على أكرم الأكرمين مسرورا، ولقى الله وقد جعل فى قلبه نورا وفى سمعه نورا وفى بصره نورا. والمولى أعزه الله تعالى أولى من تلقّى أمر الله بالتسليم والرضا، وقابل أقداره بأن الخيرة فيما قدّر وقضى؛ وحمد الله على ما وهب من بقاء إخوته الذين فيهم أعظم خلف، وأجمل عوض يقال به للدّهر الذى اعتذر بدوام المسرّة فيهم: عفا الله عمّا سلف؛ وعلم أنّ الخطب الذى هدّ ركن الدين باحترابه واجتراحه، قد صرفه إلى الأمد عن الإلمام بساحة شهابه والتعرّض إلى حمى فخره والنظر إلى حىّ صلاحه؛ ففى بقائهم ما يرغم العدا، ويعزّ حزب الهدى؛ ويقيم كلّا منهم فى خدمة الدولة القاهرة بين يدى المولى مقام الشّبل المنتمى للأسد، وينهضهم من مصالح الإسلام مع ما يعلمه منهم من حسن الثّبات من الوالد وسرعة الوثبات من الولد. والله تعالى يجزل له من الأجر أوفاه، ويحفظ عليه- وقد فعل- أخراه؛ ويجعله للإسلام ذخرا، ولا يسمعه مع طول البقاء بعدها تعزية أخرى.
ومن أحسن الرثاء وأشجاه ما نطقت به الخنساء فى رثائها لأخيها صخر، فمن ذلك قولها:
ألا يا صخر إن أبكيت عينى ... لقد أضحكتنى دهرا طويلا
دفعت بك الجليل وأنت حىّ ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
وقالت أيضا فيه:
الا هبلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر، ماذا يحملون إلى القبر!
وماذا يوارى القبر تحت ترابه ... من الجود! يا بؤس الحوادث والدهر!
فشأن المنايا إذ أصابك ريبها ... لتغد على الفتيان بعدك أو تسرى(5/178)
وقالت:
يذكّرنى طلوع الشمس صخرا ... وأبكيه لكلّ غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى
وما يبكون مثل أخى ولكن ... أسلّى النفس عنه بالتأسّى
وقالوا: أرثى بيت قالته العرب قول متمّم بن نويرة فى أخيه مالك، وكان قد قتله خالد بن الوليد فى الرّدّة. وكان متمم قدم العراق، فأقبل لا يرى قبرا إلا بكى؛ فقيل له: يموت أخوك بالملا وتبكى على قبر بالعراق! فقال:
لقد لامنى عند القبور على البكا ... رفيقى لتذراف الدموع السّوافك
أمن أجل قبر بالملا أنت نائح ... على كلّ قبر أو على كلّ هالك
وقال: أتبكى كلّ قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللّوى فالدّكادك
فقلت له: إن الشّجا يبعث الشجا ... فدعنى فهذا كلّه قبر مالك
معناه قد ملأ الأرض مصابه عظما، فكأنه مدفون بكلّ مكان. وهو أبلغ ما قيل فى تعظيم ميّت. وقيل أرثى بيت قالته العرب قول المحدث:
على قبره بين القبور مهابة ... كما قبلها كانت على صاحب القبر
وقيل: بل قول الآخر:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه ... فطيب تراب القبر دلّ على القبر
وقالوا: بل بيت غيره:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما
وقال الأصمعى: أرثى بيت قالته العرب قول الشاعر:
ومن عجب أنّ بتّ مستشعر الثّرى ... وبتّ بما زوّدتنى متمتّعا
ولو أننى أنصفتك الودّ لم أبت ... خلافك حتى ننطوى فى الثرى معا(5/179)
ومن أحسن الرثاء قول حسين بن مطير الأسدىّ:
ألمّا بمعن ثم قولا لقبره: ... سقتك الغوادى مربعا ثم مربعا
فتى عيش فى معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
أيا قبر معن كنت أوّل حفرة ... من الأرض خطّت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البرّ والبحر مترعا!
بلى قد وسعت الجود والجود ميّت ... ولو كان حيّا ضقت حتى تصدّعا
ولمّا مضى معن مضى الجود والنّدى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
قال أبو هلال العسكرىّ: هذه الأبيات أرثى ما قيل فى الجاهلية والإسلام.
وقال بكر بن النّطّاح يرثى معقل بن عيسى:
وحدّثنى عن بعض ما قال أنه ... رأت عينه فيما ترى عين نائم
كأن النّدى يبكى على قبر معقل ... ولم تره يبكى على قبر حاتم
ولا قبر كعب إذ يجود بنفسه ... ولا قبر حلف الجود قيس بن عاصم
فأيقنت أن الله فضّل معقلا ... على كل مذكور بفضل المكارم
وقال آخر:
لعمرك ماوارى التراب فعاله ... ولكنما وارى ثيابا وأعظما
ومثله لمنصور النّمرىّ:
فإن تك أفنته الليالى وأوشكت ... فإن له ذكرا سيبقى اللياليا
وقال التميمىّ فى منصور بن زياد:
أمّا القبور فإنّهنّ أوانس ... بفناء قبرك والدّيار قبور
عمّت صنائعه فعمّ مصابه ... فالناس فيه كلّهم مأجور
يثنى عليك لسان من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير(5/180)
ردّت صنائعه إليه حياته ... فكانه من نشرها منشور
فالناس مأتمهم عليه واحد ... فى كل دار رنّة وزفير
وقال ابن القزّاز المغربىّ:
سأبكيك لا أن البكا عدل لوعتى ... ولا أنّ وجدى فيك كفء تندّمى
وقلّ لعينى أن تفيض دموعها ... عليك ولو أنّ الذى فاض من دمى
وقال الخريمىّ
وأعددته ذخرا لكلّ ملمّة ... وسهم الرّزايا بالذخائر مولع
وإنى وإن اظهرت منّى جلادة ... وصانعت أعدائى عليه لموجع
ولو شئت أن أبكى دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وقال أبو هلال العسكرىّ:
على الرغم من أنف المكارم والعلا ... غدت داره قفرا ومغناه بلقعا
ألم تر أنّ البأس أصبح بعده ... أشلّ وأن الجود أصبح أجدعا
فمرّا على قبر المسوّد وانظرا ... إلى المجد والعلياء كيف تخشّعا
فإن يك واراه التراب فكبّرا ... على الجود والمعروف والفضل أربعا
ولا تسأما نوحا عليه مكرّرا ... ونوحا لفقد العارفات مرجّعا
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تضعضعا
ولا تحسبا أنّى أواريه وحده ... ولكنّنى واريته والنّدى معا
وقال أيضا:
ألست ترى موت العلا والفضائل ... وكيف غروب النجم بين الجنادل!
فما للمنايا أغفلت كلّ ناقص ... ونقّبن فى الآفاق عن كلّ فاضل!
على الرغم من أنف العلاسيق للرّدى ... بكل كريم الفعل حر الشمائل(5/181)
على أنّ من أبقته ليس بخالد ... وليس امرؤ يرجو الخلود بعاقل
رأيت المنايا بين غاد ورائح ... فما للبرايا بين ساه وغافل!
ولم أر كالدنيا حبيبا مضرّة ... ولم أر مثل الموت حقّا كباطل
وقال الرّقاشىّ فى البرامكة:
ألان استرحنا واستراحت ركابنا ... وقلّ الذى يحدى ومن كان يحتدى
فقل للمطايا: قد أمنت من السّرى ... وطىّ الفيافى فدفدا بعد فدفد
وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفر ... ولن تظفرى من بعده بمسوّد
وقل للعطايا بعد فضل: تعطّلى ... وقل للرزايا كل يوم: تجدّدى
ودونك سيفا برمكيّا مهنّدا ... أصيب بسيف هاشمىّ مهنّد
وقال آخر:
سأبكيك للدّنيا وللدّين، إننى ... رأيت يد المعروف بعدك شلّت
ربيع إذا ضنّ الغمام بمائه ... وليث إذا ما المشرفيّة سلّت
وقال عبد الله بن المعتزّ:
ألست ترى موت العلا والمحامد ... وكيف دفنّا الخلق فى قبر واحد
وللدّهر أيّام يسئن عوامدا ... ويحسنّ إن أحسنّ غير عوامد
وقال أبو الطيّب المتنّبى:
إنى لأعلم- واللبيب خبير- ... أن الحياة وإن حرصت غرور
ما كنت أعلم قبل دفنك [1] فى الثرى ... أن الكواكب فى التّراب تغور
خرجوا به ولكلّ باك حوله ... صعقات موسى يوم دكّ الطّور
__________
[1] كذا فى ديوان المتنبى طبع مطبعة هندية سنة 1898. وفى الأصل: «قبل تنزل فى الثرى» على حذف أن المصدرية.(5/182)
حتى أتوا جدثا كأنّ ضريحه ... فى قلب كلّ موحّد محفور
نبكى عليه وما استقرّ قراره ... فى اللحد حتى صافحته الحور
ومنها:
صبرا على المكروه [1] فيه تكرّما ... إنّ العظيم على العظيم صبور
ولكلّ مفجوع سواكم مشبه ... ولكلّ مفقود سواه نظير
وقال آخر:
كفى حزنا أنّى تخلّفت بعده ... أدور مع الباكين فى عرصاته
وصارت يمينى ما حلفت بقبره ... وكانت يمينى قبلها بحياته
وقال آخر:
وكنت أخاف الدّهر ما كان باقيا ... فلما تولّى مات خوفى على الدّهر
وقال آخر:
ولما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
وإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقى الدهر
وقال آخر:
فو الله لو أسطيع قاسمته الرّدى ... فمتنا جميعا أو يقاسمنى عمرى
ولكنما أرواحنا ملك غيرنا ... فما لى فى نفسى ولا فيه من أمر
أحمّله ثقل التّراب وإننى ... لأخشى عليه الثقل من موطئ الذّرّ
وما انا بالوافى وقد عشت بعده ... وربّ اعتراف كان أبلغ من عذر
وقال آخر:
يا راحلا لم يبق لى ... من بعده فى العيش نفعا
__________
[1] فى الديوان: «صبرا بنى إسحاق فيه تكرما» .(5/183)
ضاقت علىّ الأرض في ... ك وضقت بالإخوان ذرعا
ورعيت فيك النّجم يا ... من كان يحفظنى ويرعى
أبكيك بالشعر الذى ... قد رقّ حتى صار دمعا
وقال تاج الملوك بن أيّوب يرثى أخاه:
لو كان يشفى الدمع غلّة واجد ... لشفى غليلى فيض دمعى الهامر
هيهات لا برد الغليل وقد ثوى ... من كان من عددى وخير ذخائرى
يا للرّجال لنكبة قد أذهبت ... جلد الجليد وحسن صبر الصابر
طرقت فتى الملك المعظّم فانثنى ... من بعد بهجته كربع داثر
ومنها:
جبل هوى فارتجّت الدنيا له ... فكأنما ركبت جناحى طائر
ومنها:
من للنّوائب يوم تفترس الورى ... قسرا بأنياب لها وأظافر
أضحى وحيدا فى التراب كأنّه ... ما سار بين مواكب وعساكر
قد كان لا تعصى البريّة أمره ... فانقاد ممتثلا لأمر الآمر
مولاى دعوة واله غادرته ... وقفا على نوب الزمان الغادر
هل من سبيل للزيارة عندها ... هيهات حال الموت دون الزائر
لو كان خصمك غير حادثة الرّدى ... لرددته بذوابل وبواتر
أو كان يدرك ثأر من أودى به ... ريب المنون لكنت أوّل ثائر
لكنّه الموت الذى قهر الورى ... من حيث لا تثنيه قدرة قادر
وقال كمال الدين بن النبيه يرثى الأمير على ابن الخليفة الناصر لدين الله:
الناس للموت كخيل الطّراد ... فالسابق السابق منها الجوادّ(5/184)
والله لا يدعو إلى داره ... إلا من استصلح من ذى العباد
والموت نقّاد، على كفه ... جواهر يختار منها الجياد
والمرء كالظلّ ولا بدّ أن ... يزول ذاك الظلّ بعد امتداد
لا تصلح الأرواح إلّا إذا ... سرى إلى الأجسام هذا الفساد
أرغمت يا موت أنوف القنا ... ودست أعناق السيوف الحداد
كيف تخرّمت أميرا وما ... أنجده كلّ طويل النّجاد
مصيبة أذكت قلوب الورى ... كأنما فى كلّ قلب زناد
نازلة عمّت فمن أجلها ... سنّ بنو العباس لبس السّواد
مأتمة فى الأرض لكن لها ... عرس على السبع الطّباق الشّداد
طرقت يا موت كريما فلم ... يقنع بغير النفس للضيف زاد
قصمته من سدرة المنتهى ... غصنا فشلّت يد أهل العناد
يا ثالث السّبطين خلّفتنى ... أهيم من همّى فى كلّ واد
يا نائما فى غمرات الرّدى ... كحلت اجفانى بميل السّهاد
ويا ضحيع التّرب أسقمتنى ... كأنما فرشى شوك القتاد
دفنت فى الترب ولو أنصفوا ... ما كنت إلا فى صميم الفؤاد
خليفة الله اصطبر واحتسب ... فما وهى البيت وأنت العماد
فى العلم [1] والحلم بكم يقتدى ... إذا دجا الخطب وضلّ الرشاد
وأنت لجّ البحر ما ضرّه ... أن سال من بعض نواحيه واد
ولما مات الإخشيد محمد بن طغج رثاه جماعة من الشعراء منهم محمد بن الحسن ابن زكريا فقال:
__________
[1] كذا فى ديوان ابن النبيه طبع مصر. وفى الأصلين: «فالعلم والحلم» .(5/185)
فى الرزايا روائع الأوجال ... والبرايا دريئة الأجال
وكذا الليل والنهار اعتبار ... للورى فى تفكّر الأحوال
كلّ شىء وإن تمادى مداه ... قصره للفناء أو للزّوال
وأرى كلّ عيشة لأناس ... كونها مؤذن بوشك انتقال
كل ذى جدّة- إذا ما الجديدا ... ن ألّحا عليه- مود بال
ما لخلق من المنون مفرّ ... لا ولا دون بطشها من مآل
كان [1] غيث الأيّام إن أخلف الغي ... ث أطلّت سحابه بانهمال
فجعتنا بواهب لا نراه ... يخلق الوجه عنده بابتذال
فجعتنا ببهجة الأرض فى الأر ... ض وشمس الضّحى وبدر اللّيالى
فجعتنا بمن حمى حرمة الإس ... لام من حادث ومن ختّال
فجعتنا بالباسل البطل السا ... مى غداة الوغى إلى الأبطال
فجعتنا بالواهب المجزل المر ... تاح حين السؤال للسّؤال
عجب إذ دنت إليه المنايا ... وحمى عزّه المنيع العالى
أين من يشترى المدائح والشك ... ر بأسنى وفر وأوفى نوال
قطع الموت وصلنا منه كرها ... والردى قاطع لكل اتّصال
رحمة الله والسلام عليه ... فى الضّحى والعشاء والاصال
وسقى الله حفرة ضمّنته ... شكر واه من الحيا هطّال
ثم خرج من الرثاء إلى مدح ابنه فقال:
إن خبا بدره فقد لاح للأمّ ... ة لمّا خبا طلوع الهلال
نوره مشرق مضىء مدى الده ... ر منير وليس ذا اضمحلال
__________
[1] فى الأصول: «كل» .(5/186)
وقال أبو الطيب المتنبّى يرثيه:
هو الزمان مشتّ بالذى جمعا ... فى كل يوم نرى من صرفه بدعا
لو كان ممتنع تغنيه منعته ... لم يصنع الدهر بالإخشيد ما صنعا
ذاق الحمام فلم تدفع كتائبه ... عنه القضاء ولا أغناه ما جمعا
لقد نعى من نعاه كلّ مفتخر ... وكلّ جود لأهل الأرض حين نعى
لله ما حلّ بالإسلام حين ثوى! ... لقد وهى شعب هذا الدّين فآنصدعا
فمن تراه يقود الخيل ساهمة ... سدّ الفضاء وملء الأرض ما وسعا
ترى الحتوف غلوقا فى أسنّته ... لدى الوغى وشهاب الموت قد لمعا
لو كان يسطيع قبر ضمّه لسعى ... إليه شوقا ليلقاه وإن شسعا
فليعجب الناس من لحد تضمّن من ... تضمّن الرزق بعد الله فاضطلعا
لو يعلم اللحد ما قد ضمّ من كرم ... ومن فخار ومن نعماء لاتّسعا
يا لحده إن تضق عنه فلا عجب ... فيه الحجا والنّهى والبأس قد جمعا
يا لحد طل إنّ فيك البحر محتبسا ... واللّيث منهصرا والجود مجتمعا
يا يومه لم تخصّ الفجع أسرته ... كلّ الورى بردى الإخشيد قد فجعا
يا يومه لم تدع صبرا لمصطبر ... ولم تدع مدمعا إلا وقد دمعا
اردى الرّفاق ردى الإخشيد فآنقرضوا ... فما ترى منهم فى الأرض منتجعا
يأيها الملك المخلى مجالسه ... أحميت أعيننا الإغماض فامتنعا
ومنها:
لئن مضيت حميد الأمر مفتقدا ... لقد تركت حميد الأمر متّبعا
ثم خرج من الرثاء إلى مدح ولد الإخشيد:
ثبت الجنان فلا نكس ولا ورع ... تلقاه مؤتزرا بالحزم مدّرعا(5/187)
أعطت أبا القاسم الأملاك بيعتها ... ولو أبت أخذت أسيافه البيعا
وانقاد أعداؤه ذلّا لهيبته ... وظلّ متبوعهم من خوفه تبعا
أضحت به همم الغلمان عالية ... كأنّ مولاهم الإخشيد قد رجعا
وقال مهلهل بن يموت يرثيه أيضا:
أىّ عزّ مضى من الإسلام! ... أىّ ركن أضحى حديث انهدام!
ذاق موتا محمد بن طغج ... هو ليث الشّرى وغيث الغمام
فقد الناس مولى الإنعام ... فهم سائمون كالأنعام
مات ربّ العلا وراعى الرعايا ... والسرايا وكافل الأيتام
أين ما كنت فيه من عزّك البا ... ذخ والمرتقى عزيز المرام!
أين ذاك الحجاب والملك والهي ... بة أين الزّحام وقت الزّحام!
من أمير وقائد وخطير ... ورئيس وماجد وهمام
كلّهم مطرق لديك من الهي ... بة خوف الإجلال والإعظام
أين تلك الخيام حولك إن عرّ ... ست والأسد حول تلك الخيام
من عديد وعدّة لك ما بي ... ن قعود فيها وبين قيام
لم يطق جمعهم دفاع الرّدى عن ... ك ولم يمنعوك منع اعتصام
أسلمتك الخيول قسرا وقد كن ... ت عليها سورا على الإسلام
خانك السيف وهو يصدر عن أم ... رك مستعديا بغير احتجام
خذل الرمح وهو عونك لوحا ... ن لقاء وثار نقع قتام
لم تردّ القسىّ عنك سهام ال ... حتف والحتف عندها فى السهام
ما وقتك الحراب حرب المنايا ... حين وافاك جيشها من أمام(5/188)
لم يحصّنك ما اقتنيت من الآ ... لات من جوشن ولا من لام [1]
حكم الموت فيك من بعد ما كن ... ت ترى حاكما على الحكّام
فقدتك الفسطاط وجدا مدى الده ... ر ومن بعدها بلاد الشام
فجعت يثرب ومكّة والبي ... ت إلى زمزم أجل والمقام
عمّ فيك المصاب فاشترك العا ... لم فى الرّزء منه والآلام
حسبنا الله عزّ من حكم يج ... رى على الحاكمين بالأحكام
كلّ شىء إلى زوال، ومن ذا ... نال ملك الدنيا بغير اخترام
أين أين الملوك فى سالف الدّه ... ر دهتهم حوادث الأيّام
أين من قد كانوا يخافون فى البأ ... س ويرجون للعطايا الجسام
ليس يبقى إلا الإله تعالى ... من له الملك ثابتا بالدّوام
أيّهذا الأمير بل يا أبا القا ... سم يابن السّميدع القمقام
ارض حكم الإله فى الملك الما ... ضى وسلّم لنافذ الأحكام
وهناك الذى بلغت من الأم ... ر وما حزته بحسن انتظام
ما كمثل الذى رزئت ولا مث ... ل الذى قد ملكت فى ذا العام
أنت مثل الإخشيد فانهض بما ملّ ... كت بالجدّ منك والإعتزام
وقال بعض الشعراء يرثى الوزير يعقوب بن كلّس وزير العزيز بن المعزّ خليفة مصر:
إن التصبر فى الأمور جميل ... إلا عليك فما إليه سبيل
يا حاملا ثقل العلا وكأنه ... لعلوّ همّته بها محمول
يا واهبا فوق المنى وكأنه ... لسخائه مما يجود بخيل
__________
[1] لام: مخفف «لأم» جمع «لأمة» وهى الدرع.(5/189)
جاء منها:
يا ترب لا تأكل لسانا طالما ... والى به التحميد والتهليل
يا ترب لا تعنف بكفّ طالما ... قد كان يؤلم ظهرها التقبيل
ومنها:
يا دهر تعلم ما جنيت على الورى؟! ... خطب لعمرك إن علمت جليل
ما كان ضرّك لو مهلت بمثله ... يا دهر إنك بعدها لعجول
ومن المراثى المشهورة التى عنى بها، واتصلت أسباب الشارحين بسببها، المرثية العبدونيّة التى نظمها الوزير الكاتب أبو محمد عبد المجيد بن عبدون يرثى بها بنى مسلمة المعروفين ببنى الأفطس، وهى من أمهات القصائد ووسائط القلائد؛ فإنه ذكر فيها عدّة من مشاهير الملوك والخلفاء والأكابر ممن أبادهم الدهر بحوادثه ونكباته، ووثب عليهم الزمن فما وجدوا جنّة تقيهم من وثباته؛ ودبّت [عليهم [1]] الأيام بصروفها، وسقتهم المنيّة بكأس حتوفها. وها نحن نذكرها ونزيدها تبيانا بشرح من استبهمت أخباره، وخفيت على المطالع آثاره.
وأوّل القصيدة:
الدّهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصّور
أنهاك أنهاك لا آلوك معذرة ... عن وقفة بين ناب الليث والظّفر
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة ... فالبيض والسّمر مثل البيض والسّمر
ولا هوادة بين الرأس تأخذه ... يد الضّراب وبين الصارم الذّكر
فلا تغرّنك من دنياك نومتها ... فما صناعة عينيها سوى السّهر
__________
[1] زيادة يقتضيها السياق.(5/190)
ما للّيالى- أقال الله عثرتنا ... من اللّيالى وخانتها يد الغير-
فى كلّ حين لها فى كلّ جارحة ... منّا جراح وإن زاغت عن البصر
تسرّ بالشىء لكن كى تغرّ به ... كالأيم [1] ثار إلى الجانى من الثمر
كم دولة وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها! وسل ذكراك من خبر
هوت «بدار:» وفلّت غرب قاتله ... وكان عضبا على الأملاك ذا أثر
«دارا» الذى ذكره هو دارا بن دارا آخر ملوك الفرس؛ وقاتله الإسكندر.
وسنذكر إن شاء الله أخبارهما فى فنّ التاريخ.
واسترجعت من بنى ساسان ما وهبت ... ولم تدع لبنى يونان من أثر
«بنو ساسان» هم الفرس الأخر ولهم دولة مشهورة انقرضت فى الإسلام.
و «بنو يونان» أيضا من الملوك أرباب الدول المشهورة، ومن مشاهير ملوكهم الإسكندر بن فيلبس. وسترد إن شاء الله أخبارهم.
وأتبعت أختها طسما، وعاد على ... عاد وجرهم منها ناقض المرر
أخت «طسم» جديس، وهما أبناء عمّ كثر نسلهما وهم العرب العاربة.
وسنذكر أخبارهما إن شاء الله فى وقائع العرب. و «عاد» هم قوم هود. و «جرهم» هو ابن عوف بن زهير بن أنس بن الهميسع بن حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب ابن يعرب بن قحطان، وقيل: إن العمالقة من ولد جرهم. أراد بذكرهم أنهم كلّهم أبادهم الموت.
وما أقالت ذوى الهيئات من يمن ... ولا أجارت ذوى الغايات من مضر
__________
[1] الأيم: الأفعى.(5/191)
«اليمن» كلّهم باتفاق العلماء بالأنساب من ولد قحطان، ومنهم ملوك نذكرهم إن شاء الله فى التاريخ. و «مضر» بن نزار بن معدّ بن عدنان. وقدّ تقدم ذكرهم فى الأنساب.
ومزّقت سبا فى كلّ قاصية ... فما التقى رائح منهم بمبتكر
«سبأ» الذى أشار إليه هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسمه عبد شمس، وإنما قيل فيه سبأ لأنه أوّل من أدخل بلاد اليمن السّبى. وكان له عشرة أولاد سكن الشام منهم أربعة وهم: لخم وغسّان وجذام وعاملة، وسكن اليمن منهم ستة: كندة ومذحج والأزد وأنمار [والأشعر وعمرو [1]] ؛ وقد ذكر الله عزّ وجل تمزيقهم بقوله: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
. وسنذكر أخبار سيل العرم وسدّ مأرب.
وأنفذت فى كليب حكمها ورمت ... مهلهلا بين سمع الأرض والبصر
«كليب» الذى ذكر هو كليب بن ربيعة بن الحارث الذى ضرب به المثل فقيل: «أعزّ من كليب وائل» . وأشار ابن عبدون فى هذا البيت إلى ما كان من قتل جسّاس بن مرّة كليبا وما وقع بين بكر وتغلب من الحروب التى نشرحها إن شاء الله فى وقائع العرب. وقوله: «ورمت مهلهلا بين سمع الأرض والبصر» كأنه أراد ما حكى أنه قتل فى موضع لم يطّلع عليه أحد، وهو مثل؛ يقال: فعل كذا وكذا بين سمع الأرض وبصرها إذا فعله خاليا.
ولم تردّ على الضّلّيل صحّته ... ولا ثنت أسدا عن ربّها حجر
«الضّلّيل» الذى أشار إليه هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو، والحارث هو آكل المرار؛ وسمّى امرؤ القيس بالضلّيل لأنه ترك ملكه وتوجّه إلى قيصر يطلب منه
__________
[1] التكملة عن قلائد الجمان فى التعريف بقبائل عرب الزمان للعلامة القلقشندى مؤلف كتاب صبح الأعشى. وفى الأصل بيان.(5/192)
جيشا يأخذ به ثأر أبيه من بنى أسد. وإشارته إلى الصحّة لقول امرئ القيس فى قصيدته السينيّة:
وبدّلت قرحا داميا بعد صحّة ... لعلّ منايانا تحوّلن أبؤسا
لقد طمح الطمّاح من بعد أرضه ... ليلبسنى من دائه ما تلبّسا
و «الطّماح» رجل من بنى أسد أرسله قيصر إلى امرئ القيس بحلّة مسمومة، فلما لبسها تقطّع ومات بأنقرة. وإشارته إلى أسد لأن بنى أسد كانوا قتلوا حجر ابن الحارث يوم ماقط.
ودوّخت آل ذبيان وإخوتهم ... عبسا وعضّت بنى بدر على النّهر
أشار إلى ما كان بين عبس وذبيان من الحروب بسبب داحس والغبراء.
وسير ذلك فى وقائع العرب إن شاء الله تعالى.
وألحقت بعدىّ بالعراق على ... يد ابنه أحمر العينين والشّعر
أراد عدىّ بن أيوب بن زيد مناة بن تميم الشاعر. وأحمر العينين والشعر هو النّعمان بن المنذر. وكان عدىّ هذا ترجمانا لأبرويز وكاتبه بالعربيّة، فلما مات قابوس بن المنذر تلطّف عدىّ وتحيّل على أبرويز حتى ولّى النعمان إمرة العرب وقدّمه على إخوته وكان أدمّهم، ثم اتهمه النعمان أنه وشى به فاحتال عليه حتى ظفر به وحبسه ثم قتله بالعراق؛ فتلطّف ابنه زيد بن عدىّ وتوصّل حتى خدم أبرويز على عادة أبيه، وأوقع بين أبرويز والنعمان حتى قتله أبرويز، على ما يرد إن شاء الله تعالى فى التاريخ. والله أعلم.
وأشرفت بخبيب فوق فارعة ... وألصقت طلحة الفيّاض بالعفر
أشار إلى خبيب بن عدىّ الأنصارىّ وهو بدرىّ وأسر فى السريّة التى خرج فيها مرثد بن أبى مرثد فانطلق به المشركون إلى مكّة واشتراه حجر بن إهاب التميمىّ(5/193)
حليف بنى نوفل لعقبة بن الحارث بن نوفل ليقتله بأبيه، وكان خبيب قتل الحارث أبا عقبة يوم بدر، فصلبه عقبة على خشبة بالتّنعيم وقتله. وطلحة الفيّاض هو طلحة ابن عبد الله التميمىّ أحد العشرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل يوم الجمل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ومزّقت جعفرا بالبيض، واختلست ... من غيله حمزة الظّلام للجزر
«جعفر» الذى ذكره هو جعفر بن أبى طالب أخو علىّ رضى الله عنهما قتل فى غزوة مؤتة. «حمزة» هو ابن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل يوم أحد قتله وحشىّ غلام جبير بن مطعم؛ وجعله ظلّاما للجزر وصفه بالكرم.
وبلّغت يزدجرد الصّين واختزلت ... عنه سوى الفرس جمع التّرك والخزر
ولم تردّ مواضى رستم وقنا ... ذى حاجب عنه سعدا فى ابنة الغير
«يزدجرد» الذى ذكر هو ابن شهريار آخر الملوك الساسانيّة. ورستم هو الأرمينىّ وهو الذى قاتل سعد بن أبى وقّاص وقتل يوم القادسيّة، على ما ياتى شرح ذلك فى مواضعه إن شاء الله تعالى.
وخضّبت شيب عثمان دما، وخطت ... إلى الزبير، ولم تستحى من عمر
أشار فى هذا البيت إلى مقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والزبير بن العوّام رضى الله عنهم. وسترد إن شاء الله أخبارهم.
وما رعت لأبى اليقظان صحبته ... ولم تزوّده إلا الضّيح فى الغمر
«أبو اليقظان» هو عمّار بن ياسر العنسىّ قتل بصفّين وكان مع علىّ؛ وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» . ولما قتل كانت الراية يومئذ بيده فعطش فدعا بشربة من الماء فأتى بضيحة [1] فشربها ثم قال: أخبرنى
__________
[1] الضيحة: الشربة من الضياح أو الضيح بالفتح فيهما وهو اللبن الرقيق الممزوج بالماء.(5/194)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللّبن آخر شربة أشربها فى الدنيا؛ فقتل يومئذ رضى الله عنه.
وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن ... وأمكنت من حسين راحتى شمر
أشقاها هو عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ قاتل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ، أشقاها الذى يخضب هذه من هذه» وأشار إلى لحية علىّ ورأسه. والحسين الذى ذكره هو الحسين بن علىّ. وشمر هو شمر ابن ذى الجوشن وهو الذى أرسله عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد يحرّضه على قتل الحسين؛ وقيل: إن شمرا لم يباشر قتل الحسين، والذى قتله سنان بن [1] أنس النّخعى، وشمر فهو المجهز والمحرّض على قتله، فلذلك ذكره.
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليّا بمن شاءت من البشر
عمرو الذى أشار إليه هو عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب، أمير مصر لمعاوية بن أبى سفيان. وخارجة رجل من سهم بن عمرو. وكان من خبره أن الخوارج كانت قد اجتمعت على قتل علىّ ومعاوية وعمرو، فكان الذى انتدب لقتل عمرو زادويه مولى بنى العنبر، ورصده إلى ليلة المعاد التى اتفقوا على الفتك بهم فيها؛ فاشتكى عمرو تلك الليلة من بطنه ولم يخرج للصلاة واستخلف خارجة ليصلّى بالناس؛ فلما قام فى المحراب وثب عليه زادويه وهو يظن أنه عمرو بن العاص فقتله؛ وأخذ زادويه وأدخل على عمرو، فسمع الناس
__________
[1] كذا فى الطبرى طبع أوربا (ق 2 ص 362، 366، 367) وابن الأثير طبع أوربا (ج 4 ص 66- 68) . وفى الأصل: «ابن أبى أنس» .(5/195)
يخاطبونه بالإمرة، فقال: أو ما قتلت عمرا؟ قيل له: [لا [1]] إنما قتلت خارجة؛ فقال:
«أردت عمرا وأراد الله خارجة» . فلذلك قال:
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة
وفى ابن هند وفى ابن المصطفى حسن ... أتت بمعضلة الألباب والفكر
فبعضنا قائل ما اغتاله أحد ... وبعضنا ساكت لم يؤت من حصر
ابن هند الذى أشار إليه هو معاوية بن أبى سفيان، أراد ما كان بينه وبين الحسن بن علىّ فى أمر الخلافة. وأراد بالبيت الثانى ما وقع الاختلاف فيه من أن الحسن مات مسموما وأنّ معاوية وعد زوجة الحسن جعدة بنت قيس الكندىّ بمائة ألف درهم ويزوّجها لابنه يزيد إن قتلت الحسن، ففعلت وسمّته. ولما مات الحسن وفّى لها بالمال وقال: حبّ حياة يزيد منعنى تزويجه منك؛ وقيل: مات الحسن حتف أنفه. والله أعلم.
وعمّمت بالرّدى فودى أبى أنس ... ولم تردّ الردى عنه قنا زفر
أبو أنس هو الضحاك بن قيس الفهرى. يشير إلى ما وقع بينه وبين مروان ابن الحكم بمرج راهط، وكان الضحاك يدعو لابن الزبير فقتل الضحّاك، على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار مروان. وكان زفر بن الحارث الكلابىّ مع الضحّاك ففرّ عنه.
وأردت ابن زياد بالحسين فلم ... يبؤ بشسع له قد طاح أو ظفر
أشار إلى عبيد الله بن زياد ابن أبيه عامل يزيد بن معاوية على العراق، وهو الذى جهّز عمر بن سعد لحرب الحسين بن علىّ رضى الله عنهما. وقوله «يبؤ بشسع له» أخذه من قول مهلهل حين قتل يجير بن الحارث وقال: بؤبشسع نعل كليب.
__________
[1] زيادة من شرح القصيدة العبدونية لابن بدرون، طبع ليدن سنة 1846 م.(5/196)
وأنزلت مصعبا من رأس شاهقة ... كانت به مهجة المختار فى وزر [1]
أشار إلى مصعب بن الزبير بن العوّام وقتله. والشاهقة هى الكوفة. جعلها شاهقة لمنعتها وكثرة رجالها. وأراد ما كان بين مصعب وعبد الملك بن مروان من الحرب التى قتل فيها مصعب. والمختار الذى ذكره هو المختار بن أبى عبيد بن مسعود ابن عمرو الثّقفىّ. أشار إلى ما كان بينه وبين مصعب من الحرب وقتل المختار.
وسنورد كلّ هذه الوقائع إن شاء الله فى التاريخ.
ولم تراقب مكان ابن الزبير ولا ... راعت عياذته بالبيت والحجر
أراد عبد الله بن الزبير، وكان يسمّى العائذ لأنه كان يقول: أنا العائذ بالبيت، وقتله الحجّاج بن يوسف الثقفىّ لما وجّهه عبد الملك لحربه.
ولم تدع لأبى الذّبّان قاضيه ... ليس اللّطيم لها عمرو بمنتصر
أبو الذّبّان هو عبد الملك بن مروان بن الحكم، سمّى بذلك لبخره. وقوله «قاضيه» لأنه كان مظفّرا على أعدائه فإنه غلب من كان يناوئه فى سلطانه مثل عبد الله ومصعب ابنى الزبير، وعمرو بن سعيد، وعبد الرحمن بن الأشعث، ما منهم إلا من قتل وحكم فيه قاضيه وهو سيفه، ولم يغن ذلك عنه لمّا أتته منيّته.
وأما اللّطيم فهو عمرو بن سعيد الأشدق، سمّى بذلك لميل كان فى فمه فقيل له من أجله لطيم الشيطان، وقتله عبد الملك بن مروان.
وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر
الوليد هذا هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو الذى يقال له الجبّار العنيد. أشار إلى ظفر يزيد بن الوليد بن عبد الملك به وقتله. و [قوله [2]] :
__________
[1] الوزر: الملجأ والمعتصم.
[2] من عادته أن يذكر هذه الكلمة. فلعلها سقطت من الناسخ.(5/197)
.............. .... ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر
أراد بذلك ما كان عليه الوليد من الاشتهار باللهو واللّعب.
ولم تعد قضب السفّاح نابية ... عن رأس مروان أو أشياعه الفجر
السفّاح هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس، وهو أوّل خلفاء الدولة العباسيّة. يشير إلى ظفره بمروان بن محمد وقتله، وانقراض دولة بنى أميّة وقتلهم على يديه.
وأسبلت عبرات للعيون على ... دم بفخّ [1] لآل المصطفى هدر
أشار فى هذا البيت إلى ذكر من قتل بفخّ وهم الحسين بن علىّ بن حسن بن حسن بن على، والحسن بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علىّ، وعبد الله بن إسحاق ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، على ما نذكره فى التاريخ إن شاء الله تعالى.
وأشرقت جعفرا والفضل ينظره ... والشيخ يحيى بريق الصارم الذّكر
أشار فى هذا البيت إلى قتل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك ونكبة البرامكة فى أيام الرشيد.
وأخفرت فى الأمين العهد، وانتدبت [2] ... لجعفر بآبنه والأعبد الغدر
الأمين هو محمد بن هارون الرشيد. يشير إلى ما كان بينه وبين أخيه المأمون وإلى العهد الذى كان الرشيد كتبه بينهما. وجعفر الذى أشار إليه هاهنا هو المتوكل ابن المعتصم. أراد ما كان من قتل باغر التركى له بمواطأة من ابنه المنتصر، على ما نورده فى أخباره.
وروّعت كلّ مأمون ومؤتمن ... وأسلمت كلّ منصور ومنتصر
__________
[1] فخ: واد بمكة.
[2] كذا فى شرح القصيدة العبدونية لأبن بدرون. وفى الأصل: «وانتبدت» .(5/198)
المأمون هو عبد الله بن الرشيد وهو أوّل من لقّب بالمأمون، ولقّب به بعد ذلك ولد من أولاد المعتمد بن عبّاد ويحيى بن ذى النون صاحب طليطلة. والمؤتمن فأوّل من لقب به مروان بن الحكم على قول من يقول إنه كان لبنى أميّة ألقاب، ثم لقّب به القاسم بن الرشيد. وكان الرشيد لما كتب العهد بين الأمين والمأمون جعل ابنه المؤتمن بعد المأمون، وجعل أمر المؤتمن إلى اخيه المأمون إذا أفضت الخلافة إليه إن شاء أمضاه وإن شاء خلعه؛ فلما أفضت الخلافة إلى المأمون أزال المؤتمن فارتاع لذلك. وتلقّب بالمؤتمن محمد بن ياقوت مولى المعتضد صاحب فارس. وتلقّب به سلامة الطّولونى، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبى عامر ثم تسمّى بالمنصور. وأما المنصور فأوّل من لقّب به هشام بن عبد الملك بن مروان على تلك الرواية، ثم المنصور أبو جعفر عبد الله بن علىّ العباسى، ثم أبو طاهر إسماعيل ابن القائم بن المهدى صاحب إفريقيّة، ثم محمد بن أبى عامر بالأندلس، وتلقّب به ابن زيرى الصّنهاجى، وتلقّب به سابور صاحب بطليوس، وعبد الله بن محمد ابن مسلمة التّجيبىّ، وحفيده يحيى بن محمد بن عبد الله، وعبد العزيز بن أبى عامر؛ ثم تلقّب به جماعة من الملوك بعد نظم هذه المرثية. وأما المنتصر فهو محمد ابن المتوكّل؛ وممّن تلقّب بالمنتصر مدرار بن اليسع صاحب سجلماسة. وكلّ هؤلاء أبادهم الموت.
وأعثرت آل عبّاس- لعا لهم- ... بذيل زبّاء [1] من بيض ومن سمر
أشار فى هذا البيت إلى ما كان من تغلّب الأتراك والدّيلم على خلفاء الدولة العباسيّة حتى لم يبق لهم إلا اسم الخلافة، على ما سيرد فى أخبارهم. وقوله:
__________
[1] الزباء: الداهية الشديدة.(5/199)
بذيل زباء من بيض ومن سمر
تنبيها على كثرة عدد المتغلّبين على الأمر وقدرتهم على السّلاح.
ولا وفت بعهود المستعين ولا ... بما تأكّد للمعتزّ من مرر
المستعين هو أحمد بن المعتصم العبّاسى. أشار إلى ما كان من قيام المعتزّ على المستعين وهرب المستعين من سامرّا إلى بغداد. والمعتزّ هو أبو عبد الله محمد بن المتوكّل، وسترد أخبارهم إن شاء الله تعالى:
وأوثقت فى عراها كلّ معتمد ... وأشرقت بقذاها كلّ مقتدر
المعتمد هو أبو العباس بن المتوكّل، وهو أوّل من لقّب بهذا اللقب، وتلقّب به محمد بن عبّاد بإشبيلية. والمقتدر هو أبو الفضل جعفر بن المعتضد، وهو أوّل من لقّب بالمقتدر، ثم لقّب به أحمد بن سليمان بن هود الجذامىّ بسرقسطة. ثم أخذ ابن عبدون فى رثاء بنى الأفطس فقال:
بنى المظفّر والأيّام ما برحت ... مراحلا والورى منها على سفر
سحقا ليومكم يوما ولا حملت ... بمثله ليلة فى مقبل العمر
من للأسرّة أو من للأعنّة أو ... من للأسنّة يهديها إلى الثّغر
من للبراعة أو من لليراعة أو ... من للسماحة أو للنفع والضّرر
أو رفع كارثة أو دفع آزفة ... أو قمع حادثة تعيا على القدر
من للظّبى [1] وعوالى الخطّ قد عقدت ... أطراف ألسنها بالعىّ والحصر
وطوّقت بالثنايا [2] السّود بيضهم ... أعجب بذاك وما منها سوى ذكر
__________
[1] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «من للعدى ... » .
[2] كذا فى شرح ابن بدرون طبع ليدن سنة 1846. وفى الأصلين: «فطرّفت بالثنايا ... » . ولعل المراد بالثنايا ما يعلو السيوف من الصدأ لإهمالها بعد موت أصحابها. وفى هامش شرح ابن بدرون إشارة الى أنه فى نسخة أخرى «وطوّقت بالمنايا السود ... » الخ.(5/200)
ويح السّماح وويح الجود لو سلما ... وحسرة الدّين والدّنيا على عمر
سقت ثرى الفضل والعبّاس هامية ... تعزى إليهم سماحا لا إلى المطر
ثلاثة ما ارتقى [1] النّسران حيث رقوا ... وكلّ ما طار من نسر ولم يطر
ثلاثة ما رأى العصران مثلهم ... فضلا ولو عزّزا بالشمس والقمر
ومرّ من كل شىء فيه أطيبه ... حتى التمتع بالآصال والبكر
من للجلال الذى عمّت مهابته [2] ... قلوبنا وعيون الأنجم الزّهر
أين الإباء الذى أرسوا قواعده ... على دعائم من عزّ ومن ظفر
أين الوفاء الذى أصفوا مشاربه ... فلم يرد أحد منها على كدر
كانوا رواسى أرض الله منذ نأوا ... عنها استطارت بمن فيها ولم تقر
كانوا مصابيحها فمذ خبوا غبرت ... هذى الخليقة يالله فى سدر
كانوا شجا الدهر فاستهوتهم خدع ... منه بأحلام عاد فى خطا الخضر
من لى ولا من بهم إن أطبقت محن ... ولم يكن وردها يفضى إلى صدر
من لى ولا من بهم إن أظلمت نوب ... ولم يكن ليلها يفضى إلى سحر
من لى ولا من بهم إن عطّلت سنن ... وأخفتت ألسن الأيام والسّير
على الفضائل إلّا الصبر بعدهم ... سلام مرتقب للأجر [3] منتظر
يرجو عسى، وله فى أختها طمع ... والدّهر ذو عقب شتّى وذو غير،
قرّطت آذان من فيها بفاضحة ... على [4] الحسان حصى الياقوت والدّرر
__________
[1] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «رقا» .
[2] فى شرح ابن بدرون: «غضت مهابته» .
[3] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «مرتقب للأمر ... » .
[4] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «من الحسان ... » .(5/201)
ومن أجود الرثاء وأصنعه وأتقنه وأبدعه مراثى أبى تمام حبيب بن أوس الطائى؛ فمن ذلك ما قاله يرثى به غالب بن السّعدىّ:
هو الدّهر لا يشوى وهنّ المصائب ... وأكثر آمال الرّجال كواذب
فيا غالبا لا غالب لرزيّة ... بل الموت لا شك الذى هو غالب
وقلت: أخى، قالوا: أخ من قرابة؟ ... فقلت لهم إن الشّكول أقارب
نسيبى فى رأى وعزم ومنصب [1] ... وإن باعدتنا فى الأصول المناسب
كأن لم يقل يوما: كأنّ، فتنثنى ... إلى قوله الأسماع وهى رواغب [2]
ولم يصدع النادى بلفظة فيصل ... سنانيّة فى صفحتيها التّجارب [3]
ومنها:
مضى صاحبى واستخلف البثّ والأسى ... علىّ، فلى من ذا وهذاك صاحب
عجبت لصبرى بعده وهو ميّت ... وكنت امرأ أبكى دما وهو غائب
على أنّها الأيام قد صرن كلّها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
وقال يرثى محمد بن الفضل الحميرىّ:
ريب دهر أصمّ دون العتاب ... مرصد بالأوجال والأوصاب
جفّ درّ الدنيا فقد أصبحت تك ... تال أرواحنا بغير حساب
لو بدت سافرا أهينت ولكن ... شغف الخلق أنّها فى النّقاب
إن ريب الزمان يحسن أن يه ... دى الرّزايا إلى ذوى الأحساب
فلهذا يجفّ بعد اخضرار ... قبل روض الوهاد روض الرّوابى
__________
[1] فى ديوان أبى تمام: «ومذهب» .
[2] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «وهى لواعب» .
[3] فى الديوان:
ولم يصدع النادى بخطبة فيصل ... سنانية قد دربتها التجارب
وقال فى الأصل: ويروى، ثم وضع تحت بعض الكلمات ما هو مذكور فى رواية الديوان.(5/202)
جاء منها:
ذهبت يا محمد الغرّ من أيّ ... امك الواضحات أىّ ذهاب
عبّس اللحد والثرى منك وجها ... غير ما عابس ولا قطّاب
أطفأ اللحد والثرى لبّك المس ... روج فى وقت ظلمة الألباب
وتبدّلت منزلا ظاهر الجد ... ب يسمّى مقطّع الأسباب
منزلا موحشا وإن كان معمو ... را بجلّ الصديق والأحباب
يا شهابا خبا لآل عبيد الله ... أعزز بفقد هذا الشّهاب
ومنها:
أنزلته الأيّام عن ظهرها من ... بعد إثبات رجله فى الرّكاب
حين تمّ الشّباب [1] واغتدت الدن ... يا إليه مفتوحة الأبواب
وحكى الصارم المحلّى سوى أنّ ... حلاه جواهر الآداب
قصدت نحوه المنيّة حتى ... وهبت حسن وجهه للتراب
وقال يرثى إسحاق بن أبى ربعىّ:
أىّ ندى بين الثرى والجيوب [2] ... وسؤدد لدن ورأى صليب
يا بن أبى ربعىّ استقبلت ... من يومك الدنيا بيوم عصيب
شقّ جيوبا من أناس لو اس ... تطاعوا لشقّوا ما وراء الجيوب
كنت على البعد قريبا فقد ... صرت على قربك غير القريب
راحت وفود الأرض عن قبره ... فارغة الأيدى ملاء القلوب
قد علمت ما رزئت، إنما ... يعرف فقد الشّمس بعد المغيب
__________
[1] فى الديوان: «سامى الشباب» .
[2] كذا فى الأصل. وفى بعض نسخ الديوان: «الجنوب» وفى بعض آخر: «الجبوب» .
والجبوب: الأرض الغليظة.(5/203)
إذا البعيد الوطن انتابه ... حلّ إلى نهى وواد خصيب
أدنته أيدى العيس من ساحة ... كأنها مسقط رأس الغريب
أظلمت الآمال من بعده ... وعرّيت من كل حسن وطيب
كانت خدودا صقلت برهة [1] ... واليوم صارت مألفا للشّحوب
كم حاجة صارت ركوبا به ... ولم تكن من قبله بالرّكوب
حلّ عقاليها كما أطلقت ... من عقد المزنة ريح الجنوب
إذا تيمّمناه فى مطلب ... كان قليبا ورشاء القليب
ونعمة منه تسربلتها ... كأنها طرّة برد قشيب
من اللّواتى إن ونى شاكر ... قامت لمسديها مقام الخطيب
متى تنخ ترحل بتفضيله ... أو غاب يوما حضرت بالمغيب
فما لنا اليوم ولا للعلا ... من بعده غير الأسى والنّحيب
وقال يرثى أحمد بن هارون القرشىّ:
دأب عينى البكاء، والحزن دابى ... فاتركينى- وقيت ما بى- لمابى
سأجزّى بقاء أيام عمرى ... بين بثّى وعبرتى واكتئابى
فيك يا أحمد بن هارون خصّت ... ثم عمّت رزيّتى ومصابى
فجعتنى الأيّام فى الصادق النّط ... ق فتى المكرمات والآداب
بخليل دون الأخلّاء [لا [2]] بل ... صاحبى المصطفى على أصحابى
أفلمّا تسربل المجد واجتا ... ب من الحمد أيّما مجتاب
وتراءته أعين النّاظريه ... قمرا باهرا ورئبال غاب
__________
[1] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «صقلت مرة» .
[2] التكملة عن الديوان(5/204)
وعلا عارضيه ماء النّدى الجا ... رى وماء الحجا وماء الشباب
أرسلت نحوه المنيّة عينا ... قطّعت منه أوثق الأسباب
وقال يرثى أبا الصقر:
لو صحّح الدمع لى أو ناصح الكمد ... لقلّما صحبانى الرّوح والجسد
خان الصفاء أخ خان الزمان له ... أخا فلم يتخوّن جسمه الكمد
تساقط الدمع أدنى ما بليت به ... للوجد إذ لم تساقط مهجة ويد
فو الذى رتكت [1] تطوى الفجاج له ... سفائن البرّ فى خدّ الثرى تخد
لأنفدنّ أسى إن لم أمت أسفا ... وينفد العمر بى أو ينفد الأمد
عنّى إليك فإنى عنك فى شغل ... لى منه يوم سيبلى مهجتى وغد
وإن بجريّة [2] نابت جأرت لها ... إلى ذرى جلدى فاستؤهل الجلد
هى النوائب فاشجى أوفعى عظة ... فإنها شجر [3] أثمارها رشد
هبّى ترى قلقا من تحته أرق ... يحدوهما كمد يعنو [4] له الجسد
صمّاء سمّ العدا فى جنبها ضرب ... وشرب كأس الردى فى ظلّها شهد
هناك أمّ النّهى لم تود من حزن ... ولم تجد لبنى الدنيا بما تجد
لو يعلم الناس علمى بالزمان وما ... عائت يداه لما ربّوا ولا ولدوا
لا يبعد الله ملحودا أقام به ... شخص الحجا وسقاه الواحد الصّمد
يا صاحب القبر، دعوى غير متّئب [5] ... إن قال أودى النّدى والبدر والأسد
__________
[1] رتك (من باب ضرب) : عدا فى مقاربة خطو.
[2] فى الديوان: «وإن بجيرية» بالتصغير، والبجرية: الداهية.
[3] فى الديوان: «فانها فرض» : جمع فرضة وهى موضع الاستقاء.
[4] كذا فى الديوان. ويعنو: يذل ويخضع. وفى الأصل: «يحنو له الجسد» .
[5] متئب: مستح أو منخذل.(5/205)
بات الثرى بأخى جذلان مبتهجا ... وبتّ يحكم فى أجفانى السّهد
لهفى عليك وما لهفى بمجدية ... ما لم يزرك بنفسى حرّ ما أجد
أمسى أبو الصقر يعفو الترب أحسنه ... دونى ودلو الرّدى فى مائه يرد
ويل لأمّك أقصر إنه حدث ... لم يعتقد مثله قلب ولا خلد [1]
غال الزمان شقيق [2] الجود لم يقه ... أهل ولم يفده مال ولا ولد
حين ارتوى الماء وافترّت شبيبته ... عن مضحك للمعالى ثغره برد
وقيل: أحمدها، بل قيل: أمجدها ... بل قيل: أنجدها إن فرّت النّجد
رؤد الشباب كنصل السيف لا جعد ... فى راحتيه ولا فى عوده أود
سقى الحبيس ومحبوسا ببرزخه ... من السّمىّ كغيث الودق يطّرد
بحيث حلّ أبو صقر فودّعه ... صفو الحياة ومن لذّاتها الرّغد
بحيث حلّ فقيد المجد مغتربا ... ومورثا حسرات ليس تفتقد
وقال يرثى عمير بن الوليد:
أعيدى النّوح معولة أعيدى ... وزيدى فى بكائك ثم زيدى
وقومى حاسرا فى حاسرات ... خوامش للنّحور وللخدود
هو الخطب الذى ابتدأ الرّزايا ... وقال لأعين الثّقلين جودى
ألا رزئت خراسان فتاها ... غداة ثوى عمير بن الوليد
ألا رزئت بمسئول منيل ... ألا رزئت بمتلاف مفيد
ألا إنّ النّدى والجود حلّا ... بحيث حللت من حفر الصّعيد
بنفسى أنت من ملك رمته ... منيّته بسهم ردّى سديد
__________
[1] كذا فى الديوان. وفى الأصل «حلد» .
[2] فى الديوان: «رضيع الجود» .(5/206)
تجلّت غمرة الهيجاء عنه ... خضيب الوجه من دمه الجسيد
فيابحر المنون ذهبت منه ... ببحر الجود فى السّنة الصّلود
ويا أسد المنون فرست منه ... غداة فرسته أسد الأسود
أبا لبطل النّجيد فتكت [1] منه ... نعم وبقاتل البطل النّجيد
تراءى للطّعان وقد تراءت ... وجوه الموت من حمر وسود
فيالك وقعة جللا أعادت ... أسى وصبابة جلد الجليد
ويا لك ساعة أهدت غليلا ... الى أكبادنا أبد الأبيد
ألا أبلغ مقالتى الإمام ال ... خليفة والأمين بن الرشيد
بأن أميرنا لم يأل عدلا ... ونصحا فى الرّعايا والجنود
أفاض نوال راحته عليهم ... وسامح بالطّريف وبالتّليد
وأضحى دونهم للموت حتى ... سقاه الموت من مقر هبيد [2]
وما ظفروا به حتى قراهم ... قشاعم أنسر وضباع بيد
بطعن فى نحورهم رشيق ... وضرب فى رءوسهم عتيد
فيا يوم الثلاثاء اصطبحنا ... غداة منك هائلة الورود
ويا يوم الثلاثاء اعتمدنا ... بفقد فيك للسّند العميد
وكم أسخنت فينا من عيون ... وكم أعثرت فينا من جدود
فما زجرت طيورك عن سنيح ... ولا طلعت نجومك بالسّعود
ألا يأيها الملك المردّى ... رداء الموت فى جدث جديد
حضرت فناء بابك واعترانى ... شجى بين المخنّق والوريد
__________
[1] فى الديوان: «فتكت منا» .
[2] المقو: السم أو الصبر أو شبهه. والهبيد: الحنظل.(5/207)
رأيت به مطايا مهملات ... وأفراسا صوافن بالوصيد
فكنت عتاد إما فكّ عان ... وإما قتل طاغية عنود
رأيت مؤمّليك عدت عليهم ... عواد صعّدتهم فى كؤود
وأضحت عند غيرك فى هبوط ... حظوظ كنّ عندك فى صعود
وأصبحت الوفود إليك وقفا ... على أن لا مفاد لمستفيد
فكلّهم أعدّ اليأس وقفا ... عليك ونصّ راحلة القعود
لقد سخنت عيون الجود لمّا ... ثويت وأقصدت غرر القصيد
وقال يرثى محمد بن حميد الطّوسىّ:
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
توفّيت الآمال بعد محمد ... وأصبح فى شغل عن السّفر السّفر
وما كان إلا مال من قلّ ماله ... وذخرا لمن أمسى وليس له ذخر
وما كان يدرى المجتدى جود كفّه ... إذا ما استهلّت أنه خلق العسر
ألا فى سبيل الله من عطّلت له ... فجاج سبيل الله واثّغر الثغر [1]
فتى كلما فاضت عيون قبيلة ... دما ضحكت عنه الأحاديث والذّكر
[فتى دهره شطران فيما ينوبه ... ففى بأسه شطر وفى جوده شطر [2]]
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ... تقوم مقام النّصر إذ فاته النّصر
وما مات حتى مات مضرب سيفه ... من الشّلّ [3] واعتلّت عليه القنا السّمر
وقد كان فوت الموت سهلا فردّه ... عليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنه ... هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر
__________
[1] الإثغار: أن يلقى الصبى ثغره على أسنانه.
[2] زيادة من الديوان.
[3] شل الأعداء بسيفه: طردهم بين يديه. وفى الديوان: «من الضرب» .(5/208)
فأثبت فى مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر
غدا غدوة والحمد نسج رداثه ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر
تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهى من سندس خضر
كأنّ بنى نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر
يعزّون عن ثاو تعزّى به العلا ... ويبكى عليه الجود والبأس والشعر
وأنّى لهم صبر عليه وقد مشى ... إلى الموت حتى استشهدا هو والصّبر!
فتى كان عذب الروح لا عن غضاضة ... ولكنّ كبرا أن يكون له كبر [1]
فتى سلبته الحيل وهو حمى لها ... وبزّته نار الحرب وهو لها جمر
وقد كانت البيض المآثير فى الوغى ... بواتر فهى الآن من بعده بتر
أمن بعد طىّ الحادثات محمدا ... يكون لأثواب العلا أبدا نشر!
[إذا شجرات العرف جذّت أصولها ... ففى أىّ فرع يوجد الورق النّضر! [2]]
لئن أبغض الدهر الخؤن لفقده ... لعهدى به ممّن يحبّ له الدهر
لئن غدرت فى الرّوع أيامه به ... لما زالت الأيام شميتها الغدر
لئن ألبست فيه المصيبة طيئ ... لما عرّيت منها تميم ولا بكر
كذلك ما ننفكّ نفقد هالكا ... يشاركنا فى فقده البدو والحضر
سقى الغيث غيثا وارت الأرض شخصه ... وإن لم يكن فيها سحاب ولا قطر
وكيف احتمالى للسّحاب صنيعة ... بإسقائها قبرا وفى لحده البحر
ثوى فى الثّرى من كان يحيا به الثّرى ... ويغمر صرف الدهر نائله الغمر
__________
[1] رواية الديوان:
فتى كان عذب الروح لا من غضاضة ... ولكن كبرا أن يقال به كبر
[2] زيادة من الديوان.(5/209)
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
عليك سلام الله وقفا فإننى ... رأيت الكريم الحرّ ليس له عمر
وقال يرثى إدريس بن بدر السّامىّ:
دموع أجابت داعى الحزن همّع ... توصّل منا عن قلوب تقطّع
عفاء على الدنيا طويل فإنها ... تفرّق من حيث ابتدت تتجمّع
تبدّلت الأشياء حتى لخلتها ... ستثنى غروب الشمس من حيث تطلع
لها صيحة فى كل روح ومهجة ... وليست لشىء ما خلا القلب تسمع
أإدريس ضاع المجد بعدك كلّه ... ورأى الذى يرجوه بعدك أضيع
وغودر وجه العرف أسود بعد ما ... يرى وهو كالبكر الكعاب تصنّع
وأصبحت الأحزان لا لمبرّة ... تسلّم شزرا والمعالى تودّع
وضلّ بك المرتاد من حيث يهتدى ... وضرّت بك الأيام من حيث تنفع
وأضحت قريحات القلوب من الجوى ... تقيظ [1] ولكن المدامع تربع [2]
عيون حفظن الليل فيك محرّما ... وأعطينك الدمع الذى كان يمنع
وقد كان يدعى لابس الصبر حازما ... فأصبح يدعى حازما حين يجزع
وقالوا عزاء: ليس للموت مدفع ... فقلت: ولا للحزن للمرء مدفع
لإدريس يوم ما تزال لذكره ... دموعى وإن سكّنتها تتفرّع
ولما نضا ثوب الحياة وأوقعت ... به نائبات الدهر ما يتوقّع
غدا ليس يدرى كيف يصنع معدم ... درى دمعه من وجده كيف يصنع
وماتت نفوس الغالبيّين كلهم ... وإلا فصبر الغالبيّين أجمع
__________
[1] تقيظ: يشتد حرها. وفى الأصل والديوان: «تقاظ» .
[2] تربع: تخصب.(5/210)
غدوا فى زوايا نعشه وكأنما ... قريش قريش حين مات مجمّع [1]
ولم أنس سعى الجود خلف سريره ... بأكسف بال يستقيم ويظلع
وتكبيره خمسا عليه معالنا ... وإن كان تكبير المصلّين أربع
وما كنت أدرى يعلم الله قبلها ... بأن النّدى فى أهله يتشيّع
وقمنا فقلنا بعد أن أفرد الثرى ... به ما يقال فى السّحابة تقلع
- هذا مأخوذ من قول مسلم:
فاذهب كما ذهبت غوادى مزنة ... أثنى عليها السهل والأوعار-
ألم تك ترعانا من الدّهر إن سطا ... وتحفظ من أموالنا ما نضيّع
وتبسط كفّا فى الحقوق كأنما ... أناملها فى البأس والجود أذرع
وتلبس أخلاقا كراما كأنها ... على العرض من فرط الحصانة أدرع
وتربط جأشا والكماة قلوبهم ... تزعزع خوفا من قنا تتزعزع
وأمنيّة المرتاد يحضرك النّدى ... فيشفع فى مثل الفلا [2] فيشفّع
فأنطق فيه حامد وهو مفحم ... وأفحم فيه حاسد وهو مصقع
ألا إنّ فى ظفر المنيّة مهجة ... تظلّ لها عين العلا وهى تدمع
هى النفس إن تبك المكارم فقدها ... فمن بين أحشاء المكارم تنزع
ألا إنّ أنفا لم يعد وهو أجدع ... لفقدك عند المكرمات لأجدع
وإن امرأ لم يمس فيك مفجّعا ... بملحوده، فى عقله لمفجّع
وقال يرثى القاسم بن طوق بن مالك:
جوى ساور الأحشاء والقلب واغله ... ودمع يضيم [3] العين والجفن هامله
__________
[1] مجمع: لقب قصى بن كلاب بن مرة وهو الجد الخامس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لقب بذلك لجمعه قريشا للرحلتين: رحلة الصيف ورحلة الشتاء.
[2] فى ديوان أبى تمام:
فيشفع ... فى ملء الملا فيشفع
[3] كذا بالأصل. ولعله محرّف عن «يطم» بمعنى يملا.(5/211)
وفاجع موت لا عدوّ يخافه ... فيبقى، ولا يبقى صديقا يجامله
وأىّ أخى عزّ [1] وذى جبرية ... ينابذه أو أىّ، رام يناضله
إذا ما جرى مجرى دم المرء حكمه ... وبثّت على طرق النفوس حبائله!
فلو شاء هذا الدهر أقصر شرّه ... كما أقصرت عنّا لهاه ونائله
سنشكوه إعلانا وسرّا ونيّة ... شكيّة من لا يستطيع يقاتله
فمن مبلغ عنّى ربيعة أنّه ... تقشّع طلّ الجود عنها ووابله
وأنّ الحجا منها استطارت صدوعه ... وأنّ الندى منها أصيبت مقاتله
مضى للزّيال القاسم الواهب اللهى ... ولو لم يزايلنا لكنّا نزايله
ولم يعلموا أنّ الزمان يريده ... بفجع ولا أنّ المنايا تراسله
ومنها:
طواه الردى طىّ الرّداء وغيبّت ... فضائله عن قومه وفواضله
طوى شيما كانت تروح وتغتدى ... وسائل من أعيت عليه وسائله
فيا عارضا للعرف أقلع مزنه ... ويا واديا للجود [2] جفّت مسايله
وقال يرثى محمد بن حميد وأخاه [3] قحطبة:
بأبى وغير أبى- وذاك قليل- ... ثاو عليه ثرى النّباج مهيل
__________
[1] فى الديوان: «وأى أخى عزاء أو جبرية» .
[2] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «ويا واديا للعرف» .
[3] كذا فى الجزء الثالث من شرح ديوانه لأبى بكر محمد بن يحيى الصولى المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم (573 أرب) وكان محمد هو الأكبر والآخر قحطبة. وفى الأصل: «وقال يرثى محمد بن حميد ويسمى قحطبة، وقيل: فحطبة أخوه» والصحيح ما أثبتناه وهو أن قحطبة أخوه ويؤيد هذا قول أبى تمام من مرثية أخرى يرثى بها بنى حميد الطوسى:
ذكرت أبا نصر بفقد محمد ... وقحطبة ذكرى طويل البلابل
ومنها:
للعمرك ما كانوا ثلاثة إخوة ... ولكنهم كانوا ثلاث قبائل(5/212)
خذلته أسرته كأنّ سراتهم ... جهلوا بأن الخاذل المخذول
أكّال أشلاء الفوارس بالقنا ... أضحى بهنّ وشلوه مأكول
كفّى، فقتل محمد لى شاهد ... أن العزيز مع القضاء ذليل
ومنها:
هيهات لا يأتى الزمان بمثله ... إنّ الزمان بمثله لبخيل
ما أنت بالمقتول صبرا إنّما ... أملى غداة نعيّك المقتول
ومنها:
من ذا يحدّث بالبقاء ضميره! ... هيهات! أنت على الفناء دليل
يا ليت شعرى بالمكارم كلّها ... ماذا، وقد فقدت نداك، تقول؟
ومنها:
يا يوم قحطبة لقد أبقيت لى ... حرقا أرى أيّامها ستطول
ليث لو انّ الليث قام مقامه ... لانصاع [1] وهو يراعة إجفيل
لمّا رأى جمعا قليلا فى الوغى ... وأولو الحفاظ من القليل قليل
لاقى الكريهة وهو مغمد روعه ... فيها ولكن بأسه [2] مسلول
ومشى إلى الموت الزّؤام كأنما ... هو من محبّته إليه خليل
ومنها:
أضحت عراص محمد ومحمد ... وأخيهما وكأنهنّ طلول
أبنى حميد ليس أوّل ما عفا ... بعد الأسود من الأسود الغيل
ما زال ذاك الصبر وهو عليكم ... بالموت فى ظلّ السيوف كفيل
ستبسلون كأنّما مهجاتهم ... ليست لهم إلا غداة تسيل
__________
[1] انصاع: انفتل راجعا مسرعا.
[2] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «ولكن سيفه» .(5/213)
ألفوا المنايا فالقتيل لديهم ... من لم يخلّ [1] العيش وهو قتيل
إن كان ريب الدهر أثكلنيكم ... فالموت أيضا ميّت مثكول
وقال يعزّى مالك بن طوق:
أمالك إنّ الحزن أحلام حالم ... ومهما تدم فالحزن ليس بدائم
امالك إفراط الصبابة تارك ... حنا واعوجاجا فى قناة المكارم
تأمّل رويدا هل تعدّن سالما ... إلى آدم أم هل تعدّ ابن سالم!
متى ترع هذا الموت عينا بصيرة ... تجد عادلا منه شبيها بظالم
فإن تك مفجوعا بأبيض لم تكن ... تشدّ على جدواه عقد التمائم
بفارس دغمىّ وهضبة وائل ... وكوكب عتّاب وحمزة هاشم
شجا الريح فازدادت حنينا لفقده ... وأحدث شجوا فى بكاء الحمائم
فمن قبله ما قد أصيب نبيّنا ... أبو القاسم النور المبين بقاسم
وخبّر قيس بالجليّة فى ابنه ... فلم يتغيّر وجه قيس بن عاصم
وقال علىّ فى التعازى لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم:
أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر، أم تسلو سلوّ البهائم؟
خلقنا رجالا للتجلّد والأسى ... وتلك الغوانى للبكا والمآتم
وأىّ فتى فى الناس أحرض [2] من فتى ... غدافى خفارات الدموع السّواجم
وهل من حكيم ضيّع الصبر بعدما ... رأى الحكماء الصبر ضربة لازم
فلا برحت تسطو ربيعة منكم ... بأرقم عطّاف وراء الأراقم
__________
[1] فى نسخة من الديوان: «من لا تجلى الحرب وهو قتيل» وفى نسخة أخرى منه: «من لم يخل الحرب ... » .
[2] من حرض ككرم: طال همه وسقمه وفسد.(5/214)
فأنت وصنواك الشقيقان إخوة ... خلقتم سعوطا للانوف الرواغم
ثلاثة أركان، وما انهدّ سؤدد ... إذا ثبتت فيه ثلاث دعائم
وقال يرثى عمير بن الوليد:
كفّ الندى أمست بغير بنان ... وقناته أضحت بغير سنان
جبل الجبال غدت عليه ملمّة ... تركته وهو مهدّم الأركان
أنعى عمير بن الوليد لغارة ... بكر من الغارات أو لعوان
أنعى فتى الفتيان غير مكذّب ... قولى، وأنعى فارس الفرسان
عثر الزمان ونائبات صروفه ... بمقيلنا عثرات كلّ زمان
لم يترك الحدثان يوم سطابه ... أحدا نصول به على الحدثان
قد كنت حشو الدرع ثم أراك قد ... أصبحت حشو اللحد والأكفان
شغلت قلوب الناس ثم عيونهم ... مذ متّ بالخفقان والهملان
واستعذبوا الأحزان حتى إنّهم ... يتحاسدون مضاضة الأحزان
ما يرعوى أحد الى أحد ولا ... يشتاق إنسان الى إنسان
أأصاب منك الموت فرصة ساعة ... فعدا عليك وأنتما أخوان!
فمن الذى أبقى ليوم تكرّم ... ومن الذى أبقى ليوم طعان [1] !
وقال يرمى ابنا له:
كان الذى خقت أن يكونا ... إنّا إلى الله راجعونا
أمسى المرجّى أبو علىّ ... موسّدا فى الثرى يمينا
حين استوى وانتهى شبابا ... وحقّق الرأى والظنونا
__________
[1] كذا بالأصل. والذى بالديوان:
فمن الذى يبغى ليوم كريهة ... ومن الذى يدعى ليوم طعان(5/215)
أصبت فيه وكان عندى ... على المصيبات لى معينا
كنت كثيرا به عزيزا ... وكنت صبّا به ضنينا
دافعت إلا المنون عنه ... والمرء لا يدفع المنونا
آخر عهدى به صريعا ... للموت بالداء مستكينا
إذا شكا غصّة وكربا ... لا حظ أو راجع الأنينا
يدير فى رجعه لسانا ... يمنعه الموت أن يبينا
يشخص طورا بناظريه ... وتارة يطبق الجفونا
ثم قضى نحبه وأمسى ... فى جدث للثرى دفينا
باشر برد الثرى بوجه ... قد كان من قبله مصونا
بعيد دار قريب جار ... قد فارق الإلف والقرينا
بنىّ يا واحد البنينا ... غادرتنى مفردا حزينا
هوّن رزئى بك الرزايا ... علىّ فى الناس أجمعينا
آليت أنساك ما تجلّى ... صبح [1] نهار لمصبحينا
وما دعا طائر هديلا ... ورجّعت واله حنينا
تصرّف الدهر بى صروفا ... وعاد لى شأنه شؤونا
وحزّ فى اللحم بل براه ... واجتثّ من طلحتى فنونا
أصاب منّى صميم قلبى ... وخفت أن يقطع الوتينا
والمرء رهن بحالتيه ... فشدّة مرّة ولينا
__________
[1] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «شمس نهار» .(5/216)
ومما قيل فى شواذّ المراثى:
من ذلك ما قالته جليلة بنت مرّة أخت جسّاس زوج كليب لما قتل أخوها جسّاس زوجها كليبا؛ وكان نساء الحىّ لما اجتمعن للمأتم قلن لأخت كليب:
رحّلى جليلة عنك فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب، فقالت لها: أخرجى عن مأتمنا، فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا، فخرجت وهى تجرّ أعطافها؛ فلقيها أبوها مرّة فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد؛ وفقد حليل، وقتل أخ عن قليل؛ وبين ذلك [1] غرس الأحقاد، وتفّتت الأكباد. فقال لها: أو يكفّ ذلك كرم الصّفح وإغلاء الدّيات؟ فقالت جليلة: أمنيّة مخدوع وربّ الكعبة، ابا لبدن تدع لك وائل [2] دم ربّها! قال: ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدى وفراق الشامت! ويل [غدا [3]] لآل مرّة، من الكرّة بعد الكرّة! وبلغ قولها جليلة فقالت: وكيف تشمت الحرّة بهتك سترها وترقّب وترها! [أسعد الله أختى، ألا قالت: نفرة الحياء وخوف الأعداء [3]] ثم أنشأت تقول:
يابنة الأقوام إن لمت فلا ... تعجلى باللوم حتى تسألى
فإذا أنت تبينت الذى ... يوجب اللوم فلومى واعذلى
إن تكن أخت امرئ ليمت على ... جزع منها عليه فافعلى
جلّ عندى فعل جسّاس فيا ... حسرتا عما انجلت أو تنجلى
فعل جسّاس على ضنّى به ... قاطع ظهرى ومدن أجلى
__________
[1] كذا فى الكامل لابن الأثير (ج 1 ص 216 طبعة بلاق) . وفى الأصل: «وبين رزأين:
غرس الأحقاد ... » .
[2] فى الكامل لابن الأثير: «تدع لك تغلب ... » .
[3] زيادة من الكامل لابن الأثير.(5/217)
لو بعين فقئت [1] عين سوى ... أختها وانفقأت لم أحفل
تحمل العين قذى العين كما ... تحمل الأمّ أذى ما تفتلى [2]
إنّنى قاتلة مقتولة ... فلعلّ الله أن يرتاح لى
يا قتيلا قوّض الدهر به ... سقف بيتىّ جميعا من عل
ورمانى فقده [3] من كثب ... رمية المصمى به المستأصل
هدم البيت الذى استحدثته ... وبدا [4] فى هدم بيتى الأوّل
يا نسائى دونكنّ اليوم قد ... خصّنى الدهر برزء معضل
مسّنى فقد كليب بلظى ... من ورائى ولظى مستقبلى
ليس من يبكى ليومين كمن ... إنما يبكى ليوم ينجلى
درك الثائر شافيه وفى [5] ... دركى ثارى ثكل المثكل
ليته كان دمى فاحتلبوا ... دررا منه دما من أكحلى
ولما مات معاوية بن أبى سفيان اجتمع الناس بباب يزيد فلم يقدروا على الجمع بين التهنئة والتعزية، حتى أتى عبد الله بن همّام فقال: يا أمير المؤمنين، أجزل الله أجرك على الرزيّة. وبارك لك فى العطيّة، وأعانك على الرعية؛ فقد رزئت عظيما، وأعطيت جسيما؛ فآشكر الله على ما أعطيت، واصبر على ما رزيت؛ فقد فقدت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله؛ ففارقت جليلا، وأعطيت جزيلا؛ إذ قضى معاوية نحبه؛ ووليت الرياسة، وأعطيت السياسة؛ فأورده الله موارد السرور، ووفّقك فى جميع الأمور:
__________
[1] فى رواية أخرى أشار اليها هامش الأصل: «فديت عين سوى» .
[2] افتلى الصغير: رباه.
[3] فى رواية أشير اليها فى هامش الأصل: «ورمانى قتله ... » .
[4] فى الكامل لابن الأثير (ج 1 ص 389 طبع أوربا) : «وانثنى فى هدم ... » .
[5] فى الكامل لابن الأثير: «يشتفى المدرك بالثأر وفى ... » .(5/218)
فاشكر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذى بالملك حاباكا [1]
[أصبحت تملك هذا الخلق كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا [2]]
لارزء أعظم فى الأقوام قد علموا ... مما رزئت، ولا عقبى كعقباكا
وفى معاوية الباقى لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا
ففتح للناس باب الرثاء وجروا على منواله.
وقال أبو نواس الحسن بن هانىء يعزّى الفضل بن الربيع عن الرشيد ويهنّئه بالأمين:
تعزّ أبا العبّاس عن خير هالك ... بأكرم حىّ كان أو هو كائن
حوادث أيام تدور صروفها ... لهنّ مساو مرّة ومحاسن
وفى الحىّ بالميت الذى غيّب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن
وقال أبو تمام يرثى المعتصم ويهنىء الواثق:
ما للدموع تروم كلّ مرام ... والجفن ثاكل هجعة ومنام
يا حفرة المعصوم تربك مودع ... ماء الحياة وقاتل الإعدام
إن الصفاتح منك قد نضدت على ... ملقى عظام لو علمت عظام
فتق المدامع أن لحدك حلّه ... سكن الزمان وممسك الأيام
ومصرّف الملك الجموح كأنه ... قد زمّ مصعبه له بزمام
هدمت صروف الدهر أرفع حائط ... ضربت دعائمه على الإسلام
دخلت على ملك الملوك رواقه ... وتسرّبت لمقوّم القوّام
__________
[1] رواية الكامل للبرد: (ص 785 طبع ليبزج سنة 1864) :
اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر بلاء الذى بالملك أصفاكا
[2] زيادة من الكامل.(5/219)
مفتاح كلّ مدينة قد أبهمت ... غلقا ومخلى كلّ دار مقام
ومعرّف الخلفاء أنّ حظوظها ... فى حيّز الإسراج والإلجام
أخذ الخلافة عن أسنّته التى ... منعت حمى الآباء والأعمام
فلسورة الأنفال فى ميراثه ... آثارها ولسورة الأنعام
ما دام هارون الخليفة فالهدى ... فى غبطة موصولة بدوام
إنّا رحلنا واثقين بواثق ... بالله شمس ضحى وبدر تمام
لله أىّ حياة انبعثت لنا ... يوم الخميس وبعد أىّ حمام
أودى بخير إمام اضطربت به ... شعب الرجال وقام خير إمام
تلك الرزيّة لا رزيّة مثلها ... والقسم ليس كسائر الأقسام
جاء منها:
نقض كرجع الطّرف قد أبرمته ... يابن الخلائف أيّما إبرام
ما إن رأى الأقوام شمسا قبلها ... أفلت فلم تعقبهم بظلام
أكرم بيومهم الذى ملّكتهم ... فى صدره وبعامهم من عام
ثم أخذ فى مدح الواثق.
وفى هذه الواقعة يقول ابن الزيّات:
قد قلت إذ غيّبوك واصطفقت ... عليك أيد بالتّرب والطين
اذهب فنعم المعين كنت على الد ... نيا ونعم الظهير للدين
لن يجبر الله أمّة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون
ومن أشدّ الرثاء صعوبة على الشاعر وأضيقه مجالا أن يرثى امرأة أو طفلا.
وقد أخذ على المتنبىّ فى قوله يرثى أمّ سيف الدولة بن حمدان:
سلام الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفّن بالجمال(5/220)
وقالوا: ما له ولهذه العجوز يصف جمالها! ووبّخه الصاحب بن عبّاد فى قوله فيها:
رواق العز فوقك مسبطّر ... وملك علىّ ابنك فى كمال
قال أبو الحسن علىّ بن رشيق الأزدى فى كتابه المترجم بالعمدة وبالأغانى [1] أيضا: أشدّ ما هجّن هذه اللفظة وجعلها مقام قصيدة من الهجاء أنه قرنها «بفوقك» فجاء عملا تامّا لم يبق فيه إلا الإفضاء. وإن يكن المتنبى أخطأ فى هذا فلقد أجاد فى غيره؛ والفاضل من عدّت سقطاته، وحفظت هفواته وفلتاته؛ وانظر إلى قوله فى أخت سيف الدولة:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية بهما عن أشرف النسب
أجلّ قدرك أن تدعى مؤنّثة ... ومن يصفك فقد سمّاك للعرب
وقوله أيضا:
ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضّلت النساء على الرجال
مشى الأمراء حوليها حفاة ... كأن المرو من زفّ [2] الرئال
ومن جيّد ما رثى النساء به وأشدّه تأثيرا فى القلب وإثارة للحزن قول ابن عبد الملك ابن الزيّات فى أمّ ولده:
ألا من رأى الطفل المفارق أمّه ... بعيد الكرى عيناه تبتدران
رأى كلّ أمّ وابنها غير أمّه ... يبيتان تحت الليل ينتجيان
وبات وحيدا فى الفراش تحثّه ... بلابل قلب دائم الخفقان
__________
[1] لم يذكر أبو الفرج فى النسخ التى تحت أيدينا من كتابه الأغانى شيئا عن المتنبى مع أنه كان من معاصريه.
[2] الزف: ريش النعام. والرئال: جمع رأل، وهو ولد النعام.(5/221)
ومنها بعد أبيات:
ألا إنّ سجلا واحدا قد أرقته ... من الدمع أو سجلين قد شفيانى
فلا تلحيانى إن بكيت فإنما ... أداوى بهذا الدمع ما تريان
وإنّ مكانا فى الثّرى خطّ لحده ... لمن كان من قلبى بكلّ مكان
أحقّ مكان بالزيارة والهوى، ... فهل أنتما إن عجت منتظران؟
فهبنى عزمت الصبر عنها لأنّنى ... جليد فمن بالصبر لابن ثمان
ضعيف القوى لا يعرف الأجر حسبة ... ولا يأنسى بالناس فى الحدثان
ألا من أمنّيه المنى وأعدّه ... لعثرة أيّام وصرف زمان
ألا من إذا ما جئت أكرم مجلسى ... وإن غبت عنه حاطنى ورعانى
فلم أر كالأقدار كيف تصيبنى ... ولا مثل هذا الدهر كيف رمانى
وقال أبو تمّام يرثى جارية له:
ألم ترنى خلّيت عينى وشانها ... ولم أحفل الدنيا ولا حدثانها
لقد خوّفتنى النائبات صروفها ... ولو أمّنتنى ما قبلت أمانها
وكيف على نار الليالى معرّسى ... إذا كان شيب العارضين دخانها
أصبت بخود سوف أغبر بعدها ... حليف أسى أبكى زمانى زمانها
عنان من اللذّات قد كان فى يدى ... فلما مضى الإلف استردّت عنانها
منحت الدّمى هجرى فلا محسناتها ... أودّ ولا يهوى فؤادى حسانها
يقولون: هل يبكى الفتى لخريدة ... متى ما أراد اعتاض عشرا مكانها!
وهل يستعيض المرء من خمس كفّه ... ولو صاغ من حرّ الّلجين بنانها!
وقال أبو الفتح كشاجم يعزّى بابنة:
تأسّ يا أبا بكر ... لموت الحرّة البكر(5/222)
فقد زوّجتها القبر ... وما كالقبر من صهر
وعوّضت بها الأجر ... وما كالأجر من مهر
زفاف أهديت فيه ... من الخدر إلى القبر
فتاة أسبغ الله ... عليها أفضل السّتر
ورزء أشبه النعم ... ة فى الموقع والقدر
وقد يختار فى المكرو ... هـ للمرء وما يدرى
فقابل نعمة الله ... وما أولاك من شكر
وعزّ النفس عمّا فا ... ت بالتسليم والصبر
وقال أبو مروان بن أبى الخصال الأندلسىّ فى مثل ذلك:
ألا يا موت كنت بنا رءوفا ... فجدّدت الحياة لنا بزوره
حمدت لفعلك المأثور لمّا ... كفيت مؤونة وسترت عوره
فأنكحنا الضريح بغير مهر ... وجهّزنا الفتاة بغير شوره
وقال أبو تمّام حبيب بن أوس الطائىّ فى ابنين لعبد الله بن طاهر ماتا صغيرين فى يوم واحد من قصيدة:
نجمان شاء الله ألّا يطلعا ... إلا ارتداد الطّرف حتى يأفلا
إنّ الفجيعة بالرياض نواضرا ... لأجلّ منها بالرياض ذوابلا
لو ينسآن لكان هذا غاربا ... للمكرمات وكان هذا كاهلا
لهفى على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا
لغدا سكونهما حجا وصباهما ... حلما وتلك الأريحيّة نائلا
إنّ الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا(5/223)
وقال أبو الحسن الأنبارى فى محمد بن بقيّة وزير عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة ابن بويه لما صلبه عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه عند خلع بختيار، وهى من نوادر المراثى:
علوّ فى الحياة وفى الممات ... لحقّ أنت إحدى المعجزات
كأنّ الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيّام الصّلات
كأنّك قائم فيهم خطيبا ... وكلّهم قيام للصّلاة
مددت يديك نحوهم جميعا [1] ... كمدّهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك فى النفوس بقيت ترعى ... بحرّاس وحفّاظ ثقات
وتشعل عندك النيران ليلا ... كذلك كنت أيّام الحياة
ولم أر قبل جذعك قطّ جذعا ... تمكّن من عناق المكرمات
ركبت مطيّة من قبل زيد ... علاها فى السنين الذاهبات
أشار فى هذا البيت إلى زيد بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب لمّا قتل وصلب فى أيّام هشام بن عبد الملك.
ومما يدخل فى هذا الباب ويلتحق به ما يطرأ من الحوادث التى تعمّ بها البليّة، وتشمل بسببها الرزيّة، كاستيلاء أهل الكفر على بلد من بلاد الإسلام، وهزيمتهم لجيشه اللهام؛ فمن ذلك ما كتب به القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى إلى الأمير عزّ الدين سامة لما استعاد الفرنج- خذلهم الله تعالى- مدينة بيروت:
ابتدأ كتابه بأن قال بعد البسملة: قال الله سبحانه فى كتابه العزيز مسلّيا لنبيّه الكريم
__________
[1] كذا بالأصل. وفى احدى النسخ: «اقتفاء» وهو محرف عن «احتفاء» .(5/224)
صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ
، فإذا كان من الناس من خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكيف لا يخون الناس الناس! وأين الموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرون فى البأساء والضرّاء وحين الباس:
وقد كانوا إذا عدّوا قليلا ... فقد صاروا أقلّ من القليل
والمولى- أعزّه الله بنصره، وعوّضه أحسن العوض من أجره، وكتب له ثواب تسليمه إليه وصبره- ليس بأوّل من وثق بمن خان، وقضيّة بيروت بأوّل مقدور قال الله له: كن فكان؛ والقدر السابق لا يدفعه الهمّ اللاحق، ومن الخجلات المستعارة خجلة الواثق، والموثوق به لائق به الخجل الصادق؛ ومعاذ الله أن ينكس المجلس رأسه حياء، أو أن يسخط لله قضاء؛ أو أن يأسف على مال نقله من مودعه الذى لا يؤمن من الآفات عليه، إلى مودع الله الذى يحفظه إلى أن يأتيه به أحوج ما كان إليه؛ والحمد لله الذى جعل مصائبنا فى الدنيا فوائدنا فى الأخرى، ثم الحمد لله الذى جعل البادرة للعدوان والعاقبة للتقوى. وقد علم الله أنى مقاسمه ومساهمه، ومضمر من الهمّ بما اتفق من هذا المقدور ما مقدّره عالمه؛ غير أنه لا حيلة لمن لا حيلة له إلا الصبر، وإن صبر جرى عليه القدر وجرى له الأجر، وإن لم يصبر جرى عليه القدر وكتب عليه الوزر؛ وكل ما ذهب من صاحبه قبل أن يذهب صاحبه فقد أنعم الله عليه، حيث أخرج ما فى يديه وأبقى يديه؛ والمال غاد ورائح، والمال بالحقيقة هو العمل الصالح؛ وإن اجتمع موصلها بحضرته فهو ينهى ما عندى، ويؤدّى حقيقة ودّى؛ ورأية الموفّق.
وقال أبو المظفّر الأبيوردىّ [1] لما استولى الفرنج على البيت المقدّس فى سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة قصيدة منها:
__________
[1] وتنسب هذه الأبيات أيضا فى النجوم الزاهرة (ج 5 ص 151 طبع دار الكتب المصرية) القاضى زين الدين أبى سعد الهروىّ.(5/225)
مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشرّ سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبّت نارها بالصوارم
فإيّها بنى الإسلام! إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذّرى بالمناسم
أتهويمة فى ظلّ أمن وغبطة ... وعيش كنوّار الخميله ناعم!
وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هبوات أيقظت كلّ نائم
وإخوانكم بالشأم يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكى أو بطون القشاعم
يسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرّون ذيل الخفض فعل المسالم
وكم من دماء قد أبيحت، ومن دمّى ... توارى حياء حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمّرة الظّبى ... وسمر العوالى داميات اللهاذم
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظلّى لها الولدان شيب القوادم
وتلك حروب من يغب عن غمارها ... ليسلم يقرع بعدها سنّ نادم
سللن بأيدى المسلمين قواضيا ... ستغمد منهم فى الطّلى والجماجم
يكاد بهنّ المستجنّ بطيبة ... ينادى بأعلى الصوت: يا آل هاشم
أرى أمّتى لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم والدّين واهى الدعائم
ويجتنبون النار خوفا من العدا ... ولا يحسبون العار ضربة لازم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى ... وتغضى على ذلّ كماة الأعاجم!
فليتهم إذ لم يذودوا حميّة ... عن الدين ضنّوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا فى الأجر إذ حمى [1] الوغى ... فهلّا أتوه رغبة فى المغانم!
__________
[1] فى الأصل: «جمش» ولعلها محرفة عن «حمس» بالحاء والسين المهملتين وهو (بالتخفيف والتشديد) بمعنى اشتداد الأمر واضطرام النار، وهى رواية ابن الأثير. وما أثبتناه رواية النجوم الزاهرة لابن ثغرى بردى.(5/226)
لئن أذعنت تلك الخياشيم للثرى ... فلا عطسوا إلا بأجدع راغم
دعوناكم والحرب ترنو ملحّة ... إلينا بألحاظ النسور القشاعم
تراقب فينا غارة عربيّة ... تطيل عليها الروم عضّ الأباهم
فإن أنتم لم تغضبوا عند هذه ... رمتنا إلى أعدائنا بالجرائم
وقال علاء الدين علىّ الأوتارىّ الدمشقىّ فى مثل ذلك لما استولى التتار على دمشق فى سنة تسع وتسعين وستمائة:
لك علم بما جرى يا سهادى ... من جفونى على افتقاد رقادى
لم أجد عند شدّتى مؤنسا لى ... غير سهدى ملازما لسوادى
وحبيب العين الرقاد جفاها ... مذ رآها خليفة الأنكاد
أحسن الله يا دمشق عزاك ... فى مغانيك يا عماد البلاد
وبرستقا نير بيك مع الم ... زّة مع رونق بذاك الوادى
وبأنس بقاسيون وناس ... أصبحوا مغنما لأهل الفساد
طرقتهم حوادث الدهر بالقت ... ل ونهب الأموال والأولاد
وبنات محجّبات عن الشم ... س تناءت بهنّ أيدى الأعادى
وقصور مشيّدات تقضّت ... فى ذراها الأيام كالأعياد
وبيوت فيها التّلاوة والذك ... ر وعالى الحديث بالإسناد
حرّقوها وخرّبوها وبادت ... بقضاء الإله ربّ العباد
وكذا شارع العقيبة والقص ... ر وشاغورها وذاك النادى
أصبحوا اليوم مثل أمس تقضّى ... وبكتهم سماؤهم والغوادى
ولكم سورها حوى من معنى ... مقرح القلب والحشى والفؤاد
إن بكى لا يفيده أو تشكّى ... وجد المشتكى حليف سهاد(5/227)
يشتكى فوق ما اشتكاه بأضعا ... ف فيغدو وهمه فى ازدياد
فالغلا والجلا مع الجوع والعر ... ى ونهب الأفوات والأزواد
والحصار الشديد والحبس والخو ... ف مع السادة العراة المكادى [1]
وبوزن الأموال من غير وجد ... بآعتساف الغتم [2] الغلاظ الشداد
كاتر آقچاكبر خوار أنت ياغيه ... لمحمود غازان قاآن البلاد [3]
يا ترى هل لكربنا من مجير ... أم لتشديد أسرنا من مفادى
لهف نفسى على جيوش تولّت ... ثم ولّت جريحة الأكباد
كلّ ندب عضب حمىّ كمىّ ... أمجد أصيد شجاع جواد
إن سطا فى هباته كان بحرا ... أو سطا خلته من الآساد
أو بدا حاملا تخل عنتريّا ... أو غدا سابق الجواد فغادى
إن أتانى مبشّر بلقاهم ... حاز روحى ومهجتى وقيادى
ولثمت التراب شكرا وعفّر ... ت خدودى على بلوغ مرادى
لست أرجو غير البشير شفيعا ... عند ربّى فى المنّ بالإنجاد
فهو الصادق الذى وعد الدي ... ن بنصر جار على الاباد
غير أنّ الفساد يكسب ذلّا ... ويعمّى الفساد طرق السّداد
وارتكاب الفساد يورث فقرا ... وخراب البيوت عقبى الفساد
يا حبيب الإله لا تتخلّى ... عن عضاة غمرتهم بالأيادى
__________
[1] المكادى: جمع «مكدى» اسم مفعول من كداه بمعنى حبسه.
[2] الغتم: جمع أغتم وهو من لا يفصح.
[3] عرضنا هذا البيت على العالم الجليل موسى افندى جار الله نزيل القاهرة الآن لشرحه بما يأتى: كاتر: هات. آقچا: النقود. كبرخوار: كافر حقير غير كتابىّ. ياغيه:
العدوّ الباغى. قا آن: كبير الملوك. ومعنى البيت: هات أيها الكافر الحقير الخراج أنت عدوّ لقاآن (خاقان) البلاد محمود غازان. وهذا البيت لا تتفق أوزانه مع التفاعيل الشعرية.(5/228)
يا حبيب الإله قد مسّنا الض ... رّ فجد بالإسعاف والإسعاد
يا حبيب الإله تبنا إلى الل ... هـ وأنت العماد حتّى المعاد
من لأسرى كسرى حيارى دهتهم ... دهمتهم جياد أهل العناد
واضع اللقط فى الحساب عناه ... - لو يعش- حصر كثرة الأعداد
منهم الطفل والصبيّة والشا ... بّ ينادى، فمن يجيب المنادى!
وينادى عليهم برغيف ... وبنزر بخس بسوق الكساد
عوّضوا عن سرورهم بغرور ... وقصور البلاد سكنى البوادى
وبأهل الوداد شرّ أناس ... وبلين المهاد شوك القتاد
أىّ عين عليهم ليس تبكى ... أىّ قلب عليهم غير صادى!
فلأنت الرحيم قلبا ولبّا ... ولأنت الهادى لسبل الرّشاد
ولأنت البديع خلقا وخلقا ... ولأنت السميع للإنشاد
ولأنت الظّراز فى كلّ معنى ... ولسيف المقال شبه النّجاد
ولأنت الحاوى فنون صفات ... دون حصر لها فناء المداد
ولأنت الممدوح من فوق عرش ... بعد ماذا يقول قسّ الإيادى
جلّ قصد الفصيح بالنظم معنى ... نشر فضل الممدوح بين العباد
فإذا كان منشئ المدح ربّى ... عاد مدح الفصيح جمع سواد
فعليك الصلاة يرجو بها الأم ... ن علىّ من سائر الأنكاد
وحيث انتهينا من المرائى والنوادب إلى هذه الغاية، فلنذكر نبذة من الزهد والتوكّل.(5/229)
الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الثانى فى الزهد والتوكل
وهذا الباب- وفّقنا الله وإياك لقصدنا، وألهمنا سلوك سبيل رشدنا؛ واستعملنا فى مراضيه، وجنّبنا عن الالتفات بالقول والفعل إلى معاصيه- من هذا الفنّ هو واسطة عقده، وعضد زنده، وقائم مرهفه وحدّ فرنده؛ وشبا سنانه، ومثنى عناته، وإنسان حدقته، وحدقة إنسانه؛ وكيف لا وهو للنفس درّة تاجها، وطبيب علاجها، وواضح منهاجها؛ ودليلها المرشد إذا ضلّ الدليل، ومنجيها من الهول الأعظم إذا فرّ المرء من الأخ والأمّ والأب والابن والصاحبة والخليل. فتأمله أيها المطالع بعين قلبك قبل ناظرك، واتخذه من أحصن جنتّك وأعدّ عددك وأنفس ذخائرك؛ ورض به نفسك إذا جمحت، وسكّن به آمالك إذا مالت إلى المطالع وجنحت. واعلم أن الدنيا ظلّ زائل، وعدوّ قد نصب لك الشّباك ومدّ الحبائل، وأنك لا بدّ مسئول عما اكتسبته منها، فليت شعرى ما أعددت لجواب المسائل؟
فهى العدوّ الذى أشبه بالصديق، والغادر الماكر الذى ما أخوفنى أنّ مكره بى وبك سيحيق. فاقتصر على القليل منها، واعلم أنك سترحل فى غد عنها؛ وأن الموت نازل بك فلا ينفعك ما جمعته من مال وخول، ولا يصحبك من الدنيا إلا ما قدّمته لآخرتك من صالح العمل؛ وأنّ مالك سيقتسمه من لعلّه لا يشكرك عليه، وماذا ينفعك شكره أن لو فعل! وغاية ما ينالك من دنياك، وإن بلغت منها مناك، وطال بها مداك؛ أن تتمتّع بزهرتها، وتنال من لذّتها؛ وقد علمت بالمشاهدة من حالك وحال غيرك ما يؤول أمر ملاذّها إليه فى العاجل، وما يتوقّع لمن اقتصر من دنياه عليها فى الآجل؛ فالمأكل والمشرب صائران إلى ما علمته وإنما تحصل اللذّة(5/230)
بهما قبل الزدراد؛ والمنكح والمركب فأنت وهما فى الموت والفناء على ميعاد، والملابس فستخلقها الأيام بعد الجدّة، والمساكن فستعفّى الليالى آثارها ولو بعد مدّة.
فإذا علمت أن مآل الدنيا إلى الزوال، وقصاراها إلى الانتقال؛ وملاذّها إلى هذه الغاية، والعمر فيها وإن طال سريع النهاية؛ فتقلّل منها حسب طاقتك، واقتصر على ما تسدّ به بعض خلّتك وفاقتك؛ واعمل لآخرتك التى لا ينقضى أمدها، ولا يفنى من النعيم الدائم مددها. وقد أمرتك الخير وليتنى به لو ائتمرت، وأوضحت لك سبيل الرشاد وليتنى به لو مررت.
أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به ... وما استقمت فما قولى لك: استقم!
وسأورد إن شاء الله على سمعك من هذا الباب ما إن تمسّكت به كان سببا لإرشادك، وذخيرة تجدها فى يوم معادك.
ذكر بيان حقيقة الزهد
قال الإمام الأوحد العالم زين الدين حجّة المتكلّمين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالىّ الطّوسىّ رحمه الله تعالى فى كتابه المترجم بإحياء علوم الدين: إعلم أن الزهد فى الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين. وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات؛ لأن أبواب الإيمان كلّها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول وعمل. وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال، إذ به يظهر الحال الباطن، وإلا فليس القول مرادا بعينه؛ وإذا لم يكن صادرا عن حال سمّى إسلاما ولم يسمّ إيمانا.
والعلم هو السبب فى الحال يجرى مجرى المثمر، والعمل يجرى مجرى الثمرة.
فأما الحال فنعنى بها ما يسمّى زهدا، وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشئ إلى ما هو خير منه؛ فكلّ من عدل عن شئ إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنّما عدل(5/231)
عنه لرغبته عنه، وإنما عدل إلى غيره لرغبته فيه. فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمّى [زهدا، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمّى [1]] رغبة وحبّا. فإذا يستدعى حال الزهد مرغوبا عنه ومرغوبا فيه [2] هو خير من المرغوب عنه. وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضا مرغوبا فيه بوجه من الوجوه؛ فمن رغب عما ليس مطلوبا فى نفسه لا يسمّى زاهدا، فتارك التراب والحجارة والحشرات لا يسمّى زاهدا، لأن ذلك ليس فى مظنّة الرغبة، وإنما يسمّى زاهدا تارك الدراهم والدنانير. وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه حتى تغلب هذه الرغبة؛ فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشترى عنده خير من المبيع، فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهدا فيه، وبالإضافة إلى العوض رغبة وحبّا؛ ولذلك قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ
وشروه بمعنى باعوه، ووصف إخوة يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم، وكان ذلك عندهم أحبّ إليهم من يوسف فباعوه طمعا فى العوض. فإذا كلّ من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد فى الدنيا، وكلّ من باع الاخرة بالدنيا فهو أيضا زاهد ولكن فى الاخرة؛ ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بمن زهد فى الدنيا؛ كما خصّص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصّة، وإن كان هو الميل فى وضع اللسان. قال: ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصوّر إلا بالعدول إلى شىء هو أحبّ منه، وإلا فترك المحبوب بغير الأحبّ محال. والذى يرغب عن كلّ ما سوى الله تعالى حتى الفردوس ولا يحبّ إلا الله تعالى فهو الزاهد المطلق. والذى يرغب عن كل حظّ ينال فى الدنيا ولم يزهد فى مثل تلك الحظوظ فى الآخرة بل طمع فى الحور العين
__________
[1] زيادة عن الإحياء.
[2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «إليه» .(5/232)
والقصور والفواكه والأنهار فهو أيضا زاهد ولكنّه دون الأوّل. والذى يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض، كالذى يترك المال دون الجاه، أو يترك التوسّع فى الأكل ولا يترك التجمّل فى الزينة، فلا يستحقّ اسم الزهد مطلقا؛ ودرجته فى الزّهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصى فى التائبين، وهو زهد صحيح كما أن التوبة عن بعض المعاصى صحيحة؛ فإنّ التوبة عبارة عن ترك المحظورات، والزهد عبارة عن ترك المباحات التى هى حظّ النفس. والمقتصر على ترك المحظورات لا يسمّى زاهدا، وإن كان زهد فى المحظور وانصرف عنه، ولكنّ العادة تخصّص هذا الاسم بتارك المباحات. فإذا الزهد عبارة عن رغبة عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو عن غير الله عدولا إلى الله، وهى الدرجة العليا. وكما يشترط فى المرغوب فيه [1] أن يكون خيرا عنده؛ فيشترط فى المرغوب عنه أن يكون مقدورا عليه، فإنّ ترك ما لا يقدر عليه محال، وبالترك يتبيّن زوال الرغبة؛ ولذلك قيل لابن المبارك:
يا زاهد؛ فقال: الزاهد عمر بن عبد العزيز، إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها، وأما أنا ففيم زهدت! وأمّا العلم الذى هو المثمر لهذا الحال فهو العلم يكون المتروك حقيرا بالإضافة إلى المأخوذ، كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب فيه؛ وما لم يتحقّق هذا العلم لا يتصوّر أن تزول الرغبة عن المبيع، فكذلك من عرف أن ما عند الله باق وأن الآخرة خير وأبقى، أى لذّتها خير فى نفسها وأبقى. فبقدر قوّة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة فى البيع والمعاملة؛ حتّى إنّ من قوى يقينه يبيع نفسه وماله، كما قال الله عز وجل:
__________
[1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «المرغوب اليه» .(5/233)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...
الآية، ثم بيّن أن صفقتهم رابحة فقال تعالى: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ
. فليس يحتاج من العلم فى الزهد إلا إلى هذا القدر وهو أنّ الآخرة خير وأبقى؛ وقد يعلم ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إمّا لضعف علمه ويقينه، وإما لاستيلاء الدنيا والشهوة فى الحال عليه ولكونه مقهورا فى يد الشيطان، وإما لاغتراره بمواعيد الشيطان فى التسويف يوما فيوما إلى أن يختطفه الموت، ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت. قال: وإلى تعريف خساسة الدنيا الإشارة بقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا
، وإلى تعريف نفاسة الآخرة الإشارة بقوله عزّ وجل: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ
؛ فنبّه على أنّ العلم بنفاسته هو المرغّب عن عوضه. قال:
ولمّا لم يتصور الزهد إلا بمعاوضة ورغبة عن محبوب فى أحبّ منه
قال رجل:
اللهمّ أرنى الدنيا كما تراها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل هذا ولكن قل اللهمّ أرنى الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك»
. وهذا لأن الله يراها حقيرة كما هى، وكلّ مخلوق فهو بالإضافة إلى جلاله حقير، والعبد يراها حقيرة فى حقّ نفسه بالإضافة إلى ما هو خير له [1] ، ولا يتصوّر أن يرى بائع الفرس وإن رغب عن فرسه كما يرى حشرات الأرض [مثلا [2]] ، لأنّه مستغن عن الحشرات أصلا وليس مستغنيا عن الفرس؛ والله تعالى غنىّ بذاته عن كلّ ما سواه، فيرى الكلّ فى درجة واحدة بالإضافة إلى جلاله، ويراها متفاوتة بالإضافة إلى غيره، والزاهد هو الذى يرى تفاوتها بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره.
__________
[1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «الى ما هو خير منه» .
[2] زيادة عن الاحياء.(5/234)
وأمّا العمل الصادر عن حال الزهد فهو ترك وأخذ، لأنه بيع ومعاملة واستبدال الذى هو خير بالذى هو أدنى. فكما أنّ العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع [1] وإخراجه عن اليد وأخذ العوض، فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلّية وهى الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها، فيخرج من القلب حبّها ويدخل حبّ الطاعات ويخرج من اليد والعين ما أخرجه من القلب، ويوظّف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف من الطاعات، وإلّا كان كمن سلّم المبيع ولم يأخذ الثمن. فإذا وفّى شرط الحالتين فى الأخذ والترك فليستبشر ببيعه الذى بايع به، فإن الذى بايعه بهذا البيع وفىّ بالعهد؛ فمن سلّم حاضرا فى غائب وسلّم الحاضر وأخذ يسعى فى طلب الغائب سلّم إليه الغائب حين فراغه من سعيه إن كان العاقد ممن يوثق بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد. وما دام ممسكا للدّنيا فلا يصح زهده أصلا، ولذلك لم يصف الله تعالى إخوة يوسف بالزهد فى بنيامين وإن كانوا قد قالوا:
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا
، وعزموا على إبعاده كما عزموا على إبعاد يوسف حتى شفع فيه أحدهم فترك، ولا وصفهم أيضا بالزهد فى يوسف عند العزم على إخراجه إلا عند التسليم والبيع. فعلامة الرغبة الإمساك، وعلامة الزهد الإخراج. فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد فيما أخرجت فقط، ولست زاهدا مطلقا؛ وإن لم يكن لك مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصوّر منك الزهد، لإنّ ما لا تقدر عليه لا تقدر على تركه. وربما يستهو يك الشيطان بغروره ويخيّل [إليك [2]] أنّ الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهد فيها، فلا ينبغى أن تتدلّى بحبل
__________
[1] كذا بالإحياء. وفى الأصل: «هو بدل البيع» .
[2] زيادة عن الإحياء.(5/235)
غروره دون أن [تستوثق [1] و] تستظهر بموثق غليظ [2] من الله تعالى؛ فإنّك إذا لم تجرّب حال القدرة فلا تثق بالقدرة على الترك عندها؛ فكم من ظانّ بنفسه كراهة المعاصى عند تعذّرها فلما تيسّرت له أسبابها من غير مكدّر ولا مخوف من الخلق وقع فيها.
وإذا كان هذا غرور النفس فى المحظورات فإيّاك أن تثق بوعدها فى المباحات.
والموثق الغليظ الذى تأخذه عليها أن تجرّبها مرّة بعد مرّة فى حال القدرة، فاذا وفّت بما وعدت على الدوام مع انتفاء الصوارف والأعذار ظاهرا وباطنا فلا بأس أن تثق بها وثوقا ما، ولكن تكون من تغيّرها على حذر، فإنها سريعة النقض للعهد، قريبة الرجوع إلى مقتضى الطبع. وبالجملة فلا أمان منها إلا عند الترك بالإضافة إلى ما تركت فقط وذلك عند القدرة. قال: وليس من الزهد بذل المال على سبيل السخاء والفتوّة وعلى سبيل استمالة القلوب ولا على سبيل الطمع، فذلك كلّه من محاسن العادات ولا مدخل له فى العبادات، إنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة. [فأمّا كل نوع من الترك فإنه يتصوّر ممن لا يؤمن بالآخرة [1]] فذلك قد يكون مروءة وفتوّة وسخاء وحسن خلق، وحسن الذكر وميل القلوب من حظوظ العالجة، وهى ألذّ وأهنأ من المال؛ بل الزاهد من أتته الدنيا راغمة عفوا وصفوا وهو قادر على التنعّم بها من غير نقصان جاه وقبح اسم وفوات حظّ للنفس، فتركها خوفا من أن يأنس بها فيكون آنسا بغير الله ومحبّا لما سوى الله، ويكون مشركا فى حبّ الله غير الله؛ أو تركها طمعا فى ثواب آخر فترك التمتّع بأشربة الدنيا طمعا فى أشربة الجنّة، وترك التمتّع بالسرارى والنسوان طمعا فى الحور العين، وترك التفرّج فى البساتين طمعا فى بساتين الجنّة وأشجارها، وترك التزيّن والتجمّل بزينة الدنيا طمعا فى زينة الجنّة، وترك المطاعم اللذيذة طمعا
__________
[1] زيادة عن الإحياء.
[2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «بموثق عليك» .(5/236)
فى فواكه الجنّة وخوفا من أن يقال له: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا
فآثر فى جميع ذلك ما وعد به فى الجنّة على ما تيسّر له فى الدنيا عفوا صفوا، لعلمه بأن ما فى الآخرة خير وأبقى؛ وما سوى هذه فمعا ملات دنيويّة لا جدوى لها فى الآخرة أصلا. وحيث قدّمنا هذه المقدّمة من أحوال الزهد فى الحال والعلم فلنذكر بيان فضيلة الزهد وذم الدنيا.
ذكر فضيلة الزهد وبغض الدنيا
قال الله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً
، فنسب الزهد الى العلماء ووصف أهله بالعلم، وذلك غاية الثناء. وقال تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا
جاء فى التفسير: على الزهد فى الدنيا. وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
. قيل: معناه أيّهم أزهد فى الدنيا، فوصف الزهد بأنه من أحسن الأعمال. وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ
. وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ...
إلى قوله: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح وهمّه الدّنيا شتّت الله عليه أمره وفرّق عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن أصبح وهمّه الآخرة جمع الله له أمره وحفظ عليه ضيعته وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم العبد قد أوتى [1] منطقا وزهدا فى الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقّن الحكمة»
. وقال تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً
؛ ولذلك
__________
[1] الذى فى الإحياء: «اذا رأيتم العبد وقد أعطى صمتا وزهدا فى الدنيا فاقتربوا منه فانه يلقى الحكمة» .(5/237)
قيل: من زهد فى الدنيا أربعين يوما اجرى الله ينابيع الحكمة فى قلبه وأطلق بها لسانه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أردت أن يحبّك الله فازهد فى الدنيا»
فجعل الزهد سببا للمحبّة؛ فمن أحبّه الله فهو فى أعلى الدرجات، فينبغى أن يكون الزهد فى أفضل المقامات. ولما
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ
وقيل له: ما هذا الشرح؟ قال: «إن النّور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح» . قيل:
يا رسول الله، هل لذلك من علامة؟ قال: «نعم التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حقّ الحياء» قالوا: إنا نستحيى من الله، فقال: « [ليس كذلك [1]] تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون»
. فبيّن أن ذلك يناقض الحياء من الله.
وقدم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنّا مؤمنون. قال: «وما علامة إيمانكم؟» فذكروا الصبر على البلاء، والشكر على الرخاء، والرّضا بمواقع القضاء، وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء. قال: «إن كنتم كذلك فلا تجمعوا ما لا تأكلون ولا تبنوا ما لا تسكنون ولا تنافسوا فيما عنه ترحلون»
؛ فجعل الزهد تكملة إيمانهم.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ فى أصحابه بإبل عشار حفّل وهى الحوامل، وكانت من أحبّ أموالهم إليهم وأنفسها عندهم، لأنها تجمع بين اللحم واللبن والوبر والظّهر، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغضّ بصره. فقيل له: يا رسول الله، هذه أنفس أموالنا، لم لا تنظر إليها؟ فقال: قد نهانى الله عن ذلك، ثم تلا قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى.
__________
[1] التكملة من الإحياء.(5/238)
وروى مسروق عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قلت:
يا رسول الله، ألا تستطعم الله فيطعمك؟ قالت: وبكيت لما رأيت به من الجوع.
فقال: «يا عائشة والذى نفسى بيده لو سألت ربّى أن يجرى معى جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض ولكن اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها يا عائشة إنّ الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض لأولى العزم من الرسل إلا الصبر على مكروه الدنيا والصبر عن محبوبها ثم لم يرض إلا أن يكلّفنى ما كلّفهم فقال فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ
والله مالى بدّ من طاعته وإنّى والله لأصبرنّ كما صبروا جهدى ولا حول ولا قوّة إلا بالله» .
وروى عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أنه حين فتح عليه الفتوحات قالت له ابنته حفصة: البس ليّن الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق، ومر بصنعة طعام تطعمه وتطعم من حضر. فقال: يا حفصة، ألست تعلمين أنّ أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته؟ قالت بلى. قال: ناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث فى النبوّة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلّا جاعوا عشيّة، ولا شبعوا عشيّة إلا جاعوا غدوة؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لبث فى النبوّة كذا وكذا سنة لم يشبع من التمر هو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرّبتم إليه [يوما [1]] طعاما على مائدة فيها ارتفاع فشقّ ذلك عليه حتى تغيّر لونه ثم أمر بالمائدة فرفعت ووضع الطعام على دون ذلك أو وضع على الأرض؟ ناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام على عباءة مثنيّة فثنيت له ليلة أربع
__________
[1] زيادة عن الإحياء.(5/239)
طاقات فنام عليها، فلما استيقظ قال: «منعتمونى قيام الليلة بهذه العباءة اثنوها بآثنتين كما كنتم تننونها» ؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع ثيابه لتغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوبا يخرج به إلى الصلاة حتى تجفّ ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعت له امرأة من بنى ظفر كساءين إزارا ورداء وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر، فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره قد عقد طرفيه إلى عنقه فصلّى كذلك؟ فما زال [يقول [1]] حتى أبكاها، وبكى عمر رضى الله عنه وانتحب حتى ظننّا أنّ نفسه ستخرج. وفى بعض الروايات زيادة من قول عمر وهو أنّه قال: كان لى صاحبان سلكا طريقا، فإن سلكت غير طريقهما سلك بى طريق غير طريقهما، وإنّى والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلّى أدرك معهما عيشهما الرّغيد.
وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد كان الأنبياء قبلى يبتلى أحدهم بالفقر فلا يلبس إلا العباءة وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله القمل وكان ذلك أحبّ إليهم من العطاء إليكم» .
وعن ابن عبّاس رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما ورد موسى عليه السلام ماء مدين كانت خضرة البقل ترى فى بطنه من الهزال»
. وفى حديث عمر رضى الله عنه أنه لمّا نزل قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبّا للدّنيا! تبّا للدّينار والدرهم!» فقلنا: نهانا الله عن كنز الذهب والفضّة قأىّ شىء ندّخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ليتّخذ أحدكم لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعينه على أمر آخرته»
. وفى حديث حذيفة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «من آثر
__________
[1] زيادة من الإحياء.(5/240)
الدنيا على الآخرة ابتلاه الله تعالى بثلاث: همّا لا يفارق قلبه أبدا وفقرا لا يستغنى أبدا وحرصا لا يشبع أبدا»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يستكمل العبد الإيمان حتّى يكون ألّا يعرف أحبّ إليه من أن يعرف وحتى تكون قلة الشىء أحبّ إليه من كثرته»
. وقال المسيح عليه السلام: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وقيل له: يا نبىّ الله، لو أمرتنا أن نبتنى بيتا نعبد الله فيه! قال: اذهبوا فابنوا بيتا على الماء.
فقالوا: كيف يستقيم بنيان على الماء! قال: وكيف تستقيم عبادة مع حبّ الدنيا!.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربّى عرض علىّ أن يجعل لى بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا ربّ ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فأمّا اليوم الذى أجوع فيه فأتضّرع إليك وأدعوك وأمّا اليوم الذى أشبع فيه فأحمدك وأثنى عليك» .
وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يمشى وجبريل معه فصعد على الصّفا، فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: والذى بعثك بالحقّ ما أمسى لآل محمد كفّ سويق ولا سفّة دقيق. فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة من السماء أفظعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أمر الله القيامة أن تقوم؟ قال: لا، ولكن هذا إسرافيل قد نزل إليك حين سمع كلامك. فأتاه إسرافيل فقال: إنّ الله عز وجلّ سمع ما ذكرت، فبعثنى بمفاتيح الأرض وأمرنى أن أعرض عليك إن أحببت أن أسيّر [1] معك جبال تهامة زمرّدا وياقوتا وذهبا وفضّة فعلت، وإن شئت نبيّا ملكا وإن شئت نبيّا عبدا. فأومأ إليه جبريل أن تواضع لله. فقال: «نبيّا عبدا» ثلاثا
. وقال صلى الله عليه وسلم: «اذا أراد الله بعبد خيرا زهّده فى الدنيا ورغّبه فى الآخرة وبصّره بعيوب نفسه» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يؤتيه الله علما بغير تعلّم وهدى بغير هداية فليزهد فى الدنيا» .
__________
[1] كذا فى الإحياء، وفى الأصل: «أن تسير ... » .(5/241)
وقال صلى الله عليه وسلم: «من اشتاق إلى الجنّة سارع إلى الخيرات ومن خاف من النار لها عن الشهوات ومن ترقّب الموت ترك اللذّات ومن زهد فى الدنيا هانت عليه المصائب»
. والأحاديث فى ذلك كثيرة وفيما ذكرناه منها كفاية. فلنذكر ما جاء من ذلك فى الأثر.
قيل: جاء فى الأثر: لا تزال لا إله إلّا الله تدفع عن العباد سخط الله ما لم يسألوا ما نقص من دنياهم. وفى لفظ آخر: ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا فعلوا ذلك وقالوا: لا إله إلا الله قال الله تعالى: كذبتم لستم بها صادقين. وعن بعض الصحابة رضى الله عنهم أنه قال: تابعنا الأعمال كلّها فلم نرفى أمر الآخرة أبلغ من زهد الدنيا. وقال بعض الصحابة لصدر التابعين: أنتم أكثر أعمالا واجتهادا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا خيرا منكم. قيل: ولم ذاك؟ قال:
كانوا أزهد فى الدنيا منكم. وقال عمر رضى الله عنه: الزهادة فى الدنيا راحة القلب والجسد. والآثار أيضا فى ذلك كثيرة فلا نطوّل بسردها.
ذكر بيان ذمّ الدنيا وشىء من المواعظ والرقائق الداخلة فى هذا الباب
وقد ورد فى كتاب الله عز وجلّ كثير فى ذمّ الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة؛ وهو أيضا مقصود الأنبياء ولذلك بعثوا، فلا حاجة إلى الاستشهاد بالايات لظهورها. فلنذكر نبذة من الأخبار والآثار الواردة فى ذلك، وذلك من جملة ما اختاره الغزالىّ رحمه الله فى كتابه المترجم بإحياء علوم الدين. فمن ذلك ما
روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه مرّ على شاة ميّتة فقال: «أترون أن الشاة هينّة على أهلها» ؟ قالوا: من هوانها عليهم ألقوها. قال: «والذى نفسى بيده للدنيا أهون على(5/242)
الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة [ماء [1]] »
. وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «حبّ الدنيا أسّ كلّ خطيئة»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عجبا كلّ العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور!»
. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على مزبلة فقال: «هلمّوا إلى الدنيا وأخذ خرقا قد بليت على تلك المزبلة وعظاما قد نخرت فقال هذه الدنيا»
وهذه إشارة إلى أن زينتها ستخلق مثل تلك الخرق، وأن الأجسام التى ترى بها ستصير عظاما بالية. وقال عيسى بن مريم عليه السلام: لا تتّخذوا الدنيا ربّا فتتّخذكم عبيدا، اكنزوا كنزكم عند من لا يضيّعه، فإنّ صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة. وقال أيضا: يا معشر الحواريّين، إنى قد كببت لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدى، فإنّ من خبث الدنيا أن الله عصى فيها، وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها. ألا فاعبروا الدنيا ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كلّ خطيئة حبّ الدنيا. وربّ شهوة أورثت حزنا طويلا.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله جلّ ثناؤه لم يخلق خلقا أبغض اليه من الدنيا وإنه منذ خلقها لم ينظر اليها»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «ألهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت!»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادى من لا علم له وعليها يحسد من لا فقه له ولها يسعى من لا يقين له»
. وقال صلى الله
__________
[1] التكملة عن الإحياء.(5/243)
عليه وسلم: «من أصبح والدنيا أكبر همّه فليس من الله فى شئ وألزم الله قلبه أربع خصال همّا لا ينقطع عنه أبدا وشغلا لا يتفرّغ منه أبدا وفقرا لا يبلغ غناه أبدا وأملا لا يبلغ منتهاه أبدا»
. وقال أبو هريرة رضى الله عنه: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعا بما فيها» ؟ قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بيدى وأتى بى واديا من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رءوس ناس وعذرات وخرق وعظام، ثم قال: «يا أبا هريرة هذه الرءوس كانت تحرص كحرصكم وتأمل آمالكم هى اليوم عظام بلا جلد ثم هى صائرة رمادا وهذه العذرات هى ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها فى بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت الرياح تصفّقها وهذه العظام عظام دوابّهم التى كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكيا على الدنيا فليبك»
. قال: فما برحنا حتى اشتدّ بكاؤنا.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا موقوفة بين السماء والأرض منذ خلقها الله تعالى لا ينظر إليها وتقول يوم القيامة: يا ربّ اجعلنى لأدنى أوليائك نصيبا اليوم فيقول اسكتى يا لا شئ إنى لم أرضك لهم فى الدنيا أأرضاك لهم اليوم،!
وقال صلى الله عليه وسلم: «ليجيئنّ أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار» . قالوا: يا رسول اللهّ، مصلين؟ قال: «نعم [كانوا [1]] يصلّون ويصومون ويأخذون هنة من الليل فإذا عرض لهم من الدنيا شئ وثبوا عليه»
. وقال صلى الله عليه وسلم فى بعض خطبه: «المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقى لا يدرى ما الله قاض فيه فليتزوّد العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن حياته لموته ومن شبابه
__________
[1] التكملة عن الإحياء.(5/244)
لهرمه فإنّ الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة والذى نفسى بيده ما بعد الموت مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنّة أو النار»
. قال صلى الله عليه وسلم: «احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت»
. وقال عليه السلام لأصحابه: «هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيرا ألا إنه من رغب فى الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك ومن زهد فى الدنيا وقصر أمله فيها أعطاه الله علما بغير تعلّم وهدى بغير هداية ألا إنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتّجبّر ولا الغنى إلا بالفخر والبخل ولا المحبّة إلا باتّباع الهوى ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر للفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبّة وصبر للذّلّ وهو يقدر على العزّ لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه الله ثواب خمسين صدّيقا» .
وقال عيسى بن مريم عليه السلام: ويل لصاحب الدنيا! كيف يموت ويتركها، ويأمنها وتغرّه، ويثق بها وتخذله! وويل للمغترّين! كيف أرتهم ما يكرهون وفارقهم ما يحبّون، وجاءهم ما يوعدون! وويل لمن الدنيا همّه، والخطايا عمله كيف يفتضح غدا بذنبه!. وقيل له: علّمنا علما واحدا يحبّنا الله عليه، قال: أبغضوا الدنيا يحبّكم الله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولهانت عليكم الدنيا ولآثرتم الآخرة»
. ومن الآثار فى ذلك ما حكاه داود بن هلال قال: مكتوب فى صحف إبراهيم عليه السلام: يا دنيا، ما أهونك على الأبرار الذين تصنّعت وتزّينت لهم! إنى قذفت فى قلوبهم بغضك والصدود عنك، وما خلقت خلقا أهون علىّ منك، كلّ شأنك صغير، وإلى الفناء تصيرين، قضيت عليك يوم خلقتك الّا تدومى لأحد ولا يدوم أحد لك(5/245)
وإن بخل بك صاحبك وشحّ عليك. طوبى للأبرار الذين أطلعونى من قلوبهم على الرضا، ومن ضميرهم على الصدق والاستقامة! طوبى لهم! ما لهم عندى من الخير إذا وفدوا إلىّ من قبورهم [إلا [1]] النور يسعى أمامهم والملائكة حافّون بهم حتى أبلّغهم ما يرجون من رحمتى.
وقال عمّار بن سعيد: مرّ عيسى بن مريم عليه السلام بقرية فإذا أهلها موتى فى الأفنية والطرق، فقال: يا معشر الحواريّين، إن هؤلاء ماتوا عن سخطة، ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا. فقالوا: يا روح الله، وددنا أنّا علمنا خبرهم، فسأل الله تعالى فأوحى اليه: إذا كان الليل فنادهم يجيبوك. فلما كان الليل أشرف على نشز، ثم نادى يأهل القرية، فأجابه مجيب: لبّيك يا روح الله. فقال: ما حالكم وما قصّتكم؟ قال: بتنا فى عافية وأصبحنا فى الهاوية. قال: وكيف ذاك؟ قال [2] : لحبّنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصى. قال: وكيف كان حبّكم للدنيا؟ قال: حبّ الصبىّ لأمّه، إذا أقبلت فرح بها، وإذا أدبرت حزن وبكى عليها. قال: فما بال أصحابك لا يجيبونى؟ قال: لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدى ملائكة غلاظ شداد. قال:
فكيف أجبتنى من بينهم؟ قال: لأنّى كنت فيهم ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب أصابنى معهم، فأنا معلّق على شفير جهنّم لا أدرى أنجو منها أم أكبّ فيها.
فقال المسيح للحواريّين: لأكل الخبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة.
قيل: وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يا موسى لا تركننّ إلى حبّ الدنيا فلن تأتينى بكيرة هى أشدّ منها.
__________
[1] زيادة عن الإحياء (ج 3 ص 188)
[2] فى الأصل وفى الإحياء: «قالوا» والسياق يقتضى الإفراد.(5/246)
وقال لقمان لابنه: يا بنىّ، إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكّل على الله عز وجل، لعلك تنجو وما أراك ناجيا.
وقال بعض الحكماء: إنك لن تصبح فى شىء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك ويكون له أهل بعدك؛ وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة وغداء يوم، فلا تهلك فى أكلة، وصم [عن [1]] الدنيا وأفطر على الآخرة، وإن رأس مال الدنيا الهوى وربحها النار.
وقيل لبعضهم: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويجدّد الآمال، ويقرّب المنيّة، ويبعد الأمنيّة. قيل: فما حال أهله؟ قال: من ظفر به تعب، ومن فاته نصب. وفى ذلك قيل:
ومن يحمد الدنيا لعيش يسرّه ... فسوف لعمرى عن قريب يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيرا همومها
وقال بعض الحكماء: كانت الدنيا ولم أكن فيها، وتذهب الدنيا ولا أكون فيها، فلا أسكن إليها، فإنّ عيشها نكد، وصفوها كدر، وأهلها منها على وجل، إمّا بنعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منيّة قاضية.
وقال أبو حازم: إيّاكم والدنيا، فإنّه بلغنى أنه يوقف العبد يوم القيامة إذا كان معظّما للدنيا فيقال: هذا عظّم ما حقّره الله.
وقال ابن مسعود: ما أصبح أحد من الناس إلا وهو ضيف وماله عارية، فالضيف يرتحل والعارية مردودة. وفى ذلك قيل:
وما المال والأهلون إلّا وديعة ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع
__________
[1] الزيادة عن الإحياء.(5/247)
وزار رابعة العدوية أصحابها فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمّها، فقالت: أمسكوا عن ذكرها، فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، ألا من أحبّ شيئا أكثر من ذكره.
وقال رجل لعلىّ رضى الله عنه: يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا؛ فقال:
وما أصف لكم من دار من صحّ فيها ما أمن، ومن سقم فيها ندم [1] ، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن؛ فى حلالها الحساب، وفى حرامها العذاب.
وقال الحسن بعد أن تلا قوله تعالى فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا*
: من قال ذا؟ من خلقها من هو أعلم بها. إيّاكم وما شغل من الدنيا فإنّ الدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب. وقال أيضا: مسكين ابن آدم رضى بدار حلالها حساب، وحرامها عذاب، إن أخذه من حلّه حوسب به، وإن أخذه من حرام عذّب به. ابن آدم يستقلّ ماله ولا يستقلّ عمله، يفرح بمصيبته فى دينه ويجزع من مصيبته فى دنياه.
وقال داود الطائىّ: يآبن آدم، فرحت ببلوغ أملك، وإنّما بلغته بانقضاء أجلك، ثم سوّفت بعملك، كأنّ منفعته لغيرك.
وقال بشر: من سأل الله الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف بين يديه.
وقال أبو حازم: ما فى الدنيا شىء يسرّك إلا وقد ألصق الله إليه شيئا يسوءك وقال الحسن: أهينوا الدنيا، فو الله ما هى لأحد بأهنأ منها لمن أهانها. وقال أيضا: إذا أراد الله بعبد خيرا أعطاه عطيّة من الدنيا ثم يمسك، فإذا نفد أعاد عليه؛ وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطا.
__________
[1] كذا فى الأصلين. وفى الإحياء (ج 3 ص 192) : «من صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم» .(5/248)
قال الجنيد: كان الشافعىّ رحمه الله من المريدين الناطقين بلسان الحقّ فى الدين، وعظ أخا له فى الله تعالى وخوّفه بالله فقال: يا أخى، إنّ الدنيا دحض مزلّة، ودار مذلّة، عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها إلى القبور زائر؛ شملها على الفرقة موقوف، وغتاها إلى الفقر مصروف؛ الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار؛ فافزع إلى الله وارض برزق الله. لا تستسلف من دار بقائك فى دار فنائك، فإن عيشك فىء زائل، وجدار مائل؛ أكثر من عملك، وقصّر من أملك. وهذا من أبلغ المواعظ والترغيب.
ومن المواعظ ما قاله أبو الدرداء رضى الله عنه: والله لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصّعدات [تجأرون و [1]] تبكون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلّا ما لا بدّ لكم منه، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة وحضرها الأمل، فصارت الدنيا أملك بأعمالكم وصرتم كالذين لا يعلمون، فبعضكم شرّ من البهائم التى لا تدع هواها مخافة مما فى عاقبته. ما لكم لا تحابّون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين [الله [1]] ؛ ما فرّق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولو اجتمعتم على البرّ لتحاببتم. ما لكم تناصحون [2] فى أمر الدنيا ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبّه ويعينه على أمر آخرته! ما هذا إلا من قلّة الإيمان فى قلوبكم.
لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرّها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الاخرة لأنها أملك بأموركم. فإن قلتم: حبّ العاجلة غالب؛ فإنّا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للآجل مما تكدّون أنفسكم بالمشقّة والاحتراف فى طلب أمر لعلكم لا تدركونه.
__________
[1] زيادة عن الإحياء.
[2] فى الأصلين: «ما لكم لا تناصحون فى أمر الدنيا» بدخول لا النافية والسياق يقتضى حذفها. وفى الإحياء: «ما لكم تناصحون فى أمر الدنيا ولا تناصحون فى أمر الآخرة ولا يملك أحدكم ... » .(5/249)
فبئس القوم أنتم! ما حقّقتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم. فإن كنتم فى شكّ مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فأتونا لنبيّن لكم ولنريكم من النور ما تطمئنّ اليه قلوبكم. والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم؛ إنكم لتبيّنون صواب الرأى فى دنياكم وتأخذون بالحزم فى أموركم. ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه وتحزنون على اليسير منها يفوتكم، يتبين ذلك فى وجوهكم ويظهر على ألسنتكم، وتسمّونها المصائب وتقيمون فيها المآتم، وعامّتكم قد تركوا كثيرا من دينهم ثم لا يتبيّن ذلك فى وجوهكم [1] ولا يتغيّر حال بكم!. إنى لأرى الله قد تبرّأ منكم. يلقى بعضكم بعضا بالسرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله، فاصطحبتم [2] على الغلّ، ونبتت مراعيكم على الدّمن، وتصافيتم على رفض الأجل. ولو ددت أن الله أراحنى منكم وألحقنى بمن أحبّ رؤيته، ولو كان حيّا لم يصابركم. فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم؛ وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيرا. والله أستعين على نفسى وعليكم.
وكتب الحسن البصرىّ إلى عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى:
أمّا بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنّة إليها عقوبة؛ فاحذرها يا أمير المؤمنين؛ فإنّ الزاد منها تركها، والغنى منها فقرها؛ لها فى كلّ حين قتيل؛ تذلّ من أعزّها، وتفقر من جمعها؛ هى كالسّم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه. فكن فيها كالمداوى جراحته، يحتمى قليلا مخافة ما يكره طويلا، ويصبر على شدّة الدواء مخافة طول الداء. فاحذر هذه الدار الغدّارة الختّالة الخدّاعة التى قد تزيّنت بخدعها وفتنت بغرورها، وحلت بامالها، وسوّفت بخطّابها؛
__________
[1] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «ثم لا يتبين ذلك فى وجوههم» .
[2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «فأصبحتم على الغل ... » .(5/250)
فأصبحت كالعروس المجلوّة [1] ، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلّهم قالية؛ فلا الباقى بالماضى معتبر، ولا الآخر بالأوّل مزدجر، والعارف بالله عز وجلّ حين أخبره عنها مدّكر؛ فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغترّ وطغى ونسى المعاد، فشغل لبّه حتى زلّت [به [2]] قدمه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وتألّمه، وحسرات الفوت بغصّته؛ وراغب [3] فيها لم يدرك فيها ما طلب، ولم يروّح نفسه من التعب؛ فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد. فاحذرها يا أمير المؤمنين، وكن أسرّ ما تكون فيها أحذر ما تكون لها؛ فإنّ صاحب الدنيا كلما اطمأنّ فيها إلى سرور أشخصته إلى مكروه؛ السارّ فيها أهلها غارّ، والنافع فيها غدّار [4] ضارّ؛ وقد وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالأحزان. لا يرجع منها ما ولّى وأدبر، ولا يدرى ما هو آت فينتظر؛ أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر، ومن البلاء على حذر. فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا، لكانت الدنيا أيقظت النائم ونبّهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجلّ عنها زاجر وفيها واعظ! فما لها عند الله جل ثناؤه قدر، وما نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على نبيّك صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها إذ كره أن يخالف على الله أمره، أو يحبّ ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه. فزواها [5] عن الصالحين اختبارا. وبسطها
__________
[1] فى الأصل: «المجلية» والفعل واوى كما فى القاموس.
[2] زيادة عن الإحياء.
[3] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «ومن راغب بزيادة «من» والسياق يأباها.
[4] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «والنافع فيها غدا ضارّ» .
[5] زواه زيّا وزويّا: نحّاه.(5/251)
لأعدائه اغترارا؛ فيظنّ المغرور المقتدر عليها أنه أكرم بها، ونسى ما صنع الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شدّ الحجر على بطنه. ولقد جاءت الرواية عنه عن ربّه عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام: إذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجّلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبّا بشعار الصالحين. فإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى بن مريم عليه السلام فإنه كان يقول: إدامى الجوع، وشعارى الخوف، ولباسى الصوف، وصلائى فى الشتاء مشارق الشمس، وسراجى القمر، ودابّتى رجلاى، وطعامى وفاكهتى ما تنبت الأرض، أبيت ليس لى شىء وأصبح وليس لى شىء وليس على الأرض أغنى منّى.
وقال بعضهم لبعض الملوك: إن أحقّ الناس بذمّ الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطى حاجته منها، لأنه يتوقّع آفة تعدو على ماله فتجتاحه، أو على جمعه فتفرّقه، أو تأتى سلطانه فتهدمه من القواعد، أو تدبّ إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشىء هو ضنين به من أحبابه. فالدنيا أحقّ بالذمّ، هى الآخذة لما تعطى، الراجعة فيما تهب. بينا هى تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره، وبينا هى تبكى له إذ بكت عليه، وبينا هى تبسط كفّه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد. تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفّره فى التراب غدا؛ سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقى، تجد فى الباقى من الذاهب خلفا، وترضى بكلّ من كلّ بدلا.
وعن وهب بن منبّه أنه قال:
لمّا بعث الله عز وجلّ موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون قال:
لا يرو عنّكما لباسه الذى لبس من الدنيا، فإنّ ناصيته بيدى ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفّس إلا بإذنى، ولا يعجبنّكما ما متّع به منها فإنما هى زهرة الدنيا وزينة المترفين. فلو شئت أن أزيّنكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أنّ قدرته(5/252)
تعجز عمّا أوتيتما لفعلت، ولكنّى أرغب بكما عن ذلك فأزوى ذلك عنكما، وكذلك أفعل بأوليائى، إنى لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعى الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة؛ وما ذاك لهوانهم علىّ ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالما موفّرا.
إنما يتزيّن لى أوليائى بالذّلّ والخضوع والخوف والتقوى تنبت فى قلوبهم فتظهر على أجسادهم، فهى ثيابهم التى يلبسون، ودثارهم الذى يظهرون، وضميرهم الذى يستشعرون، ونجاتهم التى بها يفوزون، ورجاؤهم الذى إيّاه يأملون، ومجدهم الذى به يفخرون، وسيماهم التى بها يعرفون. فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلّل لهم قلبك ولسانك. واعلم أنّ من أخاف لى وليّا فقد بارزنى بالمحاربة، ثم أنا الثائر له يوم القيامة.
وخطب علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوما [خطبة [1]] فقال فيها:
اعلموا أنكم ميّتون، ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيّون بها، فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا؛ فإنّها بالبلاء محفوفة، وبالفناء معروفة، وبالغدر موصوفة؛ وكلّ ما فيها إلى زوال، وهى بين أهلها دول وسجال؛ لا تدوم أحوالها، ولا يسلم من شرها نزّالها؛ بينا أهلها فى رخاء وسرور، إذا هم منها فى بلاء وغرور؛ أحوال مختلفة، وتارات متصرّفة؛ العيش فيها مذموم، والرخاء فيها لا يدوم. وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها، وتقصيهم بحمامها؛ وكلّ حتفه فيها مقدور، وحظّه فيها موفور. واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعمارا، وأشدّ منكم بطشا وأعمر ديارا، وأبعد آثارا؛ فأصبحت أصواتهم هامدة وخامدة من بعد طول تقلّبها، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية، وآثارهم عافية؛ استبدلوا بالقصور المشيّدة، والسّرر والنمارق الممهّدة، الصخور
__________
[1] زيادة عن الإحياء.(5/253)
والأحجار المسندة، فى القبور اللاطئة الملحدة؛ فمحلّها مقترب، وساكنها مغترب، بين أهل عمارة موحشين، وأهل محلّة متشاغلين؛ لا يستأنسون بالعمران، ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان؛ على ما بينهم من قرب المكان والجوار، ودنوّ الدار.
وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلى، وأكلتهم الجنادل والثرى؛ وأصبحوا بعد الحياة أمواتا، وبعد غضارة العيش رفاتا؛ فجع بهم الأحباب، وسكنوا التراب، وظعنوا فليس لهم إياب. هيهات هيهات! كلّا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون؛ فكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلى والوحدة فى دار المثوى، وارتهنتم فى ذلك المضجع، وضمّكم ذلك المستودع؛ فكيف بكم لو قد عاينتم الأمور، وبعثرت القبور، وحصّل ما فى الصدور؛ ووقفتم للتحصيل، بين يدى الملك الجليل؛ فطارت القلوب، لإشفاقها من سالف الذنوب؛ وهتكت عنكم الحجب والأستار، وظهرت منكم العيوب والأسرار؛ هنالك تجزى كلّ نفس ما كسبت.
إن الله عز وجلّ يقول: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
؛ وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
. جعلنا الله وإيّاكم عاملين بكتابه، متّبعين لأوليائه، حتّى يحلّنا وإيّاكم دار المقامة من فضله، إنه حميد مجيد.
ومما يلتحق بهذا الفصل ويدخل فيه، خطبة قطرىّ بن الفجاءة وسترد فى كلام البلغاء فى باب الكتابة.
وقال بعضهم: يأيها الناس، اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغترّوا بالأمل ونسيان الأجل؛ ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدّارة خدّاعة،(5/254)
قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطّابها، فأصبحت كالعروس المجلوّة؛ العيون اليها ناظرة، والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة. فكم من عاشق لها قتلت، ومطمئنّ إليها خذلت. فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنّها دار كثرت بوائقها، وذمّها خالقها؛ جديدها يبلى، وملكها يفنى؛ وعزيزها يذلّ، وكثيرها يقلّ؛ وحيّها يموت، وخيرها يفوت. فاستيقظوا من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم؛ قبل أن يقال: فلان عليل، أو مدنف ثقيل، فهل على الدواء من دليل، أو على الطبيب من سبيل؛ فيدعى لك الأطبّاء، ولا يرجى لك الشفاء؛ ثم يقال: فلان أوصى، ولماله أحصى؛ ثم يقال: قد ثقل لسانه فما يكلّم إخوانه، ولا يعرف جيرانه؛ وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك [1] ، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك؛ وتلجلج لسانك، وبكى إخوانك؛ وقيل لك: هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، ومنعت الكلام فلا تنطق؛ ثم حلّ بك القضاء، وانتزعت نفسك من الأعضاء، ثم عرج بها الى السماء؛ فاجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك؛ فغسّلوك وكفّنوك؛ فانقطع عوّادك، واستراح حسّادك؛ وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنا بأعمالك.
وقال بعض الحكماء: الأيام سهام، والناس أغراض، والدهر يرميك كلّ يوم بسهامه، ويتخرّمك بلياليه وأيّامه، حتّى يستغرق جميع أجزائك؛ فكم بقاء سلامتك مع وقوع الأيّام بك، وسرعة الليالى فى بدنك! لو كشف لك [2] عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كلّ يوم يأتى عليك، واستثقلت ممرّ الساعات بك؛ ولكنّ تدبير الله فوق تدبير الاعتبار؛ وبالسلوّ عن غوائل الدنيا وجد طعم لذّاتها، وإنّها
__________
[1] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «وثبت نفسك ... » .
[2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «لو كشفت عما ... » .(5/255)
لأمرّ من العلقم إذا عجمها الحكيم؛ وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها، وما تأتى به من العجائب أكثر مما يحيط به الواعظ. اللهم أرشدنا للصواب.
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: أيها الناس، إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدّقون [به [1]] فإنكم حمقى، وإن كنتم تكذّبون به إنكم لهلكى [2] ؛ إنما خلقتم للأبد، ولكنكم من دار الى دار تنقلون. عباد الله، إنكم فى دار لكم فيها من طعامكم غصص، ومن شرابكم شرق، لا تصفو نعمة تسرّون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه خالدون فيه. ثم غلبه البكاء ونزل.
ذكر بيان الزهد وأقسامه وأحكامه
فأمّا درجاته فقد قال الغزالىّ رحمه الله: إنها تتفاوت بحسب تفاوت قوّته على درجات ثلاث:
الأولى وهى السفلى منها: أن يزهد فى الدنيا وهو لها مشته، وقلبه إليها مائل، ونفسه إليها ملتفتة ولكنّه يجاهدها ويكفّها، وهذا يسمّى التزهّد، وهو مبدأ الزهد فى حقّ من يصل الى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد. والمتزهّد يذيب أوّلا نفسه ثم كسبه، والزاهد يذيب أوّلا كسبه ثم يذيب نفسه فى الطاعة لا فى الصبر على ما فارقه. والمتزهّد على خطر، فإنه ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها فى قليل أو كثير.
الثانية: الذى يترك الدنيا طوعا [3] لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كالذى يترك درهما لأجل درهمين فإنّه لا يشقّ عليه ذلك وإن كان يحتاج
__________
[1] زيادة عن الإحياء.
[2] الذى فى الإحياء: «وان كنتم تكذبون به فإنكم هلكى» .
[3] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «طاعة» .(5/256)
إلى انتظار قليل. ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه، كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه، فيكاد يكون معجبا بنفسه وبزهده، ويظنّ بنفسه أنّه ترك شيئا له قدر لما هو أعظم قدرا منه؛ وهذا أيضا نقصان.
الثالثة وهى العليا: أن يزهد طوعا ويزهد فى زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنّه ترك شيئا إذ عرف أن الدنيا لا شىء، فيكون كمن ترك خزفة وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة ولا يرى نفسه تاركا شيئا. [والدنيا بالإضافة إلى الله ونعيم الآخرة أخسّ من خزفة بالإضافة إلى جوهرة [1]] ؛ فهذا هو الكمال فى الزهد، وسهبه كمال المعرفة. وأما أقسامه فمنها ما هو مضاف إلى المرغوب فيه والمرغوب عنه؛ فأما المرغوب فيه فهو على ثلاث درجات:
الأولى وهى السفلى: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط وسائر ما بين يدى العبد من الأهوال كما وردت به الأخبار. وفى الخبر: «إن الرجل ليوقف فى الحساب حتى لو وردت مائة بعير عطاشا على عرقه لصدرت رواء» ؛ فهذا زهد الخائفين وكأنّهم رضوا بالعدم لو أعدموا فإنّ الخلاص من الألم يحصل بمجرّد العدم.
الدرجة الثانية: أن يزهد رغبة فى ثواب الله ونعيمه واللّذّات الموعودة فى جنّته من الحور والقصور وغيره، وهذا زهد الراجين، فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا فى وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له.
الدرجة الثالثة وهى العليا: ألا يكون له رغبة إلا فى الله وفى لقائه، فلا يلتفت قلبه إلى الالام ليقصد الخلاص منها، ولا إلى اللذّات ليقصد نيلها والظفر بها،
__________
[1] زيادة من الإحياء.(5/257)
بل هو مستغرق الهمّ بالله تعالى، وهو الموحّد الحقيقىّ الذى لا يطلب غير الله تعالى، لأنّ من طلب غير الله فقد عبده؛ وكلّ مطلوب معبود، وكلّ طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وطلب غير الله من الشرك الخفىّ؛ وهذا زهد المحبّين وهم العارفون، لأنه لا يحبّ الله تعالى خاصّة إلا من عرفه؛ وكما أنّ من عرف الدينار والدرهم وعلم أنّه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحبّ إلا الدينار، فكذلك من عرف الله تعالى وعرف لذّة النظر الى وجهه الكريم، وعرف أن الجمع بين تلك اللذّة وبين لذّة التنعّم بالحور العين والنظر الى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن، فلا يحبّ إلّا لذّة النظر ولا يؤثر غيره. قال: ولا تظنّن أن أهل الجنّة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذّة الحور والقصور متّسع فى قلوبهم، بل تلك اللذّة بالإضافة إلى لذّة نعيم الجنّة كلذّة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى الاستيلاء على عصفور واللعب به؛ والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبىّ الطالب للّعب بالعصفور التارك للذّة الملك، وذلك لقصوره عن إدراك لذّة الملك لا لأن اللعب بالعصفور فى نفسه أعلى وألذّ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق.
وأمّا المرغوب عنه، فقد كثرت فيه الأقاويل.
قال الغزالىّ رحمه الله: لعلها تزيد على مائة قول، وأشار إلى كلام محيط بالتفاصيل فقال: المرغوب عنه بالزهد له إجمال وتفصيل، ولتفصيله مراتب بعضها أشرح لآحاد الأقسام وبعضها أجمع للجمل.
أما الإجمال فى الدرجة الأولى: فهو كلّ ما سوى الله فينبغى أن يزهد فيه حتّى يزهد فى نفسه أيضا.(5/258)
والإجمال فى الدرجة الثانية: أن يزهد فى كل صفة للنفس فيها متعة، وهذا يتناول جميع مقتضيات الطبع من الشهوة والغضب والكبر والرياسة والمال والجاه وغير ذلك.
وفى الدرجة الثالثة: أن يزهد فى المال والجاه وأسبابهما، إذ إليهما ترجع جميع حظوظ النفس.
وفى الدرجة الرابعة: أن يزهد فى العلم والقدرة والدينار والدرهم [والجاه [1]] ، إذ الأموال وإن كثرت أصنافها فيجمعها الدينار والدرهم، والجاه وإن كثرت أسبابه فيرجع إلى العلم والقدرة. قال: وأعنى به كلّ علم وقدرة مقصودهما ملك القلوب؛ إذ معنى الجاه هو ملك القلوب والقدرة عليها، كما أن معنى المال ملك الأعيان والقدرة عليها. قال: فإن جاوزت هذا التفصيل إلى شرح وتفصيل أبلغ من هذا فتكاد تخرج ما فيه الزهد عن الحصر. وقد ذكر الله تعالى فى آية واحدة سبعة منها فقال:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا
. ثم ردّه فى آية أخرى إلى خمسة فقال: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ
. ثم ردّه فى موضع آخر إلى اثنين فقال: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى
؛ فالهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس فى الدنيا، فينبغى أن يكون الزهد فيه.
قال: فالحاصل أن الزهد عبارة عن الرغبة عن حظوظ النفس كلّها.
__________
[1] زيادة عن الإحياء.(5/259)
وقال أبو سليمان الدارانىّ: سمعنا فى الزهد كلاما كثيرا، والزهد عندنا ترك كلّ شى يشغلك عن الله عز وجلّ، وقرأ قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
، قال: هو القلب الذى ليس فيه غير الله. فهذا بيان أقسامه بالإضافة إلى المرغوب فيه وعنه.
وأما أحكامه فتنقسم إلى فرض ونفل وسلامة. فالفرض هو الزهد فى الحرام، والنفل هو الزهد فى الحلال، والسلامة هو الزهد فى الشبهات. فهذه درجاته وأقسامه وأحكامه على سبيل الاختصار.
ذكر بيان تفصيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة
قال الغزالىّ رحمه الله: اعلم أنّ ما الناس منهمكون فيه ينقسم إلى فضول وإلى مهمّ؛ فالفضول كالخيل المسوّمة- إذ غالب الناس إنما يقتنيها للترفّه بركوبها وهو قادر على المشى- وغير ذلك مما لا ينحصر. ثم حصر المهمّ الضرورىّ فتميّز ما عداه أنّه فضول. قال: والمهمّ أيضا يتطرّق إليه فضول فى مقداره وجنسه [1] وأوقاته على ما يشرحه من قوله. قال: والمهمّات ستّة أمور، وهى: المطعم، والملبس، والمسكن وأثاثه، والمنكح، والمال، والجاه يطلب لأغراض.
فالمهمّ الأوّل المطعم. ولا بدّ للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه، ولكن له طول وعرض ووقت. فأما طوله فبالإضافة إلى جملة العمر فإن من يملك طعام يومه قد لا يقنع به، وهو لا يقصر إلا بقصر الأمل، وأقلّ درجات الزهد فيه الاقتصار على قدر دفع الجوع عند شدّته وخوف المرض. ومن هذا حاله فإذا استقل بما تناوله لم يدّخر [2] من غدائه لعشائه؛ وهذه الدرجة العليا.
__________
[1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «وحسنه ... » .
[2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «ولم يدخر» بالواو.(5/260)
والثانية: أن يدّخر لشهر أو أربعين يوما.
والثالثة: أن يدّخر لسنة فقط، وهذه رتبة ضعفاء الزهّاد. ومن ادّخر لأكثر من ذلك فتسميته زاهدا محال؛ لأنّ من أمّل بقاء أكثر من سنة فهو طويل الأمل جدّا فلا يتمّ منه الزهد إلا إذا لم يكن له كسب ولم يرض لنفسه الأخذ من أيدى الناس، كداود الطانىّ فإنه ورث عشرين دينارا فأمسكها وأنفقها عشرين سنة، فهذا لا يضادّ الزهد إلا عند من جعل التوكل شرط الزهد.
وأمّا عرضه فبالإضافة الى المقدار، وأقل درجاته فى اليوم والليله نصف رطل، وأوسطه رطل، وأعلاه مدّ- وهو ما قدّره الله تعالى فى إطعام المساكين فى الكفّارة- وما وراء ذلك فهو اتساع واشتغال بالبطن. ومن لم يقدر على الاقتصار على مدّ لم يكن له من الزهد فى البطن نصيب.
وأمّا بالإضافة إلى الجنس فأقلّه ما يقوت وهو الخبز من النّخالة، وأوسطه خبز الشعير والذرة، وأعلاه خبز البرّ غير منخول؛ فاذا ميّزت النّخالة منه وصار حوّارى فقد دخل فى التنعّم وخرج عن آخر أبواب الزهد فضلا عن أوائله.
وأمّا الأدم، فأقلّه الملح أو البقل والخلّ، وأوسطة الزيت أو يسير من الأدهان، وأعلاه اللحم وذلك فى الأسبوع مرّة أو مرّتين؛ فإن صار دائما أو أكثر من مرّتين فى الأسبوع خرج من آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهدا فى البطن أصلا.
وأمّا بالإضافة إلى الوقت فأقلّه فى اليوم والليلة مرّة وهو أن يكون صائما ثم يفطر فى وقت الإفطار؛ وأوسطه أن يصوم ويشرب ليلة ولا يأكل، ويأكل ليلة ولا يشرب؛ وأعلاه أن ينتهى إلى أن يطوى ثلاثة أيام وأسبوعا وما زاد عليه.
وانظر الى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى كيفيّة زهدهم فى المطاعم وتركهم الأدم واقتصارهم على ما يمسك الرمق. قالت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله(5/261)
عنها: كانت تأتى علينا أربعون ليلة وما يوقد فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مصباح ولا نار. قيل لها: فبم كنتم تعيشون؟ قالت: بالأسودين التمر والماء.
وجاء أهل قباء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم بشربة من لبن مشوبة بعسل، فوضع القدح من يده وقال: «أما إنّى لست أحرّمه ولكنّى أتركه تواضعا لله تعالى»
. وأتى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بشربة من ماء بارد وعسل فى يوم صائف فقال:
اعزلوا عنّى حسابها. وقال يحيى بن معاذ الرازىّ. الزاهد الصادق قوته ما وجد، ولباسه ما ستر، ومسكنه حيث أدرك؛ الدنيا سجنه، والقبر مضجعه، والخلوة مجلسه، والاعتبار فكرته، والقرآن حديثه، والربّ أنيسه، والذكر رفيقه، والزهد قرينه، والحزن شأنه، والحياء شعاره، والجوع إدامه، والحكمة كلامه، والتراب فراشه، والتقوى زاده، والصمت غنيمته، والصبر معتمده، والتوكّل حسبه، والعقل دليله، والعبادة حرفته، والجنّة مبلغه إن شاء الله تعالى.
المهم الثانى الملبس. وأقلّ درجاته ما يدفع الحرّ والبرد ويستر العورة، وهو كساء يتغطّى به؛ وأوسطه قميص وقلنسوة ونعلان؛ وأعلاه أن يكون معه منديل وسراويل. وما جاوز هذا من حيث المقدار فهو مجاوز حدّ الزهد. وشرط الزهد ألّا يكون له ثوب يلبسه اذا غسل ثوبه بل يلزمه القعود فى البيت؛ فإذا صار صاحب قميصين وسراويلين ومنديلين فقد خرج من جميع أبواب الزهد. هذا من حيث المقدار. وأما الجنس، فأقلّه المسوح الخشنة، وأوسطه الصوف الخشن، وأعلاه القطن الغليظ.
وأما من حيث الوقت، فأقصاه ما يستر سنة، وأقلّه ما يبقى يوما، وقد رقع بعضهم ثوبه بورق الشجر [وإن كان يتسارع الجفاف إليه [1]] ؛ وأوسطه ما يتماسك
__________
[1] زيادة من الإحياء.(5/262)
عليه شهرا وما يقاربه. فطلب ما يبقى أكثر من سنة خروج إلى طول الأمل، وهو مضادّ للزهد إلا إذا كان المطلوب خشونته وقد يتبع ذلك قوّته ودوامه. فمن وجد زيادة من ذلك فينبغى أن يتصدّق به؛ فإن أمسكه لم يكن زاهدا بل كان محبّا للدنيا. ولينظر إلى أحوال الأنبياء صلى الله عليهم والصحابة رضى الله عنهم كيف تركوا الملابس. قال أبو بردة: أخرجت لنا عائشة رضى الله عنها كساء ملبّدا وإزارا غليظا فقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذين.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحبّ المتبذّل الذى لا يبالى ما لبس»
. وفى الخبر: «ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله عنه حتى ينزعه وإن كان عنده حبيبا» .
واشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبا بأربعة دراهم وكان إزاره أربعة أذرع ونصفا، واشترى سراويل بثلاثة دراهم، وكان يلبس شملتين بيضاوين من صوف وكانت تسمّى حلّة لأنهما ثوبان من جنس واحد. وربما كان يلبس بردين يمانيين أو سحوليّين. ولبس صلى الله عليه وسلم يوما واحدا ثوبا سيراء [1] من سندس قيمته مائتا درهم، فكان أصحابه يلمسونه ويقولون: يا رسول الله، أنزل هذا عليك من الجنّة! تعجّبا، وكان قد أهداه إليه المقوقس ملك الإسكندرية، فأراد أن يكرمه بلبسه ثم نزعه وأرسل به إلى رجل من المشركين وصله به، ثم حرّم لبس الحرير والديباج.
وقد صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى خميصة [2] لها علم فلمّا سلّم قال: «شغلنى النظر الى هذه اذهبوا بها الى أبى جهم وأتونى بأنجبانيّته [3] »
(يعنى كساءه) فاختار لبس الكساء على الثوب الناعم. وكان شراك نعله قد أخلق فأبدل بسير جديد فصلّى
__________
[1] السيراء (بكسر السين وفتح التحتية ممدودا) : ضرب من البرود فيه خطوط صفر.
[2] الخميصة: ثوب خز أو صوف معلم.
[3] الأنبجانىّ: نسبة الى منبج (كمجلس) موضع بالشأم، يقال فى النسبة اليه منبجانى وأنبجانى بفتح بائهما على غير قياس.(5/263)
فيه؛
فلما سلّم قال: «أعيدوا الشّراك الخلق وانزعوا هذا الجديد فإنّى نظرت إليه فى الصلاة»
. وعن جابر رضى الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضى الله عنها وهى تطحن بالرحا وعليها كساء من وبر الإبل [1] ، فلما نظر إليها بكى وقال: «يا فاطمة تجرّعى مرارة الدنيا لنعيم الأبد»
. فأنزل الله عليه (ولسوف يعطيك ربّك فترضى) .
[وقد أوصى أمته عامّة باتباعه إذ قال: «من أحبنى فليستنّ بسنّتى»
. وقال: «عليكم بسنتى وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدى عضّوا عليها بالنواجذ»
. وقال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
[2]] .
وأوصى رسول صلى الله عليه وسلم عائشة رضى الله عنها خاصة وقال لها: «إن أردت اللّحوق بى فإيّاك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعى ثوبا حتى ترقعيه»
. وعدّ على قميص عمر رضى الله عنه اثنتان [3] وعشرون رقعة بعضها من أدم.
وفى الخبر: «من ترك ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعا لله تعالى وابتغاء لوجهه كان حقّا على الله أن يدّخر له من عبقرىّ الجنّة فى أتخات الياقوت»
. وقال عمر رضى الله عنه: اخلولقوا واخشوشنوا، وإيّاكم وزىّ العجم كسرى وقيصر. وقال الثورىّ وغيره: البس من الثياب ما لا يشهّرك عند العلماء ولا يحقّرك عند الجهّال. وقال بعضهم: قوّمت ثوبى سفيان ونعليه بدرهم وأربعة دوانيق. والأخبار فى التقلّل من اللباس كثيرة فلا نطوّل بسردها.
المهم الثالث المسكن. وللزهد فيه أيضا ثلاث درجات، أعلاها ألّا يطلب موضعا خاصا لنفسه فيقنع بزوايا المساجد كأصحاب الصّفّة، وأوسطها أن يطلب
__________
[1] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «من أجلة الابل ... » .
[2] زيادة عن الإحياء.
[3] كذا بالأصل. وفى الإحياء (ج 4 ص 223 طبع بلاق) : «اثنتا عشرة رقعة» .(5/264)
موضعا خاصّا لنفسه مثل كوخ مبنىّ من سعف أو خصّ أو ما يشبهه، وأدناها أن يطلب حجرة مبنيّة إما بشراء أو إجارة. فإن كان قدر سعة المسكن على قدر حاجته من غير زيادة ولم تكن فيه زينة لم يخرجه هذا القدر عن آخر درجات الزهد. فإن طلب التشييد والتجصيص والسعة وارتفاع السقف أكثر من ستة أذرع فقد جاوز بالكليّة حدّ الزهد فى المسكن. قال: والغرض من المسكن دفع المطر والبرد ودفع الأعين والأذى. وأقلّ الدرجات فيه معلوم، وما زاد عليه فهو من الفضول، والفضول كله من الدنيا، وطالب الفضول والساعى له بعيد من الزهد.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد الله بعبد شرّا أهلك ماله فى الماء والطين»
. وقال الحسن: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة.
وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: مرّ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعالج خصّا فقال: «ما هذا» قلنا: خصّ لنا قد وهى؛ قال: «أرى الأمر أعجل من ذلك»
. واتخذ نوح عليه السلام بيتا من قصب؛ فقيل له: لو بنيت! فقال: هذا كثير لمن يموت. وقال الحسن: دخلنا على صفوان بن محرز [1] وهو فى بيت من قصب قد مال عليه؛ فقيل له: لو أصلحته! فقال: كم من رجل قد مات وهذا قائم على حاله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى فوق ما يكفيه كلّف أن يحمله يوم القيامة»
. وفى الخبر:
«كلّ نفقة للعبد يؤجر عليها إلا ما أنفقه فى الماء والطين» . وجاء فى تفسير قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً
أنه الرياسة والتطاول فى البنيان.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما أكنّ من حرّ وبرد»
. ونظر عمر رضى الله عنه
__________
[1] كذا فى كتابى الخلاصة والتهذيب فى أسماء الرجال. وفى الأصلين: «محيريز» .(5/265)
فى طريق الشأم الى صرح قد بنى بجصّ وآجرّ، فكبّر وقال: ما كنت أظنّ أن يكون فى هذه الأمّة من يبنى بنيان هامان لفرعون. وكان ارتفاع بناء السلف قامة وبسطة. قال الحسن: كنت اذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربت بيدى الى السقف. وقال عمرو بن دينار: اذا علىّ العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك: الى أين يا أفسق الفاسقين. وقال الفضيل: إنّى لا أعجب ممن بنى وترك ولكنّى أعجب ممن نظر اليه ولم يعتبر. وقال ابن مسعود: يأتى قوم يرفعون الطين، ويضعون الدين، ويستعملون البراذين، يصلّون الى قبلتكم، ويموتون على غير دينكم.
المهم الرابع أثاث البيت. وللزهد فيه أيضا درجات، أعلاها حال عيسى عليه السلام إذ كان لا يصحبه إلا مشط وكوز؛ فرأى إنسانا يمشط لحيته بأصابعه؛ فرمى بالمشط. ورأى آخر يشرب من النهر بكفّيه فرمى بالكوز. وهذا حكم كلّ أثاث فإنه إنما يراد لمقصود فإذا استغنى عنه فهو وبال فى الدنيا والآخرة. وما لا يستغنى عنه فيقتصر فيه على أقلّ الدرجات وهو الخزف فى كلّ ما يكفى فيه الخزف، ولا يبالى أن يكون مكسور الطرف اذا كان المقصود يحصل به. وأوسطها أن يكون له أثاث بقدر الحاجة صحيح فى نفسه، ولكن يستعمل الآلة الواحدة فى مقاصد كالذى معه قصعة يأكل فيها ويشرب فيها ويحفظ المتاع فيها. وكان السلف يستحبّون استعمال آلة واحدة فى أشياء للتخفيف. وأعلاها أن يكون له بعدد كلّ حاجة آلة من الجنس النازل الخسيس؛ فإن زاد فى العدد أو فى نفاسة الجنس خرج من جميع أبواب الزهد وركن الى طلب الفضول. ولينظر الى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضى الله عنهم. قالت عائشة رضى الله عنها: كان(5/266)
ضجاع [1] رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ينام عليه وسادة من أدم حشوها ليف.
وقال الفضيل: ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا عباءة مثنيّة ووسادة حشوها ليف.
وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على سرير مرمول [2] بشريط، فجلس فرأى أثر السرير فى جنبه عليه السّلام فدمعت عينا عمرّ. فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما الذى أبكاك يابن الخطاب» ؟ قال: ذكرت كسرى وقيصر وما هما فيه من الملك وذكرتك وأنت حبيب الله وصفيّه ورسوله نائم على سرير مرمول بالشريط! فقال صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى يا عمر أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة» ! قال: بلى يا رسول الله. قال: «فذلك كذلك»
. ودخل رجل على أبى ذرّ فجعل يقلّب بصره فى بيته فقال: يا أبا ذرّ، ما أرى فى بيتك متاعا ولا غير ذلك من الأثاث! فقال: إن لنا بيتا نوجّه إليه صالح متاعنا. فقال: إنه لا بدّ لك من متاع ما دمت هاهنا.
فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه. ولما قدم عمير بن سعد أمير حمص على عمر قال له: ما معك من الدنيا؟ فقال: معى عصاى أتوكّأ عليها وأقتل بها حيّة إن لقيتها، ومعى جرابى أحمل فيه طعامى، ومعى قصعتى آكل فيها وأغسل فيها رأسى وثوبى، ومعى مطهرتى أحمل فيها شرابى ووضوئى للصلاة، فما كان بعد هذا من
__________
[1] كذا فى الأصلين والإحياء، ولم نجده فى كتب اللغة التى بين أيدينا. وفى لسان العرب ونهاية ابن الأثير «ضجعة» وقالا فى تفسيره: «الضجعة بالكسر من الاضطجاع وهو النوم كالجلسة من الجلوس وبفتحها المرة الواحدة، والمرادّ ما كان يضطجع عليه فيكون فى الكلام مضاف محذوف تقديره كانت ذات ضجعته أو ذات اضطجاعه فراش أدم ... » .
[2] الرمل: النسج، والسرير المرمول هو الذى ينسج له شريط ويجعل ظهرا له (عن القاموس) . وقد ورد الحديث فى نهاية ابن الأثير وفى لسان العرب:
«واذا هو جالس على رمال سرير» وفى رواية أخرى «على رمال حصير» . والرمال كحطام وركام ما رمل أى نسج. والمراد أن هذا السرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن عليه وطاء سوى الحصير.(5/267)
الدنيا فهو تبع لما معى. فقال عمر: صدقت، رحمك الله.
وقدم رسول الله صلى الله وسلم من سفر، فدخل على فاطمة رضى الله عنها فرأى على باب منزلها سترا وفى يديها قلبين من فضّة فرجع. فدخل عليها أبو رافع وهى تبكى، فأخبرته برجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأله أبو رافع فقال: «من أجل الستر والسّوارين» :
فأرسلت بهما بلالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: قد تصدّقت بهما فضعهما حيث ترى. فقال: «اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصّفّة»
. فباع القلبين بدرهمين ونصف وتصدّق بهما عليهم. فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بأبى أنت قد أحسنت» . وقال الحسن: أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه، وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوبا قطّ، كان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه.
المهم الخامس المنكح. قال الغزالىّ: وقد قال قائلون: لا معنى للزهد فى أصل النكاح ولا فى كثرته؛ وإليه ذهب سهل بن عبد الله وقال: قد حبّب إلى سيّد الزاهدين النساء فكيف نزهد فيهنّ! ووافقه ابن عيينة، وقال: كان أزهد الصحابة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وكان له أربع نسوة وبضع عشرة سرّيّة.
قال الغزالىّ: والصحيح ما قاله أبو سليمان الدارانىّ إذ قال: كلّ ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشئوم. والمرأة قد تكون شاغلا عن الله. قال:
وكشف الحقّ فيه أنّه قد تكون العزوبة أفضل فى بعض الأحوال فيكون ترك النكاح من الزهد. وحيث يكون النكاح أفضل لدفع الشهوة الغالبة فهو واجب فكيف يكون تركه من الزهد! وإن لم يكن عليه آفة فى تركه ولا فعله ولكن ترك النكاح احترازا عن ميل القلب إليهنّ والأنس بهنّ بحيث يشتغل عن ذكر الله فترك ذلك من الزهد. وإن علم أن المرأة لا تشغله عن ذكر الله ولكن ترك ذلك احترازا من لذّة النظر والمضاجعة(5/268)
والمواقعة فليس هذا من الزهد أصلا؛ فإن الولد مقصود لبقاء نسله، وتكثير أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من القربات. واللذّة التى تلحق الإنسان فيما هو من ضرورة الوجود لا تضرّه إذا لم تكن هى المقصد والمطلب؛ وهذا كمن ترك أكل الخبز وشرب الماء احترازا من لذّة الأكل والشرب، وليس ذلك من الزهد فى شئ؛ لأن فى ترك ذلك فوات بدنه، فكذلك فى ترك النكاح انقطاع نسله؛ فلا يجوز أن يترك النكاح زهدا فى لذّته من غير آفة أخرى. قال: وأكثر الناس تشغلهم كثرة النسوان، فينبغى أن يترك الأصل إن كان يشغله، وإن لم يشغله وكان يخاف من أن تشغله الكثرة منهن أو جمال المرأة فلينكح واحدة غير جميلة وليراع قلبه فى ذلك. قال أبو سليمان:
الزهد فى النساء أن تختار المرأة الدّون أو اليتيمة على المرأة الجميلة والشريفة. وقال الجنيد: أحبّ للمريد المبتدى ألّا يشغل قلبه بثلاث وإلّا تغيّر حاله: التكسّب، وطلب الحديث، والتزوّج. فقد ظهر أن لذّة النكاح كلذّة الأكل والشرب، فما شغل عن الله تعالى فهو محذور فيهما جميعا.
المهم السادس: ما يكون وسيلة إلى هذه الخمسة وهو المال والجاه. [أمّا الجاه [1]] فمعناه ملك القلوب بطلب محلّ فيها ليتوصّل به إلى الاستعانة فى الأغراض والأعمال.
وكلّ من لا يقدر على القيام بنفسه فى جميع حاجاته وافتقر إلى من يخدمه افتقر إلى جاه لا محالة فى قلب خادمه؛ لأنه إن لم يكن له عنده محلّ وقدر لم يقم بخدمته. وقيام القدر والمحلّ فى القلوب هو الجاه. قال: وإنما يحتاج إلى المحلّ فى القلوب إما لجلب نفع أو لدفع ضرر أو لخلاص من ظلم. فأمّا النفع فيغنى عنه المال؛ فإنّ من بخدم بأجرة خدم وإن لم يكن عنده للمستأجر قدر، وإنما يحتاج إلى الجاه فى قلب من يخدم
__________
[1] الزيادة عن الإحياء.(5/269)
بغير أجرة. وأما دفع الضرر فيحتاج لأجله إلى الجاه فى بلد لا يكمل فيه العدل أو يكون بين جيران يظلمونه فلا يقدر على دفع شرّهم إلا بمحلّ له فى قلوبهم أو محلّ له عند السلطان. وقدر الجاه فيه لا ينضبط. والخائض فى طلب الجاه سالك طريق الهلاك.
بل حق الزاهد ألّا يسعى لطلب المحل فى القلوب أصلا؛ فإن اشتغاله بالدين والعبادة يمهّد له من المحلّ فى القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفّار فكيف بين المسلمين.
وأمّا التوهّمات والتقديرات التى تحوج [1] إلى زيادة فى الجاه على الحاصل بغير كسب فهى أوهام كاذبة؛ إذ من طلب الجاه لم يخل عن أذى فى بعض الأحوال؛ فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه. فإذا طلب المحلّ فى القلوب لا رخصة فيه أصلا، واليسير منه داع إلى الكثير، وضراوته أشدّ من ضراوة الخمر، فليحترز من قليله وكثيره.
وأمّا المال، فهو ضرورىّ فى المعيشة أعنى القليل منه. فإن كان كسوبا، فإذا اكتسب حاجة يومه فينبغى أن يترك الكسب، هذا شرط الزهد؛ فإن جاوز ذلك إلى ما يكفيه أكثر من سنة فقد خرج عن حدّ ضعفاء الزهّاد وأقويائهم جميعا. وإن كانت له ضيعة ولم تكن له قوّة يقين فى التوكّل فأمسك منها مقدار ما يكفى ريعه لسنة واحدة فلا يخرج بهذا القدر عن الزهد بشرط أن يتصدّق بكلّ ما يفضل عن كفاية سنة؛ ولكن يكون من ضعفاء الزّهاد.
قال: وأمر المنفرد فى جميع ذلك أخف من أمر المعيل. وقد قال أبو سليمان:
لا ينبغى أن يرهق الرجل أهله إلى الزهد بل يدعوهم إليه؛ فإن أجابوا وإلّا تركهم
__________
[1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «تخرج ... » .(5/270)
وفعل بنفسه ما شاء. قال: والذى يضطرّ الإنسان إليه من الجاه والمال ليس بمحدود؛ فالزائد منه على الحاجة سمّ قاتل، والاقتصار على قدر الضرورة دواء نافع، وما بينهما درجات متشابهة، فما يقرب من الزيادة وإن لم يكن سمّا قاتلا فهو مضرّ، وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواء نافعا لكنّه قليل الضرر. والسمّ محظور شربه، والدواء فرض تناوله، وما بينهما مشتبه أمره. فمن احتاط فإنما يحتاط لنفسه، ومن تساهل فإنما يتساهل على نفسه، ومن استبرأ لدينه وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وردّ نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم وهو من الفرقة الناجية لا محالة. والمقتصر على [قدر [1]] الضرورة والمهمّ لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا، بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين لأنه شرط الدين، والشرط من جملة المشروط.
وقد روى أن إبراهيم الخليل عليه السلام أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئا فلم يقرضه فرجع مهموما. فأوحى الله تعالى إليه: لو سألت خليلك لأعطاك. فقال: يا ربّ، عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئا. فأوحى الله إليه: ليس الحاجة من الدنيا. فعلى هذا يكون قدر الحاجة من الدين وما وراء ذلك وبال فى الآخرة؛ وهو أيضا فى الدنيا كذلك، يعرفه من يخبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة فى كسب المال وجمعه وحفظه واحتمال الذّلّ فيه؛ وغاية سعادته به أن يسلم لورثته فيأكلوه، وربما يكونون أعداء له، وقد يستعينون به على المعاصى فيكون هو معينا لهم عليها. ولذلك شبّه جامع الدنيا ومتّبع الشهوات بدود القزّ إذ لا يزال ينسج على نفسه حيّا [2] ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصا فيموت ويهلك بسبب عمله الذى عمله بنفسه؛ فكذلك كلّ من اتبع شهوات الدنيا. قال الشاعر:
__________
[1] الزيادة عن الإحياء.
[2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «ينسج على نفسه حتى يقتلها ثم يروم» .(5/271)
كدود كدود القزّ ينسج دائما ... ويهلك غمّا وسط ما هو ناسجه
قال: ولما انكشف لأولياء الله تعالى أنّ العبد مهلك نفسه بأعماله واتبّاعه هوى نفسه إهلاك دود القزّ نفسه رفضوا الدنيا بالكلّيّة؛ حتى قال الحسن: رأيت سبعين بدريّا كانوا فيما أحلّ الله لهم أزهد منكم فيما حرّم الله عليكم. وفى لفظ آخر:
كانوا بالبلاء أشدّ فرحا منكم بالخصب والرخاء، لو رأيتموهم قلتم: مجانين، ولو رأوا خياركم قالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم قالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب. وكان أحدهم يعرض له المال الحلال فلا يأخذه ويقول: أخاف أن يفسد علىّ قلبى. فمن كان له قلب فهو لا محالة يخاف من فساده، والذين أمات حبّ الدنيا قلوبهم فقد أخبر الله عنهم فقال: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ
؛ وقال تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
؛ وقال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
؛ فأحال ذلك كلّه على الغفلة وعدم الفكر.
وقال بعضهم: ما من يوم ذرّ شارقه إلا وأربعة أملاك ينادون فى الآفاق بأربعة أصوات: ملكان بالمشرق وملكان بالمغرب يقول أحدهم بالمشرق: يا باغى الخير هلّم، ويا باغى الشرّ أقصر. ويقول الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا. ويقول اللذان بالمغرب أحدهما: لدوا للموت وابنوا للخراب؛ ويقول الآخر:
كلوا وتمتّعوا لطول الحساب.
ذكر بيان علامات الزهد
قال الغزالىّ رحمه الله تعالى: اعلم أنه قد يظنّ أنّ تارك المال زاهد، وليس كذلك؛ فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد. فكم(5/272)
من الرّهابين [1] من ردّوا أنفسهم كل يوم الى نزر يسير من الطعام ولازموا ديّرا لا باب له، وإنما مسرّة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له؛ فذلك لا يدلّ على الزهد دلالة قاطعة؛ بل لا بدّ من الزهد فى المال والجاه جميعا حتى يكمل الزهد فى [2] جميع حظوظ النفس من الدنيا؛ بل قد يدّعى جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة كما قال الخوّاص فى وصف المدّعين إذ قال: وقوم ادّعوا الزهد ولبسوا الفاخر من الثياب يموّهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم لئلّا ينظر إليهم بالعين التى ينظر بها الى الفقراء فيحقروا فيعطوا كما يعطى المساكين ويحتجّون لأنفسهم باتّباع العلم وأنّهم على السنّة وأنّ الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها، وإنما يأخذون [ما يأخذون [3]] بعلّة غيرهم؛ هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق. وكلّ هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم، فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادّعوها حالا لهم، فهم مائلون إلى الدنيا متبعون للهوى. هذا كلام الخوّاص.
قال الغزالىّ رحمه الله: فإذا معرفة الزهد أمر مشكل، [بل حال الزهد على الزاهد مشكل [2]] ؛ فينبغى أن يعوّل فى باطنه على ثلاث علامات:
العلامة الأولى: ألّا يفرح بموجود، ولا يحزن على مفقود، كما قال الله تعالى:
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ
، بل ينبغى أن يكون بالضدّ من ذلك وهو أن يحزن لوجود المال ويفرح لفقده.
العلامة الثانية: أن يستوى عنده ذامّه ومادحه؛ فالأولى علامة الزهد فى المال، والثانية علامة الزهد فى الجاه.
__________
[1] الرهابين: جمع رهبان وهو الكثير الخوف.
[2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل:
«حتى يكمل الزهد بل فى جميع ... الخ» .
[3] زيادة من الإحياء.(5/273)
العلامة الثالثة: أن يكون أنسه بالله عز وجل، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة، إذ لا يخلو القلب من حلاوة المحبّة، إما محبّة الدنيا وإما محبّة الله، وهما فى القلب كالماء والهواء فى القدح؛ فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان؛ وكلّ من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره. وقد قال أهل المعرفة: إذا تعلّق الإيمان بظاهر القلب أحبّ الدنيا والآخرة جميعا وعمل لهما، وإذا بطن الإيمان فى سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا ولم ينظر إليها ولم يعمل لها. وقد ورد فى دعاء آدم عليه السلام: اللهمّ إنّى أسألك إيمانا يباشر قلبى. وقال أبو سليمان: من شغل بنفسه شغل عن الناس، وهذا مقام العاملين. ومن شغل بربّه شغل عن نفسه، وهذا مقام العارفين. والزاهد لا بدّ أن يكون فى أحد هذين المقامين.
وبالجملة فعلامة الزهد استواء الفقر والغنى والعزّ والذّلّ والمدح والذمّ، وذلك لغلبة الأنس بالله. ويتفرّع عن هذه العلامات علامات أخر مثل أن يترك الدنيا ولا يبالى من أخذها. وقيل: علامته أن يترك الدنيا كما هى فلا يقول: أبنى رباطا أو أعمر مسجدا؛ وهذا من كلام الأستاذ أبى علىّ الدقّاق. وقال ابن خفيف: علامته وجود الراحة فى الخروج من الملك. وقال الجنيد: علامته خلوّ القلب عمّا خلت منه اليد. وقال أحمد بن حنبل وسفيان: علامة الزهد قصر الأمل. وقال رجل ليحيى بن معاذ: متى أدخل حانوت التوكّل وألبس برد الزهد وأقعد مع الزاهدين؟
فقال: إذا صرت من رياضتك لنفسك فى السرّ إلى حدّ لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف فى نفسك؛ فأمّا ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح. قالوا: ولا يتمّ الزهد إلا بالتوكّل؛ فلنذكر التوكّل.(5/274)
ذكر ما ورد فى التوكل من فضيلته وحقيقته
أمّا فضيلته فقد قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
، وقال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
. وقال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
؛ وناهيك بذلك مقاما.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أريت الأمم فى الموسم فرأيت أمّتى قد ملئوا السهل والجبل فأعجبتنى كثرتهم وهيئتهم فقيل لى أرضيت قلت نعم قال ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب قيل من هم يا رسول الله قال هم الذين لا يكتوون ولا يتطيّرون ولا يسترقون وعلى ربّهم يتوكّلون»
. وقال صلّى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله عز وجلّ كفاه الله تعالى مئونة رزقه [1] من حيث لا يحتسب ومن انقطع الى الدنيا وكله الله اليها»
. وأمّا حقيقة التوكل فقد قال الغزالىّ رحمه الله: التوكّل مشتقّ من الوكالة يقال: وكل أمره إلى فلان أى فوّضه إليه واعتمد عليه [فيه [2]] . ويسمّى الموكول [3] إليه وكيلا، ويسمّى المفوّض اليه متّكلا عليه ومتوكّلا عليه مهما [4] اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتّهمه فيه [بتقصيره ولم يعتقد فيه عجزا ولا قصورا [5]] . ثم قال بعد أن ضرب لذلك أمثلة يطول شرحها: واعلم أن حالة التوكّل فى القوّة والضعف ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون حاله فى حقّ الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله فى الثقة بالوكيل.
__________
[1] فى الإحياء (ج 4 ص 242) : «كفاه الله كل مئونة ورزقه ... » .
[2] الزيادة عن الإحياء.
[3] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «الموكل اليه ... » .
[4] كذا فى الأصل والإحياء. ولعلها: «ما اطمأنت ... » .
[5] زيادة عن الإحياء.(5/275)
الثانية وهى أقوى: أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل فى حق أمّه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها ولا يعتمد [1] إلا إياها؛ فإن رآها تعلّق فى كلّ حال بها، وإن نابه أمر فى غيبتها كان أوّل سابق إلى لسانه: يا أمّاه، وأوّل خاطر يخطر على قلبه أمه لوثوقه بكفالنها وكفايتها وشفقتها.
الثالثة وهى أعلاها: أن يكون بين يدى الله تعالى فى حركاته وسكناته مثل الميّت بين يدى الغاسل يقلّبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير. قال: وهذا المقام فى التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال منه ثقة بكرمه وعنايته، وأنه يعطى ابتداء أفضل مما يسأل. وقد تكلّم المشايخ فى التوكّل وبيان حدّه واختلفت عباراتهم وتكلّم كلّ واحد عن مقام نفسه وأخبر عن حدّه.
قال أبو موسى الدّيلى: قلت لأبى يزيد: ما التوكل؟ فقال: ما تقول أنت؟
قلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعى عن يمينك ويسارك ما تحرّك لذلك سرّك. فقال أبو يزيد: نعم هذا قريب، ولكن لو أن أهل الجنة فى الجنّة يتنّعمون، وأهل النار فى النار يعذبون، ثم وقع بك تمييز عليهما خرجت من جملة التوكّل. وسئل أبو عبد الله القرشىّ عن التوكّل فقال: التعلّق بالله تعالى فى كلّ حال. فقال السائل: زدنى؛ فقال: ترك كلّ سبب يوصّل إلى سبب حتى يكون [الحق [2]] هو المتولّى لذلك. وهذا مثل توكّل إبراهيم الخليل عليه السلام إذ قال له جبريل: ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا؛ إذ كان سؤاله يفضى الى سبب فترك ذلك ثقة بأن الله يتولّى ذلك.
__________
[1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «يغتنم» .
[2] زيادة عن الإحياء.(5/276)
قال أبو سعيد الخرّاز: التوكّل اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب.
أشار بالأوّل إلى فزعه إلى الله تعالى وابتهاله وتضرّعه بين يديه كاضطراب الطفل بيديه إلى أمّه؛ وبالثانى إلى سكون القلب إلى الوكيل وثقته به [1] . وقال أبو علىّ الدقّاق: التوكّل على ثلاث درجات: التوكّل ثم التسليم ثم التفويض، فالمتوكّل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفى بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه.
وقال: التوكّل بداية، والتسليم وسائط، والتفويض نهاية. وقال: التوكّل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحّدين.
وسئل ابن عطاء عن حقيقة التوكّل فقال: ألّا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدّة فاقتك إليها، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحقّ مع وقوفك عليها.
وقال أبو نصر السرّاج: شرط التوكّل ما قاله أبو تراب النّخشبىّ وهو طرح البدن فى العبودية وتعلّق القلب بالربوبيّة والطّمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطى شكر [2] ، وإن منع صبر. وكما قال ذو النّون: التوكّل ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوّة. وقال أبو بكر الدقّاق: التوكّل ردّ العيش إلى يوم واحد وإسقاط همّ غد.
وسئل ذو النون: ما التوكّل؟ فقال: خلع الأرباب، وقطع الأسباب. فقال السائل: زدنى؛ فقال: إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها من الرّبوبيّة. وقال مسروق: التوكّل الاستسلام لجريان [3] القضاء والأحكام. وقال أبو عثمان: التوكّل الاكتفاء بالله مع الاعتماد عليه. وقيل: التوكل الثقة بما فى يد الله واليأس مما فى يد الناس. وقيل: التوكّل فراغ السرّ عن التفكّر فى التقاضى فى طلب الرزق.
__________
[1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «وبالثانى الى سكون القلب الى التوكل وثقة به» .
[2] فى الأصلين: «سكن» والسياق يقتضى ما أثبتناه.
[3] فى الأصل: «بجريان» بالباء ولم نجد هذا الفعل يتعدى بالباء(5/277)
ذكر بيان أعمال المتوكلين
قال الغزالىّ رحمه الله: قد يظنّ أن معنى التوكّل ترك الكسب [بالبدن [1]] وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم؛ وهذا ظنّ الجهّال، فإنّ ذلك حرام فى الشرع؛ والشرع قد أثنى على المتوكّلين فكيف ينال مقام من مقامات الدّين بمحظورات الدّين! بل إنما يظهر تأثير التوكّل فى حركة العبد وسعيه بعمله إلى مقاصده. وسعى العبد باختياره إمّا أن يكون لأجل جلب نافع هو مفقود [2] عنده كالكسب، أو لحفظ نافع هو موجود عنده كالادّخار، أو لدفع ضارّ لم ينزل به كدفع الصائل والسارق والسباع، أو لإزالة ضارّ قد نزل به كالتداوى من المرض.
فمقصود حركات العبد لا يعدو هذه الحالات الأربع التى هى جلب النافع أو حفظه أو دفع الضارّ أو قطعه. ثم ذكر شرط التوكّل ودرجاته فى كل واحد منها، وقرن ذلك بشواهد الشرع، فقال ما مختصره ومعناه:
امّا جلب النافع، فالأسباب التى بها يجلب النافع على ثلاث درجات: مقطوع به، ومظنون ظنّا يوثق به، وموهوم وهما لا تثق النفس به ثقة تامّة ولا تطمئنّ إليه.
فالدرجة الأولى: المقطوع به كالطعام إذا وضع بين يدى الرجل وهو جائع محتاج إلى تناوله فامتنع من مدّ يده إليه وقال: أنا متوكّل، وشرط التوكل ترك السعى، ومدّ اليد إليه سعى وحركة، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالى الحنك على أسفله؛ فهذا جنون وليس من التوكّل فى شىء، فإنه إن انتظر أنّ الله تعالى يخلق فيه شبعا دون الخبز أو يسخّر ملكا يمضغه ويوصله الى معدته فهذا رجل جهل سنّة الله
__________
[1] الزيادة عن الإحياء (ج 4 ص 253 طبعة بلاق) .
[2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل:
«معبود عنه» .(5/278)
تعالى؛ وكذلك لو لم يزرع الأرض وطمع أنّ الله تعالى يخلق نباتا من غير بذر أو تلد زوجه من غير مباضعة كمريم، فكلّ ذلك جنون؛ بل يجب عليه أن يعلم أن الله تعالى خالق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة، وأنّه الذى يطعمه ويسقيه، وأن يكون قلبه واعتماده على فضل الله تعالى لا على اليد والطعام، فليمدّ يده ويأكل فإنه متوكل.
والدرجة الثانية: الأسباب التى ليست متعيّنة، ولكن الغالب أن المسبّبات لا تحصل دونها واحتمال حصولها دونها بعيد كالذى يفارق الأمصار والقوافل ويسافر فى البوادى التى لا يطرقها الناس إلا نادرا ويكون سفره من غير استصحاب زاد، فهذا ليس شرطا فى التوكّل، بل استصحاب الزاد فى البوادى سنّة الأوّلين مع الاعتماد على فضل الله عز وجل لا على الزاد؛ ولكن فعل ذلك جائز، وهو من أعلى مقامات التوكل وهو فعل الخواصّ. قال الغزالىّ: فإن قلت: فهذا سعى فى الهلاك وإلقاء النفس إلى التّهلكة، فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه حراما بشرطين: أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها حتى صبرت عن الطعام أسبوعا أو ما يقاربه بحيث إنه لا يناله ضيق قلب ولا تشويش خاطر. والثانى أن يكون بحيث يقوى على التقوّت بالحشيش وما يتّفق من الأشياء الخسيسة، فإنه لا يخلو غالب الأمر فى البوادى فى كلّ أسبوع أن يلقاه آدمى أو ينتهى إلى محلّة أو قرية أو الى حشيش يتقوّت به؛ وعلى هذا كان يعوّل الخوّاص ونظراؤه من المتوكّلين. وقد كان الخوّاص مع توكّله لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة، ويقول: هذا لا يقدح فى التوكّل.
وأمّا لو انحاز الى شعب من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا حشيش ولا يطرقه طارق فيه وجلس متوكلا فهو آثم به ساع فى إهلاك نفسه.(5/279)
وأمّا القاعد فى البلد بغير كسب فليس ذلك حراما، لأنه لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخّر عنه. فإن أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام. فإن فتح باب البيت وهو بطّال غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج له أولى، ولكن ليس فعله حراما إلّا أن يشرف على الموت، فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب. وإن كان مشغول القلب بالله غير متطلّع إلى الناس ولا إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزق، بل تطلّعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله فهو أفضل وهو من مقامات التوكّل، فإن الرزق يأتيه لا محالة. فلو هرب العبد من رزقه لطلبه كما لو هرب من الموت لأدركه.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: اختلف الناس فى كلّ شىء إلا فى الرزق والأجل [فإنّهم [1]] أجمعوا أن لا رازق ولا مميت إلا الله تعالى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو توكّلتم على الله تعالى حقّ توكّله لرزقكم [2] كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ولزالت بدعائكم الجبال»
. وقال عيسى عليه السلام: انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدّخر والله تعالى يرزقها يوما بيوم، فإن قلتم نحن أكبر بطونا، فانظروا إلى الأنعام كيف قيّض الله تعالى لها هذا الخلق [للرزق [1]] . وقال أبو يعقوب السوسى: المتوكّلون تجرى أرزاقهم على أيدى العباد بلا تعب منهم وغبرهم مشغولون مكدودون. وقال بعضهم: العبيد كلّهم فى رزق الله تعالى، لكن بعضهم يأكل بذلّ كالسّؤال، وبعضهم يأكل بتعب كالتجّار، وبعضهم بامتهان كالصنّاع، وبعضهم بعزّ كالصوفيّة، يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده ولا يرون الواسطة.
والدرجة الثالثة: ملابسة الأسباب التى يتوهّم إفضاؤها إلى المسبّبات من غير ثقة ظاهرة، كالذى يستقصى فى التدبيرات الدقيقة فى تفصيل الاكتساب ووجوهه،
__________
[1] زياة عن الإحياء.
[2] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «لرزقتم ... » .(5/280)
وذلك يخرج بالكلّيّة عن درجات التوكّل كلّها، وهو الذى الناس كلّهم فيه من التكسّب بالحيل الدقيقة اكتسابا مباحا لمال مباح. هذا ملخص ما أورده رحمه الله تعالى فى جلب النافع، وذكر لذلك أمثلة ونظائر تركناها اختصارا.
وأمّا حفظ النافع فهو التعرض لأسباب الادّخار، فمن حصل له مال بإرث أو كسب أو سؤال أو سبب من الأسباب فله فى الادّخار ثلاث أحوال:
الأولى: أن يأخذ قدر حاجته فى الوقت فيأكل إن كان جائعا، ويلبس إن كان عاريا، ويشترى مسكنا مختصرا إن كان محتاجا، ويفرّق الباقى فى الحال ولا يدّخر منه إلا ما أرصده لمحتاج؛ فهذا هو الموفى بموجب التوكّل تحقيقا، وهى الدرجة العليا.
الحالة الثانية المقابلة لهذه المخرجة له عن حدود التوكّل: أن يدّخر لسنة فما فوقها، فهذا ليس من المتوكّلين أصلا.
الحالة الثالثة: أن يدّخر لأربعين يوما فما دونها، فهذا يوجب حرمانه من المقام المحمود الموعود فى الآخرة للمتوكّلين. وقال الخوّاص: لا يخرج بأربعين يوما ويخرج بما زاد عليها.
وامّا دفع الضارّ عن النفس والمال فقد قال الغزالىّ رحمه الله: ليس من شرط التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر. أمّا فى النفس فكالنوم فى الأرض المسبعة أو فى مجارى السيل من الوادى أو تحت الجدار المائل أو السقف المتكسّر، فإنّ ذلك منهىّ عنه وصاحبه قد عرّض نفسه إلى الهلاك بغير فائدة. وأمّا فى المال فلا ينقص التوكّل إغلاق باب البيت عند الخروج منه ولا أن يعقل البعير. فهذه أسباب عرفت بسنّة الله تعالى، فقد
روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه(5/281)
قال: جاء رجل على ناقة فقال: يا رسول الله، أدعها وأتوكل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكّل»
. وأمّا إزالة الضرر فقد قال الغزالىّ رحمه الله تعالى: إن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش والخبز المزيل لضرر الجوع؛ وإلى مظنون كالفصد والحجامة وشرب الدواء وسائر أبواب الطبّ؛ وإلى موهوم كالكىّ والرّقية.
أمّا المقطوع به فليس من التوكّل تركه بل تركه حرام عند خوف الموت.
وأمّا الموهوم، فشرط التوكل تركه، إذ بتركه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوكّلين،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يتوكّل من استرقى واكتوى»
. وقال سعيد بن جبير: لدغتنى عقرب فأقسمت علىّ أمّى لتسترقينّ، فناولت الراقى يدى التى لم تلدغ.
وأمّا الدرجة الوسطى وهى المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الأطبّاء ففعل ذلك لا يناقض التوكّل بخلاف الموهوم، وتركه ليس بمحظور بحلاف المقطوع به.
وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالتداوى وقال: «ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلّا السام»
يعنى الموت؛ وتضافرت الأحاديث بالأمر بالدواء.
ومنهم من رأى أن ترك التداوى قد يحمد فى بعض الأحيان إذا اقترن به أحد أسباب ستة:
الأوّل: أن يكون المريض من المكاشفين وقد كوشف بأنه انتهى أجله وأن الدواء لا ينفعه، وتحقّق ذلك إما برؤيا صادقة أو بحدس وظنّ أو بكشف محقّق(5/282)
كحال أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه لمّا قيل له فى مرض موته: لو دعونا لك طبيبا! فقال: الطبيب نظر إلىّ وقال إنّى فعّال لما أريد. وكان رضى الله عنه من المكاشفين؛ والدليل على ذلك أنّه قال لعائشة رضى الله عنها فى أمر الميراث: إنما هنّ أختاك؛ وما كان لها إلا أخت واحدة وكانت امرأته حاملا فولدت أنثى؛ فلا يبعد أن يكون كوشف بانتهاء أجله؛ ومحال أن ينكر التداوى وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله.
الثانى: أن يكون المريض مشغولا بحاله وبخوف عاقبته واطّلاع الله تعالى عليه، فينسيه ذلك ألم المرض فلا يتفرّغ قلبه للتداوى شغلا بحاله، كحال أبى ذرّ لمّا رمدت عيناه، فقيل له: لو داويتهما! فقال: إنّى عنهما مشغول. فقيل له: لو سألت الله أن يعافيك! فقال: أسأل فيما هو أهمّ علىّ منهما. وكحال أبى الدرداء فإنه قيل له فى مرضه: ما تشتكى؟ قال: ذنوبى. قيل: فما تشتهى؟ قال: مغفرة ربى. قالوا:
ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضنى. ويكون حال هذا كالمصاب بموت عزيز من أحبابه أو كالخائف من ملك فيشغله ذلك عن ألم الجوع.
الثالث: أن تكون العلّة مزمنة والدواء الذى يؤمر به بالإضافة إلى علّته موهوم كالكىّ والرقية، فتركه للتوكّل كالربيع بن خيثم فإنه أصابه فالج، فقيل له: لو تداويت! فقال: لقد هممت ثم ذكرت عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا وكان فيهم الإطبّاء فهلك المداوى والمداوى ولم تغن الرّقى شيئا. أى إن الدواء غير موثوق به.
الرابع: أن يقصد العبد ترك التداوى استيفاء للمرض لينال ثواب المرض بحسن الصبر على بلاء الله تعالى وليجرّب نفسه فى القدرة على الصبر.
الخامس: أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها فيرى المرض إذا طال تكفيرا، وترك التداوى خوفا من أن يسرع زوال(5/283)
المرض ورغب فى مضاعفة الأجر. فقد ورد عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«حمّى يوم كفّارة سنة» .
السادس: أن يستشعر العبد فى نفسه مبادئ البطر والطّغيان بطول مدّة الصحّة، فيترك التداوى خوفا من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان أو طول الأمل والتسويف فى تدارك الفائت وتأخير الخيرات؛ فإن الصحة تحرّك الهوى وتبعث على الشهوات وتدعو إلى المعاصى، وأقلّها أن تدعو إلى التنعّم فى المباحات وهو تضييع الأوقات وإهمال الربح العظيم فى مخالفة النفس وملازمة الطاعات. وإذا أراد الله بعبد خيرا لم يخله عن التنبيه بالأمراض والمصائب؛ ولذلك قيل: لا يخلو المؤمنون من علّة أو قلّة أو ذلّة. قال: فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة فى زوالها، إذ رأوا لأنفسهم مزيدا فيها لا من حيث رأوا التداوى نقصانا، وكيف يكون ذلك نقصانا وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
فهذه نبذة كافية فى مقامى الزهد والتوكل. فلنذكر الأدعية.
الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الثانى فى الأدعية
وهذا الباب- يقبل الله منا ومنك وفينا وفيك صالح الدعوات، وجعلنا وإيّاك ممن اعتمد على كرمه ومنّته فى الحركات والسكنات؛ ووفّقنا للتضرع والسكون إلى فضله، وعاملنا بما هو من أهله لا ما نحن من أهله- هو مشرع الظمآن إلى موارد الكرم العذبة، ومفزع الحيران إذا ألّمت به الضائقة وحصرته الكربة؛ فبه يتوسّل الى الله تعالى فى مطالب الدنيا والآخرة، ويتوصّل إلى النعم الوافية والخيرات الوافرة؛ كيف لا وقد(5/284)
أمرنا الرب العظيم بالدعاء والإنابة، ووعدنا وهو الوفىّ الكريم بالقبول والإجابة؛ وترادفت بفضله الأخبار الصحيحة، وجاءت بشرفه الآثار الصريحة؛ على ما ستقف على ذلك إن شاء الله تعالى واضحا، وتعوّل عليه مقيما وظاعنا وغاديا ورائحا. فلازمه فى سائر أحوالك، وتعاهده فى بكرك وآصالك؛ فستجنى إن شاء الله منه ثمار غرسك، وتجد حلاوة ذلك فى قلبك وأنسه فى نفسك.
واعلم أن للدعاء، كما قال ابن عطاء، أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا. قال: فإن وافق أركانه قوى، وإن وافق أجنحته طار فى السموات، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرقة والاستكانة والخشوع وتعلق القلب بالله وقطعه من الأسباب. وأجنحته الصدق. ومواقيته الأسحار.
وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى للعبد يوم القيامة أكنت ترى لبعض دعائك الإجابة ولا ترى لبعضه فيقول نعم فيقول له أما إنك ما دعوتنى بدعوة إلا وقد استجبت لك فيها أليس دعوتنى يوم كذا وكذا فرأيت الإجابة فيقول نعم ويقول ودعوتنى يوم كذا وكذا فلم تر الإجابة فيقول نعم فيقول فإنى ادّخرتها لك فى الجنة فلا يبقى له دعوة إلا بيّنها له حتى يتمنّى المؤمن أن دعواته كلها كانت ذخائره فى الآخرة»
. وعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء هو العبادة»
قال: وقرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس شىء أكرم على الله من الدعاء»
. وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الدعاء ينفع(5/285)
مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدّعاء»
. وعن أنس رضى الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل حيّى كريم يستحيى إذا بسط الرجل إليه يديه أن يردّهما صفرا ليس فيهما شىء»
. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوة المسلم لا تردّ إلا بإحدى ثلاث ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إمّا أن يستجيب الله له فيما دعا أو يدّخر له فى الآخرة أو يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا»
. وعن أنس رضى الله عنه قال: قيل يا رسول الله: إنا ندعو بدعاء كثير منه ما نرى إجابته ومنه ما لا نرى إجابته فقال: «والذى نفسى بيده ما من أحد يدعو بدعوة إلا استجيب له أو صرف عنه مثلها شرّا» . قالوا: يا رسول الله، إذا نكثر؟ قال: «الله أكثر وأكثر»
ثلاث مرات.
وعنه رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «دعوة فى السر تعدل سبعين دعوة فى العلانية»
. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل فى الليل والنهار عتقاء من النار ولكلّ مسلم ومسلمة فى كلّ يوم وليلة دعوة مستجابة»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول من ذا الذى دعانى فلم أجبه وسألنى فلم أعطه واستغفرنى فلم أغفر له وأنا أرحم الراحمين»
. وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فتح الله على عبد باب الدعاء فليكثر فإنّ الله يستجيب له»
. وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من فتح له باب فى الدعاء فتحت له أبواب الإجابة»
. وعن أبى هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه»
. وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
الآية فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنّك(5/286)
أمرت بالدعاء وتوكّلت بالإجابة لبّيك اللهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك أشهد أنّك فرد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأشهد أنّ وعدك حق ولقاءك حقّ والجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأنّك تبعث من فى القبور»
. هذا مما ورد فى الحثّ على الدعاء.
وأمّا ما ورد فى نفع الدعاء ودفعه للبلاء؛
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أنواع البرّ كلّها نصف العبادة والنصف الآخر الدعاء»
. وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفع حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء ينفع مما نزل ومما لم لا ينزل وإن الدعاء ليردّ القضاء المبرم وإن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض فلا يزال أحدهما يدفع صاحبه إلى يوم القيامة»
. وعن سلمان الفارسىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يردّ القضاء إلا الدعاء ولا يزيد فى العمر إلا البرّ»
. وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدّين ونور السموات والأرض» .
وأمّا ما ورد فى الإلحاح فى الدعاء وهيئة الذّلّة والإنابة؛ قال الله تعالى:
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وعن عائشة رضى الله عنها قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحبّ الملحّين فى الدعاء» .
وعن أبى هريرة(5/287)
رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله عز وجل لا يستجيب دعاء من قلب ساه لاه»
. وعن أنس رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه فى الدعاء حتى يرى بياض [1] إبطيه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا جعل باطن كفّيه إلى وجهه.
وعنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سلوا الله ببطون أكفّكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم»
وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم عز وجل حيىّ كريم يستحيى أن يرفع العبد يديه فيردّهما صفرا لا خير فيهما فإذا رفع أحدكم يده فليقل يا حىّ لا إله إلا أنت يا أرحم الراحمين ثلاث مرات ثم إذا ردّ يده فليفرغ ذلك الخير على وجهه»
. وعن عمر رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا مدّ يديه فى الدعاء لم يردّهما حتى يمسح بهما وجهه.
وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإخلاص هكذا ورفع إصبعا واحدا من اليد اليمنى والدعاء هكذا وجعل بطونهما مما يلى السماء والابتهال هكذا ومدّ يديه شيئا وجعل ظهر الكفّ مما يلى السماء»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» .
وأمّا ما ورد من كراهية استعجال الإجابة ورفع البصر والسجع فى الدعاء قال تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل
__________
[1] فى الأصلين هكذا: «بيان» والتصحيح عن الإحياء (ج 1 ص 287) .(5/288)
فيقول قد دعوت فلم يستجب لى»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل» . قالوا: وكيف يستعجل؟ قال: «يقول قد دعوت الله مرارا فلا أراه يستجيب لى»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لينتهينّ أقوام عن رفع أبصارهم عند الدعاء فى الصلاة إلى السماء أو لتخطفنّ أبصارهم»
. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: إيّاك والسجع فى الدعاء فإنّى شهدت النبىّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك.
وأمّا ما ورد فيمن تجاب دعواتهم. قال الله عز وجل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ
. وقال تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «خمس دعوات لا تردّ دعوة الحاجّ حتّى يصدر ودعوة الغازى حتى يرجع ودعوة المظلوم حتى ينتصر ودعوة المريض حتى يبرأ ودعوة الأخ لأخيه بالغيب وأسرع هؤلاء الدعوات إجابة دعوة الأخ لأخيه بالغيب»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهنّ دعوة الوالد ودعوة المسافر ودعوة المظلوم»
. وفى حديث آخر: «دعوة الصائم بدل دعوة الوالد»
. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «إنّك تأتى قوما أهل كتاب فاتّق دعوة المظلوم»
. وعنه صلى الله وسلم: «الإمام العادل لا تردّ دعوته»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تردّ دعوتهم إمام مقسط ودعوة الصائم ودعوة المظلوم تفتح لها أبواب السماء ويقول الله عز وجل لأنصرنّك ولو بعد حين»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «دعاء الوالد لولده مثل دعاء النبى لأمته»
. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(5/289)
«أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب»
. وعن أبى الدرداء، رضى الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب تعدل سبعين دعوة مستجابة ويوكّل الله عز وجل ملكا يقول آمين ولك مثل ما دعوت»
. وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب إلّا قال له ملك عن يمينه وملك عن شماله ولك مثله»
. وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حامل القرآن له دعوة مستجابة»
. وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخلت على المريض فسله يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة»
. وعن أنس رضى الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ألهم الدعاء لم يحرم الإجابة لأن الله تعالى يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
ومن ألهم التوبة لم يحرم القبول لأن الله تعالى يقول: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ
ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة لأن الله تعالى يقول: ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
ومن ألهم الاستغفار لم يحرم المغفرة لأن الله تعالى يقول: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً
ومن ألهم النفقة لم يحرم الخلف لقوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
»
ذكر الأوقات التى ترجى فيها إجابة الدعاء
قال الله عز وجل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ
. وقال تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل الله حين يبقى ثلث اللّيل إلى السماء الدّنيا فيقول من يسألنى فأعطيه ومن يدعونى فأستجيب له ومن يستغفرنى فأغفر له»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب السماء ويستجاب دعاء المسلم عند إقامة الصلاة وعند(5/290)
نزول الغيث وعند زحف الصفوف فى سبيل الله وعند رؤية الكعبة»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا فاءت الأفياء وهبّت الرياح فارفعوا إلى الله حوائجكم فإنّها ساعة الأوّابين إنه كان للأوّابين غفورا»
. وعن أبى أمامة قال قلت: يا رسول الله، أىّ الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل وأدبار المكتوبات»
. وعن ابن عمر قال: أفضل الساعات مواقيت الصّلاة فادعوا فيها.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة إن فيه لساعة لا يوافقها عبد يصلّى يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إيّاه»
. وقد اختلف فى ابتداء وقت هذه الساعة فقيل: أوّل ساعة من طلوع الشمس، وقيل: آخر ساعة من غروبها، وقيل: عند جلوس الإمام على المنبر، وقيل: من الزوال إلى ابتداء الصلاة، وقيل: من بعد العصر إلى الغروب، وقيل: إنها تنتقل فى ساعات اليوم كما تنتقل ليلة القدر فى شهر رمضان.
روى عن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرىّ قال: قال لى عبد الله بن عمر رضى الله عنهم: أسمعت أباك يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن ساعة الجمعة؟ قال: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن ساعة الجمعة يقول: «هى ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة»
. وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنها عن أبيها صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن فى الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه» . فقلت: يا أبت، أىّ ساعة هى؟ قال:
«إذا تدلّى نصف الشمس للغروب»
. فكانت فاطمة رضى الله عنها إذا كان يوم الجمعة تأمر غلاما لها يقال له زيد يرصد لها الشمس، فإذا تدلّى نصف الشمس للغروب أعلمها، فتقوم فتدخل المسجد فتدعو حتى تغرب الشمس وتصلّى.
وحيث ذكرنا هذه المراتب فلنذكر الأدعية المنصوص عليها.(5/291)
ذكر دعوات ساعات الأيام السبعة ولياليها
قد أورد الشيخ أبو العباس أحمد بن علىّ بن يوسف القرشىّ البونى رحمه الله تعالى دعوات الساعات فى اللّمعة النورانيّة [1] فبدأ بيوم الأحد وذكر دعاء كل ساعة منه، ثم ذكر يوم الاثنين فقال: ساعة كذا يدعى فيها بدعاء ساعة كذا من يوم الأحد، ثم ذكر يوم الثلاثاء فقال: ساعة كذا يدعى فيها بدعاء ساعة كذا من يوم الاثنين وكذلك فى بقيّة ساعات الأيام والليالى، يذكر كلّ ساعة ويحيل فى دعائها على ساعة من اليوم أو الليلة التى قبلها. فرأيت أن الراغب فى الدعاء يحتاج فى معرفته إلى كشف طويل وتحقيق إلى أن يصل إلى تلك الساعة من يوم الأحد، وربما تعذّر ذلك على كثير من الناس، فرتّبت الأدعية على ما ستقف إن شاء الله تعالى عليه ليسهل على المتناول طريقها ويدنو من المحاول تحقيقها؛ فقلت وبالله التوفيق:
دعاء يدعى به فى الساعة الأولى من يوم الأحد، وفى الثامنة من ليلة الاثنين، وفى العاشرة من يوم الاثنين، وفى الخامسة من ليلة الثلاثاء، وفى السابعة من يوم الثلاثاء، وفى الثانية من ليلة الأربعاء وفى الرابعة من يوم الأربعاء، وفى الحادية عشرة من ليلة الخميس وفى الأولى من يوم الخميس، والحادية عشرة من ليلة الجمعة والعاشرة من يوم الجمعة، وفى الثامنة من ليلة السبت وفى السابعة من يوم السبت، وفى الخامسة من ليلة الأحد، وهو:
«ربّ اغمسنى فى بحر [من [2]] نور هيبتك حتى أخرج منه وفى وجهى شعاعات هيبة تخطف أبصار الحاسدين من الجنّ والإنس فتعميهم عن رمى سهام الحسد فى قرطاس
__________
[1] فى الأصلين: «اللمحة النورانية» وصحة الاسم ما ذكرناه. وفى دار الكتب المصرية منه نسختان خطيتان تحت رقمى (1993 و 85 م تصوّف) .
[2] زيادة عن اللمعة النورانية.(5/292)
نعمتى، واحجبنى عنهم بحجاب النور الذى باطنه النور وظاهره النار. أسألك باسمك النور وبوجهك النور يا نور النور أن تحجبنى فى نور اسمك بنور اسمك حجابا يمنعنى من كلّ نقص يمازج منّى جوهرا أو عرضا إنّك نور الكلّ ومنوّر الكل بنورك» .
قال البونى: تدعو بهذا الدعاء ثمانيا وأربعين مرّة فى هذه الساعة على وضوء بعد صلاة ركعتين فيما يتعلق بسؤال الهيبة وإقامة الكلمة وقهر العدوّ. ويناسب هذا الدعاء من القرآن قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
الآية، قال: من قرأ هذه الآية هذا العدد المتقدّم فى بيت مظلم وعيناه مغلقتان شاهد أنوارا عجيبة تملا قلبه، وإن استدام ذلك تشكّلت له فى عالم الحسّ. وهو ذكر يصلح لأرباب الهمم وأهل الخلوات، وكاتبه وحامله تظهر له زيادات فى قوى نفسه وقهر عدوّه وخصمه لم يكن يعهدها من قبل؛ ومن أمكنه أن يداوى به العلل الكائنة فى الرأس خصوصا من البرودة وجد تأثير ذلك لوقته.
دعاء يدعى به فى الساعة الثانية من يوم الأحد والتاسعة من ليلة الاثنين وفى الحادية عشرة من يوم الاثنين، وفى السادسة من ليلة الثلاثاء وفى الثامنة من يوم الثلاثاء، وفى الثالثة من ليلة الأربعاء وفى الخامسة من يوم الأربعاء، وفى الثانية عشرة من ليلة الخميس وفى الثانية من يوم الخميس، وفى الحادية عشرة من يوم الجمعة، وفى التاسعة من ليلة السبت وفى الثامنة من يوم السبت، وفى السادسة من ليلة الأحد وهو:
«ربّ فرّحنى بما ترضى به عنّى فرحا يبهجنى بجميل المسارّ، حتى لا ينبسط شىء من وجودى إلا بما بسطه جودك العلىّ. ربّ فرّحنى بنيل المراد منك بفناء إرادتى منّى حتى لا يكون فى كونى إرادة إلا إرادتك محفوظة من عوارض التكوين، وأبهج(5/293)
بذلك فى سرّ سماء الأفراح فى الوجودين برزق الباطن والظاهر، إنك باسط الرزق والرحمة يا ذا الجود الباسط يا ذا البسط والجود» .
هذا الذكر من ذكره فى ساعة من هذه الساعات تسعا وأربعين مرة أذهب الله تعالى عن قلبه الحزن وعن صدره الحرج والضّيق، ونفى عنه كل همّ وغمّ، وبه يدعو المسجونون والمأسورون والمحزونون فيفرّج الله تعالى عنهم، وذلك بعد صلاة تسليمتين؛ والآيات [1] المناسبة لهذا القسم فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
الآية، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
الآية. قال البونى: ويقدّم على ذكر هذه الآيات [1] :
اللهم اجعلنى من الفرحين بما آتاهم الله من فضله، يقول ذلك [2] بعد الذكر الأوّل مثل العدد المذكور، فيرى المهموم من فضل الله تعالى به عجبا، ويزداد [به [3]] ذو السرور سرورا لا يعرف سببه. ويصلح هذا الذكر لأرباب الفيض من أهل الخلوات فإنّهم يستروحون منه أنسا فى خلواتهم ومخاطبات بألفاظ مختلفة بقدر الفيض والمقام والسبب، يعرف ذلك من كانت له إحاطة بكشف أسرار الدعوات والأسماء.
دعاء يدعى به فى الساعة الثالثة من يوم الأحد، والعاشرة من ليلة الاثنين وفى الثانية عشرة من يوم الاثنين، وفى السابعة من ليلة الثلاثاء وفى التاسعة من يوم الثلاثاء، وفى الرابعة من ليلة الأربعاء وفى السادسة من يوم الأربعاء، وفى الأولى من ليلة الخميس وفى الثالثة من يوم الخميس، وفى الأولى من ليلة الجمعة وفى الثانية عشرة من يوم الجمعة، وفى العاشرة من ليلة السبت وفى التاسعة من يوم السبت، وفى السابعة من ليلة الأحد. وهو:
__________
[1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «والآية» .
[2] الذى فى اللمعة النورانية: «يضاف بعد الذكر الأوّل مثل هذا العدد المذكور» .
[3] زيادة من اللمعة النورانية.(5/294)
«ربّ قلّبنى فى أطوار معارف أسمائك تقليبا تشهدنى به فى ذرّات وجودى ما أودعته ذرّات [1] وجودى الملك والملكوت حتّى أعاين سريان سرّ قدرك [2] فى معالم المعلومات، فلا يبقى معلوم إلا وبيدى سرّ دقيقة منه مجذوبة بيد الكمال ونور الطوع؛ وأذهب [3] ظلمة الإكراه حتى أتصرّف فى المهج بمبهجات المحبّة إنك أنت المحبّ المحبوب يا مقلّب القلوب» .
قال: من دعا بهذا الاسم والذكر ستّ عشرة مرة بعد صلاة ثلاث تسليمات قلب الله قلبه عن كل خاطر فيه نقص [4] إلى كلّ خاطر فيه كمال [فى حقّه [5]] ، ويصلح لأرباب الاستخارات، وفيه لسرعة قضاء الحاجات معنى بديع. والآيات [6] المناسبة له قَوْلُهُ الْحَقُّ [وَلَهُ الْمُلْكُ
، وقوله تعالى [5]] : يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ
إلى آخر الآية، وقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
الآية؛ وما يناسب ذلك من القرآن.
وهو ذكر يصلح لأرباب القلوب من تكرار الخواطر والوساوس، وله فى تقلّب الأحوال أمور عجيبة عظيمة لمن فهم ذلك؛ وكذلك من كتب الذكر كله وعلّقه عليه عصمه الله فى تقلّباته من الآفات حتى فى أمور دنياه وآخرته.
__________
[1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى أحد الأصلين: «ما أودعته فى دورات» وفى الأصل الآخر:
«ما أودعته من ذوات ... » .
[2] فى إحدى نسخ اللمعة المخطوطة: «سر قدرتك ... » .
[3] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «مجذوبة بيد كمال يبدو الكمال ونور الطلوع أذهب» الخ
[4] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «قلب الله قلب كل من خاطره فيه نقص ... » .
[5] زيادة من اللمعة النورانية.
[6] كذا فى اللمعة النورانية: وفى الأصلين: «والآية ... » .(5/295)
دعاء يدى به فى الساعة الرابعة من يوم الأحد، وفى الحادية عشرة من ليلة الاثنين وفى الأولى من يوم الاثنين، وفى الثامنة من ليلة الثلاثاء وفى العاشرة من يوم الثلاثاء، وفى الخامسة من ليلة الأربعاء وفى السابعة من يوم الأربعاء، وفى الثانية من ليلة الخميس وفى الرابعة من يوم الخميس، وفى الثانية من ليلة الجمعة والأولى من يوم الجمعة، وفى الحادية عشرة من ليلة السبت وفى العاشرة من يوم السبت، وفى الثامنة من ليلة الأحد. وهو:
«ربّ قابلنى بنور اسمك مقابلة تملأ وجودى ظاهرا وباطنا حتى تمحو منّى حظوظ الأشكال كلها فيبدو لى فى وجودى ومن وجودى سرّ ما كتبه قلم تقديرك من كل مستودع فى مستقرّ ومستقرّ فى مستودع فلا يخفى علىّ ما غاب عنّى فأنظرنى بك وأنظر من سواى بنور اسمك [1] فأرى الكمال المطلق فى الملك المطلق، يا مودع الأنوار قلوب عباده الأبرار يا سريع يا قريب» .
قال: من دعا بهذا الدعاء فى ساعة من هذه الساعات ست عشرة مرة ثم قصد أىّ حاجة أراد، أسرع الله تعالى قضاءها ونمّى له ما يملكه من مال أو جاه أو حال أو مقام. ومن خاصّة هذا الذكر وضع البركة فى أىّ شىء وضع عليه. ويصلح هذا الذكر لطالبى المكاشفات من أرباب الخلوات فإنهم اذا داوموا هذا الذكر ألقى اليهم الخاطر الصحيح. قال: وإن أضيف له يا سريع يا قريب يا مبين ظهر له ما يريد من كشف العواقب فى الأفعال المرتبطة بعالم الغيب والشهادة.
دعاء يدعى به فى الساعة الخامسة من يوم الأحد، وفى الثانية عشرة من ليلة الاثنين وفى الثانية من يوم الاثنين، وفى التاسعة من ليلة الثلاثاء وفى الحادية عشرة
__________
[1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «أنيتك» .(5/296)
من يوم الثلاثاء، وفى السادسة من ليلة الأربعاء وفى الثامنة من يوم الأربعاء، وفى الثالثة من ليلة الخميس وفى الخامسة من يوم الخميس، وفى الثالثة من ليلة الجمعة وفى الثانية من يوم الجمعة، وفى الثانية عشرة من ليلة السبت وفى الحادية عشرة من يوم السبت، وفى التاسعة من ليلة الأحد. وهو:
«ربّ أسألك مددا روحانيّا تقوى به قواى الكلّية والجزئيّة حتى أقهر بمبادئ نفسى كلّ نفس قاهرة فتنقبض لى رقابها انقباضا تسقط به قواها، فلا يبقى فى الكون ذو روح إلّا ونار القهر أخمدت ظهوره، يا شديد يا ذا البطش يا قهّار يا جبّار أسألك بما أودعته عزرائيل من قوى أسمائك القهريّة فانفعلت له النفوس بالقهر أن تكسونى [1] ذلك السرّ فى هذه الساعة حتى أليّن به كلّ صعب، وأذلّ به كلّ منيع بقوّتك يا ذا القوّة المتين» .
قال: من دعا بهذا الدعاء فى ساعة من هذه الساعات تسعا وثمانين مرة، ثم دعا على ظالم أخذ لوقته، وذلك بعد صلاة خمس تسليمات بالفاتحة لا غير. ويناسب هذا الدعاء من آى القرآن العظيم وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
. قال: فى هذا الذكر قمع الجبابرة، وقطع دابر الظالمين، وخراب ديار الماردين، وما شابه ذلك. وهو ذكر يليق بالسالكين فى مبادئ الرياضات والمنتهين فى مقامات التجلّى إلى الخلوة؛ وهو من الأسرار العجيبة، ولا يذكره من غلبته الشيخوخة إلّا وجد فى قلبه خفقانا بالخاصيّة، ولا يذكره محموم إلا برئ من حمّاه لوقته، وإن كتبه وعلّقه عليه دامت صحّته.
دعاء يدعى به فى الساعة السادسة من يوم الأحد، وفى الأولى من ليلة الاثنين وفى الثالثة من يوم الاثنين، وفى العاشرة من ليلة الثلاثاء وفى الثانية عشرة من يوم
__________
[1] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «وا كسنى ... » .(5/297)
الثلاثاء، وفى السابعة من ليلة الأربعاء وفى التاسعة من يوم الأربعاء، وفى الرابعة من ليلة الخميس وفى السادسة من يوم الخميس، وفى الرابعة من ليلة الجمعة وفى الثالثة من يوم الجمعة، وفى الأولى من ليلة السبت وفى الثانية عشرة من يوم السبت، وفى العاشرة من ليلة الأحد. وهو:
«رب صفّنى [من كدرات الأغيار [1]] صفاء من صفّته يد عنايتك من نقص التكوين [2] حتى ينجلى فى مرآة قلبى ومستوى نفسى كلّ اسم انطبع فى قوّة جبرائيل فقوى به على كشف ما فى اللوح من أسرار أسمائك ومجامع رسائلك، فكلّ نفس منفوسة امتدّت لها من دقائقه [3] دقيقة طرفها منه والثانى لمن هو به، ومجامع هذه الدقائق [3] فى دقيقة [3] الاسم الجبرائيلى العالم العليم العّلام، يا ذا الكرم الذى علّم بالقلم، فموادّ الوحى والإلهام والتحديث والفهم تسرى بنفحة منه فى هذه الساعة إلى مثلها. إلهى منطقنى بالدقيقة العظمى منه حتى أتلقّى عنك بما به تلقّى [عنك جبرائيل [1]] مما أملأ به وجودى بلا ميل لغلبة حتى أتلذّذ بمصافاتك تلذّذ جبريل برسائلك، إنك علّام الغيوب» .
قال: من دعا به خمسا وعشرين مرة فى ساعة من هذه الساعات ألهم رشده فى عواقب أموره. والاسم اللائق بهذا الدعاء يا علّام الغيوب يا عالم الخفيّات وما شاكل هذا النمط من الأسماء، ومن القرآن العظيم وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ
الآية.
قال: وهو من الكبريت الأحمر وبعضه من الدّرياق الأكبر. وهذا الذكر للذى فتح عليه باب من المعارف فإنّه مهما استدامه ألهم قلبه إلى علوم جليلة، ويخاطب
__________
[1] زيادة من اللمعة النورانية.
[2] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «من نقص التلوين ... » .
[3] كذا فى الأصلين بالدال فى هذه الكلمات. وفى اللمعة النورانية بالراء فيها جميعا.(5/298)
فى نفسه بإلقاءات [1] من وحى الإلهام، ويخاطبه الحيوان بمعنى يفهمه فيستفيد علوما عظيمة، يعرف ذلك أرباب المنازلات لفهم الحديث.
دعاء يدعى به فى الساعة السابعة من يوم الأحد، وفى الثانية من ليلة الاثنين وفى الرابعة من يوم الاثنين، وفى الحادية عشرة من ليلة الثلاثاء وفى الأولى من يوم الثلاثاء، وفى الثامنة من ليلة الأربعاء وفى العاشرة من يوم الأربعاء، وفى الخامسة من ليلة الخميس وفى السابعة من يوم الخميس، وفى الخامسة من ليلة الجمعة وفى الرابعة من يوم الجمعة، وفى الثانية من ليلة السبت وفى الأولى من يوم السبت، وفى الحادية عشرة من ليلة الأحد. وهو:
«ربّ أوقفنى موقف العزّ حتّى لا أجد فىّ ذرّة ولا رقيقة ولا دقيقة إلا وقد غشّاها من عزّ عزّتك ما منعها من الذّلّ لغيرك، حتى لا أشهد ذلّ من سواى لعزّتى بك مؤيّدا برقيقة من الرعب يخضع لها [2] كلّ شيطان مريد، وجبّار عنيد؛ وأبق علىّ ذلّ العبوديّة فى العزّة بقاء يبسط لسان الاعتراف، ويقبض لسان الدعوى، إنّك العزيز الجبّار المتكبّر القّهار» .
قال: من دعا بهذا الدعاء فى هذه الساعة أو فى ساعة من هذه الساعات ستّ عشرة مرة بعد صلاة [3] وحضور قلب نصر على أىّ عدوّ قصده ظاهرا وباطنا.
دعاء يدعى به فى الساعة الثامنة من يوم الأحد، وفى الثالثة من ليلة الاثنين وفى الخامسة من يوم الاثنين، وفى الثانية عشرة من ليلة الثلاثاء، وفى الثانية من يوم
__________
[1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «بألقاب» .
[2] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى نسخة أخرى منها: «حتى يخضع له ... » . وفى الأصلين:
«حتى يخضع به ... » .
[3] فى هامش إحدى نسخ اللمعة النورانية: «ثلاث تسلمات ... » وكتب عليها كلمة «صح» وأشار الى موضعها بعد كلمة «صلاة» .(5/299)
الثلاثاء، وفى التاسعة من لبلة الأربعاء وفى الحادية عشرة من يوم الأربعاء، وفى السادسة من ليلة الخميس وفى الثامنة من يوم الخميس، وفى السادسة من ليلة الجمعة وفى الخامسة من يوم الجمعة، وفى الثالثة من ليلة السبت وفى الثانية من يوم السبت، وفى الثانية عشرة من ليلة الأحد. وهو:
«إلهى أطلع على وجودى شمس شهودى منك فى الأكوان والألوان حتى أمشى بما أشهدتنى فى آفاق الملكوت فأكشف منه معنى كلمة التكوين فينفعل لى كلّ مكوّن انفعاله للكلمة بإذنك الذى سخّرت به ما فى الوجودين بلا ظلمة وضع ولا ظلمة طبع، إنك منوّر الكلّ بكلّك ومنوّر الأنوار بنورك الذى صدوره عن اسمك النور والظاهر والحى والقيّوم، كلّ شىء هالك إلّا وجهه» الآية.
قال البونى: لا يذكر أحد هذا الذكر فى ساعة من هذه الساعات تسعا وأربعين مرة إلا كساه الله نورا يجد ذلك فى نفسه، وييسّر عليه المقسوم من الرزق، وتسرى كلمته فى الأسباب سريانا عجيبا. وهو ذكر يصلح لأرباب المكاشفات يثبت لهم ما يكاشفون.
دعاء يدعى به فى الساعة التاسعة من يوم الأحد، وفى الرابعة من ليلة الاثنين وفى السادسة من يوم الاثنين، وفى الأولى من ليلة الثلاثاء وفى الثالثة من يوم الثلاثاء، وفى العاشرة من ليلة الأربعاء وفى الثانية عشرة من يوم الأربعاء، وفى السابعة من ليلة الخميس وفى التاسعة من يوم الخميس، وفى السابعة من ليلة الجمعة وفى السادسة من يوم الجمعة، وفى الرابعة من ليلة السبت وفى الثالثة من يوم السبت، وفى الأولى من ليلة الأحد. وهو:
«سيّدى أدخلنى فى بواطن رياض اسمك من الباب الخاصّ الذى لا يحجب بنور ولا بظلمة ولا بشىء منه ولا بشىء خارج عنه، وأطلق يد قواى فى نيل النعمة،(5/300)
وألهمنى تحقيق ذوق كلّ مذوق منه حتى أكون بك فيه وأكون فيه بك مبتهجا منك وبك، ربّ إنك لطيف عطوف رحيم رحمن» .
قال: هذا الذكر بخاصيّة فيه يجلب الفرح ويذهب الحزن ويطيب الوقت ويجلو الكرب؛ ومن دعا به أربعين مرة فى ساعة من هذه الساعات على طهارة [1] واستقبال فرّج به كربه وانجلى غمّه.
دعاء يدعى به فى الساعة العاشرة من يوم الأحد، وفى الخامسة من ليلة الاثنين وفى السابعة من يوم الاثنين، وفى الثانية من ليلة الثلاثاء وفى الرابعة من يوم الثلاثاء، وفى الحادية عشرة من ليلة الأربعاء وفى الأولى من يوم الأربعاء، وفى الثامنة من ليلة الخميس وفى العاشرة من يوم الخميس، وفى الثامنة من ليلة الجمعة وفى السابعة من يوم الجمعة، وفى الخامسة من ليلة السبت وفى الرابعة من يوم السبت، وفى الثانية من ليلة الأحد. وهو:
«يا من نسبة العلوم إلى علمه نسبة لا شىء لشىء لا يتناهى، أظهرت الحروف بالقلم فكان لها صريف فى ألواح الملكوت قام لها مقام مخارج الحروف من الحلق والصدر واللها واللسان، كلّ جنس صدر عنه اسم لا يعلم تركيبه سوى ملك قلمك؛ وكلّ نوع صدر عنه مركّبا، فلوح إسرافيل أظهره بقوّة ما فى آحاد كليّاته من جزئيّات تراكيبه، أسألك بهذا السرّ الخفىّ الذى وقف العقل دونه وتقدّم إليك السرّ بسرّ أودعته فيه يوم إمكان وجوده، أسألك كشف حجاب الغيب حتى أعاين الغيب [2] بما به حىّ الرّوح الباقى، يا حىّ، ياه يا هو، يا أنت يا مهيمن يا خالق يا بارىء أنت هو» .
__________
[1] فى هامش إحدى نسختى اللمعة النورانية: «وصلاة ثلاث تسليمات» وكتب عليها كلمة «صح» وموضعها بعد كلمة «طهارة» .
[2] فى اللمعة النورانية: «المغيب» .(5/301)
قال البونى: هذا الذكر من ذكره فى ساعة من هذه الساعات مائة مرة يسّر له قضاء أىّ حاجة قصدها بغير مشقّة.
دعاء يدعى به فى الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد، وفى السادسة من ليلة الاثنين وفى الثامنة من يوم الاثنين، وفى الثالثة من ليلة الثلاثاء وفى الخامسة من يو الثلاثاء، وفى الثانية عشرة من ليلة الأربعاء وفى الثانية من يوم الأربعاء، وفى التاسعة من ليلة الخميس وفى الحادية عشرة من يوم الخميس، وفى التاسعة من من ليلة الجمعة وفى الثامنة من يوم الجمعة، وفى السادسة من ليلة السبت وفى الخامسة من يوم السبت، وفى الثالثة من ليلة الأحد. وهو:
«يا من لوجوده العلىّ باعتبار حكمته إلى كلّ موجود حصل من وجوده [1] اسم يليق به هو مفتاحه الخاصّ، ومعناه المغيّب، وحقيقته الوجودية وسرّه القابل؛ فما فى الأكوان جوهر فرد من جواهر آحاد العالم العلوىّ والسّفلىّ إلا ومقاليد أحكامه متعلّقة باسم من أسمائه، واجتماعها برقائقها بيد اسمك الذى استأثرت به عن جميع خلقك فلم يظهر لهم إلا ما ناسب الأفعال، فأسماؤك إلهى لا تحصى، ومعلوماتك لا نهاية لها، أسألك غمسة فى بحر هذا النور حتى أعود إلى الكمال الأوّل فأتصرّف فى الكون باسم الكمال تصرّفا ينفى النقص بالوقوف على عبوديّة النقص، إنّك المعزّ المذلّ اللطيف الخبير العدل المجيب» .
قال: من ذكر هذا الذكر ستّ عشرة مرة فى ساعة من هذه الساعات ثم سأل الله تعالى فيها رزقا [2] ، ويتسير أسباب، وسكون بحر هائج [3] ، وسلطان غاصب، ونفس
__________
[1] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «من جوده ... » .
[2] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «ثم سأل الله تعالى فمن سأله فيها رزقا ... » .
[3] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «بحر هائل» .(5/302)
متمرّدة من شيطانى الإنس والجنّ وما ناسب ذلك إلّا أجيب له لوقته، وذلك على طهارة وصلاة [1] وجمع همة فى موضع خال من الأصوات.
دعاء يدعى به فى الساعة الثانية عشرة من يوم الأحد، والسابعة من ليلة الاثنين والتاسعة من يوم الاثنين، وفى الرابعة من ليلة الثلاثاء وفى السادسة من يوم الثلاثاء، وفى الأولى من ليلة الأربعاء وفى الثالثة من يوم الأربعاء، وفى العاشرة من ليلة الخميس وفى الثانية عشرة من يوم الخميس، وفى العاشرة من ليلة الجمعة وفى التاسعة من يوم الجمعة، وفى السابعة من ليلة السبت وفى السادسة من يوم السبت، وفى الرابعة من ليلة الأحد. وهو:
«تعاليت يا من تقاصر كلّ فكر عن حصر مغنى من معانى أسمائه، فكل علوّ ورفعة فمن ذلك [2] العلوّ والرفعة صدوره ظاهرا وباطنا؛ تقدّس مجدك يا من أستار عرشه أظهر فيها كبرياءه ومجده، أسألك بالصفات التى لا تعلّق لها بموجود، يا ذا العظمة والكبرياء والجلال والجمال والبهاء، أسألك الأنس بمقابلات سرّ القدر أنسا يمحو آثار وحشة الفكر حتى يطيب وقتى بك فأطيب بوقتى لك، فلا يتحرّك ذو طبع لمخالفتى إلا صغر لعظمتك وقصم بكبريائك، إنك جبّار الأرض والسماء، وقاهر الكلّ بقهرك يا مجيب» .
قال البونى: من ذكر هذا الذكر سبعا وعشرين مرة فى ساعة من هذه الساعات ودعا [بما يريد [3]] كفى لوقته [شرّ ما يحاذره [3]] . فهذه دعوات ساعات الأيّام واللّيالى.
__________
[1] فى إحدى نسخ اللمعة بعد كلمة «صلاة» بين الأسطر: «ثلاث تسليمات» .
[2] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «فمن دون ذلك العلو» الخ.
[3] الزيادة عن إحدى نسختى اللمعة النورانية.(5/303)
ذكر ما يدعى به فى المساء والصباح، والغدوّ والرواح، والصلاة والصوم، والجماع والنوم؛ والورد والصدر، والسفر والحضر؛ وغير ذلك.
فأمّا ما يقال عند المساء والصباح؛
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه وقد سأله فقال: يا رسول الله مرنى بشىء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت. فقال: «قل اللهمّ عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض ربّ كلّ شىء ومليكه أشهد أن لا إله إلّا أنت أعوذ بك من شرّ نفسى وشرّ الشيطان وشركه قلهن إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك»
. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول: «أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبيّنا [2] محمد صلى الله عليه وسلم وملّة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين»
. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «أصبحنا وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والخلق والأمر واللّيل والنهار وما سكن فيهما من شىء لله وحده لا شريك له اللهم اجعل أوّل هذا النهار لنا صلاحا وأوسطه فلاحا وآخره نجاحا أسألك خير الدنيا وخير الآخرة يا أرحم الراحمين»
. وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح: «اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور» . وإذا أمسى قال: «اللهم بك أمسينا وبك نحيا وبك نموت»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يصبح أو يمسى اللهم أنت ربّى لا إله إلّا أنت خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شرّ ما صنعت أبوء
__________
[1] فى كتاب الأذكار للنووى (ص 39) : «كذا وقع فى كتاب ابن السنى، ثم قال هو غير متبع.
ولعله صلى الله عليه وسلم قال ذلك جهرا ليسمعه غيره فيتعلمه» اه.(5/304)
لك [1]] بنعمتك [عليك [1]] وأبوء بذنبى فاغفرلى إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت فمات من يومه أو من ليلته دخل الجنة»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شىء قدير بعد ما يصلّى الغداة عشر مرّات كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيّئات ورفع له عشر درجات وكنّ له عدل رقبتين من ولد إسماعيل وكنّ له حجابا من الشيطان حتّى يمسى فإن قالها حين يمسى كان له مثل ذلك وكنّ له حجابا من الشيطان حتى يصبح» ، وفى رواية:
«من قالها فى يوم مائة مرّة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيّئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتّى يمسى ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ومن قال سبحان الله وبحمده فى اليوم مائة مرة حطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يمسى أعوذ بكلمات الله التامّات كلّها من شرّ ما خلق لم تضرّه لدغة عقرب حتى يصبح»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح فى أوّل يومه أو فى أوّل ليلته باسم الله الذى لا يضرّ مع اسمه شىء فى الأرض ولا فى السماء وهو السميع العليم ثلاثا لم يضرّه شىء فى ذلك اليوم أو تلك الليلة»
. وعنه صلى الله عليه وسلم. «من قال إذا أصبح باسم الله العلىّ الأعلى الذى لا ولد له ولا صاحبة ولا شريك أشهد أنّ نوحا رسول الله وأنّ إبراهيم خليل الله وأنّ موسى نجىّ الله وأنّ داود خليفة الله وأنّ عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وأنّ محمدا رسول الله وخاتم النبيّين لا نبىّ بعده لم تلسعه حيّة ولا عقرب ولم يخف من سلطان ولا كاهن ولا ساحر حتى يمسى وإذا قالها إذا أمسى لم يخف شيئا من ذلك حتى يصبح» .
__________
[1] زيادة عن صحيح البخارى.(5/305)
وأمّا ما يقال عند النوم؛
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وإذا أخذت مضجعك فتوضّا وضوءك للصّلاة ثم اضطجع على شقّك الأيمن ثم قل أسلمت وجهى إليك وفوّضت أمرى اليك وألجأت ظهرى إليك رهبة ورغبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك اللهم آمنت بكتابك الذى أنزلت ونبيّك الذى أرسلت فإن متّ من ليلتك متّ على فطرة الإسلام واجعلهنّ آخر ما تتكلّم به»
. قال البراء بن عازب: فردّدتها على النبىّ صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذى أنزلت قلت: ورسولك قال: «ونبيك الذى أرسلت»
. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من اللّيل يقول: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ولك الحمد أنت قيّام السموات والأرض ومن فيهنّ أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنّة حق والنار حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكّلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لى ما قدّمت وما أخّرت [1] وما أسررت وما أعلنت أنت إلهى لا إله إلا أنت»
. وأمّا ما يقال عند دخول المنزل والمسجد والخروج منهما؛
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذ ولج الرجل بيته فليقل باسم الله اللهم إنّى أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله توكّلنا ثم ليسلّم على أهله»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل الرجل بيته فقال باسم الله قعد الشيطان على الباب وقال ما من مقيل فهل من غداء فاذا أتى بغدائه فقال باسم الله
__________
[1] كذا فى رواية الأذكار للنورى من رواية الصحيحين. وقد ورد فى الأصل بدون ما الموصولة إلا فى الفعل الأوّل دون الأفعال الباقية.(5/306)
قال ما من غداء ولا مقيل»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج الرجل من بيته فقال سبحان الله قال الملك هديت واذا قال لا حول ولا قوّة إلا بالله قال الملك وقيت فإذا قال توكّلت على الله يقول الملك كفيت يقول الشيطان عند ذلك كيف أعمل بمن كفى وهدى ووقى»
. وعن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته صباحا قطّ إلا قال: «اللهم إنّى أعوذ بك أن أزلّ أو أضلّ أو أظلم أو أجهل أو يجهل علىّ»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم خرج من بيته يريد سفرا أو غيره فقال حين يخرج باسم الله آمنت بالله اعتصمت بالله توكّلت على الله لا حول ولا قوّة إلا بالله إلا رزق خير ذلك المخرج وصرف عنه شرّ ذلك المخرج»
. وعن أبى سعيد رضى الله عنه قال فضيل بن مرزوق- أحسبه رفعه- قال: «من قال حين يخرج إلى الصّلاة اللهم إنى أسألك بحقّ السائلين عليك وبحقّ ممشاى هذا إنى لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت خوف سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذنى من النّار وأن تغفر ذنوبى إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وكلّ الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له وأقبل الله عليه بوجهه حتى يفرغ من صلاته»
. وعن فاطمة [1] رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: «باسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لى وافتح لى أبواب رحمتك وإذا خرج قال باسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لى ذنوبى وافتح لى أبواب فضلك»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لى أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إنى أسألك من فضلك» .
__________
[1] وضع على حاشية إحدى النسخ «لعلها بنت قيس» ووضعت هذه الزيادة فى نسخة أخرى فى صلب الكاب. والظاهر أنها فاطمة الزهراء رضى الله عنها؛ فقد روى هذا الحديث الإمام النووى فى كتاب الأذكار عن عبد الله بن الحسن عن أمه عن جدّته اه وجدته هى فاطمة الزهراء.(5/307)
وأمّا ما يقال عند النداء؛ فقد
روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان عند الأذان فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء وإذا كان عند الإقامة لم تردّ دعوة»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع المؤذّن وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربّا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ذنبه»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سمع المؤذّن فقال اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته حلّت له شفاعتى يوم القيامة»
.- وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا علىّ فإنه من صلّى علىّ مرّة صلى الله عليه بها عشرا» .
وأمّا ما يقال عند دخول الخلاء؛
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث» وإذا خرج قال «غفرانك» . وفى لفظ إذا خرج قال: «الحمد لله الذى أذهب عنّى الأذى وعافانى» .
وعن أنس رضى الله عنه قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إنّى أعوذ بك من الرّجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم» ، وإذا خرج قال: «الحمد لله الذى أذهب عنّى الأذى وعافانى»
. وأمّا ما يقال عند الوضوء وغسل الأعضاء؛
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه»
. وعن علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ(5/308)
إذا توضّأت فقل باسم الله والصلاة على رسول الله»
. وعن محمد بن الحنفيّة قال: دخلت على والدى علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنهما- وإذا عن يمينه إناء من ماء، فسمّى ثم سكب على يمينه ثم تمضمض فقال: اللهم حصّن فرجى واستر عورتى ولا تشمت بى الأعداء؛ ثم تمضمض واستنشق وقال: اللهم لقّنّى حجّتى ولا تحرمنى رائحة الجنّة. ثم غسل وجهه وقال: اللهم بيّض وجهى يوم تسودّ الوجوه ولا تسوّد وجهى يوم تبيضّ الوجوه. ثم سكب على يمينه فقال: اللهم أعطنى كتابى بيمينى والخلد بشمالى.
ثم سكب على شماله وقال: اللهم لا تعطنى كتابى بشمالى ولا تجعلها مغلولة إلى عنقى.
ثم مسح برأسه وقال: اللهم غشّنا برحمتك فإنّا نخشى عذابك، اللهم لا تجمع بين نواصينا وأقدامنا. ثم مسح عنقه فقال: اللهم نجّنا من مقطّعات [1] النيران وأغلالها. ثم غسل قدميه فقال: اللهم ثبّت قدمىّ على الصراط المستقيم يوم تزلّ فيه الأقدام.
ثم استوى قائما فقال: اللهم كما طهّرتنا بالماء فطهّرنا من الذنوب، ثم قال بيده هكذا، يقطر الماء من أنامله، ثم قال: يا بنىّ، افعل كفعلى هذا فإنه ما من قطرة تقطر من أناملك إلا خلق الله منها ملكا يستغفر لك إلى يوم القيامة. يا بنىّ؛ من فعل كفعلى هذا تساقطت عنه الذنوب كما يتساقط الورق عن الشجر يوم الريح العاصف.
وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا توضّأت فقل اللهم إنى أسألك تمام الوضوء وتمام مغفرتك ورضوانك»
. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من توضّأ فأحسن وضوءه ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صادقا من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب الجنّة يدخل من أيّها شاء»
. وعن
__________
[1] المقطعات من الثياب: شبه الجباب، وفى التنزيل: (قطعت لهم ثياب من نار) أى قطعت وخيطت وجعلت لبوسالهم. (عن لسان العرب) .(5/309)
علىّ رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا فرغت من وضوئك فقل أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلنى من التوّابين واجعلنى من المتطهّرين تخرج من ذنوبك كيوم ولدتك أمّك وتفتح لك ثمانية أبواب الجنة فيقال ادخل من أيّها شئت»
. وأمّا ادعية الصلاة، فهى إمّا أن تقع قبلها أو فيها أو بعدها. فأمّا ما يقال قبلها فقد
روى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها بأىّ شىء كان نبىّ الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة إذا قام من الليل؟
قالت: إذا قام يفتتح صلاته يقول: «اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنى لما اختلفت فيه من الحقّ بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم»
. وأمّا ما يدعى به فى نفس الصلاة،
فقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه ثم يقول: «سبحانك اللهمّ وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا كبّر فى الصلاة سكت هنيّة قبل أن يقرأ. فقلت: يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، ما تقول فى سكوتك بين التكبير والقراءة؟ قال: «أقول اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقّنى من الخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدّنس واغسلنى من خطاياى بالثلج والماء والبرد»
. وعن جبير بن مطعم رضى الله عنه أنه رأى(5/310)
النبىّ صلى الله عليه وسلم يصلّى قال: فكبّر فقال «الله أكبر كبيرا ثلاث مرات والحمد لله كثيرا ثلاث مرات وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات اللهم إنى أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه»
. قال راويه عمرو بن مرّة:
نفخه: الكبر، ونفثه: السحر، وهمزه: الموتة، وهى الجنون.
وعن علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة كبّر ثم قال: «وجّهت وجهى للّذى فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربّى وأنا عبدك ظلمت نفسى واعترفت بذنبى فاغفرلى ذنوبى جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدنى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت واصرف عنى سيّئها لا يصرف سيّئها إلا أنت لبّيك وسعديك والخير كلّه فى يديك [والشرّ ليس إليك [1]] وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك» . فإذا ركع قال: «اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعى وبصرى ومخّى وعظمى وعصبى» . فإذا رفع رأسه قال:
«سمع الله لمن حمده ربّنا ولك الحمد ملء السموات والأرض وما بينهما وملء ما شئت من شىء بعد» . فإذا سجد قال: «اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهى للّذى خلقه وصوّره فأحسن صوره وشقّ سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين» . فإذا فرغ من الصلاة وسلّم قال: «اللهم اغفرلى ما قدّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به منّى أنت المقدّم وأنت المؤخّر لا إله إلا أنت»
. وقد ورد فى لفظ آخر أنه يقول: اللهم اغفر لى إلى آخر الدعاء بين التشهّد والتسليم.
وعن حذيفة رضى الله عنه قال: صلّيت مع رسول الله
__________
[1] زيادة من كتاب الأذكار للنووى (ص 21) .(5/311)
صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول فى ركوعه: «سبحان ربّى العظيم» ، وفى سجوده:
«سبحان ربّى الأعلى»
. وفى لفظ أنه كان يقول ذلك ثلاث مرات.
وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فى سجوده وركوعه: «سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح»
. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: «ربّنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شىء بعد أهل الثناء والمجد أحقّ ما قال العبد وكّلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ»
. وعن النبى صلى الله عليه وسلم: «من قال وهو ساجد ثلاث مرّات ربّ اغفرلى لم يرفع رأسه حتّى يغفر له»
. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا التشهّد كما يعلّمنا السّورة من القرآن، وكان يقول: «التحيّات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبىّ ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله»
. وروى: «السلام» فى الموضعين.
وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: كنّا نقول فى الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم:
السلام على الله السلام على فلان. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم:
«إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم فى الصلاة فليقل التحيّات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبىّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كلّ عبد صالح فى السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يتخيّر فى المسألة ما شاء»
. وقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الصلاة عليه. وقد سأله كعب بن عجرة عنها فقال: «قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد وبارك(5/312)
على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فرغ أحدكم من التشهّد فليتعوّذ بالله من أربع: من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وشرّ المسيح الدجّال»
. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله: علّمنى دعاء أدعو به فى الصلاة وفى بيتى قال:
«قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لى مغفرة من عندك إنّك أنت الغفور الرحيم»
. وروى بعد قوله من عندك: «وارحمنى إنك أنت التوّاب الرحيم»
. وأمّا ما يدعى به بعد التسليم؛ فقد
روى عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر كلّ صلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كلّ شىء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ»
. وعن عبد الله ابن الزّبير رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من صلاته يقول بصوته الأعلى: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير لا حول ولا قوّة إلا بالله ولا نعبد إلا إيّاه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون»
. وفى طريق آخر: «له الدين وهو على كل شىء قدير»
. وعن أمّ سلمة رضى عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى الصبح قال: «اللهم إنى أسألك علما نافعا ورزقا طيّبا وعملا متقبّلا»
. وعن أنس رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم:(5/313)
«من قال حين ينصرف من صلاته سبحان الله العظيم وبحمده لا حول ولا قوّة إلا بالله العلىّ العظيم ثلاث مرات فإنه مغفور له»
. وعن أبى أمامة الباهلىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسىّ دبر كلّ صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت»
. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد بسط كفّيه فى دبر صلاته ثم يقول إلهى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إله جبريل وميكائيل وإسرافيل أسألك أن تستجيب دعوتى وتعصمنى فى دينى فإنى مبتلى وتنالنى برحمتك فإنّى مذنب وتنفى عنى الفقر فإنى مستمسك إلّا كان حقّا على الله ألّا يردّ يديه خائبتين»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قال دبر كلّ صلاة الحمد لله ثلاثا وثلاثين مرّة وسبحان الله ثلاثا وثلاثين مرة والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرّة وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير غفرت ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»
. وعن علىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فى آخر وتره: «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
. وعن الحسن بن علىّ رضى الله عنهما قال: علّمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهنّ فى الوتر، وفى لفظ: فى قنوت الوتر: «اللهم اهدنى فيمن هديت وعافنى فيمن عافيت وتولّنى فيمن تولّيت وبارك لى فيما أعطيت وقنى شرّ ما قضيت إنك تقضى ولا يقضى عليك وإنّه لا يذلّ من واليت تباركت ربّنا وتعاليت»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: «اللهم اغفر لحيّنا وميّتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا اللهم من أحييته منّا فأحيه على الإيمان ومن توفّيته منا فتوفّه على(5/314)
الإسلام اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلّنا بعده»
. وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ اذا صلّيت على جنازة رجل فقل اللهم هذا عبدك ابن عبدك ابن أمتك ماض فيه حكمك خلقته ولم يكن شيئا مذكورا نزل بك وأنت خير منزول به اللهم لقّنه حجّته وألحقه بنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم وثبّته بالقول الثابت فإنه افتقر إليك واستغنيت عنه كان يشهد أن لا إله إلّا الله فاغفر له وارحمه ولا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده اللهم إن كان زاكيا فزكّه وإن كان خاطئا فاغفر له. وإذا صلّيت على جنازة امرأة فقل اللهم أنت خلقتها وأنت أحييتها وأنت أمتّها تعلم سرّها وعلانيتها جئناك شفعاء لها فاغفر لها وارحمها ولا تحرمنا أجرها ولا تفتنّا بعدها. وإذا صلّيت على جنازة طفل فقل اللهم اجعله لوالديه سلفا واجعله لهما ذخرا واجعله لهما رشدا واجعله لهما نورا واجعله لهما فرطا وأعقب لوالديه الجنّة ولا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده»
. وعن عوف بن مالك رضى الله عنه قال: سمعت النبىّ صلى الله عليه وسلم وصلّى على جنازة يقول: «اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله ووسّع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقّه من الخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وقه فتنة القبر وعذاب القبر وعذاب النار»
. قال عوف رضى الله عنه: فتمنّيت لو كنت أنا الميّت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمّا ما يقال عند رؤية الجنازة والتلقين والدفن، وما فى ذلك من الأجر؛
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من رأى جنازة فقال الله أكبر صدق الله ورسوله هذا ما وعدنا الله ورسوله اللهم زدنا إيمانا وتسليما كتب له عشرون(5/315)
حسنة فى كلّ يوم من يوم يقولها إلى يوم القيامة»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا وضعتم موتاكم فى القبر فقولوا بآسم الله وعلى ملّة رسول الله»
. وعن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كان اذا سوّى على الميّت التراب قال: «اللهم أسلمه إليك الأهل و؟؟؟ والعشيرة وذنبه عظيم فاغفر له»
. وعن سعيد بن عبد الله الأودىّ قال: شهدت أبا أمامة وهو فى النّزع فقال: إذا أنا متّ فاصنعوا بى كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا فقال: «إذا مات أحد من إخوانكم فسوّيتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره فليقل يا فلان بن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيبه ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنّه يستوى قاعدا ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا رحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله وأنّك رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا وبالقرآن إماما فإن منكرا ونكيرا يأخذ كلّ واحد منهما بيد صاحبه ويقول انطلق بنا ما نقعد عند من لقّن حجّته فيكون الله حجيجه دونهما» . فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمّه؟ قال: «فينسبه إلى حوّاء يا فلان ابن حوّاء»
. وأمّا ما يقال عند زيارة القبور؛
عن عائشة رضى الله عنها أنّها تبعت النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى زيارة البقيع فقال لها: «قولى السّلام على أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون»
. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المقابر قال: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع أسأل الله العافية لنا ولكم»
.(5/316)
وأمّا ما يقال عند الإفطار من الصوم، والأكل والشرب؛
روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أفطر قال: «اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبّل منّا إنك أنت السميع العليم»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قال اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت وعليك توكّلت كتب له من الأجر بعدد من صام ذلك اليوم»
. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أحدكم لتوضع مائدة بين يديه فما تكاد أن ترفع حتى يغفر له» . قيل يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: «لأنه يسمّى الله إذا وضعت المائدة وأكل ويحمد الله إذا رفعت»
. وعن عائشة رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نسى أحدكم أن يذكر اسم الله فى أوّل طعامه فليقل باسم الله أوّله وآخره»
. وعنه صلى الله عليه وسلم «من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذى أطعمنى هذا الطعام ورزقنيه بغير حول منّى ولا قوّة غفر له ما تقدّم من ذنبه»
. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل قال: «الحمد لله الذى أطعم وسقى وسوّغه وجعل له مخرجا»
. ومن
رواية أنس: «الحمد لله الذى أطعمنى وسقانى وهدانى وكلّ بلاء حسن أبلانى الحمد لله الرازق ذى القوّة اللهم لا تنزع منّا صالحا أعطيتناه ولا صالحا رزقتناه واجعلنا لك من الشاكرين»
. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل قال:
«الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وأشبعنا وآوانا وكفانا»
. وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا شربت ماء فقل الحمد لله الذى سقانا ماء عذبا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا تكتب شاكرا»
. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند أهل بيت قال لهم: «أفطر عندكم(5/317)
الصائمون وأكل طعامكم الأبرار ونزلت عليكم الملائكة» ؛ وروى: «وصلّت عليكم الملائكة وذكركم الله فيمن عنده»
. وأمّا ما يقال عند لباس الثوب وإلباسه؛ وعند النظر فى المرآة والتسريح وفى المجلس؛
روى أبو سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استجدّ ثوبا- سمّاه باسمه قميصا أو إزارا أو عمامة- يقول: «اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه اللهم إنى أسألك من خيره [1] وخير ما صنع له وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له»
. وعن علىّ رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا لبست ثوبا فقل باسم الله الحمد لله الذى كسانى ما أوارى به عورتى وأستغنى به عن الناس لم يبلغ الثوب رقبتك حتى يغفر لك يا علىّ من لبس ثوبا جديدا وكسا أسماله [2] عريانا أو مسكينا كان فى جوار الله وأمنه وحفظه ما دام عليه منه سلك [3] »
. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوبا فقال الحمد لله الذى كسانى هذا ورزقنيه من غير حول منّى ولا قوّة غفر له [4] ما تقدّم من ذنبه وما تأخر [5] »
. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا نظر فى المرآة يقول: «الحمد لله رب العالمين الذى خلقنى وسوّى خلقى وجعلنى بشرا سويّا ولا حول ولا قوّة إلا بالله»
. قال ابن عباس رضى الله عنهما: فما تركتها منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لا يمس
__________
[1] الذى فى أذكار النووى؛ «أسألك خيره ... » بدون كلمة «من» .
[2] فى الأصول: «أو كسا أسماله ... » وظاهر أن السياق يقتصى الواو دون «أو» . وقد ورد ما يشبه هذا الحديث فى أذكار النووى (ص 11) وأداة العطف فيه «ثم» .
[3] السلك: الخيط.
[4] فى الأصل: «إلا غفر له» بزيادة «إلا» وهى غير موجودة فى أذكار النووى.
[5] كلمة «وما تأخر» غير موجودة فى أذكار النووى.(5/318)
وجه من قالها سوء أبدا.
وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا نظرت فى المرآة فقل اللهم كما حسّنت خلقى فأحسن خلقى وارزقنى»
. وعن الرّضى علىّ بن موسى عن أبيه عن آبائه أبا فأبا رضى الله عنهم عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أمرّ المشط على رأسه ولحيته فى كل يوم سبع مرّات وقال فى كلّ مرة سبحان الله العظيم وبحمده لا حول ولا قوّة إلا بالله العلىّ العظيم لم يقارنه ذنب»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من جلس فى مجلس كثر لغطه فيه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان فى مجلسه ذلك»
. وأمّا ما يقال فى المرض والرّقى والوسواس والحريق؛
عن عائشة رضى الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض: «باسم الله تربة أرضنا وريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن [1] ربّنا»
. وعن عثمان بن أبى العاص الثقفىّ رضى الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبى وجع قد كاد يبطلنى فقال لى صلى الله عليه وسلم: «اجعل يدك اليمنى عليه ثم قل باسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شرّ ما أجد سبع مرات [2] »
، ففعلت ذلك فشفانى الله تعالى.
وعنه صلى
__________
[1] كذا فى الأصول. وفى صحيح مسلم: «باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا باذن ربنا وقال ابن أبى شيبة: يشفى وقال زهير: ليشفى به سقيمنا» . وفى أذكار النووى (ص 61) :
«وروينا فى صحيحى البخارى ومسلم وسنن أبى داود وغيرها، إلى أن قال: باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى به سقيمنا باذن ربنا، وفى رواية ترية أرضنا وريقة بعضنا» اهـ. فما فى الأصول هنا يوافق بعض الروايات.
[2] الذى فى صحيح مسلم: «عن عثمان بن أبى العاصى الثقفى أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده فى جسده منذأ سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضع يدك على الذى تألم من وقل باسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» .(5/319)
الله عليه وسلم: «من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض وضع يده اليمنى على خدّه وقال: «أذهب الباس، ربّ الناس واشف أنت الشافى شفاء لا يغادر سقما»
. وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قرأ فى أذن مبتلى فأفاق، فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما قرأت فى أذنه» ؛ قال: قرأت (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا) إلى آخر السورة. فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «لو أنّ رجلا موقنا قرأبها على جبل لزال»
. وعن ابن عمر أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى صاحب بلاء فقال الحمد الذى عافانى مما ابتلاك به وفضّلنى عليك وعلى كثير ممن خلق الله عافاه الله من ذلك البلاء كائنا ما كان أبدا ما عاش»
. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أرقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين فأضع يدى على صدره وأقول: أذهب الباس، ربّ الناس؛ بيدك الشفاء ولا كاشف له إلا أنت.
وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما رفع الحديث أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «هذه الكلمات دواء من كلّ داء أعوذ بكلمات الله التامّة وأسمائه كلها عامّة من السامّة والهامّة وشرّ العين اللّامّة ومن شرّ حاسد إذا حسد ومن شرّ أبى قترة [1] وما ولد ثلاثون من الملائكة أتوا ربّهم عز وجل فقالوا وصب بأرضنا فقال خذوا تربة من أرضكم وامسحوا بوصبكم رقية محمد صلى الله عليه وسلم من أخذ عليها صفدا [1] أو كتمها أحدا فلا أفلح أبدا»
. وعن علىّ رضى الله عنه قال: من اشتكى ضرسه فليأخذ التراب من موضع سجوده ثم يمسح يده على الموضع الذى يشتكى، ثم يقول: باسم الله، والشافى الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
وعن أبى الدرداء رضى الله عنه أنه أتاه رجل فذكر له أن
__________
[1] أبو قترة: إبليس.
[2] الصفد (بفتحتين) : العطاء.(5/320)
أباه احتبس بوله وأصابته حصاة منعته البول فعلّمه رقية سمعها من النبىّ صلى الله عليه وسلم وهى: «ربّنا الله الذى فى السماء تقدّس اسمك أمرك فى السماء والأرض كما رحمتك فى السماء فاجعل رحمتك فى الأرض واغفر لنا حوبنا [1] وخطايانا أنت ربّ الطيّبين فأنزل شفاء من شفائك ورحمة من رحمتك على الوجع فيبرأ»
؛ فأمره برقيه بها فرقاه بها فبرئ. وعن علىّ رضى الله عنه أن جبريل عليه السلام أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم فوافقه مغتمّا، فقال: يا محمد، ما هذا الغمّ الذى أراه فى وجهك؟ قال:
«الحسن والحسين أصابتهما عين» . فقال: يا محمد، صدّق العين فإن العين حقّ. ثم قال: أفلا عوّذتهما بهؤلاء الكلمات؟ فقال: «وما هنّ يا جبريل» ؛ فقال: «قل اللهمّ ذا السلطان العظيم، ذا المنّ القديم، ذا الوجه الكريم، والكلمات التامّات، والدعوات المستجابات عاف الحسن والحسين من أنفس الجنّ وأعين الإنس» . فقالها النبىّ صلى الله عليه وسلم فقاما يلعبان بين يديه.
فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «عوّذوا أنفسكم بهذا التعوّذ فإنّه لم يتعوّذ المتعوذّون بمثله»
. وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أمان لك من الحرق أن تقول سبحانك ربّى لا إله إلّا أنت عليك توكّلت وأنت ربّ العرش العظيم»
. وعنه أيضا رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ أمان لك من الوسواس أن تقرأ وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً
. وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً
»
. وأمّا ما يقال عند دخول السوق وشراء الجارية والدابّة؛
روى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل السوق قال: «اللهم إنّى أسألك من خير
__________
[1] الحوب: الإثم.(5/321)
هذه السوق وأعوذ بك من الكفر والفسوق»
. وعن علىّ رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا دخلت السوق فقل حين تدخل باسم الله وبالله أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله يقول الله عز وجل عبدى هذا ذكرنى والناس غافلون اشهدوا أنّى قد غفرت له»
. وعن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حىّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شىء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ورفع له ألف ألف درجة» أو قال: «وبنى له بيتا فى الجنّة»
. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أفاد أحدكم الجارية أو المرأة أو الدابّة فليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة وليقل اللهم إنّى أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما جبلت عليه فإن كان بعيرا فليأخذ بذروة سنامه» .
وأمّا ما يقال عند هبوب الرياح وفى الرعد والمطر؛
عن أبىّ بن كعب رضى الله عنه أن الريح هاجت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبّها رجل فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّها فإنها مأمورة ولكن قل اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أمرت به وأعوذ بك من شرّها وشر ما فيها وشرّ ما أمرت به»
. وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد أو البرق قال. «اللهم لا تقتلنا غضبا ولا تقتلنا بغتة وعافنا قبل ذلك»
. وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تهلكنا بغضبك ولا تقتلنا بعذابك وعافنا قبل ذلك»
. وعن أنس أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا فى الاستسقاء(5/322)
حتى يرى بياض إبطيه.
وعن كعب بن مرّة السلمىّ رضى الله عنه قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، استسق الله لمضر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا مريئا عاجلا غير رائث نافعا غير ضارّ» . وقال: فما جمّعوا [1] حتى أحيوا [2] . فأتوه فشكوا إليه المطر فقالوا: يا رسول الله قد تهدّمت البيوت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه: «اللهم حوالينا ولا علينا»
، فجعل السحاب يتقطّع يمينا وشمالا.
وعن عائشة رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا فى أفق السماء ترك العمل وإن كان فى صلاة، ثم يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من شرّها» ؛ فإن رأى مطرا قال: «اللهم صيّبا هنيئا»
. وعنها رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: «اللهم صيّبا نافعا»
. وأمّا ما يقال فى الخوف والشدائد؛
عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تخوّف الرجل من السلطان فليقل اللهم ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم كن لى جارا من فلان بن فلان يسمّى الذى يريد وشرّ الجنّ والإنس وأحزابهم وأتباعهم أن يفرط علىّ أحد منهم أو يطغى عزّ جارك وجلّ ثناؤك ولا إله غيرك»
. وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «من خاف من السلطان أو غيره فليفزع إلى هذه الدعوة الله أكبر وأعزّ من خلقه جميعا الله أكبر وأعزّ مما أخاف وأحذر وأعوذ بالله الذى لا إله إلّا هو ممسك السموات السبع أن يقعن على الأرض إلّا بإذنه من شرّ فلان
__________
[1] جمعوا: شهدوا الجمعة.
[2] أحيوا: حيث ما شيتهم وحسن حالها أو صاروا فى الخصب (عن القاموس) .(5/323)
ابن فلان يا ربّ كن لى جارا من شرّه عزّ جارك وجلّ ثناؤك ولا إله إلا أنت العلىّ العظيم يقولهنّ ثلاث مرات إلّا أعاذه الله من شرّ ذلك»
. وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا اشتدّ بك أمر فكبّر ثلاثا وقل الله أكبر وأعزّ من كل شىء والله أكبر أعزّ من خلقه وأقدر وأعزّ مما أخاف وأحذر اللهم أدرأ بك فى نحره وأعوذ بك من شرّه فإنك تكفى بإذن الله عز وجل»
. وأمّا ما يقال فى الغضب والفزع؛
عن سليمان بن صرد رضى الله عنه قال: استبّ رجلان عند النبىّ صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمرّ عيناه وتنتفخ أوداجه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّى لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذى يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»
. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «إذا فزع أحدكم فليقل أعوذ بكلمات الله التامّة من غضبه وعذابه [1] ومن شرّ عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون فإنّها لم تضرّه»
. قال فكان عبد الله يعلّمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتبها فى صكّ وعلّقها عليه. وفى لفظ: «إذا فزع أحدكم فى النوم فليقل ... » يعنى الكلمات؛ وفى طريق: كان خالد بن الوليد رجلا يفزع فى نومه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «إذا اضطجعت للنوم فقل ... »
يعنى الكلمات، فقالها فذهب ذلك عنه.
وأمّا ما يقال فى السفر وركوب الدابّة والسفينة ودخول القرية؛
عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا توصّأ
__________
[1] ذكر هذا الحديث فى أذكار النووى مرات ولم تذكر فيه كلمة «وعذابه» .(5/324)
فأسبغ وضوءه وصلّى ركعتين، ويقول وهو فى مجلسه مستقبل القبلة: «الحمد لله الذى خلقنى ولم أك شيئا ربّ أعنّى على أهوال الدنيا والآخرة ومن مصيبات الليالى والأيّام فى سفرى فاحفظنى وفى أهلى فاخلفنى»
. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما استخلف العبد فى أهله إذا هو شدّ عليه ثياب سفره خيرا من أربع ركعات يصلّيهنّ [1] فى بيته يقرأ فى كل واحدة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثم يقول اللهم إنّى أتقرّب بهنّ اليك فاجعلهنّ خليفتى فى أهلى ومالى قال فهو [2] خليفته فى أهله وماله وولده ودور حول داره حتى يرجع إلى داره»
. وعن أنس رضى الله عنه قال: لم يرد النبىّ صلى الله عليه وسلم سفرا قطّ إلا قال حين ينهض من جلوسه: «بك انتشرت إليك وجّهت [3] وبك اعتصمت أنت ثقتى ورجابى اللهم اكفنى ما يهمّنى وما لا أهتمّ به وما أنت أعلم به منّى اللهم زوّدنى التقوى واغفر لى ذنبى ووجّهنى إلى الخير أينما توجّهت»
. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ركبتم الإبل فتعوّذوا بالله واذكروا اسم الله عليه فإنّ على سنام كلّ بعير شيطانا»
. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على بعيره يريد السفر كبّر ثلاثا ثم قال: «سبحان الذى سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنا إلى ربّنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك فى سفرنا هذا البرّ والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هوّن لنا سفرنا هذا واطو عنّا بعده اللهم أنت
__________
[1] كذا فى شرح الإحياء طبع المطبعة الميمنية (ج 6 ص 403) . وفى الأصل «يضعهن» .
[2] ورد هذا الحديث فى كتاب منتخب كنز العمال فى سنن الأقوال والأفعال الموضوع بهامش الجزء الثالث من مسند الامام أحمد بن حنبل طبع مصر سنة 1313 هـ (ج 3 ص 39) مع شىء يسير جدّا من النقص أو الزيادة. وفيه «فاجعلهن خليفتى فى أهلى ومالى فهن خليفة» الخ.
[3] كذا فى الأصلين. وقد روى هذا الحديث فى منتخب كنز العمال: «اللهم لك انتشرت واليك توجهت وبك اعتصمت اللهم أنت ثقتى وأنت رجائى اللهم اكفنى ما أهمنى وما لا أهتم له وما أنت أعلم به اللهم زودنى التقوى» الخ.(5/325)
الصاحب فى السفر والخليفة فى الأهل والمال والولد» ، وإذا رجع صلى الله عليه وسلم قالهن وزاد فيهن: «آئبون تائبون لربّنا حامدون»
. وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من حجّ أو عمرة فأشرف على شرف كبّر ثلاثا ثم قال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير آئبون تائبون لربّنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وكلّ شىء هالك إلّا وجهه له الحكم وإليه ترجعون اللهم إنى أعوذ بك من وعثاء السفر وكابة المنقلب وسوء المنظر فى الأهل والمال»
. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمان لأمّتى من الغرق إذا ركبوا السّفن أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون باسم الله مجريها ومرساها إن ربّى لغفور رحيم»
. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل اللّيل قال: «يا أرض ربّى وربّك الله أعوذ بالله من شرّك وشرّ ما فيك وشرّ ما يدبّ عليك أعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحيّة والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد»
. وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا نزلت منزلا فقل باسم الله اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ترزق خيره ويدفع عنك شرّه»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامّات كلّها من شرّ ما خلق لم يضرّه شىء حتى يرتحل من منزله ذلك»
. وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا أردت الدخول إلى مدينة أو قرية فقل حين تعاينها اللهم إنّى أسألك خير هذه القرية وخير ما كتبت فيها وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما كتبت فيها اللهم ارزقنى خيرها وأعوذ بك من شرّها(5/326)
وحبّبنا إلى أهلها وحبّب أهلها إلينا»
. وعن صهيب رضى الله عنه أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلّا قال: «اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن وربّ الأرضين السبع وما أقللن وربّ الرياح وما ذرين وربّ الشياطين وما أضللن أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأراد أن ينزل قرية عدل إليها وقال: «الله أكبر ثلاثا اللهم ارزقنا خيرها واصرف عنّا وباءها وحبّبنا إلى صالح أهلها وحبّبهم إلبنا»
. وأمّا ما يقال فى الزواج والجماع؛
عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوّج أحدكم ثم دخل على أهله فليقل اللهمّ بارك لى فى أهلى وبارك لأهلى فىّ وارزقنى منها وارزقها منى واجمع بيننا ما جمعت فى خير وإذا فرّقت بيننا ففرّق فى خير»
. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال:
قال النبى صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال اللهم جنّبنى الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنى فإن قضى بينهما ولد لم يضرّه الشيطان [1] » ، أو قال:
«لم يسلّط عليه»
. وأمّا ما يقال فى قضاء الدّين ونجاح الحوائج؛
عن أبى سعيد رضى الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من
__________
[1] كذا فى الأصلين. وفى أذكار النورى (ص 125) عن رواية صحيحى البخارى ومسلم: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره» وفى رواية البخارى: « ... لم يضره شيطان أبدا» .(5/327)
الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: «يا أبا أمامة مالى أراك جالسا فى المسجد فى غير وقت صلاة» ؟ قال: هموم لزمتنى وديون يا رسول الله. قال: «أفلا أعلّمك كلاما إذا قلته أذهب الله همّك عنك وقضى عنك دينك» ! قال: بلى يا رسول الله.
قال: «قل إذا أصبحت وأمسيت اللهم إنى أعوذ بك من الهمّ [1] والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدّين وقهر الرجال»
؛ قال: ففعلت ذلك فأذهب الله همّى وقضى عنّى دينى.
وعن معاذ ابن جبل رضى الله عنه أنّه تخلّف عن صلاة من الصلوات ففقده النبىّ صلى الله عليه وسلم. فلما جاءه قال: «ما خلّفك عن الصلاة يا معاذ» ؟ قال: ليوحنّا اليهودىّ علىّ دين فخشيت إن خرجت أن يلزمنى فلا أنا وصلت إليك ولا أنا كنت فى أهلى.
فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلّمك [2] كلمات إذا قلتهنّ قضى الله عنك دينك ولو كان مثل الأرض أو مثل صبر [3] ذهبا أو ورقا قضاه الله عنك» ! قلت: بلى يا رسول الله قال: «قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك على كلّ شىء قدير. تولج اللّيل فى النّهار وتولج النّهار فى اللّيل وتخرج الحىّ من الميّت وتخرج الميّت من الحىّ وترزق من تشاء بغير حساب. رحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما تعطى منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء أسألك بعزّتك ورحمتك أن تقضى عنّى دينى»
. وعن عبد الله بن أبى أوفى الأسلمىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له
__________
[1] كذا فى أذكار النورى (ص 39) . وفى الأصلين: « ... من الجبن والحزن ... » .
[2] كذا فى نزل الأبرار بالعلم المأثور من الأدعية والأذكار طبع مطبعة الجوائب (ص 264) .
وفى الأصلين: «ألا أكلمك ... » .
[3] صبر (بفتح فكسر) : جبل من جبال اليمن مطل على قلعة «تعز» المدينة المشهورة بها. (عن تاج العروس) .(5/328)
حاجة إلى الله أو إلى أحد من بنى آدم فليتوضّأ وليحسن الوضوء وليصلّ ركعتين ثم ليثن على الله عز وجل ويصلّ على النبىّ صلى الله عليه وسلم ثم ليقل لا إله إلا الله الحكيم الكريم سبحان الله ربّ العرش العظيم والحمد لله ربّ العالمين أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كلّ برّ والسلامة من كلّ ذنب لا تدع لى ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرّجته ولا حاجة هى لك رضا إلا قضيتها»
. وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا خرجت من منزلك تريد حاجة فاقرأ آية الكرسىّ فإنّ حاجتك تقضى إن شاء الله تعالى»
. وعنه رضى الله عنه قال: «إذا أراد أحدكم الحاجة فليبكّر فى طلبها يوم الخميس وليقرأ إذا خرج من بيته آخر سورة آل عمران وآية الكرسىّ وإنّا أنزلناه فى ليلة القدر وأمّ الكتاب فإنّ فيها قضاء حوائج الدنيا والآخرة»
. وأمّا ما يقال فى ردّ الضالّة؛
عن مكحول رضى الله عنه أنه كان يدعو فى الضالّة: اللهم هادى ورادّ الضّوالّ اردد علىّ ضالّتى ولا تعنّنى بطلبها ولا تفجعنى بمصيبتها فإنها من رزقك وعطائك. وكان يقول فى الآبق: اللهم ضيّق عليه البلاد واجعله فى أضيق من ضرورة الحمل [1] حتى تردّه
. دعاء الاستخارة؛
عن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أراد الأمر: «اللهم خر لى واختر لى»
. وعن جابر
__________
[1] كذا فى الأصل. وقد راجعنا كثيرا من كتب الحديث والأدعية فلم نوفق له. وفى كتاب الفوائد فى الصلات والعوائد المطبوع بالمطبعة الكاستلية سنة 1296 هـ (ص 28) وردت العبارة الآتية فى عزيمة العبد الآبق وهى: «اللهم إنى أسألك يا مالك السموات والأرض ومن فيهن أن تجعل اللهم السماء والأرض وما فيهما على عبد فلان بن فلانة أضيق من حلقة حتى يرجع الى مولاه برحمتك يا أرحم الراحمين» .(5/329)
ابن عبد الله رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة فى الأمور كما يعلّمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إنّى أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علّام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى- أو قال فى عاجل أمرى وآجله- فآقدره لى [ويسّره لى ثم بارك لى فيه [1]] وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى- أو قال فى عاجل أمرى وآجله- فا [صرفه عنّى [1] وا] صرفنى عنه واقدر لى الخير حيث كان ثم رضّنى به ويسمّى حاجته»
. ذكر ما ورد فى أسماء الله الحسنى والاسم الأعظم
قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد إنّه وتر يحبّ الوتر من أحصاها دخل الجنة هو الله الذى لا إله إلّا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلىّ، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القوىّ، المتين، الولىّ، الحميد،
__________
[1] زيادة عن كتاب الأذكار للنووى (ص 65) .(5/330)
المحصى، المبدئ، المعيد، المحيى، المميت، الحىّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصّمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالى، المتعال، البرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغنى، المغنى، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادى، البديع، الباقى، الوارث، الرشيد، الصّبور.
وقد نبّه البونى رحمه الله فى اللّمعة النورانية على كيفية العلم والعمل بأسماء الله الحسنى وخاصيّة كل اسم منها، ورتّب ذلك وجعله عشرة أنماط فقال:
النمط الأوّل
من نظم الأسماء اسمه الله، والإله، والربّ، والخالق، والبارىء، والمصوّر، والمبدئ والمعيد، والمحيى، والمميت. قال البونى: هذا النمط عشرة أسماء لا تكون إلّا أذكارا للذاكرين [على اختلاف [1]] أحوالهم. فالله والإله ذكر الأكابر والمولّهين فى الغالب.
والربّ، والخالق، والبارئ ذكر الأكابر من السالكين المريدين [2] . والمصوّر، والمبدئ، والمعيد، والمحيى، والمميت ذكر عباد الله المتعبّدين والمتبصّرين [3] .
النمط الثانى
الأحد، الواحد، الصمد، الفعّال، البصير، السميع، القادر، المقتدر، القوىّ، القائم. قال: هذه الأسماء العشرة سلك واحد فى تقارب الأذكار؛ وهذا القسم فيه أذكار السالكين المتعلّقين بأسرار التوحيد ذكرهم الأحد والواحد. وأمّا الصمد
__________
[1] الزيادة عن اللمعة النورانية.
[2] فى إحدى نسختى اللمعة النورانية: من المسلكين المربين:
[3] فى إحدى نسختى اللمعة: «المعتبرين والمتبصرين» .(5/331)
فذكر يصلح للمرتاضين [1] بالجوع، فذاكره لا يحسّ بألم الجوع البتّة ما لم يدخل عليه ذكرا [2] غيره. والفعّال اسم للمغلوبين بالخواطر والوساوس وكثرة الأفكار واغتمام القلب [بهذا السبب [3]] ؛ فمهما ذكره من هذه صفته تقلّبت [4] أفكاره إلى ما يقع له به سرور وفرح.
وأما السميع والبصير فتنزيه جليل، وهو ذكر يصلح للملحّين فى الدعاء فإنه ربما أسرعت لهم الإجابة. وأمّا القادر، والمقتدر، والقوىّ، والقائم فذكر يصلح لأصحاب الإعياء والحرف الثقيلة؛ ولو علم سرّه من يعانى الأثقال واستدامه لم يحسّ بثقل فيما يتعاطاه البتّة؛ ومن نقشها [5] فى فص خاتم وتختّم به أدرك ذلك لوقته؛ ومن ضعف عن شىء ما وعلّقه عليه وذكره قوى لوقته.
النمط الثالث
الحىّ [6] ، القيّوم، الرحمن، الرحيم، الملك القدير [7] ، العلىّ، العظيم، الكبير، المتعال. قال: هذا القسم من الأسماء يحتوى على أذكار المراقبين، وفيه أعمال جليلة البرهان. فالحىّ القيّوم اسمان جليلان، ذكر لأهل الحضرة، وهو من أذكار إسرافيل وملائكة الصّور أجمعين، يصلح أن يذكر من مبادئ الفجر إلى طلوع الشمس، يجد ذاكره من الزيادة والخشية والتطلّع إلى طلب الفضائل ما لم
__________
[1] فى نسختى اللمعة النورانية: «للمتريضين» .
[2] كذا فى إحدى نسخى اللمعة. وفى الأخرى والأصلين: «ما لم يدخل عليه ذكر غيره» .
[3] الزيادة عن اللمعة النورانية.
[4] فى نسختى اللمعة النورانية: «نقلت» .
[5] فى الأصلين ونسختى اللمعة النورانية: «ومن نقشهم» بميم الجمع. وظاهر أن قواعد اللغة لا تقتضيها
[6] كذا فى إحدى نسختى اللمعة. وفى الأصلين وفى نسخة أخرى من اللمعة: «يا حى يا قيوم الرحمن» الخ
[7] كذا فى إحدى نسختى اللمعة. وفى نسخة أخرى منها وفى الأصلين: «القدوس» ووجد بأحد الأصلين كلمة «القدير» فوق كلمة القدوس.(5/332)
يعهده قبل؛ ومن نقش الاسمين عند طلوع الشمس [من يوم الجمعة [1]] مستقبل القبلة على ذكر وأمسكه عنده أحيا الله ذكره إن كان خاملا [2] ، وأحيا رزقه إن كان قليلا.
وأمّا الرحمن الرحيم فأذكار شريفة للمضطرّين وأمان للخائفين لا ينقشه أحد فى خاتم فى يوم جمعة آخر النهار فيرى ما يكرهه مادام عليه. ومن أكثر من ذكره كان ملطوفا به فى كل أموره. وأمّا الملك والقديرف [ذكر [3]] يذكر عند كل ذى ملك وقدرة فإنه ما من ملك يستديم هذا الذّكر فى عموم أوقاته إلّا ثبت ملكه وانبسطت قدرته؛ ويصلح للسالك الذى تغلبه شهوات نفسه؛ فإنه ما يستديم ذكره من هذا مقامه إلا بعث الله إليه قوّة ملكيّة تؤيّده وتنصره على من يخالفه من عوالمه. وأما العلىّ العظيم فللتنزيه. والكبير المتعال مناسب للتنزيه أيضا، وهما اسمان لائقان [4] بأهل التعظيم من أرباب الأحوال ليس للعامّة فى الذكر [5] بهما قسم.
النمط الرابع
المهيمن، المقيت، العزيز، الجبّار، المتكبّر، المحيط، الحفيظ، الفاطر، المجيد ذو الجلال. قال البونى: أمّا المهيمن، والمقيت فللعلم والاستيلاء [6] والمراقبة فى الجزئيات والكليات. والعزيز، والجبّار، والمتكبّر فمن أسماء صفات الذات اللازمة للخوف والرهبة والعظمة، لا يذكرها [7] ذليل إلا عزّ، ولا حقير إلا ارتفع، ولا بين يدى جبّار إلا ذلّ وخضع، ولا يذكرها [7] ملك من ملوك الأرض إلا وجد
__________
[1]- هذه الكلمة ساقطة من نسختى اللمعة.
[2] كذا فى نسختى اللمعة. وفى الأصلين: «أحيا الله ذكره وإن كان خاملا وأحيا رزقه وإن كان قليلا» .
[3] زيادة عن نسختى اللمعة النورانية.
[4] كذا فى نسختى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «وهما اسمان يليق» .
[5] فى الأصلين: «بهم» .
[6] فى نسختى اللمعة النورانية: «فللعلم بالأشياء» .
[7] فى الأصلين ونسختى اللمعة بميم الجمع، وقواعد اللغة تقتضى ما وضعناه.(5/333)
فى نفسه ذلّة وانكسارا. وأما الحفيظ فإنه اسم سريع الإجابة للخائفين فى الأسفار. وأما المحيط، والمجيد، والفاطر، وذو الجلال، فأسماه التنزيه وزيادات فى التوحيد.
النمط الخامس
العليم، الحكيم، البديع، النور، القابض، الباسط، الأوّل الآخر، الظاهر، الباطن. قال: هذا القسم من الأسماء جليل القدر عظيم الشأن. فأمّا العليم، والحكيم فللتوحيد الخاص، لا يصلحان إلا لمن أبهم عليه أمر من كشف سرّ من أسرار الله تعالى يعسر على الفكر إدراكه، فإنه إذا استدام ذكر العليم الحكيم يسّر الله عليه علم [1] ما سأل وعرّفه الحكمة فيه، ومنه اسمه البديع أيضا [مثل ذلك] . وأمّا النّور، والباسط، والظاهر، فذكر أرباب المكاشفات. ومن أراد أن ينظر شيئا فى منامه فليذكر هذه الأسماء على طهارة وهو فى فراشه إلى أن ينام على هذا الذكر، ويعمل همّته فيما يريده فإنه يمثّل له فى نومه كشف ذلك. وأمّا القابض، والأوّل، والآخر، والباطن، فكلها أسماء للتعظيم والتوحيد.
النمط السادس
الحليم، الرءوف، المنّان، الكريم، ذو الطّول، الوهّاب، الغفور، الغافر، العفوّ، المجيب. قال: هذا النّمط من الأسماء عليه مدار إبقاء الوجود ودفع الأضداد وجمع المتفرّق. أما الحليم، والرءوف، والمنّان، فذكر للخائفين؛ ما داومه من يخاف شيئا إلا أوجده الله تعالى برد الطّمأنينة وسكّن روعه. قال البونى: وذكر [لى [2]] من له
__________
[1] هكذا فى الأصلين. والذى فى نسختى اللمعة: «علمه فيما يناله، وعرفه الحكمة فيما سأل» .
[2] زيادة عن اللمعة النورانية.(5/334)
اطلاع أنه من استدام هذا الذكر إلى أنّ يغلب عليه حال منه على خلوّ معدة ثم أمسك النار لم تعد عليه، ولو تنفّس حينئذ على قدر تغلى سكن غليانها بإذن الله تعالى، ولا يكتبها [1] أحد ويقابل بها من يخاف منه إلّا أطفأ الله شرّه عند رؤيته، ولا يستديم هذا الذكر من غلبته شهوته إلا نزع الله منه النزوع إليها فى أثناء ذكره. وأما الكريم، الوهّاب، وذو الطّول؛ فلا يستديم على هذا الذكر من قدر عليه رزقه ومسّته حاجة إلا يسّر الله عليه من حيث لا يشعر، ومن نقش هذه الأسماء وعلّقها عليه لم يدر كيف ييسّر الله عليه المطالب من غير عسر. وأما الغفور، والغافر، والعفوّ، فنظم متقارب لسؤال دفع المؤلم خصوصا من آلام الدين والدنيا. وأمّا المجيب، فيذكر فى آخر الدعوات.
النمط السابع
الكافى، الغنىّ، الفتاح، الرزاق، الودود، اللطيف، الواسع، الشهيد، نعم المولى ونعم النصير. قال: هذا النّمط من الأسماء جليل القدر، به ينزّل الله الرغائب من كل مفضول به على أحد من عباده. فاسمه الكافى، والغنىّ، والفتاح، والرزّاق لا يذكر أحد هذه الأسماء الأربعة وهو يتمنّى شيئا لم تبلغه أمنيّته إلا بلغه بإذن الله تعالى من جهة لا يعتمد عليها لم تخطر بباله. لا يذكر أحد هذا الذكر على القليل إلا كثّره الله ولا على طعام إلا ظهرت فيه زيادة، ولا يذكره من هو فى رتبة وهمّته طالبة أعلى منها إلا يسّر الله له الوصول إليها. وأمّا الودود، واللطيف، والواسع، والشهيد، فنمط جليل النظم لأرباب الهجوع والخلوة؛ واللطيف خصوصا لتفريج الكرب فى أوقات الشدائد لا يضاف إليه غيره؛ لا يذكره من يؤلمه شىء فى نفسه وبدنه إلا أزاله الله عنه أثناء الذكر.
__________
[1] فى الأصلين ونسختى اللمعة: «ولا يكتبهم أحد ويقابل بهم الخ» .(5/335)
النمط الثامن
الشديد، ذو القوّة، المتين، السريع، الرقيب، المقتدر، القاهر، الوارث، الباعث، القوىّ [1] . هذا النمط من الأسماء عظيم الشأن. فأمّا الشديد، وذو القوّة، والقاهر، والمقتدر، فهى أسماء القهر لا يذكرها [2] ضعيف الهمّة إلا قويت نفسه، ولا يدعو بها () أحد على ظالم فى احتراق [3] الشهر فى السابعة من الليل فى بيت مظلم حاسر الرأس على الأرض لا حائل بينه وبينها مائة [4] مرة يقول فى آخرها: يا شديد خذلى بحقّى من فلان [5] ؛ ولا يشخّص [6] شيئا فالله أعلم بما يعمل. قال: وقد جرّب مئين من المرّات. ولا ينقشها [2] أحد فى خاتم ويتختّم به إلا ألبسه الله تعالى مهابة يدركها من نفسه ويدركها غيره منه، ويرتاع منه كل جبّار عنيد عند رؤيته، حتى كأن الجبال على كاهله ما دام ينظر إلى من هو معه. وأمّا السريع، والرقيب، والمتين، فذكر لأرباب المراقبة فى الأفعال تنفتح لهم بذلك مكاشفات وأسرار. وأمّا الوارث، والباعث، فلحكمة الاعتبار والتصديق بآثار القدرة.
__________
[1] فى إحدى نسختى اللمعة النورانية بدل اسم القوى بين السطور اسم «الشكور» . ولم يرد فى نسخة اللمعة الثانية شىء بعد كلمة الباعث.
[2] فى الأصلين ونسختى اللمعة: «لا يذكرهم ... ولا يدعو بهم» ، وكذلك ما عليه رقم (2) .
[3] فى المخصص (ج 9 ص 31) : وامتحاق القمر احتراقه يوم المحاق آخر الشهر لأن الشمس تمحق الهال فيه ولا تبينه.
[4] كذا فى إحدى نسختى اللمعة. وفى نسخة أخرى والأصلين: «لا حائل بينه وبينها يقول فى آخرها مائة مرة: يا شديد خذ لى الخ» .
[5] فى الكلام حذف يدل عليه السياق بأن يقدر: «إلا استجيب له» .
[6] كذا فى الأصلين وإحدى نسختى اللمعة. وفى أخرى: «ولا تنجسنى» .(5/336)
النمط التاسع
التوّاب، الشاكر، الولىّ، الحسيب، الوكيل، القريب، الصادق، البرّ، الباقى، الخلّاق. قال: هذا القسم مرتّب على سلوك مقامات السالكين؛ فالتوّاب للتائبين، والشاكر للشاكرين، والولىّ للأولياء، والحسيب لأهل الكفاية، والوكيل للمتوكّلين، والقريب من أهل القرب، والصادق مع الصادقين، والبرّ مع أهل البرّ، والباقى مع الشهداء، والخلّاق لذوى الاعتبار. وللمشايخ فى هذا الميدان مجال رحب بحسب اختلاف أحوالهم.
النمط العاشر
الهادى، الخبير، المبين، علّام الغيوب، ذو الجلال والإكرام، القدّوس، السلام، المؤمن، وينتظم فى ذلك المعزّ، والمذلّ، وما فى آخر سورة الإخلاص. قال:
فالهادى، والخبير، والمبين، لمن أراد كشف عواقب الأمور بجوع وسهر؛ ويذكر هذه الأسماء وعلى رأس مائة من أعداد الذكر يقول: اهدنى يا هادى، وخبّرنى يا خبير، وبيّن لى يا مبين؛ ويسمّى ما يريده وذلك فى جوف الليل، فإذا أدركه النوم مثّل له كشف ما أراده من أىّ نوع شاء. هذا مختصر ما قاله البونى فى ترتيب أسماء الله الحسنى.
وأمّا ما ورد فى الاسم الأعظم؛ فقد
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يقول: اللهم إنى أسألك أنى أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد، الصمد، الّذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؛ فقال: «لقد سألت الله بالاسم الذى إذا سئل به أعطى وإذا دعى به أجاب»
. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل من(5/337)
الأنصار يقال له أبو عيّاش [1] الزّرقىّ يصلّى، فدنوت منه، فدعا فى صلاته: اللهم إنى أسألك- بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنّان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام- أن تغفر لى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد دعا الله باسمه الأعظم الذى إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى»
. وعن أسماء بنت يزيد رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم فى هاتين الايتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ
» وفاتحة سورة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
. وعن أبى أمامة واسمه صدىّ بن عجلان الباهلىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اسم الله الأعظم لفى ثلاث سور من القرآن فى البقرة وآل عمران وطه»
. قال فآلتمستها فوجدت فى البقرة آية الكرسى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
، وفاتحة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
، وفى طه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.
والأدعية المختارة كثيرة وقد أتينا منها بما فيه كفاية لمن توجّه إلى الله تعالى وسأله.
ولنختم هذا الباب بما ختم به البخارىّ كتابه: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
__________
[1] فى أحد الأصلين: «أبو العباس» وفى الآخر: «أبو عياس» بالسنين المهملة وهو محرف عن أبى «عياش» الزرقىّ الأنصارى وهو صحابى روى عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث صلاة الخوف بعسفان كما فى تهذيب التهذيب.(5/338)
صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى أحد الأصلين الفتوغرافيين:
تمّ الجزء الخامس من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبىّ بعده محمد وآله وسلّم يتلوه إن شاء الله الجزء السادس
صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى الأصل الثانى الفتوغرافى:
كمل السفر الخامس من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب، على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهّاب بن محمد بن عبد الدائم البكرىّ التّيمىّ القرشىّ، عرف بالنّويرىّ، عفا الله عنهم.
ووافق الفراغ من كتابته فى يوم الأحد المبارك لثمان بقين من شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة بالقاهرة المعزّيّة.
يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء السادس القسم الخامس من الفن الثانى فى الملك وما يحتاج إليه وما يجب له على الرعية وما يجب للرعيّة عليه إن شاء الله تعالى.
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد نبيّه وآله وصحبه، وسلّم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(5/339)
فهرس الجزء السادس
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري
.... صفحة
القسم الخامس فى الملك وما يشترط فيه وما يحتاج اليه وفيه أربعة عشر بابا
الباب الأوّل- فى شروط الإمامة الشرعية والعرفية 1
الباب الثانى- فى صفات الملك وأخلاقه وما يفضل به على غيره 5
ذكر شىء من الأقوال الصادرة عن الخلفاء والملوك الدالّة على عظم هممهم وكرم أخلاقهم 7
الباب الثالث- فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة والنصيحة والتعظيم والتوقير 9
الباب الرابع- فى وصايا الملوك 16
الباب الخامس- فيما يجب على الملك للرعايا 33
ذكر ما قيل فى العدل وثمرته وصفة الامام العادل 33
ذكر ما قيل فى الظلم وسوء عاقبته 39
ذكر ما قيل فى حسن السّيرة والرفق بالرعيّة 41
الباب السادس- فى حسن السياسة وإقامة المملكة، ويتصل به الحزم والعزم الخ 43(مقدمةج 6/1)
فأما ما قيل فى حسن السياسة أو اقامة المملكة 43
وأما ما قيل فى الحزم والعزم وانتهاز الفرصة 45
ذكر ما قيل فى الحلم 48
ذكر أخبار من اشتهر بالحلم واتصف به 50
ذكر ما قيل فى العفو 57
ذكر ما قيل فى العقوبة والانتقام 65
الباب السابع- فى المشورة وإعمال الرأى والاستبداد الخ 69
ذكر ما قيل فى المشورة وإعمال الرأى 69
ذكر ما قيل فيمن يعتمد على مشورته وبديهته 74
ذكر ما قيل فيمن نهى عن مشاورته ومعاضدته 76
ذكر ما قيل فى الأناة والرويّة 77
ذكر ما قيل فى الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الاشارة 78
الباب الثامن- فى حفظ الأسرار والحجاب 81
ذكر ما قيل فى حفظ الأسرار 81
ومما قيل فى استراحة الرجل بمكنون سرّه الى صديقه 84
ومما وصف به كتمان السرّ 84
ذكر ما قيل فى الإذن والاستئذان 86
ذكر ما قيل فى الحجاب 87
ذكر ما قيل فى النهى عن شدّة الحجاب 90
الباب التاسع- فى الوزراء وأصحاب الملك 92
ذكر ما قيل فى الوزارة وشروطها واشتقاقها وما يحتاج الوزير اليه 92
ذكر ما قيل فى اشتقاق الوزارة وصفة الوزير وما يحتاج اليه 93
ذكر صفة الوزارة وشروطها وأقسامها 98(مقدمةج 6/2)
ذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه 121
فأما حقوق الملك على وزيره فهى ثلاثة 121
وأما حقوق الوزير على سلطانه فثلاثة 122
ذكر وزارة التنفيذ 124
ذكر ما تتميز به وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وما تختلف فيه 128
ذكر حقوق الوزارة وعهودها ووصايا الوزراء 129
أما حقوق الوزارة 129
وأما عهودها ووصاياها 131
ذكر ما قيل فى وصايا أصحاب السلطان وصفاتهم 141
أما صفاتهم 141
وأما وصايا أصحاب السلطان 143
ذكر ما يحتاج اليه نديم الملك وما يأخذ به نفسه وما يلزمه 146
وأما الآداب فى محادثة السلطان 148
وأما آداب الأكل بين يدى الرئيس 150
ذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك والقرب منهم 150
الباب العاشر- فى قادة الجيوش والجهاد ومكايد الحروب ووصف الوقائع والرباط وما قيل فى أوصاف السلاح 151
ذكر ما قيل فى قادة الجيوش وشروطهم وأوصافهم ووصاياهم وما يلزمهم 151
وأما ما يلزم قائد الجيش 152
وأما وصايا أمير الجيش 167
ذكر ما يقوله قائد الجيش وجنده 171
ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها 176
ذكر ما ورد فى الجهاد وفضله وترتيب الجيوش وأسمائها الخ 188
فأما ما ورد فى الجهاد وفضله 188(مقدمةج 6/3)
وأما ما قيل فى أسماء العساكر فى القلة والكثرة وأسماء مواضع القتال 189
وأما أسماء غبار الحرب 190
وأما ما قيل فى الحروب والوقائع 190
ذكر ما ورد فى الغزو فى البحر 197
ذكر ما ورد فى المرابطة 199
ما ذكر قيل فى السلاح وأوصافه 200
ما قيل فى السيف من الأسماء والنعوت والأوصاف 202
ومن أسماء أجزاء السيف 207
ومما يضاف الى السيف 208
ومن أسماء قرابه وآلته 209
وأما ما وصفته به الشعراء 209
وأما ما قيل فى الرمح من الحديث والأسماء والنعوت والأوصاف 214
أسماء الرمح ونعوته 215
ومن أسماء ما يعقد عليه 218
وأما اذا حمله الرجل وطعن به 218
وأما ما وصفته به الشعراء 220
وأما ما قيل فى القوس العربية 222
وأما أسماء القوس ونعوتها 223
وأما الوتر فمن أسمائه الخ 226
وأما أصوات القوس 227
ذكر ما قيل فى تركيب القوس ومبدإ عملها الخ 228
وأما ما قيل فى السهم 230
وأما أسماء النصل 234
وأما أوعية السهام 235(مقدمةج 6/4)
وأما ما وصف به القوس والسهم من النظم والنثر 236
ذكر ما قيل فى الجنّة 239
فأما الترس 239
وأما ما وصف به حامل الترس 240
وأما البيضة وأسماؤها 240
وأما ما قيل فى الدرع 241
الباب الحادى عشر- فى القضاة والحكام 48
الشروط التى تلزم فيمن يتولّى القضاء 248
ذكر الألفاظ التى تنعقد بها ولاية القضاء والشروط 252
ذكر ما يشتمل عليه نظر الحاكم المطلق التصرّف من الأحكام 254
ذكر ما يأتيه القاضى ويذره فى حق نفسه اذا دعى للولاية أو خطبها 258
وأما كاتب القاضى وبطانته 260
وأما ما يعتمده فى جلوسه 261
ذكر شىء مما ورد من التزهيد فى تقلد القضاء 263
الباب الثانى عشر- فى ولاية المظالم وهى نيابة دار العدل 265
ذكر من نظر فى المظالم فى الجاهلية والإسلام 266
ذكر ما يحتاج اليه ولاة المظالم فى جلوسهم لها 270
وأما ما يختص بنظر متولى المظالم وتشتمل عليه ولايته فعشرة أقسام 271
ذكر الفرق بين نظر ولاة المظالم ونظر القضاة 274
ذكر ما ينبغى أن يعتمده ولاة المظالم عند رفعها اليهم الخ 275
بيان أصول الدعوى وما يتخذ فيها: فإن اقترن بالدعوى ما يقوّيها 276
وأما إن اقترن بالدعوى ما يضعفها 281(مقدمةج 6/5)
وأما إن تجرّدت الدعوى من أسباب القوّة والضعف 284
ذكر توقيعات متولّى المظالم وما يترتّب عليها من الأحكام 287
الباب الثالث عشر- فى نظر الحسبة وأحكامها 291
شروط ناظر الحسبة 291
ذكر الفرق بين المحتسب والمتطوّع وفيه تسعة أوجه 292
ذكر أوضاع الحسبة وموافقتها للقضاء وقصورها عنه وزيادتها عليه الخ 293
وأما ما بين الحسبة والمظالم من موافقة ومخالفة 295
ذكر ما تشتمل عليه ولاية نظر الحسبة وما يختص بها من الأحكام 296(مقدمةج 6/6)
الجزء السادس
[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
القسم الخامس فى الملك وما يشترط فيه وما يحتاج إليه وما يجب له على الرعيّة وما يجب للرعية عليه
، ويتصل به ذكر الوزراء وقادة الجيوش وأوصاف السلاح وولاة المناصب الدينية والكتّاب والبلغاء وفيه أربعة عشر بابا
الباب الأوّل من هذا القسم فى شروط الإمامة الشرعيّة والعرفيّة
أما الشروط الشرعية، فقد ذكر منها الشيخ الإمام أبو عبد الله الحسين ابن الحسن بن محمد بن الحليم الحليمىّ الجرجانى الشافعىّ [1]- رحمه الله- فى كتابه المترجم ب «المنهاج» لمعة واضحة البيان، حسنة التّبيان؛ اكتفينا بإيرادها عما سواها، واقتصرنا عليها دون ما عداها؛ لجمعها أكثر الشروط مع إيجاز اللفظ وإصابة الغرض، على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
قال الحليمىّ: إذا أراد أهل الاجتهاد نصب إمام حين لا إمام لهم، فأول شرائطه أن يكون من قريش. والثانية أن يكون عالما بأحكام الدين من الصلاة وأخذ
__________
[1] توفى سنة 403 هـ وكتابه المنهاج يقع فى نحو ثلاثة مجلدات فيه أحكام كثيرة ومسائل فقهية وغيرها مما يتعلق بأصول الإيمان وآيات الساعة وأحوال القيامة. عن كشف الظنون.(6/1)
الصدقات ومصارفها والقضايا والجهاد بالمسلمين وقسم الغنائم والنظر فى حدود الله تعالى إذا رفعت إليه فيقيمها أو يدرأها وغير ذلك. والثالثة أن يكون عدلا فى دينه وتعاطيه ومعاملاته.
فأما اشتراط النسب؛ فلما
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأئمة من قريش ... »
وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «قدّموا قريشا ولا تقدّموها ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى» .
وأما اشتراط العلم بأحكام الصلاة والزكاة والجهاد والقضاء والحدود والأموال التى يتولّاها الأئمة، فإنه لا يمكنه أن يقوم بحقّها والواجب فيها إلا بعد العلم، لتكون معالم الدنيا قائمة، وأحكام الله تعالى بين عباده جارية. فإذا لم [يكن [1]] عنده من العلم ما يتوصّل به إلى ما يحتاج الإمام إليه فوجوده وعدمه بمنزلة واحدة. وينبغى أن يكون شجاعا شهما، لأن رأس أمور الناس الجهاد؛ فإذا كان من يتولّى أمورهم جبانا فشلا منعه ذلك من مجاهدة المشركين وحمله على أن يترك كثيرا من حقوق المسلمين فكان ضررهم به أكثر من نفعهم.
وأما اشتراط العدالة، فلأن الإمام إذا كان يتولّى حقوق الله تعالى وحقوق المسلمين فمنصبه منصب الأمانة ائتمان له على الحقوق؛ ولا يجوز أن يؤتمن على حقوق الله تعالى من ظهرت خيانته لله ولعباده، ولأن الفاسق ناقص الإيمان فلا يجوز أن يشرف بالتّولية على المسلمين الذين فيهم من هو كامل الإيمان وأقرب إلى كماله منه، كما لا يجوز أن يولّى شيئا من أمور المسلمين كافر، ولأن الفاسق لا يرضى للشهادة فكان بألّا يرضى للحكم وهو أرفع منزلة من الشهادة أولى، وإذا لم يرض للحكم كان بألّا يرضى للإمامة التى هى أجمع من الحكم أولى، والله أعلم، ولأنه إذا لم يكن يصلح
__________
[1] زيادة يقتضيها السياق.(6/2)
نفسه، إما تضييعا لها أو عجزا عن إصلاحها، فهو فى حقّ غيره أكثر تضييعا ولإصلاحه أشدّ عجزا، ومن كان بهذه المنزلة فهو أبعد الناس من موقف الأئمة.
فصل- وإذا اجتمعت هذه الشرائط التى ذكرناها فى رجل، فإن كان الإمام الذى تقدّمه ولّاه فى حياته ما يتولّاه إما استخلافا عند عجزه عن القيام بما عليه فيه، وإما انخلاعا إليه منه فلا اعتراض فى ذلك عليه، وإن كان أوصى له بالولاية بعد موته فالأظهر جواز ذلك. قال: فإن لم يكن لمن جمع شرائط الإمامة عهد من إمام قبله واحتيج إلى نصب إمام للمسلمين فاجتمع أربعون عدلا من المسلمين أحدهم عالم يصلح للقضاء بين الناس، فعقدوا لرجل جمع الشرائط التى تقدّم ذكرها بعد إمعان النظر والمبالغة بالاجتهاد، ثبتت له الإمامة ووجبت طاعته. وينبغى أن يبدأ العالم الذى بينهم بالعقد ثم الذين ليسوا فى العلم والرأى مثله.
فصل- قال: وإذا لم يجدوا من قريش من توجد فيه شرائط الإمامة- وهذا بعيد جدّا وإنما هى مسائل توضع لاحتمال الوقوع- فعند ذلك يكون الإمام من أقرب القبائل إلى قريش، فيكون من كنانة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من العرب واصطفى قريشا من كنانة» ؛ فإن لم يوجد فيهم كان من أقرب العرب من كنانة، حتى إذا استوفى بنو إسماعيل لم يعدل إلى بنى إسحاق، وإن كانوا أقرب لأنهما ابنا إبراهيم، ولكن الى جدّهم من العرب، ثم الأقرب فالأقرب.
فصل- وإذا وجد قرشىّ عالم غير عدل وقرشىّ عدل غير عالم وكنانىّ عالم عدل، قال الحليمىّ: الأشبه عندى أن يقدّم القرشىّ العدل، فإن أشكل عليه شىء عمل فيه برأى أهل العلم.
فصل- وإذا خلع الإمام نفسه ولم يولّ أحدا مكانه، فإن كان الإمام صالحا للإمامة بالإطلاق فذلك منه غير نافذ، لأنه نصب ناظرا للمسلمين، وخلعه نفسه فى هذه(6/3)
الحالة ضرر عليهم، لأنه يدعهم بلا إمام ويعرّضهم للاجتهاد فى نصب غيره، وقد يصيبون فى ذلك أو يخطئون.
فصل- وإذا أمّر الإمام أمراء واستقضى قضاة ثم مات، كان أمراؤه وقضاته على أعمالهم كما كانوا فى حياته ولا ينعزلون، وليسوا كالوكيل ينعزل بموت الموكّل، لأن الوكالة نيابة، والولاية شركة. هذا ما قاله الحليمىّ، والله تعالى أعلم. فهذه الشرعية التى لا بدّ منها فى حقّ الإمام.
وأما الشروط العرفية والاصطلاحية، وهى ما ينبغى أن يأتيه الملك من جميل الفعال، ويذره من قبيح الخصال.
قال معاوية بن أبى سفيان: مهما كان فى الملك فلا ينبغى أن تكون فيه خمس خصال: لا ينبغى أن يكون كذّابا، فإنه إذا كان كذّابا فوعد بخير لم يرج، وإن وعد بشرّ لم يخف؛ ولا ينبغى أن يكون بخيلا، فإنه إذا كان بخيلا لم يناصحه أحد، ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة؛ ولا ينبغى أن يكون حديدا، فإنه إذا كان حديدا مع القدرة هلكت الرعيّة؛ ولا ينبغى أن يكون جسودا، فإنه إذا كان حسودا لم يشرّف أحدا، ولا يصلح الناس إلا على أشرافهم؛ ولا ينبغى أن يكون جبانا، فإنه إذا كان جبانا اجترأ عليه عدوّه.
وقال ابن المقفّع: ليس للملك أن يغضب، لأن القدرة من وراء حاجته؛ وليس له أن يكذب، لأنه لا يقدر على استكراهه على غير ما يريد؛ وليس له أن يبخل، لأنه أقلّ الناس عذرا فى خوف الفقر؛ وليس له أن يكون حقودا، لأن خطره أعظم من المجازاة.(6/4)
وقالت الحكماء: يجب على الملك أن يتلبّس بثلاث خصال: تأخيره العقوبة فى سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن، والعمل بالأناة فيما يحدث؛ فإن له فى تأخير العقوبة إمكانا، وفى تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة فى الطاعة من الرعية، وفى الأناة انفساح الرأى وإيضاح الصواب.
وقالوا: ينبغى للملك أن يأنف أن يكون فى رعيّته من هو أفضل منه دينا، كما يأنف من أن يكون منهم من هو أنفذ منه أمرا.
وقيل: لا ينبغى للملك أن يسرع إلى حبس من يكتفى له بالجفاء والوعيد.
وقالوا: ينبغى للملك أن تعرفه رعيّته بالأمانة، ولا يعجّل بالعقاب ولا بالثواب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجى.
وقال بعض حكماء الفرس: أحزم الملوك من غلب جدّه هزله، وقهر رأيه هواه، وعبّر عن ضميره فعله، ولم يخدعه رضاه عن حظّه، ولا غضبه عن كيده.
الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثانى فى صفات الملك وأخلاقه وما يفضّل به على غيره، وذكر ما نقل من أقوال الخلفاء والملوك الدالّة على علوّ هممهم وكرم شميهم
قال أحمد بن محمد بن عبد ربّه: السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذى عليه مدار الدّين والدنيا؛ وهو حمى الله فى بلاده، وظلّه الممدود على عباده، به يمنع حريمهم، وينصر مظلومهم، ويقمع ظالمهم، ويؤمّن خائفهم.(6/5)
وقال بعض البلغاء: الملك من تبيضّ آثار أياديه، وتسودّ أيّام أعاديه؛ وتخضرّ مواقع سيبه، وتحمرّ مواضع سيفه؛ وتصفرّ وجوه [1] حسّاده، وتروق أعين أنداده.
وقال سهل بن هارون: الملك صبىّ الرضا، كهل الغضب؛ يأمر بالقتل وهو يضحك، ويستأصل شأفة القوم وهو يمزح، يخلط الجدّ بالهزل، ويتجاوز فى العقوبة قدر الذنب، وربما أحفظه الذنب اليسير، وربما أعرض صفحا عن الخطب الكبير؛ أسباب الموت والحياة متعلّقة بطرف لسانه، لا يعرف ألم العقوبة فيبقى، ولا يؤنّب على بادرة فينتهى، يخطئ فيصوّب ويصيب فيفترض، مفتون الهوى فظّ الخليقة أخرق العقوبة، لا يمنعه من ذى الخاصّة به ما يعلم من عنايته [2] وطول صحبته أن يقتله بخطرة من خطرات موجدته، ثم لا ينفكّ ان يخطب إليه موضعه، فلا الثانى بالأوّل يعتبر، ولا الملك عن مثل ما فرط منه يزدجر.
قال عمرو بن هند: الملوك يشتمون بالأفعال لا بالأقوال، ويسفّهون بالأيدى لا بالألسن. قال معبد بن علقمة:
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتّكلّم
وأما ما يفضّل به الملك على غيره، فقد قيل: تميّز الملك على غيره إنما يكون بفضيلة الذات لا بفضيلة الآلات. وفضل ذات الملك بخمس خصال: رحمة تشمل رعيّته، ويقظة تحوطهم، وصولة تذبّ عنهم، ولين يكيد به الأعداء، وحزم ينتهز به الفرص، فهذه فضيلة الذات.
__________
[1] الذى بالأصل: وجوده، وهو تحريف ظاهر.
[2] بالأصل «عناية» وأضفناه الى الضمير ليشاكل تاليه.(6/6)
وأما فضيلة الآلات، فإتخاذ المبانى الوثيقة العليّة، والملابس الأنيقة السنيّة، والذخائر النفيسة، والمطاعم الشهيّة، والمراكب البهيّة.
وقالت أمّ ملك طخارستان لنصر بن سيّار: ينبغى للملك أن يكون على ستة أشياء خاصّة به: وزير يثق به ويفضى إليه بسرّه، وحصن إذا فزع يأوى إليه، وسيف إذا نزل به أمر لم يخف أن يخونه، وذخيرة خفيفة إذا نابته نائبة استعان بها، وامرأة جميلة إذا دخل عليها أذهبت همّه، وطبّاخ إذا لم يشته الطعام عمل له ما يشتهيه.
ذكر شىء من الأقوال الصادرة عن الخلفاء والملوك الدالّة على عظم هممهم، وكرم أخلاقهم وشيمهم، وشدّة كيدهم، وقوّة أيدهم
قيل للإسكندر وهو يحارب دارا: إن دارا فى ثمانين ألفا؛ فقال: إن القصّاب لا يهوله كثرة الغنم.
واصطنع أنو شروان رجلا؛ فقيل له: إنه لا قديم له؛ فقال: اصطناعنا إيّاه بيته وشرفه. ولما رهن حاجب ابن زرارة قوسه عند كسرى [قال [1]] : لولا أنهم عندى أقلّ من القوس لم أقبلها.
قال النّعمان بن المنذر
يعفو الملوك عن الكث ... ير من الذنوب لفضلها
ولقد تعاقب فى اليس ... ير وليس ذاك لجهلها
لكن ليرجى عفوها ... ويخاف شدّة نكلها
ومن كلام معاوية: نحن الزمان، من رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتّضع. وكان يقول: إنى لآنف أن يكون فى الأرض جهل لا يسعه حلمى، وذنب لا يسعه
__________
[1] زيادة يقتضيها سياق الكلام.(6/7)
عفوى، وحاجة لا يسعها جودى. وقال معاوية أيضا: إنى لأرفع نفسى أن يكون ذنب أوسع من حلمى، وما غضبى على من أملك، أو ما غضبى على من لا أملك! يريد: إنى إذا كنت مالكا للمذنب فإنى قادر على الانتقام منه، فلم ألزم نفسى الغضب! وإن لم أكن أملكه فليس يضرّه غضبى، فلم أغضب عليه فأضرّ نفسى ولا أضرّه! ومن كلام السّفّاح: ما أقبح بنا أن تكون الدنيا لنا وأولياؤنا خالون من حسن آثارنا!. ومن كلام المأمون: إنما تطلب الدنيا لتملك، فإذا ملكت فلتوهب. وكان يقول: إنما يستكثر من الذهب والفضّة من يقلّان عنده.
ومن كلام العبّاس بن محمد للرشيد: إنما هو درهمك وسيفك، فازرع بهذا من شكرك، واحصد بهذا من كفرك؛ فقال: يا عمّ، والله ما للملك غير هذا. كما قيل:
لم أر شيئا صادقا نفعه ... للمرء كالدرهم والسيف
يقضى له الدرهم حاجاته ... والسيف يحميه من الحيف
قيل: لمّا أشير على الإسكندر بتبييت الفرس قال: لا أجعل غلبتى سرقة.
وقيل [له [1]] : لو تزوّجت ببنت دارا! فقال: لا تغلبنى امرأة غلبت أباها.
ومن كلام أنوشروان: إن الملك إذا كثرت أمواله مما يأخذ من رعيّته كان كمن يعمر سطح بيته مما يقتلع من قواعد بنيانه. وكان يقول: وجدنا للذّة العفو ما لم نجد للذّة العقوبة.
ومن كلام المنصور: يحتمل الملوك كلّ شىء إلا ثلاثة: القدح فى الملك، وإفشاء السرّ، والتعرّض للحرم.
__________
[1] زيادة يقتضيها السياق.(6/8)
الباب الثالث من الفن الثانى فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة والنصيحة والتعظيم والتوقير
وأما الطاعة فواجبة على سائر الرعيّة، لأن الله تعالى قرن طاعة أولى الأمر بطاعته وطاعة رسوله، ونصّ على ذلك فى محكم تنزيله فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
، فبأمره تبارك وتعالى وجبت، وبسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم تأكّدت وترتّبت.
روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعنى فقد أطاع الله ومن يعصنى فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعنى ومن يعص الأمير فقد عصانى»
وهذا الحديث ثابت فى صحيح مسلم. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسمعوا وأطيعوا ولو أمّر عليكم بعد حبشىّ كأنّ رأسه زبيبة» . فقد تبيّن بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم وجوب طاعة الإمام على كلّ مسلم.
وأما النصيحة، فلما
روى عن تميم الدّارىّ رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدّين النصيحة إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة» ؛ قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ورسوله وأئمة المؤمنين» أو قال: «أئمة المسلمين وعامّتهم»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل رضى لكم ثلاثا وسخط لكم ثلاثا رضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا وأن تناصحوا من ولّاه الله عز وجل أمركم»
. وقال أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الخيرىّ رحمه الله: فانصح للسلطان وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد فى القول والعمل، فإنهم إذا صلحوا صلح العباد والبلاد بصلاحهم، وإيّاك أن تدعو عليهم فيزدادوا شرّا ويزداد البلاء بالمسلمين،(6/9)
وإيّاك أن تأتيهم أو تتصنّع لإتيانهم أو تحبّ أن يأتوك، واهرب منهم ما استطعت.
وفى كتاب للهند أن رجلا دخل على بعض ملوكهم فقال: أيها الملك، إنّ نصيحتك واجبة فى الصغير الحقير والكبير الخطير، ولولا الثقة بفضيلة رأيك واحتمال ما يسوء موقعه منك فى جنب صلاح العامّة وتلافى الخاصّة لكان خرقا منّى أن أقول، ولكنّا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا مشمول ببقائك، وأنفسنا معلّقة بنفسك لم نجد بدّا من أداء الحقّ إليك وإن أنت لم تسلنى ذلك؛ فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته والأطباء مرضه والإخوان بثّه فقد أخلّ بنفسه. وأنا أعلم أنّ كلّ ما كان من كلام يكرهه سامعه، لم يتشجّع عليه قائله إلا أن يثق بعقل المقول له، فإنه إذا كان عاقلا احتمل ذلك، لأنه ما كان فيه من نفع فإنما هو للسامع دون القائل. وإنك أيها الملك ذو فضيلة فى الرأى وتصرّف فى العلم، وإنما يشجّعنى ذلك على أن أخبرك بما تكره واثقا بمعرفتك بنصحى لك وإيثارى إيّاك على نفسى.
وقال عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد حين تغيّر الناس له: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقنى الأمن منك، وتسكتنى الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مطيعا، أم أقول مشفقا؟ قال: قل، مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه؛ فقتل بعد ذلك بأيام.
وقالوا: ينبغى لمن صحب السلطان ألّا يكتم عنه نصيحته وإن استقلّها، وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن يضرب له الأمثال ويعرّفه بعيب غيره، ليعرف به عيب نفسه.
دخل الزّهرىّ على الوليد بن عبد الملك فقال له: ما حديث يحدّثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يحدّثوننا أن الله إذا استرعى عبدا(6/10)
رعيّة كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات؛ قال: باطل يا أمير المؤمنين، أنبىّ خليفة أكرم على الله، أم خليفة غير نبىّ؟ قال: نبىّ خليفة؛ قال: فإن الله تعالى يقول لنبيّه داود عليه السلام: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)
؛ فهذا يا أمير المؤمنين وعيده لنبىّ خليفة، فما ظنّك بخليفة غير نبىّ! قال: إن الناس ليعرّوننا من ديننا.
خطب المنصور فقال فى خطبته ما كأنّه تفسير ما أدمجه فيثاغورث وإيضاحه، وهو: معشر الناس، لا تضمروا غشّ الأئمة فإنه من أضمر ذلك أظهره الله على سقطات لسانه، وقلبات أحواله وسحنة وجهه.
قال: خرج الزّهرىّ يوما من مجلس هشام بن عبد الملك فقال: ما رأيت كاليوم ولا سمعت كأربع كلمات تكلّم بهنّ رجل عند هشام بن عبد الملك، دخل عليه فقال:
يا أمير المؤمنين، احفظ عنّى أربع كلمات فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيّتك، قال: هاتهن؛ فقال: لا تعدنّ عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرّنّك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا، واعلم أن الأعمال جزاء فاتّق العواقب، وأن الأمور بغتات فكن على حذر؛ قال عيسى بن دأب: فحدّثت الهادى بها وفى يده لقمة قد رفعها إلى فيه فأمسكها، وقال: ويحك! أعد علىّ؛ فقلت:
يا أمير المؤمنين؛ أسغ لقمتك؛ فقال: حديثك أعجب إلىّ.
وقال ابن المقفّع: اعلم أن السلطان يقبل من الوزراء التّبخيل [1] ويعدّه منهم شفقة ويحمدهم عليه وإن كان جوادا، فإن كنت [2] مبخّلا غششت صاحبك بفساد مروءته،
__________
[1] كذا فى الأدب الكبير ورسائل البلغاء لابن المقفع وفى الأصل «التبخل» . والتبخيل:
المطالبة بالبخل.
[2] كذا فى الأدب الكبير ورسائل البلغاء لابن المقفع وفى الأصل: «كان ... » .(6/11)
وإن كنت مسخّيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك؛ فالرأى تصحيح النصيحة على وجهها، والتماس المخرج [من العيب واللائمة فيما تترك [1]] من تبخيل صاحبك، فلا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلا إلى شىء من هواك، ولا طلبا لغير ما ترجو أن يزينه وينفعه.
وأما تعظيمه وتوقيره والأدب فى خدمته والتمسّك بجماعته، فلما
روى عن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «السلطان ظلّ الله فى الأرض فمن أكرمه أكرمه الله ومن أهانه أهانه الله»
. وعن أبى عبيدة بن الجرّاح رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تسبّوا السلطان فإنه [2] فىء الله فى أرضه»
. وعن أبى ذرّ رضى الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه كائن بعدى سلطان فلا تذلّوه فمن أراد أن يذلّه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وليس بمقبول توبته حتى يسدّ الثّلمة التى ثلم ثم يعود فيكون فيمن يعزّه»
. وقد روى عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مررت ببلد ليس فيه سلطان فلا تدخله فإنما السلطان ظلّ الله ورمحه [3] فى الأرض»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهليّة»
وعن أبى رجاء العطاردىّ قال: سمعت ابن عبّاس يرويه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم
__________
[1] الزيادة عن الأدب الكبير.
[2] فى الأصل: «فانهم فىء الله ... » بميم الجمع وما ذكرناه عن الجامع الصغير.
[3] فى الأصل «السلطان ظل وريحه فى الأرض» والتصويب عن الجامع الصغير والنهاية لابن الأثير، ثم شرحه صاحب النهاية بكلام طويل ملخصه: أن الظل يلجأ اليه عند الحر، والرمح يدفع به شر العدوّ وأذاه.(6/12)
قال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهليّة [1] »
رواه البخارىّ. فقد تبيّن لك من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب تعظيم السلطان وتوقيره.
وقال بزرجمهر: من جالس الملوك بغير أدب فقد خاطر بنفسه. وقال ابن المقفّع: من خدم السلطان فعليه بالملازمة من غير معاتبة. وقال: إن سأل السلطان غيرك فلا تكن المجيب عنه، فإن استلابك الكلام خفّة منك واستخفاف بالسائل والمسئول؛ وما أنت قائل إن قال لك: ما إيّاك سألت! أو قال لك المسئول عند المسئلة [يعاد له بها [2]] : يا هذا، دونك فأجب؟ وإذا لم يقصد الملك بمسئلته رجلا بعينه وعمّ بها جميع من عنده فلا تبادرنّ بالجواب، ولا تسابق الجلساء ولا تواثب بالكلام مواثبة، فإنك إن سبقت القوم الى الجواب صاروا لكلامك خصوما فتعقّبوه بالعيب له والطعن فيه، وإذا أنت لم تعجل بالجواب وخلّيته للقوم عرضت قولهم على عينك، ثم تدبّرته وفكّرت فيه وفيما عندك، ثم هيّأت من تفكيرك ومما سمعت جوابا مرضيا، ثم استدبرت به أقاويلهم حتى [3] تصغى إليك الأسماع، ويهدأ عنك الخصوم.
فإن لم يبلغك الكلام واكتفى بغيرك وانقطع الحديث فلا يكوننّ من الغبن عند نفسك فوت ما فاتك من الجواب، فإن صيانة القول خير من سوء موضعه. وقال: إذا كلّمك السلطان فاستمع لكلامه واصغ إليه، ولا تشغل طرفك بنظر، ولا أطرافك بعمل،
__________
[1] نص ما فى البخارى: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فانه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية» .
[2] الزيادة عن الأدب الكبير، والمراد من الجملة: ماذا أنت قائل اذا أعاد السائل السؤال على المسئول الأول دون التفات الى جوابك.
[3] فى الأدب الكبير «حين» بدل «حتى» .(6/13)
ولا قلبك بحديث نفس، واحذر هذا من نفسك وتعهدها به. وقال: لا تشكونّ إلى وزراء السلطان ودخلائه ما اطّلعت عليه منه من رأى أنت تكرهه، فإنك تكون قد فطّنتهم لهواه والميل عليك معه. وقال: لا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم فى المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى [1] ألّا تكتمهم سرّك ولا تستطلعهم ما كتموك، وتخفى ما أطلعوك عليه عن الناس كلهم [حتى تحمى نفسك الحديث به [2]] ، وعلى الاجتهاد فى طلب رضاهم، والتلطّف لحاجاتهم، والتثبيت لحجتهم [3] ، والتصديق لمقالتهم، [والتزيين [2] لرأيهم] ، وقلّة الامتعاض لما فعلوا إذا أساءوا، وترك الانتحال لما فعلوا اذا أحسنوا [4] ، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن السّتر لمساوئهم، والمقاربة لمن قاربوا وإن كان بعيدا، والمباعدة لمن باعدوا وإن كان قريبا، والاهتمام بأمورهم وإن لم يهتمّوا، والحفظ لأمورهم وإن ضيّعوا، والذكر لأمورهم وإن نسوا، والتخفيف بمؤنتك عنهم، والاحتمال لكل مؤنة لهم، والرضا منهم بالعفو، وقلة الرضا من نفسك بالمجهود.
فإن كنت حافظا إذا ولّوك، حذرا إذا قرّبوك، أمينا إذا ائتمنوك، ذليلا إذا صرموك، راضيا إذا أسخطوك، تعلّمهم وكأنّك تتعلّم منهم، وتؤدّبهم وكأنك تتأدّب منهم، وتشكرهم ولا تحمّلهم الشكر، وإلّا فالبعد منهم كلّ البعد.
ومن الآداب العرفية فى صحبة الملوك وخدمتهم، ألّا يسلّم على قادم بين أيديهم، وإنما استسنّ ذلك زياد بن أبيه، وذلك أن عبد الله بن عبّاس قدم على
__________
[1] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «وعلم» بدل «وعلى ... » وهو تحريف.
[2] زيادة عن الأدب الكبير.
[3] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «والتثبت بحجتهم» .
[4] الجملة من «وقلة الامتعاض ... اذا أحسنوا» منقولة عن الأدب الكبير، وهى فى الأصل: «وقلة الانتحال لما فعلوا إذا أساءوا» ففيه تحريف شوّه المعنى وأضاعه.(6/14)
معاوية بن أبى سفيان وعنده زياد، فرحّب به معاوية وألطفه وقرّبه ولم يكلّمه زياد بكلمة، فابتدأه ابن عبّاس وقال: ما حالك يا أبا المغيرة! كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرة؛ قال: لا، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدى أمير المؤمنين؛ فقال له ابن عبّاس: ما ترك الناس التحيّة بينهم عند أمرائهم؛ فقال له معاوية:
كفّ عنه يابن عبّاس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت.
وقالوا: كن على التماس الخطإ بالسكوت بين يدى السلطان أحرص منك على التماسه بالكلام.
وقالوا: مساءلة الملوك عن أحوالهم من تحيّة النّوكى.
وقالوا: لا تسلّم على الملك، فإنه إن أجابك شقّ عليه، وإن لم يحبك شقّ عليك.
وقال الفضل بن الربيع: سنتان مهملتان عند الملوك: السلام والتشميت، لأنهم يصانون عن كلّ ما يقتضى جوابا.
وقيل: لا يقدر على صحبة السلطان إلا من يستقلّ بما حمّلوه، ولا يلحف إذا سألهم، ولا يغتّر بهم إذا رضوا عنه، ولا يتغيّر لهم إذا سخطوا عليه، ولا يطغى إذا سلّطوه، ولا يبطر إذا أكرموه.
وقال فيلسوف: إذا قرّبك السلطان فكن منه على حدّ السّنان، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك، وارفق به رفقك بالصبىّ، وكلّمه بما يشتهى. قال الصاحب بن عبّاد
إذا ولّاك سلطان فزده ... من التعظيم واحذره وراقب
فما السلطان إلا البحر عظما ... وقرب البحر محذور العواقب
وقال أبو الفتح البستىّ: أجهل الناس من كان مدلّا على السلطان مذلّا للإخوان.(6/15)
قال الشّعبىّ: قال لى ابن عبّاس قال لى أبى: إنى أرى هذا الرجل- يعنى عمر بن الخطاب- يستفهمك ويقدّمك على الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنى موصيك بخلال أربع: لا تفشينّ له سرّا، ولا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابنّ عنده أحدا؛ قال الشّعبىّ فقلت لابن عباس:
كلّ واحدة خير من ألف؛ قال: إى والله ومن عشرة آلاف!.
الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثانى فى وصايا الملوك
كتب أرسطا طاليس إلى الإسكندر: أن املك الرعيّة بالإحسان إليها تظفر بالمحبّة منها، فإنّ طلبك الناس بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك؛ [واعلم أنك إنما تملك الأبدان فاجمع لها القلوب [1]] ؛ واعلم أن الرعيّة إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل. وهذا مخالف لما حكى عن معاوية أن رجلا أغلظ عليه فحلم عنه؛ قيل له: أتحلم عن مثل هذا؟ فقال: إنا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا. وكتب إلى الإسكندر: اعلم أنك غير مستصلح رعيّتك وأنت مفسد، ولا مرشدهم وأنت غاو، ولا هاديهم وأنت ضالّ؛ وكيف يقدر الأعمى على الهدى، والفقير على الغنى، والذليل على العزّ!.
وقال أنو شروان: ثمانية أشياء هى أساس الملك، يأتى بأربعة، ويحذر أربعة؛ فالذى يأتى به: النصح فى الدين، وكفاء [2] الأمين، وتقديم الحزم، وإمضاء العزم.
والذى يحذره: غشّ الوزير، وسوء التدبير، وخبث النيّة، وظلم الرّعية.
وقال أردشير لأصحابه: إنى إنما أملك الأجساد لا النيّات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
__________
[1] زيادة عن العقد الفريد.
[2] مصدر كافأه: جازاه.(6/16)
وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسعنّ على جندك سعة يستغنون بها عنك فيطغوا، ولا تضيّق عليهم ضيقا يضجّون به منك، ولكن أعطهم عطاء قصدا وامنعهم منعا جميلا، وابسط لهم فى الرجاء، ولا تبسط لهم فى العطاء. وكتب إليه أيضا من الحبس: اعلم أن كلمة منك تسفك دما وأخرى تحقن دما، وأن سخط سيفك مسلول على من سخطت عليه، وأن رضاك بركة مستفادة على من رضيت عنه، وأنّ نفاذ أمرك مع ظهور كلامك، فاحترس فى غضبك من قولك أن يخطىء، ومن لونك أن يتغيّر، ومن جسدك أن يخفّ؛ فإنّ الملوك تعاقب حزما وتعفو حلما. واعلم أنك تجلّ عن الغضب، وأن ملكك يصغر عن رضاك، فقدّر لسخطك من العقاب كما تقدّر لرضاك من الثواب. وكتب إليه أيضا من الحبس: اختر لولايتك امرأ كان فى وضيعة فرفعته، وذا شرف كان مهملا فاصطنعته، ولا تجعله امرأ أصبته بعقوبة فاتّضع لها، ولا امرأ أطاعك بعد ما أذللته، ولا أحدا ممن يقع فى خلدك [1] أنّ إزالة سلطانك أحبّ إليه من ثبوته؛ وإيّاك أن تستعمله ضرعا غمرا، كثيرا إعجابه بنفسه، قليلا تجربته فى غيره، ولا كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السّنّ من جسمه.
قال لقيط الإيادىّ:
فقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذّراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا
ما زال يحلب درّ الدهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتّبعا
حتّى استمرّت على شزر [2] مريرته [3] ... مستحصد الرأى لا قحما [4] ولا ضرعا [5]
__________
[1] الخلد: البال والقلب والنفس.
[2] الشزر: الصعوبة والشدّة.
[3] المريرة:
العزيمة.
[4] القحم: الكبير السن جدّا.
[5] الضرع: الصغير السن.(6/17)
وكتب سابور بن أردشير فى عهده إلى ولده: ليكن وزيرك مقبول القول عندك، قوىّ المنزلة لديك، يمنعه مكانه منك وما يثق به من لطافة منزلته، من الخشوع لأحد أو الضراعة أو المداهنة لأحد فى شىء مما تحت يده، لتبعثه الثّقة بك على محض النصيحة لك، والمنابذة لمن أراد غشّك وانتقاصك حقّك. وإن أورد عليك رأيا يخالفك ولا يوافق الصواب عندك، فلا تجبهه جبه الظّنين، ولا تردّه عليه بالتّجهّم فيفتّ ذلك فى عضده، ويقبضه عن إبثاثك كلّ رأى يلوح صوابه، بل اقبل ما ارتضيت من قوله، وعرّفه ما تخوّفت من ضرر الرأى الذى انصرفت عنه، لينتفع بأدبك فيما يستقبل الرأى فيه. واحذر كلّ الحذر أن تنزل هذه المنزلة سواه ممن يطيف بك من خدمك وخاصّتك، وأن تسهّل لأحد منهم سبيل الانبساط بالنطق عندك والإفاضة فى أمور ولايتك ورعيّتك، فإنه لا يوثق بصحّة رأيهم، ولا يؤمن الانتشار فيما أفضى من السرّ إليهم.
وقال ابن المقفّع: عوّد نفسك الصبر على من خالفك من ذوى [1] النصيحة، والتجرّع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تسهّلن سبيل ذلك إلا لأهل الفضل والعقل [والسّن [2]] والمروءة فى ستر، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه أو يستخفّ به شانئ. واعلم أن رأيك لا يتّسع لكل شىء ففرّغه لمهمّ ما يعنيك، وأن مالك لا يتّسع للناس فاخصص به أهل الحق [3] ، وأن كرامتك لا تطيق العامّة فتوخّ بها أهل الفضل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك وإن دأبت فيهما، فأحسن قسمتهما [4] بين عملك ودعتك.
واعلم أن ما شغلت [5] من رأيك بغير المهمّ أزرى بك، وما صرفت من مالك فى الباطل
__________
[1] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «من رأى ذوى النصيحة» وظاهر أن كلمة «رأى» مقحمة لغير فائدة.
[2] الزيادة عن الأدب الكبير ورسائل البلغاء.
[3] فى رسائل البلغاء:
«وأن مالك لا يغنى الناس كلهم فاختصّ به ذوى الحقوق» .
[4] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل «فأحسن قسمتك ... » .
[5] فى الأصل: «ما شغلت به الخ» وظاهر أن كلمة «به» مقحمة.(6/18)
فقدته حين تريده للحقّ، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضرّ بك فى العجز عن أهل الفضل.
وكتب عبد الله بن عبّاس إلى الحسن بن علىّ لمّا ولّاه الناس أمرهم بعد علىّ رضى الله عنهما: أن شمّر للحرب، وجاهد عدوّك، واشتر من الضّنين [1] دينه بما لا يثلم دينك، ووال [2] أهل البيوتات تستصلح به عشائرهم.
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: يجب على الوالى أن يتعهّد أموره ويتفقّد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسىء، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء، فإنه إذا ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسىء، وفسد الأمر وضاع العمل.
وقال بعض الحكماء: الملك المنعم إذا أفاض المكارم [3] واغتفر الجرائم ارتبط بذلك خلوص نيّة من قرب منه وهم الأقل، وانفساح الأمل ممن بعد عنه وهم الأكثر، فيستخلص حينئذ ضمائر الكلّ من حيث لم يصل معروفه إلا إلى البعض.
ولم أر فيما طالعته من هذا المعنى أجمع للوصايا ولا أشمل من عهد كتبه علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه إلى مالك بن الحارث الأشتر حين ولّاه مصر، فأحببت أن أورده على طوله وآتى على جملته وتفصيله، لأن مثل هذا العهد لا يهمل، وسبيل فضله لا يجهل؛ وهو:
هذا ما أمر [به [4]] عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلى مالك بن الحارث الأشتر فى عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها، أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتّباع ما أمر به فى كتابه من فرائضه وسننه التى
__________
[1] فى الأصل هكذا: «واستر الصين» وهو محرف عما أثبتناه عن عيون الأخبار والعقد الفريد.
[2] وال: ناصر وصادق.
[3] فى الأصل «المكاره» وسياق الكلام يقتضى ما وضعنا.
[4] زيادة عن نهج البلاغة (طبع بيروت ج 2 ص 50- 68) ، وكذلك كل ما وضع بين هذين القوسين [] فى ثنايا هذا الكتاب.(6/19)
لا يسعد أحد إلا باتّباعها، ولا يشقى إلا بالعدول عنها؛ وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه، فإنه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره وإعزاز من أعزّه؛ وأمره أن يكسر نفسه عند الشهوات ويزعها [1] عند الجمحات، فإن النفس لأمّارة بالسوء.
ثم اعلم يا مالك أنى قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك فى مثل ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدلّ على الصالحين بما يجرى الله لهم على ألسن عباده. فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك وشحّ بنفسك عما لا يحلّ لك؛ فإن الشّحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت [أ] وكرهت.
وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم؛ والطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم [2] ؛ فإنهم صنفان: إما أخ فى الدّين، وإما نظير لك فى الخلق، يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم فى العمد والخطأ؛ فأعطهم من صفحك وعفوك مثل الذى تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالى الأمر عليك فوقك؛ والله فوق من ولّاك؛ وقد استكفاك أمرهم [3] وابتلاك [بهم] . فلا تنصبنّ نفسك لحرب الله، فإنه لا قوّة لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته. ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجحنّ [4] بعقوبة، ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولنّ: إنى مؤمّر امر فأطاع، فإن ذلك إدغال فى القلب ومنهكة للدّين وتقرّب من الغير. فإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك وقدرته [منك] على ما لا تقدر عليه من نفسك [5] ، فإن ذلك يطامن إليك من
__________
[1] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «وينزعها ... » .
[2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «وتغتنم أكلها» .
[3] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «استكفاك أمره» .
[4] بجح: كفرح لفظا ومعنى.
[5] فى الأصل: « ... وقدرته على ما لا يقدر عليك من نفسه» ولعل فيه تحريفا جعله غير واضح، وما وضعناه عن نهج البلاغة.(6/20)
طماحك، ويكفّ عنك من غربك ويفىء إليك بما عزب عنك من عقلك. وإياك ومساماة [1] الله فى عظمته والتشبّه به فى جبروته، فإن الله يذلّ كلّ جبّار ويهين كلّ مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك وممن لك فيه هوى من رعيّتك، فإنك إلّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجّته وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شىء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم [فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد] . وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها فى الحق وأعمّها فى العدل وأجمعها لرضا الرعيّة، فإنّ سخط العامة يجحف برضا الخاصّة، وإن سخط الخاصة يغتفر برضا العامة. وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالى مؤنة فى الرخاء، وأقلّ معونة فى البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقلّ شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمّات الدهر من أهل الخاصة، وإن عمود الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأمة؛ فليكن صغوك لهم وميلك معهم.
وليكن أبعد رعيّتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لعيوب الناس، فإن فى الناس عيوبا الوالى أحقّ بسترها، فلا تكشفنّ عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله حكم على ما غاب عنك منها. فاستر العورة ما استطعت يستر الله ما تحبّ ستره من عيبك. أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، واقطع عنهم سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يصحّ لك. ولا تعجلنّ إلى تصديق ساع، فإن الساعى غاشّ وإن تشبّه بالناصحين. ولا تدخلنّ فى مشورتك بخيلا فيعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا فيضعفك عن الأمور، ولا حريصا فيزيّن لك الشره بالجور؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله. واعلم أن شرّ وزرائك من كان
__________
[1] فى الأصل: «مساومة الله» وما هنا عن نهج البلاغة.(6/21)
للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم فى الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظّلمة. [وأنت واجد منهم خير الخلف] ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه، أولئك أخفّ عليك مؤنة وأحسن لك معونة [1] ، وأحنى عليك عطفا وأقلّ لغيرك إلفا، فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك وحفلاتك. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم للحق، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله تعالى لأوليائه [2] واقعا من هواك [حيث وقع] . ثم رضهم على ألّا يطروك ولا يبجّحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزّهو وتدنى إلى العزّة. ولا يكوننّ المحسن والمسىء عندك بمنزلة واحدة، فإن فى ذلك تزهيدا لأهل الإحسان فى الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلّا منهم ما ألزم نفسه. واعلم أنه ليس شىء أدعى إلى حسن ظن وال برعيّته من إحسانه إليهم وتخفيف المؤنات عنهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم. وليكن منك فى ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظنّ برعيّتك، فإنّ حسن الظنّ يقطع عنك نصبا طويلا. وإن أحقّ من حسن ظنّك به من حسن بلاؤك عنده، [وإن أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده] .
ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعيّة، ولا تحدثنّ سنّة تضرّ بشىء من ماضى تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك بما نقضت منها. وأكثر [3] مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء فى تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، [ولا غنى ببعضها عن بعض] ، فمنها جنود
__________
[1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «معاونة» .
[2] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «مما كره الله لأولئك ... » وهو تحريف.
[3] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «ولكن ... » وهو تحريف.(6/22)
[الله] ، ومنها كتّاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من [أهل] الذّمّة ومسلمة [1] الناس، ومنها التجّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السّفلى من ذوى الحاجة والمسكنة، وكلّ قد سمّى الله سهمه، ووضع على حدّه فريضته فى كتابه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم عهدا منه محفوظا. فالجنود بإذن الله حصون الرعيّة وزين [2] الولاة وعزّ الدّين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعيّة إلا بهم. [ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذى يقوون به فى جهاد عدوّهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم] . ثم لا قوام لهذين الصّنفين إلا بالصّنف الثالث من القضاة والعمّال والكتّاب لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها. ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجّار وذوى الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقومون به فى أسواقهم، ويكفونهم من الرّفق [3] بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقّ رفدهم ومعونتهم؛ وفى الله لكلّ سعة؛ ولكلّ على الوالى حقّ بقدر ما يصلحه. [وليس يخرج الوالى من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحقّ والصبر عليه فيما خفّ عليه أو ثقل] . فولّ من جنودك أنصحهم فى نفسك لله تعالى ولرسوله ولإمامك، [وأنقاهم] ، جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب ويستريح الى العذر ويرفق بالضعفاء وينبو عن [4] الأقوياء، [و] ممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف.
ثم ألحق بذوى الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة أهل النّجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع الكرم وشعب العرف؛ ثم تفقّد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما. ولا يتفاقمنّ فى نفسك شىء قوّيتهم به، ولا تحقرنّ
__________
[1] مسلمة الناس: المسلمون منهم.
[2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «زى الولاة ... »
وهو تحريف
[3] الرفق بالفتح: النفع.
[4] يقال نبا عنه وعليه: اذا لم ينقد له.(6/23)
لطفا تعاهدهم به وإن قلّ، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك.
ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه. وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم فى معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همّهم همّا واحدا فى جهاد العدوّ، فإنّ عطفك عليهم يعطّف عليك قلوبهم؛ [وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل فى البلاد وظهور مودّة الرعيّة؛ وإنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدرهم] ، ولا تصحّ نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلّة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدّتهم، فافسح فى آمالهم [1] وواصل فى حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذّكر لحسن فعالهم تهزّ الشجاع وتحرّض الجبان إن شاء الله. ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى.
ولا تضمّنّ [بلاء] امرئ الى غيره، ولا تقصّرنّ به دون غاية بلائه. ولا يدعونّك شرف امرئ الى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ الى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما. واردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور؛ فقد قال الله تعالى لقوم أحبّ إرشادهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
؛ فالرادّ الى الله هو الآخذ بمحكم كتابه، والرادّ الى الرسول الآخذ بسنّته الجامعة غير المتفرّقة.
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك فى نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه [2] الخصوم، ولا يتمادى فى الزّلّة، ولا يحصر [3] من الفىء الى الحق إذا عرفه، ولا تشرف [نفسه] على طمع، ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه، أوقفهم فى الشّبهات،
__________
[1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «وافسح فى أموالهم ... » .
[2] أمحكه: أغضبه أو جعله محكان كسكران: عسر الخلق.
[3] يحصر: يضيق صدره.(6/24)
وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشّف الأمور، وأصرمهم عند إيضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء؛ وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه؛ وافسح له فى البذل ما يريح علّته وتقلّ معه حاجته الى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.
فانظر فى ذلك نظرا بليغا؛ فإن هذا [الدّين] قد كان أسيرا فى أيدى الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به [1] الدنيا.
ثم انظر فى أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنهما جمّاع من شعب الجور والخيانة. وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم فى الإسلام المتقدّمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصحّ أعراضا، وأقلّ فى المطامع إسرافا، وأبلغ فى عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك. ثم تفقّد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك فى السرّ لأمورهم حدوة [2] لهم على استعمال الأمانة والرّفق بالرعيّة. وتحفّظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة فى بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام الذّلة، ووسمته بالخيانة، وقلّدته عار التّهمة.
وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ صلاحهم وصلاحه صلاح لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله.
وليكن نظرك فى عمارة الأرض أبلغ من نظرك فى استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة؛ ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد
__________
[1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل: «وتطلب منه الدنيا» .
[2] حذوة لهم أى سوق لهم وحثّ.(6/25)
ولم يستقم أمره إلا قليلا. فإن شكوا ثقلا أو علّة أو انقطاع شرب [أو بالّة [1]] أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم؛ ولا يثقلنّ عليك شىء خفّفت به المؤنة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك فى عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجّحك [2] باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك [3] لهم والثّقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم. فربما حدث من الأمور ما إذا عوّلت [فيه] عليهم من بعد، احتملوه طيّبة أنفسهم به، فإن العمران يحتمل ما حمّلته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنّهم بالبقاء وقلّة انتفاعهم بالعبر. واستعمل من يحبّ أن يدّخر حسن الثناء من الرعيّة والمثوبة من الله عزّ وجلّ والرضا من الإمام.
ثم انظر فى حال الكتّاب فولّ أمورك خيرهم. واخصص رسائلك التى تدخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجود [4] صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك فى خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصّر [5] به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمّالك [عليك] وإصدار جوابها على الصواب منها عنك، وفيما يأخذ لك ويعطى منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه [6] فى الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن
__________
[1] أى شكوا ثقل المضروب عليهم من مال الخراج، أو نزول علة سماوية، أو انقطاع شرب (الشرب بالكسر: الماء) فيما يسقى بالأنهار، أو بالّة وهو ما يبل الأرض من مطروندى فيما يسقى بالمطر، وإحالة الأرض: تحولها وتغيرها.
[2] التبجح: الفرح والسرور.
[3] إجمامك لهم: تركك إياهم حتى اذا ما استراحوا تقوّوا على معونتك.
[4] كذا فى الأصل ولعله محرف عن «وجوه» .
[5] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «ولا تقصر بك ... » .
[6] فى الأصل: «قدر نفسك ... » وكذلك فعلا يعجز ويجهل بتاء الخطاب، والسياق يقتضى ما وضعناه عن نهج البلاغة.(6/26)
اختيارك إيّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظّن منك، فإن الرجال يتعرّفون [1] لفراسات الولاة بتصنّعهم وحسن خدمتهم؛ وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شىء؛ ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين [2] قبلك، فآعمد لأحسنهم كان فى العامّة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره.
واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتّت عليه كثيرها.
ومهما كان فى كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.
ثم استوص بالتجّار وذوى الصناعات، وأوص بهم خيرا المقيم [منهم و] المضطرب بماله والمترفّق ببدنه، فإنهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلّابها من المباعد والمطارح فى برّك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، فإنّهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته. وتفقّد أمورهم بحضرتك وفى حواشى بلادك. واعلم أن [فى] كثير منهم ضيقا فاحشا وشحّا قبيحا واحتكارا للمنافع فى المبايعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة. فامنع [من] الاحتكار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف.
ثم الله الله فى الطبقة السّفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين و [أهل] البؤسى والزّمنى، فإن [فى] هذه الطبقة قانعا ومعترّا، فاحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلّات صوافى [3] الإسلام فى كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذى للأدنى. وكلّ قد استرعيت حقّه فلا يشغلنّك
__________
[1] قال الأستاذ الإمام: أى يتوسلون إليها لتعرفهم.
[2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل:
«ولكن اختبرهم بهؤلاء الصالحين» .
[3] صوافى جمع صافية: أرض الغنيمة.(6/27)
عنهم بطر [1] فإنك لا تعذر بتضييع [ك التافه لإحكامك] الكثير المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم ولا تصعّر خدّك لهم؛ وتفقّد أمور من لا يصل إليك [منهم] ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم؛ ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه وتعالى يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. وكلّ فأعذر إلى الله تعالى فى تأدية حقّه إليه [2] .
وتعهّد أهل اليتم وذوى الرّقّة فى السنّ ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسئلة نفسه. وذلك على الولاة ثقيل؛ [والحق كله ثقيل] وقد يخفّفه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم.
واجعل لذوى الحاجات منك قسما تفرّغ لهم [فيه شخصك] وتجلس لهم فيه مجلسا عامّا فتتواضع فيه لله الذى خلقك وتبعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متعتع [3]
فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى غير موطن: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها [4] [حقّه] من القوىّ غير متعتع»
. ثم احتمل الخرق منهم والعىّ، ونحّ عنك الضّيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع فى إجمال وإعذار.
ثم أمور من أمورك لا بدّ [لك] من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما لا يغنى عنه كتّابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك.
وأمض لكلّ يوم عمله فإن لكلّ يوم ما فيه. واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله
__________
[1] كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل: «فلا يشغلنك عنهم نظر ... » .
[2] كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل: «فى تأدية حقه اليك ... » .
[3] التعتعة فى الكلام:
التردد فيه من عجز وعىّ والمراد أنه غير خائف، تعبيرا باللازم.
[4] كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل:
«لم يؤخذ للضعيف منها ... » الخ.(6/28)
أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلّها لله إذا صلحت فيها النّيّة وسلمت منها الرعيّة.
وليكن فى خاصّة ما تخلص لله به [دينك] إقامة فرائضه التى هى له خاصّة، فأعط الله من بدنك [1] فى ليلك ونهارك، ووفّ ما تقرّبت به إلى الله تعالى من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ. وإذا قمت فى صلاتك للناس فلا تكوننّ مفّرا ولا مضيّعا؛ فإن فى الناس من به العلّة وله الحاجة؛
وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وجّهنى إلى اليمن كيف أصلّى بهم؟ قال: «كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما»
. وأما بعد هذا فلا يطولنّ احتجابك عن رعيّتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضّيق وقلّة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحقّ بالباطل. وإنما الوالى بشر لا يعرف ما يوارى عنه الناس من الأمور؛ وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصّدق من الكذب. وإنما أنت أحد رجلين:
إما امرؤ سخت نفسك بالبذل فى الحقّ، ففيم احتجابك من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ وإما امرؤ مبتلى بالمنع، فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا يئسوا من ذلك! مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤنة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف فى معاملة.
ثم إن للوالى خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول [وقلة إنصاف فى معاملة] ، فاحسم مادّة ذلك بقطع أسباب تلك الأحوال. ولا تقطعنّ لأحد من حاشيتك وخاصّتك
__________
[1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل: «من ذلك ... » .(6/29)
قطيعة، ولا يطمعنّ [من] ك [فى] اعتقاد عقدة تضرّ [1] بمن يليها من [الناس فى] شرب أو عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك فى الدنيا والآخرة.
وألزم الحقّ من لزمه من القريب والبعيد، وكن فى ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصّتك حيث وقع؛ وابتغ [2] عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبّة ذلك محمودة. وإن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر [3] لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن فى ذلك إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ.
ولا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك [و] لله فيه رضا، فإن فى الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك. ولكن احذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإن العدوّ ربما قارب ليتغفّل، فخذ بالحزم واتّهم فى ذلك حسن الظن. فإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة وألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شىء الناس [4] أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود؛ وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا [5] من عواقب الغدر. فلا تغدرنّ بذمّتك ولا تخيسنّ بعهدك ولا تختلنّ عدوّك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقىّ.
وقد جعل الله عهده وذمّته أمنا قضاه بين العباد برحمته، وحرما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة [6] ولا خداع فيه. ولا تعقد عقدا
__________
[1] كذا فى نهج البلاغة: وفى الأصل: «ولا تطمعنّ فيك اعتقاد عقدة فيضر ... » وهى مضطربة النسج ولا تؤدى المعنى المراد. والعقدة: الضّيعة، واعتقادها: امتلاكها واقتناؤها.
[2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «واتبع ... » وهو تحريف.
[3] الإصحار بالأمر: إظهاره.
[4] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «فانه ليس من فرائض الله شىء إلا الناس ... الخ» .
[5] كذا فى نهج البلاغة. واستوبل الشىء اذا تركه لو خامنه وان كان محبّا له، وفى الأصل «لما استولوا عليه ... » .
[6] كذا فى نهج البلاغة «والمدالسة» : الخيانة، وفى الأصل «مخالة» .(6/30)
تجوز فيه العلل. ولا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة. ولا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحقّ، فإنّ صبرك على ضيق ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله طلبة فلا تستقيل فيها [1] دنياك ولا آخرتك.
إيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها، فإنه ليس شىء أدعى لنقمة ولا أعظم تبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم [بين العباد] فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة؛ فلا تقوّينّ [2] سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. فلا عذر لك عند الله ولا عندى فى قتل العمد، لإن فيه قود البدن. فإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك [أو سيفك] أو يدك بعقوبة؛ فإن فى الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدّى إلى أولياء المقتول حقّهم.
وإيّاك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحبّ الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان فى نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.
وإيّاك والمنّ على رعيتك بإحسانك، والتزيّد فيما كان [من فعلك] ، وأن تعدهم فتتبع موعدك بخلف، فإن المنّ يبطل الإحسان، والتزيّد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس. قال الله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.
__________
[1] كذا فى نهج البلاغة وعليه يكون معنى الجملة: لا تطلب أن تقال منها لا فى دنياك ولا فى آخرتك.
وفى الأصل: لا تستقلّ دنياك ولا آخرتك. وهذه العبارة غير واضحة المعنى الا اذا زيدت عليها كلمة بها، والمراد لا تقوم بحملها دنياك ولا آخرتك. والطلبة اسم من المطالبة.
[2] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «فلا تقومن» .(6/31)
وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط [1] فيها عند إمكانها، أو اللّجاجة فيها إذا تنكّرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت؛ فضع كلّ أمر موضعه وأوقع كلّ عمل موقعه.
وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة [2] ، والتغابى عما يعنى به مما قد وضح لعيون الناظرين، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم.
املك حميّة أنفك وسورة حدّك وسطوة يدك وغرب لسانك، واحترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك [3] حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.
والواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم، أو فريضة فى كتاب الله، فتقتدى بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك فى اتّباع ما عهدت إليك فى عهدى هذا، واستوثقت به من الحجّة لنفسى عليك لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها.
وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كلّ ذى رغبة: أن يوفّقنى [4] وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء فى العباد وجميل الأثر فى البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لى ولك بالسعادة والشهادة. إنّا لله وإنّا إليه راجعون. تمّ العهد بعون الله تعالى.
وقيل: ينبغى للملك أن يسوق العنف باللطف، والتوفير بالتوقير، ولا يتخذ أعوانا إلا أعيانا، ولا أخلّاء إلا أجلّاء، ولا ندماء إلا كرماء، ولا جلساء إلا ظرفاء.
__________
[1] كذا فى نهج البلاغة. وفى الأصل: «التثبت» والمراد بالتسقّط: التهاون.
[2] أسوة بمعنى سواء، قال فى اللسان: القوم أسوة فى هذا الأمر أى حالهم فيه واحدة.
[3] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «وأن تحكم بذلك فى نفسك» .
[4] أن يوفقنى، مفعول «أسأل» وفى الأصل: «وتوفيقى ... » وما هنا نقلناه عن نهج البلاغة.(6/32)
الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثانى فيما يجب على الملك للرعايا
ويجب على الملك أن يبسط لرعيّته من العدل بساطا، ويبنى لهم من الأمن فسطاطا، وينشر عليهم ألوية حلم خفقت ذوائبها، ويسلسل لهم أنهار برّ امتدّت دوائبها [1] ؛ ويكفّ عنهم أكفّ المظالم، ويوكف عليهم سحائب المكارم. وأهمّ ما قدّم من ذلك «العدل» .
ذكر ما قيل فى العدل وثمرته وصفة الإمام العادل
والعدل واجب على كل من استرعى رعيّة من إمام وغيره؛ قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ
، وقال تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
وقال تعالى وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
وقال تعالى يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى
وقال تعالى الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عدل ساعة فى حكومة خير من عبادة ستين سنة»
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا [2] كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته فالإمام الذى على الناس راع عليهم وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهى
__________
[1] لعله «ذنائبها» جمع ذناب وهو مسيل ما بين التعلتين.
[2] نصه فى البخارى ومسلم يختلف عن الأصل فى بعض ألفاظ لا تخرجه عن معناه.(6/33)
مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيّده وهو مسئول عنه فكلّكم راع وكلكم مسئول عن رعيّته»
قال بعض الشعراء:
فكلّكم راع ونحن رعيّة ... وكلّ سيلقى ربّه فيحاسبه
وقالت الحكماء: إمام عادل خير من مطر وابل، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم.
يقال: إنّ جمشيد [1] أحد ملوك الفرس الأول، لما ملك الأقاليم عمل أربعة خواتيم: خاتما للحرب والشّرطة وكتب عليه الأناة، وخاتما للخراج وكتب عليه العمارة، وخاتما للبريد وكتب عليه الوحا [2] ، وخاتما للمظالم وكتب عليه العدل، فبقيت هذه الرسوم فى ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام.
وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائرا فله الوزر وعليك الصبر.
وقال أردشير لابنه: يا بنىّ إن الملك والعدل أخوان لا غنى لأحدهما عن صاحبه، فالملك أسّ والعدل حارس، فما لم يكن له أس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع، يا بنىّ اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيّتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدّين، وبرّك لمن عناه ما عناك من ذوى العقول.
وقال بعض الحكماء: يجب على السلطان أن يلتزم العدل فى ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفى باطن ضميره لإقامة أمر دينه، فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان؛ ومدار السياسة كلّها على العدل والإنصاف، فلا يقوم السلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما، ولا يدور إلا عليهما.
__________
[1] فى الأصل: «حمشيد» بالحاء المهملة، وصوابه جمشيد بالجيم المعجمة، ومعناه: شعاع القمر.
[2] الوحا: العجلة والإسراع، ويمدّ.(6/34)
وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كلّكم يترشّح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من له سيف مسلول، ومال مبذول؛ وعدل تطمئنّ إليه القلوب.
وخطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس، إن للإسلام حائطا منيعا وبابا وثيقا؛ فحائط الإسلام الحقّ وبابه العدل؛ ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتدّ السلطان؛ وليس شدّة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسّوط، ولكن قضاء بالحقّ وأخذ بالعدل.
وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عمّاله يستأذنه فى تحصين مدينة؛ فكتب إليه: حصّنها بالعدل ونقّ طريقها من الظلم.
وقال معاوية: إنّى لأستحيى أن أظلم من لا يجد علىّ ناصرا إلا الله.
وقال المهدىّ للربيع بن الجهم [1] وهو وال على أرض فارس: يا ربيع، انشر الحقّ والزم القصد وابسط العدل وارفق بالرعيّة؛ واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه، وأجورهم من ظلم الناس لغيره.
وقال جعفر بن يحيى: الخراج عمود الملك، وما استغزر بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الظلم.
وقال عمرو بن العاص: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.
وقيل: سأل الإسكندر حكماء بابل، فقال: أيّما أبلغ عندكم، الشجاعة أم [2] العدل؟ فقالوا: إذا استعملنا العدل استغنينا عن الشجاعة.
__________
[1] فى العقد الفريد ج 1 ص 13: «ابن أبى الجهم» .
[2] فى الأصل «أو» والمقام يقتضى «أم» .(6/35)
ولما جىء بالهرمزان ملك خوزستان أسيرا إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، لم يزل الموكّل به يقتفى أثر عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتى وجده بالمسجد نائما متوسّدا درّته، فلما رآه الهرمزان قال: هذا هو الملك؟ قيل: نعم؛ فقال له: عدلت فأمنت فنمت، والله إنى قد خدمت أربعة من ملوك الأكاسرة أصحاب التّيجان فما هبت أحدا منهم هيبتى لصاحب هذه الدّرّة.
وقالوا: إذا عدل الإمام خصب الزمان.
وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما: إن الأرض لتزّيّن فى أعين الناس إذا كان عليها إمام عادل، وتقبح إذا كان عليها إمام جائر.
وحكى أن كسرى أبرويز نزل متنكّرا بامرأة، فحلبت له بقرة فرأى لها لبنا كثيرا، فقال لها: كم يلزمك فى السنة على هذه البقرة للسلطان؟ فقالت: درهم واحد؛ فقال:
وأين ترتع وبكم منها ينتفع؟ فقالت: ترتع فى أراضى السلطان، ولى منها قوتى وقوت عيالى؛ فقال فى نفسه: إن الواجب أن أجعل إتاوة على البقور [1] فلأصحابها نفع عظيم؛ فما لبث أن قالت المرأة: أوّه! إن سلطاننا همّ بجور؛ فقال أبرويز:
لمه؟ فقالت: لأن درّ البقرة انقطع، وإن جور السلطان مقتض لجدب الزمان؛ فأقلع عما كان همّ به. وكان يقول بعد ذلك: إذا همّ الإمام بجور ارتفعت البركة.
وقال سقراط: ينبوع فرح العالم الملك العادل، وينبوع حزنهم الملك الجائر.
__________
[1] هكذا فى الأصل. والذى فى كتب اللغة التى تحت أيدينا من جموع هذا الاسم: بقر وأبقر وأبقار وأباقر وبقّار وأبقور، وله أسماء جمع وهى باقر وبقير وبيقور وباقور وباقورة، ولعل ما فى الأصل جمع لبقر والقياس لا يأباه فإن من النحويين من ذهب الى أن فعلا يجمع قياسا على فعول كأسد وأسود وذكر وذكور.(6/36)
وقال الفضل: لو كان عندى دعوة مستجابة لم أجعلها إلا فى الإمام، فإنه إذا صلح أخصبت البلاد وأمنت العباد؛ فقبّل ابن المبارك رأسه وقال: لا يحسبنّ هذا غيرك.
وقال قدامة: حسبكم دلالة على فضيلة العدل أن الجور الذى هو ضدّه لا يقوم إلا به؛ وذلك أن اللصوص إذا أخذوا الأموال واقتسموها بينهم احتاجوا إلى استعمال العدل فى اقتسامهم وإلا أضرّ ذلك بهم.
صفة الإمام العادل- كتب عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة إلى الحسن ابن أبى الحسن البصرىّ أن يكتب له بصفة الإمام العادل؛ فكتب إليه الحسن: اعلم يا أمير المؤمنين، أن الله جعل الإمام العادل قوام كلّ مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كلّ فاسد، وقوّة كلّ ضعيف، ونصفة كلّ مظلوم، ومفزع كلّ ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعى الشفيق [على إبله [1]] والحازم الرفيق الذى يرتاد لها أطيب المراعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحرّ والقرّ.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحانى على ولده، يسعى لهم صغارا، ويعلّمهم كبارا، يكسب لهم فى حياته، ويدّخر لهم بعد وفاته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كلأمّ الشفيقة البرّة الرفيقة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، وربّته طفلا، تسهر لسهره وتسكن لسكونه، وترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتّم بشكايته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين وصىّ اليتامى، وخازن المساكين، يربىّ صغيرهم، ويمون كبيرهم.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده. والإمام العادل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد لله ويقودهم. فلا تكن
__________
[1] زيادة عن العقد الفريد (جزء أوّل ص 14) .(6/37)
يا أمير المؤمنين فيما ملّكك الله كعبد ائتمنه سيّده واستحفظه ماله وعياله، فبدّد المال وشرّد العيال فأفقر أهله وأهلك ماله.
واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجربها عن الخبائث والفواحش، فكيف [إذا أتاها من يليها! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف [1]] إذا قتلهم من يقتصّ لهم! واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلّة أشياعك [2] عنده وأنصارك عليه؛ فتزوّد له وما بعده من الفزع الأكبر.
واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذى أنت به، يطول [فيه [1]] ثواؤك، ويفارقك أحبّاؤك، ويسلمونك فى قعره فريدا وحيدا؛ فتزوّد له ما يصحبك يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه. واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما فى القبور، وحصّل ما فى الصّدور؛ فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها؛ فالآن يا أمير المؤمنين وأنت فى مهل، قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل؛ لا تحكم يا أمير المؤمنين فى عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلّط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون فى مؤمن إلّا ولا ذمّة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك.
ولا يغرّنك الذين ينعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيّبات من دنياهم بإذهاب طيباتك فى آخرتك. ولا تنظرنّ إلى قدرك [3] اليوم، ولكن انظر الى قدرك [3] غدا وأنت مأسور فى حبائل الموت، وموقوف بين يدى الله تعالى فى مجمع الملائكة والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحىّ القيّوم. إنى يا أمير المؤمنين إن لم أبلغ فى عظتى ما بلغه أولو النّهى قبلى، فلم آلك شفقة ونصحا؛ فأنزل كتابى هذا إليك كمداوى حبيبه يسقيه
__________
[1] زيادة عن العقد الفريد، جزء أوّل ص 14
[2] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل «امتناعك»
[3] كذا فى الأصل. وفى العقد الفريد: قدرتك.(6/38)
الأدوية الكريهة لما يرجو له بذلك من العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
وحيثما ذكرنا العدل وصفة الإمام العادل فلنذكر الظلم وسوء عاقبته.
ذكر ما قيل فى الظلم وسوء عاقبته
قال الله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
. وقال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
. وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ
؛ قيل: هذا تعزية للمظلوم ووعيد للظالم. وقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً
. وقال تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
. وقال تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ*
. وقال تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة إمام جائر» وفى لفظ آخر: «أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدّهم عذابا إمام جائر»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [1] » وفى لفظ: «فإنها مستجابة»
. ويقال: ما أنعم الله على عبد نعمة فظلم بها إلا كان حقيقا على الله أن يزيلها.
وقال الأحنف: إذا دعتك نفسك إلى ظلم الناس فاذكر قدرة الله على عقوبتك، وانتقام الله لهم، وذهاب ما آتيت إليهم [2] عنهم. وقال يوسف بن أسباط: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله.
__________
[1] فى الجامع الصغير: «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب» .
[2] أى ما سقته إليهم من الظلم.(6/39)
وروى فى الحديث: «إن الله تعالى يقول وعزّتى لأجيبنّ دعوة المظلوم وإن كان كافرا» . وقال: «ما من عبد ظلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: يا ربّ؛ عبدك، ظلمت فلم أنتصر إلا بك إلا قال الله لبّيك عبدى لأنصرنّك ولو بعد حين» .
وقيل: الظلم أدعى شىء إلى تغيير نعمة وتعجيل نقمة.
وقال ابن عبّاس: ليس للظالم عهد، فإن عاهدته فانقضه، فإن الله تعالى يقول:
لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
. وأجمعوا على أن المظلوم موقوف على النّصرة لقوله تعالى:
ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ
. والظالم مدرجة العقوبة وإن تنفّست مدّته.
وقيل لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: كان الرجل يظلم فى الجاهلية فيدعو على من ظلمه فيجاب عاجلا ولا يرى ذلك فى الإسلام؛ فقال: هذا حاجز بينهم وبين الظلم، وإن موعدكم الآن الساعة، والسّاعة أدهى وأمرّ.
وقيل: تندمل من المظلوم جراحه، إذا انكسر من الظالم جناحه. وقالوا: الجور آفة الزمان، ومحدث الحدثان؛ وجالب الإحن، ومسبّب المحن؛ ومحيل الأحوال، وممحق الأموال؛ ومخلى الديار، ومحيى البوار. وهو مأخوذ [1] من قولهم: جار عن الطريق إذا نكب عنها، فكأنه عدل عن طريق العدل وحاد عن سبيله.
وفى الإسرائيليّات أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى موسى عليه السّلام: يا موسى، قل لبنى إسرائيل: تجنّبوا الظلم؛ وعزّتى وجلالى إن له عندى مغبّة؛ قال: يا رب وما مغبته؟ قال: يتم الولد، وتقليل العدد، وانقطاع الأمد، والثّواء فى النار.
وقد أوردنا فى ذلك ما يكتفى به من يعلم أن الله تعالى مسائله ومحاسبه، ومناقشه غدا ومطالبه؛ وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وموقف المظلوم لطلب حقّه ممن
__________
[1] فى الأصل: «وهو مأخوذ به ... الخ» وظاهر أن كلمة «به» هنا مقحمة لغير حاجة.(6/40)
ظلمه بملء فيه؛ وربما يعجّل له العقوبة فى دنياه، ويضاعف عليه العذاب فى أخراه، ويريه عاقبة بغيه فى يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه. نسأل الله تعالى أن يحمينا أن نظلم أو نظلم، وأن يجعلنا ممن فوّض أمره إليه وسلّم، ولا يمتحننا بمكروه، فهو بضعفنا عن حمله أدرى، وبعجزنا أعلم، بمنّه وكرمه.
ذكر ما قيل فى حسن السّيرة والرّفق بالرعيّة
قال الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعطى حظّه من الرفق فقد أعطى حظّه من الخير كلّه، ومن حرم حظّه من الرّفق فقد حرم حظّه من الخير كلّه»
. ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب فقال لهما: أشيرا علىّ؛ فقال له سالم: اجعل الناس أبا وأخا وابنا، فبرّ أباك، واحفظ أخاك، وارحم ابنك. وقال محمد بن كعب: أحبب للناس ما تحبّ لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، واعلم أنك أوّل خليفة يموت.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدىّ بن أرطاة: أما بعد، فإذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك، واعلم أن مالك عند الله مثل ما للرعيّة عندك.
وقال المنصور لابنه المهدىّ: يا بنىّ لا تبرم أمرا حتى تفكّر فيه، فإن فكرة العاقل مرآته تريه حسناته وسيئاته؛ واعلم أن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية [1] لا يصلحها إلا العدل؛ وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.
__________
[1] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 17) وفى الأصل: «والطاعة» .(6/41)
وقال خالد بن عبد الله القسرىّ [1] لبلال بن أبى بردة: لا يحملنّك فضل المقدرة على شدّة السّطوة، ولا تطلب من رعيّتك إلا ما تبذله لها، ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
وقيل: لما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام، استعمل ابنه عبد العزيز على مصر، وقال له حين ودّعه: أرسل حكيما ولا توصه؛ انظر أى بنىّ [2] إلى أهل عملك؛ فإن كان لهم عندك حقّ غدوة فلا تؤخّره إلى عشيّة، وإن كان لهم عشيّة فلا تؤخّره إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلّها تستوجب بذلك الطاعة منهم. وإيّاك أن يظهر لرعيّتك منك كذب، فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدّقوك فى الحق. واستشر جلساءك وأهل العلم، فإن لم يستبن لك فاكتب إلىّ يأتك رأيى فيه إن شاء الله. وإن كان بك غضب على أحد من رعيّتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب مطفأ الجمرة، فإنّ أوّل من جعل السجن كان حليما ذا أناة؛ ثم انظر إلى أهل الحسب والدّين والمروءة، فليكونوا أصحابك وجلساءك، ثم ارفع منازلهم منك على غيرهم على غير استرسال ولا انقباض. أقول هذا وأستخلف الله عليك.
__________
[1] فى الأصل: «خالد البصرى» والتصويب عن العقد الفريد.
[2] كذا فى العقد الفريد (ج ص 17) ، وفى الأصل: «أى شىء» وهو تحريف.(6/42)
الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثانى فى حسن السياسة، وإقامة المملكة، ويتّصل به الحزم، والعزم، وانتهاز الفرصة، والحلم، والعفو، والعقوبة، والانتقام
فأما ما قيل فى حسن السياسة وإقامة المملكة؛ قالوا: من طلب الرياسة فليصبر على مضض السياسة. ويقال: إذا صحّت السياسة تمّت الرياسة.
كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجّاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه [بسيرته [1]] فكتب إليه: إنّى أيقظت رأيى وأنمت هواى، وأدنيت السّيد المطاع فى قومه، وولّيت الحرب الحازم فى أمره، وقلّدت الخراج الموفّر لأمانته، وقسمت لكلّ خصم من نفسى قسما، أعطيته حظّا من لطيف عنايتى ونظرى، وصرفت السيف إلى النّطف [2] المسىء، [والثواب الى المحسن البرىء [1]] ؛ فخاف المريب صولة العقاب، وتمسّك المحسن بحظّه [من [1]] الثواب. وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبت، ما السياسة؟ فقال: هيبة الخاصّة مع صدق مودّتها، واقتياد قلوب العامّة مع الإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع [3] .
وقيل: بلغ بعض الملوك سياسة ملك آخر فكتب اليه: قد بلغت من حسن السياسة مبلغا لم يبلغه ملك فى زمانك، فأفدنى الذى بلغت به ذلك؛ فكتب إليه:
لم أهزل فى أمر و [لا [4]] نهى ولا وعد ولا وعيد، واستكفيت أهل الكفاية وأثبت على
__________
[1] زيادة عن العقد الفريد، ج 1 ص 10
[2] النطف: المريب.
[3] فى الأصل:
«أهل الصناعات» والتصويب عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 10) والصنائع جمع صنيعة، يقال: فلان صنيعة فلان إذا اصطنعه وخرّجه وأدّبه وربّاه.
[4] زيادة عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 10 طبع دار الكتب المصرية) .(6/43)
العناء لا على الهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، وودّا لم يشبه كذب، وعمّمت القوت، ومنعت الفضول. وقيل: إن أنوشروان كان يوقّع فى عهود الولاة: سس خيار الناس بالمحبّة، وامزج للعامّة الرغبة بالرهبة. ولما قدم سعد العشيرة فى مائة من أولاده على ملك حمير سأله عن صلاح الملك؛ فقال: معدلة شائعة، وهيبة وازعة، ورعيّة طائعة؛ ففى المعدلة حياة الإمام، وفى الهيبة نفى للظّلّام وفى طاعة الرعية حسن التئام. وقال أبو معاذ للمتوكّل: إذا كنتم للناس أهل سياسة فسوسوا كرام الناس بالرفق والبذل، وسوسوا لئام الناس بالذّلّ يصلحوا على الذلّ، إن الذلّ يصلح النّذل. وقال أنوشروان: الناس ثلاث طبقات، تسوسهم [1] ثلاث سياسات، طبقة هم خاصّة الأشراف، تسوسهم باللين والعطف، وطبقة هم خاصّة الأشرار، تسوسهم بالغلظة والعنف، وطبقة هم العامّة، تسوسهم بالشدّة واللين.
وقال معاوية بن أبى سفيان: إنى لا أضع سيفى حيث يكفينى سوطى، [ولا أضع [2]] سوطى حيث يكفينى لسانى، ولو أن بينى وبين العامّة شعرة ما [3] ما انقطعت؛ قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا جذبوها أرخيتها وإذا أرخوها جذبتها.
وقال المأمون: أسوس الملوك من ساس نفسه لرعيّته، فأسقط مواقع حجّتها عنه وقطع مواقع حجّته عنها.
__________
[1] فى الأصل «يسوسهم» بالياء وكذلك بقية الأفعال فى هذه الجملة، وظاهر أن الخطاب هو الذى يستقيم معه اللفظ والمعنى.
[2] زيادة عن العقد الفريد (ج 1 ص 10) .
[3] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 10) وعيون الأخبار (مجلد 1 ص 9) . والكثير فى جواب «لم» المنفى بما عدم اقترانه باللام.(6/44)
وأما ما قيل فى الحزم والعزم وانتهاز الفرصة؛ قالت الحكماء: أحزم الملوك من قهر جدّه هزله، وغلب رأيه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن كيده. وقيل لبعضهم: ما الحزم؟ فقال: التفكّر فى العواقب.
وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد: يا بنىّ، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعيّة أو تملكه الرعيّة إلّا حزم أو توان. وقالوا: ينبغى للعاقل ألّا يستصغر شيئا من الخطأ والزّلل، فإنّ من استصغر الصغير يوشك أن يقع فى الكبير، فقد رأينا الملك يؤتى من العدوّ المحتقر، ورأينا الصّحّة تؤتى من الداء اليسير، ورأينا الأنهار تنبثق من الجداول الصغار. وقال مسلمة بن عبد الملك: ما أخذت أمرا قطّ بحزم فلمت نفسى فيه وإن كانت العاقبة علىّ، ولا أخذت أمرا قطّ وضعيّت الحزم فيه فحمدت نفسى وإن كانت العاقبة لى. وقال عبد الملك لعمر بن عبد العزيز:
ما العزيمة فى الأمر؟ فقال: إصداره إذا أورد بالحزم؛ قال: وهل بينهما فرق؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ليست تكون عزيمة ما لم يكن ... معها من الحزم المشيّد رافد
وقيل لملك سلب ملكه: ما الذى سلبك ملكك؟ فقال: [دفع شغل [1]] اليوم إلى غد، والتماس عدّة بتضييع عدد، واستكفاء كلّ مخدوع عن [2] عقله. والمخدوع [عن عقله [1]] : من بلغ قدرا لا يستحقّه أو أثيب ثوابا لا يستوجبه. وفى كتب للهند:
الحازم يحذر عدوّه على كل حال، يحذر المواثبة إن قرب، والمغارة [3] إن بعد، والكمين
__________
[1] زيادة من العقد الفريد (ج 1 ص 18) .
[2] فى الأصل: «من عقله» .
[3] كذ فى الأصل، ولعله «المغاورة» بمعنى الإعارة.(6/45)
إن انكشف، والاستطراد إن ولّى. وقال صاحب كتاب كليلة ودمنة: إذا عرف الملك أنّ رجلا يساوى به فى المنزلة والرأى والهمّة والمال واتّبع فليصرعه، فإن لم يفعل فهو المصروع. وقيل: من لم يقدّمه حزمه أخّره عجزه. وقيل: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.
قال البحترىّ:
فتى لم يضيّع وجه حزم ولم يبت ... يلاحظ أعجاز الأمور تعقّبا
ومثله قول آخر:
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا
وقيل: من لم ينظر فى العواقب فقد تعرّض لحادثات النوائب. قال الشاعر:
ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه أبدا تبار
وقال صاحب كتاب كليلة ودمنة: رأس الحزم للملك معرفته بأصحابه وإنزالهم منازلهم واتهام بعضهم على بعض، فإنه إن وجد بعضهم إلى هلاك بعض سبيلا أو إلى تهجين بلاء المبلين وإحسان المحسنين والتغطية على إساءة المسيئين، سارعوا الى ذلك، واستحالوا [1] محاسن أمور المملكة، وهجّنوا محاسن رأيه؛ ولم يبرح منهم حاسد قد أفسد ناصحا، وكاذب قد اتّهم أمينا، ومحتال قد أغضب بريئا. وليس ينبغى للملك أن يفسد أهل الثقة فى نفسه بغير أمر يعرفه، بل ينبغى فى فضل حلمه وبسطة علمه الحيطة على رأيه فيهم، والمحاماة على حرمتهم وذمامهم، وألّا يرتاح [2] إلى إفسادهم، فلم يزل جهّال الناس يحسدون علماءهم، وجبناؤهم شجعانهم، ولئامهم كرماءهم، وفجّارهم أبرارهم، وشرارهم خيارهم.
__________
[1] كذا فى الأصل. ولعله: «أحالوا» بمعنى غيّروا.
[2] فى الأصل «ألا يريح» ولعل الصواب ما وضعناه.(6/46)
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: انتهزوا هذه الفرص فإنها تمرّ مرّ السّحاب، ولا تطلبوا أثرا بعد عين.
وكتب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد، وقد بلغه عنه تلكّؤ فى بيعته:
أما بعد، فإنى أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابى فاعتمد أيّهما شئت والسلام.
وكتب عبد الله بن طاهر الخراسانىّ إلى الحسن بن عمر التّغلبىّ [1] : أما بعد، فإنه بلغنى من قطع الفسقة الطريق [ما بلغنى [2]] ، فلا الطريق تحمى، ولا اللصوص تكفى، ولا الرعية ترضى، وتطمع بعد هذا فى الزيادة! إنك لمنفسح الأمل! وايم الله لتكفينّ من قبلك أو لأوجّهنّ إليك رجالا لا تعرف مرّة من جشم، ولا عديّا من رهم [3] . ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم والى خراسان: أما بعد، فإن وكيع ابن حسّان [4] كان بالبصرة [منه [5]] ما كان، ثم صار لصّا بسجستان، ثم صار إلى خراسان، فإذا أتاك كتابى هذا فاهدم بناءه واحلل لواءه. وكان على شرطة قتيبة فعزله وولّى الضّبىّ.
__________
[1] فى الأصل: الثعلبى وهو تحريف إذ هو الحسن بن أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب العدوى التغلبى. انظر ابن الأثير طبع أوربا ج 7 ص 127 و 172.
[2] زيادة يقتضيها السياق وفى العقد الفريد «ما بلغ» (ج 1 ص 20) .
[3] كذا فى العقد الفريد «رهم» بالراء وهو بطن من بطون العرب وفى الأصل: «دهم» .
[4] فى الأصل: «حيّان» والتصويب عن العقد الفريد والطبرىّ.
[5] زيادة يقتضيها المقام.(6/47)
ذكر ما قيل فى الحلم
الحلم دفع السيئة بالحسنة. وقيل: تجرّع الغيظ [1] . وقيل: الحلم دعامة العقل، وقال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
وقال علىّ رضى الله عنه: حلمك عن السفيه يكثر أنصارك عليه.
وقيل: ليس الحليم من إذا ظلم حلم حتى إذا قدر انتصر، ولكن الحليم من ظلم فإذا قدر غفر [2] .
وقيل: الحليم من لم يكن حلمه لفقد النّصرة أو لعدم القدرة. وهو جوهر فى الإنسان يصدر عن صدر سالم من الغوائل والأذى، صاف [3] من شوائب الكدر والقذى؛ لا يستطاع تعلّما، ولا يدرك تبصّرا وتفهّما؛ كما قال أبو الطيّب:
وإذا الحلم لم يكن فى طباع ... لم يحلّم تقادم الميلاد [4]
ويدلّ على ذلك أنه غريزة فى الإنسان.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأشجّ عبد القيس: «يا أبا المنذر إن فيك خصلتين [5] يرضاهما الله ورسوله الحلم والأناة» فقال: يا رسول الله، أشىء جبلنى الله عليه أم شىء اخترعته من قبل
__________
[1] فى الأصل: «الغليظ» .
[2] عبارة الإحياء فى شطر هذه الجملة الأخيرة «ولكن الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر عفا» .
[3] فى الأصل: «صاف عن شوائب ... الخ» واللغة تقتضى «من» .
[4] ورد هذا البيت فى ديوان المتنبى هكذا:
وإذا الحلم لم يكن عن طباع ... لم يكن عن تقادم الميلاد
[5] فى الإحياء للغزالىّ «خلقين يحبهما ... » (ج 3 ص 122) طبع المطبعة الميمنية.(6/48)
نفسى؟ قال: «بل شىء جبلك الله عليه»
؛ قال: الحمد لله الذى جبلنى على خلق يرضاه الله ورسوله.
ومن الناس من يقول: إن الحلم ليس غريزة ولا طبيعة بل مكتسب مستفاد، تتمرّن النفس الأبيّة عليه، وتنقاد حبّا فى المحمدة إليه.
وقالوا: الحلم بالتحلّم كما أن العلم بالتعلّم. ويدلّ على ذلك ما حكى عن جعفر الصادق أنه كان عنده عبد سيّئ الخلق، فقيل له: أما تأنف [من [1]] مثل هذا عندك وأنت قادر على الاستبدال به؟ فقال: إنما أتركه لأتعلّم عليه الحلم. ويحكى عنه أنه كان إذا أذنب إليه عبد أعتقه؛ فقيل له فى ذلك؛ فقال: أريد بفعلى هذا تعلّم الحلم. قال الشاعر:
وليس يتمّ الحلم للمرء راضيا ... إذا هو عند السّخط لم يتحلّم
كما لا يتمّ الجود للمرء موسرا ... إذا هو عند القتر لم يتحشّم [2]
وروى عن سرىّ السّقطىّ أنه قال: الحلم على خمسة أوجه: حلم غريزىّ، وهو هبة من الله للعبد، يعفو عمّن ظلمه، ويصل من قطعه، ويعطى من حرمه، ويحسن لمن أساء إليه؛ وحلم تحالم، يكظم غيظه رجاء الثواب وفى القلب كراهية؛ وحلم كبر، لا يرى المسىء أهلا أن يجاريه؛ وحلم مذموم، رياء وسمعة وهو حاقد ساكت يرائى به جلساءه؛ وحلم مهانة وذلّة وعجز وضعف نفس وصغر همّة.
وقال أبو هلال العسكرىّ: أجمع كلمة سمعناها فى الحلم ما سمعت عمّ أبى يقول:
الحليم ذليل عزيز؛ وذلك أن صورة الحليم صورة الذليل الذى لا انتصار له، واحتمال السفيه والتغافل عنه فى ظاهر الحال ذلّ وإن لم يكن به. وقيل: « [الحليم [3]] مطيّة الجهول» لاحتماله جهله وتركه الانتصاف منه. وقال الأوّل البيتين وقد تقدّما.
__________
[1] زيادة يقتضيها استعمال اللغة، ولعلها سقطت من الناسخ.
[2] يتحشم: يتذمّم ويستحى.
[3] زيادة عن ديوان المعانى لأبى هلال العسكرىّ (ج 1 ص 108 مخطوط ومحفوظ بدار الكتب المصرية) .(6/49)
ولهذا [1]] قال شيخ من الأعراب وقد قيل له: ما الحلم؟ فقال: الذى تصبر عليه.
وقال: الحلم عقال الشرّ، وذلك أن من سمع مكروهة فسكت عنها انقطعت عنه أسبابها، وإن أجاب اتصلت بأمثالها [2] .
وقالوا: الحلم والأناة توءمان ينتجهما علوّ الهمة.
ومن كلام النبوّة: «كاد الحليم أن يكون نبيّا» .
ورأى حكيم رقّة من ملك فقال: أيها الملك! ليس التاج الذى يفتخر به عظماء الملوك فضّة ولا ذهبا، ولكنه الوقار المكلّل بجواهر الحلم، وأحق الملوك بالبسطة، من حلم عند ظهور السّقطة.
وقال معاوية لابنه يزيد: عليك بالحلم والاحتمال حتى تمكنك الفرصة، فإذا أمكنتك فعليك بالصفح، فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويقيك مصارع المحذور.
وقال أيضا: أفضل ما أعطى الرجل الحلم. وقال: ما وجدت لذّة هى عندى ألذّ من غيظ أتجرّعه وسفه بحلم أقمعه.
وقالوا: الحلم مطيّة وطيئة تبلّغ راكبها قاصية المجد، وتملّكه ناصية الحمد.
وقال أبو هلال: ومن أشرف نعوت الإنسان أن يدعى حليما، لأنه لا يدعاه حتى يكون عاقلا وعالما ومصطبرا محتسبا وعفوّا وصافحا ومحتملا وكاظما. وهذه شرائف الأخلاق وكرائم السجايا والخصال.
ذكر أخبار من اشتهر بالحلم واتصف به
كان ممن اشتهر بالحلم الأحنف بن قيس. قيل له: ممّن تعلّمت الحلم؟
قال: من قيس بن عاصم المنقرىّ، رأيته قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدّث قومه، حتى أتى بمكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك؛
__________
[1] زيادة عن ديوان المعانى لأبى هلال العسكرى.
[2] زيادة عن ديوان المعانى لأبى هلال العسكرىّ وفى الأصل: «بأسبابها» .(6/50)
قال: فو الله ما حلّ حبوته ولا قطع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال: يابن أخى أثمت بربّك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمك؛ ثم قال لابن له آخر:
قم يا بنىّ فوار أخاك وحلّ كتاف ابن عمك وسق إلى أمّك مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة. وقد ساق أبو هلال هذه القصة بسند وزاد فيها زيادة حسنة نذكرها، فقال:
إن قيس بن عاصم لما فرغ من حديثه التفت إلى بعض بنيه، فقال: قم إلى ابن عمك فأطلقه، وإلى أخيك فادفنه. فبدأ بإطلاق القاتل قبل دفن المقتول.
وقال فى خبره: ثم اتّكأ على شقّه الأيسر وقال:
إنى امرؤ لا يعترى خلقى [1] ... دنس يفنّده ولا أفن [1]
من منقر فى بيت مكرمة ... والفرع ينبت فوقه الغصن
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع [2] لسن
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهمو لحفظ جواره فطن
وقيل: قتل للأحنف بن قيس ولد وكان الذى قتله أخ للأحنف، فجىء به مكتوفا ليقيده؛ فلما رآه الأحنف بكى، وأنشد:
أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدىّ أصابتنى ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخى حين أدعوه وذا ولدى
وممن اشتهر بالحلم «معاوية بن أبى سفيان» . حكى أن رجلا خاطر [3] رجلا أن يقوم إلى معاوية إذا سجد فيضع يده على كفله ويقول: سبحان الله يا أمير المؤمنين!
__________
[1] رواه فى العقد الفريد (ج 1 ص 17) :
إنى امرؤ لا يطّبى حسبى ... دنس يهجّنه ولا أفن
وفى عيون الأخبار لابن قتيبة (مجلّد 1 ص 286 طبع دار الكتب المصرية) :
إنى امرؤ لا شائن حسى ... دنس يغيّره ولا أفن
[1] الأفن: النقص.
[2] فى العقد الفريد، وعيون الأخبار «أعفّة» .
[3] يقال:
خاطره على الأمر: راهته عليه.(6/51)
ما أشبه عجيزتك بعجيزة أمّك هند! ففعل ذلك؛ فلما انفتل معاوية عن [1] صلاته قال له: يا أخى، إن أبا سفيان كان محتاجا إلى ذلك منها؛ فخذ ما جعلوه لك. فأخذه؛ ثم خاطره آخر بعد ذلك أن يقوم إلى زياد وهو فى الخطبة فيقول: أيها الأمير، من أمّك، ففعل؛ فقال زياد: هذا يخبرك، وأشار إلى صاحب الشّرطة، فقدّمه وضرب عنقه؛ فلما بلغ ذلك معاوية قال: ما قتله غيرى، ولو أدّبته على الأولى ما عاد إلى الثانية.
قيل: ودخل خريم الناعم على معاوية بن أبى سفيان فنظر معاوية إلى ساقيه، فقال: أىّ ساقين! لو أنهما على جارية! فقال له خريم: فى مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين؛ فقال: واحدة بواحدة والبادئ أظلم.
وقيل: خاطر رجل على أن يقوم إلى عمرو بن العاص وهو فى الخطبة فيقول له: أيها الأمير، من أمّك؛ ففعل؛ فقال عمرو: النابغة بنت عبد الله أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ؛ فاشتراها عبد الله بن جدعان فوهبها للعاصى بن وائل فولدت له فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئا فخذه.
وقيل: أسمع رجل عمر بن عبد العزيز بعض ما يكره؛ فقال: لا عليك، إنما أردت أن يستفزّنى الشيطان بعزّ السلطان فأنال منك اليوم ما تناله منّى غدا، انصرف إذا شئت.
حكى صاحب العقد عن ابن عائشة أن رجلا من أهل الشأم دخل المدينة، قال: فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا سمتا ولا ثوبا ولا دابّة منه، قال: فمال قلبى إليه، فسألت عنه، فقيل: هذا الحسن بن علىّ بن أبى طالب، فامتلأ قلبى بغضا له وحسدت عليّا أن يكون له ولد مثله، فصرت إليه فقلت: أنت
__________
[1] فى الأصل: «من» وهذا يخالف الاستعمال اللغوى، فإنه يقال: انفتل عن كذا إذا انصرف عنه.(6/52)
ابن أبى طالب؟ قال: أنا ابن ابنه؛ قلت: قلت فيك وفى أبيك أشتمهما، فلما انقضى كلامى، قال: أحسبك غريبا؛ فقلت: أجل؛ قال: فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آسيناك أو إلى حاجة عاونّاك؛ فانصرفت وما على الأرض أحبّ إلىّ منه.
حدّث زياد عن مالك بن أنس قال: بعث إلىّ أبو جعفر المنصور وإلى ابن طاوس؛ فأتينا فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة [1] بأيديهم السيوف يضربون بها الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا، ثم أطرق عنا طويلا، ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس فقال:
حدّثنى عن أبيك؛ قال: نعم،
سمعت أبى يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله فى حكمه فأدخل عليه الجور فى عدله»
؛ فأمسك ساعة؛ قال مالك: فضممت ثيابى من ثيابه مخافة أن يملأنى من دمه؛ ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظنى يابن طاوس؛ قال: نعم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ
؛ قال مالك:
فضممت ثيابى من ثيابه مخافة أن يملأنى دمه؛ فأمسك ساعة حتى اسودّ ما بيننا وبيته، ثم قال: يابن طاوس ناولنى هذه الدواة؛ فأمسك؛ فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها؛ فلما سمع ذلك قال: قوما عنّى؛ فقال ابن طاوس: ذلك ما كنّا نبغى منذ اليوم. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله.
__________
[1] الجلاوزة جمع جلواز بكسر الجم: الشّرطى.(6/53)
وقيل: دخل الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة؛ فقال: أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك الرشيد؛ وذكر قوله فلم يعجب المأمون، فقال:
لقد تتيّست فيها وتتيّس مالك؛ فقال الحارث بن مسكين: فالسامع يا أمير المؤمنين من التيسين أتيس؛ فتغيّر وجه المأمون، وقام الحارث وندم على ما كان منه؛ فلم يستقرّ فى منزله حتى أتاه رسول المأمون، فأيقن بالشرّ ولبس ثياب أكفانه، ثم أقبل حتى دخل عليه، فقرّ به المأمون من نفسه، ثم أقبل عليه بوجهه وقال له: يا هذا، إنّ الله تبارك وتعالى قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شرّ منّى، قال لنبيّه موسى صلى الله عليه وسلم إذا أرسله إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى
فقال الحارث بن مسكين: يا أمير المؤمنين، أبوء بالذنب وأستغفر الربّ؛ فقال: عفا الله عنك، انصرف إذا شئت.
وقد مدح الشعراء ذوى الحلم، فمن ذلك قول بعضهم:
لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا ... حتّى يذلّوا- وإن عزّوا- لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة [1] ... لا ذلّ عجز ولكن ذلّ أحلام
وقال آخر:
لقد أسمع القول الذى هو كلّما ... تذكّرنيه النفس قلبى يصدّع
فأبدى لمن أبداه منّى بشاشة ... كأنّى مسرور بما منه أسمع
وما ذاك من عجز به غير أنّنى ... أرى أنّ ترك الشرّ للشرّ أدفع
وقال مهيار:
وإذا الإباء المرّ قال لك: انتقم ... قال خلائقك الكرام: بل احلم
__________
[1] مسفرة: مشرقة سرورا.(6/54)
شرع من العفو [1] انفردت بدينه ... وفضيلة لسواك لم تتقدّم
حتّى لقد ودّ البرىء لو انّه ... أدلى إليك بفضل جاه المجرم
وقال آخر:
فدهره يصفح عن قدرة ... ويغفر الذنب على علمه
كأنّه يأنف من أن يرى ... ذنب امرئ أعظم من حلمه
وقال آخر:
أسد على أعدائه ... ما إن يذلّ ولا يهون
فإذا تمكّن منهم ... فهناك أحلم ما يكون
وقال محمود الورّاق:
إنّى وهبت لظالمى ظلمى ... وغفرت زلّته على علمى
ورأيته أسدى إلىّ يدا ... لمّا أبان بجهله حلمى
فكأنّما الإحسان كان له ... وأنا المسىء إليه فى الحكم
ما زال يظلمنى وأرحمه ... حتّى بكيت له من الظلم
وقال آخر:
وذى رحم قلّمت أظفار ضغنه ... بحلمى عنه حين [2] ليس له حلم
إذا سمته وصل القرابة سامنى ... قطيعتها، تلك السفاهة والإثم
فداويته بالحلم، والمرء قادر ... على سهمه ما كان فى كفّه السهم
لأستلّ منه الضّغن حتّى سللته ... وإن كان ذا ضغن يضيق به الحزم
__________
[1] كذا فى ديوان مهيار. وفى الأصل: «المجد» .
[2] كذا فى الأصل، ورواية الأمالى (ج 2 ص 103 طبع بولاق) : «وهو ليس......» والأبيات من قصيدة طويلة لمعن بن أوس.(6/55)
وقد كره بعضهم الحلم فى كل الأمور، فمن ذلك ما أنشد المبرّد:
أبا حسن ما أقبح الجهل بالفتى ... وللحلم أحيانا من الجهل أقبح
إذا كان حلم المرء عون عدوّه ... عليه فإنّ الجهل أعفى وأروح
وقال آخر:
ترفّعت عن شتم العشيرة إنّنى ... رأيت أبى قد عفّ عن شتمهم قبلى
حليم إذا ما الحلم كان جلالة [1] ... وأجهل أحيانا إذا التمسوا جهلى
وقال آخر:
إذا الحلم لم ينفعك فالجهل أحزم
وقال الأحنف: آفة الحلم الذّلّ. وقال: لا حلم لمن لا سفيه له. وقال: ما قلّ سفهاء قوم إلا ذلّوا. وقال النابغة الجعدىّ:
ولا خير فى حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا
ولا خير فى جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد [2] الأمر أصدرا
ولما أنشد هذين البيتين النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «أجدت لا يفضض [3] الله فاك»
؛ قال: فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنفضّ له ثنيّة.
وقال كعب بن زهير:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل
__________
[1] كذا فى ديوان المعانى لأبى هلال العسكرىّ؛ وفى الأصل: «إذا ما الجهل كان حلالة» ، ورواية الأغانى (ج 13 ص 56 طبع بولاق) : «حليما إذا ما الحلم كان مروءة» .
[2] كذا فى جمهرة أشعار العرب (طبع مطبعة بولاق الأميرية) وفى الأغانى أيضا (ج 4 ص 131) .
وفى الأصل: «حليم اذا هاجه الأمر أصدرا» .
[3] كذا فى الأغانى (ج 4 ص 131 طبع بولاق) وفى الأصل: «لا تفضض» ونصه فى العقد الفريد (ج 1 ص 218) ، كما فى الأغانى ولم يذكر لفظ: «أجدت» .(6/56)
ذكر ما قيل فى العفو
قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
. وقال تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
. وقال تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
. وقال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى
. وقال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
. وقال تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ العفو لا يزيد العبد إلا عزّا فاعفوا يعزّكم الله»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلق فى صعيد واحد حيث يسمعهم الداعى وينفذهم البصر [1] ينادى مناد من تحت العرش ألا من كان له على الله حقّ فليقم فلا يقوم إلا من عفا عن مجرم» . وفى لفظ «ينادى مناد يوم القيامة ألا من كان له أجر على الله فليقم، فيقوم العافون عن الناس»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من إمام عفا بعد قدرة إلا قيل له يوم القيامة ادخل الجنّة بغير حساب»
. وقال معاذ بن جبل: لما بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال لى: «يا معاذ ما زال جبريل يوصينى بالعفو فلولا علمى بالله لظننت أنه يوصينى بترك الحدود»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عفا عن مظلمة صغيرة أو كبيرة فأجره على الله ومن كان أجره على الله فهو من المقرّبين يوم القيامة» .
وعن علىّ بن الحسين أنه قال: إذا [2] كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم أهل الفضل فيقوم ناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقّاهم الملائكة وهم سائرون فيقولون لهم:
__________
[1] فى الأصل: «وينفدهم الصبر» والتصويب عن الإحياء (ج 3 ص 126 طبع المطبعة الميمنية) .
[2] فى الإحياء أن هذا حديث رواه البيهقىّ فى الشعب من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.
قال البيهقىّ: فى إسناده ضعف. انظر (ج 8 ص 32) من شرح الإحياء (طبع المطبعة الميمنية) .(6/57)
أين تريدون؟ فيقولون: الجنة؛ فيقولون لهم: قبل الحساب؟ فيقولون: نعم؛ فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الفضل؛ فيقولون: وما فضلكم؟
فيقولون: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسىء إلينا عفونا؛ فيقولون: يحقّ لكم أن تكونوا من أهل الجنّة فنعم أجر العاملين.
وقيل لأبى الدّرداء: من أعزّ الناس؟ فقال: الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزّكم الله تعالى.
قيل: حدّ العفو ترك المكافأة عند القدرة قولا وفعلا. وقيل: هو السكون عند الأحوال المهيّجة للانتقام.
قال الأحنف: إياك وحميّة الأوغاد؛ قيل: وما هى؟ قال: يرون العفو مغرما والتحمّل مغنما.
وقيل لبعضهم: هل لك فى الإنصاف، أو ما هو خير من الإنصاف؟ فقال:
وما هو خير من الإنصاف؟ فقال: العفو.
وقيل: العفو زكاة النفس. وقيل: لذّة العفو أطيب من لذّة التّشفّى؛ لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفّى يلحقها ذمّ الندم.
وقيل للإسكندر: أىّ شىء أنت أسرّ به مما ملكت؟ فقال: مكافأة من أحسن إلىّ بأكثر من إحسانه، وعفوى عمّن أساء بعد قدرتى عليه.
قال أشجع:
يعفو عن الذنب العظ ... يم وليس يعجزه انتصاره
صفحا عن الجانى علي ... هـ وليس حاط به اقتداره(6/58)
وقال المتنبّى:
فتى لا تسلب القتلى يداه ... ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا
وقال قابوس وشمكير [1] : العفو عن المذنب من واجبات الكرم.
وقالوا: العفو يزين حالات من قدر، كما يزين الحلى قبيحات الصّور.
وقال المنصور لولده المهدىّ: لذّة العفو أطيب من لذّة التشفّى، وقد تقدّم ذكر الدليل. وقال الشاعر:
لذّة العفو إن نظرت بعين ال ... عدل أشفى من لذّة الإنتقام
هذه تكسب المحامد والأج ... ر وهذى تجىء بالآثام
قال عمر بن حبيب العدوىّ [2] : كنت فى وفد أهل البصرة لما قدموا على المنصور يسألونه أن يولّى عليهم قاضيا، فبينا نحن عنده إذ جىء برجل مصفّد بالحديد، يده مغلولة فى عنقه، فوقف بين يديه فساءله طويلا، ثم بسط له نطع وأمر بضرب عنقه، والرجل يحلف وهو يكذّبه، ولم يتكلّم أحد من الجمع، فقمت وكنت أحدثهم سنّا فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أتأذن لى فى الكلام؟ فقال: قل؛ قلت:
يروى عن ابن عمّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اعتذر إليه أخوه المسلم فلم يقبل لم يرد على الحوض»
، وقد اعتذر إليك فاقبل منه عذره؛ فقال: يا غلام اضرب عنقه؛ قلت:
إن أباك حدّثنى عن جدّك عن ابن عبّاس أنه قال: قال رسول الله صلى الله
__________
[1] فى ابن خلكان (ج 1 ص 606 ما نصه: «الأمير قابوس: الأمير شمس المعالى أبو الحسن قابوس بن أبى طاهر وشمكير بن زيار بن وردان شاه الجيلىّ أمير جرجان وبلاد الجيل وطبرستان.
وهذا موافق تماما لما جاء فى «قاموس الأعلام التركى» لصاحبه «شمس الدين سامى بك» فقد قال تحت عنوان «قابوس: إنه هو الأمير شمس المعالى أبو الحسن بن أبى طاهر وشمكير الجيلى» . وفى الأصل:
«وشمكرى» . وفى اليتيمة للثعالبى (ج 3 ص 288) : «قابوس بن وشمكير......» .
[2] فى الأصل:
العدى، بدون واو. والتصويب عن الطبرىّ.(6/59)
عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش ليقم كل من كان له عند الله يد فلا يقوم إلا من عفا عن أخيه المسلم»
، فقال: آلله [1] أبى حدّثك؟ فقلت:
آلله إن أباك حدّثنى عن جدّك عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم؛ فقال أبو جعفر: صدق، حدّثنى أبى عن جدّى عن ابن عباس بهذا؛ [فقال [2]] : يا غلام خلّ له السبيل، وأمر له بجائزة وولّانى قضاء البصرة.
وقيل: أتى المأمون برجل يريد أن يقتله وعلىّ بن موسى الرّضا جالس، فقال ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أقول: إن الله تعالى لا يزيدك بحسن العفو إلا عزّا؛ فعفا عنه. وكان المأمون مؤثرا للعفو كأنّه غريزة له؛ وهو الذى يقول: لقد حبّب إلىّ العفو حتى إنى أظنّ أنى لا أثاب عليه. وأحضر إلى المأمون رجل قد أذنب، فقال له المأمون: أنت الذى فعلت كذا وكذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا الذى أسرف على نفسه واتكل على عفوك؛ فعفا عنه.
قال: ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدىّ أمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال: ولىّ الثّأر محكّم فى القصاص، والعفو أقرب للتقوى، والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مدّ له الاعتذار فى الأمل هجمت به الأناة على التلف، وقد جعل الله كلّ ذنب دون عفوك، فإن صفحت فبكرمك، وإن أخذت فبحقّك؛ قال المأمون:
إنى شاورت أبا إسحاق والعبّاس فى قتلك فأشارا علىّ به؛ قال: أمّا أن يكونا قد نصحاك فى عظم قدر الملك ولما جرت عليه السياسة فقد فعلا، ولكن أبيت أن تستجلب [3] النصر إلا من حيث عوّدك الله، ثم استعبر باكيا؛ فقال له المأمون:
__________
[1] فى حاشية الأمير على المغنى: (ج 1 ص 18 طبع مصر) : أن من معانى الهمزة القسم مثل «آلله لأفعلنّ» نظرا الى أنها الهاء المبدلة من التاء.
[2] زيادة يقتضيها السياق.
[3] كذا فى عيون الأخبار ص 100 طبع دار الكتب المصرية. وفى الأصل: «أبيت أن لا تستجلب من حيث الخ» .(6/60)
ما يبكيك؟ قال: جذلا إذ كان ذنبى إلى من هذه صفته، ثم قال: إنه وإن كان جرمى بلغ سفك دمى فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلّغانى عفوه، ولى بعد هذا شفعة الإقرار بالذنب وحرمة الأب بعد الأب؛ قال المأمون: لو لم يكن فى حق نسبك ما يبلّغ الصفح عن جرمك لبلّغك إليه حسن تنصّلك. فكان تصويب إبراهيم لرأى أبى إسحاق والعباس ألطف فى طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما. ثم قال المأمون لإسحاق بن العبّاس: لا تحسبنّى أغفلت إجلابك مع ابن المهدىّ وتأييدك لرأيه وإيقادك لناره؛ فقال: والله لإجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمى إليك، ولرحمى أمسّ من أرحامهم، وقد قال [لهم [1]] رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال يوسف لإخوته (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
، وأنت يا أمير المؤمنين أحقّ وارث لهذه المنّة ومتمثّل بها؛ قال: هيهات! تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك جرم فى إسلامك فى دار خلافتك؛ قال يا أمير المؤمنين، فو الله للمسلم أحقّ بإقالة العثرة وغفران الذنب من الكافر، هذا كتاب الله بينى وبينك، يقول الله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
الآية [إلى [2]] وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
، فهى للناس يا أمير المؤمنين سنّة دخل فيها المسلم والكافر والشريف والمشروف؛ قال: صدقت، اجلس وريت بك زنادى، وعفا عنه.
وقال أحمد بن أبى دواد: ما رأيت رجلا نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يجب أن يفعله إلا تميم ابن جميل، فإنه كان تغلّب على شاطئ الفرات فظفر به، ووافى به الرسول باب المعتصم فى يوم الموكب فى حين جلوسه للعامّة
__________
[1] زيادة يقتضيها حسن السياق ولعلها سقطت سهوا من الناسخ.
[2]- هذه الزيادة موجودة فى العقد الفريد.(6/61)
فأدخل عليه، فما مثل بين يديه دعا بالنّطع والسيف فأحضرا، وجعل تميم بن جميل يصعّد النظر إلى ذلك ولا يقول شيئا، وجعل المعتصم يصعّد النظر فيه ويصوّبه، وكان جسيما وسيما، فرأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره، فقال:
يا تميم، إن كان لك عذر فأت به أو حجّة فأدل بها؛ فقال: أمّا إذ قد أذنت لى يا أمير المؤمنين بالكلام فإنى أقول: الحمد لله الذى أحسن كلّ شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، [ثم جعل [1] نسله من سلالة من ماء مهين] ، يا أمير المؤمنين جبر الله بك صدع الدّين، ولأم بك شعث الأمّة، وأخمد بك شهاب الباطل، وأوضح بك سراج الحقّ؛ يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب وساء الظنّ، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك وأشبههما بخلافتك، ثم أنشد:
أرى الموت بين السيف والنّطع كامنا ... يلاحظنى من حيثما أتلفّت [2]
وأكبر ظنّى أنك اليوم قاتلى ... وأىّ امرئ مما قضى الله يفلت!
ومن ذا الذى يدلى بعذر وحجّة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعزّ على أبناء تغلب موقف ... يسلّ علىّ السيف فيه وأسكت
وما جزعى من أن أموت وإننى ... لأعلم أنّ الموت شىء مؤقّت
ولكنّ خلفى صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتّت
كأنى أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوّتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذود الردى عنهم وإن متّ موّتوا
وكم قائل: لا يبعد الله داره ... وآخر جذلان يسرّ ويشمت
__________
[1]- هذه الزيادة موجودة فى العقد الفريد.
[2] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 238. وفى الأصل: من حيث لا ... ) .(6/62)
قال: فتبسّم المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل! اذهب فقد غفرت لك الهفوة وتركتك للصّبية.
وحكى: أن عبد الملك بن مروان غضب على رجل فهرب منه، فلما ظفر به أمر بقتله؛ فقال له الرجل: إن الله قد فعل ما أحببت من الظفر فافعل ما يحبّه من العفو، فإن الانتقام عدل والتجاوز فضل، والله يحبّ المحسنين؛ فعفا عنه.
وحكى عن محمد بن حميد الطّوسىّ أنه كان يوما على غدائه مع جلسائه إذا بصيحة عظيمة على باب داره، فرفع رأسه وقال لبعض غلمانه: ما هذه الضجّة؟
من كان على الباب فليدخل؛ فخرج الغلام ثم عاد إليه وقال: إن فلانا أخذ وقد أوثق بالحديد والغلمان ينتظرون أمرك فيه؛ فرفع يده من الطعام؛ فقال رجل من جلسائه:
الحمد لله الذى أمكنك من عدوّك، فسبيله أن تسقى الأرض من دمه؛ وأشار كلّ من جلسائه عليه بقتله على صفة اختارها، وهو ساكت؛ ثم قال: يا غلام، فكّ عنه وثاقه ويدخل إلينا مكرّما، فأدخل عليه رجل لادم فيه؛ فلما رآه هشّ إليه ورفع مجلسه وأمر بتجديد الطعام، وبسطه بالكلام ولقّمه حتى انتهى الطعام، ثم أمر له بكسوة حسنة وصلة، وأمر بردّه إلى أهله مكرّما ولم يعاتبه على جرم ولا جناية، ثم التفت إلى جلسائه وقال لهم: إنّ أفضل الأصحاب من حضّ الصاحب على المكارم، ونهاه عن ارتكاب المآثم؛ وحسّن لصاحبه أن يجازى الإحسان بضعفه، والإساءة بصفحه؛ إنا إذا جازينا من أساء الينا بمثل ما أساء فأين موقع الشكر على النعمة فيما أتيح من الظفر! إنه ينبغى لمن حضر مجالس الملوك أن يمسك إلا عن قول سديد وأمر رشيد، فإنّ ذاك أدوم للنعمة وأجمع للألفة؛ إن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
الآية.(6/63)
وقيل: بعث بعض الملوك فى رجل وجد عليه فظفر به، فلما مثل بين يديه قال: أيها الأمير، إنّ الغضب شيطان فاستعذ بالله منه، وإنما خلق العفو للمذنب والتجاوز للمسيىء، فلا يضيق علىّ ما يسع الرعيّة من حلمك وعفوك؛ فعفا عنه وأطلق سبيله.
وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه: يا أمير المؤمنين، إنّ القدرة تذهب الحفيظة، وأنت تجلّ عن العقوبة، ونحن مقرّون بالذنب، فإن تعف عنّى فأهل ذلك أنت، وإن تعاقبنى فأهل ذلك أنا؛ فعفا عنه.
وقيل: أتى الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم فقتلوا، حتى قدّم شابّ منهم فقال: والله يا حجّاج إن كنا أسأنا فى الذنب فما أحسنت فى العفو؛ فقال الحجاج: أفّا لهذه الجيف! أما كان فيهم من يقول مثل هذا! وأمسك عن القتل.
وأتى الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجّاج عن السّنّة خيرا، فإنّ الله تعالى يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً
، فهذا قول الله تعالى فى كتابه، وقال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
وما نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد
فقال الحجّاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبرونى ما أخبرنى به هذا المنافق! وأمسك عمن بقى.(6/64)
ذكر ما قيل فى العقوبة والانتقام
ومن الناس من يرجّح عقوبة المذنب على ذنبه، ومقابلة المسىء بما يستحقّه من نكاله وضربه؛ ورأى أن العفو عن المجرم موجب لتكراره، والإحسان إلى المسىء مقتض لإصراره؛ وقال: إنّ طباع اللؤم التى حملته على ذلك لا ترتدع بالإحسان، ومرارة الذنب التى استحلاها لا تغيّرها حلاوة الغفران. وأخذ فى ذلك بالكتاب والحديث، وقابل على الذنب القديم بالعذاب الحديث؛ قال الله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ
. وقال تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ
. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أبى عزّة، لما كان يتعرّض له من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلب عقبة بن أبى معيط يوم بدر إلى شجرة؛ فقال: يا رسول الله، أنا من بين قريش! قال: «نعم» ؛ قال: فمن للصبية؟ قال: «النار» . وقيل: إنه أوّل مصلوب صلب فى الإسلام. وكان النّضر بن الحارث بن كلدة شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ أسيرا يوم بدر، فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بقتله، فقتل صبرا بيد علىّ بن أبى طالب.
وقال علىّ رضى الله عنه: الخير بالخير والبادئ أفضل، والشرّ بالشرّ والبادئ أظلم.
وقال: «ردّ [1] الحجر من حيث جاءك» فالشرّ لا يدفع إلا بالشرّ؛ وأنشد:
لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنّنى ... إلى الجهل فى بعض الأحايين أحوج
ولى فرس للخير بالخير ملجم ... ولى فرس للشرّ بالشرّ مسرج
فمن رام تقويمى فإنّى مقوّم ... ومن رام تعويجى فإنّى معوّج
وقال الجاحظ: من قابل الإساءة بالإحسان فقد خالف الله فى تدبيره، وظنّ أن رحمة الله دون رحمته، فإنّ الله تعالى يقول: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
وقال:
__________
[1] ورد هذا المثل فى مجمع الأمثال للميدانى ومعناه: لا تقبل الضيم وارم من رماك.(6/65)
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها
، وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
. وقال أكثم بن صيفىّ: من تعمّد الذنب فلا ترحمه دون العقوبة، فإنّ الأدب رفق، والرفق يمن. قال أبو الطيّب المتنبّى:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتّسعت فى الحلم طرق المظالم
وقالوا: تواضع للمحسن إليك وإن كان عبدا حبشيّا، وانتصف ممن أساء إليك وإن كان حرّا قرشيّا.
وقال الشعبىّ: يعجبنى الرجل إذا سيم هوانا دعته الأنفة [1] إلى المكافأة، وجزاء سيّئة سيّئة مثلها. ورفع كلامه إلى الحجّاج بن يوسف الثقفىّ فقال: لله درّه! أىّ رجل بين جنبيه! وتمثّل بقول الشاعر:
ولا خير فى عرض امرئ لا يصونه ... ولا خير فى حلم امرئ ذلّ جانبه
وقال رجل لابن سيرين: إنّى وقعت فيك فاجعلنى فى حلّ؛ قال: ما أحبّ أن أحلّ لك ما حرّم الله عليك. وقالوا: من ترك العقوبة أغرى بالذنب، ولولا السيف كثر الحيف. قال الشاعر:
إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وإن كانت قريبا أواصره
وإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فدعه إلى اليوم الذى أنت قادره
وقارب إذا ما لم تكن لك [2] حيلة ... وصمّم إذا أيقنت أنّك عاقره
وقيل: استؤمر عبد الله بن طاهر بن الحسين فى رجلين كانا فى السجن، أحدهما ضعيف والآخر عليل، فوقّع: الضعيف يقوى والعليل يبرأ، فإن يكن
__________
[1] فى الأصل: «اذا سيم هو انا ودعته إلى الأنفة ... » ولعله تحريف من الناسخ.
[2] فى الاصل: «وقارب اذا لم تكن له حيلة» وهو تحريف.(6/66)
فى الحبس ممن يؤمن شرّه غيرهما فليفرج عنه ودعهما فى موضعهما، فإنه من أطلق مثلهما على الناس فهو شرّ منهما وشريكهما فى فعلهما.
وكتب رجل إلى المأمون- وكان قد طال حبسه-: أغفلت يا أمير المؤمنين أمرى، وتناسيت ذكرى، ولم تتأمّل حجّتى وعذرى، وقد ملّ من صبرى الصبر، ومسّنى فى حبسك الضّرّ. فأجابه المأمون: ركوبك مطية الجهل، صيّرك أهلا للقتل، وبغيك علىّ وعلى نفسك نقلك من سعة الدنيا إلى قبر من قبور الأحياء، ومن جهل الشكر على المنن قلّ صبره على المحن، فاصبر على عواقب هفواتك وموبقات زلّاتك، على قدر صبرك على كثير جناياتك؛ فإن حصل فى نفسك كفّ عن معصيتى، وعزم على طاعتى، وندم على مخالفتى، فلن تعدم مع ذلك جميلا من بيتى [1] والسلام.
وقيل لأعرابىّ: أيسرّك أن تدخل الجنّة ولا تسيىء إلى من أساء إليك؟ قال:
بل يسرّنى أن أدرك الثار وأدخل النار. قال البحترىّ:
تذمّ الفتاة الرّؤد شيمة بعلها ... إذا بات دون الثأر وهو ضجيعها
ويقال: إنما هو مالك وسيفك، فازرع بملك من شكرك، واحصد بسيفك من كفرك. قال الشاعر:
قطّ العدا قطّ اليراعة وانتهز ... بظبا السيوف سوائم الأضغان
إنّ البيادق إن توسّع خطوها ... أخذت إليك مآخذ الفرزان
وقالوا: العفو يفسد من اللئيم، بقدر ما يصلح من الكريم. وقال معاوية ابن يزيد بن معاوية لأبيه: هل ذممت عاقبة حلم قطّ؟ قال: ما حلمت عن لئيم وإن كان وليّا إلا أعقبنى ندما على ما فعلت. قال بعض الشعراء:
متى تضع الكرامة من لئيم ... فإنّك قد أسأت إلى الكرامه
__________
[1] كذا فى الأصل ولعله: «برّى» .(6/67)
وقالوا: جنّب كرامتك اللئام، فإنك إن أحسنت إليهم لم يشكروا، وإن أساءوا لم يشعروا.
ومن رسالة لأبى إسحاق الصابى فى حقّ من نزع يده من الطاعة [1] :
وكان الذى أثمره الجهاد، ودلّ عليه الارتياد؛ اليأس من صلاح هذه الطوائف الناشئة على اعتياد المعاصى والاستئناس بالدواهى، والثقة بأنّ أودها لا يتقوّم، وزيغها لا يتسدّد، وخلائقها لا تنصرف عمّا ضربت العادة عليه بسياجها، واستمرّت به على اعوجاجها، إذ كانت العادة طبيعة ثانية، وسجيّة لازمة؛ كذلك زعمت الحكماء، وبرهنت عليه العلماء. قال بعض الشعراء:
ما كلّ يوم ينال المرء ما طلبا ... ولا يسوّغه المقدار ما وهبا [2]
وأنصف الناس فى كلّ المواطن من ... سقى الأعادى بالكأس التى شربا
وليس يظلمهم من بات يضربهم ... [بحدّ [3]] سيف به من قبلهم ضربا
فالعفو إلّا عن الأعداء مكرمة ... من قال غير الذى قد قلته كذبا
قتلت عمرا وتستبقى يزيد لقد ... رأيت رأيا يجرّ الويل والحربا
لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها ... إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا
هم جرّدوا السيف فاجعلهم به جزرا [4] ... هم أوقدوا النار فاجعلهم لها حطبا
__________
[1] فى الأصل: «من نزع يده من الطاعة منها» وظاهر أن كلمة «منها» مقحمة لغير حاجة.
[2] كذا فى تاريخ أبى الفدا طبع دار الطباعة العامرة الشاهانية بالقسطنطينية وفى الأصل «ما طلبا» وقائل هذه القصيدة أبو أذينة يحرّض ابن عمه الأسود بن المنذر على قتل جماعة من ملوك الشام كان قد أسرهم وأراد أن يعفو عنهم.
[3] زيادة عن تاريخ أبى الفدا.
[4] الجزر بالتحريك: ما يذبح من الشاء واحدتها جزرة بالتحريك أيضا. وفى أبى الفدا: «فاجعلهم له جزرا» .(6/68)
ومنها:
لا عفو عن مثلهم فى مثل ما طلبوا ... لكنّ ذلك كان الهلك والعطبا
علام تقبل منهم فدية وهم ... لا فضّة قبلوا منّا ولا ذهبا
الباب السابع من الفن الثانى
فى المشورة وإعمال الرأى والاستبداد ومن يعتمد على رأيه وذكر من كره أن يستشير
ذكر ما قيل فى المشورة وإعمال الرأى
قد امر الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بمشاورة من هو دونه من أصحابه فقال تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
؛ ذهب المفسّرون إلى أن الله تعالى لم يأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لحاجة منه إلى رأيهم ولكن ليعلم ما فى المشاورة من البركة. وقيل: أمره بذلك تألّفا لهم وتطييبا لنفوسهم.
وقيل: ليستنّ بذلك المسلمون.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ندم من استشار ولا خاب من استخار»
. وقيل: الخطأ مع الاستشارة أحمد من الإصابة مع الاستبداد. وقيل: من استشار فيما نزل به صديقه واستخار ربّه واجتهد رأيه، فقد قضى ما عليه، وأمن من رجوع الملامة إليه؛ ويفعل الله فى أمره ما يشاء. وقيل: ما هلك امرؤ عن مشورة.
وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد. وقيل: الأحمق من قطعه العجب عن الاستشارة، والاستبداد عن(6/69)
الاستخارة. وقيل: لما همّت ثقيف بالارتداد بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، استشاروا عثمان بن [أبى [1]] العاصى وكان مطاعا فيهم؛ فقال: لا تكونوا آخر العرب إسلاما وأوّلهم ارتدادا؛ فنفعهم الله تعالى برأيه.
وقال العتبىّ لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم [2] ! فقال: نحن ألف رجل وفينا حازم واحد، فنحن نشاوره فكأنّا ألف حازم. وسئل بعض الحكماء: أىّ الأمور أشد تأييدا للعقل، وأيها أشدّ إضرارا به؟ فقال: أشدّها تأييدا له ثلاثة أشياء:
مشاورة العلماء، وتجربة الأمور، وحسن التثبّت. وأشدّها إضرارا به ثلاثة أشياء:
الاستبداد، والتهاون، والعجلة.
وقال بعض الحكماء: إذا استبدّ الرجل برأيه عميت عليه المراشد.
وقال الفضل بن سهل: الرأى يسدّ ثلم السيف، والسيف لا يسدّ ثلم الرأى.
وقالوا: من استغنى برأيه فقد خاطر بنفسه. وقال بعض البلغاء: إذا أشكلت عليك [الأمور [3]] ، وتغيّر لك الجمهور؛ فارجع إلى رأى العقلاء، وافزع إلى استشارة العلماء؛ ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد [4] ؛ فلأن تسأل وتسلم خير من أن تستبدّ وتندم.
وقال حكيم لابنه: يا بنىّ، إنّ رأيك إذا احتجت إليه وجدته نائما ووجدت هواك يقظان، فإيّاك أن تستبدّ برأيك، فإنّه حينئذ هواك. ويقال: تعوّذ من سكرات الاستبداد بصحوات الاستشارة، ومن عثرات البغى باستقالة الاستخارة.
__________
[1] الزيادة عن الكامل لابن الأثير، والطبرى، ومعجم ياقوت.
[2] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 25) وأدب الدنيا والدين (ص 304) وفى الأصل «صوابك» .
[3] زيادة عن «أدب الدنيا والدين» ص 306.
[4] فى الأصل «ولا تستنكف من الاستبداد ... الخ» والتصويب عن أدب الدنيا والدين ص 306.(6/70)
وقال ابن المقفّع: لا يقذفنّ فى روعك [1] أنّك إذا استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة [إلى رأى غيرك [2]] فتنقطع بذلك عن المشورة، فإنك لا تريد الفخر ولكن الانتفاع.
قال بشّار:
إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن ... برأى نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشّورى عليك غضاضة ... فإن الخوافى [3] رافدات القوادم
قال الأصمعىّ: قلت لبشار: إن الناس يعجبون من أبياتك فى المشورة؛ فقال:
يا أبا سعيد، إن المشاور بين صواب يفوز بثمرته، وخطإ يشارك فى مكروهه؛ فقلت:
أنت والله فى قولك أشعر منك فى شعرك. وهذان البيتان من قصيدة كان بشّار بن برد قد كتب بها إلى إبراهيم بن عبد الله بن الحسن يمدحه بها ويحرّضه على أبى جعفر المنصور، فمات إبراهيم قبل وصول القصيدة إليه، فخاف بشار من اشتهارها فقلبها [4] وجعل التحريض على أبى مسلم [5] الخراسانىّ فقال:
أبا مسلم ما طيب عيش بدائم ... ولا سالم عما قليل بسالم
وإنما كان قال:
أبا جعفر ما طيب عيش بدائم
قال فيها بعد هذين البيتين المقدّمين:
وخلّ الهوينى للضعيف ولا تكن ... نؤوما فإنّ الحزم ليس بنائم
__________
[1] كذا فى عيون الأخبار (مجلد 1 ص 31 طبع دار الكتب المصرية) وفى الأصل: «لا تنفذن فى روعاتك ... » .
[2] زيادة عن عيون الأخبار.
[3] الخوافى: ريشات فى جناح الطائر اذا ضم جناحيه خفيت. والقوادم: ريشات فى مقدم جناح الطائر. يريد: أن الضعيف قد يمد القوى بالمعونة.
[4] فى الأغانى: «فقلب الكنية» .
[5] فى الأصل: «وجعل التحريض فيها على أبى موسى ... » والتصويب عن الأغانى ج 3 ص 56 طبع بولاق.(6/71)
وما خير كفّ امسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم
وحارب إذا لم تعط إلّا ظلامة ... شبا الحرب خير من قبول المظالم
وأدن على [1] القربى المقرّب نفسه ... ولا تشهد الشّورى امرأ غير كاتم
فإنّك لا تستطرد الهمّ بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم
إذا كنت فردا هرّك [2] القوم مقبلا ... وإن كنت أدنى لم تفز بالعزائم
وما قرع [3] الأقوام مثل مشيّع [4] ... أريب ولا جلّى العمى مثل عالم
وقال الهيثم: ما رأيت ابن شبرمة قطّ إلا وهو متهيئ كأنه يريد الركوب، فذكر ذلك له وأنا حاضر؛ فقال: إنّ الرجل لا يستجمع له رأيه حتى يجمع عليه ثيابه، ثم قال: أتى رجل من الحىّ فقال لدهقان: يا هذا، إنه ربما انتشر علىّ أمرى فى الرأى فهل عندك مشورة؟ فقال: تهيّأ والبس ثيابك ثم اهمم بما تريد، فهو أجمع لرأيك، فليس من أحد يفعل ذلك إلا اجتمع له رأيه.
وقال أفلاطون: إذا استشارك عدوّك فجرّد له النصيحة، لأنه بالاستشارة قد خرج من عداوتك إلى موالاتك. وقيل: إذا أردت أن تعرف الرجل فشاوره، فإنك تقف من مشورته على جوره وعدله، وحبّه وبغضه، وخيره وشرّه.
وقيل: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش فى غزاة بدر نزل صلى الله عليه وسلم أدنى ماء من مياه بدر، فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله،
__________
[1] فى عيون الأخبار (المجلد الأوّل ص 32) : «وأدن من القربى ... » .
[2] يقال:
فلان هرّه الناس اذا كرهوا ناحيته. والعزائم: الحاجات التى يعتزم المرء فعلها. يريد أنك اذا انفردت برأى نفسك ولم تستعن بآراء ذوى التجارب باعدك الناس وأصغروا من شأنك، وان كنت أدنى القوم شأنا لم تفز بحاجاتك التى اعتزمت عليها.
[3] كذا فى الأغانى (ج 3 ص 56) وفى الأصل:
«وما قارب ... » .
[4] المشيّع: الشجاع كأنه شيع بغيره أو بقوة قلبه.(6/72)
أرايت هذا المنزل [أمنزل [1]] أنزلكه الله عز وجل ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والميكدة؟ قال: «بل هو الرأى والحرب والمكيدة» ؛ فقال: يا رسول الله، فإنّ هذا ليس [لك [1]] بمنزل فارحل [2] بالناس حتى نأتى أدنى ماء من مياه القوم فننزله، ثم نعوّر [3] ما سواه من القلب، ثم نبنى عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل [القوم [1]] فنشرب ولا يشربوا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأى» ؛ وفعل ما أشار به الحباب.
وقال بزرجمهر: أفره ما يكون من الدوابّ لا غنى به عن السوط، وأعقل ما يكون من النساء لا غنى بها عن الزوج، وأدهى ما يكون من الرجال لا غنى به عن المشورة.
وقيل: كانت اليونان والفرس لا يجمعون وزراءهم على الأمر يستشيرون فيه، وإنما يستشيرون الواحد منهم من غير أن يعلم الآخر به، لمعان شتّى: منها لئلا يقع بين المشاورين منافسة تذهب أصالة الرأى وصحّة النظر، لأن من طباع المشتركين فى الأمر التنافس والتغالب والطعن من بعضهم على بعض، وربما أشار أحدهم بالرأى الصواب وسبق إليه فحسده الآخرون فتعقّبوه بالإعراض والتأويل والتهجين وكدّروه وأفسدوه. ومنها أنّ فى اجتماعهم على المشورة تعريض السرّ للإضاعة والشناعة والإذاعة؛ ولذلك قالت الفرس: إنما يراد الاجتماع والكثرة والتناصر فى الأمور التى يحتاج فيها إلى القوّة، فأمّا الآراء والأمور الغامضة فإنّ الاجتماع يفسدها ويولّد فيها التضاغن والتنافس.
__________
[1] الزيادة عن الطبرى جزء خامس ص 1309 من القسم الأول طبع ليدن.
[2] فى الطبرى وسيرة ابن هشام: «فانهض» .
[3] نعوّر: نطمّه ونردمه بالتراب حتى ينضب الماء.(6/73)
ذكر ما قيل فيمن يعتمد على مشورته وبديهته، ويعتضد بفكرته ورويته
قال بعض الحكماء: عليك بمشورة من حلب أشطر دهره، ومرّت عليه ضروب خيره وشرّه؛ وبلغ من العمر أشدّه، وأورت التجربة زنده. وقيل: استشار زياد رجلا؛ فقال الرجل: حقّ المستشار أن يكون ذا عقل وافر، واختبار متظاهر، ولا أرانى كذلك. قال إبراهيم بن العبّاس:
يمضى الأمور على بديهته ... وتريه فكرته عواقبها
فيظلّ يصدرها ويوردها ... فيعمّ حاضرها وغائبها
وإذا الحروب علت بعثت لها ... رأيا تفلّ به كتائبها
رأيا إذا نبت السيوف مضى ... قدما بها فسقى مضاربها
وقال آخر:
ألمعىّ يرى بأوّل رأى [1] ... آخر الأمر من وراء المغيب
لا يروّى ولا يقلّب كفّا ... وأكفّ الرجال فى تقليب
وقال آخر [2] .
الألمعىّ الذى يظنّ بك الظّ ... نّ كأن قد رأى وقد سمعا
وكانت العرب تحمد آراء الشيوخ لتقدّمها فى السن، ولأنها لا تتبع حسناتها بالأذى [3] والمنّ، ولما مرّ عليها من التجارب التى عرفت بها عواقب الأمور، حتى
__________
[1] فى ديوان ابن الرومىّ: بأول ظنّ.
[2] القائل هو أوس بن حجر؛ وهذا البيت من قصيدة له فى الرثاء ذكرها القالى فى أماليه (ج 3 ص 35) مطلعها:
أيّتها النفس أجملى جزعا ... إن الذى تحذرين قد وقعا
[3] فى الأصل: «إلا بالأذى ... » والسياق يقتضى حذف «إلا» .(6/74)
كأنّها تنظرها عيانا، وطرأ عليها من الحوادث التى أوضحت لها طريق الصواب وبيّنته تبيانا؛ ولما منحته من أصالة رأيها، واستفادته بجميل سعيها. ولذلك قال علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه: رأى الشيخ خير من مشهد [1] الغلام.
ومن أمثالهم «زاحم بعود أودع» [2] . قال بعض الشعراء:
لئن فقدوا الشباب فربّ عقل ... أفادوه على مرّ الليالى
خبت نار الذكاء فأجّجوها ... بآراء أحدّ من النّصال
وقد عدل قوم عن ذلك، وسلكوا فى خلافه أوضح الطّرق وأنهج المسالك؛ وقالوا:
بل رأى الشباب هو الرأى الصائب، وفهمهم الفهم الثاقب؛ ونجم سعدهم الطالع، وسحاب جدّهم الهامع؛ وإن لهم من الفطنة أوفر نصيب، وإنّ سهم رأيهم الرائش [3] المصيب؛ وإن عقولهم سليمة من العوارض، وأذهانهم آخذة بحظ وافر من الغوامض.
ولذلك قالت الحكماء: عليكم بآراء الأحداث ومشورة الشبّان، فإن لهم أذهانا تفلّ القواصل [4] ، وتحطّم الذوابل.
وقالوا: آراء الشّباب خضرة نضرة لم يهتصر [5] غصنها هرم، ولا أذوى زهرتها قدم، ولا خبا من ذكائها بطول المدّة ضرم. قال شاعر:
عليكم بآراء الشّباب فإنّها ... نتائج ما لم يبله قدم العهد
فروع ذكاء تستمدّ من النّهى ... بأنور فى اللّأواء [6] من قمر السعد
__________
[1] كذا فى عيون الأخبار، وفى الأصل: «من جلد الغلام» .
[2] كذا فى مجمع الأمثال للميدانى، وفى الأصل: «أو فدع» بزيادة الفاء. والعود: المسنّ من الإبل، أى لا تستعن إلا بأهل السن والتجربة فى الأمور.
[3] الرّائش: السهم ذو الريش.
[4] قواصل جمع قاصل، والقاصل:
السيف القطاع.
[5] يهتصر الغصن: يعطفه ويكسره من غير انفصال.
[6] اللأواء: الشدة.(6/75)
وقال آخر:
رأيت العقل لم يكن انتهابا ... ولم يقسم على عدد السّنينا
ولو أنّ السنين تقسّمته ... حوى الآباء أنصبة البنينا
وقال آخر:
أدركت ما فات الكهول من الحجا ... فى عنفوان شبابك المستقبل
فإذا أمرت فلا يقال لك: اتّئد ... وإذا قضيت فلا يقال لك: اعدل
ذكر ما قيل فيمن نهى عن مشاورته ومعاضدته وأمر بالامتناع من مشايعته ومتابعته
وقد كرهت العرب والحكماء مشاورة من اعترته الشواغل، وألمّت به النوازل؛ مع وفور عقله وحزمه، والتمسّك بنصحه وفهمه.
قال قسّ بن ساعدة الإيادىّ لابنه: لا تشاور مشغولا وإن كان حازما، ولا جائعا وإن كان فهما، ولا مذعورا وإن كان ناصحا، ولا مهموما وإن كان عاقلا، فالهمّ يعقل العقل فلا يتولّد منه رأى ولا تصدق به رويّة.
وقال الأحنف بن قيس: لا تشاور الجائع حتّى يشبع، ولا العطشان حتى يروى، ولا الأسير حتّى يطلق، ولا المقلّ حتى يجد، ولا الراغب حتّى ينجح.
وقالوا: لا تشاور المعزول، فإنّ رأيه مفلول.
وقيل: لا تدخل فى مشورتك بخيلا فيقصّر بفعلك، ولا جبانا فيخوّفك، ولا حريصا فيعدك ما لا يرجى؛ فإنّ البخل والجبن والحرص طبيعة واحدة يجمعها سوء الظنّ بالله. قال الشاعر
وأنفع من شاورت من كان ناصحا ... شفيقا فأبصر بعدها من تشاور
وليس بشافيك الشفيق ورأيه ... عزيب ولا ذو الرأى والصدر واغر(6/76)
ذكر ما قيل فى الأناة والرويّة
كانت العرب تحمد الأناة فى الرأى وإجالة الفكرة فيه وعدم التسرّع.
وكان عبد الله بن وهب الرّاسبىّ [1] يقول: إيّاى والرأى الفطير [2] ! وكان يستعيذ [بالله [3]] من الرأى الدّبرىّ؛ وهو الذى يسنح بعد الفوت.
وأوصى إبراهيم بن هبيرة ولده فقال: لا تكن أوّل مشير، وإيّاك والرأى الفطير؛ ولا تشيرنّ على مستبدّ، فإنّ التماس موافقته لؤم والاستماع منه خيانة.
وكان عامر بن الظّرب حكيم العرب يقول: دعوا الرأى يغبّ حتّى يختمر، وإيّاكم والرأى الفطير! يريد الأناة فى الرأى والتثبّت فيه. قال شاعر:
تأنّ وشاور فإنّ الأمو ... ر منها مضىء ومستغمض
فرأيان أفضل من واحد ... ورأى الثلاثة لا ينقض
وقال آخر:
الرأى كاللّيل مسودّ جوانبه ... والليل لا ينجلى إلا بإصباح
فاضمم مصابيح آراء الرّجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
وقال المتنبّى:
الرأى قبل شجاعة الشّجعان ... هو أوّل وهى المحلّ الثانى
فإذا هما اجتمعا لنفس حرّة [4] ... بلغت من العلياء كلّ مكان
وقال طاهر بن الحسين:
اعمل صوابا تنل بالحزم مأثرة ... فلن يذمّ لأهل الحزم تدبير
__________
[1] فى الأصل «الرياشى» والتصويب عن الطبرى (ص 2478 من القسم الأوّل) ، والكامل للمبرد (ص 543) ؛ والعقد الفريد (ج 1 ص 25) .
[2] الرأى الفطير: الذى أعجل به قبل أن يختمر.
[3] زيادة عن العقد الفريد (ج 1 ص 25) .
[4] كذا فى ديوان المتنبى وفى الأصل «لنفس مرة» .(6/77)
فإن هلكت برأى أو ظفرت به ... فأنت عند ذوى الألباب معذور
وإن ظفرت على جهل وفزت به ... قالوا: جهول أعانته المقادير
ومن أحسن ما قيل فيمن أشير عليه فلم يقبل، قول السّبيع لأهل اليمامة بعد إيقاع خالد بن الوليد بهم: يا بنى حنيفة بعدا كما بعدت عاد وثمود، والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه، كأنّى أسمع جرسه وأبصر غبّه، ولكنّكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة، وإنّى لمّا رأيتكم تتّهمون النصيح، وتسفّهون الحليم، استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم [الله [1]] التوبة ولا أخذكم [على [1]] غرّة، ولقد أمهلكم حتّى ملّ الواعظ وهرأ [2] الموعوظ، وكنتم كأنّما يعنى بما أنتم فيه غيركم، فأصبحتم وفى أيديكم من تكذيبى التصديق ومن نصحى الندامة، وأصبح فى يدى من هلاككم البكاء ومن ذلّكم الجزع، وأصبح ما كان غير مردود، وما بقى غير مأمون.
ذكر ما قيل فى الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الإشارة
ومن الناس من آثر الاستبداد برأيه وكره أن يستشير. قال عبد الملك بن صالح:
ما استشرت أحدا قطّ إلا تكبّر علىّ وتصاغرت له، ودخلته العزّة ودخلتنى الذّلّة.
فعليك بالاستبداد، فإن صاحبه جليل فى العيون مهيب فى الصدور. واعلم أنك متى استشرت تضعضع شأنك، ورجفت بك أركانك. وما عزّ سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه، وآراء نصحائه. فإيّاك والمشورة وإن ضاقت عليك المذاهب، واستبهمت لديك المسالك؛ وأنشد:
فما كلّ ذى نصح بمؤتيك نصحه ... ولا كلّ مؤت نصحه بلبيب
__________
[1] زيادة عن عيون الأخبار والعقد الفريد.
[2] هرأ فى منطقه كمنع: أكثر فى خطأ، أو قال الخنا والقبيح. وفى الأصل والعقد الفريد: «وهرى الموعوظ» .(6/78)
وقال المهلّب بن أبى صفرة: لو لم يكن فى الاستبداد بالرأى إلّا صون السّرّ وتوفير العقل لوجب التمسّك به.
وقال بزرجمهر: أردت نصيحا أثق به فما وجدت غير فكرى، واستضأت بنور الشمس والقمر فلم أستضئ بشىء أضوأ من نور قلبى.
وقال علىّ بن الحسين: الفكرة مرآة ترى المؤمن سيئاته فيقلع عنها، وحسناته فيكثر منها، فلا تقع مقرعة التقريع عليه، ولا تنظر عيون العواقب شزرا إليه.
وما زال المنصور يستشير أهل بيته حتّى مدحه ابن هرمة بقوله:
يزرن امرأ لا يصلح القوم أمره ... ولا ينتجى [1] الأدنين فيما يحاول
فاستوى جالسا وقال: أصبت والله! واستعاده، وما استشار بعدها.
قالوا: وعلى المستبدّ أن يتروّى فى رأيه، فكلّ رأى لم تتمخّض به الفكرة ليلة فهو مولود لغير تمام. قال شاعر:
إذا كنت ذا رأى فكن ذا أناءة ... فإنّ فساد الرأى أن تتعجّلا
وما العجز إلّا أن تشاور عاجزا ... وما الحزم إلا أن تهمّ فتفعلا
قال بعض جلساء هارون الرشيد: أنا قتلت جعفر بن يحيى، وذلك أنّى رأيت الرشيد يوما وقد تنفّس تنفّسا منكرا فأنشدت فى إثر تنفّسه:
واستبدّت [2] مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبدّ
وممّا مدح به ذوى الرأى قول بعض الشعراء:
بصير بأعقاب الأمور كأنّما ... يخاطبه من كلّ أمر عواقبه
وأين مفرّ الحزم منه وإنما ... مرائى الأمور المشكلات تجاربه
__________
[1] يقال: انتجاه إذا أفضى اليه بسره وخصه به.
[2] كذا فى ديوان عمر بن أبى ربيعة المطبوع بليبرج. وفى الأصل «فاستبدت» بالفاء.(6/79)
وقال البحترىّ فى سليمان بن عبد الله:
كأنّ آراءه والحزم يتبعها ... تريه كلّ خفىّ وهو إعلان
ما غاب عن عينه فالقلب يكلؤه ... وإن تنم عينه فالقلب يقظان
وقال أيضا:
كأنّه وزمام الدّهر فى يده ... يرى عواقب ما يأتى وما يذر
وقال آخر:
يرى العواقب فى أثناء فكرته ... كأنّ أفكاره بالغيب كهّان
وقال آخر:
بديهته وفكرته سواء ... إذا ما نابه الخطب الخطير
وأحزم ما يكون الدهر يوما ... إذا عجز المشاور والمشير
ومن الناس من كره أن يشير، فمنهم عبد الله بن المقفّع؛ وذلك أنّ عبد الله ابن علىّ استشاره فيما كان بينه وبين المنصور؛ فقال: لست أقود جيشا، ولا أتقلّد حربا، ولا أشير بسفك دم، وعثرة الحرب لا تستقال، وغيرى أولى بالمشورة فى هذا المكان.
واجتمع رؤساء بنى سعد إلى أكثم بن صيفىّ يستشيرونه فيما دهمهم يوم الكلاب؛ فقال: إنّ وهن الكبر قد فشا فى بدنى، وليس معى من حدّة الذّهن ما أبتدئ به الرأى، ولكن اجتمعوا وقولوا، فإنّى إذا مرّ بى الصواب عرفته. وسيأتى خبر كلامه فى وقائع العرب؛ وإنما أوردناه فى هذا الموضع لدخوله فيه والتئامه به، ومناسبته له، لا على سبيل السهو والتّكرار لغير فائدة.(6/80)
الباب الثامن من الفن الثانى فى حفظ الأسرار والإذن والحجاب
ذكر ما قيل فى حفظ الأسرار
قال الله تعالى إخبارا عن نبيّه يعقوب بن إسحاق حين أوصى يوسف ابنه عليهم السلام: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»
. وقالت الحكماء: صدرك أوسع لسرّك. وقالوا: سرّك من دمك. يعنون أنه ربما كان فى إفشاء السرّ سفك الدّم.
وقالوا: أصبر الناس من صبر على كتمان سرّه، فلم يبده لصديق فيوشك أن يصير عدوّا فيذيعه.
وقالوا: ما كنت كاتمه عن عدوّك فلا تظهر عليه صديقك.
وقال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلا سرّا فأفشاه فلمته، لأنّى كنت أضيق صدرا حين استودعته منه حين أفشاه.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه:
إذا كان لى سرّ فحدّثته العدا ... وضاق به صدرى فللنّاس أعذر
هو السّرّ ما استودعته وكتمته ... وليس بسرّ حين يفشو ويظهر
وقال آخر:
فلا تودعنّ الدهر سرّك أحمقا ... فإنّك إن أودعته منه أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن كتم سرّه ... فصدر الذى يستودع السّرّ أضيق(6/81)
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج:
لا تفش سرّك إلا إليك ... فإنّ لكل نصيح نصيحا
فإنّى رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا
وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إنّ أمير المؤمنين أسرّ إلىّ حديثا [ولا [1] أراه يطوى عنك ما يبسطه لغيرك] أفلا أخبرك به؟ فقال: [لا! [1]] ، يا بنىّ إنّه من كتم سرّا كان الخيار له، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تكن مملوكا بعد أن كنت مالكا.
وفى كتاب التاج: أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه، فقال أحدهما: إنّه لا ينبغى للملك أن يستشير منّا أحدا إلا خاليا به، فإنّه أموت للسرّ وأحزم للرأى وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض؛ فإن إفشاء السّرّ إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين، وإفشاؤه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة؛ لأنّ الواحد رهن بما أفشى إليه، والثانى [2] مطلق عنه ذلك الرهن، والثالث [3] علاوة فيه. فإذا كان السرّ عند واحد كان أحرى ألّا يظهره رهبة ورغبة. وإن كان عند اثنين كان الملك على شبهة، واتسعت على الرجلين المعاريض. فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتّهمهما اتّهم بريئا بجناية مجرم. وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الآخر ولا حجّة عليه.
وقال علىّ رضى الله عنه: الظّفر بالحزم، والحزم بأصالة الرأى، والرأى بتحصين السرّ.
وقيل: من حصّن سرّه فله من تحصينه إيّاه خلّتان: إمّا الظفر بما يريد، وإما السلامة من العيب والضرر إن أخطأه الظفر.
وقيل: كلّما كثر خزّان السرّ ازداد ضياعا.
__________
[1] زيادة عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 40 طبع دار الكتب المصرية) .
[2] فى العقد الفريد «والاثنان مطلق عنهما» .
[3] فى العقد الفريد «والثلاثة» (ج 1 ص 26) .(6/82)
ويقال: إذا انتهى السرّ من الجنان إلى عذبة اللسان، فالإذاعة مستولية عليه.
وقال عمرو بن العاص [1] : القلوب أوعية للأسرار، والشّفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلّ امرئ مفتاح سرّه. قال شاعر:
صن السرّ عن كلّ مستخبر ... وحاذر فما الحزم إلا الحذر
أسيرك سرّك إن صنته ... وأنت أسير له إن ظهر
وكان يقال: الكاتم سرّه بين إحدى فضيلتين: الظّفر بحاجته، والسلامة من شرّ إذاعته.
ويقال: أصبر الناس من صبر على كتمان سرّه.
وقال آخر: كتمانك سرّك يعقبك السلامة، وإفشاؤه يعقبك الندامة، والصبر على كتمان السرّ أيسر من الندامة [2] على إفشائه. قال شاعر:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها ... فسرّك عند الناس أفشى وأضيع
وقال آخر:
تبوح سرّك ضيقا به ... وتحسب كلّ أخ يكتم
وكتمانك السرّ ممن تخاف ... ومن لا تخافنّه أحزم
إذا ذاع سرّك من مخبر ... فأنت متى لمته ألوم
وكان يقال: لا تظهر كوامن صدرك بإذاعة سرّك، فيمكربك حاسدك، ويظهر عليك معاندك. قال عمر بن أبى ربيعة:
فقالت وأرخت جانب السّتر إنّما ... معى فتحدّث غير ذى رقبة أهلى
فقلت لها ما بى لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّى ليس يحمله مثلى
__________
[1] فى كتاب أدب الدنيا والدين (ص 311) تنسب هذه الكلمة الى عمر بن عبد العزيز.
[2] كذا فى المحاسن والاصاد. وفى الأصل: «من التبذل به على إفشائه» .(6/83)
ومما قيل فى استراحة الرجل بمكنون سرّه إلى صديقه- قال الله تعالى:
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ
. وقالت الحكماء: لكل سرّ مستودع. قال بعض الشعراء:
وأبثثت عمرا بعض ما فى جوانحى ... وجرّعته من مرّ ما أتجرّع
فلا بدّ من شكوى إلى ذى حفيظة [1] ... إذا جعلت أسرار نفسى تطلّع
وقال حبيب:
شكوت وما الشكوى لمثلى عادة ... ولكن تفيض الكأس [2] عند امتلائها
وقال أبو الحسن بن محمد البصرىّ:
تعب الهوى بمعالمى ورسومى ... ودفنت حيّا تحت ردم همومى
وشكوت همّى حين ضقت، ومن شكا ... همّا يضيق به فغير ملوم
ومما وصف به كتمان السرّ- قيل: أسرّ رجل إلى صديق له حديثا، فلما استقصاه قال: أفهمت؟ قال: بل نسيت. وقيل لآخر: كيف كتمانك للسرّ؟ فقال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر.
ومن جيّد ما قيل فى كتمان السرّ قول الأوّل:
تلاقت حيازيمى على قلب حازم ... كتوم لما ضمّت عليه أضالعه [3]
أؤاخى رجالا لست أطلع بعضهم ... على سرّ بعض، إنّ قلبى واسعه
__________
[1] الحفيظة: اسم من المحافظة والحفاظ.
[2]- هذه هى الرواية المشهورة فى البيت، وفى الأصل «تفيض النفس» .
[3] فى الأصل: «أصابعه» والسياق يقتضى ما وضعنا.(6/84)
قال قيس بن الخطيم:
إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه ... بنثّ [1] وتكثير الحديث قمين
وإن ضيّع الإخوان سرّا فإنّنى ... كتوم لأسرار العشير أمين
يكون له عندى إذا ما ضممته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين
وقال أبو إسحاق الصابى:
لسرّ صديقى مكمن [2] فى جوانحى ... تمنّع أن تدنو إليه المباحث
تغلغل منّى حيث لا تستطيعه ... كؤوس النّدامى والأنيس المحادث
إذا الفحص آلى جاهدا أن يناله ... تراجع عنه وهو خزيان حانث
فقل لصديقى اذا [3] لم السّر آمنا ... إذا لم يكن ما بيننا فيه ثالث
وهذا البيت مأخوذ من قول جميل:
ولا يسمعن سرّى وسرّك ثالث ... ألا كلّ سرّ جاوز اثنين ضائع [4]
وقال الصابى أيضا:
وللسرّ فيما بين جنبىّ مكمن ... خفى قصىّ عن مدارج أنفاسى
أضنّ به ضنّى بموضع حفظه ... فأجميه عن إحساس غيرى وإحساسى
فقد صار كالمعدوم لا يستطيعه ... يقين ولا ظنّ لخلق من الناس
كأنّى من فرط احتياطى أضعته ... فبعضى له واع وبعضى له ناسى
__________
[1] النثّ: الإفشاء.
[2] فى الأصل «ممكن» وهو تحريف.
[3] كذا فى الأصل، وفيه تحريف واضح، ولم نوفق الى أصل هذا الشعر فى مصدر آخر. ولو قيل:
قل لصديقى كن على السر آمنا
لاستقام به الوزن والمعنى.
[4] فى حماسة البحترى طبع «ليدن» ص 217. «ذائع» وفيها ينسب الشعر الى قيس بن منقلة الخزاعىّ.(6/85)
وقال كثيّر:
كريم يميت السرّ حتى كأنّه ... إذا استنطقوه عن حديثك جاهله
رعى سرّكم مستودع القلب والحشا ... شفيق عليكم لا تخاف غوائله
وأكتم نفسى بعض سرّى تكرّما ... إذا ما أضاع السرّ فى الناس حامله
ذكر ما قيل فى الإذن والاستئذان
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ
وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ
الآية. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
الآية.
وقيل: استأذن رجل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت فقال: أألج؟ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم [لخادمه [1]] : «أخرج إلى هذا وعلّمه الاستئذان وقل له يقول السلام عليكم أأدخل»
. وقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلّا فارجع»
. وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: الأولى إذن والثانية مؤامرة والثالثة عزمة، إما أن يأذنوا وإما أن يرجع [2] .
وقال زياد بن أبيه لعجلان حاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات ثم على الأسنان ثم على الأدب؛ قال: فمن تؤخّر؟ قال: الذين لا يعبأ الله بهم؛ قال:
ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء فى الصيف وكسوة الصيف فى الشتاء.
__________
[1] زيادة عن العقد الفريد (ج 1 ص 27)
[2] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «إما تأذنوا وإما رجع» .(6/86)
وكان سعيد بن عتبة بن حصين إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانبا؛ فقيل له: إنّك لتتباعد من الآذن جهدك؛ فقال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب. قال بعض الشعراء:
رأيت أناسا يسرعون تبادرا ... إذا فتح البوّاب بابك إصبعا
ونحن جلوس ساكنون رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا
وقيل لمعاوية: إنّ آذنك ليقدّم معارفه فى الإذن على وجوه الناس؛ قال:
وما عليه! إنّ المعرفة لتنفع فى الكلب العقور والجمل الصّؤول، فكيف رجل حسيب ذو كرم ودين! ونظر رجل إلى روح بن حاتم وهو واقف فى الشمس عند باب المنصور، فقال له: لقد طال وقوفك فى الشمس؛ فقال: ذلك ليطول جلوسى فى الظلّ.
ذكر ما قيل فى الحجاب
قال خالد بن عبد الله القسرىّ أمير العراق لحاجبه: إذا أخذت مجلسى فلا تحجبنّ عنى أحدا، فإنّ الوالى يحتجب عن الرعيّة لإحدى ثلاث: إمّا لعىّ يكره أن يطّلع عليه، وإما لبخل يكره أن يسأل شيئا، وإما لريبة لا يحبّ أن تظهر منه.
وقال زياد لحاجبه: ولّيتك حجابتى وعزلتك عن أربع: المنادى إلى الصلاة والفلاح، [لا تفرّجنّه عنّى فلا سلطان لك عليه [1]] ، وطارق الليل [لا تحجبه فشرّ ما جاء به، ولو كان خيرا ما جاء به تلك الساعة [1]] ، ورسول الثّغر فإنّه إن أبطأ ساعة فسد عمل سنة فأدخله علىّ وإن كنت فى لحافى، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد.
__________
[1] زيادة عن العقد الفريد ج 1 ص 27(6/87)
وقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفّان رضى الله عنه وقد اشتغل بمصلحة للمسلمين فحجبه؛ فقال له رجل وأراد إغراءه: يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضرىّ فيحجبك! فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومى من أقف ببابه فيحجبنى.
واستأذن أبو الدّرداء على معاوية بن أبى سفيان فحجبه؛ فقال: من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد، ومن يجد بابا مغلقا يجد إلى جانبه بابا مفتوحا إن دعا أجيب وإن سأل أعطى. قال محمود الورّاق:
شاد الملوك قصورهم فتحصّنوا ... من كل طالب حاجة أو راغب
غالوا بأبواب الحديد لعزّها ... وتنوّقوا [1] فى قبح وجه الحاجب
فإذا تلطّف فى الدخول إليهم ... راج تلقّوه بوعد كاذب
فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... يا ذا الضّراعة طالبا من طالب
قال أبو مسهر: أتيت إلى باب أبى جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان، فحجبنى فكتبت إليه:
إنى أتيتك للتسليم أمس فلم ... تأذن عليك لى الأستار والحجب
وقد علمت بأنى لم أردّ ولا ... والله ما ردّ إلّا العلم والأدب
فأجابه ابن عبدكان:
لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوس وفيما قاله أدب
ليس الحجاب بمقص عنك لى أملا ... إنّ السماء ترجّى حين تحتجب
وقف إلى باب محمد بن منصور رجل من خاصّته فحجب عنه، فكتب إليه:
على أىّ باب أطلب الإذن بعد ما ... حجبت عن الباب الذى أنا حاجبه
__________
[1] تنوّقوا: جوّدوا وبالغوا.(6/88)
وقف أبو العتاهية إلى باب بعض الهاشمييّن، فطلب الإذن؛ فقيل له: تكون لك عودة [1] ؛ فقال:
لئن عدت بعد اليوم إنّى لظالم ... سأصرف وجهى حين تبغى المكارم
متى يظفر الغادى إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم
ونظيره قول العمانىّ [2] :
قد أتيناك للسلام مرارا ... غير منّ بنا [3] بتلك المرار [4]
فإذا أنت فى استتارك باللي ... ل [على [5]] مثل حالنا بالنّهار
وقال أبو تمّام:
سأترك هذا الباب مادام إذنه ... على ما أرى حتّى يلين قليلا
فما خاب من لم يأته متعمّدا ... ولا فاز من قد نال منه وصولا
ولا جعلت أرزاقنا بيد امرئ ... حمى بابه من أن ينال دخولا
إذا لم أجد للإذن عندك موضعا ... وجدت إلى ترك المجىء سبيلا
وقال آخر:
أتيتك للتسليم لا أننى امرؤ ... أردت بإتيانيك أسباب نائلك
فألفيت بوّابا ببابك مغرما ... بهدم الذى وطّدته من فضائلك
وقال العمانىّ:
إذا ما أتيناه فى حاجة ... رفعنا الرّقاع له بالقصب
له حاجب دونه حاجب ... وحاجب حاجبه محتجب
وقال آخر:
يا أبا موسى وأنت فتى ... ماجد حلو ضرائبه [6]
__________
[1] فى الأصل: «يكون له دعوة» وهو تحريف والتصويب عن العقد الفريد (ج 1 ص 28)
[2] فى العقد الفريد: «العتابى» .
[3] لعله «منا» ويؤيد هذا رواية العقد الفريد.
[4] فى العقد الفريد: «غير من منا بذاك المزار» .
[5] زيادة من العقد الفريد ج 1 ص 28
[6] ضرائب: جمع ضريبة، وهى الطبيعة والسجية.(6/89)
كن على منهاج معرفة ... إنّ وجه المرء حاجبه
فبه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه
وقف عبد الله بن العباس بن الحسين العلوىّ على باب المأمون يوما، فنظر إليه الحاجب ثم أطرق؛ فقال عبد الله لقوم معه: إنه لو أذن لنا لدخلنا، ولو صرفنا لانصرفنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا، فأمّا الفترة بعد النّظرة، والتوقّف بعد التعرّف، فلا أفهمه، ثم تمثّل:
وما عن رضا كان الحمار مطيّتى ... ولكنّ من يمشى سيرضى بما ركب
وانصرف؛ فبلغ المأمون كلامه، فصرف الحاجب وأمر لعبد الله بصلة جزيلة وعشر دوابّ. وحجب بعض الهاشميّين فرجع مغضبا فردّ فلم يرجع، وقال: ليس بعد الحجاب إلا العذاب، لأن الله تعالى يقول: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ.
ذكر ما قيل فى النهى عن شدّة الحجاب
قيل: لا شىء أضيع للمملكة وأهلك للرعيّة من شدّة الحجاب، لأنّ الرعيّة إذا وثقت بسهولة الحجاب أحجمت عن الظلم، وإذا وثقت بصعوبته هجمت على الظلم.
وهذا مخالف لوصيّة زياد لابنه: عليك بالحجاب، فإنّما تجرّأت الرّعاة على السّباع لكثرة نظرها إليها. قال سعيد بن المسيّب: نعم الرجل عبد العزيز لولا حجابه! وعن علىّ رضى الله عنه: إنما أمهل فرعون مع دعواه ما ادّعاه لسهولة إذنه وبذل طعامه. وقال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فقال لابنه: من بالباب؟ فقال:
رجل أناخ الآن يزعم أنه ابن بلال مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولى شيئا من أمور المسلمين ثم حجب عنه حجبه الله يوم القيامة؛ فقال لحاجبه:
الزم بيتك. فما رئى على بابه بعده حاجب.(6/90)
وقال عمرو بن العاص لابنه وقد ولّى ولاية: انظر حاجبك فإنّه لحمك ودمك، ولقد رأيتنا بصفّين وقد أشرع قوم رماحهم فى وجوهنا يريدون نفوسنا مالنا ذنب إليهم إلا الحجاب.
وقيل: ولّى المنصور حجابته الخصيب [1] فقال: إنّك بولايتى عظيم القدر، وبحجابتى عظيم الجاه، فبقّها على نفسك، ابسط وجهك للمستأذنين، وصن عرضك عن تناول المحجوبين، فما شىء أوقع بقلوبهم من سهولة الإذن وطلاقة الوجه.
قال سليمان بن زيد النابلسىّ:
سأهجركم حتى يلين حجابكم ... على أنّه لا بدّ أن سيلين
خذوا حذركم من نبوة الدّهر إنّها ... وإن لم تكن حانت فسوف تحين
وقال آخر:
كم من فتى تحمد أخلاقه ... وتسكن الأحرار فى ذمّته
قد كثّر الحاجب أعداءه ... وسلّط الذمّ [2] على نعمته
وقال أعرابىّ:
لعمرى إن حجبتنى العبيد ... ببابك ما تحجب القافيه
سأرمى بها من وراء الحجاب ... فتعدو عليك بها داهيه
تصمّ السميع وتعمى البصير ... وتسأل من مثلها العافيه
وقال جعفر المصرىّ:
[و] تفضّل علىّ بالإذن إن جئ ... ت فإنّى مخفّف فى اللقاء
ليس لى حاجة سوى الحمد والشّك ... ر فدعنى أقريك حسن الثناء
__________
[1] فى الأصل: «للخصيب» ولعله تحريف، فان الفعل ينصب المفعولين بنفسه.
[2] كذا فى عيون الأخبار (مجلد 1 ص 85) وهو الأنسب بالسياق، وفى الأصل: «وسلط الدهر»(6/91)
الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الثانى فى الوزراء وأصحاب الملك
ذكر ما قيل فى الوزارة وشروطها واشتقاقها وما يحتاج الوزير إليه قال الله عزّ وجلّ إخبارا عن موسى عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.
وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد [1] أعظم أجرا من وزير صالح يكون مع إمام فيأمر بذات الله تعالى»
. قالت الحكماء: أعرف الملوك يحتاج إلى الوزير، وأشجع الرجال يحتاج إلى السلاح، وأجود الخيل يحتاج الى السّوط، وأحدّ الشّفار يحتاج الى المسنّ.
وقالوا: صلاح الدنيا بصلاح الملوك، وصلاح الملوك بصلاح الوزراء، ولا يصلح الملك إلا لأهله، ولا تصلح الوزارة إلا لمستحقّها.
وقالوا: أفضل عدد الملوك صلاح للوزراء الكفاة، لأن فى صلاحهم صلاح قلوب عوامّهم لهم.
وقالوا: خير الوزراء أصلحهم للرعيّة، وأصدقهم نيّة فى النصيحة، وأشدّهم ذبّا عن المملكة، وأسدّهم بصيرة فى الطاعة، وآخذهم لحقوق الرعيّة من نفسه وسلطانه.
وقالوا: الوزير الخيرّ لا يرى أنّ صلاحه فى نفسه وسلطانه كائن صلاحا حتى يتّصل بصلاح الملك ورعيّته، وتكون عنايه فيما عطّف الملك على عامّته، وفيما
__________
[1] ورد هذا الحديث فى «قوانين الوزارة» للماوردى هكذا: «ما من رجل من المسلمين أعظم أجرا من وزير صالح مع إمام يطيعه ويأمره بذات الله تعالى» .(6/92)
استعطف قلوب العامّة على الطاعة لملكه، وفيما قوّم أمر الملك والمملكة من تدبير، حتى يجمع إلى أخذ الحق وتقديمه عموم الأمن والسلامة، ويجمع إلى صلاح الملك صلاح أتباعه. وإذا تطرّقت الحوادث ودهمت العظائم كان للملك عدّة وعتادا، وللرعيّة كافيا محتاطا، ومن ورائها ذابّا ناصرا، يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه [1] من صلاح نفسه دونها.
ذكر ما قيل فى اشتقاق الوزارة وصفة الوزير وما يحتاج إليه
أما اشتقاقها فقد اختلف فى معناه على ثلاثة أوجه: أحدها أنه مشتقّ من الوزر وهو الثّقل، لأنه يحمل عن الملك أثقاله. والثانى أنّه مشتقّ من الأزر وهو الظّهر، لأن الملك يقوى بوزيره كقوّة البدن بظهره. والثالث أنه مشتقّ من الوزر- وهو الملجأ- ومنه قوله تعالى: كَلَّا لا وَزَرَ
أى لا ملجأ؛ لأن الملك يلجأ الى وزيره ومعونته.
وأما صفة الوزير وما يحتاج إليه، فقد قال أقضى القضاة أبو الحسن على ابن محمد بن محمد بن حبيب الماوردىّ فى كتابه المترجم «قوانين الوزارة» ما معناه:
إن الوزير فى منصب مختلف الأطراف، يدبّر غيره من الرعايا ويتدبّر بغيره من الملوك، فهو سائس ومسوس يقوم بسياسة رعيّته وينقاد لطاعة سلطانه، فيجمع بين سطوة مطاع وانقياد مطيع، فشطر فكره جاذب لمن يسوسه، وشطره مجذوب بمن يطيعه؛ لأن الناس بين سائس، ومسوس، وجامع بينهما، و [له [2]] هذه المرتبة الجامعة؛ فهو يجمع ما اختلف من أحكامها، ويستكمل ما تباين من أقسامها؛ وبيده تدبير مملكة صلاحها
__________
[1] فى الأصل: «يعينه فى صلاحها ما لا يعينه من ... » وظاهر أنه تحريف.
[2] زيادة أصلها فى قوانين الوزارة: «ولك هذه الرتبة الجامعة» والكلام هناك لمخاطب وهاهنا لغائب.(6/93)
مستحقّ [1]] عليه، وفسادها منسوب إليه؛ يؤاخذ بالإساءة ولا يعتدّ له بالإحسان، تلان له المبادئ [بالإرغاب [1]] وتشدّد [2] عليه الغايات بالإعتاب [3] ، مستظهرا ليكفى [4] اعتداد الإحسان إليه، ويسلم من غبّ المؤاخذة له، ويلزمه ضدّها فى حقّ سلطانه ألّا يعتدّ عليه بصلاح ملكه، لأنّه للصلاح مندوب، ولا يعتذر إليه من اختلاله [5] ، لأن الاختلال إليه منسوب.
والوزير مباشر لتدبير ملك له أسّ هو الدّين المشروع، ونظام هو الحقّ المتبوع.
فإن جعل الدّين قائده، والحقّ رائده؛ تذلّل له كلّ صعب، وسهل عليه كلّ خطب؛ لأن للدّين أنصارا وأعوانا، إن قعدت عنه أجسادهم لم تقعد عنه قلوبهم. وحسبه أن [تكون [6]] القلوب معه، فإن للدّين سلطانا قد انقادت اليه إمامته، واستقرّت عليه زعامته [7] . فإن جعله ظهيرا [8] له فى أموره، وعونا له على تدبيره، يجد من القلوب خشوعا، ومن النفوس خضوعا؛ فما اعتزت مملكة إليه إلا صالت، ولا التحفت بشعاره إلا طالت. ولن يستغزر الوزير موادّه إلا بالعدل والإحسان، ولن يستنزرها بمثل الجور والإساءة؛ لأن العدل استثمار دائم، والجور استئصال منقطع.
وليس يختصّ بالأموال دون الأقوال والأفعال؛ فعدله فى الأموال أن تؤخذ بحقّها وتدفع إلى مستحقّها؛ لأنه فى الحقوق سفير مؤتمن، وكفيل مرتهن؛ عليه غرمها، ولغيره غنمها. وعدله فى الأقوال ألّا يخاطب الفاضل بخطاب المفضول، ولا العالم بخطاب الجهول؛ ويقف فى الحمد والذّمّ على حسب الإحسان والإساءة، ليكون
__________
[1] الزيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2] فى الأصل «تشد» وما أثبتناه عن قوانين الوزارة.
[3] كذا فى قوانين الوزارة وهو ما يقتضيه السجع. وفى الأصل: «بالإعنات» .
[4] فى هذه الجملة كلها شىء من الغموض.
[5] كذا فى «قوانين الوزارة» وفى الأصل: «ولا يعتذر إليه من إضلاله لأن الإضلال ... الخ»
[6] فى قوانين الوزارة: «دعامته» .
[7] الزيادة عن «قوانين الوزارة» .
[8] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «ظهرا» .(6/94)
إرغابه وإرهابه وفق أسبابهما من غير سرف ولا تقصير؛ فلسانه ميزانه، فليحفظه من رجحان أو نقصان. وعدله فى الأفعال ألّا يعاقب إلا على ذنب، ولا يعفو إلا عن إنابة، ولا يبعثه السّخط على اطّراح المحاسن، ولا يحمله الرضا على العفو عن المساوئ.
وليكن وفاؤه بالوعد حتما [1] ، وبالوعيد حزما؛ لأن الوعد حقّ عليه لغيره يسقط فيه اختياره، والوعيد حقّ له على غيره فهو فيه على خياره. فمن أجل ذلك لم يجز إخلاف الوعد وإن جاز إخلاف الوعيد. قال بعض الشعراء:
وإنى إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادى ومنجز موعدى
لكن ينبغى أن يقرن بخلف الوعيد عذرا حتى لا يهون وعيده؛ ليكون نظام الهيبة محفوظا، وقانون السياسة فيه مضبوطا؛ وليظهره إن خفى ليكون بإخلاف وعيده معذورا، وبعفوه عنه مشكورا. ولتكن أفعاله أكثر من أقواله؛ فإن زيادة القول على الفعل دناءة وشين، وزيادة الفعل على القول مكرمة وزين. ولا يجعل لغضبه سلطانا على نفسه يخرجه عن الاعتدال الى الاختلال؛ فلن يسلم بالغضب رأى من زلل، ولا كلام من خطل؛ لأن ثورته طيش معرّ، ونفرته بطش مضرّ؛ لأنه يخرج عن التأديب الى الانتقام، وعن التقويم الى الاصطلام [2] .
قال ابن عبّاس: لم يمل إلى الغضب إلّا من أعياه سلطان الحجّة. وقال بعض السّلف: إيّاك وعزّة الغضب، فإنها تفضى بك الى ذلّ الاعتذار. وقال بعض الحكماء: من كثر شططه، كثر غلطه. قال بعض الشعراء:
ولم أر فى الأعداء حين اختبرتهم ... عدوّا لعقل المرء أعدى من الغضب
__________
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «جسيما» .
[2] الاصطلام: القطع والاستئصال.(6/95)
وليكن غضبه تغاضبا يملك به عزمه، ويقوّم به خصمه، فيسلم من جور غضبه ويقف على اعتدال تغاضبه. فقد قيل فى بعض صحف بنى إسرائيل: إذا كان الرجل ذا غضب تواترت عليه الوضائع [1] ، فكلّما اشتدّ غضبه ازداد بلاء. وقد يقترن بالغضب لجاج يساويه فى معرّته، ويشاركه فى مضرّته؛ لأن فى اللّجاج التزام الخطأ واطّراح الصواب. فليدع عنه لجاج الخصم الألدّ، وليتجنّب عواقب المدل الفدم [2] .
وليتابع الرأى فيما اقتضاه؛ فلأن ينتفع بالرأى خير من أن يستضرّ بالّلجاج. فقد قال بعض الحكماء: من استعان بالرأى ملك، ومن كابر الأمور هلك. وقال ابن المقفّع:
دع اللّجاج فإنه يكسر عزائم العقول. وقيل: الظّفر لمن احتجّ، لا لمن لجّ.
وليأخذ الوزير أموره بالجدّ دون الهزل. فالجدّ والهزل ضدّان متنافران؛ لأن الجدّ من قواعد الحقّ الباعث على الصلاح، والهزل من مرح الباطل الداعى إلى الفساد؛ فصار فرق ما بين الجدّ والهزل هو فرق ما بين الحقّ والباطل. وتنافر الأضداد يمنع من الجمع بينهما [3] ؛ فمتى انفرد بأحدهما كان للآخر تاركا.
وقد روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: العقل حسام قاطع، والحلم غطاء ساتر، فقابل هواك [4] بعقلك، واستر خلل خلقك بحلمك، واستعمل الجدّ ينقد إليك الحقّ ويفارقك الباطل. ولا تعدل إلى الهزل فيتبعك الباطل وينافرك الحقّ. وقلّما انثلمت هيبة الجدّ أو تكاملت هيبة الهزل. والهيبة أسّ السلطنة.
__________
[1] الوضائع: الأثقال.
[2] الفدم: الغليظ الأحمق الجافى وفى الأصل «المدل الندم» وفى قوانين الوزارة: «النذل الفدم» . وما أثبتناه مختارا من الأصل ومن قوانين الوزارة هو المناسب للسياق.
[3] كان الظاهر أن تكون الجملة: وتنافر الضدين يمنع من الجمع بينهما، أو: وتنافر الأضداد يمنع من الجمع بينها، ليوافق الضمير مرجعه.
[4] فى قوانين الوزارة: «فقاتل هواك ... »
وكلتا الكلمتين يستقيم بها المعنى.(6/96)
حكى عن عمرو بن مرّة أن رجلا من قريش قال لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه: لن لنا فقد ملأت قلوبنا مهابة؛ فقال عمر: أفى ذلك ظلم؟ قال: لا؛ قال:
فزادنى الله فى صدوركم مهابة. وقال حكيم الهند: ليكن [فيك [1]] مع طلاقتك تشدّد، لئلّا يجترأ عليك بالطلاقة وينفر منك بالتشدّد. والهزل إنما يكون من سخف أو بطر يجلّ عنهما من ساس الرعايا ودبّر الممالك. وسأل ملك الهند الإسكندر [وقد دخل بلاده [2]] : ما علامة [دوام [3]] الملك؟ قال: الجدّ فى كلّ الأمور؛ قال: فما علامة زواله؟ قال: الهزل فيها. وليس الكبر والعنف جدّا، ولا التواضع واللطف هزلا.
قالوا: وإن استكدّ الجدّ خاطره فلا بأس أن يستروح ببعض الهزل ليستعين به على مصابرة الجدّ، لكن يكون فى زمان راحته وأوقات خلوته بمقدار دوائه من دائه، فإن الكلال ملال [4] . وليكن ذلك كما قال بعض الشعراء:
أفد طبعك المكدود بالجدّ راحة ... يجمّ وعلّله بشىء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما تعطى الطعام من الملح
وكذلك فليتحرّ الصدق ويتجنّب الكذب، فإنّهما ضدّان متنافران تختلف عللهما وتفترق نتائجهما؛ فالصدق من لوازم العقل وهو أسّ الدّين وقوام الحقّ؛ والكذب من غرائز الجهل وهو زور يقترن بغرور، إن التبست أوائله انهتكت [5] أواخره، وإن جرّ التباسه نفعا عاد انهتاكه ضررا، فلن يسلم من معرّة زوره، ومضرّة غروره.
وقد قدّمنا من مدح الصدق فى باب المدح، وذمّ الكذب فى باب الهجاء، ما فيه غنية عن تكراره. وحيث ذكرنا هذه المقدّمة فى اشتقاق الوزارة وما يحتاج الوزير إليه فلنذكر صفة الوزارة وشروطها.
__________
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[3] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[4] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «ملول» .
[5] كذا فى قوانين الوزارة، والمصدر الآتى يعينه، وفى الأصل «انتهكت» .(6/97)
ذكر صفة الوزارة وشروطها
قال أقضى القضاة أبو الحسن علىّ بن محمد بن حبيب الماوردىّ: والوزارة ضربان: وزارة تفويض تجمع بين كفايتى السيف والقلم، ووزارة تنفيذ تختصّ بالرأى والحزم. ولكل واحدة منهما حقوق وشروط.
فأما وزارة التفويض فهى: الاستيلاء على التدبير بالعقد، والحلّ، والتقليد والعزل. فأما العقد فيشتمل على شرطين: تنفيذ [1] وإقدام. [وأما الحلّ [2]] فيشتمل على شرطين: دفاع وحذر. وكلّ شرط من هذه الأربعة الشروط يشتمل على فصول.
فأما الشرط الأول، وهو التنفيذ، فهو أسّ [3] الوزارة وقاعدة النيابة، وهو الأخصّ بكفاية القلم فى مصالح الملك واستقامة الأعمال. ويشتمل على أربعة أقسام:
الأوّل- تنفيذ ما صدرت به أوامر الملك. وعلى الوزير فيها حقّان: أحدهما أن يتصفّحها من زلل فى ابتدائها، ويحرسها من خلل فى أثنائها [4] ؛ ليردّه عن زللها باللطف، ويقوّى عزمه على صوابها بالإحماد. وقد قال أفلاطون: أوّل رياضة الوزير أن يتأمّل أخلاق الملك ومعاملته، فإن كانت شديدة فظّة عامل الناس بدونها، وإن كانت ليّنة مطلقة عاملهم بأقوى منها، ليقرب من العدل فى سعيه. والثانى:
__________
[1] كذا يؤخذ من «قوانين الوزارة» وهو ما يقتضيه سياق التقسيم الآتى. وفى الأصل: «دفاع وإقدام» .
[2] التكملة عن قوانين الوزارة، ومكانها فى الأصل بياض.
[3] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «فالشرط الأول وهو التنفيذ وهو أس ... الخ» .
[4] فى الأصل: «فى انتهائها» وما أثبتناه هنا عن قوانين الوزارة، وهو ما يقتضيه المعنى، إذ لا معنى للحراسة فى الانتهاء.(6/98)
تعجيل إمضائها للوقت المقدّر لها حتى لا يقف فيوحش، [لأن وقوف أوامره يوحش [1]] وهو مندوب للتنفيذ دون الوقوف. وقد قال حكيم الهند: العجلة فى الأمر خرق، وأخرق منه التفريط فى الأمر بعد القدرة عليه. ودرك [2] هذا التنفيذ عائد على الملك دون الوزير.
القسم الثانى- تنفيذ ما اقتضاه رأى الوزير من تدبير المملكة. فعليه فى إمضائه حقّان: أحدهما أن يراعى [3] أولى الأمور فى اجتهاده، وأصوبها فى رأيه، لأنه مندوب لأصلحها ومأخوذ بأصوبها. والثانى أن يطالع الملك به إن جلّ، ويجوز أن يطويه إن قلّ، ليخرج عن الاستبداد المنفّر، ويسلم من الحقد المؤثّر. وقال حكيم الهند: الأحقاد مؤثّرة حيث كانت، وأخوفها ما كان فى أنفس الملوك، لأنهم يدينون بالانتقام ويرون التطلّب بالوتر مكرمة وفخرا. فإن عارضه الملك فى رأيه بعد المطالعة به لم يستوحش من معارضته، لأنه مالك مستنيب، وظانّ مستريب؛ وقابل بين رأيه ومعارضته، واستوضح من الملك أسباب المعارضة بلطف إن خفيت، فإن وضح صوابها توقّف عن رأيه وشكره على استدراك زلله وتلافى خلله وقد منّ عليه ولم يؤنّب. وإن كان الصواب مع الوزير تلطّف فى إيضاح صوابه، وكشف علله وأسبابه. فإن ساعده على إمضائه أمضاه؛ وكان درك تنفيذه عائدا على الوزير دون الملك. وإن لم يساعده عليه توقّف انقيادا لطاعته؛ وكان درك وقوفه عائدا على الملك دون الوزير.
والقسم الثالث- تنفيذ ما صدر عن خلفائه على الأعمال التى فوّضها إلى آرائهم ووكلها إلى اجتهادهم. فإن تفرّدوا بتنفيذها أمضاها لهم ولم يتعقّبها عليهم ما لم
__________
[1] زيادة عن قوانين الوزارة.
[2] الدّرك: التبعة.
[3] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «أن يكون» .(6/99)
يتحقّق زللهم فيها؛ وكان درك تنفيذها عائدا على العمّال دون الوزير. وإن وقفوها على تنفيذ الوزير فعليه فى تنفيذها حقّان: أحدهما أن يستكشف عن أسبابها، ليعلم خطأها من صوابها. والثانى تقوية أيديهم ونفى الارتياب عنهم، فإن ظهور الارتياب مجشّة [1] للقلوب. فإن نفّذها لهم حين لم يتحقّق زللهم فيها كان درك تنفيذها عائدا على الوزير دون العمّال.
والقسم الرابع- تنفيذ أمور الرعايا على ما ألفوه من عادات ومعاملات اختلفوا فيها حين ائتلفوا بها، لأنّ الناس مجبولون على الحاجة إلى أنواع لا يقدر الواحد أن يقوم بجميعها، فخولف بين هممهم لينفرد كلّ قوم بنوع منها فيأتلفوا بها، فيقوم الزرّاع بمزارعهم، ويتشاغل الصنّاع بصنائعهم، ويتوفّر التجّار على متاجرهم.
وعليه فى تنفيذها لهم حقّان: أحدهما ألّا يعارض صنفا منهم فى مطلبه، والثانى ألّا يشاركه فى مكسبه. وربما كان للسلطان رأى فى الاستكثار من أحد الأصناف فينقل إليه من لم يألفه فيختلّ النظام بهم فيما نقلوا عنه وفيما نقلوا إليه. وربما ضنّ السلطان عليهم بمكاسبهم فتعرّض لها أو شاركهم فيها فاتّجر مع التجار وزرع مع الزرّاع.
وهذا وهن فى حقوق السياسة وقدح فى شروط الرياسة من وجهين: أحدهما أنه إذا تعرّض لأمر، قصرت فيه يد من عداه؛ فإن تورك عليه لم ينهض به، وإن شورك فيه ضاق على أهله.
وقد روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما عدل وال اتّجر فى رعيّته»
. والثانى لأن الملوك أشرف الناس منصبا فخصّوا بموادّ السلطنه، لأنها أشرف الموادّ مكسبا. فإن زاحموا العامّة فى رذل [2] مكاسبهم أوهنوا الرعايا ودنّسوا
__________
[1] كذا فى الأصل، والمجشة بكسر الميم: الرحا، من جش الشىء: دقه وكسره، وفى «قوانين الوزارة» : «فإن ظهور الارتياب لخيبة» .
[2] فى قوانين الوزارة: «فى درك مكاسبهم» .(6/100)
الممالك؛ وعاد وهنهم عليها فاختلّ نظامها، واعتلّ مرامها.
وقد روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال «إذا اتّجر الراعى هلكت الرعيّة»
. وكتب حكيم الروم إلى الإسكندر: أىّ ملك تطنّف [1] نفسه إلى المحقّرات فالموت أكرم له.
فهذا ما اشتمل عليه الشرط الأوّل.
وأما الشرط الثانى من شروط وزارة التفويض، فهو الدفاع. وهو أسّ السلطنة وقانون السياسة والأخصّ بكفاية السيف فى تدبير الملك وضروب المصالح.
ويشتمل على أربعة أقسام: أحدها الدفاع عن الملك من الأولياء، والثانى الدفاع عن المملكة من الأعداء، والثالث دفاع الوزير عن نفسه من الأكفاء، والرابع دفاعه عن الرعية من خوف [2] واختلال.
فالقسم الأول فى دفاعه عن الملك من أوليائه- ويكون بثلاثة أسباب: أحدها أن يقودهم إلى طاعته بالرغبة، ويكفّهم عن معصيته بالرهبة؛ فإن الرغبة والرهبة إذا تواليا على النفس ذلّت لهما وانقادت خوفا وطمعا، وبهما تعبّد الله الخلق فى وعده ووعيده. والثانى أن يقوم بكفايتهم حتى لا ينفروا بالقوّة أو يتفرّقوا بالضعف؛ وكلاهما قدح فى الملك. والثالث أن يحفظهم من الإغواء، ويحرسهم من الإغراء؛ وذلك بأمرين: أحدهما البحث عن أخبارهم حتى يعلم سليمهم من سقيمهم. والثانى بإبعاد المفسدين عنهم حتى لا يتعدّى إليهم فسادهم؛ فإن الكفّ بحسب الكشف.
__________
[1] تطنفت نفسه الى الشىء: أشفت وأشرفت عليه. وفى قوانين الوزارة «تطلعت» بدل «تطنفت» .
[2] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «من حزف ... » وهو تحريف.(6/101)
والقسم الثانى فى دفاعه عن المملكة من أعدائها- وأعداء الممالك [1] من انفرد بملك أو امتنع بقوّة. وهم ثلاثة أصناف: أكفاء مماثلون، وعظماء متقدّمون، وناجمة منافسون. فأما الأكفاء المماثلون فيدفعون بالمقاربة والمسالمة. وأما العظماء المتقدّمون فيدفعون بالملاطفة والملاينة. وأما الناجمة المنافسون فيدفعون بالسوط والمخاشنة.
والقسم الثالث فى دفاع الوزير عن نفسه من أكفائه- ويكون بعد استصلاح الطرفين: الأعلى وهو الملك، والأدنى وهم الأعوان. وأكفاؤه ثلاثة:
واتر، وموتور، ومنافس.
فأما الواتر- فقد بدأ بشرّه وجاهر بعداوته؛ وكلاهما بغى مؤنس [2] بالنصر عليه. وللوزير فى ترته حقّان: حقّ فى مقابلته على ما قدّم من ترته، وحق فى استدفاع ما جاهر به من عداوته. فأما حقه فى المقابلة، فإن عفا الوزير عنها كان بالفضل جديرا، وإن قابل كان فى المقابلة معذورا. وقد قيل: لذّة العفو أطيب من لذّة التشفى [لأن لذّة العفو يتبعها الحمد ولذة التشفى يعقبها الندم [3]] . قال الشاعر:
فإنّك تلقى فاعل الشّرّ نادما ... عليه ولم يندم على الخير فاعله
وأما حقّه فى استدفاع شرّه، فقد أيقظته مجاهرته، وأوهن كيده مظاهرته.
وقد قيل فى منثور الحكم: أوهن الأعداء كيدا أظهرهم بعداوته. فاحذر بادرته وادفع [4] عداوته. ودفعها مختلف باختلاف طباعه فى انثنائه بالرغبة وتقويمه بالرهبة.
__________
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وهو ما يقتضيه السياق، فان الكلام فى أعداء المملكة. وفى الأصل:
«وأعداء الملك» .
[2] مؤنس: يوقع فى القلب أنسا وطمأنينة بالظفر به.
[3] زيادة عن قوانين الوزارة.
[4] كان ينبغى أن تكون الجملة «فليحذر ... وليدفع ... » لأن الكلام هنا لغائب هو الوزير. لكنها منقولة من قوانين الوزارة- والكلام فيه لمخاطب- من غير تغيير.(6/102)
وأما الموتور- فقد بودئ بالإساءة فصبر عليها، وجوهر بالعداوة فأخفاها؛ فله ترة مظلوم ووثبة مختلس، فتتوقّى ترة ظلامته بالاستعطاف، ووثبة مخالسته بالاحتراز.
وأما المنافس- فهو طالب رتبة إن نال منها سدادا من عوز ياسر، وإن ضويق فيها نافر. فليرخ [1] الوزير له عنان الأمل، وليخفض [2] له جناح منافسته بالاستنابة والعمل؛ ليندفع بالمياسرة عن المنافرة. وليغالط [3] به الأيام، فإن الساعات تهدم الأعمار، ولا يجعل له فراغا يتشاغل فيه بمساءته، ويجعله عذرا فى السعى على منزلته.
فإن ساق القضاء إليه حظّا كان له مصطنعا، يرعى له حقوق الاصطناع. فقد قيل:
[من [4]] علامة الإقبال، اصطناع الرجال. فإن صدّه القضاء عن إرادته وعجّزه القدر عن طلبته كفى الوزير منه ما خافه [وقد أحسن [5]] ، ووصل إلى ما أراده [وقد أجمّ [6]] ، وأوجب بإحسانه شكرا، وأقام بإجمامه عذرا، اجتذب بهما قياد منافسه إلى طاعته، وصرفه بهما عن التعرّض لمنافسته. فهنالك يجعله قبلة رجائه؛ إذ لم يحظ بخير إلّا منه، ولم يقض من زمان وطرا إلّا به. وقد قيل فى منثور الحكم: من استصلح الأضداد، بلغ المراد.
__________
[1] الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب.
[2] الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب.
[3] الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب.
[4] زيادة عن قوانين الوزارة.
[5] زيادة عن «قوانين الوزارة» مع تغيير من الخطاب الى الغيبة لمناسبة السياق، أثبتناها هنا ليتضح بها الكلام. فان قوله: «وأوجب باحسانه الخ» يزداد وضوحا بذكر هذه الزيادة.
[6] زيادة عن «قوانين الوزارة» مع تغيير من الخطاب الى الغيبة لمناسبة السياق، أثبتناها هنا ليتضح بها الكلام. فان قوله: «وأوجب باحسانه الخ» يزداد وضوحا بذكر هذه الزيادة.(6/103)
وربما تعرّض لعداوة الوزير من قصّر عن رتبة منافسته. فليعطه [1] من رجائه طرفا، وليقبض [2] من زمامه طرفا، وليختبره [3] فيهما، فسيقف على صلاحه أو فساده. فإن صلح سوعد، وإن فسد بوعد. فقد قال أردشير بن بابك: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع. وقد قيل فى منثور الحكم: علّة المعاداة، قلّة المبالاة.
والقسم الرابع فى الدفاع عن الرعية من خوف [4] واختلال- فالخوف من نتائج الخرق [5] ، والاختلال من نتائج الإهمال؛ وكلاهما من سوء السّيرة وفساد السياسة، [لتردّدهما بين تفريط وإفراط، وخروجهما عن العدل إلى تقصير أو إسراف [6]] .
وهم قوام الملك المستمدّ، وذخيرة المستعدّ. وليس يستقيم ولن يستقيم ملك فسدت فيه أحوال الرعايا، لأنّه منهم بمنزلة الرأس من الجسد لا ينهض إلا بقوّته ولا يستقلّ إلا بمعونته. وعلى الوزير لهم ثلاثة حقوق:
أحدها أن يعينهم على صلاح معايشهم ووفور مكاسبهم، لتتوفّر بهم موادّه، وتعمر بهم بلاده.
والثانى أن يقتصر منهم على حقوقه، ويحملهم فيها على إنصافه، ليكونوا على الاستكثار أحرص، وفى الطاعة أخلص؛ ولا يكلهم فى مقادير الحقوق الى غيره، ليكونوا له أرجى وعليه أحنى.
__________
[1] فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة.
[2] فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة.
[3] فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة.
[4] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «من حزف ... » .
[5] فى الأصل: «فالحزف من نتائج الخوف» . وبما أثبتناه يستقيم الكلام، فان الخرق يلزمه مجاوزة الحد والخروج عما يقضى به العدل، وهو بهذا المعنى إفراط وإسراف يقابله الاهمال الذى هو التفريط والتقصير. وفى الحق أن خوف الرعية نتيجة لازمة للخرق بهذا المعنى. على أن صورة ما أثبتناه أقرب شىء لصورة الأصل.
[6] زيادة عن قوانين الوزارة.(6/104)
والثالث أن يحوطهم بكفّ الأذى عنهم، ومنع الأيدى الغالبة منهم؛ ليكون لهم كالأب الرءوف ويكونوا له كالأولاد البررة؛ فإنّه كافل مسترعى ومسئول مؤاخذ.
ولله عليه فيهم حقّ، وللسلطان عليه فيهم [1] تبعة. فليغتنم الوزير بهم شكر إحسانه، ويجمّل بعدله فيهم آثار سلطانه.
وأما الشرط الثالث من شروط وزارة التفويض وهو الإقدام، فهو فى السياسة أوفى شطريها [2] ، وفى الوزارة أكفى [3] نظريها؛ لظفر الإقدام، وخيبة الإحجام. وقد قيل فى منثور الحكم: بالإقدام تثبت الأقدام. وإنما يجب الإقدام إذا ظهرت أسبابه، وقصدت أبوابه. قال الشاعر:
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإن تقصد إلى الباب تهتدى
ثم يجمع بعدهما بين حزمه وعزمه. فالحزم تدبير الأمور بموجب الرأى، والعزم تنفيذها للوقت المقدّر لها. فإذا تكاملت شروط الإقدام من هذه الوجوه الأربعة- وهى: ظهور أسبابه، وقصد أبوابه، والحزم، والعزم- لم يمنع من الظّفر، إلا عوائق القدر.
والإقدام ينقسم إلى قسمين: أحدهما الإقدام على اجتلاب المنافع، والثانى على دفع المضارّ. فأما الإقدام على اجتلاب المنافع فضربان: أحدهما استضافة ملك، والثانى استزادة موادّ. فأما استضافة الملك فتكون بالحزم والعزم إذا اقترنا برغبة أو رهبة. ولأن تكون بالاغتيال والاحتيال، أولى من أن تكون بالقتال.
وأما استزادة الموادّ فتكون بالعدل والإحسان إذا اقترنا برفق ومياسرة لتكثر بهما العمارة وتتوفّر بهما الزراعة؛ فإنّ الأرض كنوز الملك يستخرجها أعوان متطوّعون يقنعهم
__________
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «منهم تبعة» .
[2] فى قوانين الوزارة: «أو فى شرطها» .
[3] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الاصل «أو فى نظريها» .(6/105)
الكفّ عنهم ويقطعهم العسف بهم. وأما الإقدام على دفع المضارّ فضربان: أحدهما.
دفع ما اختلّ من الملك. وله سببان: إهمال أو عجز. والثانى دفع ما نقص من الموادّ.
وله سببان: نفور أو جور. فيحتاج الوزير أن يدفع ضرر كلّ واحد منهما بالضدّ [من سببه، فإن علاج كل داء بضده [1]] من الدواء. فإن كان اختلال الملك من الإهمال أيقظ له عزمه، وإن كان من العجز استعمل فيه حزمه. وإن كان نقص الموادّ من النفور استنجد فيه رهبته، وإن كان من الجور أظهر فيه معدلته. فإن كان حدوث ذلك فى الملك صدر عن الوزير كان مؤاخذا بتفريطه فى الابتداء، ومستدركا لتقصيره فى الانتهاء؛ فيجبر إساءته بإحسانه، ويمحو قبيحه بجميله. وإن كان حدوثه من غيره كانت جريرة الإساءة على من أحدثه، وكان حمد الإحسان للوزير.
وأما الشرط الرابع من شروط وزارة التفويض وهو الحذر- فيتعيّن على الوزير أن يكون حذرا، لأنّ الدهر ثائر بطوارقه، ومنافر بنوائبه، يغدر إن وفى، ويفتك إن هفا. قال عبد الحميد: أصاب الدنيا من حذرها، وأصابت الدنيا من أمنها. وقال عبد الملك بن مروان: احذروا الجديدين، فللأقدار أوقات تغضى عنها الأبصار. فإذا صادفت طوارق الدهر غرّا مسترسلا صار هدفا لسهامه الصوائب، وغرضا لمنافرة الحوادث والنوائب. وقد قال بعض الحكماء: من أعرض عن الحذر والاحتراس، وبنى أمره على غير أساس، زال عنه العزّ واستولى عليه العجز؛ وإن قدّم لطوارقه حذر المتيقّظ، وتلقّاها بعدّة المتحفّظ، ردّ بادرتها بعزم ذى حزم قد حلب أشطر دهره، وقام بواضح عذره. قال بعض الشعراء:
إنّ للدهر صولة فاحذرنها ... لا تبيتنّ قد أمنت الدّهورا
__________
[1] التكملة عن «قوانين الوزارة» .(6/106)
ثم هو بعد حذره مستسلم لقضاء لا يردّ؛ وقدر لا يصدّ.
وقد روى عن أبى الدّرداء رضى الله عنه عن رسول الله عليه وسلم أنه قال: «احذروا الدنيا فإنّها أسحر من هاروت وماروت»
. وقيل لبعض الحكماء: من السعيد؟ قال: من اعتبر بأمسه، واستظهر لنفسه. قال بعض الشعراء:
وحذرت من أمر فمرّ بجانبى ... لم يبكنى ولقيت ما لم أحذر
وللحذر حدّ يقف عنده إن زاد [عليه [1]] صار خورا، كما أن للإقدام حدّا إن زاد عليه صار تهوّرا. والزيادة على الحدود، نقص فى المحدود. ولهما زمان إن خرجا عنه صار الحذر فشلا، والإقدام خرقا. وعيارهما معتبر بحزم العاقل ويقظة الفطن. قال بعض الحكماء: ليعرفك السلطان عند افتتاح التدبير بالحذر، وعند وقوع الأمر بالجدّ.
والحذر يلزم من أربعة أوجه: أحدها الحذر من الله تعالى فيما فرض. والثانى [الحذر [2]] من السلطان فيما فوّض. والثالث الحذر من الزمان فيما اعترض. والرابع الحذر من [غلبة [3]] الأعداء ومكر الدّهاة.
فأما الحذر من الله تعالى- فهو عماد الدّين الباعث على الطاعة. والحذر منه هو الوقوف عند أوامره، والانتهاء عن زواجره؛ فيعمل بطاعته فيما أمر، وينتهى عن معصيته فيما حظر. فلن يرى قليل الحذر إلا متجوّزا فى دينه طائحا فى غلوائه، لا يرى رشدا فى العاجل، وهو على وعيد فى الآجل؛ مع نفور النفوس منه وسراية الذّم فيه.
وقد قيل فى بعض الصحف الأولى: العزّة والقوّة يعظمان القلب، وأفضل منهما خوف الله تعالى؛ لأن من لزم خشية الله لم يخف الوضيعة ولم يحتج إلى ناصر.
وقال علىّ رضى الله عنه: من حاول أمرا بمعصية الله كان أبعد لما رجا، وأقرب لمجىء ما اتّقى.
__________
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[3] زيادة عن «قوانين الوزارة» .(6/107)
وأما الحذر من السلطان، فهو وثّاب بقدرته، متحكّم بسطوته، يميل به الهوى فيقطع بالظنّ ويؤاخذ بالارتياب؛ فالثقة به عجز، والاسترسال معه خطر. والحذر منه فى حالتى السّخط والرضا أسلم؛ لأنّه يستذنب إذا ملّ حتى يصير المحسن عنده كالمسىء. فليستخلص [1] رأيه بالنصح، ويستدفع تنكّره بالحذر. وقال بعض الحكماء:
اصحب السلطان بثلاث: الحذر، ورفض الدولة، والاجتهاد فى النصح. والحذر منه يكون بثلاثة أمور: أحدها ألّا يعوّل على الثقة به فى الإدلال والاسترسال، فما جرّت الثقة إلا ندما. وقد قيل: الخرق الدالّة على السلطان، والوثبة قبل الإمكان.
[فاقبض نفسك إذا قدّمك، وتواضع له إذا عظّمك، واحتشمه [2] إذا آنسك، ولن له إذا خاشنك، واصبر على تجنّيه [إذا غالظك [3]] ؛ فهو على التّجنى أقدر، فكن على احتماله أصبر؛ فربّما كانت مجاملته لك مكرا، وتجنّيه عليك غدرا [4]] . فقد قيل فى بعض الصحف الأولى: حبّ الملك وهواه يشبه الطّلّ على العشب. فلا تجعل له فى إظهار تنكّره عذرا؛ فربما اعترف بالحق فوفّى، ورقّ بالصبر فكفّ. وقد قيل فى أمثال كليلة ودمنة: صاحب السلطان كراكب الأسد يخافه الناس وهو لمركوبه أشدّ خوفا.
والثانى من حذره منه أن يساعده على مطالبه، ويوافقه على محابّه [ومآربه [5]] ، ولا يصدّه عن غرض إذا لم يقدح فى دين ولا عرض، ولا يتوقّف عن إجابته
__________
[1] فى الأصل: «فيستخلص ... » والسياق يقتضى الأمر كما فى «قوانين الوزارة» .
[2] ورد فى الأساس: «أنا أحتشمك منك أى أستحيى» وفى اللسان وشرح القاموس أحتشم منه وعنه ولا يقال: احتشمه. فعبارة الأصل هاهنا صحيحة على ما فى الأساس.
[3] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[4]- هذه الجملة التى بين القوسين المربعين نقلها صاحب الأصل عن قوانين الوزارة من غير تغيير فى الضمائر، وعادته فى النقل عنه أن يغير الضمير من الخطاب الى الغيبة، لأن قوانين الوزارة يوجه الكلام لمخاطب، والأصل هنا يوجهه لغائب، كما هو واضح.
[5] زيادة عن «قوانين الوزارة» .(6/108)
وإن شغله ما هو أهمّ؛ فإن الملك لا يقيم لوزيره عذرا إذا وجده فى أغراضه مقصّرا، وإن كان على مصالح ملكه متوفّرا؛ فإنّه اتخذه لنفسه ثم لملكه؛ وقد يقدّم حظّ نفسه على مصلحة ملكه، لغلبة الهوى ونازع الشهوة. فليكن متوفّرا على مراده ليسلم اعتقاده له. فإن قدحت أغراضه فى دين أو عرض سلّ الوزير نفسه من وزرها وتحفّظ من شينها [1] بالتلطّف فى كفّه عنها بما يعتاضه بدلا منها، ليسهل عليه إقلاعه عنها. فإن ساعده الملك عليها سلم دينهما، وزال شينهما.
فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله خزائن للخير والشرّ مفاتيحها الرجال فطوبى لمن جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشرّ وويل لمن جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير»
. وقال الشاعر:
ستلقى الذى قدّمت للشّرّ محضرا ... وأنت بما تأتى من الخير أسعد
وإن أصرّ الملك عليها فليلن [2] الوزير فى متاركته، ويحجم عن مساعدته؛ وهو خداع يتدلّس بالمغالطة ويخفى بالحزم؛ فليستنجد فيه عقله، ويستعمل فيه حزمه؛ ليسلم من تنكّره، ويخلص من وزره.
فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ من شرار الناس عند الله يوم القيامة عبدا أذهب آخرته بدنيا غيره»
. والثالث من حذره منه أن يذبّ عن نفسه وملكه بما استطاع من مال ونفس؛ فإنّه [عن نفسه [3]] يذبّ، ولها يربّ [4] ؛ فإنّه لا يصلح حاله مع فساد حال ملكه وهو فرع من أصله. وهو [5] يسترسل لثقته به، ويستسلم لتعويله عليه؛ فليقابل ثقته بأمانته، واستسلامه بكفايته، ولا
__________
[1] كذا فى «قوانين الوزارة» ويرجحه ما يأتى من قوله «سلم دينهما وزال شينهما» وفى الأصل «من شبهتها» .
[2] كذا يؤخذ من «قوانين الوزارة» ، وفى الأصل «فليكن ... » .
[3] زيادة من قوانين الوزارة يقتضيها السياق.
[4] يرب: يصلح.
[5] الضمير فى «وهو يسترسل ... » يرجع الى الملك.(6/109)
يلجئه أن يباشر دفع الخوف والحذر، فيلجئه إلى ما هو أخوف وأحذر؛ لأن الوزير يخاف الملك ويخاف ما يخافه، فيتوالى عليه خوفان، ويتمالأ عليه خطران.
قال شاعر:
إنّ البلاء يطاق غير مضاعف ... فإذا تضاعف صار غير مطاق
وأما حذره من زمانه، فلأنّه يتقلّب بألوانه، ويخشن بعد ليانه، فيسلب ما أعطى ويفرّق ما جمع.
وقد روى عن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنظروا دور من تسكنون وأرض من تزرعون وفى طرق من تمشون»
. وقال بعض الحكماء: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها. وقال بعض البلغاء: إن الدنيا تقبل إقبال الطالب، وتدبر إدبار الهارب؛ لا تبقى على حالة، ولا تخلو من استحالة؛ تصلح جانبا بإفساد جانب، وتسرّ صاحبا بمساءة صاحب؛ فالكون فيها على خطر، والثّقة بها على غرر. وقال قيس بن الخطيم:
ومن عادة الأيّام أنّ خطوبها ... إذا سرّ منها جانب ساء جانب
[والحذر [1]] من الزمان يكون من أربعة أوجه:
أحدها: ألّا يثق بمساعدته، ولا يركن إلى مياسرته، فيغفل عن الحذر والاستعداد، فربّما انعكس فافترس، وغافص [2] فاختلس. وقد قيل: للدهر صروف، لست عنها بمصروف. قال أبو العتاهية:
إنّ الزمان وإن ألا ... ن لأهله لمخاشن
فخطوبه [3] المتحرّكا ... ت كأنّهنّ سواكن
__________
[1] فى الأصل بياض، والتكملة عن «قوانين الوزارة» .
[2] غافصه: فاجأه وأخذه على غرّة منه.
[3] كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «بخطوبه» .(6/110)
والثانى: أن ينتهز فرصة مكنته [1] بفعل الجميل، وغرس الصنائع، وإسداء العوارف؛ ليكون ذلك ذخيرة له فى النوائب، وخلفا فى العواقب؛ ولا يلهيه استكفاؤه عن الاستظهار، ولا يمنعه استغناؤه عن الاستكثار. فقد قيل: المرء ابن يومه، فلينتبه من نومه.
وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحّتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك»
. قال سعيد بن سلم:
إنّما الدنيا هبات ... وعوار مستردّه
شدّة بعد رخاء ... ورخاء بعد شدّه
والثالث: أن يكفّ نفسه عن القبيح ويقبض يده عن الإساءة، ليكفى رصد التّرات، وغوائل الهفوات؛ فيأمن من وجله، ويسلم من زلله؛ ولا يتطاول بالقدرة فيغفل وهو مطلوب، ويأمن وهو مسلوب.
والرابع: أن يستعدّ لآخرته، ويستظهر لمعاده، ولا يغترّ بالأمل فيخونه الفوت، ولا تلهيه الدنيا فتصدّه عن الآخرة. فقلّ من لا بسها فسلم من تبعاتها؛ لهفوات غرورها، [وعواقب [2] شرورها] .
روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا عجبا كل العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور»
. وقيل فى منثور الحكم:
طلاق الدنيا مهر الجنّة.
وأما حذره من أهل الزمان- فلأن الإنسان محسود بالنعمة، مغبوط بالسلامة. والناس على أربعة أطوار متباينة:
__________
[1] المكنة بفتح فكسر: التمكن.
[2] زيادة عن «قوانين الوزارة» .(6/111)
أحدها [1]] خيّر عاقل يسالم بخيره، ويساعد بعقله؛ فالظّفر به سعادة، والاستعانة به توفيق. فليجتهد [2] ألّا يفوته وإن كان قليل الوجود، ليحظى بخيره ويسعد بعقله. وقلّ أن يكون الخيّر العاقل إلا متحلّيا بالعلم متزيّنا بالأدب. فإذا أظفره الزمان بمن تكاملت فضائله، وتهدّبت خصائله، فليتّخذه [2] ذخيرة نوائبه، وعدّة شدائده، يجده كفيل صلاحها، وزعيم نجاحها.
والطور الثانى: شرّير جاهل يضرّ بشرّه، ويضلّ بجهله. فليحذر مخالطته، فهى أضر من السّمّ، وأنفذ من السهم. وشرّه بجهله منتشر يضعف إن تورك، ويقوى إن شورك؛ فليكفف شرّه بالإبعاد، ولا يعزّه بالتقريب، فيلحقه ضررى شرّه وجهله.
وضرر الجهل أعمّ من ضرر الشر؛ لأن قانون الشر معلوم، وقانون الجهل غير معلوم.
والطور الثالث: خيّر جاهل يسالم بخيره، ويضل بجهله؛ فليقاربه [3] ، إن شاء، لخيره، ولا يستعمله لجهله؛ ليكون بخيره موسوما، ومن جهله سليما.
والطور الرابع: شرّير عاقل وهو الداهية المكر، يستعمل للخطوب إذا حزبت [4] .
فليكن على حذر من مكره، ويتاركه فى الدّعة على استدفاع لشره.
وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يؤيّد هذا الدّين بالرجل الفاجر»
. ومثل هذا يستكفّ بمعونة تمدّه، ومراعاة ترضيه؛ فإنّه كالسّبع الضارى إن أجعته هاج، وإن أشبعته سكن؛ ليكون مذخورا للحاجة؛ فإن للزمان خطوبا لا تدفع إلا بشرار أهله؛ كما قال حذيفة بن اليمان لرجل: أيسرّك أن تغلب شرّ الناس؟ قال: نعم؛ قال:
__________
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2] السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر.
[3] السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر.
[4] حزبه الأمر: نابه واشتدّ عليه.(6/112)
إنك لن تغلبه حتى تكون شرّا منه. فيعدّ لخطوب الشرّ إن طرقت؛ فإنّه بها أخبر، وعلى دفعها أقدر، ولأهلها أقهر؛ ف «إنّ الحديد بالحديد يفلح» . فيستكفّ إلى حينها بما يدفع عادية شرّه، ويقطع غائلة مكره، وإن كانت ضراوة الشر أجذب، وطباع النفوس أغلب. فإن وجد الوزير من هذا الداهية فتورا فى همّته، وقصورا فى منّته [1] كانت سراية مكره أنزر، وتأثيره فى الخطوب أيسر. وإن كان عالى الهمّة قوىّ المنّة يتطاول إلى معالى الأمور، كانت سراية مكره أوفر، وتأثيره فى الخطوب أكثر.
فليعطه [2] فى كل حال من أمريه من الحذر والسكون بحسب ما تقتضيه همّته، وتبعث عليه منّته؛ ليكون قانونه معه مستقيما، [ومن دهاء مكره [3] سليما] ؛ لا يناله خور من سرف، ولا استرسال من تقصير؛ فقد جعل الله تعالى لكل شىء قدرا.
فهذا تفصيل ما اشتمل عليه العقد والحلّ.
وأما التقليد والعزل، وهو الشطر الثانى من شروط وزارة التفويض، فالتقليد على ضربين: تقليد تقرير، وتقليد تدبير.
فأما تقليد التقرير، فهو فيما يستأنف إنشاء قواعده، ويبتدأ تقرير رسومه.
وهو على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون فى حاضر يقدر الوزير على مباشرته، فالوزير أخصّ بتقريره، وأحقّ بتنفيذه؛ لأنها أصول مؤبّدة وهى من خواصّ نظره. فإن قلّد عليها واستناب
__________
[1] المنة: القوة.
[2] السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر.
[3] زيادة عن «قوانين الوزارة» .(6/113)
فيها، كان تقصيرا منه إن جلّ، ومعذورا فيه إن قلّ. ولم يكن لمن قلّده تنفيذ تقريره إلا عن إذنه، وإلا كان عزلا خفيّا؛ لأنه يصير ملتزما وقد كان ملزما، ومحكّما [1] وقد كان حاكما.
والثانى: أن يكون التقليد فيما بعد عنه ويمكن استئماره [2] فيه، فيجوز أن يستنيب فى تقريره، ويكون موقوفا على إمضاء الوزير وتنفيذه. ولا يجمع المستناب بين الأمرين، ليكون التقليد مقصورا على التقرير، والوزير مختصا بالتنفيذ. فإن جمع المستناب بين التقرير والتنفيذ كان فيه متجوّزّا، إلا أن يؤمر به فيصير الآمر متجوّزا، إلا أن يكون اضطرارا يزول معه حكم الاختيار.
والثالث: أن يكون التقليد [3] فيما بعد عنه ويتعذّر استئماره فيه، فيجوز أن [يستنيب [4] فيه من] يجمع بين تقريره وتنفيذه إذا تكاملت فى المستناب ثلاثة شروط: أحدها الكفاية التى ينهض بها فى التقرير. والثانى الهيبة التى يطاع بها فى التنفيذ. والثالث الأمانة التى يكفّ بها عن الاسترشاء والخيانة، بعد تكامل الشروط المعتبرة فى جميع الولايات، وهى ثلاثة: العقل، والديانة، والمروءة. فلا فسحة فى تقليد من أخلّ ببعضها، لقصوره عن حقها، وخروجه من أهلها؛ وإنما يختلف ما سواها باختلاف الولايات، وإن كانت هذه مستحقّة فى جميعها. وقد قال كسرى أبرويز: من اعتمد على كفاة السوء لم يخل من رأى فاسد وظنّ كاذب وعدوّ غالب. وقد قال بعض الحكماء:
__________
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «لأنه ملزم وقد كان ملزما، ومحكم ... الخ» .
[2] الاستثمار: المشاورة.
[3] كذا فى قوانين الوزارة، والتقليد هو موضوع الكلام، وفى الأصل: «التنفيذ ... » .
[4] التكلمة عن «قوانين الوزارة» .(6/114)
لا تستكفينّ مخدوعا عن عقله؛ والمخدوع [1] من بلغ به قدرا لا يستحقه، أو أثيب ثوابا لا يستوجبه.
وأما تقليد التدبير، فهو النظر فيما استقرّت رسومه، وتمهّدت قواعده. وهو مشترك بين الوزير وبين الناظر فيه؛ لكن [2] يختصّ الوزير بمراعاته، والناظر بمباشرته؛ ليستظهر [3] الوزير بالمراعاة، ولا يتبذّل [4] بالمباشرة. وهو ضربان: أحدهما تدبير الأجناد.
والثانى تدبير الأموال.
فأما تدبير الأجناد، فلا يستغنى الوزير عن تقليد سفير فيه وإن كانوا يلاقونه؛ ليحفظ بالسفير حشمة وزارته ولا يقف أغراض أجناده، وقد انصان عن لغط كلامهم، وجفوة طباعهم. والأغلب على تدبيرهم الرأى والسياسة. فيعتبر فى هذا المختار لهذا التقليد ستة شروط:
أحدها: الهيبة التى تقودهم إلى طاعته، لأنه يقوم بتدبير ذوى سطوة، فيحتاج إلى قوّة الهيبة.
والثانى: أن يكون من ذوى الرأى والسياسة، ليقودهم برأيه إلى الصواب ويقفهم بسياسته على الاستقامة.
والثالث: أن يكون متوصّلا إلى استعطاف القلوب، واجتماع الكلمة، ليسلموا من اختلاف أو منافرة.
__________
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «فالمخدوع ... » بالفاء وظاهر أن حسن السياق يقتضى الواو.
[2] كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «لكى يختص ... » .
[3] يستظهر: يحتاط ويستوثق.
[4] فى الأصل «يتبدّل» بالدال. والسياق يقتضى ما وضعناه.(6/115)
والرابع: أن يكون بينه وبين الأجناد مناسبة فى الطباع ومشاكلة فى الأخلاق يمتزجون [بها [1]] فى الموافقة و [لا [2]] يختلفون [فيها [3]] فى المباينة [4] .
والخامس: أن يكون سليم الباطن صحيح المعتقد؛ لأنه يصير أخصّ بهم، ويصيرون أطوع له.
والسادس: ما اختلف باختلاف الحال، فإن كان فى زمان السلّم اعتبر فيه الأناة والسكون؛ وإن كان فى زمان الحرب اعتبر فيه الإقدام والسّطوة، ليكون مطبوعا على ما يضاهى حال زمانه. فإذا ظفر بمن استكملها- وبعيد أن يظفر به إلا أن يعان بالتوفيق- وجب تقليده، ولزمت مناصفته فى الحقوق التى له وعليه، ليدوم ويستقيم. فقد قيل فى منثور الحكم: من قضيت واجبه، أمنت جانبه.
وأما تدبير الأموال، فالوزير مصون عن مباشرتها، وإنما يحفظ دخلها بالهيبة والاستظهار، ويضبط خرجها بالحاجة والاضطرار. وللتقليد على كل حال [5] منهما شروط.
فشروط التقليد على مباشرة دخلها خمسة:
أحدها: أن يكون مطبوعا على العدل، لينصف وينتصف.
والثانى: أن يكون متديّنا بالأمانة، ليستوفى ويوفّى.
والثالث: أن يكون كافيا، ليضبط بكفايته، ولا يضيع بعجزه.
والرابع: أن يكون خبيرا بعمله يعرف وجوه موادّه، وأسباب زيادته.
__________
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[3] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[4] فى «قوانين الوزارة» : « ... فيها بالمباينة» .
[5] فى قوانين الوزارة: «على كل واحد منهما» .(6/116)
والخامس: أن يكون رفيقا بمعامليه غير عسوف ولا أخرق. حكى ان الإسكندر كتب إلى معلّمه أرسطاطاليس ليستشيره فى عمّاله؛ فكتب إليه: إنّ من كان له عبيد فأحسن فى سياستهم فولّه الجند، ومن كان له ضيعة فأحسن تدبيرها فولّه الخراج.
وأما شروط التقليد على مباشرة خرجها، بعد الأمانة التى هى مشروطة فى كلّ ولاية، فمعتبرة بأحوال الخرج. وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان راتبا عن رسوم مستقرّة كأرزاق الجيوش والحواشى، فللتقليد عليه شرطان: معرفة مقاديرها، ومعرفة مستحقّيها.
والثانى: ما كان عارضا عن أوامر تقدّمتها والناظر مأمور بها كالصّلات وحوادث النّفقات، فللتقليد عليه شرطان: وقوفها على الأوامر، ومعرفة أغراض [1] الآمر.
والثالث: ما كان عارضا فوّض إلى رأى الناظر ووكل إلى تقريره كالمصالح والنّفقات، فالتقليد عليه أوفى شروطا لوقوفها على اجتهاده وتقديره، فيحتاج مع الأمانة إلى ثلاثة شروط:
أحدها: معرفة وجوه الخرج، حتى لا يتصرف فى غير حقّ.
والثانى: الاقتصاد فيه، حتى لا يفضى إلى سرف ولا تقصير.
والثالث: استصلاح الأثمان والأجور من غير تحيّف [2] ولا غبن.
__________
[1] كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «ومعرفة أغراض الأوامر» .
[2] التّحيّف: التنقّص.(6/117)
وأما العزل فضربان:
أحدهما: ما كان عن غير سبب فهو خارج عن السياسة؛ لأن للأفعال والأقوال أسبابا إذا تجرّدت عنها [1] صار الفعل عبثا والكلام لغوا لا يقتضيه رأى حصيف، ولا توجبه سياسة لبيب. وقد قيل: العزل أحد الطّلاقين. فكما أنه لا يحسن الطلاق بغير سبب، كذلك لا يحسن العزل بغير سبب. وإذا لم يثق الناظر باستدامة نظره مع الاستقامة، عدل عنها إلى النظر لنفسه، فعاد الوهن على عمله.
وما يكون هذا العزل إلا عن فشل أو ملل.
والضرب الثانى: أن يكون العزل لسبب دعا إليه. وأسبابه تكون من ثمانية أوجه:
أحدها: أن يكون سببه خيانة ظهرت منه، فالعزل لها من حقوق السياسة مع استرجاع الخيانة والمقابلة عليها بالزواجر المقوّمة. ولا يؤاخذ فيها بالظنون والتّهم.
فقد قيل: من يخن يهن.
والوجه الثانى: أن يكون سببه عجزه وقصور كفايته، فالعمل بالعجز [مضاع [2]] ؛ وهو نقص فى العاجز وإن لم يكن ذنبا له؛ فلا يجوز فى السياسة إقراره على العمل الذى عجز عنه. ثم روعى عجزه بعد عزله، فإن كان لثقل ما تقلّده من العمل جاز أن يقلّد ما هو أسهل، وإن كان لقصور منّته وضعف حزمه لم يكن أهلا لتقليد ولا عمل.
__________
[1] كذا فى الأصل. والذى يؤخذ من كتب اللغة أن «تجرّد» يتعدّى ب «من» .
[2] التكملة عن «قوانين الوزارة» .(6/118)
والوجه الثالث: أن يكون سببه اختلال العمل من عسفه أو خرقه. فهذا السبب زائد على الكفاية، وخارج عن السياسة. والوزير المقلّد فيه بين خيارين:
إما أن يعزله بغيره، وإما أن بكفّه عن عسفه وخرقه. ويجوز أن يكون مرصدا لتقليد ما تدعو [1] السياسة فيه الى العسف لمن شاقّ ونافر. فقد قيل: لكلّ بناء أساس، ولكلّ تربة غراس.
والوجه الرابع: أن يكون سببه انتشار العمل به من لينه وقلّة هيبته. فهذا السبب موهن للسياسة. والوزير فيه بين خيارين: إما أن يعزله بمن هو أقوى وأهيب، وإما أن يضمّ إليه من تتكامل به القوّة والهيبة. وخياره فيه معتبر بالأصلح. ويجوز أن يقلّد بعد صرفه ما لا يستضرّ فيه بضعفه.
والوجه الخامس: أن يكون سببه فضل كفايته وظهور الحاجة إليه فيما هو أكبر من عمله. فهذا أحمد وجوه العزل وليس بعزل فى الحقيقة، وإنما هو نقل من عمل إلى ما هو أجلّ منه، فصار بهذا العزل زائد الرتبة. وقد قال بعض البلغاء:
الناس فى العمل رجلان: رجل يجلّ به العمل لفضله ورياسته؛ ورجل يجلّ بالعمل لتقصيره ودناءته، فمن جلّ به العمل ازداد تواضعا وبشرا، ومن جلّ بالعمل ازداد ترفّعا وكبرا.
والوجه السادس: أن يكون سببه وجود من هو أكفأ [2] منه. فيراعى حال الأكفأ، فإن كان فضل كفايته مؤثّرا فى زيادة العمل به كان عزل الناظر به من لوازم
__________
[1] كذا فى قوانين الوزارة. وفى الأصل: «ما تدعو إليه السياسة فيه ... الخ» وظاهر أن كلمة «إليه» مقحمة لغير حاجة.
[2] استعمال «أكفأ» بمعنى أكثر اضطلاعا بالأمر، من الخطأ المشهور، وكذلك كفء وأكفاء فى هذا المعنى، وانما الصواب لغة فى كل هذا: أكفى، وكاف، وكفاة، من الكفاية التى هى الاضطلاع بالأمر وحسن القيام به.(6/119)
السياسة ولم يسغ فيها إقراره على عمله؛ وإن لم يؤثّر فى زيادة العمل كان عزل الناظر من طريق الأولى فى تقديم الأكفاء وتخيّر الأعوان، وإن جاز فى السياسة إقرار الناظر على عمله لنهوضه به.
والوجه السابع: أن يكون سببه أن يخطب عمله من الكفاة من يبذل زيادة فيه. فلا يجوز عزله ببذل الزيادة حتى يكشف عن سببها، فربما تخرّص [1] بها الباذل لرغبة فى العمل، أو لعداوة فى العامل. فإن لم يظهر لها بعد الكشف موجب لم يجز فى السياسة عزله بهذا البذل الكاذب؛ وكان الباذل جديرا بالإبعاد لابتدائه بالإدغال [2] .
فإن ظهر موجب الزيادة لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون لتقصير الناظر؛ فيجب عزله. والوزير بعد عزله بين خيارين: إما أن يقلّد الباذل أو غيره من الكفاة. والثانى أن يكون موجبها فضل كفاية الباذل؛ فيجب عزله بالباذل دون غيره. والثالث أن يكون سببها عسف الباذل وخرقه، فلا يجوز فى السياسة عزل الناظر ولا تقريب الباذل، فربما مال إلى الزيادة من تغاضى عن العدل، فعزل وقلّد فصار هو العاسف المجازف.
والوجه الثامن: أن يكون سببه أن الناظر مؤتمن، فيخطب عمله ضامن. فتضمين الأعمال خارج عن قوانين السياسة العادلة، لأن المؤتمن عليها إذا كان كافيا استوفى ما وجب، وكفّ عما لم يجب؛ وهذا هو العدل. والضامن إن ضمنها بمثل ارتفاعها لم يؤثر، وإن ضمنها بأكثر منه تحكّم فى عمله، وكان بين عسف أو هرب، لأنه ضمن ليغنم لا ليغرم. وحكى أن المأمون عزم على تضمين السّواد، وعنده عبيد الله
__________
[1] تخرص: افترى وكذب. وفى الأصل «فربما تحرص ... » ، وفى قوانين الوزارة «فربما يخرجه ... » . وما وضعناه يظهر أنه المناسب للسياق. فلعل ما فى الأصل يكون محرفا عنه.
[2] الإدغال هنا: الوشاية والخيانة.(6/120)
ابن الحسن العنبرىّ القاضى؛ فقال له: [يا أمير المؤمنين [1]] إن الله قد دفعها إليك أمانة، فلا تخرجها من يدك قبالة [2] . فعدل عن الضّمان.
فهذا تفصيل ما تعلّق بوزارة التفويض من عقد وحل وتقليد وعزل. فلنذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه.
ذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه
فأما حقوق السلطان على وزيره فهى ثلاثة:
أحدها: قيامه بمصالح ملكه، وهى أربع: عمارة بلاده، وتقويم أجناده، وتثمير أمواله، وحياطة رعيّته.
والثانى: قيامه بمصالح نفسه، وهى أربع: إدرار [3] كفايته، وتحمّل عوارضه، وتهذيب حاشيته، وإعداد ما يستدفع به النوائب.
والثالث: قيامه بمقاومة أعدائه، وذلك بأربعة أشياء: تحصين الثّغور، واستكمال العدّة، وترتيب العساكر، وتقدير الحدود. فيجب على الوزير أن يؤدّى حقوق سلطانه، ويوفّى شروط ائتمانه؛ ويحذر بادرة مؤاخذته إن قصّر، وسطوة انتقامه إن فرّط؛ لأن بادرة الانتقام، أسرع من ظهور الإنعام؛ [لأن الانتقام يصدر عن طيش الغضب، والإنعام يصدر عن أناة الكرم [4]] . وقد قيل فى حكم الفرس: ما أضعف طمع صاحب
__________
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2] القبالة: الكفالة. من قبل (من باب نصر وضرب وسمع) بمعنى كفل. ومعناها هنا: أن يعطى السلطان عاملا أو أن يقبل العامل عملا من أعمال السلطان يستغله فى مقابل مقدار معين من المال يتكفل بأدائه إليه.
[3] كذا بالاصل، وفى قوانين الوزارة «إدراك» .
[4] زيادة عن «قوانين الوزارة» .(6/121)
السلطان فى السلامة. وذلك أنّه إن عفّ جنى عليه العفاف عداوة الخاصة، وإن بسط يده جنى عليه البسط ألسنة المتنصّحين. فلزم لذلك أن يكون حذره أغلب من رجائه، وخوفه أكثر من أمنه. ولئن تكدّر بهما العيش فهما إلى السلامة أدعى.
وأما حقوق الوزير على السلطان فثلاثة: أحدها: معونته على نظره.
وذلك بأربعة أشياء: تقوية يده، وتنفيذ أمره، وإطلاق كفايته، وألّا يجعل لغيره عليه أمرا. وقد قال سابور بن أردشير فى عهده إلى ابنه هرمز: ينبغى للوزير أن يكون قوىّ الأمر، مقبول القول، يمنعه مكانه منك، من الضراعة لغيرك، وتبعته الثّقة بك، على بذل النصيحة لك، ويشجّعه ما يعرف من رأيك، على مقاومة أعدائك؛ وأحذّرك أن تنزل بهذه المنزلة من سواه من خدمك.
والثانى: أن يثق منه بأربعة أشياء: ألّا يؤاخذه بغير ذنب، وألّا يطمع فى ماله من غير خيانة، وألّا يقدّم عليه من هو دونه، وألّا يمكّن منه عدوّا. وقد عهد ملك إلى ابنه فقال: يا بنىّ، إنّك لن تصل إلى إحكام ما تريده من تدبير ملكك إلا بمعونة وزرائك وأعوانك، فأعنهم على طاعتك بمياسرتك، وعلى معونتك بمساعدتك.
والثالث: أن يحفظ منزلته من أربعة أشياء: [الأوّل [1]] ألّا يرتاب بباطنه وظاهره سليم، فيؤاخذ بالظن، ويعجز عن دفعه باليقين؛ فليس يؤاخذ بضمائر القلوب، إلّا علّام الغيوب. قيل لكسرى قباذ: إنّ قوما من خواصّك قد فسدت سرائرهم؛ فوقّع:
أنا أملك الأجساد دون النيّات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. والثانى: ألّا يستبدل به ونظره مستقيم، فيقلّ نفعه، ويضعف
__________
[1] زيادة يقتضيها السياق.(6/122)
نشاطه، ولا يجهد نفسه فى النهوض بما كلّفه؛ فإن داعى الطبع أبلغ من مصنوع التكلّف. وقد اتّخذه لاستقامة وجدها به. فإذا أضاع حقّه بالاستبدال ظلم نفسه، وكان من غيره على خطر. وقد قال كسرى: الوزارة أبعد الأمور من أن تحتمل غير أهلها.
لأن الوزير من الملك بمنزلة سمعه وبصره ولسانه وقلبه، لأنه مغلق الأبواب، مستور عن الأبصار؛ ليحفظه فى أمواله، ويستر خلله فى أفعاله؛ وحقيق بمن [1] كان بهذه المنزلة أن يكون محفوظا. والثالث: ألّا يؤاخذه بدرك ما جرّه القضاء وساقه القدر، فيجعله غرضا فى معارضة خالقه. وهل الوزير فيه إلا كالملك! فأفعال الله عزّ وجلّ لا تكون ذنوبا لعباده.
وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوى العقول عقولهم حتى ينفذ فيهم قضاؤه وقدره» [2]
. والرابع: ألّا يحمّله ما ليس فى قدرته، ولا يكلّفه ما ليس فى طاقته، فلا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها. وما ذاك إلّا من دواعى التّجنّى، ومبادئ التنكّر.
فهذه حقوق الوزير على سلطانه. وهى مقابلة لحقوق السلطان على وزيره. لكنّ حقوق الوزير موضوعة على المسامحة فى أكثرها، وحقوق السلطان موضوعة على المؤاخذة بأقلها؛ لاستطالته عليه بالقدرة وقصوره عنه بالنيابة.
وحيث ذكرنا هذه الحقوق الداخلة فى وزارة التفويض فلنذكر وزارة التنفيذ.
__________
[1] فى الأصل «وحقيق على من ... » .
[2] هكذا فى الأصل وفى قوانين الوزارة وفى مسند الفردوس للديلمىّ. وفى الجامع الصغير زيادة نصها: «فإذا مضى أمره ردّ إليهم عقولهم ووقعت الندامة» .(6/123)
ذكر وزارة التنفيذ
قال الماوردىّ ما معناه: إنّ لوزارة التنفيذ أربعة قوانين:
فالأوّل من قوانينها: السّفارة بين الملك وأهل مملكته، لأن الملك معظّم بالحجاب، مصون عن المباشرة بالخطاب؛ فاقتضى ذلك اختصاصه بسفير محتشم ووزير معظّم مطاع فيما يورده عنه من الأوامر والنواهى، ويهاب فيما يتحمله إليه من المطالب والمباغى. ليكون للملك لسانا ناطقا، وأذنا واعية. وهذه السّفارة مختصّة بخمسة أصناف:
أحدها: السّفارة بين الملك وأجناده، فيحملهم على أوامره ونواهيه، ويتنجّز لهم من [1] الملك ما استوجبوه أو سألوه. ويحتاج فى سفارته معهم أن يجمع بين اللّين والعنف، والخشونة واللّطف، ليقتادهم [2] إلى طاعته بالرغبة والرهبة.
والثانى: السفارة بين الملك وعمّاله، فيستوفى مناظرة العمّال ويتصفّح أحوال الأعمال؛ ليستدرك خللا إن كان، ويستديم صلاحا إن وجد. ويحتاج فى هذه السفارة إلى استعمال الرّهبة خاصّة؛ ليكفّهم عن الخيانة، ويبعثهم على الأمانة.
والثالث: السّفارة بين الملك ورعيّته، ليتصدّى لإنصافهم، ويصغى إلى ظلاماتهم؛ فيمضى ما تيسّر له، وينهى ما تعسّر عليه. ويحتاج فى هذه السفارة إلى استعمال اللّين واللّطف؛ ليصلوا إلى استيفاء الظّلامة، ويستدفعوا ذلّ الاستضامة.
__________
[1] فى الأصل «عن الملك» .
[2] فى الأصل: «لا يفتادهم ... » وظاهر أنه تحريف. وفى «قوانين الوزارة» لانقيادهم ... »
وهذا أيضا لا يتفق مع السياق.(6/124)
والرابع: السفارة فى استيفاء حقوق السّلطنة التى للملك وعليه، من غير مباشرة قبض ولا إقباض [1] . ويحتاج فى هذه السفارة إلى الرهبة فيما يستوفيه للملك، وإلى اللّطف فيما يتنجّزه منه.
والخامس السفارة فى اختيار العمّال، ومشارفة الأعمال؛ لينهى حال من يرى تقليده وعزله من غير أن يباشر تقليدا ولا عزلا؛ لانّ التقليد والعزل داخل فى وزارة التفويض خارج عن وزارة التنفيذ. وشروط هذه السفارة: أن يكون جيّد الحدس، صحيح الاختيار، قليل الاغترار، عارفا بكفاة [2] العمّال ومقادير الأعمال، ليحمد اختياره، ويقلّ عثاره.
والثانى من قوانينها: أن يمدّ الملك برأيه ومشورته؛ فإن الملك مع جزالة رأيه وصحّة رويّته محجوب الشخص عن مباشرة الأمور، فصار محجوب الرأى عن الخبرة بها. فاحتاج إلى بارز الشخص بالمباشرة، ليكون بارز الرأى بالخبرة؛ فليس الشاهد كالغائب، ولا المخبر كالمعاين. والوزير أحقّ بهذه المرتبة. وله فى المشورة حالتان:
إحداهما: أن يبتدئه الملك بالاستشارة، فيلزمه أن يشير فيها برأيه سواء اختصّت بملكه أو تعدّت إلى غيره. وعلى الوزير فيها حقّان: أحدهما: اجتهاد رأيه فى إيضاح الصواب. والثانى: إبانة صحّته بتعليل الجواب ليكون مجيبا ومحتجّا؛ فيكفى توهّم الزّلل ويسلم من ظنّة الارتياب.
__________
[1] قبض وإقباض: أى تسلم وتسليم. والموجود فى كتب اللغة التى بين أيدينا متعديا من هذه المادة «قبّض» بالتضعيف. ويصح «إقباض» على القول بأن تعدية الفعل بالهمزة قياسية.
[2] كفاة: جمع كافى، من الكفاية وهى الاضطلاع بالأمر.(6/125)
والحالة الثانية: أن يبتدئ الوزير بالمشورة على الملك، فله فيها حالتان:
إحداهما: ألّا يقع بمشورته اجتلاب نفع ولا استدفاع ضرر. فهذا تجوّز من الوزير، وتبسّط على الملك؛ إن أنكره فبحقه، وإن احتمله فبفضله.
والثانية: أن يتعلّق بمشورته اجتلاب نفع، أو استدفاع ضرر. فإن اختصّ بالمملكة كان من حقوق الوزارة، وإن تجاوزها كان من نصح الوزير. وعليه أن يذكر سبب ابتدائه، ويوضّح صواب رأيه. ويلزمه فيما يؤدّى به من الاستشارة ويبدأ به من المشورة، أن يكتمه عن كل خاصّ وعامّ؛ لأمرين:
أحدهما: أن الرأى لا يجب أن يظهر إلا بالأفعال دون الأقوال؛ لأن ظهوره بالفعل ظفر، وظهوره بالقول خطر. وقد قيل: من وهن الأمر إعلانه قبل إحكامه.
والثانى: أنه من أسرار الملك التى يجب أن تكتم فى الصدور، وتصان عن الظهور؛ ليجمع بين تأدية الأمانة وطلب السلامة؛ فإن فى إفشاء سرّ الملك خطرا به وبمن أفشاه. وقلّما تعفو الملوك عن مفشى أسرارها؛ لتردّده بين خيانة وجناية.
والثالث من قوانينها: أن يكون عينا للملك ناظرة، وأذنا سامعة، ينهى ما شاهد على حقّه، ويخبر بما سمع على صدقه؛ لأنه قد سوهم فى الملك وميّز بالاختصاص، وندب للمصالح؛ فهو القائم مقام الملك فى مشاهدة ما غاب، وسماع ما بعد. وعليه فى ذلك ثلاثة حقوق:
أحدها: أن يديم الفحص عن أحوال المملكة حتى يعلم ما غاب كعلمه بما حضر، وما خفى كعلمه بما ظهر؛ فلا يتدلّس عليه حقّ أمر [1] من باطله، ولا يشتبه
__________
[1] كذا فى قوانين الوزارة. وفى الأصل: «حق امرئ ... » .(6/126)
عليه صدق قوى من كذبه. فإن قصّر فيها حتى خفيت، أو استرسل فيها حتى تدلّست كان مؤاخذا بجرم التقصير، وجريرة الضرر.
والثانى: أن يعجّل مطالعة الملك بها ولا يؤخّرها، وإن جاز تأخير العمل بها؛ لأن عليه الإنهاء، وليس عليه العمل. وإذ كان من الملك بمنزلة عينه وأذنه اللتين يتعجّل [العلم [1]] بهما، وجب أن يجرى معه على حكمهما؛ ليستدرك الملك ما يجب تعجيله، ويقدّم الرّويّة فيما يجوز تأخيره. فإن أخّر الوزير إعلام الملك بها وقد حسم ضررها، كان للنصيحة مؤدّيا، ومن الملك على وجل.
والثالث: أن يوضّح له حقائق الأمور، ويساوى فيها بين الصغير والكبير، فلا يمايل [2] قريبا، ولا يتحيّف بعيدا، ولا يعظّم من الأمور صغيرا، ولا يصغّر منها عظيما. فإن خاف من صغار الأمور أن تصير كبارا، أو كبارها أن تعود صغارا، أخبر بحقائقها فى المبادئ، وذكر ما تؤول إليه فى العواقب؛ ليكون بالمبادئ مخبرا، وفى الغايات مشيرا. فإن أخبر بالغايات وأعرض عن ذكر المبادئ، كان تدليسا، وكان بالإنكار حقيقا وبالذمّ جديرا.
والرابع من قوانينها: أن يفتدى راحة الملك بتعبه، ويقى دعته بنصبه؛ ولا يغيب إذا أريد، ولا يسأم إذا أعيد؛ لأنه لسان الملك إذا نطق، وعينه إذا رمق، ويده إذا بطش؛ فلا يبعد عن دعائه، ولا يضجر من ندائه؛ لأن عوارض الملك من هواجس أفكاره وتقلّب خاطره. وقد يتجدّد مع الأوقات ما لا [3] تعرف أسبابه، ولا تتعيّن
__________
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2] مايله: مالأه وساعده.
[3] كذا فى قوانين الوزارة. وهو الذى ينسجم به الكلام. وفى الأصل: ما لم تعرف ... » .(6/127)
أوقاته؛ فليكن هذا [1] الوزير على رصد منها. وربما ملّ الوزير الملازمة فأعقبته أسفا إذا فارقها، لأن فى ملازمته للملك نصبا يقترن بعزّ، وفى متاركته راحة تؤول إلى ذلّ. فليختر لنفسه ما وافقها من عز يجتذبه بالكدّ، أو ذلّ يؤول إليه بالدّعة. فإنه إن صبر على ما أراده الملك ظفر بإرادته من الملك، وهو على الضدّ إن خالفها. وقد قال أنوشروان:
ما استنجحت الأمور بمثل الصبر، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر. وقيل: من خدم السلطان خدمه الإخوان. فيطّرد على هذا التعليل أنّ من تنكّر له السلطان، تنكّر له الإخوان. هذه قوانين وزارة التنفيذ.
ذكر ما تتميز به وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وما تختلف فيه.
وتتميز وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وتختلف من ستة أوجه:
أحدها: أن الملك يقلّد وزير التفويض فى حقوقه وحقوق رعيته، ويقلّد وزير التنفيذ فى حقوقه خاصة دون حقوق رعيته؛ لأنّ وزير التفويض تنفّذ الأمور برأيه، ووزير التنفيذ يمضيها بأمر الملك وعن رأيه.
والثانى: أن وزارة التفويض تفتقر إلى عقد يصح به نفوذ أفعاله، ووزارة التنفيد لا تفتقر إلى عقد، لأنه فيها مأمور بتنفيذ ما صدر عن أمر الملك.
والثالث: أن وزير التفويض مأخوذ بدرك ما أمضاه، ووزير التنفيذ غير مؤاخذ بدركه.
والرابع: أن وزير التفويض لا ينعزل إلا بالقول أو ما فى معناه دون المتاركة، [لأنّه قد تملّك بها مباشرة الأمور [2]] ، ووزير التنفيذ ينعزل بالمتاركة لأنه مأمور.
__________
[1] ظاهر أن كلمة «هذا» هنا قلقة فى مكانها إلا أذا أريد الإشارة الى الوزير الذى سيق الكلام فيه وهو وزير التنفيذ دون وزير التقليد.
[2] زيادة عن «قوانين الوزارة» .(6/128)
والخامس: أن وزير التفويض لا ينعزل إن كفّ وترك، حتى يستعفى ويعفيه الملك منها، لأنه مستودع الأعمال فلزمه ردّها إلى مستحقّها، ووزير التنفيذ يجوز أن ينعزل بعزل نفسه بالكفّ والمتاركة، لأنه لا شىء بيده فيؤخذ بردّه.
والسادس: أن وزير التفويض يفتقر إلى كفاية بالسيف والقلم، لنهوضه بما أوجبهما، ووزارة التنفيذ غير مفتقرة إليهما لقصورها عنهما.
ويعتبر فى وزير التنفيذ ستة أوصاف: وهى الأبّهة والمنّة والهمّة والعفّة والمروءة وجزالة الرأى. وهذه الأوصاف معتبرة فى كل مدبّر ذى رياسة.
ذكر حقوق الوزارة وعهودها ووصايا الوزراء
أما حقوق الوزارة- فهى أن تقلّد لمن اجتمعت فيه ثمانية أوصاف، وهى التى ذكرها الماوردىّ فى قوانين الوزارة، وبيّنها بالنص والتعيين لا بالتعريض والإشارة:
فأحدها: أن يكون بأعباء الوزارة ناهضا، وفى مصالح المملكة راكضا؛ يقدّم حظّ الملك على حظ نفسه ويعلم أن صلاحه مقترن بصلاحه؛ فلن تستقيم أحوال الوزير مع اختلال أحوال الملك، لأن الفروع إنما تستمدّ من أصولها.
والثانى: أن يكون على الكدّ والتعب قادرا، وفى السخط والرضا صابرا؛ لا ينفر ان أوحش، فإن نفوره عطب. وليتوصل إلى راحته بالتعب، والى دعته بالنصب.
وقد قيل: علّة الراحة قلّة الاستراحة. وقال عبد الحميد: أتعب قدمك، فكم تعب قدّمك!. فإن تشاغل الوزير براحته، ومال إلى لذّته، سلبهما بالتنكّر، وعدمهما بالتغيّر.(6/129)
والثالث: أن يكون لإحسان الملك شاكرا، ولإساءته عاذرا، يشكر على يسير الإحسان، ويعذر على كثير الإساءة، ليستمدّ بالشكر إحسانه، ويستدفع بالعذر إساءته. فإن عدل عنهما، كان منه على ضدّهما. فقد قيل: أحق الناس بالمنع الكفور، وبالصنيعة الشّكور.
والرابع: أن يظهر محاسنه إن خفيت، ويستر مساويه إن ظهرت، لأنه بمحاسنه موسوم وبمساويه مقروف، يشاركه فى حمد محاسنه، ويؤاخذ بذمّ مساويه.
وربما استرسل الملك لثقته بالاحتجاب، فارتكب بالهوى ما يصان عن إذا عته، فكان الوزير أحقّ بستره عليه، لأنه الباب المسلوك منه إليه.
والخامس: أن تخلص نيّته فى طاعته، ويكون سرّه كعلانيته، فإن القلوب جاذبة تملك أعنة الأجساد؛ فإن اتفقا، وإلا فالقلب أغلب، وإلى مراده أجذب.
والقلوب تنمّ على الضمائر فتهتك أستارها وتذيع أسرارها.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فى [1] ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهى القلب»
. والسادس: ألّا يعارض الملك فيمن قرّب واستبطن، ولا يماريه فيمن حطّ ورفع؛ فإنه يتحكّم بقدرته ويأنف من معارضته. فربما انقلب بسطوته إذا عورض، ومال بانتقامه إذا خولف. فبوادر الملك تسبق نذيرها، وتدحض أسيرها؛ فإن سلم من الخطر لم يسلم من الضجر.
__________
[1] كذا فى الأصل وفى قوانين الوزارة. غير أن الأصل لم تذكر به كلمة «الجسد» فى الموضعين، ونصه فى البخارىّ من حديث طويل «ألا وإنّ فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب» وفى النهاية لابن الأثير «إنّ فى ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» .(6/130)
والسابع: أن يتقاصر عن مشاكلة الملك فى رتبته، ويقبض نفسه عن مثل هيئته، فلا يلبس مثل ملابسه، ولا يركب مثل مراكبه، ولا يستخدم مثل خدمه؛ فإن الملك يأنف إن موثل، وينتقم إن شوكل، ويرى أن ذلك من أمواله المحتاجة، وحشمته المستباحة. وليقتصر على نظافة لباسه وجسده من غير تصنّع، فإن النظافة من المروءة، والتّصنّع للنساء؛ ليكون بالسلامة محفوظا، وبالحشمة ملحوظا.
والثامن: أن يستوفى للملك ولا يستوفى عليه، ويتأوّل له ولا يتأول عليه؛ فإن الملك إذا أراد الإنصاف كان عليه أقدر، وإن لم يرده فيد الوزير معه أقصر؛ وإنما أراد الوزير عونا لنفسه ولم يرده عونا عليها. فإن وجد إلى مساعدته سبيلا سارع إليها، وإن خاف ضررها وانتشار الفساد بها تلطّف فى كفّه عنها إن قدر. فإن تعذّر عليه تلطّف فى الخلاص منها؛ ولا يجهر بالمخالفة. سئل بعض حكماء الروم عن أصلح ما عوشر به الملوك، فقال: قلة الخلاف وتخفيف المؤنة. والملوك لا يصحبون [1] إلا على اختيارهم، ولا يتمسّكون إلا بمن وافقهم على آرائهم. وإذا روعيت أحوال الناس وجدوا لا يأتلفون إلا بالموافقة، فكيف الملوك! قال شاعر:
الناس إن وافقتهم عذبوا ... أو لا فإنّ جناهم مرّ
كم من رياض لا أنيس بها ... تركت لأنّ طريقها وعر
وأما عهودها ووصاياها- فلم أر فيما طالعته فى هذا المعنى أشمل ولا أكمل ولا أنفع ولا أجمع من كلام لأبى الحسن الماوردىّ؛ فلذلك أوردته بفصّه، وأتيت على أكثر نصّه.
__________
[1] فى الأصل: «لا تصحب» وهو وإن صح الا أنه لا يتناسب مع الضمائر التى بعده.(6/131)
قال الماوردى: فأما العهود الموقظة فسأقول، وأرجو أن يقترن بالقبول:
اجعل أيها الوزير لله تعالى على سرّك رقيبا يلاحظك من زيغ فى حقه، واجعل لسلطانك على خلوتك رقيبا يكفّك عن تقصير فى أمره؛ ليسلم دينك فى حقوق الله تعالى، وتسلم دنياك فى حقوق سلطانك، فتسعد فى عاجلتك وآجلتك. فإن تنافى اجتماعهما لك فقدّم حقّ الله تعالى على حق الملك. فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه [فآثروا [1] ما يبقى على ما يفنى] »
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس»
. قال: حقّ [2] عليك أيها الوزير أن تكون بأمور الناس خبيرا، وإلى أحوالهم متطلّعا، وبهم على نفسك وعليهم مستظهرا، لأنهم من بين من تسوسه أو تستعين به، لتعلم ما فيهم من فضل ونقص وعلم وجهل وخير وشرّ، وتتحرّز من غرور المتشبه [3] وتدليس المتصنّع؛ فتعطى كل واحد حقّه، ولا تقصّر بذى فضل، ولا تعتمد على ذى جهل.
فقد قيل: من الجهل صحبة ذوى الجهل، ومن المحال مجادلة ذوى المحال. وافرق بين الأخيار والأشرار، فإنّ ذا الخير يبنى، وذا الشرّ يهدم. واحذر الكذوب فلن ينصحك من غشّ نفسه؛ ولن ينفعك من ضرّها. ولا تستكفين عاجزا فيضيّع العمل، ولا شرها فيضرّك باحتجانه [4] . ولا تعبأ بمن لا يحافظ على المروءة، فقلما تجد فيه خيرا؛ لزهده فى صيانة النفس وميله إلى خمول القدر. وبعيد ممن أسقط حق
__________
[1] تتمة الحديث عن قوانين الوزارة وعن الجامع الصغير.
[2] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «حقيق» وهو غير ملائم لما هنا.
[3] كذا فى قوانين الوزارة، ولعل المتشبه: من يظهر بغير ما فطر عليه من صفات ومواهب، بأن يظهر مظهر ذى الكفاية والفضل وليس به. وفى الأصل: «المشيه» وهو تحريف.
[4] احتجن المال: ضمه لنفسه واحتواه.(6/132)
نفسه أن يقوم بحق غيره، وصعب على من ألف إسقاط التكلف أن يحول عنه.
وقد قيل فى حكم الهند: ذو المروءة يرتفع بها، وتاركها يهبط؛ والارتقاء صعب والانحطاط هين، كالحجر الثقيل الذى رفعه عسير وحطّه يسير.
وقال بعض البلغاء: أحسن رعاية ذوى الحرمات، وأقبل على أهل المروءات؛ فإن رعاية [ذوى [1]] الحرمة تدلّ على كرم الشيمة، والإقبال على ذوى المروءة يعرب عن شرف الهمة [2] . إختبر أحوال من استكفيته لتعلم عجزه من كفايته، وإحسانه من إساءته؛ فتعمل بما علمت من إقرار الكافى وصرف العاجز، وحمد المحسن وذمّ المسىء. فقد قيل: من استكفى الكفاة، كفى العداة. فإن التبست عليك [أمورهم [3]] أوهنت الكافى وسلّطت العاجز، وأضعت المحسن وأغريت المسىء. ولأن يكون العمل خاليا فتصرف إليه فكرك أولى من أن يباشره عاجز أو خائن فيقبح بهما أثرك.
فاحذر العاجز فإنه مضيّع، وتوقّ الخائن فإنه يكدح لنفسه. قال شاعر:
إذا أنت حمّلت الخؤون أمانة ... فإنك قد أسندتها شرّ مسند
اقتصر فى أعوانك بحسب حاجتك إليهم. ولا تستكثر منهم لتكثر بهم. فلن يخلو الاستكثار من تنافر يقع به الخلل، أو اتّفاق يستأكل به العمل. وليكن أعوانك وفق أعمالك، فإنه أنظم للشّمل وأجمع للعمل وأبلغ فى الاجتهاد وأبعث على النصح.
قال ابن الرومى:
عدوّك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصّحاب
فإنّ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
__________
[1] التكملة عن قوانين الوزارة.
[2] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «والإقبال على ذوى المروءة يعرف من شرف المروءة» .
[3] التكملة عن قوانين الوزارة.(6/133)
فدع عنك الكثير فكم كثير ... يعاف وكم قليل مستطاب
فما اللّجج الملاح بمرويات ... وتلقى الرّىّ فى النّطف العذاب
هذّب نفسك من الدنس تتهذب جميع أتباعك. ونزّه نفسك عن الطمع تتنزه جميع خلفائك. وتوقّ الشره فلن يزيدك إلا حرصا إن أجديت، ونقصا إن أكديت [1] ، وهما معرّة ذى الفضل ومضرّة أولى الحزم.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتربت [2] الساعة ولا يزداد الناس فى الدنيا إلا حرصا ولا تزداد منهم إلا بعدا»
. رض نفسك عن الطمع يتنزه جميع عمّالك، وتنتظم بك جميع أعمالك [3] . ولا تكل إلى غيرك ما تختصّ بمباشرته [4] طلبا للدّعة، فتعزل عنه نفسك وتؤثر به غيرك؛ فتكون من وفائه على غدر، ومن نفسك على تقصير. قال بزرجمهر: إن يكن الشغل مجهدة، فإن الفراغ مفسدة. وقال عبد الحميد: ما زانك ما أضاع زمانك، ولا شانك ما أصلح شانك.
اجعل زمان فراغك مصروفا إلى حالتين: إحداهما راحة جسدك وإجمام خاطرك، ليكونا عونا لك على نظرك. والثانية أن تفكر بعد راحة جسدك وإجمام خاطرك فيما قدّمته من أفعالك، وتصرّفت فيه من أعمالك: هل وافقت الصواب
__________
[1] أجدى: أصاب الجدوى وظفر بما يريد. والجدوى: العطية. وأكدى: أخفق ولم يظفر بحاجته، أى ان الشره يزيد صاحبه مع الفوز حرصا، ومع الإخفاق نقصا.
[2] نصه فى الجامع الصغير: «اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا ولا يزدادون من الله إلا بعدا» . وفى مسند الفردوس للديلمىّ كرواية الاصل إلا أنه يتفق مع رواية الجامع الصغير فى «على الدنيا» بدل «فى الدنيا» .
[3] كذا فى الاصل والذى فى قوانين الوزارة: «رض نفسك بمشارفة الأعمال يرهبك جميع عمالك وينتظم به جميع أعمالك» .
[4] فى قوانين الوزارة: «ما يختص بمباشرتك ... » .(6/134)
فيه فتقوّيه وتجعله مثالا تحتذيه، أو نالك فيها زلل فتستدرك منه ما أمكن، وتنتهى عن مثله فى المستقبل. فقد قيل: من فكّر أبصر. وقال بعض البلغاء: من لم يكن له من نفسه واعظ، لم تنفعه المواعظ.
اخفض جناحك لمن علا، ووطّئ كنفك لمن دنا، وتجاف [عن [1]] الكبر تملك من القلوب مودّتها، ومن النفوس مساعدتها. فقد قيل لحكيم الروم: من أضيق الناس طريقا، وأقلّهم صديقا؟ قال: من عاشر الناس بعبوس وجهه، واستطال عليهم بنفسه. ولذلك قيل: التواضع فى الشرف، أشرف من الشرف.
كن شكورا فى النعمة، صبورا فى الشدّة، لا تبطرك السراء، ولا تدهشك الضراء؛ لنتكافأ أحوالك، وتعتدل خصالك؛ فتسلم من طيش البطر وحيرة الدّهش. فقد قال بعض الحكماء: اشتغل بشكر النعمة عن البطر بها. وقيل فى أمثال الهند: العاقل لا يبطر بمنزلة أصابها ولا شرف وإن عظم، كالجبل الذى لا يتزلزل وإن اشتدّت الرياح، والسخيف تبطره أدنى منزلة كالحشيش الذى تحرّكه أدنى ريح.
استدم مودّة وليّك بالإحسان [إليه [2]] ، واستسلّ سخيمة عدوّك بعد الاحتراز منه، وداهن من يجاهرك بعداوتك. فقد قيل لبعض الحكماء: ما الحزم؟ قال: مداجاة الأعداء، ومؤاخاة الأكفاء. ولا تعوّل على التهم والظنون [واطّرح الشك باليقين [3]] .
فقد قيل: لا يفسدك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له. قال شاعر:
إذا أنت لم تبرح تظنّ وتقتضى ... على الظن أردتك الظنون الكواذب
واختبر من اشتبهت حاله عليك، لتعلم معتقده فيك، فتدرى أين تضعه منك؛ فإن الألسن لا تصدق عن القلوب؛ لما يتصنّعه المداجى ويتكلّفه المداهن. وشهادات
__________
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[3] زيادة عن «قوانين الوزارة» .(6/135)
القلوب أصدق، ودلائل النفوس أوثق. فإن وقفت بك الحال على الارتياب، اعتقدت المودّة فى ظاهره، وأخذت بالحزم فى باطنه. وإذا أقنعك الإغضاء عن الاختبار فلا تتخطّه، فأكثر الأمور تمشى على التغافل والإغضاء. فقد قال أكثم بن صيفىّ:
من تشدّد نفرّ، ومن تراخى تألّف، والسّرو [1] فى التغافل. ولقلما جوهر المغضى وقوطع المتغافل، مع انعطاف القلوب عليه، وميل النفوس إليه. وهذا من أسباب السعادة وحسن التوفيق.
شاور فى أمورك من تثق منه بثلاث خصال: صواب الرأى، وخلوص النية، وكتمان السرّ. فلا عار عليك أن تستشير من هو دونك إذا كان بالشورى خبيرا؛ فإن لكل ذى عقل ذخيرة من الرأى وحظّا من الصواب، فتزداد برأى غيرك [وإن كان رأيك [2]] جزلا، كما يزداد البحر بموادّه من الأنهار وإن كان غزيرا. وقد يفضل المستشير على المشير؛ ويظفر المشير بالرأى، لأنها ضالّة يظفر بها من وجدها من فاضل ومفضول. وعوّل على استشارة من جرّب الأمور وخبرها، وتقلّب فيها وباشرها، حتى عرف مواردها ومصادرها، فلن يخفى عليه خيرها وشرها، ما لم يوهنه ضعف الهرم.
واعدل عن استشارة من قصد موافقتك متابعة لهواك، أو اعتمد مخالفتك انحرافا عنك، وعوّل على من توخّى الحق لك وعليك. فقد قيل فى قديم الحكم: من التمس الرّخص من الإخوان فى الرأى، ومن الأطبّاء فى المرض، ومن الفقهاء فى الشّبه، أخطأ الرأى، وزاد فى المرض، واحتمل الوزر. ولا تؤاخذ من استشرت بدرك [3] الرأى
__________
[1] فى الأصل «والسرور فى التغافل» وفى «كتاب التاج فى أخلاق الملوك» طبع المطبعة الأميرية ص 57 و 103: «السر والتغافل» فكلمة «السرور» فى الأصل محرفة عن السرو. والسرو: السخاء فى مروءة.
[2] التكملة عن قوانين الوزارة.
[3] الدرك: التبعة.(6/136)
إن زلّ، فما عليه إلا الاجتهاد وإن حجزته الأقدار عن الظّفر. فقد قيل فى منثور الحكم: من كثر صوابه لم يطّرح لقليل الخطأ.
اختر لأسرارك من تثق بدينه وكتمانه، وتسلم من إذاعته وإدلاله، ولو قدرت ألّا تودع سرك غيرك، كان أولى بك وأسلم لك؛ لأنك فيها بين خطر أو حذر.
وقد قيل فى منثور الحكم: انفرد بسرك ولا تودعه حازما فيزلّ، ولا جاهلا فيخون.
تثبّت فيما لا تقدر على استدراكه؛ فقلّما تعقب العجلة إلا ندما.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تأنّى أصاب أو كاد ومن عجل أخطأ أو كاد»
. وقيل فى حكمة آل داود: من كان ذا تؤدة وصف بالحكمة.
وقدّم ما قدرت عليه من المعروف، فقلما يعقب الريث إلا فواتا؛ فإن للقدرة غاية، ولنفوذ الأمر نهاية [1] ، فاغتنمها فى مكنتك تسعد بما قدّمته، ويسعد بك من أعنته.
قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: انتهزوا الفرصة فإنها تمرّ مرّ السحاب.
وقال بعض الحكماء: من أخّر الفرصة عن وقتها، فليكن على ثقة من فوتها.
واحذر قبول المدح من المتملّقين، فإن النّفاق مركوز فى طباعهم، ويداجونك بهيّن عليهم [2] ؛ فإن نفّقوا عليك غششت نفسك، وداهنت حسّك؛ وأنت أعرف بنفسك من غيرك فيما تستحق به حمدا أو ذمّا. فناصح نفسك بما فيها، فإنك أعلم بمحاسنها ومساويها. فقد قيل فيما أنزل الله تعالى من الكتب السالفة: «عجب لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح! وعجب لمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف
__________
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «ولنفوذ القدر ... » .
[2] كذا فى قوانين الوزارة. ولعل المراد بالهين عليهم: المدح الذى لا يكلفهم شيئا. وفى الأصل:
«ويد اخوتك تهون عليهم» وهو ظاهر التحريف.(6/137)
يغضب!» . وقال بعض البلغاء: من أظهر شكرك فيما لم تأت إليه فاحذره أن يكفر نعمك فيما أسديت إليه. ففوّض مدحك إلى أفعالك، فإنها تمدحك بصدق إن أحسنت، وتذمّك بحقّ إن أسأت. ولا تغترّ بمخادعة اللسان الكذوب. فقد قيل: أبصر الناس من أحاط بذنوبه، ووقف على عيوبه. وكتب حكيم الروم إلى الإسكندر: لا ترغب فى الكرامة التى تنالها من الناس كرها، ولكن فى التى تستحقّها بحسن الأثر وصواب التدبير.
اعتمد بنظرك إحماد سلطانك وشكر رعيتك، تكن أيّامك سعيدة، وأفعالك محمودة، والناس بك مسرورين، ولك أعوانا مساعدين؛ ويبقى بعدك [فى الدنيا [1]] جميل أثرك، وفى الآخرة جزيل أجرك. واستعذ بالله من صدّها فتعدل بك إلى ضدّها، فإن الولايات كالمحكّ تظهر جواهر أربابها، فمنهم نازل مرذول ومنهم صاعد مقبول.
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحسنوا جوار نعم الله فقلما زالت عن قوم فعادت إليهم»
. وتعرّض رجل ليحيى بن خالد وهو على الجسر بكتاب وسأله أن يختمه؛ فقال: يا غلام اختم كتابه ما دام الطين رطبا، ثم أنشد:
إذا هبّت رياحك فاغتنمها ... وجد فلكلّ [2] خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها ... فما تدرى السكون متى يكون
إذا نلت من سلطانك حظّا، وأوجبت عليه بخدمتك حقّا، فلا تستوفه، ودع لنفسك بقيّة يدّخرها لك ويراها حقا من حقوقك، ويكون كفيل أدائها إليك. فإن استوفيتها برئ وصرت إلى غاية ليس بعدها إلا النقصان. قال الشاعر:
إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقّع زوالا إذا قيل تمّ
__________
[1] زيادة من قوانين الوزارة.
[2] فى قوانين الوزارة: «فإن لكل ... » .(6/138)
واعلم أنك مرصد لحوائج الناس، لأنّ بيدك أزمّة الأمور وإليك غاية الطلب، فكن عليها صبورا، تكن بقضائها مشكورا؛ ولا تضجر على طالبها وقد أمّلك، ولا تنفر عليه إذا راجعك؛ فما يجد الناس من سؤالك بدّا. ولخير دهرك أن ترى مرجوّا.
قال أبو بكر بن دريد:
لا تدخلنّك ضجرة من سائل ... فلخير دهرك أن ترى مسئولا
لا تجهن بالردّ وجه مؤمّل ... فبقاء عزّك أن ترى مأمولا
واعلم بأنك عن قليل صائر ... خبرا فكن خبرا يروق جميلا
وقد قيل فى الصحف الأولى: القلب الضيق لا تحسن به الرياسة، والرجل اللئيم لا يحسن به الغنى. ولئن كانت الحوائج كالمغارم لمن استثقلها فهى مغانم لمن وفّق لها.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما عظمت [1] نعمة الله على عبد إلا عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل مؤنة الناس عرّض تلك النعمة للزوال»
. واذا جعلت الوزارة غايات الأمور إليك، وحوائج الناس واقفة عليك، والقدرة لك مساعدة، لانبساط يدك ونفوذ أمرك، صرت بالتوقّف والإعراض مخلّا بحقوق نظرك، وآسفا على فوات مكنتك. فقد قال بهرام جور فى عهده الى ملوك فارس: إنكم بمكان لا مصرف للناس عن حوائجهم إليكم، فلتتّسع صدوركم كاتّساع سلطانكم. قال علىّ بن الجهم:
إذا جدّد الله لى نعمة ... شكرت ولم يرنى جاحدا
__________
[1] كذا فى الأصل وقوانين الوزارة. ونصه فى الجامع الصغير: «ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتدّت عليه مؤنة الناس فمن لم يحتمل تلك المؤنة للناس فقد عرض تلك النعمة للزوال»(6/139)
ولم يزل الله بالعائدات ... على من يعود [1] بها عائدا
أيا جامع المال وفّرته ... لغيرك إذ لم تكن خالدا!
فإن قلت أجمعه للبنين ... فقد يسبق الولد الوالدا
وإن قلت أخشى صروف الزمان ... فكن فى تصاريفه واحدا
فاجعل يومك أسعد من أمسك، وصلاح الناس عندك كصلاح نفسك. ومل إلى اجتذاب القلوب بالاستعطاف، وإلى استمالة النفوس بالإنصاف، تجدهم كنزا فى شدائدك، وحرزا فى نوائبك.
احذر دعوة المظلوم وتوقّها، ورقّ لها إن واجهك بها، ولا تبعثك العزّة على البطش فتزداد ببطشك ظلما، وبعزتك بغيا. وحسبك بمنصور عليك الله ناصره منك.
كن عن الشهوات [2] عزوفا تنفكّ من أسرها، فإنّ من قهرته الشهوة كان لها عبدا، ومن استعبدته ذلّ بها.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن أشفق من النار لها عن الشهوات»
. وقيل لبعض حكماء الروم: ما الملك الأعظم؟ قال: أن يغلب الإنسان شهوته.
وكن بالزمان خبيرا تسلم من عثرته؛ فإنّ الاغترار به مرد. وقدم لمعادك ليبقى عليك ما ذخرته، فلن تجد إلا ما قدّمته؛ وإنك لتجازى بما صنعت. واستقلّ الدنيا تجد فى نفسك عزّا، فترضى اذا سخطت، وتسرّ اذا حزنت؛ فلن يذلّ إلا طالبها، ولن يحزن إلا صاحبها. فقد قال بعض الحكماء: ليكن طلبك الدنيا اضطرارا،
__________
[1] فى قوانين الوزارة: «على من يجود بها عائدا» .
[2] فى الأصل وقوانين الوزارة: «كن للشهوات عزوفا» وعزف وما اشتق منه يتعدى الى المعمول بالحرف «عن» .(6/140)
وفكرك فيها اعتبارا، وسعيك لمعادك ابتدارا. وقال عبد الحميد: طالب الدنيا عليل، ليس يروى له غليل.
اجعل صالح عملك ذخرا لك عند ربك، وجميل سيرتك أثرا مشكورا فى الناس بعدك، ليقتدى بك الأخيار، ويزدجر بك الأشرار، تكن بالثواب حقيقا، وبالحمد جديرا. فقد قيل: الاغترار بالأعمار من شيم الأغمار. فلن يبقى بعدك إلا ذكرك فى الدنيا، وثوابك فى الآخرة؛ فاظفر بهما تكن سعيدا فيهما؛ فإنّ الدنيا كأحلام النائم يستحليها فى غفوته، ويلفظها بعد يقظته. وقد قيل فى بعض الصحف الأولى:
احرص على العمل الصالح لأنه لا يصحبك غيره.
انتهى كلام الماوردىّ. وقد بالغ- رحمه الله- فى عهده، وجاد بعظيم برّه وجزيل رفده؛ وأوضح ما إن استمسك به الوزير كفاه، وإن حذا على مثاله كان ذخيرة لدينه ومعونة لدنياه. فليتمسّك به من رفل من الوزارة فى حللها، وارتقى من الرياسة الى شواهقها المنيعة وقللها؛ وأفاضت عليه السياسة برودها، وطوّقته السعادة عقودها.
وليأخذ نفسه به ويرضها عليه؛ وليجعله نصب عينه فيما فوّض من أمور العالم اليه؛ ليفوز بسعادة الدنيا وثواب الآخرة، ويلتحق غدا بذوى الوجوه الناضرة، التى هى إلى ربها ناظرة. وإن عدل عنه وعمل بضدّه فوا خيبة مسعاه، وسوء منقلبه ومثواه، وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ.
ذكر ما قيل فى وصايا أصحاب السلطان وصفاتهم
أما صفاتهم فقد ذكر «الحمدونىّ» فى «تذكرته» ما لا بدّ منه لصاحب السلطان وجليسه، ومحادثه وأنيسه؛ ولا يستغنى عنه وزراؤه وندماؤه، وخواصّه وأولياؤه؛ فقال:
من صحب الملوك وقرب منهم فينبغى أن يكون جامعا للخلال المحمودة. فأوّلها العقل،(6/141)
فإنه رأس الفضائل. والعلم، فإنه من ثمار العقل ولا تليق صحبة الملوك بأهل الجهل.
والودّ، فإنه خلق من أخلاق الناس يولّده العقل فى الإنسان لذوى ودّه. والنصيحة، وهى تابعة للودّ وهو الذى يبعث عليها. والوفاء، فلا تتم الصحبة إلا به. وحفظ السرّ، وهو من صدق الوفاء. والعفّة عن الشهوات والأموال. والصرامة، وهى شدّة القلب فإن الملوك لا يجوز أن يصحبهم أولو النّكول، ولا ينال الجسيم من الأمور إلا الشجاع النّدب [1] النجد. والصدق، فإنه من لا يصدق يكذب، ومضّرة الكذب لا تتلافى. وحسن الزىّ والهيئة، فإن ذلك يزيد فى بهاء الملك. والبشر فى اللقاء، فإنه يتألّف به قلب من يلاقيه، وفى الكلوح تنفير عن غير ريبة. والأمانة فيما يستحفظ. ورعاية الحق فيما يستودع. والعدل والإنصاف، فإن العدل يصلح السرائر ويجمّل الظواهر، وبه يخاصم الإنسان نفسه اذا دعته الى أمر لا يحسن ركوبه. وينبغى له أن يجانب أضداد هذه الخلال؛ وألّا يكون حسودا فإنّ الحسد يفسد ما بينه وبين الناس؛ وليفرّق بين الحسد والمنافسة فإنهما يشتبهان على من لا يعقل؛ وأن يخلو من اللّجاج والمحال فإن ذلك يضرّ بالأفعال اذا وقع فيها اشتراك؛ وألّا يكون بذّاخا ولا متكبرا، فإن البذخ من دلائل سقوط النفس، والكبر من دواعى المقت؛ وألّا يكون حريصا، فإن الحرص من ضيق النفس وشدّة البطش والبعد عن الصبر. وينبغى ألّا يكون فدما [2] وخما [3] ولا ثقيل الروح، فإنها صفة لا تليق بمن يلاقى الملوك، وأبدا تكون صفة للمقت من غير جرم. وينبغى لمن صحب السلطان أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه، لا كما يفعل الأعمار الجهّال بخدمة الملوك، فإن
__________
[1] الندب: الخفيف فى الحاجة. والنجد (بفتح أوّله وتثليث ثانيه) الشجاع الماضى فيما يعجز غيره.
[2] الفدم: الغنىّ عن الكلام فى ثقل ورخاوة وقلة فهم، أو الأحمق الجافى.
[3] الوخم: الرجل الثقيل.(6/142)
أحدهم كلما ازداد عملا نقص من ساعات نصبه [1] وعمله فزادها فى ساعات شهوته وعبثه.
فهذه الصفات، فلنذكر الوصايا.
وأما وصايا أصحاب السلطان- فهى متقاربة من وصايا الوزراء غير متفاوتة. وفيها ما يضطرّ الوزير إليه، على ما تقف إن شاء الله تعالى عليه.
قالت الحكماء: إذا نزلت من الملك بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثر من الدعاء له فى كلّ كلمة، فإن ذلك يشبه حال الوحشة والغربة، إلا أن تكلّمه على رءوس الناس فلا تأل عما وقّره وعظّمه. وإذا أردت أن يقبل قولك فصحّح رأيك ولا تشوبنّه بشىء من الهوى، فإن الرأى يقبله منك العدوّ، والهوى يردّه عليك الصديق.
وتبصّر ما فى الملك من الأخلاق التى يحبّ ويكره، ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحبّ ويكره إلى ما تحب وتكره [2] ، فإنها رياضة صعبة قد تحمل على التنائى [3] والقلى.
فقلما تقدر على ردّ رجل عن المكابرة والمناقضة وإن لم يكن جمع به عزّ السلطان، فكيف إذا جمح به! ولكن تعينه على أحسن رأيه وتزيّنه له وتقوّيه عليه؛ فإذا قويت المحاسن كانت هى التى تكفيك المساوى. وإذا استحكمت منه ناحية [4] من الصواب
__________
[1] فى الأصل: «نصيبه» وما وضعناه هو المناسب للسياق. فلعل ما فى الأصل تحريف.
[2] وردت هذه الجملة فى الأصل هكذا: «وتبصر فان فى الملك من الأخلاق التى يحب ويكره، ثم لا تكاثره بالتحول عما..» وفيها تحريف. وقد أثبتنا ما ترى استنادا الى ما فى الأدب الكبير.
[3] كذا فى الأدب الكبير، وهو المناسب للسياق، وفى الأصل: « ... على الإباء ... » .
[4] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل «واذا استحكمت منه ما أحب من ... » .(6/143)
كان ذلك الصواب هو الذى يبصّره [مواقع الخطإ [1]] بألطف من تبصيرك وأعدل من حكمك فى نفسه؛ فإنّ الصواب يؤيّد بعضه بعضا ويدعو بعضه إلى بعض. وإذا كنت له مكابرا لحقك الخطر ولم تبلغ ما تريد.
ولا يكونن طلبك ما عند السلطان بالمسألة! ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولكن اطلب ما عنده بالاستحقاق له والاستيناء به وإن طالت الأناة، فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب، وإذا لم تستبطئه كان أعجل له.
ولا تخبرنّ الملك أنّ لك عليه حقا، وأنك تعتدّ [2] عليه بلاء. وإن استطعت ألّا ينسى حقك وبلاءك فافعل. وليكن ما تذكّره به تجديدك له النصيحة والاجتهاد، وألّا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره الأوّل؛ فإنّ السلطان إذا انقطع عنه الآخر نسى الأوّل؛ فإنّ أرحامهم منقطعة وحبالهم منصرمة إلا عمن رضوا عنه فى يومهم وساعتهم.
واعلم أن أكثر الناس عدوّ لصاحب السلطان ووزيره وذوى المكانة عنده، لأنه منفوس عليه مكانه كما ينفس [3] على الملك ملكه، ومحسود كما يحسد عليه؛ غير أنه يجترأ عليه ولا يجترأ على الملك، لأن حسّاده أحباء [4] الملك الذين يشاركونه فى المنزلة والدخول، وهم حضور، وليسوا كعدوّ الملك النائى عنه الكاتم لعداوته؛ فهم لا يغفلون عن نصب الحبائل له. فالبس لهؤلاء الاعداء كلهم سلاح الصحّة والاستقامة ولزوم المحجّة [5] فيما تسرّ وتعلن. ثم روّح عن قلبك حتى كأنك لا عدوّ لك ولا حاسد. جانب
__________
[1] زيادة عن الأدب الكبير.
[2] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «وأن تعتدّ عليه بلاء» .
[3] نفس عليه مكانه من باب «فرح» لم يره أهلاله.
[4] أحباء (جمع حبأ كسبب) : جلساء الملك وخاصته.
[5] كذا فى بعض نسخ الأدب الكبير. والمحجة: جادّة الطريق أى معظمه ووسطه. وفى الأصل:
«ولزوم الحجة» والسياق يعين ما اخترناه.(6/144)
المسخوط عليه والمظنون به عند السلطان، ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل، ولا تظهرنّ له عذرا ولا تثنينّ عليه خيرا. فإذا رأيته قد بلغ فى الإعتاب مما [1] سخط عليه [فيه [2]] ما ترجو أن يلين له الملك، واستيقنت أن الملك قد تحقق مباعدتك إياه وشدّتك عليه، فضع عند ذلك عذره عند الملك، واعمل فى إرضائه بالرفق واللطف.
وإذا أصبت الجاه عند الملك وكانت لك خاصة منزلة، فلا يحدثن لك ذلك تغيّرا على أهله وأعوانه واستغناء عنهم، فإنك لا تدرى متى [3] ترى أدنى جفوة فتذلّ لهم [4] . وإن استطعت أن يعرف صاحبك أنك تنحله صواب رأيك فضلا عن صوابه فتسند ذلك إليه وتزينه به، فإن الذى أنت بذلك آخذ أفضل من الذى أنت به معط.
(واعلم أن السلطان يقبل من الوزراء التبخيل ويعدّه منهم شفقة ونظرا ويحمدهم عليه وإن كان جوادا. فإن كنت مبخّلا فقد غششت [5] صاحبك بفساد مروءته، وإن كنت مسخّيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك. فالرأى لك تصحيح النصيحة والتماس المخرج، بألا يعرف منك ميلا إلى شىء من هواك [6] ) .
فهذه نبذة من وصايا أصحاب السلطان يكتفى بها اللبيب، ويتمسك بها الأريب.
وقد قدّمنا فى شروط الوزارة ما يحتاج صاحب السلطان إلى استعما فى خدمته.
فلنذكر ما يحتاج إليه نديم الملك ومؤاكله.
__________
[1] كذا فى الأدب الكبير. والإعتاب: رجوع المعتوب عليه الى ما يرضى العاتب، كالعتبى، وفى الأصل: « ... فى الإعتاب فيما ... » .
[2] زيادة من الأدب الكبير.
[3] كذا فى الأدب الكبير. وفى الأصل: «فانك لا تدرى حتى ترى ... » .
[4] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «فتذل له» .
[5] فى الأدب الكبير: «شنت صاحبك ... » .
[6] وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى صفحة 11 من هذا الجزء بتغيير يسير عما هنا.(6/145)
ذكر ما يحتاج إليه نديم الملك، وما يأخذ به نفسه، وما يلزمه.
قالوا: مما يزيد النديم فى المحلّ تقدّما، وعند ملكه تمكّنا، أن يكون عالما بكل ما يتنافس الملوك ويتغالون فيه، من الرقيق المثمّن، وقيمة الجوهر النفيس، والآلات المحكمة، وأنواع الطيب والفرش، إلى غير ذلك من معرفة الخيل والسلاح. ولذلك قال الواصف نفسه [1] للفضل بن يحيى بن خالد يرغّبه فى اختصاصه بمنادمته فى شعر طويل:
لست بالناسك المشمّر ثوبي ... هـ ولا الفاتك الخليع الوقاح
أبصر الناس بالجواهر [2] والخي ... ل وبالخرّد الحسان الملاح
قالوا: ومن أبرد من النديم مجلسا وأكسف منه بالا إذا عرض على الملوك شىء من هذه الأعلاق فلم يحر جوابا ولا وجد عنده منه علما!.
ويستظرف من نديم السلطان أن يصف اللون الغريب من الطعام، والصوت البديع من الشعر، واللحن الشجى من الغناء. وقالوا: من لم يدر عشرة أصوات من الغناء ويحسن من غرائب الطبيخ عشرة ألوان، لم يكن عندهم ظريفا [3] كاملا، ولا نديما جامعا [4] .
وأما ما يأخذ به نفسه- فقد قالوا: ينبغى أن يكون نديم السلطان معتدل الأخلاق، سليم الجوارح، طيّب المفاكهة والمحادثة، عالما بأيام الناس ومكارم
__________
[1] الواصف نفسه: هو أبان بن عبد الحميد اللاحقّى.
[2] فى ديوان أبى نواس (طبع المطبعة العمومية بمصر سنة 1898 م) : «أبصر الناس بالجوارح ... » .
[3] فى الأصل: «ظرفا» .
[4] فى الأصل: «خائعا» وهو تحريف.(6/146)
أخلاقهم، راوية للنادر من الشعر والمثل السائر، متصرّفا فى كل فنّ، قد أخذ من الخير والشر بنصيب؛ فإن مالت شهوة الملك إلى ضرب ما وجد عنده منه علما.
ويلزمه أيضا أن يحضر فى الزىّ الظاهر الذى يعرف به، ويشهد فيه المجالس الحافلة من غير أن يتشهر [1] . فإن شاء الملك أن يغيّر حاله وزيّه ويكرمه بشىء من ثيابه، حسن أن يلبس ذلك من وقته حتى ينقضى المجلس، ولم يحسن أن يجلس فيه ظاهرا فى مجلس ثان؛ لأنه شىء اختاره الملك فى ساعة بعينها لا فى كل أوقاته. وأما العمامة والخفّ فلا يخلو منهما. والغرض من ذلك إجلال السلطان عن مشاركته فيما اتسع له من التبدّل والتخيّر فى الزىّ الذى لا ثقل عليه منه، والانفراد به عمن هو دونه. وهذه كانت عادة ملوك الأعاجم؛ لأنهم رسموا لكل طبقة من طبقات أهل مملكتهم برسم من الزىّ ليتميزوا به، ولا يتشبه سوقة بملك، ولا مشروف بذى الشرف، ولا تابع برئيس [2] .
ومما يجب أن يأخذ به نفسه الإسراع فى الخطو إذا كان بحيث يراه الملك، ليكون مشيه إرقالا ولا يكون اختيالا.
ومما يلزمه أن يتحفّظ منه ويروض به نفسه ألّا يصبّحه ولا يمسّيه ولا يشمّته ولا يستخبره. وإنما ترك ذلك كله لما فيه من تكلّف الجواب. وأوّل من سنّ ذلك وحمل الناس عليه الفضل بن الربيع.
__________
[1] يتشهر: من الشهرة وهى ظهور لشىء فى شنعة. ولم نجد هذا الفعل الذى ورد بالأصل فى كتب اللغة التى بين أيدينا، فلعله تحريف عن «يشتهر» أو «يشهر» .
[2] الذى فى الأصل: «ولا يتشبه سوقة بملك ولا مشروف بذى الشرف ولا تابع بدنىء الشرف ولا تابع برئيس» والذى ظهر لنا أن «ولا تابع بدنىء الشرف» زيادة وقعت سهوا من الناسخ.(6/147)
وأما الآداب فى محادثة السلطان- فقد قالوا: من حق الملك إذا حضر سمّاره ومحدّثوه ألّا يبتدئه أحد حديثا. فإن بدأ هو بالحديث صرف من حضره ذهنه وفكره نحوه. فإن كان يعرف الحديث الذى حدّث به الملك استمعه استماع من لم يدره [1] ولم يعرفه، وأظهر السرور بفائدة الملك والاستبشار بحديثه؛ فإن فى ذلك أمرين:
أحدهما ما يظهر من حسن أدبه. والآخر أن يعطى الملك حقه بحسن الاستماع. وإن كان لم يعرفه فالنفس إلى فوائد الملوك والحديث عنهم أتوق [2] منها إلى فوائد السّوقة ومن أشبهها. وقد كان روح بن زنباع يقول: إذا أردت أن يمكنك الملك من أذنه فأمكن أذنك من الإصغاء إليه إذا حدّث. وكان أسماء بن خارجة يقول: ما غلبنى أحد قطّ غلبة رجل يصغى إلى حديثى.
ومن حق الملك إذا قرّب إنسانا أو أنس به حتى يهازله ويضاحكه، ثم دخل عليه، أن يدخل دخول من لم يجر بينهما أنس قط، وأن يظهر من الإجلال والتعظيم أكثر مما كان عليه؛ فإن أخلاق الملوك ليست على نظام. ومجالستهم ومحادثتهم تحتاج إلى سياسة وتحفّظ من [3] وضع الحديث والمثل والشعر فى موضعه. وإذا حدّث الملك بحديث وفرغ منه فنظر إلى بعض جلسائه، فقد أذن له أن يحدّثه بنظير ذلك الجنس من الحديث، وليس له أن يأخذ فى غير جنس حديثه. فإذا فرغ من ذلك الحديث فليس له أن يصله بحديث آخر وإن كان شبيها للحديث الأوّل. فإن رأى الملك قد
__________
[1] الذى فى التاج (طبعة المطبعة الأميرية ص 53) : «استماع من لم يدر فى حاسة سمعه قط ولم يعرفه» .
[2] فى «التاج» : «أقرم وأشهى منها ... » .
[3] من وضع الحديث ... الخ: «من» بيانية، وليست متعلقة ب «تحفظ» فان ذلك يؤدى الى خطأ فى المعنى.(6/148)
أقبل عليه بوجهه وأصغى إلى حديثه فليمض فيه حتى يكمله ويأتى على آخره. وليس له- إن قطع الملك استماع حديثه بشغل يعرض له- أن يمرّ على كلامه، ولكن ينصت مطرقا. فإن اتصل شغل الملك، ترك الحديث. فإن فرغ ونظر إليه، فقد أذن له فى إتمامه وإعادته، وإلّا فلا.
ومن حق الملك ألّا يضحك بحضرته، لأن الضحك جرأة عليه؛ وألّا يعاد عليه الحديث مرتين وإن طال بينهما الدهر، إلا أن يذكره الملك، فإن ذكره فقد أذن له فى إعادته. وكان روح بن زنباع يقول: أقمت مع عبد الملك بن مروان سبع عشرة سنة من أيامه ما أعدت عليه حديثا. وكان الشّعبىّ يقول: ما حدّثت بحديث مرتين لرجل بعينه قط. وكان أبو العبّاس السفّاح يقول: ما رأيت رجلا أغزر علما من أبى بكر الهذلىّ لم يعد علىّ حديثا قط. وكان أبو بكر الهذلىّ يقول:
حدّثت المنصور بأكثر من عشرة آلاف حديث، فقال لى ليلة- وقد حدّثته عن يوم ذى قار وقد اضطررت إلى التكرار-: أتعيد الحديث؟ فقلت: ما هذا مما مر يا أمير المؤمنين؛ فقال: أما تذكر ليلة الرعد والأمطار وأنت تحدّث بحديث يوم ذى قار فقلت لك: ما يوم ذى قار بأصعب من هذه الليلة؟
ومن حق المحادثة وواجب المؤانسة ترك المراء؛ هذا مع الأكفاء فكيف مع الملوك والرؤساء! وقالوا: المماراة تفسد الصداقة القديمة، وتحلّ العقدة الوثيقة وتكسب الإحنة والبغضاء. وقال الصاحب بن عبّاد: للمحدّث على السامع ثلاث:
كتمان السر، وإصغاء الذهن، وترك التحفّظ. هذا ما يلزم نديم الملك.
وأما مؤاكله، فقد اصطلح الناس على إجلال رؤسائهم وملوكهم عن غسل أيديهم بحضورهم، واستجازوا ذلك مع نظرائهم ومن يسقط التحفّظ بينهم وبينهم.(6/149)
وربما تجمّل الرئيس فقال لمؤاكله: اغسل يدك مكانك ولا تبرح. فالغبىّ يغتنم ذلك ويفعل، والفطن يأباه ويسلك سبيل الأدب، فيخفّ على القلب. هذا بعد الطعام.
وأما قبله فجائز أن يغسل اليد بحضرة الرئيس. وأما الخلال فلا يستعمل بحضرته البتة.
وأما آداب الأكل بين يدى الرئيس- ألّا يخلط طعاما بطعام، ولا يغمس اللقمة بالخل ثم يضعها فى الطعام، ونحو ذلك. هذا ما يلزم نديم الملك ومؤاكله. وقد ذكرنا مما يجب للملك على رعيته من المناصحة والأدب والتوقير والتعظيم فيما تقدّم ما يدخل فى هذا الباب، فلا فائدة فى تكراره. فلنذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك.
ذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك والقرب منهم
قد نهت الحكماء عن صحبة الملوك وقالوا: إن الملوك إذا خدمتهم ملّوك، وإن لم تخدمهم أذلّوك. وإنهم يستعظمون فى الثواب ردّ الجواب، ويستقلّون فى العقاب ضرب الرقاب. وإنهم ليعثرون على العثرة اليسيرة من خدمهم فيبنون لها منارا، ثم يوقدون لها نارا، ويعتقدونها ثارا. وقال ابن المقفّع: إن وجدت عن السلطان وصحبته غنى فصن عنه نفسك، واعتزله جهدك؛ فإنه من يأخذه السلطان بحقه يحل بينه وبين لذّة الدنيا وعمل الآخرة. وقال العتّابىّ وقد قيل له: لم لا تقصد الأمير فتخدمه؟ فقال: لأنى أراه يعطى الواحد لغير حسنة ولا يد، ويقتل الآخر بلا سيئة ولا ذنب، ولست أدرى أىّ الرجلين أكون، ولست [1] أرجو منه مقدار ما أخاطر به. وقال لامرأته:
__________
[1] فى الأصل: «وليس» .(6/150)
أسرّك أنى نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد
فقالت: بلى والله! فقال:
وأن أمير المؤمنين أغصّنى ... مغصّهما بالمرهفات البوارد
فقالت: لا والله! فقال:
ذرينى تجئنى ميتتى مطمئنّة ... ولم أتجشّم هول تلك الموارد
فإنّ جسيمات الأمور منوطة ... بمستودعات فى بطون الأساود
الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الثانى
فى قادة الجيوش، والجهاد، ومكايد الحروب، ووصف الوقائع، والرباط، وما قيل فى أوصاف السلاح.
ذكر ما قيل فى قادة الجيوش وشروطهم وأوصافهم ووصاياهم وما يلزمهم
قال الشيخ الإمام أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم الحليمىّ الجرجانىّ الشافعىّ فى كتابه المترجم ب «المنهاج» ما مختصره ومعناه: إذا أنفذ الإمام جيشا أو سريّة فينبغى أن يؤمّر عليهم رجلا صالحا أمينا محتسبا، لأن القوم إليه ينظرون.
فإذا لم يكن خيّرا فى نفسه كانت أعماله بحسب سريرته وكانت أعمال القوم بحسبها مضاهية لها، فإن رأوا منه كسلا كسلوا، وإن رأوا منه فشلا فشلوا، وإن ثبت ثبتوا، وإن رجع رجعوا، وإن جنح إلى السلّم جنحوا، وإن جدّ جدّوا؛ فهم(6/151)
فى تبعه كالمأموم مع الإمام. والعدوّ إنما يفرق من رئيس القوم، فإذا سمع بذى ذكر كان ذلك أهيب له من أن يسمع بخامل لا صيت له. واذا سمع بشجاع غير فرّار كان آيس من مقاومته، منه إذا سمع بفشئل جبان. وإذا سمع بليّن يطمع فى خداع مثله كان أجرأ [1] على استقباله، منه إذا سمع بصلب فى الدّين شديد فى البأس. فيكون [2] ما يكون من العدوّ من الإقدام والإحجام بحسب ما يبلغه من حال رأس المسلمين.
فلهذين السببين وجب أن يكون الرأس مستصلحا جامعا لأسباب الغناء والكفاية.
والله تعالى أعلم.
واما ما يلزم قائد الجيش- قال أبو الحسن الماوردىّ فى كتابه المترجم ب «الأحكام السلطانية» ما معناه: إن أمير الجيش يلزمه ستة أحكام:
الأوّل منها- مسيره بالجيش. وعليه فى السير بهم سبعة حقوق: أحدها الرّفق بهم فى السير الذى يقدر عليه أضعفهم وتحفظ به قوّة أقواهم. ولا يجدّ السير فيهلك الضعيف ويستفرغ جلد القوىّ.
فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغلوا [3] فيه برفق فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى»
. والثانى أن يتفقّد خيلهم التى يجاهدون عليها وظهورهم التى يمتطونها، فلا يدخل فى خيل الجهاد قحما [4] كبيرا، ولا ضرعا [5] صغيرا، ولا حطما [6] كسيرا، ولا أعجف رازحا [7] هزيلا؛ لأنها لا تغنى، وربما
__________
[1] فى الأصل: «أحرى» والمعنى يقتضى ما أثبتنا.
[2] فى الأصل: «ليكون» باللام، ولكن الفاء هى المناسبة للسياق.
[3] فى الجامع الصغير «فأوغل ... » وبقية الحديث كما هنا.
[4] القحم (بالفتح) : الكبير السن جدا.
[5] الضرع: المهر الذى لا يقوى على العدو.
[6] الحطم: الفرس الذى تهدّم لطول عمره.
[7] الرازح: الساقط من الإعياء.(6/152)
كان ضعفها وهنا. ويتفقّد ظهور المطايا والركوب، فيخرج منها ما لا يقدر على المسير ويمنع من أن تحمّل زيادة على طاقتها. والثالث أن يراعى من معه من المقاتلة. وهم صنفان: مسترزقة، وهم أصحاب الديوان من أهل الفىء بحسب الغناء والحاجة؛ ومتطوّعة، وهم الخارجون عن الديوان من البوادى والأعراب وسكّان القرى والأمصار الذين خرجوا فى النّفير الذى ندب الله اليه بقوله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا
قيل معناه:
شبّانا وشيوخا، وقيل أغنياء وفقراء، وقيل ركبانا ومشاة، وقيل ذا عيال وغير [ذى [1]] عيال. وهؤلاء يعطون من الصدقات دون الفىء. والرابع أن يعرّف على الفريقين العرفاء وينقّب عليهم النقباء، ليعرف من عرفائهم ونقبائهم أحوالهم ويقربوا [2] عليه اذا دعاهم. وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فى مغازيه. والخامس أن يجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به ليصيروا به مميّزين. فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين: «يا بنى عبد الرحمن» وشعار الخزرج: «يا بنى عبد الله» وشعار الأوس: «يا بنى عبيد الله» وسمّى خيله: «خيل الله» . والسادس أن يتصفّح الجيش ومن فيه، فيخرج منهم من كان فيه تخذيل للمجاهدين وإرجاف بالمسلمين أو عينا عليهم للمشركين. فقد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبىّ بن سلول فى بعض غزواته لتخذيله المسلمين. قال الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ
أى لا يفتن بعضكم [3] بعضا. والسابع ألّا يمايل [4] من ناسبه
__________
[1] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[2] فى الأصل والأحكام السلطانية «ويقربون» والظاهر أنه معطوف على «ليعرف ... » .
[3] كذا فى الأحكام السلطانية، وهو المتعين، لأنه تفسير لقوله «وقاتلوا ... » وهو لمخاطب، فيكون مفسره كذلك. وفى الأصل «بعضهم» .
[4] يمايل: يمالئ.(6/153)
أو وافق رأيه ومذهبه على من باينه فى النسب أو خالفه فى رأى ومذهب، فيظهر من المباينة ما تفرّق به الكلمة الجامعة تشاغلا بالتقاطع والاختلاف. فقد أغضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين وهم أضداد فى الدين، وأجرى عليهم حكم الظاهر حتى قويت بهم الشوكة وكثر بهم العدد وتكاملت بهم العدّة، ووكلهم فيما أضمروه من النفاق إلى الله تعالى. قال الله تعالى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
قيل فيه: الدولة، وقيل: القوّة.
والثانى- تدبير الحرب. قال الماوردىّ: والمشركون فى دار الحرب صنفان، صنف منهم بلغتهم دعوة الإسلام فامتنعوا منها وتأبّوا [1] عليها. فأمير الجيش مخيّر فى قتالهم بين أن يبيّتهم ليلا ونهارا بالقتل والتحريق، وبين أن ينذرهم الحرب ويصافّهم فى القتال. والصنف الثانى لم تبلغهم دعوة الإسلام وهم قليل جدّا، إلا أن يكونوا وراء من يلى هذه البلاد الإسلامية من الترك والروم فى مبادئ بلاد المشرق وأقاصى المغرب، فيحرم عليه الإقدام على قتالهم غرّة وبياتا، وأن يبدأهم بالقتال قبل إظهار دعوة الإسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوّة وظهور الحجة ما يقودهم إلى الإجابة. فإن أقاموا على الكفر بعد ظهورها لهم، حاربهم وصاروا فيه كمن بلغتهم الدعوة. قال الله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
معناه إلى دين ربّك بالنبوّة والقرآن. فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام وإنذارهم بحججه وقتلهم غرّة وبياتا، ضمن ديات نفوسهم. وهى على الأصح من مذهب الشافعى كديات المسلمين. وقيل: بل تكون كديات الكفار على اختلافها. وإذا تقابلت الصفوف فى الحرب جاز لمن قاتل من المسلمين أن يعلّم بما
__________
[1] كذا فى الاحكام السلطانية، وفى الأصل: «وقاتلوا عليها» .(6/154)
يشتهر به فى الصفوف ويتميّز به من بين الجيش، وأن يركب الأبلق إن كانت خيول الناس دهما أو شقرا.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر: «سوّموا فإنّ الملائكة قد سوّمت [1] »
. ويجوز أن يجيب إلى البراز إذا دعى إليه؛ فقد دعا أبىّ بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البراز يوم أحد فبرز اليه فقتله النبى صلى الله عليه وسلم. ويجوز أيضا للمقاتل من المسلمين أن يدعو إلى البراز [2] لما فيه من إظهار القوّة فى دين الله تعالى بعد أن يعلم من نفسه أن لن يعجز عن مقاومة خصمه ويقدر على دفع عدوّه. ولا يجوز ذلك لزعيم الجيش، فإنه إذا طلب البراز وفقد، أثّر ذلك فى المسلمين؛ وربما يفضى بهم عدمه إلى الهزيمة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما برز لثقته بنصر الله وإنجاز وعده، وليس ذلك لغيره. ويجوز لأمير الجيش إذا حضّ على الجهاد أن يعرّض للشهادة من الراغبين فيها من يعلم أنّ قتله فى المعركة مما يحرّض المسلمين على القتال حميّة له.
حكى موسى بن إسحاق أن النبىّ صلى الله عليه وسلم خرج من العريش يوم بدر فحرّض الناس على الجهاد ونفّل كلّ امرئ [منهم [3]] ما أصاب، وقال: «والذى نفسى بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة»
؛ فقال عمير بن الحمام من بنى سلمة وفى يده تمرات يأكلهن: نج نج! ما بقى
__________
[1] اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا. وفى الأصل «تسوّموا ... » وما أثبتناه رواية النهاية لابن الأثير واللسان.
[2] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «إلى البراز يوم أحد لما فيه ... الخ» وظاهر أن كلمة «يوم أحد» زيدت هاهنا سهوا من الناسخ.
[3] الزيادة عن الطبرى قسم أوّل ج 5 ص 1321 طبع أوربا. ونفل الإمام الجند: جعل لهم ما غنموا.(6/155)
بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء القوم، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه وتقدّم وقاتل القوم حتى قتل- رحمه الله- وهو يقول:
ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا [1] التّقى وعمل المعاد
والصبر فى الله على الجهاد ... وكلّ زاد عرضة النّفاد
غير التّقى والبرّ والرشاد
ويجوز للمسلم أن يقتل من ظفر به من مقاتلة المشركين محاربا وغير محارب.
واختلف فى قتل شيوخهم ورهبانهم من سكان الصوامع والديارات. فمن منع من قتلهم قال: إنهم موادعون. ومن قال بقتلهم وإن لم يقاتلوا [قال [2]] : لأنهم ربما أشاروا برأى يكون فيه إنكاء للمسلمين. وقد قتل دريد بن الصّمّة فى حرب هوازن- وهو يوم حنين- وقد جاوز مائة سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراه فلم ينكر قتله؛ وكان يقول حين قتل:
أمرتهم أمرى بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلمّا عصونى كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم لا أننى غير مهتدى [3]
ولا يجوز قتل النساء والولدان فى حرب ولا غيرها ما لم يقاتلوا؛ لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل العسفاء والوصفاء- والعسفاء: المستخدمون، والوصفاء: المماليك-. فإن قاتل النساء والولدان قوتلوا مقبلين ولم يقتلوا مدبرين. وإذا تترّسوا فى الحرب بنسائهم وأطفالهم عمد قتلهم
__________
[1] فى الأصل: «الى» والتصويب عن الأحكام السلطانية والطبرى.
[2] زيادة يقتضيها سياق الكلام.
[3] فى ديوان الحماسة لأبى تمام، شرح التبريزى طبع مدينة «بن» بأوربا: « ... وقد أرى غوايتهم وأننى غير مهتدى» .(6/156)
وتوقّى قتل النساء والأطفال، [فان لم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل النّساء والأطفال [1]] جاز، ولو تترّسوا بأسرى المسلمين ولم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل الأسارى لم يجز قتلهم، فإن أفضى الكفّ عنهم إلى الإحاطة بالمسلمين، توصّلوا إلى الخلاص منهم كيف أمكنهم وتحرّزوا أن يعمدوا قتل مسلم؛ ويجوز عقر خيلهم من تحتهم إذا قاتلوا عليها؛ ومنع بعض الفقهاء من عقرها. وليس لأحد من المسلمين أن يعقر فرس نفسه، لأن الخيل من القوّة التى أمر الله تعالى بإعدادها فى جهاد عدوّه. قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ.
ولا احتجاج بعقر جعفر بن أبى طالب فرسه يوم مؤتة، فإنه اقتحم بفرس له شقراء حتى التحم القتال ثم نزل عنها وعقرها وقاتل حتى قتل رضى الله عنه، وهو أوّل رجل من المسلمين عقر فرسه فى الإسلام، وهو إنما عقر فرسه بعد أن أحيط به، فعقره لها خشية أن يتقوّى بها المشركون على المسلمين، فصار عقرها كعقر خيولهم.
والثالث- ما يلزم أمير الجيش فى سياستهم. والذى يلزمه فيها عشرة أشياء:
أحدها: حراستهم من غرّة يظفر بها العدوّ منهم، وذلك بأن يتتبّع المكامن فيحفظها عليهم ويحوط سوادهم بحرس يأمنون به على نفوسهم ورحالهم [2] ، ليسكنوا فى وقت الدّعة ويأمنوا ماوراءهم فى وقت المحاربة. والثانى: أن يتخيّر لهم موضع نزولهم لمحاربة العدوّ، وذلك أن يكون أوطأ الأرض مكانا وأكثرها مرعى وماء [3] وأحرسها أكنافا وأطرافا، ليكون أعون لهم على المنازلة وأقوى لهم على المرابطة. والثالث: إعداد ما يحتاج الجيش [إليه [4]] من زاد وعلوفة تفرّق عليهم فى وقت الحاجة، لتسكن نفوسهم
__________
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.
[2] فى الأصل «رجالهم» والتصويب عن الأحكام السلطانية.
[3] فى الأصل «ودماء» وهو تحريف، والتصحيح عن الأحكام السلطانية.
[4] التكملة من الأحكام السلطانية.(6/157)
إلى مادة يستغنون بها عن السعى فى تحصيلها، وتتوفّر دواعيهم على منازلة العدوّ. والرابع:
أن يعرف أخبار عدوّه حتى يقف عليها، ويتصفّح أحوالهم [حتى يخبرها [1]] ليسلم من مكرهم ويلتمس الغرّة فى الهجوم عليهم. والخامس: ترتيب الجيش فى مصافّ الحرب، والتعويل فى كل جهة على من يراه كفئا [لها، ويتفقد الصفوف من الخلل فيها، ويراعى كل جهة [2]] يميل العدوّ عليها بمدد يكون عونا لها. والسادس: أن يقوّى نفوسهم بما يشعرهم من الظفر ويخيّل إليهم من أسباب النصر، ليقلّ العدوّ فى أعينهم فيكونوا عليه أجرأ. قال الله عز وجل: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ
. والسابع: أن يعد أهل الصبر والبلاء منهم بثواب الله إن كانوا من أهل الآخرة، وبالجزاء والنّفل من الغنيمة إن كانوا من أهل الدنيا.
والثامن: أن يشاور ذوى الرأى فيما أعضل، ويرجع إلى أهل الحزم فيما أشكل؛ ليأمن الخطأ ويسلم من الزلل. وقد تقدّم ذكر ما فى المشورة من البركة والخير.
والتاسع: أن يأخذ جيشه بما أوجب الله تعالى من حقوقه وأمر به من حدوده، حتى لا يكون منهم تجوّز فى دين الله [ولا تحيف [3] فى حق] ، فإن من جاهد عن الدين كان أحق الناس بالتزام أحكامه.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انهوا جيوشكم عن الفساد فإنه ما فسد جيش قطّ إلا قذف الله فى قلوبهم الرّعب وانهوا جيوشكم عن الزنا فإنه ما زنى جيش قط إلا سلّط الله عليهم الموتان [4]
__________
[1] الزيادة عن الأحكام السلطانية ص 41.
[2] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[3] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[4] فى الأصل: « ... إلا سلط الله عليهم الوتان والموتان» ولعل كلمة «الوتان» زيدت سهوا من الناسخ، فإنها كلمة مهملة. وقد ورد الحديث فى الأحكام السلطانية خاليا منها كما أوردناه. والموتان (بالضم ويفتح) : الموت الكثير الوقوع.(6/158)
وانهوا جيوشكم عن الغلول [1] فإنه ما غلّ جيش قطّ إلا قذف الله الرعب فى قلوبهم»
. وقال أبو الدرداء: يأيها الناس، عمل صالح قبل الغزو فإنما تقاتلون بأعمالكم.
والعاشر: ألّا يمكّن أحدا من جيشه أن يتشاغل بتجارة أو زراعة ليصرفه [2] الاهتمام بها عن مصابرة العدوّ وصدق الجهاد.
روى عن نبىّ من أنبياء الله تعالى أنه قال: «لا يغزون معى من بنى بناء لم يكمله ولا رجل تزوّج امرأة لم يدخل بها ولا رجل زرع زرعا لم يحصده [3] »
. والرابع- ما يلزم المجاهدين معه من حقوق الجهاد. وهو ضربان: أحدهما ما يلزمهم فى حق الله تعالى؛ والثانى ما يلزمهم فى حق الأمير عليهم.
فأما اللازم لهم فى حق الله تعالى فأربعة أشياء. أحدها: مصابرة العدوّ عند التقاء الجمعين بألّا ينهزم عنه من مثليه فما دون ذلك. وقد كان الله عز وجل فرض فى أوّل الإسلام على كل مسلم أن يقاتل عشرة من المشركين، فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
. ثم خفّف الله عنهم عند قوّة الإسلام وكثرة أهله فأوجب على كل مسلم لاقى العدوّ أن يقاتل رجلين منهم، فقال تعالى:
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
فحرّم على كل مسلم أن ينهزم من مثليه إلا لإحدى حالتين: إما أن يتحرّف لقتال فيولّى لاستراحة أو لمكيدة ويعود الى قتالهم؛ وإما أن يتحيّز الى فئة أخرى يجتمع معها على قتالهم. قال الله تعالى:
__________
[1] الغلول: الخيانة فى المغنم.
[2] كذا بالأصل، ويظهر أن سياق الكلام يقتضى «فيصرفه» بالفاء.
[3] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «ولا رجل زرع زرعا ليحصده» .(6/159)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
قال: وسواء قربت الفئة التى يتحيز إليها أو بعدت. فقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لفلّ [1] القادسيّة حين انهزموا اليه: أنا فئة كل مسلم. ويجوز اذا زادوا على مثليه ولم يجد الى المصابرة سبيلا أن يولّى عنهم غير متحرّف لقتال ولا متحيّز الى فئة.
هذا مذهب الإمام الشافعى رحمه الله. واختلف أصحابه فيمن عجز عن مقاومة مثليه وأشرف على القتل هل يجوز انهزامه، فقالت طائفة: لا يجوز انهزامه عنهم وإن قتل، للنص. وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يولّى ناويا أن يتحرّف لقتال أو يتحيّز الى فئة ليسلم من القتل ومن إثم الخلاف؛ فإنه إن عجز عن المصابرة فلا يعجز عن هذه النية. وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بهذا التفصيل، والنصّ فيه منسوخ، وعليه أن يقاتل ما أمكنه وينهزم إذا عجز وخاف القتل. والثانى من حقوق الله تعالى: أن يقصد بقتاله نصرة دين الله تعالى وإبطال ما خالفه من الأديان، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فيكون بهذا الاعتقاد حائزا لثواب الله تعالى ومطيعا له فى أوامره ونصرة دينه ومستنصرا على عدوّه [ليستسهل ما لاقى [2]] فيكون أكثر ثباتا وأبلغ نكاية. ولا يقصد بجهاده استفادة المغنم فيصير من المتكسّبين لا من المجاهدين. والثالث من حقوق الله تعالى: أن يؤدّى الأمانة فيما حازه من الغنائم ولا يغلّ منها شيئا حتى تقسم بين جميع الغانمين ممن شهد الوقعة وكانوا على العدوّ يدا، لأن لكل واحد منهم فيها حقا. قال الله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ
. والرابع من حقوق الله تعالى: ألّا يمايل من المشركين ذا قربى ولا يحابى فى نصرة الله تعالى [ذا مودّة [3]] ، فإن حق الله
__________
[1] قوم فلّ: منهزمون.
[2] زيادة من الأحكام السلطانية.
[3] فى الأصل فى مكان التكملة غير واضح، وهى عن «الأحكام السلطانية» .(6/160)
أوجب ونصرة دينه ألزم. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ
. نزلت الآية فى حاطب بن أبى بلتعة وقد كتب كتابا إلى أهل مكة حين همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم يعلمهم فيه بالخبر وأنفذه مع سارّة- مولاة لبنى المطلب- فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأنفذ عليّا والزبير فى أثرها، فأدركاها وأخذا الكتاب من قرون رأسها، فدعا النبىّ صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال: «ما حملك على ما صنعت» ؛ فقال: والله يا رسول الله إنى لمؤمن بالله ورسوله، ما كفرت ولا بدّلت ولكنى امرؤ ليس لى فى القوم أصل ولا عشيرة وكان لى بين أظهرهم أهل وولد فصانعتهم [1] عليهم؛ فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى مبيّنا فى أثناء السيرة النبوية عند ذكرنا لغزوة الفتح، فتأمله هناك تجده.
وأما ما يلزمهم فى حق الأمير عليهم فأربعة أشياء. أحدها: التزام طاعته والدخول فى ولايته؛ لأن ولايته عليهم انعقدت، وطاعته بالولاية وجبت. والثانى: أن يفوّضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره، حتى لا تختلف آراؤهم فتختلف كلمتهم ويفترق جمعهم. قال الله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
فجعل تفويض الأمر إلى وليّه سببا إلى حصول العلم وسداد الأمر.
فإن ظهر لهم صواب خفى عليه بيّنوه له وأشاروا به عليه. والثالث: أن يسارعوا إلى امتثال أمره، والوقوف عند نهيه وزجره، لأنهما من لوازم طاعته. فإن توقّفوا عما أمرهم به أو أقدموا على ما نهاهم عنه ورأى تأديبهم على المخالفة بحسب أفعالهم، فعل.
__________
[1] فى الأصل «فطالعتهم بذلك» وما أثبتناه عن تاريخ الكامل لابن الأثير (ج 3 ص 184 طبع مدينة «ليدن» ) وعن الطبرى (القسم الأوّل ص 1627 طبع أوربا) وعن السيرة النبوية لابن هشام (ص 810 طبع أوربا) وعن شرح القسطلانى فانه بعد أن شرح رواية البخارى للحديث فى كتاب الجهاد قال «وفى رواية ابن إسحاق: وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم» .(6/161)
ولا يغلّظ فينفّر. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
. والرابع: ألّا ينازعوه فى الغنائم إذا قسمها فيهم، ويتراضوا به بعد القسمة. والخامس من أحكامها: مصابرة الأمير على قتال العدوّ ما صبر وإن تطاولت به المدّة. ولا يولّى عنهم وفيه قوّة. قال الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
. قيل فى تأويل هذه الآية: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدوّ، ورابطوا بملازمة [1] الثغر.
فإذا كانت مصابرة القتال من حقوق الجهاد فهى لازمة حتى يظفر بخصلة من أربع خصال:
إحداهن- أن يسلموا فيصير لهم بالإسلام مالنا وعليهم ما علينا، ويقرّوا على ما ملكوا من بلاد وأموال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقّها»
. وتصير بلادهم إذا أسلموا دار إسلام يجرى عليها حكم الإسلام. ولو أسلم منهم فى معركة الحرب طائفة، قلّت أو كثرت، أحرزوا بالإسلام ما ملكوا فى دار الحرب من أرض ومال. فإن ظهر على دار الحرب لم تغنم أموال من أسلم. وقال أبو حنيفة:
يغنم ما لا ينقل من أرض ودار، ولا يغنم ما ينقل من مال ومتاع.
والخصلة الثانية- أن يظفّره [2] الله تعالى بهم مع مقامهم على شركهم، فيسبى دراريهم ويغنم أموالهم ويقتل من لم يحصل فى الأسر [3] منهم. ويكون مخيّرا فى الأسرى
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «ورابطوا ملازمة الثغر» .
[2] كذا فى الأحكام السلطانية، وهو الذى يستقيم به الكلام. وفى الأصل: «ان ظفره الله ... » .
[3] كذا فى الأحكام السلطانية، وهو الذى يلتئم مع ما بعده. وفى الأصل: «من لم يحصل فى القتل ... » .(6/162)
فى استعمال الأصلح من أربعة أمور. أحدها: أن يقتلهم صبرا بضرب العنق. والثانى:
أن يسترقّهم ويجرى عليهم أحكام الرّقّ من بيع أو عتق. والثالث: أن يفادى بهم على مال أو أسرى. والرابع: أن يمنّ عليهم ويعفو عنهم. قال الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ
معناه الأسر [1] . ثم قال:
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها.
والخصلة الثالثة- أن يبذلوا مالا على المسالمة والموادعة، فيجوز أن يقبله منهم ويوادغهم عليه. وهو على ضربين. أحدهما: أن يبذلوه لوقتهم ولا يجعلوه خراجا مستمرّا. فهذا المال غنيمة لأنه مأخوذ بإيجاف خيل وركاب، فيقسم بين الغانمين، ويكون ذلك أمانا لهم فى الانكفاف [2] عن قتالهم فى هذا الجهاد، ولا يمنع من جهادهم فيما بعد. والضرب الثانى: أن يبذلوه فى كل عام، فيكون خراجا مستمرّا، ويكون الأمان به مستقرّا. والمأخوذ منهم فى العام الأوّل غنيمة تقسم بين الغانمين، وما يؤخذ فى الأعوام المستقبلة يقسم فى أهل الفىء. ولا يجوز أن يعاود جهادهم ما كانوا مقيمين على بذل المال، لاستقرار الموادعة عليه. وإذا دخل أحدهم إلى دار الإسلام، كان له بعقد الموادعة الأمان على نفسه وماله. فإن منعوا المال زالت الموادعة وارتفع الأمان ولزم [3] الجهاد كغيرهم من أهل الحرب. وقال أبو حنيفة: لا يكون منعهم من مال الجزية والصلح نقضا لأمانهم، لأنه حق عليهم فلا ينتقض العهد بمنعهم منه كالديون.
__________
[1] فى الأصل: «معناه بالأسر، بزيادة الباء.
[2] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «فى الانكفاء ... » .
[3] فى الأصل: «ولزوم الجهاد ... » وهو تحريف، والتصويب عن الأحكام السلطانية.(6/163)
والخصلة الرابعة- أن يسألوا الأمان والمهادنة؛ فيجوز اذا تعذّر الظفر بهم وأخذ المال منهم أن يهادتهم على المسالمة فى مدّة مقدّرة تعقد الهدنة [عليها اذا كان الامام قد أذن له فى الهدنة [1]] أو فوّض اليه الأمر. فقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية عشر سنين. ويقتصر فى مدّة الهدنة على أقلّ ما يمكن، ولا يجاوز بأكثرها عشر سنين. فإن هادنهم أكثر منها بطلت الهدنة فيما زاد عليها، ولهم الأمان فيها الى انقضاء مدّتها لا يجاهدون فيها من غير إنذار. [فإن نقضوه صاروا حربا يجاهدون من غير إنذار [1]] فقد نقضت قريش صلح الحديبية، فسار اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح محاربا. واذا نقضوا عهدهم فلا يجوز قتل من فى أيدينا من رهائنهم. وقد نقض الروم عهدهم فى زمان معاوية وفى يده رهائن فامتنع المسلمون جميعا من قتلهم وخلّوا سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر.
وإذا لم يجز قتل الرهائن لم يجب [2] إطلاقهم ما لم يحاربوا. فإن حاربونا وجب إطلاق رهائنهم وإبلاغ الرجل منهم مأمنهم وإيصال النساء والأطفال والذرارى الى أهليهم.
ويجوز أن يشترط لهم فى عقد الهدنة ردّ من أسلم من رجالهم اليهم. فإذا أسلم أحدهم ردّ اليهم إن كانوا مأمونين على دمه، ولم يردّ إليهم [3] إن لم يؤمنوا عليه. ولا يشترط ردّ من أسلم من نسائهم، لأنهنّ ذوات فروج محرّمة. فإن شرط ردّهن لم يجز أن يرددن [4] ؛ ودفع الى أزواجهنّ مهورهنّ اذا طلبن.
ولا تجوز المهادنة لغير ضرورة تدعو الى عقدها، وتجوز الموادعة أربعة أشهر فما دونها ولا يزيد عليها.
__________
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.
[2] فى الأحكام السلطانية «لم يجز إطلاقهم ... » .
[3] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «ولم يردّ عليهم ... » .
[4] فى الأصل: «لم يجز أن يردوا» ومرجع الضمير مؤنث.(6/164)
وأما الأمان الخاصّ فيصح أن يبذله كل مسلم من رجل وامرأة وحرّ وعبد؛
لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمّتهم أدناهم»
يعنى عبيدهم. وقال أبو حنيفة: لا يصحّ أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له فى القتال.
والسادس من أحكامها- السيرة فى نزال العدوّ وقتاله. يجوز لأمير الجيش فى حصار العدوّ أن ينصب عليهم العرّادات [1] والمجانيق. فقد نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف منجنيقا. ويجوز أن يهدم عليهم منازلهم، ويضع عليهم البيات والتحريق. واذا رأى فى قطع نخلهم وشجرهم صلاحا ليظفر بهم عنوة أو يدخلوا فى السلم صلحا لما ينالهم من الضعف، فعل. ولا يفعل إن لم ير فيه صلاحا. فقد قطع النبى صلى الله عليه وسلم كروم أهل الطائف فكان سببا لإسلامهم، وأمر فى حرب بنى النّضير بقطع نوع من النخل يقال له الأصفر يرى نواه من وراء اللّحاء، وكانت النخلة منها أحبّ اليهم من الوصيف [2] ، فحزنوا لقطعها، وجاء المسلمون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [3] أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ
. ويجوز أن يعوّر [4] عليهم المياه ويقطعها عنهم وإن كان فيهم النساء والأطفال؛ لأنه من أقوى أسباب ضعفهم والظفر بهم. واذا استسقى منهم عطشان فالأمير مخيّر فى سقيه أو منعه. ومن قتل منهم واراه عن الأبصار ولم يلزم [5] تكفينه. ولا يجوز أن يحرق بالنار منهم حيّا ولا ميتا.
روى عن النبىّ صلى الله عليه
__________
[1] العرادات: واحدها: عرّادة وهى أصغر من المنجنيق ترمى بالحجارة المرمى البعيد.
[2] الوصيف: العبد.
[3] اللينة: واحدة اللين وهو كل شىء من النخل سوى العجوة.
[4] عوّر الماء: سدّه.
[5] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «ولم يكره» .(6/165)
وسلم أنه قال: «لا تعذّبوا عباد الله بعذاب الله»
وقد أحرق أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه قوما من أهل الردّة. قال الماوردى: ولعل ذلك كان منه والخبر لم يبلغه.
ومن قتل من شهداء المسلمين زمّل فى ثيابه ودفن ولم يغسّل ولم يصلّ عليه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شهداء أحد: «زمّلوهم بكلومهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما اللون لون الدّم والريح ريح المسك»
. وإنما فعل ذلك بهم مكرمة لهم وإجراء لحكم الحياة عليهم. قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
. ولا يمنع الجيش فى دار الحرب من أكل طعامهم وعلوفة دوابّهم غير محتسب به عليهم. ولا يتعدّوا القوت والعلوفة الى ما سواهما من ملبوس ومركوب. فإن دعتهم الضرورة الى ذلك، كان ما لبسوه أو ركبوه أو استعملوه، مسترجعا منهم فى المغنم إن كان باقيا، ومحتسبا عليهم من سهمهم إن كان مستهلكا. ولا يجوز لأحد منهم أن يطأ جارية من السّبى إلا بعد أن يعطاها بسهمه فيطأها بعد الاستبراء. فإن وطئها قبل القسمة عزّر ولا يحدّ، لأنّ له فيها سهما؛ ووجب عليه مهر مثلها يضاف الى الغنيمة. فإن أحبلها لحق به ولدها وصارت أمّ ولد له إن ملكها. وإن وطئ من لم تدخل فى السبى حدّ، لأن وطأها زنا؛ ولم يلحق به ولدها إن علقت.
وإذا عقدت هذه الإمارة على غزاة واحدة، لم يكن لأميرها أن يغزو غيرها سواء غنم فيها أو لم يغنم. واذا عقدت عموما عاما بعد عام لزمه معاودة الغزو فى كل وقت يقدر على الغزو فيه، ولا يفتر عنه مع ارتفاع الموانع إلا قدر الاستراحة. و [أقل ما يجزيه أن [1]] لا يعطّل عاما من جهاد.
__________
[1] زيادة من الأحكام السلطانية.(6/166)
ولهذا الأمير، اذا فوّضت اليه الإمارة على المجاهدين، أن ينظر فى أحكامهم ويقيم الحدود عليهم وسواء من ارتزق منهم أو تطوّع. ولا ينظر فى أحكام غيرهم ما كان سائرا الى ثغره. فإذا استقرّ فى الثغر الذى تقلّده، جاز أن ينظر فى أحكام جميع أهله من مقاتلة ورعيّة. وإن كانت إمارته خاصة أجرى عليها حكم الخصوص.
وأما وصايا أمير الجيش- قال الحليمىّ: ويوصى الإمام أمير السريّة والجند بتقوى الله وطاعته والاحتياط والتيقّظ، ويحذّرهم الشّتات والفرقة والإهمال والغفلة، ويأخذ على الجند أن يسمعوا ويطيعوا أميرهم ولا يختلفوا عليه وينصحوا له، ولا يخذل [1] بعضهم بعضا، وإن أظفرهم الله على العدوّ لا يغلّوا ولا يخونوا، ولا يعقروا من دوابّ المشركين التى لا تكون تحتهم، ولا يقتلوا امرأة لا تقاتلهم ولا وليدا، وأنهم إن وصلوا إلى قرية لا يدرون حالها، أمسكوا عنها وعن أهلها ولا يبيّتونهم ولا يشنّون الغارة عليهم حتى يعلموا حالهم؛ إلى غير ذلك من الآداب التى يحتاجون إلى معرفتها مما يلزم ويحلّ أو يحرم من أمر القتل والأسر والمغنم والقسم وعزل الخمس ومن يسهم له أولا يسهم ومن يرضخ [له [2]] ، والفرق بين الفارس والراجل ونحو ذلك.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الجرّاح أنه
بلغنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشا أو سريّة قال: «باسم الله وفى سبيل الله تقاتلون من كفر بالله لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدا»
. فإذا بعثت جيشا أو سريّة فمرهم بذلك.
__________
[1] يخذل: يجوز أن يقرأ بتخفيف الذال فيكون من الخذلان، وبتشديدها فيكون من التخذيل.
والخذلان: ترك النصرة. والتخذيل: التثبيط والحمل على ترك النصرة.
[2] يقال: رضخ له من ماله اذا أعطاه عطية قليلة. فالزيادة التى وضعناها تقتضيها اللغة.(6/167)
وقال أبو بكر الصّدّيق رضى الله عنه لخالد بن الوليد حين وجّهه لقتال أهل الرّدّة:
سر على بركة الله، فإذا دخلت أرض العدوّ فكن بعيدا من الحملة فإنى لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد، وسر بالأدلّاء، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإنّ فى العرب غرّة، وأقلل من الكلام فإنما لك ماوعى عنك، واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله فى سريرتهم؛ وأستودعك الله الذى لا تضيع ودائعه.
وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول عند عقد الألوية: باسم الله وبالله وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله والنصر ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا فى سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين. ولا تجبنوا عند اللّقاء، ولا تمثّلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزّحفان وعند شنّ الغارات.
وكتب عمر الى سعد بن أبى وقّاص ومن معه من الأجناد: أما بعد فإنى آمرك ومن معك بتقوى الله على كلّ حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدوّ وأقوى المكيدة فى الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصى منكم من عدوّكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا قوّة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم. فإن استوينا فى المعصية كان لهم الفضل علينا فى القوّة. وإلّا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوّتنا. واعلموا أن عليكم فى مسيركم حفظة [من [1]] الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم. ولا تعملوا بمعاصى الله وأنتم فى سبيل الله. ولا تقولوا إن عدوّنا شرّ منا فلن يسلّط علينا وإن أسأنا؛ فرب قوم قد سلّط عليهم شرّ منهم كما سلّط على بنى
__________
[1] زيادة من العقد الفريد.(6/168)
إسرائيل لمّا عملوا بمساخط الله كفرة المجوس (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا)
. واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفّق بالمسلمين فى مسيرهم، ولا تجشّمهم مسيرا يتعبهم، ولا تقصّر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوّهم والسفر لم ينقص [1] قوّتهم؛ فإنهم سائرون الى عدوّ مقيم حامى الأنفس والكراع [2] . وأقم بمن معك فى كل جمعة يوما وليلة حتى تكون لهم راحة يجمّون [3] فيها أنفسهم ويرمّون [4] أسلحتهم وأمتعتهم. ونحّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمّة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه ولا يرزأ [5] أحدا من أهلها شيئا، فإن لهم حرمة وذمّة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها؛ فما صبروا لكم ففوا لهم [6] .
ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت أدنى أرض العدوّ فأذك [7] العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق فى بعضه، والغاشّ عين عليك وليس عينا لك. وليكن منك عند دنوّك من أرض العدوّ أن تكثر الطلائع وتبثّ السّرايا بينك وبينهم [فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم [8]] . وانتق للطلائع أهل الرأى والبأس من أصحابك،
__________
[1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «لا ينقص» .
[2] الكراع: الخيل.
[3] يجمون أنفسهم: يتركونها لترتاح وتقوى.
[4] يرمون: يصلحون.
[5] «ولا يرزأ» فى الأصل غير معجمة، وأثبتناها بالياء طبقا لما فى العقد الفريد، على أن تكون معطوفة على صلة الموصول قبلها. ويحتمل أن تكون بتاء الخطاب.
[6] فى العقد الفريد: «فما صبروا لكم فتولوهم خيرا» .
[7] إذكاء العيون والطلائع: بثها.
[8]- هذه الجملة التى بين القوسين وردت فى الأصل هكذا: «فتنقطع للسرايا أمدادهم ومرافقهم وتتبع بالطلائع عوراتهم» وفى بعض هذه الكلمات تحريف جعل الجملة غير مستقيمة، فأثبتناها كما وردت فى العقد الفريد (ج 1 ص 50) .(6/169)
وتخيّر لهم سوابق الخيل، فإن [1] لقوا عدوّا كان أوّل ما تلقاهم القوّة من رأيك. واجعل أمر [2] السّرايا الى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخصّ بها أحدا بهوى، فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصّتك. ولا تبعث طليعة ولا سريّة فى وجه تتخوّف عليها فيه ضيعة ونكاية. فإذا عاينت العدوّ فاضمم اليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوّتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال [3] ، حتى تبصر عورة عدوّك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوّك كصنيعه بك. ثم أذك أحراسك على عسكرك، وتحفّظ من البيات جهدك. ولا تؤتى بأسير ليس له عهد إلا ضربت عنقه، لترهب بذلك عدوّك وعدوّ الله. والله ولىّ أمرك ومن معك، وولىّ النصر لكم على عدوّكم؛ والله المستعان.
وأوصى عبد الملك بن مروان أميرا سيّره الى أرض الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيّس الذى إن وجد ربحا تجر، وإلّا تحفّظ برأس المال؛ ولا تطلب الغنيمة حتى تحوز السلامة؛ وكن من احتيالك على عدوّك أشد حذرا من احتيال عدوّك عليك.
وكان زياد بن أبيه يقول لقوّاده: تجنّبوا اثنتين لا تقاتلوا فيهما العدوّ: الشتاء، وبطون الأودية.
وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه: اذا غزوتم فأطيلوا الأظفار، وقصّروا الشعور، والحظوا الناس شزرا، وكلّموهم رمزا، واطعنوهم وخزا.
__________
[1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «وإن لقوا ... » .
[2] فى الأصل: «أهل السرايا ... » والتصويب عن العقد الفريد
[3] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «ما لم يستكرهوك القتال»(6/170)
وكان أبو مسلم الخراسانىّ صاحب الدعوة يقول لقوّاده: أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظّفر، وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تبعث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب.
وقالت الحكماء: لا تستصغرنّ أمر عدوّك اذا حاربته، لأنك إن ظفرت به لم تحمد وإن ظفر بك لم تعذر؛ والضعيف المحترس من العدوّ القوىّ أقرب الى السلامة من القوىّ المغترّ بالضعيف.
ذكر ما يقوله قائد الجيش وجنده من حين [1] يشاهد العدوّ الى انفصال الحرب والظفر بعدوّهم
قال الشيخ أبو عبد الله الحسين الحليمىّ فى منهاجه: اذا مضى الجيش باسم الله فلقوا العدوّ فليتعوّذوا بالله تعالى، وليقولوا: اللهم إنا ندرأ بك [2] فى نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. فإذا قاتلوا فليقولوا: اللهم بك نصول ونجول. وليقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
. وليقولوا: اللهم منزّل الكتاب وسريع الحساب هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم. وإن حصبوهم فليقولوا: «شاهت الوجوه» . وإن رموهم فليقولوا: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً.
وإن بيّتهم العدوّ فليكن شعارهم (حم) *
لا ينصرون (حم عسق)
يفرّق أعداء الله، وبلغت حجة الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وليقولوا إذا دخل العدوّ ديارهم:
ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا
. وليقولوا اذا صافّوهم: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ
. وليقولوا:
__________
[1] فى الأصل: «من حيث» وظاهر أن السياق يقتضى ما أثبتنا.
[2] فى الأصل «انا ندروك ... » وهو تحريف. ومنه الحديث- كما فى نهاية ابن الأثير فى مادة (درأ) -: «اللهم إنى أدرأ بك فى نحورهم» .(6/171)
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
. وليقولوا: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ
. وليقولوا: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
. وليقولوا: فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ.
وإن صبحوا دارهم فليقولوا: الله أكبر، هزم العسكر، إذا نزلنا ساحة قوم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ)
. وإن بيّتوهم فليقولوا: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ
. وإن جاءوهم نهارا فليقولوا: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ
. وليقولوا فى عامّة أحوالهم وأوقاتهم: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
. وليقولوا: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً
. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً
. وإن كان العدوّ يهودا فليقل المسلمون فى وجوههم: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا
. وليقولوا:
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ
. وليقرءوا المعوّذتين غدوة وعشيّا.
وإن وقعت هزيمة فتبعهم العدوّ فليتحصّنوا منهم بقراءة قوله تعالى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً
. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.
وإن هزموا العدوّ فليقولوا على آثارهم: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
. وليقولوا: ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ
. وإن لجّ العدوّ وثبتوا فليقولوا: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ
. وليقولوا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ
. وليقولوا: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ(6/172)
الْبَعِيدُ
. وليقولوا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً
. وليقولوا: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً
وليقولوا: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً
. وليقولوا:
ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
. وليقولوا: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ
. وليقولوا إذا حملوا على العدوّ:
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) .
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ
. وليقولوا: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً
. وليقولوا: أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ
. وليقولوا: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
. وليقولوا: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
. وليقولوا: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
. وإن حمل العدوّ عليهم فليقولوا لأنفسهم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
. وليقولوا: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ
. وإذا دنوا منهم فليقولوا: انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ
. وليقولوا: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً
. وليقولوا: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ
. وليقولوا: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً
. وإن لحق العدوّ مدد فليقل المسلمون: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ
. وليقولوا:(6/173)
وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ.
وإن لحق المسلمين مدد فليقولوا: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
. وإذا تحصّنوا من العدوّ بموضع فليقولوا إن قصدوهم: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً
. وليقولوا: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً
. وإن تحصّن العدوّ منهم بموضع فليقولوا إن قصدوه: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
. وليقولوا: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ*
. وليقولوا إذا خافوهم:
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
. وليقولوا:
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً
. وليقولوا: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
. وليقولوا: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ
. وليقولوا:
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
. وليقولوا: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ
. وإن حاصروا العدوّ وأحدقوا بهم فليقولوا: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً
. وليقولوا: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ
. وإن حاصرهم العدوّ وأحاط بهم فليقولوا: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ
. وليقولوا: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ
. وليقولوا: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي(6/174)
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
. وإن رماهم العدوّ بالنار فليقولوا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ
. فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ
. وليقولوا: الله أكبر، الله ربنا، ومحمد نبينا، وأنت يا نار لغيرنا. وليقولوا: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
. وإن رموا العدوّ بالنار فليقولوا معها: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً.
وليقولوا: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ
. وليقولوا: فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ
. وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ*
. وليقولوا: إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى.
وليقولوا: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ
. وإن رموا العدوّ بالمنجنيق فليقولوا: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
. وإن رماهم العدوّ بالمنجنيق فليقولوا: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا.
وليقولوا: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ
. وليقولوا:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً
. وإذا دخلوا أرض العدوّ فليقولوا: باسم الله لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً
. وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً
. ويقولوا إذا كانت الريح تصفّق فى وجوه العدوّ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ.
وإن كانت الريح تهبّ على وجوه المسلمين فليقولوا: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ
،(6/175)
ويقولوا: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» ، ويقولوا: اللهم إنا نسألك من خير ما تأتى به الرياح، ونعوذ بك من شر المساء والصباح. وإن بارز مسلم مشركا فليقرأ عليه: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
. وليقل: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ.
وليقل: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
. وإذا التقى الصفّان فليدع أمير السريّة ويسأل الله النصر والفتح ويؤمّن الناس على دعائه؛ فإنها من ساعات الإجابة.
ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها
روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحرب خدعة [1] »
. وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا أخذ طريقا وهو يريد أخرى، ويقول: «الحرب خدعة» .
وكان مالك بن عبد الله الخثعمىّ وهو على الصافّة [2] يقوم فى الناس، اذا أراد أن يرحل، فيحمد الله ويثنى عليه، ثم يقول: إنى دارب بالغداة درب كذا؛ فتتفرّق الجواسيس عنه بذلك، فإذا أصبح سلك بالناس طريقا غيرها. فكانت الروم تسميّه الثعلب.
وقال المهلّب لبنيه: عليكم فى الحرب بالمكيدة، فإنها أبلغ من النجدة.
وسئل بعض أهل التمرّس بالحروب: أىّ المكايد فيها أحزم؟ فقال: إذ كاء العيون [3] ، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار، وإظهار السرور، وإماتة الفرق،
__________
[1] فى النهاية لابن الأثير « ... يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، وبضمها مع فتح الدال فالأول معناه أن الحرب ينقضى أمرها بخدعة واحدة من الخداع أى أن المقاتل اذا خدع مرة واحدة لم نكن لها إقالة، وهى أفصح الروايات وأصحها، ومعنى الثانى هو الاسم من الخداع، ومعنى الثالث أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تقى لهم كما يقال: فلان رجل لعبة وضحكة أى كثير اللعب والضحك» .
[2] الصافة: الجماعة تقام وتصف للحرب.
[3] إذكاء العيون: بث الجواسيس.(6/176)
والاحتراس من البطانة، من غير إقصاء [1] لمستنصح ولا استنصاح لمستغشّ، وإشغال [2] الناس عما هم فيه من الحرب بغيره.
وقال حكيم: اللّطف فى الحيلة، أجدى للوسيلة. وقيل: من لم يتأمّل الأمر بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله، والتّثبّت يسهّل طريق الرأى إلى الإصابة، والعجلة تضمن العثرة.
ويقال: إن سعيد بن العاص صالح أهل حصن من حصون فارس على ألّا يقتل منهم رجلا واحدا، فقتلهم كلّهم إلا رجلا واحدا.
وقيل: لما أتى بالهرمزان أسيرا الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قيل له:
يا أمير المؤمنين، هذا زعيم العجم وصاحب رستم [3] ؛ فقال له عمر رضى الله عنه:
أعرض عليك الإسلام نصحا لك فى عاجلك وآجلك؛ فقال: إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب فى الإسلام رهبة؛ فدعا عمر بالسيف، فلما همّ بقتله، قال: يا أمير المؤمنين، شربة من ماء هى أفضل من قتلى على الظمأ؛ فأمر له بشربة من ماء؛ فلما أخذها الهرمزان قال: يا أمير المؤمنين، أنا آمن حتى أشربها؟ قال: نعم؛ فرمى بها وقال:
الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج؛ قال: صدقت، لك التوقّف عنك والنظر فيك، ارفعا عنه السيف؛ فقال: يا أمير المؤمنين، الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده؛ فقال عمر: أسلمت خير إسلام، فما أخّرك؟
قال: كرهت أن يظنّ بى أنى إنما أسلمت خوفا من السيف؛ فقال عمر: ألا إنّ لأهل فارس عقولا استحقّوا بها ما كانوا فيه من الملك، ثم أمر ببرّه وإكرامه.
__________
[1] فى الأصل: «من غير إفضاء..» .
[2] فى الأصل: «واشتغال الناس ... » .
[3] هو رستم بن فرخزاد، كان من أعظم رجال فارس وقائد جيوش يزدجرد ملك ساسان فى وقعة القادسية التى انتصر فيها المسلمون حينما أرسل سعد بن أبى وقاص لفتح ايران فى خلافة عمر رضى الله عنه.
وقد قتل رستم فى هذه الوقعة.(6/177)
ونظير هذه القصة ما فعل الأسير الذى أتى به الى معن بن زائدة فى جملة الأسرى فأمر بقتلهم؛ فقال: أتقتل الأسرى عطاشا يا معن؟ فأمر بهم فسقوا، فلما شربوا قال: أتقتل أضيافك يا معن؟ فخلّى عنهم.
ومن المكايد المشهورة حكاية قصير مع الزّبّاء، وسنذكرها إن شاء الله فى التاريخ فى أخبار ملوك العرب، وواقعة ملك الهياطلة مع فيروز بن يزدجرد، ونذكرها أيضا فى أخبار ملوك الفرس.
ومن المكايد خبر عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة مع معاوية بن أبى سفيان، وكان معاوية قد كتب اليهما واستقدم عمرا من مصر والمغيرة من الكوفة؛ فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا إلا ليعزلنا، فإذا دخلت عليه فاشك الضعف واستأذنه أن تأتى الطائف أو المدينة، وأنا اذا دخلت عليه سأسأله ذلك فإنه يظن أنّا نريد أن نفسد عليه. فدخل المغيرة على معاوية فسأله أن يعفيه فأذن له؛ ودخل عليه عمرو وسأله ذلك؛ فقال معاوية: قد تواطأتما على أمر وإنكما لتريدان شرّا، ارجعا الى عمليكما.
وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف العزل: أما بعد، فإنه قد كبرت سنّى، ودقّ عظمى، وقرب أجلى، وسفّهنى رجال قريش، فرأى أمير المؤمنين فى عمله موفّق. فكتب اليه معاوية: أمّا ما ذكرت من كبر سنّك، فإن سنّك أكلت عمرك. وأما اقتراب أجلك، فإنى لو كنت أستطيع أن أدفع المنيّة عن أحد لدفعتها عن آل أبى سفيان. وأما ما ذكرت من العمل ف
ضحّ قليلا يدرك الهيجا [1] حمل
وأمّا ما ذكرت من سفهاء قريش، فإنّ حلماء قريش أنزلوك هذا المنزل. فاستأذن معاوية
__________
[1] وكذا فى اللسان. وضح قليلا: تأنّ قليلا ولا تعجل. وهو شطر بيت ورد فى شرح القاموس هكذا:
لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل ... ما أحسن الموت اذا حان الأجل
وقائل البيت حمل بن بدر، وقيل حمل بن سعدانة الصحابى.(6/178)
فى القدوم فأذن له؛ فلما وصل اليه قال له معاوية: كبرت سنك، واقترب أجلك، ولم يبق منك شىء، ولا أظنّنى إلا مستبدلا بك. قال: فانصرف والكآبة تعرف فى وجهه؛ فقيل له: ما تريد أن تفعل [1] ؟ فقال: ستعلمون ذلك. ثم أتى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الأنفس يغدى عليها ويراح، ولست فى زمن أبى بكر ولا عمر، وقد اجترح الناس، ولو نصبت لنا علما من بعدك نصير اليه! مع أنى كنت قد دعوت أهل العراق الى يزيد فركنوا اليه حتى جاءنى كتابك؛ قال: يا أبا محمد، انصرف الى عملك فأحكم هذا الأمر لابن أخيك، وأعاده على البريد يركض.
وقيل: جاء بازيار [2] لعبد الله بن طاهر فأعلمه أن بازيا له انحط على عقاب له فقتلها؛ فقال: اذهب فاقطف رأسه، فإنى لا أحبّ الشىء أن يجترئ على ما فوقه.
وأراد أن يبلغ ذلك المأمون فيسكن الى جانبه.
قال الشعبىّ: وجّهنى عبد الملك بن مروان الى ملك الروم، فلما قدمت عليه ودفعت اليه كتاب عبد الملك، جعل يسألنى عن أشياء فأخبره بها، فأقمت عنده أياما، ثم كتب جواب كتابى، فلما انصرفت دفعته الى عبد الملك، فجعل يقرؤه ويتغيّر لونه، ثم قال: يا شعبىّ، علمت ما كتب به إلىّ الطاغية؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كانت الكتب مختومة ما قرأتها وهى اليك؛ فقال: إنه كتب إلىّ: إنّ العجب من قوم يكون فيهم مثل من أرسلت به إلىّ فيملّكون غيره؛ فقال: قلت يا أمير المؤمنين لأنه لم يرك؛ قال: فسرّى عنه، ثم قال: إنه حسدنى عليك فأراد أن أقتلك.
قال: ولمّا ظفر الجنيد بن عبد الرحمن- وهو يلى خراسان فى أيام هشام- بصبيح الخارجىّ وبعدّة من أصحابه فقتلهم جميعا إلا رجلا أعمى [قال هذا الرجل [3]] أنا أدلّك
__________
[1] تكررت فى الأصل جملة «فقيل له ما تريد أن تفعل» سهوا من الناسخ.
[2] البازيار: القيم على البزاة أو المتجربها.
[3] زيادة يقتضيها السياق.(6/179)
على أصحاب صبيح وأجازيك على ما صنعت، وكتب له قوما؛ فأمر الجنيد بقتلهم حتى قتل مائة؛ فقال الأعمى عند ذلك: لعنك الله باجنيد! أتزعم أنه يحلّ لك دمى وأنّى ضالّ ثم تقبل قولى فى مائة قتلتهم! لا! والله ما كتبت لك من أصحاب صبيح رجلا، وما هم إلا منكم. فقدّمه الجنيد وقتله.
وكان معاوية بن أبى سفيان من الدّهاة؛ وله أخبار فى الدّهاء تدلّ على بعد غوره وحدّة ذهنه. فمنها [1] أن يزيد ابنه سمع بجمال زينب بنت إسحاق زوج عبد الله بن سلّام القرشىّ، وكانت من أجمل النساء فى وقتها وأحسنهنّ أدبا وأكثرهنّ مالا، ففتن بها يزيد؛ فلما عيل صبره ذكر ذلك لبعض خصيان أبيه، وكان ذلك الخصىّ خاصّا بمعاوية واسمه رفيق، فذكر رفيق ذلك لمعاوية وقال له: إنّ يزيد قد ضاق ذرعه بها. فبعث معاوية الى يزيد فاستفسره عن أمره؛ فبثّ له شأنه؛ فقال: مهلا يا يزيد؛ فقال له:
علام تأمرنى بالمهل وقد انقطع منها الأمل؟ فقال له معاوية: فأين مروءتك وحجاك [وتقاك] ؟ فقال: قد عيل الصبر، ولو كان أحد [ينتفع فيما يبتلى] به من الهوى [بتقاه، أو يدفع ما أقصده بحجاه] لكان أولى الناس به داود حين ابتلى به؛ فقال: اكتم يا بنىّ أمرك، فإن البوح به غير نافعك، والله بالغ أمره فيك، ولا بدّ مما هو كائن.
وأخذ معاوية فى الاحتيال فى تبليغ يزيد مناه، فكتب الى زوجها عبد الله بن سلّام، وكان قد استعمله على العراق: أن أقبل حين تنظر كتابى لأمر [2] فيه حظّك إن شاء الله تعالى فلا تتأخر عنه. فأغذّ السير وقدم، فأنزله معاوية منزلا كان قد هيّىء له وأعدّ فيه نزله؛ وكان عند معاوية يومئذ بالشأم أبو هريرة وأبو الدّرداء، فقال لهما معاوية: إنّ الله قد قسم بين عباده قسما [ووهبهم نعما] أوجب عليهم فيها شكره وحتّم عليهم حفظها، فحبانى
__________
[1] أورد صاحب «كتاب الإمامة والسياسة» هذه القصة بزيادات كثيرة واختلاف فى العبارات عما هنا. وقد أثبتنا من هذه الزيادات ما يستقيم به الكلام، وهو ما وضعناه بين القوسين.
[2] فى الأصل: «والأمر ... » وما أثبتناه عن كتاب الامامة والسياسة.(6/180)
منها عز وجل بأتمّ الشرف وأفضل الذكر، وأوسع علىّ الرزق، وجعلنى راعى خلقه، وأمينه فى بلاده، والحاكم فى أمر عباده، ليبلونى أأشكرأم أكفر. وأوّل ما ينبغى للمرء أن يتفقّد وينظر من استرعاه الله أمره، ومن لا غنى به عنه. وقد بلغت لى ابنة أريد إنكاحها والنظر فى اختيار من يباعلها، لعل من يكون بعدى يقتدى فيه بهديى ويتبع فيه أثرى. فإنه [1] قد يلى هذا الملك بعدى من يغلب عليه الشيطان ويرقيه الى تعضيل [2] بناتهم فلا يرون لهم كفؤا ولا نظيرا، وقد رضيت لها ابن سلّام القرشىّ، لدينه وشرفه وفضله ومروءته وأدبه؛ فقالا له: إن أولى الناس برعاية نعم الله وشكرها وطلب مرضاته فيما اختصّه منها لأنت؛ فقال لهما معاوية: فاذكرا له ذلك عنى، وقد كنت جعلت لها فى نفسها شورى، غير أنى أرجو ألّا تخرج من رأيى إن شاء الله. فخرجا من عنده وأتيا عبد الله بن سلّام وذكرا له القصة. ثم دخل معاوية على ابنته وقال لها: اذا دخل عليك أبو الدرداء وأبو هريرة فعرضا عليك أمر عبد الله بن سلّام وحضّاك على المسارعة الى اتباع رأيى فيه، فقولى لهما: إنه كفء كريم وقريب حميم، غير أنّ تحته زينب بنت إسحاق، وأخاف أن يعرض لى من الغيرة ما يعرض للنساء فأتناول منه ما يسخط الله تعالى فيه فيعذّبنى عليه، ولست بفاعلة حتى يفارقها. فلما اجتمع أبو هريرة وأبو الدرداء بعبد الله وأعلماه بقول معاوية، ردّهما اليه يخطبان له منه، فأتياه؛ فقال: قد علمتما رضائى به وحرصى عليه، وكنت قد أعلمتكما الذى جعلت لها فى نفسها من الشّورى، فادخلا عليها واعرضا عليها الذى رأيت لها. فدخلا عليها وأعلماها؛ فقالت لهما ما قاله معاوية لها. فرجعا الى ابن سلّام وأعلماه بما قالته.
فلما ظن أنه لا يمنعها منه إلا فراق زينب أشهدهما بطلاقها وأعادهما الى ابنة معاوية.
__________
[1] عبارة الإمامة والسياسة: «فانى قد تخوّفت أن يدعو من يلى هذا الأمر من بعدى زهو السلطان وسرفه الى عضل نسائهم ... الخ» .
[2] تعضيل البنات: حبسهنّ عن الزواج ظلما. وفى الأصل: «الى تعطيل بناتهم» .(6/181)
فأتيا معاوية وأعلماه بما كان من فراق عبد الله زوجته رغبة فى الاتصال با بنته؛ فأظهر معاوية كراهة فعله وفراقه لزينب وقال: ما استحسنت له طلاق امرأته ولا أحببته، فانصرفا فى عافية ثم عودا إليها وخذا رضاها. فقاما ثم عادا اليه، فأمرهما بالدخول على ابنته وسؤالها [1] عن رضاها تبرّيّا من الأمر، وقال: لم يكن لى أن أكرهها وقد جعلت لها الشورى فى نفسها. فدخلا عليها وأعلماها بطلاق عبد الله بن سلّام امرأته ليسرّها، وذكرا من فضله وكمال مروءته وكرم محتده؛ فقالت لهما: إنه فى قريش لرفيع القدر، وقد تعرفان أن الأناة فى الأمور أرفق لما يخاف من المحذور، وإنى سائلة عنه حتى أعرف دخلة أمره وأعلمكما بالذى يزيّنه الله لى، ولا قوّة إلا بالله؛ فقالا: وفّقك الله وخار لك. وانصرفا عنها، وأعلما عبد الله بقولها؛ فأنشد:
فإن يك صدر هذا اليوم ولّى ... فإنّ غدا لناظره قريب
وتحدّث الناس بما كان من طلاق عبد الله زينب وخطبته ابنة معاوية، ولا موه على مبادرته بالطلاق قبل إحكام أمره وإبرامه. ثم استحثّ عبد الله أبا هريرة وأبا الدرداء؛ فأتياها وقالا لها: اصنعى ما أنت صانعة واستخيرى الله، فإنه يهدى من استهداه؛ فقالت: أرجو، والحمد لله، أن يكون [2] الله قد خار [لى] ، وقد استبرأت [3] أمره وسألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسى، ولقد اختلف من استشرته فيه، فمنهم الناهى عنه و [منهم] الآمر به، واختلافهم أوّل ما كرهت.
فلما بلّغاه كلامها علم أنه مخدوع، وقال: ليس لأمر الله رادّ، ولا لما لا بدّ [4] منه
__________
[1] فى الأصل: « ... وسؤالهما ... » .
[2] فى كتاب الامامة والسياسة: «الحمد لله أرجو أن يكون ... » .
[3] فى الأساس: «استبرأت الشىء: طلبت آخره لأقطع الشبهة عنى» .
والمعنى هنا أنها استقصت جميع أموره حتى عرفته كل المعرفة.
[4] فى الأصل: «ولا لما لا يدنيه صاد» ولعله تحريف عما وضعناه، وأن الياء والدال من «يدنيه» محرّفتان عن «بد» وبقية الكلمة محرّفة عن «منه» . ويؤيد هذا أن عبارة «الامامة والسياسة» «ولا لما لا بد أن يكون منه صاد» .(6/182)
صادّ؛ فإن المرء وإن كمل له حلمه واجتمع له عقله واستدّ رأيه ليس بدافع عن نفسه قدرا برأى ولا كيد. ولعل ما سرّوا به واستجذلوا [1] [له] لا يدوم لهم سروره، ولا يصرف عنهم محذوره. وذاع أمره وفشا فى الناس، وقالوا: خدعه معاوية حتى طلّق امرأته، وإنما أرادها لابنه، وقبّحوا فعله. فتمّت مكيدته هذه؛ لكن المقادير أتت بخلاف تدبيره وبضدّ تقديره. وذلك أنه لما انقضت أقراء زينب، وجّه معاوية أبا الدرداء الى العراق خاطبا لها على ابنه يزيد؛ فخرج حتى قدم الكوفة، وبها يومئذ الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، فبدأ أبو الدرداء بزيارته، فسلم عليه الحسين وسأله عن سبب مقدمه؛ فقال: وجّهنى معاوية خاطبا على ابنه يزيد زينب بنت إسحاق؛ فقال له الحسين: لقد كنت أردت نكاحها وقصدت الإرسال اليها اذا انقضت أقراؤها، فلم يمنعنى من ذلك إلا تخيّر مثلك [2] ، فقد أتى الله بك، فاخطب- رحمك الله- علىّ وعليه، لتتخيّر من اختاره الله لها، وهى أمانة فى عنقك حتى تؤدّيها اليها، وأعطها من المهر مثل ما بذل معاوية عن ابنه؛ فقال: أفعل إن شاء الله. فلما دخل عليها أبو الدرداء قال: أيتها المرأة، إنّ الله خلق الأمور بقدرته، وكوّنها بعزته، فجعل لكل أمر قدرا، ولكل قدر سببا، فليس لأحد عن قدر الله مستحاص، ولا للخروج عن أمره مستناص؛ فكان مما [3] سبق لك وقدّر عليك الذى كان من فراق عبد الله بن سلّام إيّاك، ولعل ذلك لا يضرّك ويجعل الله فيه خيرا كثيرا؛ وقد خطبك أمير هذه الأمة وابن ملكها وولىّ عهده والخليفة من بعده
__________
[1] كذا فى «كتاب الامامة والسياسة» وفى الأصل: «ما سوّلوا به واستخذلوا» .
[2] فى الأصل وفى «كتاب الامامة والسياسة» : «فلم يمنعنى من ذلك الا تخيير مثلك ... » وظاهر أن الذى يلتئم مع السياق انما هو التخير وهو الانتقاء، اذ المراد هنا انتقاء الرسول الذى يحسن القيام بهذه السفارة.
[3] كذا فى كتاب الامامة والسياسة. وفى الأصل: «فكان ما سبق لك ... » .(6/183)
يزيد بن معاوية، والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيّد شباب أهل الجنة، وقد بلغك شأنهما وسناؤهما وفضلهما، وقد جئتك خاطبا عليهما، فاختارى أيّهما شئت؛ فسكتت طويلا ثم قالت: يا أبا الدرداء، لو أن هذا الأمر جاءنى وأنت غائب لأشخصت فيه الرسل إليك واتّبعت فيه رأيك ولم أقتطعه دونك، فأمّا إذ كنت أنت المرسل فقد فوّضت أمرى بعد الله إليك وجعلته فى يديك، فاخترلى أرضاهما لديك، والله شاهد عليك، فاقض فى أمرى بالتحرّى ولا يصدّنّك عن ذلك اتباع هوى، فليس أمرهما عليك خفيّا، ولا أنت عما طوّقتك غبيّا؛ فقال: أيتها المرأة، إنما علىّ إعلامك وعليك الاختيار لنفسك؛ قالت: عفا الله عنك! إنما أنا ابنة أخيك، ولا غنى لى عنك، فلا تمنعك رهبة أحد عن قول الحق فيما طوّقتك، فقد وجب عليك أداء الأمانة فيما حمّلتك؛ والله خير من روعى وخيف، إنه بنا خبير لطيف. فلما لم يجد بدّا من القول والإشارة قال: أى بنيّة، إن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إلىّ وأرضى عندى، والله أعلم بخيرهما لك، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع شفتيه على شفتى حسين، فضعى شفتيك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم شفتيه؛ قالت: قد اخترته وأردته ورضيته. فتزوّجها الحسين وساق لها مهرا عظيما. فبلغ ذلك معاوية فتعاظمه ولام أبا الدرداء شديدا، وقال: من يرسل ذا بله وعمى يركب خلاف ما يهوى. وأما عبد الله ابن سلّام فإنّ معاوية اطّرحه وقطع عنه جميع روافده، لسوء قوله فيه وتهمته أنه خدعه، ولم يزل يجفوه حتى عيل صبره وقلّ ما فى يديه. فرجع الى العراق، وكان قد استودع زينب قبل طلاقه لها مالا عظيما ودرّا كثيرا، فظن أنها تجحده لسوء فعله بها وطلاقها من غير شىء كان منها، فلقى حسينا فسلّم عليه، ثم قال: قد علمت ما كان من خبرى وخبر زينب، وكنت قد استودعتها مالا ولم أقبضه، وأثنى عليها وقال له:(6/184)
ذاكرها أمرى واحضضها على ردّ مالى. فلما انصرف الحسين إليها قال لها: قد قدم عبد الله بن سلّام وهو يحسن الثناء عليك ويحمل النشر عنك فى حسن صحبتك وما آنسه قديما من أمانتك، فسرّنى ذلك وأعجبنى، وذكر أنه كان قد استودعك مالا، فأدّى إليه أمانته وردّى عليه ماله، فإنه لم يقل إلا صدقا ولم يطلب إلا حقا؛ فقالت:
صدق، استودعنى مالا لا أدرى ما هو، فادفعه اليه بطابعه؛ فأثنى عليها حسين خيرا وقال: ألا أدخله عليك حتى تتبرّئى إليه منه كما دفعه اليك؟ ثم لقى عبد الله وقال:
ما أنكرت مالك، وإنها زعمت أنه بطابعك، فادخل اليها وتسلّم مالك منها؛ فقال:
أو ما تأمر من يدفعه إلىّ؟ قال: لا! بل تقبضه منها كما دفعته إليها. ودخل عليها حسين وقال: هذا عبد الله قد جاء يطلب وديعته؛ فأخرجت اليه البدر فوضعتها بين يديه وقالت: هذا مالك؛ فشكر وأثنى. وخرج حسين عنهما، وفضّ عبد الله ابن سلّام خواتم بدرة [1] وحثى لها من ذلك وقال: خذى فهو قليل منى؛ فاستعبرا جميعا حتى علت أصواتهما بالبكاء أسفا على ما ابتليا به؛ فدخل الحسين عليهما وقد رقّ لهما فقال: أشهد الله أنها طالق ثلاثا، اللهم قد تعلم أنى لم أستنكحها رغبة فى مالها ولا جمالها، ولكنى أردت إحلالها لبعلها. فسألها عبد الله أن تصرف الى حسين ما كان قد ساق إليها من مهر؛ فأجابته الى ذلك؛ فلم يقبله الحسين وقال:
الذى أرجو إليه من الثواب خير لى. فلما انقضت أقراؤها تزوّجها عبد الله، وحرمها الله تعالى يزيد بن معاوية.
ومن مكايد معاوية أن رجلا من قريش أسر فحمل الى صاحب القسطنطينية، فكلّمه ملك الروم، فجاو به القرشىّ بجواب لم يوافقه؛ فقام اليه رجل من بطارقة صاحب القسطنطينية فوكزه، فقال القرشىّ: وا معاوياه! لقد أغفلت أمورنا وأضعتنا. فوصل
__________
[1] كذا فى كتاب الامامة والسياسة. وفى الأصل: « ... خواتم برده ... » وهو تحريف من الناسخ.(6/185)
الخبر الى معاوية فطوى عليه واحتال فى فداء الرجل. فلما وصل اليه سأله عن أمره مع صاحب القسطنطينية وعن اسم البطريق الذى وكزه؛ فلما عرفه أرسل الى رجل من قوّاد صور [1] الذين كانوا قوّاد البحر ممن عرف بالنّجدة وغزو الروم، وقال له:
أنشئ مركبا يكون له مجاديف فى جوفه، واستعمل السفر الى بلاد الروم، وأظهر أنك إنما تسافر لبلادهم على وجه السرّ والاستتار منا، وتوصّل إلى صاحب القسطنطينية ومكّنه من المال واحمل إليه الهدايا والى جميع أصحابه، ولا تعرض لفلان (يعنى الذى لطم الرجل القرشىّ) واعمل كأنك لا تعرفه، فإذا كلّمك وقال لك: لأىّ معنى تهادى أصحابى وتتركنى، فاعتذر إليه وقل له: أنا رجل أدخل الى هذه المواضع مستترا ولا أعرف [إلا [2]] من عرّفت به، فلو عرفت أنك من وزراء الملك لهاديتك كما هاديت أصحابك، ولكنى اذا انصرفت إليكم مرة أخرى سأعرف حقك. ففعل القائد ذلك.
ولما انصرف إليهم ثانية هاداه وألطفه [3] وأربى فى هديته على أصحابه، ولم يزل حتى اطمأن إليه العلج. فلما كان فى إحدى سفراته قال له البطريق: كنت أحبّ أن تجلب إلىّ من بلاد المسلمين وطاء ديباج يكون على ألوان الزهر؛ قال: نعم. فلما انصرف أخبر معاوية بما طلبه البطريق؛ فأمر له ببساط على ما وصف، وقال: اذا دخلت وادى القسطنطينية فأخرجه وابسطه على ظهر المركب وتربّص فى الوادى حتى يصل الخبر الى ذلك العلج، وابعث له فى السرّ وتحيّن خروجه الى ضيعته التى له على ضفّة وادى القسطنطينية، فإذا وصلت الى حدّ ضيعته فابتدئ بها، لعلّ يحمله الشره على الدخول إليك؛ فاذا حصل عندك فى المركب فمر الرجال بإشارة تكون بينك
__________
[1] صور: مدينة عظيمة وكانت ثغرا من ثغور بحر الشام.
[2] تكملة نرى أن استقامة الكلام تتوقف عليها.
[3] يقال: ألطفه بكذا اذا برّه به.(6/186)
وبينهم أن يستعملوا المجاديف التى فى جوف المركب، وكرّبه راجعا الى الشأم. ففعل ما أمره به معاوية. وصادف وصول ذلك القائد وجود البطريق [1] فى ضيعته، فبسط ذلك البساط على ظهر المركب ووصل الى عرض ضيعة العلج؛ فلما عاين البساط حمله الشّره والحرص الى أن دخل المركب، فلما صار فى المركب أشار [القائد] الى رجاله فرجعوا بالمركب بعد أن أوثق البطريق ومن معه، وسار بهم حتى قدم على معاوية. فأحضر معاوية البطريق ووقفه بين يديه، وأحضر القرشىّ وقال: هذا صاحبك؟ قال:
نعم؛ قال: قم فاصنع به ما صنع بك ولا تزد؛ فقام القرشىّ فوكزه كما كان فعل به العلج. ثم قال معاوية للبطريق: ارجع الى ملكك وقل له: تركت ملك الإسلام يقتصّ من أصحاب بساطك، وقال للذى ساقه: انصرف به الى أوّل أرض الروم وأخرجه، واترك له البساط وكل ما سألك أن تحمله اليه من هديّة. فانصرف به الى فم وادى القسطنطينية، فوجد ملك الروم قد صنع سلسلة على فم الوادى ووكّل بها الرجال، فلا يدخل أحد الى الوادى إلا بإذنه؛ فأخرج العلج ومن معه وما معه. فلما وصل الى ملكه ووصف له ما صنع به معاوية قال: هذا ملك كبير الحيلة. فعظم معاوية فى أعينهم وفى نفوسهم فوق ما كان. وهذه الواقعة محاسنها تستر مساوى ما تقدّمها.
وهذا الباب متّسع، ستقف إن شاء الله فى التاريخ الذى أوردناه فى كتابنا هذا [على [2]] ما تكتفى به وتطّلع منه على المكايد.
وحيث انتهينا الى هذه الغاية فى أوصاف قادة الجيوش، فلنذكر الآن فضيلة الجهاد ووصف الجيوش والوقائع.
__________
[1] فى الأصل: «وصادف وصول ذلك القائد والبطريق ... » .
[2] زيادة يقتضيها الكلام.(6/187)
ذكر ما ورد فى الجهاد وفضله وترتيب الجيوش وأسمائها فى القلة والكثرة، وأسماء مواضع القتال، وما قيل فى الحروب والوقائع، وما وصفت به
فأما ما ورد فى الجهاد وفضله. قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ
. وقال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ
. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
. وأثنى الله تعالى على المجاهدين ووعدهم الجنة فى آى كثير.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل جاءه فقال له يا رسول الله: دلّنى على عمل يعدل الجهاد قال:
«لا أجده»
. وقال أبو هريرة رضى الله عنه: إن فرس المجاهد ليستنّ فى طوله فيكتب له حسنات [1] .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فى الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين فى سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» .
وفى لفظة: «الرّوحة والغدوة فى سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبد يموت له عند الله خير يسرّه أن يرجع الى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فإنه يسرّه أن يرجع
__________
[1] يستر: يعدو من المرح والنشاط من غير أن يكون عليه أحد. والطول: حبل طويل جدا تشدّ به قائمة الدابة ويمسك صاحبه بطرفه ويرسلها ترعى.(6/188)
الى الدنيا فيقتل مرة أخرى»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذى نفسى بيده لولا أنّ رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عنى ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلّفت عن سريّة تغزو فى سبيل الله والذى نفسى بيده لوددت أنّى أقتل فى سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما اغبرّتا [1] قدما عبد فى سبيل الله فتمسّه النار»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجنّة تحت ظلال السيوف»
. والأحاديث الصحيحة متضافرة بفضيلة الجهاد وما أعدّ الله للمجاهدين والشهداء. وقد ترجم على ذلك البخارىّ وغيره.
وأما ما قيل فى أسماء العساكر فى القلة والكثرة وأسماء مواضع القتال-
قالوا: الكتيبة: ما جمع فلم ينتشر. والحضيرة: العشرة فمن دونهم. والمقنب والمنسر من الثلاثين الى الأربعين. والهيضلة: جماعة غير كثيرة. والرّمّازة: التى تموج من نواحيها. والجحفل: الجيش الكثير. والمجر: أكثر ما يكون.
وقال الثعالبىّ فى فقه اللغة عن أبى بكر الخوارزمىّ عن ابن خالويه: أقلّ العساكر الجريدة؛ ثم السريّة وهى من الأربعين الى الخمسين؛ ثم الكتيبة وهى من مائة الى ألف [2] ؛ ثم الجيش وهو من ألف إلى أربعة آلاف، وكذلك الفيلق والجحفل؛ ثم الخميس وهو من أربعة آلاف الى اثنى عشر ألفا؛ والعسكر يجمعها.
__________
[1] كذا ورد بالأصل بعلامة التثنية فى الفعل وهى رواية أبى ذر عن الحموى والمستملى، وهى لغة.
وفى صحيح البخارى: «ما اغبرت قدما عبد ... » بدون ألف التثنية فى الفعل وهى أفصح. أنظر شرح البخارى للقسطلانى ج 5 ص 58 طبع بولاق سنة 1293 هـ.
[2] الذى فى فقه اللغة طبع بيروت سنة 1885: «أقل العساكر الجريدة وهى قطعة جردت من سائرها لوجه. ثم السرية وهى من خمسين الى أربعمائة. ثم الكتيبة وهى من أربعمائة الى الألف ... ) .(6/189)
ولأسماء العساكر نعوت فى الكثرة وشدّة الشوكة.
فأما نعوتها فى الكثرة- فانه يقال: كتيبة رجراجة؛ جيش لجب؛ عسكر جرّار؛ جحفل لهام؛ خميس عرمرم.
وأما نعوتها فى شدّة الشوكة مع الكثرة- فإنه يقال: كتيبة شهباء اذا كانت بيضاء من الحديد؛ وخضراء إذا كانت سوداء من صدإ الحديد؛ وململمة إذا كانت مجتمعة؛ ورمّازة إذا كانت تموج من نواحيها؛ ورجراجة إذا كانت تتمخّض ولا تكاد تسير؛ [وجرّارة إذا كانت لا تقدر على السير [1]] إلا رويدا من كثرتها.
وأما أسماء مواضع القتال- فمنها: الحومة؛ والمعركة؛ والمعترك؛ والمأقط؛ والمأزم، والمأزق.
وأما أسماء غبار الحرب- النّقع والعكوب: هو الغبار الذى يثور من حوافر الخيل وأخفاف الإبل. الرّهج والقسطل: غبار الحرب. الخيضعة: غبار المعركة.
وأما ما قيل فى الحروب والوقائع، وشىء مما وصفت به- قالوا: أبلغ ما قيل فى صفة الحرب قول الأوّل:
كأنّ الأفق محفوف بنار ... وتحت النار آساد تزير
وقول الآخر:
ويوم كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم يكن جمر وقوف على جمر
صبرنا له حتّى تجلّى، وإنما ... تفرّج أيام الكريهة بالصبر
__________
[1] التكملة من فقه اللغة.(6/190)
وقال البحترىّ يصف جيشا اتّبع مقدّمه:
حمر السيوف كأنما ضربت لهم ... أيدى القيون صفائحا من عسجد
فى فتية طلبوا غبارك إنه ... رهج ترفّع عن طريق السّودد
كالرمح فيه بضع عشرة فقرة ... منقادة خلف السّنان [1] الأصيد
وقول النابغة الجعدىّ:
تبدوكوا كبه والشمس طالعة ... لا النّور نور ولا الإظلام إظلام
وقال أبو الفرج الببّغاء:
وموشيّة بالبيض والزّغف والقنا ... محبّرة الأعطاف بالضّمّر القبّ
بعيدة ما بين الجناحين فى السّرى ... قريبة ما بين الكمينين [2] فى الضرب
من السالبات الشمس ثوب ضيائها ... بثوب تولّى نسجه عثير التّرب
يعاتب نشوان القنا صاحى الظّبا ... إذا التقيا فيها على قلّة الشّرب
أعادت علينا الليل بالنّقع فى الضّحى ... وردّت علينا الصبح فى الليل بالشهب
تبلّج عن شمسى نزار ويعرب ... وتفترّ عن [3] طودى علا تغلب الغلب
موقّرة يقتاد ثنى زمامها ... بصير بأدواء الكريهة فى الحرب
أصحّ اعتزاما من خؤون على قلى ... وأنفذ حكما من غرام على صبّ
وقال محمد بن أحمد بن عبد ربه:
ومعترك تهزّ به المنايا ... ذكور الهند فى أيدى ذكور
لوامع يبصر الأعمى سناها ... ويعمى دونها طرف البصير
__________
[1] فى الأصل: «فرقة ... خلف اللسان» وهو تحريف. والتصويب من ديوان البحترى.
[2] فى يتيمة الدهر: «ما بين الكميين ... » .
[3] فى الأصل: «تبلح ... ويقتر ... » .(6/191)
وخافقة الذوائب قد أنافت ... على حمراء ذات شبا طرير [1]
تحوّم حولها عقبان موت ... تخطّفت القلوب من الصدور
بيوم راح فى سربال ليل ... فما عرف الأصيل من البكور
وعين الشمس ترنو فى قتام ... رنوّ البكر من خلف الستور
فكم قصّرت من عمر طويل ... وكم طوّلت من عمر قصير
وقال أيضا:
ومعترك ضنك تعاطت كماته ... كؤوس دماء من كلى ومفاصل
يديرونها راحا من الرّوح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل
وتسمعهم أمّ المنيّة وسطها ... غناء صليل البيض تحت المناصل
وقال التّنوخىّ شاعر اليتيمة:
فى موقف وقف الحمام ولم يزغ ... عن ساحتيه وزاغت الأبصار
فقنا تسيل من الدماء على قنا [2] ... بطوالهن تقصّر الأعمار
ورءوس أبطال تطاير بالظّبا ... فكأنها تحت الغبار غبار
وقال ابن الخيّاط الأندلسىّ:
سيوف اذا اعتلّت جهات بغورة [3] ... فمنهنّ فى أعناقهن تمائم
وكلّ خميس طبّق الجوّ نقعه ... وضيّق مسراه الجياد الصلادم
__________
[1] المراد بالحمراء: القناة. والشبا: جمع شباة، وشباة كل شىء: حده. والطرير: المحدّد.
[2] القنا الأولى: حفائر الماء. والقنا الثانية: الرماح.
[3] كذا بالأصل: وفى كلمة «بغورة» تحريف لم نوفق الى تصحيحه. ولعله: جهات ثغوره، أو جهات بثورة، أو جهات بغارة.(6/192)
كأنّ نهار النقع إثمد عينه ... وأشفار عينيه الشّفار الصوارم
تعدّ عليه الوحش والطير قوتها ... اذا سار والتفّت عليه القشاعم
والبيت الأوّل مأخوذ من قول المتنبى:
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم
وقال الحمّانىّ:
وإنا لتصبح أسيافنا ... إذا ما انتضين ليوم سفوك
منا برهن بطون الأكفّ ... وأغمادهن رءوس الملوك
وقال حسّان:
إذا ما غضبنا بأسيافنا ... جعلنا الجماجم أغمادها
قال رجل من بنى تميم لرجل عبادىّ: لم يكن لآل نصر بن ربيعة صولة فى الحرب.
فقال: لقد قلت بطلا، ونطقت خطلا؛ كانوا والله إذا أطلقوا [1] عقل الحرب رأيت فرسانا تمور كرجل الجراد [2] ، وتدافع كتدافع الأمداد؛ فى فيلق حافتاه الأسل، يضطرب عليها الأجل؛ إذا هاجت لم تتناه دون إرادتها [3] ، ومنتهى غايات طلباتها؛ لا يدفعها دافع، ولا يقوم لها جمع جامع؛ وقد وثقت بالظفر لعزّ أنفسها، وأيقنت بالغلبة لضراوة عادتها؛ خصّت بذلك على العرب أجمعين.
قال جرير:
لقومى أحمى للحقيقة منكم ... وأضرب للجبّار والنقع ساطع
وأوثق عند المردفات عشيّة ... لحاقا إذا ما جرّد السيف لامع [4]
__________
[1] فى الأصل: «انطلقوا» .
[2] رجل الجراد: الجماعة منه.
[3] فى الأصل: «دون إدارتها» وظاهر أنه تحريف.
[4] لامع: من لمع بالسيف: أشار به ولوّح.(6/193)
ومن رسالة للفقيه الوزير أبى حفص عمر بن الحسن الهوزنى [1] قال فيها: وكتابى على حالة يشيب [2] لشهودها مفرق الوليد، كما تغيّر [3] لورودها وجه الصعيد؛ بدؤها ينسف الطريف والتالد، ويستأصل الولد والوالد؛ تذر النساء أيامى، والأطفال يتامى؛ فلا أيّمة إذ لم تبق أنثى، ولا يتيم والأطفال فى قيد الأسرى؛ بل تعمّ الجميع جمّا جمّا فلا تخصّ، وتزدلف إليهم قدما قدما فلا تنكص؛ طمت حتى خيف على عروة الإيمان الانفضاض، وطمّت حتى خشى على عمود الإسلام الانقضاض، وسمت حتى توقّع لجناح الدين الانهياض.
وفى فصل منها: وكأن الجمع فى رقدة أهل الكهف، أو على وعد صادق من الصّرف والكشف.
ومنها: وإن هذا الأمر له ما بعده، إلا أن يسنّى [4] الله على يديك دفعه وصدّه.
وكم مثلها شوهاء نهنهت فانثنت ... وناظرها من شدّة النّقع أرمد
فمرّت تنادى: الويل للقادح الصّفا ... لبعض القلوب الصخر أو هى أجلد [5] !
__________
[1] فى الذخيرة لابن بسام ج 2 ص 48 (نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2348 أدب) : «هو أبو حفص عمر بن الحسن بن عبد الرحمن أبى سعيد الداخل بجزيرة الأندلس وهو كان صاحب صلاة الجماعة بقرطبة على عهد عبد الرحمن بن معاوية وهشام الرضى ابنه، وهوزن الذى نسب اليه وغلب اسمه عليه بطن من ذى الكلاع الأصغر» . وفى الأصل «الهونى» وهو تحريف.
[2] كذا فى الذخيرة، وفى الأصل شيب.
[3] كذا فى الأصل: وفى الذخيرة: «كما يقت؟؟؟» .
[4] كذا فى الذخيرة، ويسنى: يسهل. وفى الأصل: «ينشى» .
[5] فى خامش الذخيرة «لعلها أصلد» .(6/194)
وأبقت ثناء كاللطائم [1] نشّرت، ... تبيد الليالى وهو غضّ يجدّد [2]
وفى فصل منها فى الحرب: والحرب فى اجتلائها حسناء عروس تطّبى [3] الأغمار بزّتها، وفى بنائها شمطاء عبوس تختلى الأعمار غرّتها [4] ؛ فالأقلّ للهبها وارد، والأكثر عن شهبها حائد؛ فأخلق بمجيد عن مكانها، وعزلة فى ميدانها؛ فوقودها شكّة السلاح، وقتارها متصاعد الأرواح؛ فإن عسعس ليلها مرّة لانصرام، أو انجبس وبلها ساعة لانسجام؛ فيومها غسق يردّ الطّرف كليلا، ونبلها صيّب [5] يزيد الخوف غليلا.
وقال فيها:
أعبّاد ضاق الذّرع واتّسع الخرق ... ولا غرب للدنيا إذا لم يكن شرق
ودونك قولا طال وهو مقصّر ... وللعين معنى لا يعبّره النطق
إليك انتهت آمالنا فارم مادهى ... بعزمك يدمغ هامة الباطل الحق [6]
وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها، ولا أرجأ الدليل من ناط الأمور بأربابها؛ ولربّ أمل بين أثناء المحاذير مدمج، ومحبوب فى طىّ المكاره مدرج؛ فانتهز فرصتها فقد بان من غيرك العجز، وطبّق مضاربها فكأن قد أمكنك الحزّ؛ ولا غرو أن يستمطر الغمام فى الجدب، ويستصحب الحسام فى الحرب!.
__________
[1] اللطائم: جمع لطيمة، وهى دعاء المسك.
[2] كذا فى الذخيرة، وفى الأصل: «وهو غض مجرّد» وهو تحريف.
[3] تطبى الأغمار: تستميلهم.
[4] تختلى: تقطع. والغرة: الغرور.
[5] كذا فى الذخيرة، وفى الأصل: «وليلها صب»
[6] كذا ورد هذا البيت فى الذخيرة، وورد فى الأصل هكذا:
اليك انتهت أيامنا فارم ما دهى ... بعزمك يدفع هامة الباطل الحق(6/195)
ومن إنشاء القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ من جواب كتبه وصف فيه وقعة، كتب: ورد على المملوك كتاب المولى يذكر الرّجفة التى سرى منها الى أسماع الأولياء قبله ما سرى الى عيون الأولياء بحضرته؛ وتعاظمهم الفادح الذى هم راسبون فى غماره ساهون فى غمرته؛ ووصف عظم أثرها ورائع منظرها ومطعن هدّتها [1] ، ومزعج واقعتها وفظيع روعتها؛ واضطراب الجبال وخشوعها، وانشقاق الأبنية وصدوعها؛ وسجود الحصون الشّمّ، وخضوع الصخور الصّمّ؛ وجأر العباد إلى ربهم لما مسّهم من الضرّ، ولياذهم بقصده لما دهاهم من الأمر؛ فوصف عظيما بعظيم، ومثّل مقاما ما عليه صبر مقيم؛ وأنذر بانتقام قائم إلا أنه كريم، وجبّار إلا أنه حليم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون نقولها واضعين الخدود تذلّلا، وإنا فى سبيل الله وإنا إليه نائبون تخلّصا ونضمّنها بالقلوب إخلاصا وتبتّلا؛ وعرف المملوك ما وسع الخلق من معروفه وإرفاقه، وجبر الحصون من عمارته منازل التوحيد وأوكاره، بأمواله التى وقفها فى سبيل الله وهانت عليه إذ كان على يد البرّ إخراجها، وكرمت لديه إذ طالبت بها خطرات الشهوات واعتلاجها؛ واستقرضها من الأرض خراجا ثم وفّاها ما اقترض بعمرانها، واستخرجها من بطنانها ثم أعادها الى ظهرانها؛ وأرساها للإسلام بقواعد حصونها، وأسناها فى يد المسلمين بوثائق رهونها؛ ولم يزل الله يختصّه بكل حسنة متوضحة، ويوفّقه لكل صالحة مصلحة؛ وينعم عليه بالنية الصادقة، وينعم منه بالموهبة السابغة السابقة؛ فإن نزلت نازلة من وقائع الأقدار، وإن [1] عرضت عارضة من عوارض الأيام، تلقّاها حامدا، وأسا جرحها جاهدا، وعوّل على ربه قاصدا، وأنفق فيما أصبح منه عادما ما أمسى له واجدا.
__________
[1] كذا فى الأصل.(6/196)
ذكر ما ورد فى الغزو فى البحر
عن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: حدّثتنى أمّ حرام أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال يوما فى بيتها، فاستيقظ وهو يضحك؛ قالت: يا رسول الله، ما يضحكك؟
قال: «عجبت من قوم من أمتى يركبون البحر كالملوك على الأسرّة» ؛ فقلت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلنى منهم؛ قال: «أنت منهم» ، ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقال مثل ذلك مرتين أو ثلاثا؛ قالت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلنى منهم، فيقول: «أنت من الأوّلين»
، فتزوّج بها عبادة بن الصّامت فخرج بها الى الغزو، فلما رجعت قرّبت دابّة لتركبها فوقعت فاندقّت عنقها.
وفى حديث آخر: «يركبون البحر الأخضر فى سبيل الله مثلهم كمثل الملوك على الأسرة» ، قالت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلنى منهم؛ فقال: «اللهم اجعلها منهم» وأنه قال مثل ذلك ثانية؛ فقالت:
أدع الله أن يجعلنى منهم؛ قال: «أنت من الأوّلين ولست من الآخرين»
. وساق نحوه.
ومما قيل فى القتال فى البحر- قال العسكرى فى ديوان المعانى: لم يصف أحد من المتقدّمين والمتأخّرين القتال فى المراكب إلا البخترىّ، وعدّوا قصيدته هذه من عيون قصائده وفضّلوها على كثير من الشعر، وهى:
غدوت على «الميمون» صبحا وإنما ... غدا المركب الميمون تحت المظفّر
[أطلّ بعطفيه ومرّ كأنما ... تشرّف من هادى حصان مشهّر [1]]
إذا زمجر النّوتىّ فوق علاته ... رأيت خطيبا فى ذؤابة منبر
__________
[1] زيادة من ديوان البحترى.(6/197)
إذا عصفت [1] فيه الجنوب اعتلى له ... جناحا عقاب فى السماء مهجّر
إذا ما انكفا فى هبوة الماء خلته ... تلفّع فى أثناء برد محبّر
وحولك ركّابون للهول عاقروا ... كؤوس الرّدى من دارعين وحسّر
تميل المنايا حيث مالت أكفّهم ... إذا أصلتوا حدّ الحديد المذكّر
إذا رشقوا بالنار لم يك رشقهم ... ليقلع إلا عن شواء مقتّر
صدمت بهم صهب العثانين دونهم ... ضراب كإيقاد اللّظى المتسعّر
[يسوقون أسطولا كأنّ سفينه ... سحائب صيف من جهام وممطر [2]]
كأنّ ضجيج البحر بين رماحهم ... إذ اختلفت ترجيع عود مجرجر
تقارب من زحفيهم فكأنما ... تؤلّف من أعناق وحش منفّر
فما رمت [3] حتى أجلت الحرب عن طلى ... مقطّعة فيهم وهام مطيّر
على حين لا نقع يطرّحه [4] الصّبا ... ولا أرض تلفى للصريع المقطّر
وكنت ابن «كسرى» قبل ذاك وبعده ... مليئا [5] بأن توهى صفاة ابن «قيصر»
جدحت له الموت الذّعاف فعافه ... وطار على ألواح شطب مسمّر [6]
مضى وهو مولى الريح يشكر فضلها ... عليه ومن يول الصّنيعة يشكر
وحيث ذكرنا الجهاد وفضله والوقائع والحروب، فلنذكر ما قيل فى المرابطة فى سبيل الله.
__________
[1] كذا فى ديوان البحترى، وفى الأصل: «اذا ما علت» .
[2] زيادة من الديوان.
[3] فمارمت: لم تبرح مكانك.
[4] رواية الديوان: « ... تطوحه الصبا» .
[5] الملىء بالأمر: المضطلع به القدير عليه.
[6] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «مشمر» بالشين المعجمة وهو تحريف.(6/198)
ذكر ما رود فى المرابطة
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
. والمرابطة فى سبيل الله تعالى تنزل [1] من الجهاد والقتال منزلة الاعتكاف فى المساجد من الصلاة، لأنّ المرابط يقيم فى وجه العدوّ متأهّبا مستعدّا، حتى اذا أحسّ من العدوّ بحركة أو غفلة نهض فلا يفوته ولا يتعذّر عليه، كما أن المعتكف يكون فى موضع الصلاة مستعدّا، فإذا دخل الوقت وحضر الإمام قام الى الصلاة.
قال الحليمىّ: ولا شك أن المرابطة أشقّ من الاعتكاف. على أن صرف الهمة إلى انتظار الصلاة قد سمّى رباطا لما جاء فى الحديث فيما يكفّر الخطايا «وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرّباط» . وقد ورد عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أحاديث تحثّ على الرباط، فمنها أنه
قال صلى الله عليه وسلم: «من مات مرابطا فى سبيل الله أومن من عذاب القبر ونما له أجره الى يوم القيامة»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه أجر المرابطة ويؤمن من الفتّان ويقطع له برزق الجنة»
. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات مرابطا فى سبيل الله مات شهيدا ووقاه الله فتانى القبر وأجرى عليه أحسن عمله وغدى عليه وريح برزق من الجنة»
. وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا استشاط العدوّ فخير جهادكم الرباط»
. وسنّة المرابطة فى سبيل الله أن يعدّ من الخيل والسلاح ما يحتاج إليه، إذا كان انتظار الوقعة من غير استعداد لها يعرّض للهلاك. قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
. وجاء فى الحديث:
__________
[1] فى الأصل «تتنزل» .(6/199)
«إن القوّة الحصن ومن رباط الخيل الحجورة [1] » الإناث.
وروى عقبة بن عامر أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا هو الرمى [2] »
؛ وقد يجوز أن يكون اللفظ جامعا للحصن والرمى لأن كليهما قوّة. والله تعالى أعلم.
ذكر ما قيل فى السلاح وأوصافه
والسّلاح ما قوتل به. والجنّة اسم لما اتّقى به، كالدّرع والتّرس ونحوهما.
وقال العتبىّ: بعث عمر بن الخطاب رضى الله عنه الى عمرو بن معديكرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف «بالصّمصامة» فبعث اليه به؛ فلما ضرب به وجده دون ما بلغه عنه، فكتب اليه فى ذلك؛ فأجابه يقول: إنما بعثت الى أمير المؤمنين بالسيف ولم أبعث له بالساعد الذى يضرب به.
وسأله عمر يوما عن السلاح فقال: ما تقول فى الرمح؟ قال: أخوك وربما خانك فانقصف؛ قال: فما تقول فى التّرس؟ قال: هو المجنّ وعليه تدور الدوائر؛ قال: فالنّبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب؛ قال: فما تقول فى الدّرع؟ قال:
مثقلة للراجل مشغلة للراكب وإنها لحصن حصين؛ قال: فما تقول فى السيف؟
__________
[1] الحجورة: جمع حجر بالكسر، وهى الأنثى من الخيل. فذكر «الإناث» تفسير من المؤلف أو ممن نقل عنه المؤلف.
[2] كذا فى الأصل، وفى صحيح مسلم بإسناده الى عقبة بن عامر أنه كان يقول: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ألا إن القوة الرمى ألا إن القوة الرمى ألا إن القوة الرمى» .(6/200)
قال: هنالك قارعتك أمك عن الثّكل [1] ؛ قال: [بل [2]] أمّك! [قال: [3]] بل أمك يا أمير المؤمنين! فعلاه أمير المؤمنين بالدّرّة. وقيل: بل قال له- لما قال عمر بل أمك- قال: أمى يا أمير المؤمنين «والحمّى أضرعتنى لك» أراد أن الإسلام قيدنى، ولو كنت فى الجاهليّة لم تكلمنى بهذا الكلام. وهو مثل تضربه العرب إذا اضطرّت للخضوع.
ومثل ذلك قول الأغرّ النهشلىّ لابنه لما بعثه لحضور ما وقع بين قومه فقال:
يا بنىّ، كن يدا لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسيف فإنه ظلّ الموت، واتّق الرمح فإنه رشاء المنيّة، ولا تقرب السهام فإنها رسل تعصى وتطيع. قال: فبم أقاتل؟
قال: بما قال الشاعر:
جلاميد أملاء [4] الأكفّ كأنها ... رءوس رجال حلّقت فى المواسم
فعليك بها وألصقها بالأعقاب والسّوق.
__________
[1] رواية عيون الأخبار (المجلد الأول ص 130) كرواية الأصل، غير أن اسم الإشارة فيه «ثم» وفى الأغانى (ج 14 ص 137 طبع بولاق) : «قال: عنه قارعتك لأمك الهبل ... » . ولعله يريد- على رواية الأصل وعيون الأخبار- أن يصف السيف بأنه أقتك أنواع السلاح وأروعها، فسلك الى هذا سبيل الكناية فعبر بجملة لازمها يدل على ما يريد أبلغ دلالة إذ يقول: هنالك، أى اذا ذكر السيف أو تقارعت السيوف، قارعته أمه ودافعته عن الثكل والهلاك إشفاقا عليه، فان الاشفاق أعظم ما يكون على المنازل اذا كان السلاح السيف، لأن ضرباته صائبة وقاتلة.
[2] زيادة عن عيون الأخبار طبع دار الكتب المصرية المجلد الأول ص 130
[3] زيادة يقتضيها سياق الكلام.
[4] فى الأصل: «جلاميد ملء للأكف ... » وفيه تحريف. وما أثبتناه عن الكامل للمبرد طبع أوربا ص 333 وأساس البلاغة مادة «ملأ» وفيه يقال: «حجر ملء الكف وأحجار أملاء الأكف» ثم استشهد على ذلك بهذا البيت. وفى عيون الأخبار: «جلاميد يملأن الأكف ... » .(6/201)
ما قيل فى السيف من الأسماء والنعوت والأوصاف
وقد أوردتها على حروف المعجم على ما أورده صاحب كتاب خزائن السلاح.
فمن ذلك «إبريق» وهو الشديد البريق «أبيض» . «أذوذ» وهو القاطع. «إصليت» وهو الصقيل. «أغلف» إذا كان فى غلافه. «أنيث» وهو الذى يتّخذ من حديد غير ذكر. «باتر» أى قاطع. «بتّار» وهو اسم لسيف كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم. «بصروىّ [1] » منسوب لبصرى. قال الشاعر:
صفائح بصرى أخلصتها قيونها ... ومطّردا من نسج داود محكما
«بوادر [2] » أى قواتل. «بارقة» وهى السيوف التى تبرق. «جنثىّ» ؛ قال الشاعر:
ولكنها سوق يكون بياعها ... بجنثيّة قد أخلصتها الصّياقل
«جراز» أى قاطع. «جمّاد» بمعناه؛ وفيه يقول الأزهرىّ:
لسمعتم من حرّ وقع سيوفنا ... ضربا بكلّ مهنّد جمّاد
«حسام» أى قاطع. «حدّاد» من الحديد. «حداد» من الحداد كأنه أشار الى لونه. «خشيب» أى صقيل، و [هو [3]] من أسماء الأضداد. «خشيف» أى ماض.
«خذيم» أى قاطع. «خضعة» وهى السيوف القواطع. «ددان» أى لا يقطع [4] .
«ذالق» أى سلس الخروج من غمده. «ذلوق» مثله. «ذكر» أى ذو ماء.
«ذو الكريهة» وهو الماضى فى الضّريبة. «ذو الفقار» سيف رسول الله صلى الله
__________
[1] يجوز فى النسبة لمثل «بصرى» قلب ألفها واوا، كما ورد بالأصل، وحذفها كما فى اللسان.
ومن الحذف قول الشاعر:
يفلون بالقلع البصرىّ هامهم
[2] البوادر: جمع بادرة وهى شباة السيف.
[3] زيادة يقتضيها حسن السياق.
[4] ويطلق على القطاع أيضا.(6/202)
عليه وسلم. «ذو هبّة» اى ذو هزّة ومضاء. «ذرب» أى محدّد. «ذو النّون» [سيف مالك بن زهير [1]] . «ذو ذكرة» وهو الصارم. «رسوب» وهو الذى يغيب فى الضّريبة «رداء [2] » . «سيف» وجمعه أسياف وسيوف وأسيف. قال الشاعر:
كأنهم أسيف بيض يمانية ... عضب مضاربها باق [3] بها الأثر
«سراط» و «سراطى» أى قاطع. «سقّاط» وهو الذى يسقط من وراء الضريبة. «سريجىّ» منسوب الى قين يقال له سريج. «شلحاء» . «صقيل» .
«صارم» أى قاطع. «صفيحة» وهو العريض. «صمصام» وهو الذى لا ينثنى.
«صمصامة» مثله، وهو سيف عمرو بن معديكرب؛ وفيه يقول [4] :
خليل لم أخنه ولم يخنّى ... على الصّمصامة السيف السلام
وقال أيضا:
خليل لم أهبه على قلاه [5] ... ولكنّ المواهب للكرام
__________
[1] الزيادة عن لسان العرب.
[2] ومنه قول الشاعر:
لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا
[3] كذا فى اللسان (مادة أثر) وغيره من كتب الأدب واللغة، وفى الأصل:
بيض مضاربها يبقى بها الأثر
[4] فى الأصل «وفيه يقول الشاعر» ولعل كلمة «الشاعر» زيدت سهوا من الناسخ، فان قائل هذا الشعر هو عمرو بن معديكرب الذى يرجع اليه الضمير فى «يقول» قاله حين وهب سيفه. قال فى اللسان مادة (صمم) بعد أن ذكر البيت الأول: قال ابن برى صواب إنشاده:
على الصمصامة ام سيفى سلامى
وبعده ... ثم ذكر البيتين. وعلى تصويب ابن برى لا يكون فى الشعر اقواء. والإقواء: اختلاف حركة الروىّ.
[5] فى اللسان «لم أهبه من قلاه» وكتب بهامشه: «قوله من قلاه الذى فى التكملة عن قلاه ... » .(6/203)
حبوت به كريما من قريش ... فسرّ به وصين عن اللئام
«صنيع» [مجرّب مجلوّ [1]] ؛ قال الشاعر [2] :
بأبيض من أميّة مضرحىّ ... كأنّ جبينه سيف صنيع
«طبع» وهو الصّدئ قال جرير:
وإذا هززت قطعت كلّ ضريبة ... وخرجت لا طبعا ولا مبهوزا
«عضب» أى قاطع. «عقيقة» أى صقيل؛ قال الشاعر [3] :
حسام كالعقيقة فهو كمعى [4] ... سلاحى لا أفلّ ولا فطارا
«عجوز» . «عراض» أى لدن المهزّة «عطاف» ؛ قال الشاعر:
ولا مال لى إلا عطاف ومدرع ... لكم طرف منه حديد ولى طرف
وجمعه عطف. «فطار» أى مشقق. «فلوع» أى قاطع. «فسفاس [5] » أى كهام.
«قصّال» أى قطاع. «قاطع» . «قرن» . «قضيب» أى قاطع وجمعه قضب.
«قاضب» مثله. «قرضاب» أى يقطع العظام. «قرضوب» مثله. «قشيب» قريب
__________
[1] الزيادة عن لسان العرب.
[2] هو عبد الرحمن بن الحكم بن أبى العاصى يمدح معاوية، كما فى لسان العرب.
[3] هو عنترة، كما فى اللسان.
[4] الكمع: الضجيع. والعقيقة: شعاع البرق أو البرق اذا رأيته وسط السحاب كأنه سيف مسلول. وقد تطلق على السيف تشبيها له بالبرق أو شعاعه. أما العقيقة فى البيت فلا يمكن أن يراد بها السيف لأن السيف مشيه بها. والأفل: وصف مدح لما ضرب به كثيرا، وذمّ لما به من الخلل وهو المراد هنا. والفطار: المتشقق الذى لا يقطع.
[5] ومثل الفسفاس: القسقاس.(6/204)
عهد بالجلاء. «قلعىّ «منسوب الى قلعة [1] موضع بالبادية. «قساسى» منسوب الى معدن بأرمينية يقال له قساس. قال الشاعر:
إنّ القساسىّ الذى يعصى [2] به ... يختضم الدارع فى أثوابه
«قضم» وهو الذى طال عليه الدهر فتكسّر حدّه. «كهام» أى كليل. «كليل» أى كلّ حدّه. «لهذم» هو السيف الحادّ، ويسمى به السنان أيضا. «لخيف» وكان من أسياف [3] رسول الله صلى الله عليه وسلم «لجّ» . «مرهف» أى محدود رقيق. «مصمّم» وهو الذى يمرّ فى العظام. «مقطع» . «مخذم» أى قاطع «مجذر» .
«مأثور» وهو الذى له أثر. «مذكّر» مثل ذكر. «محتفد» سريع القطع. «مخصل» .
«مخضل» أى مصلت من غمده. «مقصل» أى قاطع. «مخفق» أى عريض.
«مدجّل» المطلىّ بالذهب. «مهذم» قاطع. «معلوب» وهو سيف الحارث بن ظالم؛ وفيه يقول الكميت:
وسيف الحارث المعلوب أردى ... حصينا فى الجبابرة الرّدينا
«مشمل» أى صغير. «مغول» سيف رقيق يكون غمده كالسوط وهو الذى يتّخذ كالعكّاز. «مهو» . وهو الرقيق أيضا؛ قال صخر الغىّ:
__________
[1] فى المخصص: «ابن دريد: قلعىّ منسوب الى حديد أو معدن، غيره: هو منسوب الى قلعة- وهو موضع» . وفى اللسان: «وفى الحديث وسيوفنا قلعية. قال ابن الأثير: منسوبة الى القلعة بفتح القاف واللام وهى موضع بالبادية تنسب السيوف إليه» . وقد ورد بالأصل «قلع» .
[2] كذا فى اللسان فى مادتى «قسس» و «خضم» . وفى الأصل: « ... يقضى به» .
[3] لم نجد فى مصدر آخر ما يؤيد ما هنا بل الذى فى البخارى وكتب اللغة أن «اللخيف» (كأمير وزبير) اسم فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وعبارة ابن الأثير فى النهاية- ونقلها عنه صاحب اللسان وغيره- «كان اسم فرسه عليه الصلاة والسلام اللخيف، كذا رواه البخارى ولم يتحققه والمعروف بالحاء المهملة وروى بالجيم» .(6/205)
وصارم أخلصت خشيبته ... أبيض مهو فى متنه ربد
«مفقّر [1] » أى الذى فيه حزوز مطمئنّة عن متنه. «مهنّد» وهو الذى طبع من حديد الهند. «مشرفىّ» منسوب الى المشارف، وهى قرى من أرض العرب تدنو من الرّيف. «مطبّق» الذى يقطع المفاصل؛ قال الشاعر:
يصمّم أحيانا وحينا يطبّق
«منصل» . «مشطّب» أى الذى فى متنه طرائق. «مصلت» المسلول من غمده. «مفلع» أى قاطع. «معضد» هو الممتهن فى قطع الشجر وغيره. «معضاد» وهو الممتهن أيضا. «مذاهب» سيوف تموّه بالذهب. «نصل» . «نهيك» أى قاطع.
«نون» هو اسم سيف بعض العرب؛ قال الشاعر:
سأجعله مكان النّون منّى ... وما اعطيته عرق الخلال [2]
معناه: سأجعل هذا السيف الذى استفدته مكان ذلك السيف، وما أعطيته عن مودّة بل أخذته عنوة. «نواحل» السيوف التى رقّت ظباتها قدما من كثرة المضاربة. «هذام» السيف القاطع. «هزهاز» هو الكثير الاهتزاز. «هندوانىّ» هو المطبوع من حديد الهند. «هندىّ» منسوب الى الهند. «وقيع» الذى شحذ بالحجر. «يمانى» منسوب الى اليمن.
__________
[1] كذا فى المخصص وغيره من كتب اللغة. وفى الأصل «مفقم» . وهو تحريف.
[2] الخلال: المصادقة والمودة مصدر خاله خلالا ومخالة. والعرق الجزاء. قال صاحب اللسان فى مادة (عرق) بعد كلام فى تفسير مفردات البيت ونسبته الى الحارث بن زهير: «والنون اسم سيف مالك بن زهير، وكان حمل بن بدر أخذه من مالك يوم قتله، وأخذه الحارث من حمل بن بدر يوم قتله، وظاهر بيت الحارث يقضى بأنه أخذ من مالك سيفا غير «النون» بدلالة قوله: «سأجعله مكان النون» أى سأجعل هذا السيف الذى استفدته مكان النون. والصحيح فى إنشاده: «ويخبرهم مكان النون منى» لأن قبله:
سيخبر قومه حنش بن عمرو ... اذا لاقاهم وابنا بلال(6/206)
ومن أسماء أجزاء السيف- «أثر» أثره: إفرنده وما يرى عليه مما يشبه الغبار أو مدبّ النمل؛ قال عيسى بن عمر [1] :
جلاها الصّيقلون فأخلصوها ... خفافا كلّها يتقى بأثر
«إفرند» وشيه وأثره. «جربّان» هو حدّه. «حرف» مثله. «ذباب» حدّ طرفه وقيل: حدّه مطلقا. «رئاس» قائمه؛ قال الشاعر:
ومرفق كرئاس السيف إذ شسفا
«ربد» ما تراه عليه شبه غبار أو مدب نمل؛ قال الشاعر:
أبيض مهو فى متنه ربد
«زرّ» قال مجرّس [2] بن كليب فى بعض كلامه: أما وسيفى وزرّيه، ورمحى ونصليه. والزرّ: الحدّ. «سطام» : حدّه. «سيلان» : هو ما يدخل منه فى النّصاب [3] .
«سفن» : جلدة قائمه. «شطب» : طرائق فى إحدى متنيه. «شفرة» : حدّه، وشفرتاه: حدّاه. «صفح» : عرضه. «ظبة» : حدّه. وظبتاه: حدّاه.
«عجوز» : نصل السيف؛ قال أبو المقدام:
وعجوز رأيت فى فم كلب ... جعل الكلب للأمير جمالا
والكلب من أجزاء السيف وهو البرجق [4] . «عير» هو الناشز فى وسط السيف.
«غرار» : ما بين ظبتيه وبين العير من وجهى السيف جميعا، وجمعه: أغرّة. وقيل:
__________
[1] فى اللسان أن هذا البيت لخفاف بن ندبة وأنشده عيسى، وفسره بقوله: أى كلها يستقبلك بفرنده. ويتقى مخفف من يتقى أى اذا نظر الناظر اليها اتصل شعاعها بعينه فلم يتمكن من النظر اليها.
[2] فى الأصل: «قال هجرى ... » وهو تحريف. والتصويب من اللسان مادة «زر» .
[3] نصاب السيف: مقبضه.
[4] كذا بالأصل، ولم نوفق الى تفسيره أو صحته. وفى المخصص: «الكلب: المسمار فى قائم السيف الذى فيه الذؤابة» . وفى اللسان: «والكلب: مسمار مقبض السيف ومعه آخر يقال له العجوز» .(6/207)
الغراران: شفرتا السيف. «غرب» غربه: حدّه. «فرند» : مثل «إفرند» .
«فلول» الفلول فى حدّه، والواحد منها فلّ. «قيعة» هى التى على طرف قائمه من حديد أو فضة. «مضرب» : الذى يضرب به منه، وهو نحو شبر من طرفه.
«مقبض» المقبض: حيث تقبض عليه الأكف. «نون» والنون: شفرة السيف.
قال الشاعر:
بذى نونين قصّال مقطّ
«وشى» وهو فرنده وأثره، وقد تقدّم بيانه.
ومما يضاف الى السيف- فأما اذا احتاج الى الشّحذ- يقال: «استوقع» واذا ضرب به فلم يعمل يقال: «أحاك» . واذا سلّ من قرابه يقال: «استلّ» .
«اصلت» . «امتشن» . «امتعط» . «امتحط [1] » . «انتضى» . «اخترط» «جلط» . «جرّد» . «سلّ» . «شهر» «معط» . «نضى» . «شمت» : اذا سللت وأغمدت [2] . واذا خرج السيف من غير سلّ يقال: «اندلق» . واذا أغمض السيف من غير سلّ [3] يقال: «أغمدت» السيف. «أقربت» . «شمت» «قربت» .
وأما اذا تقلّد به الرجل يقال: اعتطف؛ وفيه يقول الشاعر:
من يعتطفه على مئزر ... فنعم الرّداء على المئزر
ويقال: «تقلّد» .
__________
[1] ومثل «امتحط» «امتخط» بالخاء المعجمة.
[2] أى أنه يستعمل فى الضدّين.
[3] كذا بالأصل، ويظهر أن فيه تحريفا وسهوا من الناسخ، ولعل صوابه: «وأما اذا أغمد السيف يقال ... الخ» فوقع تحريف فى «أغمد» وزيدت «من غير سل» سهوا.(6/208)
ومن أسماء قرابه وآلته- يقال: «جفن» . «جربّان» . «جلبّان» «خلل» وهى بطائن كانت تغشّى بها أجفان السيوف. «غمد» .
حمائله- يقال فيها «حمائل» واحدتها «حميلة» . «قراب» «محمل» .
«نجاد» .
حليته- يقال «رصائع» وهى حلق مستديرات تحلّى بها السيوف.
«قبيعة» وقد تقدّم ذكرها. «نعل» وهو ما يكون أسفل القراب من فضّة أو حديد [1] .
والنعل مؤنثة؛ قال الشاعر:
ترى سيفه لا تنصف الساق نعله ... أجل لا وإن كانت طوالا محامله
وأما ما وصفته به الشعراء- فمن ذلك ما قاله أبو عبادة البحترىّ:
يتناول الرّوح [2] البعيد مناله ... عفوا، ويفنح فى القضاء المقفل
ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل، ومصقول وإن لم يصقل
يغشى الوغى [3] فالتّرس ليس بجنّة ... من حدّه والدّرع ليس بمعقل
مصغ الى حكم الرّدى، فاذا مضى ... لم يلتفت، واذا قضى لم يعدل
متوقّد يبرى [4] بأوّل ضربة ... ما أدركت ولو انّها فى يذبل
__________
[1] فى الأصل: «من فضة أو حرير» وقد أثبتنا ما فى كتب اللغة.
[2] كذا فى ديوان البحترى (طبع مطبعة الجوائب بالقسطنطينية سنة 1300 هـ) وفى الأصل «تتناول الرمح ... » .
[3] كذا فى الديوان، وفى الأصل: «يغشى الورى ... » .
[4] فى الديوان: «متألق يفرى ... » .(6/209)
واذا أصاب فكلّ شىء مقتل ... واذا أصيب فما له من مقتل
وقال أبو الهول:
حسام غداة الرّوع ماض كانه ... من الله فى قبض النفوس رسول
كأنّ جنود الذّرّ كسّرن فوقه ... عيون جراد بينهنّ ذحول
كأنّ على إفرنده موج لجّة ... تقاصر فى صحصاحه وتطول
اذا ما تمطّى الموت فى يقظاته ... فلا بدّ من نفس هناك تسيل
وإن لا حظ الأبطال أو صافح الطّلى ... تشحّط يوما بينهن قتيل
وقال عبد الله بن المعتزّ:
ولى صارم فيه المنايا كوامن ... فما ينتضى إلا لسفك دماء
ترى فوق متنيه الفرند كأنه ... بقيّة غيم رقّ دون سماء
وقال أيضا:
وسط الخميس بكفّه ذكر ... عضب كأنّ بمتنه نمشا
ضافى الحديد كأنّ صيقله ... كتب الفرند عليه أو نقشا
وقال ابن الرومىّ:
خير ما استعصمت به الكفّ عضب ... ذكر هزّه أنيث المهزّ
ما تأمّلته بعينك إلّا ... أرعدت صفحتاه من غير هزّ
مثله أفزع الشّجاع الى الدّر ... ع فغالى بها على كلّ بزّ
ما يبالى أصمّت شفرتاه ... فى محزّ أم حادتا عن محزّ
وقال ابن المعتزّ:
ولقد هززت مهنّدا ... عضب المضارب مرهفا(6/210)
واذا تولّج هامة ال ... جبّار سار فأوجفا
عضب المضارب كالغدي ... ر نفى القذى حتّى صفا
وقال أيضا:
فى كفّه عضب اذا هزّه ... حسبته من خوفه يرتعد
وقال آخر:
جرّدوها فألبسوها المنايا ... عوضا عوّضت من الأغماد
وكأنّ الآجال ممن أرادوا ... وظباها كانت على ميعاد
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه:
وذى شطب تقضى المنايا بحكمه ... وليس لما تقضى المنيّة دافع
فرند اذا ما اعتنّ [1] للعين راكد ... وبرق اذا ما اهتزّ بالكفّ لامع
يسلّل أرواح الكماة انسلاله ... ويرتاع منه الموت والموت رائع
اذا ما التقت أمثاله [2] فى وقيعة ... هنالك ظنّ النفس بالنفس واقع
وقال أيضا:
بكلّ مأثور على متنه ... مثل مدبّ النمل فى القاع
يرتدّ طرف العين عن حدّه ... عن كوكب للموت لمّاع
وقال أبو مروان بن أبى الخصال:
وصقيل مدارج النمل فيه ... وهو مذ كان ما درجن عليه
أخلص القين صقله فهو ماء ... يتلظّى السعير فى صفحتيه
__________
[1] اعتن: ظهر.
[2] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 68) وفى الأصل: «اذا ما التقت أرواحه ... » .(6/211)
وقال أحمد بن الأعمى الأندلسىّ:
موتى فان خلعت أكفانها علمت ... أنّ الدروع على الأبطال أكفان
نفسى فداؤك لا كفأ ولا ثمنا ... ولو غدا المشترى منها وكيوان
والتّبر قد وزنوه بالحديد فما ... ساوى، ولكن مقادير وأوزان
وقال عبد العزيز بن يوسف شاعر اليتيمة:
بيض تصافح بالأيدى مقابضها ... وحدّها صافح الأعناق والقمما
ضحكن من خلل الأغماد مصلتة ... حتى اذا اختلفت ضربا بكين دما
وقال الشريف الموسوىّ شاعرها:
ونصل السيف تسلم شفرتاه ... ويخلق كلّ أيام قرابا
وقال مؤيّد الدين الطغرائى:
وأبيض طاغى الحدّ يرعد متنه ... مخافة عزم منك أمضى من النّصل
عليم بأسرار المنون كأنما ... على مضربيه أنزلت آية القتل
تفيض نفوس الصّيد دون غراره ... وتطفح [1] عن متنيه فى مدرج النمل
خلعت عليه نور وجهك فارتدى ... بنور كفاه أن يحادث [2] بالصّقل
وقد أكثر الشعراء تشبيه الفرند بالنمل، وأصل ذلك من قول امرئ القيس:
متوسّدا عضبا مضاربه ... فى متنه كمدبّة النمل
وقال الطغرائى:
وأبيض لولا الماء فى جنباته ... تلسّن من حدّيه نار الحباحب
أضرّ به حبّ الجماجم والطّلى ... فغادره نضوا نحيل المضارب
__________
[1] كذا فى ديوان الطغرائى (نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية رقم 1528 أدب) وفى الأصل: «وتصفح ... » .
[2] يحادث: يجلى.(6/212)
وقال إسحاق بن خلف:
ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح
وكأنما ذرّ الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
وقال ابن المعتز:
وجرّد من أغماده كلّ مرهف ... اذا ما انتضته الكفّ كاد يسيل
ترى فوق متنيه الفرند كأنما ... تنفّس فيه القين وهو صقيل
وقال منصور النمرىّ يصف سيفا:
ذكر برونقه الفرند كأنما ... يعلو الرجال بأرجوان ناقع
وترى مضارب شفرتيه كأنها ... ملح تناثر من وراء الدارع
ولما صار الصّمصامة (سيف عمرو بن معديكرب) الى موسى الهادى أذن للشعراء أن يصفوه، فبدأهم ابن يامين [1] فقال:
حاز صمصامة الزّبيدىّ من دو ... ن جميع الأنام موسى الامين
سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون
أخضر المتن بين حدّيه نور ... من فرند تمتدّ فيه العيون
أوقدت فوقه الصواعق نارا ... ثم شابت به الذّعاف القيون
فاذا ما سللته بهر الشم ... س ضياء فلم تكد تستبين
وكأنّ الفرند والرّونق الجا ... رى فى صفحتيه ماء معين
وكأنّ المنون نيطت إليه ... فهو من كل جانبيه منون
ما يبالى من انتضاه لضرب ... أشمال سطت به أم يمين
فأمر له ببدرة، وأخرج الشعراء.
__________
[1] فى العقد الفريد: «ابن أنيس» .(6/213)
ومن الإفراط فى وصف السيف قول النابغة:
يقدّ السّلوقىّ المضاعف نسجه ... ويوقد بالصّفّاح نار الحباحب
فذكر أنه يقدّ الدرع المضاعف والفارس والفرس ويصل الى الأرض فيقدح النار.
وقال النّمر بن تولب:
تظلّ تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذّراعين والقيدين والهادى
ومن رسالة لأبى محمد بن مالك القرطبىّ جاء منها فى وصف السيوف، قال:
وكأنما باضت على رءوسهم نعائم الدّوّ، وبرقت فى أكفّهم بوارق الجوّ؛ ولكنها اذا ما هزّت فبوارق، واذا صبّت فصواعق؛ من كل ذى شطب كأنما قرى نمل، علون منه قرى نصل؛ فإذا أصاب فكلّ شىء مقتل، واذا حزّ فكلّ عضو مفصل؛ أمضى فى الأشباح، من الأجل المتاح؛ عضب المتن صقيل، يكاد اذا انتضى يسيل؛ ويكاد مبصره يغنى عن الورد، اذا اخترط من الغمد؛ ما لم يخله ريعان سراب، فى صحصحان يباب، لاشتباه فرنده بحباب فى شراب، أو حباب [1] فى سراب؛ فلما رأيت جفنه قد انطوى على جمر الغضى، وماء الأضى [2] ؛ وانتظم على خصره الجنح، ورونق الصّبح؛ قلت سبحان مكور الليل على النهار، والجامع بين الماء والنار.
وأما ما قيل فى الرمح، من الحديث، والأسماء، والنعوت، والأوصاف.
عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جعل رزقى تحت ظلّ رمحى وجعل الذّلّة والصّغار على من خالف أمرى»
. هذا ما ورد فيه من الحديث.
__________
[1] الحباب (بالفتح) : الفقاقيع التى تعلو الماء، والحباب (بالضم) جمع حبابة، وهى دويبة سوداء مائية.
[2] الأضى: جمع لأضاة، وهى مستنقع الماء.(6/214)
وأما الأسماء، والنعوت، والأوصاف- فمن ذلك: «أسمر» وهو الدقيق «ألّة» وهو أصغر من الحربة، وفى سنانها عرض. وجمعها الإلال. «أمّ اللواء» .
«أزنىّ» منسوب الى ذى يزن. «أقصاد» وهو المكسر. «ثلب» وهو المثلّم.
«حادر» أى غليظ. «حربة» . «خرصانة [1] » . «خرص» . «خطّار» أى ذو اهتزاز «خال» أى لواء الجيش. «خطّى» هو ما ينسب من الرماح الى الخطّ، وهو موضع باليمامة. «خطل» وهو المضطرب. «خوّار» وهو الخفيف. «رمح» «رعّاش» وهو الشديد الاضطراب. «ردينىّ» منسوب الى امرأة اسمها ردينة «راش» أى خوّار. «زاعبىّ [2] » وهو الذى اذا هزّ تدافع كلّه. «رواعف» .
«زاعبيّة» منسوبة الى زاعب: رجل، وقيل بلد. «سمهريّة» هى القنا الصّلبة منسوبة الى سمهر، كان رجلا يقوّم الرماح. «شراعىّ» هو الرمح الطويل. «شطاط [3] » القناة المعتدلة. «صدق» هو الصّلب من الرماح. «صعدة» وهى القناة المستوية من أصل نبتها التى لا تحتاج الى تثقيف، والجمع صعاد. «صمع» هى الصلبة اللطيفة العقد. «ضلع» هو الرمح المعوّج. «ضليع» هو الرمح المائل. «ضب [4] » اعوجاج
__________
[1] كذا بالأصل: ولم نجد فى المصادر التى بأيدينا ما يؤيده وانما الموجود «خرصان» جمع «خرص» .
[2] فى الأصل «راعبىّ» ومقتصى وضعه قبل «رواعف» يدن على انه من حرف الراء. غير أنا لم نجد فى كتب اللغة ما يؤيده. وفى اللسان: «والزاعبىّ من الرماح الذى اذا هز تدافع كله كأن آخره يجرى فى مقدّمه، والزاعبية رماح منسوبة الى زاعب: رجل أو بلد ... الى أن قال: وقال الأصمعىّ: الزاعبى الذى اذا هز كأن كعو به يجرى بعضها فى بعض للينه وهو من قولك: مر يزعب بحمله اذا مر مرا سهلا ... »
وفى الأساس: «رمح زاعبى ورماح زاعبية نسبت الى رجل من الخزرج كان يعمل الأسنة، عن المبرد؛ وقيل: هى العسالة التى اذا هزت تدافعت كالسيل الزاعب يزعب بعضه بعضا أى يدفعه، وياء النسبة للنسبة الى الزاعب لمعنى التشبيه به أو للتأكيد كياء الأحمرى» . كل هذا يدل على أن ما فى الأصل محرّف وأن موضعه بعد «رواعف» ليكون من حرف الزاى.
[3] شطاط (وزان سحاب وقتال) : الطول واعتدال القامة أو حسن القوام، ويقال: امرأة شطّة وشاطّة بينة الشطاط. أما ما ذكره المؤلف من اطلاق المصدر على القناة فلم نجد فى كتب اللغة التى بأيدينا ما يؤيده.
[4] كذا فى الأصل ولم نجد فى مصدر آخر ما يؤيده. والذى فى كتب اللغة «والطنب بفتحتين: اعوجاج فى الرمح» فلعل ما فى الأصل محرّف عنه.(6/215)
فى الرمح. «عنزة» وهى أطول من العصا وأقصر من الرمح وفيها زجّ كزحّ الرمح. «عكّازة» نحوها. «عاسل» هو الرمح الشديد الاضطراب. «عسّال» . «عسول» . «عرّات» :
مثل عاسل. «عشوزنة» القناة الصّلبة. «عرّاص» هو الرمح المضطرب. «عتلّ» هو الرمح الغليظ. «قناة» وجمعها قنى وقنوات وقنّى وقناء. «قصد» أى مكسّر. «لدن» اذا هو تدافع كله. «متثنّى» كان من رماح سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«مدعس [1] » . «مطرد» أى صغير. «منجل» أى واسع الطعن. «مزجّ» هو صغير كالمزراق. «مزراق» هو أخفّ من العنزة. «متلّ» رمح قوىّ يصرع به؛ قال لبيد:
أعطف الجون بمربوع متلّ
«مسمّح» هو الذى ثقّف. «مخموس» هو الذى طوله خمسة أذرع؛ قال عبيد [يذكر ناقته [2]] :
هاتيك تحملنى وأبيض صارما ... ومذرّبا فى مارن مخموس
«مربوع» هو الذى طوله أربعة، وقيل الذى ليس بطويل ولا قصير. «معرّن» هو الرمح المسمّر السنان بالعران وهو المسمار. «مرّانة» . «مثقّفة» وهى الرماح التى ثقّفت أى سوّيت. «مدريّة» وهى التى كانت تركب فيها القرون [المحدّدة [3]] مكان الأسنة، وقيل: إنها نسبت الى قرية باليمن يقال لها مدر. «نيزك» وهو رمح قصير، يقال: إنه فارسىّ وعرّب. «هزع» أى مضطرب. «وشيج» وهى شجرة الرماح.
وشج [4] » نوع منه ينبت فى الأرض معترضا. «يزنىّ» مثل «أزنىّ» .
__________
[1] السنان المدعس: الغليظ الشديد الذى لا ينثنى.
[2] الزيادة عن اللسان.
[3] الزيادة عن اللسان.
[4] لعل أصل العبارة: وشيج وهو شجر الرماح، أو الوشيج نوع منه ينبت فى الأرض معترضا. فوقع فيها حذف وتحريف، وإلا فان ما فى الأصل لا يتفق مع شىء مما فى كتب اللغة. قال فى القاموس وشرحه:
«ومن المجاز تطاعنوا بالوشيج أى بالرماح، والوشيج شجر الرماح، وقيل هو ما نبت من القنا والقصب معترضا ... الخ» .(6/216)
ومن أسماء السنان- «أعجف» وهو الرقيق. «أشهب» اذا جلى «أذلق» وهو الحادّ. «حرب [1] » يقال حرّبت السنان اذا حددته. «خرص» وهو اسم للسنان وللرمح أيضا. «خزق [2] » . و «خازق» يقال فى أمثال العرب: «أمضى من خازق» .
«ذرب» يقال: ذربته أى حددته. «ذلق» مثله. «رغب [3] » . «زرق» . «سيحف» هى نصال قصار عراض؛ قال الشّنفرى:
لها وفضة فيها ثلاثون سيحفا ... اذا آنست أولى العدىّ اقشعرّت [4]
«سنان» وجمعه أسنّة. «صلّبىّ» سنان مسنون. «عامل» . «عذار» وعذار السنان شفرتاه «عير» الناتئ فى وسطه. «قارية» حدّ السنان. «لهذم» هو السنان الحادّ القاطع. «مصلّب» أى مسنون. و «مطحر [5] » و «محدّد» و «مطرور» مثله. «مذرّب» أى محدّد؛ قال كعب:
بمذرّبات بالأكفّ نواهل ... وبكلّ أبيض كالغدير مهنّد
«نصل» وجمعه نصول ونصال. «نحيض [6] » يقال: نحضته اذا رقّقته.
__________
[1] كذا فى الأصل ولم نجد فى مصدر آخر «حربا» وصفا كما يقتضيه السياق هنا.
[2] لم نجد فى كتب اللغة أسماء أو وصفا للرمح يقرب من هذه الصيغة، وإنما الموجود: «خزقة اذا طعنه طعنا خفيفا» فلعله من اطلاق المصدر على آلته.
[3] كذا بالأصل، ولم نوفق اليها فى مصدر آخر.
[4] كذا فى اللسان (مادة سحف) والمخصص، وفى الأصل:
هى وصفة فيها ثمانون سيخفا ... اذا آنست أولى العدا اقشعرت
ويكاد التحريف ينال- كما هو ظاهر- كل كلمات البيت. الوفضة: الجعبة من الأدم. وفد فى اللسان: «أولى العدىّ: أوّل من يحمل من الرجالة» .
[5] سياق الكلام هنا يدل على أن «مطحر» : مسنون. وفى القاموس: «ونصل مطحر كمكرم:
مطوّل» .
[6] فى الأصل «نحض» وهو تحريف وانما هو فعيل بمعنى مفعول، كما فى القاموس.(6/217)
ومن أسماء ما يعقد عليها- «أمّ» الأمّ: العلم الذى يتبعه الجيش. «بند» هو العلم الكبير، وهو فارسىّ معرّب. «حقيقة» هى الراية؛ قال عامر بن الطّفيل:
أنا الفارس الحامى حقيقة جعفر
«خفق [1] » خفقت الراية اذا اضطربت. «علم» الراية، وقيل: الذى يعقد على الرمح. «عقاب» العقاب: العلم الضخم. «غاية» وهى الراية. «لواء» وهو دون الأعلام والبنود. «عذبة» خرقة تعقد على رأس الرمح.
وأما اذا حمله الرجل وطعن به- يقال: «اعتقل الرمح» اذا جعله بين ركابه وساقه. «أقرن» اذا رفع رأس رمحه. «اقتلع» اذا أخذ الرمح ليحمل به.
«امتعط» و «انتزع» مثل اقتلع. «أشرع» اذا قابل به خصمه «بوّأ» يقال:
بوّأت الرمح اذا سدّدته «تيممّ» تيممه اذا قصده دون غيره؛ قال الخليل بن أحمد:
يمّمته الرمح شزرا ثم قلت له: ... خذها حذيف فأنت السيّد الصّمد [2]
ومثل «تميم» «جعب» . «جحل» «جحدل» . «جعفل» ؛ قال الشاعر:
جعفلتها لما أبت أن تخضعا
«جوّر» مثله «جدّل» يقال: طعنه فجدّله أى رماه الى الأرض. «جرجم» يقال:
جرجمه اذا صرعه. «حفز» أى طعن. «خطّار» هو الطعّان بالرمح؛ قال الشاعر:
مصاليت خطّارون بالرمح فى الوغى
__________
[1] لعله أراد أن يذكر الفعل، فان الوصف منه «خفّاق» و «خافق» .
[2] فى الأمالى لأبى على الفالى واللسان (مادة صمد) :
علوته بحسام ثم قلت له ... ......... الح:(6/218)
«خار» يقال طعنه فخار، أى أصاب خورانه وهو مجرى الرّوث. «دعس» اذا طعن. «دسر» أى طعن طعنة قويّة. «رامح» أى ذو رمح، لا فعل له. «رصع» اذا طعن. «رمح» مثله. «ركز» اذا غرز رمحه فى الأرض. «زجّ» اذا طعن بالزّجّ «سلق» اذا طعنه فوقع على ظهره. «سرّ» اذا طعنه فى سرّته؛ قال الشاعر:
نسرّهم إن همو أقبلوا ... وإن أدبروا فهمو من نسبّ
أى نطعنهم فى سبّاتهم [1] . «شجر» اذا طعن. «شكّ» اذا طعنه فخرقه. «طعن» .
«قرطب» اذا طعن فصرع. «قعف» اذا طعنه فقعفه. «قعر» مثله. «قطّر» أى طعنه فألقاه على قطريه وهما جانباه؛ قال الهذلىّ:
مجدّلا يتسقّى جلده دمه ... كما يقطّر جذع الدّومة القطل
والقطل المقطوع. «قدع» يقال: تقادعوا اذا تطاعنوا. «لهز» اذا طعنه فى صدره. «لزّه» اذا طعنه. «مداعسة» وهى المطاعنة. «مسامحة» وهى الملاينة والمساهلة. «منادسة» المنادسة: المطاعنة. و «رماح نوادس» ؛ قال الكميت:
ونحن صبحنا آل نجران غارة ... تميم بن مرّ والرماح النّوادسا
«مدعس» أى طعّان. «مداعس» مثله. «مزجوج» الذى طعن بالزّجّ.
«مكوّر» هو الذى طعن بارمح؛ قال الفرزدق:
حملت عليه حملة فطعنته ... فغادرته فوق الفراش مكوّرا
«جائفة [2] » يقال طعنه طعنة جائفة اذا وصلت الى جوفه. «نجلاء» هى الطعنة الواسعة. «نكت» يقال: طعنه فنكته إذا وقع على رأسه. «هرّع» يقال: هرّع
__________
[1] السبات: جمع سبة، وهى الدبر.
[2] كذا فى المخصص وسائر كتب اللغة التى بين أيدينا. وفى الأصل: «مجيفة» .(6/219)
القوم الرماح اذا شرعوها ومضوا بها. «وخض» يقال: وخضه إذا طعنه طعنا لا ينفذ؛ قال الشاعر:
وخضا الى النّصف وطعنا أرصعا
وأما ما وصفته به الشعراء- فمن ذلك ما قاله أبو تمّام حبيب بن أوس الطائىّ:
أنهبت أرواحه الأرماح إذا شرعت ... فما تردّ لريب الدهر عنه يد
كأنها وهى فى الأوداج [1] والغة ... وفى الكلى تجد الغيظ الذى تجد
من كلّ أزرق نظّار بلا نظر ... الى المقاتل ما فى متنه أود
كأنه كان خدن الحبّ مذ زمن ... فليس يعجزه قلب ولا كبد
وقال مؤيّد الدين الطغرائى:
وخفّاقة طوع الرياح كأنها ... كواسر دجن ألثقتها [2] الأهاضيب
تميد بها نشوى القدود كأنها ... قدود العذارى يزدهيهنّ تطريب
يرنّحها سقيا الدماء [3] كأنها ... مدام وآثار الطّعان أكاويب
__________
[1] كذا فى ديوان أبى تمام (طبع الآستانة) وفى الأصل: «فى الأرواح» .
[2] ألثقتها: بللتها وندتها. والأهاضيب: جمع أهضوبة وهى المطرة. قال الركاض الدبيرى يخاطب دارين:
ولا زال يجرى السيل فى عرصتيكما ... اذا جف ندّته أهاضيب هيدب
والهيدب: السحاب المتدلى الذى يدنو مثل هدب القطيفة. يريد الطغرائى أن يشبه الرايات فى خفوقها واضطرابها بانتقاض الكواسر فى يوم دجن وقد بالها القطر.
[3] كذا فى ديوان الطغرائى، نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1528 أدب، وفى الأصل «سقيا الماء» وهو تحريف.(6/220)
بها هزّة بين ارتياح ورهبة ... وللنصر مرتاح وللهول مرهوب
لها العذبات الحمر تهفو كأنها ... ضرام بمستنّ العواصف مشبوب
اذا نشرت فى الرّوع لاحت صحائف ... عليهن عنوان من النصر مكتوب
طوالع، طرف الجوّ منهن خاسئ ... حسير وقلب الأرض منهن مرعوب
وقال آخر:
ومطّرد لدن الكعوب كأنما ... تغشّاه منباع [1] من الزيت سائل
أصمّ اذا ما هزّ مارت سراته ... كما مار ثعبان الرمال الموائل [2]
له رائد ماضى الغرار كأنه ... هلال را فى ظلمة الليل ناحل
وقال حوبة [3] بن حويّة يصف السنان:
فأعدّ أزرق فى القناة كأنه ... فى طخية الظلماء ضوء شهاب
وقال دعبل:
وأسمر فى رأسه أزرق ... مثل لسان الحيّة الصادى
وقال آخر:
جمعت ردينيّا كأنّ سنانه ... سنا لهب لم يستعر بدخان
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه:
بكلّ ردينىّ كأن سنانه ... شهاب بدا فى ظلمة الليل ساطع
__________
[1] منباع: سائل.
[2] رخ أصم: مكتنز. ومارت سراته: اضطرب أعلاه. وفى الأصل: «مالت سراته» وهو غير مناسب للسياق ولا للتشبيه فى الشطر الثانى؛ فلعله تحريف. الموائل: الطالب للنجاة خشية أن يصيبه مكروه.
[3] كذا بالأصل.(6/221)
تقاصرت الآجال فى طول متنه ... وعادت به الآمال وهى فجائع
وساءت ظنون الحرب فى حسن ظنّه [1] ... فهن لحبّات القلوب قوارع
وقال أبو محمد بن مالك القرطبىّ من رسالة جاء منها فى وصف الرمح: ومن كل مثقّف الكعوب، أصمّ الأنبوب؛ كأنما سلب من الروم زرقتها، واجتلب من العرب سمرتها؛ وأخذ من الذئب عسلانه، ومن قلب الجبان خفقانه، ومن رقراق السّراب لمعانه؛ واستعار من العاشق نحوله، ومن العليل ذبوله. قال أبو تمام:
مثقّفات سلبن الروم زرفتها ... والعرب أدمتها والعاشق القضفا [2]
واما ما قيل فى القوس العربية-
روى أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه دخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو متقلّد قوسا عربية، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «هكذا جاءنى جبريل اللهم من استطعمك بها فأطعمه ومن استنصرك بها فانصره ومن استرزقك بها فارزقه»
. وقال: «مامدّ الناس أيديهم الى شىء من السلاح إلا وللقوس عليه فضل»
. والقوس [3] مؤنثة. وتصغيرها قويس. وجمعها أقوس وأقواس وقياس وقسىّ.
ولها أجزاء وأسماء.
فأما أجزاؤها- فكبدها: ما بين طرفى العلاقة. ويليه الكلية. ويلى الكلية:
الأبهر. ثم الطائف، وهما طائفان: الأعلى والأسفل. والسّية: ما عطف من طرفيها.
__________
[1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: « ... فى كل ظنة» .
[2] القضف هنب: النحافة.
[3] وقد تذكر، وسيأتى المؤلف ينص على هذا.(6/222)
ويدها: أعلاها. ورجلها: أسفلها. والعجس والمعجس: مقبضها. وإنسيّها:
ما أقبل على الرامى. ووحشيّها ما كان الى الصّيد. والفرض والفرضة: الحزّة التى يقع فيها طرف الوتر المعقود وهو السية [1] . وما فوق الفرضة: الظّفر والكظر.
وأما أسماء القوس ونعوتها- فمنها: «بانية [2] » أى بانية على وترها اذا التصقت به. «جشو [3] » هى القوس الغليظة وقيل الخفيفة؛ قال أبو ذؤيب:
ونميمة من قانص متلبّب ... فى كفه جشو أجشّ وأقطع
«جلهق [4] » وجمعها جلاهق، وهى قسىّ البندق. «حنّانة» التى تحنّ عند الإنباض؛ قال الشاعر:
وفى منكبى حنّانة عود نبعة ... تخيّرها لى سوق بكّة بائع [5]
«حاشكة» وهى القوس البعيدة الرمى. «حنيرة» وهى القوس بغير وتر، وفى الحديث:
«لو صلّيتم حتى تكونوا كالحنائر [ما نفعكم حتى تحبّوا آل رسول الله صلى الله عليه
__________
[1] فى الأصل: «وهو السيسرة» وهو تحريف. قال فى أساس البلاغة: «وأوقع الوتر فى فرض قوسك وفرضتها، وهو الحز فى سيتها» .
[2] فى اللسان (مادة بين) : «الجوهرى: البائنة القوس التى بانت عن وترها كثيرا، وأما التى قد قربت من وترها حتى كادت تلصق به فهى البانية بتقديم النون، قال: وكلاهما عيب ... » وظاهر من تفسير المؤلف هنا أن المراد «البانية» بتقديم النون. وفى الأصل: «بايتة» وهو تحريف.
[3] الذى فى كتب اللغة «قوس جشء» بالهمز و «الجشو» بالواو لغة فيه.
[4] ظاهر كلام المؤلف أن «جلهق» مفرد جمعه «جلاهق» والذى فى كتب اللغة: الجلاهق بضم الجيم: القوس، ولم يذكروا له هذا المفرد الذى ذكره.
[5] ضبط هذا البيت فى اللسان (مادّة حنّ) باضافة «منكى» الى حنانة على أنه تثنية منكب وعلى أن المراد ب «عود نبعة» السهم. وإذ كنا لم نوفق الى القصيدة التى منها هذا البيت لنعرف موضعه من السياق، وإذ كان ضبطه على ما فى اللسان غير واضح. وإذ كان العود يطلق على القوس كما يطلق على السهم، رأينا أن نضبطه كما ترى، على أن يكون «عود نبعة» بدلا من حنانة.(6/223)
وسلم [1]] » . «حدلاء» هى القوس التى تطامنت [2] [سيتها] . «حصوب» وهى التى اذا رمى عنها انقلب وترها. «رهيش» التى اذا رمى عنها اهتزّت وضرب وترها أبهرها.
«زفيان [3] » هى السريعة الإرسال للسهم. «زوراء» سمّيت بذلك لميلها. «شسيب» وهو من أسمائها. «شريجة» . «شدفاء» سمّيت بذلك لاعوجاجها. «صفراء» . «صريع» «ضروح» وهى الشديدة الحفز والدفع للسهم. «طحور» البعيدة الرمى. «طروح» مثل ضروح. «طلاع الكف» اذا كان مقبضها يملأ الكفّ. «عاتك» هى القوس التى احمرّت من الفدم، ومثله العاتكة. «عاتق [4] » هى التى تغيّر لونها. «عطوى» هى المؤاتية السهلة؛ قال الشاعر:
له نبعة عطوى كأنّ رنينها ... بألوى تعاطته [5] الأكفّ المواسح
«عراضة» وهى العريضة. «عبهر» هى القوس الممتلئة العجس «عطافة» «عطيفة» . «عطفى» القوس المعطوفة؛ قال أسامة الهذلىّ:
فمدّ ذراعيه وأجنأ [6] صلبه ... وفرّجها عطفى مرير ملاكد
__________
[1] تتمة الحديث من نهاية ابن الأثير.
[2] تطامنت سيتها: انحفضت أى مع ارتفاع السية الأخرى. والزيادة التى وضعناها ضرورية وسيذكرها المصنف فى تفسير «محدلة» التى معناها معنى «حدلاء» . فلعل هذه الزيادة التى أثبتناها سقطت هنا سهوا من الناسخ. ومثل محدلة وحدلاء أيضا حدال كغراب.
[3] كذا فى المخصص وكتب اللغة. وفى الأصل «زفنان» وهو تحريف.
[4] ومثل عاتق: عاتقة.
[5] كذا فى اللسان (مادة عطا) وفى الأصل: «تعاطيه» ولعله تحريف من الناسخ. قال فى اللسان:
«وأراد بالألوى الوتر» . وتعاطنه: تنازعته.
[6] أجنأ صلبه: أحنى ظهره. ومرير: ذو مرة أى قوىّ. والملاكد: المعالج الملازم من قولهم:
بات يلاكد الغل: أى يعالجه.(6/224)
«عطوف» هى المعطوفة السّيتين إحداهما على الأخرى. «عتلة [1] » والعتلة: القوس الفارسية، وجمعها عتل. «عوجاء» وهو من أسمائها. «عثوث» وهى القوس المرنّة.
قال كثيّر:
هتوفا اذا ذاقها النّازعون ... سمعت لها بعد حبض عثاثا [2]
«عطل» هى التى لا وتر عليها. «غلفاء» التى فى غلافها. «فرع» و «فرعة» وهما من جياد القسىّ. «فجّاء» توصف بذلك اذا بان وترها عن كبدها. «فجواء» مثلها.
«فلق» اذا كانت مشقوقة [3] ولم تكن قضيبا. «فرج» اذا تنفّجت سياتها [4] . «قوس قعساء [5] » والقعس هو نتوء باطن القوس من وسطها ودخول ظاهرها. «قؤود» وهى السّلسة المنقادة. «كبداء [6] » هى التى يملأ كبدها الكفّ. «كزّة» وهى القصيرة.
«مسحنة» وهى الحسنة المنظر. «مطحر» التى ترمى بسهمها صعدا. «محدلة» التى تطامنت سيتها مثل الحدلاء. «مروح» وهى القوس الحسنة التى يمرح من رآها عجبا بها. ويقال ممراح وممرح أى نشيط. «مهوك» القوس الليّنة. «مسيحة [7] » وهو من أسمائها. «معطّفة» هى القوس المعطوفة السّيتين. «مطعمة» ؛ قال الشاعر:
__________
[1] كذا فى المخصص واللسان، ومنه قول أمية:
يرمون عن عتل كأنها غبط ... بزمخر يعجل المرمىّ إعجالا
وفى الأصل: «عتكة» بالكاف. وهو تحريف.
[2] ذاق القوس: جذب وترها لينظر ما شدتها. والنازعون: الرماة. والحبض: الصوت الضعيف وعثاث: مصدر عاث فى غنائه اذا رجّع وترنّم.
[3] مشقوقة: أى أن تكون أحد شقى قضيب.
[4] تنفجت سياتها: ارتفعت. يريد سيتيها إذ ليس للقوس إلا سيتان.
[5] فى الأصل: «قوس قعس» .
[6] فى الأصل: «كبد» .
[7] كذا فى المخصص واللسان (مادة مسح) وفى الأصل: «مسيح» .(6/225)
وفى الشّمال من الشّريان مطعمة ... كبداء فى عجسها [1] عطف وتقويم
وقيل سمّيت بذلك لأنها تطعم. «معطوفة» . «ما سخيّات» هى أقواس تنسب الى ما سخة [2] رجل من الأزد كان قوّاسا؛ قال الشّمّاخ بن ضرار:
فقرّبت مبراة تخال ضلوعها ... من الماسخيّات القسىّ الموتّرا [3]
«ناترة» وهى التى تقطع الوتر لصلابتها، وجمعها نواتر. «نفوح» هى الشديدة الدفع للسهم. «همزى [4] » مثلها.
وأما الوتر- فمن أسمائه: «حبجر» وهو الوتر الغليظ، وكل غليظ كذلك؛ قال الشاعر:
أرمى عليها وهى شىء بجر [5] ... والقوس فيها وتر حبجر
وهى ثلاث أذرع وشبر
«سرعان» وهو الوتر القوىّ؛ قال الشاعر:
وعطّلت قوس اللهو من سرعانها ... وعادت سهامى بين أحنى وناصل [6]
«شرعة» الشرعة: الوتر الرقيق، وقيل مادام مشدودا. «فرو [7] » . «هجار» . «وتر» .
__________
[1] قال فى اللسان، بعد أن ذكر البيت وشرح «كبداء» ،: «وصواب إنشاده: فى عودها عطف يعنى موضع السيتين وسائره مقوّم» . يريد أن العطف والتقويم فى عود القوس لا فى عجسها، وأن المعطوف من عودها هو موضع السيتين.
[2] كذا فى اللسان والقاموس وأساس البلاغة. وفى الأصل «ماسخ» .
[3] المبراة: الناقة فى أنفها برة، وهى حلقة من فضة أو صفر تجعل فى أنفها. والموتر: المشدود الوتر.
[4] كذا فى كتب اللغة، وفى الأصل: «همزاء» وهو تحريف.
[5] بجر: عجب.
[6] فى الأصل «بين أحنى ونواضل» وهو تحريف، والتصويب عن لسان العرب مادة «سرع» .
والأحنى: الأحدب. والناصل: السهم ذو النصل، والذى خرج منه نصله، وهذا هو المراد هنا.
[7] كذا بالأصل. ولم نجد فى المصادر التى بأيدينا ما يؤيده.(6/226)
وأما أصوات القوس- يقال: «أرنّت» اذا رمى عنها فصوّتت.
«أنبض» . «أنضب [1] » . «حضب» وجمعه أحضاب. «رجّعت» . «زجوم» .
الزّجوم التى ليست شديدة الإرنان. «سجعت» اذا مدّت حنينها على جهة واحدة.
«عجّاجة» . «عزفت» . «عداد» هو صوت الوتر. «عوّلت [2] » مثل أرنّت.
«كتوم» وهى التى لا ترنّ «مرنان» وهى التى اذا رمى عنها صوّتت؛ قال الشنفرى:
اذا زلّ عنها السهم رنّت كأنها ... مرزّأة ثكلى تحنّ وتعول
«نأمت» أى صوّتت. «هتفى» . «هتّافة» . «هزج» و «هزّجت» اذا صوّتت عند إنباض الرمى عنها؛ قال الكميت:
لم يعب ربّها ولا الناس منها ... غير إنذارها عليها الحميرا
بأهازيج من أغانيّها الجشّ [3] ... وإتباعها النحيب [4] الزفيرا
وقال الشّماخ:
اذا أنبض الرامون عنها ترنّمت ... ترنّم ثكلى أوجعتها الجنائز
وقال آخر:
وهى اذا أنبضت عنها تسجع ... ترنّم الثّكلى أبت لا تهجع
وقال آخر:
تسمع عند النّزع والتوتير [5] ... فى سيتيها رنّة الطّنبور
__________
[1] أنبض القوس وأنضبها اذا جذبها لتصوّت.
[2] فى الأصل: «عوّكت» وهو تحريف.
[3] الجش: جمع جشاء من الجشة وهى غلظ الصوت.
[4] فى أساس البلاغة:
وإتباعها الحنين الزفيرا
[5] النزع: رمى السهم عن القوس. والتوتير: شدّ وتر القوس. وفى الأصل: «عند النزع والوتير» .(6/227)
واذا وتر القوس أو أخذ عنها وترها- يقال: «حظرب قوسه» اذا شدّ توتيرها. «طحمر» اذا وترها. «متّن» مثله. «وتر» . «عطّل» يقال: عطّل القوس اذا أخذ عنها الوتر.
وأما اذا حمل القوس أو اتّكأ عليها- يقال: «تنكّب القوس» اذا ألقاها على منكبه. «تأتّب» يقال: تأتّب قوسه اذا جعلها على ظهره. «متقوّس» اذا كان معه قوس. «انكب» والأنكب الذى لا قوس معه. «ارتكز» إذا وضعها بالأرض واعتمد عليها.
هذا ما قيل فى القوس من الأسماء والصفات اللغوية؛ فلنذكر تركيب القوس ومبدأ عملها.
ذكر ما قيل فى تركيب القوس، ومبدإ عملها ومن رمى عنها، ومعنى الرمى
أما تركيب القوس- فقد أجمع الرّماة أنها مبنية على طبائع الإنسان الأربع وهى: العظم، ونظيره فى القوس الخشب. واللحم، ونظيره فى القوس القرون.
والعروق والعصب، ونظيرها فى القوس العقب. والدم، ونظيره فى القوس الغراء.
وأما مبدأ عملها ومن رمى بها- اختلف الناس فى القوس ومبدإ عملها ومن رمى عنها، فقال بعض أهل العلم: إن القوس جاء بها جبريل الى آدم عليه السلام(6/228)
وعلّمه الرمى عنها، وتوارثه ولده الى زمن نوح عليه السّلام. وذكرت الفرس فى كتاب الطبقات الأربع: أنّ أوّل من رمى عنها جمشيد الملك الفارسىّ، وقيل إنه كان فى زمن نوح عليه السّلام، وتوارثه بعده ولده طبقة بعد طبقة. وقال آخرون: إن أوّل من رمى عنها النّمرود، وخبره مشهور فى رميه نحو السماء وعود سهمه اليه وقد غمس من الدم. وسنذكر ذلك ان شاء الله تعالى مبيّنا فى قصة إبراهيم عليه السّلام. ورمى عنها بعد النمرود سامن اليمانى ثم كند بن سامن ثم رستم من المجوس ثم اسفنديار وغيرهم. وقيل إن أوّل من وضعها بهرام جور بن سابور ذى الأكتاف، وهو من الملوك الساسانيّة، وإنه عملها من الحديد والنّحاس والذهب، ولم يكن رآها قبل ذلك، فلم تطاوعه فى المدّ فعملها من القرون والخشب والعقب [1] . وهذا القول مردود على قائله، لأن الفرس الأول لم تزل تفتخر بالرمى فى الحروب والصيد، ولم ينقل أن الرمى انقطع فى دولة ملك منهم. والله تعالى أعلم.
وأما معنى الرمى- ومعنى الرمى عند العرب هو القصد، وذلك أنهم يقولون:
رميت ببصرى الشىء، أى قصدت اليه به؛ قال ابن الرومى:
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عنه فكاد يهيم
ويلاه إن نظرت وإن هى أعرضت! ... وقع السّهام ونزعهن أليم
وقال العبّاس بن الأحنف:
قالت ظلوم سميّة الظلم ... مالى رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبى فأقصده ... أنت العليم بموضع السهم
__________
[1] العقب: عصب المتنين والساقين والوظيفين.(6/229)
وأما معناه عند العجم، فقد حكى عن بهرام أنه قال: معنى رميت الشىء أى [1] رمته فوصلت اليه. وهو مقارب لمعناه عند العرب، لأنه إنما أراد بما رامه القصد له.
هذا ما قيل فى القوس. فلنذكر ما قيل فى السهم، ثم نذكر بعد ذلك ما قيل فيهما من النظم والنثر.
وأما ما قيل فى السهم-
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة [نفر [2]] الجنة صانعه يحتسب فى صنعته الخير والرامى به والممدّ [3] به»
. وقال صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا وأن ترموا أحبّ إلىّ من أن تركبوا»
. وعنه صلى الله عليه وسلم وقد مرّ على نفر من أسلم [4] ينتضلون فقال: «ارموا بنى إسماعيل فإن أباكم كان راميا وأنا مع بنى فلان» ، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لكم لا ترمون» ؛ فقالوا:
كيف نرمى وأنت معهم! قال: «ارموا وأنا معكم كلّكم»
. وعن حمزة بن أبى أسيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفّوا لنا: «اذا أكثبوكم [5] فعليكم بالنّبل» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلّم الرمى ثم تركه فهو نعمة تركها» .
__________
[1] كذا بالأصل، وظاهر أن الكلمة «أى» التفسيرية هاهنا لا معنى لها بل وجودها محل بالتركيب.
[2] زيادة من هذا الجزء (صفحة 238 من خطبة القاضى شهاب الدين محمود الحلبى) ومن الجامع الصغير.
[3] الممدبه: من أمده بالشىء: أعطاه إياه. وفيما يأتى فى خطبة الحلبى وفى الجامع الصغير. «ومنبله» بدل «الممدبه» والمنبل: من أنبله الشىء أعطاه إياه وناوله.
[4] أسلم: قبيلة مشهورة.
[5] أكثبوكم: قاربوكم ودنوا منكم فمكنوكم منهم.(6/230)
ومما يدلّ على تعظيم قدر الرامى ما
روى عن عبد الله بن شدّاد قال: سمعت عليّا يقول: ما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يفدّى رجلا بعد سعد، سمعته يقول:
«إرم فداك أبى وأمّى»
. وسعد هذا هو سعد بن مالك. وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم له كان فى يوم أحد.
وللسهم أسماء وصفات ونعوت نطقت بها العرب- منها: «أقذّ» ، والأقذ: الذى لا ريش عليه. «أهزع» وهو السهم الذى يبقى فى الكنانة وحده لأنه أردأ ما فيها، ويقال هو أجودها وأفضلها؛ ويقال: ما فى جفيره أهزع، قال العجّاج:
لا تك كالرامى بغير أهزعا [1]
وقال آخر:
فأرسل سهما له أهزعا ... فشكّ نواهقه [2] والفما
«أفوق» هو المكسور الفوق [3] . «أمرط» هو الذى سقط قذذه. «أغضف [4] » وهو الغليظ [الريش [5]] . «أصمع» وهو الرقيق. «ثجر» وهى سهام غلاظ. «ثلث» وهو سهم من ثلاثة، ومثله ثليث وثمين وسبيع وسديس وخميس. «جبّاع» وهو الذى بغير نصل. «جمّاع» سهم مدوّر الرأس يتعلم به الصبىّ الرمى. «حشر» يقال: سهم حشر، وسهام حشر أى دقاق. «حاب» وهو الذى يزحف فى [الأرض ثم يصيب [6]] الهدف. «حابض» وهو الذى يقع بين يدى راميه. «حظاء» هى سهام صغار، والواحدة: حظوة، وتجمع على حظوات، وتصغيرها: حظيّات. «حسبان» سهام
__________
[1] فى المخصص: «يأيها الرامى بغير أهزعا» .
[2] النواهق: مخارج النهاق من ذى الحافر، أو العظام الناتئة فى مجرى دمعه من الخدّ.
[3] الفوق: موضع الوتر.
[4] فى الأصل: «أعضف» وهو تحريف.
[5] زيادة عن القاموس.
[6] التكملة من كتب اللغة.(6/231)
صغار يرمى بها عن القسىّ الفارسيّة، والواحدة حسبانة. «خازق» وهو السهم الذى يصيب القرطاس. «خشيب» وهو حين يبرى البرى الأوّل. «خلط» وهو السهم الذى ينبت عوده على عوج فلا يزال يتعوّج وإن قوّم. «دالف» وهو الذى يصيب ما دون الغرض ثم ينبو عن موضعه، والجمع دلّف. «دابر» وهو الذى يخرج من الهدف. «رقميّات» سهام تنسب الى موضع بالمدينة. «زالج» وهو الذى يتزلّج من القوس أى يسرع، وكلّ سريع زالج. «زاحف» وهو الذى يقع دون الغرض ثم يزحف اليه. «زمخر» وهو النّشّاب واحدته زمخرة، ويقال: هو الطويل منه.
«سهم سندرىّ» نوع من السهام منسوب الى السّندرة وهى شجرة. «سروة» سهم صغير، والجمع سراء. «شارف» سهم طويل دقيق، وقيل الذى طال عهده.
«شاخص» أى جاز الغرض من أعلاه. «شارم» وهو الذى يشرم جانب الغرض.
«صادر» هو النافذ. «صنيع» . «عبر» هو الموفور الريش. «عموج» هو الذى يتلوّى فى ذهابه وهو الاعوجاج فى السير. «عصل» السهام المعوجّة. «عفر [1] » .
«عائر» وهو السهم الذى لا يدرى من أين أقبل. «غرب» يقال: سهم غرب [2] ، وهو الذى يأتى ولا يعلم المصاب به من أين يأتى. «فالج» هو السهم الفائز. «قطع» هو السهم العريض. «قدح» قبل أن يراش ويركّب نصله. «قطبة» سهم صغير يرمى به. «قطيع» قبل أن يبرى حين يكون قضيبا، والجمع قطع. «قترة» سهم صغير لا حديد فيه. «كتّاب» سهم صغير مدوّر الرأس مثل «جمّاح» . «كثّاب» سهم صغير؛ قال الشاعر:
رمت عن كثب قلبى ... ولم ترم بكثّاب
__________
[1] كذا فى الأصل، ولم نوفق اليه فى مصدر آخر.
[2] يصح فى «سهم غرب» الإضافة والوصفية.(6/232)
«لأم» وهو السهم. «معبر» وهو السهم الموفور الريش. «منزع» هو السهم مطلقا، ويقال: المنزع: الذى يرمى أبعد ما يكون؛ قال الأعشى:
فهو كالمنزع المريش من الشّو ... حط غالت به يمين المغالى
«مريش» ذو الريش. «مخلّق» هو المصلح. «مصراد» هو النافذ. «مقتعل» هو الذى لم يبر بريا جيّدا؛ قال لبيد:
فرميت القوم رشقا صائبا ... ليس بالعصل ولا بالمقتعل
«مطحر» هو البعيد الذّهاب؛ قال أبو ذؤيب:
فرمى فألحق [1] صاعديّا مطحرا ... بالكشح فاشتملت عليه الأضلع
«مرماة» سهم صغير. «منجاب» هو الذى لا ريش عليه ولا نصل. «مغلق» اسم لكل سهم. «مرّيخ» سهم طويل له أربع قدذ. «منجوف» هو السهم العريض.
«مراط [2] » التى تمرّط ريشها. «مقزّع» الذى ريش بريش صغار. «مرتدع» الذى اذا أصاب الهدف انفضخ [3] عوده. «معراض» ذو ريش يمشى عرضا، وقيل سهم طويل له أربع قذذ دقاق فاذا رمى به اعترض. «متصمّع» هو المنضمّ الريش من الدم، وقيل الملطّخ بالدم. «مشقص» سهم له نصل عريض. «معقص» الذى ينكسر نصله ويبقى سنخه فى السهم. «نكس» هو الذى انكسر فوقه فجعل أسفله أعلاه. «نواقر» هى السهام التى تصيب. «نشّاب» . «نجيف» هو العريض النصل، والجمع نجف؛ قال الهذلىّ:
نجف بذلت لها خوافى ناهض ... حشر القوادم كاللّفاع الأطحل
«هزاع» هو الذى يبقى فى الكنانة وحده مثل الأهزع.
__________
[1] فى اللسان (مادة طحر) : «فأنفذ» .
[2] هذا على أن «مراطا» جمع «مرط» بضمتين، ويقال أيضا: سهم مراط، كما يقال: سهم مرط.
[3] انفضخ عوده: انكسر.(6/233)
وأما أسماء النصل- فمنها: «رهب» وهو النصل الرقيق، والجمع رهاب.
«رهيش» مثله. «قطع» هو النصل العريض، وجمعه أقطاع، وقيل: نصل صغير، وقيل: السهم القصير. «قطبة» نصل الهدف. «مرماة» هو النصل المدوّر.
«معبلة» نصل طويل عريض، وقيل حديدة مصفّحة لا عير [1] لها. «نضىّ» هو نصل السهم. «وقيع» هو النصل المحدّد؛ قال عنترة:
وآخر منهم أجررت رمحى ... وفى البجلىّ معبلة وقيع
فهذه أسماء السهم والنصل.
واذا أصاب السهم يقال- «ارتزّ السهم» اذا ثبت فى القرطاس «أصاب» .
«أقصد» اذا قتل مكانه؛ قال الأخطل:
فإن كنت قد أقصدتنى إذ رميتنى ... بسهميك فالرامى يصيب ولا يدرى [2]
«بصّر» اذا طلى رأسه بالبصيرة وهى الدم. «تاز» يقال: تاز السهم اذا أصاب الرميّة فاهتزّ فيها. «خزق» اذا أصاب. «خسق» مثله. «خصل» اذا وقع بلزق القرطاس، وقيل: [الخصل] الإصابة [3] ؛ ويقال: تخاصل القوم اذا تراهنوا فى الرمى، وأحرز فلان خصل فلان اذا غلب. «دبر» اذا خرج عن الهدف. «زهق» اذا جاوز الهدف. «شظف» اذا دخل بين الجلد واللحم. «صرد» يقال: صرد السهم
__________
[1] العير فى النصل: الناتئ منه فى وسطه.
[2] فى الأصل: «
... أقصدتنى فرميتنى ... بسهمك ...
» . وقد أثبتنا ما فى اللسان مادة «قصد» . ومعنى لا يدرى: لا يختل. يقال: درى الظباء وادّراها وتدرّاها اذا ختلها أى تخفى لها.
[3] فى المخصص: «ومن قال: الخصل: الإصابة فقد أخطأ» .(6/234)
من الرميّة اذا نفذ منها. «صاف» مثل «ضاف» [و [1]] «طاش» اذا لم يصب.
«عصّل» اذا التوى فى الرمى. «عظعظ [2] » اذا لم يقصد الرميّة. «قحز» اذا وقع بين يدى الرامى. «مرق» اذا نفذ من الرميّة. «نصل» اذا ثبت نصله فى الشىء فلم يخرج. «نضا» بمعنى ذهب. «نفذ» أى من الرميّة.
وأما ما يضاف الى الرامى- يقال: «أذلق» عبارة عن سرعة الرمى.
«أشخص» اذا مرّ سهمه برأس الغرض. «انتضل» يقال: انتضل القوم وتناضلوا اذا تراموا للسّبق. «تيمّم» اذا قصد نحو جهة بالسهم. «تنعير» اذا أدار السهم على ظفره ليعرف قوامه من عوجه. «تنفيز» مثله. «رمى» معروف. «رشق» اذا رمى القوم بأجمعهم فى جهة واحدة. «زلخ» الزّلخ رفع اليد فى السهم الى أقصى ما يقدر عليه. «سعر» اذا رمى. «عقّى [3] » بالسهم اذا رمى به فى الهواء وارتفع فى طيرانه.
«غلا» اذا رمى أقصى الغاية. «لعط» اذا رمى فأصاب. «لتأ» يقال: لتأ بالسهم اذا رمى به. «ناشب» والناشب هو الرامى. «ندب» اذا رمى فى جهة واحدة.
«نجف» اذا برى السهم.
وأما أوعية السهام- «جعبة» وجمعها جعاب. «جفير» وهو أوسع من «الكنانة» . «ظفرة [4] » اذا كانت ممتلئة. «عيبة» مثل جعبة. «قرن» . «نثل» يقال:
نثلت كنانتى اذا استخرجت ما فيها.
__________
[1] معنى «صاف» و «ضاف» لم يصب، فزدنا الواو العاطفة ليشركا «طاش» فى تفسيره.
[2] فى الأصل: «غطغط» وهو تحريف.
[3] ومثل عقى: عق.
[4] كذا بالأصل، ولم نوفق اليها أو الى ما يقرب منها فى مصدر آخر.(6/235)
وأما ما وصف به القوس والسهم من النظم والنثر- قال عتّاب بن ورقاء
وحطّ عن منكبه شريانة ... مما اصطفى بارى القسىّ وانتقى
أمّ بنات عدّها صانعها ... ستّين فى كتابه مما برى
ذات رءوس كالمصابيح لها ... أسافل مثل عراقيب القطا
إن حرّكت حنّت الى أولادها ... كحنّة الواله من فقد الطّلا
حتى اذا ما قرنت ببعضها ... لانت ومال طرفاها وانثنى
وقالوا: أجود ما شبّه به فوق السهم قول الشاعر:
أفواقها حشو الجفير كأنها ... أفواه أفرخة من النّغران [1]
ومن إنشاء المولى القاضى شهاب الدين محمود الحلبىّ الكاتب: خطبة عملها لرامى نشّاب، وهى:
الحمد لله الذى جعل سهم الجهاد الى مقاتل أعداء دينه مسدّدا، وحكم الجلاد بإصابة الغرض فى سبيله مؤيّدا، وسيف الاجتهاد فى نكاية من كفر به وبرسوله على الأمد مجرّدا، وركن الإيمان بإعداد القوّة- وهى الرمى فيما ورد عن نبيّه- على كرّ الجديدين مجدّدا؛ الذى أعاد رداء الجهاد فى مواطن الصّبر بالنصر معلما، وأباد أهل الإلحاد بأن جعل لحماة دينه فى أرواحهم أقساما وفى مقاتلهم أسهما، وأزال بأيدى القسىّ من معاقل أهل الكفر [2] حكم كماتهم الذين ارتقوا منها خشية الموت سلّما، وأفاء على الإسلام من النصر ما فاء به كلّ دين له خاضعا وآل اليه مستسلما، وأبان حكم الأدب فى تجرّد العبد من القوّة إلا به بقوله عز من قائل:
__________
[1] النغران: طير كالعصافير حمر المناقير.
[2] فى الأصل «أهل الكف» وهو تحريف.(6/236)
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى
. نحمده على نعمه التى لم يزل بها قدح الدين فائزا وسهمه مصيبا، ومننه التى ما برح بها جدّ الكفر [1] مدبرا فلا يجد له فى إصابة نصل أو نصر نصيبا، وآلائه التى لا تنفكّ بها سوام السّهام ترد من وريد [2] الشرك منهلا [3] عذبا وترود من حبّ القلوب مرعى خصيبا؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تدنى النصر وإن بعد مداه، وتدمى النّصل الذى على راميه إرساله الى المقاتل وعلى الله هداه، وتسمى القدر لمن ناضل عليها فيفوز فى الدنيا والآخرة بما قدّمت يداه؛ ونشهد أن محمدا عبده الذى نصر بالرّعب على من كفر، ورسوله الذى رمى جيش الشّرك بقبضة من تراب فكان فيها الظّفر، ونبيّه الذى نفر الى أهل بدر بنفر من أصحابه فجمع الله النصر والفخر لأولئك النّفر؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين آمنوا بما أنزل عليه وجاهدوا بين يديه، واختصّوا بالذبّ عنه بمزايا القرب حتى سعد سعد بما جمع له، حين أمره بالرمى، فى التفدية بين أبويه، وخصّ بعموم الرّضوان عمّه العبّاس الذى أقرّ الله بإسلامه ناظريه، وبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم باستخلاف بنيه فى الأرض فيما أسرّ به اليه.
وبعد، فإنّ الرّمى أفضل ما أعدّ للعدا، وأكمل ما أفيض به على أهل الكفر رداء الرّدى؛ وأبلغ ما يبعث الى المقاتل من رسل المنون، وأنفع ما يقتضى به فى الوغى [4] من أعداء الدّين الدّيون، وأسرع ما تبلّغ به المقاصد فيما يرى قريبا وهو أبعد ما يكون؛ وأنكى ما تقذف به عن الأهلّة شهب الحتوف، وأسبق ما تدرك به الأغراض قبل
__________
[1] فى الأصل: «جد الفكر» وهو تحريف.
[2] فى الأصل: «رويد الشرك» .
[3] فى الأصل: «منها ... » وهو تحريف.
[4] فى الأصل «من الوغى» .(6/237)
أن تعرف بها الرماح أو تشعر [1] بمكانها السيوف؛ ما طلع فى سماء النّقع قوسه إلّا سحّ وبل النّبل، ولا استبقت الآجال وسهمه إلا كان له فى بلوغها السّبق من بعد والسّبق من قبل. ومن شرف قدره الذى دلّ عليه كلام النبوّة، أن النبىّ صلى الله عليه وسلم نبّه على أنه المراد بقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
. ومن أسباب فضله الذى أصبح بها قدره ساميا، وفخره ناميا، وقطره فى أفق النصر هاميا، ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم لفتية ممن أسلم من أسلم: «ارموا يا نبى اسماعيل فإنّ أباكم كان راميا» . ومما عظمت به على الأمة المنّة، وغدت فيه نفوس أرباب الجهاد بالفوز فى الدنيا والآخرة مطمئنّة، قوله صلى الله عليه وسلم: «تعلّموا الرمى فإنّ ما بين الغرضين روضة من رياض الجنّة» . ومن فضل الرمى الذى لا يعرف [2] التأويل، ما نقل من قوله صلى الله عليه وسلم: «من رمى بسهم فى سبيل الله أخطأ أو أصاب فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل» . ومما يرفع قدر السهم [ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «إن الله يدخل بالسهم [3]] الواحد ثلاثة نفر الجنّة صانعه يحتسب فى صنعته الخير وراميه ومنبله» . ومما حضّهم به على الرمى ليجتهدوا فيه ويدأبوا: قوله صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا وأن ترموا أحبّ إلىّ من أن تركبوا» . ومن خصائص السّهم أنه ذو خطوة فى الهواء وحكم نافذ فى الماء، وتصرّف حتّى فى الوحش السانح فى الأرض والطير المحلّق فى السماء؛ يكلّم بلسان من حديد؛ ويبطش عن باع مديد؛ إن رام غرضا طار إليه بأجنحة النّسور، وإن حمى معلما أصاب الحدق وصان الثّغور؛ يوجد بصره حيث فقد، واذا انفصل عن أمّه لم يسر من كبد إلا الى كبد؛ أنجز [4] فعله على ما فيه من إخلاف الطباع، وشرفت
__________
[1] فى الأصل: «أو ما تشعر ... » .
[2] فى الأصل: «الذى لا يصرف» .
[3] تكملة للكلام فلعلها، أو شيئا بمعناها، سقطت سهوا من الناسخ.
[4] فى الأصل: «أنجد فعله» .(6/238)
أجناسه بكونها أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع. ومن خصائص القوس أنها عقيم ذات بنين، صامتة وهى ظاهرة الأنين؛ لها كبد وهى غير مجوّفة، ويد لا تملك شيئا وهى فى الأرواح متصرّفة؛ ورجل ما نقلت قدما، وقبضة ما عرفت إثراء ولا عدما؛ فهى نون ما ألف الماء، وهلال ما سكن السماء، وقاتلة ما باشرت الدّماء.
ولما كان أهل هذه الفضيلة يتفاوتون فى مواهبها، ويتباينون فى مذاهبها؛ ويبلغ أحدهم بصنعته ما يبلغه الآخر بقواه، ويصل بإتقانه إلى ما لا يدركه من وجود التساوى سواه؛ وكان فلان ممن له فى هذا الشأن الباع المديد والساعد الشديد، والإتقان الذى يتصرّف به فى الرمى كيف يشاء ويضع به السّهم حيث يريد؛ كأنما سهمه بذرع الفضاء موكّل، أو للجمع بين طرفى الأرض مؤهّل، أو لسبق البروق معدّ اذا لمعت فى حواشى السّحاب المفوّفة وخطرت فى هدّاب الدّمقس المفتّل.
وله المواقف التى تشقّ سهامه فيها الشّعر، وتبلغ بها من الأغراض المتباعدة ما يشقّ إدراكه على النّظر؛ فمنها أنه لما كان فى اليوم الفلانى فعل كذا وكذا. ووصف ما فعله.
هذا شىء مما قيل فى السلاح فلنذكر الجنن.
ذكر ما قيل فى الجنّة
والجنّة: ما اتّقى بها كالتّرس، والبيضة، والدّرع.
فأما التّرس- فمن أسمائه: «بصيرة» . «ترس» . «جوب» . «جنّة» .
«حجفة» وهى الترس الصغير، وجمعها حجف. «درقة» وجمعها درق. «عنبر [1] » وهو الترس. «فرض» وهو الخفيف؛ قال الهذلىّ:
__________
[1] فى الأصل: «عنتر» وهو تحريف»(6/239)
أرقت له مثل لمع البشير ... يقلّب بالكفّ فرضا خفيفا
«قفع» والقفع جنن كالمكابّ تتّخذ من الخشب يدخل الرجال تحتها إذا زحفوا على الحصون، ويسمّونها فى زماننا الحنويّات. «قراّع [1] » وهو الترس الصّلب.
«كنيف» وهو الساتر لأنه مشتقّ من الاكتناف. «لاى [2] » . «مجنّ» . «مجنأ» .
«مجول» . «مطرق» . «مجنب» . «يلب» . قال الشاعر:
عليهم كلّ سابغة دلاص ... وفى أيديهم اليلب المدار
ويسمى مقبض الترس صنارة.
وأما ما وصف به حامل الترس- يقال: «تارس» و «ترّاس» إذا كان معه التّرس. «ومحاجف» وهو صاحب الحجفة فى القتال.
وأما البيضة- فمن أسمائها: «بيضة» وهى واحدة البيض من الحديد.
«جمّاء غفير» وهو البيضة من الحديد والجماعة من الناس. «خيضعة» . قال لبيد:
والضاربون الهام تحت الخيضعه
«دومص [3] » . «ربيعة» . «عمامة» وجمعها عمائم وعمام. «عرمة» . «مغفر» وهو زرد على قدر الرأس.
__________
[1] فى الأصل «فراع» وهو تحريف.
[2] كذا بالأصل، ولم نوفق الى ما يؤيدها أو الى ما قد تكون محرّفة عنه.
[3] كذا فى كتب اللغة، وفى الأصل: «دمص» .(6/240)
ومن أسماء أجزائها- «سابغ» وهو الذى يستر العنق. «قونس» وهو أعلى البيضة من الحديد. قال حسين بن الضّحّاك [1] :
بمطّرد لدن صحاح كعوبه ... وذى رونق عضب [2] يقدّ القوانسا
وأمّا ما يوصف به لابسها- يقال: «مقنّع» والمقنّع هو الذى يلبس بيضة ومغفرا. هذا ما قاله صاحب كتاب خزائن السلاح. وقال غيره: من أسمائها «التّركة» وهى المستديرة، وجمعها التّرك والترائك [3] .
وأما ما قيل فى الدرع- وهو يؤنّث ويذكّر. وله أسماء: منها «بصيرة» ، «جارن» وجمعه جوارن. «جوشن» . «حلقة» وهى الدروع. «خدباء» وهى الدرع الليّنة؛ قال الأصمعىّ:
خدباء يحفزها نجاد مهنّد
«درع» . «دلاص» . «دلامص» . وهو الدرع البّراق. «دخاس» أى متقاربة الحلق. «درمة» . «ذائلة» وهى الطويلة الذّيل، «زغفة» . «سلوقيّة» . «سابريّة»
__________
[1] فى شرح القاموس واللسان (مادة قنس) ينسب هذا البيت الى حسيل بن سجيح الضبىّ، وقد ذكر اللسان قبله:
وأرهبت أولى القوم حتى تنهنهوا ... كما ذدت يوم الورد هيما خوامسا
[2] كذا فى اللسان، وفى الأصل: «عذب»
[3] ظاهر كلام المؤلف أن الترك والترائك جمعان لتركة، وليس الأمر كذلك بل الترائك جمع لتريكة، وهى من أسماء البيضة أيضا.(6/241)
وجمعها سابريّات، وهى الرقيقة النّسج. «سابغة» وهى الواسعة. «سكّ» ضيّقة الحلق، «سرد» اسم جامع للدروع. «سنوّر» ؛ قال لبيد يرثى قتلى هوازن:
وجاءوا به فى هودج ووراءه ... كتائب خضر فى نسيج السّنوّر
«صموت» التى إذا صبّت لم يسمع لها صوت. «فضفاضة» أى واسعة.
«قضّاء» أى خشنة المس؛ قال النابغة:
ونسج سليم كلّ قضّاء ذائل
«لأمة» وجمعها لؤم. «لبوس» . «ماذيّة» . «مضاعفة» وهى التى نسجت حلقتين حلقتين. «موضونة» أى منسوجة. «مسرّدة» و «مسرودة» أى مثقوبة.
«نثرة» وهى الواسعة. «نثلة» . «يلب» وهى الدرع اليمانية تتّخذ من الجلود؛ قال عمرو بن كلثوم:
علينا البيض واليلب اليمانى
ومن أسماء أجزاء الدرع- «الحرباء» وهى مسامير الدروع؛ قال لبيد:
أحكم الجنثىّ من عوراتها ... كلّ حرباء إذا أكره صلّ
«ريع» ريع الدرع: فضول كمّيها على أطراف الأنامل؛ قال قيس بن الخطيم الأنصارىّ:
مضاعفة يغشى الأنامل ريعها ... كأنّ قتيرها عيون الجنادب
«قتير» : رءوس المسامير فى الدروع.
وأمّا ما يوصف به لابس الدرع- يقال: «خشخاش» : جماعة عليهم سلاح ودروع؛ قال الكميت:(6/242)
فى حومة الفيلق الجأواء إذ ركبت ... قيس وهيضلها الخشخاش إذ نزلوا [1]
«خرساء» يقال: كتيبة خرساء، التى لا يسمع لها صوت من وقارهم [2] فى الحرب، وقيل التى صمتت من كثرة الدروع. «دارع» هو لابس الدرع، «كافر» ، يقال:
قد كفر فوق درعه أى ستره إذا لبس فوقه [ثوبا [3]] . «مسبغ» يقال: رجل مسبغ:
عليه درع سابغة.
وأمّا اذا لم يكن عليه درع ولا مغفر- «نثر» أى نثر درعه عنه إذا ألقاها، ولا يقال: «نثلها» . ويقال: «أحمر» أى لا سلاح معه. «أعزل» .
«حرض» . «عطل» وجمعه أعطال.
وقد وصف الشعراء الدروع فى أشعارهم، فمن ذلك ما قاله امرؤ القيس:
ومسرودة النّسج موضونة ... تضاءل فى الطّىّ كالمبرد
تفيض على المرء أردانها ... كفيض الأتىّ على الجدجد [4]
قال ثعلب:
فنهنهته حتّى لبست مفاضة ... دلاصا كلون النّهى ريح وأمطرا
وقال البحترىّ:
يمشون فى زرد [5] كأنّ متونها ... فى كل معركة متون نهاء [6]
__________
[1] الفيلق الجأواء: بينة الجأى، وهى التى يعلوها لون السواد لكثرة ما عليها من الدروع. والهيضل:
الجيش العظيم.
[2] ظاهر أن مرجع الضمير هاهنا الكتيبة مرادا بها الأفراد.
[3] زيادة يقتضيها السياق.
[4] الأتىّ: السيل. والجدجد: الأرض الصلبة المستوية.
[5] فى ديوان البحترى: «يمشون فى زغف ... » .
[6] نهاء: جمع نهى، والنهى: الغدير.(6/243)
بيض تسيل على الكماة فضولها ... سيل السّراب بقفرة بيداء
وإذا الأسنّة خالطتها خلتها ... فبها خيال كواكب فى ماء
قال محمد بن عبد الله السلامىّ:
يا ربّ سابغة حبتنى نعمة ... كافأتها بالسّوء غير مفنّد
أضحت تصون عن المنايا مهجتى ... وظللت أبذلها لكلّ مهنّد
وقال عبد الله بن المعتزّ:
كم بطل بارزنى فى الوغى ... عليه درع خلتها تطّرد
كأنّها ماء عليه جرى ... حتى إذا ما غاب فيه جمد
وقال آخر:
وأرعن [1] ملموم الكتائب خيله ... مضرّجة أعرافها ونحورها
عليها مذالات [2] القيون كأنّها ... عيون الأفاعى سردها وقتيرها
وقال آخر:
وزنت كتائبها الجبال وسربلت ... حلق الحديد فأظهرته عنادها
فتخال موج ابحر فى جنباتها ... والبرق لمع قتيرها وسرادها
وقال سلم الخاسر:
كأنّ حباب الغدر ما مر عليهم [3] ... وما هو إلّا السابغات الموائر
وقال ابن المعتز:
بحيث لا غوث إلّا صارم ذكر ... وجنّة كحباب الماء تغشانى
__________
[1] الأرعن: الجيش المضطرب لكثرته.
[2] المذالات: الدروع الطويلة، من أذال الرجل ثوبه أو درعه أطال ذيلها.
[3] الغدر: جمع غدير. مار عليهم: ماج واضطرب.(6/244)
وقال محمد بن عبد الملك:
نهنهت أولاها بضرب صادق ... هتن كما شقّ الرداء المعلم
وعلىّ سابغة الذيول كأنها ... سلخ كسانيه الشجاع الأرقم
وقال المتنبّى:
تخطّ فيها العوالى ليس تنفذها ... كأنّ كلّ سنان فوقها قلم
وقال كلثوم:
كأن سنا الماذىّ فوق متونهم ... مواقد نار لم تشب بدخان
ومن الرسائل الشاملة لأوصاف السلاح- فمن ذلك ما أجابنى به المولى الفاضل تاج الدين بن عبد المجيد اليمانى، وقد كتبت إليه ألتمس رسالة من كلامه فى أوصاف السلاح، وذلك فى شهور سنة سبع وسبعمائة. كتب:
أمرتنى- أعزك الله، وأعلى فى مراتب السعود جدودك- أن أبعث اليك بشىء من كلامى يتضمّن وصف سلاح متنوّع الأجناس، مرهوب بالسطو [1] والباس؛ فامتثلت مرسومك وبادرت الى ذلك، لما يتّجه علىّ من حقوقك الواجبة، ومن مفترضات خدمك اللازبة؛ وأنشأت لك هذه النّبذة مرتجلا فيها، ورتّبتها على التهيّؤ لمراتب القتال، وقدّمت الدرع، وتلوته بالقوس وأعقبته بالرمح، وختمته بالسيف.
فمن ذلك فى وصف درع:
خليق بمثله أن يفاض عليه مثل هذه الفضفاضه، وأن يبلغ بها من نيل الأعداء أمانيه وأغراضه؛ وأن يتّخذها جنّة تقيه سوء المزاريق فى حومة القتال، وأن
__________
[1] فى الأصل: «مرهوب بالسطا» . ولم نجد فى كتب اللغة التى بأيدينا أن سطوة تجمع على سطا، وانما تجمع على سطوات.(6/245)
يتدرّعها فتخال عليه غديرا صافحت صفحته يد الشّمال؛ إن نشرت على الجسد غطّت الكعبين، وإن طويت فكالمبرد فى يد القين؛ حميدة الملبس ميمونة المساعى، مسرودة النسج فى عيون الأفاعى؛ داووديّة النّسب تبّعيّة المعزى، قد تقاربت فى الحلق وتناسبت فى الأجزا.
وأعددت للحرب فضفاضة ... تضاءل فى الطىّ كالمبرد
دلاص ولكن كظهر النّون لا يستطيعها سنان، وموضونة ولكن يحيّر البصر فيها عند العيان: أموج بحر يتلاطم فى جوانبها أم حباب غدران. مشفوعة بقوس طلعت هلالا فى سماء المعارك، ومجرّة تنقضّ منها نجوم المهالك؛ ووكرا تسرح منه نسور المعاطب، وأمّا تفرّق أولادها لإحراز الغرض من كلّ جانب؛ تصرع بسهامها كلّ رامح ونابل، وتبكى ومن العجب أن يبكى القتيل القاتل؛ تطيعك فى أوّل النّزع وتعصيك فى آخره، وترسل سهما فلا يقنع من العدوّ إلا بسواد ناظره؛
إذا أنبض الرامون عنها ترنّمت ... ترنّم ثكلى قد أصيب وحيدها
تهابها الأقران، وتتحاماها الشجعان، ويؤمن بمرسلها كلّ شيطان من الإنس والجان.
ووصف الرمح فقال: وإنّ أولى ما اعتقل مولانا من الخطّىّ ما سلب الرّوم زرقتها، والعرب سمرتها؛ وأشبه العاشق ذبولا واصفرارا، وخالط الضّرغام فى غيله فهو يلقى من بأسه عند المطاعنة أخبارا؛ وهزّه الفارس فالتقى طرفاه، وخيّل لرائيه أنّ ثعلبه [1] قد فغرفاه؛ إن حمله الدارع قلت غصنا على غدير، وإن هزّه الفارس وألقاه قلت حيّة على وجه الأرض تسير؛ فهو كالرّشاء لكن لا يرضى قليبا غير القلب، أو كالعدوّ الذى لا يهوى إلّا إزالة ما فى شغف [2] القلوب من حبّ.
__________
[1] الثعلب: طرف الرمح الداخل فى جبة السنان. والجبة: رأس الرمح فى أسفل السنان.
[2] فى الأصل «شغوف القلوب» والشغاف، وهو سويداء القلب أو غشاؤه، انما يجمع على شغف.(6/246)
له رائد ماضى الغرار كأنّه ... هلال بدا فى ظلمة الليل ناحل
طالما رجع سوسنه عند المطاعنة شقيقا، ومزّق نجمه [1] جلا بيب ظلمة القسطل والعثير تمزيقا؛ له النّسب العالى فى المعالى والمرّان، لأن سنانه سنا لهب لم يتّصل بدخان؛ مقرونا بسيف ما تأمّله الرائى إلا وأرعدت صفحتاه من غير هزّ، أو صمّمت شفرتاه فى محزّ فلا ينبو حتى يفرى ذلك المحزّ؛ يرى فوق متنيه بقيّة غيم يستشفّ منها لون السماء، وفى صفحة فرنده نار تتأجّج فى خلال لجّة من الماء؛ كأنّ صيقله كتب على فرنده أو نقش، أو كأنّ القين تنفّس فيه وهو صقيل فألبسه حلّة من نمش؛ حلّت بساحته المنايا فهى فيه كوامن، وتبؤأت مقاعده الأمانى فلإدراكها من فعله قرائن؛ إذا توغّل [فى] هامة الجبّار سار وأوجف، ومتى استوطن جثة الجرم [2] أوهى مبانيها وأشرف.
ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل ومصقول وإن لم يصقل
يغشى الوغى فالتّرس ليس بجنّة ... من حدّه والدّرع ليس بمعقل
متوقّد يفرى بأوّل ضربة ... ما أدركت ولو انّها فى يذبل
وإذا أصاب فكلّ شىء مقتل ... وإذا أصيب فماله من مقتل
__________
[1] فى الأصل: «مجمه» .
[2] كذا بالأصل. ولعلها جثة الجريم، والجريم: ذو الجرم الضخم.(6/247)
الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى القضاة والحكام
وحيث ذكرنا الإمام وما يجب له وعليه وقواعد المملكة، فلنذكر القضاة والحكّام.
قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً
، وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً
. وقال تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ
. وقال: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
، الى غير ذلك من الآى.
ولا يجوز أن يقلّد القضاء إلا من اجتمع فيه ثمانية شروط، وهى: الذكوريّة، والبلوغ، والعقل، والحرّيّة، والإسلام، والعدالة، وسلامة السمع والبصر، والعلم بأحكام الشريعة. ولكل شرط من هذه الشروط فوائد نشرح ما تلخّص منها إن شاء الله.
أما الذكورية- فلقوله عز وجل: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ
قيل: المراد بالتفضيل هنا العقل والرأى، ولما
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النّساء ناقصات عقل ودين»
، ولنقص النساء عن [رتب [1]] الولايات.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن تقضى المرأة فيما تصحّ فيه شهادتها دون ما لا تصحّ فيه.
وجوّز الطبرىّ قضاءها فى جميع الأحكام. والإجماع يردّ ذلك.
__________
[1] الزيادة عن «الأحكام السلطانية» .(6/248)
وأما البلوغ- فلأن غير البالغ لا يجرى عليه قلم، ولا يتعلّق بقوله على نفسه حكم، فكان أولى ألّا يتعلّق به على غيره.
وأما العقل-[فهو مجمع على اعتباره، و [1]] لا يكتفى فيه بالعقل الذى يصحّ معه التكليف من العلم بالمدركات الضروريّة، حتى يكون صحيح التمييز جيّد الفطنة بعيدا من السهو والغفلة، ليتوصّل بذكائه الى وضوح ما أشكل، وحلّ ما أبهم وأعضل.
وأما الحرّيّة- فنقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره، ولأن الرّقّ لمّا منع من قبول الشهادة كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم وانعقاد الولاية. وكذلك الحكم فيمن لم تكمل حرّيته كالمدبّر والمكاتب [2] ومن رقّ بعضه.
ولا يمنع الرقّ من الفتيا والرواية.
وأما الإسلام- فلقوله عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
. وهو شرط فى قبول الشهادة. ولا يجوز أن يقلّد الكافر القضاء على المسلمين ولا على الكفار. ورأى أبو حنيفة جواز تقليده القضاء بين أهل دينه. وقد جرى العرف فى تقليد الكافر؛ وهو تقليد زعامة ورياسة لا تدخل تحته الأحكام والإلزام بقضائه، ولا يقبل الإمام قوله فيما حكم به بينهم. واذا امتنعوا من تحاكمهم إليه لم يجبروا عليه، وكان حكم الإسلام عليهم أنفذ.
وأما العدالة- فهى معتبرة فى كل ولاية. ومعناها أن يكون الرجل صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفا عن المحارم، متوقّيا للمآثم، بعيدا من الرّيب، مأمونا
__________
[1] لم يظهر الخظ فى الأصل الفتوغرافى، وهذه التكملة من كتاب الأحكام السلطانية.
[2] المدبر: العبد الذى يعلق سيده عتقه على موته بأن يقول له: أنت حر بعد موتى. والمكاتب:
العبد الذى يكاتب على نفسه بثمنه فاذا أدّاه عتق.(6/249)
فى حالتى الرضا والغضب، مستعملا لمروءة مثله فى دينه ودنياه. فإذا تكاملت هذه الأوصاف فيه، فهى العدالة التى تجوز بها شهادته وولايته. وإذا لم يكن كذلك فلا تسمع شهادته و [لا [1]] تنفّذ أحكامه.
وأما سلامة السمع والبصر- فليصحّ بها إثبات الحقوق، ويفرّق بها بين الطالب والمطلوب، ويميّز المقرّ من المنكر، ليظهر له الحق من الباطل، والمحقّ من المبطل.
وأما العلم بأحكام الشريعة- فالعلم بها يشتمل على معرفة أصولها وفروعها.
وأصول الأحكام فى الشرع أربعة:
أحدها- علمه بكتاب الله عز وجل على الوجه الذى يصح به معرفة ما تضمّنه من الأحكام ناسخا ومنسوخا، ومحكما ومتشابها، وعموما وخصوصا، ومجملا ومفسّرا.
والثانى- علمه بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله، وطرق مجيئها فى التواتر والآحاد، والصّحة والفساد، وما كان على سبب أو إطلاق.
والثالث- علمه بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه، ليتّبع الإجماع ويجتهد رأيه مع الاختلاف.
والرابع- علمه بالقياس الموجب لردّ الفروع المسكوت عنها الى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها، حتى يجد طريقا الى العلم بأحكام النوازل ويميّز الحقّ من الباطل.
فاذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة فى أحكام الشريعة، صار بها من أهل الاجتهاد فى الدين، وجاز له أن يفتى ويقضى. وإن أخلّ بها أو بشىء منها، خرج من أن
__________
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.(6/250)
يكون من أهل الاجتهاد، ولم يجز أن يفتى ولا أن يقضى. فان قلّد القضاء فحكم بصواب أو خطإ كان تقليده باطلا، وحكمه وإن وافق الصواب مردودا، وتوجّه الحرج عليه وعلى من قلّده. وجوّز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، ويستفتى فى أحكامه وقضاياه.
هذا معنى ما قاله أقضى القضاة أبو الحسن على الماوردىّ.
وقال الحسين الحليمىّ فى كتابه المترجم ب «المنهاج» : وينبغى للإمام ألّا يولّى الحكم بين الناس إلا من جمع إلى العلم السكينة والتثبّت، والى الفهم الصبر والحلم، وكان عدلا أمينا نزها عن المطاعم الدنيّة، ورعا عن المطامع الرديّة؛ شديدا قويّا فى ذات الله، متيقّظا متخوّفا من سخط الله؛ ليس بالنّكس الخوّار فلا يهاب، ولا المتعظّم الجبّار فلا ينتاب؛ لكن وسطا خيارا. ولا يدع الإمام مع ذلك أن يديم الفحص عن سيرته، والتعرّف بحالته وطريقته؛ ويقابل منه ما يجب تغييره بعاجل التغيير، وما يجب تقريره بأحسن التقرير؛ ويرزقه من بيت المال- إن لم يجد من يعمل بغير رزق- ما يعلم أنه يكفيه؛ ولا يقصّر به عن كفايته، فيتطّلع الى أموال الناس ويشتغل عن أمورهم بطرف من الاكتساب يجبر به ما نقصه الإمام من كفايته، فتختلّ بذلك القواعد. وإذا رزق [الإمام] القاضى فلا يصيب وراء ذلك من رعيّته شيئا، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من استعملناه على عمل من أعمالنا ورزقناه شيئا فما أصاب بعد ذلك- أو مما سوى ذلك- فهو سحت» . وإن أهدى إليه شىء، لم يكن له قبوله. فإن كان للمهدى قبله خصومة فأهدى ليحكم له أو لئلّا يحكم عليه، فهذا هو الرّشوة، وهو سحت. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّاشى والمرتشى والرائش؛ وهو الذى يمشى بينهما. وإن أهدى اليه المحكوم له بعد الحكم تشكّرا، لا يقبله؛ لأنّ ما فعل كان واجبا عليه.(6/251)
قال: ويقوّى الامام يده ويشدّ أزره، ويكفّ العمال وغيرهم عن معارضته ومزاحمته، ويأمرهم جميعا بطاعته، ولا يرخص لأحد منهم فى الامتناع عليه اذا دعاه، والخروج عن أحكامه إن أمره أو نهاه، فيما يتصل بالانقياد للحكم.
ويتوقّى أن يقال فى مجلسه: هذا حكم الله، وهذا حكم الديوان؛ فإن هذا من قائله إشراك بالله؛ إذ لا حكم إلا لله. قال الله عز وجل: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
وقال تعالى: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ
. وقال تعالى: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً
. وقال: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.
قال: وإن سمع بذلك واليه فأقرّه عليه كان مثله؛ قال الله عز وجل: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ
. فاذا كان هذا فى العقود معهم فكيف بإقرارهم والاستحسان لهم.
ذكر الألفاظ التى تنعقد بها ولاية القضاء، والشروط
قال الماوردىّ: وولاية القضاء تنعقد بما تنعقد به الولايات: من انعقادها مع الحضور باللفظ مشافهة، ومع الغيبة بمراسلة أو مكاتبة. لكن لا بدّ مع المكاتبة أن يقترن بها من شواهد الحال ما يدلّ عليها عند المولّى وأهل عمله.
والألفاظ التى تنعقد بها الولاية ضربان: صريح وكناية.
فالصريح أربعة ألفاظ وهى: قد وليّتك، وقلّدتك، واستخلفتك، واستنبتك.
فاذا أتى المولىّ بأحد هذه الألفاظ انعقدت الولاية بالقضاء وغيره من الولايات، ولا يحتاج مع هذا الصريح إلى قرينة أخرى، إلا أن يكون تأكيدا لا شرطا.(6/252)
وأما الكناية فهى سبعة ألفاظ. وهى: قد اعتمدت عليك، وعوّلت عليك، ورددت إليك، وجعلت إليك، وفوّضت اليك، ووكلت اليك، وأسندت اليك.
فهذه الألفاظ [لما تضمّنته من الاحتمال [1]] تضعف عن حكم الصريح حتى يقترن بها فى عقد الولاية ما ينفى عنها الاحتمال [2] وتصير فى حكم الصريح، مثل قوله: فانظر فيما وكلته اليك، واحكم فيما اعتمدت فيه عليك. فتصير الولاية بهذه القرينة مع ما تقدّم من الكناية منعقدة. ثم تمامها موقوف على قبول المولّى، فإن كان التقليد مشافهة فقبوله على الفور لفظا، وإن كان بمراسلة أو مكاتبة، جاز أن يكون على التراخى.
واختلف فى صحة القبول بالشروع فى النظر، فجوّزه بعضهم وجعله كالنطق، ومنعه آخرون حتى يكون نطقا؛ لأن الشروع فى النظر فرع لعقد الولاية، فلم ينعقد قبولها به.
فهذه الألفاظ التى تنعقد بها الولاية.
وأما شروطها فأربعة
أحدها- معرفة المولّى للمولّى أنه على الصفة التى [يجوز أن يولّى معها، فان لم يعلم أنه على الصفة التى [3]] تجوز معها تلك الولاية لم يصحّ تقليده؛ فلو عرفها بعد التقليد استأنفها، ولا يعوّل على ما تقدّمها.
والثانى- معرفة المولّى بما عليه المولّى من استحقاق تلك الولاية بصفاته التى يصير بها مستحقّا لها، وأنه قد تقلّدها وصار مستحقّا للاستنابة فيها. إلا أنّ هذا الشرط معتبر فى قبول المولّى وجواز نظره، وليس بشرط فى عقد تقليده وولايته، بخلاف الشرط المتقدّم. وليس يراعى فى هذه المعرفة المشاهدة بالنظر، وانما يراعى انتشارها بالخبر الشائع.
__________
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.
[2] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «حتى يقترن بها عقد الولاية فينفى عنها الاحتمال» .
[3] التكملة من الأحكام السلطانية.(6/253)
والثالث- ذكر ما تضمّنه التقليد من ولاية القضاء بصريح التسمية.
والرابع- ذكر تقليد البلد الذى عقدت الولاية عليه ليعرف به العمل الذى يستحقّ النظر فيه، ولا تصحّ الولاية مع الجهل به.
فاذا انعقد التقليد تمّت الولاية بهذه الشروط والألفاظ. واحتاج المولّى الى شرط زائد على شروط العقد، وهو إشاعة تقليده فى أهل عمله ليدعنوا بطاعته وينقادوا الى حكمه. وهو شرط فى لزوم الطاعة وليس بشرط فى نفوذ الحكم.
فاذا صحّت عقدا ولزوما بما وصفناه، صحّ فيها نظر المولّى والمولّى [كالوكالة، لأنهما معا استنابة. ولم يلزم المقام عليها من جهة المولّى ولا من جهة المولّى. وكان للمولّى عزله [1]] عنها متى شاء، وللمولّى عزل نفسه متى شاء؛ غير أنّ الأولى بالمولّى ألّا يعزله إلا بعذر، وألّا يعتزل المولّى إلا من عذر؛ لما فى الولاية من حقوق المسلمين. واذا عزل أو اعتزل وجب إظهار العزل كما وجب إظهار التقليد، حتى لا يقدم على إنفاذ حكم ولا يغترّ بالترافع اليه خصم. فإن حكم بعد العلم بعزله لم ينفذ حكمه، وإن حكم غير عالم بعزله كان فى نفوذ حكمه وجهان، كاختلافهما فى عقود التوكيل.
وحيث ذكرنا ما تصح به الولاية وتنعقد به من الألفاظ والشروط، فلنذكر ما يشتمل عليه النظر فى الأحكام.
ذكر ما يشتمل عليه نظر الحاكم المطلق التصرّف من الأحكام
قال الماوردىّ: اذا كانت ولاية القاضى عامّة وهو مطلق التصرّف فى جميع ما تضمّنته، فنظره يشتمل على عشرة أحكام:
__________
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.(6/254)
أحدها- فصل المنازعات وقطع التشاجر والخصومات، إمّا صلحا عن تراض يراعى فيه الجواز، أو إجبارا بحكم باتّ يعتبر فيه الوجوب.
والثانى- استيفاء الحقوق ممن امتنع من القيام بها وإيصالها الى مستحقّها من أحد وجهين: إقرار أو بينة. واختلف فى جواز حكمه فيها بعلمه، فجوّزه مالك والشافعىّ فى أصحّ قوليه؛ وقال أبو حنيفة: يجوز أن يحكم بعلمه فيما علمه فى ولايته، ولا يحكم بما علمه قبلها.
والثالث- ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرّف بجنون أو صغر، والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس، حفظا للأموال على مستحقّيها، وتصحيحا لأحكام العقود فيها.
والرابع- النظر فى الوقوف بحفظ أصولها وتثمير فروعها وقبض غلّتها وصرفها فى سبلها. فإن كان عليها مستحقّ للنظر فيها راعاه، وإن لم يكن تولّاه.
والخامس- تنفيذ الوصايا على شروط الموصى فيما أباحه الشرع ولم يحظره.
فان كانت لمعيّنين كان تنفيذها بالإقباض، وإن كانت فى موصوفين كان تنفيذها أن يتعيّن مستحقّوها بالاجتهاد ويملكوا بالإقباض. فان كان فيها وصىّ راعاه، وإن لم يكن تولّاه.
والسادس- تزويج الأيامى بالأكفاء اذا عدم الأولياء ودعين [1] الى النكاح.
ولم يجعله أبو حنيفة- رحمه الله- من حقوق ولاية القاضى، لتجويزه تفرّد الأيّم بعقد النكاح.
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية طبع مدينة «بن» وهو الذى يناسب المقام. وفى الأصل «ودعون ... » .(6/255)
والسابع- إقامة الحدود على مستحقّيها، فإن كان من حقوق الله تعالى تفرّد باستيفائه من غير طالب اذا ثبت بإقرار أو بيّنة؛ وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفا على طلب مستحقّه. وقال أبو حنيفة: لا يستوفيهما معا إلا بخصم مطالب.
والثامن- النظر فى مصالح عمله من الكفّ عن التّعدّى فى الطّرقات والأفنية، وإخراج ما لا يستحقّ من الأجنحة والأبنية؛ وله أن يتفرّد بالنظر فيها وإن لم يحضره خصم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له النظر فيها إلا بحضور خصم مستعد. وهى من حقوق الله تعالى التى يستوى فيها المستعدى والمستعدى إليه، فكان تفرّد الولاة بها أخصّ.
التاسع- تصفّح شهوده وأمنائه، واختيار النائبين عنه من خلفائه فى إقرارهم والتعويل عليهم مع ظهور السّلامة والاستقامة، وصرفهم والاستبدال بهم مع ظهور الجرح والخيانة [1] . ومن ضعف منهم عمّا يعانيه، كان مولّيه بين خيارين يأتى أصلحهما:
إما أن يستبدل به من هو أقوى منه وأكفى، وإما أن يضمّ اليه من يكون اجتماعهما عليه أنفذ وأمضى.
والعاشر- التسوية فى الحكم بين القوىّ والضعيف، والعدل فى القضاء بين المشروف والشريف؛ ولا يتّبع هواه فى تقصير بحق أو ممايلة لمبطل. قال الله تعالى:
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ.
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «والجناية» .(6/256)
وقد استوفى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فى عهده الى أبى موسى الأشعرىّ شروط القضاء وبيّن أحكام التقليد حين ولّاه القضاء، قال:
أما بعد، فإنّ القضاء فريضة محكمة وسنّة متّبعة. فافهم إذا أدلى اليك. [وأنفذ اذا تبيّن لك [1]] فإنه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له. وآس [2] بين الناس فى وجهك وعدلك ومجلسك، حتّى لا يطمع شريف فى حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر. والصّلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا.
ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن لرجع الى الحق؛ فإنّ الحق قديم، ومراجعة الحقّ خير من التّمادى فى الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج فى صدرك مما ليس فى كتاب ولا سنّة. ثم اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور بنظائرها. واجعل لمن ادّعى حقّا غائبا أو بيّنة أمدا ينتهى اليه؛ فإن أحضر بينة أخذت له بحقّه، وإلّا استحللت القضية عليه؛ فان ذلك أنفى للشكّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا فى حد، أو مجرّبا عليه شهادة زور، أو ظنينا فى ولاء أو نسب. فإن الله قد تولّى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان [3] ؛ وإياك والغلق [4] والضّجر والتأففّ بالخصوم، فإنّ استقرار الحق فى مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر. والسلام.
__________
[1] التكملة من صبح الأعشى (ج 10 ص 193 طبع المطبعة الأميرية بالقاهرة) .
[2] آس بين الناس: أى سوّ بينهم واجعل كل واحد منهم أسوة خصمه، أى حاله مثل حاله.
[3] كذا فى صبح الأعشى. وفى الأصل «فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان ورد البينات» . وفيه تحريف. وورد فى المصدر الذى نقل عنه الأصل وهو الأحكام السلطانية: «فإن الله عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات» . وفى البيان والتبيين للجاحظ (ج 2 ص 24 طبع مطبعة الفتوح الأدبية بمصر) : «فإن الله قد تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالشبهات» .
[4] الغلق: ضيق الصدر وقلة الصبر.(6/257)
ذكر ما يأتيه القاضى ويذره فى حقّ نفسه اذا دعى الى الولاية أو خطبها، وما يلزم الناس من امتثال أمره وطاعته، وما يعتمده فى أمر كاتبه وبطانته وأعوانه وجلوسه لفصل المحاكمات والأقضية
قال الحليمىّ: واذا دعا الإمام رجلا الى القضاء، فينبغى له أن ينظر فى حال نفسه وحال الناس الذين يدعى الى النظر فى مظالمهم. فإن وثق من نفسه بالاستقلال والكفاية والاقتدار على أداء الأمانة، وعلم أنه إن لم يقبل صار الأمر الى من لا يكون للمسلمين مثله، فأولى به أن يجيب الى ما يدعى اليه ويقبله ويحسن النية فى قبوله؛ ليكون عمله لوجه الله تعالى. وإن وجد من يقوم مقامه ويسدّ مسدّه فهو بالخيار؛ والتمسّك أفضل. فأمّا إن لم يعلم من نفسه الاستقلال، أو لم يأمن أن يكون منه سوء التمسّك وقلة التمالك، فلا ينبغى له أن يجيب. وهكذا إن كان هناك من هو خير منه علما وعقلا وخلقا. وإن عرض الأمر عليه فلا ينبغى له أن يتسارع الى ما يدعى اليه، لينظر ما الذى يكون من الآخر.
قال: واذا دعا الإمام رجلا الى عمل من أعماله، قضاء أو غيره، والرجل ممن يصلح له، فأبى، فإن وجد الإمام من يقوم مقامه فى ذلك أعفاه، وإن لم يجد من يقوم مقامه أجبره عليه اقتداء بعمر بن الخطّاب رضى الله عنه؛ فإنه دعا سعيد بن عامر الجمحىّ فقال: إنى مستعملك على أرض كذا وكذا؛ فقال: لا تفتنّى؛ فقال عمر: والله لا أدعك، قلّدتموها [1] عنقى وتتركونى! قال: واذا كان عند الرجل أنه يصلح للقضاء فأراد أن يطلبه، أو دعاه الإمام إليه فأراد أن يجيبه، فلا ينبغى له أن يبادر بما فى نفسه من طلب أو إجابة حتى يسأل
__________
[1] فى الأصل: «تقلدتموها» .(6/258)
أهل العلم والفضل والأمانة ممن خبره وعلم حاله، ويقول: إنى أريد القضاء، فما ترون فى أمرى؟ وهل تعرفون صلاحى لذلك أولا؟ فإن ذلك من المشورة التى أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بها، فقال تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.
وقد قدّمنا فى باب المشورة من فضيلتها ما فيه غنية عن تكراره.
قال: وإذا سأل عن نفسه فينبغى للمسئول أن ينصح له ويصدقه،
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ الدّين النّصيحة» قيل: لمن يا رسول الله؟ قال:
«لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم»
ولأن المستشار مؤتمن، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من غشّنا فليس منّا» .
واذا أراد تقلّد القضاء فليستخر الله تعالى ويسأله التوفيق والتسديد. فإذا تقلّد فينبغى أن يوكّل المتميّزين الثّقات الأمناء من إخوانه وأهل العناية بنفسه، ويسألهم أن يتفقّدوا أحواله وأموره، فإن رأوامنه عثرة نبّهوه عليها ليتداركها.
قال: وأيّما حاكم نصب بين ظهرانى قوم فينبغى لهم أن يسمعوا له ويطيعوا، ويترافعوا اليه اذا اختلفوا وتنازعوا، ليفصل بينهم؛ فإذا فصل انقادوا لفصله واستسلموا لحكمه. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
. وقال تعالى:
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ
. وذمّ الله تعالى قوما امتنعوا من الحكم فقال:
ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين(6/259)
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
قال: واذا ارتفع أحد الخصمين الى حاكم وسأله إحضار خصمه فدعاه الحاكم فعليه أن يجيبه؛ فإذا حضرا فلا يخرجا عن أمر الحاكم؛ فأيّهما خرج فهو عاص؛ فإنما يقضى الحاكم بحكم الله. وللحاكم أن يؤدّبه بما يؤدّيه اجتهاده. وأيّما حاكم أو وال دعا رجلا من رعيّته ولم يعلم لم يدعوه، فعليه إجابته؛ وإن علم أنه لدعوى رفعت عليه من مدّع، فإن كان ذلك المدّعى حضر مع رسول الحاكم فأرضاه، سقط عنه الذّهاب الى الحاكم، وإن كان لم يحضر [هو] ولا وكيل له، فليذهب ليجيب؛ ولا يسعه التخلّف مع ترك الدّفع إلا فى حالة واحدة وهى أن يكون المدّعى كاذبا وقد أعدّ شهودا زورا لا يقدر على دفع شهادتهم، فخشى إن حضر أقيمت الشهادة عليه فحبس وأخذ منه المال قهرا، أو يفرّق بينه وبين امرأته، فله أن يهرب أو يتوارى؛ فهذا موضع عذر وضرورة فلا يقاس عليه غيره. والله تعالى أعلم.
وأما كاتب القاضى وبطانته- قال الحليمىّ: وإذا افتتح القاضى عمله واحتاج الى أعوان يعملون له من كاتب وأصحاب مسائل وقاسم، فلا يتّخذنّ إلا كاتبا مسلما عدلا أمينا فطنا متيقّظا؛ لأنه بطانته ولا يغيب عنه من أمره وأمر المترافعين اليه شىء، وأمينه وأمين المتخاصمين على ما يثبته ويخطّه. ولا يجوز أن يكون من غير أهل الدين، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ.
وكذلك القاسم ينبغى أن يكون أمينا بصيرا بالفرائض والحساب، لأنّ القاسم شعبة(6/260)
من شعب الحكم، فينبغى أن يكون من يتولّاه فى العدالة والأمانة والعلم الذى يحتاج اليه كمن يتولّى جميع شعبه. وكذلك أصحاب المسائل هم أمناء القاضى على الشهادات التى تتعلّق بها حقوق المسلمين، فلا ينبغى أن يأمن عليها إلا المستحقّ لأن يؤتمن، ولا يثق فيها إلا بمن يستوجب بحسن أحواله الثقة به.
وينبغى للقاضى أن ينزّه نفسه ومن حوله ويشدّد عليهم ولا يرخّص لهم فى أمر ينقمه منهم أو يخشى أن يتطرّقوا به الى غيره ويرتقوا الى ما فوقه. وقد كان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شىء، جمع أهله فقال: إنى نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنّ الناس ينظرون اليكم نظر الطير الى اللحم النّىء، وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة.
قال: ولا ينبغى للإمام ولا القاضى أن يقدّم أقاربه على عامّة المسلمين، ولا يسوّغهم ما لا يسوّغ غيرهم، ولا ينظر لهم بما لا ينظر به لغيرهم، ولا يستعملهم ويولّيهم.
وأما ما يعتمده فى جلوسه- فقد قال الحليمىّ أيضا: واذا أراد الحاكم الجلوس للحكم فليجلس وهو فارغ القلب لا يهمّه إلا النظر فى أمور المتظلّمين. وإن تغيّرت حاله بغضب أو غمّ أو سرور مفرط أو وجع أو ملالة [1] أو اعتراء نوم أو جوع فليقم الى أن يزول ما به ويتمكّن من رأيه وعقله ثم يجلس.
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضى [2] القاضى بين اثنين وهو غضبان»
؛ وعنه
__________
[1] فى الأصل: «أو ملامة» .
[2] فى صحيح البخارى: «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان» .(6/261)
صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضى القاضى إلّا وهو شعبان ريّان»
. هكذا نقل الحليمىّ فى «منهاجه» ، وهذه سنّة السلف.
قال: والقاضى فى جلوسه بالخيار: إن شاء أن يخرج بالغداة اذا طلعت الشمس فيقضى حوائج الناس أوّلا فأوّلا حتى لا يزد حموا على بابه، فعل؛ وإن شاء أقام فى [1] بيته يتأهّب ويستعدّ بمطالعة بعض الكتب أو بالاجتهاد والتأمّل الى أن يجتمع الخصوم ثم يخرج، فعل. وينبغى أن يكون عند الحاكم من يحفظ نوب الناس فيقدّم الأوّل فالأوّل، ويجلسهم مجالسهم.
وإن رأى القاضى أن يحضر مجلسه درّة تطرح على أعين الناس لينتهوا بها فإن استوجب أحد من الخصوم تعزيرا أقيم عليه بها، فعل. روى عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أنّ درّته كانت تكون معه، وكذلك جماعة من قضاة السّلف رحمهم الله.
وأمّا فى عصرنا هذا فقد كان شيخنا الإمام العلّامة القدوة مفتى الفرق بقيّة المجتهدين تقىّ الدّين أبو الفتح محمد ابن الشيخ الإمام مجد الدّين أبى الحسين علىّ بن وهب ابن مطيع القشيرىّ المعروف بابن دقيق العيد- رحمه الله- منع نوّابه من أن يضربوا بالدّرّة فى أثناء ولايته قاضى القضاة بالديار المصريّة، وقال: إنه عار يلحق ولد الولد. وكان سبب منعه- رحمه الله ورضى عنه- لذلك أن بعض نوّابه بالأعمال عزّر بعض أعيان البلاد التى هو ينوب بها بالدرّة فى المسجد الجامع وقال له عقيب ضربه وإسقاطه: قد ألحقتك بأبيك وجدّك، وكانت هذه الحادثة فى سنة سبع وتسعين وسمائة أو ما يقاربها، ففارق ذلك الرجل بلاده ووطنه؛ فلما اتّصل الخبر بقاضى القضاة شقّ عليه ومنع نوّابه من الضرب بها.
__________
[1] كذا بالأصل، والمناسب «أن يقيم» بدل «أقام» ليست جواب الشرط بل هى متعلق المشيئة.(6/262)
نعود الى حال القاضى. قال: وينبغى للقاضى أن يعدل بين الخصمين من حين يقدمان عليه الى أن تنقضى خصومتهما فى مدخلهما عليه وجلوسهما عنده وقيامهما بين يديه، سواء كانا فاضلين فى أنفسهما أو ناقصين، أو أحدهما فاضلا والآخر ناقصا؛ لقوله عز وجل: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما
، ولما جاء
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ابتلى بالقضاء بين المسلمين [1] فليعدل بينهم فى لحظه ولفظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر»
. وفى رواية: «من ولى قضاء المسلمين فليعدل بينهم فى مجلسه وكلامه ولحظه»
. وفى رواية: «اذا ابتلى أحدكم بالقضاء [بين المسلمين [2]] فليسوّ بينهم فى المجلس والإشارة والنظر ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر»
. قال: واذا اختصم اثنان الى القاضى فينبغى أن يأمرهما بالاصطلاح.
وشروط القضاء كثيرة يعرفها العلماء، فلا حاجة الى الزيادة والإسهاب فى ذلك؛ وإنما أوردنا ما قدّمناه فى هذا الباب منها حتى لا يخلى كتابنا منه. ولنختم هذا الباب بما ورد من التزهيد فى القضاء.
ذكر شىء مما ورد من التزهيد فى تقلد القضاء والترغيب عنه
قد ورد فى تقلّد القضاء أحاديث وآثار تزهّد فيه، بل تكاد توجب الفرار منه:
من ذلك ما
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكّين»
؛ وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد حكم بين الناس إلّا جىء به يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقف به على شفير جهنّم فإن أمر به
__________
[1] كذا فى الجامع الصغير. وفى الأصل: «من ابتلى بالقضاء بالمسلمين» .
[2] سقطت هذه الكلمة فى الأصل سهوا من الناسخ.(6/263)
هوى به فى النار سبعين خريفا»
. وعن أبى ذرّ قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ستّة أيام: «اعقل أبا ذرّ ما أقول لك» فلما كان اليوم [1] السابع قال:
«أوصيك بتقوى الله فى سرّ أمرك وعلانيته واذا أسأت فأحسن ولا تسأل أحدا شيئا وإن سقط سوطك [2] ولا تؤمّن أمانة ولا تولّين يتامى ولا تقضين بين اثنين»
. وقال عثمان بن عفّان رضى الله عنه لابن عمر: اذهب فكن قاضيا؛ قال:
أو يعفينى أمير المؤمنين؟ قال: فإنى أعزم عليك؛ قال: لا تعجل علىّ؛ [قال: [3]] هل
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من عاذ بالله فقد عاذ معاذا»
. قال:
نعم، قال: فما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضى؟ قال:
إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان قاضيا يقضى بجور كان من أهل النار ومن كان قاضيا يقضى بجهل كان من أهل النار ومن كان قاضيا عالما يقضى بالعدل فبالحرى أن ينقلب كفافا»
فما أصنع بهذا!
وقال بعضهم: ذكرنا أمر القضاء عند عائشة رضى الله عنها، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بالقاضى العدل يوم القيامة فيلقى من شدّة الحساب ما يتمنّى أنه لم يقض بين اثنين فى تمرة قطّ»
. وقال صعصعة بن صوحان: خطبنا علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بذى قار وعليه عمامة سوداء فقال: يأيها الناس، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من وال ولا قاض إلّا يؤتى به يوم القيامة حتّى يوقف بين يدى الله تعالى على الصراط ثم ينشر الملك
__________
[1] كذا «فى مسند أحمد» (ج 5 ص 181 طبعة المطبعة الميمنية بمصر) . وفى الأصل: «ثم كان فى اليوم ... » .
[2] فى الأصل «وان سقط سقوطك» والتصويب عن «مسند أحمد» . ورواية آخر الحديث هنا تختلف عن رواية «مسند أحمد» بزيادة ونقص وتغيير فى بعض الكلمات. غير أن ما هنا من زيادة أو تغيير وارد متفرقا فى أحاديث أخرى لأبى ذر فى مسند أحمد.
[3] زيادة ترى أن الكلام يتوقف عليها.(6/264)
سيرته فيقرؤها على رءوس الأشهاد- الخلائق- فإن كان عادلا نجّاه الله بعدله وإن كان غير ذلك انتفض به الصراط انتفاضة صار بين كلّ عضو من أعضائه مسيرة مائة سنة ثم يتخرّق به الصراط فما يلتقى قعر جهنم إلّا بوجهه وحرّ جبينه»
. وجاء فى الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم مثل ذلك.
وفيما ذكرنا مقنع وغنية عن بسط الكلام فيه. فلنذكر ولاية المظالم.
الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى ولاية المظالم وهى نيابة دار العدل
وللناظر فيها شروط ذكرها الماوردىّ فقال: من شروط الناظر فى المظالم أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفّة، قليل الطّمع، كثير الورع؛ لأنه يحتاج فى نظره الى سطوة الحماة، وتثبّت القضاة، فاحتاج الى الجمع بين صفتى الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر فى الجهتين. فان كان ممن يملك الأمور العامّة، كالخلفاء أو ممن فوّض اليه الخلفاء النظر فى الأمور العامّة كالوزراء والأمراء، لم يحتج للنّظر فيها الى تقليد وتولية وكان له بعموم ولايته النظر فيها. وإن كان ممن لم يفوّض اليه عموم النظر، احتاج الى تقليد وتولية اذا اجتمعت فيه الشروط المتقدّمة. وهذا إنما يصحّ فيمن يجوز أن يختار لولاية العهد، أو لوزارة التفويض اذا كان نظره فى المصالح عامّا. فإن اقتصر على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه، وإمضاء ما قصرت يدهم عن إمضائه، جاز أن يكون دون هذه الرّتبة فى القدر والخطر، بعد ألّا يأخذه فى الحقّ لومة لائم، ولا يستشفّه الطمع الى الرّشوة.(6/265)
ذكر من نظر فى المظالم فى الجاهليّة والإسلام
والنظر فى المظالم قديم، كان الفرس يرون ذلك من قواعد الملك وقوانين العدل الذى لا يعمّ الصّلاح إلا بمراعاته، ولا يتمّ التناصف إلا بمباشرته؛ وكانوا ينتصبون لذلك بأنفسهم فى أيّام معلومة لا يمنع عنهم من يقصدهم فيها من ذوى الحاجات وأرباب الضرورات.
وسبب تمسكهم بذلك أنّ أصل قيام دولتهم ردّ المظالم. وذلك أن كيومرث أوّل ملوكهم- وقيل: إنه أوّل ملك ملّك من بنى آدم- كان سبب ملكه أنه لمّا كثر البغى فى الناس وأكل القوىّ الضعيف وفشا الظلم بينهم، اجتمع أكابرهم ورأوا أنه لا يقيم أمرهم إلا ملك يرجعون إليه، وملّكوه؛ على ما نورده- إن شاء الله- فى [فنّ] التاريخ فى أخبار ملوك الفرس.
وكانت قريش فى الجاهلية، حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت الرياسات وشاهدوا من التّغالب والتجاذب ما لم يكفّهم عنه سلطان قاهر، عقدوا بينهم حلفا على ردّ المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم. وكان سبب ذلك أنّ رجلا من اليمن من بنى زبيد قدم مكة معتمرا ومعه بضاعة، فاشتراها منه رجل من بنى سهم، قيل: إنه العاص بن وائل، فلواه بحقّه؛ فسأله ماله أو متاعه، فامتنع عليه؛ فقام على الحجر وأنشد بأعلى صوته:
يال قصىّ لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائى الدار والنّفر
وأشعث محرم لم تقض حرمته ... بين المقام [1] وبين الحجر والحجر
أقائم من بنى سهم بذمّتهم ... أو ذاهب فى ضلال مال معتمر
__________
[1] كذا فى الأغانى (ج 16 ص 64 طبع بولاق) وفى الأصل: «بين الاله ... » .(6/266)
وأن قيس بن شيبة [1] السلمى باع متاعا من [2] أبىّ بن خلف فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بنى جمح فلم يجره؛ فقال قيس:
يال قصىّ كيف هذا فى الحرم ... وحرمة البيت وأخلاق [3] الكرم
أظلم لا يمنع منّى من ظلم
فأجابه العبّاس بن مرداس:
إن كان جارك لم تنفعك [4] ذمّته ... وقد شربت بكأس الذّلّ أنفاسا
فأت البيوت وكن من أهلها صددا [5] ... لا تلق ناديهم فحشا ولا باسا
وثمّ كن [6] بفناء البيت معتصما ... تلق ابن حرب وتلق المرء عبّاسا
قرمى قريش وحلّا فى ذوائبها ... بالمجد والحزم ما عاشا وما ساسا
ساقى الحجيج، وهذا ياسر فلج [7] ... والمجد يورث أخماسا وأسداسا
فقام العبّاس وأبو سفيان حتى ردّا عليه ماله. واجتمعت بطون قريش فتحالفوا فى بيت عبد الله بن جدعان على ردّ المظالم بمكة، وألّا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا للمظلوم بحقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل النبوّة وهو ابن خمس وعشرين سنة، فعقدوا حلف الفضول؛
فقال رسول الله صلى الله عليه
__________
[1] كذا فى الأغانى والأحكام السلطانية، وفى الأصل. «قيس بن نشبة ... » .
[2] فى الأصل: «على أبىّ ... » ولكن بقية الكلام تقتضى أن يكون كما أثبتناه نقلا عن الأغانى.
[3] فى الأحكام السلطانية: «وأحلاف الكرم» .
[4] فى الأغانى: «لم تنفك ذمته ... » .
[5] صددا: قريبا.
[6] كذا فى الأغانى وفى الأصل «ولا تكن ... » وهو لا يستقيم به المعنى، وفى الأحكام السلطانية:
«ومن يكن ... » وآثرنا ما فى الأغانى، لمناسبة تاء الخطاب فى «تلق» كما ورد فى الأصل.
[7] الفلج بالفتح كالفالج: الفائز، ولعله حرك هاهنا للضرورة.(6/267)
وسلم ذاكرا للحال: «لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول أما لو دعيت اليه [فى الإسلام [1]] لأجبت وما أحبّ أنّ لى به حمر النّعم وأنّى نقضته وما يزيده الإسلام إلا شدّة»
. وقال بعض قريش فى هذا الحلف:
تيم بن مرة إن سألت وهاشم ... وزهرة الخير فى دار ابن جدعان
متحالفين على النّدى ما غرّدت ... ورقاء فى فنن من الأفنان [2]
فهذا كان أصل ذلك وسببه فى الجاهلية.
وأمّا فى الإسلام-
فقد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المظالم فى الشّرب الذى تنازعه الزّبير بن العوّام ورجل من الأنصار فى شراج [3] الحرّة فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقال: «اسق يا زبير ثم أرسل الى جارك» ، فقال له الأنصارىّ: أن كان ابن عمتك! فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
«اسق ثم احتبس حتى يرجع [4] الماء الى الجدر»
، فقال الزّبير: والله إنّ هذه الآية
__________
[1] زيادة من الكامل لابن الأثير ونهاية ابن الأثير وغيرهما، وفى الأغانى وكتاب «ما يعوّل عليه فى المضاف والمضاف اليه» (نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية رقم 78 أدب م) : «اليوم» .
[2] فى الأغانى: «ورقاء فى فنن من جزع كتمان» وسياق الأغانى للبيتين يدل على أنهما موضوعان من غير خبير بالشعر. قال: «قال وحدّثنى محمد بن الحسن عن عيسى بن يزيد بن دأب قال: أهل حلف الفضول: هاشم وزهرة وتيم، قال فقيل له: فهل لذلك شاهد من الشعر؟ قال نعم، قال أنشدنى بعض أهل العلم قول بعض الشعراء- ثم ذكر البيتين على ما ذكرنا من روايته فى البيت الثانى، ثم قال- فقيل له وأين كتمان؟ فقال: واد بنجران. فجاء ببيتين مضطربين مختلفى النصفين ... » .
[3] انشراج: جمع شرج بالفتح، وهو مسيل الماء من الحرة الى السهل.
[4] فى اللسان (مادة شرج) : « ... فقال يا زبير احبس الماء حتى يبلغ الجدر» .(6/268)
أنزلت فى ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ)
. وقد قيل فى هذا الحديث إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الزبير أوّلا الى الاقتصار على بعض حقّه على طريق التوسّط والصّلح، فلمّا لم يرض الأنصارىّ بذلك وقال ما قال، استوفى النبىّ صلى الله عليه وسلم للزبير حقّه. ويصحّح هذا القول ما جاء فى آخر الحديث:
«فاستوعى [1] له حقّه» يعنى للزبير.
ثم لم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة رضى الله عنهم أحد، وإنما كانت المنازعات تجرى بين الناس فيفصلها حكم القضاء. فإن تجوّز من جفاة الأعراب متجوّز، ثناه الوعظ إن تدبّره، وقاده العنف إن أبى وامتنع، فاقتصروا على حكم القضاء، لانقياد الناس اليه والتزامهم بأحكامه. ثم انتشر الأمر بعد ذلك وتجاهر الناس بالظلم والتغالب، ولم يكفّهم زواجر المواعظ، فاحتاجوا فى ردع [2] المتغلّبين وإنصاف المظلومين من الظالمين الى النظر فى المظالم؛ فكان أوّل من انفرد للمظالم وجعل لها يوما مخصوصا يجلس فيه للناس وينظر فى قصصهم ويتأمّلها عبد الملك ابن مروان، فكان اذا وقف فيها على مشكل ردّه الى قاضيه أبى إدريس الأودىّ فنفّذ فيها أحكامه، فكان عبد الملك هو الآمر وأبو إدريس هو المباشر. ثم زاد جور الولاة وظلم العتاة واغتصاب الأموال فى دولة بنى أميّة، الى أن أفضت الخلافة الى عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- فانتصب بنفسه للنظر فى المظالم، وراعى السنن العادلة، وردّ مظالم بنى أميّة على أهلها؛ فقيل له- وقد شدّد عليهم فيها وأغلظ-: إنا نخاف عليك، من ردّها، العواقب؛ فقال: كل ما أتقّيه وأخافه دون
__________
[1] استوعى له حقه: استوفاه له كله.
[2] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الاصل «الى ردّ المتغلبين» .(6/269)
يوم القيامة لا وقيته. ثم جلس لها جماعة من خلفاء الدولة العبّاسيّة، فكان أوّل من جلس منهم المهدىّ، ثم الهادى، ثم الرشيد، ثم المأمون؛ وآخر من جلس لها منهم المهتدى. ثم انتصب لذلك جماعة من ملوك الإسلام أرباب الدول المشهورة بأنفسهم وأقاموا لها نوّابا، ومنهم من بنى لها مكانا مخصوصا بها سمّاه «دار العدل» على ما نورد ذلك- إن شاء الله- فى فنّ التاريخ.
ذكر ما يحتاج اليه ولاة المظالم فى جلوسهم لها
ومن يجتمع عندهم ويحضر مجلسهم، وما يختص بنظرهم وتشمله ولايتهم قال الماوردىّ: فإذا نظر فى المظالم من انتدب لها جعل لنظره يوما معروفا يقصده فيه المتظلّمون، ويراجعه فيه المتنازعون؛ ليكون ما سواه من الأيام لما هو موكول اليه من السياسة والتدبير؛ إلا أن يكون من عمّال المظالم المتفرّدين بها، فيكون مندوبا للنظر فى جميع الأيام. وليكن سهل الحجاب، نزه الأصحاب.
ويستكمل مجلس نظره بحضور خمسة أصناف لا يستغنى عنهم، ولا ينتظم أمره إلا بهم؛ وهم الحماة والأعوان، لجذب القوىّ وتقويم الجرىء. والصنف الثّانى:
القضاة والحكّام، لاستعلام ما يثبت عندهم من الحقوق، ومعرفة ما يجرى فى مجالسهم بين الخصوم. والصنف الثالث: الفقهاء، ليرجع إليهم فيما أشكل، ويسألهم عما اشتبه وأعضل. والصنف الرابع: الكتّاب، ليثبتوا ما جرى بين الخصوم وما توجّه لهم أو عليهم من الحقوق. والصنف الخامس: الشهود، ليشهدهم على ما أوجبه من حقّ وأمضاه من حكم. فاذا استكمل مجلس المظالم بهذه الأصناف الخمسة، شرع حينئذ فى نظره.(6/270)
وأما ما يختص بنظر متولى المظالم وتشتمل عليه ولايته فعشرة أقسام:
الأوّل- النظر فى تعدّى الولاة على الرعيّة وأخذهم بالعسف فى السّيرة، فهذا من لوازم النظر فى المظالم، فيكون لسير الولاة متصفّحا، وعن أحوالهم مستكشفا، ليقوّيهم إن أنصفوا، ويكفّهم إن عسفوا.
والثانى- جور العمال فيما يجبونه من الأموال؛ فيرجع فيه الى القوانين العادلة فى الدواوين، فيحمل الناس عليها ويأخذ العمال بها. وينظر فيما استزادوه، فإن رفعوه الى بيت المال أمر بردّه، وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه منهم لأربابه.
والثالث- كتّاب الدواوين، لأنهم أمناء المسلمين على بيوت أموالهم فيما يستوفونه ويوفونه منها؛ فيتصفّح أحوال ما وكل اليهم، فإن عدلوا عن حق فى دخل أو خرج الى زيادة أو نقصان، أعاده الى قوانينه، وقابل على تجاوزه. وهذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج والى المظالم فى تصفّحها الى متظلّم.
والرابع- تظلّم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخيرها عنهم وإجحاف النّظّار بهم؛ فيرجع الى ديوانه فى فرض العطاء العادل فيجريهم عليه. وينظر فيما نقصوه أو منعوه، فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه لهم، وإن لم يأخذوه قضاه من بيت المال.
كتب بعض ولاة الأجناد الى المأمون أنّ الجند شغبوا ونهبوا. فكتب اليه:
لو عدلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا. وعزله عنهم وأدرّ عليهم أرزاقهم.(6/271)
والخامس- ردّ الغصوبات. وهى على ضربين: أحدها غصوب سلطانية قد تغلّب عليها ولاة الجور، كالأملاك المقبوضة عن أربابها، إما لرغبة فيها أو غير ذلك.
ويجوز أن يرجع فى ذلك عند تظلّمهم الى ديوان السلطنة، فإذا وجد فيه ذكر قبضها عن مالكها عمل بمقتضاه وأمر بردّها اليه، ولم يحتج فيه الى بيّنة تشهد به، وكان ما وجده فى الديوان كافيا، كالذى حكى عن عمر بن عبد العزيز أنّه خرج ذات يوم الى الصلاة فصادفه رجل ورد من اليمن متظلّما، فقال:
تدعون حيران مظلوما ببابكم ... فقد أتاكم بعيد الدار مظلوم
فقال له: وما ظلامتك؟ قال: غصبنى الوليد بن عبد الملك ضيعتى؛ فقال يا مزاحم ائتنى بدفتر الصّوافى؛ فوجد فيه: أصفى عبد الله الوليد بن عبد الملك ضيعة فلان؛ فقال: أخرجها من الدفتر، وليكتب بردّ ضيعته اليه ويطلق له ضعف نفقته.
والضرب الثانى، ما تغلّب عليه ذوو الأيدى القويّة وتصرّفوا فيه تصرّف الملّاك بالقهر والغلبة؛ فهذا موقوف على تظلّم أربابه. ولا ينتزع من غصّابه إلا بأحد أربعة أمور: إما باعتراف الغاصب وإقراره؛ وإما بعلم والى المظالم، فيجوز أن يحكم عليه بعلمه؛ وإما ببينة تشهد على الغاصب بغصبه أو تشهد للمغصوب منه بملكه؛ وإما بتظاهر الأخبار التى ينتفى عنها التواطؤ ولا تختلج فيها الشكوك؛ لأنه لمّا جاز للشهود أن يشهدوا فى الأملاك بتظاهر الأخبار، كان حكم ولاة المظالم بذلك أحقّ.
والسادس- مشارفة الوقوف. وهى ضربان: عامة وخاصة. فأما العامة فيبدأ بتصفّحها وإن لم يكن لها متظلّم، ليجريها على سبلها ويمضيها على شروطها واقفها اذا عرفها من أحد ثلاثة أوجه: إمّا من دواوين الحكّام المندوبين لحراستها، وإما من دواوين السّلطنة على ما جرى فيها من معاملة أو ثبت لها من ذكر وتسمية،(6/272)
وإما من كتب قديمة تقع فى النفس صحّتها وإن لم يشهد الشهوذ بها، لأنه ليس يتعيّن الخصم فيها، فكان الحكم فيها أوسع منه فى الوقوف الخاصّة.
وأما الوقوف الخاصة، فإنّ نظره فيها موقوف على تظلّم أهلها عند التنازع فيها، لوقوفها على خصوم متعيّنين. فيعمل عند التشاجر فيها على ما تثبت به الحقوق عند الحاكم، ولا يجوز أن يرجع فيها الى ديوان السلطنة ولا إلى ما يثبت من ذكرها فى الكتب القديمة إذا لم يشهد بها شهود معدّلون.
والسابع- تنفيذ ما وقف من أحكام القضاة، لضعفهم عن إنفاذه وعجزهم عن المحكوم عليه، لتعزّزه وقوّة يده أو علوّ قدره وعظم خطره، لكون [1] ناظر المظالم أقوى يدا وأنفذ أمرا، فينفّذ الحكم على ما يوجبه عليه الحاكم [2] بانتزاع ما فى يده، أو بإلزامه الخروج مما فى ذمّته.
والثامن- النظر فيما عجز عنه الناظرون فى الحسبة من المصالح العامّة كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه، والتعدّى فى طريق عجز عن منعه، [والتّحيفّ فى حقّ لم يقدر على ردّه [3]] ، فيأخذهم بحق الله تعالى فى ذلك، ويأمر بحملهم على موجبه [4] .
والتاسع- مراعاة العبادات الظاهرة كالجمع والأعياد والحجّ والجهاد من تقصير فيها أو إخلال بشروطها؛ فإنّ حقوق الله تعالى أولى أن تستوفى، وفروضه أحقّ أن تؤدّى.
__________
[1] فى الأصل: «ليكون ... » وفى الأحكام السلطانية: «فيكون ... » ، وظاهر أن ما أثبتناه هو المناسب للسياق.
[2] فى الأحكام السلطانية: «فينفذ الحكم على من توجه اليه بانتزاع ... » .
[3] زيادة عن الأحكام السلطانية.
[4] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل. «على واجبه» .(6/273)
والعاشر- النظر بين المتشاجرين، والحكم بين المتنازعين. ولا يخرج فى النظر بينهم عن موجب الحق ومقتضاه، ولا يسوغ أن يحكم بينهم بما لا يحكم به الحكّام والقضاة.
ذكر الفرق بين نظر ولاة المظالم ونظر القضاة
قال الماوردىّ: والفرق بين نظر المظالم ونظر القضاة من عشرة أوجه:
أحدها- أنّ لناظر [1] المظالم من فضل الهيبة وقوّة اليد ما ليس للقضاة بكف الخصوم عن التجاحد ومنع الظّلمة من التغالب والتجاذب.
والثانى- أنّ نظر المظالم يخرج من ضيق الوجوب الى سعة الجواز، فيكون الناظر فيه أفسح مجالا وأوسع مقالا.
والثالث- أنّه يستعمل من فضل الإرهاب وكشف الأسباب، بالآثار الدالّة أو شواهد الحال اللّائحة ما يضيق على الحكّام، فيصل به الى ظهور الحقّ، ومعرفة المبطل من المحقّ.
والرابع- أنه يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب، ويأخذ من بان عدوانه [2] بالتقويم والتهذيب.
والخامس- أنّ له من التأنّى فى ترداد الخصوم عند اشتباه أمورهم واستبهام حقوقهم، ليمعن فى الكشف عن أسبابهم وأحوالهم، ما ليس للحكّام، اذا سألهم أحد الخصمين فصل الحكم، فلا يسوغ أن يؤخّره الحاكم، ويسوغ أن يؤخّره متولّى المظالم.
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «لنظر المظالم ... » .
[2] فى الأصل: «من بان عداوته» وهو تحريف، والتصويب عن الأحكام السلطانية.(6/274)
والسادس- أنّ له ردّ الخصوم اذا أعضلوا [1] الى وساطة الأمناء، ليفصلوا التنازع بينهم صلحا عن تراض، وليس للقاضى ذلك إلا عن رضا الخصمين بالرّدّ.
والسابع- أنه يفسح فى ملازمة الخصمين اذا وضحت أمارات التجاحد، ويأذن فى إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفيل، لتنقاد الخصوم الى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب.
والثامن- أنه يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة فى شهادة المعدّلين.
والتاسع- أنه يجوز له إحلاف الشهود عند ارتيابه بهم اذا بذلوا أيمانهم طوعا، ويستكثر من عددهم، لتزول عنه الشّبهة وينتفى الارتياب، وليس ذلك للحاكم.
والعاشر- أنه يجوز له أن يبتدئ باستدعاء الشهود ويسألهم عما عندهم فى تنازع الخصوم؛ وعادة القضاة تكليف المدّعى إحضار بيّنة ولا يسمعونها إلا بعد مسألته.
فهذه عشرة أوجه يقع بها الفرق بين نظر المظالم ونظر القضاء فى التشاجر والتنازع؛ وهما فيما عداهما متساويان.
ذكر ما ينبغى أن يعتمده ولاة المظالم عند رفعها إليهم، وما يسلكونه من الأحكام فيها، وما ورد فى مثل ذلك من أخبارهم وأحكامهم فيما سلف من الزمان
قال الماوردىّ: لم تخل حال الدّعوى عند الترافع فيها إلى والى المظالم من ثلاثة أحوال: إمّا أن يقترن بها ما يقوّيها، أو يقترن بها ما يضعفها، أو تخلو من
__________
[1] أعضلوا: ضاقت عليه الحيل فيهم.(6/275)
الأمرين. فإن اقترن بها ما يقوّيها، فلما يقترن بها من القوّة ستّة أحوال تختلف بها قوّة الدّعوى على التدريج.
فأوّل أحوالها- أن يظهر معها كتاب فيه شهود معدّلون حضور. والذى يختص به نظر المظالم فى مثل هذه الدعوى شيئان. أحدهما: أن يبتدئ الناظر فيها باستدعاء الشهود للشهادة. والثانى: الإنكار على الجاحد بحسب حاله وشواهد أحواله. فاذا حضر الشهود، فإن كان الناظر فى المظالم ممن يجلّ قدره، كالخليفة أو وزير التفويض أو أمير الإقليم، راعى من أحوال المتنازعين ما تقتضيه السياسة: من مباشرته النّظر بينهما إن جلّ قدرهما، أو ردّ ذلك الى قاضيه بمشهد منه إن كانا متوسّطين، أو على بعد منه إن كانا خاملين.
حكى أنّ المأمون كان يجلس للمظالم فى يوم الأحد، فنهض ذات يوم من مجلسه فتلقّته امرأة فى ثياب رثّة، فقالت:
يا خير منتصف يهدى له الرّشد ... ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد [1] الملك أرملة ... عدا عليها فما تقوى به أسد
فابتزّ منها ضياعا بعد منعتها ... لمّا تفرّق عنها الأهل والولد
فأطرق المأمون يسيرا ثم رفع رأسه وقال:
من دون ما قلت عيل الصّبر والجلد ... وأقرح القلب هذا الحزن والكمد
هذا أوان صلاة الظّهر فانصرفى ... وأحضرى الخصم فى اليوم الذى أعد
المجلس السبت إن يقض الجلوس لنا ... أنصفك منه وإلّا المجلس الأحد
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية وفى الأصل: «عقيد الملك» وورد هذا البيت فى العقد الفريذ (ج 1 ص 12) هكذا:
تشكو اليك عميد القوم أرملة ... عدا عليها فلم يترك لها سبد(6/276)
فانصرفت، وحضرت فى يوم الأحد أوّل الناس؛ فقال لها المأمون: من خصمك؟
فقالت: القائم على رأسك العبّاس بن أمير المؤمنين؛ فقال المأمون لقاضيه يحيى ابن أكثم، وقيل بل قال لوزيره أحمد بن أبى خالد: أجلسها معه وانظر بينهما؛ فأجلسها معه ونظر بينهما بحضرة المأمون، فجعل كلامها يعلو، فزجرها بعض حجّابه؛ فقال المأمون: دعها فإنّ الحقّ أنطقها والباطل أخرسه. وأمر بردّ ضياعها اليها.
والحال الثانية فى قوّة الدعوى- أن يقترن بها كتاب فيه من الشهود المعدّلين من هو غائب. فالذى يختصّ بنظر المظالم فى مثل هذه الدّعوى أربعة أشياء [1] . أحدها:
إرهاب المدّعى عليه [فر [2]] بّما يعجّل من إقراره بقوّة الهيبة ما يغنى عن سماع البيّنة.
والثانى: التّقدّم [3] بإحضار الشّهود اذا عرف مكانهم ولم يدخل الضّرر الشاقّ عليهم.
والثالث: التقدّم بملازمة المدّعى عليه ثلاثا، ويجتهد رأيه فى الزيادة عليها بحسب الحال من قوّة الأمارة ودلائل الصحّة. والرابع: أن ينظر فى الدعوى، فإن كانت مالا فى الذمة كلّفه إقامة كفيل، وإن كانت عينا قائمة كالعقار، حجر عليه فيها حجرا لا يرفع به حكم يده، وردّ استغلالها الى أمين [4] يحفظه على مستحقّه منهما. فإن تطاولت المدّة ووقع اليأس من حضور الشهود، جاز لمتولّى المظالم أن يسأل المدّعى عليه عن دخول يده مع تجديد إرهابه، فإن أجاب بما يقطع التنازع أمضاه، وإلّا فصل بينهما بموجب الشّرع ومقتضاه.
__________
[1] وردت هذه الجملة فى الأصل هكذا: «فالدعوى تختص بنظر المظالم فى هذه الدعوى باربعة أشياء» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
[2] التكملة عن الأحكام السلطانية. وتوجد من الأحكام السلطانية نسخة أخرى، يشير اليها هامش النسخة التى بين أيدينا، بها ما بالأصل، فلعل المؤلف نقل عنها.
[3] تقدم إليه بكذا: أمره به.
[4] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل وفى نسخة أخرى من الأحكام السلطانية يشير اليها هامش النسخة التى بأيدينا «الى أمين الشهود» .(6/277)
والحال الثالثة فى قوّة الدعوى- أن يكون فى الكتاب المقترن بها شهود حضور لكنهم غير معدّلين عند الحاكم، فيتقدّم ناظر المظالم بإحضارهم وسبر أحوالهم؛ فإن كانوا من ذوى الهيئات وأهل الصّيانات، فالثقة بشهادتهم أقوى؛ وإن كانوا أرذالا فلا يعوّل عليهم لكن يقوّى إرهاب الخصم بهم؛ وإن كانوا أوساطا فيجوز له أن يستظهر بإحلافهم، إن رأى ذلك، قبل الشهادة أو بعدها. ثم هو فى سماع شهادة هذين الصّنفين بين ثلاثة أمور: إما أن يسمعها بنفسه فيحكم بها، وإما أن يردّ [الى [1]] القاضى سماعها ويؤدّيها القاضى اليه، وإما أن يردّ سماعها الى الشهود المعدّلين وهم يخبرونه بما وضح عندهم.
والحال الرابعة من قوّة الدعوى- أن يكون فى الكتاب المقترن بها شهود موتى معدّلون، فالذى يختصّ بنظر المظالم فيها ثلاثة أشياء. أحدها: إرهاب المدّعى عليه بما يضطرّه الى الصّدق والاعتراف [بالحق [2]] . والثانى: سؤاله عن دخول يده، لجواز أن يكون من جوابه ما يتّضح به الحقّ [3] . والثالث: أن يكشف عن الحال من جيران الملك ومن جيران المتنازعين فيه، ليتوصّل بهم الى وضوح الحقّ ومعرفة المحقّ. فإن لم يصل اليه بواحد من هذه الثلاثة، ردّها الى وساطة محتشم مطاع، له بهما معرفة وبما يتنازعانه خبرة. فإن حصل تصادقهما أو صلحهما بوساطته، وإلّا فصل الحكم بينهما على ما يوجبه حكم القضاء.
والحال الخامسة فى قوّة الدعوى- أن يكون مع المدّعى خطّ المدّعى عليه [بما تضمّنته الدعوى، فنظر المظالم فيه يقتضى سؤال المدّعى عليه [4]] عن الخطّ وأن
__________
[1] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[2] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[3] الجملة فى الأصل هكذا: «لجواز أن يكون جوابه بما يتضح به الحق» وعبارة الأحكام السلطانية التى أثبتناها أوضح.
[4] التكملة عن الأحكام السلطانية.(6/278)
يقال [1] له: هذا خطّك؟ فإن اعترف به، سئل بعد اعترافه به عن صحة ما تضمّنه، فإن اعترف بصحته، صار مقرّا وألزم حكم إقراره. وإن لم يعترف بصحته [فمن ولاة المظالم من حكم عليه بخطّه اذا اعترف به وإن لم يعترف بصحته [2]] ، وجعل ذلك من شواهد الحقوق اعتبارا بالعرف. والذى عليه محقّقوهم وما يراه الفقهاء أنه لا يجوز للناظر منهم أن يحكم بمجرّد الخطّ حتى يعترف بصحّة ما فيه؛ فإن قال: كتبته ليقرضنى وما أقرضنى، أو ليدفع إلىّ ثمن ما بعته وما دفع، فهذا مما قد يفعله الناس أحيانا.
فنظر المظالم فى مثله أن يستعمل الإرهاب بحسب الحال ثم يردّ الى الوساطة؛ فإن أفضت الى الصلح، وإلا بتّ الحاكم [3] بينهما بالتحالف.
وإن أنكر الخطّ، فمن ولاة المظالم من يختبر الخطّ بخطوطه التى يكتبها ويكلّفه من كثرة الكتابة ما يمنع من التصنّع فيها، ثم يجمع بين الخطين، فإذا تشابها حكم به عليه. والذى عليه المحقّقون منهم أنهم لا يفعلون ذلك للحكم به ولكن للإرهاب. [وتكون الشّبهة مع إنكاره للخط أضعف منها مع اعترافه به، وترتفع الشبهة إن كان الخط منافيا لخطه ويعود الإرهاب على المدّعى، ثم يردّان الى الوساطة [4]] فإن أفضت الى الصلح وإلّا بتّ القاضى [الحكم [5]] بينهما بالأيمان.
والحال السادسة من قوّة الدعوى- إظهار الحساب بما تضمّنته الدعوى، وهذا يكون فى المعاملات. ولا يخلو حال الحساب من أحد أمرين:
__________
[1] فى الأصل «يقول» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
[2] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[3] فى الأحكام السلطانية: «وإلا بت القاضى الحكم بينهما بالتحالف» .
[4] وردت هذه الجملة التى بين القوسين والتى نقلناها عن الأحكام السلطانية فى الأصل هكذا: «وترتفع الشبهة وإن كان منافيا فيعود الإرهاب على المدعى ثم يرد الى الوساطة» .
[5] التكملة عن الأحكام السلطانية.(6/279)
إمّا أن يكون حساب المدّعى أو المدّعى عليه. فإن كان حساب المدّعى فالشّبهة فيه أضعف. ونظر المظالم فى مثله أن يراعى نظم الحساب، فإن كان مخنلّا يحتمل فيه [1] الإدغال كان مطّرحا، وهو بضعف الدعوى أشبه منه بقوّتها. وإن كان نظمه متّسقا ونقله صحيحا، فالثقة به أقوى، فيقتضى من الإرهاب بحسب شواهده، ثم يردّان الى الوساطة، ثم الى الحكم الباتّ. وإن كان الحساب للمدّعى عليه، كانت الدعوى به أقوى، فلا يخلو أن يكون منسوبا الى خطه [أو خط كاتبه، فإن كان منسوبا الى خطه [2]] فلناظر المظالم أن يسأله عنه: أهو خطه؟ فإن اعترف به، قيل:
أتعلم ما هو؟ فإن أقرّ بمعرفته، قيل: أتعلم صحته؟ فإن أقرّ بصحته، صار بهذه الثلاثة مقرّا بمضمون الحساب، فيؤخذ بما فيه. وإن اعترف أنه خطّه وأنه يعلم ما فيه ولم يعترف بصحته، وجعل الثقة بهذا أقوى من الثقة بالخط المرسل، لأن الحساب لا يثبت فيه قبض ما لم يقبض [3] ، وقد تكتب الخطوط المرسلة بقبض. والذى عليه المحققون منهم- وهو قول الفقهاء- أنه لا يحكم عليه بالحساب الذى لم يعترف بصحته، لكن يقتضى من فضل الإرهاب به أكثر مما اقتضاه الخط المرسل.
ثم يردّان الى الوساطة ثم الى الحكم الباتّ.
وإن كان الخط منسوبا الى كاتبه، سئل المدّعى عليه قبل سؤال كاتبه، فإن اعترف بما فيه أخذ به، وإن لم يعترف، سئل عنه كاتبه وأرهب، فإن أنكره ضعفت
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «فان كان مما يحمل الإدغال ... » . والإدغال: من دغل فى الأمر: أدخل فيه ما يفسده ويخالفه.
[2] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[3] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «لأن الحساب لا يكتب قيض ولم يقبض» .(6/280)
الشّبهة [1] ، وإن اعترف بصحته صار شهادة على المدّعى عليه، فيحكم عليه بشهادته إن كان عدلا، ويقضى بالشاهد واليمين. فهذه حال الدعوى إذا اقترن بها ما يقوّيها.
وأما إن اقترن بالدعوى ما يضعفها- فلما اقترن بها من الضعف ستة أحوال تنافى أحوال القوّة، فينقل الإرهاب بها من جنبة المدّعى عليه الى جنبة المدّعى.
فالحال الأولى- أن يقابل الدعوى بكتاب شهوده حضور معدّلون يشهدون بما يوجب بطلان الدعوى، وذلك من أربعة أوجه. أحدها: أن يشهدوا على المدّعى ببيع ما ادّعاه. والثانى: أن يشهدوا على إقرار الذى انتقل الملك عنه للمدّعى قبل إقراره له [2] . والثالث: أن يشهدوا على المدّعى [3] أنه لا حقّ له فيما ادّعاه. والرابع: أن يشهدوا للمدّعى عليه بأنه مالك لما ادّعاه عليه. فتبطل دعواه بهذه الشهادة، ويؤدّبه متولّى المظالم بحسب حاله. فإن ذكر أنّ الشهادة عليه بابتياع كانت على سبيل الرهن؛ فهذا قد يفعله الناس أحيانا ويسمّونه بينهم بيع الأمانة [4] ؛ ويقتضى ذلك الإرهاب
__________
[1] عبارة الأحكام السلطانية فى هذه المسألة وردت هكذا: «وان لم يعترف يسأل عنه كاتبه، فان أنكره ضعفت الشبهة بإنكاره، وأرهب إن كان متهما ولم يرهب إن كان مأمونا. وإن اعترف به وبصحته ... » .
[2] ما ذكره المؤلف هاهنا منقول عن نسخة من الأحكام السلطانية يشير اليها هامش النسخة المطبوعة فى مدينة «بن» وبين النسختين اختلاف فى الترتيب وبعض الكلمات. وقد ذكر الوجه الثانى هنا فى الأحكام السلطانية هكذا «والثالث أن يشهدوا على اقرار أبيه الذى ذكر انتقال الملك عنه أن لا حق له فيما ادعاه» .
[3] فى الأحكام السلطانية: «أن يشهدوا على إقراره (المدعى) بأن لا حق له ... » .
[4] اختصار المؤلف هنا جعل الكلام غير واضح الارتباط. وعبارة الأحكام السلطانية- على ما فيها من مخالفة فى بعض الكلمات لما فى الأصل، وقد يكون ما فى الأصل هو الصواب- وردت هكذا:
«فان ذكر أن الشهادة عليه بالابتياع كانت على سبيل رهب وإلجاء، وهذا قد يفعله الناس أحيانا، فينظر فى كتاب الابتياع: فان ذكر فيه أنه من غير رهب ولا إلجاء ضعفت شبهة هذه الدعوى، وإن لم يذكر ذلك فيه قويت شبهة الدعوى، وكان الارهاب فى الجهتين بمقتضى شواهد الحالين» .(6/281)
فى الجهتين. ويرجع الى الكشف من الجيرة؛ فإن ظهر له ما يوجب العدول عن ظاهر الكتاب عمل بمقتضاه، وإن لم يتبيّن وأبهم الأمر أمضى الحكم بما شهد به شهود الابتياع. فإن سأل [1] إحلاف المدّعى عليه أن ابتياعه كان حقّا ولم يكن على سبيل الرهن، فقد اختلف الفقهاء فى جواز إحلافه: فمنهم من أجازه ومنهم من منعه.
ولوالى المظالم أن يعمل من القولين بما تقتضيه شواهد الحال. وكذلك لو كانت الدعوى بدين فى الذمّة فأظهر المدّعى [عليه [2]] كتاب براءة [منه، فذكر المدّعى أنه أشهد على نفسه [3]] قبل القبض ولم يقبض، كان إحلاف المدّعى عليه على ما تقدّم ذكره.
والحال الثانية- أن يكون شهود الكتاب عدولا غيّبا، فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يتضمّن إنكاره اعترافا بالسبب كقوله: لا حقّ له فى هذا الملك، لأنى ابتعته منه ودفعت اليه الثمن، وهذا كتاب عهدتى بالإشهاد عليه. فيصير المدّعى عليه مدّعيا. وله [زيادة [4]] يد وتصرّف، فتكون الأمارة أقوى وشاهد الحال أظهر، [فإن لم يثبت بها الملك [5]] فيرهبهما والى المظالم بحسب ما تقتضيه شواهد أحوالهما. ويأمر بإحضار الشهود إن أمكن، ويضرب لحضورهم أجلا يردّهما فيه إلى الوساطة، فإن أفضت الى صلح عن تراض، استقرّ به الحكم وعدل عن سماع الشهادة إن حضرت.
وإن لم ينبرم بينهما الصلح، أمعن فى الكشف من جيرانهما وجيران الملك. وكان لمتولّى نظر المظالم رأيه، فى زمن الكشف، فى خصلة من ثلاث، على ما يؤدّى اليه اجتهاده بحسب الأمارات وشواهد الأحوال: إمّا أن يرى انتزاع الضّيعة من يد المدّعى عليه ويسلّمها الى المدّعى الى أن تقوم البيّنة عليه بالبيع؛ وإما أن يسلّمها الى أمين تكون فى يده ويحفظ استغلالها على مستحقّه؛ وإما أن يقرّها فى يد المدّعى عليه
__________
[1] ظاهر أن مرجع الضمير هاهنا المدعى.
[2] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[3] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[4] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[5] التكملة عن الأحكام السلطانية.(6/282)
ويحجر عليه فيها وينصب أمينا لحفظ استغلالها. فإن وقع الإياس من حضور الشهود وظهور الحقّ بالكشف، فصل الحكم بينهما على ما تقتضيه أحكام القضاء.
فلو سأل المدّعى عليه إحلاف المدّعى، أحلفه له، وكان ذلك بتّا للحكم بينهما.
والضرب الثانى: أن [لا [1]] يتضمّن إنكاره اعترافا بالسبب ويقول: هذا الملك أو الضيعة لا حق له فيها. وتكون شهادة الكتاب على المدّعى على أحد وجهين:
إما على إقراره أنه لا حق له فيها، وإما على إقراره أنها ملك للمدّعى عليه؛ فالضّيعة مقرّة فى يد المدّعى عليه لا يجوز انتزاعها منه. فأمّا الحجر عليه فيها وحفظ استغلالها مدّة الكشف والوساطة فمعتبر بشواهد الحال واجتهاد والى المظالم فيما يراه بينهما، الى أن يثبت الحقّ لأحدهما.
والحال الثالثة- أنّ شهود الكتاب المقابل لهذه الدعوى حضور غير معدّلين، فيراعى والى المظالم فيهم ما قدّمناه فى جنبة المدّعى من أحوالهم الثلاث، ويراعى حال إنكاره هل تضمّن اعترافا بالسبب أم لا؛ فيعمل [والى المظالم فى ذلك [2] ب] ما قدّمناه، تعويلا على اجتهاد رأيه فى شواهد الأحوال.
والحال الرابعة- أن يكون شهود الكتاب موتى معدّلين، فليس يتعلّق به حكم إلا فى الإرهاب المجرّد، ثم يعمل فى بتّ الحكم على ما تضمّنه الإنكار من الاعتراف بالسبب أم لا.
والحال الخامسة- أن يقابل المدّعى عليه بخط المدّعى بما يوجب [3] إكذابه فى الدعوى، فيعمل فيه بما قدّمناه فى ذلك. وكذلك أيضا فى الحال السادسة من إظهار الحساب، فالعمل فيه على ما قدّمناه.
__________
[1] زيادة من الأحكام السلطانية.
[2] زيادة من الأحكام السلطانية.
[3] فى الأصل «بما وجب ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.(6/283)
وأما إن تجرّدت الدعوى من أسباب القوّة والضعف، فلم يقترن بها ما يقوّيها ولا ما يضعفها، فنظر والى المظالم فى ذلك أن يراعى أحوال المتنازعين فى غلبة الظن. ولا يخلو حالهما فيه من ثلاثة أحوال. أحدها: أن تكون غلبته فى جنبة المدّعى.
والثانى: أن تكون فى جنبة المدّعى عليه. والثالث: أن يعتدلا فيه. فإن كانت غلبة الظن فى جنبة المدّعى وكانت الرّيبة متوجّهة الى المدّعى عليه، فقد تكون من ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون المدّعى مع خلوّه من حجّة مضعوف اليد مستلان الجانب والمدّعى عليه ذا بأس وقدرة. فاذا ادّعى عليه غصب ملك أو ضيعة، غلب فى الظنّ أنّ مثله مع لينه واستضعافه لا يتجوّز فى دعواه على من كان ذا بأس وسطوة. والثانى:
أن يكون ممن اشتهر بالصدق والأمانة والمدّعى عليه ممن اشتهر بالكذب والخيانة، فيغلب [فى الظن [1]] صدق المدّعى فى دعواه. والثالث: أن تتساوى أحوالهما، غير أنه عرف للمدّعى يد متقدّمة وليس يعرف لدخول يد المدّعى عليه سبب، فالذى يقتضيه نظر المظالم فى هذه الأحوال شيئان. أحدهما: إرهاب المدّعى عليه لتوجّه الريبة. والثانى: سؤاله عن سبب دخول يده وحدوث ملكه.
وأما إن كانت غلبة الظنّ فى جنبة المدّعى عليه بانعكاس ما قدّمناه وانتقاله من جانب المدّعى الى المدّعى عليه، فمذهب مالك- رحمه الله- أنه إن كانت دعواه فى مثل هذه الحال لعين قائمة، لم يسمعها إلا بعد ذكر السبب الموجب لها، وإن كانت فى مال فى الذمة، لم يسمعها إلا أن تقوم البيّنة للمدّعى أنه كان بينه وبين المدّعى عليه معاملة. والشافعىّ وأبو حنيفة- رحمهما الله- لا يريان ذلك [2] . ونظر المظالم
__________
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.
[2] فى الأحكام السلطانية «والشافعىّ وأبو حنيفة رضى الله عنهما لا يريان ذلك فى حكم القضاة، فاما نظر الظالم الموضوع على الأصلح فعلى الجائز دون الواجب فيسوغ فيه مثل ... » .(6/284)
موضوع على فعل الجائز دون الواجب، فيسوغ فيه مثل هذا عند ظهور الريبة.
فان وقف الأمر على التحالف فهو غاية الحكم الباتّ الذى لا يجوز دفع طالب عنه فى نظر القضاء ولا نظر المظالم. فإن فرّق المدّعى دعاويه وأراد أن يحلف المدّعى عليه فى كل مجلس على بعضها قصدا لإعناته وبذلته، فالذى يوجبه حكم القضاء ألّا يمنع من تبعيض الدعاوى وتفريق الأيمان، والذى ينتجه نظر المظالم أن يؤمر المدّعى بجمع دعاويه عند ظهور الإعنات منه وإحلاف الخصم على جميعها يمينا واحدة.
فأمّا اذا اعتدلت حالة المتنازعين وتقابلت شبهة [1] المتشاجرين ولم يترجح أحدهما بأمارة ولا ظنّة، فينبغى أن يساوى بينهما فى العظة؛ وهذا مما يتّفق عليه القضاة وولاة المظالم. ثم يختصّ ولاة المظالم، بعد العظة، بالإرهاب لهما معا لتساويهما، ثم بالكشف عن أصل الدعوى وانتقال الملك. فإن ظهر بالكشف ما يعرف به المحقّ منهما من المبطل عمل بمقتضاه، وإن لم يظهر بالكشف ما ينفصل به تنازعهما ردّهما الى وساطة من وجوه الجيران وأكابر العشائر؛ فان تحرّر [2] ما بينهما، وإلا كان فصل القضاء بينهما هو خاتمة أمرهما.
وربما ترافع [3] الى ولاة المظالم فى غوامض الأحكام ومشكلات الخصام ما يرشده اليه الجلساء ويفتحه [4] عليه العلماء، فلا ينكر عليهم الابتداء به؛ ولا بأس بردّ الحكم فيه الى من يعلمه منهم.
__________
[1] فى الأحكام السلطانية: «بينة المتشاجرين ... » .
[2] فى الأحكام السلطانية: «فإن نجز بها ما بينهما» .
[3] كذا فى الأصل والأحكام السلطانية، ولعلها «رفع» .
[4] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل، «ويقبحه ... » وهو تحريف.(6/285)
فقد حكى أنّ امرأة أتت عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجى يصوم النهار ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله؛ فقال لها عمر: نعم الزوج زوجك! فجعلت تكرّر عليه القول، وهو يكرّر عليها الجواب؛ فقال له كعب بن سور الأزدىّ [1] : يا أمير المؤمنين، هذه امرأة تشكو زوجها فى مباعدته إياها عن فراشه؛ فقال له عمر رضى الله عنه: كما فهمت كلامها فاقض بينهما؛ فقال كعب: علىّ بزوجها، فأتى به؛ فقال له: امرأتك هذه تشكوك؛ فقال الزوج:
أفى طعام أو شراب؟ قال كعب: لا فى واحد منهما؛ فقالت المرأة:
يأيّها القاضى الحكيم أرشده ... ألهى حليلى عن فراشى مسجده
زهّده فى مضجعى تعبّده ... نهاره وليله ما يرقده
فلست من أمر النّساء أحمده ... فاقض القضا يا كعب لا تردّده
فقال الزوج:
زهّدنى فى قربها وفى الحجل ... أنّى امرؤ أذهلنى ما قد نزل
فى سورة النّحل وفى السّبع الطّول ... وفى كتاب الله تخويف جلل
فقال كعب:
إنّ لها حقّا عليك يا رجل ... نصيبها فى أربع لمن عقل
فأعطها ذاك ودع عنك العلل
ثم قال: إنّ الله سبحانه وتعالى قد أحلّ لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيّام ولياليهنّ تعبد فيهن ربّك، ولها يوم وليلة. فقال عمر رضى الله عنه
__________
[1] كذا فى الكامل لابن الأثير (ج 2 ص 440 طبع مدينه ليدن) والطبرى فى غير موضع (طبع ليدن أيضا) والكامل للمبرد (طبع ليبسج) . وفى الأصل: «كعب بن سور الأسدى» .(6/286)
لكعب: ما أدرى من أى أمريك أعجب! أمن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما! [اذهب [1]] فقد ولّيتك القضاء بالبصرة. وهذا القضاء من كعب والإمضاء من عمر إنما كان حكما بالجائز دون الواجب؛ لأن الزوج لا يلزمه أن يقسم للزوجة الواحدة ولا يجيبها الى الفراش اذا أصابها دفعة واحدة. فدلّ هذا على أن لوالى المظالم أن يحكم بالجائز دون الواجب.
ذكر توقيعات متولى المظالم وما يترتّب عليها من الأحكام
قال الماوردىّ: اذا وقّع ناظر المظالم فى قصص المتظلّمين اليه بالنظر بينهم، لم يخل حال الموقّع اليه من أحد أمرين: إما أن يكون واليا على ما وقّع به اليه أو غير وال عليه. فان كان واليا عليه، كتوقيعه الى القاضى بالنظر بينهما، فلا يخلو حال ما تضمّنه التوقيع من أحد أمرين: إمّا أن يكون إذنا بالحكم، أو إذنا بالكشف والوساطة. فإن كان إذنا بالحكم، جاز له الحكم بينهما بأصل الولاية، ويكون التوقيع تأكيدا لا يؤثّر فيه قصور معانيه. وإن كان إذنا بالكشف للصّورة أو التوسّط بين الخصمين [فإن كان فى التوقيع بذلك نهيه عن الحكم فيه لم يكن له أن يحكم بينهما [2]] وكان هذا النهى عزلا عن الحكم بينهما، وكان على عموم ولايته فيمن عداهما [3] . وإن لم ينهه فى التوقيع عن الحكم بينهما غير أنّه أمره بالكشف، فقد قيل: يكون نظره [4] على عمومه فى جواز حكمه بينهما؛ لأن أمره ببعض ما اليه لا يكون منعا من غيره؛
__________
[1] زيادة عن الأحكام السلطانية.
[2] وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى الأصل هكذا: «فقد نهاه عن الحكم فيه ولم يكن له أن يحكم بينهما» وهو لا يستقيم مع سياق الكلام. وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
[3] فى الأصل: «فيما عداهما» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
[4] فى الأصل: «يكون وطره ... » وهو تحريف، والتصويب عن الأحكام السلطانية.(6/287)
وقيل بل يكون ممنوعا من الحكم بينهما مقصورا على ما تضمّنه التوقيع من الكشف والوساطة؛ لأنّ فحوى التّوقيع دليل عليه. ثم ينظر، فإن كان التوقيع بالوساطة، لم يلزمه إنهاء الحال اليه بعد الوساطة، وإن كان بكشف الصورة، لزمه إنهاء حالها اليه؛ لأنه استخبار منه فيلزمه إجابته عنه. فهذا حكم توقيعه الى من اليه الولاية.
وأما إن وقع الى من لا ولاية له، كتوقيعه الى فقيه أو شاهد، فلا يخلو حال توقيعه من ثلاثة أحوال: أحدها أن [يكون بكشف الصورة، والثانى أن يكون بالوساطة، والثالث أن يكون بالحكم. فإن كان التوقيع [1]] بكشف الصورة، فعليه أن يكشفها وينهى منها ما يصحّ أن يشهد به، ليجوز لناظر المظالم الحكم به. فإن أنهى ما يجوز أن يشهد به، كان خبرا لا يجوز أن يحكم به، ولكن يجعله ناظر المظالم من الأمارات التى يغلّب بها [حال [2]] أحد الخصمين فى الإرهاب وفضل الكشف.
فإن كان التوقيع بالوساطة، توسّط بينهما. فإن أفضت الوساطة الى صلح الخصمين لم يلزمه إنهاؤها، وكان شاهدا فيها، متى استدعى للشهادة أدّاها. وإن لم تفص الوساطة الى صلحهما، كان شاهدا عليهما فيما اعترفا به عنده، يؤدّيه الى الناظر فى المظالم اذا طلب للشّهادة.
وإن كان التوقيع بالحكم بينهما، فهذه ولاية يراعى فيها معانى التوقيع، ليكون نظره محمولا على موجبه. واذا كان كذلك فللتوقيع حالتان:
إحداهما- أن يحال فيه الى إجابة الخصم الى ملتمسه، فيعتبر حينئذ فيه ما سأل الخصم فى قصّته ويصير النظر مقصورا عليه، فان سأل الوساطة أو كشف الصورة، كان التوقيع [موجبا له، وكان النظر مقصورا عليه. وسواء خرج التوقيع [3]]
__________
[1] عن الأحكام السلطانية.
[2] عن الأحكام السلطانية.
[3] عن الأحكام السلطانية.(6/288)
مخرج الأمر كقوله: «أجبه الى ملتمسه» ، أو خرج مخرج الحكاية كقوله: «رأيك فى إجابته الى ملتمسه موفّقا» ؛ لأنه لا يقتضى ولاية يلزم حكمها، فكان [1] أمرها أخف.
وإن سأل المتظلّم فى قصته الحكم بينهما، فلا بدّ أن يكون الخصم فى القصّة مسمّى والخصومة مذكورة، لتصحّ الولاية عليها. فإن لم يسمّ الخصم ولم تذكر الخصومة، لم تصح [الولاية [2]] ، لأنها ليست ولاية عامّة فيحمل على عمومها [3] ، ولا خاصة للجهل بها. وإن سمّى رافع القصّة خصمه وذكر خصومته، نظر فى التوقيع بإجابته الى ملتمسه: فإن خرج مخرج الأمر فوقّع «أجبه الى ملتمسه واعمل بما التمسه» صحّت ولايته فى الحكم بينهما، وإن خرج مخرج الحكاية للحال فوقّع «رأيك فى إجابته الى ملتمسه موفّقا» ، فهذا التوقيع خارج فى الأعمال السّلطانية مخرج الأمر، والعرف باستعماله فيها معتاد. وأمّا فى الأحكام الدينيّة، فقد جوّزته طائفة من الفقهاء اعتبارا بالعرف، ومنعت طائفة أخرى من جوازه وانعقاد الولاية به حتى يقترن به أمر تنعقد ولايته به [4] ، اعتبارا بمعانى الألفاظ. فلو كان رافع القصّة سأل التوقيع بالحكم بينهما فوقّع بإجابته الى ملتمسه، فمن يعتبر العرف المعتاد، صحّت الولاية [عنده [5]] بهذا التوقيع، ومن اعتبر معانى الألفاظ لم تصحّ [عنده [6]] به.
والحالة الثانية من التوقيعات- ألّا [7] يقتصر فيه على إجابة الخصم الى ما سأل، ويستأنف فيه الأمر بما تضمنه، فيصير ما تضمنه التوقيع هو المعتبر فى الولاية.
__________
[1] فى الأصل: «وكان ... » ولكن حسن السياق يقتضى ما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
[2] الزيادة عن الأحكام السلطانية.
[3] فى الأصل «فيحتمل عمومها» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
[4] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «حتى يقترن به أمر ينعقد بولايته» .
[5] زيادة وضعناها لاستقامة الكلام.
[6] زيادة وضعناها لاستقامة الكلام.
[7] فى الأصل: «ان لم ... » .(6/289)
وإذا كان كذلك، فله ثلاثة أحوال: حال كمال، وحال جواز، وحال يخرج عن الأمرين.
فأما الحال التى يكون التوقيع فيها كاملا فى صحة الولاية، فهو أن يتضمّن شيئين:
أحدهما الأمر بالنظر، والثانى الأمر بالحكم، فيذكر فيه: «انظر بين رافع هذه القصّة وبين خصمه، واحكم بينهما بالحقّ وموجب الشرع» . [فاذا كانت كذلك [1]] جاز، لأن الحكم لا يكون إلا بالحقّ الذى يوجبه حكم الشرع. وإنما يذكر ذلك فى التوقيعات وصفا لا شرطا. فإن كان التوقيع جامعا لهذين الأمرين من النظر والحكم، فهو النظر الكامل، ويصحّ به التقليد والولاية.
وأمّا الحال التى يكون بها التوقيع جائزا مع قصوره عن حال الكمال، فهو أن يتضمّن الأمر بالحكم دون النّظر، فيذكر فى توقيعه: «احكم بين رافع هذه [القصّة [2]] وبين خصمه» ، أو يقول: «اقض بينهما» ، فتصحّ الولاية بذلك؛ لأن الحكم بينهما لا يكون الا بعد تقدّم النّظر، فصار الأمر به متضمّنا للنظر، لأنه لا يخلو منه.
وأمّا الحال التى يكون التوقيع بها خاليا من كمال وجواز، فهو أن يذكر فيه: «انظر بينهما» ؛ فلا تنعقد بهذا التوقيع ولاية، لأن النظر بينهما قد يحتمل الوساطة الجائزة ويحتمل الحكم اللازم؛ وهما فى الاحتمال سواء، فلم تنعقد به مع الاحتمال ولاية. فإن ذكر فيه: «انظر بينهما بالحق» فقد قيل: إنّ الولاية به منعقدة، لأنّ الحق مالزم؛ وقيل لا تنعقد به، لأن الصلح والوساطة حقّ وإن لم يلزم.
فهذه نبذة كافية فيما يتعلّق بنظر المظالم. وقد يقع لهم من الوقائع والمخاصمات والقرائن ما لم نذكره، فيجرى الحال فيها بحسب الوقائع والقرائن؛ وانما هذه أصول سياسية وقواعد فقهيّة فيحمل الأمر من أشباهها على منوالها، ويحذى فى أمثالها على مثالها. والله الموفّق.
__________
[1] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[2] التكملة عن الأحكام السلطانية.(6/290)
الباب الثالث عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى نظر الحسبة وأحكامها
قال أبو الحسن الماوردىّ- رحمه الله-: والحسبة هى أمر بالمعروف اذا ظهر تركه، ونهى عن المنكر اذا ظهر فعله. قال الله عز وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
[شروط ناظر الحسبة]
ومن شروط ناظر الحسبة أن يكون حرّا، عدلا، ذا رأى وصرامة وخشونة فى الدّين، وعلم [1] بالمنكرات الظاهرة. واختلف الفقهاء [من [2]] أصحاب الشافعىّ:
هل يجوز له أن يحمل الناس، فيما ينكره من الأمور التى اختلف الفقهاء فيها، على رأيه واجتهاده، أم لا، على وجهين:
أحدهما- وهو قول أبى سعيد الإصطخرىّ- أنّ له أن يحمل ذلك [3] على رايه واجتهاده؛ فعلى هذا يجب أن يكون المحتسب عالما من أهل الاجتهاد فى أحكام الدين، ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه.
والوجه الثانى- أنه ليس له أن يحمل الناس على رأيه ولا يقودهم الى مذهبه، لتسويغ [4] اجتهاد الكافّة فيما اختلف فيه. فعلى هذا يجوز أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد اذا كان عارفا بالمنكرات المتّفق عليها.
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «وعالم ... » .
[2] زيادة عن الأحكام السلطانية.
[3] المناسب أن يكون بدل «ذلك» «الناس» .
[4] فى الأصل: «بتسويغ ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.(6/291)
ذكر الفرق بين المحتسب والمتطوّع
قال: والفرق بين المحتسب والمتطوّع من تسعة أوجه:
أحدها- أنّ فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل فى فرض الكفاية.
والثانى- أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذى لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره؛ وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذى يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.
والثالث- أنه منسوب الى الاستعداء اليه فيما يجب إنكاره؛ وليس المتطوّع منسوبا الى الاستعداء.
والرابع- أنّ على المحتسب إجابة من استعداه؛ وليس على المتطوّع إجابته.
والخامس- أنّ عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل الى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته؛ وليس على المتطوّع بحث ولا فحص.
والسادس- أنّ له أنّ يتّخذ على الإنكار أعوانا، لأنه عمل هو له منصوب، واليه مندوب، ليكون له أقهر، وعليه أقدر؛ وليس للمتطوّع أن يندب لذلك عونا.
والسابع- أنّ له أن يعزّر فى المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود؛ وليس للمتطوّع أن يعزّر عليها.
والثامن- أنّ له أن يرزق على حسبته من بيت المال؛ ولا يجوز للمتطوّع أن يرزق على إنكار منكر.(6/292)
والتاسع- أنّ له اجتهاد رأيه فيما تعلّق بالعرف دون الشّرع، كالمقاعد فى الأسواق وإخراج الأجنحة، فيقرّ وينكر من ذلك ما أدّاه اليه اجتهاده؛ وليس هذا للمتطوّع.
فهذا هو الفرق بين متولّى الحسبة وبين المتطوّعة، وإن اتّفقا على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ذكر أوضاع الحسبة وموافقتها للقضاء وقصورها عنه وزيادتها عليه، وموافقتها لنظر المظالم وقصورها عنه
قال: واعلم أنّ الحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم. فأمّا ما بينها وبين القضاء، فهى موافقة للقضاء من وجهين، ومقصّرة عنه من وجهين، وزائدة عليه من وجهين.
أما الوجهان فى موافقتها أحكام القضاء- فأحدهما جواز الاستعداء اليه. وسماعه دعوى المستعدى على المستعدى عليه [1] من حقوق الآدميين، وليس فى عموم الدعاوى. وإنما يختصّ بثلاثة أنواع من الدعوى:
أحدها: أن يكون فيما تعلّق ببخس وتطفيف فى كيل أو وزن.
والثانى: فيما تعلّق بغشّ أو تدليس فى مبيع أو ثمن.
والثالث: فيما تعلّق بمطل وتأخير لدين مستحقّ مع المكنة. وإنما جاز نظره فى هذه الأنواع الثلاثة من الدعاوى دون ما عداها، لتعلّقها بمنكر ظاهر هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمعروف بيّن هو مندوب الى إقامته. وليس له أن يتجاوز ذلك الى الحكم الناجز والفصل الباتّ. فهذا أحد وجهى الموافقة.
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «وسماعه دعوى المستعدى عليه على المستعدى» وهو تحريف.(6/293)
والوجه الثانى- أنّ له إلزام المدّعى عليه الخروج من الحقّ الذى عليه.
وليس هذا على العموم فى كل الحقوق، وإنما هو خاصّ فى الحقوق التى جاز له سماع الدعوى فيها اذا وجبت باعتراف وإقرار مع الإمكان واليسار، فيلزم المقرّ الموسر الخروج منها ودفعها الى مستحقّها، لأنّ فى تأخيره لها منكرا هو منصوب لإزالته.
وأما الوجهان فى قصورها عن أحكامه:
فأحدهما- قصورها عن سماع الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات من الدعاوى فى العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات، فلا يجوز أن ينتدب لسماع الدعوى ولا أن يتعرّض للحكم فيها لا فى كثير الحقوق ولا قليلها من درهم فما دونه، إلا أن يردّ ذلك اليه بنصّ صريح [يزيد على إطلاق الحسبة [1]] فيجوز له.
ويصير بهذه الزيادة جامعا بين القضاء والحسبة، فيراعى فيه أن يكون من أهل الاجتهاد. وإن اقتصر به على مطلق الحسبة، فالقضاة والحكّام أحقّ بالنظر فى قليل ذلك وكثيره.
والوجه الثانى- أنها مقصورة على الحقوق المعترف بها. فأمّا ما تداخله جحد وإنكار، فلا يجوز له النظر فيها، لأن الحكم فيها يقف على سماع بيّنة وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بيّنة على إثبات حقّ، ولا أن يحلف يمينا على نفيه؛ والقضاة والحكّام لسماع البينات وإحلاف الخصوم أحقّ.
وأما الوجهان فى زيادتها على أحكام القضاء- فأحدهما: أنه يجوز للناظر فيها أن يتعرّض لتصفّح ما يأمر به من المعروف وينهى عنه من المنكر، وإن لم يحضره خصم مستعد؛ وليس للقاضى أن يتعرّض لذلك إلا بعد حضور خصم
__________
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.(6/294)
يجوز له سماع الدعوى منه. فإن تعرّض القاضى لذلك فقد خرج عن منصب ولايته وصار متجوّزا فى قاعدة نظره.
والثانى- أنّ للناظر فى الحسبة من سلاطة السّلطنة واستطالة الحماة فيما تعلّق بالمنكرات ما ليس للقضاة؛ لأنّ الحسبة موضوعة على الرّهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسّلاطة والغلظة تجوّزا فيها ولا خرقا. والقضاء موضوع للمناصفة فهو بالأناة والوقار أخصّ، وخروجه عنهما الى السّلاطة تجوّز وخرق، لأنّ موضوع كلّ واحد من المنصبين مختلف، فالتجاوز فيه خروج عن حدّه.
وأمّا ما بين الحسبة والمظالم من موافقة ومخالفة
وأمّا ما بين الحسبة والمظالم- فبينهما شبه مؤتلف، وفرق مختلف. فأما الشّبه الجامع بينهما فمن وجهين:
أحدهما- أنّ موضوعهما على الرّهبة المختصّة بسلاطة السّلطنة وقوّة الصّرامة.
والثانى- جواز التعرّض فيهما لأسباب المصالح والتّطلّع الى إنكار العدوان الظّاهر.
وأمّا الفرق بينهما فمن وجهين:
أحدهما- أنّ النّظر فى المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر فى الحسبة موضوع لما رفّه عنه القضاة؛ ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى، ورتبة الحسبة أخفض، وجاز لوالى المظالم أن يوقّع الى القضاة والمحتسبة، ولم يجز للقاضى أن يوقّع الى والى المظالم وجاز له أن يوقّع الى المحتسب، ولم يجز للمحتسب أن يوقّع الى واحد منهما.
فهذا فرق.
والثانى- أنه يجوز لوالى المظالم أن يحكم، ولا يجوز ذلك للمحتسب.
وحيث قدّمنا هذه المقدّمة فى أوضاع الحسبة، فلنذكر ما تشتمل عليه ولايتها.(6/295)
ذكر ما تشتمل عليه ولاية نظر الحسبة وما يختص بها من الأحكام
ونظر الحسبة يشتمل على فصلين: أحدهما أمر بمعروف، والثانى نهى عن منكر. فأمّا الأمر بالمعروف فينقسم الى ثلاثة أقسام: أحدها ما تعلّق بحقوق الله عز وجل. والثانى ما تعلّق بحقوق الآدمييّن. والثالث ما كان مشتركا بينهما، على ما سنوضح ذلك.
فأما المتعلق بحقوق الله تعالى فضربان:
أحدهما- ما يلزم الأمر به فى الجماعة دون الانفراد، كترك الجمعة فى وطن مسكون؛ فإن كانوا عددا قد اتّفق على انعقاد الجمعة بهم كالأربعين فما زاد، فواجب أن يأخذهم بإقامتها ويأمرهم بفعلها ويؤدّب على الإخلال بها. وإن كانوا عددا قد اختلف فى انعقاد الجمعة بهم، فله ولهم أربعة أحوال:
إحداها- أن يتّفق رأيه ورأى القوم على انعقاد الجمعة بذلك العدد، فواجب عليه أن يأمرهم بإقامتها، وعليهم أن يسارعوا الى أمره بها، ويكون فى تأديبهم على تركها ألين منه فى تأديبهم على ترك ما انعقد الإجماع عليه.
والحال الثانية- أن يتّفق رأيه ورأى القوم على أنّ الجمعة لا تنعقد بهم، فلا يجوز أن يأمرهم بإقامتها ولا بالنهى عنها لو أقيمت.
والحال الثالثة- أن يرى القوم انعقاد الجمعة بهم ولا يراه المحتسب، فلا يجوز له أن يعارضهم فيها: فلا يأمر بإقامتها لأنه لا يراه، ولا ينهى عنها ويمنعهم مما يرونه فرضا عليهم.(6/296)
والحال الرابعة- أن يرى المحتسب انعقاد الجمعة بهم ولا يراه القوم، فهذا مما فى استمرار تركه تعطيل الجمعة مع تطاول الزمان وبعده وكثرة العدد وزيادته، فهل للمحتسب أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بهذا المعنى، أم لا؟ فقد اختلف الفقهاء فى ذلك على وجهين:
أحدهما- وهو قول أبى سعيد الإصطخرىّ- أنه يجوز له أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بالمصلحة، لئلّا ينشأ الصغير على تركها فيظنّ أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه؛ فقد راعى زياد بن أبيه مثل هذا فى صلاة الناس فى جامعى البصرة والكوفة، فإنهم كانوا اذا صلّوا فى صحبه فرفعوا من السّجود مسحوا جباههم من التّراب، فأمر بإلقاء الحصى فى صحن المسجد، وقال: لست آمن أن يطول الزمان فيظنّ الصغير اذا نشأ أنّ مسح الجبهة من أثر السجود سنّة فى الصلاة.
والوجه الثانى- أنه لا يتعرّض لأمرهم بها، لأنه ليس له حمل الناس على اعتقاده [1] ، ولا أن يأخذهم فى الدين برأيه، مع تسويغ الاجتهاد فيه، وأنّهم يعتقدون أنّ نقصان العدد يمنع من إجزاء الجمعة. فأمّا أمرهم بصلاة العيد فله أن يأمرهم بها.
وهل يكون الأمر بها من الحقوق اللازمة أو من الحقوق الجائزة؟ على وجهين من اختلاف أصحاب الشافعى فيها: هل هى مسنونة أو من فروض الكفاية. فإن قيل:
إنها مسنونة، كان الأمر بها ندبا؛ وإن قيل: إنها من فروض الكفاية، كان الأمر بها حتما. فأمّا صلاة الجماعة فى المساجد وإقامة الأذان فيها للصلوات، فمن شعائر الإسلام وعلامات متعبّداته التى فرّق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دار الإسلام ودار الشّرك. فإذا أجمع أهل محلّة أو بلد على تعطيل الجماعات فى مساجدهم وترك الأذان
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «على انعقاده» وهو تحريف.(6/297)
فى أوقات صلواتهم، كان المحتسب مندوبا الى أمرهم بالأذان والجماعة فى الصلوات.
وهل ذلك واجب عليه يأثم بتركه، أو مستحبّ له يثاب على فعله. فأمّا من ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس أو ترك الأذان والإقامة لصلاة، فلا اعتراض للمحتسب عليه اذا لم يجعله عادة وإلفا، لأنها من النّدب الذى يسقط بالأعذار، إلا أن يقترن به استرابة أو يجعله إلفا وعادة، ويخاف تعدّى ذلك الى غيره فى الاقتداء به، فيراعى حكم المصلحة فى زجره عمّا استهان به من سنن عبادته. ويكون وعيده على ترك الجماعة معتبرا بشواهد حاله، كالذى
روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد هممت أن آمر أصحابى أن يجمعوا حطبا وآمر بالصلاة فيؤذّن لها وتقام ثم أخالف الى منازل قوم لا يحضرون الصلاة فأحرقّها عليهم»
. وأما ما يأمر به آحاد الناس وأفرادهم، فكتأخير الصلاة حتى يخرج وقتها، فيذكّر بها ويؤمر بفعلها [1] . ويراعى جواب المأمور عنها، فإن قال: تركتها لنسيان، حثّه على فعلها بعد ذكره ولم يؤدّبه. وإن تركها لتوان أدّبه زجرا وأخذه بفعلها جبرا. ولا اعتراض على من أخّرها والوقت باق، لاختلاف الفقهاء فى فضل التأخير. ولكن لو اتّفق أهل بلد على تأخير صلاة الجماعات الى آخر وقتها والمحتسب يرى فضل تعجيلها، فهل له أن يأمرهم بالتعجيل أولا. فمن رأى أنه يأمرهم بذلك، راعى أنّ اعتياد تأخيرها وإطباق جميع الناس عليه مفض الى أن الصغير ينشأ وهو يعتقد أن هذا هو الوقت دون ما قبله؛ ولو عجّلها بعضهم ترك من أخّرها منهم وما يراه من التأخير.
__________
[1] مرجع الضمير «الفرد» .(6/298)
فأمّا الأذان والقنوت فى الصّلوات اذا خالف فيه رأى المحتسب فلا اعتراض له فيه بأمر ولا نهى وإن كان يرى خلافه، اذا كان ما يفعل مسوّغا فى الاجتهاد. وكذلك الطهارة اذا فعلها على وجه سائغ يخالف فيه [1] رأى المحتسب: من إزالة النجاسة بالمائعات، والوضوء بماء تغيّر بالمذرورات الطاهرات، أو الاقتصار على مسح أقلّ الرأس، والعفو عن قدر الدرهم من النّجاسة، فلا اعتراض له فى شىء من ذلك بأمر ولا نهى. وفى اعتراضه عليهم فى الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء وجهان، لما فيه من الإفضاء الى استباحته على كل الأحوال، وأنه ربما آل الى السكر من شربه.
ثم على نظائر هذا المثال تكون أوامره بالعرف فى حقوق الله تعالى.
وأما الأمر بالمعروف فى حقوق الآدميين فضربان: عام وخاص.
فأمّا العام- فكالبلد اذا تعطّل شربه، أو استهدم سوره، أو كان يطرقه بنو السبيل من ذوى الحاجات فكفّوا عن معونتهم، فإن كان فى بيت المال مال، لم يتوجّه عليهم فيه أمر بإصلاح شربهم وبناء سورهم ولا بمعونة بنى السبيل فى الاجتياز بهم؛ لأنها حقوق تلزم بيت المال دونهم؛ وكذلك لو استهدمت مساجدهم وجوامعهم. فأما اذا أعوز بيت المال، كان الأمر ببناء سورهم، وإصلاح شربهم، وعمارة مساجدهم وجوامعهم، ومراعاة بنى السبيل فيهم متوجّها الى كافّة ذوى المكنة منهم ولا يتعيّن أحدهم فى الأمر به. فإن شرع ذوو المكنة فى عمله ومراعاة بنى السبيل، وباشروا القيام به، سقط عن المحتسب حقّ الأمر به. ولا يلزمهم الاستئذان فى مراعاة بنى السبيل، ولا فى بناء ما كان مهدوما. ولكن لو أرادوا هدم ما يريدون بناءه من
__________
[1] فى الأصل: «على وجه سائغ مخالف فيها» وقد أثبتنا ما فى الأحكام السلطانية لوضوح استقامته.(6/299)
المسترمّ والمستهدم [1] ، لم يكن لهم الإقدام على هدمه إلا باستئذان ولىّ الأمر دون المحتسب، ليأذن لهم فى هدمه بعد تضمينهم القيام بعمارته. هذا فى السّور والجوامع.
وأمّا المساجد المختصرة فلا يستأذنون فيها. وعلى المحتسب أن يأخذهم ببناء ما هدموه، وليس له أن يأخذهم بإتمام ما استأنفوه. فأمّا اذا كفّ ذوو المكنة عن بناء ما استهدم، فإن كان المقام فى البلد ممكنا وكان الشّرب وإن فسد مقنعا، تاركهم وإيّاه. وإن تعذّر المقام فيه، لتعطّل شربه واندحاض سوره، نظر: فإن كان البلد ثغرا يضرّ بدار الإسلام تعطيله، لم يجز لولىّ الأمر أن يفسح فى الانتقال عنه، [وكان حكمه حكم النوازل اذا حدثت: فى قيام كافّة ذوى المكنة به [2]] ، وكان تأثير المحتسب فى مثل هذا إعلام السلطان به وترغيب أهل المكنة فى عمله. وإن لم يكن البلد ثغرا مضرّا بدار الإسلام، كان أمره أيسر وحكمه أخفّ. ولم يكن للمحتسب أن يأخذ أهله جبرا بعمارته، لأن السلطان أحقّ أن يقوم بعمارته. وإن أعوزه المال، فيقول لهم المحتسب:
ما دام عجز السلطان عنه أنتم مخيّرون بين الانتقال عنه أو التزام ما ينصرف فى مصالحه التى يمكن معها دوام استيطانه. فإن أجابوا الى التزام ذلك، كلّف جماعتهم ما تسمح به نفوسهم من غير إجبار، ويقول: ليخرج كلّ واحد منكم ما يسهل عليه وتطيب به نفسه، ومن أعوزه المال أعان بالعمل. حتى اذا اجتمعت كفاية المصلحة أو تعين [3] اجتماعها بضمان كل واحد من أهل المكنة قدرا طاب به نفسا، شرع حينئذ فى عمل المصلحة وأخذ كلّ واحد من الجماعة بما التزم به. وإن عمّت هذه المصلحة،
__________
[1] المسترم: ما دعا الى رمّه وإصلاحه من البناء. والمستهدم: ما يريد أن يتهدم وينقض.
[2] وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى الأصل هكذا: «وان كان حكمه حكم النوازل اذا حدثت فى قيامه وكافة ذوى المكنة به» وقد اثبتنا ما ورد فى الأحكام السلطانية لاستقامته.
[3] فى الأحكام السلطانية: «أو يلوح ... » .(6/300)
لم يكن للمحتسب أن يتقدّم بالقيام بها حتى يستأذن السلطان فيها، لئلا يصير بالتفرّد مفتاتا [عليه [1]] ، اذ ليست هذه المصلحة من معهود حسبته. فإن قلّت وشقّ استئذان السلطان فيها أو خيف زيادة الضّرر لبعد استئذانه، جاز شروعه فيها من غير استئذان.
هذا أمر العامّ.
فأمّا الخاص- فكالحقوق اذا مطلت والديون اذا أخّرت، فللمحتسب أن يأمر بالخروج منها مع المكنة اذا استعداه أصحاب الحقوق. وليس له أن يحبس عليها، لأن الحبس حكم. وله أن يلازم عليها، لأنّ لصاحب الحقّ أن يلازم. وليس له الأخذ بنفقات الأقارب، لافتقار ذلك الى اجتهاد شرعىّ فيمن يجب له وعليه، الا أن يكون الحاكم قد فرضها فيجوز أن يأخذ بأدائها؛ وكذلك كفالة من تجب كفالته من الصغار لا اعتراض له فيها حتى يحكم بها الحاكم؛ ويجوز حينئذ للمحتسب أن يأمر بالقيام بها على الشروط المستحقّة فيها.
فأمّا قبول الوصايا والودائع، فليس له أن يأمر بها أعيان الناس وآحادهم، ويجوز أن يأمر بها على العموم، حثّا على التعاون بالبرّ والتقوى. ثم على هذا المثال تكون أوامره بالمعروف فى حقوق الآدميين.
وأما الأمر بالمعروف- فيما كان مشتركا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين كأخذ الأولياء بإنكاح الأيامى من أكفائهن اذا طلبن، وإلزام النساء أحكام العدد اذا فورقن. وله تأديب من خالف فى العدّة من النساء، وليس له تأديب من امتنع من الأولياء. ومن نفى ولدا قد ثبت فراش أمّه ولحوق نسبه، أخذه بأحكام الآباء جبرا
__________
[1] زيادة عن الأحكام السلطانية.(6/301)
وعزّره على النفى أدبا. ويأخذ السّادة بحقوق العبيد والإماء، وألّا يكلّفوا من الأعمال ما لا يطيقون. وكذلك أرباب البهائم يأخذهم بعلوفتها اذا قصّروا فيها، وألا يستعملوها فيما لا تطيق. ومن أخذ لقيطا فقصّر فى كفالته، أمره أن يقوم بحقوق التقاطه: من التزام كفالته أو تسليمه الى من يلتزمها ويقوم بها. وكذلك واجد الضّوالّ اذا قصّر فيها أخذه بمثل ذلك من القيام بها أو تسليمها الى من يقوم بها، ويكون ضامنا للضالّة بالتقصير ولا يكون به ضامنا للّقيط. واذا سلّم الضالّة الى غيره ضمنها، ولا يضمن اللقيط بالتسليم. ثم على نظائر هذا المثال يكون أمره بالمعروف فى الحقوق المشتركة.
وأما النهى عن المنكرات- فينقسم الى ثلاثة أقسام: أحدها ما كان من حقوق الله تعالى. والثانى ما كان من حقوق الآدميين. والثالث ما كان مشتركا بين الحقّين.
فأما النهى عنها فى حقوق الله تعالى- فعلى ثلاثة أقسام: أحدها ما تعلّق بالعبادات. والثانى ما تعلّق بالمحظورات. والثالث ما تعلّق بالمعاملات.
فأما المتعلق بالعبادات- فكالقاصد مخالفة هيئتها المشروعة، والمتعمّد تغيير أوصافها المسنونة، مثل من يقصد الجهر فى صلاة الإسرار والإسرار فى صلاة الجهر، أو يزيد فى الصلاة أو فى الأذان أذكارا غير مسنونة، فللمحتسب إنكارها وتأديب المعاند فيها اذا لم يقل بما ارتكبه إمام متبوع. وكذلك اذا أخلّ بتطهير جسده أو ثوبه أو موضع صلاته، أنكره عليه اذا تحقّق ذلك منه، ولا يؤاخذه بالتّهم والظنون. وكذلك لو ظنّ برجل أنه يترك الغسل من الجنابة أو يترك الصلاة والصيام، لم يؤاخذه بالتّهم ولم يقابله بالإنكار. لكن يجوز له بالتهمة أن يعظ ويحذّر من عذاب الله تعالى على(6/302)
إسقاط حقوقه والإخلال بمفروضاته. فإن رآه يأكل فى شهر رمضان لم يقدم على تأديبه إلا بعد سؤاله عن سبب أكله اذا التبست أحواله؛ فربما كان مريضا أو مسافرا. ويلزمه السؤال اذا ظهرت منه أمارات الرّيب. فإن ذكر من الأعذار ما تحتمله حاله، كفّ عن زجره وأمره بإخفاء أكله، لئلا يعرّض نفسه للتّهمة.
ولا يلزمه إحلافه عند الاسترابة بقوله، لأنه موكول الى أمانته. وإن لم يذكر عذرا، جاهر بالإنكار عليه وأدّبه أدب زجر. واذا علم عذره فى الأكل، أنكر عليه المجاهرة به، لتعريض نفسه للتّهمة ولئلا يقتدى به من ذوى الجهالة من لا يميّز حال عذره من غيره.
وأمّا الممتنع من إخراج زكاته، فإن كان من الأموال الظاهرة، فعامل الصّدقة بأخذها [1] منه جبرا أخصّ من المحتسب. وإن كان من الأموال الباطنة، فيحتمل أن يكون المحتسب أخصّ بالإنكار عليه من عامل الصدقة، لأنه لا اعتراض للعامل [2] فى الأموال الباطنة؛ ويحتمل أن يكون العامل بالإنكار عليه أخصّ، لأنه لو دفعها اليه أجزأه. ويكون تأديبه معتبرا بشواهد حاله فى الامتناع من إخراج زكاته. وإن ذكر أنه يخرجها، سرّا وكل الى أمانته فيها. وإن رأى رجلا يتعرّض لمسألة الناس وطلب الصّدقة وعلم أنه غنىّ إما بمال أو عمل، أنكره عليه وأدّبه. ولو رأى عليه آثار الغنى وهو يسأل الناس، أعلمه تحريمها على المستغنى عنها، ولم ينكر عليه، لجواز أن يكون فى الباطن فقيرا. واذا تعرّض للمسألة ذو جلد وقوّة على العمل، زجره وأمره أن يتعرّض للاحتراف بعمله؛ فإن أقام على المسألة عزّره حتى يقلع عنها. واذا دعت
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «يأخذ منه» وهو تحريف.
[2] فى الأصل: «فانه لا اعتراض على العامل ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.(6/303)
الحال، عند إلحاح من حرّمت عليه [المسألة [1]] بمال أو عمل، أن ينفق على ذى المال جزءا من ماله، ويؤاجر ذا العمل وينفق عليه من أجرته، لم يكن للمحتسب أن يفعل ذلك بنفسه؛ لأن هذا حكم، والحكّام به أحقّ، فيرفع أمره الى الحاكم ليتولّى ذلك أو يأذن فيه. واذا وجد فيمن يتصدّى للعلوم الشرعيّة من ليس من أهلها من فقيه أو واعظ ولم يأمن اغترار الناس به فى سوء تأويل أو تحريف، أنكر عليه التّصدّى لما ليس [هو [2]] من أهله، وأظهر أمره لئلا يغترّ به. وإن أشكل عليه أمره، لم يقدم عليه بالإنكار إلا بعد الاختبار. وكذلك لو ابتدع بعض المنتسبين الى العلم قولا خرق به الإجماع وخالف النصّ وردّ قوله [3] علماء عصره، أنكره عليه وزجره فإن أقلع وتاب، وإلّا فالسلطان بتهذيب الدّين أحقّ. وإذا تفرّد [4] بعض المفسرين لكتاب الله عز وجل بتأويل عدل فيه عن ظاهر التنزيل الى باطن بدعة بتكلّف له أغمض معانيه، أو انفرد بعض الرّواة بأحاديث مناكير تنفر منها النفوس أو يفسد بها التأويل، كان على المحتسب إنكار ذلك والمنع منه. وهذا إنما يصحّ منه إنكاره اذا تميّز عنده الصحيح من الفاسد والحقّ من الباطل. وذلك بأحد وجهين: إما أن يكون بقوّته فى العلم واجتهاده فيه، فلا يخفى ذلك عليه؛ وإمّا باتّفاق علماء الوقت على إنكاره وابتداعه، فيستعدونه فيه، فيعوّل فى الإنكار على أقاويلهم، وفى المنع منه على اتّفاقهم.
وأمّا ما تعلّق بالمحظورات- فهو أن يمنع الناس من مواقف الرّيب ومظانّ لتّهم.
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دع ما يريبك الى
__________
[1] زيادة عن الأحكام السلطانية.
[2] زيادة عن الأحكام السلطانية.
[3] فى الأصل: «وردّ قول علماء عصره أنكر ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
[4] فى الأحكام السلطانية. «واذا تعرّض ... » .(6/304)
ما لا يريبك»
. فيقدّم الإنكار، ولا يعجّل بالتأديب قبل الإنذار. وإذا رأى وقفة رجل مع امرأة فى طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الرّيب، لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار، فما يجد الناس بدّا من هذا. وإن كانت الوقفة فى طريق خال، فخلوّ المكان ريبة، فينكرها؛ ولا يعجّل فى التأديب عليهما حذرا من أن تكون ذات محرم.
وليقل: إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الرّيب، وإن كانت أجنبيّة فخف الله تعالى من خلوة تؤدّيك الى معصية الله. وليكن زجره بحسب الأمارات. وليستخبر.
فقد حكى أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بينا هو يطوف بالبيت اذ رأى رجلا يطوف وعلى عنقه امرأة مثل المهاة حسناء جميلة، وهو يقول:
عدت لهذى جملا ذلولا ... موطّا أتّبع السّهولا
أعدلها بالكفّ أن تميلا ... أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذاك نائلا جزيلا
فقال له عمر: يا عبد الله، من هذه التى وهبت لها حجّك؟ فقال: امرأتى يا أمير المؤمنين! وإنها حمقاء مرغامه، أكول قامّه، لا يبقى لها خامّه [1] ؛ فقال له:
مالك لا تطلّقها؟ فقال: إنها حسناء لا تفرك، وأمّ صبيان فلا تترك، قال: فشأنك بها. فلم يقدم عمر رضى الله عنه بالإنكار حتى استخبره، فلما انتفت عنه الرّيبة أقرّه على فعله.
واذا جاهر رجل بإظهار الخمر، فإن كان من المسلمين، أراقها وأدّبه؛ وإن كان ذمّيّا أدّب على إظهارها، واختلف فى إراقتها عليه، فذهب أبو حنيفة الى
__________
[1] المرغامة: المغضبة لبعلها. وقامّة: من قمّ ما على الخوان اذا لم يدع عليه شيئا. وخامّة: من خمّ اللحم وغيره اذا تغير وفسد.(6/305)
أنها [لا [1]] تراق عليه، لأنها عنده من أموالهم المضمونة فى حقوقهم. وذهب الشافعىّ الى إراقتها عليهم، لأنها لا تضمن عنده فى حقّ المسلم ولا الكافر.
وأمّا المجاهرة بإظهار النبيذ، فعند أبى حنيفة أنه من الأموال التى يقرّ المسلمون عليها، فمنع من إراقته [2] ومن التأديب على إظهاره. وعند الشافعىّ أنه ليس بمال كالخمر وليس فى إراقته غرم. فيعتبر ناظر الحسبة شواهد الحال فيه فينهى فيه [3] عن المجاهرة، ويزجر عليه إن كان لمعاقرة، ولا يريقه عليه، إلا أن يأمر بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد، لئلا يتوجّه عليه غرم إن حوكم فيه.
وأمّا السكران اذا تظاهر بسكره وسخف بهجره، ادّبه على السكر والهجر، تعزيرا لا حدّا، لقلة مراقبته وظهور سخفه.
وأما المجاهرة بإظهار الملاهى المحرّمة، فعلى المحتسب أن يفصلها حتى تصير خشبا لتخرج [4] عن حكم الملاهى، ويؤدّب على المجاهرة بها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهى.
وأمّا الّلعب فليس يقصد بها المعاصى، وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد، ففيها وجه من وجوه التدبير [تقارنه معصية، بتصوير ذوات الأزواج ومشابهة الأصنام؛ فللتمكين منها وجه، وللمنع منها وجه [1]] ؛ وبحسب ما تقتضيه
__________
[1] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[2] فى الأصل «اراقتها» .
[3] فى الأصل: «فينهى منه» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
[4] فى الأصل: «تخرج ... » من غير لام، وقد أثبتناها استنادا على الأحكام السلطانية الذى فيه: «لتزول» بدل «تخرج» .(6/306)
شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره. وقد كانت عائشة رضى الله عنها فى صغرها تلعب بالبنات بمشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليها.
وأمّا ما لم يظهر من المحظورات [1] ، فليس للمحتسب أن يبحث عنها ولا أن يهتك الأستار فيها؛
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم حدّ الله عليه»
. فإن استتر أقوام لارتكاب محظور يخشى فواته مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلا خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزنى بها، فيجوز له فى مثل هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث، حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات. وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوّعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. وأمّا ما هو دون هذه الرتبة، فلا يجوز التجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه. وإن سمع أصوات ملاه منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم، أنكرها خارج الدار ولم يهجم عليها بالدخول.
وأمّا ما تعلّق بالمعاملات المنكرة، كالرّبا والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه مع تراضى المتعاقدين به اذا كان متّفقا على حظره، فعلى والى الحسبة إنكاره والمنع منه والزجر عليه. وامره بالتأديب مختلف بحسب الأحوال وشدّة الحظر.
فأما ما اختلف الفقهاء فى حظره وإباحته، فلا مدخل له فى إنكاره، إلا أن يكون مما يضعف الخلاف فيه وكان ذريعة [الى محظور متّفق عليه- كربا النّقدين:
الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة الى ربا النّساء المتّفق على تحريمه- فهل يدخل فى إنكاره، أم لا. وكذلك فى عقود الأنكحة ينكر منها ما اتّفق الفقهاء على حظرها،
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «وأما ما لم يظهر بالمحظورات» .(6/307)
ولا يتعرّض لما اختلف فيه، إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه وكان ذريعة الى محظور متفق عليه، كالمتعة فربما صارت ذريعة الى استباحة الزنا، ففى إنكاره لها وجهان.
ومما يتعلّق بالمعاملات غشّ المبيعات وتدليس الأثمان، فينكره ويمنع منه ويؤدّب عليه بحسب الحال فيه؛
فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس منّا من غشّ» وفى لفظ: «من غشّنا فليس منّا»
. فإن كان هذا الغشّ تدليسا على المشترى وهو مما يخفى عليه، فهو أغلظ الغشوش تحريما وأعظمها مأثما، والإنكار عليه أغلظ والتأديب أشدّ. وإن كان مما لا يخفى على المشترى، كان أخفّ مأثما وألين إنكارا.
وينظر فى المشترى: فإن كان اشتراه ليبيعه من [1] غيره، توجه الإنكار على البائع لغشّه، وعلى المشترى لابتياعه؛ لأنه قد يبيعه من لم [2] يعلم بغشه؛ وإن كان المشترى اشتراه ليستعمله، خرج من جملة الإنكار، واختص الإنكار بالبائع وحده. وكذلك فى تدليس الأثمان.
ويمنع من تصرية [3] المواشى وتحفيل ضروعها عند البيع، للنّهى عنه وأنه نوع من التدليس.
ومما هو عمدة نظره المنع من التطفيف والبخس فى المكاييل والموازين والصّنجات [4] ، لوعيد الله تعالى عليه بقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ
__________
[1] فى الأصل وفى نسخة من الأحكام السلطانية يشير اليها هامش التى بأيدينا: «ليبيعه على غيره» .
وقد أثبتناه ما فى النسخة التى بأيدينا لأنه هو الذى يقتضيه المقام.
[2] فى الأصل: «قد يبيعه على من ... » .
[3] مصدر صرّى الناقة أو الشاة اذا حبس اللبن فى ضرعها ليكثر.
[4] الصنجة والسنجة والسين أفصح: ما يوزن به كالأوقية والرطل، وجمعها صنجات كما أثبتنا استنادا الى ما فى الأحكام السلطانية وهو الوارد فى كتب اللغة، وفى الأصل: «الصنوج» .(6/308)
يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
. وليكن الأدب عليه أظهر، والمعاقبة فيه أكثر. ويجوز له اذا استراب بموازين السّوقة ومكاييلهم أن يختبرها ويعايرها [1] .
ولو كان على ما عايره منها طابع معروف بين العامّة لا يتعاملون إلا به، كان أحوط وأسلم. فإن فعل ذلك وتعامل قوم بغير ما طبع عليه طابعه، توجّه الإنكار عليهم إن كان مبخوسا، من وجهين: أحدهما مخالفته فى العدول عن مطبوعه؛ وإنكاره لذلك من الحقوق السلطانية. والثانى للبخس والتطفيف؛ وإنكاره من الحقوق الشرعية.
وإن كان ما تعاملوا به من غير المطبوع سليما من بخس ونقص، فإنكاره لمجرّد حق السلطنة للمخالفة. وإن زوّر قوم على طابعه، كالبهرج على طابع الدنانير والدراهم، فإن قرن التزوير بغشّ، كان التأديب مستحقّا من الوجهين، وهو أغلظ وأشدّ؛ وإن سلم من الغش كان الإنكار لحق السلطنة خاصّة.
واذا اتّسع البلد حتى احتاج أهله الى عدّة من الكيّالين والوزّانين والنّقّاد، تخيّرهم ناظر الحسبة، ومنع أن ينتدب لذلك إلا من ارتضاه من الأمناء الثّقات. وكانت أجورهم من بيت المال إن اتّسع لها، فإن ضاق عنها قدّرها لهم، حتى لا تجرى [بينهم فيها [2]] استزادة أو نقصان، فيكون ذلك ذريعة الى الممايلة أو التّحيّف فى مكيل أو موزون. فإن ظهر من أحد ممن اختاره للكيل والوزن تحيّف فى تطفيف أو ممايلة فى زيادة، أدبّ وأخرج منهم ومنع من أن يتعرّض للوساطة بين الناس. وكذلك القول فى اختيار الدلّالين، يقرّ منهم الأمناء ويمنع الخونة.
واذا وقع فى تطفيف تخاصم، جاز أن ينظر المحتسب فيه إن لم يقترن به تجاحد وتناكر، فإن أفضى الى تجاحد وتناكر، كان القضاة أحق بالنظر فيه من ولاة الحسبة،
__________
[1] فى الأصل: «ويعتبرها» ، والتصويب عن الأحكام السلطانية.
[2] زيادة عن الأحكام السلطانية.(6/309)
لأنهم أحق بالأحكام، وكان التأديب فيه الى المحتسب. فإن ولّاه الحاكم جاز، لاتّصاله بحكمه.
ومما ينكره المحتسب فى العموم ولا ينكره فى الخصوص والآحاد، التّبايع بما لم يألفه أهل البلد من المكاييل والأوزان التى لا تعرف فيه وإن كانت معروفة فى غيره.
فإن تراضى بذلك اثنان، لم يعترض عليهما بالإنكار والمنع، ويمنع من عموم التعامل بها، لأنه قد يعاملهم فيها من لا يعرفها فيصير مغرورا.
هذا ما يتعلّق بالنهى فى حقوق الله تعالى.
وأما النهى فى حقوق الآدميين المحضة- مثل أن يتعدّى رجل فى حد لجاره، أو حريم لداره، أو وضع أجذاع على جداره، فلا اعتراض للمحتسب فيه ما لم يستعده الجار، لأنه حقّ يخصّه يصحّ منه العفو عنه والمطالبة به؛ فإن خاصمه فيه الى المحتسب، نظر فيه، ما لم يكن بينهما تنازع وتناكر، وأخذ المتعدّى بإزالة تعدّيه؛ وكان تأديبه عليه بحسب شواهد الحال. فإن تنازعا كان الحاكم بالنظر فيه أحقّ. ولو أقرّ الجار جاره على تعدّيه وعفا عن مطالبته بهدم ما تعدّى فيه ثم عاد وطالب بذلك، كان ذلك له، وأخذ المتعدّى بعد العفو عنه بهدم ما بناه. وإن كان قد ابتدأ البناء ووضع الأجذاع بإذن الجار ثم رجع الجار فى إذنه، لم يؤخذ البانى بهدمه. وإن انتشرت أغصان شجرة الى دار جاره، كان للجار أن يستعدى المحتسب حتى يعديه على صاحب الشجرة، ليأخذه بإزالة ما انتشر من أغصانها فى داره؛ ولا تأديب عليه لأن انتشارها ليس من فعله. ولو انتشرت عروق الشجرة تحت الارض حتى دخلت فى قرار أرض الجار، لم يؤخذ بقلعها ولم يمنع الجار من التصرّف(6/310)
فى قرار أرضه وإن قطعها. واذا نصب المالك تنّورا فى داره فتأذّى الجار بدخانه، لم يعترض عليه ولم يمنع منه. وكذلك لو نصب فى داره رحى أو وضع فيها حدّادين أو قصّارين، لم يمنع منه. واذا تعدّى مستأجر على أجير فى نقصان أجره أو زيادة عمل، كفّه عن تعدّيه؛ وكان الإنكار عليه معتبرا بشواهد حاله. ولو قصّر الأجير فى حق المستأجر فنقصه من العمل أو استزاده فى الأجرة، منعه منه وأنكره عليه اذا تخاصما اليه؛ فإن اختلفا وتناكرا، كان الحاكم بالنظر بينهما أحقّ.
ومما يؤخذ ولاة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع فى الأسواق ثلاثة أصناف:
منهم من يراعى عمله فى الوفور والتقصير، ومنهم من يراعى حاله فى الأمانة والخيانة، ومنهم من يراعى عمله فى الجودة والرّداءة.
فأمّا من يراعى عمله فى الوفور والتقصير فكالطبّ والتعليم، لأن الطب إقدام على النفوس يفضى التقصير فيه الى تلف أو سقم. وللمعلمين من الطرائق التى ينشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنه بعد الكبر عسيرا [1] ، فيقرّ منهم من توفّر علمه وحسنت طريقته، ويمنع من قصّر وأساء من التّصدّى لما تفسد به النفوس وتخبث به الآداب.
وأما من يراعى حاله فى الأمانة والخيانة، فمثل الصّاغة والحاكة والقصّارين والصبّاغين، لأنهم ربما هربوا بأموال الناس، فيراعى أهل الثقة والأمانة منهم فيقرّهم ويبعد من ظهرت خيانته، ويشهر أمره، لئلا يغترّ به من لا يعرفه. وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخصّ بالنظر فى أحوال هؤلاء من ولاة الحسبة؛ وهو الأشبه، لأن الخيانة تابعة للسّرقة.
__________
[1] عبارة الأصل: «والمعلمين من الطرائق التى ينشأ الصغار عليها فيكون نقلهم عنه ... » وفيها تحريف واضح. والتصويب عن الأحكام السلطانية.(6/311)
وأمّا من يراعى عمله فى الجودة والرداءة فهو مما ينفرد بالنظر فيه ولاة الحسبة. ولهم أن ينكروا عليهم فى العموم فساد العمل ورداءته وان لم يكن فيه مستعد؛ وأما فى عمل مخصوص اعتمد الصانع فيه الفساد والتدليس، فاذا استعداه الخصم، قابل عليه بالإنكار والزجر، وإن تعلّق بذلك غرم روعى حال الغرم، فإن افتقر الى تقدير أو تقويم، لم يكن للمحتسب أن ينظر فيه، لافتقاره الى اجتهاد حكمىّ؛ وكان القاضى بالنظر فيه أحقّ. وإن لم يفتقر الى تقدير ولا تقويم واستحقّ فيه المثل الذى لا اجتهاد فيه ولا تنازع، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم والتأديب.
ولا يجوز أن يسعّر على الناس الأقوات ولا غيرها فى رخص ولا غلاء؛ وأجازه مالك- رحمه الله- فى الأقوات مع الغلاء.
وأما النهى فى الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فكالمنع من الإشراف على منازل الناس. ولا يلزم من علىّ بناءه أن يستر سطحه، وإنما يلزمه ألّا يشرف على غيره. ويمنع أهل الذمة من تعلية أبنيتهم على أبنية المسلمين. فإن ملكوا أبنية عالية أقرّوا عليها ومنعوا من الإشراف منها على المسلمين وأهل الذمة.
ويأخذ أهل الذمة بما شرط فى ذمتهم [1] من لبس الغيار والمخالفة فى الهيئة وترك المجاهرة بقولهم فى عزير والمسيح. ويمنع عنهم من تعرّض لهم من المسلمين بسبّ أو أذى، ويؤدّب عليه من خالف فيه.
__________
[1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «من ذمتهم» .(6/312)
وإذا كان فى أئمة المساجد السّابلة والجوامع الحافلة [1] من يطيل الصلاة حتى يعجز الضعفاء وينقطع بها ذوو الحاجات، أنكر ذلك؛ فقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين أطال الصلاة بقومه: «أفتّان أنت يا معاذ»
. فإن أقام على الإطالة ولم يمتنع منها، لم يجز أن يؤدّبه عليها، ولكن يستبدل به من يخفّفها.
وإذا كان فى القضاة من يحجب الخصوم اذا قصدوه، ويمتنع من النظر بينهم اذا تحاكموا اليه، حتى تقف الاحكام ويتضرّر الخصوم، فللمحتسب أن يأخذه، مع ارتفاع الأعذار، بما ندب له من النظر بين المتحاكمين وفصل القضاء بين المتنازعين، ولا يمنع علوّ رتبته من إنكار ما قصّر فيه.
واذا كان فى سادة العبيد من يستعملهم فيما لا يطيقون الدوام عليه، كان منعهم والانكار عليهم موقوفا على استعداء العبيد، فاذا استعدوه منع حينئذ وزجر.
وان كان فى أرباب المواشى من يستعملها فيما لا تطيق الدوام عليه، أنكره المحتسب عليهم ومنعهم منه وإن لم يكن فيه مستعد اليه. فإن ادّعى المالك احتمال البهيمة لما يستعملها فيه، جاز للمحتسب أن ينظر فيه، لأنه وإن افتقر الى اجتهاد فهو عرف يرجع فيه الى عرف الناس، وليس باجتهاد شرعىّ. وللمحتسب الاجتهاد فى العرف.
واذا استعداه العبد من امتناع سيّده من كسوته ونفقته، جاز له أن يأمره بهما [2] ويأخذه بالتزامهما. ولو استعداه من تقصير سيّده فيهما، لم يكن له فى ذلك نظر ولا إلزام؛ [لأنه يحتاج فى التقدير الى اجتهاد شرعىّ، ولا يحتاج فى الزام [3]] الأصل الى اجتهاد شرعىّ، لأن التقدير غير منصوص عليه [ولزومه منصوص عليه [4]] .
__________
[1] فى الأصل «والجوامع الحفلة» .
[2] فى الأصل «بها» بضمير المفرد.
[3] التكملة من الأحكام السلطانية.
[4] التكملة من الأحكام السلطانية.(6/313)
وللمحتسب أن يمنع أرباب السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف منه غرقها.
وكذلك يمنعهم من المسير عند اشتداد الريح. واذا حمل فيها الرجال والنساء، حجز بينهم بحائل. واذا اتّسعت السفن، نصب للنساء مخارج للبراز لئلا يتبرّجن عند الحاجة.
واذا كان فى أهل الأسواق من يختصّ بمعاملة النساء، راعى المحتسب سيرته وأمانته، فإذا تحقّقها منه، أقرّه على معاملتهن. وإن ظهرت منه الرّيبة وبان عليه الفجور، منعه من معاملتهن، وأدّبه على التعرّض لهن. وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخصّ بإنكار هذا والمنع منه من ولاة الحسبة، لأنه من توابع الزنا. وينظر والى الحسبة فى مقاعد الأسواق، فيقرّ منها ما لا ضرر على المارّة فيه، ويمنع ما استضرّوا به. ولا يقف منعه على الاستعداء اليه.
واذا بنى قوم فى طريق سابل، منع منه وإن اتّسع له الطريق، ويأخذهم بهدم ما بنوه ولو كان المبنىّ مسجدا؛ لأن مرافق الطّرق للسلوك لا للأبنية. واذا وضع الناس الأمتعة وآلات الأبنية فى مسالك الشوارع والأسواق ارتفاقا لينقلوه حالا بعد حال، مكّنوا منه إن لم يستضرّ به المارّة، ومنعوا منه إن استضرّوا به. وكذلك القول فى إخراج الأجنحة والسوابيط [1] ومجارى المياه وآبار الحشوش [2] ، يقرّ ما لم يضرّ، ويمنع ما ضرّ. ويجتهد المحتسب رأيه فيما ضرّ وما لم يضر، لأنه من الاجتهاد العرفىّ [دون الشرعىّ. والفرق بين الاجتهادين أنّ الاجتهاد الشرعىّ ما روعى فيه أصل ثبت حكمه بالشرع، والاجتهاد العرفىّ ما روعى فيه أصل ثبت حكمه بالعرف. ويوضح الفرق بينهما بتمييز ما يسوغ فيه اجتهاد المحتسب مما هو ممنوع من الاجتهاد [3] فيه] .
__________
[1] السوابيط: جمع ساباط، والساباط: سقيفة بين دارين.
[2] الحشوش: جمع حش مثلث الحاء، والحش: البستان. يطلق على بيت الخلاء كما هنا لما كان من عادتهم من التغوّط فى البساتين.
[3] زيادة عن الأحكام السلطانية.(6/314)
ولناظر الحسبة أن يمنع من ينقل الموتى من قبورهم إذا دفنوا فى ملك أو مباح، إلا من أرض مغصوبة، فيكون لمالكها أن يأخذ من دفنهم فيها بنقلهم منها.
واختلف فى جواز نقلهم من أرض قد لحقها سيل أو ندى، فجوّزه الزّبيرىّ وأباه غيره. ويمنع من خصاء الآدميين وغيرهم. ويؤدّب عليه؛ وإن استحقّ فيه قود أو دية استوفاه لمستحقّه ما لم يكن فيه تناكر وتنازع. ويمنع من خضاب الشّيب بالسواد إلا لمجاهد فى سبيل الله تعالى. ويؤدّب من يصبغ [1] به [للنساء] . ولا يمنع من الخضاب بالحنّاء والكتم [2] . ويمنع من التكسّب بالكهانة، ويؤدّب عليه الآخذ والمعطى.
وهذا فصل يطول شرحه، لأن المنكرات لا ينحصر عددها فتستوفى. وفيما تقدّم منها كفاية؛ والأحوال تؤخذ بنظائرها وأشباهها، فلا نطوّل بسردها.
وفقنا الله وإياك لصالح العمل، وجنّبنا موارد الخطأ ومصادر الزلل؛ وأعان كلّ وال على ما ولّاه، وكلّ راع على ما استرعاه، بمنّه وكرمه ولطفه.
__________
[1] فى الأصل: «تصنع به» وهو تحريف، والتصويب والزيادة عن الأحكام السلطانية.
[2] الكتم بالتحريك: من نبات الجبال، ورقه كورق الآس يخضب به مدقوقا وله ثمر كثمر الفلفل.
كمل الجزء السادس من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» يتلوه- إن شاء الله تعالى- فى الجزء السابع الباب الرابع عشر من القسم الخامس من الفنّ الثانى فى الكتابة وما تفرّع منها(6/315)
[مقدمة الجزء السابع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فقد تم بمعونة الله وحسن توفيقه تصحيح السفر السابع من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب.
وقد بذلنا وسعنا، وغاية جهدنا، في سبيل إظهاره للقرّاء سليما من التحريف والتصحيف، اللذين ملئت بهما أصوله التي بين أيدينا، وهى نسخة واحدة، مأخوذة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2570 تاريخ- فلم ندع فيه- بحسب الطاقة- لفظا محرّفا إلا أصلحناه، ولا كلاما ناقصا غير متصل الأجزاء إلا رجعنا اليه فى مظانه وأكملناه ولا علما من الأعلام إلا عنينا بتحقيقه وضبطه، ولا لفظا غريبا إلا فسرناه، ولا عبارة غامضة المعنى إلا أوضحنا الغرض منها، ولا بيتا يستغلق فهمه على القارئ إلا شرحناه ونسبناه إلى قائله، ولا اسم مكان أو بلد إلا نقلنا باختصار ما كتبه العلماء عنه، ولا لفظا يلتبس على القارئ إلا ضبطناه بما يزيل التباسه.
ومما هو جدير بالذكر والشكر هذه العناية الكبيرة التى كان يبذلها عن طيب نفس ذلك المدير الحازم، والمربى الفاضل، حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد أسعد بك برادة مدير دار الكتب المصرية، فقد كان حفظه الله يختلف إلينا(مقدمةج 7/1)
فى أكثر الأيام، ويبذل لنا من نصائحه الغالية وارشاداته القويمة ما يبعث فى نفوسنا الجدّ في العمل، والسعى فى إتقانه، ولا يفوتنا فى هذه الكلمة أن نشكر أيضا حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير السيد محمد على الببلاوى مراقب إحياء الآداب العربية بالدار لما كان يبذله لنا من الإعانة على عملنا بمعلوماته الثمينة عن البحوث ومراجعها، والكتب وأغراضها ومكان الفائدة منها، والله نسأل أن يجعل عملنا خالصا لوجهه إنه قريب مجيب.
مصححه أحمد الزين.(مقدمةج 7/2)
فهرس الجزء السابع
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى
يتضمن ما يشتمل عليه من الأبواب والفصول ورسائل الكتاب وخطب البلغاء
.... صفحة
الباب الرابع عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى الكتابة وما تفرّع من أصناف الكتاب أصل الكتابة 1
وأما شرفها 1
وأما فوائدها 2
ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام 4
ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه من البلاغة والايجاز الخ 4
فأما البلاغة 4
وأما الفصاحة 6
ذكر صفة البلاغة 7
ومن أمثالهم فى البلاغة 9
فصول من البلاغة 10
جمل من بلاغات العجم وحكمها 11
صفة الكاتب وما ينبغى أن يأخذ به نفسه 12
وأما ما ينبغى للكاتب أن يأخذ به نفسه 13(مقدمةج 7/3)
وأما ما قيل فى حسن الخط وجودة الكتابة ومدح الكتّاب والكتاب 14
ذكر شىء مما قيل فى آلات الكتابة 19
ذكر شىء مما قيل فى القلم 20
ذكر ما يحتاج الكاتب الى معرفته من الأمور الكلية 27
وأما الأمور الخاصة التى تزيد معرفتها قدره الخ 35
فأما علوم المعانى والبيان والبديع 35
وأما الحقيقة والمجاز 37
وأما التشبيه 38
وأما الاستعارة 49
فصل فيما تدخله الاستعارة وما لا تدخله 52
فصل فى أقسام الاستعارة 56
وأما الكناية 59
وأما التعريض 60
وأما التمثيل 60
وأما الخبر وأحكامه 61
وأما التقديم والتأخير 63
فصل فى مواضع التقديم والتأخير- أما التقديم 69
وأما التأخير 70
وأما الفصل والوصل 70
وأما الحذف والاضمار 75
فصل فى حذف المبتدا والخبر 77
فصل- الإضمار على شريطة التفسير الخ 79
وأما مباحث إن وإنما. أما إنّ 80
وأما إنما 83(مقدمةج 7/4)
فصل- اذا دخل ما وإلا على الجملة المشتملة على المنصوب الخ 84
وأما النظم 87
وأما التجنيس- فمنه المستوفى التام 90
ومنه المختلف 91
ومنه المذيّل 91
ومنه المركّب 92
ومن أنواع المركب المرفق 92
ومنه المزدوج 93
ومن أجناس التجنيس المصحف 93
ومنه المضارع 94
ومنه المشوّش 94
ومنه تجنيس الاشتقاق 95
ومما يشبه المشتق 95
ومن أجناس التجنيس تجنيس التصريف 96
ومنها التجنيس المخالف 97
ومنها تجنيس المعنى 97
وأما الطباق 98
وأما المقابلة 101
وأما السجع 103
وأما الترصيع 104
وأما المتوازى 104
وأما المطرّف 105
وأما المتوازن 105
فصل فى الفقر المسجوعة ومقاديرها 107(مقدمةج 7/5)
وأما رد العجز على الصدر 109
وأما الإعنات 113
وأما المذهب الكلاميّ 114
وأما حسن التعليل 115
وأما الالتفات 116
وأما التمام 118
وأما الاستطراد 119
وأما تأكيد المدح بما يشبه الذم 121
وأما تأكيد الذم بما يشبه المدح 122
وأما تجاهل العارف 123
وأما الهزل الذى يراد به الجدّ 124
وأما الكنايات 124
وأما المبالغة 124
وأما عتاب المرء نفسه 125
وأما حسن التضمين 126
وأما التلميح 127
وأما إرسال المثل 127
وأما ارسال مثلين 128
وأما الكلام الجامع 128
وأما اللف والنشر 129
وأما التفسير 129
وأما التعديد 130
وأما تنسيق الصفات 131
وأما الإيهام 131(مقدمةج 7/6)
وأما حسن الابتداءات 133
وأما براعة التخليص 135
وأما براعة الطلب 135
وأما براعة المقطع 135
وأما السؤال والجواب 136
وأما صحة الأقسام 136
وأما التوشيح 137
وأما الإيغال 138
وأما الإشارة 140
وأما التذييل 140
وأما الترديد 141
وأما التفويف 141
وأما التسهيم 142
وأما الاستخدام 143
وأما العكس والتبديل 144
وأما الرجوع 144
وأما التغاير 145
وأما الطاعة والعصيان 146
وأما التسميط 147
وأما التشطير 147
وأما التطريز 148
وأما التوشيع 148
وأما الاغراق 149
وأما الغلوّ 149(مقدمةج 7/7)
وأما القسم 150
وأما الاستدراك 151
وأما المؤتلفة والمختلفة 151
وأما التفريق المفرد 152
وأما الجمع مع التفريق 153
وأما التقسيم المفرد 153
وأما الجمع مع التقسيم 154
وأما التزاوج 154
وأما السلب والإيجاب 154
وأما الاطراد 155
وأما التجريد 156
وأما التكميل 157
وأما المناسبة 158
وأما التفريع 160
وأما نفى الشىء بإيجابه 163
وأما الإيداع 164
وأما الإدماج 164
وأما سلامة الاختراع 164
وأما حسن الاتباع 165
وأما الذم فى معرض المدح 166
وأما العنوان 166
وأما الإيضاح 169
وأما التشكيك 169
وأما القول بالموجب 170(مقدمةج 7/8)
وأما القلب 171
وأما التندير 172
وأما الإسجال بعد المغالطة 173
وأما الافتنان 173
وأما الإبهام 174
وأما حصر الجزئىّ والحاقة بالكلىّ 174
وأما المقارنة 175
وأما الإبداع 175
وأما الانفصال 177
وأما التصرف 177
وأما الاشتراك 178
وأما التهكم 179
وأما التدبيج 180
وأما الموجّه 181
وأما تشابه الأطراف 181
وأما ما يتصل بذلك من خصائص الكتابة فالاقتباس الخ 182
وأما الاستشهاد بالآيات 183
وأما الحل 183
ذكر ما يتعين على الكاتب استعماله والمحافظة عليه والتمسك به وما يجوز فى الكتابة وما لا يجوز 185
واذا كتب فى التهانى بالفتوح 193
وأما التقاليد والمناشير والتواقيع وما يتعلق بذلك 201
ذكر شىء من الرسائل المنسوبة الى الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وشىء من كلام الصدر الأوّل وبلاغتهم- فمن ذلك الرسالة المنسوبة الى أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه إلى علىّ وما يتصل بها من كلام عمر بن الخطاب وجواب علىّ رضى الله عنهم 213(مقدمةج 7/9)
ومن كلام عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها 230
ذكر شرح غريب رسالتها رضى الله عنها 232
ومن كلام على بن أبى طالب رضى الله عنه 233
ومن كلام الأحنف بن قيس 237
ومن كلام أم الخير بنت الحريش البارقية 241
خطبة الحجاج لما قدم البصرة 244
خطبته بعد وقعة دير الجماجم 245
ومن مكاتباته إلى المهلب بن أبى صفرة وأجوبة المهلب له 246
ومن كلام قطرى بن الفجاءة- خطبته فى ذم الدنيا 250
ومن كلام أبى مسلم الخراسانى 253
ومن كلام جماعة من أمراء الدولتين- خطبة ليوسف بن عمر 255
خطبة لخالد بن عبد الله القسرى 255
خطبة لأبى بكر بن عبد الله لما ولى المدينة 256
ذكر شىء من رسائل وفصول الكتاب والبلغاء المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين من المشارقة والمغاربة 259
ذكر شىء من رسائل فضلاء المغاربة ووزرائهم وكتابهم- فمن ذلك رسالة ابن زيدون التى كتبها على لسان ولادة الى إنسان استمالها الى نفسه عنه 271
وقال أيضا فى رقعة خاطب بها ابن جهور 290
ومن كلام أبى عبد الله محمد بن أبى الخصال 303
ومن كلام الوزير الفقيه أبى القاسم محمد بن عبد الله بن الجد 304
ومن كلام أبى عبد الله محمد بن الخياط 306
ومن كلام أبى حفص عمر بن برد الأصغر الأندلسى 306
ومن كلام أبى الوليد بن طريف 308
ومن كلام ذى الوزارتين أبى المغيرة بن حزم 310
ومن كلام الوزير الكاتب أبى محمد بن عبد الغفور 311(مقدمةج 7/10)
الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء وقد رتبناها على حروف المعجم
إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطىّ،
أساس البلاغة للزمخشرى،
الأمالى لأبى علىّ القالى،
أقرب الموارد، أدب الكتاب للصولى،
إرشاد السارى لشهاب الدين القسطلانى.
البيان والتبيين للجاحظ.
تحرير التحبير لابن أبى الإصبع،
تاج العروس للسيد محمد مرتضى الزبيدى،
تاريخ ابن جرير الطبرى،
تاريخ أبى الفداء،
تهذيب التهذيب فى أسماء الرجال للحافظ
ابن حجر،
تمام المتون فى شرح رسالة ابن زيدون للصفدى.
الحماسة لأبى تمام،
حسن التوسل إلى صناعة الترسل لشهاب الدين محمود الحلبي.
خزانة الأدب لابن حجة الحموى،
خلاصة تذهيب تهذيب الكمال فى أسماء الرجال للخزرجى.
دلائل الإعجاز للجرجانىّ،
ديوان أبى تمام،
ديوان أبى الطيب المتنبى،
ديوان أبى نواس،
ديوان لبيد بن ربيعة،
ديوان البحترى،
ديوان امرئ القيس،
ديوان أبى فراس الحمدانى،
ديوان حسان بن ثابت رضى الله عنه.
الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة لابن بسام.
رسائل بديع الزمان الهمذانى.
زهر الآداب للحصرى.
سرح العيون فى شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة.(مقدمةج 7/11)
شذور العقود لابن الجوزى،
شرح الباعونية،
شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد،
شرح رسائل بديع الزمان الهمذانى،
شروح تلخيص المفتاح،
شرح ديوان أبى تمام للخطيب التبريزى،
شرح شواهد المبانى. الشفاء للقاضى عياض،
الشعر والشعراء لابن قتيبة،
شرح ديوان امرئ القيس للبطليوسى.
صبح الأعشى للقلقشندى،
الصحاح للجوهرى،
الصناعتين لأبى هلال العسكرى.
العقد الفريد لابن عبد ربه،
العمدة لابن رشيق القيروانى.
فهرست ابن النديم.
القاموس المحيط للفيروزبادى.
لسان العرب لابن منظور.
المفضليات للضبى،
المعجب فى تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد بن على التميمى،
المثل السائر لابن الأثير الجزرى،
مجمع الأمثال للميدانى،
المحاسن والأضداد للجاحظ،
المشتبه فى أسماء الرجال للحافظ الذهبى،
المصباح المنير للفيومى،
معاهد التنصيص فى شرح شواهد التلخيص لعبد الرحيم العباسى،
معجم الأدباء لياقوت،
مختار الصحاح مغنى اللبيب لابن هشام،
المقتضب من جمهرة النسب لياقوت،
المضاف والمنسوب للثعالبى،
محاضرة الأبرار لابن العربى،
معلّقات العرب.
نقد الشعر لقدامة بن جعفر،
النهاية فى غريب الحديث لابن الأثير،
نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى.
وفيات الأعيان لابن خلكان،
الوافى بالوفيات للصفدى.
يتيمة الدهر للثعالبى.(مقدمةج 7/12)
الجزء السابع
من نهاية الأرب فى فنون الأدب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]
[تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و ... ]
الباب الرابع عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى الكتابة وما تفرّع من أصناف الكتّاب
ولنبدأ باشتقاق الكتابة،
ولم سمّيت الكتابة كتابة، ثم نذكر شرفها وفوائدها، ثم نذكر ما عدا ذلك من أخبار المحترفين بها، وما يحتاج كلّ منهم إليه، فنقول وبالله التوفيق والإعانة:
أصل الكتابة مشتقّ من الكتب وهو الجمع، ومنه سمّى الكتاب كتابا، لأنه يجمع الحروف، وسمّيت الكتيبة كتيبة، لأنها تجمع الجيش، وقد ورد فى المعارف: أن حروف المعجم أنزلت على آدم عليه السلام فى إحدى وعشرين صحيفة، وسنذكر من ذلك طرفا عند ذكرنا لأخبار آدم عليه السلام فى فنّ التاريخ، فهذا اشتقاقها.
وأما شرفها
- فقد نص الكتاب العزيز عليه، فقال تعالى- وهو أوّل ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن بغار حراء «1» فى شهر رمضان المعظّم-:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)
«2» وقال تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ)
وقال تعالى فى وصف الملائكة: (كِراماً كاتِبِينَ)
، الى غير ذلك من الآى.(7/1)
ومن شرف الكتابة نزول الكتب المتقدّمة مسطورة فى الصّحف كما ورد فى الصحف المنزلة على شيث وإدريس ونوح وابراهيم وموسى وداود وغيرهم صلّى الله عليهم كما أخبر به القرآن، قال الله تعالى: (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)
وقال تعالى: (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ)
، وما ورد فى الأخبار الصحيحة والأحاديث الصريحة أنه مكتوب على العرش وعلى أبواب الجنة ما صورته:
لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكفى بذلك شرفا.
وأمّا فوائدها:
فمنها رسم المصحف الكريم الموجود بين الدّفّتين فى أيدى الناس، ولولا ذلك لاختلف فيه ودخل الغلط وتداخل الوهم قلوب الناس.
ومنها رقم الأحاديث المرويّة عن النبي صلّى الله عليه وسلم
التى عليها بنيت الأحكام، وتميّز الحلال من الحرام، وضبط كتب العلوم المنقولة عن أعلام الإسلام وتواريخ من انقرض من الأنام فيما سلف من الأيام.
ومنها حفظ الحقوق، ومنع تمرّد ذوى العقوق؛
بما يقع عليهم من الشّهادات ويسطّر عليهم من السجلّات التى أمر الله تعالى بضبطها بقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) .
ومنها المكاتبة بين الناس بحوائجهم من المسافات البعيدة،
إذ لا ينضبط مثل ذلك برسول «1» ، ولا تنال الحاجة «2» به بمشافهة قاصد، ولو كان على ما عساه عليه يكون من البلاغة والحفظ لوجود المشقّة، وبعد الشقّة.(7/2)
ومنها ضبط أحوال الناس،
كمناشير الجند، وتواقيع العمّال، وإدرارات أرباب الصّلات فى سائر الأعمال، إلى ما يجرى هذا المجرى، فكان وجودها فى سائر الناس فضيلة، وعدمها نقيصة إلا فى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فانها إحدى معجزاته لأنه صلّى الله عليه وسلم أمّىّ [أتى] «1» بما أعجز البلغاء، وأخرس الفصحاء، وفلّ حدّ المؤرّخين من غير مدارسة كتب ولا ممارسة تعليم، ولا مراجعة لمن عرف بذلك واشتهر به.
والكتابة العربية أشرف الكتابات لأن الكتاب العزيز لم يرقم بغيرها خلافا لسائر الكتب المنزّلة. وهذه الكتابة العربية أوّل «2» من اخترعها على الوضع الكوفىّ سكّان مدينة الأنبار «3» ، ثم نقل هذا القلم إلى مكة فعرف بها، وتعلّمه من تعلّمه، وكثر فى الناس وتداولوه، ولم تزل الكتابة به على تلك الصورة الكوفيّة إلى أيام الوزير أبى «4» علىّ بن مقلة، فعرّبها تعريبا غير كاف، ونقلها نقلا غير شاف، فكانت كذلك إلى أن ظهر علىّ بن هلال الكاتب المعروف بابن «5» البوّاب، فكمّل تعريبها، وأحسن تبويبها؛ وأبدع نظامها، وأكمل التئامها؛ وحلّاها بهجة وجمالا، وأولاها بل أولى بها منّة وإفضالا؛ وألبسها من رقم أنامله حللا، وجلاها للعيون فكان أوّل من أحسن فى ترصيعها وترصيفها عملا؛ ولا زال يتنوّع فى محاسنها، و «6» يتنوّع فى ترصيع عقود(7/3)
ميامنها؛ حتى تقرّرت على أجمل قاعدة، وتحرّرت على أكمل فائدة؛ وسنزيد ما قدّمناه من هذه الفصول وضوحا وتبيانا، ونقيم على تفصيل مجملها وبسط مدمجها أدلّة وبرهانا.
[ثم الكتابة «1» بحسب من] يحترفون بها على أقسام:
وهى كتابة الإنشاء، وكتابة الديوان والتصرّف، وكتابة الحكم والشروط، وكتابة النّسخ، وكتابة التعليم؛ ومنهم من عدّ فى الكتابة كتابة الشرط «2» ، ولم نرد ذكرها تنزيها لكتابنا عنها، ولا حكمة فى إيرادها.
ولنبدأ بذكر كتابة الإنشاء وما يتعلّق بها.
ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه من البلاغة والإيجاز والجمع فى المعنى الواحد بين الحقيقة والمجاز؛ والتلعب بالألفاظ والمعانى والتوصّل إلى بلوغ الأغراض والأمانى
ولنبدأ من ذلك بوصف البلاغة وحدّها والفصاحة:
فأما البلاغة
- فهى أن يبلغ الرجل بعبارته كنه ما فى نفسه. ولا يسمّى البليغ بليغا إلا إذا جمع المعنى الكثير فى اللفظ القليل، وهو المسمّى إيجازا.
وينقسم الإيجاز إلى قسمين: إيجاز حذف، وهو أن يحذف شىء من الكلام وتدلّ عليه القرينة، كقوله تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها)
والمراد أهل القرية وكقوله تعالى: (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى)
والمراد ولكن البرّ برّ من اتقى، وكقوله تعالى:
(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا)
والمراد من قومه، وقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)
والمراد لا يطيقونه؛ ونظائر هذا وأشباهه كثير.(7/4)
وإيجاز قصر، وهو تكثير المعنى وتقليل الالفاظ، كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مما جمع فيه شرائط الرسالة: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)
وسمع أعرابىّ رجلا يتلوها فسجد وقال: سجدت لفصاحته، ذكره أبو عبيد. وقوله تعالى مما جمع فيه مكارم الأخلاق: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)
وقوله تعالى:
(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)
فجمع فى ثلاث كلمات بين العنوان والكتاب والحاجة؛ وقوله تعالى: (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)
فجمع فى هذا على لسان النملة بين النداء والتنبيه والأمر والنهى «1» والتحذير والتخصيص والعموم والإشارة والإعذار؛ ونظير ذلك ما حكى عن الأصمعىّ أنه سمع جارية تتكلّم فقال لها:
قاتلك الله، ما أفصحك! فقالت: أو يعدّ هذا فصاحة بعد قول الله تعالى:
(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)
فجمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
ولما سمع الوليد بن المغيرة من النبى صلّى الله عليه وسلم قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
قال: والله إنّ له لحلاوة «2» ، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق «3» ، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر.(7/5)
وسمع آخر رجلا يقرأ: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا)
فقال: أشهد أنّ مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: البيان اسم جامع لكل ما كشف لك من قناع المعنى، وهتك الحجاب عن الضمير، حتى يفضى السامع إلى حقيقة اللفظ ويهجم على محصوله كائنا ما كان.
وقيل لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ فقال: أن يكون اللّفظ محيطا بمعناك كاشفا عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بطول الفكرة، ويكون سليما من التّكلّف، بعيدا من سوء الصنعة، بريئا من التعقيد، غنيّا عن التأمّل.
وقال آخر: خير البيان ما كان مصرّحا عن المعنى ليسرع إلى الفهم تلقّيه، وموجزا ليخفّ على اللسان تعاهده.
وقال أعرابىّ: البلاغة التقرّب من معنى البغية، والتّبعّد من وحشىّ الكلام وقرب المأخذ، وإيجاز فى صواب، وقصد إلى الحجة، وحسن الاستعارة. قال على رضى الله عنه: البلاغة الإفصاح عن حكمة مستغلقة «1» ، وإبانة علم مشكل.
وقال الحسن بن على رضى الله عنهما: البلاغة إيضاح الملتبسات، وكشف عورات الجهالات، بأحسن ما يمكن من العبارات.
وأما الفصاحة
- فهى مأخوذة من قولهم: أفصح اللبن إذا أخذت عنه الرّغوة. وقالوا: لا يسمّى الفصيح فصيحا حتى تخلص لغته عن اللّكنة الأعجميّة ولا توجد الفصاحة إلا فى العرب. وعلماء العرب يزعمون أن الفصاحة فى الألفاظ، والبلاغة فى المعانى، ويستدلّون بقولهم: لفظ فصيح، ومعنى بليغ.(7/6)
ومن الناس من استعمل الفصاحة والبلاغة بمعنى واحد فى الألفاظ والمعانى والأكثرون عليه.
ذكر صفة البلاغة
قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلّغك الجنّة، وعدل بك عن النار؛ قال السائل «1» : ليس هذا أريد؛ قال: فما بصّرك مواقع رشدك وعواقب غيّك؛ قال:
ليس هذا أريد؛ قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع، ومن لم يحسن أن يسمع لم يحسن أن يسأل، ومن لم يحسن أن يسأل لم يحسن أن يقول؛ قال:
ليس هذا أريد؛ قال: قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إنّا «2» معشر النبيّين بكاء» - أى قليلوا الكلام، وهو جمع بكىء- وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله؛ قال السائل: ليس هذا أريد؛ قال: فكأنك تريد تخيّر اللفظ فى حسن إفهام؛ قال:
نعم؛ قال: إنّك إن أردت تقرير حجّة الله فى عقول المتكلمين، وتخفيف المؤونة على المستمعين، وتزيين المعانى فى قلوب المستفهمين بالألفاظ الحسنة رغبة فى سرعة استجابتهم، ونفى الشّواغل عن قلوبهم بالمواعظ الناطقة عن الكتاب والسّنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب.
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: معرفة الوصل من الفصل. وقيل لآخر:
ما البلاغة؟ قال: ألّا يؤتى القائل من سوء فهم السامع، ولا يؤتى السامع من سوء بيان القائل.(7/7)
وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة؟ فقال: ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه.
وقيل لبعض البلغاء: من البليغ؟ قال: الذى إذا قال أسرع، وإذا أسرع أبدع وإذا أبدع حرّك كلّ نفس بما أودع.
وقالوا: لا يستحقّ الكلام اسم البلاغة حتى يكون معناه الى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك.
وسأل معاوية صحارا «1» العبدىّ: ما هذه البلاغة؟ قال: أن تجيب فلا تبطئ وتصيب فلا تخطئ «2» .
وقال الفضل: قلت لأعرابىّ: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز فى غير عجز والإطناب فى غير خطل.
وقال قدامة: البلاغة ثلاثة مذاهب: المساواة وهو مطابقة اللفظ المعنى لا زائدا ولا ناقصا؛ والإشارة وهو أن يكون اللفظ كاللّمحة الدالّة؛ والدليل وهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، ليظهر لمن لم يفهمه، ويتأكد عند من فهمه.
قال بعض الشعراء:
يكفى قليل كلامه وكثيره ... بيت إذا طال النّضال مصيب
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربّه صاحب العقد: البلاغة تكون على أربعة أوجه: تكون باللفظ والخط والإشارة والدّلالة، وكل وجه منها له حظ من البلاغة والبيان، وموضع لا يجوز فيه غيره، وربّ إشارة أبلغ من لفظ.(7/8)
وقال رجل للعتّابىّ: ما البلاغة؟ قال: كلّ ما أبلغك حاجتك، وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ؛ قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع الكلام: إسمع منّى، وافهم عنّى، أو يمسح عثنونه «1» ، أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته، أو يسعل من غير سعلة، أو ينبهر «2» فى كلامه قال بعض الشعراء:
ملىء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع
ومن كلام أحمد بن اسماعيل الكاتب المعروف بنطاحة «3» ، قال: البليغ من عرف السقيم من المعتلّ، والمقيّد من المطلق، والمشترك من المفرد، والمنصوص من المتأوّل، والإيماء من الإيحاء، والفصل من الوصل، والتلويح من التصريح.
ومن أمثالهم فى البلاغة
قولهم: يقلّ الحزّ «4» ويطبّق المفصل. وذلك أنهم شبهوا البليغ الموجز الذى يقلّ الكلام ويصيب نصوص المعانى «5» بالجزّار الرفيق الذى يقلّ حزّ اللحم ويصيب مفاصله؛ وقولهم: يضع الهناء مواضع النّقب، أى لا يتكلّم إلا فيما يجب الكلام فيه. والهناء: القطران. والنّقب: الجرب. وقولهم: قرطس «6» فلان فأصاب الغرّة، وأصاب عين القرطاس «7» . كلّ هذه أمثال للمصيب فى كلامه الموجز فى لفظه.(7/9)
فصول من البلاغة
قيل: لما قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليا عليها، قال: من كان فى يده شىء من مال عبد الله بن حازم فلينبذه، ومن كان فى فيه فليلفظه، ومن كان فى صدره فلينفثه. فعجب الناس من حسن ما فصّل.
وكتب المعتصم إلى ملك الروم جوابا عن كتاب تهدّده فيه: الجواب ما ترى لا ما تسمع (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ «1» لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) .
وقيل لأبى «2» السّمّال الأسدىّ أيام معاوية: كيف تركت الناس؟ قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف، وظالم لا ينتهى. وقيل لشبيب بن شبّة عند باب الرشيد:
كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجيا، والخارج راضيا.
وقال حسّان بن ثابت فى عبد الله بن عباس رضى الله عنهم:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فضلا «3»
كفى وشفى ما فى النفوس فلم يدع ... لذى إربة فى القول جدّا ولا هزلا
قال سهل بن هارون: البيان ترجمان العقول، وروض القلوب؛ البلاغة ما فهمته العامّة، ورضيته الخاصّة؛ أبلغ الكلام ما سابق معناه لفظه؛ خير الكلام ما قلّ وجلّ، ودلّ ولم يملّ؛ خير الكلام ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا.(7/10)
وقال ابن المعتزّ: البلاغة أن تبلغ المعنى ولم تطل سفر الكلام؛ خير الكلام ما أسفر عن الحاجة؛ أبلغ الكلام ما يؤنس مسمعه، ويوئس «1» مضيّعه؛ أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقلّ مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه؛ البلاغة ما أشار اليه البحترىّ حيث قال:
وركبن اللّفظ القريب فأدركن ... به غاية المراد البعيد
جمل من بلاغات العجم وحكمها
قال أبرويز لكاتبه: إذا فكّرت فلا تعجل، وإذا كتبت فلا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية، ولا تقصّرن عن التحقيق فإنها هجنة فى المقالة، ولا تلبسن كلاما بكلام، ولا تباعدنّ معنى عن معنى، واجمع الكثير مما تريد فى القليل مما تقول. ووافق كلامه قول ابن المعتزّ: ما رأيت بليغا إلا رأيت له فى المعانى إطالة وفى الألفاظ تقصيرا. وهذا حثّ على الإيجاز. وقال أبرويز أيضا لكاتبه: اعلم أن دعائم المقالات أربع إن التمس إليها «2» خامسة لم توجد، وإن نقص منها واحدة لم تتمّ وهى: سؤالك الشىء، وسؤالك عن الشىء، وأمرك بالشىء، وخبرك عن الشىء؛ فإذا طلبت فأنجح، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فأحكم، وإذا أخبرت فحقّق.
وقال بهرام جور: الحكم ميزان الله فى الأرض. ووافق ذلك قول الله تعالى:
(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ)
وقال أنوشروان لابنه هرمز: لا يكون عندك لعمل البرغاية فى الكثرة، ولا لعمل الإثم غاية فى القلّة. ووافق من كلام العرب قول الأفوه:
والخير تزداد منه ما لقيت به ... والشر يكفيك منه قلّما زاد(7/11)
وقال أزدشير بن بابك: من لم يرض بما قسم الله له طالت معتبته، وفحش حرصه، ومن فحش حرصه ذلّت نفسه، وغلب عليه الحسد، ومن غلب عليه الحسد لم يزل مغموما فيما لا ينفعه، حزينا على ما لا يناله. وقال: من شغل نفسه بالمنى لم يخل قلبه من الأسى.
وقال بعضهم: الحقوق أربعة: حقّ لله، وقضاؤه الرضا بقضائه، والعمل بطاعته، وإكرام أوليائه؛ وحقّ لنفسك، وقضاؤه تعهّدها بما يصلحها ويصحّها ويحسم موادّ الأذى عنها؛ وحقّ للنّاس، وقضاؤه عمومهم بالمودّة، ثم تخصيص كلّ امرئ منهم بالتوقير والتفضيل والصّلة؛ وحقّ للسلطان، وقضاؤه تعريفه بما خفى عليه من منفعة رعيّة، وجهاد عدوّ، وعمارة بلد، وسدّ ثغر. وقال بزرجمهر:
إلزام الجهول الحجّة يسير، وإقراره بها عسير.
[صفة الكاتب «1» ] وما ينبغى أن يأخذ به نفسه
قال إبراهيم بن محمد الشيبانىّ: من صفة الكاتب اعتدال القامة، وصغر الهامة وخفة اللهازم «2» ، وكافة اللحية، وصدق الحسّ، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل وخطف الإشارة، وملاحة الزّىّ. وقال: من كمال آلة الكاتب أن يكون بهىّ الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، صادق الحسّ حسن البيان، رقيق حواشى اللسان، حلو الإشارة، مليح الاستعارة، لطيف المسلك مستفره «3» المركب، ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثّة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية(7/12)
عظيم الهامة؛ فإنهم زعموا أن هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة.
قال بعض الشعراء:
وشمول كأنما اعتصروها ... من معانى شمائل الكتّاب
هذا ما قيل فى صفة الكاتب.
وأما ما ينبغى للكاتب أن يأخذ به نفسه،
فقد قال إبراهيم الشيبانىّ:
أوّل ذلك حسن الخط الذى هو لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووحى الفكر، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثتهم «1» على بعد المسافة ومستودع السرّ، وديوان الأمور.
وقد قيل فى قوله تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ)
: إنه الخطّ الحسن.
وقد اختلف الكتّاب فى نقط الخطّ وشكله، فمنهم من كرهه قال سعيد بن حميد الكاتب:
لأن يشكل الحرف على القارئ أحبّ إلىّ من أن يعاب الكاتب بالشكل.
وعرض خطّ على عبد الله بن طاهر فقال: ما أحسنه لولا أنه أكثر شونيزه «2» ونظر محمد بن عبّاد إلى أبى عبيد وهو يقيّد البسملة فقال: لو عرفته ما شكلته.
ومنهم من حمده فقال: حلّوا عواطل الكتب بالتقييد، وحصّنوها من شبه التصحيف والتحريف.
وقيل: إعجام الكتب يمنع من استعجامها «3» ، وشكلها يصونها عن إشكالها.(7/13)
قال الشاعر «1» :
وكأنّ أحرف خطّه شجر ... والشكل فى أغصانه «2» ثمره «3» .
وأما ما قيل فى حسن الخطّ وجودة الكتابة ومدح الكتّاب والكتاب.
قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: الخط الحسن يزيد الحقّ وضوحا.
وقال: حسن الخطّ إحدى البلاغتين.
وقال عبيد الله بن العباس: الخط لسان اليد. وقال جعفر بن يحيى: الخطّ سمط «4» الحكمة، به تفصّل شذورها، وينتظم منثورها؛ وقال أبو هلال العسكرىّ:
الكتب عقل شوارد الكلم ... والخطّ خيط فى يد الحكم
والخطّ نظّم كلّ منتثر ... منها وفصّل كلّ منتظم
والسيف وهو بحيث تعرفه ... فرض عليه عبادة القلم.
وقد اختلف الناس فى الخطّ واللفظ، فقال بعضهم: الخطّ أفضل من اللفظ لأن اللفظ يفهم الحاضر، والخطّ يفهم الحاضر والغائب.
قالوا: ومن أعاجيب الخطّ كثرة اختلافه والأصل فيه واحد، كاختلاف صور الناس مع اجتماعهم فى الصبغة. قال الصّولى «5» : سئل بعض الكتاب عن الخطّ متى(7/14)
يستحقّ أن يوصف بالجودة؟ قال: اذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه؛ واستقامت سطوره، وضاهى سعوده حدوره؛ وتفتّحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه؛ وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنقاسه «1» ، ولم تختلف أجناسه؛ وأسرع الى العيون تصوّره، والى القلوب ثمره «2» ؛ وقدّرت فصوله، [واندمجت «3» وصوله، وتناسب دقيقه وجليله] ؛ وتساوت أطنابه، واستدارت أهدابه؛ وخرج عن [نمط «4» الورّاقين] ، وبعد عن تصنّع المحرّرين؛ [وقام لكاتبه «5» مقام النسبة والحلية] وكان حينئذ كما قلت فى صفة الخطّ:
اذا ما تخلّل قرطاسه ... وساوره القلم الأرقش «6»
تضمّن من خطّه حلّة ... كمثل الدنانير أو أنقش
حروف تكون لعين الكليل ... نشاطا ويقرؤها الأخفش «7»
وقال ابن المعتزّ:
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتّح نورا أو تنظّم جوهرا
وقيل لبعضهم: كيف رأيت ابراهيم الصّولىّ؟ فقال:
يؤلّف اللّؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدرّ بالأقلام فى الكتب(7/15)
وقال آخر «1» :
أضحكت قرطاسك عن جنّة ... أشجارها من حكم مثمره
مسودّة سطحا ومبيضّة ... أرضا «2» كمثل الليلة المقمره
وقال آخر:
كتبت فلولا أن هذا محلّل ... وذاك حرام قست خطّك بالسحر
فو الله ما أدرى أزهر خميلة ... بطرسك أم درّ يلوح على نحر
فان كان زهرا فهو صنع سحابة ... وإن كان درّا فهو من لجج البحر
وقال آخر:
وكاتب يرقم فى طرسه ... روضا به ترتع ألحاظه
فالدرّ ما تنظم أقلامه ... والسحر ما تنثر ألفاظه
وقال آخر:
وشاذن من بنى الكتّاب مقتدر ... على البلاغة أحلى الناس إنشاء
فلا يجاريه فى ميدانه أحد ... يريك سحبان فى الإنشاء إن شاء
وقال آخر:
إن هزّ أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كلّ كمىّ هزّ عامله «3»
وإن أمرّ على رقّ «4» أنامله ... أقرّ بالرّق كتّاب الأنام له(7/16)
وقال أبو الفتح كشاجم:
واذا نمنمت بنانك خطّا ... معربا عن بلاغة وسداد
عجب الناس من بياض معان ... تجتنى من سواد ذاك المداد
وقال الممشوق «1» الشامىّ شاعر اليتيمة:
لا يخطر الفكر فى كتابته ... كأنّ أقلامه لها خاطر
القول والفعل يجريان معا ... لا أوّل فيهما ولا آخر
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: الكتاب نعم الذّخر والعقدة «2» ، ونعم الجليس والعمدة، ونعم النّشرة «3» والنّزهة، ونعم المستغلّ والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدّخيل، والوزير والنّزيل؛ والكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشى ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدّا، إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره وعجبت من غرائب فوائده، وإن شئت ألهتك نوادره، وإن شئت شجتك مواعظه ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وناطق أخرس، وببارد حارّ ومن لك بطبيب أعرابىّ، وبرومىّ «4» هندىّ، وفارسىّ يونانىّ، وبقديم مولّد، وبميت ممتع، ومن لك بشىء يجمع لك الأوّل والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب(7/17)
والرفيع والوضيع، والغثّ والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضدّه؛ وبعد: فمتى رأيت بستانا يحمل فى ردن «1» ؟ وروضة تقلّب فى حجر؟ ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحيا، ومن لك بمؤنس لا ينام إلّا بنومك، ولا ينطق إلّا بما تهوى، «آمن من الأرض» وأكتم للسر من صاحب السرّ، وأضبط لحفظ الوديعة من أرباب الوديعة، وأحضر لما استحفظ من الأمّيين، ومن الأعراب المعربين، بل من الصّبيان قبل اعتراض الأشغال، ومن العميان قبل التمتّع بتمييز الأشخاص، حين العناية تامة لم تنتقص والأذهان فارغة لم تقتسم، والإرادات وافرة لم تستعتب «2» ، والطينة لينة فهى أقبل ما تكون للطابع، والقضيب رطب فهو أقرب ما يكون للعلوق، حين هذه الخصال لم يلبس جديدها، ولم تتفرّق قواها، وكانت كقول الشاعر:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبى فارغا فتمكّنا
وقال ذو الرمّة لعيسى بن عمر: اكتب شعرى، فالكتاب أعجب إلى من الحفظ لأن الأعرابىّ ينسى الكلمة قد تعب فى طلبها يوما أو ليلة، فيضع موضعها كلمة فى وزنها «3» لم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدّل كلاما بكلام. قال: ولا أعلم جارا أبرّ، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلّما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية، ولا أقلّ خيانة، ولا أقلّ إبراما وإملالا، ولا أقل خلافا وإجراما ولا أقلّ غيبة، ولا أكثر أعجوبة وتصرّفا، ولا أقلّ صلفا وتكلّفا، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد فى جدال، ولا أكفّ عن قتال من كتاب؛ ولا أعلم شجرة أطول عمرا، ولا أجمع «4» أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى(7/18)
ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد فى كل إبان «1» من كتاب؛ ولا أعلم نتاجا فى حداثة سنة وقرب ميلاده، وحضور ذهنه، وإمكان موجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع الكتاب؛ وقد قال الله تبارك اسمه لنبيه صلّى الله عليه وسلم: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
فوصف نفسه تعالى جدّه بأن علّم بالقلم، كما وصف به نفسه بالكرم، واعتد بذلك من نعمه العظام، وفى أياديه الجسام.
ذكر شىء مما قيل فى آلات الكتابة
قال ابراهيم بن محمد الشّيبانىّ فيما يحتاج إليه الكاتب:
من ذلك أن يصلح الكاتب آلته التى لا بدّ منها، وأداته التى لا تتمّ صناعته إلا بها، وهى دواته، فلينعم «2» ربّها وإصلاحها، ثم يتخير من أنابيب «3» القصب أقلّه عقدا وأكثفه لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواءا، ويجعل لقرطاسه سكّينا حادّا لتكون عونا له على برى أقلامه، ويبريها من جهة نبات القصبة، فان محلّ القلم من الكاتب كمحلّ الرمح من الفارس. وقد خصّ الفضلاء القلم بأوصاف كثيرة، ومزايا خطيرة فلنذكر منها طرفا.(7/19)
ذكر شىء مما قيل فى القلم
قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ
وقال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.
وقال الحكماء: القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسرّ القلوب.
وقالوا: عقول الرجال تحت أسنّة أقلامها. بنوء «1» الأقلام يصوب غيث الحكمة.
القلم صائغ الكلام، يفرغ ما يجمعه القلب، ويصوغ ما يسبكه «2» اللّب.
وقال جعفر بن يحيى: لم أر باكيا أحسن تبسما من القلم.
وقال المأمون: لله درّ القلم كيف يحوك وشى المملكة!.
وقال ثمامة بن أشرس: ما أثّرته الأقلام، لم تطمع فى درسه الأيام. بالأقلام تدبّر الأقاليم. كتاب المرء عنوان عقله، ولسان فضله. عقل الكاتب فى قلمه.
وقال ابن المعتزّ: القلم مجهّز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة كأنه يقبّل بساط سلطان، أو يفتّح نوّار بستان.
وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال: منها جودة برى القلم وإطالة جلفته «3» ، وتحريف قطّته، وحسن التأتّى لامتطاء الأنامل، وإرسال المدّة بعد إشباع الحروف، والتحرّز عند فراغها من الكسوف، وترك الشكل على الخطإ والإعجام على التصحيف.(7/20)
وقال العتّابىّ: سألنى الأصمعىّ فى دار الرشيد: أىّ الأنابيب للكتابة أصلح وعليها أصبر؟ فقلت له: ما نشف «1» بالهجير ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه؛ من التّبريّة القشور، الدّرّيّة الظهور، الفضّيّة الكسور؛ قال: فأى نوع من البرى أصوب وأكتب؟ فقلت: البرية المستوية القطّة التى عن يمين سنها برية تؤمن معها المحبّة عند المدة والمطّة، للهواء فى شقّها فتيق، والريح فى جوفها خريق «2» ، والمداد فى خرطومها رقيق. قال العتابىّ: فبقى الأصمعى شاخصا إلىّ ضاحكا، لا يحير مسألة ولا جوابا.
وكتب على بن الأزهر إلى صديق له يستدعى منه أقلاما: أما بعد: فإنا على طول الممارسة لهذه الكتابة التى غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوسم «3» ؛ فحلّت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب؛ وجدنا الأقلام الصّحريّة «4» أجرى فى الكواغد «5» وأمرّ فى الجلود، كما أنّ البحريّة منها أسلس فى القراطيس، وألين فى المعاطف وأشد لتعريف «6» الخط فيها، ونحن فى بلد قليل القصب رديئه، وقد أحببت فى أن تتقدّم فى اختيار «7» أقلام صحريّة، وتتنوّق «8» فى اقتنائها قبلك، وتطلبها من مظانّها ومنابتها من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمّن «9» باختيارك منها الشديدة الصّلبة(7/21)
النقيّة الجلود، القليلة الشحوم، الكثيرة اللحوم، الضيقة الأجواف «1» ، الرزينة المحمل فإنها أبقى على الكتابة، وأبعد من الحفا، وأن تقصد بانتقائك للرقاق القضبان المقوّمات المتون، الملس المعاقد «2» ، الصافية القشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، المستحكمة يبسا وهى قائمة على أصولها، لم تعجل عن إبّان ينعها، ولم تأخّر إلى الأوقات المخوفة عليها من خصر «3» الشتاء وعفن الأنداء؛ فإذا استجمعت عندك أمرت بقطعها ذراعا ذراعا قطعا رقيقا، ثم عبأت منها حزما فيما يصونها من الأوعية، «4» [ووجّهتها مع من يؤدّى الأمانة فى حراستها وحفظها وإيصالها] وتكتب معها بعدّتها وأصنافها بغير تأخير ولا توان، إن شاء الله تعالى.
وأهدى ابن الحرون «5» إلى بعض إخوانه أقلاما وكتب إليه:
إنه لما كانت الكتابة- أبقاك الله- أعظم الأمور، وقوام الخلافة، وعمود المملكة أتحفتك من آلتها بما يخفف حمله، وتثقل قيمته، ويعظم نفعه، ويجلّ خطره، وهى أقلام من القصب النابت فى الصحراء الذى نشف بحرّ الهجير [فى قشره «6» ] ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه؛ فهى كاللآلئ المكنونة فى الصدف، والأنوار المحجوبة فى السدف «7» ؛ تبريّة القشور، درّية الظهور، فضية الكسور؛ قد كستها الطبيعة جوهرا كالوشى المحبّر، ورونقا «8» كاالديباج «9» المنيّر.(7/22)
ومن كتاب لأبى الخطاب الصابى- يصف فيه أقلاما أهداها فى جملة أصناف- جاء منه:
وأضفت إليها أقلاما سليمة من المعايب، مبرّأة من المثالب؛ جمّة المحاسن بعيدة عن المطاعن؛ لم يربها طول ولا قصر، ولم ينقصها ضعف ولا خور؛ ولم يشنهالين ولا رخاوة، ولم يعبها كزازة «1» ولا قساوة؛ فهذه «2» آخذة بالفضائل من جميع جهاتها، مستوفية للمادح بسائر صفاتها؛ صلبة المعاجم، ليّنة المقاطع؛ موفية القدود والألوان، محمودة المخبر والعيان؛ قد استوى فى الملاسة خارجها وداخلها، وتناسب فى السلاسة عاليها وسافلها؛ نبتت بين الشمس والظلّ، واختلف عليها الحرّ والقر؛ فلفحها «3» وقدان الهواجر، وسفعتها [سمائم «4» ] شهر ناجر «5» ؛ ووقذها الشّفّان «6» بصرده، وقذفها الغمام ببرده؛ وصابتها الأنواء بصيّبها، واستهلّت عليها السحائب بشآبيبها «7» ؛ فاستمرّت مرائرها «8» على إحكام، واستحصد سحلها «9» بالإبرام؛ جاءت شتّى «10» الشيات، متغايرة الهيئات، متباينة المحالّ والبلدان؛ تختلف بتباعد ديارها، وتأتلف بكرم نجارها؛ فمن أنابيب ناسبت رماح الخط فى أجناسها، وشاكلت الذهب فى ألوانها، وضاهت(7/23)
الحرير فى لمعانها؛ بطيئة «1» الحفا، نمرة «2» القوى؛ لا يشظيها «3» القطّ، ولا يشعّث «4» بها الخط؛ ومن مصريّة بيض، كأنها [قباطىّ «5» مصر نقاء، وغرقئ البيض صفاء؛ غذاها الصعيد من ثراه بلبّه] وسقاها النيل من نميره وعذبه؛ فجاءت ملتئمة الأجزاء، سليمة من الالتواء؛ تستقيم شقوقها فى أطوالها، ولا تنكّب عن يمينها ولا شمالها؛ تقترن بها صفراء كأنها معها عقيان «6» قرن بلجين، أو ورق خلط بعين؛ تختال فى صفر ملاحفها، وتميس فى مذهب مطارفها «7» ؛ بلون غياب الشمس، وصبغ ثياب الورس «8» ، ومن منقوشة تروق العين، وتونق النّفس؛ ويهدى حسنها الأريحيّة إلى القلوب، ويحلّ الطرب لها حبوة الحكيم اللبيب؛ كأنها اختلاف الزهر اللامع، وأصناف الثمر اليانع؛ [ومن بحريّة موشيّة الليط «9» ] رائقة التخليط «10» ؛ كأنّ داخلها قطرة دم، أو حاشية رداء(7/24)
معلم، وكأنّ خارجها أرقم، أو متن واد مفعم، نثرت ألوانا تزرى بورد الخدود، وأبدت قامات تفصح بأود القدود.
وقد أكثر الشعراء القول فى وصف القلم، فمن ذلك قول أبى تمّام الطائىّ:
لك القلم الأعلى الذى بشباته ... تصاب من الأمر الكلى والمفاصل
لعاب الأفاعى القاتلات لعابه ... وأرى «1» الجنى اشتارته أيد عواسل
له ريقة طلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره فى الشرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس الّلطاف وأفرغت ... عليه شعاب «2» الفكر وهى حوافل
أطاعته أطراف القنا وتقوّضت ... لنجواه تقويض الخيام والجحافل
إذا استغزر الذهن الجلىّ «3» وأقبلت ... أعاليه فى القرطاس وهى أسافل
وقد رفدته الخنصران وسدّدت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل
رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنّى وسمينا خطبه وهو ناحل
وقال آخر:
قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب ... ثم استمدّوا بها ماء المنيّات
نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لم ينالوا بحدّ المشرفيّات
وقال ابن المعتزّ:
قلم ما أراه أم فلك يجرى ... بما شاء قاسم ويسير «4»
خاشع فى يديه يلثم قرطا ... سا كما قبّل البساط شكور(7/25)
ولطيف المعنى جليل نحيف ... وكبير الأفعال وهو صغير
كم منايا وكم عطايا وكم ... حتف وعيش تضم تلك السطور
نقشت بالدجى نهارا فما أدرى ... أخطّ فيهن أم تصوير
وقال محمد «1» بن علىّ:
فى كفه صارم لانت مضاربه ... يسوسنا رغبا إن شاء أو رهبا
السيف والرمح خدّام له أبدا ... لا يبلغان له جدّا ولا لعبا
تجرى دماء الأعادى بين أسطره ... ولا يحس له صوت إذا ضربا
فما رأيت مدادا قبل ذاك دما ... ولا رأيت حساما قبل ذا قصبا
وقال ابن الرومىّ:
لعمرك ما السيف سيف الكمىّ ... بأخوف من قلم الكاتب
له شاهد إن تأمّلته ... ظهرت على سره الغائب
أداة المنيّة فى جانبيه ... فمن مثله رهبة الراهب
ألم تر فى صدره كالسنان ... وفى الردف كالمرهف القاضب؟
وقال الرفّاء «2» :
أخرس ينبيك بإطراقه ... عن كل ما شئت من الأمر
يذرى على قرطاسه دمعه ... يبدى لنا السرّ وما يدرى
كعاشق أخفى هواه وقد ... نمّت عليه عبرة تجرى
تبصره فى كل أحواله ... عريان يكسو الناس أو يعرى
يرى أسيرا فى دواة وقد ... أطلق أقواما من الأسر(7/26)
وقال آخر:
وذى عفاف راكع ساجد ... أخو صلاح دمعه جارى
ملازم الخمس لأوقاتها ... مجتهد فى خدمة البارى
وقال ابن الرومىّ:
إن يخدم القلم «1» السيف الذى خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شىء يغالبه ... ما زال يتبع ما يجرى به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وقال أبو الطيّب الأزدىّ:
قلم قلّم أظفار العدى ... وهو كالإصبع مقصوص الظّفر
أشبه الحيّة حتى أنه ... كلما عمّر فى الأيدى قصر
وقال أبو الحسن بن عبد الملك بن صالح الهاشمىّ:
وأسمر طاوى الكشح أخرس ناطق ... له زملان «2» فى بطون المهارق.
[ «3» ذكر ما يحتاج الكاتب الى معرفته من الأمور الكلية [من كتاب حسن التوسل]
قال شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان الحلبىّ فى كتابه «حسن التوسل»
فأوّل ما يبدأ به من ذلك حفظ كتاب الله تعالى،
ومداومة قراءته، وملازمة درسه(7/27)
وتدبّر معانيه حتى لا يزال مصوّرا فى فكره، دائرا على لسانه، ممثّلا فى قلبه، ذاكرا له فى كل ما يرد عليه من الوقائع التى يحتاج الى الاستشهاد به فيها، ويفتقر الى اقامة الأدلّة القاطعة به عليها؛ وكفى بذلك معينا له فى قصده، ومغنيا له عن غيره، قال الله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
؛ وقد أخرج من الكتاب العزيز شواهد لكل ما يدور بين الناس فى محاوراتهم ومخاطباتهم مع قصور كل لفظ ومعنى عنه، وعجز الإنس والجنّ عن الاتيان بسورة من مثله؛ ومن ذلك أن سائلا قال لبعض العلماء: أين تجد فى كتاب الله تعالى قولهم:
الجار قبل الدار؟ قال: فى قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ
فطلبت الجار قبل الدار، ونظائر ذلك كثيرة. وأين قول العرب: «القتل أنفى للقتل» لمن أراد الاستشهاد فى هذا المعنى من قوله عزّ وجلّ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
. وأكثر الناس على جواز الاستشهاد بذلك ما لم يحوّل عن لفظه، ولم يغيّر معناه.
فمن ذلك ما روى فى عهد أبى بكر رضى الله عنه: هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم آخر عهده بالدنيا، وأوّل عهده بالآخرة، إنى استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب، فإن برّ وعدل فذلك ظنّى به، وان جار وبدّل فلا علم لى بالغيب، والخير أردت بكم، ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وروى أن عليا رضى الله عنه قال للمغيرة بن شعبة لما أشار عليه بتولية معاوية:
وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً.(7/28)
وكتب فى آخر كتاب الى معاوية: وقد علمت مواقع سيوفنا فى جدّك وخالك وأخيك وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
وقول الحسن بن على عليه السلام لمعاوية: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ
وروى مثل ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما.-
وكتب الحسن الى معاوية: أما بعد، فان الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ورسولا الى الناس أجمعين لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ.
وكتب محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على الى المنصور فى صدر كتاب لمّا حاربه: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ
الى قوله: مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ
. ونقض عليه المنصور فى جوابه عن قوله: «إنه ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم» بقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ.
ونقل عن الحسن البصرىّ رحمه الله ما يدل على كراهية ذلك، فقال حين بلغه أن الحجاج أنكر على رجل استشهد بآية: أنسى نفسه حين كتب الى عبد الملك ابن مروان: بلغنى أن أمير المؤمنين عطس فشمّته من حضر فردّ عليهم يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
؟ واذا صحت هذه الرواية عن الحسن فيمكن أن يكون انكاره على الحجاج لأنه أنكر على غيره ما فعله هو. وذهب بعضهم الى أن كل ما أراد الله به نفسه لا يجوز أن يستشهد به إلا فيما يضاف الى الله سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
. وقوله تعالى: بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ
ونحو ذلك مما يقتضيه الأدب مع الله سبحانه وتعالى.
ومن شرف الاستشهاد بالكتاب العزيز إقامة الحجة، وقطع النزاع، وارغام الخصم كما روى أن الحجاج قال لبعض العلماء: أنت تزعم أن الحسين رضى الله عنه من ذرية(7/29)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتنى على ذلك بشاهد من كتاب الله عز وجل، وإلا قتلتك؛ فقرأ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ
الى قوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى
وعيسى هو ابن بنته؛ فأسكت الحجاج. وقد تقوم الآية الواحدة المستشهد بها فى بلوغ الغرض وتوفية المقاصد ما لا تقوم به الكتب المطوّلة، والأدلّة القاطعة؛ وأقرب ما اتفق من ذلك أن صلاح الدين رحمه الله كتب الى بغداد كتابا يعدّد فيه مواقفه فى إقامة دعوة بنى العباس بمصر، فكتب جوابه بهذه الآية: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
] وكتب أمير المسلمين يعقوب بن عبد المؤمن الى الأذفونش «1» ملك الفرنج جوابا عن كتابه اليه- وكان قد أبرق وأرعد فكتب فى أعلاه-:
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ
ومما جوّزوا الاستشهاد به ما لا يقصد به إلا التلويح الى الآية دون اطّراد الكلام نحو قول القاضى الفاضل مما كتب به الى الخليفة عن الملك الناصر صلاح الدين فى الاستصراخ [وتهويل أمر «2» الفرنج] : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي
وها هى فى سبيلك مبذوله، وأخى وقد هاجر اليك هجرة يرجوها مقبوله. وأما تغيير شىء من اللفظ أو إحالة معنى عما أريد به فلا يجوز، وينبغى العدل عنه ما أمكن.
ويتلو ذلك الاستكثار من حفظ الأحاديث النبوية- صلوات الله وسلامه على قائلها
- وخصوصا فى السير والمغازى والأحكام، والنظر فى معانيها وغريبها وفصاحتها(7/30)
وقفه ما لا بدّ من معرفته من أحكامها، ليحتج بها فى «1» مكان الحجة، ويستدل بموضع الدليل، فإن الدليل على المقصد إذا استند الى النص سلّم له، والفصاحة اذا طلبت غايتها فإنها بعد كتاب الله فى كلام من أوتى جوامع الكلم. وينبغى أن يراعى فى الحلّ لفظ الحديث ما أمكن، وإلا فمعناه.
ويتلو ذلك قراءة ما يتفق من كتب النحو
التى يحصل بها المقصود من معرفته العربية، فإنه لو أتى الكاتب من البلاغة بأتمّ ما يكون ولحن ذهبت محاسن ما أتى به وانهدمت طبقة كلامه، وألغى جميع [ما حسّنه «2» ] ، ووقف به عند ما جهله.
ويتعلق بذلك [قراءة «3» ] ما يتهيأ من مختصرات اللغة،
كالفصيح، وكفاية المتحفظ وغير ذلك من كتب الألفاظ ليتسع عليه مجال العبارة، وينفتح له باب الأوصاف فيما «4» يحتاج الى وصفه، ويضطر الى نعته.
ويتصل بذلك حفظ خطب البلغاء من الصحابة وغيرهم،
ومخاطباتهم ومحاوراتهم ومراجعاتهم ومكاتباتهم، وما ادّعاه كلّ منهم لنفسه أو لقومه، وما نقضه عليه خصمه، لما فى ذلك من معرفة الوقائع بنظائرها، وتلقّى الحوادث بما شاكلها والاقتداء بطريقة من فلج «5» على خصمه، واقتفاء آثار من اضطر الى عذر، أو إبطال دعوى أو اثباتها، والأجوبة الدامغة؛ فتأمله فى موضعه فإنك ستقف منه على ما استغنى به عن ذلك.(7/31)
ثم النظر فى أيام العرب ووقائعهم وحروبهم،
وتسمية الأيام التى كانت بينهم، ومعرفة يوم كل قبيلة على الأخرى، وما جرى بينهم فى ذلك من الأشعار والمنافسات، لما فى ذلك من العلم بما يستشهد به من واقعة قديمة، أو يرد عليه فى مكاتبة من ذكر يوما مشهورا، أو فارسا معيّنا. وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى فنّ التاريخ على ما ستقف عليه؛ فإن صاحب هذه الصناعة إذا لم يكن عارفا بأيام العرب، عالما بما جرى فيها لم يدر كيف يجيب عمّا «1» يرد عليه من مثلها، ولا ما يقول إذا سئل عنها، وحسبه ذلك نقصا فى صناعته وقصورا.
ثم النظر فى التواريخ ومعرفة أخبار الدول،
لما فى ذلك من الاطلاع على سير الملوك وسياساتهم، وذكر وقائعهم ومكايدهم فى حروبهم، وما اتفق لهم من التجارب؛ فإن الكاتب قد يضطرّ إلى السؤال عن أحوال من سلف، أو يرد عليه فى كتاب ذكر واقعة بعينها، أو يحتجّ عليه بصورة قديمة فلا يعرف حقيقتها من مجازها؛ وقد أوردنا فى فن التاريخ ما لا يحتاج الكاتب معه إلى غيره من هذا الفن.
ثم حفظ أشعار العرب ومطالعة شروحها،
واستكشاف غوامضها والتوفّر على ما اختاره العلماء بها «2» منها، كالحماسة، والمفضّليّات، والأصمعيّات، وديوان الهذليّين، وما أشبه ذلك، لما فى ذلك من غزارة الموادّ، وصحّة الاستشهاد، والاطلاع على أصول اللّغة، ونوادر العربيّة؛ وقد كان الصدر الأول يعتنون بذلك غاية الاعتناء، وقد حكى أن الإمام الشافعىّ رحمه الله كان يحفظ ديوان هذيل؛ فإذا أكثر المترشّح للكتابة من حفظ ذلك وتدبّر معانيه سهل عليه حلّه، وظهرت له مواضع(7/32)
الاستشهاد به، وساقه الكلام إلى إبراز ما فى ذخيرة حفظه منه، ووضعه فى مكانه ونقله فى الاستشهاد والتضمين الى ما كأنه وضع له، كما اتفق للقاضى أبى بكر «1» الأرّجانىّ فى تضمين أنصاف أبيات العرب فى بعض قصائده، فقال:
وأهد الى الوزير المدح يجعل ... «لك المرباع «2» منها والصفايا»
ورافق رفقة حلّوا إليه ... «فآبوا «3» بالنهاب وبالسبايا»
وقل للراحلين الى ذراه ... «ألستم «4» خير من ركب المطايا»
ولا تسلك سوى طرقى فإنّى ... «أنا «5» ابن جلا وطلّاع الثّنايا»
وقال بديع الزمان الهمذانىّ:
أنا لقرب دار مولاى «كما طرب التشوان مالت به الخمر» ومن الارتياح إلى لقائه كما انتفض العصفور بلله القطر» ومن الامتزاج بولائه «كما التقت الصهباء والبارد العذب» ومن الابتهاج بمزاره «كما اهتزّ تحت البارح «6» الغصن الرطب» .
وكما قال ابن القرطبىّ وغيره فى رسائلهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(7/33)
وكذلك حفظ جانب جيّد من شعر المحدثين،
كأبى تمّام ومسلم ابن الوليد والبحترىّ وابن الرومىّ والمتنبىّ، للطف مأخذهم، ودوران الصناعة فى كلامهم، ودقّة توليد المعانى فى أشعارهم، وقرب أسلوبهم من أسلوب الخطابة والكتابة.
وكذلك النظر فى رسائل المتقدّمتين دون حفظها
لما فى النظر فيها من تنقيح القريحة، وإرشاد الخاطر، وتسهيل الطرق، والنسج على منوال المجيد، والاقتداء بطريقة المحسن، واستدراك ما فات «1» القاصر، والاحتراز مما أظهره النقد، وردّ ما بهرجه السبك؛ فأمّا النهى عن حفظ ذلك فلئلا يتّكل الخاطر على ما فى حاصله، ويستند الفكر إلى ما فى مودعه، ويكتفى بما ليس له، ويتلبّس بما لم يعط «كلابس ثوبى زور» ؛ وأمّا من قصد المحاضرة بذلك دون الإنشاء فالأحسن به حفظ ذلك وأمثاله.
وكذلك النّظر فى كتب الأمثال الواردة عن العرب نظما ونثرا
كأمثال الميدانىّ والمفضّل بن سلمة الضبىّ وحمزة الأصبهانىّ وغيرهم، وأمثال المحدثين الواردة فى أشعارهم، كأبى العتاهية وأبى تمّام والمتنبىّ، وأمثال المولّدين؛ وقد أوردنا من ذلك فى باب الأمثال جملا.
وكذلك النّظر فى الأحكام السّلطانيّة،
فإنه قد يأمر بأمر فيعرف منها كيف يخلص قلمه على حكم الشريعة المطهّرة من تولية القضاء والحسبة وغير ذلك؛ وقد قدّمنا فى هذا الكتاب من ذلك طرفا جيّدا. قال: فهذه أمور كليّة لا بدّ للمترشّح لهذه الصناعة من التصدّى للاطلاع عليها، والإكباب على مطالعتها، والاستكثار منها(7/34)
لينفق من تلك الموادّ، وليسلك فى الوصول إلى صناعته تلك الجواد «1» ، وإلا فليعلم أنه فى واد والكتابة فى واد.
قال: وأمّا الأمور الخاصّة التى تزيد معرفتها قدره، ويزين العلم بها نظمه ونثره،
فإنّها من المكمّلات لهذا الفنّ وإن لم يضطرّ إليها ذو الذهن الثاقب، والطبع السليم، والقريحة المطاوعة، والفكرة المنقّحة، والبديهة المجيبة، والرويّة المتصرّفة، لكنّ العالم بها متمكّن من أزمّة المعانى، يقول عن علم، ويتصرّف عن معرفة، وينتقد بحجّة، ويتخيّر بدليل، ويستحسن ببرهان، ويصوغ الكلام بترتيب؛ فمن ذلك علم المعانى والبيان والبديع، والكتب المؤلّفة فى إعجاز الكتاب العزيز، ككتب الجرجانىّ والرمّانىّ والإمام فخر الدين السكّاكىّ والخفاجىّ وابن الاثير وغيرهم؛ وذكر فى كتابه جملا بهذه المعانى [وأورد أيضا أمورا أخرى تتصل بذلك «2» من خصائص] الكتابة وهى الاقتباس والاستشهاد والحلّ، وأتى على ذلك بشواهد وأمثلة، وسأذكر فى هذا الكتاب ملخّص ما اورده فى ذلك باختصار «3» وزيادة عليه.
فأمّا علوم المعانى والبيان والبديع،
فمنها: ذكر الفصاحة، والبلاغة والحقيقة والمجاز، والتشبيه، والاستعارة، والكناية، والخبر وأحكامه، والتقديم والتأخير، والفصل والوصل، والحذف والإضمار، ومباحث إنّ وإنّما، والنظم والتجنيس، والطباق، والمقابلة، والسجع، وردّ العجز على «4» الصدر، والإعنات «5»(7/35)
والمذهب الكلامىّ، وحسن التعليل، والالتفات، والتمام، والاستطراد، وتأكيد المدح بما يشبه الذّم، وتأكيد الذّم بما يشبه المدح، وتجاهل العارف، والهزل الذى يراد به الجدّ، والكنايات، والمبالغة، وإعتاب المرء نفسه، وحسن التضمين والتلميح، وإرسال المثل، وإرسال مثلين، والكلام الجامع، واللّفّ والنشر والتفسير، والتعديد- ويسمّى سياقة الأعداد- وتنسيق الصفات، والإيهام- ويقال له: التورية- والتخييل، وحسن الأبتداءات، وبراعة التخليص، وبراعة الطلب وبراعة المقطع، والسؤال والجواب، وصحة الأقسام، والتوشيح، والإيغال، والإشارة والتذييل، والترديد، والتفويف، والتسهيم، والاستخدام، والعكس، والتبديل والرجوع، والتغاير، والطاعة والعصيان، والتسميط، والتشطير، والتطريز، والتوشيع والإغراق، والغلوّ، والقسم، والأستدراك، والمؤتلفة والمختلفة، والتفريق المفرد والجمع مع التفريق، والتقسيم المفرد، والجمع مع التقسيم، والتزاوج، والسّلب والإيجاب والاطّراد، والتجريد، والتكميل، والمناسبة، والتفريع، ونفى الشىء بإيجابه والإيداع «1» ، والإدماج، وسلامة الاختراع، وحسن الاتّباع، والذّمّ فى معرض المدح والعنوان، والإيضاح، والتشكيك، والقول بالموجب، والقلب، والتندير، والإسجال بعد المغالطة، والافتنان، والإبهام، وحصر الجزئى وإلحاقه بالكلّى، والمقارنة والإبداع، والانفصال، والتصرّف، والاشتراك، والتهكّم، والتدبيج، والموجّه وتشابه الأطراف. هذا مجموع ما أورده منها، واستشهد «2» عليه بأدلّة، وأورد أمثلة سنشرح منها ما يكتفى به اللّبيب، ويستغنى به اللّبيب «3» .(7/36)
أما الفصاحة والبلاغة،
فقد تقدّم الكلام فيهما فى أوّل الباب، فلا فائدة فى إعادته.
وأما الحقيقة والمجاز-
فالحقيقة فى اللّغة فعيلة بمعنى مفعولة، من حقّ الأمر يحقّه بمعنى أثبته، أو من حققته إذا كنت منه على يقين. والمجاز من جاز الشىء يجوزه إذا تعدّاه، فإذا عدل بالّلفظ عما يوجبه أصل اللّغة وصف بأنه مجاز على أنهم قد جازوا به موضعه الأصلىّ، أو جاز هو مكانه الذى وضع فيه أوّلا، لأنه ليس بموضع أصلىّ لهذا الّلفظ ولكنّه مجازه ومتعدّاه يقع فيه كالواقف بمكان غيره ثم يتعدّاه [إلى] مكانه الأصلىّ. ولهما حدود فى المفرد والجملة، فحدّهما فى لامفرد: أن كل كلمة أريد بها ما وضعت له فهى حقيقة، كالأسد للحيوان المفترس، ولايد للجارحة ونحو ذلك. وإن أريد بها غيره لمناسبة بينهما فهى مجاز، كالأسد للرّجل الشجاع واليد للنّعمة أو للقوّة، فإن النعمة تعطى باليد، والقوّة تظهر بكمالها فى اليد. وحدّهما فى الجملة: أن كلّ جملة كان الحكم الذى دلّت عليه كما هو فى العقل «1» فهى حقيقة كقولنا: خلق الله الخلق؛ وكلّ جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه فى العقل بضرب من التأويل فهى مجاز، كما إذا أضيف الفعل إلى شىء يضاهى الفاعل، كالمفعول به فى قوله عزّ وجلّ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ*
ومِنْ ماءٍ دافِقٍ
؛ أو المصدر، كقولهم:
شعر شاعر؛ أو الزمان، كقول النعمان بن بشير لمعاوية:
وليلك عمّا ناب قومك نائم؛
أو المكان، كقولك: طريق سائر؛ أو المسبّب، كقولهم: بنى الأمير المدينة؛ أو السبب، كقوله تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً
. فمجاز المفرد(7/37)
لغوىّ، ويسمّى مجازا فى المثبت، ومجاز الجملة عقلىّ، ويسمّى مجازا فى الإثبات.
قال: فالمجاز قد يكون فى الإثبات وحده، وهو أن يضيف الفعل إلى غير الفاعل الحقيقىّ كما ذكرناه، وقد يكون فى المثبت وحده، كقوله تعالى: فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها
جعل خضرة الأرض ونضرتها حياة، وقد يكون فيهما جميعا، كقولك:
أحيتنى رؤيتك، تريد سرّتنى، فقد جعلت المسرّة حياة «1» وهو مجاز فى المثبت وأسندتها إلى الرؤية وهو مجاز فى الإثبات.
قال: واعلم أنهم تعرّضوا فى اعتبار كون اللّفظ مجازا إلى اعتبار شيئين:
الأوّل أن يكون منقولا عن معنى وضع اللّفظ بإزائه، وبهذا يتميّز عن اللّفظ المشترك.
الثانى أن يكون هذا النقل لمناسبة بينهما، فلا توصف الأعلام المنقولة بأنّها مجاز إذ ليس نقلها لتعلّق نسبة [بين «2» ] المنقول عنه ومن له العلم، وإذا تحقّق الشرطان سمى مجازا، وذلك مثل تسمية النعمة والقوّة باليد، لما بين اليد وبينهما من التعلّق وكما قالوا: رعينا الغيث، يريدون النبت الذى الغيث سببه، وصابتنا السّماء، يريدون المطر، وأشباه ذلك ونظائره.
وأما التشبيه
- فهو الدّلالة على اشتراك شيئين فى وصف هو من أوصاف الشىء فى نفسه، كالشجاعة فى الأسد، والنّور فى الشمس. وهو ركن من أركان البلاغة لإخراجه الخفىّ الى الجلىّ، وإدنائه البعيد من القريب. وهو حكم إضافىّ لا يوجد إلا بين الشيئين بخلاف الاستعارة.(7/38)
ثم التّشبيه على أربعة أقسام: تشبيه محسوس [بمحسوس «1» ] ، وتشبيه معقول [بمعقول «2» ] ، وتشبيه معقول بمحسوس، وتشبيه محسوس بمعقول.
فأما تشبيه محسوس بمحسوس فلاشتراكهما إمّا فى المحسوسات الأولى: وهى مدركات السمع والبصر والذّوق والشمّ واللّمس، كتشبيه الخدّ بالورد والوجه بالنهار، [وأطيط الرّحل «3» بأصوات الفراريح] والفواكه الحلوة بالسكّر والعسل ورائحة بعض الرياحين بالمسك والكافور، والّليّن الناعم بالحرير، والخشن بالمسح» .
أو فى المحسوسات الثانية «5» : وهى الأشكال المستقيمة والمستديرة، والمقادير، والحركات كتشبيه المستوى المنتصب بالرّمح، والقدّ اللّطيف بالغصن، والشّىء المستدير بالكرة والحلقة، والعظم بالجبل، والذاهب على الاستقامة بنفوذ السهم. أو فى الكيفيّات الجسمانيّة، كالصلابة والرخاوة. أو فى الكيفيّات النفسانيّة، كالغرائز والأخلاق.
أو فى حالة إضافية، كقولك: هذه حجّة كالشّمس، وألفاظ كالماء فى السّلاسة وكالنّسييم فى الرقّة، وكالعسل فى الحلاوة. وربّما كان التشبيه بوجه عقلىّ، كقول فاطمة بنت الخرشب الأنماريّة حين وصفت بنيها الكملة فقالت: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها.
وأما تشبيه المعقول بالمعقول فهو كتشبيه الوجود العارى عن الفوائد بالعدم، وتشبيه الفوائد التى تبقى بعد عدم الشّىء بالوجود، كقول الشاعر:
رب حىّ كميّت ليس فيه ... أمل يرتجى لنفع وضرّ
وعظام تحت التراب وفوق ... الأرض منها آثار «6» حمد وشكر(7/39)
وأمّا تشبيه المعقول بالمحسوس فهو كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ.
وأما تشبيه المحسوس بالمعقول فهو غير جائز، لأن العلوم العقليّة مستفادة من الحواسّ ومنتهية إليها، ولذلك قيل: من فقد حسّا فقد علما، فإذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيه به يكون جعلا للفرع أصلا والأصل فرعا ولذلك لو حاول محاول المبالغة فى وصف الشمس بالظهور والمسك بالثناء «1» فقال:
الشمس كالحجّة فى الظّهور، والمسك كالثّناء فى الطّيب، كان ذلك سخفا من القول فأمّا ما جاء فى الشعر من تشبيه المحسوس بالمعقول فوجهه أن يقدّر المعقول محسوسا، ويجعل كالأصل «2» المحسوس على طريق المبالغة، فيصحّ التشبيه حينئذ وذلك كما قال الشاعر:
وكأنّ النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهنّ ابتداع
فإنّه لما شاع وصف السنّة بالبياض والإشراق، واشتهرت البدعة وكلّ ما ليس بحقّ بالظلمة «3» تخيّل الشاعر أن السنن كأنها من الأجناس التى لها إشراق ونور، وأن البدع نوع من الأنواع الّتى لها اختصاص بالسواد والظلمة، فصار ذلك كتشبيه محسوس بمحسوس، فجاز له التشبيه، وهو لا يتمّ إلا بتخييل ما ليس بمتلوّن [متلوّنا «4» ] ثم يتخيّله أصلا فيشبّه به، وهذا هو الّذى تؤوّل فى قول أبى طالب الرّقّىّ:(7/40)
ولقد ذكرتك والظلام كانّه ... يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق
فإنّه لمّا كانت الأوقات التى تحدث فيها المكاره توصف بالسواد كما يقال:
اسودّت الدنيا فى عينه، جعل يوم النوى كأنه أشهر بالسواد من الظلام، فعرّفه به وشبّه، ثم عطف عليه فؤاد من لم يعشق لأنّ من لم يعشق عندهم قاسى القلب والقلب القاسى يوصف بشدّة السواد، فأقامه أصلا، فقس على هذا المثال. قال:
واعلم أنّ ما به المشابهة قد يكون مقيّدا بالانتساب إلى شىء، وذلك إما الى المفعول به كقولهم: «أخذ القوس باريها» وإلى ما يجرى مجرى المفعول به وهو الجارّ والمجرور كقولهم لمن يفعل ما لا يفيد: «كالراقم على الماء» وإمّا الى الحال، كقولهم:
«كالحادى وليس له بعير» وإما الى المفعول والجارّ والمجرور معا، كقولهم: «هو كمن يجمع السيفين فى غمد» و «كمبتغى الصيد فى عرينة الأسد» ، ومن ذلك قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً
فإنّ التشبيه لم يحصل من مجرد الحمل، بل لأمرين آخرين، لأن الغرض توجيه الذّم إلى من أتعب نفسه فى حمل ما يتضمّن المنافع العظيمة ثم لا ينتفع به لجهله، وكقول لبيد:
وما النّاس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلّوها وغدوا «1» بلاقع
فإنّه لم يشبّه الناس بالديار، وإنّما شبّه وجودهم فى الدنيا وسرعة زوالهم بحلول أهل الدّيار فيها، ووشك رحيلهم منها. قال: وكلّما كانت التقييدات أكثر كان التشبيه أو غل فى كونه عقليّا، كقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ
. فإن التشبيه منتزع من مجموع هذه الجمل من غير أن يمكن(7/41)
فصل بعضها عن بعض، فإنّك لو حذفت منها جملة واحدة من أىّ موضع كان أخلّ ذلك بالمغزى من التشبيه. قال:
ثم ما به المشابهة إن كان مركّبا فإنّه على قسمين:
الأوّل ما لا يمكن إفراد أحد أجزائه بالذّكر، كقول القاضى التنوخىّ:
كأنّما المرّيخ والمشترى ... قدّامه فى شامخ الرّفعه
منصرف باللّيل من دعوة ... قد أسرجت قدّامه شمعه
فإنّك لو اقتصرت على قوله: كأنّ المرّيخ منصرف من دعوة، أو كأن المشترى شمعة لم يحصل ما قصده الشاعر، فإنّه إنّما قصد الهيئة التى يلبسها المرّيخ من كون المشترى أمامه.
الثانى ما يمكن إفراده بالذّكر ويكون إذا أزيل منه التركيب صحيح التشبيه فى طرفيه إلّا أن المعنى يتغيّر، كقول أبى طالب الرقىّ:
وكأنّ أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق
فلو قلت: كأن النجوم درر، وكأن السماء بساط أزرق، وجدت التشبيه مقبولا ولكن المقصود من الهيئة المشبّه بها قد زال. قال: وربّما كان التشبيه فى أمور كثيرة لا يتقيّد بعضها عنها ببعض، وإنّما يكون مضموما بعضها إلى بعض وكلّ واحد منها منفرد بنفسه، كقولك: زيد كالأسد بأسا، والبحر جودا، والسيف مضاء والبدر بهاء؛ وله خاصيتان: إحداهما أنه لا يجب فيه الترتيب، والثانية أنّه إذا سقط البعض لم يتغيّر حكم الباقى.
ومن المتأخرين من ذكر فى التشبيه سبعة أنواع:
الأوّل التشبيه المطلق،
وهو أن يشبّه شيئا بشىء من غير عكس ولا تبديل كقوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
وقوله تعالى:(7/42)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ
وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ.
وقول النّبى صلّى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط» .
الثّانى التّشبيه المشروط،
وهو أن يشبّه شيئا بشىء لو كان بصفة كذا، ولولا أنّه بصفة كذا، كقوله: اشبّه وجه ملوانا بالعيد المقبل لو كان العيد تبقى ميامنه وتدوم محاسنه، وكقوله: وجه هو كالشمس لولا كسوفها، والقمر لولا خسوفه وكقول البديع:
قد كان يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيّا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
وكقول الآخر «1» :
عزماته مثل النجوم ثواقبا ... لو لم يكن للثّاقبات أفول.
الثالث تشبيه الكناية،
وهو أن يشبّه شيئا بشىء من غير أداة التشبيه، كقول المتنبّى:
بدت قمرا وماست خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا
وقول الواوا «2» الدّمشقىّ:
فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد.
الرابع تشبيه التسوية،
وهو أن يأخذ صفة من صفات نفسه، وصفة من الصفات المقصودة، ويشبّههما بشىء واحد، كقوله:(7/43)
صدغ الحبيب وحالى ... كلاهما كالّليالى
و «1» ثغره فى صفاء ... وأدمعى كاللآلى.
الخامس التشبيه المعكوس،
وهو أن تشبّه شيئين كلّ واحد منهما بالآخر كقول الشاعر:
الخمر تفاح جرى ذائبا ... كذلك التفاح خمر جمّد
فاشرب على جامد ذوبه «2» ... ولا تبع لذّة يوم بغد
وكقول الصّاحب بن عبّاد:
رقّ الزّجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنّه خمر ولا قدح ... وكأنّه قدح ولا خمر
وكقول بعضهم فى النثر: كم من دم أهرقناه فى البرّ، وشخص أغرقناه فى البحر؛ فأصبح البرّ بحرا من دمائهم، والبحر برّا بأشلائهم.
السادس تشبيه الإضمار،
وهو أن يكون مقصوده التّشبيه بشىء فدلّ ظاهر لفظه أنّ مقصوده غيره، كقول المتنبّى:
ومن كنت جارا له يا علىّ ... لم يقبل الدرّ إلّا كبارا
فيدلّ ظاهره على أنّ مقصوده الدرّ، وإنّما غرضه تشبيه الممدوح بالبحر.
السابع تشبيه التفضيل،
وهو أن يشبّه شيئا بشىء ثمّ يرجع فيرجّح المشبّه على المشبّه به، كقوله:
حسبت جماله بدرا مضيئا ... وأين البدر من ذاك الجمال(7/44)
وكقول ابن هندو «1» :
من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف فى الحكم بين شيئين
أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وذاك إن «2» جاد دامع العين.
قال: وقد تقدّم تشبيه شىء بشىء.
فأمّا تشبيه شىء بشيئين فكقول امرئ القيس:
وتعطو «3» برخص غير شثن كأنّه ... أساريع رمل «4» أو مساويك إسحل.
وأمّا تشبيه شىء بثلاثة أشياء فكقول البحترىّ:
كأنّما يبسم عن لؤلؤ ... منضّد أو برد أو أقاح.
وأمّا تشبيه شىء بأربعة أشياء
فكما قال المولى شهاب الدّين أبو الثناء محمود الحلبىّ الكاتب:
يفترّ طرسك عن سطور جادها ال ... فكر السليم بصوب مسك أذفر
فكأنّما هو روضة أو جدول ... أو سمط درّ أو قلادة عنبر.
وأمّا تشبيه شىء بخمسة أشياء فكقول الحريرىّ:
يفترّ عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب.
وأمّا تشبيه شيئين بشيئين
فكقول امرئ القيس:
كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالى(7/45)
وأمّا تشبيه ثلاثة بثلاثة
فكقول الآخر:
ليل وبدر وغصن ... شعر ووجه وقدّ
خمر ودرّ وورد ... ريق وثغر وخد.
وأمّا تشبيه أربعة بأربعة
فكقول امرئ القيس:
له أيطلا «1» ظبى وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
وكقول أبى نواس:
تبكى فتذرى الدّر من نرجس ... وتلطم الورد بعناب،
وأمّا تشبيه خمسة بخمسة
فكقول أبى الفرج الواوا الدمشقى «2» :
قالت متى البين يا هذا فقلت لها ... إمّا غدا زعموا أولا فبعد غد
فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد
وشبّه قاضى القضاة نجم الدين بن البارزىّ سبعة أشياء بسبعة أشياء وهى:
يقطّع بالسّكين بطّيخة ضحى ... على طبق فى نجلس لان صاحبخ
كشمس ببرق قدّ بدر أهلة ... لدى هالة فى الأفق شتّى كواكبه.
قال: والغرض من التشبيه قد يكون بيان إمكان وجود الشىء عند ادعاء ما لا يكون إمكانه بيّنا، كقول ابن الرّومىّ:
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان
وكقول المتنبى:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال(7/46)
أو بيان مقداره، كما إذا حاولت نفى الفائدة عن فعل إنسان قلت: هذا كالقابض على الماء، لأن لخلوّ الفعل عن الفائدة مراتب مختلفة فى الإفراط والتفريط والوسط، فإذا مثّل بالمحسوس عرفت مرتبته، ولذلك لو أردت الإشارة إلى تنافى الشيئين فأشرت إلى ماء ونار فقلت: هذا وذاك هل يجتمعان؟ كان تأثيره زائدا على قولك: هل يجتمع الماء والنار؟ وكذلك إذا قلت فى وصف طول يوم: كأطول ما يتوهّم، أو لا آخر له، أو أنشدت «1» قوله:
فى ليل «2» صول تناهى العرض والطول ... كأنّما ليله بالليل موصول
لم تجد فيه «3» من الأنس ما تجده فى قوله:
ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله ... دم الزقّ عنّا واصطفاق المزاهر
وما ذاك إلّا للتشبيه بالمحسوس، وإلّا فالأوّل أبلغ، لأن طول الرمح متناه وفى الأوّل حكمت أنّ ليله موصول باللّيل، وكذلك لو قلت فى قصر اليوم: كأنّه ساعة، أو كلمح البصر، لوجدته دون قوله:
ظللنا عند دار أبى أنيس ... بيوم مثل سالفة «4» الذّباب
وقوله:
ويوم كإبهام القطاة مزيّن ... إلىّ صباه غالب لى باطله.
قال: وقد يكون غرض التشبيه عائدا على المشبه به، وذلك أن تقصد على عادة التخييل أن توهم فى الشىء القاصر عن نظيره أنه زائد، فتشبّه الزائد به، كقوله:(7/47)
وبدا «1» الصباح كأنّ غرّته ... وجه الخليفة حين يمتدح
وهذا أبلغ وأحسن وأمدح من تشبيه الوجه بالصباح، لأن تشبيه الوجه بالصباح أصل متّفق عليه لا ينكر ولا يستكثر، وإنما الذى يستكثر تشبيه الصباح بالوجه.
قال: ثم الغرض بالتشبيه إن كان الحاق الناقص بالزائد امتنع «2» عكسه مع بقاء هذا الغرض، وإن كان الجمع بين شيئين فى مطلق الصورة والشكل واللون صحّ العكس كتشبيه الصبح بغرّة الفرس الأدهم لا للمبالغة فى الضياء، بل لوقوع منير فى مظلم وحصول بياض قليل فى [سواد] كثير.
قال: والتشبيه قد يجىء غريبا يحتاج فى إدراكه الى دقّة نظر، كقول ابن المعتزّ:
والشمس كالمرآة فى كفّ الأشل
والجامع الاستدارة والإشراق مع تواصل الحركة التى تراها للشمس إذا أنعمت التأمّل فى اضطراب نور الشمس، ويقرب منه قول الآخر:
كأن شعاع الشمس فى كلّ غدوة ... على ورق الأشجار أوّل طالع
دنانير فى كفّ الأشلّ يضمّها ... لقبض «3» وتهوى [من «4» ] فروج الأصابع
وكقول المتنبىّ:
الشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب
كأنها بودقة «5» أليت ... يجول فيها ذهب ذائب(7/48)
ومن لطيف ما جاء فى هذا المعنى من التشبيه قول الأخطل فى مصلوب:
أو قائم من نعاس فيه لوثته «1» ... مواصل لتمطّيه من الكسل
شبّهه بالمتمطّى «2» ، لأنّ المتمطّى يمدّ يديه وظهره ثم يعود إلى حالته الأولى، فزاد فيه أنّه مواصل لذلك، وعلّله بالقيام من النعاس لما فى ذلك من الّلوثة والكسل.
قال: والتشبيه ليس من المجاز، لأنه معنى من المعانى، وله ألفاظ تدلّ عليه وضعا فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه، وإنّما هو توطئة لمن يسلك سبيل الاستعارة والتمثيل، لأنه كالأصل لهما وهما كالفرع له، والذى يقع منه فى حيّز المجاز عند أهل هذا الفنّ هو الذى يجىء على حدّ الاستعارة، كقولك لمن يتردّد فى الأمر [بين «3» ] أن يفعله أو يتركه: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى» والأصل فيه أراك فى تردّدك كمن يقدّم رجلا ويؤخر أخرى.
وأما الاستعارة
- فهى ادعاء معنى الحقيقة فى الشىء للمبالغة فى التشبيه مع طرح ذكر المشبّه من البيّن «4» لفظا وتقديرا. وإن شئت قلت: هو جعل الشّىء الشّىء [أو جعل «5» الشىء للشىء] لأجل المبالغة فى التشبيه.
فالأوّل كقولك: لقيت أسدا وأنت تعنى الرجل الشجاع.
والثانى كقول لبيد:
إذ «6» أصبحت بيد الشمال زمامها
أثبت اليد للشمال مبالغة فى تشبيهها بالقادر فى التصرف فيه على ما يأتى بيان ذلك.(7/49)
وحدّ الرّمانىّ الاستعارة فقال: هى تعليق العبارة على غير ما وضعت له فى أصل الّلغة على سبيل النقل للإبانة.
وقال ابن المعتزّ: هى استعارة الكلمة من شىء قد عرف بها إلى شىء لم يعرف بها. وذكر الخفاجىّ كلام الرّمانىّ وقال: وتفسير هذه الجملة أن قوله عز وجل:
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
استعارة، لأن الاشتعال «1» للنار، ولم يوضع فى أصل اللغة للشيب فلما نقل اليه بان المعنى لما اكتسبه من التشبيه، لأن الشيب لما كان يأخذ فى الرأس شيئا فشيئا حتى يحيله إلى غير لونه الأوّل كان بمنزلة النار التى تسرى فى الخشب حتى تحيله إلى غير [حالته «2» ] المتقدّمة؛ فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة فى الوضع للبيان، ولا بدّ من أن تكون أوضح من الحقيقة لأجل التشبيه العارض فيها لأن الحقيقة لو قامت مقامها لكانت أولى بها «3» ، لأنها الأصل، وليس يخفى على المتأمّل أن قوله عزّ وجلّ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
أبلغ من كثر شيب الرأس، وهو حقيقة هذا المعنى.
ولا بدّ للاستعارة من حقيقة هى أصلها، وهى مستعار منه، ومستعار، ومستعار له، فالنار مستعار منها، والاشتعال مستعار، والشيب مستعار له. قال: وأمّا قولنا مع طرح ذكر المشبّه، فاعلم أننا اذا طرحناه كقولنا: رأيت أسدا، وأردنا الرجل الشجاع فهو استعارة بالاتفاق، وإن ذكرنا معه الصيغة الدالّة على المشابهة كقولنا:
زيد كالأسد أو مثله أو شبهه فليس باستعارة؛ وإن لم نذكر الصيغة وقلنا: زيد أسد فالمختار أنه ليس باستعارة إذ فى اللفظ ما يدلّ على أنّه ليس بأسد فلم تحصل(7/50)
المبالغة، فاذا قلت: زيد الأسد فهو أبعد عن الاستعارة، فإنّ الأوّل خرج بالتنكير عن أن يحسن فيه كاف التشبيه، فإنّ قولك: زيد كأسد كلام نازل بخلاف الثانى.
قال ضياء الدين بن الأثير: وهذا التشبيه المضمر الأداة قد خلطه قوم بالاستعارة ولم يفرّقوا بينهما، وذلك خطأ محض.
قال: وسأوضح وجه الخطإ فيه وأحقق القول فى الفرق بينهما فأقول: أمّا التشبيه المظهر الأداة فلا حاجة بنا إلى ذكره لأنّه لا خلاف فيه، ولكن نذكر التشبيه المضمر الأداة فنقول: إذا ذكر المنقول والمنقول اليه على أنّه تشبيه مضمر الأداة قيل فيه: زيد أسد، أى كالأسد، فأداة التشبيه فيه مضمرة مقدرة، وإذا أظهرت حسن ظهورها، ولم تقدح فى الكلام الذى أظهرت فيه، ولم تزل عنه فصاحته؛ وهذا بخلاف ما إذا ذكر المنقول إليه «1» دون المنقول فإنه لا يحسن فيه ظهور أداة التشبيه، وإذا ظهرت زال عن ذلك الكلام ما كان متّصفا به من الحسن والفصاحة.
قال: ولنضرب لذلك مثالا يوضحه فنقول: قد ورد هذا البيت لبعض الشعراء وهو:
فرعاء «2» إن نهضت لحاجتها ... عجل القضيب وأبطأ الدعص
وهذا لا يحسن تقدير أداة التشبيه فيه، فلا يقال: عجل [قدّ «3» ] كالقضيب وأبطأ [ردف] كالدّعص؛ فالفرق إذن بين التشبيه المضمر أداة التشبيه فيه وبين(7/51)
الاستعارة أن التشبيه المضمر الأداة يحسن إظهار أداة التشبيه فيه، والاستعارة لا يحسن ذلك فيها. والاستعارة أخصّ من المجاز إذ قصد المبالغة شرط فى الاستعارة دون المجاز، وأيضا فكلّ استعارة من البديع وليس كلّ مجاز منه. والحقّ أن المعنى يعار أوّلا ثم بواسطته يعار اللّفظ؛ ولا تحسن الاستعارة إلا حيث كان التشبيه مقرّرا بينهما ظاهرا، وإلا فلا بدّ من التصريح بالتشبيه، فلو قلت: رأيت نخلة أو خامة وأنت تريد مؤمنا إشارة إلى قول النّبى صلّى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل النخلة «1» » أو «كمثل «2» الخامة» لكنت كالملغز التارك لما «3» يفهم. وكلّما زاد التشبيه خفاء زادت الاستعارة حسنا بحيث تكون ألطف من التصريح بالتشبيه، فإنّك لو رمت أن تظهر التشبيه فى قول ابن المعتزّ:
أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عنّابا
احتجت أن تقول: أثمرت أصابع راحته التى هى كالأغصان لطالب الحسن.
شبه العنّاب من أطرافها المخضوبة، وهذا ممّا لا خفاء بغثاثته.
وربّما جمع بين عدّة استعارات إلحاقا للشكل بالشكل لإتمام التشبيه فتريد الاستعارة به حسنا، كقول امرئ القيس فى صفة اللّيل:
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
فصل فيما تدخله الاستعارة وما لا تدخله
قال: الأعلام لا تدخلها الاستعارة لما تقدّم فى المجاز. وأما الفعل فالاستعارة تقع أوّلا فى المصدر، ثم تقع بواسطة ذلك فى الفعل، فإذا قلت: نطقت الحال بكذا(7/52)
فهذا إنّما يصحّ لأنّك وجدت الحال مشابهة للنطق فى الدلالة على الشىء، فلا جرم [أنك «1» ] استعرت النطق لتلك الحالة ثم نقلته إلى الفعل. والأسماء المشتقّة فى ذلك كالفعل؛ فظهر أنّ الاستعارة إنّما تقع وقوعا أوّليّا فى أسماء الأجناس. ثم الفعل إذا كان مستعارا فاستعارته إمّا من جهة فاعله، كقوله: نطقت الحال بكذا ولعبت بى الهموم، وقول جرير:
تحيى الروامس «2» ربعها فتجدّه ... بعد البلى وتميته الأمطار
وقول أبى حيّة:
وليلة مرضت من كل ناحية ... فما تضىء لها شمس ولا قمر
أو من جهة مفعوله، كقول ابن المعتز:
جمع الحقّ لنا فى إمام ... قتل الجوع «3» وأحيى السماحا
أو من جهة مفعوليه، كقول الحريرى:
وأقرى المسامع إمّا نطقت ... بيانا يقود الحرون الشموسا
أو من جهة أحد مفعوليه، كقول الشاعر «4» :
نقريهم لهذميّات نقدّ بها ... ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد
أو من جهة الفاعل والمفعول، كقوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ.(7/53)
قال: ويتصل بهذا ترشيح الاستعارة وتجريدها، أما ترشيحها فهو أن ينظر فيها إلى المستعار، ويراعى جانبه، ويوليه ما يستدعيه، ويضمّ إليه ما يقتضيه، كقول كثير:
رمتنى بسهم ريشه الهدب لم يصب ... بظاهر «1» جسمى وهو فى القلب جارح
وكقول النابغة:
وصدر أراح الليل عازب همّه ... تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب
فالمستعار فى كل واحد منهما وهو الرمى والإراحة منظور اليهما فى لفظ السهم والعازب، وكما أنشد صاحب الكشّاف «2» :
ينازعنى ردائى عند عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لى الشطر الذى ملكت يمينى ... ودونك فاعتجر منه بشطر
أراد بردائه سيفه، ثم نظر إلى المستعار فى لفظ الاعتجار. وأما تجريدها فهو أن يكون المستعار له منظورا إليه، كقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
فإن الإذاقة لمّا وقعت عبارة عما يدرك من أثر الضرر «3» والألم تشبيها له بما يدرك من الطعم المرّ البشع، واللباس عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قال: فأذاقها الله ما غشيها من ألم الجوع والخوف، وكقول زهير:
لدى أسد شاكى «4» السلاح مقذّف ... له لبد أظفاره لم تقلّم
فلو نظر الى المستعار لقال: أسد دامى المخالب أو دامى البراثن، ونظر زهير فى آخر البيت الى المستعار أيضا، ومنه قول كثّير:
غمر الرداء اذا تبسّم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال(7/54)
استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه ووصفه «1» بالغمر الذى هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء.
قال: ويقرب من ذلك الاستعارة بالكناية، وهى أن لا يصرّح بذكر المستعار بل بذكر بعض لوازمه تنبيها به عليه، كقولهم: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس.
وكقول أبى ذؤيب:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
تنبيها على أنّ الشجاع أسد، والمنيّة سبع، والعالم «2» بحر، وهذا وإن كان يشبه الاستعارة المجرّدة إلّا أنّه أغرب وأعجب، ويقرب منه قول زهير:
ومن يعص أطراف الزجاج «3» فإنه ... يطيع العوالى ركّبت كلّ لهذم
أراد أن يقول: من لم يرض بأحكام الصلح رضى بأحكام الحرب، وذلك أنهم كانوا اذا طلبوا الصلح قلبوا زجاج الرماح وجعلوها قدّامها مكان الأسنّة، واذا أرادوا الحرب أشرعوا الأسنّة؛ وقد يسمّى هذا النوع المماثلة أيضا.
قال: وقد ينزلون الاستعارة منزلة الحقيقة، وذلك أنهم يستعيرون الوصف المحسوس للشىء المعقول ويجعلون كأنّ تلك الصفة ثابتة لذلك الشىء فى الحقيقة، وأنّ الاستعارة لم توجد أصلا، مثاله استعارتهم العلوّ لزيادة الرجل على غيره فى الفضل والقدر والسلطان ثم وضعهم الكلام وضع من يذكر علوّا مكانيّا «4» ، كقول أبى تمّام:(7/55)
ويصعد حتى يظنّ الحسود ... بأنّ له حاجة فى السماء
وكقوله أيضا:
مكارم لجت فى علوّ كأنّما ... تحاول ثأرا «1» عند بعض الكواكب
ولذلك يستعيرون اسم شىء لشىء من نحو شمس أو بدر أو أسد ويبلغون الى حيث يعتقد أنه ليس هناك استعارة، كقول ابن العميد:
قامت تظلّلنى من الشمس ... نفس أعزّ علىّ من نفسى
قامت تظلّلنى ومن عجب ... شمس تظللنى من الشمس
وكقول آخر:
أيا شمعا يضىء بلا انطفاء ... ويا بدرا يلوح بلا محاق
فأنت البدر ما معنى انتقاصى؟ ... وأنت الشمع ما معنى احتراقى «2» ؟
[ «3» فلولا أنه أنسى نفسه أن هاهنا استعارة لما كان لهذا التعجب معنى، ومدار هذا النوع على التعجب] وقد يجئ على عكسه، كقول الشاعر «4» :
لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زرّ أزراره على القمر.
فصل فى أقسام الاستعارة
قال: وهى على نوعين:
الأوّل أن تعتمد نفس التشبيه،
وهو أن يشترك شيئان فى وصف وأحدهما أنقص من الآخر، فتعطى الناقص اسم الزائد مبالغة فى تحقّق ذلك الوصف له(7/56)
كقولك: رأيت أسدا وأنت تعنى رجلا شجاعا، وعنّت لنا ظبية وأنت تريد امرأة.
والثانى أن تعتمد لوازمه عند ما تكون جهة الاشتراك وصفا،
وإنما ثبت كماله فى المستعار منه بواسطة شىء آخر فتثبت ذلك الشىء للمستعار له مبالغة فى إثبات المشترك، كقول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرّة «1» ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
وليس هناك مشار اليه يمكن أن يجرى اسم اليد عليه كما جرى الأسد على الرجل لكنّه خيّل الى نفسه أن الشمال فى تصريف الغداة على حكم طبيعة الإنسان المتصرّف فيما زمامه ومقادته بيده، لأن تصرف الإنسان إنما يكون باليد فى أكثر الأمور فاليد كالآلة التى تكمل بها القوّة على التصرف، ولما كان الغرض إثبات التصرف- وذلك مما لا يكمل إلا عند ثبوت اليد- أثبت اليد «2» للشمال تحقيقا للغرض، وحكم الزمام فى استعارته للغداة حكم اليد فى استعارتها للشمال، وكذلك قول تأبّط شرّا:
اذا هزّه فى عظم قرن تهلّلت ... نواجذ «3» أفواه المنايا الضواحك
لمّا شبّه المنايا عند هزّة السيف بالمسرور- وكمال الفرح والسرور إنما يظهر بالضحك الذى تتهلّل فيه النواجذ- أثبته تحقيقا للوصف المقصود، وإلّا فليس للمنايا ما ينقل اليه اسم النواجذ، وهكذا الكلام فى قول الحماسىّ:
سقاه الردى سيف إذا سلّ أو مضت ... إليه ثنايا الموت من كلّ مرقب(7/57)
ومن هذا الباب قولهم: فلان مرخى العنان، وملقى الزمام.
قال: ويسمّى هذا النوع استعارة تخييليّة، وهو كإثبات الجناح للذلّ فى قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.
قال: اذا عرف هذا فالنوع الأوّل على أربعة أقسام:
الأوّل- أن يستعار المحسوس للمحسوس،
وذلك إما بأن يشتركا فى الذات ويختلفا فى الصفات، كاستعارة الطيران لغير ذى جناح فى السرعة، فإن الطيران والعدو يشتركان فى [الحقيقة «1» وهى] الحركة الكائنة»
إلّا أن الطيران أسرع. أو بأن يختلفا فى الذات ويشتركا فى صفة إما محسوسة كقولهم: رأيت شمسا ويريدون إنسانا يتهلّل وجهه، وكقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
فالمستعار منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع الانبساط، ولكنّه فى النار أقوى؛ وإمّا غير محسوسة كقوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ
المستعار له الريح، والمستعار منه المرء والجامع المنع من ظهور النتيجة.
الثانى- أن يستعار شىء معقول لشىء معقول
لاشتراكهما فى وصف عدمىّ أو ثبوتىّ وأحدهما أكمل فى ذلك الوصف، فيتنزّل الناقص منزلة الكامل كاستعارة اسم العدم للوجود إذا اشتركا فى عدم الفائدة، أو استعارة اسم الوجود للعدم اذا بقيت آثاره المطلوبة منه، كتشبيه الجهل بالموت لاشتراك الموصوف «3» بهما فى عدم الإدراك والعقل، وكقولهم: فلان لقى الموت اذا لقى الشدائد، لاشتراكهما فى المكروهيّة، وقوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ
والسكوت والزوال أمران معقولان.(7/58)
الثالث- أن يستعار المحسوس للمعقول كاستعارة النور الذى هو محسوس للحجّة، واستعارة القسطاس للعدل، وكقوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ
فالقذف والدمغ مستعاران، وقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ
استعارة لبيانه عما أوحى اليه كظهور ما فى الزجاجة عند انصداعها، وكلّ خوض فى القرآن العزيز فهو مستعار من الخوض فى الماء، وقوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ
جعل لهما طاعة وقولا.
الرابع- أن يستعار اسم المعقول للمحسوس
على ما تقدّم ذكره فى التشبيه كقوله تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ
فالشهيق والغيظ مستعاران، وقوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها
والأقوال فى الاستعارة كثيرة، وقد أوردنا فيها ما يستدلّ به عليها.
وأما الكناية
قال: اللفظة إذا أطلقت وكان الغرض الأصلىّ غير معناها فلا يخلو: إما أن يكون معناها مقصودا أيضا ليكون دالّا على ذلك الغرض الأصلىّ وإما أن لا يكون كذلك.
فالأوّل هو الكناية، ويقال له: الإرداف أيضا.
والثانى المجاز.
فالكناية عند علماء البيان أن يريد المتكلّم إثبات معنى من المعانى لا يذكره باللفظ الموضوع له فى اللغة، ولكن يجىء الى معنى هو تاليه «1» وردفه فى الوجود فيومى به اليه، ويجعله دليلا عليه، مثال ذلك قولهم: طويل النجاد وكثير رماد القدر، يعنون به أنه طويل القامة، كثير القرى، ومن ذلك قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ
كنى بنفى قبول التوبة عن الموت على الكفر.(7/59)
وقول الشاعر «1» :
بعيدة مهوى الفرط إما لنوفل ... أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم
أراد يذكر طول جيدها [فأتى بتابعه «2» وهو بعد مهوى القرط] ، وكقول ليلى الأخيليّة:
ومخرّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما
كنت عن جوده بخرق القميص من جذب العفاة له عند ازدحامهم لأخذ العطاء، وأمثال ذلك. قال:
والكناية تكون فى المثبت كما ذكرنا، وقد تكون فى الإثبات وهى ما إذا حاولوا إثبات معنى من المعانى لشىء فيتركون التصريح بإثباته له، ويثبتونه لما له به تعلّق، كقولهم: المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه، وقول الشاعر «3» :
إن المروءة والسماحة والندى ... فى قبّة ضربت على ابن الحشرج.
قال: واعلم أن الكناية ليست من المجاز لأنك تعتبر فى ألفاظ الكناية معانيها «4» الأصلية، وتفيد بمعناها معنى ثانيا هو المقصود، فتريد بقولك: كثير الرماد حقيقته «5» وتجعل ذلك دليلا على كونه جوادا، فالكناية ذكر الرديف وإرادة المردوف.
وأما التعريض-
فهو تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر، كقولك: ما أقبح البخل! لمن تعرّض ببخله، وكقول محمد بن عبد الله بن الحسن: لم يعرق فى أمّهات الأولاد، يعرّض بالمنصور بأنه ابن أمة، وأمثال ذلك.
وأما التمثيل
- فإنما يكون من باب المجاز اذا جاء على حدّ الاستعارة، مثاله قولك للمتحيّر «6» : فلان يقدّم رجلا ويؤخر أخرى، فلو قلت: إنه فى تحيّره كمن يقدّم(7/60)
رجلا ويؤخر أخرى لم يكن من باب المجاز، وكذلك قولك لمن أخذ فى عمل لا يتحصّل منه مقصود: أراك تنفخ فى غير ضرم، وتخطّ على الماء.
قال: وأجمعوا على أن للكناية مزيّة على التصريح لأنك اذا أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها فهو كالدعوى التى [معها «1» ] شاهد ودليل، وذلك أبلغ من إثباتها بنفسها.
وأما الخبر وأحكامه
- فقد قال: الخبر هو القول المقتضى تصريحه نسبة معلوم الى معلوم بالنفى أو الإثبات. وتسمية أحد جزئيه بالخبر مجازيّة. ثم المقصود من الخبر إن كان هو الإثبات المطلق فيكون بالاسم، كقوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ
وإن لم يتمّ ذلك إلا بإشعار زمانه فيكون بالفعل، كقوله تعالى:
هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
فإن المقصود لا يتمّ بكونه معطيا للرزق [بل بكونه معطيا للرزق «2» ] فى كل حين وأوان، والإخبار بالفعل أخصّ من الإخبار بالاسم، واذا أنعمت النظر وجدت الاسم موضوعا على أن تثبت به المعنى للشىء من غير إشعار بتجدّده شيئا فشيئا، بل جعل الانطلاق أو البسط مثلا صفة ثابتة ثبوت «3» الطول أو القصر فى قولك: زيد طويل أو قصير، بخلاف ما إذا أخبرت بالفعل فإنه يشعر بالتجدّد وأنه يقع جزءا فجزءا، وإذا أردت شاهدا على ذلك فتأمّل هذا البيت:
لا يألف «4» الدرهم المضروب صرّتنا ... إلا «5» يمرّ عليها وهو منطلق(7/61)
فجاء بالاسم، ولو أتى بالفعل لم يحسن هذا الحسن. والفعل المتعدى الى جميع مفعولاته خبر واحد، حتى اذا قلت: ضرب زيد عمرا يوم الجمعة خلف المسجد ضربا شديدا تأديبا له كان الخبر «1» شيئا واحدا وهو إسناد الضرب المقيّد بهذه القيود الى زيد، فظهر من ذلك [أن «2» ] قولك: جاءنى رجل مغاير لما دلّ عليه قولك: جاءنى رجل ظريف، وإنك لست فى ذلك [إلا «3» ] كمن يضمّ معنى الى معنى. وحكم المبتدإ «4» والخبر أيضا كذلك، فقول بشّار:
كأن مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
خبر واحد. وإذا قلت: الرجل خير من المرأة فاللام فيه قد تكون للعموم أو للخصوص بأن ترجع الى معهود، أو لتعريف الحقيقة مع قطع النظر عن عمومها وخصوصها. واذا قلت: زيد المنطلق، أو زيد هو المنطلق أفاد انحصار المخبر به فى المخبر عنه، فان أمكن الحصر ترك على حقيقته، وإلّا فعلى المبالغة. واذا قلت:
المنطلق زيد فهو إخبار عما عرف بما لم يعرف، فكأن المخاطب عرف أن انسانا انطلق ولم يعرف صاحبه، فقلت: الذى تعتقد انه منطلق زيد.
وأما الذى «5» - فهو للإشارة الى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك: ذهب الرجل الذى أبوه منطلق، وهو تحقيق قولهم: إنه يستعمل لوصف المعارف بالجمل. والتصديق والتكذيب يتوجهان الى خبر المبتدا لا إلى صفته، فاذا(7/62)
كذّبت القائل فى قوله: زيد بن عمرو كريم، فالتكذيب لم يتوجه الى كونه ابن عمرو بل الى كونه كريما.
وأما التقديم والتأخير
- قال: اذا قدّم الشىء على غيره فإما أن يكون فى نيّة التأخير، كما اذا قدّم الخبر على المبتدإ؛ وإما أن يكون فى نية التأخير ولكن انتقل الشىء من حكم الى آخر، كما اذا جئت الى اسمين جاز أن يكون كلّ واحد منهما مبتدأ فجعلت أحدهما مبتدأ، كقولك: زيد المنطلق، والمنطلق زيد. قال الجرجانىّ: قال صاحب الكتاب: كأنهم يقدّمون الذى بيانه أهمّ لهم وهم بشأنه أعنى، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم، مثاله: أن الناس اذا تعلق غرضهم بقتل خارجىّ مفسد ولا يبالون من صدر القتل منه، وأراد مريد الإخبار بذلك فإنه يقدّم ذكر الخارجىّ [فيقول «1» ] قتل الخارجىّ زيد، ولا يقول: قتل زيد الخارجىّ لأنه يعلم أن قتل الخارجىّ هو الذى يعنيهم، وإن كان قد وقع قتل من رجل يبعد فى اعتقاد الناس وقوع القتل من مثله قدّم المخبر ذكر الفاعل فيقول: قتل زيد رجلا لاعتقاد الناس فى المذكور خلاف ذلك. انتهى كلام الجرجانىّ.
قال: ولنذكر ثلاثة مواضع يعرف بها ما «2» لم يذكر:
الأوّل الاستفهام
- فإذا أدخلته على الفعل وقلت: أضربت زيدا؟
كان الشكّ فى وجود الفعل، وإذا أدخلته على الاسم وقلت: أأنت ضربت زيدا؟
كان الفعل محقّقا والشكّ فى تعيين الفاعل. وهكذا حكم النكرة، فإذا قلت: أجاءك رجل؟ كان المقصود: هل وجد المجىء من رجل؟ فإذا قلت: أرجل جاءك؟ كان ذلك سؤالا عن جنس من جاء بعد الحكم بوجود المجىء من إنسان؛ وقس عليه(7/63)
الخبر فى قولك: ضربت زيدا، وزيدا ضربت، وجاءنى رجل، ورجل جاءنى؛ ثم الاستفهام قد يجىء للانكار، فإن كان [فى «1» ] الكلام فعل ماض وأدخلت الاستفهام عليه كان لانكاره، كقوله تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ
وإن أدخلته على الاسم فإن لم يكن الفعل مترددا بينه وبين غيره كان لانكار أنه الفاعل، ويلزم منه نفى ذلك الفعل، كقوله تعالى: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ
أى لو كان إذن لكان من الله، فلمّا لم يوجد منه دلّ على أن لا إذن، كما تقول: متى كان هذا، فى ليل أم «2» نهار؟ أى لو كان لكان فى ليل أو نهار، فلما لم يوجد فى واحد منهما لم يوجد أصلا، وعليه قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ*
. وإن كان مردّدا بينه وبين غيره كان إما للتقرير والتوبيخ، وعليه قوله تعالى حكاية عن قول نمرود: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ
. وإمّا لانكار أنه الفاعل مع تحقيق الفعل، كقولك لمن انتحل شعرا: أأنت قلت هذا؟.
وان كان الفعل مضارعا، فإن أدخلت حرف الاستفهام عليه كان إمّا لانكار وجوده، كقوله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ
. أو لانكار أنه يقدر على الفعل، كقول امرئ القيس:
أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال.
أو لإزالة طمع من طمع فى أمر لا يكون، فيجهّله فى طمعه، كقولك:
أيرضى عنك فلان وأنت على ما يكره؟. أو لتعنيف من يضيّع الحق، كقول الشاعر:
أتترك «3» إن قلّت دراهم خالد ... زيارته إنى إذن للئيم(7/64)
أو لتنديم الفاعل، كما تقول لمن يركب الخطر: أتخرج فى هذا الوقت؟.
وإن أدخلته على الاسم فهو لإنكار صدور الفعل من ذلك الفاعل إما للاستحقار كقولك: أأنت تمنعنى؟. أو للتعظيم كقولك: أهو يسأل الناس؟. أو للمبالغة إما فى كرمه، كقولك: أهو يمنع سائله؟؛ وإما فى خساسته، كقولك: أهو يسمح بمثل هذا؟. وقد يكون لبيان استحالة فعل ظنّ ممكنا، كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ
وكذلك إذا أدخلته على المفعول، كقوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا
وأَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ
وأَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ.
الثانى فى التقديم والتأخير فى النفى
- إذا أدخلت النفى على الفعل فقلت:
ما ضربت زيدا فقد نفيت عن نفسك ضربا واقعا بزيد، وهذا لا يقتضى كون زيد مضروبا.
وإذا أدخلته على الاسم فقلت: ما أنا ضربت زيدا اقتضى من باب دليل الخطاب كون زيد مضروبا، وعليه قول المتنبى:
وما أنا وحدى قلت ذا الشعر كلّه ... ولكن لشعرى فيك من نفسه شعر
ولهذا يصح أن تقول: ما ضربت إلا زيدا، وما ضربت زيدا ولا ضربه أحد من الناس، ولا يصح أن تقول: ما أنا ضربت إلا زيدا، وما أنا ضربت زيدا ولا ضربه أحد من الناس.
أما الأوّل فلأنّ نقض النفى بإلّا يقتضى أن تكون ضربته، [وتقديمك «1» ضميرك وإيلاءه حرف النفى يقتضى ألا «2» تكون ضربته] فيتدافعان.](7/65)
وأما الثانى فلأن أوّل الكلام يقتضى أن يكون زيد مضروبا، وآخره يقتضى ألا يكون مضروبا فيتناقضان. إذا عرف هذا فى جانب الفاعل فإنه مثله فى جانب المفعول، فإذا قلت: ما ضربت زيدا لم يقتض أن تكون ضاربا لغيره، وإذا قلت:
ما زيدا ضربت اقتضى ذلك، ولهذا صحّ ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس ولا يصح [ما «1» ] زيدا ضربت ولا أحدا من الناس.
وحكم الجار والمجرور حكم المفعول، فإذا قلت: ما أمرتك بهذا لم يقتض أن تكون قد أمرته بشىء غير هذا، وإذا قلت: ما بهذا أمرتك اقتضاه.
وإذا قدّمت صيغة العموم على السلب وقلت: كلّ ذا لم أفعله، برفع كلّ كان نفيا عامّا، ويناقضه الإثبات الخاصّ، فلو فعلت بعضه كنت كاذبا.
وإن قدّمت السلب وقلت: لم أفعل كلّ ذا كان نفيا للعموم ولا ينافى الإثبات الخاصّ، فلو فعلت بعضه لم تكن كاذبا، ومن هذا ظهر الفرق بين رفع كلّ ونصبه فى قول أبى النجم:
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى ... علىّ ذنبا كلّه لم أصنع
فإن رفعته كان النفى عامّا، واستقام غرض الشاعر فى تبرئة نفسه من جملة الذنوب، وإن نصبته كان النفى نفيا للعموم، وهو لا ينافى إتيان بعض الذنب فلا يتم غرضه.
الثالث فى التقديم والتأخير فى الخبر المثبت
- ما تقدّم فى الاستفهام والنفى قائم هنا، فإذا قدّمت الاسم وقلت: زيد فعل وأنا فعلت فالقصد الى الفاعل، إما لتخصيص ذلك الفعل به، كقولك: أنا شفعت فى شأنه مدّعيا الانفراد بذلك(7/66)
أو لتأكيد إثبات الفعل له لا للحصر، كقولك: هو يعطى الجزيل، لتمكّن فى نفس السامع أن ذلك دأبه دون نفيه عن غيره، ومنه قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
فإنه ليس المراد تخصيص المخلوقية بهم، وقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ
وكقول درنى بنت عبعبة «1» :
هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما
وقول الآخر:
همو يفرشون اللّبد كلّ طمرّة «2» ... وأجرد سبّاح يبذ «3» المغالبا
قال: والسبب فى هذا التأكيد أنك إذا قلت مثلا: زيد، فقد أشعرت بأنك تريد الحديث عنه فيحصل للسامعه تشوّق إلى معرفته، فإذا ذكرته قبلته النفس [قبول العاشق معشوقه «4» ] فيكون ذلك أبلغ فى التحقيق ونفى الشكّ والشبهة، ولهذا تقول لمن تعده: أنا أعطيك أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر، وذلك إذا كان من شأن من يسبق له وعد أن يعترضه الشك فى وفائه، ولذلك يقال فى المدح:
أنت تعطى الجزيل، أنت تجود حين لا يجود أحد، ومن هاهنا تعرف الفخامة فى الجمل التى فيها ضمير الشأن والقصّة كقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ*
وأن فيها ما ليس فى قولك: فإن الأبصار لا تعمى، وإن الكافرين لا يفلحون؛ وهكذا(7/67)
فى الخبر المنفىّ، فإذا قلت: أنت لا تحسن هذا، كان أبلغ من قولك لا تحسن هذا، فالأوّل لمن هو أشدّ إعجابا بنفسه وأكثر دعوى بأنه يحسن.
قال: واعلم أنه قد يكون تقديم الاسم كاللازم نحو قوله:
يا عاذلى دعنى من عذلكا ... مثلى لا يقبل من مثلكا
وقول المتنبى:
مثلك يثنى الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدمع عن غربه
وقول الناس «1» : مثلك يرعى الحق والحرمة، وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه إلى إنسان سوى الذى أضيف اليه وجىء به للمبالغة، وقد عبّر المتنبى عن هذا المعنى فقال:
ولم أقل مثلك أعنى به ... سواك يا فردا بلا مشبه.
وكذلك حكم «غير» اذا سلك فيه هذا المسلك، كقول المتنبى:
غيرى بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا
أى لست ممن ينخدع ويغترّ، ولو لم يقدّم «2» مثلا وغيرا فى هذه الصور لم يؤدّ هذا المعنى.
قال: ويقرب من هذا المعنى تقديم بعض المفعولات على بعض فى نحو قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ
فإن تقديم شركاء على الجن أفاد أنه ما ينبغى لله شركاء لا من الجنّ ولا من غيرهم، لأن شركاء مفعول ثان لجعلوا، ولله متعلّق به والجنّ مفعوله الأوّل، فقد جعل الإنكار على جعل الشريك لله على الإطلاق من غير اختصاص بشىء دون شىء، لأن الصفة إذا ذكرت مجرّدة عن مجراها على شىء كان(7/68)
الذى تعلق بها من المنفىّ «1» عاما فى كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة، فإذا قلت:
ما فى الدار كريم، كنت نفيت الكينونة فى الدار عن كل شىء يكون الكرم صفة له، وحكم الإنكار «2» أبدا حكم النفى، فأما إذا أخرت شركاء فقلت: وجعلوا الجنّ شركاء [لله «3» فيكون جعل الشركاء مخصوصا غير مطلق فيحتمل أن يكون المقصود بالإنكار جعل الجنّ شركاء] لا جعل غيرهم، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فقدّم شركاء نفيا لهذا الاحتمال.
فصل فى مواضع التقديم والتأخير
قال: أما التقديم فيحسن فى مواضع:
الأول أن تكون الحاجة إلى ذكره أشدّ،
كقولك: قطع اللّصّ الأمير.
الثانى: أن يكون ذلك أليق بما قبله من الكلام أو بما بعده،
كقوله تعالى:
وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ
فإنه أشكل بما بعده وهو قوله: فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ*
وبما قبله وهو: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ*.
الثالث: أن يكون من الحروف التى لها صدر الكلام،
كحروف الاستفهام والنفى، فإنّ الاستفهام طلب فهم الشىء، وهو حالة إضافية فلا تستقلّ بالمفهومية فيشتدّ اتصاله بما بعده.
الرابع: تقديم الكلىّ على جزئياته،
فإن الشىء كلما كان أكثر عموما كان أعرف فإن الوجود لما كان «4» أعمّ الأمور كان أعرفها عند العقل.
الخامس: تقديم الدليل على المدلول.(7/69)
وأما التأخير فيحسن «1» فى مواضع:
الأوّل: تمام الاسم
كالصلة والمضاف اليه.
الثانى:
توابع الأسماء.
الثالث:
الفاعل.
الرابع: المضمر،
وهو أن يكون متأخرا لفظا وتقديرا، كقولك: ضرب زيد غلامه أو مؤخرا فى اللفظ مقدّما فى المعنى كقوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
أو بالعكس كقولك: ضرب غلامه زيد؛ وإن تقدّم لفظا ومعنى لم يجز كقولك: ضرب غلامه زيدا.
الخامس: ما يفضى إلى اللّبس،
كقولك: ضرب موسى عيسى، أو أكرم هذا هذا، فيجيب فيه تقديم الفاعل.
السادس: العامل الذى هو ضعيف عمله،
كالصفة المشبّهة والتمييز وما عمل فيه حرف أو معنى، كقولك: هو حسن وجها، وكريم أبا، وتصبب عرقا، وخمسة وعشرون درهما، وإن زيدا قائم، وفى الدار سعد جالسا. ولا يجوز الفصل بين العامل والمعمول بما ليس منه، فلا تقول: كانت زيدا الحمّى تأخذ إذا رفعت اخمّى بكانت «2» للفصل بين العامل وما عمل فيه، فإن أضمرت الحمّى فى كانت صحت المسألة.
وأما الفصل والوصل
- فهو العلم بمواضع العطف والاستئناف، والتهدّى إلى كيفيّة إيقاع حروف العطف فى مواقعها، وهو من أعظم أركان البلاغة، حتى إن(7/70)
بعضهم حدّ البلاغة بأنها معرفة الفصل والوصل. وقال عبد القاهر: إنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معانى البلاغة.
قال: اعلم أن فائدة [العطف «1» ] التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، ثم من الحروف العاطفة ما لا يفيد إلا هذا القدر وهو الواو، ومنها ما يفيد «2» فائدة زائدة كالفاء وثمّ وأو، وغرضنا هاهنا متعلق بما لا يفيد إلا الاشتراك فنقول: العطف إما أن يكون فى المفردات، وهو يقتضى التشريك فى الإعراب، وإما أن يكون فى الجمل، وتلك الجملة إن كانت فى قوّة المفرد كقولك: مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح، فقد أشركت بينهما فى الإعراب [والمعنى «3» ] لاشتراكهما فى كون كل واحد منهما تقييدا للموصوف، ولا يتصور أن يكون اشتراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الاشتراك فيه، وحتى يكونا كالنظيرين والشريكين، وبحيث إذا عرف السامع حاله الأوّل عساه يعرف حاله الثانى، يدلك على ذلك أنك اذا عطفت على الأول شيئا ليس منه بسبب ولا هو مما يذكر بذكره لم يستقم، فلو قلت:
خرجت اليوم من دارى، وأحسن الذى [يقول «4» ] بيت كذا قلت ما يضحك منه، ومن هاهنا عابوا على أبى تمّام قوله:
لا والذى هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم.
وإن لم تكن فى قوّة المفرد فهى على قسمين:
الأوّل أن يكون معنى إحدى الجملتين لذاته متعلقا بمعنى الأخرى «5» كما إذا كانت كالتوكيد لها أو كالصفة، فلا يجوز إدخال العاطف عليه، لأنّ التوكيد والصفة(7/71)
متعلقان بالمؤكّد والموصوف لذاتهما، والتعلق الذاتىّ يغنى عن لفظ يدل على التعلق، فمثال التوكيد قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ
فلا ريب فيه توكيد لقوله تعالى:
ذلِكَ الْكِتابُ
كأنه قال: هو ذلك الكتاب، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
وقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ
تأكيد ثان أبلغ من الأوّل، وكذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
ولم يقل: ويخادعون، لأن المخادعة ليست شيئا غير قولهم: آمنّا مع أنهم غير مؤمنين، وكذلك قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً
ولم يقل تعالى: وكأن، وأمثال [ذلك] فى القرآن العزيز كثيرة.
القسم الثانى ألا يكون بين الجملتين تعلق ذاتىّ، فإن لم يكن بينهما مناسبة فيجب ترك العاطف أيضا، لأن العطف للتشريك ولا تشريك، ومن هاهنا أيضا عابوا على أبى تمّام البيت المتقدّم، لا والذى هو عالم ... ، إذ لا مناسبة بين مرارة النوى وبين كرم أبى الحسين، ولذلك لم يحسن جواز العاطف.
وإن كان بينهما مناسبة فيجب ذكر العاطف.
ثم إن كان المحدّث عنه فى الجملتين شيئين فالمناسبة بينهما إما أن تكون بالذى أخبر بهما، أو بالذى أخبر عنهما، أو بهما كليهما؛ وهذا الأخير هو المعتبر فى العطف.
قال: ونعنى بالمناسبة أن يكونا متشابهين، كقولك: زيد كاتب وعمرو [شاعر «1» ] [أو متضادّين تضادّا على الخصوص، كقولك زيد طويل وعمرو «2» ] قصير، وكقولك:
العلم حسن والجهل قبيح، فلو قلت: زيد طويل والخليفة قصير لا اختل معنى عند(7/72)
ما لا يكون لزيد تعلق بحديث الخليفة، ولو قلت: زيد طويل وعمرو شاعر لا اختل لفظا، إذ لا مناسبة بين الطويل القامة والشاعر.
وإن كان المحدّث عنه فى الجملتين شيئا واحدا، كقولك: فلان يقول ويفعل ويضرّ وينفع، ويأمر وينهى، ويسىء ويحسن، فيجب إدخال العاطف فإن الغرض جعله فاعلا لأمرين، فلو قلت: يقول يفعل بلا عاطف لتوهّم أن الثانى رجوع عن الأوّل.
وإذا أفاد العاطف الاجتماع ازداد الاشتراك «1» ، كقولك: العجب من أنك أحسنت وأسأت، والعجب من أنك تنهى عن شىء وتأتى مثله، وكقوله:
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا
فإن المعنى جعل الفعلين فى حكم واحد، أى لا تطمعوا أن تروا إكرامنا إيّاكم يوجد مع إهانتكم إيّانا.
قال: وقد يجب إسقاط العاطف فى بعض المواضع لاختلال المعنى عند إثباته كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ
فقوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ
كلام مستأنف، وهو إخبار من الله تعالى، فلو أتى بالواو لكان إخبارا عن اليهود بأنهم وصفوا أنفسهم بأنهم يفسدون فيختل المعنى، وكذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ
وأمثال ذلك كثيرة؛ واذا كان كذلك فلا حاجة الى العاطف بخلاف قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ
فإن كل واحدة من الجملتين خبر من الله تعالى.(7/73)
قال: ومما يجب ذكره هاهنا الجملة اذا وقعت حالا فإنها تجىء مع الواو تارة وبدونها أخرى فنقول: الجملة اذا وقعت حالا فلا بدّ أن تكون خبريّة تحتمل الصدق والكذب، وهو «1» على قسمين:
الأوّل وله أحوال:
الأولى: أن يجمع لها بين الواو وضمير صاحب الحال، كقولك: جاء زيد ويده على غلامه، ولقيت زيدا وفرسه سابقه، وهذه الواو تسمّى واو الحال.
الثانية: أن تجىء بالضمير من غير واو، كقولك: كلمته فوه الى فىّ، وهو فى معنى مشافها، والرابط الضمير، فلو قلت: كلّمته الى فىّ فوه، ولقيته عليه جبّة وشى لم يكن من باب وقوع الجملة حالا، لأنه يمكننا أن نرفع فوه وجبة بالجارّ والمجرور فيرجع الكلام الى وقوع المفرد حالا، والتقدير كلّمته كائنا الى فىّ فوه، ولقيته مستقرّة عليه جبّة وشى، وعليه قول بشّار:
اذا أنكرتنى بلدة أو نكرتها ... غدوت مع البازى علىّ سواد.
الثالثة: أن تجىء الواو من غير ضمير وهو كثير، كقولك: لقيتك والجيش قادم وزرتنا والشتاء خارج. ويجوز أن يجمع بين حالين مفرد وجملة اذا أجزنا وقوع حالين كقولك: لقيتك راكبا والجيش قادم، فالجملة حال من التاء أو من الكاف، والعامل فيها لقيت، أو من ضمير «راكبا» و «راكبا» هو العامل فيها.
القسم الثانى الجملة الفعلية، ولا بدّ أن تكون ماضيا أو مضارعا أما الماضى فلا بدّ معه من الإتيان بالواو وقد أو بأحدهما، كقولك: تكلمت وقد(7/74)
عجلت، وجاء زيد قد ضرب عمرا، وجئت وأسرعت فى المجىء، قال الله تعالى:
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ
ولم يجز البصريّون خلوّه عنهما، وقالوا فى قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ
وفى قول أبى صخر الهذلىّ:
وإنى لتعرونى لذكراك هزّة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر:
إن قد مقدّرة فيهما، فإنّ الشىء اذا عرف موضعه جاز حذفه.
وأما المضارع فإن كان موجبا فلا يؤتى معه بالواو «1» ، فتقول: جاءنى زيد يضحك، ويجىء عمرو يسرع، واجلس تحدّثنا بالرفع أى محدّثا لنا، لأنه بتجرّده عما يغير معناه أشبه اسم الفاعل اذا وقع حالا.
وإن كان منفيا جاز حذف الواو مراعاة لأصل الفعل الذى هو الإيجاب وجاز إثباتها، لأن الفعل ليس هو الحال، فإن معنى قولك: جلس زيد ولم يتكلّم جلس زيد غير متكلّم، فجرى مجرى الجملة الإسمية، فالحذف كقولك: جاء زيد ما يفوه ببنت شفة، قال الله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ
فقوله: لا يمسّنا فى موضع نصب على الحال من ضمير المرفوع فى أحلّنا، والإثبات كقولك: جلس زيد ولم يتكلّم، قال الله تعالى:
أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً
. قال: وشبهوا به الفعل الماضى فقالوا: جاء زيد ما ضرب عمرا، وجاء زيد وما ضرب عمرا.
وأما الحذف والإضمار
- فقد قال: الأفعال المتعدّية التى ترك ذكر مفعولاتها على قسمين:
الأوّل: ألا يكون له مفعول معيّن، فقد يترك مفعوله لفظا وتقديرا ويجعل حاله كحال غير المتعدّى، كقولهم: فلان يحلّ ويعقد، ويأمر وينهى، ويضرّ وينفع(7/75)
والمقصود إثبات المعنى فى نفسه للشىء من غير التعرّض لحديث المفعول، فكأنك قلت: بحيث يكون منه حلّ وعقد وأمر ونهى ونفع وضرّ، وعليه قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
أى هل يستوى من له علم ومن لا علم له من غير أن ينص على معلوم، وكذلك قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى
الى قوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى
وبالجملة فمتى كان الغرض بيان حال الفاعل فقط فلا تعدّ الفعل، فإنّ تعديته تنقض الغرض. ألا ترى أنك اذا قلت: فلان يعطى الدنانير كان المقصود بيان جنس ما يتناوله الإعطاء لا بيان حال كونه معطيا؟.
الثانى: أن يكون له مفعول معلوم إلا أنه يحذف فى اللفظ لأغراض:
الأوّل: أن يكون المراد بيان حال الفاعل وأنّ ذلك الحال «1» دأبه لا بيان المفعول كقول طفيل:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلفت ... بنا نعلنا فى الواطئين فزلّت
أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمنا ... تلاقى الّذى لاقوه منّا لملّت
هم خلطونا بالنفوس «2» وألجؤا ... الى حجرات أدفأت وأظلّت
والأصل أن تقول: لملّتنا وألجؤونا وأدفأتنا وأظلّتنا، فحذف المفعول المعيّن من هذه المواضع الأربعة، وكأنه «3» قد أبهم ولم يقصد قصد شىء يقع عليه، كما تقول: قد ملّ فلان، تريد قد دخل عليه الملال من غير أن تخصّ شيئا بل لا تزيد على أن تجعل(7/76)
الملال من صفته، فلذلك الشاعر جعل هذه الأوصاف من دأبهم، ولو أضاف الى مفعول معيّن لبطل هذا الغرض، وعليه قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ
الى قوله تعالى: فَسَقى لَهُما
فقد حذف المفعول فى أربعة مواضع، فإن ذكره ربما يخلّ بالمقصود، فلو قال تعالى مثلا: تذودان غنمهما لتوهّم أنّ الإنكار إنما جاء من ذودهما الغنم لا من مطلق الذّود، كقولك: ما لك تمنع أخاك؟ فإنّ الإنكار من منع الأخ لا من مطلق المنع.
الثانى: أن يكون المقصود ذكره إلا أنك لا تذكره إيهاما بأنك لا تقصد ذكره كقول البحترىّ:
شجو حسّاده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع
المعنى أن يرى مبصر محاسنه، أو يسمع واع المعنى أن يرى مبصر محاسنه، أو يسمع واع أخباره، ولكنه تغافل عن ذلك إيذانا بأن فضائله يكفى فيها أن يقع عليها بصر أو يعيها سمع حتى يعلم أنه المتفرّد بالفضائل، فليس لحسّاده وعداه أشجى من علم بأن هنا مبصرا وسامعا.
الثالث: أن يحذف لكونه بيّنا، كقولهم: أصغيت اليك، أى أذنى، وأغضيت عليك، أى جفنى.
فصل فى حذف المبتداء والخبر
قال: قد يحسن حذف المبتدإ حيث يكون الغرض أنه قد بلغ فى استحقاق الوصف بما جعل وصفا له الى حيث يعلم بالضرورة أن ذلك الوصف ليس إلا له سواء كان فى نفسه كذلك، أم «1» بحسب دعوى الشاعر على طريق المبالغة، فذكره(7/77)
يبطل هذا الغرض، ولهذا قال الإمام عبد القاهر: ما من اسم يحذف فى الحالة التى ينبغى أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره، فمن حذف المبتدإ قوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها
أى هذه سورة، وقول الشاعر:
لا يبعد الله التلبّب «1» والغارات ... إذ قال الخميس نعم
أى هذه نعم، قال عبد القاهر: ومن المواضع التى يطّرد فيها حذف المبتدإ بالقطع «2» والاستئناف أنهم يبدعون بذكر الرجل ويقدّمون بعض أمره، ثم يدعون الكلام الأوّل ويستأنفون كلاما [آخر «3» ] واذا فعلوا ذلك «4» أتوا فى أكثر الأمر بخبر من غير مبتدإ، مثال ذلك قوله:
وعلمت أنّى يوم ذاك ... منازل كعبا ونهدا
قوم إذا لبسوا الحدي ... د تنمرّوا خلقا «5» وقدا
وقال الحطيئة:
هم حلوا من الشرف المعلّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا
بناة مكارم وأساة كلم ... دماؤهم من الكلب «6» الشفاء
وأمثلة ذلك كثيرة.(7/78)
ومن حذف الخبر قوله تعالى: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ
أى لولا أنتم مضلونا وقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لولا علىّ لهلك عمر، أى لولا علىّ حاضر أو مفت.
فصل الإضمار على شريطة التفسير
كقولهم: أكرمنى وأكرمت عبد الله أى أكرمنى عبد الله وأكرمت عبد الله، ومما يشبه ذلك مفعول المشيئة اذا جاءت بعد لو، فإن كان مفعولها أمرا عظيما أو غريبا فالأولى ذكره، كقوله:
ولو «1» شئت أن أبكى دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
فإن بكاء الإنسان دما عجيب، وإن لم يكن كذلك فالأولى حذفه، كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى
والتقدير لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، وكذلك قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ
وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ
ومَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
قال: واعلم أنه قد تترك الكناية الى التصريح لما فيه من زيادة الفخامة كقول البحترىّ:
قد طلبنا فلم نجد لك فى السّو ... دد والمجد والمكارم مثلا
المعنى قد طلبنا لك مثلا، ثم حذف، لأن هذا المدح إنما يتم بنفى المثل، فلو قال:
قد طلبنا لك مثلا فى السّودد والمجد فلم نجده لكان قد أوقع نفى الوجود على ضمير المثل، فلم يكن فيه من المبالغة ما اذا أوقعه على صريح المثل، فإن الكناية لا تبلغ مبلغ(7/79)
الصريح، ولهذا لو قلت: وبالحق أنزلناه وبه نزل، وقل هو الله أحد وهو الصمد لا تجد من الفخامة ما تجده فى قوله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ
وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ
وعلى ذلك قول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شىء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا.
وأما مباحث إنّ وإنما
- فإنه قال:
أما إنّ فلها فوائد:
الأولى أن تربط الجملة الثانية بالأولى،
وبسببها يحصل التأليف بينهما حتى كأن الكلامين أفرغا إفراغا واحدا، ولو أسقطتها كان الثانى نائيا عن الأوّل، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
وقوله تعالى:
أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
. وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ
وقد تتكرر فى كلام واحد، كقوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ
. ثم متى أسقطت «إنّ» من الجملة التى أدخلتها عليها، فإن كانت الجملة الثانية إنما تذكر لإظهار فائدة ما قبلها كما فى الآيات المذكورة احتجت إلى الفاء، وإلا فلا، كما فى قوله تعالى: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ
فلو قلت:
فالمتقون لم يكن كلاما، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
فى موضع خبر إنّ، فدخول الفاء يوجب عطف الخبر على المبتدإ، وهو غير جائز عند أكثر النحويين.(7/80)
الثانية: أنك ترى لضمير الشأن والقصة فى الجملة الشرطيّة مع «إنّ» من الحسن واللطف ما لا تراه إذا هى لم تدخل عليها،
كقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ
وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الثالثة: أنها تهيّئ النكرة وتصلحها
لأن يحدّث عنها، كقوله «1» :
إنّ شواء ونشوة ... وخبب «2» البازل الأمون
فلولا هى لم يكن كلاما؛ وإن كانت النكرة موصوفة جاز حذفها ولكن دخولها أصلح، كقول حسّان:
إنّ دهرا يلفّ شملى بجمل ... لزمان يهمّ بالإحسان.
الرابعة: أنها قد تغنى عن الخبر،
كما اذا قيل لك: الناس «3» إلب عليكم فهل لكم أحد؟ فقلت: إنّ زيدا وإنّ عمرا، أى لنا، قال الأعشى»
:
إنّ محلّا وإنّ مرتحلا ... وإنّ فى السّفر «5» إذ مضوا مهلا.(7/81)
الخامسة: قال المبرّد: اذا قلت عبد الله قائم، فهو إخبار عن قيامه،
فاذا قلت:
إنّ عبد الله قائم، فهو جواب عن إنكار منكر لقيامه، سواء كان المنكر هو السائل أو الحاضرين؛ والدليل على أنّ إنّ «1» إنما تذكر لجواب السائل أنهم ألزموها الجملة من المبتدإ والخبر، نحو: والله إنّ زيدا لمنطلق، فالحاجة إنما تدعو الى «إنّ» اذا كان للسامع ظنّ يخالف ذلك، ولذلك تراها تزداد حسنا اذا كان الخبر بأمر يبعد «2» ، كقول أبى نواس:
عليك باليأس من الناس ... إنّ غنى نفسك فى الياس.
ومن لطيف مواقعها أن يدّعى على المخاطب ظنّ لم يظنّه ولكن [صدر «3» ] منه فعل يقتضى ذلك الظنّ، فيقال له: حالك تقتضى أن تكون قد ظننت ذلك، كقول الشاعر «4» :
جاء شقيق عارضا رمحه ... إنّ بنى عمّك فيهم رماح
أى مجيئك هذا مدلّا بنفسك مجىء من يعتقد أنه ليس مع أحد رمح غيره.
وقد تجىء اذا وجد أمر كان المتكلّم يظنّ أنه لا يوجد، كقولك للشىء الذى يراه المخاطب ويسمعه: إنه كان من الأمر ما ترى، إنه كان منى إليه «5» إحسان فقابلنى بالسوء كأنك تردّ على نفسك ظنّك الذى ظننت، وعليه قوله عز وجل حكاية عن أمّ مريم:
قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى
وحكاية عن نوح: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ.(7/82)
وأما إنما
- فتارة تجىء للحصر بمعنى أنّ هذا الحكم لا يوجد فى غير المذكور وهى بمنزلة ليس إلا، كقوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ
وقوله:
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ
وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها.
وتارة تجىء لبيان أن هذا الأمر ظاهر عند كلّ حدّ، سواء كان كذلك أم «1» فى زعم المتكلّم، ومنه قول الشاعر «2» :
إنما مصعب شهاب من الله ... تجلّت عن وجهه الظّلماء
مدّعيا أن ذلك مما لا ينكره أحد من الناس. قال: واعلم أنه يستعمل للتخصيص ثلاث عبارات:
الأولى: إنما جاء زيد؛ الثانية: جاءنى زيد لا عمرو، والفرق أنّ فى الأولى يفهم إيجاب الفعل من زيد ونفيه عن غيره دفعة واحدة، ومن الثانية دفعتين، ثم إنهما كلتيهما «3» يستعملان لإثبات التخصيص لا لنفى التشريك؛ وفيه نظر.
الثالثة: ما جاءنى إلا زيد، وهى بأصل الوضع تفيد نفى التشريك، ولهذا لا يصحّ ما زيد إلّا قائم لا قاعد، لأنك بقولك: إلا قائم نفيت عنه كلّ صفة تنافى القيام، فيندرج فيه نفى القعود، فاذا قلت بعده: لا قاعد كان تكرارا لأن لفظة «لا» موضوعة لأن ينفى بها ما أوجب الأوّل لا لأن يعاد «4» بها نفى ما نفى أوّلا، ويصح إنما زيد قاعد لا قائم، لأن صيغة «إنما» بأصل وضعها تدلّ على تخصيص الحكم بالمذكور،(7/83)
وأما نفى الشّركة فهو لازم من لوازمها، فليس له من القوّة ما لما يدلّ عليه بوضعه، ولهذا يصحّ: زيد هو الجائى «1» لا عمرو، فثبت أنّ دلالة الأوّليّين على التخصيص أقوى، ودلالة الثالثة على نفى التشريك [أقوى «2» ] ، لكن الثالثة قد تقام مقام الأوّليّين فى إفادة التخصيص، كما اذا ادعى واحد أنك قلت قولا ثم قلت بخلافه، فقلت له:
ما قلت الآن إلا ما قلته قبل، وعليه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ
ليس المعنى أنى لم أزد على ما أمرتنى به شيئا، ولكن المعنى أنّى لم أدع مما أمرتنى به [أن «3» ] أقوله شيئا.
قال: وحكم «غير» حكم «إلّا» فاذا قلت: ما جاءنى غير زيد احتمل أن يكون المراد نفى أن يكون جاء معه إنسان آخر، وأن يكون المراد تخصيص الحكم بالمذكور لا نفيه عما عداه.
فصل إذا دخل ما وإلّا على الجملة المشتملة على المنصوب
كان المقصود بالذكر «4» ما اتصل بإلّا متأخّرا عنها، فاذا قلت: ما ضرب عمرا إلا زيد، فالمقصود المرفوع، واذا قلت: ما ضرب زيد إلا عمرا، فالمقصود المنصوب، واذا قلت:
ما ضرب [إلا «5» ] زيد عمرا، فالاختصاص للضارب، واذا قلت: ما ضرب إلا زيدا عمرو، فالاختصاص للمضروب، فاذا قلت: لم أكس إلا زيدا جبّة، فالمعنى تخصيص(7/84)
زيد من بين الناس بكسوة الجبّة، وإن قلت: لم أكس إلا جبّة زيدا، فالمعنى تختصّ كسوة الجبّة من بين الناس بزيد؛ وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولين جارّ ومجرور، كقول السيد الحميرىّ:
لو خيّر المنبر فرسانه ... ما اختار إلّا منكم فارسا.
وكذلك حكم المبتدإ والخبر والفعل والفاعل، كقولك: ما زيد إلا قائم، وما قام إلا زيد.
وأما إنما فالاختصاص فيها يقع مع المتأخر، فاذا قلت: إنما ضرب زيدا عمرو فالاختصاص فى الضارب، وقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ
فالغرض بيان المرفوع وهو أن الخاشين هم العلماء، ولو قدّم المرفوع لصار المقصود بيان المخشىّ منه، والأوّل أتمّ، ومنه قول الفرزدق:
أنا الذائد الحامى الذّمار وإنما ... يدافع عن أحسابكم أنا أو مثلى
فإن غرضه أن يحصر المدافع بأنه هو لا المدافع عنه؛ ولو قال: إنما أنا أدافع عن أحسابكم، توجّه التخصيص الى المدافع عنه؛ [وحكم المبتدا والخبر «1» ] اذا أدخلت عليهما إنما، فإن قدّمت الخبر فالاختصاص للمبتدا، وإن لم تقدّمه فللخبر، فاذا قلت: إنما هذا لك فالاختصاص فى «لك «2» » ، بدليل أنك بعده تقول: لا لغيرك، فاذا قلت إنما لك هذا فالاختصاص فى «هذا» ، بدليل أنك بعده تقول: لا ذاك، وعليه قوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ
وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ
فالاختصاص فى الآية الأولى للبلاغ والحساب، وفى الثانية فى الخبر الذى هو على الذين دون المبتدإ الذى هو السبيل.(7/85)
وإذا وقع بعدها الفعل فالمعنى أن ذلك الفعل لا يصح إلا من المذكور، كقوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ*
؛ ثم قد يجتمع معه حرف النفى، إما متأخرا عنه كقولك، إنما يجىء زيد لا عمرو: قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ
وقال لبيد:
فإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل «1»
وإما مقدّما «2» عليه، كقولك: ما جاءنى زيد وإنما جاءنى عمرو، فها هنا لو لم تقل: إنما، وقلت: ما جاءنى زيد وجاءنى عمرو لكان الكلام مع من ظنّ أنهما جاءاك جميعا، وإذا أدخلتها فإن الكلام مع من غلط فى الجائى أنه زيد لا عمرو.
قال: واعلم أنّ أقوى ما تكون «إنّما» اذا كان لا يراد بالكلام الذى بعدها نفس معناه، ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه، فإنا نعلم أنه ليس الغرض من قوله تعالى:
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ*
أن يعلم السامعون ظاهر معناه، ولكن أن يذمّ الكفّار ويقال لهم: إنهم من فرط العناد فى حكم من ليس بذى عقل، وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها
وإِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
والتقدير إنّ من لم تكن له هذه الخشية، فهو كمن لم تكن له أذن تسمع وقلب يعقل، فالإنذار معه كلا إنذار، وهذا الغرض لا يحصل دون «إنما» لأن من شأنها تضمين الكلام معنى النفى بعد الإثبات، فإذا أسقطت لم يبق إلا إثبات الحكم للمذكورين، فلا يدلّ على نفيه [عن «3» ] غيرهم إلا أن يذكر فى معرض مدح الإنسان بالتيقّظ والكرم وأمثالهما، كما يقال:
كذلك يفعل العاقل، هكذا يفعل الكريم.(7/86)
تنبيه
قال: كاد تقرّب الفعل من الوقوع، فنفيها ينفى القرب، فإن لم يكن فى الكلام دليل على الوقوع فيفيد نفى الوقوع ونفى القرب منه، كقوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَراها
[أى لم «1» يراها] ولم يقارب وأيتها، وكقول ذى الرمد:
إذا عير النأى المحبين لم يكد «2» ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
المعنى أن براح حبّها «3» لم يقارب الكون فلا عن أن يكون.
وأما النظم
- فهو عبارة عن توخى معانى النحو فيما بين الكلم، وذلك أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو بأن تنظر فى كل باب إلى قوانينه والفروق التى بين معانى اختلاف صيغه «4» ، وتضع الحروف مواضعها وتراعى شرائط التقديم والتأخير، ومواضع الفصل والوصل، ومواضع حروف العطف على اختلاف معانيها، وتعتبر الإصابة فى طريق التشبيه والتمثيل.
وقد أطبق العلماء على تعظيم شأن النظم، وأن لا فضل مع عدمه ولو بلغ الكلام فى غرابة معناه إلى ما بلغ، وأنّ سبب فساده [ترك «5» ] العمل بقوانين النحو واستعمال الشىء فى غير موضعه.
ثم قال: الجمل الكثيرة إذا نظمت نظما واحدا فهى على قسمين:
الأوّل: أن لا يتعلّق البعض بالبعض ولا يحتاج واضعه إلى فكر ورويّد فى استخراجه، بل هو كمن عمد إلى اللآلئ ينظمها فى سلك، ومثاله قول الجاحظ(7/87)
فى مصنّفاته: جنّبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعروف نسبا، وبين الصدق سببا، وحبّب اليك التثبّت، وزيّن فى عينك الإنصاف وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عزّ الحقّ، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذلّ الطمع، وعرّفك ما فى الباطل من الذّلة، وما فى الجهل من القلّة. وكقول النابغة للنّعمان وتفضيله إياه على ذى فائش يزيد «1» بن أبى جفنة، وكقول حسّان ابن ثابت للحارث الجفنّى يفضّله على النعمان بن المنذر، وكقول ضرار بن ضمرة لمعاوية فى وصف علىّ؛ وقد تقدّم شرح أقوالهم فى الباب الأوّل من القسم الثالث من هذا الفن فى المدح، وهو فى السفر الثالث فلا حاجة بنا الى إعادته. وهذا النظم لا يستحق الفضل إلا بسلامة معناه وسلامة «2» ألفاظه، إذ ليس فيه معنى دقيق لا يدرك إلا بثاقب الفكر.
قال: وربما ظنّ بالكلام أنه من هذا الجنس ولا يكون منه، كقول الشاعر:
سالت عليه شعاب الحىّ حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير
فإن الحسن فيه ليس مجرّد الاستعارة، بل لما فى الكلام «3» من التقديم والتأخير، ولهذا لو أزلت ذلك وقلت: سالت شعاب الحىّ بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره، فإنه يذهب بالحسن والحلاوة.(7/88)
الثانى: أن تكون الجمل المذكورة يتعلّق بعضها ببعض، وهناك تظهر قوّة الطبع، وجودة القريحة، واستقامة الذّهن.
ثم [ليس] «1» لهذا الباب قانون يحفظ، فإنه يجىء على وجوه شتّى:
منها الإيجاز، وهو العبارة عن الغرض بأقلّ ما يمكن من الحروف، وهو على ضربين: إيجاز قصر، وإيجاز حذف، وقد تقدّم الكلام على ذلك وذكر أمثلته عند ذكر الفصاحة.
ومنها التأكيد- وهو تقوية المعنى وتقريره، إما بإظهار البرهان، كقول قابوس:
يا ذا الذى بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... وتستقرّ بأقصى قعره الدّرر
وفى السماء نجوم ما لها «2» عدد ... وليس يخسف إلا الشمس والقمر
وإما بالعزيمة، كقوله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ
وقوله تعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ
وكقول الأشتر النّخعىّ:
بقّيت وفرى وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافى بوجه عبوس
إن لم أشنّ على ابن حرب غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس
يريد معاوية بن أبى سفيان، وكقول أبى نواس.
لا فرّج الله عنّى إن مددت يدى ... إليه أسأله من حبّك الفرجا(7/89)
وكقول أبى تمّام:
حرمت مناى منك إن كان ذا الذى ... تقوّله الواشون حقّا كما قالوا.
أو بالتّكرار، كقولهم: الله الله، والأسد الأسد، وكقول الحادرة «1» :
أظاعنة وما تودّعنا هند ... وهند أتى من دونها النأى والبعد
وهذا فى التنزيل كثير، والعلم فيه سورة الرحمن.
وأما التجنيس
- فهو يتشعّب منه شعب كثيرة:
فمنه المستوفى التامّ-
وهو أن يجىء المتكلّم بكلمتين متفقتين لفظا، مختلفتين معنى، لا تفاوت فى تركيبهما، ولا اختلاف فى حركاتهما، كقول الغزّىّ:
لم يبق غيرك إنسان يلاذبه ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا
وقول عبد الله بن طاهر:
وإنّى للثّغر المخوف لكالئ ... وللثغر يجرى ظلمه «2» لرشوف
وكقول البستىّ:
سما وحمى بنى سام وحام ... فليس كمثله سام وحامى
وذكر التّبريزىّ أن التجنيس المستوفى كقول أبى تمّام:
ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله
وقال: وإنما عدّ من هذا الباب لاختلاف المعنين، لأن احدهما فعل، والآخر اسم.(7/90)
ومنه المختلف
- ويسمّى التجنيس الناقص- وهو مثل الأوّل فى اتفاق حروف الكلمتين إلا أنه يخالفه: إما فى هيئة الحركة، كقوله صلّى الله عليه وسلم «اللهم كما حسّنت خلقى فحسّن خلقى» ؛ وكقول معاذ رضى الله عنه: الدّين يهدم الدّين؛ وكقولهم: جبّة البرد جنّة البرد؛ وكقولهم: الصديق الصدوق أوّل العقد وواسطة العقد؛ وكقول المعرّى:
لغيرى زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكرى ابن سبيل
أو بالحركة والسكون، كقولهم: البدعة شرك الشّرك. أو بالتخفيف والتشديد كقولهم: الجاهل إما مفرط وإما مفرّط.
ومنه المذيّل
- ويقال له: التجنيس الزائد والناقص أيضا- وهو أن تجىء بكلمتين متجانستى اللفظ متّفقتى الحركات، غير أنهما يختلفان بحرف، إما فى آخرهما كقولك: فلان حام حامل لأعباء الأمور، كاف كافل لمصالح الجمهور؛ وقولهم:
أنا من زمانى فى زمانه، ومن إخوانى فى خيانه «1» ؛ وقولهم: فلان سال عن إخوانه «2» ، سالم من زمانه؛ ومن النظم قول أبى تمّام:
يمدّون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب
وقول البحترىّ:
لئن صدفت عنّا فربّت أنفس ... صواد إلى تلك النفوس الصوادف
وإما من أوّلهما، كقوله تعالى: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ)
ومن النظم ما أنشده عبد القاهر:
وكم سبقت منه إلىّ عوارف ... ثنائى من تلك العوارف وارف
وكم غرر من برّه ولطائف ... لشكرى على تلك اللطائف طائف.(7/91)
ومنه المركب وهو على ضربين:
الأوّل: ما هو متشابه لفظا وخطا،
كقولهم: همّتك الهمّة الفاتره، وفى صميم قلبك ألفاتره، ومن النظم قول البستىّ:
إذا ملك لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذاهبه
وقول الآخر:
عضّنا الدهر بنابه ... ليت ما حلّ بنابه
وقول طاهر البصرى:
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أودعانى رهنا بما أودعانى.
الثانى: ما هو متشابه لفظا لا خطا ويسمّى التجنيس [المفروق]
«1» ، كقوله:
كنت أطمع فى تجريبك، ومطايا الجهل تجرى بك؛ ومن النظم قول الشاعر:
لا تعرضنّ على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغت فى تهذيبها
فإذا عرضت القول غير مهذّب ... عدّوه منك وساوسا تهذى بها
وأمثال ذلك كثيرة.
ومن أنواع المركّب المرفوّ، وهو أن تجمع بين كلمتين إحداهما أقصر من الأخرى، فتضمّ الى القصيرة حرفا من حروف المعانى أو من حروف الكلمة المجاورة لها حتى يعتدل ركنا التجنيس، كقولهم:
يا مغرور أمسك، وقس يومك بأمسك؛ ويقرب منه قول الهمذانىّ:
إن لم يكن لنا حظّ فى درك درّك، فخلّصنا من شرك شرّك؛(7/92)
وقول الحريرىّ:
إن أخليت منّا مبارك مبارّك، فخلّصنا من معارك معارّك؛ ومن النظم قول البستىّ:
فهمت كتابك يا سيّدى ... فهمت ولا عجب أن أهيما
ومنه قول الآخر:
ذو راحة وكفت ندى وكفت ردى ... وقضت بهلك عداته وعداته
كالغيث فى إروائه وروائه ... والليث فى وثباته وثباته.
ومنه المزدوج
- ويقال له التجنيس المردّد والمكرر أيضا- وهو أن يأتى فى أواخر الأسجاع وقوافى الأبيات بلفظتين متجانستين إحداهما نميمة الأخرى وبعضها، كقولهم: الشراب بغير النّغم غمّ، وبغير الدّسم سمّ؛ وقول البستىّ:
أبا العباس لا تحسب لشينى «1» ... بأنّى من حلى الأشعار عارى
فلى طبع كسلسال معين ... زلال من ذرى الأحجار جارى
اذا ما أكبت الأدوار زندا ... فلى زند على الأدوار وارى.
ومن أجناس التجنيس المصحّف
- ويقال له تجنيس الخط أيضا- وهو أن تأتى بكلمتين متشابهتين خطّا لا لفظا، كقوله تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
وقوله تعالى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بالأبكار فإنهنّ أشدّ حبّا وأقلّ خبّا» وقول [النبىّ صلّى الله عليه «2» وسلم] لعلىّ رضى الله عنه: قصّر من ثيابك فإنه أبقى وأنقى وأتقى.(7/93)
وكقول أبى فراس:
من بحر شعرك أغترف ... وبفضل علمك أعترف.
ومنه المضارع
- ويسمّى المطمّع- وهو أن يجاء بالكلمة ويبدأ بأختها على مثل أكثر حروفها، فتطمع فى أنها مثلها، فتخالفها بحرف؛ ويسمى المطرّف وهو أن تجمع بين كلمتين متجانستين لا تفاوت بينهما إلا بحرف واحد من الحروف المتقاربة، سواء وقع آخرا أوحشوا، كقوله صلّى الله عليه وسلم: «الخيل معقود بنواصيها الخير» ومنه قول الحطيئة:
مطاعين فى الهيجا مطاعيم فى الدّجى ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجدّ
وقول البحترىّ:
ظللت أرجّم فيك الظنون ... أحاجمه أنت أم حاجبه؟
وإن كان التفاوت «1» بغير المتقاربة سمّى التجنيس اللاحق، كقوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
وقوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
وقول البحترىّ:
هل لما فات من تلاق تلافى ... أم لشاك من الصبابة شافى.
ومنه المشوّش
- وهو كل تجنيس يتجاذبه طرفان من الصنعة «2» فلا يمكن إطلاق اسم أحدهما عليه، كقولهم: فلان مليح البلاغة، صحيح البراعة «3»(7/94)
ومنه تجنيس الاشتقاق
- ويسمّى الاقتضاب أيضا، ومنهم من عدّه أصلا برأسه، ومنهم من عدّه أصلا فى التجنيس- وهو أن يجىء بألفاظ يجمعها أصل واحد فى اللغة، كقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ
وقوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ
وقوله تعالى: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ
وقول النبى صلّى الله عليه وسلم:
«ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» وقوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» ومن النظم قول أبى تمّام:
عممت الخلق بالنّعماء حتى ... غدا الثقلان منها مثقلين
وقول المطرّزى:
وإنى لأستحيى من المجد أن أرى ... حليف غوان أو أليف أغانى «1»
وقول الصاحب بن عبّاد:
وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل فى الأمم
فقلت ذرينى على غصّتى ... فإن الهموم بقدر الهمم
وقول آخر:
إن ترى الدنيا أغارت ... ونجوم السعد غارت
فصروف الدهر شتّى ... كلّما جارت أجارت
ومما يشبه المشتقّ «2» - ويسمّيه بعضهم المشابه «3» ، وبعضهم المغاير
- قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ
وقوله تعالى: لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ(7/95)
وقوله تعالى: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ
وقوله تعالى: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
ومن النظم قول البحترىّ:
واذا ما رياح «1» جودك هبّت ... صار قول العذّال فيها هباء.
ومن أجناس التجنيس تجنيس التصريف
- وهو ما كان كالمصحّف [إلا] «2» فى اتحاد الكتابة، ثم لا يخلو من أن تتقارب «3» فيه الحروف باعتبار المخارج أو لا تتقارب فإن تقاربت سمّى مضارعا، وإن لم تتقارب سمّى لاحقا.
مثال الأوّل قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ
وقوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ
وقول قسّ بن ساعدة الإيادىّ:
«من مات فات» وقول الشاعر:
فيالك من حزم وعزم طواهما ... جديد البلى تحت الصفا والصفائح
وهذا البيت يشتمل على المضارع والمتمّم؛ ومثال الثانى قول على رضى الله عنه: الدنيا دار ممرّ، والآخرة دار مقرّ، وقول عبد الله بن صالح وقد وصف اليمن: ليس فيه إلا ناسج برد، أو سائس «4» قرد.(7/96)
ومنها التجنيس المخالف
- وهو أن تشتمل كلّ واحدة من الكلمتين على حروف الأخرى دون ترتيبها، كقول أبى تمّام:
بيض الصفائح لا سود الصحائف فى ... متونهنّ جلاء الشك والريب
وقول البحترىّ:
شواجر أرماح تقطّع بينهم ... شواجر أرحام ملوم قطوعها
وقول المتنبىّ:
ممنّعة منعّمة رداح ... يكلّف لفظها الطير الوقوعا
فإن اشتملت كل كلمة على حروف الأخرى، وكان بعض هذه قلب حروف هذه خصّ باسم جناس العكس، كقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق» وقول عبد الله بن رواحة يمدح [النبى «1» ] صلّى الله عليه وسلم:
تحمله الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلّى نوره الظّلما.
ومنها تجنيس المعنى
- وهو أن تكون إحدى الكلمتين دالّة على الجناس بمعناها دون لفظها، وسبب استعمال هذا النوع أن يقصد الشاعر المجانسة لفظا ولا يوافقه الوزن على الإتيان باللفظ المجانس فيعدل إلى مرادفه، كقول الشاعر يمدح المهلّب ويذكر فعله بقطرىّ بن الفجاءة، وكان قطرىّ يكنى أبا نعامة:
حدا بأبى أم الرّئال فأجفلت ... نعامته من عارض متلّبب «2»
أراد أن يقول: حدا بأبى نعامة فأجفلت نعامته أى روحه، فلم يستقم له فقال: بأبى أمّ الرّئال، وأمّ الرّئال هى النعامة، وكقول الشّماخ:(7/97)
وما أروى وإن كرمت علينا ... بأدنى من موقّفة «1» حرون
أروى: اسم امرأة. والموقّفة الحرون من الوحش: أروى، وبها سميت المرأة فلم يمكنه أن يأتى باسمها فأنى بصفتها، وقد صرح بذلك المعرّى فى قوله:
أروى النّياق كأروى النّيق «2» يعصمها ... ضرب يظلّ له السّرحان مبهوتا
وبعضهم لا يدخل هذا فى باب التجنيس. قال: وإنما يحسن التجنيس إذا قلّ، وأتى فى الكلام عفوا من غير كدّ «3» ولا استكراه، ولا بعد ولا ميل إلى جانب الرّكّة ولا يكون كقول الأعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعنى ... شاو «4» مشلّ شلول شلشل شول
ولا كقول مسلم بن الوليد:
سلّت وسلّت ثم سلّ سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا
ولا كقول المتنبىّ:
فقلقلت بالهمّ الذى قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلّهن قلاقل.
وأما الطّباق
- قال: المطابقة أن تجمع بين ضدّين مختلفين، كالإيراد والإصدار والليل والنهار، والسواد والبياض؛ قال الأخفش وقد سئل عنه: أجد قوما يختلفون(7/98)
فيه، فطائفة- وهم الأكثر- يزعمون أنه الشىء وضدّه، وطائفة تزعم أنه اشتراك المعنيين فى لفظ واحد، كقول زياد الأعجم:
ونبّئتهم يستنصرون بكاهل ... وللّؤم فيهم كاهل وسنام
ثم قال: وهذا هو التجنيس بعينه، ومن ادعى أنه طباق فقد خالف الأصمعىّ والخليل، فقيل له: أو كانا يعرفان ذلك؟ فقال: سبحان الله! وهل أعلم منهما بالشعر وتمييز خبيثه من طيّبه؟. ويسمونه المطابقة والطّباق والتضادّ والتكافؤ وهو أن تجمع بين المتضادّين مع مراعاة التقابل، فلا تجىء باسم مع فعل ولا بفعل مع اسم، مثاله قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً
وقوله تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ
وقوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ
وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ
إلى قوله:
بِغَيْرِ حِسابٍ*
وقوله صلّى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع» ومن النظم قول جرير:
وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شرّ عنكم بشماليا
وقول البحترىّ:
وأمّة كان قبح الجور يسخطها ... حينا فأصبح حسن العدل يرضيها
وقوله أيضا:
تبسّم وقطوب فى ندى ووغى ... كالبرق والرعد وسط العارض البرد
وقول دعبل:
لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
وقول ابن المعتز:
مها الوحش إلا أنّ هاتا أوانس ... قنا الخطّ إلا أنّ تلك ذوابل(7/99)
فإنّ هاتا للحاضر، وتلك للغائب، فكانتا متقابلتين؛ وقد تجىء المطابقة بالنفى [والإثبات «1» ] كقول البحترىّ:
تقيّض «2» لى من حيث لا أعلم النوى ... ويسرى إلىّ الشوق من حيث أعلم.
وقال الزكىّ بن أبى الإصبع المصرىّ فى الطباق: وهو على ضربين: ضرب يأتى بألفاظ الحقيقة، وضرب يأتى بألفاظ المجاز، فما كان بلفظ [الحقيقة «3» ] سمّى طباقا وما كان بلفظ المجاز سمّى تكافؤا، فمثال التكافؤ قول أبى الأشعث العبسىّ من إنشادات قدامة:
حلو الشمائل وهو مرّ باسل ... يحمى الذّمار صبيحة الإرهاق
لأن «4» قوله: حلو ومرّ خارج مخرج الاستعارة، إذ ليس الإنسان ولا شمائله مما يذاق بحاسّة الذوق.
ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق:
وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالى فى سماء عجاج
وقد جمع دعبل فى بيته المتقدّم بين الطباق والتكافؤ، وهو:
لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
لأن ضحك المشيب مجاز، وبكاء الشاعر حقيقة.
قال: هكذا قال ابن أبى الإصبع، وفيه نظر، لأنه إذا كان الطباق عنده هو التضادّ من حقيقتين، والتكافؤ التضادّ من مجازين، فليس فى البيت ما شرطه.(7/100)
قال: ومما جمع بين طباقى السلب والإيجاب قول الفرزدق من إنشادات ابن المعتزّ:
لعن الإله بنى كليب إنّهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار
يستيقظون إلى نهيق حميرهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار.
وذكر فى آخر الباب طباق الترديد، وهو أن يردّ آخر الكلام المطابق إلى أوّله فإن لم يكن الكلام مطابقا فهو ردّ الأعجاز على الصدور، ومثاله قول الأعشى:
لا يرقع الناس ما أوهوا وإن جهدوا ... طول الحياة ولا يوهون ما رقعوا.
وأما «1» المقابلة
- وهى أعم من الطباق، وذكر بعضهم أنها أخص، وذلك أن تضع معانى تريد الموافقة بينها وبين غيرها أو المخالفة، فتأتى فى الموافق بما وافق، وفى المخالف بما خالف أو تشرط شروطا وتعدّ أحوالا فى أحد المعنيين فيجب أن تأتى فى الثانى بمثل ما شرطت وعددت [فى الأوّل «2» ] ، كقوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى
وقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ
ومثاله من النظم قول الشاعر:
فيا عجبا كيف اتفقنا فناصح ... وفىّ ومطوىّ على الغلّ غادر!
وقول آخر:
تقاصرن واحلولين لى ثم إنه ... أتت بعد أيام طوال أمرّت(7/101)
وقول زهير بن أبى سلمى:
حلماء فى النادى إذا ما جئتهم ... جهلاء يوم عجاجة ولقاء.
ومن فساد ذلك أن يقابل الشىء بما لا يوافقه ولا يخالفه، كقول أبى عدىّ القرشىّ:
يا ابن خير الأخيار من عبد شمس ... أنت زين الدنيا وغيث لجود
فليس قوله: غيث لجود موافقا لقوله: زين الدنيا ولا مخالفا له وكقول الكميت:
وقد رأينا بها حورا منعّمة ... بيضا تكامل فيها الدّلّ والشّنب
فالشنب لا يشاكل الدّلّ.
وقول آخر:
رحماء بذى الصلاح وضرّا ... بون قدما لهامة الصّنديد.
قال: وقد ذكر بعض أئمة هذا الفن تفصيلا فى المقابلة فقال:
فمن مقابلة اثنين باثنين قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً
؛ وقول النابغة:
فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا؛
ومن مقابلة ثلاثة بثلاثة قول الشاعر «1» :
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
وقول أبى نواس:
أنا استدعيت عفوك من قريب ... كما استعفيت سخطك من بعيد؛(7/102)
ومن مقابلة أربع بأربعة قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى
المقابل بقوله تعالى: «اسْتَغْنَى» *
قوله تعالى: «وَاتَّقى» *
لأن معناه: زهد فيما عند الله واستغنى بشهوات الدنيا عن نعم الآخرة، وذلك يتضمّن عدم التقوى، ومنه قول النابغة:
إذا وطئا سهلا أثارا عجاجة ... وإن وطئا حزنا تشظّى الجنادل؛
ومن مقابلة خمسة بخمسة قول المتنبّى:
أزورهم وسواد الليل يشفع لى ... وأنثنى وبياض الصبح يغرى بى
قابل أزور بأنثنى، وسواد ببياض، والليل بالصبح، ويشفع بيغرى، ولى بقوله: بى.
وأما السجع
- فهو أن كلمات الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة «1» الأعجاز موقوفا عليها، لأن الغرض أن يجانس بين قرائن، ويزاوج بينها، ولا يتمّ ذلك إلا بالوقف، ألا ترى الى قولهم: «ما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت» فلو ذهبت تصل لم يكن بدّ من إعطاء أواخر القرائن ما يقتضيه حكم الإعراب، فتختلف أواخر القرائن، ويفوت الساجع غرضه، واذ رأيناهم يخرجون الكلمة عن أوضاعها للازدواج فيقولون: أتيتك بالغدايا والعشايا، وهنأنى الطعام ومرأنى، وأخذه ما قدم وما حدث، «وانصرفن مأزورات غير مأجورات» ، يريد الغدوات، وأمرأنى وحدث، وموزورات، مع أن فيه ارتكابا لمخالفة اللّغة [فما الظنّ بأواخر «2» الكلم المشبّهة بالقوافى] .(7/103)
قال: والسجع أربعة أنواع وهى: الترصيع والمتوازى والمطرّف والمتوازن.
أما الترصيع
- فهو أن تكون الألفاظ مستوية الأوزان متّفقة الأعجاز، كقوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ
وقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
وقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اقبل توبتى، واغسل حوبتى» وقولهم: فلان يفتخر بالهمم العالية، لا بالرمم الباليه؛ وقولهم: عاد تعريضك تصريحا، وتمريضك تصحيحا؛ ومن النظم قول الخنساء:
حامى الحقيقة محمود الخليقة مهدىّ ... الطريقة نفّاع وضرّار
جوّاب قاصية جزّاز ناصية ... عقّاد ألوية للخيل جرّار
وقد يجىء مع التجنيس، كقولهم:
اذا قلّت الأنصار، كلّت الأبصار؛ وما وراء الخلق الدّميم، إلا الخلق الذميم؛ ومن النظم قول المطرّزى «1» :
وزند ندى فواضله ورىّ ... ورند ربا فضائله نضير
ودرّ جلاله أبدا ثمين ... ودرّ نواله أبدا غزير.
وأما المتوازى
- فهو أن يراعى فى الكلمتين الأخيرتين من القرينتين الوزن مع اتفاق الحرف الأخير منهما، كقوله عزّ وجلّ: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ.(7/104)
وقول الحريرىّ: ألجأنى حكم دهر قاسط، الى أن أنتجع أرض واسط «1» .
وقوله: وأودى الناطق والصامت، ورثى لنا الحاسد والشامت.
وأما المطرّف
- فهو أن يراعى الحرف الأخير فى كلمتى قرينتيه من غير مراعاة الوزن، كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً
وقولهم: جنابه محطّ الرحال، ومخيّم الآمال.
وأما المتوازن
- فهو أن يراعى فى الكلمتين الأخيرتين من القرينتين الوزن مع اختلاف الحرف الأخير منهما، كقوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ
وقولهم: اصبر على حرّ القتال، ومضض النّزال «2» ، وشدّة المصاع، ومداومة المراس؛ فإن راعى الوزن فى جميع كلمات القرائن أو أكثرها، وقابل الكلمة منها بما يعادلها وزنا كان أحسن، كقوله تعالى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
، وقول الحريرىّ: اسودّ يومى الأبيض، وابيضّ فودى الأسود؛ ويسمّى هذا فى الشعر الموازنة، كقول البحترىّ:
فقف مسعدا فيهنّ إن كنت عاذرا ... وسر مبعدا عنهنّ إن كنت عاذلا(7/105)
قال: ومما هو شرط الحسن فى هذا المحافظة على التشابه، وهو اسم جامع للملاءمة والتناسب.
فالملاءمة: تأليف الألفاظ الموافية بعضها لبعض على ضرب من الاعتدال كقول لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يعود رمادا بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع
وبعضهم يعدّ التلفيق من باب الملاءمة، وهو أن تضمّ الى ذكر الشىء ما يليق به ويجرى مجراه، أى تجمع الأمور المناسبة، ويقال له: مراعاة النظير أيضا، كقول ابن سمعون للمهلّبىّ «1» :
أنت أيها الوزير إبراهيمىّ الجود، إسماعيلىّ الوعد، شعيبىّ التوفيق، يوسفىّ العفو، محمدىّ الخلق.
وكقول أبى الفوارس «2» الحمدانىّ:
أأخا «3» الفوارس لو رأيت مواقفى ... والخيل من تحت الفوارس تنحط «4»
لقرأت منها ما تخطّ يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنّة تنقط(7/106)
وكقول آخر:
وكم سائل بالغيب عنك أجبته ... هناك الأيادى الشّفع والسّودد الوتر
عطاء ولا منّ وحكم ولا هوى ... وحلم ولا عجز وعزّ ولا كبر
وقول ابن حيّوس «1» :
يقينك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وسيفك والنصر
والتناسب: هو ترتيب المعانى المتآخية التى تتلاءم ولا تتنافر، كقول النابغة:
والرفق «2» يمن والأناة سعادة ... فاستأن فى رزق تنال نجاحا
واليأس عمّا فات يعقب راحة ... ولرب مطمعة تعود ذباحا
ويسمّى التشابه أيضا، وقيل: التشابه أن تكون الألفاظ غير متباينة بل متقاربة فى الجزالة والرّقة والسّلاسة، وتكون المعانى مناسبة لألفاظها من غير أن يكسو «3» اللفظ الشريف المعنى السخيف، أو على الضدّ، بل يصاغان معا صياغة تناسب وتلائم.
فصل فى الفقر المسجوعة ومقاديرها
قال: قصر الفقرات يدلّ على قوّة التمكّن وإحكام الصناعة، وأقلّ ما تكون كلمتان، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ
وأمثال ذلك فى الكتاب العزيز كثيرة، لكن الزائد على ذلك هو الأكثر، وكان بديع الزمان يكثر من(7/107)
ذلك فى رسائله، كقوله: كميت «1» نهد، كأنّ راكبه فى مهد؛ يلطم الأرض بزبر وينزل من السماء بخبر. قالوا: لكن التذاذ السامع بما زاد على ذلك أكثر، لتشوقه الى ما يرد متزايدا على سمعه.
فأما الفقر المختلفة فالأحسن أن تكون الثانية أزيد من الأولى ولكن لا بقدر كثير لئلا يبعد على السامع وجود القافية فيقلّ الالتذاذ بسماعها، فإن زادت القرائن على اثنين فلا يضرّ تساوى القرينتين الأوليين وزيادة الثالثة عليهما وإن زادت الثانية عن الأولى يسيرا، [والثالثة «2» على الثانية] فلا بأس، لكن لا يكون أكثر من المثل، ولا بدّ من الزيادة فى آخر القرائن، مثاله فى القرينتين: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً
ومثاله فى الثالثة قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً
وأقصر الطّوال ما كان من «3» إحدى عشرة لفظة وأكثرها غير مضبوط، مثاله من إحدى عشرة لفظة: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ
والتى «4» بعدها من ثلاث عشرة كلمة؛ ومثاله من عشرين لفظة قوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.(7/108)
وأما ردّ العجز على الصدر
- فهو كل كلام منثور أو منظوم يلاقى آخره أوّله بوجه من الوجوه، كقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ
وقوله تعالى: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى
وقولهم:
«القتل أنفى للقتل» و «الحيلة ترك الحيلة» وقولهم: طلب ملكهم فسلب ما طلب، ونهب ما لهم فوهب ما نهب.
وهو فى النّظم على أربعة أنواع:
الأوّل: أن يقعا طرفين،
إما متفقين صورة ومعنى، كقوله:
سريع إلى ابن العم يشتم عرضه ... وليس إلى داعى الندى بسريع
وقوله:
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أنّى يفيق فتى به سكران؛
أو متفقين صورة لا معنى، وهو أحسن من الأوّل، كقول السّرىّ:
يسار من سجيّتها المنايا ... ويمنى من عطيّتها اليسار
وقول الآخر:
ذوائب سود كالعناقيد أرسلت ... فمن أجلها منّا النفوس ذوائب؛
أو معنى لا صورة «1» ، كقول عمر بن أبى ربيعة:
واستبدّت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
وقول السّرىّ:
ضرائب أبدعتها فى السّماح ... فلسنا نرى لك فيها ضريبا(7/109)
وقول الآخر:
ثلبك أهل الفضل قد دلّنى ... أنك منقوص ومثلوب
أولا صورة ولا معنى ولكن بينهما مشابهة اشتقاق، كقول الحريرى:
ولاح يلحى على جرى العنان الى ... ملها فسحقا له من لائح لاحى
الثانى: أن يقعا فى حشو المصراع الأوّل وعجز الثانى،
إما متفقين صورة ومعنى كقول أبى تمّام:
ولم يحفظ مضاع المجد شىء ... من الأشياء كالمال المضاع
وقول آخر:
أمّا القبور فإنهن أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور
أو صورة لا معنى، كقول الثعالبىّ:
وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فانف البلابل باحتساء بلابل
فالأوّل جمع بلبل، والثانى جمع بلبلة وهى الهمّ [والثالث «1» جمع بلبلة الإبريق] وقول الزمخشرىّ:
وأخّرنى دهرى وقدّم معشرا ... لأنهم «2» لا يعلمون وأعلم
فمذ أفلح الجهّال أعلم «3» أننى ... أنا الميم والأيام أفلح «4» أعلم(7/110)
أو معنى لا صورة، كقول امرئ الفيس:
إذا المرء لم يحزن عليه لسانه ... فليس على شىء سواه بخزّان
وقول أبى تمّام:
دمن ألّم بها فقال سلام ... كم حلّ عقدة صبره الإلمام
وقول أبى فراس:
وما إن شبت من كبر ولكن ... لقيت من الأحبّة ما أشابا؛
أو فى الاشتقاق فقط، كقول أبى فراس:
منحناها الحرائب «1» غير أنا ... إذا جرنا منحناها الحرابا؛
الثالث: أن يقعا فى آخر المصراع الأوّل وعجز الثانى،
إما متّفقين صورة ومعنى كقول أبى تمّام:
ومن كان بالبيض الكواعب مغرما ... فما زلت بالبيض القواضب مغرما؛
أو صورة لا معنى، كقول الحريرىّ:
فمشغوف بآيات المثانى ... ومفتون برنّات المثانى؛
أو معنى لا صورة، كقول البحترىّ:
ففعلك إن سئلت لنا مطيع ... وقولك إن سألت لنا مطاع؛
الرابع: أن «2» يقعا فى أوّل المصراع الثانى والعجز،
إما متّفقين صورة ومعنى كقول الحماسىّ:(7/111)
فإلّا يكن إلا معلّل «1» ساعة ... قليلا فإنى نافع لى قليلها
أو صورة لا معنى، كقول أبى دؤاد:
عهدت «2» لها منزلا داثرا ... وآلا على الماء يحملن آلا
فالأوّل الأتباع «3» ، والثانى أعمدة الخيام، وكقول آخر:
رماك زمان السّوء من حيث لا ترى ... فرامى ولم يظفر بما هو راما
أو معنى لا صورة، كقول أبى تمّام:
ثوى فى الثرى من كان يحيا به الثرى ... ويغمر «4» صرف الدهر نائله الغمر
وقد كانت البيض البواتر فى الوغى ... بواتر فهى الآن من بعده بتر
قال: ومن نوادر هذا الباب بيتا الحريرىّ اللذان سمّاهما المطرّفين، وهما:
سم سمة تحسن آثارها ... واشكر لمن أعطى ولو سمسمه
والمكرمهما اسطعت لا تأته ... لتبتغى السّودد والمكرمه.
قال: فإن لم يقع فى العجز فليس من هذا الباب، كقوله:
ونبّئتهم يستنصرون بكاهل ... وللّؤم فيهم كاهل وسنام(7/112)
وكقول الأفوه الأودىّ:
وأقطع الهوجل مستأنسا ... بهوجل عيرانة «1» عنتريس
فالهوجل الأوّل: الفلاة، والثانى: الناقة السريعة.
وأما الإعنات
- ويقال له التضييق والتشديد ولزوم ما لا يلزم- فهو أن يعنت نفسه فى التزام ردف أو دخيل أو حرف مخصوص قبل حرف الروىّ، أو حركة مخصوصة، كقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ
، وقول النبىّ صلّى الله عليه وسلم: «اللهم بك أحاول، وبك أصاول» وقوله عليه الصلاة والسلام «شرّ ما فى المرء شحّ هالع، أو جبن خالع «2» » وقوله عليه الصلاة والسلام: «زرغبّا تزدد حبّا» وقول عمر رضى الله عنه: لا يكن حبّك كلفا، ولا بغضك تلفا؛ وقول المعرّى:
ضحكنا وكان الضّحك منا سفاهة ... وحقّ لسكّان البسيطة أن يبكوا
يحطّمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد له السّبك
وقول آخر:
يقولون فى البستان للعين لذّة ... وفى الخمر والماء الذى غير آسن
إذا شئت أن تلقى المحاسن كلّها ... ففى وجه من تهوى جميع المحاسن
وقد التزم ابن الرومىّ الفتح قبل حرف الروىّ- وكان أولع الناس بذلك- فقال:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد(7/113)
وإلا فما يبكيه فيها «1» وإنّها ... لأوسع ممّا كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنه ... بما سيلاقى من أذاها يهدّد
وأمثال ذلك فى الشعر كثيرة.
وأما المذهب الكلامىّ
- فهو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام نحو قوله عز وجل: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا
ومنه قول النابغة يعتذر إلى النّعمان:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلّغت عنّى جناية ... لمبلغك الواشى أغشّ وأكذب
ولكنّنى كنت امرءا لى جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب
ملوك وإخوان اذا ما مدحتهم ... أحكّم فى أموالهم وأقرّب
كفعلك فى قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم فى مدحهم لك أذنبوا
يقول: أنت أحسنت إلى قوم فمدحوك، وأنا أحسن إلىّ قوم فمدحتهم، فكما أنّ مدح من أحسنت إليه لا يعدّ ذنبا فكذا مدحى لمن أحسن إلىّ لا يعدّ ذنبا.
قال ابن أبى الإصبع، ومن شواهد هذا الباب قول الفرزدق:
لكلّ امرئ نفسان نفس كريمة ... ونفس يعاصيها الفتى ويطيعها
ونفسك من نفسيك تشفع للنّدى ... إذا قلّ من أحرارهنّ شفيعها
يقول: لكلّ إنسان نفسان: نفس مطمئنة تأمره بالخير، ونفس أمّارة تأمره بالشرّ، والإنسان يعاصى الأمارة مرّة ويطيعها أخرى، وأنت إذا أمرتك الأمّارة(7/114)
بترك النّدى شفعت المطمئنة إليها فى النّدى فى الحالة التى يقلّ فيها الشفيع فى النّدى من النفوس، فأنت أكرم الناس.
وأما حسن التعليل
- فهو أن يدّعى لوصف علّة مناسبة له باعتبار لطيف وهو أربعة أضرب: لأنّ الصفة إمّا ثابتة قصد بيان علّتها، أو غير ثابتة أريد إثباتها فالأولى إمّا لا يظهر لها فى العادة علّة، كقوله:
لم يحك نائلك السحاب وإنّما ... حمّت به فصبيبها الرّحضاء «1»
أو يظهر لها علّة، كقوله:
ما به قتل أعاديه ولكن ... يتّقى إخلاف ما ترجو الذئاب «2»
فإنّ قتل الأعداء فى العادة لدفع مضرّتهم لا لما ذكره.
والثانية إما ممكنة «3» ، كقوله:
يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجّى حذارك «4» إنسانى من الغرق
فإن استحسان إساءة الواشى ممكن، لكن لمّا خالف الناس فيه عقّبه بما ذكر.
أو غير ممكنة، كقوله:
لو لم تكن نيّة الجوزاء خدمته ... لما أتت وعليها عقد منتطق. «5»(7/115)
قال: وألحق به ما بنى على الشكّ، كقول أبى تمّام:
ربّا شفعت ريح الصّبا لرياضها ... إلى المزن حتى جادها وهو هامع
كأنّ السحاب الغرّ غيّبن تحتها ... حبيبا فما ترقا لهنّ مدامع
وقد أحسن ابن رشيق فى قوله:
سألت الأرض لم كانت مصلّى ... ولم كانت لنا طهرا وطيبا
فقالت غير ناطقة لأنى ... حويت لكلّ إنسان حبيبا.
وأما الالتفات
- فقد فسّره قدامة بأن قال: هو أن يكون المتكلّم «1» آخذا فى معنى فيعترضه إما شكّ فيه وإما ظنّ أنّ رادّا يردّه عليه، أو سائلا له عن سببه فيلتفت إليه بعد فراغه منه، فإما أن يجلّى الشكّ، أو يؤكّده، أو يذكر سببه، كقول الرمّاح بن ميّادة:
فلا صرمه يبدو ففى اليأس راحة ... ولا وصله يصفو لنا فنكارمه
كأنه توهّم أن فلانا يقول: ما تصنع بصرمه؟ فقال: لأن فى اليأس راحة.
وأما ابن المعتزّ فقال: الالتفات انصراف المتكلّم عن الإخبار إلى المخاطبة، ومثاله فى القرآن العزيز الإخبار بأنّ الحمد لله رب العالمين، [ثم قال «2» ] : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
ومثاله فى الشعر قول جرير:
متى كان الخيام بذى «3» طلوح ... سقيت الغيث أيّتها الخيام؛(7/116)
أو انصراف المتكلّم عن المخاطبة [الى الإخبار «1» ] ، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ
ومثال ذلك فى الشعر قول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظنّى غيره ... منّى بمنزلة المحبّ المكرم
ثم قال مخبرا عنها:
كيف المزار وقد تربّع أهلها، بعنيزتين ... «2» وأهلنا بالغيلم؛
أو انصراف المتكلّم من الإخبار إلى التكلّم، كقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ
؛ أو انصراف المتكلّم من التكلّم إلى الإخبار، كقوله تعالى: إِنْ يَشَأْ «3» يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ*
وقد جمع امرؤ لاقيس لاالتفاتات الثلاثة فى ثلاثة أبيات متواليات، وهى قوله:
تطاول ليلك بالإثمد «4» ... ونام الخلىّ ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذى العائر «5» الأرمد
وذلك من نبإ جاءنى ... وخبّرته عن أبى الأسود(7/117)
يخاطب فى البيت الأوّل، وانصرف إلى الإخبار فى البيت الثانى، وانصرف عن الإخبار الى التكلّم فى البيت الثالث على الترتيب.
وأما التمام
- وهو الذى سماه الحاتمىّ التتميم، وسماه ابن المعتز اعتراض كلام فى كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمّمه، وشرح حدّه بأنه الكلمة التى إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه ومبالغته، مع أن لفظه يوهم بأنه تامّ؛ وهو على ضربين: ضرب فى المعانى وضرب فى الألفاظ، فالذى فى المعانى هو تتميم المعنى والذى فى الألفاظ هو تتميم الأوزان، والأوّل هو الذى قدّم حدّه، ومثاله قوله تعالى:
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً
فقوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى *
[تتميم، وقوله «1» : وَهُوَ مُؤْمِنٌ*
] تتميم ثان فى غاية البلاغة، ومن هذا القسم قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلم يصلى لله كل يوم اثنتى عشرة ركعة من غير الفريضة إلا ابتنى الله له بيتا فى الجنة» فوقع التتميم فى هذا الحديث فى ثلاثة مواضع: قوله عليه السلام: مسلم، ولله، ومن غير الفريضة، ومن أناشيد قدامة على هذا القسم قول الشاعر «2» :
أناس إذا لم يقبل الحقّ منهم ... ويعطوه عادوا «3» بالسيوف القواضب.
وأما الذى فى الألفاظ فهو الذى يؤتى به لإقامة الوزن بحيث لو طرحت الكلمة استقلّ معنى البيت بدونها؛ وهو على ضربين: أحدهما مجىء الكلمة لا تفيد غير إقامة(7/118)
الوزن فقط، والثانى: مجيئها تفيد مع إقامة الوزن نوعا من الحسن، فالأوّل من العيوب والثانى من المحاسن؛ قال: والكلام هنا فى الثانى، ومثاله قول المتنبىّ:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنّتى لظننت فيه جهنّما
فإنه جاء بقوله يا جنتى لإقامة الوزن، وقصد بها دون غيرها مما يسدّ مسدّها أن يكون بينها وبين قافية البيت مطابقة لا تحصل بغيرها.
وأما الاستطراد
- وهذه التسمية ذكر الحاتمىّ فى حلية المحاضرة أنه نقلها عن البحترىّ، وقيل: أن البحترىّ نقلها عن أبى تمّام، وسماه ابن المعتز: الخروج من معنى إلى معنى، وفسّره بأن قال: هو أن يكون المتكلّم فى معنى فيخرج منه بطريق التشبيه أو الشرط أو الإخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمّن مدحا أو قدحا أو وصفا ما، وغالب وقوعه فى الهجاء، ولا بد من [ذكر «1» ] المستطرد به باسمه بشرط أن لا يكون تقدّم له ذكر.
فمن أوّل «2» ما ورد فى ذلك من النظم قول السموءل بن عادياء:
وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول
ومنه قول حسّان:
إن كنت كاذبة الذى حدّثتنى ... فنجوت منجا الحارث بن هشام
ترك الأحبّة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة «3» ولجام(7/119)
وقول أبى تمّام فى وصف حافر «1» الفرس بالصلابة:
أيقنت «2» إن لم تثبّت أنّ حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان
ومن أحسن ما قيل فى ذلك قول ابن الزّمكدم أربعة استطرادات متوالية:
وليل كوجه البرقعيدىّ «3» ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه
سريت ونومى فيه نوم مشرّد ... كعقل سليمان بن فهد «4» ودينه
على أولق «5» فيه التفات «6» كأنه ... أبو صالح «7» فى خبطه وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش «8» وضوء جبينه
وقول البحترىّ فى الفرس أيضا:
ما إن يعاف قذّى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول
ومما جمع المدح والهجاء قول بكر بن النّطّاح:
فتى شقيت أمواله بنواله ... كما شقيت بكر بأرماح تغلب(7/120)
ومما جاء «1» به على وجه المجون قول بعضهم:
اكشفى وجهك الذى أوحلتنى ... فيه من قبل كشفه عيناك
غلطى فى هواك يشبه عندى ... غلطى فى أبى علىّ بن زاكى
ومما جاء فى النسيب «2» على وجه التشبيه قول امرئ القيس:
عوجا على الطلل المحيل لعلّنا ... نبكى الديار كما بكى ابن حمام «3» .
وأما تأكيد المدح بما يشبه الذمّ
- فهو ضربان: أفضلهما أن يستثنى من صفة ذمّ منفيّة عن الشىء صفة مدح «4» بتقدير دخولها فيها، نحو قوله تعالى:
(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً)
فالتأكيد فيه من جهة أنه كدعوى الشىء ببيّنة، وأن الأصل فى الاستثناء الاتصال، فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج الشىء ممّا قبلها، فإذا وليها صفة مدح جاء التأكيد.
والثانى: أن يثبت لشىء صفة مدح ويعقّب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له، كقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش» وأصل الاستثناء فى هذا الضرب أيضا أن يكون منقطعا، لكنه باق على حاله لم يقدّر(7/121)
متصلا فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثانى من الوجهين المذكورين، ولهذا كان الأوّل أفضل.
ومن أمثلة الأوّل قول النابغة الذّبيانى:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب
ومن أحسن ما قيل فى ذلك قول حاتم الطائىّ:
ولا تشتكينى جارتى غير أننى ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
ومن الثانى قول النابغة الجعدىّ:
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا
ومن أحسن ما ورد فى هذا الباب قول بعضهم «1» :
ولا عيب فينا غير أنّ سماحنا ... أضرّ بنا والبأس «2» من كلّ جانب
فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عاتب.
وأما تأكيد الذمّ بما يشبه المدح
- فهو ضربان:
أحدهما أن يستثنى من صفة مدح منفيّة عن الشىء صفة ذمّ بتقدير دخولها فيها
كقولك: فلان لا خير فيه إلّا أنه يسىء «3» إلى من أحسن اليه.
والثانى: أن تثبت للشىء صفة ذمّ وتعقّب بأداة استثناء تليه صفة ذمّ له أخرى
كقولك: فلان فاسق إلّا أنه جاهل، وتحقيق القول فيها على قياس ما تقدّم.(7/122)
وأما تجاهل العارف
- فهو سؤال المتكلّم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه ليخرج كلامه مخرج المدح أو الذمّ، أو ليدلّ على شدّة التدلّه فى الحبّ، أو لقصد التعجّب أو التوبيخ أو التقرير؛ وقال السكاكىّ: هو سوق المعلوم مساق غيره لنكتة «1» كالتوبيخ، كما فى قول الخارجيّة وهى ليلى بنت طريف:
أيا شجر الخابور «2» مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
والمبالغة فى المدح، كقول البحترىّ:
ألمع برق سرى أم ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحى
أو الذمّ، كما قال زهير:
وما أدرى ولست «3» إخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء
أو التدلّه فى الحبّ، كقوله:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر «4»
وقول البحترىّ:
بدا فراع فؤادى حسن صورته ... فقلت هل ملك ذا الشخص أم ملك.(7/123)
وأما الهزل الذى يراد به الجدّ
- فهو أن يقصد المتكلّم ذمّ إنسان أو مدحه فيخرج ذلك مخرج المجون، كقول الشاعر «1» :
إذا ما تميمىّ أتاك مفاخرا ... فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضبّ.
وأما الكنايات
- فهى أن يعبّر المتكلّم عن المعنى القبيح باللفظ الحسن وعن الفاحش بالطاهر، وقد تقدّم الكلام على ذلك فى باب الكناية والتعريض وهو الباب الرابع من القسم الثانى من هذا الفنّ، وهو فى السّفر الثالث من كتابنا هذا.
وأما المبالغة
- وتسمّى التبليغ والإفراط فى الصفة- فقد حدّها قدامة بأن قال: هى أن يذكر المتكلّم حالا من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف حتى يزيد فى معنى ما ذكره ما يكون أبلغ فى معنى قصده، كقول عمير «2» بن كريم التغلبىّ:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا
ومن أمثلة المبالغة المقبولة قول امرئ القيس يصف فرسا:
فعادى عداء «3» بين ثور ونعجة ... دراكا ولم ينضح بماء فيغسل
يقول: إنه أدرك ثورا وبقرة فى مضمار واحد ولم يعرق.
وقول المتنبى:
وأصرع أىّ الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب(7/124)
ولا يعاب فى المبالغة إلا ما خرج عن حدّ الإمكان، كقوله:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النّطف التى لم تخلق «1»
وأما إذا كان كقول قيس بن الخطيم:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشّعاع أضاءها
ملكت بها كفّى فأنهرت «2» فتقها ... يرى قائما من دونها ما وراءها
فإنّ ذلك من جيّد المبالغة إذ لم يكن قد خرج مخرج الاستحالة مع كونه قد بلغ النهاية فى وصف الطعنة، ومن أحسن ذلك وأبلغه قول أحد شعراء الحماسة:
رهنت يدى بالعجز عن شكر برّه ... وما بعد «3» شكرى للشكور مزيد
ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكنّ ما لا يستطاع شديد.
وأما عتاب المرء نفسه
- فهو من أفراد ابن المعتزّ، ولم ينشد عليه سوى بيتين ذكر أن الآمدىّ «4» أنشدهما عن الجاحظ وهما:
عصانى قومى فى الرشاد الذى به ... أمرت ومن يعص المجرّب يندم
فصبرا بنى بكر على الموت إننى ... أرى عارضا ينهلّ بالموت والدم
قال: ولا يصلح أن يكون شاهدا لهذا الباب إلا قول أحد شعراء الحماسة:
أقول لنفسى فى الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلّد والصبر(7/125)
وقول الآخر:
فقدتك من نفس شعاع «1» فإننى ... نهيتك عن هذا وأنت جميع
وما ناسب ذلك من الأمثلة.
وأما حسن التضمين
- فهو أن يضمّن المتكلّم كلامه كلمة من آية أو حديث أو مثل سائر أو بيت شعر؛ ومن إنشادات ابن المعتزّ عليه:
عوّذ لما بتّ ضيفا له ... أقراصه منّى بياسين
فبتّ والأرض فراشى وقد ... غنّت قفا نبك مصارينى
فضمّن بيته الأوّل كلمة من السورة بتوطئة حسنة، وبيته الثانى مطلع قصيدة امرئ القيس.
ومما ضمّن معنى حديث النبىّ صلّى الله عليه وسلم قول الآخر:
وأخ «2» مسّه نزولى بقرح ... مثلما مسّنى من الجوع قرح
بتّ ضيفا له كما حكم الدهر ... وفى حكمه على الحرّ قبح
قال لى مذ نزلت وهو من السكرة ... بالهمّ طافح ليس يصحو:
لم تغرّبت؟ قلت: قال رسول الل ... هـ والقول منه نصح ونجح:
«سافروا تغنموا» فقال: وقد قال ... تمام الحديث: «صوموا تصحّوا»
ومن تضمين الشعر قول بعضهم:
وقفنا بأنضاء حكتنا «3» لواغب ... «على مثلها من أربع وملاعب»
وهو مطلع قصيدة لأبى تمام،(7/126)
ومنه قول الغزّى:
طول حياة ما لها طائل ... نغّص عندى كلّ ما يشتهى
أصبحت مثل الطفل فى ضعفه ... تشابه المبدأ والمنتهى
فلا تلم سمعى إذا خاننى ... «إنّ الثمانين وبلّغتها»
المراد من التضمين هاهنا تمام البيت: ... قد أحوجت سمعى إلى ترجمان
وإنما تركه لأن أوّل البيت يدلّ عليه لاشتهاره، وهذا قد أكثر المتأخرون من استعماله فى أشعارهم، وضمّنوا البيت الكامل بعد التوطئة له.
وأما التلميح
- وهو من التضمين، وإنما بعضهم أفرده- فهو أن يشير فى فحوى الكلام إلى مثل سائر، أو بيت مشهور، أو قضية معروفة من غير أن يذكره، كقول الشاعر:
المستغيث بعمرو عند كربته ... كالمستغيث من الرمضاء بالنار
أشار إلى قضيّة كليب حين استغاث بعمرو بن الحارث؛ ومنهم من يسمّى ذلك اقتباسا، وإيراد المثل كما هو تضمينا.
وأما إرسال المثل
- فهو كقول أبى فراس:
تهون علينا فى المعالى نفوسنا ... ومن يخطب العلياء لم يغله «1» المهر
وكقول المتنبىّ:
تبكّى عليهنّ البطاريق فى الدجى ... وهنّ لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد.(7/127)
وأما إرسال مثلين
- فهو الجمع بين مثلين، كقول لبيد:
ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم لا محالة زائل
وابيات زهير بن أبى سلمى التى فيها ومن ومن، وقد تقدّم ذكر ذلك مستوفى فى باب الأمثال، وهو الباب الأوّل من القسم الثانى من هذا الفنّ، وهو فى السّفر الثالث.
وأما الكلام الجامع
فهو أن يكون البيت كلّه جار يا مجرى مثل واحد كقول زهير:
ومن يك ذا فضل ويبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن لا يصانع فى أمور كثيرة ... يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم «1»
ومهما تكن عند امرئ من خليفة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكقول أبى فراس:
إذا كان غير الله فى عدّة الفتى ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد
وكقول المتنبىّ:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
وقوله:
ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له ما من صداقته بدّ
وقوله:
ومن البليّة عذل من لا يرعوى ... عن جهله وخطاب من لا يفهم
وقوله:
إنا لفى زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال.(7/128)
وأما الّلفّ والنشر
- فهو أن يذكر اثنين فصاعدا ثم يأتى «1» بتفسير ذلك جملة مع رعاية الترتيب ثقة بأن السامع يردّ إلى كل واحد منها ما له، كقوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
؛ ومن النظم قول الشاعر:
ألست أنت الذى من ورد نعمته ... وورد راحته أجنى وأغترف
وقد لا يراعى فيه الترتيب ثقة بأن السامع يردّ كل شىء إلى موضعه سواء تقدّم أو تأخر، كقول الشاعر:
كيف أسلو وأنت حقف «2» وغصن ... وغزال لحظا وقدّا وردفا.
وأما التفسير
- وهو قريب منه- فهو أن يذكر لفظا ويتوهّم أنه يحتاج إلى بيانه فيعيده مع التفسير، كقول أبى مسهر:
غيث وليث [فغيث «3» ] حين تسأله ... عرفا وليث لدى الهيجاء ضرغام
ومنه قول الشاعر:
يحيى ويردى بجدواه وصارمه ... يحيى العفاة ويردى كلّ من حسدا
ومن ذلك أن يذكر معانى ويأتى بأحوالها من غير أن يزيد أو ينقص كقول الفرزدق:
لقد جئت قوما لو لجأت إليهمو ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم
لألفيت فيهم معطيا ومطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج «4» المقوّم
لكنه لم يراع شرط اللّفّ والنشر(7/129)
وقول آخر:
فوا حسرتا حتى متى القلب موجع ... بفقد حبيب أو تعذّر إفضال
فراق حبيب مثله يورث الأسى ... وخلّة حرّ لا يقوم بها مالى «1»
ومنه قول ابن شرف:
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل
ومن احسن ما فى هذا الباب قول ابن الرومىّ:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... فى الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم
وفساد ذلك أن يأتى بإزاء الشىء بما لا يكون مقابلا له، كقول الشاعر:
فيأيها الحيران فى ظلم الدجى ... ومن خاف أن يلقاه بغى من العدا
تعال إليه تلق من نور وجهه ... ضياء ومن كفّيه بحرا من الندى
فأتى بالندى بإزاء بغى العدا، وكان يجب أن يأتى بإزائه بالنصر أو العصمة أو الوزر وما جانسه، أو يذكر فى موضع البغى الفقر والعدم وما جانس ذلك.
وأما التعديد
- ويسمّى سياقة الأعداد- فهو إيقاع أسماء مفردة على سياق واحد، فإن روعى فى ذلك ازدواج أو جناس أو تطبيق أو نحو ذلك كان غاية فى الحسن، كقولهم: وضع فى يده زمام الحلّ والعقد، والقبول والردّ، والأمر والنهى، والبسط والقبض، والإبرام والنقض، والإعطاء والمنع؛ ومن النظم قول المتنبىّ:
الخيل والليل والبيداء تعرفنى ... والضرب والطعن والقرطاس والقلم.(7/130)
وأما تنسيق الصفات
- فهو أن يذكر الشىء بصفات متوالية، كقوله عزّ وجلّ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ
الآية، وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*
وقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأحبّكم إلىّ وأقربكم منّى مجالس يوم القيامة؟
أحاسنكم أخلاقا، الموطّئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون» ؛ ومن النظم قول أبى طالب فى النبى صلّى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وقول المتنبىّ:
دان بعيد محبّ مبغض بهج ... أغرّ حلو ممرّ ليّن شرس.
وأما الإيهام
- ويقال له التورية والتخييل- فهو أن يذكر ألفاظا لها معان قريبة وبعيدة، فإذا سمعها الإنسان سبق إلى فهمه القريب، ومراد المتكلّم البعيد مثاله قول عمر بن أبى ربيعة:
أيها المنكح الثريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هى شاميّة إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقلّ يمانى
فذكر الثريا وسهيلا ليوهم السامع أنه يريد النجمين، ويقول: كيف يجتمعان والثريّا من منازل القمر الشاميّة، وسهيل من النجوم اليمانيّة؟ ومراده الثريّا التى كان يتغزّل بها لمّا زوّجت بسهيل؛ ومن ذلك قول المعرّى:
إذا صدق الجدّ افترى العمّ للفتى ... مكارم لا تخفى وإن كذب الخال(7/131)
فإنّ وهم السامع يذهب إلى الأقارب، ومراده بالجدّ: الحظّ، وبالعمّ: الجماعة من الناس، وبالخال: المخيلة، ومن ذلك قول الحريرىّ فى [وصف «1» الإبرة والميل فى] المقامة الثامنة:
وقوله أيضا:
يا قوم كم من عاتق «2» عانس ... ممدوحة الأوصاف فى الأنديه
قتلتها لا أتقى وارثا ... يطلب منّى قودا أو ديه
يريد بالعاتق العانس: الخمر، وبقتلها: مزجها، كما قال حسّان:
إن التى عاطيتنى فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
وأمثال ذلك كثيرة.
وعند علماء البيان: التخييل تصوير حقيقة الشىء للتعظيم، كقوله تعالى:
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
والغرض منه تصوير عظمته والتوقيف «3» على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما نحن حفنة من حفنات ربّنا» قال الزمخشرى: ولا يرى باب فى علم البيان أدقّ ولا ألطف من هذا الباب.(7/132)
وأما حسن الابتداءات
- قال: هذه تسمية ابن المعتزّ، وأراد بها ابتداءات القصائد، وفرّع المتأخرون من هذه التسمية براعة الاستهلال، وهو أن يأتى الناظم أو الناثر فى ابتداء كلامه ببيت أو قرينة تدلّ على مراده فى القصيدة أو الرسالة أو معظم مراده؛ والكاتب أشدّ ضرورة إلى ذلك من غيره ليبتنى كلامه على نسق واحد دلّ عليه من أوّل علم بها مقصده «1» ، إما فى خطبة تقليد، أو دعاء كتاب، كما قيل لكاتب: اكتب إلى الأمير بأن بقرة ولدت حيوانا على شكل الإنسان، فكتب:
أما بعد حمد الله خالق الإنسان فى بطون الأنعام وكقول أبى الطيّب فى الصلح الذى وقع بين كافور وبين ابن مولاه:
حسم الصلح ما اشتهته الأعادى ... وأذاعته ألسن الحسّاد
وأمثال ذلك.
قال: وينبغى أن لا يبتدئ بشىء يتطيّر منه، كقول ذى الرّمّة:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
وقول البحترى:
لك الويل من ليل تقاصر آخره
وكقول المتنبىّ:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
وكقوله:
ملثّ «2» القطر أعطشها ربوعا ... وإلّا فاسقها السّمّ النقيعا(7/133)
قال: وينبغى أن يراعى فى الابتداءات ما يقرب من المعنى إذا لم تتأت له براعة الاستهلال، وتسهيل اللفظ وعذوبته وسلاسة ألفاظه، وقيل: إن أحسن ابتداء ابتدأت به العرب قول النابغة:
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطىء الكواكب
ومن أحسن ما ابتدأ به مولّد قول إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ:
هل إلى أن تنام عينى سبيل ... إنّ عهدى بالنوم عهد طويل
ويحسن أن يبتدئ فى المديح بمثل قول أبزون العمانىّ:
على منبر العلياء «1» جدّك يخطب ... وللبلدة العذراء سيفك يخطب
وقول المتنبىّ:
عدوّك مذموم بكلّ لسان ... وإن كان من أعدائك القمران
وقول التّيفاشى:
ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن على
وفى التشبيب كقول أبى تمّام:
على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصونات الدموع السواكب
وفى النسيب كقول المتنبىّ:
أتراها لكثرة العشّاق ... تحسب الدمع خلقة فى المآقى
وفى المراثى كقول أبى تمّام:
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعين لم يفض ماؤها عذر.(7/134)
وأما براعة التخليص
- فهو أن يكون التشبيب أو النسيب ممزوجا بما بعده من مدح وغيره غير منفصل عنه، كقول مسلم بن الوليد:
أجدّك هل تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك تنشر
نصبت لها حتى تجلّت بغرّة ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر
وكقول المتنبىّ:
نودّعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبى الهيجاء فى قلب فيلق.
وأما براعة الطلب
- قال: وهو أن تكون ألفاظ الطلب مقترنة بتعظيم الممدوح، كقول أميّة بن أبى الصّلت:
أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء
وكقول المتنبىّ:
وفى النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتى بيان عندها وخطاب.
وأما براعة المقطع
- فهو أن يكون آخر الكلام الذى يقف عليه المترسّل أو الخطيب أو الشاعر مستعذبا حسنا، لتبقى لذّته فى الأسماع، كقول أبى تمام:
أبقت بنى الأصفر المصفّر كاسمهم ... صفر الوجوه وجلّت أوجه العرب
وكقول المتنبىّ:
وأعطيت الذى لم يعط خلق ... عليك صلاة ربّك والسلام
وكقول الغزّى:
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبريّة شامل.(7/135)
وأما السؤال والجواب
- فهو كقول أبى فراس:
لك جسمى تعلّه ... فدمى لم تطلّه «1» ؟
قال إن كنت مالكا ... فلى الأمر كلّه
وأمثال ذلك. وقد أوردنا منه فى باب الغزل ما فيه كفاية.
وأما صحة الأقسام
- فهو عبارة عن استيفاء أقسام المعنى الذى هو آخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا؛ ومثال ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً
وليس فى رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق، والطمع فى المطر؛ وقوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ
فلم يبق قسما من أقسام الهيئات حتى أتى به؛ وقوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً
، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت» ولا رابع لهذه الأقسام؛ ووقف أعرابىّ على حلقة الحسن البصرىّ فقال: رحم الله من تصدّق من فضل، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت؛ فقال الحسن: ما ترك الأعرابىّ منكم أحدا حتى عمّه بالمسألة؛ ومن أمثلة هذا الباب فى الشعر قول بشّار:
فراح فريق فى الإسار ومثله ... قتيل ومثل لاذ بالبحر هاربه(7/136)
وأصله قول عمرو بن الأهتم:
إشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل وهارب وأسير
ومن جيد صحة الأقسام قول الحماسىّ:
وهبها كشىء لم يكن أو كنازح ... به الدار أو من غيّبته المقابر
فاستوفى جميع أقسام المعدوم؛ وقول أبى تمّام فى الأفشين لما احترق بالنار:
صلّى لها حيّا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجّار
ومن قديم ما فى ذلك من الشعر قول زهير:
وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله ... ولكننى عن علم ما فى غد عمى
ومن النادر فى صحة الأقسام قول عمر بن أبى ربيعة:
تهيم إلى نعم فلا الشّمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا أنت مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا بعدها يسلى ولا أنت تصبر.
وأما التوشيح
- فهو أن يكون معنى الكلام يدلّ على لفظ آخره، فيتنزل المعنى منزلة الوشاح، ويتنزّل أوّل الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح.
وقال قدامة: هو أن يكون فى أوّل البيت معنى إذا علم علمت منه قافية البيت بشرط أن يكون المعنى المقدّم بلفظه من جنس معنى القافية بلفظه «1» ، كقول الراعى النّميرىّ:(7/137)
فإن وزن الحصى فوزنت قومى ... وجدت حصى ضريبتهم «1» رزينا
فإن السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصى، وعرف القافية والروىّ، علم آخر البيت؛ ومن أمثلته ما حكى عن عمر بن أبى ربيعة أنه أنشد عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما:
تشطّ غدا دار أحبابنا
فقال له عبد الله:
وللدار بعد غد أبعد
فقال له عمر: هكذا والله قلت، فقال له عبد الله: وهكذا يكون.
وأما الإيغال
- فمعناه أن المتكلّم أو الشاعر إذا انتهى إلى آخر القرينة أو البيت استخرج سجعة أو قافية تفيد معنى زائدا على معنى الكلام، وأصله من أوغل فى السير إذا بلغ غاية قصده بسرعة.
وفسّره قدامة بأن قال: هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتى بقافيته، فإذا أراد الإتيان بها أفاد معنى زائدا على معنى البيت، كقول ذى الرّمّة:
قف العيس فى آثار ميّة واسأل ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسل «2»
فتمّم كلامه قبل القافية، فلما احتاج إليها أفاد بها معنى زائدا، وكذلك صنع فى البيت الثانى فقال:
أظنّ الذى يجدى عليك سؤالها ... دموعا كتبذير الجمان المفصّل
فإنه تمّم كلامه بقوله: كتبذير الجمان، واحتاج إلى القافية، فأتى بها تفيد معنى زائدا لو لم يؤت بها لم يحصل.(7/138)
وحكى عن الأصمعىّ أنه سئل عن أشعر الناس فقال: الذى يأتى إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كثيرا، وينقضى كلامه قبل القافية، فإن احتاج إليها أفاد بها معنى، فقيل له: نحو من؟ فقال: نحو الفاتح لأبواب المعانى امرئ القيس حيث قال:
كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع «1» الذى لم يثقّب
ونحو زهير حيث يقول:
كأنّ فتات العهن فى كلّ منزل ... نزلن به حبّ الفنا «2» لم يحطّم
ومن أبلغ ما وقع فى هذا الباب قول الخنساء:
وإنّ صخرا لتأتمّ العفاة «3» به ... كأنه علم فى رأسه نار
ومنه قول ابن المعتزّ لابن طباطبا العلوى:
فأنتم «4» بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمّه المسلم
ومن أمثلة ذلك من شعر المتأخرين قول الباخرزىّ:
أنا فى فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترنى فقلت لها وأين فؤادى
وقول آخر:
تعجّبت من ضنى جسمى فقلت لها ... على هواك فقالت عندى الخبر.(7/139)
وأما الإشارة
- فهى أن يشتمل اللفظ القليل على معان كثيرة بإيماء إليها، وذكر لمحة تدلّ عليها كقوله تعالى: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى)
، (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) .
وكقول امرئ القيس:
فإن تهلك شنوءة «1» أو تبدّل ... فسيرى إنّ فى غسّان خالا
بعزّهمو عززت وإن يذلّوا ... فذلّهمو أنا لك ما أنالا
وكقوله أيضا:
فظلّ لنا يوم لذيذ بنعمة ... فقل فى نعيم نحسه متغيّب.
وأما التذييل
- وهو ضدّ الإشارة- فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكّد عند من فهمه، كقوله:
إذا ما عقدنا له ذمّة ... شددنا العناج «2» وعقد الكرب
وقول آخر:
ودعوا نزال فكنت أوّل نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل
ويقرب منه التكرار، كقول عبيد:
هل لا سألت جموع كن ... دة يوم ولّوا أين أينا؟(7/140)
وكقول آخر:
وكانت فزارة تصلى بنا ... فأولى فزارة أولى فزارا.
وأما الترديد
- فهو أن تعلّق لفظة فى البيت بمعنى، ثم تردّها فيه بعينها وتعلّقها بمعنى آخر، كما قال زهير:
من يلق يوما على علّاته هرما ... يلقى السماحة منه والندى خلقا
وكقول آخر:
وأحفظ مالى فى الحقوق وإنه ... لجمّ وإنّ الدهر جمّ عجائبه
وكقول أبى نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسّها حجر مسّته سرّاء.
وأما التفويف
- فهو مشتقّ من الثوب المفوّف، وهو الذى فيه خطوط بيض، وهو فى الصناعة عبارة عن إتيان المتكلم بمعان شتّى من المدح أو الغزل أو غير ذلك من الأغراض، كلّ فنّ فى سجعة منفصلة عن أختها مع تساوى الجمل فى الوزنيّة، وتكون فى الجمل الطويلة والمتوسّطة والقصيرة؛ فمثال ما جاء منه فى الجمل الطويلة قول النابغة الذّبيانىّ:
فلله عينا من رأى أهل قبّة ... أضرّ لمن عادى وأكثر نافعا
وأعظم أحلاما وأكبر سيّدا ... وأفضل مشفوعا إليه وشافعا
ومثال ما جاء منه بالجمل المتوسطة قول أبى الوليد بن زيدون:
ته أحتمل، واستطل أصبر، وعزّ أهنّ ... وولّ أقبل، وقل أسمع، ومر أطع
ومثال ما جاء منه بالجمل القصيرة قول المتنبىّ:
أقل أنل أقطع آعل علّ سلّ أعد ... زد هشّ بشّ تفضّل أدن سرّ صل.(7/141)
وأما التسهيم
- فهو مأخوذ من البرد المسهّم، وهو المخطّط الذى لا يتفاوت ولا يختلف، ومنهم من يجعل التسهيم والتوشيح شيئا واحدا، ويشرك بينهما بالتسوية، والفرق بينهما أنّ التوشيح لا يدلّك أوّله إلا على القافية فحسب، والتسهيم تارة يدلّ على عجز البيت، وتارة على ما دون العجز؛ وتعريفه أن يتقدّم من الكلام ما يدلّ على ما يتأخر، تارة بالمعنى، وتارة باللفظ، كأبيات جنوب أخت عمرو ذى الكلب، فإن الحذّاق بمعنى الشعر وتأليفه يعلمون أن معنى قولها:
فأقسم يا عمرو لو نبّهاك
يقتضى أن يكون تمامه:
إذن نبّها منك داء عضالا
دون غيره من القوافى، كما لو قالت مكان «داء عضالا» : ليثا غضوبا، أو أفعى قتولا، أو سمّا وحيّا، أو ما يناسب ذلك، لأن الداء العضال أبلغ من جميع هذه الأشياء وأشد، إذ كلّ منها يمكن مغالبته أو التوقّى منه، والداء العضال لا دواء له، فهذا مما يعرف بالمعنى؛ وأما ما يدلّ فيه الأوّل على الثانى دلالة لفظيّة فهو قولها «1» بعده:
إذن نبّها ليث عرّيسة ... حفيتا حفيدا نفوسا ومالا
فإن الحاذق بصناعة الكلام إذا سمع قولها: «حفيتا مفيدا» تحقّق أن هذا اللفظ يقتضى أن يكون تمامه: «نفوسا ومالا» ؛ وكذلك قولها:
فكنت النهار به شمسه(7/142)
يقتضى أن يكون [بعده «1» ] :
وكنت دجى اللّيل فيه الهلالا
ومن ذلك قول البحترىّ:
وإذا حاربوا أذلّوا عزيزا
يحكم السامع بأن تمامه:
وإذا «2» سالموا أعزّوا ذليلا
وكذلك قوله:
احلّت دمى من غير جرم وحرّمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامى
فليس الذى حلّلته بمحلّل
يعرف السامع أن تمامه:
وليس الذى حرّمته بحرام.
وأما الاستخدام
- فهو أن يأتى المتكلّم بلفظة لها معنيان، ثم يأتى بلفظتين يستخدم كلّ لفظة منهما فى معنى من معنى تلك «3» اللفظة المتقدّمة، وربما التبس الاستخدام بالتورية من كون كل واحد من البابين «4» مفتقرا إلى لفظة لها معنيان، والفرق بينهما أن التورية استعمال أحد المعنيين من اللفظة، وإهمال الآخر، والاستخدام استعمالها معا، ومن أمثلته قول البحترىّ:
فسقى الغضى والسّاكنيه وإن همو ... شبّوه بين جوانح وقلوب(7/143)
فإن لفظة الغضى محتملة للموضع والشجر، والسّقيا صالحة لهما، فلّما قال:
«والساكنيه» استعمل أحد معنى اللفظ، وهو دلالته بالقرينة على الموضع، ولمّا قال: «شبّوه» استعمل المعنى الآخر، وهو دلالته بالقرينة على الشجر؛ ومن ذلك قول الشاعر «1» :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
أراد بالسماء الغيث، وبضميره النّبت.
وأما العكس والتبديل
- فهو أن يقدّم فى الكلام أحد جزئيه ثم يؤخّر؛ ويقع على وجوه:
منها أن يقع بين طرفى الجملة، كقول بعضهم: عادات السادات، سادات العادات؛ ومنها أن يقع بين متعلّقى فعلين فى جملتين، كقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ*
ومنه بيت الحماسة:
فردّ شعورهن السود بيضا ... وردّ وجوههن البيض سودا؛
ومنها أن يقع بين كلمتين فى طرفى جملتين، كقوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ
وقوله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ
وقول أبى الطيّب:
ولا مجد فى الدنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال فى الدنيا لمن قلّ مجده.
وأما الرجوع
- فهو أن يعود المتكلّم على «2» كلامه السابق بالنقض لنكتة كقول زهير:
قف بالديار التى لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرواح والدّيم(7/144)
كأنه لمّا وقف على الديار عرته روعة ذهل بها عن رؤية ما حصل لها من التغيّر فقال: «لم يعفها القدم» ثم تاب إليه عقله وتحقّق ما هى عليه من الدروس، فقال:
بلى عفت وغيّرها الأرواح والدّيم؛ ومنه بيت الحماسة:
أليس «1» قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكلّا ليس منك قليل.
وأما التغاير
- فهو أن يغاير المتكلّم الناس فيما عادتهم أن يمدحوه فيذمّه أو يذمّوه فيمدحه؛ فمن ذلك قول أبى تمّام يغاير جميع الناس فى تفضيل التكرّم على الكرم:
قد بلونا أبا سعيد حديثا ... وبلونا أبا سعيد قديما
فوردناه سائحا وقليبا ... ورعيناه بارضا وجميعا «2»
فعلمنا أن ليس إلا بشقّ النفس ... صار الكريم [يدعى «3» ] كريما
وهو مغاير لقوله على العادة المألوفة:
لا يتعب النائل المبذول همّته ... وكيف يتعب عين الناظر النظر
ومنه قول ابن الرومىّ فى تفضيل القلم على السيف:
إن يخدم القلم السيف الذى خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شىء يعادله ... ما زال يتبع ما يجرى به القلم(7/145)
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وغايره المتنبىّ على الطريق المألوف فقال:
حتى رجعت وأقلامى قوائل لى ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بها أبدا قبل الكتاب بنا ... فإنما نحن للأسياف كالخدم.
وأما الطاعة والعصيان
- فإنه قال: هذا النوع استنبطه أبو العلاء المعرّى عند نظره فى شعر أبى الطيّب، وسمّاه بهذه التسمية، وقال: هو أن يريد المتكلّم معنى من المعانى «1» التى للبديع فيستعصى عليه لتعذّر دخوله فى الوزن الذى هو آخذ فيه فيأتى موضعه بكلام غيره يتضمّن معنى كلامه، ويقوم به وزنه، ويحصل به معنى من البديع غير «2» الذى قصده، كقول المتنبىّ:
يردّ يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصى الهوى فى طيفها وهو راقد
فإنه أراد «3» أن يقول: يردّ يدا عن ثوبها وهو مستيقظ، حتى إذا قال:
ويعصى الهوى فى طيفها وهو راقد
يكون فى البيت مطابقة، فلم يطعه الوزن، فأتى بقادر فى موضع مستيقظ لتضمّنه معناه، فإن القادر لا يكون إلا مستيقظا وزيادة، فقد عصاه فى البيت الطباق وأطاعه الجناس بين قادر وراقد، وهو جناس العكس؛(7/146)
وأنكر ابن أبى الإصبع أن يكون هذا الشاهد من باب الطاعة والعصيان، لأنه كان يمكنه أن يقول عوض قادر: ساهر، وإنما المتنبىّ قصد أن يكون فى بيته طباق معنوىّ، لأن القادر ساهر وزيادة، إذ ليس كلّ ساهر قادرا، وأن يكون فيه جناس العكس.
وقال: إن شاهد الطاعة والعصيان عنده أن تعصيه إقامة الوزن مع إظهار مراده، فتطيعه لفظة من البديع يتمّم بها المعنى وتزيده حسنا، كقول عوف بن محلّم:
إن الثمانين وبلّغتها ... قد أحوجت سمعى إلى ترحمان
فإنه أراد أن يقول: إن الثمانين قد أحوجت سمعى إلى ترجمان، فعصاه الوزن وأطاعه لفظة من البديع وهى التتميم، فزادته حسنا وكمّلت مراده، وكلّ التتميم من هذا النوع.
وأما التسميط
- فهو أن يجعل المتكلّم مقاطيع أجزاء البيت أو القرينة على سجع يخالف قافية البيت أو آخر القرينة، كقول مروان بن أبى حفصة:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
فإن أجزاء البيت مسجّعة على خلاف قافيته فتكون القافية بمنزلة السمط، والأجزاء المسجّعة بمنزلة حبّ العقد.
وأما التشطير
- فهو أن يقسم الشاعر بيته شطرين، ثم يصرّع كلّ شطر من الشطرين، ولكنه يأتى بكلّ شطر من بيته مخالفا لقافية الآخر، كقول مسلم ابن الوليد:
موف على مهج فى يوم ذى رهج ... كأنّه أجل يسعى إلى أمل
وكقول أبى تمّام:
تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتقب فى الله مرتغب.(7/147)
وأما التطريز
- فهو أن يبتدئ الشاعر بذكر جمل من الذوات غير مفصّلة ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب تعداد جمل تلك الذوات تعداد تكرار واتحاد، لا تعداد تغاير، كقول ابن الرومىّ:
أمور كمو [بنى «1» ] خاقان عندى ... عجاب فى عجاب فى عجاب
قرون فى رءوس فى وجوه ... صلاب فى صلاب فى صلاب
وكقوله:
وتسقينى وتشرب من رحيق ... خليق أن يشبّه بالخلوق
كأنّ الكأس فى يدها وفيها ... عقيق فى عقيق فى عقيق.
وأما التوشيع
- فهو مشتقّ من الوشيعة، وهى الطريقة فى البرد، وكأنّ الشاعر أهمل البيت كلّه إلا آخره، فأتى فيه بطريقة تعدّ من المحاسن؛ وهو عند أهل هذه الصناعة أن يأتى المتكلّم أو الشاعر باسم مثنّى فى حشو العجز، ثم يأتى بعده باسمين مفردين هما عين ذلك المثنّى، يكون الآخر منهما قافية بيته، أو سجعة كلامه كأنهما تفسير لما ثنّاه «2» ، كقول النبى صلّى الله عليه وسلّم: «يشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل» ومن أمثلة ذلك فى النظم قول الشاعر:
أمسى وأصبح من تذكاركم وصبا ... يرثى لى المشفقان الأهل والولد
قد خدّد الدمع خدّى من تذكّركم ... واعتادنى المضنيان الوجد والكمد
وغاب عن مقلتى نومى لغيبتكم ... وخاننى المسعدان الصبر والجلد
لم يبق غير خفىّ الرّوح فى جسدى ... فدى لك الباقيان الرّوح والجسد.(7/148)
قال ابن أبى الإصبع: وما بما قلته فى هذا الباب من بأس، وهو:
بى «1» محنتان ملام فى هوى بهما ... رثى لى القاسيان الحبّ والحجر
لولا الشفيقان من أمنيّة وأسا «2» ... أودى بى المرديان الشوق والفكر
قال: ويحسن أن يسمى ما فى بيته مطرّف التوشيع، إذ وقع المثنّى فى أوّل كلّ بيت وآخره.
وأما الإغراق
- وهو فوق المبالغة ودون الغلوّ، ومن أمثلته قول ابن المعتزّ:
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
فموضع الإغراق من البيت قوله: ظالمين، يعنى أنها استفرغت جهدها فى العدو فما ضربناها إلا ظلما، فمن أجل ذلك خرجت من الوحشيّة إلى الطّيريّة؛ ولو لم يقل:
«ظالمين» لما حسن قوله: «فطارت» ولكنه بذكر الظلم صارت الاستعارة كأنها حقيقة، وقد عدّ من الإغراق لا المبالغة قول امرئ القيس:
تنوّرتها من أذرعات «3» وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالى.
وأما الغلوّ
- فمنهم من يجعله هو والإغراق شيئا واحدا، ومن شواهده قول مهلهل:
فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذّكور «4»(7/149)
ومثله قول المتنبىّ فى وصف الأسد:
ورد «1» إذا ورد البحيرة شاربا ... بلغ الفرات زئيره والنّيلا
قالوا: ومن أمثلة الغلوّ قول النّمر بن تولب فى صفة السيف:
تظلّ تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذّراعين والساقين والهادى.
وأما القسم
- فهو أن يريد الشاعر الحلف على شىء فيأتى فى الحلف بما يكون مدحا [له «2» ] وما يكسبه فخرا، أو يكون هجاء لغيره، أو وعيدا، أو جاريا مجرى التغزل والترقق؛
فمثال الأوّل قول «3» مالك بن الأشتر النّخعىّ: ... بقّيت وفرى وانحرفت عن العلا
وقد تقدّم الاستشهاد بهما فى النظم، فإنها تضمّنت فخرا له، ووعيدا لغيره؛ وكقول أبى علىّ البصير يعرّض بعلىّ بن الجهم:
أكذبت أحسن ما يظنّ مؤملى ... وعدمت ما شادته لى أسلافى
وعدمت عاداتى التى عوّدتها ... قدما من الإخلاف والإتلاف
وغضضت من نارى ليخفى ضوءها ... وقريت عذرا كاذبا أضيافى
إن لم أشنّ على علىّ (غارة «4» ) ... تضحى قذى فى أعين الأشراف
وقد يقسم الشاعر بما يزيد الممدوح مدحا، كقول القائل:
إن كان لى أمل سواك أعده ... فكفرت نعمتك التى لا تكفر(7/150)
ومما جاء من القسم فى النسيب قول الشاعر:
فإن لم تكن عندى كعينى ومسمعى ... فلا نظرت عينى ولا سمعت أذنى
ومما جاء فى الغزل قول الآخر:
لا والذى سلّ من جفنيه سيف ردى ... قدّت له من عذاريه حمائله
ما صارمت مقلتى دمعا ولا وصلت ... غمضا ولا سالمت قلبى بلابله.
وأما الاستدراك
- فهو على قسمين: قسم يتقدّم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلّم وتوكيد، وقسم لا يتقدّمه ذلك؛ فمن أمثلة الأوّل قول القائل:
وإخوان تخذتهمو دروعا ... فكانوها ولكن للاعادى
وخلتهمو سهاما صائبات ... فكانوها ولكن فى فؤادى
وقالوا قد صفت منّا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادى
وقول الأرّجانىّ:
غالطتنى إذ كست جسمى ضنى ... كسوة أعرت من الجلد العظاما
ثم قالت أنت عندى فى الهوى ... مثل عينى صدقت لكن سقاما
وأما القسم الثانى الذى لا يتقدّم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد فكقول زهير:
أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله.
وأما المؤتلفة والمختلفة
- فهو أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين فيأتى بمعان مؤتلفة فى مدحهما، ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة لا ينقص بها الآخر، فيأتى لأجل الترجيح بمعان تخالف التسوية، كقول الخنساء فى أخيها وأبيها- وراعت حقّ الوالد بما لم ينقص الولد-(7/151)
جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاقبان ملاءة الحضر «1»
وهما وقد برزا كأنهما ... صقران [قد «2» ] حطّا الى وكر
حتى اذا نزت القلوب وقد ... لزّت هناك العذر «3» بالعذر
وعلا هتاف الناس: أيّهما ... قال المجيب هناك: لا أدرى
برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجرى
أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السنّ والكبر
وأوّل من سبق الى هذا المعنى زهير «4» حيث قال:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدّما من صالح سبقا
وتداوله الناس، فقال أبو نواس:
ثم جرى الفضل فانثنى قدما ... دون مداه بغير ترهيق
فقيل راشا سهما تراد به ال ... غاية والنّصل سابق الفوق «5» .
وأما التفريق المفرد
- فهو كقول الشاعر:
ما نوال الغمام يوم ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عين ... ونوال الغمام قطرة ماء.(7/152)
وأما الجمع مع «1» التفريق
- فهو أن يشبّه شيئين بشىء ثم يفرّق بين وجهى الاشتباه، كقول الشاعر:
فوجهك كالنار فى ضوئها ... وقلبى كالنار فى حرّها.
وأما التقسيم المفرد «2»
- فهو أن يذكر قسمة ذات جز أين أو أكثر، ثم يضمّ الى كلّ واحد من الأقسام ما يليق به، كقول ربيعة الرّقىّ:
يزيد سليم سالم المال والفتى ... فتى الأزد للأموال غير مسالم
لشتّان ما بين اليزيدين فى الندى ... يزيد سليم والأغرّ بن حاتم
فهمّ الفتى الأزدى إتلاف ماله ... وهمّ الفتى القيسىّ جمع الدارهم
فلا يحسب التمتام «3» أنّى هجوته ... ولكننى فضّلت أهل المكارم
وكقول ابن حيّوس:
ثمانية لم تفترق إذ جمعتها ... فلا افترقت ما ذبّ عن ناظر شفر
يقينك «4» والتقوى، وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى، وسيفك والنصر(7/153)
وقول آخر:
لملتمسى الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن
فللخامل العليا، وللمعدم الغنى ... وللمذنب الرّحمى، وللخائف الأمن
ويجوز أن يعدّ هذا من الجمع مع التقسيم.
وأما الجمع مع التقسيم
- فهو أن يجمع أمورا كثيرة تحت حكم، ثم يقسّم بعد ذلك، أو يقسّم «1» ثم يجمع، مثال الأوّل قول المتنبىّ:
حتى أقام على أرباض خرشنة «2» ... تشقى به الروم والصّلبان والبيع
للسّبى ما نكحوا، والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا، والنار ما زرعوا
فجمع فى البيت الأوّل أرض العدوّ وما فيها من معنى الشقاوة، وذكر التقسيم فى البيت الثانى.
ومثال الثانى قول حسّان:
قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهمو ... أو حاولوا النفع فى أشياعهم نفعوا
سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إنّ الحوادث فاعلم شرّها البدع.
وأما التزويج
- فهو أن يزاوج بين معنين فى الشرط والجزاء، كقول البحترىّ:
إذا ما نهى الناهى ولجّ بى الهوى ... أصاخت إلى الواشى فلجّ بها الهجر.
وأما السلب والإيجاب
- فهو أن يوقع [الكلام «3» ] على نفى شىء وإثباته فى بيت واحد، كقوله:(7/154)
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
وكقول الشّمّاخ:
هضيم الحشى لا يملأ الكفّ خصرها ... ويملأ منها كلّ حجل «1» ودملج.
وأما الاطّراد
- فهو أن يطرد الشاعر أسماء متتالية يزيد الممدوح بها تعريفا، لأنها لا تكون إلا أسماء آبائه تأتى منسوقة غير منقطعة من غير ظهور كلفة على النّظم كاطّراد الماء وانسجامه «2» ، وذلك كقول الأعشى:
أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت الذى ترجو حباءك وائل
وكقول دريد:
قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب
وهذا أحسن من الأوّل، لاطّراد الأسماء فى عجز البيت.
وقال ابن أبى الإصبع: وقد أربى على هؤلاء بعض القائلين حيث قال:
من يكن رام حاجة بعدت عنه ... وأعيت عليه كلّ العياء
فلها أحمد المرجّى ابن يحيى بن ... معاذ بن مسلم بن رجاء
لو لم يقع فيه الفصل بين الأسماء بلفظة المرجّى.
ومنه ما كتب الشيخ مجد الدين بن الظّهير الحنفىّ على إجازة:
أجاز ما قد سألوا ... بشرط أهل السّند
محمد بن أحمد بن ... عمر بن أحمد
فلم يفصل «3» بين الأسماء فى البيت بلفظة أجنبيّة.(7/155)
وأما التجريد-
فهو أن ينتزع الشاعر أو المتكلّم من أمر ذى صفة أمرا آخر مثله فى تلك الصفة مبالغة فى كمالها فيه؛ وهو أقسام: منها نحو قولهم: لى [من «1» ] فلان صديق حميم، أى بلغ من الصداقة حدّا صحّ معه أن يستخلص منه صديق آخر؛ ومنها نحو قولهم: لئن سألت لتسألنّ به البحر، ومنه قول الشاعر:
وشوهاء تعدو بى إلى صارخ الوغى ... بمستلئم مثل الفنيق المرحّل
أى تعدو بى ومعى من استعدادى للحرب لابس لأمة؛ ومنها نحو قوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ
لأن جهنم- أعاذنا الله منها- هى دار الخلد، لكن انتزع منها مثلها وجعل فيها معدّا للكفار تهويا لأمرها؛ ومنها نحو قول الحماسىّ:
فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة ... نحو الغنائم أو يموت كريم
وعليه قراءة من قرأ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ
بالرفع، بمعنى فحصلت سماء وردة، وقيل: تقدير الأوّل أو يموت منّى كريم، والثانى: فكانت منها وردة، وقيل: تقدير الأوّل أو يموت منّى كريم، والثانى: فكانت منها وردة كالدّهان، وفيه نظر؛ ومنها نحو قوله:
يا خير من يركب المطىّ ولا ... يشرب كأسا بكف من بخلا
ونحو قول الآخر:
إن تلقنى- لا ترى غيرى يناظره- ... تنس «2» السلاح وتعرف جبهة الأسد
ومنها مخاطبة الإنسان غيره وهو يريد نفسه، كقول الأعشى:
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل(7/156)
وقول المتنبىّ:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم تسعد الحال
ومنه قول الحيص بيص:
إلام يراك المجد فى زىّ شاعر ... وقد نحلت شوقا فروع المنابر
كتمت بصيت الشّعر علما وحكمة ... ببعضهما ينقاد صعب المفاخر
أما وأبيك الخير إنك فارس ال ... كلام ومحيى الدّراسات الغوابر.
وأما التكميل-
فهو أن يأتى المتكلّم أو الشاعر بمعنى من مدح أو غيره من فنون الكلم وأغراضه، ثم يرى مدحه بالاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل، كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة، ثم رأى الاقتصار عليها دون مدحه بالكرم مثلا غير كامل أو بالبأس دون الحلم، ومثال ذلك قول كعب بن سعد الغنوىّ:
حليم إذا ما الحلم زيّن أهله ... مع الحلم فى عين العدوّ مهيب
قوله: «إذا ما الحلم زيّن أهله» احتراس لولاه لكان المدح مدخولا، إذ بعض التغاضى قد يكون عن عجز، وإنما يزين الحلم أهله اذا كان عن قدرة، ثم رأى أن يكون «1» مدحه بالحلم وحده غير كامل، لأنه اذا لم يعرف منه إلا الحلم طمع فيه عدوّه فقال: «فى عين العدوّ مهيب» ؛ ومنه قول السّموءل بن عادياء:
وما مات منّا سيّد فى فراشه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل
لأنّ صدر البيت [وإن «2» ] تضمّن وصفهم بالإقدام والصبر ربّما أوهم العجز «3»(7/157)
[لأن «1» ] قتل الجميع يدلّ على الوهن والقلّة فكملّه بأخذهم للثأر، وكمّل حسنه بقوله:
«حيث كان» فإنه أبلغ فى الشجاعة؛ ومن ذلك فى النسيب قول كثيّر:
لو أن عزة حاكمت شمس الضحى ... فى الحسن عند موفّق لقضى لها
لأن قوله: «عند موفق» تكميل للمعنى، إذ ليس كلّ من يحاكم إليه موفقا؛ ومنه قول المتنبىّ:
أشدّ من الرياح الهوج بطشا ... وأسرع فى الندى منها هبوبا.
وأما المناسبة-
فهى على ضربين: مناسبة فى المعنى، ومناسبة فى الألفاظ فالمعنويّة أن يبتدئ المتكلّم بمعنى، ثم يتمّم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ
فقال تعالى فى صدر الآية التى الموعظة فيها سمعيّة: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ
، وقال بعد ذكر الموعظة: أَفَلا يَسْمَعُونَ
وقال فى صدر الآية التى موعظتها مرئية: أَوَلَمْ يَرَوْا*
وقال بعد الموعظة:
أَفَلا يُبْصِرُونَ.
ومن أمثلة المناسبة المعنويّة قول المتنبىّ:
على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كأنّ النّبل فى صدره وبل
فإنّ بين لفظة السّباحة ولفظتى الموج والوبل تناسبا صار البيت به متلاحما؛ وقول ابن رشيق:
أصحّ وأقوى ما رويناه فى الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم(7/158)
أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم
فإنه وفّى المناسبة حقّها فى صحة العنعنة برواية السيول عن الحيى عن البحر، وجعل الغاية فيها جود الممدوح.
والمناسبة اللفظيّة: توخّى الإتيان بكلمات متزنات، وهى على ضربين: تامّة وغير تامّة فالتامّة: أن تكون الكلمات مع الاتّزان مقفّاة، فمن شواهد التامّة قوله تعالى:
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ
ومن الحديث النبوىّ- صلاة الله وسلامه على قائله- قول النبى صلّى الله عليه وسلم للمحسن والحسين- رضى الله عنهما-: «أعيذكما بكلمات الله التامّة، من كل شيطان وهامّه، ومن كل عين لامّه» ولم يقل: «ملمّه» وهى القياس لمكان المناسبة اللفظيّة التامّة؛ ومن شواهد الناقصة قوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأحبّكم إلىّ وأقربكم منّى مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقا، الموطّئون أكنافا» ومما جمع بين المناسبتين قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم إنى أسألك رحمة تهدى بها قلبى، وتجمع بها أمرى، وتلمّ بها شعثى، وتصلح بها غايتى، وترفع بها شاهدى، وتزكىّ بها عملى، وتلهمنى بها رشدى، وتردّ بها ألفتى، وتعصمنى بها من كلّ سوء، اللهم إنى أسألك العون فى القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء» فناسب صلّى الله عليه وسلم بين قلبى وأمرى، وغايتى وشاهدى مناسبة غير تامّة، لأنها فى الزّنة دون التقفية، وناسب بين القضاء والشهداء والسعداء والأعداء مناسبة تامّة فى الزّنة والتقفية؛(7/159)
ومن أمثلة المناسبتين قول أبى تمّام:
مها الوحش إلّا أنّ هاتا أوانس ... قنا الخطّ «1» إلا أنّ تلك ذوابل
فناسب بين مها وقنا مناسبة تامّة، وناسب بين الوحش والخطّ، وأوانس وذوابل مناسبة غير تامّة.
وأما التفريع
- فهو أن يصدّر المتكلّم أو الشاعر كلامه باسم منفىّ ب «ما» خاصّة، ثم يصف الاسم المنفىّ بمعظم أوصافه اللائقة به فى الحسن أو القبح، ثم يجعله أصلا يفرّع منه جملة من جارّ ومجرور متعلّقة [به «2» ] تعلّق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك، يفهم من ذلك مساواة المذكور بالاسم المنفىّ الموصوف كقول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب «3» شرق ... مؤزّر بعميم النبت مكتهل
يوما بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
وقول عاتكة المرّية:
وما طعم ماء أىّ ماء تقوله «4» ... تحدّر من غرّ طوال الذوائب
بمنعرج من بطن واد تقابلت ... عليه رياح الصيف من كل جانب(7/160)
نفت جرية الماء القذى عن متونه ... فليس به عيب تراه لعائب
بأطيب ممن يقصر الطرف دونه ... تقى الله واستحياء بعض العواقب
وقد وقع الأصل والفرع لأبى تمّام فى بيت واحد، وهو:
ما ربع ميّة معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظرى من خدّها الترب
ومما ورد فى النثر رسالة ابن القمّىّ التى كتبها إلى سبإ بن أحمد صاحب صنعاء:
وأمّا حال عبده بعد فراقه فى الجلد، فما أمّ تسعة من الولد؛ ذكور، كأنهم عقبان وكور؛ اخترم منهم ثمانيه، فهى على التاسع حانيه، فنادى النذير فى البادية، ياللعادية ياللعادية؛ فلما سمعت الداعى «1» ، ورأت الخيل سواعى؛ أقبلت تنادى ولدها:
الأناة الأناه، وهو يناديها: القناة القناه
بطل كأنّ ثيابه فى سرحة «2» ... يحذى نعال السّبت «3» ليس بتوأم
فلما رمقته يختال فى غضون الزّرد الموضون «4» أنشأت تقول:
أسد أضبط يمشى ... بين طرفاء «5» وغيل
لبسه من نسج داود ... كضحضاح «6» المسيل(7/161)
عرض له فى البادية أسد هصور، كأنّ ذراعه مسد معصور
فتطاعنا وتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مقنّع
فلما سمعت الرّعيل، برزت من الصّرم «1» بصبر قد عيل؛ فسألت عن الواحد فقيل: لحده اللّاحد «2»
فكرّت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا
عبثن به فلم يتركن إلا ... أديما قد تمزق أو كراعا
بأشدّ من عبده تأسّفا، ولا أعظم كمدا وتلهّفا.
قال: وذكر ابن أبى الإصبع فى التفريع قسما ذكره فى صدر الباب، وقال:
إنه هو الذى استخرجه، وهو أن يبتدئ الشاعر بلفظة هى إما اسم أو صفة، ثم يكرّرها فى البيت مضافة إلى أسماء وصفات تتفرع عليها جملة من المعانى فى المدح وغيره، كقول المتنبىّ:
أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء ... أنا ابن الضّراب أنا ابن الطّعان
أنا ابن الفيافى أنا ابن القوافى ... أنا ابن السّروج أنا ابن الرّعان «3»
طويل النّجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السّنان
حديد اللّحاظ حديد الحفاظ ... حديد الحسام حديد الجنان.(7/162)
وأما نفى الشىء بإيجابه-
فهو أن يثبت المتكلّم شيئا فى ظاهر كلامه وينفى ما هو [من «1» ] سببه مجازا، والمنفىّ فى باطن الكلام حقيقة هو الذى أثبته كقول امرئ القيس:
على لا حب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه «2» العود النّباطىّ جرجرا
فظاهر هذا الكلام يقتضى إثبات منار لهذه الطريق، ونفى الهداية «3» به مجازا وباطنه فى الحقيقة يقتضى نفى المنار جملة، والمعنى أن هذه الطريق لو كان لها منار ما اهتدى به، فكيف ولا منار لها، كما تقول لمن تريد أن تسلبه الخير: ما أقلّ خيرك! فظاهر كلامك يدلّ على إثبات خير قليل، وباطنه نفى الخير كثيره وقليله.
وقول الزبير بن عبد المطلب يمدح عميلة بن عبد الدار «4» - وكان نديما له-:
صحبت بهم طلقا يراح الى الندى ... اذا ما انتشى لم تحتضره مفاقره
ضعيف بحثّ الكأس قبض «5» بنانه ... كليل على وجه النديم أظافره
فظاهر هذا أنّ للممدوح مفاقر لم تحتضره إذا انتشى، وأنّ له أظافر يخمش بها وجه نديمه خمشا ضعيفا، وباطن الكلام فى الحقيقة نفى المفاقر جملة، والأظافر بتّة.(7/163)
وأما الإيداع
- قال: وأكثر الناس يجعلونه من باب التضمين، وهو منه إلّا أنه مخصوص بالنثر، وبأن يكون المودع نصف بيت، إما صدرا أو عجزا فمنه قول علىّ رضى الله عنه فى جواب كتاب لمعاوية:
ثم زعمت أنّى لكلّ الخلفاء حسدت، وعلى كلّهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فلم تكن الجناية عليك، حتى تكون المعذرة إليك
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وأما الإدماج
- فهو أن يدمج المتكلم غرضا له فى جملة معنى من المعانى قد نحاه ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض فى كلامه لتتمّة معناه الذى قصده، كقول عبيد الله بن عبد الله لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد- وكان ابن عبيد الله «1» قد اختلّت حاله- فكتب الى ابن سليمان:
أبى دهرنا إسعافنا فى نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمّها ... ودع أمرنا إن المهمّ المقدّم
فأدمج شكوى الزمان فى ضمن التهنئة، وتلطّف فى المسألة مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال.
وأما سلامة الاختراع-
فهو أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق اليه ولم يتبعه أحد فيه، كقول عنترة فى الذباب:
هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... قدح «2» المكبّ على الزناد الأجذم
وكقول عدى بن الرّقاع فى تشبيه ولد الظبية:
تزجى أغنّ كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها(7/164)
وكقول النابغة فى وصف النسور:
تراهنّ خلف القوم زورا «1» عيونها ... جلوس الشيوخ فى مسوك «2» الأرانب
وكقول أبى تمّام:
لا تنكرى عطل الكريم من الغنى ... فالسّيل حرب للمكان العالى
وقوله:
ليس الحجاب بمقص عنك لى أملا ... إنّ السماء ترجّى حين تحتجب
وقول ابن حجاج:
وإنّى «3» والمولى الذى أنا عبده ... طريفان «4» فى أمر له طرفان
بعيدا ترانى منه أقرب ما ترى ... كأنى يوم العيد فى رمضان.
وأما حسن الاتباع-
فهو أن يأتى المتكلّم إلى معنى قد اخترعه غيره فيتّبعه فيه اتباعا يوجب له استحقاقه، إما باختصار لفظه، أو قصر وزنه أو عذوبة نظمه، أو سهولة سبكه «5» ، أو إيضاح معناه، أو تتميم نقصه، أو تحليته بما توجبه الصناعة، أو بغير ذلك من وجوه الاستحقاقات؛ كقول شاعر جاهلىّ فى صفة جمل:
وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا هاج شوقى من معاهدها ذكر(7/165)
وقلت له ذلفاء ويحك سبّبت ... لك الضرب فاصبر إنّ عادتك الصبر
فأحسن ابن المعتز اتّباعه حيث قال يصف خيله:
وخيل طواها القود «1» حتى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخطّ ذبّل
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
واتّبع أبو نواس جريرا فى قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلّهمو غضابا
فقال أبو نواس- ونقل المعنى من الفخر إلى المدح-:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد
وقول النّميرىّ فى أخت الحجّاج:
فهنّ اللواتى إن برزن قتلننى ... وإن غبن قطّعن الحشى حسرات
فاتّبعه ابن الرومىّ فقال:
ويلاه إن نظرت وإن هى أعرضت ... وقع السهام ونزعهنّ أليم.
وأما الذمّ فى معرض المدح
- فهو أن يقصد المتكلّم ذمّ إنسان فيأتى بألفاظ موجّهة، ظاهرها المدح، وباطنها القدح، فيوهم أنه يمدحه وهو يهجوه كقول بعضهم فى الشريف بن الشّجرىّ:
يا سيّدى والذى يعيذك من ... نظم قريض يصدا به الفكر
ما فيك من جدّك النبىّ سوى ... أنك لا ينبغى لك الشعر.
وأما العنوان
- فهو أن يأخذ المتكلّم فى غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو هجاء أو غير ذلك، ثم يأتى لقصد تكميله بألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدّمة، وقصص سالفة؛ كقول أبى نواس:(7/166)
يا هاشم بن حديج ليس فخركمو ... بقتل صهر رسول الله بالسّدد
أدرجتمو فى إهاب العير جثّته ... لبئس ما قدّمت أيديكمو لغد
إن تقتلوا ابن أبى بكر فقد قتلت ... حجرا بدارة ملحوب «1» بنو أسد
ويوم قلتم لعمرو وهو يقتلكم ... قتل الكلاب لقد أبرحت من ولد
وربّ كنديّة قالت لجارتها ... والدمع ينهلّ من مثنى «2» ومن وحد
ألهى امرأ القيس تشبيب بغانية ... عن ثأره وصفات النّؤى والوتد
فقد أتى أبو نواس فى هذه الأبيات بعدّة عنوانات: منها قصة قتل محمد بن أبى بكر، وقتل حجر أبى امرئ القيس، وقتل عمرو بن هند كندة فى ضمن هجو من أراد هجوه، وعيّر «3» المهجوّ بما أشار اليه من الأخبار الدالّة على هجاء قبيلته؛ ومثل ذلك قول أبى تمام فى استعطاف مالك بن طوق على قومه:
رفدوك فى يوم الكلاب «4» وشقّقوا ... فيه المزاد بجحفل غلّاب «5»
وهمو بعين أباغ «6» راشوا للعدا ... سهميك عند الحارث الحرّاب(7/167)
وليالى الثّرثار «1» والحشّاك قد ... جلبوا الجياد لواحق الأقراب «2»
فمضت كهولهمو ودبّر أمرهم ... أحداثهم تدبير غير صواب
وقال بعد ذلك:
لك فى رسول الله أعظم أسوة ... وأجلّها فى سنّة وكتاب
أعطى المؤلّفة القلوب رضاهمو ... [كملا] وردّ أخائذ الأحزاب «3»
والجعفريّون استقلّت ظعنهم ... عن قومهم وهمو نجوم كلاب
حتى إذا أخذ الفراق بقسطه ... منهم وشطّ بهم عن الأحباب
ورأوا بلاد الله قد لفظتهمو ... أكنافها رجعوا إلى جوّاب
فأتوا كريم الخيم مثلك صافحا ... عن ذكر أحقاد وذكر «4» ضباب
فانظر الى ما أتى به أبو تمّام فى هذه الأبيات من العنونات من السيرة النبوية وأيام العرب، وأخبار بنى جعفر بن كلاب، ورجوعهم الى ابن عمهم جوّاب؛ وكقوله أيضا لأحمد بن أبى دؤاد:(7/168)
تثبّت إنّ قولا كان زورا ... أتى النعمان قبلك عن زياد
وأرّث «1» بين حىّ بنى جلاح ... لظى حرب وحىّ بنى مصاد
وغادر فى صدور الدهر قتلى ... بنى بدر على ذات الإصاد «2»
فأتى بعنوان يشير به الى قصة النابغة حين وشى به الى النعمان، فجرّ ذلك من الحروب ما تضمّنت أبياته.
وأما الإيضاح-
وهو أن يذكر المتكلّم كلاما فى ظاهره لبس، ثم يوضحه فى بقيّة كلامه، كقول الشاعر:
يذكّرنيك الخير والشّرّ كلّه ... وقيل الخنا والعلم والحلم والجهل
فإن الشاعر لو اقتصر على هذا البيت لأشكل مراده على السامع بجمعه بين ألفاظ المدح والهجاء، فلما قال بعد:
فألقاك عن مكروهها متنزّها ... وألقاك فى «3» محبوبها ولك الفضل
أوضح المعنى المراد، وأزال اللّبس، ورفع الإشكال والشك.
وأما التشكيك-
فهو أن يأتى المتكلّم فى كلامه بلفظة تشكّك المخاطب هل هى فضلة أو أصليّة لا غنى للكلام عنها؟ مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
فإن لفظة بدين تشكّك السامع هل هى فضلة أو أصليّة؟ فالضعيف النظر يظنّها فضلة لأن لفظة تداينتم تغنى عنها، والناظر فى علم البيان يعلم أنها أصليّة(7/169)
لأن لفظة الدّين لها محامل، تقول: داينت فلانا المودّة، يعنى جازيته، ومنه:
«كما تدين تدان» ومنه قول رؤبة:
داينت أروى والدّيون تقضى ... فمطلت بعضا وأدّت بعضا
وكلّ هذا هو الدّين المجازىّ الذى لا يكتب ولا يشهد عليه، ولمّا كان المراد من الأية تمييط الدّين المالىّ الذى يكتب ويشهد عليه، وتيسير «1» ، أحكامه، أوجبت البلاغة أن يقول: «بدين» ليعلم حكمه.
وأما القول بالموجب-
فهو ضربان:
أحدهما أن تقع صفة فى كلام مدّع شيئا يعنى به نفسه، فثبتت تلك الصفة لغيره من غير تصريح بثبوتها له، ولا نفيها «2» عنه، كقوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
فإنهم كنوا بالأعزّ عن فريقهم، وبالأذلّ عن فريق المؤمنين، فأثبت الله عزّ وجلّ صفة العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين من غير تعرّض لثبوت حكم الإخراج بصفة العزّة ولا لنفيه.
والثانى حمل كلام المتكلّم مع تقريره على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلّقه كقول الشاعر «3» :(7/170)
قلت: ثقّلت إذ أتيت مرارا ... قال «1» : ثقّلت كاهلى بالأيادى
قلت: طوّلت قال: «2» [لى] بل تطوّلت: ... وأبرمت قال: حبل الوداد
ومنه قول الأرّجانى:
غالطتنى إذ كست جسمى ضنى
البيتين، وقد تقدّم الاستشهاد بهما فى الاستدراك.
وللمولى شهاب الدين محمود الحلبىّ الكاتب فى ذلك:
رأتنى وقد نال منّى النّحول ... وفاضت دموعى على الخدّ فيضا
فقالت: بعينىّ هذا السّقام ... فقلت: صدقت، وبالخصر أيضا
وقول محاسن الشّوّاء:
ولما أتانى العاذلون عدمتهم ... وما فيهمو إلا للحمى قارض
وقد بهتوا لمّا رأونى شاحبا ... وقالوا: به عين فقلت: وعارض.
وأما القلب-
فهو أن يكون الكلام أو البيت كيفما انقلبت حروفه كان بحاله لا يتغيّر، ومنه فى التنزيل قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ*
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
وقولهم:
ساكب كاس؛ ومنه قول العماد الأصفهانىّ للقاضى الفاضل: سر فلا كبابك الفرس، وجواب القاضى الفاضل له: دام علا العماد، وهى أوّل قصيدة للأرّجانىّ، مطلعها: «دام علا العماد» ، ومن ذلك قول الأرّجانىّ:
مودّته تدوم لكلّ هول ... وهل كلّ مودّته تدوم(7/171)
وأما التندير-
فهو أن يأتى المتكلّم بنادرة حلوة، أو نكتة مستظرفة يعرّض فيها بمن يريد ذمّه بأمر، وغالب ما يقع فى الهزل، فمنه قول أبى تمام فيمن»
سرق له شعرا:
من بنو بحدل، من ابن الحباب «2» ... من بنو تغلب غداة الكلاب
من طفيل، من عامر، أم من الحا ... رث، أم من عتيبة بن شهاب
إنما الضّيغم الهصور أبو الأش ... بال هتّاك كلّ خيس «3» وغاب
من عدت خيله على سرح شعرى ... وهو للحين راتع فى كتاب
يا عذارى الكلام صرتنّ من بع ... دى سبايا تبعن فى الأعراب
لو ترى منطقى أسيرا لأصبح ... ت أسيرا ذا عبرة واكتئاب
طال رغبى إليك مما أقاسي ... هـ ورهبى يا ربّ فاحفظ ثيابى
ومن ذلك ما قاله شهاب الدين بن الخيمىّ يعرّض بنجم الدين بن اسرائيل لمّا تنازعا فى القصيدة المعروفة لابن «4» الخيمىّ التى أوّلها:
يا مطلبا ليس لى من غيره أرب
فقال من قطعة منها:
هم العريب بنجد مذ عرفتهمو ... لم يبق لى معهم مال ولا نشب
فما ألمّوا بحىّ أو ألمّ بهم ... إلا أغاروا على الأبيات وانتهبوا
لم يبق منطقه قولا يروق لنا ... لقد شكت ظلمه الأشعار والخطب.(7/172)
وأما الإسجال بعد المغالطة-
فهو أن يقصد الشاعر غرضا من ممدوح فيشترط لحصوله شرطا، ثم يقدّر وقوع ذلك الشرط مغالطة ليسجّل به استحقاق مقصوده، كقول بعضهم:
جاء الشتاء وما عندى لقرّته ... إلا ارتعادى وتصفيقى بأسنانى
فإن هلكت فمولانا يكفّننى ... هبنى هلكت فهبنى بعض أكفانى.
وأما الافتنان-
فهو أن يأتى الشاعر بفنّين متضادّين من فنون الشعر فى بيت واحد، مثل التشبيب والحماسة، [والمديح «1» ] والهجاء، والهناء والعزاء فأما ما جمع فيه بين التشبيب والحماسة فكقول عنترة:
إن تغد فى دونى القناع فإننى ... طبّ «2» بأخذ الفارس المستلئم
وكقول أبى دلف- ويروى لعبد الله بن طاهر-:
أحبّك يا جنان وأنت منّى ... محلّ الرّوح من جسد الجبان
ولو أنى أقول محلّ روحى ... لخفت عليك بادرة الطّعان.
وأما ما جمع فيه بين تهنئة وتعزية فقد تقدّم ذكر ذلك فى بابى التهانى والتعازى ومنه فيما لم نورده هناك ما كتب به المولى شهاب الدين محمود الكاتب تهنئة وتعزية لمن رزق ولدا ذكرا فى يوم ماتت له فيه بنت:
ولا عتب على الدهر فيما اقترف، فقد أحسن الخلف؛ واعتذر بما وهب عما سلب، فعفا الله عمّا سلف.(7/173)
وأما الإبهام
- بباء موحّدة فهو أن يقول المتكلّم كلاما مبهما يحتمل معنيين متضادّين، كقول بعضهم فى الحسن بن سهل لما تزوّج المأمون ببنته بوران:
بارك الله للحسن ... ولبوران فى الختن
يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من
فلم يعرف مراده «ببنت من» هل أراد به الرفعة أو الضعة؟
ومنه قول بشّار فى خياط أعور اسمه عمرو:
خاط عمرو لى قباء ... ليت عينيه سواء
فأبهم المعنى فى الدعاء له بالدعاء عليه.
وأما حصر الجزئىّ وإلحاقه بالكلىّ
- فهو كقول السّلامىّ:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمى فى الظلام وصارمى ... ثلاثة أشباه «1» كما اجتمع النّسر
وبشّرت آمالى بملك هو الورى ... ودار هى الدنيا، ويوم هو الدهر.
فأما حصر أقسام الجزئىّ فإن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان، وقد حصر ذلك؛ وأما جعله الجزئىّ كلّيّا فإن الممدوح جزء من الورى، والدار جزء من الدنيا، واليوم جزء من الدهر.(7/174)
وأما المقارنة
- فهى أن يقرن الشاعر الاستعارة بالتشبيه أو المبالغة أو غير ذلك بوصل يخفى أثره إلّا على مدمن النظر فى هذه الصناعة، وأكثر ما يقع ذلك بالجمل الشرطيّة، كقول بعض «1» شعراء المغرب:
وكنت إذا استنزلت من جانب الرضى ... نزلت نزول الغيث فى البلد المحل
وإن هيّج الأعداء منك حفيظة ... وقعت وقوع النار فى الحطب الجزل
فإنه لاءم بين الاستعارة والتشبيه المنزوع الأداة «2» فى صدرى بيتيه وعجزيهما.
وأما ما قرنت به الاستعارة من المبالغة فمثاله قول النابغة الذّبيانىّ:
وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنيّة قاطع
فإن فى كل من صدر البيت وعجزه استعارة ومبالغة، وإنما التى فى العجز أبلغ.
ومما اقترن فيه الإرداف بالاستعارة قول تميم بن مقبل:
لدن غدوة حتى نزعنا عشيّة ... وقد مات شطر الشمس والشّطر مدنف
فإنه عبّر بموت شطر الشمس عن الغروب، واستعار الدّنف للشطر الثانى.
وأما الإبداع
- فهو أن يأتى فى البيت الواحد من الشّعر، أو القرينة الواحدة من النثر بعدّة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جمله، وربما كان فى الكلمة الواحدة المفردة ضربان من البديع، ومتى لم تكن كلّ كلمة بهذه المثابة فليس بإبداع قال ابن أبى الإصبع: وما رأيت فيما استقريت من الكلام كآية استخرجت منها أحدا وعشرين ضربا من المحاسن، وهى قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ(7/175)
وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
: وهى المناسبة التامّة فى «ابلعى» و «أقلعى» ؛ والمطابقة بذكر الأرض والسماء؛ والمجاز فى قوله: «يا سماء» ، فإن المراد- والله أعلم- يا مطر السماء؛ والاستعارة فى قوله تعالى: «أَقْلِعِي»
؛ والإشارة فى قوله تعالى: «وَغِيضَ الْماءُ»
فإنه عبّر بهاتين اللفظتين عن معان كثيرة؛ والتمثيل فى قوله تعالى: «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» *
فإنه عبّر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بغير لفظ المعنى الموضوع له؛ والإرداف فى قوله:
«وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ»
فإنه عبّر عن استقرارها بهذا المكان استقرارا متمكّنا بلفظ قريب من لفظ المعنى؛ والتعليل، لأن غيض الماء علّة الاستواء؛ وصحة التقسيم إذ استوعب الله تعالى أقسام أحوال الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء، واحتقان الماء الذى ينبع من الأرض، وغيض الماء الحاصل على ظهرها؛ والاحتراس فى قوله تعالى: «وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»
إذ الدعاء عليهم يشعر أنهم مستحقّو الهلاك احتراسا من ضعيف العقل يتوهّم أن العذاب شمل من يستحقّ ومن لا يستحقّ، فتأكّد بالدعاء كونهم مستحقّين؛ والإيضاح فى قوله: «لِلْقَوْمِ» *
ليبيّن أن القوم الذين سبق ذكرهم فى الآية المتقدّمة حيث قال: (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ)
هم الذين وصفهم بالظلم ليعلم أن لفظة القوم ليست فضلة وأنه يحصل بسقوطها لبس فى الكلام؛ والمساواة لأن لفظ الآية لا يزيد على معناها؛ وحسن النّسق، لأنه تعالى عطف القضايا بعضها على بعض بحسن ترتيب؛ وائتلاف اللفظ مع المعنى، لأن كلّ لفظة لا يصلح موضعها غيرها؛ والإيجاز، لأنه سبحانه وتعالى اقتصّ القصّة بلفظها مستوعبة بحيث لم يخلّ منها بشىء فى أقصر عبارة؛ والتسهيم، لأن أوّل الآية الى قوله: «أَقْلِعِي»(7/176)
يقتضى «1» آخرها؛ والتهذيب، لأنّ مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، عليها رونق الفصاحة، سليمة من التعقيد والتقديم والتأخير؛ والتمكّن، لأن الفاصلة مستقرّة فى قرارها، مطمئنّة فى مكانها؛ والانسجام، وهو تحدّر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء؛ وما فى [مجموع «2» ] الآية من الإبداع، وهو الذى سمّى به هذا الباب. فهذه سبع عشرة لفظة تضمّنت أحدا وعشرين ضربا من البديع غير ما تكرر من أنواعه فيها.
وأما الانفصال-
فهو أن يقول المتكلّم كلاما يتوجّه عليه فيه دخل لو اقتصر عليه، فيأتى بما يفصله عن ذلك الدّخل، كقول أبى فراس:
ولقد نبّيت إبليس ... إذا راك يصدّ
ليس من تقوى ولكن ... ثقل فيك وبرد
والفرق بين هذا وبين الاحتراس خلوّ «3» الاحتراس من الدّخل عليه من كلّ وجه.
وأما التصرف-
فهو أن يتصرّف المتكلّم فى المعنى الذى يقصده، فيبرزه فى عدّة صور: تارة بلفظ الاستعارة، وطورا بلفظ التشبيه، وآونة بلفظ الإرداف وحينا بلفظ الحقيقة، كقول امرئ القيس يصف الليل:
وليل كموج البحر مرخ سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
فإنه أبرز المعنى بلفظ الاستعارة، ثم تصرّف فيه فأتى بلفظ التشبيه فقال:(7/177)
فيالك من ليل كأنّ نجومه ... بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل «1»
ثم تصرّف فيه فأخرجه بلفظ الإرداف فقال:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك «2» بأمثل.
وأما الاشتراك
- فمنه ما ليس بحسن ولا قبيح، وهو الاشتراك فى الألفاظ مثل اشتراك الأبيرد وأبى نواس فى لفظة الاستعفاء، فإن الأبيرد قال فى مرثية أخيه:
وقد كنت أستعفى الإله إذا اشتكى ... من الأجر لى فيه وإن عظم الأجر
وقال أبو نواس:
ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسر «3» حتى ما تقلّ جفونها
ومنه الحسن، وهو الاشتراك فى المعنى، كقول امرئ القيس:
كبكر المقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلّل «4»
وقول ذى الرّمّة:
كحلاء فى برج صفراء فى دعج «5» ... كأنها فضّة قد مسّها ذهب(7/178)
فوقع «1» الاشتراك بينهما فى وصف المرأة بالصّفرة، غير أنّ الأوّل شبّه الصفرة بيضة النعامة، والآخر وصفها بالفضّة المموّهة؛ ومن الاشتراك المعنوىّ ما ليس بحسن ولا معيب، كقول كثير:
وأنت التى حببت كلّ قصيرة ... إلىّ وما تدرى بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا، شرّ النساء البحاتر «2»
فإن لفظة قصيرة مشتركة، فلو اقتصر على البيت الأوّل لكان الاشتراك معيبا لكنه لما أتى بالبيت الثانى زال العيب، ولم يبلغ رتبة الحسن لما فيه من التضمين.
وأما التهكّم-
فالفرق بينه وبين الهزل الذى يراد به الجدّ أن التهكّم ظاهره جدّ وباطنه هزل، والهزل الذى يراد به الجدّ على العكس منه، فمن التهكّم قول الوجيه الذروىّ فى ابن أبى حصينة من أبيات:
لا تظنّن حدبة الظّهر عيبا ... فهى فى الحسن من صفات الهلال
وكذاك القسىّ محدودبات ... وهى أنكى من الظّبا والعوالى
وإذا ما علا السّنام ففيه ... لقروم الجمال أىّ جمال
وأرى الانحناء فى مخلب البازى ... ولم يعد مخلب الرئبال
كوّن الله حدبة فيك إن شئت ... من الفضل أو من الإفضال
فأتت ربوة على طود علم ... وأتت موجة ببحر نوال
ما رأتها النساء إلا تمنّت ... أنها حلية لكلّ الرجال(7/179)
ثم ختمها بقوله:
وإذا لم يكن من الهجر بدّ ... فعسى أن تزورنا «1» فى الخيال
وكقول ابن الرومىّ:
فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل.
وأما التدبيج
- وهو أن يذكر الشاعر أو الناثر ألوانا يقصد بها الكناية أو التورية بذكرها عن أشياء من وصف أو مدح أو هجاء أو نسيب أو غير ذلك من الفنون، فمن ذلك قول الحريرىّ فى بعض مقاماته: فمذ ازورّ المحبوب الأصفر واغبرّ العيش الأخضر، اسودّ يومى الأبيض، وابيضّ فودى «2» الأسود، حتى رثى لى العدوّ الأزرق، فحبّذا الموت الأحمر.
وهذا التدبيج بطريق التورية. وقال بعض المتأخّرين يصف موقف السلطان الملك الناصر بمصاف شقحب «3» الكائن بينه وبين التتار فى شهر رمضان سنة اثنتين وسبعمائة:
وما زال بوجهه الأبيض، تحت علمه الأصفر، يكابد الموت الأحمر، تجاه العدوّ الأزرق، الى أن حال بينهما الليل الأسود، وبكّر فى غرّة نهار الأحد الأشعل وامتطى السبيل الأحوى الى أن حلّ بالأبلق. يريد بالأبلق: القصر الظاهرىّ الذى بالميدان الأخضر بظاهر مدينة دمشق؛ ومن أمثلة هذا الباب «4» قول ابن حيّوس الدّمشقى:(7/180)
إن ترد علم حالهم عن يقين ... فالقهم يوم نائل أو قتال
تلق بيض الوجوه سود مثار النّقع ... خضر الأكناف حمر النّصال.
وأما الموجّه-
فهو الذى «1» يمدح بشىء يقتضى المدح بشىء آخر، كقول المتنبىّ:
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنّئت الدنيا بأنك خالد
وكقوله أيضا:
عمر العدوّ إذا لاقاه فى رهج ... أقلّ من عمر ما يحوى إذا وهبا
فأوّل البيتين وصف بفرط الشجاعة، وآخر الأوّل بعلوّ الدرجة، وآخر الثانى بفرط الجود.
وأما تشابه الأطراف-
فهو أن يجعل الشاعر [قافية «2» ] بيته الأوّل أوّل البيت الثانى، وقافية الثانى أوّل الثالث، وهكذا إلى انتهاء كلامه، ومن أحسن ما قيل فيه قول ليلى الأخيليّة تمدح الحجّاج:
إذا نزل الحجّاج أرضا مريضة ... تتبّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذى بها ... غلام اذا هزّ القناة سقاها
سقاها فروّاها بشرب سجالها ... دماء رجال يحلبون صراها «3» .
هذا ما أورده فى حسن التوسّل من علوم المعانى والبيان والبديع، وقد أتينا على أكثره بنصّه لما رأيناه من حسن تأليفه، وبديع ترصيفه، وأنّ اختصاره لا يمكن(7/181)
إلا عند الإخلال بفائدة لا يستغنى [عنها «1» ] فلم نحذف منه إلا ما تكرر من الأمثلة والشواهد، لاستغنائنا بما أوردناه عمّا حذفناه، فالنسبة فيه إلى فضائله وفضله والعمدة على شواهده ونقله؛ فلقد أحسن التأليف، وأجاد التعريف، واحتمل التوقيف؛ وحرّر الشواهد، وأوضح السّبيل حتى صار الغائب عن هذه الصناعة إذا طالع كتابه كالشاهد؛ وأبدع فى صناعة البديع، وبيّن علم البيان بحسن الترصيف والترصيع؛ واعتنى بألفاظ المعانى فصرّف أعنّتها ببنانه، وأبان مشكلها فأحسن فى بيانه؛ وحلّ من التعقيد عقالها الذى عجز غيره عن حلّه، وسهّل للأفهام مقالها فأبرزته الألسنة من محرّم اللفظ إلى حلّه؛ فله المنّة فيما ألّف، والفضل بما صنّف.
وأما ما يتصل بذلك من خصائص الكتابة- فالاقتباس والاستشهاد والحل:
[فالاقتباس
«2» ] هو أن يضمن الكلام «3» شيئا من القرآن أو الحديث، ولا ينبّه عليه للعلم به، كما فى خطب ابن نباتة، كقوله: فيا أيها الغفلة المطرقون، أما أنتم بهذا الحديث مصدّقون؟ ما لكم لا تشفقون؟ فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ
. وكقوله أيضا: يوم يبعث الله العالمين خلقا جديدا، ويجعل الظالمين لجهنّم وقودا، يوم تكونون «شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدا» يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.
ومن ذلك ما أورد المولى شهاب الدين محمود فى تقليد عن الإمام الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد بالسلطنة، جاء منه: وجمع بك شمل الأمة بعد أن «كاد يزيغ(7/182)
قلوب فريق منهم» ، وعضّدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضى الله عنهم؛ وخصّك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم فارهون، وأظهرك على الذين «ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الأمور حتّى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون» وأمثال ذلك.
وأما الاستشهاد بالآيات-
فهو أن ينبّه عليها، كقول الحريرىّ: فقلت وأنت أصدق القائلين: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ
ونحو ذلك.
وفى الأحاديث بالتنبيه عليها أيضا، كقول المولى شهاب الدين محمود فى خطبة تقليد حاكمىّ: ونصلى على سيدنا محمد الذى استخرجه الله من عنصر أهله وذويه، وشرّف قدر جدّه بقوله فيه: «إنّ عمّ الرجل صنو أبيه» وسرّه بما أسرّ إليه من أنّ هذا الأمر فتح به ويختم ببنيه. وأمثال ذلك [لا تحصر «1» ] .
[وأما الحلّ «2» ]-
وهو باب متّسع المجال، وملاك أمر المتصدّى له أن يكون كثير الحفظ [للأحاديث «3» النّبويّة والآثار والأمثال والأشعار لينفق منها وقت الاحتياج اليها] .
قال: وكيفيّة الحلّ أن يتوخّى هدم البيت المنظوم، وحلّ فرائده من سلكه، ثم يرتّب تلك الفرائد وما شابهها ترتيب متمكّن لم يحصره الوزن، ويبرزها فى أحسن سلك، وأجمل قالب، وأصحّ سبك، ويكمّلها بما يناسبها من أنواع البديع إن أمكن ذلك من غير كلفة، ويتخيّر لها القرائن، واذا تم معه المعنى المحلول فى قرينة واحدة يغرم له من حاصل فكره، أو من ذخيرة حفظه ما يناسبه، وله أن ينقل المعنى إذا لم يفسده إلى ما شاء، فإن كان نسيبا وتأتّى له أن يجعله مديحا فليفعل، وكذلك غيره(7/183)
من الأنواع؛ واذا أراد الحلّ بالمعنى فلتكن ألفاظه مناسبة لألفاظ البيت المحلول غير قاصرة عنها، فمتى قصرت عنها ولو بلفظة واحدة فسد ذلك الحلّ وعدّ معيبا؛ واذا حلّ باللفظ فلا يتصرّف بتقديم ولا تأخير ولا تبديل إلا مع مراعاة نظام الفصاحة فى ذلك، واجتناب ما ينقص المعنى ويحطّ رتبته؛ وهذا الباب لا تنحصر المقاصد فيه، ولا حجر على المتصرّف فيه.
قال: ومما وقع التصرّف فيه بزيادة على المعنى قول ضياء الدين بن الأثير الجزرىّ فى ذكر العصا التى يتوكّأ عليها الشيخ الكبير: وهذه لمبتدا ضعفى خبر، ولقوس ظهرى وتر، واذا كان إلقاؤها دليلا على الإقامة فإنّ حملها دليل على السّفر.
والمحلول فى ذلك قول بعضهم:
كأنّنى قوس رام وهى لى وتر
وقول الآخر:
فألقت عصاها واستقرّت بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر.
وأما ما يحتاج فيه الى مؤاخاة القرينة المحلولة بمثلها أو ما يناسبها فكما قال المولى شهاب الدين محمود فى تقليد:
فكم ملّ ضوء الصبح مما يغيره، وظلام النّقع مما يثيره؛ وحديد الهند مما يلاطمه والأجل مما يسابقه الى قبض الأرواح ويزاحمه.
والقرينتان الأوليان نصفا بيتين للمتنبّى، فأضاف الى كل قرينة ما يناسبها، وهذا من أكثر ما يستعمل فى الكتابة، ولا ينبغى للكاتب أن يعتمد فى جميع كتابته على الحلّ، فيتّكل خاطره على ذلك، ويذهب رونق الطبع السليم، وتقلّ مادّة الانسجام بل يكون استعمال ذلك كاستعمال البديع اذا أتى عفوا من غير تكلّف ليكون كالشاهد(7/184)
على صحة الكلام، والدالّ على الاطلاع، وكالرّقم فى الثوب، والشّذرة فى القلادة والواسطة فى العقد، إذ لا ينبغى للكاتب أن يخلى كلامه من نوع من أنواع المحاسن.
ويقرب من هذا النوع التلميح، وقد تقدّم ذكره فى بعض أبواب البديع، والذى يقع فى بعض استعماله فى مثل ذلك مثل قول الحريرىّ: وإنّى والله لطالما لقيت الشتاء بكافاته، وأعددت الأهبة له قبل موافاته. يشير الى بيتى ابن سكّرة:
جاء الشتاء وعندى من حوائجه
وهى مشهورة.
فإذا عرف الكاتب هذه العلوم، وأتى الصناعة من هذه الأبواب تعيّن عليه أمور أخر نذكرها الآن.
ذكر ما يتعين على الكاتب استعماله والمحافظة عليه والتمسّك به وما يجوز فى الكتابة وما لا يجوز
قال إبراهيم بن محمد الشّيبانىّ: فإن احتجت الى مخاطبة الملوك والوزراء والعلماء والكتّاب والأدباء والخطباء والشعراء وأوساط الناس وسوقتهم، فخاطب كلّا على قدر أبّهته وجلالته، وعلوّه وارتفاعه، وفطنته وانتباهه، ولكلّ طبقة من هذه الطّباق معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها فى مراسلتك إيّاهم فى كتبك، وتزن كلامك فى مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمته، وتوفيه نصيبه، فإنك متى أهملت ذلك وأضعته لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، وتجرى شعاع بلاغتك فى غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك فى غير سلكه، فلا تعتدّ بالمعنى الجزل ما لم تلبسه لفظا [لائقا بمن «1» كاتبته، وملامسا لمن راسلته] ، فإن إلباسك المعنى(7/185)
- وإن صحّ وشرف- لفظا مختلفا عن قدر المكتوب اليه لم تجربه عادته تهجين للمعنى وإخلال بقدره، وظلم يلحق «1» المكتوب اليه، ونقص ما يجب له «2» ، كما أنّ فى اتباع تعارفهم، وما انتشرت به عادتهم، وجرت به سنّتهم، قطعا لعذرهم، وخروجا من حقوقهم، وبلوغا إلى غاية مرادهم، وإسقاطا لحجّة أدبهم.
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربّه: فامتثل هذه المذاهب، واجر [على هذا «3» ] القوام، وتحفّظ فى صدور «4» كتبك وفصولها وافتتاحها وخواتمها، وضع كل معنى فى موضع يليق به، وتخيّر لكلّ لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فصولك فى موضع ذكر البلوى بمثل: «نسأل الله دفع المحذور، وصرف المكروه» وأشباه ذلك؛ وفى موضع ذكر المصيبة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
؛ وفى موضع ذكر النعمة: «الحمد لله خالصا، والشكر لله واجبا» وما يشاكل ذلك، فإن هذه المواضع مما يتعيّن على الكاتب أن يتفقّده ويتحفّظ منه، فإن الكاتب إنما يصير كاتبا بأن يضع كلّ معنى فى موضعه، ويعلّق كلّ لفظة على طبقتها فى المعنى.
قال: واعلم أنه لا يجوز فى الرسائل استعمال ما أتت به آى القرآن من الاختصار والحذف، ومخاطبة الخاصّ [بالعامّ «5» ] والعامّ بالخاصّ، لأن الله تعالى إنما خاطب(7/186)
بالقرآن قوما فصحاء فهموا عنه- جلّ ثناؤه- أمره ونهيه ومراده، والرسائل إنما يخاطب بها قوم دخلاء «1» على اللغة لا علم لهم بلسان العرب؛ وكذلك ينبغى للكاتب أن يتجنّب اللفظ المشترك، والمعنى الملتبس، فإنه إن ذهب ليكاتب على معنى قول الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها
وكقوله تعالى:
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
احتاج أن يبيّن أن معناه: اسأل أهل القرية، وأهل العير، وبل مكركم باليل والنهار؛ قال: وكذلك لا يجوز أيضا فى الرسائل والبلاغات المنثورة ما يجوز فى الأشعار الموزونة، لأن الشاعر مضطرّ، والشعر مقصور مقيّد بالوزن والقوافى، فلذلك أجازوا لهم صرف ما لا ينصرف من الأسماء، وحذف ما لا يحذف منها، واغتفروا «2» فيه سوء النّظم، وأجازوا فيه التقديم والتأخير، والإضمار فى موضع الإظهار، وذلك كله غير سائغ فى الرسائل، ولا جائز فى البلاغات؛ فمما أجيز فى الشعر من الحذف قول الشاعر:
قواطنا مكّة من ورق الحما
يريد الحمام، وكقول الآخر:
صفر الوشاحين صموت الخلخل
يريد الخلخال، وكقول الحطيئة:
فيها الرماح وفيها كلّ سابغة ... جدلاء مسرودة من فعل «3» سلّام
يريد سليمان، وكقول الآخر:
وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق «4»(7/187)
يريد ثعلبة بن سيّار «1» ، وكقول الآخر:
فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقنى إن كان ماؤك ذا فضل
[أراد ولكن «2» ] قال: وكذلك لا ينبغى فى الرسائل أن يصغّر الاسم فى موضع التعظيم وإن كان ذلك جائزا، مثل قولهم: دويهية تصغير داهية، وجذيل وعذيق، تصغير جذل وعذق «3» . قال لبيد:
وكلّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفّر منها الأنامل
قال: فتخيّر فى الألفاظ أرجحها وزنا، وأجزلها معنى، وأشرفها جوهرا وأكرمها حسبا، وأليقها فى مكانها، وأدر الكلام فى أماكنه، وقلّبه على جميع وجوهه، ولا تجعل اللفظة قلقة فى موضعها، نافرة عن مكانها، فإنك متى فعلت ذلك هجّنت الموضع الذى حاولت تحسينه، وأفسدت المكان الذى أردت إصلاحه فإنّ وضع الألفاظ فى غير أماكنها، والقصد بها إلى غير مظانّها، إنما هو كترقيع الثوب الذى إن لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه، خرج عن حدّ الجدّة، وتغيّر حسنه، كما قال الشاعر:
إنّ الجديد إذا ما زيد فى خلق ... يبين للناس أنّ الثوب مرقوع
انتهى ما أورده ابن عبد ربّه.
وقال المولى الفاضل شهاب الدين محمود الحلبىّ: ومما يتعيّن على الكاتب استعماله، والمحافظة عليه، والتمسّك به، إعطاء كلّ مقام حقّه، فإذا كتب فى أوقات(7/188)
الحروب إلى نوّاب الملك عنه، وإلى مقدّمى الجيوش والسّرايا، فليتوخّ الإيجاز والألفاظ البليغة الدالّة على القصد من غير تطويل ولا بسط يضيّع المقصد، ويفصل الكلام بعضه من بعض، ولا تهويل لأمر العدو يضعف به القلوب، ولا تهوين لأمر يحصل به الاغترار. وذكر لذلك أمثلة من إنشائه.
قال: فمن ذلك صورة كتاب أنشأته الى مقدّم سريّة كشف- ولم أكتب به- وهو:
لا زال أخفّ فى مقاصده من وطأة ضيف، وأخفى فى مطالبه من زورة طيف، وأسرع فى تنقّله من سحابة صيف، وأروع للعدا فى تطلّعه من سلّة سيف، حتى يعجب عدوّ الدّين فى الاطّلاع على عوراته من أين دهى وكيف؟ ويعلم [أنّ «1» ] من أوّل قسمته الّلقاء حصل عليه فى مقاصده الحيف «2» ؛ أصدرناها إليه نحثّه على الركوب بطائفة أعجل من السّيل، وأهول من الليل، وأيمن من نواصى الخيل؛ وأقدم من النّمر، وأوقع على المقاصد من الغيث المنهمر، وأروغ فى مخاتلة العدا من الذئب الحذر؛ على خيل تجرى ما وجدت فلاه، وتطيع راكبها مهما أراد منها سرعة أو أناه؛ تتسنّم الجبال الصّمّ كالوعل «3» ، وإذا جارتها البروق غدت وراءها
تمشى الهوينا كما يمشى الوجى «4» الوجل ... وليكن كالنجم فى سراه، وبعد ذراه؛
إن جرى فكسهم، وإن خطر فكوهم؛ وإن طلب فكالليل الذى هو مدرك، وإن طلب فكالجنّة التى لا يجد ريحها مشرك؛ حتى يأتى على عدوّ الدّين من كل شرف،(7/189)
ويرى جمعه من كل طرف، ولا يسرف فى الإقامة عليه إلا إذا علم أن الخير فى السّرف؛ وليحرز جمعهم، ويسبق إلى التحرّز منهم بصرهم وسمعهم؛ وينظرهم بعين منعها الحزم أن ترى العدد الكثير قليلا، وصدّها العزم أن ترى العدوّ الحقير جليلا؛ بل ترى الأمر على فصّه، وتروى الخبر على نصّه؛ وإن وجد مغرّرا فليأخذ خبره، إن قدر على الإتيان بعينه وإلّا فليذهب أثره؛ ولا يهيج فيما لديه نار حرب إلا بعد الثقة بإطفائها، ولا يوقظ [عليه «1» ] عين عدوّ مهما «2» ظهر له أن [المصلحة «3» فى إغفائها] ؛ وليكشف من أمورهم ما يبدى عند الملتقى عورتهم، ويخمد فى حالة الزّحف فورتهم؛ وليجعل قلبه فى ذلك ربيئة طرفه، وطليعة طرفه، وسريّة كشفه والله تعالى يمدّه بلطفه، ويحفظه بمعقّبات من بين يديه ومن خلفه.
واذا كتب عن الملك فى أوقات حركات العدوّ الى أهل الثغور يعلمهم بالحركة للقاء العدوّ، فليبسط القول فى وصف العزائم، وقوّة الهمم، وشدّة الحميّة للدين، وكثرة العساكر والجيوش، وسرعة الحركة، وطىّ المراحل، ومعالجة العدوّ، وتخييل أسباب النصر، والوثوق بعوائد الله فى الظّفر، وتقوية القلوب منهم، وبسط آمالهم، وحثّهم على التيقظ، وحضّهم على حفظ ما بأيديهم، وما أشبه ذلك، ويبرزه فى أمتن «4» كلام وأجلّه وأمكنه، وأقربه من القوّة والبسالة، وأبعده من اللّين والرقّة، ويبالغ فى وصف الإنابة إلى الله تعالى، واستنزال نصره وتأييده، والرجوع إليه فى تثبيت(7/190)
الأقدام، والاعتصام به فى الصبر، والاستعانة به على العدوّ، والرغبة إليه فى خذلانهم، وزلزلة أقدامهم، وجعل الدائرة عليهم، دون التصريح بسؤال بطلان حركتهم، ورجاء تأخّرهم، وانتظار العرضيّات فى خلفهم، لما فى ذلك من إيهام الضّعف عن لقائهم واستشعار الوهن والخوف منهم، وليسلك فى مثل ذلك كما سلك المولى شهاب الدين محمود فى نحو ما كتب فى صدر كتاب سلطانىّ إلى بعض نوّاب الثغور عند حركة العدوّ، فإنه قال:
أصدرناها ومنادى النّفير قد أعلن: يا خيل «1» الله اركبى، ويا «2» ملائكة الرحمن اصحبى ويا وفود الظّفر والتأييد اقربى؛ والعزائم قد ركضت على سوابق الرّعب إلى العدا والهمم قد نهضت إلى عدوّ الإسلام فلو كان فى مطلع الشمس لاستقربت ما بينها وبينه من المدى؛ والسيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنة قد ظمئت الى موارد القلوب فتشوقت الى الارتواء من قلبها «3» ؛ والكماة قد زأرت كالليوث إذا دنت من «4» فرائسها، والجياد قد مرحت لما عودتها من الانتعال بجماجم الأبطال فوارسها؛ والجيوش قد كاثرت النجوم أعدادها، وسايرتها للهجوم على أعداء الله من ملائكته الكرام أمدادها؛ والنفوس قد أضرمت الحميّة نار غضبها، وعداها «5» حرّ الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها؛ والنصر قد أشرقت(7/191)
فى الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله فى إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله؛ والألسن باستنزال نصر الله لهجه والأرجاء بأرواح القبول أرجه، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمّة مبتهجه والحماة وما منهم إلا من استظهر بإمكان قوّته وقوّة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوّ بل عن مكانه؛ والنّيات على طلب عدوّ الله حيث كان مجتمعه والخواطر مطمئنّة بكونها مع الله بصدقها، ومن كان مع الله كان الله معه؛ وما بقى إلا طىّ المراحل، والنزول على أطراف الثغور نزول الغيث على البلد الماحل؛ والإحاطة بعدوّ الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على حكم الأمرين الأمرّين:
من عذاب واصب، وهمّ ناصب؛ وإحالة وجودهم إلى العدم، وإجالة السيوف التى [إن «1» ] أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم؛ واصطلامهم «2» على أيدى العصابة المؤيّدة بنصر الله فى حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التى تدمّر كل شىء بأمر ربها؛ فليكن مرتقبا لطلوع طلائعها عليه، متيقّنا من كرم الله استئصال عدوّه الذى إن فرّ أدركته من ورئه، وإن ثبت أخذته من بين يديه؛ وليجتهد فى حفظ ما قبله من الأطراف وضمّها، وجمع سوام الرعايا من الأماكن المتخوّفة ولمّها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرّفة ورمّها، فإنّ الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلاميّة وأهمّها؛ فكأنه بالعدوّ وقد زال طمعه، وزاد ظلعه؛ وذمّ عقبى مسيره، وتحقّق سوء منقلبه ومصيره، وتبرّأ منه الشيطان الذى دلّاه بغروره، وأصبح لحمه موزعا بين ذئاب للفلا وضباعها، وبين عقّبان الجوّ(7/192)
ونسوره؛ ثقة من وعد الله الذى تمسّكنا منه باليقين، وتحقّقنا أن الله ينصر من ينصره وأن العاقبة للمتقين.
قال: وزيادة البسط فى ذلك ونقصها بحسب المكتوب إليه.
وإذا كتب فى التهانى بالفتوح، فليس إلّا بسط الكلام، والإطناب فى شكر نعم الله، والتبرّؤ من الحول والقوّة إلّا به، ووصف ما أعطى من النصر، وذكر ما منح من الثّبات، وتعظيم ما يسّر من الفتح؛ ثم ما وصف بعد ذلك من عزم وإقدام وصبر وجلد عن الملك وعن جيشه حسن وصفه، ولاق ذكره، وراق التوسيع فيه، وعذب بسط الكلام فيه؛ ثم كلّما اتسع مجال الكلام فى ذكر الواقعة ووصفها كان أحسن [وأدلّ على البلاغة، وأدعى لسرور المكتوب إليه، وأحسن «1» ] لموقع المنّة عنده، وأشهى إلى سمعه، وأشفى لغليل تشوّقه إلى معرفة الحال على جليّته، ولا بأس «2» بتهويل [أمر «3» ] العدوّ، ووصف جمعه وإقدامه، فإن تصغير أمره تحقير للظّفر به؛ وقد ذكرنا فى باب التهانى من ذلك ما تقدّم شرحه، فلنذكر فى هذا الموضع من كلامه فيه ما لم نورده فى باب التهانى؛ قال: وإن كان المكتوب إليه ملكا صاحب مملكة منفردة تعيّن أن يكون البسط أكثر، والإطناب أمدّ، والتهويل أبلغ، والشرح أتمّ؛ فمن ذلك فصل كتبته فى جواب ابن الأحمر صاحب غرناطة من جزيرة الأندلس، قال:
أما بعد حمد الله الذى أيّدنا بجنوده، وأنجز لنا من نصر الأمّة صادق وعوده وخصّنا من استدامة الفتوح بمزايا مزيده، وأيّدنا بنصره، ونصرنا بتأييده، والصّلاة(7/193)
والسلام على سيدنا محمد أشرف رسله، وخاتم أنبيائه، وأكرم عبيده، وأعزّ من دعا الأمم وقد أنكرت خالقها الى الإقرار بتوحيده، وعلى آله وصحبه الذين أشرق أفق الدين منهم بكواكب سعوده؛ فإنا أصدرناها ونعم الله تعالى بنا مطيفه، ومواقع نصره عندنا لطيفه، وجنود تأييده لممالك الأعداء الى ممالكنا الشريفة مضيفه، وثغور الإسلام بذبّنا عن دين الله منيره، وبإعلائنا منار الهدى منيفه؛ ونحن نحمد الله على ذلك حمدا نستدرّ به أخلاف الظّفر، ونستديم به موادّ التأييد على من كفر؛ ونستمدّ به عوائد النصر التى كم أقدمها علينا إقدام، وأسفر لنا عنها وجه سفر؛ ونهدى إليه ثناء تعبق بنشر الرياض خمائله، وتنطق بمحض الوداد مخايله، وتشرق على أفق مفاخره غدواته وأصائله؛ يشافه مجده بمصونه «1» ، ويصارح فخره بمكنونه، ويجلو على حضرته العليّة عقائل الشّرف من أبكار الهناء وعونه؛ ونبدى لعلمه الكريم ورود كتابه الجليل مسفرا عن لوامع صفائه، منبئا بجوامع ودّه ووفائه؛ مشرقا بلآلئ فرائده، محدقا بروض كرمه الذى سعد رأى رائده؛ محتويا على سروره بما بلغه من أنباء النّصرة التى سارت بها إليه سرعان الرّكبان، وذلّت بعزّ ما تلى منها عليه عبّاد الصلبان؛ وطبّق ذكرها المشارق والمغارب، ومزّقت مواكب أعداء الله التّتار وهم فى رأى العين أعداد الكواكب، وخلطت التراب بدمائهم حتى لم يبح بها التيمّم، ومزجت بها الفرات حتى ما تحلّ لشارب؛ وهى النّصرة التى لا يدرك الوصف كنهها، ولا تعرف لها البلاغة مشبها فتذكر شبهها؛ ولا يتّسع نطاق النطق لذكرها، ولا تنهض الألسنة على طول الأبد بشكرها؛ فإنّ التّتار المخذولين اقبلوا كالرّمال، واصطفوا كالجبال؛ وتدفّقوا كالبحار الزّواخر، وتوالوا كالأمواج التى لا يعرف لها الأوّل من الآخر؛ فصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة بدّدت شملهم، وعلّمت الطير أكلهم؛ وحصرتهم(7/194)
فى الفضاء، وطالبت أرواحهم الكافرة بدين دينها وأسرفت فى الاقتضاء؛ وحصدت منهم سيوفنا المنصورة ما يخرج عن وصف الواصف، ومزّقت بقيّتهم فى الفلوات فكانوا كرماد اشتدّت به الرّيح فى يوم عاصف؛ وأحاطت بهم كتائبنا المنصورة فلم ينج إلا من لا يؤبه له من فريقهم، وقسمتهم جيوشنا المؤيّدة من الفلوات الى الفرات بين القتل والأسر، فلم يخرج عن تلك القسمة غير غريقهم؛ وأعقبتهم تلك الكسرة أن هلك طاغيتهم أسفا وحسره، وحزنا على من قتل من تلك المقاتلة، وأسر من تلك الأسره، وأماته الرّعب من جيوشنا المنصورة فجاءه، واستولى عليه الوجل فجاءه من أمر الله ما جاءه؛ وقعد أخوه بعده مكانه، والخوف من عساكرنا يضعضع أركانه، والفرق من جيوشنا يفرّق أعوانه، ويمزّق إخوانه، ويوهى سلطانه ويبرّئ منه شيطانه؛ فلاذ بالالتجاء الى سلمنا، وعاذ بإسناد الرجاء الى كفّنا عنه وحلمنا؛ فكرّر رسله ورسائله مستعطفا، ووالى كتبه ووسائله مستعفيا من حربنا ومستسعفا؛ وهاهو الآن وجنوده يتوسّلون بالخضوع الى مراحمنا، ويتوصّلون ببذل الطاعة الى مكارمنا؛ ويسألون صفح الصّفاح الإسلاميّة عن رقابهم، ويبدون ما أظهره الله عليهم من الذلّ الذى جعلته تلك النّصرة خالدا فى أعقابهم؛ وسيوفنا تأبى قبول وسائلهم، وتصرّ على نهز سائلهم، وتمنع من الكفّ عن مقاتلهم، وتأنف أن تغمد إلّا فى قمم محاربهم ومقاتلهم؛ ونحن على ما نحن من الأهبة لغزوهم فى عقر دارهم، وانتزاع مواطن الخلافة وغيرها من ممالك الإسلام من بين نيوبهم وأظفارهم؛ مستنصرين بالله على من بقى فى خطّ «1» المشرق منهم، قائمين فيهم بفرض الجهاد الذى لولا دفاع الله به لم يمتنع خطّ المغرب عنهم؛ «ولينصرنّ الله من ينصره» ، ولو عددنا نعم الله علينا حاولنا عدّ ما لا نحصيه ولا نحصره.(7/195)
وإن اضطرّ أن يكتب بمثل ذلك الى ملك غير مسلم لكنّه غير محارب، فالحكم فى ذلك أن يذكر من أسباب المودّة ما يقتضى المشاركة فى المسارّ، وأنّ أمر هذا العدد مع كثرته أخذ بأطراف الأنامل، وآل أمره الى ما آل، ويعظّم ذكر ما جرى عليه من القتل والأسر، وتلك عوائد نصر الله، وانتقامه «1» ممّن عادانا؛ فمن ذلك ما أنشأه المشار اليه لبعض ملوك البحر- ولم يكتب به- وهو:
صدرت هذه المكاتبة مبشّرة له بما منحنا الله من نصرة أجزل الصفاء منها سهمه، وأكمل الوفاء من التهنئة بها قسمه؛ وخصّه الوداد بأجلّ أجزائها، وأجلسه الاتحاد على أسرّة مسرّتها إذا أجلس العناد غيره على بساط عزائها؛ علما بأنه الصديق الذى تبهجه مسارّ صديقه، والصاحب الذى يرى مساهمة صاحبه فى بشرى الظّفر بأعدائه أدنى حقوقه؛ وذلك أنه قد علم ما كان من أمر هؤلاء التّتار فى حركاتهم الذميمة، وعزماتهم التى ما احتفلوا لها إلا وكان أحدّ سلاحهم فيها الهزيمة، وغاراتهم التى ما حشدوا لها إلّا وقنعوا فها بالإياب من الغنيمه؛ وأنهم ما أقدموا علينا إلا وعدموا، ولا سلكوا الينا إلّا وهلكوا؛ حتى إنّ الأرض الى الآن لم تجفّ من دمائهم، وإنّ الفرات يكاد يشفّ «2» للمتأمّل عن أشلائهم؛ وأن الشيطان بعد ذلك جدّد طمعهم، وسكّن هلعهم؛ وأنساهم مصارع إخوانهم، وأسلاهم بما زيّن لهم من بلوغ أوطارهم عن أوطانهم؛ وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، وتلك الوقائع التى أصبتم فيها قد لا يجرى الأمر فيها على القياس؛ وحسّن لهم المحال وغرّهم وجرّأهم على قصد البلاد المحروسة، وفى الحقيقة استجرّهم؛ فحشدوا جموعهم(7/196)
وجمعوا حشودهم، واستفرغوا فى الاستنفار والاستظهار طاقتهم ومجهودهم؛ ومالأهم على ذلك من المجاورين من أبطن شقاقه، وكنتم نفاقه، وأنساه الشيطان ما سلف من تنفيسنا عنه وقد لازم الحتف خناقه؛ ونحن فى ذلك نوسعهم إمهالا؛ ونبسط لهم فى التّوغل آمالا، ونأخذا أمرهم بالأناة استدرجا لهم لا إهمالا؛ الى أن بعدوا عن مواطن الهرب، وحصل من استدراجهم الأرب؛ فوثبنا عليهم وثوب الليث إذا ظفر بصيده، ونهضنا نحوهم نهوض الحازم إذا وقع [عدوّه «1» ] فى أحبولة كيده؛ وصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة فللت غربهم، وأبطلت طعنهم وضربهم، وصبغت بدمائهم تربهم؛ وحكّمت السيوف فى مقاتلهم، [ومكّنت الحتوف من صاحب رأيهم ومقاتلهم «2» ] ؛ وسلّطت العدم على وجودهم، وحطّتهم عن سروجهم الى مصارعهم أو قيودهم؛ «فغلبوا هنا لك وانقلبوا صاغرين» ، وعادوا على عادتهم خاسئين، ورجعوا على أعقابهم خاسرين؛ وما أغنى عنهم جمعهم، وما أفادهم بصرهم فيما شاهدوه من قبل ولا سمعهم؛ فركن من بقى منهم الى الفرار، وعاذ ببرد الهرب من لهب تلك السيوف الحرار وظنّ من انهزم منهم أنه فات الرماح، فتناولته بأرماح من العطش القفار؛ فولّوا والرعب يزلزل أقدامهم، والذّعر يقلّل إقدامهم؛ والصّفاح تتخطّفهم من ورائهم والجراح تطمع الطّير فى أكلهم حتى تقع على أحيائهم؛ حتى أصبحوا هشيما تلعب «3» بهم الصّبا والدّبور، أو أحياء يئس منهم أهلهم «كما يئس الكفّار من أصحاب القبور» وصفحنا عمّن نافقنا ووافقهم ولولا ذلك لما نجا، ورجا عواطفنا فى الإبقاء على نفسه، فأجابه حلمنا- وعلمنا أنه فى القبضة- الى ما رجا؛ فليأخذ الملك حظّه من(7/197)
هذه البشرى التى تسرّ قلب الولىّ المحبّ بوادرها، وتشرح صدر الحفىّ «1» المحقّ مواردها ومصادرها؛ والله تعالى يبهجه عنا بسماع أمثالها، ويديم سروره بما جلوناه عليه من مثالها «2» .
قال: فإن كان المكتوب إليه متّهما بممالأة العدوّ كتب اليه بما يدلّ على التقريع والتهكّم، وإبراز التهديد فى معرض الإخبار، كما كتب المشار اليه عن السلطان الى متملّك سيس «3» - وكان قد شهد الوقعة مع العدوّ- قال منه:
بصّره الله برشده، وأراه مواقع غيّه فى الإصرار على مخالفته ونقض عهده وأسلاه بسلامة نفسه عمّن روّعته السيوف الإسلاميّة بفقده؛ صدرت تعرّفه أنه قد تحقّق ما كان من أمر العدوّ الذى دلّاه بغروره، وحمله التمسّك بخداعه على مجانبة الصواب فى أموره؛ وأنهم استنجدوا بكلّ طائفه، وأقدموا على البلاد الإسلاميّة بنفوس طامعة وقلوب خائفه؛ وذلك بعد أن أقاموا مدّة يشترون «4» المخادعة بالموادعه، ويسرّون المصارمة فى المسالمه؛ ويظهرون فى الظاهر أمورا، ويدبّرون فى الباطن أمورا، ويعدون كل طائفة من أعداء الدين مثله ويمنّونهم «وما يعدهم الشّيطان إلّا غرورا» ؛ وكنّا بمكرهم عالمين، وعلى معالجتهم عاملين؛ وحين تبيّن مرادهم وتكمّل احتشادهم؛ استدرجناهم الى مصارعهم، واستجريناهم «5» ليقربوا فى القتل من مضاجعهم، ويبعدوا فى الهرب عن مواضعهم؛ وصدمناهم بقوّة أو صدمة(7/198)
لم يكن لهم بها قبل، وحملنا عليهم حملة ألجأهم طوفانها الى ذلك الجبل، وهل تعصم من أمر الله حيل؟ فحصرناهم فى ذلك الفضاء المتّسع، وضايقناهم كما قد رأى ومزّقناهم كما قد سمع، وأنزلناهم على حكم السيف الذى نهل من دمائهم حتى روى وأكل من لحومهم حتى شبع، وتبعتهم جيوشنا المنصورة تتخطّفهم رماحها، وتتلقّفهم صفاحها، ويبدّدهم فى الفلوات رعبها، ويفرّقهم فى القفار طعنها المتدارك وضربها؛ ويقتل من فات السيوف منهم العطش والجوع، ويخيّل للحىّ منهم أنّ وطنه كالدنيا التى ليس للميت اليها رجوع؛ ولعله قد رأى ذلك فوق ما وصف عيانا، وتحقّق من كل ما لا يحتاج أن نزيده به علما ولا نقيم له عليه برهانا؛ وقد علم أنّ أمر هذا العدوّ المخذول ما زال معنا على هذه الوتيره، وأنهم ما أقدموا إلا ونصر الله عليهم فى مواطن كثيره؛ وما ساقتهم الأطماع فى وقت إلا الى حتوفهم، ولا عاد منهم قطّ فى وقعة إلا آحاد تخبر عن مصارع ألوفهم؛ ولقد أضاع الحزم من حيث لم يستدم نعم الله عليه بطاعتنا التى كان فى مهاد أمنها، ووهاد يمنها؛ وحماية عفوها، وبرد رأفتها التى كدّرها بالمخالفة بعد صفوها؛ يصون رعاياه بالطاعة عن القتل والإسار، ويحمى أهل ملّته بالحذر من الحركات التى ما نهضوا اليها إلا وجرّوا ذيول الخسار؛ ولقد عرّض نفسه وأصحابه لسيوفنا التى كان من سطواتها فى أمان، ووثق بما ضمن له التّتار من نصره وقد رأى ما آل اليه أمر ذلك الضّمان؛ وجرّ لنفسه بموالاة التتار عناء كان عنه فى غنى، وأوقع روحه بمظافرة المغول فى حومة السيوف التى تخطّفت أولياءه من هنا ومن هنا؛ واقتحم بنفسه موارد هلاك سلبت رداء الأمن عن منكبيه واغترّ هو وقومه بما زيّن لهم الشيطان من غروره «فلمّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه» وما هو والوقوف فى هذه المواطن التى تتزلزل فيها أقدام الملوك الأكاسره وأنّى لضعاف النّقاد قدرة على الثّبات لوثبات الأسود الضارية واللّيوث الكاسره؛(7/199)
لقد اعترض بين السهم والهدف بنحره، وتعرّض للوقوف بين ناب الأسد وظفره؛ وهو يعلم أننا مع ذلك نرعى له حقوق أسلافه التى ماتوا عليها، ونحفظ له خدمة آبائه التى بذلوا نفوسهم ونفائسهم فى الوصول اليها؛ ونجريه وأهل بلاده مجرى أهل ذمّتنا الذين لا نؤيسهم من عفونا مهما «1» استقاموا، ونسلك بهم حكم من فى أطراف البلاد من رعايانا الذين هم فى قبضتنا نزحوا أو أقاموا؛ ونحن نتحقّق أنه ما بقى ينسى ملازمة ربقة الحتف خناقه، ولا يرجع يهوّر «2» نفسه فى موارد الهلاك، وهل يرجع الى الموت «3» [من] ذاقه؟ فيستدرك باب الإنابة قبل أن يغلق دونه، ويصون نفسه وأهله قبل أن تبذل السيوف الإسلاميّة مصونه، ويبادر الى الطاعة قبل أن يبذلها فلا تقبل، ويتمسّك بأذيال العفو قبل أن ترفع دونه فلا تسبل؛ ويعجّل بحمل أموال القطيعة وإلّا كان أهله وأولاده فى جملة ما يحمل منها الينا، ويسلّم مفاتح ما عدا عليه من فتوحنا، وإلّا فهو يعلم أنها وجميع ما تأخّر فى بلاده بين يدينا؛ ويكون هو السبب فى تمزّق شمله، وتفرّق أهله، وقلع «4» بيته من أصله؛ وهدم كنائسه، وابتذال نفسه ونفائسه؛ واسترقاق حرمه، واستخدام أولاده قبل خدمه؛ واقتلاع «5» قلاعه، وإحراق(7/200)
ربوعه ورباعه «1» ، وتعجيل رؤية ما أوعد «2» به قبل سماعه، ومن لقازان بأن يجاب الى مثل ذلك، أو يسمح له مع الأمن من سيوفنا ببعض ما فى يده من الممالك؛ ليقنع بما أبقت جيوشنا المؤيّدة فى يده من الخيل والخول، ويعيش فى الأمن ببعض ما نسمح له به، ومن للعور «3» بالحول؛ والسيوف الآن مصغية الى جوابه لتكفّ إن أبصر سبل الرشاد، أو تتعوّض برءوس حماته وكماته عن الأغماد إن أصرّ على العناد، والخير يكون.
وأما التقاليد والمناشير والتواقيع وما يتعلّق بذلك- فالأحسن فيها بسط الكلام، وتعتبر كثرته وقلّته بحسب الرتب، ويجب أن يراعى فيها أمور:
منها براعة الاستهلال بذكر الرتبة أو الحال، أو قدر النعمة، أو لقب صاحب التقليد أو اسمه بحيث لا يكون المطلع أجنبيّا من هذه الأحوال، ولا بعيدا منها، ولا مباينا لها، ثم يستصحب ما يناسب الغرض ويوافق المقصد من أوّل الخطبة(7/201)
الى آخرها؛ قال: ويحسن أن يكون الكلام فى التقليد منقسما إلى أربعة أقسام متقاربة المقادير، فالرّبع الأوّل الخطبة، والثانى ذكر موقع الإنعام فى حقّ المقلّد، وذكر الرتبة وتفخيم أمرها، والثالث فى أوصاف المقلّد وذكر ما يناسب تلك الرتبة ويناسب حاله من عدل وسياسة ومهابة وبعد صيت، وسمعة وشجاعة إن كان نائبا، ووصف العدل والرأى وحسن التدبير، والمعرفة بوجوه الأموال، وعمارة البلاد، وصلاح الأحوال، وما يناسب ذلك إن كان وزيرا؛ وكذلك فى كلّ رتبة بحسبها، والرابع فى الوصايا؛ ومنها [أن يراعى «1» ] المناسبة وما تقضيه الحال، فلا يعطى أحدا فوق حقّه، ولا يصفه بأكثر مما يراد من مثله، ويراعى أيضا مقدار النعمة والرتبة، فيكون وصف المنّة على مقدار ذلك.
ومنها أن لا يصف المتولّى بما يكون فيه تعريض بالمعزول وتنقّص له، فإنّ ذلك مما يوغر الصدور، ويؤرّث الضغائن فى القلوب، ويدلّ على ضعف الآراء فى اختيار الأوّل، وله أن يصف الثانى بما يحصل به المقصود من غير تعريض بالأوّل؛ ومنها أن يتخيّر الكلام والمعانى، فإنه مما يشيع ويذيع، ولا يعذر «2» المقصّر فى ذلك بعجلة ولا ضيق وقت، فإنّ مجال الكلام عليه متّسع، والبلاغة تظهر فى القليل والكثير، والأمر الجارى فى ذلك على العادة معروف، لكن تقع أشياء خارجة عن العادة، نادرة الوقوع، فيحتاج الكاتب فيها الى حسن التصرّف على ما تقتضيه الحال؛(7/202)
فمن ذلك تقليد [من «1» ] إنشاء المولى الفاضل شهاب الدين محمود الحلبىّ كتبه لمتملّك سيس بإقراره على ما قاطع النهر من بلاده، وهو:
الحمد لله الذى خصّ أيامنا الزاهرة باصطناع ملوك الملل، وفضّل دولتنا القاهرة بإجابة من سأل بعض ما أحرزته لها البيض والأسل، وجعل من خصائص ملكنا إطلاق الممالك وإعطاء الدّول، والمنّ بالنفوس التى جعلها النصر لنا من جملة الخول، وأغرى عواطفنا بتحقيق رجاء من مدّ إلى عوارفنا كفّ الأمل، وأفاض بمواهب نعمائنا على من أناب الى الطاعة حلل الأمن بعد الوجل، وانتزع بآلائنا [لمن تمسّك «2» بولائنا] أرواح رعاياه من قبضة الأجل، وجعل برد العفو عنه وعنهم بالطاعة نتيجة ما أذاقهم العصيان من حرارة الغضب، إذ ربما صحّت الأجسام بالعلل؛ نحمده على نعمه التى جعلت عفونا ممن رجاه قريبا، وكرمنا لمن دعاه بإخلاص الطاعة مجيبا، وبرّنا لمن أقبل اليه منيبا بوجه الأمل مثيبا، وبأسنا مصيبا لمن لم يجعل الله له فى التمسّك بمراحمنا نصيبا؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تعصم دم من تمسّك بذمامها، وتحسم موادّ من عاندها بانتقام حسامها، وتفصم عرا الأعناق ممن أطمعه الغرور فى انفصال أحكامها وانفصامها، وتقصم من قصد إطفاء ما أظهره الله من نورها، وانقطاع ما قضاه من دوامها، وتجعل كلمة حملتها هى العليا، فلا تزال أعناق جاحديها فى قبضة أوليائها وتحت أقدامها؛ ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث بالهدى ودين الحق الى كلّ أمّه، المنعوت فى الكتب المنزّلة بالرأفة والرحمه، المخصوص مع عموم المعجزات بخمس منهنّ الرعب الذى كان يتقدّمه الى من قصده، ويسبقه مسيرة شهر الى [من «3» ] أمّه، المنصوص(7/203)
فى الصحف المحكمة على جهاد أمته، الذى لا حياة لمن لم يتمسّك من طاعته بذمته؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا بدعوته الممالك، وأوضحوا بشرعته الى الله المسالك، وجلوا بنور سنّته عن وجه الزمن كلّ حال حالك، وأوردوا من كفر بربهم ورسله موارد المهالك، ووثقوا بما وعد الله نبيّه حين زوى له مشارق الأرض ومغاربها من أنّ ملكهم سيبلغ ما زوى الله له من ذلك؛ صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح ذكرها مغيرا فى الآفاق ومنجدا؛ ما استفتحت ألسنة الأسنّة النصر بإقامتها، وأبادت أعداءها باستدامتها، وسلم تسليما كثيرا؛ وبعد، فإنه لمّا آتانا الله ملك البسيطه، وجعل دعوتنا بأعنّة ممالك الأقطار محيطه؛ ومكّن لنا فى الآفاق «1» ، وأنهضنا من الجهاد فى سبيله بالسنّة والفرض، وجعل كلّ يوم تعرض [فيه «2» ] جيوشنا من أمثلة يوم العرض؛ وأظلّتنا بوادر الفتوح، وأظلّت على الأعداء سيوفنا التى هى على من كفر بالله وكفر النعمة دعوة نوح وأيّدنا بالملائكة والرّوح، على من جعل الواحد سبحانه ثلاثة فانتصر بالأب والابن والرّوح؛ وألقت إلينا ملوك الأقطار السّلم، وبذلت كرائم بلادها رغبة فى الالتجاء من عفونا الى ظل أعلى من علم؛ وتوسّل من كان منهم يظهر الغلظة بالذلّة والخضوع وتوصّل من كان منهم يبدى القوّة بالإخلاص الذى رأوه لهم أقوى الجنن وأوقى الدروع؛ عاهدنا الله تعالى ألّا نردّ منهم آملا، ولا نصدّ عن مشارع كرمنا ناهلا؛ ولا نخيّب من إحساننا راجيا، ولا نجلى عن ظلّ برّنا لاجيا؛ علما أنّ ذلك شكر للقدرة التى جعلها الله لنا على ذلك الآمل، ووثوقا بأنه حيث كان فى قبضتنا كما نشاء(7/204)
نجمع عليه الأنامل؛ اللهمّ إلّا أن يكون ذلك اللّاجئ للغلّ مسرّا، وعلى عداوة الإسلام مصرّا؛ فيكون هو الجانى على نفسه، والجانى على موضع رمسه؛ ولمّا كان من تقدّم بالمملكة الفلانية قد زيّن له الشيطان أعماله، وعقد بحبال الغرور آماله؛ وحسّن له التمسّك بالتّتار الذين هم بمهابتنا محصورون فى ديارهم، مأسورون فى حبائل إدبارهم؛ عاجزون عن حفظ ما لديهم، قاصرون عن ضبط ما استلبته سرايانا المنصورة من يديهم؛ ليس منهم إلا من له عند سيوفنا ثار، ومن يعلم أنه لا بدّله عندنا من خطّتى خسف: إما القتل أو الإسار؛ وحين تمادى المذكور فى غيّه، وحمله الغرور على ركوب جواد بغيه؛ أمرنا جيوشنا المنصورة فجاست خلال تلك الممالك وداست حوافر خيلها ما هنالك، وساوت فى عموم القتل والأسر بين العبد والحرّ والمملوك والمالك؛ وألحقت رواسى جبالهم بالصّعيد، وجعلت حماتهم كزروع فلاتهم منها قائم وحصيد؛ فأسلمهم الشيطان ومرّ، وتركهم وفرّ، وماكرهم وما كرّ وأعلمهم أن الساعة موعدهم «والسّاعة أدهى وأمرّ» وأخلقهم ما ضمن لهم من العون وقال لهم: «إنّى برىء منكم إنّى أرى ما لا ترون» ؛ وكان الملك فلان ممّن يريد طرق النجاة فلم ير إليها بسوى الطاعة سبيلا، ويأمل أسباب النجاح فلم يجد عليها غير صدق الانتماء دليلا؛ فأبصر بالخدمة موضع رشده، وأدرك بسعيه نافر سعده؛ وأراه الإقبال كيف تثبت قدمه فى الملك الذى زلّت عنه قدم من سلف، وأظهر له الإشفاق على رعاياه مصارع من أورده سوء تدبير أخيه موارد التّلف، وعرّفه التمسّك بإحساننا كيف احتوت يده على ما لم يبق غضبنا فى يد أخيه منه إلا الأسى والأسف؛ وحسّنت له الثقة بكرمنا كيف يجمل الطلب، وعلّمته الطاعة كيف تستنزل عوارفنا عن بعض ما غلبت عليه سيوفنا وإنما الدنيا لمن غلب؛ وانتمى إلينا فصار من خدم أيّامنا، وصنائع إنعامنا، وقطع علائقه من غيرنا؛ فلجأ منا الى(7/205)
ركن شديد، وظلّ مديد، ونصر عتيد؛ وحرم يأوى آمله إليه، وكرم تقرّ نضارته ناظريه، وإحسان يمتّعه بما أقرّه عطاؤنا فى يديه، وامتنان يضع عنه إصره والأغلال التى كانت عليه؛ اقتضى إحساننا أن نغضى له عن بعض ما حلّت جيوشنا ذراه وحلّت سطوات عساكرنا عراه؛ وأضعفت عزمات سرايانا قواه، ونشرت طلائع جنودنا ما كان ستره صفحنا عنهم من عورات بلادهم وطواه؛ وأن نخوّله بعض ما وردت خيولنا مناهله، ووطئت جيادنا غاربه وكاهله؛ وسلكت كماتنا فملكت دارسه واهله؛ وأن نبقى مملكة البيت الذى مضى سلفه فى الطاعة عليه، ويستمرّ ملك الأرمن الذى أهمل «1» السعى فى مصالحه بيديه؛ ليتيمّن رعاياه به، ويعلموا أنهم أمنوا على أرواحهم وأولادهم بسببه؛ ويتحقّقوا أنّ أثقالهم بحسن توصّله الى طاعتنا قد خفّت، وأنّ بوادر الأمن بلطف توسّله الى مراضينا قد أطافت بهم وحفّت وأنّ سيوفنا التى كانت مجرّدة على مقاتلهم بجميل استعطافه قد كفتهم بأسنا وكفّت وأنّ سطواتنا الحاكمة على أرواحهم قد عفت [عنهم بملاطفته «2» وعفت] ؛ فرسم أن يقلّد كيت وكيت من المملكة الفلانية، ويستقرّ بيده استقرار لا ينازع فى استحقاقه ولا يعارض فيما سبق من إعطائه وإطلاقه؛ ولا يطالب عنه بقطيعه «3» ، [ولا يطلب منه بسببه غير طويّة مخلصة ونفس مطيعه] ؛ ولا يخشى عليه يدا جائره، ولا سريّة فى طلب الغرّة سائره؛ ولا يطرق كناسه أسد جيوش مفترسه، ولا سباع نهاب مختلسه؛ بل تستمرّ بلاده المذكورة فى ذمام رعايتنا، وحصانة عنايتنا؛ وكنف إحساننا، ووديعة برّنا وامتناننا؛ لا تطمح اليها عين معاند، ولا يمتدّ اليها إلّا ساعد(7/206)
مساعد، وعضد معاضد؛ فليقابل هذه النعمة بشكر الله الذى هداه الى الطاعه وصان بإخلاص ولائه نفسه ونفائس بلاده من الإضاعه؛ وليقرن ذلك بإصفاء موارد المودّه، وإضفاء ملابس الطاعة التى لا تزداد بحسن الوفاء إلا جدّه؛ واستمرار المناصحة فى السّرّ والعلن، واجتناب المخادعة ما ظهر منها وما بطن، وأداء الأمانة فيما استقرّ معه الحلف «1» عليه، ومباينة ما يخشى أن يتوجّه بسببه وجه عتب إليه؛ واستدامة هذه النعمة بحفظ أسبابها، واستقامة أحوال هذه المنّة برفض موجبات الكدر واجتنابها، وإخلاص النيّة التى لا تعتبر ظواهر الأحوال الصالحة إلّا بها.
ومن تقليد كتبه المشار اليه أيضا لسلامش بمملكة الروم حين ورود كتابه يسأل ذلك قبل حضوره، أوّله:
الحمد لله الذى أيّدنا بنصره، وأمدّنا من جنود الظّفر بما لم يؤت ملك فى عصره، وجعل مهابتنا قائمة فى جهاد عدوّ الدين، إن قرب مقام كسره، وإن بعد مقام حصره، ونشر دعوة ملكنا فى الأقطار كلّها اذا اقتصرت دعوة غيرنا من ملوك الأمصار على مصره، وأنجد من نادانا بلسان الإخلاص من جنود الله وجنودنا بالجيش الذى لم تزل أرواح العدا بأسرها فى أسره، وعضد من تمسّك بطاعة الله وطاعتنا من إجابة عساكرنا بما هو أقرب الى مقاتل عدوّه من بيضه المرهفة وسمره، وأعاد بنا من حقوق الدّين كلّ ضالّة ملك ظنّ العدوّ أنّ أمره غالب عليها والله غالب على أمره؛ فجنودنا إلى نصرة من دعاها بالإيمان أقرب من رجع نفسه اليه، وأسرع من ردّ «2» الصدى جوابه عليه؛ وأسبق الى عدوّ(7/207)
الدين من مواقع عيانه، وأقدر على التصرّف فى أرواح أهل الشّرك من تصرّف الكمىّ فى عنانه؛ وأذب عن حمى الدين من الجفون عن نواظرها، وأضرى على نفوس المعتدين من أسود عنت الفرائس «1» لكواسرها؛ قد عوّدها النصر الإلهىّ ألّا تسلّ ظباها فتغمد حتى تستباح ممالك، وضمن لها الوعد المحمّدىّ أنها الطائفة الذين لا يزالون ظاهرين الى يوم القيامة حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك؛ نحمده على نعمه التى لم نزل نصون بها حمى الدين ونصول، ونقلّد بيمنها من لجأ إلينا سيف نصر يصدع به ليل العدا ولو أن النجوم نصول، ونورد بآسمها من انتصر بنا مورد عزّ يحرّمه «2» لمع الأسنّة فوقه، فليس لظمآن من العدا إليه وصول؛ وبعد، فإن أولى من أصغت عزائمنا الشريفة إلى نداء إخلاصه، وأجابت مكارمنا العميمة دعاء تميّزه بالولاء واختصاصه، وقابلت مراسمنا انتصاره فى الدين بالنّفير لإعانته على ما ظفر باقتلاعه من يد الكفر واقتناصه، وتكفلت له مهابتنا بالأمن على ملك مذ وسمه باسمنا الشريف يئس العدوّ من استخلاصه؛ وأجيبت كتبه فى الاستنجاد بسرعان «3» الكتائب، ولمعان القواضب، وتتابع أمداد جيوشنا التى تنوء بحملها كواهل المشارق والمغارب، وتدفّق أمواج عساكرنا التى تنشد طلائعها ملوك العدا:
«أين الفرار ولا مفرّ لهارب» وتألّق بروق النصر من خفق ألويتنا الشاهدة بأن قبيلنا «إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب» .(7/208)
ومنه:
وفوّضت إليه مراسمنا الحكم فى الرعايا بالعدل والإحسان، وقلّدته «1» أوامرنا من عقود النظر فى تلك الممالك [ما تودّ جباه الملوك «2» ] لو حلّت «3» بدرّها معاقد التيجان، وعلّقت «4» به من الأوامر ما بنا تنفذ مواقعه، وكذا الأمور المعتبرة لا تنفذ إلا بسلطان؛ من ألقى الله الإيمان فى قلبه، وهداه إلى دين الإسلام فأصبح فيه على بيّنة من ربّه، وأراد به خيرا فنقله من حزب الشيطان إلى حزبه، وأنقذه بطاعته من موارد الهلاك بعد أن كان قد أذن بحرب من الله ورسوله، ولقد خسر الدين «5» والدنيا والآخرة من أذن من الله بحربه؛ وأيقظه من طاعتنا التى أوجبها على الأمم لما أبصر به رشده، ورأى قصده، وعلم به أن الذى كان فيه كسراب بقيعة «6» لم يجده شيئا، وأنّ الذى انتقل إليه وجد الله عنده؛ وأنهضه من موالاتنا بما حتّم به النّهوض على كل من كان مسلما، وأخرجه بنور الهدى من عداد أعدائه الذين تركهم خوفنا «كأنّما أغشيت وجوههم قطعا من اليّل مظلما» ؛ وأراه الرشد ما علم به أن الله تعالى أورثنا ملك الإسلام فبطاعتنا يتمّ الانتماء إليه، وأعطانا مقاليد البسيطة فمن اغتصب منها شيئا انتزعه الله لنا بجنوده المسوّمة من يديه؛ فلجأ من أبوابنا العالية الى الظلّ الذى يلجأ اليه كلّ ذى منبر وسرير، ورجا من كرمنا الاعتصام بجيوشنا التى ما رمينا بها(7/209)
عدوّا إلا ظنّ أن الرمال تسيل والجبال تسير؛ وتحيز منّا إلى فئة الإسلام، وانتصر بسيوفنا التى هو يعلم كيف تسلّها على العدا الأحلام؛ ومتّ إلينا بذمّة الإسلام وهى عندنا أبرّ الذمم، وطلب تقليده الحكم منا من عرف «1» بإعاذته «2» النظرات الصادقة أنه كان يحسب الشحم فيمن شحمه ورم؛ وعقد بنا بناء رجائه، وهل لمسلم عن ملك الإسلام من معدل؟ وأنزل بنا ركائب آماله، وهل بعد رامة لمرام «3» من منزل؟ فتلقّت نعمنا كرائم قصده بالترحيب، وأحلّت وفادة انتمائه «4» بالحرم الذى شأوه بعيد ونصره قريب؛ وتسارعت إلى نصرته جنودنا التى أيّامها مشهورة فى عدوّها، وآثارها مشكورة فى رواحها وغدوّها، وأعلامها منصورة فى انتزاحها ودنوّها؛ وتتابعت يتلو بعضها بعضا تتابع الغمام المتراكم، والموج المتلاطم؛ تقدم عليه بالنصر القريب من الأمد البعيد، وتعلم بوادرها أنّ طلائعها عنده وساقتها بالصعيد؛ ولما كان فلان هو الذى أراد الله به من الخير ما أراد، ووطّد له بعنايته أركان الرشاد؛ وجعل له بعد الجهل به علما، وتداركه برحمته، فما أمسى للإسلام عدوّا حتى أصبح هو ومن معه له سلما؛ «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» ، وبكرمه العميم فليفسحوا صدورهم ويشرحوا، وبإرشاده الجلىّ وهدايته فليدعوا قومهم الى ذلك وينصحوا؛ وحين وضحت له هذه الطرق أرشدته من خدمتنا الشريفة الى الطاعة، ودلّته على(7/210)
موالاة ملك الإسلام التى من لم يتمسّك [بها «1» ] فقد فارق الجماعة؛ فإن الله تعالى قرن طاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلم بطاعة أولى الأمر، وحثّ على ملازمة الجماعة فى وقت يكون المتمسّك فيه بدينه كالقابض على الجمر؛ وهذا فعل من أراد الله به خيرا، وسعى من يحسن فى دين الله سيرة وسيرا؛ ولذلك اقتضت آراؤنا الشريفة إمضاء عزمه على الجهاد بالإمجاد، وإنفاذ سهمه فى أهل العناد بالإسعاف والإسعاد؛ وأرسلنا الجيوش الإسلاميّة كما تقدّم شرحه يطئون الصّحاصح، ويستقربون المدى النازح، ويأخذون كلّ كمىّ فلو استطاع السّماك لم يتسمّ بالرامح، ويحتسبون الشّقّة فى طلب عدوّ الإسلام علما أنهم لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم به عمل صالح؛ فرسم بالأمر الشريف- لا زال يهب الدّول، ويقلّد أجياد العظماء ما تودّ لو تحلّت ببعض فرائده تيجان الملوك الأوّل- أن تفوّض إليه نيابة الممالك الفلانيّة تفويضا يصون به قلاعها، [ويصول «2» بمهابته على من حاول انتزاعها من يده واقتلاعها] ؛ ويجريها على [ما «3» ] ألفت مما لكنا من أمن لا يروّع سربه، ولا يكدّر شربه؛ ولا يوجد فيه باغ تخاف السبيل بسببه، ولا من يجرّد سيف بغى وطن جرّده قتل به؛ وليحفظ من الأطراف ما استودعه الله وهذا التقليد الشريف حفظه، وليعمل فى قتال محاربيه من العدا بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً.(7/211)
ومنه: وليعلم أن جيوشنا فى المسير إليه متى قصدت عدوّا سابقت خيولها خيالها، وجارت جيادها ظلالها، وأنفت سنابكها أن تجعل غير جماجم الأعداء نعالها؛ وها هى قد تقدّمت ونهضت لإنجاده، فلو سامها أن تخوض البحار فى سبيل الله لخاضت، أو تصدم الجبال لصدمت.
ومنه: والشرع الشريف مهمّه المقدّم، وأمره السابق على كلّ ما تقدّم؛ فليعل مناره، ويستشفّ من أموره أنواره؛ وينفّذ أحكامه، ويعاضد حكّامه؛ ومن عدل عن حكمه معاندا، أو ترك شيئا من أحكامه جاحدا؛ فقد برئت الذمّة من دمه حتى يفىء الى أمر الله، ويرجع عن عناده وينيب إلى الله؛ فإن الله يهدى إليه من أناب «وهو الّذى يقبل التّوبة عن عباده» .
وأما الرسائل التى تتضمّن أوصاف السلاح وآلات الحرب وأوصاف الخيل والجوارح وأنواع الرياضات وما أشبه ذلك، فالكاتب فيه مطلق العنان، مخلّى بينه وبين فصاحته، موكول إلى اطّلاعه وبلاغته؛ وقد تقدّم من أوصاف السلاح ما فيه كفاية لمن يريد ذلك.
وأما الخيل والجوارح وما يلتحق «1» بذلك من الفهود والضّوارى فلا غنية للكاتب عن معرفته جيادها، والأمارات الدالّة على فراهتها، وكلّ طير من الجارح وأفعاله واستطالته، وكيفيّة فعله، وتمكّنه من الطير والوحش؛ وسنورد إن شاء الله تعالى فى فنّ الحيوان الصامت- وهو الفنّ الثالث من هذا الكتاب- ما يقتدى الكاتب بمثاله، وينسج على منواله.(7/212)
وأما الرسائل التى تعمل رياضة للخواطر وتجربة للقرائح، كالمفاخرات بين الفواكه والأزهار، ووصف الرياحين والأنهار والغدران والسّواقى والجداول والبحار والمراكب وأمثال ذلك، فقد تقدّم منها فى الفنّ الأوّل من هذا الكتاب ما وقفت أو تقف عليه، وسنورد منها إن شاء الله تعالى فى الفن الرابع فى النبات ما تجده هناك.
وأما الرسائل الإخوانيّة وما يتجدّده من الأمور ويطرأ من الحوادث وغير ذلك، فسنورد إن شاء الله تعالى منها فى هذا الباب ما انتجبناه من رسائل الكتّاب والبلغاء المشارقة والمغاربة على ما تقف عليه؛ ولنبدأ من ذلك بذكر شىء من كلام الصحابة والصدر الأوّل.
ذكر شىء من الرسائل المنسوبة إلى الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وشىء من كلام الصدر الأوّل وبلاغتهم
قدّمنا أنّ الكاتب يحتاج فى صناعته إلى حفظ مخاطبات الصحابة رضى الله عنهم، ومحاوراتهم ومراجعاتهم، فأحببنا أن نورد من ذلك فى هذا الموضع ما ستقف إن شاء الله عليه؛
فمن ذلك الرسالة المنسوبة إلى أبى بكر الصّدّيق إلى علىّ، وما يتّصل بها من كلام عمر بن الخطاب وجواب علىّ رضى الله عنهم،
وهذه الرسالة قد اعتنى الناس بها وأوردها [فى] المجاميع، ومنهم من أفردها فى جزء، وقطع بأنها من كلامهم رضى الله عنهم، ومنهم من أنكرها ونفاها عنهم، وقال: إنها موضوعة، واختلف القائلون بوضعها، فمنهم من زعم أنّ فضلاء الشّيعة وضعوها، وأرادوا بذلك الاستناد إلى(7/213)
[أن «1» ] عليّا بن أبى طالب رضى الله عنه إنما بايع أبا بكر الصّدّيق بسبب ما تضمّنته؛ وهذا الاستناد ضعيف، وحجّة واهية، والصحيح أن عليّا بن أبى طالب رضى الله عنه بايع بيعة رضى باطنه فيها كظاهره، والدليل على ذلك أنه وطئ من السّبى الذى سبى فى خلافة أبى بكر، واستولد منه محمد بن الحنفيّة، ولا جواب لهم عن هذا؛ ومنهم من زعم أن فضلاء السنّة وضعوها، والله أعلم؛ وعلى الجملة فهذه الرسالة لم نوردها فى هذا الكتاب إثباتا لها أنها من كلامهم رضى الله عنهم ولا نفيا، وإنما أوردناها لما فيها من البلاغة، واتّساق الكلام، وجودة الألفاظ، وها نحن نوردها على نص ما وقفنا عليه قال أبو حيّان علىّ بن محمد التوحيدىّ البغدادىّ:
سمرنا ليلة عند القاضى أبى حامد بن بشر المرورّوذىّ ببغداد، فتصرّف فى الحديث كلّ متصرّف- وكان غزير «2» الروايه، لطيف الدرايه- فجرى حديث السّقيفة، فركب كلّ مركبا، وقال قولا، وعرّض بشىء، ونزع إلى فنّ؛ فقال:
هل فيكم من يحفظ رسالة لأبى بكر الصّدّيق إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما وجواب علىّ عنها، ومبايعته إياه عقب تلك المناظرة؟ فقال الجماعة: لا والله، فقال:
هى والله من بنات الحقائق، ومخبّآت الصنادق، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبى محمد المهلّبىّ فى وزارته، فكتبها عنّى بيده، وقال: لا أعرف رسالة أعقل منها ولا أبين، وإنها لتدلّ على علم وحلم وفصاحة ونباهة، وبعد غور، وشدّة غوص؛ فقال له(7/214)
العبّادانىّ «1» : أيها القاضى، لو أتممت المنّة علينا بروايتها سمعناها «2» ، فنحن أوعى لها عنك من المهلّبىّ، وأوجب ذماما عليك؛ فاندفع وقال: حدّثنا الخزاعىّ بمكّة، عن أبى «3» ميسرة قال: حدّثنا محمد بن فليح «4» عن عيسى بن دأب «5» [نبّأ «6» صالح بن كيسان ويزيد بن رومان، قالا: حدّثنا هشام بن عروة، نبّأ] أبو النفّاح «7» قال: سمعت(7/215)
مولاى أبا عبيدة يقول: لما استقامت الخلافة لأبى بكر رضى الله عنه بين المهاجرين والأنصار بعد فتنة كاد الشيطان بها، فدفع الله شرّها، ويسّر خيرها؛ بلغ أبا بكر عن علىّ تلكّؤ وشماس، وتهمّم «1» ونفاس، وتهمّم ونفاس، فكره أن يتمادى الحال فتبدو العوره، وتشتعل الجمره، وتفرّق ذات البين، فدعانى، فحضرته فى خلوة، وكان عنده عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وحده، فقال: يا أبا عبيدة، ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عينيك، وطالما أعزّ الله بك الإسلام، وأصلح شأنه على يديك، ولقد كنت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمكان المحوط، والمحلّ المغبوط، ولقد قال فيك فى يوم مشهود: «لكلّ أمّة أمين، وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة» ولم [تزل «2» ] للدّين ملتجا، وللمؤمنين مرتجى، ولأهلك ركنا، ولإخوانك ردءا؛ قد أردتك لأمر له خطر مخوف، وإصلاحه من أعظم المعروف؛ ولئن لم يندمل جرحه بيسارك «3» ورفقك، ولم تجبّ حيّته برقيتك، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس؛ واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرّ منه وأعلق، وأعسر منه وأغلق؛ والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك، فتأتّ له يا أبا عبيدة، وتلطّف فيه، وانصح لله عزّ وجلّ، ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذه العصابة غير آل جهدا، و [لا] قال حمدا؛ والله كالئك وناصرك، وهاديك ومبصّرك، إن شاء الله؛ امض إلى علىّ واخفض له جناحك، واغضض(7/216)
عنده صوتك، واعلم أنه سلالة أبى طالب، ومكانه ممّن فقدناه بالأمس صلّى الله عليه وسلّم مكانه، وقل له: البحر مغرقه، والبرّ مفرقه؛ والجوّ أكلف، والليل أغذف «1» ؛ والسماء جلواء، والأرض صلعاء؛ والصّعود متعذّر، والهبوط متعسّر؛ والحقّ عطوف رءوف، والباطل عنوف «2» عسوف، والعجب قدّاحة «3» الشرّ، والضّغن رائد البوار، والتعريض سجال «4» الفتنة، والقحة ثقوب «5» العداوة، وهذا الشيطان متّكئ على شماله، متحبّل «6» بيمينه، نافخ حضنيه «7» لأهله، ينتظر الشّتات والفرقة، ويدبّ بين الأمّة بالشّحناء والعداوة، عنادا لله عز وجلّ أوّلا، ولآدم ثانيا، ولنبيّه صلّى الله عليه وسلّم ودينه ثالثا، يوسوس بالفجور، ويدلى بالغرور، ويمنّى أهل الشرور، يوحى إلى أوليائه زخرف القول غرورا بالباطل، دأبا له منذ كان على عهد أبينا آدم صلّى الله(7/217)
عليه، وعادّة له منذ أهانه الله تعالى فى سالف الدهر، لا منجى منه إلا بعضّ الناجذ على الحقّ، وغضّ الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدوّ الله بالأشدّ فالأشدّ، والآكد فالآكد، وإسلام النفس لله عزّ وجلّ فى ابتغاء رضاه؛ ولا بدّ الآن من قول ينفع اذا ضرّ السكوت وخيف غبّه، ولقد أرشدك من أفاء ضالّتك، وصافاك من أحيا مودّته بعتابك، وأراد لك الخير من آثر البقاء معك، ما هذا الذى تسوّل لك نفسك، ويدوى «1» به قلبك، ويلتوى عليه رأيك، ويتخاوص «2» دونه طرفك، ويسرى فيه ظعنك، ويترادف معه نفسك، وتكثر عنده صعداؤك، ولا يفيض به لسانك؟
أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبيس بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله؟ أخلق غير خلق القرآن؟ أهدى غير هدى النبى صلّى الله عليه وسلّم؟ أمثلى تمشى إليه الضّراء وتدبّ له الخمر «3» ؟ أو مثلك ينقبض عليه الفضاء ويكسف «4» فى عينه القمر؟ ما هذه القعقعة «5» بالشّنان؟ وما هذه الوعوعة باللسان؟ إنك والله جدّ عارف باستجابتنا إلى الله عزّ وجلّ ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبّتنا لله «6» عزّ وجلّ ولرسوله ونصرة لدينه، فى زمان أنت فيه فى كن الصّبا،(7/218)
وخدر الغرارة، وعنفوان الشّبيبة [غافلا «1» عما] يشيب ويريب «2» ، لا تعى ما يراد ويشاد، ولا تحصّل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التى إليها عدل بك، وعندها حطّ رحلك، غير مجهول القدر، ولا مجحود الفضل، ونحن فى أثناء ذلك نعانى أحوالا تزيل الرواسى، ونقاسى أهوالا تشيب النّواصى؛ خائضين غمارها، راكبين تيّارها؛ نتجرّع صابها، ونشرج «3» عيابها؛ ونحكم أساسها، ونبرم أمراسها؛ والعيون تحدّج «4» بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشّفار تشحذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، لا تنتظر عند المساء صباحا، ولا عند الصباح مساء، و [لا «5» ] ندفع فى نحر أمر إلّا بعد أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ مرادا إلى شىء إلّا بعد جرع العذاب معه، ولا نقيم منارا إلا بعد الإياس من الحياة عنده، فادين فى جميع ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأب والأمّ، والخال والعمّ، والمال والنّشب، والسّبد واللّبد «6» ، والهلّة والبلّة «7» ، بطيب أنفس، وقرّة أعين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصحّة عقول، وطلاقه أوجه، وذلاقة ألسن؛ هذا مع خفيّات أسرار، ومكنونات أخبار كنت عنها غافلا،(7/219)
ولولا سنّك لم تكن عن شىء منها ناكلا؛ كيف وفؤادك مشهوم «1» ، وعودك معجوم! والآن قد بلغ الله بك، وأنهض الخير لك، وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول ما تسمع؛ فارتقب زمانك، وقلّص «2» أردانك؛ ودع التقعّس «3» والتجسّس لمن لا يظلع لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا؛ فالأمر غضّ، والنفوس فيها مضّ «4» ؛ وإنك أديم هذه الأمّة فلا تحلم «5» لجاجا، وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا، وماؤها العذب فلا تحل أجاجا؛ والله لقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا الأمر فقال لى: «يا أبا بكر، هو لمن يرغب عنه لا لمن يحاحش «6» عليه، ولمن يتضاءل عنه لا لمن ينتفج «7» إليه، هو لمن يقال: هو لك، لا لمن يقول: هو لى» ولقد شاورنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الصّهر، فذكر فتيانا من قريش، فقلت:
أين أنت من علىّ؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: إنى لأكره لفاطمة ميعة شبابه، وحداثة سنّه، فقلت له: متى كنفته يدك، ورعته عينك، حفّت بهما البركة، وأسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك، وما كنت عرفت منك فى ذلك حوجاء ولا للوجاء، فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك، وأجد(7/220)
رائحة سواك، وكنت إذ ذاك خيرا لك منك الآن لى؛ ولئن كان عرّض بك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى هذا الأمر فلم يكن معرضا عن غيرك، وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك، وإن تلجلج فى نفسك شىء فهلمّ فالحكم مرضىّ، والصواب مسموع، والحقّ مطاع؛ ولقد نقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ما عند الله عزّ وجلّ وهو عن هذه العصابة راض، وعليها حدب، يسرّه ما يسرّها، ويسوءه ما يسوءها «1» ، ويكيده ما كادها، ويرضيه ما أرضاها، ويسخطه ما أسخطها، أما تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وأقاربه وسجرائه «2» إلا أبانه بفضيلة، وخصّه بمزيّة، وأفرده بحالة؟ أتظنه صلّى الله عليه وسلّم ترك الأمة سدى بددا، عباهل مباهل «3» ، طلاحى «4» ، مفتونة بالباطل، معنونة «5» عن الحقّ، لا ذائد ولا رائد، ولا ضابط ولا حائط ولا رابط، ولا ساقى ولا واقى، ولا هادى ولا حادى «6» ؛ كلا، والله ما اشتاق الى ربه تعالى، ولا سأله المصير الى رضوانه وقربه إلّا بعد أن ضرب المدى «7» ، وأوضح(7/221)
الهدى، وأبان الصّوى «1» ؛ وأمّن المسالك والمطارح، وسهّل المبارك والمهايع «2» ، وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشّرك بإذن الله تعالى، وشرم وجه النفاق لوجه الله سبحانه، وجدع أنف الفتنة فى ذات الله، وتفل فى عين الشيطان بعون الله، وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عزّ وجلّ؛ وبعد، فهؤلاء المهاجرون والأنصار عندك ومعك فى بقعة واحدة، ودار جامعة، إن استقالونى «3» لك، وأشاروا عندى بك، فأنا واضع يدى فى يدك، وصائر الى رأيهم فيك، وإن تكن الأخرى فادخل فى صالح ما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم «4» ، والمرشد لضالّتهم، والرادع لغوابتهم، فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البرّ والتقوى، والتناصر على الحق، ودعنا نقض هذه الحياة بصدور بريئة من الغلّ، سليمة من الضغائن «5» والحقد، ونلق الله تعالى بقلوب سليمة من الضغن؛ وبعد، فالناس ثمامة «6» فارفق بهم، واحن عليهم، ولن لهم، ولا تشق «7» نفسك بنا خاصّة منهم، واترك ناجم الحقد(7/222)
حصيدا، وطائر الشرّ واقعا، وباب الفتنة مغلقا، فلا قال ولا قيل، ولا لوم ولا تعنيف «1» ، والله على ما نقول شهيد، وبما نحن عليه بصير.
قال أبو عبيدة: فلما تأهّبت للنهوض قال عمر رضى الله عنه: كن لدى الباب هنيهة فلى معك دور من القول، فوقفت وما أدرى ما كان بعدى إلّا أنه لحقنى بوجه يبدى تهلّلا، وقال لى: قل لعلىّ: الرّقاد محلمه، والهوى مقحمه؛ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ
، وحقّ مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم؛ وإنّ أكيس الكيسى من منح الشارد تألّفا، وقارب البعيد تلطّفا؛ ووزن كلّ شىء بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه؛ ولم يجعل فتره مكان شبره دينا كان أو دنيا، ضلالا كان أو هدى، ولا خير فى علم مستعمل فى جهل، ولا خير فى معرفة مشوبة بنكر، ولسنا كجلدة رفغ «2» البعير بين العجان «3» والذّنب، وكلّ صال فبناره، وكلّ سيل فإلى قراره؛ وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعىّ «4» وشىّ، ولا كلامها اليوم لفرق أو رفق، وقد جدع الله بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أنف كلّ ذى كبر، وقصم ظهر كلّ جبّار، وقطع لسان كلّ كذوب «فماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال» ما هذه الخنزوانة «5» [التى «6» ] فى فراش «7»(7/223)
رأسك؟ ما هذا الشجا المعترض فى مدارج أنفاسك؟ ما هذه القذاة التى تغشّت ناظرك؟ وما هذه الوحرة «1» التى أكلت شرا سيفك؟ وما هذا الذى لبست بسببه جلد النّمر، واشتملت عليه بالشّحناء والنّكر، ولسنا فى كسرويّة كسرى، ولا فى قيصريّة قيصر، تأمّل لإخوان فارس وأبناء الأصفر؛ قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا، ودريئة لرماحنا، ومرعى لطعاننا، وتبعا لسلطاننا؛ بل نحن نور نبوّة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأثرة رحمه، وعنوان نعمه، وظلّ عصمه؛ بين أمّة مهديّة بالحق والصدق، مأمونة على الرّتق والفتق، لها من الله إباء أبىّ، وساعد قوىّ؛ ويد ناصره، وعين ناظره؛ أتظن ظنّا يا علىّ أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتا على الأمّة، خادعا لها، أو متسلّطا [عليها] ؟ أتراه حلّ عقودها [وأحال عقولها «2» ] ؟ أتراه جعل نهارها ليلا، ووزنها كيلا؛ ويقظتها رقادا، وصلاحها فسادا؟ لا والله، سلا عنها فولهت له، وتطامن لها فلصقت به، ومال عنها فمالت إليه، واشمأزّ دونها فاشتملت عليه، حبوة حباه الله بها، وعاقبة بلّغه الله إليها، ونعمة سربله جمالها، ويدا أوجب عليه شكرها وأمّة نظر الله به لها، والله تعالى أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة، وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ولا يجحد حقّك فيما أتاك الله، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقرب أمسّ من قرابتك، وسنّ أعلى من سنّك، وشيبة أروع من شيبتك، وسيادة لها أصل فى الجاهليّة وفرع فى الإسلام، ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقه، ولا تذكر فيها(7/224)
فى مقدّمة ولا ساقه؛ ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تخرج منها ببازل ولا هبع «1» ؛ ولم يزل أبو بكر حبة قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلاقة نفسه وعيبة سرّه، ومفزع رأيه، وراحة كفّه، ومرمق طرفه؛ وذلك كلّه بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار شهرة مغنية عن الدليل عليه، ولعمزى إنك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرابة، ولكنه أقرب منك قربة «2» ، والقرابة لحم ودم، والقربة نفس وروح، وهذا فرق عرفه المؤمنون، ولذلك صاروا إليه أجمعون؛ ومهما شككت فى ذلك فلا تشكّ أن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعه، فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع غدا، والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك، فإن يك فى الأمل طول، وفى الأجل فسحة، فستأكله مريئا «3» أو غير مرىء، وستشر به هنيئا أو غير هنىء، حين لا رادّ لقولك إلا من كان منك، ولا تابع لك إلّا من كان طامعا فيك، يمصّ إهابك، ويعرك أديمك، ويزرى على هديك، هنالك تقرع السنّ من ندم، وتجرع الماء ممزوجا بدم، وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك، ودارج قوّتك، فتودّ أن لو سقيت بالكأس التى أبيتها، ورددت إلى حالتك التى استغويتها، ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، وعاقبة هو المرجوّ لسرّائها وضرّائها، وهو الولىّ الحميد، الغفور الودود.(7/225)
قال أبو عبيدة: فمشيت متزمّلا «1» أنوء كأنما أخطو على رأسى فرقا من الفرقة، وشفقا على الأمّة، حتى وصلت إلى علىّ رضى الله عنه فى خلاء، فأبثثته «2» بثّى كلّه، وبرئت إليه منه، ورفقت به؛ فلمّا سمعها ووعاها، وسرت فى مفاصله حميّاها؛ قال:
حلّت معلوطة «3» ، وولت مخروّطة «4» ، وأنشأ يقول:
إحدى لياليك فهيسى هيسى ... لا تنعمى الليلة بالتعريس
نعم يا أبا عبيدة، أكلّ هذا فى أنفس القوم يحسّون به، ويضطبعون «5» عليه؟
قال أبو عبيدة: فقلت: لا جواب لك عندى، إنما أنا قاض حقّ الدّين، وراتق فتق المسلمين، وسادّ ثلمة الأمّة، يعلم الله ذلك من جلجلان «6» قلبى، وقرارة نفسى؛ فقال علىّ رضى الله عنه: والله ما كان قعودى فى كسر هذا البيت قصدا للخلاف، ولا إنكارا للمعروف، ولا زراية على مسلم، بل لما وقذنى «7» به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فراقه، وأودعنى من الحزن لفقده، وذلك أننى لم أشهد بعده مشهدا إلا جدّد علىّ حزنا، وذكّرنى شجنا، وإن الشوق [إلى] اللّحاق به كاف عن الطمع فى غيره، وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرّق [منه](7/226)
رجاء ثواب معدّ لمن أخلص لله عمله، وسلّم لعلمه ومشيئته، وأمره ونهيه؛ على أنى ما علمت أن التظاهر علىّ واقع، ولى عن الحقّ الذى سبق لى دافع، وإذ قد أفعم الوادى بى، وحشد النادى من أجلى، فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين وسرّنى، وفى النفس كلام لولا سابق عقد، وسالف عهد، لشفيت نفسى بخنصرى وبنصرى، وخضت لجته بأخمصى ومفرقى، ولكنى ملجم الى أن ألقى ربّى، وعنده أحتسب ما نزل «1» بى، وإنى غاد إلى جماعتكم، مبايع لصاحبكم، صابر على ما ساءنى وسرّكم، «ليقضى الله أمرا كان مفعولا» .
قال أبو عبيدة: فعدت الى أبى بكر رضى الله عنه، فقصصت القول على غرّه «2» ، ولم أختزل شيئا من حلوه ومرّه، وبكّرت غدوة إلى المسجد، فلما كان صباح يومئذ إذا علىّ يخترق الجماعة إلى أبى بكر رضى الله عنهما، فبايعه، وقال خيرا، ووصف جميلا، وجلس زميّتا «3» ، واستأذن للقيام فمضى، وتبعه عمر مكرما له، مستثيرا لما عنده، فقال علىّ رضى الله عنه: ما قعدت عن صاحبكم كارها له، ولا أتيته فرقا، ولا أقول ما أقول تعلّة، وإنّى لأعرف منتهى طرفى، ومحطّ قدمى، ومنزع قوسى، وموقع سهمى، ولكن قد أزمت على فأسى «4» ثقة بربّى فى الدنيا والآخرة.
فقال له عمر رضى الله عنهما: كفكف غربك، واستوقف سربك؛ ودع العصا بلحائها، والدّلاء على رشائها، فإنّا من خلفها وورائها؛ إن قدحنا أورينا، وإن(7/227)
متحنا أروينا، وإن قرحنا أدمينا، ولقد سمعت أماثيلك التى لغّزت»
فيها عن صدر أكل بالجوى، ولو شئت لقلت [على «2» ] مقالتك ما إن سمعته ندمت على ما قلت؛ وزعمت أنك قعدت فى كسر بيتك لما وقذك به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فقده، فهو وقذك ولم يقذ غيرك؟ بل مصابه أعمّ وأعظم من ذلك، وإنّ من حقّ مصابه ألا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها، ولا يؤمن كيد الشيطان فى بقائها، هذه العرب حولنا، والله لو تداعت علينا فى صبح نهار لم نلتق فى مسائه؛ وزعمت أن الشوق الى اللّحاق به كاف عن الطمع فى غيره، فمن علامة الشوق إليه نصرة دينه، ومؤازرة أوليائه ومعاونتهم؛ وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرّق منه، فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله، والرأفة على خلق الله، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون عليه؛ وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر وقع عليك، وأىّ حقّ لطّ دونك؟ قد سمعت وعلمت ما قالت الأنصار بالأمس سرّا وجهرا، وتقلّبت عليه بطنا وظهرا، فهل ذكرتك، أو أشارت بك، أو وجدت رضاهم عنك؟ هل قال أحد منهم بلسانه: إنك تصلح لهذا الأمر، أو أومأ بعينه، أو همهم «3» فى نفسه؟ أتظنّ أن الناس ضلّوا من أجلك، وعادوا كفّارا زهدا فيك وباعوا الله تعالى تحاملا عليك؟ لا والله، لقد جاءنى عقيل بن زياد الخزرجىّ [فى نفر من أصحابه ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجىّ «4» ] وقالوا: إن عليّا ينتظر الإمامة، ويزعم أنه أولى بها من غيره، وينكر على من يعقد الخلافة، فأنكرت عليهم،(7/228)
ورددت القول فى نحورهم حين قالوا: إنه ينتظر الوحى، ويتوكّف «1» مناجاة الملك، فقلت: ذلك أمر طواه الله تعالى بعد نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، أكان الأمر معقودا بأنشوطة «2» ، أو مشدودا بأطراف ليطة «3» ؟ كلّا والله، لا عجماء بحمد الله إلا وقد أفصحت، ولا شوكاء إلّا وقد تفتّحت؛ ومن أعجب شأنك قولك: لولا سالف عهد، وسابق عقد، لشفيت غيظى، وهل ترك الدّين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو لسان؟ تلك جاهليّة قد استأصل الله شأفتها، واقتلع جرثومتها؛ وهوّر «4» ليلها، وغوّر سيلها؛ وأبدل منها الرّوح والرّيحان، والهدى والبرهان؛ وزعمت أنك ملجم، ولعمرى إنّ من اتقى الله، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه، وأطبق فاه، وجعل سعيه لما وراه.
فقال علىّ رضى الله عنه: مهلا مهلا يا أبا حفص، والله ما بذلت ما بذلت وأنا أريد نكثه، ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغى حولا عنه؛ وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق، واحتضن الشّقاق؛ وفى الله سلوة عن كل حادث، وعليه التوكّل فى كلّ الحوادث؛ ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب، مبرود الغليل، فسيح اللّبان «5» ، فصيح اللسان. فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشدّ الأزر، ويحط الوزر، ويضع الإصر، ويجمع الألفة بمشيئة الله وتوفيقه.
قال أبو عبيدة رضى الله عنه: فانصرف علىّ وعمر رضى الله عنهما، وهذا أصعب ما مرّ علىّ بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(7/229)
ومن كلام عائشة أمّ المؤمنين بنت أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما،
وهو مما اتصل إلينا بالرواية الصحيحة، والأسانيد الصريحة، عن محمد بن أحمد ابن [أبى «1» ] المثنّى، عن جعفر بن عون، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها: أنه بلغها أنّ أقواما يتناولون أبا بكر رضى الله عنه، فأرسلت الى أزفلة من الناس، فلمّا حضروا أسدلت أستارها، وعلت وسادها، ثم قالت: أبى وما أبيه! أبى والله لا تعطوه الأيدى، ذاك طود منيف، وظلّ مديد؛ هيهات، كذبت الظّنون، أنجح «2» إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم «سبق الجواد إذا استولى على الأمد» فتى قريش ناشئا، وكهفها كهلا، يفكّ عانيها، ويريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلمّ شعثها، حتى حليته «3» قلوبها، ثم استشرى فى دين الله، فما برحت شكيمته فى ذات الله عزّ وجلّ حتى اتّخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون، وكان رحمه الله غزير الدّمعة، وقيد الجوانح، شجىّ النّشيج، فانعطفت اليه نسوان مكّة وولدانها يسخرون منه، ويستهزئون به، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ
فأكبرت ذلك رجالات قريش، فحنت قسيّها، وفوّقت سهامها، وامتثلوه «4» غرضا فما فلّوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومرّ على سيسائه، حتى اذا ضرب الدّين بجرانه، وألقى بركه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجا، ومن كلّ فرقة أرسالا(7/230)
وأشتاتا، اختار الله لنبيّه ما عنده، فلمّا قبض الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم نصب «1» الشيطان رواقه، ومدّ طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج عهده، وماج أهله، وبغى الغوائل، وظنّت رجال أن قد أكثب «2» نهزها، ولات حين الذى يرجون، وأنّى والصّدّيق بين أظهرهم؟ فقام حاسرا مشمّرا، فجمع حاشيتيه، ورفع قطريه، فردّ رسن الإسلام على غربه، ولم شعثه بطبّه، وأقام أوده بثقافه، فابذعرّ النفاق بوطئه، وانتاش الدّين فنعشه، فلمّا أراح الحقّ على أهله، وقرّر الرءوس على كواهلها، وحقن الدماء فى أهبها، أتته منيّته، فسدّ ثلمته بنظيره فى الرحمة، وشقيقه فى السّيرة والمعدلة، ذاك ابن الخطّاب، لله درّ أمّ حفلت «3» له، ودرّت عليه! لقد أوحدت به، ففنّخ الكفرة وديّخها، وشرّد الشّرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها، ولفظت جنينها «4» ، ترأمه ويصدف عنها، وتصدّى له ويأباها، ثم وزّع فيها فيئها، وودّعها كما صحبها؛ فأرونى ما ترتابون؟ وأىّ يومى أبى تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه وقد نظر لكم؟ أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.
ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت: أنشدكم الله، هل أنكرتم مما قلت شيئا؟
قالوا: اللهمّ لا.(7/231)
ذكر شرح غريب رسالتها رضى الله عنها
الأزفلة: الجماعة. وتعطوه: تناوله. والطّود: الجبل. والمنيف: المشرف.
وأكديتم: خبتم ويئس من خيركم. وونيتم: فترتم وضعفتم. والأمد: الغاية.
ويريش: يعطى ويفضل. والمملق: الفقير. ويرأب: يجمع. والشّعب: المتفرّق.
ويلمّ: يضمّ. واستشرى: جدّ وانكمش. والشّكيمة: الأنفة والحميّة. والوقيذ:
العليل. والجوانح: الضلوع القصار التى تقرب من الفؤاد. والشجىّ: الحزين.
والنّشيج: صوت البكاء. وانعطفت: انثنت. وامتثلوه: مثلوه «1» . والغرض:
الذى يقصد للرّمى. وفلّوا: كسروا. والصّفاة: الصخرة الملساء. وقصفوا:
كسروا. وسيساؤه: شدّته، والسّيساء: عظم الظهر، والعرب تضربه مثلا لشدّة الأمر، قال الشاعر «2» :
لقد حملت قيس بن عيلان حربنا «3» ... على يابس السّيساء محدودب الظّهر
والجران: الصّدر. ورست: ثبتت. ومرج: اختلط. وماج أهله:
اضطربوا وتنازعوا. وبغى الغوائل، معناه وطلب البلايا. وأكثب: قرب.
والنّهز: اختلاس الشىء والظفر به مبادرة. ولات حين الذى يطلبون «4» ، معناه:
وليست الساعة «5» حين ظفرهم. وقولها: فجمع «6» حاشيتيه ورفع قطريه، معناه تحزم(7/232)
للأمر وتأهّب له. والقطر: الناحية. والطبّ: الدواء. والأود: العوج.
والثّقاف: تقويم الرماح وغيرها. وابذعرّ: تفرّق. وانتاش الدّين، أى أزال عنه ما يخاف عليه. ونعشه: رفعه. وأراح الحقّ على أهله، أى أعاد الزكاة التى منعتها العرب فقاتل عليها حتى ردّت الى حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقرّر الرءوس على كواهلها، معناه وقى المسلمين القتل. والكاهل: أعلى الظهر وما يتصل به.
وحقن الدماء فى أهبها، معناه أنه حقن دماء المسلمين فى أجسادهم. والأهب:
جمع إهاب، وأصل الإهاب الجلد، فكنت به عن الجسد. وقولها: لله درّ أمّ حفلت له، أى جمعت له اللبن. وقولها: أوحدت به، معناه جاءت به منفردا لا نظير له. وقولها: ففنّخ الكفرة، معناه أذلّها. وديّخها: صغّر بها «1» . وبعج الأرض وبخعها، معناه شقّها واستقصى غلّتها «2» . وشذر مذر، معناه تفريقا، يقال:
شذر مذر، وشغر بغر، بمعنى واحد. وقولها: حتى قاءت أكلها، معناه أخرجت خبزها. وترأمه: تعطف عليه. وتصدّى له: تعرّض له.
ومن كلام على بن أبى طالب رضى الله عنه
ما كتب به إلى معاوية بن أبى سفيان جوابا عن كتابه- وهو من محاسن الكتب- كتب رضى الله عنه:
أما بعد، فقد أتانى كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم لدينه، وتأييده إيّاه بمن أيّده به من أصحابه، فلقد خبأ «3» لنا الدهر منك عجبا،(7/233)
أفطفقت تخبرنا بآلاء الله عندنا؟ فكنت فى ذلك كناقل التمر الى هجر، أو داعى مدره الى النّضال؛ وزعمت أنّ أفضل الناس فى الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه، وإن نقص «1» لم يلحقك قلّه؛ وما أنت والفاضل والمفضول، والسائل والمسئول؟ وما الطّلقاء وأبناء الطّلقاء والتمييز «2» بين المهاجرين الأوّلين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد «حنّ «3» قدح ليس منها» ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها، ألا تربع على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخّرك القدر، فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر، وإنك لذهاب فى التّيه، روّاغ عن الفضل «4» ، ألا ترى- غير مخبر لك، ولكن بنعمة الله أحدّث- أن قوما استشهدوا فى سبيل الله من المهاجرين- ولكلّ فضل- حتى إذا استشهد شهيدنا (هو حمزة) قيل: سيّد الشهداء، وخصّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه؛ ألا ترى أن قوما قطّعت أيديهم فى سبيل الله- ولكلّ فضل- حتى إذا فعل بأحدنا ما فعل بواحدهم قيل: الطيّار فى الجنة، وذو الجناحين (هو جعفر) ولولا [ما «5» ] نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجّها آذان السامعين، فدع عنك من مالت به الدّنية «6» فإنا(7/234)
صنائع ربنا، والناس بعد صنائع لنا، لم يمنعنا قديم عزّنا، وعادىّ»
طولنا على قومك أن خلطناهم بأنفسنا، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك، وأنّى يكون ذلك كذلك؟ ومنّا النبىّ ومنكم المكذّب «2» ، ومنّا «3» أسد الله، ومنكم أسد «4» الأحلاف، ومنا سيدا «5» شباب أهل الجنة، ومنكم صبية «6» النار، ومنا خير نساء «7» العالمين، ومنكم حمّالة «8» الحطب؛ فإسلامنا قد سمع، وجاهليّتنا لا تدفع، كتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا و [هو «9» ] قوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ*
وقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
فنحن مرّة أولى بالقرابة، وتارة أولى بالطاعة؛ ولما احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم؛ وزعمت أنّى لكلّ الخلفاء حسدت، وعلى كلّهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك، فتكون المعذرة إليك.
«وتلك شكاة ظاهر «10» عنك عارها»(7/235)
وقلت: إنى كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش «1» حتى أبايع، ولعمر الله [لقد «2» ] أردت أن تذمّ فحمدت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة فى ان يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا فى دينه، ولا مرتابا فى يقينه، وهذه حجّتى إلى غيرك قصدها، ولكنى أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها؛ ثم ذكرت ما كان من أمرى وأمر عثمان، [فلك «3» ] أن تجاب عن هذه لرحمه «4» منك، فأيّنا كان أعدى له، وأهدى الى مقاتله؟ أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه، أمن استنصره فتراخى عنه، وبثّ المنون إليه، حتى [أتى «5» ] قدره عليه؟
كلّا والله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا
وما كنت أعتذر من أنّى كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذنب إليه إرشادى وهدايتى له «فربّ ملوم لا ذنب له»
وقد يستفيد الظّنّة «6» المتنصّح
وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت «وما توفيقى إلّا بالله عليه توكّلت» ؛ وذكرت أنه ليس لى ولأصحابى إلا السيف، فلقد أضحكت بعد استعبار، متى ألفيت بنى عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين، وبالسيوف مخوّفين؟ «لبث «7» قليلا يلحق الهيجا(7/236)
حمل» فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مرقل نحوك فى جحفل من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم، متسربلين سرابيل الموت، أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم، قد صحبتهم ذرّية بدرية، وسيوف هاشميّة، قد عرفت مواقع نصالها فى أخيك وخالك وجدك «1» وأهلك «وما هى من الظّالمين ببعيد» .
ومن كلام الأحنف بن قيس
حين وبّخه معاوية بن أبى سفيان بتخذيله عائشة رضى الله عنها، وأنه شهد صفّين، وقال له: فعلت وفعلت؛ فقال:
يا أمير المؤمنين، لم تردّ الأمور على أعقابها؟ أما والله إنّ القلوب النى أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التى قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت بشبر من غدر، لنمدّنّ باعا من ختر «2» ، ولئن شئت لتسصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك؛ قال معاوية: أفعل.
وجلس معاوية يوما وعنده وجوه الناس، وفيهم الأحنف، فدخل رجل من أهل الشام، فقام خطيبا، فكان آخر كلامه أن لعن عليّا رضى الله عنه، فأطرق الناس، وتكلّم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل آنفا ما قال لو علم أن رضاك فى لعن المرسلين للعنهم، فاتّق الله، ودع عليّا فقد لقى الله، وأفرد فى حفرته، وخلا بعمله، وكان والله- ما علمنا- المبرّز بسبقه، الطاهر فى خلقه؛ الميمون النّقيبه، العظيم المصيبة. قال معاوية: يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى، وقلت بغير ما ترى، وايم الله لتصعدنّ المنبر فلتلعننّه طائعا أو كارها؛ فقال الأحنف:
إن تعفنى فهو خير، وإن تجبرنى على ذلك فو الله لا تجرى به شفتاى؛ فقال معاوية:
قم فاصعد؛ قال: أما والله لأنصفنّك فى القول والفعل؛ قال معاوية: وما أنت(7/237)
قائل إن أنصفتنى؟ قال: أصعد فأحمد الله وأثنى عليه وأصلّى على نبيّه، ثم أقول:
أيها الناس، إنّ معاوية أمرنى أن ألعن عليّا، ألا وإنّ عليّا ومعاوية اختلفا واقتتلا، وادّعى كلّ واحد منهما أنه مبغىّ عليه وعلى فئته، فإذا دعوت فأمّنوا رحمكم الله؛ ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك ورسلك وجميع خلقك الباغى منهما على صاحبه، والفئة الباغية على المبغىّ عليها، آمين يا ربّ العالمين؛ فقال معاوية:
إذن نعفيك يا أبا بحر.
وأتى الأحنف مصعب بن الزبير يكلّمه فى قوم حبسهم فقال: أصلح الله الأمير، إن كانوا حبسوا فى باطل فالحقّ يخرجهم، وإن كانوا حبسوا فى حقّ فالعفو يسعهم؛ فحلّاهم.
ولما قدم وفد العراق على معاوية وفيهم الأحنف، خرج الآذن فقال: إنّ أمير المؤمنين يعزم عليكم الّا يتكلّم أحد إلّا لنفسه، فلما وصلوا اليه قال الأحنف:
لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته «1» أن دافّة (أى الجماعة) دفّت «2» ، ونازلة نزلت، ونائبة نابت، وكلّهم بهم الحاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبرّه؛ فقال: حسبك يا أبا بحر، فقد كفيت الغائب والشاهد.
ولما خطب زياد بن أبيه بالبصرة قام الأحنف فقال:
لله الأمير! قد قلت فأسمعت، ووعظت «3» فأبلغت؛ أيها الأمير، إنما السّيف بحدّه، والقوس بشدّه، والرجل بمجده؛ وإنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء؛ ولن نثنى حتى نبتلى، ولا نحمد حتّى نعطى.(7/238)
ولما حكّم أبو موسى الأشعرىّ أتاه الأحنف فقال له: يا أبا موسى، إنّ هذا مسير له ما بعده من عزّ الدنيا أو ذلّها آخر الدهر، ادع القوم إلى طاعة علىّ، فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبّوا، ويختار أهل العراق من قريش الشام من أحبّوا، وإياك إذا لقيت ابن العاص أن تصافحه بنيّة، وأن يقعدك على صدر المجلس، فإنها خديعة، وأن يضمّك وإيّاه بيت فيكمن لك فيه الرجال، ودعه فليتكلّم لتكون عليه بالخيار، فالبادئ مستغلق «1» ، والمجيب ناطق؛ فما عمل أبو موسى إلّا بخلاف ما قال الأحنف وأشار به، فكان من الأمر ما كان؛ فلقيه الأحنف بعد ذلك فقال له: أدخل والله قدميك فى خفّ واحدة.
وقال بخراسان: يا بنى تميم، تحابّوا [تجتمع «2» كلمتكم] وتباذلوا «3» تعتدل أموركم، وابدءوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح دينكم، ولا تغلّوا «4» يسلم لكم جهادكم.
ولمّا قدمت الوفود على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قام هلال بن بشر «5» فقال: يا أمير المؤمنين: إنا غرّة من خلفنا من قومنا، وسادة من وراءنا من أهل مصرنا؛ وإنك إن تصرفنا بالزيادة فى أعطياتنا، والفرائض لعيالاتنا، يزدد بذلك(7/239)
الشريف تأميلا، وتكن «1» لهم أبا وصولا؛ وإن تكن مع ما نمت «2» [به «3» ] من وسائلك، وندلى [به «4» ] من أسبابك كالجدل «5» لا يحلّ ولا يرتحل، نرجع بأنوف مصلومة»
، وجدود عاثرة، فمحنا «7» وأهالينا بسجل مترع (أى الدّلو الملآنة) من سجالك المترعة.
وقام زيد بن جبلة فقال: يا أمير المؤمنين، سوّد الشريف، وأكرم الحسيب، وازرع عندنا من أياديك ما تسدّ به الخصاصة، وتطرد به الفاقة؛ فإنا بقفّ «8» من الأرض يابس «9» الأكناف، مقشعرّ الذّروة، لا متّجر «10» ولا زرع، وإنا من العرب اليوم إذ أتيناك بمرأى ومسمع.
فقام الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن مفاتيح الخير بيد الله، والحرص قائد الحرمان، فاتق الله فيما لا يغنى عنك يوم القيامة قيلا ولا قالا، واجعل بينك وبين رعيّتك من العدل والإنصاف شيئا يكفيك وفادة الوفود، واستماحة الممتاح، فإنّ كلّ امرئ إنما يجمع فى وعائه إلا الأقلّ ممن عسى أن تقتحمه الأعين فلا يوفد إليك.(7/240)
ومن كلام أمّ الخير بنت الحريش البارقيّة،-
وكانت من الفصحاء- حكى أنها لما وفدت على معاوية قال لها كيف كان كلامك يوم قتل عمّار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله زوّرته «1» قبل ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثهن لسانى حين الصدمة، فإن شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت، قال:
لا أشاء ذلك، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيّكم حفظ كلام أمّ الخير؟ فقال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظى سورة الحمد، قال: هاته، قال:
نعم، كأنّى بها يا أمير المؤمنين عليها برد زبيدىّ، كثيف الحاشية، وهى على جمل أرمك «2» ، وقد أحيط حولها وبيدها سوط منتشر الضّفر «3» ، وهى كالفحل يهدر فى شقشقته تقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
إن الله قد أوضح الحقّ، وأبان الدليل، ونوّر السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم فى عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمّة؛ فأنّى «4» تريدون رحمكم الله؟ أفرارا عن أمير المؤمنين، أم فرارا من الزّحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله عزّ وجلّ يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهى تقول: اللهمّ قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمّة القلوب، فاجمع الكلمة على التقوى، وألّف القلوب على الهدى، وردّ الحقّ إلى أهله؛ هلمّوا رحمكم الله إلى الإمام العادل،(7/241)
والوصىّ الوفىّ، والصّدّيق الأكبر؛ إنها إحن بدريّة، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحديّه، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بنى عبد شمس؛ ثم قالت:
قاتلوا أئمّة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون؛ صبرا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربّكم، وثبات من دينكم، وكأنّى بكم غدا قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة، فرّت من قسورة، لا تدرى أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضّلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى، و «عمّا قليل ليصبحنّ نادمين» ، حين تحلّ بهم الندامة، فيطلبون الإقالة، إنه والله من ضلّ عن الحقّ وقع فى الباطل، ومن لم يسكن الجنّة نزل النار؛ أيها الناس، إنّ الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستبطئوا «1» مدّة الآخرة فسعوا لها؛ والله أيها الناس، لولا أن تبطل الحقوق، وتعطّل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما «2» اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون- رحمكم الله-؟
عن ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزوج ابنته، وأبى ابنيه، خلق من طينته، وتفرّع عن نبعته، وخصّه بسرّه، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبّه المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين؛ فلم يزل كذلك يؤيّده الله بمعونته، ويمضى على سنن استقامته، لا يعرّج لراحة اللذّات؛ وهو مفلّق الهام، ومكسّر الأصنام؛ إذ صلّى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون؛ فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزى بدر، وأفنى أهل أحد، وفرّق جمع هوازن، فيا لها وقائع زرعت فى قلوب قوم نفاقا، وردّة وشقاقا! وقد اجتهدت فى القول، وبالغت فى النصيحة، وبالله التوفيق؛ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(7/242)
فقال معاوية: والله يا أمّ الخير ما أردت بهذا إلا قتلى، والله لو «1» قتلتك ما حرجت فى ذلك؛ قالت: والله ما يسوءنى يا ابن هند أن يجرى الله ذلك على يدى من يسعدنى الله بشقائه؛ قال: هيهات يا كثيرة الفضول، ما تقولين فى عثمان بن عفّان؟ قالت:
وما عسيت أن أقول فيه؟ استخلفه الناس «2» وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون؛ فقال:
إيها «3» يا أمّ الخير، هذا والله أصلك الذى تبنين عليه؛ قالت: لكن الله يشهد «وكفى بالله شهيدا» ما أردت بعثمان نقصا، ولقد كان سبّاقا الى الخيرات، وإنه لرفيع الدّرجات؛ قال: فما تقولين فى طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول فى طلحة؟ اغتيل من مأمنه، وأتى من حيث لم يحذر، وقد وعده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجنّة؛ قال: فما تقولين فى الزّبير؟ قالت: يا هذا لا تدعنى كرجيع الضّبع يعرك فلى المركن «4» ؛ قال: حقا لتقولنّ ذلك، وقد عزمت عليك؛ قالت: وما عسيت أن أقول فى الزّبير ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحواريّه، وقد شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنّة، ولقد كان سبّاقا الى كلّ مكرمة فى الإسلام؛ وإنى أسألك بحق الله يا معاوية- فإن قريشا تحدّث أنك من أحلمها- أن تسعنى بفضل حلمك، وأن تعفينى من هذه المسائل، وامض الى ما شئت من غيرها؛ قال: نعم وكرامة، قد أعفيتك، وردّها مكرّمة الى بلدها.(7/243)
وممن اشتهر بالفصاحة والبلاغة زياد بن أبيه، والحجّاج بن يوسف الثّقفى،
وسنذكر نبذة من كلامهما فى التاريخ عند ذكرنا لأخبارهما لمّا ولى كلّ منهما العراق، وما خطب الناس به، ولنذكر فى هذا الموضع من كلام الحجّاج ما لم نورده هناك قيل: لما قدم الحجّاج البصرة خطب فقال: أيها الناس، من أعياه داؤه، فعندى دواؤه؛ ومن استطال أجله، فعلىّ أن أعجّله، ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله؛ ومن استطال ماضى عمره قصّرت عليه باقيه؛ إن للشّيطان طيفا. وللسّلطان سيفا؛ فمن سقمت سريرته، صحّت عقوبته؛ ومن وضعه ذنبه. رفعه صلبه، ومن لم تسعه العافية، لم تضق عنه الهلكة؛ ومن سبقته بادرة فمه، سبق بدنه بسفك دمه؛ إنى أنذر ثم [لا] أنظر، وأحذّر ثم لا أعذر، وأتوعّد ثم لا أعفو، إنما أفسدكم ترنيق «1» ولاتكم، ومن استرخى لببه «2» ساء أدبه، إنّ الحزم والعزم سلبانى سوطى، وأبدلانى [به] سيفى، فقائمه فى يدى، ونجاده فى عنقى، وذبابه قلادة لمن عصانى، والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيحرج من الباب الذى يليه إلا ضربت عنقه.
قال مالك بن دينار: ربّما سمعت الحجّاج يذكر ما صنع فيه أهل العراق وما صنع بهم، فيقع فى نفسى أنهم يظلمونه لبيانه وحسن تخليصه للحجج.(7/244)
وخطب الحجّاج بعد وقعة دير الجماجم «1» فقال: يا أهل العراق، إنّ الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدّم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء «2» والشّغاف «3» ، ثم أفضى الى المخاخ والأصماخ «4» ، ثم ارتفع فعشّش، ثم باض ففرّخ، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وأشعركم خلافا، واتخذتموه دليلا تتّبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤامرا «5» تستشيرونه؛ فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة؛ أو يحجزكم إسلام، أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابى بالأهواز؟ حيث رمتم المكر «6» ، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر «7» ، وظننتم أنّ الله خذل «8» دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفى، تتسلّلون لو اذا، وتنهزمون سراعا، ثم يوم الزاوية [وما يوم «9» الزاوية] ! بها كان «10» فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم، ونكوص وليّكم «11» عنكم إذ ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها(7/245)
[النوازع «1» إلى أعطانها] ؛ لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوى الشيخ على بنيه؛ حتى عظّكم «2» السلاح، وقصمتكم الرماح، ثم دير الجماجم، وما دير الجماجم! بها كانت المعارك والملاحم؛ بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويصرف الخليل عن خليله؛ يا أهل العراق، والكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والثّورة بعد الثّورات؛ إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم «3» وجبنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم؛ لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة؛ [يا أهل العراق «4» ] هل استخفّكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزّكم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع، إلا اتّبعتموه وآويتموه ونصرتموه وزكّيتموه؟ يا أهل العراق، قلّما شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر كاذب «5» إلا كنتم أتباعه وأنصاره؛ يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظ، ولم تزجركم الوقائع. ثم التفت الى أهل الشام فقال: يا أهل الشام، أنا لكم كالظّليم «6» الرامح عن فراخه «7» ، ينفى عنها المدر، ويباعد عنها الفجر، ويكنّها من المطر؛ ويحميها من الضّباب، ويحرسها من الذئاب؛ يا أهل الشام، أنتم الجنّة والرّداء، وأنتم العدّة والحذاء.
ومن مكاتباته الى المهلّب بن أبى صفرة وأجوبة المهلّب له
كتب الحجاج إليه وهو فى وجه الخوارج: أما بعد، فإنه بلغنى أنك قد أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدوّ، وإنى ولّيتك وأنا أرى مكان عبد الله(7/246)
ابن حكيم المجاشعىّ، وعبّاد بن حصين الحبطىّ، واخترتك وأنت رجل من الأزد، وأنا أقسم إن لم تلقهم فى يوم كذا أشرعت «1» إليك صدر الرمح. فأجابه المهلّب:
ورد علىّ كتابك تزعم أنى أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدوّ لعجز؛ وزعمت أنك ولّيتنى وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم وعبّاد بن حصين، ولو ولّيتهما لكانا مستحقّين لذلك فى فضلهما وغنائهما؛ وأنك اخترتنى وأنا رجل من الأزد، ولعمرى إنّ شرّا من الأزد لقبيلة تنازعها ثلاث قبائل لم تستقرّ فى واحدة منهنّ؛ وزعمت أنّى إن لم ألقهم فى يوم كذا أشرعت إلىّ صدر الرمح، فلو فعلت لقلبت إليك ظهر المجنّ «2» .
ووجّه إليه الحجّاج يستبطه فى مناجزة القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل، وتحصّنت بالخنادق، وطاولت القوم وأنت أعزّ ناصرا وأكثر عددا، وما أظنّ بك مع هذا معصية ولا جبنا، ولكنك اتخذتهم أكلا، ولإبقاؤهم أيسر عليك من قتالهم، فناجزهم وإلّا أنكرتنى، والسلام.
فقال المهلّب للجرّاح: يا أبا عقبة، والله ما تركت حيلة إلّا احتلتها، ولا مكيدة إلّا عملتها، وليس «3» العجب من إبطاء النصر، وتراخى الظّفر، ولكن العجب أن يكون الرأى لمن يملكه دون من يبصره «4» ؛ ثم ناهضهم ثلاثة أيّام يغاديهم، ولا يزالون كذلك الى العصر حتى قال الجرّاح: قد اعتذرت؛ وكتب الى الحجّاج: أتانى كتابك(7/247)
يستبطئ لقاء القوم، على أنك لا تظنّ بى معصية ولا جبنا، وقد عاتبتنى معاتبة الجبان، وأوعدتنى وعيد العاصى، فسل الجرّاح والسلام. فكتب إليه الحجّاج:
أما بعد، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلى ويرجعون بعذرك، وذاك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح وتنسى القتلى «1» ، ويجمّ الناس، ثم تلقاهم فتحمل منهم مثل ما يحملون منك من وحشة القتل وألم الجراح، ولو كنت تلقاهم بذلك الجدّ لكان الداء قد حسم، والقرن قد قصم، ولعمرى ما أنت والقوم سواء، لأنّ من ورائك رجالا، وأمامك أموالا، وليس للقوم إلّا ما معهم، ولا يدرك الوجيف بالدّبيب، ولا الظّفر بالتعذير «2» .
فكتب إليه المهلّب: أمّا بعد، فإنى لم أعط رسلك على قول الحق أجرا، ولم أحتج منهم مع المشاهدة الى تلقين؛ وذكرت أنّى أجمّ القوم، ولا بدّ من راحة يستريح فيها الغالب ويحتال المغلوب؛ وذكرت أن فى الإجمام «3» ما ينسى القتلى، ويبرئ الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم، يأبى ذلك قتل من لم يجن، وقروح لم تتقرّف «4» ؛ ونحن والقوم على حالة، وهم يرقبون حالات، إن طمعوا حاربوا، وإن ملّوا وقفوا، ونطلب اذا هربوا، فإن تركتنى فالداء «5» بإذن الله محسوم، وإن أعجلتنى لم أطعك ولم أعص، وجعلت وجهى الى بابك، وأنا أعوذ بالله من سخط الله ومقت الناس.(7/248)
وقال المهلّب لبنيه: يا بنىّ تباذلوا «1» تحابّوا، فإن بنى الأمّ يختلفون، فكيف بنى العلّات «2» ؛ إنّ البرّ ينسأ فى الأجل، ويزيد فى العدد، وإنّ القطيعة تورث القلّة، وتعقب النار بعد الذّلّة؛ واتقوا زلّة اللسان، فإنّ الرجل تزلّ رجله فينتعش، ويزلّ لسانه فيهلك؛ وعليكم فى الحرب بالمكيدة، فإنّها أبلغ من النّجدة.
ولمّا استخلف ابنه المغيرة على حرب الخوارج، وعاد هو الى عند «3» مصعب ابن الزّبير، جمع الناس فقال لهم: إنى قد استخلفت عليكم المغيرة، وهو أبو صغيركم رقّة ورحمة، وابن كبيركم طاعة وتبجيلا وبرّا، وأخو مثله مواساة ومناصحة، فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم، فو الله ما أردت صوابا قطّ إلا سبقنى إليه.
وخطب عبد الملك بن مروان،
فلما بلغ الغلظة قام إليه رجل من آل صوحان فقال: مهلا مهلا يا بنى مروان، تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنهون، وتعظون ولا تتعظون؛ أفنقتدى بسيرتكم فى أنفسكم، أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم:
اقتدوا بسيرتنا، فأنّى وكيف، وما الحجّة، وما المصير من الله؟ أنقتدى بسيرة الظّلمة الفسقة الجورة الخونة، الذين اتخذوا مال الله دولا، وعبيده خولا؟ وإن قلتم:
اسمعوا نصيحتنا، وأطيعوا أمرنا، فكيف ينصح لغيره من يغشّ نفسه؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عند الله عدالته؟ وإن قلتم: خذوا الحكمة من حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممّن سمعتموها، فعلام وليّناكم أمرنا، وحكّمناكم فى دمائنا وأموالنا؟ أما علمتم أنّ فينا من هو أنطق منكم باللغات، وأفصح بالعظات؟(7/249)
فتخلّوا عنها، وأطلقوا عقالها، وخلّوا سبيلها، ينتدب إليها آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين شرّدتموهم فى البلاد، ومزّقتموهم فى كل واد، بل تثبت فى أيديكم لانقضاء المدّة، وبلوغ المهلة، وعظم المحنة؛ إنّ لكلّ قائم قدرا «1» لا يعدوه، ويوما لا يخطوه، وكتابا بعده يتلوه، «لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها» «وسيعلم الّذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون» . ثم التمس الرجل فلم يوجد.
ومن كلام قطرىّ بن الفجاءة-
وكان من البلغاء الأبطال، فمن ذلك خطبته المشهورة التى قال فيها:
أما بعد، فإنى أحذّركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وحليت بالآمال، وتزيّنت بالغرور؛ لا تقوم «2» نضرتها، ولا تؤمن فجيعتها؛ غرّارة ضرّارة، وحائلة زائلة، ونافدة بائدة «3» ، أكّالة غوّالة؛ لا تعدو اذا تناهت الى أمنيّة أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً
مع أن امرا لم يكن معها «4» فى حبرة (أى السرور) ، إلا أعقبته بعدها حسرة، ولم يلق من سرّائها بطنا إلا منحته من ضرّائها ظهرا، ولم تصله «5» غيثة رخاء، إلّا هطلت عليه مزنة بلاء؛ وحريّة اذا أصبحت له منتصرة، أن(7/250)
تمسى [له «1» ] خاذلة متنكّره؛ وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمرّ عليه منها جانب وأوبا «2» ، فإن أتت امرأ من غصونها «3» ورقا أرهقته من نوائبها تعبا، ولم يمس منها امرؤ فى جناح أمن إلا أصبح منها «4» فى قوادم خوف، غرّارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها؛ لا خير من شىء من زادها إلا التقوى، من أقلّ منها استكثر مما يؤمّنه ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه، ويبكى عينه؛ كم واثق بها قد فجعته، وذى حلم تنبّه إليها قد صرعته، وذى احتيال فيها قد خدعته؛ وكم ذى أبّهة فيها قد صيّرته حقيرا، وذى نحوة قد ردّته ذليلا، ومن «5» ذى تاج قد كبّته لليدين والفم؛ سلطانها دول، وعيشها رنق (أى الماء الكدر) وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها «6» رمام، وقطافها «7» سلع؛ حيّها بعرض موت، وصحيحها «8» بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام؛ وملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب وجارها محروب؛ مع أنّ وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطّلع، والوقوف بين يدى الحكم العدل «ليجزى الّذين أساؤا بما عملوا ويجزى الّذين أحسنوا بالحسنى»(7/251)
ألستم فى مساكن من كان قبلكم أطول منكم أعمارا، وأوضح منكم آثارا؛ وأعد عديدا، وأكثف جنودا، وأشدّ عقودا، تعبّدوا «1» للدنيا أىّ تعبّد، وآثروها أىّ إيثار، وظعنوا «2» بالكره والصّغار، فهل بلغكم أنّ الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب «3» ؟ بل قد أرهقتهم بالفوادح، وضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالفجائع؛ وقد رأيتم تنكّرها لمن رادها وآثرها وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد، الى آخر المسند «4» ؛ هل زوّدتهم إلا السّغب، وأحلّتهم إلا الضّنك، أو نوّرت لهم إلا الظّلمة، أو أعقبتهم إلّا الندامة؟ أفهذه تؤثرون، أم على هذه تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ
فبئست الدار لمن أقام فيها، فاعلموا إذ أنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بدّ، فإنما هى كما وصفها الله باللعب واللهو، وقد قال الله [تعالى] : أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ.
وذكر الذين قالوا: من أشد منا قوّة ثم قال: لموا الى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا فلا يرعون «5» ضيفانا، وجعل الله لهم من الضريح أكنانا «6» ، ومن الوحشة ألوانا، ومن الرّفات جيرانا «7» ؛ وهم فى جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، إن(7/252)
أخصبوا «1» لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا؛ [جمع «2» ] وهم آحاد، جيرة وهم أبعاد؛ متناءون «3» ، لا يزورون ولا يزارون؛ حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم؛ لا يرجى نفعهم، ولا يخشى دفعهم؛ وكما قال الله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ
فاستبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسّعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنّور ظلمة، ففارقوها كما دخلوها، حفاة عراة فرادى، غير أن ظعنوا بأعمالهم الى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد، يقول الله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ
فاحذروا ما حدّركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإيّاكم بطاعته، ورزقنا وإيّاكم أداء حقّه.
ومن كلام أبى مسلم الخراسانى صاحب الدولة «4» ،
قيل له: ما كان سبب خروج الدولة عن بنى أميّة؟ فقال: لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألّفا لهم، فلم يصر العدوّ بالدّنوّ صديقا، وصار الصديق بالبعاد عدوّا.
وقيل له فى حداثته: إنا نراك تأرق كثيرا ولا تنام، كأنك موكّل برعى الكواكب، أو متوقع الوحى فى «5» السماء، فقال: والله ما هو ذاك، ولكن لى رأى جوّال، وغريزة(7/253)
تامّة، وذهن صاف، وهمّة بعيدة، ونفس تتوق الى معالى الأمور، مع عيش كعيش الهمج والرّعاع، وحال متناهية من الاتّضاع، وإنى لأرى بعض هذا مصيبة لا تجبر بسهر، ولا تتلافى بأرق؛ قيل له: فما الذى يبرد غليلك، ويشفى إجاج «1» صدرك؟
قال: الظّفر بالملك؛ قيل له: فاطلب؛ قال: إن الملك لا يدرك إلا بركوب الأهوال؛ قيل: فاركب الأهوال؛ قال: هيهات، العقل مانع من ركوب الأهوال؛ قيل: فما تصنع وأنت تبلى حسرة، وتذوب كمدا؟ قال: سأجعل من عقلى بعضه جهلا، وأحاول به خطرا، لأنال بالجهل ما لا ينال إلّا به، وأدبّر بالعقل ما لا يحفظ إلا بقوّته، وأعيش عيشا يبين مكان حياتى فيه من مكان موتى عليه، فإن الخمول أخو العدم، والشهرة أبو الكون.
وكتب إليه عبد الحميد بن يحيى كتابا عن مروان بن محمد، وقال لمروان:
قد كتبت كتابا إن نجع فذاك، وإلّا فالهلاك، وكان لكبر حجمه يحمل على جمل، نفث فيه حواشى صدره، وضمّنه غرائب عجره وبجره «2» ، فلمّا ورد على أبى مسلم دعا بنار فطرحه فيها إلّا قدر ذراع فإنه كتب عليه:
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... ليوث الوغى يقدمن من كلّ جانب
فإن يقدموا نعمل سيوفا شحيذة ... يهون عليها العتب من كلّ عاتب
وردّه، فأيس الناس من معالجته.
وقيل: إنه شجر بينه وبين صاحب مرو كلام أربى فيه صاحب مرو عليه، فاحتمله أبو مسلم وقال: مه، لسان سبق، ووهم أخطأ، والغضب شيطان،(7/254)
وأنا جرّأتك علىّ باحتمالك، فإن كنت للذنب متعمّدا فقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوبا فالعفو يسعك؛ فقال له صاحب مرو: عظم ذنبى يمنع قلبى من الهدوء؛ فقال ابو مسلم: يا عجبا، أقابلك بإحسان وأنت تسىء، ثم أقابلك بإساءة وأنت تحسن! فقال صاحب مرو: الآن وثقت بعفوك.
ومن كلام جماعة من أمراء الدولتين
خطب يوسف بن عمر فقال: اتقوا الله عباد الله، فكم من مؤمّل أملا لا يبلغه، وجامع مالا لا يأكله، ومانع ما سوف يتركه؛ ولعلّه من باطل جمعه، ومن حقّ منعه؛ أصابه حراما، وورّثه عدوّا؛ واحتمل إصره، وباء بوزره، وورد على ربّه آسفا لاهفا «خسر الدّنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين» .
وقام خالد بن عبد الله القسرىّ «1» على المنبر خطيبا،
فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: أيها الناس، نافسوا فى المكارم، وسارعوا الى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل ذمّا، ولا تعتدّوا «2» بالمعروف ما لم تعجّلوه، ومهما يكن لأحدكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء، وأجزل عليها عطاء؛ واعلموا أنّ حوائج الناس إليكم نعمة من الله عليكم؛ فلا تملّوا النعم فتحوّل نقما؛ واعلموا أنّ أفضل المال ما أكسب أجرا، وأورث ذكرا؛ ولو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسرّ الناظرين، ولو رأيتم البخل رجلا رأيتموه مشوّها قبيحا، تنفر عنه القلوب، وتغضّ عنه الأبصار؛ أيها الناس، إنّ أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوا من عفا عن(7/255)
قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته؛ والأصول عن مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو؛ أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.
قيل لما ولى أبو بكر بن عبد الله «1» المدينة وطال مكثه عليها
كان يبلغه عن قوم من أهلها أنهم ينالون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسعاف من آخرين لهم على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس فى يوم جمعة أن يقربوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجمعة قال: أيها الناس، إنى قائل قولا، فمن وعاه وأدّاه فعلى الله جزاؤه، ومن لم يعه فلا يعدو «2» من ذمامها، إن قصرتم عن تفصيله «3» ، فلن تعجزوا عن تحصيله، فأرعوه أبصاركم، وأوعوه أسماعكم، وأشعروه قلوبكم؛ فالموعظة حياة، والمؤمنون إخوة «وعلى الله قصد السّبيل» «ولو شاء لهداكم أجمعين» فأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغى ترشدوا، «وتوبوا إلى الله جميعا أيّه المؤمنون لعلّكم تفلحون» والله جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، أمركم بالجماعة ورضيها لكم، ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم، ف «اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها» جعلنا الله وإيّاكم ممّن تبع رضوانه، وتجنب سخطه، فإنما نحن به وله؛ وإنّ الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالدّين، واختاره على العالمين، واختار له أصحابا على(7/256)
الحقّ، ووزراء دون الخلق، اختصّهم به، وانتخبهم له، فصدّقوه ونصروه، وعزّروه ووقّروه، فلم يقدموا إلّا بأمره، ولم يحجموا إلّا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم فأحسن صفتهم، وذكرهم فأثنى عليهم، فقال- وقوله الحقّ-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
الى قوله: مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً*
فمن غاظوه «1» كفر وخاب، وفجر وخسر، وقال الله عزّ وجلّ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً
الى قوله: رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ
فمن خالف شريطة الله عليه لهم، وأمره إيّاه فيهم، فلا حقّ له فى الفىء، ولا سهم له فى الإسلام فى آى كثيرة من القرآن؛ فمرقت مارقة من الدّين، وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عضين «2» ؛ وتشعّبوا أحزابا، أشابات وأوشابا «3» ؛ فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءه عليهم، وآذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم، فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ*
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ
؛ ما لى أرى عيونا خزرا «4» ، ورقابا صعرا، وبطونا بجرا «5» ؟ شجى لا يسيغه الماء، وداء لا يشرب فيه الدواء؛ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ
كلّا والله، بل هو(7/257)
الهناء «1» والطّلاء حتى يظهر العذر «2» ، ويبوح السرّ، ويضح الغيب، ويسوّس «3» الجنب؛ فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى؛ ويحكم، إنى لست أتاويّا «4» أعلم، ولا بدويّا أفهّم؛ قد حلبتكم أشطرا، وقلبتكم أبطنا وأظهرا؛ فعرفت أنحاءكم وأهواءكم، وعلمت أنّ قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسرّوا الكفر فى قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [ببعض «5» ] ، وولّدوا الروايات فيهم، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانا يأذنون لهم، ويصغون إليهم؛ مهلا مهلا قبل وقوع القوارع، وطول الروائع، هذا لهذا ومع هذا «6» ، فلست أعتنش «7» آئبا ولا تائبا، عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ
فأسروا خيرا وأظهروه، واجهروا به وأخلصوا، فطالما مشيتم القهقرى ناكصين، وليعلم من أدبر وأصرّ أنها موعظة بين يدى نقمة؛ ولست أدعوكم الى أهواء تتبع، ولا الى رأى يبتدع؛ إنما أدعوكم إلى الطريقة المثلى، التى فيها خير الآخرة والأولى؛ فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمى فعن قصده؛ فهلمّ إلى الشرائع الجدائع «8» ، ولا تولّوا عن سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا الذى هو أدنى بالذى هو خير،(7/258)
«بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا»
إيّاكم وبنيّات «1» الطريق، فعندها الترنيق والرّهق «2» ، وعليكم بالجادّة، فهى أسدّ وأورد، ودعوا الأمانىّ فقد أردت من كان قبلكم، وليس للإنسان إلا ما سعى، ولله الآخرة والأولى، و «لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى» رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
هذا ما اتفق إيراده من رسائل وخطب بلغاء الصحابة- رضى الله عنهم- وكلام التابعين وغيرهم مما يحتاج الكاتب الى حفظه.
وأما رسائل المتقدّمين والمعاصرين التى يحتاج الى النظر اليها دون حفظها- فهى كثيرة جدا، سنورد من جيّدها ما تقف عليه إن شاء الله.
ذكر شىء من رسائل وفصول الكتاب والبلغاء المتقدّمين والمتأخّرين والمعاصرين من المشارقة والمغاربة
وهذه الرسائل والفصول كثيرة جدّا، وقد قدّمنا منها فيما مرّ من كتابنا هذا ما حلا ذكره، وفاح نشره؛ وأنس به سامعه، وأيس من الإتيان بمثله صانعه، وأوردنا فى كل باب وفصل منه ما يناسبه، وسنورد إن شاء الله فى فنّى الحيوان والنبات عند ذكر كلّ حيوان أو نبات يستحقّ الوصف ما سمعناه وطالعناه من وصفه نظما ونثرا، مع ما يندرج فى فنّ التاريخ من الرسائل والفصول والأجوبة والمحاورات(7/259)
عند ذكر الوقائع، وإنما نورده ثمّ وإن كان هذا موضعه ليكون الكلام فيه سياقة، وترد الوقائع يتلو بعضها بعضا، فلا ينقطع الكلام على ما تقف إن شاء الله تعالى عليه فى مواضعه، فلنورد فى هذا الموضع ما هو خارج عن ذلك النّمط من كلامهم، ولنبدأ بذكر شىء من المكاتبات البليغة الموجزة؛ من ذلك ما كتب به عبد الحميد بن يحيى بالوصاة على إنسان فقال: حقّ موصل هذا الكتاب عليك كحقّه علىّ إذ رآك موضعا لأمله، ورآنى أهلا لحاجته، وقد أنجزت حاجته، فحقّق أمله.
ومنه ما حكى أن المأمون قال لعمرو بن مسعدة: اكتب الى فلان كتاب عناية بفلان فى سطر واحد، فكتب: هذا كتاب واثق بمن كتب اليه، معتن بمن كتب له «1» ، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله.
وكتب عمرو بن مسعدة الى المأمون يستعطفه على الجند: كتابى الى أمير المؤمنين ومن قبلى من أجناده وقوّاده فى الطاعة على أفضل ما تكون عليه طاعة جند تأخّرت أرزاقهم، واختلّت أحوالهم. فأمر بإعطائهم رزق ثمانية أشهر.
وكتب أحمد بن يوسف الى المأمون يذكّره بمن على بابه من الوفود فقال:
إنّ داعى نداك، ومنادى جدواك، جمعا ببابك الوفود، يرجون نائلك العتيد؛ فمنهم من يمتّ بحرمة، ومنهم من يدلى»
بخدمة؛ وقد أجحف بهم المقام، وطالت عليهم الأيام؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعشهم بسيبه «3» ، ويحتوش ظنونهم بطوله فعل.
فوقّع المأمون فى كتابه: الخير متّبع، وأبواب الملوك مواطن لذوى الحاجات،(7/260)
فأحص أسماءهم، واجل موائنهم «1» ، ليصير الى كلّ امرئ منهم قدر استحقاقه، ولا تكدّر معروفا بالمطل والحجاب، فإنّ الأوّل يقول:
فإنك لن ترى طردا لحرّ ... كإلصاق به طرف الهوان
ولم يجلب مودّة ذى وفاء ... كمثل البذل أو بسط اللسان.
وكتب محمد «2» إلى يحيى بن هرمة «3» - وكان عامله على أصفهان، وقد تظلّم منه أهلها-: يا يحيى «4» ، قد كثر شاكوك، وقلّ شاكروك؛ فإمّا عدلت، وإمّا اعتزلت.
وكتب أبو بكر الخوارزمىّ جوابا عن هديّة: وصلت التّحفة، ولم يكن لها عيب إلّا أنّ باذلها «5» مسرف فى البرّ، وقابلها مقتصد فى الشكر؛ والسّرف مذموم إلّا فى المجد، والاقتصاد محمود إلّا فى الشكر والحمد.
وكتب ملك الروم إلى المعتصم يتوعّده ويتهدّده، فأمر الكتّاب أن يكتبوا جوابه، فكتبوا فلم يعجبه مما كتبوا شىء، فقال لبعضهم: اكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم،(7/261)
أمّا بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، «وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ «1» لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» .
ومن كلام بديع الزّمان أبى الفضل أحمد بن الحسين الهمذانىّ-
قيل: ذكر الهمذانىّ فى مجلس أبى الحسين بن فارس فقال ما معناه: إنّ البديع قد نسى حقّ تعليمنا إيّاه، وعقّنا وشمخ بأنفه عنّا، فالحمد لله على فساد الزمان، وتغيّر نوع الإنسان؛ فبلغ ذلك البديع، فكتب الى أبى الحسين:
نعم أطال الله بقاء الشيخ الإمام، إنّه «2» الحمأ المسنون، وإن ظنّت الظنون؛ والناس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم؛ وارتبكت «3» الأضداد، واختلط الميلاد؛ والشيخ يقول: فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحا؟ أفى الدّولة العبّاسيّة وقد رأينا آخرها وسمعنا أوّلها؛ أم المدّة المروانيّة وفى أخبارها «لا تكسع الشّول بأغبارها «4» » ؛ أم السنين الحربيّة «5»(7/262)
والسيف يعمل «1» فى الطّلى ... والرّمح يركز فى الكلى ومبيت حجر «2» فى الفلا
والحرّتان «3» وكربلا «4»
أم البيعة الهاشميّة [وعلىّ يقول «5» : ليت] العشرة [منكم «6» ] براس، من بنى فراس؛ أم الأيّام الأمويّة «7» والنّفير إلى الحجاز، [والعيون إلى «8» الأعجاز] ؛ أم الإمارة العدويّة «9» وصاحبها يقول: هلمّوا «10» إلى النزول؛ أم الخلافة التّيميّة «11» وهو «12» يقول: طوبى لمن(7/263)
مات فى نأنأة «1» الإسلام؛ [أم «2» ] على عهد الرسالة ويوم الفتح قيل: اسكنى «3» يا فلانة، فقد ذهبت الأمانة؛ أم فى الجاهليّة ولبيد يقول:
[وبقيت «4» فى خلف «5» كجلد الأجرب
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول] :
بلاد بها كنا وكنا نحبّها ... إذ الناس ناس والزمان زمان
أم قبل ذلك ويروى لآدم عليه السلام:
تغيّرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
أم قبل ذلك والملائكة تقول لبارئها: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ
ما فسد الناس، ولكن اطّرد القياس؛ ولا أظلمت الأيام، إنما امتدّ الإظلام؛ وهل يفسد الشىء إلّا عن صلاح؛ ويمسى المرء إلّا عن صباح؟
ولعمرى إن كان كرم العهد كتابا يرد، وجوابا يصدر، إنّه لقريب المنال، وإنّى على توبيخه لى لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، منتسب إلى ولائه، شاكر لالائه.
وكتب بديع الزمان يستعطفه: إنّى خدمت مولاى، والخدمة رقّ بغير إشهاد، وناصحته، والمناصحة للودّ أوثق عماد؛ ونادمته، والمنادمة رضاع ثان؛ وطاعمته، والمطاعمة [نسب «6» ] دان، وسافرت معه، والسّفر والأخوّة رضيعا لبان، وقمت بين(7/264)
يديه، والقيام والصلاة شريكا عنان «1» ؛ وأثنيت عليه، والثناء عند الله بمكان؛ وأخلصت له، والإخلاص مشكور بكلّ لسان.
ومن كلام أبى الفضل محمد بن الحسين بن العميد
- وكان وزيرا كاتبا- كتب عن ركن الدّولة بن بويه كتابا لمن عصى عليه:
كتابى وأنا مترجّح بين طمع فيك، وإياس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك»
؛ فإنك تدلى بسابق خدمة، وتمتّ بسالف حرمة؛ أيسرها يوجب رعاية، ويقتضى محافظة وعناية؛ ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية؛ وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويمحق كلّ ما يرعى لك؛ لا جرم أنّى وقفت بين ميل إليك، وميل عليك؛ أقدّم رجلا لصمدك «3» ، [وأؤخّر «4» ] أخرى عن قصدك؛ وأبسط يدا لاصطلامك واجتياحك، وأثنى ثانية نحو «5» استبقائك واستصلاحك؛ وأتوقّف عن امتثال بعض المأمور فيك ضنا بالنعمة عندك، ومنافسة فى الصّنيعة لديك؛ وتأميلا [لفيئتك «6» ] وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك؛ فقد يعزب العقل ثم يؤوب، ويغرب اللّبّ ثم يثوب، ويذهب العزم ثم يعود، ويفسد الحزم ثم يصلح، ويضاع الرأى ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثمّ يصفو؛ وكلّ ضيقة فإلى رخاء، وكلّ غمرة فإلى انجلاء؛ وكما أنك أتيت من إساءتك ما لم تحتسبه أولياؤك، فلا تدع «7» أن تأتى من إحسانك ما لم ترتقبه أعداؤك؛ وكما(7/265)
استمرّت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت، فلا عجب أن تنتبه انتباهة تبصر فيها قبيح ما صنعت، وسوء ما آثرت؛ وسأقيم على رسمى فى الإبقاء والمماطلة ما صلح، وعلى الاستيناء والمطاولة ما أمكن، طمعا فى إنابتك، وتحكيما «1» لحسن الظنّ بك؛ فلست أعدم فيما أظاهره من إعذارك، وأرادفه من إنذارك، احتجاجا عليك، واستدراجا لك؛ وإن يشإ الله يرشدك، ويأخذ بك الى حظّك ويسدّدك؛ فإنه على كلّ شىء قدير.
وفى فصل منه: وزعمت أنك فى طرف من الطاعة بعد أن كنت متوسّطها، وإن كنت كذلك فقد عرفت حالتيها، وحلبت شطريها، فناشدتك الله لما صدقت عما أسألك: كيف وجدت ما زلت عنه، وتجد ما صرت إليه؟ ألم تكن من الأوّل فى ظلّ ظليل، ونسيم عليل، وريح بليل؛ وهواء ندىّ «2» ، وماء روىّ، ومهاد وطىّ؛ وكنّ كنين، ومكان مكين، وحصن حصين؛ يقيك المتالف، ويؤمنك «3» المخاوف؛ ويكنفك من نوائب الزمان، ويحفظك من طوارق الحدثان؛ عززت «4» به بعد الذّلّة، وكثرت بعد القلّة؛ وارتفعت بعد الضّعة، وأيسرت بعد العسر، وأثريت بعد المتربة، واتّسعت بعد الضيق، وأطافت «5» بك الولايات، وخفقت فوقك الرايات؛ ووطئ عقبك الرجال، وتعلّقت بك الآمال؛ وصرت تكاثر ويكاثر بك، وتشير ويشار اليك؛(7/266)
ويذكر على المنابر اسمك، وفى المحاضر ذكرك؛ ففيم أنت الآن من الأمر؟ وما العوض مما ذكرت وعددت، والخلف عمّا وصفت؟ وما استفدت حين أخرجت من الطاعة نفسك، ونفضت منها كفّك، وغمست فى خلافها يدك؟ وما الذى أظلّك بعد انحسار ظلّها عنك؟ أظلّ ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغنى من الّلهب؟
قل: نعم، فذاك والله أكنف ظلالك فى العاجلة، وأروحها فى الآجلة؛ إن أقمت على المحادّة والعنود «1» ، ووقفت على المشاقّة والجحود.
ومنه: تأمّل حالك وقد بلغت هذا الفصل من كلامى فستنكرها «2» ، والمس جسدك فانظر هل يحسّ، واجسس عرقك هل ينبض، وفتّش ما حنى عليه اضلاعك هل تجد فى عرضها قلبك؟ وهل حلا بصدرك أن تظفر بفوت مزيح «3» أو موت مريح؟ ثمّ قس غائب أمرك بشاهده، وآخر شأنك بأوّله.
وكتب الصاحب أبو القاسم كافى الكفاة فى وصف كتاب:
ومن هو الذى لا يحبّه وهو علم الفضل، وواسطة الدهر؛ وقرارة الأدب والعلم، ومجمع الدّراية والفهم؛ أمن يرغب عن مكاثرة بمن «4» ينسب الربيع الى خلقه، ويكتسب محاسنه من طبعه، ويتوشّح بأنواره، ويتوضّح بآثار لسانه ويده؟ وصل كتابه، فارتحت لعنوانه قبل عيانه، حتى اذا فضضت ختامه أقبلت الفقر تتكاثر، والدّرر تتناثر؛ والغرر تتراكم، والنّكت تتزاحم؛ فإذا حكمت للفظة بالسّبق أتت أختها تتنافس «5» ،(7/267)
واقبلت لديها تتفاخر؛ حتى استعفيت من الحكومة، ونفضت يدى من غبار الخصومة؛ وأخذت أقول: كلّكنّ صوادر عن أصل واحد فتسالمن، وأرفاد عن معدن رافد «1» فتصالحن، وقد ولّيت النظر بينهما من كمل لنسج برودهما، ووفّى بنظم عقودهما؛ على أننى يا مولاى أنشأت هذه الأحرف وحولى أعمال وأشغال لا يسلم معهما فكر، ولا يسلم بينهما طبع؛ وتناولت قلما كالابن العاقّ، بل العدوّ المشاقّ؛ اذا أردته استقال، واذا قوّمته مال؛ واذا حثثته وقف، واذا وقفته انحرف؛ أحدل «2» الشّقّ؛ متفاوت البرى، معدوم الجرى؛ محرّف القطّ، مثبّج «3» الخطّ؛ ثم رأيت العدول عنه ضربا من الانقياد لأمره، والانخراط فى سلكه، فجهدته على رغمه، وكددته على صعره؛ لا جرم أنّ جناية اللّجاج بادية على صفحات الحروف لا تخفى، وعادية المحك «4» لائحة على وجوه السطور تتجلّى.
وكتب: والله يعلم أنى أخبرت بورود كتابه واستفزّنى الفرح قبل رؤيته، وهزّ عطفى المرح أمام مشاهدته؛ فما أدرى، أسمعت بورود كتاب، أم ظفرت برجوع شباب؟ ثم وصل بعد انتظار له شديد، وتطلّع الى وصوله طويل عريض؛ فتأمّلته فلم أدر ما تأمّلت، أخطّا مسطورا، أم روضا ممطورا، أم كلاما منثورا، أم وشيا منشورا؟ ولم أدر ما أبصرت فى أثنائه، أأبيات شعر، أم عقود درّ؟ ولم أدر ما جملته، أغيث حلّ بوادى ظمآن، أم غوث سبق إلى لهفان؟.
وكتب: وصل كتاب القاضى فأعظمت قدر النعمة فى مطلعه، وأجللت محلّ الموهبة بموقعه؛ وفضضته عن السحر حلالا، والماء زلالا؛ وسرّحت الطّرف منه(7/268)
فى رياض رقّت حواشيها، وحلل تأنق واشيها؛ فلم أتجاوز فصلا إلّا إلى أخطر «1» منه فضلا، ولم أتخطّ «2» سطرا إلا الى أحسن منه نظما ونثرا.
وكتب أيضا: وصل كتابك فجعلت وصوله عيدا أؤرّخ به أيّام بهجتى، وأفتتح به مواقيت غبطتى؛ وعرفت من خبر سلامتك ما سألت الله الكريم أن يصله بالدوام، ويرفعه على أيدى الأيام.
وكتب أيضا: وصل كتابه- أيّده الله- يضحك عن أخلاقه الأرجة، ويتهلّل عن عشرته العطرة؛ ويخبر عن عافية الله لمن «3» رأيت شمل الحرّيّة به منتظما، وشعب المروءة له ملتئما؛ ويحمل من أنواع برّه ما أقصر عن ذكره، ولا أطمع فى شكره؛ ويؤدّى من لطيف اعتذاره فى أثناء عتبه، ما تزداد أسباب المودّة تمهيدا به؛ وفهمته، ورغبت إلى الله بأخلص طويّة، وأمحض نيّة «4» .
وقال أبو الفرج الببغاء من رسالة إلى عدّة الدّولة أبى تغلب
جاء منها: أصحّ دلائل الإقبال، وأصدق براهين السعادة- أطال الله بقاء سيّدنا- ما شهدت العقول بصحّته، ونطقت البصائر بحقيقته، ونعمة الله على الدّنيا والدّين بما أولاهما من اختيار سيّدنا لحراستهما بناظر فضله، وسترهما بظلّ عدله؛ مفصحة بتكامل الإقبال، مبشّرة بتصديق الامال
محروسة ضمن الشكر الوفىّ لها ... على الزيادة نيل السّؤل والدّرك(7/269)
تحقّق العصر أنّ الملك منذ نشا ... له أبو تغلب اسم غير مشترك
واستخلف الفلك الدوّار همّته ... فلوونى أغنت الدنيا عن الفلك
مأمون الهفوات، متناصر «1» الصفات؛ ربعىّ «2» النّفاسة، حمدانىّ السياسة، ناصرىّ الرياسة؛ عطاردى الذّكاء، موفّق الآراء؛ شمسىّ التأثير، قمرىّ التصوير، فلكىّ التدبير؛ للصّدق كلامه، وللعدل أحكامه، وللوفاء ذمامه؛ وللحسام غناؤه، وللقدر مضاؤه، وللسحاب عطاؤه
دعوته فأجابتنى مكارمه ... ولو دعوت سوى نعماه لم تجب
وجدته الغيث مشغوفا «3» بعادته ... والروض يحيا بما فى عادة السّحب
لوفاته النسب الوضّاح كان له ... من فضله نسب يغنى عن النسب
إذا دعته ملوك الأرض سيّدها ... طرّا دعته المعالى سيّد العرب.
وكتب أبو الحسن «4» علىّ بن القاسم القاشانىّ:
ما أرتضى نفسى لمخاطبة مولاى إذا كنت منفىّ الشواغل، فارغ الخواطر، مخلى الجوارح، مطلق الإسار، سليم الأفكار، فكيف مع كلال الحدّة، وانغلاق الفهم، واستبهام القريحة، واستعجام الطبيعة؛ والمعوّل على النيّة، وهى لمولاى بظهر الغيب مكشوفة، والمرجع إلى العقيدة، وهى بالولاء المحض معروفة؛ ولا مجال للعتب عن هذه الأحوال، للعذر وراء هذه الخلال.(7/270)
وقال محمد بن العباس الخوارزمىّ:
الحمد لله الذى جعل الشيخ يضرب فى المحاسن بالقدح المعلّى، ويسمو منها إلى الشرف الأعلى، ولم يجعل فيه موضعا للولا، ولا مجالا لإلّا؛ فإن الاستثناء إذا اعترض فى المدح انصب ماؤه، وكدّر صفاؤه، وانطلق فيه حسّاده وأعداؤه؛ ولذلك قالوا: ما أحسن الظّبى لولا خنس «1» أنفه! وما أحسن البدر لولا كلف وجهه! وما أطيب الخمر لولا الخمار! وما أشرف الجود لولا الإقتار! وما أحمد مغبة الصبر لولا فناء العمر! وما أطيب الدنيا لو دامت
ما أعلم الناس أنّ الجود مكسبة ... للحمد لكنّه يأتى على النّشب.
ذكر شىء من رسائل فضلاء المغاربة ووزرائهم وكتابهم ممن ذكرهم ابن بسام فى كتابه المترجم بالذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة
منهم ذو الوزارتين أبو الوليد بن زيدون،
فمن كلامه رسالة كتبها على لسان محبوبته ولّادة بنت محمد بن عبد الرحمن الناصرىّ الى إنسان استمالها إلى نفسه عنه، وهى:
أما بعد، أيها المصاب بعقله، المورّط بجهله؛ البيّن سقطه، الفاحش غلطه؛ العاثر فى ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره؛ الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش فى «2» الشهاب؛ فإنّ العجب أكذب، ومعرفة المرء نفسه أصوب؛ وإنك راسلتنى مستهديا من صلتى ما صفرت منه أيدى أمثالك، متصدّيا من(7/271)
خلّتى لما قرعت فيه «1» أنوف أشكالك؛ مرسلا خليلتك مرتادة، مستعملا عشيقتك فوّادة؛ كاذبا نفسك [أنك «2» ] ستنزل عنها إلىّ، وتخلف بعدها علىّ
ولست» بأوّل ذى همّة ... دعته لما ليس بالنائل
ولا شكّ فى أنها قلتك إذ لم تضنّ بك، وملّتك إذ لم تغر عليك، فإنها أعذرت فى السّفارة لك، وما قصرت فى النيابة عنك؛ زاعمة أنّ المروءة لفظ أنت معناه، والإنسانيّة اسم أنت جسمه وهيولاه؛ قاطعة أنّك انفردت بالجمال، واستأثرت بالكمال، واستعليت فى مراتب الجلال، واستوليت «4» على محاسن الخلال؛ حتى خيّلت أنّ يوسف عليه السلام حاسنك فغضضت منه، وأنّ امرأة العزيز رأتك فسلت عنه؛ وأنّ قارون أصاب بعض ما كنزت، والنّطف «5» عثر على فضل(7/272)
ما ركزت «1» ؛ وكسرى حمل غاشيتك «2» ، وقيصر رعى ماشيتك؛ والإسكندر قتل دارا «3» فى طاعتك، وأردشير «4» جاهد ملوك الطوائف لخروجهم عن جماعتك؛ والضّحّاك «5» استدعى مسالمتك، وجذيمة «6» الأبرش تمنّى منادمتك؛ وشيرين «7» نافست بوران «8» فيك؛(7/273)
وبلقيس «1» غايرت الزّباء «2» عليك؛ وأنّ مالك «3» بن نويرة إنما ردف لك؛ وعروة «4» بن جعفر إنما رحل إليك؛ وكليب «5» بن ربيعة إنما حمى المرعى بعزّتك؛ وجسّاسا «6» إنما قتله بأنفتك؛ ومهلهلا «7» إنما طلب ثأره بهمّتك؛ والسموءل «8» إنما وفى عن عهدك،(7/274)
والأحنف «1» إنما احتبى فى بردك؛ وحاتما «2» إنما جاد بوفرك، ولقى الأضياف ببشرك؛ وزيد «3» بن مهلهل إنما ركب بفخذيك، والسّليك «4» بن السّلكة إنّما عدا على رجليك، وعامر «5» بن مالك [إنما لاعب الألسنة بيديك «6» ؛ وقيس بن زهير] إنما استعان بدهائك «7» ، وإياس «8» بن معاوية إنما استضاء بمصباح ذكائك؛ وسحبان «9» إنما تكلّم بلسانك،(7/275)
وعمر «1» بن الأهتم إنما سحر ببيانك؛ وأنّ الصلح بين بكر وتغلب «2» تمّ برسالتك، والحمالات فى دماء عبس وذبيان أسندت إلى كفالتك «3» ؛ وأن احتيال هرم «4» لعامر وعلقمة حتى رضيا كان عن رأيك؛ وجوابه لعمر وقد سأله عن أيّهما كان ينفّر «5» وقع بعد مشورتك؛(7/276)
وأنّ الحجّاج «1» تقلّد ولاية العراق بجدّك، وقتيبة «2» فتح ماوراء النهر بسعدك؛ والمهلّب «3» أو هى شوكة الأزارقة بأيدك، وأفسد ذات بينهم بكيدك؛ وأنّ هرمس «4» أعطى بلينوس ما أخذ منك، وأفلاطون «5» أورد على أرسطوطاليس ما حدّث عنك؛(7/277)
وبطلميوس «1» سوّى الأسطرلاب بتدبيرك، وصوّر الكرة على تقديرك؛ وأبقراط «2» علم العلل والأمراض بلطف حسّك، وجالينوس «3» عرف طبائع الحشائش بدقة نظرك «4» ؛ وكلاهما قلّدك فى العلاج، وسألك عن المزاج؛ واستوصفك تركيب الاعضاء، واستشارك فى الداء والدواء؛ وأنك نهجت لأبى معشر «5» طريق القضاء، وأظهرت(7/278)
جابر «1» بن حيّان على سرّ الكيمياء؛ وأعطيت النظّام «2» أصلا أدرك به الحقائق، وجعلت للكندىّ «3» رسما استخرج به الدقائق؛ وأن صناعة الألحان اختراعك، وتأليف الأوتار توليدك وابتداعك؛ وأن عبد الحميد «4» بن يحيى بارى أقلامك، وسهل «5» بن(7/279)
هارون مدوّن كلامك؛ وعمر «1» بن بحر مستمليك، ومالك «2» بن أنس مستفتيك؛ وأنك الذى أقام البراهين، ووضع القوانين؛ وحدّ الماهيّة، وبيّن الكيفيّة والكميّة؛ وناظر فى الجوهر والعرض، وبيّن الصحّة من المرض؛ وفكّ المعمّى، وفصل بين الاسم والمسمّى؛ وضرب وقسّم، وعدل وقوّم؛ وصنّف الأسماء والأفعال، وبوّب الظّرف والحال؛ وبنى وأعرب، ونفى وتعجّب؛ ووصل وقطع، وثنّى وجمع؛ وأظهر وأضمر، وابتدأ وأخبر؛ واستفهم وأهمل وقيّد، وأرسل وأسند، وبحث ونظر، وتصفّح الأديان، ورجّح بين مذهبى مانى وغيلان «3» ؛ وأشار بذبح الجعد «4» ، وقتل بشار «5»(7/280)
ابن برد؛ وأنك لو شئت خرقت العادات، وخالفت المعهودات؛ فأحلت البحار عذبة، وأعدت السّلام «1» رطبة؛ ونقلت غدا فصار أمسا، وزدت فى العناصر فكانت خمسا؛ وأنك المقول فيه: «كلّ الصيد «2» فى جوف الفرا»
و: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد «3»
والمعنىّ بقول أبى تمّام:
فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
والمراد بقول أبى الطيّب:
ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... كنت البديع الفرد من أبياتها
ف «كدمت غير «4» مكدم» ونفخت فى غير فحم؛ ولم تجد لرمح مهزّا، ولا لشفرة محزّا؛ بل رضيت من الغنيمة بالإياب، وتمنّيت الرجوع بخفىّ حنين، لأنى قلت لها:
«لقد هان من بالت عليه الثعالب «5» » وأنشدت:
على «6» أنها الأيام قد صرن كلّها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب(7/281)