن نفسه، ويهرب إذا أبوه أو من هو أقوى منه أراد خصاءه؛ ويقال: إنّ الحمار الوحشىّ يعمّر مائتى سنة وأكثر من ذلك، وكلّما بلغ مائة سنة صارت له مبولة «2» ثانية؛ قالوا: وشوهد منها ماله ثلاث مباول وأربع؛ ومعادنه بلاد النّوبة وزغاوة، ويوجد منه ما تكون شيته معمّدة ببياض وسواد فى الطول من أعضائه المستطيلة، ومستديرة فيما استدار منها بأصحّ قسمة؛ ومنها صنف يسمّى الأخدرىّ وهو أطولها أعمارا.
وقد وصفها أبو الفرج الببغاء من رسالة ذكر فيها أتانا معمّدة ببياض وسواد كانت قد أهديت لعزّ الدولة بختيار بن بويه من جهة صاحب اليمن، قال: وأما الأتان، الناطقة فى كمال الصنعة بأفصح لسان؛ فإنّ الزمان لاطف مولانا- أيّده الله- منها بأنفس مذخور، وأحسن منظور؛ وأعجب مرئىّ، وأغرب موشىّ؛ وأفخر مركوب، وأشرف مجنوب؛ وأعزّ موجود، وأبهى مخدود «3» ؛ كأنّما وسمها الكمال بنهايته، أو لحظها الفلك بعنايته؛ فصاغها من ليله ونهاره، وحلّاها بنجومه وأقماره، ونقشها ببدائع آثاره؛ ورمقها بنواظر سعوده، وجعلها أحد «4» جدوده؛ ذات إهاب(9/327)
مسيّر «1» ، وقرب «2» محبّر، وذنب مشجّر، وشوى «3» مسوّر «4» ؛ ووجه مزجّج «5» ، ورأس متوّج؛ تكنفه أذنان، كأنهما زجّان «6» ؛ سبجيّة «7» الأنصاف، بلّوريّة الأطراف، جامعة شيتها بالترتيب، بين زمنى الشبيبة والمشيب؛ فهى قيد الأبصار، وأمد الأفكار، ونهاية الاعتبار؛ غنىّ عن الحلى عطلها، مزرية بالزّهر حللها؛ واحدة جنسها، وعالم نفسها صنعة المنشئ الحكيم، وتقدير العزيز العليم.
وقال ابن المعتزّ:
شغلته «8» لواقح ملأته ... غيرة فهو خلفهنّ كمىّ
قابض جمعها إليه كما يج ... مع أيتامه إليه الوصىّ
كلّما شمّ لاقحا شمّ منها «9» ... رأس فحل برجلها مفلىّ «10»(9/328)
خارج من ظلال نقع كما فرّ ... ق جلبابه الخليع الغوىّ
قد طواها التسويق «1» والشدّ حتّى ... هى قبّ «2» كأنّهنّ القسىّ
هربت من رءوسهنّ عيون ... غائرات كأنّهنّ الرّكىّ
ذكر ما قيل فى الوعل
الوعل، هو التيس الجبلىّ، والأنثى تسمّى أرويّة؛ وهى شاة الوحش؛ وفى طباع هذا الحيوان أنّه يأوى الأماكن الوعرة والخشنة من الجبال؛ ولا يزال مجتمعا، فإذا كان فى وقت الولادة تفرّق؛ وإذا اجتمع فى ضرع الأنثى لبن امتصّته؛ والذكر إذا ضعف عن النّزو أكل البلّوط فتقوى شهوته، ومتى فقد الأنثى انتزع منيّه بفيه بالامتصاص، وذلك لشدّة الشّبق؛ وهو إذا جرح عمد إلى الخضرة التى تكون على الحجارة، فيمضغها ويجعلها على الجرح فيبرأ؛ واذا أحسّ بقنّاص وهو فى مكانه المرتفع استلقى على ظهره، ثمّ يزجّ بنفسه فينحدر من أعلى الجبل إلى أسفله، وقرناه يقيانه ألم الحجارة، ويسرعان هبوطه لملاستهما فإنّهما [من رأسه «3» ] إلى عجزه؛ وفى طبع هذا الحيوان الحنوّ على ولده والبرّ بوالديه؛ أمّا حنوّه على ولده فإنّه إذا صيد منها شىء تبعته أمّه واختارت أن تكون معه فى الشّرك؛ وأمّا برّه بوالديه، فانّهما إذا عجزا عن الكسب لأنفسهما أتاهما بما يأكلانه، وواساهما من كسبه، فإن عجزا [عن الأكل «4» ] مضغ لهما وأطعمهما؛ ويقال: إنّ فى قرنيه ثقبين يتنفس منهما، فمتى سدّا جميعا هلك.(9/329)
وقد وصفه الشعراء، فمن ذلك ما قاله الصاحب بن عبّاد:
وأعين «1» كالذّرّىّ «2» فى سفلاته ... سواد وأعلى ظاهر اللّون واضح
موقّف «3» أنصاف اليدين كأنّه ... إذا راح يجرى بالصريمة «4» رامح «5»
وقال أبو الطيّب المتنبّى:
وأوفت «6» الفدر «7» من الأوعال ... مرتديات بقسىّ الضّال «8»
نواخس الأطراف «9» للأكفال ... يكدن ينفذن من الآطال «10»
لها لحى سود بلا سبال ... يصلحن «11» للإضحاك لا الإجلال «12»
كلّ أثيث «13» نبته متفال «14» ... لم يغذ «15» بالمسك ولا الغوالى
يرضى من الأدهان بالأبوال(9/330)
ذكر ما قيل فى اللّمط «1»
واللّمط «2» حيوان وحشىّ يكون ببلاد الغرب الجوّانىّ «3» ، فى قدر المهر اللّطيف، له قرون غير متشعّبة، ولا مفاصل لركبه، فهو لا يستطيع النوم إلّا مستندا الى شجرة أو جدار، فاذا أريد صيده عمد من يريد ذلك الى تلك الشجرة التى هى فى محلّ مظانّ نومه، فينشر أكثرها، ويترك منها يسيرا لا يحمله، فاذا استند اليها سقطت وسقط بسقوطها، فيؤخذ ويذبح وتتّخذ من جلده درق تباع بالأثمان الغالية، تردّ طعنة الرّمح ورشقة السّهم، ومهما أصابها من الحديد انطوى، فان تمكّن منها ونزع وبقى أثره التحم فى اليوم الثانى وخفى أثره؛ أخبرنى بذلك من أثق بقوله.(9/331)
الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثالث فى الظّبى والأرنب والقرد والنّعام
ذكر ما قيل فى الظّبى
للظّباء أسماء نطقت بها العرب، واحدها ظبى، والأنثى ظبية، وولدها طلا وغزال؛ فاذا تحرّك ومشى فهو رشأ؛ فاذا نبت قرناه فهو شادن وخشف؛ فاذا قوى فهو شصر، والأنثى شصرة، ثم هو جذع، ثم ثنىّ، ولا يزال ثنيّا حتّى يموت.
والظّباء أنواع تختلف بحسب مواضعها؛ فصنف منها يسمّى الآرام، وهى الخالصة البياض، ومساكنها الرمل، وهى أشدّها حضرا؛ وصنف يسمّى العفر، وألوانها بيض تعلوها حمرة؛ وصنف يسمّى الأدم، وألوانها أيضا كذلك «1» ، ومساكنها الجبال؛ ومن طبع هذا الحيوان أنّه اذا فقد الماء استنشق النسيم فاعتاض به عنه؛ وهو إذا طلب لم يجهد نفسه فى الحضر لأوّل وهلة، ولكنّه يرفق بنفسه، فاذا رأى طالبه قد قرب منه زاد فى حضره حتّى يفوت الطالب؛ وهو يخضم «2» الحنظل حتّى يرى ماؤه يسيل من شدقيه؛ ويرد الماء الملح الأجاج فيغمس لحيته فيه كما تفعل الشّاة فى الماء العذب، يطلب النّوى «3» المنقع فيه؛ وهو لا يدخل كناسه إلّا مستدبرا، يستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه؛ وله نومتان فى مكنسين: مكنس الضّحى،(9/332)
ومكنس العشىّ؛ وهو يصاد بالنّار، فإنّه إذا رآها ذهل لها ودهش، سيّما «1» إذا أضيف الى إشعال النار تحريك الجرس، فإنّه ينخذل ولا يبقى به حراك ألبتّة؛ وبين الظّبى والحجل ألفة ومحبّة؛ وهو يوصف بحدّة النظر.
فصل ومما يلتحق «2» بهذا النوع غزال المسك،
ولونه أسود، وله نابان خفيفان أبيضان خارجان من فيه فى فكّه الأسفل، قائمان فى وجهه كنابى الخنزير، كلّ واحد منهما دون الفتر، على هيئة ناب الفيل؛ ويكون هذا الغزال ببلاد التّبّت «3» وبالهند؛ ويقال إنه يسافر من التّبّت «4» الى الهند بعد أن يرعى من حشيش التّبّت «5» - وهو غير طيّب- فيلقى ذلك المسك بالهند، فيكون رديئا لأنه يحصل عن ذلك المرعى، ثمّ يرعى حشيش الهند الطّيّب ويعقد منه مسكا، ويأتى بلاد التّبّت «6» فيلقيه فيها، فيكون أجود ممّا يلقيه فى بلاد الهند؛ وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر المسك فى بابه فى آخر فنّ النبات فى القسم المذيّل به مستوفى، فلا فائدة فى تكراره؛ فلنذكر ما وصف به الغزال من الشعر.(9/333)
قال ذو الرّمّة- وذكر محبوبته-:
ذكرتك أن مرّت بنا أمّ شادن ... أمام المطايا تشرئبّ وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرّة ... شعاع الضّحى فى متنها يتوضّح
هى الشّبه أعطافا وجيدا ومقلة ... وميّة «1» أبهى بعد منها وأملح
وقال آخر:
وحالية بالحسن والجيد عاطل ... ومكحولة العينين لم تكتحل قطّ
على رأسها من قرنها «2» الجعد وفرة ... وفى خدّها من صدغها شاهد «3» سبط «4»
وقد أدمجت بالشّحم حتّى كأنّما ... ملاءتها من فرط ما اندمجت قمط «5»
ذكر ما قيل فى الأرنب
قال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: إنّ قضيب الأرنب كذكر الثعلب، أحد شطريه عظم، والآخر عصب؛ وربّما ركبت الأنثى الذكر حين السّفاد لما فيها من الشّبق، وتسفد وهى حبلى؛ وهى قليلة الإدرار على ولدها؛ ويزعمون أنّه يكون شهرين ذكرا، وشهرين أنثى؛ وحكى ابن الأثير فى تاريخه (الكامل) فى حوادث(9/334)
سنة ثلاث وعشرين وستّمائة، قال: وفيها اصطاد صديق لنا أرنبا، فرآها لها أنثيان وذكر وفرج أنثى، فلما شقّوا بطنها رأوا فيه خريقين «1» . والأرنب تنام مفتوحة العينين، وسبب ذلك أنّ حجاجى «2» عينيها لا يلتقيان؛ ويقال: إنّ الأرنب اذا رأت البحر ماتت، ولذلك لا توجد بالسواحل؛ وتزعم العرب أنّ الجنّ تهرب منها اذا حاضت؛ ويقال: إنّها تحيض كالمرأة، وتأكل اللّحم وغيره، وتجتر وتبعر، وفى باطن أشداقها شعر، وكذلك تحت رجليها، وليس شىء قصير اليدين أسرع منها حضرا، ولقصرهما يخفّ عليهما الصعود؛ وهى تطأ الأرض على مؤخّر قوائمها تعمية لأثرها حتّى لا يعرفه الطالب لها، واذا قربت من المكان الذى تريد أن تجثم فيه وثبت إليه.
وفى الأرنب منافع طيّبة ذكرها الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا، قال: إنّ انفحة الأرنب حارّة يابسة ناريّة، تحلّل كلّ جامد من دم ولبن متجبّن وخلط غليظ، وتجمّد كلّ ذائب، وتمنع كلّ سيلان ونزف من النساء؛ قال: ولا شكّ أنّها مع ذلك مجفّفة، واذا شربت منعت من الصّرع، وكذلك سائر الأنافح، وهى رديئة للمعدة وإذا حملت «3» بعد الطّهر ثلاثة أيّام بالخلّ منعت الحبل ونفت الرطوبة السائلة من(9/335)
الرّحم، وتنفع من اختناق الرّحم؛ قال: ودم الأرنب ينفى الكلف «1» ؛ ورماد رأسه جيّد لداء الثعلب؛ واذا أخذ بطن الأرنب كما هو بأحشائه وأحرق قليا على مقلى كان دواء منبتا للشعر اذا سحق واستعمل بدهن الورد؛ ودماغه مشويّا ينفع من الرّعشة الحادثة عقيب المرض؛ وإذا حلّ دماغ الأرنب بسمن أو زبد أو عسل أسرع إنبات الأسنان، وسهل بغير وجع؛ ودم الأرنب مقلوّا ينفع من السّحج «2» وورم الأمعاء والإسهال المزمن، وينفع من السّهام الأرمنيّة؛ هذا ما قاله الشيخ الرئيس فى الأرنب.
وقد وصف بعض كتّاب الأندلس عدّة من الأرانب، فقال: أفراد إخوان «3» كأنّهنّ أولاد غزلان؛ بين روّاغ ينعطف انعطاف البره «4» ، ووثّاب يجتمع اجتماع الكره؛ حاك القصب إزاره، وصاغ التبرطوقه وسواره؛ قد غلّل بالعنبر بطنه، وجلّل بالكافور متنه؛ كأنّما تضمّخ بعبير، وتلفّع فى حرير؛ ينام بعينى ساهر، ويفوت بجناحى طائر؛ قصير اليدين، طويل السّاقين؛ هاتان فى الصعود تنجدانه، وتانك عند الوثوب تؤيّدانه؛ والله أعلم.
ذكر ما قيل فى القرد
القرد عند المتكلّمين فى الطبائع مركّب من إنسان وبهيمة؛ وهو إذا سقط فى الماء غرق مثل الإنسان الذى لا يحسن السّباحة؛ وهو يأخذ نفسه بالزواج والغيرة على الأنثى؛ وهو يقمل، واذا قمل تفلّى، ويأكل ما ينتزعه من بدنه(9/336)
من القمل؛ وهو كثير الشّبق، واذا اشتدّ به الشّبق استمنى بفيه؛ والأنثى تلد عدّة نحو العشرة وأكثر، كما تلد الخنزيرة؛ وهى تحمل بعض أولادها كما تحمل المرأة؛ ويقال: إن الطائفة من القرود اذا أرادت النوم ينام الواحد فى جنب الآخر حتى يكونوا سطرا واحدا، فاذا تمكّن النوم منها نهض أوّلها من الطّرف الأيمن، فيمشى وراء ظهورها حتى يقعد من وراء الأقصى من الطّرف الأيسر، فاذا قعد صاح؛ فينهض الذى يليه، ويفعل مثل فعله، فهذا دأبهم طول اللّيل؛ فهم يبيتون فى أرض ويصبحون فى أخرى؛ وفى القرد من قبول التأديب والتعليم [ما لا خفاء به عن أحد «1» ] حتى إنه درّب قرد ليزيد بن معاوية على ركوب الحمير والمسابقة عليها؛ وحكى المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب: أن القردة فى أماكن كثيرة من المعمور، منها (وادى نخلة) بين (الجند «2» ) وبلاد (زبيد) ، وهو بين جبلين، وفى كلّ جبل منهما طائفة من القرود يسوقها هزر «3» ، وهو القرد العظيم المقدّم فيها؛ قال: ولها مجالس يجتمع فيها خلق كثير منها؛ فيسمع لها حديث والاناث بمعزل عن الذكور، والرئيس متميّز عن المرءوس؛ وباليمن قرود كثيرة فى نواح متعدّدة؛ منها فى ذمار «4» من بلاد صنعاء فى برارىّ وجبال كأنّها السحب؛ وتكون القرود(9/337)
أيضا بأرض النّوبة وأعلى بلاد الحبشة، وهذا الصّنف من القرود حسن الصورة، خفيف الروح، مدوّر الوجه، مستطيل الذّنب، سريع الفهم، ويسمّونه النّسناس؛ ومنها أيضا بخلجان الرّانج «1» فى «2» بحر الصين وبلاد المهراج «3» وفى ناحية الشّمال نحو أرض الصّقالبة ضرب من القرود منتصب القامات، مستدير الوجوه، والأغلب عليهم صور الناس وأشكالهم، ولهم شعور، وربّما صيد منها القرد فى النادر بالحيلة، فيكون فى نهاية الفهم والدّراية، إلّا أنّه لا لسان له يعبّر به عمّا فى نفسه، لكنّه يفهم كلّ ما يخاطب به بالإشارة؛ ومن النّواحى التى بها القرود جبل موسى، وهو الجبل المطلّ على مدينة سبتة «4» من بلاد المغرب، والقرود التى فيها قباح الصور جدّا، عظام الجثث، تشبه وجوهها وجوه الكلاب، لها خرطوم، وليس لها أذناب، وأخلاقها صعبة لا يكاد ينطبع فيها تعليم إلّا بعد جهد؛ وحكى لى بعض المغاربة أنهم اذا أرادوا صيد هذه القرود يتحيّلون عليها بأن يصنعوا لها زرابين بقدر أرجلها، ويلطّخوا نعالها(9/338)
بالصابون، ويأتوا إلى مكان هذه القرود فيقعدوا حيث تراهم، ويلبسوا زرابينهم «1» ويمشوا بها، ويتركوا تلك الزّرابين «2» الصغار، فتأتى القرود وتلبس الزّرابين «3» ، فتخرج عليها الرجال، فتعدو القرود بتلك الزّرابين «4» ، فلا تثبت أرجلها على الأرض، وتزلق، فتدركها الرجال ويأخذوها. ولم أقف على شعر يتعلّق بوصف القرد فأثبته؛ والله أعلم.
ذكر ما قيل فى النّعام
والنعامة تسمّى بالفارسية: أشترمرغ «5» ، ومعنى أشتر: جمل، ومرغ «6» : طائر، فكأنّهم قالوا: جمل طائر؛ ومن أعاجيبها أنّها تضع بيضها عند الحضان، وتعطى كلّ بيضة منها نصيبها من الحضن، لأنّ بدنها لا يشمل جميع ما تحضنه، فانّها تحضن أربعين بيضة أو ثلاثين، وتخرج لطلب الطّعم، فتمرّ فى طريقها ببيض نعامة أخرى فتحضنه وتنسى بيضها؛ قال ابن هرمة:
وإنّى وتركى ندى الأكرمين ... وقدحى بكفّىّ زندا شحاحا «7»
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا «8»
ويقال: إنها تقسم بيضها أثلاثا، منه ما تحضنه، ومنه ما تجعل صفاره «9» غذاء، ومنه ما تفتحه وتتركه فى الهواء حتى يعفن، وتتولّد من عفونته دوابّ «10» ، فتغذى بها(9/339)
فراخها اذا خرجت؛ وكلّ ذى رجلين اذا انكسرت إحداهما استعان فى نهوضه وحركته بالثانية إلّا النّعامة، فانّها تبقى فى مكانها جاثمة حتى تهلك جوعا؛ قال الشاعر:
إذا انكسرت رجل النّعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا بآستها حبوا «1»
والعرب تزعم أنّ الظّليم أصلم «2» ، وأنّه عوّض عن السّمع بالشّمّ، فهو يعرف بأنفه ما لا يحتاج معه الى سمع، والعرب تقول فى أمثالها: «أحمق من نعامة» ، قالوا: لأنّها إذا أدركها القانص أدخلت رأسها فى كثيب رمل وتقدّر فى نفسها أنّها قد استخفت منه؛ والنّعام قوىّ الصبر على العطش، شديد العدو، وأشدّ ما يكون عدوه اذا استقبل الريح، وهو فى عدوه يضع عنقه على ظهره، ثم يخترق الريح؛ والنّعامة تبتلع العظم والحجر والحديد فيصير فى جوفها كالماء، وتبتلع الجمر؛ وهو يصاد بالنار كسائر الوحش، فإنه إذا رأى النار دهش ووقف فيتمكّن منه الصائد.
وقد وصفها إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ فقال:
ولربّ طيّار خفيف قد جرى ... فشلا «3» بجار خلفه طيّار
من كلّ فاجرة «4» الخطا مختالة ... مشى الفتاة تجرّ فضل إزار
مخضوبة المنقار تحسب أنّها ... كرعت على ظمإ بكاس عقار(9/340)
لا تستقرّ بها الأداحى «1» خشية ... من ليل ويل أو نهار بوار
[وقال «2» الحمّانىّ] :
قد ألبس الليل حتى ينثنى خلقا ... وأركب الهول بالغرّ الغرانيق «3»
وانتحى لنعام الدّو «4» ملهبة «5» ... كأنّها بعض أحجار المجانيق
تسدى الرياح بها ثوبا وتلحمه ... كما تلبّس من نسج الخداريق «6»
كأنّما ريشها والريح تفرقه ... أسمال راهبة شيبت بتشقيق
كأنّها حين مدّت رؤسها «7» فرقا ... سود الرجل تعادى «8» بالمزاريق
كأنّ أعناقها وهنا اذا خفقت «9» ... بها البلاقع أدقال «10» الزواريق
فما استلذّ بلحظ العين ناظرها ... حتّى تغصّص أعلاهنّ بالرّيق «11»(9/341)
القسم الثالث من الفن الثالث فى الدوابّ والأنعام،
وفيه ثلاثة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم فى الخيل
وابتداء خلقها، وأوّل من ذلّلها وركبها، وما ورد فى فضلها وبركتها من الآثار الصحيحه، والأحاديث النبويّة الثابتة الصريحه، وما ورد فى فضل الإنفاق عليها، وما جاء فى التماس نسلها، والنهى عن خصائها والرّخصة فيه؛ وما قيل فى أكل لحومها من الكراهة، وما ورد من النهى عن عسب «1» الفرس وبيع ماء الفحل، وما ندب إليه من إكرام الخيل ومنع إذالتها «2» ، والأمر بارتباطها، وما يستحبّ من ألوانها وشياتها وذكورها وإناثها، وما ورد فى شؤم الفرس، وما يذمّ من عصمه «3» ورجله، وما جاء فى سباق الخيل، وما يحلّ منه وما يحرم، وكيفيّة التّضمير «4» عند السّباق، وأسماء السوابق فى الحلبة، وما يقسم لصاحب الفرس من سهام الغنيمة، والفرق فى ذلك بين العراب والهجن والبراذين، والعفو عن سقوط الزّكاة فى الخيل، وما وصفت(9/342)
العرب به الخيل من ترتيبها فى السنّ، وتسمية أعضائها وأبعاضها وألوانها وشياتها، والمحمود من صفاتها ومحاسنها، وعدّ عيوبها التى تكون فى خلقتها وجريها، والعيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها، وذكر خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدّتها وأسمائها، وكرام الخيل المشهورة عند العرب، وما وصفت به الخيل فى أشعار الشعراء ورسائل الفضلاء التى تتضمّن مدح جيّدها وذمّ رديئها، وغير ذلك على ما نوضحه- إن شاء الله تعالى- ونبيّنه، ونأتى به على الترتيب والتحقيق، فنقول وبالله التوفيق، [وإليه المآب «1» ] .
ذكر ما ورد فى ابتداء خلق الخيل وأوّل من ذلّلها وركبها
قال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النّيسابورىّ المعروف بالثّعلبىّ فى تفسيره:
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمّد بن أحمد بن عقيل الأنصارىّ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، قالا: أخبرنا أبو منصور محمد بن القاسم العتكىّ، قال:
حدّثنا محمد بن الأشرس، قال: حدّثنا أبو جعفر المدينىّ، قال: حدّثنا القاسم ابن الحسن بن زيد، عن أبيه، عن الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا أراد الله أن يخلق الخيل قال للريح الجنوب: إنّى خالق منك خلقا فأجعله عزّا لأوليائى، ومذلّة على أعدائى، وجمالا لأهل طاعتى؛ فقالت الريح: اخلق، فقبض منها قبضة فخلق فرسا، فقال له: خلقتك عربيّا وجعلت الخير معقودا بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، وعطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطير بلا جناح، فأنت للطّلب، وأنت للهرب،(9/343)
وسأجعل على ظهرك رجالا يسبّحونى «1» ويحمدونى «2» ويهلّلونى «3» ، تسبّحن «4» اذا سبّحوا، وتهلّلن «5» اذا هلّلوا، وتكبّرن «6» اذا كبّروا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من تسبيحة وتحميدة وتكبيرة يكبّرها صاحبها فتسمعه «7» إلّا فتجيبه بمثلها، ثم قال: لمّا سمعت الملائكة صفة الفرس وعاينت خلقها، قالت: ربّ، نحن ملائكتك نسبّحك ونحمدك، فماذا لنا؟ فخلق الله لها خيلا بلقا، أعناقها كأعناق البخت «8» ، فلمّا أرسل الله الفرس الى الأرض، واستوت قدماه على الأرض صهل، فقيل: بوركت من دابّة، أذلّ بصهيلك المشركين، أذلّ به أعناقهم، وأملأ به آذانهم، وأرعب به قلوبهم؛ فلمّا عرض الله على آدم من كلّ شىء قال له: اختر من خلقى ما شئت، فاختار الفرس، فقال له: اخترت عزّك وعزّ ولدك خالدا ما خلدوا، وباقيا ما بقوا، بركتى عليك وعليهم، ما خلقت خلقا أحبّ إلىّ منك ومنهم «9» » .(9/344)
وروى المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب بسنده إلى ابن عبّاس- رضى الله عنهما-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لمّا أراد أن يخلق الخيل أوحى الى الرّيح الجنوب أنّى خالق منك خلقا فاجتمعى، فاجتمعت، فأمر جبريل عليه السلام فأخذ منها قبضة، قال: ثمّ خلق الله تعالى منها فرسا كميتا «1» ، ثم قال الله تعالى: خلقتك فرسا، وجعلتك عربيّا، وفضّلتك على سائر ما خلقت من البهائم بسعة الرزق، والغنائم تقاد على ظهرك، والخير معقود بناصيتك؛ ثم أرسله فصهل، فقال له: باركت فيك، فصهيلك أرعب به المشركين وأملأ مسامعهم، وأزلزل أقدامهم؛ ثم وسمه بغرّة وتحجيل، فلمّا خلق الله تعالى آدم، قال: يا آدم، أخبرنى أىّ الدّابّتين أحببت؟ - يعنى الفرس والبراق، قال «2» :
وصورة البراق على صورة البغل لا ذكر ولا أنثى- فقال آدم: يا ربّ اخترت أحسنهما وجها، فاختار الفرس، فقال الله له: يا آدم، اخترت أحسنهما، اخترت عزّك وعزّ ولدك باقيا ما بقوا، وخالدا ما خلدوا» . هذا ما ورد فى ابتداء خلق الفرس؛ والله أعلم بالصواب؛ واليه المرجع والمآب.
وأما أوّل من ذلّل الخيل وركبها- فإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ودليل ذلك ما رواه الزّبير بن بكّار فى أوّل كتابه فى أنساب قريش من حديث داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: كانت الخيل وحوشا لا تركب، فأوّل من ركبها إسماعيل، فلذلك سمّيت(9/345)
العراب. وما رواه أحمد بن سليمان النّجّاد فى بعض فوائده «1» من حديث ابن جريج، عن ابن أبى مليكة، عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: كانت الخيل وحشا كسائر الوحوش، فلمّا أذن الله عزّ وجلّ لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع القواعد من البيت، قال الله عزّ وجلّ: إنّى معطيكما كنزا ذخرته لكما؛ ثم أوحى الله تعالى إلى إسماعيل أن اخرج فادع بذلك الكنز، فخرج إسماعيل إلى (أجياد «2» ) - وكان موطنا له- وما يدرى ما الدّعاء ولا الكنز، فألهمه الله عزّ وجلّ الدعاء، فلم تبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلّا أجابته، فأمكنته من نواصيها، وذلّلها له؛ فاركبوها واعتقدوها، فإنّها ميامين، وإنّها ميراث عن أبيكم إسماعيل عليه السلام.
والله أعلم.
ذكر ما ورد فى فضل الخيل وبركتها، وفضل الإنفاق عليها
قال الله عزّ وجلّ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)
قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: «نزلت فى علف الدّوابّ» . وروى عن أبى أمامة الباهلىّ أنّه قال: «هى النّفقة على الخيل فى سبيل الله» ، قال الواحدىّ:
«هذا قول أبى الدّرداء ومكحول والأوزاعىّ» ؛ ومن فضل الخيل وشرفها أنّ الله أقسم بها فى كتابه العزيز، فقال: (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)
؛ وسمّاها الله تعالى الخير فى قوله عزّ وجلّ إخبارا عن سليمان عليه السلام:(9/346)
(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ)
؛ وفى الحديث الصحيح عن مالك بن أنس، عن نافع، عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهم- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخيل فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» رواه البخارىّ؛ وفى لفظ آخر: «معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» ؛ ومن طريق آخر عن الشّعبىّ، عن عروة- هو ابن أبى الجعد «1» الأزدىّ البارقىّ- قيل يا رسول الله: وما ذلك الخير؟ قال: «الأجر والغنيمة» رواه مسلم.
وعن عروة رضى الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فرسا أشقر فى سوق المدينة مع أعرابىّ، فلوى ناصيتها بإصبعيه وقال: «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
وعن جرير بن عبد الله- رضى الله عنه،- قال: رأيت النّبىّ صلى الله عليه وسلم يلوى ناصية فرسه بإصبعه ويقول: «الخير معقود بنواصى الخيل إلى يوم القيامة» ؛ رواه مسلم والنّسائىّ؛ وفى لفظ النّسائىّ: «يفتل ناصية فرس بين إصبعيه» ؛ وفى حديث آخر موضع «معقود» : «معقوص» ، وهو بمعناه، أى ملوىّ بها ومضفور فيها، والعقصة: الضّفيرة.
وفى حديث آخر عن نعيم بن زياد، عن أبى كبشة- رضى الله عنه- قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة» ؛ وفى لفظ آخر:
«فامسحوا نواصيها، وادعوا لها بالبركة» .(9/347)
وعن أسماء بنت يزيد- رضى الله عنها- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل فى نواصيها الخير معقود أبدا إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدّة فى سبيل الله فانّ «1» شبعها وجوعها وريّها وظمأها وأرواثها وأبو الها فلاح فى موازينه «2» يوم القيامة «3» » ؛ رواه الامام أحمد فى مسنده.
وعن جابر- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها، فخذوا بنواصيها، وادعوا بالبركة، وقلّدوها ولا تقلّدوها الأوتار» ؛ وفى لفظ: «فى نواصيها الخير والنّيل» ؛ وكانوا يقلّدون الخيل أوتار القسىّ لئلّا تصيبها العين، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأعلمهم أنّ الأوتار لا تردّ من قضاء الله تعالى شيئا؛ وقيل: نهاهم عن ذلك خوفا على الخيل من الاختناق بها؛ وقيل: المراد بالأوتار الذّحول التى وترتم بها فى الجاهلية؛ وقد اختلف الناس فى تقليد الدوابّ والإنسان أيضا ما ليس بتعاويذ قرآنية مخافة العين؛ فمنهم من نهى عنه ومنعه قبل الحاجة إليه، وأجازه بعد الحاجة إليه، لدفع ما أصابه من ضرر العين وشبهه؛ ومنهم من أجازه قبل الحاجة وبعدها، كما يجوز الاستظهار «4» بالتّداوى قبل حلول المرض؛ وقصر بعضهم النهى على الوتر خاصّة، وأجازه بغير الوتر؛ وقال بعضهم فيمن قلّد فرسه شيئا ملوّنا فيه خرز: إن كان للجمال فلا بأس به.(9/348)
وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر؛ فأمّا الذى هى له أجر فرجل ربطها فى سبيل الله فأطال لها فى مرج أو روضة، فما أصابت فى طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنّها قطعت طيلها فاستنّت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنّها مرّت بنهر فشربت منه ولم يرد «1» أن يسقيها كان ذلك حسنات له، فهى لذلك أجر؛ ورجل ربطها تغنيّا «2» وتعفّفا، ثم لم ينس حقّ الله فى رقابها ولا ظهورها، فهى لذلك ستر؛ ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام، فهى على ذلك وزر» .
وفى حديث آخر: «الخيل لثلاثة، هى لرجل أجر، ولرجل ستر؛ وعلى رجل وزر؛ فأمّا الذى هى له أجر فالّذى يتّخذها فى سبيل الله ويعدّها له، فلا تغيّب شيئا فى بطونها إلّا كتب له به أجر، ولو رعاها فى مرج فما أكلت شيئا إلا كتب له به أجر؛ ولو سقاها من نهر كان له بكلّ قطرة تغيّبها فى بطونها «3» - حتّى ذكر الأجر فى أبو الها وأرواثها- ولو استنّت شرفا أو شرفين كتب له بكلّ خطوة تخطوها أجر؛ وأمّا الذى هى له ستر فالّذى يتّخذها تعفّفا وتكرّما وتجمّلا، ولم ينس حقّ ظهورها وبطونها فى عسرها ويسرها؛ وأمّا الذى هى عليه وزر فالّذى يتّخذها أشرا وبطرا وبذخا ورئاء الناس، فذلك الذى هى عليه وزر» .(9/349)
(شرح غريب هذين الحديثين) الطّول والطّيل بالواو والياء: الحبل، وكذلك الطّويلة. وقوله: «استنّت» ، أى عدت لمرحها ونشاطها ولا راكب عليها. والشّرف: ما يعلو من الأرض، وقيل: الطّلق، فكأنّه صلى الله عليه وسلم يقول: جرت طلقا أو طلقين، بمعنى شوط أو شوطين. والأشر «1» والبطر: شدّة المرح. والبذخ بفتح الذال وبالخاء المعجمتين: الكبر. ونواء لأهل الإسلام: معاداة لهم، من ناوأه نواء ومناوأة، وأصله من ناء إليك ونؤت إليه، أى نهضت.
وعن زياد بن مسلم «2» الغفارىّ- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «الخيل ثلاثة، فمن ارتبطها فى سبيل الله وجهاد عدوّه كان شبعها وجوعها وريّها وعطشها وجريها وعرقها وأرواثها وأبو الها أجرا فى ميزانه يوم القيامة؛ ومن ارتبطها للجمال فليس له إلّا ذاك؛ ومن ارتبطها فخرا ورياء كان مثل ما قصّ فى الأوّل وزرا فى ميزانه يوم القيامة» .
وعن حباب- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الخيل ثلاثة: فرس للرّحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان؛ فأمّا فرس الرحمن فما أعدّ فى سبيل الله، وقوتل عليه أعداء الله؛ وأمّا فرس الإنسان فما استبطن وتجمّل «3» عليه، وأما فرس الشيطان فما قومر عليه» ؛ رواه الآجرّىّ «4» فى (النصيحة) .(9/350)
والقمار فى السّباق: أن يكون الزّهان بين فرسين لا محلّل «1» معهما. والاستبطان:
طلب ما فى البطن والنّتاج.
وعن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنهما- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «الخيل ثلاثة، ففرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان؛ فأمّا فرس الرحمن فالّذى يرتبط «2» فى سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله «3» - وذكر ما شاء الله-؛ وأمّا فرس الشيطان فالذى يقامر «4» ويراهن عليه؛ وأمّا فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها، فهى ستر «5» من فقر» رواه الإمام أحمد فى مسنده.
وروى ابن أبى شيبة فى مسنده أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل ثلاثة: فرس يرتبطه الرجل فى سبيل الله، فثمنه أجر، وركوبه أجر، ورعايته أجر، وعلفه أجر؛ وفرس يغالق «6» عليه الرجل ويراهن عليه، فثمنه وزر، وعلفه وركوبه وزر؛ وفرس للبطنة فعسى أن يكون سدادا من فقر إن شاء الله» .(9/351)
وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البركة فى نواصى الخيل» رواه البخارىّ ومسلم والنّسائىّ. والناصية:
الشعر المسترسل على الجبهة، وقد يكنى بها عن النّفس، نحو قولهم: «فلان مبارك النّاصية» ، أى النّفس؛ قال شيخنا الشيخ الإمام المحدّث النّسّابة القدوة شرف الدّين أبو محمّد عبد المؤمن بن خلف الدّمياطىّ فى كتاب الخيل، قال أبو الفضل: واذا كان الخير والبركة فى نواصيها فبعيد أن يكون فيها شؤم على ما جاء فى الحديث؛ وقد تأوّل العلماء ذلك أنّ معناه على اعتقاد الناس فى ذلك، لا أنّه خبر من النبىّ صلّى الله عليه وسلم عن إثبات الشّؤم.
وعن مكحول، قال: قيل لعائشة- رضى الله عنها-: إنّ أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشؤم فى ثلاثة: فى الدّار والمرأة والفرس» ؛ فقالت: لم يحفظ أبو هريرة، لأنّه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قاتل الله اليهود، يقولون: الشؤم فى ثلاثة: فى الدّار والمرأة والفرس» ؛ فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوّله. وسنذكر الحديث والكلام عليه- إن شاء الله تعالى- فى موضعه.
وعن أنس- رضى الله عنه- قال: لم يكن شىء أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد النّساء من الخيل.
وعن معقل بن يسار- رضى الله عنه- قال: ما كان شىء أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخيل، ثمّ قال: اللهمّ غفرا إلّا النّساء.
وعن زيد بن ثابت- رضى الله عنه-[قال] : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حبّس فرسا فى سبيل الله كان ستره من النّار» .(9/352)
وعن محمد بن عقبة، عن أبيه، عن جدّه، قال: أتينا تميما الدّارىّ وهو يعالج عليق فرسه بيده، فقلنا له: يا أبا رقيّة، أما لك من يكفيك؟ قال: بلى، ولكنّنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ارتبط فرسا فى سبيل الله فعالج عليقه بيده كان له بكلّ حبّة حسنة» .
وروى أنّ روح بن زنباع الجذامىّ زار تميما الدارىّ فوجده ينقّى لفرسه شعيرا، ثمّ يعلفه عليه وحوله أهله؛ فقال له روح: أما كان لك من هؤلاء من يكفيك؟
قال تميم: بلى، ولكنّنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم ينقّى لفرسه شعيرا ثمّ يعلفه عليه إلّا كتب الله له بكلّ حبّة حسنة» رواه الإمام أحمد فى مسنده.
وروى أنّ معاوية بن أبى سفيان قال لابن الحنظليّة: حدّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، [قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» ] يقول: «من ارتبط فرسا فى سبيل الله كانت النفقة عليه كالمادّ يده بصدقة لا يقطعها» ؛ وفى حديث آخر عنه: [ «لا يقبضها» «2» ] .
ذكر ما جاء فى فضل الطّرق
روى عن أبى عامر الهوزنىّ، عن أبى كبشة الأنمارىّ، أنه أتى رجلا «3» فقال: أطرقنى من فرسك، فإنّى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أطرق مسلما فرسا فأعقب له الفرس كتب الله له أجر سبعين فرسا يحمل عليها(9/353)
فى سبيل الله، وإن لم يعقب «1» كان له كأجر فرس حمل عليه فى سبيل الله عزّ وجلّ» رواه الطّبرانىّ فى المعجم الكبير.
وعن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: ما تعاطى الناس بينهم شيئا قطّ أفضل من الطّرق، يطرق الرجل فرسه فيجرى له أجره، ويطرق الرجل فحله فيجرى له أجره، ويطرق الرجل كبشه فيجرى له أجره. [والله الموفّق للصواب، وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله وكفى] .
ذكر ما جاء من دعاء الفرس لصاحبه
حكى الأبيوردىّ فى رسالته، قال: حكى عبد الرحمن بن زياد أنّه لمّا نزل المسلمون مصر كانت لهم مراغة للخيل، فمرّ حديج «2» بن صومى «3» بأبى ذرّ- رضى الله عنه- وهو يمرّغ فرسه الأجدل؛ فقال: ما هذا الفرس يا أبا ذرّ؟ قال:
هذا فرس لى، لا أراه إلّا مستجابا، قال: وهل تدعو الخيل فتجاب؟ قال: نعم، ما من ليلة إلّا والفرس يدعو فيها ربّه يقول: اللهم إنّك سخّرتنى لابن آدم، وجعلت(9/354)
رزقى بيده، فاجعلنى احبّ اليه من أهله وماله، اللهمّ ارزقه منّى، وارزقنى على يده.
وروى أن هذا الخبر عن معاوية بن حديج، عن أبى ذرّ، وكلاهما روى عن عبد الله بن عمرو؛ ومعاوية هذا يعدّ من الصحابة الّذين سكنوا مصر؛ وفى حديثه عن أبى ذرّ «أحبّ إليه من أهله وولده» الحديث، وزاد فيه: «فمنها المستجاب، ومنها غير المستجاب، ولا أرى فرسى هذا إلّا مستجابا» . ورواه النّسائىّ فى كتاب الخيل من سننه؛ ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من فرس عربىّ إلّا يؤذن له عند [كلّ «1» ] سحر- وفى رواية: عند كلّ فجر- بدعوتين:
اللهمّ خوّلتنى من خوّلتنى من بنى آدم، وجعلتنى له، فاجعلنى أحبّ أهله وماله؛ أو من أحبّ أهله وماله اليه» ؛ [والله أعلم] .
ذكر ما ورد من أنّ الشيطان لا يخبل «2» من فى داره فرس عتيق، ولا يدخل دارا فيها فرس عتيق
عن عبد الله بن عريب المليكىّ، عن أبيه- رضى الله عنهما- أنّ النّبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لن يخبل «3» الشيطان أحدا فى داره فرس عتيق» . وفى لفظ آخر: «الجنّ لا تخبل «4» أحدا فى بيته عتيق من الخيل» . ورواه ابن قانع أيضا فى معجمه من حديث عريب المليكىّ، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى:
(وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ)
قال: «الجنّ» ، ثم قال رسول الله صلى الله(9/355)
عليه وسلم: «إنّ الشيطان لا يخبل أحدا فى دار فيها فرس عتيق» وقيل: [المراد «1» ] [أنّ «2» ] الشيطان لا يدخل دارا فيها فرس عتيق.
وروى أنّ رجلا أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنّى أرجم باللّيل، فقال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: «ارتبط فرسا عتيقا» قال: فلم يرجم بعد ذلك؛ رواه محمد بن يعقوب الخيلىّ فى (كتاب الفروسيّة وعلاجات الدوابّ) .
ذكر ما جاء فى التماس نسل الخيل والنهى عن خصائها والرخصة [فيه «3» ] والنهى عن هلبها «4» وجزّ أعرافها «5» ونواصيها
روى عن عبد الله [بن] عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- قال:
أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا من جدس «6» ، (حىّ باليمن) ، فأعطاه رجلا من الأنصار، وقال: «إذا نزلت فانزل قريبا منّى فإنى أتسارّ «7» إلى صهيله» ففقده «8» ليلة، فسأل عنه، فقال يا رسول الله: إنا خصيناه، فقال: «مثلّت به» ،(9/356)
يقولها ثلاثا، «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة، أعرافها أدفاؤها، وأذنابها مذابّها، التمسوا نسلها، وباهوا بصهيلها المشركين» .
وعن مكحول- رضى الله عنه- قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جزّ أذناب الخيل وأعرافها ونواصيها، وقال: «أمّا أذنابها فمذابّها، وأمّا أعرافها فأدفاؤها، وأمّا نواصيها ففيها الخير» .
وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تهلبوا «1» أذناب الخيل، ولا تجزّوا أعرافها ونواصيها، فإنّ البركة فى نواصيها، ودفاؤها فى أعرافها، وأذنابها مذابّها» .
وعن عائشة أمّ المؤمنين- رضى الله عنها- قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل. [عن عبد «2» الله بن عمر-، قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل] والإبل والغنم؛ قال ابن عمر- رضى الله عنهما-: «فيها نشأة الخلق، ولا تصلح الإناث إلّا بالذكور» .
وروى عكرمة «3» عن ابن عبّاس- رضى الله عنهم- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا خصاء فى الإسلام ولا بنيان كنيسة» .
وكتب عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- الى سعد بن أبى وقّاص- رضى الله عنه- ينهى عن حذف أذناب الخيل وأعرافها وخصائها. ومن العلماء من رأى(9/357)
الخصاء، وذكر أنّ عروة بن الزّبير خصى بغلا له؛ وأنّ عمر بن عبد العزيز خصى بغلا له فى زمن خلافته، وأنّ الحسن سئل عن الخصاء فقال: «لا بأس به» ، وأنّ ابن سيرين قال: «لا بأس بخصاء الخيل، لو تركت الفحول لأكل بعضها بعضا» ، وأن عطاء قال: «ما خيف عضاضه وسوء خلقه فلا بأس» . قال البيهقىّ: ومتابعة قول ابن عمر وابن عبّاس- رضى الله عنهم- مع ما فيه من السنّة المرويّة أولى، ويحتمل جواز ذلك اذا اتّصل به غرض صحيح.
ذكر ما قيل فى أكل لحوم الخيل من الإباحة والكراهة
قد أباح أكلها جماعة، منهم شريح والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وحمّاد بن أبى سليمان والثّورىّ وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن المبارك والشافعىّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور فى جماعة من السّلف؛ ودليلهم على ذلك ما اتفق عليه البخارىّ ومسلم من حديث أسماء بنت أبى بكر الصدّيق وجابر بن عبد الله- رضى الله عنهم-؛ فأمّا حديث أسماء فقالت: «نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه» . وأمّا حديث جابر- رضى الله عنه- فقال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخّص- أو أذن- فى لحوم الخيل» .
وذهب مالك وأبو حنيفة والأوزاعىّ إلى أنّها مكروهة، إلّا أنّ كراهيتها عند مالك كراهية تنزيه، لا تحريم فى إحدى الروايتين عنه؛ ودليلهم ما رواه أبو داود والنّسائىّ وابن ماجة من حديث بقيّة بن الوليد الحمصىّ، عن ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب، عن أبيه، عن جدّه، عن خالد بن الوليد- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. وما تضمّنته الآية من قوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها(9/358)
وَزِينَةً) *
. قال صاحب الهداية الحنفىّ: خرجت- أى الآية-[مخرج «1» ] الامتنان، والأكل من أعلى منافعها، والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النّعم ويمتنّ بأدناها؛ ولأنّها آلة إرهاب العدوّ، فيكره أكله احتراما له، ولهذا يضرب له بسهم فى الغنيمة؛ ولأنّ فى إباحته تقليل آلة الجهاد، وحديث جابر معارض بحديث خالد ابن الوليد، والترجيح للمحرّم؛ ثم قيل: الكراهية عنده كراهية تحريم؛ وقيل: كراهية تنزيه؛ والأوّل أصحّ؛ وأمّا لبنه- فقد قيل: لا بأس به، إذ ليس فى شربه تقليل آلة الجهاد؛ انتهى كلام صاحب الهداية.
وقد عورض فى أدلّته بأقوال؛ أمّا الآية، فقد قيل: الغالب فى الانتفاع بهذه الدوابّ ما أشار الله تعالى اليه فيها من الركوب والزينة، فأمّا أكلها فنادر، فخرجت الآية مخرج الغالب؛ وقالوا: ألا ترى أنّ الأنعام لمّا كانت متقاربة الحال عند العرب فى الانتفاع بها أكلا ونجمّلا وركوبا وتحميلا، منّ الله عليهم بتفصيل أحوالها المألوفة والمعتادة عندهم المعروفة فى الآية قبلها، فقال تعالى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)
وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ)
؛ وأما حديث خالد فإنّه وإن كان أحوط من حديث جابر وأسماء [فإنّ حديث جابر «2» وأسماء] أسند وأصحّ؛ وحديث خالد لا يعرف إلّا من رواية بقيّة(9/359)
ابن الوليد الحمصىّ، وفيه مقال، حتّى إنّ بعضهم قال: «إنّ أحاديث بقيّة غير نقيّه، فكن منها على تقيّه» ؛ وصالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب الكندىّ الحمصىّ، قال البخارىّ: «فيه نظر» ؛ وقال موسى بن هارون: «لا يعرف صالح ولا أبوه إلّا بجدّه» ؛ وقال أبو داود فى سننه: «وحديث خالد هذا منسوخ، قد أكله «1» جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» ؛ وهذا الاعتراض على الحنفيّة أورده شيخنا الشيخ شرف الدّين الدّمياطىّ عليهم فى (كتاب الخيل) له؛ هذا ما قيل فى أكل لحومها.
ذكر ما جاء فى النّهى عن عسب الفحل وبيع مائه
روى عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل» . وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- أنّ رجلا من كلاب سأل النبىّ صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل، فنهاه، فقال:
يا رسول الله، إنّا نطرق الفحل فنكرم، فرخّص له فى الكرامة؛ رواه الترمذىّ، وقال: «حسن غريب» . والعسب: الضّراب؛ والنهى عنه، أى [عن] كرائه؛ وقيل: العسب، ماء الفحل.
ذكر ما جاء فى إكرام الخيل ومنع إذالتها
روى أبو داود فى المراسيل، عن نعيم بن أبى هند- رضى الله عنه- أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم أتى بفرس، فقام إليه يمسح وجهه وعينيه ومنخريه بكمّ قميصه، فقيل: يا رسول الله، تمسح بكّم قميصك؟ فقال: «إنّ جبريل عاتبنى فى الخيل» .
وفى حديث آخر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح بطرف ردائه وجه(9/360)
فرسه، وقال: «إنّى عوتبت اللّيلة فى إذالة الخيل» . وعن الوضين بن عطاء- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقودوا الخيل بنواصيها فتذلّوها» . وعن مكحول- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا الخيل وجلّلوها» . وعن مجاهد- رضى الله عنه- قال: «أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانا ضرب وجه فرسه ولعنه، فقال: «هذه مع تلك؟
لتمسّنّك النار إلّا أن تقاتل عليه فى سبيل الله» ، فجعل الرجل يقاتل عليه إلى أن كبر وضعف، وجعل يقول: اشهدوا اشهدوا. وعن زيد بن ثابت- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فى عين الفرس ربع ثمنه. وعن عروة البارقىّ قال: كانت لى أفراس فيها فحل شراؤه عشرون ألف درهم، ففقأ عينه دهقان «1» ، فأتيت عمر- رضى الله عنه- فكتب إلى سعد بن أبى وقّاص أنّ خيّر الدّهقان بين أن يعطيه عشرين ألفا ويأخذ الفرس، وبين أن يغرم ربع الثمن؛ فقال الدهقان: ما أصنع بالفرس؟ فغرّم ربع الثمن. وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: ما من ليلة إلّا ينزل ملك من السماء يحسّ «2» عن دوابّ الغزاة الكلال إلّا دابّة فى عنقها جرس.
ذكر ما ورد من الأمر بارتباط الخيل وما يستحبّ من ألوانها وشياتها وذكورها وإناثها
قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا)
؛ قال الزمخشرىّ فى تفسيره: اصبروا على الدّين وتكاليفه؛ وصابروا أعداء الله فى الجهاد، أى غالبوهم فى الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقلّ صبرا منهم وثباتا؛ ورابطوا: أقيموا(9/361)
فى الثغور رابطين خيلكم مترصّدين مستعدّين للغزو. وقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) .
وعن قيس بن باباه، قال: سمعت سلمان- رضى الله عنه- يقول:
[سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «1» ] : «ما من رجل مسلم إلّا حقّ عليه أن يرتبط فرسا إذا أطاق ذلك» .
وعن [أبى] وهب الجشمىّ- وكانت له صحبة، رضى الله عنه- قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسمّوا بأسماء الأنبياء، وأحبّ الأسماء إلى الله عزّ وجلّ عبد الله وعبد الرحمن، وارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها وأكفالها وقلّدوها ولا تقلّدوها الأوتار، وعليكم بكلّ كميت أغرّ محجّل، أو أشقر أغرّ محجّل، أو أدهم أغرّ محجّل» . هكذا ساقه النّسائىّ فى سننه.
وعن عقبة بن عامر- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أردت أن تغزو فاشتر فرسا أدهم «2» محجّلا مطلق اليمنى فإنّك تغنم وتسلم» رواه الدّمياطىّ بسنده فى (كتاب الخيل) له.
وعن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال:
«يمن الخيل فى شقرها» . واليمن: البركة. رواه أبو داود والترمذىّ؛ ولفظ الترمذىّ: «يمن الخيل فى الشّقر» .
وروى الواقدىّ، عن سعيد بن خالد، عن داود بن علىّ بن عبد الله بن عبّاس عن أبيه، عن جدّه- رضى الله عنهم- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير الخيل الشّقر» .(9/362)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خير الخيل الشّقر وإلّا فأدهم أغرّ محجّل ثلاث، مطلق اليمنى» .
وذكر سليمان بن بنين النحوىّ المصرىّ فى كتاب (آلات الجهاد، وأدوات الصافنات الجياد) ، عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطريق تبوك، وقد قلّ الماء، فبعث الخيل فى كلّ وجه يطلبون الماء، فكان أوّل من طلع بالماء صاحب فرس أشقر، والثانى صاحب أشقر، وكذلك الثالث، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ بارك للشّقر» .
وعن عمرو بن الحارث الأنصارىّ، عن أشياخ أهل مصر، قالوا: قال النّبىّ صلّى الله عليه وسلم: «لو أنّ خيل العرب جمعت فى صعيد واحد ما سبقها إلّا أشقر» . وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ الشّقر.
وعن أبى قتادة الأنصارىّ- رضى الله عنه- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال:
«خير الخيل الأدهم الأقرح «1» الأرثم «2» ، ثمّ الأقرح «3» المحجّل طلق «4» اليمين، فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشّية «5» » هكذا ساقه الترمذىّ؛ ورواه أيضا ابن ماجة، ولفظه:
«خير الخيل الأدهم الأقرح «6» الأرثم «7» المحجّل طلق «8» اليد اليمنى، فإن لم يكن أدهم فكميت(9/363)
على هذه الشّية» . وفى بعض ألفاظه عن يزيد «1» بن أبى حبيب، قال: قال النّبىّ صلّى الله عليه وسلم: «الخير فى الأدهم الأقرح «2» الأرثم «3» محجّل ثلاث، طلق «4» اليمنى ثمّ أغرّ بهيم-[وفى لفظ «5» : الأدهم [البهيم «6» ] ، أو أغرّ بهيم]- ويسلم «7» ان شاء الله، فإن لم يكن أدهم فكميت فى هذه الشية» وروى أبو عبيدة من حديث ابن شبرمة، قال:
حدّثنى الشّعبىّ فى حديث رفعه، أنّه قال: «التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الأدهم المحجّل الثلاث، المطلق اليد اليمنى» . وعن عقبة بن عامر- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أردت أن تغزو فاشتر فرسا أغرّ «8» محجّلا مطلق اليمنى، فإنك تسلم وتغنم» . وعن موسى بن علىّ بن رباح عن أبيه- رضى الله عنهما- قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّى أريد أن أبتاع فرسا، أو أفنّد «9» فرسا؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك به كميتا أو أدهم أقرح «10» أرثم «11» محجّل ثلاث، طلق «12» اليمنى» .(9/364)
وعن عطاء- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنّ خير الخيل الحوّ» . الحوّ: جمع أحوى «1» . وسيأتى شرح لونه فى ذكر الألوان والشّيات.
وعن نافع بن جبير، عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «اليمن فى الخيل فى كلّ أحوى «2» أحمّ» .
ذكر ترجيح إناث الخيل على فحولها وترجيح فحولها على إناثها وما جاء فى ذلك
عن يحيى بن كثير- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بإناث الخيل، فإنّ ظهورها عزّ، وبطونها كنز» . وفى لفظ:
«ظهورها حرز» .
وروى أنّ خالد بن الوليد- رضى الله عنه- كان لا يقاتل إلّا على أنثى، [لأنّها «3» ] تدفع البول وهى تجرى، والفحل يحبس البول فى جوفه حتّى ينفتق «4» ، و [لأن «5» ] الأنثى أقلّ صهيلا.(9/365)
وروى عن عبادة بن نسىّ «1» ، أو ابن محيريز «2» أنّهم كانوا يستحبّون إناث الخيل فى الغارات والبيات «3» ولما خفى من أمور الحرب، وكانوا يستحبّون فحول الخيل فى الصّفوف والحصون والسّير والعسكر ولما ظهر من أمور الحرب «4» ، وكانوا يستحبّون خصيان الخيل فى الكمين والطلائع، لأنّها أصبر وأبقى فى الجهد.
وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: كان السلف يستحبّون الفحولة من الخيل، ويقولون: هى أجسر «5» وأجرأ. وحكاه البخارىّ فى جامعه عن راشد بن سعد قال: كان السلف يستحبّون الفحول من الخيل، لأنّها أجرأ وأجسر.
ذكر ما ورد فى شؤم الفرس وما يذمّ من عصمها ورجلها
روى عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشؤم فى الدّار والمرأة والفرس» . وفى لفظ عنه صلى الله عليه وسلم: «الشؤم فى ثلاثة: فى الفرس والمرأة والدّار» . وقد قيل فى هذا الحديث:
إنّ المراد بالشؤم: شؤم المرأة اذا كانت غير ولود، وشؤم الفرس اذا لم يغز عليها وشؤم الدار جار السوء؛ قاله معمر.
وقد صحّ عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «البركة فى ثلاث: فى الفرس والمرأة والدّار» . وسئل سالم بن عبد الله- وهو راوى هذا الحديث عن رسول الله(9/366)
صلّى الله عليه وسلم- ما معناه؟ فقال: قال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: «اذا كان الفرس ضروبا فهو مشئوم، واذا كانت المرأة قد عرفت زوجا قبل زوجها فحنّت إلى الزوج الأوّل فهى مشئومة، واذا كانت الدار بعيدة من المسجد لا يسمع منها الأذان والإقامة فهى مشئومة، واذا كنّ بغير هذا الوصف فهنّ مباركات» .
وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: كان النّبىّ صلى الله عليه وسلم يكره الشّكال من الخيل. والشّكال: أن يكون للفرس فى رجله اليمنى بياض وفى يده اليسرى، أو فى يده اليمنى وفى رجله اليسرى؛ قال أبو داود: أى مخالف؛ رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة؛ ورواه الترمذىّ والنّسائىّ، ولفظهما: أنّه كان يكره الشّكال فى الخيل؛ وزاد النّسائىّ: والشّكال من الخيل: أن تكون ثلاث قوائم محجّلة وواحدة مطلقة، أو تكون الثلاث مطلقة وواحدة محجّلة. وقال شيخنا شرف الدّين الدّمياطىّ- رحمه الله-: وليس يكون الشّكال إلّا فى الرّجل، ولا يكون فى اليد. وهذا الذى زاده النّسائىّ هو قول أبى عبيدة. وقال ابن دريد:
الشّكال: أن يكون الحجل «1» فى يد ورجل من شقّ واحد، فان كان مخالفا قيل:
شكال مخالف. وقال أبو عمر المطرّز: وقيل، الشّكال: بياض الرّجل اليمنى واليد اليمنى؛ وقيل: بياض اليد اليسرى والرّجل اليسرى؛ وقيل: بياض الرجلين ويد واحدة. قال الشيخ: والصحيح من صفة الشّكال ما ذكره أبو عبيدة معمر بن المثنّى وغيره: أنه البياض الذى يكون بيد ورجل من خلاف قلّ أو كثر، وهو الذى ورد فى صحيح مسلم وسنن أبى داود؛ قال الشيخ: وكراهته تحتمل وجهين: إما تفاؤلا، لشبهه المشكول المقيّد الذى لا نهوض فيه، وإمّا لجواز أن(9/367)
يكون هذا النوع قد جرّب فلم توجد فيه نجابة؛ وقيل: إذا كان مع ذلك أغرّ زالت الكراهة لزوال شبهه الشّكال. والرّجل: إذا كان البياض بإحدى رجليه فهو أرجل، ويكره إلّا أن يكون به وضح غيره؛ وقيل: لا يكره إلا إذا كان البياض فى رجله اليسرى خاصّة؛ وقيل: الأرجل، هو الذى لا يكون فيه بياض سوى قطعة فى رجله غير دائرة حوالى الإكليل «1» ؛ يقال: رجل الفرس، إذا ابيضّت إحدى رجليه؛ وسيأتى بيان التحجيل والعصم وغيرهما عند ذكرنا للشّيات؛ والله أعلم.
ذكر ما جاء فى سباق الخيل وما يحلّ منه وما يحرم وكيفيّة «2» التضمير عند السّباق، وأسماء السّوابق فى الحلبة
روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سبق «3» إلّا فى خفّ أو حافر أو نصل» رواه أبو داود والترمذىّ والنّسائىّ.
وفى رواية أخرى للنّسائىّ: «لا يحلّ سبق «4» إلّا على خفّ أو حافر» ، وسئل «5» ابن عمر- رضى الله عنهما- أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له.(9/368)
وعنه- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التى قد ضمّرت «1» من (الحفياء «2» ) ، وكان أمدها (ثنيّة الوداع) ، وسابق بين الخيل التى لم تضمّر «3» من (الثّنيّة) إلى (مسجد بنى زريق «4» ) ، وأنّ ابن عمر كان ممّن سابق بها. قال سفيان الثّورىّ: بين الحفياء «5» إلى (ثنيّة الوداع) خمسة أميال أو ستّة، ومن (الثّنيّة) إلى (مسجد بنى زريق «6» ) ميل. وقال موسى بن عقبة: بين (الحفياء «7» ) (وثنيّة الوداع) ستّة أميال أو سبعة، وبين (الثّنيّة) (والمسجد) ميل أو نحوه؛ رواه البخارىّ وغيره.
وفى لفظ آخر، عن ابن عمر- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبّق بين الخيل، فجعل غاية المضمّرة «8» من (الحفياء «9» ) الى (ثنيّة الوداع) ، وما لم يضمّر «10» من (ثنيّة الوداع) إلى (مسجد بنى زريق «11» ) ؛ قال ابن عمر: فجئت سابقا فطفر بى الفرس المسجد.
وذكر ابن بنين فى كتابه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل على حلل أتته من اليمن، فأعطى السابق ثلاث حلل، والمصلّى حلّتين، والثالث حلّة، والرابع دينارا، والخامس درهما، والسادس قصبة، وقال: «بارك الله فيك وفى كلّكم وفى السابق والفسكل «12» » . وروى البلاذرىّ عن ابن سعد عن الواقدىّ، عن سليمان بن الحارث، عن عبد المهيمن بن عبّاس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جدّه، قال:(9/369)
أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل، فسبقت على فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم (الظّرب «1» ) ، فكسانى بردا يمانيّا.
وعن الواقدىّ، عن سليمان بن الحارث، عن الزبير بن المنذر بن أبى أسيد، قال: سبق أبو أسيد الساعدىّ على فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم (لزاز «2» ) ، فأعطاه حلّة يمانيّة. وعن مكحول- رضى الله عنه- قال: طلعت الخيل وقد تقدّمها فرس للنبى صلى الله عليه وسلم، فبرك على ركبتيه، وأطلع رأسه من الصفّ، وقال: «كأنّه بحر» . وفى لفظ عن مكحول: فجاء فرس له أدهم سابقا، وأشرف على الناس، فقالوا: الأدهم الأدهم، وجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ومرّ به وقد انتشر ذنبه وكان معقودا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البحر» .
وأوّل مسابقة كانت فى الإسلام سنة ستّ من الهجرة، سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل، فسبق فرس لأبى بكر الصّدّيق- رضى الله عنه- فأخذ السّبق «3» . والمسابقة ممّا كان فى الجاهليّة فأقرّه الإسلام؛ وليس هو من باب(9/370)
تعذيب البهائم «1» ، بل من تدريبها بالجرى وإعدادها لحاجتها للطّلب والكرّ؛ واختلف فيه، هل هو من باب المباح، أو من باب المرغّب فيه والسّنن.
وعن سعيد بن المسيّب أنه قال: ليس برهان الخيل بأس اذا أدخلوا فيها محلّلا «2» ليس دونها، إن سبق أخذ السّبق «3» ، وإن سبق لم يكن عليه شىء.
وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال:
«من أدخل فرسا بين فرسين- يعنى وهو لا يؤمن أن يسبق- فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار» ؛ رواه أبو داود فى الجهاد فى باب المحلّل، ورواه ابن ماجة.
قال الشيخ شرف الدّين الدّمياطىّ- رحمه الله تعالى- قوله: «من أدخل فرسا» ، هو فرس المحلّل اذا كان كفؤا يخافان أن يسبقهما فيحرز السّبق «4» ، فهو جائز؛ وان كان بليدا مأمونا أن يسبق فيحرز السّبق «5» لم يحصل به معنى التحليل، وصار إدخاله بينهما لغوا لا معنى له، وحصل الأمر على رهان من فرسين لا محلّل بينهما، وهو عين القمار. وقال القاضى أبو الفضل: لا خلاف فى جواز المراهنة فيها- يعنى المسابقة- وأنّها خارجة من باب القمار، لكن لذلك صور: إحداها متّفق على جوازها، والثانية متّفق على منعها، وفى الوجوه الأخر خلاف؛ فأمّا المتّفق على جوازه فأن يخرج الوالى سبقا «6» يجعله للسابق من المتسابقين ولا فرس له(9/371)
فى الحلبة، فمن سبق فهو له؛ وكذلك لو أخرج أسباقا أحدها للسابق، والثانى للمصلّى، والثالث للثالث، وهكذا، فهو جائز، ويأخذونه على شروطهم؛ وكذلك لو فعل متطوّعا رجل من الناس ممّن لا فرس له فى الحلبة، لأنّ هذا قد خرج من معنى القمار الى باب المكارمة والتفضّل على السابق، وقد أخرجه عن يده بكلّ حال؛ وأمّا المتّفق على منعه فأن يخرج كلّ واحد من المتسابقين سبقا، فمن سبق منهما أخذ سبق صاحبه وأمسك متاعه، فهذا قمار عند مالك والشافعىّ وجميع العلماء ما لم يكن بينهما محلّل [فان كان بينهما «1» محلّل] فجعلا له السّبق إن سبق ولا شىء عليه إن سبق فأجازه ابن المسيّب، وقاله مالك مرّة، والمشهور عنه أنّه لا يجوز؛ وقال الشافعىّ مثل قول ابن المسيّب؛ فإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وسبق صاحبه، وإن تساويا كان لكلّ واحد منهما ما أخرج، وإن سبق المحلّل حاز السّبقين، وان سبق أحدهما مع المحلّل أحرزا سبق المتأخّر؛ وسمّى المحلّل محلّلا لتحليله السبق بدخوله، لأنّه علم أنّ المقصد بدخوله السّبق لا المال، وان لم يكن بينهما محلّل فمقصدهما المال والمخاطرة فيه؛ وقال محمد بن الحسن نحوه والأوزاعىّ وأحمد وإسحاق؛ ومن الوجوه المختلف فيها أن يكون الوالى أو غيره ممّن أخرج السّبق له فرس فى الحلبة، فيخرج سبقا على أنّه إن سبق هو حبس سبقه، وإن سبق أخذه السابق، فأكثر العلماء يجيزون هذا الشرط، وهو أحد أقوال مالك وبعض أصحابه، وهو قول الشافعىّ واللّيث والثّورىّ وأبى حنيفة قالوا: «الأسباق على ملك أربابها، وهم فيها على شروطهم» ؛ وأبى ذلك مالك فى الرواية الأخرى وبعض أصحابه وربيعة والأوزاعىّ، وقالوا: «لا يرجع اليه سبقه» ؛ قال(9/372)
مالك: وإنما يأكله من حضر إن سبق مخرجه إن لم يكن مع المتسابقين ثالث، فإن كان معهما ثالث فللّذى يلى مخرجه إن سبق، فإن سبق غيره فهو له بغير خلاف، فخرج هذا عندهم عن معنى القمار جملة؛ ولحق بالأوّل، لأن صاحبه قد أخرجه عن ملكه جملة، وتفضّل بدفعه؛ وفى الوجوه الأخر معنى من القمار والخطر، لأنها مرّة ترجع الأسباق لمخرج أحدها، ومرّة تخرج عنه إلى غيره.
ومن شرط وضع الرّهان فى المسابقة أن تكون الخيل متقاربة الحال فى سبق بعضها بعضا، فمتى تحقّق حال أحدها فى السّبق كان الرّهان فى ذلك قمارا لا يجوز، وإدخال المحلّل لغوا لا معنى له؛ وكذلك إن كانت متقاربة الحال ممّا يقطع غالبا بسبق جنسها، كالمضمّرة مع غير المضمّرة، والعراب مع غيرها، فلا تجوز المراهنة فى مثل هذا؛ وقد ميّز النّبىّ صلى الله عليه وسلم ما ضمّر فى السّباق، وأفرده عن ما لم يضمّر، وتجوز فيها المسابقة بغير رهان، وإنّما يدخل التحليل والتحريم مع الرّهان.
[ومن شرطها «1» أيضا] الأمد لسباقها؛ وحكى عبد الله بن المبارك عن سفيان قال: اذا سبق الفرس بأذنه فهو سابق، هذا إذا تساوت أعناق الخيل فى الطّول، فإن اختلفت أعناقها بالطّول والقصر كان السّبق بالكاهل.
وأمّا أسماء السوابق فى الحلبة- فالسوابق عند أبى عبيدة عشرة:
أوّلها السابق، ثم المصلّى، ثم الثالث والرابع كذلك إلى التاسع، والعاشر السّكيت، ويقال بالتشديد. وقال ابن قتيبة: «فما جاء بعد ذلك لم يعتدّ به» ؛ والفسكل:
الذى يجىء فى الحلبة آخر الخيل. وأمّا الأصمعىّ فإنّه يقول: أوّلها المجلّى، وهو المقصّب، أى محرز قصب السّبق، ثم المصلّى، ثم المسلّى، ثم التالى، ثم المؤمّل،(9/373)
ثم المرتاح، ثم العاطف، ثم الحظىّ، ثم اللّطيم، ثم السّكيت. وقال ابن الأنبارىّ فى (الزاهر) : الأوّل المجلّى، الثانى المصلّى، الثالث المسلّى، الرابع التالى، الخامس المرتاح، السادس العاطف، السابع الحظىّ، الثامن المؤمّل، التاسع اللّطيم، العاشر السّكيت، والكاف منه تخفّف وتشدّد، قال الشاعر:
جاء المجلّى والمصلّى بعده ... ثمّ المسلّى بعده والتالى
نسقا وقاد حظيّها مرتاحها ... من قبل عاطفها بلا إشكال
وقال أبو الغوث: أوّلها المجلّى، وهو السابق، ثم المصلّى، ثم المسلّى، ثمّ التّالى، ثم العاطف، ثم المرتاح، ثم المؤمّل، ثم الحظىّ، ثم اللّطيم، ثم السّكيت؛ وأنشد بعضهم فى العشرة:
أتانا المجلّى والمصلّى بعده ... مسلّ وتال بعده عاطف يجرى
ومرتاحها ثمّ الحظى ومؤمّل ... وجاء اللّطيم والسكيت له يبرى «1»
وقال الجاحظ: كانت العرب تعدّ السوابق ثمانية، ولا تجعل لما جاوزها حظّا، فأوّلها السابق، ثم المصلّى، ثم المقفّى، ثم التالى، ثم العاطف، ثم المذمّر، ثمّ البارع «2» ، ثم اللّطيم؛ وكانت العرب تلطم وجه الآخر وان كان له حظّ. وقال ابن الأجدابىّ: المحفوظ عن العرب السابق والمصلّى والسكيت الذى هو العاشر، وأمّا باقى الأسماء فأراها محدثة، والفسكل: الذى يأتى آخر الخيل(9/374)
فى الحلبة. وقال غيره: وما يجىء بعد هذه- يعنى العشرة- فهو المقردح؛ وأنشد على ذلك:
قد سبق الخيل الهجان الأقرح «1» ... وأقبلت من بعده تقردح
والفسكل: الذى يجىء فى أخريات الخيل، والذى يجىء بعده القاشور، وما جاء بعد ذلك لا حظّ له ولا اعتداد به؛ وقيل: السكيت والفسكل والقاشور بمعنى واحد.
وممّا يتّصل بهذا الفصل ترتيب عدو الفرس- وأوّله الخبب، ثم التقريب، ثم الإمجاج، ثم الإحضار، ثم الإرخاء، ثم الإهذاب، ثم الإهماج.
كيفية تضمير الخيل
قد حكى ابن بنين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإضمار خيله بالحشيش اليابس شيئا بعد شىء، وطيّا بعد طىّ، ويقول: «أرووها من الماء، واسقوها غدوة وعشيّا، وألزموها الجلال «2» ... «3» فتصفو ألوانها، وتتّسع جلودها» . وأمر صلّى الله عليه وسلم أن يقودوها فى كلّ يوم مرّتين، ويؤخذ منها من الجرى الشّوط والشّوطان، ولا تركض حتّى تنطوى. قال الشيخ- رحمه الله-:
والتضمير: تقليل علفها مدّة، وادخالها بيتا كنينا، وتجليلها فيه لتعرق ويجفّ عرقها، فيصلب لحمها ويخفّ، وتقوى على الجرى؛ يقال: «ضمّرت الفرس وأضمرته» .(9/375)
ذكر ما يقسم لصاحب الفرس من سهام الغنيمة والفرق فى ذلك بين العراب والهجن والبراذين
عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهما. وفى لفظ: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين، وللرجل سهما؛ رواه البخارىّ ومسلم وأبو داود والترمذىّ وابن ماجة. وفى لفظ أبى داود: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له، وسهمين لفرسه؛ ولفظ ابن ماجة:
أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان، وللرّجل سهم.
وعن مكحول- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هجّن الهجين يوم خيبر، وعرّب العرب، للعربىّ سهمان، وللهجين سهم. وعن خالد ابن معدان- رضى الله عنه- قال: أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للعربىّ سهمين، وللهجين سهما.
وعن أبى موسى أنّه كتب الى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنهما- «إنا وجدنا بالعراق خيلا عراضا دكّا «1» ، فما يرى أمير المؤمنين فى سهامها» ؟ فكتب:
«تلك البراذين، فما قارب العتاق فاجعل له سهما واحدا، وألغ ما سوى ذلك» .
وعن أبى الأقمر قال: أغارت الخيل على الشأم، فأدركت العراب من يومها، وأدركت الكوادن ضحى الغد، وعلى الخيل رجل من همدان يقال له المنذر بن(9/376)
أبى حمضة «1» ، فقال: «لا أجعل التى أدركت من يومها مثل التى لم تدرك» ، ففضّل الخيل، فكتب فى ذلك الى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- فقال: «هبلت الوادعىّ «2» أمّه، لقد أذكرنى أمرا كنت أنسيته، امضوها على ما قال» . والكوادن:
جمع كودن، وهو البرذون؛ ومذهب مالك والشافعىّ وأبى حنيفة التسوية بين العربىّ وغيره، إلّا أنّهم جعلوا «3» لكلّ واحد منهما سهما واحدا؛ قال مالك: ولا أرى البراذين والهجن إلّا من الخيل لأنّ الله تعالى قال فى كتابه: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها)
، وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ)
قال: «فأنا أرى البراذين والهجن من الخيل اذا أجازها الوالى» . قال ابن حبيب:
البراذين هى العظام، يريد الجافية الخلقة، العظيمة الأعضاء، وليست العراب كذلك، فإنّها أضمر وأرقّ أعضاء وأعلى خلقة؛ وأمّا الهجن فهى التى أبوها عربىّ وأمّها من البراذين. قال الشيخ- رحمه الله تعالى-: ومذهب جمهور العلماء أنه يقسم للفرس سهمان، ولصاحبه سهم على ما فرضه النّبىّ صلى الله عليه وسلم، لأنّ(9/377)
مؤونة الفرس أكثر من مؤونة فارسه، وغناءه أكثر من غناء الفارس، فاستحقّ الزيادة فى القسم من أجل ذلك؛ قال: وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يقسم للفرس كما يقسم للرجل؛ وقال: «لا يكون أعظم منه حرمة» ؛ ولم يتابعه أحد على ذلك إلّا شىء يروى عن علىّ وأبى موسى؛ وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعىّ إلى أنّه لا يقسم إلّا لفرس واحد، ودليلهم ما رواه ابن سعد فى طبقاته:
أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت يوم حنين بإحصاء الناس والغنائم فكان السّبى ستّة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقيّة فضّة، فأخذ من ذلك الخمس، ثم فضّ الباقى على الناس، فكانت سهامهم لكلّ رجل أربع من الإبل وأربعون شاة، وإن كان فارسا أخذ اثنى عشر من الإبل وعشرين ومائة شاة، وان كان معه أكثر من فرس لم يسهم له. وذهب الأوزاعىّ والثّورىّ واللّيث بن سعد وأبو يوسف وأحمد ابن حنبل- رحمهم الله- الى أنه يسهم لفرسين، وروى مثله عن مكحول ويحيى ابن سعيد وابن وهب ومحمد بن الجهم «1» من المالكيّة، وحكاه محمد بن جرير الطبرىّ فى تاريخه، فقال: «ولم يكن يسهم للخيل اذا كانت مع الرجل إلّا لفرسين» ودليلهم ما ذكره ابن مندة فى ترجمة البراء بن أوس بن خالد أنّه قاد مع النّبىّ صلى الله عليه وسلم فرسين، فضرب له النّبىّ صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم؛ ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين إلّا شيئا يروى عن سليمان بن موسى أنه يسهم لمن غزا بأفراس لكلّ فرس سهمان؛ واختلفوا فى الإسهام للفرس المريض الذى يرجى برؤه على قولين، أحدهما: يسهم له نظرا إلى الجنس؛ والثانى: لا يسهم له، لأنه لا غناء فيه كالبغل والحمار؛ والله الموفّق للصواب.(9/378)
ذكر سقوط الزكاة فى الخيل
روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس على المرء المسلم فى فرسه ولا مملوكه صدقة» متّفق عليه. وفى لفظ عنه: «ليس على المسلم فى عبده ولا فى فرسه صدقة» . وفى لفظ: «ليس فى الخيل والرّقيق زكاة إلّا زكاة الفطر فى الرّقيق» . وعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله وضع الصدقات فليس على الخيل صدقة، وليس على الحمر صدقة، وليس على البغال صدقة، وليس على الإبل التى يسقى عليها الماء للنّواضح صدقة» .
وعن أبى عمرو عبد الله بن يزيد الحرّانىّ، قال: حدّثنى سليمان بن أرقم، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا صدقة فى الكسعة والجبهة والنّخّة» ؛ فسّره أبو عمرو، الكسعة: الحمير. والجبهة: الخيل.
والنّخّة: العبيد. ويقال: النّخّة، البقر العوامل؛ قال ثعلب: هذا هو الصواب، لأنّه من النّخّ، وهو السّوق الشديد؛ وقال الكسائىّ: إنما هو النّخّة بالضمّ، قال:
وهو البقر العوامل؛ وقال الفرّاء: النّخّة بالفتح، أن يأخذ المصدّق دينارا لنفسه بعد فراغه من أخذ الصدقة، وأنشد:
عمّى الذى منع الدّينار صاحبه ... دينار نخّة كلب وهو مشهود
وعن علىّ- رضى الله عنه- قال: قال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: «عفوت لكم عن الخيل والرّقيق» . وعنه- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد عفوت لكم عن الخيل والرّقيق فهاتوا صدقة الرقة من كلّ أربعين درهما درهما، وليس فى تسعين ومائة شىء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة(9/379)
دراهم» . وفى لفظ آخر عنه، عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شىء- يعنى فى الذهب- حتّى يكون لك عشرون دينارا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك» . قال الجوهرىّ: الورق، الدراهم المضروبة، وكذلك الرّقة، والهاء عوض من الواو؛ وفى الورق ثلاث لغات حكاهنّ الفرّاء: ورق، وورق، وورق.
وعن جابر بن عبد الله- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ تجوّز لكم عن صدقة الخيل والرّقيق» .
وعن عبد الله بن دينار قال: سألت سعيد بن المسيّب، فقلت: أفى البراذين صدقة؟ فقال: أفى الخيل صدقة؟. وعن حارثة بن مضرّب قال: جاء ناس من أهل الشأم إلى عمر فقالوا: إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحبّ أن يكون لنا فيها زكاة وطهور؛ فقال: ما فعله صاحباى فأفعله، فاستشار أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم وفيهم علىّ- رضى الله عنه- فقال علىّ: «هو حسن إن لم تكن جزية يؤخذون بها بعدك «1» » .
وعن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار أنّ أهل الشأم قالوا لأبى عبيدة: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة، فأبى؛ ثم كتب إلى عمر بن الخطّاب، فأبى، فكلّموه أيضا، فكتب إلى عمر، فكتب إليه أيضا عمر: إن أحبّوا فخذها منهم وارددها، يعنى فى فقرائهم.(9/380)
فدلّت هذه الأحاديث والأخبار على أن لا صدقة فى الخيل السائمة ولا فى الرّقيق إذا كانوا للخدمة، إلّا أن يكونوا للتجارة، فان كانوا للتجارة ففى أثمانهم أو قيمهم الزكاة إذا حال عليها الحول، وعلى هذا مذهب الجمهور؛ وذهب أبو حنيفة- رحمه الله- دون صاحبيه إلى وجوب الزّكاة فى الخيل السائمة إذا كانت إناثا، أو إناثا وذكورا، وقال: هو مخيّر بين أن تقوّم وتؤخذ الزكاة من القيمة، وبين أن يخرج عن كلّ فرس دينارا؛ واحتجّوا له بقوله عليه السلام: «ثم لم ينس حقّ الله فى رقابها وظهورها» ؛ قال المخالف لهم: وليس فيه دليل من وجهين: أحدهما أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا ذكر الإبل السائمة وقال: «فيها حقّ» سئل عن ذلك الحقّ ما هو؟ فقال: «إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحة لبنها أو سمنها، وحلبها على الماء، وحمل عليها فى سبيل الله» ؛ فلمّا كانت الإبل فيها حقّ سوى الزكاة احتمل أن يكون فى الخيل أيضا حقّ سوى الزكاة؛ وقد روى التّرمذىّ»
وابن ماجة حديث فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ فى المال حقّا سوى الزّكاة» وتلا هذه الآية (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)
الخ الآية؛ فيجوز أن يحمل الحقّ فى رقابها وظهورها على هذا الوجه. الثانى أن يحمل الحقّ فيها على التأكيد لا على الوجوب، كقوله «2» صلّى الله عليه وسلم فى حديث معاذ: «وحقّ العباد «3» على الله عزّ وجلّ أن لا يعذّبهم اذا فعلوا(9/381)
ذلك» ، فهذا محمل قوله عليه السلام: «ثم لم ينس حقّ الله فى رقابها» وتأويله.
قال شيخنا شرف الدّين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطىّ- رحمه الله-: ولنا أن نقول فيه أيضا: هو مجمل، والأحاديث المتقدّمة مفسّرة تقضى «1» عليه، وظواهرها حجج متضافرة على ترك الزكاة فى الخيل؛ قال: فهذا وجهه من طريق السنّة والأثر؛ وأمّا وجهه من طريق النظر فمن وجهين: أحدهما أن السّوم فى الخيل نادر عند العرب، فلا زكاة فيها كالبغال والحمير، الثانى أنّ الزكاة لو وجبت فى الخيل لتعدّى ذلك إلى ذكورها قياسا على المواشى من الإبل والبقر والغنم. وقال الطّبرىّ والطّحاوىّ: والنظر أنّ الخيل فى معنى البغال والحمير التى قد أجمع الجميع على أن لا صدقة فيها، وردّ المختلف [فيه] إلى المتّفق «2» عليه إذا اتّفقا فى المعنى أولى. وقال أبو عبيد: وكان بعض الكوفيّين يرى فى الخيل صدقة اذا كانت سائمة يبتغى منها النسل، فقال: إن شاء أدّى عن كلّ فرس دينارا، وإن شاء قوّمها ثم زكّاها؛ قال: وإن كانت للتجارة كانت كسائر أموال التجارة يزكّيها؛ قال أبو عبيد: أمّا قوله فى التّجارة فعلى ما قال؛ وأمّا إيجابه الصدقة فى السائمة فليس هذا على اتباع السنّة، ولا على طريق النظر، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفا عن صدقتها، ولم يستثن سائمة ولا غيرها؛ وأمّا فى النظر، فكان يلزمه اذا رأى فيها صدقة أن يجعلها كالماشية تشبيها بها، لأنّها سائمة مثلها، فلم يصر إلى واحد من الأمرين؛ وقد جاء عن غير واحد من التابعين إسقاط الزكاة من سائمتها، فروى عن الحسن(9/382)
أنّه قال: «ليس فى الخيل السائمة صدقة» ؛ وعن عمر بن عبد العزيز قال: «ليس فى الخيل السائمة زكاة» ؛ وقال أبو عبيد: وقد قال مع هذا بعض من يقول بالحديث ويذهب اليه: إنه لا صدقة فى سائمتها ولا فيما كان منها للتجارة أيضا؛ يذهب الى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد عفونا لكم عن صدقة الخيل والرّقيق» ؛ فجعله عامّا، فلا زكاة فى شىء منها؛ قال أبو عبيد: فأوجب ذلك الأوّل الصدقة عليها فى الحالين جميعا، وأسقطها هذا منهما كلتيهما؛ وأحد القولين عندى غلوّ، والآخر تقصير، والقصد «1» فيما بينهما هو أن تجب الصدقة فيما كان منها للتجارة، وتسقط من السائمة؛ على هذا وجدنا مذهب العلماء، وهم أعلم بتأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول سفيان بن سعيد ومالك وأهل العراق وأهل الحجاز والشأم، لا أعلم بينهم فى هذا اختلافا؛ والله أعلم بالصواب.
كمل الجزء التاسع «2» من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ- رحمه الله تعالى- ويليه الجزء العاشر، وأوّله:
ذكر ما وصفت به العرب الخيل من ترتيبها فى السنّ وتسمية أعضائها وأبعاضها وألوانها وشياتها الخ والحمد لله رب العالمين(9/383)
فهرس الجزء العاشر
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري
.... صفحة
ذكر ما وصفت به العرب الخيل من ترتيبها فى السن، وتسمية أعضائها، وأبعاضها، وألوانها، وشياتها، وغررها، وحجولها الخ أما ترتيبها فى السن 1
وأما ما قيل فى تسميتها، وتسمية أعضائها وأبعاضها 1
وأما الوجه وما فيه مما لم يذكر فى خلق الانسان 2
وأما العنق وما فيه 3
وأما الظهر وما اتصل به من الوركين 4
وأما الصدر وما اتصل به من البطن 5
وأما الذراعان وما دونهما 5
وأما ألوانها وشياتها وغررها وحجولها وعصمها وما فيها من الدوائر 5
وأما الشية 12
وأما ما فى الفرس من الدوائر 16
وأما ما قيل فى طبائعها، وعاداتها، والمحمود من صفاتها ومحاسنها والعلامات الدالة على جودة الفرس ونجابته 19(مقدمةج 10/1)
ومما يستحب من أوصافها فى الخلق 22
وأما عيوبها التى تكون فى خلقتها وفى جريها والتى تطرأ عليها وتحدث فيها 27
فأما التى فى خلقتها 27
وأما العيوب التى فى جريها 30
وأما العيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها 31
ذكر أسماء خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم 33
ذكر أسماء كرام الخيل المشهورة عند العرب 39
ذكر ما قيل فى أوصاف الخيل وتشبيهها نظما ونثرا 48
طرئف فى ذم الخيل بالهزال والعجز عن الحركة 65
ذكر ما وصفت به فى الرسائل المنثورة 67
الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثالث فى البغال والحمير ذكر ما قيل فى البغال 79
ذكر بغلات رسول الله صلى الله عليه وسلم 80
ذكر شىء مما وصفت به البغال 85
ذكر ما قيل فى الحمر الأهلية 93
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الحمار 95
ذكر شىء مما وصفت به الحمير على طريقى المدح والذم 97
الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثالث فى الإبل والبقر والغنم ذكر ما قيل فى الإبل 103
أما تسميتها من حين تولد الى أن تتناهى سنها 104
وأما أسماء ما يركب منها ويحمل عليه 105(مقدمةج 10/2)
وأما ما اختصت به النوق من الأسماء والصفات 106
ومن أوصافها فى السير 107
وأما ألوان الإبل 108
وأما ترتيب سيرها 108
وأما ما قيل فى المسير عليها والنزول للراحة والإراحة 109
ذكر أصناف الإبل وعاداتها وما قيل فى طبائعها 109
ذكر ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإبل 111
ذكر شىء مما وصفت به الإبل نظما ونثرا 115
ذكر ما قيل فى البقر الأهلية 120
ذكر ما قيل فى الجاموس 124
ذكر ما قيل فى الغنم الضأن والمعز 125
ذكر ترتيب سنّ الغنم 127
القسم الرابع من الفن الثالث فى ذوات السموم، وفيه بابان
الباب الأوّل ويشتمل على ما قيل فى الحيات والعقارب ذكر ما قيل فى الحيات 133
ذكر ما فى لحوم الحيات من المنافع والأدوية 140
ذكر شىء مما وصفت به الأفاعى 143
ذكر ما قيل فى العقارب 147(مقدمةج 10/3)
... صفحة
الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثالث فيما هو ليس قاتلا بفعله من ذوات السموم ويشتمل على ما قيل فى الخنافس والوزغ والضب وابن عرس والحرباء والقنافذ والفئران والقراد والنمل والذر والقمل والصؤاب فأما الخنافس وما قيل فيها 152
وأما الوزغ وما قيل فيه 154
وأما الضب وما قيل فيه 155
وأما الحرباء وما قيل فيها 159
وأما ابن عرس وما قيل فيه 161
وأما القنافذ وما قيل فيها 162
وأما الفئران وما قيل فيها وأنواعها 166
فأما الجرذ والفأر 166
وأما الزباب 170
وأما الخلد 170
وأما اليربوع 170
وأما فأرة المسك 171
وأما فأرة الإبل 172
وأما القراد وما قيل فيه 172
وأما النمل والذرّ وما قيل فيهما 173
وأما القمل والصؤاب وما قيل فيهما 177(مقدمةج 10/4)
القسم الخامس فى أجناس الطير وأنواع السمك وفيه سبعة أبواب: ستة منها فى الطير وباب فى السمك وذيل لذكر شىء مما قيل فى آلات صيد البر والبحر وهو باب ثامن
الباب الأوّل من القسم الخامس من الفن الثالث فى سباع الطير، ويشتمل على ما قيل فى العقاب والبزاة والصقور والشواهين وأصناف ذلك
ذكر ما قيل فى العقاب 181
وأما الزمج وهو الصنف الثانى من العقاب 184
ذكر ما قيل فى البازى وأصنافه 186
فأما البازى 186
وأما الزرّق 191
وأما الباشق 191
وأما العفصىّ 193
وأما البيدق 194
ذكر ما قيل فى الصقر وأصنافه 195
فأما الصقر 195
وأما الكونج وهو الصنف الثانى من الصقر 198
وأما اليؤيؤ وهو الصنف الثالث من الصقر 199
ذكر ما قيل فى الشاهين وأصنافه 200
فأما الشاهين 200
وأما الأنيقى وهو الصنف الثانى من الشاهين 203
وأما القطامى وهو الصنف الثالث من الشاهين 204
فصل فى ذكر ما ناسب الجوارح فى الافتراس وأكل اللحم الحىّ 204(مقدمةج 10/5)
الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثالث فى كلاب الطير، ويشتمل على ما قيل فى النسر والرخم والحدأة والغراب
ذكر ما قيل فى النسر 206
ذكر ما قيل فى الرخم 207
ذكر ما قيل فى الحدأة 209
ذكر ما قيل فى الغراب وأصنافه 209
الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الثالث فى بهائم الطير، ويشتمل على ما قيل فى الدراج والحبارى والطاوس والديك والدجاج والحجل والكركى والإوز والبط والنحام والأنيس والقاوند والخطاف والقيق والزرزور والسمانى والهدهد والعقعق والعصافير
فأما الدراج وما قيل فيه 214
وأما الحبارى وما قيل فيه 215
وأما الطاوس وما قيل فيه 216
وأما الديك والدجاج وما قيل فيهما 217
ذكر ما جاء فى الديكة من الأحاديث وما عدّ من فضائلها وعاداتها ومنافعها 219
ذكر شىء مما وصفت به الشعراء البيضة والدجاجة والديك 226
ومما قيل فى الدجاجة والديك 227
وأما الحجل وما قيل فيه 233
وأما الكركىّ وما قيل فيه 234
وأما الإوز وما قيل فيه وأصنافه 235
وأما البط وما قيل فيه وأصنافه 236(مقدمةج 10/6)
وأما النحام وما قيل فيه 237
وأما الأنيس وما قيل فيه 238
وأما القاوند وما قيل فيه 238
وأما الخطاف وما قيل فيه 238
وأما القيق والزرزور وما قيل فيهما 241
ما قيل فى القيق 241
وأما الزرزور 242
وأما السمانى وما قيل فيه 245
وأما الهدهد وما قيل فيه 246
وأما العقعق وما قيل فيه 248
وأما العصافير وما قيل فيها وأنواعها 249
فأما العصافير البيوتى 249
وأما عصفور الشوك 250
وأما عصفور النيلوفر 250
وأما القبرة 251
وأما حسون 251
وأما البلبل 252
الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى بغاث الطير ويشتمل على ما قيل فى القمرىّ والدبسىّ والورشان والفواخت والشفنين واليعتبط والنوّاح والقطا واليمام وأصنافه والببغاء
أما القمرى وما قيل فيه 258
وأما الدبسىّ وما قيل فيه 258
وأما الورشان وما قيل فيه 259(مقدمةج 10/7)
وأما الفواخت وما قيل فيها 259
وأما الشفنين وما قيل فيه 260
وأما اليعتبط وما قيل فيه 261
وأما النوّاح وما قيل فيه 261
وأما القطا وما قيل فيه 261
ذكر شىء من الأوصاف والتشبيهات الشعرية الجامعة لمجموع هذا النوع 265
وأما اليمام وأصنافه وما وصف به وما قيل فيه 268
فأما الرواعب 268
وأما المراعيش 268
وأما العدّاد 269
وأما الميساق 269
وأما الشدّاد 269
وأما القلّاب 269
وأما المنسوب 269
ذكر ما قيل فى طوق الحمامة 277
ذكر شىء مما وصفت به هذا النوع نظما ونثرا 279
وأما الببغاء وما قيل فيها 280
الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الطير الليلى ويشتمل على ما قيل فى الخفاش والكروان والبوم والصدى
فأما الخفاش وما قيل فيه 283
وأما الكروان وما قيل فيه 285(مقدمةج 10/8)
وأما البوم وما قيل فيه 285
وأما الصدى وما قيل فيه 286
الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الهمج وهو مما يطير كالنحل والزنبور والعنكبوت والجراد ودود القز والذباب والبعوض والبراغيث والحرقوص
فأما النحل وما قيل فيه 287
وأما الزنبور وما قيل فيه 289
وأما العنكبوت وما قيل فيه 290
وأما الجراد وما قيل فيه 292
وأما دود القز وما قيل فيه 297
وأما الذباب وما قيل فيه 298
وأما البعوض وما قيل فيه 301
وأما البراغيث وما قيل فيها 303
وأما الحرقوص وما قيل فيه 305
الباب السابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى أنواع الأسماك
ذكر شىء من أنواع الأسماك 312
فأما الدلفين 313
وأما الرعاد 313
وأما التمساح 314
وأما السقنقور 315(مقدمةج 10/9)
وأما السلحفاة واللجأة 316
وأما الفرس النهرى 317
وأما الجند بيدستر 318
وأما حيوان القندس والفاقم 319
وأما الضفادع 319
وأما السرطان وما قيل فيه 321
ذكر شىء من عجائب الحيوان المائى 322
الباب الثامن وهو الذيل على القسم الخامس من الفن الثالث ويشتمل على ذكر شىء مما وصفت به آلات الصيد فى البر والبحر ووصف رماة البندق وما يجرى هذا المجرى
ذكر شىء مما قيل فى رماة البندق 324
ومما ورد فى وصف الجلاهق نظما 348
ذكر شىء مما قيل فى سبطانة 350
ذكر شىء مما قيل فى عيدان الدبق 351(مقدمةج 10/10)
الجزء العاشر
[تتمة الفن الثالث في الحيوان الصامت]
[تتمة القسم الثالث من الفن الثالث في الدواب والأنعام]
[تتمة الباب الأول من هذا القسم في الخيل]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ذكر ما وصفت به العرب الخيل:
«1» من ترتيبها فى السنّ، وتسمية أعضائها، وأبعاضها، وألوانها، وشياتها، وغررها، وحجولها، وعصمها، ودوائرها، وما قيل فى طبائعها وعاداتها، والمحمود من صفاتها ومحاسنها، والعلامات الدالّة على جودتها ونجابتها، وعدّ عيوبها التى تكون فى خلقها وجريها، والعيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها
أما ترتيبها فى السنّ
- فالعرب تقول: سنّ الفرس إذا وضعته أمه فهو «مهر» . ثمّ هو «فلوّ» «2» . فإذا استكمل سنة فهو «حولىّ» . ثمّ هو فى الثانية «جذع» . ثم فى الثالثة «ثنىّ» . ثم فى الرابعة «رباع» . ثم فى الخامسة «قارح» .
ثم هو الى نهاية عمره «مذكّ» .
وأما ما قيل فى تسميتها
، وتسمية أعضائها وأبعاضها- فقد قالوا:
الخيل مؤنّثة، ولا واحد لها من جنسها، وجمعها خيول. ويقال فى صفاتها: «أذن مؤلّلة» و «مرهفة» ، أى محدّدة الطرف. قال عدىّ بن الرّقاع:(10/1)
تخوض «1» فى فرجات النّقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام
و «حشرة» : صغيرة مستديرة. و «مقدودة» : مدوّرة. وأذن «غضنفرة» أى غليظة. و «زبعراة» أى غليظة شعراء. و «خذاويّة» أى خفيفة السمع.
قال عدىّ بن زيد:
له أذنان خذاويّتا ... ن والعين «2» تبصر ما فى الظّلم
ثم «الناصية» وهى الشعر السائل على الجبهة، يقال: «واردة» وهى الطويلة.
و «جثلة» وهى الكثيرة الملتفّة. و «الفاشغة» و «الغمّاء» «3» وهى الكثيرة المنتشرة.
و «السّفواء» «4» وهى القليلة. و «عصفورها» : أصل منبت شعرها. و «قونسها» «5» :
العظم الناتئ «6» بين الأذنين.
وأما الوجه وما فيه مما لم يذكر فى خلق الإنسان
- «النّواهق» «7» » وهما عظمان شاخصان فى وجهه من الجبهة الى المنخرين. و «اللهزمتان» : ما اجتمع من اللحم فى معظم الجبين. و «عين مغربة» أى بيضاء الحماليق وما حولها.
و «خيفاء» : إذا كانت إحداهما سوداء والأخرى زرقاء. و «المحملقة» : التى حول مقلتيها بياض لم يخالف السّواد.(10/2)
و «أنف مصفّح» أى معتدل القصبة. و «السّمّ» : ثقبه «1» ، قال «2» :
ومنخرا واسعة سمومه
وقال مزاحم بن طفيل الغنوىّ، وقيل: العبّاس بن مرداس السّلمىّ،:
ملء «3» الحزامين وملء العين ... ينفش عند الرّبو «4» منخرين
كنفش كيرين بكفّى قين «5»
و «الجحفلة» : الشّفة. و «الفيد» : الشّعر النابت عليها. و «الشّدقان» :
مشقّ الفم إلى حدّ اللجام.
وأما العنق وما فيه
«فالمعرفة» : موضع العرف. و «العرف» :
شعر أعلى العنق. و «العذرة» : ما على المنسج يقبض عليه الفارس اذا ركب.
و «العرشان» : اللحمان من جانبى العرف. و «الجران» «6» : جلد أسفل العنق.
و «الدّسيع» : مركّب العنق فى الكاهل. قال سلامة [بن جندل «7» ] :
يرقى الدّسيع الى هاد له بتع «8» ... فى جؤجؤ «9» كمداك الطّيب مخضوب(10/3)
و «اللّبان» : ما جرى عليه اللّبب. ويقال: «عنق قوداء» أى طويلة. و «سطعاء» أى طويلة منتصبة غليظة. و «تلعاء» : منتصبة غليظة الأصل مجدولة الأعلى.
و «دنّاء» أى مطمئنّة من أصلها. و «هنعاء» : مطمئنّة من وسطها. و «وقصاء» :
قصيرة. و «مرهفة» : رقيقة «1» .
وأما الظهر وما اتصل به من الوركين
- فمنه: «المتنان» وهما لحمان يكتنفان الظهر من مركّب العنق الى علوة ظهر الذّنب. و «الحارك» : عظم مشرف من بين فرعى الكتفين. و «القردودة» : حدّ الفقار. و «الفقار» : المنتظمة فى الصّلب. و «الصّهوة» : مقعد الفارس. و «القطاة» : مقعد الرّدف خلفه.
و «المعدّان» : موضع السّرج من جنبيه. قال شاعر «2» :
فإمّا زال سرجى «3» عن معدّ ... وأجدر «4» بالحوادث أن تكونا
و «الصّرد» : بياض «5» على الظهر. و «الغرابان» : ملتقى أعالى الوركين فى ناحية الصّلب. و «الصّلوان» : ما أسهل من جانبى الوركين. و «العجب» : ما ارتفع من أصل الذّنب. و «العلوة» : أصله. و «العسيب» : عظم الذّنب. والأعوج العسيب: «أعزل» .(10/4)
وأما الصدر وما اتصل به من البطن
- فمنه: «الكلكل» : ما مسّ الأرض من فهدتيه. و «الفهدتان» : اللّحمتان الناتئتان فى الصدر. و «المحزم» :
ما شدّ عليه الحزام. «والناحران» «1» : عرقان يودج منهما.
وأما الذّراعان وما دونهما- «المرفقان» : مآخير رءوس الذّراع.
و «الخصيلة» «2» : لحمة الذراع مع العصب. و «الصّافن» : عرق الذراع. و «الحبال» :
عصبها. و «الرّقمتان» : لحمتان «3» فى باطنهما لا تنبتان شعرا. و «الرّكبة» «4» : موصل ما بين الذّراع والوظيف. و «الوظيفان» : العظمان تحت الركبتين والعرقوبين.
و «الرّضفتان» : «5» عظمان مستديران على الرّكبة. و «السّنبك» : طرف مقدّم الحافر.
و «النّسر» : ما يتطاير من أسفله كالنّوى. و «المنقل» : مجتمع الحافر من باطنه.
و «ألية الحافر» : مؤخّره. ويقال: حافر أرحّ «6» : منبطح السّنابك. و «فرشاح» أى منبطح. و «وأب» : مقعّب. و «مضرور» : مضموم صغير. و «مكنب» «7» أى كثيف. والله أعلم بالصواب.
*** وأما ألوانها وشياتها وغررها وحجولها وعصمها وما فيها من الدوائر
[أما ألوانها]
من ألوانها: «البهيم والمصمت» :
كلّ ذى لون واحد لاشية فيه،(10/5)
إلا الأشهب فإنه لا يقال له بهيم. يقال: فرس مصمت، والأنثى مصمته، والجمع مصامت. وكذلك يقال فى قوائم الفرس اذا لم يكن بهنّ تحجيل. قال أبو «1» حاتم:
مبهمة مصمته القوائم
ومن ألوان الخيل: «الدّهم» ،
وهى ستة: «أدهم غيهب» وهو أشدّها سوادا، والأنثى غيهبة. والغيهب: الظلمة، والجمع غياهب. وكذلك «الغربيب» .
و «الحالك» . و «أدهم دجوجىّ» : صافى السّواد؛ وقيل: هو مأخوذ من الدّجّة، وهى شدّة السواد والظّلمة. و «أدهم يحموم وأدهم أحمّ» وهو الذى أشربت سراته «2» وحجزته حمرة. قال أبو تمام:
أو «3» أدهم فيه كمتة أمم ... كأنه قطعة من الغلس
ثم «أدهم أكهب» وهو إلى الكدرة.
ثم «أحوى» والجمع حوّ؛ وهو أهون سوادا من الجون، ومناخره محمّرة، وشاكلته مصفرّة. والأحوى أربعة ألوان: «أحوى أحمّ» وهو المشاكل للدّهمة والخضرة؛ ولا فرق بينه وبين الأخضر الأحمر إلا باحمرار مناخره واصفرار شاكلته.
و «أحوى أصبح» وهو الذى تقلّ حمرة مناخره فتصير الى السواد ويكون البياض فيه غالبا على أطراف المنخرين. و «أحوى أطحل» وهو الذى تعتريه صفرة وخضرة(10/6)
مخالطتان لكدرة. و «أحوى أكهب» . والكهب: قلّة ماء اللّون وكدرته فى موضع المنخرين فى حمرتهما وفى سواد السّراة فى بياض الأقراب.
ومنها الخضر
«1» - وهى أربعة: «أخضر أحمّ» وهو أدناها إلى الدّهمة. قال الشاعر:
خضراء حمّاء كلون العوهق
وهو اللّازورد. و «أخضر أدغم» وهو الأخطب لون وجهه وأذنيه ومناخره.
وهذا اللّون يسمّى بالفارسيّة «ديزجا» «2» . و «أخضر أطحل» وهو الذى تعلو خضرته صفرة. و «أخضر أورق» وهو الذى كلون الرّماد.
ومنها الكميت
- والجمع كمت، والذكر والأنثى فيه كميت، وهى تسعة.
قالوا: وكميت من الأسماء المصغّرة المرخّمة التى لا تكبير لها، من أكمت بمنزلة حميد من أحمد، غير أن أكمت لم يستعمل. والكميت بين الأحوى والأصدأ، وهو أقرب من الشّقر والوراد الى السواد وأشدّ منها حمرة. والفرق ما بين الكميت والأشقر بالعرف والذّنب، فإن كانا أحمرين فهو أشقر، وإن كانا أسودين فهو كميت؛ والورد بينهما. والكميت أحبّ الألوان الى العرب. ومن ألوانه: «كميت أحمّ» وهو الذى يشاكل الأحوى، غير أنه تفصل بينهما حمرة أقرابه ومراقّه ومربطائه.
والمريطاء: الجلدة التى بين العانة والسّرّة. والأقراب: من الشاكلة التى هى الخاصرة(10/7)
الى مراقّ البطن، واحدها: قرب وقرب. قال الأصمعىّ: أشدّ الخيل جلودا وحوافر الكمت الحمّ. و «كميت أصحم» «1» وهو الأسود الذى يضرب الى الصّفرة.
و «كميت أطخم» والطّخمة: سواد فى مقدّم الأنف. و «كميت مدمّى» وهو الشديد الحمرة وكلّما انحدر الى مراقّ البطن يزداد صفاء. و «كميت أحمر» وهو أشدّ حمرة من المدمّى، وهو أحسن الكميت. و «كميت مذهب» وهو الذى تعلو حمرته صفرة.
و «كميت محلف» وهو أدنى الكمت الى الشّقرة وظاهر شعر ذنبه وعرفه كلون جسده وباطنه أسود، والأنثى محلفة. وأنشدوا «2» :
كميت غير محلفة «3» ولكن ... كلون الصّرف «4» علّ به الأديم
قال أبو خيرة: المحلف بين الأصهب والأحمر، وهو من الإبل الأصحر. و «كميت أكلف» وهو الذى لم تصف حمرته ويرى فى أطراف شعره سواد. و «كميت أصدأ» وهو الذى فيه صدأة أى كدرة بصفرة قليلة، شبّهت بلون صدأ الحديد.
ومنها الوراد
- وهى جمع ورد وهى ثلاثة- والورد هو الذى تعلوه حمرة الى الشّقرة الخلوقيّة «5» وجلده وأصول شعره سود. وقيل: الوردة: حمرة تضرب(10/8)
الى الصّفرة. وتحقيقه أنه بين الكميت الأحمر وبين الأشقر- منها: «ورد خالص» و «ورد مصامص» وهو الخالص أيضا، والأنثى مصامصة. و «ورد أغبس» «1» تدعوه العجم «السّمند» وهو الذى لونه كلون الرّماد.
ومنها الشّقر
- وهى تسعة- والأشقر: أشدّ حمرة من الورد- يقال: «أشقر أدبس» وهو الذى لونه بين السواد والحمرة. و «أشقر خلوقىّ» . و «أشقر أصبح» وهو قريب من الأصهب. والصّهبة: الشّقرة فى شعر الرأس. و «أشقر سلّغد» وهو الذى خلصت شقرته، والأنثى سلّغدة، والجمع سلّغدات. قال شاعر:
أشقر سلّغد وأحوى أدعج ... أصكّ أظمى «2» وحيفس «3» أفلج «4»
و «أشقر قرف» والأنثى قرفة، والجمع قروف وقراف وأقراف وهو كالسّلغد.
و «أشقر مدمّى» وهو الشديد الحمرة. و «أشقر أقهب» . والقهبة: غبرة إلى سواد.
وقال ابن الأعرابىّ: الأقهب: الذى فيه حمرة فيها غبرة. و «أشقر أمغر» ، وهو الذى تعلو شقرته مغرة، أى كدرة. و «أشقر أفضح» : بيّن الفضحة، وهى البياض ليس بالشديد.
ومنها الصّفر
- وهى أربعة: «أصفر فاقع» . و «أصفر أعفر» وهو بياض تعلوه حمرة. و «أصفر ناصع» . و «أصفر ذهبىّ» وهو الذى يضرب إلى البياض، وهو السّوسنىّ «5» .(10/9)
ومنها الشّهب
- وهى خمسة. والأشهب: كلّ فرس تكون شعرته على لونين ثم تفترق شعراته «1» فلا تجمع واحدا من اللّونين شعرات تخلص بلون كقدر «2» النّكتة فما فوقها. وقيل: الأشهب الأبيض الشّعرة ليس بالبياض الصّافى القرطاسىّ وجلده أسود يقال له «أشهب أبيض» . والشّهبة فى الألوان: البياض الذى يغلب على السّواد. ويقال للأشهب أيضا: أضحى، والأنثى ضحياء. وأسماء ألوانه:
«أشهب ناصع» . و «أشهب أحمّ» «3» وهو أسود تنفذه شعرات بيض. و «أشهب زرزورىّ» وهو الذى اعتدل فيه السواد والبياض. و «أشهب مفلّس» وهو الذى خالط بياضه سواد أو حمرة. و «أشهب سامرىّ» وهو الذى شهبته بسواد أورق.
ومنها الجون
«4» - وهو اختلاط بياض بحمرة الأشقر أو الكميت.
ومنها الصّنابىّ
- وهو دهمة فيها شهبة، أو كمتة فيها شهبة أقلّ من بياض الأشهب. نسب الى الصّناب وهو الخردل بالزبيب.
ومنها الأغبر
- وهو أشقر شملت شقرته شهبة.
ومنها الأبرش
- وهو الذى فيه لمع «5» بياض كالرّقط «6» ، وقيل: هو الذى يكون فى شعره نكت صغار تخالف سائر لونه، وإنما يكون ذلك فى الدّهم والشّقر خاصّة، وربما أصابها ذلك من شدّة العطش. فإذا عظمت النّكت فهو «مدنّر» . واذا كان فى جسده بقع متفرّقة مخالفة للونه فهو «ملمّع» و «أبقع» و «أشيم» . وقيل: الأشيم: أن تكون(10/10)
فيه شامة بيضاء؛ وقيل: قد تكون الشّامة غير بيضاء. واذا كان فى الشامة استطالة فهو «مولّع» . وقال ابن بنين «1» : إذا كان فى الدابّة عدّة ألوان من غير بلق فذلك التوليع، يقال: برذون مولّع. واذا كانت الشامة فى مؤخّره أو شقّه الأيمن كرهت.
ومنها العرسىّ
- وهو الذى يشبه لون ابن عرس.
ومنها الأنمر
- وهو الذى يكون فيه بقعة بيضاء وبقعة أخرى من أىّ لون كان.
ومنها الأبلق
- وهو ما يكون نصف لونه أو ما قارب النصف أبيض، والنصف الآخر أسود أو أحمر.
ومنها الأغشى
(بالغين المعجمة) - وهو ما ابيضّ رأسه دون جسده مثل الأرخم «2» .
ومنها الأبيض
- وهو الذى ابيضّ شعره بياضا مثل بياض الأوضاح أشدّ ما يكون من البياض وأصفاه لا يخالطه شىء من الألوان فيقال، فيه: أبيض قرطاسىّ. وربما كان أزرق العين أو أسود «3» أو أكحل. ويدعى بما فى عينيه من زرقة وسواد وكحل؛ ولا يكون أكحل حتى تسودّ أشفار عينيه وجفونه.
قال الشيخ «4» رحمه الله تعالى فى كتابه « [فضل] الخيل» : «وألوان الخيل أدهم، وأخضر، وأحوى، وكميت، وأشقر، وأصفر، وأشهب، وأبرش، وملمّع، ومولّع،(10/11)
وأشيم. هذا قول أبى عبيدة. وقال الأبيوردىّ فى رسالته: الدّهمة، ثم الحوّة، ثم الصّدأة، ثم الخضرة، ثم الكمتة، ثم الوردة، ثم الشّقرة، ثم الصّفرة، ثم العفرة، ثم الشّهبة» . هذا ما وقفنا عليه من ألوانها. والله أعلم.
*** وأما الشّية
وجمعها شيات- فقالوا: كلّ لون يخالف معظم لون الفرس فهو «شية» . فإذا لم يكن فيه شية فهو «أصمّ» و «بهيم» من أىّ الألوان كان، والأنثى أيضا بهيم. وكذلك فرس «مصمت» بمنزلة البهيم من أىّ لون كان، والأنثى مصمتة، والجمع مصامت. وقد تقدّم ذكر ذلك. فلنذكر الشّيات.
من الشّية-: الغرّة، والقرحة، والرّثمة، والتّحجيل، والسّعف، والنّبط، والصّبغ، والشّعل، واللّمظ، واليعسوب، والتعميم، والبلق.
فالغرّة
-: البياض فى الوجه؛ وهى أنواع: لطيم، وشادخة، وسائلة، وشمراخ، ومتقطّعة»
، وشهباء.
ف «اللّطيم» : الذى يصيب البياض عينيه أو إحداهما أو خدّيه أو أحدهما، والأنثى أيضا لطيم. فإذا فشت فى الوجه ولم تصب العين فهى «شادخة» . فإذا اعتدلت على قصبة الأنف وإن عرضت فى الجبهة فهى «سائلة» . واذا دقّت وسالت فى الجبهة وعلى قصبة الأنف ولم تبلغ الجحفلة فهى «شمراخ» . وكلّ بياض فى جبهة [الفرس «2» ] فشا أوقلّ ينحدر حتى يبلغ المرسن «3» ثم ينقطع فهى غرّة «متقطعة» . واذا كان البياض فى منخريه ثم ارتفع مصعدا حتى يبلغ بين عينيه ما لم يبلغ جبهته فهى أيضا غرّة متقطعة.(10/12)
وإذا كان فى الغرّة شعر يخالف البياض فهى غرّة «شهباء» . وقال ابن قتيبة: «إن سالت غرّته ودقّت فلم تجاوز العينين فهى «العصفور» . وإن أخذت جميع وجهه غير أنه ينظر فى سواد فهى «المبرقعة» . فإن فشت حتى تأخذ العينين فتبيضّ أشفارهما فهو «مغرب» . فإن كانت إحدى عينيه زرقاء والأخرى كحلاء فهو «أخيف» .
وأما القرحة
- وهى دون الغرّة؛ فقال ابن قتيبة: الغرّة: ما فوق الدّرهم، والقرحة: قدر الدرهم فما دونه. قالوا: والقرح: كلّ بياض كان فى جبهة الفرس ثم انقطع قبل أن يبلغ المرسن. وتنسب القرحة الى خلفتها فى الاستدارة والتثليث والتربيع والاستطالة والقلّة؛ فإذا قلّت قيل: «خفيّة» . وإذا كان فى القرحة شعر يخالف البياض فهى «قرحة شهباء» .
وأما الرّثمة
(بالثاء المثلثة) - فكلّ بياض أصاب الجحفلة العليا قلّ أو كثر فهو «رثم» إلى أن يبلغ المرسن. وتنسب الرّثمة إذا هى فشت الى الشّدوخ. وإذا لم تجاوز المنخرين نسبت الى الاعتدال. وإذا قلّت واشتدّ بياضها نسبت الى الاستنارة. وإذا لم يظهر بياضها للناظر حتى يدنو نسبت الى الخفية.
واللّمظة
- كلّ بياض أصاب الجحفلة السّفلى قلّ أو كثر فهو «لمظ» والفرس ألمظ.
واليعسوب
-: كلّ بياض يكون على قصبة الأنف قلّ أو كثر ما لم يبلغ العينين. وإذا شاب الناصية بياض فهو «أسعف» . فإذا خلص البياض فى الناصية فهو «أصبغ» . فإذا انحدر البياض الى منبت الناصية فهو «المعمّم» . وإذا كان فى عرض الذّنب بياض فهو «أشعل» . والعرب تكره شعلة الذّنب. وإذا كان فى قمعة الذّنب، وهى طرفه، بياض فهو «أصبغ» . وإذا ارتفع البياض حتى يبلغ البطن(10/13)
فهو «أنبط» . وإذا ظهر البياض وزاد فهو «أبلق» . وقال ابن قتيبة «1» وابن الأجدابى «2» :
إذا كان الفرس أبيض الظّهر فهو «أرحل» ، وإن كان أبيض البطن فهو «أنبط» .
وقال غيرهما: «الأدرع» من الخيل والشاء: الذى اسودّ رأسه ولون سائره أبيض، والأنثى «درعاء» ، من الدّرعة «3» . و «الأخصف» من الخيل والغنم: الأبيض الخاصرتين الذى ارتفع البلق من بطنه الى جنبيه، ولونه كلون الرّماد فيه سواد وبياض. وقيل: كلّ ذى لونين مجتمعين فهو خصيف وأخصف؛ وأكثر ذلك السواد والبياض. ويقال: فرس «آزر» إذا كان أبيض العجز.
*** ومن الشّية التحجيل
- وهو البياض فى قوائم الفرس الأربع، أو فى ثلاث منها، أو فى رجليه قلّ أو كثر إذا استدار حتى يطيف بها. وأصل الحجلة من الحجل (بفتح الحاء وكسرها) وهو القيد والخلخال. قال ابن الأجدابىّ: فإن كانت قوائمه الأربع بيضاء لا يبلغ البياض منها الركبتين «4» فهو «محجّل» . وطليق اليد وطلق اليد (بفتح الطاء وإسكان اللام وبضمهما أيضا) : إذا كانت على لون البدن ولم يكن بها بياض. فإذا أصاب البياض القوائم كلها فهو «محجّل أربع» . وإن(10/14)
كان فى ثلاث قوائم فهو «محجّل ثلاث» مطلق يد أو رجل يمنى أو يسرى. وكلّ قائمة بها بياض فهى «ممسكة» . وكلّ قائمة ليس بها وضح فهى «مطلقة» . فإن كان البياض فى الرجلين جميعا فهو «محجّل الرجلين» . وإن كان فى إحداهما فهو «الأرجل» ؛ وقد ذكرناه.
ولا يكون التّحجيل واقعا بيد ما لم يكن معها رجل أو رجلان، ولا بيدين ما لم يكن معهما رجل أو رجلان أو وضح بالوجه. فإن كان التحجيل فى يد ورجل من شقّ واحد فهو ممسك الأيامن مطلق الأياسر، أو ممسك الأياسر مطلق الأيامن، ويقال: الأيمنين والأيسرين. وإن كان من خلاف قلّ أو كثر فهو «مشكول» ؛ وهو مكروه فى الحديث. «1» وقد تقدّم ذكره.
ومنها العصم
- وهو إذا كان البياض بإحدى يديه قلّ أو كثر فهو «أعصم» اليمنى أو اليسرى. واسم العصمة مأخوذ من المعصم وهو موضع السّوار من الساعد. فإن كان البياض فى يده اليسرى قيل: «منكوس» ؛ وهو مكروه. وإن كان البياض بيديه جميعا فهو أعصم اليدين، إلا أن يكون بوجهه وضح فهو «محجّل» ذهب عنه العصم. فإن كان بوجهه وضح وبإحدى يديه بياض فهو أعصم، لا يوقع عليه وضح الوجه اسم التّحجيل اذا كان البياض بيد واحدة.
ووضح القوائم: الخاتم، والإنعال، والتّخديم، والصّبغ، والتّجبيب، والمسرول، والأخرج، والتّسريح، فأقلّ وضح القوائم «الخاتم» وهو شعرات بيض.
فإذا جاوز ذلك حتى يكون البياض واضحا فهو «إنعال» ما دام فى مؤخّر رسغه مما يلى الحافر. فإذا جاوز الأرساغ فهو «تخديم» . وإذا ابيضّت الثّنّة «2» كلّها ولم يتّصل(10/15)
بياضها ببياض التحجيل فهو «أصبغ» . وإذا ارتفع البياض فى القوائم الى الجبب «1» فما فوق ذلك ما لم يبلغ الركبتين والعرقوبين فهو «التّجبيب» . فإذا بلغ التجبيب الركبتين والعرقوبين فهو «مسرول» حتى يخرج من الذراعين والسّاقين. فإذا خرج من الذراعين والساقين فهو «أخرج» . وكلّ بياض فى التحجيل مستطيل فهو «تسريح» . والله أعلم.
*** وأما ما فى الفرس من الدوائر
- فمنها: «دائرة المحيا» وهى اللّاصقة بأسفل الناصية. و «دائرة اللّطمة» فى وسط الجبهة، فإن كانت دائرتان فى الجبهة قيل: فرس نطيح «2» . و «دائرة اللّاهز» : التى تكون فى اللهزمة. و «دائرة العمود» وتسمّى المعوّذ أيضا وهى فى موضع القلادة. و «دائرة السّمامة» فى وسط العنق.
و «دائرتا البنيقين «3» » وهما اللّتان فى نحر الفرس. و «دائرة النّاحر» «4» : التى فى الجران إلى أسفل من ذلك. و «دائرة القالع» : التى تكون تحت اللّبد. و «دائرة الهقعة» فى الشّقّين «5» ، وتدعى النافذة أيضا، وقيل: هى التى تكون فى عرض زوره.
و «دائرة النّافذة» وهى دائرة الحزام. و «دائرتا الصّقرين» فى الحجبتين والقصريين-(10/16)
والحجبة: رأس الورك. والقصرى: الضّلع التى تلى الشاكلة- و «دائرة الخرب» تكون تحت الصّقرين. و «دائرة الناخس» تكون تحت الجاعرتين الى الفائلين.
وهما عرقان فى الفخذ. والجاعرتان: حرفا الوركين المشرفان على الفخذين، وهما مضرب الفرس بذنبه على فخذيه، وهما موضع الرّقمتين من است الحمار.
وكانت العرب تستحبّ من هذه الدوائر: المعوّذ، والسّمامة، والهقعة. وقيل:
استحبّوا الهقعة ثم كرهوها. يقال: إن المهقوع لا يسبق أبدا. وكانوا يكرهون النّطيح، واللّاهز، والقالع، وقيل: الناخس أيضا. وما سوى هذه الدوائر فغير مكروه.
*** وقال ابن «1» قتيبة: «والدوائر ثمانى عشرة دائرة. تكره منها «الهقعة» وهى التى تكون فى عرض زوره، ويقال: إنّ أبقى الخيل المهقوع. و «دائرة القالع» هى التى تكون تحت اللّبد. و «دائرة النّاخس» هى التى تكون تحت الجاعرتين الى الفائلين.
و «دائرة اللّطاة» فى وسط الجبهة، وليست تكره إذا كانت واحدة؛ فإذا كانت هناك دائرتان قالوا: فرس نطيح؛ وذلك مكروه. وما سوى هذه الدوائر غير مكروهة» .
ومن الدوائر التى ذكرتها الهند فى البركة والشؤم- قالوا: إذا كان فى موضع حكمته دائرة أو على جحفلته العليا دائرة كان ممّا يرتبط. وما كان منها ليس فى وجهه ولا فى صدره دارة «2» فمكروه ارتباطه. وما كان فى صدره دارة الى التّربيع، أو كان فى رأسه دارتان، أو على خاصرته أو على مذبحه دارة، أو فى عنقه أو على خطمه أو على أذنه شعر نابت كزهرة النبات، كان ذلك مما يرتبط وتقضى عليه الحوائج، ويكون صاحبه مظفّرا فى الحروب ولا يرى فى أموره إلّا خيرا.(10/17)
وذكروا أيضا: أنه لا ينبغى أن يرتبط من الدّوابّ ما كان منها فى مقدّم يده دارة، وما كان أسفل من عينيه دارة، أو فى أصل أذنيه من الجانبين دارتان، أو على مأبضه «1» دارة، أو على محجره «2» دارة، أو فى خدّه أو فى جحفلته السّفلى أو على ملتقى لحييه دارة، أو فى بطنه شعر منتشر، أو على سرّته دارة، أو كانت أسنانه طالعة على جحفلته، أو له سنّان ناتئان بمنزلة أنياب الخنزير، أو فى لسبانه خطط سود لا خضر، وما كان منها أدبس «3» أو أبيض أو أصفر أو أشهب تعلوه حمرة وداخل حجافله ولهواته «4» وخارج لحييه سواد، وما كان منها أدهم وداخل جحافله أبيض، أو فى لهواته وداخل شدقه نقط سود وجحفلته خارجها منقّط كحبّ السمسم، أو على منسجه دارتان، أو على خصييه وبر أسود مخالف للونه، أو كان فى جبهته شعرات [مخالفة للونه «5» ] ، أو ما كان منها حين ينتج يرى خصياه ظاهرين «6» - فهذه العلامات زعم حنّة «7» الهندىّ أنه لا ينبغى لأحد أن يرتبط دابّة بها شىء منها. وزعم أنه يستحبّ أن يرتبط ما كان فى صدره أربع نقط فى أربعة مواضع، أو شعر ملتفّ عرضا وطولا، أو شعر ملتو.(10/18)
وأما ما قيل فى طبائعها، وعاداتها، والمحمود من صفاتها، ومحاسنها، والعلامات الدالّة على جودة الفرس ونجابته:
قالت العرب: والخيل نوعان: عتيق وهو المسمى فرسا، وهجين وهو المسمّى برذونا. والفرق بينهما أنّ عظم البرذون أغلظ من عظم الفرس؛ وعظم الفرس أصلب وأثقل من عظم البرذون؛ والبرذون أحمل من الفرس، والفرس أسرع من البرذون؛ والعتيق بمنزلة الغزال، والبرذون بمنزلة الشاة.
وفى طبع الفرس: الزّهو، والخيلاء، والعجب، والسرور بنفسه، والمحبّة لصاحبه.
وفى طبعه: أنه لا يشرب الماء إلا كدرا؛ حتى إنه يرد الماء وهو صاف فيضرب بيده فيه حتى يكدّره ويعكّره. وربما ورد الماء الصافى وهو عطشان فيرى خياله فيه فيتحاماه ويأباه، وذلك لفزعه من الخيال الذى يراه فى الماء. وهو يوصف بحدّة البصر. وفى طبعه: أنه متى وطئ أثر الذئب خدرت قوائمه حتى لا يكاد يتحرّك، ويخرج الدّخان من جلده؛ وإذا وطئته الأنثى وهى حامل أزلقت. «1» والأنثى من الخيل تحمل سنة كاملة؛ هذا هو المعروف من عادتها. وأخبرنى بعض من أثق الى قوله أنه كان يملك حجرا «2» تحمل ثلاثة عشر شهرا. وسمعت أن عند التّتر «3» جنسا من خيلها تحمل الفرس منها تسعة أشهر وتضع. وقال لى الناقل: إنّ هذا أمر مشهور عندهم معروف مألوف لا ينكرونه ولا يتعجبون.(10/19)
فصل
- والعلامات الجامعة لنجابة الفرس الدالّة على جودته، ما ذكره أيّوب «1» ابن القرّيّة وقد سأله الحجّاج عن صفة الجواد من الخيل فقال: القصير الثلاث، الطويل الثلاث، الرّحب الثلاث، الصافى الثلاث. فقال: صفهنّ؛ فقال:
أما الثّلاث الطّوال فالأذن «2» والعنق والذّراع. وأما الثلاث القصار فالظّهر والسّاق والعسيب. وأما الثلاث الرّحبة فالجبهة والمنخر والجوف. وأما الثلاث الصافية فالأديم والعينان والحافر. وقد جمع بعض الشعراء ذلك فى بيت واحد فقال:
وقد أغتدى قبل ضوء الصّباح ... وورد القطا فى الغطاط «3» الحثاث
بصافى الثّلاث عريض الثلاث ... قصير الثلاث طويل الثلاث
وهذه الحكاية أيضا نقلت عن صعصعة بن صوحان وقد سأله معاوية: أىّ الخيل أفضل؟ فقال: الطويل الثلاث، العريض الثلاث، القصير الثلاث، الصافى الثلاث. قال معاوية: فسّر لنا؛ قال: أما الطويل الثلاث فالأذن والعنق والحزام.
وأما القصير الثلاث فالصّلب والعسيب والقضيب. وأما العريض الثلاث فالجبهة والمنخر والورك. وأما الصافى الثلاث فالأديم والعين وال؟؟؟ افر.
وقال عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لعمرو بن معد يكرب: كيف معرفتك بعراب الخيل؟ قال: معرفة الإنسان بنفسه وأهله وولده؛ فأمر بأفراس فعرضت(10/20)
عليه؛ فقال: قدّموا اليها الماء فى التّراس «1» ، فمن شرب ولم يكتف «2» فهو من العراب، وما ثنى سنبكه فليس «3» منها.
وقيل: أهدى عمرو بن العاص لمعاوية بن أبى سفيان ثلاثين فرسا من خيل مصر؛ فعرضت عليه وعنده عتبة بن سفيان بن يزيد الحارثى؛ فقال له معاوية: كيف ترى هذه يا أبا سفيان؟ فإن عمرا قد أطنب فى وصفها؛ فقال: أراها يا أمير المؤمنين كما وصف؛ وإنها لسامية العيون، لاحقة البطون؛ مصغية الآذان، قبّاء «4» الأسنان؛ ضحام الرّكبات، مشرفات الحجبات؛ رحاب المناخر، صلاب الحوافر؛ وضعها تحليل «5» ، ورفعها تقليل؛ فهى إن طلبت سبقت، وان طلبت لحقت. فقال معاوية:
اصرفها الى دارك، فإن بنا عنها غنى، وبفتيانك اليها حاجة.
وقال أبو عبيدة: يستدلّ على عتق الفرس برقّة جحافله وأرنبته، وسعة منخريه، وعرى نواهقه، ودقّة حقويه وما ظهر من أعالى أذنيه، ورقّة سالفتيه وأديمه، ولين شعره؛ وأبين من ذلك كلّه لين شكير «6» ناصيته وعرفه.(10/21)
وكانوا يقولون: إذا اشتدّ نفسه، ورحب متنفّسه، وطال عنقه، واشتدّ حقوه، وانهرت شدقه، وعظمت فخذاه، وانشنجت «1» أنساؤه، وعظمت فصوصه، وصلبت حوافره ووقحت «2» ، لحق بجياد الخيل. والله أعلم.
ومما يستحبّ من أوصافها فى الخلق
- الأذن المؤلّلة، والناصية المعتدلة التى ليست بسفواء ولا غمّاء، والجبهة الواسعة، والعين الطامحة السامية، والخدّ الأسيل، ورحب المنخرين، وهرت الشّدقين- قال الشاعر «3» :
هريت «4» قصير عذار اللّجام ... أسيل طويل عذار الرّسن
قوله «5» : «قصير عذار اللجام» : لم يرد به قصر خدّه، وإنما أراد طول شقّ الفم.
ويدلّ على ذلك قوله فى البيت:
أسيل طويل عذار الرّسن(10/22)
يريد طول خدّه- وقود العنق (لينها حتى لا تكون جاسئة «1» ) ، ورقّة الجحفلتين، وارتفاع الكتفين والحارك والكاهل.
قالوا: ويستحبّ أن يشتدّ مركّب عنقه فى كاهله لأنه يتساند إليه اذا أحضر، وعرض الصدر، وضيق الزّور، وارتفاع اللسان، وأن يشتدّ حقوه لأنه معلّق وركيه ورجليه فى صلبه، وعظم جوفه وجنبيه، وانطواء كشحه، وإشراف القطاة، وقصر العسيب، وطول الذنب، وشنج النّسا، واستواء الكفل حتى لا يكون أقرن، وملاسة الكفل، وقصر الساقين، وطول الفخذين، وتوتير الرّجلين حتى لا يكون أقسط «2» ، وتأنيف العرقوبين «3» حتى لا يكون أقمع، وغلظ الرّسغ، وأن تكون الحوافر صلابا سودا أو خضرا.
وحكى أن هارون الرشيد ركب فى سنة خمس وثمانين ومائة الى الميدان لشهود الحلبة، قال الأصمعىّ: فدخلت الميدان لشهودها «4» ، فجاء فرس أدهم لهارون الرشيد سابقا يقال له «الرّبد» «5» ؛ فسرّ به الرشيد وابتهج وقال: علىّ بالأصمعىّ، فنوديت من كل جانب، فأقبلت سريعا حتى مثلت بين يديه؛ فقال: يا أصمعىّ، خذ بناصية «الرّبد» ثم صفه من قونسه الى سنبكه، فإنه يقال: إن فيه عشرين اسما من أسماء الطير؛ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، وأنشدك شعرا جامعا لها من قول أبى حزرة «6» ؛ قال:
فأنشدنا لله أبوك!؛ فأنشدته:(10/23)
وأقبّ «1» كالسّرحان تمّ له ... ما بين هامته الى النّسر
الهامة: أعلى الرأس. والنّسر: ما ارتفع من بطن الحافر من أعلاه. وهما من أسماء الطير.
رحبت «2» نعامته ووفّر فرخه ... وتمكّن الصّردان فى النّحر
النعامة: جلدة الرأس التى تغطّى الدّماغ. والفرخ: الدّماغ. والصّردان:
عرقان فى أصل اللسان، ويقال: إنهما عرقان يكتنفان باطن اللسان. وفى الظهر أيضا صرد يكون فى موضع السّرج من أثر الدّبر. والنعامة والفرخ والصّردان من أسماء الطير.
وأناف «3» بالعصفور فى سعف ... هام أشمّ موثّق الجذر «4»
العصفور: أصل منبت شعر الناصية، وهو أيضا عظم ناتئ فى كل جبين، وهو أيضا من الغزر. والسّعف: يقال: فرس أسعف اذا سالت ناصيته. وهام أى سائل. والشّمم: ارتفاع قصبة الأنف. وموثق الجذر أى شديد. والجذر:
الأصل من كل شىء.
وازدان بالدّيكين صلصله ... ونبت دجاجته عن «5» الصّدر
الديكان: واحدهما ديك وهو العظم الناتئ خلف الأذن، وهو الذى يقال له الخشّاء والخششاء. والصلصل: بياض فى طرف الناصية، ويقال: هو أصل(10/24)
الناصية. والدّجاجة: اللّحم الذى على زوره بين يديه. والدّيك والصّلصل والدّجاجة من الطير.
والنّاهضان أمرّ جلزهما ... فكأنما عثما على كسر
الناهضان: واحدهما ناهض، وهو لحم المنكبين، ويقال: هو اللحم الذى يلى العضدين من أعلاهما. والناهض: فرخ العقاب. وقوله: «أمرّ جلزهما» أى فتل وأحكم، يقال: أمررت الحبل أى فتلته. والجلز: الشدّ. وقوله:
فكأنما عثما على كسر
أى كأنهما كسرا ثم جبرا. والعثم: الجبر على عقدة وعوج.
مسحنفر الجنبين ملتئم ... ما بين شميته الى الغرّ
قوله: «مسحنفر الجنبين» أى منتفخهما. ملتئم أى معتدل. والشيمة «1» : من قولك: فرس أشيم: بيّن الشامة. والغرّ «2» فى الطير الأغلب الذى يسمّى الرّخمة.
وهى من الفرس عضلة السّاق.
وصفت سماناه وحافره ... وأديمه ومنابت الشعر
السّمانى: طائر «3» وهو موضع من الفرس ربما أراد به السّمامة، وهى دائرة تكون فى سالفة الفرس. والسّمامة «4» أيضا من الطير. وأيمه: جلده.(10/25)
وسما الغراب لموقعيه معا ... فأبين بينهما على قدر
الغراب: رأس الورك، ويقال للصّلوين الغرابان، وهما مكتنفا عجم «1» الذنب، ويقال: هما ملتقى أعلى الوركين. والموقعان: ما فى أعالى الخاصرتين. وقوله:
فأبين بينهما على قدر
أى فرّق بينهما على استواء واعتدال.
واكتنّ دون قبيحه خطّافه ... ونأت سمامته على الصّقر
قوله: واكتّن أى استتر. والقبيح: ملتقى الساقين، ويقال: إنه مركّب الذراعين فى العضدين. والخطّاف: هو حيث أدركت عقب «2» الفارس اذا حرّك رجليه؛ ويقال لهذين الموضعين من الفرس المركلان. ونأت أى بعدت.
والسّمامة: دائرة تكون فى عنق الفرس. والصقر «3» : دائرة فى الرأس. والخطّاف والسّمامة والصقر من أسماء الطير.
وتقدّمت عنه القطاة له ... فنأت بموقعها عن الحرّ
القطاة: مقعد الردف. والحرّ: سواد فى ظاهر أذنى الفرس. وهما من الطير.
يقال: إن الحرّ ذكر الحمام.
وسما على نقويه دون حداته ... خربان بينهما مدى الشّبر
النّقوان: واحدهما نقو والجمع أنقاء، وهو عظم ذو مخّ. وعنى هاهنا عظام الوركين، لأن الخرب هو الذى تراه مثل «4» المدهن فى ورك الفرس. وهو من الطير ذكر الحبارى. والحدأة: سالفة الفرس. وهى من الطير.(10/26)
يدع الرّضيم اذا جرى فلقا ... بتوائم كمواسم سمر
الرّضيم: الحجارة، يفلقها بتوائم أى بحوافره. والمواسم: جمع ميسم الحديد؛ أى أنها كمواسم الحديد فى صلابتها. وقوله: سمر أى لون الحافر. والحافر الأسمر هو الصّلب.
ركّبن فى محض الشّوى سبط ... كفت الوثوب مشدّد الأسر
الشوى هاهنا: القوائم، يقال: فرس محض الشّوى إذا كانت قوائمه معصوبة.
سبط: سهل. كفت الوثوب أى مجتمع. مشدّد الأسر أى الخلق.
قال الأصمعىّ: فأمر لى بعشرة آلاف درهم.
فهذه جمل من أوصاف محاسنها. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما وصفها به الشعراء فى أشعارها والفضلاء فى رسائلها، على ما تقف على ذلك فى موضعه.
فلنذكر عيوب الخيل:
*** وأما عيوبها التى تكون فى خلقتها، وفى جريها، والتى تطرأ عليها وتحدث فيها
- فهى مائة نذكرها:
فأما التى فى خلقتها
- فهى أن يكون الفرس «أخذى» وهو المسترخى أصول الأذنين. و «أمعر» «1» وهو الذى ذهب شعر ناصيته. و «أسفى» وهو الخفيف الناصية، وهو محمود فى البغال. و «أغمّ» وهو الذى غطّت ناصيته عينيه. و «أسعف» وهو الذى فى ناصيته بياض. و «أحول» وهو الذى ابيضّ(10/27)
مؤخر عينه وغار السواد من قبل مآقيه. و «أزرق» وهو الذى فى إحدى عينيه بياض أو زرقة. و «أقنى» وهو الذى فى أنفسه أحد يداب. و «مغربا» وهو الذى أشفار عينيه بيض مع زرقتها. و «أدنّ» «1» وهو الذى اطمأنّ عنقه «2» من أصله. و «أهنع» وهو الذى اطمأنت عنقه من وسطها. و «أوقص» وهو الذى فى عنقه قصر ويبس معطف. و «أكتف» وهو الذى فى أعالى كتفيه انفراج.
و «أزور» وهو الذى تدخل إحدى فهدتى «3» صدره وتخرج الأخرى. و «أقعص» وهو المطمئن الصّلب من الصهوة المرتفع القطاة. و «مخطفا» وهو الذى لحق ما خلف محزمه من بطنه. و «أهضم» «4» وهو المستقيم الضلوع الذى دخلت أعاليه.
و «صقلا» وهو الطويل الصّقلة «5» . و «أثجل» «6» وهو الذى خرجت خاصرته ورقّ صفاقه. «7» و «أفرق» وهو الذى قد أشرفت إحدى وركيه على الأخرى. و «أرسح» «8» وهو قليل لحم الصّلا. و «أعزل» وهو الملتوى عسيب الذّنب حتى يبرز بعض باطنه. و «أكشف» وهو الذى التوى عسيب ذنبه. و «أصبغ» وهو المبيضّ الذّنب. و «أشعل» وهو الذى فى عرض ذنبه بياض. و «أشرج» «9» وهو الذى ببيضة واحدة. و «أفحج» وهو الذى تباعد كعباه. و «أبدّ» وهو الذى تباعدت(10/28)
يداه. و «أصكّ» وهو الذى تصكّ كعباه اذا مشى. و «أحلّ» وهو متمسّح «1» النّسا رخو الكعب. و «أقفد» وهو المنتصب الرّسغ المقبل على الحافر ويكون فى الرّجل خاصّة. و «أصدف» وهو الذى تدانى ذراعاه وتباعد حافراه. و «موجّها» وهو الذى به صدف يسير. و «أقسط» وهو الذى رجلاه منتصبتان غير منحنيتين.
و «أمدش» وهو المصطكّ بواطن الرّسغين. و «أحنف» «2» وهو الملتوى الحافرين يقبل «3» كلّ منهما على صاحبه. و «متلقّفا» وهو الذى يخبط بيده. و «أرجز» «4» وهو المضطرب الرّجل والكفل فإذا قام اضطربت فخذه. و «شختا» وهو القليل اللحم الحميش «5» العظام. و «رطلا» وهو الضعيف الخفيف. و «مكبونا» وهو القصير الدّوارج «6» القريب من الأرض الرحيب الجوف. و «عشّا» وهو الضاحى العظام لقلّة لحمه. و «سغلا» وهو الصغير الجرم. قال الواسانىّ «7» رحمه الله:
ليس بأسفى ولا أحقّ «8» ولا ... أهضم طاوى الحشا ولا سغل
و «جأبا» وهو القصير الغليظ. و «ملوحا» وهو السريع العطش. و «صلودا» وهو البطىء العرق. و «ضاويّا» وهو الذى أضواه أبواه. و «مقرفا» وهو الذى أمّه(10/29)
عتيقة وأبوه غير عتيق. و «هجينا» وهو الذى أبوه عتيق وأمه برذونة. و «محمقا» وهو الذى لا ينتج منه [إلا أحمق «1» ] . و «كوسيّا» «2» وهو الذى اذا جرى نكّس كالحمار.
و «جاسئا» «3» وهو الذى ترى معاقده وفقار ظهره وعنقه جاسئة «4» غير ليّنة. والله أعلم.
*** وأما العيوب التى فى جريها
- فمنها: «الطّموح» وهو السامى ببصره صعدا. «والمنكّس» وهو الذى يطاطئ رأسه إذا جرى. و «المعتزم» وهو الذى يجمح أحيانا. و «الجموح» : الصّلب الرأس. و «الغرب» : المدّاد المرامى. و «الشّموس» :
الذى يمنع السرج والمسّ. و «الحرون» : الذى اذا أدرّ جريه قام لا عن كلال. «5»
و «البالح» «6» إذا قطع جريه ضعفا. و «الضّغن» هو الذى يتلكأ [فى «7» ] الحضر ويقصر عن الحران. و «الحفاش» «8» هو الذى يشبّ «9» حضرا ثم يرجع القهقرى. و «الرّوّاغ» «10» هو الذى يحيد فى حضره يمينا وشمالا. و «الفيوش» هو الذى يظنّ به الجرى وليس عنده شىء منه. و «الحيوص» وهو الذى يعدل يمينا وشمالا فى استقامة «11» حضره.(10/30)
و «المشتقّ» هو الذى يدع طريقه ويعدل ثم يمضى على عدوله لا يروغ. و «الشّبوب» :
الذى يقوم على رجليه ويرفع يديه. و «العاجر» و «المعاجر» : الذى يعجر برجليه كقماص الحمار. و «العدوم» و «العضوض» : الذى يعضّ ما سايره. و «الشّادخ» :
يعدل عن طريقه ولا يبالى ما ركب. و «الجرور» : البطىء. و «المنعثل» : الذى يفرّق بين قوائمه فإذا رفعها فكأنما ينزعها من وحل يخفق برأسه ولا تتبعه رجلاه. و «المجربذ» «1» :
الذى يقارب الخطو يقرّب سنابكه من الأرض ولا يرفعها رفعا شديدا. و «المساعر» «2» :
الذى يطيح قوائمه جميعا متفرّقة ولا ضبر «3» له. و «المترادّ» : الذى ينقص حضره من ابتداء جريه. و «الفاتر» إذا فتر «4» فى حضره ولم تساعده قوائمه على ما تطالبه به نفسه. و «المواكل» : الذى لا يسير إلا بسير غيره. «والخروط» : الذى يخرط رسنه عن رأسه. و «الرّموح» : الذى يرمح «5» بإحدى رجليه. و «الضّروح» : الذى يرمح بكلتيهما. قال: وهذه الزيادة على الأربعة والعشرين إنما هى من سوء العادة وفساد الرياضة.
*** وأما العيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها
- فمنها: «الانتشار» وهو انتفاخ العصب. و «الشّظى» : تحرّك «6» العظم اللّاصق بالرّكبة. و «الفتوق» :(10/31)
انفتاق من العصب على الأرضفة «1» . و «الدّخس» : ورم فى [أطرة] «2» الحافر.
و «الزوائد» : أطراف عصب تفرّق عند العجاية «3» [وتنقطع «4» عندها وتلصق بها] .
و «العرن» : «5» جسوء فى رسغ الرّجل خاصّة لشقاق أو مشقة. [ «والشقاق» :
يصيبه «6» فى أرساغه] وربما ارتفع الى أوظفته، [وهو تشقق يصيبها «7» ] ، وتسمى الحلامة «8» . «والجرد» «9» ، ما حدث فى عرض عرقوبيه ظاهرا وباطنا من تزيّد وانتفاخ عصب ويكون مع المفصل طولا كالموزة. و «الملح» «10» : انفتاق من العصب أسفل العرقوب لمادّة تنصبّ إليه كالبلّوطة «11» . و «القمع» هو عظم قمعة العرقوب. و «المشش» : كلّ ما شخص فى الوظيف وله حجم وليست له صلابة العظم. و «الارتهاش» : أن يصكّ بعرض حافره عرض عجايته من اليد الأخرى. و «الرّهصة» «12» : ما يصير فى الحافر. و «الوجا» : ما يصيب الحافر من(10/32)
الخشونة. و «الرّقق» : ضعف ورقّة فى الحافر. و «النّملة» : شقّ فى الحافر من الأشعر «1» إلى طرف السّنبك. و «السّرطان» : داء يأخذ فى الرّسغ فييبّس عروقه حتى يقلب حافره. و «العزل» : أن يعزل ذنبه فى شقّ عادة «2» . و «الخقاق» : صوت من ظبية «3» الأنثى. و «البجر» : أن تكون الرّهابة «4» غير ملتئمة فيعظم ما والاها من جلد السّرّة.
وحيث ذكرنا العيوب فلنذكر الخيل النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
ذكر أسماء خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم
أوّل فرس ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرس ابتاعه بالمدينة من رجل من بنى فزارة بعشر أواق «5» ، وكان اسمه عند الأعرابىّ «الضّرس» فسمّاه النبىّ صلى الله عليه وسلم «السّكب» . فكان أوّل ما غزا عليه أحدا، ليس مع المسلمين فرس غيره وفرس(10/33)
لأبى بردة بن نيار يقال له ملاوح. وكان السّكب كميتا أغرّ محجّلا مطلق اليمنى، وقيل: إنه أدهم. رواه الطّبرانى «1» فى المعجم الكبير.
وعن عمارة بن خزيمة الأنصارىّ أن عمّه حدّثه- وهو من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم-: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابىّ «2» ، فاستتبعه النبىّ صلى الله عليه وسلم ليقبضه ثمن فرسه، فأسرع النبىّ صلى الله عليه وسلم المشى وأبطأ الأعرابىّ؛ فطفق رجال يعترضون الأعرابىّ فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبىّ صلى الله عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابىّ فى السّوم على ثمن الفرس الذى ابتاعه به النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ فنادى الأعرابىّ النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته؛ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «بلى قد ابتعته» ؛ فطفق الناس يلوذون بالنبىّ صلى الله عليه وسلم وبالأعرابىّ وهما يتراجعان «3» ، وطفق الأعرابىّ يقول: هلمّ شهيدا يشهد أنى قد بايعتك. فمن جاء من الناس قال للأعرابىّ: ويلك! إن النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا حقّا! حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع لمراجعة النبىّ صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابىّ؛ فطفق الأعرابىّ يقول: هلمّ شهيدا يشهد أنى قد بايعتك؛ فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبىّ صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: «بم تشهد» ؟
فقال: بتصديقك يا رسول الله؛ فجعل النبىّ صلى الله عليه وسلم يقول: «شهادة(10/34)
خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين» . وفى لفظ: فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنه قد باعك الفرس يا رسول الله؛ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «وهل حضرتنا يا خزيمة» ؟ فقال: [لا؛ فقال: «1» ] «فكيف شهدت بذلك» ؛ فقال خزيمة: بأبى أنت وأمّى! يا رسول الله، أصدّقك على أخبار السماء وما يكون فى غد ولا أصدّقك فى ابتياعك هذا الفرس!. فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «إنك لذو الشهادتين يا خزيمة» .
وقد اختلف فى اسم هذا الفرس، فقال محمد بن يحيى بن سهل بن أبى حثمة:
هو «المرتجز» «2» ؛ وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه المرتجز. قال ابن الأثير:
وكان أبيض. وقال ابن قتيبة فى المعارف: المرتجز، وفى أخرى: «الطّرف» «3» ، وفى أخرى: «النّجيب» .
ومنها «البحر» ، وهو الذى سبق الخيل لمّا سابق به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسمّاه البحر فى ذلك اليوم. وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم قد اشتراه من تجر قدموا من اليمن، فسبق عليه مرّات. قال ابن الأثير: وكان كميتا، وقيل:
كان أدهم.
ومنها «سبحة» ، ذكرها ابن بنين فقال: وكانت فرسا شقراء ابتاعها النبىّ صلى الله عليه وسلم من أعرابىّ من جهينة بعشر من الإبل، وسابق عليها يوم خميس(10/35)
ومدّ الحبل بيده ثم خلّى عنها وسبح عليها؛ فأقبلت الشقراء حتى أخذ صاحبها العلم وهى تنبّر «1» فى وجوه الخيل؛ فسمّيت سبحة. وسبحة من قولهم: فرس سابح إذا كان حسن مدّ اليدين فى الجرى. وسبح الفرس: جريه.
ومنها «ذو اللّمة» ، ذكره ابن حبيب فى أفراس النبىّ صلى الله عليه وسلم.
ومنها «ذو العقّال» ، قال بعض العلماء: كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم فرس يقال له ذو العقّال. وكان له صلى الله عليه وسلم فرس يقال له «اللّحيف «2» » وقيل: «اللّخيف» بالخاء، وقيل فيه: «النّحيف» . أهداه له فروة «3» بن عمرو من أرض البلقاء، وقيل:
أهداه له ابن أبى «4» البراء، وكان صلى الله عليه وسلم يركبه فى مذاهبه. وسمّى اللّحيف لطول ذنبه.
وروى ابن منده من حديث عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن أبيه عن جدّه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفراس يسميهنّ: «اللّزاز» و «اللّحيف» و «الظّرب» . فأمّا لزاز فأهداه له المقوقس. وأما اللّحيف فأهداه له ربيعة بن أبى البراء، فأثابه عليه فرائض «5» من نعم بنى كلب. وأما الظّرب فأهداه له فروة بن عمرو بن النافرة الجذامىّ. الظّرب واحد الظّرب وهى الرّوابى «6» [الصغار] .
سمّى به لكبره وسمنه، وقيل: لقوّته وصلابة حافره.(10/36)
وأهدى تميم الدّارىّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا يقال له «الورد» ؛ فأعطاه عمر؛ فحمل عليه عمر رضى الله عنه فى سبيل الله.
وذكر علىّ بن محمد بن حنين «1» بن عبدوس الكوفىّ فى أسماء خيل النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: وكانت له أربعة أفراس: أحدها يقال له «السّكب» و «المرتجز» و «السّجل» »
و «البحر» . وقال ابن الأثير: وكان له أفراس: «المرتجز» و «ذو العقّال» و «السّكب» و «اللّحيف» و «اللّزاز» و «الظّرب» و «سبحة» و «البحر» و «الشّحاء» «3» (بالشين المعجمة والحاء المهملة) .
وحكى ابن بنين عن ابن خالويه قال: كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم من الخيل: «سبحة» و «اللّحيف» و «لزاز» و «الظّرب» و «السّكب» و «ذو اللّمّة» و «السّرحان» و «المرتجل» و «الأدهم» و «المرتجز» . وذكر فى موضع آخر:
و «ملاوح» و «الورد» و «اليعسوب» .
وذكر قاسم بن ثابت فى كتاب الدلائل: «اليعسوب» و «اليعبوب» فرسين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن سعد فى وفادات العرب عن محمد بن عمر(10/37)
قال: حدّثنى أسامة بن زيد عن زيد بن طلحة التّيمىّ قال: قدم خمسة عشر رجلا من الرّهاويين (وهم حىّ من مذحج) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فنزلوا «1» دار رملة بنت الحارث؛ فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم] فتحدّث عندهم طويلا؛ فأهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدايا، منها فرس يقال له «المرواح» ؛ فأمر به فشوّر «2» بين يديه فأعجبه؛ فأسلموا وتعلّموا القرآن والفرائض؛ وأجازهم كما يجيز الوفد: أرفعهم «3» ثنتى عشرة أوقيّة ونشّا «4» وأخفضهم «5» خمس أواق.
فقد ظهر من مجموع هذه الروايات أن خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تسعة عشر فرسا، وهى: «السّكب» و «المرتجز» و «البحر» و «سبحة» و «ذو اللّمّة» و «ذو المقّال» و «اللّحيف» - وقيل فيه بالخاء المعجمة، وقيل: «النحيف» بالنون- و «اللّزاز» و «الظّرب» و «الورد» و «السّجل» و «الشّحاء» و «السّرحان» و «المرتجل» و «الأدهم» و «ملاوح» و «اليعسوب» و «اليعبوب» و «المرواح» .
وقد يكون الأدهم هو السكب أو البحر، فتكون ثمانية عشر فرسا. والله عز وجل أعلم.(10/38)
ذكر أسماء كرام الخيل المشهورة عند العرب
من أقدم خيل العرب «زاد الرّاكب» «1» ؛ وكان من خيل سليمان بن داود عليهما السلام. حكى محمد بن السائب «2» الكلبيّ: أن الصافنات الجياد المعروضة على سليمان ابن داود صلى الله عليهما وسلم كانت ألف فرس ورثها عن أبيه؛ فلما عرضت عليه ألهته عن صلاة العصر حتى توارت الشمس بالحجاب، فردّها وعرقبها إلّا أفراسا لم تعرض عليه؛ فوفد عليه قوم من الأزد، وكانوا أصهاره، فلما فرغوا من حوائجهم قالوا: يا نبىّ الله، إنّ أرضنا شاسعة فزوّدنا زادا يبلّغنا؛ فأعطاهم فرسا من تلك الخيل وقال: اذا نزلتم منزلا فاحملوا عليه غلاما واحتطبوا، فإنكم لا تورون ناركم حتى يأتيكم بطعام؛ فساروا بالفرس، فكانوا لا ينزلون منزلا إلا ركبه أحدهم للقنص، فلا يفلت شىء تقع عينه عليه من ظبى أو بقرة أو حمار، إلى أن قدموا بلادهم؛ فقالوا:
ما لفرسنا هذا اسم إلا «زاد الراكب» فسمّوه به. فأصل فحول العرب من نتاجه.
ويقال: إن «أعوج» منها. قال امرؤ القيس:
إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى أن يأتى الصيد نحطب «3»
وقال عمارة:(10/39)
وأرى «1» الوحش عن يمينى اذا ما ... كان يوما عنانه فى شمالى
ومن خيل العرب المشهورة ما حكاه أبو علىّ الحسن بن رشيق الأزدىّ فى كتابه المترجم بالعمدة عن ابن حبيب عن أبى عبيدة قال: «الغراب» و «الوجيه» و «لاحق» و «المذهب» و «مكتوم» كانت كلّها لغنىّ.
وقال أحمد بن سعد الكاتب: كان «أعوج» أوّلا لكندة، ثم أخذته سليم، وصار لبنى [عامر «2» ] ثم لبنى هلال. قال ابن حبيب: ركب رطبا فاعوجّت قوائمه، وكان من أجود خيل العرب. وأمّه «سبل» لغنىّ. وأمّ سبل [ «سوادة» . وأم سوادة «3» ] «القسامة» «4» ، وكانت لجعدة.
وحكى أحمد بن محمد بن عبد ربّه صاحب العقد فى كتابه: أنه لما انتجته أمّه ببعض بيوت الحىّ نظروا الى طرف يضع جحفلته على كاذتها (على الفخذ مما يلى الحياء) ؛ فقالوا: أدركوا ذلك الفرس لا ينزو فرسكم؛ لعظم «أعوج» وطول قوائمه؛ فقاموا إليه فإذا هم بالمهر؛ فسمّوه «أعوج» . ولهم أيضا «الفيّاض» .
قال ابن سعد: «الوجيه» و «لاحق» لبنى أسد، «وقيد» «وحلّاب «5» » لبنى تغلب، «والصّريح» لبنى نهشل- وزعم غيره أنه كان لآل المنذر-(10/40)
و «جلوى» لبنى ثعلبة بن يربوع، و «ذو العقّال» «1» لبنى رياح بن يربوع، وهو أبو «داحس» . وكان «داحس «2» » و «الغبراء» لبنى زهير. والغبراء خالة داحس وأخته من أبيه. و «ذو العقّال» و «قرزل» و «الخطّار» و «الحنفاء «3» » لحذيفة بن بدر. والحنفاء هى أخت داحس من أبيه وأمه. و «قرزل» آخر للطّفيل «4» بن مالك. و «حذفة» «5» لخالد بن جعفر بن كلاب. و «حذفة» أيضا لصخر بن عمرو بن الشّريد. و «الشّقراء» لزهير بن جذيمة العبسىّ.(10/41)
و «الزّعفران» لبسطام بن قيس. و «الوريعة «1» » و «نصاب» و «ذو الخمار «2» » لمالك بن نويرة. و «الشّقراء» أخرى لأسيد بن حنّاءة «3» . و «الشّيّط «4» » لأنيف بن جبلة «5» الضّبّىّ. و «الوحيف» «6» لعامر بن الطّفيل. و «الكلب» و «المزنوق» «7»(10/42)
و «الورد» «1» له أيضا. و «الخنثى» «2» لعمرو بن عمرو بن عدس. و «الهدّاج» «3» فرس الرّيب «4»(10/43)
ابن شريق السّعدى و «وجزة» «1» فرس يزيد «2» بن سنان المرّى فارس غطفان.
و «النّعامة» «3» للحارث بن عباد. «4» و «ابن النّعامة» لعنترة. و «النّحّام» «5» فرس للسّليك ابن السّلكة السّعدىّ. و «العصا» «6» فرس جذيمة بن مالك الأزدىّ. و «الهراوة» «7»(10/44)
لعبد القيس بن أفصى. و «اليحموم» «1» فرس النّعمان بن المنذر. و «كامل» «2» فرس زيد الخيل. و «الزّبد» «3» فرس الحوفزان وهو أبو «الزّعفران» فرس بسطام.
و «الحمالة» «4» فرس الكلحبة اليربوعى. هذا ما أورده أحمد بن سعد.(10/45)
وقال ابن دريد: «القطيب» «1» و «البطين» «2» فرسان كانا للعرب. و «اللّعّاب» «3» و «العباية» «4» فرسا حرّىّ «5» بن ضمرة. و «المدعاس» «6» فرس النّوّاس «7» بن عامر(10/46)
المجاشعى. و «صهبى» «1» فرس النّمر بن تولب. و «حافل» فرس «2» مشهور. و «العسجدى» «3» لبنى أسد. و «الشّموس» «4» فرس يزيد بن خذّاق «5» العبدىّ. و «الضّيف» «6» لبنى تغلب. و «هراوة العزّاب» «7» فرس الرّيّان بن حويص العبدىّ «8» ، يقال إنها جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدّق بها على العزّاب يتكسّبون عليها فى السّباق(10/47)
والغارات. و «الحرون» «1» فرس تنسب اليه الخيل، وكان لمسلم بن عمرو بن أسد الباهلىّ. و «الزائد» فرس مشهور وهو من نسل الحرون. «ومناهب» فرس تنسب اليه الخيل أيضا، قال الشّمردل «2» :
[تلقى «3» الجياد المقربات «4» فينا] ... لأفحل ثلاثة ينمينا
«مناهبا» و «الضّيف» و «الحرونا»
و «العلهان» «5» فرس أبى مليل «6» عبد الله بن الحارث اليربوعى.
هذا ما اتفق إيراده من أسماء كرام الخيل ومشهورها. فلنذكر ما ورد فى أوصافها وتشبيهها.
ذكر ما قيل فى أوصاف الخيل وتشبيهها نظما ونثرا
أوّل من شبّه الفرس بالظبى والسّرحان والنّعامة، ثم اتّبعه الشعراء وحذوا مثاله واقتدوا به، هو امرؤ القيس بن حجر حيث قال:(10/48)
له أيطلا «1» ظبى وساقا نعامة ... وإرخاء «2» سرحان وتقريب تتفل «3»
كأنّ على المتنين «4» منه اذا انتحى ... مداك عروس أو صراية حنظل
مكّر مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطّه السّيل من عل
درير «5» كخذروف «6» الوليد أمرّه «7» ... تقلّب كفّيه بخيط موصّل
كميت يزلّ اللّبد عن حال «8» متنه ... كما زلّت الصّفواء «9» بالمتنزّل «10»
وقال أيضا:
وأركب فى الرّوع خيفانة «11» ... كسا وجهها سعف «12» منتشر(10/49)
لها حافر مثل قعب «1» الولي ... د ركّب فيه وظيف «2» عجر «3»
لها عجز كصفاة «4» المسي ... ل أبرز «5» عنها «6» حجاف «7» مضرّ
لها ذنب مثل ذيل العرو ... س تسدّ به فرجها من دبر
لها جبهة كسراة «8» المجنّ ... حذّفه «9» الصانع المقتدر
إذا أقبلت قلت دبّاءة «10» ... من الخضر مغموسة فى الغدر
وإن أعرضت قلت سرعوفة «11» ... لها ذنب خلفها مسبطرّ «12»
وإن أدبرت قلت أثفيّة ... ململمة ليس فيها أثر «13»(10/50)
وقال أبو داود «1» الإيادى [يصف فرسا «2» ] :
له ساقا ظليم خا «3» ... ضب فوجئ بالرّعب
حديد الطّرف والمنك ... ب والعرقوب والقلب
وقال آخر:
له صدر طاوس وفخذ نعامة ... ووثبة نمر والتفات غزال
وأعجب من ذا كلما حطّ حافرا ... يخطّ هلالا من وراء هلال
وقال البحترىّ وكان وصّافا للخيل:
وأغرّ فى الزمن البهيم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجّل
كالهيكل المبنىّ إلا أنه ... فى الحسن جاء كصورة فى هيكل
ذنب كما سحب الرّداء يذبّ عن ... عرف، وعرف كالقناع المسبل
جذلان ينفض عذرة «4» فى غرّة ... يقق «5» تسيل حجولها فى جندل
كالرائح النّشوان أكثر مشيه ... عرضا «6» على السّنن البعيد الأطول
تتوّهم الجوزاء فى أرساغه ... والبدر «7» غرّة وجهه المتهلّل(10/51)
صافى الأديم كأنّما عنيت «1» به ... لصفاء نقبته «2» مداوس «3» صيقل
وكأنما نفضت عليه صبغها ... صهباء للبردان «4» أو قطر بلّ «5»
وتخاله «6» كسى الخدود نواعما ... مهما تواصلها بلحظ تخجل
وتراه يسطع فى الغبار لهيبه ... لونا وشدّا «7» كالحريق المشعل
هزج الصّهيل كأنّ فى نغماته ... ن؟؟؟ رات معبد «8» فى الثّقيل الأوّل
ملك العيون فإن بدا أعطينه ... نظر [المحبّ «9» ] إلى الحبيب المقبل
وكتب إلى محمد «10» بن حميد [بن عبد «11» الحميد] الطّوسىّ يستهديه فرسا، ووصف له أنواعا من الخيل؛ فقال من أبيات:(10/52)
فأعن على غزو العدوّ بمنطو ... أحشاؤه طىّ «1» الرّداء المدرج
إمّا بأشقر ساطع أغشى الوغى ... منه بمثل الكوكب المتأجّج
متسربل شية طلت أعطافه ... بدم فما تلقاه غير مضرّج
أو أدهم صافى الأديم «2» كأنه ... تحت الكمىّ مظهّر بيرندج «3»
ضرم يهيج السّوط من شؤبوبه «4» ... هيج الجنائب «5» من حريق العرفج «6»
خفّت مواقع وطئه فلو أنّه ... يجرى برملة عالج «7» لم يرهج «8»
أو أشهب يقق يضىء وراءه ... متن كمتن اللّجّة المترجرج
تخفى الحجول ولو بلغن لبانه «9» ... فى أبيض متألّق كالدّملج «10»(10/53)
أوفى بعرف أسود متفرّد» ... فيما يليه وحافر فيروزجى
أو أبلق ملأ العيون إذا بدا ... من كلّ لون معجب بنموذج
جذلان تحسده الجياد إذا مشى ... عنقا «2» بأحسن حلّة لم تنسج
وعريض أعلى المتن لو علّيته ... بالزّئبق المنهال لم يتدحرج «3»
خاضت قوائمه الوثيق «4» بناؤها ... أمواج تحنيب «5» بهنّ مدرّج
ولأنت أبعد فى السماحة «6» همّة ... من أن تضنّ بملجم «7» أو مسرج
وقال أيضا يصف فرسا أدهم:
بأدهم «8» كالظلام أغرّيجلو ... بغرّته دياجير الظلام
ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق فى جون «9» الغمام(10/54)
وقال أيضا فى أدهم:
أمّا الجواد فقد بلونا يومه ... وكفى بيوم مخبرا عن عامه
جارى الجياد فطار عن أوهامها ... سبقا وكاد يطير عن أوهامه
جذلان تلطمه «1» جوانب غرّة ... جاءت مجىء البدر عند تمامه
واسودّ ثم صفت لعينى ناظر ... جنباته فأضاء فى إظلامه
مالت نواحى عرفه فكأنّها ... عذبات أثل مال تحت حمامه
ومقدّم الأذنين تحسب أنّه ... بهما يرى الشخص الذى لأمامه
وكأنّ فارسه وراء قذاله ... ردف فلست تراه من قدّامه
لانت معاطفه فخيّل أنه ... للخيزران مناسب لعظامه
فى شعلة كالشّيب مرّ بمفرقى ... غزل لها «2» عن شيبه بغرامه
وكأن صهلته إذا استعلى بها ... رعد يقعقع فى ازدحام غمامه
مثل الغراب غدا «3» يبارى صحبه ... بسواد صبغته وحسن قوامه
والطّرف أجلب زائر لمؤونة ... ما لم تزره بسرجه ولجامه
وقال علىّ بن الجهم:
فوق طرف «4» كالطّرف فى سرعة الطّر ... ف وكالقلب قلبه فى الذكاء
لا تراه العيون إلّا خيالا ... وهو مثل الخيال فى الانطواء(10/55)
وقال العباس بن مرداس:
جاء كلمع البرق سام «1» ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمسّ الأرض منه حافره
وقال أبو الطيّب المتنّبى:
وجردا «2» مددنا بين آذانها القنا ... فبتن خفافا يتّبعن العواليا
تماشى بأبد كلّما وافت الصّفا «3» ... نقشن به صدر البزاة حوافيا
وينظرن من سود «4» صوادق فى الدّجى ... يرين بعيدات الشّخوص كما هيا
وتنصب للجرس «5» الخفىّ سوامعا ... يخلن مناجاة الضمير تناديا
تجاذب فرسان الصّباح «6» أعنّة «7» ... كأن على الأعناق منها أفاعيا(10/56)
وقال أيضا:
وجياد «1» يدخلن فى الحرب أعرا «2» ... ء ويخرجن من دم فى جلال
واستعار الحديد لونا وألقى ... لونه فى ذوائب الأطفال «3»
وقال أبو الطيّب أيضا:
ويوم «4» كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيّان تغرب
وعينى على «5» أذنى أغرّ كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب
له فضلة عن جسمه فى إهابه «6» ... تجىء على صدر رحيب وتذهب
شققت به الظّلماء أدنى عنانه ... فيطغى «7» وأرخيه مرارا فيلعب(10/57)
وأصرع أىّ الوحش قفّيته «1» به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
وقال أيضا يصف فرسا:
إن أدبرت قلت لا تليل «2» لها ... أو أقبلت قلت ما لها كفل
وقال أبو الفرج الببغّاء:
إن لاح قلت أدمية أم هيكل ... أو عنّ قلت أسابح أم أجدل «3»
تتخاذل الألحاظ فى إدراكه ... ويحار فيه الناظر المتأمّل
فكأنه فى اللطف فهم ثاقب ... وكأنه فى الحسن حظّ مقبل «4»
وقال أيضا من أبيات:
رماهم بألحاظ الجياد ولم تكن ... لينأى عليها المنزل المتباعد
من اللّاء يهجرن المياه لدى السّرى ... ويعتضن شمّ الجوّ والجوّ راكد
مرنّ على لذع» القنا فكأنما ... عليهن من صبغ الدّماء مجاسد «6»
نسجن ملاء النّقع ثم خرقنه «7» ... بكرّ لها منه إلى النصر قائد
عليهنّ من نسج الغبار غلائل ... رقاق ومن نضح الدماء قلائد(10/58)
وقال أبو الفتح كشاجم:
ماء تدفّق طاعة وسلاسة ... فإذا استدرّ الحضر منه فنار
وإذا عطفت به على ناورده «1» ... لتديره «2» فكأنه بركار «3»
قصرت قلادة نحره وعذاره ... والرّسغ، وهى من العتيق قصار
يرد الضّحاضح «4» غير ثان سنبكا «5» ... ويرود طرفك خلفه فيحار
لو لم تكن للخيل نسبة خلقه ... خالته من أشكالها الأطيار
وقال آخر:
وأقبّ «6» تحمله رياح أربع ... لولا اللّجام لطار فى الميدان
من جملة العقبان «7» إلّا أنّه ... من حسنه فى طلعة الغزلان
يمشى إلى ميدانه متبخترا ... من تيهه كتبختر النّشوان
وقال ابن المعتزّ:
وخيل طواها القود «8» حتى كأنّها ... أنابيب سمر من قنا الخطّ ذبل(10/59)
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل «1»
وقال أبو بكر الصّنوبرىّ:
طرف نأت سماؤه عن أرضه ... وما نأى كاهله عن الكفل
ذو أربع من أربع من القبو ... ل والدّبور والجنوب والشّمل
وهو إذا أعملها ألفى لها «2» ... فوق الذى يطلبه من العمل
كالبرق إن أومض أو كالرّعد إن ... أجلب «3» أو صوب الحيا «4» إذا احتمل
وقال آخر:
يجرى فيبعد من مدّى متقارب ... أبدا ويدنو من مدى متباعد
إن سار فهو غدير ماء مائج ... أو قام «5» فهو غدير ماء جامد
وقال أبو الفضل الميكالى:
خير ما استطرف الفوارس طرف ... كلّ طرف بحسنه مبهوت
هو فوق الجبال وعل وفى السه ... ل نعام وفى المعابر حوت
وقال آخر:
وطرف إذا ما جرى خلته ... عقابا من الوكر يبغى المزارا
ترى فى الجبين له سوسنا «6» ... وتلمح فى لونه الجلّنارا «7»(10/60)
ويمشى على الماء من خفّة ... ويقدح فى الجلمد الصخر نارا
فلو كان يبغى به راكب «1» ... إلى مطلع الشمس سيرا لطارا
وقال عبد الجبّار بن حمديس:
ومجرّر فى الأرض ذيل عسيبه ... حمل الزبرجد منه جسم عقيق
يجرى ولمع «2» البرق فى آثاره ... من كثرة الكبوات غير مفيق
ويكاد يخرج سرعة من ظلّه ... لو كان يرغب فى فراق رفيق «3»
وقال ابن طباطبا:
عجبا لشمس أشرقت فى وجهه ... لم تمح منه دجى الظلام المطبق
وإذا تمطّر «4» فى الرّهان رأيته ... يجرى أمام الريح مثل مطرّق «5»
وقال تاج الملوك بن أيّوب:
وخيل كأمثال السّعالى «6» شوازب «7» ... تكاد بنا قبل المجال تجول
سوابق تكبو الريح قبل لحاقها ... لها مرح «8» من تحتنا وصهيل
وقال إبراهيم بن خفاجة يصف فرسا أشهب:
ربّ طرف كالطّرف ساعة عدو ... ليس يسرى سراه طيف الخيال(10/61)
إن سرى فى الدّجى فبعض الدّرارى ... أو سعى فى الفلا فإحدى السّعالى
لست أدرى إن قيد ليلة أسرى ... أو تمطّيته غداة قتال
أجنوب تقتاد لى أم جنيب «1» ... أم شمال عنانها بشمالى
أشهب اللّون أثقلته جلىّ ... خبّ «2» فيهن وهو ملقى الجلال «3»
فبدا الصبح ملجما بالثّريّا ... وجرى البرق مسرجا بالهلال
وقال أيضا فى أشهب:
وظلام ليل لا شهاب بأفقه ... إلّا لنصل مهنّد أو لهذم
لا طمت لجّته بموجة أشهب ... يرمى بها بحر الظلام فيرتمى
قد سال فى وجه الدّجنّة غرّة ... فالليل فى شبه الأغرّ الأدهم
أطلعت منه ومن سنان أزرق ... ومهنّد عضب ثلاثة أنجم
وقال أبو الصّلت يصف فرسا أشهب:
وأشهب كالشّهاب أضحى ... يجول فى مذهب الجلال
قال حسودى وقد رآه ... يجنب خلفى إلى القتال
من ألجم الصبح بالثريّا ... وأسرج البرق بالهلال
وقال ابن خفاجة وقد أهدى مهرا بهيما:
تقبّل المهر من أخى ثقة ... أرسل ريحا به الى المطر
مشتملا بالظلام من شية ... لم يشتمل ليلها على سحر
منتسبا لونه وغرّته ... الى سواد الفؤاد والبصر(10/62)
تحسبه من علاك مسترقا ... بهجة مرأى وحسن مختبر
حنّ إلى راحة نهيض ندى ... فمال ظلّ به على نهر
ترى به والنشاط يحفزه ... ما شئت من فحمة ومن شرر
لو «1» حمل الليل حسن دهمته ... أمتع طرف المحبّ بالسّهر
أحمى من النجم يوم معركة ... ظهرا وأجرى به من القدر
اسودّ، وابيضّ فعله كرما ... فالتفت الحسن فيه عن حور
فازدد سنا بهجة بدهمته ... فاللّيل أذكى لغرّة القمر
ومثل شكرى على تقبّله ... يجمع بين النسيم والزّهر
وقال فى فرس أشقر:
ومطهّم شرق الأديم كأنما ... ألفت معاطفه النجيع «2» خضابا
طرب إذا غنّى الحسام، ممزّق ... ثوب العجاجة جيئة وذهابا
قدحت يد الهيجاء منه بارقا ... متلهّبا يزجى القتام سحابا
[ورمى الحفاظ به شياطين العدا ... فانقضّ فى ليل الغبار شهابا «3» ]
بسّام ثغر الحلى تحسب أنّه ... كأس أثار بها المزاج حبابا
و «4» قال فى أدهم أغرّ محجّل:
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتصّ منه فخاض فى أحشائه(10/63)
وقال ابن نباتة «1» السّعدىّ فى أدهم:
وأدهم يستمدّ الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريّا
سرى خلف الصباح يطير مشيا ... ويطوى خلفه الأفلاك طيّا
فلمّا خاف وشك الفوت منه «2» ... تعلّق بالقوائم والمحيّا
وقال فى فرس أدهم أغرّ محجّل أهدى له:
قد جاءنا الطّرف الذى أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه «3»
أولاية ولّيتنا فبعثته ... رمحا سبيب العرف عقد لوائه
تختال منه على أغرّ محجّل ... ماء الدّياجى قطرة من مائه
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتصّ منه فخاض فى أحشائه
متمهّلا والبرق من أسمائه ... متبرقعا والحسن من أكفائه
ما كانت النيران يكمن حرّها ... لو أن للنيران بعض ذكائه
لا تعلق الألحاظ فى أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه(10/64)
وقال محمد بن الحسين «1» الفارسىّ النحوىّ أحد شعراء اليتيمة فى فرس أدهم أغرّ:
ومطهّم ما كنت أحسب قبله ... أنّ السروج على «2» البوارق توضع
وكأنما الجوزاء حين تصوّبت ... لبب عليه والثريّا برقع
طرائف فى ذم الخيل بالهزال والعجز عن الحركة
كتب بعضهم إلى صديق له:
ما فعلت حجرك «3» تلك التى ... أفضل من فارسها الرّاجل
عهدى بها تبكى وتشكو الضّنى ... لما احتشاه البدن الناحل
وهى تغنّينى غنا صبّة ... غايتها وجدان ما تاكل:
يا ربّ لا أقوى على كلّ ذا ... موت وإلّا فرج عاجل
وقال آخر:
يا نصر حجرك أبلى الجوع جدّتها ... وأصبحت شبحا تشكو تجافيكا(10/65)
إذا رأت تبنة قالت مجاهرة ... يا تبن لى حسرة ما تنقضى فيكا
ترجوه طورا وتبكى منه آيسة ... حتى إذا عرضت باتت تغنّيكا:
هذى- فديتك- حالى قد علمت بها ... فلم يكون الجفا أفديك أفديكا
وقال آخر:
أعطيتنى شهباء مهلوبة «1» ... تذكر نمروذ «2» بن كنعان
سفينة الحشر إلى عدوها ... أسبق من أشقر «3» مروان
كأننى منها على زورق ... بلا مجاديف وسكّان «4»
فانظر إلى حجرى ترى شهرة ... أخبارها جامع «5» سفيان
وقال آخر:
حملتنى فوق مقرف زمن ... ليس لذى رحلة بنفّاع
جلد على أعظم محلّلة ... فليس يمشى إلّا بدفّاع
كأننى إذ علوت صهوته ... ركبت منه سرير فقّاع «6»(10/66)
وكتب زهير بن «1» محمد الكاتب:
وفرس على المسا ... وى كلّها محتويه
راكبها فى خجلة ... كأنه فى مخزيه
مستقبحا ركوبها ... مثل ركوب المعصية
فما مساويها لمن ... عدّدها مستويه
يا قبحها مقبلة ... وقبحها مولّيه
وقال برهان الدين ابن الفقيه نصر:
لصاحب الديوان برذونة «2» ... بعيدة العهد من القرط «3»
إذا رأت خيلا على مربط ... تقول سبحانك يا معطى
تمشى إلى خلف إذا ما مشت ... كأنها تكتب بالقبطى
*** هذا ما اتّفق إيراده مما قيل فى أوصاف الخيل من النظم. فلنذكر ما وصفت به فى الرسائل المنثورة، والفقر المسجوعة، والألفاظ المزدوجة؛ مع ما يتصل بذلك من الأبيات فى ضمنها.(10/67)
فمن ذلك ما حكى أن المهدىّ سأل مطر بن درّاج عن أىّ الخيل أفضل؛ فقال: الذى إذا استقبلته قلت نافر، وإذا استدبرته قلت زاخر «1» ، وإذا استعرضته قلت زافر «2» . قال: فأىّ هذه أفضل؟ قال: الذى طرفه إمامه، وسوطه عنانه.
ومن هذا أخذ المتنبى وعلىّ بن جبلة والعسكرىّ. فقال المتنبى:
إن أدبرت «3» قلت لا تليل لها
وقد تقدّم.
وقال علىّ بن جبلة:
تحسبه أقعد فى استقباله ... حتى إذا استدبرته قلت أكبّ
وقال أبو هلال العسكرىّ:
طرف إذا استقبلته قلت حبا ... حتى إذا استدبرته قلت كبا
ووصف أعرابىّ فرسا أجرى فى حلبة فقال لما أرسلت الخيل: جاءوا بشيطان، فى أشطان «4» ؛ فأرسلوه فلمع لمع البرق، واستهلّ استهلال الودق «5» ؛ فكان أقرب الخيل إليه، تقع عينه من بعد عليه.(10/68)
ووصف محمد بن الحسين بن الحرون فرسا فقال: هو حسن القميص، جيّد الفصوص «1» ؛ وثيق القصب، نقىّ العصب؛ يبصر بأذنيه، ويتبوّع «2» بيديه، ويداخل رجليه.
ووصف أخر فرسا فقال: الريح أسيرة يديه، والظّليم «3» فريسة رجليه؛ إن حرّ «4» استعر فى التهابه، وإن جدّ مرق من إهابه.
وكتب عبد الله بن طاهر إلى المأمون مع فرس أهداه اليه: قد بعثت إلى أمير المؤمنين فرسا يلحق الأرنب فى الصّعداء، «5» ويجاوز الظباء فى الاستواء، ويسبق فى الحدور جرى الماء؛ إن عطف حار، وإن أرسل طار؛ وإن حبس صفن «6» ، وإن استوقف فطن؛ فهو كما قال تأبّط شرّا:
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحى ... بمنخرق من شدّه المتتابع
ووصف آخر فرسا فقال: كأنه إذا علا دعاء، وإذا هبط قضاء. كأنه محلول من قول الشاعر فى صفة فرس:
مثل دعاء مستجاب إن علا ... أو كقضاء نازل إذا هبط
ووصف أيّوب بن القرّيّة فرسا فقال: أسيل الخدّ، حسن القدّ؛ يسبق الطّرف، ويستغرق الوصف.(10/69)
وقال محمد بن عبد الملك لصديق له: ابغ لى فرسا برذونا، وثيق اليدين، قائم الأذنين، ذكر العينين، يأنف من تحريك الرجلين.
ومن الكلام الجيّد فى وصف الخيل ما أنشأه الشيخ ضياء الدين بن القرطبىّ من رسالته التى كتبها إلى الصاحب الوزير شرف الدين الفائزىّ، وقد تقدّم ذكرها فى باب الكتّاب فى الرسائل، فلا فائدة فى إعادتها؛ وإنما أوردنا ذكر الخيل هناك لأن الرسالة تشتمل على أوصاف الخيل والعساكر والسلاح وغير ذلك، فأردنا بإيرادها بجملتها ثم أن يكون الكلام فيها سياقه يتلو بعضه بعضا. وهذه الرسالة فى السّفر السابع «1» من هذه النسخة.
*** ومن إنشاء المولى الفاضل العالم الأديب البليغ شهاب الدين أبى الثّناء محمود ابن سليمان الحلبى الكاتب رسالة «2» فى الخيل عملها تجربة ورياضة لخاطره، ولم يكتب بها «3» ؛ سمعتها من لفظه، ونقلتها من خطّه؛ وهى:
أدام الله إحسان الجناب الفلانى، ولا زالت الآمال فى أمواله محكّمه، والأمانى كالمحامد فى أبوابه مخيّمه، والمعالى كالعوالى إليه دون غيره مسلّمه، والمكارم تغريه فى الندى حتى يبذل ما حبّب إليه من الخيل المسوّمه. المملوك يقبّل اليد التى ما زالت بسطتها فى الكرم عليّه، وقبضتها بتصريف أعنّة الزمن مليّه؛ ومواهبها تتنوّع فى الندى، ومذاهبها فى الكرم تهب الأولياء ما تهابه العدا. وينهى وصول(10/70)
ما أنعم به من الخيل التى وجد الخير فى نواصيها، وادّخرت صهواتها حصونا «1» يعتصم فى الوغى بصياصيها:
فمن أشهب غطّاه النهار بحلّته، وأوطأه الليل على أهلّته؛ كأنّ أذنه جلفة «2» قلم، أو شقّة جلم؛ يدرك بها الوهم، ويحقّق فى الليل البهيم مواقع السهم؛ يتموّج أديمه ريّا؛ ويتأرّج ريّا، ويقول من استقبله فى حلى لجامه: هذا الفجر قد طلع بالثريّا؛ إن التفّت المضايق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مرّ مرور الغيم؛ كم أبصر فارسه يوما أبيض بطلعته، وكم عاين [طرف «3» السّنان] مقاتل العدا فى ظلام النّقع بنور أشعّته؛ لا يستنّ داحس «4» فى مضماره، ولا تطمع الغبراء فى شقّ غباره، ولا يظفر لاحق من لحاقه بسوى آثاره؛ تسابق يداه مرامى طرفه، ويدرك شوارد البروق ثانيا من عطفه.
ومن أدهم حالى الشّكيم، حالك الأديم، له مقلة غانية وسالفة ريم؛ قد ألبسه الليل برده، وأطلع بين عينيه سعده؛ يظنّ من نظر إلى سواد طرّته، وبياض حجوله وغرّته؛ أنه توهّم النهار نهرا فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضه؛ ليّن الأعطاف، سريع الانعطاف؛ يقبل كالليل، ويكرّ كجلمود صخر حطّه السّيل؛ يكاد يسبق ظلّه، وإذا جارى السهم إلى غرض بلغه قبله.
ومن أشقر غشّاه البرق بلهبه، ووشّاه الأصيل بذهبه؛ يتوجّس مالديه برقيقتين، وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذار لجامه من سالفتيه على(10/71)
شقيقتين؛ له من الرّاح لونها، ومن الرياح لينها؛ إن جرى فبرق خفق، وإن أسرع «1» فهلال على شفق؛ لو أدرك أوائل حرب ابنى وائل لم يكن للنّعامة «2» نباهه، ولا للوجيه وجاهه، ولكان «3» ترك إعارة سكاب «4» لؤما وتحريم بيعها سفاهه؛ يركض ما وجد أرضا، ولو اعترض [به «5» ] راكبه بحرا وثبه عرضا.
ومن كميت نهد، كأنّ راكبه فى مهد؛ عندمىّ الإهاب، شمالىّ الذّهاب؛ «يزلّ الغلام «6» الخفّ عن صهواته» ، وكأنّ نغم الغريض ومعبد فى لهواته؛ قصير المطا «7» ، فسيح الخطا؛ إن ركب لصيد قيّد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحش اللّوابد؛ وإن جنب إلى حرب لم يزورّ من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علّم الكلام بلسانه، ولم يردون بلوغ الغاية- وهى ظفر راكبه- ثانيا من عنانه؛ وإن سار فى سهل اختال براكبه كالثّمل، وإن أصعد فى جبل طار فى عقابه كالعقاب وانحطّ فى مجاريه كالوعل؛ متى ما ترقّ العين فيه تسهّل، ومتى أراد البرق مجاراته قال له الوقوف عند قدره: ما أنت هناك فتمهّل.(10/72)
ومن حبشىّ أصفر يروق العين، ويشوق القلب بمشابهته العين «1» ؛ كأنّ الشمس ألقت عليه من أشعّتها جلالا، وكأنه نفر من الدّجى فاعتنق منه عرفا واعتلق أحجالا؛ ذى كفل يزين سرجه، وذيل يسدّ إذا استدبرته منه فرجه؛ قد أطلعته الرياضة على مراد فارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع قلائده وتوشيع ملابسه؛ له من البرق خفّة وطئه وخطفه؛ ومن النسيم لين طروقه «2» ولطفه، ومن الريح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه؛ يطير بالغمز، ويدرك بالرّياضة مواقع الرّمز، ويغدو كألف الوصل فى استغنائه مثلها عن الهمز.
ومن أخضر له من الروض تفويفه، ومن الوشى تقسيمه وتأليفه؛ قد كساه الليل والنهار حلّتى وقار وسنا، واجتمع فيه من البياض والسواد ضدّان لمّا استجمعا حسنا؛ ومنحه البازى حلّة وشيه، وأعطته «3» نفوح الرياح ونسماتها قوّة ركضه وخفّة مشيه؛ يعطيك أفانين الجرى قبل سؤاله، ولمّا لم يسابقه شىء من الخيل أغراه حبّ الظّفر بمسابقة خياله؛ كأنه تفاريق شيب فى سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدّجى، فما سجى، ومازج ظلامه النهار، فما أنار؛ يختال لمشاركة اسم الجرى بينه وبين الماء فى شدّة السّير كالسيل، ويدلّ بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللّوامع وبين البرقيّة من الخيل، ويكذّب المانويّة «4» لتولّد اليمن فيه بين إضاءة النهار وظلمة الليل.
ومن أبلق ظهره حرم، وجريه ضرم؛ إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صرّف فى حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفعله ما تريد الكفّ(10/73)
والقدم؛ قد طابق الحسن البديع بين ضدّى لونه، ودلّت على اجتماع النّقيضين علّة كونه؛ وأشبه زمن الرّبيع باعتدال الليل فيه والنهار، وأخذ وصف حلّتى الدّجى فى حالتى الإبدار والسّرار؛ «1» لا تكلّ مناكبه، ولا يضلّ فى حجرات «2» الجيوش راكبه، ولا يحتاج ليلة المشرق بمجاورة نهاره إلى أن تسترشد فيه كواكبه؛ ولا يجاريه الخيال فضلا عن الخيل، ولا يملّ السّرى إلّا إذا ملّ مشبهاه: النهار والليل، ولا تتمسّك البروق اللوامع من لحاقه بسوى الأثر فإن جهدت فبالذّيل؛ فهو الأبلق الفرد، والجواد الذى لمجاريه العكس وله الطّرد؛ قد أغنته شهرة نوعه فى جنسه عن الأوصاف، وعدل بالرياح عن مباراته سلوكها «3» له فى الاعتراف جادّة الإنصاف.
فترقّى المملوك إلى رتب العزّ من ظهورها، وأعدّها لخطبة الجنان إذ الجهاد على «4» مثلها من أنفس مهورها؛ وكلف بركوبها فكلّما أكمله عاد، وكلّما أمّله شره إليه فلو أنه زيد «5» الخيل لما زاد؛ ورأى من آدابها ما دل على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنها ليومى سلمه وحربه حنيّة «6» الصائد وجّنة الصائل؛ وقابل إحسان مهديها بثنائه ودعائه، وأعدّها [فى الجهاد «7» ] لمقارعة أعداء الله تعالى عليها وأعدائه؛ والله تعالى(10/74)
يشكر برّه الذى أفرده فى الندى بمذاهبه، وجعل الصّافنات الجياد من بعض مواهبه.
والله أعلم بالصواب.
*** ومن إنشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى «1» بن عبد المجيد اليمانى رسالة فى مثل ذلك أنشأها فى سنة ستّ أو خمس وسبعمائة. وسمعتها من لفظه، ونقلتها من إملائه؛ وهى:
يقبّل اليد العالية الفلانيّة، لا زالت ترسل إلى الأولياء سحائب كرمها، وتقلّد الأودّاء قلائد نعمها، ولا برح المرهفان طرازى حاشيتها وخدمها، حتى ينوب القلم عن صليل مرهفها والصّمصام عن صرير قلمها، لتتساوى فى الإنفاذ مواقع كلمها ومراسم كلمها؛ ولا فتئ ظاهرها قبلة القبل وغاية الآمال، وباطنها مورد الكرم ومصدر الأموال.
وينهى أنه لما كانت العزائم الفلانيّة طامحة إلى أسنى المعالى، مطلعة من مناقبها أهلّة تخجل بدور الليالى؛ متيّمة باكتساب المفاخر، عميدة بتشييد المآثر؛ مائلة الى ما يزيّن المقانب «2» ، ويطرّز الكتائب؛ مصغية إلى ما يرد جنابها من جنايتها لا غير «3» ،(10/75)
وكيف لا تكون كذلك وحبّ الخيل من الخير؛ ناظرة إلى ما يصل من كرائمها، مهتدية بنجوم غررها مشغوفة بتحجيل قوائمها؛ عاشقة لاتساع صدورها، ورقّة نحورها.
خدم المملوك الرّكاب العالى بإنفاذ خيل اتّحدت فى الصفات، وتباينت فى الشّيات؛ وصدرت كروضة تفتّحت أزهارها، وزها نوّارها، وأشرقت أنوارها؛ بل كعرائس تختال فى برودها، أو كجواهر تنافست فى عقودها؛ ملكتها يمين المملوك فكانت كعدد أصابعها، وأحرزتها همّته فنزعت فى الحزم إلى منازعها؛ لها من الظباء أعناقها، ومن النعام أسواقها «1» ؛ ومن البأس قوة جنانها، ومن الظفر مثنى عنانها؛ ومن الإقبال غرر نواصيها، ومن إدراك الغرض جلّ أمانيها؛ ذوات ضبح «2» ، وموريات «3» قدح؛ تكبو الريح فى غاياتها، ويقرّ البرق بمعجزاتها؛ مداخلة الخلق رحبة اللّبان «4» ، مستغنية عن الهمز بتحريك العنان؛ تقارب ما بين قطاها «5» ومطاها «6» ، وتباعد ما بين قذالها «7» وصلاها؛ «8» سما عنقها وأطرق جبينها «9» ، وتنزّهت عن المعايب فلا صكك «10» يشينها؛ يا حبّذا أشهبها وقد تجلّلت بالشّهب ذاته، وادّرعت أشهب الصبح شياته؛ زبرجدىّ الحافر لؤلؤىّ الأديم، له أيطلا ظبى وساقا ظليم «11» ؛ كغمامة بارقها قدح سنابكه، أو كسيل طمّ مفعمه واسع مسالكه؛ استغنى بجوهر شياته عن كل مذهب،(10/76)
فما لمذهب فى الانتساب عنه مدهب؛ إن امتطى الفارس قطاته طار بنسر حافره، وإن أشار إلى غرض أدركه بمجرّد الوهم لا بالنظر إلى ناظره؛ أميال البيداء كميل بين عينيه، وترادف رمالها كذرور بين جفنيه؛ استولى على السّبق «1» وأحرز خصله، وكيف لا وقد حاز اثنتى عشرة خصله.
يتلوها أشقرها وقد نجّد «2» عقيقا، أو التحف شقيقا «3» ؛ أو كوجنة قد احمرّت من الخجل، أو كوردة ناظرت بخفرها نرجس المقل؛ تناسبت أجزاؤه فى الملاحه، وتساوت مراتبه فى الصّباحه؛ وجاهة الوجيه ناطقة من المحيّا، ومسيل غرّته كتصويب الثريّا؛ حجّل بالجوزاء وأسرج بالهلال، وألجم بالمجرّة فما لابن ذكاء «4» فى الإشراق عليه مجال؛ إن أطلق والريح فى سنن ميدان، رأيت الريح ككميت خلّفته الجياد يوم الرّهان؛ تنهب الفلاة حوافره، وتحرز قصب السبق بوادره. يتبعه كميت كقطعة جمر، أو ككأس خمر؛ اسودّ ذنبه وعرفه، واختال كالنّشوان فكأنما أسكره وصفه؛ حكت أذناه قادمتى حمامه، أو المحرّف من أقلام قدامه؛ قصرت عن سعيه الخيول فسابق الظّلال، ونشأ مع النّعام فلا يألف غير الرّئال؛ كأنّ الصّبا ألقت إليه عنانها قسرا، فتخبّ بسرجه مرّة وتناقل أخرى. مقرونا بأصفر كالدّينار، قد أفرغت عليه حلّة نور لا نار؛ طال منه الذيل واتّسع اللّبان، فكأنما هو نار على يفاع شبّت للضّيفان؛ جلّلته الشمس بأنوارها، وأهدت إليه الرّياض اصفرار أزهارها؛ تشهدك عند رؤيته يوم العرض، فروج قوائمه سماء على أرض؛ إن هملج لاذت الريح بالشّجر، وإن عدا قصر عن إدراكه رؤية(10/77)
البصر؛ نجاشىّ النّجار «1» ، وحليف الوجار «2» ؛ كأنما خلق من الحزم شطره، ومن العزّ ظهره؛ ومن الإقبال غرّته، ومن كنوز المفاخر سرّته؛ يقرّ أعوج «3» بنى هلال بفضله، ويقفو حرون «4» مسلم أثر ظلّه. مختوما بأدهم كصخرة سيل، أو كقطعة ليل؛ خاض فى أحشاء الصّباح فلطم جبينه، وسابق الفلك فقيّد بالجوزاء رجليه ويساره وأطلق يمينه؛ عريض الكفل والمنخرين، دقيق القوائم والساقين؛ كأنما أشرب لونه سواد القلب والبصر، وكأنما النصر قيس «5» وهو ليلى يحضره حيث حضر؛ لو كتب اسمه على راية لم تزل تقدم فتوحا، أو لمعت بوارق سنابكه رأيت زنجيّا جريحا؛ طابقت أخباره لمخبره، وسبقت رجلاه فى العدو مواقع نظره؛ لا يعلق غراب «6» بغباره، ولا تستنّ «7» النّعامة فى مضماره.
ولنختم هذا الباب بذكر فائدة، وهى دواء للخلد «8» : يؤخذ خمسون طائرا من الدّراريج تسحق بحجر ولا تمسّ باليد، وتجعل فى قدر صغيرة جديدة، ويصبّ عليها من الماء والزيت ما يغمره، ويغلى عليه حتّى ينعقد، ويضاف إليه يسير من القطران الأسود، ويوضع على النار؛ فإذا فتر فتلفّ مشاقة على عود ويدهن به أمّ الخلد قبل قطعه بالنار، ثم يدهن بعد ثلاثة أيام بالشّيرج والصّيلقون وماء الورد؛ فإنه مجرّب.(10/78)
الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثالث فى البغال والحمير
ذكر ما قيل فى البغال
قال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: إنّ البغل لا يعيش له ولد، وليس بعقيم؛ ولا يبقى للبغلة ولد، وليست بعاقر. وهو أطول عمرا من أبويه وأصبر. ويقال:
إنّ أوّل من نتج «1» البغال «قارون» ، وقيل: «أفريدون» «2» أحد ملوك الفرس الأول.
والبغل يوصف برداءة الأخلاق والنلوّن. ومن أخلاق البغال الإلف لكل دابّة.
ويقال: إنّ أبوال الإناث تنقية لأجسادها. والإناث أجمل من الذكور. قال بعض الشعراء «3» :
عليك بالبغلة دون البغل ... فإنها جامعة للشّمل
مركب قاض وإمام عدل ... وعالم وسيّد وكهل
تصلح للرّحل وغير الرحل
والبغال من مراكب الرؤساء، والسادة النجباء، والقضاة والعلماء. وهم يرجّحون إناثها على ذكورها؛ حتى إن المغاربة لا يركبون البغال الذكور البتة وإنما(10/79)
يجعلونها برسم حمل الزّبل. أخبرنى قاضى القضاة جمال الدين أبو محمد بن سليمان بذلك، وقال: وإذا طلب ولىّ الأمر البغل لأحد كان ذلك دلالة على إشهاره «1» وتجريسه «2» عليه. قال: فلا يركب البغل الذكر عندنا إلا زبّال أو مجرّس. وأعظم ما تفضّل به إناث البغال على ذكورها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبها وملكها؛ وما ورد أنه ملك بغلا ولا ركبه.
ولنذكر بغلات رسول الله صلى الله عليه وسلم تفضيلا لهذا الحيوان وتشريفا، وتنويها بذكره وتعريفا؛ والله أعلم.
ذكر بغلات رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة شهباء يقال لها «دلدل» ، أهداها له المقوقس. ذكر ذلك ابن قتيبة وابن سعد؛ فقال ابن سعد ما هذا نصه: «وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبى بلتعة اللّخمى، وهو أحد الستة «3» ، إلى(10/80)
المقوقس صاحب الإسكندريّة عظيم القبط يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا «1» ؛ فأوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه وقال له خيرا؛ وأخذ الكتاب فجعله فى حقّ من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته؛ وكتب إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم: «قد علمت أن نبيّا قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وقد أهديت إليك كسوة وبغلة تركبها» . ولم يزد على هذا ولم يسلم. فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هديّته، وأخذ الجاريتين: مارية أمّ إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأختها سيرين، وبغلة بيضاء لم يكن فى العرب يومئذ غيرها وهى «دلدل» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه» .
وذكر ابن سعد أيضا قال: كانت «دلدل» بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل بغلة رئيت فى الإسلام، أهداها له المقوقس وأهدى معها حمارا يقال له «عفير» ؛ فكانت البغلة قد بقيت حتى كان زمن معاوية. وفى لفظ: وكانت(10/81)
شهباء، وكانت بينبع حتى ماتت ثمّ. وفى لفظ: وكانت قد كبرت حتى زالت أستانها، وكان يجشّ لها الشعير.
وروى ابن سعد أيضا عن محمد بن عمر الأسلمىّ قال: حدّثنا أبو بكر بن عبد الله ابن أبى سبرة عن زامل بن عمرو قال: أهدى فروة بن عمرو إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم بغلة يقال لها «فضّة» فوهبها لأبى بكر. وكذلك قال البلاذرىّ.
وقد يقال: إن «دلدل» من هديّة فروة، وإن «فضّة» من هدية المقوقس.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أهدى للنبىّ صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى؛ فركبها بجلّ «1» من شعر ثم أردفنى خلفه. رواه الثّعالبىّ فى تفسيره فى قوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) *
. قال الشيخ شرف الدين عبد المؤمن الدّمياطى رحمه الله: قوله «أهداها له كسرى» بعيد؛ لأنه مزّق كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمر عامله باليمن بقتله وبعث رأسه إليه؛ فأهلكه [الله] بكفره وطغيانه.
وروى مسلم بن الحجّاج رحمه الله من حديث أبى حميد الساعدىّ قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك؛ فذكر الحديث؛ وقال فيه: وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب وأهدى له بغلة بيضاء؛ فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له بردا. رواه البخارىّ فى كتاب الجزية والموادعة بعد الجهاد؛ ورواه أبو نعيم فى المستخرج.
ولفظهما: «وأهدى ملك أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء فكساه بردا» ؛ وقال أبو نعيم: بردة.(10/82)
وقال ابن سعد: وبعث صاحب «1» دومة الجندل «2» لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببغلة وجبّة من سندس.
وروى إبراهيم الحربىّ فى كتاب الهدايا عن علىّ رضى الله عنه قال: وأهدى يحنّة «3» بن روبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء.
وروى يوسف بن صهيب عن ابن «4» بريدة عن أبيه قال: انكشف الناس عن النبىّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشّهباء التى أهداها له النّجاشىّ وزيد آخذ بركاب بغلته. وذكر علىّ بن محمد بن حنين «5» بن عبدوس الكوفىّ فى أسماء خيله وسلاحه وأثاثه: وكان اسم بغلته «دلدل» أهداها إليه المقوقس صاحب الإسكندريّة وكانت شهباء؛ وهى التى قال لها يوم حنين: «اربضى» فربضت. ويقال: إن عليّا ركبها بعد النبىّ صلّى الله عليه وسلم ثم ركبها الحسن ثم ركبها الحسين ثم ركبها محمد بن الحنفيّة(10/83)
رضى الله عنهم؛ ثم كبرت وعميت، فوقعت فى مبطخة «1» لبعض بنى مدلج فخبطت «2» فيها، فرماها بسهم فقتلها.
وكانت له بغلة يقال لها «الأيليّة» ؛ أهداها إليه ملك أيلة، وكانت طويلة مخندفة»
كأنما تقوم على رمال حسنة السير؛ فأعجبته ووقعت منه. وهى التى قال له فيها علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه حين خرج عليها: كأنّ هذه البغلة قد أعجبتك يا رسول الله؟ قال: «نعم» قال: لو شئنا لكان لك مثلها؛ قال:
«وكيف» ؛ قال: هذه أمّها فرس عربيّة وأبوها حمار، ولو أنزينا حمارا على فرس لجاءت بمثل هذه؛ فقال: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون» .
وعن دحية بن خليفة الكلبىّ رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا أحمل لك حمارا على فرس فتنتج لك بغلة؟ فقال: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعقلون» . رواه ابن منده فى كتاب الصحابة.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا مأمورا، ما اختصّنا دون الناس بشىء إلا بثلاث: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وألّا نأكل الصّدقة، وألا ننزى حمارا على فرس. رواه التّرمذىّ فى الجهاد. وفى لفظ آخر عنه رضى الله عنه: كان عبدا مأمورا بلّغ ما أرسل به، وما اختصّنا دون الناس بشىء إلا بثلاث خصال: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وألّا نأكل الصّدقة، وألا ننزى الحمار على الفرس. وهذا على هذين الحديثين يختصّ بآل النبىّ صلى الله عليه وسلم دون غيرهم.(10/84)
والذى يظهر من مجموع هذه الأحاديث المرويّة التى أوردناها أن بغلات رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت سبعا، وهى: «الدّلدل» التى أهداها له المقوقس، و «فضّة» التى أهداها له فروة بن عمرو، وبغلة أهداها له كسرى، وبغلته الأيليّة التى أهداها له ابن العلماء صاحب أيلة، وبغلة بعثها له صاحب دومة الجندل، وبغلة أهداها له يحنّة ابن روبة، وبغلة أهداها له النّجاشىّ صاحب الحبشة. والله تعالى أعلم بالصواب.
ذكر شىء مما وصفت به البغال
قد ألّف الجاحظ كتابا فى البغال مفردا عن كتاب الحيوان، قال فيه ما نصه:
«نبدأ إن شاء الله بما وصف الأشراف من شأن البغلة فى حسن سيرتها، وتمام خلقتها، والأمور الدالّة على السرّ فى جوهرها، وعلى وجوه الارتفاق بها، وعلى تصرّفها فى منافعها، وعلى خفّة مؤونتها فى التنقّل فى أمكنتها وأزمنتها، ولم كلف الأشراف بارتباطها مع كثرة ما يزعمون من عيوبها، ولم آثروها على ما هو أدوم طهارة خلق منها، وكيف ظهر فضلها مع النقص الذى هو فيها، وكيف اغتفروا مكروه ما فيها لما وجدوا من خصال المحبوب فيها.
قال: ولقد كلف بارتباطها الأشراف حتى لقّب بعضهم من أجل اشتهاره بها ب «روّاض البغال» ؛ ولقّبوا آخر ب «عاشق البغل» . فبسط القول فى الترجمة ثم لم يأت من أخبار البغال بطائل، بل اقتصر على حكايات واستطرد منها إلى منها إلى غيرها، على عادته فى مصنّفاته. فكان مما حكاه من ذلك:
قال مسلمة بن عبد الملك: ما ركب الناس مثل بغلة طويلة العنان، قصيرة العذار، سفواء «1» العرف، حصّاء «2» الذّنب.(10/85)
قال: وكتب روح بن عبد الملك إلى وكيل له: ابغنى بغلة حصّاء الذنب، عظيمة المحزم، طويلة العنق، سوطها عنانها، وهواها إمامها.
قال: وعاتب صفوان بن عبد الله بن الأهتم عبد الرحمن بن عبّاس بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطّلب فى ركوب البغال، وكان ركّابا للبغلة، فقال له: مالك ولهذا المركب الذى لا يدرك عليه الثار، ولا ينجّيك يوم الفرار؟! فقال: إنها نزلت عن خيلاء الخيل، وارتفعت عن ذلّة «1» العير، وخير الأمور أوساطها. فقال صفوان:
إنا نعلّمكم، فإذا علمتم تعلّمنا منكم. وهو الذى يلقّب «روّاض البغال» ، لحذقه بركوبها، ولشغفه بها، وحسن قيامه عليها. وكان يقول: أريدها واسعة الجفرة «2» ، مندحّة «3» السّرّة، شديدة الغلوة «4» ، بعيدة الخطوة، ليّنة الظهر، ملويّة الرّسغ، سفواء جرداء عنقاء، طويلة الأنقاء «5» .
قال: وقال ابن كتامة: سمعت رجلا يقول: إذا اشتريت بغلة، فاشترها طويلة العنق، تجده «6» فى نجائها؛ مشرفة الهادى، تجده «7» فى طباعها؛ ضخمة الجوف، تجده «8» فى صبرها.
قال: ولما خرج قطرىّ بن الفجاءة أحبّ أن يجمع إلى رأيه رأى غيره؛ فدسّ إلى الأحنف بن قيس رجلا يجرى ذكره فى مجلسه ويحفظ عنه ما يقول؛ فلمّا قعد قال الأحنف: أما إنهم إن جنبوا بنات الصّهّال، وركبوا بنات النّهّاق «9» ، وأمسوا بأرض وأصبحوا بأرض، طال أمرهم.(10/86)
قال الجاحظ: فلا ترى صاحب الحرب يستغنى عن البغال، كما لا ترى صاحب السّلم يستغنى عنها، وترى صاحب السفر كصاحب الحضر. انتهى كلام الجاحظ.
وحكى أنّ عبد الحميد الكاتب ساير مروان بن محمد الجعدىّ على بغلة؛ فقال له:
لقد طالت صحبة هذه الدابّة لك!؛ فقال: يا أمير المؤمنين، من بركة الدابّة طول صحبتها. فقال: صفها؛ فقال: همّها إمامها، وسوطها زمامها، وما ضربت قطّ إلّا ظلما.
وقال بعض الكتّاب من رسالة: «قد اخترت لسيّدى بغلة وثيقة الخلق، لطيفة الخرط، رشيقة القدّ، موصوفة «1» السير، ميمونة الطير، مشرفة العنق، كريمة النّجار، حميدة الآثار.
إن أدبرت قلت لا تليل لها ... أو أقبلت قلت ما لها كفل
قد جمعت إلى حسن القميص، سلامة الفصوص «2» ؛ فسمّيت قيد الأوابد، وقرّة عين الساهد؛ تزرى فى انطلاقها، بالبروق فى ائتلاقها» .
قال البحترىّ يصف بغلا:
وأقبّ نهد للصّواهل «3» شطره ... يوم الفخار وشطره للشّحّج
خرق يتيه «4» على أبيه ويدّعى ... عصبيّة لبنى الضّبيب «5» وأعوج(10/87)
مثل المذرّع «1» جاء بين عمومة ... فى غافق «2» وخؤولة للخزرج
وقال أبو الفرج الوأواء من قصيدة يشكر بعض أصحابه وقد أهدى له بغلة:
قد جاءت البغلة السّفواء يجنبها ... للبرق غيث بدا ينهلّ ماطره
عريقة ناسبت أخوالها «3» فلها ... بالعتق «4» من أكرم الجنسين فاخره
ملء الحزام وملء العين مسفرة ... يريك غائبها فى الحسن حاضره
أهدى لها الرّوض من أوصافه شية ... خضراء ناضرة إن زال ناضره
ليست بأوّل حملان «5» شريت به ... حمدى ولا هى يا ذا الجود آخره
كم قد تقدّمها من سابح بيدى ... عنانه وعلى الجوزا حوافره
وقال أبو المكارم بن عبد السّلام:
كأنها النار فى الحلفاء إن ركضت ... كأنها السيل إن وافتك من جبل
كأنها الأرض إن قامت لمعتلف ... كأنها الريح إن مرّت على القلل
ما يعرف الفكر منها منتهى حضر ... ما صوّر الوهم فيها وصمة الكسل
إذا اقتعدت مطاها وهى ماشية ... ثهلان تبصره فى زىّ منتقل
هذا ما اتّفق إيراده من صفات البغال التى تقتضى المدح.(10/88)
فأمّا ما جاء فى ذمها
فالمثل المضروب فى بغلة أبى دلامة. وقال أبو دلامة فى بغلته:
أبعد الخيل أركبها ورادا ... وشقرا فى الرّعيل «1» إلى القتال
رزقت بغيلة فيها وكال «2» ... وخير خصالها فرط الوكال
رأيت عيوبها كثرت وعالت ... ولو أفنيت مجتهدا مقالى
تقوم فما تريم «3» إذا استحثّت ... وترمح باليمين وبالشّمال
رياضة جاهل وعليج سوء ... من الأكراد أحبن «4» ذى سعال
شتيم «5» الوجه هلباج «6» هدان «7» ... نعوس يوم حلّ وارتحال
فأدّبها بأخلاق سماج ... جزاه الله شرّا عن عيالى
فلمّا هدّنى ونفى رقادى ... وطال لذاك همّى واشتغالى
أتيت بها الكناسة «8» مستغيثا ... أفكّر دائبا كيف احتيالى
بعهدة سلعة ردّت «9» قديما ... أطمّ بها على الداء العضال(10/89)
فبينا فكرتى فى القوم تسدى ... إذا ما سمت أرخص أم أغالى
أتانى خائب حمق شقّى ... قديم فى الخسارة والضّلال «1»
وراوغنى ليخلوبى خداعا ... ولا يدرى الشّقىّ بمن يخالى
فقلت بأربعين فقال أحسن ... فإن البيع مرتخص وغالى
فلما ابتاعها منّى وبتّت ... له فى البيع غير المستقال
أخذت بثوبه وبرئت مما ... أعدّ عليك من شنع الخصال
برئت إليك من مشش «2» قديم ... ومن جرد «3» وتخريق الجلال
ومن فرط الحران ومن جماح ... ومن ضعف الأسافل والأعالى
ومن عقر اللسان ومن بياض ... بناظرها ومن حلّ الحبال
وعقّال «4» يلازمها شديد ... ومن هدم المعالف والرّكال «5»
تقطّع جلدها جربا وحكّا ... إذا هزلت وفى غير الهزال
ومن شدّ العضاض «6» ومن شباب «7» ... إذا ما همّ صحبك بالرّقال(10/90)
وأقطف «1» من دبيب الذّرّ مشيا ... وتنحط «2» من متابعة السّعال
وتكسر سرجها أبدا شماسا «3» ... وتسقط فى الوحول وفى الرمال
ويهزلها الجمام «4» إذا خصبنا ... ويدبر ظهرها مسّ الجلال
تظلّ لركبة منها وقيدا «5» ... يخاف عليك من ورم الطّحال
وتضرط أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس للسؤال
فتخرس منطقى وتحول بينى ... وبين كلامهم ممّا توالى
وقد أعيت سياستها المكارى ... وبيطارا يعقّل بالشّكال
حرون حين تركبها لحضر ... جموح حين تعزم للنّزال
وذئب حين تدنيها لسرج ... وليث عند خشخشة المخالى
وفيل إن أردت بها بكورا ... خذول عند حاجات الرّجال
وألف عصا وسوط أصبحىّ «6» ... ألذّ لها من الشّرب الزّلال
وتصعق من صياح الدّيك شهرا ... وتذعر للصّفير وللخيال
إذا استعجلتها راثت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال «7»
ومثفار «8» تقدّم كلّ سرج ... تصيّر دفّتيه على القذال «9»(10/91)
وتحفى فى الوقوف إذا أقمنا ... كما تحفى البغال من الكلال
ولو جمّعت من هنّا وهنّا ... من الأتبان أمثال الجبال
فإنك لست عالفها ثلاثا ... وعندك منه عود للخلال
وكانت قارحا «1» أيّام كسرى ... وتذكر تبعا قبل الفصال «2»
وقد قرحت ولقمان فطيم ... وذو الأكتاف «3» فى الحجج الخوالى
وقد أبلى بها قرن وقرن ... وآخر يومها لهلاك مالى
فأبدلنى بها يا ربّ بغلا ... يزين جمال مركبه جمالى
كريم حين ينسب والداه ... إلى كرم المناسب فى البغال
وقال القاضى بهاء الدين زهير الكاتب:
لك يا صديقى بغلة ... ليست تساوى خردله
مقدار خطوتها الطوي ... لة حين تسرع أنمله
وتخال مدبرة إذا ... ما أقبلت مستعجله
تمشى فتحسبها العيو ... ن على الطريق مشكّله
تهتزّ وهى مكانها ... فكأنما هى زلزله(10/92)
ذكر ما قيل فى الحمر الأهلية
قال المتكلمون فى طبائع الحيوان: إنّ الحمار لا يولد له قبل أن تتمّ له ثلاث سنين ونصف. قالوا: والحمار إذا شمّ رائحة الأسد رمى بنفسه عليه لشدّة خوفه منه.
ولذلك قال أبو تمّام [يخاطب عبد الصمد «1» بن المعذّل وقد هجاه] :
أقدمت ويلك من هجوى على خطر ... والعير يقدم من خوف على الأسد
والحمار يوصف بحدّة حاسّة السمع. وهو إذا نهق أضرّ بالكلب؛ قالوا:
حتى إنّه يحدث له مغسا «2» ؛ فلذلك يطول نباحه. والبرد يضرّ الحمار ويؤذيه؛ ولهذا لا يوجد فى بلاد الصّقالبة. وقال الجاحظ: وحلف أحمد بن العزيز أن الحمار ما ينام.
فقيل له: ولم ذلك؟ قال: لأنّى أجد صياحه ليس بصياح من نام وانتبه فى تلك الساعة، ولا هو صياح من يريد أن ينام بعد انقضاء صياحه.
وأجود الحمير المصريّة. وأهل مصر يعتنون بتربيتها، ويحتفلون بأمرها ويسابقون عليها، ويسمّون مكان سباقها «الطابق» . والجيّد منها يباع بالثمن الكثير. نقل صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر فى كتابه قال: لقد بيع منها حمار بمائة دينار وعشرة دنانير. وأمّا الذى رأيناه نحن منها فأبيع «3» بألف درهم، وربما زاد بعضها على ألف. وكثير من أهل مصر يركبونها ويتركون الخيل والبغال.
فمن ركبها من الأعيان مع وجود القدرة والإمكان على ركوب الخيل والبغال، يقصد بذلك التواضع وعدم الكبرياء. ومن إركبها من ذوى الأموال وترك الخيل والبغال(10/93)
ربما يفعل ذلك توفيرا لماله وضنّة به. ومن ركبها من الشباب والسّوقة يقصد بذلك التنزّه عليها لفراهتها وسرعة مشيتها.
وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار من حمير مصر اسمه «يعفور» وقيل: «عفير» ؛ أهداه له المقوقس صاحب الإسكندريّة مع ما أهدى. وقد ورد أيضا فى الحديث أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماران: «يعفور» و «عفير» . فأمّا «عفير» فأهداه له المقوقس. وأمّا «يعفور» فأهداه له فروة ابن عمرو الجذامىّ. ويقال: إنّ حمار المقوقس «يعفور» وحمار فروة «عفير» .
قال الواقدىّ: مات «يعفور» عند منصرف النبىّ صلى الله عليه وسلم من حجّة الوداع. وذكر السّهيلىّ «1» : أن «يعفورا» طرح نفسه فى بئر يوم مات النبىّ صلى الله عليه وسلم فمات. وذكر ابن فورك «2» [فى كتاب «3» الفصول] أنه كان فى مغانم خيبر، وأنّه كلّم «4» النبىّ صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، أنا زياد «5» بن شهاب، وقد كان(10/94)
فى آبائى ستّون حمارا كلّهم «1» ركبهم نبىّ، فاركبنى أنت. وزاد الجوينىّ «2» فى كتاب الشامل: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أحدا من أصحابه أرسل هذا الحمار إليه؛ فيذهب حتى يضرب برأسه الباب؛ فيخرج ذلك الرجل، فيعلم أنه أرسل اليه، فيأتى النبىّ صلى الله عليه وسلم.
وفى الحمار منافع طبيّة «3» ذكرها الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا، قال: رماد كبد الحمار بالزّيت ينفع من الخنازير «4» ؛ قال: ويبرئ من الجذام. وهذا دواء رخيص إن صحّ. قال: وكبده مشويّة على الرّيق تنفع من علّة الصّرع.
قال: والمكزوز»
من اليبوسة يجلس فى مرقة لحمه. وقيل: إنّ بوله نافع من وجع الكلى. قال: وبول الحمار الوحشىّ يفتّت الحصاة فى المثانة.
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الحمار
تقول العرب: «العير أوقى لدمه «6» » . وقالوا: «نجّى «7» عيرا سمنه» . وقالوا:(10/95)
«الجحش «1» إذا فاتك الأعيار» . وقالوا: «أصحّ «2» من عير أبى سيّارة» ؛ لأنه كان دفع بأهل الموسم على ذلك العير أربعين عاما. وقالوا: «إن ذهب عير فعير فى الرّباط «3» » .
وقالوا: «العير يضرط «4» والمكواة فى النار» . وقالوا: «حمار يحمل سفرا» .
ومن أنصاف الأبيات:
وقد حيل «5» بين العير والنّزوان(10/96)
ذكر شىء مما وصفت به الحمير على طريقى المدح والذم
[أما ما جاء فيها على سبيل المدح]
قال أبو العيناء «1» لبعض سماسرة الحمير: اشتر لى حمارا لا بالطويل اللّاحق، ولا بالقصير اللاصق؛ إن خلا الطريق تدفّق، وإن كثر الزّحام ترفّق؛ لا يصادم بى السّوارى، ولا يدخل تحت البوارى «2» ؛ إن كثّرت علفه شكر، وإن قلّلته صبر؛ وإن ركبته هام، وإن ركبه غيرى قام «3» . فقال له السمسار: إن مسخ الله بعض قضاتنا حمارا أصبت حاجتك، وإلّا فليست موجودة.
قيل للفضل الرّقاشىّ: إنك لتؤثر الحمير على جميع الدوابّ؛ قال: لأنها أرفق وأوفق؛ قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنها لا تستبدل بالمكان، على طول الزمان؛ ثم قال:
هى أقلّ داء، وأيسر دواء، وأخفض مهوى، وأسلم صرعا «4» ؛ وأقلّ جماحا، وأشهر فرها، وأقلّ بطرا؛ يزهى راكبه وقد تواضع بركوبه؛ ويعدّ مقتصدا وقد أسرف فى ثمنه.
وقال أحمد بن طاهر يصف حمارا:
شية كأنّ الشمس فيها أشرقت ... وأضاء فيها البدر عند تمامه
وكأنّه من تحت راكبه إذا ... ما لاح، برق لاح تحت غمامه
ظهر كجرى الماء لين ركوبه ... فى حالتى إتعابه وجمامه
سفهت يداه على الثّرى فتلاعبت ... فى جريه بسهوله وإكامه(10/97)
عن حافر كالصّخر إلّا أنّه ... أقوى وأصلب منه فى استحكامه
ما الخيزران إذا انثنت أعطافه ... فى لين معطفه ولين عظامه
عنق يطول بها فضول عنانه ... ومحزّم يغتال فضل حزامه
وكأنّه بالرّيح منتعل، وما ... جرى الرياح كجريه ودوامه
أخذ المحاسن آمنا من عيبه «1» ... وحوى الكمال مبرّأ من ذامه «2»
وقال آخر:
لا تنظرنّ إلى هزال حمارى ... وانظر إلى مجراه فى الأخطار «3»
متوقّد جعل الذكاء إمامه ... فكأنما هو شعلة من نار
عادت عليه الريح عند هبوبها ... فكأنه ريح الدّبور يبارى
هذا ما ورد فى مدحها.
*** وأمّا ما جاء فيها على سبيل الذم
- فمن ذلك قولهم: «أضلّ من حمار أهله» . وقولهم: أخزى «4» الله الحمار مالا، لا يزكّى ولا يذكّى. ومنه قول جرير «5» بن عبد الله: لا تركب حمارا، فإنه إن كان حديدا «6» أتعب يديك، «7» ، وإن كان بليدا أتعب رجليك.(10/98)
والمثل مضروب فى الحمير المهزولة بحمار طيّاب «1» ، كما يضرب المثل ببغلة أبى دلامة.
قال شاعر:
وحمار بكت عليه الحمير ... دقّ حتى به الرياح تطير
كان فيما مضى يسير بضعف ... وهو اليوم واقف لا يسير
كيف «2» يمشى وليس شىء يراه ... وهو شيخ من الحمير كبير
لمح القتّ «3» مرّة فتغنّى ... بحنين وفى الفؤاد زفير:
«ليس لى منك يا ظلوم نصيب ... أنا عبد الهوى وأنت أمير»
وقال خالد «4» الكاتب:
وقائل إنّ حمارى غدا ... يمشى إذا صوّب أو أصعدا
فقلت لكنّ حمارى إذا ... أحثثته لا يلحق المقعدا
يستعذب الضرب فإن زدته ... كاد من اللّذّة أن يرقدا
وقال أبو الحسين «5» الجزّار:
هذا حمارى فى الحمير حمار ... فى كلّ خطو كبوة وعثار(10/99)
قنطارتبن فى حشاه شعيرة ... وشعيرة فى ظهره قنطار
ولمّا مات حمار هذا الشاعر داعبه شعراء عصره بمراث وهزليّات؛ فقال بعضهم:
مات حمار الأديب قلت قضى ... وفات من أمره الذى فاتا
مات وقد خلف الأديب ومن ... خلّف مثل الأديب ما ماتا
ونحو هذين البيتين قول الآخر:
قال حمار الحكيم توما «1» ... لو أنصفونى لكنت أركب
لأننى جاهل بسيط ... وصاحبى جاهل «2» مركّب
وكتب «3» أبو الحسن بن نصر الكاتب إلى صديق له اشترى حمارا، يداعبه.
قال من رسالة: «قد عرفت- أبقاك الله- حين وجدت من سكرة الأيّام إفاقه، وآنست من وجهها العبوس طلاقه؛ [كيف «4» ] أجبت داعى همّتك، وأطعت أمر مروءتك؛ فسررت بكمون هذه المنقبة التى أضمرها الإعدام، ونمّ على كريم سرّها الإمكان؛ واستدللت «5» منها على خبايا فضل، وتنبّهت منها على مزايا نبل؛ كانت مأسورة فى قبضة الإعسار، وكاسفة عن سدفة «6» الإقتار؛ وقلت: أىّ(10/100)
قدم أحقّ بولوج الرّكب من قدميه، وحاذ «1» أولى ببطون القبّ «2» من حاذيه؛ وأىّ أنامل أبهى من أنامله إذا تصرّفت فى الأعنّة يسراها، وتحتّمت «3» بالمخاصر يمناها؛ وكيف يكون ذلك الخلق العظيم، والوجه الوسيم؛ وقد بهر جالسا، إذا طلع فارسا!.
ثم اتّهمت «4» آمالى بالغلوّ فيك، واستبعدت مناقضة الزمان بإنصاف معاليك؛ فقبضت ما انبسط من عنانها، وأخمدت ما اشتعل من نيرانها؛ حتى وقفت على صحيحة الشك. أرجو علوّ همّتك بحسن اختيارك، وأخشى منافسة الأيّام فى درك أوطارك؛ فإنها كالظّانّة فى ولدها، والمجاذبة بالسّوء فى واحدها؛ يدنى الأمل مسارّها، ويرجئ القلق حذارها؛ حتى أتتنا الأنباء تنعى رأيك الفائل «5» ، وتفلّ «6» عزمك الآفل؛ بوقوع اختيارك على فاضح «7» صاحبه، ومسلم راكبه؛ الجامد فى حلبة الجياد، والحاذق بالحران «8» والكياد «9» ؛ السّوم «10» دينه ودأبه، والبلادة طبيعته وشأنه؛ لا يصلحه التأديب، ولا تقرع له الظّنابيب؛ «11» إن لحظ عيرا نهق، أو لمح أتانا شبق، أو وجد روثا شمّ وانتشق؛ فكم هشم سنّا لصاحبه، وكم سعط أنف راكبه؛ وكم استردّه خائفا فلم يرده، وكم رامه خاطبا فلم يسعده؛ يعجل إن أحبّ الأناة والإبطاء،(10/101)
ويرسخ إن حاول الحثّ «1» والنّجاء؛ مطبوع على الكيد والخلاف، موضوع للضّعة والاستخفاف؛ عزيز حتى تهينه السّياط، كسول ولو أبطره «2» النّشاط؛ ما عرف فى النّجابة أبا، ولا أفاد من الوعى أدبا؛ الطالب به محصور، والهارب عليه مأسور؛ والممتطى له راجل، والمستعلى بذروته نازل؛ له من الأخلاق أسوؤها، ومن الأسماء أشنؤها، ومن الأذهان أصدؤها، ومن القدود أحقرها؛ تجحده المراكب، وتجهله المواكب؛ وتعرفه ظهور السوابك «3» ، وتألفه سباطات «4» المبارك. والله الموفّق.(10/102)
الباب الثالث من القسم الثالث من الفنّ الثالث فى الإبل والبقر والغنم
ذكر ما قيل فى الإبل
الإبل جمع لا واحد لها من لفظها. والذّكر منها جمل، والأنثى ناقة. والبعير يقع عليهما. ودليل ذلك قول بعض الشعراء:
لا نشتهى لبن البعير وعندنا ... عرق الزّجاجة «3» واكف المعصار
والإبل من منن الله الجسيمة على خلقه، ومما منحهم به من إرفاقه ورزقه.
قال الله تعالى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)
. وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) .
ولنذكر ما جاء من لغة العرب فى الإبل من تسميتها «4» من حين تولد إلى أن تتناهى سنّها، وأسماء ما يركب منها ويحمل عليه، وما اختصّت به النوق من الأسماء والصّفات؛ ونذكر ألوان الإبل وما قالوه فى ترتيب سيرها، وفى المسير عليها والنزول؛ ثم نذكر بعد ذلك(10/103)
أصناف الإبل وما قيل فى عاداتها وطبائعها. فإذا [أوردنا «1» ] ذلك، ذكرنا ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما جاء فى أوصاف الإبل من الشعر؛ فنقول وبالله التوفيق.
*** أمّا تسميتها من حين «2» تولد إلى أن تتناهى سنّها
- فقد قالت العرب: ولدها حين يسلّ من أمّه «سليل» «3» ثم «سقب» و «حوار» «4» إلى سنة، وجمعه أحورة وحيران. وهو «فصيل» إذا فصل عن أمّه. وهو فى السنة الثانية «ابن مخاض» - لأن أمّه تلقح فتلحق بالمخاض وهى الحوامل، وواحدتها من غير لفظها «خلفة» - والأنثى «بنت مخاض» . فإذا دخل فى الثالثة فهو «ابن لبون» ، والأنثى «بنت لبون» ؛ لأن أمّه صارت ذات لبن. وهو فى الرابعة «حقّ» ؛ لأنه استحقّ أن يحمل عليه. وهو فى السنة الخامسة «جذع» . وفى السادسة [ «ثنىّ» لأنّه يلقى ثنيّته؛ والأنثى «5» «ثنيّة» ] . و [هو فى «6» ] السابعة «رباع» . وفى السنة الثامنة «سديس»(10/104)
و «سدس» للذكر والأنثى «1» . وهو فى التاسعة «بازل» إذا فطرنا به، أى طلع.
قال الشاعر «2» :
وابن اللّبون إذا ما لزّفى قرن «3» ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
«4» ثم هو بعدها بسنة «مخلف عام» و «بازل عام» ثم «مخلف عامين» و «بازل عامين» ؛ ثم يعوّد، أى يصير عودا وهرما وماجّا «5» .
قالوا: والقلوص «6» منها كالجارية من الناس، والقعود كالغلام، والجمع قلائص وقعدان «7» . والبكر: الفتىّ، والبكارة جمع، والأنثى بكرة. ويقال: جمل راش «8» وناقة راشة «9» إذا كثر الشّعر فى آذانهما.
*** وأمّا أسماء ما يركب منها ويحمل عليه
- فقد قالوا: المطيّة اسم جامع لكل ما يمتطى من الإبل. فإذا اختارها الرجل لمركبه لتمام خلقتها ونجابتها فهى راحلة.(10/105)
وفى الحديث النبوىّ صلوات الله تعالى وسلامه على قائله: «الناس كإبل «1» مائة لا يكاد يوجد فيها راحلة» . فإذا استظهر «2» صاحبها بها وحمل عليها فهى «زاملة» - والناس يقولون فى الرجل العاقل الثابت فى أموره: رجل زاملة، يريدون بذلك مدحه.
ووصف ابن بشير رجل فقال: ليس ذلك من الرّواحل إنما هو من الزّوامل- فإذا وجّهها مع قوم ليمتاروا عليها فهى «عليقة» .
*** وأمّا ما اختصّت به النوق من الاسماء والصّفات
- فإنهم يقولون فيها: «كهاة» و «جلالة» وهى العظيمة، و «عطموس» و «دعبلة» «3» وهى الحسنة الخلقة التامّة الجسم، و «كوماء» وهى الطويلة السّنام، و «وجناء» وهى الشديدة القويّة اللحم. واشتقاقه من الوجين، وهى الحجارة. فإن ازدادت شدّتها فهى «عرمس» «4»(10/106)
و «عيرانة» . فإذا كانت شديدة كثيرة اللحم فهى «عنتريس» و «عرندس» و «متلاحكة» . فإذا كانت ضخمة شديدة فهى «دوسرة» و «عذافرة» . فإذا كانت حسنة جميلة فهى «شمردلة» . فإذا كانت عظيمة الجوف فهى «مجفرة» . فإذا كانت قليلة اللحم فهى «حرجوج» «1» و «حرف» و «رهب» .
*** ومن أوصافها فى السّير
- إذا كانت ليّنة اليدين فى سيرها فهى «خنوف» .
فإذا كان بها هوج من سرعتها فهى «هوجاء» و «هوجل» . فإذا كانت تقارب الخطو فهى «حاتكة» . فإذا كانت تمشى وكأنها مقيّدة الرّجل وهى تضرب بيديها فهى «راتكة» . فإذا كانت سريعة فهى «عصوف» و «مشمعلة» و «عيهل» و «شملال» و «يعملة» و «همرجلة» «2» و «شمذر» «3» و «شملّة» و «شمردلة» . فإذا كانت تجرّ رجليها فى المشى فهى «مزحاف» «4» و «زحوف» . فإذا كانت لا تقصد فى سيرها من نشاطها فهى «عجرفيّة» . قال الأعشى:
وفيها إذا ما هجّرت «5» عجرفية ... إذا خلت حرباء الظّهيرة أصيدا(10/107)
وأمّا ألوان الإبل
- فإنهم قالوا: إذا لم يخالط حمرة البعير شىء فهو «أحمر» .
فإن خالطها السواد فهو «أرمك» . فإذا كان أسود يخالط سواده بياض كدخان الرّمث «1» فهو «أورق» «2» . فإذا اشتدّ سواده فهو «جون» . فإن كان [أبيض «3» ] فهو «آدم» . فإن خالط بياضه حمرة فهو «أصهب» . فإن خالطته شقرة فهو «أعيس» «4» . فإن خالطت خضرته «5» صفرة وسواد فهو «أحوى» . فإذا كان أحمر يخالط حمرته سواد فهو «أكلف» .
*** وأمّا ترتيب سيرها
- «فالعنق» وهو السير المسبطرّ «6» . فإذا ارتفع عنه قليلا فهو «التّزيد» . فإذا ارتفع عن ذلك فهو «الذّميل» . فإذا ارتفع فهو «الرّسيم» .
فإذا دارك المشى وفيه قرمطة «7» فهو «الحفد» . فإذا ارتفع عن ذلك وضرب بقوائمه كلّها فذاك «الارتباع» و «الالتباط» . فإذا لم يدع جهدا فذاك «الادرنفاق» .(10/108)
وأما ما قيل فى المسير عليها والنزول للرّاحة والإراحة
- فقد قالوا: إذا سار القوم نهارا ونزلوا ليلا فذاك «التّأويب» . فإذا ساروا ليلا ونهارا فذاك «الإساد» . فإذا ساروا من أوّل الليل فهو «الإدلاج» . فإذا ساروا من آخر الليل فهو «الادّلاج» . فإذا ساروا مع الصبح فهو «التّغليس» . فإذا نزلوا للاستراحة فى نصف النهار فهو «التّغوير» . فإذا نزلوا فى نصف الليل فهو «التّعريس» .
ذكر أصناف الإبل وعاداتها وما قيل فى طبائعها
والإبل ثلاثة أصناف: يمانىّ، وعرابىّ، وبختىّ. فاليمانىّ هو النّجيب، وينزّل بمنزلة العتيق من الخيل. والعرابىّ كالبرذون. والبختىّ «1» كالبغل. ويقال: البخت «2» ضأن الإبل. وهى متولّدة عن فساد منىّ العراب. وحكى الجاحظ أنّ منهم من يزعم أنّ فى الإبل ما هو وحشىّ وأنها تسكن أرض وبار «3» ، وهى غير مسكونة بالناس.
وقالوا: ربما ندّ الجمل منها فى الهياج «4» فيحمله ما يعرض له منه على أن يأتى أرض(10/109)
عمان، فيضرب فى أدنى هجمة «1» من الإبل؛ فالإبل المهريّة من ذلك النّتاج. وتسمّى الإبل الوحشيّة «الحوش» «2» . ويقولون: إنها بقايا إبل عاد وثمود ومن أهلكه الله من العرب. والمهريّة منسوبة إلى مهرة «3» (قبيلة باليمن) ؛ وهى سريعة العدو. ويعلفونها من قديد سمك يصاد من بحر عمان.
وأمّا البخت- فمنها ما يرهوك «4» مثل البراذين؛ ومنها ما يجمز «5» جمزا ويرقل «6» إرقالا. وفى البخت ماله سنامان فى طول ظهره كالسّرج، ولبعضها سنامان فى العرض عن اليمين وعن الشمال، وتسمّى «الخراسانية» .
قالوا: والجمل لا ينزو إلّا مرّة واحدة يقيم فيها النهار أجمع وينزل فيها مرارا كثيرة، فيجىء منها ولد واحد. وهو يخلو فى البرارى حالة النّزو، ولا يدنو منه أحد من الناس إلا راعيه الملازم له. وذكره صلب جدّا؛ لأنه من عصب. والأنثى تحمل سنة كاملة؛ وتلقح لمضىّ ثلاث سنين، وكذلك الذكر ينزو فى هذه المدّة، ولا ينزو عليها إلا بعد سنة من يوم وضعها. وفيه من كرم الطّباع أنه لا ينزو على أمّهاته ولا أخواته. ومتى حمل على أن يفعل حقد على من ألزمه؛ وربما قتله.
وليس فى الحيوان من يحقد حقده. وقد قالوا: إنّ العرب إنما اكتسبت الأحقاد لأكلها لحوم الجمال ومداومتها.(10/110)
وفى طبع الجمل الاهتداء بالنّجم، ومعرفة الطّرق، والغيرة، والصولة، والصبر على الحمل الثقيل وعلى العطش. والإبل تميل إلى شرب المياه الكدرة الغليظة؛ وهى إذا وردت ماء الأنهار حرّكته بأرجلها حتى يتكدّر. وهى من عشّاق الشمس.
وهى تتعرّف النبات المسموم بالشّمّ من مرّة واحدة فتتجنّبه عند رعيه ولا تغلط إلا فى اليبيس «1» خاصّة. وزعم أرسطو: أنها تعيش ثلاثين سنة فى الغالب.
وقال صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر ينقل عن غيره: وقد رئى منها ما عاش مائة سنة. وكانت للعرب عوائد فى إبلها أنها اذا أصاب إبلهم العرّ «2» كووا السليم ليذهب العرّ عن السقيم. وكانوا إذا كثرت إبلهم فبلغت الألف فقئوا عين الفحل؛ فإن زادت على الألف فقئوا عينه الأخرى. وقد ذكرنا ذلك فى أوابد العرب، وهو فى الباب الثانى من الفن الثانى من هذا الكتاب فى السفر الثالث من هذه النسخة. والله أعلم بالصواب.
ذكر ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإبل
كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لها «القصواء» . ذكر ابن سعد عن محمد بن عمر قال حدثنى موسى بن محمد بن إبراهيم التّيمىّ عن أبيه قال: كانت القصواء من نعم بنى الحريش، ابتاعها أبو بكر رضى الله عنه وأخرى معها بثمانمائة درهم فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه بأربعمائة؛ فكانت عنده حتى نفقت «3» . وهى التى هاجر عليها صلى الله عليه وسلم. وكانت حين قدم المدينة رباعية، وكان اسمها «القصواء» و «الجدعاء» و «العضباء» ، وكان فى طرف أذنها جدع «4» ، وكانت لا تسبق(10/111)
كلما دفعت فى سباق. فلما كان فى سنة ستّ من الهجرة سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرّواحل، فسبق قعود لأعرابىّ «القصواء» ، ولم تكن تسبق قبلها؛ فشقّ ذلك على المسلمين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حقّ على الله ألّا يرفع شيئا من الدنيا إلّا وضعه» . وعن قدامة بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجّته يرمى على ناقة صهباء. وعن سلمة بن نبيط عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجّته بعرفة على جمل أحمر. وذكر أبو إسحاق أحمد ابن محمد بن إبراهيم الثّعلبىّ فى تفسيره: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بعث يوم الحديبية خراش بن أميّة الخزاعىّ قبل عثمان «1» إلى قريش بمكة، وحمله على جمل له يقال له «الثّعلب» ؛ ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له؛ فعقروا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله؛ فمنعته الأحابيش،»
فخلّوا سبيله. وكان للنبىّ صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة «3» بالغابة (وهى على بريد من المدينة من طريق الشام) وكان فيها أبو ذرّ، وكان فيها لقائح غزر «4» : الحنّاء» و «السّمراء» و «العريس» «5» و «السّعديّة» و «البغوم» «6»(10/112)
و «اليسيرة» «1» و «الرّيّا» «2» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرّقها على نسائه؛ فكانت «السّمراء» لقحة غزيرة لعائشة؛ وكانت العريّس لأمّ «سلمة» ؛ فأغار عليها عيينة بن حصن فى أربعين فارسا فاستاقوها وقتلوا ابن «3» أبى ذرّ؛ ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انتهوا إلى ذى قرد «4» فاستنقذوا منها عشرا وأفلت القوم بما بقى؛ وقيل: بل استنقذها كلّها منهم سلمة بن «5» الأكوع حين يقول:
ما خلق الله شيئا من ظهر «6» النبىّ صلى الله عليه وسلم إلا خلّفته وراء ظهرى واستنقذته منهم؛ وذلك فى شهر ربيع الأوّل سنة ستّ.
وكانت لقاحه صلى الله عليه وسلم، التى كان يرعاها يسار مولاه بذى الجدر ناحية قباء قريبا من عير «7» على ستة أميال من المدينة، خمس عشرة لقحة غزارا استاقها(10/113)
العرنيّون «1» وقتلوا يسارا وقطعوا يده ورجله وغرزوا الشوك فى لسانه وعينيه حتى مات.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إثرهم كرز «2» بن جابر الفهرىّ فى عشرين فارسا؛ فأدركوهم وربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة، فقطّعت أيديهم وأرجلهم وسملت «3» أعينهم وصلبوا. وفيهم نزل: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
الآية؛ وذلك فى شوّال سنة ستّ. وفقد النبىّ صلى الله عليه وسلم منها لقحة تدعى «الحنّاء» ؛ فسأل عنها فقيل: نحروها.
وقيل: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبع «4» لقائح تكون بذى الجدر؛ وتكون بالجمّاء «5» : لقحة تدعى «مهرة» وكانت غزيرة، أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بنى عقيل، ولقحة تدعى «بردة» تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان، أهداها له الضحّاك بن سفيان الكلابىّ، «والشّقراء» و «الرّيّا» «والسّمراء» «والعريّس» «واليسيرة» «والحنّاء» يحلبن ويراح إليه بلبنهنّ كلّ ليلة.
وفى غزاة بدر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمل «6» أبى جهل وكان مهريّا يغزو عليه ويضرب فى لقاحه. ذكره الطبرىّ.(10/114)
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية فى هداياه «1» جملا لأبى جهل فى رأسه برة «2» من فضّة؛ ليغيظ بذلك المشركين. ذكره ابن إسحاق.
وقيل: كانت للنبى صلى الله عليه وسلم لقحة اسمها «مروة» .
وقال ابن الكلبىّ: إن عياض بن حماد أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم نجيبة، وكان صديقا له إذا قدم عليه مكة لا يطوف إلا فى ثيابه؛ فقال له: «أسلمت» ؟
قال: لا؛ قال: «إن الله نهانى عن زبد «3» المشركين» . فأسلم؛ فقبلها.
ذكر شىء مما وصفت به الإبل نظما ونثرا
قال بعض من عظّم شأن الإبل: إن الله تعالى لم يخلق نعما خيرا من الإبل؛ إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت.
وقال بشامة «4» يصف ناقة:
كأنّ يديها إذا أرقلت ... وقد حرن ثم اهتدين السّبيلا
يدا سابح خرّ فى غمرة ... وقد شارف الموت إلا قليلا(10/115)
إذا أقبلت قلت مشحونة ... أطاعت لها الرّيح قلعا جفولا
وإن أدبرت قلت مذعورة ... من الرّبد تتبع هيقا ذمولا «1»
وقال أبو تمّام:
وبدّلها السّرى بالجهل حلما ... وقدّ أديمها قدّ الأديم
بدت كالبدر فى ليل بهيم ... وآبت مثل عرجون «2» قديم
وقال الخطيم «3» الخزرجىّ:
وقد ضمرت حتى كأن وضينها «4» ... وشاح عروس جال منها على خصر
وقال ابن دريد:
خوص كأشباح الحنايا ضمّر ... يرعفن بالأمشاج من جذب البرى «5»
يرسبن فى بحر الدّجى، وفى الضّحى ... يطفون فى الآل إذا الآل طفا «6»
وقال عبد الجبّار بن حمديس:
ومن سفن البرّ سبّاحة ... من الآل بحرا إذا ما اعترض(10/116)
لها شرّة «1» لا تبالى بها ... أطال بها سبسب «2» أم عرض
إذا خفق البرد «3» خلتنى ... على كورها طائرا ينتفض
وإن يعرض البعض «4» من سيرها ... ترى العيس من خلفها تنقرض «5»
هى القوس إنّى لسهم لها ... أصيب بكل فلاة عرض
وقال الشريف البياضىّ:
نوق تراها كالسّفي ... ن إذا رأيت الآل بحرا
كتب الوجا «6» بدمائها «7» ... فى مهرق «8» البيداء سطرا
لا تستكين من اللّغو ... ب إذا ولا يعرفن زجرا
وكأن أرجلهن تط ... لب عند أيديهنّ وترا(10/117)
وقال أبو عبادة البحترىّ:
وخدان «1» القلاص حولا إذا قا ... بلن حولا من أنجم الأسحار
يترقرقن كالسّراب «2» وقد خض ... ن غمارا من السّراب الجارى
كالقسىّ المعطّفات بل الأس ... هم مبريّة بل الأوتار
وقال ذو الرّمّة يصف ناقة:
رجيعة «3» أسفار كأن زمامها ... شجاع على «4» يسرى الذّراعين مطرق
ومنه اخذ المتنبى فقال:
كأنّ على الأعناق منها الأفاعيا
وقال أبو نواس يصفها بالسرعة:
وتجشّمت بى هول كلّ تنوفة «5» ... هو جاء فيها جرأة «6» إقدام
تذر المطىّ وراءها «7» وكأنها ... صفّ تقدّمهنّ وهى إمام(10/118)
وقال الفرزدق منشدا:
تنفى يداها الحصى فى كلّ «1» هاحرة ... نفى الدّراهيم «2» تنقاد الصّياريف «3»
وقال آخر:
تطير مناسمها بالحصى ... كما نقد الدرهم الصّيرف
وقال الغطمّش «4» :
كأن يديها حين جدّ نجاؤها ... يدا سابح فى غمرة يتبوّع «5»
وقال آخر فى نوق:
خوص نواج إذا حثّ الحداة بها ... حسبت أرجلها قدّام أيديها
وقال القطامىّ:
يمشين رهوا «6» فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتّكل
فهنّ معترضات «7» والحصى رمض «8» ... والرّيح ساكنة والظلّ معتدل(10/119)
وقال أبو نواس:
ولقد تجوب بى الفلاة إذا ... صام «1» النّهار وقالت العفر «2»
شدنيّة «3»
رعت الحمى فأتت ... مثل الجبال كأنها قصر
وقال الأحمر «4»
:
حمراء من نسل المهارى نسلها ... إذا ترامت يدها ورجلها
حسبتها غيرى استفزّ عقلها ... أتى «5» التى كانت تخاف بعلها
ذكر ما قيل فى البقر الأهلية
عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت إنّا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث» ؛ فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلّم! قال: «فإنى أو من بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما «6»
هما ثمّ.(10/120)
وقال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: إنّ الفحل من البقر ينزو إذا تمّت له سنة من عمره؛ وقد ينز ولعشرة أشهر. والبقرة إذا ولدت تحدّر لبنها من يومها، ولا يوجد لها لبن قبل أن تضع. وهى تحمل تسعة أشهر وتضع فى العاشر؛ فإن وضعت قبل ذلك لا يعيش ولدها. وربما وضعت اثنين، وهو نادر. وهم يتشاءمون بها إذا وضعت اثنين. وإذا مات ولدها أو ذبح لا يسكن خوارها ولا يدرّ لبنها؛ ولذلك الرّعاء يسلخون جلد ولدها ويحشونه لتدرّ له وتسكن، ويسمونه «البوّ» .
والبقر يحبّ الماء الصافى، بضدّ الخيل والجمال. وقال المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب: رأيت بالرّىّ نوعا من البقر تبرك كما تبرك الإبل وتحمل فتثور بحملها، والغالب عليها حمرة الحدق. وحكى أسامة «1»
بن منقذ فى كتابه «2»
أن فى «3»
بعض البلدان بقرا لها أعراف كالخيل. ولعلّها الأبقار التى توجد فيها البراجم. والبراجم فى أطراف أذنابها وفى أكتافها. ويقال: إنّ أبقار البراجم تخرج من بحر الصّين(10/121)
وهى تلد وترضع «1»
؛ ولذلك يقال البراجم البحريّة. وبأرض مصر بناحيتى دمياط وتنّيس بقر تسمى بقر الخيس «2»
، ضخام حسان الصّور والشّيات، ولها قرون كالأهلّة، وفيها نفور وتوحّش، لا ينتفع بها فى العمل وإنما ينتفع بألبانها. وهى لا تعلف الحبّ، ومأواها حيث يكون العشب والماء الدائم؛ ولها أسماء يدعونها بها إذا أرادوا حلبها، فتقدّم إليهم.
وقد وصف الشعراء البقر فى أشعارها؛ فمن ذلك قول أحمد «3»
بن علوّيه الأصبهانىّ:
يا حبّذا محضها «4» ورائبها ... وحبّذا فى الرّجال صاحبها
عجّولة «5»
سمحة مباركة ... ميمونة طفّح محالبها
تقبل للحلب كلما دعيت ... ورامها للحلاب حالبها
فتيّة سنّها، مهذّبة ... معنّف فى النّدىّ «6»
عائبها(10/122)
كانها لعبة مزيّنة ... يطير عجبا بها ملاعبها
كأنّ ألبانها جنى عسل ... يلذّها فى الإناء شاربها
عروس باقورة «1» إذا برزت ... من بين أحبالها ترائبها
كأنها هضبة إذا انتسبت «2»
أو بكرة قد أناف «3»
غاربها
تزهى بروقين كاللّجين إذا ... مسّهما بالبنان طالبها
لو أنها مهرة لما عدمت ... من أن يضمّ السرور راكبها
وأنشدنى شمس الدين بن دانيال لنفسه:
لله عجلة خيس ... صفراء ذات دلال
تريك عينى مهاة ... من تحت قرنى غزال
قد سربلت بأصيل ... وتوّجت بهلال
وقال شاعر «4»
يصف صوت الحلب:
كأنّ صوت شخبها «5» المرفضّ ... كشيش «6»
أفعى أجمعت لعضّ
وهى تحكّ بعضها ببعض
وقال:
كأن صوت شخبها غديّه ... هفيف ريح أو كشيش حيّه(10/123)
ذكر ما قيل فى الجاموس
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ:
والجواميس هى ضأن البقر. والجاموس أجزع الحيوان من البعوض وأشدّها هربا منه إلى الماء؛ وهو يمشى إلى الأسد رخىّ البال، رابط الجأش، ثابت الجنان.
وقد حكى عن المعتصم بالله العباسىّ أنه أبرز للاسد جاموستين فغلبتاه، ثم أبرز له جاموسة ومعها ولدها فغلبته وحمت ولدها، ثم أبرز له جاموسا مفردا فواثبه ثم أدبر عنه. هذا على ما فى الأسد من القوّة فى فمه وكفّه والجرأة العظيمة والوثبة وشدّة البطش والصبر والحضر والطّلب والهرب؛ وليس ذلك فى الجاموس، ولا يستطيل بغير قرنه، وليس فى قرنه حدّة قرن بقر الوحش؛ فإذا قوى الجاموس مع ذلك حتى يقاوم الأسد دلّ على قوّة عظيمة. ولذلك قدّم الجاحظ الجاموس على الأسد، وعلّل تقديمه عليه بهذه العلّة. وليس ما حكى عن المعتصم فى أمر الجاموس وغلبته للأسد بعجيب؛ فإنّ الجواميس بالأغوار تقاتل الأسد وتمانعه وتدفعه فلا يقدر على قهرها.
وأصحاب الجواميس هناك منهم من يغلّف قرونها بالنّحاس ويحدّدون أطرافه، يقصدون «1»
بذلك إعانته على حرب الأسد وقتاله.
والجاموس عندنا بالديار المصرية يقاتل التّمساح الذى هو أسد البحر ويتمكّن منه ويقهره فى الماء؛ فهو قد جمع بين قتال أسد البرّ وأسد البحر. وله قدرة عظيمة على طول المكث فى قعر البحر. والتماسيح لا تكاد تأوى موارد الجواميس من بحر النيل وتتجنّب أماكنها.(10/124)
والجواميس فى أرض الشأم من الأغوار والسواحل والأماكن الحارّة الكثيرة المياه ينتفع بها فى الحرث والحمولة وجرّ العجل وحلب ألبانها. وأمّا [فى «1»
] الدّيار المصرية فلا يستعملونها «2»
البتّة ولا ينتفعون بها إلا بما يتحصّل من ألبانها ونتاجها.
وفحول الجواميس يكون بينها قتال شديد ومحاربة؛ فأيّما فحل غلب وقهره خصمه، لا يأوى ذلك المراح، بل ينفرد بنفسه فى الجزائر الكثيرة العشب شهورا وهو يأكل من تلك الأعشاب ويشرب من ماء النيل، وينفرد خصمه بالإناث؛ فإذا علم الهارب من نفسه القوّة والجلد، رجع إلى المراح وقد توحّش واستطال، ويكون خصمه قد ضعفت قواه فلا يقوم «3»
بمحاربته؛ ولكنه لا يولّى عنه إلا بعد محاربته. فإذا قهره ترك الآخر المراح وتوجّه إلى جزيرة وفعل كما فعل الأوّل وعاد إلى خصمه.
ولبن الجاموس من ألذّ الألبان وأدسمها. والرّعاء يسمّون كلّ جاموسة باسم تعرفه إذا دعيت به إلى الحلب، فتجيب وتأتيه وتقف حتى يحلبها.
ذكر ما قيل فى الغنم الضّأن والمعز
روى عن أنس بن مالك وعطاء رضى الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الغنم بركة موضوعة» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه(10/125)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم «1»
غنما يتبع بها شعف «2»
الجبال ومواقع القطر يفرّ بدينه من الفتن» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأس الكفر نحو المشرق والفخز والخيلاء فى أهل الخيل والإبل والفدّادين «3»
أهل الوبر والسكينة فى أهل الغنم» .
ومن فضل الغنم ما رواه أبو هريرة رضى الله عنه: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبيّا إلا ورعى الغنم» . فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟
قال: «نعم [كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة «4»
] » . وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم مائة شاة لا يريد أن تزيد كلّما ولّد الراعى بهمة ذبح مكانها شاة.
وقال ابن الأثير فى تاريخه: وكان له شاة تسمى «غوثة «5»
» ، وقيل «غيثة» ، وعنز(10/126)
تسمى «اليمن» . وذكر بعض المتأخّرين من أهل الحديث أنّ مكحولا سئل عن جلد الميتة، فقال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة تسمى «قمر» ؛ ففقدها فقال: «ما فعلت قمر» ؟ فقالوا: ماتت يا رسول الله؛ قال: «ما فعلتم بإهابها» ؟
قالوا: ميتة؛ قال: «دباغها طهورها» .
قال الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطى رحمه الله تعالى فى كتاب [فضل] الخيل: وكانت منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم سبعا: «عجرة» و «زمزم «1» » و «سقيا» و «بركة» و «ورشة» و «أطلال» و «أطراف «2» » . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبع أعنز منائح ترعاهنّ أمّ أيمن. قال: والمنيحة: الناقة والشاة تعطيها غيرك فيحلبها ثم يردّها عليك. قال أبو عبيد: للعرب أربعة أسماء تضعها مواضع العارية، وهى: المنيحة، والعريّة، والإفقار «3» ، والإخبال «4» .
ذكر ترتيب سنّ الغنم
ولد الشاة حين تضعه ذكرا كان أو أنثى «سخلة» و «بهمة» . فإذا فصل عن أمّه فهو «حمل» و «خروف» . فإذا أكل واجترّ فهو «بذج» «5» و «فرفور» . فإذا(10/127)
بلغ النّزو فهو «عمروس» . وكلّ أولاد الضأن والمعز فى السنة الثانية «جذع» ؛ وفى الثالثة «ثنىّ» ؛ وفى الرابعة «رباع» ؛ وفى الخامسة «سديس» ؛ وفى السادسة «سالغ «1» » . وليس له بعد هذا اسم. ويقال لولد المعز: «جفر» ثم «عريض» «وعتود» و «عناق» . والغنم، الضأن والمعز، تضع حملها فى خمسة أشهر. وتلد النعجة رأسا إلى ثلاثة، والعنز من الرأس إلى أربعة. وينزو الذكر بعد مضىّ ستة شهور من ميلاده. وتحمل الأنثى بعد مضىّ خمسة أشهر من يوم ولدت. ويجزّ صوف الضأن عنها فى كل سنة. ولحوم الضأن من أطيب اللّحمان؛ وكذلك ألبانها.
وقد أطنب الجاحظ فى المفاخرة بين الضأن والمعز وأطال وأتى بالغثّ والسّمين.
وكتب أبو الخطّاب الصابى إلى الحسين بن صبرة جوابا عن رقعة أرسلها إليه فى وصف حمل أهداه إليه، جاء منها:
«وصلت رقعتك؛ ففضضتها عن خطّ مشرق، ولفظ مؤنق؛ وعبارة مصيبة، ومعان غريبة؛ واتّساع فى البلاغة يعجز عنه عبد الحميد فى كتابته، وسحبان فى خطابته. وذكرت فيها حملا، جعلته بصفتك جملا؛ وكان كالمعيدىّ أسمع به ولا أراه «2» . وحضر، فرأيت كبشا متقام الميلاد، من نتاج قوم عاد؛ قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور؛ فظننته أحد الزوجين «3» اللذين حملهما نوح فى سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذريّته. صغر عن الكبر، ولطف فى القدر؛ فبانت دمامته،(10/128)
وتقاصرت قامته؛ وعاد نحيفا ضئيلا، باليا هزيلا؛ بادى السّقام، عارى العظام؛ جامعا للمعايب، مشتملا على المثالب؛ يعجب العاقل من حلول الروح فيه؛ لأنه عظم مجلّد، وصوف ملبّد؛ لا تجد فوق عظامه سلبا «1» ، ولا تلقى اليد منه إلا خشبا؛ لو ألقى للسّبع لأباه، أو طرح للذئب لعافه وقلاه؛ وقد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده؛ لم ير القتّ «2» إلّا نائما، ولا الشعير إلا حالما. وقد خيّرتنى بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون فيه خصب الشّهر؛ فملت إلى استبقائه؛ لما تعلمه من محبّتى فى التوفير، ورغبتى فى التّثمير؛ وجمعى للولد، وادّخارى لغد؛ فلم أجد فيه مستمتعا للبقاء، ولا مدفعا للفناء؛ لأنه ليس بأنثى فيحمل، ولا بفتىّ فينسل، ولا بصحيح فيرعى «3» ، ولا بسليم فيبقى؛ فملت إلى الثانى من رأييك، وعملت بالآخر من قوليك؛ وقلت: أذبحه فيكون وظيفة للعيال، وأقيمة رطبا مقام قديد الغزال؛ فأنشدنى وقد أضرمت النار، وحدّدت الشّفار، وشمّر الجزّار:
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم
وما الفائدة لك فى ذبحى! وإنما أنا كما قيل:
لم يبق إلّا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت
ليس لى لحم يصلح»
للأكل، فإنّ الدهر أكل لحمى؛ ولا جلد يصلح للدّبغ، فإن الأيام مزّقت أديمى؛ ولا صوف يصلح للغزل، فإن الحوادث حصّت «5» وبرى.(10/129)
وإن أردتنى للوقود فكفّ بعر أدفأ من نارى، ولم تف حرارة جمرى برائحة قتارى «1» .
ولم يبق إلّا أن تطالبنى بذحل «2» أو بينى وبينك دم. فوجدته صادقا فى مقالته، ناصحا فى مشورته. ولم أعلم من أىّ أموره أعجب: أمن مماطلته الدّهر على البقاء، أم من صبره على الضّر والبلاء، أم من قدرتك عليه مع عوز مثله، أم من إتحافك الصديق به على خساسة قدره. ويا ليت شعرى إذا «3» كنت والى سوق الأغنام، وأمرك ينفذ فى المعز والضأن؛ وكلّ حمل سمين، وكبش بطين؛ مجلوب «4» إليك، وموقوف عليك، تقول فيه فلا تردّ، وتريد فلا تصدّ؛ وكانت هديّتك هذا الذى [كأنه «5» ] انشر من القبور، أو أقيم عند النّفخ فى الصّور؛ فما كنت مهديا لو أنك رجل من عرض الكتّاب، كأبى علىّ وأبى الخطّاب! ما تهدى إلّا كلبا أجرب، أو قردا أحدب.
وقال شاعر فى هذا المعنى:
ليت شعرى عن الخروف الهزيل ... ألك الذّنب فيه أم للوكيل
لم أجد فيه غير جلد وعظم ... وذنيب له دقيق طويل
ما أرانى أراه يصلح إذ أص ... بح رسما على رسوم الطّلول
لا لشيّ ولا لطبخ ولا بي ... ع ولا برّ صاحب وخليل
أعجف لو مطفّل نال منه ... لغدا تائبا عن التّطفيل «6»(10/130)
وقال شرف الدّين بن عين وقد أهدى له بعض أصدقائه خروفا بعد ما مطله به:
أتانى خروف ما تشكّكت أنّه ... حليف جوى قد شفّه الهجر والمطل
إذا قام فى شمس الظهيرة خلته ... خيالا سرى فى ظلمة ماله ظلّ
فناشدته: ما تشتهى؟ قال: قتة ... وقاسمته «1» : ما شفّه؟ قال لى: الأكل
فأحضرتها خضراء مجّاجة الثرى ... منعّمة ما خصّ أطرافها فتل
وظلّ يراعيها بعين ضعيفة ... وينشدها والدّمع فى الخدّ منهلّ:
«أتت وحياض الموت بينى وبينها ... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل»
وقال الحمدونىّ فى المعزى:
أبا سعيد لنا فى شاتك العبر ... جاءت وما إن بها بول ولا بعر
وكيف تبعر شاة عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان: الشمس والقمر
لو أنّها أبصرت فى نومها علفا ... غنّت له ودموع العين تنحدر:
«يا مانعى لذّة الدنيا بما رحبت ... إنى ليقنعنى من وجهك النظر»
وقال أيضا:
ما أرى إن ذبحت شاة سعيد ... حاصلا فى يدىّ غير الإهاب
ليس إلّا عظامها، لو تراها ... قلت هذى أرازن «2» فى جراب(10/131)
وقال فيها:
لسعيد شويهة ... سلّها الضّرّ والعجف
قد تغنّت وأبصرت ... رجلا حاملا علف:
بأبى من بكفّه ... برء دائى من الدّنف
فأتاها مطمّعا ... فأتته لتعتلف
فتولّى وأقبلت ... تتغنّى من الأسف:
ليته لم يكن وقف ... عذّب القلب وانصرف(10/132)
القسم الرابع من الفن الثالث فى ذوات السموم
، وفيه بابان
الباب الأوّل من هذا القسم فى ذوات السموم القواتل.
ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى الحيّات والعقارب.
ذكر ما قيل فى الحيّات
الحيّات مختلفات الجهات جدّا. وهى من الأمم التى يكثر اختلاف أجناسها فى الصّور والشّيم، والصّغر والعظم، وفى التعرّض للناس وفى الهرب منهم. فمنها «1» ما لا يؤذى إلا أن تطأها. ومنها ما يؤذى إذا وطئت فى حماها. ومنها ما لا يؤذى فى تلك الحال إلا أن تكون على بيضها أو فراخها. ومنها ما لا يؤذى إلّا أن يكون الناس قد آذوها مرّة. فأمّا «الأسود» فإنه يحقد ويطالب ويكمن فى المتاع حتى يدرك؛ وله زمان يقتل فيه كلّ شىء نهشه. وأما «الأفعى» فليس ذلك عندها، ولكنها تظهر فى الصيف مع أوائل الليل إذا سكن وهج الرّمل أو ظاهر الأرض، فتأتى قارعة الطريق حتى تستدير كالرّحى وتشخص رأسها؛ فمن وطئ عليها أو مسّها نهشته. وهى من الحيّات التى ترصد؛ وهى تقتل فى كل زمان وعلى كل حال.
و «الشّجاع» يواثب ويقوم على ذنبه. والحيّات أصناف كثيرة سنذكر ما أمكن ذكره منها إن شاء الله.(10/133)
والعرب تضرب المثل فى الظلم بالحيّة فيقولون: «أظلم من حيّة» ، لأنها لا تتخذ لنفسها بيتا، وكل بيت قصدت نحوه هرب أهله منه وأخلوه لها.
والحيّة مشقوقة اللسان، ولسانها أسود. وزعم بعض المفسرين لكتاب الله عز وجل أنّ الله تعالى عاقب الحيّة، حين أدخلت إبليس فى فمها حتى خاطب آدم وحواء وخدعهما، بعشرة أشياء: منها شقّ لسانها؛ فلذلك ترى الحيّة إذا ضربت لتقتل كيف تخرج لسانها لترى الضارب لها عقوبة الله تعالى، كأنها تسترحم. ويقال: إن من خصائص الحيّة أنّ عينها إذا قلعت عادت، وكذلك نابها إذا قلع أو قطع بالكاز «1» عاد بعد ثلاث ليال؛ وكذلك ذنبها إذا قطع عاد. وفى طباعها أنها تهرب من الرجل العريان، وتفرح بالنار وتطلبها وتعجب بها، وباللبن والبطيخ واللّفّاح «2» والخردل.
وهى لا تضبط نفسها عن الشّراب إذا شمّته؛ وإذا وجدته شربت منه حتى تسكر؛ فربما كان السّكر سبب حتفها؛ لأنها إذا سكرت خدرت. وتكره الحيّة ريح السّذاب «3» ولا تملك نفسها [معه «4» ] ، وربما اصطيدت به؛ وتكره ريح الشّيح. والحيّة تذبح حتى تفرى أوداجها فتبقى أياما لا تموت. ومتى ضربت بالقصب الفارسىّ ماتت، وإن ضربت بسوط قد مسّه عرق الخيل ماتت. ويقال: إنها لا تموت حتف أنفها إلا أن تقتل.(10/134)
ومن أعجب ما شاهدته أنا من الأفاعى أنها قطّعت بحضورى بالبيمارستان «1» المنصورى بالقاهرة المعزّيّة فى شهور سنة ستّ وسبعمائة بسبب عمل الدّرياق الفاروق «2» ؛ وقطع من رأسها وذنبها ما جرت العادة بقطعه، وسلخت وشقّ بطنها ونظّفت وهى تختلج، ثم سلقت وجرّد لحمها عن العظم، فنظرت إليه فإذا هو يختلج؛ فعجبت لذلك؛ وذكرته لرئيس الأطبّاء علم الدّين «3» المعروف بابن أبى حليقة وهو حاضر فى المجلس، فقال: ليس هذا بأعجب مما تراه الان، وقال لى: استدع أقراص الأفاعى التى عملت من أكثر من سنة؛ فاستدعيتها، فأحضرها الخازن وهى فى العسل وقد دقّ لحم الأفاعى بعد سلقه وعجن بالسّميذ وجعل أقراصا ووضع فى العسل من أكثر من سنة؛ فقال لى: تأمّل الأقراص؛ فتأملتها فإذا هى تضطرب اضطرابا خفيفا «4» .
وقال الجاحظ: وزعم صاحب المنطق أنّ الحيّات تنسلخ عن جلودها فى كل عام فى أوّل فصل الربيع أو الخريف؛ وتبتدئ بالسّلخ من عيونها ويتمّ سلخها فى يوم وليلة، ويصير داخل الجلد هو الخارج. وإذا هرمت وعجزت عن السلخ(10/135)
وارتخى جسمها أدخلت جسمها بين عودين أو فى صدع ضيق حتى تنسلخ، ثم تأتى إلى عين ماء فتنغمس فيها فيشتدّ لحمها ويعود إلى قوّته وشدّته.
قال الجاحظ: وليس فى الأرض مثل جسم الحيّة إلا والحيّة أقوى بدنا منه أضعافا. ومن قوّتها أنها إذا أدخلت صدرها فى حجر أو صدع لم يستطع أقوى الناس وقد قبض على ذنبها بكلتا يديه أن يخرجها، لشدّة اعتمادها وتعاون أجزائها؛ وربما انقطعت فى يد الجاذب لها. فإذا أراد أن يخرجها أرسلها بعض إرسال ثم يجذبها كالمختطف لها. قال: ومن أصناف الحيّات ما هو أزعر، وما هو أزبّ (ذو شعر) ، ومنها ذوات قرون. ومنها ما يسمى الأسود وهو ما إذا كان مع الأفاعى فى جونة «1» وجاع ابتلعها من قبل رءوسها، ومتى رام ذلك من غير جهة الرأس عضّته فقتلته. ومن أصنافها ما يسمى «الأصلة» ، وهو ثعبان عظيم جدّا، وله وجه كوجه الإنسان؛ ويقال: إنه يصير كذلك إذا مرّت عليه ألوف من السنين. وهو يقتل بالنظر وبالنفخ. ومنهم من يسمّى هذا النوع الصّلّ، ويقول: إنّ أصل خلقته على هذه الصفة. قال: وفى البادية حيّة يقال لها «الحفّاث» تأكل الفأر وأشباهه.
وهى عظيمة، ولها وعيد منكر ونفخ وإظهار للصولة، وليس وراء ذلك شىء؛ والجاهل ربما مات من الفزع منها.
قالوا: والثعبان «2» والأفعى فإنه يقتل بما يحدثه من الفزع؛ لأن الرجل إذا فزع تفتّحت مسامّه ومنافسه، فيتوغّل السمّ فى موضع الصّميم «3» وأعماق البدن. فإن(10/136)
نهشت «1» النائم والمغمى عليه والمجنون والطفل الصغير لم تقتله «2» البتّة. وزعم صاحب المنطق أنّ بالحبشة حيّات لها أجنحة. وأخبرنى المولى شرف الدين أحمد بن اليزدىّ قال: كنت بمدينة الرّملة «3» فى شهور سنة اثنتين وسبعمائة صحبة الصاحب شرف الدين بن الخليل ومعه القاضى الحاكم وجماعة كثيرة من الناس وفيهم عدولى «4» وغيرهم؛ فنظرنا نحو السماء فإذا نحن بحيّتين عظيمتين طائرتين فى الهواء قاصدتين صوب البحر، كلّ منهما فى غلظ الثنيانة «5» ، وإن إحداهما مستقيمة فى طيرانها والأخرى تتعوّج من قبل رأسها ووسطها وذنبها، وكانتا من الأرض بحيث لا يبلغهما السهم، قال: فسطّرنا بذلك محضرا على عدّة نسخ.
وحكى بعض المؤرّخين: أنه وجد فى خزائن المستنصر بالله «6» العبيدى أحد خلفاء مصر بيضة محلّاة بالذّهب ظنّوا أنها بيضة نعامة؛ فجعل الناس يتعجّبون من تحليتها(10/137)
بالذّهب؛ فذكروا ذلك للمستكفى، فقال: إنها بيضة حيّة كان بعض الملوك أهداها لجدّى القائم «1» بأمر الله.
ومن كتاب نشوار المحاضرة قال حدّثنا أبو إسحاق إبرهيم بن الورّاق قال حدّثنى عمى أبو الحسين «2» : أن الحصينىّ حدّثه عن أبى العبّاس بن الفرات قال حدّثنى أبى قال: قال لى جعفر «3» الخيّاط: أمرنى المأمون ونحن بالروم أن أقتصّ»
الطريق لئلا يكون به جواسيس للعدوّ؛ فأخذت معى جماعة من أصحابى فرسانا ورجّالة وسلكت الطريق، فعنّ لى شعب فقصدته لئلا يكون فيه كمين من الجواسيس، وتقدّمنى الرّجّالة فرأيتهم قد وقفوا؛ فأسرعت اليهم وسألتهم عن خبرهم، فقالوا:
انظر؛ فنظرت فإذا رجل من الرجّالة قد قعد لقضاء حاجته، ومشى أصحابه، فقصدته حيّة من وراء ظهره فابتلعته من رجليه إلى صدره وهو يستغيث ويصيح؛ فلم يكن لنا فيه حيلة وخفت أن آمر الرّجالة برمى الحيّة بالنّشّاب فيصيب الرجل فأكون أنا قتلته. فبسط الرجل يديه وانتهى بلع الحيّة إلى إبطيه، فرأيتها وقد انضمّت على(10/138)
ما ابتلعته منه ضمّة سمعنا تكسير عظامه فى جوفها، فمات وسقطت يداه فابتلعته حينئذ بأسره. فقلت: الآن أقصدوها بالنّشّاب؛ فرشقناها جميعا فأثبتناها فى موضعها حتى قتلناها؛ فأمرت بشق بطنها لأعاين جسم الرّجل، فلم نجد فى بطنها من جلد ولا عظم ولا غيرهما إلا شيئا كالخيط الأسود، فإذا هى قد أحرقته فى لحظة واحدة.
ويقال: إن بجزائر الصين حيات تبتلع الإبل والبقر وشبهها.
قال الجاحظ: حدّثنى أبو جعفر المكفوف النحوىّ العنبرىّ وأخوه روح الكاتب ورجال من بنى العنبر: أنّ عندهم فى رمال بلعنبر حيّة تصيد العصافير وصغار الطير بأعجب حيلة؛ وزعموا أنها إذا انتصف النهار واشتدّ الحرّ فى رمال بلعنبر وامتنعت الأرض على الحافى والمنتعل، غمست هذه الحيّة ذنبها فى الأرض ثم انتصبت كأنها عود مركوز أو عود نابت «1» ، فيجىء الطائر الصغير والجرادة، فإذا رأى عودا قائما وكره الوقوع على الرّمل لشدّة حرّه وقع على رأس الحيّة على أنها عود، فإذا وقع على رأسها قبضت عليه. فإن كان جرادة أو جعلا أو بعض ما لا يشبعها ابتلعته وبقيت على انتصابها؛ وإن كان طائرا يشبعها أكلته وانصرفت؛ وإن ذلك دأبها ما منع الرمل جانبه فى الصيف والقيظ.
قال: وزعم لى رجال من الصّقالبة خصيان وفحول أنّ الحيّة فى بلادهم تأتى البقرة المحفّلة «2» فتنطوى على فخذيها وركبتيها إلى عراقيبها ثم تشخص صدرها نحو أخلاف ضرعها حتى تلتقم الخلف، فلا تستطيع البقرة مع قوّتها أن تترمرم «3» ؛ فلا تزال الحيّة(10/139)
تمصّ اللبن، وكلما مصّت استرخت؛ فإذا كادت تتلف أرساتها. وزعموا أنّ تلك البقرة إما أن تتلف، وإما أن يصيبها داء فى ضرعها وفساد شديد يعسر دواؤه.
وهذا الباب طويل؛ وقد أوردنا منه ما فيه غنية. فلنذكر ما قيل فى أصناف الحيّات وأوصافها.
ذكر أسماء الحيّات وأوصافها
- يقال: «الجانّ» «1» و «الشيطان» هى الحيّة الخبيثة. و «الحنش» : ما يصاد من الحيّات. و «الحيّوت» : الذكر منها.
و «الحفّاث» و «الحضب» «2» : الضخم منها. و «الأسود» : العظيم وفيه سواد؛ ويقال: الأسود هو الداهية؛ وله خصيتان كخصيتى الجدى، وشعر أسود، وعرف طويل، وصنان كصنان التّيس. و «الشّجاع» : أسود أملس يضرب إلى البياض، خبيث؛ ويقال: إنه دقيق لطيف. و «الأعيرج» : حيّة صمّاء لا تقبل الرّقى وتطفر كما تطفر الأفعى. ويقال: الأعيرج: حيّة أريقط نحو من ذراع، وهو أخبث من الأسود. وقال ابن الأعرابىّ: الأعيرج أخبث الحيّات، يقفز على الفارس حتى يصير معه فى سرجه. وقال الليث عن الخليل: الأفعى التى لا تنفع معها رقية ولا درياق، وهى دقيقة العنق عريضة الرأس. وقال غيره: هى التى إذا مشت منثنية جرشت بعض أسنانها ببعض. وقال غيره: هى التى لها رأس عريض ولها قرنان. والأفعوان» : الذكر من الأفاعى. و «العربدّ» و «العسودّ» حية تنفخ ولا تؤذى. و «الأرقم» : الذى فيه سواد وبياض، و «الأرقش» نحوه.
و «ذو الطّفيتين» : الذى له خطّان أسودان. و «الأبتر» : القصير الذنب.
و «الخشخاش» : الحيّة الخفيفة. و «الثعبان» : العظيم منها، وكذلك «الأيم»(10/140)
و «الأين» . و «ابن قترة» : حيّة شبيهة بالقضيب من الفضّة فى قدر الشّبر والفتر، وهى أخبث الحيّات، فإذا قرب من الانسان تراءى فى الهواء فوقع عليه من أعلاه.
و «ابن طبق» : حيّة صفراء؛ ومن طبعها أن تنام ستة أيام ثم تنتبه فى اليوم السابع. ولا تنفخ شيئا إلا أهلكته قبل أن يتحرّك. وربما مرّ بها الرجل وهى نائمة فيأخذها كأنها سوار من ذهب، فإن استيقظت وهى فى كفّه خرّ ميتا. ومن أمثال العرب «أصابته إحدى بنات طبق» . قال الليث: «السّفّ» «1» : الحيّة التى تطير فى الهواء. وأنشد:
وحتى لو انّ السّفّ ذا الريش عضّنى ... لما ضرّنى من فيه ناب ولا ثعر «2»
و «النّضناض» «3» : الذى لا يسكن فى مكان.
ومن أسمائها «القزة» «4» و «الهلال» و «الرّعّاصة» «5» .
ذكر ما فى لحوم الحيّات من المنافع والأدوية
قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: والحيّة يستعمل مطبوخها بالماء والملح والشّبث، وقد يزاد عليها الزّيت. قال: وأجود لحمه لحم الأنثى؛ وأجود سلخه «6» سلخ(10/141)
الذّكر. وطبع «1» الحيّة إلى التجفيف فى لحمها قوىّ؛ وأما التسخين فليس بشديد؛ وسلخه شديد التجفيف أيضا. وخاصيّة لحمه أنه ينفذ الفضول إلى الجلد، سيّما إذا كان الإنسان غير نقىّ. قال: ولحمه إذا استعمل أطال العمر، وقوّى القوّة، وحفظ الحواسّ «2» والشباب- أمّا قوله: «أطال العمر» فيردّ هذا القول ما ورد فى الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فرغ ربّك من أربع خلق وخلق ورزق وأجل» «3» . وأما ما عدا ذلك فغير مردود عليه-. قال:
وأكله ينفع من الجذام نفعا عظيما؛ وإذا استعمل على داء الثعلب «4» نفع نفعا عظيما.
ولحمها ومرقها بعد إسقاط طرفها يمنع تزيّد الخنازير «5» ، وكذلك سلخها. ومرقتها إذا تحسّيت «6» وأكل لحمها نفع من أوجاع العصب، وكذلك سلخها. قال:
وسلخها إذا طبخ فى شراب وقطّر منه فى الأذن سكن وجعها؛ ويتمضمض بخلّ طبخ فيه السّلخ لوجع السّن. قال: وزعم جالينوس أنه إذا أخذت خيوط كثيرة، وخصوصا المصبوغة بالأرجوان، وخنق بها أفعى ولفّ واحد منها على عنق صاحب أورام اللهاة والحلق ظهر نفع عجيب. ومرقته ولحمه يقوّيان البصر. قال: واتفقوا على أنّ شحم الأفعى يمنع نزول الماء إلى العين، ولكنّ الإنسان لا يجسر على ذلك.
وإذا شقّت الحيّة ووضعت على نهش الأفاعى سكن الوجع.(10/142)
ذكر شىء مما وصفت به الأفاعى
قال بعض الشعراء يصف حيّة:
لا ينبت العشب فى واد تكون به ... ولا يجاورها وحش ولا شجر
جرداء شابكة الأنياب «1» ذابلة ... ينبو من اليبس عن يافوخها «2» الحجر
لو شرّحت بالمدى ما مسّها بلل ... ولو تكنّفها «3» الحاوون ما قدروا
قد جاهدوها فما قام الرّقاة «4» لها ... وخاتلوها «5» فما نالوا «6» ولا ظفروا
يكبو لها الورل «7» العادى إذا نفخت ... جبنا «8» ويهرب منها الحيّة الذّكر
وقال خلف الأحمر:
وكأنّما لبست بأعلى جسمها ... بردا من الأثواب أنهجه «9» البلى
فى عينها قبل «10» وفى خيشومها ... فطس وفى أنيابها مثل المدى(10/143)
وقال آخر:
أرقم كالدّرع فيه وشم ... منمنم الظّهر واللّبان «1»
يزحف كالسّيل من تلاع ... كأن عينيه كوكبان
يهشم ما مسّ من نبات ... ويجذب النّفس بالعنان
وقال ابن المعتزّ:
أنعت رقشاء لا تحيا لديغتها ... لو قدّها السيف لم يعلق به بلل
تلقى إذا انسلخت فى الأرض جلدتها ... كأنها كمّ درع قدّه بطل
وقال الظاهر «2» البصرىّ شاعر اليتيمة:
سرت وصحبى وسط قاع صفصف ... إذ أشرفت من فوق «3» طود مشرف
رقشاء ترنو من قليب أجوف ... تومى «4» برأس مثل رأس المجرف
وذنب مندمج «5» معقّف ... حتى إذا أبصرتها لا تنكفى «6»
علوتها بحدّ سيف مرهف ... [فظلّ «7» يجرى دمها كالقرقف «8» ]
أتلفتها لما أرادت تلفى(10/144)
وقال خلف الأحمر:
له عنق مخضّرة مدّ ظهره ... وشوم كتحبير اليمانى المرقّم
إلى هامة مثل الرّحى مستديرة ... بها نقط سود وعينان كالدّم
وقال آخر «1» :
وحنش كحلقة السّوار ... غايته شبر من الأشبار
كأنه قضيب ماء جارى ... يفترّ عن مثل تلظّى النّار
وقال خلف الأحمر «2» :
صلّ صفّا لا تنطوى من القصر ... طويلة الإطراف من غير حسر «3»
داهية «4» قد صغرت من الكبر ... مهروتة الشّدقين حولاء النّظر
تفترّ عن عوج حداد كالإبر(10/145)
وقال أبو هلال العسكرىّ:
وخفيفة الحركات تفترع الرّبى ... كالبرق يلمع فى الغمام الرّائح
منقوطة تحكى صدور صحائف ... إبّان تبدو من بطون صفائح
ترضى من الدنيا بظلّ صخيرة ... ومن المعيشة باشتمام روائح «1»
وقال ابن المعتز:
كأننى ساورتنى يوم بينهم ... رقشاء مجدولة فى لونها برق
[كأنها حين تبدو من مكامنها ... غصن تفتح فيه النّور والورق «2» ]
ينسل منها لسان تستغيث به ... كما تعوّذ بالسبّابة الفرق «3»
وقال الهذلىّ فى مزاحف الحيّات:
كأنّ مزاحف الحيّات وهنا «4» ... قبيل الصبح آثار السّياط
وقال آخر:
كأنّ مزاحفه أنسع «5» ... جررن فرادى ومنها ثنى «6»(10/146)
ذكر ما قيل فى العقارب
قال الجاحظ: والعقارب أصناف: منها الجرّارة، والطيّارة، وماله ذنب كالحربة، وماله ذنب معقّف؛ وفيها السّود، والخضر، والصّفر. وهى من ذوات الذّرو «1» . ويقال: إنّ الأنثى من هذا النوع إذا حملت يكون حتفها فى ولادتها؛ لأن أولادها إذا استوى خلقها أكلت بطون الأمّهات حتى تنقبها، وتكون الولادة من ذلك النّقب، فتخرج والأمهات ميتة. وفى ذلك يقول الشاعر:
وحاملة لا تحمل الدّهر حملها ... تموت ويحيا «2» حملها حين تعطب
وقال أيضا: إنها تلد من فيها مرّتين، وتحمل أولادها على ظهرها وهى فى قدر القمل كثيرة العدد. قال: والعقرب شرّ ما تكون إذا كانت حبلى؛ ولها ثمان أرجل لها أظلاف مثل أظلاف الثور، وعيناها فى ظهرها. ومن عجيب أمرها أنها لا تضرب الميت ولا المغشىّ عليه ولا النائم، إلا أن يتحرّك شىء من بدنه؛ فإنها عند ذلك تضربه؛ وضربها له إنما هو من خوفها منه. وهى تأوى إلى الخنافس وتسالمها، وتصادق من الحيّات كلّ أسود سالخ. وربما لسعت الأفعى فتموت.
وفيها ما يلسع بعضه بعضا فيموت الملسوع. ويقال: إنها تستخرج من بيوتها بالجراد؛ لأنها تحرص على أكله. ومتى أدخل الكّرّاث فى حجرها وأخرج تبعته وما معها من نوعها. وهى إذا خرجت من جحرها تضرب كلّ ما لقيته من حيوان أو نبات أو جماد.(10/147)
وقيل لبعض الأطبّاء: إنّ فلانا يقول: إنما أنا مثل العقرب أضرّ ولا أنفع؛ فقال: ما أقلّ علمه بها! إنها تنفع إذا شقّ بطنها ووضعت على مكان اللّسعة. وقد تجعل فى جوف فخّار مسدود الرأس مطيّن الجوانب، ثم توضع الفخّارة فى تنّور؛ فإذا صارت العقرب رمادا سقى من ذلك الرماد من به حصاة نصف دانق فتفتّتها من غير أن تضرّ شيئا من الأعضاء. وقد تلسع من به حمّى عتيقة فتقلع عنه. وقد تلسع المفلوج فيذهب عنه الفالج. وقد تلقى العقرب فى الدّهن وتترك فيه حتى يأخذ منها ويجتذب قواها، فيكون ذلك الدّهن مصرّفا للأورام الغليظة. وقال الشيخ الرئيس: زيت العقارب نافع من أوجاع الأذن. فهذه منافعها.
وقال الجاحظ: ومن أعاجيب العقرب أنها لا تسبح ولا تتحرّك إذا ألقيت فى الماء، كان الماء جاريا أو ساكنا. قال: وهى تطلب الإنسان وتقصده؛ فإذا قصدها فرّت منه. وهى إذا ضربت الإنسان هربت هرب من قد أساء.
قال: ومن أعاجيب ما فى العقرب أنا وجدنا عقارب القاطول «1» يموت بعضها من لسع بعض، ثم لا يموت عن لسعتها شىء [غير العقارب «2» ] ، ونجد العقرب تلسع إنسانا فيموت وتلسع آخر فتموت هى؛ فدلّ ذلك على أنها كما تعطى تأخذ. ويقال: إن الذى تموت هى إذا لسعته تكون أمّه قد لسعت وهى حامل به. قال: ومن أعاجيبها أنها تضرب الطّست والقمقم النّحاس فتخرقه، وربما ضربته فثبتت إبرتها فيه.
قال: والعقارب القاتلة تكون فى موضعين: بشهرزور من بلاد الجبل، وعسكر مكرم «3» من بلاد الأهواز، وهى جرّارات؛ وإذا لسعت قتلت؛ وربما تناثر لحم من(10/148)
لسعته أو تعفّن ويسترخى حتى لا يدنو منه أحد إلا وهو يمسك أنفه مخافة إعدائه.
وهى فى غاية الصغر؛ فإن أكبر ما يوجد منها تكون زنته دانقا واحدا؛ والذى يوجد منها كبيرا تكون زنته ثلاث حبّات أرز؛ فإن وزنت بشعيرة رجحت الشعيرة عنها. وهى مع نزارتها تقتل الفيل والبعير بلسعتها. قال: وبنصيبين عقارب قتّالة يقال: إن أصلها من شهرزور، وإن بعض الملوك حاصر نصيبين فأتى بالعقارب من شهرزور ورمى بها فى كيزان بالمجانيق إلى البلد، فأعطى القوم بأيديهم «1» .
وقد وصف الشعراء العقرب وشبّهوها فى أشعارهم
؛ فمن ذلك قول السّرىّ الرفّاء:
سارية فى الظّلام مهدية ... إلى النفوس الرّدى بلا حرج
شائلة «2» ، فى ذنيبها حمة ... كأنها سبجة من السّبج «3»
وقال آخر:
ونضوة «4» تعرف باسم ولقب ... ما بين عينيها هلال منتصب
موجودة معدومة عند الطلب ... تطعن من لاقته من غير سبب
بخنجر تسلّه عند الغضب ... كأنه شعلة نار تلتهب
وقال آخر:
تحمل رمحا ذا كعوب مشتهر ... فيه سنان بالحريق مستعر
أنّف «5» تأنيفا على حين قدر ... تأنيف أنف القوس شدّت بالوتر(10/149)
وقال عبد الصمد بن المعذّل: [يدعو بها على عدوّ له «1» ] .
يا ربّ ذى إفك كثير خدعه «2» ... مستجهل الحلم «3» خبيث مرتعه
[يسرى إلى عرض الصديق قذعه ... صبّت عليه حين جمّت بدعه «4» ]
ذات ذنابى متلف من يلسعه ... تخفضه طورا وطورا ترفعه
أسود كالسّبجة فيه مبضعه ... ينطف منه سمّه وسلمعه «5»
تسرع فيه الحتف حين [تشرعه ... يبرز كالقرنين حين «6» ] تطلعه
فى مثل صدر السّبت «7» حين تقطعه ... لا تصنع الرقشاء ما قد تصنعه
وقال ابن حمديس:
ومشرعة بالموت للطعن صعدة «8» ... فلا قرن إن نادته يوما يجيبها
تذيقك حرّ السّمّ من وخز إبرة ... إذا لسبت «9» ماذا يلاقى لسيبها
إذا لم يكن لون البهارة لونها ... فمن يرقان «10» دبّ فيها شحوبها
لها سورة خصّت بمنكر صورة ... ترى العين فيها كلّ شىء يريبها
لها طعنة لا تستبين لناظر ... ولا يرسل المسبار «11» فيها طبيبها(10/150)
نسيت بها قيسا «1» وذكرى طعينه «2» ... وقد دقّ معناها وجلّ ندوبها «3»
تجىء كأمّ الشّبل غضبى توقّدت ... وقد توّج اليأفوخ «4» منها عسيبها «5»
عدوّ مع الإنسان يعمر بيته ... فكيف يوالى رقدة يستطيبها
ولولا دفاع الله عنّا بلطفه ... لصبّت من الدنيا علينا خطوبها(10/151)
الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثالث فيما هو ليس قاتلا بفعله من ذوات السموم
ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى الخنافس، والوزغ، والضبّ، وابن عرس، والحرباء، والقنافذ، والفيران، والقراد، والنمل، والذرّ، والقمل، والصّؤاب.
*** فأمّا الخنافس وما قيل فيها
- قالوا: والخنافس تتولّد من عفونة الأرض.
وهى أصناف، منها الخنفس المعروف؛
ومنها «الجعل»
ويسمّى «الكبرتل» .
وهو يتولّد من أخثاء البقر، وهو يموت إذا شمّ رائحة الطّيب، وإذا دفن فى الورد مات، وإذا أخرج منه ودفن فى الرّوث عاش. والغالب أنه لا يموت حقيقة وإنما يخدر وتبطل حركته؛ فإذا عولج بما نشأ منه قوى. والله أعلم. وله ستّ أرجل، وسنام مرتفع. وهو لا يصير كبرتلا حتى يصير له جناحان. وجناحاه يظهران إذا أراد الطيران ويخفيان إذا مشى. ومن عادة الجعل أن يحرس النّيام؛ فمن قام منهم لقضاء الحاجة تبعه طمعا أنه إنما يريد الغائط؛ والغائط قوت الجعل.
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر: وزعم الأعراب أنّ بين ذكور الخنافس وإناث الجعلان تسافدا، وأنهما ينتجان خلقا ينزع إليهما جميعا. قال: وأنشد سيويه لبعض الأعراب يهجو عدوّا له:
عاديتنا يا خنفسا أمّ الجعل ... عداوة الأوعال حيّات الجبل(10/152)
ويقال: إنّ الجعل يظلّ دهرا لا جناح له، ثم ينبت له جناحان. والعرب تقول فى أمثالها: «ألجّ من خنفساء» و «أفحش من فاسية» وهى الخنفساء. وفى لجاجة الخنفساء يقول الأحمر «1» :
لنا صاحب مولع بالخلاف ... كثير الخطاء «2» قليل الصواب
ألجّ لجاجا من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب
ومن أصناف الخنافس صنف يقال له «حمار قبّان» .
وهو يتولّد فى «3» الأماكن النديّة [على ظهره شبه المجنّ. ومنها صنف يسمّى «بنات وردان» . وهى أيضا تتولّد فى الأماكن النديّة «4» ] ، وأكثر ما تكون فى الحمّامات والسّقايات. وفيها من الألوان الأسود، والأصهب، والأبيض. قال بعض الشعراء يصف بنات وردان:
بنات وردان جنس ليس ينعته ... خلق كنعتى فى وصفى وتشبيهى
كمثل أنصاف بسر أحمر تركت ... من بعد تشقيقه أقماعه فيه
*** ومنها «الصّراصر والجنادب»
«5» . ولها صوت لا يفتر بالليل، فإذا طلع الفجر فقد. وفيه من الألوان الأسود وهو جندب «6» الجبال والآكام السّود؛ والأبرق «7» وهو جندب الطلح والسّمر والغضا؛ والأبيض وهو جندب الصحارى. قال السّرىّ الرّفّاء يصف جندبة:(10/153)
وجندبة تمشى بساق كأنّها ... على فخذ كالعود «1» منشار عرعر
ممسّكة «2» تجلو الجناح «3» كأنّها ... عروس تجلّت فى عطاف «4» معنبر
*** وأمّا الوزغ وما قيل فيه-
والوزغ يسمّى «سامّ أبرص» . وزعموا أنه أصمّ، وأنّ السبب فى صممه وبرصه أن الدوابّ كلّها حين ألقى إبراهيم عليه السلام فى نار النّمرود كانت تطفئ عنه، وأنّ هذا كان ينفخ عليه، فصمّ وبرص.
وروى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها أنّها قالت: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفى يدى عكّاز فيه زجّ «5» ، فقال: «يا عائشة ما تصنعين بهذا» ؟
قلت: أقتل به الوزغ فى بيتى؛ قال: «إن تفعلى فإنّ الدوابّ كلّها حين ألقى إبراهيم فى النار كانت تطفئ عنه وإنّ هذا كان ينفخ عليه فصمّ وبرص» . وفى حديث آخر عنها رضى الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للوزغ الفويسق.
قالوا: وفى طبع الوزغ أنه لا يدخل إلى بيت فيه زعفران. والحيّات تألف الوزغ، كما تألف العقارب الحنافس. وهو يطاعم الحيّات ويزاقّها. وهو يقبل(10/154)
اللّقاح بفيه، ويبيض كما تبيض الحيّة. وقيل: إنّ نصيبه من السّم نصيب متوسّط، لا يكمل أن يقتل، ومتى دبر «1» جاء منه سمّ قاتل. ومتى قتل ووضع على جحر حيّة هربت منه. وهو يقيم فى حجره أربعة أشهر الشتاء.
وقال الشيخ الرئيس: إذا ضمد به على الشوك والسّلّاء «2» جذبه، وعلى الثآليل «3» يقلعها. قال: وقيل: إنّ المجفّف منه إذا خلط بالزيت أنبت الشعر على القرع.
وبوله ودمه عجيب النّفع من فتق الصّبيان إذا جلسوا «4» فى طبيخه. وقد يجعل فى بوله أو دمه شىء من المسك ويجعل فى إحليل الصبىّ فيكون بالغ النفع فى الفتق.
وقيل: إنّ كبده تسكّن وجع الضّرس، وتشقّ وتوضع على لسع العقرب فيسكن.
*** وأمّا الضبّ وما قيل فيه
- قال الجاحظ فى كتاب الحيوان:
إنّ من أعاجيب الضبّ أنّ له أيرين وللضبّة حرين؛ قال: وهذا شىء لا يعرف إلّا لهما. هذا قول الأعراب فى تخصيصهما بذلك. وقالت الحكماء: إنّ السّقنقور «5»(10/155)
له أيران، والحرذون «1» كذلك. قال: وقال جالينوس: الضب الذى له لسانان يصلح لحمه لكذا وكذا. ومما يستدلّ به على أنّ للضبّ أيرين قول الفزارىّ:
سبحل «2» له نزكان كانا فضيلة ... على كل حاف فى البلاد وناعل
واسم أير الضبّ: النّزك. وسئل أبو حيّة النّميرىّ عن ذلك، فزعم «3» أنّ أير الضبّ كلسان الحيّة، الأصل واحد والفرع اثنان. وللأنثى مدخلان. وعلى ذلك أنشد الكسائىّ رحمه الله تعالى:
تفرّقتم لا زلتم قرن واحد ... تفرّق أير الضبّ والأصل واحد
ويقال: إنّ الضبّة إذا أرادت أن تبيض حفرت فى الأرض حفرة ثم رمت بالبيض فيها وطمّته بالتراب، وتتعاهده كل يوم حتى يخرج، وذلك فى أربعين يوما.
وهى تبيض سبعين بيضة وأكثر. وبيضها يشبه بيض الحمام. ويخرج الحسل وهو مطيق للكسب.
قالوا: والضبّ يخرج من جحره كليل البصر، فيجلوه بالتحدّق فى الشمس.
وهو يغتذى بالنسيم، ويعيش ببرد الهواء، وذلك عند الهرم.
قال الجاحظ: وزعم عمرو بن مسافر: أنّ الضبّة تبيض ستين بيضة وتسدّ عليهنّ باب الحجر ثم تدعهنّ أربعين يوما، فيتفقّص «4» البيض ويظهر ما فيه، فتحفر عنهن عند ذلك. فإذا كشفت عنهن أحضرن «5» وأحضرت فى أثرهنّ، فتأكل(10/156)
ما أدركت منهنّ. ويحفر المنفلت منها لنفسه حجرا، ويرعى من البقل. فلذلك توصف بالعقوق. ويضرب به المثل فى أكل حسوله. وفى ذلك يقول الشاعر:
أكلت بنيك أكل الضبّ حتى ... تركت بنيك ليس لهم عديد
قالوا: وفى ذنب الضبّ من القوّة ما يضرب به الحيّة فربما قطعها. والضبّ طويل العمر. وفى طبعه أنه يرجع فى قيئه. وهو شديد الإعجاب بالتمر. ويقال:
إنه يمكث ليلة بعد الذّبح ثم يقرّب إلى النار فيتحرّك.
قال الجاحظ: وزعمت العرب أنّ الضبّ يعدّ العقرب فى جحره؛ فإذا سمع صوت الحرش «1» استثفرها «2» فألزقها بأصل عجب «3» ذنبه وضمّه عليها، فإذا أدخل الحارش يده ليقبض على أصل ذنبه لسعته. وقيل: بل العقارب تألف الضّباب وتسالمها وتأوى إليها. قال التّميمىّ:
أتأنس بى ونجرك غير نجرى ... كما أنس «4» العقارب والضّباب
والضبّ من الحيوان المأكول؛ إلّا أنّ العرب تعيّر بنى تميم بأكل لحم الضبّ.
والدليل على إباحته ما جاء فى الحديث الصحيح: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى بيت ميمونة «5» رضى الله عنها، فقدّمت له مائدة وعليها ضبّ مشوىّ، فأهوى بيده ليأكل منه؛ فقيل له: يا رسول الله، إنه ضبّ؛ فرفع يده. فقال له(10/157)
خالد بن الوليد: يا رسول الله، أحرام هو؟ قال: «لا ولكنه ليس فى بلاد قومى فأنا لا آكله» ؛ فأكله خالد بن الوليد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهه؛ ولو كان حراما لنهاه صلى الله عليه وسلم عن أكله ولأخبر بتحريمه لمّا سئل عنه.
وقال أبو نواس يعيّر بأكل الضبّ:
إذا ما تميمىّ أتاك مفاخرا ... فقل عدّ عن ذا «1» كيف أكلك للضّبّ
وقال عمرو «2» بن الأهتم من أبيات:
ورددناهم إلى حرّتيهم «3» ... حيث لا يأكلون غير الضّباب
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: زبل الضبّ نافع لبياض العين، وينفع من نزول الماء.
وقد وصفه الحمّانىّ فقال وذكر أرضا:
ترى ضبّها مطلعا رأسه ... كما مدّ ساعده الأقطع
له ظاهر مثل برد موشّى «4» ... وبطن كما حسر الأصلع
هو الضبّ ما مدّ سكّانه ... وإن ضمّه فهو الضّفدع(10/158)
وأما الحرباء وما قيل فيها
- والحرباء لها أصابع، وأظنها لنبش التراب.
ولونها أسود وأصفر ومختلط الألوان كالفهد. وهذه التسمية تقع على ذكورها وإناثها «1» . والحرباء إذا كان فى الشمس كان كثير التلوّن، فإذا انتقل إلى الظل كان أقل تلوّنا. وإذا قارب الموت أو مات أصفرّ. وهو أبدا يطلب الشمس، فإذا طلعت وجّه وجهه نحوها. فمتى غاب عنه جرمها فلا يراها أصابه نوع من الجنون. وإذا غابت الشمس ذهب ليطلب معاشه ليله كلّه حتى يصبح. ولسانه طويل جدّا، يقال: إنه مقدار ذراع، فهو يبلغ به ما بعد عنه من الذّباب. والأنثى منه تكنى أمّ حبين. وهو يوصف بالحزم لأنه حيث ينظر إلى الشمس يقبض بيده على خوط «2» ، فإذا تقلّب نحو الشمس حيث ما مالت [لا «3» ] يرسل ذلك الخوط من يده حتى يقبض بيده الأخرى خوطا آخر. وفيه يقول الشاعر «4» :
أنّى أتيح له «5» حرباء تنضبة «6» ... لا يرسل السّاق إلا ممسكا ساقا(10/159)
وكتب بعض الفضلاء إلى بعض أصدقائه يلومه على مقامه بوطنه حين «1» نبابه؛ فقال من رسالة:
«أعجزت فى الإباء، عن خلق الحرباء؛ أدلى لسانا كالرّشاء، يبلغ به ما يشاء؛ وناط همّته بالشمس، مع بعدها عن اللمس؛ وأنف من ضيق الوجار، ففرّخ فى الأشجار؛ وسئم العيش المسخوط، فاستبدل خوطا بخوط؛ فهو كالخطيب، على الغصن الرّطيب.
وإنّ صواب الرّأى والحزم لامرئ ... إذا بلغته الشمس أن يتحوّلا
وقال ذو الرّمّة:
كأنّ يدى حربائها متشمّسا ... يدا مذنب «2» يستغفر الله تائب
وقال فيه أيضا:
وقد جعل الحرباء يصفرّ «3» لونه ... وتخضرّ من لفح الهجير غباغبه «4»
ويشبح «5» بالكفّين شبحا كأنه ... أخو فجرة عالى به الجذع صالبه(10/160)
وقال فيه أيضا:
يصلّى «1» بها الحرباء للشمس ماثلا ... على الجذع إلّا أنّه لا يكبّر
إذا حوّل «2» الظّلّ العشىّ رأيته ... حنيفا وفى وقت «3» الضّحى يتنصّر
*** وأمّا ابن عرس وما قيل فيه
- وابن عرس من حيوان البيوت، وهو حديد النفس شجيع فطن. وأكثر ما يكون بمصر فى المنازل. وله صوت قوىّ يدلّ على شجاعته. وقيل: إنه الحيوان المسّمى «بالدّلق» «4» ، وإنما يختلف وبره ولونه بحسب البلاد. وفى طبعه أنه يسرق ما يظفر به من الذّهب، والفضّة، وأنه متى وجد حبوبا متفرّقة خلطها. وهو عدوّ الفأر يصيده ويقتله، والفأر يخافه.
وقال الجاحظ: وابن عرس يقاتل الحيّة؛ وإذا قاتلها بدأ بأكل السّذاب؛ لأنّ الحيّة تؤلمها رائحة السّذاب؛ كما قدّمنا. وابن عرس يفعل فى الطير ما يفعل الذئب فى الغنم من الذّبح. وهو إذا عجز عن الوصول إليها استدار بعجزه وفسا إلى جهتها، فربما قتل الفراريج رائحة فسائه.(10/161)
ومن ذكائه وفطنته ما حكى: أنّ رجلا صاد فرخا منها فجعله فى قفص؛ فرأته أمّه فذهبت وعادت بدينار فى فمها فألقته بين يدى الرجل كأنها تريد فداء ولدها منه به، فتركه ولم يتناوله، فذهبت وأتت بدينار آخر فلم يأخذه، فلم تزل تذهب وتعود فى كل مرّة بدينار إلى خمسة دنانير وهو لا يمسك الذهب، فذهبت وعادت بصرّ فارغة وألقتها بين يديه كأنها تقول: إنه لم يبق شىء؛ فلم يطلق ولدها ولا ضمّ الدنانير. فلمّا رأته على ذلك عمدت إلى دينار منها فأخذته وعادت به إلى جحرها؛ فخشى أن تفعل ذلك ببقيّة الدنانير، فأخذها وأطلق فرخها؛ فأعادت إليه الدينار.
وقالت الحكماء: لحم ابن عرس نافع من الصّرع. والله أعلم «1» .
*** وأمّا القنافذ وما قيل فيها
- وواحدها قنفذ. وهى صنفان: قنفذ ودلدل. فالقنفذ يكون بأرض مصر فى قدر الفأر. والدلدل يكون بالشأم والعراق وخراسان فى قدر الكلب القلطىّ «2» . ويقال: إنه يسفد «3» قائما وبطن الأنثى لاصق ببطن الذكر. والأنثى تبيض خمس بيضات؛ وليس هو كالبيض الذى له قشر يابس بل هو شبيه باللّحم. وتصرّف القنافذ بالليل أكثر من تصرّفها بالنهار. قال أيمن بن خريم:
كقنفذ الرّمل لا تخفى مدارجه ... حتى إذا نام عنه الناس لم ينم(10/162)
والقنفذ يستأنس فى البيوت، ويختفى أياما ثم يظهر. وهو إذا جاع صعد إلى الكروم وقطع العناقيد ورمى بها ثم ينزل فيأكل منها ما أطاق؛ فإن كان له فراخ تمرّغ على ما بقى فيشتبك فى شوكه، وذلك بعد تفريطه من عمشوشه «1» ، ويذهب به إلى فراخه. وهو مولع بأكل الأفاعى، ولا يبالى قبض على رأسها أو غيره من بدنها، فإنه إن قبض على رأسها أكلها بغير كلفة عليه ولا مشقّة؛ وإن قبض على وسطها أو ذنبها استدار وتجمّع ونفخ بدنه، فمتى ضربته أصابها شوكه، فهى تهرب منه؛ وطلبه لها بقدر هربها منه.
والدّلدل إذا رأى ما يكرهه انقبض فيخرج منه شوك كالمدارى فى طول الشّبر، فيجرح ما يصيبه من الحيوان. ويقال: إنّ شوكه شعر، وإنما لمّا غلظ وغلب عليه اليبس صار شوكا.
وقال ابن سينا: فى رماد القنفذ جلاء وتحليل. وملحه ينفع «2» من داء الفيل.
ولحمه ينفع من الجذام؛ لشدّة تحليله وتجفيفه. ولحمه المملّح ينفع من الفالج والتّشنّج وأمراض العصب كلّها وداء الفيل، وينفع من السّلّ ومن سوء المزاج. ومملوحه مع السّكبينج «3» جيّد للاستسقاء ووجع الكلى، وينفع من يبول من الصبيان فى الفراش؛ حتى إنّ إدمان أكله ربما عسّر البول. ولحمه ينفع من الحمّيات المزمنة ومن نهش الهوامّ. والله أعلم.(10/163)
وقد وصفه البلغاء والشعراء فى رسائلها وأشعارها
- فمن ذلك ما قاله الأمير شمس المعالى «1» من رسالة كتبها إلى بعض أصدقائه وقد أهدى له دلدلا: «قد أتحفتك يا سيّدى بعلق نفيس، وتحفة رئيس؛ يتعجّب المتأمّل من أحواله، ويحار الناعت فى أوصافه وأعماله؛ ويتبلّد المعتبر فى آياته، ويكلّ الناظر فى معجزاته؛ فما يدرى ببديهة النظر والفؤاد، أمن الحيوان هو أم من الجماد؛ حتى إذا أعطى متدبّره النّظر أوفى حقوقه، والفحص أكمل شروطه، علم أنه كمّى سلاحه فى حضنه، ورام سهامه فى ضمنه؛ ومقاتل رماحه على ظهره، ومخاتل سرّه خلاف جهره، ومحارب حصنه من نفسه؛ يلقاك بأخشن من حدّ السيف، ويستتر بألين من وبر الخيف «2» . متى جمّع أطرافه، وضمّ إليه أصوافه؛ حسبته رابية ناتيه، أو تلعة باديه. وهو أمضى من الأجل، وأرمى من بنى ثعل «3» . إن رأته الأراقم رأت حتف نفسها، أو عاينته الأساود أيقنت بفناء جنسها؛ صعلوك ليل لا يحجم عن دامسه، وفارس ظلام لا يخاف من حنادسه؛ فيه من الضّبّ مثل، ومن الفأر شكل؛ ومن الورل نسب، ومن الدّلدل سبب.
ومن أوابده أنه يسودّ إذا هرم وشاب، ويصير كأكبر ما يكون من الكلاب.(10/164)
وقال أبو محمد اليزيدىّ «1» [يذكر قنفذا «2» رآه، فأطعمه وسقاه] :
وطارق ليل جاءنا بعد هجعة ... من الليل إلّا ما تحدّث سامر
قريناه صفو الزاد حين رأيته ... وقد جاء خفّاق الحشى وهو سادر «3»
جميل المحيّا فى الرّضا فاذا أبى «4» ... حمته من الضيم الرّماح الشّواجر
ولست تراه واضعا لسلاحه ... مدى الدّهر موتورا ولا هو واتر
وقال [آخر «5» ] من أبيات يرثيه فيها ويصفه:
عجبت له من شيهم «6» متحصّن ... بنبل من السّرد «7» المضاعف تبرق
وأنّى اهتدى سهم المنيّة نحوه ... وفى كلّ عضو منه سهم مفوّق
ولو كان كفّ الدهر تستخشن الرّدى ... لكان بكفّ الدّهر لا يتعلّق
وقال أبو «8» بكر الخوارزمىّ يصفه:
ومدجّج وسلاحه من نفسه ... شاكى الدّوابر أعزل الأقبال(10/165)
يمسى ويصبح لم يفارق بيته ... ولقد سرى عددا من الأميال
وتراه يكمن بعضه فى بعضه ... فتطيش عنه أسهم الأهوال
عيناه مثل النقطتين وخطمه ... يحكى ثدىّ رضاعة الأطفال
وكأنّ أقلاما غرزن بظهره ... مسّ المداد رءوسها ببلال
تتهارب الحيّات حين يرينه ... هرب اللصوص رأت سواد الوالى
وكأنّه الخنزير إلّا جلده ... وصياحه وتقارب الأوصال
*** وأمّا الفئران وما قيل فيها
- قد سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الفويسقة. والفأر ضروب تقع على جميعها هذه التّسمية وهى «الجرذ» و «الفأر» معروفان- وهما كالجواميس والبقر- و «الزّباب» و «الخلد» و «اليربوع» و «فأرة البيش» «1» و «فأرة المسك» و «فأرة الإبل» .
فأمّا الجرذ والفأر
- وهما من حيوان البيوت والبرّ. قال المتكلمون فى طبائع الحيوان: إنّ الفأر مما جمع له بين حاسّة السمع والبصر. وليس فى الحيوان أفسد منه. ومن فساده أنه يجد قارورة الدّهن وهى ضيّقة الفم فيدخل ذنبه فيها(10/166)
ويمتصّه. فإن قصر ذنبه عن بلوغ الدّهن عمد إلى النّوى والأحجار الصّغار فيلقيهما فيها، فيطفو ما فيها فيمتصّه بذنبه، ولا يزال يتعاهد ذلك حتى ينفد جميع ما فيها.
وهو إذا سرق البيض يعجز عن كسره بسنّه، فيدحرج البيضة إلى أن تسقط من مكان مرتفع إلى مستفل فتنكسر؛ فإن عجّزه ذلك استعان بفأر آخر فيعتنقها أحدهما بيديه ورجليه وينقلب على قفاه؛ ويقبض الآخر على ذنبه ويتسلّق به فى حائط؛ فإذا ارتفع به عن الأرض ألقاها الحامل لها فتنكسر فيأكلانها جميعا.
أخبرنى بذلك من شاهده. والمثل يضرب به فى الفساد والسّرقة والنسيان والحذر.
وفى طبع الجرذ البرّىّ وعادته أنه لا يحفر بيته على قارعة الطريق خوفا من الحافر «1» [أن يهدم عليه «2» بيته] . ويقال: إنه يخلق من الطّين، وإنه يتولّد بأرض مصر إذا نضب ماء النيل عنها «3» . وقال صاحب كتاب مباهج الفكر: إنه رأى ذلك عيانا «4» فى سفط «5» ميدوم من جيزة مصر.
وقال الجاحظ: لعمرى إن جرذان أنطاكية لتساجل السّنانير فى الحرب، ولا تقوم لها ولا تقوى عليها إلا الواحد بعد الواحد. قال: وهى بخراسان قويّة جدّا، وربما قطعت أذن النائم. قال: ومن الفأر ما إذا عضّ قتل. قال: ومن الأعاجيب(10/167)
فى قرض الفأر أنّ قوما من أهل الفراسة ينظرون إلى قرضه ويتفرّسون منه أحوالا.
ويزعمون أنّ أبا جعفر المنصور نزل فى بعض القرى فقرض الفأر مسحا له كان يجلس عليه، فبعث به ليرفأ؛ فقال لهم الرّفّاء: إنّ هاهنا أهل بيت يعرفون بقرض الفأر ما ينال صاحب المتاع من خير وشرّ، فما عليكم أن تعرضوه عليهم قبل إصلاحه؟
فبعث المنصور إلى شيخهم؛ فلما نظر إلى موضع القرض وثب قائما ثم قال: من صاحب هذا المسح؟ فقال المنصور: أنا؛ فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ والله لتلينّ الخلافة أو أكون جاهلا أو كذّابا.
وفى الفأر منافع ذكرها الشيخ الرئيس ابن سينا، فقال: دم الفأر يقلع الثآليل، وزبله نافع على داء الثعلب وخصوصا لطخا بالعسل، وخصوصا المحرق. قال:
وإذا شوى الفأر وجفّف وأطعم الصبىّ انقطع سيلان اللّعاب من فمه. قال: واتّفق الناس أنّ الفأر إذا شقّ ووضع على لدغ العقرب نفع. والله أعلم.
وقد وصف الشعراء الفأر وشبّهوه فى أشعارهم وذكروا سوء فعله. فمن ذلك قول أعرابىّ [وقد دخل البصرة فاشترى خبزا فأكله الفأر «1» ] :
عجّل ربّ الناس بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب
حتى يعجّلن إلى التّباب ... كحل العيون وقص «2» الرّقاب
مجرّرات فضل الأذناب ... مثل مدارى «3» الطّفلة الكعاب(10/168)
كيف لها بأنمر وثّاب «1» ... منهرت الشّدق حديد النّاب
كأنما يكشر عن حراب ... يفرسها كالأسد الوثّاب
وقال أبو بكر «2» الصّنوبرىّ:
يالحدب الظّهور قعس «3» الرّقاب ... لدقاق الخرطوم والأذناب
للطاف آذانها «4» والخراطي ... م حداد الأظفار والأنياب
خلقت للفساد مذخلق الخل ... ق وللعيث والأذى والخراب
ناقبات فى الأرض والسقف والحا ... ئط نقبا أعيا على النّقّاب
آكلات كلّ المآكل لا تس ... أمها شاربات كلّ الشّراب
آلفات قرض الثياب وقد يع ... دل قرض القلوب قرض الثياب
وقال فى فأرة بيضاء:
وفأرة بيضاء لم تبتذل ... يوما لإطعام السّنانير
إذ فأرة المسك سمعنا بها ... وهذه فأرة كافور(10/169)
وأمّا الزّباب
- فإنه فأر أصمّ، يكون فى الرمل. والعرب تضرب به المثل فى السرقة. يقولون: «أسرق من زبابة» .
وأمّا الخلد
- فهو أعمى لا يدرك شيئا إلّا بالشّمّ «1» ، [إلا أن «2» ] عينيه كاملتان، لكن الجفن ملتحم على الناظر لا ينشقّ. وهو ترابىّ مستقرّ فى باطن الأرض؛ وهى له كالماء للسمك. وليس له على ظهر الأرض قوّة ولا نشاط؛ بل يبقى مطروحا كالميّت فتخطفه الجوارح أو يموت. وهو حديد حاسّة الشمّ. ومتى شمّ رائحة طيّبة هرب. وهو يحبّ رائحة الكرّاث والبصل؛ وربما صيد بهما. ومن دأبه طول الكدّ ودوام الحفر. وفى تركيبه أنه لا يفرط فى الطّلب ولا يقصّر عنه. وله وقت يظهر فيه لا يخطئه ولا يغلط «3» فى المقدار. ويضرب به المثل فى حدّة السمع؛ فيقال: «أسمع من خلد» .
*** وأما اليربوع
- فهو حيوان طويل الرّجلين، قصير اليدين جدّا. وله ذنب كذنب الجرذ، يرفعه صعدا، فى طرفه شبه التّوارة. ولونه لون الغزال. ويقال لولده «درص» ، والجمع أدراص. قال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: كلّ دابة حشاها الله خبثا فهى قصيرة اليدين. وهو يسكن بطن الأرض لتقوم رطوبتها(10/170)
له مقام الماء. وهو يؤثر النسيم ويكره البخار «1» . وهو يتّخذ حجره على نشز من الأرض ويحفره، ويفتح له أبوابا على مهبّ الرياح وتسمّى «النّافقاء» «2» و «القاصعاء» و «الدّامّاء» و «الرّاهطاء» . فإذا طلب من أحد هذه الأبواب خرج من الآخر.
وهو يجترّ ويبعر. وله كرش وأسنان وأضراس. وهو من الحيوان الذى ينقاد إلى رئيس منه. والرئيس منها إذا كان فيها يرتفع عنها فيكون فى مكان مشرف أو على صخرة ينظر منه إلى الطريق. فإن رأى ما يخافه عليها صرّ بأسنانه وصوّت، فتسمعه فتنصرف إلى حجرتها؛ وإن أغفل ذلك ورأت ما تخافه قبل أن يراه قتلته، لتضييعه الحزم وغفلته، ونصبت غيره لرياستها. وإذا أرادت اليرابيع الخروج من حجرتها لطلب المعاش خرج الرئيس قبلها وأشرف؛ فإذا لم ير ما يخافه عليها صرّ لها وصوّت فتخرج. قالوا: ويتولّد من اليربوع والفأرة ولد يسمى «القرنب» .
*** وأما فأرة المسك
- فقال الجاحظ: إنها دويبّة تكون فى بلاد تبّت «3» تصاد لنوافجها وسررها. فإذا اصطيدت عصبت سرّتها بعصاب وهى مدلّاة فيجتمع فيها دمها؛ فإذا اجتمع ذبحت، ثم تقوّر السّرّة المعصوبة وتدفن فى الشّعير حينا(10/171)
فيستحيل ذلك الدّم المختنق الجامد مسكا ذكيّا بعد أن كان منتنا. ويقال: إن هذه الفأرة توجد فى بلاد الزّابج «1» وتحمل إلى السّند، وإن المسك يخرج من خصيتى ذكورها بالعصر، ومن ضروع إناثها بالحلب. ويقال: إن الفأر الفارسىّ أطيب ريحا من كل طيب، وربما ضاهى ريح المسك. وهو أجرد أشقر، شعره إلى الصّفرة، شديد كحل العينين، طويل الأذنين، قصير الذّنب.
*** وأما فأرة الإبل
- فليست بحيوان، وإنما هى رائحة تسطع من الإبل عند صدورها من الورد ينتجها طيب الرّعى. قال الشاعر «2» :
لها فأرة ذفراء «3» كلّ عشيّة ... كما فتق الكافور بالمسك فاتقه
*** وأمّا القراد وما قيل فيه
- فقد قالوا: أوّل ما يكون «قمقامة» «4» وهو الذى لا يكاد يرى من صغره، ثم يصير «حمنانة» ثم يصير «قرادا» ثم يصير «حلما» .
ويقال للقراد: «العلّ» و «الطّلح» و «القتين» و «البرام» و «القرشام» .(10/172)
والقراد يخلق من عرق البعير ومن الوسخ والتّلطّخ بالثّلط «1» والأبوال؛ كما يخلق القمل من عرق الإنسان. وفى طبع القراد أنه يسمع رغاء الإبل من فراسخ فيقصدها؛ حتى إنّ أصحاب الإبل يبعثون إلى الماء من يصلح لإبلهم الأرشية «2» وآلات السّقى، فتبيت الرجال عند البئر تنتظر مجىء الإبل، فيعرفون قربها من القراد بانبعاثه فى جوف الليل وسرعة حركته ومروره، فإذا رأوا ذلك منه تهيّئوا للعمل.
ويقول من اعتنى بالحيوان وتكلّم فى طبائعه: إنّ لكل حيوان قرادا يناسب مزاجه.
وهم يضربون المثل بالقراد فى أشياء، فيقولون: «أسمع من قراد» ، و «ألزق «3» من قراد» ، وما هو إلا قراد ثفر «4» . وأنشد الجاحظ لبعض الشعراء فى القراد:
ألا يا عباد الله هل لقبيلة ... إذا ظهرت فى الأرض شدّ مغيرها
فلا الدّين ينهاها ولا هى تتهى ... ولا ذو سلاح من معدّ يضيرها
*** وأمّا النّمل والذّرّ وما قيل فيهما
- قال الله عزّ وجلّ: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)
. وجاء فى الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلا(10/173)
فانطلق لحاجة فجاء من حاجته وقد أوقد رجل على قرية نمل إمّا فى شجرة وإمّا فى الأرض؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فعل هذا أطفئها أطفئها أطفئها» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال:
«نزل نبىّ من الأنبياء تحت شجرة فعضّته نملة فقام إلى نمل كثير تحت الشجرة فقتلهنّ فقيل له: أفلا نملة واحدة» . وعنه رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نزل نبىّ من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ثم أمر بقرية النّمل فأحرقت فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أهلكت أمّة من الأمم يسبّحن الله فهلّا نملة واحدة» . وجاء فى الأثر: أنّ سليمان بن داود عليهما السلام خرج يستسقى، فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهى تقول: اللهم إنّا خلق من خلقك، ليس لنا غنى عن سقيك؛ فإما أن تسقينا وترزقنا، وإما أن تميتنا وتهلكنا. فقال للناس: ارجعوا، فقد سقيتم بدعاء غيركم.
وقال الجاحظ: وكان ثمامة يزعم أنّ النمل ضأن الذّرّ. قال: والذى عندى أنّ النمل والذرّ مثل الفأر والجرذ، والبقر والجواميس. قال: والذّرّ أجود فهما وأصغر جثّة.
وزعم ابن أبى الأشعث أنّ النمل لا يتزاوج ولا يتوالد ولا يتلاقح، وإنما يسقط منه شىء حقير فى الأرض فينمو حتى يصير بيظا «1» فيتكوّن منه.
والنمل من الحيوان المحتال فى طلب المعاش يتفرّق لذلك؛ فإذا وجد شيئا أنذر الباقين فيأتين إليه ويأخذن منه. وكلّ واحد مجتهد فى إصلاح شأن العامّة(10/174)
غير مختلس لشىء من الرزق دون صحبه. ويقال: إنما يفعل ذلك منها رؤساؤها ومن تحيّله فى طلب الرزق أنه ربما وضع بينه وبين ما يخاف عليه منه ما يمنعه من الوصول إليه من ماء أو شعر، فيتسلّق فى الحائط ويمشى على جذع من السّقف حتى يسامت ما حفظ منه ثم يلقى نفسه عليه. وفى طبعه وعادته أن يحتكر فى زمن الصيف لزمن الشتاء. وهو إذا خاف على ما يدّخره من الحبوب من العفن والسّوس أو التّندّى من مجاورة بطن الأرض، أخرجها إلى ظاهر الأرض حتى تيبس ثم يعيدها. وإن خاف على الحبّ أن ينبت من نداوة الأرض نقر فى موضع القطمير من وسط الحبّة (وهو الموضع الذى يبتدئ منه النّبات) ؛ ويفلق جميع الحبّ أنصافا؛ فإن كان من حبّ الكزبرة فلقه أرباعا، لأن أنصاف حبّ الكزبرة تنبت. فالنمل من هذا الوجه فى غاية الحزم. فسبحان الملهم لا إله غيره.
وليس شىء من الحيوان يقوى على حمل ما يكون ضعف وزنه مرارا غير النملة.
والنّمل يشمّ ما ليس له ريح ممّا لو وضعه الإنسان عند أنفه لما وجد له ريحا. ومن أسباب هلاك النملة نبات الأجنحة لها؛ فإذا صار النمل كذلك صادته العصافير وأكلته. وفى ذلك يقول أبو العتاهية:
وإذا استوت للنّمل أجنحة ... حتّى يطير فقد دنا عطبه
ومن أصناف النّمل صنف يسمّى «نمل الأسد» ؛ سمّى بذلك لأن مقدّم النملة يشبه وجه الأسد ومؤخّرها كالنّمل. وزعم بعض من تكلّم فى طبائع الحيوان أنه متولّد، وأن أباه أكل لحما، وأمّه أكلت نباتا، فنتج بينهما على هذه الصفة.
وقد وصفه الشعراء؛ فمن ذلك قول شاعر «1» :
غزاة يولّى الليث عنهنّ هاربا ... وليست لها نبل حداد ولا عمد(10/175)
قصار الخطا حمش القوائم ضمّر ... مشمّرة لا تشتكى الأين والحرد «1»
وتعدو على الأقران فى حومة الوغى ... نشاطا كما يعدو على صيده الأسد
إذا ذكرت طيب الهياج تنّفست ... تنفّس ثكلى قد أصيب لها ولد
كأكراد زنجان «2» تريد قضاضة ... وتلك الصّعاليك الغرائب فى البلد «3»
وفيهنّ أجناس تشابهن صورة ... وباينّ فى الهمّات واللون والجسد «4»
فمنهنّ كمت كالعناكيب أرجلا ... وساع الخطا قد زان أجيادها الغيد
إذا انتهرت طارت وإن هى خلّدت ... رأت ورد أحواض المنايا من الرّشد
وسود خفاف الجسم لو عضّت الصّفا ... رأيت الصّفا من وقع أسنانها قدد «5»
يفدن علينا مفسدات جفاننا ... وأزوادنا أبغض إلينا بما وفد
وقال أبو هلال العسكرىّ:
وحىّ أناخوا فى المنازل باللّوى ... فصاروا به بعد القطين قطينا
إذا اختلفوا فى الدار ظلّت كأنها ... تبدّد فيها الريح بزر قطونا
إذا طرقوا قدرى مع الليل أصبحت ... بواطنها مثل الظواهر جونا
لهم نظرة يسرى ويمنى إذا مشوا «6» ... كما مرّ مرعوب يخاف كمينا
ويمشون صفّا فى الديار كأنما ... يجرّون خيطا فى التراب منينا «7»(10/176)
وفى كل بيت من بيوتى قرية ... تضمّ صنوفا منهم وفنونا
فيا من رأى بيتا يضيق بخمسة ... وفيه قريّات يسعن مئينا
*** وأمّا القمل والصّؤاب وما قيل فيهما
- قال الجاحظ: ذكروا عن إياس بن معاوية أنه يزعم أنّ الصّئبان ذكورة القمل، وأنّ القمل من الشكل الذى تكون إناثه أعظم من ذكورته.
قال الجاحظ: والقمل يعترى من العرق والوسخ إذا علاهما ثوب أو ريش أو شعر، حتى يكون لذلك المكان عفن وخموم. والقملة يكون لونها بحسب لون الشعر فى السّواد والبياض والشّمط وفى لون الحضاب، وينصل إذا نصل. قال:
والقمل يعرض لثياب كل إنسان إذا عرض لها الوسخ أو العرق أو الخموم، إلا ثياب المجذّمين فإنهم لا يقملون. وإذا قمل إنسان وأفرط عليه القمل زأبق رأسه فيتناثر القمل. قال: وربما كان الإنسان قمل الطّباع وإن تنظّف وتعطّر وبدّل أثوابه؛ كما عرض لعبد الرحمن بن عوف والزّبير بن العوّام رضى الله عنهما، حتى استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى لباس الحرير؛ فأذن لهما فيه لهذه الضرورة ولدفع هذا الضرر.
وقد وصف الشعراء القمل فى أشعارهم؛ فمن ذلك قول بعض العقيليّين وقد مرّ بأبى العلاء العقيلىّ وهو يتفلّى، فقال:
وإذا مررت به مررت بقانص ... متصيّد فى شرقة «1» مقرور
للقمل حول أبى العلاء مصارع ... ما بين مقتول وبين عقير «2»(10/177)
فكأنهنّ إذا علون قميصه ... فذّ وتوءم سمسم مقشور
ضرج الأنامل من دماء قتيلها ... حنق على أخرى بعدو «1» مغير
وقال الحسن بن هانئ فى رجل اسمه أيّوب:
من ينأ عنه مصاده ... فمصاد أيّوب ثيابه «2»
يكفيه منها نظرة ... فتعلّ من علق «3» حرابه
يا ربّ «4» محترز بجي ... ب الرّدن تكنفه صؤابه
فاشى النّكاية «5» غير مع ... لوم إذا دبّ انسيابه
أو طامرىّ «6» واثب ... لم ينجه عنه وثابه
أهوى له بمزلّق ال ... عرنين إصبعه نصابه «7»
لله درّك من أخى ... قنص أصابعه كلابه(10/178)
القسم الخامس من الفن الثالث فى أجناس الطير وأنواع السمك
وفيه سبعة أبواب: ستة منها فى الطير، وباب فى السمك. وذيّلت عليه بباب ثامن أوردت فيه ذكر شىء مما قيل فى آلات صيد البرّ والبحر.
قال الجاحظ فى كتاب الحيوان: إنّ الحيوان على أربعة أقسام: شىء يطير، وشىء يعوم، وشىء ينساح، وشىء يمشى؛ إلّا أنّ كل طائر يمشى، وليس كلّ شىء يمشى طائرا. قال: واسم طائر يقع على ثلاثة أشياء: صورة، وطبيعة، وجناح؛ وليس بالرّيش والفوادم والأباهر «1» والخوافى يسمى طائرا ولا بعدمه يسقط ذلك عنه.
ألا ترى أنّ الخفّاش والوطواط من الطير وإن كانا أمرطين ليس لهما ريش ولا زغب ولا شكير.
قال: والطير كلّه سبع وبهيمة وهمج. والسّباع من الطير على ضربين: فمنها العتاق، والأحرار، والجوارح. ومنها البغاث، وهو كلّ ما عظم من الطير سبعا كان أو بهيمة إذا لم يكن من ذوات السّلاح والمخالب المعقّفة كالنّسور والرّخم والغربان وما أشبهها من لئام السّباع. ثم الخشاش وهو ما لطف جرمه وصغر شخصه وكان عديم السلاح.
وقال: إذا باض الطائر بيضا لم تخرج البيضة من حدّ التحديد والتلطيف بل يكون الجانب الذى يبدأ بالخروج الجانب الأعظم. وما كان من البيض مستطيلا(10/179)
محدّد الأطراف فهو للإناث، وما كان مستديرا عريض الأطراف فهو للذكور.
والبيضة عند خروجها تكون ليّنة القشر غير جاسئة ولا يابسة ولا جامدة. قال:
والبيض الذى يتولّد من الريح والتراب أصغر وألطف، وهو فى الطّيب دون الآخر.
ويكون بيض الريح من الدّجاج والقبج «1» والحمام والطاوس والإوزّ. قال: وحضن الطائر وجثومه على البيض يكون صلاحا لبدن الطائر كما يكون صلاحا لبدن البيض.
قال: وزعم ناس أنّ بيض الرّيح إنما يكون عن سفاد متقدّم. وذلك خطأ من وجهين: أمّا أحدهما، فإن ذلك قد عرف من فراريج لم ترديكا قطّ. والآخر أن بيض الرّيح لم يكن منه فروخ قطّ. وبيض الصّيف المحضون أسرع خروجا منه فى الشتاء.
فهذه جمل من أحوال الطير فرّقها الجاحظ فى كتابه فى عدّة مواضع جمعناها وألّفنا بعضها إلى بعض. فلنذكر كلّ جنس من الطير، ونشرح ما يخصّه من الكلام وما قيل فيه. وغير الجاحظ قسّم الطير إلى أقسام، فجعل منها سباعا، وكلابا، وبهائم، وبغاثا، وليليّا، وهمجا؛ وعلى ذلك بوّبنا هذا القسم؛ على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.(10/180)
الباب الأوّل من القسم الخامس من الفن الثالث فى سباع الطير
ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى العقاب والبزاة والصقور والشّواهين، وأصناف ذلك، وما يتصف به كلّ طير منها وما فيه من الطبائع والعادة، وما يصيد، وما فيه من الأمارات الدّالّة على نجابته وفراهته، وغير ذلك مما تقف عليه إن شاء الله تعالى.
ذكر ما قيل فى العقاب
يقال: إنّ العقاب جميعه أنثى وليس فيه ذكر. ويسمى عند أهل اللغة «العنقاء» . وهى «عقاب» و «زمّج» .
فأما العقاب
فيقال: إنّ ذكورها من طير آخر لطيف الجرم. وهى تبيض فى الغالب ثلاث بيضات فيخرج لها فرخان. قال الجاحظ: ثم اختلفوا، فقال بعضهم: لأنها لا تحضن إلّا بيضتين؛ وقال آخرون:
قد تحضن ويخرج لها ثلاثة أفراخ ولكنها ترمى بالواحد استثقالا للتكليف على ثلاثة؛ وقال آخرون: ليس ذلك إلّا لما يعتريها من الضعف عند الصيد، كما يعترى النّفساء من الوهن والضعف. وهى تحضن ثلاثين يوما. وما عداها من الجوارح تبيض بيضتين فى كل سنة وتحضن عشرين يوما.
قالوا: وفى طبع الذكر أنه يمتحن أنثاه هل هى محافظة له أو مؤاتية لغيره من غير جنسه، بأن يصوّب نظر فرخيه إلى شعاع الشمس، فإن ثبت عليه تحقّق أنها فراخه وأمسكها، وإن نبا بصره عن شعاع الشمس ضرب الأنثى كما يضرب الرجل المرأة الزانية وطردها من وكره ورمى بالفرخين.(10/181)
والعقاب خفيفة الجناح، سريعة الطيران، فهى إن شاءت ارتفعت على كل شىء وإن شاءت كانت بقربه. يقال: إنها تتغدّى بالعراق وتتعشّى باليمن. وربما صادت حمر الوحش، وذلك أنها إذا نظرت الحمار رمت نفسها فى الماء حتى يبتلّ جناحاها، ثم تتمرّغ فى التراب وتطير حتى تقع على هامة الحمار، ثم تصفّق على عينيه بجناحيها فتملؤهما ترابا، فلا يرى الحمار أين يذهب فيؤخذ. وهى مولعة بصيد الحيّات. وفى طبعها قبل أن تتدرّب أنها لا تراوغ صيدا ولا تعنى فى طلبه، ولا تزال موفية على شرف عال؛ فإذا رأت سباع الطير قد صادت شيئا انقضّت عليه، فتتركه لها وتنجو بنفسها. ومتى جاعت لم يمتنع عليها الذئب. وهى شديدة الخوف من الإنسان. ويقال: إنها إذا هرمت وثقل جناحها وأظلم بصرها التمست غديرا؛ فإذا وجدته حلّقت طائرة فى الهواء ثم تقع من حالق فى ذلك الغدير فتنغمس فيه مرارا، فيصحّ جسمها ويقوى بصرها ويعود ريشها ناشئا إلى حالته الأولى.
وهى متى ثقلت عن النهوض أو عميت حملتها الفراخ على ظهورها ونقلتها من مكان إلى آخر لطلب الصيد وتعولها إلى أن تموت. ومن عجيب ما ألهمت أنها إذا اشتكت كبدها رفعت «1» الأرانب والثعالب فى الهواء وأكلت أكبادها فتبرأ.
وهى تأكل الحيّات إلّا رءوسها، والطير إلا قلوبها. قال امرؤ القيس:
كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالى
ومنسرها الأعلى يعظم ويتعقّف حتى يكون ذلك سبب هلاكها؛ لأنها لا تنال به الطّعم إذا كان كذلك. وأوّل من صاد بها أهل المغرب. وحكى أنّ قيصر أهدى إلى كسرى عقابا، وكتب إليه: علّمها فإنها تعمل عملا أكثر من الصقور(10/182)
التى أعجبتك. فأمر بها فأرسلت على ظبى عرض لها فقدّته، فأعجبه ما رأى منها؛ ثم جوّعها ليصيد بها، فوثبت على صبىّ من حاشيته فقتلته؛ فقال كسرى: غزانا قيصر فى بلادنا بغير جيش. ثم أهدى له نمرا وكتب إليه: قد بعثت إليك بما تقتل به الظّباء «1» وما قرب منها من الوحش؛ وكتم عنه ما صنعت العقاب. فأعجب به قيصر. فغفل عنه يوما فافترس بعض فتيانه؛ فقال: صادنا كسرى؛ فإن كنّا صدناه فلا بأس. فلمّا اتّصل ذلك بكسرى قال: أنا أبو ساسان.
وأجود العقاب ما جلب من سرت «2» وبلاد المغرب.
وقد وصفها الشعراء فمن ذلك ما قاله أبو الفرج الببّغاء:
ما كلّ ذات مخلب وناب ... من سائر الجارح والكلاب
بمدرك فى الجدّ «3» والطّلاب ... أيسر ما يدرك بالعقاب
شريفة الصّبغة والأنساب ... تطير من جناحها فى غاب
وتستر الأرض عن السّحاب ... وتحجب الشمس بلا حجاب
يظلّ منها الجوّ فى اغتراب ... مستوحشا للطير كالمرتاب
ذكيّة تنظر من شهاب ... ذات جران «4» واسع الجلباب
ومنكب ضخم أثيث «5» رابى ... ومنسر موثّق النّصاب(10/183)
راحتى ليث شرى غلّاب ... نيطت إلى براثن صلاب
[مرهفة أمضى من الحراب ... وكلّ ما حلّق فى الضّباب «1» ]
لملكها خاضعة الرّقاب
*** وأمّا الزّمّج
- فهو الصّنف الثانى من العقاب، ويعدّ من خفاف الجوارح.
وهو سريع الحركة شديد الوثبة. ويوصف بالغدر. ومن عادته أنه يتلقّف الطائر كما يتلّقفه البازى، ويصيد على وجه الأرض كما تصيد العقاب. ويحمد من خلقه أن يكون أحمر اللون، ولا يحمد ما قرنص «2» منه وحشيّا.
وقد وصفه أبو الفرج الببّغاء فقال:
يا ربّ سرب آمن لم يزعج ... غاديته قبل الصّباح الأبلج
بزمّج أدلق «3» حوش «4» أهوج ... مضبّر «5» المنكب صلب المنسج «6»(10/184)
ذى قصب عبل «1» أصمّ مدمج ... وجؤجؤ «2» كالجوشن «3» المدرّج
وعنق سام طويل أعوج ... ومنسر أقنى فسيح مسرج
منخرق المدخل رحب المخرج ... ومقلة تشفّ عن فيروزج
ناظرة من لهب مؤجّج ... وهامة كالحجر المدملج
ومخلب كالمعول المعوّج(10/185)
ذكر ما قيل فى البازى
قالوا: والبازى خمسة أصناف، وهى البازى، والزّرّق، والباشق، والعفصىّ، والبيدق.
فأمّا البازى
- فهو الثانى من الجوارح، وهو أحرّ هذه الأصناف الخمسة مزاجا، لأنه قليل الصبر على العطش. ومأواه مساقط الشجر العاديّة الملتفّة والظلّ الظّليل ومطّرد المياه. وهو لا يتّخذ وكرا إلّا فى شجرة لها شوك. وإذا أراد أن يفرّخ بنى لنفسه بيتا وسقّفه تسقيفا جيّدا يقيه من المطر ويدفع عنه وهج الحرّ. وسبيله «1» فى البرد أن يدفأ بالنار ويجعل تحت كفّيه وبر الثعالب واللّبود؛ وفى الصيف أن يجعل فى بيت كنين «2» بارد النّسيم ويفرش له الرّيحان والخلاف «3» . وهو خفيف الجناح، سريع الطيران، يلفّ طيرانه كالتفاف الفواخت؛ «4» ويسهل عليه أن يزجّ بنفسه «5» صاعدا(10/186)
وهابطا وينقلب على ظهره حتى يلتقف فريسته. والإناث منه أجرأ على عظام الطير من الذّكور. ويقال: إن الإناث إذا كان وقت سفادها يغشاها جميع أنواع الضّوارى: الزّرّق والشاهين والصّقر، وإنها تبيض من كل طائر يغشاها؛ ولهذا تجىء مختلفة الأخلاق «1» . والبازى يصيد ما بين العصفور والكركىّ «2» . ومن عادته أنه إذا أخطأ صيده رفاته وكان فى برّيّة لا شجر فيها ولّى ممعنا حتى يجد كهفا أو جدارا يأوى اليه؛ ولهذا علّق عليه الجرس ليدلّ على مكانه إذا خفى.
وصفة الجيّد منه المحمود فى فعله أن يكون قليل الريش، أحمر العينين حادّهما، وأن تكونا مقبلتين على منسره وحجاجاهما «3» مطلّين عليهما، ولا يكون وضعهما فى جنبى رأسه كوضع عينى الحمام. والأزرق منه دون الأحمر العين؛ والأصفر دونهما.
وسعة أشداقه تدلّ على قوّة الافتراس. ومن صفاته المحمودة أن يكون طويل العنق، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، شديد الانخراط الى ذنبه، وأن تكون فخذاه طويلتين مسرولتين بريش، وذراعاه قصيرتين غليظتين، وأشاجع «4» كفّيه عارية، وأصابعه متفرّقة [ولا تكون مجتمعة ككفّ الغراب «5» ] ، ومخلبه أسود، ويكون طويل المنسر دقيقه. وأفخر ألوانه الأبيض ثم الأشهب، وهما لونان يدلّان على الفراهة والكرم. وأما الأسود الظهر المنقّش الصدر بالبياض والسواد فهو يدلّ على الشدّة والصّلابة. وإن اتّفق أن يكون هذا أحمر العين كان نهاية. وهذا اللون فى البزاة(10/187)
كالكميت فى الخيل. والأحمر فى البزاة أخبثها. وبعض الناس يقول: أشرف البزاة الطّغرل، ثم البازى التامّ وهو الذى وصفناه آنفا. والطّغرل: طائر عزيز نادر الوقوع لا يعرفه غير التّرك، لأنه يكون فى بلاد الخزر وما والاها وما بين خوارزم إلى إرمينية، وهو يجمع صيد البازى والشاهين. وقيل: إنه لا يعقر شيئا بمخلبه إلّا سمّه.
وأوّل من صاد البازى «لذريق» أحد ملوك الروم الأوّل؛ وذلك أنه رأى بازيا إذا علا كتف «1» ، وإذا سفل خفق، وإذا أراد أن يسمو درق «2» ؛ فاتّبعه حتى اقتحم شجرة ملتفّة كثيرة الدّغل؛ فأعجبته صورته، فقال: هذا طائر له سلاح تتزيّن بمثله الملوك؛ فأمر بجمع عدّة من البزاة فجمعت وجعلت فى مجلسه. فعرض لبعضها أيم «3» فوثب عليه؛ فقال: ملك يغضب كما تغضب الملوك. ثم أمر به فنصب على كندرة «4» بين يديه؛ وكان هناك ثعلب فمرّ به مجتازا، فوثب عليه فما أفلت منه إلّا جريحا؛ فقال لذريق: هذا جبّار يمنع حماه. ثم أمر به فضرّى على الصيد؛ واتخذته الملوك بعده.
وقد وصفته الشعراء والأدباء؛ فمن ذلك قول الناشى:
لما تعرّى الليل عن أنساجه ... وارتاح ضوء الصبح لانبلاجه
غدوت أبغى الصيد من منهاجه ... بأقمر أبدع فى نتاجه
ألبسه الخالق من ديباجه ... ثوبا كفى الصانع من نساجه(10/188)
حال من الساق إلى أوداجه «1» ... وشيا يحار الطّرف فى اندراجه
فى نسق منه وفى انعراجه ... وزان فوديه إلى حجاجه «2»
بزينة كفته عزّ تاجه ... منسره يثنى على خلاجه
وظفره يخبر عن علاجه ... لو استضاء المرء فى إدلاجه
بعينه كفته عن سراجه
وقال ابن المعتزّ يصف عين البازى:
ومقلة تصدقه إذا رمق «3» ... كأنها نرجسة بلا ورق
وقال أيضا فيه:
وفتيان غدوا والليل داج ... وضوء الصبح متّهم الطلوع
كأن بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافها صدأ الدّروع
وقال أيضا:
ومنسر عضب الشباة دامى ... كعقدك الخمسين بالإبهام «4»
وخافق للصّيد ذى اصطلام ... ينشره للنّهض والإقدام
كنشرك البرد على المستام(10/189)
ووصفه أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ فقال من رسالة:
«طائر يستدلّ بظاهر صفاته، على كرم ذاته؛ طورا ينظر نظر الخيلاء فى عطفه كأنما يزهى جبّار، وتارة يرمى نحو السماء بطرفه «1» كأنما له هناك اعتبار. وأخلق به أن ينقضّ على قنيصه شهابا، ويلوى به ذهابا، ويحرقه توقّدا والتهابا. وقد أقيم له سابغ الذّنابى والجناح، كفيلين فى مطالبه بالنّجاح. جيّد العين والأثر، حديد السمع والبصر. يكاد يحسّ بما يجرى ببال، ويسرى من خيال. قد جمع بين عزّة مليك، وطاعة مملوك. فهو بما يشتمل عليه من علوّ الهمه، ويرجع إليه بمقتضى الحدمه؛ مؤهّل لإحراز ما تقتضيه شمائله، وإنجاز ما تعدبه مخايله. وخليق بمحكم تأديبه، وجودة تركيبه؛ أن لو مثل له النجم قنصا، أو جرى [بذكره «2» ] البرق قصصا؛ لاختطفه أسرع من لحظه، وأطوع من لفظه؛ وانتسفه «3» أمضى من سهم، وأجرى من وهم. وقد أقسم بشرف جوهره، وكريم عنصره؛ لا يوجّه مسفّرا، إلا غادر قنيصه معفّرا، وآب إلى يد من أرسله مظفّرا؛ مورّد المخلب والمنقار، كأنما اختضب بحنّاء أو كرع فى عقار» .
[وله من أبيات يمدح «4» بها] :
طرد القنيص بكلّ «5» قيد طريدة ... زجل «6» الجناح مورّد الأظفار(10/190)
علتفّة أعطافه بحبيرة «1» ... مكحولة أجفانه بنضار
يرمى به الأمد البعيد فينثنى ... مخضوب راء الظّفر والمنقار
*** وأما الزّرّق
- وهو الصّنف الثانى من البازى. هو باز لطيف، إلا أن مزاجه أحرّ وأيبس، وهو لذلك أشدّ جناحا وأسرع طيرانا وأقوى إقداما. وفيه ختل وخبث؛ وذلك أنه إذا أرسل على طائر طار فى غير مطاره ثم عطف عليه وأظهر الشدّة بعد اللين. وخير ألوانه الأسود الظهر الأبيض الصدر الأحمر العين. ووصفه المحمود منه أن يكون أعدلها خلقا، وأقلّها ريشا، وأثقلها محملا، وأملأها فخذا، وأرحبها شدقا، وأوسعها عينا، وأصغرها رأسا، وأصفاها حدقة، وأطولها عنقا، وأقصرها خافية، وأشدّها لحما، وأن يكون أخضر الرجلين، وسيع المخالب، متعرّيا «2» من اللحم. والله أعلم.
*** وأمّا الباشق
- وهو الصنف الثالث من البازى. وهو أحرّ وأيبس من الزّرّق، وهو هلع قلق ذعر، يأنس وقتا ويستوحش وقتا. ونفسه قويّة جافية «3» . فإذا أنس منه الصغير بلغ منه كلّ المراد. وأجود الباشق ما أخذ فرخا لم يلق من قوادمه ريشة. وهو متى تمّ تأنيسه وجد منه باز خفيف المحمل ظريف الشمائل.
ومن صفاته المحمودة أن يكون صغير المنظر، ثقيل المحمل، طويل الساقين والفخذين، عظيم السّلاح بالنسبة إلى جسمه.(10/191)
وقال بعض الشعراء يصفه:
إذا بارك الله فى طائر ... فخصّ من الطير إسبهرقى
له هامة كلّلت باللّجين ... فسال اللّجين على المفرق
يقلّب عينين فى رأسه ... كأنهما نقطتا زئبق
واشرب لونا له مذهبا ... كلون الغزالة فى المشرق
حمام الحمام وحتف القطا ... وصاعقة القبج والعقعق
وأحنى عليك إلى أن يعود ... إليك من الوالد «1» المشفق
فأكرم به وبكفّ الأمير ... وبالدّستبان «2» إذا يلتقى
وقال أبو الفتح كشاجم:
يسمو فيخفى فى الهواء وينكفى ... عجلا فينقضّ انقضاض الطارق
وكأن جؤجؤه وريش جناحه ... خضبا «3» بنقش يد الفتاة العاتق «4»
وكأنما سكن الهوى أعضاءه ... فأعارهنّ نحول جسم العاشق
ذا مقلة ذهبيّة فى هامة ... محفوفة من ريشها بحدائق
ومخالب مثل الأهلّة طالما ... أدمين كفّ البازيار الحاذق
وإذا انبرى نحو الطريدة خلته ... كالرّيح فى الأسماع أو كالبارق(10/192)
وإذا دعاه البازيار رأيته ... أدنى وأطوع من محبّ وامق
وإذا القطاة تخلّفت من خوفه ... لم يعد أن يهوى بها من حالق
ومن رسالة لبعض فضلاء الأندلس، جاء منها:
«كأنما اكتحل بلهب، أو انتعل بذهب. ملتفّ فى سبره «1» ، وملتحف بحبره. من سيوفه منقاره، ومن رماحه أظفاره. ومن اللواتى تتنافس الملوك فيها، تمسكها عجبا بها وتيها. فهى على أيديها آية باديه، ونعمة من الله ناميه. تبذل لك الجهد صراحا، وتعيرك فى نيل بغيتك جناحا. وتتّفق معك فى طلب الأرزاق، وتأتلف بك على اختلاف الخلق والأخلاق. ثم تلوذ بك لياذ من يرجوك، وتفى لك وفاء لا يلتزمه لك ابنك ولا أخوك» . ثم ذكر حمامة صادها، فقال:
«اختطفها أسرع من اللّحظ، ولا محيد لها عنه، وانحدر بها أعجل من اللّفظ، وكأنها هى منه؛ ثم جعل يتناولها بعقد السبعين، ويدخلها فى أضيق من التسعين «2» .
وكان لها موتا عاجلا، وكانت له قوتا حاصلا» . والله الهادى للصواب.
*** وأمّا العفصىّ
- وهو الصنف الرابع من البازى. وهو من الباشق كالزّرّق من البازى، إلا أنه أصغر الجوارح نفسا، وأضعفها حيلة، وأشدّها ذعرا، وأيبسها مزاجا. وربما صاد العصفور وتركه لخوفه وحذره. ومن عادته أنه يرصد الطير(10/193)
أيام حضانه «1» ، فإذا طار عن وكره خلفه فيه وكسر بيضه ورماه وباض مكانه وطار عنه فيحضنه صاحب الوكر؛ فهو أبدا لا يحضن ولا يربّى.
*** وأمّا البيدق
- وهو الصنف الخامس من البازى، وهو لا يصيد غير العصافير. وقد وصفه كشاجم فقال:
حسبى من البزاة والزّرارق «2» ... ببيدق يصيد صيد الباشق
مؤدّب مدرّب الخلائق ... أصيد من معشوقة لعاشق
يسبق فى السّرعة كلّ سابق ... ليس له عن «3» صيده من عائق
ربّيته وكنت عين الواثق «4» ... أنّ الفرازين «5» من البيادق(10/194)
ذكر ما قيل فى الصقر
والصقر ثلاثة أصناف، وهى صقر، وكونج، ويؤيؤ.
فأمّا الصقر
- فهو النوع الثالث من الجوارح. والعرب تسمّى كل طائر يصيد صقرا، ما خلا النّسر والعقاب، وتسمّيه «الأكدر» و «الأجدل» . وهو من الجوارح بمنزلة البغال من الدّوابّ، لأنه أصبر على الشدّة وأشدّ إقداما على جلّة الطير كالكراكىّ والحبارج «1» . قالوا: ومزاجه أبرد من سائر ما تقدّم ذكره من الجوارح وأرطب.
وهو يضرّى على الغزال والأرنب ولا يضرّى على الطير لأنها تفوته. وفعله فى صيده الانقضاض «2» والصّدم. وهو غير صافّ «3» بجناحه ولا خافق به. ومتى خفق بجناحه كانت حركته بطيئة بخلاف البازى. ويقال: إنه أهدأ نفسا من البازى، وأسرع أنسا بالناس «4» ، وأكثر رضا وقناعة. وهو يغتذى بلحوم ذوات الأربع. وهو يعاف المياه ولا يقربها، وذلك لبرد مزاجه. وفى طبعه أنه لا يركب الأشجار ولا الشوامخ من الجبال، ولا يأوى إلّا المقابر والكهوف وصدوع الجبال. وهو ينقى بالتّمعّك «5» فى الرّمل والتراب.
ومن صفاته المحمودة الدّالّة على نجابته وفراهته: أن يكون أحمر اللّون، عظيم الهامة، واسع العينين، تامّ المنسر، طويل العنق والجناحين، رحب الصدر، ممتلئ(10/195)
الزّور، عريض الوسط، جليل الفخذين، قصير الساقين والذّنب، قريب القفدة «1» من الفقار، سبط الكفّ، غليظ الأصابع فيروزجها، أسود اللسان. والله الموفّق.
وأوّل من صاد بالصقر وضرّاه الحارث بن معاوية بن ثور بن كندة. وسبب ذلك أنه وقف فى بعض الأيّام على صيّاد قد نصب شبكة للعصافير؛ فانقضّ أكدر على عصفور قد علق فى الشبكة فجعل يأكله وقد علق الأكدر واندقّ جناحاه، والحارث ينظر إليه ويعجب من فعله؛ فأمر به فحمل فرمى به فى كسر بيت ووكّل به من يطعمه؛ وأنس الصقر بالموكّل به، حتى صار إذا جاءه باللحم ودعاه أجاب؛ ثم صار يطعمه على يده وصار يحمله. فبينما هو يوما حامله إذ رأى حمامة، فطار عن يده إليها فأخذها وأكلها. فأمر الحارث عند ذلك باتّخاذها وتدريبها والتصيّد بها.
فبينا هو يسير يوما إذ لاحت أرنب فطار الصقر إليها وأخذها؛ فلما رآه يصيد الطير والأرانب ازداد به إعجابا واغتباطا. واتخذته العرب بعده.
ووصفه الشعراء؛ فمن ذلك ما قاله كشاجم يصفه:
غدونا وطرف النجم وسنان غائر ... وقد نزل الإصباح والليل سائر «2»
بأجدل من حمر الصقور مؤدّب ... وأكرم ما قرّبت منها «3» الأحامر «4»
جرىء على قتل الظّباء وإنّنى ... ليعجبنى أن يكسر الوحش طائر
قصير الذّنابى والقدامى كأنّها ... قوادم نسر أو سيوف بواتر(10/196)
ورقّش منه جؤجؤ فكأنّه ... أعارته إعجام الحروف الدّفاتر
فما زلت بالإضمار حتى صنعته ... وليس يحوز السبق إلّا الضّوامر
وتحمله منّا أكفّ كريمة ... كما زهيت «1» بالخاطبين المنابر
وعنّ لنا من جانب السّفح ربرب ... على سنن تستنّ منه الجاذر
فجلّى «2» وحلّت عقدة السير فانتحى «3» ... لأوّلها إذ أمكنته الأواخر
يحثّ جناحيه على حرّ وجهها «4» ... كما فصّلت فوق الخدود المعاجر «5»
وما تمّ رجع الطّرف حتى رأيتها ... مصرّعة تهوى إليها الخناجر
وقال عبد الله بن المعتزّ:
وأجدل يفهم نطق الناطق ... ململم «6» الهامة فخم العاتق
أقنى المخاليب طلوب مارق ... كأنها نونات كفّ ماشق
ذى جؤجؤ لابس وشى رائق ... كمبتدا اللّامات فى المهارق «7»
أو كامتداد الكحل فى الحمالق ... ونجّمت باللّحظ عين الرامق
عشرا من الإوزّ فى غلافق «8» ... فمرّ كالرّيح بعزم صادق(10/197)
حتى دنا منهنّ مثل السارق ... ثم علاها بجناح خافق
فطفقت من هالك أو فائق «1»
وقال أيضا:
وأجدل لم يخل من تأديب ... يرى بعيد الشىء كالقريب
يهوى هوىّ الدّلو فى القليب ... بناظر مستعجم مقلوب
كناظر الأقبل «2» ذى التّقطيب ... رأى إوزّا فى ثرى رطيب «3»
فطار كالمستوهل المرعوب ... ينفذ فى الشمال والجنوب
*** وأمّا الكونج
- وهو الصنف الثانى من الصقر. ويسمّى بمصر والشأم السّقاوية «4» . ونسبته من الصقر كنسبة الزّرّق من البازى، إلا أنه أحرّ منه؛ ولذلك هو أخفّ منه جناحا. وهو يصيد الأرنب، ويعجز عن الغزال لصغره؛ ويصيد أشياء من طير الماء. وشدّة نفسه أقلّ من شدّة بدنه؛ ولأجل ذلك هو أطول فى البيوت لبثا، وأصبر على مقاساة الشقاء من الصقر. وفى وصفه يقول بعض الشعراء:
إن لم يكن صقر فعندى كونج ... كأنّ نقش ريشه المدرّج
برد من الموشىّ أو مدبّج ... فكم به للطير قلب مزعج
ممزّق بدمه مضرّج ... بمثله عنّا الهموم تفرج(10/198)
وأمّا اليؤيؤ
- وهو الصّنف الثالث من الصقر. ويسمّيه أهل مصر والشأم «الجلم» لخفّة جناحيه وسرعتهما. وهو طائر قصير الذّنب. ومزاجه بالإضافة الى الباشق بارد رطب، لأنه أصبر منه نفسا وأثقل حركة. ويشرب الماء شربا ضروريّا كما يشربه الباشق. ومزاجه بالنسبة الى الصقر حارّ يابس، ولذلك هو أشجع منه، لأنه يتعلّق بما يفترسه، ويصيد ما هو أجلّ منه كالدّرّاج.
ويقال: إنّ أوّل من صاد به واتّخذه للّعب بهرام «1» جور؛ وذلك أنه شاهد يؤيؤا يطارد قبّرة ويراوغها ويرتفع معها إلى أن صادها؛ فأعجبه واتخذه وصاد به.
وقال عبد الله النّاشى يصفه:
ويؤيؤ مهذّب رشيق ... كأنّ عينيه «2» على التحقيق
فصّان مخروطان من عقيق
وقال أبو نواس:
قد «3» أغتدى والصبح فى دجاه ... كطرّة البرد «4» على مثناه
بيؤيؤ يعجب من رآه ... ما فى اليآيى يؤيؤ شرواه «5»(10/199)
أزرق لا تكذبه عيناه ... فلو يرى القانص ما يراه
[فدّاه بالأمّ وقد فدّاه «1» ]
وقال أبو اسحاق الصّابى يصفه من رسالة:
«وكم من قبّر «2» أطلقنا عليه يؤيؤا «3» لنا فعرج إلى السماء عروجا، ولجّج فى أثره تلجيجا؛ فكان «4» ذلك يعتصم منه بالخلّاق، وهذا يستطعمه من الرّزّاق؛ حتى غابا عن النّظّار، واحتجبا عن الأبصار؛ وصارا كالغيب «5» المرجّم، والظنّ المتوهّم؛ ثم خطفه ووقع «6» به وهما كهيئة الطائر الواحد؛ فأعجبنا أمرهما، وأطربنا منظرهما» .
ذكر ما قيل فى الشاهين
والشاهين ثلاثة أصناف، وهى شاهين، وأنيقى، وقطامىّ.
فأما الشاهين
- واسمه بالفارسية شوذانه، فعرّبته العرب على ألفاظ شتّى منها: شوذانق وشوذق وشوذنيق وشيذنوق «7» . ويقال: إنه من جنس الصقر إلا أنه أبرد منه وأيبس؛ ولذلك تكون حركته من العلو إلى السّفل شديدة. وليس يحلّق(10/200)
فى طلب الصّيد على خطّ مستقيم إنما يحوم لثقل «1» جناحه، حتى إذا سامت الفريسة انقضّ عليها هاويا من علو فضربها وفارقها صاعدا؛ فإن سقطت على الأرض أخذها، وإن لم تسقط أعاد ضربها [لتسقط «2» ] ؛ وذلك دليل على جبنه وفتور نفسه وبرد مزاج قلبه. ومع ذلك كلّه فهو أسرع الجوارح وأخفّها وأشدّها ضراوة على الصيد.
إلّا أنهم عابوه بالإباق وبما يعتريه من الحرص؛ حتى إنه ربما ضرب بنفسه الأرض فمات. ويزعمون أنّ عظامه أصلب من عظام سائر الجوارح؛ ولذلك هو يضرب بصدره ويعلق بكفّه.
وقال بعض من تكلّم فى هذا النوع: الشاهين كاسمه. يريد [شاهين «3» ] الميزان؛ [لأنه «4» ] لا يحتمل أدنى حال من الشّبع ولا أيسر حال من الجوع.
والمحمود من صفاته: أن يكون عظيم الهامة، واسع العينين حادّهما، تامّ المنسر، طويل العنق، رحب الصدر، ممتلئ الزّور، عريض الوسط، جليل «5» الفخذين، قصير الساقين، قريب القفدة «6» من الظهر، قليل الرّيش ليّنه، تامّ الخوافى، دقيق الذّنب، إذا صلّب عليه «7» جناحيه لم يفضل عنهما شىء منه. فإذا كان كذلك فهو يقتل الكركىّ [ولا يفوته «8» ] . وزعم بعضهم «9» أنّ السّود من الشواهين هى المحمودة؛ وأن السواد أصل لونها، وإنما أحالته التّربة. ويكون فى الشواهين الملمّع. والله أعلم.(10/201)
وأوّل من صاد بالشّواهين قسطنطين [ملك عمّوريّة «1» ] . حكى أنه خرج يوما يتصيّد، حتى إذا أتى إلى مرج فسيح نظر إلى شاهين ينكفئ على طير الماء؛ فأعجبه ما رأى من سرعته وضراوته وإلحاحه على صيده، فأخذه وضرّاه؛ ثم ريضت له الشّواهين بعد ذلك وعلّمت أن تحوم على رأسه إذا ركب فتظلّه من الشمس؛ فكانت تنحدر مرّة وترتفع أخرى، فإذا نزل وقعت حوله.
وقد وصف الشعراء الشواهين وشبّهوها؛ فمن ذلك قول النّاشى:
هل لك يا قنّاص فى شاهين ... شوذانق مؤدّب أمين
جاء به السائس من رزين «2» ... ضرّاه بالتّخشين والتّليين
حتى لأغناه عن التلقين ... يكاد للتثقيف والتّمرين
يعرف معنى الوحى بالجفون ... يظلّ من جناحه المزين
فى قرطق «3» من خزّه الثمين ... يشبه من طرازه المصون
برد أنوشروان أو شيرين «4» ... أحوى مجارى الدّمع والشؤون
ذى منسر مؤلّل مسنون ... واف كشطر الحاجب المقرون
منعطف مثل انعطاف النون ... يبدى اسمه معناه للعيون
وقال أبو الفتح كشاجم وبدأ بالكركىّ:
يا ربّ أسراب من الكراكى ... مطمعة السكون فى الحراك
بعيدة المنال والإدراك ... كدر وبيض اللّون كالأفناك «5»(10/202)
تقصر عنها أسهم الأتراك ... ذعرن «1» قبل لغط المكاكى «2»
وقبل تغريد الحمام الباكى ... بفاتك يربى على الفتّاك
مؤدّب الإطلاق والإمساك ... ململم الهامة كالمداك «3»
مثل الكمىّ فى السّلاح الشّاكى ... ذى منسر ضخم له شكّاك
ومخلب بحدّه بتّاك «4» ... للحجب عن قلوبها هتّاك
حتى إذا قلت له دراك ... وحلّقت تسمو إلى الأفلاك
ممتدّة الأعناق والأوراك ... موقنة بعاجل الهلاك
غادرها تهوى على الدّكاك «5» ... أسرى بكفّيه بلا فكاك
يا غدوات الصيد ما أحلاك ... ومنّة الشاهين ما أقواك
لم تكذبى فراسة الأملاك ... إيّاك أعنى مادحا إيّاك
*** وأمّا الأنيقىّ
- وهو الصّنف الثانى من الشاهين. وتسميه أهل العراق الكرّك. وهو دون الشاهين فى القوّة، إلا أنّ فيه سرعة. وهو يصيد العصافير.
وفيه يقول الشاعر:
غنيت عن الجوارح بالأنيقى ... بمثل الرّيح أو لمع البروق
أصبّ به على العصفور حتفا ... فأرميه بصخرة منجنيق(10/203)
وأمّا القطامىّ
- وهو الصّنف الثالث من الشاهين، وتسميه أهل العراق «البهرجة» . يقال: إنه فى طبع الشاهين، والعرب تخالف ذلك، وتسمّى بعض الصقور القطامىّ؛ والمعتنون بالجوارح يخالفونهم فى ذلك.
فصل
وممّا ناسب الجوارح فى الافتراس وأكل اللحم الحىّ «الصّرد» ، ويسمّى «الشّقرّاق» «1» و «الأخطب» و «الأخيل» . وقيل: إنّ من أسمائه «الواق» «2» وبعضهم يسمّيه «بازى العصافير» . [وهو طائر مولّع بسواد وبياض، ضخم المنقار «3» ] .
وفى طبعه شره وشراسة وسرقة لفراخ غيره ونفور من الناس. وهو [يصيد الحيّات «4» و] يغتذى باللّحم، ويأوى الأشجار ذوات الشّوك وفى رءوس التّلاع، حذرا على نفسه [ممن يصيده «5» ] . وهو يتحيّل فى صيد ما دونه من الطير كالعصفور «6» .
هذا ما ظفرت به فى أثناء المطالعة من سباع الطير ممّا تكلّم عليه أرباب هذا الفن. وقد أهملوا أصنافا
، منها ما هو أجلّ من جميع ما ذكرناه، وهو «السّنقر» .(10/204)
والسّنقر
- طائر شريف، حسن الشّكل، أبيض اللّون بنقط سود.
والملوك تتغالى فيه وتشتريه بالثمن الكثير. وكان فيما مضى من السنين القريبة يشترى من التّجار بألف دينار؛ ثم تناقص ثمنه حتى استقرّ الآن بخمسة آلاف درهم. ولهم عادة: أنّ التّجار إذا حملوه وأتوا به من بلاد الفرنج فمات منهم فى الطريق قبل وصولهم أحضروا ريشه إلى أبواب الملوك، فيعطون نصف ثمنه إذا أتوا به حيّا؛ كل ذلك ترغيبا لهم فى حملها ونقلها إلى الديار المصريّة. وهذا الطير لا يشتريه غير السلطان ولا يلعب به غيره من الأمراء إلا من أنعم السلطان عليه به. والله أعلم.
وممّا أهملوا الكلام فيه «الكوهيّة» و «الصيفيّة» و «الزغزغى»
، وهو يعدّ من أصناف الصقر. ولم أجد من أثق بنقله وعلمه بهذه الأصناف فأنقل عنه أخلاقها وطبائعها وعاداتها.
وقال أبو إسحاق الصابى فى وصف الجوارح من رسالة طرديّة جاء منها:
«وعلى أيدينا جوارح مؤلّلة المخالب والمناسر، مذرّبة «1» النّصال والخناجر، طامحة الألحاظ والمناظر؛ بعيدة المرامى والمطارح؛ ذكيّة القلوب والنفوس، قليلة القطوب والعبوس؛ سابغة الأذناب، كريمة الأنساب؛ صلبة «2» الأعواد، قويّة الأوصال؛ تزيد إذا ألحمت «3» شرها وقرما، وتتضاعف إذا أشبعت كلبا ونهما. ثم خرج إلى وصف الحمام فقال: «فلما أوفينا عليها، أرسلنا الجوارح إليها؛ كأنها رسل المنايا، أو سهام القضايا؛ فلم نسمع إلا مسمّيا، ولم نر إلا مذكّيا» .(10/205)
الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثالث فى كلاب الطّير
ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى النّسر، والرّخم، والحدأة، والغراب.
وإنما سمّيت هذه الأصناف بالكلاب لأنها تأكل الميتة والجيف وتقصدها وتقع عليها، فهى فى ذلك شبيهة بالكلاب.
ذكر ما قيل فى النّسر
والنّسر ذو منسر وليس بذى محلب، وإنما له أظفار حداد [كالمخالب. وهو يسفد كما يسفد الديك «1» ] . وزعم من تكلّم فى طبائع الحيوان أنّ الأنثى من هذا النوع تبيض من نظر الذّكر إليها، وأنها لا تحضن [بيضها «2» ] وإنما تبيض فى الأماكن العالية التى يقرعها حرّ الشمس وهجيرها، فيقوم ذلك للبيض مقام الحضن.
والنّسر يوصف بحدّة حاسّة البصر؛ حتى إنه يقال: إنه يرى الجيفة عن مسافة أربعمائة فرسخ. وكذلك حاسّة الشّمّ؛ إلا أنّه إذا شمّ الطّيب مات. وهو أشدّ الطير طيرانا وأقواها جناحا؛ حتى زعموا أنه يطير ما بين المشرق والمغرب فى يوم واحد. وهذا القول أراه من التّغالى فيه. وسائر الجوارح تخافه. وهو [شره نهم رغيب «3» ] ؛ إذا سقط على الجيفة وامتلأ منها لم يستطع عند ذلك الطيران(10/206)
حتى يثب عدّة وثبات يرفع فيها نفسه فى الهواء طبقة بعد طبقة حتى تدخل تحته الرّيح. ومن أصابه بعد امتلائه وأعجله عن الوثوب أمكنه ضربه إن شاء «1» بعصا وإن شاء بغيرها. قالوا: والأنثى تخاف على بيضها وفراخها من الخفّاش فتفرش فى وكرها ورق الدّلب «2» ليفرّ منه. والنّسر أشدّ الطير حزنا على [فراق «3» ] إلفه؛ يقال:
إن الأنثى إذا فقدت الذّكر امتنعت عن الطّعم أياما ولزمت الوكر؛ وربما قتلها الحزن. وهو طويل العمر؛ يقال: إنه يعمّر ألف سنة. وفيه ألوان: منها الأسود البهيم، والأربد وهو لون الرّماد، والأكدر مثله. وهو يتبع الجيوش طمعا فى الوقوع على جيف القتلى والدّوابّ.
ذكر ما قيل فى الرخم
يقال: إنّ لئام الطير ثلاثة: الغربان، والبوم، والرّخم.
والرخمة تلتمس لبيضها المواضع البعيدة والأماكن الوحشية والجبال الشامخة وصدوع الصخر؛ ولذلك يضرب المثل ببيض الأنوق. قال الشاعر:
طلب الأبلق «4» العقوق فلمّا ... لم ينله أراد بيض الانوق
والرّخم من أحبّ الحيوان فى العذرة، لا شىء يحبّها كحبّه إلّا الجعل. وقال المفضّل لمحمد بن سهل: إنّا لا نعرف طائرا ألأم لؤما ولا أقذر طعمة ولا أظهر(10/207)
موقا من الزّحمة. فقال محمد بن سهل: وما حمقها وهى تحضن بيضها، وتحمى فراخها، وتحبّ ولدها، ولا تمكّن إلّا زوجها، وتقطع فى أوّل القواطع «1» ، وترجع فى أوّل الرّواجع، ولا تطير فى التّحسير «2» ، ولا تغترّ بالشّكير، ولا تربّ «3» بالوكور، ولا تسقط على الجفير!.
قال الجاحظ: أمّا قوله: «تقطع فى أوّل القواطع وترجع فى أوّل الرّواجع» ، فإنّ الرّماة وأصحاب الحبائل والقنّاص إنما يطلبون الطير بعد أن يعلموا أنّ القواطع قد قطعت، فبقطع الرخمة يستدلّون، فلا بدّ للرّخمة من أن تنجو سالمة إذ كانت أوّل طالع عليهم. وأمّا قوله: «ولا تطير فى التّحسير ولا تغترّ بالشّكير» ؛ فإنها تدع الطيران أيام التحسير، فإذا نبت الشّكير وهو أوّل ما ينبت من الريش فإنها لا تنهض حتى يصير الشكير قصبا. وأما قوله: «ولا تربّ بالوكور» ، فإن الوكور لا تكون إلا فى عرض الجبل، وهى لا ترضى إلا بأعالى الهضاب ثم بمواضع الصّدوع وخلال الصخور حيث يمتنع على جميع الخلق المصير إلى أفراخها؛ ولذلك قال الكميت:
ولا تجعلونى فى رجائى ودّكم ... كراج على بيض الأنوق احتبالها «4»
وأمّا قوله: «ولا تسقط على الجفير» ، فإنما يعنى جعبة السهام. يقول: إذا رأته علمت أنّ هناك سهاما فلا تسقط فى موضع تخاف فيه وقع السّهام.(10/208)
قال: والرّخم من الطير التى تتبع الجيوش والحجّاج لما يسقط من كسرى «1» الدّوابّ. وإذا فقدت الميتة عمدت إلى العظم فحملته وارتفعت به فى الهواء ثم تلقيه فيقع على الصخور فينكسر فتأكل ما فيه. والله أعلم بالصواب.
ذكر ما قيل فى الحدأة
قالوا: والحدأة تبيض بيضتين، وربما باضت ثلاثا وخرج منها ثلاثة أفرخ.
وهى تحضن عشرين يوما. ومن ألوانها الأسود والأربد. ويقال: إنها لا تصيد وإنما تخطف. وهى تقف فى الطيران، وليس ذلك لغيرها من الكواسر، وزعم ابن وحشيّة: أنّ العقاب والحدأة يتبدّلان، فتصير الحدأة عقابا والعقاب حدأة. وهذا أراه من الخرافات. ويقال: إنّ الحدأة من جوارح سليمان عليه السلام وإنها امتنعت من أن تؤلّف أو تملك لغيره، لأنها من الملك الذى لا ينبغى لأحد من بعده.
وهى لا تختطف إلا من يمين من تختطف منه دون شماله. وليس فيها لحم، وإنما عظام وعصب وجلد وريش. ولم أقف على شعر فيها فأضعه.
ذكر ما قيل فى الغراب
قالوا: والغراب أصناف، وهى «الغداف» و «الزّاغ الأكحل» و «الزاغ الأورق» . والغراب يحكى جميع ما يسمعه، وهو فى ذلك أعجب من الببّغاء.
ويقال: إنّ متولّى ثغر الإسكندريّة أهدى إلى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس غرابا أبيض؛ وهو غريب نادر الوقوع. ويقال فى صوت الغراب:
نغق ينغق نغيقا، ونعب ينعب نعيبا. فإذا مرّت عليه السنون الكثيرة وغلظ صوته(10/209)
قيل فيه: شحج يشحج شحيجا. وفى طبعه الاستتار عند السّفاد وهو يسفد مواجهة «1» ، ولا يعود إلى الأنثى إذا سفدها أبدا، وذلك لقلّة وفائه.
قال الجاحظ: واذا خرج الفرخ حضنته الأنثى دون الذكر، ويأتيها الذّكر بالطّعم. قال: والغراب من لئام الطير وليس من كرامها، ومن بغاثها وليس من أحرارها، ومن ذوات المخالب المعقّفة والأظفار الجارحة، ومن ذوات المناقير وليس من ذوات المناسر؛ وهو مع ذلك قوىّ البدن، لا يتعاطى الصيد، وربما راوغ العصفور. ولا يصيد الجرادة إلا أن يلقاها فى سدّ «2» من جراد. وهو إن أصاب جيفة نال منها وإلا مات هزالا. ويتقمّم كما تتقمّم بهائم الطير وضعافها. وليس ببهيمة لمكان أكله الجيف؛ وليس بسبع لعجزه عن الصيد.
قال: وهو إمّا أن يكون حالك السواد شديد الاحتراق، ويكون مثله من الناس الزّنج لأنهم شرار الناس وأردأ الخلق تركيبا ومزاجا، فلا تكون له معرفة ولا جمال؛ وإما أن يكون أبقع فيكون اختلاف تركيبه وتضادّ أعضائه دليلا على فساد أمره.
والبقع ألأم من السّود وأضعف.
قال: ومن الغربان غراب الليل، وهو الذى ترك أخلاق الغربان وتشبّه بأخلاق البوم. وقد رأيت أنا ببلنياس «3» - وهى على ساحل البحر الرومىّ- غربانا كثيرة جدّا، فإذا كان وقت الفجر صاحت كلّها صياحا عظيما مزعجا؛ فهم يعرفون طلوع الفجر بصياحها.(10/210)
قال: ومنها غراب البين؛ وهو نوعان: أحدهما غربان صغار معروفة بالضّعف واللؤم. والآحر إنما لزمه هذا الاسم لأنّ الغراب إذا بان أهل الدار للنّجعة وقع فى مواضع بيوتهم يتلمّس ويتقمّم، فتشاءموا به وتطيّروا منه، إذ كان لا يلمّ بمنازلهم إلا إذا بانوا منها؛ فسمّوه غراب البين. ثم كرهوا إطلاق ذلك الاسم مخافة الزّجر والطّيرة، وعلموا أنه نافذ البصر صافى العين، فسمّوه الأعور؛ من أسماء الأضداد.
قال: والغدفان جنس من الغربان؛ وهى لئام جدّا. ومن أجل تشاؤمهم بالغراب اشتقّوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب. والعرب يتعايرون بأكل لحوم الغربان. وفى ذلك يقول وعلة الجرمىّ «1» :
فما بالعار ما عيّرتمونا ... شواء النّاهضات مع الخبيص «2»
فما لحم الغراب لنا بزاد ... ولا سرطان «3» أنهار البريص «4»
والغربان من الأجناس التى تقتل فى الحلّ والحرم، وسمّيت بالفسق.
قال الجاحظ: وبالبصرة من شأن الغربان ضروب من العجب، لو كان ذلك بمصر أو ببعض الشامات كان عندهم من أجود الطّلّسمات؛ وذلك أنّ الغربان تقطع إلينا فى الخريف فترى النخيل وبعضها مصروم وعلى كل نخلة عدد كثير من الغربان؛(10/211)
وليس فيها شىء يقرب نخلة واحدة من النخيل التى لم تصرم ولو لم يبق عليها إلا عذق واحد. قال: فلو أنّ الله تعالى أذن للغراب أن يسقط على النخلة وعليها التمر لذهب جميعه. فإذا صرموا ما على النخلة تسابق الغربان إلى ما سقط من التمر فى جوف القلب «1» وأصول الكرب «2» تستخرجه وتأكله.
ومما يتمثّل به فى الغراب: يقولون: «أحذر من غراب» . و «أصحّ من غراب» . و «أصفى نظرا من غراب» . و «أسود من غراب» .
ومما وصفت به الغربان- فمن ذلك قول عنترة:
حرق «3» الجناح كأن لحيى رأسه ... جلمان بالأخبار هشّ مولع
وقال الطّرمّاح بن حكيم:
وجرى ببينهم غداة تحمّلوا ... من ذى الأثارب شاحج يتعبّد «4»
شنج «5» النّسا أدفى «6» الجناح كأنه ... فى الدار إثر الظاعنين مقيّد(10/212)
وقال أبو يوسف بن هارون الزّيادىّ الأندلسىّ:
أبا حاتم ما أنت حاتم طيّئ ... وما أنت إلا حاتم الحدثان
خطبت ففرّقت الجميع بلكنة ... فما الظنّ لو تعطى بيان لسان
كأنّهم من سرعة البين أودعوا ... جناحيك واستحثثت «1» للطيران
وقال أحمد بن فرج الجبّائى:
أمّا الغراب فمؤذن بتغرّب ... وشكا «2» فصدّق بالنّوى أو كذّب
داجى القناع كأن فى إظلامه ... إظلام يوم تفرّق وتغرّب(10/213)
الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الثالث فى بهائم الطير
ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى «الدّرّاج» و «الحبارى» و «الطاوس» و «الدّيك» و «الدّجاج» و «الحجل» و «الكركىّ» و «الإوزّ» و «البطّ» و «النّحام» «1» و «الأنيس» و «القاوند» و «الخطّاف» و «القيق» و «الزّرزور» و «السّمانى» و «الهدهد» و «العقعق» و «العصافير» .
قال الجاحظ: والبهيمة من الطير ما أكل الحبّ خالصا.
فأمّا الدّرّاج وما قيل فيه
- قال الجاحظ: إنه يبيض بين العشب، ولا سيما فيما طال منه والتوى.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: لحم الدّرّاج أفضل من الفواخت وأعدل وألطف وأيبس. قال: وهو يزيد فى الدّماغ والفهم، ويزيد فى المنىّ.
وقال أبو طالب المأمونىّ:
قد بعثنا بذات حسن بديع ... كنبات الرّبيع بل هى أحسن
فى رداء من جلّنار وآس ... وقميص من ياسمين وسوسن
وقال آخر:
صدور من الدّرّاج نمّق وشيها ... وصلن بأطراف اللّجين السّواذج
وأحداق تبر فى خدود شقائق ... تلألأ حسنا كاشتعال المسارج(10/214)
وأذناب طلع فى ظهور ملاعق ... مجزّعة الأعطاف صهب الدّمالج
فإن فخر الطاوس يوما بحسنه ... فلا حسن إلّا دون حسن الدّرارج
*** وأمّا الحبارى وما قيل فيه
- وتسمّيه أهل مصر الحبرج «1» .
قال الجاحظ: والحبارى أشدّ الطير طيرانا وأبعدها «2» سقطا وأطولها شوطا وأقلّها عرجة «3» ؛ وذلك أنه يصاد بالبصرة فيشقّ عن حوصلته بعد الذّبح فتوجد فيها الحبّة الخضراء لم تتغيّر ولم تفسد؛ والحبّة الخضراء من شجر البطم «4» ومنابتها جبال الثغور الشاميّة. والحبارى له خزانة بين دبره وأمعائه، لا يزال فيها سلح رقيق لزج؛ فمتى ألحّ عليه جارح ذرق عليه فتمعّط «5» ريشه. ولذلك يقال: الحبارى سلاحه سلاحه.
قال الشاعر:
وهم تركوك أسلح من حبارى ... رأى صقرا وأشرد من نعام
وهو يغتذى بسلحه إذا جاع. ويقال: الحبارى دجاجة البرّ تأكل كل ما دبّ حتى الخنافس؛ فلذلك يعاف أكله.
ووصف أبو نواس الحباريات فقال:
يخطرن فى برانس قشوب ... من حبر ظوهرن بالتّذهيب
فهنّ أمثال النّصارى الشّيب(10/215)
وأما الطاوس وما قيل فيه
- فهو ألوان منها الأخضر، والأرقط، والأبيض؛ ويوجد فى كلها الخيلاء. ولا تعرف هذه الألوان إلا فى بلاد الزّابج.
وفى طبع الطاوس الخيلاء والإعجاب بريشه. والأنثى تبيض بعد أن يمضى من عمرها ثلاث سنين. ولا يحصل التلوّن فى ريش الذّكر إلا بعد مضىّ هذه المدّة.
وتبيض الأنثى «1» مرتين فى السنة، فى كل مرّة اثنتى عشرة بيضة.
وقال الجاحظ: أوّل ما تبيض ثمانى بيضات، وتبيض أيضا بيض الرّيح.
ويسفد الذّكر فى أوان الربيع. ويلقى ريشه فى فصل الخريف، كما يلقى الشجر ورقه فيه؛ فإذا بدأت الأشجار تكتسى الأوراق بدأ الطاوس فاكتسى ريشا.
والذكر كثير العبث بالأنثى. والفرخ يخرج من البيضة [كاسيا «2» ] كاسبا.
وزعم أرسطو أن الطاوس يعمّر خمسا وعشرين سنة. وقال أبو الصّلت [امية بن عبد «3» العزيز الأندلسىّ] يصفه:
أبدى لنا الطاوس عن منظر ... لم ترعينى مثله منظرا
متوّج المفرق إلّا يكن ... كسرى بن ساسان يكن قيصرا
فى كل عضو ذهب مفرغ ... فى سندس من ريشه أخضرا
نزهة من أبصر، فى طيّها ... عبرة من فكّر واستبصرا
تبارك الخالق فى كلّ ما ... أبدعه منه وما صوّرا(10/216)
وقال فيه أيضا:
أهلا به لمّا بدا فى مشيه ... يختال فى حلل من الخيلاء
كالرّوضة الغنّاء أشرف فوقه ... ذنب له كالدّوحة الغنّاء
ناديته لو كان يفهم منطقى ... أو يستطيع إجابة لندائى
يا رافعا قوس السماء ولابسا ... للحسن روض الحزن غبّ سماء
أيقنت أنك فى الطيور مملّك ... لمّا رأيتك منه تحت لواء
وقال أبو الفتح كشاجم من قصيدة ذكر فيها طاوسا:
[وأىّ عذر لمقلة بعد الطّ ... اوس عنها إن لم تفض بدم «1» ]
رزئته روضة تروق ولم ... أسمع بروض سعى على قدم
متوّجا خلعة «2» حباه بها ... ذو الفطر المعجزات والحكم
كأنه يزدجرد منتصبا ... يبنى فيعلى مآثر العجم
يطبق أجفانه ويحسر عن ... فصّين يستصحبان «3» فى الظّلم
أدلّ بالحسن فاستذال له ... ذيلا من الكبر غير محتشم
ثم مشى مشية العروس فمن ... مستظرف معجب ومبتسم
*** وأما الدّيك والدّجاج وما قيل فيهما
- قالوا: والدّجاج ثلاثة أصناف: «نبطىّ» وهو ما يتّخذ فى القرى والبيوت، و «هندىّ» وهو عظم(10/217)
الخلق يتّخذ لحسن شكله، و «حبشىّ» وهو نوع بديع الحسن أرقط: نقطة سوداء ونقطة بيضاء، وله قرطان أخضران.
قالوا: والدّجاجة تجمع البيض بعد السّفاد فى أحد عشر يوما؛ وهى تبيض فى السنة كلها ما خلا شهرين شتويين. والذى عرّفناه نحن بديار مصر أنّ البيض لا ينقطع أبدا فى الفصول الأربعة، فيدلّ على أنها تبيض دائما. ومن الدّجاج ما يبيض فى اليوم مرّتين. والبيضة تكون عند خروجها ليّنة القشر جدّا؛ فإذا أصابها الهواء يبست. وربما وجد فى البيضة محّان. وقال أرسطو: باضت دجاجة فيما مضى ثمانى عشرة بيضة لكل بيضة محّان، ثم حضنت البيض فخرج من كل بيضة فرخان، أحدهما أعظم جثة من الآخر.
والدّجاجة تحضن عشرين يوما. وخلق الفرّوج يتبيّن إذا مضت عليه ثلاثة أيام. ويعرف الذّكر من الأنثى بأن يعلّق الفرّوج برأسه «1» فان تحرّك فذكر، وإن سكن فأنثى.
قال الجاحظ: والفرخ يخلق من البياض ويغتذى بالصّفرة ويتمّ خلقه لعشرة أيام؛ والرأس وحده يكون أكبر من سائر جسده. والدّجاجة إذا هرمت لم يكن لبيضها محّ، وإذا لم يكن له محّ لا يخلق منه فرّوج.
والدّجاجة تخشى ابن آوى دون سائر السّباع؛ وذلك أنه يمرّ عليها فى القرى ما يمرّ من السباع وغيرها فلا تخشاه؛ فإذا مرّ عليها ابن آوى وهى على سطح نالها(10/218)
من الفزع منه ما تلقى [به «1» ] نفسها إليه. وهى إذا قابلت الدّيك تشهّته «2» ورامت السّفاد. والدّجاجة توصف بقلّة النوم. والفرّوج يخرج من البيضة كاسيا كاسبا، سريع الحركة، يدعى فيجيب ويتبع من يطعمه؛ ثم هو كلّما كبر ماق وحمق وزال كيسه. وهو مشترك الطبيعة: يأكل اللّحم، ويحسو الدّم، ويصيد الذّباب، وذلك من طباع الجوارح؛ ويلقط الحبوب، ويأكل البقول، وذلك من طباع بهائم الطير.
والله أعلم بالصواب.
ذكر ما جاء فى الدّيكة من الأحاديث وما عدّ من فضائلها وعاداتها ومنافعها
جاء فى الحديث عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنّ ديكا صرخ عند النبىّ صلى الله عليه وسلم، فسبّه بعض أصحابه، فقال: «لا تسبّه فإنّه يدعو إلى الصلاة» .
وعن زيد بن خالد الجعفىّ: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم نهى عن سبّ الدّيك وقال: «إنّه يؤذّن للصلاة» . وعن سالم بن أبى الجعد يرفعه: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ ممّا خلق الله لديكا عرفه تحت العرش وبراثنه فى الأرض السّفلى وجناحاه فى الهواء فإذا ذهب ثلثا الليل وبقى ثلث ضرب بجناحيه ثم قال سبّحوا الملك القدّوس سبّوح قدّوس لا شريك له فعند ذلك تضرب الطير بأجنحتها وتصيح الدّيكة» . وعن كعب: «إنّ لله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه فى أسفل الأرض فإذا صاح صاحت الدّيكة يقول سبحان القدّوس الملك الرحمن لا إله غيره» .
وروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الدّيك الأبيض صديقى(10/219)
وعدوّ عدوّ الله يحرس دار صاحبه وسبع دور» . وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يبيّته معه فى البيت. وروى أنّ أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون بالدّيكة.
قال الجاحظ: وزعم أصحاب التّجربة أن كثيرا ما يرون الرجل إذا ذبح الدّيك الأبيض الأفرق «1» إنه لا يزال ينكب فى أهله وماله.
وقال فى كتاب الحيوان فى المناظرة بين الدّيك والكلب: وفى الديك الشّجاعة والصبر والجولان والثّقافة والتّسديد؛ وذلك أنه يقدّر إيقاع صيصيته «2» بعين الديك الآخر أو مذبحه فلا يخطئ. قال: ثم معرفته بالليل وساعاته وارتفاق بنى آدم بمعرفته وصوته، يتعرّف آناء الليل وعدد الساعات ومقادير الأوقات ثم يقسّط أصواته على ذلك تقسيطا موزونا لا يغادر منه شيئا. فليعلم الحكماء أنه فوق الإسطرلاب وفوق مقدار الجزر»
والمدّ على منازل القمر، حتى كأن طبعه فلك [على حدته «4» ] .
ومن عجيب أحوال الدّيكة أنها إذا كانت فى مكان ثم دخل عليها ديك غريب سفدته جميعا. والدّيك يضرب به المثل فى السخاء، وذلك أنه ينقر الحبّ ويحمله بطرفى منقاره إلى الدّجاج، فإذا ظفر بشىء من الحبّ والدّجاج غيب دعاهنّ إليه وقنع منه بدون حاجته توفيرا «5» عليهنّ. قالوا: والدّيكة تعظم بدبيل «6» السّند حتى تكون مثل النّعام.(10/220)
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ مرقة الديوك العتق لها خاصّيّات، سنذكرها. قال: والوجه الذى ذكره جالينوس فى طبخها أن تذبح بعد علفها وبعد إعدائها إلى أن تنبتّ «1» فتسقط فتذبح، ثم يخرج ما فى بطنها ويملأ بطنها ملحا ويخاط ويطبخ بعشرين قسطا ماء حتى ينتهى إلى الثّلث ويشرب. قال: ثم يزاد فى ذلك ما نذكره. قال: وأجود الدّيكة ما لم يصقع «2» بعد. وأجود الدّجاج ما لم يبض، والعتيق ردىء. قال: ولحم الفراريج أحرّ من لحم الدّجاج الكبير. وخصىّ الدّيوك محمود سريع الهضم. ومرقة الدّيوك المذكورة توافق الرّعشة ووجع المفاصل. ولحم الدّجاج الفتىّ يزيد فى العقل، ودماغها يمنع النّزف الرّعافىّ العارض من حجب الدّماغ. ومرقة الدّيوك المذكورة نافعة من الرّبور. ولحم الدّجاج يصفّى الصوت. ومرقة الدّيك الهرم المعمولة بالقرطم والشّبث تنفع من جميع ذلك.
ومرقة الديوك نافعة لوجع المعدة من الرّيح، وتنفع القولنج جدّا. ولحم الدّجاج الفتىّ يزيد فى المنىّ؛ والمرقة المذكورة [مع البسفايج «3» ] تسهّل السّوداء، ومع القرطم تسهّل البلغم. وقد تطبخ بالأدوية القابضة للسّحج «4» ، وباللّبن لقروح المثانة.
والمرقة نافعة من الحميّات المزمنة. قال: والدّجاج المشقوق عن قلبه أو الديك يوضع على نهش الهوامّ ويبدّل كلّ ساعة فيمنع من فشوّ السمّ. وفى السموم المشروبة يتحسّى طبيخه «5» بالشّبث والملح ويتقيّأ.(10/221)
ومن الحكايات التى تعدّ من خرافات العرب ما حكاه بعضهم عن الرّياشىّ «1» قال: كنّا عند الأصمعىّ، فوقف عليه أعرابىّ فقال: أنت الأصمعى؟ قال: نعم؛ قال: أنت أعلم أهل الحضر بكلام العرب؟ قال: يزعمون؛ قال: ما معنى قول أميّة بن أبى الصلت:
وما ذاك إلّا الدّيك شارب خمرة ... نديم غراب لا يملّ الحوانيا «2»
فلما استقلّ الصبح نادى بصوته ... ألا يا غراب هل رددت ردائيا
فقال الأصمعىّ: إنّ العرب كانت تزعم أنّ الدّيك كان ذا جناح يطير به فى الجوّ وأنّ الغراب كان ذا جناح كجناح الدّيك لا يطير به وأنهما تنادما ليلة فى حانة يشربان فنفد شرابهما؛ فقال الغراب للدّيك: لو أعرتنى جناحك لأتيتك بشراب؛ فأعاره جناحه، فطار ولم يرجع إليه؛ فزعموا أنّ الديك إنما يصيح عند الفجر استدعاء لجناحه من الغراب؛ فضحك الأعرابىّ وقال: ما أنت إلا شيطان.
وهذه الحكاية ذكرها الجاحظ فى كتاب الحيوان بنحو ما حكى عن الأصمعىّ، وساق أبيات أميّة بن أبى الصّلت، وهى:
ولا «3» غرو إلّا الديك مدمن خمرة ... نديم غراب لا يملّ الحوانيا
ومرهنه عند الغراب جبينه ... فأوفيت مرهونا وخان مسابيا «4»
أدلّ علىّ الدّيك أنّى كما ترى ... فأقبل على شأنى وهاك ردائيا(10/222)
أمنتك «1» لا تلبث من الدهر ساعة ... ولا نصفها حتى تؤوب مآبيا
ولا تدركنك الشمس عند طلوعها ... فأغلق «2» فيهم أو يطول ثوائيا
فردّ الغراب والرداء يحوزه ... إلى الدّيك وعدا كاذبا وأمانيا
بأيّة ذنب أو بأيّة حجّة ... أدعك فلا تدعو علىّ ولاليا «3»
فإنى نذرت حجّة لن أعوقها ... فلا تدعونّى دعوة من ورائيا
تطيّرت منها والدّعاء يعوقنى ... وأزمعت حجّا أن أطير أماميا
فلا تيأسن إنى مع الصبح باكرا ... أوافى غدا نحو الحجيج الغواديا
كحب امرئ فاكهته قبل حجّتى ... وآثرت عمدا شأنه قبل شانيا
هنا لك ظنّ الدّيك أن زال زوله ... وطال عليه الليل أن لا مفاديا
فلما أضاء الصبح طرّب صرخة ... ألا يا غراب هل سمعت ندائيا
على ودّه لو كان ثم يجيبه ... وكان له ندمان صدق مواتيا
وأمسى الغراب يضرب الأرض كلّها ... عتيقا «4» وأضحى الدّيك فى القدّ عانيا
فذلك مما أسهت الخمر لبّه ... ونادم ندمانا من الطير عاديا «5»
ومن الحكايات التى لا بأس بإيرادها فى هذا الموضع ما حكاه الجاحظ قال:
قال أبو الحسن: حدّثنى أعرابىّ كان نزل البصرة قال: قدم علىّ أعرابىّ من البادية فأنزلته، وكان عندى دجاج كثير ولى امرأة وابنان وابنتان منها؛ فقلت لامرأتى: بادرى واشوى لنا دجاجة وقدّميها إلينا نتغدّها. فلما حضر الغداء جلسنا جميعا أنا وامرأتى(10/223)
وابناى وابنتاى والأعرابىّ. قال: فدفعنا إليه الدجاجة فقلنا له: اقسمها بيننا، نريد بذلك أن نضحك منه؛ فقال: لا أحسن القسمة، فإن رضيتم بقسمتى قسمتها بينكم؛ قلنا: فإنّا نرضى. فأخذ رأس الدجاجة فقطعه وناولنيه وقال: الرأس للرئيس، وقطع الجناحين وقال: الجناحان للابنين، ثم قطع الساقين وقال: الساقان للابنتين، ثم قطع الزّمكّى «1» وقال: العجز للعجوز، وقال: الزّور «2» للزائر؛ قال: فأخذ الدجاجة بأسرها وسخر بنا. قال: فلمّا كان من الغد قلت لامرأتى: اشوى لنا خمس دجاجات، فلما حضر الغداء قلنا له: اقسم بيننا؛ فقال: إنى أظن أنكم وجدتم فى أنفسكم؛ قلنا:
لم نجد فاقسم بيننا؛ قال: أقسم شفعا أو وترا؟ قلنا: اقسم وترا؛ قال: أنت وامرأتك ودجاجة ثلاثة، ثم رمى إلينا بدجاجة؛ ثم قال: وابناك ودجاجة ثلاثة، ورمى إليهما بدجاجة؛ ثم قال: وابنتاك ودجاجة ثلاثة، ورمى إليهما بدجاجة؛ ثم قال:
وأنا ودجاجتان ثلاثة وأخذ دجاجتين وسخر بنا. فرآنا ننظر إلى دجاجتيه فقال:
ما تنظرون! لعلكم كرهتم قسمتى! الوتر لا يجىء إلّا هكذا، فهل لكم فى قسمة الشّفع؟ قلنا نعم؛ فضمّهنّ «3» إليه ثم قال: أنت وابناك ودجاجة أربعة، ورمى إلينا بدجاجة؛ ثم قال: والعجوز وابنتاها ودجاجة أربعة، ورمى إليهنّ بدجاجة؛ ثم قال: وأنا وثلاث دجاجات أربعة وضمّ إليه الثلاث، ورفع يديه إلى السماء فقال:
اللهمّ لك الحمد، أنت فهّمتنيها. هكذا ساقها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
وحكى غيره هذه الحكاية عن الأصمعىّ وفيها زيادة، قال: حكى الأصمعىّ: بينا(10/224)
أنا فى البادية إذا أنا بأعرابىّ على ناقة وهى ترقص به فى الآل؛ فلمّا دنا منّى سلّم علىّ، فسلّمت عليه وقلت: يا أخا العرب
قوم بخفّان «1» عهدناهم ... سقاهم الله من النّو
ما النّو؟ فقال:
نوء السّماكين وريّاهما ... نور تلالا بعد إيماضه ضو «2»
فقلت: ما الضّو يا أخا العرب؟ فقال:
ضوء تلالا فى دجى ليلة ... مقمرة مسفرة لو
فقلت: لو إيش يا أخا العرب؟ فقال:
لو مرّ فيها سائر راكب ... على نجيب الأرض منطو
فقلت: منطو إيش يا أخا العرب؟ فقال:
منطوى الكشح هضيم الحشى ... كالباز ينقضّ من الجوّ
فقلت: ما الجوّ يا أخا العرب؟ فقال:
جوّ السما والريح تعلو به ... فاشتمّ ريح الأرض فاعلوّ
فقلت: فاعلو إيش يا أخا العرب؟ فقال:
فاعلو لما قد فات من صيده ... لا بدّ أن تلقى ويلقوا
فقلت: ماذا يلقوا يا أخا العرب؟ فقال:
يلقوا بأسياف يمانيّة ... وعن قليل سوف يفنوا(10/225)
فقلت: ما يفنوا يا أخا العرب؟ فقال:
إن كنت تنكر «1» ما قلته ... فأنت عندى رجل بوّ
فقلت: وما البوّ يا أخا العرب؟ فقال:
البوّ من يفقد عن أمّه ... يا أحمق الناس فرح أو
قلت: أو إيش؟ فقال:
تندفع الكفّ بصفع القفا ... تسمع ما بينهما قوّ
فقلت: يا أخا العرب، هل لك فى الضيافة؟ فقال: لا يأبى الكرامة إلّا لئيم؛ فأتيت به منزلى. ثم ساق الحكاية بنحو ما تقدّم، إلا أنه قال: فأتيته فى اليوم الثانى بثلاث دجاجات، وقلت: نحن كما علمت، اقسمها بيننا أزواجا؛ فقال: أنت وابناك ودجاجة زوج، وامرأتك وابنتاها ودجاجة زوج، وأنا ودجاجة زوج.
وساق خبر الخمسة فى اليوم الثالث كما تقدّم.
*** ذكر شىء مما وصفت به الشعراء البيضة والدّجاجة والدّيك
فمن ذلك ما وصفوا به البيضة. قال أبو الفرج الأصبهانىّ من أبيات:
فيها بدائع صنعة ولطائف ... ألّفن بالتّقدير والتلفيق
خلطان مائيّان ما اختلطا على ... شكل ومختلف المزاج رقيق
فبياضها ورق وزئبق محّها ... فى حقّ عاج بطّنت بدبيقى «2»(10/226)
وقال شاعر:
وصفراء فى بيضاء رقّت غلالة ... لها وصفا ما فوقها من ثيابها
جماد ولكن بعد عشرين ليلة «1» ... ترى نفسها معمورة من خرابها
وقال كشاجم من أبيات يذكر فيها جونة «2» أهديت إليه وفيها بيض مسلوق مصبوغ أحمر:
وجاءنا فيها بيض أحمر ... كأنه العقيق ما لم يقشر
حتى إذا قدّمه مقشّرا ... أبرز من تحت عقيق دررا
حتى إذا ما قطّع البيض فلق ... رأيت منه ذهبا تحت ورق
يخال أنّ الشطر منه من لمح ... أعاره تلوينه قوس قزح
ومما قيل فى الدّجاجة والدّيك
قال الشاعر:
غدوت بشربة من ذات عرق «3» ... أبا الدّهناء من حلب العصير
وأخرى بالعقنقل «4» ثم رحنا ... نرى العصفور أعظم من بعير
كأن الديك ديك بنى نمير ... أمير المؤمنين على السّرير
كأن دجاجهم فى الدار رقطا ... وفود الروم فى قمص الحرير(10/227)
فبتّ أرى الكواكب دانيات ... ينلن أنامل الرجل القصير
أدافعهنّ بالكفّين عنّى ... وأمسح جانب القمر المنير
وقال أبو بكر الصّنوبرىّ من أبيات يصف ديكا:
مغرّد الليل ما يألوك تغريدا ... ملّ الكرى فهو يدعو الصبح مجهودا
لما تطرّب هزّ العطف من طرب ... ومدّ للصوت لمّا مدّه الجيدا
كلابس مطرفا مرخ جوانبه «1» ... تضاحك البيض من أطرافه السّودا
حالى المقلّد لو قيست قلادته ... بالورد قصّر عنها الورد توريدا
ران بفصّى عقيق يدركان له ... من حدّة فيهما ما ليس محدودا
تقول هذا عقيد «2» الملك منتسبا ... فى آل كسرى عليه التاج معقودا
أو فارس شدّ مهمازيه حين رأى ... لواء قائده للحرب معقودا
وقال أبو هلال العسكرىّ:
متوّج بعقيق ... مقرّط بلجين
عليه قرطق وشى ... مشمّر الكمّين «3»
قد زيّن النّحر منه ... ثنتان كالوردتين
حتى إذا الصبح يبدو ... مطرّز الطّرّتين
دعا فأسمع منّا ... من كان ذا أذنين
يزهى بطوق وتاج ... كأنه ذو رعين»(10/228)
وقال الأسعد بن بلّيطة «1» :
وقام لنا ينعى الدّجى ذو شقيقة «2» ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا «3»
إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضربا من قوادمه الإبطا
ومهما اطمأنت نفسه قام صارخا ... على خيزران «4» نيط من ظفره خرطا
كأنّ أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كفّ مارية «5» القرطا
[سبى حلّة الطاوس «6» حسن لباسها ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطّا]
وقال أبو عبد الله المالكىّ:
رعى الله ذا صوت أنسنا بصوته ... وقد بان فى وجه الظلام شحوب
دعا من بعيد صاحبا فأجابه ... يخبّرنا أنّ الصباح قريب
وقال ابن المعتزّ:
بشّر بالصبح هاتف هتفا ... صاح «7» من اللّيل بعد ما انتصفا(10/229)
مذكّر بالصّبوح صاح لنا ... كأنّه فوق منبر وقفا
صفّق إمّا ارتياحة لسنا ال ... فجر وإمّا على الدّجى أسفا
وقال أيضا فيه:
وقام فوق الجدار مشترف ... كمثل طرف علاه أسوار «1»
رافع رأس طورا وخافضه ... كأنما العرف منه منشار
وقال السّرىّ الرّفّاء:
كشف الصباح قناعه فتألّقا ... وسطا على اللّيل البهيم وأبرقا «2»
وعلا فلاح على الجدار موشّح ... بالوشى توّج بالعقيق وطوّقا
مرخ فضول التاج من لبّاته ... ومشمّر وشيا عليه منمّقا
وقال أبو الفرج علىّ بن الحسين الأصفهانىّ يرثى ديكا ويصفه:
أبنىّ منزلنا ونشو محلّنا ... وغذىّ أيدينا نداء مشوق
لهفى عليك أبا النّذير «3» لو انّه ... دفع المنايا عنك لهف شفيق
وعلى شمائلك اللّواتى ما نمت ... حتى ذوت من بعد حسن سموق
لما بقعت «4» وصرت علق مضنّة «5» ... ونشأت نشو المقبل الموموق
وتكاملت جمل الجمال بأسرها ... لك من جليل خالص ودقيق(10/230)
وكسيت «1» كالطاوس ريشا لامعا ... متلألئا ذا رونق وبريق
من صفرة مع خضرة فى حمرة ... تخييلها يخفى على التّحقيق «2»
عرض يجلّ عن القياس وجوهر ... لطفت معانيه عن التّدقيق
وكأنّ سالفتيك تبر سائل ... وعلى المفارق منك تاج عقيق
وكأنّ مجرى الصوت منك، إذا نبت ... وجفت «3» عن الأسماع بحّ حلوق،
ناى رقيق «4» ناعم قرنت به ... نغم مؤلّفة من الموسيقى
تزقو وتصفق بالجناح كمنتش ... وصلت يداه الصوت بالتّصفيق
وخطرت «5» ملتحفا بمرط حبّرت ... فيه بديع الوشى كفّ أنيق
كالجلّنارة أو ضياء «6» عقيقة ... أو لمع نار أو وميض بروق
أو قهوة تختال فى بلّورة ... بتألّق اللّمعان والتّزويق «7»
وكأنما الجادىّ جاد بصبغه ... لك أو غدوت مضمّخا بخلوق
وقال شاعر أندلسىّ:
وكائن نفى النوم من عين فان ... بديع الملاحة حلو المعانى
بأجفان عينيه ياقوتتان ... كأنّ وميضهما جمرتان(10/231)
على رأسه التاج مستشرفا ... كتاج ابن هرمز فى المهرجان
وقرطان من جوهر أحمر ... يزينانه زين قرط الحصان
له عنق حولها رونق ... كما حوت الخمر إحدى القنانى
ودار برائله «1» حولها ... لها ثوب شعر من الزعفران
ودارت بجؤجئه حلّة ... تروق كما راقك الخسروانى
وقام له ذنب معجب ... كباقة زهر بدت من بنان
وقاس جناحا على ساقه ... كما قيس ستر على خيزران
وصفّق تصفيق مستهتر ... بمحمّرة من بنات الدّنان
وغرّد تغريد ذى لوعة ... يبوح بأشواقه للغوانى
وقال أبو علىّ بن رشيق حيث مزّق عنه جلباب الممادح، وتركه من شمل الذمّ فى الرأى الفاضح:
قام بلا عقل ولا دين ... يخلط تصفيقا بتأذين
فنبّه الأحباب من نومهم ... ليخرجوا من غير ما حين
بصرخة تبعث موتى البكرى ... قد أذكرت نفخ سرافين «2»
كأنّها فى حلقه غصّة ... أغصّه الله بسكّين(10/232)
وأما الحجل وما قيل فيه
- والحجل طائر يسمّى: «دجاج البرّ» وهو صنفان: نجدىّ، وتهامىّ. فالنجدىّ أخضر أحمر الرجلين. والتّهامىّ فيه بياض وخضرة. وسمّى الذكر «يعقوب» ، والفرخ الذّكر «السّلك» ، والأنثى «السّلكة» .
وهو من الطير الذى يخرج فرخه كاسيا كاسبا. ويقال: إنّ الحجلة إذا لم تلقح تمرّغت فى التراب ورشّته على أصول ريشها فتلقح. ويقال: إنها تبيض بسماع صوت الذّكر وبريح تهبّ من ناحيته.
قال أبو عثمان الجاحظ: وإذا باضت الحجلة ميّز الذكر الذكور منها فيحضنها، وميّزت الأنثى الإناث فتحضنها، وكذلك هما فى التربية. قال: وكلّ واحد منهما يعيش خمسا وعشرين سنة. ولا تلقح الأنثى بالبيض، ولا يلقح الذكر إلّا بعد مضىّ ثلاث سنين. والذكر شديد الغيرة على الأنثى. فإذا اجتمع ذكران اقتتلا، فأيّهما غلب ذلّ له الآخر؛ وذهبت الأنثى مع الغالب. والأنثى إذا أصيب بيضها قصدت عشّ أخرى وغلبتها على بيضها. وقد وصف «1» أبو علىّ بن رشيق القيراوانىّ الحجل فقال:
ما أغربت فى زيّها «2» ... إلّا يعاقيب الحجل
جاءتك مثقلة التّرا ... ئب بالحلىّ وبالحلل
صفر الجفون كأنما ... باتت بتبر تكتحل(10/233)
مشقوقة شقّ الزّ ... جاج لمن تأمّل أو عقل
وصلت مذابحها الرءو ... س بحمرة فيها شعل
لولا اختلاف الجنس وال ... تركيب جاءت فى المثل
كلحى الثمانين التى ... خضبت ومنها ما نصل
أو كاللّثام أزاله ... فرط التّلفّت والعجل
وتخالهنّ جواريا ... لا يزدرين من العطل
رمت الثّياب الى ورا ... ء عن المناكب تتجدل
وبدت سراويلاتها ... يسحبن وشيا من قبل
حمر من الرّكبات فى ... لون الشقائق أو أجلّ
عقّدنها فوق الصدو ... ر مخالسات للقبل
وشددن بالأعضاد من ... حذر عليها أن تحلّ
وكأنما باتت أصا ... بعها بحنّاء تعلّ «1»
من يستحلّ لصيدها ... فأنا امرؤ لا أستحلّ
*** وأمّا الكركىّ وما قيل فيه
- ويقال: إنه «الغرنيق» ؛ ويقال:
إن الغرنيق صنف منه. وهو طائر أخضر طويل المنقار والرجلين. وسفاده فى السّرعة كالعصفور. وله مشات ومصايف. وفى طبعه التّناصر؛ ولهذا أنّه لا يطير متقطّعا ولا متباعدا بل صفّا واحدا، يقدمها واحد منها كالرئيس لها المقدّم(10/234)
عليها وهى تتبعه، يكون كذلك حينا، ثم يخلفه آخر منها. وفى طبع الكركىّ وعادته أنّ أبويه إذا كبرا عالهما.
وقال أرسطو: إن الغرانيق من الطير القواطع وليست من الأوابد، وإنها إذا أحسّت بتغيّر الزمان اعتزمت على الرجوع إلى بلادها. وكلّ منها ينام على إحدى رجليه قائما. ويقال: إن الكراكىّ إذا كبرت اسودّ ريشها وهو فى شيبتها رمادىّ.
وقد ظهر بالديار المصريّة فى شهور سنة خمس عشرة وسبعمائة صنف من الكراكىّ أبيض اللون ناصع البياض حسن الصورة، وهو أكبر جثّة من الكركىّ المعتاد.
وقال النّاشى فى وصف الكراكىّ:
ومورد يجذل قلب الوامق ... منظّم بالغرّ والغرانق
وكلّ طير صافر أو ناعق ... مكتهل وبالغ ولاحق
موشيّة الصدور والعواتق ... بكل وشى فاخر وفائق
تختال فى أجنحة خوافق ... كأنما تختال فى قراطق
يرفلن فى قمص وفى يلامق «1» ... كأنّهنّ زهر الحدائق
حمر الحداق كحل الحمالق ... كأنما يجلن فى مخانق «2»
*** وأمّا الإوزّ وما قيل فيه
- والإوزّ ثلاثة أصناف: بطائحىّ وهو الطويل الأسود [بزرقة «3» ] ، وتركىّ وهو المدوّر المائل إلى البياض، وخبىّ «4» وهو(10/235)
الضخم الكبير منها. ويقال: إن الإوز إذا فرغ من السّفاد وسبح فى الماء فإنما يفعل ذلك لتمام اللّذة. والأنثى تحضن بيضها ثلاثين يوما. والذكور تحنو على الفراخ. ولكلّ منها قضيب يسفد به كالبطّ. والإوزّ البطائحىّ، وهو المعروف بمصر بالعراقىّ، يخالف الحبىّ فى الصياح؛ لأن الخبىّ تصيح ذكورها ولا تصيح إناثها، والبطائحىّ بخلاف ذلك. والخبىّ من الطير الأوابد التى لا تبرح من الأماكن التى تربّى فيها لثقل أجسامها، وإذا نهضت فلا ترتفع من الأرض إلّا يسيرا.
والعراقيّات من الطير القواطع التى تنتقل من مكان إلى آخر، وترى فى وقت دون وقت.
وقال ابن رشيق يصف فحل إوزّ:
نظرت إلى فحل الإوزّ فخلته ... من الثّقل فى وحل وما هو فى وحل
ينقّل رجليه على حين فترة ... كمنتعل لا يحسن المشى فى النّعل
له عنق كالصّولجان ومخطم ... حكى طرف العرجون من يانع النّخل
يداخله زهو فيلحظ من عل «1» ... جوانبه ألحاظ متّهم العقل
يضمّ جناحيه إليه كما ارتدى ... رداء جديدا من بنى البدو ذو جهل
*** وأمّا البطّ وما قيل فيه
- وهو أصناف: منها الوحشىّ، والأهلىّ.
ومن الوحشىّ «اللّقلق»
» ؛ ومن الأهلىّ «الصّينىّ» . وفراخه تخرج كاسية كاسبة.(10/236)
وقيل: إن بالزّابج بطّا بيضا وحمرا ورقطا طوال الأعناق قصار الأرجل. والبطّ يطير على وجه الماء، وليس من طير الماء، لأنه لا يأويه دائما ولا يغتذى بالسمك. وهو يأكل النبات والبذور؛ وله قضيب يخرج من دبره كذكر الكلب عظيم جدّا بالنسبة إليه؛ فى رأسه زرّ كالفلكة «1» ؛ فإذا سفد لم يخرجه حتى ينقلب لجنبه؛ ويحصل له عند السّفاد من الالتحام ما يحصل للكلب.
وقال أبو علىّ بن سينا: وطبع البطّ حارّ أسخن من جميع الطيور الأهلية. قال قال بعضهم: هو يسخّن المبرود ويورث المحرور «2» حمّى. قال: وشحمه عظيم فى تسكين الوجع وتسكين اللذع من عمق البدن؛ وهو أفضل شحوم الطير. ولحمه يكثر الرّياح، وقانصته كثيرة الغذاء، ولحمه يسمّن، وهو بطىء فى المعدة ثقيل، وإذا انهضم كان أغذى من جميع لحوم الطير؛ وهو يزيد فى الباه ويكثر المنىّ.
*** وأمّا النّحام «3» وما قيل فيه
- قالوا: والنّحام يكون أفرادا وأزواجا.
وإذا أراد المبيت اجتمع رفوفا «4» فنام ذكوره ولا تنام إناثه. وتعدّ لها مباتات، إذا ذعرت فى واحد منها طارت إلى آخر. ويقال: إنه لا يسفد ولا يخرج فراخه بالحضن وإنما تبيض الأنثى من زقّ الذكر. وإذا باضت تغرّبت وبقى الذّكر عند البيض يذرق عليه ليس إلّا، فيقوم ذرقه مقام الحضن. فإذا تمّت مدّة ذلك خرجت(10/237)
الفراخ لا حراك بها؛ فتجىء الأنثى فتنفخ فى مناقيرها حتى يجرى ذلك النفخ فيها روحا، ثم يتعاون الذّكر والأنثى جميعا على التربية. وإذا قويت الفراخ على الطّعم وأمكنها التكسّب لنفسها طردها الذّكر.
*** وأمّا الأنيس وما قيل فيه
- فقال أرسطو: إنّه حادّ البصر، وصوته يشبه صوت الجمل ويحاكيه. ومأواه فى قرب الأنهار وفى الأماكن الكثيرة المياه الملتفّة الشجر. وله لون حسن وتدبير فى معاشه. والناس يتغالون به إذا وقع لهم ويجعلونه فى بيوتهم.
*** وأمّا القاوند وما قيل فيه
- قال صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر فى كتابه: كنت أسمع بشحم القاوند ولم أدر ما هو: حيوان هوائىّ أم مائىّ أم أرضىّ، حتى وقفت على كتاب موضوع فى طبائع الحيوان وخواصّه ليس عليه اسم المصنّف، فرأيته قد قال: «القاوند طائر يتّخذ وكره على ساحل البحر ويحضن بيضه سبعة أيّام، وفى اليوم السابع يخرج فراخه ثم يزقّها سبعة أيام. والمسافرون فى البحر يتيمّنون بهذه الأيام ويوقنون بطيب الرّيح وحلول أيام السفر» .
*** وأمّا الخطّاف وما قيل فيه
- والخطّاف يسمّى «زوّار الهند» .
وهو من الطيور القواطع التى تقطع البلاد البعيدة إلى الناس رغبة فى القرب منهم والإلف بهم، وهو مع ذلك لا يبنى بيته إلّا فى أبعد المواضع حيث لا تناله أيديهم.
ومن عجيب حاله أنّ عينه تقلع فترجع؛ وهو لا يرى أبدا يقف على شىء يأكله،(10/238)
ولا يرى يسافد ولا يجتمع بأنثاه. والأنثى تبيض مرّة واحدة فى السنة، وقيل:
مرتين؛ وكلاهما قاله الجاحظ. والخفّاش عدوّ الخطّاف؛ فهو إذا فرّخ وضع فى أعشاشه قضبان الكرفس، فلا يؤذى فراخه إذا شمّ رائحة الكرفس. وهو لا يفرّخ فى عشّ عتيق حتى يطيّنه بطين جديد. وهو يبنى عشّه بالطين والتّبن. فإذا لم يجد طينا مهيّأ ألقى نفسه فى الماء ثم تمرّغ فى التّراب حتى يمتلئ جناحاه ثم يجمعه بمنقاره.
وهو يسوّى فى الطّعم بين فراخه. ولا يترك فى عشّه زبلا بل يلقيه خارجا.
وأصحاب اليرقان يلطّخون فراخ الخطّاف بالزعفران؛ فإذا رآها صفرا ظنّ أنّ اليرقان أصابها من شدّة الحرّ، فيذهب ويأتيها بحجر اليرقان فيطرحه على الفراخ، وهو حجر أصفر، فيأخذه المحتال فيعلّقه على نفسه أو يحكّه ويشرب من مائه [يسيرا «1» ] فيبرأ.
والخطّاف متى سمع صوت الرّعد مات.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: قال ديسقوريدس: إنّ أوّل بطن للخطّاف إذا شقّ وجد فيه حصاتان، إحداهما ذات لون واحد والأخرى ذات ألوان كثيرة، إذا جعلتا فى جلد عجل قبل أن يصيبه تراب وربط على عضد المصروع ورقبته انتفع به، قال: وقد جرّبت ذلك وأبرأ المصروع. قال: وأكل الخطّاف يحدّ البصر، وقد يجفّف ويسقى. والشربة منه مثقال. وقيل: إنّ دماغه بعسل نافع من ابتداء الماء، وكذلك دماغ الخفّاش. قال: وإن ملّح الخطّاف وجفّف وشرب منه درهمان نفع من الخناق. قال بعض الأطباء: المشهور عند الأطباء أن عشّ الخطاطيف إذا حلّ فى ماء وصفّى وشرب سهّل الولادة.(10/239)
وقد ألمّ الشعراء فى أشعارهم بوصف الخطّاف؛ فمن ذلك ما قاله أبو إسحاق الصّابى:
وهنديّة الأوطان زنجيّة الخلق ... مسوّدة الأثواب محمرّة الحدق
كأنّ بها حزنا وقد لبست له ... حدادا وأذرت من مدامعها العلق «1»
إذا صرصرت صرّت بآخر صوتها ... كما صرّ ملوى العود بالوتر الحزق «2»
تصيف لدينا ثم تشتو بأرضها ... ففى كلّ عام نلتقى ثم نفترق
وقال السّرىّ الرّفّاء يصفها من أبيات ويذكر غرفة:
وغرفتنا بين السحائب تلتقى ... لهنّ عليها «3» كلّة ورواق
تقسّم زوّار من الهند سقفها ... خفاف على قلب النديم رشاق
أعاجم تلتذّ الخصام كأنها ... كواعب زنج راعهنّ طلاق
أنسن بنا أنس الإماء تحبّبت ... وشميتها غدر بنا وإباق
مواصلة والورد فى شجراته ... مفارقة إن حان منه فراق
وقال أيضا:
وغرفتنا الحسناء قد زاد حسنها ... بزائرة فى كلّ عام تزورها
مبيّضة الأحشاء حمر بطونها ... مزبرجة الأذناب سود ظهورها
لهنّ لغات معجمات كأنها ... صرير نعال «4» السّبت عال صريرها(10/240)
وقال أبو هلال العسكرىّ:
وزائرة فى كلّ عام تزورنا ... فيخبر عن طيب الزمان مزارها
تخبّر أنّ الجوّ رقّ قميصه ... وأنّ رياضا قد توشّى إزارها
وأنّ وجوه الغدر راق بياضها ... وأنّ متون الأرض راع اخضرارها
تحنّ إلينا وهى من غير شكلنا ... فتدنو على بعد من الشكل دارها
ويعجبنا وسط العراص وقوعها «1» ... ويؤنسنا بين الدّيار مطارها
أغار على ضوء الصباح قميصها ... وفاز بألوان الليالى خمارها
تصيح كما صرّت نعال عرائس ... تمشت إلينا هندها ونوارها
وقال آخر:
أهلا بخطّاف أتانا زائرا ... غردا يذكّر بالزمان الباسم
لبست سرابيل الصباح بطونه ... وظهوره ثوب الظلام العاتم
وقال أبو نواس:
كأن أصواتها فى الجوّ طائرة ... صوت الجلام «2» إذا ما قصّت الشّعرا
*** وأمّا القيق والزّرزور وما قيل فيهما
- والقيق: طائر فى قدر الحمام اللّطيف؛ وأهل الشأم يسمّونه «أبا زريق «3» » . وفى طبعه كثرة الإلف بالناس، وقبول التعليم، وسرعة الإدراك لما يلقّن من الكلام مبيّنا حتى لا يشك سامعه(10/241)
إذا لم يره أنه إنسان؛ وربما زاد على الببّغاء. وله حكايات وأخبار فى الذكاء والفطنة يطول شرحها، وهو طائر مشهور بذلك.
*** وأمّا الزّرزور
- فيقال: إنّه ضرب من الغراب يسمّى «الغداف» ؛ ويقال:
إنّه «الزّاغ» . وهو يقبل التعليم، ولا يرى إلّا فى أيام الربيع. ولونه أرقط لكن السواد أغلب. وقد يوجد فى لونه الأبيض، وهو قليل جدّا.
وقال بعض شعراء الأندلس:
يا ربّ أعجم صامت لقّنته ... طرف الحديث فصار أفصح ناطق
جون الإهاب أعير قوّة صفرة ... كاللّيل طرّزه وميض البارق
حكم من التّدبير أعجزت الورى ... ورأى بها المخلوق لطف الخالق
وقال آخر:
أمنبر ذاك أم قضيب ... يقرعه مصقع خطيب
يختال فى بردتى شباب ... لم يتوضّح بها مشيب
أخرس لكنّه فصيح ... أبله لكنّه لبيب
وقال الوزير أبو القاسم بن الجدّ «1» الأندلسىّ من رسالة «2» كتبها إلى الوزير أبى الحسن ابن سراج جوابا عن رقعة وصلت منه إليه، يشفع لرجل يعرف بالزّريزير؛ ابتدأها بأن قال:(10/242)
حسنت لك أبا الحسن ضرائب الأيام، وتشوّفت نحوك غرائب الكلام، واهتزّت لمكاتبتك «1» أعطاف الأقلام، وجادت على محلك «2» ألطاف الغمام، وأشادت «3» بفضلك ونبلك أصناف الأنام. فإن «4» كان روض العهد أعزّك الله لم يصبه من تعهّدنا «5» طلّ ولا وابل، ولا سجعت «6» على أيكه ورق ولا بلابل؛ فإن «7» أزهاره على شرب الصّفاء نابته، وأشجاره فى ترب الوفاء راسخة ثابته. وقد آن الآن لعقم «8» شجره أن تطلع من الثمر ألوانا، ولعجم طيره أن تسجع من النّغم ألحانا؛ بما سقط لدىّ ووقع علىّ من طائر شهىّ الصفير، مبنىّ الاسم على التصغير؛ فإنه رجّع باسمك حينا، وابتدع فى نوبة شكرك تلحينا، وحرّك من شوقى إليك سكونا، ودمّث «9» فى قلبى لودّك وكونا «10» . ثم أسمعنى أثناء ترنّمه كلاما وصف به نفسه، لو تغنّت به الورقاء، لأذنت «11» له العنقاء؛ أو ناح بمثله الحمام، لبكى لشجوه الغمام؛ أو سمعه قيس ابن عاصم فى ناديه، وبين أعاديه، لحلّ الزّمع «12» حباه، واستردّ الطّرب صباه:
كلاما «13» لو ان البقل يزهى بمثله ... زها البقل واخضرّ الغضا بمصيف
فتلقّيت فضل صاحبه بالتّسليم، واعترفت بسبقه اعتراف الخبير العليم.(10/243)
وبعد، فإنى أعود إلى ذكر [ذلك «1» ] الحيوان الغريد، والشيطان المريد؛ فأقول:
لئن سمّى بالزّريزير، لقد صغّر للتكبير «2» ؛ كما قيل: حريقيص وسقطه «3» يحرق الحرج، ودويهية وهى تلتهم الأرواح والمهج. ومعلوم أنّ هذا الطائر الصافر يفوق جميع الطيور فى فهم التلقين، وحسن اليقين. فإذا علّم الكلام لهج بالتسبيح، ولم ينطق لسانه بالقبيح، وتراه يقوم كالنصيح، ويدعو للخير بلسان فصيح. فمن أحبّ الاتّعاظ، لقى منه قسّ «4» إياد بعكاظ؛ أو مال إلى سماع البسيط والنشيد، وجد عنده نخب الموصلىّ للرشيد. فطورا يبكيك بأشجى من مراثى أربد»
، وحينا يسلّيك بأحلى من أغانى معبد «6» . فسبحان من جعله هاديا خطيبا، وشاديا مطربا مطيبا. ولما طار ببلاد الغرب ووقع، ورقى فى أكنافها وصقع؛ وعاين ما اتّفق «7» فيها فى هذا العام من عدم الزيتون، فى تلك البطون والمتون؛ أزمع عنها فرارا، ولم يجد بها قرارا؛ لأن هذا الثمر «8» بهذا الأفق هو قوام معاشه، وملاك انتعاشه؛ إليه يقطع، وعليه يقع؛ كما يقع على العسل الذّباب، وتقطع إلى العراد «9» الضّباب؛ فاستخفّه هائج التذكار، نحو تلك(10/244)
الأوكار؛ حيث يكتسى ريشه حريرا، ويحتشى جوفه «1» بريرا، ويحتسى قراحا «2» نميرا، ويغتدى على رهطه «3» أميرا. فخذه إليك، نازلا لديك، ماثلا بين يديك؛ يترنّم بالثّناء، ترنّم الذباب فى الرّوضة الغنّاء؛ وقد هزّ قوادم الجناح، لعادة الاستمناح؛ وحبّر من لمع الأسجاع، ما يصلح للانتجاع؛ واثقا بأن ذلك القطر الناضر ستنفحه «4» حدائقه، ولا تلفحه «5» ودائقه؛ لا سيما وفضلك دليله إلى ترع رياضه، وفرض حياضه؛ مع أنه لا يعدم فى جنابك حبّا نثيرا، وخصبا كثيرا، وعشّا وثيرا..
فإذا ما أراد كنت رشاء ... وإذا ما أراد كنت قليبا
والله تعالى يكفيه فيما ينوبه شرّ الجوارح، ويقيه شؤم السانح والبارح؛ بمنّه وكرمه.
*** وأمّا السمانى وما قيل فيه
- يقال: إن السّمانى هو السّلوى. وهو من الطيور القواطع التى لا يعلم من أين تأتى. ويقال: إنه يخرج من البحر المالح؛ فإنه يرى وهو يطير عليه أوان ظهوره وأحد جناحيه منغمس فى الماء والآخر منتشر كالقلع. وأكثر من يعتنى بتربيته أهل مصر ويتغالون فى ثمنه ويحتفلون بأمره، حتى ينتهى ثمن جيّده إلى ألف درهم بعد أن يباع كلّ عشرة منها بدرهم وأرخص.
وهو صنفان: ربيعىّ وطرماهىّ؛ فالرّبيعىّ القادم الراحل. والطّرماهىّ القاطن فى الأرض والبلاد الخصيبة، ويبيض ويفرّح فيها كالحجل. وسبب مغالاتهم فى أثمانها لأجل كثرة صياحها وعدد أصواتها. وقد وجد فيها ما صاح فى الليلة(10/245)
الواحدة إلى الثانية من النهار أربعة آلاف وستمائة صوت. والصوت عندهم أن يفصل بينه وبين الصوت الثانى بسكتة. وهم فى تربيته يبدءون بإطعامه دقاق القمح (وهو القمح الصغير الذى لا يمسكه الغربال لصغره) مدّة شهر؛ وتكون ذلك الوقت مجتمعة فى قفص كبير يسمّونه «المرح» ؛ ثم يفرد بعد ذلك كلّ سمانى بمفرده فى قفص ويطعم الدّخن والشّادانق «1» . ويصيح فى مبتدأ أمره مقدار شهر ثم يسكت مدّة شهرين. وينقل إلى أقفاص أخر يعتنون بجودتها ويرفعونها على البراريد (والبراريد عصىّ تعلّق عليها الأقفاص) فيصيح بعد تلك السكتة أربعة أشهر. فإذا دخل فصل الخريف وهبط الماء سكت مدّة شهرين وتقرنص، ثم يصيح أحيانا ويسكت أحيانا. وهو لا يطول عمره أكثر من سنة ونصف.
وأوّل ما يصيح قبل أن يتفصّح بالوعوعة، وحكاية صوته: «وع وع» ؛ ثم يصيح بعد ذلك: «شقشلق» .
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى كتاب الأدوية المفردة: إنه يخاف من أكل لحوم السّمانى من التمدّد والتّشنّج.
*** وأمّا الهدهد وما قيل فيه
- والهدهد طائر معروف. وقال الجاحظ فيه: والعرب كانوا يزعمون أن القنزعة التى على رأسه ثواب من الله عزّ وجلّ على ما كان من برّه لأمّه، لمّا ماتت جعل قبرها فى رأسه؛ فهذه القنزعة عوض عن تلك الوهدة. وهو طائر منتن البدن من جوهره وذاته. والأعراب يجعلون ذلك(10/246)
النّتن شيئا خامره بسبب تلك الجيفة التى كانت على رأسه. ويستدلّون على ذلك بقول أميّة بن أبى الصّلت حيث يقول من أبيات:
غيم وظلماء وغيث سحابة ... أزمان كفّن واستراد الهدهد
يبغى الفرار لأمّه ليجنّها ... فبنى عليها فى قفاه يمهد
مهدا وطيئا فاستقلّ بحمله ... فى الطير يحملها ولا يتأوّد
من أمّه فجزى بصالح حملها ... ولدا وكلّف ظهره ما يعقد
فتراه يدلج ماشيا بجنازة ... بقفاه ما اختلف الجديد المسند
وزعم صاحب الفراسة: أن سبب نتنه أنّه يطلب الزّبل؛ فإذا وجده نقل منه وابتنى بيتا منه؛ فإذا طال مكثه فى ذلك البيت، وفى مثله ولد، اختلط ريشه وبدنه بتلك الرائحة فورث ابنه النّتن، كما ورثه هو من أبيه، وكما ورثه أبوه من جدّه. قال شاعر:
وأنتن من هدهد ميّت ... أصيب فكفّن فى جورب
ويقال عنه: إنه يرى الماء فى باطن الأرض كما يراه الإنسان فى باطن الزّجاج.
وزعموا: أنه كان دليل سليمان عليه السلام على الماء ولذلك تفقّده، على أحد أقوال المفسر بن لكتاب الله تعالى.
وقال الجاحظ فيه: إنه وفىّ حفوظ؛ وذلك أن الذكر إذا غابت عنه أنثاه لم يأكل ولم يشرب، ولا يزال يصيح حتى تعود إليه، فإن لم تعد لا يسفد بعدها أنثى أبدا، ولا يزال يصيح عليها ما عاش، ولم ينل بعدها من طعم بل ينال منه ما يمسك رمقه.(10/247)
ووصفه أبو الشّيص «1» فقال:
لا تأمننّ على سرّى وسرّكم ... غيرى وغيرك أوطىّ القراطيس
أو طائر سأجلّيه وأنعته ... ما زال صاحب تنقير وتدسيس
سود براثنه ميل ذوائبه ... صفر حمالقه فى الحسن مغموس
قد كان همّ سليمان ليذبحه ... لولا سعايته فى ملك بلقيس
وقال آخر من أبيات:
كأنّه إذ أتاه من قرى سبإ ... مبشّرا قد كساه تاج بلقيس
يبدو له فوق ظهر الأرض باطنها ... كما تبدّت لنا الأقذاء فى الكوس «2»
*** وأمّا العقعق وما قيل فيه
- ويسمى العقعق أيضا «كندشا» . وهو طائر لا يأوى تحت سقف ولا يستظل به، بل يهيّئ وكره فى المواضع المشرفة الفسيحة.
وفى طبعه الزّنا والخيانة والسرقة والخبث؛ والعرب تضرب به المثل فى ذلك كلّه.
وإذا باضت الأنثى أخفت بيضها بورق الدّلب خوفا عليه من الخفّاش، فإنه متى قرب منه مذر «3» وفسد وتغيّر من ساعته. وتقول العرب فى أمثالها: «أموق من عقعق» . وهو شديد الاستلاب والاختطاف لما يراه من الحلى الثمين. قال إبراهيم الموصلىّ فيه:
إذا بارك الله فى طائر ... فلا بارك الله فى العقعق(10/248)
قصير الذّنابى طويل الجناح ... متى ما يجد غفلة يسرق
يقلّب عينين فى رأسه ... كأنهما قطرتا زئبق
وكان سبب قوله لهذا الشعر فيه ما حكاه إسحاق بن إبراهيم قال: كان لى عقعق وأنا صبىّ قد ربّيته، وكان يتكلّم بكلّ شىء يسمعه؛ فسرق خاتم ياقوت كان أبى قد نزعه من إصبعه ودخل الخلاء ثم خرج فلم يجده، فضرب الغلام الذى كان واقفا، فلم يقف له على خبر. فبينا أنا ذات يوم فى دارنا إذ أبصرت العقعق قد نبش ترابا وأخرج الخاتم منه، فلعب به طويلا ثم دفنه؛ فأخذته وجئت به الى أبى، فسرّ به وقال هذا الشعر.
*** وأمّا العصافير وما قيل فيها
- والعصافير ضروب كثيرة: منها «العصفور البيوتىّ» و «عصفور الشّوك» و «عصفور النّوفر» «1» . ومن ضروبها «القبّرة» و «حسّون» و «البلبل» .
فأمّا العصفور البيوتىّ
- ففى طباعه اختلاف: ففيه من طبائع سباع الطير أنه يلقم فراخه ولا يزقّها، ويصيد أجناسا من الحيوان كالنّمل إذا طار والجراد، ويأكل اللّحم. والذى فيه من طباع بهائم الطير أنه ليس بذى مخلب ولا منسر؛ وهو إذا سقط على عود قدم أصابعه الثلاث وأخّر الدّابرة؛ وسباع الطير تقدّم إصبعين وتؤخّر إصبعين؛ ويأكل الحبّ والبقول. ويتميّز الذكر منها من الأنثى بلحية سوداء. وهو لا يعرف المشى وإنما يرفع رجليه ويثب. وهو كثير السّفاد،(10/249)
وربما سفد فى الساعة الواحدة خمسين مرّة، ولذلك عمره قصير فإنّه لا يعمّر غالبا أكثر من سنة؛ وإناثها تعمّر أكثر من ذكورها. والمثل يضرب فى التحقير والتصغير بأحلام العصافير.
قال دريد بن الصّمّة:
يا آل سفيان ما بالى وبالكم ... أنتم كبير وفى الأحلام عصفور «1»
وقال حسّان بن ثابت:
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير
*** وأما عصفور الشّوك
- فزعم أرسطو أنّ بينه وبين الحمار عداوة، لأن الحمار إذا كان به دبر حكّه بالشّوك الذى يأوى إليه هذا العصفور فيقتله؛ وربما نهق الحمار فتسقط فراخه أو بيضه خوفا منه؛ فلذلك هذا العصفور إذا رأى الحمار رفرف «2» فوق رأسه وعلى عنقه وآذاه ونقره فى عقره أنّى كان.
*** وأما عصفور النّيلوفر
- وهو لا يوجد غالبا إلا بثغر دمياط، وشأنه غريب؛ وذلك أنه عصفور صغير جدّا، فإذا كان قبل غروب الشمس جاء إلى برك النّوفر «3» فيجد النّوفرة وهى طافحة على وجه الماء مفتوحة فيقعد فى وسطها، فإذا(10/250)
حصل فيها انطبقت عليه وانغمست فى الماء طول الليل؛ فإذا طلعت الشمس طفت النّوفرة على وجه الماء وانفتحت، فيخرج منها ويطير الى غروب الشمس، فيأتى ويفعل كفعله.
*** وأما القبّرة
- فقد عدّوها من أنواع العصافير. وهى غبراء كبيرة المنقار على رأسها قبّرة. وهذا الضرب قاسى القلب. وفى طبعه أنّه لا يهوله صوت صائح به، وربمّا رمى بالحجر فاستخف بالرامى ولطئ إلى الأرض حتى يتجاوزه الحجر.
وهو يضع وكره على الجادّة رغبة فى الأنس بالناس.
*** وأما حسّون
- وتسميه أهل الأندلس «أمّ الحسن» والمصريون «السقاية» لأنه إذا كان فى القفص استقى الماء من إناء «1» بآلة لطيفة يوضع له فيها خيط، فتراه يرفع الخيط بإحدى رجليه ويضعه تحت رجله الأخرى حتى يصل إليه ذلك الإناء اللطيف فيشرب منه. وهو ذو ألوان حسنة التركيب والتأليف من الحمرة والصفرة والسواد والبياض والخضرة والزّرقة. وله صوت حسن مطرب. ووصفه أبو هلال العسكرىّ فقال:
ومفتنّة الألوان بيض وجوهها ... ونمر تراقيها «2» وصفر جنوبها
كأنّ دراريعا «3» عليها قصيرة ... مرقّعة أعطافها وجيوبها(10/251)
وأما البلبل
- وهو «العندليب» ، وتسميه أهل المدينة «النغر» .
وهو طائر أغبر الرأس لطيف القدّ، مأواه الشجر.
قال الجاحظ: البلبل موصوف بحسن الصوت والحنجرة. ومن شأنه «1» إذا كان غير حاذق أن يطارحه إنسان بشكل صوته، فيتدرّب ويتعلّم ويحسن صوته.
وقد وصف أبو هلال العسكرىّ البلابل فقال:
مررت بدكن القمص سود العمائم ... تغنّى على أطراف غيد نواعم
زهين بأصداغ تروق كأنّها ... نجوم على أعضاد أسود فاحم
ترى ذهبا منهنّ تحت مآخر ... لها ولجينا نطنه بالقوادم
وقال آخر:
كيف ألحى وقد خلعت على الله ... وعذارى وقد هتكت قناعى
وتعشّقت بلبلا أنا منه ... فى انزعاج إلى الصّبا والتياع «2»
أنا من ريشه المدبّج فى زه ... ر ومن شجو صوته فى سماع
ومن رسالة ذكرها العماد الأصفهانىّ الكاتب فى الخريدة، وهى لبعض فضلاء أصبهان، ذكر فيها وصف الرّياض ومفاخرة الرّياحين، وفضّل فيها الورد، وانتهى بعد ذكر الورد إلى وصف البلابل، فقال:(10/252)
«فلما ارتفع صدر النّهار، وانقطع جدال الأزهار؛ سمع من خلل «1» الحديقة زقزقة «2» عندليب، قد اتخذ وكرا على حاشية قليب «3» ؛ كان يستتر به عن الجمع، ويجعله دريئة لاستراق السّمع. وحين أتقن ما وعاه، وأودعه سمعه وأرعاه «4» ؛ انتحى غصنا رطيبا، فأوفى عليه خطيبا؛ ثم قال: يا فتنة الخليقه، لقد جئت بالشّنعاء الفليقه «5» ؛ وربّ بسم استحال احتداما، ولن تعدم الحسناء ذاما. إلام ترفل فى دلال زهوك، وتغفل عن رذائل سهوك! وحتّام تتيه على الأكفاء والأقران، كأنّك أنت صاحب القرآن! ألست من عجبك بنفسك، واسترابتك بأبناء جنسك؛ لا تزال مشتملا شوك الغصون، معتصما منها بأشباه المعاقل والحصون!. لكنك متى انقضى مهبّ الشّمال، وعدل عن اليمين إلى الشّمال؛ خيف عليك نفح الإحراق، وتعّريت من حلل الأوراق؛ وأصبحت للأرض فراشا، وتلعّب بك الهواء فعدت فراشا. ثم ما قدر جورتك حتى تجور! وهل ينتج حضوره «6» إلا الفجور!. هذا إذا كنتم على الأصل الثابت، وعرفتم فى أكرم المغارس والمنابت؛ فكيف وأنتم بين رملّى وجبلىّ، ونهبورىّ «7» أو تيهورىّ. وهب أنك ورهطك تفرّدتم بممايلة القدود، وتوحّدتم «8» بمشابهة الخدود؛ وصرتم درر البحور، وعلّقتم على الجباه والنّحور؛ وتحوّلتم جمانا ومرجانا، وحلّيتم مناطق وتيجانا؛ أقدرتم على(10/253)
مباراة الشّحارير»
، ومجاراة القمارى النّحارير! أم ملكتم تهييج البلابل «2» ، قبل أصوات البلابل! أم وجدتم سبيلا إلى ولوج القلوب والأسماع، واتّخاذ «3» الطّرب والسّماع؟! هيهات هيهات، بعد عنكم ما فات! بل نحن ذوات الأطواق، وبنات الغصون والأوراق؛ إنما يكمل صيتكم بنغمات أصواتنا، ويزهو غناؤكم بصحة غنائنا؛ ويحسن تمايل دو حكم بترنّمنا ونوحنا، ويروق غديركم بهديرنا، ويشوق تهديلكم «4» بهديلنا.
لم تزالوا حملة أثقالنا، رمهود أطفالنا؛ وجياد شجعاننا، ومنابر خطبائنا. فروعكم محطّ أرحلنا، ورءوسكم مساقط أرجلنا. إذا أوفى مطربنا على عوده، وعبث بملوى عوده؛ وشدّ المثالث والمثانى، شدّ الثّقلين الأوّل والثانى؛ فقد أحيا باللحن الأيكىّ، وبذّ يحيى «5» المكّىّ؛ وأعاد إبراهيم «6» ، كحاطب الليل البهيم؛ وخرق له «7» أثواب(10/254)
مخارق «1» طربا وحسدا، ولم يسلم منه سليم «2» غيظا وكمدا؛ وأخذ قلب ابن جامع «3» بمجامعه، وطوّقه من الإقرار غلّا بمجامعه؛ حتى كأنّه بصحّة ضربه وإتقان أوتاره، يطلب عندهم قديم أحقاده وأوتاره.
فهى تصبى «4» الأبصار لونا قريبا ... وتسرّ الأسماع ضربا بعيدا
خضب الكفّ من دم القلب وابت ... زّ سويداءه فطوّق جيدا
أعجمىّ اللّسان مستعرب اللح ... ن يعيد الخلّى صبّا عميدا
كلّ وقت تراه من فرط شجو ... مظهرا فى الغناء لحنا جديدا
تارة يجعل النّشيد بسيطا ... ويعيد البسيط طورا نشيدا
معبد لو رآه أصبح عبدا ... ولبيد «5» أمسى لديه بليدا
ضلّ عن إلفه وأقلقه الوج ... د فأمسى بكاؤه تغريدا(10/255)
لو عارض الخليل «1» فى عروضه لبكّته، أو ناظر ابن السّكّيت «2» فى إصلاحه لسكّته؛ أو جادل الفارسىّ «3» لفرسه وجذله، أو نازل الكوفىّ «4» لأكفأه عن رتبته وأنزله» .(10/256)
الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى بغاث الطير
ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى القمرىّ، والدّبسىّ، والورشان، والفواخت والشّفنين، واليعتبط، والنّوّاح، والقطا، واليمام وأصنافه، والببّغاء. وهذه الأصناف قد عدّها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أو أكثرها فى الحمام، فقال:
الحمام وحشى، وأهلىّ، وبيوتىّ، وطورانىّ. وكلّ طائر يعرف بالنّواح وحسن الصّوت والدّعاء والتّرجيع فهو حمام وإن خالف بعضه بعضا فى الصّورة واللون وفى بعض النّوح ولحن الهديل.
قال: وزعم أفليمون «1» صاحب الفراسة أنّ الحمام يتّخذ لضروب، منها ما يتّخذ للأنس والنّساء «2» والبيوت، ومنها ما يتّخذ للفراخ، ومنها ما يتخذ للزّجال والسّباق.
والزّجال: إرسال الحمام الهوادى. ثم ذكر من أوصاف الحمام وما فيه من ضروب المعرفة والمنافع ما نورده عند ذكرنا للحمام المشتهر بهذه التّسمية، وهو الذى أشار الجاحظ إليه. فلنذكر تفصيل ما قدّمناه من هذه الأصناف، فنقول وبالله التوفيق:(10/257)
*** أمّا القمرىّ وما قيل فيه
- فقد قالوا: إنما سمّى القمرىّ بهذه التسمية لبياضه، والأقمر: الأبيض. وحكاية صوته تشبه ضحك الإنسان. وهو شديد المودّة والرحمة. أما مودّته فإنه يفرّخ على فنن من أفنان شجرة عليها أعشاش لأبناء جنسه، فيصابحها فى كلّ يوم. وأمّا رحمته فإنه يربّى ولده ويعفّ عن أنثاه ما دام ولده صغيرا. ومن عادته أنه يعمل عشّه فى طرف فنن دائم الاهتزاز، احترازا على فرخه لئلا يسعى إليه من الحيوان الماشى ما يقتله.
وقال أبو الفتح كشاجم [يصفه من أبيات رثاه بها أوّلها «1» ] :
ومطوّق من حسن صنعة «2» ربه ... طوقين خلتهما من النّوّار
[منها «3» :]
لهفى على القمرىّ لهفا دائما ... يكوى الحشا بجوى كلذع النار
لون الغمامة لونه ومناسب ... فى خلقه الأقلام بالمنقار
*** وأمّا الدّبسىّ وما قيل فيه
- وإنما سمّى الدّبسىّ بذلك للونه، لأنّ الدّبسة حمرة فى سواد. قالوا: والدّبسىّ أصناف، منها المصرىّ، والحجازىّ، والعراقىّ. وأفخر هذه الأصناف المصرىّ [ولونه الدكنة «4» ] . وهو لا يرى ساقطا على وجه الأرض، بل له فى الشتاء مشتى، وفى الصيف مصيف. ولا يعرف له وكر «5» .(10/258)
وأمّا الورشان وما قيل فيه
- والورشان أصناف منها النّوبىّ وهو ورشان أسود؛ ومنها الحجازىّ. والنوبىّ أشجاها صوتا. وهذا الطائر يوصف بالحنوّ على أولاده، حتى إنه ربما قتل نفسه إذا رآها فى يد القانص «1» .
وقال أبو بكر الصّنوبرىّ فيه:
أنا فى نزهتين من بستانى «2» ... حين أخلوبه ومن ورشان
طائر قلب من يغنّيه أولى ... منه عند الغناء بالطّيران
مسمع «3» يودع المسامع ما شا ... ءت وما لم تشأ من الألحان
فى رداء من سوسن وقميص ... زرّرته عليه تشرينان «4»
قد تغشّى لون السماء قراه «5» ... وتراءى فى جيده الفرقدان
وأمّا الفواخت وما قيل فيها
- والفواخت عراقيّة ليست حجازيّة.
وفيها فصاحة وحسن صوت. وفى طبعها أنها تأنس بالناس، وتعشّش فى الدّور.(10/259)
والعرب تضرب بها فى الكذب المثل، فيقولون: «أكذب من فاختة» ؛ فإنّ حكاية صوتها عندهم: «هذا أوان الرّطب» . قال شاعر:
أكذب من فاختة ... تقول وسط الكرب
والطّلع لم يبدلنا ... هذا أوان الرّطب
وهو يعمّر. وحكى أرسطو أن منه ما عاش أربعين سنة.
وقال أبو هلال العسكرىّ:
مررت بمطراب الغداة كأنها ... تعلّ من الإشراق راحا مفلفلا
منمّرة كدراء تحسب أنها ... تجلّل من جلد السّحاب «1» مفصّلا
بدت تجتلى للعين طوقا ممّسكا ... وطرفا كما ترنو الغزالة أكحلا
لها ذنب وافى الجوانب مثلما ... تقشّر «2» طلعا أو تجرّد منصلا
إذا حلّقت فى الجوّ خلت جناحها «3» ... يردّ صفيرا أو يحرّك جلجلا
وأمّا الشّفنين وما قيل فيه
- والشفنين من الطير التى تترنّم؛ وصوته فى ترنّمه يشبه صوت الرّباب. وفى طبعه أنه إذا فقد أنثاه لم يزل أعزب «4» ، يأوى الى بعض فراخه حتى يموت؛ وكذلك الأنثى إذا فقدت الذّكر. وهو متى سمن سقط ريشه وامتنع من السّفاد؛ فهو لذلك لا يشبع. وهو طائر يؤثر «5» العزلة.(10/260)
وأمّا اليعتبط وما قيل فيه
- وإنما سمّى اليعتبط بهذه التسمية لصوته، وهو شريف فى طيور الحجاز. وحاله حال القمرىّ، ولكنه أحرّ منه مزاجا وأعلى صوتا. قال كشاجم:
وناطق لم يخش فى النطق غلط ... ما قال شيئا قطّ إلا يعتبط
وأمّا النّوّاح وما قيل فيه
- والنوّاح: طائر كالقمرىّ، وحاله كحاله؛ إلّا أنّه أحرّ منه مزاجا وأرطب وأدمث وأشرف «1» . قالوا: يكاد النّوّاح يكون للأطيار الدّمثة ملكا، وهو يهيجها إلى التّصويت لأنه أشجاها صوتا؛ وجميعها تهوى استماع صوته. وهو أيضا يسرّه استماع صوت نفسه. والله أعلم بالصواب.
*** وأمّا القطا وما قيل فيه
- والقطا نوعان: «كدرىّ» و «جونىّ» .
والكدريّة غبر الألوان، رقش الظهور والبطون، صفر الحلوق، قصار الأذناب؛ وهى ألطف من الجون. والجونيّة سود بطون الأجنحة والقوادم بيض اللّبان «2» وفيه طوقان أسود وأصفر؛ وظهورها غبر رقط تعلوها صفرة. وتسمّى الجونيّة غتما «3» ؛ لأنها لا تفصح بصوتها إذا صوّتت إنما تغرغر بصوت فى حلقها. والكدريّة فصيحة تنادى باسمها تقول: قطاقطا؛ ولهذا يضرب بها المثل فى الصدق.(10/261)
وتوصف القطا بحسن المشى لتقارب خطاها. والعرب تشبّه مشى النّساء الخفرات بمشيها إذا أرادوا مدحهنّ. قال شاعر يصف القطاة- واختلف فى الشاعر من هو، فقيل: هو [أوس بن «1» ] غلفاء الهجيمىّ، وقيل: مزاحم العقيلى، وقيل:
العباس بن يزيد بن الأسود الكندىّ، وقيل: العجير السّلولىّ، وقيل: عمرو بن عقيل بن الحجّاج الهجيمىّ؛ قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وهو أصحّ الأقوال-:
أمّا القطاة فإنّى سوف أنعتها ... نعتا يوافق نعتى بعض ما فيها
سكّاء «2» مخطوبة «3» فى ريشها طرق «4» ... سود قوادمها صهب خوافيها
منقارها كنواة القسب «5» قلّمها ... بمبرد حاذق الكفّين باريها
تمشى كمشى فتاة الحىّ مسرعة ... حذار قوم إلى ستر يواريها
تسقى الفراخ بأفواه مرقّقة ... مثل القوارير سدّت من أعاليها
كأن هيدبة «6» من فوق جؤجئها ... أو جرو «7» حنظلة لم يعد راميها «8»
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ:
ولربّ طيّار خفيف قد جرى ... فشلا بجار خلفه طيّار(10/262)
من كلّ قاصرة الخطا مختالة ... مشى الفتاة تجرّ فضل إزار
مخضوبة المنقار تحسب أنها ... كرعت على ظمإ بكأس عقار
لا تستقرّ بها الأيادى «1» خشية ... من ليل ويل أو نهار بوار
وقال المرّار أو العكبّ «2» التغلبىّ- وهى أجود قصيدة قيلت فى القطا-:
بلاد مروراة «3» يحاربها القطا ... ترى الفرخ فى حافاتها يتحرّق
يظلّ بها فرخ القطاة كأنّه ... يتيم جفا عنه «4» مواليه مطرق
بديمومة «5» قد بات فيها وعينه ... على مره «6» تغضى مرارا وترمق
شبيه بلا شىء هنا لك شخصه ... يواريه قيض «7» حوله متفلّق
له محجر «8» ناب وعين مريضة ... وشدق بمثل الزعفران مخلّق
تعاجيه «9» كحلاء المدامع حرّة ... لها ذنب ساج وجيد مطوّق(10/263)
سماكيّة «1» كدريّة عرعريّة «2» ... سكاكيّة «3» عفراء سمراء عسلق «4»
إذا غادرته تبتغى ما يعيشه ... كفاها رذاياها الرّقيع «5» الهبنّق
غدت تستقى من منهل ليس دونه ... مسيرة شهر للقطا متعلّق
لأزغب مطروح بجوز تنوفة ... تلظّى سموما قيظه فهو أورق «6»
تراه إذا أمسى وقد كاد جلده ... من الحرّ عن أوصاله يتمزّق
غدت فاستقلّت ثم ولّت مغيرة ... بها حين يزهاها الجناحان أولق «7»
تيمّم ضحضاحا من الماء قد بدت ... دعا ميصه «8» فالماء أطحل «9» أطرق «10»
فلما أتته مقدحرّا «11» تغوّثت «12» ... تغوّث مخنوق فتطفو وتغرق(10/264)
تجرّ «1» وتلقى فى سقاء كأنّه ... من الحنظل العامىّ جر ومعلّق
فلمّا ارتوت من مائها لم يكن لها ... أناة وقد كادت من الرّىّ تبصق
طمت «2» طموة صعدا ومدّت جرانها ... وطارت كما طار الشّهاب «3» المحلّق
ذكر شىء من الأوصاف والتشبيهات الشعريّة الجامعة لمجموع هذا النوع الذى ذكرناه
من ذلك قول بعض الشعراء:
وقبلى أبكى كلّ من كان ذا هوى ... هتوف البواكى والدّيار البلاقع
وهنّ على الأفلاق «4» من كلّ جانب ... نوائح ما تخضلّ منها المدامع
مزبرجة الأعناق نمر ظهورها ... مخطّمة بالدّرّ خضر روائع
ترى طررا بين الخوافى كأنّها ... حواشى برود زينّتها الوشائع
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحنّاء منها الأصابع
وقال أبو الأسود الدؤلىّ من أبيات:
وساجع فى فروع الأيك هيّجنى ... لم أدر لم ناح ممّا بى ولم سجعا
أباكيا إلفه من بعد فرقته ... أم جازعا للنّوى من قبل أن تقعا
يدعو حمامته والطير هاجعة ... فما هجعت له ليلا ولا هجعا(10/265)
موشّح «1»
سندسا خضر مناكبه ... ترى من المسك فى أذياله لمعا
له من الآس طوق فوق لبّته ... من البنفسج والخيرىّ «2» قد جمعا
كأنما عبّ «3» فى مسودّ غالية ... وحلّ من تحته الكافور فانتقعا «4»
كأنّ عينيه من حسن اصفرارهما ... فصّان من حجر الياقوت قد قطعا
كأنّ رجليه من حسن احمرارهما ... ما رقّ من شعب المرجان فاتّسعا
شكا النّوى فبكى خوف الأسى فرمى ... بين الجوانح من أوجاعه وجعا
والريح تخفضه طورا وترفعه ... طورا فمنخفضا يدعو ومرتفعا
كأنه راهب فى رأس صومعة ... يتلو الزّبور ونجم الصبح قد طلعا
وقال ابن «5» اللّبانة الأندلسىّ:
وعلى فروع الأيك شاد يحتوى ... طرفى لآخر تحتويه الأضلع
يندى له رطب الهواء فيغتدى ... ويظلّه ورق الغصون فيهجع
تخذ الأراك أريكة لمنامه ... فله إلى الأسحار فيها موضع
حتى إذا ما هزّه نفس الصّبا ... والصبح، هزّك منه شدو مبدع
فكأنما تلك الأراكة منبر ... وكأنه فيها خطيب مصقع(10/266)
وقال بعض الأعراب [يصف مطوّقة «1» ] :
دعت فوق ساق دعوة لو تناولت ... بها الصّخر من أعلى أبان «2» تحدّرا
تبكّى بعين ليس تذرى دموعها ... ولكنّها تذرى الدموع تذكّرا
محلّاة طوق ليس تخشى انفصامه ... إذا همّ أن يبلى تجدّد آخرا
لها «3» وشح دون التّراقى وفوقها ... وصدر كمقطوف البنفسج أخضرا
تنازعها الألوان «4» شتّى صقالها ... بدا لتلالى الشمس فيه تحيرا «5»
وقال شاعر أندلسىّ:
وما شاقنى إلا ابن ورقاء هاتف ... على فنن بين الجزيرة والجسر
مفتّق طوق لازوردىّ كلكل ... موشّى الطّلى أحوى القوادم والظهر
أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ ... وصاغ على الأجفان طوقا من التّبر
حديد شبا المنقار داج كأنه ... شبا قلم من فضّة مدّ من حبر
توسّد من فرع الأراك أريكة ... ومال على طىّ الجناح مع النّحر
ولمّا رأى دمعى مراقا أرابه ... بكائى فاستولى على الغصن النّضر
وحثّ جناحيه وصفّق طائرا ... فطار بقلبى حيث طار وما يدرى
وقال آخر:
كأنّ بنحرها والجيد منها ... إذا ما أمكنت للنّاظرينا
مخطّا كان من قلم لطيف ... فخطّ بجيدها والنحر نونا(10/267)
وقال ابن الرّومى:
مطوّقة تبكى ولم أر باكيا ... بدا ما بدا من شجوها لم يسلّب «1»
وقد أوردنا فى باب الغزل والنّسيب من هذا المعنى فيما قيل على لسان الورقاء ما يستغنى عن تكراره.
وأمّا اليمام وأصنافه وما وصف به وما قيل فيه
- فالعرب تقول: إن هذه التسمية واقعة على النوع الذى تسمّيه عامّة الناس الحمام؛ وهو أصناف مختلفة الأشكال والألوان والأفعال، منها «الرّواعب» و «المراعيش» و «العدّاد» و «الميساق» و «الشّدّاد» و «القلّاب» و «الشّقّاق» و «المنسوب» .
فأمّا الرّواعب
- وهو ألوان كثيرة. وزعم الجاحظ أنه تولّد بين ورشان ذكر وحمام أنثى، فأخذ من الأب الجثّة ومن الأمّ الصوت، وفاته سرعة الطيران فلم يشبههما فيه؛ وله من عظم البدن وكثرة الفراخ والهديل والقرقرة ما ليس لأبويه، حتى صار ذلك سببا للزيادة فى ثمنه والحرص على اتّخاذه.
وأمّا المراعيش
- وهى تطير مرتفعة حتى تغيب عن النظر فترى فى الجوّ كالنّجم.(10/268)
وأمّا العدّاد
- فهو طير ضخم، قليل الطيران [كثير الفراخ «1» ] .
وأمّا المسياق
- وهو أضخم من العدّاد وأنبل، ثقيل الجسم لا يستطيع الطيران إلّا قليلا.
وأمّا الشدّاد
- فهو لا يلزم الطيران فى الجوّ، وله قوّة فى جناحه [حتى يقال إنّه ربما يكسر الجوزبه، ولا يأتى من الغاية لبله فيه «2» ] . وأصحاب الرّغبات فى تربية هذا الصّنف يلقونه على البصريّات فيخرج من بينهما حمام يسمّى «المضرّب» يجتمع فيه هداية البصرىّ وشدّة الشّدّاد. والشدّاد يطير صعدا حتى يرى كالنّجم.
وفى ذنبه إحدى وثلاثون ريشة.
وأمّا القلّاب
- فتسميّه العراقيون «الملّاح» ؛ وسمّى بذلك لتقلّبه فى طيرانه.
والشّقّاق «3» - وطيرانه تحويم.
وأمّا المنسوب
«4» - ويسمّيه العراقيّون «الهوادى» ، والمصريون «5» يسمونه «البصارى» [يعنون «6» البصرية] ، وهو بالنسبة إلى ما تقدّم ذكره كالعتاق من(10/269)
الخيل، وما عداه فيها كالبراذين. وفيها «العلوىّ» وهو ألطف جرما وأسرع طيرانا؛ وهو يطلب وكره ولو أرسل من مسافة ألف فرسخ، ويحمل البطائق ويأتى بها من المسافة البعيدة فى المدّة القريبة. قالوا: وفيه ما يقطع ثلاثة آلاف فرسخ فى يوم واحد. وسباع الطير تطلبه أشدّ طلب. وخوفه من الشاهين أشدّ من خوفه من غيره. وهو أطير منه ومن سباع الطير كلّها؛ لكنه يذعر فيجهل باب المخلص.
والمحمود منه ما وصفه الجاحظ عن أفليمون صاحب الفراسة أنه قال:
جميع الفراسة لا تخرج عن «1» أربعة أوجه: أوّلها التقطيع، والثانى المجسّة، والثالث الشمائل، والرابع الحركة.
فأمّا التقطيع- فانتصاب العنق والخلقة، واستدارة الرأس من غير عظم ولا صغر، وعظم القرطمتين «2» ونقاؤهما، واتّساع المنخرين، وانهرات الشّدقين، وسعة الجوف، ثم حسن خلقة العينين مع توقّدهما، وقصر المنقار فى غير دقّة، ثمّ اتّساع الصدر، وامتلاء الجؤجؤ، وطول العنق، وإشراف المنكبين، وانكماش الجناحين، وطول القوادم فى غير إفراط، ولحوق بعض الخوافى ببعض، وصلابة القصب فى غير انتفاخ ولا يبس، واجتماع الخلق فى غير الجعودة والكزازة «3» ، وعظم الفخذين «4» ، وقصر السّاقين والوظيفين، وافتراق الأصابع، وقصر الذّنب وخفّته من غير تفنين «5» وتفريق، ثم توقّد الحدقتين وصفاء اللّون. فهذه علامة الفراسة فى التقطيع.(10/270)
وأمّا علامة المجسّة- فوثاقة الخلق، وشدّة اللّحم، ومتانة العصب، وصلابة القصب، ولين الرّيش فى غير رقّة، وصلابة المنقار فى غير دقّة.
وأمّا علامة الشمائل- فقلّة الاختيال، وصفاء البصر، وثبات النظر، وشدّة الحذر، وحسن التّلفّت، وقلّة الرّعدة عند الفزع، وخفّة النهوض إذا طار، وترك المبادرة إذا لقط.
وأمّا علامة الحركة- فالطيران فى علوّ، ومدّ العنق فى سموّ، وقلّة الاضطراب فى جوّ السماء، وضمّ الجناحين فى الهواء، وتتابع الرّكض فى غير اختلاط، وحسن القصد فى غير دوران، وشدّة المدّ فى الطيران. فإذا أصبته جامعا لهذه الصفات فهو الطائر الكامل.
وقد وصف الجاحظ الحمام فى كتاب الحيوان وبسط فيه القول ووسّع المجال.
ونحن الآن نورد ملخّص ما قاله فيه، قال:
ومن مناقب الحمام حبّه للناس وأنس الناس به، وهو من الطير الميامين. وهو إذا علم الذكر منه أنّه قد أودع رحم الأنثى ما يكون منه الولد، تقدّما فى إعداد العشّ، ونقل القصب وشقق «1» الخوص، وأشباه ذلك من العيدان الخوّارة «2» الدّقاق، حتى يعملا أفحوصة وينسجاها نسجا متداخلا فى الموضع الذى اتّخذاه واصطنعاه عشّا بقدر جثمان الحمامة؛ ثم أشخصا لتلك الأفحوصة حروفا غير مرتفعة لتحفظ البيض وتمنعه من التّدحرج، ولتلزم كتفى الجؤجؤ، ولتكون رفدا لصاحب الحضن، وسندا للبيض؛ ثم يتعاوران ذلك المكان ويتعاقبان تلك الأفحوصة يسخّنانها(10/271)
ويدفئانها ويطيّبانها «1» وينفيان عنها طباعها الأول ويحدثان لها طبيعة أخرى مشتقّة من طبائعهما ومستخرجة من رائحة أبدانهما وقواهما، لكى تقع البيضة إذا وقعت فى موضع يكون أشبه المواضع طباعا بأرحام الحمام مع الحضانة [والوثارة «2» ] ، كى لا تنكسر البيضة بيبس الموضع، ولئلا تنكر طباعها طباع المكان، وليكون على مقدار من البرد والسّخونة والرّخاوة والصّلابة. ثم إن ضربها المخاض وطرّقت ببيضها، بدرت إلى الموضع الذى قد أعدّته وتحاملت إليه، إلّا أن يقرعها رعد قاصف أو ريح عاصف فإنها ربما رمت بها دون الأفحوصة. والرّعد ربّما أفسد البيض. فإذا وضعت البيض فى ذلك المكان الذى أعدّاه لا يزالان يتعاقبان الحضن ويتعاورانه حتى تنتهى أيّامه ويتمّ ميقاته؛ فعند ذلك ينصدع البيض عن الفرخ، فيخرج عارى الجلد صغير الجناح مستدّ الحلقوم؛ فيعلمان أنّه لا يتّسع حلقه وحوصلته للغذاء، فلا يكون لهما همّ إلّا أن ينفخا فى حلق الفرخ الرّيح لتتّسع الحوصلة بعد التحامها. ثم يعلمان أنه وإن اتّسعت الحوصلة لا يحمل فى أوّل اغتذائه أن يزقّ بالطّعم، فيزقّ باللّعاب المختلط بقواهما وقوى الطّعم. ثم يعلمان أنّ الحوصلة تضعف عن استمراء الغذاء وهضم الطّعم فيأكلان من شروج «3» أصول الحيطان- وهو شىء من الملح المحض والتراب الخالص، وهذا هو السّبخ- فيزقّانه به. حتى إذا علما أنه قد اندبغ «4» واشتدّ زقّاه بالحبّ الذى قد غبّ فى حواصلهما؛ ثم يزقّانه بعد ذلك بالحبّ والماء. حتى إذا علما أنه قد أطاق(10/272)
اللّقط معناه بعض المنع ليحتاج إلى اللّقط فيتعوّده. فإذا علما أنّ إرادته قد تمّت وأنه قد قوى على اللّقط وبلغ بنفسه منتهى حاجته، ضرباه إذا سألهما الكفاية، ونفياه متى رجع إليهما، وتنتزع تلك الرحمة العجيبة منهما وينسيان ذلك التعطّف.
ثم يبتدئان العمل ثانيا على ذلك النظام وتلك المقدّمات. فسبحان الهادى الملهم.
قال: ثم يبتدئ الذّكر بالدّعاء والطّراد؛ وتبتدئ الأنثى بالتّأتّى والاستدعاء، ثم تزيف «1» وتشكل «2» ، وتمكّن وتمنع، وتجيب وتصدف بوجهها؛ ثم يتعاشقان ويتطاوعان ويكون بينهما قبل وارتشاف وإدخال فمها فى فمه؛ وذلك هو التّطاعم والمطاعمة. قال الشاعر:
لم أعطها «3» بيدى إذ بتّ أرشفها ... إلّا تطاول غصن الجيد بالجيد
كما تطاعم فى خضراء ناعمة ... مطوّقان أصاخا بعد تغريد
قال أبو عثمان: ومما أشبه فيه الحمام الناس أن ساعات الحضن على البيض أكثرها على الأنثى، وإنما يحضن الذكر حضنا يسيرا. والأنثى كالمرأة فى كفالة الصبىّ، حتى إذا ذهب الحضن وصار البيض؟؟؟ صراخا كالأطفال فى البيت يحتاجون إلى الطعام والشّراب صار أكثر ساعات الزّقّ على الذكر.
وقال: قال مثنّى بن زهير- وهو إمام الناس فى البصرة بالحمام-: لم أر شيئا قطّ فى رجل ولا امرأة إلّا وقد رأيت مثله فى الذكر والأنثى من الحمام.
رأيت حمامة لا تريد إلّا ذكرها، كالمرأة لا تريد إلّا زوجها أو سيّدها. ورأيت حمامة لا تمنع شيئا من الذّكورة؛ ورأيت امرأة لا تمنع يد لامس. ورأيت(10/273)
حمامة لا تزيف إلّا بعد طراد شديد وشدّة طلب، ورأيتها تزيف لأوّل ذكر يريدها، ورأيت من النساء كذلك. ورأيت حمامة لها زوج وهى تمكّن ذكرا آخر لا تعدوه، ورأيت مثل ذلك فى النساء. ورأيتها تزيف لغير ذكرها وذكرها يراها، ورأيتها لا تفعل ذلك إلّا وذكرها يطير أو يحضن. ورأيت الحمامة تقمط الحمامة، ورأيت الحمام الذكر يقمط الذكر. ورأيت أنثى كانت لا تقمط إلّا الإناث، ورأيت أخرى تقمط الإناث فقط ولا تدع أنثى تقمطها، ورأيت ذكرا يقمطها ويدعها حتى تقمطه. ورأيت ذكرا يقمط الذكور وتقمطه؛ ورأيت ذكرا يقمط الذكور ولا يدعها تقمطه؛ ورأيت أنثى تزيف للذكور ولا تدع شيئا منها يقمطها؛ ورأيت هذه الأصناف كلّها فى السّحّاقات واللّاطة. قال: وامتنعت علىّ خصلة فو الله لقد رأيتها؛ لأنى رأيت من النساء من تزنى أبدا وتساحق أبدا ولا تتزوّج؛ ومن الرجال من يلوط أبدا ويزنى أبدا ولا يتزوّج، ورأيت حماما ذكرا يقمط ما لقى ولا يزاوج، ورأيت حمامة تمكّن كلّ حمام أرادها من ذكر أو أنثى وتقمط الذكورة والإناث ولا تزاوج، ورأيتها تزاوج ولا تبيض، وتبيض فيفسد بيضها، كالمرأة. قال: ورأيت ذكرا له أنثيان وقد باضتا منه، وهو يحضن مع هذه ومع تلك ويزقّ مع هذه ومع تلك، ورأيت أنثى تبيض بيضة، ورأيت أنثى تبيض فى أكثر حالاتها ثلاث بيضات. قال: ورأيت حمامة تزاوج هذا الحمام ثم تتحوّل منه إلى آخر، ورأيت ذكرا فعل مثل ذلك فى الإناث، ورأيت الذكر كثير النّسل قويّا على القمط.
قال الجاحظ: والحمام يبيض عشرة أشهر من السنة؛ فإذا صانوه وحفظوه وأقاموا له الكفاية وأحسنوا تعهّده باض فى جميع السنة. والفواخت والأطرغلّات «1»(10/274)
والحمام البرّىّ تبيض مرّتين فى السنة. قال: ويتمّ خلق الحمام فى أقلّ من عشرة أيام.
والحمامة فى أكثر أمرها يكون «1» أحد فرخيها ذكرا والآخر أنثى؛ وهى تبيض أوّلا البيضة التى فيها الذكر ثم تقيم يوما وليلة وتبيض الأخرى. وتحضن ما بين السبعة عشر يوما إلى العشرين. والأنثى أبرّ بالبيض، والذكر أبرّ بالفراخ. ولقد أطنب أبو عثمان الجاحظ وأوغل وبسط القول فى ذكر الحمام وأوصافه ومناقبه والمغالاة فى ثمنه والحرص على اقتنائه، حتى إنه قال: وللحمام من الفضيلة والفخر أنّ الحمام الواحد يباع بخمسمائة دينار؛ ولم يبلغ ذلك باز ولا شاهين ولا عقاب. قال: وأنت إذا أردت أن تتعرّف مبلغ ثمن الحمام الذى جاء من الغاية ثم دخلت بغداد والبصرة، وجدت ذلك بلا معاناة. وهذا يدلّ على أنّ قوله فيه كان مشهورا عندهم فى وقته.
ثم قال: والحمام إذا جاء من الغاية بيع الذّكر من فراخه بعشرين دينارا وأكثر، وبيعت الأنثى بعشرة دنانير وأكثر [وبيعت البيضة «2» بخمسة دنانير] ؛ فيقوم الزوج منها من الغلّة مقام ضيعة، حتى ينهض بمؤونة العيال وبقضاء الدّين، وتبنى من غلّاته «3» وأثمان رقابه الدّور والجنان وتبتاع الحوانيت. ثم وصف حجر الحمام ومقاصيرها المبنيّة فى ذلك الزمان وما يعانيه أهلها من حديثها «4» والاحتفال بها فى المسابقة وغيرها.
وأطال فى ذلك. وقال: وللحمام من حسن الاهتداء، وجودة الاستدلال، وثبات الحفظ والذّكر، وقوّة النزاع إلى أربابه، والإلف لوطنه، أن يكون طائرا من بهائم الطير يجىء من مسافة كذا إلى مسافة كذا. قال: ولن ترى جماعة طير أكثر طيرانا(10/275)
إذا كثرن من الحمام؛ فإنّهنّ كلما التففن «1» وضاق موضعهنّ كان أشدّ لطيرانهنّ.
قال النابغة:
واحكم كحكم فتاة «2» الحىّ إذ نظرت ... إلى حمام شراع «3» وارد الثّمد
يحفّه «4» جانبا نيق «5» وتتبعه ... مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحسبوه فألفوه كما حسبت ... تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد
فأكملت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة فى ذلك العدد
قال الأصمعىّ: لما أراد أن يمدح الحاسب وسرعة إصابته شدّد الأمر وضيّقه عليه ليكون أحمد له إذا أصاب؛ فجعله حزر طيرا والطير أخفّ من غيره؛ ثم جعله(10/276)
حماما والحمام أسرع الطير وأكثر اجتهادا فى السرعة إذا كثر عددهنّ، وذلك أنه يشتدّ طيرانه عند المسابقة والمنافسة. وقال: «يحفّه جانبا نيق وتتبعه» ، فأراد أن الحمام إذا كان فى مضيق من الهواء كان أسرع من أن يتسع عليه الفضاء. والله أعلم بالصواب.
ذكر ما قيل فى طوق الحمامة
يقال: إنّ نوحا صلى الله عليه وسلم لما كان فى السفينة بعث الغراب ليكشف له هل ظهر من الأرض موضع، فوقع على جيفة فلم يرجع إليه؛ فبعث بالحمامة، فاستجعلت على نوح الطّوق الذى فى عنقها فجعل لها ذلك جعلا. وفى ذلك يقول أميّة بن أبى الصّلت:
وأرسلت الحمامة بعد سبع ... تدلّ على المهالك لا تهاب
تلمّس هل ترى فى الأرض عينا ... وعاينه من الماء العباب «1»
فجاءت بعد ما ركضت بقطف ... عليه «2» الثّأط «3» والطّين الكباب «4»
فلمّا فرّسوا الآيات صاغوا ... لها طوقا كما عقد السّخاب «5»
إذا ماتت تورّثه بنيها ... وإن تقتل فليس لها «6» استلاب(10/277)
وقال أيضا فيها:
سمع الله لابن آدم نوح ... ربّنا ذو الجلال والإفضال
حين أوفى بذى الحمامة والنا ... س جميعا فى فلكه كالعيال
حابسا خوفه عليه رسولا ... من خفاف الحمام كالتّمثال
فرشاها على الرّسالة طوقا ... وخضابا علامة غير بال
فأتته بالصّدق لمّا رشاها ... وبقطف لمّا بدا عثكال «1»
قوله: «فرشاها» أى جعل لها جعلا.
وقال فيها:
وما كان أصحاب الحمامة خيفة ... غداة غدت منهم تضمّ الخوافيا
رسولا لهم والله يحكم أمره ... يبين لهم هل برنس التّرب باديا
فجاءت بقطف آية مستبينة ... فأصبح منها موضع الطين جاديا «2»
على خطمها واستوهبت ثم طوقها ... وقالت ألا لا تجعل الطوق حاليا
ولا ذهبا إنى أخاف نبالهم ... يخالونه مالى وليس بماليا
وزدنى على طوقى من الحلى زينة ... تصيب إذا أتبعت طوقى خضابيا
وزدنى لطرف الطين منك بنعمة ... وورّث إذا ما متّ طوقى حماميا
يكون لأولادى جمالا وزينة ... وعنوان زينى زينة من ترابيا(10/278)
ذكر شىء مما وصف به هذا النوع نظما ونثرا
قال عبد الواحد بن فتوح الأندلسىّ يصف حماما بسرعة الطيران والسّبق:
يجتاب أودية السّحاب بخافق ... كالبرق أومض فى السّحاب فأبرقا
لو سابق الريح الجنوب لغاية ... يوما لجاءك مثلها أو أسبقا
يستقرب الأرض البسيطة مذهبا ... والأفق ذا السّقف الرفيعة مرتقى
ويظلّ يسترقى السماء بخافق ... فى الجوّ تحسبه الشّهاب المحرقا
يبدو فيعجب من رآه لحسنه ... وتكاد آية عنقه أن تنطقا
مترقرقا من حيث درت كأنما ... لبس الزجاجة أو تجلب زئبقا
وقال أبو هلال العسكرىّ فى حمام أبلق:
ومتّفقات الشكل مختلفاته ... لبسن ظلاما بالصباح مرقّعا
أخذن من الكافور أنفا ومنسرا «1» ... وخضّبن بالحنّاء كفّا وإصبعا
وترنو بأبصار إذا ما أدرنها ... جلون عقيقا للعيون مرصّعا
تطير بأمثال الجلام كأنّها ... جنادل تدحوها ثلاثا وأربعا
تبوع «2» بها فى الجوّ من غير فترة ... كأنّ مجاديفا تبوع بها معا
إذا هى عبّت فى الغدير حسبتها ... تزقّ فراخا فى المغاور جوّعا
وقال القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ من رسالة يصف طائرا جاء من غاية:
«وكان هذا الطائر أحد الرسل المسيّرة بل المبشّره، والجنود المجرّدة بل المسخّره؛ فإنها لا تزال أجنحتها تحمل من البطائق أجنحه، وتجهّز من جيوش المقاصد والاقلام(10/279)
أسلحه؛ وتحمل من الأخبار ما تحمل الضمائر، وتطوى الأرض إذا نشرت الجناح الطائر؛ وتزوى لها حتى ترى ما سيبلغه ملك هذه الأمّة، وتقرب بها السماء حتى ترى ما لا يبلغه وهم ولا همّه؛ وتكون مراكب للأغراض لمّا كانت الأجنحة قلوعا، وتركب الجوّ بحرا يصفّق فيه هبوب الرياح موجا مرفوعا؛ وتعلّق الحاجات على أعجازها، فلا تعرف الإرادات غير إنجازها. ومن بلاغات البطائق استعارت ما هى به مشهورة من السّجع، ومن رياض كتبها ألفت الرياض فهى إليها دائمة الرّجع.
وقد سكنت البروج فهى أنجم، وأعدّت فى كنائنها فهى للحاجات أسهم. وقد كادت تكون ملائكة فإذا نيطت بالرّقاع، صارت أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقد باعد الله بين أسفارها وقرّبها، وجعلها طيف اليقظة الذى صدق العين وما كذبها.
وقد أخذت عهود الأمانة فهى فى أعناقها أطواقا، فأدّتها من أذنابها أوراقا؛ فصارت خوافى وراء الخوافى، وغطّت سرّها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافى «1» ؛ ترغم النّوى بتقريب العهود، وتكاد العيون تلاحظها تلاحظ أنجم السعود؛ فهى أنبياء «2» الطير لكثرة ما تأتى به من الأنباء، وخطباؤها لأنها تقوم على منابر الأغصان مقام الخطباء» . والله أعلم بالصواب.
وأما الببّغاء وما قيل فيها
- والببّغاء طائر هندىّ، وحبشىّ. حسن الخلق، دمث الخلق، ثاقب الفهم، له قوّة على حكاية الأصوات بالتلقين والتعليم؛ تتخذه الملوك وأكابر الناس فى منازلهم. وفى لونه الأخضر والأغير والأسود والأحمر(10/280)
والأصفر والأبيض. وهذه الألوان كلّها قليلة نادرة الوجود إلّا الأخضر والأغبر.
وقد شاهدت أنا بالقاهرة المعزّيّة درّة «1» بيضاء. وحكى أنه أهدى إلى معزّ الدولة «2» ابن بويه ببغداد هديّة من اليمن كان فيها ببّغاء بيضاء، سوداء المنقار والرجلين، وعلى رأسها ذؤابة فستقيّة. وهذا الطائر يتناول الطّعم برجله. وله منقار معقّف قصير يكسر به ما صلب وينقب به ما تعسّر نقبه. وهو فى مأكله ومشربه كالإنسان التّرف الظريف. والناس يحتالون على تلقينه بأن ينصبوا تجاهه مرآة يرى خياله فيها ويتكلّم الإنسان من ورائها، فيتوهّم الطائر أنّ خياله فى المرآة هو المتكلّم فيأخذ نفسه بحكاية ما يسمعه من ذلك الصوت.
وقال المولى تاج الدين عبد الباقى اليمانىّ رحمه الله فيها ملغزا:
يا سيّدا أبدع فى المقال ... ويا رئيسا فاق فى المعالى
ما حيوان مشبه الإنسان ... مرتّل الآيات فى القرآن
ذو مبسم صيغ من النّضار ... ومقلة قد ركّبت من قار
ومخلب يكسّر الصّليبا ... ومنطق يفاخر الخطيبا
ذو حلّة بنديّة البرود ... منسوجة من أخضر البنود
كروضة قد أينعت أزهارها ... وأدهشتنا بالغنا أطيارها(10/281)
قد جمعت فى ذاته ألوان ... كأنّه فى خلقه بستان
فذاته من ناصع الزّبرجد ... ونوره مركّب من عسجد
وتارة يبصر من أقاحى ... خلقته «1» فى سائر النواحى
وعرفه من خالص المداد ... ونطقه مستحكم الإيراد
يأكل بالكفّ خلاف الطير ... ويغتدى وهو قدير السّير
إن لقط الحبّ لدى تفريقه ... رأيت درّا جال فى عقيقه
يحفظ بيت المرء فى المغيب ... ويغتدى كالحارس المرهوب
سميّه فى أسفل البحار ... مستودع فى آخر التيّار
إليه يعزى الشاعر المجيد ... والكاتب النّحرير والمجيد
فاكشف معمّى ما لغزت يا إمام ... واسلم على مرّ الدهور فى الدّوام(10/282)
الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الطير الليلىّ
ويشتمل هذا الباب على ذكر ما قيل فى الخفّاش، والكروان، والبوم، والصّدى.
فأمّا الخفّاش وما قيل فيه
- فالخفّاش ليس من الطير فى شىء؛ فإنه ذو أذنين ظاهرتين وأسنان وخطم وخصيتين بارزتين، ويبول كما تبول ذوات الأربع، ويحيض، ويلد، ويرضع، ولا ريش له. قال بعض المفسّرين لكتاب الله عزّ وجلّ: إنّ الخفّاش هو الطائر الذى خلقه عيسى بن مريم عليه السلام بإذن الله تعالى؛ ولذلك هو مباين لصنعة الخالق؛ ولهذا سائر الطير تقهره وتبغضه؛ فما كان منها يأكل اللحم أكله، وما لا يأكل اللحم قتله؛ فلذلك لا يطير إلّا ليلا. وطعامه البعوض والفراش يصيدهما وقت طيرانه، ولا يبلغ ذلك إلا بما فيه من سرعة الاختطاف وشدّة الطيران ولين الأعطاف. وهو مع ذلك ليس بذى ريش وإنما هو لحم مغشّى بجلد صلب كأنّه جلد ضفدع، وهو يطير بغير ريش؛ وهذا من العجب.
وهو لا يطير فى ضوء ولا ظلمة. وسبب ذلك أنه ضعيف حاسّة البصر، قليل شعاع العين؛ فالشمس تضعف بصره عن التحديق فى شعاعها، والظلمة تغمر ضياء بصره؛ فهو يجعل طيرانه لطلب قوته وقت غروب الشمس وظهور الشّفق. [وذلك وقت هيج البعوض وانتشاره «1» ] . ومنازله تكون فى الجبال وصدوع الصخور وبسيط(10/283)
الفيافى وجزائر البحر والأماكن الخربة المهجورة. وهو يطلب قرب الناس؛ فإذا كان فى بيوتهم قصد أرفع مكان وأحصنه فيكون فيه. ويذكر بطول العمر، ويكبر حتى يكون فى قدر الحدأة وأكبر. وهو يلد ما بين الثلاثة إلى التسعة.
ويسفد غالبا وهو طائر فى الهواء. وهو يحمل ولده تحت جناحه، وربما قبض عليه بفيه لإشفاقه عليه. وربّما أرضعت الأنثى ولدها وهى طائرة. أخبرنى من شاهد ذلك ممن يعتمد على نقله. وهو متى أصابه شجر الدّلب خدر.
قال الجاحظ: والخفّاش يأتى الرّمّانة وهى على شجرتها فينقب عنها ويأكل جميع ما فيها حتى لا يدع إلا القشر وحده. قال: ولحوم الخفافيش موافقة للشواهين والصّقور والبوازى ولكثير من جوارح الطير، وهى تسمن عنها وتصحّ أبدانها عليها، ولها فى ذلك عمل محمود ناجع عظيم النفع بيّن الأثر.
وقال بعض الشعراء فى الخفّاش ملغزا:
وطائر جناحه فى رجله ... أبعد شىء فصّه من وصله»
لم يوصف «2» الله بخلق مثله ... وهو على تآلف فى شكله
لو بيع فى سوق له لم أغله
وقال آخر:
أبى علماء الناس أن يخبروننى ... وقد ذهبوا فى العلم فى كلّ مذهب
بجلدة إنسان وصورة طائر ... وأظفار يربوع وأنياب ثعلب(10/284)
وأمّا الكروان وما قيل فيه
- والكروان طائر من طبعه وعادته الطيران فى الليل، والإدلاج والصّياح بالأسحار، والإشراف على مواضع العساكر.
ويوصف بالحمق؛ ومن حمقه أنه يقال له: أطرق كرا، فيلصق بالأرض حتى يرمى.
وتقول العرب: «أطرق كرا أطرق كرا إنّ النّعامة فى القرى «1» » .
وأمّا البوم وما قيل فيه
- ويقال: إنه الصّدى، ويقال: بل الصّدى ذكر البوم، وللبوم ذكر له منه. ويقال: إنه خمسة أصناف: منه ما يصيد الأرنب. ومنه صنف له لونان يأوى الاكام والبرّيّة. ومنه المدبّج بالصّفرة، وله حواجب وقرون من ريش، ويسكن الجدران. ومنه الهام ويسمّى «الغبشيّة «2» » .
ومنه «القن» وهو يصيح كالهام لكنّ صوته أدقّ. وكل هذه الأصناف تحب الخلوة بنفسها. وهى تبغض الغربان، وسائر أصناف الطير تبغضها؛ فإنّ الطيور إذا رأينها يطرن حولها وينتفن ريشها؛ فلذلك صيّاد والطيور يجعلونها فى مصايدهم؛ لأن الطيور إذا رأوها اجتمعوا عليها، فتصاد عند ذلك.(10/285)
وأما الصّدى وما قيل فيه
- فالعرب تزعم أن الإنسان إذا مات أو قتل تتصوّر نفسه فى صورة طائر تصرخ على قبره مستوحشة لجسدها. وفى ذلك يقول توبة:
ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت ... علىّ ودونى جندل وصفائح
لسلّمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
ويحكون على ذلك حكاية «1» . وتقول العرب: إنّ هذا الطائر يكون صغيرا ثم يكبر حتى يصير فى قدر البوم، ويسمّونه الهام، واحده هامة. وهو يتوحّش ويصيح ويوجد فى الدّيار المعطّلة والنّواويس «2» وحيث مصارع القتلى وأجداث الأموات. ويقولون: إنه لا يزال عند ولد الميّت ومخلفيه ليعلم ما يكون بعده فيخبره. وهذا كلّه أراه من خرافات العرب وأكاذيبها. وما زالوا على ذلك حتى جاء الإسلام فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة» الحديث. والله أعلم.(10/286)
الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الهمج
وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فيه: إنه ليس من الطير، ولكنّه مما يطير كالحشرات مما يمشى. والذى أطلق عليه اسم الهمج هو مما يشتمل عليه هذا الباب، وهو النّحل، والزّنبور، والعنكبوت، والجراد، ودود القزّ، والذّباب، والبعوض، والبراغيث، والحرقوص.
فأمّا النحل وما قيل فيه
- قال الله عزّ وجلّ: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه: أنّ رجلا أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخى يشتكى بطنه يا رسول الله؛ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «اسقه عسلا» . ثم أتاه فقال: قد فعلت؛ فقال:
«اسقه عسلا» . ثم أتاه فقال: قد فعلت؛ فقال: «اسقه عسلا» . ثم أتاه فى الرابعة؛ فقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا» ؛ فسقاه فبرئ الرجل.
وقال أرسطو: النحل تسعة أصناف: ستّة منها يأوى بعضها إلى بعض، وذكر أسماءها باليونانيّة. وغذاء «1» النحل من الفضول «2» الحلوة والرّطوبات. والنحل(10/287)
لا تقعد على أزهار مختلفة بل على زهر واحد؛ وإن قعدت على زهر آخر فإنما تقعد عليه بعد أن تنصرف إلى الخليّة. وبيوتها من أعجب المبانى؛ لأنها مبنيّة على الشكل الذى لا ينتهك ولا ينخرق، كأنه حرّر بآلة وقياس هندسىّ. وإذا هلك شىء من النحل فى باطن الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارجها. وهو يعمل فى فصل الربيع والخريف. والرّبيعى أجود من الخريفىّ. والصغير منه أعمل من الكبير.
وهو يشرب من الماء النقىّ العذب الصّافى، ويطلبه حيث كان. وهو يسلخ جلده كالحيّات. وتوافقه الأصوات المطربة. ويجتمع للتصفيق بالأيدى والرّقص.
والسوس يضرّه. ودواؤه أن يطرح فى كل خليّة كفّ من الملح، وأن تفتح فى كلّ شهر مرّة وتدخّن بأخثاء البقر.
وقد وصف الشعراء الشّهد والعسل فى أشعارها؛ فمن ذلك قول إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ يصف شهدة بعث بها إليه بعض أصدقائه:
لله ريقة نحل ... رعى الرّبى والشّعابا
وجاب أرضا فأرضا ... يغشى مصابا مصابا «1»
حتّى ارتوى من شفاء ... يمجّ منه رضابا
إن شئت كان طعاما ... أو شئت كان شرابا
وكتب مع هذه الأبيات رسالة، جاء منها: «وكفى النّحلة فضيلة ذات، وجلالة صفات؛ أنّها أوحى إليها، وأثنى فى الكتاب عليها؛ تعلم مساقط الأنداء، وراء البيداء؛ فتقع هناك على نوّارة عبقه، وبهارة «2» أنقه؛ ثم تصدر عنها [بما تطبعه(10/288)
شمعه، وتبدعه صنعه؛ وترتشف منها «1» ] ما تحفظه رضابا، وتلفظه شرابا؛ وتتجافى بعد منه عن أكرم مجتنى، وأحكم مبتنى.
وأمّا الزّنبور وما قيل فيه
- والزنبور يسمّى «الدّبر» . وهو جبلىّ وسهلىّ. فالجبلىّ يأوى الجبال والأماكن الخشنة، وقد يعشّش على الشّجر، ولونه إلى السواد. والسّهلىّ أحمر اللون ويتّخذ عشّه تحت الأرض ويخرج التراب منه كما يفعل النّمل، وهو يختفى فى الشتاء فلا يظهر، وأكثره يهلك. ومن السّهلىّ صنف مختلف الألوان مستطيل؛ وفى طبعه الشّره يطلب المطابخ ويأكل اللحم، ويطير مفردا ويسكن بطن الأرض.
وصنف الزنبور جميعه مقسوم فى وسطه؛ وهو لذلك لا يتنفّس من جوفه البتّة.
ومتى غمس فى الدّهن سكنت حركاته وذلك لضيق منافذه.
وقد وصفه الشعراء. فمن ذلك قول السّلامىّ:
ولابس لون واحد وهو طائر ... ملوّنة أبراده وهو واقع
أغرّ تردّى طيلسانا مدبّجا ... وسود المنايا فى حشاه ودائع
إذا حكّ «2» أعلى رأسه فكأنما ... بسالفتيه من يديه جوامع «3»
يخاف إذا ولّى ويؤمن مقبلا ... ويخفى عن الأقران ما هو صانع
بدا فارسىّ الزّىّ يعقد خصره ... عليه قباء زيّنته الوشائع «4»(10/289)
فمعجره «1» الوردىّ أحمر ناصع ... ومئزره التّبرىّ أصغر فاقع
يرجّع ألحان الغريض ومعبد ... ويسقى كؤوسا ملؤها السمّ ناقع
وقال السّرىّ الرّفّاء يصفه:
ومخطف «2» الخصر برده حبر «3» ... نحذره وهو خائف حذر
مجنّح طار فى مجنّحة ... تصعد طورا به وتنحدر
كأنّها والرياح تنثرها ... غرائب الزّهر حين تنتثر «4»
لها حمات كأنها شعر ... تظهر مسودّة وتستتر
قد أذهبت فى الجبين «5» غرّته ... إذ فضّضت فى جيادنا الغرر
سلاحه الدّهر فى مؤخّره ... يطعن طورا به وينتصر
كأنّ شطر الذى يجرّده ... من بين فكّيه حيّة ذكر
وأمّا العنكبوت وما قيل فيه
- قد ضرب الله عزّ وجلّ المثل فى الوهن بالعنكبوت؛ فقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)
. والعنكبوت أصناف: منها صنف يسمّى «الرّتيلا» «6» من ذوات السموم القواتل، وهو عنكبوت(10/290)
صغير. ومنه صنف طويل الأرجل. ومنه صنف يسمّى «اللّيث» يصيد الذّباب، وله ست عيون وثمانى أرجل؛ وقال الجاحظ: ولد العنكبوت يقوى على النّسج ساعة يولد، وذلك من غير تلقين ولا تعليم. وأوّل ما يولد دودا صغارا، ثم يتغيّر ويصير عنكبوتا. وهو يطاول فى السّفاد «1» . ومنه ما هو كبير ونسجه ردىء، ومنه ما هو دقيق. وهو فى نسجه يمدّ السّدى ثم يعمل اللّحمة، ويبتدئ من الوسط؛ ويهيّئ موضعا لما يصيده يكون له كالخزانة. والأنثى منه هى التى تنسج، والذكر يحلّ وينقض. والتى تنسجه لا تخرجه من جوفها بل من خارج جسدها. وفم العنكبوت مشقوق بالطول. وهو إذا صاد الذّباب يثب عليه وثوب الفهد.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ نسج العنكبوت يقطع نزف الدّم إذا جعل على الجراحة، وإذا وضع نسجه على القروح منعها أن ترم وعلى الجراحات «2» .
وإذا طبخ العنكبوت الذى هو غليظ النّسج أبيضه بدهن الورد وقطّر فى الأذن سكّن وجعها. قال: وقال بعضهم: إنّ نسج العنكبوت إذا خلط ببعض المراهم ووضع على الجبهة والصّدغين أبرأ حمّى الغبّ. قال: وزعم بعضهم أنّ نسج الصّنف الذى يكون نسجه كثيفا أبيض إذا شدّ فى خيط وعلّق على العنق والعضد أبرأ حمّى الغبّ.
وقال ابن الرومىّ يصف فهد العنكبوب:
أعجب مستفاد ... أفادنى زمانى
من الفهود فهد ... فى الاسم والعيان(10/291)
تلك ذوات أربع ... وذاك ذو ثمان
كأنما ارجله ... مخالب النّغران «1»
سيفاه سيفا بطل ... والدرع درع جان
مستأنس ما إن بنى ... والإنس فى مكان
وصائد وهو من ال ... مصيد «2» فى أمان
ذبابه فى كفّه ال ... طائر مثل الو؟؟؟
وليس يبغى بدلا ... بطائر الخوان
إذا دنا فلم يكن ... بينهما عقدان
عانقه أسرع من ... تعانق الأجفان
بخفّة الوثوب بل ... بجرأة الجنان
فهو عزيز عزّة ... فى غاية الهوان
وقال خلف الأحمر فى الرّتيلاء:
ابعث له يا ربّ ذات أرجل ... فى فمها أحجن «3» مثل المنجل
دهماء مثل العنكبوت المحول ... تأخذه من تحته ومن عل
وأمّا الجراد وما قيل فيه
- فالجراد أحد جند الله الذى عذّب الله به قوم فرعون؛ قال الله تعالى: (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ(10/292)
وَالضَّفادِعَ)
. والعرب تقول: سرأ؟؟؟ الجرادة إذا باضت. فإذا خرج من بيضه فهو «دبى» ، ويخرج دودا أصهب إلى البياض. فإذا تلوّنت فيه خطوط صفر وسود وبيض فهو «المسيّح» . فإذا ضمّ جناحيه فذاك «الكتفان» ؛ لأنه حينئذ يكتف [فى «1» ] المشى. فإذا ظهرت أجنحته وصار أحمر إلى الغبرة فهو «الغوغاء» والواحدة غوغاءة؛ وذلك حين يستقلّ فيموج بعضه فى بعض و [لا «2» ] يتوجّه إلى جهة. فإذا بدت فى لونه الحمرة والصفرة واختلف فى ألوانه فهو «الخيفان» . فإذا اصفرّت الذكور واسودّت الإناث سمّى حينئذ «جرادا» .
[وهو إذا أراد أن يبيض التمس لبيضه المواضع الصّلدة والصخور الصّلبة التى لا تعمل فيها المعاول فيضربها بذنبه فتنفرج له، ثم يلقى بيضه فى ذلك الصّدع فيكون له كالأفحوص ويكون حاضنا له ومربّيا «3» ] .
والجرادة لها ستّ أرجل: يدان فى صدرها، وقائمتان فى وسطها، ورجلان فى مؤخّر جسدها. وطرفا رجليها منشاران. والجراد من الحيوان الذى ينقاد إلى رئيس [يجتمع إليه كالعسكر، إن ظعن أوّله تتابع كلّه ظاعنا؛ وإذا نزل أوّله نزل جميعه «4» ] .
ولعابه سمّ على الأشجار، لا يقع على شىء منها إلا أهلكه. والجرادة فيها شبه من عشرة من جبابرة الحيوان، وهى: وجه فرس، وعينا فيل، وعنق ثور، وقرنا إيّل، وصدر أسد، وبطن عقرب، وجناحا نسر، وفخذا جمل ورجلا نعامة، وذنب حيّة. قال شاعر «5» :
لها فخذا بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم
حبتها أفاعى الرمل بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم(10/293)
وقال أبو علىّ بن سينا: أجود الجراد السمين الذى لا جناح له؛ وأرجل الجراد تقلع الثآليل فيما يقال. قال: يؤخذ من مستديراتها اثنتا عشرة وتنزع رءوسها وأطرافها ويجعل معها قليل آس يابس وتشرب للاستسقاء كما هى. قال: والجراد نافع لتقطير البول؛ وإذا تبخّر به نفع عسره وخصوصا فى النساء. ويتبخّر به من البواسير.
والذى لا أجنحة له يشوى ويؤكل للسع العقرب.
وقال بعض الأعراب وذكر فساده: «باكرنا وسمىّ «1» ، ثم خلفه ولىّ؛ حتى كأنّ الأرض وشى منشور، عليه لؤلؤ منثور؛ ثم أتتنا غيوم جراد، بمناجل حداد، فأخربت البلاد، وأهلكت العباد. فسبحان من يهلك القوىّ الأكول، بالضعيف المأكول» .
وقال العسكرىّ يصف جرادة:
أجنحة كأنّها ... أردية من قصب
لكنّها منقوطة ... مثل صدور الكتب
بأرجل كأنّها ... مناشر من ذهب
وقال أيضا:
وأعرابيّة ترتاد «2» زادا ... فتمرق من بلاد فى بلاد
غدت تمشى بمنشار كليل ... تبوع «3» به قرارة كلّ واد
وتنشر فى الهواء رداء «4» شرى ... على أطرافه نقط المداد(10/294)
وقال يعلى بن إبراهيم الأندلسىّ:
وخيفانة صفراء مسودّة القرا «1» ... أتتك بلون أسود فوق أصفر
وأجنحة قد ألحقتها لرؤية «2» ... تقاصر عن أثناء برد محبّر
وقال آخر:
جرادة حنّت «3» القلوب لها ... حين أشارت بناظرى ربرب
صفراء جسم يشوبها رقط ... فى نقط من عبيرها الأشهب
كأنها والجناح حلّتها ... راقصة فى ممسّك مذهب
ووقفت على حكاية عجيبة فى أمر الجراد، نقلها ابن حلب «4» راغب فى تاريخه فى حوادث سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، قال: قال القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ: حدّثنا القاضى بهاء الدّين بن شدّاد قاضى حلب فى يوم الثلاثاء من عشر [شهر] ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وقدم علينا فى صفر منها، قال: كان الجراد بالشأم قد زاد أمره وعظم خطبه وأمحلت السّنة بعد السّنة ولم يسلم من الزرع إلا أقلّه؛ فأعلم الملك الظاهر «5» غازى صاحب حلب عن طائر يسمى «السّمندل» ،(10/295)
إذا ظهر الجراد ببلاد أحضر إليها ماء من مكان مخصوص فتبعه ذلك الطائر ووقع على الجراد فأتلفه واستخرج بيضه من التراب ونظّف البلاد منه. قال: فندب ثلاثة نفر من العجم ذوى قوّة فى أبدانهم وصبر على مشقّة المشى فى أسفارهم، وأزاح علّتهم بنفقة وسّعها عليهم، وساروا على خوزستان، واستدلّوا على الضّيعة التى هى من عملها وفيها هذا الماء، فوصلوا إليها وحملوا من الماء، ووجدوا هذه العين على وجه الأرض لا تبلغ إلى أن تفيض فتسيح ولا إلى أن تغيض فتستقى.
ومن تدبير هذا الماء إلى أن يتمّ به المراد ان يحمله الماشى ولا يركب، وإذا نزل بمنزلة علّقه ولا يضعه على الأرض؛ وكان الملك الظاهر قد سيّر معهم دوابّ يركبها من لم يحمل الماء بالنّوبة ويمشى من يحمله؛ ومن عادة من يحمله ألّا ينفرد بنفسه وألّا يسير إلّا فى قافلة وأن يعلم أهلها بما معه ويشهدهم أنه ما ركب ظهر دابّة فى حال حمله، وأنه مشى والماء فى إنائه فى يده؛ وكلّما وصلت قافلة إلى بلد أدّى شهود القافلة ما شهدوا به عند الحاكم؛ ويتنجّز حامل الماء كتبا حكميّة من قضاة البلاد فى أمر الماء بصحّة نسبه وكيفيّة حمله. قال: ولم يزالوا على ذلك إلى أن وصلوا إلى حلب، فعلّق ذلك الماء ووصل ذلك الطائر فى جمع كجمع الجراد وأكثر، وهو يشبه السّمانى فى قدره ولونه، ووقع على الجراد فأتلفه واستأصله. قيل: إنّه كان يأكل الجرادة واثنتين والثلاث والأربع فى دفعة ويرميها فى الحال من بطنه، وإنه يتتبّع مكان بيضه فى الأرض فيبحث عنه بمناقيره وأخرجه، حتى صارت الأرض كالغربال من أثر نقره، وإنّ الجراد ارتفع من الشأم وكشفت به البلوى.
قال: وأمر هذا الماء مشهور معلوم مستفيض.(10/296)
وأمّا دود القزّ وما قيل فيه
- ودود القزّ وإن لم يكن من الهمج الذى له جناح، فمآل أمره أن يصير له جناح؛ ولذلك أوردناه فى هذا الباب وألحقناه بهذا النّوع.
ودود القزّ أوّل ما يكون بزرا فى قدر حبّ التين، وهو البيض الذى يتكوّن فيه الدّود. ويكون خروجه منه فى أوّل فصل الربيع. ويخرج أصغر من الذّرّ، وفى لونه. وإذا تأخّر خروجه وضعه النساء تحت ثديّهنّ فى صرر. فإذا خرج غذّى بورق التوت. ويأخذ فى النّمو إلى أن تصير الدودة منه فى قدر الإصبع وينتقل من السواد إلى البياض [أوّلا فأوّلا «1» ] ، وذلك فى مدّة ستين يوما فما دونها.
وله فى غضون هذه المدّة نومات لا يأكل فيها شيئا البتّة، كلّ نومة يومان؛ فإذا استيقظ أكل أضعاف ما كان يأكل قبل النوم. فإذا أكمل المدّة امتلأ حريرا فلا يبقى فيه مساغ لمأكل، فيقطع الأكل عند ذلك ويهيج للنّسج؛ فأىّ شىء تعلّق به نسج عليه. وهو ينسج على نفسه بما يخرجه من فيه إلى أن يخرج ما فى جوفه، وهو أرقّ من العنكبوت «2» ، ويكمل عليه ما يبنيه، فيكون كهيئة اللّوزة «3» .
ويبقى محبوسا فى غزله قريبا من عشرين يوما، ثم ينقب عن نفسه ويخرج فراشا أبيض ذا جناحين لا يسكنان عن الاضطراب وقرنين وعينين. وهو إذا نقب عن نفسه وخرج لا ينتفع من نسجه بحرير لأنه يقطع طاقاته. وعند خروجه(10/297)
يهيج للسفاد فيلصق الذكر ذنبه بذنب الأنثى ويلتحمان ساعة زمانيّة ثم يفترقان، وتنثر الأنثى البزر على الصفة التى ذكرناها على خرق بيض تكون قد فرشت له.
فإذا نفد ما فيهما من السفاد والبزر ماتا. هذا إذا أريد من الدود البزر. وإذا أريد منه الحرير ترك ذلك النسج فى الشمس بعض يوم فيموت.
وقد جعله بعض الشعراء مثلا للحريص على جمع المال، فقال:
يفنى الحريص لجمع المال مدّته ... وللحوادث والورّاث ما يدع
كدودة القزّ ما تبنيه يهلكها ... وغيرها بالذى تبنيه ينتفع
وهو كثير العوارض. وأكثر ما يعرض له الفساد إذا اطعم ورق التّوت الحامض. ويهلك من صوت الرعد وضرب الطّست والهاون، ومن رائحة الخلّ والدّخان. وكثرة الحرّ تهلكه وتذيبه؛ وكذلك البرد الشديد فإنه يبطئ به. ويؤذيه مسّ الجنب والحائض، ويخشى عليه من الفأر والعصفور والنمل والوزغ.
وأمّا الذّباب وما قيل فيه
- فقد ضرب الله عزّ وجلّ به المثل فقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)
. فهذا مثل ضربه الله تعالى لضعف الناس وعجزهم عن الإتيان بمخلوق. وجاء فى الحديث: «إذا سقط الذّباب فى طعام أحدكم أو شرابه فليغمسه فإنّ فى أحد جناحيه داء وفى الآخر شفاء» . ويقال: إنه يغمس جناح الداء ويرفع جناح الشفاء، فلهذا ندب إلى غمسه. والعرب تجعل النحل والفراش والدّبر من الذّباب.(10/298)
قال الجاحظ: «والذباب ضروب سوى ما ذكروا «1» من الفراش والنحل والزّنابير» ؛ فمنها الشّعراء «2» . قال الراجز «3» :
ذباب شعراء ونبت مائل «4»
وللكلاب ذباب على حدة يتخلّق منها فلا يريد سواها. ومنها ذباب الكلأ والرّياض؛ وكلّ نوع منها يألف ما خلق منه» .
ومنها الذّباب الذى يقتل الإبل وهو أزرق. والذّباب الذى يسقط على الدّوابّ وهو أصفر. ويقال: إنّ الذّباب يكثر إذا هاجت ريح الجنوب وإنّه يخلق فى تلك الساعة؛ وإذا هبّت ريح الشمال خفّ وتلاشى. وهو من ذوات الخراطيم، وكذلك البعوض. ويقال: إنّ الذّباب لا يعمّر أكثر من أربعين يوما.
قال الجاحظ: «وليس بعد أرض الهند أكثر ذبابا من واسط «5» ، وربّما رأيت الحائط وكأنّ عليه مسحا شديد السواد من كثرة [ما عليه من «6» ] » الذباب.
ويقال: إن اللّبن إذا ضرب بالكندس «7» ونضح به بيت لم يدخله ذباب.
ومن عجيب أمر الذباب أنّه يلقى رجيعه على الشىء الأبيض أسود وعلى الأسود(10/299)
أبيض. ويقال: إنه لا يظهر إلّا فى «1» مواضع العفونات والقاذورات، ومبتدأ خلقه منها، ثم يكون من السّفاد.
قال الجاحظ: ويقال: إنّ الذّباب لا يقرب قدرا فيه كمأة.
والذّباب بطئ فى سفاده، وربّما بقى الذّكر على ظهر الأنثى عامّة النّهار؛ فهو يتجاوز فى ذلك البعير والخنزير. وهو من الحيوان الشّمسى لأنه يخفى فى الشتاء ويظهر فى الصيف. وللذّباب يدان زائدتان فى مقدّم يديه يتّقى بهما الأذى عن عينيه فإنهما بغير أجفان.
والعرب تضرب به المثل فى الزّهو فتقول: «أزهى من ذباب» . قالوا: لأنّه يسقط على أنف الملك الجبّار وعلى موق عينيه ويطرده فلا ينطرد. ويضرب به المثل فى القذر واستطابة النّتن. فإذا عجز الذّباب عن شمّ شىء فلا شىء أنتن منه.
وقال ابن عبدل فى محمد بن حسّان بن سعد ورماه بالبخر:
وما يدنو إلى فيه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند «2»
يرين حلاوة ويخفن موتا ... ذعافا إن هممن له بورد
ويقال لكلّ أبخر: أبو ذبّان؛ وكانت من كنى عبد الملك بن مروان.
وقد وصف الشعراء الذّباب؛ فمن ذلك قول عنترة:
جادت عليها كلّ عين ثرّة ... فتركن كلّ حديقة «3» كالدّرهم
فترى الذّباب بها يغنّى وحده ... هزجا كفعل الشارب المترنّم
غردا يحكّ ذراعه بذراعه ... فعل المكبّ على الزّناد الأجذم(10/300)
وقال العسكرىّ وجمع بين البراغيث والبعوض والذّباب:
وبدا فغنّانى البعوض تطرّبا ... فهرقت كأس النوم إذ غنّانى
ثم انبرى البرغوث ينقط أضلعى ... نقط المعلّم مشكل القرآن
حتى إذا كشف الصباح قناعه ... قرأت لى الذّبّان بالألحان
وأمّا البعوض وما قيل فيه
- والبعوض صنفان: صنف يشبه القراد، لكن أرجله خفيّة ورطوبته ظاهرة، يسمّى بالعراق والشأم «الجرجس» و «الفسافس» ، وبمصر «البقّ» . ويشمّ رائحة الإنسان ويتعلّق به. وله لسع شديد.
ولدمه إذا قتل رائحة كريهة. ويقال: إنّه يتولّد من النّفس الحارّ [ولشدّة رغبته فى الإنسان لا يتمالك إذا شمّ رائحته، فإذا كان فى السقف رمى بنفسه عليه فلا يخطئه «1» ] .
وهذا الصنف ليس من الطير. والصنف الثانى طائر ويسمّيه أهل العراق «البقّ» و «البعوض» . ويسمّيه أهل مصر «الناموس» . وهو يتولّد من الماء الراكد، فإذا صار الماء رقراقا استحال دعاميص «2» ، ثم تستحيل الدعاميص فراشا. والبعوض فى خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر منه أعضاء، فإنّ للفيل أربع أرجل وخرطوما وذنبا، وله مع هذه الأعضاء يدان زائدتان وأربعة أجنحة. وخرطوم البعوض [أجوف «3» ] نافذ الخرق؛ فإذا طعن به جلد الإنسان استقى به الدّم وقذف به إلى جوفه. وفيه من الشّره أن يمتصّ من دم الإنسان إلى أن ينشقّ ويموت، أو يمتصّ إلى أن يعجز عن الطيران. ومن عجيب أمره أنه ربّما قتل البعير وغيره من ذوات الأربع، فيبقى(10/301)
طريحا فى الصحراء فيجتمع حوله السّباع والطير التى تأكل الجيف، فمن أكل منها منه مات لوقته فى موضعه. ويقال: إنّ بعض جبابرة الولاة بالعراق كان يقتل بالبعوض، فيأمر بمن يريد قتله أن يجرّد من ثيابه ويربط ويخرج إلى بعض الآجام التى بالبطائح فيوجد فى أسرع وقت عظاما عارية من جلد ولحم.
وقال الجاحظ: بعوض البطائح كجرّارات «1» الأهواز وعقارب شهرزور. وربّما ظفر بالسكران النائم فلا يبقى فيه إلّا العظام العارية.
وقد أكثر الشعراء فى وصف البعوض؛ فمن ذلك قول فرج بن خلف الأندلسىّ:
بعوض جعلن دمى قهوة ... وغنّيننى بصنوف الأغان «2»
كأنّ عروقى أو تارهنّ ... وجسمى الرّباب وهنّ القيان «3»
وقال آخر:
إذا البعوض زجلت أصواتها ... وأخذ اللّحن مغنّياتها
لم تطرب السامع خافضاتها ... وأرّق العينين رافعاتها
صغيرة كبيرة أذاتها ... تنفضّ عن بغيتها بغاتها
ولا يصيب أبدا رماتها ... رامحة خرطومها قناتها
وقال أبو هلال العسكرىّ:
غناء يسخن العين ... وينفى فرح القلب
ولا يأتى على الزّمر ... ولا يجرى مع الضرب
غناء البقّ باللّيل ... ينافى طرب الشّرب(10/302)
إذا ما طرق المرء ... جرى فى طلق الكرب
إذا ما نقب الجلد ... ة أخفى أثر النّقب
سوى حمر خفيّات ... تحاكى نقط الكتب
وأمّا البراغيث وما قيل فيها
- والبرغوث أسود أحدب. وهو من الحيوان الذى لا يمشى؛ وإنما أوردناه مع ذى الجناح لأنه ذو وثب لا يقصر عن الطيران؛ ومنه أيضا ما يمشى ولا يثب. وقالوا: إنه يطيل السّفاد، ويبيض ويفرّخ. وأصله متولّد من التراب فى المواضع المظلمة. وهو يكثر ويستطيل ويؤذى فى أواخر الشتاء وفصل الربيع. وإذا اشتدّ عليه الحرّ هلك.
ومن جناس الكلام فيه قولهم: أذى البراغيث إذا البرى غيث. يعنون بالبرى التراب إذا نزل عليه المطر.
والبرغوث يكمن بالنهار ويظهر بالليل. ويشتدّ أذاه للإنسان إذا أخذ مضجعه.
وهو يطول لبثه بمصر؛ ولا يوجد فى البلاد الحارّة مثل صعيد مصر ولا فى البلاد الشديدة البرد.
وقد أكثر الشعراء فى وصف البراغيث وأفعالها؛ فمن ذلك قول أبى الرّمّاح الأسدىّ وكان قد سكن مصر:
تطاول بالفسطاط ليلى ولم أكن ... بحنو الغضى ليلى علىّ يطول
يؤرّقنى حدب صغار أذلّة ... وإنّ الذى يوقظنه لذليل
إذا ما قتلناهنّ أضعفن كثرة ... علينا ولا ينعى لهنّ قتيل
ألا ليت شعرى هل أبيتنّ ليلة ... وليس لبرغوث إلىّ سبيل(10/303)
وقال العسكرىّ من أبيات:
ومن براغيث تنفى النوم عن بصرى ... كأنّ جفنىّ عن عينى قصيران
يطلبن منّى ثأرا لست أعرفه ... إلّا عداوة سودان لبيضان
وقال أبو [الحسن أحمد بن «1» ] أيّوب البصرى المعروف بالناهى:
لا أعذل الليل فى تطاوله ... لو كان يدرى ما نحن فيه نقص
لى فى البراغيث والبعوض إذا ... يلحفنا حندس الظلام قصص
إذا تغنّى بعوضه طربا ... ساعد برغوثه الغنا فرقص
وقال عبد المؤمن بن هبة الله الأصبهانىّ:
بات البراغيث فى الفراش معى ... تقسمنى قسمة المواريث
أكلننى بعد ما شربن دمى ... فمن مغيثى من البراغيث
وقال أيضا فيها:
إنّ البراغيث إذا ساورت ... من كنّها ترقص أو تقرص
وكلّما غنّت بعوض لها ... فهى على شرب دمى أحرص
تقفز من ثم إلى هاهنا ... كأنها زنجيّة ترقص
وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدّينورىّ:
وحمش القوائم حدب الظهور ... طرقن فراشى على غرّة
وينقطننى بخراطيمهنّ ... كنقط المصاحف بالحمرة
وقال ابن المعتزّ:
وبراغيث إن ظفرن بجسمى ... خلت فى كلّ موضع منه خالا(10/304)
وأمّا الحرقوص وما قيل فيه
- فقد ذكره الجاحظ فى كتاب الحيوان فقال: وزعموا أنه دويبّة أكبر من البرغوث؛ وأكثر ما ينبت لها جناحان بعد حين. وعضّة الحرقوص أشدّ من عضّة البرغوث. قالوا: والحرقوص يسمّى النّهيك. وأكثر ما يعضّ أحراح النساء وخصى الرجال. قال أعرابى وقد عضّ الحرقوص خصيتيه:
لقد منع الحراقيص القرارا ... فلا ليلا نقرّ ولا نهارا
يغالبن الرجال على خصاهم ... وفى الأحراح دسّا وانجحارا
وقالت امرأة تشير إلى زوجها:
يغار من الحرقوص إن عضّ عضّة ... بفخذىّ منها ما يجذّ غيور «1»
لقد وقع الحرقوص منّى موقعا ... أرى لذّة الدّنيا إليه تصير(10/305)
الباب السابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى أنواع الأسماك
قال ابن أبى الأشعث: السمك يستنشق الماء بأصداغه فيقوم له مقام الهواء للإنسان. والسمك كلّه شره كثير الأكل، وحاسّة السمع والشمّ فيه أقوى منها فى الإنسان. واستدلّ على ذلك بأدلّة يطول شرحها. وحاسّة البصر فيه ليست كالسمع والشمّ وإنما أضعف. ولسانه غليظ قصير شبيه باللسان وليس لسانا.
وله أضراس ليست للمضغ عليها وإنما لقتل ما يفترسه من حيوان الماء، ويفرغ فيه سمّا يكون سببا لقتله. وصغار السمك تحترز من كباره بأن تطلب الماء القليل.
الذى لا يحمل الكبار.
واختلف الناس فى سفاد السمك، فالأكثر على أنه يسفد مثل الحيّة. وقال الجاحظ: وفى السمك القواطع والأوابد كالطير. ومن أصناف السمك ما هو فى شكل الحيّات. قال: وهى إما أن تكون كانت برّيّة أو جبليّة فاكتسحتها السيول وألقتها فى الماء الدائم فتوالدت فيه؛ وإما أن تكون أمهاتها وآباؤها من دوابّ الماء.
وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى الأدوية المفردة: أفضل السمك فى جثّته ما كان ليس بكبير جدّا ولا صلب اللحم ولا يابسه، لا دسومة فيه كأنه يتفتّت، والذى لا مخاطيّة ولا سهوكة فيه وطعمه لذيذ، فإن اللذيذ مناسب، وما هو دسم دسومة غير مفرطة ولا غليظة ولا شحميّة ولا حرّيفة، والذى لا يسرع إليه النّتن إذا فصل عن الماء. ويختار من السمك الصّلب اللحم ما هو أصغر، ومن الرّخص(10/306)
اللحم ما هو أكبر إلى حدّ ما. وصلب اللحم مملوحا خير منه طريّا. وأمّا فى الأجناس فالشبابيط أفضلها، ثم البنّىّ، والبياح «1» البحرىّ لا بأس به. وأما فى مأواه «2» فالذى يأوى الأماكن الصخريّة ثم الرمليّة والمياه العذبة الجارية التى لا قذر فيها ولا حمأة وليست بطيحيّة «3» ولا نزّيّة ولا من البحيرات الصغار التى لا تسقيها الأنهار ولا فيها عيون. قال: والسمك البحرىّ محمود لطيف؛ وأفضل أصنافه الذى لا يكون إلا فى البحر واللّجة. والذى يأوى ماء مكشوفا ترفرف الرّياح عليه أجود من الذى بخلافه. والذى يأوى ماء كثير الاضطراب والتموّج أجود من الذى يأوى الماء الراكد. والسمك البحرىّ لطيف اللحم لا سيما إذا كان مأواه فى الشطوط صخرا أو رملا؛ والذى يصير من البحر الى أنهار عذبة يعارض جرية الماء بالطبع لطيف كثير الرّياضة.
وأمّا غذاؤه، فالذى يغتذى بالحشيش وأصول النبات خير من الذى يغتذى الأقذار التى تطرح من البلاد إلى المستنقعات. وأفضل ما يؤكل السمك اسفيدباجا «4» ثم المشوىّ على الطّابق. وأما المقلىّ. فيصلح لأصحاب المعد القويّة ومعه الأبازير «5» .
والمشوىّ أغذى وأبطأ نزولا، والمطبوخ بالضدّ. وأفضل طبيخه أن يطبخ الماء حتى يغلى ثم يلقى فيه.(10/307)