بالقصار البيض إن شئت ... أو السمر الطوال
ليس بالمغبون عقلا ... مشتر عزّا بمال
إنما يدّخر المال ... لحاجات الرجال
والفتى من جعل الأقوال ... أثمان المعالى
أبو طالب المأمونىّ
يقول
لى في ضمير الدهر سرّ كامن ... لا بدّ أن تستلّه الأقدار
وقال أيضا
وما شرف الإنسان إلا بنفسه ... أكان ذووه سادة أم مواليا
وقال
اذا الغيث وفّى الروض واجب حقه ... وزاد فإن الغيث للروض ظالم
ابن العميد:
هو أبو الفضل محمد بن أبى عبد الله الحسين بن محمد* عرف بابن العميد، كان أبوه أبو عبد الله وزير مرداويج توفى ابن العميد بالرّىّ في محرّم سنة ستين وثلاثمائة يقول
لن يصرف الدهر من سجيّته ... أرب أريب وحول ذى حيل
أىّ معين صفا على كدر الدهر ... وأىّ النعيم لم يزل
وقال أيضا
من يشف من ذا بآخر مثله ... أثرت جوانحه من الأدواء
داوى جوى بجوى وليس بحازم ... من يستكفّ النار بالحلفاء(3/112)
الصاحب بن عبّاد:
هو أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد. توفى في صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وعمره خمس وستون سنة وسمىّ بالصاحب لصحبة ابن العميد يقول
بقدر الهموم تكون الهمم ... كم صارم جرّب في خنزير
وقال أيضا
لقد صدقوا والراقصات الى منى ... بأن مودّات العدا ليس تنفع
ولو أنّنى داريت دهرى حيّة ... اذا استمكنت يوما من اللسع تلسع
الحسن بن علىّ بن عبد العزيز القاضى
يقول
القلب يدرك ما لا يدرك البصر ... يتملك الأحرار بالإيناس
وقال أيضا
وما أعجبتنى قطّ دعوى عريضة ... ولو قام في تصديقها ألف شاهد!
وقال أيضا
يقولون لى فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
اذا قيل هذا مورد قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظما
وقال أيضا
وقالوا اضطرب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت ولكن مطلب الرزق ضيّق
اذا لم يكن في الأرض حرّ يعيننى ... ولم يك لى كسب فمن أين أرزق؟
أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمىّ
يقول
ومن عجب الأيام ترك التعجب
وقال أيضا
لكلّ صناعة يوما مديل(3/113)
وقال أيضا
واذا مدة الشقىّ تناهت ... جاءه من شقائه متقاضى
وقال أيضا
عليك بإظهار التجلّد للعدا ... ولا تظهرن منها الدنوّ فتحقرا
بديع الزمان أبو الفضل الهمذانىّ، أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد
توفّى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة مسموما وأوفى على الأربعين سنة يقول
يا حريصا على الغنى ... قاعدا بالمراصد!
لست في سعيك الذى ... خضت فيه بقاصد
إن دنياك هذه ... لست فيها بخالد
بعض هذا فإنما ... أنت ساع لقاعد
إسماعيل الناشىء
يقول
وللشباب نراعى حرمة الكتم
وقال أيضا
وكنت أرى أنّ التجارب عدّة ... فخانت ثقات الناس حتى التجارب
وقال أيضا
فركضا في ميادين التصابى ... أحقّ الخيل بالركض المعار
وقال أيضا
ولا تجزعنّ على أيكة ... أبت أن تظلّك أغصانها(3/114)
أبو الفتح علىّ بن محمد البستىّ
يقول
اذا مرّ بى يوما ولم أتخذ يدا ... ولم أستفذ علما فما ذاك من عمرى!
وقال أيضا
أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثمّ فيه لآخرين زكام!
وقال أيضا
لا ترج شيئا خالصا نفعه ... فالغيث لا يخلو من العيث
وقال أيضا
ولم أر مثل الشكر جنّة غارس ... ولا مثل حسن الصبر جنّة لابس
وقال أيضا
ولن يشرب السمّ الزّعاف أخو الحجى ... مدلّا بدرياق لديه مجرّب
وقال أيضا
ما استقامت قناة رأيى إلا ... بعد أن عوّج المشيب قناتى
وقال أيضا
وطول جمام الماء في مستقرّه ... يغيّره لونا وريحا ومطعما
وقال أيضا
اذا حيوان كان طعمة ضدّه ... توقّاه كالفأر الذى يتّقى الهرا
ولا شك أن المرء طعمة دهره ... فما باله يا ويحه يأمن الدهرا!
وقال أيضا
لا تحقر المرء إن رأيت به ... دمامة أو رثاثة الحلل
فالنحل لا شك في ضؤولته ... يشتار منه الفتى خيّر العسل(3/115)
الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثانى فى أوابد العرب
ومعنى الأوابد هاهنا: الدواهى؛ وهى مما حمى الله تعالى هذه الملّة الإسلاميّة منها، وحذر المؤمنين عنها. فقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ)
وقال تعالى (ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ)
وقال تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً)
وكانت للعرب أوابد جعلوها بينهم أحكاما ونسكا وضلالة وعادة ومداواة ودليلا وتفاؤلا وطيرة. فمنها:
البحيرة:
قالوا: كان أهل الوبر يعطون لآلهتهم من اللحم، وأهل المدر يعطون لها من الحرث، فكانت الناقة اذا أنتجت خمسة أبطن عمدوا الى الخامس ما لم يكن ذكرا فشقّوا أذنها، فتلك: البخيرة؛ فربما اجتمع منها هجمة من البحر فلا يجزّ لها وبر ولا يذكر عليها إن ركبت اسم الله، ولا إن حمل عليها شىء، فكانت ألبانها للرجال دون النساء.
الوصيلة:
كانت الشاة اذا وضعت سبعة أبطن عمدوا الى السابع، فإن كان ذكرا ذبح، وإن كانت أنثى تركت في الشاء، فان كان ذكرا وأنثى قيل: وصلت أخاها، فحرّما جميعا، وكانت منافعها، ولبن الأنثى منها للرجال دون النساء.(3/116)
السائبة:
كان الرجل يسيّب الشىء من ماله، إما بهيمة أو إنسانا، فتكون حراما أبدا، منافعها للرجال دون النساء.
الحامى:
كان الفحل اذا أدركت أولاده فصار ولده جدّا قالوا: حمى ظهره، اتركوه فلا يحمل عليه، ولا يركب، ولا يمنع ماء، ولا مرعى، فاذا ماتت هذه التى جعلوها لآلهتهم، اشترك في أكلها الرجال والنساء، وذلك قوله تعالى (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ)
قالوا: وكان أهل المدر والحرث اذا حرثوا حرثا، أو غرسوا غرسا، خطّوا في وسطه خطّا، فقسموه بين اثنين فقالوا: مادون هذا الخط: لآلهتهم؛ وما وراءه: لله؛ فإن سقط ممّا جعلوه لآلهتهم شىء فيما جعلوه لله وردّوه، وإن سقط مما جعلوه لله فيما جعلوه لآلهتهم أقرّوه، واذا أرسلوا الماء في الذى لآلهتهم. فانفتح في الذى سموه لله سدّوه، وإن انفتح من ذاك في هذا قالوا: اتركوه فإنه فقير اليه، فأنزل الله عزّوجلّ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) .
الأزلام:
قالوا: كانوا اذا كانت مداراة أو نكاح أو أمر يريدونه. ولا يدرون ما الامر فيه ولم يصحّ لهم أخذوا قداحا لهم فيها: أفعل ولا أفعل لا يفعل؛ نعم لا خير، شرّ بطىء سريع، فأما المداراة فإن قداحا لهم فيها بيضا ليس فيها شىء فكانوا يحيلونها فمن خرج(3/117)
سهمه فالحقّ له، وللحضر والسفر سهمان؛ فيأتون السادن من سدنة الأوثان فيقول السادن: اللهم أيّهما كان خيرا فأخرجه لفلان، فيرضى بما يخرج له، فاذا شكّوا فى نسب الرجل أجالوا له القداح وفيها: صريح، وملصق؛ فإن خرج الصريح ألحقوه بهم، وإن خرج الملصق نفوه، وإن كان صريحا فهذه قداح الاستقسام.
الميسر:
قالوا في الميسر: إن القوم كانوا يجتمعون فيشترون الجزور بينهم، فيفصّلونها على عشرة أجزاء؛ ثم يؤتى بالحرضة وهو رجل يتألّه عندهم لم يأكل لحما قط بثمن، ويؤتى بالقداح وهو أحد عشر قدحا، سبعة منها لها حظّ إن فازت، وعلى أهلها غرم إن خابت، بقدر ما لها من الحظّ إن فازت، وأربعة ينقل بها القداح، لا حظّ لها إن فازت، ولا غرم عليها إن خابت.
فأما التى لها الحظّ: فأوّلها الفذّ في صدره حزّ واحد؛ فإن خرج أخذ نصيبا، وإن خاب غرم صاحبه ثمن نصيب، ثم التوأم، له نصيبان إن فاز، وعليه ثمن نصيبين إن خاب، ثم الضّريب، وله ثلاثة أنصباء، ثم الحلس وله أربعة، ثم النافس، وله خمسة، ثم المسبل، وله ستة، ثم المعلّى وله سبعة. قالوا: والمسبل يسمّى:
المصفح، والضريب يقال له: الرقيب.
وقد جمع الصاحب بن عبّاد هذه الأسماء ونظمها في أبيات فقال
إنّ القداح أمرها عجيب ... الفذّ، والتوأم، والرقيب،
والحلس، ثم النّافس المصيب ... والمصفح المشتهر النجيب،
ثم المعلّى حظّه الترغيب ... هاك فقد جاء بها الترتيب،(3/118)
وأما الأربعة التى ينقل بها القداح فهى: السّفيح، والمنيح، والمضعف، والوغد.
قال ابن قتيبة: والمنيح له موضعان: أحدهما لا حظّ له، والثانى له حظّ.
فكأته الذى يمنح حظّه، وعلى ذلك دلّ قول عمرو بن قبيصة
بأيديهم مقرومة ومغالق ... يعود بأرزاق العيال منيحها
قالوا: فيؤتى بالقداح كلها وقد عرف كلّ ما اختار من السبعة ولا يكون الأيسار إلا سبعة، لا يكونون أكثر من ذلك، فإن نقصوا رجلا أو رجلين، فأحب الباقون أن يأخذوا ما فضل من القداح، فيأخذ الرجل القدح والقدحين فيأخذ فوزهما إن فازا، ويغرم عنهما إن خابا ويدعى ذلك: التّميم قال النابغة
إنى أتمّم أيسارى وأمنحهم ... من الأيادى وأكسوا الجفنة الأدما
فيعمدوا الى القداح؛ فتشدّ مجموعة في قطعة جلد ثم يعمد الى الحرضة فيلفّ على يده اليمنى ثوبا لئلا يجد مس قدح له في صاحبه هوى، فيحابيه في إخراجه، ثم يؤتى بثوب أبيض يدعى. المجول، فيبسط بين يدى الحرضة، ثم يقوم على رأسه رجل يدعى: الرقيب، ويدفع ربابة القداح الى الحرضة وهو محوّل الوجه عنها.
والرّبابة: ما يجمع فيها القداح، فيأخذها ويدخل شماله من تحت الثوب، فينكر القداح بشماله، فاذا نهد منها قدح تناوله فدفعه إلى الرقيب. فإن كان مما لا حظّ له ردّ الى الرّبابة، فإن خرج بعده المسبل، أخذ الثلاثة الباقية، وغرم الذين خابوا ثلاثة أنصباء من جزور أخرى، وعلى هذه الحال يفعل بمن فاز ومن خاب، فربما نحروا عدة جزور ولا يغرم الذين فازوا من ثمنها شيئا، وإنما الغرم على الذين خابوا ولا يحلّ(3/119)
للخائبين أن يأكلوا من ذلك اللحم شيئا، فإن فاز قدح الرجل فأرادوا أن يعيدوا قدحه ثانية على خطار فعلوا ذلك به.
ومنها: نكاح المقت:
كان الرجل اذا مات قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نكاحها، فإن لم يكن له فيها حاجة تزوّجها بعض إخوته بمهر جديد، فكانوا يرثون نكاح النساء كما يرثون المال، فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ) .
ومنها: رمى البعرة:
كانت المرأة في الجاهليّة اذا توفى عنها زوجها، دخلت حفشا، والحفش: الخصّ، ولبست شرّ ثيابها ولم تمسّ طيبا ولا شيئا، حتى تمرّ لها سنة ثم تؤتى بدابة: حمار أو شاة أو طير فتفتضّ به أى تمسح به، فقلّما تفتضّ بشىء إلا مات، ثم تخرج على رأس الحول، فتعطى بعرة فترمى بها، ثم تراجع ما شاءت من طيب أو غيره ومعنى رميها بالبعرة: أنها ترى أن هذا الفعل هيّن عليها مثل البعرة المرميّة، فنسخ الإسلام ذلك بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) .
ومنها: ذبح العتائر:
قالوا: كان الرجل منهم يأخذ الشاة، وتسمّى العتير والمعتورة فيذبحها ويصبّ دمها على رأس الصنم، وذلك يفعلونه في رجب، والعتر قيل: هو مثل الذبح، وقيل: هو الصنم الذى يعتر له. قال الطرمّاح
فخرّ صريعا مثل عاترة النسك
أراد بالعاترة: الشاة المعتورة.
عقد السّلع والعشر: وقد تقدم ذكره عند ذكر أسماء نيران العرب.(3/120)
ذبح الظبى: كان الرجل ينذر أنه إذا بلغت إبله أو غنمه مبلغا فأذبح عنها كذا، فاذا بلغت ضنّ بها، وعمد الى الظّباء فيصطادها ويذبحها وفاء بالنذر؛ قال الشاعر
عنتا باطلا وزورا كما يعتر ... عن حجرة الرّبيض الظباء
ومنها: حبس البلايا:
كانوا اذا مات الرجل يشدّون ناقته الى قبره، ويعكسون رأسها الى ذنبها، ويغطّون رأسها بولّية وهى البردعة، فإن أفلتت لم تردّ عن ماء ولا مرعى، ويزعمون أنهم إنما يفعلون ذلك، ليركبها صاحبها في المعاد، ليحشر عليها، فلا يحتاج أن يمشى؛ قال أبو زبيد
كالبلايا رءوسها في الولايا ... مانحات السّموم حرّ الخدود
ومنها: خروج الهامة: زعموا أن الإنسان اذا قتل، ولم يطالب بثأره، خرج من رأسه طائر يسمّى: الهامة، وصاح على قبره: اسقونى! اسقونى! الى أن يطلب بثأره؛ قال ذو الإصبع
يا عمرو إن لا تدع شتمى ومنقصتى ... أضربك حتى تقول الهامة: اسقونى
ومنها: إغلاق الظهر:
كان الرجل منهم اذا بلغت إبله مائة، عمد الى البعير الذى أمات به، فأغلق ظهره لئلا يركب، ويعلم أن صاحبه حمى ظهره، وإغلاق ظهره أن ينزع سناسن فقرته ويعقر سنامه.
ومنها: التعمية والتفقئة:
وكان الرجل إذا بلغت إبله ألفا فقأ عين الفحل يقول: إن ذلك يدفع عنها العين والغارة؛ قال الشاعر
وهبتها وأنت ذو امتنان ... تفقأ فيها أعين البعران
فإن زادت عن ألف فقأ العين الأخرى، فهو التعمية.(3/121)
ومنها: بكاء المقتول:
كان النساء لا يبكين المقتول إلا أن يدرك بثأره، واذا أدرك بثأره بكينه؛ قال شاعر
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا ينبنه ... يلطمن حرّ الوجه بالأسحار
ومنها: رمى السنّ في الشمس:
يقولون: إن الغلام اذا ثغر، فرمى سنّه فى عين الشمس بسبّابته وإبهامه وقال: أبدلينى أحسن منها، أمن على أسنانه العوج، والفلج، والثّعل؛ قال طرفة
بدّلته الشمس من منبته ... بردا أبيض مصقول الأشر
ومنها: خضاب النحر:
كانوا اذا أرسلوا الخيل على الصّيد فسبق واحد منها، خضبوا صدره بدم الصّيد علامة له؛ قال الشاعر
كأن دماء العاديات بنحره ... عصارة حنّاء بشيب مرجّل
ومنها: التصفيق:
كانوا اذا ضلّ الرجل منهم في الفلاة، قلب ثيابه، وحبس ناقته، وصاح في أذنها كأنه يومىء الى إنسان، وصفّق بيديه: الوحا الوحا، النجا النجا، هيكل، الساعة الساعة، الىّ الىّ، عجّل؛ ثم يحرّك الناقة فيهتدى؛ قال الشاعر
وأذّن بالتصفيق من ساء ظنّه ... فلم يدر من أىّ اليدين جوابها
يعنى: يسوء ظنّه بنفسه اذا ضل.
ومنها: جز النواصى.
كانوا اذا أسروا رجلا، ومنّوا عليه فأطلقوه، جزّوا ناصيته ووضعوها في الكنانة؛ قال الحطيئة(3/122)
قدنا سلول فسلّوا من كنانتهم ... مجدا تليدا ونبلا غير أنكاس
يعنى بالنّبل: الرجال؛ وقالت الخنساء
جززنا نواصى فرسانهم ... وكانوا يظنون أن لا تجزّا
ومنها: كىّ السليم عن الجرب:
زعموا أن الإبل اذا أصابها العرّ فأخذوا الصحيح وكووه زال العرّ عن السقيم؛ قال النابغة
وكلّفتنى ذنب امرىء وتركته ... كذى العرّ يكوى غيره وهو راتع
ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك، ويقولون: تؤمن معه العدوى.
ومنها: ضرب الثور:
وزعموا أن الجنّ تركب الثيران فتصدّ البقر عن الشرب؛ قال الأعشى
وإنى وما كلفتمانى وربّكم ... ليعلم من أمسى أعق وأحوبا
لكالثور والجنىّ يركب ظهره ... وما ذنبه إن عافت الماء مشربا
وما ذنبه إن عافت الماء باقر ... وما إن تعاف الماء إلا ليضربا
وقال آخر
كذاك الثور يضرب بالهراوى ... اذا ما عافت البقر الظّلماء.
ومنها: كعب الأرنب:
كانوا يعلّقونه على أنفسهم ويقولون: إن من فعل ذلك لم تصبه عين ولا سحر، وذلك أن الجنّ تهرب من الأرنب، لأنها ليست من مطايا الجنّ لأنها تحيض؛ قال الشاعر
ولا ينفع التعشير إن حمّ واقع ... ولا زعرع يغنى ولا كعب أرنب(3/123)
وقيل لزيد بن كثوة: أحقّ ما يقولون: إن من علّق على نفسه كعب أرنب لم يقربه جنّان الحىّ وعمّار الدار؟ فقال: إى والله! ولا شيطان الحماطة، الحماطة:
شجرة التين؛ وجان العشرة، وغول العقر، وكلّ الخوافى، إى والله يطفىء نيران السّعالى.
ومنها: حيض السّمرة:
يزعمون أن الصبى اذا خيف عليه نظرة أو خطفة، فعلّق عليه سنّ ثعلب؛ أو سنّ هرة، أو حيض سمرة، أمن، فإن الجنيّة اذا أرادته لم تقدر عليه، فاذا قال لها صواحباتها في ذلك، قالت
كانت عليه نفره ... ثعالب وهرره
والحيض حيض السّمره
ومنها: الطارف والمطروف:
يزعمون أن الرجل اذا طرف عين صاحبه، فهاجت فمسح الطارف عين المطروف سبع مرات وقال في كلّ مرة: بإحدى جاءت من المدينة، باثنتى جاءتا من المدينة، بثلاث جئن من المدينة، الى سبع، سكن هيجانها.
ومنها: وطء المقاليت:
يزعمون أن المرأة المقلات اذا وطئت قتيلا شريفا بقى أولادها، وفي ذلك يقول بشر بن أبى خازم
تظلّ مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء مئزر
ومنها: تعليق الحلى على السليم:
كانوا يعلّقون الحلى على الملسوع ويقولون إنه اذا علّق عليه أفاق، فيلقون عليه الأسورة والرّعاث، ويتركونها عليه سبعة أيام ويمنع من النوم؛ قال النابغة
يسهّد في وقت العشاء سليمها ... لحلى النساء في يديه قعاقع(3/124)
ومنها: ذهاب الخدر:
يزعمون أن الرجل اذا خدرت رجله فذكر أحبّ الناس اليه ذهب عنه؛ قال كثيّر
اذا خدرت رجلى دعوتك أشتفى ... بذكراك من مذل بها فيهون
وقالت امرأة من كلاب
اذا خدرت رجلى ذكرت ابن مصعب ... فإن قلت: عبد الله، أجلى فتورها
وقيل ذلك لابن عمر وقد خدرت رجله فقال: يا محمّداه.
ومنها: الحلأ:
زعموا أنه اذا ظهرت بشفة الغلام بثور، يأخذ منخلا على رأسه ويمرّبين بيوت الحىّ، وينادى: الحلأ الحلأ، فيلقى في منخله من هاهنا ثمرة، ومن هاهنا كسرة، ومن ثمّ بضعة لحم، فاذا امتلأ، نثره بين الكلاب، فيذهب عنه البثر، وذلك البثر يسمّى: الحلأ.
ومنها: التعشير:
يزعمون أن الرجل اذا أراد دخول قرية، فخاف وباءها، فوقف على بابها قبل أن يدخلها فعشّر كما ينهق الحمار، ثم دخلها لم يصبه وباؤها؛ قال عروة ابن الورد
لعمرى لئن عشّرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إننى لجزوع!
ومنها: عقد الرّتم:
كان الرجل منهم اذا أراد سفرا، عمد الى رتم فعقده، والرتم: نبت، فإن رجع ورآه معقودا؛ زعم أن امرأته لم تخنه، وإن رأه محلولا زعم أنها قد خانته؛ قال الشاعر
هل ينفعنك اليوم إن همّت بهم ... كثرة ما توصى وتعقاد الرّتم؟
وقال آخر
خانته لما رأت شيبا بمفرقه ... وغرّه حلفها والعقد للرّتم(3/125)
ومنها: دائرة المهقوع:
وهو الفرس الذى به الدائرة التى تسمّى: الهقعة، يزعمون أنه اذا عرق تحت صاحبه، اغتلمت حليلته وطلبت الرجال؛ قال الشاعر
اذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حرّا عجانها
ومنها: شقّ الرداء والبرقع:
زعموا أن المرأة اذا أحبّت رجلا أو أحبّها ثم لم تشقّ عليه رداءه، ويشقّ عليها برقعها، فسد حبّهما، فاذا فعل ذلك دام حبّهما؛ قال الشاعر
اذا شق برد شقّ بالبرد برقع ... دواليك حتى كلّنا غير لابس
فكم قد شققنا من رداء محبّر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس
ومنها: نوء السماك:
كانوا يكرهونه ويقولون فيه داء الإبل؛ قال الشاعر
ليت السماك ونوءه لم يخلقا ... ومشى الأفيرق في البلاد سلما
ومنها: النسيء:
وقد تقدّم خبره في الفن الأوّل من الكتاب.
ومنها: وأد البنات:
وقد نهاهم الله عزوجلّ عنه في قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)
. وكانوا يقتلوهنّ خشية الإملاق أو من الإملاق؛ وقد قيل: إنهم كانوا يقتلوهنّ خوف العار أو أن يسبين، فمن قتلهم خشية الإملاق ما روى عن صعصعة بن ناجية المجاشعىّ جد الفرزدق: أنه لما أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى كنت أعمل عملا في الجاهليّة، أفينفعنى ذلك اليوم؟ قال: وما عملك؟ قال: أضللت ناقتين عشراوين، فركبت جملا ومضيت فى بغائهما فرفع لى بيت جريد، فقصدته فاذا رجل جالس بفنائه، فسألته عن الناقتين، فقال: ما نارهما؟ قلت: ميسم بنى دارم، قال: هما عندى، وقد أحيا الله تعالى(3/126)
بهما قوما من أهلك من مضر، واذا عجوز قد خرجت من كسر البيت، فقال لها:
ما وضعت؟ فان كان سقبا شاركنا في أموالنا، وإن كانت حائلا وأدناها، (معنى قوله سقبا أى ذكرا، وحائلا أى أنثى) فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت: أتبيعها؟
قال: وهل تبيع الغرثب أولادها؟ قال قلت: احتكم، قال بالناقتين والجمل، قلت:
لك ذلك، على أن تبلغنى الحمل وإياها ففعل، فآمنت بك يا رسول الله، وقد صارت لى سنّة على أن أشترى كلّ موءودة بناقتين عشراوين وجمل، فعندى الى هذه الغاية ثمانون ومائتا موءودة قد أنقذتها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
لا ينفعك ذلك، لأنك لم تبتغ به وجه الله تعالى، وإن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه؛ ففى ذلك يقول الفرزدق مفتخرا
وجدى الذى منع الوائدين ... وأحيى الوئيد فلم توءد!
وممن قتلهم خشية العار: قيس بن عاصم المنقرىّ وكان من وجوه قومه ومن ذوى الأموال فيهم وكان يئد بناته وسبب ذلك: أن النعمان بن المنذر لما منعته بنو تميم الإتاوة التى كانت تؤدّيها له جهّز اليهم أخاه الريّان بن المنذر، ومعه بكر بن وائل فغزاهم، فاستاق النعم وسبى الذرارى، فوفدت اليه بنو تميم فلما رآها أحب البقاء عليها، فقال النعمان
ما كان ضرّ تميما لو تعمّدها ... من فضلنا ما عليه قيس غيلان
فأناب القوم وسألوه النساء، فقال النعمان: كلّ امرأة اختارت أباها ردّت اليه وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلّهن اخترن أباهن إلا ابنة لقيس بن عاصم اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج، فنذر قيس لا يولد له ابنة إلا قتلها، فاعتلّ بهذا من وأد وزعم أنه حميّة.(3/127)
الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثانى فى أخبار الكهنة ويتصل به الزجر والفأل والطّيرة والفراسة والذكاء،
أخبار الكهنة
وكانت كهنة العرب لهم أتباع من الشياطين يسترقون السمع ويأتونهم بالأخبار، فيلقونها لمن يتبعهم، ويسألهم عن خفيّات الأمور حتى جاء الإسلام، فمنعت الشياطين من استراق السمع، كما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه العزيز (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)
فعند ذلك انقطعت الكهانة فلم يسمع في الإسلام بكاهن، وهذا من معجزات سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزوال الإشكال فى الوحى.
فمن أخبار الكهنة، خبر سطيح الكاهن
حين ورد عليه ابن أخته عبد المسيح وهو يعالج الموت، فأخبره خبر ما جاء لأجله، وذلك أنه لما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقط منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام، وغارت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد فارس، فلما أصبح كسرى تصبّر تشجّعا ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرزبته، فلبس تاجه، وقعد على سريره، وجمعهم وأخبرهم الخبر فبيناهم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار فازداد غمّا وسأل الموبذان وكان أعلمهم فقال: حادث يكون من قبل العرب، فكتب كسرى الى النّعمان ابن المنذر: أن وجّه الىّ رجلا عالما بما أريد أن(3/128)
أسأله عنه فوجّه اليه عبد المسيح بن حسّان بن نفيلة الغسّانىّ فقال له كسرى:
أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرنى الملك فإن كان عندى منه علم، وإلّا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بما رآه فقال: علم ذلك عند خال لى يسكن مشارق الشام يقال له: سطيح، فأرسله كسرى اليه فورد على سطيح وقد أشفى على الموت فسلّم عليه وحيّاه فلم يحر سطيح جوابا فأنشد يقول
أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاز فازلمّ به شأو العنن؟
يا فاصل الخطّة أعيت من ومن ... وكاشف الكربة عن وجه الغضن
أتاك شيخ الحىّ من آل سنن ... وأمّه من آل ذئب بن حجن
أزرق ممهى الناب صرّار الأذن ... أبيض فضفاض الرّداء والبدن
رسول قيل العجم يسرى بالوسن ... لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
يجوب في الأرض على ذات شجن ... ترفعنى وجنا وتهوى بى وجن
حتى أتى عارى الجآجى والقطن ... تلفّه في الريح بوغاء الدّمن
كأنما حثحث من حضنى ثكن
ففتح سطيح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مشيح، أتى الى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بنى ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان؛ رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانشرت في بلاد فارس، يا عبد المسيح اذا كثرت التلاوه، وبعث صاحب الهراوه، وفاض وادى السماوه، وغاصت بحيرة ساوه، وخمدت نار فارس؛ فليس الشام لسطيح شاما، ولا بابل للفرس مقاما، يملك فيهم ملوك وملكات، بعدد الشّرفات، وكلّ ما هو آت آت؛ ثم قضى سطيح لوقته، فثار عبد المسيح الى رحله وهو يقول(3/129)
شمّر فإنك ماضى العزم شمّير ... لا يفزعنّك تفريق وتغيير
إن كان ملك بنى ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربّما ربّما أضحوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصّرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وشابور
والناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمحقور ومهجور
وهم بنو الأمّ أمّا إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشرّ محذور
فلما قصّ الخبر على كسرى قال: الى أن يملك منّا أربعة عشر تكون أمور؛ فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون الى زمن عثمان رضى الله عنه.
ومن أخبارهم:
أن سعدى بنت كريز بن ربيعة كانت قد تطرّقت وتكهّنت وهى خالة عثمان بن عفّان رضى الله عنه، روى عنه أنه قال: لما زوّج النبىّ صلّى الله عليه وسلم ابنته رقيّة من عتبة بن أبى لهب وكانت ذات جمال رائع، دخلتنى الحسرة أو كالحسرة أن لا أكون سبقت اليها ثم لم ألبث أن انصرفت الى منزلى فألفيت خالتى فلما رأتنى قالت
أبشر وحيّيت ثلاثا تترى ... ثمّ ثلاثا وثلاثا أخرى
ثمّ بأخرى كى تتمّ عشرا ... أتاك خير ووقيت شرّا
نكحت والله حصانا زهرا ... وأنت بكر ولقيت بكرا
وافيتها بنت نفيس قدرا ... بنت نبىّ قد أشاد ذكرا
قال عثمان: فعجبت من قولها، وقلت: مادا تقولين؟ فقالت
عثمان يا ابن أخت يا عثمان ... لك الجمال ولك البيان(3/130)
هذا نبىّ معه البرهان ... أرسله بحقّه الدّيّان
وجاءه التنزيل والفرقان ... فاتبعه لا تحتالك الأوثان
فقلت: يا خالة! إنك لتذكرين ما قد وقع ذكره في بلدتنا فأثبتيه لى، فقالت:
إن محمد بن عبد الله رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله، يدعو الى الله، مصباحه مصباح، وقوله صلاح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطّاح، ذلّت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلّت الصفاح، ومدّت الرماح، قال: ثم قامت فانصرفت ووقع كلامها في قلبى، وجعلت أفكر فيه، وذكر بعد ذلك إسلامه وتزويجه رقية؛ فكان يقال: أنهما أحسن زوجين اتفاقا وجمالا.
ومنها
أن هندا بنت عتبة بن ربيعة كانت عند الفاكه بن المغيرة، وكان من فتيان قريش، وكان له بيت الضيافة، خارجا من البيوت، تغشاه الناس من غير إذن؛ فخلا البيت ذات يوم واضطجع هو وهند فيه، ثم نهض لبعض حاجته، وأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه، فلما رآها ولّى هاربا وأبصره الفاكه فأقبل اليها فضربها برجله وقال لها: من هذا الذى خرج من عندك؟ قالت: ما رأيت أحدا، ولا انتبهت حتى أنبهتنى! فقال لها: ارجعى الى أبيك، وتكلّم النتاء فيها، فقال لها أبوها: يا بنيّة! إن الناس قد أكثروا فيك، فأنبئينى نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست عليه من يقتله، فتنقطع عنك المقالة، وإن يك كاذبا حاكمته الى بعض الكهّان، فقالت: لا والله! ما هو علىّ بصادق؛ فقال له: يا فاكه! إنك قد رميت ابنتى بأمر عظيم، فحاكمنى الى بعض كهّان اليمن؛ فخرج للفاكه في جماعة من بنى مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بنى عبد مناف، ومعهم هند ونسوة، فلما شارفوا البلاد، وقالوا: غدا نرد على الرجل، تنكّرت حال هند، فقال لها عتبة: إنى أرى(3/131)
ما بك من تنكّر الحال، وما ذاك إلّا لمكروه عندك، فهلّا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا؟ فقالت: لا والله! ولكنّى أعرف أنكم تأتون بشرا يخطىء ويصيب ولا آمنه أن يسمنى ميسما يكون علىّ سبة فقال: إنى سوف أختبره لك، فصفّر لفرسه حتى أدلى ثمّ أدخل في إحليله حبّة حنطة وأوكأ عليها بسير، فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم ونحرلهم، فلما تغدّوا قال له عتبة: قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبيئا أختبرك به، فانظر ما هو؟ فقال ثمره، فى كمره. قال إنّى أريد أبين من هذا، قال: حبّة برّ، فى إحليل مهر، قال: انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهنّ فيضرب بيده على كتفها ويقول لها، انهضى، حتى دنا من هند فقال لها:
انهضى غير رسحاء ولا زانية، ولتلدنّ ملكا اسمه معاوية؛ فنهض اليها الفاكه فأخذ بيدها فجذبت يدها من يده وقالت: اليك عنّى فو الله لأحرصنّ أن يكون من غيرك؛ فتزوّجها أبو سفيان.
ومنها.
أن أمية بن عبد شمس دعا هاشم بن عبد مناف الى المنافرة، فقال هاشم:
إنّى أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، ننحرها بمكة أو الجلاء عن مكّة عشر سنين، فرضى أميّة وجعلا بينهما الخزاعىّ الكاهن وخرجا اليه ومعهما جماعة من قومهما فقالوا: نخبأ له خبيئا فان أصابه تحاكمنا اليه، وإن لم يصبه تحاكمنا الى غيره، فوجدا أبا همهمة وكان معهم أطباق جمجمة، فأمسكها معه ثم أتوا الكاهن فأناخوا ببابه وكان منزله بعسفان: فقالوا: إنا قد خبأنا لك خبيئا فأنبئنا عنه. قال: أحلف بالضّوء والظلمه، وما بتهامة من تهمه، وما بنجد من أكمه، لقد خبأتم لى أطباق جمجمه، مع الفلندح أبى همهمه؛ فقالوا: صدقت احكم بين هاشم بن عبد مناف وبين أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف أيّهما أشرف بيتا ونفسا، قال: والقمر الباهر،(3/132)
والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجوّ من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أميّة الى المآثر، أوّلا منه وآخر؛ فأخذ هاشم لإبل ونحرها وأطعمها من حضر وخرج أميّة الى الشام فأقام بها عشر سنين؛ فيقال:
إنها أوّل عداوة وقعت بين بنى هاشم وبين بنى أميّة.
ومنها:
أن بنى كلاب وبنى رباب من بنى نضر خاصموا عبد المطّلب في مال قريب من الطائف فقال عبد المطّلب: المال مالى فسلونى أعطكم، قالوا: لا، قال: فاختاروا حاكما قالوا: ربيعة بن حذار الأسدىّ فتراصوا به وعقلوا مائة ناقة في الوادى وقالوا: الإبل والمال لمن حكم له، وخرجوا وخرج مع عبد المطّلب حرب بن أميّة فلما نزلوا بربيعة بعث اليهم بجزائر فنحرها عبد المطّلب، وأمر فصنع جزرا وأطعم من أتاه، ونحر الكلابيّون والنضريّون ووشقوا فقيل لربيعة فقال: إنّ عبد المطلب امرؤ من ولد خزيمة فمتى يملق يصله بنو عمّه وأرسل اليهم أن اخبأوا لى خبيئا فقال عبد المطّلب: قد خبأت كلبا اسمه سوّار في عنقه قلادة، فى خرزة مزادة، وضممتها بعين جرادة، فقال الآخرون: قد رضينا ما خبأت وأرسلوا الى ربيعة فقال: خبأثمّ خبيئا حيّا قالوا: زد، قال: ذو برثن أغبر، وبطن أحمر، وظهر أنمر؛ قالوا: قربت، قال: سما فسطع، ثمّ هبط فلطع، فترك الأرض بلقع، قالوا: قربت فطبّق قال: عين جرادة، فى خرزة مزادة، فى عنق سوّار ذى القلادة، قالوا: زه زه أصبت فاحكم لأشدّنا طعانا، وأوسعنا مكانا، قال عبد المطلب: احكم لأولانا بالخيرات، وأبعدنا عن السو آت وأكرمنا أمهات، فقال ربيعة: والغسق والشفق، والخلق المتّفق، ما لبنى كلاب وبنى رباب من حقّ، فانصرف يا عبد المطّلب على الصواب، ولك فصل الخطاب؛ فوهب عبد المطّلب المال لحرب بن أميّة.(3/133)
وأخبار الكهنة كثيرة نذكر منها إن شاء الله تعالى في السيرة النبويّة جملة تقف عليها فى المبشرات برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك في السفر الرابع عشر من كتاب الأصل.
الزّجر
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في زجر الطير: إنّ العلماء بهذا الفنّ قالوا:
اذا خرجت من منزلك تطلب حاجة، أو تخطب امرأة، فنعب غراب عن يمينك وعن يسارك أو سنح أو برح فامض فإنّك مدرك حاجتك إن شاء الله تعالى فإن تعب أمامك أو فوقك فارجع ففيها تأخير.
وإن خرجت تريد خصومة فنعب فوق رأسك فامض فإنك مدرك حاجتك إن شاء الله تعالى.
فإن خرجت تطلب دابّة فنعب عن يمينك أو يسارك على حائط مرتفع، فامض لحاجتك، فإن نعب أمامك فارجع.
وإن خرجت تطلب مالا ضلّ عنك أو سرق، فنعب غراب على شجرة يابسة فلا تطلبه فقد استهلك وقد يأتيك بعضه، فإن نعب على جدار جديد أو شجرة خضراء فإنك تصيب مالك إن شاء الله تعالى.
فإن خرجت تريد الضّالّ فنعب من ورائك، فارجع فليس لك في ذلك خيرة، وإن نعب عن يسارك فإنى خائف على نفسك إلا أن يشاء الله.
فإن خرجت تريد الصيد فنعب من فوقك فارجع فإن نعب أمامك فامض فإنّك تدرك خيرا.(3/134)
وإن خرجت تطلب سلطانا في طلب مال أو حاجة فنعب عن يمينك ثمّ طار ثمّ نعب أدركت منه طلبتك إن شاء الله تعالى.
وإن خرجت تريد شراء شىء فنعب عن يمينك فإنه صالح، وإن نعب عن يسارك فلا خير فيه.
وإن خرجت من منزلك فرأيت غرابا يمسح منقاره على الأرض فإنك تصيب أو تأتيك هديّة من مكان بعيد.
وإن خرجت تطلب حاجة فنعب عن يمينك ثم قطع الطريق الى يسارك فنعب فإنك تدرك حاجتك عجلا إن شاء الله تعالى! فإن نعب فوق رأسك فارجع فإنى أخاف عليك بعض أعدائك.
وإن خرجت تريد سلطانا فنعب غراب وهو مستقبل الشرق فامكث يومك ذلك فإنى أخاف عليك.
فإن خرجت فرأيت غرابا ينفض ريشه؛ فإنه يأتيك خير عاجل.
وإن خرجت تريد أرضا بعيدة فرأيت غرابا ينتفض فامض لحاجتك؛ فإنك تدرك أملك إن شاء الله تعالى.
وإن خرجت تريد السلطان فوقع غراب على شىء فنعب ثلاث مرّات فامض لحاجتك؛ فهو خير عاجل وتيسير للحوائج إن شاء الله تعالى.
وإن خرجت فرأيت غرابا ناشرا جناحيه يريد الطيران فامض، فإن نعب فارجع يومك.
وإن خرجت تريد خصومة فنعب من فوقك فامض، وإن نعب فأجابه الآخر فهو جيّد صالح.(3/135)
وإن خرجت تريد خصومة فنعب من فوقك أو شخّ فامض؛ فإنك تلقى في يومك ذلك ما تريد إن شاء الله تعالى.
وإن خرج جماعة وفيهم رجل شريف فشخّ غراب على رأس الشريف، ثم أتوا ملكا فإنهم يصيبون خيرا إن شاء الله تعالى.
وإن خرج يطلب حاجة الى سلطان فواجهه غراب فليمكث يومه ذلك ولا يمض فى تلك الحاجة، وإن نعب عن يمينه فقطع الطريق ثمّ وقع فهو يدرك حاجته.
وإن خرج يريد السلطان أو بعث اليه وهو لا يدرى فرأى غرابا يطير قليلا؛ ثم يقع فيلقط من الأرض شيئا فليمض فإنّه يصيب سلطانا ويلى قوما، وإن رأى غرابا يبحث فى الأرض فإنّ بعض أهله يموت سريعا، وإن رآه ينقر في الأرض فذلك ملك.
وإن خرج فرأى غرابا يطير ثمّ وقع ثلاث مرات وهو ساكت لا ينعب، فذلك غمّ يصيبه إلا أن يدفع الله عزّوجلّ عنه.
وإن خرج فرآه ينتفض ثم ينعب ثمّ يطير فذلك سلطان يناله ويتزوج؛ والعلم عند الله.
وإن خرج فرأى غرابا يطير ثمّ يقع فذاك خير وسرور يأتيه.
وإن خرج فرأى غرابا يطير نحو عين الشمس فذاك همّ يصيبه شديد.
وإن خرج فلقى بقرا فليرجع فإن لقى من البغال شيئا لم يركب فليرجع والمركوبة صالحة لا بأس بها.
وإن خرج يعود مريضا فنهق حمار عن يمينه أو عن يساره فالمريض صالح، وإن نهق خلفه فقد اشتدّ بالمريض مرضه وأنا خائف عليه.(3/136)
وإن خرج يريد حاجة فاستقبله غلام يبكى وهو متلطّخ بعذرة وهو ذاهب والغلام راجع فليمض فإنّ حاجته تقضى، وإن استقبله غلام يعدو ويتلهّف فإن حاجته تعسر وتطول.
وإن خرج في حاجته فرأى ورشانا يطير، يرتفع ويهبط فليمض فإن ذلك أنجح لحاجته، وإن رآه يطير مستعليا فليرجع، وإن رأى حمامة مسرولة تطير من فوق رأسه وتدور فإنّ حاجته مقضيّة بعد بطء ومطل، وإن رأى حمامة هابطة واقعة تقع وتطير فإنّ ذلك خير صالح وسرور إن شاء الله تعالى.
وإن خرج من منزله فاستقبلته جنازة وجماعة فليرجع يومه ذلك ولا يعود لحاجته فإنّها غير مقضية، فإن كانت الجنازة قد جاوزته مدبرة فليذهب لحاجته؛ فإن ذلك صالح. وإن رأى نسوة الى المقابر وهنّ مقبلات نحوه فليقعد حتى يمضين عنه فإنّه أنجح لحاجته وإن رآهن مدبرات فليمض في حاجته فإنها مقضيّة.
وإن خرج من داره قرأى في أرضها نملا كثيرا وفي حائطها فليمض لحاجته فذلك خير وسرور يناله. فإن رأى ذبابا كثيرا مجتمعا على حائط وهو يسمع لهنّ دبيبا فذاك مرض يصيبه في بدنه أو يصيب بعض أهله. ومن رأى ذرّا كثيرا وقردانا فذلك فرح ورزق عاجل يناله إن شاء الله تعالى. ومن رأى دجاجتين تقتتلان بنقر بعضهما فذاك يدل على أنّه يقع بينه وبين امرأته كلام وغضب.
وإن خرج من منزله فرأى ورشانين يقتتلان في جوّ السماء رافعين وهابطين فيأتيه ما يسرّ به. وإن رأى كلبة والكلاب تطوف حولها ويتبع بعضها بعضا فإن كان عليه دين قضاه الله عنه وإن كانت له حاجة مهمة قضيت في وجهه ذلك وإن أراد شيئا يسّره الله له وإن أراد سفرا تهيّأ له ورجع سالما.(3/137)
وإن خرج فرأى على رجل قربة ثمّ انشقت فليرجع الى منزله ويتعوّذ بالله من شرّ ذلك اليوم فإنّه مكروه جدّا.
وإن خرج فرأى رجلا وهو يريد أن يملأ قربة فليمض في حاجته فإنه فرح وسرور وخير يناله عاجلا إن شاء الله تعالى.
وإن خرج فرأى حمارا أو بغلا عليه راوية مملوءة فشأنه غير صالح وهو مكروه، وإن كان صاحب الراوية يريد أن يملأها فليمض فحاجته مقضية إن شاء الله تعالى.
وإن خرج من منزله فرأى جملا عليه حطب أو بعض منافع الناس فهو من علامات النجاح في الخصومة والظفر العاجل إن شاء الله تعالى، فإن رآه غير محمول عليه وعليه صاحبه فإنّ ذلك خير يأتيه وينعى اليه بعض أهله من مكان بعيد.
قال: وأرجو أن يدفع الله، فإن رآه مناخا يرغو فإن ذلك خير يأتيه ويخبر عن شىء ممّا يحبّ من تزويج أو غنيمة وهو صالح.
وإن خرج فرأى بعيرا قد شرد ورأى من يطلبه فإن ذلك نجاة من عدوّه وفرح قريب إن شاء الله تعالى.
وإن خرج فرأى بعيرا قد شرد فاجتمع عليه الناس فإن ذلك يدلّ على ظفره بعدوّه وانتقامه منه فليحمد الله على ما رأى ويشكره.
ومن خرج من منزله فرأى قردا يتقلّب والناس حوله فليمض لحاجته فإنّها مقضية.
وإن خرج فرأى القرد يلعب والناس مجتمعون عليه وقد صار لعبه الى أن يتقلّب ظهرا لبطن في الأرض فليرجع من وجهه ذلك فليس بموفّق وهو مكروه.(3/138)
وإن خرج من منزله فرأى غلمانا يلعبون بالأكرة ويتسابقون فليمض في وجهه ذلك فإنّه يصيب رفعة وشرفا وتمكنا من السلطان ويصيب مالا عظيما.
وإن خرج فرآهم يلعبون بالصوالجة فهو رفعة ويدلّ على مال ردىء حرام يصيبه من سلطان ويركب أمرا عظيما من عمله فليتق الله.
وإن رأى جوارى يلعبن بالطرق كأنهنّ يزففن عروسا فهو خير وسرور ودخول فى أمر شريف وإنّه يربح ربحا عظيما وهو خير الزجر.
وإن خرج فرأى عصفورين يلقطان الحبّ فهو صالح، وإن رآهما يتسافدان فهو خير يناله في يومه، وإن رآهما مدبرين فليمض لحاجته فإنها مقضية إن شاء الله تعالى.
وإن خرج فتعلق بثوبه شىء فليرجع؛ فإنى أكره له أن يذهب في حاجته تلك.
وإن خرج فرأى حدأة تسفد حدأة وهى تصيح فهو نجاح فليمض لحاجته.
وإن خرج فعثر فلا يذهبن في تلك الحاجة وليؤخّرها.
ومن الزجر ما مخرجه مخرج الكهانة.
فمن ذلك ما حكى أنّ أميّة بن أبى الصلت الثقفىّ بينا هو يشرب مع إخوان له فى قصر عيلان بالطائف إذ سقط غراب على شرفة القصر فنعب نعبة فقال أميّة:
بفيك الكثكث أى التراب فقال له أصحابه: ما يقول؟ قال يقول: إنّك اذا شربت الكأس التى بيدك متّ، ثم نعب نعبة أخرى، فقال أميّة كمقالته الأولى فقال أصحابه: ما يقول؟ قال: يزعم أنّه يقع على هذه المزبلة في أسفل القصر فيستثير عظما فيبتلعه فيشجى به فيموت، فوقع الغراب على المزبلة فأثار العظم وابتلعه فشجى فمات، فأنكر أميّة ووضع الكأس من يده وتغيّر لونه فقال أصحابه: ما أكثر ما سمعنا(3/139)
مثل هذا وكان باطلا وألحّوا عليه حتى شرب الكأس فمال فأغمى عليه ثم أفاق فقال:
لا برىء فأعتذر، ولا قوىّ فأنتصر، ثم خرجت نفسه.
وزعموا أن رجلا من كعب خرج في جماعة ومعه سقاء من لبن فسار صدر يومه فعطش فأناخ ليشرب فاذا غراب ينعب فأثار راحلته، ثم سار فلما أظهر أناخ ليشرب، فنعب الغراب وتمرّغ في التراب فضرب الرجل السقاء بسيفه فاذا فيه أسود ضخم فقتله، ثم سار فاذا غراب واقع على سدرة فصاح به فوقع على سلمة فصاح به فوقع على صخرة فانتهى اليها فأثار كنزا، فلما رجع الى أبيه قال له: إيه ما صنعت؟
قال: سرت صدر يومى، ثم أنخت لأشرب فنعب الغراب، قال أثرها وإلا فلست يا بنى! قال: أثرتها، ثم أنخت لأشرب فنعب الغراب وتمرّغ في التراب قال: اضرب السقاء وإلا لست يا بنى! قال: فعلت، فاذا أسود ضخم قال: ثم مه! قال: ثم رأيت غرابا على سدرة قال: أطره وإلا فلست يا بنى! قال: فعلت فوقع على سلمة قال:
أطره وإلا فلست يا بنى! قال: فعلت فوقع على صخرة قال: أحد يا بنىّ! فأحداه ومن الزجر: ما يروى أن كسرى أبرويز بعث الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم حين بعث زاجرا ومصوّرا وقال للزاجر: انظر ما ترى في طريقك وعنده، وقال للمصوّر:
إئتنى بصورته، فلما عاد اليه أعطاه المصوّر صورته صلّى الله عليه وسلم فوضعها كسرى على وسادته، وقال للزاجر: ما رأيت؟ فقال: لم أر ما أزجره حتى الآن وأرى أمره يعلو عليك لأنك وضعت صورته على وسادتك.
وقيل: إن كثيّرا تعشّق امرأة من خزاعة يقال لها: أمّ الحويرث، فشبّب بها فكرهت أن يفضحها كما فضح عزّة فقالت له: إنّك رجل فقير لا مال لك فابتغ مالا،(3/140)
ثم تعال فاخطبنى كما يخطب الكرام قال: فاحلفى لى ووثّقى أنّك لا تتروّجين حتى أقدم عليك فحلفت ووثقت له فمدح عبد الرحمن بن الأزدىّ وخرج اليه؛ فلقى ظباء سوانح، ولقى غرابا يفحص التراب بوجهه فتطيّر من ذلك حتى قدم على حىّ من لهب فقال: أيّكم يزجر؟ قالوا: كلّنا! فمن تريد؟ قال: أعلمكم بذلك! قالوا: ذلك الشيخ المنحنى الصلب، فأتاه فقصّ عليه القصّة فكره ذلك له وقال:
قد ماتت أو تزوّجت رجلا من بنى عمّها فقال كثيّر
تيممت لهبا أبتغى العلم عندهم ... وقد ردّ علم العائفين الى لهب!
فيممت شيخا منهم ذا نحالة ... بصيرا يزجر الطير منحنى الصّلب!
فقلت له: ماذا ترى في سوانح ... وصوت غراب يفحص الأرض بالترب؟
فقال: جرى الطير السنيح ببينها ... ونادى غراب بالفراق وبالسلب
فإن لا تكن ماتت فقد حال دونها ... سؤال خليل باطن من بنى كعب
قال: ثم مدح الرجل الأزدىّ فأصاب منه خيرا، ثم قدم عليها فوجدها قد تزوّجت رجلا من بنى عمّها فأخذه الهلاس فكشح جنباه بالنار؛ فلمّا اندمل من علّته ووضع يده على ظهره فاذا هو برقمتين فقال: ما هذا؟ قالوا: أخذك الهلاس وزعم الأطباء أنّه لا علاج لك إلا بالكشح بالنار فكشحت بها فأنشأ يقول
عفى الله عن أمّ الحويرث ذنبها ... علام تعنّينى وتكمى دوائيا؟
ولو آذنونى قبل أن يرقموا بها ... لقلت لهم: أمّ الحويرث دائيا
وحكى أن صاحب الروم بعث الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم رسولا وقال له:
انظر أين تراه جالسا، ومن الى جانبه، وانظر ما بين كتفيه حتى الخاتم والشامة؛ فقدم(3/141)
ورسول الله صلّى الله عليه وسلم على نشز واضعا قدميه في الماء، وعن يمينه علىّ عليه السلام؛ فلما رآه صلّى الله عليه وسلم قال: «تحوّل فانظر ما أمرت به» فنظر ثم رجع الى صاحبه فأخبره الخبر فقال: ليعلونّ أمره وليملكنّ ما تحت قدمى وقال:
بالنشز العلوّ وبالماء الحياة.
ومن الزجر: ما روى عن أبى ذؤيب الهذلىّ قال: إنّه بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليل فأوجس أهل الحىّ خيفة عليه فبتّ بليلة ثابتة النجوم طويلة الأناة لا ينجاب ديجورها ولا يطلع نورها حتى اذا قرب السّحر غفوت فهتف لى هاتف يقول
خطب أجلّ أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبىّ محمد فعيوننا ... تذرى الدموع عليه بالتّسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومى فزعا فنظرت الى السماء فلم أر إلّا سعد الذابح فتفاءلت به ذبحا يقع في العرب، وعلمت أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم قد مات أو هو ميّت من علّته، فركبت ناقتى وسرت حتى أصبحت فطلبت شيئا أزجره، فعنّ لى شيهم قد أرم على صلّ وهو يتلوّى عليه والشيهم يقضمه حتى أكله فزجرت ذلك شيئا مهمّا فقلت: تلوّى الصّلّ: انفتال الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم أوّلت أكل الشيهم إياه: غلبة القائم على الأمر فحثثت ناقتى حتى اذا كنت بالعلية زجرت الطير فأخبرنى بوفاته. ونعب غراب سانحا بمثل ذلك فتعوّذت من شرّ ما عنّ لى في طريقى، ثم قدمت المدينة ولأهلها ضجيج كضجيج الحجيج أهلّوا جميعا بالإحرام فقلت: مه! قالوا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجئت المسجد فأصبته خاليا فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأصبت بابه مرتجد وقد(3/142)
خلا به أهله فقلت: أين الناس؟ فقيل: فى سقيفة بنى ساعدة صاروا الى الأنصار فجئت السقيفة فوجدت أبا بكر، وعمر رضى الله عنهما، وأبا عبيدة، وسالما، وجماعة من قريش ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة ومعهم شعراؤهم وأمامهم حسّان بن ثابت، وكعب في ملإ منهم فأويت الى الأنصار فتكلموا فأكثروا وتكلّم أبو بكر فلله من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع الفصل، والله لتكلّم بكلام لم يسمعه سامع إلّا انقاد له ومال اليه، وتكلم بعده عمر رضى الله عنه بكلام دون كلامه، ومدّ يده فبايعه، ورجع أبو بكر رضى الله عنه ورجعت معه، فشهدت الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهدت دفنه قال: ولقد بايع الناس من أبى بكر رجلا حلّ قداماها ولم يركب ذنابابها وانصرف أبو ذؤيب الى باديته وثبت على إسلامه.
ومنه: ما روى عن مصعب بن عبد الله الزّبيرىّ أنه حدّث عن رجل قال:
شردت لنا إبل فأتيت حليسا الأسدىّ فسألته عنها فقال لبنت له: خطّى، فخطّت ونظرت ثمّ انقبضت وقامت منصرفة فنظر حليس في خطّها فضحك وقال: أتدرى لم قامت؟
قلت: لا، قال: رأت أنك تجد إبلك وأنّك تتزوّجها فاستحيت فقامت، فخرجت فأصبت إبلى ثمّ تزوجتها بعد.
الفأل والطّيرة
حكى أنه لما ولد لسعيد بن العاص عنبسة قال سعيد لابنه يحيى: أىّ شىء تجلّه؟
قال: دجاجة بفراريجها، وإنما أراد احتقاره بذلك لأن أمّه كانت أمة فقال سعيد:
إن صدق الطير ليكوننّ أكثركم ولدا فكان كذلك.(3/143)
لما طلب عامر بن إسماعيل مروان بن محمد اعترضه بالفيّوم قوم من العرب فسأل رجلا: ما اسمك؟ فقال منصور بن سعد: وأنا من سعد العشيرة، فتبسم تفاؤلا به وتيمّنا واستصحبه فظفر بمروان تلك الليلة.
ومن الطّيرة: ما حكى عن بعضهم قال: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه فصاح به رجل من خلفه: يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال:
يا أمير المؤمنين! فقال رجل من خلفه: دعاه باسم ميت! مات والله أمير المؤمنين، ولا يقف هذا الموقف أبدا! فالتفت اليه فاذا هو اللهبىّ؛ فقتل عمر قبل الحول.
وحكى أنّ عمر رضى الله عنه خرج الى حرّة واقم فلقى رجلا من جهينة فقال له:
ما اسمك؟ قال: شهاب، قال: ابن من؟ قال: ابن جمرة! قال: وممن أنت؟
قال: من الحرقة! قال: ثم ممن؟ قال: من بنى ضرام! قال: وأين منزلك؟
قال: بحرّة ليلى! قال: وأين تريد؟ قال: لظى وهو موضع! فقال عمر:
أدرك أهلك، فما أراك تدركهم إلا وقد احترقوا، قال: فأدركهم، وقد أحاطت بهم النار.
وقال المداينىّ: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من الصعيد يقال لها: شكر، فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ قال طالب بن مدرك! فقال: أوّه! ما أرانى راجعا الى الفسطاط أبدا؛ ومات في تلك القرية.
وقيل: بينا مروان بن محمد في إيوان له ينفّذ الأمور، فانصدعت زجاجة الأموال، فوقعت الشمس منها على منكب مروان وكان هناك عياف فقال: صدع الزّجاج(3/144)
أمر منكر على أمير المؤمنين، ثم قام فاتّبعه ثوبان مولى مروان. فقال له: ويحك! ما قلت؟ قال. قلت: صدع الزجاج صدع السلطان، ستذهب الشمس بملك مروان، بقوم من الترك أو خراسان، ذلك عندى واضح البرهان! قال: فما ورد لذلك شهران حتّى ورد خبر أبى مسلم.
وقال إبراهيم بن المهدىّ: أرسل الىّ محمد الأمين في ليلة مقمرة من ليالى الصيف فقال: يا عمّى! إن الحرب بينى وبين طاهر قد سكنت فصر الىّ فإنى اليك مشتاق فجئته وقد بسط له على سطح، وعنده سليمان بن جعفر، وعليه كساء روذبارىّ، وقلنسوة طويلة، وجواريه بين يديه وضعف جاريته عنده. فقال لها: غنّينى فقد سررت بعمومتى فاندفعت تغنّيه
هم قتلوه كى يكونوا مكانه ... كما فعلت يوما بكسرى مرازبه!
بنى هاشم كيف التّواصل بيننا ... وعند أخيه سيفه ونجائبه؟
هكذا غنته، وإنما هو
وعند علىّ سيعه ونجائبه
فغضب وتطيّر، وقال: ما قصّتك؟ ويحك! غنينى ما يسرّنى، فغنّت
هذا مقام مطرّد ... هدمت منازله ودوره!
فازداد تطيّرا، ثم قال: ويحك! انتهى وغنّى غير هذا فغنّت
كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدّم
فقال لها: قومى الى لعنة الله، فوثبت؛ وكان بين يديه قدح بلّور وكان لحبه إيّاه يسمّيه محمدا باسمه، فأصابه طرف ذيلها فسقط على بعض الصوانى فانكسر،(3/145)
فأقبل علىّ وقال: أرى والله يا عمّ أن هذا آخر أمرنا، فقلت: كلّا! بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويسرّك، قال: ودجلة والله هادئة ما فيها صوت مجداف، ولا أحد يتحرّك؛ فسمعت هاتفا يهتف: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ)
قال فقال لى:
سمعت يا عمّ؟ فقلت: وما هو؟ وقد والله سمعته، فاذا الصوت قد عاد فقال: انصرف بيتك الله بخير فمحال أن لا تكون الآن قد سمعت ما سمعت، فانصرفت وكان آخر العهد به.
وشبيه بهذا ما حكى عن علّوية المغنىّ قال: كنت مع المأمون لما خرج الى الشام، فدخلنا دمشق فطفنا فيها، وجعل يطوف على قصور بنى أميّة، ويتتبّع آثارهم، فدخلنا صحنا من صحونهم، مفروشا بالرخام الأخضر، وفيه بركة ماء فيها سمك، وأمامها بستان، فاستحسن ذلك وعزم على الصّبوح ودعا بالطعام والشراب، وأقبل علىّ فقال: غنّنى ونشّطنى، فكأنّ الله تعالى أنسانى الغناء كله إلا هذا الصوت من شعر عبد الله بن قيس الرّقيّات
لو كان حولى بنو أمية لم ... تنطق رجال أراهم نطقوا
من كلّ قرم محض ضرائبه ... عن منكبيه القميص ينخرق
قال: فنظر الىّ مغضبا، وقال: عليك وعلى بنى أميّة لعنة الله، ويلك! أقلت لك سرّنى أو سؤنى؟ ألم يكن لك وقت تذكر فيه بنى أميّة إلا هذا الوقت تعرّض بى؟ فتجلّدت عليه وعلمت أنّى قد أخطأت، فقلت: أتلومنى على أن أذكر بنى أميّة؟ هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتى غلام مملوك له، ويملك ثلاثمائة ألف دينار [وهبوها له سوى الخيل والضياع والرّقيق «1» ] : وأنا عندكم أموت(3/146)
جوعا، فقال: أو لم يكن لك شىء تذكّرنى به نفسك غير هذا؟ فقلت: هكذا حضرنى حين ذكرتهم، فقال: أعرض وتنبّه على إرادتى وغنّ فأنسانى الله كلّ شىء أحسنه إلا هذا الصوت
الحين ساق الى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلنا بلدا
قادتك نفسك فاستقدت لها ... وأرتك أمر غواية رشدا
فرمانى بالقدح فأخطأنى وانكسر القدح، وقال: قم الى لعنة الله وحرّ سقر! فركب، وكانت تلك الحال آخر عهدى به حتى مرض ومات بعد ذلك بقليل.
ومثل ذلك ما حكى في قتلة المتوكل، وذلك أنه جلس يوم الأربعاء لأيام خلون من شوّال سنة تسع وأربعين ومائتين وقال للفتح بن خاقان: أحبّ أن نصطبح؛ فأحضر المغنّين وفيهم أحمد بن أبى العلاء فقال له: غنّ فغنّى
يا عاذلىّ من الملام دعانى ... إنّ البليّة فوق ما تصفان
زعمت بثينة أنّ فرقتنا غدا ... لا مرحبا بغد فقد أبكانى
فتطّير المتوكّل منه، وقال: أحمد! كيف وقع لك أن تغنّى بهذا الشعر، قال:
فشغل قلب ابن أبى العلاء لما أنكر عليه، ثم ذهب ليغنّى غيره، فغنّاه ثانية، فقال المتوكّل: نسأل الله خير هذا اليوم، وصرف المغنّين وقام لصلاة الظهر، فلمّا فرغ قال له الفتح: يا سيّدى أتمم يومك، فدعا بالشراب وقال: أين ابن أبى العلاء؟ فأحضر فقال له: غنّ، فأغمى عليه فأعاد البيتين فاغتمّ المتوكّل غاية الغمّ وقتل في الليلة الآتية من ذلك اليوم.
قال القاضى أبو على الجوينىّ: حضرت بين يدى سيف الدولة أبى الحسن صدقة ابن منصور بن دبيس، وابنه أبو المكارم محمد إذ ذاك مريض مرضه الذى مات فيه(3/147)
وقد أتى بديوان أبى نصر بن نباته فتصفّحه فوقع بيده وقال: يعزّى سيف الدولة أبا الحسن ويرثى ابنه أبا المكارم محمد، فأخذت المجلّد وأطبقته فعاد فتصفّحه فخرج ذلك، ومن القصيدة التى عناها قوله
فإنّ بميّا فارقين حفيرة ... تركنا عليها ناظر الجود داميا
تضمّنها أيدى فتى ثكلت به ... غداة ثوى أمالنا والأمانيا
ولمّا عدمنا الصبر بعد محمد ... أتينا أباه نستفيد التعازيا
حكى: أنّ أبا الشمقمق شخص مع خالد بن يزيد بن مزيد وقد تقلّد الموصل، فلما أراد الدخول اليها اندقّ لواؤه في أوّل درب منها، فتطيّر من ذلك وعظم عليه، فقال أبو الشمقمق
ما كان مندقّ اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مبذّلا
لكنّ هذا الرمح ضعّف متنه ... صغر الولاية فاستقلّ الموصلا
فسرّى عن خالد، وكتب صاحب البريد بذلك الى المأمون، فزاده ديار ربيعة وكتب اليه: هذا التضعيف الموصل متن رمحك، فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم.
وقيل: لمّا توجّه المسترشد للقاء السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجلقىّ، وقع على الشمسية التى ترفع على رأسه طائر من الجوارح وألحّ، كلما نفّر عاد، فتفاعل الناس له بذلك وسرّ هو به، فقال إنسان يعرف بملكدار: هذا جارح ومنقبض الكفّ وليس فيه بشرى بل ضدّها، وأقبل السلطان في جيشه فكانت الكسرة وقبض على المسترشد وقتل من بعد.(3/148)
خرج بعض ملوك الفرس الى الصيد، فكان أوّل من استقبله أعور فأمر بضربه وحبسه، ثم خرج وتصيّد صيدا كبيرا، فلمّا عاد استدعى الأعور وأمر له بصلة، فقال الأعور: لا حاجة لى في صلتك، ولكن ائذن لى في الكلام، فقال: تكلّم! قال:
لقيتنى فضربتنى وحبستنى، ولقيتك فصدت وسلمت فأيّنا أشأم؟ فضحك وخلاه.
الفراسة والذكاء
يقولون: عظم الجبين يدلّ على البله، وعرضه يدلّ على قلة العقل، وصغره على لطف الحركة، والحاجبان اذا اتصلا على استقامة دلّا على تخنيث واسترخاء، واذا تزججا نحو الصّدغين دلّا على طنز واستهزاء، والعين اذا كانت صغيرة الموق دلّت على سوء دخلة، وخبث شمائل، واذا وقع الحاجب على العين دلّ على الحسد، والعين المتوسطة في حجمها دليل فطنة وحسن خلق ومروءة، والناتئة على اختلاط عقل، والطائرة على حدّة، والتى يطول تحديقها على قحة وحمق، والتى تكسر طرفها على خفّة وطيش، والشّعر على الأذن يدلّ على جودة السمع، والأذن الكبيرة المنتصبة تدلّ على حمق وهذيان.
وحكى: أن أبا موسى الأشعرىّ وجّه السائب بن الأقرع في خلافة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه الى مهرجا بعد أن فتحها ودخل دار الهرمزان بعد أن جمع السبى والغنائم، ورأى في بعض مجالس الدار تصاوير فيها مثال ظبى وهو مشير بإحدى يديه الى الأرض، فقال السائب: لأمر ما صوّر هذا الظبى هكذا، إن له لشأنا، فأمر بحفر الموضع الذى الإشارة اليه فأفضى الى موضع فيه حوض من رخام، فيه سفط جوهر فأخذه السائب وخرج به الى عمر رضى الله عنه.(3/149)
وقيل: كان المعتضد يوما جالسا في بيت يبنى له وهو يشاهد الصّنّاع فرأى في جملتهم عبدا أسود منكر الخلق، شديد المرح، يصعد على السلاليم مرقاتين مرقاتين ويحمل ضعف ما يحمل غيره، فأنكر أمره، وأحضره وسأله عن سبب ذلك، فلجلج فقال لوزيره: قد خمّنت في هذا نخمينا ما أحسبه باطلا، إمّا أن يكون معه دنانير قد ظفر بها من غير وجهها، أو لصّا يتستّر بالعمل، ثم قال: علىّ بالأسود فأحضره وضربه، وحلف إن لم يصدقه ليضربنّ عنقه، فقال الأسود: ولى الأمان يا أمير المؤمنين، قال: نعم! إلّا ما كان من حدّ، فظن أنه قد أمّنه، فقال: كنت أعمل في أتّون الآجرّ، منذ سنين، فأنا منذ شهور جالس إذ مرّ بى رجل في وسطه كيس فتبعته وهو لا يعرف مكانى فحلّ الهميان وأخرج منه دينارا فتأمّلته فاذا كله دنانير فكتّفته وسددت فاه وأخذت الهميان وحملته على كتفى وطرحته في التّنور وطيّنت عليه، فلما كان بعد أيام أخرجت عظامه وطرحتها في دجلة والدنانير معى تقوّى قلبى قال: فأرسل المعتضد من أحضر الدنانير، واذا على الكيس:
لفلان بن فلان، فنادى في المدينة، فحضرت امرأته وقالت: هذا زوجى وقد ترك طفلا صغيرا خرج في وقت كذا ومعه كيس فيه ألف دينار، فغاب الى الآن، فسلّم الدنانير اليها وأمرها أن تعتدّ، وضرب عنق الأسود وأمر أن يوضع فى الأتّون.
وقيل: جلس المنصور في إحدى قباب المدينة فرأى رجلا ملهوفا مهموما يجول فى الطرقات، فأرسل من أتاه به فسأله عن حاله فأخبره أنّه خرج في تجارة فأفاد مالا ورجع الى منزله به، فدفعه الى امرأته، فذكرت المرأة أنّ المال سرق ولم يرنقبا ولا تسلّقا، فقال له المنصور: منذكم تزوّجتها؟ قال: منذ سنة، قال: فبكرا أو ثيّبا؟(3/150)
قال ثيّبا، قال: فلها ولد من سواك؟ قال: لا، قال: شابّة أم مسنّة؟ قال:
شابّة، فدعا المنصور بقارورة طيب، وقال: تطيّب بهذا، فهو يذهب همّك، فأخذها وانقلب الى أهله، ثم قال المنصور لأربعة من ثقاته: اقعدوا على أبواب المدينة، فمن مرّبكم وعليه شىء من هذا الطّيب فأتونى به، وأشمهم من ذلك الطّيب، ومضى الرجل بالطّيب، فدفعه الى امرأته وقال: وهبه لى أمير المؤمنين، فلمّا شمّته بعثت به الى رجل كانت تحبّه وقد كانت دفعت اليه المال فتطيّب به، ومرّ مجتازا ببعض الأبواب، فأخذ وأتى به الى المنصور، فقال له: من أين استفدت هذا الطيب؟ فلجلج لسانه، فسلّمه الى صاحب شرطته وقال: أن احضر الدنانير وإلّا فاضربه ألف سوط، فما هو إلّا أن جرّد وهدّد، فأحضر الدنانير على حالتها فأعلم المنصور بذلك، فدعا صاحب الدنانير وقال: أرأيتك إن رددت عليك متاعك بعينه أتحكّمنى في امرأتك؟ قال: نعم! قال: خذ دنانيرك وقد طلّقت امرأتك وخبّره الخبر.
ودخل شريك بن عبد الله القاضى على المهدىّ فأراد أن يبخّره فقال للخادم: ائت القاضى بعود، فذهب فجاء بالعود الذى يلهى به، فوضعه في حجر شريك، فقال شريك:
ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: عود أخذه صاحب العسس البارحة فأحببنا أن يكون كسره على يد القاضى، فقال شريك: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، ثم ضرب به الأرض فكسره ثم أفاضوا في حديث آخر حتى نسى الأمر ثم قال المهدىّ لشريك:
ما تقول فيمن أمر وكيلا له أن يأتى بشىء فجاء بغيره فتلف ذلك الشىء؟ فقال:
يضمن يا أمير المؤمنين، فقال للخادم: اضمن ما تلف.(3/151)
الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الثانى فى الكنايات والتعريض
والكنايات لها مواضع؛ فأحسنها العدول عن الكلام القبيح الى ما يدلّ على معناه فى لفظ أبهى منه. ومن ذلك أن يعظّم الرجل فلا يدعى باسمه ويكنى بكنيته، أو يكنى باسم ابنه صيانة لاسمه، وقد ورد في ذلك كثير من آى القرآن فمنها قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً)
أى كنّياه. وقد كنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: بأبى تراب؛ وقال البحترىّ
يتشاغفن بالصغير المسمّى ... موضعات وبالكبير المكنّى
وهذا يدل على أن المراد بالكنية التبجيل؛ وقول ابن الرومىّ
بكت شجوها الدنيا فلما تبيّنت ... مكانك منها استبشرت وتثنّت
وكان ضئيلا شخصها فتطاولت ... وكانت تسمّى ذلة فتكنّت
وقال أبو صخر الهذلىّ
أبى القلب إلا حبّه عامريّة ... لها كنية: عمرو، وليس لها عمرو
ومن عادة العرب وشأنهم؛ استعمال الكنايات في الأشياء التى يستحيى من ذكرها، قصدا للتعفّف باللسان، كما يتعفّف بسائر الجوارح، قال الله عزوجلّ تأديبا لعباده (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)
فقرن عفّة البصر(3/152)
بعفّة الفرج؛ وفي القرآن كنايات عدل بها عن التصريح تنزيها عن اللفظ المستهجن، كقوله تعالى: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)
وقال أبو عبيد: هو كناية، شبّه النساء بالحرث، وقوله تعالى: (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)
، قيل: هو كناية عن الفروج، وفي موضع آخر: يوم (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)
، وقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)
، وقوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ)
قال المفسرون: هذا تنبيه بأكل الطعام على عاقبة ما يصير اليه؛ وهو الحدث، لأن من أكل الطعام فلا بدّ أن يحدث. ثم قال:
(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ)
وهذا من ألطف الكناية، ومنه قوله تعالى: (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) *
فالغائط: المطمئن من الأرض، وكانوا يأتونه لحاجتهم ويستترون به عن الأماكن المرتفعة. ومن لم ير الوضوء من لمس النساء جعل الملامسة هاهنا كناية عن الفعل.
ومن الكنايات في كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو وإن كان قد ورد في الأمثال أشبه بالكناية- منها قوله صلّى الله عليه وسلم «إياكم وخضراء الدّمن» يريد بها المرأة الحسناء في المنبت السوء، وتفسير ذلك: أن الريح تجمع الدّمن، وهو البعر في البقعة من الأرض فأذا أصابه المطر نبت نبتا غضّا يهتزّ وتحته الدّمن الخبيث، يقول:
فلا تنكحوا هذه المرأة الحسناء لجمالها، ومنبتها خبيث كالدّمن؛ فإن أعراق السوء تزرع أولادها؛ وقال زفر بن الحارث
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا!(3/153)
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «حمى الوطيس» قاله لما جال المسلمون يوم حنين، والوطيس: حفيرة تحتفر في الأرض شبيهة بالتنّور؛ وقال الحسن: لبث أيوب عليه السلام على المزبلة سبع سنين، وما على الأرض يومئذ خلق أكرم على الله منه، فما سأل الله العافية إلا تعريضا في قوله: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
والعرب تكنى عن الفضلة المستقذرة بألفاظ كلّها كنايات، منها: الرّجيع والنّجو والبراز والغائط والعذرة والحشّ، فبعض هذه الألفاظ يراد بها نفس الحدث، وبعضها يراد بها المواضع التى يأتى اليها المحدث، وكذلك استعملوا في إتيان النساء: المجامعة، والمرافعة، والمباضعة، والمباشرة، والملامسة، والمماسّة، والخلوة، والإفضاء، والغشيان، والتغشّى، وكل هذه الألفاظ مذكورة في القرآن.
وحكى: أن رجلا من بنى العنبر كان أسيرا في بكر بن وائل، وعزموا على غزو قومه، فسألهم رسولا الى قومه، فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا لئلا تنذرهم، وجىء بعبد أسود، فقال له: أتعقل؟ قال: نعم إنى لعاقل! قال: ما أراك عاقلا! ثم أشار بيده الى الليل، فقال: ما هذا؟ قال: الليل! قال: أراك عاقلا. ثم ملأ كفّيه من الرمل فقال: كم هذا؟ قال: لا أدرى وإنه لكثير، قال: أيّما أكثر؟
النجوم أم النيران؟ قال: كلّ كثير، فقال: أبلغ قومى التحيّة، وقل لهم ليكرموا فلانا، يعنى أسيرا كان في أيديهم من بكر، فإن قومه لى مكرمون وقل لهم: إن العرفج قد أدبى، وشكّت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتى الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملى الأصهب بآية ما أكلت معهم حيسا، واسألوا عن خبرى أخى الحارث؛(3/154)
فلما أدّى العبد الرسالة اليهم قالوا: قد جنّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء، ولا جملا أصهب، ثم سرّحوا العبد ودعوا الحارث فقصّوا عليه القصّة، فقال:
قد أنذركم؛ أمّا قوله: قد أدبى العرفج؛ يريد: أن الرجال قد استلاموا ولبسوا السلاح، وقوله: وشكّت النساء؛ أى اتخذن الشّكاء للسفر، وقوله: الناقة الحمراء؛ أى ارتحلوا عن الدهناء واركبوا الصّمّان وهو الجمل الأصهب، وقوله: بآية ما أكلت معكم حيسا أى أخلاط من الناس وقد غزوكم؛ لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط، فامتثلوا ما قال، وعرفوا لحن كلامه. وحكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده الى مجالد ابن سعيد عبد الملك بن عمر قال: قدم علينا عمر بن هبيرة الكوفة، فأرسل الى عشرة أنا أحدهم من وجوه أهل الكوفة، فسمرنا عنده. ثم قال: ليحدثنى كلّ رجل منكم أحدوثة. وابدأ أنت يا أبا عمرو، فقلت: أصلح الله الأمير، أحديث الحق أم حديث الباطل؟ قال: بل حديث الحقّ، قلت: إن امرأ القيس آلى ألية أن لا يتزوّج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنين، فجعل يخطب النساء فاذا سألهن عن هذا، قلن أربعة عشر، فبينا هو يسير في جوف الليل اذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة، كأنها البدر لتّمه، فأعجبته فسألها: يا جارية! ما ثمانية وأربعة واثنان؟
فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة، وأما أربعة فأخلاف الناقة، وأما اثنان فثديا المرأة، فخطبها الى أبيها، فزوّجه إياها وشرطت عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، وعلى أن يسوق اليها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس؛ ففعل ذلك، ثم إنه بعث عبدا له الى المرأة، وأهدى لها نحيا من سمن، ونحيا من عسل، وحلّة من قصب، فنزل العبد(3/155)
على بعض المياه، فنشر الحلّة فلبسها فتعلّقت بسمرة فانشقّت، وفتح النّحيين فأطعم أهل الماء منهما فنقصا، ثم قدم على حىّ المرأة وهم خلوف فسألها عن أبيها وأمها وأخيها، ودفع اليها هديّتها فقالت له: أعلم مولاك أنّ أبى ذهب يقرّب بعيدا، ويبعّد قريبا، وأنّ أمّى ذهبت تشقّ النفس نفسين، وأنّ أخى ذهب يراعى الشمس، وأنّ سماءكم انشقّت، وأنّ وعاءيكم نضبا، فقدم الغلام على مولاه فأخبره، فقال: أما قولها: أنّ ابى ذهب يقرّب بعيدا ويبعّد قريبا: فإن أباها ذهب يحالف قوما على قومه، وأما قولها: ذهبت أمّى تشق النفس نفسين: فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء؛ وأما قولها: ذهب أخى يراعى الشمس: فإن أخاها في سرح له يرعاه، فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح به، وقولها: أن سماءكم انشقّت: فإن البرد الذى بعثت به انشقّ، وأما قولها: أن وعاءيكم نضبا: فإن النّحيين نقصا؛ فاصدقنى؛ فقال: يا مولاى! إنى نزلت بماء من مياه العرب، فسألونى عن نسبى، فأخبرتهم أنى ابن عمك، ونشرت الحلّة فلبستها وتجمّلت بها، فتعلّقت بسمرة فانشقّت، وفتحت النّحيين فأطعمت منهما أهل الماء. فقال: أولى لك؛ ثم ساق مائة من الإبل، وخرج ومعه الغلام ليسقى الإبل، فعجز؛ فأعانه امرؤ القيس فرمى به الغلام في البئر، وخرج حتى أتى المرأة بالإبل فأخبرهم أنه زوجها، فقيل لها: قد جاء زوجك! فقالت: والله ما أدرى أزوجى هو أم لا؟ ولكن انحروا له جزورا وأطعموه من كرشها وذنبها، ففعلوا؛ فأكل ما أطعموه، قالت: اسقوه لبنا حازرا (وهو الحامض) فسقوه؛ فشرب، فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، ففرشوا له؛ فنام. فلما أصبحت أرسلت اليه: أريد أن أسألك عن ثلاث، قال: سلى عما بدا لك، فقالت: لم تختلج شفتاك؟(3/156)
قال: من تقبيلى إياك! قالت: لم تختلج فخذاك؟ قال: لتورّكى إياك! قالت:
فلم يختلج كشحاك؟ قال: لالتزامى إياك! قالت: عليكم العبد! فشدّوا أيديكم به؛ ففعلوا؛ قال: ومرّقوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع الى حيّه واستاق مائة من الإبل وأقبل الى امرأته. فقيل لها: قد جاء زوجك! فقالت: والله ما أدرى أزوجى هو أم لا؟ ولكن انحروا له جزورا وأطعموه من كرشها وذنبها، ففعلوا؛ فلما أتوه بذلك، قال: وأين الكبد والسّنام والملحاء؟ فأبى أن يأكل، فقالت:
اسقوه لبنا حازرا، فأتى به، فأبى أن يشربه وقال: أين الصّريف والرّثيئة؟ فقالت:
افرشوا له عند الفرث والدم، ففرشوا له؛ فأبى أن ينام وقال: افرشوا لى فوق التلعة الحمراء واضربوا عليها خباء، ثم أرسلت اليه: هلمّ شريطتى عليك في المسائل الثلاث، فأرسل اليها: سلينى عما شئت، فقالت: لم تختلج شفتاك؟ قال: لشرب المشعشعات؛ قالت: فلم يختلج كشحاك؟ قال: للبس الحبرات؛ قالت: فلم يختلج فخذاك؟
قال: لركض المطهّمات؛ قالت: هذا زوجى لعمرى! فعليكم به، واقتلوا العبد فقتلوه، ودخل امرؤ القيس بالجارية؛ قال ابن هبيرة: حسبكم! فلا خير فى الحديث في سائر الليلة بعد حديثك يا أبا عمرو ولن يأتينا أحد بأعجب منه، فقمنا فانصرفنا وأمر لى بجائزة.
وقيل: بعث نشامة بن الأعور العنبرىّ الى أهله بثلاثين شاة ونحى صغير فيه سمن، فسرق الرسول شاة، وأخذ من رأس النحى شيئا، فقال لهم الرسول: ألكم حاجة أخبره بها؟ فقالت امرأته: أخبره أنّ الشهر محاق، وأن جدينا الذى كان يطالعنا وجدناه مرثوما، فارتجع منه الشاة والسمن.(3/157)
وقيل: أسرت طىّء غلاما، فقدم أبوه ليفديه، فاشتطّوا عليه. فقال أبوه:
لا والذى جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلى طىّء! ما عندى غير ما بذلته، ثم انصرف وقال: لقد أعطيته كلاما إن كان فيه خير فهمه. كأنه قال: الزم الفرقدين على جبلى طىّء، ففهم الابن تعريضه وطرد إبلا لهم من ليلته ونجا.
ومن التخليص المتوسّط اليه بالكناية؛ ما روى عن عدىّ بن حاتم بن عبد الله الطائىّ، أنه قال يوما في حق الوليد بن عقبة بن أبى معيط: ألا تعجبون لهذا؟ أشعر بركا يولّى مثل هذا المصر، والله ما يحسن أن يقضى في تمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر: أنشد الله رجلا سمّانى أشعر بركا إلا قام، فقام عدىّ بن حاتم فقال: أيها الأمير، إن الذى يقوم فيقول: أنا سمّيتك أشعر بركا لجرىء، فقال له: اجلس يا أبا طريف! فقد برّأك الله منها، فجلس وهو يقول: ما برأنى الله منها.
وقيل: كان شريح عند زياد بن أبيه وهو مريض، فلما خرج من عنده أرسل اليه مسروق رسولا وقال: كيف تركت الأمير؟ فقال: تركته يأمر وينهى، قال مسروق:
إنه صاحب مرض، فارجع اليه واسأله ما يأمر وينهى، قال: يأمر بالوصيّة وينهى عن النّوح.
خطب رجل الى قوم فجاءوا الى الشعبىّ يسألونه عنه، وكان به عارفا، فقال: هو والله ما علمت نافذ الطعنة، ركين الجلسة، فزوّجوه؛ فاذا هو خيّاط فأتوه فقالوا:
غررتنا فقال: ما فعلت وإنه لكما وصفت.(3/158)
وخطب باقلانىّ الى قوم وذكر أن الشعبىّ يعرفه فسألوه فقال: إنه لعظيم الرماد، كثير الغاشية.
قيل: أخذ العسس رجلين فقال لهما: من أنتما؟ فقال أحدهما
أنا ابن الذى لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا الى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود!
وقال الآخر
أنا ابن من تخضع الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها
تأتيه بالذلّ وهى صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها!
فظنوهما من أولاد الأكابر، فلما أصبح سأل عنهما؛ فإذا الأول ابن طبّاخ والثانى ابن حجّام.
وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه للأحنف: أىّ الطعام أحبّ اليك؟
قال: الزّبد والكمأة. فقال: ما هما بأحبّ الطعام اليه، ولكنه يحبّ الخصب للمسلمين.
وقال لقمان لابنه: كل أطيب الطعام، ونم على أوطأ الفرش؛ كنّى عن إكبار الصيام، وإطالة القيام.
ومن جيّد التورية وغريبها مع توخّى الصدق في موطن الخوف: قول أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، وقد أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رديفه عام الهجرة، فقيل له: من هذا يا أبا بكر؟ فقال: رجل يهدينى السبيل.(3/159)
ورفع الى عبيد الله بن الحسن قاضى البصرة وصية لرجل بمال أمر أن تتّخذ به حصون. فقال: اشتروا به خيلا للسبيل، أما سمعتم قول النخعىّ
ولقد علمت على تجنبى الردى ... أن الحصون الخيل لا مدر القرى
قيل كان البراء بن قبيصة صاحب شراب؛ فدخل على الوليد بن عبد الملك، وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ قال فرس لى أشقر، ركبته فكبابى، فقال:
لو ركبت الأشهب لما كبابك؛ يريد الماء.
قال عبد الملك بن مروان لثابت بن الزبير: ما ثابت من الأسماء! ليس باسم رجل ولا امرأة، قال: يا أمير المؤمنين لا ذنب لى لو كان اسمى الىّ، لسمّيت نفسى زينب، يعرّض به؛ فإنه كان يعشق زينب بنت عبد الرحمن بن هشام فخطبها؛ فقالت: لا أوسّخ نفسى بأتى الذبّان.
قال نميرىّ لفقعسىّ: إنى أريد إتيانك فأجد على بابك جروا، فقال له الفقعسىّ:
اطرح عليه ترابا وادخل؛ أراد النميرىّ قول الشاعر
ينام الفقعسىّ وما يصلّى ... ويخرى فوق قارعة الطريق
وأراد الفقعسىّ قول الآخر
ولو وطئت نساء بنى نمير ... على ترب لخبّثن الترابا
قال عبد الله بن الزبير لامرأة عبد الله بن حازم السلمىّ: أخرجى المال الذى وضعته تحت استك، فقالت: ما ظننت أن أحدا يلى شيئا من أمور المسلمين يتكلّم بهذا، فقال بعض من حضر: أما ترون الخلع الخفىّ الذى أشارت اليه؟ فلما أخذ الحجّاج أمّ عبد الرحمن بن الأشعث تجنّب ما عيب على ابن الزبير، فكنّى عن المعنى فقال لها:
عمدت الى مال الله فوضعته تحت ذيلك.(3/160)
ماتت للهذلىّ أمّ ولد، فأمر المنصور الربيع بأن يعزّيه ويقول له: إن أمير المؤمنين يوجّه اليك بجارية نفيسة لها أدب وظرف تسليك عنها، وأمر لك بفرس وكسوة وصلة؛ فلم يزل الهذلىّ يتوقّعها، ونسيها المنصور، ثم حجّ ومعه الهذلىّ فقال له وهو بالمدينة:
أحبّ أن أطوف الليلة في المدينة، وأطلب من يطوف بى فقال: أنا لها يا أمير المؤمنين؛ فطاف به حتى وصل الى بيت عاتكة فقال: يا أمير المؤمنين! وهذا بيت عاتكة الذى يقول فيه الأحوص
يا بيت عاتكة الذى أتعزّل
فأنكر المنصور ذكر بيت عاتكة من غير أن يسأله عنه؛ فلما رجع أمرّ القصيدة على خاطره فاذا فيها
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فتذكّر الموعد وأنجزه واعتذر اليه.
اجتمع الشعراء بباب أمير من أمراء العرب، فمرّ رجل بباز فقال رجل من بنى تميم لآخر من بنى نمير: هذا البازى! فقال النميرىّ: إنه يصيد القطا؛ عرّض الأوّل بقول جرير
أنا البازى المطلّ على نمير ... أتيح من السماء لها انصبابا
وأراد الآخر قول الطرمّاح
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت
قال عمر بن هبيرة الفزارىّ لأيوب بن ظبيان النميرىّ وهو يسايره: غضّ من بغلتك! فقال: إنها مكتوبة، أراد بن هبيرة قول جرير
فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا(3/161)
وأراد النميرىّ قول ابن دارة
لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
وقيل: كان العزيز بن المعزّ العبيدىّ أحد الخلفاء بمصر يلعب بالحمام فتسابق هو وخادم له فسبق طائر الخادم طائر الخليفة؛ فبعث الى وزيره ابن كلس اليهودىّ يستعلمه عن ذلك فاستحيى أن يقول: إن طائر الخليفة سبق، فكتب إليه
يابن الذى طاعته عصمة ... وحبّه مفترض واجب
طائرك السابق لكنّه ... جاء وفي خدمته حاجب
جاءت امرأة إلى عمر رضى الله عنه فقالت: أشكو اليك زوجى، خير أهل الأرض إلا رجل سبقه لعمل، أو عمل مثل عمله، يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسى؛ ثم أخذها الحياء فقالت: أقلنى يا أمير المؤمنين! فقال: جزاك الله خيرا! فقد أحسنت الثناء، فلما ولّت قال كعب بن شور: يا أمير المؤمنين لقد أبلغت اليك في الشكوى، فإنها كنّت بذلك عن عدم المباضعة.
الباب الخامس من القسم الثانى من الفن الثانى فى الألغاز والأحاجىّ
قالوا: واشتقاق اللّغز من ألغز اليربوع ولغز: إذا حفر لنفسه مستقيما، ثم أخذ يمنة ويسرة ليوارى بذلك ويعمّى على طالبه. وللّغز أسماء فمنها: المعاياة، والعويص، والرمز، والمحاجاة، وأبيات المعانى، والملاحن، والمرموس، والتأويل، والكناية،(3/162)
والتعريض، والإشارة، والتوجيه، والمعمّى، والممثّل، ومعنى الجميع واحد، واختلافها بحسب اختلاف وجوه اعتباراته، فانك إذا اعتبرته من حيث إن واضعه كأنه يعاييك، أى يظهر إعياءك وهو التعب، سميته: معاياة، وإذا اعتبرته من حيث صعوبة فهمه واعتياص استخراجه، سمّيته: عويصا، وإذا اعتبرته من حيث إنه قد عمل على وجوه وأبواب، سمّيته: لغزا، وفعلك له: إلغازا، واذا اعتبرته من حيث إن واضعه لم يفصح عنه قلت: رمز، وقريب منه الإشارة، وإذا اعتبرته من حيث إن غيرك حاجاك أى استخرج مقدار عقلك، سمّيته: محاجاة، وإذا اعتبرته من حيث إنه استخرج كثرة معانيه، سمّيته: أبيات المعانى، وإذا اعتبرته من حيث إنّ قائله قد يوهمك شيئا ويريد غيره، سميته: لحنا وسميت فعلك: الملاحن، وإذا اعتبرته من حيث إنه ستر عنك ورمس فهو: المرموس، والرمس: القبر، وإذا اعتبرته من أن معناه يؤوّل اليك، سميته: مؤوّلا، وسميت فعلك: تأويلا، وإذا اعتبرته من حيث إن صاحبه لم يصرّح بغرضه، سميته: تعريضا وكناية، وإذا اعتبرته من حيث إنه ذو وجوه، سميته: الموجّه، وسميت فعلك: التوجيه، وإذا اعتبرته من حيث إنه مغطّى عليك، سمّيته: معمّى.
قال الحكيم أمير الدولة المعروف بابن التلميذ في الميزان
ما واحد مختلف الأسماء؟ ... يعدل في الأرض وفي السماء
يحكم بالقسط بلا رياء ... أعمى يرى الرشاد كلّ رائى
أخرس لا من علّة وداء ... يغنى عن التصريح بالإيماء
يجيب إن ناداه ذو امتراء ... بالرفع والخفض عن النداء
يفصح إن علّق في الهواء.(3/163)
قولة: مختلف الأسماء يعنى ميزان الشمس، والآصطرلاب، وسائر آلات الرصد، وهو معنى قوله: يحكم في السماء. وميزان الكلام: النحو، وميزان الشعر:
العروض، وميزان المعانى: المنطق، وهذه الميزان والذراع والمكيال.
وقال آخر فيه ما تقولون؟: فيما نزل من السماء، وعلّق في الهواء، له عين عمياء، وكفّ شلاء، ليس له إن عدل ثواب، ولا عليه إن جار عقاب، خلق من ثلاثة أجناس، تضعضعه الأنفاس، جسمه عار من غير لباس، أخرس اللسان، فى أذنه خرصان، مكرر الذكر فى القرآن، ينطوى اذا نام كالصّلّ، وفعله المستقبل معتلّ، وله في الآخرة أكبر محلّ.
وقال أبو نصر الكاتب في الخاتم
ومنكوح إذا ملكته كفّ ... وليس يكون في هذا مراء
له عين تخلّلها صياء ... فإن كحلت فللميل العماء
يظلّ طليعة للوصل هونا ... وللخاشى بزورته احتماء
وقد أوضحته وأبت عنه ... ففسّره فقد برح الخفاء
أراد بقوله: تخلّلها ضياء أى أنها مفتوحة وكحلها بالإصبع؛ وقد يبعث المحبوب بخاتمه علامة للزيارة أو رهنا عليها وهو أمان للجانى.
وقال ابن الرومىّ في فتيلة السراج
ما حيّة في رأسها درّة ... تسبح في بحر قليل المدى؟
إن غيّبت كان العمى حاضرا ... وإن بدت لاح طريق الهدى!(3/164)
وقال السرىّ الرفّاء في شبكة الصيّاد
وكثيرة الأحداق إلا أنها ... عمياء ما لم تنغمس في ماء
وإذا هى انغمست أفادت ربّها ... ما لا ينال بأعين البصراء
وقال آخر في النوم
وحامل يحملنى ... وما له شخص يرى!
إذا حصلت فوقه ... وهو لذيذ الممتطى!
سريت لا أدرى أفى ... أرض سريت أم سما!
وقال أبو العلاء المعرىّ في ركابى السرج
خليلان نيطا في جوانب مجلس ... جداراه قدّام له ووراء!
متى يضع الرّجلين ماش عليهما ... يزل عنه في وشك حفا وحفاء!
قوله: خليلان لتشابههما، والمجلس: السرج، وجداراه: قربوسه ورادفته، والحفا مقصور: وجع الرّجل، وممدود: من مشى الرجل حافيا بغير نعل.
وقال ابن القاسم عبد الصمد بن نائل في القفل
مجامع يعقد عقد الكلبه ... إن رامه غيرك جرّ نكبه
ينام كالأمرد لا كالقحبه ... حتى اذا شكّ القمدّ جنبه
وعالج الجذبة بعد الجذبه ... وانحلّ بالحقنة لا بالشربه
ألقى جنينا نتجته العزبه ... ثم إذا عاد إليه أشبه
بعض حروف المعجم المنكبه ... يبغض وهو صادق المحبه
يعتقد السّلم وينوى حربه ... وهو على ذاك طويل الصحبه(3/165)
شبّهه بالمجامع: لدخول الفراش في بطنه، وقوله: يعقد عقد الكلبة: فى عسر المفارقة، وإن فتحه غيرك جرّ نكبة عليك لسرقة ما فيه، ينام كالأمرد: لانكبابه، والقمدّ: الذكر وهو المفتاح، والجنين: الفراش، وإذا عاد إليه أشبه حرف الكاف.
وقال في اسم سعيد
يبسم عن أوّل اسمه حبّى ... ثم بثانى حروفه يسبى
ثم بحرفين لو بدا بهما ... أسدى يدا، صورة اسمها تنبى
أربعة نصفها كجملتها ... فى العدّ لم تنتقص ولم تربى
هذا وفيه اسم يوم اتّفقت ... مفاخر العجم فيه والعرب
فأعمل الفكر في تأمله ... واركب به كلّ مركب صعب
شبّه السين بالثغر، وثانيه العين وهى تسبى القلوب، والحرفان يد وهى أربعة في العدد وستّة في الصورة، وإذا أخذت السين والعين فهى أربعة وهى جملة العدد، وفيه عيد وهو يوم التفاخر بالزينة واللبوس.
وقال ابن أبى البغل الكاتب في القلم
اصمّ عن المنادى لا يجيب ... به تخبو وتشتعل الخطوب
ضئيل الجسم «أعلم» ليس تخفى ... عليه غيوب ما تخفى القلوب
تراه راجلا لا روح فيه ... ويحييه وينطقه الرّكوب
يبين لسانه مكنّ سودا ... معارفه ويخرسه المشيب
يقسّم في الورى بؤسى ونعمى ... ويحكم والقضاء له مجيب
عجبت لسطوة فيه وضعف ... وكلّ أموره عجب عجيب
أراد بقوله: أعلم: مشقوق الشّفة.(3/166)
وقال أبو العلاء المعرّى في الملح
وبيضاء من سرّ الملاح ملكتها ... فلما قضت إربى حبوت بها صحبى
فباتوا بها مستمتعين ولم تزل ... تحثّهم بعد الطعام على الشّرب
قوله: سرّ أى خالصة، والملاح جمع ملح، والإرب: الحاجة.
وقال آخر في عودى الغناء والبخور
وما شيئان إسمهما سواء ... وأصلهما معا عند انتساب
إذا حضراك بتّ قرير عين ... بلا طعم يلذّ ولا شراب
وما أن يوجدان النفع إلّا ... بضرب أو بضرب من عذاب
معنى اسمهما سواء ظاهر، وأصلهما خشب، والضّرب الأول: ضرب العود، والثانى: من العذاب وهو الإحراق.
وقال آخر في الحرب
ما ذات شوك لها جناح ... يختطف الناس عن قريب
وهى عقيم ترى بنيها ... من بين مرد وبين شيب
يأكل بعض البنين بعضا ... طلوع شمس الى غروب
تصحيفها الداء غير شك ... قد يحسم الداء بالطبيب
والداء معكوسه مكان ... يصلح للطائر النجيب
يعرفها من يكون طبّا ... بالشعر والنحو والغريب
هذا لغز معمى في الحرب، وشوكها: السلاح، وجناحاها: جانباها، وعقيم:
لأنها لا تلد، وبنوها: رجالها. وأكلهم: قتلهم. وتصحيفها: الجرب، وعكسه:
برح.(3/167)
وقال آخر في الثدى
وما أخوان مشتبهان جدّا ... كما اشتبه الغرابة والغراب
يضمّهما على مرّ الليالى ... وما اجتمعا ولا افترقا إهاب
لذاك وذا دموع هاملات ... ولكن كلّ دمعهما شراب
يصونهما عن الأبصار دين ... ويضرب دون نيلهما حجاب
هما: ثديا المرأة، ويضمّهما إهاب: وهو الجلد.
وقال آخر في الفخّ
وما ميّت كفّنته ودفنته ... فقام الى حىّ صحيح فأوثقه
وقال آخر وهو لغز
حلف الحبيب علىّ لا سمّيته ... فكنيته ولطفت خوف تغاضبه
ظبى! اذا ما زارنى حلّ اسمه ... قلبى وذلك من عجيب عجائبه
ويكون إن رحمته وخرمته ... وقلبته ما تشتهى من صاحبه
ويكون إن صحّفت مبدأه الذى ... أصبحت تهواه لعين مراقبه
وتراه بعد الجزم إن ميّزت في التصحيف ... مقلوبا أشدّ معائبه
وحروفها فالنصف منها جذرها ... وحساب ذلك غير متعب حاسبه
فاطلبه سادس سادس ثانيه ثا ... نيه وثالثه كذاك لطالبه
وتمامه من بعد مثل حروفه ... فى البيت صحّ اسم الحبيب لقالبه(3/168)
هو لغز في فرحة، والترخيم: حذف الآخر، والخرم: حذف الأوّل؛ فاذا رخم وخرم وقلب بقى: حر، واذا قلبت الفاء قافا بقى: قرحة لعين المراقب، واذا صحفته مقلوبا، وجزمت آخره صار: هجر، والنصف من حروفه اثنان، وهما جذر جميع حروفه، وقوله: فاطلبه سادس سادس: يعنى البيت السادس.
وقال آخر في سلمى
سل ماهرا بالقريض والأدب ... ما اسم فتاة قعيدة النّسب
قد صرّح الشّعر باسمها فمتى ... فكّرت فيها ظفرت بالعجب
الاسم: سلمى، وهو ظاهر في أول البيت.
وقال آخر في الكرة
ومضروبة تحيا إذا ما ضربتها ... وإن تركت من شدّة الضرب ماتت
وقال أبو عبد الله بن المغلّس في السّراج
وداع الى نفسه في الظلام ... وما سمعت أذنه صوته
اذا هو بيّض وجه الطريق ... سوّد في وجهه بيته
وقال آخر في الصّدى
وساكن يسكن في الفلاة ... ليس من الوحش ولا النبات
ولا من الجنّ ولا لحيّات ... ولا الخيام الشعر والأبيات
ولا بذى جسم ولا حياة ... كلا! ولا يدرك بالصفات
بلى! له صوت من الأصوات ... يسمع في الأحيان والأوقات(3/169)
وقال ابن المغلّس في النخلة
وقائمة أبدا لا تنام ... وما قعدت قطّ مذ قامت
تعيش إذا غسلوا رجلها ... وإن حلقوا رأسها ماتت
وقال آخر ما يقول سيدنا الشيخ: فى شىء نزل من السماء، وركض في الهواء، وخيّم في البيداء، نطق على نفسه فأفصح، وتكلّم فبيّن وأوضح، أفقر وأغنى، وأمات وأحيا، له شوارق من غير غضب، ورقصات على غير طرب، يسبق الفرس السريع، ويسبقه الطفل الرضيع، مختلف الألوان، يوجد في كلّ زمان، ما أكثر لغاته! وأعمّ في البشر ذكر صفاته! وهو خفيف ثقيل، كثير قليل، كبير صغير، طويل قصير، غال رخيص، قوىّ ضعيف، سريع بطىء، بارد حارّ، نافع ضارّ، أبيض أسود أزرق، قريب بعيد، قديم جديد، متحرّك ساكن، ظاهر باطن، يتجسّر ويتكسّر، ويتعوّج ويتدوّر، سلطانه في الشمال وبه يذلّ، وضعفه في الجنوب وبه يعزّ، نحيل يخفى جثّة الفيل في طيّه وعطفه. ويتخلّل جفن العين الرمدة برفقه ولطفه، يمشى على الحدق فلا يؤلمها، ويطأ القلوب فلا يكلمها، على أنّه يقطع الطريق، ويخيف الفريق، كم أهلك من قوم وما راق ولا سفك! يحمل ألف قنطار، ويعجز عن حمل دينار، وهو ليلىّ نهارىّ، عربىّ عجمىّ، برىّ بحرىّ، سهلىّ جبلىّ، رومىّ نوبىّ، هندىّ حبشىّ، صينىّ جاهلىّ إسلامىّ. كان مع آدم في الجنّة، وصحب نوحا في السفينة، وتوسّط النار مع إبراهيم، كم له مع موسى من خبر! ولموسى فيه من آية وأثر! حمل المسيح على غير ظهر، وما سر في برّ ولا بحر، أخرجه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من جسده، وفرّقه على صحابته، إذا نطقت به كان بعض أحد خلفاء بنى العباس السبعة وهو 1431.(3/170)
وقال آخر ما شىء وجهه قمر، وقلبه حجر إن علّقته ضاع، وإن أدخلته السّوق أبى أن يباع، وإن فككته دعا لك، وإن ركبت نصفه هالك، وربّما كثر أموالك، وإن حذفت آخره، وشدّدت ثانيه، أورثك الألم عند الفجر، والضجر عند العصر: هو الدّملج الفضة.
ومما يتصل بهذا الباب مسائل العويص
فمن ذلك: امرأتان التقتا برجلين قالتا لهما: مرحبا بابنينا وزوجينا وابنى زوجينا، وذلك أن كلّ واحد منهما تزوّج بأم الآخر فهما ابناهما وزوجاهما وابنا زوجيهما.
رجلان كلّ واحد منهما عمّ الآخر وابن أخيه، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بأم الآخر، فرزق كل واحد منهما ولدا فكل من الولدين عمّ الآخر وابن أخيه.
رجلان كل واحد منهما خال الآخر وابن أخته، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بابنة الآخر، فرزق كلّ واحد منهما ولدا فكلّ من ولديهما خال الآخر وابن أخته.
رجل وامرأتان هو خال أحديهما، وهى خالته وعمّ الأخرى، وهى عمّته، وذلك: أنّ جدّته أمّ أبيه تزوّجت بأخيه لأمّه وأخته لأبيه تزوّجت بأب أمّه، فولدتا بنتين فبنت أخته خالته وهو خالها، وبنت جدّته عمّته وهو عمّها، وهذا أصل الأبيات المنظومة في ذلك
ولى خالة وأنا خالها ... ولى عمّة وأنا عمّها(3/171)
رجلان كلّ واحد منهما ابن خال الآخر وابن عمّته، وذلك: أنّ كل واحد من أبويهما تزوّج بأخت الآخر، فرزق كلّ منهما ولدا، فكل من ولديهما ابن خال الآخر وابن عمّته.
رجلان كلّ واحد منهما عمّ والد الآخر، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بأم أب الآخر، فكلّ من أولادهما عمّ أب الآخر.
رجلان كلّ واحد منهما عمّ أمّ الآخر، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بابنة ابن الآخر، فكلّ من أولادهما خال أمّ الآخر.
رجلان كل واحد منهما خال أمّ الآخر، وذلك: أن كلّ واحد من أبويهما تروّج بابنة بنت الآخر، فكلّ من أولادهما خال أمّ الآخر.
رجلان احدهما عمّ الآخر والآخر خاله، وذلك: أن رجلين تزوّج أحدهما امرأة وتزوّج الآخر ابنة ابنها، فولد لكل منهما ولد فابن الأب عمّ ابن الابن، وابن الابن من أمّ امرأة الأب؛ هو أخوها وخال ابنها.
رجلان أحدهما عمّ الآخر وخاله، والآخر ابن أخيه وابن أخته، وذلك: أن رجلا له أخ لأب وأخت لأمّ فزوّج أخاه لأبيه بأخته لأمّه فأولدها ولدا فهما كذلك.(3/172)
القسم الثالث من الفنّ الثانى فى المدح، والهجو، والمجون، والفكاهات، والملح، والخمر، والمعاقرة، والنّدمان، والقيان، ووصف آلات الطّرب
وفيه خمسة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم فى المدح،
وفيه ثلاثة عشر فصلا حقيقة المدح وما قيل فيه، ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام، ما قيل في الإعطاء قبل السؤال، ما قيل في الشجاعة والصبر والإقدام، ما قيل في وفور العقل، ما قيل فى الصّدق، ما قيل في الوفاء والمحافظة، ما قيل في التواضع، ما قيل في القناعة والنّزاهة ما قيل في الشكر والثناء، ما قيل في الوعد والإنجاز، ما قيل في الشفاعة، ما قيل فى الاعتذار والاستعطاف.
فأمّا حقيقية المدح،
فقد عبّر عنها الحمدونىّ في «غاية الاختصار والإيجاز» بقوله:
حقيقة المدح: وصف الموصوف بأخلاق يحمد صاحبها عليها، ويكون نعتا حميدا.
قال الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ)
وقال عزّوجلّ: (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ(3/173)
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)
وروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أصحابى كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» وقد أوّلوا الخبر المروىّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب» قال العتبىّ هو المدح الباطل والكذب.
وأمّا مدح الرجل بما هو فيه فلا بأس به، وممّا يعضد هذا أنّ العبّاس بن عبد المطّلب وكعب بن زهير، وحسّان بن ثابت، وغيرهم؛ مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يرد أنه حثا في وجه أحد منهم ترابا.
وقيل في حثو التراب معنيان: أحدهما التغليظ في الردّ عليه، والثانى يقال له:
بفئك التراب.
وللشعراء عادة في تجاوز قدر الممدوح فوق ما يستحقّه حتى إنّ ذلك أفضى بكثير منهم الى الكفر والخروج عن الحدّ أعاذنا الله من ذلك؛ وقال أنو شروان: من أثنى عليك بما لم توله فغير بعيد أن يذمّك بما لم تحبّه. وقال وهب بن منبّه: من مدحك بما ليس فيك، فلا تأمن أن يذمّك بما ليس فيك.
وأنشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه قول زهير بن أبى سلمى في هرم بن سنان
دع ذا! وعدّ القول في هرم ... خير الكهول وسيّد الحضر
لو كنت من شىء سوى بشر ... كنت المنوّر ليلة القدر
ولأنت أوصل من سمعت به ... لنوائل الأرحام والصّهر
ولنعم حشو الدّرع أنت اذا ... دعيت نزال ولجّ في الذّعر
فقال عمر رضى الله عنه: ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم.(3/174)
ولما حضر أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه الوفاة؛ قالت عائشة رضى الله عنها وهو يغمض
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فنظر اليها وقال: ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال آخر
ولو كنت أرضا كنت ميثاء سهلة ... ولو كنت ليلا كنت صاحبة البدر
ولو كنت ماء كنت ماء غمامة ... ولو كنت يوما كنت تعريسة الفجر
وقال محمّد بن هانئ
أغير الذى قد خطّ في اللوح أبتغى ... مديحا له إنّى إذا لعنود
وما يستوى وحى من الله منزل ... وقافية في الغابرين شرود
وقال عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لمتمّم بن نويرة صف لى أخاك فإنى أراك تمدحه، فقال: كان أخى يحبس المزاد بين الصّوحين في الليلة القرّة معتقلا للرمح الخطل، عليه الشّملة القلوب، يقود الفرس الحرون فيصيح ضاحكا مستبشرا:
الخطل: الطويل المضطرب، والقلوب: التى لا تنضمّ على الرّحل لقصرها.
وسأل عبد الله بن عباس صعصعة بن صوحان العبدىّ عن إخوته فقال: أما زيد فكما قال أخو عبس
فتى لا يبالى أن يكون بوجهه ... إذا نال خلّان الكرام شحوب
ثم قال: كان والله يا ابن عباس، عظيم المروءة، شريف الأبوّة، جليل القدر، بعيد الشرّ، كميش العروة، زين النّدوة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الفكر،(3/175)
ذاكرا لله تعالى في طرفى النّهار وزلفا من الليل، الجوع والشّبع عنده سيّان، لا منافس فى الدنيا، ولا غافل عن الآخرة، يطيل السكوت، ويديم الفكر، ويكثر الاعتبار، ويقول الحق، ويلهج الصدق، ليس في قلبه غير ربه، ولا يهمه غير نفسه، فقال ابن عبّاس: ما ظنّك برجل سبقه عضو منه الى الجنّة؟ رحم الله زيدا! فأين كان عبد الله منه؟ فقال: كان عبد الله سيّدا شجاعا، شيخا مطاعا، خيره وساع، وشره دفاع. ليّن النحيزة، أحوذىّ الغريزة، لا ينهنه منهنه عمّا أراد، ولا يركب إلّا ما اعتاد، سمام العدى، فيّاض النّدى، صعب المقادة، جزل الرّفادة. أخو إخوان، وفتى فتيان، ثم أنشد شعر حسّان بن ثابت
اذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا يرى بينها فصلا
قضى فشفى ما في النّفوس فلم يدع ... لذى إربة في القوم جدّا ولا هزلا
ودخل ضرار بن ضمرة الكنانىّ على معاوية بن أبى سفيان فقال له: صف لى عليّا فقال له: أو تعفينى؟ فقال: لا أعفيك؟ قال: أما إذ لا بدّ، فإنّه كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلّب كفّيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقرّبه إلينا وقربه منا لا نكلّمه هيبة له، فان تبسّم فعن مثل لؤلؤ منظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوىّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.(3/176)
وذكر عمرو بن معديكرب بنى سليم فقال: بارك الله على حىّ بنى سليم ما أصدق فى الهيجاء لقاءها! وأثبت في النوازل بلاءها! وأجزل في النائبات عطاءها! والله لقد قابلتهم فما أجبتهم، وهاجيتهم فما أفحمتهم، وسألتهم فما أبخلتهم.
وقال بعض العرب: فلان حتف الأقران غداة النزال، وربيع الضّيفان عشيّة النزول.
وقال آخر: فلان ليث اذا غدا، وبدر اذا بدا، ونجم اذا هدى. وسمّ إذا أردى.
ودخل على النّعمان بن المنذر بن امرىء القيس ابن عمرو بن عدىّ اللّخمىّ فحيّاه بتحيّة الملوك ثم قال: أيفاخرك ذو فائش وأنت سائس العرب، وعروة الحسب والأدب، لأمسك أيمن من يومه! ولعبدك أكرم من قومه، ولقفاك أحسن من وجهه، وليسارك أجود من يمينه، ولظنّك أصدق من يقينه ولوعدك أثلج من رفده، ولخالك أشرف من جدّه، ولنفسك أمنع من جنده، وليومك أزهر من دهره، ولفترك أبسط من شبره، ثم قال
أخلاق مجدك جلّت ما لها خطر ... فى البأس والجود بين الحلم والخفر
متوّج بالمعالى فوق مفرقه ... وفي الوغى ضيغم في صورة القمر
اذا دجا الخطب جلاه بصارمه ... كما يجلّى زمان المحل بالمطر
فتهلّل وجه النعمان سرورا، ثم أمر أن يحشى فوه درّا وكسى أثواب الرضى وكانت حباب أطواقها الذهب بقصب الزمرد. ثم قال النّعمان: هكذا فليمدح الملوك.
وذو فائش: هو سلامة بن يزيد بن سلامة من ولد يحصب بن مالك وكان النابغة(3/177)
متّضلا به قبل اتصاله بالنّعمان، وله فيه مدائح كثيرة فاقتص الله تعالى من النّعمان ابن المنذر بعد ذلك لما حكى أنه دخل حسان بن ثابت على الجفنىّ فقال: انعم صباحا أيها الملك! السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك، ووالدى ووالدتى فداؤك، أنّى ينافسك ابن المنذر؟ فو الله لقذالك أحسن من وجهه، ولأمّك خير من أبيه، ولظلك خير من شخصه، ولصمتك أبلغ من كلامه، ولشمالك خير من يمينه، ثم قال
قذالك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر
ويسرى يديك اذا أعسرت ... كيمنى يديه فلا تمترى
أخذ المعنى الحسن بن هانئ فقال
بأبى أنت من غزال غرير ... بذّ حسن الوجوه حسن قفاكا
ونظر بعض الشعراء الى هذا المعنى فقال يمدح زبيدة ابنة جعفر بن أبى جعفر المنصور أم الأمين
أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطى الأكفّ من الرّغاب
فلما أنشد ذلك تبادر العبيد ليوقعوا به فقالت زبيدة: كفّوا عنه فلم يرد إلّا خيرا، ومن أراد خيرا فأخطأ خير ممّن أراد شرا فأصاب، إنّه سمع الناس يقولون: قفاك أحسن من وجه غيرك، وشمالك أندى من يمين سواك، فقدّر أن هذا مثل ذاك، أعطوه ما أمل، وعرّفوه ما جهل؛ ومثله: مدح شاعر أميرا فقال
أنت الهمام ابن الهما ... م الواسع ابن الواسعه
فقال له: من أين عرفتها؟ قال: قد جرّبتها فقال: أسوأ من شعرك، ما أتيت به من عذرك!(3/178)
قال دخل خالد بن عبد الله العنبرىّ على عمر بن عبد العزيز لمّا ولى الخلافة فقال: يا أمير المؤمنين من تكن الخلافة قد زانته فأنت قد زيّنتها، ومن يكن شرّفته فقد شرّفتها، وأنت كما قال الشاعر
وإذا الدّر زان حسن وجوه ... كان للدّر حسن وجهك زينا
فقال عمر بن عبد العزيز: أعطى صاحبكم مقولا، ولم يعط معقولا. ولمّا دخل عبد الله المأمون بغداد تلقّاه وجوه أهلها فقال له رجل منهم: يا أمير المؤمنين! بارك الله لنا في مقدمك، وزادك في نعمتك، وشكرك على رعيّتك، تقدّمت من قبلك، وأتعبت من بعدك، وأيأست أن نعاين مثلك، أمّا فيمن مضى فلا نعرفه، وأمّا فيمن بقى فلا نرجوه، فنحن جميعا ندعولك، ونثنى عليك. خصب لنا جنابك، وعذب شرابك، وحسنت نصرتك، وكرمت مقدرتك. جبرت الفقير، وفككت الأسير، فأنت يا أمير المؤمنين كما قال الشاعر
ما زلت في البذل للنوال وإط ... لاق لعان بجرمه علق
حتى تمنّى البراء أنّهم ... عندك أمسوا في القدّ والحلق
وقال رجل للحسن بن سهل: لقد صرت لا أستكثر كثيرك، وإن قليلك أكثر من كثير غيرك. وقال الرشيد لبعض الشعراء: هل أحدثت فينا شيئا؟ قال:
يا أمير المؤمنين! المديح كلّه دون قدرك، والشّعر فيك فوق قدرى. ولكنى أستحسن قول العتّابى
ماذا عسى مادح يثنى عليك وقد ... ناداك في الوحى تقديس وتطهير
فتّ الممادح إلا أن ألسننا ... مستنطقات بما تخفى الضمائير!(3/179)
وقال رجل في خالد بن صفوان: قريع المنطق، جزل الألفاظ، عربىّ اللسان، قليل الحركات، حسن الإشارات، حلو الشمائل، كثير الطلاوة، صموتا قؤولا، يهنأ الجرب، ويداوى الدبر، ويفك المحزّ، ويطبق المفصل، لم يكن بالزمر في مروءته، ولا بالهذر في منطقه، متبوعا غير تابع، كأنّه علم في رأسه نار.
وقيل لبعض الخلفاء: إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ليستعدّ به؛ فلو أمرت به ان يصعد المنبر فجاءة لافتضح، قال: فأمر من أخذ بيده فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: إن لأمير المؤمنين أشباها أربعة؛ فمنها: الأسد الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر، فأشبه منه صولته ومضاؤه. وأما البحر الزاخر، فأشبه منه جوده وعطاؤه. وأمّا القمر الباهر، فأشبه منه نوره وضياؤه. وأما الربيع الناضر، فأشبه منه حسنه وبهاؤه، ثم نزل.
وقيل دخل رجل على المنصور فقال له تكلّم بحاجتك؛ فقال: يبقيك الله تعالى يا أمير المؤمنين! قال: تكلّم بحاجتك؛ فإنّك لا تقدر على مثل هذا المقام في كلّ حين. قال: والله يا أمير المؤمنين! ما أستقصر أجلك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن عطاءك لشرف، وإنّ سؤالك لزين، وما بامرىء بذل اليك وجهه نقص ولا شين، فأحسن جائزته وأكرمه.
وقال محمد بن مالك القرطبىّ من رسالة: ما رأيت وجها أسمح، ولا حلما أرجح، ولا سجيّة أسمح، ولا بشرا أبدى، ولا كفّا أندى، ولا غرّة أجمل، ولا فضيلة أكمل،(3/180)
ولا خلقا أصفى، ولا وعدا أوفى، ولا ثوبا أطهر، ولا سمتا أوفر، ولا أصلا أطيب، ولا رأيا أصوب، ولا لفظا أعذب، ولا عرضا أنقى، ولا بناء أبقى، ممّا خصّ الله به ثالث القمرين، وسراج الخافقين، وعماد الثّقلين المعتصم بالله.
وقال بعض الكتّاب: إنّ من النعمة على المثنى عليك أن لا يخاف الإفراط، ولا يأمن التقصير، ولا يحذر أن يلحقه نقيصة الكذب، ولا ينتهى به المدح الى غاية، إلا وجد في فضلك عونا على تجاوزها. ومن سعادة جدّك أنّ الداعى لك لا يعدم كثرة المشايعين له، والمؤمنين معه.
وقال آخر: إنى فيما أتعاطى من مدحك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر الذى لا يخفى على كلّ ناظر، وأيقنت أنى حيث انتهى بى القول الى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك الى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك الى علم الناس بك.
وقال أبو عبد الله محمد بن الخباط من رقعة طويلة في المظفّر في أوّلها: حجب الله عن الحاجب المظفّر أعين النائبات، وقبض دونه أيدى الحادثات؛ فإنه مذ كان أنور من الشمس ضياء، وأكمل من البدر بهاء، وأندى من الغيث كفّا، وأحمى من الليث أنفا، وأسخى من البحر بنا، وأمضى من النصل لسانا، وأنجبه المنصور فجرى على سننه، وأدّب فأخذ بسننه، وكانت الرياسة عليه موقوفة، والسياسة اليه مصروفة، قصرت الأوهام عن كنه فضله، وعجزت الأقلام عن وصف مثله، غير أن الفضائل لا بدّ من نشرها، والمكارم لا عذر في ترك شكرها.
فهذه نبذة كافية مما ورد في المنثور فلنذكر ما ورد من المنظوم في ذلك.(3/181)
قال أبو هلال العسكرىّ: سمعت أبا أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد يقول:
امدح بيت قالته العرب قول النابغة الذبيانىّ يمدح النّعمان بن المنذر
ألم تر أن الله أعطاك سورة؟ ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
بأنك شمس والملوك كواكب ... اذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب
وهو مأخوذ من قول بعض شعراء كندة مدح عمرو بن هند
تكاد تميد الأرض بالناس أن رأوا ... لعمرو بن هند غضبة وهو عاتب
هو الشمس وافت يوم سعد فأفضلت ... على كلّ ضوء والملوك كواكب
وقال نصيب
هو البدر والناس الكواكب حوله ... وهل يشبه البدر المضىء كواكب
وقالوا: أبدع بيت قيل في المديح قول النابغة
فإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقوله: «أخلاق مجدك» - الأبيات وقد تقدمت- وقد تداول الناس قول النابغة
فإنك كالليل الذى هو مدركى
فقال الفرزدق
فلو حملتنى الريح ثم طلبتنى ... لكنت كشىء أدركته مقادره
وقول النابغة أبلغ، لأن الليل أعمّ من الريح، والريح يمتنع منها بأشياء، والليل لا يمتنع منه بشىء. وأخذ سلم الخاسر قول الفرزدق فقال
فأنت كالدهر مبثوثا حبائله ... والدهر لا ملجأ منه ولا هرب
ولو ملكت عنان الريح أصرفه ... فى كلّ ناحية ما فاتك الطلب(3/182)
وقالوا: أجود شىء قيل في الحسن مع الشجاعة من شعر المتقدّمين والمحدّثين قول أبى العتاهية يمدح الرشيد بن المهدىّ وولده
بنو المصطفى! هارون حول سريره ... فخير قيام حوله وقعود
تقلّب ألحاظ المهابة بينهم ... عيون ظباء في قلوب أسود
وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول أبى الطّمحان القينى
أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم ... دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه
نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب ... بدا كوكب يأوى اليه كواكبه
وما زال منهم حيث كان مسوّد ... تسير المنايا حيث سارت كتائبه
وهذه الأبيات من قصيدة مدح بها بجير بن أوس بن حارثة، ابن لأم الطائى، وكان أسيرا في يده، فلما مدحه بها أطلقه بعد أن جزّ ناصيته؛ وأوّل القصيدة
اذا قيل: أىّ الناس خير قبيلة؟ ... وأصبر يوما لا توارى كواكبه؛
فإنّ بنى لأم بن عمرو أرومة ... علت فوق صعب لا تنال مراتبه!
أضاءت لهم أحسابهم الأبيات.
ومثله قول ابن أبى السّمط
فتى لا يبالى المدلجون بنوره ... الى بابه أن لا تضىء الكواكب
له حاجب من كلّ أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب
ومثله قول الحطيئة
نمشى على ضوء أحساب أضأن لنا ... كما أضاءت نجوم الليل للسارى
ومثله قول الآخر
وجوه، لو انّ المدلجين اعتشوا بها ... صدعن الدجى حتى يرى الليل ينجلى(3/183)
وقال عيسى بن أوس يمدح الجنيد بن عبد الرحمن
الى مستنير الوجه طال بسؤدد ... تقاصر عنه الشاهق المتطاول
مدحتك بالحق الذى أنت أهله ... ومن مدح الأقوام حقّ وباطل
يعيش الندى مادمت حيّا فإن تمت ... فليس لحىّ بعد موتك طائل
وما لامرىء عندى مخيلة نعمة ... سواك وقد جادت علىّ مخائل
وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول الأعشى
فتى، لو ينادى الشمس ألقت قناعها ... أو القمر السارى لألقى المقالدا
وهذا من الغلو وهو مذموم عند بعضهم.
ومثله في الغلوّ قول طريح بن إسماعيل
لو قلت للسيل: دع طريقك وال ... موج عليه كالهضب يعتلج
لارتدّ أو ساخ أو لكان له ... فى جانب الأرض عنك منعرج
ومن الغلوّ قول أبى تمّام في المعتصم بالله
بيمن أبى إسحاق طالت يد العلى ... وقامت قناة الدين واشتدّ كاهله
هو البحر من أىّ النواحى أتيته ... فلجّته المعروف والجود ساحله
تعوّد بسط الكفّ حتى لو انه ... أراد انقباضا لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتّق الله سائله
وقال العسكرىّ
وكيف يبيت الجار منك على صدى؟ ... وكفّك بحر لجّة الجود ساحله(3/184)
وقال أبو هلال العسكرىّ يرفعه الى الأصمعىّ قال: سمعت أعرابيّا يقول: إنكم معاشر أهل الحضر، لتخطئون المعنى، إنّ أحدكم ليصف الرجل بالشجاعة فيقول:
كأنه الأسد، ويصف المرأة بالحسن فيقول: كأنها الشمس، ولم لا تجعلون هذه الأشياء بهم أشبه؟ ثم قال: والله لأنشدنّك شعرا يكون لك إماما. ثم أنشدنى
اذا سألت الورى عن كلّ مكرمة ... لم تلف نسبتها إلا الى الهول
فتى حوادا أعار النّيل نائله ... فالنّيل يشكر منه كثرة النّيل
والموت يرهب أن يلقى منيّته ... فى شدّة عند لفّ الخيل بالخيل
لو عارض الشمس ألفى الشمس مظلمة ... أو زاحم الصّمّ ألجاها الى الميل
أو بارز الليل غطّته قوادمه ... دون الخوافى كمثل الليل في الليل
أمضى من النجم إن نابته نائبة ... وعند أعدائه أجرى من السيل
ومثله قول الآخر
علّم الغيث الندى حتى اذا ... ما حكاه علّم البأس الأسد
فله الغيث مقرّ بالندى ... وله الليث مقرّ بالجلد
وقال اميّة بن أبى الصلت في عبد الله بن جدعان
أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك؟ إن شيمتك الحياء
كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق الكريم ولا مساء
فأرضك أرض مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء
ونحوه قوله
لكل قبيلة شرف وعزّ ... وأنت الرأس تقدم كلّ هاد(3/185)
وقال ابن الرومىّ
قوم يحلّون من مجد ومن شرف ... ومن غناء محلّ البيض واليلب
حلّوا محلّهما من كلّ جمجمة ... نفعا ودفعا وإطلالا على الرتب
قوم هم الرأس إذ حسّادهم ذنب ... ومن يمثّل بين الرأس والذنب
وقال أبو هلال العسكرىّ
فابشر فإنك رأس والعلى جسد ... والمجد وجه وأنت السمع والبصر
لولاك لم تك للأيّام منقبة ... تسمو اليها ولا للدهر مفتخر
وقال علىّ بن جبلة
لولا أبو دلف لم تحى عارفة ... ولم ينؤ نوء مأمول بآمال
يابن الأكارم من عدنان، قد علموا ... وتالد المجد بين العمّ والخال
وناقل الناس من عدم الى جدة ... وصارف الدهر من حال الى حال
أنت الذى تنزل الأيّام منزلها ... وتمسك الأرض عن خسف وزلزال
وما مددت مدى طرف الى أحد ... إلا قضيت بآمال وآجال
تزورّ سخطا فتمسى البيض راضية ... وتستهلّ فتبكى أوجه المال
وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول زهير
تراه اذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذى أنت سائله
وعاب بعضهم هذا البيت وقال: جعل الممدوح يفرح بغرض يناله، وليس هذا صفة كبير الهمة، والجيّد قول أبى نوفل عمرو بن محمد الثقفىّ
ولئن فرحت بما ينيلك إنه ... لبما ينيلك من نداه أفرح
ما زال يعطى ناطقا أو ساكتا ... حتى ظننت أبا عقيل يمزح(3/186)
ومثله قول أبى تمّام
أسائل نصر لا تسله فإنّه ... أحنّ الى الإرفاد منك الى الرّفد
وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول الحطيئة
متى تأته تعشو الى ضوء ... تجد خير نار عندها خير موقد
وقال القاسم بن حنبل
من البيض الوجوه بنى سنان ... لو انك تستضىء بهم أضاءوا
لهم شمس النهار اذا استقلّت ... ونور لا يغيّبه العماء
هم حلّوا من الشرف المعلّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا
فلو أنّ السماء دنت لمجد ... ومكرمة دنت لهم السماء
وقالوا أيضا: أمدح بيت قيل قول الأوّل أيضا
قوم، سنان أبوهم حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بعزّهم أو مجدهم قعدوا
محسّدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا
وقالوا: أمدح بيت قاله محدّث، قول مروان بن أبى حفصة في معن ابن زائدة
بنو مطر يوم اللقاء كأنّهم ... أسود لها في غيل خفّان أشبل
هم المانعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السّماكين منزل
بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهليّة أوّل
هم القوم، إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا(3/187)
وقال العسكرىّ: وأنشد بعض أهل الأدب قول ابن أبى طاهر وقال: لو استعمل الإنصاف لكان هذا أحسن مدح قاله متقدّم ومتأخّر وهو
إذا أبو أحمد جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر
وإن أضأت لنا أنوار غرّته ... تضاءل النيران: الشمس والقمر
وإن مضى رأيه أو جدّ عزمته ... تأخّر الماضيان: السيف والقدر
من لم يكن حذرا من حدّ صولته ... لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر
حلو، اذا أنت لم تبعث مرارته ... فإن أمرّ فحلو عنده الصّبر
سهل الخلائق إلا أنه خشن ... لين المهزة إلا أنه حجر
لا حيّة ذكر في مثل صولته ... إن صال يوما ولا الصّمصامة الذكر
اذا الرجال طغت آراؤهم وعموا ... بالأمر ردّ اليه الرأىّ والنظر
الجود منه عيان لا ارتياب به ... إذ جود كلّ جواد عنده خبر
وقال: ومن المديح القليل النظير، قول علىّ بن محمد الأفوه
أوفوا من المجد والعلياء في قلل ... شمّ، قواعدهنّ البأس والجود
سبط اللقاء اذا شيمت مخائلهم ... بسل اللقاء اذا صيد الصناديد
محسّدون، ومن يعلق بحبلهم ... من البريّة يصبح وهو محسود
وقالوا: أمدح بيت قاله محدّث قول علىّ بن جبلة في أبى دلف
إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومختضره
فاذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدّنيا على أثره
وهى من القصائد المشهورة، وأولها ... ذاد ورد الغىّ عن صدره
وارعوى، واللهو من وطره(3/188)
جاء منها في مدحه
يا دواء الأرض إن فسدت ... ومجير اليسر من عسره
كلّ من في الأرض من عرب ... بين باديه الى حضره
مستعير منه مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره
إنما الدنيا أبو دلف ... ............... ....
قال العسكرىّ: ومن المديح البارع قول بشار
ألا أيها الطالب المبتغى ... نجوم السماء بسعى أمم
سمعت بمكرمة ابن العلاء ... فأنشأت تطلبها لست ثم
اذا عرض الهمّ في صدره ... لها بالعطاء، وضرب البهم
فقل للخليفة إن ... نصيحا ولا خير في المتّهم
اذا أيقظتك جسام الأمور ... فنبّه لها عمرا ثمّ نم
فتى، لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم
يحبّ العطاء وسفك الدماء ... فيغدو على نعم أو نقم
قال ومن المديح القليل النظير: قول أمامة بنت الجلّاح الكلبيّة
اذا شئت أن تلقى فتى لو وزنته ... بكلّ معدّىّ وكلّ يمانى
وفي بهم جودا وحلما وسؤددا ... وباسا، فهذا الأسود بن قنان
فتى، كالفتاة البكر، يسفر وجهه ... كأن تلالى وجهه القمران
أغرّ أبرّ ابنى نزار ويعرب ... وأوثقهم عقدا بقول لسان
وأوفاهم عهدا وأطولهم يدا ... وأعلاهم فعلا بكلّ مكان.(3/189)
وأضربهم بالسيف من دون جاره ... وأطعنهم من دونه بسنان
كأنّ العطايا والمنايا بكفه ... سحابان مقرونان مؤتلفان
ومن المديح البارع قول أبى تمّام
رأيت لعيّاش خلائق لم تكن ... لتكمل إلّا في اللباب المهذّب
له كرم لو كان في الماء لم يغض ... وفي البرق ما شام امرؤ برق خلّب
أخو عزمات بذله بذل محسن ... الينا ولكن عذره عذر مذنب
يهولك أن تلقاه في صدر محفل ... وفي نحر أعداء وفي قلب موكب
وما ضيق أقطار البلاد أضافنى ... اليك ولكن مذهبى فيك مذهبى
وهذى بنات المدح فاجرر ذيولها ... عليك وهذا مركب الحمد فاركب
وقد أحسن التّنوخىّ في قوله
وفتية من حمير حمر الظّبى ... بيض العطايا حين يسودّ الأمل
شموس مجد في سموات على ... وأسد موت بين غابات أسل
وقالت الخنساء في أخيها صخر
طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
اذا القوم مدّوا بأيديهم ... الى المجد مدّ اليه يدا
فنال الذى فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا
فكلّفه القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
ترى الحمد يهوى الى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا(3/190)
قال آخر
ومصعد هضبات المجد يطلعها ... كأنه لسكون الجأش منحدر
مازال يسبق حتى قال حاسده ... له طريق الى العلياء مختصر
وقال إبراهيم بن العبّاس
تلج السنون بيوتهم وترى لها ... عن بيت جارهم ازورار مناكب
وتراهم بسيوفهم وشفارهم ... مستشرفين لراغب أو راهب
حامين أو قارين حيث لقيتهم ... نهب العفاة ونزهة للراغب
وقال أيضا
اذا السّنة الشّهباء مدّت سماءها ... مددت سماء دونها فتحلّت
وعادت بك الريح العقيم لدى القرى ... لقاحا فدرّت عن نداك وطلّت
وقال ابن الرومىّ
كأن مواهبه في المحو ... ل آراؤه عند ضيق الحيل
فلو كان غيثا لعمّ البلاد ... ولو كان سيفا لكان الأجل
ولو كان يعطى على قدره ... لأغنى النفوس وأفنى الأمل
وقال أبو الحسن بن أبى البغل البغدادىّ يمدح أبا القاسم بن وهب وقد تقدّم ذكر بعضها لابن أبى طاهر
اذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر
وإن أضاءت لنا أنوار غرّته ... تضاءل النّيّران: الشّمس والقمر
وإن بدا رأيه أو جدّ عزمته ... تأخر المأضيان: السيف والقدر(3/191)
ينال بالظنّ ما كان اليقين به ... والشاهدان عليه العين والأثر
كأنّه وزمام الدهر في يده ... يدرى عواقب ما يأتى وما يذر
وقال ذو الرمّة
يطيب تراب الأرض إن نزلوا بها ... ويختال أن تعلو عليها المنابر
وما زلت تسمو للمعالى وتجتنى ... جنى المجد مذ شدّت عليك المآزر
الى أن بلغت الأربعين فألقيت ... اليك جماهير الأمور الأكابر
فأحكمتها لا أنت في الحكم عاجز ... ولا أنت فيها عن هدى الحقّ جائر
وقال الشّريف الرّضىّ
يا مخرس الدّهر عن مقالته ... كلّ زمان عليك متّهم
شخصك في وجه كلّ داجية ... ضحى وفي كلّ مجهل علم
وقال أبو الحسن السلامىّ
اذا زرته لم تلق من دون بابه ... حجابا ولم تدخل عليه بشافع
كماء الفرات الجمّ أعرض ورده ... لكلّ أناس فهو سهل الشرائع
تراه اذا ما جئته متهللا ... تهلّل أبكار الغيوث الهوامع
وقال محمد بن الحسين الآمدىّ
من القوم لما استغرب المجدّ غيرهم ... من الناس أمسوا منه فوق الغرائب
اذا سالموا كانوا صدور مراتب ... وإن حاربوا كانوا قلوب مواكب
جواد متى ما رامت الريح شأوه ... كبت دون مرمى خطوه المتقارب
وبحر ندى لو زاره البحر حدّثت ... عجائبه عن فعله بالعجائب(3/192)
وقال الأصمعى: كنت بالبادية فرأيت امرأة على قبر تبكى وتقول
فمن للسؤال ومن للنوال ... ومن للمقال ومن للخطب؟
ومن للحماة ومن للكماة ... اذا ما الكماة جثوا للرّكب؟
اذا قيل: مات أبو مالك ... فتى المكرمات قريع العرب
[فقد مات عزّ بنى آدم ... وقد ظهر النّكد بعد الطرب «1» ]
قال: فملت إليها، وسألتها عنه، فقالت: فديتك! هذا أبو مالك الحجّام، ختن أبى منصور الحائك، فما ظننت إلا أنّه من سادات العرب.
وقال العماد الأصفهانىّ
حيّيون يخفون إحسانهم ... ويعتذرون كان قد اساءوا
اذا أظلم الدهر أعدوا عليه ... وإن أظلم الخطب يوما أضاءوا
بمثلكم قد أقرّ الرجال ... فمثلكم لم تلده النّساء
وللناس من حسن أيّامكم ... بدولتكم كلّ يوم هناء
وقال ايضا
فلأطوين على أغرّ محجّل ... عرض الفلاة الى أغرّ محجّب
ليث الوغى غوث ورى غيث النّدى ... بدر النّدىّ، نعم! وصدر الموكب
واذا استوى في دسته مالت له ... أعناق كل متوّج ومعصّب
وتميت رأفته حقود عداته ... وتحلّ هيبته عقود المحتبى
إنّ الممالك ما تزال برأيه ... فى صائب وبجوده في صيّب(3/193)
يحبوك معتذرا اليك فيا له ... من محسن تعروه خجلة مذنب
يزهى بأصل في العلاء مخيّم ... شرفا وفرع بالكرام مطنّب
وقال أحمد بن محمد النامىّ
له سورة في البشر تقرأ في العلا ... وتثبت في صحف العطاء وتكتب
اذا ما علىّ أمطرتك سماؤه ... رأيت العلا أنواؤها تتحلّب
وأزهر يبيضّ الندى منه في الرضا ... وتحمرّ أطراف القنا حين يغضب
أمير الندى ما للندى عنك مذهب ... ولا عنك يوما للرغائب مرغب
وقال أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاكىّ
سيّد شادت علاه له ... فى العلا آباؤه النجب
وله بيت يمدّ له ... فوق مجرى الأنجم الطّنب
حسبه بالمصطفى شرفا ... وعلىّ حين ينتسب
رتبة في العز شامخة ... قصرت عن مثلها الرتب
وقال ابن نباتة السعدىّ
يرى الشمس أمّا والكواكب إخوة ... وينظر من بدر السماء الى ترب
غنيت عن الآمال حين رأيته ... وأصبح من بين الورى كلّهم حسبى
فلم أطلب المعروف من غير كفّه ... وهل تطلب الأمطار إلا من السحب؟
وقال أبو حامد أحمد الأنطاكىّ
لو نيل بالمجد في العلياء منزلة ... لنال بالمجد أعنان السموات
يرمى الخطوب برأى يستضاء به ... اذا دجا الرأى من أهل البصيرات
فليس يلقاه إلا عند عارفة ... أو واقفا في صدور السمهريّات(3/194)
وقال أبو طالب المأمونىّ
قد وجدنا خطا الكلام فساحا ... فجعلنا النسيب فيك امتداحا
وأفضنا ما في الصدور ففاض المدح ... قبل النسيب فيك انفساحا
وعمدنا الى علاك فصغنا ... لصدور القريض منها وشاحا
وصدعنا في أوجه الشّعر من بيض ... مساعيك بالندى أوضاحا
كم كسير جبرته وفقير ... مستميح رددته مسمّاحا
وأمان خرس بسطت لها في القول ... حتى أعدتهنّ فصاحا
وبلاد جوامح رضتها بالعزم ... حتى أنسيتهنّ الجماحا
شهرت منك آل سامان عضبا ... ينجح السعى غربه إنجاحا
لا يذوق الإغفاء إلا رجاء ... أن يرى طيف مستميح رواحا
وقال أحمد بن محمد النامىّ
أمير العلا إن العوالى كواسب ... علاءك في الدنيا وفي جنّة الخلد
يمرّ عليك الحول، سيفك في الطّلى ... وطرفك ما بين الشكيمة واللّبد
ويمضى عليك الدهر، فعلك للعلا ... وقولك للتقوى، وكفّك للرّفد
وقال أيضا
فتى، قسّم الايّام بين سيوفه ... وبين طريفات المكارم والتلد
فسوّد يوما بالعجاج وبالردى ... وبيّض يوما بالفضائل والحمد
وقال الصاحب بن عبّاد
أيّها الآملون حطّوا سريعا ... برفيع العماد وارى الزناد(3/195)
فهو إن جاد ذمّ حاتم طىء ... وهو إن قال فلّ قسّ إياد
واذا ما ربا فأين زياد ... من علاه وأين آل زياد
وقال أبو طالب المأمونىّ من قصيدة
فتى ملئت بردتاه علا ... ونبلا وفضلا ومجدا وخيرا
اذا ضمّه الدّست ألفيته ... سحابا مطيرا وبدرا منيرا
وإن أبرزته وغى خلته ... حساما بتورا وليثا هصورا
وطورا معيدا وطورا مبيدا ... وطورا مجيرا وطورا أميرا
ترى في ذراه لسان المنى ... طويلا وباع الليالى قصيرا
تضمّ الأسرّة منه ذكاء ... وتحمل منه المذاكى ثبيرا
وقال أبو الطيّب المتنبى
بمشى الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتى وتبتدع
من كان فوق محلّ الشمس موضعه ... فليس يرفعه شىء ولا يضع
وقال أبو المعالى محمد بن مسعود الأصفهانىّ شاعر الخريدة
قد حلّ في مدرج العلياء مرتبة ... مطامح الشهب عن غاياتها تقف
أغرى بوصف معاليه الورى شغفا ... لكنه والمعالى فوق ما وصفوا
إن ناصبته العدا فالدهر معتذر ... أو أنكروا فضله فالمجد معترف
وقال السلامىّ شاعر اليتيمة
يزور نائلك العافى وصارمك العاصى ... فتحويهما أيد وأعناق
فى كلّ يوم لبيت المجد منك غنى ... وثروة ولبيت المال إملاق
كم خضت من لجة للنفع زاخرة، ... ماء المنون بها- حاشاك- دفّاق(3/196)
وقال المتنبى
أنت الجواد بلا منّ ولا كدر ... ولا مطال ولا وعد ولا ملل
وقال أبو الفرج الببغاء
لا غيث نعماه في الورى خلّب البرق ... ولا ورد جوده وشل
جاد الى أن لم يبق نائله ... مالا ولم يبق للورى أمل
وقال محمد بن الحسن الحاتمىّ شاعر اليتيمة
ومن عوّدته المكرمات شمائلا ... فليس له عنها- ولو شاء- ناقل
وإن راسل الأعداء فالجود رسله ... اليهم وأطراف العوالى الرسائل
عظمت، فهذا الدهر دونك همة، ... وجدت فهذا القطر عندك باخل
وقال مؤيّد الدين الطغرائىّ
لو دبّ رأيك في كعوب قنا ... ما مسّها طنب ولا خلل
أو كان ضوءك للغزالة لم ... يحجب ضياء جبينها الطّفل
أو كان لطفك في الحياة لما ... طافت بها الأسقام والعلل
أنت الذى لولا علاه عفت ... طرق الهدى واستبهم السّبل
فى كلّ شعب من رويّته ... شعب ومن آرائه شعل
يرتدّ عنه جفن حاسده ... فكأنه بالنار يكتحل
وجه كيوم الصحو مبتسم ... ويد كليل الدّجن تنهمل
مسحت على الأنواء راحته ... فانساق منها العارض الهطل
إن ضنّ غيث أو خبا قمر ... فجبينه ويمينه البدل(3/197)
وقال ابن الرومىّ
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... فى الحادثات- اذا دجون- نجوم
فيها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم
وقال أبو الطيّب المتنبّى
قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم
كأنما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم
اذا تولّوا عداوة كشفوا ... وإن تولّوا صنيعة كتموا
تظن من كثرة اعتذارهم ... أنهم أنعموا وما علموا
إن برقوا فالحتوف حاضرة ... أو نطقوا فالصواب والحكم
أو شهدوا الحرب لاقحا أخذوا ... من مهج الدار عين ما احتكموا
أو ركبوا الخيل غير مسرجة ... فإن أفخاذهم لها حزم
تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها في نفوسهم شيم
أعيذكم من صروف دهركم ... فإنه في الكرام متّهم
وقال أيضا
ودانت له الدنيا فأصبح جالسا ... وأيّامه فيما يريد قيام
وكلّ أناس يبتغون إمامهم ... وأنت لأهل المكرمات إمام
وقال أيضا
هم المحسنون الكرّ في حومة الوغى ... وأحسن منه كرّهم في المكارم
ولولا احتقار الأسد شبّهتها بهم ... ولكنها معدودة في البهائم(3/198)
وقال المشوّق الشامىّ شاعر اليتيمة
يروح الى كسب الثناء ويغتدى ... اذا كان همّ الناس كسب الدراهم
وإن جلس الأقوام عن واجب الندى ... وحقّ العطايا كان أوّل قائم
يزيد ابتهاجا كلّما زار قاصد ... كأنّ به شوقا إلى كلّ قادم
وقال السلامىّ شاعرها
تشبّهه المدّاح في البأس والندى ... بمن لو رآه كان أصغر خادم
ففى جيشه خمسون ألفا كعنتر ... وأمضى وفي خزّانه ألف حاتم
وقال أبو طالب المأمونىّ من قصيدة
يعمّم بالهندىّ حين يسلّه ... أسود الوغى بالضرب فوق العمائم
فلا ملك إلا ما أقمت عروشه ... ولا غيث إلا ما أفضت لشائم
ولا تاج إلا ما تولّيت عقده ... على جبهة الملك المكنّى بقاسم
فرأيك نجم في دجى الليل ثاقب ... وعزمك غضب في طلى كلّ ناجم
وقال المشوّق الشامىّ
ما زال يبنى كعبة للعلى ... ويجعل الجود لها ركنا
حتى أتى الناس فطافوا بها ... وقبّلوا راحته اليمنى
وقال المأمونىّ من قصيدة
همام يبكّى المشرفيّة ساخطا ... ويضحك أبكار الأمانىّ راضيا
ولو أنّ بحرا يستطيع ترقّيا ... اليه لأمّ البحر جدواه راجيا(3/199)
ذكر ما قيل في الافتخار
قالوا: أفخر بيت قالته العرب قول جرير
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلّهم غضابا
قال: دخل رجل من بنى سعد على عبد الملك بن مروان فقال له: ممن الرجل؟
قال: من الذين قال لهم الشاعر
اذا غضبت عليك بنو تميم،
البيت.
قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول فيهم القائل
يزيد بنو سعد على عدد الحصى ... وأثقل من وزن الجبال حلومها
قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر
بنات بنى عوف طهارى نقية ... وأوجههم عند المشاهد غرّان
قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر
فلا وأبيك ما ظلمت قريع ... بأن يبنوا المكارم حيث شاءوا
قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّى بأنف الناقة الذنبا
قال: اجلس، لا جلست، والله لقد خفت أن تفخر علىّ! وقالوا: أفخر بيت قالته العرب قول الفرزدق
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا الى الناس وقّفوا!
وقال عمرو بن كلثوم وهو أبلغ ما قاله جاهلىّ في الافتخار
ونحن الحاكمون إذا أطعنا ... ونحن العائفون اذا عصينا!
ونحن التاركون لما سخطنا ... ونحن الآخذون لما رضينا!(3/200)
وقال إبراهيم بن العبّاس
إما ترينى أمام القوم متّبعا، ... فقد أرى من وراء الخيل أتّبع
يوما أبيح فلا أرعى على نشب ... وأستبيح فلا أبقى ولا أدع
لا تسألى القوم عن حىّ صبحتهم ... ماذا صنعت؟ وماذا أهله صنعوا؟
وقالوا: من أحسن ما مدح به الرجل نفسه قول أعشى ربيعة
وما أنا في نفسى ولا في عشيرتى ... بمهتضم حقّى ولا قارع سنّى
ولا مسلم مولاى عند جناية ... ولا خائف مولاى من شرّ ما أجنى
وأن فؤادى بين جنبىّ عالم ... بما أبصرت عينى وما سمعت أذنى
وفضّلنى في الشّعر واللّبّ أننى ... أقول على علم وأعلم ما أعنى
فأصبحت إذ فضّلت مروان وابنه ... على الناس قد فضّلت خير أب وابن
وقال أبو هفان
لعمرى لئن بيّعت في دار غربة ... بناتى إذ ضاقت علىّ المآكل
فما أنا إلا السيف يأكل جفنه، ... له حلية من نفسه وهو عاطل
قال أبو هلال العسكرىّ: ولا أعرف في الافتخار أحسن مما أنشده أبو تمام وهو
فقل لزهير إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتّامين للمتشتّم
ولكننا نأبى الظّلام ونقتضى ... بكلّ رقيق الشفرتين مصمّم
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلّم
ومن الافتخار قول السموءل بن عاديا من كلمته التى أوّلها
اذ المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل(3/201)
وقائلة ما بال أسرة عاديا ... تنادى وفيها قلّة وحمول
تعيّرنا أمّا قليل عديدنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل
وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول
وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وأنّا أناس لا نرى القتل سبّة ... اذا ما رأته عامر وسلول
يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منّا سيد حتف أنفه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل
تسيل على حدّ الظّباة نفوسنا ... وليست على غير الظّباة تسيل
صفونا فلم نكدر وأخلص سرّنا ... إناث أطابت حملنا وفحول
علونا الى خير الظهور وحطّنا ... لوقت الى خير البطون نزول
فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعدّ بخيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
اذا سيّد منا خلا قام سيّد ... قؤول لما قال الكرام فعول
وما أخمدت نار لنا دون طارق ... ولا ذمّنا في النازلين نزيل
وأيامنا مشهورة في عدوّنا ... لها غرر معلومة وحجول
وأسيافنا في كلّ شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول
معوّدة أن لا تسلّ نصالها ... فنغمد حتى يستباح قبيل
سلى إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول
فإن بنى الديّان قطب لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول(3/202)
وقال أبو هلال العسكرىّ من قصيدة
وما ضاع مثلى حيث حلّت ركابه ... بلى حيث ضاع المجد مثلى ضائع
ومثلى مخضوع له غير أنه ... اذا كان مجهول الفضائل خاضع
ومثلى متبوع على كل حالة ... فإن ينقلب وجه الزمان فتابع
وقال عبد الله بن المعتز
سألتكما بالله هل تعلماننى؟ ... ولا تكتما شيأ فعندكما خبرى
أأرفع نيران القرى لعفاتها ... وأصبر يوم الروع في ثغرة الثّغر؟
وأسأل نيلا لا يجاد بمثله ... فيفتحه بشرى ويختمه عذرى؟
ومن الافتخار قول بعض الشعراء، ويروى لحسّان بن ثابت من قصيدة أوّلها
أنسيم ريحك أم خيار العنبر ... يا هذه، أم ريح مسك أزفر؟
قولى لطيفك أن يصدّ عن الحشى ... سطوات نيران الأسى، ثمّ اهجرى
وانهى رماتك أن يصبن مقاتلى ... فينال قومك سطوة من معشرى
إنّا من النّفر الذين جيادهم ... طلعت على كسرى بريح صرصر
وسلبن تاجى ملك قيصر بالقنا ... واجترن باب الدّرب لابن الأصفر
كم قد ولدنا من كريم ماجد ... دامى الأظافر أو ربيع ممطر
خلقت أنامله لقائم مرهف ... ولبذل مكرمة وذروة منبر
يلقى الرماح بوجهه وبصدره ... ويقيم هامته مقام المغفر
ويقول للطّرف اصطبر لشبا القا ... فهدمت ركن المجد إن لم تصبر
واذا تأمّل شخص ضيف مقبل ... متسربل سر بال ثوب أغبر
أوما الى الكوماء هذا طارق ... نحرتنى الأعداء إذ لم تنحر(3/203)
ذكر ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام
حقيقة الجود بذل المال، قال الله عزّوجلّ: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)
وقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله استخلص هذا الدّين لنفسه ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزيّنوا دينكم بهما» وقال صلّى الله عليه وسلم: «تجاوزوا عن ذنب السّخىّ فإن الله عزّوجلّ آخذ بيده كلّما عثر وفاتح له كلّما افتقر» وقال صلّى الله عليه وسلم: «الجود من جود الله تعالى فجودوا يجود الله عليكم» . «ألا إن السخاء شجرة في الجنة أغصانها متدلية فى الأرض فمن تعلق بغصن منها أدخله الجنة» . «ألا إن السخاء من الإيمان والإيمان في الجنة» . وقال علىّ بن عبد الله بن عبّاس: سادة الناس في الدنيا الأسخياء. وقال بعض الحكماء: الجواد من جاد بماله وصان نفسه عن مال غيره.
وقيل لعمرو بن عبيد: ما الكرم؟ فقال: أن تكون بمالك متبرّعا، وعن مال غيرك متورّعا. ويقال: مراتب السخاء ثلاثة: سخاء وجود وإيثار، فالسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر، والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل، والإيثار إعطاء الكل من غير إمساك بشىء، وهو أشرف درجات الكرم، وبه استحقّوا ثناء الله عزّوجلّ عليهم في قوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)
. ومن كلام ينسب الى جعفر بن محمّد: لا يتمّ المعروف إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره. الجود زكاة السّعادة، والإيثار على النفس موجب لاسم الكرم، وقال:
لا يستحى من بذل القليل فإن الحرمان أقلّ منه. قال بعض الشّعراء
أعط القليل ولا يمنعك قلته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود(3/204)
وقال علىّ بن الحسين: الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بماله.
وقال الحسين بن على رضى الله تعالى عنهما: أيّها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذل، وأن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه. وقيل ليزيد بن معاوية:
ما الجود؟ قال: أن تعطى المال من لا تعرف؛ فإنّه لا يصير اليه حتى يتخطّى من تعرف.
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: لو لم يكن في الكرم، إلا أنه صفة من صفات الله تعالى، تسمّى بها فهو الكريم عزّوجلّ. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، قال: إن الله عزوجل قد عوّدنى بعادة أن يتفضل علىّ، وعودته أن أتفضل على عباده، وأخاف أن أقطع العادة فيقطع عنى. وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلّبىّ: إنك متلاف، قال: منع الجود، سوء ظنّ بالمعبود. قال الله تعالى:
(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
. وقال أكثم بن صيفىّ حكيم العرب: ذلّلوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها الى المحامد، وعلّموها المكارم، ولا تقيموها على خلق تذمّونه من غيركم، وصلوا من رغب اليكم وتحلّوا بالجود يكسبكم المحبة، ولا تعتقدوا البخل، تتعجلوا الفقر؛ أخذه شاعر فقال
أمن خوف فقر تعجلته ... وأخّرت إنفاق ما تجمع؟
فصرت الفقير وأنت الغنىّ ... وما كنت تعدو الذى تصنع
وكتب رجل من البخلاء الى رجل من الأسخياء يأمره بالإنفاق على نفسه ويخوّفه الفقر، فأجابه: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا)
وإنى أكره أن أترك أمرا قد وقع لأمر لعلّه لا يقع.(3/205)
وكان سعيد بن العاصى يقول على المنبر: من رزقه الله رزقا حسنا، فلينفق منه سرا وجهرا، حتى يكون أسعد الناس به، فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين، إما لمصلح، فلا يقلّ عليه شىء، وإما لمفسد، فلا يبقى له شىء. أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
اسعد بمالك في الحياة فإنما ... يبقى خلافك مصلح أو مفسد
فاذا جمعت لمفسد لم يغنه ... وأخو الصّلاح قليله يتزيّد
وقال أبو ذرّ رضى الله عنه: لك في مالك شريكان، الحدثان، والوارث، فإن استطعت أن لا تكون أبخس الشركاء حظّا فافعل. وقال بزرجمهر الفارسىّ:
إذا أقبلت عليك الدنيا، فانفق منها، فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عليك، فانفق منها، فإنها لا تبقى؛ أخذ الشاعر هذا المعنى فقال
لا تبخلنّ بدنيا وهى مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسّرف
وإن تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وكان كسرى يقول: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن ظنّ بالله، ولو أن أهل البخل، لم يدخل عليهم من ضرّ بخلهم، ومذمّة الناس لهم، وإطباق القلوب على بغضهم، إلا سوء ظنّهم بربهم في الخلف، لكان عظيما؛ أخذه محمود الورّاق فقال
من ظنّ بالله خيرا جاد مبتدئا ... والبخل من سوء ظنّ المرء بالله
وقيل لأبى عقيل البليغ العراقىّ: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة اليه؟ قال: رأيت رغبته في الإنعام، فوق رغبته في الشكر، وحاجته الى قضاء الحاجة، أشدّ من حاجة صاحبها.(3/206)
وقال زياد: كفى بالبخيل عارا، أن اسمه لم يقع في حمد قطّ.
وقال أسماء بن خارجة: ما أحبّ أن أردّ أحدا عن حاجة طلبها، لأنه لا يخلو أن يكون كريما، فأصون له عرضه. أو لئيما، فأصون عرضى منه.
وقال إبراهيم بن المهدىّ: قلت لرجل من أهل الكوفة من وجوه أهلها كان لا يجفّ بيده قلم، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال، وإدخال المرافق على الضعفاء: أخبرنى عن الحالة التى خفّفت عنك النّصب، وهوّنت عليك التعب، فى القيام بحوائج الناس، ما هى؟ قال: قد والله سمعت [تغريد الطّير بالأسحار، فى فروع الأشجار، وسمعت خفق أوتار العيدان «1» ] وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قطّ، طربى من ثناء حسن، بلسان حسن، على رجل قد أحسن، ومن شكر حرّ لمنعم حرّ، ومن شفاعة محتسب، لطالب شاكر؛ قال إبراهيم: فقلت، لله أبوك! لقد حشيت كرما. وكان طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرىّ من أجود قريش في زمانه، فقالت له امرأته: ما رأيت قوما ألأم من إخوتك، فقال لها: لمه؟ وأنّى قلت ذاك؟ فقالت: أراهم إذا أيسرت أتوك، وإذا أعسرت تركوك، قال: هذا والله كرمهم، يأتوننا في حال القوّة عليهم، ويتركوننا في حال العجز عنهم.
وحكى أن رجلا شيخا أتى سعيد بن سالم، وكلّمه في حاجة وما شاه، فوضع الشيخ زجّ عصاه التى يتوكأ عليها، على رجل سعيد حتّى أدماها، فما تأوّه لذلك، وما نهاه، فلما فارقه، قيل له: كيف صبرت على هذا منه؟ فقال: خفت أن يعلم جنايته، فينقطع عن ذكر حاجته.(3/207)
ذكر من انتهى اليهم الجود في الجاهلية وذكر شىء من أخبارهم
والذى انتهى اليهم الجود في الجاهلية حاتم بن عبد الله بن سعد الطائىّ، وهرم بن سنان المرّىّ، وكعب بن مامة الإيادى، وضرب المثل بحاتم وكعب، والمشهور حاتم.
وكعب هذا: هو الذى جاد بنفسه، وآثر رفيقه بالماء في المفازة، ولم يشهر له خبر غير هذا. وأما حاتم فأخباره مشهورة منها: أنه كان اذا اشتد البرد، أمر غلامه يسارا، فأوقد نارا في بقاع من الأرض، لينظر اليها من ضلّ عن الطريق، وفي ذلك يقول
أوقد فإن الليل ليل قرّ ... والريح يا واقد ريح صرّ
عسى يرى نارك من يمرّ ... إن جلبت ضيفا فأنت حرّ
قالوا: ولم يك حاتم يمسك غير سلاحه وفرسه، ثم جاد بفرسه في سنة أزمة.
قالت النوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرّت لها الأرض، واغبرّ أفق السماء، وضنّت المراضع عن أولادها، لا تبضّ بقطرة، وأيقنّا بالهلاك، فو الله، إنّى لفى ليلة صنبرة، بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعا، عبد الله، وعدىّ، وسفانة، فقام حاتم الى الصبيّين، وقمت الى الصبيّة، فو الله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعلّلنى، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلما تهوّرت النجوم، إذا بشىء قد رفع كسر البيت، فقلت: من هذا؟ فولّى، ثم عاد آخر الليل، فقال من هذا؟ فقالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عوى الذئاب، فما وجدت معوّلا إلا عليك أبا عدىّ، فقال: أعجليهم، فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل اثنين،(3/208)
ويمشى بجانبها أربع كأنها نعامة حولها رئالها، فقام الى فرسه، فوجأ لبّته بمدية، فخر، ثم كشط عن جلده، ودفع المدية الى المرأة، وقال: شأنك، فاجتمعنا على اللحم نشوى، ونأكل، ثم جعل يأتيهم بينا بيتا، فيقول: هبّوا عليكم بالنار، والتفع بثوبه ناحية ينظر الينا، لا والله إن ذاق منه مضغة وإنه لأحوج اليه منّا، فأصبحنا وما في الأرض إلا عظم أو حافر.
وقيل: كان مبدأ الأمر لحاتم في الجود، أنه لما ترعرع، جعل يخرج طعامه فإن وجد من يأكله معه أكله، وإن لم يجد طرحه، فلما رأى أبوه، أنه يهلك طعامه، قال له: ألحق بالإبل، فخرج إليها، فوهب له جارية، وفرسا وفلوها.
وقيل: بل هلك أبو حاتم وهو صغير، وهذه القصّة كانت مع جدّه سعد بن الحشرج، فلما أتى حاتم الإبل، طفق يبتغى الناس، فلا يجدهم، ويأتى الطريق، فلا يجد عليه أحدا، فبينا هو كذلك، إذ بصر بركب على الطريق، فأتاهم، فقالوا: يا فتى، هل من قرى؟ فقال: تسألوننى عن القرى؟ وقد ترون الإبل! وكان الذى بصر بهم، عبيد ابن الأبرص، وبشر بن أبى خازم، والنابغة الذّبيانىّ، وكانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا اللبن، وكانت تكفينا بكرة، إن كنت لا بدّ متكلّفا لنا شيئا، فقال حاتم: قد عرفت، ولكن رأيت وجوها مختلفة، وألوانا متفرّقة، فظننت أن البلدان غير واحد، فأردت أن يذكر كلّ واحد منكم ما رأى، إذا أتى قومه فقالوا فيه أشعارا امتدحوه بها، وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن اليكم، فصار لكم الفضل علىّ، وإنى أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلى عن آخرها، أو تقوموا اليها فتقتسموها ففعلوا! فأصاب كل واحد تسعا وثلاثين بعيرا، ومضوا على سفرهم الى النعمان، وأن أبا حاتم أو جدّه، سمع بما فعل، فقال:(3/209)
أين الإبل؟ فقال: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجدا وكرما، لا يزال الرجل يحمل بيث شعر أثنى به علينا عوضا من إبلك، فلما سمع أبوه ذلك، قال: أبإبلى فعلت ذلك؟ قال: نعم، قال: والله لا أساكنك أبدا، فخرج أبوه بأهله، وترك حاتما، ومعه جاريته وفرسه وفلوه. قال: فبينما حاتم يوما نائم، إذ انتبه، وحوله نحو مائتى بعير تجول وتحطم بعضها بعضا، فساقها الى قومه، فقالوا: يا حاتم، أبق على نفسك، فقد رزقت مالا، ولا تعودنّ الى ما كنت فيه من الإسراف، قال: فإنها نهب بينكم، فانتهبت؛ ثم أقبل ركب من بنى أسد ومن قيس يريدون النعمان، فلقوا حاتما، فقالوا له: إنا تركنا قومنا يثنون عليك خيرا، وقد أرسلوا اليك برسالة، قال: وما هى؟ فأنشده الأسديّون شعرا، لعبيد، وأنشده الليثيّون شعرا للنابغة، ثم قالوا: إنا لنستحى أن نسألك شيئا وإنّ لنا لحاجة، قال: وما هى؟ قالوا:
صاحب لنا راجل، فقال حاتم: خذوا فرسى هذه، فاحملوا عليها صاحبكم، فأخذوها، وربطت الجارية فلوها بثوبها، فأفلت فاتبعته الجارية لتردّه، فقال حاتم: ما لحقكم من شىء فهو لكم، فذهبوا بالفرس والفلو والجارية.
وأما هرم بن سنان، فمن أخباره: أنه آلى على نفسه أنه لا يسلّم عليه زهير إلا أعطاه فقلّ مال هرم، وكان زهير يمرّ بالنادى وفيه هرم فيقول: أنعموا صباحا ما خلا هرما، وخير القوم تركت؛ قالوا: وكان عبد الله بن جدعان، حين كبر، أخذت بنو تميم على يده، ومنعوه أن يعطى شيئا من ماله، فكان الرجل اذا أتاه يطلب منه، قال له: ادن منّى، فاذا دنا منه لطمه، ثم قال: اذهب فاطلب لطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تميم من ماله؛ وفيه يقول الشاعر
والذى إن أشار نحوك لطما ... تبع اللّطم نائل وعطاء(3/210)
ومن أخبار الكرام: ما حكى أنّ خالد بن عبد الله القسرىّ أمير العراق، كان يكثر الجلوس ثم يدعو بالبدر ويقول: إنما هذه الأموال ودائع العرب لا بدّ من تفرقتها، فقال ذلك مرّة، وقد وفد عليه أخوه أسد بن عبد الله من خراسان، فقام، فقال أيها الأمير إن الودائع تجمع لا تفرق، فقال: ويحك! إنها ودائع المكارم؛ وأيدينا وكلاؤها، فإذا أتانا المملق فأغنيناه، والظمآن فأرويناه، فقد أدّينا فيها الأمانة، ومرّ يزيد بن المهلّب بأعرابية في هروبه من سجن عمر بن عبد العزيز، وهو يريد البصرة، فقدّمت له عنزا فقبلها، ثم قال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ قال ثمانمائة دينار، قال: ادفعها اليها! فقال له ابنه: إنك تريد الرجال، ولا تكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهى بعد لا تعرفك، فقال: إن كانت ترضى باليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفنى، فأنا أعرف نفسى، ادفعها إليها، فدفعها اليها.
قال الأحنف: كثرت علىّ الدّيات بالبصرة، لما قتل مسعود، فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو يبرين، فسألت: من المقصود هناك؟ فأرسلت الى قبّة، فاذا شيخ جالس بفنائها، مؤتزر بشملة، محتب بحبل، فسلمت عليه، وانتسبت له، فقال: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قلت: توفّى، قال: فما فعل عمر بن الخطاب الذى كان يحفظ العرب ويحوطها؟ قلت: مات، قال: فأىّ خبر فى حاضرتكم بعدهما؟ قال: فذكرت الديات التى لزمتنا للأزد وربيعة، قال:
أقم، فإذا راع قد أزاح عليه بألف بعير، فقال: خذها، ثم أراح عليه آخر بمثلها، فقال:
خذها، قلت: لا أحتاج اليها، فانصرفت بالألف، وو الله ما أدرى من هو الى الساعة.
وروى عن معن بن زائدة، قال: لما هربت من المنصور، خرجت من باب حرب، بعد أن أقمت في الشمس أياما، وخففت لحيتى وعارضى، ولبست(3/211)
جبّة صوف غليظة، وركبت جملا، وخرجت عليه لأمضى الى البادية، قال: فتبعنى أسود متقلد سيفا، حتى إذا غبت عن الحرس، قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض علىّ، فقلت: ما شأنك؟ فقال: أنت بغية أمير المؤمنين فقلت له: ومن أنا حتّى يطلبنى أمير المؤمنين؟ فقال معن بن زائدة فقلت: يا هذا! اتق الله وأين أنا من معن؟ فقال: دع هذا عنك، فأنا والله أعرف بك، فقلت له: فإن كانت القصة كما تقول، فهذا جوهر حملته معى، بأضعاف ما بذله المنصور، لمن جاءه بى فخذه ولا تسفك دمى، فقال: هاته، فأخرجته اليه، فنظر إليه ساعة، وقال: صدقت فى قيمته، لست قابله حتى أسألك عن شىء، فإن صدقتنى أطلقتك، فقلت: قل، فقال: إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرنى هل وهبت قطّ مالك كلّه! قلت:
لا، قال: فنصفه! قلت: لا، قال: فثلثه! قلت، لا حتى بلغ العشر فاستحييت وقلت: إنى أظن قد فعلت هذا، فقال: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجل، ورزقى على أبى جعفر، عشرون درهما، وهذا الجوهر قيمته ألف دينار، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك، ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك، ولا تعجبك نفسك، ولتحقّر بعد هذا كلّ شىء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى بالعقد إلىّ، وخلّى خطام الجمل وانصرف، فقلت: يا هذا! قد والله فضحتنى، ولسفك دمى أهون علىّ مما فعلت، فخذ ما دفعته اليك، فإنى عنه في غنى، فضحك، ثم قال: أردت أن تكذّبنى في مقامى هذا، فو الله لا آخذه، ولا آخذ لمعروف ثمنا أبدا، ومضى، فو الله لقد طلبته بعد أن أمنت، وبذلت لمن جاءنى به ماشاء، فما عرفت له خبرا، وكأنّ الأرض ابتلعته، وكان سبب غضب المنصور على معن ابن زائدة: أنه خرج مع عمرو بن يزيد بن عمرو بن هبيرة وأبلى في حربه بلاء حسنا.(3/212)
ويقال: إن شاعرا أتى وهب بن وهب، وكان جوادا، فمدحه فهشّ وبش له وثنى له الوسادة وأضافه ورفده وحمله، فلما أراد الرّجل الرحلة، لم يخدمه أحد من غلمان وهب، فأنكر الرجل ذلك مع جميل فعله، فعاتب بعضهم، فقال له الغلام: إنّا إنّما نعين النازل على الإقامة ولا نعين الراحل على الفراق.
وكان الحارث بن هشام المخزومى في وقعة اليرموك، وبها أصيب فأثبتته الجراح، فاستسقى ماء، فأتى به، فلما تناوله، نظر الى عكرمة بن أبى جهل صريعا في مثل حاله، فردّ الإناء على الساقى، وقال: امض الى عكرمة بن أبى جهل، فمضى إليه، فأبى أن يشرب قبله، فرجع الى الحارث، فوجده ميتا، فرجع الى عكرمة، فوجده قد مات، فلم يشرب واحد منهما.
وقد وصف الناس أهل الجود والكرم بمدائح، سنذكر ما استجودناه منها.
فمن ذلك ما حكى عن أبى العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، قال: كان ببغداد فتى يجنّ ستة أشهر، فاستقبلته ببعض السكك ذات يوم، فقال: ثعلب؟
قلت: نعم، قال: فأنشدنى فأنشدته
وإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكلّ طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فكذا يكون أخادم وذبائح
فضحك، ثم سكت ساعة، وقال: ألا قال؟
اذهبا بى إن لم يكن لكما عقر ... على ترب قبره فاعقرانى
وانضحا من دمى عليه فقد كا ... ن دمى من نداه لو تعلمان
ثم رآنى يوما بعد ذلك فتأمّلنى، وقال: ثعلب! قلت: نعم، قال: أنشدنى فأنشدته(3/213)
أعار الجود نائله ... إذا ما ماله نفدا
وإن ليثا شكا جبنا ... أعار فؤاده الأسدا
فضحك، وقال: ألا قال؟
علّم الجود النّدى حتّى إذا ... ما حكاه علّم البأس الأسد
فله الجود مقرّ بالندى ... وله الليث مقرّ بالجلد
وقال مسلم بن الوليد وهو مما يجوز إيراده في الشجاعة والكرم
يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وأول من أتى بهذا المعنى علقمة بن عبدة حيث قال
تجود بنفس لا يجاد بمثلها ... فأنت بها يوم اللّقاء خصيب
وهذا مثل قول يزيد بن أبى يزيد الشيبانى: من جاد بنفسه عند اللقاء، وبماله عند العطاء، فقد جاد بنفسيه كلتيهما. قالوا: وأجود ما قيل في ذلك قول أبى العتاهية يمدح العباس بن محمد
لو قيل للعباس يا ابن محمد ... قل «لا» وأنت مخلّد ما قالها
إن السماحة لم تزل معقولة ... حتّى حللت براحتيك عقالها
وإذا الملوك تسايرت في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها
فلم يثبه العباس، فقال
هزرتك هزّة السيف المحلّى ... فلما أن ضربت بك انثنيت
فهبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وافتريت
فلما سمع العباس الأبيات غضب، وقال: والله لأجهدنّ في حتفه، قال: فمرّ أبو العتاهية بإسحاق بن العباس، وقال له إسحاق: أنشدنى شيئا من شعرك فأنشده(3/214)
ألا أيها الطالب المستغيث ... بمن لا يفيد ولا يرفد
ألا تسأل الله من فضله ... فإن عطاياه لا تنفد
إذا جئت أفضلهم للسؤا ... ل ردّ وأحشاؤه ترعد
كأنّك من خشية للسؤا ... ل في عينه الحيّة الأسود
فقرّ الى الله من لؤمهم ... فإنى أرى الناس قد أصلدوا
وإنى أرى الناس قد أبرقوا ... بلؤم الفعال وقد أرعدوا
ثم مضى، فقيل لإسحاق: إن هذا الشعر له في أبيك، فقال إسحاق: أولى له، لم عرّض نفسه وأحوج أبا العتاهية إلى مثل هذا مع ملكه وقدرته؟
وقد أورد أبو الفرج الأصفهانىّ خبر هذه الأبيات، فقال: امتدح ربيعة الرّقّى العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس بقصيدة لم يسبق اليها حسنا، وهى طويلة يقول فيها
لو قيل للعباس: يا ابن محمّد ... قل «لا» وأنت مخلّد ما قالها
ما إن أعدّ من المكارم خصلة ... إلا وجدتك عمّها أو خالها
وإذا الملوك تسايرت في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تزل معقولة ... حتّى حللت براحتيك عقالها
قال: فبعث إليه بدينارين، وكان يقدّر فيه ألفين، فلما نظر إلى الدينارين، كاد أن يجن غضبا، وقال للرسول: خذ الدينارين فهما لك على أن تردّ إلىّ الرّقعة، من حيث لا يدرى العباس؛ ففعل الرسول ذلك، فأخذها ربيعة، وأمر من كتب فى ظهرها(3/215)
مدحتك مدحة السيف المحلّى ... لتجرى في الكرام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وافتريت
فأنت المرء ليس له وفاء ... كأنى إذ مدحتك قد زنيت
ثم دفعها إلى الرسول وقال: ضعها في الموضع الذى أخذتها منه، ففعل، فلما كان من الغد، أخذها العباس فنظر فيها، فلما قرأ الأبيات، غضب، وقام من وقته، فركب إلى الرشيد، وكان أثيرا عنده يبجله ويقدّمه، وكان قد همّ أن يخطب اليه ابنته، فرأى الرشيد الكراهة في وجهه، فقال ما شأنك؟ قال: هجانى ربيعة الرقّى، فأحضره الرشيد، وقال له: يا ماص كذا وكذا من أمّه أتهجو عمّى، وآثر خلق الله عندى؟ لقد هممت أن أضرب عنقك، فقال: يا أمير المؤمنين، والله لقد امتدحته بقصيدة ما قال أحد مثلها من الشعراء في أحد من الخلفاء، ولقد بالغت في الثناء، وأكثرت الوصف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإحضارها فعل، فلما سمع الرشيد ذلك، سكن غضبه، وأحب أن ينظر في القصيدة، فأمر العباس بإحضارها فتلكأ عليه، فقال له الرشيد: سألتك بحق أمير المؤمنين، إلا أمرت بإحضارها؟
فأحضرت، فإذا فيها القصيدة بعينها، فاستحسنها واستجادها وأعجب بها، وقال:
والله ما قال أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء مثلها، ولقد صدق ربيعة فبرّ، ثم قال للعباس: كم أثبته عليها؟ فسكت العباس، وتغيّر لونه، وغصّ بريقه، فقال ربيعة: أثابنى عنها يا أمير المؤمنين دينارين، فتوهم الرشيد أنه قال ذلك من الموجدة عليه، فقال: بحياتى يا رقّى كم أثابك؟ فقال: وحياتك يا أمير المؤمنين ما أثابنى إلا بدينارين، فغضب الرشيد غضبا شديدا، ونظر في وجه العباس، وقال: سوءة لك! أيّة حال قعدت بك عن إثابته؟ أقلّة مال؟ فو الله لقد نولتك جهدى، أم(3/216)
انقطاع المال عنك؟ فو الله ما انقطعت بك، ام أصلك؟ فهو الاصل الذى لا يدانيه شىء، أم نفسك؟ لا ذنب لى، بل نفسك والله فعلت بك ذلك، حتى فضحت أجدادك وفضحتنى، وفضحت نفسك، فنكس العباس رأسه، ولم ينطق، فقال الرشيد: يا غلام، أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم، وخلعة، واحمله على بغلة، ثم قال له: بحياتى لا تذكره في شىء من شعرك تعريضا ولا تصريحا، وفتر الرشيد عما كان قد همّ به من أن يتزوج اليه وأظهر له بعد ذلك جفاء واطراحا.
وقال محمد بن هانئ
الواهب الألف إلا أنها بدر ... والطاعن الألف إلا أنها نسق
تأتى عطاياه شتّى غير واحدة ... كما تدافع موج البحر يصطفق
وقال الرضىّ الموسوىّ
ريّان والأيام ظمآنة ... من النّدى نشوان بالبشر
لا يمسك العدل يديه ولا ... تأخذ منه نشوة الخمر
وقال أيضا
ذخائره العرف في أهله ... وخزّان أمواله السائلونا
وقال أمية بن أبى الصلت الثقفىّ يمدح عبد الله بن جدعان
أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إن شيمتك الحياء؟
وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذّب والسناء
كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق السنىّ ولا مساء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء(3/217)
وقال الشمّاخ بن ضرار
نزور امرأ يعطى على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد
وأنت امرؤ، من تعطه اليوم نائلا ... بكفّك، لا يمنعك من نائل الغد
ترى الجود لا يدنى من المرء حتفه ... كما البخل والإمساك ليس بمخلد
مفيد ومتلاف، اذا ما سألته ... تهلّل، واهتزّ اهتزاز المهنّد
متى تأته تعشو الى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
قال: ولما سمع عمر رضى الله عنه هذا البيت، قال: كذب، تلك نار موسى عليه السّلام.
وقال السرىّ الرفّاء
كالغيث والليث والهلال اذا ... أقمر بأسا وبهجة وندى
ناس من الجود ما يجود به ... وذاكر منه كلما وعدا
وقال أبو الفرج الوأواء
من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين اثنين
أنت اذا جدت ضاحكا أبدا ... وهو اذا جاد باكى العين
وقال ابن نباتة السعدىّ من قصيدة
لم يبق جودك لى شيئا أؤمّله ... تركتنى أصحب الدنيا بلا أمل
ذكر ما قيل في الإعطاء قبل السؤال
قال سعيد بن العاصى: قبح الله المعروف، اذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فما المعروف عوض من مسألة الرجل، اذا بذل وجهه، فقلبه خائف، وفرائصه ترعد، وجبينه يرشح، لا يدرى ايرجع بنجح الطلب أم بسوء المنقلب، قد بات ليلته(3/218)
يتململ على فراشه، يعاقب بين شقّيه، مرّة هكذا، ومرّة هكذا، من لحاجته؟ فخطرت بباله أنا أو غيرى، فمثّل أرجاهم في نفسه، وأقربهم من حاجته، ثم عزم علىّ، وترك غيرى، قد انتقع لونه، ودهب دم وجهه، فلو خرجت له مما أملك لم أكافئه، وهو على أمن منّى عليه، اللهم فإن كانت الدنيا لها عندى حظّ فلا تجعل لى حظّا في الآخرة.
وقال أكثم بن صيفىّ: كلّ سؤال وإن قلّ، أكثر من كلّ نوال وإن جلّ.
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه لأصحابه: من كانت له إلىّ منكم حاجة، فليرفعها في كتاب، لأصون وجوهكم عن المسألة.
وقال عبد العزيز بن مروان: ما تأمّلنى رجل قط، إلا سألته عن حاجته، ثم كنت من ورائها.
وقال حبيب
عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى ... وتبقى وجوه الراغبين بمائها
وقال أيضا
ما ماء كفك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهى إذا أفنيته عوض
وقالوا: من بذل اليك وجهه، فقد وفّاك حقّ نعمته.
وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: ما الجود؟ فقال: التّبرع بالمال، والعطاء قبل السؤال.
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربّه
كريم على العلّات جزل عطاؤه ... ينيل وإن لم يعتمد لنوال
وما الجود من يعطى اذا ما سألته ... ولكنّ من يعطى بغير سؤال(3/219)
وقال حبيب الطائىّ
لئن جحدتك ما أوليت من كرم ... إنى لفى اللؤم أمضى منك في الكرم
أنسى ابتسامك- والألوان كاسفة- ... تبسّم الصبح، فى داج من الظّلم
رددت رونق وجهى في صفيحته ... ردّ الصّقال صفاء الصارم الخذم
وما أبالى- وخير القول أصدقه- ... حقنت لى ماء وجهى أم حقنت دمى
ذكر ما قيل في الشجاعة والصبر والإقدام
روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الشجاعة غريزة يضعها الله فيمن يشاء من عباده، إن الله يحبّ الشجاع ولو على قتل حيّة» .
وقالوا: حدّ الشجاعة سعة الصدر بالإقدام على الأمور المتلفة.
وسئل بعضهم عن الشجاعة فقال: جبلّة نفس أبيّة، قيل له: فما النجدة؟ قال:
ثقة النفس عند استرسالها الى الموت، حتى تحمد بفعلها دون خوف.
وقيل لبعضهم: ما الشجاعة؟ فقال: صبر ساعة. وقال بعض أهل التجارب:
الرجال ثلاثة: فارس، وشجاع، وبطل، فالفارس: الذى يشدّ اذا شدّوا، والشجاع:
الداعى الى البراز والمجيب داعيه، والبطل: الحامى لظهور القوم اذا ولّوا.
قال يعقوب بن السكّيت في كتاب الألفاظ: العرب تجعل الشجاعة في أربع طبقات، تقول: رجل شجاع، فاذا كان فوق ذلك، قالوا: بطل، فاذا كان فوق ذلك، قالوا: بهمة، فاذا كان فوق ذلك، قالوا: اليس.
وقال بعض الحكماء: جسم الحرب: الشجاعة، وقلبها: التدبير، ولسانها:
المكيدة، وجناحها: الطاعة، وقائدها: الرفق، وسائقها: النصر.(3/220)
قالوا: لما ظفر المهلّب بن أبى صفرة بالخوارج، وجّه كعب بن معدان الى الحجّاج، فسأله عن بنى المهلّب، فقال: المغيرة فارسهم وسيّدهم، وكفى بيزيد فارسا شجاعا، وجوادهم وشيخهم: قبيصة، ولا يستحيى الشجاع أن يفرّ من مدرك، وعبد الملك: سمّ ناقع، وحبيب: موت زعاف، ومحمد: ليث غاب، وكفاك بالمفضّل نجدة، قال: فكيف خلّفت جماعة الناس؟ قال: خلّفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلّب فيهم؟ قال:
كانوا حماة السّرح نهارا، فاذا أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيّهم كان أنجد؟ قال:
كانوا كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوّكم؟
قال: كنّا اذا أخذنا، عفونا، واذا اجتهدوا، اجتهدنا فيهم، فقال الحجّاج: (إنّ العاقبة للمتّقين) .
وقالوا: أشجع بيت قالته العرب قول العباس بن مرداس السلمىّ
أشدّ على الكتيبة لا أبالى ... أحتفى كان فيها أم سواها؟
وقد مدح الشعراء الشجاعة وأهلها، وأوسعوا في ذلك، فمن ذلك قول المتنبّى
شجاع كأنّ الحرب عاشقة له ... اذا زارها فدّته بالخيل والرّجل
وقال أيضا
وكم رجال بلا أرض لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضا بلا رجل
ما زال طرفك يجرى في دمائهم ... حتى مشى بك مشى الشارب الثمل
وقال العماد الإصفهانىّ
قوم إذا لبسوا الحديد الى الوغى ... لبس الحداد عدوّهم في المهرب
المصدرون الدّهم عن ورد الوغى ... شقرا تجلّل بالعجاج الأشهب(3/221)
وقال أبو الفرج الببغاء
واليوم من غسق العجاجة ليلة ... والكرّ يخرق سجفها الممدودا
وعلى الصّفاح من الكفاح وصدقه ... ردع أحال بياضها توريدا
والطعن يغتصب الجياد شياتها ... والضرب يقدح في التليل وقودا
وعلى النفوس من الحمام طلائع ... والخوف ينشد صبرها المفقودا
وأجلّ ما عند الفوارس حثّها ... فى طاعة الهرب الجياد القودا
حتى إذا ما فارق الرأى الهوى ... وغدا اليقين على الظنون شهيدا
لم يغن غير أبى شجاع والعلا ... عنه تناجى النصر والتأييدا
وقال أيضا وروى للبحترىّ
من كلّ متّسع الأخلاق مبتسم ... للخطب إن ضاقت الأخلاق والحيل
يسعى به البرق، إلا أنه فرس ... فى صورة الموت إلا أنه رجل
يلقى الرماح بصدر منه ليس له ... ظهر وهادى جواد ما له كفل
وقال البحترىّ
معشر أمسكت حلومهم الأر ... ض وكادت لو لاهم أن تميدا
فإذا الجدب جاء كانوا غيوثا ... وإذا النقع ثار ثاروا أسودا
وكأنّ الإله قال لهم في ال ... حرب كونوا حجارة أو حديدا
وقال مسلم
لو أنّ قوما يخلقون منيّة ... من بأسهم كانوا بنى جبريلا
قوم إذا حمى الوطيس لديهم ... جعلوا الجماجم للسيوف مقيلا(3/222)
وقال آخر
عقبان روع والسروج وكورها ... وليوث حرب والقنا آجام
وبدور تمّ والشوائك في الوغى ... هالاتها والسابرىّ غمام
جادوا بممنوع التلاد وجوّدوا ... ضربا تخدّ به الطّلا والهام
وتجاورت أسيافهم وجيادهم ... فالأرض تمطر والسماء تغام
وقال آخر
قوم، شراب سيوفهم ورماحهم ... فى كلّ معترك دم الأشراف
رجعت إليهم خيلهم بمعاشر ... كلّ لكلّ جسيم أمر كاف
يتحنّنون إلى لقاء عدوّهم ... كتحنّن الألّاف للألّاف
ويباشرون ظبا السيوف بأنفس ... أمضى وأقطع من ظبا الأسياف
وقال ابن حيّوس
إن ترد خبر حالهم عن قريب ... فأتهم يوم نائل أو نزال
تلق بيض الوجوه سود مثار النقع، ... خضر الأكناف حمر النصال
ومما قيل في الصبر والإقدام
قال الله عزوجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تتمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية فاذا لقيتموهم فاثبتوا وأكثروا من ذكر الله وإن جلبوا وضجّوا فعليكم بالصمت» .(3/223)
ومن كلام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: ربّ حياة، سببها التعرّض للموت، وربّ منيّة، سبّبها طلب الحياة.
وقالوا: أجمع كلمة قيلت في الصبر قول بعضهم: الصبر مطيّة النصر.
وقال آخر: الصبر مطيّة لا تكبو، وإن عنف عليه الزمان.
وقال آخر: الصبر شرية «1» ، تثمر أرية «2» .
وقيل للمهلّب بن أبى صفرة: إنك لتلقى نفسك في المهالك، فقال: إن لم آت الموت مسترسلا، أتانى مستعجلا، إنى لست آتى الموت من حبّه، وإنما آتيه من بغضه، وتمثّل بقول الحصين بن الحمام
تأخّرت أستبقى الحياة فلم أجد ... لنفسى حياة مثل أن أتقدّما
وهى قصيدة مشهورة منها
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
نفلّق هاما من كرام أعزّة ... علينا، وهم كانوا أعقّ وأظلما
ولما رأينا الصبر قد حيل دونه ... وإن كان يوما ذا كواكب مظلما
صبرنا، وكان الصبر منا سجية ... بأسيافنا يقطعن كفّا ومعصما
ولما رأيت الودّ ليس بنافعى ... عمدت الى الأمر الذى كان أحزما
فلست بمبتاع الحياة بسبّة ... ولا مرتق من خشية الموت سلّما
وقالت العرب: الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة. وكذلك: إن من يقتل مدبرا، أكثر ممن يقتل مقبلا.
وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت، توهب لك الحياة.(3/224)
وقالت الحكماء: استقبال الموت، خير من استدباره.
وقال العلوىّ
محرّمة أكفال خيلى على القنا ... ودامية لبّاتها ونحورها
حرام على أرماحنا طعن مدبر ... وتندقّ منها في الصدور صدورها
وقال أبو تمّام
قلّوا ولكنّهم طابوا فأنجدهم ... جيش من الصبر لا يحصى له عدد
اذا رأوا للمنايا عارضا لبسوا ... من اليقين دروعا مالها زرد
ناوا عن المصرح الأدنى فليس لهم ... إلا السيوف على أعدائهم مدد
وما زالت العرب يتمادحون بالموت قعصا، ويتسابّون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه، وأوّل من قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ومدح أعرابىّ قوما فقال
يقتحمون الحرب كأنما ... يلقونها بنفوس أعدائهم
وقال عبد الله بن الزبير لما بلغه قتل أخيه مصعب: إن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفا ولكن قعصا بأطراف الرماح، وموتا تحت ظلال السيوف، وقال السموءل بن عادياء
وما مات منا سيّد في فراشه ... ولا ظلّ منا حيث كان قتيل
تسيل على حدّ الظّباة نفوسنا ... وليست على غير الظّباة تسيل
وقال أيضا آخر
وإنا لتستحلى المنايا نفوسنا ... ونترك أخرى مرّة ما نذوقها(3/225)
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوم صفّين، وقد قيل له: أتقائل أهل الشام بالغداة، وتظهر بالعشىّ في إزار ورداء؟ فقال: أبا لموت تخوّفوننى؟ فو الله ما أبالى، أسقطت على الموت، أم سقط الموت علىّ؛ وقال لابنه الحسن: لا تدعونّ أحدا الى المبارزة، وإن دعيت اليها فأجب، فانّ الداعى اليها باغ، وللباغى مصرع. وقال رضى الله عنه
بقية السيف أنمى عددا
يريد أن السيف اذا أسرع في أهل بيت كثر عددهم ونمى.
وقال ابن عباس رضى الله عنه: عقمت النساء أن تأتى بمثل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، لعهدى به يوم صفّين، وعلى رأسه عمامة بيضاء، وهو يقف على شرذمة شرذمة من الناس، يحضّهم على القتال، حتى انتهى الىّ، وأنا في كنف من الناس، وفي أغيلمة من بنى عبد المطّلب، فقال: يا معشر المسلمين، تجلببوا السكينة، وكلّموا اللأمة، وأقلقوا السيوف في الأغماد، وكافحوا بالظّبا، وصلوا السيوف بالخطا، فإنكم بعين الله، ومع ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عاودوا الكرّ، واستحيوا من الفرّ، فإنه عار في الأعقاب، ونار في الحساب، وطيبوا على الحياة أنفسا، وسيروا الى الموت سيرا سجحا «1» ، ودونكم هذا الرواق الأعظم، فاصبروا، فإن الشيطان راكب صعدته، قدّموا للوثبة رجلا، وأخّروا للنكوص أخرى، فصمدا صمدا، حتى يبلغ الحقّ أجله، والله معكم، ولن تترككم اعمالكم؛ ثم صدر عنا، وهو يقرأ (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) .
وكان معاوية بن أبى سفيان يتمثل يوم صفّين بهذه الأبيات
أبت لى شميتى وأبى بلائى ... وأخذى الحمد بالثمن الربيح(3/226)
وإقدامى على المكروه نفسى ... وضربى هامة البطل المشيج
وقولى كلّما جشأت لنفسى ... مكانك تحمدى أو تستريحى
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمى بعد عن عرض صحيح
وقال قطرىّ بن الفجاءة أمير الخوارج
وقولى كلّما جشأت لنفسى ... من الأبطال ويحك لا تراعى
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذى لك لم تطاعى
فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع
سبيل الموت غاية كلّ حىّ ... وداعيه لأهل الأرض داعى
وقال عبد الله بن رواحة الأنصارىّ
يا نفس إن لم تقتلى تموتى ... إن تسلمى اليوم فلا تفوتى
أو تبتلى فطالما عوفيت ... هذى حياض الموت قد صليت
وما تمنّيت فقد لقيت ... إن تفعلى فعلهما هديت
وإن تولّيت فقد شقيت
يريد بقوله
فإن تفعلى فعلهما هديت
فعل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبى طالب رضى الله عنهما؛ وكانا قتلا في ذلك اليوم بموته. وكان علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، يخرج كلّ يوم بصفّين حتى يقف بين الصفين وينشد
من أىّ يومىّ من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر
فيوم لا يقدر لا أرهبه ... ثمّ من المقدور لا ينجو الحذر(3/227)
ومثله قول جرير من قصيدة أولها
هاج الفراق لقلبك المهتاج
منها
قل للجبان إذا تأخر سرجه ... ما أنت من شرك المنية ناجى
وقالت امرأة من عبد القيس
أبوا أن يفرّوا والقنا في نحورهم ... ولم يبتغوا من خشية الموت سلّما
ولو أنهم فرّوا لكانوا أعزّة ... ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما
وقال حبيب بن أوس الطائىّ
فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر
وقد كان فوت الموت سهلا فردّه ... عليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر
غدا غدوة والحمد نسج ردائه ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر
تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهى من سندس خضر
وقال
قوم اذا لبسوا الحديد حسبتهم ... لم يحسبوا أن المنيّة تخلق
أنظر بحيث ترى السيوف لوامعا ... أبدا وفوق رءوسهم تتألّق
وقال الببغاء
يسعى الى الموت والقنا قصد ... وخيله بالرءوس تنتعل
كأنه واثق بأنّ له ... عمرا مقيما وما له أجل
وقال كعب بن مالك
نصل السيوف اذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها اذا لم تلحق(3/228)
ومثله لبعض بنى قيس بن ثعلبة
لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس؟ خالهم إياه يعنونا
إذا الكماة تنحّوا أن يصيبهم ... حدّ الظباة وصلناها بأيدينا
ومثله قول الآخر
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا الى أعدائنا فنقارب
ومثله قول ودّاك بن ثميل المازنىّ
مقاديم وصّالون في الرّوع خطوهم ... بكلّ رقيق الشّفرتين يمانى
اذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأىّ مكان
وقال أبو تمّام في سعة الخطو
خطو، ترى الصارم الهندىّ منتصرا ... به، من المازن الخطّىّ منتصفا
وقال آخر
كأنّ سيوفه صيغت عقودا ... تجول على الترائب والنحور
وسمر رماحه جعلت هموما ... فما يخطرن إلا في ضمير
وأجود ما قاله محدّث في الصبر قول ابن الرومىّ
أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ... فكيف اذا ما لم يكن عنه مذهب؟
هناك يحقّ الصبر، والصبر واجب ... وما كان منه كالضرورة أوجب
فشدّ امرؤ بالصبر كفّا فإنه ... له عصمة، أسبابها لا تقضّب
هو المهرب المنجى لمن أحدقت به ... مكاره دهر ليس منهنّ مهرب
لبوس جمال جنّة من شماتة ... شفاء أسى يثنى به ويثوّب(3/229)
فيا عجبا للشىء هذى خلاله ... وتارك ما فيه من الحظ أعجب
وقد يتظّنى الناس أن أساهم ... وصبرهم فيهم طباع مركّب
فإنهما ليسا كشىء مصرّف ... يصرّفه ذو نكبة حين ينكب
فإن شاء أن يأسى أطاع له الأسى ... وإن شاء صبرا جاءه الصبر يجلب
وليسا كما ظنوهما بل كلاهما ... لكلّ لبيب مستطاع مسبّب
يصرّفه المختار منا فتارة ... يراد فيأتى، أو يزاد فيذهب
اذا احتجّ محتجّ على النفس لم تكد ... على قدر يمنى لها تتعتّب
وساعدها الصبر الجميل فأقبلت ... إليها له طوعا جنائب تجنب
وإن هو منّاها الأباطيل لم تزل ... تقاتل بالعتب القضاء وتغلب
فيضحى جزوعا إن أصابت مصيبة ... ويمسى هلوعا إن تعذّر مطلب
فلا يعذرنّ التارك الصبر نفسه ... بأن قيل: إن الصبر لا يتكسّب
ذكر ما قيل في وفور العقل
قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)
قال المفسرون: عبّر عن العقل بالقلب، لأنه محلّه وسكنه، وقال تعالى: (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)
، وقال تعالى: (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) .*
وقال تعالى: (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) .
وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أوّل ما خلق الله العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتى وجلالى، ما خلقت خلقا أكرم على منك، بك آخذ، وبك أعطى، وبك أثيب، وبك أعاقب» .(3/230)
وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى قسم العقل على ثلاثة أقسام، فمن كنّ فيه كمل عقله، ومن لم يكن فيه جزء منها، فلا عقل له» ، قيل: يا رسول الله، ما أجزاء العقل؟ قال: حسن المعرفة بالله، وحسن الطاعة لله، وحسن الصبر على أمر الله» . وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدى صاحبه الى هدى، ويردّه عن ردّى، وما تمّ إيمان عبد ولا استقام دينه، حتى يكمل عقله» .
وعن عمر رضى الله عنه أنه قال لتميم الدارىّ: ما السؤدد فيكم؟ قال: العقل، قال: صدقت، سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما سألتك، فقال كما قلت، ثمّ قال: سألت جبريل ما السؤدد؟ فقال: العقل.
وعن عايشة رضى الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، بأى شىء يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: بالعقل، قلت: وفي الآخرة؟ قال بالعقل، قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم! فقال: «يا عايشة، وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم الله تعالى من العقل، فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون» .
وعن سعيد بن المسيّب: أن عمرو أبىّ بن كعب وأبا هريرة دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، من أعلم الناس؟ قال: العاقل، قالوا:
فمن أعبد الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أفضل الناس؟ قال: العاقل، قالوا: أليس العاقل من طهرت مروءته، وظهرت فصاحته، وجادت كفّه، وعظمت منزلته؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (وإن كلّ ذلك لمّا متاع الحياة الدّنيا والآخرة عند ربّك للمتّقين) إن العاقل هو التقىّ وإن كان في الدنيا خسيسا دنيا.(3/231)
وورد في الأثر: «أنّ الله تعالى أنزل على آدم عليه السّلام العقل والدين والحياء، فاختار العقل، فقيل للدين والحياء: ارتفعا، قالا: لا، قال: أفعصيتما أمر ربّكما؟
قالا: ما عصينا أمر ربّنا، ولكنّا أمرنا أن نتبع العقل حيث كان» .
وقال لقمان لابنه: إن غاية الشرف والسؤدد في الدنيا والآخرة، حسن العقل، لأن العبد إذا حسن عقله، غطّى ذلك عيوبه، وأصلح مساويه، ورضى عنه خالقه، وكفى بالمرء عقلا أن يسلم الناس من شرّه.
وقيل: مكتوب في حكمة آل داود عليه السّلام: على العاقل أن يكون عالما بأهل زمانه، مالكا للسانه، مقبلا على شأنه.
وقال بعض الحكماء: كلّ شىء يعز اذا قلّ، والعقل كلّما كان أكثر كان أعز وأغلى، ولو بيع، لما اشتراه إلا العاقل لمعرفته بفضله، وأوّل شرف العقل أنه لا يشترى بالمال.
قال أبو عطاء السندىّ
فإن العقل ليس له اذا ما ... تذكّرت الفضائل من كفاء
وقالوا: العلم قائد، والعقل سائق، والنفس بينهما حرون، فاذا كان قائد بلا سائق هلكت، وان كان سائق بلا قائد أخذت يمينا وشمالا، فاذا اجتمعا أجابت طوعا أوكرها.(3/232)
ذكر ما قيل في حدّ العقل وماهيّته وما وصف به
وقد اختلف الحكماء، فى حد العقل، فقيل: حدّه الوقوف عند مقادير الأشياء قولا وفعلا، وقيل: النظر في العواقب، وقال المتكلمون: هو اسم لعلوم اذا حصلت للإنسان صحّ تكليفه. وقيل: العاقل من له رقيب على شهواته، وقيل:
هو من عقل نفسه عن المحارم، وقال عمرو بن العاص: أن يعرف خير الخيرين، وشرّ الشرين.
قال أبو هلال: ومن العجب أن العرب تمثّلت في جميع الخصال، بأقوام جعلوهم أعلاما فيها، فضربوا بها المثل اذا أرادوا المبالغة، فقالوا: أحلم من الأحنف، ومن قيس بن عاصم، وأجود من حاتم، ومن كعب بن مامة، وأشجع من بسطام، وأبين من سحبان، وأرمى من ابن تقن، وأعلم من دغفل، ولم يقولوا: أعقل من فلان، فلعلّهم لم يستكملوا عقل أحد، على حسب ما قال الأعرابىّ، وقد قيل له: حدّ لنا العقل، فقال: كيف أحدّه ولم أره كاملا في أحد قطّ.
وقيل لحكيم: ما جماع العقل؟ فقال: ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه، وما لا يوجد كاملا فلا حدّ له.
وقالوا: لكلّ شىء غاية وحدّ، والعقل لا غاية له ولا حدّ، ولكن الناس يتفاوتون فيه كتفاوت الأزهار في الرائحة والطّيب.
واختلفوا في ماهيّة العقل، كما اختلفوا في حدّه، فقال بعضهم: هو نور وضعه الله تعالى طبعا وغريزة في القلب، كالنور في العين وهو البصر، فالعقل نور في القلب، والبصر نور في العين، وهو ينقص ويزيد، ويذهب ويعود، وكما يدرك بالبصر شواهد(3/233)
الأمور، كذلك يدرك بالعقل كثير من المحجوب والمستور، وعمى القلب كعمى البصر، قال تعالى: (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) .
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الأعمى من عمى بصره، ولكن من عميت بصيرته» .
وقال عبد الله بن عمر بن معاوية عن عمر بن عتبة المعروف بالعتبىّ: العقل عقلان، عقل تفرّد الله تعالى بصنعه، وهو الأصل، وعقل يستفيده المرء بأدبه وهو الفرع، فاذا اجتمعا، قوّى كلّ واحد منهما صاحبه، تقوية النار في الظّلمة للبصر.
نظم بعض الشعراء هذا اللفظ فقال، ويروى لعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه
رأيت العقل عقلان: ... فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع ... اذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع
وأكثر الناس على أنّ العقل في القلب، ودليله قوله عزوجلّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) .
وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «العقل في القلب يفرق به بين الحقّ والباطل» .
وقال بعضهم: هو في الدماغ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
وأما ما وصف به فقيل: العقل وزير رشيد، وظهير سعيد، من عصاه أرداه، ومن أطاعه أنجاه.(3/234)
وقال سعيد بن جبير: لم تر عيناى أجلّ من فضل عقل يتردّى به الرجل إن انكسر جبره، وإن تصدّع أنعشه، وإن ذلّ أعزّه، وإن أعوج أقامه، وإن عثر اقاله، وإن افتقر أغناه، وإن عرى كساه، وإن غوى أرشده، وإن خاف أمّنه، وإن حزن أفرحه، وإن تكلّم صدقه، وإن أقام بين أظهر قوم اغتبطوا به، وإن غاب عنهم أسفوا عليه، وإن بسط يده قالوا: جواد، وإن قبضها قالوا: مقتصد، وإن أشار قالوا: عالم، وإن صام قالوا: مجتهد، وإن أفطر قالوا: معذور.
قال بعض الشعراء
يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حلّ أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب
وقال بعض الحكماء: إذا غلب العقل الهوى، صرف المساوىء الى المحاسن، فجعل البلادة حلما، والحدّة ذكاء، والمكر فطنة، والهذر بلاغة، والعىّ صمتا، والعقوبة أدبا، والجبن حذرا، والإسراف جودا.
وقيل: لو صوّر العقل، لأضاء معه الليل، ولو صوّر الجهل، لأظلم معه النهار.
قال المتنبّى
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى الى شرف من الإنسان
وقد ندب الى صحبة العقلاء.
قال الزّهرىّ: اذا أنكرت عقلك، فاقدحه بعاقل. قال ابن زرارة: جالس العقلاء أعداء كانوا أم أصدقاء، فإنّ العقل يقع على العقل.
قال بعض الشعراء
عدوّك ذو العقل أبقى عليك ... وأبقى من الوامق الأحمق(3/235)
وقال آخر
لله درّ العقل من راشد ... وصاحب في اليسر والعسر
وحاكم يقضى على غائب ... قضيّة الشاهد للأمر
وإنّ شيئا بعض أحواله ... أن يفصل الخير من الشرّ
له قوّى، قد خصّه ربّه ... بخالص التقديس والطّهر
وقال آخر
إذا لم يكن للمرء عقل فإنه ... - وإن كان ذا قدر على الناس- هيّن
وإن كان ذا عقل أجلّ لعقله، ... وأفضل عقل عقل من يتبيّن
وقال آخر
العقل حلّة فخر من تسر بلها ... كانت له نشبا يغنى عن النّشب
وأفضل العقل ما في الناس كلّهم ... بالعقل ينجو الفتى من حومة العطب
وقال ابن دريد
وأفضل قسم الله للمرء عقله ... فليس من الخيرات شىء يقاربه
فزين الفتى في الناس صحّة عقله ... وإن كان محظورا عليه مكاسبه
ويزرى به في الناس قلّة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه
اذا أكمل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومآربه
وقال آخر
ما وهب الله لامرئ هبة ... أشرف من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى، فإن عدما ... فإنّ فقد الحياة أنفع به(3/236)
وقال آخر
ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للنّذل
ولم أر من عدم أضرّ على الفتى ... اذا عاش بين الناس من عدم العقل
ذكر ما قيل في الصدق
قال الله عزّوجلّ مبشّرا للصادقين: (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تحرّوا الصدق، فإن الصدق يهدى الى البرّ، والبرّ يهدى الى الجنة، وإن المرء ليتحرّى الصدق، حتى يكتب صدّيقا» .
وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنه قال: جاء رجل الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ما عمل أهل الجنّة؟ قال: الصدق، اذا صدق العبد برّ، واذا بر أمن، واذا أمن دخل الجنّة. قال: يا رسول الله ما عمل أهل النار؟
قال: الكذب، إذا كذب العبد فجر، واذا فجر كفر، واذا كفر دخل النار.
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بم يعرف المؤمن؟ قال: بوقاره، ولين كلامه، وصدق حديثه. ومن كلام علىّ رضى الله عنه:
الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك، على الكذب حيث ينفعك.
وقال بعض الحكماء: الصدق أزين حلية، والمعروف أربح تجارة، والشكر أدوم نعمة. وقال بعضهم: رأيت أرسطا طاليس في المنام، فقلت: أىّ الكلام أحسن؟(3/237)
فقال: ما صدق قائله، قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ما استحسنه سامعه، قلت: ثمّ ماذا؟
قال: كل كلام جاوز هذا فهو ونهيق الحمار بمنزله.
وقال الأحنف لابنه: يا بنىّ، يكفيك من شرف الصدق، أن الصادق يقبل قوله في عدوّه، ومن دناءة الكذب، أن الكاذب لا يقبل قوله في صديقه ولا عدوّه، لكلّ شىء حلية، وحلية المنطق الصدق يدل على اعتدال وزن العقل.
قال عامر بن الظّرب العدوانىّ في وصيّته: إنى وجدت صدق الحديث طرفا من الغيب فاصدقوا، من لزم الصدق وعوّده لسانه، فلا يكاد يتكلّم بشىء يظنّه، إلا جاء على ظنّه.
وقالوا: ما السيف الصارم، فى كفّ الشجاع، بأعزّ من الصدق.
وقيل: مرّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، بعجوز تبيع اللبن، فقال لها: يا عجوز، لا تغشّى المسلمين، ولا تشوبى لبنك بالماء، قالت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم مرّ بها بعد ذلك، فقال يا عجوز، ألم أعهد إليك أن لا تشوبى لبنك بالماء؟ فقالت:
والله ما فعلت يا أمير المؤمنين، فتكلّمت بنت لها من داخل الخباء، فقالت: يا أمّاه، أغشّا وحنثا جمعت على نفسك؟ فسمعها عمر فأعجبته، فقال لولده: أيّكم يتزوّجها؟
فلعلّ الله أن يخرج منها نسمة طيّبة، فقال ابنه عاصم: أنا أتزوّجها يا أمير المؤمنين، فزوّجها منه، فأولدها أمّ عاصم، تزوّجها عبد العزيز بن مروان فأولدها عمر ابن عبد العزيز.
وروى أنّ بلالا لم يكذب منذ أسلم، فبلغ ذلك بعض من يحسده، فقال: اليوم أكذبه فسايره، فقال له: يا بلال ما سنّ فرسك؟ قال عظم، قال: فما جريه؟ قال:(3/238)
يحضر ما استطاع، قال: فأين تنزل؟ قال: حيث أضع قدمى، قال: ابن من أنت» قال ابن أبى وأمى، قال: فكم أتى عليك؟ قال: ليال وأيام، والله أعلم بعدها، قال: هيهات، أعيت فيك حيلتى، ما اتعب بعد اليوم أبدا.
ذكر ما قيل في الوفاء والمحافظة والأمانة
قال الله عزّوجلّ: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا)
. وقال تعالى:
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) .
وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)
. وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) .*
وروى: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه:
عليك بصدق الحديث، ووفاء العهد، وحفظ الأمانة، فإنها وصيّة الأنبياء.
كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، ختن «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ابنته زينب، تاجرا تضاربه قريش بأموالهم، فخرج الى الشام سنة الهجرة، فلما قدم، عرض له المسلمون، وأسروه، وأخذوا ما معه، وقدموا به المدينة ليلا، فلما وصلوا الفجر، قامت زينب على باب المسجد، فقالت:
يا رسول الله، قد أجرت أبا العاص وامعه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
قد أجرنا من أجرت ودفع اليه ما أخذوه منه، وعرض عليه الإسلام، فأبى، وخرج الى مكّة، ودعا قريشا، فأطعمهم، ثم دفع اليهم أموالهم، ثم قال: هل وفيت؟
قالوا: نعم، قد أدّيت الأمانة ووفيت، قال: اشهدوا جميعا، إنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وما منعنى أن أسلم إلا أن يقولوا: أخذ أموالنا، ثمّ هاجر، فأقرّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على النكاح، وتوفّى في سنة اثنتى عشرة.(3/239)
وقيل لمّا قوى أمر بنى العباس وظهر، قال مروان بن محمد لعبد الحميد بن يحيى كاتبه: إنّا نجد في الكتب، أن هذا الأمر زائل عنا لا محالة، وسيظهر اليك هؤلاء القوم، يعنى ولد العباس، فصر اليهم، فإنى لأرجو أن تتمكن منهم، فتنفعنى فى مخلفى، وفي كثير من أمورى، فقال: وكيف لى بعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك، وكلّهم يقول: إنى غدرت بك، وصرت الى عدوّك؟ وأنشد
أسرّ وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لى بعذر يوسع الناس ظاهره
ثم قال
ولؤم ظاهر لا شكّ فيه ... للأئمة وعذرى بالمعيب
فلما سمع مروان ذلك، علم أنه لا يفعل، ثم قال له عبد الحميد: إن الذى أمرتنى به، لأنفع الأمرين لك، وأقبحهما بى، ولك علىّ الصبر معك، الى أن يفتح الله عليك، أو أقتل معك.
والعرب تضرب المثل في الوفاء بالسموءل بن عادياء الأزدىّ، وقيل: إنه من ولد الكاهن بن هارون بن عمران، وكان من خبره، أن امرأ القيس بن حجر، أودعه أدراعا مائة، فأتاه الحارث بن ظالم، ويقال الحارث بن أبى شمر الغسّانىّ، ليأخذها منه، فتحصّن منه السموءل، فأخذ ابنا له غلاما وناداه: إما أن أسلمت إلىّ الأدرع، وإما أن قتلت ابنك، فأبى أن يسلمها، فقتل ابنه بالسيف، ففى ذلك يقول
وفيت بأدرع الكندىّ، إنى ... اذا ما القوم قد غدروا وفيت
وأوصى عاديا يوما بأن لا ... تهدّم يا سموءل ما بنيت(3/240)
وفيه يقول الأغشى
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... فى جحفل كسواد الليل جرّار
الأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدّار
قد سامه خطّتى خسف فقال له: ... قل ما بدا لك إنى سامع حار
فقال: ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظّ لمختار
فحار غير طويل ثم قال له: ... أقتل أسيرك إنّى مانع جارى
ومن وفاء العرب، ما فعله هانىء بن مسعود الشّيبانىّ، حتى جرّ ذلك يوم ذى قار، وكان من خبره: أن النعمان بن المنذر لما خاف كسرى، وعلم أنه لا منجأ منه ولا ملجأ، رأى أن يضع يده في يده، فأودع ماله وأهله عند هانىء*، ثمّ أتى كسرى فقتله، وأرسل الى هانىء يطالبه بوديعة النعمان، وقال له: إن النعمان كان عاملى، فابعث الىّ بوديعته، وإلا بعثت اليك بجنود تقتل المقاتلة وتسبى الذّرّية، فبعث اليه هانىء: أن الذى بلغك باطل، وإن يكن الأمر كما قيل، فأنا أحد رجلين، إما رجل استودع أمانة، فهو حقيق أن يردّها على من استودعه إياها، ولن يسلّم الحرّ أمانته، أو رجل مكذوب عليه، وليس ينبغى للملك أن يأخذه بقول عدوّ، فبعث كسرى اليه الجنود، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، وبعث معه الكتيبة الشّهباء والأساورة «1» ، فلما التقوا، قام هانىء بن مسعود، وحرّض قومه على القتال، وجرى بينهم حروب كثيرة ليس هذا موضع ذكرها، وسنذكرها إن شاء الله في وقائع العرب، فانتصر هانىء وانهزمت الفرس، وكانت وقعة مشهورة، قيل: وكان مرداس في سجن عبيد الله بن زياد بن أبيه، فقال له السجّان: أنا أحبّ أن أوليك حسنة، قال:
فإن أذنت لك في الانصراف الى دارك أفتدلج علىّ؟ قال: نعم، فكان يفعل ذلك به،(3/241)
فلما كان ذات يوم، قتل بعض الخوارج صاحب شرطة ابن زياد، فأمر أن يقتل من في السجن من الخوارج، وكان مرداس إذ ذاك خارجا، فقال له أهله:
اتّق الله في نفسك، فإنك مقتول إن رجعت، فقال: ما كنت لألقى الله غادرا، وهذا جبّار، ولا آمن أن يقتل السجّان، فرجع وقال للسجّان: قد بلغنى ما عزم صاحبك عليه من قتل أصحابنا، فبادرت لئلا يلحقك منه مكروه، فقال له السجّان:
خذ أىّ طريق شئت، فانج بنفسك.
خرج سليمان بن عبد الملك ومعه يزيد بن المهلّب الى بعص جبابين «1» الشام، وإذا بامرأة جالسة عند قبر تبكى، فجاء سليمان ينظر اليها، فقال لها يزيد، وقد عجب سليمان من حسنها: يا أمة الله، هل لك في أمير المؤمنين؟ فنظرت إليهما، ثم نظرت الى القبر، وقالت
فإن تسألانى عن هواى فإنه ... بحوماء هذا القبر يافتيان
وإنى لأستحييه والتّرب بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يرانى
ومن أحسن الوفاء، ما حكى عن نائلة بنت القرافصة زوج عثمان بن عفّان رضى الله عنه: أن معاوية خطبها فردّته، وقالت: ما يعجب الرجال منّى؟ قالوا: ثنايا فكسرت ثناياها، وبعثت بها الى معاوية، فكان ذلك مما رغّب قريشا في نكاح نساء كلب. وامرأة هدبة لما قتل زوجها، قطعت أنفها وشفتيها، وكانت جميلة الوجه، لئلا يرغب فيها.
وحيث ذكرنا الوفاء والمحافظة، فلنذكر بيعة خليفة ويمين، ذكرها بعض أهل الأدب فى تصنيفه، وهى: تبايع عبد الله الإمام أمير المؤمنين، بيعة طوع وإيثار ورضا واختيار واعتقاد وإضمار وإعلان وإسرار وإخلاص من طويتك وصدق من نيتك،(3/242)
وانشراح من صدرك، وصحة من عزيمتك، طائعا غير مكره، ومنقادا غير مجبر، مقرّا بفضلها، مذعنا بحقها، ومعترفا ببركتها، ومعتدّا بحسن عائدتها، وعالما بما فيها، وفي توكيدها من صلاح الكافّة، واجتماع كلمة الخاصّة والعامّة، ولمّ الشّعث، وأمن العواقب، وسكون الدّهماء، وعزّ الأولياء، وقمع الأعداء، على أن فلانا عبد الله وخليفته المفترض عليك طاعته، الواجب على الأمة إمامته وولايته، اللازم لهم القيام بحقه، والوفاء بعهده، لا تشكّ فيه، ولا ترتاب به، ولا تداهن من أمره، ولا تميل، ولكنك ولىّ أوليائه، وعدوّ أعدائه، من خاصّ وعامّ، وقريب وبعيد، وحاضر وغائب، متمسك في بيعته بوفاء العهد، وذمّة العقد، سريرتك مثل علانيتك، وضميرك فيه وفق ظاهرك، على أن إعطاءك هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إياها فى عنقك، لفلان أمير المؤمنين، على سلامة من قلبك، واستقامة من عزمك، واستمرار من هواك ورأيك، على أن لا تتأوّل عليه فيها، ولا تسعى في نقض شىء منها، ولا تقعد عن نصرة له في الرخاء والشدّة، ولا تدع النّصح له في كل حال راهنة وحادثة، حتى تلقى الله موفيا بها، مؤدّيا للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض (إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)
عليك بهذه البيعة التى طوّقتها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت ما شرط عليك فيها، من وفاء، ونصح، وموالاة، ومشايعة، وطاعة، وموافقة، واجتهاد، ومبالغة؛ عهد الله إن عهده كان مسئولا، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله عليهم السلام، وعلى من أخذ من عباده من وكدات مواثيقه، ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسك بها، فلا تبدل، وتستقيم، فلا تميل، وإن نكثت هذه البيعة، وبدّلت شرطا من شروطها، أو عفيت رسما من رسومها، أو غيّرت(3/243)
حكما من أحكامها، معلنا أو مسرّا، محتالا او متأولا، أو زغت عن السبيل التى يسلكها من لا يحتقر الأمانة، ولا يستحلّ الغدر والخيانة، ولا يستجيز حلّ العقود والعهود، فكلّ ما تملكه من عين أو ورق، أو آنية أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتقدة، والأموال المدّخرة، صدقة على المساكين، يحرّم عليك أن ترجع شيئا من ذلك الى مالك، بحيلة من الحيل، على وجه من الوجوه، أو سبب من الأسباب، أو مخرج من مخارج الإيمان، فكلّ ما تفيده عمرك من مال يقلّ خطره أو يجلّ فتلك سبيله الى أن تتوفاك [منيتك، أو يأتيك «1» أجلك، وكل مملوك لك اليوم من ذكر وأنثى أو تملكه الى آخر أيامك أحرار سائبون لوجه الله تعالى، ونساؤك يوم يلزمك الحنث وما تتزوّج بعدهن مدة بقائك طوالق ثلاثا، طلاق الحرج والسنّة لا مثنويّة فيها ولا رجعة، وعليك المشى الى بيت الله الحرام، ثلاثين حجّة حافيا راجلا، لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها، ولا يقبل الله صرفا ولا عدلا، وخذلك يوم تحتاج اليه، وبرّأك من حوله وقوّته، وألجأك الى حولك وقوّتك والله عزوجلّ بذلك شهيد (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) *
وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ.
ذكر ما قيل في التواضع
قال الله تبارك وتعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
. وقال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)
. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى:
(وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)
قال: هم المتواضعون. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل على الأرض متواضعا.(3/244)
وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعود المريض ويتبع الجنائز ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار، ولقد رأيته يوم حنين على حمار، خطامه ليف. وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن العفو لا يزيد العبد إلا عزّا فاعفوا يعزّكم الله، وإن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا نماء فتصدّقوا يزدكم الله» . وقال عروة ابن الزبير: التواضع أحد مصايد الشرف، وفي لفظ «سلّم الشرف» . وقال جعفر بن محمد: رأس الخير التواضع، فقيل له: وما التواضع؟ فقال: أن ترضى من المجلس بدون شرفك وأن تسلّم على من لقيت، وأن تترك المراء وإن كنت محقّا.
وعن على رضى الله تعالى عنه ولم يذكر المراء فيه وزاد فيه: وتكره الرياء والسمعة. وقيل: ثمرة القناعة الراحة، وثمرة التواضع المحبة، وقيل: التواضع نعمة لا يفطن لها الحاسد، وقيل: التواضع كالوهدة يجتمع فيها قطرها وقطر غيرها.
وقال عبد الله بن المعتز: متواضع العلماء أكثرهم علما، كما أن المكان المنخفض أكثر الاماكن ماء.
وكان يحيى بن خالد يقول: لست أرى أحدا تواضع في إمارة إلا وهو في نفسه اكبر مما نال من سلطانه.
ومن التواضع المأثور ما روى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه مرّ ويده على المعلّى بن الجارود فلقيته امرأة من قريش، فقالت له: يا عمر، فوقف لها، فقالت له: كنا نعرفك مرّة عميرا ثم صرت بعد عمير عمر ثم صرت بعد عمر أمير المؤمنين فاتق الله يابن الخطّاب، فانظر في أمور الناس، فإنّه من خاف الوعيد، قرب عليه(3/245)
البعيد، ومن خاف الموت، خشى الفوت، فقال لها المعلّى، إيّها، إليك يا أمة الله لقد ابكيت أمير المؤمنين، فقال له عمر أتدرى من هذه؟ ويحك! هذه خولة بنت حكيم التى سمع الله قولها من سمائه، فعمر أحرى أن يسمع قولها ويقتدى به. وقال عدىّ بن أرطاة لإياس بن معاوية: إنك لسريع المشية، قال: ذلك أبعد من الكبر وأسرع الى الحاجة. وقال عمر رضى الله عنه وقد قيل له مثل هذا: أنجح للحاجة وأبعد من الكبر. أما سمعت قوله عزوجل؟ (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) .
وقد مدح الشعراء أهل التواضع، فمن ذلك قول أبى تمّام حبيب
متبذّل في القوم وهو مبجّل ... متواضع في الحىّ وهو معظّم
وقال آخر
متواضع والنّبل يحرس قدره ... وأخو النباهة بالنباهة ينبل
وقال البحترىّ
دنوت تواضعا وعلوت مجدا ... فشأناك انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تبعد أن تسامى ... ويدنو الضوء منها والشّعاع
وقال أبو محمد التيمىّ
تواضع لما زاده الله رفعة ... وكلّ رفيع قدره متواضع
وقال آخر
دنوت تواضعا وعلوت قدرا ... ففيك تواضع وعلوّ شان(3/246)
ذكر ما قيل في القناعة والنزاهة
جاء في تفسير قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً)
أن المراد بالحياة الطيبة: القناعة.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القناعة مال لا ينفد» . وقال عليه السّلام:
«ما عال من اقتصد» . ومن كلام على رضى الله عنه: كفى بالقناعة ملكا، وبحسن الخلق نعيما.
وقال جعفر بن محمد: ثمرة القناعة الراحة.
وقال على بن موسى: القناعة تجمع الى صيانة النفس، وعز القدرة طرح مؤونة الاستكثار والتعبّد لأهل الدنيا، ولا ملك طريق القناعة إلا رجلان، إما متقلّل يريد أجر الآخرة، أو كريم يتنزّه عن آثام الدنيا.
وقال الراضى: القانع يعيش آمنا مطمئنا مستريحا مريحا، والشّره لا يعيش إلا تعبا نصبا في خوف وأذى.
وقال بعض الحكماء: عزّ النزاهة أحبّ الىّ من فرح الفائدة، والصبر على العسرة أحبّ الىّ من احتمال المنّة. وقال أبو ذؤيب الهذلىّ
والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ الى قليل تقنع
وقال سالم بن وامضة
غنى النفس ما يكفيك في سدّ فاقة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
وقال أبو هلال العسكرى
ألا إنّ القناعة خير مال ... لذى كرم يروح بغير مال(3/247)
وإن يصبر فإن الصبر أولى ... بمن عثرت به نوب الليالى
تجمّل إن بليت بسوء حال ... فإن من التجمل حسن حال
ذكر ما قيل في الشكر والثناء
قال الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)
فالشكر مما يوجب الزيادة.
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: لا يزهّدك في المعروف من لا يشكرك عليه، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشىء منه، وقد يدرك من شكر الشاكر، أكثر مما أضاع الكافر، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) *.
ومما تعزيه الفرس الى إسفنديار: الشكر أفضل من النعمة لأنه يبقى وتلك تفنى.
وقال موسى بن جعفر: المعروف لا يفكّه إلا المكافأة أو الشكر، وقال: قلّة الشكر تزهّد في اصطناع المعروف.
وقيل: إذا قصرت يدك عن المكافأة، فليطل لسانك بالشكر. وقيل: للشكر ثلاث منازل: ضمير القلب، ونشر اللسان، ومكافأة اليد. قال الشاعر
أفادتكما النّعماء منّى ثلاثة ... يدى ولسانى والضمير المحجّبا
وقال يحيى بن زياد الحارثىّ بن كعب
حلفت بربّ العيس تهوى بركبها ... الى حرم ما عنه للناس معدل
لما يبلغ الإنعام في النفع غاية ... على المرء إلا مبلغ الشكر أفضل
ولا بلغت أيدى المنيلين بسطة ... من الطّول إلا بسطة الشكر أطول(3/248)
ولا ثقلت في الوزن أعباء منّة ... على المرء إلا منّة الشكر أثقل
فمن شكر المعروف يوما فقد أتى ... أخا العرف من حسن المكافاة من عل
وقال رجل من غطفان
الشكر أفضل ما حاولت ملتمسا ... به الزيادة عند الله والناس
وقال أبو بجيلة
شكرتك إنّ الشكر حبل من التّقى ... وما كلّ من أوليته نعمة يقضى
ونبّهت لى ذكرى وما كان خاملا ... ولكنّ بعض الذّكر أنبه من بعض
وقال آخر
سأشكر عمرا ما تراخت منيّتى ... أيادى لم تمنن وإن هى جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّت
رأى خلّتى من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت
وقال أبو تمام
كم نعمة منك تسربلتها ... كأنها طرّة برد قشيب
من اللواتى إن ونى شاكر ... قامت لمسديها مقام الخطيب
وقال أبو عيينة بن محمد بن أبى عتبة المهلّبىّ
ياذا اليمينين قد أوليتنى مننا ... تترى هى الغاية القصوى من المنن
ولست أسطيع من شكر أجىء به ... إلا استطاعة ذى جسم وذى بدن
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة ... أوفى من الشكر عند الله في الثّمن
أخلصتها لك من قلبى مهذّبة ... حذوا على مثل ما أوليت من حسن(3/249)
قالوا وأجود ما قيل في عظم النعمة وقصور الشكر من قديم الشّعر قول طريح ابن إسماعيل
سعيت ابتغاء الشكر فيما صنعت لى ... فقصّرت مغلوبا وإنّى لشاكر
لأنك تولينى الجميل بداهة ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر
فأرجع مغبوطا وترجع بالّتى ... لها أوّل في المكرمات وآخر
وقال دعبل
هجرتك لا عن جفوة وملالة ... ولا لقلى أبطأت عنك أبا بكر
ولكنّنى لما رأيتك راغبا ... فأفرطت في برّى عجزت عن الشكر
فملآن «1» لا آتيك إلا تعذّرا ... أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر
وقال البحترىّ
هاتيك أخلاق إسماعيل في تعب ... من العلا والعلا منهنّ في تعب
أبث شكرى فأمسى منك في نصب ... أقصر فمالى في جدواك من أرب
لا أقبل الدهر نيلا لا يقوم له ... شكرى ولو كان يسديه إلىّ أبى
لما سألتك وافانى نداك على ... أضعاف شكرى فلم أظفر ولم أخب
وقال أيضا
إنى هجرتك إذ هجرتك وحشة ... لا العود يذهبها ولا الإبداء
أخجلتنى بندى يديك فسوّدت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء
وقطعتنى بالجود حتّى إنّنى ... متخوّف أن لا يكون لقاء
صلة غدت للناس وهى] قطيعة ... عجبا وبرّ راح وهو جفاء
ليواصلنّك ركب شعر سائر ... يرويه فيك لحسنه الاعداء(3/250)
حتى يتمّ لك الثناء مخلّدا ... أبدا كما تمت لك النّعماء
فتظلّ تحسدك الملوك الصّيدبى ... وتظلّ تحسدنى بك الشعراء
وقال الحسن بن هانىء
قد قلت للعباس معتذرا ... من عظم شكريه ومعترفا
أنت امرؤ جلّلتنى نعما ... أوهت قوى شكرى فقد ضعفا
لا تسدينّ إلىّ عارفة ... حتّى أقوم بشكرها سلفا
وقال الحسين بن الضحّاك للواثق من أبيات ... إذا كنت من جدواك في كلّ نعمة
فلا كنت إن لم أفن عمرى بشكركا
وقال البحترىّ
إذا أنا لم أشكر لنعماك جاهدا ... فلا نلت نعمى بعدها توجب الشّكرا
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
إنى لشاكر أمسه ووليّه ... فى يومه ومؤمّل عنه غدا
وقال آخر
وكيف أنساك؟ لا نعماك واحدة ... عندى ولا بالذى أوليت من قدم
وقال عبد الأعلى بن حمّاد: دخلت على المتوكّل، فقال لى: قد هممنا أن نصلك، فتدافعت الأمور، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد بلغنى عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال: من لم يشكر للهمّة، لم يشكر للنعمة، وأنشدته قول الباهلىّ
لأشكرنّك معروفا هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يمضه قدر ... فالشىء بالقدر المحتوم مصروف(3/251)
وقال ابن الرومىّ
كم من يد بيضاء قد أسديتها ... تثنى إليك عنان كلّ وداد
شكر الإله صنائعا أوليتها ... سلكت مع الأرواح في الأجساد
وقال آخر
وأحسن ما قال امرؤ فيك مدحة ... تلاقت عليها منّة وقبول
وشكر كأن الشمس تعنى بنشره ... ففى كلّ أرض مخبر ورسول
ومن كلام الحسن بن وهب: من شكر لك على درجة رفعته اليها، أو ثروة أفدته إيّاها، فإن شكرى لك على مهجة أحييتها، وحشاشة أبقيتها، ورمق أمسكته، وقمت بين التّلف وبينه، ولكل نعمة من نعم الدنيا حدّ ينتهى إليه، ومدى توقف عليه، وغاية من الشكر يسمو اليها الطرف، خلا هذه النعمة التى فاتت الوصف، وطالت الشكر، وتجاوزت كلّ قدر، وأتت من وراء كلّ غاية، وردت عنّا كيد العدوّ، وأرغمت أنف الحسود، نلجأ منها الى ظلّ ظليل، وكنف كريم، فكيف يشكر الشاكر، وأين يبلغ جهد المجهود.
وقال الشريف الرضىّ
ألبستنى نعما على نعم ... ورفعت لى علما على علم
وعلوت بى حتّى مشيت على ... بسط من الأعناق والقمم
فلأشكرنّ يديك ما شكرت ... خضر الرّياض مصانع الدّيم
فالحمد يبقى ذكر كلّ فتى ... ويبين قدر مواقع الكرم
والشكر مهر للصنيعة إن ... طلبت مهور عقائل النّعم(3/252)
وقال أبو الحسن الكاتب المغربىّ
سأشكر نعماك التى انبسطت بها ... يدى ولسانى فهو بالمجد ينطق
وأثنى بما أوليتنى من صنيعة ... ومن منّة تغدو علىّ وتطرق
وكلّ امرىء يرجو نداك موفّق ... وكلّ امرىء يثنى عليك مصدّق
وقال ابن رشيق القيروانىّ
خذ ثناء عليك غبّ الأيادى ... كثناء الرّبى على الأمطار
سقط الشكر وهو موجب نعما ... ك سقوط الأنواء بالأثمار
ومن المنعمين من رأى أن الشكر بإظهار النعمة، أبلغ منه بالنطق باللسان، وعاقب على ذلك بالحرمان.
فمن ذلك مارواه أبو هلال العسكرىّ يسنده الى العتبىّ قال: أراد جعفر بن يحيى حاجة كان طريقه إليها على باب الأصمعىّ، فدفع الى خادم له كيسا فيه ألف دينار وقال: إنى سأنزل في رجعتى الى الأصمعىّ، ثم سيحدثنى ويضحكنى، فاذا ضحكت، فضع الكيس بين يديه، فلما رجع، ودخل إليه، رأى حبّا «1» مكسور الرّأس، وجرّة مكسورة العنق، وقصعة مشعبة، وجفنة أعشارا، ورآه على مصلّى بال، وعليه برنكان «2» أجرد، فغمز غلامه أن لا يضع الكيس بين يديه، فلم يدع الأصمعى شيئا ممّا يضحك الثّكلان والغضبان إلا أورده عليه فلم يتبسم، ثمّ خرج، فقال لرجل يسايره:
من استرعى الذئب ظلم، ومن زرع السّبخة حصد الفقر، إنى والله لما علمت أن هذا يكتم المعروف بالفعل، ما حفلت بنشره له باللسان، وأين يقع مديح اللسان(3/253)
من آثار العيان؟ إن اللسان قد يكذب، والحال لا تكذب، ولله در نصيب حيث يقول
فعاجوا فأثنوا بالذى أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ثم قال: أعلمت أن ناووس أبرويز، أمدح لأبرويز من زهير لآل سنان؟
وقالت الحكماء: لسان الحال، أصدق من لسان الشكوى.
وقد أجاد ابن الرومىّ في هذا المعنى فقال
حالى تبوح بما أوليت من حسن ... فكلّ ما تدعيه غير مردود
كلّى هجاء، وقتلى لا يحلّ لكم ... فما يداويكم منّى سوى الجود
وقالوا: شهادات الأحوال، أعدل من شهادات الرجال.
ذكر ما قيل في الوعد والإنجاز
روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وعد المؤمن كأخذ باليد» .
وقال الحسن بن على رضى الله عنهما: الوعد مرض في الجود، والإنجاز دواءه.
ومن كلامه: المسئول حرّ حتّى يعد، ومسترقّ بالوعد حتى ينجز.
وقال الزّهرىّ: حقيق على من أزهر بالوعد، أن يثمر بالفعل.
وقال مسلم بن الوليد عن أبيه قال: سألت الفضل بن سهل حاجة، فقال: أشرّفك اليوم بالوعد، وأحبوك غدا بالإنجاز، فإنى سمعت يحيى بن خالد يقول: المواعيد شبكة من شباك الكرام، يصيدون بها محامد الأحرار، ولو كان المعطى لا يعد، لارتفعت مفاخر إنجاز الوعد، ونقص فضل صدق المقال.
وقال الأبرش الكلبىّ لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، لا تصنع إلىّ معروفا حتى تعدنى، فإنه لم يأتنى منك سيب على غير وعد، إلا هان علىّ قدره، وقلّ منّى(3/254)
شكره، فقال له هشام: لئن قلت ذلك، لقد قال سيّد أهلك أبو مسلم الخولانىّ:
أنجع المعروف في القلوب، وأبرده على الأكباد، معروف منتظر من وعد لا يكدّر بالمطل.
وكان يحيى بن خالد لا يقضى حاجة إلا بوعد.
وقالت أعرابيّة لرجل: مالك تعطى ولا تعد، فقال: مالك والوعد؟ قالت ينفسح به البصر، وينشر فيه الأمل، وتطيب بذكره النفس، ويرخى به العيش، وتربح به المدح بالوفاء.
قيل: كلّم منصور بن زياد يحيى بن خالد في حاجة لرجل فقال: عده عنّى قضاءها، قال: وما يدعوك أعزّك الله الى العدة مع وجود القدرة؟ فقال يحيى: هذا قول من لا يعرف موضع الصنائع من القلوب، إن الحاجة إن لم تتقدمها بوعد ينتظر به نجحها؛ لم تتجاذب الأنفس بسرورها، ولم تتلذذ بتأميلها، وإن الوعد تطعّم، والإنجاز طعام، وليس من فاجأه طعام، كمن وجد رائحته، وتمطّق له وتطعّمه، ثم طعمه، فدع الحاجة تحتّم بالوعد، ليكون لها عند المصطنع اليه حسن موقع، ولطف محلّ.
وقال عيسى بن ماهان: إنى أحبّ أن أهب بلا وعد، وأحبّ أن أعد، لأخرج من جملة المخلفين، وأدخل في عدد الوافين، ويؤثر عنّى كرم المنجزين، فإن من سبق فعله وعده، وصف بكرم فرد، وسقط عنه جميع ما ذكرت.
قال ذكر العباس المأمون فقال: إنه ألقح معروفه عندى بالوعد، ونتجه بالنّجح، وأرضعه بالزيادة، وشيّبه بالتعهد، وهرّمه باستتمامه من جهاته، وهنأه «1» بترك الامتنان به.(3/255)
وشكا رجل جعفر بن يحيى لأبيه: أنه وعده وعدا ومطله به، فوقّع: يا بنىّ، أنتم معاقل الأحرار ومظانّ المطالب ومعادن الشكوى، فكونوا سواء في الأقوال والأفعال، فإن الحرّ، يدّخر وعد الحر ويعتقده وينفقه قبل ملكته، فإن أخفق أمله، كان سببا لذمّه واتّهامه وسوء ظنّه، حتّى يوارى قبح ذلك حسن يقينه، فأنجز الوعد، وإلا فأقصر القول، فإنه أعذر والسلام.
قال: كلّم المأمون في الحسين بن الضحّاك الخليع أن يردّ عليه رزقه، فقال: أليس هو القائل في الأمين
فلا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال في الدّنيا طريدا مشردا
فما زالوا يتلطفون معه في القول، إلى أن أذن له أن ينشده، فأنشده
أبن لى فإنى قد ظمئت الى الوعد ... متى تنجز الوعد المؤكّد بالعهد؟
أعيذك من صدّ الملوك وقد ترى ... تقطّع أنفاسى عليك من الوجد
فما لى شفيع عند حسنك غيره ... ولا سبب إلا التمسك بالودّ
أيبخل فرد الحسن فرد صفاته ... علىّ وقد أفردته بهوى وحدى
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملّكه والله أعلم بالعبد
فقال له المأمون: هذه بتلك، وقد عفونا عنك فقال: يا أمير المؤمنين، فأتبع عفوك إحسانك، فأمر بردّ أرزاقه عليه، وكانت في كلّ شهر خمسمائة دينار، فقال المأمون:
لولا أنى نويت عفوا عنه، وجعلت ذلك وعدا له من قبل، ما فعلته، وإنما ذكر الوعد في تشبيبه يذكرنيه.
وقال بعض ملوك العجم: البخل بعد الوعد، يضعف قبحه على البخل قبله، فما قولك في أمر، البخل أحسن منه؟(3/256)
وقال بعض الشعراء
ولى منك موعود طلبت نجاحه ... وأنت امرؤ لا تخلف الدهر موعدا
وعوّدتنى أن لا تزال تظلّنى ... يد منك قد قدّمت من قبلها يدا
فلو أن محدا أو ندى أو فضيلة ... تخلّد شيئا كنت أنت المخلّدا
وقال بشار
وعد الكريم يحثّ نائله ... كالغيث يسبق رعده مطره
وقال ابن الرومىّ
يتخطّى العداة عمدا الى البذ ... ل كسحّ الحيا بلا إيماض
ذكر ما قيل في الشفاعة
قال الله عزّوجلّ: (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى يسأل العبد عن جاهه كما يسأله عن عمره، فيقول له: جعلت لك جاها، فهل نصرت به مظلوما، أو قمعت به ظالما، أو أعنت به مكروبا» ؟ وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة أن تعين بجاهك من لا جاه له» وقال: «الخلق عيال الله، فأحبّهم اليه، أنفعهم لعياله» .
وقال: «الشفيع جناح الطلب» .
وقيل: قصد ابن السمّاك الواعظ رجلا في حاجة لرجل سأله الشفاعة فيها، فقال ابن السّماك: إنى أتيتك في حاجة، وأن الطالب والمطلوب اليه عزيزان إن قضيت الحاجة، وذليلان إن لم تقض، فاختر لنفسك عزّ البذل، على ذلّ المنع، واختر لى عزّ النّجح، على ذلّ الردّ، فقضى حاجته.(3/257)
قال أبو تمام
واذا امرؤ أسدى اليك ضنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله
وقال رجل لبعض الملوك: إن الناس يتوسّلون اليك بغيرك، يسألون معروفك، ويشكرون غيرك، وأنا أتوسّل اليك بك، ليكون شكرى لك لا لغيرك.
قال بعض الشعراء
إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة ... فلا خير في ودّ يكون بشافع
ذكر ما قيل في الاعتذار والاستعطاف
رأيت جماعة من أهل الأدب قد ألحقوا الاعتذار والاستعطاف بالمدح، كالحمدونىّ فى تذكرته، وغيره، فلذلك أضفته اليه، وجعلته من فصوله. قال الله عزّوجلّ:
(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) .
وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من اعتذر اليه أخوه المسلم، فلم يقبل، لم يرد على الحوض» .
وقال علىّ رضى الله عنه: أولى الناس بالعفو، أقدرهم على العقوبة. وقال:
العفو زكاة الظّفر. وقال: اذا قدرت على عدوّك، فاجعل عفوك عنه شكر المقدرة عليه.
وقال الحسن بن علىّ رضى الله عنهما: لا تعاجل الذنب بالعقوبة، واجعل بينهما للاعتذار طريقا. وقال: أوسع ما يكون الكرم بالمغفرة، اذا ضاقت بالذنب المعذرة.
وقال جعفر بن محمد الصادق: شفيع المذنب إقراره، وتوبة المجرم الاعتذار.
وقالوا ما أذنب من اعتذر، ولا أسى من استغفر.(3/258)
وأوصى بعض الحكماء ولده فقال: يا بنىّ لا يعتذر اليك أحد من الناس، كائنا من كان، فى أى جرم كان، صادقا كان أو كاذبا، إلا قبلت عذره، فكفاك بالاعتذار برّا من صديقك، وذلّا من عدوّك.
قال بعض الشعراء
فإن كنت ترجو في العقوبة راحة ... فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر
وقال أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكرىّ: الاعتذار ذلّة، ولا بدّ منه، لأن الإصرار على الذنب، فيما بينك وبين خالقك هلكة، وفيما بينك وبين صديقك فرقه، وعند سائر الناس مثلبة وهجنة، فعليك به، اذا واقعت الذنب، وقارفت الجرم، ولا تستنكف من خضوعك وتذلّلك فيه، فربما استثير العزّ من تحت الذلة، واجتنى الشرف من شجرة النذلة، وربّ محبوب في مكروه، والمجد شهد يجتنى من حنظل.
قال: ومما خصّ به الاعتذار أنّ الحقّ لا يثبت لباطله، والحقيقة لا تقوم مع تخييله وتمويهه، وأنّ ردّه لا يسع مع الكذب اللائح في صفحاته. وقالوا: لا عذر فى ردّ الاعتذار، والمعتذر من الذنب، كمن لا ذنب له، وهذه خصلة لا يشركه فيها غيره.
قال بعضهم: كنت بحضرة عبيد الله بن سليمان، فوردت عليه رقعة من جعفر ابن توّابة، نسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك، فأنا أحاكم الأيّام الى عدلك، وأشكو صروفها الى فضلك، وأستجير من لؤم غلبتها بكرم قدرتك، وحسن ملكتك، فإنها تؤخّرنى اذا قدّمت، وتحرمنى اذا قسّمت، فإن(3/259)
أعطت أعطت يسيرا، وإن ارتجعت ارتجعت كثيرا، ولم أشكها الى أحد قبلك، ولا أعددت الانتصاف منها إلا الى فضلك، ولى مع ذمام المسألة لك، وحقّ الظّلام اليك، ذمام تأميلك، وقدم صدق في طاعتك، والذى يملأ من النّصفة يدى، ويفرغ الحقّ علىّ، حتى تكون لى محسنا، وأكون بك الى الأيام مقرّبا، أن تخلطنى بخواصّ خدمك الذين نقلتهم من حدّ الفراغ الى الشغل، ومن الخمول الى النباهة والذّكر، فإن رأيت أن تعذّبنى فقد استعديت اليك، وتنصرنى فقد عذت بك، وتوسع لى كنفك فقد أويت اليه، وتسمنى بإحسانك فقد عوّلت عليه، وتستعمل يدى ولسانى فيما يصلحان له من خدمتك، فقد درست كتب أسلافك وهم القدوة في البيان، واستضأت بآرائهم، واقتفوت آثارهم اقتفاء جعلنى بين وحشىّ الكلام وأنيسه، ووقفنى منه على جادة متوسطة، يرجع اليها العالى، ويلحق بها المقصّر التالى، فعل إن شاء الله. قال: فعل إن شاء الله! قال: فجعل عبيد الله يرددها ويستحسنها؛ ثم قال: هذا أحقّ بديوان الرسائل.
ومن الاستعطاف: ما حكى أن محمد بن الحنفيّة، جرى بينه وبين أخيه الحسين، كلام افترقا بسببه متغاضبين؛ فلما وصل محمد الى منزله، كتب الى الحسين رقعة فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن لك شرفا لا أبلغه، وفضلا لا أدركه، أبونا علىّ، لا أفضلك فيه ولا تفضلنى، وأمّى امرأة من بنى حنيفة، وأمّك فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان ملء الأرض نساء مثل أمى ما وفين بأمّك، فاذا قرأت رقعتى هذه فالبس رداءك ونعليك وتعال لتترضّانى، وإياك أن أسبقك الى هذا الفضل الذى أنت أولى به منى والسلام. فلبس الحسين رداءه ونعليه وجاء الى محمد وترضّاه.(3/260)
وقيل: وقّع جعفر بن يحيى في رقعة معتذرا: قد تقدمت طاعتك ونصيحتك، فإن ثبت منك هفوة فلن تغلب سيئة حسنتين.
وقال شاعر
إرض للسائل الخضوع وللقا ... رف ذنبا مذلّة الإعتذار
قال أبو هلال العسكرىّ: لم يرو عن أحد قبل النابغة الذبيانىّ في الاعتذار شعر؛ فمن أجود ما روى له فيه، قوله حين سعى به المنخّل اليشكرىّ الى النّعمان، وزعم أنه غشى المتجرّدة حظيّة النعمان، وذلك حين وصفها النابغة في شعره فقال
واذا لمست، لمست أخثم جاثما ... متحيّزا بمكانه ملء اليد
واذا طعنت، طعنت في مستهدف ... رابى المحبّسة بالعبير مقرمد
واذا نزعت، نزعت من مستحصف ... نزع الحزوّر بالرّشاء المحصد
فقال المنخّل للنعمان: هذا وصف من ذاقها، فوقر ذلك في نفس النعمان، ثم وفد عليه رهط من بنى سعد بن زيد مناة من بنى قريع، فأبلغوه أن النابغة ما يزال يذكرها ويصف منها، فأجمع النعمان على الإيقاع بالنابغة، فعرّفه بذلك عصام حاجب النعمان، وهو الذى قيل فيه
نفس عصام سوّدت عصاما
فانطلق النابغة الى آل غسّان وكانوا قتلوا المنذر ولد النعمان، فزادهم لحاق النابغة بهم حشمة؛ ثم اتصلت بالنعمان كثرة مدائح النابغة لهم، فحسدهم عليه وأمّنه وراسله فى المصير اليه، فأتاه وجعل يعتذر ممّا قذف به ومن مدحه لآل غسّان فقال
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب(3/261)
لئن كنت قد بلّغت عنى جناية ... لمبلغك الواشى أغشّ وأكذب
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث! أىّ الرجال المهذب؟
فأن أك مظلوما، فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتبى، فمثلك يعتب
يقول: مثلك يعفو ويحسن وإن كان عاتبا، وفي كرمك ما يفعل ذلك، ولك العتبى والرجوع الى ما تحبّ، ومنه قوله أيضا للنعمان
أتانى أبيت اللّعن! أنك لمتنى ... وتلك التى تستكّ منها المسامع
مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع
فبتّ كأنّى ساورتنى ضئيلة ... من الرّقش في أنيابها السمّ ناقع
لكلّفتنى ذنب امرىء وتركنه ... كذى العرّ يكوى غيره وهو راتع
الى أن قال
فإن كنت لا ذو الضّغن عنى مكذّب ... ولا حلفى على البراءة نافع
ولا أنا مأمون بشىء أقوله ... وأنت بأمر لا محالة وقع
فإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك وسع
وقال أيضا
أنبئت أن أبا قابوس أوعدنى ... ولا قرار على زار من الأسد
مهلا، فداء لك الأقواء كلّهم، ... وما أثمّر من مال ومن ولد
لا تقذفنّى بركن لا كفاء به ... وإن تأثّفك «1» الأعداء بالرّفد
ما قلت من سيىء ممّا أتيت به ... اذا فلا رفعت سوطى الى يدى
قال: فخلع عليه النعمان خلع لرضى، وكنّ حبرات خضرا مطّرقّة بالجوهر.(3/262)
قال العسكرىّ: ولم يسلك أحد طريقته فأحسن فيها كإحسان البحترىّ، فمن اعتذاراته قوله في قصيدته التى أوّلها
لوت بالسلام بنانا خضيبا
قال منها
فديناك من أىّ خطب عرى ... ونائبة أو شكت أن تنوبا
وإن كان رأيك قد حال فيّ ... وأوليتنى بعد شرّ قطوبا
يريبنى الشىء تأتى به ... وأكبر قدرك أن أستريبا
وأكره أن يتمادى علىّ سبيل اغترار ... فألقى شعوبا
أكذّب نفسى بأن قد سخطت ... وما كنت أعهد ظنّى كذوبا
ولو لم تكن ساخطا لم أكن ... أذمّ الزمان وأشكو الخطوبا
أيصبح ودّى في ساحتي ... ك طرقا «1» ومرعاى محلا جديبا
وما كان سخطك إلا الفراق ... أفاض الدموع وأشجى القلوبا
ولو كنت أعرف ذنبا لما كا ... ن خالجنى الشك في أن أتوبا
سأصبر حتى ألاقى رضاك ... إما بعيدا وإما قريبا
أراقب رأيك حتى يصحّ ... وأنظر عطفك حتى يثوبا
وقوله
عذيرى من الأيّام رنّقن مشربى ... ولقّيننى نحسا من الطير أشأما
وأكسبننى سخط امرىء بتّ موهنا ... أرى سخطه ليلا مع الصبح مظلما
تبلّج عن بعض الرضى، وانطوى على ... بقية عتب شارفت أن تصرّما
اذا قلت يوما: قد تجاوز حدّها ... تلبّث في أعقابها وتلوّها
وأصيد إن نازعته الطرف رده ... قليلا، وإن راجعته القول جمجما(3/263)
ثناه العدا عنى، فأصبح معرضا ... ووهّمه الواشون حتى توهّما
وقد كان سهلا واضحا فتوعّرت ... رباه، وطلقا ضاحكا فتجهّما
أمتّخذ عندى الإساءة محسن ... ومنتقم منى امرؤ كان منعما
ومكتسب فيّ الملامة ماجد ... يرى الحمد غنما والملامة مغرما
يخوّفنى من سوء رأيك معشر ... ولا خوف إلا أن تجور وتظلما
أعيذك أن أخشاك من غير حادث ... تبيّن، أو جرم إليك تقدما
الست الموالى فيك نظم قصائد ... هى الأنجم اقتادت مع الليل أنجما؟
أعد نظرا فيما تسخطت، هل ترى ... مقالا دنيئا أو فعالا مذمّما؟
وكان رجائى أن أؤوب مملّكا ... فصار رجائى أن أؤوب مسلّما
حياء فلم يذهب بى الغىّ مذهبا ... بعيدا، ولم أركب من الأمر معظما
ولم أعرف الذنب الذى سؤتنى له ... فأقتل نفسى حسرة وتندّما
ولو كان ما خبّرته أو ظننته ... لما كان غروا أن ألوم وتكرما
أذكّرك العهد الذى ليس سؤددا ... تناسيه، والودّ الصحيح المسلّما
وما حمل الركبان شرقا ومغربا ... وأنجد في أعلى البلاد وأتهما
أقرّ بما لم أجنه متنصّلا ... اليك، على أنى إخالك ألوما
لى الذنب معروفا. فإن كنت جاهلا ... به، فلك العتبى علىّ وأنعما
ومثلك، إن أبدى الفعال أعاده ... وإن صنع المعروف زاد وتمّما
وقال سعيد بن حميد
لم آت ذنبا، فإن زعمت بأن ... أتيت ذنبا، فغير معتمد
قد تطرف الكفّ عين صاحبها ... فلا يرى قطعها من الرشد(3/264)
وقال آخر
وكنت اذا ما جئت أدنيت مجلسى ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لى بالعين التى كنت مرّة ... الىّ بها في سالف الدهر تنظر؟
وقال آخر
اغتفر زلّتى لتحرز فضل ال ... عفو عنى ولا يفوتك أجرى
لا تكلنى الى التوسّل بالعذ ... ر لعلّى أن لا أقوم بعدرى
وقال بعض فضلاء الأندلس
إنى جنيت ولم يزل أهل النهى ... يهبون للجانين ما يجنونه
ولقد جمعت من الذنوب فنونها ... فاجمع من الصفح الجميل فنونه
من كان يرجو عفو من هو فوقه ... فليعف عن ذنب الذى هو دونه
الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثانى فى الهجاء،
وفيه أربعة عشر فصلا ما قيل في الهجاء ومن يستحقّه.
ما قيل في الحسد.
ما قيل في السعاية والبغى.
ما قيل في الغيبة والنميمة.
ما قيل في البخل واللؤم وأخبار البخلاء واحتجاجهم.(3/265)
ما قيل في التطفيل ويتّصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة.
ما قيل في الجبن والفرار.
ما قيل في الحمق والجهل.
ما قيل في الكذب.
ما قيل في الغدر والخيانة.
ما قيل في الكبر والعجب.
ما قيل في الحرص والطمع.
ما قيل في الوعد والمطل.
ما قيل في العىّ والحصر.
ذكر ما قيل في الهجاء ومن يستحقه
قال الله تعالى: (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)
فهذه رخصة لمن ظلم فى الانتصار.
وقال حسّان بن ثابت الأنصارىّ يردّ على أبى سفيان بن الحارث
ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... مغلغلة «1» فقد برح الخفاء
هجوت محمّد، فأجبت عنه، ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخيركما الفداء(3/266)
لنا في كلّ يوم من معدّ ... سباب أو قتال أو هجاء
لسانى صارم لا عيب فيه ... وبحرى لا تكدّره الدّلاء
فإنّ أبى ووالدتى وعرضى ... لعرض محمّد منكم وقاء
ويستحقّ الهجاء من اتصف بسوء الخصال، واتسم بأخلاق الأرذال والأنذال، وجعل اللؤم جلبابه وشعاره، والبخل وطاءه ودثاره، وسأذكر جماع ما اتصفوا به من سوء الفعال، وأسّسوا بنيانهم عليه من قبح الخلال.
قال بعض الحكماء: أربعة من علامات اللؤم: إفشاء السرّ، واعتقاد الغدر، وغيبة الأحرار، وإساءة الجوار.
وسأل عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف عن خلقه، فتلكأ عليه وأبى أن يخبره فأقسم عليه فقال: حسود، كنود، حقود، فقال عبد الملك: ما في إبليس شرّ من هذه الخلال؛ فبلغ ذلك خالد بن صفوان فقال: لقد انتحل الشرّ بحذافيره، ومرق من جميع خلال الخير، وتأنق في ذمّ نفسه، وتجرّد في الدلالة على لؤم طبعه، وأفرط في إقامة الحجّة على كفره، وخرج من الخلال الموجبة رضى ربّه.
قال أبو تمام
تأنّست بذميم الفعل طلعته ... تأنّس المقلة الرمداء بالظلم
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أربعة، من كنّ فيه فهو منافق، من اذا حدّث كذب، واذا وعد أخلف، واذا عاهد غدر، واذا أؤتمن خان» .
وقالوا: اللئيم كذوب الوعد، خؤون العهد، قليل الرفد، وقالوا: اللئيم اذا استغنى بطر، واذا افتقر قنط، واذا قال أفحش، واذا سئل بخل، وإن سأل ألحّ، وإن(3/267)
أسدى اليه صنيع أخفاه، وإن استكتم سرّا أفشاه، فصديقه منه على حذر، وعدوّه منه على غرر «1» .
وإنّ للشعراء والبلغاء في الذّم والهجاء نظما ونثرا سنورد منه طرفا، ونشرح ما يجعل ضوء النهار على المقول فيه سدفا «2» .
فمن ذلك ما قاله أحمد بن يوسف الكاتب في بنى سعيد بن مسلم بن قتيبة: محاسنهم مساوىء السّفل، ومساوئهم فضائح الأمم، وألسنتهم معقودة بالعىّ، وأيديهم معقولة بالبخل، وأعراضهم أعراض الذمّ؛ فهم كما قيل
لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولا تبيد مخازيهم وإن بادوا
وذمّ أعرابى قوما فقال هم أقلّ الناس ذنوبا الى أعدائهم، وأكثرهم تجرؤا على أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء.
وذمّ أعرابىّ قوما فقال: قوم سلخت أقفاؤهم بالهجاء، وذبغت جلودهم باللؤم، فلباسهم في الدنيا الملامة، وفي الآخرة الندامة.
وكان عيسى بن فرخان شاه يتيه على أبى العيناء حال وزارته، فلما صرف عن الوزارة لقى أبا العيناء في بعض السكك فسلّم عليه سلاما خفيفا، فقال أبو العيناء لقائده: من هذا؟ قال: أبو موسى، فدنا منه حتّى أخذ بعنان بغلته وقال: لقد كنت أقنع بإيمائك دون بنانك، وبلحظك دون لفظك، الحمد لله على ما آلت اليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة، لقد أصابت فيك النقمة؛ ولئن كانت الدنيا أبدت صفحاتها بالإقبال عليك، لقد أظهرت محاسنها بالإدبار عنك، ولله المنّة(3/268)
إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزّهنا عن قول الزور فيك، وقد والله أسأت حمل النعمة، وما شكرت حقّ المنعم؛ ثم أطلق يده من عنانه، ورجع الى مكانه فقيل له:
يا أبا عبد الله! لقد بالغت في السّبّ؛ فما كان الذنب؟ قال: سألته في حاجة أقلّ من قيمته، فردّنى عنها بأقبح من خلقته.
قال بعض الأعراب: نزلت بذاك الوادى فإذا ثياب أحرار على أجسام عبيد، إقبال حظهم، إدبار حظ الكرام؛ ألمّ بهذا المعنى شاعر فقال
أرى حللا تصان على رجال ... وأعراضا تذال ولا تصان
يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان
وسئل بعض البلغاء عن رجل فقال: هو صغير القدر، قصير الشّبر، ضيّق الصدر، لئيم النّجر «1» ، عظيم الكبر، كثير الفخر.
وذمّ أعرابىّ رجلا فقال: هو عبد البدن، حرّ الثياب، عظيم الرّواق، صغير الأخلاق، الدهر يرفعه، ونفسه تضعه.
وقال آخر: فلان غثّ في دينه، قذر في دنياه، رثّ في مروءته، سمج في هيئته، منقطع الى نفسه، راض عن عقله، بخيل بما أنعم الله عليه، كتوم لما آتاه الله من فضله، حلّاف لجوج، إن سأل ألحف، وإن وعد أخلف، لا ينصف الأصاغر، ولا يعرف حقّ الأكابر.
وترجم الفتح بن عبد الله القيسىّ صاحب قلائد العقيان في كتابه عن أبى بكر بن ماجة المعروف بابن الصائغ فقال: هو رمد جفن الدّين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفا وجنونا، وهجر مفروضا ومسنونا، فما يشرع، ولا يأخذ في غير الأضاليل ولا(3/269)
يشرع، ناهيك به من رجل ما تطهّر من جنابه، ولا أظهر مخيلة إنابه، ولا استنجى من حدث، ولا أسجى فؤاده موارى في جدث، ولا أقرّ ببارئه ومصوّره، ولافرّ عن تباريه في ميدان تهوّره، الإساءة اليه أجدى من الإحسان، والبهيمة أهدى عنده من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكّر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم، ونبذه وراء ظهره، ثانى عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن يكون له عند الله تبارك وتعالى فيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترم على الله اللطيف الخبير، واجترأ عند سماع النهى والإيعاد، واستهزأ بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)
فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات له نور، حمامة تمامه، واختلافه فطامه، قد محى الإيمان من قلبه فما له فيه رسم، ونسى الرحمن لسانه فما يمرّ له عليه اسم، وانتمت نفسه للضلال وانتسبت، ونفت يوما تجزى فيه كلّ نفس بما كسبت، فقصر عمره على طرب ولهو، واستشعر كل كبر وزهو، وهو يعكف على سماع التلاحين، ويقف عليها كلّ حين، يعلن بذلك الاعتقاد، ولا يؤمن بشىء قادنا الى الله فى أسلس مقاد، مع منشإ وخيم، ولؤم أصل وخيم «1» ، وصورة شوّهها الله وقبحها، وطلعة لو رآها كلب لنبحها، وقدارة يؤذى البلاد نفسها، ووضارة يحكى الحداد دنسها وفند لا يعمر إلا كنفه، ولدد لا يقوّم إلا الصّفاد جنفه «2» .
وكتب أحمد بن يوسف: أما بعد فإنى لا أعرف للمعروف طريقا أوعر من طريقه إليك، لأنه يحصل منك بين حسب دنىء، ولسان بذىء، وجهل قد ملك عليك طباعك، فالمعروف لديك ضائع، والشكر عندك مهجور، وإنما غايتك في المعروف أن تحوّره، وفي وليّه أن تكفّره.(3/270)
ومما قيل في الهجاء من النظم
فمن ذلك قول جرير وهو أهجى بيت قالته العرب
فغضّ الطّرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
ولو وضعت فقاح بنى نمير ... على خبث الحديد إذا لذابا
وقال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودّوا أنهم افتدوا منه بأموالهم، وشعر لم يسرّهم به حمر النّعم فقال أسماء بن خارجة: نحن يا أمير المؤمنين! قال: وما قيل فيكم: قال: قول الحارث بن ظالم
وما قومى بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشّعر الرّقابا
فو الله يا أمير المؤمنين! إنى لألبس العمامة الصفيقة فيخيّل إلىّ أن شعر قفاى قد بدا منها، وقول قيس بن الخطيم
هممنا بالإقامة يوم سرنا ... مسير حذيفة الخير بن بدر
فما يسرّنا أنّ لنا بها أو به حمر النّعم، فقال هانىء بن قبيصة النّميرىّ: أولئك نحن يا أمير المؤمنين! قال: ما قيل فيكم؟ قال قول جرير
فغضّ الطّرف إنك من نمير
والله لوددنا أننا افتديناه بأملاكنا، وقول زياد الأعجم
لعمرك ما رماح بنى نمير ... بطائشة الصّدور ولا قصار
فو الله ما يسرّنا به حمر النّعم قال العسكرىّ وذكر أن جريرا لما قال
والتّغلبىّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا.(3/271)
قال: قلت فيهم بيتا لو طعن أحدهم في استه لم يحكّها! وقالوا: مرت امرأة ببنى نمير فتغامزوا إليها فقالت: يا بنى نمير! لم تعملوا بقول الله ولا بقول الشاعر، يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)
ويقول الشاعر
فغضّ الظّرف إنّك من نمير
فحجلوا؛ وكان النّميرىّ إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من نمير، فصار يقول:
من بنى عامر بن صعصعة.
قال العسكرىّ: ولو قيل إنّ أهجى بيت قالته العرب قول الفرزدق لم يبعد وهو
ولو ترمى بلؤم بنى كليب ... نجوم الليل ما وضحت لسارى
ولو يرمى بلؤمهم نهار ... لدنّس لؤمهم وضح النّهار
وما يغدو عزيز بنى كليب ... ليطلب حاجة إلا يحار
ومثله قول الآخر
ولو أنّ عبد القيس ترمى بلؤمها ... على الليل لم تبد النجوم لمن يسرى
وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول الأعشى
تبيتون في المشتا ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وهذا البيت من أبيات ولها سبب نذكره الآن في هذا الموضع وإن كان خارجا عن مكانه وذلك: أن عامر بن الطّفيل بن مالك وعلقمة بن علائة تنازعا الزعامة فقال عامر: أنا أفضل منك! وهى لعمّى ولم يمت، وعمّه عامر بن مالك بن جعفر ابن كلاب وكان قد أهتر وسقط، وقال علقمة: أنا أفضل منك! أنا عفيف، وأنت(3/272)
عاهر، وأنا وفىّ وأنت غادر، وأنا ولود وأنت عاقر، وأنا أدنى الى ربيعة، فتداعيا الى هرم بن قطنة؛ ليحكم بينهما فرحلا اليه ومع كل واحد منهما ثلاثمائة من الإبل، مائة يطعمها من تبعه، ومائة يعطيها للحاكم، ومائة تعقر إذا حكم؛ فأبى هرم بن قطنة أن يحكم بينهما مخافة الشّرّ وأبيا أن يرتحلا؛ فخلا هرم بعلقمة وقال له: أترجو أن ينفّرك رجل من العرب على عامر فارس مضر؛ أندى الناس كفّا، وأشجعهم لقاء، لسنان رمح عامر أذكر في العرب من الأحوص، وعمّه ملاعب الأسنة، وأمّه كبشة بنت عروة الرّحال، وجدّته أم البنين بنت عمرو بن عامر فارس الضّحياء، وأمك من النّخع، وكانت أمّه مهيرة، وأمّ علاثة أخيذة من النّخع، ثم خلا بعامر فقال له:
أعلى علقمة تفخر؟ أنت تناوئه؛ أعلى بن عوف بن الأحوص؛ أعفّ بنى عامر وأيمنهم نقيبة، وأحلمهم وأسودهم وأنت أعور عاقر مشئوم! أما كان لك رأى يزعك عن هذا! أكنت تظنّ أن أحدا من العرب ينفّرك عليه؟ فلما اجتمعا وحضر الناس للقضاء قال: أنتما كركبتى الجمل فتراجعا راضيين.
قال العسكرىّ: والصحيح أنه توارى عنهما ولم يقل شيئا فيهما ولو قال: أنتما كركبتى الجمل لقال كل واحد منهما: أنا اليمنى، فكان الشرّ حاضرا؛ قال وسأله عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد ذلك بحين: لمن كنت حاكما لو حكمت؟ فقال: أعفنى يا أمير المؤمنين! فلو قلتها لعادت جذعة. فقال عمر: صدقت! مثلك فليحكم.
قال فارتحلوا عن هرم لما أعياهم نحو عكاظ فلقيهم الأعشى منحدرا من اليمن، وكان لمّا أرادها قال لعلقمة: اعقد لى حبلا فقال: أعقد لك من بنى عامر! قال:
لا يغنى عنّى قال: فمن قيس! قال: لا، قال: فما أنا بزائدك، فأتى عامر بن الطفيل فأجاره من أهل السماء والأرض فقيل له: كيف تجيره من أهل السماء؟ قال: إن مات(3/273)
وديته، فقال الأعشى لعامر: أظهر أنكما حكّتمانى ففعل؛ فقام الأعشى فرفع عقيرته (أى صوته) فى الناس فقال
حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يأخذ الرّشوة في حكمه ... ولا يبالى خسر الخاسر
علقم لا لست الى عامر الناقض ... الأوتار والواتر
واللابس الخيل بخيل اذا ... ثار عجاج الكبّة الثائر
إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بنى عامر
ساد وألفى رهطه سادة ... وكابرا سادوك عن كابر
قال وشدّ القوم في أعراض الإبل المائة فعقروها وقالوا: نفّر عامر، وذهبت بها الغوغاء، وجهد علقمة أن يردّها فلم يقدر على ذلك، فجعل يتهدّد الأعشى فقال
أتانى وعيد الحوص من آل عامر ... فيا عبسه عمرو لو نهيت الأحاوصا
فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم ... وبحرك ساج لا يوارى الدّعا مصا
كلا أبويكم كان فرعا دعامة ... ولكنّهم زادوا وأصبحت ناقضا
تبيتون في المشتا ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
يراقبن من جوع خلال مخافة ... نجوم العشاء العاتمات الغوامصا
رمى بك في أخراهم تركك النّدى ... وفضّل أقواما عليك مراهصا
فعضّ حديد الأرض إن كنت ساخطا ... بفيك وأحجار الكلاب الرّواهصا
قال فبكى علقمه لما بلغه هذا الشعر وكان بكاؤه زيادة عليه في العار، والعرب تعيّر بالبكاء؛ قال مهلهل
يبكى علينا ولا نبكى على أحد ... ونحن أغلظ أكبادا من الإبل(3/274)
وقال جرير
بكى دوبل لا يرقىء الله دمعه ... ألا إنما يبكى من الذّل دوبل
قال عبد الملك بن مروان لأمية: مالك وللشاعر إذ يقول
إذا هتف العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الشدائد
فقال: أصابه حدّ من حدود الله فأقمته عليه قال: فهلّا درأته عنه بالشّبهات؟
قال: كان أهون علىّ من أن أعطّل جدّا من حدود الله فقال: يا بنى أمية! أحسابكم أحسابكم، أنسابكم أنسابكم، لا تعرضوا للفصحاء فإن للشعر مواسم لا يزيدها الليل والنهار إلا جدّة، والله ما يسرّنى أنى هجيت ببيت الأعشى حيث يقول: تبيتون في المشتا الخ ولى الدنيا بحذافيرها ولو أن رجلا خرج من عرض الدنيا كان قد أخذ عوضا لقول ابن حرثان
على مكثريهم حقّ من يعتريهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل
وهذا البيت لزهير.
وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الحضيئة؟؟ في الزّبرقان بن بدر
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
ولهذا الشعر حكاية نذكرها في أخبار الحطيئة في البخلاء. وقيل: أتفق جماعة من الشعراء على أن أهجى بيت قالته العرب، قول الفرزدق في جرير
أنتم قرارة كلّ معدن سوءة ... ولكلّ سائلة تسيل قرار
أخذه أبو تمام فقال
وكانت زفرة ثم اطمأنت ... كذاك لكل سائلة قرار(3/275)
وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الأخطل لجرير
ما زال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليب رباط اللّؤم والعار
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولى على النّار
قالت بنو تميم: ما هجينا بشىء، هو أشدّ علينا من هذا البيت، وهو يتضمن وجوها شتّى من الذّم: جعلهم بخلاء بالقرى، وجعل أمّهم خادمهم، يأمرونها بكشف فرجها، وجعلهم يبخلون بالماء أن يطفئوا به النار، وجعل نارهم من قلّتها تطفى ببولة، وأغرى بينهم وبين المجوس، لتعظيم المجوس للنار، وإهانتهم لها إلى غير ذلك.
وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الطرمّاح
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت
وقيل أهجى بيت قالته العرب قول الأعرابىّ
اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
قوم إذا ما جنى جانيهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
وقال مسلم بن الوليد يهجو دعبل الخزاعىّ
أما الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنّه ... عرض عززت به وأنت ذليل
وكان سبب ذلك أنه كان بخراسان عند الفضل بن سهل، فبلغ دعبل ما هو فيه من الحظوة عنده، فصار إلى مرو، وكتب الى الفضل بن سهل
لا تعبأن بابن الوليد فإنه ... يرميك بعد ثلاثة بملال
إن الملول إذا تقادم عهده ... كانت مودّته كفىء ضلال(3/276)
فدفع الفضل الرّقعة إلى مسلم، فلما قرأها قال: هل عرفت لقب دعبل وهو غلام أمرد يفسق به؟ فقال: لا، قال: كان يلقّب بميّاس، وكتب إليه
مياس قل لى: أين أنت من الورى؟ ... لا أنت معلوم ولا مجهول
أما الهجاء الخ، ومنه أخذ إبراهيم بن العباس فقال
فكن كيف شئت وقل ما تشاء ... وأبرق يمينا وأرعد شمالا
نجابك لؤمك منجا الذّباب ... حمته مقاذيره أن ينالا
وأنشد لجاحظ ووثقت أنّك لا تسبّ ... حماك لؤمك أن تنالا
وقال الآخر
بذلّة والديك كسيت عزّا ... وباللؤم اجترأت على الجواب
وقال آخر
دناءة عرضك حصن منيع ... يقيك إذا ساء منك الصنيع
فقل لعدوّك ما تشتهى ... فأنت المنيع الرفيع الوضيع
وقال أبو نواس
ما كان لو لم أهجه غالب ... قام له هجوى مقام الشرف
يقول: قد أسرف في هجونا ... وإنما ساد بذاك السّرف
عائب؟؟، لا تسع لتبنى العلا، ... بلغت مجدا بهجائى، فقف
قد كنت مجهولا ولكننى ... نوّهت بالمجهول حتى عرف(3/277)
وقال أبو هلال العسكرىّ
أهنت هجائى يابن عروة، فانتحى ... علىّ ملام الناس في البعد والقرب
وقالوا: أتهجو مثله في سقوطه؟ ... فقلت لهم: جرّبت سيفى في كلب
وقال ابن لنكك
وعصبة لمّا توسّطهم ... صارت علىّ الأرض كالخاتم
كأنّهم من سوء أفهامهم ... لم يخرجوا بعد إلى العالم
يضحك إبليس سرورا بهم ... لأنهم عار على آدم
وقالوا أهجى بيت قاله محدّث قول الآخر
قبحت مناظرهم، فحين خبرتهم، ... حسنت مناظرهم لقبح المخبر
وقال العسكرىّ: ولست أعرف في الهجاء أبلغ من قول الأوّل
إن يفجروا أو يغدروا، ... أو يبخلوا لم يحفلوا
وغدوا عليك مرجّلين ... كأنّهم لم يفعلوا!
ومن البليغ قول حسان
أبناء حار، فلن تلقى لهم شبها ... إلا التيوس على أكتافها الشّعر
إن نافروا نفروا، أو كاثروا كثروا، ... أو قامرو الربح عن أحسابهم قمروا
كأنّ ريحهم في الناس إن خرجوا ... ريح الكلاب إذا ما مسّها المطر
وقال أيضا
أبوك أبو سوء وخالك مثله ... ولست بخير من أبيك وخالكا
وإن أحقّ الناس أن لا تلومه ... على اللؤم من ألفى أباه كذلكا(3/278)
وقال الآخر
سل الله ذا المنّ من فضله ... ولا تسألنّ أبا واثله
فما سأل الله عبد له ... فخاب ولو كان من باهله
وقال آخر
ولو قيل للكلب: يا باهلىّ ... لأعول من قبح هذا النسب!
وقال زياد: ما هجيت ببيت قطّ أشدّ علىّ من قول الشاعر
فكّر، ففى ذاك إن فكّرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريش في الجماهير
وقال إبراهيم بن العباس
ولما رأيتك لا فاسق ... تهاب ولا أنت بالزاهد
وليس عدوّك بالمتّقّى ... وليس صديقك بالحامد
أتيت بك السوق سوق الهوان ... فناديت: هل فيك من زائد؟
على رجل غادر بالصديق ... كفور لنعمائه جاحد
فما جاءنى رجل واحد ... يزيد على درهم واحد
سوى رجل حان منه الشقىء ... وحلّت به دعوة الوالد
فبعتك منه بلا شاهد ... مخافة ردّك بالشاهد
وأبت الى منزلى سالم ... وحلّ البلاء على الناقد
وقال العسكرىّ
إن كان شكلك غير متّفق ... فكذا خلالك غير مؤتلفه
صوّرت من نطف قد اختلفت ... فأتت خلالك وهى مختلفه(3/279)
من عصبة شتى اذا اجتمعوا ... شبّهت داركم بهم عرفه
فورثت من ذا قبح منظره ... وورثت ذاك خناه أو صلفه
وقال الحسن بن مطران شاعر اليتيمة
كم غصت في مدحك فكرا على ... درّ نفيس غير مثقوب
ولم يغض رأيك يوما على ... برّى، ولا رأى لمكذوب
إن كان موعودك في الجود لى ... أكذب من موعود عرقوب
فإنّ أخبارك في مدحتى ... أكذب من ذئب ابن يعقوب
وقال أحمد بن محمد بن حامد شاعر الخريدة
بليت بقوم ما لهم في العلايد ... ولا قدم تسعى لبذل الصنائع
اذا نظرت عينى اليهم تنجّست ... برؤيتهم طهّرتها بالمدامع
وقال المتنبّى
إن أوحشتك المعالى ... فإنها دار غربه
أو آنستك المخازى ... فإنها يك؟؟ أشبه
وقال أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحجّاج
ولقد عهدتك تشتهى ... قربى، وتستدعى حضورى
وأرى الجفا بعد الوفا ... مثل النفسا؟؟ بعد البخور
يا خرية العدس الصحيح ... النّبى، والخبز الفطير
فى جوف منحلّ الطبيعة ... والقوى شيخ كبير
يجرى فيخرج سرمه ... شبرين من وجع الزحير
يا؟؟ نتموة أبعد العشا ... بالبيض واللبن الكثير(3/280)
وفطائر عجنت بلا الملح ... الجريش ولا الخمير
يا نتن رائحة الطبيخ ... إذا تغيّر في القدور
يا عشّ بيض القمل فرّخ ... فى السوالف والشعور
يا بول صبيان الفطا ... م ويا خراهم في الحجور
يا بعض تدخين الحشا ... فى الصوم من تخم السّحور
يا حرّ قولنج البطو ... ن وبردّ أعصاب الظهور
يا ذلّة المظلوم أصبح ... وهو معدوم النصير
يا سوء عاقبة التفقّد ... عند تشبيه الأمور
يا كلّ شىء متعب ... متعقّد صعب عسير
يا حيرة الشيخ الأصمّ ... ، وحسرة الحدث الضرير
يا قعدة في دجلة ... والريح تلعب بالجسور
يا قرحة السلّ التى ... هدّت شراسيف الصدور
يا أربعاء لا تدو ... ربه مخافات الشهور
يا هدّة الحيطان تنقض ... بالمعاول والمرور
يا قرحة في ناظر ... غلظوا عليها بالذّرور
فتسلّخت مع ما يليها ... في الجفون من البثور
يا خيبة الأمل الذى ... أمسى يعلّل بالغرور
يا غلمة المتخدّرا ... ت وراء أبواب القصور
يا وحشة الموتى إذا ... صاروا إلى ظلم القبور
يا ضجرة المحموم بالغدوات ... من ماء الشعير(3/281)
يا شؤم إقبال الشتا ... ءأضرّ بالشيخ الفقير
يا دولة الحسن التى ... خسفت بأيّام السّرور
يا ضجّة الضّجر المصدّع ... بالتنازع والشّرور
يا عثرة القلم المرشش ... بين أثناء السطور
يا ليلة العريان غبّ ... عشيّة اليوم المطير
يا نومعة في شمس آ ... ب على التراب بلا حصير
يا فجأة المكروه في البيوم ... العبوس القمطرير
يا نهمة الكلب الرضيع ... ونكهة الليث الهصور
يا عيش عان موثق ... فى القيد مغلول أسير
يا حدّة الرّمد الذى ... لا يستفيق من القطور
يا غيشة الكنّاس من ... شمّ الذرائر والعبير
يا حيرة العطشان وقت ... الظّهر في وسط الهبير
من لى بأن تلقاك خيل ... بنى كلاب بلا خفير
وأرى بعينى لحمك المطبوخ ... فى حرّ الهجير
فى الأرض ما بين السباع ... وفي السما بين النّسور
وقال المتنبّى
يمشى بأربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء يلجم
وجفونه ما تستقرّ كأنها ... مطروفة أو فتّ فيها حصرم
وتراه أصغر ما تراه ناطقا ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم(3/282)
واذا أشار مكلّما فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم
يقلى مفارقة الأكفّ قذاله ... حتى يكاد على يد يتعمّم
ومما يذمّ به الرجل أن يكون ثقيلا، فأبلغ ما قيل في ذلك قول بعضهم
وثقيل أشدّ من غصص الموت ... ومن زفرة العذاب الأليم
لو عصت ربّها الجحيم لما كا ... ن سواه عقوبة للجحيم
وأبلغ ما قيل في هذا المعنى قول بشّار
ولقد قلت حين وتّد في الأر ... ض ثقيل اربى على ثهلان
كيف لم تحمل الأمانة أرض ... حملت فوقها أبا سفيان
ومما هجى به أهل الوقت على الإطلاق، فمن ذلك قول أبى هلال العسكرىّ.
كم حاجة أنزلتها ... بكريم قوم أو لئيم
فإذا الكريم من اللئيم ... أو اللئيم من الكريم
سبحان ربّ قادر ... قدّ البريّة من أديم
فشريفهم ووضيعهم ... سيّان في سفه ولوم
قد قلّ خير غنيّهم ... فغنّيهم مثل العديم
وإذا اختبرت حميدهم ... ألفيته مثل الذميم(3/283)
ومما قيل في هجاء بعض العشيرة ومدح بعضهم،
فمن ذلك قول أبى عيينة ليهجو خالد بن يزيد المهلّبىّ ويمدح أباه
أبوك لنا غيث نعيش بفضله ... وأنت جراد ليس يبقى ولا يذر
له أثر في المكرمات يسرّنا ... وأنت تعفّى دائبا ذلك الأثر
لقد قنّعت قحطان خزيا بخالد ... فهل لك فيه يخزك الله يا مضر؟
وله في قبيصة بن روح، يفضّل عليه ابن عمّه داود بن يزيد بن حاتم
أقبيص لست وإن جهدت ببالغ ... سعى ابن عمّك ذى النّدى داود
شتّان بينك يا قبيص وبينه ... إن المذمّم ليس كالمحمود
داود محمود وأنت مذمّم ... عجبا لذاك وأنتما من عود
ولربّ عود قد يشقّ لمسجد ... نصفا وسائره لحشّ يهودى
وقال حسان في أبى سفيان بن الحارث
أبوك أب حرّ وأمّك حرّة ... وقد يلد الحرّان غير نجيب
فلا تعجبنّ الناس منك ومنهما ... فما خبث من فضّة بعجيب
ذكر ما قيل في الحسد
ومما يذمّ به الرجل، أن يكون حسودا، وقد أمر الله تعالى نبيّه عليه الصلاة والسلام، أن يتعوّذ من شرّ الحاسد إذا حسد قال ابن السمّاك(3/284)
أنزل الله تعالى سورة جعلها عوذة لخلقه من صنوف الشرّ، فلما انتهى الى الحسد، جعله خاتما إذ لم يكن بعده في الشرّ نهاية. والحسد أوّل ذنب عصى الله تعالى به فى السماء، وأول ذنب عصى به في الأرض، أما في السماء، فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض، فحسد قابيل لهابيل، وذهب بعض أهل التفسير في قوله عزّوجلّ إخبارا عن أهل النّار (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)
أن المراد بالجنّ إبليس، وبالإنس قابيل، وذلك أن إبليس أوّل من سنّ الكفر، وقابيل أوّل من سنّ القتل، وأصل ذلك كلّه الحسد.
وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله، فقيل له: ومن يعادى نعم الله؟
قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله تعالى في بعض الكتب: الحسود عدوّ نعمتى، مسخط لقضائى، غير راض بقسمتى.
وقالت الحكماء: إذا أراد الله، أن يسلّط على عبد عدوّا لا يرحمه، سلّط عليه حاسدا.
وكان يقال في الدعاء على الرجل: طلبك من لا يقصّر دون الظّفر، وحسدك من لا ينام دون الشّقاء.
وقالوا: ما ظنّك بعداوة الحاسد، وهو يرى زوال نعمتك نعمة عليه؟
قال أبو الطيب المتنبىّ
سوى وجع الحساد داء فإنه ... إذا حلّ في قلب فليس يحول
ولا تطمعن من حاسد في مودّة ... وإن كنت تبديها له وتنيل(3/285)
وقال الببّغاء
ومن البلية أن تداوى حقد من ... نعم الاله عليك من أحقاده
وقال علىّ رضى الله عنه لا راحة لحسود، ولا أخ لملول، ولا محبّ لسىء الخلق.
وقال الحسن ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد؛ نفس دائم، وحزن لازم، وغيره لا تنفد، ثم قال: لله درّ الحسد ما أعدله! يقتل الحاسد قبل أن يصل الى المحسود.
وقال الجاحظ: من العدل المحض، والإنصاف الصحيح، أن تحطّ عن لحاسد نصف عقابه، لأن ألم جسمه، قد كفاك مؤنة شطر غيظك عليه.
وقيل: الحسد أن تتمنى زوال نعمة غيرك، والغبطة أن تتمنى مثل حال صاحبك، وفي الحديث: «المؤمن يغبط، والمنافق يحسد» .
وقال أرسطا طاليس: الحسد حسدان: محمود، ومذموم، فالمحمود أن ترى عالما فتشتهى أن تكون مثله، وزاهدا فتشتهى مثل فعله، والمذموم أن ترى علما وفاضلا فتشتهى أن يموتا، وقيل: الحسود غضبان على القدر، والقدر لا يعتبه.
قال منصور الفقيه
ألا قل لمن كان لى حاسدا ... أتدرى على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فضله ... إذا أنت لم ترض ما قد وهب
وقال المتنبّى
وأظلم أهل الأرض من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلّب(3/286)
ومن أخبار الحسدة: ما حكى، أنه اجتمع ثلاثة نفر منهم، فقال أحدهم لصاحبه: ما بلغ من حسدك؟ قال: ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيرا قطّ، فقال.
الثانى: أنت رجل صالح، أنا ما اشتهيت أن يفعل أحد بأحد خيرا قطّ، فقال الثالث: ما في الأرض أفضل منكما، أنا ما اشتهيت أن يفعل بى أحد خيرا قط.
ومما قيل من الشعر في تفضيل المحسود ومدحه، وهجاء الحاسد وذمّه،
قال بعض شعراء
إن يحسدونى فإنى غير لائمهم ... قبلى من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فذم لى ولهم ما ب؟؟ ى وما بهم ... ومات أكثرنا غمّا بما يجد
وقال آخر
إن الغراب وكان يمشى مشبة ... فيما مضى من سالف الاحوال
حسد القطاة ورام يمشى مشيها ... فأصابه ضرب من العقّال
وقال آخر
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنّه لدميم
وقال البحترىّ
لا تحسدوه فضل رتبته التى ... أعيت عليكم وافعلوا كفعاله
وقال السّرىّ الرفّاء
نالت يداه أقاصى المجد الّذى ... بسط الحسود إليه باعا ضيّقا(3/287)
أعدّوه هل للسّماك جريرة ... فى أن دنوت من الحضيض وحلّقا؟
أم هل لمن ملأ اليدين من العلا ... ذنب إذا ما كنت منها مملقا؟
وقال أبو تمام الطائىّ
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... يوما أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وقال البحترىّ
ولن يستبين الدّهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد
وقال محمد بن مناذر
يا أيّها العاتبى وما بى من ... عتب ألا ترعوى وتزدجر!
هل لك عندى وتر فتطلبه ... أم أنت ممّا أتيت معتذر؟
إن يك قسم الإله فضّلنى ... وأنت صلد ما فيك معتصر
فالحمد والشكر والثناء له ... وللحسود التّراب والحجر
ماذا الذى يجتنى جليسك أو ... يبدو له منك حين يختبر
اقرأ لنا سورة تذكّرنا ... فإن خير المواعظ السّور
أوصف لنا الحكم في فرائضنا ... ما تستحقّ الأنثى أو الذّكر
أو ارو فقها تروى القلوب به ... جاء به عن نبيّنا الأثر
أو من أحاديث جاهليّتنا ... فإنها حكمة ومفتخر
أو ارو عن فارس لنا مثلا ... فإن أمثالها لنا عبر
أو غنّ صوتا تشجى النّفوس به ... وذنب ما قد أتيت مغتفر
فإن تكن قد جهلت ذاك وذا ... ففيك للناظرين معتبر(3/288)
ذكر ما قيل في السّعاية والبغى والغيبة والنّميمة
قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)
. وقال تعالى: (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ)
. وقال تعالى: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ)
. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يرفعن إلينا عورة أخيه المؤمن» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يراح القتّات رائحة الجنّة» . وفي لفظ «لا يدخل الجنّة قتّات» ؛ والقتّات: النّمّام.
قال بعض الشعراء
فلا تسعى على أحد ببغى ... فان البغى مصرعه وخيم
وقال العتّابىّ
بغيت فلم تقع إلا صريعا ... كذاك البغى مصرع كلّ باغى
وسأل رجل عبد الملك بن مروان الخلوة، فقال لأصحابه: إذا شئتم، فقاموا، فلما تهيّأ الرجل للكلام، قال له: إياك أن تمدحنى فإنى أعلم بنفسى منك، أو تكذبنى، فإنه لا رأى لكذوب، أو تسعى إلىّ بأحد، وإن شئت أقلتك، قال: أقلنى.
قال: ولما ولى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك دمشق، ولم يكن في بنى أميّة ألبّ منه في حداثة سنّه، قال أهل دمشق: هذا غلام شابّ، ولا علم له بالأمور، وسيسمع منا، فقام إليه رجل، فقال: أصلح الله الأمير، عندى نصيحة، فقال له:
يا ليت شعرى، ما هذه النصيحة التى ابتدأتنى بها من غير يد سبقت منّى إليك؟
فقال: جار لى عاص، متخلّف عن ثغره، فقال له: ما اتقيت الله، ولا أكرمت أميرك، ولا حفظت جوارك. إن شئت، نظرنا فيما تقول، فإن كنت صادقا؛(3/289)
لم ينفعك ذلك عندنا، وإن كنت كاذبا، عاقبناك، وإن شئت، أقلناك، قال:
أقلنى، قال: اذهب حيث شئت، لا صحبك الله، ثم قال: يا أهل دمشق، ما أعظمتم ما جاء به الفاسق، إن السّعاية أحسب منه سجيّة، ولولا أنه لا ينبغى للوالى أن يعاقب، قبل أن يعاتب، كان لى فيه رأى، فلا يأتنى أحد منكم بسعاية على أحد، فإن الصادق فيها فاسق، والكاذب بهّات؛ وسعى رجل برجل إلى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، فقال: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا، فأنت من هذه الآية: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ)
وإن كنت صادقا، فأنت من هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)
وإن شئت عفونا عنك، قال: العفو يا أمير المؤمنين، قال: على أن لا تعود.
وكتب محمد بن خالد إلى ابن الزيّات: إن قوما صاروا إلىّ متنصّحين، فذكروا أن رسوما للسلطان قد عفت ودرست، وأنه توقّف عن كشفها إلى أن يعرف موقع رأيه فيها، فوقّع على رقعته: قرأت هذه الرّقعة المذمومة، وسوق السّعاة مكسد عندنا، وألسنتهم تكلّ في أيامنا، فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما فى ديوانك، فلم ترد للناحية لكشف الرسوم العافية، ولا لتحيى الأعلام الدثرة، وجنّبنى وتجنّب قول جرير
وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحاب؟؟ بخزية وتركت عارا
قالوا: وكان الفضل بن يحيى يكره السّعاة، فإذا أتاه ساع، قال له: إن صدقتنا، أبغضناك، وإن كدبتنا، عقبناك، وإن استقلتنا، أقلناك.
وحكى صاحب العقد قال: قال العتبىّ، حدّثنى أبى عن سعيد القصرىّ، قال: نظر إلىّ عمرو ابن عينه ورجل يستم بين يدىّ رجلا، فقال لى: ويلك،(3/290)
وما قال لى ويلك قبلها: نزّه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزّه لسانك عن الكلام به، فإن السامع شريك القائل، وإنه عمد إلى شرّ ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو ردّت كلمة جاهل في فيه، لسعد رادّها، كما شقى قائلها، وقد جعله الله تعالى شريك القائل، فقال: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) .
ومما قيل في الغيبة والنّميمة،
روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا قلت في الرجل ما فيه فقد اغتبته وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهتّه» .
اغتاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم، فقال له: أمسك عليه أيّها الرجل، والله لقد تلمظت بمضغة طالما لفظتها الكرام.
وذكر في مجلسه رجل، فنال منه بعض جلسائه، فقال له: يا هذا أوحشتنا من نفسك، وأيأستنا من مودّتك، ودللتنا على عورتك.
واغتاب رجل عند بعض الأشراف، فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك، بما تذكر من عيب الناس، لأن الطالب للعيوب، إنما يطلبها بقدر ما فيه منها، أما سمعت قول الشاعر
لا تهتكن من مساوى الناس ما ستروا ... فيهتك الله سترا من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحبّ أن يذكرك به، ودع منه ما تحبّ أن يدع منك.(3/291)
وقال بعض الملوك لولده وهو ولىّ عهده: يا بنىّ ليكن أبغض رعيتك إليك، أشدّهم كشفا لمعايب الناس عندك، فإنّ في الناس معايب وأنت أحق بسترها، وإنما تحكم فيما ظهر لك، والله يحكم فيما غاب عنك، وأكره للناس ما تكرهه لنفسك، واستر العورة، يستر الله عليك، ما تحبّ ستره، ولا تعجّل الى تصديق ساع، فإن الساعى غاشّ، وإن قال قول نصح.
ووشى واش برجل الى الإسكندر فقال له: أتحبّ أن نقبل منك ما قلت فيه، على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا، قال: فكفّ عن الشر، نكفّ عنك.
وقال ذو الرّياستين: قبول النميمة، شرّ من النميمة، لأن النميمة دلالة، والقبول إجازة، وليس من دلّ على شىء، كمن قبله وأجازه.
قال أبو الأسود الدّؤلىّ
لا تقبلنّ نميمة بلّغتها ... وتحفظنّ من الذى أنباكها
إن الذى أهدى إليك نميمة ... سينمّ عنك بمثلها قد حاكها
وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأساورىّ لم يزل يذكرك، ويقول: الضآلّ، فقال عمرو: يا هذا! والله ما راعيت حقّ مجالسته، حتّى نقلت إلينا حديثه، ولا راعيت حقّى، حين أبلغتنى عن أخى ما أكرهه، اعلم أن الموت يعمّد، والبعث يحشرنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا.
وقال معاوية للأحنف في شىء بلغه عنه، فأنكره الأحنف: بلّغنى عنك الثقة، فقال الأحنف: إن الثقة لا يبلّغ.(3/292)
قال بعض الشعراء
لعمرك ما سبّ الأمير عدوّه ... ولكنما سبّ الأمير المبلّغ
وقال ابن المعتزّ: الساعى كاذب لمن سعى إليه، خائن لمن سعى عليه.
وقالوا: النّمام، شرّ من الساحر، فإن النمام، يفسد في الساعة الواحدة، ما لا يفسد الساحر في المدة الطويلة.
وقالوا: النميمة، من الخلال الذميمة، تذلّ على نفس سقيمة، وطبيعة لئيمة، مشغوفة بهتك الأستار، وإفشاء الأسرار.
وقال بعض الحكماء: الأشرار يتتبعون مساوىء الناس، ويتركون محاسنهم، كما يتتبع الذباب المواضع الألمة من الجسد، ويترك الصحيحة.
وقالوا: لم يمش ماش، شرّ من واش. والساعى بالنميمة، كشاهد الزّور، يهلك نفسه، ومن سعى به، ومن سعى اليه.
وقالوا: حسبك من شرّ سماعه. وقد لهج الشعراء بذمّ النمام، وجعلوه من أهاجيهم.
قال بعض الشعراء
من نمّ في الناس لم تؤمن عقاربه ... على الصديق ولم تؤمن أفاعيه
كالسّيل بالليل لا يدرى به أحد ... من أين جاء ولا من أين يأتيه
وقال السّرىّ الرّفّاء
أنمّ بما استودعته من زجاجة ... ترى الشىء فيها ظاهرا وهو باطن(3/293)
وقال محمد بن شرف
وناصب نحو أفواه الورى أذنا ... كالقعب يلقط فيها كلّ ما سقطا
يظلّ يلتقط الأخبار مجتهدا ... حتى إذا ما وعاها زقّ ما لقطا
وقال ابن وكيع
ينمّ بسرّ مسترعيه لؤما ... كما نمّ الظلام بسرّ نار
أنم من النّصول على مشيب ... ومن صافى الزّجاج على عقار
وقال الحسن البصرىّ: لا غيبة في ثلاثة: فاسق مجاهر، وإمام جائر، وصاحب بدعة.
وكتب الكسائىّ الى الرقاشىّ
تركت المسجد الجامع ... والتّرك له ريبه
وأخبارك تأتين ... على الأعلام منصوبه
فإن زدت من الغيبة ... زدناك من الغيبه
ذكر ما قيل في البخل واللؤم
والبخل منع الحقوق وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)
، وقال تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) .(3/294)
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خلّتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق» .
وقال بعض السلف: منع الجود، سوء ظن بالمعبود، وتلا (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
وروى أبو بكر الخطيب في كتاب البخلاء، بإسناده عن أبى هريرة عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: «لما خلق الله تعالى جنّة عدن، قال لها: تزيّنى فتزينت، ثم قال لها: أظهرى أنهارك، فأظهرت عين السلسبيل، وعين الكافور، وعين التسنيم، ونهر الخمر، ونهر العسل، ونهر اللبن، ثم قال لها: أظهرى حورك، وحللك، وسررك وحجالك، ثم قال لها: تكلّمى، فقالت: طوبى لمن دخلنى، فقال الله عزّوجل: أنت حرام على كل بخيل» .
وقال سقراط: الأغنياء البخلاء، بمنزلة البغال والحمير، تحمل الذهب والفضة، وتعتلف التّبن والشعير.
وقالوا: البخل من سوء الظن، وخمول الهمّة، وضعف الرويّة، وسوء الاختيار، والزّهد في الخيرات.
وقال الحسن بن علىّ رضى الله عنهما: البخل جامع للمساوىء والعيوب، وقاطع للمودّات من القلوب.
وقالوا: حدّ البخل، منع المسترفد مع القدرة على رفده.
وكان أبو حنيفة لا يقبل شهادة البخيل، ويقول محتجّا لذلك: إن البخيل يحمله بخله، على أن يأخذ فوق حقّه، مخافة أن يغبن، ومن كان هكذا لا يكون مأمونا.(3/295)
وقال بشر بن الحارث الحافى: لا غيبة لبخيل، ولشرطىّ سخىّ أحبّ إلىّ من عابد بخيل.
وقالوا: البخيل لا يستحقّ اسم الحرّية، فإن ماله يملكه.
ويقال: لا مال للبخيل، وإنما هو لماله.
وقال الحسن البصرىّ: لم أر أشقى بماله من البخيل؛ لأنّه في الدنيا يهتمّ بجمعه، وفي الآخرة يحاسب على منعه، غير آمن في الدنيا من همه، ولا ناج في الآخرة من إثمه، عيشه في الدنيا عيش الفقراء، وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء. ودخل رحمه الله على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه، فرآه يصعّد بصره ويصوّبه الى صندوق في بيته، ثم التفت اليه، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في مائة ألف دينار في هذا الصندوق لم أودّ منها زكاة ولم أصل بها رحما؟ فقال له: ثكلتك أمك! ولم كنت تجمعها؟ قال لروعة الزمان، وجفوة السلطان، وتكاثر العشيرة، ثمّ مات، فشهده الحسن، فلما فرغ من دفنه، ضرب بيده على القبر، ثم قال:
انظروا إلى هذا، أتاه شيطانه فخوّفه روعة زمانه، وجفوة سلطانه، بما استودعه الله إيّاه، وعمّره فيه. انظروا اليه كيف خرج مذموما مدحورا! ثم التفت إلى وارثه، فقال: أيها الوارث لا تخدعنّ كما خدع صويحبك بالأمس، أتاك هذا لمال حلالا، فلا يكونن عليك وبالا، أتاك عفوا صفوا، ممن كان له جموعا منوعا، من باطل جمعه، ومن حقّ منعه، قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، ولم تكدح لك فيه عين ولم يعرق لك فيه جبين، إن يوم القيامة يوم ذو حسرات، وإن من أعظم الحسرات غدا، أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيالها حسرة لا تقال، وتوبة لا تنال.(3/296)
ومن أخبار البخلاء:
قيل: بخلاء العرب أربعة، الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدّؤلىّ، وخالد بن صفوان، ونقلت عنهم أمور دلّت على بخلهم.
أما الحطيئة: فقد حكى عنه: أنه مرّ به ابن الحمامة، وهو جالس بفناء بيته، فقال له: السلام عليكم، فقال: قلت ما لا ينكر، فقال: إنى خرجت من أهلى بغير زاد، قال: ما ضمنت لأهلك قراك، قال: أفتأذن لى أن آتى بظلّ بيتك فأتفيّأ به؟
قال: دونك الجبل يفىء عليك، قال أنا ابن الحمامة، قال: انصرف وكن ابن أى طائر شئت. قال: واعترضه رجل وهو يرعى غنما، فقال له: يا راعى الغنم، وكان بيد الحطيئة عصا فرفعها، وقال: عجراء من سلم، فقال الرجل: إنما أنا ضيف، فقال: للأضياف أعددتها. وكان الحطيئة أحد الحمقى، أوصى عند موته، أن يحمل على حمار، وقال: لعلّى إن حملت عليه، لا أموت، فإنى ما رأيت كريما مات عليه قطّ.
وقال: لكلّ جديد لذّة، إلا جديد الموت* فإنى رأيته غير لذيذ. وقيل له:
أوص، فقال: أوصى أن مالى للذكور دون الإناث، قالوا: فإن الله ليس يقوله كذلك، قال: لكنى أقوله. وقالوا له: قل لا إله الا الله، فقال: أشهد أن الشمّاخ أشعر غطفان.
ومن أخباره: أن الزّبرقان بن بدر، لقيه في سفر، فقال له: من أنت؟
فقال: أنا حسب موضوع، أنا أبو مليكة، فقال له الزّبرقان: إنى أريد وجها، فصر إلى منزلى، وكن هناك، حتّى أرجع، فصار الحطيئة إلى امرأة الزّبرقان، فأنزلته وأكرمته، فجسده بنو عمّه، وهم بنو لأى، فقالوا للحطيئة: إن تحولت إلينا، أعطيناك مائة ناقة. ونشدّ الى كلّ طب من أطناب بيتك حلّة تحويه، وقالوا(3/297)
لامرأة الزّبرقان: إن الزّبرقان إنما قدّم هذا الشيخ ليتزوّج بنته، فقدح ذلك فى نفسها، فلما أراد القوم النّجعة، تخلّف الحطيئة، فتغافلت عنه امرأة الزّبرقان، فاحتمله القريعيّون ووفّوا له بما قالوا، فمدحهم، وهجا الزّ برقان، فقال
أزمعت يأسا مبينا من نوالكم ... ولا يرى طاردا للحرّ كالياس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
فاستعدى الزبرقان عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فحكّم عمر، حسان ابن ثابت، فقال حسان: ما هجاه ولكن سلح عليه، فحبس عمر الحطيئة، فقال يستعطفه
ماذا تقول لأفراخ بذى مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر؟
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الآثر
فأخرجه عمر، وجلس على كرسىّ، وأخذ بيده شفرة، وأوهم أنه يريد قطع لسانه، فضجّ، وقال: إنى والله يا أمير المؤمنين! قد هجوت أبى وأمّى وامرأتى ونفسى، فتبسّم عمر، ثم قال: ما الذى قلت؟ قال: قلت لأبى وأمّى
ولقد رأيتك في النساء فسؤتنى ... وأبا بنيك فساءنى في المجلس
وقلت لأبى خاصة
فبئس الشيخ أنت لدى تميم ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالى(3/298)
وقلت لأمّى خاصة
تنحّى واجلسى منّى بعيدا ... أراح الله منك العالمينا؟
أغربالا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتحدّثينا؟
وقلت لامرأتى
أطوّف ما أطوّف ثم آتى ... إلى بيت قعيدته لكاع
وقلت لنفسى
أبت شفتاى اليوم إلا تكلّما ... بسوء فما أدرى لمن أنا قائله
أرى لى وجها شوّد الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله
فخلّى عمر سبيله، وأخذ عليه أن لا يهجو أحدا، وجعل له ثلاثة آلاف اشترى بها منه أعراض المسلمين، فقال يذكر نهيه إيّاه عن الهجاء ويتأسف
وأخذت أطراف الكلام فلم تدع ... شتما يضرّ ولا مديحا ينفع
ومنعتنى عرض البخيل فلم يخف ... شتمى وأصبح آمنا لا يجزع
وأما حميد الأرقط: فكان هجّاء للضيف، فحاشا عليه، فنزل به ضيف ذات ليلة، فقال لامرأته: نزل بك البلاء، قومى فأعدى لنا شيئا، ففعلت، فجعل الضيف يأكل ويقول: ما فعل الحجاج بالناس؟ فلما فرغ، قال حميد
يجرّ على الأطناب من جذل بيتنا ... هجفّ «1» لمخزون التّحيّة باذل
يقول وقد ألقى المراسى للقرى ... أبن لى ما الحجّاج بالناس فاعل؟
فقلت: لعمرى ما لهذا أتيننا ... فكل ودع الأخبار ما أنت آكل(3/299)
تدبّر كفاه ويحدر حلقه ... الى الصدر ما حازت عليه الأنامل
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذى هو قائل
فما زال عنه اللّقم حتّى كأنه ... من العىّ لمّا أن تكلّم باقل
ونزل به أضياف، فأطعمهم تمرا وهجاهم، وادعى عليهم أنهم يأكلونه بنواه، فقال
باتوا وجلّتنا «1» الصّهباء حولهم ... كأن أظفارهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنّوى ملقى معرّسهم ... وليس كلّ النّوى ألقى المساكين
وأما خالد بن صفوان: فكان إذا أخذ جائزته، قال للدرهم: طالما سرت فى البلاد، أما والله لأطيلنّ حبسك، ولأديمنّ لبثك. وقيل له: مالك لا تنفق، فإن مالك عريض؟ فقال: الدهر أعرض منه، قيل: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كلّه، قال: ولا أخاف أن أموت في أوله.
وأما أبو الأسود الدؤلىّ: فعمل دكانا عاليا يجلس عليه، فكان ربما أكل عليه فلا يناله المجتاز، فمرّ به أعرابىّ على جمل، فعرض عليه أن يأكل معه، وظنّ أنه لا يناله، فأناخ الأعرابىّ بعيره، حتّى وازى الدكان، وأكل معه، فما جلس بعد ذلك على الدكان، وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا، كنا أسوأ حالا منهم. وقال لبنيه: لا تطمعوا المساكين في أموالكم، فإنهم لا يقنعون منكم، حتّى يروكم في مثل حالهم. ووقف عليه أعرابىّ وهو يتغدّى، فسلّم عليه، فردّ عليه، ثم أقبل على الأكل، ولم يعرض عليه، فقال الأعرابىّ: أما إنى قد مررت بأهلك، قال: كان ذلك طريقك، قال: وهم صالحون، قال: كذلك فارقتهم، قال:(3/300)
وامرأتك حبلى، قال: كذلك كان عهدى بها، قال: ولدت، قال: ما كان بدّلها أن تلد، قال: ولدت غلامين، قال: كذلك كانت أمّها، قال: مات أحدهما، قال: ما كانت تقوى على رضاع اثنين، قال: ثمّ مات الآخر، قال: ما كان ليبقى بعد أخيه، قال: وماتت الأمّ، قال: جزعا على ولديها، قال: ما أطيب طعامك! قال: ذلك جزائى على أهله، قال: أفّ لك ما ألأمك! قال: من شاء سبّ صاحبه.
ونظير هذه الحكاية: ما حكى أن أعرابيّا مرّ بآخر، فقال: من أين أقبلت يابن عمّ؟ قال: من الثّنيّة، قال: فهل أتيتنا منها بخبر؟ قال: سل عما بدا لك، قال: كيف علمك بيحيى؟ قال: أحسن العلم، قال: هل لك علم بكلبى نفّاع؟
قال: حارس الحىّ، قال: فبأمّ عثمان؟ قال بخ بخ، ومن مثل أمّ عثمان! لا تدخل من الباب إلا منحرفة بالثياب المعصفرات، قال: فبعثمان؟ قال: وأبيك فإنه جرو الأسد ويلعب مع الصبيان، وبيده الكسرة، قال: فبجملنا السقّاء؟ قال:
إن سنامه ليخرج من الغبيط، قال فبالدار؟ قال: وأبيك، إنها لخصيبة الجناب، عامرة الفناء، ثم قام عنه، وقعد ناحية يأكل فلا يدعوه، فمرّ كلب، فصاح به، وقال: يابن عمّ، أين هذا الكلب من نفّاع؟ قال: يا أسفا على نفّاع! مات، قال:
وما أماته؟ قال: أكل من لحم الجمل السقّاء، فاغتصّ بعظم منه فمات، قال:
إنا لله، أو قد مات الجمل! فما أماته؟ قال: عثر بقبر أم عثمان، فانكسرت رجله.
قال: ويلمّك! أماتت أم عثمان؟ قال: إى والله، أماتها الأسف على عثمان، قال ويلك! أمات عثمان؟ قال: إى وعهد الله! سقطت الدار عليه، فرمى الأعرابىّ(3/301)
بطعامه ونثره وأقبل ينتف لحيته ويقول: إلى أين أذهب؟ فيقول الآخر الى النار، وأقبل يلتقط الطعام ويأكله ويهزأ به ويضحك، ويقول: لا أرغم الله إلا أنف اللئام.
وكان أحيحة بن الجلاح من البخلاء، وكان إذا هبت الصّبا، طلع أطمة، ينظر الى ناحية هبوبها ثم يقول: هبى هبوبك، فقد أعددت لك ثلاثمائة وستين صاعا من عجوة، أدفع الى الوليد منها، خمس نمرات، فيردّ علىّ منها ثلاثا، أى لصلابتها بعد جهد ما يلوك منها.
والعرب تضرب المثل في اللؤم بمادر، تقول: هو ألام من مادر، ويزعمون أنه بنى حوضا وسقى إبله، فلما أصدرها سلح في الحوض، لئلا يسقى غيره فيه.
وكان عمر بن يزيد الأسدىّ مبخلا جدّا، فأصابه القولنج فحقنه الطبيب بدهن كثير، فانحل ما في بطنه، فلما أبرزه، قال للغلام: ما تصنع به؟ قال أصبّه، قال:
لا ولكن ميّز الدّهن منه واستصبح به.
وقال سلم بن أبى المعافى: كان أبى متنحيا عن المدينة، وكان الى جنبه مزرعة فيها قثّاء، وكنت صبيّا فجاءنى صبيان أقران لى، فكلّمت أبى ليهب لى درهما أشترى لهم به قثّاء، فقال لى: أتعرف حال الدرهم؟ كان في حجر في جبل، فضرب بالمعاول، حتى استخرج، ثم طحن، ثم أدخل القدر وصبّ عليه الماء، وجمع بالزّئبق، ثم صفّى من رقّ، ثم أدخل النار فسبك، ثمّ أخرج فضرب، وكتب في أحد شقّيه:
لا إله إلا الله، وفي الآخر: محمد رسول الله، ثم حمل الى أمير المؤمنين، فأمر بإدخاله بيت ماله، ووكل به عوج القلانس صهب السّبال، ثم وهبه لجارية حسناء حميلة، وأنت والله أقبح من قرد، أو ززقه رجلا شجاعا وأنت والله أجبن من صرد، فهل ينبغى(3/302)
لك أن تمسّ الدرهم إلا بثوب؟ ومثله قول سهل بن هارون، وقد قال له رجل هبنى ما لا مرزئة عليك فيه، قال: وما ذاك؟ قال: درهما واحدا، قال: يابن أخى لقد هوّنت الدرهم، وهو طابع الله في أرضه، والدرهم ويحك عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف عشردية المسلم، ألا ترى يابن أخى كيف انتهى الدرهم الذى هوّنته؟ وهل بيوت الأموال إلا درهم على درهم؟.
وقال سليمان بن مزاحم، وقد وقع بيده درهم، فجعل يقلّبه، ويقول: فى شقّ، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي شقّ، قل هو الله أحد، ما ينبغى لهذا إلا أن يكون تعويذا أو رقية، ويرمى به في الصندوق.
كان بعضهم إذا صار الدرهم في يده يخاطبه ويقول: بأبى وأمّى أنت، كم من أرض قطعت، وكيس خرقت، وكم من خامل رفعت، ومن رفيع أخملت، لك عندى أن لا تعرى ولا تضحى، ثم يلقبه في كيسه، فيقول: اسكن على اسم الله، فى مكان لا تزول عنه، ولا تزعج منه.
ومن البخلاء «مزبّد» وله حكاية يذكرها، قيل كان بالمدينة جارية جميلة مغنيّة. يقال لها: «بصبص» وكانت الأشراف تجتمع عند مولاها، فاجتمع يوما عنده محمّد بن عيسى الجعفرىّ وعبد الله بن مصعب الزّبيرىّ في جماعة من الأشراف، فتداكروا أمر مزبد وبخله، فقالت لحارية: أنا آخذ لكم منه درهما، فقال لها مولاها: أنت حرّة إن فعلت إن لم أسر لك مختقة بمائة دينار ونوب وسى بمائة دينار. وأجعل لك مجلسا بالعقيق أنحر فيه بدنة. فقالت: جىء به، وأرفع لغيره، حتّى أفعل، فقال: أنت حرّه إن معتك منه، ولأعاونته عليك إن حصلت(3/303)
منه الدرهم، فقال عبد الله بن مصعب: أنا آتيكم به، قال عبد الله: فصلّيت الغداة في المسجد، فاذا أنا به قد أقبل، فقلت: يا أبا إسحاق، إنّا نحب أن نرى بصبص؟ قال: بلى والله، وامرأته طالق إن لم تكن له سنة يشتهى أن يلقاها، فقلت له: إذا صليت العصر، فاتنى هاهنا، فقال: امرأته طالق إن برح من هاهنا الى العصر، قال فانصرفت في حوائجى، فلما كان العصر جئت فوجدته، فأخذت بيده، وأتيتهم به، فأكل القوم وشربوا حتّى صلّيت العتمة، ثم تساكروا وتناوموا، فأقبلت بصبص على مزبّد، فقالت له: يا أبا إسحاق كأنّى والله في نفسك تشتهى أن أغنّيك الساعة
لقد حثّوا الجمال ليه ... ربوا منّا فلم يئلوا
فقال لها: امرأته طالق إن لم تكونى تعلمين ما في اللوح المحفوظ، فغنته إيّاه، ثم قالت له: كأنّى بك تشتهى أن أقوم من مجلسى فأجلس إلى جنبك فتدخل يدك فى جلبابى، فقال: امرأته طالق إن لم تكونى تعلمين ما في الأرحام، وما تكسب الأنفس غدا قالت: فقم، فقام وجلس إلى جانبها وغنّت له، ثم قالت: أعلم أنك تشتهى أن أغنّيك
أنا أبصرت باللّيل ... غلاما حسن الدّلّ
كغصن البان قد أصبح ... مسقيّا من الطّلّ
فقال لها: امرأته طالق أن لم تكونى نبيّة مرسلة، فغنته وقبّلها، ثم قالت: يا أبا إسحاق، هل رأيت قطّ أنذل من هؤلاء؟ يدعوننى ويدعونك، ويخرجوننى اليك ولا يشترون نقلا ولا ريحانا، كأنّى بك وفي جيبك درهم وأنت تقول: الساعة أخرجه،(3/304)
وأعطيها إيّاه، وتشترى به ما تريد، فقام من جنبها وقال: أخطأت استك الحفرة، وانقطع عنك الوحى، ووثب وجلس ناحية، فانتبه القوم وعطعطوا «1» عليها وعلموا أن حيلتها لم تتمّ، وخرج من عندهم ولم يعد إليهم.
وقال بعضهم: بتّ عند رجل من أهل الكوفة من الموسرين، وله صبيان نيام، فرأيته في الليل يقوم فيقلّبهم من جنب الى جنب، فلما أصبحنا سألته عن ذلك، فقال: هؤلاء الصبيان يأكلون وينامون على اليسار، فيمريهم الطعام، ويصبحون جياعا، فأنا أقلّبهم من اليسار الى اليمين لئلا ينهضم ما أكلوه سريعا.
وكان زياد بن عبد الله الحارثىّ واليا على المدينة، وكان فيه بخل وجفاء، فأهدى اليه كاتب له سلالا فيها أطعمة، وقد تنوّق فيها فوافته وقد تغدّى، فقال: ما هذه؟
قالوا: غداء بعثه فلان الكاتب، فغضب، وقال: يبعث أحدهم الشىء في غير وقته، يا خيثم بن مالك! يريد صاحب شرطته، ادع لى أهل الصّفّة يأكلون هذا، فبعث خيثم الحرس يدعونهم، فقال الرسول الذى جاء بالسّلال: أصلح الله الأمير، لو أمرت بهذه السلال تفتح وينظر ما فيها، قال: اكشفوها فاذا طعام حسن من دجاج وفراخ وجداء وسمك وأخبصة وحلواء فقال: ارفعوا هذه السّلال، وجاء أهل الصّفّة، فأخبر بهم، فأمر بإحضارهم وقال: يا خيثم! اضربهم عشرة أسواط، فإنه بلغنى أنهم يفسون في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ومن الخلفاء من ينسب الى البخل، فمنهم عبد الملك بن مروان كان يلقب برشح الحجر ولبن الطير لبخله.(3/305)
ومنهم هشام ابنه وكان ينظر في بيع الهدايا التى تهدى اليه. حكى عنه أن أعرابيّا أكل عنده فرفع اللّقمة الى فيه، فقال له هشام: فى لقمتك شعرة يا أعرابىّ، فقال:
وإنك تلاحظنى ملاحظة من يرى الشّعرة، والله لا أكلت عندك أبدا، ثم قام وانصرف.
ومنهم أبو جعفر المنصور كان يلقّب بأبى الدوانيق، لقّب بذلك لأنه لما بنى مدينة بغداد كان يباشرها بنفسه ويحاسب الصّناع، فيقول لهذا: أنت نمت القائلة، ولهذا: لم تبكّر، ولهذا: انصرفت قبل أن تكمّل اليوم، فيسقط لهذا دانقا، ولهذا دانقين، فلا يكاد يعطى لأحد أجرة كاملة، وكان يقول: يزعمون أنّى بخيل، وما أنا ببخيل، ولكن رأيت الناس عبيد المال، فمنعتهم عنه، ليكونوا عبيدا لى. ويحكى عنه أنه قال لطباخه: لكم ثلاثة وعليكم اثنتان، لكم الرءوس والأكارع والجلود، وعليكم الحبوب والتوابل. ومن حكاياته الدالة على بخله: أن صاحبه الربيع بن يونس قال له يوما: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك وهم كثير، وقد طالت أيامهم ونفدت نفقاتهم، فقال: اخرج إليهم وسلم عليهم، وقل لهم من مدحنا منكم فلا يصف الأسد، فإنما هو كلب من الكلاب، ولا الحيّة، فإنما هى دويبة منتنة تأكل التراب، ولا الجبل فإنه حجر أصمّ، ولا البحر، فإنه عطن بضّ لجب، فمن ليس في شعره شىء من هذا فليدخل، ومن كان في شعره شىء منه فلينصرف، فأبلغهم فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة فقال: أنا له يا ربيع فأدخلنى عليه: فأدخله، فلما مثل بين يديه، قال له: يا ربيع قد علمت أنه لا يجيبك غيره فأنشده قصيدته التى منها
له لحظات في حفافى سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل
فأمّ الذى أمّنت آمنة الردى ... وأمّ الذى خوّفت بالثّكل ثاكل(3/306)
فرفع له السّتر وأقبل عليه وأصغى إليه، فلما فرغ من إنشاده أمر له بعشرة آلآف درهم وقال له: يا إبراهيم، لا تتلفها طمعا في نيل مثلها منّا، فما كلّ وقت تصل إلينا، فقال إبراهيم: ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم القيامة وعليها الجهبذ «1» .
ودخل المؤمّل بن أميل على المهدىّ وكان بالرّىّ، وهو إذ ذاك ولىّ عهد أبيه المنصور، فامتدحه بأبيات يقول فيها
هو المهدىّ إلا أن فيه ... مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا يشكلان على البصير
فهذا في الضياء سراج عدل ... وهذا في الظلام سراج نور
ولكن فضّل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسّرير
وبعض الشهر يخفى ذا، وهذا ... منير عند نقصان الشهور
وجاء منها
فإن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير
فأعطاه عشرين ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو ببغداد، فكتب الى المهدىّ يلومه ويقول له: إنما كان ينبغى أن تعطى الشاعر إذا أقام ببابك سنة، أربعة آلاف درهم، وأمره أن يوجهه إليه، فطلب فلم يوجد، وتوجه إلى بغداد، فكتب الى المنصور بذلك، فأمر بإرصاده فمسك، وقيل له أنت بغية أمير المؤمنين وطلبته، قال المؤمل: فكاد قلبى ينخلع خوفا وفرقا، ثم أخذ بيدى وانطلق بى إلى الربيع، فأدخلنى على المنصور، وقال: يا أمير المؤمنين، هذا المؤمّل(3/307)
ابن أميل قد ظفر به، فسلمت عليه، فرد علىّ السلام، فسكن جأشى واطمأن قلبى وزال روعى، ثم قال لى: أتيت غلاما غرّا فخدعته فانخدع، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما أتيت ملكا جوادا كريما، فمدحته فحملته أريحيّته على أن وصلنى وبرّنى، فأعجبه ذلك، ثم قال: أنشدنى ما قلت فيه، فأنشدته، فقال: والله لقد أحسنت، لكن ما يساوى عشرين ألفا، يا ربيع، خذ المال منه، وأعطه منه أربعة آلاف درهم، فلما ولى المهدى الخلافة، قدم عليه المؤمّل، فأخبره بما كان بينه وبين أبيه، فضحك وردّ عليه ما أخذ منه.
وحكى ابن حمدون في كتابه المترجم بالتذكرة: أن المنصور حجّ في بعض السنين فحدا به سالم الحادى يوما بقول الشاعر
أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغدّى رفعت ستوره
يزينه حياؤه وخيره ... ومسكه يشوبه كافوره
فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل، ثم قال: يا ربيع، أعطه نصف درهم، فقال سالم: لا غير، يا أمير المؤمنين، والله لقد حدوت بهشام بن عبد الملك فأمر لى بثلاثين ألف درهم، فقال المنصور: ما كان له أن يعطيك من بيت المال ما ذكرت، يا ربيع! وكلّ به من يستخرج منه هذا المال، قال الربيع: فما زلت أسفر بينهما حتى شرط عليه أن يحدو به في خروجه ورجوعه بغير مؤنة، وكان سالم هذا يورد الإبل لثمان ولتسع ولعشر، فيحدو لها فيلهيها حدوه عن ورود الماء.
ومن طريق ما حكى عنه: أن عبيد الله بن زياد الحارثىّ، كتب إليه رقعة بليغة يستميحه فيها، فوقّع عليها: إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا لرجل أبطره، وإن أمير المؤمنين مشفق عليك، فاكتف بالبلاغة.(3/308)
وقد ذمّ الشعراء البخل وهجوا من اتصف به، فمن ذلك، وهو أبلغ ما قاله محدث، قول ابن الرومى
الحابس الروث في أعفاج بغلته ... خوفا على الحبّ من لقط العصافير
وقال العسكرىّ: أبلغ ما قيل في البخل، قول ابن الرومىّ
يقتّر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره ... تنفّس من منخر واحد
رضيت لتشتيت أمواله ... يدى وارث ليس بالحامد
وقال أبو تمام
صدّق أليّته إن قال مجتهدا ... لا والرّغيف فذاك البرّ من قسمه
وإن هممت به فافتك بخبزته ... فإن موقعها من لحمه ودمه
قد كان يعجبنى لو كان غيرته ... على جرادقه كانت على حرمه
وقال دعبل
استبق ودّ أبى المقا ... تل حين تأكل من طعامه
سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
وتراه من خوف النزيل ... به يروّع في منامه
وقال أبو هلال العسكرىّ
خبز الأمير عشيقه ... يغدو عليه يلاعبه
وإذا بدا لجليسه ... أفضى إليه يعاتبه
وتحوطه حرّاسه ... وتذبّ عنه كتائبه
فالزّور يصفع عنده ... والضيف ينتف شاربه(3/309)
وقال آخر
فتى لرغيفه قرط وشنف ... وإكليلان من درّ وشذر
إذا كسر الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر
ودون رغيفه قلع الثنايا ... وحرب مثل وقعة يوم بدر
وقال آخر
إن هذا الفتى يصون رغيفا ... ما إليه لآكل من سبيل
هو في سفرتين من أدم الطا ... ئف في سلّتين من زنبيل
ختمت كلّ سلّة برصاص ... وسيور قددن من جلد فيل
فى جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل
وقال العسكرىّ
قلّ خير ابن قاسم ... فغناه كعدمه
كادمن خشية القرى ... يختبى في حر امه
جاز في اللؤم حدّه ... كأبيه وعمه
كاد يعديك لؤمه ... لو تسمّيت باسمه
وقال ايضا
لك برمة نزّهتها ... من أن تدنّس بالدّسم
بيضاء يشرق نورها ... كالبدر في غسق الظّلم
لو كان عرضك مثلها ... كنت الممدّح في الأمم
أو كان فعلمك مثل قو ... لك كنت تاريخ الكرم(3/310)
وقال أيضا
ضفت عمرا فجاءنى برغيف ... زادنى أكله على الجوع جوعا
ثم ولىّ يقول وهو كئيب: ... لهف نفسى على رغيف أضيعا
كان خدّاعة الضيوف ولكن ... ربما أصبح الخدوع خديعا
كنت أنزلته محلّا رفيعا ... فغدا ذلك الرفيع وضيعا
عجبا منه إذ أبيح حماه ... كيف لم يمتنع وكان منيعا
وقال آخر
أرى ضيفك في الدر ... وكرب الموت يغشاه
على خبزك مكتوب: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ»
وقال بشّار
وضيف عمرو وعمرو يسهران معا ... عمرو لبطنته والضيف للجوع
وقال آخر
نوالك دونه خرط القتاد ... وخبزك كالثّريا في البعاد
ولو أبصرت ضيفا في منام ... لحرّمت المنام الى التّنادى
أرى عمر الرغيف يطول جدّا ... لديك كأنّه من قوم عاد
وما أهجوك أنك كفء شعرى ... ولكنّى هجوتك للكساد
وقال العسكرىّ
قد كان للمال ربّا ... فصار بالبخل عبده وصحّف الصّيف ضيفا
فراح يلطم خدّه(3/311)
وقال أبو نواس في إسماعيل بن نوبخت. بعد أن نصب إسماعيل في صحن داره طارمة، واصطبح فيها أربعين يوما ومعه جماعة، منهم أبو نواس، فبلغت نفقته اربعين ألف درهم، ثم قال بعد ذلك
خبز إسماعيل كالوشى ... إذا ما شقّ يرفا
عجبا من أثر الصنعة ... فيه كيف تخفى؟
إنّ رفّاءك هذا ... ألطف الأمة كفّا
فإذا ألصق بالنصف ... من الجردق نصفا
الطف الصنعة حتّى ... ما ترى مطعن إشفى «1»
مثل ما جاء من التّنّور ... ما غادر حرفا
وله في الماء أيضا ... عمل أبدع ظرفا
مزجه العذب بماء البئر ... كى يزداد ضعفا
فهو لا يسقيك منه ... مثل ما يشرب صرفا
وقال فيه
على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حلّ في دار الأمان من الأكل
وما خبزه إلا كعنقاء مغرب ... يصوّر في بسط الملوك وفي المثل
يحدّث عنها الناس من غير رؤية ... سوى صورة ما إن تمرّ ولا تحلى
وما خبزه إلا كآوى يرى ابنه ... ولم ير آوى في الحزون وفي السّهل
وما خبزه إلا كليب بن وائل ... ليالى «2» يحمى عزّه منبت البقل(3/312)
وإذ هو لا يستبّ خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوع بجدّ ولا هزل
فإن خبز إسماعيل حلّ به الذى ... أصاب كليبا لم يكن ذاك عن ذلّ
ولكن قضاء ليس يسطاع ردّه ... بحيلة ذى مكر ولا دهي ذى عقل
وقال ابن الرومىّ
بخيل يصوّم أضيافه ... ويبخل عنهم بأجر الصيام
بدسّ الغلام فيوليهم ... هوانا فيشتم مولى الغلام
فهم مفطرون وهم صائمون ... وما يطعمون وهم في أثام
فيحتال بخلا لأن يفطرون ... على رفث القول دون الطّعام
وقال أحمد بن كشاجم
صديق لنا من أبرع الناس في البخل ... وأفضلهم فيه وليس بذى فضل
دعانى كما يدعو الصديق صديقه ... فجئت كما يأتى إلى مثله مثلى
فلما جلسنا للطعام رأيته ... يرى أنه من بعض أعضائه أكلى
ويغتاظ أحيانا ويشتم عبده ... وأعلم أن الغيظ والشتم من أجلى
فأقبلت أستلّ الغداء مخافة ... وألحاظ عينيه رقيب على فعلى
أمدّ يدى سرا لأسرق لقمة ... فيلحظنى شزرا فأعبث بالبقل
إلى أن جنت كفّى لحتفى جناية ... وذلك أن الجوع أعدمنى عقلى
فجرّت يدى للحين رجل دجاجة ... فجرّت كما جرّت يدى رجلها رجلى
وقدّم من بعد الطعام حلاوة ... فلم أستطع فيها أمرّ ولا أحلى
وقمت لو انّى كنت بيّت نيّة ... ربحت ثواب الصوم مع عدم الأكل(3/313)
وقال آخر
تراهم خشية الأضياف خرسا ... يقيمون الصلاة بلا أذان
احتجاج البخلاء وتحسينهم للبخل على قبحه
قالت الحكماء: لتكن عنايتك بحفظ ما اكتسبته، كعنايتك باكتسابه.
وقال أبو الأسود الدؤلىّ لبنيه: لا تجاودوا الله، فإنه أكرم وأجود، ولو شاء أن يغنى الناس كلّهم لفعل، ولكنه علم أن قوما لا يصلحهم ولا يصلح لهم إلا الفقر، وقوما لا يصلحهم ولا يصلح لهم إلا الغنى.
وقال رجل من تغلب: أتيت رجلا من كندة أسأله، فقال: يا أخا بنى تغلب، إنّى لن أصلك حتّى أحرم من هو أقرب إلى منك، وإنه لم يبق من مالى وعرضى واهلى إلا ما منعته من الناس.
وقيل: إن لقمان الحكيم، قال لابنه: يا بنىّ، أوصيك باثنتين لن تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك.
وقال أبو الأسود: إمساكك ما تبذل، خير من طلبك ما يبذل غيرك، وأنشد
يلوموننى في البخل جهلا وضلّة ... وللبخل خير من سؤال بخيل
ونظيره قول المتلمّس
وحبس المال أيسر من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد(3/314)
وقال الجاحظ: قلت للحزامىّ: يا بخيل! قال: لا أعدمنى الله هذا الاسم، لأنه لا يقال لى: بخيل إلا وأنا ذو مال فسلّم لى المال، وسمّنى بأىّ اسم شئت، قلت:
ولا يقال لك: سخىّ، إلا وأنت ذو مال، فقد جمع الله لهذا الاسم المال والحمد، وجمع لذاك المال والذّمّ، فقال: بينهما فرق عجيب، وبون بعيد، إن في قولهم:
بخيل، سببا لمكث المال في ملكى، وفي قولهم: سخىّ، سببا لخروجه عن ملكى، واسم البخل فيه حزم وذمّ واسم السخاء فيه تضييع وحمد، وما أقلّ غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه وعرى ظهره وضاع عياله وشمت به عدوّه.
وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك، أن لا يقيم عليك، ومن احتاج إليك أن لا يزول من عندك، ومن حبّك لصديقك وضنّك بمودّته أن لا تبذل له ما يغنيه عنك، وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك.
وقد قيل في مثل هذا: «أجع كلبك يتبعك، وسمّنه يأكلك» ، فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر، وقطع أسباب الشكر، والمعين على الغدر شريك للغادر، كما أن المزيّن للفجور شريك للفاجر.
وقال أبو حنيفة: لا خير فيمن لا يصون ماله ليصون به عرضه، ويصل به رحمه ويستغنى به عن لئام الناس. قال عبد الله بن المعتز
أعاذل ليس البخل منّى سجيّة ... ولكن وجدت الفقر شرّ سبيل
لموت الفتى خير من البخل للفتى ... وللبخل خير من سؤال بخيل
وكان داود بن علىّ يقول: لأن يترك الرجل ماله لأعدائه، خير من الحاجة في حياته لأوليائه؛ قال الشاعر(3/315)
مال يخلّفه الفتى ... للشامتين من العدا
خير له من قصده ... إخوانه مسيرفدا
وقال سفيان الثّورىّ: لأن أخلّف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إلىّ من أن أحتاج إلى الناس؛ وقال: كان المال فيما مضى يكره، وأما اليوم فهو يزين المؤمن؛ وجاءه رجل فقال له: يا أبا عبد الله، تمسك هذه الدنانير! فقال:
اسكت، فلولاها لتمندلتنا هؤلاء الملوك، ولكن من كان في يده منها شىء فليصلحه، فإنه زمان من احتاج فيه كان أوّل ما يبذل دينه.
وقال المنصور لمحمد بن مروان التميمىّ: إنك لسيد لولا جمود فيك، فقال:
يا أمير المؤمنين، إنى لأجمد في الحق، ولا أذوب في الباطل.
وكان محمد بن الجهم يقول: من وهب من عمله، فهو أحمق، ومن وهب بعد العزل، فهو مجنون، ومن وهب من جوائز ملوكه أو ميراثه، فهو مخذول، ومن وهب من كسبه وما استفاده بحيلة، فهو المطبوع على قلبه، المأخوذ ببصره وسمعه.
وسأل رجل زياد بن أبيه، فأعطاه درهما، فقال: صاحب العراقين أسأله فيعطينى درهما؟ فقال له زياد: من بيده خزائن السموات والأرض ربما رزق أخصّ عباده عنده وأكرمهم لديه التمرة واللقمة، وما يكبر عندى أن أصل رجلا بمائة ألف درهم، ولا يصغر أن أعطى سائلا رغيفا، إن كان ربّ العالمين فعل ذلك.
قال الشاعر
يا ربّ جود جرّ فقر امرىء ... فقام للناس مقام الذليل
فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل(3/316)
وقال الشريف بن الهبّاريّة
لأصوننّ درهمى ... فهو لا شكّ صائنى
لم يعنّى ابن والدى ... وصحيحى أعاننى
وقال أيضا
لله درّ دراهمى ... فهى التى أعلت مكانى
لولا الغنى عن صاحبى ... لأحلّنى دار الهوان
وقال آخر
كن بما أوتيته مغتبطا ... تستدم عيش القنوع المكتفى
إن في نيل المنى وشك الرّدى ... واجتناب القصد عين السّرف
كسراج دهنه قوت له ... فإذا غرّقته فيه طفى
ومن ذلك رسالة كتبها سهل بن هارون، وقد عيب عليه أمور من البخل، فاعتذر عنها واحتجّ فقال: أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير، وجعلكم من أهله، قال الأحنف بن قيس: يا بنى تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال، أقلّهم حياء من الفرار، وكانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمّة، فتأمّل عيّابا فإنه يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب، ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهى مرشدا أو تغرى مشفقا، وما أريد بما قلت إلا هدايتكم وتقويمكم وصلاح فسادكم، وإبقاء النعمة عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم، فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم، ثم قد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لأنفسنا قبلكم، وشهرنا به في الآفاق دونكم، ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: (وَما أُرِيدُ(3/317)
أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)
فما كان أحقّكم في كريم حرمتنا بكم أن ترعوا حقّ قصدنا بذلك إليكم، على ما رعيناه من واجب حقّكم، فلا العذر المبسوط بلغتم، ولا بواجب الحرمة قمتم، ولو كان ذكر العيوب برّا وفخرا، لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا، عبتمونى بقولى لخادمى: أجيدى العجين فيكون أطيب لطعمه، وأزيد في ريعه، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أملكوا العجين فإنه أحد الريعين، وعبتمونى حين ختمت على سلّ عظيم، وفيه شىء ثمين من فاكهة نفيسة، ومن رطبة غريبة، على عبدنهم، وصبىّ جشع، وأمة لكعاء، وزوجة مضيعة، وليس بين أهل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادات القادة، ولا في تدبير السادة، أن يستوى- فى نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب- التابع والمتبوع، والسيد والمسود، كما لا تستوى مواضعهم في المجالس، ومواقع أسمائهم فى العنوانات، ومن شاء أطعم كلبه الدّجاجة السمينة، وعلف حماره السّمسم المقشّر، وعبتمونى بالختم، وقد ختم بعض الأئمة على مدّ سويق، وختم على كيس فارغ، وقال طينة خير من ظنّة، فأمسكتم عمن ختم على لا شىء، وعبتم على من ختم على شىء، وعبتمونى أيضا، أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق، فزد في الإنضاج، ليجتمع مع التأدّم باللحم طيب المرق، وقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم: «إذا طبخ أحدكم لحما، فليزد من الماء، فمن لم يصب لحما أصاب مرقا،» وعبتمونى بخصف النعل، وبتصدير القميص، وحين زعمت أن المخصوفة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنّسك، وأن الترقيع من الحزم، والتفريق من التضييع، والاجتماع مع الحفظ،(3/318)
وقد كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقّع ثوبه، ويلطع أصابعه، ويقول: «لو أهدى إلىّ كراع لقبلت، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت» وقال صلّى الله عليه وسلم «من لم يستحى من الخلال، خفت مؤنته، وقلّ كبره» . وقالت الحكماء:
لا جديد لمن لم يلبس الخلق، وبعث زياد رجلا يرتاد له محدّثا، واشترط عليه أن يكون عاقلا، فأتاه به موافقا، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكنّى رأيته في يوم قائظ، يلبس خلقا، ويلبس الناس جديدا، فتفرّست فيه العقل والأدب، وقد علمت أن الخلق في موضعه، مثل الجديد في موضعه، وقد جعل الله لكل شىء قدرا، وسمى له موضعا، كما جعل لكل زمان حالا، ولكل مقام مقالا، وقد أحيا الله بالسّم، وأمات بالغذاء، وأغصّ بالماء، وقتل بالدواء، وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين، كما زعموا أن قلّة العيال أحد اليسارين، وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز وأمر مالك بن أنس بفرك البعر، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة، ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية، وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدى لك دجاجة، قال: إن كان لا بدّ، فاجعلها بيوضا، وعبتمونى حين قلت: من لم يعرف مواضع السّرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالى، وقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية، وأشفّ من الكفاية، فلما صرت الى تفريق أجزائه على الأعضاء، وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء، وجدت في الأعضاء فضلا عن الماء، فعلمت أن لو كنت مكّنت الاقتصاد في أوائله لخرج أوّله على كفاية آخره، ولكان نصيب الأوّل كنصيب الآخر، فعبتمونى بذلك وشنعتموه علىّ، وقد قال الحسن وذكر السرف: أما إنه ليكون في الماء والكلا، فلم يرض(3/319)
بذكر الماء حتى أردفه بالكلا، وعبتمونى انى قلت: لا يغترّن أحد بطول عمره، وتقويس ظهره، ورقة عظمه، ووهن قوّته، وأن برى دخله أكثر من رزقه فيدعوه ذلك الى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، أو تحكيم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه، فلعلّه أن يكون معمّرا وهو لا يدرى وممدودا له في السن وهو لا يشعر، ولعلّه أن يرزق الولد على اليأس، وتحدث عليه آفات الكبر ما لا يخطر على باله، ولا يدركه عقله، فيستردّه ممن لا يردّه، ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه، أضعف ما كان عن الطلب، وأقبح ما كان له أن يطلب، فعبتمونى بذلك، وقال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدا، وعبتمونى بأن قلت: إن التلف والتبذير إلى مال المواريث، وأموال الملوك، وإن الحفظ الى المال المكتسب، والغنى المجتلب، والى ما يعرض فيه بذهاب الدين، واهتضام العرض، ونصب البدن، واهتمام القلب أسرع، ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع المال، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر، وطاب نفسا بالذلّ، وعبتمونى بأن زعمت أن كسب الحلال، مضمّن بالإنفاق في الحلال، وأن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وأن الطيّب يدعو إلى الطيّب، وأن الإنفاق في الهوى، حجاب دون الحقوق، وأن الإنفاق في الحقوق حجاب دون الهوى، فعبتم علىّ هذا القول، وقد قال معاوية بن أبى سفيان: لم أر تبذيرا قطّ، إلا وإلى جنبه حقّ مضيّع، وقال الحسن: إذا أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا في أىّ شىء ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف، وقلت لكم بالشفقة عليكم، وحسن النظر منّى إليكم، أنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات، فإن أحاطت بمال(3/320)
أحدكم آفة، لم يرجع إلى ثقة، فاحذروا النّقم، باختلاف الأمكنة، فإن البلية لا تجرى فى الجميع، وقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه في العبد، والأمة، والشاة، والبعير: فرّقوا بين المنايا، واجعلوا الرأس رأسين، وقال ابن سيرين [لبعض البحريين «1» ] :
كيف تصنعون في أموالكم؟ قالوا: نفرّقها في السفن، فإن عطب بعض، سلم بعض، ولولا أن السلامة أكثر، ما حملنا أموالنا في البحر، فقال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهى صناع، وعبتمونى بأن قلت لكم عند إشفاقى عليكم: إن للغنى سكرا، والمال نزوة، فمن لم يحفظ الغنى من سكره، فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال لخوف الفقر فقد أهمله، فعبتمونى بذلك، وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلا، من غنىّ أمن الفقر، وسكر الغنى أشدّ من سكر الخمر، وقد قال الشاعر في يحيى ابن خالد
وهو تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما
وعبتمونى حين زعمتم، أنّى أقدّم المال على العلم، لأن المال به يفاد العلم، وبه تقوم النفس، قبل أن يعرف فضل العلم؛ فهو أصل، والأصل أحقّ بالتفضيل من الفرع، فقلتم، كيف هذا؟ وقد قيل لبعض الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟
فقال: العلماء، قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء، أكثر مما يأتى الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بحقّ المال، وجهل الأغنياء بحقّ العلم، فقلت: حالهما هى القاضية بينهما، وكيف يستوى شىء حاجة العلماء إليه، وشىء يغنى فيه بعضهم عن بعض، وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتّخاذ الغنم، والفقراء باتّخاذ الدّجاج، وقال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه: إنى(3/321)
لأبغض أهل البيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد، وكان أبو الأسود الدّؤلىّ يقول لولده: إذا بسط الله لك في الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض، وعبتمونى حين قلت: إن فضل الغنى عن القوت، إنّما هو كفضل الآلة تكون في البيت، إن احتيج إليها استعملت، وإن استغنى عنها كانت عدّة، وقد قال الحصين بن المنذر:
وددت أن لى مثل أحد ذهبا لا أنتفع منه بشىء، قيل له: فما كنت تصنع به؟
قال: لكثرة من كان يخدمنى عليه، لأن المال مخدوم، وقال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن فيه إلا أنه عزّ في قلبك، وذلّ في قلب عدوّك، لكان الحظّ فيه جسيما، والنفع عظيما، ولسنا ندع سيرة الأنبياء، وتأدّب الخلفاء، وتعليم الحكماء، لأصحاب الهوى، فلستم علىّ تردّون، ولا رأيى تفنّدون، فقدّموا النظر قبل العزم، وأدركوا ما عليكم من قبل أن تدركوا مالكم، والسلام.
ومن نوادر البخلاء، قال رجل لبعض البخلاء: لم لا تدعونى إلى طعامك؟
قال: لأنك جيّد المضغ سريع البلع، إذا أكلت لقمة هيّأت أخرى، قال: يا أخى أتريد إذا أكلت عندك أن أصلّى ركعتين بين كلّ لقمتين؟.
وقال آخر لبخيل: لم لا تدعونى إلى طعامك؟ قال: لأنك تعلّق، وتشدّق، وتحدق، أى تحمل واحدة في يدك، وأخرى في شدقك، وتنظر إلى الأخرى بعينك.
وقال بعض البخلاء: أنا لا آكل إلا نصف الليل، قيل له: ولم؟ قال يبرد الماء، وينقمع الذّباب، وآمن فجأة الداخل، وصرخة السائل.(3/322)
وطبخ بعض البخلاء قدرا، وجلس يأكل مع زوجته فقال: ما أطيب هذا الطعام! لولا كثرة الزّحام، فقالت: وأىّ زحام وما ثمّ إلا أنا وأنت؟ قال: كنت أحبّ أن أكون أنا والقدر.
وقال بعض البخلاء لغلامه: هات الطعام، وأغلق الباب، فقال: يا مولاى، ليس هذا بحزم، وإنّما أغلق الباب، وأقدّم الطعام، فقال له: أنت حرّ لوجه الله.
وعزم بعض إخوان أشعب عليه ليأكل عنده، فقال: إنّى أخاف من ثقيل يأكل معنا فينغّص لذّتنا، فقال: ليس عندى إلا ما تحبّ فمضى معه فبينما هما يأكلان، إذا بالباب قد طرق، فقال أشعب: ما أرانا إلا صرنا لما نكره، فقال صاحب المنزل: إنه صديق لى، وفيه عشر خصال، إن كرهت منها واحدة لم آذن له، فقال اشعب: هات، قال: أوّلها، أنه لا يأكل ولا يشرب، فقال: التسع لك ودعه يدخل، فقد أمنّا منه ما نخافه.
ذكر ما قيل في التطفيل ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة
والتطفيل من اللؤم، وهو التعرّض إلى الطعام، من غير أن يدعى إليه، وسنذكر تلو هذا الفصل آداب الأكل، والمؤاكلة، والاقتصاد في المطاعم، والعفّة عنها، وما يجرى هذا المجرى، وإن كان خارجا عنه، وإنما الشىء يذكر بالشىء، والعرب تقول للطفيلىّ: الوارش، والراشن، قيل: هو مشتق من الطّفل، وهو الظلمة لأن الفقير من العرب كان يحضر الطعام الذى لم يدع إليه مستترا بالظلمة، لئلا يعرف.
وقيل: سمّى بذلك، لإظلام أمره على الناس، لا يدرى من دعاه. وقيل: بل(3/323)
من الطّفل لهجومه على الناس كهجوم الليل على النهار، فيكون من الظلمة، ولذلك قيل: «أطفل من ليل على نهار» ، وأوّل من سمى بهذا الاسم: طفيل العرائس، وإليه ينسب الطّفيليّون، وكان يقول لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرسا، فلا يلتفت تلفّت المريب، ويتخيّر المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام، فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظنّ أهل المرأة أنه من أهل الرجل، ويظنّ أهل الرجل أنه من أهل المرأة، وإن كان البوّاب غليظا فاحشا، فليبدأ به، ويأمره وينهاه من غير أن يعنّف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال.
وأشهر من نسب إليه هذا الاسم، وكثرت عنه الحكايات، بنان الطّفيلىّ، وهو عبد الله بن عثمان، ويكنى أبا الحسن، ولقبه بنان، وأصله مروزىّ وأقام ببغداد، وكان نقش خاتمه، «مالكم لا تأكلون» . حكى أن رجلا سأله أن يدعو له، فقال:
اللهم ارزقه صحة الجسم وكثرة الأكل، ودوام الشهوة، ونقاء المعدة، وأمتعه بضرس طحون، ومعدة هضوم، مع السعة والدّعة، والأمن والعافية؛ وقال يوصى بعض أصحابه: إذا قعدت على مائدة وكان موضعك ضيّقا فقل للذى يليك: لعلى ضيقت عليك فإنه يتأخر إلى خلف، ويقول: موضعى واسع، فيتسع عليك موضع رجل؛ وقال له طفيلىّ: أوصنى، فقال: لا تصادفنّ من الطعام شيئا، فترفع يدك عنه وتقول:
لعلّى أصادف ما هو أطيب منه، فإن هذا عجز ووهن، قال: زدنى، قال: إذا وجدت خبزا فيه قلّة، فكل الحروف، فإن كان كثيرا فكل الأوساط، قال: زدنى، قال:
لا تكثر شرب الماء وأنت تأكل، فإنه يصدّك عن الأكل، ويمنعك من أن تستوفى، قال: زدنى، قال: إذا وجدت الطعام، فكل منه أكل من لم يره قط، وتزوّد منه زاد من لا يراه أبدا، قال: زدنى، قال: إذا وجدت الطعام، فاجعله زادك إلى الله تعالى،(3/324)
وقال: إذا دعاك صديق لك، فاقعد يمنة البيت فإنّك ترى ما تحبّ، وتسودهم في كلّ شىء، وتسبقهم إلى كلّ خير، وأنت أوّل من يغسل يده والمنديل جافّ، والماء واسع، والخوان بين يديك يوضع، والنبيذ أوّل القنيّنة ورأسها تشربه، والنقل منتخب، يوضع بين يديك، وتكون أوّل من يتبخّر، فإذا أردت أن تقوم لحاجة لم تحتج أن تتخطّاهم، وأنت في كل سرور الى أن تنصرف. قال البديع الهمذانىّ في طفيليّين يشبههم ببنان
خلفتم بنانا فكم من أديب ... من الغيظ عضّ عليكم بنانا
إذا ما النهار بدا ضوءه ... غدوتم خماصا ورحتم بطانا
ومنهم: عثمان بن درّاج، قيل له: كيف تصنع إذا لم يدخلك أهل العرس؟ قال:
أنوح على الباب، فيتطيّرون فيدخلوننى. وحكى أبو الفرج الأصفهانى: أن عثمان هذا، كان يلزم سعيد بن عبد الكريم الخطابىّ أحد ولد زيد بن الخطاب، فقال له:
ويحك! إنى أبخل بأدبك وعلمك، وأضنّ بك عما أنت فيه من التطفيل ولى وظيفة راتبة في كلّ يوم، فالزمنى وكن مدعوّا، أصلح لك مما تفعل، فقال: يرحمك الله فأين لذّة الجديد، وطيب التنقل كل يوم إلى مكان؟ وأين هو يناك ووظيفتك من احتفال العرس؟ وأين ألوانك من ألوان الوليمة؟ قال: فأما إذا ثبت ذاك: فإذا ضاقت عليك المذاهب فأتنى قال: أمّا هذا فنعم؛ قال: وقال له رجل: ما هذه الصّفرة التى في لونك؟ قال: من الفترة التى بين القصعتين، ومن خوفى في كل يوم من نفاد الطعام قبل أن أشبع؛ وقيل له مرة: هل تعرف بستان فلان؟ فقال: إى والله، وإنه للجنة الحاضرة في الدنيا، قيل له: فلم لا تدخل اليه فتأكل من ثماره، وتقيل(3/325)
تحت أشجاره، وتسبح في أنهاره؟ قال: لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال، وعثمان هذا الذى يقول
لذّة التطفيل دومى ... وأقيمى لا تريمى
أنت تشفين غليلى ... وتسلّين همومى
ولهم أخبار وحكايات، منها: ما نقل عن نصر بن علىّ الجهضمىّ أنه قال:
كان لى جار طفيلىّ، إذا دعيت إلى مدعاة ركب معى وجلس حيث أجلس، فيأكل وينصرف، وكان نظيفا عطرا، حسن اللباس والمركب، وكنت لا أعرف من أمره إلا الظاهر، فاتفق لجعفر بن القاسم الهاشمىّ حقّ دعا له أشراف البصرة ووجوهها، وهو يومئذ أمير البصرة، فقلت في نفسى: إن تبعنى هذا الرجل إلى دار الأمير لأخزيته، فلما كان يوم الحضور، جاءنى الرسول، فركبت، وإذا به قد تبعنى حتى دخل بدخولى، وارتفع حيث أجلست، فلما حضرنا الطعام، قلت: حدّثنا درست ابن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من دخل إلى دار قوم بغير إذنهم، دخل سارقا، وخرج مغيرا، ومن دعى ولم يجب فقد عصى الله ورسوله» ، فظننت أنى قد أشرفت على الرجل وقصّرت من لسانه، فأقبل علىّ وقال: أعيذك بالله من هذا الكلام في دار الأمير، فإن الأشراف لا يحتملون التعريض باللؤم، وقد حظر الدين التعريض، وعزّر عليه عمر رضى الله عنه، ووليمة الأمير دعاء لأهل مصره فإنه سليل أهل السقاية، والرفادة، والمطعمين الأفضلين الذين هشموا الثّريد، وأبرزوا الجفان لمن غدا إليها، ثم لا توزع وأنت فى بيت من العلم معروف من أن تحدّث عن درست بن زياد وهو ضعيف عن أبان ابن طارق وهو متروك الحديث بحكم رفعه الله إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلم، والمسلمون(3/326)
على خلافه، لأن حكم السارق القطع، والمغير يعزّر على ما يراه الإمام، وهذان حكمان لا ينفذان على داخل دارا في مجمع فيتناول لقما من فضل الله الذى آتى أهلها ثم لا يحدث حدثا حتى يخرج عنها، وقد قال النبىّ صلّى الله عليه وسلم: «طعام الواحد يكفى الاثنين، وطعام الاثنين يكفى الأربعة» . حدّثنا بذلك أبو عاصم النبيل عن ابن جريح عن أبى الزبير عن جابر عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأين أنت عن هذا الحديث الصحيح الإسناد والمتن؟ قال نصر: فأصابتنى خجلة شديدة، فلما نظر الرجل إلى ما بى أكل ونهض قلبى، فلما خرجت وجدته واقفا على دابته بالباب، فلما رآنى تبعنى، ولم يكلّمنى ولم أكلّمه، إلا أننى سمعته يتمثل
ومن ظنّ ممّن يلاقى الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا
وقيل: مرّ طفيلىّ بسكة النّخع بالبصرة على قوم، وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم، وأخذ مجلسه مع من دعى، فأنكره صاحب المنزل، فقال له: لو تأنّيت أو وقفت حتّى يؤذن لك، أو يبعث إليك، فقال: إنما اتّخذت البيوت ليدخل إليها، ووضعت الموائد ليؤكل ما عليها، وما وجّهت بهديّة فأتوقع الدعوة، والحشمة قطيعة، واطّراحها صلة، وقد جاء في الأثر: «صل من قطعك، وأعط من حرمك» ، ثم أنشد
كلّ يوم أدور في عرصة الدّا ... ر أشمّ القتار «1» شمّ الذّباب
فاذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخانا أو دعوة الأصحاب
لم أعرّج دون التقحّم لا أر ... هب شتما ولكرة البوّاب
مستهينا بمن دخلت عليه ... غير مستأذن ولا هيّاب
فترانى ألفّ بالرغم منه ... كلّ ما قدّموه لفّ العقاب(3/327)
ووصف طفيلىّ نفسه فقال
نحن قوم إذا دعينا أجبنا ... ومتى ننس يدعنا التطفيل
قولنا: علّنا دعينا فغبنا ... أو أتانا فلم يجدنا الرسول
وقال آخر
نحن قوم نحبّ هدى رسول الله ... هديا به الصواب أصبنا
فادعنا كلّما بسطت فإنّا ... لو دعينا إلى كراع أجبنا
وقال آخر
نحن قوم إن جفا النّا ... س وصلنا من جفانا
لا نبالى صاحب الدّا ... ر نسينا أم دعانا
وقال آخر وقد أقبل إلى طعام، من غير أن يدعى إليه فقال له صاحب الصنيع:
من دعاك؟ فأنشد
دعوت نفسى حين لم تدعنى ... فالحمد لى لا لك في الدّعوة
وكان ذا أحسن من موعد ... إخلافه يدعو إلى جفوة
وقد مدح أبو روح ظفر بن عبد الله الهروىّ طفيليّا ولم يسبق إليه، فقال
إنّ الطفيلىّ له حرمة ... زادت على حرمة ندمانى
لأنه جاء ولم أدعه ... مبتدئا منه بإحسان
ودخل طفيلىّ إلى قوم فقالوا له: ما دعوناك! فما الذى جاء بك؟ فقال:
إذا لم تدعونى ولم آت، وقعت وحشة، فضحكوا منه وقرّبوه.(3/328)
وقيل: مرّ طفيلىّ على قوم يتغدّون، فقال: سلام عليكم معشر اللئام، فقالوا:
لا والله! بل كرام، فثنى ركبته ونزل، وقال: اللهمّ اجعلهم من الصادقين، واجعلنى من الكاذبين.
قال هشام أخوذى الرمّة لرجل أراد سفرا: إن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضلة الزاد، فإن استطعت أن لا تكون كلب الرّفاق فافعل.
ونظر طفيلىّ إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل، فظنهم يدعون الى صنيع، فتلطف حتّى دخل في لفيفهم وصار كواحد منهم، فلما بلغوا صاحب الشّرطة، أمر بضرب أعناقهم، فقدّموا واحدا بعد واحد حتّى انتهوا إلى الطفيلىّ فلما قدّم للقتل التفت إلى صاحب الشّرطة، فقال له: إنّى والله ما أنا منهم، ولا أعلم بما يدينون، وإنما أنا طفيلىّ ظننتهم يذهب بهم إلى صنيع، فتلطّفت حتّى دخلت في جملتهم، فقال ليس هذا مما ينجيك، اضربوا عنقه، فقال: أصلحك الله، إن كنت عزمت على قتلى، فأمر السياف أن يضرب بطنى بالسيف، فإنه هو الذى أوقعنى في هذه الورطة، فضحك، وكشف عنه، فأخبر أنه طفيلىّ معروف، فخلّى سبيله.
وحكى أن المأمون أمر أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سمّوا له من أهل البصرة، فجمعوا، فأبصرهم طفيلىّ، فقال: ما اجتمعوا إلا لصنيع، فدخل في وسطهم ومضى بهم الموكّلون، حتّى انتهوا إلى زورق قد أعدّلهم، قال الطفيلىّ: هى نزهة، فدخل معهم الزّورق، فلم يكن بأسرع من أن قيّدوا، وقيّد معهم الطفيلىّ، ثم سير بهم إلى بغداد، فأدخلوا على المأمون، فجعل يدعوهم بأسمائهم رجلا رجلا، ويأمر بضرب أعناقهم، حتّى وصل إلى الطفيلىّ، وقد استوفى العدّة، فقال للموكلين: ما هذا؟
قالوا: والله ما ندرى، غير أنّا وجدناه مع القوم، فجئنا به، فقال له المأمون:(3/329)
ما قصّتك؟ ويلك! فقال يا أمير المؤمنين: امرأتى طالق إن كنت أعرف من أقاويلهم شيئا ولا مما يدينون به وإنما أنا رجل طفيلىّ، رأيتهم مجتمعين، فظننت صنيعا يدعون إليه، فضحك المأمون وقال: يؤدّب، وكان إبراهيم بن المهدىّ قائما على رأس المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، هب لى أدبه، وأحدثك بحديث عجيب عن نفسى، قال: قل يا إبراهيم، قال: يا أمير المؤمنين، خرجت من عندك يوما، فطفت في سكك بغداد متطرّفا، حتّى انتهيت إلى موضع كذا، فشممت من قتار أبازير قدور قد فاح، فتاقبت نفسى إليها، وإلى طيب ريحها، فوقفت إلى خياط، فقلت له: لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من التّجار، قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، فرميت بطرفى إلى الدار، فإذا شبّاك فيها مطلّ، وإذا كفّ قد خرج من الشّبّاك ومعصم، فشغلنى حسن الكفّ والمعصم عن رائحة القدور، فبهتّ ساعة، ثم أدركنى ذهنى، فقلت للخياط: أهو ممّن يشرب النبيذ؟
قال: نعم، وأحسب أن عنده اليوم دعوة، وهو لا ينادم إلا تجّارا مثله مستورين، فإنى لكذلك، إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدّرب، فقال لى الخياط:
هؤلاء منادماه، فقلت: ما اسماهما وما كناهما؟ فقال: فلان وفلان، فحرّكت دابتى وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما، قد استبطأكما أبو فلان، وسايرتهما حتّى بلغنا الباب فأجلّانى وقدّمانى، فدخلت ودخلا، فلما رآنى صاحب المنزل معهما، لم يشكّ أنى منهما، فرحّب بى وأجلسنى في أفضل المواضع، فجىء يا أمير المؤمنين بمائدة عليها خبز نظيف وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من ريحها، فقلت في نفسى: هذه الألوان قد أكلتها، بقيت الكفّ، كيف إلى صاحبتها؟
ثم رفع الطعام، وجىء بالوضوء، ثم صرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا أشكل منزل، وجعل(3/330)
صاحب المنزل يلطف بى، ويميل علىّ بالحديث، حتّى إذا شربنا أقداحا، خرجت علينا جارية، كأنها بدر، تتثنى يا أمير المؤمنين كالخيزران، فأقبلت، وسلّمت غير خجلة وثنيت لها وسادة، فجلست عليها، وأتى بالعود فوضع في حجرها، فجسته فاستبينت حذقها في جسّها، ثم اندفعت تغنّى
توهّمها طرفى فأصبح خدّها ... وفيه مكان الوهم من نظرى أثر
تصافحها كفّى فتؤلم كفّها ... فمن مسّ كفّى في أناملها عقر
فهيّجت يا أمير المؤمنين بلابلى، وطربت لحسن شعرها، ثم اندفعت تغنّى
أشرت إليها هل عرفت مودّتى؟ ... فردّت بطرف العين إنى على العهد
فحدت عن الإظهار عمدا لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضا على عمد
فصحت يا أمير المؤمنين، وجاءنى من الطرب ما لم أملك نفسى معه، ثم اندفعت فغنّت الصوت الثالث
أليس عجيبا أن بيتا يضمّنى ... وإياك لا نخلو ولا نتكلّم!
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أكباد على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكفّ تسلّم
فحسدتها والله يا أمير المؤمنين على حدقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، فقلت: بقى عليك يا جارية، فضربت بالعود على الأرض، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟ فندمت على ما كان منّى، ورأيت القوم قد تغيّروانى، فقلت:
أما عندكم عود غير هذا؟ قالوا: بلى، فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه ثم غنيّت(3/331)
ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم قدم البلى فبلينا؟
راحوا العشيّة روحة مذكورة ... إن متن متنا أو حيين حيينا
فما استتممته يا أمير المؤمنين، حتّى قامت الجارية، فأكبّت على رجلىّ تقبّلهما، وقالت: معذرة يا سيدى، فو الله ما سمعت أحدا يغنّى هذا الصوت غناءك، وقام مولاها وأهل المجلس، ففعلوا كفعلها، وطرب القوم واستحثّوا الشرب فشربوا، ثم اندفعت أغنّى
أفى الحقّ أن تمشى ولا تذكرنّنى ... وقد همعت عيناى من ذكرها الدّما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتى ... لها عسل منى وتبذل علقما
فردّى مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما
فطرب القوم حتّى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتّى تراجعوا، ثم غنّيت الثالث
هذا محبّك مطويّا على كمده ... عبرى مدامعه تجرى على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما به ويد أخرى على كبده
فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدى، لا ما كنّا فيه منذ اليوم، وسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب، صحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم، وخلوت معه، فلما شربنا أقداحا، قال: يا سيدى، ذهب ما مضى من أيامى ضياعا، إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت؟ ولم يزل يلحّ علىّ، حتّى أخبرته الخبر، فقام وقبّل رأسى، وقال: وأنا أعجب أن يكون هذا الأدب إلا لملك! وإنى لجالس مع الخلافة ولا أشعر، ثمّ سألنى عن قصتى، فأخبرته حتّى بلغت إلى صاحبة الكف والمعصم، فقال للجارية: قومى فقولى لفلانة تنزل، فلم تزل تنزل(3/332)
جواريه واحدة واحدة، فأنظر إلى كفّها ومعصمها، وأقول: ليس هى هذه! حتّى قال: والله ما بقى غير أختى وأمّى، والله لأنزلهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداك، ابدأ بالأخت قبل الأمّ فعسى أن تكون هى، فبرزت، فلما رأيت كفّها ومعصمها، قلت: هى هذه فأمر! غلمانه، فساروا إلى عشرة مشايخ من جلّة جيرانه، فأقبلوا بهم، وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، ثمّ قال للمشايخ: هذه أختى فلانة، أشهدكم أنى قد زوّجتها من سيدى إبراهيم بن المهدىّ، وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم، فرضيت وقبلت النكاح، فدفع إليها بدرة، وفرّق الأخرى على المشايخ وصرفهم، ثم قال: يا سيدى، أمهّد بعض البيوت فتنام فيه مع أهلك، فأحشمنى ما رأيت من كرمه، فقلت: أحضر عماريّة «1» وأحملها إلى منزلى، ففعل، فو الله يا أمير المؤمنين، لقد أتبعها من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا، فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين، يشير إلى ولده، فعجب المأمون من كرم الرجل وألحقه في خاصة أهله، وأطلق الطفيلىّ وأجازه.
ومن إنشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانىّ وهو الذى حاز قصبات السبق في فن الأدب على أترابه، وفاز من البلاغة بقدحها المعلّى في عنفوان شبابه، رسالة وضعها في هذا الفنّ، وصار له بها على أهله غاية المنّ، مع نزاهة نفسه الأبيّة، وارتفاعه عن المطاعم الدنية، وإنما وضعها تجربة لخاطره، وضمها إلى فوائد دفاتره، وهى:
هذا عهد عهده زارد بن لاقم، لبالع بن هاجم، استفتحه بأن قال: الحمد لله مسهل أوقات اللذّات وميسّرها، وناظم أسباب الخيرات ومكثّرها، وجاعل أسواق الأفراح قائمة على ساق، جابرة لمن ورد إليها بأنواع الإرفاد وأجناس الإرفاق، أحمده(3/333)
على أن أحلّنا في منازل السادات، أرفع الدرجات، وأحلّ لنا من الأطعمة الفائقة الطيّبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تهدينا إلى المقام الرفيع، وتخصنا بالمحل الجسيم المنيع، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رب المكارم الجسام، ومعدن الجسارة والإقدام، الجامع بين فضيلتى الطعان والطعام، صلى الله عليه وعلى آله أهل السماحة والكرم والإكرام، صلاة تحلّ قائلها في غرفات الجنان في دار السلام، وبعد، فإن صناعة التطفيل صناعة مهوبة، وحرفة هى عند الظرفاء محبوبة، لا يلبس شعارها إلا كلّ مقدام، ولا يرفع خافق علمها إلا من عدّ في حرفته من الأعلام، ولا يتلو أساطير شهامتها إلا من ارتضع أفاويق الصّفاقة، ولا يهتدى لمنار علائها إلا من نزع عن منكبيه رداء الرّقاعة والحماقة، وكنت والفود غدافىّ الإهاب، والغصن ريّان من ماء الشباب، والقدّ يميس في حلّة النشاط، والقدم تذرع الأرض ذرع الاختباط، لا يقام سوق وليمة إلا وأنا الساعى إليها، ولا ترفع أعلام نار مأدبة إلا وكنت الواقف لديها، أتخذ الدروب شباكا للاصطياد، وحبائل أبلغ بها لذيذ الازدراد، قد جعلت المعطس حليف الهواء، والقلب نزيل الأهواء، فحيث عبقت روائح الأبازير من أعالى تلك القصور، وتمندلت تلك الشوارع بزعفران البرم والقدور، ألقيت عصا المسير على الباب، وخلبت بحسن أدبى قلب البواب، وأوسعت في وصولى ألف حيله، وجعلتها على ما عندى من حسن فنونها مخيله، فلا دعوة، إلا وكنت عليهم دعوة، ولا وليمة ختان، إلا وقد طلعت على أرجائها مثل الجان، ولا سماط تأنيب، إلا وكنت إليه الساعى المنيب، ولا مجمع ضيافة، إلا وكنت عليه أشد آفة، ولا ملاك عرس مشهود، إلا وانتظمت في سلك الشهود، يحسن فيّ قول القائل(3/334)
لو طبخت قدر بمطمورة ... موقدها الشام وأعلى الثغور
وأنت في الصين لوافيتها ... يا عالم الغيب بما في القدور
واليوم قد مال القويم إلى الاعوجاج، وعزّ بازى الشيب غراب الشّعر الدّاج، وقيّد الزمن أقداما، ومنعت الشيخوخة إقداما، وصرت لحما على وضم، بعد أن كنت نارا على علم، وقد أفادتنى التّجربة من هذه الصناعة فنونا، وتلت علىّ من محاسنها متونا، وقد أبقيت لكل مجمع بابا، وفذلكت لكل مشهد حسابا، وقد اقتضى حسن الرأى أن أفوّض إليك أمرها، وأودع تأمور قلبك وحسّك سرّها، علمى بأنك الكيّس الفطن، بل الألمعىّ الذّرب المرن، لو عقدت أكلة الولائم بغاب ولجه، وأحسن بتأنّيه الجميل مدخله ومخرجه، وقد شاهدت من أعمالك الصالحة، ما يقال عند ذهابى:
ما أشبه الليلة بالبارحة، وقد عهدت إليك، واستخرت الله في التعويل عليك، فمثلك من يخطب للمناصب، ويتسنّم ذروة المراتب، ودونك ما أنطق به من الوصايا، واحفظ ما يسرده لسان القلم من جميل المزايا، إياك وموائد اللئام، وانزل بساحات الكرام، واتخذ الشروع في الشوارع حرفة، وأظهر على مشيك صلافة وعفّة، وميّز بعينك حسن المساطب ونقش الستور، وجمال الخدء وقعود الصدور، واقصد الأبواب العالية، والأكلة المنقوشة الجالية، فإن دللت على مأدبة نصبها بعض الأعيان، وجمع إليها أصحابه الإخوان، فالبس من ثيابك الجميلة قشيبها، وضوّع بالمندل الرطب طيبها، وأتقن خبر صاحب الدار وأخباره، وقف في صدر الشارع من الحاره، فإذا رأيت الجمع وقد تهادوا بالهوادى والأقدام، وتهادوا فيما بينهم لذيذ الكلام، تقدّم إليهم بقلب قلب الأمور، وعلم بحسن تطلّعه وتضلّعه داء الجمهور، وقل لهم: رب الدار قد استبطأكم، فما الذى أبطأكم؟ حتّى إذا قاربوا صعود العتبة،(3/335)
ولم تبق هنا لك معتبة، تقدّم رافعا لهم الستور، ومعرّفا بمقدار أولئك الصدور، فالأضياف، يعتقدون أنك غلام المضياف، وربّ الحلّة، يعتقد أنك رفيق السادة الجلّة، وإن ولجت مجتمع ختان، وقد نصبت فيه موائد الألوان، وذرفنت الأبواب، واكفهرّت وجوه الحجّاب، فاجعل تحت ضبنك المجمع، واخدع قلوبهم فمثلك من يخدع، وقل: رفيق الأستاذ ومعينه، ورجله التى يسعى بها بل يمينه، فحينئذ ترفع الستور، وتقدّم لك أطايب القدور، وإن رماك القدر على باب غفل عنه صاحبه، وسها في غلقه حاجبه، وقد مدّوا في أوانيه سماطا، وجعلوا لأوائل من يقدمه فراطا، وقد تقاربت الزبادى، وامتدت الأيادى، ورأيت السّماط روضة تخالفت ألوانها، وامتدّت أفنانها، والموائد فيما بينها أفلاك تدور بصحونها، بل بروج ثابتة تشعر بسكونها، فلج على غفلة من الرقيب، وابسط بنان الأكل وكفّ لسان المجيب، فإن قيل لك: أما غلق دونك باب؟ فقل: ما على الكرماء من حجاب، وإيّاك والإطالة على الموائد، فإنها مصايد الشوارد، وإياك والقذارة عليها، فإنها إمارة الحرمان لديها، وإن وقعت على وليمة كثيرة الطعام، قليلة الازدحام، كبّر اللقمة ولا تطل علكها، ومر الفكّ في سرعة أن يفكّها، فإنك ما تدرى ما تحدث الليالى والأيام، خيفة أن يعثر عليك بعض الأقوام، فتكتسى حلّة الخجل، وتظهر على وجهك صفرة الوجل، واجعل من آدابك، تطلعك الى أثوابك، ولا ترفع لمستجلّ وجها وجيها، وقل لمن يحادثك: إليه ولا تقل: إيها، وجاوب بنعم، فإنها معينة على اللّقم، واجعل لكل مقام ما يناسبه من الحيلة، ومل على أهل الولائم والمآدب ميلة وأىّ ميلة، واسأل عمن ورث من آبائه مالا، وقد جمعه بوعثاء السفر وعنائه حراما وحلالا، أهل يعقد مقاما؟ أم يبلغ من دنياه بالقصف مراما؟ فإن قيل: فلان الفلانىّ ربّ(3/336)
هذه المثابة، وصاحب الدعوة المجابة، فكن ثالثة الأثافى لبابه، وانتظم في سلك عشرائه وأترابه، وتفقّد الأسواق خصوصا اللّحامين، ومواطن الطبخ ومساطب المطربين، ومجمع القراء ومعاهد محالّ الوعّاظ، وكلّ بقعة هى مظنّة فرح يعود عليك نفعه وكن أوّل داخل وآخر خارج، ومل إلى الزوايا، فهى أجمل ما لهذه الحرفة من المزايا، ونقّل ركابك في كلّ يوم، فتارة في سوق اللحم وتارة في سوق الثّوم؛ وغيّر الحلية، وقصّر اللحية، وابرز كلّ يوم في لباس، فهو أكثر للالتباس، وجدّد البهت حتى تتخذه عصاك، وتجعله ذريعة لمن عصاك، وأتقن الفنون المحتاج اليها من غنى ونجامة، وطب وشهامة، وتاريخ وأدب، وكرم أصل وحسب، وحالتى التوقيت والتنزيل، فاجعلهما دأبك، فإذا عرفوك، وحضر الجمع وكشفوك، فطرّز كلّ محفل بمحاسنن أقوالك، وكلّل جيد كلّ مأدبة بجواهر أفعالك، واعلم أنها صنعة دثرت معالمها، وقلّ عالمها، ولو لم أر على وجهك مخائل بشرها، وعلى أعطاف أردافك روائح نشرها، لما ألقيت إليك كتاب عهدها، ولا حملت لبابك راية مجدها، فتلقّ راية هذا العهد بساعد مساعد، وعضد في الولوج على الأسمطة معاضد، فوّضت اليك أمر من تحلّى بجواهرها المنظومة، ولبس حللها القشيبة المرقومة، وبسطت لسان قلمك في رقم عهودها، وأذنت لك أن تجريهم على سنن معهودها، وإياك أن تعهد إلا لمن ملك خصالها، وجاس خلالها، واستجلى هلالها، وأتقن أحوالها، ولاية عامّة، وكلمة مبرمة تامّة، حرس الله بك معقل الأدب واللطافة، ومحابك معالم الثقالة والكثافة.(3/337)
ذكر آداب الأكل والمؤاكلة
قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)
وروى أنّ داود عليه السّلام أمر مناديه فنادى: أيها الناس، اجتمعوا لأعلّمكم التقوى، فاجتمعوا فقام في محرابه، فبكى ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأيها الناس، لا تدخلوا هاهنا إلا طيّبا، ولا تخرجوا منه إلا طيّبا، وأشار إلى فيه. قيل: أوّل آداب الأكل، معرفة الحلال من الحرام، والخبيث من الطيّب.
وأما الآداب في هيئة المؤاكلة وأفعالها، فقد روى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماعاب طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. وروى أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشمّوا الطعام كما تشمّه البهائم، من اشتهى شيئا فليأكل، ومن كره فليدع» . وقال أنس: قدم النبىّ صلّى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن عشر، ودخل دارنا، فحلبنا له شاة، فشرب، وأبو بكر عن يساره، وأعرابىّ عن يمينه، فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أعط أبا بكر، فقال صلى الله عليه وسلّم: «الأيمن فالأيمن» وفي هذا المعنى يقول الشاعر
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
وروى عن أنس: أنه رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم شرب جرعة، ثم قطع، ثمّ سمّى، ثم شرب جرعة، ثم قطع، ثم سمّى، ثم قطع الثالثة، ثمّ جرع مصّا، حتّى فرغ ثمّ حمد الله، وقد ندب إلى غسل اليد قبل الأكل فإنه ينفى الفقر، وينقّى اللّمم؛ ومن السّنة: البداءة باسم الله، وحمده عند الانتهاء.(3/338)
روى عن عمر بن أبى سلمة أنه قال: مررت بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو يأكل، فقال «اجلس يا بنىّ وسمّ الله، وكل بيمينك مما يليك» .
وقال بعض السلف: إذا جمع الطعام أربعا، فقد كمل كلّ شىء، إذا كان حلالا، وذكر اسم الله عليه، وكثرت عليه الأيدى، وحمد الله حين يفرغ منه.
وروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال عند مطعمه ومشربه بسم الله خير الأسماء ربّ الأرض والسماء لم يضره ما أكل وما شرب» وفي حديث عائشة رضى الله عنها، عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسى في أوّله، فليقل بسم الله في أوّله وآخره» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، فإنّ الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» .
وروى: أنّ المسيح عليه السّلام كان إذا دعا أصحابه قام عليهم، ثمّ قال: هكذا فاصنعوا بالفقراء.
ووصف شاعر قوما فقال
جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيف ألمّ بهم وقوف
قال سهل بن حصين: شهدت الحسن في وليمة، فطعم ثم قام، فقال: مدّ الله لكم في العافية، وأوسع عليكم في الرزق، واستعملكم بالشكر.
وروى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تخللّوا فإنه نظافة والنظافة من الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنّة» .
وفي حديث عمر رضى الله عنه: عليكم بالخشبتين: يعنى السّواك والحلال.(3/339)
وكان بعضهم يقول لولده إذا رأى حرصه في الطعام: يا بنىّ، عوّد نفسك الأثرة، ومجاهدة الشهوة، ولا تنهس نهس السّباع، ولا تخضم خضم البراذين، فإن الله جعلك إنسانا، فلا تجعل نفسك بهيمة.
وحكى عن بعض الكتاب قال: تغديت مع المأمون فالتفت إلىّ وقال: خلال قبيحة عند الجلوس على الطعام: كثرة مسح اليد، والانكباب على الطعام، وكثرة أكل البقل، ومعنى ذمّه هذه الخلال الثلاث: أنه إذا أكثر مسح اليد فإنما ذلك من غمسها فى الطعام، والانكباب يدلّ على شدّة الحرص وزيادة الشره والنّهم. قال الشاعر
لقد سترت منك الخوان عمامة ... دجوجيّة ظلماؤها ليس تقلع
وأما البقل، فإن الحاجة إلى البلغة منه، وفي الإكثار منه تشبّه بالبهائم، لأنه مرعاها.
وقيل: الأكل ثلاثة: مع الفقراء بالإيثار، ومع الإخوان بالانبساط، ومع أبناء الدنيا بالأدب.
وقيل لبعض الحكماء: أىّ الأوقات أحمد للأكل؟ فقال: أما من قدر فإذا اشتهى، وأما من لم يقدر فإذا وجد.
ذكر الاقتصاد في المطاعم والعفّة عنها
قال الله عزوجل: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)
وفي الحديث أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
«من زاره أخوه المسلم فقرّب إليه ما تيسر غفر له وجعل في طعامه البركة، ومن قرّب إليه ما تيسر فاستحقر ذلك كان في مقت من الله حتّى يخرج» . وقالت عائشة رضى الله عنها: أولم النبىّ صلّى الله عليه وسلم على بعض نسائه مدّين من شعير.(3/340)
وقيل: كان عيسى بن مريم صلوات الله عليه يقول: اعملوا ولا تغملوا لبطونكم، وإياكم وفضول الدنيا، فإن فضولها رجز، هذه طير السماء تغدو وتروح، ليس معها من أرزاقها شىء، لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها، فإن قلتم: بطوننا أعظم من بطونها، فهذه الوحش تغدو وتروح، وليس معها من أرزاقها شىء والله يرزقها.
وروى أنّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: لما دخل شهر رمضان كان يفطر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد الله بن جعفر، لا يزيد على لقمتين أو ثلاث، فقيل له، فقال: إنما هى أيّام قلائل يأتى أمر الله وأنا خميص، فقتل من ليلته.
وفي الحديث عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قلّ طعمه صحّ بدنه وضفا قلبه، ومن كثر طعمه سقم جسمه وقسا قلبه» . وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما زيّن الله رجلا بزينة أفضل من عفاف بطنه» . قال حاتم
أبيت خميص البطن مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذّم أن أتضلعا
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذّم أجمعا
وقال بعضهم: رأيت مجنونا ببغداد، وهو على باب دار فيها صنيع والناس يدخلون، وكنت ممن دعى، فقلت: ألا تدخل فتأكل؟ فإن الطعام كثير، قال:
وإن كثر فإنى ممنوع منه، فقلت: كيف والباب مفتوح، ولا مانع من الدخول؟
فقال: أآكل طعاما لم أدع إليه؟ لقد اضطرّنى إلى ذلك غير الجوع، فقلت:
ما هو؟ قال: دناءة النفس وسوء الغريزة، قال الشاعر
وإنّى لعفّ عن مطاعم جمّة ... إذا زيّن الفحشاء للنفس جوعها(3/341)
وقال آخر
وأعرض عن مطاعم قد أراها ... فأتركها وفي البطن انطواء
فلا وأبيك ما في العيش خير ... وفي الدنيا إذا ذهب الحياء!
قال الجنيد: مرّ بى الحارث بن أسد المحاسبىّ، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت:
يا عمّ، تدخل الدار وتتناول شيئا؟ قال: نعم، فدخل، وقدّمت إليه طعاما حمل إلىّ من عرس، فأخذ لقمة فلاكها ونهض فألقاها في الدّهليز ومضى، فالتقيت به بعد أيام، فقلت له في ذلك، فقال: كنت جائعا، وأردت أن أسرّك بأكلى، ولكن بينى وبين الله تعالى علامة، أن لا يسوّغنى طعاما فيه شبهة، فمن أين كان ذلك الطعام؟ فأخبرته، ثم قلت له: تدخل اليوم؟ قال: نعم، فقدّمت إليه كسرا كانت لنا فأكل وقال: إذا قدّمت لفقير شيئا، فقدّم مثل هذا.
روى أن عمرو بن العاص قال لأصحابه يوم الحكمين: أكثروا لهم الطعام، فو الله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا؛ فلما وجد معاوية ما قال صحيحا، قال: البطنة تذهب الفطنة.
وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشرب، فإن القلوب تموت كالزّرع إذا كثر عليه الماء» .
ودخل عمر رضى الله عنه على ابنه عاصم وهو يأكل لحما فقال: ما هذا؟ قال: قرمنا اليه، قال: ويحك! قرمت إلى شىء فأكلته، كفى بالمرء شرها أن يأكل كلّ ما يشتهى.
قال ابن دريد: العرب تعيّر بكثرة الأكل، وأنشد
لست بأكّال كأكل العبد ... ولا بنوّام كنوم الفهد(3/342)
وقال عمر رضى الله عنه: ما اجتمع عند النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إدامان إلا أكل أحدهما وتصدّق بالآخر.
وقال أبو سليمان الدارانىّ: خير ما أكون إذا لصق بطنى بظهرى، أجوع الجوعة فأخرج تزحمنى المرأة فما ألتفت إليها، وأشبع الشّبعة فأخرج فأرى عينىّ تطمحان.
ذكر أخبار الأكلة
قد نسب ذلك إلى جماعة من الأكابر وذوى الهمم، فمن ذلك ما حكاه الحمدونىّ فى تذكرته: أن معاوية بن أبى سفيان أتى بعجل مشوىّ، فأكل معه دستا من الخبز السميد، وأربع فرانىّ «1» ، وجديا حارا، وجديا باردا، سوى الألوان، ووضع بين يديه مائة رطل من الباقلّاء الرطب، فأتى عليه، وقيل: إنه كان يأكل كل يوم أربع أكلات آخرهنّ أشدّهنّ، ثم يقول: يا غلام، أرفع، فو الله ما شبعت، ولكنى مللت.
ومنهم عبيد الله بن زياد، كان يأكل في اليوم خمس أكلات آخرها جنبة بغل، ويوضع بين يديه بعد ما يفرغ من الطعام عناق «2» أو جدى فيأتى عليه وحده.
ومنهم الحجّاج بن يوسف، قال سالم بن قتيبة: كنت في دار الحجاج مع ولده، وأنا غلام، فقالوا جاء الأمير، فدخل الحجاج وأمر بتنوّر، فنصب، وأمر رجلا يخبز خبز الماء ودعا بسمك، فأكل حتّى أتى على ثمانين جاما من السمك بثمانين رغيفا من خبز الماء.
ومنهم سليمان بن عبد الملك، روى أنه شوى له أربعة وثمانون خروفا، فمدّيده إلى كلّ واحد منها فأكل شحم أليته ونصف بطنه، مع أربعة وثمانين رغيفا، ثم أذن للناس، وقدّم الطعام، فأكل معهم أكل من لم يذق شيئا.(3/343)
وقال الشّمردل وكيل عمرو بن العاص: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز، فجاء حتى ألقى صدره إلى غصن، ثم قال: يا شمردل، ما عندك شىء تطعمنى؟ قلت عندى جذع تغدو عليه حافل وتروح أخرى، قال:
عجّل به، فأتيته به كأنه عكّة سمن، فجعل يأكل، وهو لا يدعو عمر، حتى بقى منه فخذ، قال: يا أبا حفص، هلمّ، قال: إنى صائم، فأتى عليه، ثم قال: يا شمردل ويلك! ما عندك شىء؟ قلت: دجاجات ست، كأنهنّ رئلان النعام، فأتيته بهنّ فأتى عليهن، ثم قال: ويلك يا شمردل! ما عندك؟ قلت: سويق كأنه قراضة الذهب، فأتيته بعسّ «1» يغيب فيه الرأس، فشربه، فلما فرغ تجشأ كأنه صارخ في جبّ، ثم قال:
يا غلام! أفرغت من غدائنا؟ قال: نعم، قال: ما هو؟ قال: نيّف وثمانون قدرا، قال: فأت بقدر قدر، وبقناع عليه رقاق، فأكل من كل قدر ثلاث لقم، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، فوضع الخوان، وقعد يأكل مع الناس.
ومن المشهورين بالأكل، هلال بن الأسعر المازنىّ، قال المعتمر بن سليمان:
سألته عن أكله فقال: جعت مرة ومعى بعير لى فنحرته وأكلته إلا ما حملت منه على ظهرى، فلما كان الليل راودت أمة لى فلم أصل إليها، فقالت كيف تصل إلىّ وبينى وبينك جمل؟ فقلت له: كم بلّغتك هذه الأكلة؟ فقال: أربعة أيام.
وحكى أبو سعيد منصور بن الحسن الأبىّ في كتابه المترجم بنثر الدّر: أن هلالا هذا أكل بعيرا، وأكلت امرأته فصيلا وجامعها، فلم يتمكن منها، فقالت له: كيف تصل إلى وبينى وبينك بعيران؟ وله حكايات ذكرها الحمدونىّ في التذكرة، والأبىّ فى نثر الدر تركناها اختصارا.(3/344)
ومنهم محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس، ذكر الجاحظ: أنه أكل يوما جنبى بكر شواء بعد طعام كثير.
ومن المشهورين بالنهم، أحمد بن أبى خالد الأحول وزير المأمون، وكان المأمون إذا وجهه في حاجة، أمره أن يتغدى ويمضى فرفع إلى المأمون في المظالم:
إن رأى أمير المؤمنين أن يجرى على ابن أبى خالد نزلا، فإنّ فيه كلبية، إلا أن الكلب يحرس المنزل بكسرة، وابن أبى خالد يقتل المظلوم، ويعين الظالم بأكلة، فأجرى عليه المأمون في كلّ يوم ألف درهم لمائدته، وكان مع ذلك يشره الى طعام الناس. ولما انصرف دينار بن عبد الله من الجبل، قال المأمون لاحمد بن أبى خالد:
امض إلى هذا الرجل وحاسبه وتقدّم إليه يحمل ما يحصل لنا عليه وأنفذ معه خادما ينهى إليه ما يكون منه، وقال: إن أكل أحمد عند دينار عاد إلينا بما نكره، ولما اتصل خبر أحمد بدينار، قال للطباخ: إن أحمد أشره من نفخ فيه الروح، فإذا رأيته فقل له: ما الذى تأمر أن يتخذ لك؟ ففعل الطباخ، فقال أحمد: فراريح كسكرية بماء الرمان تقدّم مع خبز الماء بالسميد، ثم هات بعدها ما شئت، فابتدأ الطباخ بما أمر، وأخذ أحمد يكلّم دينارا، فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: إن لنا قبلك ما لا قد حبسته علينا، فقال: الذى لكم ثمانية آلاف ألف، قال فاحملها، قال: نعم، وجاء الطباخ فاستأذن في نصب المائدة، فقال أحمد: عجّل بها فإنى أجوع من كلب، فقدّمت وعليها ما اقترح، وقدّم الدجاج وعشرين فروجا كسكرية فأكل أكل جائع نهم، ما ترك شيئا مما قدّم، فلما فرغ وقدّر الطباخ أنه قد شبع، لوّح بطيفورية فيها خمس سمكات شبابيط كأنها سبائك الفضة، فأنكر أحمد عليه إلا قدمها؟ وقال: هاتها، وأعاد أحمد الخطاب، فقال دينار: أليس قد عرفتك(3/345)
أن الباقى لكم عندى سبعة آلاف ألف؟ قال أحسبك اعترفت بأكثر منها، فقال:
ما اعترفت إلا بها، فقال: هات خطك بما اعترفت به، فكتب بستة آلاف ألف فقال أحمد: سبحان الله! أليس قد اعترفت بأكثر من هذا؟ قال: ما لكم قبلى إلا هذا المقدار، فأخذ خطه بها وتقدّم الخادم، فأخبر المأمون بما جرى، فلما ورد أحمد ناوله الخط، فقال: قد عرفنا ما كان من الألف ألف بتناول الغداء؛ فما بال الألف ألف الأخرى، فكان المأمون بعد ذلك يقول: ما أعلم غداء قام على أحد بألفى ألف إلا غداء دينار، واقتصر على الخط ولم يتعقبه كرما ونبلا.
ومنهم أبو العالية، حكى أن امرأة حملت فحلفت إن ولدت غلاما لأشبعنّ أبا العالية خبيصا، فولدت غلاما، فأطعمته، فأكل سبع جفان، فقيل له: إنها حلفت أن تشبعك خبيصا، فقال: والله لو علمت لما شبعت إلى الليل.
ومنهم أبو الحسن بن أبى بكر العلّاف الشاعر دخل يوما على الوزير المهلّبى ببغداد، فأنفذ الوزير من أخذ حماره الذى كان يركبه من غلامه، وأدخل المطبخ وذبح وطبخ لحمه بماء وملح، وقدّم بين يديه، فأكله كلّه وهو يظن أنه لحم بقر، فلما خرج طلب الحمار، قيل له: قد أكلته، وعوّضه الوزير عنه ووصله، فهذا كاف في أخبار الأكلة.
ذكر ما قيل في الجبن والفرار
ومن أقبح ما هجى به الرجل أن يكون جبانا فرّارا، وقد نهانا الله عزّوجل عن الفرار، فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ(3/346)
وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
. وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) .
وقالت عائشة رضى الله عنها: إن لله خلقا، قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها، فأفّ للجبناء، أفّ للجبناء.
وقال خالد بن الوليد عند موته: لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدى موضع إلا فيه طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشى حتف أنفى، كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء.
وقيل كتب زياد إلى ابن عباس: أن صف لى الشجاعة والجبن والجود والبخل فكتب إليه: كتبت تسألنى عن ضائع ركّبت في الإنسان تركيب الجوارح، اعلم أن الشجاع يقاتل عمن لا يعرفه، ولجبان يفرّ عن عرسه، وأن الجواد يعطى من لا يلزمه، وأن البخيل يمسك عن نفسه؛ وقال شاعر
يفرّ جبان القوم عن عرس نفسه ... ويحمى شجاع القوم من لا يناسبه
وقالوا: الجبن غريزة كالشجاعة بضعها الله فيمن شاء من خلقه.
قال المتنبى
يرى الجبناء آن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
وقالوا: حدّ الجبن الضنّ بالحياة، والحرص على النجاة.
وقالت الحكماء في الفراسة: من كانت فزعته في رأسه، فذاك الذى يفرّ من أمّه وأبيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التى تؤويه.
ويقال: أسرع الناس إلى الفتنة أقلّهم حياء من الفرار. وقال هانىء الشيبانىّ لقومه يوم ذى قار يحرّضهم على القتال: يا بنى بكر! هالك معذور، خير من ناج(3/347)
فرور، المنيّة، ولا الدّنيّة، استقبال الموت خير من استدباره، الثغر في ثغور النحور، خير منه في الأعجاز والظهور، يا بنى بكر! قاتلوا، فما من المنايا بدّ، الجبان مبغّض حتّى لأمّه، والشجاع محبّب حتّى لعدوّه.
ويقال: الجبن خير أخلاق النساء، وشرّ أخلاق الرجال.
وقال يعلى بن منبّه لقومه حين فروا من علىّ يوم صفّين: إلى أين؟ قالوا: ذهب الناس، قال: أفّ لكم! فرارا واعتذارا! قال: ولما قوتل أبو الطيّب المتنبى ورأى الغلبة عليه فرّ، فقال له غلامه: أترضى أن يحدّث بهذا الفرار عنك؟ وأنت القائل
الخيل والليل والبيداء تعرفنى ... والطّعن والضّرب والقرطاس والقلم
فكّر راجعا، وقاتل حتى قتل، واستقبح أن يعيّر بالفرار.
وقال المنصور لبعض الخوارج عليه وقد ظفر به: أخبرنى عن أصحابى، أيهم كان أشدّ إقداما في المبارزة، قال: لا أعرف وجوههم مقبلين وإنما أعرف أقفيتهم مدبرين، فقل لهم: يدبروا لأعرفك أيّهم كان أشدّ فرارا.
وقال ابن الرّومىّ في سليمان بن عبد الله بن طاهر
قرن سليمان قد أضرّ به ... شوق إلى وجهه سيدنفه
لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه
وقال حسّان بن ثابت يعيّر الحارث ابن هشام بفراره يوم بدر
إن كنت كاذبة الذى حدثتنى ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ذاك لأحبّة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام
ملأت به الفرجين فارمدّت به ... وثوى أحبّته بشرّ مقام(3/348)
وقال أبو الفرج الأصفهانىّ: وكان أبو حيّة النميرىّ وهو الهيثم بن الربيع ابن زرارة جبانا بخيلا كذّابا، قال ابن قتيبة: وكان له سيف يسمّيه: لعاب المنية، ليس بينه وبين الخشبة فرق، قال: وكان أجبن الناس؛ قال: فحدثنى جار له، قال: دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصّا، فأشرفت عليه، وقد انتضى سيفه، وهو واقف في وسط الدار يقول: أيها المغترّبنا، المجترىء علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل، وسيف صقيل، لعاب المنية الذى سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته، أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إنى والله إن أدع قيسا إليك لا تقم لها، وما قيس؟ تملأ والله الفضاء خيلا ورجلا، سبحان الله! ما أكثرها وأطيبها! فبينا هو كذلك، إذا الكلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذى مسخك كلبا، وكفانا حربا.
ومن أبلغ ما قيل في الجبن من الشعر القديم، قول الشاعر
ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسوّمة تدعو عبيدا وأرنما «1»
ومثله قول عروة بن الورد
وأشجع قد أدركتهم فوجدتهم ... يخافون خطف الطير من كلّ جانب
وقال آخر
ما زلت تحسب كلّ شىء بعدهم ... خيلا تكرّ عليهم ورجالا
وقول أبى تمام
موكّل بيفاع الأرض يشرفه ... من خفة الخوف لا من خفّة الطّرب(3/349)
وقال ابن الرومىّ
وفارس أجبن من صفرد «1» ... يحول أو يغور من صفره
لو صاح في الليل به صائح ... لكانت الأرض له طفره
يرحمه الرحمن من جبنه ... فيرزق الجند به النصره
ومن أخبار الفرّارين الذين حسّنوا الفرار على قبحه
قال صاحب كلبلة ودمنة: إن الحازم يكره القتال ما وجد بدّا منه، لأن النفقة فيه من النفس، والنفقة في غيره من المال.
وقالوا: من توقّى سلّم، ومن تهوّر ندم.
وقال عبد الله بن المقفّع: الشجاعة متلفة، وذلك أن المقتول مقبلا أكثر من المقتول مدبرا، فمن أراد السلامة فليؤثر الجبن على الشجاعة.
وليم بعض الجبناء على جبنه، فقال: أوّل الحرب شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى.
وقال آخر: الحرب مقتلة للعباد، مذهبة للطارف والتّلاد.
وقيل لجبان: لم لا تقاتل؟ فقال: عند النطاح يغلب الكبش الأجمّ «2» .
وقالوا: الحياة أفضل من الموت، والفرار في وقته ظفر.
وقالوا: الشجاع ملقّى، والجبان موقّى. قال البديع الهمذانىّ
ما ذاق همّا كالشجاع ولا خلا ... بمسرّة كالعاجز المتوانى
وقالوا: الفرار في وقته، خير من الثبات في غير وقته.(3/350)
وقالوا: السّلم أزكى للمال، وأبقى لأنفس الرّجال.
وقالوا: الحمام في الإقدام، والسلامة في الإحجام.
وقال المتوكّل لأبى العيناء: إنى لأفرق من لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين، الكريم ذو فرق وإحجام، واللئيم ذو وقاحة وإقدام.
وقيل لأعرابىّ: ألا تعرف القتال؟ فإن الله قد أمرك به، فقال: والله إنى لأبغض الموت على فراشى في عافية، فكيف أمضى إليه ركضا؛ قال شاعر
تمشى المنايا الى قوم فأبغضها ... فكيف أعدو إليها عارى الكفن؟
وقيل ليزيد: إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت شخصا بالليل، فكن للإقدام عليه أولى منه عليك» فقال: أخاف أن يكون قد سمع الحديث قبلى، فأقع معه فيما أكره، وإنما الهرب خير.
وسمع سليمان بن عبد الملك قارئا يقرأ (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتّعون إلّا قليلا) فقال: ذلك القليل نريد.
ولما فرّ أميّة بن عبد الله بن خالد بن أسد يوم مرداء هجر بالبحرين من أبى فديك الخارجىّ إلى البصرة، ودخل عليه أهلها، فلم يدروا كيف يكلّمونه ولا ما يلقونه به من القول، أيهنئونه بالسّلامة أم يعزّونه بالفرار، حتى دخل عبد الله ابن الأهتم، فاستشرف الناس له، ثم قالوا: ما عسى أن يقول لمنهزم؟ فسلّم ثم قال:
مرحبا بالصابر المخذول، الحمد لله الذى نظر لنا عليك، ولم ينظر لك علينا، فقد تعرضت للشهادة جهدك، ولكن الله علم حاجة أهل الإسلام إليك فأبقاك لهم بخذلان من معك لك، فقال أميّة: ما وجدت أحدا أخبرنى عن نفسى غيرك.
وقال الحارث بن هشام وأحسن في اعتذاره عن الفرار(3/351)
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا مهرى بأشقر مزبد
وعلمت أنّى إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوّى مشهدى
فصدفت عنهم والأحبّة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم سرمد
وقال زفر بن الحارث وقد فرّ يوم مرج راهط عن رفيقيه
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامى وحسن بلائيا؟
فلم تر منّى زلّة قبل هذه ... فرارى وتركى صاحبىّ ورائيا
وهى أبيات نذكرها إن شاء الله في التاريخ، ونظير ذلك قول عمرو بن معد يكرب من أبيات يخاطب بها أخته ريحانة، وقد فرّ من بنى عبس
أجاعلة أمّ النّوير خزاية ... علىّ فرارى إذا لقيت بنى عبس
وليس يعاب المرء من جبن يومه ... إذا عرفت منه الحماية بالأمس
وعكس هذا البيت عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوىّ، وكان قد فرّ يوم الحرّة من جيش مسلم بن عقبة، فلما حاصر الحجاج عبد الله بن الزبير بمكة جعل يقاتل أهل الشّام ويرتجز
أنا الذى فررت يوم الحرّة ... والشيخ لا يفرّ إلا مرّة
فاليوم أجزى كرّة بفرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه
ولم يزل يقاتل حتى قتل؛ قال الفرّار السّلمىّ.
وفوارس لبّستها بفوارس ... حتى إذا التبست أملت بها يدى
وتركتهم نقض الرّماح ظهورهم ... من بين مقتول وآخر مسند
هل ينفعنّى أن تقول نساؤهم ... وقتلت دون رجالهم: لا تبعد؟(3/352)
وقال آخر
قامت تشجّعنى هند فقلت لها: ... إن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذى منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهى الموت عندى من له أرب
للحرب قوم أضل الله سعيهم ... إذا دعبتهم إلى نيرانها وثبوا
وقيل لجبان في بعض الوقائع: تقدّم، فقال
وقالوا: تقدّم قلت: لست بفاعل ... أخاف على فخّارتى أن تحطّما
فلو كان لى رأسان أتلفت واحدا ... ولكنه رأس إذا زال أعقما
وأونتم أولادا وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدّما؟
ذكر ما قيل في الحمق والجهل
قالوا: الحمق قلّة الإصابة، ووضع الكلام في غير موضعه، وقيل: هو فقدان ما يحمد من العاقل؛ وقيل لعمر بن هبيرة: ما حدّ الحمق؟ قال: لا حدّ له كالعقل.
وروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الأحمق أبغض الخلق إلى الله، لأنّه حرمه أعزّ الأشياء عليه وهو العقل» .
وقيل: أوحى الله تعالى إلى موسى، أتدرى لم رزقت الأحمق؟ قال: لا يا ربّ، قال: ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاجتهاد.
وقال الشعبىّ: إذا أراد الله أن يزيل عن عبد نعمة، كان أوّل ما يعدمه عقله.
وقالوا: الحمق داء دواؤه الموت. وقد بيّن الله تعالى لحبيبه من لم يعقل بقوله (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا)
قيل: عاقلا، وبقوله (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) .(3/353)
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أثنى قوم على رجل عند النبىّ صلّى الله عليه وسلم حتى بالغوا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كيف عقل الرجل؟» فقالوا: نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وترتفع العباد غدا في الدرجات على قدر عقولهم» .
ومن كلام لقمان لابنه: أن تكون أخرس عاقلا خير من أن تكون نطوقا جاهلا، ولكل شىء دليل، ودليل العقل النقل، ودليل النقل الصمت، وكفى بك جهلا أن تنهى الناس عن شىء وتركبه.
وقال عيسى عليه السّلام: عالجت الأكمه والأبرص فأبرأتهما، وعالحت الأحمق فأعيانى؛ قال شاعر
لكل داء دواء يستطبّ به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها
وقال آخر
وعلاج الأبدان أيسر خطب ... حين تعتلّ من علاج العقول
وقال آخر
الحمق داء ما له حيلة ... ترجى كبعد النجم من مسّه
وقيل: إذا قيل لك إن فقيرا استغنى، وغنيّا افتقر، وحيّا مات، أو ميتا عاش، فصدّق، وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلا فلا تصدّق.
وقالوا: الأحمق لتمنى أمّه أنّها به مشكلة، ولتمنى زوجه أنّها منه أرملة، ويتمنى جاره منه العزلة، ورفيقه منه الوحشة، وأخوه منه الفرقة.(3/354)
وقال سهل بن هارون: وجدت مودّة الجاهل، وعداوة العاقل، أسوة في الخطر، ووجدت الأنس بالجاهل، والوحشة من العاقل، سيّين في العيب، ووجدت غشّ العاقل أقلّ ضررا من نصيحة الجاهل، ووجدت ظنّ العاقل أوقع بالصواب من يقين الجاهل، ووجدت العاقل أحفظ لما لم يستكتم من الجاهل لما استكتم.
وقال لقمان لابنه: لا تعاشر الأحمق وإن كان ذا جمال، وانظر إلى السيف ما أحسن منظره وأقبح أثره! وقال علىّ رضى الله عنه: قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل؛ وقال: صديق الجاهل في تعب.
وقال آخر: لأنا للعاقل المدبر، أرجى شىء من الأحمق المقبل، وقال شاعر
عدوّك ذو العقل خير من الصّديق ... لك الوامق الأحمق
والبيت المشهور السائر
ولأن يعادى عاقلا خير له ... من أن يكون له صديق أحمق
وقيل: الحمق يسلب السلامة، ويورث الندامة؛ وقد ذمّوا من له أدب بلا عقل.
ووصف أعرابىّ رجلا فقال: هو ذو أدب وافر، وعقل نافر؛ قال شاعر
فهبك أخا الآداب، أىّ فضيلة ... تكون لذى علم وليس له عقل؟
ومن صفات الأحمق وعلاماته، قيل: ما أعدمك من الأحمق فلا يعدمك منه كثرة الالتفات وسرعة الجواب، ومن علاماته الثقة بكلّ أحد.(3/355)
ويقال: إنّ الجاهل مولع بحلاوة العاجل، غير مبال بالعواقب، ولا معتبر بالمواعظ، ليس يعجبه إلا ما ضرّه، إن أصاب فعلى غير قصد، وإن أخطأ فهو الذى لا يحسن به غيره، لا يستوحش من الإساءة، ولا يفرح بالإحسان.
وقالوا: ستّ خصال تعرف في الجاهل، الغضب من غير شىء، والكلام في غير نفع، والفطنة في غير موضع، ولا يعرف صديقه من عدوّه، وإفشاء السرّ، والثّقة بكلّ أحد.
وقالوا: غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله، والعاقل إذا تكلّم بكلمة أتبعها مثلا، والأحمق إذا تكلم بكلمة أتبعها خلفا، الأحمق إذا حدّث ذهل، وإذا تكلم عجل، وإذا حمل على القبيح فعل.
وقال أبو يوسف: إثبات الحجة على الجاهل سهل، ولكن إقراره بها صعب.
وقال وهب بن منبّه: كان يقال للأحمق إذا تكلّم: فضحه حمقه، وإذا سكت فضحه عيّه، وإذا عمل أفسد، وإذا ترك أضاع، لا علمه يعينه، ولا علم غيره ينفعه، تودّ أمّه أنها ثكلته، وتتمنى امرأته أنها عدمته، ويتمنى جاره منه الوحدة، وتأخذ جليسه منه الوحشة.
ويستدلّ على الأحمق بأشياء، قالوا: من طالت قامته، وصغرت هامته، وانسدلت لحيته، كان حقيقا على من يراه أن يقرئه عن عقله السلام.
ويقال في التوراة: اللحية مخرجها من الدّماغ، فمن أفرط عليه طولها قلّ دماغه، ومن قلّ دماغه قلّ عقله، ومن قلّ عقله فهو أحمق.
وقالت أعرابيّة لقاض قضى عليها: صغر رأسك، فبعد فهمك، وانسدلت لحيتك، فتكوسج عقلك، وما رأيت ميتا يقضى بين حيين غيرك.(3/356)
وقال مسلمة بن عبد الملك لجلسائه: يعرف حمق الرجل في أربع، طول لحيته، وبشاعة كنيته، وإفراط شهوته، ونقش خاتمه، فدخل عليه رجل طويل اللحية، فقال: أمّا هذا فقد أتاكم بواحدة، فانظروا أين هو من الثّلاث؟ فقيل له: ما كنيتك؟
فقال: أبو الياقوت، فقيل له: ما نقش خاتمك؟ فقال: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ)
قيل: فأىّ الطعام أحبّ إليك؟ قال: الجلنجبين «1» ، فقال مسلمة:
فيه ما بعد كنيته، مع طول لحيته، مع نقش خاتمه، شك لمعتبر.
قال الشّعبىّ: خطب الحجاج يوم جمعة فأطال، فقام إليه أعرابىّ، فقال له:
إن الوقت لا ينتظرك وإنّ الربّ لا يعذرك، فأمر به فحبس، فأتاه أهله يشفعون فيه وقالوا: إنه مجنون، فقال الحجاج: إن أقرّ بالجنون خليت سبيله، فأتوه وسألوه ذلك، فقال: لا والله، لا أقول إن الله ابتلانى وقد عافانى، فبلغ كلامه الحجاج، فعظم في نفسه وأطلقه.
وقال الأصمعىّ: قلت لغلام من أبناء العرب: أيسرّك أن يكون لك مائة ألف وأنت أحمق؟ قال: لا والله، قلت: ولم؟ قال: أخاف أن يجنى علىّ حمقى جناية، فتذهب منّى، ويبقى حمقى.
والعرب تضرب المثل في الحمق بعجل بن لجيم، ويزعمون أنّه قيل له: إنّ لكل فرس جواد اسما، وإنّ فرسك هذا سابق فسمّه، ففقأ عينه وقال: سميته الأعور، وفيه يقول الشاعر(3/357)
رمتنى بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في الناس أحمق من عجل؟
أليس أبوهم عار «1» عين جواده؟ ... فسارت به الأمثال في الناس بالجهل!
ويضربون المثل في الحمق بهبنّقة القيسىّ، وهو يزيد بن ثروان، ويكنى أبا نافع، حكى أنه شرد له بعير، فقال: من جاء به فله بعيران، فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين؟ فقال: إنكم لا تعرفون فرحة الوجدان.
وقد رضى قوم بالجهل فقالوا: ضعف العقل أمان من الغمّ؛ وقالوا: ما سرّ عاقل قطّ؛ قال أبو الطيّب المتنبى
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وقال حكيم: ثمرة الدنيا السرور، ولا سرور للعقلاء؛ وقال المغيرة بن شعبة:
ما العيش إلّا في إلقاء الحشمة. وقال بكر بن المعتمر: إذا كان العقل سبعة أجزاء احتاج الى جزء من جهل ليقدم على الأمور، فإنّ العاقل أبدا متوان مترقبّ متوقّف متخوّف؛ قال النابغة الجعدىّ
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا
وقال آخر
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج
أخذه آخر فقال
من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللذّة الجسور
وقالوا: الجاهل ينال أغراضه، ويظفر بأرائه، ويطيع قلبه، ويجرى في عنان هواه، وهو برىء من اللوم، سليم من العيب، مغفور الزّلّات.(3/358)
وقالوا: الجاهل رخىّ الذرع، خالى البال، عازب الهمّ، حسن الظن، لا يخطر خوف الموت بفكره، ولا يجرى ألم الإشفاق على ذكره.
وقالوا: الجهل مطيّة المراح والمسرة، ومسرح المزاح والفكاهة، وحليف الهوى والتصابى، وصاحبه في ذمام من عهدة اللوم والعتب، وأمان من قوارص الذمّ والسبّ؛ قال بعض الشعراء
ورأيت الهموم في صحّة العقل ... فداويتها بإمراض عقلى
وقالوا: لو لم يكن من فضيلة الجهل، غير الإقدام، وورود الحمام، إذ هما من الشجاعة والبسالة، وسبب تحصيل المهابة والجلالة، لكفاه؛ قال أبو هلال العسكرىّ:
سألنى بعض الأدباء أىّ الشعراء أشدّ حمقا، قلت الذى يقول
أتيه على إنس البلاد وجنّها ... ولو لم أجد خلقا لتهت على نفسى
أتيه فلا أدرى من التّيه من أنا ... سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسى
فإن صدقوا أنى من الإنس مثلهم ... فما فيّ عيب غير أنّى من الإنس
ذكر ما قيل في الكذب
قال الله عزّوجلّ: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)
. وقال: (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ)
وقال في الكاذبين: (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والكذب فإنّ الكذب يهدى إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النّار» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «الكذب مجانب(3/359)
الإيمان» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صلّى وصام وزعم أنه مسلم، من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يجوز الكذب في جدّ ولا هزل» وقال:
«لا يكون المؤمن كذّابا» .
وقالت الحكماء: ليس لكاذب مروءة.
وقالوا: من عرف بالكذب لم يحسن صدقه.
وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: خلف الوعد ثلث النفاق.
وقال بعض الحكماء: الصدق منجيك وإن خفته، والكذب مرديك وإن أمنته.
قال عمرو بن العلاء القارىء: ساد عتبة بن ربيعة وكان مملقا، وساد أبو جهل وكان حدثا، وساد أبو سفيان وكان بخّالا، وساد عامر بن الطّفيل وكان عاهرا، وساد كليب بن وائل وكان ظلوما، وساد عيينة وكان محمّقا، ولم يسد قطّ كذاب، فصلح السؤدد مع الفقر والحداثة والبخل والعهر والظلم والحمق، ولم يصلح مع الكذب، لأن الكذب يعمّ الأخلاق كلّها بالفساد.
وقال يحيى بن خالد: رأيت شرّيب خمر نزع، ولصّا أقلع، وصاحب فواحش رجع، ولم أر كذابا رجع.
ويقال: الكذب مفتاح كلّ كبيرة، والخمر جماع كل شرّ.
وقيل: لا تأمننّ من يكذب لك أن يكذب عليك.
وقيل: الكذب والنفاق والحسد أثافىّ الذّلّ.(3/360)
وقال ابن عباس: حقيق على الله أن لا يرفع للكاذب درجة، ولا يثبّت له حجة.
وقال سليمان بن سعد: لو صحبنى رجل وقال: لا تشترط على إلا شرطا واحدا لقلت: لا تكذبنى.
وقال أبو حيان التّوحيدىّ: الكذب شعار خلق، ومورد رنق، وأدب سيّىء، وعادة فاحشة، وقلّ من استرسل فيه إلا ألفه، وقلّ من ألفه إلا أتلفه.
وقال غيره: الكذب أوضع الرذائل خطة، وأجمعها للمذمّة والمحطّة، وأكبرها ذلّا فى الدنيا، وأكثرها خزيا في الآخرة، وهو من أعظم علامات النفاق، وأقوى الدلائل على دناءة الأخلاق والأعراق، لا يؤتمن حامله على حال، ولا يصدّق إذا قال.
وقيل: لكل شىء آفة، والكذب آفة النطق.
وقال بعض الكرماء: لو لم أدع الكذب تأثّما، لتركته تكرّما.
وقال أرسطا طاليس: فضّل الناطق على الأخرس بالنطق، وزين النطق الصدق، فإذا كان الناطق كاذبا، فالأخرس خير منه.
وقال بعض الحكماء لولده: يا بنىّ إياك والكذب، فأنه يزرى بقائله، وإن كان شريفا في أصله، ويذلّه وإن كان عزيزا في أهله.
وقال الأحنف بن قيس: اثنان لا يجتمعان: الكذب والمروءة.
وقال بزرجمهر: الكاذب والميت سواء، لأن فضيلة النطق الصدق، فإذا لم يوثق بكلامه بطلت حياته.
وقال معاوية يوما للأحنف: أتكذب؟ فقال: والله ما كذبت مذ علمت أن الكذب شين.(3/361)
وقيل: لا يجوز للرجل أن يكذب لصلاح نفسه، فما عجز الصدق عن إصلاحه كان الكذب أولى بفساده. قال بعض الشعراء
ما أحسن الصدق والمغبوط قائله ... وأقبح الكذب عند الله والناس
وقالوا: احذر مصاحبة الكذّاب، فان اضطررت إليها فلا تصدّقه ولا تعلمه أنك كذبته، فينتقل عن مودّته، ولا ينتقل عن كذبه.
وقال هرمس: اجتنب مصاحبة الكذاب، فإنك لست منه على شىء يتحصّل، وإنما أنت معه على مثل السّراب يلمع ولا ينفع.
وقيل: الكذّاب شرّ من النّمّام، فإن الكذّاب يختلق عليك، والنّمام ينقل عنك. قال شاعر
إن النّموم أغطّى دونه خبرى ... وليس لى حيلة في مفترى الكذب
وقال آخر
لى حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذّاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتى فيه قليله
ووصف أعرابىّ كذابا فقال: كذبه مثل عطاسه، لا يمكنه ردّه.
وقال بعض الأعراب: عجبت من الكذّاب المشيد بكذبه، وإنما هو يدلّ الناس على عيبه، ويتعرّض للعقاب من ربّه، فالآثام له عادة، والأخبار عنه متضادّة، إن قال حقا لم يصدّق، وإن أراد خيرا لم يوفّق، فهو الجانى على نفسه بفعاله، والدّالّ على فضيحتها بمقالة، فما صحّ من صدقه نسب إلى غيره، وما صحّ من كذب غيره نسب إليه.(3/362)
ويقال: الكذب جماع النفاق، وعماد مساوىء الاخلاق، عار لازم، وذلّ دائم، يخيف صاحبه نفسه وهو آمن، ويكشف ستر الحسب عن لؤمه الكامن، وقال بعض الشعراء
لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو عادة السوء أو من قلّة الورع
وقال الأصمعىّ: قيل لرجل معروف بالكذب. هل صدقت؟ قال: أخاف أن أقول: «لا» فأصدق. وآفة الكذب النسيان. قال شاعر
ومن آفة الكذّاب نسيان كذبه ... وتلقاه ذا دهى إذا كان كاذبا
وقال علىّ بن اللّحام شاعر اليتيمة
تكذب الكذبة يوما ... ثم تنساها قريبا
كن ذكورا يا أبا يحيى ... إذا كنت كذوبا
وقال أبو تمّام
يا أكثر الناس وعدا حشوه خلف ... وأكثر الناس قولا حشوه كذب
وقال أحمد بن محمّد بن عبد ربّه
صحيفة أفنيت «ليت» بها و «عسى» ... عنوانها راحة الراجى إذا يئسا
وعد له هاجس في القلب قد برمت ... أحشاء صدرى به من طول ما هجسا
يراعة غرّنى منها وميض سنا ... حتى مددت إليها الكفّ مقتبسا
فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا
وقال آخر
وتقول لى قولا أظنّك صادقا ... فأحىء من طمع اليك وأذهب
فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلس ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب(3/363)
ذكر ما قيل في الغدر والخيانة
قال الله عزّوجلّ: (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) .
وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من أمّن رجلا ثم قتله وجبت له النار وإن كان المقتول كافرا» وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين رفع لكل غادر لواء وقيل: هذه غدرة فلان» .
وقالوا: من نقض عهده، ومنع رفده، فلا خير عنده.
وقالوا: الغالب بالغدر مغلول، والناكث للعهد ممقوت مخذول.
وقالوا: من علامات النفاق، نقض العهد والميثاق.
وقالوا: لا عذر في الغدر. والعذر يصلح في كل المواطن، ولا عذر لغادر ولا خائن.
وفي بعض الكتب المنزّلة: إن مما تعجّل عقوبته من الذنوب ولا يؤخر: الإحسان يكفر، والذّمة تحفر. قال شاعر
أخلق بمن رضى الخيانة شيمة ... أن لا يرى إلا صريع حوادث
ما زالت الأرزاء تلحق بؤسها ... أبدا بغادر ذمّة أو ناكث
وقالوا: الغدر ضامن العثرة، قاطع ليد النّصرة.
ويقال: من تعدّى على جاره، دلّ على لؤم نجاره.(3/364)
وذكر أن عيسى صلوات الله عليه مرّ برجل وهو يطارد حيّة وهى تقول له:
والله لئن لم تذهب عنّى، لأنفخنّ عليك نفخة أقطّعك بها قطعا، فمضى عيسى عليه السّلام في شأنه، ثم عاد فرأى الحية في جونة الرجل محبوسة، فقال لها:
ويحك! أين ما كنت تقولين؟ قالت: يا روح الله، إنه خلف لى وغدر، وإنّ سمّ غدره أقتل له من سمّى.
ذكر أخبار أهل الغدر وغدراتهم المشهورة
أعرف الناس في الغدر آل الأشعث بن قيس بن معد يكرب، وقد عدّت لهم غدرات، فمنها: غدر قيس بن معد يكرب بمراد، وكان بينهم عهد أن لا يغزوهم إلى انقضاء شهر رجب، فوافاهم قبل الأمد بكندة، وجعل يحمل عليهم ويقول
أقسمت لا أنزل حتّى يهزموا ... أنا ابن معد يكرب فاستسلموا
فارس هيجا ورئيس مصدم
فقتل قيس بن معد يكرب وارتد الأشعث عن الإسلام. وغدر الأشعث ببنى الحارث بن كعب، وكان قد غزاهم فأسروه، ففدى نفسه بمائتى بعير، فأعطاهم مائة وبقى عليه مائة، فلم يؤدّها، وجاء الإسلام فهدم ما كان في الجاهليّة.
وغدر محمد بن الأشعث بن قيس بمسلم بن عقيل بن أبى طالب، وغدر أيضا بأهل طبرستان وكان عبيد الله بن زياد ولّاه إياها، فصالح أهلها على أن لا يدخلها ورحل عنهم، ثم عاد إليهم غادرا، فأخذوا عليه الشّعاب، وقتلوا ابنه أبا بكر.
وغدر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالحجّاج لما ولّاه خراسان، وخرج عليه وادعى الخلافة، وكان بينهم من الوقائع ما نذكره في التاريخ في أخبار الحجاج(3/365)
إن شاء الله تعالى، وكانت الدائرة على عبد الرحمن، وكلّهم ورثوا الغدر عن معديكرب، فإنه غدر مهرة، وكان بينه وبينهم عهد إلى أجل، فغزاهم ناقضا لعهدهم، فقتلوه وبقروا بطنه وملأوه بالحصا.
وغدرت ابنة الضّيزن بن معاوية بأبيها صاحب الحصن ودلّت سابور على طريق فتحه، ففتحه وقتل أباها وتزوّجها، ثم قتلها. وقد ذكرنا ذلك في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في المبانى. ومن ذلك ما فعله النعمان بسنمّار، وقد ذكرناه أيضا فى خبر بناء الخورنق.
وممن اشتهر بالغدر عمرو بن جرموز: غدر بالزّبير بن العوّام، وقتله بوادى السباع، ونذكر ذلك إن شاء الله تعالى في حرب الجمل.
ومن الغدر الشنيع ما فعله عضل والقارة، روى أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما وخيرا فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقّهوننا في الدّين، ويقرئوننا القرءان، ويعلّموننا شرائع الإسلام، فبعث معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعة نفر من أصحابه، وهم مرثد بن أبى مرثد الغنوىّ، وخالد بن البكير حليف بنى عدىّ ابن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبى الأقلح أخو بنى عمرو بن عوف، وخبيب بن عدىّ أخو بنى جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدّثنة أخو بنى بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق، ومعتّب بن عبيد أخو عبد الله لأمّه، وأمّر عليهم مرثد ابن أبى مرثد، وقيل أمّر عليهم عاصما، فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع:
- ماء لهذيل- غدروا بهم واستصرخوا عليهم هديلا، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلّا(3/366)
الرجال في أيديهم السيوف، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، فأما مرثد وخالد وعاصم ومعتّب فقالوا: والله ما نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا، فقاتلوا حتى قتلوا، وأما زيد وخبيب وعبد الله فلانوا ورغبوا في الحياة، وأعطوا بأيديهم، فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بمرّ الظّهران، انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن، ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وقدموا بخبيب وزيد الى مكة فباعوهما فابتاع خبيبا حجر بن أبى إهاب التميمىّ حليف بنى نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ليقتله بالحارث، وأما زيد بن الدّثنة فابتاعه صفوان بن أميّة ليقتله بأمية بن خلف، وروى أن خبيبا لما حصل عند بنات الحارث استعار من إحداهن موسى يستحدّ بها فما راع المرأة إلا صبىّ لها يدرج، وخبيب قد أجلس الصبىّ على فخذه، والموسى في يده، فصاحت المرأة، فقال خبيب: أتحسبين أنى أقتله؟ إن الغدر ليس من شأننا، فقالت المرأة: ما رأيت بعد أسيرا قطّ خيرا من خبيب، لقد رأيته وما بمكّة من ثمرة، وان في يده قطفا من عنب يأكله، إن كان إلا رزقا رزقه الله خبيبا، ولما خرج بخبيب من الحرم ليقتلوه، قال: ذرونى أصلّى ركعتين، ثم قال: لولا أن يقال: جزع لزدت، وما أبالى على أى شقّى كان مصرعى، وهذه القصّة نذكرها إن شاء الله تعالى بما هو أبسط من هذا فى السّيرة النبويّة في سيرة مرثد إلى الرجيع.
قيل: أغار خيثمة بن مالك الجعفىّ على حىّ من بنى القين فاستاق منهم إبلا فلحقوه ليستنقذوها منه، فلم يطمعوا فيه، ثم ذكر يدا كانت لبعضهم عنده، فخلّى عما كان فى يده، وولّى منصرفا، فنادوه وقالوا: إن المفازة أمامك، ولا ماء معك، وقد فعلت(3/367)
جميلا، فانزل ولك الذّمام والحباء فنزل فلما اطمأنّ وسكن، واستمكنوا منه غدروا به فقتلوه، ففى ذلك تقول عمرة ابنته
غدرتم بمن لو كان ساعة غدركم ... بكفّيه مفتوق الغرارين قاضب
أذادكم عنه بضرب كأنّه ... سهام المنايا كلّهن صوائب
وتلاحى بنو مقرون بن عمرو بن محارب، وبنو جهم بن مرّة بن محارب، على ماء لهم فغلبتهم بنو مقرون فظهرت عليهم، وكان في بنى جهم شيخ له تجربة وسنّ، فلما رأى ظهورهم، قال: يا بنى مقرون، نحن بنو أب واحد، فلم نتفانى؟ هلمّوا إلى الصلح، ولكم عهد الله تعالى وميثاقه وذمّة آبائنا، أن لا نهيجكم أبدا ولا نزاحمكم فى هذا الماء، فأجابتهم بنو مقرون إلى ذلك، فلما اطمأنوا ووضعوا السلاح عدا عليهم بنو جهم فنالوا منهم منالا عظيما، وقتلوا جماعة من أشرافهم، ففى ذلك يقول أبو ظفر الحارثىّ
هلّا غدرتم بمقرون وأسرته ... والبيض مصلته والحرب تستعر
لما اطمأنوا وشاموا في سيوقهم ... ثرتم إليهم وعرّ الغدر مشتهر
غدرتموهم بأيمان مؤكدة ... والورد من بعده للغادر الصّدر
هذا ما قيل في الغدر.
وأما الخيانة، فقد نهى الله تعالى عنها فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .
وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» .
وقيل: من ضيّع الأمانة، ورضى بالخيانة، فقد برىء من الدّيانة.(3/368)
وقال حكيم: لو علم مضيّع الأمانه، ما في النّكث والخيانه، لقصّر عنهما عنانه.
وقالوا: من خان مان، ومن مان هان، وتبرّأ من الإحسان.
قيل دخل شهر بن حوشب وهو من جلّة القرّاء وأصحاب الحديث على معاوية، وبين يديه خرائط فيها مال، قد جمعت لتوضع في بيت المال، فقعد على خريطة منها، وأخذها، ومعاوية ينظر إليه، فلما رفعت الخرائط، فقد من عددها خريطة، فأعلم الخازن بذلك معاوية، فقال: هى محسوبة لك فلا تسأل عن آخذها، ففيه يقول بعض الشعراء
لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهر؟
وقال المنصور لعامل بلغه عنه خيانته: يا عدوّ الله، وعدوّ أمير المؤمنين، وعدوّ المسلمين، أكلت مال الله، وخنت خليفة الله، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن عيال الله، وأنت خليفة الله، والمال مال الله، فمن أين نأكل إذا، فضحك وأطلقه، وأمر أن لا يولّى عملا بعدها.
وسرق رجل في مجلس أنو شروان جاما من ذهب وهو يراه، فتفقّده الشرابىّ، فقال: والله لا يخرج أحد حتى يفتّش، فقال له أنو شروان: لا تتعرّض لأحد، فقد أخذه من لا يردّه، ورآه من لا ينمّ عليه.
وحكى أنّ بعض التّجار أودع عند قاض بمعرّة النعمان وديعة، وغاب مدّة، فلما رجع، طالب بها، فأنكرها القاضى، فتشفع إليه برؤساء بلده في ردّها، فما زالوا به حتى أقرّبها، وادّعى أنها سرقت من حرزه، فاستحلفه المودع فحلف، فقال ابن الدّويدة في ذلك
لا يصدق القاضى الخئون إذا ادّعى ... عدم الوديعة من حصين المودع(3/369)
إن قال قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعنى لو تعى!
أو قال قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع
وقال ابن الحجاج
وأدعوهم إلى القاضى عساهم ... إذا وقع اليمين يحلّقونى
وأضيع ما يكون الحقّ عندى ... إذا عزم الغريم على اليمين
ذكر ما قيل في الكبر والعجب
قال الله عزّوجلّ: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)
. وقال تعالى: (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)
. وقال: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ)
. وقال: (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)
. وقال: (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) .
وناهيك بهذا زجرا.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة، من في قلبه حبّة من خردل من كبر» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من تعظّم في نفسه، واختال في مشيته لقى الله عزّوجلّ وهو عليه غضبان» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» .
وروى: أن عبد الله بن سلّام، مرّ بالسوق يحمل حزمة حطب، فقيل له:
أليس قد أغناك الله عن هذا؟ قال: بلى! ولكنى أردت أن أقمع به الكبر، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبّة من كبر» .(3/370)
وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ما وجد أحد في نفسه كبرا إلا من مهانة يجدها في نفسه.
وقالوا: من قل لبّه، كثر عجبه.
وقالوا: عجب المرء بنفسه، أحد حسّاد عقله.
وقال أزدشير بن بابك: ما الكبر إلا فضل حمق لم يدر صاحبه أين يضعه فصرفه إلى الكبر.
ومن كلام لابن المعتزّ: لما عرف أهل التقصير حالهم، عند أهل الكمال استعانوا بالكبر ليعظّم صغيرا، ويرفع حقيرا، وليس بفاعل.
وقال أكثم بن صيفىّ: من أصاب حظا من دنياه، فأصاره ذلك الى كبر وترفّع، فقد علم أنه نال فوق ما يستحقّ، ومن أقام على حاله فقد علم أنه نال ما يستحقّ، ومن تواضع وغادر الكبر، فقد علم أنه نال دون ما يستحقّ.
وقال على رضى الله عنه: عجبت للمتكبر الذى كان بالأمس نطفة، وهو غدا جيفة.
وقيل: مرّ بعض أولاد المهلّب بمالك بن دينار وهو يخطر، فقال له: يا بنىّ، لو خفّضت بعض هذه الخيلاء! ألم يكن أحسن بك من هذه الشّهرة التى قد شهرت بها نفسك؟ فقال له الفتى: أو ما تعرف من أنا؟ قال: بلى! والله أعرفك معرفة جيّدة، أوّلك نطفة مذره، وآخرك جيفة قذره، وأنت بين ذلك حامل عذره، فأرخى الفتى ردينه وكفّ مما كان يفعله، وطأطأ رأسه، ومضى مسترسلا.
وقال الواقدىّ: دخل الفضل بن يحيى ذات يوم على أبيه وهو يتبختر في مشيته، فقال له يحيى: يا أبا عبد الله، إن البخل والجهل مع التواضع، أزين بالرجل من الكبر مع السخاء والعلم؛ فيالها من حسنة غطّت على عيبين عظيمين، ويا لها(3/371)
من سيّئة غطّت على حسنتين كبيرتين، ثم أومأ اليه بالجلوس وقال: احفظه يا عبد الله، فإنه أدب كبير أخذناه عن العلماء.
ومن الكبر المستهجن ما روى: أن وائل بن حجر أتى النبى صلّى الله عليه وسلم، فأقطعه أرضا، وقال لمعاوية: اعرض هذه الأرض عليه واكتبها له، فخرج مع وائل في هاجرة شاوية، ومشى خلف ناقته، وقال له: أردفنى على عجز راحلتك، فقال: لست من أرداف الملوك، قال: فأعطنى نعليك، فقال: ما بخل يمنعنى يابن أبى سفيان، ولكن أكره أن يبلغ أقيال اليمن أنك لبست نعلى، ولكن امش فى ظل ناقتى، فحسبك بها شرفا. وقيل: إن وائلا أدرك زمن معاوية ودخل عليه فأقعده معه على السرير وحدّثه.
والعرب تجعل جذيمة الأبرش الغاية في الكبر، وروى: أنه كان لا ينادم أحدا ترفّعا وكبرا، ويقول: إنما ينادمنى الفرقدان. ومنه قول متمّم:
وكنا كندمانى جذيمة حقبة
قيل: إنما أراد الفرقدين، لا كما ذكره الرواة أنهما مالك وعقيل.
وقيل: كان أبو ثوابة أقبح الناس كبرا، روى: أنّه قال لغلامه اسقنى ماء، فقال: نعم، قال: إنما يقول: «نعم» من يقدر على أن يقول: «لا» وأمر بضربه، ودعا أكّارا فكلمه، فلما فرغ دعا بماء، وتمضمض استقذارا لمخاطبته.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
ولا تعجبا أن تؤتيا فتكلّما ... فما حشى الأقوام شرّا من الكبر(3/372)
قال الجاحظ: المذكورون بالكبر من قريش، بنو مخزوم، وبنو أميّة، ومن العرب، بنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدس، وأما الأكاسرة فكانوا لا يعدّون الناس إلا عبيدا، وأنفسهم إلا أربابا؛ والكبر في الأجناس الذليلة أرسخ، ولكن القلّة والذّلة مانعتان من ظهور كبرهم، ومن قدر من الوضعاء أدبى قدرة، ظهر من كبره ما لا خفاء به، ولم أر ذا كبر قطّ علا من دونه، إلا وهو يذلّ لمن فوقه بمقدار ذلك ووزنه.
قال: أما بنو مخزوم، وبنو أمية، وبنو جعفر بن كلاب، واختصاصهم بالتّيه، فإنهم أبطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة، ولو كان في قوى عقولهم فضل عن قوى دواعى الحميّة فيهم، لكانوا كبنى هاشم في تواضعهم وإنصافهم من دونهم.
وقال أبو الوليد الأعرابىّ.
ولست بتيّاه إذا كنت مثريا ... ولكنه خلقى إذا كنت معدما
وأن الذى يعطى من المال ثروة ... إذا كان نذل الوالدين تعظّما
ومن المتكبرين، عمارة بن حمزة، حكى عنه: أنه دخل على المهدىّ، فلما استقر به الجلوس، قام رجل كان المهدىّ قد أعدّه له ليتهكّم به، فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: من ظلمك؟ قال: عمارة غصبنى ضيعتى، وذكر ضيعة من أحسن ضياع عمارة وأكثرها خراجا، فقال المهدىّ لعمارة: قم فاجلس مع خصمك، فقال: يا أمير المؤمنين، ما هو لى بخصم، إن كانت الضّيعة له، فلست أنازعه فيها، وإن كانت لى فقد وهبتها له، ولا أقوم من مجلس شرّفنى به أمير المؤمنين، فلما انصرف المجلس، سأل عمارة عن صفة الرجل، وما كان لباسه، وأين كان موضع(3/373)
جلوسه، وكان من تيهه أنه إذا أخطأ يمرّ على خطئه تكبرا عن الرجوع ويقول:
نقض وإبرام في ساعة واحدة، الخطأ أهون منه.
ومنهم من أهلكه الكبر وأذلّه. كان خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد القسرىّ أميرا على العراق، وبلغ من هشام بن عبد الملك محلا رفيعا، فأفسد أمره العجب والكبر، وأدناه إلى الهلكة، وعذّب حتّى مات، وذلك أنه كان إذا ذكر هشام عنده، قال: ابن الحمقاء! فسمعها رجل من أهل الشام، فقال لهشام: إنّ هذا البطر الأشر الكافر لنعمتك ونعمة ابيك وإخوتك، يذكرك بأسوأ الذّكر، قال:
لعله يقول: الأحول، قال: لا، ولكنّه يقول: ما لا تلتقى به الشّفتان، قال: لعله يقول: ابن الحمقاء، فأمسك الشامىّ، فقال هشام قد بلغنى كلّ ذلك عنه؛ وكان خالد يقول: والله ما إمارة العراق مما تشرّفنى، فبلغ ذلك هشاما، فكتب إليه:
بلغنى أنك يابن النصرانية تقول: إن إمارة العراق لا تشرّفك وأنت دعىّ بجيلة القليلة الذليلة، والله إنى لأظن أن أول من يأتيك صيفىّ بن قيس فيشدّ يدك إلى عنقك، قال خالد بن صفوان بن الأهتم: لم تزل أفعال خالد حتى عزله هشام وعذّبه، وقتل ابنه يزيد بن خالد، فرأيت في رجله شريطا قد شدّه به الصّبيان يجرّونه، فدخلت إلى هشام يوما، فحدّثته فأطلت، فتنفّس، وقال: يا خالد! كان أحبّ إلىّ قربا وألذّ عندى حديثا منك، يعنى خالد القسرى، قال: فانتهزتها ورجوت أن أشفع فتكون لى عند خالد يدا، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما يمنعك من استئناف الصّنيعة، فقد أدّبته بما فرط منه، فقال: هيهات! إن خالدا أوجف فأعجف، وأدلّ فأملّ، وأفرط فى الإساءة، فأفرطنا في المكافأة، فحلم الأديم، ونغل الجرح، وبلغ السّيل الزّبى، والحزام الطّبيين، ولم يبق فيه مستصلح، ولا للصّنيعة عنده موضع، عد إلى حديثك.(3/374)
ومنهم: من أفرط به الكبر إلى الكفر، حكى: أن سعيد بن زرارة مرّت به امرأة فقالت له: يا عبد الله، كيف الطريق إلى مكان كذا؟ فقال لها: أمثلى يكون من عبيد الله.
ومنهم: عبيد الله بن زياد بن ظبيان، قال له رجل من قومه وقد رأى منه ما أعجبه: كثّر الله فينا مثلك، فقال: لقد كلّفتم الله شططا.
ومن أشعار المتكبّرين التيّاهين قول بعضهم
أتيه على جنّ البلاد وإنسها
الأبيات، وقد تقدّمت في الحمقى.
وقال آخر
ألقنى في لظى فإن أحرقتنى ... فتيقّن أن لست بالياقوت
صنع النسج كلّ من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت
قال ابن حبارة الحرّانىّ المنجنيقىّ يردّ عليه
أيّها المدّعى الفخار دع الفخر ... لذى الكبرياء والجبروت
نسج داود لم يفد ليلة الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السّمند «1» فى لهب النا ... ر مزيل فضيلة الياقوت
وكذاك النّعام يلتقم الجمر ... وما الجمر للنّعام بقوت!
ومما هجى به أهل التكبّر
، قول جعيفران يهجو سعيد بن مسلم بن قتيبة
أمّ سعيد لم ولدتيه ... ملوّثا بالكبر والتّيه؟
ليتك إذ جئت به هكذا ... حين خريتيه أكلتيه(3/375)
ذكر ما قيل في الحرص والطمع
قال الله عزّوجل لنهيّه صلّى الله عليه وسلم: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أربع من الشقاء الخ ... عدّ منها الحرص والأمل» وقال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم فأفسداها أشدّ من حرص المرء على المال «1» » . وقال: «يشيب ابن آدم وتشبّ منه اثنتان: «الحرص على المال، والحرص على العمر» وقال: «إيّاكم والطمع فإنه الفقر الحاضر» .
ومن كلام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: «الطمع مورد غير مصدر، وضامن غير وفىّ، وكلما عظم قدر الشىء المتنافس فيه، عظمت الرّزية لفقده، والأمانىّ تعمى البصائر. أزرى بنفسه من استشعر الطمع، واستولت عليه الأمانىّ.
وقال بعضهم: الحرص ينقص من قدر الإنسان، ولا يزيد في رزقه.
وقال قتيبة: إن الحريص استعجل الذّلة، قبل إدراك البغية.
وقيل: لا راحة لحريص، ولا غنى لذى طمع.
وقيل: إن كعبا لقى عبد الله بن سلام، فقال: يابن سلام، من أرباب العلم؟
قال: الذين يعملون به، قال: فما أذهب العلم من قلوب العلماء بعد إذ علموه ووعوه؟ قال: الطمع، وشره النفس، وطلب الحوائج الى الناس. قال الأصمعىّ:
سمعت أعرابيّا يقول: عجبت للحريص المستكبر، المستقلّ لكثير ما في يده، المستكثر(3/376)
لقليل ما في يد غيره، حتّى طلب الفضل، بذهاب الأصل، فركب مفاوز البرارى، ولجج البحار، معرّضا نفسه للمات، وماله للآفات، ناظرا إلى من سلم، غير معتبر بمن عدم.
قال يزيد بن الحكم الثّقفىّ.
رأيت السّخىّ النفس، يأتيه رزقه ... هنيئا، ولا يعطى على الحرص جامع
وكلّ حريص لن يجاوز رزقه ... وكم من موفّى رزقه وهو وادع
وقالوا: مصارع الألباب تحت ظلال الطمع. ويقال
الحرّ عبد ما طمع ... والعبد حرّ ما قنع
وقالوا: أخرج الطمع من قلبك، تحلّ القيد من رجلك. وقال عمرو بن مالك الحارثىّ
الحرص للنفس فقر والقنوع غنى ... والقوت إن قنعت بالقوت يجزيها
والنفس لو أن ما في الأرض حيز لها ... ما كان إن هى لم تقنع بكافيها
وقال ابن هرمة
وفي اليأس عن بعض المطامع راحة ... ويا ربّ خسر أدركته المطامع
وقال هرمة بن خشرم
وبعض رجاء المرء ما ليس نائلا ... عناء وبعض اليأس أعفى وأروح
وقال مكنف بن معاوية التيمىّ
ترى المرء يأمل ما لا يرى ... ومن دون ذلك ريب الأجل
وكم آيس قد أتاه الرّجاء ... وذى طمع قد لواه الأمل
وقال آخر
طمعت فيما وعدتك المنى ... وليس فيما وعدت مطمع(3/377)
وثقت بالباطل من قولها ... وليس حقّا كلّ ما تسمع
وإنما موعدها بارق ... فى كل حين خلّب يلمع
ويضرب المثل في الطمع «بأشعب» . قيل له: ما بلغ من طمعك؟ فقال للقائل له: لم تقل هذا إلا وفي نفسك خير تصنعه بى؛ وقيل: إنه لم يمت شريف قطّ من أهل المدينة إلا استعدى أشعب على وصيّه أو وارثه وقال له: احلف أنه لم يوص لى بشىء قبل موته؛ ووقف على رجل يعمل طبقا من الخيزران، فقال له: وسّعه قليلا، قال الخيزرانىّ: كأنك تريد أن تشتريه؟ قال: لا، ولكن ربما يشتريه بعض الأشراف فيهدى إلىّ فيه شيئا؛ وسأله سالم بن عبد الله بن عمر رضى الله عنه عن طمعه، قال: قلت لصبيان مرة: اذهبوا، هذا سالم قد فتح بيت صدقة عمر حتى يطعمكم تمرا، فلما أحضروا ظننت أنه كما قلت لهم، فعدوت فى إثرهم؛ وقيل له: ماذا بلغ من طمعك؟ قال: أرى دخان جارى فأثرد «1» عليه؛ وقيل له أيضا: ما بلغ من طمعك؟ قال: ما رأيت عروسا بالمدينة تزفّ إلا كنست بيتى ورششته طمعا أن تزفّ إلىّ؛ وقيل له: هل رأيت أطمع منك؟ قال: نعم، كلب أمّ حومل، تبعنى فرسخين، وأنا أمضغ كندرا «2» ، ولقد حسدته على ذلك.
ذكر ما قيل في الوعد والمطل
روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «العدة دين» .
وقال بعض القرشيّين: من خاف الكذب، أقلّ من المواعيد.
وقيل: أمران لا يسلمان من الكذب: كثرة المواعيد، وشدّة الاعتذار.(3/378)
وقالوا: خلف الوعد، خلق الوغد.
وقال المهلّب لبنيه: يا بنىّ، إذا غدا عليكم الرجل أو راح مسلّما، فكفى بذلك تقاضيا.
قال الشاعر
اروح لتسليم عليك وأغتدى ... فحسبك بالتسليم منى تقاضيا
كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء وباليأس المصرّح ناهيا
وقيل: الوعد إذا لم يشفعه إنجاز يحقّقه، كان كلفظ لا معنى له، وجسم لا روح فيه. وقالوا: الخلف ألأم من البخل، لأنه من لم يفعل المعروف، لزمه ذمّ اللؤم «1» ، وذمّ الخلف، وذمّ العجز. قال بعض الشعراء
وعدت فأكذبت المواعيد جاهدا ... وأقلعت إقلاع الجهام بلا وبل
وأجررت لى حبلا طويلا تبعته ... ولم أدر أن اليأس في طرف الحبل
وقال أبو تمّام
وما نفع من قد مات بالأمس صاديا ... إذا ما سماء اليوم طال انهمارها
وما العرف بالتّسويف الا كخلّة ... تسلّيت عنها حين شطّ مزارها
والعرب تضرب المثل بمواعيد عرقوب، وكان رجلا من العماليق وله في ذلك حكايات، فمنها: أنه أتاه أخ له، يسأله شيئا، فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها، فلما أطلعت، أتاه الرجل للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحا، فلما أبلحت، أتاه، فقال: دعها حتى تصير زهوا، فلما أزهت، قال: دعها حتى(3/379)
تصير رطبا، فلما أرطبت، قال: دعها حتى تصير تمرا، فلما أتمرت، عمد إليها عرقوب، فجذّها ولم يعط أخاه منها شيئا.
وفيه يقول الأشجعىّ
وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب «1»
وقال كعب بن زهير بن أبى سلمى
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
وقال السّكّيت للمهدىّ: يا أمير المؤمنين، لو كان الوعد يستنزل بالإهمال والسكون، لشكرتك القلوب بالضمير، ولنظرت إلى فضلك العيون بالأوهام، فقال المهدىّ:
هذا جزاء التفريط فيما يكسب الأجر، ويدخر الشكر، وأمر بقضاء حاجته.
وقال أعرابىّ: العذر الجميل، أحسن من المطل الطويل، فإن أردت الإنعام فأنجح، وإن تعذّرت الحاجة فأفصح.
وقال بعض كرماء العرب: لأن أموت عطشا، أحبّ إلىّ من أن أخلف موعدا.
وقالوا: من وعد فأخلف، لزمته ثلاث مذمّات: ذمّ اللّؤم، وذمّ الخلف، وذمّ الكذب؛ وقال بعض الشعراء
ولا خير في وعد إذا كان كاذبا ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل
فإن تجمع الآفات فالبخل شرّها ... وشرّ من البخل المواعيد والمطل
قال بعض الأعراب: فلان له مواعيد عواقبها المطل، وثمارها الخلف، ومحصولها اليأس.(3/380)
وقال آخر: فلان له وعد مطمع، ومطل مؤيس، وأنت منه أبدا بين يأس وطمع، فلا بذل مريح، ولا منع صريح.
وقال الثعالبىّ: أوّل من أخلف المواعيد ولم يف بشىء منها: إسماعيل بن صبيّح كاتب الرشيد، وما كان الرؤساء يعرفون قبله المواعيد الكاذبة
ذكر ما قيل في العىّ والحصر
قال الله عزّوجلّ: (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)
وقال تعالى إخبارا عن فرعون عند افتخاره على موسى بالبيان: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ)
قال أهل التفسير: إن موسى عليه السّلام لما سمع هذا القول قال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي)
الآية، فقال الله تعالى: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) .
وقيل: حدّ العىّ معنى قصير، يحويه لفظ طويل. وقال أكثم بن صيفىّ: هو أن تتكلّم فوق ما تقتضيه حاجتك. وقالوا: الفقير الناطق، أغنى من الغنىّ الساكت.
وقال كسرى: الصّمت خير من غىّ الكلام.
وقالوا: فضّل الإنسان على ما عداه من الحيوان بالبيان، فإذا نطق ولم يفصح عاد بهيما.
وقالوا: العىّ داء دواؤه الخرس. ومن علامات العىّ الاستعانة، وهى أن ترى المخاطب إذا كلّ لسانه عند مقاطع كلامه، يقول للمخاطب: اسمع منّى، أو سمعت لى، وافهم عنى، وأشباه ذلك.(3/381)
ومنهم من يقول: قولى كذا، أعنى به كذا، ولا يريد التفسير، ولكنه يعيد كلامه بصيغة أخرى تكون غير مراده الأوّل ليفهم عنه.
ومن عيوب اللسان، التّمتمة، والفأفأة، والعقلة، والحبسة، واللّفف، والرّتّة، والغمغمة، والطّمطمة، واللّكنة، والغنّة، واللّثغة. فالتمتمة، قال الأصمعىّ: إذا تعتع في التاء فهو تمتام، وإذا ردّد في الفاء فهو فأفاء، قال الراجز
ليس بفأفاء ولا تمتام ... ولا كثير الهجر في الكلام
والعقلة: التواء اللسان عند الكلام؛ والحبسة: تعذّر النطق، ولم تبلغ حدّ الفأفاء ولا التمتام، ويقال: إنها تعرض أوّل الكلام، فإذا مرّ فيه انقطعت. واللّفف:
إدخال بعض الكلام في بعص؛ قال الراجز
كانّ فيه لففا إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق
والرّتّة: اتصال بعض الكلام ببعض دون إفادة؛ والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا يتبيّن لك تقطيع الحروف، ولا تفهم معناه؛ والطمطمة: أن يكون الكلام شبيها بكلام العجم، وهى حميريّة، وقالوا: هى إبدال الطاء بالتاء لأنهما من مخرج واحد، فيقول: السّلتان والشّيتان، وأشباه ذلك، قيل: وكانت في لسان زياد بن سلمى، وكان خطيبا شاعرا كاتبا؛ واللّكنة: إدخال بعض حروف العرب في حروف العجم، وتشترك فيها اللغة التركية والنبطيّة، وهى إبدال الهاء حاء، وانقلاب العين همزة، وكانت في لسان عبيد الله بن زياد، وصهيب الرومىّ صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقيل: إن مولى لزياد، قال له: أيها الأمير، أحدوا لنا همار وهش:
يريد: أهدوا لنا حمار وحش، فلم يفهم زياد عنه، وقال: ويلك! ماذا تقول؟
قال: أحدوا لنا أيرا: يريد عيرا، فقال زياد: أرجعنا إلى الأول فهو خير؛ والغنّة:(3/382)
أن يشرب الصوت الخيشوم؛ والخنّة: ضرب منها؛ والترخيم: حذف بعض الكلمة لتعذّر النطق بها؛ واللّثغة: إبدال ستة حروف بغيرها، وهى الهمزة والراء والسين والقاف والكاف واللام، فالتى تعرض للهمزة، فهى إبدالها عينا، فإذا أراد أن يقول: أنت، قال: عنت وهى مستعملة في لسان التّكرور، وأما التى تعرض فى الراء، فهى ستة أحرف، فمنهم من يجعلها غينا معجمة فيقول (عمغ) : يريد عمر، وهى غالبة على لسان أهل دمشق، وإذا اجتمعت الراء والغين في كلمة كقولهم:
رغيف، قال: (غريف) ، وفغرت بمكان فرغت: فيبدلون كلّ حرف بالآخر، قيل: وكانت في لسان محمد بن شبيب الخارجىّ، وواصل بن عطاء المعتزلىّ، وكان لاقتداره على الكلام، وغزارة مادته، يتجنب النطق بها، وفيه يقول الشاعر من ابيات
ويجعل البرّ قمحا في تصرّفه ... وجانب الرّاء حتى احنال للشّعر
ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاد بالغيث إشفاقا من المطر
ومنهم من يجعلها عينا مهملة، فيقول في أزرق: أزعق، وهى في لسان عوامّ أهل دمشق، ومنهم من يجعلها ياء، فيقول في عمر: عمى، ومنهم من يبدلها بالظاء أخت الطاء، ومنهم من يبدلها همزة، فإذا أراد أن يقول: رأيت، قال: أأيت، وأما التى تعرض للسين، فإنهم يبدلونها ثاء، فيقولون: بثم الله، ويثرة الله: إذا أرادوا بسم الله، ويسرة الله، أو أشباه ذلك، وهى مستحسنة في الجوارى والغلمان. قال الشاعر
وأهيف كالهلال شكوت وحدى ... إليه لحسنه وأطلت بثّى
وقلت له فدتك النفس صلنى ... تحز فيّ الثواب فقال بثّى(3/383)
وأما التى تعرض للقاف، فإن صاحبها يجعل القاف طاء، فإذا أراد أن يقول:
قال، وقلت، نطق: بطال، وطلت، وهى نبطيّة، وكانت في لسان أبى مسلم صاحب الدعوة، وعبيد الله بن زياد؛ ومنهم من يجعلها كافا فيقول: كال وكلت؛ وأمّا التى تعرض للكاف، فمنهم من يجعلها همزة، فيقول: أأف، ومنهم من يبدلها تاء، فيقول: تان، إذا أراد: كان، وأما التى تعرض في اللام، فمنهم من يبدلها ياء، فيقول: اعتييت، بمعنى: اعتللت، ويقول في جمل: جمى، وإذا أقسم بالله، يقول: ويّاه، ومنهم من يبدل الخاء المعجمة حاء مهملة، فيقول في خوخ: حوح؛ وتستحسن في الغلمان والجوارى، ومنهم من يبدل الجيم ضادا، فإذا اجتمع لأحد فى كلمة جيم وضاد، مثل ضجر، ونضج، قال: جضر، ونجض. والحمد لله وحده!
كمل الجزء الثالث من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى في أوّل الجزء الرابع منه:
«الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثانى في المجون والنوادر والفكاهات والملح» والحمد لله وحده وصلّى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل(3/384)
فهرس الجزء الرابع
من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى
.... صفحة
الباب الثالث فى المجون والنوادر والفكاهات والملح 1
ذكر مزاحات رسول الله صلّى الله عليه وسلم 3
- ذكر من اشتهر بالمزاح من الصحابة رضوان الله عليهم 3
- ذكر شىء من مجون الأعراب 7
- من نوادر القضاة 9
- من نوادر النحاة 13
- من نوادر المتنبئين 14
- من نوادر المغفلين والحمقى 16
- من نوادر النبيذيين 17
- من نوادر النساء والجوارى 18
- من نوادر العميان 22
- من نوادر السؤال 23
- من نوادر من اشتهر بالمجون 23
- من نوادر أشعب وأخباره 24
- من نوادر أبى دلامة 36
- من نوادر أبى صدقة 48
- من نوادر الأقيشر 52
- من نوادر ابن سيابة 56
- من نوادر مطيع بن إياس الكنانى وأخباره 57
- من نوادر أبى الشبل 63
- من نوادر حمزة بن بيض الحنفى 65
- من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه 68
- ذكر ما ورد في كراهة المزح 72
- من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه 74
الباب الرابع فى الخمر وتحريمها، وآفاتها، وجناياتها، وأسمائها، وأخبار من تنزّه عنها فى الجاهلية، ومن حدّ فيها من الأشراف، ومن اشتهر بها، ولبس ثوب الخلاعة بسببها، وما قيل فيها من جيّد الشعر، وما قيل في وصف آلاتها وآنيتها، وما قيل في مبادرة اللذات، وما وصفت به المجالس، وما يجرى هذا المجرى 102
ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها 76
- ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبينته السنة 81
- ما قيل في إباحة المطبوخ 82
- آفات الخمر وجناياتها 83
- أسماء الخمر من حيث تعصر الى أن تشرب 86
- أخبار من تنزه عنها في الجاهلية وتركها ترفعا عنها 88(مقدمةج 4/1)
... صفحة
ذكر من حدّ فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها: 90
من حدّ فيها من الأشراف 90
- من شربها منهم واشتهر بها 92
- من افتخر بشربها وسبائها 103
ذكر شىء مما قيل فيها من جيّد الشعر: 107
ما قيل فيها على سبيل المدح لها 107
- ما قيل في وصفها وتشبيهها 108
- ما قيل في أفعالها 112
- ما وصفت به غير ما قدّمناه 113
- ما قيل فيها اذا مزجت بالماء 115.
ذكر ما قيل في مبادرة اللذات ومجالس الشراب وطيها: 118
ما وصفت به مجالس الشرب 119
- ما قيل في طىّ مجالس الشراب 121
ذكر ما قيل في وصف آلات الشراب وأوانيها: 121
ما قيل في الراووق 122
- ما وصفت به زقاق الخمر 123
- ما وصفت به الأباريق 123
- ما وصفت به الكاسات والأقداح 124
الباب الخامس فى الندمان والسقاة 126
ما قيل في السقاة 129
الباب السادس فى الغناء والسماع وما ورد في ذلك من الحظر والإباحة وما استدل به من رأى ذلك ومن سمع الغناء من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ومن التابعين ومن الأئمة والعبّاد والزهّاد، ومن غنّى من الخلفاء وأبنائهم والأشراف والقوّاد والأكابر، وأخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية الى العربية، ومن أخذ عنهم، ومن اشتهر بالغناء وأخبار القيان 160
ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والاباحة 133
- ما قيل في تحريم الغناء وما استدل به من رأى ذلك 133
- دليلهم من الكتاب العزيز 134
- دليلهم من السنة 134
- أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم 135
- أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى 136
- ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة 137
- ما استدلوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية 138
- ما ورد في الضرب بالآلة 140
- فى اليراع 142
- فى القصب والأوتار 143
- فى المزامير والملاهى 145
- ذكر ما ورد في توهين(مقدمةج 4/2)
ما استدلوا به على تحريم الغناء والسماع 147
- ما احتجوا به من الآيات 147
- ما احتجوا به من الحديث 151
- ذكر أقسام السماع وبواعثه 167
- ذكر العوارض التى يحرم معها السماع 171
- العارض الأوّل 171
- الثانى في الآلة 172
- الثالث في نظم الصوت 172
- الرابع في المستمع 173
- العارض الخامس 174
- ذكر آثار السماع وآدابه 174
- من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم 190
- من سمع الغناء من الأئمة والعباد والزهاد 194
- من غنى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه 200
- من غنى من الخلفاء 200
- وممن غنى من خلفاء الدولة العباسية 201
- أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة ويد في هذا الفن 205
- من غنى من الأشراف والعلماء رحمهم الله 227
- من غنى من الأعيان والأكابر والقوّاد ممن نسبت له صنعة في الغناء 231
ذكر أخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية الى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء: 239
أخبار سعيد بن مسجح 239
- أخبار سائب خاثر 243
- أخبار طويس 246
- أخبار عبد الله بن سريج 249
- أخبار معبد 262
- أخبار الغريض وما يتصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة 267
- أخبار محمد ابن عائشة 280
- أخبار ابن محرز 287
- أخبار مالك بن أبى السمح 288
- أخبار يونس الكاتب 292
- أخبار حنين 293
- أخبار سياط 295
- أخبار الأبجر 297
- أخبار أبى زيد الدلال 298
- أخبار عطرّد 302
- أخبار عمر الوادى 304
- أخبار حكم الوادى 305
- أخبار ابن جامع 306
- أخبار عمرو بن أبى الكنات 308
- أخبار أبى المهنأ مخارق 312
- أخبار يحيى بن مرزوق المكىّ 320
- أخبار أحمد بن يحيى المكى الملقب بطنين 321
- أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أمية 322
- أخبار يزيد حوراء 323
- أخبار فليح بن أبى العوراء 326
- أخبار إبراهيم الموصلى عفا الله عنه 328
- نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى 335.(مقدمةج 4/3)
الجزء الرابع
من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اللهم صل أفضل صلاة على أفضل خلقك سيدنا محمد وآله وسلّم.
[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]
[تتمة القسم الثالث في المدح والهجو و ... ]
الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثانى (فى المجون والنوادر والفكاهات والملح)
وهذا الباب مما تنجذب النفوس اليه، وتشتمل الخواطر عليه؛ فإن فيه راحة للنفوس إذا تعبت وكلّت، ونشاطا للخواطر إذا سئمت وملّت؛ لأن النفوس لا تستطيع ملازمة الأعمال، بل ترتاح إلى تنقل الأحوال. فإذا عاهدتها بالنوادر فى بعض الأحيان، ولا طفتها بالفكاهات في أحد الأزمان، عادت إلى العمل الجدّ بنشطة جديدة، وراحة في طلب العلوم مديدة.
وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلّت عميت» .
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: أجمّوا «1» هذه القلوب والتمسوا لها طرق الحكمة، فإنها تملّ كما تملّ الأبدان، والنفس مؤثرة للهوى، آخذة بالهوينى، جانحة إلى(4/1)
اللهو، أمّارة بالسوء، مستوطنة بالعجز، طالبة للراحة، نافرة عن العمل؛ فإن «1» أكرهتها أنضيتها، وإن أهملتها أرديتها.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجذه. وكان محمد بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه.
وقال هشام بن عبد الملك: قد أكلت الحلو والحامض حتى ما أجد لواحد منهما طعما، وشممت الطّيب حتى ما أجد له رائحة، وأتيت النساء حتى ما أبالى أمرأة أتيت أم حائطا؛ فما وجدت شيئا ألذّ إلىّ من جليس تسقط بينى وبينه مؤنة «2» التحفّظ.
وقال أحمد بن عبد ربه: الملح نزهة النفس، وربيع القلب، ومرتع السمع، ومجلب الراحة، ومعدن السرور. وقال أيضا: إن في بعض الكتب المترجمة أن يوحنّا وشمعون كانا من الحواريّين، فكان يوحنا لا يجلس مجلسا إلا ضحك وأضحك من حوله، وكان شمعون لا يجلس مجلسا إلا بكى وأبكى من حوله. فقال شمعون ليوحنا:
ما أكثر ضحكك! كأنك قد فرغت من عملك! فقال له يوحنا: ما أكثر بكاك! كأنك قد يئست من ربك. فأوحى الله إلى عيسى بن مريم عليه السّلام: أنّ أحبّ السيرتين إلىّ سيرة يوحنا.
والعرب إذا مدحوا الرجل قالوا: هو ضحوك السنّ، بسّام العشيّات «3» ، هشّ الى الضيف. وإذا ذمّته قالت: هو عبوس الوجه، جهم المحيّا، كريه المنظر، حامض الوجه «كأنما وجهه بالخل منضوح» . وكأنما أسعط خيشومه بالخردل.
وقيل لسفيان: المزاح هجنة؛ فقال: بل سنّة، لقوله عليه الصلاة والسلام:
«إنى لأمزح ولا أقول إلا الحق» ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.(4/2)
ذكر مزاحات رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وقد مزح رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فمن ذلك: أنه قال صلّى الله عليه وسلم لرجل استحمله: «نحن حاملوك على ولد الناقة» يريد: البعير. وقال صلّى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: «الحقى زوجك ففى عينه بياض» . فسعت المرأة نحو زوجها مرعوبة؛ فقال لها: مادهاك؟ فقالت: قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّ في عينك بياضا؛ فقال: إن في عينى بياضا لا لسوء. وأتته عجوز أنصاريّة فقالت: يا رسول الله، ادع لى بالمغفرة. فقال لها: «أما علمت أنّ الجنة لا يدخلها العجز» ! فصرخت؛ فتبسّم صلّى الله عليه وسلم وقال لها: «أما قرأت (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) .
ونظر عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أعرابىّ قد صلّى صلاة خفيفة، فلما قضاها قال: اللهم زوّجنى بالحور العين؛ فقال عمر: يا هذا! أسأت النقد، وأعظمت الخطبة.
ذكر من اشتهر بالمزاح من الصحابة رضوان الله عليهم
كان أشهرهم بالمزاح رضى الله عنهم نعيمان، وهو أحد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم البدريّين، وله رضى الله عنه مزاحات مشهورة، منها ما روى: أنه خرج مع أبى بكر الصّدّيق إلى بصرى، وكان في الحملة سويبط، وهو بدرىّ أيضا، وكان سويبط على الزاد؛ فجاءه نعيمان فقال له: أطعمنى؛ قال: لا، حتى يأتى أبو بكر.
فقال نعيمان: والله لأغيظنّك. وجاء إلى أناس جلبوا ظهرا، فقال ابتاعوا منى غلاما عربيا فارها إلا أنه دعّاء، له لسان، لعله يقول: أنا حرّ؛ فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوه،(4/3)
لا تفسدوا علىّ غلامى. قالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص. فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم! هذا هو. فقالوا: قد اشتريناك. فقال سويبط: هو كاذب، أنا رجل حرّ؛ فقالوا: قد أخبرنا خبرك، ووضعوا في عنقه حبلا وذهبوا به. فجاء أبو بكر رضى الله عنه فأخبر بذلك، فذهب هو وأصحابه، فردّوا القلائص على أربابها وأخذوه. وأخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلم بالقصة فضحك منها حولا.
ومن مزاحاته: أنه أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جرّة عسل اشتراها من أعرابىّ، وأتى بالأعرابىّ إلى باب النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: خذ الثمن من هاهنا. فلما قسمها النبىّ صلّى الله عليه وسلم نادى الأعرابىّ: ألا أعطى ثمن عسلى؟! فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إحدى هنات نعيمان» . وسأله: لم فعلت هذا؟ فقال: أردت برّك يا رسول الله، ولم يكن معى شىء. فتبسّم النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأعطى الأعرابىّ حقّه.
ومن مزاحاته أيضا: أنه مرّ يوما بمخرمة بن نوفل الزّهرىّ، وهو ضرير، فقال له: قدنى حتى أبول، فأخذ بيده حتى إذا كان في مؤخّر المسجد قال له:
اجلس؛ فجلس مخرمة ليبول؛ فصاح الناس: يا أبا المسور، أنت في المسجد. فقال:
من قادنى؟ فقيل له: نعيمان. قال: لله علىّ أن أضربه بعصاى إن وجدته. فبلغ ذلك نعيمان، فجاء يوما فقال لمخرمة: يا أبا المسور، هل لك في نعيمان؟ قال نعم.
قال: هو ذا يصلى. وأخذ بيده وجاء به إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه وهو يصلّى، فقال: هذا نعيمان؛ فعلاه مخرمة بعصاه؛ فصاح به الناس: ضربت أمير المؤمنين. فقال: من فادنى؟ قالوا: نعيمان؛ فقال: لا جرم لا عرضت له بسوء أبدا.(4/4)
ومنهم ابن أبى عتيق، وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهم. وكان ذا ورع وعفاف وشرف، وكان كثير المجون، وله نوادر مستظرفة، منها: أنه لقى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: ما تقول فى إنسان هجانى بشعر، وهو:
أذهبت مالك غير متّرك ... فى كل مؤنسة وفي الخمر «1»
ذهب الإله بما تعيش به ... وبقيت وحدك غير ذى وفر
فقال عبد الله بن عمر: أرى أن تأخذ بالفضل وتصفح. فقال له عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن: والله أرى غير ذلك. فقال: وما هو؟ قال: أرى أن أنيكه. فقال ابن عمر: سبحان الله! ما تترك الهزل! وافترقا. ثم لقيه بعد ذلك فقال له: أتدرى ما فعلت بذلك الإنسان؟ فقال: أىّ إنسان؟ قال: الذى أعلمتك أنه هجانى. قال:
ما فعلت به؟ قال: كل مملوك لى حرّ إن لم أكن نكته. فأعظم ذلك عبد الله بن عمر واضطرب له. فقال له: امرأتى والله التى قالت الشعر وهجتنى به. وكانت امرأته أمّ إسحاق «2» بنت طلحة بن عبيد الله.
وقد مدح الشعراء اللعب في موضعه، كما مدح الجدّ في موضعه؛ فقال أبو تمّام:
الجدّ شيمته وفيه فكاهة ... طورا ولا جدّ لمن لم يلعب
وقال الأبيرد رحمة الله عليه:
اذا جدّ عند الجدّ أرضاك جدّه ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله(4/5)
ومن مجون عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ما حكى أنّ جاريته قالت له:
إن فلانا القارىء، وكان يظهر النسك، قد قطع علىّ الطريق وآذانى ويقول لى:
أنا أحبّك. فقال لها: قولى له: وأنا أحبّك أيضا، وواعديه المنزل؛ ففعلت وأدخلته المنزل؛ وكان عبد الله قد واعد جماعة من أصحابه ليضحكوا من الرجل. ودخلت الجارية الى البيت الذى فيه الرجل، فدعاها فاعتلّت عليه؛ فوثب إليها [فاحتملها «1» وضرب بها الأرض؛ فدخل عليه ابن أبى عتيق وأصحابه وقد تورّكها؛ فخجل وقام وقال: يا فسّاق، ما تجمّعتم هاهنا إلا لريبة. فقال له ابن أبى عتيق: استر علينا ستر الله عليك. ثم لم يرتدع عن العبث بها، فشكت ذلك الى سيّدها؛ فقال لها: هيّئى من الطعام طحن ليلة الى الغداة ففعلت، ثم قال لها: عديه الليلة، فإذا جاء فقولى له:
إنّ وظيفتى الليلة طحن هذا كله، ثم اخرجى الى البيت واتركيه، ففعلت. فلما دخل طحنت الجارية قليلا، ثم قالت له: أدر الرحى حتى أفتقد سيّدى؛ فاذا نام وأمنّا أن يأتينا أحد، صرت إلى ما تحبّ، ففعل؛ ومضت الجارية الى مولاها، وأمر ابن أبى عتيق عدّة من مولياته أن يتراوحن على سهر ليلتهنّ ويتفقّدن أمر الطّحن ويحثثن عليه، ففعلن وجعلن ينادين الفتى كلما كفّ عن الطحن: يا فلانة إنّ مولاك مستيقظ والساعة يعلم أنك قد كففت عن الطحن، فيقوم إليك بالعصا كعادته مع من كانت نوبتها قبلك إذا هى نامت وكفّت عن الطحن. فلم يزل كلما سمع ذلك الكلام منهن اجتهد في العمل والجارية تتفقّده وتقول له: استيقظ مولاى والساعة ينام فأصير الى ما تحبّ وهو يطحن، حتى أصبح وفرغ القمح. فأتته الجارية بعد فراغه فقالت له: قد أصبح فانج بنفسك. فقال: أو قد فعلتها يا عدوّة الله!(4/6)
وخرج تعبا نصبا، وأعقبه ذلك مرضا شديدا أشرف منه على الموت، وعاهد الله ألّا يعود الى كلام الجارية، فلم تر منه بعد ذلك شيئا تكرهه. قال: وتعشّى عبد الله ليلة ومعه رجل من الأنصار، فوقع حجر في الدار ووقع آخر وثالث؛ فقال للجارية:
اخرجى فانظرى: أذّنوا المغرب أم لا؛ فخرجت وجاءت بعد ساعة، وقالت: قد أذّنوا وصلّوا. فقال الرجل الذى كان عنده: أليس قد صلّينا قبل أن تدخل الجارية؟
قال: بلى، ولكن لو لم أرسلها تسأل عن ذلك لرجمنا الى الغداة، أفهمت؟! قال:
نعم، قد فهمت. قال وسمع عبد الله بن أبى عتيق قول عمر بن أبى ربيعة.
من رسولى الى الثّريّا فإنى «1» ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
فركب بغلته من المدينة، وسار يريد مكة، فلما بلغ ذا الحليفة «2» قيل له: أحرم؛ قال:
ذو الحاجة لا يحرم، وجاء حتى دخل على الثريّا. فقال لها: ابن عمك يقول:
ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
ثم ركب بغلته وعاد.
ذكر شىء من مجون الأعراب
سئل أعرابىّ عن جارية له يقال لها زهرة، فقيل له: أيسرّك أنك الخليفة وأن زهرة ماتت؟ فقال: لا والله! تذهب الأمة وتضيع الأمّة. وجد أعرابىّ مرآة وكان قبيح الصورة، فنظر فيها فرأى وجهه فاستقبحه، فرمى بها وقال: لشرّ ما طرحك أهلك. وقيل لأعرابىّ: لم يقال: باعك الله في الأعراب؟ فقال: لأنّا نجيع كبده، ونعرى جلده، ونطيل كدّه. وتزوّج أعرابىّ على كبر سنه، فقيل له(4/7)
فى ذلك؛ فقال: أبادره باليتم، قبل أن يبادرنى بالعقوق. ومرّ أعرابىّ وفي يده رغيف برجل في يده سيف، فقال: بعنى هذا السيف بهذا الرغيف؛ فقال: أمجنون أنت؟ فقال الأعرابىّ: ما أنكرت منى؟ أنظر أيهما أحسن أثرا في البطن.
وحكى أن المهدىّ خرج للصيد فغلبه فرسه حتى انتهى به الى خباء لأعرابىّ، فقال: يا أعرابىّ، هل من قرى؟ قال نعم، وأخرج له فضلة من خبز ملّة فأكلها وفضلة من لبن فسقاه، ثم أتى بنبيذ في زكرة «1» فسقاه قعبا «2» . فلما شرب قال: أتدرى من أنا؟
قال: لا والله. قال: أنا من خدم الخاصّة؛ قال: بارك لك الله في موضعك.
ثم سقاه آخر؛ فلمّا شربه قال: أتدرى من أنا؟ قال: نعم، زعمت أنك من خدم الخاصة؛ قال: بل أنا من قوّاد أمير المؤمنين؛ فقال له الأعرابىّ: رحبت بلادك؛ وطاب مزادك ومرادك. ثم سقاه قدحا ثالثا؛ فلما فرغ منه قال: يا أعرابىّ، أتدرى من أنا؟ قال: زعمت أخيرا أنك من قوّاد أمير المؤمنين؛ قال: لا ولكنى أمير المؤمنين. فأخذ الأعرابىّ الزكاة فأوكاها «3» وقال: والله لئن شربت الرابع لتقولنّ:
إنك لرسول الله؛ فضحك المهدىّ. ثم أحاطت بهم الخيل، فنزل أبناء الملوك والأشراف؛ فطار قلب الأعرابىّ؛ فقال له المهدىّ: لا بأس عليك! وأمر له بصلة. فقال: أشهد أنك صادق، ولو ادّعيت الرابعة لخرجت منها.
ودخل أعرابىّ على يزيد بن المهلّب وهو على فرشه والناس سماطان، فقال:
كيف أصبح الأمير؟ قال يزيد: كما تحبّ. فقال الأعرابىّ: لو كنت كما أحبّ كنت أنت مكانى وأنا مكانك؛ فضحك يزيد.(4/8)
ذكر شىء من نوادر القضاة
قيل: أتى عدىّ بن أرطاة شريحا القاضى ومعه امرأة له من أهل الكوفة يخاصمها اليه؛ فلما جلس عدىّ بين يدى شريح، قال عدىّ: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط. قال: إنى امرؤ من أهل الشام؛ قال: بعيد الدار. قال: وإنى قدمت العراق؛ قال: خير مقدم. قال: وتزوّجت هذه المرأة؛ قال: بالرفاء والبنين. قال: وإنها ولدت غلاما؛ قال: ليهنك الفارس. قال: وقد أردت أن أنقلها إلى دارى؛ قال: المرء أحق بأهله. قال: كنت شرطت لها دارها؛ قال:
الشرط أملك. قال: اقض بيننا؛ قال: قد فعلت. قال: فعلى من قضيت؟
قال: على ابن أمّك.
ودخل على الشعبىّ في مجلس قضائه رجل وامرأته، وكانت المرأة من أجمل النساء، فاختصما اليه، فأدلت المرأة بحجتها، وقويت بيّنتها. فقال للزوج: هل عندك من دافع؟ فأنشأ يقول:
فتن الشّعبىّ لمّا ... رفع الطّرف إليها
فتنته بدلال ... وبخطّى حاجبيها
قال للجلواز «1» قرّب ... ها وقدّم شاهديها
فقضى جورا على الخص ... م ولم يقض عليها
قال الشعبىّ: فدخلت على عبد الملك بن مروان؛ فلما نظر إلىّ تبسّم وقال:
فتن الشعبىّ لما ... رفع الطرف اليها
ثم قال: ما فعلت بقائل هذه الأبيات؟ قلت: أوجعته ضربا يا أمير المؤمنين بما انتهك من حرمتى في مجلس الحكومة وما افترى به علىّ. قال: أحسنت!.(4/9)
وأحضر رجل امرأته الى بعض قضاة البصرة، وكانت حسنة المنتقب، قبيحة المسفر؛ فمال القاضى لها على زوجها وقال: يعمد أحدكم الى المرأة الكريمة فيتزوّجها ثم يسىء اليها. ففطن الرجل لميله اليها فقال: أصلح الله القاضى، قد شككت فى أنها امرأتى، فمرها تسفر عن وجهها؛ فوقع ذلك بوفاق من القاضى، فقال لها:
اسفرى رحمك الله؛ فسفرت عن وجه قبيح. فقال القاضى لمّا نظر الى قبح وجهها:
قومى عليك لعنة الله! كلام مظلوم، ووجه ظالم.
قيل: بينا رقبة بن مصقلة القاضى في حلقته، إذ مرّ به رجل غليظ العنق؛ فقال له بعض جلسائه: يا أبا عبد الله، هذا أعبد الناس. فقال رقبة: إنى لأرى لهذا عنقا ما دقّقتها»
العبادة. قال: فمضى الرجل وعاد قاصدا اليهم. فقال رجل لرقبة:
يا أبا عبد الله، أخبره بما قلت حتى لا تكون غيبة؛ قال: نعم، أخبره أنت حتى تكون نميمة. ودخل رقبة الى المسجد الأعظم فألقى نفسه الى حلقة قوم، ثم قال: قتيل فالوذج رحمكم الله! قالوا: عند من؟ قال: عند من حكم في الفرقة وقضى في الجماعة، يعنى: بلال بن أبى بردة.
واختصم رجلان الى إياس بن معاوية وهو قاضى البصرة لعمر بن عبد العزيز فى مطرف خزّو أنبجانىّ، وادّعى كل واحد منهما أن المطرف له وأن الأنبجانىّ لصاحبه.
فدعا إياس بمشط وماء، فبلّ رأس كل واحد منهما، ثم قال لأحدهما: سرّح رأسك فسرّحه، فخرج في المشط عفر المطرف، وفي مشط الآخر عفر الأنبجانىّ؛ فقال:
يا خييث! الأنبجانىّ لك، فأقرّ، فدفع المطرف لصاحبه. وقال رجل لإياس: هل ترى علىّ من بأس إن أكلت تمرا؟ قال لا. قال: فهل ترى علىّ من بأس ان أكلت معه كيسوما؟ قال لا. قال: فإن شربت عليهما ماء؟ قال: جائز.(4/10)
قال: فلم تحرّم السكر، وإنما هو ما ذكرت لك؟ قال له إياس لو صببت عليك ماء هل كان يضرّك؟ قال لا. قال: فلو نثرت عليك ترابا هل كان يضرّك؟ قال لا.
قال: فإن أخذت ذلك فخلطته وعجبته وجعلت منه لبنة عظيمة فضربت بها رأسك هل كان يضرّك؟ قال: كنت تقتلنى. قال: فهذا مثل ذاك.
دعا الرشيد أبا يوسف القاضى فسأله عن مسألة فأفتاه؛ فأمر له بمائة ألف درهم.
فقال] إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بتعجيلها قبل الصبح! فقال: عجلّوها له.
فقيل: إن الخازن في بيته والأبواب مغلقة. فقال أبو يوسف: وقد كنت في بيتى والدروب مغلقة، فلما دعيت فتحت. فقال له الرشيد: بلغنى أنك لا ترى لبس السواد. فقال: يا أمير المؤمنين، ولم وليس في بدنى شىء أعزّ منه؟ قال: وما هو؟
قال: السواد الذى في عينىّ.
وسأل الرشيد الأوزاعىّ عن لبس السواد، فقال: لا أحرّمه، ولكنى أكرهه.
قال: ولم؟ قال: لأنه لا تجلى فيه عروس، ولا يلبّى فيه محرم، ولا يكفّن فيه ميت. فالتفت الرشيد الى أبى يوسف وقال: ما تقول أنت في السواد؟ قال:
يا أمير المؤمنين، النور في السواد. فاستحسن الرشيد ذلك. ثم قال: وفضيلة أخرى يا أمير المؤمنين، قال: وما هى؟ قال: لم يكتب كتاب الله إلا به؛ فاهتزّ الرشيد لذلك.
تقدّم رجل الى أبى حازم عبد الحميد بن عبد العزيز السّكونىّ قاضى المعتمد، وقدّم أباه يطالبه بدين له عليه، فأقرّ الأب بالدين، وأراد الابن حبس والده. فقال القاضى: هل لأبيك مال؟ قال: لا أعلمه. قال: فمذكم داينته بهذا المال؟ قال:
منذ كذا وكذا. قال: قد فرضت عليك نفقة أبيك من وقت المداينة؛ فحبس الابن وخلّى الأب.(4/11)
كان عبد الملك بن عمر قاضى الكوفة، فهجاه هذيل الأشجعىّ بأبيات منها:
اذا ذات دلّ كلّمته بحاجة ... فهمّ بأن يقضى تنحنح أو سعل
فكان عبد الملك يقول: قاتله الله! والله لربما جاءتنى النحنحة وأنا في المتوضّأ فأذكر ما قال فأردّها.
وقيل: شهد سلمى الموسوس عند جعفر بن سليمان على رجل، فقال: هو- أصلحك الله- ناصبىّ، رافضىّ، قدرىّ، مجبرىّ، يشتم الحجاج بن الزبير الذى يهدم الكعبة على علىّ بن أبى سفيان. فقال له جعفر: ما أدرى على أى شىء أحسدك: على علمك بالمقالات، أم على معرفتك بالأنساب! فقال: أصلح الله الأمير، ما خرجت من الكتّاب، حتى حذفت هذا كله ورائى.
واستفتى بعض القضاة، وقد نسبت الى القاضى أبى بكر بن قريعة، فقيل له:
ما يقول سيدنا القاضى أيده الله في رجل باع حجرا «1» من رجل، فحين رفع ذنبها ليقلّبه خرجت منها ريح مصوّتة اتصلت بحصاة ففقأت عين المشترى؟ أفتنا في الدية والردّ يرحمك الله. فأجاب: لم تجر العادة بمثل هذه البدائع، بين مشتر وبائع؛ فلذلك لم يثبت في كتب الفقهاء، ولم يستعمل في فتوى العلماء؛ لكن هذا وما شاكله يجرى مجرى الفضول، المستخرج من أحكام العقول، والقول فيه- وبالله العصمة من الزلل والخطل-:
أن دية ما جنته الحجر ملغى في الهدر، عملا بقول النبىّ المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، «جرح العجماء جبار» ؛ لا سيما والمشترى عند كشفه لعورتها، استثار كامن سورتها. وعلى البائع لها ارتجاعها، وردّ ما قبض من ثمنها، لأنه دلّس حجرا مضيقا منجنيقها. وإذا كانت السهام طائشة، فهى من العيوب الفاحشة. وكيف يمتنع ردّها وأغراضها نواظر الحدق، وقلّما يستظهر المقلّبون الخيل بالدّرق.(4/12)
ذكر شىء من نوادر النّحاة
قدّم رجل من النحاة خصما الى القاضى، وقال: لى عليه مائتان وخمسون درهما.
فقال لخصمه: ما تقول؟ فقال: أصلح الله القاضى، الطلاق لازم له، إن كان له إلا ثلاثمائة، وإنما ترك منها خمسين ليعلم القاضى أنه نحوىّ.
ومرّ أبو علقمة بأعدال قد كتب عليها: ربّ سلّم لأبو فلان؛ فقال لأصحابه:
لا إله إلا الله! يلحنون ويربحون.
وجاء رجل الى الحسن البصرىّ فقال: ما تقول في رجل مات فترك أبيه وأخيه؟ فقال الحسن: ترك أباه وأخاه. فقال: ما لأباه وأخاه؛ فقال الحسن: ما لأبيه وأخيه. فقال الرجل: إنى أراك كلما طاوعتك تخالفنى!. وقيل سكر هارون بن محمد ابن عبد الملك ليلة بين يدى الموفّق، فقام لينصرف فغلبه السكر فنام في المضرب. فلما انصرف الناس جاء راشد الحاجب فأنبهه وقال: يا هارون انصرف، فقال: هارون لا ينصرف، فأعاد راشد القول على هارون، فقال هارون: سل مولاك فهو يعلم أن هارون لا ينصرف. فسمع الموفّق فقال: هارون لا ينصرف؛ فتركه راشد.
فلما أصبح الموفّق وقف على أن هارون بات في مضربه؛ فأنكر على راشد، وقال:
يا راشد، يبيت في مضربى رجل لا أعلم به! فقال: أنت أمرتنى بهذا، قلت:
هارون لا ينصرف. فضحك وقال: ما أردت إلا الإعراب وظننت أنت غيره.
وقيل: قدم العريان بن الهيثم على عبد الملك، فقيل له: تحفّظ من مسلمة فإنه يقول: لأن يلقمنى رجل بحجر أحبّ إلىّ من أن يسمعنى رجل لحنا. فأتاه العريان ذات يوم فسلّم عليه. فقال له مسلمة: كم عطاءك؟ قال: ألفين. فنظر الى رجل عنده وقال له: لحن العراقىّ؛ فلم يفهم الرجل عن مسلمة، فأعاد مسلمة القول على(4/13)
العريان وقال: كم عطاؤك؟ فقال: ألفان. فقال: ما الذى دعاك الى اللحن أوّلا والإعراب ثانيا؟ قال: لحن الأمير فكرهت أن أعرب، وأعرب فأعربت.
فاستحسن قوله وزاد في عطائه.
ووقف نحوىّ على بقّال يبيع الباذنجان فقال له: كيف تبيع؟ قال: عشرين بدانق، فقال: وما عليك أن تقول: عشرون بدانق؟ فقدّر البقّال أنه يستر يده، فقال ثلاثين بدانق. فقال: وما عليك أن تقول: ثلاثون؟ فما زال على ذلك الى أن بلغ سبعين، فقال: وما عليك أن تقول: سبعون؟ فقال: أراك تدور على الثمانون وذلك لا يكون أبدا.
ذكر شىء من نوادر المتنبئين
قيل: ادّعى رجل النبوّة في أيام المهدى، فأدخل عليه؛ فقال له: الى من بعثت؟
فقال: ما تركتمونى أذهب الى من بعثت اليهم، فإنى بعثت بالغداة وحبستمونى بالعشىّ. فضحك المهدىّ منه وأمر له بجائزة وخلّى سبيله.
وتنبأ رجل وادّعى أنه موسى بن عمران، فبلغ خبره الخليفة، فأحضره وقال له: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران الكليم. قال: وهذه عصاك التى صارت ثعبانا! قال نعم. قال: فألقها من يدك ومرها أن تصير ثعبانا كما فعل موسى. قال: قل أنت (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)
كما قال فرعون حتى أصيّر عصاى ثعبانا كما فعل موسى.
فضحك الخليفة منه واستظرفه. وأحضرت المائدة، فقيل له: أكلت شيئا؟ قال:
ما أحسن العقل! لو كان لى شىء آكله، ما الذى كنت أعمل عندكم؟ فأعجب الخليفة وأحسن اليه.
وادّعت امرأة النبوّة على عهد المأمون؛ فأحضرت اليه فقال لها: من أنت؟
قالت: أنا فاطمة النبيّة. فقال لها المأمون: أتؤمنين بما جاء به محمد صلّى الله عليه(4/14)
وسلم؟ قالت: نعم، كل ما جاء به فهو حق. فقال المأمون: فقد قال محمد صلّى الله عليه وسلم «لا نبىّ بعدى» . قالت: صدق عليه الصلاة والسلام، فهل قال:
لا نبية بعدى؟ فقال المأمون لمن حضره: أمّا أنا فقد انقطعت، فمن كانت عنده حجة فليأت بها، وضحك حتى غطّى على وجهه.
وادّعى رجل النبوّة؛ فقيل له: ما علامات نبوّتك؟ قال: أنبئكم بما في نفوسكم.
قالوا: فما في أنفسنا؟ قال: فى أنفسكم أننى كذبت ولست بنبىّ.
وتنبأ رجل في أيام المأمون، فأتى به إليه؛ فقال له: أنت نبىّ؟ قال نعم. قال:
فما معجزتك؟ قال: ما شئت. قال: أخرج لنا من الأرض بطّيخة. قال: أمهلنى ثلاثة أيام. قال المأمون: بل الساعة أريدها. قال: يا أمير المؤمنين، أنصفنى، أنت تعلم أن الله ينبتها في ثلاثة أشهر، فلا تقبلها منى في ثلاثة أيام! فضحك منه، وعلم أنه محتال، فآستتابه ووصله.
وادّعى آخر النبوّة في زمانه فطالبه بمعجزة، فقال: أطرح لكم حصاة في الماء فأذيبها حتى تصير مع الماء شيئا واحدا. قالوا: قد رضينا. فأخرج حصاة كانت معه فطرحها في الماء فذابت. فقالوا: هذه حيلة، ولكن أذب حصاة غيرها نأتيك بها نحن. فقال لهم: لا تتعصّبوا، فلستم أضلّ من فرعون، ولا أنا أعظم من موسى، ولم يقل فرعون موسى: لا أرضى بما تفعله بعصاك حتى أعطيك عصا من عندى تجعلها ثعبانا. فضحك المأمون منه وأجازه.
وادّعى رجل النبوّة في أيام المعتصم، فأحضر بين يديه؛ فقال له: أنت نبى؟ قال نعم. قال: إلى من بعثت؟ قال: إليك. قال: أشهد إنك لسفيه أحمق. قال: إنما يذهب إلى كل قوم مثلهم. فضحك منه وأمر له بشىء.(4/15)
وادّعى آخر النبوّة في أيام المأمون؛ فقال له: ما معجزتك؟ قال: سل ما شئت؛ وكان بين يديه قفل، فقال: خذ هذا القفل فافتحه. فقال: أصلحك الله، لم أقل إنى حدّاد. فضحك منه واستتابه وأجازه.
وادّعى آخر النبوّة، فطلب ودعى له بالسيف والنّطع؛ فقال: ما تصنعون؟ قالوا:
نقتلك، قال: ولم تقتلوننى؟ قالوا: لأنك ادّعيت النبوّة. قال: فلست أدّعيها.
قيل له: فأىّ شىء أنت؟ قال: أنا صدّيق. فدعى له بالسياط؛ فقال: لم تضربوننى؟
قالوا: لادّعائك أنك صدّيق؛ قال: لا أدّعى ذلك. قالوا: فمن أنت؟ قال:
من التابعين لهم بإحسان. فدعى له بالدّرة. قال: ولم ذلك؟ قالوا: لادّعائك ما ليس فيك؛ فقال: ويحكم! أدخل إليكم وأنا نبىّ تريدون أن تحطّونى في ساعة واحدة الى مرتبة العوامّ! لا أقلّ من أن تصبروا «1» علىّ الى غد حتى أصير لكم ما شئتم.
وادّعى آخر النبوّة، وسمّى نفسه نوحا، فنهاه صديق له عن ذلك فلم ينته؛ فأخذه السلطان وصلبه؛ فمرّ به صديقه الذى كان ينهاه، فقال: يا نوح! ما حصل لك من السفينة غير الدّقل.
ذكر شىء من نوادر المغفّلين والحمقى
قال بعضهم: رأيت ابن خلف الهمدانىّ في صحراء وهو يطلب شيئا، فقلت له:
ما تبغى هاهنا؟ قال: دفنت شيئا ولست أهتدى اليه. قلت: فهلّا علّمت عليه بشىء! قال: جعلت علامتى قطعة من الغيم كانت فوقه، وما أراها الساعة. ونظر مرة في الحبّ (وهو الزير) فرأى وجهه، فعدا الى أمّه فقال: يا أمّى في الحبّ لصّ.
فجاءت أمه وتطلّعت فيه، فقالت: إى والله ومعه قحبة. ورئى في وسط داره(4/16)
وهو يعدو عدوا شديدا ويقرأ بصوت عال. فسئل عن ذلك فقال: أردت أن أسمع صوتى من بعيد. ودخل إلى رجل يعزّيه، فقال: عظّم الله مصيبتكم، وأعان أخاك على ما يرد عليه من يأجوج ومأجوج. فضحك الناس. فقال: تضحكون مما قلت! وإنما أردت هاروت وماروت.
وقيل: كتب المنصور إلى زياد بن عبد الله الحارثىّ، ليقسّم بين القواعد والعميان والأيتام مالا. فدخل عليه أبو زياد التميمىّ، وكان مغفّلا فقال: أصلحك الله! اكتبنى في القواعد، فقال له: عافاك الله، القواعد هنّ النساء اللّاتى قعدن عن أزواجهنّ. فقال: فاكتبنى في العميان. قال: اكتبوه منهم؛ فإن الله تعالى يقول:
(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)
. قال أبو زياد:
واكتب ابنى في الأيتام؛ قال: نعم! من كنت أباه فهو يتيم.
وسئل بعضهم عن مولده، فقال: ولدت رأس الهلال للنصف من رمضان بعد العيد بثلاثة أيام، فاحسبوا الآن كيف شئتم.
ذكر شىء من نوادر النبيذيّين
قال رجل لبعض أصحاب النبيذ: وجّهت إليك رسولا عشيّة أمس فلم يجدك؛ فقال: ذاك وقت لا أجد فيه نفسى.
وقيل لبعضهم: كم الصلاة؟ فذكر الغداة والظهر. قالوا: فالعصر؟ قال:
تعرف وتنكر. قالوا: فالعشاء؟ قال: يبلغها الجواد. قالوا: فالعتمة؟ قال: ما كانت لنا في حساب قطّ.
شرب الأقيشر في حانوت خمّار حتى نفد ما معه، ثم شرب بثيابه وبقى عريانا، فجلس في تبن يستدفىء به. فمرّ رجل ينشد ضالّة؛ فقال الأقيشر: اللهم اردد عليه،(4/17)
واحفظ علينا. فقال له الخمار: سخنت عينك، أىّ شىء يحفظ عليك ربّك! قال:
هذا التبن، لئلا يأخذه صاحبه فأهلك من البرد.
وباع بعضهم ضيعة له؛ فقال له المشترى: بالعشىّ أشهد عليك. فقال: لو كنت ممن يفرغ بالعشىّ ما بعت ضيعتى.
ذكر شىء من نوادر النساء والجوارى
قال رجل: قلت لجارية أريد شراءها: لا يريبك شيبى؛ فإن عندى قوّة.
فقالت: أيسرك أنّ عندك عجوزا مغتلمة! أدخل على المنصور جاريتان فأعجبتاه. فقالت التى دخلت أوّلا: يا أمير المؤمنين، إن الله فضّلنى على هذه بقوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ)
. وقالت الأخرى: لا، بل الله فضّلنى عليها بقوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) .
وعرض على المعتصم جاريتان بكر وثيّب؛ فمال إلى البكر. فقالت الثيب: ما بيننا إلا يوم واحد. فقالت البكر: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) .
قيل لامرأة ظريفة: أبكر أنت؟ قالت: أعوذ بالله من الكساد.
وقال المتوكل لجارية استعرضها: أنت بكر أم إيش؟ قالت: أنا إيش يا أمير المؤمنين.
واستعرض رجل جارية فاستقبح قدميها. فقالت: لا تبال؛ فإنى أجعلهما وراء ظهرك.
وقال الرشيد لبغيض جاريته: إنك لدقيقة الساقين. قالت: أحوج ما تكون إليهما لا تراهما.(4/18)
وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن إسحاق: أن الرشيد أحضره مجلسه ذات ليلة، وقد مضى شطر الليل؛ قال: فأخرج جارية كأنها مهاة، فأجلسها في حجره، ثم قال غنّينى؛ فغنته:
جئن من الروم وقاليقلا «1» ... يرفلن في المرط ولين الملا
مقرطقات بصنوف الحلى ... يا حبذا البيض وتلك الحلى
فاستحسنه وشرب عليه.
طلبت جارية محمود الورّاق للمعتصم بسبعة آلاف دينار، فامتنع من بيعها، واشتريت له بعد ذلك من ميراثه بسبعمائة دينار. فذكر المعتصم ذلك لها، فقالت:
إن كان أمير المؤمنين ينتظر بشهواته المواريث فسبعون دينارا في ثمنى كثير، فكيف بسبعمائة! واستعرض رجل جارية فقال لها: فى يديك عمل؟ قالت: لا، ولكن في رجلىّ.
وحكى أنّ بعض المجّان كان يعشق جارية أمجن منه. فضاق يوما، فكتب إليها: قد طال عهدى بك يا سيّدتى، وأقلقنى الشوق إليك. فإن رأيت أن تستدركى رمقى بمضغة علك وتجعليه بين دينارين وتنفذيه إلىّ لأستشفى به فعلت إن شاء الله.
ففعلت ذلك وكتبت إليه: ردّ الظّرف من الظّرف، وقد سارعت إلى إنفاذ ما طلبت؛ فأنعم بردّ الطبق والمكبّة، واستعمل الخبر: «استدرّوا الهدايا بردّ الظّروف» .
وطلب آخر من عشيقته خاتما كان معها؛ فقالت: يا سيّدى، هذا ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود حتّى تعود.(4/19)
وكتب رجل الى عشيقته: مرى خيالك أن يلم بى. فكتبت اليه: ابعث إلىّ بدينارين حتى آتيك بنفسى.
قدّم بعضهم عجوزا دلّالة الى القاضى وقال: أصلح الله القاضى، زوّجتنى هذه امرأة، فلما دخلت بها وجدتها عرجاء. فقالت: أصلح الله القاضى! زوّجته امرأة يجامعها، ولم أعلم أنه يريد أن يحج عليها أو يسابق بها في الحلبة أو يلعب عليها بالكرة والصولجان!.
كتب رجل الى عشيقته رقعة، قال في أوّلها: عصمنا الله وإياك بالتقوى.
فكتبت اليه في الجواب: يا غليظ الطبع، إن استجاب الله دعاءك لم نلتق أبدا.
قال عقيل بن بلال: سمعتنى أعرابيّة أنشد:
وكم ليلة قد بتّها غير آثم ... بمهضومة الكشحين ريّانة القلب «1»
فقالت: هلّا أثمت! أخزاك الله!.
كان أبو نواس يوما عند بعض إخوانه؛ فخرجت عليه جارية بيضاء عليها ثياب خضر. فلما رآها مسح عينيه وقال: خيرا رأيت إن شاء الله تعالى. فقالت:
وما رأيت؟ قال: ألك معرفة بعلم التعبير؟ قالت: ولا أعرف غيره. قال:
رأيت كأنى راكب دابة شهباء، وعليها جلّ أخضر وهى تمرح تحتى. فقالت: إن صدقت رؤياك فستدخل فجلة. وقد روى أن هذه الحكاية اتفقت له مع عنان جارية الناطفىّ.
وكان بعضهم جالسا مع امرأته في منظرة؛ فمرّ غلام حسن الوجه؛ فقالت:
أعيذ هذا بالله؛ ما أحسنه وأحسن وجهه وقدّه! فقال الزوج: نعم، لولا أنه خصىّ. فقالت: لعنه الله ولعن من خصاه!.(4/20)
قال أبو العيناء: خطبت امرأة فاستقبحتنى. فكتبت اليها:
فإن تنفرى من قبح وجهى فإننى ... أريب أديب لا غبىّ ولا فدم
فأجابتنى: ليس لديوان الرسائل أر يدك.
وخطب ثمامة العوفىّ امرأة. فسألت عن حرفته؛ فكتب اليها يقول:
وسائلة عن حرفتى قلت حرفتى ... مقارعة الأبطال في كل مازق
وضربى طلى الأبطال بالسيف معلما ... إذا زحف الصفان تحت الخوافق
فلما قرأت الشعر، قالت للرسول: قل له: فديتك! أنت أسد، فاطلب لك لبؤة؛ فإنى ظبية أحتاج الى غزال.
خرجت حبّى المدنيّة في جوف الليل؛ فلقيها إنسان فقال لها: تخرجين في هذا الوقت! قالت: ما أبالى، إن لقينى شيطان فأنا في طاعته، وإن لقينى رجل فأنا فى طلبه. وجاءت الى شيخ يبيع اللبن، ففتحت ظرفا فذاقته ودفعته إليه وقالت: لا تعجل بشدّة؛ ثم فتحت آخر فذاقته ودفعته إليه. فلما أشغلت يديه جميعا، كشفت ثوبه من خلفه، وجعلت تصفق «1» بظاهر قدميها استه وخصييه، وتقول: يا ثارات ذات النّحيين، والشيخ يستغيث، فلم يخلص منها إلا بعد جهد.
غاب رجل عن امرأته فبلغها أنه اشترى جارية، فاشترت غلامين. فبلغه ذلك فجاء مبادرا، وقال لها: ما هذا؟ فقالت: أما علمت أنّ الرحى الى بغلين أحوج من البغل الى رحيين! ولكن بع الجارية حتى نبيع الغلامين؛ ففعل ذلك ففعلت.
ومثل ذلك ما حكى عن الأحنف: أنه اعتمّ ونظر في المرآة؛ فقالت له امرأته: كأنك قد هممت بخطبة امرأة! قال: قد كان ذلك. قالت: فإذا فعلت(4/21)
فاعلم أن المرأة الى رجلين أحوج من الرجل الى امرأتين. فنقض عمته وترك ما كان قد همّ به.
ذكر شىء من نوادر العميان
قال إبراهيم بن سيابة لبشّار الأعمى: ما سلب الله من مؤمن كريمتيه إلا عوّضه عنهما: إمّا الحفظ والذكاء، وإمّا حسن الصوت. فما الذى عوّضك الله عن عينيك؟ قال: فقد «1» النظر لبغيض ثقيل مثلك! ونظير هذه الحكاية ما حكى عن بعضهم، قال: خرجت ليلة من قرية لبعض شأنى، فإذا أنا بأعمى على عاتقه جرّة وبيده سراج، فلم يزل حتى انتهى إلى النهر، وملأ جرّته وعاد. قال: فقلت له: يا هذا، أنت أعمى، والليل والنهار عندك سواه، فما تصنع بالسراج؟ قال: يا كثير الفضول، حملته لأعمى القلب مثلك، يستضىء به لئلا يعثر في الظلمة، فيقع علىّ ويكسر جرّتى.
قالوا: بلغ أبا العيناء «2» أنّ المتوكل يقول: لولا عمى أبى العيناء لاستكثرت منه؛ فقال: قولوا لأمير المؤمنين: إن كان يريدنى لرؤية الأهلّة ونظم اللآلىء واليواقيت وقراءة نقوش الخواتيم، فأنا لا أصلح لذلك؛ وإن كان يريدنى للمحاضرة والمنادمة والمذاكرة والمسامرة، فناهيك بى، فانتهى ذلك الى المتوكل فضحك منه، وأمر بإحضاره، فحضر ونادمه.
تزوّج بعض العميان بسوداء؛ فقالت له: لو نظرت الى حسنى وجمالى وبياضى لازددت فيّ حبّا. فقال لها: لو كنت كما تقولين ما تركك لى البصراء.(4/22)
ذكر شىء من نوادر السؤّال
سأل أبو عون رجلا فمنعه، فألحّ عليه فأعطاه؛ فقال: اللهم آجرنا وإياهم، نسألهم إلحافا ويعطوننا كرها، فلا يبارك الله لنا فيها ولا يؤجرهم عليها.
وقف أعرابىّ سائل على باب وسأل؛ فأجابه رجل وقال: ليس هاهنا أحد.
فقال: إنك أحد لو جعل الله فيك بركة.
ووقف سائل على باب، وكانت صاحبة الدار تبول في البالوعة؛ فسمع السائل صوت بولتها فظنه نشيش المقلى، فقال: أطعمونا من هذا الذى تقلونه؛ فضرطت المرأة وقالت: حطبنا رطب ليس يشعل.
ووقف سائل على باب وقال: تصدّقوا علىّ فإنى جائع. قالوا: إلى الآن لم نخبز.
قال: فكفّ سويق. قالوا: ليس عندنا سويق. قال: فشربة من ماء فإنى عطشان.
قالوا: ما أتانا السقاء. قال: فيسير دهن أجعله في رأسى. قالوا: من أين لنا دهن.
فقال: يا أولاد الزنا، فما قعودكم هنا! قوموا واشحتوا «1» معى!
ذكر شىء من نوادر من اشتهر بالمجون
كان مزبّد ممن اشتهر بالمجون والنوادر، وله نوادر. فمنها ما قيل: إنه أخذه بعض الولاة وقد اتّهم بالشّرب، فاستنكهه، فلم يجد منه رائحة؛ فقال: قيّئوه.
فقال مزبّد: ومن يضمن عشائى أصلحك الله؟ فضحك منه وأطلقه. وهبّت ريح شديد فصاح الناس: القيامة، القيامة! فقال مزبّد: هذه قيامة على الريق بلا دابة، ولا دجّال، ولا القائم، ولا عيسى بن مريم، ولا يأجوج ومأجوج. وقيل له:(4/23)
لم لا تكون كفلان؟ (يعنون رجلا موسرا) فقال: بأبى أنتم! كيف أشبّه بمن يضرط فيشمّت «1» وأعطس فألطم!. وقيل له: ما بال حمارك يتبلّد إذا توجّه نحو المنزل وحمير الناس إلى منازلها أسرع؟ قال: لأنه يعرف سوء المنقلب. ونظرت امرأته وهى حبلى الى قبح وجهه، فقالت: الويل لى إن كان الذى في بطنى يشبهك.
فقال لها: الويل لك إن لم يكن يشبهنى. وسمع رجلا يقول عن ابن عباس:
من نوى حجّة وعاقه عائق، كتبت له. فقال مزبّد: ما خرج العام كراء أرخص من هذا.
وممن اشتهر بالمجون أشعب.
ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره
هو أشعب بن جبير. واسمه شعيب، وكنيته أبو العلاء. وأمه أمّ الجلندح، وقيل:
أمّ حميد حميدة «2» . وهى مولاة أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنها. وكان أبوه قد خرج مع المختار بن أبى عبيد؛ فأسره مصعب بن الزبير؛ فقال له: ويلك! تخرج علىّ وأنت مولاى! وقتله صبرا. وقد قيل في ولائه: إن أباه مولى عثمان ابن عفّان رضى الله عنه، وإن أمه كانت مولاة أبى سفيان بن حرب، وإن ميمونة أمّ المؤمنين أخذتها لمّا تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكانت تدخل على أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلم، فيستظر فنها؛ ثم صارت تنقل أحاديث بعضهنّ الى بعض، وتغرى بينهن. فدعا عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فماتت. وقد حكى(4/24)
عن أشعب: أنه جلس يوما في مجلس فيه جماعة، فتفاخروا وذكر كل واحد منهم مناقبه وشرفه أو شجاعته أو شعره وغير ذلك مما يتمدّح به الناس ويتفاخرون؛ فوثب أشعب وقال: أنا ابن أمّ الجلندح، أنا ابن المحرّشة بين أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلم. فقيل له: ويلك! أو بهذا يفتخر الناس! قال: وأىّ افتخار أعظم من هذا! لو لم تكن أمّى عندهن ثقة لما قبلن روايتها في بعضهنّ بعضا. وقد حكى:
أنها زنت، فحلقت، وطيف بها على جمل، فكانت تنادى على نفسها: من رآنى فلا يزنين. فقالت لها امرأة: نهانا الله عزوجل عنه فعصيناه، ونطيعك وأنت مجلودة محلوقة، راكبة على جمل!. ونشأ أشعب بالمدينة في دور آل أبى طالب، وكفلته وتولّت تربيته عائشة بنت عثمان. وعمّر أشعب عمرا طويلا. وحكى عنه أنه قال: كنت مع عثمان رضى الله عنه يوم الدار لمّا حصر؛ فلما جرّد مماليكه السيوف ليقاتلوا كنت فيهم؛ فقال عثمان: من أغمد سيفه فهو حرّ. فلما وقعت في أذنى كنت والله أوّل من أغمد سيفه فعتقت. وكانت وفاته بعد سنة أربع وخمسين ومائة. وهذا القول يدل على أنه كان مولى عثمان بن عفّان رضى الله عنه.
وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناد رفعه الى إبراهيم بن المهدىّ عن عبيد ابن أشعب عن أبيه: أنه كان مولده في سنة تسع من الهجرة، وأن أباه كان من مماليك عثمان بن عفان. وعمّر أشعب حتى هلك في أيام المهدىّ. قال: وكانت فى أشعب خلال، منها: أنه كان أطيب أهل زمانه عشرة، وأكثرهم نادرة، وكان أقوم أهل دهره لحجج المعتزلة، وكان امرأ منهم. وقال مصعب بن عبد الله:
كان أشعب من القرّاء حسن الصوت بالقراءة، وكان قد نسك وغزا؛ وقد روى الحديث عن عبد الله بن جعفر. وقال الأصمعىّ: قال أشعب: نشأت أنا وأبى الزّناد(4/25)
فى حجر عائشة بنت عثمان؛ فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا هذه المنزلة. وقال إسحاق ابن إبراهيم: كان أشعب مع ملاحته ونوادره يغنّى أصواتا فيجيدها. وفيه يقول عبد الله ابن مصعب الزبيرى عفا الله عنه:
اذا تمززت صراحيّة «1» ... كمثل ريح المسك أو أطيب
ثم تغنّى لى بأهزاجه ... زيد أخو الأنصار أو أشعب
حسبت أنى ملك جالس ... حفّت به الأملاك والموكب
وما أبالى وإله العلا «2» ... أشرّق العالم أم غرّبوا
ولأشعب نوادر مستظرفة وحكايات مستحسنة، وقد آن أن نذكرها. فمنها ما حكى أنه كان يقول: كلبى كلب سوء، يبصبص للأضياف، وينبح على أصحاب الهدايا. وقيل له: قد لقيت رجالا من أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلم فلو حفظت أحاديث تتحدّث بها! فقال: أنا أعلم الناس بالحديث. قيل: فحدّثنا. قال: حدّثنى عكرمة عن ابن عبّاس رضى الله عنهم قال: خلّتان لا تجتمعان في مؤمن إلا دخل الجنة، ثم سكت، فقيل له: هات، ما الخلتان؟ قال: نسى عكرمة إحداهما ونسيت أنا الأخرى. وكان أشعب يحدّث عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فيقول:
حدّثنى عبد الله، وكان يبغضنى في الله. وكان أشعب يلازم طعام سالم بن عبد الله ابن عمر رضى الله عنهم. فآشتهى سالم أن يأكل مع بناته فخرج الى البستان؛ فجاء أشعب الى منزل سالم على عادته؛ فأخبر بالقصة؛ فاكترى جملا بدرهم وجاء الى البستان. فلما حاذى الحائط وثب فصار عليه؛ فغطّى سالم بناته بثوبه وقال:
بناتى بناتى! فقال أشعب: (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) .(4/26)
قال أشعب: جاءتنى جارية بدينار وقالت: هذا وديعة عندك؛ فجعلته بين ثنى الفراش. فجاءت بعد أيام وقالت: بأبى أنت! الدينار؛ فقلت ارفعى فراشى وخذى ولده فإنه قد ولد، وكنت قد تركت الى جنبه درهما، فأخذت الدرهم وتركت الدينار. وعادت بعد أيام فوجدت معه درهما آخر فأخذته، وفي الثالثة كذلك.
وجاءت في الرابعة، فلما رأيتها بكيت؛ فقالت: ما يبكيك؟ قلت: مات دينارك فى النفاس. فقالت: وكيف يكون للدينار نفاس؟ قلت: يا فاسقة! تصدّقين بالولادة ولا تصدّقين بالنفاس!.
ومن أخباره المستظرفة ما حكاه المدائنىّ، قال: قال أشعب: تعلّقت بأستار الكعبة فقلت: اللهم أذهب عنّى الحرص والطلب إلى الناس؛ فمررت بالقرشيين وغيرهم فلم يعطنى أحد شيئا. فجئت الى أمى، فقالت: مالك قد جئت خائبا؟
فأخبرتها بذلك؛ فقالت: والله لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربك. فرجعت فجعلت أقول: يا ربّ أقلنى، ثم رجعت، فما مررت بمجلس لقريش ولا غيرهم إلا أعطونى، ووهب لى غلام؛ فجئت الى أمى بجمال موقرة من كل شىء. فقالت:
ما هذا الغلام؟ فخفت أن أخبرها فتموت فرحا إن قلت: وهبوه لى. فقالت:
أىّ شىء هذا؟ فقلت: غين. قالت: أىّ شىء [غين] «1» ؟ قلت: لام. قالت:
أىّ شىء [لام] «2» ؟ [قلت: ألف. قالت: وأى شىء ألف «3» ] ؟ قلت: ميم.
قالت: وأىّ ميم؟ قلت: غلام؛ فغشى عليها. ولو لم أقطّع الحروف لماتت الفاسقة فرحا. قال: وجلس أشعب يوما الى جانب مروان بن أبان بن عثمان؛ فانفلتت من مروان ريح لها صوت؛ فانصرف أشعب يوهم الناس أنه هو الذى خرجت منه الريح. فلما انصرف مروان الى منزله جاءه أشعب فقال له: الدية،(4/27)
قال: دية ماذا؟ قال: دية الضرطة التى تحملتها عنك، وإلا شهرتك؛ فلم يدعه حتى أخذ منه شيئا صالحه عليه.
وقال محمد بن أبى قبيلة: غذّى أشعب جديا بلبن أمّه وغيرها حتى بلغ غاية، ثم قال لزوجته أمّ ابنه وردان: إنى أحبّ أن ترضعيه بلبنك ففعلت. ثم جاء به الى إسماعيل بن جعفر بن محمد، فقال: تالله إنه لابنى، رضع بلبن زوجتى، قد حبوتك به، ولم أر أحدا يستأهله سواك. فنظر إسماعيل إليه وأمر به فذبح وسمط. فأقبل عليه أشعب وقال: المكافأة؛ فقال: ما عندى والله اليوم شىء، ونحن من تعرف، وذلك غير فائت لك. فلما يئس أشعب منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر، ثم اندفع فشهق حتى التقت أضلاعه، ثم قال: أخلنى.
قال: ما معنا أحد يسمع، ولا عليك عين. قال: وثب ابنك إسماعيل على ابنى فذبحه وأنا أنظر اليه. فارتاع جعفر وصاح: ويلك! وفيم؟ وتريد ماذا؟ قال:
أمّا ما أريد فو الله مالى في إسماعيل حيلة ولا يسمع هذا سامع أبدا بعدك. فجزاه خيرا وأدخله منزله وأخرج اليه مائتى دينار فقال: خذ هذه، ولك عندنا ما تحبّ.
قال: وخرج الى إسماعيل وهو لا يبصر ما يطأ عليه، فإذا به مسترسل في مجلسه.
فلما رأى وجه أبيه أنكره وقام إليه؛ فقال: يا إسماعيل، فعلتها بأشعب! قتلت ولده؟ قال: فاستضحك وقال: جاءنى، وأخبره الخبر. فأخبره أبوه بما كان منه وما صار إليه. قال: فكان جعفر يقول لأشعب: رعتنى راعك الله! فيقول:
روعة ابنك بنا في الجدى أكثر من روعتك بالمائتى الدينار.
قال المدائنىّ: دخل أشعب على الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، وعنده أعرابىّ قبيح المنظر، مختلف الخلقة؛ فسبّح أشعب حين رآه وقال للحسين: بأبى أنت وأمى، أتأذن لى أن أسلح عليه؟ فقال: إن شئت. ومع الأعرابىّ قوس وكنانة، ففوّق(4/28)
نحوه سهما، وقال: والله لئن فعلت لتكونن آخر سلحة سلحتها. فقال أشعب للحسين: جعلت فداك، أخذنى القولنج «1» . وعنه قال: توضأ أشعب فغسل رجله اليسرى وترك اليمنى. فقيل له: لم تركت غسل اليمنى؟ فقال: لأن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «أمتى غرّ محجّلون من آثار الوضوء «2» » وأنا أحب أن أكون أغرّ محجّلا مطلق اليمين. وقال: سمع أشعب حبّى المدنيّة تقول: اللهم لا تمتنى حتى تغفر لى ذنوبى؛ فقال لها: يا فاسقة! أنت لم تسألى الله تعالى المغفرة، وإنما سألته عمر الأبد! (يريد: أن الله لا يغفر لها أبدا) .
وقال الزبير بن بكّار: كان أشعب يوما في المسجد يدعو، وقد قبّض وجهه فصيّره كالصّبرة «3» المجموعة. فرآه عامر بن عبد الله بن الزبير فحصبه وناداه:
يا أشعب، إنما أنت تناجى ربك فناجه بوجه طليق. قال: فأرخى لحييه حتى وقعا على زوره «4» . قال: فأعرض عنه، وقال: ولا كلّ ذا.
وقال مصعب: بلغ أشعب أنّ الغاضرىّ قد أخذ في مثل مذهبه ونوادره، وأن جماعة استطابوه؛ فرقبهم حتى علم أنه في مجلس من مجالس قريش يحادثهم ويضحكهم، فصار اليهم، ثم قال: قد بلغنى انك قد نحوت نحوى، وشغلت عنى من كان يألفنى؛ فإن كنت مثلى فافعل كما أفعل. ثم غضّن وجهه وعرّضه وشنّجه، حتى صار عرضه أكثر من طوله، وصار في هيئة لم يعرفه أحد بها، ثم أرسل(4/29)
وجهه حتى كاد ذقنه يجوز صدره، وصار كأنه وجه الناظر في سيف؛ ثم نزع ثيابه وتحادب، فصار في ظهره حدبة كسنام للبعير، وصار طوله مقدار شبر، ثم نزع سراويله، وجعل يمد جلد خصييه حتى حك بهما الأرض، ثم خلّاهما من يده، وجعل يميس، وهما يخطان الأرض، ثم قام فتطاول وتمدّد وتمطّى، حتى صار كأطول ما يكون من الرجال. فضحك القوم حتى أغمى عليهم، وقطع بالغاضرىّ فما تكلم بنادرة ولا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء، لا أعاود ما تكره أبدا، إنما أنا عبدك وتخريجك؛ ثم انصرف أشعب وتركه.
وقال الزبير بن بكّار: حدثنى عمّى، قال: لقى أشعب صديق لأبيه، فقال له:
ويلك يا أشعب! كان أبوك الحى وأنت أقطّ «1» ، فإلى من خرجت تشبه؟ قال:
إلى أمّى.
وقال الهيثم بن عدىّ: لقيت أشعب فقلت له: كيف ترى أهل زمانك هذا؟ قال: يسألوننى عن أحاديث الملوك؛ ويعطوننى عطاء العبيد.
وقال مصعب بن عثمان: لقى أشعب سالم بن عبد الله بن عمر، فقال له:
يا أشعب، هل لك في هريس أعدّ لنا؟ قال: نعم، بأبى أنت وأمى. فمضى أشعب إلى منزله؛ فقالت له امرأته: قد وجّه عبد الله بن عمرو بن عثمان يدعوك، قال: ويحك! إن لسالم بن عبد الله هريسة قد دعانى اليها، وعبد الله بن عمرو فى يدى متى شئت، وسالم إنما دعوته للناس فلتة، وليس لى بدّ من المضىّ اليه.
قالت: إذا يغضب عبد الله. قال: آكل عنده ثم أصير إلى عبد الله. فجاء إلى منزل سالم فجعل يأكل أكل متعالل. فقال له: كل يا أشعب، وابعث ما فضل(4/30)
عنك إلى منزلك. قال: ذلك أردت، بأبى أنت وأمّى. قال: فقال: يا غلام، احمل هذا إلى منزله، فحمله ومشى أشعب معه. فقالت امرأته: ثكلتك أمّك، قد حلف عبد الله لا يكلّمك شهرا؛ قال: دعينى وإياه، هاتى شيئا من زعفران؛ فأعطته، فأخذه ودخل الحمّام، فمسحه على وجهه وبدنه، وجلس في الحمام حتى صفّره، وخرج متوكأ على عصا يرعد حتى أتى دار عبد الله بن عمرو بن عثمان. فلما رآه حاجبه قال: ويحك! بلغت بك العلّة ما أرى. ودخل فأعلم صاحبه، فأذن له.
فلما دخل عليه، إذا سالم بن عبد الله عنده، فجعل يزيد في الرعدة، ويقارب الخطو، وجلس وما كاد أن يستقلّ. فقال عبد الله: ظلمناك يا أشعب في غضبنا عليك.
فقال له سالم: ويلك! مالك؟ ألم تكن عندى آنفا وأكلت هريسة! قال: لقد شبّه لك، لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: لعل الشيطان يتشبّه بك. قال أشعب:
علىّ وعلىّ إن كنت رأيتك منذ شهر. فقال له عبد الله: اعزب ويلك عن خالى! أتبهته لا أمّ لك! قال: ما قلت إلا حقّا. قال: بحياتى اصدقنى وأنت آمن من غضبى. قال: وحياتك لقد صدق؛ وحدّثه بالقصة؛ فضحك حتى استلقى على قفاه.
وقال المدائنىّ والهيثم بن عدىّ: بعث الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى أشعب بعد ما طلق امرأته سعدة، فقال له: يا أشعب، لك عندى عشرة آلاف درهم على أن تبلّغ رسالتى سعدة. فقال له: أحضر المال حتى أنظر اليه، فأحضر الوليد بدرة، فوضعها أشعب على عنقه، وقال: هات رسالتك. قال:
قل لها يقول لك:
أسعدة هل اليك لنا سبيل ... وهل حتى القيامة من تلاق
بلى! ولعلّ دهرا أن يؤاتى ... بموت من حليلك أو طلاق(4/31)
فأصبح شامتا وتقرّ عينى ... ويجمع شملنا بعد افتراق
قال: فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه، فأمرت ففرش لها فرش وجلست وأذنت له؛ فدخل فأنشدها. فلما أنشد البيت الأوّل:
أسعدة هل اليك لنا سبيل ... وهل حتى القيامة من تلاق
قالت: لا والله، لا يكون ذلك أبدا. فلما أنشد البيت الثانى:
بلى! ولعلّ دهرا أن يؤاتى ... بموت من حليلك أو طلاق
قالت: كلّا إن شاء الله، بل يفعل الله ذلك به. فلما أنشد البيت الثالث:
فأصبح شامتا وتقرّ عينى ... ويجمع شملنا بعد افتراق
قالت: بل تكون الشماتة به. ثم قالت لخدمها: خذوا الفاسق. فقال:
يا سيّدتى، إنها عشرة آلاف درهم. قالت: والله لأقتلنّك أو تبلّغه كما بلّغتنى. قال:
وما تهبين لى؟ قالت: بساطى الذى تحتى. قال: قومى عنه؛ فقامت، فطواه، ثم قال: هاتى رسالتك، جعلت فداك! قالت: قل له:
أتبكى على لبنى وأنت تركتها ... فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع؟
فأقبل أشعب، حتى دخل على الوليد، فأنشده البيت. فقال: أوّه قتلتنى والله! فما ترانى صانعا بك يا ابن الزانية! اختر إمّا أنّ أدليك منكّسا في بئر، أو أرميك من فوق القصر منكّسا، أو أضرب رأسك بعمودى هذا ضربة. قال له: ما كنت فاعلا بى شيئا من ذلك. قال: ولم؟ قال: لأنك لم تكن لتعذّب عينين قد نظرتا إلى سعدة! قال: صدقت يا ابن الزانية! وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناده إلى إبراهيم بن المهدىّ عن ابن أشعب عن أبيه، قال: دعى ذات يوم بالمغنّيين إلى الوليد بن يزيد، وكنت نازلا معهم،(4/32)
فقلت للرسول: خذنى فيهم؛ قال: لم أؤمر بك، إنما أمرت بإحضار المغنيين، وأنت بطّال لا تدخل في جملتهم. فقلت له: أنا والله أحسن غناء منهم؛ ثم اندفعت فغنّيت. فقال: لقد سمعت حسنا، ولكن أخاف. قلت: لا خوف عليك؛ ولك مع ذلك شرط. قال: وما هو؟ قلت: كل ما أصبت فلك شطره؛ فأشهد علىّ الجماعة، ومضينا حتى دخلنا على الوليد، وهو لقس النفس؛ فغنّاه المغنّون في كل فنّ فلم يتحرّك ولم ينشط. فقام الأبجر إلى الخلاء، وكان خبيثا داهيا، فسأل الخادم عن خبره؛ فقال: بينه وبين امرأته شرّ، لأنه عشق أختها فغضبت عليه، وهو إلى أختها أميل، وقد عزم على طلاقها، وحلف ألّا يذكرها أبدا بمراسلة أو مخاطبة، فخرج على هذه الحال من عندها. فعاد الأبجر الينا، وجلس ثم اندفع يغنّى:
فبينى فإنى لا أبالى وأيقنى ... أصعّد باقى حبّكم أم تصوّبا
ألم تعلمى أنى عزوف عن الهوى ... إذا صاحبى من غير شىء تغضّبا
فطرب الوليد وارتاح، وقال للأبجر: أصبت والله يا عبيد ما في نفسى، وأمر له بعشرة آلاف درهم وشرب حتى سكر، ولم يحظ أحد بشىء سوى الأبجر. فلما أيقنت بانقضاء المجلس وثبت فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر من يضر بنى مائة سوط الساعة بحضرتك! فضحك، ثم قال: قبّحك الله! وما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصّتى مع الرسول، وقلت له: إنه بدأنى بالمكروه في أوّل يومه فاتصل «1» علىّ إلى آخره، فأريد أن أضرب مائة سوط ويضرب بعدى مثلها. فقال: لقد لطّفت، بل أعطوه مائة دينار، وأعطوا الرسول خمسين دينارا من مالنا عوض الخمسين التى أراد أخذها من أشعب، فقبضتها وانصرفت.(4/33)
قال ابن زبنّج «1» : كان أبان بن عثمان من أهزل الناس وأعبثهم «2» ، فبينا نحن ذات يوم عنده وعنده أشعب، إذ أقبل أعرابىّ معه جمل، والأعرابىّ أشقر أزرق أزعر يتلظّى كأنه أفعى، والشرّبيّن في وجهه، ما يدنو منه أحد إلا شتمه ونهره؛ فقال أبان: هذا والله من البادية «3» ، ادعوه لى، فدعوه له وقيل: إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك؛ فأتاه فسلّم عليه، فسأله أبان بن عثمان عن نسبه، فانتسب له. فقال له أبان:
حيّاك الله يا خال، اجلس، فجلس. فقال له: إنى أطلب جملا مثل جملك هذا منذ زمان فلم أجده كما أشتهى بهذه الصفة وهذه الهامة والصورة والورك والأخفاف، والحمد لله الذى جعل ظفرى به عند من أحبّه، أتبيعنيه؟ فقال: نعم أيها الأمير.
قال: فإنى قد بذلت لك به مائة دينار؛ فطمع الأعرابىّ وسرّ بذلك وانتفخ، وبان الطمع في وجهه. فأقبل أبان على أشعب ثم قال له: ويلك يا أشعب! إن خالى هذا من أهلك وأقاربك (يعنى: فى الطمع) فأوسع له مما عندك؛ قال: نعم، بأبى أنت وزيادة. فقال له أبان: يا خال، إنما زدتك في الثمن على بصيرة أنّ الجمل يساوى ستين دينارا، ولكنى بذلت لك مائة دينار لقلة النقد عندنا، وإنى أعطيك عروضا تساوى مائة دينار؛ فزاد طمع الأعرابىّ وقال: قد قبلت ذلك أيها الأمير.
وأسرّ أبان الى أشعب، فأخرج شيئا مغطّى، فقال له: أخرج ما جئت به؛ فأخرج جرد عمامة تساوى أربعة دراهم. فقال له: قوّمها يا أشعب. فقال: عمامة الأمير يشهد فيها الأعياد والجمع ويلقى فيها الخلفاء! خمسون دينارا. قال: ضعها بين يديه،(4/34)
وقال لابن زبنّج: أثبت قيمتها، فكتب ذلك، ووضعت العمامة بين يدى الأعرابىّ؛ فكاد يدخل بعضه في بعض غيظا، ولم يقدر على الكلام. قال: هات قلنسوتى، فأخرج قلنسوة طويلة خلقا «1» قد علاها الوسخ والدّهن وتخرّقت تساوى نصف درهم.
قال: قوّم؛ فقال: قلنسوة الأمير تعلو هامته، ويصلّى فيها الصلوات الخمس، ويجلس فيها للحكم! ثلاثون دينارا. قال: أثبت، فأثبت ذلك، ووضعت القلنسوة بين يدى الأعرابىّ فاربدّ وجهه وحجظت عيناه وهمّ بالوثوب، ثم تماسك وهو مقلقل. ثم قال لأشعب: هات ما عندك؛ فأخرج خفّين خلقين قد نقبا وتقشّرا وتفتّتا، فقال: قوّم؛ فقال: خفّا الأمير يطأ بهما الروضة، ويعلو بهما منبر النبىّ صلى الله عليه وسلم! أربعون دينارا، فقال: ضعهما بين يديه. ثم قال للأعرابى:
أضمم اليك متاعك، وقال لبعض الأعوان: امض مع الأعرابىّ واقبض ما بقى لنا عليه من ثمن المتاع، وهو عشرون دينارا. فوثب الأعرابىّ فأخذ القماش فضرب به وجوه القوم لا يألو في شدّة الرمى، ثم قال له: أتدرى في أى شىء أموت؟ قال لا؛ قال: لم أدرك «2» أباك عثمان فأشترك والله في دمه إذ ولد مثلك! ثم نهض كالمجنون حتى أخذ برأس بعيره؛ وضحك أبان حتى سقط، وضحك من كان معه. فكان الأعرابىّ بعد ذلك إذا لقى أشعب يقول له: هلمّ إلىّ يابن الخبيثة، حتى أكافئك على تقويمك «3» المتاع يوم قوّمت؛ فيهرب منه أشعب.
وقال المدائنىّ: حدّثنى شيخ من أهل المدينة قال: كانت امرأة شديدة العين، لا تنظر الى شىء فتستحسنه إلا عانته؛ فدخلت على أشعب وهو في الموت، وهو(4/35)
يقول لابنته: يا بنية، إذا أنا مت فلا تندبينى، والناس يسمعونك، وتقولين: وا أبتاه، أندبك للصوم والصلاة، للفقه والقرآن، فيكذّب الناس ويلعنوننى. ثم التفت فرأى المرأة، فغطّى وجهه بكمه وقال لها: يا فلانة، بالله إن كنت استحسنت شيئا مما أنا فيه، فصلى على النبىّ صلّى الله عليه وسلم ولا تهلكينى؛ فغضبت المرأة وقالت:
سخنت عينك! وفي أى شىء أنت مما يستحسن؟ أنت في آخر رمق! قال: قد علمت، ولكن قلت لئلا «1» تكونى قد استحسنت خفة الموت علىّ وسهولة النزع، فيشتدّ ما أنا فيه. فخرجت من عنده وهى تسبّه، وضحك من كان حوله من كلامه ومات.
ذكر شىء من نوادر أبى دلامة
هو أبو دلامة زند بن الجون. وزند بالنون. وهو كوفىّ، أسود، مولى لبنى أسد؛ كان أبوه عبدا لرجل منهم يقال له قصاقص، فأعتقه. وأدرك آخر زمن بنى أمية ولم يكن له نباهة في أيامهم، ونبغ في أيام بنى العباس، فانقطع الى أبى العباس السفّاح وأبى جعفر المنصور والمهدىّ، وكانوا يقدّمونه ويفضّلونه ويستطيبون مجالسته ونوادره.
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كان أبو دلامة ردىء المذهب، مرتكبا للمحارم، مضيّعا للفروض، متجاهرا بذلك؛ وكان يعلم هذا منه ويعرف به، فيتجافى عنه للطف محلّه. وله أخبار وأشعار ليس هذا موضع ذكرها، وإنما نثبت في هذا الموضع ما له من نادرة أو حكاية مستظرفة. فمن ذلك أنه دخل على أبى جعفر المنصور، وكان المنصور قد أمر أصحابه بلبس السواد والقلانس الطوال، تدعم «2» بعيدان من(4/36)
داخلها، وأن يعلّقوا السيوف في المناطق، ويكتبوا على ظهورهم: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
. فلما دخل عليه أبو دلامة في هذا الزىّ قال له المنصور:
ما حالك؟ قال: شرّ حال يا أمير المؤمنين، وجهى في نصفى، وسيفى في استى، وقد صبغت بالسواد ثيابى ونبذت كتاب الله وراء ظهرى؛ ثم أنشد:
وكنا نرجى منحة من إمامنا ... فجاءت بطول زاده في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها ... دنان «1» يهود جلّلت بالبرانس
فضحك منه المنصور وأعفاه وحذّره من ذلك، وقال: إياك أن يسمع هذا منك أحد.
وحكى عنه: أنه كان واقفا بين يدى السفاح أو المنصور، فقال له: سلنى حاجتك؛ فقال أبو دلامة: كلب صيد؛ قال: أعطوه إياه. قال: ودابّة أتصيّد عليها. قال: أعطوه. قال: وغلام يقود الكلب ويتصيّد به؛ قال: أعطوه غلاما.
قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه؛ قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال «2» فلا بدّ لهم من دار يسكنونها؛ قال: أعطوه دارا تجمعهم.
قال: فإن لم يكن ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أقطعتك مائة جريب»
عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وما الغامرة؟ قال: مالا نبات فيه. قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافى بنى أسد. فضحك وقال:
اجعلوا المائتين كلها عامرة. قال: فأذن لى أن أقبّل يدك؛ قال: أمّا هذه فدعها، فإنى لا أفعل. قال: والله ما منعت عيالى شيئا أقلّ عليهم ضررا منها.(4/37)
وروى: أنه دخل على المنصور فأنشده قصيدته التى يقول فيها:
إنّ الخليط أجدّوا البين فانتجعوا ... وزوّدوك خبالا بئس ما صنعوا
والله يعلم أن كادت، لبينهم ... يوم الفراق، حصاة القلب تنصدع
عجبت من صبيتى يوما وأمّهم ... أمّ الدّلامة لمّا هاجها الجزع
لا بارك الله فيها من منبّهة ... هبّت تلوم عيالى بعد ما هجعوا
ونحن مشتبهو الألوان، أوجهنا ... سود قباح، وفي أسمائنا شنع
إذا تشكّت إلىّ الجوع، قلت لها ... ما هاج جوعك إلا الرّىّ والشّبع
أذابك الجوع مذ صارت عيالتنا ... على الخليفة منه الرىّ والشبع «1»
لا والذى يا أمير المؤمنين قضى ... لك الخلافة في أسبابها الرّفع
ما زلت أخلصها كسبى فتأكله ... دونى ودون عيالى ثم تضطجع
شوهاء مشنأة «2» فى بطنها ثجل «3» ... وفي المفاصل من أوصافها فدع «4»
ذكّرتها بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله ترتجع
فاخر نطمت «5» ثم قالت وهى مغضبة «6» ... أأنت تتلو كتاب الله يا لكع!(4/38)
أخرج تبغّ لنا مالا ومزرعة ... كما لجيراننا مال ومزدرع
واخدع خليفتنا عنّا بمسألة ... إنّ الخليفة للسّؤال ينخدع
قال: فضحك أبو جعفر وقال: أرضوها عنه بمائتى جريب عامرة- ويروى ستمائة جريب عامرة وغامرة- فقال: أنا أقطعك يا أمير المؤمنين أربعة آلاف جريب غامرة فيما بين الحيرة والنّجف، وإن شئت زدتك. فضحك وقال: اجعلوها كلها عامرة.
قال: ولما توفّى السفّاح دخل أبو دلامة على المنصور والناس عنده يعزّونه، فقال:
أمسيت بالأنبار يابن محمد ... لم تستطع عن عقرها تحويلا
وبلى عليك وويل أهلى كلّهم ... ويلا وعولا في الحياة طويلا
فلتبكينّ لك السماء بعبرة ... ولتبكينّ لك الرجال عويلا
مات الندى إذ متّ يابن محمد ... فجعلته لك في التراب عديلا
إنى سألت الناس بعدك كلّهم ... فوجدت أسمح من سألت بخيلا
ألشقوتى أخّرت بعدك للتى ... تدع العزيز من الرجال ذليلا؟
فلأحلفنّ يمين حقّ برّه ... تالله ما أعطيت بعدك سولا
قال: فأبكى الناس قوله: فغضب المنصور غضبا شديدا وقال: إن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعنّ لسانك. قال: يا أمير المؤمنين، إنّ أبا العباس أمير المؤمنين كان لى مكرما، وهو الذى جاء بى من البدو، كما جاء الله بإخوة يوسف اليه؛ فقل كما قال يوسف: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
. فسرّى عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لى بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوبا وهو مريض ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعلم ذلك؟ قال: هؤلاء (وأشار الى جماعة ممن حضر) فوثب سليمان ابن مجالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة، نحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبى(4/39)
أيّوب الخازن [وهو مغيظ «1» ] : يا سليمان ادفعها اليه وسيّره الى هذا الطاغية (يعنى عبد الله بن علىّ، وكان قد خرج بالشام وأظهر الخلاف) فوثب أبو دلامة وقال:
يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن أخرج معهم، وو الله إنى مشئوم. قال المنصور:
امض فإن يمنى يغلب شؤمك. فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما أحبّ أن يجرّب ذلك منّى على مثل هذا العسكر، فإنى لا أدرى أيّهما يغلب: يمنك أو شؤمى؛ إلّا أنى بنفسى أوثق وأعرف وأطول تجربة. فقال: دعنى وهذا، فمالك من الخروج بدّ.
قال: فإنى أصدقك الان، شهدت والله تسعة عشر عسكرا كلها هزمت، وكنت سببها، فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك تمام العشرين فافعل. فضحك المنصور وأمره أن يتخلّف مع عيسى بن موسى بالكوفة.
وعن جعفر بن حسين اللهبىّ قال: حدثنى أبو دلامة قال: أتى بى المنصور او المهدىّ وأنا سكران، فحلف ليخرجنّى في بعث حرب؛ فأخرجنى مع روح بن حاتم المهلّبىّ لقتال الشّراة «2» . فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أنّ تحتى فرسك ومعى سلاحك لأثّرت في عدوّك اليوم أثرا ترتضيه! فضحك وقال: والله العظيم لأدفعنّ اليك ذلك ولآخذنّك بالوفاء بشرطك؛ فنزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفع ذلك إلىّ، ودعا بغيره فاستبدل به. فلمّا حصل ذلك في يدى قلت: أيها الأمير، هذا مقام العائذ بك، وقد قلت أبياتا فاسمعها. قال: هات، فأنشدته:
إنى استجرتك أن أقدّم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رأيتها مشهورة ... وتركتها ومضيت في الهرّاب
ماذا تقول لما يجىء ولا يرى ... من بادرات الموت بالنّشّاب(4/40)
فقال: دع هذا عنك، وبرز رجل من الخوارج يدعو الى المبارزة فقال:
اخرج اليه يا أبا دلامة. فقال: أنشدك الله أيها الأمير في دمى. فقال: والله لتخرجنّ! فقلت: أيها الأمير، فإنه أوّل يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما تنبعث منى جارحة من الجوع، فمر لى بشىء آكله ثم أخرج؛ فأمر لى برغيفين ودجاجة؛ فأخذت ذلك وبرزت عن الصفّ. فلما رآنى الشارى أقبل نحوى وعليه فرو قد أصابه المطر فابتلّ، وأصابته الشمس فاقفعلّ «1» وعيناه تقدان، فأسرع إلىّ؛ فقلت: على رسلك يا هذا! فوقف؛ فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟
قال لا. قلت: أنستحلّ أن تقتل رجلا على دينك؟ قال لا. قلت: أفتستحلّ ذلك قبل أن تدعو من تقاتله الى دينك؟ قال: لا، فاذهب عنى الى لعنة الله، فقلت: لا أفعل أو تسمع منى. قال: قل. فقلت: هل كانت بيننا عداوة أو ترة أو تعرفنى بحال تحفظك علىّ أو تعلم بينى وبين أهلك وترا؟ قال: لا والله؛ قلت:
ولا أنا والله لك إلا على جميل [الرأى «2» ] ، فإنى لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك وأريد السوء لمن أرادك. فقال: يا هذا، جزاك الله خيرا فانصرف. قلت: إنّ معى زادا أريد أن آكله وأريد مؤاكلتك لتتوكّد المودّة بيننا ويرى أهل العسكرين هوانهم علينا؛ قال: فافعل. فتقدّمت اليه حتى اختلفت أعناق دوابّنا وجمعنا أرجلنا على معارفها وجعلنا نأكل والناس قد غلبوا ضحكا. فلما استوفينا ودّعنى، ثم قلت له:
إنّ هذا الجاهل، إن أقمت على طلب المبارزة ندبنى اليك فتتعب وتتعبنى، فإن رأيت ألّا تبرز اليوم فافعل. قال: قد فعلت؛ فانصرف وانصرفت. فقلت لروح:
أمّا أنا فقد كفيتك قرنى، فقل لغيرى يكفيك قرنه كما كفيتك. وخرج آخر يدعو الى البراز؛ فقال لى: اخرج اليه، فقلت:(4/41)
إنى أعوذ بروح أن يقدّمنى ... الى القتال فتخزى بى بنو أسد
إن البراز الى الأقران أعلمه ... مما يفرّق بين الرّوح والجسد
قد حالفتك المنايا إذ رصدت لها ... وأصبحت لجميع الخلق كالرّصد
إنّ المهلّب حبّ الموت أورثكم ... فما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أنّ لى مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فردا فلم أجد
قال: فضحك روح وأعفانى.
قال: وشرب أبو دلامة في بعض الحانات وسكر، فمشى وهو يميل، فلقيه العسس فأخذه؛ فقيل له: من أنت؟ وما دينك؟ فقال:
دينى على دين بنى العبّاس ... ما ختم الطّين على القرطاس
إذا اصطحبت أربعا بالكاس ... فقد أدار شربها براسى
فهل بما قلت لكم من باس
فأخذوه وخرقوا ثيابه وساجه «1» ، وأتى به الى أبى جعفر، فأمر بحبسه مع الدّجاج فى بيت. فلما أفاق جعل ينادى غلامه مرّة وجاريته أخرى فلا يجيبه أحد، وهو مع ذلك يسمع صوت الدّجاج وزقاء «2» الديك. فلمّا أكثر قال له السجّان:
ما شأنك؟ قال: ويلك! من أنت؟ وأين أنا؟ قال: أنت في الحبس، وأنا فلان السجّان. قال: ومن حبسنى؟ قال: أمير المؤمنين. قال: ومن خرق طيلسانى؟
قال: الحرس. فطلب أن يأتيه بدواة وقرطاس، ففعل فأتاه؛ فكتب الى أبى جعفر المنصور يقول:
أمير المؤمنين فدتك نفسى ... علام حبستنى وخرقت ساجى(4/42)
أمن صهباء صافية المزاج ... كأنّ شعاعها لهب السّراج
وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النّطف النّضاج
تهشّ لها القلوب وتشتهيها ... اذا برزت ترقرق في الزّجاج
أقاد الى السجون بغير جرم ... كأنى بعض عمّال الخراج!
فلو معهم حبست لكان سهلا ... ولكنى حبست مع الدجاج
وقد كانت تخبّرنى ذنوبى ... بأنى من عقابك غير ناج
على أنّى وإن لاقيت شرّا ... لخيرك بعد ذاك الشرّ راجى
فاستدعاه المنصور وقال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدّجاج. قال:
فما كنت تصنع؟ قال: أقوقىء «1» معهم الى الصباح؛ فضحك وخلّى سبيله وأمر له بجائزة. فلما خرج قال الربيع: إنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين، أما سمعت قوله:
وقد طبخت بنار الله؟ (يعنى الشمس) قال: لا والله، ما عنيت إلا نار الله الموقدة التى تطّلع على فؤاد الربيع. فضحك المنصور وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود التعرّض له.
وروى عن المدائنىّ قال: دخل أبو دلامة على المهدىّ وعنده إسماعيل بن على وعيسى بن موسى والعبّاس بن محمد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بنى هاشم؛ فقال له المهدىّ: أنا أعطى الله عهدا إن لم تهج واحدا ممن في البيت، لأقطعنّ لسانك أو لأضربنّ عنقك. فنظر اليه القوم، وكلما نظر إلى أحد منهم غمزه بأنّ علىّ رضاك. قال أبو دلامة: فعلمت أنى قد وقعت وأنها عزمة من عزماته لا بدّ منها، فلم أر أحدا أحقّ بالهجاء منّى ولا أدعى الى السلامة من هجاء نفسى، فقلت:
ألا أبلغ لديك أبا دلامه ... فلست من الكرام ولا كرامه(4/43)
إذا لبس العمامة كان «1» قردا ... وخنزيرا إذا نزع العمامه
جمعت دمامة وجمعت لؤما ... كذاك اللؤم تتبعه الذمامه
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا ... فلا تفرح فقد دنت القيامه
فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه.
قال: وخرج المهدىّ وعلىّ بن سليمان الى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظباء.
فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، ورمى المهدىّ سهما فأصاب ظبيا، ورمى علىّ بن سليمان فأصاب بعض الكلاب فقتله؛ فقال أبو دلامة:
قد رمى المهدىّ ظبيا ... شكّ بالسهم فؤاده
وعلىّ بن سليما ... ن رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما كلّ ... امرىء يأكل زاده
فضحك المهدىّ حتى كاد يسقط عن سرجه، وقال: صدق والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة سنية؛ فلقّب علىّ بن سليمان بعد ذلك صائد الكلب، فغلب عليه.
قال: وتوفّيت حمادة بنت عيسى، وحضر المنصور جنازتها؛ فلما وقف على حفرتها قال لأبى دلامة: ما أعددت لهذه الحفرة؟ قال: ابنة عمك يا أمير المؤمنين حمادة بنة عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها. فضحك المنصور حتى غلب وستر وجهه.
قال الهيثم بن عدىّ رحمة الله عليه: حجّت الخيزران، فلما خرجت، صاح أبو دلأمة: جعلنى الله فداك، الله الله في أمرى! فقالت: من هذا؟ قالوا: أبو دلامة.
فقالت: سلوه ما أمره؛ قالوا له: ما أمرك؟ قال: أدنونى من محملها؛ قالت أدنوه؛ فأدنى، فقال لها: أيها السيدة، إنى شيخ كبير وأجرك فيّ عظيم. قالت:(4/44)
فمه! قال: تهبينى جارية من جواريك تؤنسنى، وترفق بى وتريحنى من عجوز عندى؛ قد أكلت رفدى، وأطالت كدّى؛ فقد عاف جلدى جلدها، وتشوّقت فقدها.
فضحكت الخيزران وقالت: سوف آمر لك بما سألت. فلمّا رجعت تلقاها وأذكرها وخرج معها الى بغداد، فأقام حتى غرض «1» . ثم دخل على أمّ عبيدة حاضنة موسى وهارون فدفع اليها رفعة قد كتب بها الى الخيزران، فيها:
أبلغى سيّدتى بالله ... يا أمّ عبيده
أنّها أرشدها الله ... وإن كانت رشيده
وعدتنى قبل أن تخرج ... للحج وليده
فتأنّيت وأرسلت ... بعشرين قصيده
كلما أخلقن أخلفت ... لها أخرى جديده
ليس في بيتى لتمهيد ... فراشى من قعيده
غير عجفاء عجوز ... ساقها مثل القديده
وجهها أقبح من حو ... ت طرىّ في عصيده
ما حياة مع أنثى ... مثل عرسى بسعيده
فلما قرئت عليها، ضحكت ودعت بجارية من جواريها فائقة الجمال، فقالت لها:
خذى كل مالك في قصرى، ففعلت؛ ثم دعت بعض الخدم وقالت له: سلّمها الى أبى دلامة. فانطلق الخادم بها فلم يصادفه في منزله؛ فقال لامرأته: اذا رجع أبو دلامة فادفعيها اليه وقولى له: تقول لك السيدة: أحسن صحبة هذه الجارية فقد أمرت لك بها. فقالت له نعم. فلما خرج الخادم دخل ابنها دلامة فوجد أمّه تبكى؛ فسألها عن خبرها فأخبرته وقالت: إن أردت أن تبرّنى يوما من الأيام فاليوم.(4/45)
قال: قولى ما شئت فإنى أفعله. قالت: تدخل عليها فتعلمها أنك مالكها وتطؤها فتحرّمها عليه وإلا ذهبت بعقله فجفانى وجفاك، ففعل ودخل الى الجارية فوطئها ووافقها ذلك منه، وخرج. فدخل أبو دلامة فقال لامرأته: أين الجارية؟ قالت:
فى ذلك البيت، فدخل اليها شيخ محطّم ذاهب، فمدّ يده اليها وذهب ليقبّلها؛ فقالت:
مالك ويحك! تنحّ وإلّا لطمتك لطمة دققت منها أنفك. فقال لها: أبهذا أوصتك السيّدة؟ قالت: إنها بعثت بى الى فتى من هيئته وحاله كيت وكيت، وقد كان عندى آنفا ونال منى حاجته. فعلم أنه قد دهى من أمّ دلامة وابنها. فخرج أبو دلامة الى دلامة فلطمه ولبّبه «1» وحلف ألّا يفارقه إلا الى المهدىّ. فمضى به ملببّا «2» حتى وقف بباب المهدىّ، فعرّف خبره؛ وأنه جاء بابنه على تلك الحال. فأمر بإدخاله فلما دخل قال: مالك؟ قال: فعل بى هذا ابن الخبيثة ما لم يفعله ولد بأبيه، ولا يرضينى إلا أن تقتله. قال: ويحك! وما فعل بك؟ فأخبره الخبر؛ فضحك حتى استلقى ثم جلس. فقال له أبو دلامة: أعجبك فعله فتضحك منه؟! فقال: علىّ بالسيف والنّطع. فقال له دلامة: قد سمعت قوله يا أمير المؤمنين، فاسمع حجّتى. قال:
هات! قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجها، هو يفعل بأمّى منذ أربعين سنة ما غضبت، وفعلت أنا بجاريته مرّة واحدة غضب وصنع بى ما ترى. فضحك المهدىّ أشدّ من ضحكه الأوّل، ثم قال: دعها له يا أبا دلامة، وأنا أعطيك خيرا منها؛ قال: على أن تخبأها لى بين السماء والأرض وإلا فعل بها والله كما فعل بهذه؛ فتقدّم إلى دلامة ألّا يعاود مثل فعله، وحلف أنه إن عاود قتله، ثم وهب له جارية.(4/46)
قال عبد الله بن صالح رحمه الله: جاء ابن أبى دلامة يوما الى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته فجلس بين يديه، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم: إنّ شيخى كما ترون قد كبر سنّه ورقّ جلده ودقّ عظمه، وبنا الى حياته حاجة شديدة، فلا أزال أشير عليه بالشىء يمسك رمقه ويبقى قوّته فيخالفنى فيه، وإنى أسألكم أنّ تسألوه قضاء حاجة لى أذكرها بحضرتكم فيها صلاح جسمه وبقاء حياته، فأسعفونى بمسألته معى.
فقالوا: نفعل حبّا وكرامة؛ ثم أقبلوا على أبى دلامة بألسنتهم فتناولوه بالعتاب حتى رضى ابنه وهو ساكت، قال: قولوا للخبيث فليقل ما يريد، فستعلمون أنه لم يأت إلا ببليّة.
فقالوا له: قل؛ فقال: إن أبى إنما قتله كثرة الجماع، فتعاونونى حتى أخصيه، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء فيكون أصحّ لجسمه وأطول لعمره. فعجبوا بما أتى به وضحكوا. ثم قالوا لأبى دلامة: قد سمعت فأجب. قال: قد سمعتم أنتم فعرّفتكم أنه لم يأت بخير. قالوا: فما عندك في هذا؟ قال: قد جعلت أمّه حكما فيما بينى وبينه، فقوموا بنا اليها. فقاموا بأجمعهم ودخلوا اليها، وقصّ أبو دلامة القصة عليها وقال: قد حكّمتك. فأقبلت على الجماعة فقالت: إن ابنى هذا أبقاه الله قد نصح أباه ولم يأل جهدا، وما أنا إلى «1» بقاء أبيه أحوج منى الى بقائه، وهذا أمر لم يقع به تجربة منّا ولا جرى بمثله عادة لنا؛ وما أشك في معرفته بذلك، فليبدأ بنفسه فليخصها، فاذا عوفى ورأينا ذلك قد أثّر عليه أثرا محمودا استعمله أبوه. فضحك أبوه والقوم وانصرفوا يعجبون من خبثهم جميعا.
ومنهم أبو صدقة.(4/47)
ذكر شىء من نوادر أبى صدقة
هو أبو صدقة مسكين بن صدقة من أهل المدينة مولى لقريش، قال أبو الفرج:
وكان مليح الغناء طيب الصوت كثير الرواية صالح الصنعة، من أكثر الناس نادرة وأخفّهم روحا وأشدّهم طمعا وألحّهم مسألة، وهو من المغنّين الذين أقدمهم الرشيد من الحجاز في أيامه. قيل: إنه عوتب على كثرة إلحاحه في المسألة، فقال: وما يمنعنى من ذلك، واسمى مسكين وكنيتى أبو صدقة وابنتى فاقة وابنى صدقة، فمن أحقّ بهذا منى؟ وكان الرشيد يعبث به كثيرا؛ فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع وإبراهيم الموصلىّ وزبير بن دحمان وزلزل وبرصوما وابن أبى مريم المدينىّ: إذا رأيتمونى قد طابت نفسى، فليسأل كل واحد منكم حاجة، مقدارها مقدار صلته، وذكر لكل واحد منهم مبلغ ذلك، وأمرهم أن يكتبوا أمرهم عن أبى صدقة؛ فقال لهم مسرور ما أمر به الرشيد. ثم أذن الرشيد لأبى صدقة قبل إذنه لهم. فلما جلس قال له:
يا أبا صدقة، لقد أضجرتنى بكثرة مسألتك وأنا في هذا اليوم ضجر وأحببت أن أتفرّج وأفرح، ولست آمن أن تنغص علىّ مجلسى بمسألتك، فإما أن تعفينى أن تسألنى اليوم حاجة وإلّا فانصرف. فقال له: لست من يومى هذا الى شهر أسألك حاجة. فقال له الرشيد: أمّا إذ شرطت لى هذا على نفسك فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار وها هى ذه فخذها طيبة معجلة، فإن سألتنى شيئا بعدها من هذا اليوم فلا لوم علىّ إن لم أصلك سنة بشىء. فقال: نعم وسنتين. فقال له الرشيد: زدنى في الوثيقة.
فقال: قد جعلت أمر أمّ صدقة في يدك فطلّقها متى شئت، إن شئت واحدة وإن شئت ألفا إن سألتك في يومى هذا حاجة، وأشهدت الله ومن حضر على ذلك. فدفع اليه المال، ثم أذن للجلساء والمغنّين فدخلوا وشرب القوم. فلما طابت نفس الرشيد، قال له ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيّتى،(4/48)
وكثر إحسانك إلىّ حتى كبتّ أعدائى وقتلتهم، وليس لى بمكة دار تشبه حالى، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لى بمال أبنى به دارا وأفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائى وأزهق نفوسهم فعل. فقال له: وكم قدّرت لذلك؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها. وقام إبراهيم الموصلىّ فقال: يا أمير المؤمنين، قد ظهرت نعمتك علىّ وعلى الكبار من ولدى؛ وفي أصاغرهم من أحتاج [إلى «1» ] ختانه، وفيهم صغار أحتاج أن أتخذ لهم خدما؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتى على ذلك فعل. فأمر له بمثل ما أمر به لابن جامع. وجعل كل واحد منهم يقول في الثناء ما يحضره ويسأل حاجته على قدر جائزته، وأبو صدقة ينظر إلى الأموال تفرّق يمينا وشمالا، فوثب قائما ورمى بالدنانير من كمّه وقال للرشيد: أقلنى أقال الله عثرتك. فقال الرشيد: لا أفعل.
فجعل يستحلفه ويضطرب ويلّح والرشيد يضحك ويقول: مالى إلى ذلك سبيل، الشرط أملك. فلمّا عيل صبره أخذ الدنانير ورمى بها بين يدى الرشيد وقال:
هاكها قد رددتها عليك وزدتك أمّ صدقة فطلّقها واحدة إن شئت وإن شئت ألفا.
وإن لم تلحقنى بجوائز القوم فألحقنى بجائزة هذا البارد عمرو الغزّال- وكانت جائزته ثلاثة آلاف دينار- فضحك حتى استلقى ثم رد عليه الخمسمائة الدينار وأمر له بألف أخرى معها، وكان ذلك أكثر ما أخذه منذ خدمه إلى أن مات، رحمة الله عليهم.
وروى أبو الفرج عن أبى إسحاق قال: مطرنا ونحن مع الرشيد بالرّقّة مع الفجر فاتّصل إلى غد ذلك اليوم، وعرفنا خبر الرشيد أنه مقيم عند أمّ ولده المسماة سحر، فتشاغلنا عنه في منازلنا. فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد فحضرنا جميعا، وأقبل يسأل كلّ واحد منا عن يومه الماضى وما صنع فيه؛ فيخبره إلى أن انتهى(4/49)
إلى جعفر بن يحيى، فسأله عن خبره فقال له: كان عندى أبو زكّار الأعمى وأبو صدقة، وكان أبو زكّار كلّما غنّى صوتا، لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة؛ فإذا انتهى الدور اليه أعاده وحكى أبا زكّار فيه وحركاته وشمائله، ويفطن أبو زكّار لذلك فيجنّ ويموت غيظا ويشتم أبا صدقة كلّ الشتم حتى يضجر، وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به وأنا أضحك من ذلك، إلى أن توسّطنا الشرب وسمئنا من عبثه به؛ فقلت له: دع هذا عنك وغنّ غناءك. فغنّى رملا ذكر أنه من صنعته، فطربت له والله يا أمير المؤمنين طريا ما أذكر أنى طربت مثله منذ حين «1» وهو:
فتنتنى بفاحم اللون جعد ... وبثغر كأنه نظم درّ
وبوجه كأنه طلعة البد ... روعين في طرفها نفث سحر
فقلت له: أحسنت والله يا أبا صدقة! فلم أسكت من هذه الكلمة حتى قال:
يا سيدى إنى قد بنيت دارا أنفقت عليها جميع مالى وما أعددت لها فرشا فآفرشها لى.
فتغافلت عنه. وعاود الغناء فتعمّدت أن «2» قلت: أحسنت، فسألنى فتغافلت؛ فقال:
يا سيدى، هذا التغافل متى حدث لك؟ سألتك بالله وبحقّ أبيك عليك إلا أجبتنى عن كلامى ولو بشتم. فأقبلت عليه وقلت له: أنت والله بغيض، اسكت يا بغيض، واكفف عن هذه المسألة الملحّة. فوثب من بين يدىّ، فقلت: إنه قد خرج لحاجة، فإذا هو قد نزع ثيابه وتجرّد منها خوفا من أن تبتلّ ووقف تحت السماء لا يواريه شىء والمطر يأخذه ورفع رأسه وقال: يا ربّ أنت تعلم أنى مله ولست نائحا، وعبدك الذى قد رفعته وأحوجتنى الى خدمته يقول لى: أحسنت لا يقول لى: أسأت، وأنا مذ جلست أقول له: بنيت ولا أقول له: هدمت، فيحلف(4/50)
بك جرأة عليك أنى بغيض، فاحكم بينى وبينه فأنت خير الحاكمين. فغلبنى الضحك وأمرت به فتنحّى، وجهدت به أن يغنّى فامتنع، حتى حلفت له بحياتك أنى أفرش له داره يا أمير المؤمنين، وخدعته فلم أسمّ له بما أفرشها. فقال له الرشيد: طيّب والله! الآن تمّ لنا به اللهو، أدعه فإنه اذا رآك سوف يتنجّزك الفرش لأنك حلفت له بحياتى فهو يقتضيك ذاك بحضرتى ليكون أوفق له؛ فقل له: أنا أفرشها لك بالبوارىّ «1» وحاكمه الىّ. ثم دعا به فحضر؛ فلما استقرّ في المجلس قال لجعفر: الفرش الذى حلفت بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به دارى، تقدّم به. فقال له جعفر: اختر، إن شئت فرشتها لك بالبوارىّ وإن شئت فبالبردىّ من الحصر؛ فصاح واضطرب.
فقال له الرشيد: وكيف كانت القصة؟ فأخبره، فقال له: أخطأت يا أبا صدقة إذ لم تسمّ النوع ولا حدّدت «2» القيمة؛ فاذا فرشها لك بالبردىّ أو بما دون ذلك فقد برّ فى يمينه، وإنما خدعك ولم تفطن أنت ولا توثّقت وضيّعت حقّك. فسكت ثم قال:
نوفّر أيضا البردىّ والبوارىّ عليه أعزّه الله. وغنّى المغنّون حتى انتهى الدور اليه، فأخذ يغنّى غناء الملّاحين والبنّائين والسقّائين وما يجرى مجراه من الغناء. فقال له الرشيد: أى شىء هذا الغناء؟ قال: من فرش داره بالبوارىّ والبردىّ فهذا الغناء كثير منه، [وكثير «3» ] أيضا لمن هذه صلته. فضحك الرشيد وطرب وصفّق وأمر له بألف دينار من ماله، وقال له: افرش دارك بهذه. فقال: وحياتك يا أمير المؤمنين لا آخذها أو تحكم لى على جعفر بما وعدنى وإلا متّ والله أسفا لفوات ما حصل في طمعى ووعدت به؛ فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار أخرى، فأمر له جعفر بها.(4/51)
ذكر شىء من نوادر الأقيشر «1»
هو أبو معرض المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن معرض بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر. والأقيشر لقب غلب عليه لأنه كان أحمر الوجه أقيشر. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وعمّر الأقيشر عمرا طويلا، ولعله ولد في الجاهلية ونشأ في الإسلام، وكان أبعد بنى أسد نسبا. قال: وكان كوفيّا خليعا ماجنا مدمنا للخمر. وهو الذى يقول لنفسه:
فإنّ أبا معرض إذ حسا ... من الرّاح كأسا على المنبر
خطيب لبيب أبو معرض ... فإن ليم في الخمر لم يصبر،
أحلّ الحرام أبو معرض ... فصار خليعا على المكبر
يحبّ اللئام ويلحى الكرام ... وإن أقصروا عنه لم يقصر
قال: وشرب الأقيشر في بيت خمّار بالحيرة، فجاءه الشّرط ليأخذوه، فتحرّز منهم وأغلق الباب وقال: لست أشرب فما سبيلكم علىّ؟ قالوا: قد رأينا العسّ فى كفّك وأنت تمثرب. فقال: إنما شربت من لبن لقحة لصاحب هذه الدار، فما برحوا حتى أخذوا منه درهمين. فقال:
إنما لقحتنا باطية «2» ... فاذا ما مزجت كانت عجب
لبن أصفر صاف لونه ... ينزع الباسور من عجب «3» الذّنب
إنما نشرب من أموالنا ... فسلوا الشرطىّ ما هذا الغضب؟(4/52)
وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن أبى عمرو الشيبانىّ وغيره قال: كان الأقيشر لا يسأل أحدا أكثر من خمسة دراهم، يجعل درهمين للشراب ودرهما للطعام ودرهمين في كراء بغل الى الحيرة. وكان له جاريكنى أبا المضاء، له بغل يكريه، فكان يعطيه درهمين ويأخذ بغله فيركبه الى الحيرة حتى يأتى به بيت الخمّار فينزل عنه ويربطه، ثم يجلس للشرب حتى يمسى ثم يركبه. وله في ذلك أشعار كثيرة.
قال وتزوّج الأقيشر ابنة عمّ له يقال لها الرّباب، على أربعة آلاف درهم- ويقال: على عشرة آلاف درهم- فأتى قومه فسألهم فلم يعطوه شيئا، فأتى ابن «1» رأس البغل وهو دهقان «2» الصين، وكان مجوسيّا، فسأله فأعطاه الصّداق كاملا؛ فقال:
كفانى المجوسىّ همّ «3» الرّباب ... فدى للمجوسىّ خال وعمّ
شهدت بأنك رطب «4» اللسان ... وأنك بحر جواد خضمّ
وأنك سيد أهل الجحيم ... اذا ما تردّيت فيمن ظلم
تجاور هامان»
فى قعرها ... وفرعون والمكتنى بالحكم
فقال له المجوسىّ: ويحك! سألت قومك فما أعطوك شيئا، وجئتنى فأعطيتك فجزيتنى هذا القول ولم أفلت من شرّك! قال: أو ما ترضى أن جعلتك مع الملوك وقرين أبى جهل؟. قال: ثم جاء الى عكرمة بن ربعىّ التميمىّ، فسأله فلم يعطه؟
شيئا؛ فقال فيه:(4/53)
سألت ربيعة من شرّها ... أبا ثم أمّا فقالوا لمه
فقلت لأعلم من شرّكم ... وأجعل للسبّ فيه سمه
فقالوا لعكرمة المخزيات ... وماذا يرى الناس في عكرمة
فإن يك عبدا زكا ماله ... فما غير ذا فيه من مكرمه
قال الأصمعى: قال عبد الملك بن مروان للأقيشر: أنشدنى أبياتك في الخمر؛ فأنشده قوله:
تريك القذى من دونها وهى دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب
كميت اذا شجّت «1» وفي الكأس وردة ... لها في عظام الشاربين دبيب
فقال له: أحسنت والله يا أبا معرض! لقد أجدت في وصفها، وأظنك قد شربتها. فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنه ليريبنى معرفتك بها. قال: وكان الأقيشر يأتى إخوانا له فيسألهم فيعطونه، فأتى رجلا منهم فأمر له بخمسمائة درهم فأخذها ومضى الى الحانة فدفعها الى صاحبها، وقال له: أقم لى ما أحتاج اليه، ففعل.
فانضم اليه رفقاء له فلم يزل معهم حتى نفدت الدراهم؛ فأتاهم بعد إنفاقها فاحتملوه يوما ويوما. فلما أتاهم في اليوم الثالث نظروا اليه من بعيد، فقالوا لصاحب الحانة: اصعد بنا الى الغرفة، وأعلم الأقيشر أنا لم نأت اليوم، ففعل. فلما جاء الأقيشر أعلمه بما قالوا، فعلم أنه لا فرج له عند صاحب الحانة إلا برهن، فطرح اليه بعض ثيابه وقال له: أقم لى ما أحتاج اليه، ففعل. فلما أخذ منه الشراب أخذ يقول:
يا خليلىّ اسقيانى كأسا ... ثمّ كأسا حتى أخرّ نعاسا(4/54)
إن في الغرفة التى فوق رأسى ... لأناسا يخادعون أناسا
يشربون المعتّق الراح صرفا ... ثم لا يرفعون للزّور «1» راسا
قال: فلما سمع أصحابه هذا الشعر، فدّوه بآبائهم وأمهاتهم، ثم قالوا له: إمّا أن تصعد الينا وإما أن ننزل اليك، فصعد اليهم.
قال: وكان يختلف الى رجل من بنى تميم وكان يجرى عليه في كل شهر عشرة دراهم؛ فجاءه مرة فوجده قد أصيب بابنه، فردّته امرأته عنه، ثم عاد بعد ذلك بيومين فردّته عنه أيضا؛ فكتب اليه بيتى شعر ودفع الرقعة اليها وقال: أوصليها اليه؛ فقرأها، فاذا فيها:
ألا أبلغ لديك أبا هشام ... فإن الريح أبردها الشّمال
عداتك في الهلال عدات صدق ... فهل سمنت كما سمن الهلال
فلما قرأ الرقعة أمر بردّه وقال: لقد سمنت وما بقى إلا الهزال إن تأخرت، فأمر له بها وزادها خمسة دراهم.
وكان الأقيشر مع شرفه وشعره يرضيه اليسير ويسخطه. وأخباره كثيرة ونوادره مشهورة، وفيما أوردناه منها كفاية. ومات الأقيشر قتيلا. وقيل: إنه مدح عبد الله بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله فلم يعطه شيئا فهجاه؛ فزعموا أنّ غلمانا لعبد الله بن إسحاق قتلوه؛ فاجتمع بنو أسد وادّعوا عليه قتل الأقيشر؛ فاقتدى منهم بديته. وقال ابن الكلبىّ: كان الأقيشر مولعا بهجاء عبد الله بن إسحاق ومدح أخيه زكريا. فقال لغلمانه: ألا تريحوننى منه! فانطلقوا فجمعوا بعرا وقصبا(4/55)
بظهر الكوفة وجعلوه في وسط إرة «1» ، وأقبل الأقيشر سكرانا من الحيرة على بغل أبى المضاء المكارى، فأنزلوه عن البغل وشدّوه رباطا ثم وضعوه في تلك الإرة وألهبوا النار في القصب والبعر فمات، ولم يعلم من قتله. والله أعلم.
ذكر شىء من نوادر ابن سيّابة
هو إبراهيم بن سيّابة مولى بنى هاشم. كان يقال: إن جدّه حجام أعتقه بعض الهاشميين. قدّمه إبراهيم الموصلىّ وابنه إسحاق لأنه مدحهما فرفعا من قدره وغنيّا بشعره ونوّها بذكره. وكان خليعا ما جنا حسن النادرة. وله نوادر نذكر منها نبذا فيما رواه أبو الفرج الأصفهانىّ. منها مارواه عن إسحاق الموصلىّ قال: أتى إبراهيم ابن سيابة وهو سكران ابنا لسوّار بن عبد الله القاضى أمرد، فعانقه وقبّله؛ وكانت معه داية يقال لها رحاص، فقيل لها: إنه لم يقبّله تقبيل التسليم، وإنما قبّله شهوة؛ فلحقته الداية فشتمته وأسمعته كلّ ما يكره، وهجره الغلام بعد ذلك؛ فقال:
لئن لثمتك سرّا ... فأبصرتنى رحاص
وقال في ذاك قوم ... على انتقاصى حراص
هجرتنى وأتتنى ... شتيمة وانتقاص
فهاك فاقتصّ منى ... إنّ الجروح قصاص
وقد قيل: إنّ رحاص هذه كانت مغنّية كان الغلام يهواها، وإنه سكر ونام، فقبّله ابن سيّابة. فلما انتبه قال للمغنيّة: ليت شعرى! ما كان خبرك مع ابن سيّابة؟
فقالت له: سل عن خبرك أنت معه، وحدّثته بالقصة؛ فهجره الغلام، فقال هذا الشعر.(4/56)
وقال إسحاق بن إبراهيم: كان ابن سيّابة عندنا يوما مع جماعة تتحدّث ونتناشد وهو ينشد شيئا من شعره، فتحرّك فضرط فضرب بيده على استه غير مكترث وقال:
إما أن تسكتى حتى أتكلّم، وإما أن تتكلّمى حتى أسكت.
وقال جعفر الكاتب: قال لى إبراهيم بن سيّابة الشاعر: اذا كان عند جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة، فإن المصيبة عندك أكبر منها عند القوم، وبيتك أولى بالمأتم من بيتهم. وقال سليمان بن يحيى بن معاذ:
قدم علىّ إبراهيم بن سيّابة بنيسابور فأنزلته علىّ، فجاء ليلة من الليالى فجعل يصيح:
يا أبا أيّوب، فخشيت أن يكون قد غشيه شىء، فقلت: ما تشاء؟ فقال:
أعيانى الشادن الربيب
قلت بماذا؟ فقال:
أكتب أشكو فلا يجيب
فقلت: داره وداوه، فقال:
من أين أبغى شفاء قلبى ... وإنما دائى الطبيب
فقلت: لا دواء إذا إلا أن يفرّج الله عزّوجلّ عنك. فقال:
يا رب فرّج إذا وعجّل ... فإنك السامع المجيب
ثم انصرف. وقد تقدّمت هذه الحكاية. والسلام.
ذكر شىء من نوادر مطيع بن إياس الكنانىّ وأخباره
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو شاعر من مخضرمى الدولتين الأمويّة والعباسيّة. كان ظريفا خليعا ما جنا حلو العشرة مليح النادرة قال: وكان متهما فى دينه بالزندقة. وكان مولده ومنشؤه بالكوفة، وكان منقطعا الى الوليد بن عبد الملك، ثم اتصل بخدمة الوليد بن يزيد. وكان سبب ذلك ما حكى عن حكم(4/57)
الوادىّ المغنّى، قال: غنّيت الوليد بن يزيد وهو غلام حديث السنّ بشعر مطيع بن أياس وهو:
إكليلها ألوان ... ووجهها فتّان
وخالها فريد ... ليس له جيران
اذا مشت تثنّت ... كأنها ثعبان
قد جدلت فجاءت ... كأنها عنان
فطرب حتى زحف عن مجلسه الىّ، واستعادنى الصوت حتى صحل «1» صوتى؛ ثم قال: ويحك! من يقول هذا؟ فقلت: عبد لك يا أمير المؤمنين أرضاه لخدمتك.
قال: ومن هو؟ قلت: مطيع بن إياس. قال: وأين هو؟ قلت: بالكوفة؛ فأمر أن يحمل اليه مع البريد، فحمل اليه؛ فسأله عن الشعر فقال: من يقول هذا؟ فقال:
عبدك أنا يا أمير المؤمنين. فقال له: أدن منى، فدنا منه فضمّه الوليد اليه وقبّل فاه وبين عينيه، وقبّل مطيع رجليه والأرض بين يديه؛ ثم أدناه حتى جلس في أقرب المجالس اليه، واصطبح معه أسبوعا متوالى الأيام على هذا الصوت. وكان في خلال الدولة الأمويّة ينقطع الى أوليائها وعلمائها، ثم انقطع في الدولة العباسيّة الى جعفر ابن أبى جعفر المنصور فكان معه حتى مات جعفر. ومات مطيع في خلافة الهادى بعد ثلاثة أشهر مضت منها. وله نوادر وأخبار مستظرفة هذا موضع ذكرها، فلنقتصر هاهنا من أخباره عليها دون غيرها.
قيل: سقط لمطيع حائط؛ فقال له بعض أصحابه: احمد الله على السلامة.
قال: احمد الله أنت إذ لم ترعك هدته، ولم يصبك غباره، ولم تغرم أجرة بنائه.(4/58)
ومن أخباره ما رواه أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناده الى عبد الملك المروانىّ عن مطيع بن إياس، قال: قال لى حماد عجرد يوما: هل لك أن أريك «خشّة» صديقتى وهى المعروفة بظبية الوادى! قلت نعم. قال: إنك إن قعدت عندها «1» وخبثت عينك فى النظر أفسدتها علىّ. فقلت: لا والله لا أتكلّم بكلمة تسوءك ولأسرنّك. فمضى بى وقال: والله لئن خالفت ما قلت لأخرجنّك. قال: قلت: إن خالفت إلى ما تكره فاصنع بى ما أحببت. قال: امض بنا فمضينا، فأدخلنى على أحسن خلق الله وأظرفهم وأحسنهم وجها. فلما رأيتها أخذنى الزّمع «2» ؛ وفطن لى فقال: اسكت يابن الزانية، فسكتّ قليلا، فلحظتنى ولحظتها لحظة أخرى فغضب ووضع قلنسوته عن رأسه، وكانت صلعته حمراء كأنها است قرد؛ فلما وضعها وجدت للكلام موضعا، فقلت:
وإن السوءة السوءا ... يا حمّاد عن خشّه
عن الأترجّة الغضّ ... ة والتفّاحة الهشّه
فالتفت الىّ وقال: فعلتها يابن الزانية! فقالت له: أحسن، فو الله ما بلغ صفتك بعد، فما تريد منه! فقال لها: يا زانية! فسبّته وتثاورا، فشقّت قميصه وبصقت في وجهه وقالت له: ما يصادقك ويدع مثل هذا إلا زانية، وخرجنا وقد لقى كلّ بلاء، وقال لى: ألم أقل لك يابن الزانية: إنك ستفسد علىّ مجلسى! فأمسكت عن جوابه، وجعل يهجونى ويسبنى ويشكونى الى أصحابنا؛ فقالوا لى:
اهجه ودعنا وإياه؛ فقلت:
ألا يا ظبية الوادى ... وذات الجسد الرادى
وزين المصر والدار ... وزين الحىّ والنادى(4/59)
وذات المبسم العذب ... وذات المبسم البادى
أما بالله تستحي ... ين من خلّة حمّاد
فحمّاد فتى ليس ... بذى عزّ فتنقادى
ولا مال ولا طرف ... ولا حظّ «1» لمرتاد
فتوبى واتقى الله ... وبتّى حبل عجراد
فقد ميّزت بالحسن ... عن الخلق بإفراد
وهذا البين قد حمّ ... فجودى لى بالزاد
قال: فأخذ أصحابنا رقاعا فكتبوا الأبيات فيها وألقوها في الطريق، وخرجت أنا فلم أدخل عليهم ذلك اليوم، فلما رآها وقرأها قال لهم: يا أولاد الزنا فعلها ابن الزانية وساعدتموه؟ قال: وأخذها حكم الوادىّ فغنّى بها، فلم يبق بالكوفة سقّاء ولا طحّان ولا مكار إلا غنّى فيها ثم غبت مدّة وقدمت فأتانى فما سلّم علىّ حتى قال لى:
أما بالله تستحي ... ين من خلّة حمّاد
قتلتنى قتلك الله! والله ما كلمتنى حتى الساعة. قال: قلت: اللهم أدم هجرها له وسوء رأيها فيه وأسفه عليها وأغوه بها؛ فشتمنى ساعة. قال مطيع: ثم قلت له: قم امض بنا حتى أريك أختى- وكانت لمطيع صديقة يسمّيها أختى وتسمّيه أخى، وكانت مغنّية- فلما خرجت الينا، دعوت قيّمة لها فأسررت إليها في أن تصلح لنا طعاما وشرابا، وعرفتها أن الذى معى حمّاد فضحكت. ثم أخذت صاحبتى في الغناء وقد علمت بموضعه وعرفت، فكان أوّل ما غنّت:
أما بالله تستحيين ... من خلّة حمّاد(4/60)
فقال لها: يا زانية! وأقبل علىّ وقال: وأنت يا زانى يابن الزانية! أسررت هذا الى قيّمتها! فقلت: لا والله كذبت. وشاتمته صاحبتى ساعة ثم قامت فدخلت، وجعل يتغيّظ علىّ. فقلت: أنت ترى أنى أمرتها أن تغنّى بما غنّت؟ فقال: أرى ذلك وأظنّه ظنّا لا والله ولكنى أتيقنه. فحلفت له بالطلاق على بطلان ظنّه وانصرفنا.
وحكى قال يحيى بن زياد المحاربىّ لمطيع وكان صديقا له: انطلق بنا الى فلانة صديقتى، فإن بينى وبينها مغاضبة لتصلح بيننا وبئس المصلح والله أنت. قال:
فدخلا «1» عليها، فأقبلا يتعاتبان ومطيع ساكت، حتى اذا أكثر قال يحيى: ما يسكتك؟
أسكت الله نأمتك «2» ! قال مطيع:
أنت معتلّة عليه وما زا ... ل مهينا لنفسه في رضاك
فأعجب يحيى وهشّ له. فقال مطيع:
فدعيه وواصلى ابن إياس ... جعلت نفسه الغداة فداك
فقام يحيى اليه بوسادة في البيت فما زال يجلد بها رأسه ويقول: ألهذا جئت بك يابن الزانية! ومطيع يغوّث «3» حتى ملّ يحيى، والجارية تضحك منهما، ثم تركه.
وروى عن محمد بن الفضل السكونىّ قال: رفع صاحب الخبر الى المنصور أن مطيع بن إياس زنديق وأنه يلازم ابنه جعفر وجماعة من أهل بيته، ويوشك أن يفسد أديانهم أو ينسبوا الى مذهبه. فقال له المهدىّ: أنا به عارف، أما الزندقة فليس من أهلها، ولكنه خبيث الدين فاسق مستحلّ للمحارم؛ قال: فأحضره وانهه «4» عن صحبة جعفر وسائر أهله؛ فأحضره المهدىّ وقال له: يا خبيث يا فاسق! لقد(4/61)
أفسدت أخى ومن تصحبه من أهلى، والله لقد بلغنى أنهم يتقارعون عليك، ولا يتم لهم سرور إلا بك، وقد غررتهم وشهرتهم في الناس، ولولا أنى شهدت لك عند أمير المؤمنين بالبراءة مما نسبت اليه من الزندقة، لقد كان أمر بضرب عنقك! يا ربيع اضربه مائة سوط واحبسه. قال: ولم يا سيدى؟ قال: لانك سكّير خميّر قد أفسدت أهلى كلّهم بصحبتك. فقال له: إن أذنت لى وسمعت احتججت.
فقال له: قل؛ فقال: أنا امرؤ شاعر، وسوقى إنما تنفق مع «1» الملوك وقد كسدت عندكم، وأنا في أيامكم مطّرح «2» ، وقد رضيت منها مع سعتها للناس جميعا بالأكل على مائدة أخيك، لا يتبع ذلك غيره، وأصفيته على ذلك شكرى وشعرى؛ فإن كان ذلك غاليا عندك تبت منه. فأطرق المهدىّ ثم رفع رأسه فقال: قد رفع إلىّ صاحب الخبر أنك تتماجن على السؤّال، وتضحك منهم. قال: لا والله ما ذاك من فعلى ولا شأنى ولا جرى منّى قط إلا مرة واحدة؛ فإن سائلا أعمى اعترضنى وقد عبرت الجسر على بغلتى، فظنّنى من الجند فرفع عصاه في وجهى، ثم صاح: اللهم سخّر الخليفة لأن يعطى للجند أرزاقهم فيشتروا من التجار الأمتعة وتربح التجار عليهم فتدرّ أموالهم فتجب فيها الزكاة عليهم فيتصدّقوا علىّ منها. فنفرت بغلتى من صياحه ورفعه عصاه في وجهى حتى كدت أسقط في الماء. فقلت: يا هذا، ما رأيت أكثر فضولا منك، سل الله أن يرزقك ولا تجعل بينك وبينه هذه الحوالات والوسائط التى لا يحتاج إليها فإن هذه المسائل فضول. فضحك الناس منه ورفع علىّ في الخبر [قولى له هذا «3» ] . فضحك المهدىّ وقال: خلّوه ولا يضرب ولا يحبس. فقال له:
أدخل عليك لموجدة وأخرج عن رضا وتبرأ ساحتى وأنصرف بلا جائزة! قال:(4/62)
لا يجوز هذا، اعطوه مائتى دينار، ولا يعلم أمير المؤمنين فتجدّد عنده ذنوبه؛ وقال له: اخرج عن بغداد ودع صحبة جعفر حتى ينساك أمير المؤمنين، ثم عد إلىّ.
فقال له: فأين أفصد؟ قال: أكتب الى سليمان بن علىّ فيولّيك عملا ويحسن اليك. قال: قد رضيت. فوفد الى سليمان بكتاب المهدىّ فولّاه الصدقة بالبصرة، وكان عليها داود بن أبى هند فعزله به.
وأخباره في هذا الباب كثيرة أغضينا عن كثير منها.
ذكر شىء من نوادر أبى الشّبل
هو عاصم بن وهب بن البراجم. مولده الكوفة. نشأ وتأدّب بالبصرة. وفد إلى سامرّاء «1» أيام المتوكل ومدحه. وكان طيّبا كثير الغزل والنوادر والمجون. فنفق عند المتوكل وخدمه واختصّ به وامتدحه بقوله:
أقبلى فالخير مقبل ... واتركى قول المعلّل
وثقى بالنّجح إن ... أبصرت وجه المتوكّل
ملك ينصف يا ظا ... لمتى فينا ويعدل
فهو الغاية والمأ ... مول يرجوه المؤمّل
فأمر له بثلاثين ألف درهم. وله أخبار مستظرفة تتضمن شعرا ونوادر تدلّ على ظرفه سنذكر منها طرفا. فمن ذلك ما حكى عنه: أنه مدح مالك بن طوق، وقدّر أن يعطيه ألف درهم. فبعث اليه بصرة مختومة فيها مائة دينار، فظن أنها دراهم فردها اليه وكتب معها:
فليت الذى جادت به كفّ مالك ... ومالك مدسوسان في است أمّ مالك(4/63)
وكان الى يوم القيامة في استها ... فأيسر مفقود وأيسر هالك
وكان مالك يومئذ أميرا على الأهواز. فلما قرأ الرقعة أمر بإحضاره فأحضر وقال:
ما هذا؟ ظلمتنا واعتديت علينا. فقال: قدّرت عندك ألف درهم فوصلتنى بمائة درهم. فقال: افتحها؛ ففتحها فإذا فيها مائة دينار؛ فقال: أقلنى أيها الأمير. فقال:
قد أقلتك ولك كل ما تحب أبدا ما بقيت وقصدتنى.
قال: وكان له جار طبيب أحمق، فمات فرثاه فقال:
قد بكاه بول المريض بدمع ... واكف فوق مقلتيه ذروف
ثم شقّت جيوبهن القواري ... ر عليه ونحن نوح اللهيف
يا كساد الخيار شنبر والأقراص ... طرّا ويا كساد السفوف
كنت تمشى مع القوىّ فإن جا ... ضعيف لم تكترث بالضعيف
لهف نفسى على صنوف رقاعا ... ت تولّت منه وعقل سخيف
وقال أبو الشبل: كان خالد بن يزيد بن هبيرة يشرب النبيذ، وكان يغشانا، وكانت له جارية صفراء مغنية يقال لها لهب، كانت تغشانا معه، وكنت أعبث بها كثيرا. فقام مولاها يوما الى الخابية «1» يستقى نبيذا، فاذا قميصه قد انشقّ؛ فقلت فيه:
قالت له لهب يوما وجاد لها ... بالشّعر في باب فعلان ومفعول
أمّا القميص فقد أزرى «2» الزمان به ... فليت شعرى ما حال السراويل
قال أبو الشبل: وكانت أمّ خالد هذا ضرّاطة تضرط على صوت العيدان وغيرها فى الإيقاع. فقلت فيه:
فى الحىّ من لا عدمت خلّته ... فتى إذا ما قطعته وصلا(4/64)
له عجوز بالحبق «1» أبصر من ... أبصرته ضاربا ومرتجلا
نادمته مرّة وكنت فتى ... ما زلت أهوى وأشتهى الغزلا
حتى إذا ما أمالها سكر ... يبعث «2» فى قلبها لها مثلا
اتّكأت يسرة وقد خرفت «3» ... أشراجها كى تقوّم الرّملا
فلم تزل إستها تطارحنى ... اسمع إلى من يسومنى العللا
وقال محمد بن المرزبان: كنت أرى أبا الشبل كثيرا عند أبى، وكان إذا حضر أضحك الثكلى بنوادره. فقال له أبى يوما: حدّثنا ببعض نوادرك وطرائفك.
قال نعم. من طرائف أمورى أن ابنى زنى بجارية سنديّة لبعض جيرانى، فحبلت وولدت؛ وكانت قيمة الجارية عشرين دينارا. فقال: يا أبت، الصبىّ والله ابنى، فساومت فيه فقيل لى: خمسون دينارا. فقلت له: ويلك! كنت تخبرنى وهى حبلى فأشتريها بعشرين دينارا ونربح الفضل بين الثمنين! وأمسكت عن المساومة بالصبى حتى اشتريته من القوم بما أرادوا. ثم أحبلها ثانيا فولدت ابنا آخر، فجاء يسألنى أن أبتاعه؛ فقلت: عليك لعنة الله، أى شىء حملك على أن تحبل هذه، هلا عزلت عنها! فقال: إنى لا أستحلّ العزل. ثم أقبل على جماعة عندى فجعل يقول: شيخ كبير يأمرنى بالعزل ويستحلّه. فقلت له: يابن الزانية! تستحلّ الزنا وتتحرّج من العزل! فضحكنا منه.
ذكر شىء من نوادر حمزة بن بيض الحنفى
كان شاعرا من شعراء الدولة الأمويّة، وهو كوفىّ خليع ماجن. وكان منقطعا إلى المهلّب بن أبى صفرة وولده، ثم إلى أبان بن الوليد وبلال بن أبى بردة،(4/65)
واكتسب بالشعر من هؤلاء مالا عظيما. يقال: إنه أخذ بالشعر من مال وشاء ورقيق وحملان وغير ذلك ألف ألف درهم. وله نوادر، منها ما حكاه أبو الفرج الأصفهانىّ عنه:
أنه كان يسامر عبد الملك بن بشر بن مروان، وكان عبد الملك يعبث به عبثا شديدا. فوجّه اليه ليلة برسول وقال: خذه على أىّ حالة وجدته، وأحلفه وغلّظ عليه الأيمان على ذلك. فمضى الرسول فهجم عليه فوجده يريد أن يدخل الخلاء؛ فقال له:
أجب الأمير، فقال: ويحك! إنى أكلت طعاما كثيرا وشربت نبيدا حلوا وأخذنى بطنى. فقال: والله ما تفارقنى أو أمضى بك اليه ولو سلحت في ثيابك. فجهد فى الخلاص فلم يقدر عليه. ومضى به، فوجده قاعدا في طارمة «1» له وجارية جميلة جالسة بين يديه، وكان يتحظّاها، تسجر «2» الندّ. فجلس حمزة يحادثه وهو يعالج ما هو فيه. قال حمزة: فعرضت لى ريح فقلت: أسرّحها وأستريح لعل ريحها لا يظهر مع هذا الندّ، فأطلقتها، فغلبت والله ريح البخور وغمرته. فقال: ما هذا يا حمزة؟ فقلت:
علىّ عهد الله وميثاقه وعلىّ المشى والهدى إن كنت فعلتها! وما هذا إلا عمل هذه الجارية الفاجرة. فغضب، وخجلت الجارية فما قدرت على الكلام. ثم جاءتنى أخرى فسرّحتها، فسطع والله ريحها. فقال: ما هذا؟ ويلك! أنت والله الآفة. فقلت: امرأتى طالق ثلاثا إن كنت فعلتها. فقال: وهذه اليمين لازمة إن كنت فعلتها، وما هو إلا عمل هذه الجارية؛ وقال لها: ما قصّتك؟ ويلك! قومى إلى الخلاء إن كنت تجدين شيئا. فزاد خجلها، وطمعت فيها فسرّحت الثالثة فسطع من ريحها مالم يكن في الحساب. فغضب عبد الملك حتى كاد يخرج من جلده؛ ثم قال: يا حمزة، خذ بيد الزانية فقد وهبتها لك وامض، فقد نغّصت علىّ ليلتى. فأخذت بيدها(4/66)
وخرجت. فلقينى خادم له فقال: ما تريد أن تصنع؟ فقلت له: أمضى بهذه الجارية.
فقال: لا تفعل، فو الله لئن فعلت ليبغضنّك بغضا لا تنتفع به بعده أبدا، وهذه مائتا دينار خذها ودع هذه الجارية فإنه يتحظّاها، وسيندم على هبته إيّاها لك. فأبيت إلا بخمسمائة دينار. فقال: ليس غير ما ذكرت لك. فأخذتها وتركت الجارية. فلما كان بعد ثلاث دعانى عبد الملك. فلما قربت من داره لقينى الخادم وقال لى:
هل لك في مائة أخرى وتقول مالا يضرّك ولعله ينفعك؟ قلت: وما ذاك «1» ؟ قال:
إذا دخلت فادّع الفسوات الثلاث وانسبها إلى نفسك وانضح «2» عن الجارية ما قرفتها به. فأخذتها ودخلت على عبد الملك. فلما وقفت بين يديه قلت له: الأمان حتى أخبرك بخبر يسرّك ويضحكك. قال: لك الأمان. فقلت: أرأيت ليلة كذا وكذا وما جرى؟ قال نعم. قلت: فعلىّ وعلىّ إن كان فسا تلك الفسوات غيرى.
فضحك حتى سقط على قفاه وقال: ويلك! فلم لم تخبرنى؟ قال فقلت: أردت بذلك خصالا، منها أنى قمت فقضيت حاجتى وقد كان رسولك منعنى من ذلك.
ومنها أنى أخذت جاريتك. ومنها أنى كافأتك على أذاك لى بمثله. قال:
وأين الجارية؟ قلت: ما برحت من دارك ولا خرجت حتى سلّمتها الى فلان الخادم وأخذت مائتى دينار. فسرّ بذلك وأمر لى بمائتى دينار أخرى، وقال:
هذه لجميل فعلك فيّ وتركك أخذ الجارية. قال حمزة: ودخلت اليه يوما وكان له غلام لم ير الناس أنتن إبطا منه. فقال لى: يا حمزة، سابق غلامى هذا حتى يفوح صنانكما، فأيّكما كان صنانه أنتن فله مائة دينار. فطمعت في المائة ويئست منها لما أعلمه من نتن إبط الغلام؛ فقلت: أفعل. وتعادينا ساعة فسبقنى، فسلحت في يدى ثم طليت إبطى بالسّلاح؛ وقد كان عبد الملك جعل بيننا حكما؛ فلمّا(4/67)
دنا الغلام منه وشمّه وثب وقال: هذا والله لا يشاكله شىء. فصحت به: لا تعجل علىّ بالحكم، مكانك! ثم دنوت منه فألقمت أنفه إبطى حتى علمت أنه قد خالط دماغه وأنا ممسك رأسه تحت يدى؛ فصاح: الموت والله! هذا بالكنف أشبه منه بالإبط. فضحك عبد الملك ثم قال: أفحكمت له؟ قال نعم. فأخذت الدنانير.
قال: ودخلت يوما على سليمان بن عبد الملك. فلما مثلت بين يديه قلت:
رأيتك في المنام شتنت «1» خزّا ... علىّ بنفسجا وقضيت دينى
فصدّق يا فدتك النفس رؤيا ... رأتها في المنام لديك عينى
قال سليمان: يا غلام، أدخله خزانة الكسوة واشتن عليه كلّ ثوب خزّ بنفسجىّ، فخرجت كأنى مشجب «2» . ثم قال: كم دينك؟ قلت: عشرة آلاف؛ فأمر لى بها وما أعلم والله أنّى رأيت من ذلك شيئا.
ذكر شىء من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه
هو محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان، من بنى حنيفة أهل اليمامة.
وأسر ياسر في سباء في خلافة المنصور. فلما صار في يد المنصور أعتقه؛ فهم موالى بنى هاشم. وكان أبو العيناء ضرير البصر، يقال: إنّ جدّه الأكبر لقى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه فأساء مخاطبته فدعا عليه وعلى ولده بالعمى؛ فكلّ من عمى منهم فهو صحيح النسب. وهو ممن اشتهر بالمجون، وله نوادر وحكايات مستظرفة، ومراسلات عجيبة، سأورد منها طرفا، وأسطّر طرفا. فمن ذلك: أنّ بعض الرؤساء قال له: يا أبا العيناء، لو متّ لرقص الناس طربا وسرورا. فقال بديهة:
أردت مذمّتى فأجدت مدحى ... بحمد الله ذلك لا بحمدك(4/68)
فلا تك واثقا أبدا بعمد ... فقد يأتى القضاء بغير عمدك
ثم قال: أجل! الناس قد ذهبوا، فلو رآنى الموتى لطربوا لدخول مثلى عليهم، وحلول عقلى لديهم، ووصول فضلى اليهم؛ فما زال الموتى يغبطونكم ويرحموننى بكم.
وقال: واتّصلت أشغال أبى الصّقر الوزير، فتأخّر توقيعه عن أبى العيناء برسومه. فكتب اليه: رقعتى، أطال الله بقاء الوزير، رقعة من علم شغلك فاطّرح عدلك؛ وحقّق أمرك فبسط عدرك. أمّا والليل اذا عسعس، فالبنان لبنات الدّنان، وملامسات الحسان؛ وأمّا والصبح اذا تنفّس، فالبنان للعنان، ومؤامرات السلطان؛ فمن أبو العيناء القرنان «1» !. فوقّع أبو الصّقر تحت سطوره:
لكل طعام مكان، ولكل معوز إمكان؛ وقد وقّعنا لك بالرسوم، وجعلنا لك حظّا من المقسوم؛ وكفينا أنفسنا عذرك الذى هو تعزير، ولسانك الذى هو تحذير.
والسلام.
ثم لقيه أبو العيناء في صدر موكبه فقال: طاعة شيمك لسلطان كرمك، ألزمتك الصبر على ذنوبى إليك، وتجنّى خلقى عليك. فقال أبو الصقر: كبير حسناتك، يستغرق يسير سيئاتك. فدعا له وانصرف شاكرا. قال: وبسط أبو العيناء لسانه على أهله في بعض الدواوين. فقال له فتى من أبناء الكتّاب كانت فيه جرأة: كلّ الناس لك يا أبا العيناء زوجة، وأنت زوجة أبى علىّ البصير. فقال له أبو العيناء:
قد ملكنا عصمتك بيقين فحواك، ثم ننظر في شكوك دعواك، وقد طلّقت الناس كلهم سواك؛ ذلك أدنى ألّا نعول، وفيك ما يروى الفحول، ويتجاوز السول.
قال: ففضحه بهذا الكلام، فلم يجبه. قال: وكان في بنى الجراح فتى خليع ما جن فأراد العبث بأبى العيناء؛ فنهاه نصحاؤه فأبى؛ فقالوا: شأنك. فقال له:(4/69)
يا أبا العيناء، متى أسلمت؟ فقال: حين آمن أهلك وأبوك الذين لم يؤدّبوك. فقال له الفتى: إذا قد علمت أنك ما أسلمت. فقال أبو العيناء: شهادتك لأهلك دعوى، وشهادتى عليهم بلوى، وسترى أىّ السلطانين أقوى، وأىّ الشيطانين أغوى؛ وسيعلم أهلك، ما جنى عليهم جهلك. قال: فأتاه أبوه فتبرّأ من ذمّته، ودفعه اليه برمّته. فقال له أبو العيناء: قد وهبت جوره لعدلك، وتصدّقت بحمقه على عقلك.
ومن أخبار أبى العيناء أيضا: أنّ محمد بن عبيد الله بن خاقان حمله على برذون زعم أنه غير فاره، فكتب الى أبيه: أعلم الوزير أعزّه الله تعالى أنّ أبا علىّ محمدا أراد أن يبرّنى فعقّنى، وأن يركبنى فأرجلنى! أمر لى بدابّة تقف للنبرة، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عجفا، وكالعاشق المجهود دنفا؛ يساعد أعلاه لأسفله «1» ، حباقه «2» مقرون بسعاله؛ فلو أمسك لترجّيت، أو أفرد لتعزّيت؛ ولكنه يجمعهما في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد؛ تضحك من فعله النسوان، ويتناغى من فعله الصبيان؛ فمن صائح يصيح: داوه بالطباشير، ومن قائل يقول: نقّ له من الشعير. قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء فى الأمصار؛ فلو أعين بنطق، لروى بحقّ وصدق، عن جابر الجعفىّ، وعامر الشّعبىّ. وإنما أتيت من كاتبه الأعور، الذى اذا اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإذا اختار لغيره أخبث وأنزر. فإن رأى الوزير أن يبدلنى ويريحنى بمركوب يضحكنى كما يضحك منى، يمحو بحسنه وفراهته، ما سطّره العيب بقبحه ودمامته.
ولست أردّ كرامه، سرجه ولجامه؛ لأن الوزير أكرم من أن يسلب ما يهديه، أو ينقض ما يمضيه. فوجّه اليه عبيد الله برذونا من براذينه بسرجه ولجامه. ثم اجتمع محمد(4/70)
ابن عبيد الله عند أبيه. فقال عبيد الله لأبى العيناء: شكوت دابّة محمد، وقد أخبرنى إنه ليشتريه منك الآن بمائة دينار، وما هذا ثمنه فلا يشتكى. فقال: أعزّ الله الوزير لو لم أكذب مستزيدا، لم أنصرف مستفيدا. وإنى وإياه لكما قالت امرأة العزيز:
(الآن حصحص الحقّ أنا راودته عن نفسه وإنّه لمن الصّادقين) . فضحك عبيد الله وقال: حجّتك الداحضة، بملاحتك وظرفك أبلغ من حجة غيرك البالغة. ودخل أبو العيناء على أبى الصّقر وكان قد تأخّر عنه، فقال: ما أخّرك عنا؟ قال: سرق حمارى.
قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال: فلم لم تأت على غيره؟
قال: أبعدنى عن الشراء قلّة يسارى، وكرهت ذلّة المكارى، ومنّة العوارى. قال:
وصار يوما الى باب صاعد بن مخلد، فقيل له: هو مشغول يصلّى؛ فقال: لكلّ جديد لذّة. وكان صاعد نصرانيّا قبل الوزارة. وقال له صاعد يوما: ما الذى أخّرك عنّا؟
قال: بنتى. قال: وكيف؟ قال: قالت لى: يا أبت، قد كنت تغدو من عندنا فتأتى بالخلعة السّريّة، والجائزة السنيّة، ثم أنت الآن تغدو مسدفا، وترجع معتما، فإلى من؟
قلت: إلى أبى العلاء ذى الدرايتين. قالت: أيعطيك؟ قلت: لا، قالت: أفيشفّعك؟
قلت: لا. قالت: أيرفع مجلسك؟ قلت: لا. قالت: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا!.
وقال له رجل من بنى هاشم: بلغنى أنك بغّاء. قال: ولم أنكرت ذلك مع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم» ؟ قال: إنك دعىّ فينا.
قال: بغائى صحّح نسبى فيكم. وسأل أبو العيناء الجاحظ كتابا الى محمد بن عبد الملك فى شفاعة لصاحب له؛ فكتب الكتاب وناوله الرجل؛ فعاد به الى أبى العيناء وقال:
قد أسعف. قال: فهل قرأته؟ قال: لا، لأنه مختوم. قال: ويحك! فضّه لا يكون صحيفة المتلمّس. ففضّه فاذا فيه: موصّل كتابى سألنى فيه أبو العيناء، وقد عرفت(4/71)
سفهه وبذاء لسانه، وما أراه لمعروفك أهلا. فإن أحسنت اليه فلا تحسبه علىّ يدا، وإن لم تحسن اليه لم أعدّه عليك ذنبا، والسلام. فركب أبو العيناء الى الجاحظ وقال له: قد قرأت الكتاب يا أبا عثمان. فخجل الجاحظ وقال: يا أبا العيناء، هذه علامتى فيمن أعتنى به. قال: فإذا بلغك أنّ صاحبى قد شتمك فآعلم أنها علامته فيمن شكر معروفه. وقال أبو العيناء: مررت يوما بدرب بسامرّاء؛ فقال لى غلامى:
يا مولاى، فى الدرب حمل سمين والدرب خال. فأمرته أن يأخذه وغطّيته بطيلسانى وصرت به الى منزلى. فلما كان من الغد جاءتنى رقعة من بعض رؤساء ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك، ضاع لنا بالأمس حمل، فأخبرنى صبيان دربنا أنك أنت سرقته، فأمر بردّه متفضّلا. قال أبو العيناء: فكتبت اليه: أى سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر! مشايخ دربنا يزعمون أنك بغّاء وأكذّبهم ولا أصدّقهم، وتصدّق أنت صبيان دربكم أنى سرقت الحمل!. قال فسكت وما عاودنى.
ولأبى العيناء أخبار كثيرة وحكايات مشهورة قد أوردنا منها ما يدخل في هذا الباب وتركنا ما سواه.
ذكر ما ورد في كراهة المزح
روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من مزح استخفّ به» .
وقال حكيم: خير المزاح لا ينال، وشرّه لا يقال؛ سكرات الموت به محدقة، وعيون الآجال اليه محدّقة. وقال آخر: تجنّب شؤم الهزل ونكد المزاح؛ فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد عسر، وفحلان إذا لقحا لم ينتجا غير ضرّ. وقالوا:
المزاح يضع قدر الشريف، ويذهب هيبة الجليل. وقالوا: لا تقل ما يسوءك عاجله، ويضرّك آجله. وقالوا: إيّاك وما يستقبح من الكلام، فإنه ينفر عنك(4/72)
الكرام، ويجسّر عليك اللئام. وقال عمر بن عبد العزيز: اتّقوا المزاح، فإنها حمقة تورث ضغينة. وقال حكيم لابنه: يا بنىّ، إياك والمزاح؛ فإنه يذهب ببهاء الوجه ويحطّ من المروءة. قال شاعر:
اكره لنفسك ما لغيرك تكره ... وافعل لنفسك فعل من يتنزّه
وارفع بصمتك عنك سبّات الورى ... خوف الجواب فإنه بك أشبه
ودع الفكاهة بالمزاح فإنها ... تودى وتسقط من بها يتفكّه
وقيل:
ألا ربّ قول قد جرى من ممازح ... فساق اليه الموت في طرف الحبل
فإنّ مزاح المرء في غير حينه ... دليل على فرط الحماقة والجهل
وقيل:
فإياك إيّاك المزاح فإنه ... يجرّى عليك الطفل والرجل النّذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورث بعد العزّ صاحبه ذلّا
وقال بعض البلغاء: المزاح خرف، والاقتصاد فيه ظرف، والإفراط فيه ندامة.
وقالوا: من كثر مزحه لم يسلم من استخفاف به أو حقد عليه. ويقال: أكثر أسباب القطيعة المزاح. وإن كان لا غنى للنفس عنه للجمام «1» ، فليكن بمقدار الملح فى الطعام. قال أبو الفتح البستىّ رحمه الله:
أفد طبعك المكدود بالهمّ راحة ... تراح وعلّله بشىء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما يعطى الطعام من الملح(4/73)
وقيل:
امزح بمقدار الطلاقة واجتنب ... مزحا تضاف به الى سوء الأدب
لا تغضبنّ أخا إذا مازحته ... إن المزاح على مقدّمة الغضب
وقيل:
مازح صديقك ما أحبّ مزاحا ... وتوقّ منه في المزاح جماحا
فلربما مزح الصديق بمزحة ... كانت لبدء عداوة مفتاحا
وقال سعيد بن العاص لولده: يا بنىّ، اقتصد في مزحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجزّىء السفهاء. ويقال: المزاح أوّله فرح، وآخره ترح. قال أبو العتاهية:
وترى الفتى يلقى أخاه وخدنه ... فى بعض منطقه بما لا يغفر
ويقول كنت ملاعبا وممازحا ... هيهات! نارك في الحشا تتسعّر
ألقيتها وطفقت تضحك لاهيا ... وفؤاده مما به يتفطّر
أو ما علمت ومثل جهلك غالب ... أنّ المزاح هو السّباب الأكبر
فهذه نبذة مما قيل في الفكاهات والمجون، يفرح لها قلب المحزون، وتزول عنه الشجون. فلنذكر ما قيل مما يناسب هذا الباب من أشعار المزّاحين.
ذكر شىء من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه
وسنورد في هذا الفصل من أشعار هذا الفن، ما رفلت معانيه في حلل أنفاسها على صفحات أطراسها، وأهلت مغانيه بما أودعه لسان القلم صدر قرطاسها من بديغ إيناسها. يضحك سامعه وإن كان ثكلا. ويستوفيه وإن كان عجلا. هذا مع ما فيه من فحش القول الذى إذا تأمّلته في موضعه كان أزين من عقود اللآلى،(4/74)
وإن لمحته في غيره كان أقفر من ظلم الليالى. نسأل الله المسامحة لكاتبه وقائله، ومستمعه وناقله. فمن ذلك ما كتب به ابن حجاج لمن شرب دواء:
يا أبا أحمد بنفسى أفديك ... وأهلى من سائر الأسواء
كيف كان انحطاط جعسك «1» فى طاعة ... شرب الدواء يوم الدواء
كيف أمسى سبال مبعرك النّد»
ل غريقا في المرّة الصفراء
وقال الحسن بن هانىء:
للطمة يلطمنى أمرد ... تأخذ منّى العين والفكّا
أطيب من تفّاحة من يدى ... ذى لحية محشوّة مسكا
وقال أبو عبد الله محمد بن الحسن الحجاج:
قومى تنحّى فلست من شانى ... قومى اذهبى لا يراك شيطانى
لا كان دهر عليك حصّننى ... ولا زمان اليك ألجانى
قعدت تفسين فوق طنفستى ... ما بين راحى وبين يحانى
فما عدمنا من الكنيف وقد ... حضرت إلا بنات وردان «3»
وقال أبو بكر محمد الخوارزمىّ:
فسا الشيخ سهوا وفي كفّه ... شراب فلمناه لوما قبيحا
فقال لى الدخل والخرج لى ... فأدخلت راحا وأخرجت ريحا
وقال ابن سكّرة الهاشمىّ:
وبات في السطح معى صاحب ... من أكرم الناس ذوى الفضل
أفسو فيفسو فهو لى مسعد ... وإنما أملى ويستملى(4/75)
الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الخمر
وتحريمها وآفاتها وجناياتها وأسمائها، وأخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة، ومن حدّ فيها من الأشراف، ومن اشتهر بها، ولبس ثوب الخلاعة بسببها، وما قيل فيها من جيّد الشعر، وما قيل في وصف آلاتها وآنيتها، وما قيل فى مبادرة اللذّات، وما وصفت به المجالس وما يجرى هذا المجرى
ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها
أجمع الناس على أنّ الخمر المحرّمة في كتاب الله عزّوجلّ هى المتّخذة من عصير العنب بعد أن يغلى ويقذف بالزّبد من غير أن يمسّها نار. واذا انقلبت بنفسها وتخلّلت طهرت من غير أن يتسبّب في ذلك بشىء يلقى فيها. وطهارتها إذا غلبت عليها الحموضة وفارقتها النشوة. والخمر المتّخذة أيضا من التمر، لقول النبىّ صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة» . وفي حديث آخر: «من هاتين الشجرتين الكرمة والنخلة» . وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: سمعت عمر رضى الله عنه على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أمّا بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهى من خمسة، من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير» . والخمر ما خامر العقل.
ولا خلاف بين أحد من الأئمة في أن الخمر حرام، لما ورد في ذلك من الكتاب والسنة. أما ما ورد في كتاب الله عزّوجلّ فأربع آيات، منها ما يقتضى الإباحة، ومنها ما يقتضى الكراهة والتحريم. فأوّل ما نزل فيها بمكة قوله عزّوجلّ: (وَمِنْ(4/76)
ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً)
. فكان المسلمون يشربونها يومئذ وهى حلال لهم. ثم أنزل الله عزّوجلّ بالمدينة: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)
نزلت هذه الآية فى عمر بن الخطّاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن ربكم تقدّم فى تحريم الخمر» . فتركها قوم للإثم الكبير وقالوا: لا حاجة لنا في شربها ولا في شىء فيه إثم كبير، وشربها قوم لقوله تعالى: (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) *
. وكانوا يستمتعون بمنافعها ويتجنّبون مآثمها؛ الى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب، فقدّموا بعضهم ليصلّى بهم؛ فقرأ قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون الى آخر السورة بحذف «لا» فأنزل الله عزّوجلّ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)
فحرّم السكر في أوقات الصلاة. فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن الله عزّوجلّ تقارب في النهى عن شرب الخمر وما أراه إلا سيحرّمها. فلما نزلت هذه الآية تركها قوم، وقالوا: لا خير فى شىء يحول بيننا وبين الصلاة. وقال قوم: نشربها ونجلس في بيوتنا؛ فكانوا يتركونها وقت الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة؛ الى أن شربها رجل من المسلمين، فجعل ينوح على قتلى بدر ويقول:
تحيّا بالسلامة أمّ بكر ... وهل لى بعد رهطك من سلام
ذرينى أصطبح بكرا فإنى ... رأيت الموت كفّت عن هشام
وودّ بنو المغيرة لو فدوه ... بألف من رجال أو سوام(4/77)
فى أبيات أخر. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء فزعا يجرّ رداءه، حتى انتهى اليه، ورفع شنّا كان في يده ليضربه؛ فلما عاينه الرجل قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، والله لا أطعمها أبدا؛ ثم نزلت آية التحريم وهى قوله عزّوجلّ: (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
. وروى أن هذه الآية نزلت فى شأن حمزة بن عبد المطّلب، وكان نزولها وتحريم الخمر في شهر ربيع الأوّل سنة أربع من الهجرة.
وكان من خبر حمزة بن عبد المطّلب ما رواه مسلم بن الحجاج بن مسلم في صحيحه عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: أصبت شارفا «1» مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مغنم يوم بدر، وأعطانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شارفا أخرى من الخمس. قال علىّ: فلما أردت أن أبتنى بفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واعدت رجلا صوّاغا من بنى قينقاع «2» يرتحل معى فنأتى بإذخر «3» أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به على وليمة عرسى. فبينا أنا أجمع لشارفىّ متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاى مناختان الى جنب حجرة رجل من الأنصار ورجعت حين جمعت ما جمعت، فاذا شارفاى قد اجتبّت أسنمتهما وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك نفسى حين رأيت ذلك المنظر منهما [أن «4» ] قلت: من فعل هذا؟
قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، غنّته قينة وأصحابه، فقالت في غنائها:
ألا يا حمز للشّرف النّواء(4/78)
- لم يذكر مسلم في صحيحه من الشعر غير ما ذكرناه. والأبيات التى غنت بها:
ألا يا حمز للشّرف «1» النّواء ... وهنّ معقّلات بالفناء
ضع السكّين في اللّبّات منها ... فضرّجهنّ حمزة بالدماء
وعجّل من شرائحها كبابا ... ملهوجة «2» على وهج الصّلاء
وأصلح من أطايبها طبيخا ... لشربك من قديد أو شواء
فأنت أبا عمارة المرجّى ... لكشف الضرّ عنها والبلاء
- فقام حمزة بالسيف فاجتبّ أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما.
فقال علىّ: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده زيد بن حارثة. قال: فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجهى الذى لقيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مالك» ؟ قلت: يا رسول الله، ما رأيت كاليوم قط، عدا حمزة على ناقتىّ فاجتبّ اسنمتها وبقر خواصرهما وها هو ذا في بيت معه شرب. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بردائه فارتداه ثم انطلق يمشى واتّبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء الباب الذى فيه حمزة؛ فاستأذن فأذنوا له، فإذا هم شرب؛ فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلوم حمزة فيما فعل وإذا حمزة محمّرة عيناه؛ فنظر حمزة الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم صعّد النظر الى ركبتيه ثم صعّد النظر الى سرّته ثم صعّد النظر فنظر الى وجهه، فقال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبى! فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه ثمل، فنكص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عقبيه القهقرى وخرج وخرجنا معه. وفي حديث آخر: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعلىّ: «إنّ عمّك قد ثمل وهما لك علىّ» فغرمهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(4/79)
لعلىّ. فلما أصبح حمزة غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذر. فقال: «مه يا عمّ فقد سألت الله فعفا عنك» . قالوا: واتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين، منهم «1» سعد بن أبى وقّاص، وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، وأنشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه؛ فقام رجل من الأنصار فأخذ لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجّه شجّة موضحة. فانطلق سعد الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكا اليه الأنصار. فقال عمر رضى الله عنه: اللهم بيّن لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا؛ فأنزل الله عزّوجلّ تحريم الخمر في سورة المائدة (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ)
الآية الى (مُنْتَهُونَ)
. فقال عمر: انتهينا يا ربّ. وقيل: إنها حرّمت بعد غزوة الأحزاب بأيام في ذى القعدة سنة خمس من الهجرة. والله أعلم.
قال أنس رضى الله عنه: حرّمت ولم يكن للعرب يومئذ عيش أعجب منها، وما حرّم عليهم شيء أشدّ من الخمر. قال: فأخرجنا الحباب الى الطريق فصببنا ما فيها، فمنّا من كسر حبّه، ومنّا من غسله بالماء والطين، ولقد غودرت أزقّة المدينة بعد ذلك حينا، كلّما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت ريحها.
وقال أنس بن مالك رضى الله عنه: كنت ساقى القوم يوم حرّمت الخمر فى بيت أبى طلحة، وما شرابهم إلا فضيخ «2» البسر والتمر، فاذا مناد ينادى، فقال القوم:
اخرج فانظر، فاذا مناد ينادى: ألا إنّ الخمر قد حرّمت، قال: فجرت في سكك المدينة.
فقال لى أبو طلحة: اخرج فاهرقها فهرقتها. فقالوا: أو قال بعضهم: قتل فلان! قتل فلان! وهى في بطونهم، فأنزل الله عزّوجلّ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) .(4/80)
وأما ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبيّنته السّنّة، فالأحاديث متضافرة
فى تحريمها. فمن ذلك ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من مات وهو مدمن خمر لقى الله وهو كعابد وثن» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا يدخل الجنة مدمن خمر» . وأمّا من زعم أنها تباح للتّداوى بها فيردّ عليه ذلك ما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن طارق بن سويد الجعفىّ سأل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن الخمر فنهاه أوكره أن يصنعها، وقال: إنما أصنعها للدواء؛ فقال:
«إنها ليست بدواء ولكنه داء» . وعنه صلّى الله عليه وسلّم وقد سأله رجل قدم من جيشان (وجيشان من اليمن) فسأل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذّرة يقال له المزر؛ فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «أو مسكر هو» قال نعم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكر حرام إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» . فقالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة» وفي لفظ: «حرمها في الآخرة فلم يسقها» وفي لفظ: «إلا أن يتوب» . وعن عبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما قال: حرّمت الخمر قليلها وكثيرها وما أسكر من كلّ شراب. وعنه رضى الله عنه:
من سرّه أن يحرّم ما حرّم الله ورسوله فليحرّم النبيذ. وعن أبى هريرة رضى الله عنه:
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يزنى الزّانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» أخرجه البخارىّ في صحيحه والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل» .(4/81)
ذكر ما قيل في إباحة المطبوخ
والمطبوخ يسمّى الظّلاء وهو الذى طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه. سمّى بذلك لأنه شبيه بطلاء الإبل في ثخنه «1» وسواده. وقد اختلف العلماء في المطبوخ، فقال بعضهم: كلّ عصير طبخ حتى ذهب نصفه فهو حلال إلا أنه يكره، وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه فهو حلال مباح شربه وبيعه إلا أن السكر منه حرام. وحجتهم في ذلك ما روى: أن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه كتب إلى بعض عماله: أن ارزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقى ثلثه. وعن عبد الله بن يزيد الخطمىّ قال: كتب الينا عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أمّا بعد، فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان في عود الكرم، فإن له اثنين ولكم واحد. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه: أنّ نوحا عليه السّلام لمّا نازعه الشيطان في عود الكرم فقال: هذا لى، وقال: هذا لى؛ فاصطلحا على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثيها. وسئل سعيد بن المسيّب: ما الشراب الذى أحلّه عمر رضى الله عنه؟
فقال: الذى يطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وحكى أن أبا موسى الأشعرىّ وأبا الدرداء كانا يشربان من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقى ثلثه. وعلى الجملة فمجموع هذه الأخبار في مثلّث «2» لم يسكر البتة. ودليل ذلك ما حكى عن عبد الله بن عبد الملك ابن الطفيل الخزرجىّ قال: كتب الينا عمر بن عبد العزيز: ألّا تشربوا من الطّلاء حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، وكلّ مسكر حرام. هذا الذى عليه أكثر العلماء.
وقال قوم: اذا طبخ العصير أدنى الطبخ صار حلالا، وهو قول إسماعيل بن عليّة(4/82)
وبشر المرّيسىّ وجماعة من أهل العراق. وذهب بعضهم الى أن الطّلاء الذى رخّص فيه إنما هو الرّبّ «1» والدّبس. والله عزّوجلّ أعلم.
ذكر آفات الخمر وجناياتها
وآفات الخمر وجناياتها كثيرة، لأنها أمّ الكبائر. وأوّل آفاتها أنها تذهب العقل، وأفضل ما في الإنسان عقله، وتحسّن القبيح وتقبّح الحسن. قال أبو نواس الحسن ابن هانىء عفا الله عنه ورحمه وغفر له ما أسلف:
اسقنى حتى ترانى ... حسنا عندى القبيح
وقال أيضا:
اسقنى صرفا حميّا ... تترك الشيخ صبيّا
وتريه الغىّ رشدا ... وتريه الرّشد غيّا
وقال أبو الطّيب:
رأيت المدامة غلّابة ... تهيّج للمرء أشواقه
تسىء من المرء تأديبه ... ولكن تحسّن أخلاقه
وانفس ما للفتى لبّه ... وذو اللبّ يكره إنفاقه
وقد متّ أمس بها ميتة ... وما يشتهى الموت من ذاقه
قالوا: وإنما قيل لمشارب الرجل نديم، من الندامة؛ لأن الرجل معاقر الكأس اذا سكر تكلّم بما يندم عليه وفعل ما يندم عليه، فقيل لمن شاربه «نادمه» لأنه فعل مثل فعله فهو نديم له، كما يقال: جالسه فهو جليس له. والمعاقر: المدمن، كأنه لزم عقر الشىء أى فناءه. وقد شهر أصحاب الشراب بسوء العهد وقلّة الحفاظ،(4/83)
وقالوا: صاحب الشراب صديقك ما استغنيت عنه حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت دنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك. قال بعض الشعراء عفا الله تعالى عنه:
أرى كلّ قوم يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النّبيذ حريم
اذا جئتهم حيّوك ألفا ورحّبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فذميم
إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلّهم رثّ الوصال سئوم
فهذا بيانى لم أقل بجهالة ... ولكننى بالفاسقين عليم
قيل: سقى قوم أعرابيّة مسكرا، فقالت: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟
قالوا نعم. قالت: فما يدرى أحدكم من أبوه. وقال قصىّ بن كلاب لبنيه:
اجتنبوا الخمر فإنه يصلح الأبدان ويفسد الأذهان. وقيل لعدىّ بن حاتم: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: معاف الله! أصبح حليم قوم وأمسى سفيههم. وقيل لأعرابىّ:
مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلى. وقيل لعثمان بن عفّان:
ما منعك من شرب الخمر في الجاهليّة ولا حرج عليك؟ قال: إنى رأيتها تذهب العقل جملة وما رأيت شيئا يذهب جملة ويعود جملة. وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب ابن رباح: هل لك فيما يثمر المحادثة؟ يريد المنادمة، فقال: أصلح الله الأمير! الشّعر مفلفل واللون مرمدّ، ولم أقعد اليك بكرم عنصر ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلى ولسانى؛ فإن رأيت ألّا تفرّق بينهما فافعل. ودخل نصيب هذا على عبد الملك ابن مروان فأنشده فاستحسن عبد الملك شعره فوصله؛ ثم دعا بالطعام فطعم معه.
فقال له عبد الملك: هل لك [أن «1» ] تنادم عليه؟ قال: يا أمير المؤمنين، تأمّلنى. قال: قد أراك. قال: يا أمير المؤمنين، جلدى أسود وخلقى مشوّه ووجهى قبيح ولست(4/84)
فى منصب، وإنما بلغ بى مجالستك ومؤاكلتك عقلى، وأنا أكره أن أدخل عليه ما ينقصه. فأعجبه كلامه وأعفاه.
وقال الحسن: لو كان العقل عرضا لتغالى الناس في ثمنه؛ فالعجب لمن يشترى بماله شيئا ليشربه فيذهب عقله!.
وقال الوليد بن عبد الملك للحجاج بن يوسف في وفدة وفدها عليه وقد أكلا:
هل لك في الشراب؟ قال: يا أمير المؤمنين، ليس بحرام ما أحللت، ولكن أمنع أهل عملى، وأكره أن أخالف قول العبد «1» الصالح وهو قوله تعالى: (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) .
وقالوا: للنبيذ حدّان، حدّ لا همّ معه، وحدّ لا عقل معه؛ فعليك بالأوّل واتقّ الثانى.
ومن آفات الخمر افتضاح شاربها بريحها عند من يحتشم منه ويتّقيه ويخافه فلا يستطيع مع وجود ريحها إنكار شربها. والولاة تحدّ بالاستنكاه؛ لأن خمارها يثبت في الفم اليوم واليومين بعد تركها. فمن شربها ساعة وهو يحتشم من الناس أن يظهر ذلك عليه احتاج الى الانقطاع في بيته بعد زوال السكر وأوبة العقل حتى تزول الرائحة. وقد تحايل الذين يشربون الخمر على قطع ريحها من الفم وعالجوا ذلك بأدوية صنعوها يستعملونها بعد شربها. فأجود ما صنعوه من هذه الأدوية أن يؤخذ من المرّ والبسباسة «2» والسّعد «3» والجناح «4» والقرنفل أجزاء متساوية وجزءان من الصمغ، ويدقّ(4/85)
ذلك ويجبل «1» بماء الورد ويستعمل منه فإنه يقطع رائحة الخمر من الفم، كما زعموا.
وقد نظم بعض الشعراء هذه المفردات في أربعة أبيات فقال:
مرّ وبسباسة وسعد ... الى جناح وماء ورد
ينظمها الصمغ إن تلاه ... قرنفل الهند نظم عقد
أجزاؤها كلّها سواء ... والصمغ جزآن، لا تعدّى
فيه لذى مرّة شفاء ... وصون عرض وحفظ ودّ
ذكر أسماء الخمر من حين تعصر الى أن تشرب
الخمر اذا عصر فاسم ما يسيل منه قبل أن تطأه الرجل: السّلاف؛ وأصله من السّلف وهو المتقدّم من كلّ شىء، وهو في مثل ذلك الخرطوم أيضا. ويقال للذى يعصر بالأقدام: العصير، والموضع الذى يعصر فيه: المعصرة. والنّطل: ما عصر فيه السلاف؛ ويقال للعاصر: الناطل، ثم يترك العصير حتى يغلى فاذا غلا فهو خمر، وقيل: سمّيت خمرا لأنها تخامر العقول فتخالطها. وقالوا: لأنها تخمر في الإناء، أى تغطّى وهى مؤنثة. ويقال لها: القهوة، لأنها تفهى عن الطعام والشراب، يقال:
أقهى عن الطعام وأقهم عنه اذا لم يشتهه. ومن أسمائها: الشّمول، سمّيت بذلك لأن لها عصفة كعصفة الشّمال، وقيل: لأنها تشمل القوم بريحها. ومنها: السّلاف والسّلافة والخرطوم وقد تقدّم معناها. ومنها: القرقف لأن شاربها يقرقف اذا شربها، أى يرعد، يقال: قرقف وقفقف. وقال أبو عمرو: القرقف اسم للخمر غير صفة وأنكر قولهم سمّيت بها لأنها ترعد. ومنها: الراح لأنها تكسب صاحبها الأريحيّة أى خفة العطاء. ومنها: العقار لأنها عاقرت الدّنّ، وقيل: لأنها تعقر شاربها(4/86)
من قول العرب: كلأ بنى فلان عقّار، أى يعقر الماشية. ومن أسمائها: المدامة والمدام لأنها داومت الظّرف الذى انتبذت فيه. والرحيق ومعناه الخالص من الغش. وقيل: الصافى. وقيل: العتيق. والكميت سمّيت بذلك للونها اذ كانت تضرب الى السواد. والجريال وهو صبغ أحمر سمّيت ذلك للونها أيضا. والسبيئة والسّباء وهى المشتراة وأصلها مسبوءة، يقال: سبأت الخمر اذا اشتريتها. والمشعشعة وهى الممزوجة. والصهباء وهى التى عصرت من العنب الأبيض. والشّموس شبّهت بالدابّة التى تجمح براكبها. والخندريس وهى القديمة. والحانيّة: منسوبة الى الحانة. والماذيّة: الليّنة يقال: عسل ماذى اذا كان ليّنا. والعانيّة: منسوبة الى عانة. والسّخامية: اللّينة من قولهم: قطن سخام أى ليّن وثوب سخام. قال الراجز:
كأنه بالصّحصحان «1» الأنجل ... قطن سخامىّ بأيدى غزّل
والمزّة والمزّاء لطعمها. والإسفنط، قال الأصمعىّ: هو بالرومية. والغرب ومعناه الحدّ؛ وغرب كلّ شىء حدّه. ولعلها سمّيت بذلك لحدّتها. والحميّا، وحميّا كلّ شىء سورته وحدّته. والمصطار: الخلّة ويقال: المضطار بالضاد أيضا. والخمطة:
المتغيّرة الطعم. والمعتّقة: التى قد طال مكثها. والإثم: اسم لها لعله وقع عليها لما فى شربها من الإثم. والحمق كذلك. قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضلّ عقلى ... كذاك الإثم يفعل بالعقول
والمعرق: الممزوج قليلا، يقال: عرق من ماء أى ليس بكثير. ومن أسمائها:
القنديد والفيهج وأمّ زنبق والمقطّب والطّوس والسّلسال والسّلسل والزّرجون والكلفاء والجرباء والعانسة والطّابة والنّاجود والكأس والطّلاء، قال عبيد بن الأبرص:(4/87)
هى الخمر صرفا تكنّى الطلا «1» ... ء كالذئب يسمى أبا جعدة
والباذق والبختج: فارسيّان. والجهورىّ. والمقدىّ منسوبة الى قرية من قرى الشام. والمزاء من قولك: هذا أمزى من هذا أى أفضل. والنبيذ. والبتع: نبيذ العسل والسّكركة من الذرة. والجعة من الشعير. والفضيخ من البسر. والمزر من الحبوب
ذكر أخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة وتركها ترفّعا عنها
كان ممن تركها في الجاهلية عثمان بن عفان رضى الله عنه وعبد المطلب بن هاشم وعبد الله بن جدعان التيمىّ وكان سيّدا جوادا من سادات قريش، وسبب تركه لها أنه شرب مع أميّة بن أبى الصلت الثقفىّ فأصبحت عين أميّة مخضرّة فخاف عليها الذهاب، فسأله عبد الله: ما بال عينك؟ فقال: أنت صاحبها أصبتها البارحة، قال: وبلغ منّى الشراب ما أبلغ معه من جليسى هذا المبلغ، فأعطاه عشرة آلاف درهم وقال: الخمر علىّ حرام، لا أذوقها أبدا، وقال فيها:
شربت الخمر حتى قال صحبى ... ألست عن السّقاة بمستفيق؟
وحتى ما أوسد في مبيت ... أنام به سوى التّرب السحيق
وممّن حرّمها في الجاهليّة: قيس بن عاصم المنقرىّ، والسبب في ذلك أنه سكر فغمز عكنة ابنته أو أخته فهربت منه، فلما صحا أخبروه فحرّم الخمر على نفسه، وقال في ذلك:
وجدت الخمر جامحة وفيها ... خصال تفضح الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتى ... ولا أدعو لها أبدا نديما(4/88)
ولا أعطى لها ثمنا حياتى ... ولا أشفى بها أبدا سقيما
فإنّ الخمر تفضح شاربيها ... وتجشمهم بها أمرا عظيما
اذا دارت حميّاها تعلّت ... طوالع تسفه الرجل الحليما
ومنهم: عامر بن الظّرب العدوانىّ، قال:
سأّلة للفتى ما ليس في يده ... ذهّابة بعقول القوم والمال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرّق ترب القبر أوصالى
ومنهم: صفوان بن أميّة بن محرّث الكتامىّ وعفيف بن معديكرب الكندىّ والأسلوم بن نامى من همدان ومقيس بن عدىّ السهمىّ وكان سكر فجعل يخط ببوله:
أنعامة أو بعيرا، فلما أفاق وأخبر بذلك حرّمها.
ومنهم: العبّاس بن مرداس السلمىّ قيل له: لم تركت الشراب وهو يزيد فى جرأتك وسماحتك؟ فقال: أكره أن أصبح سيّد قومى وأمسى سفيههم.
ومنهم: سعيد بن ربيعة بن عبد شمس وورقة بن نوفل والوليد بن المغيرة.
وقال زيد بن ظبيان:
بئس الشراب شراب حين تشربه ... يوهى العظام وطورا يوهى «1» العصب
إنى أخاف مليكى أن يعذّبنى ... وفي العشيرة أن يزرى على حسبى
وقال رجل لسعيد بن سلّم: ألا تشرب النبيذ؟ فقال: تركت كثيره لله تعالى وقليله للناس.(4/89)
ذكر من حدّ فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها
فأما من حدّ فيها من الأشراف
فالوليد بن عقبة بن أبى معيط وهو أخو عثمان بن عفّان لأمه، شهد عليه أهل الكوفة أنه صلّى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران ثم التفت اليهم فقال: وإن شئتم زدتكم، فجلده عبد الله بن جعفر بين يدى عثمان رضى الله عنه، وسنذكر الواقعة إن شاء الله تعالى بجملتها في الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الخامس في التاريخ في خلافة عثمان رضى الله عنه.
ومنهم: عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر فحدّه بها عمرو بن العاص سرّا، فلما قدم على أبيه جلده حدّا آخر علانية.
ومنهم: عبد الرحمن بن عمر بن الخطّاب المعروف بأبى شحمة «1» ، حدّه أبوه فى الشراب فمات تحت حدّه.
ومنهم: عاصم بن عمر بن الخطّاب، حدّه بعض ولاة المدينة.
ومنهم: قدامة بن مظعون، حدّه عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بشهادة علقمة الخصىّ وغيره.
ومنهم: عبد الله بن عروة بن الزبير، حدّه هشام بن إسماعيل المخزومىّ.
ومنهم: عبد العزيز بن مروان، حدّه عمرو بن سعيد الأشدق.
ومنهم: أبو محجن الثقفىّ واسمه عمرو بن حبيب، وكان مغرما بالشراب، حدّه عمر مرارا في الخمر، وحدّه سعيد بن أبى وقّاص مرارا وشهد القادسيّة وأبلى(4/90)
بلاء حسنا، ثم حلف بعد القادسيّة ألا يذوق الخمر أبدا ومات تائبا عنها، وأنشد رجل عند عبد الله بن مسلم بن قتيبة قوله:
اذا متّ فآدفنّى الى جنب كرمة ... تروّى عظامى بعد موتى عروقها
ولا تدفننّى في الفلاة فإننى ... أخاف اذا مامتّ أن لّا أذوقها
فقال عبد الله: حدّثنى من رأى قبره بأرمينية بين شجرات كرم يخرج اليه الفتيان ويشربون عنده ويتناشدون شعره فاذا جاءت كأسه صبّوها على قبره.
ومنهم: إبراهيم بن هرمة وكان مغرما بالشراب، حدّه جماعة من عمال المدينة فلما طال ذلك عليه رحل الى أبى جعفر المنصور، وقيل: إنما رحل الى المهدىّ وامتدحه بقصيدته التى يقول فيها:
له لحظات في حفافى سريره ... اذا كرّها فيها عقاب ونائل
له تربة بيضاء من آل هاشم ... اذا اسودّ من لؤم التراب القبائل
فاستحسن شعره وقال له: سل حاجتك، فقال: تأمر لى بكتاب الى عامل المدينة ألّا يحدّنى على شراب، فقال له: ويلك! لو سألتنى عزل عامل المدينة وتوليتك مكانه لفعلت؛ قال: يا أمير المؤمنين، ولو عزلته ووليتنى مكانه أما كنت تعرلنى أيضا وتولّى غيرى! قال: بلى، قال: فكنت أرجع الى سيرتى الأولى فأحدّ، فقال المهدىّ لوزرائه: ما تقولون في حاجة ابن هرمة وما عندكم فيها من التلطّف؟
قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه سأل مالا سبيل اليه، إسقاط حدّ من حدود الله عزّوجلّ، فقال المهدى: له حيلة اذا أعيتكم الحيل فيه، اكتبوا الى عامل المدينة:
من أتاك بابن هرمة سكرانا فاضربه مائة سوط واجلد ابن هرمة ثمانين، فكان إذا شرب ومشى في أزقة المدينة يقول: من يشترى مائة بثمانين؟(4/91)
وأما من شربها منهم واشتهر بها، جماعة من الأكابر والأعيان والخلفاء.
منهم: يزيد بن معاوية
شهر بشربها، وكان يقال له: يزيد الخمور، روى هشام ابن الكلبىّ عن أبيه قال: وجّه معاوية جيشا الى أرض الروم فأصابهم الجدرىّ، وعند يزيد امرأته أمّ كلثوم بنت عبد الله بن عامر فسكر وأنشأ يقول:
إذا ارتفقت على الأنماط في غرف ... بدير مرّان عندى أمّ كلثوم
فما أبالى الذى لاقت جيوشهم ... بالغذقذونة «1» من حمّى ومن موم «2»
فبلغ الخبر معاوية، فقال: أنت هاهنا! إلحق بهم، وسيّره الى قتال الروم.
ومنهم: عبد الملك بن مروان،
وكان يسمّى: حمامة المسجد، لاجتهاده فى العبادة، هذا قبل أن يلى الخلافة، فلما أفضت الخلافة اليه شرب، فقال له سعيد بن المسيّب: بلغنى يا أمير المؤمنين، أنك شربت الطلاء، قال: إى والله والدماء.
ومنهم: يزيد بن عبد الملك بن مروان
وهو صاحب حبابة «3» وسلّامة، وأخباره مشهورة.
ومنهم: ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك
ذهب به الشراب كلّ مذهب حتى خلع وقتل؛ وله في ذلك حكايات وأشعار. منها: أنه سمع بشرّاعة بن الزّندبوذ الكوفىّ، وكان من أهل البطالة المشهورين باللعب واللهو وإدمان الشراب؛ فاستدعاه(4/92)
بالكوفة الى دمشق فحمل اليه فلما دخل عليه قال له: يا شرّاعة، ما أرسلت اليك لأسألك عن كتاب الله ولا سنّة نبيّه، قال: لو سألتنى عنهما لوجدتنى فيهما حمارا، قال: وإنما أرسلت اليك لأسألك عن القهوة، قال: أنا دهقانها الخبير، ولقمانها الحكيم، وطبيبها الماهر؛ قال: فأخبرنى عن الشراب قال: سل عمّا بدا لك قال: ما تقول في الماء قال: لا بدّ منه، والحمار شريكى فيه. قال: فاللبن؟
قال: ما رأيته إلا استحييت من طول ما أرضعتنى أمّى به، قال: فالسّويق؟
قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فشراب التمر؟ قال: سريع الامتلاء، سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: حاموا به على الشراب، قال: فالخمر؟ قال: تلك والله صديقة روحى، قال: وأنت والله صديق روحى، قال: فأى المجالس أحسن؟ قال: ما شرب فيه على وجه السماء؛ ومن شعر الوليد:
خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم ... ثباتا يساوى ما حييت عقالا
دعوا لى سلمى والنبيذ وقينة ... وكأسا، ألا حسيى بذلك مالا
أبا لملك أرجو أن أخلّد فيكم ... ألا ربّ ملك قد أزيل فزالا
ومنهم: المأمون بن الرشيد
وشهر بالشراب وله فيه أخبار، منها: أنه شرب هو ويحيى بن أكثم القاضى وعبد الله بن طاهر، فتعامل «1» المأمون وابن طاهر على سكر يحيى، فأشار الى الساقى فأسكره، وكان بين أيديهم رزم من الورد والرياحين، فأمر المأمون فشقّ ليحيى لحد من الورد والرياحين وصيّروه فيه، وعمل بيتى شعر ودعا قينة فجلست عند رأس يحيى وغنّت بالشعر:
دعوته وهو حىّ لا حياة به ... مكفّنا في ثياب من رياحين
فقلت قم قال رجلى لا تطاوعنى ... فقلت خذ قال كفّى لا تواتينى(4/93)
فانتبه يحيى لرنّة العود وصوت الجارية فقال:
يا سيّدى وأمير الناس كلّهم ... قد جارفى حكمه من كان يسقينى
إنى غفلت عن الساقى فصيّرنى ... كما ترانى سليب العقل والدّين
فانظر لنفسك قاض إننى رجل ... ألراح يقتلنى والرّوح يحيينى
ومنهم: العباس بن علىّ بن عبد الله بن العباس
وهو عمّ المنصور، كان يأخذ الكأس بيده ويقول: أما العقل فتتلفين، وأما المروءة فتمحقين، وأما الدّين فتفسدين، ويسكت ساعة ثم يقول: وأما النّفس فتسخّين، وأما القلب فتشجّعين، وأما الهمّ فتطردين، أفتراك منى تفلتين! ثم يشربها.
ومنهم: بلال بن أبى بردة
فضح بالشراب وفيه يقول يحيى بن نوفل الحميرىّ:
وأما بلال فذاك الذى ... يميل الشراب به حيث مالا
يبيت يمصّ عتيق الشراب ... كمصّ الوليد يخاف الفصالا
ويصبح مضطربا ناعسا ... تخال من السّكر فيه احولا لا
ويمشى ضعيفا كمشى النزيف «1» ... تخال به حين يمشى شكالا
ومنهم: عبد الرحمن بن عبد الله الثقفىّ
قاضى الكوفة وفضح بمنادمة سعد بن هبّار وفيه يقول حارثة بن بدر:
نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبّار
ومنهم: آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز
وهو الذى يقول:
هاك فاشرب يا خليلى ... فى مدى الليل الطويل
قهوة في ظلّ كرم ... سبيت من نهر نيل(4/94)
فى لسان المرء منها ... مثل لذع الزنجبيل
إنما أذهب مالى ... طول إدمان الشّمول «1»
وحنين العود تثني ... هـ يدا ظبى كحيل
فالطويل العنق الأ ... هيف كالسيف الصقيل
يا خليلىّ اسقيانى ... واهتفا بالشمس زولى
قل لمن لامك فيها ... من نصيح أو عذول
يبق بين الباب والدا ... ر على نعب الطلول
وقيل لأبيه عبد العزيز بن عمر: إن بنيك يشربون الخمر، فقال: صفوهم لى، فقالوا: أما فلان إذا شرب خرق ثيابه وثياب نديمه، فقال: سوف يدع هذا شربها، قالوا: وأما فلان فاذا شربها تقيّأ في ثيابه، قال: وهذا سوف يدعها، قالوا:
وأما آدم فإذا شربها فأسكن ما يكون لا ينال أحدا بسوء، قال: هذا لا يدعها أبدا.
ومنهم: حارثة بن زيد العدوانىّ
رجل من تميم- دخل يوما على زياد ابن أبيه وبوجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر بوجهك؟ فقال: أصلح الله الأمير ركبت فرسى الأشقر «2» فجمح بى حتى صدمنى الحائط، فقال: أما إنك لو ركبت فرسك الأشهب «3» لم يصبك مكروه. ولحارثة فيها أشعار كثيرة وأخبار مع الأحنف ابن قيس، وكان الأحنف ينهاه عنها وهو لا ينتهى ويجيبه بشعر في مدحها وقيل:
إن حارثة هذا أدرك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالسنّ في حال صباه وحداثته.
ومنهم: والبة بن الحباب الأسدىّ
وهو الذى ربّى أبا نواس وأدّبه وعلّمه الفتوّة وقول الشعر. حكى أن المنصور قال له يوما: ادخل إلى محمد- يعنى المهدىّ- وحدّثه، فدخل عليه، فأوّل ما أنشده قوله:(4/95)
قولا لعمرو لا تكن ناسيا ... وسقّنى لا تحبسن كاسيا
واردد على الهيثم مثل الذى ... هجت به ويحك وسواسيا
وقل لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من راسيا
فبلغ ذلك المنصور، فقال: لا تعيدوه إليه أردنا أن نصلحه فأراد هو أن يفسده.
ومنهم: أبو الهندىّ
وهو عبد المؤمن بن عبد القدّوس بن شبث بن ربعىّ اليربوعىّ، حجّ به نصر بن سيّار فلما ورد الحرم قال له نصر: إنك بفناء بيت الله الحرام ومحل حرمه فدع الشراب، فلما زال عنه وضعه بين يديه وجعل يشرب ويبكى ويقول:
رضيع مدام فارق الراح روعه ... فظلّ عليها مستهلّ المدامع
أديرا علىّ الكأس إنى فقدتها ... كما فقد المفطوم درّ المراضع
ومرّ به نصر بن سيّار وهو يميل سكرا، فقال له: أفسدت شرفك، فقال:
لو لم أفسد شرفى لم تكن أنت اليوم والى خراسان.
ومنهم: سعيد بن وهب
وكان شاعرا بصريّا.
ومنهم: الحسين بن الضحّاك النديم
صاحب الحسن بن هانىء وكان خليعا ماجنا مليح الشعر وهو الذى يقول:
ألا إنما الدّنيا وصال حبيب ... وأخذك من مشمولة بنصيب
وعيشك بين المسمعات ممتّعا ... بفنّين من عرف وشدو مصبب
وأنس وإنسان تلذّ بقربه ... وبدلة معشوق ويوم رقيب
وعدّى ساعات النهار ورقبتى ... إلى الشمس لما آذنت بمعيب(4/96)
ومنهم: يحيى بن زياد
وهو الذى يقول:
أعاذل ليت البحر خمر وليتنى ... مدى الدهر حوت ساكن لجّة البحر
فأضحى وأمسى لا أفارق لجّة ... أروّى بها عظمى وأشفى بها صدرى
طوال الليالى، ليس عنّى بناضب ... ولا ناقص حتى أصير الى الحشر
ومنهم: أبو نواس الحسن بن هانىء
ممن اشتهر بالشراب واللهو والطرب ومنادمة القيان، وله في الخمر تشبيهات حسنة وحكايات ظريفة، نذكر هاهنا من أخباره طرفا:
حكى أن مسلم بن الوليد عاتبه وقال: يا أبا نواس، قد خلعت عذارك وأطلت الإكباب على المجون حتى غلب على لبّك وما كذلك يفعل الأدباء! فأطرق ثم قال:
فأوّل شربك طرح الرداء ... وآخر شربك طرح الإزار
وما هنّأتك الملاهى بمثل ... إمانة مجد وإحياء عار
وما جاد دهر بلذّاته ... على من يضنّ بخلع العذار
فانصرف مسلم وقد أيس من فلاحه وهو يقول: جواب حاضر، من كهل فاجر. ومما يحفظ من أخباره، ويروى من أشعاره في ذلك: أنه بلغ إخوانه عنه أنه ترك الشراب واللذّات وأخذ في الزهد والصلاة في أوقاتها فاجتمعوا إليه وأقبلوا يهنّئونه، فوضع بين يديه باطية وجعل لا يدخل اليه أحد يهنئه إلا شرب بين يديه رطلا وأنشد:
قالوا نزعت ولمّا يعلموا وطرى ... فى كلّ أغيد ساجى الطرف ميّاس
كيف النزوع وقلبى قد تقسّمه ... لحظ العيون وقرع السنّ بالكاس
لا خير في العيش إلا في المجون مع ال ... أكفاء والراح والريحان والآس(4/97)
ومسمع يتغنّى والكئوس لها ... حثّ علينا بأخماس وأسداس
يا مورى الزند قد أكبت قوادحه ... اقبس اذا شئت من قلبى بمقياس
ما أقبح الناس في عينى وأسمجهم ... إذا نظرت فلم أبصرك في الناس
وحدّث الفضل بن سلمة عن الثورىّ، قال: خرج الحسن بن هانىء ومعه مطيط صاحبه، حتى أتيا دار خمّار. فقال الحسن لمطيط: ادخل بنا نمزح بهذا الخمّار. فدخلا فسلّما فردّ عليهما. فقال له الحسن: أعندك خمر عتيقة يا خمّار؟
فقال: عندى منها أجناس، فأيها تريد؟ قال: التى يقول فيها الشاعر:
حجبت خيفة وصينت فجاءت ... كجلاء العروس بعد الصّيان
وكأنّ الأكفّ تصبغ من ضو ... ء سناها بالورس والزعفران
فملأ له الخمّار قدحا من خمر صفراء، كأنها ذهب محلول؛ فشربه الحسن وقال:
أحسن من هذا أريد. فقال له الخمار: أىّ جنس تريد؟ قال: التى يقول فيها الشاعر:
دفعتها أيدى الهواجر حتّى ... صيّرت جسمها كجسم الهواء
فهى كالنّور في الإناء وكالنّا ... ر إذا ما تصير في الأحشاء
فملا له الخمار قدحا من خمر كأنها العقيق. فشربه وقال: أرفع من هذا أريد.
فقال: أىّ جنس؟ قال: التى يقول فيها الشاعر:
وإذا حسا منها الوضيع ثلاثة ... سمح الوضيع كفعل ذى القدر
فى لون ماء الغيث إلا أنها ... بين الضلوع كواقد الجمر
فملأ له قدحا من خمر بيضاء، كأنها ماء المزن. فشرب الحسن وقال للخمار:
أتعرفنى؟ قال: إى والله يا سيدى، أنا أعرف الناس بك. قال: من أنا؟ قال:(4/98)
أنت الذى يسكر من غير وزن. فضحك الحسن وقال لمطيط: ادفع إليه ما بقى عندك من النفقة، فأعطاه مائة درهم وانصرف.
وقال الحسين بن الضحّاك: كنت مع أبى نواس بمكة عام حجّ، فسمع صبيّا يقرأ (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) .
فقال أبو نواس: فى مثل هذا يجىء للخمر صفة حسنة؛ ففكّر ساعة ثم أنشدنى:
وسيّارة ضلّت عن القصد بعد ما ... ترادفهم أفق من الليل مظلم
فأصغوا الى صوت ونحن عصابة ... وفينا فتى من سكره يترنم
فلاحت لهم منّا على النأى قهوة ... كأن سناها ضوء نار تضرّم
إذا ما حسوناها أقاموا مكانهم ... وإن مزجت حثّوا الركاب ويمموا
قال: فحدّث بهذا الحديث محمد بن الحسين فقال: لا ولا كرامة، ما سرقه من القرآن ولكن من قول الشاعر:
وليل بهيم كلّما قلت غوّرت ... كواكبه عادت لنا لتذيّل
به الركب إمّا أومض البرق يمّموا ... وإن لم يلح فالقوم بالسير جهّل
وقال أبو نواس فيها:
ألا دارها بالماء حتى تلينها ... فما تكرم الصهباء حتى تهينها
أغالى بها حتى اذا ما مللتها ... أهنت لإكرام النديم مصونها
وقال أيضا:
نبهته والليل ملتبس به ... وأزحت عنه حثاثة «1» فانزاحا
قال ابغنى المصباح، قلت له اتّئد ... حسبى وحسبك ضوءها مصباحا(4/99)
فسكبت منها في الزجاجة شربة ... كانت له حتى الصباح صباحا
من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلا فألبسها المزاج وشاحا
شكّ البزال» فؤادها فكأنها ... أبدت اليك بريحها تفاحا
وقال أيضا:
ردّا علىّ الكأس، إنكما ... لا تدريان الكأس ما تجدى
خوّفتمانى الله جهدكما ... وكحيفتيه رجاؤه عندى
لا تعذلا في الراح إنكما ... فى غفلة عن كنه ما تسدى
لو نلت ما نلت ما مزجت ... إلا بدمعكما من الوجد
ما مثل نعماها اذا اشتملت ... إلا اشتمال فم على خدّ
إن كنتما لا تشربان معى ... خوف الإله شربتها وحدى
وأخبار الحسن بن هانىء فيها كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية.
ومنهم: الثّروانىّ،
كان شاعرا مطبوعا بليغا، من أهل الخلاعة المشهورين.
وكان آخر أمره أن أصيب في حانة خمّار بين زقّى خمر وهو ميت. وهو القائل فيها:
كرّ الشراب على نشوان مضطجع ... قد هب يشربها والدّيك لم يصح
والليل في عسكر حمر بوارقه ... من النجوم، وضوء الصبح لم يضح
والعيش لا عيش إلا أن تباكرها ... نشوان تقتل همّ النفس بالفرح
حتى يظلّ الذى قد بات يشربها ... ولا مراح به يختال كالمرح(4/100)
ومنهم: مطيع بن إياس.
وكان شاعرا أديبا ظريفا مشتهرا بالخلاعة واللعب. وكان أصحابه على ذلك، وهم يحيى بن زياد، ووالبة بن الحباب، وحمّاد عجرد.
ومنهم: أبو عبد الرحمن العطوىّ.
كان شاعرا فصيحا، لا يكاد يتقدّمه أحد لجزالة ألفاظه وحلاوة معانيه. وكان مولعا بالخمر مشتهرا بها مدمنا عليها، أكثر أشعاره فيها. فمن شعره:
أخطب لكأسك ندمانا تسرّ به ... أو لا فنادم عليها حكمة الكتب
أخطبه حرّا كريما ذا محافظة ... ترى مودّته من أقرب النسب
وقال أيضا:
وكم قالوا تمنّ، فقلت كأسا ... يطوف بها قضيب في كثيب
وندمانا يساقطنى حديثا ... كصدق الوعد أو غضّ الرقيب
ومنهم: أبو هفّان.
وكان شاعرا محسنا، وخليعا ماجنا. حكى أنه شرب مع أحمد بن أبى طاهر حتى فنى ما عندهما، وكانا بجوار العلاء بن أيّوب. فقال ابن أبى طاهر لأبى هفّان: تماوت حتى نحتال على أبى العلاء في أن ينيلنا شيئا.
فمضى اليه ابن أبى طاهر فقال: أصلحك الله! نزلنا جوارك فوجب حقّنا عليك، وقد مات أبو هفّان وليس له كفن. فقال لوكيله: امض معه وشاهد أمره وادفع اليه كفنا. فأتاه فوجده ملقى عليه ثوب فنقر أنفه فضرط. فقال: ما هذا؟
فقال: أصلحك الله عجّلت له صعقة القبر فإنه مات وعليه دين؛ فضحك وأمر له بدنانير.
ومنهم: الأقيشر.
وكان مغرما بالشراب مدمنا عليه. وهو القائل:
ومقعد قوم قد مشى من شرابنا ... وأعمى سقيناه ثلاثا فأبصرا(4/101)
كميت كأن العنبر الورد ريحه ... ومسحوق هندىّ من المسك أذفرا
ومنهم: النعمان بن علىّ بن نضلة.
وكان عاملا لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه على ميسان، وكان مدمن الشراب. وهو القائل:
ألا أبلغ الحسناء أنّ خليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم «1»
فإن كنت ندمانى فبالأكبر اسقنى ... ولا تسقنى بالأصغر المتثلّم
لعلّ أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق «2» المتهدّم
فبلغ الشعر عمر رضى الله عنه.
فكتب اليه: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)
أما بعد، فقد بلغنى قولك:
لعلّ أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدّم
وايم الله لقد ساءنى! وعزله. فلمّا قدم عليه سأله، فقال: والله ما كان من هذا شىء، وما كان إلا فضل شعر وجدته وما شربتها قط. فقال عمر: أظنّ ذلك، ولكن لا تعمل لى عملا أبدا. فنزل البصرة، ولم يزل يغزو مع المسلمين حتى مات رحمه الله.
ومنهم: عمارة بن الوليد بن المغيرة.
خطب امرأة من قومه، فقالت:
لا أتزوّجك حتى تدع الخمر والزنا. فقال: أمّا الزنا فإنى أدعه، وأما الخمر فوجدى بها شديد. ثم اشتدّ وجده بالمرأة فعاود طلبها؛ فقالت: حتى يحلف بطلاقى يوم(4/102)
يزنى أو يشرب خمرا؛ فحلف لها وتزوّجها. ومكث حينا لا يشرب، الى أن مرّ بخمّار وعنده قوم يشربون وقينة تغنّيهم وهو على ناقة؛ فطرب اليهم وارتاح ورمى بثيابه الى الخمّار، وقال: أسقهم بها؛ ونحر لهم ناقته، ومكث أياما يطعمهم ويسقيهم حتى أنفد ما معه. ثم رجع الى امرأته، فلامته، فأنشأ يقول:
أقلّى علىّ اللوم يا أمّ سالم ... وكفّى فإن العيش ليس بدائم
أسرّك لما صرّع القوم نشوة ... خروجى منهم سالما غير غارم
سليما كأنى لم أكن كنت منهم ... وليس الخداع من تصافى التنادم
ثم قال لها: الحقى بأهلك، وعاد الى ما كان عليه.
وأما من افتخر بشربها وسبائها «1» ،
فقد كانت العرب تفتخر بسبائها، وتضيفه إلى عظيم غنائها، وتقرنه بمذكور بلائها. وشاهد ذلك قول امرىء القيس:
كأنّى لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزّقّ الروىّ ولم أقل ... لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال
فقرن جوده في سباء الزقّ ببسالته في كرّ الخيل. ولمّا أنشد أبو الطيب المتنبى سيف الدولة بن حمدان قصيدته التى يقول فيها:
وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم
فقال له سيف الدولة: انتقدنا عليك يا أبا الطيّب هذين البيتين كما انتقد على امرىء القيس بيتاه، وذكرهما، قال: وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما لا يلتئم شطرا هذين البيتين: كان ينبغى لامرىء القيس أن يقول:(4/103)
كأنى لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال
ولم أسبأ الزقّ الروىّ للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
وأن تقول أنت:
وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيّد الله مولانا! إن كان صحّ أنّ الذى استدرك على امرىء القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، والثوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك لأن البزّاز يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفاريقه، لأنه هو الذى أخرجه من الغزليّة الى الثوبيّة. وإنما قرن امرؤ القيس لذّة النساء بلذّة الركوب للصيد، وقرن السماحة في سباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء؛ وأنا لما ذكرت الموت في أوّل البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه. ولما كان الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه باكية قلت:
ووجهك وضّاح وثغرك باسم
لأجمع بين الأضداد في المعنى وإن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله.
وقال لقيط بن زرارة:
شربت الخمر حتى خلت أنى ... أبو قابوس أو عبد المدان
وقال حسّان بن ثابت الأنصارىّ عفا الله عنه ورحمه:
إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهنّ لطيّب الراح الفداء
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهها اللّقاء(4/104)
حكى أنّ حسّان بن ثابت عنّف جماعة من الفتيان على شرب الخمر وسوء تنادمهم عليها وأنهم يضربون عليها ضرب الإبل ولا يرجعون عنها؛ فقالوا: إنا اذا هممنا بالإقلاع عنها ذكرنا قولك:
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهها اللقاء
فعاودناها.
وقال الأخطل يخاطب عبد الملك بن مروان:
اذا ما نديمى علّنى ثم علّنى ... ثلاث زجاجات لهنّ هدير
خرجت أجرّ الذيل حتى كأننى ... عليك أمير المؤمنين أمير
وقال آخر:
إذا صدمتنى الكأس أبدت محاسنى ... ولم يخش ندمانى أذاى ولا بخلى
ولست بفحّاش عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلى
وقال آخر:
شربنا من الدّاذىّ «1» حتى كأننا ... ملوك لهم برّ العراقين والبحر
فلما انجلت شمس النهار رأيتنا ... تولّى الغنى عنّا وعاودنا الفقر
ومثله للمنخّل اليشكرىّ:
فإذا سكرت فإننى ... ربّ الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإننى ... ربّ الشّويهة والبعير
وقال عنترة:
وإذا سكرت فإننى مستهلك ... مالى، وعرضى وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى ... وكما علمت شمائلى وتكرّمى(4/105)
أخذه البحترىّ وزاد عليه في قوله:
وما زلت خلّا للندامى إذا انتشوا ... وراحوا بدورا يستحثّون أنجما
تكرّمت من قبل الكؤس عليهم ... فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرّما
والزيادة أن عنترة ذكر أنه يستهلك ماله اذا سكر، والبحترى ذكر أن ممدوحه يتكرم قبل الكؤس فيبالغ حتى لا تستطيع الكؤس أن تزيده تكرّما.
وكان الأعشى ميمون بن قيس مشهورا بتعاطى الخمر مشغوفا بها كثير الذكر لها فى شعره. ومن اشتهاره بها قال المفضّل بين قدماء الشعراء: أشعرهم امرؤ القيس اذا ركب، والنابغة اذا رهب، وزهير اذا رغب، والأعشى اذا طرب. وقصد الأعشى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليسلم وامتدحه بقصيدته التى أوّلها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبتّ كما بات السليم مسهّدا
فاعترضه في طريقه من أراد منعه، فقالوا له: إنه يحرّم عليك الزنا والخمر.
فقال: أمّا الزنا فقد كبرت فلا حاجة لى فيه، وأمّا الخمر فلا أستطيع تركها. وعاد لينظر في أمره، وقيل: إنه قال: أعود فأشربها سنة وأرجع، فمات قبل الحول.
قالوا: ونظر الحسن بن وهب الى رجل يعبس في كأسه، فقال: ما أنصفتها، تضحك في وجهك وتعبس في وجهها. ومن ذلك قول الشريف الرضىّ:
كالخمر يعبس حاسيها على مقة ... والكأس تجلو عليه ثغر مبتسم
وهو مأخوذ من قول عبد الله بن المعتزّ حيث يقول:
ما أنصف النّدمان كأس مدامة ... ضحكت اليه فشمّها بتعبّس(4/106)
ذكر شىء مما قيل فيها من جيّد الشعر
قد أوسع الشعراء في هذا المعنى وأطنبوا فيه وتنوّعوا. فمنهم من مدحها ومنهم من وصفها وشبّهها، ومنهم من ذكر أفعالها وتغزّل فيها. وسنورد في هذا الموضع نبذة مما طالعناه في ذلك؛ إذ لو أوردنا مجموع ما وقفنا عليه لطال، ولا تسعت فيه دائرة المقال.
فأمّا ما قيل فيها على سبيل المدح لها، فمن ذلك قول ابن الرومى
حيث يقول:
تالله ما أدرى بأيّة علّة ... يدعون هذا الراح باسم الراح؟
ألريحها ولروحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح؟
إن حرّمت فبحقّها من خمرة ... ما كان مثل حريمها بمباح
أو حلّلت فبحقّها من نشوة ... تشفى سقام قلوبنا بصحاح
وقال أيضا:
خمر اذا ما نديمى ظلّ يكرعها ... أخشى عليه من اللألاء يحترق
لو رام يحلف أن الشمس ما غربت ... فى فيه كذّبه في وجهه الشفق
ومثله قول الطليق المروانىّ:
فإذا ما غربت في فمه ... أطلعت في الخدّ منه شفقا
وقال الناجم:
وقهوة كشعاع الشمس صافية ... مثل السراب ترى من رقّة شبحا
اذا تعاطيتها لم تدر من فرح ... راحا بلا قدح أعطيت أم قدحا؟(4/107)
وقال الناشى:
يا ربّما كأس تناولتها ... تسحب ذيلا من تلاليها
كأنها النار ولكنها ... منعّم والله صاليها
ومما قيل في وصفها وتشبيهها؛
فمن ذلك ما قاله يزيد بن معاوية:
ومدامة حمراء في قارورة ... زرقاء تحملها يد بيضاء
فالخمر شمس والحباب كواكب ... والكفّ قطب والإناء سماء
وقال السروىّ:
عنيت بالمدامة الشعراء ... وصفوها وذاك عندى عناء
كيف تحصيل علمها وهى موت ... وحياة وعلّة وشفاء
فهى في باطن الجوانح نار ... وهى في ظاهر المحاجر ماء
حلوة مرّة فما أحد يد ... رى أداء خصوصها أم دواء
وقال البحترىّ:
اشرب على زهر الرياض يشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصهباء
من قهوة تنسى الهموم وتبعث ال ... شوق الذى قد ضلّ في الأحشاء
يخفى الزجاحة لونها فكأنها ... فى الكفّ قائمة بغير إناء
ولها نسيم كالرياض تنفّست ... فى أوجه الأرواح والأنداء
وفواقع مثل الدموع تردّدت ... فى صحن خدّ الكاعب الحسناء
يسقيكها رشأ يكاد يردّها ... فى صحن خدّ الكاعب الحسناء
يسقيكها رشأ يكاد يردّها ... سكرى بفترة مقلة حوراء
يسعى بها وبمثلها من طرفه ... عودا وإبداء على الندماء
وقال الوأواء الدمشقىّ:
فآمزج بمائك نار كأسك واسقنى ... فلقد مزجت مدامعى بدماء(4/108)
واشرب على زهر الرياض مدامة ... تنفى الهموم بعاجل السّراء
لطفت فصارت من لطيف محلّها ... تجرى كجرى الروح في الأعضاء
وكأنّ مخنقة عليها جوهر ... ما بين نار أذ كيت وهواء
وكأنها وكأنّ حامل كأسها ... إذ قام بجلوها على الندماء
شمس الضحى رقصت فنقّط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء
وقال أبو نواس:
أقول لما تحاكيا شبها ... أيّهما للتشابه الذهب
هما سواء وفرق بينهما ... أنهما جامد ومنسكب
وله أيضا:
إذا عبّ «1» فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا
ترى حيثما كانت من البيت مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا
يدور بها ساق أغنّ ترى له ... على مستدار الأذن صدغا معقربا
سقاهم ومنّانى بعينيه منية ... فكانت الى نفسى ألذّ وأطيبا
ومثل البيت الأوّل قول ابن المعتزّ:
كأنه قائم والكأس في يده ... هلال أوّل شهر غاب في شفق
وقال ابن الرومىّ:
ومهفهف تمّت محاسنه ... حتى تجاوز منتهى النفس
أبصرته والكأس بين فم ... منه وبين أنامل خمس
فكأنه والكأس في فمه ... قمر يقبّل عارض الشمس(4/109)
وقال الحسين بن الضحّاك:
كأنما نصب كأسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك
وقال آخر:
واكتست من فضّة دررا ... خلتها من تحتها ذهبا
ككميت اللون قلدها ... فارس من لؤلؤ حببا
وقال آخر:
تغشى «1» بياض شاربها ... فتخالها بيمين مختضب
دارت وعين الشمس غائبة ... فحسبت عين الشمس لم تغب
وقال آخر:
حمراء ورديّة مشعشعة ... كأنها في إنائها لهب
صهباء صرفا لو مسّها حجر ... من جامد الصخر مسّه طرب
وقال آخر:
قلت والراح في أكفّ النّدامى ... كنجوم تلوح في أبراج
أمداما خرطتم لمدام ... أم زجاجا سبكتم لزجاج
وقال الحسن بن وهب:
وقهوة صافية ... كالمسك لمّا نفحا
شربت من دنانها ... من كلّ دنّ قدحا
فعدت لا تحملنى ... أعواد سرجى مرحا
من شدة السكر الذى ... على فؤادى طفحا(4/110)
وقال ابن المعتز:
خليلىّ قد طاب الشراب المبرّد ... وقد عدت بعد النسك والعود أحمد
فهات عقارا من قميص زجاجة ... كيافوتة في درّة تتوقّد
يصوغ عليها الماء شبّاك فضة ... له حلق بيض تحلّ وتعقد
وقال التنوخىّ:
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواء ولكنه ساكن ... وماء ولكنه غير جارى
اذا ما تأملته وهى فيه ... تأمّلت ماء محيطا بنار
فهذا النهاية في الابيضاض ... وهذا النهاية في الاحمرار
وما كان في الحكم أن يوجدا ... لفرط تنافيهما والنّفار
ولكن تجاوز سطحاهما ال ... بسيطان فأتلفا بالحوار
كأنّ المدير لها باليمين ... إذا مال بالسّقى أو باليسار
تدرّع ثوبا من الياسيمين ... له فرد كمّ من الجلّنار
وقال ابن وكيع التّنّيسىّ:
حملت كفّه الى شفتيه ... كأسه والظلام مرخى الإزار
فالتقى لؤلؤا حباب وثغر ... وعقيقان من فم وعقار
وقال آخر:
قم فاسقنى قد تبلّج الغسق ... من قهوة في الزجاج تأتلق
كأننا والكؤس نأخذها ... نشرب نارا وليس نحترق(4/111)
وقال أبو نواس:
غنّنا بالطلول كيف بلينا ... واسقنا نعطك «1» الجزاء الثمينا
من سلاف كأنها كلّ شىء ... يتمنى مخيّر أن يكونا
أكل الدهر ما تجسّم منها ... وتبقّى لنا «2» بها المكنونا
فإذا ما اجتليتها فهباء ... تمنع الكفّ ما تبيح العيونا
ثم شجّت فاستضحكت عن لآل ... لو تجمّعن في يد لاقتنينا
فى كؤس كأنهن نجوم ... جاريات، بروجها أيدينا
طالعات مع السقاة علينا ... فاذا ما غربن يغربن فينا
لو ترى الشّرب حولها من بعيد ... قلت قوم من قرّة يصطلونا
وقال ابن المعتزّ:
وخمّارة من بنات المجوس ... ترى الدّنّ في بيتها شائلا
وزنّا لها ذهبا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سائلا
وأما ما قيل في أفعالها،
فمن ذلك قول أبى تمّام الطائىّ:
وكأس كمعسول الأمانى شربتها ... ولكنها أجلت وقد شربت عقلى
اذا عوتبت بالماء كان اعتذارها ... لهيبا كوقع النار في الحطب الجزل
اذا اليد نالتها بوتر توفّرت ... على ضغنها «3» ثم استقادت من الرّجل(4/112)
ومثله قول ديك الجنّ واسمه عبد السلام:
فقام تكاد الكأس تخضب كفّه ... وتحسبه من وجنتيه استعارها
مشعشعة من كفّ ظبى كأنما ... تناولها من خدّه فأدارها
فظلنا بأيدينا نتعتع روحها ... وتأخذ من أقدامنا الراح ثارها
وقريب من المعنى الأوّل قول أبى بكر الخالدىّ:
كانت لها أرجل الأعلاج «1» واترة ... بالدوس فانتصفت من أرؤس العرب
[أخذ «2» هذا المعنى أبو غالب الإصباعىّ الكاتب فقال:
عقرتهم معقورة لو سالمت ... شرّابها ما سمّيت بعقار
لانت لهم حتى انتشوا وتمكّنت ... منهم فصاحت فيهم بالثار
ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصّار]
وقال آخر:
أسروها وجه النهار من الدّنّ ... فأمسوا وهم لها أسراء
وقال عبد الصمد بن بابك عفا الله عنه:
عقار عليها من دم الصّبّ نفضة ... ومن عبرات المستهام فواقع
معوّدة غصب العقول كأنما ... لها عند ألباب الرجال ودائع
وأما ما وصفت به غير ما قدّمناه،
فمن ذلك قول أبى الفضل يحيى بن سلامة الحصكفىّ [والحصكفى نسبة الى حصن كيفا] :
وخليع بتّ أعتبه ... ويرى عتبى من العبث(4/113)
قلت إن الخمر مخبثة ... قال حاشاها من الخبث
قلت منها القىء، قال أجل ... طهرت عن مخرج الحدث
قلت فالأرفاث تتبعها ... قال طيب العيش في الرفث
وسأسلوها فقلت متى ... قال عند الكون في الجدث
وقال آخر:
ثقلت زجاجات أتتنا فرّغا ... حتى اذا ملئت بصرف الراح
خفّت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخفّ بالأرواح
[وقريب من المعنى قول الآخر:
وزنّا الكأس فارغة وملأى ... فكان الوزن بينهما سواء «1» ]
وقال أبو نواس:
قهوة أعمى عنها ... ناظرا ريب المنون
عتّقت في الدنّ حتى ... هى في رقّة دينى
ثم شجّت فأدارت ... فوقها مثل العيون
حدقا ترنو الينا ... لم تحجّر بجفون
ذهبا يثمر درّا ... كلّ إبّان وحين
من يدى ساق عليه ... حلّة من ياسمين غاية في الظرف والشكل
وفرد في المجون
وقال:
ذد بماء الكرم والعنب ... خطرات الهمّ والنّوب
قهوة لو أنها نطقت ... ذكرت ساما أبا العرب(4/114)
وهى تكسو كفّ شاربها ... دستبانات «1» من الذهب
وقال تاج الملوك بن أيّوب:
وكم ليلة فيها وصلنا غيوقنا ... وكم من صباح كان فيه صبوح
تدار علينا من أكفّ سقاتنا ... عقار من الهمّ الطويل تريح
تلوح لنا كالشمس في كفّ أغيد ... يلوح لعينى البدر حين يلوح
مدام تحاكى خدّه ورضابه ... ونكهته في الطّيب حين تفوح
ولكن لها أفعال عينيه في الحشا ... فكلّ حشا فيها عليه جريح
وقال أيضا:
والكأس أعطاها عقيقا أحمرا ... قان، فأعطيها لجينا يققا «2»
من قهوة ما العيش إلا أن أرى ... مصطبحا في شربها مغتبقا
أشربها شربا هنيئا من يدى ... غصن رشيق وغزال أرشقا
ومما قيل فيها اذا مزجت بالماء،
فمن ذلك قول أبى نواس:
وصفراء قبل المزج بيضاء بعده ... كأن شعاع الشمس يلقاك دونها
ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسر حتى ما تقلّ جفونها
ومنه أخذ ديك الجنّ فقال:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... بدت بين ثوبى نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفا فسلّطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
وقال أبو هلال العسكرىّ:
راح اذا ما الليل مدّ رواقه ... لاحت تطرّز حلّة الظلماء(4/115)
حتى اذا مزجت أراك حبابها ... زهرات أرض أو نجوم سماء
وقال أيضا:
وكأس تمتطى أطراف كفّ ... كأنّ بنانها من أرجوان
أنازعها على العلّات شربا ... لهنّ مضاخك من أقحوان
يلوح على مفارقها حباب ... كأنصاف الفرائد والجمان
وطالعنى الغلام بها سحيرا ... فزاد على الكواكب كوكبان
ووافقها بخدّ أرجوان ... وخالفها بفرع أدجوان
قوله:
كأنصاف الفرائد والجمان
مأخوذ من قول ابن الرومىّ:
لها صريح كأنه ذهب ... ورغوة كاللآلىء الفلق
وقال أبو نواس:
فإذا علاها الماء ألبسها ... حببا «1» شبيه جلاجل الحجل
حتى اذا سكنت جوانحها «2» ... كتبت بمثل أكارع النمل
وهو مأخوذ من قول الأوّل، ويقال: إنه ليزيد بن معاوية:
وكأس سباها التّجر من أرض بابل ... كرقّة ماء الحزن في الأعين النّجل
اذا شجّها الساقى حسبت حبابها ... عيون الدّبا «3» من تحت أجنحة النمل
وقال أبو نواس أيضا:
قامت ترينى وأمر الليل مجتمع ... صبحا تولّد بين الماء واللهب(4/116)
كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء درّ على أرض من الذهب
وقال ابن المعتز:
للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فصّ ياقوت
وقال العسكرىّ:
ذاب في الكأس عقيق فجرى ... وطفا الدّرّ عليه فسبح
نصب الساقى على أقداحها ... شبك الفضّة تصطاد الفرح
وقال ابن الساعاتىّ:
وليلة بات بدر التّمّ ساقينا ... يدير في فلك من شربها شهبا
بكر اذا فرعت بالماء كان بنا ... جدّا وإن كان في كاساتها لعبا
حمراء من خجل حتى اذا مزجت ... لم تدر ما خجلا تحمرّ أم غضبا
تزيد بالبارد السلسال جذوتها ... وما سمعت بماء محدث لهبا
تكسو النديم إذا ما ذاقها وضحا ... حتى كأنّ شعاع الشمس قد شربا
وقال آخر:
فنبّهتنى وساقى القوم يمزجها ... فصار في البيت للمصباح مصباح
قلنا على علمنا والشكّ يغلبنا ... أراحنا نارنا أم نارنا الراح
وقال ابن وكيع التّنّيسىّ:
وصفراء من ماء الكروم كأنها ... فراق عدوّ أو لقاء صديق
كأنّ الحباب المستدير بطوقها ... كواكب درّ في سماء عقيق
صببت عليها الماء حتى تعوّضت ... قميص بهار من قميص شقيق
وقال آخر:
حمراء ما اعتصموا بالماء حين طفت ... إلا وقد حسبوها أنها لهب(4/117)
وقال الخالديّان:
فهاتها كالعروس محمرّة ال ... خدّين في معجر «1» من الحبب
كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب
من كفّ راض عن الصدود وقد ... غضبت في حبّه على الغضب
فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئا من أعجب العجب
نار حواها المزاج يلهبها ... الماء ودرّ يدور في لهب
ذكر ما قيل في مبادرة اللّذات ومجالس الشراب وطيّها
قال أحمد بن أبى فنن:
جدّد اللّدّات فاليوم جديد ... وامض فيما تشتهى كيف تريد
واله ما أمكن يوم صالح ... إن يوم الشرّ- لا كان- عتيد
وقال ديك الجنّ:
تمتّع من الدنيا فإنك فانى ... فى أيدى حوادث عانى
ولا تنظرنّ اليوم لهوا إلى غد ... ممن لغد من حادث بأمان
فإنى رأيت الدهر يسرع بالفتى ... وينقله حالين مختلفان «2»
فأمّا الذى يمضى فأحلام نائم ... وأمّا الذى يبقى له فأمانى
وقال ابن المعتزّ من أبيات:
وبادر بأيام السرور فإنها ... سراع وأيام الهموم بطاء
وخلّ عتاب الحادثات لوجهها ... فإن عتاب الحادثات عناء
تعالوا فسقّوا أنفسا قبل موتها ... ليأتى ما يأتى وهنّ رواء(4/118)
وقال أحمد الماردانىّ:
عاقر الراح ودع نعت الطلل ... واعص من لامك فيها وعذل
غادها واسع لها واغر بها ... وإذا قيل: تصابى، قل أجل
إنما دنياك- فاعلم- ساعة ... أنت فيها وسوى ذاك أمل
وقال ابن بسّام:
واصل خليلك إنما ال ... دنيا مواصلة الخليل
وانعم ولا تتعجّل ال ... مكروه من قبل النزول
بادر بما تهوى فما ... تدرى متى وقت الرحيل
وارفض مقالة لائم ... إن الملام من الفضول
ومما وصفت به مجالس الشرب؛
فمن ذلك قول أبى نواس:
فى مجلس ضحك السرور به ... عن ناجذيه وحلّت الخمر
وقال ديك الجنّ:
كأنما البيت بريحانة ... ثوب من السندس مشقوق
وقال السرىّ:
ألست ترى ركب الغمام يساق ... وأدمعه بين الرياض تراق
وقد رقّ جلباب النسيم على الثرى ... ولكن جلابيب الغيوم صفاق
وعندى من الرّيحان نوع تجسّه ... وكأس كرقراق الخلوق «1» دهاق
وذو أدب جلّت صنائع كفّه ... ولكن معانى الشعر منه دقاق
له أبدا من نثره ونظامه ... بدائع حلى ما لهنّ حقاق(4/119)
وأغيد مهتزّ، على صحن خدّه ... غلائل من صبغ الحياء رقاق
أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق
وقد نظم المنثور فهو قلائد ... علينا، وعقد مذهب وخناق
وغرفتنا بين السحائب تلتقى ... لهنّ علينا كلّة ورواق
تقسّم زوّار من الهند سقفها ... خفاف على قلب الكريم رشاق
أعاجم تلتذّ الخصام كأنها ... كواعب زنج راعهنّ طلاق
أنسن بنا أنس الإماء تحبّبت ... وشيمتها غدر بنا وإباق
مواصلة والورد في شجراته ... مفارقة إن حان منه فراق
فزر فتية، برد الشراب لديهم ... حميم اذا فارقتهم وغساق «1»
قوله:
أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهن له دون النطاق نطاق
مأخوذ من قول المتنبّى:
وخصر تثبت الأحداق فيه ... كأنّ عليه من حدق نطاقا
وقال أبو هلال العسكرىّ:
وليل ابتعت به لذّة ... وبعت فيه العقل والدّنيا
أصاب فيه الوصل قلب الجوى ... وبات فيه الهمّ مسكينا
وقد خلطنا بنسيم الصّبا ... نسيم راح ورياحينا
وأكؤس الراح نجوم اذا ... لاحت بأيدينا هوت فينا
تضحك في الكأس أباريقنا ... وحسبما تضحك تبكينا(4/120)
ومما قيل في طىّ مجالس الشراب؛
فمن ذلك قول بعض الشعراء:
حكم العقار اذا قصدت لشربها ... فى لذّة من مسمع «1» وقيان
ألّا تعود لذكر ما أبصرت من ... أحدوثة من شارب سكران
وقال آخر:
إذا ذكر النبيذ فليس حقّا ... إعادة ما يكون على النبيذ
إعادة ما يكون من السّكارى ... يكدّر صفوة العيش اللذيذ
وقال آخر:
تنازعوا لذّة الصهباء بينهم ... وأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب
لا يحفظون على السكران زلّته ... ولا يريبك من أخلاقهم ريب
ذكر ما قيل في وصف آلات الشراب وأوانيها
من ذلك ما قيل في وصف معصرة الخمر:
قال أبو الفرج الببّغاء:
ومعصرة أنخت بها ... وقرن الشمس لم يغب
فخلت قرارها بالرا ... ح بعض معادن الذهب
وقد ذرفت لفقد الكر ... م فيها أعين العنب
وجاش عباب واديها ... بمنهلّ ومنسكب
وياقوت العصير بها ... يلاعب لؤلؤ الحبب
فياعجبا لعاصرها ... وما يفنى به عجبى
وكيف يعيش وهو يخو ... ض في بحر من اللهب(4/121)
وقال ابن المعتزّ يصف الدّنان:
ودنان كمثل صفّ رجال ... قد أقيموا ليرقصوا دستبندا «1»
وقال القطامىّ يصف جرار الخمر:
واستودعتها رواقيد «2» مقيّرة «3» ... دكن الظواهر قد برنسن بالطّين
مكافحات لحرّ الشمس قائمة ... كأنهنّ نبيط في تبابين «4»
وقال العلوىّ الأصفهانىّ:
مخدّرة مكنونة قد تقشّفت ... كراهبة بين الحسان الأوانس
وأترابها يلبسن بيض غلائل ... هى العرى مغرور بها كلّ لابس
مشعّثة مرهاء «5» ما خلت أننى ... أرى مثلها عذراء في زىّ عانس
ومما قيل في الراووق
؛ قال بعض الشعراء:
كأنما الراووق وانتصابه ... خرطوم فيل سقطت أنيابه
والبيت منه عطر ترابه ... كأنّ مسكا فتّقت عيابه
وقال آخر:
سماء لاذ «6» ، قطرها رحيق ... رحب الذّرى ينحطّ فيه الضّيق
ماء عقيق لو جرى العقيق ... حتى اذا ألهبها التّصفيق
صحنا الى جيراننا: الحريق(4/122)
ومما وصفت به زقاق الخمر؛
فمن ذلك قول الأخطل:
أناخوا فجرّوا شاصيات «1» كانها ... رجال من السودان لم يتسربلوا
وقال أبو الهندىّ وأجاد في شعره:
أتلف المال وما جمعته ... طلب اللّذات من ماء العنب
واستباء الزقّ من حانوتها ... شائل الرجلين معضوب «2» الذنب
كلّما كبّ لشرب خلته ... حبشيّا قطعت منه الرّكب
وقال ابن المعتزّ:
وتراها وهى صرعى ... فرّغا بين الندامى
مثل أبطال حروب ... قتلوا فيها كراما
وقال العلوىّ الأصفهانىّ:
عجبت من حبشىّ لا حراك به ... لا يدرك الثأر إلا وهو مذبوح
طورا يرى وهو بين الشّرب مضطجع ... رخو الصّفاق «3» وطورا وهو مشبوح
ومما وصفت به الأباريق
؛ فمن ذلك قول شبرمة بن الطفيل:
كأنّ أباريق الشّمول عشيّة ... إوزّ بأعلى الطفّ عوج الحناجر
وقال آخر:
يا ربّ مجلس فتية نادمتهم ... من عبد شمس في ذرى العلياء
وكأنما إبريقهم من حسنه ... ظبى على شرف أمام ظباء
وقال ابن المعتزّ:
وكأنّ إبريق المدام لديهم ... ظبى على شرف أناف مدلها(4/123)
لما استحثّته السّقاة جثى لها ... فبكى على قدح النديم وقهقها
وقال إسحاق الموصلىّ:
كأن أباريق المدام لديهم ... ظباء بأعلى الرّقمتين قيام
وقد شربوا حتى كأنّ رقابهم ... من اللّين لم يخلق لهنّ عظام
وكلّهم نظروا الى قول علقمة بن عبدة:
كأنّ إبريقهم ظبى على شرف ... مقدّم بسبا «1» الكتّان ملثوم
وقال محمد بن هانىء من أبيات:
والأباريق كالظباء العواطى ... أوجست نبأة الخيول العتاق
مصغيات إلى الغناء مطلا ... ت عليه كثيرة الإطراق
وهى شمّ الأنوف يشمخن كبرا ... ثم يرعفن بالدّم المهراق
وقال أبو نواس عفا الله عنه:
والكوب يضحك كالغزال مسبّحا ... عند الركوع بلثغة الفأفاء
وكأنّ أقداح الرحيق إذا جرت ... وسط الظلام كواكب الجوزاء
وقال بشّار بن برد:
كأنّ إبريقنا والقطر من فمه ... طير تناول ياقوتا بمنقار
ومما وصفت به الكاسات والأقداح
؛ فمن ذلك قول ابن المعتزّ:
غدا بها صفراء كرخيّة ... تخالها في كأسها تتّقد
وتحسب الماء زجاجا لها ... وتحسب الأقداح ماء جمد
وقال ابن المعتزّ أيضا عفا الله عنه:
وكأس تحجب الأبصار عنها ... فليس لناظر فيها طريق(4/124)
كأن غمامة بيضاء بينى ... وبين الكأس تخرقها البروق
وقال أبو الفرج الببّغاء:
من كلّ جسم كأنه عرض ... يكاد لطفا باللحظ ينتهب
كأنما صاغه النّفاق فما ... يخلص منه صدق ولا كذب
وقال الرفّاء:
كأنّ الكؤس بفضلاتها ... متوّجة بأكاليل نور
جيوب من الوشى مزرورة ... يلوح عليها بياض النحور
وقال آخر:
وكأنما الأقداح مترعة الحشا ... بين الشروب كواكب الجوزاء
وكأنها ياقوتة فضلاتها ... مخروطة من درّة بيضاء
وقال المعوّج:
يعاطيك كأسا غير ملأى كأنها ... إذا مزجت أحداق درع مزرّد
كأنّ أعاليها بياض سوالف ... يلوح على توريد خدّ مورّد
وقال أبو نواس:
وكأنما الروض السماء ونهره ... فيه المجرّة والكؤس الأنجم
وقال الثعالبىّ:
يا واصف الكأس بتشبيهها ... دونك وصفا عالى القدر
كأنّ عين الشمس قد أفرغت ... فى قالب صيغ من البدر
وقال آخر:
أقول للكأس إذ تبدّت ... بكفّ أحوى أغنّ أحور
أخربت بيتى وبيت غيرى ... وأصل ذا كعبك المدوّر(4/125)
الباب الخامس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى النّدمان والسّقاة
[ومما قيل في الندمان]
قال سهل بن هارون: ينبغى للنديم أن يكون كأنما خلق من قلب الملك يتصرّف بشهواته ويتقلّب بإرادته، لا يملّ المعاشرة، ولا يسأم المسامرة؛ إذا انتشى يحفظ، وإذا صحا يبقظ، ويكون كاتما لسرّه، ناشرا لبرّه. قالوا:
فاخر كاتب نديما، فقال الكاتب: أنا معونة، وأنت مؤونة؛ وأنا للجدّ، وأنت للهزل؛ وأنا للشدّة، وأنت للرخاء؛ وأنا للحرب، وأنت للسلم. فقال النديم:
أنا للنعمة، وأنت للخدمة؛ وأنا للحظوة، وأنت للمهنة؛ تقوم وأنا قاعد، وتحتشم وأنا مؤانس؛ تدأب لراحتى، وتشقى لما فيه سعادتى؛ فأنا شريك وأنت معين، كما أنك تابع وأنا قرين. فلم يحر الكاتب جوابا. والله أعلم.
وسئل إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ رحمه الله عن الندماء، فقال:
واحد غمّ، واثنان همّ، وثلاثة قوام، وأربعة تمام، وخمسة مجلس، وستّة زحام، وسبعة جيش، وثمانية عسكر، وتسعة أضرب طبلك، وعشرة الق بهم من شئت.
وقال الجمّاز: النبيذ حرام على اثنى عشر نفسا، من غنّى الخطأ، واتكأ على اليمين، وأكثر من أكل البقل، وكسر الزجاج، وسرق الريحان، وبل ما بين يديه، وطلب العشاء، وقطع البمّ «1» ، وحبس أوّل قدح، وأكثر الحديث، وامتخط في منديل الشراب، وبات في موضع لا يحتمل المبيت فيه.(4/126)
قال أبو هلال العسكرىّ:
ما أعاف النبيذ خيفة إثم ... إنما عفته لفقد النّديم
ليس في اللهو والمدامة حظّ ... لكريم دون النديم الكريم
فتخيّر قبل النبيذ نديما ... ذا خلال معطّرات النسيم
وجمال إذا نظرت بديع ... وضمير إذا اختبرت سليم
وقال آخر:
أرى للكأس حقّا لا أراه ... لغير الكأس إلا للنديم
هو القطب الذى دارت عليه ... رحى اللّذات في الزمن القديم
وقال آخر:
وندمان أخى ثقة ... كأنّ حديثه حبره «1»
يسرّك حسن ظاهره ... وتحمد منه مختبره
ويستر عيب صاحبه ... ويستر أنه ستره
وقال آخر:
ونديم حلو الحديث يجاري ... ك بما تشتهيه في ميدانك
ألمعىّ كأنّ قلبك في أض ... لاعه أو كلامه في لسانك
وقال يحيى بن زياد:
ولست له في فضلة الكأس قائلا ... لأصرفه عنها «2» : تحسّ وقد أبى
ولكن أحييّه وأكرم وجهه ... وأشرب ما أبقى وأسقيه ما اشتهى
ولست إذا ما نام عندى بموقظ ... ولا مسمع يقظان شيئا من الأذى
وقال آخر:
ليس من شأنه إذا دارت الكأ ... س فأزرى إدمانها بالحلوم(4/127)
قول ما يسخط النديم وإن أسخطه ... عند ذاك قول النديم
وقال عبد الرحمن العطوىّ رحمه الله:
اخطب لكأسك ندمانا تسرّ به ... أو لا فنادم عليها حكمة الكتب
أخطبه حرّا كريما ذا محافظة ... ترى مودّته من أقرب النسب
وقال أبو نواس:
وندمان يرى عيبا عليه ... بأن يمشى وليس به انتشاء
إذا نبّهته من نوم سكر ... كفاه مرّة منك النداء
فليس بقائل لك: إيه دعنى ... ولا مستخبرا لك ما تشاء
ولكن سقّنى ويقول أيضا ... عليك الصّرف إن أعياك ماء
اذا ما أدركته الظهر صلّى ... ولا عصر عليه ولا عشاء
يصلّى هذه في وقت هذى ... وكلّ صلاته أبدا قضاء
وقال آخر:
نبهت ندمانى فهبّوا ... بعد المنام لما استحبّوا
هذا أجاب وذا أنا ... ب وذا يسير وذاك يحبو
أنشدتهم بيتا يعلّم ... ذا الصبابة كيف يصبو
«ما العيش إلا أن تحبّ ... وأن يحبّك من تحبّ»
فتطرّبوا والأريحية ... شأنها طرب وشرب
وقال أبو عبادة البحترىّ عفا الله تعالى عنه:
ونديم نبّهته ودجى الليل ... وضوء الصباح يعتلجان
قم نبادر بها الصيام فقد أق ... مر ذاك الهلال من شعبان(4/128)
وقال أيضا:
بات نديما لى حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح
كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضّد أو برد أو أقاح
يساقط الورد علينا وقد ... تبلّج الصبح، نسيم الرياح
إن لان عطفاه قسا قلبه ... أو ثبّت الخلخال جال الوشاح «1»
أمزج كأسى بجنى ريقه ... وإنما أمزج راحا براح
ومنهم من كره النديم وآثر الانفراد. قال إبراهيم الموصلىّ عفا الله تعالى عنه ورحمه:
دخلت يوما على الفضل بن يحيى فصادفته يشرب وعنده كلب، فقلت له:
تنادم كلبا! قال: نعم، يمنعنى أذاه، ويكفّ عنّى أذى سواه، ويشكر قليلى، ويحفظ مبيتى ومقيلى. وأنشد:
وأشرب وحدى من كراهتى الأذى ... مخافة شرّ أو سباب لئيم
انتهى وأستغفر الله العظيم.
ومما قيل في السّقاة
؛ فمن ذلك قول الصنوبرىّ عفا الله عنه:
ومورد الخدّين يخطر ... حين يخطر في مورّد
يسقيك من جفن اللّجي ... ن اذا سقاك دموع عسجد
حتى تظنّ النجم ين ... زل أو تظنّ الأرض تصعد
فإذا سقاك بعينه ... وبفيه ثم سقاك باليد
حيّاك بالياقوت ثم ... الدّرّ من تحت الزّبرجد(4/129)
وقال ديك الجنّ:
ومزر بالقضيب اذا تثنّى ... ومزهاة على القمر التمام
سقانى ثم قبّلنى وأوما ... بطرف سقمه يشفى سقامى
فبتّ له على الندمان أسقى ... مداما في مدام في مدام
وقال ابن المعتزّ:
تدور علينا الراح من كفّ شادن ... له لحظ عين يشتكى السقم مدنف
كأنّ سلاف الخمر من ماء خدّه ... وعنقودها من شعره الجعد يقطف
وقال أيضا:
بين أقداحهم حديث قصير ... هو سحر وما سواه الكلام
فكأنّ السّقاة بين الندامى ... ألفات بين السطور قيام
وقال أحمد بن أبى فنن:
بكفّ مقرطق خنث ... تطيب بطيبه الرّيب
تراها وهى في كفّي ... هـ من خدّيه تلتهب
وقال الصنوبرىّ:
وساق اذا همّ ندماننا ... بأن يزجى الكأس لم يزجه
كلعبة عاج على فرشه ... وليث عرين على سرجه
لطيف الممنطق مهتزّه ... ثقيل المؤزّر مرتجّه
سقانى بعينيه أضعاف ما ... سقانى بكفّيه من غنجه
وقال آخر:
يا ساقى القوم إن دارت إلىّ فلا ... تمزج فإنى بدمعى مازج كاسى
ويافتى الحىّ إن غنّيت من طرب ... فغنّ: واحربا من قلبه القاسى(4/130)
وقال ابن المعتزّ:
وعاقد زنّار على غصن الآس ... دقيق المعانى مخطف الخصر ميّاس
سقانى عقارا صبّ فيها مزاجها ... فأضحك عن ثغر الحباب فم الكاس
وقال أيضا:
قام كالغصن في النقا ... يمزج الشمس بالقمر
وسقانى المدام ... والليل بالصبح مؤتزر
والثريّا كنور غصن ... على الغرب قد نثر
وقال البحترىّ:
وفي القهوة أشكال ... من الساقى وألوان
حباب مثل ما يضحك ... عنه وهو جذلان
ويسكر مثل ما يسكر ... طرف منه وسنان
وطعم الريق إن جاد ... به والصبّ هيمان
لنا من كفّه راح ... ومن ريّاه ريحان
وقال أبو القاسم الهبيرىّ الكاتب رحمة الله تعالى عليه:
سقانا الراح ساق، كلّ راح ... سوى ألحاظ عينيه سراب
يدير الكأس مبتسما علينا ... فما ندرى أثغر أم حباب؟
وقد سفر الدجى عن ثوب فجر ... منير مثل ما سفر النقاب
فخلت الصبح في أثر التريّا ... بشيرا جاء في يده كتاب
وقال أبو الشّيص:
يطوف علينا به أحور ... يداه من الكأس مخضوبتان
غزال تميل بأعطافه ... قناة تعطّف كالخيزران(4/131)
وقال أبو بكر محمد بن عمّار:
وهويته يسقى المدام كأنه ... قمر يطوف بكوكب في حندس
متأرّج الحركات تندى ريحه ... كالغصن هزّته الصّبا بتنفّس
يسعى بكأس في أنامل سوسن ... ويدير أخرى في محاجر نرجس
وقال المعوّج يصف ساقية:
لا عيش إلا من كفّ ساقية ... ذات دلال في طرفها مرض
كأنما الكأس حين تمزجها ... نجوم ليل تعلو وتنخفض
وقال آخر يصف امرأة ساقية:
وساقية كأنّ بمفرقيها ... أكاليلا على طبقات ورد
لها طيب المنى وصفاء لون ... وحمرة وجنة ومذاق شهد
وقال ديك الجنّ يصف ساقيا وساقية:
أفديكما من حاملى قدحين ... قمرين في غصنين في دعصين
رود منعّمة ومهضوم الحشا ... للناظرين منّى وقرّة عين
قامت مؤنّثة وقام مؤنّثا ... فتناهبا الألحاظ بالنظرين
صبّا علىّ الراح إن هلالنا ... قد صبّ نعمته على الثّقلين
وإلىّ كأسكما على ما خيّلت ... بالتبر معجونا بماء لجين(4/132)
الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الغناء والسماع،
وما ورد في ذلك من الحظر والإباحة، وما استدلّ به من رأى ذلك؛ ومن سمع الغناء من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ومن التابعين ومن الأئمة والعبّاد والزّهاد، ومن غنّى من الخلفاء وأبنائهم والأشراف والقوّاد والأكابر، وأخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة الى العربيّة، ومن أخذ عنهم، ومن اشتهر بالغناء وأخبار القيان.
ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة
قد تكلم الناس في الغناء في التحريم والإباحة واختلفت أقوالهم وتباعدت مذاهبهم وتباينت استدلالاتهم؛ فمنهم من رأى كراهته وأنكر استماعه، واستدلّ على تحريمه؛ ومنهم من رأى خلاف ذلك مطلقا وأباحه وصمّم على إباحته؛ ومنهم من فرّق بين أن يكون الغناء مجرّدا أو أضيف اليه آلة كالعود والطنبور وغيرهما من الالات ذوات الأوتار والدفوف والمعازف والقصب، فأباحه على انفراده وكرهه إذا انضاف إلى غيره وحرّم سماع الالات مطلقا. ولكل طائفة من أرباب هذه المقالات أدلّة استدلّت بها. وقد رأينا أن نثبت في هذا الموضع نبذة من أقوالهم على سبيل الاختصار وحذف النظائر المطوّلة فنقول وبالله التوفيق.
أما ما قيل في تحريم الغناء وما استدلّ به من رأى ذلك،
فإنهم استدلّوا على التحريم بالكتاب والسنّة وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة من علماء(4/133)
المسلمين.
أما دليلهم من الكتاب العزيز
فقول الله عزّوجلّ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)
. وقوله عزّوجلّ:
(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)
. وقوله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)
. وقوله تبارك وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) .
وقوله سبحانه وتعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ)
، وقوله: (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ)
. قال ابن عباس:
(سامدون) هو الغناء بلغة حمير، وقال مجاهد: هو الغناء بقول أهل اليمن، سمد فلان اذا غنّى. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال في هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)
: إنه الغناء، ومن طريق آخر: إنه الغناء وأشباهه.
وروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: هو- والذى لا إله إلا هو- الغناء. وعن مجاهد رضى الله عنه في قوله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ)
قال: صوته الغناء والمزامير. وعنه في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)
قال: الغناء.
وأمّا دليلهم من السنّة،
فما روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: إن الله عزّوجلّ حرّم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها، ثم قرأت (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)
الآية. وروى أبو أمامة رضى الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما رفع أحد صوته بغناء إلّا بعث الله عزّوجلّ اليه شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك» . وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«كان إبليس أوّل من ناح وأوّل من تغنّى» . وعن عبد الرحمن بن عوف رضى الله(4/134)
عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة وصوت عند مصيبة» .
وأمّا أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم،
فقد روى عن عثمان بن عفّان رضى الله عنه أنه قال: ما تغنّيت قطّ. فتبرّأ من الغناء وتبحّح بتركه. وروى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وروى أنّ ابن عمر رضى الله عنهما مرّ على قوم محرمين ومعهم قوم ورجل يغنّى فقال: الا لا أسمع والله لكم، ألا لا أسمع والله لكم. وروى عن عبد الله ابن دينار قال: مرّ ابن عمر رضى الله عنهما بجارية صغيرة تغنّى، فقال: لو ترك الشيطان أحدا ترك هذه. وعن إسحاق بن عيسى قال: سألت مالك بن أنس رضى الله عنه عما ترخّص فيه بعض أهل المدينة من الغناء فقال: ما يفعله عندنا إلا الفسّاق. وقال الشعبىّ: لعن المغنّى والمغنّى له. وقال الحكم بن عتيبة: حبّ السماع ينبت النفاق في القلب. وروى أن رجلا سأل القاسم بن محمد فقال: ما تقول فى الغناء، أحرام هو؟ فأعاد عليه؛ فقال له في الثالثة: اذا كان يوم القيامة فأتى بالحق والباطل أين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل. قال القاسم: فأفت نفسك. وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا. وقال بعضهم: الغناء رائد من روّاد الفجور. وقال الضحّاك: الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب. وقال يزيد ابن الوليد مع اشتهاره بما اشتهر به: يا بنى أميّة، إيّاكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعله السكر؛ فإن كنتم لا شكّ فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء رقية الزنا. وإنى لأقول ذلك فيه على أنه أحبّ إلىّ من كلّ لذّة، وأشهى الى نفسى من الماء الى ذى الغلّة الصادى، ولكن الحقّ أحقّ أن يقال.(4/135)
وأمّا أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى
فقد قال الإمام الشافعىّ رضى الله عنه فى كتاب أدب القضاة: الغناء لهو مكروه يشبه الباطل. وقال: من استكثر منه فهو سفيه تردّ شهادته. قال القاضى حسين بن محمد: وأمّا سماعه من المرأة التى ليست بمحرم، فإن أصحاب الشافعىّ قالوا: لا يجوز بحال سواء كانت بارزة أو من وراء حجاب وسواء كانت حرّة أو مملوكة. وقال الشافعىّ: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه تردّ شهادته. ثم غلّظ القول فيه وقال:
هو دياثة. قال: وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الى باطل كان سفيها فاسقا. وقال مالك بن أنس: اذا اشترى جارية فوجدها مغنّية كان له ردّها بالعيب، قال: وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد وحده. وكره أبو حنيفة ذلك وجعل سماع الغناء من الذنوب. قال: وذلك مذهب سائر أهل الكوفة وسفيان الثورىّ، وحمّاد بن سلمة، وإبراهيم النّخعىّ، والشعبىّ وغيرهم لا خلاف بينهم في ذلك. قال: ولا يعرف أيضا بين أهل البصرة خلاف في كراهة ذلك والمنع منه. وقال بعض الزهّاد: والغناء يورث العناد في قوم، ويورث التكذيب في قوم، ويورث القساوة في قوم.
وقال بعضهم عن حاله عند السماع:
أتذكر وقتنا وقد اجتمعنا ... على طيب الغناء الى الصباح
ودارت بيننا كأس الأغانى ... فأسكرت النفوس بغير راح
فلم تر فيهم إلا نشاوى ... سرورا والسرور هناك صاحى
إذا لبّى أخو اللذّات فيه ... منادى اللهو حىّ على السماح
ولم يملك سوى المهجات شيئا ... أرقناها لألحاظ ملاح(4/136)
هذا ملخص ما ذكروه في تحريم الغناء. وقد استدلّ من أباحه بما يناقض ما تقدّم على ما نذكر ذلك إن شاء الله في إباحة الغناء.
ذكر ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة
وقد تكلم الناس في إباحة الغناء وسماع الأصوات والنغمات والآلات، وهى الدفّ واليراع والقصب والأوتار على اختلافها من العود والطّنبور وغيره، وأباحوا ذلك واستدلّوا عليه وضعفّوا الأحاديث الواردة في تحريمه، وتكلّموا على رجالها وجرّحوهم وبسطوا في ذلك المصنّفات ووسّعوا القول وشرحوا الأدلّة. وطالعت من ذلك عدّة تصانيف في هذا الفنّ مجرّدة له ومضافة الى غيره من العلوم. وكان ممّن تكلّم فى ذلك وجرّد له تصنيفا الشيخ الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن على المقدّسى رحمه الله تعالى، فقال في ذلك ما نذكر مختصره ومعناه:
اعلم أن الله تعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة الى الكافّة.
قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
. فبلّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وسنّ وشرع، وأمر ونهى، كما أمر صلّى الله عليه وسلم. فليس لأحد بعده وبعد الخلفاء الراشدين الذين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالاقتداء بهم والاتباع لسنّتهم أن يحرّم ما أحلّ الله عزّوجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم إلا بدليل ناطق من آية محكمة، أو سنّة ماضية صحيحة، أو إجماع من الأمة على مقالته.(4/137)
وأما الاستدلال بالموضوعات والغرائب والأفراد من رواية المكذّبين والمجرحين الذين لا تقوم بروايتهم حجّة، وبأقاويل من فسّر القرآن على حسب مراده ورأيه، فلا يرجع إلى قولهم ولا يسلك طريقهم؛ إذ لو جاز ذلك لم يكن قول أحد من الناس أولى من قول غيره، وإنما يلزم بقول من أيّد بالوحى والتنزيل، وعصم من التغيير والتبديل. قال الله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)
. فعلمنا أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر ولم ينه عن أمر إلا بوحى من الله تعالى. وكذلك كان صلّى الله عليه وسلم اذا سئل عن أمر لم ينزل فيه وحى توقّف حتى يأتيه الوحى، وليست هذه المنزلة لغيره فيلزم قبول قوله.
ذكر ما استدلّوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية
قد استدلّوا على إباحة الغناء بأحاديث صحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
منها ما روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: دخل علىّ أبو بكر رضى الله عنه وعندى جاريتان من جوارى الأنصار تغنّيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث وليستا بمغنّيتين؛ فقال أبو بكر: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! وذلك يوم عيد. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا» . ومن طريق آخر عنها رضى الله عنها قالت: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندى جاريتان تغنّيان بغناء بعاث؛ فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهزنى وقال: مزمارة الشيطان عند النبىّ صلى الله عليه وسلم! فأقبل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «دعهما» . فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدّرق والحراب، فإمّا سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإمّا قال: «تشتهين تنظرين» فقلت نعم.(4/138)
فأقامنى وراءه، خدّى على خدّه وهو يقول: «دونكم يا بنى أرفدة «1» » حتى اذا مللت قال. «حسبك؟» قلت نعم. قال: «فاذهبى» . ومن طريق آخر عنها رضى الله عنها: أنّ أبا بكر رضى الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منّى تدفّفان وتضربان والنّبى صلّى الله عليه وسلّم متغشّ بثوبه؛ فانتهرهما أبو بكر؛ فكشف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن وجهه وقال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد» .
وتلك الأيام أيام منى. وقالت عائشة: رأيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يسترنى وأنا أنظر الى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر، فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم:
«دعهم أمنا بنى أرفدة» (يعنى من الأمن) . قال أبو محمد علىّ بن أحمد بن سعيد ابن حزم رحمه الله عند ذكر هذه الأحاديث: أين يقع إنكار من أنكر من إنكار سيّدى هذه الأمة بعد نبيها صلّى الله عليه وسلّم، أبى بكر وعمر رضى الله عنهما! وقد أنكر عليه الصلاة والسلام عليهما إنكارهما، فرجعا عن رأيهما إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كانت جارية من الأنصار فى حجرى فزففتها؛ فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يسمع غناء، فقال:
«يا عائشة ألا تبعثين معها من يغنّى فإن هذا الحىّ من الأنصار يحبّون الغناء» . وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: نكح بعض الأنصار بعض أهل عائشة فأهدتها إلى قباء؛ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهديت عروسك» ؟
قالت نعم. قال: «فأرسلت معها بغناء فإن الأنصار يحبّونه» ؟ قالت لا. قال:
«فأدركيها يا زينب» (امرأة كانت تغنّى بالمدينة) رواه أبو الزبير محمد بن الزبير بن مسلم المكّى عن جابر. وعنه أيضا قال: أنكحت عائشة رضى الله عنها ذات قرابة لها رجلا من الأنصار؛ فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أهديتم الفتاة» ؟(4/139)
قالوا نعم. قال: «أرسلتم معها» ؟.- قال أبو طلحة راوى الحديث: ذهب عنى- فقالت لا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيّانا وحيّاكم «1» »
وروى عن فضالة بن عبيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لله أشدّ أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة الى قينته» . قال أبو عبد الله الحاكم في كتابه المستدرك: هذا حديث صحيح على شرط البخارى ومسلم، ولم يخرّجاه؛ وقد خرّجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزوينىّ فى سننه. قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ رحمه الله تعالى: ووجه الاحتجاج من هذا الحديث هو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أثبت أن الله تعالى يستمع الى حسن الصوت بالقرآن كما يستمع صاحب القينة الى قينته، فأثبت دليل السماع إذ لا يجوز أن يقيس على استماع «2» محرّم. قال: ولهذا الحديث أصل فى الصحيحين أخرجاه عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أذن الله لشىء ما أذن «3» لنبىّ يتغنّى بالقرآن» . هذا ما ورد في السماع.
وأمّا ما ورد في الضرب بالآلة، فمن ذلك ما ورد في الدّفّ.
روى عن محمد ابن حاطب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فصل ما بين الحلال والحرام(4/140)
الدّفّ والصوت في النكاح» . قال الحافظ أبو الفضل رحمه الله تعالى: هذا حديث صحيح ألزم أبو الحسن الدارقطنىّ مسلما إخراجه في الصحيح، وقال: قد روى عنه (يعنى محمد بن حاطب) أبو مالك الأشجعىّ وسماك بن حرب وابن عون ويوسف بن سعد وغيرهم. قال: وأخرج هذا الحديث أبو عبد الرحمن النسائىّ وأبو عبد الله ابن ماجه في سننهما. وروى الحافظ أبو الفضل بسند رفعه إلى جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع صوت دفّ فقال: «ما هذا» ؟ فقيل: فلان تزوّج. فقال: «هذا نكاح ليس بالسّفاح» . وقد ضعّف أبو الفضل إسناد هذا الحديث، وقال: إنما أخرجته على ضعف إسناده لأنه شاهد الحديث الصحيح المتقدّم. وروى أبو الفضل أيضا بسنده إلى خالد بن ذكوان عن الرّبيّع بنت معوّذ قالت: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل علىّ صبيحة «1» بنى علىّ، فجلس على فراشى كمجلسك منّى، فجعلت جويريات يضربن بدفّ لهنّ ويندبن من قتل من آبائى يوم بدر إلى أن قالت إحداهن: وفينا نبىّ يعلم ما في غد؛ فقال: «دعى هذا «2» وقولى الذى كنت تقولين قبله» . وهذا حديث صحيح أخرجه البخارىّ قال: وقد رواه حمّاد بن سلمة عن خالد بن ذكوان أتمّ من هذا، قال: كنّا بالمدينة يوم عاشوراء وكان الجوارى يضر بن بالدّفّ ويغنّين، فدخلنا على الرّبيع بنت معوّذ، فذكرنا لها ذلك، فقالت: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبيحة عرسى وعندى جاريتان تغنّيان وتندبان آبائى الذين قتلوا يوم بدر، ونقولان فيما تقولان: وفينا نبىّ يعلم ما في غد، فقال: «أمّا هذا فلا تقولوه لا يعلم ما في غد إلا الله عزّوجلّ» .
وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سافر سفرا، فنذرت(4/141)
جارية من قريش لئن ردّه الله تعالى أن تضرب في بيت عائشة بدفّ. فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءت الجارية فقالت عائشة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فلانة ابنة فلان نذرت لئن ردّك الله تعالى أن تضرب في بيتى بدفّ؛ قال:
«فلتضرب» . قال أبو الفضل: وهذا إسناد متّصل ورجاله ثقات، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نذر في معصية الله» . فلو كان ضرب الدف معصية لأمر بالتكفير عن نذرها أو منعها من فعله. وروى عن الشعبىّ قال: مرّ عياض الأشعرىّ في يوم عيد فقال: ما لى لا أراهم يفلّسون فإنه من السنّة!.
والتفليس: الضرب بالدفّ. قاله هشيم.
وأمّا ما ورد في اليراع،
فقد احتجّ بعضهم بحديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما وهو ما خرّجه أبو داود سليمان بن الأشعث السّجستانى في سننه قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله الغدانىّ، حدّثنا مسلم، حدّثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع، قال: سمع ابن عمر رضى الله عنهما مزمارا، فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق، وقال لى: يا نافع، هل تسمع شيئا؟ قلت لا. قال:
فرفع إصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا. قال أبو عبد الله اللؤلئىّ: سمعت أبا داود يقول: هذا الحديث منكر. وقال الحافظ محمد بن طاهر: هذا حديث خرّجه أبو داود في سننه هكذا وقد أنكره. وقد ورد من غير هذا الطريق أن ابن عمر رضى الله عنهما سمع راعيا وذكره. وفساد هذا الحديث من وجهين: أحدهما فساد طريق الإسناد؛ فإن سليمان هذا هو الأشدق الدمشقىّ تكلم فيه أهل النقل وتفرّد بهذا الحديث عن نافع ولم يروه عنه غيره. وقال البخارىّ: سليمان بن موسى عند، مناكير. والثانى(4/142)
قول عبد الله بن عمر لنافع رضى الله عنهم: أتسمع؟ ولو كان ذلك منهيّا عنه لم يأمره بالاستماع. وقوله: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا. ولو كان حراما لنهاه عنه وصرح بتحريمه؛ لأنه الشارع المأمور بالبيان. قالت عائشة رضى الله عنها: علّقت على سهوة «1» لى سترا فيه تصاوير، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلوّن وجهه وهتكه. وسمع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضى الله عنه يحلف بآبائه فنهاه عن ذلك. ورأى يزيد بن طخفة مضطجعا على بطنه فنهاه وقال: «هذه ضجعة يبغضها الله عزّوجلّ» .
وسمع صلّى الله عليه وسلّم رجلا يلعن ناقته، فوقف فقال: «لا يتبعنا ملعون» ؛ فنزل عنها وأرسلها. قال الحافظ المقدسىّ: وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال، فثبت فساد هذا الحديث إسنادا ومتنا.
وأمّا ما ورد في القصب والأوتار.
ويقال له التغيير، ويقال له القطقطة أيضا. ولا فرق بينه وبين الأوتار؛ إذ لم يوجد في إباحته وتحريمه أثر لا صحيح «2» ولا سقيم؛ وإنما استباح المتقدّمون استماعه لأنه مما لم يرد الشرع بتحريمه، وكان أصله الإباحة.
وأمّا الأوتار، فالقول فيها القول في القصب، لم يرد الشرع بتحليلها ولا تحريمها.
قال: وكل ما أوردوه في التحريم فغير ثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولا خلاف بين أهل المدينة في إباحة سماعه. ومن الدليل على إباحته أن إبراهيم بن(4/143)
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مع جلالته وفقهه وثقته كان يفتى بحلّه، وقد ضرب بالعود- وسنذكر خبره في ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى- ولم تسقط عدالته بفعله عند أهل العلم، فكيف تسقط عدالة المستمع! ومكان يبالغ في هذا الأمر أتمّ مبالغة. وقد أجمعت الأئمة على عدالته واتفق البخارىّ ومسلم على إخراج حديثه في الصحيح؛ وقد علم من مذهبه إباحة سماع الأوتار. والأئمة الذين رووا عنه أهل الحلّ والعقد في الآفاق إنما سمعوا منه ورووا عنه بعد استماعهم غناءه وعلمهم أنه يبيحه، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل، سمع منه ببغداد بعد حلفه أنه لا يحدّث حديثا إلا بعد أن يغنّى على عود، وذلك أنه لا شك سمع غناءه ثم سمع حديثه. قال: وهذا أمر لم يرد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه نصّ يرجع إليه، فكان حكمه كحكم الإباحة. وإنما تركه من تركه من المتقدّمين تورّعا كما تركوا لبس اللّين وأكل الطّيب وشرب البارد والاجتماع بالنسوان الحسان؛ ومعلوم أن هذا كلّه حلال. وقد ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكل الضبّ وسئل عنه أحرام هو؟ قال: «لا ولكن لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه» وأكل على مائدته صلّى الله عليه وسلم. وقد روى عن زيد بن ثابت رضى الله عنه أنه قال: إذا رأيت أهل المدينة اجتمعوا على شىء فاعلم أنه سنّة.
وقد روى عن محمد بن سيرين رحمه الله أنّ رجلا قدم المدينة بجوار، فنزل على ابن عمر وفيهنّ جارية تضرب؛ فجاء رجل فساومه فلم يهو منهنّ شيئا. فقال:
انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا؛ فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهنّ عليه؛ فأمر جارية قال: خذى، فأخذت العود حتى ظنّ ابن عمر أنه قد نظر الى ذلك؛ فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان، قال: فبايعه. ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنى غبنت بسبعمائة درهم. فأتى(4/144)
ابن عمر إلى ابن جعفر فقال: إنه قد غبن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه وإمّا أن تردّ عليه بيعه؛ فقال: بل نعطيها إياه. وهذه الحكاية ذكرها أبو محمد بن حزم واستدلّ بها على إباحته فقال: فهذا عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر رضى الله عنهما قد سمعا الغناء بالعود، وإن كان ابن عمر كره ما ليس من الجدّ فلم ينه عنه، وقد سفر «1» في بيع مغنّية كما ترى، ولو كان حراما ما استجاز ذلك أصلا.
وأما ما ورد في المزامير والملاهى،
قال الشيخ الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ: وأما القول في المزامير والملاهى، فقد وردت الأحاديث الصحيحة بجواز استماعها. فمن ذلك ما رواه بسند رفعه إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما هممت بشىء مما كان أهل الجاهليّة يفعلونه غير مرّتين كلّ ذلك يحول الله عزّ وجلّ بينى وبين ما أريده من ذلك ثم ما هممت بعدها بشىء حتى أكرمنى الله برسالته فإنى قلت لغلام من قريش ليلة وكان يرعى معى في أعلى مكة لو أنك أبصرت غنمى حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب قال أفعل. فخرجت أريد ذلك حتى جئت أوّل دار من ديار مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير فقلت ما هذا فقالوا فلان تزوّج فلانة بنت فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله عزّ وجلّ على أذنى فنمت فما أيقظى إلا مسّ الشمس فرجعت إلى صاحبى فقال ماذا فعلت قلت ما صنعت شيئا ثم خبّرته الخبر [فقال «2» ] ثم قلت له ليلة أخرى مثل(4/145)
ذلك فقال أفعل فخرجت حتى دخلت مكة فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت تلك الليلة فسألت عنه فقالوا فلان نكح فلانة فجلست أنظر فضرب الله على أذنى فما أيقظنى إلا مسّ الشمس فخرجت إلى صاحبى فأخبرته الخبر ثم ما هممت بسوء حتى أكرمنى الله تعالى برسالته» . قال الحافظ أبو الفضل:
وكان هذا قبل النبوّة والرسالة ونزول الأحكام والفرق بين الحلال والحرام؛ فإن الشرع لمّا ورد أمره الله تعالى بالإبلاغ والإنذار فأقرّه على ما كان عليه في الجاهلية ولم يحرّمه كما حرّم غيره. قال: والدليل على أنه باق على الإباحة قول الله عز وجلّ:
(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
. ثم بيّن الدليل على ذلك بما رواه بسنده إلى جابر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب قائما، ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، يخطب خطبتين. فكانت الجوارى إذا أنكحوهنّ يمرّون فيضربون بالدفّ والمزامير فيتسلّل «1» الناس ويدعون رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائما، فعاتبهم الله عز وجل بقوله: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً)
. وقال:
هذا حديث صحيح أخرجه مسلم في كتابه عن عبد الله بن حميد عن خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال. والله عز وجلّ عطف اللهو على التجارة وحكم المعطوف حكم ما عطف عليه، والإجماع على تحليل التجارة، فثبت أن هذا الحكم مما أقرّه الشرع على ما كان عليه في الجاهليّة لأنه غير محتمل أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرّمه، ثم يمرّ به على باب المسجد يوم الجمعة ثم يعاتب الله عز وجلّ من ترك رسوله صلى الله عليه وسلم قائما ثم خرج ينظر إليه ويستمع. ولم ينزل في تحريمه آية ولا سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنّة، فعلمنا بذلك بقاءه على حاله.(4/146)
قال: ويزيد ذلك بيانا ووضوحا حديث عائشة رضى الله عنها في المرأة التى زفّتها وقد تقدّم ذكر الحديث. وروى أيضا بسند رفعه عن زوج درّة بنت أبى لهب قال: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين تزوّجت درّة فقال: «هل من لهو» .
ذكر ما ورد في توهين ما استدلّوا به على تحريم الغناء والسماع
قد ذكر الحافظ أبو الفضل المقدسىّ رحمه الله تعالى الأحاديث التى استدلوا بها على تحريمه وفسّروا بها الآيات والأحاديث التى استدلّوا بها على تحريمه ممّا قدّمنا ذكر ذلك في حججهم ومما لم نذكره مما يستدلّ به على تحريمه وكراهته وضعف رجالها.
وتكلم الإمام أبو حامد الغزالىّ رحمه الله أيضا في ذلك ووهنّ احتجاجهم إذا ثبت الحديث على ما نذكر ذلك.
قال الحافظ أبو الفضل:
أمّا ما احتجّوا به من الآيات في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)
الآية. وما أوردوه في ذلك من الأسانيد إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر رضى الله عنهم، فنظرت في جميعها فلم أر فيها طريقا يثبت إلا واحدا منها رواه يوسف بن موسى القطّان عن جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)
قال: الغناء وأشباهه. وسائرها لا يخلو من رواية ضعيف لا تقوم بروايته حجّة.
قال: ورأيت في بعضها رواية عطيّة العوفّى عن ابن عباس من حديث غير ثابت أصلا (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)
قال: باطل الحديث وهو الغناء(4/147)
ونحوه؛ وهو أن رجلا من قريش اشترى جارية مغنّية فنزلت فيه. قال: وهذا وإن لم يصحّ عندى الاحتجاج بسندهم فيلزمهم قبوله لأنهم احتجّوا به فيكون فى حقّ هذا الرجل بعينه.
وقد ورد في الآية تفسير ثالث يلزمهم قبوله على أصلهم، وذكر حديثا رفعه إلى نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما: أنه سمع النبىّ صلّى الله عليه وسلم يقول في قوله عز وجلّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)
«اللعب والباطل وتشحّ نفسه أن يتصدّق بدرهم» . قال: وهذا أيضا غير ثابت عندى وإنما أوردت هذين التفسيرين مناقضة لما أوردوه فيما تمسّكوا به.
قال: ولن أركن إلى هذا أبدا ولا أقنع به ولا أحتجّ عليه ولا ألزمهم إياه، بل أقول صحّ عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما إجماع أهل السنّة على أن السنّة تقضى على الكتاب، وأن الكتاب لا يقضى على السنة، وقد جاءت السنّة الصحيحة:
أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم استمع للغناء وأمر باستماعه، وقد أوردنا في ذلك من الأحاديث ما تقدّم إيراده. قال: وجواب ثان يقال لهؤلاء القوم المحتجين بهذه التفاسير: هل علم هؤلاء الصحابة الذين أوردتم أقاويلهم من هذه الآية ما علمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو لم يعلمه؟ فإن قالوا: لم يعلمه وعلمه هؤلاء، كان جهلا عظيما بل كفرا. وإن قالوا: علمه، قلنا: نقل إلينا عنه في تفسير هذه الآية مثل ما نقل عن هؤلاء من الصحابة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال. ومن المحال أن يكون تفسير قوله عز وجلّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)
هو الغناء، ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما كان معكنّ لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو» .(4/148)
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: ثلاثة ليس لها أصل: المغازى، والملاحم، والتفسير.
وقال أبو حاتم محمد بن حسان في كتاب الضعفاء: الله عز وجلّ يؤتى رسوله صلّى الله عليه وسلم تفسير كلامه وتأويل ما أنزل عليه حيث قال: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) .
ومن المخلّ المحال أن يأمر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلم أن يبيّن لخلقه مراده حيث جعله موضع الإبانة عن كلامه ومفسّرا لهم حتى يفهموا مراد الله عز وجلّ فلا يفعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ بل أبان مراد الله عز وجلّ من الآى وفسّر لأمّته، ما تهمّ الحاجة إليه، وبيّن سنّته صلّى الله عليه وسلم. فمن تتبّع السنن وحفظها وأحكمها فقد عرف تفسير كتاب الله عز وجلّ وأغناه الله تعالى عن الكلبىّ وذويه، وما لم يبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمّته في معانى الأى التى أنزلت عليه مع أمر الله عز وجلّ له بذلك وجاز ذلك كان لمن بعده من أمّته أجوز، وترك التفسير لما تركه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحرى.
قال: ومن أعظم الدلائل على أن الله تعالى لم يرد بقوله: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)
القرآن كله أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم نزل عليه من الكتاب متشابه من الآى.
فالآيات التى ليس فيها أحكام لم يبين كيفيتها لأمته. فلما فعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم دلّ ذلك على أن المراد من قوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)
كان بعض القرآن لا الكلّ.
وقال الإمام أبو حامد الغزالىّ رحمه الله في هذه الآية: وأمّا شراء لهو الحديث بالدّين استبدالا به ليضلّ به عن سبيل الله فهو حرام مذموم، وليس النزاع فيه.(4/149)
وليس كل غناء بدلا عن الدّين مشترى به ومضلّا عن سبيل الله وهو المراد في الآية، ولو قرأ القرآن: ليضل به عن سبيل الله لكان حراما.
حكى عن بعض المنافقين: أنه كان يؤمّ الناس ولا يقرأ إلا سورة «عبس» لما فيها من العتاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهمّ عمر بقتله [ورأى فعله حراما لما فيه من الإضلال «1» ] فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم.
وقال الثعلبىّ في أحد أقواله عن تفسير هذه الآية عن الكلبىّ ومقاتل: نزلت فى النّضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصىّ؛ كان يتّجر فيخرج إلى فارس فيشترى أخبار الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا ويقول: إن محمدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن.
واحتجوا بقوله تعالى: (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ)
قال ابن عباس: هو الغناء بلغة حمير، يعنى- السمود- قال الغزالىّ رحمه الله: فنقول ينبغى أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضا، لأن الآية تشتمل عليه، فإن قيل: إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم فهذا أيضا مخصوص بأشعارهم وغنائهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين كما قال تعالى:
(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ)
وأراد به شعراء الكفّار ولم يدل ذلك على تحريم نظم الشعر في نفسه.
واحتجّوا بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)
. قال الثعلبىّ:
قال الحسن، عن المعاصى. وقال ابن عباس: الحلف الكاذب. وقال مقاتل:(4/150)
الشتم والأذى. وقال غيرهم: ما لا يحلّ من القول والفعل. قال: وقيل اللغو الذى لا فائدة فيه.
واحتجّوا بقوله تعالى: (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)
. قال الثعلبىّ:
أى القبيح من القول. وبقوله تعالى: (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)
. قال مقاتل: إذا سمعوا من الكفّار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا، وبقوله:
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ)
. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: بدعائك إلى معصية الله تعالى. وكلّ داع إلى معصية الله تعالى فهو من جنود إبليس.
وأما ما احتجّوا به من الحديث فإنهم احتجّوا بحديث روى عن أبى أمامة الباهلىّ رضى الله عنه أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ بيع المغنّيات ولا شراؤهنّ ولا تحلّ التجارة فيهنّ وأثمانهنّ حرام والاستماع إليهنّ حرام» . قال الحافظ أبو الفضل المقدسىّ رحمه الله: هذا حديث رواه عبيد الله بن زحر عن علىّ ابن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة، قال: والصحابة كلهم عدول. وأما عبيد الله ابن زحر وعلىّ والقاسم فهم في الرواية سواء لا يحتجّ بحديث واحد منهم إذا انفرد بالرواية عن ثقة فكيف إذا روى عن مثله. أما عبيد الله بن زحر فيقال: إنه من أهل مصر. قال أبو مسهر الغسّانى: عبيد الله بن زحر صاحب كلّ معضلة ليس على حديثه اعتماد. وقال عثمان بن سعيد الدارمىّ: قلت ليحيى بن معين: عبيد الله ابن زحر كيف حديثه؟ قال: كل حديثه ضعيف، قلت: عن على بن يزيد وغيره؟
قال نعم. وقال عباس الدّورىّ عن يحيى: عبيد الله بن زحر ليس بشىء. وقال أبو حاتم في كتاب الضعفاء والمتروكين: عبيد الله بن زحر منكر الحديث جدّا، روى الموضوعات عن الثّقات وإذا روى عن علىّ بن يزيد أتى بالظلمات، وإذا اجتمع(4/151)
فى إسناد عبيد الله بن زحر وعلىّ بن يزيد والقاسم بن عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الحديث إلا ممّا عملت أيديهم فلا يحلّ الاحتجاج بهذه الصحيفة.
قال المقدسىّ: وهذا الحديث قد اجتمعوا في إسناده، قال: وأما علىّ بن يزيد فهو من أهل دمشق يكنى بأبى عبد الملك روى عن القاسم قال النّسائىّ في كتاب الضعفاء: علىّ بن يزيد متروك الحديث. وقال أبو عبد الرحمن بن حيّان: علىّ بن يزيد مطروح منكر الحديث جدّا. وأما القاسم بن عبد الرحمن ويكنى بأبى عبد الرحمن فقال يحيى بن معين: القاسم بن عبد الرحمن لا يسوى شيئا. وقال أحمد بن حنبل، وذكر القاسم مولى يزيد بن معاوية فقال: منكر الحديث. وقال أبو حاتم بن حسّان: القاسم يروى عنه أهل الشأم، كان يروى عن الصحابة المعضلات ويأتى عن الثقات بالأسانيد المقلوبات، حتى كان يسبق إلى القلب أنه المعتمد لها.
قال المقدسىّ: فهذا شرح أحوال رواة الحديث الذى احتجّوا به في التحريم، هل تجوز روايته كما ذكره الأئمة حتى يستدلّ به في التحليل والتحريم.
واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرنى ربى عز وجلّ بنفى الطنبور والمزمار» وهو حديث رواه إبراهيم بن اليسع بن الأشعث المكىّ وإسماعيل بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها، وإبراهيم هذا- قال البخارىّ-: منكر الحديث. وقال النسائىّ: المكّى ضعيف.
واحتجّوا بما روى عن علىّ رضى الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ضرب الدّفّ ولعب الصّنج وصوت الزمّارة، وهو حديث رواه عبد الله بن ميمون عن مطر بن سالم عن علىّ قال: وعبد الله هو القدّاح ذاهب الحديث؛ ومطر هذا شبه المجهول.(4/152)
واحتجّوا بما روى عن علىّ رضى الله عنه أنه قال: نهانى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن المغنّيات والنوّاحات وعن شرائهنّ وبيعهنّ والتجارة فيهنّ وقال: «كسبهنّ حرام» . قال: وهذا حديث رواه علىّ بن يزيد الصّدائىّ عن الحارث بن نبهان عن أبى إسحاق السّبيعىّ عن الحارث عن علىّ رضى الله عنه قال: والحارث بن نبهان ليس بشىء ولا يكتب حديث قاله يحيى بن معين. وقال البخارىّ: الحارث منكر الحديث. وقال أحمد بن حنبل: الحارث رجل صالح ولم يكن يعرف الحديث ولا يحفظ، منكر الحديث. وقال النسائىّ: الحارث بن نبهان متروك الحديث. لم يروه عن أبى إسحاق عمرو بن عبد الله السّبيعى وغيره ولا رواه عنه غير علّى بن يزيد الصّدائىّ. وعلى هذا قال أحمد بن عدىّ: أحاديثه لا تشبه أحاديث الثقات.
والحارث الذى روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه هو الحارث بن عبد الله أبو زهير الخارفى «1» الأعور، أجمع أهل النقل على كذبه، والحمل في هذا الحديث على الحارث بن نبهان وإن كان في الإسناد من الضعفاء غيره.
واحتجّوا بما روى عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «صوتان ملعونان فى الدنيا والآخرة صوت مزمار عند نعمة وصوت ندبة «2» عند مصيبة» وهذا حديث رواه محمد بن زياد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضى الله عنهما، ومحمد بن زياد هذا هو الطحّان اليشكرىّ. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل:
سألت أبى عنه فقال: أعور كذّاب خبيث يضع الحديث. وقال يحيى بن معين:(4/153)
أجمع الناس على طرح هؤلاء النفر لا يعتدّ بهم، منهم محمد بن زياد. وكان أبو يوسف الصّيدلانىّ يقول: قدم محمد بن زياد الرّقّة بعد موت ميمون بن مهران.
واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم: أنه ذكر خسفا ومسخا وقذفا يكون في هذه الأمة، قالوا: يا رسول الله إنهم يقولون: لا إله إلا الله، قال: «نعم إذا أظهروا النّرد والمعازف وشرب الخمور ولبس الحرير» قال:
وهذا حديث رواه عثمان بن مطر عن عبد الغفور عن عبد العزيز بن سعيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: وعثمان هو الشيبانىّ من أهل البصرة وكان ضريرا. قال يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال البخارىّ: متروك الحديث.
واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثنى ربّى عز وجلّ بمحق المزامير والمعازف والأوثان التى كانت تعبد في الجاهلية والخمر وأقسم ربى عز وجلّ بعزّته ألا يشربها عبد في الدنيا» الحديث. قال: وهذا حديث رواه محمد بن الفرات عن أبى إسحاق السّبيعىّ عن الحارث الأعور عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، ومحمد بن الفرات هذا من أهل الكوفة. قال أبو بكر بن أبى شيبة:
هذا شيخ كذّاب. وقال يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال النسائىّ: متروك.
وقد تقدّم ذكر السبيعىّ والحارث الأعور، ومضى الكلام عليه.
واحتجّوا بما روى عن أبى هريرة رضى الله عنه مسندا: «إن الغناء ينبت النفاق في القلب» وهو حديث عبد الرحمن بن عبد الله العمرىّ ابن أخى عبيد الله ابن عمر عن أبيه عن سعيد بن أبى سعيد المقبرىّ عن أبى هريرة عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن هذا قال أحمد بن حنبل: ليس يسوى حديثه شيئا،(4/154)
سمعت منه ثم تركناه وكان ولى قضاء المدينة، أحاديثه مناكير وكان كذّابا. قال النسائىّ: وهو متروك الحديث.
واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من استمع إلى قيان صبّ في أذنيه الآنك «1» » وهو حديث رواه أبو نعيم الحلبىّ عن عبد الله بن المنذر عن مالك عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك. وأبو نعيم اسمه عبيد بن هشام «2» من أهل حلب ضعيف ولم يبلغ «3» عن ابن المبارك. مرسل.
واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله النائحة والمستمعة والمغنّى والمغنّى له» وهو حديث رواه عمرو بن يزيد المدائنىّ عن الحسن البصرىّ عن أبى هريرة، وعمرو هذا قال أبو أحمد «4» بن عدىّ: منكر الحديث، والحسن لم يسمع من أبى هريرة شيئا. وقال ابن عدىّ: هذا الحديث غير محفوظ.
واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «النظر إلى المغنّية حرام وغناؤها حرام وثمنها حرام» وهو حديث يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل النوفلىّ المدنى «5» عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب رضى(4/155)
الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ويزيد الأوّل قال النسائىّ: متروك الحديث. وقال أحمد بن حنبل: عنده مناكير. وقال يحيى بن معين: يزيد بن عبد الملك ليس بذاك.
واحتجّوا بما روى عن علىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا عملت أمتى خمس عشرة خصلة حلّ فيها البلاء» وذكرها وقال فى جملتها: «واتخذت القيان والمعازف» ، وهو حديث رواه فرج بن فضالة الشيبانىّ من أهل حمص عن يحيى بن سعيد الأنصارىّ عن محمد بن علىّ عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. قال عبد الرحمن بن مهدى: أحاديث الفرج عن يحيى بن سعيد منكرة. وقال يحيى بن معين: فرج ضعيف. وقال أبو حاتم «1» بن حسّان: فرج بن فضالة كان يقلب الأحاديث الصحيحة ويلصق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة، لا يحلّ الاحتجاج به.
واحتجّوا بحديث جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الرحمن فذكر حديثا قال فيه: «نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة وصوت عند نعمة لعب ولهو ومزامير الشيطان» وهذا حديث رواه محمد ابن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عطاء عن جابر، وأنكر عليه هذا الحديث وضعّف لأجله. قال أبو حاتم بن حسّان: كان ردىء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ يروى الشىء على وجه الوهم ويستحق الترك. وتركه أحمد بن حنبل ويحيى ابن معين.(4/156)
واحتجّوا بأنه صلّى الله عليه وسلم سمع صوتا فقال: «انظروا من هذا» فنظرت فإذا معاوية وعمرو يتغنّيان. الحديث، وفيه: «اللهمّ اركسهما في الفتنة ركسا» وهو حديث رواه يزيد «1» بن أبى زياد عن سليمان عن عمرو بن الأحوص عن أبى برزة الأسلمى. ويزيد هذا من أهل الكوفة، وكان الكذبة يلقّنونه على وفق اعتقادهم فيتلّقاها ويحدّث بها ضعفة أهل النقل، وقد روى هذا الحديث من طريق آخر ليس فيه معاوية هذا، وأنه ابن التابوت «2» .
قال المقدسىّ: ولم يصحّ عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه ذكر أحدا من أصحابه إلّا تحير.
واحتجّوا بما روى عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه رفع الحديث، أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فى متّخذى القيان وشاربى الخمور ولا بسى الحرير» وهو حديث رواه زياد بن أبى زياد الجصّاص عن أبى نضرة عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه. وزياد هذا متروك الحديث.
واحتجّوا بحديث روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من مات وله قينة فلا تصلّوا عليه» وهو حديث روى بإسناد مجهول عن خارجة بن مصعب عن داود بن أبى هند عن الشعبىّ عن علىّ.
وخارجة متروك الحديث من أهل سرخس.(4/157)
واحتجّوا بما روى عبد الرحمن بن الجندىّ قال: قال عبد الله بن بسر «1» صاحب النبىّ صلّى الله عليه وسلم: يابن الجندىّ، فقلت: لبّيك يا أبا صفوان، قال: والله ليمسخنّ قوم وإنهم لفى شرب الخمور وضرب المعازف حتى يكونوا قردة أو خنازير.
والحديث موقوف وابن الجندىّ مجهول. والنبىّ صلّى الله عليه وسلم سأل ربه ألّا يعذّب أمّته بما عذّب به الأمم قبلها فأعطاه ذلك.
واحتجّوا بما روى عن أبى أمامة رضى الله عنه وقد تقدّم بعضه، وفيه زيادة أخرى أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ بيع المغنّيات ولا شراؤهنّ ولا الجلوس إليهنّ» ثم قال: «والذى نفسى بيده ما رفع رجل عقيرته بغناء إلا ارتدف على ذلك «2» شيطان على عاتقه هذا وشيطان على عاتقه هذا حتى يسكت» وهذا حديث قد تقدّم أوّله من حديث عبيد الله بن زحر، وهذه الزيادة من رواية مسلمة بن علىّ الدمشقىّ عن يحيى بن الحارث عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبى أمامة. ومسلمة هذا، قال ابن معين: ليس بشىء. وقال البخارىّ: منكر الحديث. وقد تقدّم القول في القاسم بن عبد الرحمن.
واحتجّوا بحديث روى عن عبد الله بن مسعود من رواية سلّام بن مسكين قال: حدّثنى شيخ سمع أبا وائل يقول: سمعت ابن مسعود يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الغناء ينبت النفاق في القلب» هكذا رواه سلّام عن شيخ مجهول لا يعرف. ورواه جرير بن عبد الحميد عن ليث بن أبى سليم عن محمد ابن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود وقوله «3» ، ولم يذكر النبىّ صلّى(4/158)
الله عليه وسلم. ورواه الثقات عن شعبة بن الحجاج عن مغيرة عن إبراهيم، قوله «1» ، ولم يذكر أحدا تقدّمه فيه وهذا أصحّ الأقاويل «2» فيه من قول إبراهيم. قال الغزالى رحمه الله تعالى: قول ابن مسعود: ينبت النفاق أراد به في حقّ المغنّى فإنه فى حقه ينبت النفاق إذ غرضه كله أن يعرض نفسه على غيره ويروّج صوته عليه، ولا يزال ينافق ويتودّد إلى الناس ليرغبوا في غنائه، وذلك أيضا لا يوجب تحريما، فإن لبس الثياب الجميلة وركوب الخيل المهملجة وسائر أنواع الزينة والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع ينبت الرياء والنفاق في القلب ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله.
فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصى فقط. بل المباحات التى هى مواقع نظر الخلق أكثر تأثيرا. ولذلك نزل «3» ابن عمر رضى الله عنهما عن فرس هملج تحته وقطع ذنبه لأنه استشعر في نفسه الخيلاء لحسن مشيته، فهذا النفاق من المباحات.
واحتجّوا بحديث روى عن صفوان بن أمية قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرّة فقال: يا نبىّ الله إن الله عز وجلّ كتب علىّ الشّقوة ولا أرانى أرزق إلّا من «4» دفّى بكفّى أفتأذن لى في الغناء من غير فاحشة؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا إذن ولا كرامة ولا نعمة» وذكر حديثا طويلا، وهو حديث رواه عبد الرزاق بن همّام الصّنعانى عن يحيى بن العلاء عن بشر بن نمير عن مكحول قال: حدّثنى يزيد بن عبد الملك عن صفوان بن أمية.
ويحيى بن العلاء هذا مدنىّ الأصل رازىّ. قال يحيى بن معين: يكنى ابا عمرو ليس بثقة. وقال عمرو بن على الصيرفىّ: يحيى بن العلاء متروك الحديث والله أعلم.(4/159)
واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمن الكلب وكسب الزمّارة، وهو حديث نقله سليمان بن أبى سليمان الداودىّ البصرىّ عن محمد ابن بشر عن أبى هريرة. وسليمان هذا متروك الحديث غير ثقة.
واحتجّوا بقول عثمان رضى الله عنه: ما تغنّيت ولا تمنّيت «1» ولا مسست ذكرى بيمينى منذ بايعت النبىّ صلّى الله عليه وسلم. وهذا حديث رواه صقر بن عبد الرحمن عن أبيه عن مالك بن مغول عن عبد الله بن إدريس عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك في حديث القفّ والصيد.
قال المقدسىّ: هذا حديث لم أرفيه تحاملا، ورأيته ذكر من هذا أشياء لم يأت بها غيره توجب ترك حديثه والله أعلم. وقال الغزالىّ رحمه الله تعالى وذكر هذا الحديث: قلنا فليكن التمنّى ومسّ الذكر باليمين حراما إن كان هذا دليل تحريم الغناء، فمن أين ثبت أن عثمان كان لا يترك إلا الحرام.
قال الحافظ أبو الفضل المقدسىّ رحمه الله تعالى: فهذه الأحاديث وأمثالها احتجّ بها من أنكر السماع جهلا منهم بصناعة علم الحديث ومعرفته، فترى الواحد منهم إذا رأى حديثا مكتوبا في كتاب جعله لنفسه مذهبا واحتجّ به على مخالفه، وهذا غلط عظيم بل جهل جسيم. هذا ملخص ما أورده رحمه الله تعالى وفيه من الزيادات ما هو منسوب الى الثعلبىّ والغزالىّ على ما بيّناه في مواضعه.
وقد تكلم الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالىّ الطوسىّ رحمه الله تعالى على السماع في كتابه المترجم ب «إحياء علوم الدين» وبيّن دليل الإباحة وذكر بعد ذلك آداب السماع وآثاره في القلب والجوارح فقال:(4/160)
اعلم أن السماع هو أوّل الأمر، ويثمر السماع حالة في القلب تسمّى الوجد ويثمر الوجد تحريك الأطراف، إما بحركة غير موزونة فتسمّى الاضطراب، وإمّا موزونة فتسمّى التصفيق والرقص. ثم بدأ بحكم السماع وبيّن الدليل على إباحته ثم ذكر ما تمسّك به القائلون بتحريمه وأجاب عن ذلك بما نذكره أو مختصره إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: نقل أبو طالب المكّى إباحة السماع عن جماعة وقال:
سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وابن الزّبير، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية وغيرهم. وقد فعل ذلك كثير من السلف صحابىّ وتابعىّ. قال: ولم يزل الحجازيّون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة وهى الأيام المعدودات التى أمر الله عز وجلّ عباده فيها بذكره كأيام التشريق. ولم يزل أهل المدينة ومكة مواظبين على السماع إلى زماننا هذا فأدركنا أبا مروان القاضى وله جوار يسمعن [النّاس «1» ] التلحين قد أعدّهنّ للصوفية. قال: وكان لعطاء جاريتان تلحّنان وكان إخوانه يستمعون إليهما. قال: وقيل لأبى الحسن بن سالم: كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسرىّ السّقطىّ وذو النون يسمعون! فقال: كيف أنكر السماع وأجازه وسمعه من هو خير منّى. وقد كان عبد الله بن جعفر الطيّار يسمع. وإنما أنكر اللهو واللعب فى السماع.
وروى عن يحيى بن معاذ أنه قال: فقدنا ثلاثة أشياء فلا نراها ولا أراها تزداد إلا قلّة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الديانة، وحسن الإخاء مع الوفاء.
قال الغزالىّ: ورأيت في بعض الكتب هذا بعينه محكيا عن المحاسبىّ وفيه ما يدلّ على تجويزه السماع مع زهده وتصاونه وجدّه في الدّين وتشميره.(4/161)
وحكى عن ممشاد الدّينورىّ أنه قال: رأيت النبىّ صلّى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله، هل تنكر من هذا السماع شيئا؟ فقال: «ما أنكر منه شيئا ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختتمون بعده بالقرآن» . قال الغزالىّ: وعن ابن جريح أنه كان يرخص في السماع فقيل له: تقدّمه يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك؟ فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات لأنه شبيه باللغو، قال الله تعالى: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) *
؛ ثم بيّن الغزالىّ رحمه الله الدليل على إباحة السماع فقال: اعلم أن قول القائل: السماع حرام، معناه أن الله تعالى يعاقب عليه وهذا أمر لا يعرف بمجرّد العقل بل بالسمع، ومعرفة الشرعيّات محصورة في النصّ أو القياس على المنصوص. قال: وأعنى بالنصّ ما أظهره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقوله أو فعله، وبالقياس المعنى المفهوم من ألفاظه وأفعاله، فإن لم يكن فيه نصّ ولم يستقم فيه قياس على منصوص بطل القول بتحريمه ويبقى فعلا لا حرج فيه كسائر المباحات، ولا يدلّ على تحريم السماع نصّ ولا قياس. قال: وقد دلّ القياس والنصّ جميعا على إباحة السماع.
أما القياس فهو أن الغناء اجتمع فيه معان ينبغى ان يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها فإن فيه سماع صوت طيّب موزون مفهوم المعنى المحرّك للقلب. فالوصف الأعمّ أنه صوت طيّب، ثم الطيب ينقسم الى الموزون وغيره. والموزون ينقسم إلى المفهوم كالأشعار، وإلى غير المفهوم كأصوات الجمادات وأصوات سائر الحيوانات.
أما سماع الصّوت الطيّب من حيث إنه طيّب فلا ينبغى أن يحرّم بل هو حلال بالنصّ والقياس.
أمّا القياس فإنه يرجع إلى تلذّذ حاسّة السمع بإدراك ما هو مخصوص به.
وللإنسان عقل وخمس حواس ولكلّ حاسّة إدراك. وفي مدركات تلك الحاسة(4/162)
ما يستلذّ. فلذّة البصر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجارى والوجه الحسن وسائر الألوان الجميلة وهى في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة. وللشمّ الروائح الطيّبة وهى في مقابلة الأنتان المستكرهة. وللذّوق الطعوم اللذيذة كالدّسومة والحلاوة والحموضة وهى في مقابلة المرارة والمزازة المستبشعة. وللمسّ لذّة اللين والنعومة والملاسة وهى في مقابلة الخشونة والضّراسة. وللعقل لذّة العلم والمعرفة وهى في مقابلة الجهل والبلادة. فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذّة كصوت العنادل والمزامير، ومستكرهة كنهيق الحمر وغيرها، فما أظهر قياس هذه الحاسّة ولذّتها على سائر الحواس ولذّاتها.
وأما النصّ فيدلّ على إباحة سماع الصوت الحسن امتنان الله على عباده به إذ قال تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ)
فقيل: هو حسن الصوت. وفي الحديث:
«ما بعث الله نبيّا إلا حسن الصوت» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لله أشدّ أذنا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» وفي الحديث فى معرض المدح لداود عليه السّلام: «أنه كان حسن الصوت في النياحة على نفسه وفي تلاوة الزّبور حتى كان يجتمع الإنس والجنّ والوحش والطير لسماع صوته، وكان يحمل من مجلسه أربعمائة جنازة وما يقرب من ذلك في الأوقات» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مدح أبى موسى الأشعرىّ: «لقد أعطى مزمارا من مزامير آل داود» وقوله تعالى: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)
يدل بمفهومه على مدح الصوت الحسن. ولو جاز أن يقال: إنما أبيح ذلك بشرط أن يكون فى القرآن للزمه أن يحرّم سماع صوت العندليب لأنه ليس بقرآن. وإذا جاز سماع صوت غفل لا معنى له، فلم لا يجوز سماع صوت يفهم منه الحكمة والمعانى الصحيحة! وإن من الشعر لحكمة. قال: فهذا نظر في الصوت من حيث إنه طيّب حسن.(4/163)
الدرجة الثانية: النظر في الصوت الطيّب الموزون فإنّ الوزن وراء الحسن، فكم من صوت حسن خارج عن الوزن، وكم من صوت موزون غير مستطاب.
والأصوات الموزونة باعتبار مخارجها ثلاثة، فإنها إمّا أن تكون من جماد كصوت المزامير والأوتار وضرب القضيب والطبل وغيره. وإمّا أن تخرج من حنجرة حيوان وذلك الحيوان إما إنسان وإما غيره. فصوت العنادل والقمارىّ وذوات السجع من الطيور مع طيها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذّ سماعها. والأصل فى الأصوات حناجر الحيوانات. وإنما وضعت المزامير على صورة «1» الحناجر وهى تشبيه الصّنعة بالخلقة. وما من شىء توصّل أهل الصناعات بصناعتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التى استأثر الله تعالى باختراعها، منه تعلّم الصّنّاع وبه قصدوا الاقتداء. فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيّبة أو موزونة فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور. ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان. فينبغى أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمىّ كالذى يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدّفّ وغيره. ولا يستثنى من هذا إلا الملاهى والأوتار والمزامير، إذ ورد الشرع بالمنع منها لا للذّتها إذ لو كان للذّة لقيس عليها كل ما يلتذّ به الإنسان ولكن حرّمت الخمور واقتضت ضراوة «2» الناس بها المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء الى كسر الدّنان، فحرّم معها ما هو شعار أهل الشرب وهى الأوتار والمزامير فقط. وكان تحريمه من قبيل الإتباع كما حرّمت الخلوة «3» لأنها مقدّمة الجماع. وحرّم النظر الى الفخذ(4/164)
لاتصاله بالسوأتين. وحرّم قليل الخمر وإن كان لا يسكر لأنه يدعو إلى المسكر.
وما من حرام إلا وله حرم يطيف به. وحكم الحرمة ينسحب على حريمه ليكون حمى للحرام ووفاية له وحظارا «1» مانعا حوله كما قال صلّى الله عليه وسلم: «إن لكلّ ملك حمى وإنّ حمى الله محارمه» فهى محرّمة تبعا لتحريم الخمر.
الدرجة الثالثة: الموزون المفهوم وهو الشعر، وذلك لا يخرج إلا من حنجرة الإنسان فيقطع بإباحة ذلك لأنه ما زاد إلا كونه مفهوما. والكلام المفهوم غير حرام. والصوت الطيب الموزون غير حرام. فإذا لم يحرم الآحاد فمن أين يحرم المجموع؛ نعم ينظر فيما يفهم منه، إن كان فيه أمر محظور جرم نثره ونظمه وحرم التصويت «2» به سواء كان بألحان أو لم يكن.
والحقّ فيه ما قاله الشافعىّ رحمه الله إذ قال: الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. ومهما جاز إنشاد الشعر بغير صوت وألحان جاز مع الألحان. فإن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان مباحا، ومهما انضمّ مباح الى مباح لم يحرم إلا إذا تضمنّ المجموع محظورا لا تتضمّنه الآحاد، ولا محظور هاهنا. وكيف ينكر إنشاد الشعر وقد أنشد بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من الشّعر لحكمة» وساق رحمه الله في هذا الموضع الأحاديث الصحيحة التى تضمّنت إنشاد الشعر والحداء به وهى أشهر من أن يحتاج إلى سردها. ثم قال بعد سياق الأحاديث: ولم يزل الحداء وراء الجمال من عادة العرب في زمان سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وزمان الصحابة، وما هو إلا أشعار تؤدّى بأصوات طيّبة وألحان موزونة. ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكاره. بل ربما كانوا يلتمسون ذلك(4/165)
تارة لتحريك الجمال وتارة للاستلذاذ، فلا يجوز أن يحرّم من حيث إنه كلام مفهوم مؤدّى بأصوات طيّبة وألحان موزونة.
الدرجة الرابعة: النظر فيه من حيث إنه محرّك للقلب ومهيّج لما هو الغالب عليه، قال أبو حامد: فأقول: لله سبحانه وتعالى سرّ في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى إنها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا. فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن ومنها ما ينوّم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس. ولا ينبغى أن يظنّ أن ذلك لفهم معانى الشعر بل هذا جار فى الأوتار حتى قيل: من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج. وكيف يكون ذلك بفهم المعنى، وتأثيره مشاهد في الصبىّ في مهده فإنه يسكته الصوت الطيّب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه الى الإصغاء إليه.
والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثيرا يستخفّ معه الأحمال الثقيلة ويستقصر لقوّة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه؛ فتراها إذا طالت عليها البوادى واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال اذا سمعت منادى الحداء تمدّ أعناقها وتصغى إلى الحادى ناصبة آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وربما تتلف أنفسها في شدّة السير وثقل الحمل وهى لا تشعر به لنشاطها فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدّينورى المعروف بالرّقى، قال:
كنت في البادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافنى رجل منهم وأدخلنى خباء فرأيت في الخباء عبدا أسود مقيّدا بقيد، ورأيت جمالا قد ماتت بين يدى البيت «1» وقد بقى منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه. فقال لى الغلام:(4/166)
أنت ضيف ولك حقّ فتشفّع في حقّى إلى مولاى فإنه مكرم لضيفه فلا يردّ شفاعتك فعساه يحلّ القيد عنّى. فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت: لا آكل ما لم أشفّع فى هذا العبد، فقال: إن هذا العبد قد أفقرنى وأهلك جميع مالى؛ فقلت: ماذا فعل؟ فقال: إن له صوتا طيّبا، وإنى كنت اعيش من ظهور هذه الجمال فحمّلها أحمالا ثقالا وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاث ليال في ليلة من طيب نغمته فلما حطّت أحمالها موّتت كلّها إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفى فلكرامتك قد وهبته لك قال: فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهى، فما أظنّ أنى قط سمعت صوتا أطيب منه.
قال: فإذا تأثير السماع في القلب محسوس. ومن لم يحرّكه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على سائر البهائم فإن جميعها تتأثّر بالنغمات الموزونة. ومهما كان النظر فى السماع باعتبار تأثيره في القلوب لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب.
قال أبو سليمان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه، ولكن يحرّك ما هو فيه.
ذكر أقسام السماع وبواعثه
وأقسام السماع تختلف بآختلاف الأحوال: فإن منه ما هو مستحبّ وما هو مباح وما هو مكروه وما هو حرام. أما المستحبّ فهو لمن غلب عليه حبّ الله تعالى ولم يحرّك السماع منه إلا الصفات المحمودة. وأما المباح فهو لمن لا حظّ له من السماع إلا التلذّذ بالصوت الحسن، وأما المكروه فهو لمن لا ينزله على صورة المخلوقين(4/167)
ولكن يتخذه عادة له في أكثر الأوقات على سبيل اللهو. وأما الحرام فهو لأكثر الناس من الشباب ومن غلبت عليه شهوة الدنيا فلا يحرّك السماع منهم إلا ما هو الغالب على قلوبهم من الصفات المذمومة. وقد تكلم على هذه الأقسام الإمام أبو حامد الغزالىّ فقال رحمه الله ما مختصره ومعناه:
الكلمات المسجعة الموزونة تعتاد في مواضع لأغراض مخصوصة ترتبط بها آثار فى القلب وهى سبعة مواضع:
الأوّل: غناء الحجيج فإنهم يدورون أوّلا في البلاد بالطبل والغناء وذلك مباح لما فيه من التشويق إلى الحجّ وأداء الفريضة وشهود المشاعر.
الثانى: ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو وهو مباح أيضا لما فيه من استثارة النفس وتحريكها على الغزو وإثارة الغضب على الكفّار وتحسين الشجاعة وتقبيح الفرار.
الثالث: ما يرتجزه الشّجعان عند اللقاء في الحرب وهو مباح ومندوب لما فيه من تشجيع النفس وتحريك النشاط للقتال والتمدّح بالشجاعة والنجدة وقد فعله غير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم علىّ بن أبى طالب وخالد بن الوليد وغيرهما.
الرابع: أصوات النّياحة ونغماتها وتأثيرها في تهييج البكاء وملازمة الحزن والكآبة وهذا قسمان: محمود ومذموم.
فأمّا المذموم فالحزن على ما فات. قال الله تبارك وتعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ)
. والحزن على الأموات من هذا القبيل فإنه يغضب الله جلّ جلاله «1» وتأسّف على ما لا تدارك فيه.(4/168)
وأمّا المحمود فهو حزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه وبكاؤه على خطاياه.
والبكاء والتباكى والحزن والتحازن على ذلك محمود لأنه يبعث على التشمير للتدارك.
ولذلك كانت نياحة داود عليه السّلام محمودة، فقد كان يحزن ويحزن ويبكى ويبكى حتى كانت الجنائز ترفع من مجالس نياحته وكان يفعل ذلك بألفاظه وألحانه، وذلك محمود لأن المفضى إلى المحمود محمود. وعلى هذا لا يحرم على الواعظ الطيّب الصوت أن ينشد على المنبر بألحانه الأشعار المحزنة المرقّقة للقلب ولا أن يبكى ويتباكى ليتوصّل به الى بكاء غيره وإثارة حزنه.
الخامس: السماع في أوقات السرور تأكيدا للسرور وتهييجا له إن كان ذلك السرور مباحا كالغناء في أيام العيد وفي العرس وفي وقت قدوم الغائب ووقت الوليمة والعقيقة وعند الولادة والختان وعند حفظ القرآن، وكل ذلك معتاد لأجل إظهار السرور. قال: ووجه جوازه أنّ من الألحان ما يثير الفرح والسرور والطرب وكل ما جاز السرور به جاز إثارة السرور فيه، ويدلّ على هذا إنشادهم بالدفّ والألحان عند مقدم النبىّ صلّى الله عليه وسلم يقولون:
طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعى
فإظهار هذا السرور بالنغمات والشعر والرقص والحركات محمود. فقد نقل عن جماعة من الصحابة أنهم حجلوا في سرور أصابهم كما سيأتى في أحكام الرقص وهو جائز في قدوم كل غائب وكل ما يجوز الفرح به شرعا. ويجوز الفرح بزيارة الإخوان ولقائهم واجتماعهم في موضع واحد على طعام أو كلام.
السادس: سماع العشّاق تحريكا للشوق وتهييجا للعشق وتسلية للنفس؛ فإن كان في حال مشاهدة المعشوق فالغرض تأكيد اللذّة، وإن كان مع المفارقة فالغرض(4/169)
تهييج الشوق. والشوق وإن كان مؤلما ففيه نوع لذّة إذا انضاف اليه رجاء الوصال؛ فإن الرجاء لذيذ واليأس مؤلم، وقوّة لذّة الرجاء بحسب قوّة الشوق والحبّ للشىء المرجوّ، ففى هذا السماع تهييج للعشق وتحريك للشوق وتحصيل للذة الرجاء المقدّر في الوصال مع الإطناب في وصف حسن المحبوب. قال:
وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله كمن يعشق زوجته أو سرّيته فيصغى إلى غنائها لتتضاعف لذّته في لقائها، فيحظى بالمشاهدة البصر وبالسماع الأذن ويفهم لطائف معانى الوصال والفراق القلب، فتترادف أسباب اللذّة.
فهذا نوع تمتّع من جملة مباحات الدنيا ومتاعها، وما متاع الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وهذا منه. وكذلك إن غصبت منه جارية أو حيل بينه وبينها بسبب من الأسباب فله أن يحرّك بالسماع شوقه وأن يستثير به لذّة رجاء الوصال. فإن باعها أو طلقها حرم عليه ذلك بعده إذ لا يجوز تحريك الشوق حيث لا يجوز تحقيقه بالوصل واللقاء.
وأما من يتمثّل في نفسه صورة صبىّ أو امرأة لا يجوز له النظر إليها وكان ينزّل ما يسمع على ما يتمثّل في نفسه فهو حرام لأنه محرّك للفكر في الأفعال المحظورة ومهيّج للداعية إلى مالا يباح الوصول إليه لا لأمر يرجع إلى نفس السماع. وقد سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: دخان يصعد الى دماغ الإنسان يزيله الجماع ويهيّجه السماع.
السابع: سماع من أحبّ الله سبحانه وتعالى وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شىء إلّا رآه فيه، ولا يقرع سمعه قارع إلّا سمعه منه أو فيه؛ فالسماع في حقه مهيّج لشوقه، ومؤكّد لعشقه وحبّه، ومور زناد قلبه، ومستخرج منه أحوالا من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها وينكرها من كلّ حسّه عن ذواقها؛ وتسمّى تلك الأحوال بلسان الصوفيّة وجدا- مأخوذ من الوجود- وللصوفية على هذا كلام يطول شرحه ليس هذا موضع إيراده. والله أعلم.(4/170)
ذكر العوارض التى يحرم معها السماع
قال أبو حامد رحمه الله تعالى: والسماع يحرم بخمسة عوارض: عارض في المسمع وعارض في آلة السماع، وعارض في نظم الصوت، وعارض في نفس المستمع أو في مواطنه، لأن أركان السماع هى المسمع والمستمع وآلة السماع.
العارض الأوّل: أن يكون المسمع امرأة لا يحلّ النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها،
وفي معناها الصبىّ الذى تخشى فتنته، وهذا حرام لما فيه من خوف الفتنة، وليس ذلك لأجل الغناء بل لو كانت المرأة بحيث تفتن بصوتها في المحاورة فى غير ألحان فلا يجوز محاورتها ومحادثتها ولا سماع صوتها في القرآن أيضا، وكذلك الصبى الذى تخاف فتنته. فإن قلت: فهل تقول: إن ذلك حرام بكل حال حسما للباب، أو لا يحرم إلا حيث تخاف الفتنة. فأقول: هذه مسئلة محتملة من حيث الفقه يتجاذبها أصلان:
أحدهما: أن الخلوة بالأجنبيّة والنظر إلى وجهها حرام سواء خيفت منها الفتنة أو لم تخف لأنها مظنّة الفتنة على الجملة. فقضى الشرع بحسم الباب من غير التفات إلى الصورة.
والثانى: أن النظر إلى الصبيان مباح إلا عند خوف الفتنة فلا يلحق الصبيان بالنساء في عموم الحسم بل ينبغى أن يفصّل فيه الحال. وصوت المرأة دائر بين هذين الأصلين، فإن قسناه على النظر إليها وجب حسم الباب وهو قياس قريب، ولكن بينهما فرق إذ الشهوة تدعو إلى النظر في أوّل هيجانها ولا تدعو إلى سماع الصوت. وليس تحريك النظر لشهوة المماسّة كتحريك السماع بل هو أشدّ.
وصوت المرأة في غير الغناء ليس بعورة ولكن للغناء مزيد أثر في تحريك الشهوة،(4/171)
فقياس هذا على النظر إلى الصبيان أولى لأنّهم لم يؤمروا بالاحتجاب كما لم تؤمر النساء بستر الأصوات، فينبغى أن يتّبع مثار الفتن ويقصر التحريم عليه، هذا هو الأقيس عندى. قال: ويتأيّد بحديث الجاريتين المغنّيتين في بيت عائشة رضى الله عنها إذ يعلم أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم كان يسمع صوتهما ولم يحترز عنه ولكن لم تكن الفتنة مخوفة عليه فلذلك لم يحترز. فإذا يختلف هذا بأحوال المرأة وأحوال الرجل في كونه شابا وشيخا ولا يبعد أن يختلف الأمر في مثل هذا بالأحوال.
فإنا نقول: للشيخ أن يقبّل زوجته وهو صائم وليس للشاب ذلك. والقبلة تدعو إلى الوقاع في الصوم وهو محظور. والسماع يدعو إلى النظر والمقاربة وهو حرام، فيختلف ذلك أيضا بالأشخاص.
العارض الثانى في الآلة
بأن تكون من شعائر أهل الشرب أو المخنّثين وهى المزامير والأوتار وطبل الكوبة، فهذه ثلاثة أنواع وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدّفّ وإن كان فيه الجلاجل وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات.
العارض الثالث في نظم الصوت
وهو الشعر فإن كان فيه شىء من الخنا والفحش والهجاء أو هو كذب على الله عز وجلّ أو على رسوله أو على الصحابة كما رتبه الروافض في هجاء الصحابة وغيرهم، فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان، والمستمع شريك القائل وكذلك ما فيه وصف امرأة بعينها فإنه لا يجوز وصف المرأة بين يدى الرجال. وأمّا هجاء الكفّار وأهل البدع فذلك جائز.
فقد كان حسان بن ثابت ينافح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويهاجى الكفار، وأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك.(4/172)
فأمّا النسيب وهو التشبيب بوصف الخدود والأصداغ وحسن القدّ والقامة وسائر أوصاف النساء فهذا فيه نظر. والصحيح أنه لا يحرم نظمه وإنشاده بلحن وغير لحن «1» ، وعلى المستمع ألّا ينزّله على امرأة معيّنة إلّا على من تحلّ له من زوجة أو جارية، فإن نزّله على أجنبية فهو العاصى بالتنزيل وإجالة الفكر فيه. ومن هذا وصفه فينبغى أن يجتنب السماع رأسا فإن من غلب عليه عشق نزّل كلّ ما يسمعه عليه سواء كان اللفظ مناسبا أو لم يكن، إذ ما من لفظ إلا ويمكن تنزيله على معان بطريق الاستعارة فالذى غلب عليه عشق مخلوق ينبغى أن يحترز من السماع بأىّ لفظ كان، والذى غلب عليه حبّ الله تعالى فلا تضرّه الألفاظ ولا تمنعه عن فهم المعانى اللطيفة المتعلّقة بمجارى همته الشريفة.
العارض الرابع في المستمع
- وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه وكان في غرّة الشباب وكانت هذه الصفة أغلب من غيرها عليه، فالسماع حرام عليه سواء غلب على قلبه حبّ شخص معيّن أو لم يغلب. فإنه كيفما كان فلا يسمع وصف الصّدغ والخدّ والوصال والفراق إلا ويحرّك ذلك شهوته وينزّله على صورة معيّنة ينفخ الشيطان بها في قلبه فتشتعل فيه نار الشهوة وتحتدّ بواعث الشرّ. وذلك هو النّصرة لحزب الشيطان والتخذيل للعقل المانع منه الذى هو حزب الله تعالى. والقتال فى القلب دائم بين جنود الشيطان وهى الشهوات، وبين حزب الله وهو نور العقل إلا في قلب قد فتحه أحد الجندين واستولى عليه بالكليّة. وغالب القلوب قد فتحها جند الشيطان وغلب عليها فتحتاج حينئذ الى أن تستأنف أسباب القتال لإزعاجه فكيف يجوز تكثير أسلحته وتشحيذ سيوفه وأسنّته، والسماع مشحّذ(4/173)
لأسلحة جند الشيطان في حقّ مثل هذا الشخص. فليخرج مثل هذا عن جميع السماع فإنه يستضريه والله أعلم.
العارض الخامس- أن يكون الشخص من عوامّ الخلق ولم يغلب عليه حبّ الله
فيكون السماع له محبوبا ولا غلبت عليه الشهوة فيكون في حقّه محظورا، ولكنه أبيح في حقه كسائر أنواع اللذّات المباحة إلا أنه اتخذه ديدنه وهجيّراه وقصر عليه أكثر أوقاته، فهذا هو السفيه الذى تردّ شهادته فإن المواظبة على اللهو جناية.
وكما أن الصغيرة بالإصرار والمداومة تصير كبيرة؛ فبعض المباحات بالمداومة يصير صغيرة وهو كالمواظبة على متابعة الزنوج والحبشة والنظر إلى لعبهم على الدوام فإنه ممنوع وإن لم يكن أصله ممنوعا إذ فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن هذا القبيل اللّعب بالشّطرنج فإنه مباح، ولكن المواظبة عليه مكروهة كراهة شديدة، ومهما كان الغرض اللعب والتلذّذ باللهو فذلك إنما يباح لما فيه من ترويح القلب؛ إذ راحة القلب معالجة له في بعض الأوقات لتنبعث دواعيه. هذا ملخص ما أورده في أقسام السماع وبواعثه ومقتضياته، ثم ذكر بعد ذلك آثار السماع وآدابه.
ذكر آثار السماع وآدابه
قال أبو حامد رحمه الله: اعلم أن أوّل درجة السماع فهم المسموع وتنزيله على معنى يقع للمستمع ثم يثمر الفهم الوجد. ويثمر الوجد الحركة بالجوارح. فلينظر إلى هذه المقامات الثلاثة:
المقام الأوّل- فى الفهم،
وهو مختلف باختلاف أحوال المستمع. وللمستمع أربعة أحوال:(4/174)
إحداها- أن يكون سماعه بمجرّد الطبع
أى لا حظّ له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات فهذا مباح وهو أخسّ رتب السماع؛ إذ الإبل شريكة له فيه وكذا سائر البهائم. ولكل حيوان نوع تلذّذ بالأصوات الطيّبة.
الحالة الثانية- أن يسمع بفهم ولكن ينزّله على صورة إما معيّنة أو غير معيّنة
وهو سماع الشباب وأرباب الشهوة ويكون تنزيلهم المسموع على حسب شهواتهم ومقتضى أحوالهم. وهذه الحالة أخسّ من أن يتكلّم فيها إلا ببيان خسّتها والنهى عنها.
الحالة الثالثة- أن ينزّل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملة الله تعالى
وتقلّب أحواله في التمكّن منه «1» مرّة وبعده منه أخرى، وهذا سماع المريدين لا سيّما المبتدئين. فإن للمريد لا محالة مرادا هو مقصده، ومقصده معرفة الله تعالى ولقاؤه والوصول إليه بطريق المشاهدة بالسرّ وكشف الغطاء؛ وله في مقصده طريق هو سالكه، ومعاملات هو مثابر عليها، وحالات تستقبله في معاملاته. فإذا سمع ذكر عتاب أو خطاب أو قبول أو ردّ أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد أو تلهّف على فائت أو تعطّش إلى منتظر أو شوق إلى وارد أو طمع أو يأس أو وحشة أو استئناس أو وفاء بالوعد أو نقض للعهد أو خوف فراق أو فرح بوصال أو ذكر ملاحظة الحبيب ومدافعة الرقيب أو همول العبرات أو ترادف الحسرات أو طول الفراق أو عدة الوصال «2» أو غير ذلك مما يشتمل على وصفه الأشعار؛ فلا بدّ أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه، فيجرى ذلك مجرى القدّاح الذى يورى زناد قلبه، فتشتعل به نيرانه، ويقوى به انبعاث الشوق وهيجانه، وتهجم عليه بسببه أحوال مخالفة لعادته،(4/175)
ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله. وليس على المستمع مراعاة مراد الشاعر من كلامه؛ بل لكلّ كلام وجوه ولكلّ ذى فهم في اقتباس المعنى منه حظّ. وضرب الإمام الغزالىّ لذلك أمثلة يطول شرحها.
الحالة الرابعة- سماع من جاوز الأحوال والمقامات
فعزب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها وكان كالمدهوش الغائص في عين الشهود الذى يضاهى حاله حال النّسوة اللاتى قطّعن أيديهنّ فى مشاهدة جمال يوسف حتى بهتن وسقط إحساسهنّ. وعن مثل هذه الحالة تعبّر الصوفية بأنه فنى عن نفسه. ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى؛ فكأنه فنى عن كلّ شىء إلا عن الواحد المشهود، وفنى أيضا عن الشهود فإنّ القلب إن التفت إلى الشهود وإلى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن المشهود. فالمستهتر بالمرئىّ لا التفات له في حال استغراقه إلى رؤيته و [لا «1» ] إلى عينه التى بها رؤيته ولا إلى قلبه الذى به لذّته. فالسكران لا خبر له في سكره «2» ، والملتذّ لا خبر له في «3» التذاذه، إنما خبره من الملتذّ به فقط، ولكن هذا في الغالب يكون كالبرق الخاطف الذى لا يثبت ولا يدوم وإن دام لم تطقه القوّة البشريّة فربما يضطرب تحت أعبائه اضطرابا تهلك فيه نفسه كما روى عن أبى الحسن النورى أنه سمع هذا البيت:
ما زلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحيّر الألباب دون نزوله
فقام وتواجد وهام على وجهه ووقع في أجمة قصب قد قطعت وبقيت أصولها مثل السيوف فصار «4» يعدو فيها ويعيد البيت إلى الغداة والدم يجرى من رجليه حتى ورمت قدماه وساقاه ومات بعد أيام رحمه الله.(4/176)
قال أبو حامد: وهذه درجة الصدّيقين في الفهم والوجد وهى أعلى الدرجات، لأن السماع على الأحوال وهى ممتزجة بصفات البشرية نوع قصور، وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله. أعنى أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها كما لم يكن للنّسوة التفات الى اليد والسّكّين. فيسمع بالله، ولله، وفي الله، ومن الله؛ وهذه رتبة من خاض لجّة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتّحد بصفاء التوحيد وتحقّق بمحض الإخلاص فلم يبق فيه منه شىء أصلا، بل خمدت بالكليّة بشريّته وفنى التفاته إلى صفات البشرية رأسا. قال: ولست أعنى بفنائه فناء جسده بل فناء قلبه، ولست أعنى بالقلب اللحم والدم بل سرّ لطيف له إلى القلب الظاهر نسبة خفيّة وراءها سرّ الرّوح الذى هو من أمر الله عرفها من عرفها وجهلها من جهلها ولذلك السرّ وجود. وصورة ذلك الوجود ما يحضر فيه فإذا حضر فيه غيره فكأنه لا وجود إلا للحاضر. ومثاله المرآة المجلوّة، إذ ليس لها لون في نفسها بل لونها لون الحاضر فيها. وكذلك الزجاجة فإنها تحكى لون قرارها ولونها لون الحاضر فيها وليس لها في نفسها صورة بل صورتها قبول الصّور ولونها هو هيئة الاستعداد لقبول الألوان. قال: وهذه مغاصة من مغاصات علوم المكاشفة منها نشأ خيال من ادّعى الحلول والاتحاد. هذا ملخّص ما أورده في مقام الفهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
المقام الثانى- بعد الفهم والتنزيل الوجد.
قال الإمام الغزالىّ رحمه الله تعالى:
قال الإمام الغزالىّ رحمه الله تعالى:
وللناس كلام طويل في حقيقة الوجد أعنى الصوفيّة والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السّماع للأرواح فلنتقل من أقوالهم ألفاظا ثم لنكشف عن الحقيقة فيه.(4/177)
أما الصوفيّة، فقد قال ذو النون المصرىّ رحمه الله في السماع: إنه وارد حقّ جاء يزعج القلوب إلى الحقّ، فمن أصغى إليه بحقّ تحقّق، ومن أصغى إليه بنفس تزندق. فكأنه عبّر عن الوجد بانزعاج القلوب إلى الحق وهو الذى يجده عند ورود وارد السماع، إذ سمّى السماع وارد حقّ. وقال أبو الحسين الدرّاج مخبرا عمّا وجده فى السماع:
والوجد عبارة عما يوجد عند السماع، وقال: جال بى السماع في ميادين البهاء، فأوجدنى وجود الحقّ عند العطاء، فسقانى بكأس الصفاء، فأدركت به منازل الرضاء، وأخرجنى إلى رياض النزهة والفضاء.
وقال الشّبلىّ: السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارة حلّ له استماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرّض للبليّة. وأقوال الصوفيّة في هذا النوع كثيرة.
وأما الحكماء، فقال بعضهم:
فى القلب فضيلة شريفة لم تقدر قوّة النطق على إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالألحان، فلما ظهرت سرّت وطربت إليها، فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر. وقال بعضهم:
نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأى واستجلاب العازب من الفكر وحدّة الكالّ من الأفهام والآراء حتى يثوب ما عزب وينهض ما عجز ويصفو ما كدر ويمرح في كل «1» رأى ونيّة فيصيب ولا يخطىء ويأتى ولا يبطىء. ثم ذكر المعنى الذى الوجد عبارة عنه فقال: هو عبارة عن حالة يثمرها السماع وهو وارد [حقّ «2» ] جديد عقيب السماع(4/178)
يجده المستمع من نفسه. وتلك الحالة لا تخلو من قسمين: فإنها إما أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هى من قبيل العلوم والتنبيهات؛ وإما أن ترجع إلى تغيرات وأحوال ليست من العلوم والتنبيهات بل هى كالشوق والخوف والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض. وهذه الأحوال يهيّجها السماع ويقوّيها فإن ضعفت بحيث لم تؤثّر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغيير حاله حتى يتحرّك على خلاف عادته أو يطرق أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسمّ وجدا. وإن ظهر على الظاهر سمّى وجدا إما ضعيفا وإما قويّا بحسب ظهوره وتغييره الظاهر وتحريكه بحسب قوّة وروده وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوّة الواجد وقدرته على حفظ جوارحه، فقد يقوى الوجد في الباطن ولا يتغيّر الظاهر لقوّة صاحبه وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحلّ عقد التماسك.
وإلى المعنى الأوّل أشار أبو سعيد بن الأعرابىّ حيث قال في الوجد: إنه مشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ولا يبعد أن يكون السماع منشأ لكشف ما لم يكن مكشوفا قبله؛ فإنّ الكشف يحصل بأسباب: منها التنبيه، والسماع منبّه.
ومنها تغيّر الأحوال ومشاهدتها وإدراكها، فإنّ إدراكها نوع علم يفيد إيضاح أمور لم تكن معلومة قبل الورود.
ومنها صفاء القلب، والسماع مؤثّر في تصفية القلوب، والصفاء سبب المكاشفة.
ومنها انبعاث نشاط القلب بقوّة السماع فيقوى على مشاهدة ما كان تقصر عنه [قبل ذلك «1» ] قوّته كما يقوى البعير على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله، وهذا الاستكشاف من ملاحظة أسرار الملكوت. وكما أنّ حمل الجمل يكون بواسطة، فبواسطة هذه الأسباب يكون سبب الكشف؛ بل القلب إذا صفا تمثّل له الحقّ(4/179)
فى صورة مشاهدة أو في لفظ منظوم يقرع سمعه يعبّر عنه بصوت الهاتف إذا كان فى اليقظة وبالرؤيا إذا كان في المنام وذلك جزء من النبوّة؛ وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة. وذلك كما روى عن محمد بن «1» مسروق البغدادىّ أنه قال: خرجت يوما في أيام جهلى وأنا نشوان وكنت أغنّى هذا البيت:
بطيزنا «2» باذكرم ما مررت به ... إلا تعجّبت ممن يشرب الماء
فسمعت قائلا يقول:
وفي جهنّم ماء ما تجرّعه ... خلق فأبقى له في الجوف أمعاء
فقال: وكان ذلك سبب توبتى واشتغالى بالعلم.
قال أبو حامد: فانظر كيف أثّر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثّل له حقيقة الحقّ فى صفة جهنم وفي لفظ منظوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر. وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب. ويشاهد أيضا بالبصر صورة الخضر عليه السّلام فإنه يخيّل لأرباب القلوب بصور مختلفة، وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الاطلاع على ضمائر القلوب؛ ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» . قال: فحاصل الوجد يرجع إلى مكاشفات وإلى حالات ينقسم كل واحد منهما إلى ما لا يمكن التعبير عنه عند الإفاقة منه وإلى ما لا تمكن العبارة عنه أصلا. وضرب لذلك أمثلة، منها أن الفقيه قد تعرض عليه مسألتان متشابهتان في الصورة ويدرك بذوقه أن بينهما فرقا في الحكم، فإذا كلّف ذكر وجه الفرق لم يساعده اللسان على التعبير عنه وإن كان من أفصح الناس، فيدرك بذوقه(4/180)
الفرق ولا يمكنه التعبير عنه. وإدراكه الفرق علم يصادفه في قلبه بالذوق. ولا شك أنّ لوقوعه في قلبه سببا، وله عند الله تعالى حقيقة، ولا يمكنه الإخبار عنه لقصور فى لسانه بل لدقة المعنى أن تناله العبارة.
وأمّا الحال فكم من إنسان يدرك في قلبه في الوقت [الذى يصبح فيه «1» ] قبضا أو بسطا ولا يعلم سببه، وقد يتفكر في شىء فيؤثّر في نفسه أثرا فينسى ذلك السبب ويبقى الأثر في نفسه وهو يحسّ به. وقد تكون الحالة التى يحسّها سرورا يثبت فى نفسه بتفكره في سبب موجب للسرور؛ أو حزنا فينسى المتفكر فيه ويحس بالأثر عقيبه. وقد تكون تلك الحال حالة غريبة لا يعرب عنها لفظ السرور والحزن ولا يصادف لها عبارة مطابقة مفصحة عن المقصود؛ بل ذوق الشعر الموزون والفرق بينه وبين غير الموزون يختصّ به بعض الناس دون بعض، وهى حالة يدركها صاحب الذوق بحيث لا يشك فيها (أعنى التفرقة بين الموزون والمنزحف) ولا يمكنه التعبير عنها بما يتّضح به مقصوده لمن لا ذوق له. وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها بل المعانى المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم. فأمّا الأوتار وسائر النغمات التى ليست مفهومة فإنها تؤثّر في النفس تأثيرا عجيبا، ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الأوتار، وقد يعبّر عنها بالشوق، ولكن شوق لا يعرف صاحبه المشتاق إليه، فهذا عجيب. والذى اضطربت نفسه بسماع الأوتار والشاهين وما أشبهه ليس يدرى إلى ماذا يشتاق، ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمرا ليس يدرى ما هو، حتى يقع ذلك للعوامّ ومن لا يغلب على قلبه لا حبّ آدمىّ ولا حبّ الله تعالى. وهذا له سرّ، وهو أنّ كل شوق فله ركنان: أحدهما صفة المشتاق وهو نوع مناسبة مع المشتاق إليه. والثانى معرفة المشتاق إليه ومعرفة صورة(4/181)
الوصول إليه. فإن وجدت الصفة التى بها الشوق ووجد العلم بالمشتاق ووجدت الصفة المشوّقة وحركت قلبك الصفة واشتعلت نارها، أورث ذلك دهشة وحيرة لا محالة. ولو نشأ آدمىّ وحده حيث لم ير صورة النساء ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم وغلبت عليه الشهوة لكان يحسّ من نفسه بنار الشهوة ولا يدرى أنه يشتاق إلى الوقاع لأنه ليس يدرى صورة الوقاع ولا يعرف صورة النساء؛ فكذلك في نفس الآدمىّ مناسبة مع العالم الأعلى واللذّات التى وعد بها في سدرة المنتهى والفراديس العلا، إلا أنه لم يتخيّل من هذه الأمور إلا الصفات والأسماء كالذي يسمع [لفظ «1» ] الوقاع و [اسم «2» ] النساء ولم يشاهد صورة امرأة قط ولا صورة رجل ولا صورة نفسه في المرآة ليعرف بالمقايسة. فالسماع يحرّك منه الشوق؛ والجهل المفرط والاشتغال بالدنيا قد أنساه نفسه وأنساه ربه وأنساه مستقرّه الذى إليه حنينه واشتياقه بالطبع، فيتقاضاه قلبه أمرا ليس يدرى ما هو فيدهش ويضطرب ويتحيّر ويكون كالمختنق «3» الذى لا يعرف طريق الخلاص. فهذا وأمثاله من الأحوال التى لا يدرك تمام حقائقها، ولا يمكن المتّصف بها أن يعبّر عنها. فقد ظهر انقسام الوجد إلى ما يمكن إظهاره وإلى ما لا يمكن إظهاره. قال:
واعلم أيضا أنّ الوجد ينقسم إلى هاجم وإلى متكلّف يسمى التواجد. وهذا التواجد المتكلف، فمنه مذموم وهو الذى يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها؛ ومنه ما هو محمود وهو التوصّل الى الاستدعاء للاحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة؛ فإن للكسب مدخلا في جلب الأحوال الشريفة؛ ولذلك أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن،(4/182)
فإن هذه الأحوال قد تتكلّف مباديها ثم تتحقّق أواخرها. وكيف لا يكون التكلّف سببا في أن يصير المتكلّف بالآخرة طبعا، وكل من يتعلّم القرآن أوّلا يحفظه تكلّفا ويقرؤه تكلّفا مع تمام التأمّل وإحضار الذهن ثم يصير ذلك ديدنا للسان مطّردا حتى يجرى به لسانه في الصلاة وغيرها وهو غافل فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائه الى آخرها ويعلم أنه قرأها في حال غفلته. وذكر أبو حامد أمثلة نحو ذلك ثم قال: وكذلك الأحوال الشريفة لا ينبغى أن يقع اليأس منها عند فقدها، بل ينبغى أن يتكلّف اجتلابها بالسماع وغيره؛ فلقد شوهد في العادات من اشتهى أن يعشق شخصا ولم يكن يعشقه فلم يزل يردّد ذكره على نفسه ويديم النظر إليه ويقرّر على نفسه الأوصاف المحبوبة إليه والأخلاق المحمودة فيه حتى عشقه ورسخ ذلك في قلبه رسوخا خرج عن حدّ اختياره، واشتهى بعد ذلك الخلاص منه فلم يتخلّص، فكذلك حبّ الله تعالى والشوق إلى لقائه والخوف من سخطه وغير ذلك من الأحوال الشريفة إذا فقدها الإنسان فينبغى أن يتكلّف اجتلابها بمجالسة الموصوفين بها، ومشاهدة أحوالهم، وتحسين صفاتهم في النفس، وبالجلوس معهم في السماع، وبالدعاء والتضرّع إلى الله تعالى في أن يرزقه تلك الحالة بأن يسّر له أسبابها؛ ومن أسبابها السماع ومجالسة الصالحين والخائفين والمحبّين والمشتاقين والخاشعين؛ فمن جالس شخصا سرت إليه صفاته من حيث لا يدرى. ويدلّ على إمكان تحصيل الحبّ وغيره من الأحوال بالأسباب قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دعائه: «اللهمّ ارزقنى حبّك وحبّ من أحبّك وحبّ من يقرّبنى إلى حبّك» . فقد فزع «1» إلى الدعاء في طلب الحبّ.
قال: فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات وإلى أحوال، وانقسامه الى ما يمكن الإيضاح عنه وإلى ما لا يمكن، وانقسامه إلى المتكلّف وإلى المطبوع.(4/183)
المقام الثالث- فى آداب السماع ظاهرا وباطنا، وما يحمد من آثار الوجد ويذمّ.
قال الإمام أبو حامد رحمه الله تعالى: فأما الآداب فهى خمس جمل:
الأوّل- مراعاة الزمان والمكان والإخوان.
قال الجنيد: السماع يحتاج الى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع: الزمان والمكان والإخوان. قال الغزالىّ: ومعناه أن الاشتغال به في وقت حضور طعام أو خصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه، فهذا معنى مراعاة الزمان، فيراعى فراغ القلب. والمكان قد يكون شارعا مطروقا أو موضعا كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيتجنّب ذلك.
وأما الإخوان فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهّد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستثقلا في المجلس واشتغل القلب به، وكذا إذا حضر متكبّر من أهل الدنيا فيحتاج إلى مراقبته ومراعاته، أو متكلّف متواجد من أهل التصوّف يرائى بالوجد والرقص وتمزيق الثوب، فكل ذلك مشوّشات، فترك السماع عند فقد هذه الشروط أولى.
الثانى- وهو نظر للحاضرين،
أن الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرّهم السماع فلا ينبغى أن يسمع في حضورهم؛ فإن سمع فليشغلهم بشغل آخر. والمريد الذى لا يستفيد بالسماع أحد ثلاثة: أقلّهم درجة هو الذى لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة ولم يكن له ذوق السماع؛ فاشتغاله بالسماع اشتغال بما لا يعنيه؛ فإنه ليس من أهل اللهو فيلهو، ولا من أهل الذوق فيتنعّم بذوق السماع؛ فليشتغل بذكر أو خدمة وإلا فهو مضيّع لزمانه. الثانى: هو الذى له ذوق ولكن فيه بقية من الحظوظ والالتفات إلى الشهوات والصفات البشريّة ولم ينكسر بعد انكسارا تؤمن غوائله، فربما يهيّج السماع منه داعية اللهو والشهوة فينقطع طريقه ويصدّه عن الاستكمال.(4/184)
الثالث: أن يكون قد انكسرت شهوته وأمنت غائلته وانفتحت بصيرته واستولى على قلبه حبّ الله تعالى، ولكنه لم يحكم ظاهر العلم ولم يعرف أسماء الله وصفاته وما يجوز عليه وما يستحيل، وإذا فتح له باب السماع نزل المسموع في حقّ الله تعالى على ما يجوز وما لا يجوز، فيكون ضرره من تلك الخواطر التى هى كفر أعظم عليه من نفع السماع. قال سهل: كلّ وجد لا يشهد له الكتاب والسنّة فهو باطل.
فلا يصلح السماع لمثل هذا ولا لمن قلبه بعد ملوّث بحبّ الدنيا وشهوة المحمدة والثناء، ولا من يسمع لأجل التلذّذ والاستطابة بالطبع، فيصير ذلك عادة له ويشغله عن عبادته ومراعاة قلبه وتنقطع عليه طريقة الأدب؛ فالسماع مزلّة قدم يجب حفظ الضعفاء عنه.
الأدب الثالث- أن يكون مصغيا إلى ما يقوله القائل،
حاضر القلب، قليل الالتفات إلى الجوانب، متحرّزا عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد، مشتغلا بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله له من رحمته في سرّه، متحفّظا عن حركة تشوّش على أصحابه قلوبهم؛ بل يكون ساكن الظاهر، هادىء الأطراف متحرّزا عن التنحنح والتثاؤب، يجلس مطرقا رأسه كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه، متماسكا عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنّع والتكلّف والمراءاة، ساكتا عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بدّ. فإن غلبه الوجد وحرّكه بغير اختيار فهو فيه معذور وغير ملوم؛ ومهما رجع إليه اختياره فليعد إلى هدوّه وسكونه. ولا ينبغى أن يستديمه حياء من أن يقال: انقطع وجده على القرب، ولا أن يتواجد خوفا من أن يقال: هو قاسى القلب عديم الصفاء والرقّة. قال: وقوّة الوجد تحرّك، وقوّة العقل والتماسك تضبط الظواهر. وقد يغلب أحدهما الآخر إما لشدّة قوّته، وإما لضعف ما يقابله، ويكون النقصان والكمال بحسب ذلك. فلا(4/185)
تظنن أن الذى يضطرب بنفسه على الأرض أتمّ وجدا من الساكن باضطرابه، بل ربّ ساكن أتمّ وجدا من المضطرب؛ فقد كان الجنيد يتحرّك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرّك فقيل له في ذلك فقال: (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)
إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل فى الملكوت، والجوارح متأدّبة في الظاهر ساكنة.
الأدب الرابع- ألّا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه؛
ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة؛ لأن التباكى استجلاب للحزن، والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط، وكل سرور مباح فيجوز تحريكه؛ ولو كان ذلك حراما لما نظرت عائشة رضى الله عنها إلى الحبشة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يزفنون «1» . وقد روى عن جماعة من الصحابة أنهم حجلوا لمّا ورد عليهم سرور أوجب ذلك [وذلك «2» ] فى قصة ابنة حمزة بن عبد المطلب لما اختصم فيها علىّ بن أبى طالب وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضى الله عنهم، فتشاحّوا في تربيتها؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلّى: «أنت منّى وأنا منك» فحجل علىّ. وقال لجعفر: «أشبهت خلقى وخلقى» فحجل. وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» فحجل. الحديث. قال: والحجل «3» : الرقص، ويكون لفرح أو شوق، فحكمه حكم مهيّجه إن كان فرحه محمودا؛ والرقص يزيده ويؤكده فهو محمود، فإن كان مباحا فهو مباح، وإن كان مذموما فهو مذموم. نعم لا يليق ذلك بمناصب الأكابر وأهل القدوة لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب، وما له صورة اللعب في أعين الناس(4/186)
فينبغى أن يجتنبه المقتدى به لئلا يصغر في أعين الخلق فيترك الاقتداء به. وأما تخريق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الاختيار. ولا يبعد أن يغلب الوجد بحيث يمزّق ثوبه وهو لا يدرى لغلبة سكر الوجد عليه أو يدرى ولكن يكون كالمضطر الذى لا يقدر على ضبط نفسه، وتكون صورته صورة المكره، إذ يكون له في الحركة أو التمزيق متنفّس فيضطرّ إليه اضطرار المريض الى الأنين؛ ولو كلّف الصبر عنه لم يقدر عليه مع أنه فعل اختيارىّ؛ فليس كلّ فعل حصوله بالإرادة يقدر الإنسان على تركه؛ فالتنفّس فعل يحصل بالإرادة، ولو كلّف الإنسان نفسه أن يمسك النفس ساعة اضطر من باطنه إلى أن يختار التنفّس، فكذلك الزعقة وتخريق الثياب قد يكون كذلك فهذا لا يوصف بالتحريم.
الأدب الخامس- موافقة القوم في القيام
إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلّف، أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقام له الجماعة فلا بدّ من الموافقة، فذلك من آداب الصحبة. وكذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته أو خلع الثياب إذا سقط عنه ثوبه بالتخريق «1» . فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة، إذ المخالفة موحشة. ولكلّ قوم رسم؛ ولا بدّ من مخالفة الناس بأخلاقهم كما ورد في الخبر لا سيما إذا كانت أخلاقا فيها حسن المعاشرة والمجاملة وتطييب القلب بالمساعدة. وقول القائل: إنّ ذلك بدعة لم تكن في الصحابة، فليس كلّ ما يحكم بإباحته منقولا عن الصحابة ولم ينقل النهى عن شىء من هذا. والقيام عند الدخول للداخل لم يكن من عادة العرب، بل كان الصحابة لا يقومون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض الأحوال كما رواه أنس رضى الله عنه، وإن كان لم يثبت فيه نهى عامّ، فلا نرى(4/187)
به بأسا في البلاد التى جرت العادة فيها بإكرام الداخل بالقيام؛ فإنّ القصد منه الاحترام والإكرام وتطييب القلب به؛ كذلك سائر أنواع المساعدة إذا قصد بها طيبة القلب واصطلح عليها جماعة فلا بأس بمساعدتهم عليها؛ بل الأحسن المساعدة إلا فيما ورد فيه نهى لا يقبل التأويل. ومن الأدب ألّا يقوم للرقص «1» مع القوم إن كان يستثقل رقصه ويشوّش عليهم أحوالهم؛ إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح، والمتواجد هو الذى يلوح للجمع منه أثر التكلّف؛ ومن يقوم عن صدق لا تستثقله الطباع؛ فقلوب الحاضرين إذا كانوا من أرباب القلوب محكّ للصدق والتكلّف. سئل بعضهم عن الوجد الصحيح فقال: صحته قبول قلوب الحاضرين له إذا كانوا أشكالا غير أضداد. هذا ملخّص ما أورده الغزالىّ رحمه الله تعالى فى معنى السماع وقسمه الى هذه الأقسام التى ذكرناها.
وأما أبو محمد علىّ بن أحمد بن سعيد بن حزم
فقد ذكرنا مسألة السماع وبيّن إباحته، فبدأ بذكر الأحاديث التى احتجّوا بها وضعّف رواتها نحو ما تقدّم وذكر الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)
وأنه قيل: إنه الغناء، فليس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا ثبت عن أحد من أصحابه رضى الله عنهم، فإنما هو قول بعض المفسّرين ممن لا يقوم بقوله حجّة؛ وما كان هكذا فلا يجوز القول به. ثم لو صحّ لما كان فيه متعلّق؛ لأنّ الله تبارك وتعالى يقول: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) *
وكلّ شىء اقتنى ليضل به عن سبيل الله فهو إثم وحرام ولو أنه شراء مصحف أو تعليم قرآن. فإذا لم يصحّ في هذا شىء فقد قال الله عز وجلّ: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)
. وقال تعالى:(4/188)
(خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعظم الناس جرما فى الإسلام من سأل عن شىء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته» ، فصحّ أن كل شىء حرّمه الله عزّوجلّ علينا فقد فصّله لنا، وكل ما لم يفصّل تحريمه لنا فهو حلال.
واستدلّ رحمه الله على إباحته بالأحاديث التى ذكرناها، حديث عائشة عن خبر أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما في غناء الجاريتين، واستدلّ أيضا بحديث نافع أن ابن عمر سمع مزمارا فوضع إصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال: يا نافع، هل تسمع شيئا؟ قلت لا، فرفع إصبعيه عن أذنيه وقال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسمع مثل هذا وصنع مثل هذا. قال: فلو كان حراما ما أباح عليه الصلاة والسلام لابن عمر سماعه ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه؛ ولكنّه عليه الصلاة والسلام كره لنفسه كلّ شىء ليس من التقرّب إلى الله عز وجلّ، كما كره الأكل متّكئا، والتنشّف بعد الغسل في ثوب يعدّ لذلك، والستر الموشّى على سهوة عائشة وعلى باب فاطمة رضى الله عنهما، وكما كره صلّى الله عليه وسلم أشدّ الكراهة أن يبيت عنده دينار أو درهم. وإنما بعث عليه الصلاة والسلام منكرا للمنكر، آمرا بالمعروف.
فلو كان ذلك حراما لما اقتصر النبىّ صلّى الله عليه وسلم أن يسدّ أذنيه عنه دون أن يأمر بتركه وينهى عنه، ولم يفعل عليه الصلاة والسلام شيئا من ذلك بل أقرّه وتنزّه عنه، فصحّ أنه مباح وأن الترك له أفضل كسائر فضول الدنيا المباحة.
قال: فإن قال قائل: قال الله تبارك وتعالى: (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)
ففى أىّ ذلك يقع الغناء؟ قيل له: حيث يقع التروّح في البساتين وصباغ ألوان الثياب؛ ولكلّ امرىء ما نوى فإذا نوى المرء ترويح نفسه وإجمامها لتقوى على طاعة الله فما أتى ضلالا. قال: ولا يحلّ تحريم شىء ولا إباحته إلا بنص من الله عز وجلّ أو من رسوله صلّى الله عليه وسلم، لأنه إخبار عن الله عز وجلّ، ولا يجوز(4/189)
عنه تعالى إلا بالنّص الذى لا شكّ فيه. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من كذب علىّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار» . وقد تكلّم على إباحة السماع جماعة من العلماء. وفيما أوردناه من هذا الفصل كفاية. فلنذكر من سمع الغناء من الصحابة رضى الله عنهم.
ذكر من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم
قد روى أن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم سمعوا الغناء.
منهم النعمان بن بشير الأنصارىّ الخزرجىّ رضى الله عنه. روى أبو الفرج الأصفهانىّ في كتابه المترجم: «بالأغانى» بسند رفعه إلى أبى السائب المخزومىّ وغيره، قال: دخل النعمان بن بشير المدينة في أيام يزيد بن معاوية وابن الزّبير فقال: والله لقد أخفقت أذناى «1» [من] الغناء فأسمعونى. فقيل له: لو وجّهت إلى عزّة الميلاء. فإنها من قد عرفت؛ فقال: إى وربّ هذه البنيّة «2» ! إنها لممن «3» يزيد النفس طيبا والعقل شحذا، ابعثوا إليها عن رسالتى، فإن أبت صرت إليها. فقال له بعض القوم: إنّ النّقلة تشتدّ عليها لثقل بدنها، وما بالمدينة دابّة تحملها. فقال النعمان: وأين النجائب عليها الهوادج؟
فوجّه إليها بنجيبة فذكرت علّة؛ فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه: أنت كنت أخبر بها، قوموا بنا «4» . فقام هو مع خواصّ أصحابه حتى طرقوها، فأذنت وأكرمت واعتذرت، فقبل النعمان عذرها وقال لها: غنّى، فغنّت:(4/190)
أجدّ بعمرة غنيانها «1» ... فتهجر أم شأنها «2» شانها؟
وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها «3»
قال: وهذا الشعر هو لقيس بن الخطيم في أمّ النعمان بن بشير، وهى عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة؛ قال: فأشير الى عزّة أنها أمه فأمسكت؛ فقال:
غنّنى فو الله ما ذكر إلا كرما وطيبا ولا تغنّى سائر اليوم غيره؛ فلم تزل تغنّيه هذا اللحن حتى انصرف.
ومنهم حسان بن ثابت الأنصارىّ رضى الله عنه. روى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده الى محرز بن جعفر قال: ختن زيد بن ثابت بنيه وأو لم واجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامّة أهل المدينة، وحضر حسان بن ثابت وقد كفّ بصره يومئذ وثقل سمعه فوضع بين يديه خوان ليس عليه غيره إلا عبد الرحمن ابنه، وكان يسأله كلما وضعت صحفة أطعام «4» يد أم يدين؟ فلم يزل يأكل حتى جىء بشواء، فقال: أطعام يد أم يدين؟ فقال: بل طعام يدين، فأمسك يده؛ حتى إذا فرغ من الطعام ثنيت وسادة وأقبلت عزّة الميلاء وهى إذا شابّة، فوضع في حجرها مزهر فضربت به وتغنّت، فكان أوّل ما ابتدأت به شعر حسان:
فلا زال قصر بين بصرى وجلق «5» ... عليه من الوسمىّ جود ووابل
فطرب حسان وجعلت عيناه تنضحان على خدّيه وهو مصغ لها.(4/191)
وروى أيضا بسنده إلى خارجة بن زيد أنه قال: دعينا الى مأدبة في آل نبيط، فحضرنا وحضر حسان بن ثابت، فجلسنا جميعا على مائدة واحدة وهو يومئذ قد ذهب بصره ومعه ابنه عبد الرحمن، وكان إذا أتى بطعام سأل ابنه عبد الرحمن أطعام يد أم طعام يدين؟ (يعنى بطعام اليد الثريد؛ وطعام اليدين الشواء لأنه ينهش نهشا) فإذا قال: طعام يد أكل، واذا قال: طعام يدين أمسك يده. فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين مغنّيتين إحداهما «رائقة» والأخرى «عزّة» فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضربا عجيبا وغنّتا بقول حسان بن ثابت:
انظر خليلى بباب جلّق هل ... تؤنس دون البلقاء من أحد
قال: فأسمع حسان يقول: قد أرانى هناك «1» سميعا بصيرا، وعيناه تدمعان، فإذا سكتتا سكن عنه البكاء واذا غنّتا يبكى. قال: وكنت أرى عبد الرحمن ابنه إذا سكتتا يشير إليهما أن غنّيا، فيبكى أبوه، فيقال: ما حاجته إلى بكاء أبيه!.
وروى أيضا بسنده الى عبّاد بن عبد الله بن الزّبير عن شيخ من قريش قال:
إنى وفتية من قريش عند قينة ومعنا عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت إذ استأذن حسان، فكرهنا دخوله وشقّ علينا؛ فقال لنا عبد الرحمن ابنه: أيسرّكم ألّا يجلس؟
قلنا نعم. قال: فمروا هذه إذا نظرت اليه أن تغنّى:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
قال: فغنّته، فو الله لقد بكى حتى ظنّنا أنه سيلفظ نفسه. ثم قال: أفيكم الفاسق؟ لعمرى لقد كرهتم مجلسى اليوم. وقام فانصرف. وهذا الشعر لحسان بن(4/192)
ثابت وهو مما امتدح به جبلة بن الأيهم، وهو من قصيدة طويلة منها قوله في مدح آل جفنة:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل
وروى أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ رحمه الله تعالى بسند رفعه إلى الحارث بن عبد الله بن العباس: أنه بينما هو يسير مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه بطريق مكة في خلافته ومعه من معه من المهاجرين والأنصار، ترنّم عمر ببيت فقال له رجل من أهل العراق- ليس معه عراقىّ غيره-: غيرك فليقلها يا أمير المؤمنين! قال: فاستحيا عمر وضرب راحلته حتى انقطعت من الرّكب. قال المقدسى: ويزيد ذلك وضوحا- وساق حديثا بسند رفعه الى يحيى بن عبد الرحمن- قال:
خرجنا مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه في الحجّ الأكبر، حتى اذا كان عمر بالرّوحاء «1» كلّم الناس رباح بن المعترف «2» ، وكان حسن الصوت بغناء الأعراب، فقالوا:
أسمعنا وقصّر عنّا الطريق؛ فقال: إنّى أفرق من عمر. قال: فكلّم القوم عمر.
إنا كلّمنا رباحا أن يسمعنا ويقصّر عنا طريق المسير فأبى إلّا أن تأذن له. فقال له:
يا رباح، أسمعهم وقصّر عنهم المسير، فإذا أسحرت فارفع واحدهم بشعر ضرار بن الخطّاب؛ فرفع عقيرته يتغنّى وهم محرمون.
وروى أيضا بسنده الى يزيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر رضى الله عنه مرّ برجل يتغنّى فقال: إن الغناء زاد المسافر.
وروى سفيان الثّورى وشعبة كلاهما عن أبى إسحاق السّبيعىّ عن عامر بن سعد البجلىّ: أن أبا مسعود البدرىّ، وقرظة بن كعب، وثابت بن يزيد، وهم في عرس(4/193)
وعندهم غناء، فقلت: هذا وأنتم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم! فقالوا: إنه رخّص لنا في الغناء في العرس والبكاء على الميّت في غير نوح. إلا أن شعبة قال:
ثابت بن وديعة مكان ثابت بن يزيد، ولم يذكر أبا مسعود.
وقال الإمام أبو حامد الغزالىّ رحمه الله تعالى عن أبى طالب المكّى: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية وغيرهم، وقال: قد فعل ذلك كثير من السّلف صحابىّ وتابعىّ بإحسان.
وروى الحافظ أبو الفضل المقدسىّ بسند رفعه إلى عمر بن أبى زائدة قال:
حدّثتنى امرأة عمر «1» بن الأصمّ قالت: مررنا ونحن جوار بمجلس سعيد بن جبير ومعنا جارية تغنّى ومعها دفّ وهى تقول:
لئن فتنتنى فهى بالأمس أفتنت ... سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم
وألقى مفاتيح القراءة واشترى ... وصال الغوانى بالكتاب المنمنم
فقال سعيد: تكذبين تكذبين.
ذكر من سمع الغناء من الأئمة والعبّاد والزّهاد
قالوا: وقد سمع الغناء من الأئمة الإمام الشافعى، وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى، وغيرهما من أصحابهما. روى الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن علىّ المقدسىّ رحمه الله تعالى بسند رفعه إلى المريسىّ، قال: مررنا مع الشافعى وإبراهيم ابن إسماعيل على دار قوم وجارية تغنّيهم:
خليلىّ ما بال المطايا كأنها ... نراها على الأعقاب بالقوم تنكص «2»(4/194)
فقال الشافعىّ: ميلوا بنا نسمع. فلما فرغت قال الشافعىّ لإبراهيم: أيطريك هذا؟ قال لا. قال: فما لك حسّ! وروى أيضا بسند رفعه إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال: كنت أحبّ السماع وكان أبى يكره ذلك، فواعدت ليلة ابن الخبّازة، فمكث عندى إلى أن علمت أنّ أبى قد نام، فأخذ يغنّى، فسمعت خشفة فوق السطح، فصعدت، فرأيت أبى فوق السطح يسمع ما يغنّى وذيله تحت إبطه وهو يتبختر كأنه يرقص. قال: وقد رويت هذه الحكاية أيضا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل- وساق سندا إليه- قال: كنت أدعو ابن الخبّازة وكان أبى ينهانا عن الغناء، وكنت إذا كان عندى كتمته من أبى لئلا يسمع. فكان ذات ليلة عندى وهو يقول، فعرضت لأبى عندنا حاجة- وكانوا فى زقاق- فجاء وسمعه يقول، فوقع في سمعه شىء من قوله، فخرجت لأنظر فإذا بأبى يترّجح «1» ذاهبا وجائيا، فرددت الباب ودخلت. فلما كان من الغد قال أبى: يا بنىّ، إذا كان مثل هذا فنعم الكلام، أو معناه. قال أبو الفضل: وابن الخبّازة هذا هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن زكريا الشاعر، وكان عاصر أحمد ورثاه حين مات.
وروى أبو الفضل أيضا بسند رفعه الى [أبى] مصعب «2» الزّهرىّ أنه قال: حضرت مجلس مالك بن أنس فسأله أبو مصعب عن السماع، فقال مالك: ما أدرى، أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ولا يقعدون عنه ولا ينكره إلا غبىّ جاهل أو ناسك عراقى غليظ الطبع. وقال أيضا: أخبرنا أبو محمد التميمىّ ببغداد قال: سألت الشريف أبا علىّ محمد بن أحمد بن أبى موسى الهاشمىّ عن السماع فقال: ما أدرى ما أقول فيه، غير أنى حضرت دار شيخنا أبى الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمى سنة سبعين وثلاثمائة(4/195)
فى دعوة عملها لأصحابه؛ حضرها أبو بكر الأبهرىّ شيخ المالكية، وأبو القاسم الدّاركى شيخ الشافعية، وأبو الحسن طاهر بن الحسن شيخ أصحاب الحديث، وأبو الحسن ابن سمعون شيخ الوعّاظ والزهّاد، وأبو عبد الله محمد بن مجاهد شيخ المتكلّمين، وصاحبه أبو بكر الباقلانى في دار شيخنا أبى الحسن التميمىّ شيخ الحنابلة؛ فقال أبو علىّ: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتى في حادثة يشبه واحدا منهم، ومعهم أبو عبد الله غلام تامّ، وكان هذا يقرأ القرآن بصوت حسن، وربما قال شيئا. فقيل له: قل لنا شيئا؛ فقال لهم وهم يسمعون:
خطّت أناملها في بطن قرطاس ... رسالة بعبير لا بأنقاس «1»
أن زر فديتك لى من غير محتشم «2» ... فإنّ حبّك لى قد شاع في الناس
فكان قولى لمن أدّى رسالتها ... قف لى لأمشى على العينين والراس
قال أبو على: فبعد أن رأيت هذا لا يمكننى أن أفتى في هذه المسألة بحظر ولا إباحة.
وممن أحبّ السماع والغناء وسمعه من الزهاد والعباد والعلماء أبو السائب المخزومىّ. روى أبو الفرج الأصبهانىّ بسنده الى صفيّة بنت الزّبير بن هشام قالت: كان أبو السائب المخزومى رجلا صالحا زاهدا متقلّلا يصوم الدهر، وكان أرقّ خلق الله قلبا وأشدّهم غزلا. فوجّه غلامه «3» يوما يأتيه بما يفطر عليه، فأبطأ الغلام الى العتمة. فلما جاء قال له: يا عدوّ نفسه، ما أخّرك إلى هذا الوقت؟
قال: اجتزت بباب فلان فسمعت منه غناء فوقفت حتى أخذته. فقال: هاته يا بنىّ، فو الله لئن كنت أحسنت لأحبونّك، وإن كنت أسأت لأضربنّك، فاندفع يغنّى بشعر كثير:(4/196)
ولمّا علوا شغبا «1» تبيّنت أنه ... تقطّع من أهل الحجاز علائقى
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها ... الى بلد ناء قليل الأصادق
فلم يزل يغنيّه ويستعيده الى نصف الليل. فقالت له زوجته: يا هذا، قد انتصف الليل وما أفطرت. فقال لها: أنت الطلاق إن أفطرنا على غيره. فلم يزل يغنّيه ويستعيده حتى أسحر. فقالت له: هذا السّحر وما أفطرنا. فقال لها: أنت الطلاق إن كان سحورنا غيره. ثم قال لابنه: يا بنىّ، خذ جبّتى هذه وأعطنى خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما. فقال له: يا أبت، أنت شيخ وأنا شابّ وأنا أقوى على البرد منك، فقال له: يا بنىّ، ما ترك هذا الصوت للبرد علىّ سبيلا ما حييت.
ويؤيد هذه الحكاية ما حكاه أبو طالب المكّى في كتابه، قال: كان بعض السامعين يقتات بالسماع ليقوى به على زيادة طيّه، كان يطوى اليوم واليومين والثلاثة، فإذا تاقت نفسه الى القوت عدل بها الى السماع، فأثار تواجده، فاستغنى بذلك عن الطعام.
وروى أبو الفرج بسنده إلى عبد الله بن أبى مليكة عن أبيه عن جدّه قال:
كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والعفّة، وكان يغشى عبد الله بن جعفر، فسمع جارية مغنّية لبعض النّخاسين تغنّى:
بانت ساعدو أمسى حبلها انقطعا ... واحتلّت الغور فالجدّين فالفرعا
وأنكرتنى وما كان الذى نكرت ... من الحوادث إلا الشّيب والصّلعا
فهام الناسك وترك ما كان عليه، حتى مشى إليه عطاء وطاوس ولا ماه؛ فكان جوابه لهما أن تمثّل:
يلومنى فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالى أطار اللّوم أم وقعا(4/197)
فبلغ عبد الله بن جعفر خبره، فبعث إلى النخاس، فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت وقال: ممن أخذتيه؟ قالت: من عزّة الميلاء؛ فابتاعها بأربعين ألف درهم. ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبرها فأعلمه إياه؛ فقال:
أتحبّ أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية؟ قال نعم. فدعا عزّة الميلاء فقال: غنيّه إياه. فغنّته، فصعق الرجل [وخرّ «1» ] مغشيّا عليه. فقال ابن جعفر:
أثمنا فيه، الماء الماء! فنضح على وجهه. فلما أفاق قال له: أكلّ هذا بلغ بك عشقها؟ قال: وما خفى عليك أكثر. قال: أفتحبّ أن تسمعه منها؟ قال:
قد رأيت ما نالنى حين سمعته من غيرها وأنا لا أحبّها، فكيف يكون حالى إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها! فأخرجها إليه وقال: خذها فهى لك؛ وو الله ما نظرت إليها إلا عن عرض. فقبّل الرجل يديه ورجليه وقال: أنمت عينى، وأحييت نفسى، وتركتنى أعيش بين قومى، ورددت إلىّ عقلى، ودعا له دعاء كثيرا.
فقال عبد الله: ما أرضى أن أعطيكها هكذا، يا غلام، احمل معه مثل ثمنها، ففعل.
قال الغزالىّ رحمه الله في «إحياء علوم الدين» : كان ابن مجاهد لا يجيب دعوة إلا أن يكون فيها سماع. قال: وكان أبو الخير العسقلانىّ الأسود من الأولياء يسمع ويوله عند السماع، وصنّف فيه كتابا وردّ فيه على منكريه. وحكى عن بعض الشيوخ أنه قال: رأيت أبا العباس الخضر عليه السّلام، فقلت: ما تقول في هذا السماع الذى اختلف فيه أصحابنا؟ قال: هو الصّفا «2» الزّلّال الذى لا تثبت عليه إلا أقدام العلماء.(4/198)
وروى الأصفهانىّ بسند رفعه إلى ابن كناسة قال: اصطحب شيخ مع شابّ فى سفينة في الفرات ومعهم مغنّية. فلما صاروا في بعض الطريق قالوا للشيخ:
معنا جارية وهى تغنّى، فأحببنا أن نسمع غناءها فهبناك، فإن أذنت فعلنا. فقال:
أنا أصعد على أطلال «1» السفينة، فاصنعوا أنتم ما شئتم؛ فصعد وأخذت المغنّية عودها وغنّت:
حتى إذا الصبح بدا ضوءه ... وغابت الجوزاء والمرزم
أقبلت والوطء خفىّ كما ... ينساب «2» من مكمنه الأرقم
فطرب الشيخ وصاح، ثم رمى بنفسه وبثيابه في الفرات وجعل يغوص ويطفو ويقول: أنا الأرقم أنا الأرقم! فألقوا أنفسهم خلفه، فبعد لأى ما استخرجوه، وقالوا: يا شيخ، ما حملك على ما فعلت؟ فقال: إليكم عنّى، فإنى أعرف من معانى الشعر ما لا تعرفون. فقالوا له: ما أصابك؟ قال: دبّ من قدمى شىء إلى رأسى كدبيب النّمل ونزل من رأسى مثله، فلما اجتمعا على قلبى عملت ما عملت.
وقال أحمد بن أبى داود: كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله؛ فخرج المعتصم يوما إلى الشّمّاسيّة في حرّاقة، ووجّه في طلبى فصرت إليه. فلما قربت منه سمعت غناء حيّرنى وشغلنى عن كلّ شىء، فسقط سوطى عن يدى، فالتفتّ إلى غلامى أطلب منه سوطا؛ فقال لى: قد والله سقط منّى سوطى. فقلت له: أىّ شىء كان سبب سقوطه؟ قال: صوت سمعته فحيّرنى، فما علمت كيف سقط، فإذا قصّته قصّتى. قال: وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء وما يستفزّ الناس منه(4/199)
فيغلب على عقولهم، وأناظر المعتصم عليه. فلما دخلت عليه يومئذ أعلمته بالخبر، فضحك وقال: هذا عمّى كان يغنّينى:
إنّ هذا الطويل من آل حفص ... أنشر المجد بعد ما كان ماتا
فإن تبت مما كنت تناظر عليه من ذمّ الغناء سألته أن يعيده، ففعلت وفعل، فبلغ بى الطرب أكثر مما يبلغه من غيرى، ورجعت عن رأيى منذ ذلك اليوم.
وعمّه الذى أشار إليه هو إبراهيم بن المهدىّ.
ذكر من غنّى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه
[أما من غنّى من الخلفاء]
كان من غنّى من الخلفاء- على ما أورده أبو الفرج الأصفهانىّ في كتابه المترجم «بالأغانى» - ونسبت له أصوات جماعة،
منهم عمر بن عبد العزيز
قد نسبت له أصوات، ومنهم من أنكر ذلك. ولعلّ ما نقل عنه كان منه قبل الخلافة. وكان رحمه الله من أحسن الناس صوتا. فكان مما نسب إليه من الغناء:
علق القلب سعادا ... عادت القلب فعادا
كلّما عوتب فيها ... أو نهى عنها تمادى
وهو مشغوف بسعدى ... وعصى فيها وزادا
ومما نسب إليه من الغناء ما قيل إنه غنّاه من شعر جرير:
قفا يا صاحبىّ نزر سعادا ... لو شك فراقها ودعا البعادا «1»(4/200)
لعمرك إنّ نفع سعاد عنّى ... لمصروف ونفعى عن سعادا
إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى «1» ... ومروان الذى رفع العمادا
ومن ذلك ما قيل إنه غنّاه من شعر الأشهب بن رميلة «2» :
ألا يا دين قلبك من سليمى ... كما قد دين قلبك من سعادا
هما سبتا الفؤاد وهاضتاه «3» ... ولم يدرك بذلك ما أرادا
قفا نعرف منازل من سليمى ... دوارس بين حومل أو عرادا
ذكرت لها الشباب وآل ليلى ... فلم يزد الشباب بها مزادا
فإن تشب الذوائب أمّ عمرو ... فقد لاقيت أياما شدادا
وممّن غنّى من خلفاء الدولة العباسية، ممن دوّنت له صنعة، الواثق بالله
أبو جعفر هارون بن المعتصم بالله بن الرشيد. حكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ قال: دخلت يوما دار الواثق بالله بغير إذن إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا، فسمعت صوت عود من بيت وترنّما لم أسمع أحسن منه. فأطلع خادم رأسه ثم ردّه وصاح بى، فدخلت وإذا أنا بالواثق بالله. فقال:
أىّ شىء سمعت؟ فقلت: الطلاق كامل لازم له وكلّ مملوك له حرّ، لقد سمعت ما لم أسمع مثله قطّ حسنا! فضحك وقال: وما هو؟ إنما هذه فضلة أدب وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم والتابعون بعدهم وكثر فى حرم الله عز وجلّ ومهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أتحبّ أن تسمعه؟
قلت: إى والله الذى شرّفنى بخطابك وجميل رأيك. فقال: يا غلام، هات العود وأعط(4/201)
إسحاق رطلا؛ فدفع الرطل إلىّ وضرب وغنّى في شعر لأبى العتاهية بلحن صنعه فيه:
أضحت قبورهم من بعد عزّتهم ... تسفى عليها الصّبا والحرجف الشّمل
لا يدفعون هواما عن وجوههم ... كأنهم خشب بالقاع منجدل
فشربت الرطل ثم قمت. فدعوت له، فاحتبسنى وقال: أتشتهى أن تسمعه بالله؟ فقلت: إى والله، فغنّانيه ثانية وثالثة، وصاح ببعض خدمه وقال: احمل إلى إسحاق الساعة ثلاثمائة ألف درهم. قال: يا إسحاق، قد سمعت ثلاثة أصوات وشربت ثلاثة أرطال وأخذت ثلاثمائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك مسرورا ليسّروا معك، فانصرفت بالمال. وقال أبو الفرج بسنده إلى عريب المأمونيّة قالت: صنع الواثق بالله مائة صوت ما فيها صوت ساقط. ولقد صنع فيّ هذا الشعر:
هل تعلمين وراء الحبّ منزلة ... تدنى إليك فإن الحبّ أقصانى
هذا كتاب فتى طالت بليّته ... يقول يا مشتكى بثّى وأحزانى
قال: وكان الواثق بالله إذا أراد أن يعرض صنعته على إسحاق نسبها إلى غيره فقال: وقع إلينا صوت قديم من بعض العجائز فاسمعه، وأمر من يغنّيه إياه. وكان إسحاق يأخذ نفسه بقول الحقّ في ذلك أشدّ أخذ، فإن كان جيّدا رضيه واستحسنه وإن كان فاسدا أو مطّرحا أو متوسّطا ذكر ما فيه. فإن كان للواثق فيه هوى سأله تقويمه وإصلاح فاسده وإلّا اطّرحه. وقال إسحاق بن إبراهيم: كان الواثق أعلم الناس بالغناء، وبلغت صنعته مائة صوت، وكان أحذق من غنّى بضرب العود، ثم ذكر أغانيه. وذكر أبو الفرج الأصفهانىّ منها أصواتا؛ منها:
ولم أر ليلى غير موقف ليلة ... بخيف منّى ترمى جمار المحصّب
ويبدى الحصى منها إذا خذفت به ... من البرد أطراف البنان المخضّب(4/202)
ألا إنما غادرت يا أمّ مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
وأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعجاز نجم مغرّب
وذكر أصواتا كثيرة غير هذا تركنا ذكرها اختصارا.
قال: ولما خرج المعتصم إلى عمّوريّة استخلف الواثق. فوجّه الواثق إلى الجلساء والمغنّين أن يبكّروا إليه يوما حدّه لهم، ووجّه إلى إسحاق، فحضر الجميع.
فقال لهم الواثق: إنى عزمت على الصّبوح، ولست أجلس على سرير حتى أختلط بكم ونكون كالشىء الواحد، فاجلسوا معى حلقة، وليكن إلى جانب كلّ جليس مغنّ، فجلسوا كذلك. فقال الواثق: أنا أبدأ، فأخذ العود فغنّى وشربوا وغنّى من بعده، حتى انتهى إلى إسحاق وأعطى العود فلم يأخذه؛ فقال: دعوه. ثم غنوا دورا آخر؛ فلما بلغ الغناء إلى إسحاق لم يغنّ وفعل ذلك ثلاث مرّات. فوثب الواثق فجلس على سريره وأمر بالناس فأدخلوا؛ فما قال لأحد منهم: اجلس. ثم قال: علىّ بإسحاق. فلما رآه قال: يا خوزى «1» يا كلب، أتبذّل لك وأغنّى فتترفّع علىّ! أترانى لو قتلتك كان المعتصم يقيدنى بك! ابطحوه، فبطح وضرب ثلاثين مقرعة ضربا خفيفا وحلف لا يغنّى سائر يومه سواه؛ فاعتذر وتكلّمت الجماعة فيه؛ فأخذ العود، وما زال يغنّى حتى انقضى مجلسه. وللواثق بالله في الغناء أخبار وحكايات يطول بذكرها الشرح.
ومنهم المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله أبو الفضل جعفر.
قال يزيد المهلّبىّ: كان المنتصر حسن العلم بالغناء، وكان إذا قال الشعر صنع فيه(4/203)
وأمر المغنّين بإظهاره. فلما ولى الخلافة قطع ذلك وأمر بستر ما تقدّم منه؛ فلذلك لم تظهر أغانيه.
ومنهم المعتزّ بالله أبو عبد الله محمد بن جعفر المتوكل.
ذكر أيضا أنه كان يغنّى أصواتا. فمما غنّى به في شعر عدىّ بن الرّقاع:
لعمرى لقد أصحرت «1» خيلنا ... بأكناف دجلة للمصعب
فمن يك منّا يبت آمنا ... ومن يك من غيرنا يهرب
وهذه الأبيات من قصيدة لعدىّ بن الرّقاع قالها في الوقعة التى كانت بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزّبير وقتل فيها مصعب بن الزبير، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار عبد الله بن الزبير.
ومنهم المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل على الله.
هو ممن له يد في الغناء وصنعة حسنة. ومما نقل من أغانيه أنه غنّى في شعر الفرزدق:
ليس الشفيع الذى يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذى يأتيك عريانا
وقال «2» عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: إن المعتضد جمع النغم العشر في صوت صنعه في شعر دريد بن الصّمّة وهو:
يا ليتنى فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
قال: واستعلمنى هل هو صحيح القسمة والأجزاء أم لا، فعرّفته صحّته ودللته على ذلك حتى تيقّنه فسّر به. قال عبيد الله: وهو لعمرى من جيّد الصنعة ونادرها.
قال: وقد صنع ألحانا في عدّة أشعار قد «3» صنع فيها الفحول من القدماء والمحدثين(4/204)
وعارضهم بصنعته فأحسن وشاكل وضاهى فلم يعجز ولا قصّر، ولا أتى بشىء يعتذر منه. قال: فمن ذلك أنه صنع في قول الشاعر:
أما القطاة فإنى سوف أنعتها ... نعتا يوافق نعتى بعض ما فيها
فجاء في نهاية الجودة وهو أحسن ما صنع في هذا الشعر على كثرة الصنعة فيه واشتراك القدماء والمحدثين في صنعته مثل معبد ونشيط ومالك وابن محرز وسنان وعمر الوادى وابن جامع وإبراهيم وابنه إسحاق وعلّويه.
قال: وصنع في:
تشكّى الكميت الجرى لمّا جهدته ... وبيّن لو يسطيع أن يتكلّما
فما قصّر في صنعته ولا عجز عن بلوغ الغاية فيها مع أصوات له صنعها تناهز مائة صوت ما فيها ساقط ولا مرذول. فهؤلاء الذين لهم صنعة في الغناء من الخلفاء.
وأما أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة بد في هذا الفنّ.
فمنهم إبراهيم بن المهدىّ
وأخته عليّة بنت المهدىّ رحمهما الله تعالى، وإبراهيم يكنى أبا إسحاق أمّه شكلة أمة مولّدة كان أبوها من أصحاب المازيار يقال له: شاه أفرند «1» قتل مع المازيار وسبيت شكلة فحملت إلى المنصور فوهبها لمحيّاة أمّ ولده فربتها وبعثت بها إلى الطائف فنشأت هناك، فلما كبرت ردّت إليها.
فرآها المهدىّ فأعجبته فطلبها من محيّاة فأعطته إياها فولدت له إبراهيم.(4/205)
قال أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم قال:
كان إبراهيم بن المهدىّ أشدّ خلق الله إعظاما للغناء وأحرصهم عليه وأشدّهم منافسة فيه. قال: وكانت صنعته ليّنة فكان إذا صنع شيئا نسبه إلى غيره لئلا يقع عليه طعن أو تقريع فقلّت صنعته في أيدى الناس مع كثرتها. وكان إذا قيل له فيها شىء يقول: إنما أصنع تطرّبا لا تكسّبا وأغنّى لنفسى لا للناس فأعمل ما أشتهى.
قال: وكان حسن صوته يستر عوار ذلك. وكان الناس يقولون: لم ير في جاهليّة ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدىّ وأخته عليّة. وكان إبراهيم يجادل إسحاق ويأخذ عليه في مواطن كثيرة إلّا أنه كان لا يقوم له «1» ويظهر إسحاق خطأه. ووقع بينهما في ذلك بين يدى الرشيد وفي مجلسه كلام كثير أفضى إلى أمور نذكرها إن شاء الله تعالى في أخبار إسحاق بن إبراهيم.
وكان إبراهيم بن المهدىّ في أوّل أمره يتستّر في الغناء بعض التستّر إلا أنه يذكره فى مجلس الرشيد أخيه. فلما كان من أمره في الوثوب على الخلافة ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة العباسيّة عند ذكرنا لخلافة المأمون بن الرشيد، ثم [لما «2» ] أمّته المأمون بعد هربه منه تهتّك بالغناء ومشى مع المغنّين ليلا إذا خرجوا من عند المأمون، وإنما أراد المأمون بذلك ليظهر للناس أنه قد خلع ربقة الخلافة من عنقه وأنه تهتّك فلا يصلح للخلافة. وكان من أعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات وأطبعهم فى الغناء وأحسنهم صوتا. وكان مع علمه وطبعه ومعرفته يقصّر عن الغناء القديم وعن أن ينحوه في صنعته. فكان يحذف نغم الأغانى الكثيرة العمل حذفا شديدا(4/206)
ويحقّقها على قدر ما يصلح له ويفى بأدائه فاذا عيب ذلك عليه قال: أنا ملك وابن ملك وإنما أغنّى على ما أشتهى وكما ألتذّ. فهو أوّل من أفسد الغناء القديم.
وروى عن حمدون بن إسماعيل قال: قال إبراهيم بن المهدىّ: لولا أنّى أرفع نفسى عن هذه الصناعة لأظهرت منها ما يعلم الناس معه أنهم لم يروا قبلى مثلى.
وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن جعفر بن سليمان الهاشمىّ قال: حدّثنا إبراهيم ابن المهدىّ قال:
دخلت يوما على الرشيد وبى فضلة خمار «1» وبين يديه ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ فقال: بحياتى يا إبراهيم غنّ، فأخذت العود ولم ألتفت إليهما لما في رأسى من الفضلة فغنّيت:
أسرى بخالدة «2» الخيال ولا أرى ... شيئا ألذّ من الخيال الطارق
إن البليّة من تملّ حديثه ... فانقع فؤادك من حديث الوامق
أهواك فوق هوى النفوس ولم يزل ... مذ بنت قلبى كالجناح الخافق
شوقا إليك ولم تجاز مودّتى ... ليس المكذّب كالحبيب الصادق
فسمعت إبراهيم يقول لابن جامع: لو طلب هذا بهذا الغناء ما نطلب لما أكلنا خبزا أبدا فقال ابن جامع: صدقت، فلما فرغت من غنائى وضعت العود ثم قلت: خذا في حقّكما ودعا باطلنا.
وروى عن إبراهيم قال:
كان الرشيد يحبّ أن يسمعنى فخلا بى مرّات إلى أن سمعنى، ثم حضرته مرّة(4/207)
وعنده سليمان بن أبى جعفر فقال لى: عمّك وسيّد ولد المنصور بعد أبيك وقد أحبّ أن يسمعك، فلم يتركنى حتى غنّيت بين يديه:
سقيا لربعك من ربع بذى سلم ... وللزمان به إذ ذاك من زمن
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذ أجرّ إليكم سادرا رسنى «1»
فأمر لى بألف ألف درهم، ثم قال لى ليلة ولم يبق في المجلس عنده إلا جعفر ابن يحيى: أنا أحبّ أن تشرّف جعفرا بأن تغنّيه صوتا فغنّيته لحنا صنعته في شعر الدّارمىّ:
كأنّ صورتها في الوصف إذ وصفت ... دينار عين من المضروبة العتق
فأمر لى الرشيد بألف ألف درهم.
وحكى عن إسحاق بن إبراهيم قال: لما صنعت صوتى الذى هو:
قل لمن صدّ عاتبا ... ونأى عنك جانبا
قد بلغت الذى أرد ... ت وإن كنت لاعبا
واعترفنا بما ادّعي ... ت وإن كنت كاذبا
فافعل الآن ما أرد ... ت فقد جئت تائبا
اتصل خبره بإبراهيم بن المهدىّ فكتب إلىّ يسألنى عنه، فكتبت إليه الشعر وإيقاعه وبسيطه «2» ومجراه وإصبعه وتجزئته وأقسامه ومخارج نغمه ومواضع مقاطعه ومقادير أدواره وأوزانه فغنّاه ثم لقينى فغنّانيه، ففضلنى فيه بحسن صوته.
وقال ابن أبى طيبة: كنت أسمع إبراهيم بن المهدىّ يتنحنح فأطرب.(4/208)
وعن محمد بن خير عن عبد الله بن العباس الرّبيعىّ قال:
كنّا عند إبراهيم بن المهدىّ ذات يوم وقد دعا كلّ محسن من المغنّين يومئذ وهو جالس يلاعب أحدهم بالشّطرنج فترنّم إبراهيم بصوت فريدة في شعر أبي العتاهية:
قال لى أحمد ولم يدر ما بى ... أتحبّ الغداة عتبة حقّا
فتنفّست ثم قلت نعم حبّا ... جرى في العروق عرقا فعرقا
وهو متكىء «1» ، فلما فرغ ترنّم به مخارق فأحسن فيه وأطربنا «2» وزاد على إبراهيم، فغنّاه إبراهيم وزاد في صوته على غناء مخارق. فلما فرغ ردّه مخارق وغنّاه بصوته كلّه وتحفّظ فيه وكدنا نطير سرورا. فاستوى إبراهيم جالسا وكان متّكئا وغنّاه بصوته كلّه ووفّاه نغمه وشذوره ونظرت إلى كتفيه تهتزّان وبدنه أجمع يتحرّك إلى أن فرغ منه ومخارق شاخص نحوه يرعد وقد انتقع لونه وأصابعه تختلج فخيّل إلىّ أن الإيوان يسير بنا، فلما فرغ منه تقدّم إليه مخارق فقبّل يده وقال: جعلنى الله فداك أين أنا منك! ثم لم ينتفع مخارق بنفسه بقيّة يومه في شىء من غنائه، والله لكأنما كان يتحدّث.
وروى عن منصور بن المهدىّ قال:
كنت عند أخى إبراهيم في يوم كانت عليه فيه نوبة لمحمد الأمين، فتشاغل بالشرب فى بيته ولم يمض، وأرسل إليه الأمين عدّة رسل فتأخّر. قال منصور: فلمّا كان من غد قال لى: ينبغى أن نعمل على الرواح إلى أمير المؤمنين فنترضّاه، فما أشكّ فى غضبه علينا. فمضينا فسألنا عن خبره فأعلمنا أنه مشرف على خير «3» الوحش وهو مخمور، وكان من عادته ألّا يشرب إذا لحقه الخمار. فدخلنا، وكان طريقنا على(4/209)
حجرة تصنع فيها الملاهى، فقال لى: اذهب فاختر منها عودا ترضاه وأصلحه غاية الإصلاح حتى لا يحتاج إلى إصلاحه وتغييره عند الضرب به؛ ففعلت وجعلته فى كمّى. ودخلنا على الأمين وظهره إلينا. فلما بصرنا به من بعد قال: أخرج عودك فأخرجته، فاندفع يغنّى:
وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها
لكى يعلم الناس أنى امرؤ ... أتيت الفتوّة من بابها
وشاهدنا «1» الورد والياسمي ... ن والمسمعات بقصّابها «2»
وبربطنا «3» دائم معمل ... فأىّ الثلاثة أزرى بها
فاستوى الأمين جالسا وطرب طربا شديدا وقال: أحسنت والله يا عمّ وأحييت لى طربا. ودعا برطل فشربه على الرّيق وابتدأ «4» شربه. قال منصور:
وغنّى إبراهيم يومئذ على أشدّ طبقة يتناهى إليها في العود، وما سمعت مثل غنائه يومئذ قط. ولقد رأبت منه شيئا عجيبا لو حدّثت به ما صدّقت:
كان إذا ابتدأ يغنّى صغت الوحوش إليه ومدّت أعناقها، ولم تزل تدنو حتى تكاد تضع رءوسها على الدّكّان الذى كنّا عليه، فإذا سكت نفرت وبعدت عنّا حتى تنتهى إلى أبعد غاية يمكنها التباعد عنّا فيها، وجعل الأمين يعجب من ذلك. وانصرفنا من الجوائز بما لم ينصرف بمثله قطّ.
وعن الحسن بن إبراهيم بن رباح قال:
كنت أسأل مخارقا: أىّ الناس أحسن غناء؟ فكان يجيبنى جوابا مجملا، حتى(4/210)
حقّقت عليه يوما فقال: كان إبراهيم المو صلّى أحسن غناء من ابن جامع بعشر طبقات، وإبراهيم بن المهدىّ أحسن غناء منى بعشر طبقات. ثم قال لى: أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا. وإبراهيم بن المهدىّ أحسن الإنس والجنّ والوحش والطير صوتا، وحسبك هذا!.
وعن إسحاق بن إبراهيم قال:
غنّى إبراهيم بن المهدىّ ليلة محمدا الأمين صوتا لم أرضه في شعر لأبى نواس، وهو:
يا كثير النوح في الدّمن ... لا عليها بل على السّكن
سنّة العشّاق واحدة ... فإذا أحببت فاستنن «1»
ظنّ بى من قد كلفت به ... فهو يجفونى على الظّنن
رشأ لولا ملاحته ... خلت الدّنيا من الفتن
فأمر له بثلاثمائة ألف دينار. فقال له إبراهيم: يا أمير المؤمنين. أجزتنى إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم! فقال: وهل هى إلا خراج بعض الكور «2» . هكذا رواه إسحاق، وقد حكيت هذه الحكاية عن محمد بن الحارث، وفيها أن إبراهيم لما أراد الانصراف قال: أو قروا زورق عمّى دنانير فأوقروه، فانصرف بمال جليل.
قال: وكان محمد بن موسى المنجّم يقول: حكمت أنّ إبراهيم بن المهدىّ أحسن الناس كلهم غناء ببرهان، وذلك أنّى كنت أراه في مجالس الخلفاء مثل المأمون والمعتصم يغنّى المغنّون ويغنّى، فإذا ابتدأ بالصوت لم يبق من الغلمان أحد إلا ترك ما في يديه وقرب من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه فلا يزال مصغيا إليه لاهيا عما(4/211)
كان فيه مادام يغنّى، حتى إذا أمسك وتغنّى غيره رجعوا إلى التّشاغل بما كانوا فيه ولم ينبعثوا إلى شىء. فلا برهان أقوى من هذا [فى مثل هذا من «1» ] شهادة الفطن به واتّفاق الطبائع مع اختلافها وتشعّب طرقها على الميل اليه والانقياد نحوه.
ولإبراهيم بن المهدىّ أصوات معروفة. منها ما غنّاه بشعر مروان بن أبى حفصة:
هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفّكم أو تسترون هلالها
أو تدفعون مقالة من ربكم ... جبريل بلّغها النبىّ فقالها
طرقتك زائرة فحىّ خيالها ... زهراء تخلط بالدّلال جمالها
وأمّا عليّة بنت المهدىّ،
فقد قيل: ما اجتمع في جاهليّة ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدىّ وأخته عليّة. وروى عن أبى أحمد ابن الرشيد قال: كنت يوما بحضرة المأمون وهو يشرب، ثم قام وقال لى: قم؛ فدخل دار الحرم ودخلت معه، فسمعت غناء أذهل عقلى ولم أقدر أن أتقدّم ولا أتأخّر؛ وفطن المأمون لما بى فضحك وقال: هذه عمّتك عليّة تطارح عمّك إبراهيم.
قال أبو الفرج: وأمّ عليّة أمّ ولد مغنّية يقال لها مكنونة، كانت من جوارى المروانيّة المغنيّة. والمروانيّة هذه ليست من آل مروان بن الحكم، وإنما هى زوجة الحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس. وكانت مكنونة من أحسن جوارى المدينة وجها، وكانت رسحاء «2» ، وكانت حسنة البطن والصدر. فاشتريت للمهدىّ فى حياة أبيه بمائة ألف درهم؛ فغلبت عليه حتى كانت الخيزران تقول: ما ملك(4/212)
أمّة أغلظ علىّ منها. ولما اشتريت للمهدىّ ستر أمرها عن أبيه المنصور حتى مات، وولدت للمهدىّ عليّة هذه.
وكانت عليّة بنت المهدىّ من أجمل الناس وأظرفهم، نقول الشعر الجيّد وتصوغ فيه الألحان الحسنة. وكان في جبينها فضل سعة، فاتّخذت العصائب المكللّة بالجوهر لتستربها جبينها؛ فهى أوّل من أحدث ذلك.
قال: وكانت عليّة حسنة الدّين، وكانت لا تغنّى ولا تشرب النبيذ إلّا إذا كانت معتزلة الصلاة؛ فإذا طهرت أقبلت على الصلاة وقراءة القرآن وقراءة الكتب. ولم تله بشىء غير قول الشعر في الأحيان، إلّا أن يدعوها الخليفة إلى شىء فلا تقدر على خلافه. وكانت رحمها الله تقول: ما حرّم الله شيئا إلا وقد جعل فيما حلّل منه عوضا، فبأىّ شىء يحتجّ عاصيه والمنتهك لحرماته!. وكانت تقول: لا غفر الله لى فاحشة ارتكبتها قطّ، وما أقول في شعرى إلّا عبثا.
وعن سعيد بن هريم قال: كانت عليّة بنت المهدىّ تحبّ أن تراسل بالأشعار من تختصّه، فاختصّت خادما يقال له طلّ من خدم الرشيد، تراسله بالشعر. فلم تره أيّاما؛ فمشت على ميزاب وحدّثته ثم قالت في ذلك:
قد كان ما كلّفته زمنا ... ياطلّ من وجد بكم يكفى
حتى أتيتك زائرا عجلا ... أمشى على حتف إلى حتفى «1»
فخلف عليها الرشيد ألّا تكلّم طلّا ولا تسمّيه باسمه، فضمنت له ذلك. واستمع عليها يوما وهى تقرأ آخر سورة البقرة حتى بلغت إلى قوله عز وجل: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ)
فأرادت أن تقول: (فَطَلٌّ)
فقالت: فالذى نهى عنه أمير المؤمنين. فدخل(4/213)
الرشيد فقبّل رأسها وقال: قد وهبت لك طلّا ولا أمنعك بعدها من شىء تريدينه.
ولها في طلّ هذا عدّة أشعار صنعت فيها ألحانا، وكانت في بعضها تصحّف اسمه وتكنى عنه بغيره. وكانت أيضا تقول الشعر في خادم لها يقال له: رشأ وتكنى عنه بزينب.
فمن شعرها فيه:
وجد الفؤاد بزينبا ... وجدا شديدا متعبا
أصبحت من كلف بها ... أدعى شقيّا منصبا
ولقد كنيت عن اسمها ... عمدا لكى لا تغضبا
وجعلت زينب سترة ... وكتمت أمرا معجبا
قالت وقد عزّ الوصا ... ل ولم أجد لى مذهبا
والله لا نلت المودّة ... أو تنال الكوكبا
فصحّفت اسمه في قولها: «زينبا» ؛ وهذا من الجناس الخطّى. قال: وكانت لأمّ جعفر جارية يقال لها طغيان، فوشت بعليّة إلى رشأ وحكت عنها ما لم تقل.
فقالت عليّة:
لطغيان خفّ مذ ثلاثين حجّة ... جديد فلا يبلى ولا يتخرّق
وكيف بلى خفّ هو الدهر كلّه ... على قدميها في السماء «1» معلّق
فما خرقت خفّا ولم تبل جوربا ... وأمّا سراويلاتها فتمزّق
وروى عن أبى هفّان قال:
أهديت للرشيد جارية في غاية الجمال؛ فخلا معها يوما وأخرج كلّ قينة في داره واصطبح. وكان من حضر من جواريه الغناء والخدمة في الشراب زهاء ألفى جارية فى أحسن زىّ من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر. واتّصل الخبر بأمّ جعفر(4/214)
فعظم عليها ذلك؛ فأرسلت إلى عليّة تشكو إليها. فأرسلت إليها عليّة: لا يهولنّك هذا، والله لأردّنّه إليك. قد عزمت أن أضع شعرا وأصوغ فيه لحنا وأطرحه على جوارىّ، فلا تبقى عندك جارية إلّا بعثت بها إلىّ وألبسيهنّ أنواع الثّياب ليأخذن الصوت مع جوارىّ؛ ففعلت أمّ جعفر ما أمرتها به. فلما جاء وقت صلاة العصر لم يشعر الرشيد إلا وعليّة وأمّ جعفر قد خرجتا إليه من حجرتيهما معهما زهاء ألفى جارية من جوازيهما وسائر جوارى القصر عليهنّ غرائب اللّباس وكلهنّ في لحن واحد هزج صنعته عليّة وهو:
منفصل عنّى وما ... قلبى عنه منفصل
يا هاجرى اليوم لمن ... نويت بعدى أن تصل
فطرب الرشيد وقام على رجليه حتى استقبل أمّ جعفر وعليّة وهو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قطّ. يا مسرور، لا تبقيّن في بيت المال درهما إلا نثرته.
فكان ما نثر يومئذ ستة آلاف درهم، وما سمع بمثل ذلك اليوم.
وروى عن عريب أنها قالت: أحسن يوم رأيته في الدنيا وأطيبه يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهدىّ عند أخته عليّة وعندها أخوهما يعقوب بن المهدىّ، وكان أحذق الناس بالزّمر. فبدأت عليّة فغنّت من صنعتها وأخوها يعقوب يزمر عليها:
تحبّب فإنّ الحبّ داعية الحبّ ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تبصّر فإن حدّثت أنّ أخا هوى ... نجا سالما فارج النجاة من الحبّ
إذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
وغنّى إبراهيم في صنعته وزمر عليه يعقوب:
لم ينسنيك سرور لا ولا حزن ... وكيف لا، كيف ينسى وجهك الحسن
ولا خلا منك قلبى لا ولا جسدى ... كلّى بكلّك مشغول ومرتهن(4/215)
يا فردة الحسن مالى منك مذكلفت ... نفسى بحبّك إلّا الهمّ والحزن
نور تولّد من شمس ومن قمر ... حتى تكامل فيك «1» الروح والبدن
قالت عريب: فما سمعت مثل ما سمعت منها قط وأعلم أنى لا أسمع مثله أبدا.
وروى عن خشف الواضحيّة قالت: تماريت أنا وعريب في غناء عليّة بحضرة المتوكل أو غيره من الخلفاء. فقلت أنا: هى ثلاثة وسبعون صوتا، وقالت عريب:
هى اثنان وسبعون صوتا. فقال المتوكل: غنيّا غناءها؛ فلم أزل أغنّى غناءها حتى مضى اثنان وسبعون صوتا، ولم أدر الثالث والسبعين. قالت: فقطع بى واستعلت عريب وانكسرت. قالت خشف: فلما كان الليل رأيت عليّة فيما يرى النائم، فقالت: يا خشف خالفتك عريب في غنائى. قلت: نعم يا سيّدتى.
قالت: الصواب معك، أفتدرين ما الصوت الذى أنسيتيه؟ قلت: لا ولله، ولوددت أنّى فديت ما جرى بجميع ما أملك. قالت: هو:
بنى الحبّ على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستحسن في وصف الهوى ... عاشق يعرف تأليف الحجج
وقليل الحبّ صرفا خالصا ... لك خير من كثير قد مزج
وكأنها قد اندفعت تغنّى به، فما سمعت أحسن مما غنّته، وقد زادتنى فيه أشياء في نومى لم أكن أعرفها، فانتبهت وأنا لا أعقل فرحا به. فباكرت الخليفة وذكرت له القصّة. فقالت عريب: هذا شىء صنعته أنت لما جرى أمس، وأمّا الصوت فصحيح. فحلفت للخليفة بما رضى به أنّ القصّة كما حكيت. فقال:
رؤياك والله أعجب، رحم الله عليّة! فما تركت ظرفها حيّة ولا ميّتة. وأجازنى جائزة سنيّة.(4/216)
وروى أبو الفرج أيضا بسنده إلى محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد قال:
شهدت أبى جعفرا وأنا صغير وهو يحدّث جدّى يحيى بن خالد في بعض ما كان يخبره به من خلوته مع هارون الرشيد، قال: يا أبت، أخذ بيدى أمير المؤمنين وأقبل فى حجره يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة، ففتحها بيده ودخلها ودخلت وأغلق بابها من داخل بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه، وفي صدره مجلس مغلق فقعد على باب المجلس، ونقر الباب بيده نقرات فسمعنا حسّا، ثم أعاد النّقر ثانية فسمعنا صوت عود، ثم أعاد النقر ثالثة فغنّت جارية ما ظننت والله أنّ الله جلّ وعزّ خلق مثلها فى حسن الغناء وجودة الضرب. فقال [لها «1» ] أمير المؤمنين بعد أن غنّت أصواتا:
غنّى صوتى؛ فغنت صوته، وهو:
ومخنّث شهد الزّفاف وقبله ... غنّى الجوارى حاسرا ومنقّبا
لبس الدلال وقام ينقر دفّه ... نقرا أقرّ به العيون وأطربا
إنّ النساء رأينه فعشقنه ... فيشكون شدّة ما بهنّ فأكذبا
قال: فطربت والله طربا هممت معه أن أنطح برأسى الحائط. ثم قال: غنّى:
طال تكذيبى وتصديقى فغنّت:
طال تكذيبى وتصديقى ... لم أجد عهدا لمخلوق
إنّ ناسا في الهوى غدروا ... حسّنوا نقض المواثيق
لا ترانى بعدهم أبدا ... أشتكى عشقا لمعشوق
قال: فرقص الرشيد ورقصت معه؛ ثم قال: امض بنا، فإنى أخشى أن يبدو منّا ما هو أكثر من هذا، فمضينا. فلمّا صرنا إلى الدّهليز قال وهو قابض على يدى:(4/217)
هل عرفت هذه المرأة؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: فإنّى أعلم أنك ستسأل عنها ولا تكتم ذلك وأنا أخبرك بها، هذه علية بنت المهدىّ. وو الله لئن لفظت به بين يدى أحد وبلغنى لأقتلنّك. قال: فسمعت جدّى يقول لأبى: فقد والله لفظت به؛ وو الله ليقتلنّك، فاصنع ما أنت صانع.
وأخبار عليّة وأغانيها كثيرة، وقد ذكرنا منها ما يكتفى به.
قال أبو الفرج: وكان مولد عليّة سنة ستين ومائة، وتوفّيت سنة عشرة ومائتين، وقيل: سنة تسع ومائتين، ولها خمسون سنة. وكانت عند موسى بن عيسى ابن موسى بن محمد بن على بن عبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما. وكان سبب وفاتها أنّ المأمون ضمّها اليه وجعل يقبّل رأسها ووجهها مغطّى، فشرقت من ذلك وسعلت ثم حمّت بعقب هذا أيّاما يسيرة وماتت. رحمها الله.
ومنهم أبو عيسى بن الرشيد.
هو أبو عيسى أحمد، وقيل: بل اسمه صالح «1» بن هارون الرشيد. وأمّه أمّ ولد بربريّة. كان من أحسن الناس وجها ومجالسة وعشرة وأمجنهم وأحدّهم نادرة وأشدّهم عبثا. وكان أبو عيسى جميل الوجه جدّا؛ فكان إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه أكثر مما كانوا يجلسون للخلفاء.
وكانت عريب المأمونية تقول: ما سمعت غناء أحسن من غناء أبى عيسى بن الرشيد، ولا رأيت وجها أحسن من وجهه.
وروى أنّ الرشيد قال يوما لأبى عيسى وهو صبىّ: ليت جمالك لعبد الله! (يعنى المأمون) فقال له: يا أمير المؤمنين، على أنّ حظّه منك لى. فعجب الرشيد من جوابه على صباه وضمّه إليه وقبّله.(4/218)
قال أبو الفرج: وكان أبو عيسى جيّد الصّنعة، وله أغان منسوبة إليه ومعروفة به. منها:
رقدت عنك سلوتى ... والهوى ليس يرقد
وأطار السهاد نو ... مى فنومى مشرّد
أنت بالحسن منك يا ... حسن الوجه يشهد
وفؤادى بحسن وجهك ... يشقى ويكمد
وله غير هذا من الأصوات. قال: وكان كثير البسط والمجون والعبث.
وكان المأمون أشدّ الناس حبّا له، وكان يعدّه للأمر بعده ويذكر ذلك كثيرا.
حتى لقد حكى عنه أنه قال يوما: إنه ليسهل علىّ أمر الموت وفقد الملك، ولا يسهل شىء منهما على أحد؛ وذلك لمحبّتى أن يلى أبو عيسى الأمر بعدى لشدّة حبّى إياه.
وكانت وفاة أبى عيسى في سنة سبع ومائتين.
روى عن عبد الله بن طاهر قال: حدّثنى من شهد المأمون ليلة وهم يتراءون هلال شهر رمضان وأبو عيسى أخوه معه وهو مستلق على قفاه، فرأوه وجعلوا يدعون. فقال أبو عيسى قولا أنكر عليه؛ كأنه يسخط لورود الشهر، فما صام بعده. ونقل عنه أنه قال:
دهانى «1» شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر
فلو كان يعدينى الإمام بقدرة ... على الشهر لاستعديت «2» جهدى على الشهر
فناله بعقب هذا القول صرع، فكان يصرع في اليوم مرّات حتى مات. ولمّا مات وجد المأمون عليه وجدا شديدا.(4/219)
روى عن محمد بن عبّاد المهلّبىّ قال:
لمّا مات أبو عيسى بن الرشيد دخلت على المأمون فخلعت عمامتى ونبنتها ورائى- والخلفاء لا تعزّى في العمائم- فقال لى: يا محمد، حال القدر، دون الوطر.
فقلت: يا أمير المؤمنين، كلّ مصيبة أخطأتك شوى «1» ، فجعل الله الحزن لك لا عليك!.
قال: فركب المأمون إلى دار أبى عيسى فحضر جهازه وصلّى عليه ونزل في قبره.
وامتنع من الطعام أياما حتى خيف أن يضرّ ذلك به. قال: وما رأيت مصابا حزينا قطّ أجمل أثرا في مصيبته ولا أحرق وجدا منه، صامت ودموعه تهمى على خدّيه من غير كلح «2» ولا استنثار.
وروى عن أحمد بن أبى داود قال: دخلت على المأمون وقد توفّى أخوه أبو عيسى وهو يبكى ويمسح عينيه بمنديل، فقعدت الى جنب عمرو بن مسعدة وتمثّلت قول الشاعر:
نقص من الدّنيا وأسبابها ... نقص المنايا من بنى هاشم
فلم يزل على تلك الحال يبكى ثم يمسح عينيه، وتمثّل:
سأبكيك ما فاضت دموعى فإن تغض ... فحسبك منّى ما تجنّ الجوانح «3»
كأن لم يمت حىّ سواك ولم تقم ... على أحد إلا عليك النوائح
ثم التفت إلىّ وقال: هيه يا أحمد! فتمثّلت بقول عبدة بن الطبيب:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحّما
تحيّة من أوليته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلّما(4/220)
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما
فبكى ساعة، ثم التفت إلى عمرو بن مسعدة فقال: هيه يا عمرو! فقال: نعم يا أمير المؤمنين:
بكّوا حذيفة لم تبكّوا مثله ... حتى تعود قبائل لم تخلق
قال: فإذا عريب وجوار معها يسمعن ما يدور بيننا؛ فقالت: اجعلوا لنا معكم فى القول نصيبا. فقال المأمون: قولى، فربّ صواب منك كثير. فقالت:
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
كأنّ بنى العبّاس يوم وفاته ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر «1»
فبكى وبكينا. ثم قال لها المأمون: نوحى، فناحت وردّ عليّها الجوارى. فبكى المأمون حتى قلت: قد فاضت نفسه وبكينا معه أحرّ بكاء، ثم أمسكت. فقال المأمون:
اصنعى فيه لحنا على مذهب النّوح وغنّى به؛ ففعلت وغنّته إياه على العود. فو الذى لا يحلف بأعظم منه لقد بكينا عليه غناء أكثر مما بكينا عليه نوحا.
ومنهم عبد الله بن موسى الهادى.
قال أبو الفرج: كان له في الغناء صنعة حسنة، وله أصوات مذكورة، منها قوله:
تقاضاك دهرك ما أسلفا ... وكدّر عيشك بعد الصّفا
فلا تجزعنّ فإن الزمان ... رهين بتشتيت ما ألّفا
ولما رآك قليل الهموم ... كثير الهوى ناعما مترفا
ألحّ عليك بروعاته ... وأقبل يرميك مستهدفا(4/221)
قال: وكان عبد الله هذا من أضرب الناس بالعود وأحسنهم غناء. وكان له غلام أسود يقال له «قلم» ، فعلّمه الضرب فحذق فيه؛ فاشترته منه أمّ جعفر بثلاثمائة ألف درهم.
وروى عن سليمان بن داود كاتب أمّ جعفر قال:
كنت جالسا مع عبد الله بن موسى الهادى، فمرّ به خادم لصالح بن الرشيد؛ فقال له: ما اسمك؟ قال: اسمى لا تسل. فأعجبه حسنه وحسن منطقه، فقال لى:
قم بنا حتى نشرب اليوم ونذكر هذا البدر، فقمت معه. فأنشدنى في ذلك اليوم:
وشادن مرّ بنا ... يجرح باللّحظ المقل
مظلوم خصر ظالم ... منه إذا يمشى الكفل
اعتدلت قامته ... والطرف منه ما عدل
بدر تراه أبدا ... طالع سعد ما أفل
سألته عن اسمه ... فقال: إسمى لا تسل
وطلعت في وجنتي ... هـ وردتان من خجل
فقلت ما أخطا الذى ... سمّاك بل قال المثل
لا تسألن عن شادن ... فاق جمالا وكمل
وقال فيه:
عزّ الذى تهوى وذلّ ... صبّ الفؤاد مختبل
جدّ به الهجر وذا ال ... هجر اذا جدّ قتل
من شادن ممنطق ... فاق جمالا وكمل
تناصف الحسن به ... فلا تسل عن لا تسل(4/222)
وعن أحمد بن المكّى قال: دعانى عبد الله بن موسى يوما فقال لى: أتقوّم غلاما ضاربا مغنّيا قيمة عدل لا حيف فيها على البائع ولا على المشترى؟ فقلت نعم. فأخرج إلىّ ابنه القاسم، وكنت قد عرفت خبره وهو أحسن من القمر ليلة البدر، فأخذ عودا يضرب به؛ فأكببت على يديه أقبلّهما فقال لى عبد الله: أتقبّل يد غلام مملوك! فقلت: بأبى وأمى هو من مملوك! وقبّلت رجله أيضا. فقال:
أمّا إذ عرفته فأحبّ أن تضاربه، ففعلت. فلما رأى الغلام زيادتى في الضرب عليه اغتمّ وأقبل على أبيه فقال له كالمعتذر إليه: يا أبت، أنا متلذّذ وهذا متكسّب.
فضحكت وقلت: هو كذلك يا سيّدى. وعجبت من حدّة جوابه معتذرا على صغر سنه.
قال عبد الله بن حبيب:
كان عبد الله بن موسى الهادى معربدا، وكان قد أعضل»
المأمون مما يعربد عليه إذا شرب معه؛ فأمر به أن يحبس في منزله فلا يخرج منه، وأقعد على بابه حرسا؛ ثم تذمّم من ذلك فأظهر له الرضا وصرف الحرس عن بابه. ثم نادمه فعربد عليه أيضا وكلّمه بكلام أحفظه. وكان عبد الله مغرما بالصيد؛ فأمر المأمون خادما من خواصّ خدمه يقال له حسن «2» فسمّه في درّاج؛ فلما أكله أحسّ بالسمّ، فركب في الليل وقال لأصحابه: هو آخر ما ترونى، ومات بعد أيام. وأكل معه خادمان، فمات أحدهما لوقته، وضنى الآخر ثم مات بعد مدّة.
ومنهم عبد الله بن محمد الأمين.
قال أبو الفرج الأصفهانىّ:
كان عبد الله بن محمد الأمين ظريفا غزلا يقول شعرا ليّنا ويصنعه صنعة صالحة. وكان بينه وبين أبى نهشل بن حميد مودّة؛ فاعترض عبد الله جارية مغنّية(4/223)
لبعض نساء بنى هاشم وأعطى بها مالا عظيما. وعرفت مولاتها منه رغبة فيها فزادت عليه في السّوم فتركها؛ فاشتراها أخ لأبى نهشل، فتبعتها نفس عبد الله، فسأل أبا نهشل أن يسأل أخاه النزول عنها؛ فسأله ذلك فوعده ودافعه. فكتب عبد الله إلى أبى نهشل:
يابن حميد يا أبا نهشل ... مفتاح باب الحدث المقفل
يا أكرم الناس ودادا وأر ... عاهم لحقّ ضائع مهمل
أحسنت في ودّى وأجملت بل ... جزت فعال المحسن المجمل
بيتك في ذى يمن شامخ ... تقصر عنه قنّتا يذبل
خلفت فينا حاتما ذا النّدى ... وجدت جود العارض المسبل
أىّ أخ أنت لذى وحدة ... تركته بالعزّ في جحفل
نجوم حظّى منك مسعودة ... فيما أرجّى ليس بالأقل
فصدّق الظنّ بما قلته ... وسهّل الأمر به يسهل
لا تحرمنّى ولديك المنى ... بالله صيد الرّشأ الأكحل
رميت منه بسهام الهوى ... وما درى ما الرّمى في مقتلى
أدنيتنى بالوعد في صيده ... إدناء «1» عطشان من المنهل
ثم تناسيت وأسلمتنى ... إلى مطال موحش المنزل
تركتنى في لجّة عائما ... لا أعرف المدبر من مقبل
صرّح بأمر واضح بيّن «2» ... لا خير في ذى لبس مشكل
قال: فلم يزل أبو نهشل بأخيه حتى نزل له عنها. ولعبد الله هذا صنعة منها قوله:(4/224)
ألا يادير حنظلة المفدّى ... لقد أورثتنى سقما وكدّا
أزفّ من الفرات اليك زقّا ... وأجعل حوله «1» الورد المندّى
ومنهم أبو عيسى بن المتوكل.
قال عبد الله بن المعتز:
جمع لأبى عيسى بن المتوكل صنعة مقدارها أكثر من ثلاثمائة صوت، منها الجيّد الصنعة ومنها المتوسّط. وقال النّميرىّ: سمعت أبا عيسى بن المتوكل يقول:
إذا أتممت صنعة ثلاثمائة وستين صوتا عدد أيام السنة تركت الصنعة. فلما أتمها ترك الصنعة. فمنها قوله في شعر علىّ بن الجهم:
هى النفس ما حمّلتها تتحمّل ... وللدهر أيّام تجور وتعدل
وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التجمّل
قال أبو الفرج الأصفهانى: وهو لعمرى من جيّد الغناء وفاخر الصنعة، ولو لم «2» يصنع غيره لكفى.
ومنهم عبد الله بن المعتز.
هو أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله العباسىّ.
قد وصفه أبو الفرج الأصفهانى فقال: وأمره مع قرب عهده بعصرنا مشهور فى فضائله وأدبه شهرة يشترك في أكثرها الخاصّ والعامّ، وشعره وإن كان فيه رقّة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين، فإنّ فيه أشياء كثيرة تجرى في أسلوب المجيدين، ولا تقصر عن مدى السابقين وأشياء ظريفة من أشعار الملوك في جنس ما هم بسبيله، ليس عليه أن يتشبّه فيها بفحول الجاهلية. وأطنب في وصفه وتقريظه، وهو فوق ما قال. ثم قال:(4/225)
وكان عبد الله حسن العلم بصناعة الموسيقي والكلام على النّغم وعللها؛ وله فى ذلك وفي غيره من الآداب كتب مشهورة ومراسلات جرت بينه وبين عبيد الله ابن عبد الله بن طاهر وبين بنى حمدون وغيرهم تدلّ على فضله وغزارة أدبه. وذكر منها شيئا ليس هذا موضع إيراده. ثم قال: ومن صنعة عبد الله بن المعتز في شعره:
هل ترجعنّ ليال قد مضين لنا ... والدار جامعة أزمان أزمانا
قال أبو الفرج: ومن صنعته الظريفة الشكل مع جودتها:
وابلائى من محضر ومغيب ... وحبيب منّى بعيد قريب
لم ترد ماء وجهه العين إلّا ... شرقت قبل ايّها برقيب
قال: ومن صنعته التى تظارف فيها وملح:
زاحم كمّى كمّه فالتويا ... وافق قلبى قلبه فاستويا
وطالما ذاقا الهوى فاكتويا ... يا قرّة العين ويا همّى ويا
وحكى عن جعفر بن قدّامة قال: كان لعبد الله بن المعتز غلام يحبّه، فغضب الغلام عليه، فجهد أن يترضّاه، فلم يكن له فيه حيلة. ودخلت عليه فأنشدنى فيه:
بأبى أنت قد تما ... ديت في الهجر والغضب
واصطبارى على صدو ... دك يوما من العجب
ليس لى إن فقدت وج ... هك في العيش من أرب
رحم الله من أعا ... ن على الصّلح واحتسب
قال: فمضيت إلى الغلام، فلم أزل أداريه وأرفق به حتى ترضّيته له وجئته به؛ فمرّ لنا يومئذ أطيب يوم وأحسنه.(4/226)
ذكر من غنّى من الأشراف والعلماء رحمهم الله
كان ممن غنى من الأشراف والعلماء على ما نقل إلينا من أخبارهم:
عبد العزيز بن المطلب
«1» . روى الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن على المقدسىّ رحمه الله بسند رفعه إلى محمد بن مسلمة قال حدّثنى أبى قال: أتيت عبد العزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجنّ للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها، فوجدته مستلقيا وهو يغنّى:
فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها «2»
بأطيب من أردان عزّة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرّطب نارها
من الخفرات البيض لم تلق شقوة ... وبالحسب المكنون صاف نجارها
فإن برزت كانت لعينيك قرّة ... وإن غبت عنها لم يغمّك عارها «3»
فقلت له: تغنّى أصلحك الله وأنت في جلالتك وشرفك! أما والله لأحدونّ بها ركبان نجد. قال: فو الله ما أكترث وعاد يتغنّى:
فما ظبية أدماء خفّاقة الحشى ... تجوب بظلفيها بطون الخمائل
بأحسن منها إذ تقول تدلّلا ... وأدمعها يذرين حشو المكاحل
تمتّع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيّام الشهور الأطاول(4/227)
قال: فندمت على قولى له، فقلت: أصلحك الله، أتحدّثنى في هذا بشىء! فقال:
نعم، حدّثنى أبى قال: دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهم- وأشعب يغنّيه:
معقربة كالبدر سنّة «1» وجهها ... مطهّرة الأثواب والعرض وافر
لها نسب زاك وعرض مهذّب ... وعن كل مكروه من الأمر زاجر
من الخفرات البيض لم تلق ريبة ... ولم يستملها عن تقى الله شاعر
فقال له سالم رضى الله عنه: زدنى. فقال:
ألّمت بنا والليل داج كأنه ... جناح غراب عنه قد نفض القطرا
فقلت أعطّار ثوى في رحالنا ... وما احتملت ليلى سوى ريحها عطرا
فقال سالم: أما والله لولا أن تداوله الرّواة لأجزلت جائزتك، فلك من هذا الأمر مكان.
ومنهم ابراهيم بن سعد
«2» . هو أبو إسحاق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزّهرىّ. كان من العلماء الثّقات المحدّثين. سمع أباه وابن شهاب الزهرىّ وهشام بن عروة وصالح بن كيسان ومحمد بن إسحاق بن يسار. روى عنه يزيد بن عبد الله بن الهاد وشعبة بن الحجاج والليث بن سعد، وابناه يعقوب وسعد «3» ابنا إبراهيم وعبد الرحمن بن مهدىّ ويزيد بن هارون ويونس المؤدّب وأبو داود الطيالسىّ وسليمان بن داود الهاشمى وعبد العزيز الآدمىّ وعلىّ بن الجعد ومحمد بن جعفر الور كانىّ وأحمد بن حنبل وغيرهم. كان يبيح السماع(4/228)
ويضرب بالعود ويغنّى عليه. وله في ذلك قصّة رواها أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ بسند رفعه إلى سعيد بن كثير بن عفير قال:
قدم إبراهيم بن سعد الزهرىّ العراق سنة أربع وثمانين ومائة، فأكرمه الرشيد وأظهر برّه. وسئل عن الغناء فأفتى بتحليله؛ فأتاه بعض أهل الحديث ليسمع منه أحاديث الزهرىّ، فسمعه يتغنّى، فقال: لقد كنت حريصا على أن أسمع منك، فأمّا الآن فلا سمعت منك حديثا أبدا. قال: إذا لا أفقد إلّا شخصك. علىّ وعلىّ ألّا أحدّث ببغداد ما أقمت حديثا واحدا حتى أغنّى قبله. وشاعت هذه الحكاية ببغداد، فبلغت الرشيد، فدعا به فسأله عن حديث المخزوميّة التى قطعها النبىّ صلّى الله عليه وسلم في سرقة الحلىّ؛ فدعا بعود. فقال الرشيد: أعود المجمر؟ قال: لا ولكن عود الطّرب، فتبسّم. ففهمها إبراهيم بن سعد فقال: لعلك بلغك يا أمير المؤمنين حديث السّفيه الذى آذانى بالأمس وألجأنى إلى أن حلفت. قال نعم. فدعا له الرشيد بعود فأخذه وغنّى:
يا أمّ طلحة إنّ البين قد أفدا ... ملّ الثّواء لأن كان الرحيل غدا
فقال له الرشيد: من كان من فقهائكم ينكر السماع؟ قال: من ربط الله على قلبه.
قال: فهل بلغك عن مالك في هذا شىء؟ فقال: لا والله، إلا أن أبى أخبرنى أنهم اجتمعوا في مدعاة كانت في بنى يربوع وهم يومئذ جلّة «1» ، ومالك أقلّهم في فقه وقدر، ومعهم دفوف ومعازف وعيدان يغنّون ويلعبون. ومع مالك دفّ مربّع وهو يغنيهم:
سليمى أزمعت بينا ... وأين لقاؤها أينا
وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلاقينا
تعالين فقد طاب ... لنا العيش تعالينا(4/229)
فضحك الرشيد ووصله بمال عظيم، ومات إبراهيم في هذه السنة وهو ابن خمس وسبعين سنة. قال: وكان ابراهيم بن سعد يبالغ فيه إلى هذا الحدّ. وقد أجمعت الأئمة على ثقته وعدالته والرواية عنه. واتّفق البخارىّ ومسلم على إخراج حديثه فى الصحيح. ولم تسقط عدالته بفعله عند أهل العلم، بل قلّد قضاء بغداد على جلالتها، وقلّد أبوه القضاء بالمدينة على شرفها.
وروى أبو الفرج الأصفهانى بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلى قال:
شهدت إبراهيم بن سعد يحلف للرشيد وقد سأله عمن بالمدينة ينكر الغناء، فقال:
من قنّعه الله خزيه: مالك بن أنس؛ ثم حلف أنه سمع مالكا يغنّى:
سليمى أزمعت بينا ... فأين لقاؤها أينا
فى عرس لرجل من أهل المدينة يكنى أبا حنظلة.
وروى أيضا بسنده إلى الحسين بن دحمان الأشقر قال:
كنت بالمدينة، فخلا لى الطريق في نصف النهار، فجعلت أتغنّى:
ما بال أهلك يا رباب ... خزرا كأنهم غضاب
قال: فإذا خوخة قد فتحت وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء، فقال:
يا فاسق! أسأت التأدية، ومنعت القائلة، وأذعت الفاحشة؛ ثم اندفع يغنّيه؛ فظننت أنّ طويسا قد نشر يغنّيه، فقلت: أصلحك الله! من أين لك هذا الغناء؟
قال: نشأت وأنا غلام أتبع المغنّين وآخذ عنهم؛ فقالت لى أمّى: يا بنىّ، إن المغنّى إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه فإنه لا يضرّ معه قبح الوجه. فتركت المغنّين واتبعت الفقهاء، فبلغ الله بى ما ترى.
فقلت: فأعد جعلت فداءك. فقال: لا ولا كرامة! أتريد أن تقول أخذته عن مالك بن أنس! وإذا هو مالك ولم أعلم.(4/230)
ومنهم محمد بن إسماعيل بن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما.
كان عالما بالفقه والغناء جميعا. وكان يحيى بن أكثم وصفه للمأمون بالفقه، ووصفه أحمد بن يوسف بالغناء. فقال المأمون: ما أعجب ما اجتمع فيه العلم بالعلم والغناء!.
ذكر من غنّى من الأعيان والأكابر والقوّاد ممن نسبت له صنعة في الغناء
منهم أبو دلف العجلىّ.
هو أبو دلف القاسم بن عيسى بن إدريس أحد بنى عجل بن لجيم بن مصعب بن علىّ بن بكر بن وائل. كان محلّه من الشجاعة وبعد الهمة وعلوّ المحلّ عند الخلفاء وعظم الغناء في المشاهد وحسن الأدب وجودة الشعر محلا كبيرا ليس لكثير من أمثاله.
قال أبو الفرج الأصبهانىّ: وله صنعة حسنة. فمن جيّد صنعته قوله- والشعر له أيضا-:
بنفسى يا جنان وأنت منّى ... مكان الرّوح من جسد الجبان
ولو أنى أقول مكان نفسى ... خشيت عليك بادرة الزمان
لإقدامى إذا ما الخيل حامت ... وهاب كماتها حرّ الطّعان
قال: وكان أحمد بن أبى داود ينكر أمر الغناء إنكارا شديدا؛ فأعلمه المعتصم أن أبا دلف صديقه يغنّى. فقال: ما أراه مع عقله يفعل ذلك! فستر المعتصم أحمد بن أبى داود في موضع وأحضر أبا دلف وأمره أن يغنّى ففعل ذلك وأطال، ثم أخرج أحمد بن أبى داود عليه؛ فخرج والكراهة ظاهرة في وجهه. فلما رآه أحمد(4/231)
قال: سوءة لهذا من فعل! أبعد [هذه «1» ] السنّ وهذا المحلّ تصنع «2» بنفسك ما أرى! فخجل أبو دلف وتشوّر «3» وقال: إنهم ليكرهونى على ذلك. فقال: هبهم أكرهوك على الغناء أهم أكرهوك على الإحسان فيه والإصابة!.
قال: وكان أبو دلف ينادم الواثق. فوصف للمعتصم فأحبّ أن يسمعه، وسأل الواثق عنه فقال له: يا أمير المؤمنين، أنا على نيّة الفصد غدا وهو عندى. وفصد الواثق فأتاه أبو دلف وأتته رسل الخليفة بالهدايا؛ فأعلمهم الواثق حصول أبى دلف عنده.
فلم يلبث أن أقبل الخدم يقولون: قد جاء الخليفة. فقام الواثق وكلّ من كان عنده حتى تلقّوه؛ وجاء حتى جلس، وأمر بندماء الواثق فردّوا إلى مجالسهم. وأقبل الواثق على أبى دلف فقال: يا قاسم، غنّ أمير المؤمنين. فقال: صوتا بعينه أو ما اخترت؟ قال: بل من صنعتك في شعر جرير. فغنّى:
بان الخليط برامتين فودّعوا ... أو كلّما اعتزموا لبين تجزع
كيف العزاء ولم أجد مذ غبتم ... قلبا يقرّ ولا شرابا ينقع
فقال المعتصم: أحسن أحسن- ثلاثا- وشرب رطلا. ولم يزل يستعيده حتى شرب تسعة أرطال. ثم دعا بحمار فركبه، وأمر أبا دلف أن ينصرف معه؛ فخرج معه فثبّت في ندمائه، وأمر له بعشرين ألف دينار.
قال: وكان أبو دلف جوادا ممدّحا. وفيه يقول علىّ بن جبلة من قصيدة بقول فيها:
ذاد ورد الغىّ عن صدره ... وارعوى واللهو من وطره
ندمى أنّ الشباب مضى ... لم أبلّغه مدى أشره(4/232)
حسرت عنّى بشاشته ... وذوى المحمود من ثمره
ودم أهدرت من رشأ ... لم يرد عقلا على هدره
جاء منها:
دع جدا قحطان أو مضر ... فى يمانيه وفي مضره
وامتدح من وائل رجلا ... عصر «1» الآفاق من عصره
ومنها:
المنايا في مقانبه ... والعطايا في ذرا حجره
ملك تندى أنامله ... كانبلاج النّوء عن مطره
مستهلّ عن مواهبه ... كابتسام الرّوض عن زهره
ومنها:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره
فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدنيا على أثره
كلّ من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره
مستعير منه مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره
وهذان البيتان اللذان أحفظا المأمون على علىّ بن جبلة حتى سلّ لسانه من قفاه.
وقوله فيه:
أنت الذى تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلّا قضيت بأرزاق وآجال
تزورّ سخطا فتضحى البيض ضاحكة ... وتستهل فتبكى أعين المال
وكان سبب مدح علىّ بن جبلة أبا دلف بقوله:
إنما الدنيا أبو دلف(4/233)
ما رواه أبو الفرج الأصفهانى بسنده عن علىّ بن جبلة قال: زرت أبا دلف بالجبل، فكان يظهر من برّى وإكرامى والتحفّى بى أمرا عظيما مفرطا حتى تأخرت عنه حياء، فبعث إلىّ معقلا وقال: يقول لك الأمير: قد انقطعت عنّى، وأظنّك قد استقللت برّى، فلا يغضبنك ذلك فإنى سأزيد فيه حتى ترضى. فقلت: والله ما قطعنى إلا الإفراط في البرّ، وكتبت إليه:
هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر
ولكننى لمّا أتيتك زائرا ... فأفرطت في برّى عجزت عن الشكر
فم الآن لا آتيك إلّا مسلّما ... أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر
فإن زدتنى برّا تزايدت جفوة ... ولم تلقنى طول الحياة إلى الحشر
فلما قرأها معقل استحسنها وقال: أحسنت والله! أمّا إن الأمير يعجبه هذا من المعانى. فلما أوصلها إلى أبى دلف قال: قاتله الله! ما أشعره وأرقّ معانيه! وأجابنى لوقته- وكان حسن البديهة حاضر الجواب-:
ألا ربّ طيف طارق قد بسطته ... وآنسته قبل الضّيافة بالبشر
أتانى يرجّينى فما حال دونه ... ودون القرى والعرف من نائلى سترى
وجدت له فضلا علىّ بقصده ... إلىّ وبرّا زاد فيه على برّى
فزوّدته ما لا يدوم بقاؤه ... وزوّدنى مدحا يدوم على الدهر
قال: وبعث بالأبيات وصيفا وبعث إلىّ معه بألف دينار. فقلت حينئذ:
إنما الدنيا أبو دلف
الأبيات.
وروى أبو الفرج عن أحمد بن عبيد الله بن عمّار قال: كنا عند أبى العبّاس المبرّد يوما وعنده فتى من ولد أبى البخترىّ وهب بن وهب، أمرد حسن الوجه،(4/234)
وفتى من ولد أبى دلف البجلىّ شبيه به في الجمال. فقال المبرّد لابن أبى البخترىّ:
أعرف لجدّك قصّة ظريفة من الكرم حسنة لم يسق إليها. قال: وما هى؟ قال:
دعى رجل من أهل الأدب إلى بعض المواضع فسقوه نبيذا غير الذى يشربون منه؛ فقال فيهم:
نبيذان في مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر
فلو كان فعلك ذا في الطعام ... لزمت قياسك في المسكر
ولو كنت تفعل فعل الكرام ... صنعت صنيع أبى البخترى
تتّبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكثر
فبلغت الأبيات أبا البخترىّ فبعث إليه ثلاثمائة دينار. قال ابن عمار: فقلت وقد فعل جدّ هذا الفتى في هذا المعنى ما هو أحسن من هذا. قال: وما فعل؟
قلت: بلغه أنّ رجلا افتقر من ثروة، فقالت له امرأته، افترض في الجند، فقال:
إليك عنّى فقد كلّفتنى شططا ... حمل السلاح وقول الدّارعين قف
تمشى المنايا إلى قوم فأكرهها ... فكيف أمشى إليها عارى الكتف
حسبت أنّ نفاد المال غيّرنى ... أو أنّ روحى في جنبى أبى دلف
فأحضره أبو دلف وقال: كم أمّلت امرأتك أن يكون رزقك؟ قال: مائة دينار، قال: كم أمّلت أن تعيش؟ قال: عشرين سنة. قال: فذلك لك على ما أمّلت وأمّلت امرأتك في مالنا دون مال السلطان، وأمر بإعطائه إياه. قال: فرأيت وجه ابن أبى دلف يتهلّل وانكسر ابن أبى البخترىّ. وهذه الأبيات رويت لابن أبى فنن.(4/235)
ومنهم أخوه معقل بن عيسى.
كان فارسا شاعرا جوادا مغنّيا فهما بالنّغم والوتر، ذكره الجاحظ مع ذكر أخيه أبى دلف. وهو القائل لمخارق- وقد كان زار أبا دلف بالجبل ثم رجع الى العراق، وله في ذلك غناء-:
لعمرى لئن قرّت بقربك أعين ... لقد سخنت بالبعد عنك عيون
فسر أو أقم، وقف عليك مودّتى ... مكانك من قلبى عليك مصون
فما أوحش الدنيا إذا كنت نازحا ... وما أحسن الدنيا بحيث تكون
ومنهم عبد الله بن طاهر بن الحسين وابنه عبيد الله.
فأمّا عبد الله
فكان محلّه من علوّ المنزلة وعظم القدر والتمكّن عند الخلفاء ما هو مشهور مذكور فى أخبارهم. وتقلّد الولايات الكبيرة مثل مصر والجزيرة وما يلى ذلك، ثم نقل إلى خراسان. وله عطايا وهبات وصلات لا ينكرها أحد. ومحلّه من الشجاعة والإقدام معروف. وكان يعتنى بالغناء ويصنعه، إلا أنه كان يترفّع عن ذكره والاعتراف به ونسبته إليه.
قال أبو الفرج: والأصوات التى غنّى فيها عبد الله بن طاهر كثيرة. وكان ابنه عبيد الله إذا ذكر شيئا منها من صنعته قال: الغناء للدار الكبيرة، وإذا ذكر شيئا من صنعة نفسه قال: الغناء للدار الصغيرة. فمن الأصوات التى صنع فيها عبد الله بن طاهر قوله:
هلّا سقيتم بنى حزم «1» أسيركم ... نفسى فداؤك من ذى غلّة صادى
الطاعن الطّعنة النجلاء يتبعها ... مضرّج بعد ما جادت بإزباد
قال: فقد جاء به عبد الله صحيح العمل مزدوج النغم [بين «2» ] لين وشدّة على رسم(4/236)
الحذّاق القدماء. قال عبيد الله- وذكر صوتا من أصواته-: لمّا صنع أبى هذا الصوت لم يحبّ أن يسمع عنه شىء من الغناء ولا ينسب إليه؛ لأنه كان يترفّع «1» عن ذلك، وما جسّ بيده وترا قطّ ولا تعاطاه، ولكنه كان يعلم من هذا الشأن بطول الدّربة وحسن الثقافة ما لا يعرفه كثير. قال: وبلغ من علم ذلك إلى أن صنع في أبيات أصواتا كثيرة، فألقاها على جواريه، فأخذتها عنه وغنّين بها وسمعها الناس منهنّ [وممن أخذ عنهنّ. فلما أن صنع هذا الصوت:
هلا سقيتم بنى سهم أسيركم ... نفسى فداؤك من ذى غلّة صادى «2» ]
نسبه إلى مالك بن أبى السمح. وكانت لآل الفضل بن الربيع جارية يقال لها راحة «3» ، وكانت ترغب إلى عبد الله لمّا ندبه المأمون إلى مصر، وكانت تغنّيه؛ وأخذت هذا الصوت عن جواريه، وأخذه المغنون عنها، وروى لمالك بن أبى السمح مدّة. ثم قدم عبد الله العراق، فحضر مجلس المأمون وغنّى الصوت بحضرته ونسب إلى مالك؛ فضحك عبد الله ضحكا كثيرا؛ فسئل عن القصة فصدق فيها «4» واعترف بصنعة الصوت. وكشف المأمون عن القصة؛ فلم يزل كلّ من سئل عنه يخبر عمن «5» أخذه، فينتهى بالقصة إلى راحة ويقف فلا يعدوها. فأحضرت راحة وسئلت فأخبرت بقصته؛ فعلم أنه من صنعته حينئذ بعد أن جاز على إسحاق وطبقته أنه لمالك. ويقال: إنه لم يعجب من شىء عجبه من حذق عبد الله بمذاهب الأوائل وحكاياتهم.
وأمّا عبيد الله،
ويكنى أبا أحمد. قال أبو الفرج الأصبهانى: له محلّ من الأدب والتصرّف في فنونه ورواية الشعر وقوله والعلم باللغة وأيام الناس(4/237)
وعلوم الأوائل من الفلاسفة «1» فى الموسيقى والهندسة وغير ذلك [مما «2» ] يجلّ عن الوصف ويكثر ذكره. وله صنعة في الغناء حسنة متقنة عجيبة [تدلّ على ما ذكرناه هاهنا من توصّله «3» ] إلى ما عجز عنه الأوائل من جمع النّغم كلها في صوت واحد تتّبعه هو «4» وأتى به على ما فصّله فيها وطلبه منها.
وكان المعتضد بالله ربما أراد أن يصنع في بعض الأشعار غناء ويحضره أكابر المغنّين فيعدل عنهم إليه فيصنع فيه أحسن صنعة، ويترفّع عن إظهار نفسه بذلك فيومىء إلى أنه من صنعة جاريته ساجى «5» . وسنذكر ساجى إن شاء الله تعالى في أخبار القيان، وكانت تخريج عبيد الله وتأديبه.
قال: ولمّا اختلّت حال عبيد الله كان المعتضد بالله يتفقّده بالصّلات. ومن أصوات عبيد الله التى جمع فيها النّغم العشر قوله في شعر إبراهيم بن علىّ بن هرمة:
وإنك إذ أطمعتنى منك بالرّضا ... وأيأستنى من بعد ذلك بالغضب
كممكنة من درّها كفّ حالب ... ودافقة من بعد ذلك ما حلب
وأخبار عبيد الله كثيرة سنذكر منها في هذا الباب في أخبار ساجى طرفا، ونورد منها إن شاء الله تعالى في فنّ التاريخ ما يناسب. وأستغفر الله العظيم.(4/238)
ذكر أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء
والغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمّونه «الركبانية» . وأوّل من نقل الغناء العجمىّ إلى العربىّ من أهل مكة «سعيد بن مسجح» ومن أهل المدينة «سائب خاثر» . وأوّل من صنع الهزج «طويس» . ولنبدأ بذكر أخبار هؤلاء ثم نذكر من أخذ عنهم إن شاء الله تعالى.
ذكر أخبار سعيد بن مسجح
هو أبو عثمان سعيد بن مسجح، مولى بنى جمح، وقيل: مولى بنى مخزوم، وقيل: مولى بنى نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب. مكّى أسود- وقيل:
أصفر- حسن اللّون. وقيل: كان مولّدا، يكنى أبا عيسى. وقيل: كان هو وابن سريح لرجل واحد. مغنّ متقدّم من فحول المغنّين وأكابرهم. وهو أوّل من وضع الغناء منهم، وأوّل من غنّى الغناء العربىّ بمكة؛ وذلك أنه مرّ بالفرس وهم يبنون المسجد الحرام في أيام عبد الله بن الزّبير، فسمع غناءهم بالفارسيّة فقلبه في شعر عربىّ، ثم رحل إلى الشأم فأخذ ألحان الرّوم والبربطية والأسطو خوسيّة «1» ، وانقلب(4/239)
إلى فارس فأخذ غناء كثيرا وتعلّم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النّغم وألقى منها ما استقبحه من النّبرات والنّغم؛ وكان أوّل من فعل ذلك، وتبعه الناس بعد؛ وعلّم ابن سريج، وعلّم ابن سريح الغريض. قالوا: وكان في صباه فطنا ذكيّا، وكان مولاه معجبا به، فكان يقول: ليكونن لهذا الغلام شأن، وما يمنعنى من عتقه إلّا حسن فراستى فيه، ولئن عشت لأتعرّفنّ ذلك، وإن متّ قبله فهو حرّ. فسمعه مولاه يوما يتغنّى بشعر ابن الرّقاع يقول:
ألمم على طلل عفا متقادم ... بين الذّؤيب «1» وبين غيب النّاعم
لولا الحياء وأنّ رأسى قد عسا ... فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
فدعاه مولاه فقال: أعد يا بنىّ؛ فأعاده فإذا هو أحسن مما ابتدأ به، وقال:
إنّ هذا لبعض ما كنت أقول. ثم قال له: أنّى لك هذا؟ قال: سمعت هذه الأعاجم تتغنّى بالفارسيّة فقلبتها في هذا الشعر. قال: فأنت حرّ لوجه الله. فلزم مولاه وكثر أدبه واتّسع في غنائه وشهر بمكة وأعجبوا به. فدفع إليه مولاه عبيد بن سريج وقال: يا بنىّ علّمه واجتهد فيه. وكان ابن سريج أحسن الناس صوتا، فتعلّم منه ثم برّز عليه. وقد قيل: إنه إنما سمع الغناء من الفرس لمّا أمر معاوية ببناء دوره بمكة التى يقال لها «الرّقط» ، وكان قد حمل إليها بنّائين من الفرس الذين كانوا بالعراق فكانوا يبنونها، وكان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع غناءهم على بنائهم؛ فما استحسن من ألحانهم أخذه ونقله إلى الشعر العربىّ، ثم صاغ على نحو ذلك. وكان من قديم غنائه الذى صنعه على تلك الألحان شعر الأحوص، وهو:
أسلام إنك قد ملكت فأسجحى ... قد يملك الحرّ الكريم فيسجح
منّى على عان أطلت عناءه ... فى الغلّ عندك والعناة تسرّح(4/240)
إنى لأنصحكم وأعلم أنّه ... سيّان عندك من يغشّ وينصح
وإذا شكوت إلى سلامة حبّها ... قالت أجدّ منك ذا أم تمزح
وهذا من أقدم الغناء العربىّ المنقول عن الفارسىّ. قال: وعاش سعيد بن مسجح حتى لقيه معبد وأخذ عنه في أيام الوليد بن عبد الملك.
ومن أخبار سعيد مارواه أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه قال: كتب عامل لعبد الملك بن مروان بمكة إليه أنّ رجلا أسود يقال له سعيد بن مسجح قد أفسد فتيان قريش وأنفقوا عليه أموالهم. فكتب إليه: أن اقبض ماله وسيّره إلىّ. فتوجّه ابن مسجح الى الشأم؛ فصحبه رجل له جوار مغنّيات في الطريق. فقال له: أين تريد؟ فأخبره الخبر وقال: أريد الشأم؛ فصحبه حتى بلغا دمشق، فدخلا مسجدها فسألا: من أخصّ الناس بأمير المؤمنين؟ فقالوا: هؤلاء النفر من قريش وبنو عمّه.
فوقف ابن مسجح عليهم فسلّم، ثم قال: يا فتيان، هل فيكم من يضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض وكان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها «برق الأفق» ، فتثاقلوا به إلّا فتى منهم تذمّم»
فقال له: أنا أضيفك، وقال لأصحابه: انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفى. فقالوا: لا، بل تجىء معنا أنت وضيفك. فذهبوا جميعا الى بيت القينة. فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد:
إنى رجل أسود، ولعل فيكم من يقذرنى، فأنا أجلس وآكل ناحية وقام؛ فاستحيوا منه وبعثوا له بما أكل. فلما صاروا إلى الشّراب قال لهم مثل ذلك ففعلوا.
ثم أخرجوا جاريتين، فجلستا على سرير قد وضع لهما فغنّتا إلى العشاء ثم دخلتا؛ وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة وهما معها فجلستا أسفل السرير عن يمينه وشماله وجلست هى على السرير. قال ابن مسجح: فتمثلت هذا البيت:(4/241)
فقلت أشمس أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم
فغضبت الجارية وقالت: أيضرب مثل هذا الأسود بى الأمثال! فنظروا إلىّ نظرا منكرا، ولم يزالوا يسكّنونها. ثم غنّت صوتا. قال ابن مسجح: فقلت:
أحسنت والله! فغضب مولاها وقال: أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتى! فقال لى الرجل الذى أنزلنى عنده: قم فانصرف إلى منزلى، فقد ثقلت على القوم.
فذهبت أقوم. فتذمّم القوم وقالوا: بل أقم وأحسن أدبك: فأقمت. فغنّت، فقلت:
أخطأت والله وأسأت! ثم اندفعت فغنّيت الصوت؛ فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا أبو عثمان سعيد بن مسجح. فقلت: إى والله، أنا هو، والله لا أقيم عندكم ووثبت؛ فوثب القرشيون: فقال هذا: تكون عندى، وقال هذا: تكون عندى، [وقال هذا: بل عندى «1» ] . فقلت: والله لا أقيم إلا عند سيّدكم! (يعنى الرجل الذى أنزله منهم) وسألوه عما أقدمه. فأخبرهم. فقال له صاحبه: إنى أسمر الليلة عند أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو؟ فقال: لا والله، ولكنى أنا حداء.
فقال له: إنّ منزلى بحذاء منزل أمير المؤمنين، فإذا وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك. ومضى إلى عبد الملك. فلما رآه طيّب النفس أرسل إلى ابن مسجح؛ فأخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا:
إنك يا معاذ يابن الفضّل «2» ... إن زلزل الأقدام لم تزلزل
عن دين موسى والكتاب المنزل ... تقيم أصداغ «3» القرون الميّل
للحق حتى ينتحوا للأعدل(4/242)
فقال عبد الملك للقرشىّ: من هذا؟ فقال: رجل حجازىّ قدم علىّ. قال:
أحضره، فأحضره. ثم قال له: [هل «1» ] تغنّى غناء الرّكبان؟ فغنّى. فقال له: هل تغنّى الغناء المتقن؟ قال نعم. قال: هيه، فغنّى؛ فاهتزّ عبد الملك طربا، ثم قال: أقسم بالله إنّ لك في القوم اسما كبيرا، من أنت؟ ويلك! قال: أنا المظلوم المقبوض ماله المسيّر عن وطنه «سعيد بن مسجح» ، قبض مالى عامل الحجاز ونفانى. فتبسّم عبد الملك ثم قال: قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليك أموالهم؛ وأمّنه ووصله وكتب إلى عامله بالحجاز أن اردد إليه ماله، ولا تتعرّض اليه بسوء.
والله أعلم.
ذكر أخبار سائب خاثر
هو أبو جعفر سائب خاثر بن يسار، مولى لبنى ليث. وأصله من فيء كسرى، واشتراه عبد الله بن جعفر فأعتقه. وقيل: بل كان على ولائه لبنى ليث، ولكنه انقطع إلى عبد الله بن جعفر ولزمه وعرف به. وهو أوّل من عمل العود بالمدينة وغنّى به. قال: وكان عبد الله بن عامر بن كريز سبىّ «2» إماء صنّاجات «3» فأتى بهنّ المدينة. فكنّ يلعبن في يوم الجمعة ويسمع الناس منهنّ، فأخذ عنهنّ. وقدم رجل فارسىّ يعرف بنشيط، فغنّى، فعجب عبد الله بن جعفر منه. فقال له سائب خاثر:
أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسىّ بالعربيّة. ثم غدا على عبد الله بن جعفر وقد عمل في:(4/243)
لمن الديار رسومها قفر ... لعبت بها الأرواح والقطر
وخلا لها من بعد ساكنها ... حجج مضين ثمان أو عشر
والزعفران على ترائبها ... شرق به اللّبات والنحر
قال ابن الكلبىّ: وهو أوّل صوت غنّى به في الإسلام من الغناء العربىّ المتقن الصّنعة. قال: ثم اشترى عبد الله بن جعفر نشيطا بعد ذلك؛ فأخذ عنه سائب خاثر الغناء العربىّ، وأخذ عنه ابن سريج وجميلة ومعبد وعزّة الميلاء وغيرهم. وقيل:
إنه لم يكن يضرب بالعود وإنما كان يقرع بالقضيب ويغنّى مرتجلا. قال ابن الكلبى: وكان [سائب تاجرا «1» ] موسرا يبيع الطعام بالمدينة، وكان تحته أربع نسوة. وكان انقطاعه إلى عبد الله بن جعفر، وهو مع ذلك يخالط سروات الناس وأشرافهم لظرفه وحلاوته وحسن صوته. وكان قد آلى على نفسه ألّا يغنّى أحدا سوى عبد الله بن جعفر إلا أن يكون خليفة أو ولىّ عهد أو ابن خليفة؛ فكان على ذلك الى أن قتل، على ما نذكره. وأخذ عنه معبد غناء كثيرا. قال: وسمع معاوية غناء سائب خاثر مرارا، فالمرّة الأولى لمّا وفد عبد الله بن جعفر إلى معاوية وهو معه، فسأل عنه معاوية، فأخبره عبد الله خبره واستأذنه في دخوله عليه، فأذن له.
فلما دخل قام على الباب ثم رفع صوته فغنّى:
لمن الديار رسومها قفر ... الأبيات
فالتفت معاوية إلى عبد الله وقال: أشهد لقد حسّنه. وقضى معاوية حوائجه وأحسن اليه ووصله. وقيل: أشرف معاوية ليلة على منزل يزيد، فسمع صوتا أعجبه، واستخفّه السماع فاستمع حتى ملّ؛ ثم دعا بكرسىّ فجلس عليه واشتهى الاستزادة، فاستمع بقيّة ليلته. فلما أصبح غدا عليه يزيد؛ فقال: يا بنىّ، من كان(4/244)
جليسك البارحة؟ قال: أىّ جليس يا أمير المؤمنين؟ واستعجم عليه. فقال: عرّفنى به فإنه لم يخف علىّ شىء من أمرك. قال: هو سائب خاثر. قال معاوية: فأكثر له يا بنىّ من برّك وصلتك، فما رأيت بمجالسته بأسا.
قال ابن الكلبىّ: وقدم معاوية المدينة في بعض ما كان يقدم، فأمر حاجبه بالإذن للنّاس؛ فخرج ثم رجع فقال: ما بالباب أحد. فقال معاوية: وأين الناس؟
قال: عند عبد الله بن جعفر. فركب معاوية بغلته ثم توجّه اليهم. فلما جلس قال بعض القرشيّين لسائب خاثر: مطرفى هذا لك إن اندفعت تغنّى (وكان المطرف من خز) ؛ فقام بين السّماطين وغنّى فقال:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى «1» ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فسمع منه معاوية وطرب وأصغى اليه حتى سكت وهو مستحسن لذلك، ثم انصرف، وأخذ سائب خاثر المطرف «2» .
وكان مقتل سائب خاثر بالمدينة يوم الحرّة. قال: وكان يخشى على نفسه من أهل الشأم. فخرج اليهم وجعل يقول: أنا مغنّ، ومن حالى ومن قصتى كيت وكيت، وقد خدمت أمير المؤمنين يزيد وأباه قبله. فقالوا له: غنّ لنا، ففعل.
فقام أحدهم فقال: أحسنت والله، ثم ضربه بالسيف فقتله. وبلغ يزيد خبره ومرّ به اسمه في أسماء من قتل فلم يعرفه وقال: من سائب خاثر؟ فعرّف به، فقال: ويله ما له وما لنا! ألم نحسن إليه ونصله ونخلطه بأنفسنا! فما الذى حمله على عداوتنا! لا جرم أنّ بغيه علينا صرعه. وقيل: إنه لمّا بلغه قتله قال: إنا لله! أو بلغ(4/245)
القتل إلى سائب خاثر وطبقته! ما أرى أنه بقى بالمدينة أحد، وقال. قبحكم الله يأهل الشأم! تجدهم وجدوه في حائط أو حديقة مستترا فقتلوه. وقد قيل: إنه تقدّم يوم الحرّة وقاتل حتى قتل. والله أعلم.
ذكر أخبار طويس
هو عيسى بن عبد الله. وكنيته أبو عبد المنعم، وغيّرها المخّنثون فقالوا:
أبو عبد النعيم. وطويس لقب غلب عليه، وقيل: اسمه طاوس، مولى بنى مخزوم.
وكان أيضا يلقّب بالذائب؛ لأنه غنّى:
قد برانى الحبّ حتى ... كدت من وجدى أذوب
وهذا أوّل غناء غنّاه وهزج هزجه. وقد ضرب المثل به في الشؤم فقالوا:
«أشأم من طويس» لأنه ولد يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفطم يوم مات أبو بكر رضى الله عنه، وختن يوم مات عمر رضى الله عنه، وتزوّج يوم قتل عثمان، وولد له يوم مات علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وكان مخنّثا أحول طويلا؛ وقيل: إنه ولد ذاهب العين اليمنى. قالوا: وكانت أمّه تمشى بين نساء الأنصار بالنمائم. وطويس أوّل من صنع الهزج والرمل في الإسلام، وكان الناس يضربون به المثل فيقولون: «أهزج من طويس» . وكان لا يضرب بالعود وإنما ينقر بالدّفّ. وكان ظريفا عالما بأمر المدينة وأنساب أهلها.
حكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده إلى المدائنىّ قال: قدم ابن سريح المدينة، فجلس يوما في جماعة وهم يقولون له: أنت والله أحسن الناس غناء، إذ مرّ بهم طويس فسمعهم وما يقولون، فاستلّ دفّه من حضنه ونقره وغنّى؛ فلما سمعه(4/246)
ابن سريج قال: هذا والله أحسن الناس غناء لا أنا. وقال المدائنىّ، قال مسلمة «1» ابن محارب: حدّثنى رجل من أصحابنا قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل من أصحابنا فانتهينا إلى واد، فدعونا بالغداء، فمدّ الرجل يده إلى الطعام فلم يقدر عليه، وكان قبل ذلك يأكل معنا؛ فخرجنا نسأل عن حاله فنلقى «2» رجلا طويلا أحول مضطرب الخلق في زىّ الأعراب؛ فقال لنا: ما لكم؟ فأنكرنا سؤاله لنا؛ فأخبرناه خبر الرجل فقال: ما اسم صاحبكم؟ فقلنا: أسيد؛ فقال: هذا واد قد أخّذت «3» سباعه فارتحلوا، فلو قد جاوزتم الوادى استمرّ «4» صاحبكم وأسد «5» وأكل. قلنا في أنفسنا: هو من الجنّ، ودخلتنا فزعة. ففهم ذلك وقال: ليفرخ روعكم فأنا طويس. فقال له رجل منّا:
مرحبا بك أبا عبد النعيم، ما هذا الزّىّ؟! فقال: دعانى بعض أودّائى من الأعراب فخرجت إليهم وأحببت أن أتخطّى الأحياء فلا ينكرونى. فسأله رجل منّا أن يغنّينا؛ فاندفع ونقر بدفّ كان معه مربّع، فلقد خيّل لى أنّ الوادى ينطق معه حسنا.
وتعجّبنا من علمه وما أخبرنا به من أمر صاحبنا.
قال المدائنىّ: وكان طويس ولعا بالشعر الذى قالته الأوس والخزرج فى حروبهم، وكان يريد بذلك الإغراء؛ فقلّ مجلس اجتمع فيه هذان الحيّان فغنّى فيه طويس إلا وقع فيه شىء. فنهى عن ذلك، فقال: والله لا تركت الغناء بشعر الأنصار حتى يوسّدونى التراب؛ وذلك لكثرة تولّع القوم به، وكان يبدى السرائر ويخرج الضغائن؛ وغناؤه يستحسن ولا يصبر عن حديثه.(4/247)
وحكى الأصبهانىّ عفا الله عنه قال: كان بالمدينة مخنّث يقال له النّغاشى.
فقيل لمروان بن الحكم: إنه لا يقرأ من كتاب الله تعالى شيئا. فبعث إليه فاستقرأه أمّ الكتاب؛ فقال: والله ما معى بناتها، أو ما أقرأ البنات فكيف أقرأ أمّهنّ! فقال: أتهزأ لا أمّ لك! فأمر به فقتل ببطحان «1» ، وقال: من جاءنى بمخنّث فله عشرة دنانير. فأتى طويس وهو في بنى الحارث بن الخزرج فأخبر بمقالة مروان؛ فقال: أما فضّلنى الأمير عليهم بفضل حتى جعل فيّ وفيهم شيئا واحدا!. ثم خرج حتى نزل السويداء (على ليلتين من المدينة في طريق الشأم) فنزلها، فلم يزل بها بقيّة عمره. وعمّر حتى مات في ولاية الوليد بن عبد الملك. ثم ساق الأصفهانىّ هذه القصة في موضع آخر بسند آخر قال: خرج يحيى بن الحكم وهو أمير على المدينة، فبصر بشخص في السّبخة مما يلى مسجد الأحزاب؛ فلما نظر إلى يحيى جلس؛ فاستراب به، فوجّه إليه أعوانه، فأتى به كأنه امرأة في ثياب مصبّغة مصقولة وهو ممتشط مختضب. فقال له أعوانه: هذا ابن نغاش المخنث. فقال: ما أحسبك تقرأ من كتاب الله تعالى شيئا! اقرأ أمّ القرآن؛ فقال: لو عرفت أمّهن عرفت البنات. فأمر به فضربت عنقه. وساق نحو ما تقدّم، إلا أنه قال: جعل في كل مخنّث ثلاثمائة درهم.
وحكى أيضا بسند رفعه إلى صالح بن كيسان وغيره: أنّ أن بن عثمان لمّا أمّره عبد الملك على الحجاز أقبل، حتى [اذا «2» ] دنا من المدينة تلقّاه أهلها وخرج إليه أشرافها، فخرج معهم طويس. فلما رآه سلّم عليه، ثم قال له: أيها الأمير،(4/248)
إنى كنت قد أعطيت الله تعالى عهدا إن رأيتك أميرا لأخضبن يدى إلى المرفقين ثم أزدو «1» بالدّف بين يديك. ثم أبدى عن دفّه وتغنّى [بشعر ذى جدن الحميرىّ «2» ] :
ما بال أهلك يا رباب ... خزرا كأنهم غضاب
فطرب أبان حتى كاد يطير، ثم جعل يقول: حسبك يا طاوس! - ولم يقل له طويس لنبله في عينه- ثم قال له: اجلس، فجلس. فقال له أبان: قد زعموا أنك كافر. فقال له: جعلت فداءك! والله إنى لأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله [صلّى الله عليه وسلّم] وأصلّى الخمس وأصوم رمضان وأحجّ البيت. قال:
أفأنت أكبر أم عمرو بن عثمان؟ - وكان عمرو أخا أبان لأبيه وأمه- فقال طويس: جعلت فداءك! أنا والله مع جلائل نساء قومى أمسك بذيولهن يوم زفّت أمّك المباركة إلى «3» أبيك الطيب. فاستحيا أبان ورمى بطرفه الى الأرض.
ذكر أخبار عبد الله «4» بن سريج
هو أبو يحيى عبد الله بن سريج، مولى بنى نوفل بن عبد مناف. وقال ابن الكلبى:
إنه مولى لبنى الحارث بن عبد المطلب. وقيل: إنه مولى لبنى ليث، ومنزله بمكة.
وقال الحسن بن عتبة اللهبىّ: إنه مولى لبنى عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.
وحكى أبو الفرج الأصبهانىّ أنه كان آدم أحمر ظاهر الدّم سناطا «5» ، فى عينيه قبل «6» ، وبلغ خمسا وثمانين سنة، وكان منقطعا إلى عبد الله بن جعفر.(4/249)
ونقل أيضا عن ابن الكلبىّ أنه كان مخنّثا أحول أعمش، يلقّب وجه الباب.
وكان لا يغنّى إلا متنقّبا، مسبل القناع على وجهه. قال: وكان أحسن الناس غناء، وكان يغنّى مرتجلا ويوقع بقضيب، وقيل: كان يضرب بالعود. وغنّى في زمن عثمان بن عفّان، ومات في خلافة هشام بن عبد الملك. وقيل: كان اسمه عبيد بن سريج من أهل مكة. وقال ابن جريج: كان عبيد بن سريج مولى آل خالد بن أسيد، وقيل: كان أبوه تركيا. وقيل: كان عوده على صنعة عيدان الفرس، وهو أوّل من ضرب به على الغناء العربىّ بمكة؛ وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة، فأعجب أهل مكة غناؤهم. فقال ابن سريج: أنا أضرب به على غنائى، فضرب به فكان أحذق الناس. وأخذ الغناء عن سعيد بن مسجح، وقد تقدّم ذكر ذلك. وأوّل ما اشتهر بالغناء في ختان ابن مولاه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى حسين. قال ابن سريج لأمّ الغلام: خفّضى عليك بعض المغرم والكلفة، فو الله لألهين نساءك حتى لا يدرين ما جئت به. وكان معبد إذا أعجبه غناء نفسه قال: أنا اليوم سريجىّ.
ومن أخباره أيضا أن عطاء بن أبى رباح لقيه بذى طوى وعليه ثياب مصبّغة وفي يده جرادة مشدودة الرّجل بخيط يطيرها ويجذبها كلما تخلّفت؛ فقال له عطاء:
يا فتّان، ألا تكفّ عما أنت فيه! كفى الله الناس مئونتك. فقال له ابن سريج:
وما على الناس من تلوبنى ثيابى ولعبى بجرادتى! فقال: تغنّيهم أغانيك الخبيثة.
فقال له ابن سريج: بحقّ من تبعته من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليك إلّا سمعت منّى بيتا من الشعر، فإن سمعت منكرا أمرتنى بالإمساك عما أنا عليه، وأنا أقسم بالله وبحقّ هذه البنيّة إن أمرتنى(4/250)
بعد استماعك منّى بالإمساك عما أنا عليه لأفعلنّ. فأطمع ذلك عطاء في ابن سريج وقال له: قل. فاندفع يغنّى بشعر جرير:
إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا
غيّضن من عبراتهنّ وقلن لى ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
قال: فلما سمعه عطاء اضطرب اضطرابا شديدا وداخلته أريحيّة، فحلف ألّا يكلّم أحدا بقيّة يومه إلا بهذا الشعر، وصار إلى مكانه من المسجد الحرام، فكان كل من يأتيه يسأل عن حلال أو حرام أو خبر لا يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى وينشد هذا الشعر حتى صلّى المغرب، ولم يعاود ابن سريج بعدها ولا تعرّض له.
وحكى عنه أيضا أنّ عمر بن أبى ربيعة حجّ في عام من الأعوام ومعه ابن سريج، فلما رموا الجمرات تقدّما الحاجّ إلى كثيب على خمسة أميال من مكة مشرف على طريق المدينة وطريق الشأم والعراق، وهو كثيب شامخ مفرد عن الكثبان، فصارا إليه فأكلا وشربا. فلما انتشيا أخذ ابن سريج الدفّ فنقره وجعل يتغنّى وهم ينظرون إلى الحاجّ. فلما أمسيا رفع ابن سريج صوته وتغنّى بشعر لعمر بن أبى ربيعة، فسمعه الرّكبان، فجعلوا يصيحون به: يا صاحب الصوت، أما تتّقى الله! قد حبست الناس عن مناسكهم، فيسكت قليلا حتى إذا مضوا رفع صوته فيقف آخرون؛ إلى أن وقف عليه في الليل رجل حسن الهيئة على فرس عتيق حتى وقف بأصل الكثيب، ثم نادى:
يا صاحب الصوت، أيسهل عليك أن تردّد شيئا مما سمعته منك؟ قال: نعم ونعمة عين، فأيّها تريد؟ فاقترح صوتا فغنّاه. ثم قال له ابن سريج: ازدد إن شئت؛ فاقترح صوتا آخر فغنّاه، فقال له: والثالث ولا أستزيدك، فغناه الثالث. وقال له ابن سريج: أبقيت «1» لك حاجة؟ قال نعم، تنزل لأخاطبك؛ فنزل إليه فإذا هو يزيد(4/251)
ابن عبد الملك، فأعطاه حلّته وخاتمه وقال: خذهما ولا تخدع فيهما فإن شراءهما ألف وخمسمائة دينار؛ فعاد ابن سريج بهما فأعطاهما لعمر بن أبى ربيعة وقال:
هما بك أشبه منهما بى، فأخذهما وعوّضه عنهما ثلاثمائة دينار؛ وغدا فيهما إلى المسجد، فعرفهما الناس وجعلوا يتعجّبون ويسألون عمر عنهما؛ فيخبرهم أن يزيد بن عبد الملك كساه ذلك. وقيل: إن عمر بن عبد العزيز مرّ به فسمع ابن سريج وهو يغنّى، فقال: لله درّ هذا الصوت لو كان بالقرآن!.
قال إبراهيم بن المهدىّ: كان ابن سريج رجلا عاقلا أديبا، وكان يعاشر الناس بما يشتهون فلا يغنّيهم بما مدح به أعداؤهم ولا بما فيه عار عليهم أو غضاضة منهم.
ومن أخباره ما حكاه أبو الفرج الأصبهانى بإسناده، قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامل مكة أن أشخص إلىّ ابن سريج، فأشخصه إليه. فلما قدم مكث أياما لا يدعوه ولا يلتفت إليه، ثم ذكره فاستحضره، فدخل عليه وسلّم فأذن له بالجلوس واستدناه حتى كان قريبا منه؛ فقال: ويحك يا عبيد! لقد بلغنى عنك ما حملنى على الوفادة بك من كثرة أدبك وجودة اختيارك مع ظرف لسانك وحلاوة مجلسك. قال: جعلت فداءك يا أمير المؤمنين! «تسمع بالمعيدىّ لا أن تراه «1» » ، قال الوليد: إنى لأرجو ألا تكون أنت ذاك، ثم قال: هات ما عندك؛ فاندفع يغنّى بشعر الأحوص:
وإنّى إذا حلّت ببيش «2» مقيمة ... وحلّ بوجّ «3» جالسا أو تتهما(4/252)
يمانية شطّت وأصبح نفعها ... رجاء وظنّا بالمغيب مرجّما
أحبّ دنوّ الدّار منها وقد أبى ... بها صدع شعب الدار إلّا تثلّما
بكاها وما يدرى سوى الظنّ ما بكى ... أحيّا يبكّى أم ترابا وأعظما
فدعها وأخلف للخليفة مدحة ... تزل عنك بؤسى أو تفيدك مغنما «1»
فإن بكفّيه مفاتيح رحمة ... وغيث حيا يحيا به الناس مرهما «2»
إمام أتاه الملك عفوا ولم يثب ... على ملكه مالا حراما ولا دما
تخيّره ربّ العباد لخلقه ... وليّا وكان الله بالناس أعلما
ينال الغنى والعزّ من نال ودّه ... ويرهب موتا عاجلا من تشأما «3»
فقال الوليد: أحسنت والله وأحسن الأحوص. ثم قال: يا عبيد هيه! فغنّاه بشعر عدى بن الرّقاع العاملىّ يمدح الوليد:
طار الكرى وألمّ الهمّ فاكتنعا «4» ... وحيل بينى وبين النوم فامتنعا
كان الشباب قناعا أستكنّ به ... وأستظلّ زمانا ثمّت انقشعا
واستبدل الرأس شيبا بعد داجية ... فينانة ما ترى في صدغها نزعا «5»
فإن تكن ميعة من باطل ذهبت ... وأعقب الله بعد الصّبوة الورعا
فقد أبيت أراعى الخود رابية «6» ... على الوسائد مسرورا بها ولعا(4/253)
برّاقة الثغر يشفى القلب لذّتها ... إذا مقبّلها في ريقها كرعا
كالأقحوان بضاحى الروض صبّحه ... غيث أرشّ بتنضاح وما نقعا
صلى الذى الصلوات الطيّبات له ... والمؤمنون إذا ما جمّعوا الجمعا
على الذى سبق الأقوام ضاحية ... بالأجر والحمد حتى صاحباه معا
هو «1» الذى جمع الرحمن أمّته ... على يديه وكانوا قبله شيعا
عذنا بذى العرش أن نحيا ونفقده ... وأن نكون لراع بعده تبعا
إن الوليد أمير المؤمنين له ... ملك أعان عليه الله فارتفعا
لا يمنع الله «2» ما أعطى الذين هم ... له عباد ولا يعطون ما منعا
فقال الوليد: صدقت يا عبيد، أنّى لك هذا؟ قال: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) *.
قال الوليد: لو غير هذا قلت لأحسنت أدبك. قال ابن سريج: (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) *
قال الوليد: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ)
. قال ابن سريج: (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)
. قال الوليد: لعلمك والله أكثر وأعجب إلىّ من غنائك! غنّنى؛ فغنّاه بشعر عدىّ بن الرّقاع يمدح الوليد «3» فقال:
عرف الدّيار توهما فاعتادها ... من بعد ما شمل البلى أبلادها «4»(4/254)
[إلا رواسى كلهنّ قد اصطلى ... جمرا وأشعل أهلها إيقادها «1»
كانت رواحل للقدور فعرّيت ... منهنّ واستلب الزمان رمادها
وتنكّرت كلّ التنكّر بعدنا ... والأرض تعرف بعلها وجمادها «2» ]
ولربّ واضحة العوارض حرّة «3» ... كالرّيم قد ضربت به أوتادها
تصطاد بهجتها المعلّل بالصبا ... عرضا فتقصده ولن يصطادها «4»
كالظّبية البكر الفريدة ترتعى ... من أرضها قفّاتها وعهادها «5»
خضبت لها عقد البراق جبينها ... من عركها علجانها وعرادها «6»
كالزّين في وجه العروس تبذّلت ... بعد الحياء فلاعبت أرآدها
تزجى أغنّ كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها
ركبت به من عالج متحيّرا ... قفرا تريّث وحشه أولادها «7»
فترى محانيه التى تسق الثرى ... والهبر يونق نبتها روّادها «8»
بانت سعاد وأخلفت ميعادها ... وتباعدت عنا لتمنع زادها(4/255)
إنى إذا ما لم تصلنى خلّتى ... وتباعدت عنّى اغتفرت بعادها «1»
[إمّا ترى شيبى تقشّع لمّتى ... حتى علا وضح يلوح «2» سوادها
فلقد ثنيت يد الفتاة وسادة ... لى جاعلا يسرى يدىّ وسادها
وأصاحب الجيش العرمرم فارسا ... فى الخيل أشهد كرّها وطرادها
وقصيدة قد بتّ أجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها «3»
نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها «4»
فسترت عيب معيشتى بتكرّم ... وأتيت في سعة النعيم سدادها «5»
وعلمت حتى ما أسائل واحدا ... عن علم واحدة لكى أزدادها]
صلّى الإله على امرىء ودّعته ... وأتمّ نعمته عليه وزادها
وإذا الربيع تتابعت أنواؤه ... فسقى خناصرة الأحصّ فجادها «6»
نزل الوليد بها فكان لأهلها ... غيثا أغاث أنيسها وبلادها
أولا ترى أن البريّة كلّها ... ألقت خزائمها إليه فقادها
ولقد أراد الله إذ ولّاكها ... من أمّة إصلاحها ورشادها
أعمرت أرض المسلمين فأقبلت ... وكففت عنها من يروم فسادها
وأصبت في أرض العدوّ مصيبة ... عمّت أقاصى غورها ونجادها
ظفرا ونصرا ما تناول مثله ... أحد من الخلفاء كان أرادها(4/256)
فإذا نشرت له الثناء وجدته ... جمع المكارم طرفها وتلادها
[غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها
تأتيه أسلاب الأعزّة عنوة ... قسرا ويجمع للحروب عتادها
وإذا رأى نار العدوّ تضرّمت ... سامى جماعة أهلها فاقتادها
بعرمرم تبدو الرّوابى ذى وعى ... كالحرّة احتمل الضحى أطوادها «1»
أطفأت نارا للحروب وأوقدت ... نار قدحت براحتيك زنادها
فبدت بصيرتها لمن يبغى الهدى ... وأصاب حرّ شديدها حسّادها
وإذا غدا يوما بنفحة نائل ... عرضت له الغد مثلها فأعادها
واذا عدت خيل تبادر غاية ... فالسابق الجالى يقود جيادها]
فأشار الوليد إلى بعض الخدم فغطّوه بالخلع، ووضعوا بين يديه كيس الدنانير وبدر الدراهم، ثم قال الوليد: يا مولى بنى نوفل بن الحارث لقد أوتيت أمرا جليلا فقال ابن سريج: وأنت يا أمير المؤمنين لقد آتاك الله ملكا عظيما وشرفا عاليا وعزا بسط يدك فيه فلم يقبضه عنك ولا يفعل إن شاء الله، فأدام الله لك ما ولّاك وحفظك فيما استرعاك؛ فإنك أهل لما أعطاك، ولا ينزعه منك إذ رآك له موضعا.
قال: يا نوفلىّ، وخطيب أيضا! قال ابن سريج: عنك نطقت، وبلسانك تكلّمت، وبعزّك بيّنت، وكان قد أمر بإحضار الأحوص بن محمد الأنصارىّ وعدىّ بن الرّقاع العاملىّ، فلما قدما عليه أمر بإنزالهما حيث ابن سريج فأنزلا منزلا بجوار منزله.
فقالا: والله لقرب أمير المؤمنين كان أحبّ إلينا من قربك يا مولى بنى نوفل، وإن فى قربك لما يلذّنا ويشغلنا عن كثير مما نريد. فقال لهما ابن سريج: أو قلّة شكر!(4/257)
فقال له عدىّ: كأنك يابن اللّخناء تمنّ علينا، [علىّ وعلىّ «1» ] إن جمعنا وإياك سقف بيت أو صحن دار عند أمير المؤمنين، فقال الأحوص: أو لا تحتمل لأبى يحيى الزّلّة والهفوة، وكفّارة يمين خير من لجاج في غير منفعة. فتحوّل عدىّ وبقى الأحوص. وبلغ الوليد ما جرى بينهم، فدعا ابن سريج فأدخله بيتا وأرخى دونه سترا ثم أمره إذا فرغ الأحوص وعدىّ من كلمتيهما أن يغنّى، فلما دخلا وأنشداه مدائح لهما فيه، رفع ابن سريج صوته من حيث لا يرونه وضرب بعود. فقال عدىّ: يا أمير المؤمنين، أتأذن لى أن أتكلّم؟ قال: قل يا عاملىّ، قال: مثل هذا عند أمير المؤمنين ويبعث إلى ابن سريج يتخطّى رقاب قريش والعرب من تهامة إلى الشأم ترفعه أرض وتخفضه أخرى ليسمع غناءه! قال: ويحك يا عدىّ! أو لا تعرف هذا الصوت؟ قال: لا والله ما سمعته قط ولا سمعت مثله، ولولا أنه فى مجلس أمير المؤمنين لقلت طائفة من الجنّ يتغنّون، فقال: اخرج عليهم، فخرج فإذا ابن سريج. فقال عدىّ: حقّ لهذا أن يحمل! حقّ لهذا أن يحمل! ثلاثا، ثم أمر لهما بمثل ما أمر به لابن سريج وارتحل القوم.
وروى أبو الفرج أيضا عن سهل بن بركة وكان يحمل عود ابن سريج قال:
كان على مكة نافع بن علقمة الكنانىّ فشدّد في الغناء والمغنّين والنبيذ ونادى فى المخنّثين. فخرج فتية من قريش إلى بطن محسّر «2» وبعثوا برسول لهم، فجاءهم براوية من شراب الطائف، فلما شربوا وطربوا قالوا: لو كان معنا ابن سريج تم سرورنا، فقلت: هو علىّ لكم، فقال لى بعضهم: دونك هذه البغلة فاركبها وامض إليه، فأتيته فأخبرته بمكان القوم وطلبهم إيّاه؛ فقال لى: ويحك! وكيف لى بذلك(4/258)
مع شدّة السلطان في الغناء وندائه فيه. فقلت له: أتردّهم؟ قال: لا والله! فكيف لى بالعود؛ فقلت: أنا أخبؤه لك فشأنك. فركب وسترت العود فأردفنى. فلما كنّا ببعض الطريق إذا بنافع بن علقمة قد أقبل؛ فقال لى: يابن بركة، هذا الأمير. فقلت له: لا بأس عليك! أرسل عنان البغلة وامض ولا تخف، ففعل.
فلما حاذيناه عرفنى ولم يعرف ابن سريج، فقال لى: يابن بركة، من هذا أمامك؟
قلت: من ينبغى أن يكون! هذا ابن سريج؛ فتبسّم ثم تمثّل:
فإن تنج منها يا أبان مسلّما ... فقد أفلت الحجّاج خيل شبيب
ثم مضى ومضينا. فلما كنّا قريبا من القوم نزل إلى شجرة يستريح. فقلت له: غنّنى مرتجلا؛ فرفع صوته فخيّل إلىّ أن الشجرة تنطق معه، فغنّى وقال:
كيف الثّواء ببطن مكة بعد ما ... همّ الذين تحبّ بالإنجاد
أم كيف قلبك إذ ثويت مخمّرا ... سقما خلافهم وكربك «1» بادى
هل أنت إن ظعن الأحبّة غادى ... أم «2» قبل ذلك مدلج بسواد
قال: فقلت: أحسنت والذى فلق الحبّة وبرأ النّسمة! ولو أن كنانة كلّها سمعتك لاستحسنتك «3» ، فكيف بنافع بن علقمة! المغرور من غرّه نافع. ثم قلت: زدنى وإن كان القوم متعلّقة قلوبهم بك؛ فغنّى وتناول عودا من الشجرة فوقّع به على الشجرة؛ فكان صوت الشجرة أحسن من خفق بطون الضّأن على العيدان إذا أخذتها عيدان الدّفلى «4» ، وغنّى:
لا تجمعى هجرا علىّ وغربة ... فالهجر في تلف المحبّ سريع(4/259)
من ذا فديتك يستطيع لحبه ... دفعا إذا اشتملت عليه ضلوع
فقلت: بنفسى أنت والله، من لا يكلّ ولا يملّ! والله ما جهل من فهمك، اركب بنا فدتك نفسى. قال: أمهلنى كما أمهلتك أقض بعض شأنى. فقلت: وهل عما تريد مدفع!. فقام فصلّى ركعتين ثم ضرب بيده إلى الشجرة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. ثم مضينا والقوم مستشرفون. فلما دنونا منهم إذا الغريض يغنّيهم:
من خيل حىّ لا تزال مغيرة ... سمعت على شرف صهيل حصان
فبكى ابن سريج حتى ظننت أن نفسه قد خرجت. فقلت: ما يبكيك يا أبا يحيى؟
جعلت فداك لا يسوءك الله ولا يريك سوءا «1» ! قال: أبكانى هذا المخنّث بحسن غنائه وشجا صوته، والله ما ينبغى لأحد أن يغنّى وهذا الصبىّ حىّ؛ ثم نزل واستراح وركب. فلما سرنا هنيهة اندفع الغريض يغنّى لهم بلحنه:
يا خليلىّ قد مللت ثوائى ... بالمصلّى وقد سئمت البقيعا
بلّغانى ديار هند وسعدى ... وارجعانى فقد هويت الرجوعا
قال: ولصوته دوىّ في تلك الجبال. فقال ابن سريج: يابن بركة، أسمعت مثل هذا الغناء قط؟! قال: ونظروا إلينا فأقبلوا نشاوى يسحبون أعطافهم وجعلوا يقبلّون وجه ابن سريج. فنزل فأقام عندهم ثلاثا، والغريض لا ينطق بحرف، وأخذوا في شرابهم وقالوا: يا حبيب النفس وشقيقها، أعطها بعض شأنها «2» . فضرب بيده إلى جيبه «3» فأخرج منه مضرابا ثم أخذه بيده ووضع العود في حجره- فما رأيت [يدا «4» ] أحسن من يده(4/260)
ولا خشبة تخيّلت لى أنها جوهرة إلّا هى- ثم ضرب فلقد ضجّ «1» القوم جميعا؛ ثم غنّى فكلّ قال: لبّيك لبّيك! فكان ممّا غنّى به [واللحن له»
] هزج:
لبّيك يا سيّدتى ... لبّيك ألفا عددا
لبيك من ظالمة ... أحببتها مجتهدا
قومى إلى ملعبنا ... نحك الجوارى الخرّدا
وضع يد فوق يد ... نرفعها يدا يدا
فكلّ قال: نفعل ذاك؛ فلقد رأيتنا نستبق أيّنا تقع يده على يده. ثم غنّى:
ما هاج شوقك بالصّرائم ... ربع أحال لآل «3» عاصم
ربع تقادم عهده ... هاج المحبّ على التقادم
فيه النواعم والشبا ... ب النّاعمون مع النواعم
من كل واضحة الجبين عميمة ريّا المعاصم
ثم غنّى بقوله:
شجانى مغانى الحىّ وانشقّت العصا ... وصاح غراب البين أنت مريض
ففاضت دموعى عند ذاك صبابة ... وفيهنّ خود كالمهاة غضيض
وولّيت محزون الفؤاد مروّعا ... كئيبا ودمعى في الرداء يفيض
قال: فلقد رأيت جماعة من الطير وقعن بقربنا وما نحسّ من قبل ذلك منها شيئا. فقالت الجماعة: يا تمام السرور وكمال المجالس، لقد سعد من أخذ بحظّه «4» منك وخاب من حرمك، يا حياة القلوب ونسيم النفوس جعلنا الله فداءك، غنّنا.
فغنّى:(4/261)
يا هند إنك لو علم ... ت بعاذلين تتابعا
قال: فبدرت من بينهم فقبّلت عينيه، فتهافت القوم عليه يقبّلونه، ولقد رأيتنى وأنا أرفعهم عنه شفقة عليه.
وكانت وفاة ابن سريج بالعلّة التى أصابته من الجذام بمكة في خلافة سليمان ابن عبد الملك أو في خلافة الوليد، ودفن في موضع يقال له «دسم «1» » . رحمة الله عليه وعفا عنه وغفر له. والحمد لله ربّ العالمين.
حكى أنه لما احتضر نظر إلى ابنته نبكى فبكى وقال: إنه من أكبر همّى أنت وأخشى أن تضيعى بعدى. فقالت: لا تخف فما غنّيت شيئا إلا وأنا أغنّيه.
فقال: هاتى، فاندفعت فغنّت وهو مصغ إليها. فقال: قد أصبت ما في نفسى وهوّنت علىّ أمرك. ثم دعا سعيد بن مسعود الهذلى فزوّجه إيّاها؛ فأخذ أكثر غناء أبيها وانتحله.
ذكر أخبار معبد
هو معبد بن وهب، وقيل: ابن قطنىّ مولى ابن قطن؛ وقيل: إن قطنا مولى العاص بن واقصة «2» المخزومىّ، وقيل: مولى معاوية بن أبى سفيان. غنّى معبد فى أيام بنى أميّة في أوائلها، ومات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق.
قال أبو الفرج الأصفهانى:
إنه لمّا مات خرجت سلامة جارية الوليد بن يزيد بن عبد الملك وأخذت بعمود السرير والناس ينظرون إليها وهى تندبه وتقول شعر الأحوص:(4/262)
قد لعمرى بتّ ليلى ... كأخى الداء الوجيع
ونجىّ الهمّ منّى ... بات أدنى من نجيعى
كلما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعى
قد خلا من سيّد كا ... ن لنا غير مضيع
لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بخشوع
وكان معبد قد علّمها هذا الصوت فندبته به. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ:
كان معبد من أحسن الناس غناء، وأجودهم صنعة، وأحسنهم حلقا «1» ؛ وهو إمام أهل المدينة في الغناء، وأخذ عن سائب خاثر ونشيط الفارسىّ مولى عبد الله بن جعفر، وعن جميلة مولاة بهز (بطن من بنى سليم) . وفي معبد يقول الشاعر:
أجاد طويس والسّريجىّ بعده ... وما قصبات السّبق إلا لمعبد
وحكى أبو الفرج أيضا:
أن الوليد بن يزيد اشتاق إلى معبد، فوجّه اليه البريد إلى المدينة فأحضره. فلما بلغ الوليد قدومه أمر ببركة ملئت ماء ورد وخلط بمسك وزعفران، ثم جلس الوليد على حافة البركة وفرش لمعبد مقابله وضرب بينهما ستر ليس معهما ثالث. وجىء بمعبد فقيل له: سلّم على أمير المؤمنين واجلس في هذا الموضع؛ فسلّم فردّ عليه من خلف السّجف، ثم قال له: أتدرى لم وجّهت إليك؟ قال: والله أعلم وأمير المؤمنين.
قال: ذكرتك فأحببت أن أسمع منك. فقال له معبد: أأغنّى ما حضر أو ما يقترحه أمير المؤمنين؟ قال: [بل «2» ] غنّ:
مازال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء(4/263)
فغنّاه. فرفع الجوارى السّجف، ثم خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها، ثم خرج منها، فاستقبله الجوارى بثياب غير الثياب التى كانت عليه، ثم شرب وسقى معبدا ثم قال له: غنّنى يا معبد:
يا ربع مالك لا تجيب متيّما ... قد عاج نحوك زائرا ومسلّما
جادتك كلّ سحابة هطّالة ... حتى ترى عن زهرة «1» متبسّما
لو كنت تدرى من دعاك أجبته ... وبكيت من حرق عليه إذا دما
قال: فغنّاه. وأقبل الجوارى فرفعن السّتر، وخرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج، فلبس ثيابا غير تلك الثياب، ثم شرب وسقى معبدا وقال له:
غنّنى يا معبد:
عجبت لمّا رأتنى ... أندب الربع المحيلا
واقفا في الدار أبكى ... لا أرى إلّا الطلولا
كيف تبكى لأناس ... لا يملّون الذّميلا «2»
كلما قلت اطمأنت ... دارهم جدّوا «3» الرحيلا
قال: فلما غنّاه ألقى نفسه في البركة ثم خرج فردّوا عليه ثيابه، ثم شرب وسقى معبدا وقال له: يا معبد، من أراد أن يزداد حظوة عند الملوك فليكتم أسرارهم. فقال:
ذلك ممّا لا يحتاج أمير المؤمنين إلى إيصائى به. فقال الوليد: يا غلام احمل إلى معبد عشرة آلاف دينار تحصّل «4» له في بلده وألفى دينار لنفقة طريقه؛ فحملت إليه كلّها، وحمل على البريد من وقته إلى المدينة. وقد قيل: إنه أعطاه في ذلك المجلس خمسة عشر ألف دينار.(4/264)
وقال أبو الفرج بسند رفعه:
إن معبدا كان قد علّم جارية من جوارى الحجاز الغناء تدعى «طيبة «1» » وعنى بتخريجها؛ فاشتراها رجل من أهل العراق وأخرجها إلى البصرة وباعها هناك، فاشتراها رجل من أهل الأهواز فأعجب بها وذهبت به كلّ مذهب وغلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة من الزمان؛ فأخذ جواريه أكثر غنائها عنها.
فكان لمحبّته إيّاها وأسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار معبد وأين مستقرّه، ويظهر التعصب له والميل إليه والتقديم لغنائه على سائر الأغانى من أهل عصره، إلى أن عرف ذلك منه وبلغ معبدا خبره. فخرج من مكة حتى أتى البصرة؛ فلما وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك الوقت واليوم إلى الأهواز. فجاء معبد في طلب سفينة تحمله إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل، فركب فيها وكلاهما لا يعرف الآخر؛ وانحدرت السفينة. فلما صاروا بفهم نهر الأبلّة «2» ، أمر الرجل جواريه بالغناء فغنّين، إلى أن غنّت إحداهنّ صوتا من غناء معبد فلم تجد أداءه؛ فصاح بها معبد:
يا جارية، إن غناءك هذا ليس بمستقيم. فقال مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو! ألا تمسك «3» وتلزم شأنك! فأمسك. ثم غنّت أصواتا من غناء غيره وهو ساكت لا يتكلّم حتى غنّت من غنائه فأخلّت ببعضه؛ فقال لها معبد: يا جارية، قد أخللت بهذا الصوت إخلالا كثيرا. فغضب الرجل وقال له:
ويلك! ما أنت والغناء! ألا تكفّ عن هذا الفضول! فأمسك معبد. وغنّى الجوارى(4/265)
مليّا؛ ثم غنّت إحداهنّ صوتا من غنائه فلم تصنع فيه شيئا. فقال لها معبد:
يا هذه، أما تقومين «1» على أداء صوت واحد! فغضب الرجل وقال له: ما أراك تدع هذا الفضول بوجه ولا حيلة! فأقسم بالله إن عاودت لأخرجنّك من السفينة.
فأمسك معبد، حتى سكتت الجوارى سكتة، فاندفع يغنّى الصوت الأوّل حتى فرغ منه. فصاح الجوارى: أحسنت والله يا رجل، فأعده. قال: لا والله ولا كرامة.
ثم اندفع يغنّى الثانى؛ فقلن لسيّدهن: ويحك! هذا والله أحسن الناس غناء، فسله أن يعيده علينا ولو مرّة واحدة لعلنا نأخذه منه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبدا.
قال: قد سمعتنّ سوء ردّه عليكنّ وأنا خائف مثله منه، وقد استقبلناه بالإساءة، فاصبرن حتى نداريه. قال: ثم غنّى الثالث فزلزل عليهم الأرض. فوثب الرجل فقبّل رأسه، وقال: يا سيّدى أخطأنا عليك ولم نعرف موضعك. فقال له: وهبك لم تعرف موضعى، قد كان ينبغى لك أن تتثبّت ولا تسرع إلى سوء العشرة وجفاء القول.
فلم يزل يرفق به حتى نزل إليه، وكان معبد قد أجلس في مؤخّر السفينة. فقال له الرجل: ممن أخذت هذا الغناء؟ قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذه جواريك؟ قال: أخذنه من جارية كانت لى، كانت قد أخذت الغناء عن أبى عبّاد معبد وكانت تحلّ منى مكان الروح من الجسد، ثم استأثر الله بها وبقى هؤلاء الجوارى وهنّ [من «2» ] تعليمها، فأنا إلى الآن أتعصّب لمعبد وأفضّله على المغنّين جميعا، وأفضّل صنعته على كل صنعة. فقال له معبد: وإنك لأنت هو! أفتعرفنى؟ قال لا.
قال: فصكّ معبد بيده صلعته ثم قال: فأنا «3» والله معبد وإليك قدمت من الحجاز ووافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، وو الله لا قصّرت في جواريك(4/266)
هؤلاء ولأجعلنّ لك في كل واحدة خلفا من الماضية. فأكبّ الرجل والجوارى على يده ورجليه يقبّلونها ويقولون: كتمتنا نفسك حتى جفوناك في المخاطبة وأسأنا عشرتك وأنت سيّدنا ومن تتمنّى أن تلقاه. ثم غيّر الرجل أثواب معبد وخلع عليه عدّة خلع وأعطاه في ذلك الوقت ثلاثمائة دينار وطيّبا وهدايا مثلها، وانحدر معه إلى الأهواز فأقام عنده حتى رضى حذق جواريه، ثم ودّعه وانصرف إلى الحجاز.
ذكر أخبار الغريض وما يتّصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة
هو عبد الملك، وكنيته أبو زيد «1» ، وقيل: أبو مروان. والغريض لقب لقّب به؛ لأنه [كان «2» ] طرىّ الوجه نضرا غضّ الشباب حسن المنظر، فلقّب بذلك.
والغريض: الطّرىّ من كل شىء. وقال ابن الكلبى: شبّه بالإغريض وهو الجمّار ثم ثقل ذلك على الألسنة فحذفت الألف فقيل: الغريض. وهو من مولّدى البربر.
وولاؤه للثريّا (صاحبة عمر بن أبى ربيعة) وأخواتها الرّضيّا وقريبة وأم عثمان بنات علىّ بن عبد الله بن الحارث بن أميّة الأصغر. قالوا: وكان يضرب بالعود وينقر بالدّفّ ويوقع بالقضيب. وكان قبل الغناء خيّاطا. وأخذ الغناء في أوّل أمره عن عبيد بن سريج، لأنه كان قد خدمه؛ فلما رأى ابن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه، خشى أن يأخذ غناءه فيغلبه عليه ويفوقه بحسن وجهه، وحسده، فاعتلّ عليه وشكاه الى مولياته، وكنّ دفعنه اليه ليعلّمه الغناء، وجعل يتجنّى عليه ثم طرده.
فعرّف مولياته غرض ابن سريج فيه وأنه حسده؛ فقلن له: هل لك أن تسمع(4/267)
نوحنا على قتلانا فتأخذه وتغنّى عليه؟ قال نعم. فأسمعنه المراثى فآحتذاها وخرّج غناءه عليها. وكان ينوح مع ذلك فيدخل المآتم وتضرب دونه الحجب ثم ينوح فيفتن كلّ من سمعه. فلما كثر غناؤه عدل الناس إليه لما كان فيه من الشّجا «1» ؛ فكان ابن سريج لا يغنّى صوتا إلا عارضه فيه فيغنّى فيه لحنا آخر. فلما رأى ابن سريج موقع الغريض اشتدّ عليه وحسده، فغنّى الأرمال والأهزاج، فاشتهاها الناس. فقال له الغريض: يا أبا يحيى قصّرت الغناء وحذفته. قال: نعم يا مخنّث حين جعلت تنوح على أبيك وأمّك. قال: ولم يفضّل ابن سريج عليه إلا بالسّبق، وأما غير ذلك فلا.
وقال بعضهم: كان الغريض أشجى غناء، وابن سريج أحكم صنعة. وحكى أبو الفرج الأصفهانى بسند رفعه إلى أيّوب بن عباية عن مولى لآل الغريض قال:
حدّثنى بعض مولياتى وقد ذكرن الغريض فترحّمن عليه وقلن: جاءنا يوما فحدّثنا بحديث أنكرناه عليه ثم عرفناه بعد ذلك حقيقة. قالت: وكان ابن سريج بجوارنا فدفعناه إليه ولقّن الغناء، وكان من أحسن الناس صوتا، ففتن أهل مكة بحسن وجهه مع حسن صوته. فلما رأى ذلك ابن سريج نحّاه «2» عنه. فكان بعض مولياته تعلّمه النّياحة فبرّز فيها. فجاءنى يوما فقال: نهتنى الجنّ أن أنوح وأسمعتنى صوتا عجيبا، فقد ابتنيت عليه لحنا فاسمعيه منى، فاندفع فغنّى بصوت عجيب في شعر لمرّار الأسدىّ:
حلفت لها بالله ما بين ذى الغضا ... وهضب القنان «3» من عوان ومن بكر(4/268)
أحبّ إلينا منك دلّا وما نرى ... به عند ليلى من ثواب ولا أجر
قالت: فكذّبناه وقلنا: شىء فكّر فيه وأخرجه على هذا الجنس. فكان في كل يوم يأتينا فيقول: سمعت البارحة صوتا من الجنّ بترجيع وتقطيع، فقد بنيت عليه صوت كذا وكذا بشعر فلان، فلم يزل على ذلك ونحن ننكر عليه. فإنا لكذلك ليلة وقد اجتمع جماعة من نساء أهل مكة في جمع لنا سمرنا فيه ليلتنا والغريض يغنّينا بشعر عمر بن أبى ربيعة حيث يقول:
أمن آل زينب جدّ البكور ... نعم فلأىّ هواها تصير
إذ سمعنا في بعض الليل عزيفا عجيبا وأصواتا ذعرتنا وأفزعتنا. فقال لنا الغريض:
إن في هذه الأصوات صوتا إذا نمت سمعته وأصبح أبنى عليه غنائى؛ فأصغينا إليه فإذا نغمته نغمة الغريض بعينها، فصدّقناه تلك الليلة.
وكانت وفاة الغريض باليمن في خلافة سليمان بن عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز، وكان قد هرب من نافع بن علقمة لمّا ولى مكة من مكة إلى اليمن واستوطنها ومات بها.
وللغريض أخبار مستظرفة وحكايات مستحسنة قد رأينا أن نثبت في هذا الموضع ما سنقف عليه إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك ما حكاه أبو الفرج الأصبهانىّ في كتابه المترجم بالأغانى في أخبار الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومىّ، بعد أن ساق قطعة من أخباره مع عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وأنه كان يهواها ويشبّب بها في شعره، ثم قال في أثناء ذلك: لمّا قدمت عائشة بنت طلحة مكة أرسل إليها الحارث وهو أمير مكة يومئذ، وكان وليها من قبل عبد الملك بن مروان، فأرسل إليها:
إنى أريد السلام عليك؛ فإذا خفّ ذلك عليك أذنت، وكان الرسول الغريض.(4/269)
فأرسلت إليه: إنّا حرم، فإذا أحللنا أذنّاك. فلما أحلّت خرجت سرّا على بغلتها، ولحقها الغريض بعسفان أو قريب منه ومعه كتاب الحارث إليها، وفيه:
ما ضرّكم لو قلتم سددا ... إنّ المطايا عاجل غدها
ولها علينا نعمة سلفت ... لسنا على الأيام نجحدها
لو أتممت أسباب نعمتها ... تمّت بذلك عندنا يدها
فلما قرأت الكتاب قالت: ما يدع الحارث باطله!. ثم قالت للغريض: هل أحدثت شيئا؟ قال: نعم فاسمعى، ثم اندفع يغنّى في هذا الشعر. فقالت عائشة: والله ما قلنا «1» إلا سددا ولا أردنا إلا أن نشترى لسانه؛ واستحسنت الشعر، وأمرت للغريض بخمسة آلاف درهم وأثواب، [وقالت «2» ] : زدنى. فغنّى في قول الحارث أيضا حيث يقول:
زعموا بأنّ البين بعد غد ... فالقلب ممّا أحدثوا يجف
والعين منذ أجدّ بينهم ... مثل الجمان دموعها تكف
نشكو وتشكو ما أشتّ بنا ... كلّ بوشك البين معترف
ومقالها ودموعها سجم ... أقلل حنينك حين تنصرف
فقالت عائشة: يا غريض، بحقّى عليك أهو أمرك أن تغنّينى في هذا الشعر؟
قال: لا وحياتك يا سيّدتى؛ فأمرت له بخمسة آلاف درهم، ثم قالت: غنّنى فى [غير «3» ] شعره؛ فغنّاها بشعر عمر بن أبى ربيعة- وكان عمر قد سأله ذلك- فقال:
أجمعت خلّتى مع الهجر بينا ... جلّل الله ذلك الوجه زينا
أجمعت بينها ولم نك منها ... لذّة العيش والشباب قضينا(4/270)
فتولّت حمولها واستقلّت ... لم تنل طائلا ولم تقض دينا
ولقد قلت يوم مكّة لمّا ... أرسلت تقرأ السلام علينا
أنعم الله بالرسول الذى أر ... سل والمرسل الرسالة عينا
قال: فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض فأنعم الله بك عينا وأنعم بابن أبى ربيعة عينا، لقد تلطّفت «1» حتى أدّيت إلينا رسالته، وإنّ وفاءك له لمما يزيدنا رغبة فيك وثقة بك. وكان عمر سأل الغريض أن يغنّيها بشعره هذا لأنه كان قد ترك ذكرها لمّا غضبت بنو تيم من ذلك، فلم يحبّ التصريح بها وكره إغفال ذكرها. فقال له عمر بن أبى ربيعة: إن أبلغتها هذه الأبيات في غناء فلك خمسة آلاف درهم، فوفّى له، وأمرت له عائشة بخمسة آلاف درهم. ثم انصرف الغريض من عندها، فلقى عاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأة عبد الملك بن مروان وقد كانت حجّت فى تلك السنة؛ فقال لها جواريها: هذا الغريض. فقالت لهنّ: علىّ به؛ فجئن به إليها. قال الغريض: فلما دخلت سلّمت فردّت علىّ وسألتنى عن الخبر، فقصصته «2» عليها. فقالت: غنّنى بما غنّيتها به، ففعلت؛ فلم أرها تهشّ لذلك؛ فغنيتها معرّضا ومذكّرا بنفسى في شعر مرّة بن محكان السّعدىّ يخاطب امرأته وقد نزل به أضياف:
أقول والضيف مخشىّ ذمامته «3» ... على الكريم وحقّ الضيف قد وجبا
يا ربّة البيت قومى غير صاغرة ... ضمّى إليك رحال القوم والقربا
فى ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب في ظلمائها الطّنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلفّ على خيشومه الذّنبا(4/271)
فقالت وهى مبتسمة: نعم وقد وجب حقّك يا غريض، فغنّنى؛ فغنّيتها:
يا دهر قد أكثرت فجعتنا «1» ... بسراتنا ووقرت «2» فى العظم
وسلبتنا ما لست «3» مخلفه ... يا دهر ما أنصفت في الحكم
لو كان لى قرن أناضله ... ما طاش عند حفيظة سهمى
لو كان يعطى النّصف «4» قلت له ... أحرزت قسمك فاله عن قسمى
فقالت: نعطيك النّصف فلا يضيع سهمك عندنا ونجزل لك قسمك، وأمرت له بخمسة آلاف درهم وثياب عدنيّة وغير ذلك من الألطاف. قال الغريض: فأتيت الحارث بن خالد فأخبرته الخبر وقصصت عليه القصة؛ فأمر لى بمثل ما أمرتا لى جميعا؛ وأتيت ابن أبى ربيعة فأعلمته بما جرى، فأمر لى بمثل ذلك. فما انصرف أحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت به: نظرة من عائشة، ونظرة من عاتكة- وهما أجمل نساء عالمهما- وبما أمرتا لى به، والمنزلة عند الحارث- وهو أمير مكة- وابن أبى ربيعة وما أجازانى به جميعا من المال.
ولنصل هذا الفصل بشىء من أخبار عائشة بنت طلحة؛ لأن الشىء بالشىء يذكر.
هى عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمّها أمّ كلثوم بنت أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. وكانت عائشة لا تستر وجهها من أحد. فعاتبها مصعب في ذلك فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمنى بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلى عليهم فما كنت لأستره، وو الله ما في وصمة يقدر أن يذكرنى بها أحد.(4/272)
قال أبو الفرج الأصبهانىّ: وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء بنى تيم، هنّ أشرس خلق الله خلقا وأحظاهنّ عند أزواجهنّ. قال: وآلت عائشة من زوجها مصعب بن الزبير، فقالت: أنت علىّ كظهر أمّى، وقعدت في غرفة وهيّأت ما يصلحها. فجهد مصعب أن تكلّمه فأبت. فبعث إليها ابن قيس الرّقيّات فسألها كلامه. فقالت: كيف بيمينى؟ فقال: هاهنا الشّعبىّ فقيه أهل العراق فاستفتيه.
فدخل الشّعبىّ عليها فأخبرته؛ فقال: ليس هذا بشىء؛ فأمرت له بأربعة آلاف درهم.
وحكى أبو الفرج أنّ مصعب بن الزبير لمّا عزم على زواج عائشة بنت طلحة، جاء هو وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق وسعيد بن العاص إلى عزّة الميلاء- وكانت عزّة هذه يألفها الأشراف وغيرهم من أهل المروءات، وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء- فقالوا لها: إنّا خطبنا فانظرى لنا.
فقالت لمصعب: يابن أبى عبد الله، ومن خطبت؟ قال: عائشة بنت طلحة.
قالت: فأنت يابن أبى أحيحة؟ قال: عائشة بنت عثمان بن عفّان. قالت:
فأنت يابن الصّدّيق؟ قال: أمّ الهيثم بنت زكريا بن طلحة. فقالت: يا جارية، هاتى منقلىّ (تعنى خفّيها) ، فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها، فبدأت بعائشة بنت طلحة، فقالت: فديتك، كنّا في مأدبة أو مأتم لقريش، فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك فلم أدر كيف أصفك، فديتك، فألقى ثيابك؛ ففعلت فأقبلت وأدبرت فارتجّ كلّ شىء منها. فقالت لها عزّة: خذى ثوبك. فقالت عائشة:
قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتى. فقالت عزّة: وما هى؟ فديتك! قالت:
تغنّينى صوتا. فاندفعت تغنّى لحنها في شعر لجميل بن عبد الله بن معمر العذرىّ:
خليلىّ عوجا بالمحلّة من جمل ... وأترابها بين الأصيفر فالحيل
نقف بمغان قد عفا رسمها اليلى ... تعاقبها الأيام بالرّيح والوبل(4/273)
فلو درج النّمل الصغار بجلدها ... لأندب أعلى جلدها مدرج النّمل
وأحسن خلق الله جيدا ومقلة ... تشبّه [فى النسوان بالشادن الطّفل «1» ]
فقبّلت عائشة ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وطرائف من أنواع الفضّة، فدفعته إلى مولاتها. وأتت النّسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهنّ. ثم أتت القوم فى السقيفة. فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يابن أبى عبد الله، أمّا عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلة ولا مدبرة، محطوطة «2» المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقيّة الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر، ممتلئة الصدر، خميصة البطن ذات عكن، ضخمة السّرّة، مسرولة الساق، يرتجّ ما بين أعلاها إلى قدميها؛ وفيها عيبان، أمّا أحدهما فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخفّ: عظم الأذن والقدم. وكانت عائشة بنت طلحة كذلك. ثم قالت عزّة: وأمّا أنت يابن أبى أحيحة فإنى والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط! ليس فيها عيب والله لكأنما أفرغت إفراغا ولكن في الوجه ردّة، وإن استشرتنى أشرت عليك. قال: هات. قالت: عليك بوجه تستأنس به. وأمّا أنت يابن الصدّيق: فو الله ما رأيت مثل أمّ الهيثم، كأنها خوط بانة تنثنى، أو كأنها جانّ يتثنى على رمل، لو شئت أن تعقد طرفيها لفعلت، ولكنها شختة الصدر «3» وأنت عريض الصدر، فاذا كان كذلك كان قبيحا، لا والله حتى يملأ كلّ شىء مثله. قال: فوصلها الرجال والنساء وتزوّجوهنّ.
وحكى أبو الفرج أيضا: أنّ مصعب بن الزبير إنما تزوّجها بعد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر. وقال: وكانت عائشة بنت طلحة تشبّه بخالتها عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، فزوّجتها عائشة من ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر، وهو(4/274)
أوّل من تزوّجها. ولم تلد عائشة بنت طلحة من أحد من أزواجها غيره، ولدت له عمران وبه كانت تكنى «1» ، وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفيسة، ولكلّ من هؤلاء عقب. وأنا من عقب طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر من ولده ليث ابن طلحة. وليس هذا موضع سرد نسبى فأسرده.
قال أبو الفرج: وصارمت عائشة بنت طلحة زوجها عبد الله بن عبد الرحمن وخرجت من داره مغضبة تريد عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها. فرآها أبو هريرة فسبّح الله تعالى وقال: كأنها من الحور العين. فمكثت عند عائشة قريبا من أربعة أشهر. وكان عبد الله قد آلى منها؛ فأرسلت عائشة إليه: إنى أخاف عليك الإيلاء؛ فضمّها إليه وكان موليا منها «2» . فقيل له: طلّقها؛ فقال:
يقولون طلّقها لأصبح ثاويا ... مقيما علىّ الهمّ، أحلام نائم
وإنّ فراقى أهل بيت أحبّهم ... لهم زلفة عندى لإحدى العظائم
وتوفّى عبد الله بعد ذلك وهى عنده، فما فتحت فاها عليه؛ وكانت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها تعدّ هذا عليها في ذنوبها التى تعدّدها. ثم تزوّجها بعده مصعب بن الزبير، فمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك.
وكانت عائشة تمتنع على مصعب في غالب الأوقات. فحكى أنه دخل عليها يوما وهى نائمة ومعه ثمانى لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها.
فقالت: نومتى كانت أحبّ الىّ من هذا اللؤلؤ. ولم تزل حالها معه على مثل ذلك حتى شكا ذلك الى كاتبه ابن أبى فروة. فقال له: أنا أكفيك هذا إن أذنت لى.
قال: نعم! افعل ما شئت. فأتاها ليلا ومعه أسودان فاستأذن عليها. فقالت: أفى(4/275)
مثل هذه الساعة؟ قال نعم؛ فأذنت له فدخل. فقال للأسودين: احفرا هاهنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك، أمرنى هذا الظالم أن أدفنها حيّة، وهو أسفك خلق الله لدم حرام. قالت عائشة: فأنظرنى أذهب اليه؛ قال: هيهات لا سبيل إلى ذلك، وقال للأسودين: احفرا. فلما رأت الجدّ منه بكت وقالت: يابن أبى فروة، إنك لقاتلى ما منه بدّ؟ قال: نعم، وإنى لأعلم أن الله عزّوجلّ سيخزيه بعدك، ولكنّه قد غضب وهو كافر الغضب. قالت:
وفي أى شىء غضبه؟ قال: من امتناعك عليه وقد ظنّ أنك تبغضينه وتتطلّعين إلى غيره، فقد جنّ. فقالت: أنشدك الله إلّا عاودته. قال: أخاف أن يقتلنى؛ فبكت وبكى جواريها. فقال لها: قد رققت لك وحلف لها إنه يغرّر بنفسه، وقال لها:
فما أقول؟ قالت: تضمن له عنّى أنى لا أعود أبدا. قال: فمالى عندك؟ قالت:
قيام بحقّك ما عشت. قال: فأعطينى المواثيق فأعطته. فقال للأسودين: مكانكما.
وأتى مصعبا فأخبره. فقال: استوثق منها بالأيمان؛ فاستوثق منها ففعلت، وصلحت بعد ذلك لمصعب.
قال: وكان مصعب من أشدّ الناس إعجابا بها. ولم يكن لها شبيه في زمانها حسنا وديانة «1» وجمالا وهيئة وشارة وعفّة. وإنها دعت يوما نسوة من قريش، فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطّيب والمجامر، وخلعت على كلّ امرأة منهن خلعة من الوشى والحزّ ونحو ذلك، ودعت عزّة الميلاء ففعلت بها مثل ذلك وأضعفته؛ ثم قالت لعزّة: هات يا عزّة فغنّينا. فغنّتهن في شعر امرىء القيس فقالت:
وثغر أغرّ شنيب اللّثات ... لذيذ المقبّل والمبتسم(4/276)
وما ذقته غير ظنّ به ... وبالظنّ يقضى عليك الحكم
وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهنّ والستور مسبلة، فصاح بها: يا هذه، إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، فبارك الله فيك يا عزة، ثم أرسل إلى عائشة: أمّا أنت فلا سبيل لنا اليك مع من عندك، وأمّا عزّة فتأذنين لها أن تغنّينا هذا الصوت ثم تعود إليك، ففعلت وخرجت عزّة اليهم فغنّتهم هذا الصوت مرارا، وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحا. ثم قال لها: يا عزّة، إنك لتحسنين القول والوصف، وأمرها بالعود إلى مجلسها.
قال: ولم تزل عند مصعب حتى قتل عنها. فخطبها بشر بن مروان، وقدم عمر ابن عبيد الله بن معمر التّيمى من الشأم فنزل الكوفة، فبلغه أن بشرا خطبها، فأرسل إليها جارية لها وقال: قولى لابنة عمّى: ابن عمك يقرئك السلام ويقول لك:
أنا خير لك من هذا المبسور المطحول، وأنا ابن عمك أحقّ بك، وإن تزوجت بك ملأت بيتك خيرا. فتزوّجته فبنى عليها بالحيرة، فمهّدت له سبعة أفرشة عرضها أربع أذرع؛ فأصبح ليلة بنى بها عن تسعة. فلقيته مولاة لها فقالت:
أبا حفص، فديتك! قد كملت في كلّ شىء حتى في هذا. وقيل إنه لمّا تزوّجها حمل إليها ألف ألف درهم، خمسمائة ألف مهر، وخمسمائة ألف هديّة، وقال لمولاتها:
لك علىّ ألف دينار إن دخلت بها الليلة، وأمر بالمال فحمل فألقى في الدار وغطّى بالثياب؛ وخرجت عائشة فقالت لمولاتها: ما هذا؟ أفرش أم ثياب؟ قالت:
انظرى إليه؛ فنظرت فاذا هو مال، فتبسّمت. فقالت الجارية: أجزاء من حمل هذا المال أن يبيت عزبا! قالت: لا والله، ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزيّن له وأستعدّ. قالت: وماذا؟ فو الله لوجهك أحسن من كلّ زينة وما تمدّين يديك إلى طيب أو ثوب أو مال أو فراش إلا وهو عندك، وقد عزمت عليك أن تأذنى له.(4/277)
فقالت: افعلى. فذهبت إليه فقالت له: بت بنا الليلة. فجاءهم عند العشاء الآخرة فأدنى إليه طعام فأكل الطعام كلّه حتى أعرى الخوان وغسل يده وسأل عن المتوضّأ فأخبر به، فقام فتوضّأ وقام يصلّى حتى ضاق صدرى ونمت، ثم قال: أعليكم آذن؟
قلت: نعم فادخل، فأدخلته وأسبلت السّتر عليهما. فلما أصبحنا وقفت على رأسه فقال: أتقولين شيئا؟ قلت: نعم والله ما رأيت مثلك! فضحك وضرب بيده على منكب عائشة وقال لها: كيف رأيت ابن عمّك؟ فضحكت وغطّت وجهها وقالت:
قد رأيناك فلم تحل لنا ... وبلوناك فلم نرض الخبر
ومكثت عائشة عند عمر بن عبيد الله ثمانى سنين حتى مات سنة اثنتين وثمانين.
ولما مات ندبته قائمة، ولم تندب أحدا قبله من أزواجها إلا جالسة. فقيل لها في ذلك فقالت: إنه كان أكرمهم علىّ وأمسّهم بى رحما، فأردت ألّا أتزوّج بعده. وكانت المرأة إذا ندبت زوجها قائمة لا تتزوّج بعده أبدا. ولم تتزوّج عائشة بنت طلحة بعد زوجها عمر بن عبيد الله.
ومن أخبار عائشة بنت طلحة أيضا ما رواه أبو الفرج الأصبهانىّ بسنده إلى يزيد ابن عياض، قال:
استأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحجّ، فأذن لها وقال:
ارفعى حوائجك واستظهرى، فإن عائشة بنت طلحة تحجّ، ففعلت وتجهزت بهيئة جهدت فيها. فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها «1» وفرّق جماعتها؛ فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقالوا: هذه جاريتها «2» .
ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك، فقالوا: عائشة عائشة، فضغطهم فسألت عنها،(4/278)
فقالوا: هذه ما شطتها. ثم جاءت مواكب على هذا لحاشيتها، ثم أقبلت في ثلاثمائة راحلة عليها القباب والهوادج؛ فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى. قال: ووفدت عائشة بنت طلحة على هشام بن عبد الملك، فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء مطرها ومنع السلطان الحقّ. قال: فأنا أصل رحمك وأعرف حقّك. ثم بعث إلى مشايخ بنى أميّة فقال: إن عائشة عندى فاسمروا عندى الليلة فحضروا؛ فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وآثارها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجم ولا غار إلا أسمته. فقال لها هشام: أمّا الأوّل فلا أنكره، وأمّا النجوم فمن أين لك؟
قالت: أخذته «1» عن خالتى عائشة رضى الله عنها؛ فأمر لها بمائة ألف درهم وردّها إلى المدينة.
قال: ولما تأيّمت عائشة كانت تقيم «2» بمكة سنة وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال لها بالطائف عظيم وقصر لها هناك فتتنزه وتجلس فيه بالعشيّات، فتتناضل بين [يديها «3» ] الرّماة. فمرّ بها النّميرىّ الشاعر، فسألت عنه فانتسب لها؛ فقالت: ائتونى به، فجىء به.
فقالت له: أنشدنى مما قلت في زينب؛ فامتنع وقال: بنت عمّى وقد صارت عظاما بالية. قالت: أقسمت عليك لمّا فعلت؛ فأنشدها قوله:
نزلن بفخّ «4» ثم رحن عشيّة ... يلبّين للرحمن معتمرات
يخمّرن أطراف الأكفّ من التّقى ... ويخرجن جنح اللّيل معتجرات «5»
ولما رأت ركب النّميرىّ راعها ... وكنّ من ان يلقينه حذرات
تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات(4/279)
- وزينب هذه هى زينب بنت يوسف الثّقفىّ أخت الحجّاج، وكان النميرىّ يهواها ويشبّب بها، وله معها أخبار يطول شرحها ليس هذا موضع إيرادها- قال: فقالت له عائشة لما أنشدها هذا الشعر: والله ما قلت إلا جميلا، ولا وصفت إلا كرما وطيّبا ودينا وتقى، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرّض لها، فقالت: علىّ به؛ فجاء فقالت له: أنشدنى من شعرك في زينب؛ قال:
فأنشدك من قول الحارث فيك. فوثب مواليها إليه، فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستقيد لابنة عمّه، هات؛ فأنشدها:
ظعن الأمير بأحسن الخلق ... وغدا بلبّك مطلع الشرق
وتنوء تثقلها عجيزتها ... نهض الضعيف ينوء بالوسق
ما صبّحت زوجا بطلعتها ... إلا غدا بكواكب الطّلق
بيضاء من تيم كلفت بها ... هذا الجنون وليس بالعشق
فقالت: والله ما ذكر إلا جميلا، ذكر أنى إذا صبّحت زوجا بوجهى غدا بكواكب الطّلق، وأنى غدوت مع أمير تزوّجنى الى الشرق، أعطوه ألف درهم واكسوه حلّتين ولا تعد لإنياننا يا نميرىّ؛ والله أعلم [ولنرجع إلى أخبار المغنّين «1» ] .
ذكر أخبار محمد بن عائشة
يكنى أبا جعفر ولم يكن له أب يعرف فنسب الى أمه؛ وكان يزعم أن اسم أبيه جعفر. وعائشة أمه مولاة لكثير بن الصّلت الكندىّ حليف قريش، وقيل:
هى مولاة لآل المطلب بن [أبى «2» ] وداعة السّهمى. وقال ابن عائشة- وقد سأله(4/280)
الوليد بن يزيد فقال: يا محمد ألبغية أنت «1» ؟ -: كانت أمى يا أمير المؤمنين ماشطة وكنت غلاما، وكانت إذا دخلت إلى موضع قالت «2» : ارفعوا هذا لابن عائشة، فغلبت على نسبى. قالوا: وكان ابن عائشة يفتن كلّ من سمعه، وكان فتيان [من «3» ] المدينة قد فسدوا في زمانه بمحادثته ومجالسته. وأخذ عن معبد ومالك بن أبى السّمح، ولم يموتا حتى ساواهما على تقديمه لهما واعترافه بفضلهما. وكان تيّاها سيىء الخلق، إن قال له إنسان: تغنّ قال: ألمثلى يقال هذا! فإن غنّى وقال له إنسان:
أحسنت، سكت؛ فكان قليلا ما ينتفع به.
وكان ابن عائشة منقطعا إلى الحسن بن الحسن، وكان الحسن مكرما له. فسأله الحسن أن يخرج معه إلى البغيبغة «4» ، فامتنع ابن عائشة؛ فأقسم عليه وأظهر الجدّ.
فلما عاين ما ظهر عليه قال: أخرج طائعا لا كارها؛ فأمر له ببغلة فركبها ومضيا الى البغيبغة، فنزلا الشّعب ثم أكلوا. وقال له: غنّنى، فاندفع فغنّاه صوتا فاستحسنه.
فقال ابن عائشة: والله لا غنّيتك في يومى هذا شيئا. فأقسم الحسن ألّا يفارق البغيبغة ثلاثة أيام. فاغتمّ ابن عائشة ليمينه وندم. فلما كان في اليوم الثانى قال له:
غنّ فقد برّت يمينك؛ فنظر إلى ناقة تقدم جماعة إبل فاندفع يغنّى:
تمرّ كجندلة المنجنيق ... يرمى بها السّور يوم القتال
وهى أبيات لأميّة بن أبى عائذ الهذلىّ يصف حمارا وحشيّا؛ والبيت «يمر» بالياء.
وقيل: سال العقيق مرّة فدخل عرصة سعيد بن العاص [الماء «5» ] حتى ملأها،(4/281)
فخرج الناس إليها، وخرج ابن عائشة فجلس على قرن البئر. فبينا هم كذلك إذ طلع الحسن على بغلة ومعه غلامان أسودان، فقال لهما: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذى عليه ابن عائشة، ففعلا ذلك. ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يابن عائشة قال: بخير. قال: انظر من تحتك، فنظر فإذا العبدان. قال: أتعرفهما؟ قال نعم. قال: فهما حرّان لئن لم تغنّنى مائة صوت لآمرنّهما بطرحك في البئر، وهما حرّان لئن لم يفعلا لأقطعنّ أيديهما «1» . فاندفع ابن عائشة وغنّى بشعر الهذلىّ:
ألا لله درّك من ... فتى قوم إذا رهبوا
وقالوا من فتى للحر ... ب يرقبنا ويرتقب «2»
فكنت فتاهم فيها ... إذا تدعى لها تثب
ذكرت أخى فعاودنى ... صداع الرأس والوصب
كما يعتاد ذات البوّ ... بعد سلوّها الطّرب
على عبد بن زهرة بتّ ... طول الليل أنتحب
وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفيه إلى حمّاد الراوية:
أن الوليد بن يزيد استقدمه من العراق إلى الشأم على دوابّ البريد. وكان ممّا حكاه عنه قال: قدمت عليه فأذن لى، فدخلت فإذا هو على سرير ممهّد وعليه ثوبان أصفران وعنده معبد ومالك بن أبى السّمح وأبو كامل مولاه، فاستنشدنى:
أمن المنون وريبها «3» تتوجّع(4/282)
فأنشدته حتى أتيت على آخرها. ثم قال: يا مالك، غنّنى:
ألا هل هاجك الأظعا ... ن إذ جاوزن مطّلحا
فغنّاه. ثم قال: غنّنى:
جلا أميّة عنّى كلّ مظلمة ... سهل الحجاب وأوفى بالذى وعدا
فغنّاه. ثم قال: غنّنى:
أتنسى «1» إذ تودّعنا سليمى ... بفرع بشامة، سقى البشام!
فغنّاه؛ ثم أتاه الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، الرجل الذى طلبت بالباب، فأذن له فدخل شابّ لم أر أحسن وجها منه. فقال له: غنّنى:
وهى إذ ذاك عليها مئرر ... ولها بيت جوار من لعب
فغنّاه، فنبذ إليه الثوبين، ثم قال: غنّنى:
طاف الخيال فمرحبا ... ألفا برؤية زينبا
فغضب معبد وقال: يا أمير المؤمنين، إنّا مقبلون عليك بأقدارنا وأسناننا وإنك تركتنا بمزجر الكلب وأقبلت على هذا الصبىّ. فقال: يا أبا عبّاد، ما جهلت قدرك ولا سنّك، ولكن هذا الغلام طرحنى في مثل الطّناجير من حرارة غنائه. قال حماد:
فسألت عن الغلام فقيل لى: هو ابن عائشة.
وحكى عن شيخ من تنوخ قال: كنت صاحب ستر الوليد بن يزيد، فرأيت ابن عائشة عنده وقد غنّاه:
إنى رأيت صبيحة النّفر ... حورا نفين عزيمة الصبر
مثل الكواكب في مطالعها ... بعد العشاء أطفن بالبدر(4/283)
وخرجت أبغى الأجر محتسبا ... فرجعت موفورا من الوزر
فطرب الوليد حتى كفر وألحد، وقال: يا غلام، اسقنا بالسماء السابعة «1» ، ثم قال:
أحسنت والله يا أميرى، أعد بحقّ عبد الشمس فأعاد، ثم قال: أحسنت يا أميرى والله، أعد بحق أميّة فأعاد، ثم قال: أعد بحق فلان حتى بلغ من الملوك نفسه، فقال: أعد بحياتى فأعاده؛ فقام فأكبّ عليه، فلم يبق عضو من أعضائه إلّا قبّله؛ ثم نزع ثيابه فألقاها عليه وبقى مجرّدا إلى أن أتوه بمثلها، ووهب له ألف دينار وحمله على بغلة وقال: اركبها بأبى أنت وانصرف، فقد تركتنى على مثل المقلى من حرارة غنائك. فركبها على بساطه وانصرف.
وحكى أيضا أن ابن عائشة انصرف من عند الوليد وقد غنّاه:
أبعدك معقلا أرجو وحصنا ... قد اعيتنى «2» المعاقل والحصون
فأمر له بثلاثين ألف درهم وبمثل كارة القصّار «3» كسوة. فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادى القرى، وكان يشتهى الغناء ويشرب النبيذ، فقال لغلامه: من هذا الراكب؟ قال: ابن عائشة المغنّى، فدنا منه فقال: جعلت فداءك! أنت ابن عائشة أمّ المؤمنين؟ قال: لا أنا مولى لقريش وعائشة أمى، وحسبك هذا. قال: وما هذا الذى أراه بين يديك من المال والكسوة؟ قال: غنّيت أمير المؤمنين صوتا فأطربه فكفر وترك الصلاة وأمر لى بهذا المال وهذه الكسوة.
قال: جعلت فداءك! فهل تمنّ علىّ أن تسمعنى ما أسمعته إيّاه؟ فقال: ويلك!(4/284)
أمثلى يكلّم بهذا في الطريق! قال: فما أصنع؟ قال: الحقنى بالباب. وحرّك ابن عائشة بغلته لينقطع عنه، فعدا معه حتى وافيا الباب كفرسى رهان. ودخل ابن عائشة فمكث طويلا طمعا ان يضجر فينصرف، فلم يفعل حتى أعياه. فقال لغلامه:
أدخله، فلما دخل، قال له: ويلك! من أين صبّك الله علىّ! قال: أنا رجل من أهل وادى القرى أشتهى هذا الغناء. فقال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه؟ قال:
وما ذاك؟ قال: مائتا دينار وعشرة أثواب تنصرف بها الى أهلك. فقال له: جعلت فداءك! والله إن لى بنيّة ما في أذنها- علم الله- حلقة من الورق فضلا عن الذهب، وإن لى زوجة ما عليها- شهد الله- قميص، ولو أعطيتنى جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الحالة والفقر اللّذين عرّفتكهما وأضعفت لى هذا لكان الصوت أعجب إلىّ. فتعجّب ابن عائشة وغنّاه الصوت، فجعل يحرّك رأسه ويطرب له طربا شديدا حتى ظنّ أن عنقه ستنقصف؛ ثم خرج من عنده ولم يرزأه شيئا. وبلغ الخبر الوليد بن يزيد، فسأل ابن عائشة عنه، فجعل يغيب عن الحديث؛ فلم يزل به حتى صدقه الحديث، فطلب الرجل، فطلب حتى أحضر إليه ووصله صلة سنيّة وجعله من ندمائه ووكلّه بالسّقى؛ فلم يزل معه حتى قتل رحمه الله.
وعن علىّ بن الجهم الشاعر قال: حدّثنى رجل أن ابن عائشة كان واقفا بالموسم مهجّرا «1» فمرّ به بعض أصحابه فقال: ما يقيمك هاهنا؟ قال: إنى أعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس هاهنا فلم يذهب أحد ولم يجئ. فقال له الرجل: ومن ذاك؟ قال: أنا؛ ثم اندفع يغنّى:
جرت سنحا فقلت لها أجيزى ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء
بنفسى من تذكّره سقام ... أعانيه ومطلبه عناء(4/285)
قال: فحبس الناس واضطربت المحامل ومدّت الإبل أعناقها، فكادت الفتنة أن تقع. فأتى به هشام بن عبد الملك، فقال له: يا عدوّ الله! أردت أن تفتن الناس! قال: فأمسك عنه وكان تيّاها؛ فقال له هشام: ارفق بتيهك. فقال: يحقّ لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تيّاها! فضحك هشام وخلّى سبيله.
واختلف في وفاة ابن عائشة وسببها. فقيل: كانت وفاته في أيام هشام بن عبد الملك، وقيل: فى أيام الوليد بن يزيد وهو أشبه، لأنه قد تقدّم أنه نادم الوليد وغنّاه. والذى يقول: إنه توفّى في أيام هشام يزعم أنه نادم الوليد في أيام ولايته العهد. وكانت وفاته بذى خشب، وهو على أميال من المدينة. قيل: كان سبب وفاته أن الغمر بن يزيد خرج إلى الشأم؛ فلما نزل قصر ذى خشب جلس على سطحه، فغنى ابن عائشة صوتا طرب له الغمر، فقال: أعده فأبى، وكان لا يردّد صوتا لسوء خلقه. فأمر به فطرح من أعلى السطح فمات. وقيل: بل قام من الليل يبول وهو سكران فسقط من السطح فمات. وقيل: بل كان قد رجع من عند الوليد بن يزيد، فلما قرب من المدينة نزل بذى خشب، وكان والى المدينة إبراهيم بن هشام المخزومىّ وكان في قصره هناك، فدعاه فأقام عنده ذلك اليوم. فلما أخذوا في الشّرب أخرج المخزومىّ جواريه، فنظر إلى ابن عائشة وهو يغمز جارية منهنّ؛ فقال لخادمه:
إذا خرج ابن عائشة يريد حاجته فارم به من القصر، وكانوا يشربون في سطح القصر، فلما قام رماه الخادم فمات. وقيل: بل أقبل من الشأم فنزل بقصر ذى خشب فشرب فيه ثم صعد إلى أعلى القصر فنظر إلى نسوة يمشين في ناحية الوادى، فقال لأصحابه:
هل لكم فيهنّ؟ فقالوا: وكيف لنا بهنّ! فلبس ملاءة مدلوكة ثم قام على شرفة من شرفات القصر وتغنّى بشعر ابن أذينة:
وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلاقينا(4/286)
تعالين فقد طاب ... لنا العيش تعالينا
فأقبلن عليه، فطرب واستدار فسقط فمات، عفا الله تعالى عنه ورحمه. وقيل: بل مات بالمدينة. وأوّل هذه الأبيات:
سليمى أزمعت بينا ... وأين لقاؤها أينا
وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلاقينا
تعالين فقد طاب ... لنا العيش تعالينا
فأقبلن إليها مس ... رعات يتهادينا
إلى مثل مهاة الرم ... ل تكسو المجلس الزّينا
إلى خود منعّمة ... حففن بها وفدّينا تمنّين «1» مناهنّ
فكنّا ما تمنّينا
ذكر أخبار ابن محرز
هو مسلم، وقيل: عبد الله بن محرز. ويكنى أبا الخطاب. مولى عبد الدار بن قصىّ. وكان أبوه من سدنة الكعبة، وأصله من الفرس. وكان يسكن المدينة مرّة ومكة مرّة. فكان إذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلّم الضرب من عزّة الميلاء ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها ثلاثة أشهر. ثم شخص إلى فارس فتعلّم ألحان الفرس وأخذ غناءهم، ثم صار إلى الشأم فتعلّم ألحان الروم «2» وأخذ غناءهم. وأسقط من ذلك مالا يستحسن من غناء الفريقين ونغمهم وأخذ محاسنها، فمزج بعضها ببعض وألّف منها الأغانى التى صنعها في أشعار العرب، فأتى بما لم يسمع مثله. وكان يقال له صنّاج العرب.(4/287)
وقيل: إنه أوّل من أخذ الغناء عن ابن مسجح. وهو أوّل من غنّى بالرّمل وما غنّى قبله. وكان ابن محرز قليل الملابسة للناس، فأخمل ذلك ذكره. وأخذ أكثر غنائه جارية كانت لصديق له من أهل مكة كانت تألفه فأخذه الناس عنها.
ومات بعلّة الجذام، وكان ذلك سبب امتناعه من معاشرة الخلفاء ومخالطة الناس.
وحكى أنه رحل إلى العراق، فلما بلغ القادسيّة لقيه حنين فقال له: كم منّتك نفسك من العراق؟ قال: ألف دينار؛ قال: هذه خمسمائة دينار فخذها وانصرف واحلف ألّا تعود، ففعل. فلما شاع ما فعل حنين لامه أصحابه: فقال: والله لو دخل العراق ما كان لى معه خبزا آكله ولاطّرحت ثم سقطت إلى آخر الدهر. ولم أقف من أخبار ابن محرز على أكثر من هذا فأورده. والسلام.
ذكر أخبار مالك بن أبى السّمح
هو أبو الوليد مالك بن أبى السّمح. واسم أبى السمح جابر بن ثعلبة الطائى. وأمّه قرشيّة من بنى مخزوم؛ وقيل: بل أمّ أبيه [منهم»
] ؛ وقيل فيه: مالك بن أبى السمح بن سليمان. وكان أبوه منقطعا إلى عبد الله بن جعفر بن أبى طالب ويتيما في حجره أوصى به أبوه إليه. وكان مالك أحول طويلا. وأخذ الغناء عن جميلة ومعبد وعمر، وأدرك الدولة العباسيّة. وكان منقطعا إلى بنى سليمان بن علىّ، ومات في خلافة أبى جعفر المنصور.
وروى الأصفهانىّ بسنده إلى الوردانىّ، قال:
كان مالك بن أبى السمح المغنّى من طيىء، فأصابتهم حطمة «2» فى بلادهم بالجبلين،(4/288)
فقدمت به أمّه وبإخوة له وأخوات أيتام لا شىء لهم. وكان يسأل الناس على باب حمزة بن الزبير. وكان معبد منقطعا إلى حمزة يكون عنده في كل يوم. فسمع مالك غناءه فأعجبه واشتهاه. وكان لا يفارق باب حمزة يسمع غناء معبد إلى الليل ولا يطوف بالمدينة ولا يطلب من أحد شيئا ولا يريم موضعه «1» ، فينصرف إلى امه ولم يكسب شيئا فتضربه، وهو مع ذلك يترنّم بألحان معبد فيؤدّيها نغما بغير لفظ.
وجعل حمزة كلما غدا أو راح رآه ملازما لبابه؛ فقال لغلامه يوما: أدخل هذا الغلام إلىّ فأدخله الغلام اليه؛ فقال له حمزة: من أنت؟ قال: غلام من طيئ أصابتنا حطمة بالجبلين فهبطنا إليكم ومعى أمّ لى وإخوة، وإنى لزمت بابك فسمعت من دارك صوتا أعجبنى ولزمت بابك من أجله. قال: فهل تعرف منه شيئا؟
قال: أعرف لحنه كلّه ولا أعرف الشعر. فقال: إن كنت صادقا إنك لفهم.
ودعا بمعبد فأمره أن يغنّى صوتا فغنّاه، ثم قال لمالك: هل تستطيع أن تقوله؟
قال نعم. قال: هاته؛ فاندفع فغنّاه فأدّى نغمه بغير شعر «2» ، يؤدّى مدّاته وليّاته وعطفاته ونبراته ومتعلقاته لا يخرم منه حرفا. فقال لمعبد: خذ هذا الغلام إليك وخرّجه فليكوننّ له شأن. قال معبد: ولم أفعل ذلك؟ قال: لتكون محاسنه منسوبة إليك وإلّا عداك إلى غيرك فكانت محاسنه منسوبة إليه. فقال معبد: صدق الأمير، وأنا أفعل ما أمرتنى به. قال حمزة لمالك: كيف [وجدت «3» ] ملازمتك لبابنا؟ قال: أرأيت إن قلت فيك غير الذى أنت له مستحقّ من الباطل أكنت ترضى بذلك؟ قال لا. قال: وكذلك لا يسرّك أن تحمد بما لم تفعل؛ قال نعم. قال: فو الله ما شبعت على بابك شبعة قط، ولا انقلبت إلى أهلى منه بخير. فأمر له ولأمّه ولإخوته بمنزل(4/289)
وأجرى عليهم رزقا وكسوة وأمر لهم بخادم يخدمهم وعبد يسقيهم الماء، وأجلس مالكا معه في مجالسه، وأمر معبدا أن يطارحه فلم ينشب أن مهر. فخرج مالك يوما فسمع امرأة تنوح على زيادة الذى قتله هدبة بن خشرم- والشعر لأخى زيادة-:
أبعد الذى بالنّعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذى تراب وجندل
أذكّر بالبقيا على من أصابنى ... وذلك أنّى جاهد غير مؤتلى «1»
فلا يدعنى قومى لزيد بن مالك ... لئن لم أعجّل ضربة أو أعجّل
وإلّا أنل ثأرى من اليوم أو غد ... بنى عمّنا فالدّهر ذو متطوّل
أنختم علينا كلكل الحرب «2» مرّة ... فنحن منيخوها «3» عليكم بكلكل
فغنّى في هذا الشعر لحنين، أحدهما نحا فيه نحو المرأة في نوحها ورقّقه وأصلحه، والآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه. ثم دخل على حمزة فقال له: أيها الأمير، إنى قد صنعت غناء في شعر سمعت أهل المدينة ينشدونه وقد أعجبنى، فإن أذن الأمير غنّيته. قال:
هات؛ فغنّى اللحن الذى نحا فيه نحو معبد؛ فطرب حمزة وقال: أحسنت يا غلام، هذا الغناء غناء معبد بطريقته. قال: لا تعجل أيها الأمير واسمع منّى شيئا ليس من غناء معهد ولا طريقته؛ فغنّاه اللحن الذى تشبّه فيه بنوح المرأة. فطرب حمزة حتى ألقى عليه حلّة كانت عليه قيمتها مائتا دينار. ودخل معبد فرأى حلّة حمزة على مالك فأنكرها. وعلم حمزة بذلك فأخبر معبدا بالسبب، وأمر مالكا فغنّاه الصوتين. فغضب معبد لمّا سمع الصوت الأوّل وقال: قد كرهت أن آخذ هذا الغلام فيتعلّم غنائى فيدّعيه(4/290)
لنفسه. فقال حمزة: لا تعجل واسمع غناء [صنعه «1» ] ليس من شأنك ولا غنائك، وأمره أن يغنّى الصوت الآخر فغنّاه، فأطرق معبد. فقال له حمزة: والله لو انفرد بهذا لضاهاك ثم تزايد على الأيام، وكلما كبر وزاد شخت أنت وانتقصت، فلأن يكون منسوبا إليك أجمل. فقال له معبد وهو منكسر: صدق الأمير. فأمر حمزة لمعبد بخلعة من ثيابه وجائزة حتى سكن وطابت نفسه. فقام مالك على رجليه وقبّل رأس معبد وقال له: يا أبا عبّاد، أساءك ما سمعت منى؟ والله لا أغنّى لنفسى شيئا أبدا ما دمت حيّا! وإن غلبتنى نفسى فغنّيت في شعر استحسنته لا نسبته إلا إليك، فطب نفسا وارض عنّى. فقال له معبد: أتفعل هذا وتفى به؟ قال: إى والله وأزيد. فكان مالك إذا غنّى صوتا وسئل عنه قال: هذا لمعبد، ما غنّيت لنفسى شيئا قط، وإنما آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار وأحسّنه وأزيد فيه وأنقص منه. وحضر مالك بن أبى السّمح عند يزيد بن عبد الملك مع معبد وابن عائشة فغنّوه، فأمر لكلّ واحد منهم بألف دينار.
وحكى عن ابن الكلبىّ قال: قال الوليد بن يزيد لمعبد:
قد آذتنى ولولتك هذه، وقال لابن عائشة: قد آذانى استهلالك هذا، فاطلبا لى رجلا يكون مذهبه متوسّطا بين مذهبيكما. فقالا له: مالك بن أبى السمح؛ فكتب فى إشخاصه إليه وسائر من بالحجاز من المغنّين. فلما قدم مالك على الوليد بن يزيد فيمن معه نزل على الغمر بن يزيد، فأدخله على الوليد فغنّاه فلم يعجبه. فلما انصرف قال له الغمر: إنّ أمير المؤمنين لم يعجبه شىء من غنائك، فقال له: جعلنى الله فداك! اطلب لى الإذن عليه مرّة أخرى، فإن أعجبه شىء ممّا أغنّيه وإلا انصرفت إلى بلادى. فلما جلس الوليد في مجلس اللهو ذكره الغمر له؛ فأذن له فشرب مالك(4/291)
ثلاث صراحيّات «1» صرفا، ودخل على الوليد وهو يخطر في مشيته، فلما بلغ باب المجلس وقف ولم يسلّم وأخذ بحلقة الباب ثم رفع صوته فغنّى:
لا عيش إلا بمالك بن أبى السّمح ... فلا تلحنى ولا تلم
أبيض كالبدر أو كما يلمع ال ... بارق في حالك من الظّلم
فليس يعصيك إن رشدت ولا ... يهتك حقّ الإسلام والحرم
يصيب من لذّة الكرام ولا ... يجهل آى الترخيص في اللّمم
يا ربّ ليل لنا كحاشية ال ... برد ويوم كذاك لم يدم
نعمت فيه ومالك بن أبى السّمح ... الكريم الأخلاق والشّيم
فطرب الوليد ورفع يديه حتى بان إبطاه وقام فاعتنقه، ثم أخذ في صوته ذلك فلم يزالوا فيه أياما، وأجزل له العطيّة حين أراد الانصراف. قال: ولما أتى مالك على قوله: «أبيض كالبدر» قال الوليد:
أحول كالقرد أو كما يرقب السّارق ... فى حالك من الظّلم
قالوا: وكان مالك بن أبى السمح مع الوليد بن يزيد يوم قتل هو وابن عائشة.
قال ابن عائشة: وكان مالك من أحمق الخلق، فلما قتل الوليد قال: اهرب بنا؛ قلت: وما يريدون منّا؟ قال: وما يؤمنّك أن يأخذوا رأسينا فيجعلوا رأسه بينهما ليحسّنوا أمرهم بذلك!.
ذكر أخبار يونس الكاتب
هو يونس بن سليمان بن كرد بن شهريار من ولد هرمز، مولى «2» لعمرو بن الزبير، ومنشؤه ومنزله بالمدينة، وكان أبوه فقيها فأسلمه في الديوان وكان من كتابه. وأخذ(4/292)
الغناء عن معيد وابن سريج وابن محرز والغريض، وكان أكثر روايته عن معبد. ولم يكن في أصحاب معبد أحذق منه ولا أقوم بما أخذ عنه منه. وله غناء حسن، وصنعة كثيرة، وشعر جيّد. وهو أوّل من دوّن الغناء. وله كتاب في الأغانى نسبها إلى من غنّى فيها. وخرج إلى الشأم في تجارة، فبلغ الوليد بن يزيد مكانه فأحضره والوليد إذ ذاك ولىّ العهد. قال: فلما وصلت إليه سلّمت عليه، فأمرنى بالجلوس، ثم دعا بالشراب والجوارى. قال يونس: فمكثنا يومنا وليلتنا في أمر عجيب، وغنّيته فأعجب بغنائى إلى أن غنّيته:
إن يعش مصعب فنحن بخير ... قد أتانا من عيشنا ما نرجّى
ثم تنبهت فقطعت الصوت وأخذت أعتذر من غنائى بشعر في مصعب، فضحك ثم قال: إن مصعبا قد مضى وانقطع أثره ولا عداوة بينى وبينه وإنما أريد الغناء، فأمض الصوت؛ فعدت فيه فغنّيته ولم يزل يستعيده حتى أصبح فشرب مصطبحا وهو يستعيدنى هذا الصوت ولا يتجاوزه. فلما مضت ثلاثة أيام قلت: جعلنى الله فداك إنى رجل تاجر خرجت مع تجّار وأخاف أن يرتحلوا فيضيع مالى، فقال: أنت تغدو غدا، وشرب باقى ليلته وأمر لى بثلاثة آلاف دينار. فحملت إلىّ وغدوت إلى أصحابى. فلما استخلف بعث إلىّ فأتيته فلم أزل معه حتى قتل.
ذكر أخبار حنين
هو حنين بن بلوع الحيرى. واختلف في نسبه، فقيل: هو من العباديّين من تميم، وقيل: إنه من بنى الحارث بن كعب، وقيل: إنه من قوم بقوا من طسم وجديس، فنزلوا في بنى الحارث بن كعب فعدّوا فيهم. ويكنى أبا كعب. وكان شاعرا مغنّيا من فحول المغنّين، وكان يسكن الحيرة ويكرى الجمال إلى الشأم، وكان(4/293)
نصرانيّا. وعن المدائنىّ قال: كان حنين غلاما يحمل الفاكهة بالحيرة، وكان إذا حمل الرياحين إلى بيوت الفتيان «1» ومياسير أهل الكوفة وأصحاب القيان والمتطرّبين ورأوا رشاقته وحسن قدّه وحلاوته وخفّة روحه استحلوه وأقام عندهم، فكان يسمع الغناء ويصغى له، حتى شدا منه أصواتا فاستمعه الناس، وكان مطبوعا حسن الصوت. واشتهر غناؤه وشهر بالغناء ومهر فيه وبلغ فيه مبلغا كبيرا. ثم رحل إلى عمر «2» بن داود الوادى وإلى حكم الوادىّ وأخذ منهما وغنّى لنفسه واستولى على الغناء في عصره، وهو الذى بذل لابن محرز خمسمائة دينار حتى رجع عن العراق، كما قدّمناه في أخبار ابن محرز.
وبلغ من الناس بالغناء مبلغا عظيما، حتى قيل له فيما حكى: إنك تغنّى منذ خمسين سنة فما تركت لكريم مالا ولا دارا ولا عقارا إلا أتيت عليه. فقال: بأبى أنتم! إنما هى أنفاسى أقسمها بين الناس، أفتلوموننى أن أغلى بها الثمن.
وحكى المدائنىّ قال: حجّ هشام بن عبد الملك وعديله الأبرش الكلبىّ؛ فوقف له حنين بظهر الكوفة ومعه عود وزامر له. فلما مرّ به هشام عرض له فقال:
من هذا؟ قيل: حنين؛ فأمر به هشام فحمل في محمل على جمل وعديله زامره وسيّره أمامه، فغنّاه:
أمن سلمى بظهر الكوفة ... الآيات والطّلل
تلوح كما تلوح على ... جفون الصّيقل الخلل
فأمر له هشام بمائتى دينار وللزّامر بمائة دينار.
وحكى أن خالد بن عبد الله القسرىّ حرّم الغناء بالعراق في أيامه ثم أذن للناس يوما في الدخول عليه عامّة؛ فدخل عليه حنين في جملة الناس ومعه عود تحت ثيابه(4/294)
فقال: أصلح الله الأمير! كانت لى صناعة أعود بها على عيالى فحرّمها الأمير فأضرّ ذلك بى وبهم. فقال: وما كانت صناعتك؟ فكشف عن عوده وقال: هذا.
فقال له خالد: غنّ؛ فعرك «1» أوتاره وغنّى:
أيّها الشّامت المعيّر بالدهر ... أأنت المبرّأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلّدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
قال: فبكى خالد وقال: قد أذنت لك وحدك خاصّة، ولا تجالس سفيها ولا معربدا. فكان إذا دعى قال: أفيكم سفيه أو معربد؟ فإذا قالوا لا، دخل.
وقال بشر بن الحسين بن سليمان بن سمرة بن جندب: عاش حنين بن بلوع مائة سنة وسبع سنين.
ذكر أخبار سياط
هو عبد الله بن وهب ويكنى أبا وهب، وسياط لقب غلب عليه. وهو مكىّ مولى خزاعة. كان مقدّما في الغناء رواية وصنعة، مقدّما في الطرب. وهو أستاذ ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ وعنه أخذا، وأخذ هو عن يونس الكاتب. وكان سياط زوج أمّ ابن جامع. قيل: وإنما لقّب سياط بهذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يغنّى:
كأنّ مزاحف الحيّات فيها «2» ... قبيل الصبح آثار السّياط
حكى أن إبراهيم الموصلىّ غنّى صوتا لسياط، فقال ابنه إسحاق: لمن هذا الغناء يا أبت؟ قال: لمن لو عاش ما وجد أبوك خبزا يأكله، سياط.(4/295)
وحكى أن سياطا مرّ بأبى ريحانة في يوم بارد وهو جالس في الشمس وعليه سمل ثوب رقيق رثّ؛ فوثب إليه أبو ريحانة المدنىّ وقال: بأبى أنت يا أبا وهب! غنّنى صوتك في شعر ابن جندب:
فؤادى رهين في هواك ومهجتى ... تذوب وأجفانى عليك همول
فغنّاه إياه، فشقّ قميصه ورجع إلى موضعه من الشمس وقد ازداد بردا وجهدا.
فقال له رجل: ما أغنى عنك هذا من شقّ قميصك؟! فقال: يابن أخى، إن الشعر الحسن من المغنّى المحسن ذى الصوت المطرب أدفأ للمقرور من حمّام محمّى. فقال له رجل: أنت عندى من الذين قال الله تعالى فيهم: (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)
فقال: بل أنا ممّن قال الله تعالى فيهم: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)
. وقد حكيت هذه الحكاية أيضا من طريق آخر: أنّه لمّا غنّاه هذا الصوت شقّ قميصه حتى خرج منه وبقى عاريا وغشى عليه واجتمع الناس حوله، وسياط واقف يتعجّب مما فعل، ثم أفاق فقام إليه. فقال له سياط: مالك «1» يا مشئوم! أىّ شىء تريد؟ قال: غنّنى بالله عليك يا سيدى:
ودّع أمامة حان منك رحيل ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليل
مثل القضيب تمايلت أعطافه ... فالرّيح تجذب متنه فيميل «2»
إن كان شأنكم الدّلال فإنه ... حسن دلالك يا أميم جميل
فغنّاه، فلطم وجهه حتى خرج الدّم من أنفه ووقع صريعا. ومضى سياط وحمل الناس أبا ريحانة إلى الشمس. فلما أفاق قيل له في ذلك فقال نحو ما تقدّم. قال:
ووجّه إليه سياط بقميص وسراويل وجبّة وعمامة.(4/296)
وكانت وفاة سياط في أيام موسى الهادى. ودخل عليه ابن جامع وقد نزل به الموت فقال له: ألك حاجة؟ قال: نعم لا تزد في غنائى شيئا ولا تنقص منه، فإنما هو ثمانية عشر صوتا دعه رأسا برأس. وقيل: بل كانت وفاته فجأة، وذلك أنه دعاه بعض إخوانه فأتاهم وأقام عندهم وبات؛ فأصبحوا فوجدوه ميّتا في منزلهم؛ فجاءوا إلى أمه وقالوا: يا هذه إنا دعونا ابنك لنكرمه ونسرّ به ونأنس بقربه فمات فجأة، وها نحن بين يديك، فاحكمى ما شئت، وناشدناك الله أن [لا «1» ] تعرّضينا للسلطان أو تدّعى علينا ما لم نفعله. قالت: ما كنت لأفعل، وقد صدقتم، وهكذا مات أبوه فجأة، وتوجّهت معهم فحملته إلى منزله ودفنته.
ذكر أخبار الأبجر
هو عبيد الله بن القاسم بن منبّه «2» ، ويكنى أبا طالب. وقيل: اسمه محمد بن القاسم، والأبجر لقب غلب عليه. وهو مولى لكنانة ثم لبنى ليث بن بكر «3» . وكان يلقّب بالحسحاس. وكان مدنيّا منشؤه مكة أو مكيّا منشؤه المدينة. قال عورك اللهبىّ:
لم يكن بمكة أحد أظرف ولا أسرى ولا أحسن هيئة من الأبجر؛ كانت حلته بمائة دينار وفرسه بمائة دينار ومركبه بمائة دينار؛ وكان يقف بين المأزمين ويرفع عقيرته، فيقف الناس له فيركب بعضهم بعضا. وروى الأصفهانىّ بسنده إلى اسحاق ابن إبراهيم الموصلىّ قال:(4/297)
جلس الأبجر في ليلة اليوم السابع من أيام الحجّ على قريب من التّنعيم فإذا عسكر جرّار [قد أقبل «1» ] فى آخر الليل وفيه دوابّ تجنب ومنها فرس أدهم عليه سرج حليته ذهب، فاندفع يغنّى:
عرفت ديار الحىّ خالية قفرا ... كأن بها لمّا توهّمتها سطرا
فلما سمعه من في القباب والمحامل أمسكوا وصاح صائح: ويحك أعد الصوت! فقال: لا والله إلا بالفرس الأدهم بسرجه ولجامه وأربعمائة دينار؛ وإذا الوليد بن يزيد صاحب العسكر. فنودى: أين منزلك؟ ومن أنت؟ فقال: أنا لأبجر، ومنزلى على زقاق باب الخرّازين «2» . فغدا عليه رسول الوليد بذلك الفرس وأربعمائة دينار وتخت ثياب وشى وغير ذلك، ثم أتى به الوليد، فأقام وراح مع أصحابه عشيّة التّروية وهو أحسنهم هيئة، وخرج معه أو بعده إلى الشأم.
وحكى عن عمرو بن حفص بن أمّ كلاب «3» ، قال:
كان الأبجر مولانا وكان مكيّا، وكان إذا قدم من مكة نزل علينا. فقال لنا يوما:
أسمعونا غناء ابن عائشتكم هذا؛ فأرسلنا إليه فجمعنا بينهما في بيت ابن هبّار. فغنّى ابن عائشة؛ فقال الأبجر: كلّ مملوك له حرّ إن غنّيت معك إلّا بنصف صوتى، ثم أدخل إصبعه في شدقه وغنّى فسمع صوته من في السوق، فحشر الناس علينا، فلم يفترقا حتى تشاتما.
ذكر أخبار أبى زيد الدّلال
هو أبو زيد ناقد مدنىّ، مولى عائشة بنت سعيد بن العاص، وكان مخنّثا.
قال إسحاق:(4/298)
لم يكن في المخنّثين أحسن وجها ولا أنظف ثوبا ولا أظرف من الدّلال. قالوا:
ولم يكن بعد طويس أظرف منه ولا أكثر ملحا. وكان كثير النوادر نزر الحديث، فإذا تكلم أضحك الثّكالى، وكان ضاحك السنّ، ولم يكن يغنّى إلّا غناء مضعّفا (يعنى كثير العمل) .
وقال أيّوب بن عباية:
شهدت أهل المدينة إذا ذكروا الدّلال وأحاديثه طوّلوا رقابهم وفخروا به، فعلمت أن ذلك لفضيلة كانت عنده. قالوا: وكان مبتلى بالنّساء والكون معهنّ، فكان يطلب فلا يقدر عليه. وكان صحيح الغناء حسن الجرم. قالوا: وإنما لقّب بالدلال لشكله وحسن ظرفه ودلّه وحلاوة منطقه وحسن وجهه. وكان مشغوفا بمخالطة النساء يكثر وصفهنّ للرجال. وكان يشاغل كلّ من يجالسه عن الغناء بأحاديث النساء كراهة منه للغناء. وكان إذا غنّى أجاد، كما حكاه ابن الماجشون عن أبيه قال: غنّانى الدّلال يوما بشعر مجنون بنى عامر، فلقد خفت الفتنة على نفسى. واستحضره سليمان بن عبد الملك من المدينة سرّا وغنّاه وأقام عنده شهرا ثم صرفه إلى الحجاز مكرما.
قال الأصمعىّ:
حجّ هشام بن عبد الملك؛ فلما قدم المدينة نزل رجل من أشرف أهل الشأم وقوّادهم بجنب دار الدّلال، فكان الشامىّ يسمع غناء الدلال ويصغى إليه ويصعد فوق السطح ليقرب من الصوت، ثم بعث إلى الدّلال: إمّا أن تزورنا وإمّا أن نزورك.
فبعث إليه الدّلال بل تزورنا. فبعث الشامىّ ما يصلح ومضى إليه بغلامين من غلمانه كأنهما درّتان مكنونتان. فغنّاه الدّلال، فاستحسن الشامىّ غناءه فقال: زدنى؛ قال: أو ما يكفيك ما سمعت! قال: لا والله ما يكفينى. قال: فإنّ لى حاجة.(4/299)
قال: وما هى؟ قال: تبيعنى أحد هذين الغلامين أو كليهما، فقال: اختر أيّهما شئت، فاختار أحدهما، فقال له الشامىّ: هو لك؛ فقبله منه الدلال، ثم غنّاه وغنّى:
دعتنى دواع من أريّا فهيّجت ... هوى كان قدما من فؤاد طروب
لعل زمانا قد «1» مضى أن يعود لى ... فتغفر أروى عند ذاك ذنوبى
سبتنى أريّا يوم نعف محسّر ... بوجه جميل للقلوب سلوب
فقال له الشامىّ: أحسنت. ثم قال له: أيّها الرجل الجميل، إن لى [إليك «2» ] حاجة، قال الدّلال: وما هى؟ قال: أريد وصيفة ولدت في حجر صالح ونشأت في خير، جميلة الوجه مجدولة وضيئة جعدة في بياض مشربة حمرة حسنة الهامة سبطة أسيلة الخدّ عذبة اللّسان لها شكل [ودلّ «3» ] تملأ العين والنفس. فقال له الدّلال: قد أصبتها لك، فما لى عندك إن دللتك عليها؟ قال: غلامى هذا. قال: إذا رأيتها وقبلتها فالغلام لى؟ قال نعم. قال: فأتى امرأة كنّى عن اسمها، فقال لها: جعلت فداءك! نزل بقربى رجل من قوّاد هشام، له ظرف وسخاء، وجاءنى زائرا فأكرمته، ورأيت معه غلامين كأنهما الشمس الطالعة المنيرة والكواكب الزاهرة ما وقعت عينى على مثلهما ولا يطول لسانى بوصفهما، فوهب لى أحدهما والآخر عنده، وإن لم يصر إلىّ فنفسى ذاهبة. قالت: وتريد ماذا؟ قال: طلب منى وصيفة على صفة لا أعلمها إلا في ابنتك، فهل لك أن تريه إيّاها؟ قالت: وكيف لك بأن يدفع الغلام إليك إذا رآها؟ قال: إنى قد شرطت عليه ذلك عند النظر لا عند البيع.
قالت: شأنك، لا يعلم هذا أحد. فمضى الدّلال وأتى بالشامىّ. فلما صار إلى المرأة وضع له كرسىّ وجلس. فقالت له المرأة: أمن العرب أنت؟ قال نعم. قالت:(4/300)
من أيّهم؟ قال: من خزاعة. قالت: مرحبا بك وأهلا! أىّ شىء طلبت؟
فوصف لها الصّفة. قالت: قد أصبتها؛ وأسرّت إلى جارية لها فدخلت فمكثت هنيهة ثم خرجت فنظرت فقالت: اخرجى، فخرجت وصيفة ما رأى [الراءون «1» ] مثلها. فقالت لها: أقبلى فأقبلت، ثم قالت: أدبرى فأدبرت تملأ العين والنفس، فما بقى منها شىء إلا وضع يده عليه. فقالت له: أتحبّ أن نؤزّرها لك؟ قال نعم.
قالت: ائتزرى؛ فضمّها الإزار وظهرت محاسنها الخفيّة؛ فضرب بيده إلى عجيزتها وصدرها. ثم قالت: أتحب أن نجرّدها لك؟ قال نعم. قالت: [أى حبيبتى «2» ] وضحّى؛ فألقت الإزار فإذا أحسن خلق الله كأنها سبيكة. فقالت: يا أخا العرب، كيف رأيت؟ قال: منية المتمنّى. قال: بكم تقولين؟ قالت: ليس يوم النظر يوم البيع، ولكن تعود غدا حتى نبايعك فلا تنصرف إلا عن رضا، فانصرف من عندها. فقال له الدّلال: أرضيت؟ قال: نعم، ما كنت أحسب أن مثل هذه فى الدنيا، وإن الصفة لتقصر دونها، ثم دفع إليه الغلام الثانى. فلما كان من الغد قال له الشامىّ: امض بنا. فمضيا حتى قرعا الباب، فأذن لهما فدخلا فسلّما، فرحّبت المرأة بهما ثم قالت للشامىّ: أعطنا ما تبذل؛ فقال: ما لها عندى ثمن إلا وهى أكثر منه، فقولى أنت يا أمة الله. قالت: بل قل أنت، فإنا لم نوطئك أعقابنا ونحن نريد خلافك وأنت لها رضا. قال: ثلاثة آلاف [دينار «3» ] . قالت: والله لقبلة منها خير من ثلاثة آلاف [دينار «4» ] . قال: أربعة آلاف [دينار «5» ] . قالت: غفر الّه لك أعطنا أيّها الرجل. قال: والله ما معى غيرها- ولو كان لزدتك- إلا رقيق ودوابّ.
قالت: ما أراك إلا صادقا، أتدرى من هذه؟ قال: تخبرينى. قالت: هذه(4/301)
ابنتى فلانة بنت فلان وأنا فلانة بنت فلان، قم راشدا. فقال للدّلال: خدعتنى.
قال: أو ما ترضى أن ترى ما رأيت من مثلها وتهب مائة غلام مثل غلامك؟ قال:
أمّا هذا فنعم. وخرجا من عندها.
والدّلال أحد من خصى من المخنّثين بالمدينة لمّا أمر سليمان بن عبد الملك عامله على المدينة أبا بكر بن عمرو بن حزم بخصيهم.
ذكر أخبار عطرّد
هو أبو هارون «1» عطرّد، مولى الأنصار [ثم مولى «2» ] بنى عمرو بن عوف، وقيل:
إنه مولى مزينة. مدنىّ كان ينزل قباء. وكان جميل الوجه حسن الغناء طيّب الصوت جيّد الصنعة حسن الزىّ والمروءة فقيها قارئا للقرآن. وقيل: إنه كان معدّل الشهادة بالمدينة. وأدرك دولة بنى أميّة وبقى إلى أوّل أيام الرشيد. وكان يغنّى مرتجلا.
وحكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه قال:
لمّا استخلف الوليد بن يزيد كتب إلى عامله بالمدينة فأمره بإشخاص عطرّد المعنّى إليه، ففعل. قال عطرّد: فدخلت على الوليد وهو جالس في قصره على شفير بركة مرصّصة مملوءة خمرا ليست بالكبيرة ولكنّها يدور الرجل فيها [سباحة «3» ] . قال:
فو الله ما تركنى أسلّم حتى قال: أعطرّد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ما زلت إليك مشتاقا يا أبا هارون، غنّنى:(4/302)
حىّ الحمول بجانب العزل «1» ... إذ لا يشاكل شكلها شكلى
الله أنجع ما طلبت به ... والبرّ خير حقيبة الرّحل
إنى بحبلك واصل حبلى ... وبريش نبلك رائش نبلى
وشمائلى ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقا مثلى
قال: فغنّيته إياه، فو الله ما أتممته حتى شقّ حلّة وشى كانت عليه لا أدرى كم قيمتها، فتجرّد منها كما ولدته أمّه، وألقى نفسه في البركة فنهل منها حتى تبيّنت أنها قد نقصت نقصانا بيّنا، وأخرج منها وهو كالميت سكرا، فأضجع وغطّى؛ فأخذت الحلّة وقمت وانصرفت إلى منزلى متعجّبا من فعله. فلما كان في غد، جاءنى رسوله فى مثل الوقت فأحضرنى. فلما دخلت عليه قال: يا عطرّد! قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين! قال: غنّنى:
أيذهب عمرى هكذا لم أنل به ... مجالس تشفى قرح قلبى من الوجد
وقالوا تداو إنّ في الطبّ راحة ... فعلّلت نفسى بالدواء فلم يجد
فغنّيته إيّاه، فشقّ حلّة وشى كانت تلمع عليه بالذّهب احتقرت والله الأولى عندها، ثم ألقى نفسه في البركة فنهل منها حتى تبيّنت نقصانها وأخرج كالميت سكرا، فألقى وغطّى ونام؛ وأخذت الحلّة وانصرفت. فلما كان اليوم الثالث، جاءنى رسوله فدخلت إليه وهو في بهو قد ألقيت ستوره، فكلّمنى من وراء الستور وقال:
يا عطرّد! قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين! قال: كأنى بك الآن قد أتيت إلى المدينة فقمت في مجالسها وقعدت وقلت: دعانى أمير المؤمنين فدخلت عليه فاقترح علىّ فغنّيته فأطربته فشقّ ثيابه وأخذت سلبه وفعل وفعل! وو الله يابن الزّانية إن تحرّكت شفتاك بشىء مما جرى لأضربنّ عنقك يا غلام أعطه ألف دينار؛ خذها(4/303)
وانصرف إلى المدينة. فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لى في تقبيل يده ويزوّدنى نظرة منه وأغنّيه صوتا! فقال: لا حاجة بى ولا بك إلى ذلك، فانصرف.
قال عطرّد: فخرجت من عنده وما علم الله أنّى ذكرت شيئا مما جرى حتى مضت من دولة بنى هاشم مدّة. ودخل عطرّد على المهدىّ وغنّاه. قيل: ودخل على الرشيد وغنّاه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ذكر أخبار عمر الوادىّ
هو عمر بن داود بن زاذان. وجدّه زاذان مولى عمرو بن عثمان بن عفّان.
وأخذ الغناء عن حكم، وقيل: بل أخذ حكم عنه. وهو من أهل وادى القرى.
قدم الحرم وأخذ من غناء أهله فحذق وصنع فأجاد. وكان طيّب الصوت شجيّا مطربا. وهو أوّل من غنّى من أهل وادى القرى، واتصل بالوليد بن يزيد في أيام إمارته فتقدّم عنده جدّا، وكان يسمّيه «جامع لذّاتى ومحيى طربى» . وقتل الوليد وهو يغنّيه، وكان آخر الناس به عهدا. قال: وكان يجتمع مع معبد ومالك بن أبى السّمح وغيرهما من المغنّين عند الوليد بن يزيد، فلا يمنعه حضورهم من تقديمه والإصغاء إليه والاختصاص به. وفي عمر هذا يقول الوليد بن يزيد:
إنما فكّرت في عمر ... حين قال القول واختلجا
إنه للمستنير به ... قمر قد طمّس السّرجا
ويغنّى الشعر ينظمه ... سيّد القوم الذى فلجا
أكمل الوادىّ صنعته ... فى كتاب الشعر فاندمجا
أراد الوليد بن يزيد بقوله: «سيّد القوم» نفسه.(4/304)
ذكر أخبار حكم الوادىّ
هو أبو يحيى الحكم بن ميمون، وقيل: الحكم بن يحيى بن ميمون. مولى الوليد بن عبد الملك، كان أبوه حلّاقا «1» يحلق رأس الوليد، فاشتراه فأعتقه. وكان حكم طويلا أحول، يكرى الجمال ينقل [عليها «2» ] الزيت من الشأم إلى المدينة. وقيل: كان أصله من الفرس. وكان واحد عصره في الحذق، وكان يغنّى بالدّفّ ويغنّى مرتجلا. وعمّر عمرا طويلا، غنّى الوليد بن عبد الملك، وغنّى الرشيد، ومات في الشّطر من خلافته.
وأخذ الغناء عن عمر الوادىّ، وقد قيل: إن عمر أخذ عنه. قال حمّاد بن إسحاق قال لى أبى: أربعة بلغت في أربعة أجناس من الغناء مبلغا قصّر عنه غيرهم: «معبد» فى الثقيل، و «ابن سريج» فى الرّمل، و «حكم» فى الهزج، و «إبراهيم» فى الماخورىّ.
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وزار حكم الوادىّ الرشيد، فبرّه ووصله بثلاثمائة ألف درهم، وخيّره فيمن يكتب له بها عليه؛ فقال: اكتب لى بها على إبراهيم بن المهدىّ- وكان إبراهيم إذ ذاك عاملا له بالشأم- فقدم عليه حكم بكتاب الرشيد؛ فأعطاه ما كتب له به، ووصله بمثل ذلك، إلّا أنه نقصه ألف درهم من الثلاثمائة ألف وقال له: لا أصلك بمثل ما وصلك أمير المؤمنين. قال إبراهيم بن المهدىّ: وأقام عندى ثلاثين يوما أخذت عنه فيها ثلاثمائة صوت، كلّ صوت أحبّ إلى من الثلاثمائة ألف التى وهبتها له. وقيل: إنه لم يشتهر بالغناء حتى صار إلى بنى العبّاس، فانقطع إلى محمد بن أبى العباس، وذلك في خلافة المنصور، فأعجب به واختاره على المغنّين وأعجبته أهزاجه. وكان يقال: إنه أهزج الناس. ويقال: إنه غنّى الأهزاج في آخر عمره؛ فلامه ابنه على ذلك وقال: أبعد الكبر تغنّى غناء المخنّثين! فقال له: اسكت(4/305)
فإنّك جاهل، غنّيت [الثقيل «1» ] ستين سنة فلم أنل إلا القوت، وغنّيت الأهزاج منذ سنتين فكسبتك ما لم تر مثله قطّ. والله أعلم.
ذكر أخبار ابن جامع
هو أبو القاسم إسماعيل بن جامع بن عبد الله بن المطلب بن أبى وداعة ابن صبيرة بن سهم بن هصيص بن كعب بن لؤىّ. قالوا: وكان ابن جامع من أحفظ خلق الله لكتاب الله تعالى، كان يخرج من منزله مع الفجر يوم الجمعة فيصلّى الصبح ثم يصفّ قدميه حتى تطلع الشمس، فلا يصلّى الناس الجمعة حتى يختم القرآن ثم ينصرف إلى منزله. وكان حسن السّمت، كثير الصلاة. وكان يعتمّ بعمامة سوداء على قلنسوة ويلبس لباس الفقهاء ويركب حمارا مرّيسيّا «2» فى زىّ أهل الحجاز. وروى عنه أنه قال: لولا أن القمار وحبّ الكلاب قد شغلانى لتركت المغنّين لا يأكلون الخبز. قال ابن جامع: أخذت من الرشيد ببيتين غنّيته إياهما عشرة آلاف دينار.
قالوا: وكان إبراهيم بن المهدىّ يفضّل ابن جامع فلا يقدّم عليه أحدا. قال: وكان ابن جامع منقطعا إلى موسى الهادى في أيام أبيه، فضربه المهدىّ وطرده. فلما مات المهدىّ بعث الفضل بن الربيع إلى مكة فأحضر ابن جامع في قبّة ولم يعلم به أحدا.
فذكره موسى الهادى ذات ليلة فقال لجلسائه: أما فيكم أحد يرسل إلى ابن جامع وقد عرفتم موقعه منى؟ فقال الفضل بن الربيع: هو والله عندى يا أمير المؤمنين وأحضره إليه. فوصل الفضل في تلك الليلة بعشرة آلاف دينار وولّاه حجابته.(4/306)
وحكى أنه دخل على الهادى فغنّاه فلم يعجبه؛ فقال له الفضل: تركت الخفيف وغنّيت الثقيل. قال: فأدخلنى عليه أخرى فأدخله؛ فغنّاه الخفيف، فأعطاه ثلاثين ألف دينار. قال أحمد بن يحيى المكىّ: كان ابن جامع أحسن ما يكون غناء إذا حزن. وأحبّ الرشيد أن يسمع ذلك، فقال للفضل بن الربيع: ابعث بخريطة فيها نعى أمّ ابن جامع- وكان برّا بأمّه- ففعل. فقال الرشيد: يابن جامع، فى هذه الخريطة نعى أمّك؛ فاندفع ابن جامع يغنّى بتلك الحرقة والحزن الذى فى قلبه:
كم «1» بالدروب وأرض السّند من قدم ... ومن جماجم صرعى ما بها قبروا
بقندهار «2» ومن تكتب منيّته ... بقندهار يرجّم دونه الخبر
قال: فو الله ما ملكنا أنفسنا، ورأيت الغلمان يضربون برءوسهم الحيطان والأساطين، وأمر له الرشيد بعشرة آلاف دينار.
وروى أبو الفرج بسنده إلى عبد الله بن علىّ بن عيسى بن ماهان قال: سمعت يزيد يحدّث عن أمّ جعفر أنه بلغها أنّ الرشيد جالس وحده وليس معه أحد من الندماء ولا المسامرين، فأرسلت إليه: يا أمير المؤمنين، إنّى لم أرك منذ ثلاث وهذا اليوم الرابع. فأرسل إليها: عندى ابن جامع. فأرسلت إليه: أنت تعلم أنى لا أتهنّأ بشرب ولا سماع ولا غيرهما إلا أن تشركنى فيه، ما كان عليك أن أشركك فى هذا الذى أنت فيه! فأرسل إليها: إنى صائر إليك الساعة. ثم قام وأخذ بيد ابن جامع وقال للخادم: امض إليها واعلمها أنّى قد جئت. وأقبل الرشيد؛ فلما نظر(4/307)
إلى الخدم والوصائف قد استقبلوه علم أنّها قد قامت تستقبله؛ فوجّه إليها: إن معى ابن جامع، فعدلت إلى بعض المقاصير. وجاء الرشيد وصيّر ابن جامع في بعض المواضع التى يسمع منه فيها، ثم أمر ابن جامع فاندفع يغنّى:
ما رعدت رعدة ولا برقت ... لكنها أنشئت لنا خلقه «1»
الماء يجرى ولا نظام «2» له ... لو يجد الماء مخرقا خرقه
بتنا وباتت على نمارقها ... حتى بدا الصبح عينها أرقه
أن قيل إن الرحيل بعد غد ... والدّار بعد الجميع مفترقه
فقالت أمّ جعفر للرشيد: ما أحسن ما اشتهيت والله يا أمير المؤمنين! ثم قالت لمسلم خادمها: ادفع إلى ابن جامع بكل بيت مائة ألف درهم. فقال الرّشيد:
غلبتينا يابنة أبى الفضل وسبقتينا إلى برّ ضيفنا وجليسنا. فلما خرج حمل الرشيد إليها مكان كل درهم دينارا.
ذكر أخبار عمرو بن أبى الكنّات «3»
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو أبو عثمان، وقيل: أبو معاذ عمرو بن أبى الكنّات، مولى بنى جمح. وهو مكىّ مغنّ حسن الصوت، من طبقة ابن جامع وأصحابه. وفيه يقول الشاعر:
أحسن الناس فاعلموه غناء ... رجل من بنى أبى الكنّات(4/308)
قال محمد بن عبد الله بن فروة: قلت لإسماعيل بن جامع يوما: هل غلبك أحد من المغنّين قط؟ قال: نعم، كنت ليلة ببغداد إذ جاءنى رسول أمير المؤمنين هارون الرشيد فأمرنى بالرّكوب، فركبت حتى صرت إلى الدار، فإذا أنا بالفضل بن الربيع ومعه زلزل العوّاد وبرصوما؛ فسلّمت وجلست يسيرا. فطلع خادم فقال للفضل:
هل جاء؟ قال لا. قال: فابعث إليه. ولم يزل المغنّون يدخلون واحدا واحدا حتى كنّا ستّة أو سبعة. ثم طلع الخادم فقال: هل جاء؟ فقال لا؛ فقال: قم فابعث فى طلبه؛ فقام فغاب غير طويل فإذا هو قد جاء بعمرو بن أبى الكنّات. فسلّم وجلس إلى جنبى، فقال لى: من هؤلاء؟ قلت: مغنّون، هذا «زلزل» وهذا «برصوما» .
فقال: لأغنّينّك غناء يخرق هذا السقف وتجيبه الحيطان. ثم طلع الخصىّ فدعا بكراسىّ، وخرج الجوارى. فلما جلسن قال الخادم: شدّوا فشدّوا عيدانهم؛ ثم قال:
يغنّى ابن جامع، فغنّيت سبعة أو ثمانية أصوات؛ قال: اسكت، وليغنّ إبراهيم الموصلىّ؛ فغنّى مثل ذلك أو دونه ثم سكت، وغنّى القوم كلّهم واحدا بعد واحد حتى فرغوا. ثم قال لابن أبى الكنّات: غنّ؛ فقال لزلزل: شدّ طبقتك فشدّ؛ ثم قال له: شدّ فشدّ، ثم أخذ العود من يده فجسّه حتى وقف على الموضع الذى يريده، ثم قال: على هذا. وابتدأ الصوت الذى أوّله «ألالا» ؛ فو الله لقد خيّل إلىّ أن الحيطان تجاوبه؛ ثم رجّع النّغمة فيه؛ فطلع الخصىّ فقال: اسكت لا تتمّ الصوت فسكت. ثم قال: يجلس عمرو بن أبى الكنّات وينصرف سائر المغنّين؛ فقمنا بأسوأ حال وأكسف بال، ولا والله ما زال كلّ واحد منّا يسأل صاحبه عن كلّ ما يرويه من الغناء الذى أوّله «ألالا» طمعا في أن يعرفه وأن يوافق غناءه فما عرفه منا أحد. وبات عمرو عند الرشيد ليلته وانصرف من عنده بجوائز وصلات وطرف سنية.(4/309)
وقال موسى بن أبى المهاجر: خرج ابن جامع وابن أبى الكنّات حين دفع الإمام «1» من عرفة، حتى إذا كانوا بين المأزمين جلس عمرو على طرف الجبل ثم اندفع يغنّى، فركب الناس بعضهم بعضا حتى صاحوا به واستغاثوا: يا هذا، الله الله! اسكت عنا يجز الناس؛ فضبط ابن جامع بيده على فيه حتى مضى الناس إلى مزدلفة.
قال علىّ بن الجهم: حدّثنى من أثق به قال: واقفت ابن أبى الكنّات على جسر بغداد أيام الرشيد فحدّثته بحديث اتّصل بى عن ابن عائشة أنه وقف في الموسم فى أيام هشام، فمرّ به بعض أصحابه فقال: ما تصنع؟ فقال: إنى لأعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس فلم يذهب منهم أحد ولم يجئ. فقلت له «2» : من هذا الرجل؟ قال:
أنا، ثم اندفع فغنّى فحبس الناس، فاضطربت المحامل ومدّت الإبل أعناقها. فقال ابن أبى الكنّات وكان معجبا بنفسه: أنا أفعل كما فعل وقدرتى على القلوب أكثر من قدرته. ثم اندفع فغنّى الصوت الذى غنّى فيه ابن عائشة، وهو:
جرت سنحا فقلت لها أجيزى ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء
بنفسى من تذكرّه سقام ... أعالجه ومطلبه عناء
قال: فغنّاه، وكنا إذ ذاك على جسر بغداد، وكان على دجلة ثلاثة جسور، فانقطعت الطّرق وامتلأت الجسور بالناس فآزدحموا عليها واضطربت حتى خيف عليها أن تنقطع لثقل من عليها من الناس. فأخذ فأتى به الرشيد؛ فقال له: يا عدوّ الله، أردت أن تفتن الناس! قال: لا والله يا أمير المؤمنين ولكنّه بلغنى أن ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام، فأحببت أن يكون في أيامك مثله. فأعجبه ذلك،(4/310)
وأمر له بمال وأمره أن يغنّى فغنّى؛ فسمع شيئا لم يسمع مثله، فآحتبسه عنده شهرا يستر يده، وكلّ يوم يستأذن له في الانصراف فلا يأذن له حتى تمّم شهرا، وانصرف بأموال جسيمة.
وقال عثمان بن موسى: كنّا على شراب يوما ومعنا عمرو بن أبى الكنّات إذ قال لنا قبل طلوع الشمس: من تحبّون أن يجيئكم؟ قلنا: منصور الحجبىّ. فقال:
أمهلوا حتى يكون الوقت الذى ينحدر فيه إلى سوق البقر. فمكثنا ساعة ثم اندفع يغنّى:
أحسن الناس فاعلموه غناء ... رجل من بنى أبى الكنّات
عفت الدّار فالهضاب اللّواتى ... بين «1» ثور فملتقى عرفات
فلم نلبث أن رأينا منصورا من بعد قد أقبل يركض دابّته نحونا. فلما جلس إلينا قلت له: من أين علمت بنا؟ قال: سمعت صوت عمرو وأنا في سوق البقر، فخرجت أركض دابّتى حتى صرت إليكم. قال: وبيننا وبين ذلك الموضع ثلاثة أميال.
وقال يحيى بن يعلى بن سعيد: بينا أنا ليلة في منزلى في الرّمضة بأسفل مكة، إذ سمعت صوت عمرو بن أبى الكنّات كأنّه معى، فأمرت الغلام فأسرج لى دابّتى وخرجت أريده، فلم أزل أتبع الصوت حتى وجدته جالسا على الكثيب العارض ببطن عرفة يغنّى:
خذى العفو منى تستديمى مودّتى ... ولا تنطقى في سورتى حين أغضب(4/311)
ولا تنقرينى نقرة الدّفّ مرّة ... فإنّك لا تدرين كيف المغيّب
فإنى رأيت الحبّ في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
ذكر أخبار أبى المهنّأ مخارق
هو أبو المهنّأ مخارق بن يحيى بن ناووس الجزّار مولى الرشيد. وقيل: بل ناووس لقب أبيه يحيى؛ وإنما لقّب بناووس لأنه بايع رجلا أنه يمضى إلى ناووس الكوفة فيطبخ فيه قدرا بالليل حتى تنضج، فطرح رهنه بذلك؛ فدسّ الرجل الذى راهنه رجلا فألقى نفسه في الناووس بين الموتى. فلما فرغ ناووس من الطبخ مدّ الرجل يده من بين الموتى وقال له: أطعمنى؛ فغرف بالمغرفة من المرق وصبّها في يد الرجل فأحرقها وضربها بالمغرفة وقال له: اصبر حتى نطعم الأحياء أوّلا ثم نتفرّغ للموتى؛ فلقّب ناووسا لذلك.
قال: وكان مخارق لعاتكة بنت شهدة، وهى من المغنّيات المحسنات المتقدّمات فى الضرب. نشأ مخارق بالمدينة؛ وقيل: كان منشؤه بالكوفة. وكان أبوه جزارا مملوكا، وكان مخارق وهو صبىّ ينادى على ما يبيعه أبوه من اللحم. فلما بان طيب صوته علّمته مولاته طرفا من الغناء، ثم أرادت بيعه، فاشتراه إبراهيم الموصلىّ منها وأهداه للفضل بن يحيى، فأخذه الرشيد منه ثم أعتقه. وقيل: اشتراه إبراهيم من مولاته بثلاثين ألف درهم وزادها ثلاثة آلاف درهم. قال: ولما اشتراه قال له الفضل بن يحيى: ما خبر غلام بلغنى أنك اشتريته؟ فقال: هو ما بلغك. قال:
فأرنيه، فأحضره، فغنّى بين يديه؛ فقال له: ما أرى فيه الذى رأيت. قال: تريد أن يكون في الغناء مثلى في ساعة واحدة! فقال: بكم تبيعه؟ قال: اشتريته بثلاثين ألف درهم، وهو حرّ لوجه الله تعالى إن بعته إلا بثلاثة وثلاثين ألف دينار. فغضب(4/312)
الفضل وقال: إنما أردت ألّا تبيعه أو تجعله سببا لأن تأخذ منّى ثلاثة وثلاثين ألف دينار. فقال إبراهيم: أنا أصنع بك خصلة واحدة، أبيعك نصفه بنصف هذا المال وأكون شريكك في نصفه [وأعلّمه «1» ] ، فإن أعجبك إذا علمته أتممت لى باقى المال وإلا بعته بعد، وكان الرّبح بينى وبينك. فقال الفضل: إنما أردت أن تأخذ منّى المال الذى قدّمت ذكره، فلما لم تقدر على ذلك أردت أن تأخذ نصفه، وغضب. فقال إبراهيم له: فأنا أهبه لك على أنه يساوى ثلاثة وثلاثين ألف دينار؛ قال: قد قبلته؛ قال: وقد وهبته لك. وغدا إبراهيم على الرشيد؛ فقال له:
يا إبراهيم، ما غلام بلغنى أنك وهبته للفضل؟ قال: غلام يا أمير المؤمنين لم تملك العرب ولا العجم مثله، ولا يكون مثله أبدا. قال: فوجّه إلى الفضل يأمره بإحضاره. فوجّه به إليه، فغنّى بين يديه؛ فقال له: كم يساوى؟ قال إبراهيم: يساوى خراج مصر وضياعها. قال: ويحك! أتدرى ما تقول! مبلغ هذا المال كذا وكذا! قال: وما مقدار هذا المال في غلام لم يملك أحد مثله قطّ! قال: فالتفت الرشيد إلى مسرور الكبير وقال: قد عرفت يمينى أنى لا أسأل أحدا من البرامكة شيئا.
فقال مسرور: فأنا أمضى إلى الفضل فأستوهبه منه، فإذا كان عندى فهو عندك.
فقال له: شأنك. فمضى مسرور إلى الفضل واستوهبه منه، فوهبه له. وقيل:
بل إبراهيم هو الذى أهداه للرشيد؛ فأمره الرشيد بتعليمه فعلّمه حتى بلغ ما بلغه.
قال: وكان مخارق يقف بين يدى الرشيد مع الغلمان لا يجلس ويغنّى وهو واقف.
فغنّى ابن جامع ذات يوم بين يدى الرشيد:
كأنّ نيراننا «2» فى جنب قلعتهم ... مصبّغات على أرسان قصّار «3»(4/313)
هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا ... جواثما «1» ترتمى بالنّفط والنّار
فطرب الرشيد واستعاده مرارا؛ وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة. فأقبل الرشيد على ابن جامع دون غيره. فغمز مخارق إبراهيم بعينه وتقدّمه إلى الخلاء، فلما جاء قال له: مالى أراك منكسرا؟ فقال له: أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت! فقال مخارق: قد والله أخذته. فقال: ويحك! إنه الرشيد، وابن جامع من تعلم، ولا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه وإلا فهو الموت! فقال: دعنى وخلاك ذمّ، وعرّفه أنّى أغنّى به، فإن أحسنت فإليك ينسب، وإن أسأت فإلىّ يعود. فقال إبراهيم للرشيد: يا أمير المؤمنين، أراك متعجّبا من هذا الصوت بغير ما يستحقّه وأكثر مما يستوجبه! فقال: لقد أحسن فيه ابن جامع ما شاء. قال: أو لابن جامع هو؟ قال: نعم، كذا ذكر. وقال: فإنّ عبدك مخارقا يغنيه. فنظر إلى مخارق؛ فقال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: هاته؛ فغنّاه وتحفّظ فيه فأتى بالعجائب، وطرب الرشيد حتى كاد يطير؛ ثم أقبل على ابن جامع فقال:
ويلك! ما هذا؟ فابتدأ يحلف بالطلاق وكلّ محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قطّ من غيره وأنه صنعه وأنها حيلة جرت عليه. فأقبل على إبراهيم وقال: اصدقنى بحياتى؛ فصدقه عن قصّة مخارق. فقال لمخارق: اجلس إذا مع أصحابك، فقد تجاوزت مرتبة من يقوم. وأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه ضيعة ومنزلا.
وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ عن هارون بن مخارق، قال: كان أبى إذا غنّى هذا الصوت:
يا ربع سلمى لقد هيّجت لى طربا ... زدت الفؤاد على علّاته وصبا
ربع تبدّل ممن كان يسكنه ... عفر الظباء وظلمانا به عصبا(4/314)
يبكى ويقول: أنا مولى هذا الصوت. فقلت له: كيف يا أبت؟ فقال: غنّيته مولاى الرشيد، فبكى وشرب عليه رطلا ثم قال: أحسنت يا مخارق! فسلنى حاجتك؛ فقلت: تعتقنى يا أمير المؤمنين أعتقك الله من النار؛ فقال: أنت حرّ لوجه الله تعالى، فأعد الصوت فأعدته؛ فبكى وشرب رطلا، ثم قال: أحسنت يا مخارق! فسلنى حاجتك؛ فقلت: ضيعة تقيمنى غلّتها «1» ؛ فقال: قد أمرت لك بها، أعد الصوت فأعدته؛ فبكى وقال: سل حاجتك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، تأمر لى بمنزل وفرس وخادم؛ فقال: ذلك لك، أعد الصوت فأعدته؛ فبكى وقال:
سل حاجتك؛ فقبّلت الأرض بين يديه وقلت: حاجتى أن يطيل الله بقاءك ويديم عزّك ويجعلنى من كل سوء فداءك؛ فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاى.
ويروى أيضا عن الحسين بن الضحّاك عن مخارق أنّ الرشيد قال يوما للمغنّين وهو مصطبح: من منكم يغنّى:
يا ربع سلمى لقد هيّجت لى طربا
فقمت وقلت: أنا يا أمير المؤمنين. فقال: هاته؛ فغنّيته فطرب وشرب ثم قال:
علىّ بهرثمة؛ فقلت في نفسى: ماذا يريد منه! فجاء هرثمة فقال له: مخارق الشّارىّ الذى قتلناه بنواحى الموصل ما كانت كنيته؟ فقال: أبو المهنّأ؛ فقال: انصرف فانصرف؛ ثم أقبل الرشيد علىّ فقال: قد كنّيتك أبا المهنّأ لإحسانك؛ وأمر لى بمائة ألف درهم؛ فانصرفت بها وبالكنية.
قال أبو عبد الله بن حمدون: كنّا عند الواثق وأمّه عليلة. فلما صلّى المغرب دخل إليها وأمر ألا نبرح، فجلسنا في صحن الدار، وكانت ليلة مقمرة وأبطأ الواثق علينا؛ فاندفع مخارق يغنّى، فاجتمع علينا الغلمان، وخرج الواثق فصاح: يا غلام، فلم يجبه(4/315)
أحد، ومشى في المجلس الى أن توسّط الدار؛ فلما رأيته بادرت إليه؛ فقال لى:
ويلك! هل حدث في دارى شىء؟ فقلت: لا يا سيّدى. قال: فما بالى أصيح فلا أجاب؟ فقلت: مخارق يغنّى والغلمان قد اجتمعوا اليه فليس فيهم فضل لسماع غير ما يسمعونه. فقال: عذر والله لهم يابن حمدون وأىّ عذر! ثم جلس وجلسنا بين يديه الى السّحر. وقد روى نحو هذه الحكاية في أمر الغلمان مع مخارق عند المعتصم. وقال محمد بن عبد الملك الزيّات: قال لى الواثق: ما غنّانى مخارق قط إلا قدّرت أنه من قلبى خلق. وكان يقول: أتريدون أن تنظروا فضل مخارق على جميع أصحابه؟ انظروا الى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السّماط، فكانوا يتفقّدونهم وهم وقوف فكلّهم يسمع الغناء من المغنّين جميعا وهو واقف مكانه ضابط لنفسه، فاذا تغنّى مخارق خرجوا عن صورهم فتحرّكت أرجلهم ومناكبهم وبانت أسباب الطرب فيهم، وازدحموا على الحبل الذى يقفون من ورائه.
وحكى أنّه خرج مرّة الى باب الكناسة بمدينة السلام والناس يرحلون الى مكة؛ فنظر إلى كثرتهم وازدحامهم، فقال لأصحابه الذين معه: قد جاء في الخبر أنّ ابن سريج كان يغنّى في أيام الحجّ والناس يمشون فيستوقفهم بغنائه، وسأستوقف لكم هؤلاء الناس وأستلهيهم جميعا لتعلموا أنّه لم يكن ليفضلنى إلّا بصنعته دون صوته؛ ثم اندفع يؤذّن، فاستوقف أولئك الخلق واستلهاهم، حتى جعلت المحامل يغشى بعضها بعضا.
قالوا: وجاء أبو العتاهية الى باب مخارق وطرقه فخرج اليه؛ فقال له: يا حسّان هذا الإقليم، يا حكيم أرض بابل، أصبب في أذنى شيئا يفرح به قلبى وتتنّعم به نفسى- وكان في جماعة منهم محمد بن سعيد اليزيدىّ- فقال: انزلوا، فنزلوا، فغنّاهم.
فقال محمد بن سعيد: فكدت أسعى على وجهى طربا. قال: وجعل أبو العتاهية(4/316)
يبكى، ثم قال: يا دواء المجانين، لقد رققت حتى كدت أن أحسوك، فلو كان الغناء طعاما لكان غناؤك أدما، ولو كان شرابا لكان ماء الحياة.
وقال أبو الفرج عن عمر بن شبّة قال: حدّثنى بعض آل نوبخت قال: كان أبى وعبد الله بن أبى سهل وجماعة من آل نوبخت وغيرهم وقوفا بكناسة الدّوابّ فى الجانب الغربىّ ببغداد يتحدّثون، وإنهم لكذلك إذ أقبل مخارق على حمار أسود وعليه قميص رقيق ورداء مسهّم؛ فقال: فيم كنتم؟ فأخبروه. فقال: دعونا من وسواسكم هذا، أىّ شىء لى عليكم إن رميت بنفسى بين قبرين من هذه القبور وغطّيت وجهى وغنّيت صوتا فلم يبق أحد بهذه الكناسة ولا في الطريق من مشتر ولا بائع ولا صادر ولا وارد إلا ترك عمله وقرب منّى واتّبع صوتى؟ فقال عبد الله: إنى لأحبّ أن أرى هذا، فقل ما شئت. فقال مخارق: فرسك الأشقر الذى طلبته منك فمنعتنيه. قال:
هو لك إن فعلت ما قلت. قال: فرمى بنفسه بين قبرين وتغطّى بردائه، ثم اندفع يغنّى بشعر أبى العتاهية:
نادت بوشك رحيلك الأيّام ... أفلست تسمع أم بك استصمام
ومضى أمامك من رأيت وأنت لل ... باقين حتى يلحقوك أمام
مالى أراك كأنّ عينك لا ترى ... عبرا تمرّ كأنهنّ سهام
تمضى الخطوب وأنت منتبه لها ... فإذا مضت فكأنها أحلام
قال: فرأيت الناس يأتون إلى المقبرة أرسالا بين راكب وراجل وصاحب شغل ومار في الطريق حتى لم يبق أحد. ثم قال لنا من تحت ردائه: هل بقى أحد؟
قلنا: لا، وقد وجب الرّهن. فقام فركب حماره، وعاد الناس إلى صنائعهم؛ وقال لعبد الله: أحضر الفرس؛ قال: على أن تقيم عندى؛ قال نعم! فسلّم الفرس إليه وبرّه وأحسن رفده.(4/317)
وروى عن يحيى المكىّ قال: خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزّهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع بعض من خرج معه، فسأله إيّاها، وكان المسئول ضنّ بها، وسنحت ظباء بالقرب منه؛ فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنّيت صوتا فعطفت علىّ به خدود هذه الظباء أتدفع إلىّ القوس؟ قال نعم! فاندفع يغنّى:
ماذا تقول الظباء ... أفرقة أم لقاء
أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء
مرّت بنا سانحات ... وقد دنا الإمساء
فما أحارت جوابا ... وطال فيها العناء
قال: فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه تنظر إليه مصغية إلى صوته. فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها؛ وناوله الرجل القوس، فأخذها وقطع الغناء [فعاودت الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها «1» ] .
وروى عن إسحاق بن إبراهيم قال: دخلت على أبى وهو جالس بين بابين له ومخارق بين يديه وهو يغنّيه:
يا ربع بشرة إن أضرّبك البلى ... فلقد رأيتك آهلا معمورا
قال: فرأيت أبى ودموعه تجرى على خدّيه من أربعة أماكن وهو ينشج أحرّ نشيج. فلما رآنى قال: يا إسحاق، هذا والله صاحب اللّواء غدا إن مات أبوك.
وروى عن مخارق قال: رأيت وأنا حدث كأنّ شيخا جالسا على سرير في روضة حسنة، فدعانى فقال لى: غنّنى يا مخارق؛ فقلت: أصوتا تقترحه أو ما حضر؟ فقال:
ما حضر. فغنّيته:(4/318)
دعى القلب لا يزدد خبالا مع الذى ... به منك أو داوى جواه المكتّما
وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنّه قد خالط اللّحم والدّما
فقال لى: أحسنت يا مخارق! ثم أخذ وترا من أوتار العود فلفّه على المضراب ودفعه الىّ، فجعل المضراب يطول ويغلظ والوتر ينتشر ويعرض حتى صار المضراب كالرمح والوتر كالعذبة [عليه «1» ] وصار في يدى علما، ثم انتبهت فحدّثت برؤياى إبراهيم الموصلىّ؛ فقال لى: الشيخ بلا شك إبليس، وقد عقد لواء صنعتك فانت ما حييت رئيس أهلها.
وقال أحمد بن حمدون: غضب المعتصم على مخارق فأمر أن يجعل في المؤذّنين ويلزمهم ففعل ذلك؛ وأمهل حتى علم أن المعتصم يشرب، فأذّنت العصر، فدخل الى السّتر حيث يقف المؤذّن للسلام، ثم رفع صوته جهده وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله. فبكى حتى جرت دموعه وبكى كلّ من حضر، ثم قال: أدخلوه علىّ وأقبل علينا؛ ثم قال: سمعتم هكذا قط! هذا الشيطان لا يترك أحدا يغضب عليه!. فدخل اليه فقبّل الأرض بين يديه؛ فدعاه المعتصم اليه فأعطاه يده فقبّلها وأمره بإحضار عوده فأحضره، وأعاده الى مرتبته.
وأخباره كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية. وكانت وفاته في أوّل خلافة المتوكّل؛ وقيل: بل في آخر خلافة الواثق. وغنّى خمسة من الخلفاء: الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق. رحمهم الله تعالى.(4/319)
ذكر أخبار يحيى بن مرزوق المكّىّ
هو أبو عثمان يحيى بن مرزوق المكىّ، مولى بنى أميّة، وكان يكتم ذلك لخدمته للخلفاء من بنى العبّاس؛ وكان إذا سئل عن ولائه انتمى الى قريش، ولم يذكر البطن الذى ولاؤه له، ويستعفى من يسأله عن ذلك.
قال الأصفهانىّ:
وعمّر يحيى المكىّ مائة وعشرين سنة، وأصاب بالغناء ما لم يصبه أحد من نظرائه ومات وهو صحيح العقل والسمع والبصر. وكان قدم مع الحجازيّين الذين قدموا على المهدىّ في أوّل خلافته فبقى بالعراق. وكان ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ وفليح يفزعون اليه في الغناء القديم فيأخذونه عنه، ويعابى بعضهم بعضا بما يأخذونه منه. فإذا خرجت لهم الجوائز أحذوه «1» منها ووفّروا نصيبه. وله صنعة عجيبة نادرة متقدّمة. قال: وله كتاب في الأغانى ونسبها وأجناسها كبير جليل مشهور، إلّا أنّه كالمطروح عند الرواة لكثرة تخليطه في رواياته؛ والعمل على كتاب ابنه أحمد، فإنه صحّح كثيرا مما أفسده وأزال ما عرفه من تخاليط أبيه، وحقّق ما نسبه من الأغانى الى صانعه. قال: وهو يشتمل على نحو ثلاثة آلاف صوت.
قال أحمد بن سعيد:
كانت صنعة يحيى ثلاثة آلاف صوت، منها زهاء ألف صوت لم يقاربه فيها أحد. وسئل ابنه أحمد عن صنعة أبيه فقال: الذى صحّ عندى منها ألف صوت وثلاثمائة صوت، منها مائة وسبعون صوتا، غلب «2» فيها على الناس جميعا من تقدّم منهم و [من «3» ] تأخّر، فلم يقم له أحد فيها.(4/320)
قال أحمد بن يحيى قال لى إسحاق: يا أبا جعفر لأبيك مائة وسبعون صوتا من أخذها عنه بمائة وسبعين ألف درهم فهو الرّابح. والله أعلم.
ذكر أخبار أحمد بن يحيى المكىّ الملقّب بطنين «1»
هو أبو جعفر أحمد بن يحيى المكىّ، وكان يلقّب طنينا «2» . وهو أحد المحسنين المبرّزين الرّواة للغناء المحكمى الصنعة. كان إسحاق يقدّمه ويؤثره ويشدو «3» بذكره ويجهر بتفضيله.
قال أبو الفرج: وكتابه المجرّد في الأغانى ونسبها أصل من الأصول المعوّل عليها. قال: وكان مع جودة غنائه وحسن صنعته أحد الضّرّاب الموصوفين المتقدّمين.
قال علىّ بن يحيى: قلت لإسحاق بن إبراهيم الموصلىّ- وقد جرى ذكر أحمد ابن يحيى المكىّ-: يا أبا محمد لو كان أبو جعفر أحمد بن يحيى مملوكا كم كان يساوى؟
قال: أخبرك عن ذلك، انصرفت ليلة من دار الواثق فاجتزت بدار الحسن بن وهب فدخلت اليه فإذا أحمد عنده. فلما قاموا لصلاة العشاء الآخرة قال لى الحسن بن وهب كم يساوى أحمد لو كان مملوكا؟ قلت: يساوى عشرين ألف دينار. قال:
ثم رجع فغنّى صوتا؛ فقال لى الحسن: كم يساوى أحمد لو كان مملوكا؟ قلت: يساوى ثلاثين ألف دينار. ثم تغنّى صوتا آخر؛ فقلت للحسن: يا أبا علىّ أضعفها. ثم أردت الانصراف فقلت لأحمد: غنّنى
لولا الحياء وأنّ السّتر «4» من خلقى ... إذا قعدت إليك الدهر لم أقم(4/321)
أليس عندك سكر «1» للتى جعلت ... ما ابيضّ من قادمات الرأس كالحمم
فغنّاه فأحسن فيه كلّ الإحسان. فلما قمت للانصراف قلت: يا أبا علىّ، أضعف الجميع. فقال له أحمد: ما هذا الذى أسمعكما تقولانه ولست أدرى ما معناه؟ فقال:
نحن نبيعك ونشتريك منذ الليلة وأنت لا تدرى. وقال محمد بن عبد الله بن مالك:
سألنى إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ يوما: من بقى من المغنّين؟ قلت: وجه القرعة محمد بن عيسى. فقال: صالح كيّس؛ ومن أيضا؟ قلت: أحمد بن يحيى المكىّ.
قال: بخ بخ! ذاك المحسن المجمل الضارب المغنّى، القائم بمجلسه لا يحوج أهل المجلس الى غيره. وكانت وفاته في أوّل خلافة المستعين.
ذكر أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أميّة
يكنّى أبا العباس. وكان موسى الهادى يسمّيه أبا الغريض. قال أبو الفرج:
وهو حسن الصنعة غزيرها؛ وفيه يقول الشاعر:
يا وحشتى بعدك يا هاشم ... غبت فشجوى بك لى لازم»
اللهو واللّذّة يا هاشم ... ما لم تكن حاضره ماتم
وقال الأصبهانىّ بسند رفعه إلى هاشم:
أصبح موسى أمير المؤمنين يوما وعنده جماعة فقال: يا هاشم غنّنى:
أبهار قد هيّجت لى أوجاعا
فإن أصبت مرادى فيه فلك حاجة مقضية. قال: فغنّيته، وهو:
أبهار قد هيّجت لى أوجاعا ... وتركتنى عبدا لكم مطواعا(4/322)
بحديثك الحسن الذى لو كلّمت ... وحش الفلاة به لجئن سراعا
وإذا مررت على البهار منضّدا ... فى السوق هيّج لى إليك نزاعا
والله لو علم البهار بأنها ... أضحت سمّيته لصار ذراعا
فقال: أصبت وأحسنت، سل حاجتك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، تأمر بأن يملأ هذا الكانون دراهم- وكان بين يديه كانون عظيم- فأمر به فملىء فوسع ثلاثين ألف درهم. فلمّا حصّلتها قال لى: يا ناقص الهمة، والله لو سألت أن أملأه لك دنانير لفعلت. فقلت: أقلنى يا أمير المؤمنين. قال: لا سبيل الى ذلك ولم يسعدك الجدّ به. وقد رويت هذه الحكاية في موضع آخر، وذكر أنّ الذى غنّاه غير هذا الشعر، وأن الكانون وسع ستّ بدر، فدفعها اليه.
ذكر أخبار يزيد حوراء
هو رجل من أهل المدينة من موالى بنى ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ ويكنى أبا خالد. مغنّ محسن كثير الصنعة، من طبقة ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ.
وكان ممن قدم على المهدىّ في خلافته فغنّاه. وكان حسن الصوت حلو الشمائل.
فحسده إبراهيم الموصلىّ على شمائله وإشاراته في الغناء، فاشترى عدّة جوار وشاركه [فيهنّ «1» ] ، وقال له: علّمهنّ، فما رزق الله تعالى من ربح فيهنّ فهو بيننا. وأمرهنّ أن يجعلن وكدهنّ «2» أخذ إشاراته ففعلن ذلك. فكان إبراهيم يأخذها عنهنّ هو وابنه ويأمرهنّ بتعليم كل من يعرفنه ذلك حتى شهرها في الناس، فأبطل عليه ما كان منفردا به من ذلك.(4/323)
قال عبد الله بن العباس الرّبيعىّ:
كان يزيد حوراء نظيفا ظريفا حسن الوجه شكلا، لم يقدم علينا من الحجاز أنظف منه ولا أشكل، وما كنت تشاء أن ترى خصلة جميلة لا تراها في أحد منهم إلا رأيتها فيه. وكان يتعصّب لإبراهيم الموصلىّ على ابن جامع، فكان إبراهيم يرفع منه ويشيع ذكره بالجميل وينبّه على مواضع تقدّمه [وإحسانه «1» ] ، ويبعث بابنه إسحاق [إليه «2» ] يأخذ عنه.
وحكى أبو الفرج بسند رفعه الى يزيد حوراء قال:
كلّمنى أبو العتاهية في أن أكلّم المهدى في عتبة؛ فقلت: إن الكلام لا يمكننى، ولكن قل شعرا أغنّيه به؛ فقال:
نفسى بشىء من الدنيا معلّقة ... الله والقائم المهدىّ يكفيها
إنى لأيأس منها ثم يطمعنى ... فيها احتقارك للدّنيا وما فيها
قال: فعملت فيه لحنا وغنّيته. فقال: ما هذا؟ فأخبرته خبر أبى العتاهية؛ فقال: ننظر فيما سأل؛ فأخبرت بذلك أبا العتاهية. ثم مضى شهر فجاءنى فقال: هل حدث خبر؟ قلت لا. قال: فاذكرنى للمهدىّ. فقلت: إن أحببت ذلك فقل شعرا تحرّكه به وتذكّره وعده حتى أغنّيه به؛ فقال:
ليت شعرى ما عندكم ليت شعرى ... فلقد أخّر الجواب لأمر
ما جواب أولى بكل جميل ... من جواب يردّ من بعد شهر
قال يزيد: فغنّيت المهدىّ، فقال: علىّ بعتبة فأحضرت؛ فقال: إن أبا العتاهية كلّمنى فيك، فما تقولين ولك عندى وله ما تحبّان مما [لا «3» ] تبلغه أمانيكما؟ فقالت:(4/324)
قد علم أمير المؤمنين ما أوجب الله علىّ من حقّ مولاتى، وأريد أن أذكر هذا لها.
قال: فافعلى. قال: فأعلمت أبا العتاهية. ومضت أيام فسألنى معاودة المهدىّ؛ فقلت: قد عرفت الطريق، فقل ما شئت حتى أغنّيه به؛ فقال:
أشربت قلبى من رجائك ما له ... عنق يخبّ إليك بى ورسيم
وأملت نحو سماء جودك ناظرى ... أرعى مخايل برقها «1» وأشيم
ولقد تنسّمت الرّياح لحاجتى ... فإذا لها من راحتيك نسيم
ولربما استيأست ثم أقول لا ... إن الذى وعد النّجاح كريم
قال يزيد: فغنّيته الشعر، فقال: علىّ بعتبة فجاءت؛ فقال: ما صنعت؟ فقالت:
ذكرت ذلك لمولاتى فكرهته وأبت أن تفعل، فليفعل أمير المؤمنين ما يريد. قال:
ما كنت لأفعل شيئا تكرهه. فأعلمت أبا العتاهية بذلك، فقال:
قطّعت منك حبائل الآمال ... وأرحت من حلّ ومن ترحال
ما كان أشأم إذ رجاؤك قاتلى ... وبنات وعدك يعتلجن ببالى
ولئن طمعت لربّ برقة خلّب ... مالت بذى طمع ولمعة آل
وقد حكى أبو الفرج أيضا هذه الحكاية واختصرها، ولم يذكر الأبيات التى منها
أشربت قلبى من رجائك ماله
إلا أنّه غيّر قوله: «أشربت قلبى» بقوله: «أعلمت نفسى من رجائك» . وقال:
فصنع فيه يزيد لحنا وغنّاه المهدىّ. فدعا بأبى العتاهية وقال له: أما عتبة فلا سبيل إليها، لأن مولاتها قد منعت منها، ولكن هذه خمسون ألف درهم فاشتر ببعضها خيرا من عتبة فحملت إليه، فأخذها وانصرف.(4/325)
وحكى عن حماد بن إسحاق قال:
قال يزيد حوراء: كنت أجلس بالمدينة على أبواب قريش، وكانت تمرّ بى جارية تختلف الى الزرقاء تتعلّم منها الغناء. فقلت لها يوما: افهمى قولى وردّى جوابى وكونى عند ظنّى؛ فقالت: هات ما عندك. فقلت: بالله ما اسمك؟ فقالت:
ممنّعة. فأطرقت طيرة من اسمها مع طمعى فيها، ثم قلت: بل باذلة ومبذولة إن شاء الله فاسمعى منّى. فقالت وهى تتبسّم: إن كان عندك شىء فقل. فقلت:
ليهنك منّى أنّنى لست مفشيا ... هواك إلى غيرى ولو متّ من كربى
ولا ما نحا خلقا سواك محبّة ... ولا قائلا ما عشت من حبكم حسبى
فنظرت إلىّ طويلا ثم قالت: أنشدك الله، أعن فرط محبّة أم اهتياج غلمة [تكلمت «1» ] ؟ فقلت: لا والله إلا عن فرط محبّة. فقالت:
فو الله ربّ الناس لا خنتك الهوى ... ولا زلت مخصوص المحبّة من قلبى
فثق بى فإنى قد وثقت ولا تكن ... على غير ما أظهرت لى يا أخا الحبّ
قال: فو الله لكأنما أضرمت في قلبى نارا. فكانت تلقانى في الطريق الذى كانت تسلكه فتحدّثنى فأتفرّج بها؛ ثم اشتراها بعض أولاد الخلفاء، وكانت تكاتبنى وتلاطفنى دهرا طويلا.
ذكر أخبار فليح بن أبى العوراء
هو رجل من أهل مكّة مولى لبنى مخزوم، وهو أحد مغنّى الدولة العبّاسية؛ له محلّ كبير من صناعته، وهو أحد الثلاثة الذين اختاروا المائة الصوت للرّشيد التى بنى أبو الفرج الأصفهانى كتابه المترجم بالأغانى عليها. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى: ما سمعت أحسن من غناء فليح وابن جامع. وكان المهدى لا يغنّيه مغنّ(4/326)
إلا من وراء الستارة إلا فليح فإن الستارة كانت ترفع بينه وبين المهدىّ. وهو أوّل مغنّ نظر وجه المهدىّ.
وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهدىّ قال: كتب إلىّ جعفر بن يحيى وأنا عامل الرشيد على [جند «1» ] دمشق: قد قدم علينا فليح بن أبى العوراء، فأفسد علينا بأهزاجه وخفيفه كلّ غناء سمعناه قبله. وأنا محتال لك في تخليصه إليك لتسمع منه كما أسمعنا. فلم ألبث أن ورد على فليح بكتاب الرشيد يأمر له بثلاثة آلاف دينار؛ فورد علىّ منه رجل أذكرنى لقاؤه الناس وأخبرنى أنه قد ناهز المائة. فأقام عندى ثلاث سنين، وأخذ جوارى عنه كلّ ما كان معه من الغناء، وانتشر بعض غنائه بدمشق.
وروى أيضا بسنده إلى أحمد بن يحيى المكّىّ عن فليح بن أبى العوراء قال:
كان بالمدينة فتى يعشق ابنة عمّ له، فوعدته أنها تزوره؛ وشكا إلىّ أنها تأتيه ولا شىء عنده؛ فأعطيته دينارا للنفقة. فلما زارته قالت له: من يلهينا؟ قال:
صديق لى، ووصفنى لها؛ ودعانى فأتيته؛ وكان أوّل ما غنّيته:
من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا
فقامت إلى ثوبها فلبسته لتنصرف. فتعلّق بها وجهد كلّ الجهد في أن تقيم فم تفعل وانصرفت. فأقبل يلومنى في أن غنّيتها ذلك الصوت. فقلت: والله ما هو شىء اعتمدت به مساءتك ولكنّه شىء اتّفق. قال: فلم نبرح حتى عاد رسولها ومعه صرّة فيها ألف دينار، فدفعها إلى الفتى وقال: تقول لك ابنة عمّك: هذا مهرى، فادفعه إلى أبى واخطينى، ففعل وتزوّجها.(4/327)
ذكر أخبار إبراهيم الموصلىّ عفا الله عنه
هو إبراهيم بن ماهان بن ميمون، وأصله من فارس، ومولده في سنة خمس وعشرين ومائة بالكوفة، ووفاته ببغداد في سنة ثمان وثمانين ومائة. قالوا: ومات ماهان وترك إبراهيم صغيرا، فكفله آل خزيمة بن خازم، فكان ولاؤه لبنى تميم. وكان السبب فى نسبه إلى الموصل أنه لما كبر واشتدّ وأدرك صحب الفتيان واشتهى الغناء وطلبه؛ فاشتدّ أخواله بنو عبد الله بن دارم عليه في ذلك وبلغوا منه، فهرب منهم إلى الموصل فأقام بها سنة؛ فلما رجع إلى الكوفة قال له إخوانه من الفتيان: مرحبا بالفتى الموصلىّ، فغلب عليه «1» ثم ارتحل إلى الرّىّ في طلب الغناء، فطال مقامه هناك، وأخذ الغناء الفارسى والعربى.
قال إسحاق: حدّثنى أبى قال:
أوّل شىء أعطيته بالغناء أنى كنت بالرىّ أنادم أهلها بالسويّة لا أرزؤهم شيئا ولا أنفق إلا من بقية مال كان معى. فمرّ بنا خادم أبو جعفر المنصور إلى بعض عمّاله برسالة، فسمعنى عند رجل من أهل الرّىّ فشغف بى وخلع علىّ دوّاج «2» سمّور له قيمة، ومضى بالرّسالة فرجع وقد وصله العامل بسبعة آلاف درهم وكسوة كثيرة، فجاءنى إلى منزلى الذى كنت أسكنه، فأقام عندى ثلاثة أيام ووهب لى نصف الكسوة [التى معه «3» ] وألفى درهم. وكان ذلك أوّل مال كسبته من الغناء. فقلت:
والله لا أنفق هذه الدراهم إلّا على الصناعة التى أفادتنيها. ووصف لى رجل بالأبلّة «4»(4/328)
اسمه: «جوانويه «1» » وكان حاذقا، فخرجت إليه، وصحبت فتيانها وأخذت عنهم وغنّيتهم فشغفوا بى.
قال إبراهيم: ولما أتيت «جوانويه» لم أصادفه في منزله فأقمت حتى جاء.
فلما رآنى احتشمنى وكان مجوسيا؛ فأخبرته بصناعتى والحال التى قصدته فيها؛ فرحّب بى وأفرد لى جناحا في داره ووكّل بى جارية «2» ، فقدّمت لى ما أحتاج إليه. فلما كان العشاء عاد إلى منزله ومعه جماعة من الفرس ممن يغنّى؛ فنزلت إليه فجلسنا وأخذوا فى شأنهم وضربوا وغنّوا؛ فلم أجد في غناء أحد منهم فائدة؛ وبلغت النّوبة إلىّ فضربت وغنّيت؛ فقاموا جميعا إلى فقبّلوا رأسى وقالوا: سخرت بنا، نحن إلى تعليمك إيّانا أحوج منك إلينا. فأقمت على تلك الحال أياما حتى بلغ [محمد بن «3» ] سليمان بن علىّ خبرى، فوجّه إلىّ فأحضرنى وأمرنى بملازمته. فقلت: أيها الأمير، لست أتكسّب بهذه الصناعة وإنما ألتذّ بالغناء فلذلك تعلّمته، وأريد العود الى الكوفة؛ فلم أنتفع بذلك عنده وأخذنى بملازمته وسألنى: من أين أنا؟ فانتسبت الى الموصل، فلزمتنى وعرفت بها. ولم أزل عنده مكرّما، حتى قدم عليه خادم المهدىّ. فلما رآنى عنده قال له: أمير المؤمنين أحوج إلى هذا منك، فدافعه عنّى. فلما قدم الخادم على المهدىّ سأله عمّا رأى في طريقه ومقصده، فأخبره بما رأى، حتى انتهى إلى ذكرى فوصفنى له. فأمره المهدىّ بالرّجوع وإشخاصى إليه، فجاء وأشخصنى إلى المهدىّ، وحظيت عنده وقدّمنى.
قال: وما سمع المهدىّ قبلى أحدا من المغنّين سوى فليح بن أبى العوراء وسياط؛ فإن الفضل بن الربيع وصفهما له.(4/329)
قال: وكان المهدىّ لا يشرب، فأرادنى على ملازمته وترك الشّرب، فأبيت عليه. وكنت أغيب عنه الأيام، فاذا جئته جئته منتشيا؛ فغاظه ذلك منّى وضربنى وحبسنى؛ فحذقت القراءة والكتابة في الحبس. ثم دعانى يوما فعاتبنى على شربى فى منازل الناس والتبذّل معهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما تعلّمت «1» هذه الصناعة للذّتى وعشرة إخوانى ولو أمكننى تركها تركتها وجميع ما أنا فيه لله تعالى. فغضب غضبا شديدا وقال: لا تدخل على موسى وهارون، فو الله لئن دخلت عليهما لأفعلنّ وأصنعنّ. فقلت نعم. ثم بلغه أنّى دخلت عليهما وشربت معهما وكانا مشتهرين «2» بالنّبيذ، فضربنى ثلاثمائة سوط وستين سوطا. فقلت له وأنا أضرب: إن جرمى ليس من الأجرام التى يحلّ بها سفك دمى، وو الله لو كان سرّ ابنيك تحت قدمىّ ما رفعتهما عنه ولو قطعتا، ولو فعلت ذلك كنت في حالة أبان العبد «3» الساعى. فلما قلت ذلك ضربنى بالسيف في جفنه «4» فشجّنى، فسقطت مغشيّا علىّ. وقال لعبد الله ابن مالك: خذه إليك واجعله في مثل القبر. فدعا عبد الله بكبش فذبحه وسلخه وألبسنى جلده ليسكن الضّرب عنى، ودفعنى الى خادم له يقال له أبو عثمان سعيد التركىّ، فجعلنى في قبر ووكّل بى جارية. فتأذّيت بنزّ كان في القبر وببقّ «5» . فقلت للجارية: أصلحى لى مجمرة وكندرا «6» ليذهب عنى هذا البقّ ففعلت. فلما دخّنت أظلم القبر وكادت نفسى تذهب، ثم خفّ ذلك وزال البقّ، وإذا حيّتان مقبلتان نحوى من شقّ في القبر تدوران حولى، فهممت أن آخذ واحدة بيدى اليمنى(4/330)
والأخرى بيدى اليسرى، فإمّا علىّ وإمّا لى، ثم كفيتهما، فدخلتا في الثّقب الذى خرجتا منه. فمكثت في ذلك القبر ما شاء الله، ثم أخرجت منه. وأحلفنى المهدىّ بالطّلاق والعتاق وكلّ يمين لا فسحة لى فيها ألّا أدخل على ابنيه موسى وهارون أبدا ولا أغنّيهما، وخلّى سبيلى. قال إبراهيم: وقلت وأنا في الحبس:
ألا طال ليلى أراعى النجوم ... أعالج في السّاق كبلا ثقيلا
بدار الهوان وشرّ الديار ... أسام بها الخسف صبرا جميلا
كثير الأخلّاء عند الرخاء ... فلما حبست أراهم قليلا
لطول بلائى ملّ الصديق ... فلا يأمننّ خليل خليلا
قال: فلمّا ولى موسى الهادى الخلافة استتر إبراهيم منه ولم يظهر له بسبب الأيمان التى حلف بها للمهدىّ. فلم يزل يطلبه حتى أتى به فلما عاينه قال: يا سيّدى، [فارقت «1» ] أمّ ولدى أعز الخلق علىّ؛ ثم غنّاه:
يابن خير الملوك لا تتركنّى ... غرضا للعدوّ يرمى حيالى
فلقد في هواك فارقت أهلى ... ثم عرّضت مهجتى للزوال
ولقد عفت في هواك حياتى ... وتغرّبت بين أهلى ومالى
قال إسحاق بن إبراهيم: فموّله الهادى وخوّله؛ وبحسبك أنه أخذ منه مائة ألف وخمسين ألف دينار في يوم واحد، ولو عاش لنا لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضّة.
قال حمّاد بن إسحاق قال لى أبى:
والله ما رأيت أكمل مروءة من جدّك، وكان له طعام يعدّ أبدا في كل وقت.
فقلت لأبى: كيف كان يمكنه ذلك؟ قال: كان له في كل يوم ثلاث شياه،(4/331)
واحدة مقطّعة في القدور، وأخرى مسلوخة معلّقة، وأخرى قائمة في المطبخ؛ فإذا أتاه قوم طعموا ممّا في القدور، فإذا فرغت القدور قطّعت الشّاة المعلّقة ووضعت فى القدور وذبحت القائمة وأتى بأخرى فأقيمت في المطبخ. وكانت وظيفته لطعامه وطيبه وما يتّخذ له في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجرى وسوى كسوته. ولقد كان مرّة عندنا من الجوارى الودائع لإخوانه ثمانون جارية، ما فيهنّ واحدة إلا ويجرى عليها من الطعام والكسوة والطّيب مثل ما يجرى لأخصّ جواريه، فإذا ردّت الواحدة الى مولاها وصلها وكساها. ومات وما في ملكه إلا ثلاثة آلاف دينار وعليه من الدّين سبعمائة دينار قضيت منها.
وروى عن إسحاق بن إبراهيم قال:
اشترى الرشيد من أبى جارية بستة وثلاثين ألف دينار، فأقامت عنده ليلة ثم أرسل الى الفضل بن الرّبيع وقال له: إنا اشترينا هذه الجارية من إبراهيم ونحن نحسب أنها على صفة وليست كما ظنّنا وما قربتها، وقد ثقل علىّ الثمن وبينك وبينه ما بينكما؛ فاذهب اليه فسله أن يحطّنا من ثمنها ستة آلاف دينار. قال: فأتاه الفضل، فخرج اليه وتلقّاه؛ فقال له: دعنى من هذه الكرامة التى لا مؤنة فيها، قد جئتك فى أمر، ثم أخبره الخبر. فقال له إبراهيم: إنما أراد أن يبلو قدرك عندى. قال: هو ذاك؟ قال: فمالى في المساكين صدقة إن لم أضعفه لك، قد حططتك اثنى عشر ألف دينار. فرجع الفضل اليه بالخبر؛ فقال: ويحك! احمل اليه المال بجملته، فما رأيت سوقة أنبل «1» منه نفسا. قال إسحاق: وكنت قد أتيت أبى فقلت: ما كان لحطيطة هذا المال معنى ولا هو قليل يتغافل عنه، قال لى: يا أحمق، أنا أعرف الناس به، والله لو أخذت المال منه كملا ما أخذته إلا وهو كاره ولحقد ذلك، وكنت أكون(4/332)
عنده صغير القدر، وقد مننت عليه وعلى الفضل وانبسطت نفسه وعظم قدرى عنده، وإنما اشتريت الجارية بأربعين ألف درهم وقد أخذت بها أربعة وعشرين ألف دينار. فلما حمل اليه المال بكماله دعانى وقال: كيف رأيت يا إسحاق، من البصير أنا أم «1» أنت؟ فقلت: أنت، جعلنى الله فداك. قال: وإبراهيم أوّل من علّم الجوارى المثمّنات الغناء فإنه بلغ بالقيان كلّ مبلغ ورفع من أقدارهنّ.
ومن أخباره مع الرشيد ما روى عن إسحاق قال حدّثنى أبى قال:
إنّ الرشيد غضب علىّ فقيّدنى وحبسنى بالرّقّة وجلس للشرب يوما في مجلس قد زينه وحسّنه. فقال لعيسى بن جعفر: هل لمجلسنا عيب؟ قال: نعم، غيبة إبراهيم الموصلىّ عنه. فأمره باحضارى؛ فأحضرت في قيودى، ففكّت عنّى بين يديه، وأمرهم فناولونى عودا؛ ثم قال: غنّ يا إبراهيم؛ فغنّيته:
تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة عطرات
فاستعاده وشرب وطرب وقال: هنأتنى وسأهنئك بالصلة، وقد وهبت لك الهنىء والمرىء «2» ، فانصرفت؛ فلما أصبحت عوّضت منهما مائتى ألف درهم.
قال إبراهيم: دخلت على موسى الهادى فقال لى: يا إبراهيم، غنّ من الغناء ما ألذّ وأطرب عليه ولك حكمك. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لم يقابلنى زحل ببرده رجوت ذلك؛ فغنيّته:
وإنى لتعرونى لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر(4/333)
فضرب بيده إلى جيب درّاعته «1» فحطّه ذراعا؛ ثم قال: أحسنت والله! زدنى؛ فغنّيت:
فيا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
فضرب بيده الى درّاعته فحطها ذراعا آخر وقال: زدنى ويلك! أحسنت والله ووجب حكمك؛ فغنّيت:
هجرتك حتى قيل ما يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر
فرفع صوته وقال: أحسنت والله! لله أبوك! هات ما تريد. فقلت: يا سيّدى عين مروان بالمدينة. فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان وقال:
يابن اللخناء! أردت أن تشهرنى بهذا المجلس فيقول الناس: أطربه فحكم عليه فتجعلنى سمرا وحديثا! يا إبراهيم الحرّانى «2» ، خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت مال الخاصة، فإن أخذ كلّ ما فيه فخلّه وإياه. فدخلت فأخذت خمسين ألف دينار. وهذا الشعر لأبى صخر الهذلىّ، وأوّله:
عجبت لسعى الدّهر بينى وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدّهر
فيا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
ويا هجر ليلى قد بلغت بى المدى ... وزدت على ما ليس يبلغه «3» الهجر
وإنى لتعرونى لذكراك هزّة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر(4/334)
أما والذى أبكى وأضحك والذى ... أمات وأحيا والذى أمره الأمر
لقد تركتنى أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذّعر
ذكر نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى
كان لإبراهيم الموصلىّ مع البرامكة أخبار مستحسنة، سنورد منها طرفا. منها ما حكى عن مخارق قال:
أذن لنا أمير المؤمنين الرشيد أن نقيم في منازلنا ثلاثة أيام وأعلمنا أنه يشتغل فيها مع الحرم. فمضى الجلساء أجمعون الى منازلهم وقد أصحبت السماء متغيّمة تطشّ طشيشا خفيفا. فقلت: والله لأذهبنّ الى أستاذى إبراهيم فأعرف خبره ثم أعود، وأمرت من عندى أن يسوّوا لنا مجلسا الى وقت رجوعى. فجئت الى إبراهيم، فدخلت اليه، فإذا هو جالس في رواق له والستارة منصوبة والجوارى خلفها؛ فدخلت أترنّم ببعض الأصوات وقلت له: ما بال السّتارة لست أسمع من ورائها صوتا؟ فقال: اقعد ويحك! إنى أصبحت فجاءنى خبر ضيعة تجاورنى قد والله طلبتها زمانا وتمنيتها ولم أملكها، وقد أعطى بها مائة ألف درهم. فقلت له: ما يمنعك منها؟
فو الله لقد أعطاك الله أضعاف هذا المال وأكثر. قال: صدقت، ولكن لست أطيب نفسا بأن أخرج هذا المال. فقلت: فمن يعطيك الساعة مائة ألف درهم؟
قال «1» : والله ما أطمع في ذلك من الرشيد، فكيف بمن دونه! ثم قال: اجلس، خذ هذا الصوت. ثم نقر بقضيب على الدّواة وألقى علىّ هذا الصوت:
نام الخلّيون من همّ «2» ومن سقم ... وبتّ من كثرة الأحزان لم أنم(4/335)
يا طالب الجود والمعروف مجتهدا ... اعمد ليحيى حليف الجود والكرم
قال: فأخذت الصوت وأحكمته. ثم قال لى: انصرف الى الوزير يحيى بن خالد فإنك تجد الناس على بابه قبل أن يفتح الباب، ثم تجد الباب قد فتح ولم يجلس بعد، فاستأذن عليه قبل أن يصل اليه أحد، فإنه ينكر مجيئك ويقول: من أين أقبلت فى هذا الوقت؟ فحدّثه بقصدك إيّاى وما ألقيت إليك من خبر الضيعة وأعلمه أنى قد صنعت هذا الصوت وأعجبنى ولم أر أحدا يستحقه إلا جاريته فلانة، وأنى ألقيته عليك [حتى أحكمته «1» ] لتطرحه عليها؛ فسيدعوها ويأمر بالستارة فتنصب ويوضع لها كرسىّ ويقول لك: اطرحه عليها بحضرتى؛ فافعل وأتنى بما يكون بعد ذلك من الخبر. قال مخارق: فجئت الى باب يحيى بن خالد فوجدته كما وصف. وسألنى فأعلمته بما أمرنى به؛ ففعل كل شىء قاله لى إبراهيم وأحضر الجارية فألقيته عليها.
ثم قال لى: تقيم عندنا يا أبا المهنّأ أو تنصرف؟ فقلت: بل أنصرف، أطال الله بقاءك، فقد علمت ما أذن لنا فيه. فقال يا غلام، احمل مع أبى المهنّأ عشرة آلاف درهم واحمل الى أبى إسحاق مائة ألف درهم ثمن هذه الضيعة. فحملت عشرة الآلاف معى، وأتيت منزلى وقلت: أسرّ يومى هذا وأسرّ من عندى. ومضى الرسول بالمال الى إبراهيم؛ فدخلت منزلى ونثرت على من عندى دراهم من تلك البدرة وتوسّدتها وأكلت وشربت وطربت وسررت يومى كلّه. فلما أصبحت قلت: والله لآتينّ أستاذى ولأعرفنّ خبره؛ فأتيته فوجدته كهيئته بالأمس ملى مثل ما كان عليه، فترنّمت وطربت فلم يتلقّ ذلك بما يجب؛ فقلت: ما الخبر؟ ألم يأتك المال بالأمس؟! فقال: بلى، فما كان خبرك أمس؟ فأخبرته بما كان وقلت: ما تنتظر؟
فقال: ارفع السّجف، فرفعته فإذا عشر بدر؛ فقلت: فأىّ شىء بقى عليك في أمر(4/336)
الضيعة؟ فقال: ويحك! ما هو والله إلا أن دخلت منزلى حتى شححت عليها وصارت مثل ما حويت قديما. فقلت: سبحان الله! فتصنع ماذا؟ قال: قم حتى ألقى عليك صوتا صنعته يفوق ذاك. فقمت فجلست بين يديه؛ فألقى علىّ:
ويفرح بالمولود من آل برمك ... بغاة النّدى، والسيف والرمح والنصل
وتنبسط الآمال فيه لفضله ... ولا سيما إن كان والده الفضل
قال مخارق: فلما ألقى علىّ الصوت سمعت ما لم أسمع مثله قطّ وصغر في عينى الأوّل، فأحكمته. ثم قال: امض الساعة إلى الفضل بن يحيى، فإنك تجده لم يأذن لأحد بعد وهو يريد الخلوة مع جواريه اليوم؛ فاستأذن عليه وحدّثه بحديثنا وما كان من أبيه إلينا، وأعلمه أنى صنعت هذا الصوت وكان عندى أرفع منزلة من الصوت الأوّل الذى صنعته بالأمس، وأنى ألقيته عليك حتى أحكمته ووجّهت بك قاصدا لتلقيه على فلانة جاريته. فصرت إلى باب الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر، فاستأذنت فوصلت إليه؛ وسألنى عن الخبر، فأعلمته بخبرى وما وصل إلىّ وإليه من المال؛ فقال: أخرى الله إبراهيم! ما أبخله على نفسه! ثم دعا خادما فقال له:
اضرب السّتارة، فضربها؛ فقال لى: ألقه. فلما ألقيته وغنّته الجارية لم أتمّه حتى أقبل يجرّ مطرفه، ثم قعد على وسادة دون الستارة وقال: أحسن والله أستاذك وأحسنت أنت يا مخارق. ولم أبرح حتى أحكمته الجارية؛ فسرّ بذلك سرورا عظيما وقال: أقم عندى اليوم. فقلت: يا سيّدى إنما بقى لنا يوم واحد، ولولا أنّنى أحبّ سرورك لم أخرج من منزلى. فقال: يا غلام، احمل مع أبى المهنّأ عشرين ألف درهم وإلى أبى إسحاق مائتى ألف درهم. فانصرفت إلى منزلى بالمال، وفتحت بدرة ونثرت منها على الجوارى وشربت وسررت أنا ومن عندى يومنا.
فلما أصبحت بكّرت إلى إبراهيم أتعرّف خبره وأعرّفه خبرى، فوجدته على الحال(4/337)
التى كان عليها أوّلا وآخرا؛ فدخلت أترنّم وأصفّق. فقال لى: أدن؛ فقلت:
ما بقى عليك؟ فقال: اجلس وارفع سجف هذا الباب؛ فرفعته فاذا عشرون بدرة مع تلك العشر. فقلت: ما تنتظر الآن؟ فقال: ويحك! ما هو إلا أن حصلت حتى جرت مجرى ما تقدّم. فقلت: والله ما أظن أحدا نال من هذه الدولة ما نلت! فلم تبخل على نفسك بشىء تمنيته دهرا وقد ملّكك الله أضعافه! ثم قال:
اجلس فخذ هذا الصوت. فألقى علىّ صوتا أنسانى صوتى الأوّلين وهو:
أفى كلّ يوم أنت صبّ وليلة ... إلى أمّ بكر لا تفيق فتقصر
أحبّ على الهجران أكناف بيتها ... فيالك من بيت يحبّ ويهجر
إلى جعفر سارت بنا كلّ جسرة ... طواها سراها نحوه والتهجّر
إلى واسع للمجتدين فناؤه ... تروح عطاياه عليهم وتبكر
- وهو شعر مروان بن أبى حفصة يمدح جعفر [بن يحيى «1» ]- قال مخارق: ثم قال لى إبراهيم: هل سمعت مثل هذا قطّ؟ فقلت: ما سمعت قط مثله! فلم يزل يردّده علىّ حتى أخذته، ثم قال لى: امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأبيه وأخيه. قال: فمضيت ففعلت مثل ذلك وأخبرته بما كان وعرضت عليه الصوت؛ فسرّ به ودعا خادما فأمره أن يضرب السّتارة، وأحضر الجارية وقعد على كرسىّ؛ ثم قال: هات يا مخارق؛ فألقيت الصوت عليها حتى أخذته؛ فقال: أحسنت يا مخارق وأحسن أستاذك، فهل لك في المقام عندنا اليوم؟ فقلت: يا سيّدى، هذا آخر أيامنا، وإنما جئت لموقع الصوت منّى حتى ألقيته على الجارية. فقال: يا غلام، احمل معه ثلاثين ألف درهم وإلى الموصلىّ ثلاثمائة ألف درهم. فصرت إلى منزلى بالمال وأقمت ومن عندى مسرورين نشرب طول يومنا ونطرب. ثم بكّرت إلى إبراهيم(4/338)
فتلقّانى قائما، ثم قال لى: أحسنت يا مخارق! فقلت: ما الخبر؟ قال: اجلس فجلست؛ فقالت لمن خلف الستارة: خذوا فيما أنتم عليه «1» ثم رفع السّجف فإذا المال. فقلت ما خبر الضّيعة؟ فأدخل يده تحت مسورة «2» وهو متكىء عليها فقال: هذا صكّ الضّيعة اشتراها يحيى بن خالد وكتب إلىّ: «قد علمت أنك لا تسخو نفسك بشراء هذه الضّيعة من مال يحصل لك ولو حويت الدنيا كلّها، وقد ابتعتها من مالى» . ووجّه إلىّ بصكها، وهذا المال كما ترى، ثم بكى وقال: يا مخارق، إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، وإذا خنكرت «3» فخنكر لمثل هؤلاء، ستمائة ألف، وضيعة بمائة ألف، وستون ألف درهم لك، حصّلنا ذلك أجمع وأنا جالس في مجلسى لم أبرح منه، متى يدرك مثل هؤلاء!.
وروى عنه قال: أتيت الفضل بن يحيى يوما فقلت له: يا أبا العبّاس، جعلت فداك! هب لى دراهم فإن الخليفة قد حبس برّه. فقال: ويحك يا أبا إسحاق ما عندى ما أرضاه لك. ثم قال: هاه! إلا أنّ هاهنا خصلة، أتانا رسول صاحب اليمن فقضينا حوائجه، ووجّه [الينا «4» ] بخمسين ألف دينار يشترى لنا بها محبّتنا. فما فعلت ضياء جاريتك؟ قلت: عندى جعلت فداك. قال: فهو ذا، أقول لهم يشترونها «5» منك فلا تنقصها من خمسين ألف دينار؛ فقبّلت رأسه ثم انصرفت. فبكّر علىّ رسول صاحب اليمن ومعه صديق له ولى، فقال: جاريتك فلانة [عندك «6» ] ؟ قلت: عندى.
قال: اعرضها علىّ فعرضتها عليه؛ فقال: بكم؟ فقلت: بخمسين ألف دينار ولا أنقص منها دينارا واحدا، وقد أعطانى الفضل بن يحيى أمس هذه العطيّة،(4/339)
فقال: هل لك في ثلاثين ألف دينار مسلّمة؟ وكان مشترى الجارية أربعمائة دينار، فلما وقع في أذنى ذكر ثلاثين ألف دينار أرتج علىّ ولحقنى زمع «1» ، وأشار علىّ صديقى الذى معه بالبيع، وخفت والله أن يحدث بالجارية حدث أو بى أو بالفضل «2» بن يحيى، فسلّمتها وأخذت المال. ثم بكّرت على الفضل، فإذا هو جالس وحده. فلما نظر إلىّ ضحك وقال لى: يا ضيّق العطن والحوصلة، حرمت نفسك عشرين ألف دينار.
فقلت له: جعلت فداك، دع ذا عنك، فو الله لقد دخلنى شىء أعجز عن وصفه وخفت أن تحدث بى حادثة أو بالجارية أو بالمشترى أو بك أعاذك الله من كل سوء، فبادرت بقبول الثلاثين ألف دينار. فقال: لا ضير، يا غلام جىء بجاريته، فجىء بها، فقال: خذ بيدها وانصرف بارك الله لك فيها، ما أردنا إلّا منفعتك ولم نرد الجارية.
فلما نهضت قال لى: مكانك، إن رسول صاحب أرمينية قد جاءنا فقضينا حوائجه ونفّذنا كتبه، وقد ذكر أنه قد جاء بثلاثين ألف دينار يشترى لنا بها ما نحبّ، فاعرض عليه جاريتك هذه ولا تنقصها من ثلاثين ألف دينار؛ فانصرفت بالجارية. وبكّر علىّ رسول صاحب أرمينية ومعه صديق لى آخر، فقاولنى بالجارية؛ فقلت: لن أنقصها من ثلاثين ألف دينار. فقال لى: معى عشرون ألف دينار مسلّمة خذها بارك الله لك فيها. فدخلنى والله مثل الذى دخلنى في المرّة الأولى وخفت مثل خوفى الأوّل، فسلّمتها وأخذت المال. وبكّرت على الفضل، فإذا هو وحده. فلما رآنى ضحك وضرب برجله ثم قال: ويحك، حرمت نفسك عشرة آلاف دينار. فقلت: أصلحك الله، خفت والله مثل ما خفت في المرّة الأولى. فقال:
لا ضير، [أخرج «3» ] يا غلام جاريته فجىء بها؛ فقال: خذها، ما أردناها وما أردنا إلا(4/340)
منفعتك. فلما ولّت الجارية صحت بها: ارجعى فرجعت؛ فقلت: أشهدك جعلت فداك هى حرّة لوجه الله تعالى، وإنى قد تزوّجتها على عشرة آلاف درهم، كسبت لى في يومين خمسين ألف دينار فما جزاؤها إلا هذا. فقال: وفّقت إن شاء الله تعالى.
وأخباره مع البرامكة كثيرة وصلاتهم له وافرة. وقد ذكرنا منها ما فيه غنية عن زيادة. فلنذكر وفاة إبراهيم. كانت وفاته ببغداد في سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في يوم وفاته العباس بن الأحنف الشاعر، وهشيمة الخّمارة؛ فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلّى عليهم، فخرج وصلّى عليهم.
قال إسحاق: لمّا مرض إبراهيم مرض موته ركب الرشيد حمارا ودخل على إبراهيم يعوده وهو جالس في الأبزن «1» ، فقال له: كيف انت يا إبراهيم؟ فقال: أنا والله يا سيّدى كما قال الشاعر:
سقيم ملّ منه أقربوه ... وأسلمه المدواى والحميم
فقال الرشيد: إنّا لله! فخرج، فما بعد حتى سمع الواعية «2» عليه.(4/341)
صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في أحد الأصلين الفتوغرافيين:
هذا آخر الجزء الرابع من نهاية الأرب في فنون الأدب.
والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلم؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في الأصل الآخر الفتوغرافى:
كمل الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم البكرىّ التيمىّ القرشىّ المعروف بآلنويرى عفا الله عنهم.
تمّ الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الخامس وأوّله ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ(4/342)
فهرس الجزء الخامس
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ
(تابع) أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسية الى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء
.... صفحة
ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم 1
ذكر أخبار علّويه 9
ذكر أخبار معبد اليقطينى (صوابه: القطنى) 13
ذكر أخبار محمد الرّف 17
ذكر أخبار محمد بن الأشعث 19
ذكر أخبار عمرو بن بانه 21
ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعى 22
ذكر أخبار وجه القرعة 30
ذكر أخبار محمد بن الحارث بن بسخنّر 32
ذكر أخبار أحمد بن صدقة 33
ذكر أخبار أبى حشيشة 35
ذكر أخبار القيان وأوّل من غنّى من النساء ومن اشتهر بالغناء منهن فى الإسلام 38(مقدمةج 5/1)
ذكر أخبار جميلة (مولاة بنى سليم) 41
ذكر أخبار عزّة الميلاء 50
ذكر أخبار سلّامة القسّ 52
ذكر أخبار حبابة 58
ذكر أخبار خليدة المكية 64
ذكر أخبار متيّم الهاشمية 65
ذكر أخبار ساجى جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر (فى الأغانى طبع بلاق: شاجى) 69
ذكر أخبار دقاق 70
ذكر أخبار قلم الصالحية 71
ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس 73
ذكر أخبار جوارى ابن رامين (وهن سلّامة الززقاء، وربيحة، وسعدة) 75
ذكر أخبار عنان جارية الناطفىّ 78
ذكر أخبار شارية جارية إبراهيم بن المهدىّ 82
ذكر أخبار بذل 88
ذكر أخبار ذات الخال 91
ذكر أخبار دنانير البرمكية 93
ذكر أخبار عريب المأمونية 95
ذكر أخبار محبوبة 112
ذكر أخبار عبيدة الطّنبورية 114
الباب السابع:
فيما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ الى معرفته، وما قيل فى الغناء وما وصفت به القيان، ووصف آلات الطرب 117(مقدمةج 5/2)
ذكر ما يحتاج اليه المغنّى ويضطر الى معرفته وما قيل فى الغناء والقيان من جيّد الشعر 117
ذكر ما قيل فى وصف آلات الطرب 122
القسم الرابع:
فى التهانى والبشائر والمراثى والنوادب والزهد والتوكل والأدعية وفيه أربعة أبواب 127
الباب الأوّل:
فى التهانى والبشائر 127
ذكر شىء مما هنىّء به ولاة المناصب 127
ومما هنّىء به من اتصل بزوجة ذات جمال وحسب وأصالة وأدب 131
ومما هنّئ به من رزقه الله ولدا وزاده به قوّة وعددا 132
ومما هنّئ به فى المواسم والقدوم 135
ومما قيل من شواذّ التهانى وهى الجمع بين التهنئة والتعزية، والبشارة والنسلية 136
ذكر نبذة من التهانى العامة والبشائر التامة 140
ومما قيل فى التهانى بالفتوحات وهزيمة جيوش الأعداء 145
الباب الثانى:
فى المراثى والنوادب 164
ذكر شىء من المراثى والنوادب 168
ومما قيل فى شواذّ المراثى 217
الباب الثالث:
فى الزهد والتوكل 230
ذكر بيان حقيقة الزهد 231(مقدمةج 5/3)
وأما العلم الذى هو المثمر لهذا الحال 233
وأما العمل الصادر عن حال الزهد 235
ذكر فضيلة الزهد وبغض الدنيا 237
ذكر بيان ذم الدنيا وشىء من المواعظ والرقائق الداخلة فى هذا الباب 242
ذكر بيان الزهد وأقسامه وأحكامه 256
ذكر بيان تفصيل الزهد فيما هو من ضروريّات الحياة 260
ذكر بيان علامات الزهد 272
ذكر ما ورد فى التوكل من فضيلته وحقيقته 275
أما فضيلته 275
وأما حقيقته 275
ذكر بيان أعمال المتوكلين 278
أما جلب النافع 278
وأما حفظ النافع 281
وأما دفع الضار عن النفس والمال 281
وأما إزالة الضرر 282
الباب الرابع:
فى الأدعية 284
وأما ما ورد فى نفع الدعاء ودفعه للبلاء 287
وأما ما ورد فى الإلحاح فى الدعاء وهيئة الذّلة والإنابة 287
وأما ما ورد من كراهية استعجال الإجابة ورفع البصر والسجع فى الدعاء 288
وأما ما ورد فيمن تجاب دعواتهم 289
ذكر الأوقات التى ترجى فيها إجابة الدعاء 290
ذكر دعوات ساعات الأيام السبعة ولياليها 292(مقدمةج 5/4)
ذكر ما يدعى به فى المساء والصباح والغدوّ والرواح والصلاة والصوم والجماع والنوم والورد والصدر والسفر والحضر وغير ذلك 304
فأما ما يقال عند المساء والصباح 304
وأما ما يقال عند النوم 306
وأما ما يقال عند دخول المنزل والمسجد والخروج منهما 306
وأما ما يقال عند النداء 308
وأما ما يقال عند الدخول الخلاء 308
وأما ما يقال عند الوضوء وغسل الأعضاء 308
وأما أدعية الصلاة 310
وأما ما يدعى به فى نفس الصلاة 310
وأما ما يدعى به بعد التسليم 313
وأما ما يقال عند رؤية الجنازة والتلقين والدفن 315
وأما ما يقال عند زيارة القبور 316
وأما ما يقال عند الإفطار من الصوم والأكل والشرب 317
وأما ما يقال عند لباس الثوب وإلباسه وعند النظر فى المرآة والتسريح وفى المجلس 318
وأما ما يقال فى المرض والرّقى والوسواس والحريق 319
وأما ما يقال عند دخول السوق وشراء الجارية والدابة 321
وأما ما يقال عند هبوب الرياح وفى الرعد والمطر 322
وأما ما يقال فى الخوف والشدائد 323
وأما ما يقال فى الغضب والفزع 324
وأما ما يقال فى السفر وركوب الدابّة والسفينة ودخول القرّية 324
وأما ما يقال فى الزواج والجماع 327
وأما ما يقال فى قضاء الدّين ونجاح الحوائج 327(مقدمةج 5/5)
وأما ما يقال فى ردّ الضالّة 329
ذكر ما ورد فى أسماء الله الحسنى والاسم الأعظم 330
كيفية العلم والعمل بأسماء الله الحسنى وخاصية كل اسم منها وترتيب ذلك إلى عشرة أنماط 331
النمط الأوّل 331
النمط الثانى 331
النمط الثالث 332
النمط الرابع 333
النمط الخامس 334
النمط السادس 334
النمط السابع 335
النمط الثامن 336
النمط التاسع 337
النمط العاشر 337
وأما ما ورد فى الاسم الأعظم 337
صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى الأصلين الفتوغرافيين 339(مقدمةج 5/6)
الجزء الخامس
[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]
[القسم الثالث في المدح والهجو والمجون والفكاهات وغيرها]
[تتمة الباب السادس في الغناء والسماع]
تابع أخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية إلى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه توفيقى
ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم
هو أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ، وقد تقدّم نسبه فى أخبار أبيه. وكان الرشيد يولّع به فيكنيه أبا صفوان. قال أبو الفرج الأصفهانى فى ترجمة إسحاق:
وموضعه من العلم، ومكانه من الأدب، ومحلّه من الرواية، وتقدّمه فى الشعر، ومنزلته فى سائر المحاسن [1] أشهر من أن يدلّ عليها بوصف. قال: فأما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى ما يوسم به وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه، فإنه كان له فى سائر أدواته نظراء وأكفاء ولم يكن له فى هذا نظير. لحق بمن مضى فيه وسبق من قد بقى، وسهّل طريق الغناء وأنارها، فهو إمام أهل صناعته جميعا وقدوتهم ورأسهم ومعلّمهم؛ يعرف ذلك منه الخاصّ والعامّ، ويشهد له به الموافق والمفارق. على أنه كان أكره الناس للغناء وأشدّهم بغضا له لئلا يدعّى اليه ويسمّى به. وكان المأمون يقول: لولا ما سبق على ألسنة الناس وشهر [2] به عندهم من الغناء لوليّته القضاء بحضرتى، فإنه أولى به وأعفّ وأصدق وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة. وقد روى الحديث ولقى أهله مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة [وهشيم بن بشير [3]] وإبراهيم بن سعد وأبى معاوية الضرير وروح
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «المجالس» .
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «لولا ما سبق إسحاق على ألسنة الناس وشهرته ... الخ» .
[3] زيادة عن الأغانى.(5/1)
ابن عبادة وغيرهم من شيوخ العراق والحجاز. وكان مع كراهته للغناء أضنّ خلق الله به وأشدّهم بخلا على كل أحد حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ عنه منتسبا إليه ومتعصّبا له فضلا عن غيرهم. قال: وهو صحّح أجناس الغناء وطرائقه وميّزها تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله.
وقال محمد بن عمران الجرجانى: كان والله إسحاق غرّة فى زمانه، وواحدا فى عصره علما وفهما وأدبا ووقارا وجودة رأى وصحّة مودّة. وكان والله يخرس الناطق إذا نطق، ويحيّر السامع إذا تحدّث، لا يملّ جليسه مجلسه، ولا تمجّ الآذان حديثه، ولا تنبو النفس عن مطاولته. إن حدّثك ألهاك، وإن ناظرك أفادك، وإن غنّاك أطربك. وما كانت خصلة من الأدب، ولا جنس من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته أو مناوأته فيه.
حكى أبو الفرج عن إسحاق قال: دعانى المأمون وعنده إبراهيم بن المهدىّ وفى مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن يمينه وعشرا عن شماله. فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته. فقال المأمون: أسمعت خطأ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال لإبراهيم بن المهدىّ: هل تسمع خطأ؟ قال لا. قال:
فأعاد علىّ السؤال، فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنه لفى الجانب الأيسر.
فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما فى هذه الناحية خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين، مر الجوارى اللاتى على اليمين يمسكن، فأمرهنّ فأمسكن، ثم قلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمّع ثم قال: ما هاهنا خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن وتضرب الثانية [1] ، فأمسكن وضربت الثانية [2] ، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هاهنا خطأ. فقال المأمون عند ذلك
__________
[1] فى الأغانى: «الثامنة» .
[2] فى الأغانى: «الثامنة» .(5/2)
لإبراهيم بن المهدىّ: لا تمار إسحاق بعدها، فإن رجلا عرف الخطأ بين ثمانين وترا وعشرين حلقا لجدير ألّا تماريه؛ قال: صدقت.
وقال ابن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غنّانى إسحاق قطّ إلا ظننت أنه قد زيد فى ملكى، ولا سمعته قط يغنّى غناء ابن سريح إلا ظننت أنّ ابن سريح قد نشر، وإنى ليحضرنى غيره إذا لم يكن حاضرا، فيتقدّمه عندى بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندى رأيت إسحاق يعلو ورأيت من ظننت أنه يتقدّمه ينقص.
وإن إسحاق لنعمة من نعم الملوك التى لم يحظ أحد بمثلها. ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهنّ له بشطر ملكى.
وحكى عن أحمد بن المكّى عن أبيه قال: كان المغنّون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتا منه ولم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه، ولا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم جميعا ويفضلهم ويتقدّم عليهم. قال: وهو أوّل من أحدث المجتثّ ليوافق صوته ويشاكله فجاء معه عجبا من العجب، وكان فى حلقه نبوّ عن الوتر.
وحكى قال: سأل إسحاق الموصلىّ المأمون أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب والرّواة لا مع المغنّين، فإذا أراد الغناء غنّاه، فأجابه إلى ذلك. ثم سأله بعد مدّة طويلة أن يأذن له فى الدخول مع الفقهاء فأذن له؛ قال: فكان يدخل ويده فى يد قاضى القضاة يحيى بن أكثم. ثم سأل إسحاق المأمون فى لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه فى المقصورة؛ قال: فضحك المأمون وقال: ولا كلّ هذا يا إسحاق! وقد اشتريت منك هذه المسئلة بمائة ألف دينار [1] وأمر له بها.
__________
[1] فى الأغانى: «درهم» .(5/3)
وكان لإسحاق مع إبراهيم بن المهدىّ مخاطبات ومنازعات ومحاورات بسبب الغناء، وكان الرشيد ينصر إسحاق على إبراهيم أخيه. من ذلك ما حكاه إسحاق قال:
كنت عند الرشيد يوما، وعنده ندماؤه وخاصّته وفيهم إبراهيم بن المهدىّ؛ فقال لى الرشيد: غنّ:
شربت مدامة وسقيت أخرى ... وراح المنتشون وما انتشيت
فغنيته. فأقبل علىّ إبراهيم بن المهدىّ فقال لى: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت. فقلت له: ليس هذا مما تعرفه ولا تحسنه، وإن شئت فغنّه فإن لم أجدك أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمى حلال. ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتى وصناعة أبى، وهى التى قرّبتنا منك واستخدمتنا لك فأوطاتنا بساطك، فإذا نازعنا أحد بغير علم لم نجد بدّا من الإفصاح والذبّ؛ فقال: لا غرو ولا لوم عليك. وقام الرشيد ليبول؛ فأقبل إبراهيم بن المهدىّ علىّ وقال: ويحك يا إسحاق! أتجترئ علىّ وتقول لى ما قلت يا ابن الفاعلة! لا يكنى.
فداخلنى ما لم أملك نفسى معه، فقلت له: أنت تشتمنى ولا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة، ولولا ذلك لقلت لك: يا ابن الزانية كما قلت لى يا ابن الزانية. أو ترانى كنت لا أحسن أن أقول: يا ابن الزانية! ولكن قولى فى ذمّك ينصرف كله إلى خالك الأعلم [1] ، ولو لاك لذكرت صناعته ومذهبه- قال إسحاق:
وكان بيطارا- قال: ثم سكتّ، وعلمت أن إبراهيم سوف يشكونى إلى الرشيد، وسوف يسأل من حضر عما جرى فيخبرونه، فتلافيت ذلك بأن قلت: إنك تظن أن الخلافة [2] تصير اليك، فلا تزال تتهدّدنى بذلك وتعادينى كما تعادى سائر أولياء أخيك حسدا
__________
[1] الأعلم: الذى بشفته العليا أو فى جانبيها شق.
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل:
«أن الخلافة لك ... »(5/4)
له ولولده على الأمر! وأنت تضعف عنه وعنهم، وتستخفّ بأوليائهم شفّيا، وأرجو ألا يخرجها الله من الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها. فإن صارت إليك- والعياذ بالله تعالى من ذلك- فحرام علىّ حينئذ العيش! والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ ما بدالك! قال: فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه وقال:
يا أمير المؤمنين، شتمنى إسحاق وذكر أمّى واستخفّ بى. فغضب وقال لى: ويلك! ما تقول؟ قلت: لا أعلم، فسل من حضر. فأقبل على مسرور وحسين فسألهما عن القصة فجعلا يخبرانه ووجهه يربدّ الى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسّرى عنه ورجع لونه، وقال لإبراهيم: لا ذنب له، شتمته فعرّفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك وأمسك عن هذا. فلما انفضّ المجلس وانصرف الناس أمر الرشيد بألّا أبرح. وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيرى، فساء ظنّى وهمّتنى نفسى. فأقبل علىّ وقال:
يا إسحاق، أترانى لم أفهم قولك ومرادك! قد والله زنّيته ثلاث مرات! أترانى لا أعرف وقائعك وأقدامك وأين ذهبت! ويلك لا تعد! حدّثنى عنك لو ضربك إبراهيم أكنت أقتصّ لك منه فأضربه وهو أخى يا جاهل! أتراه لو أمر غلمانه فقتلوك أكنت أقتله بك! فقلت: والله يا أمير المؤمنين، قد قتلنى هذا الكلام، وإن بلغه ليقتلنّى، وما أشك أنه قد بلغه الآن. فصاح بمسرور وقال له: علىّ بإبراهيم فأحضر، وقال لى: قم فانصرف. فقلت لجماعة من الحدم- وكلهم كان لى محبّا وإلىّ مائلا ولى مطيعا-: أخبرونى بما يجرى؛ فأخبرونى من غد أنه لمّا دخل عليه وبّخه وجهّله وقال له: أتستحفّ بخادمى وصنيعتى وابن خادمى وصنيعتى وصنيعة أبى فى مجلسى! وتقدم علىّ وتستخفّ بمجلسى وحضرتى! هاه هاه هاه! وتقدم على هذا وأمثاله! وأنت مالك وللغناء! وما يدريك ما هو! ومن أخذك به وطارحك إياه حتى تتوهّم أنك تبلغ منه مبلغ إسحاق الذى غذّى به وعلّمه وهو من صناعته! ثم تظن أنك(5/5)
تخطّئه فيما لا تدريه، ويدعوك الى إقامة الحجة عليه [1] فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه! هذا مما يدلّ على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك، وغلبة لذّتك على مروءتك [2] وشرفك، ثم إظهارك إياه ولم تحكمه، وادّعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك إلى إفراط الجهل. ألا تعلم، ويحك، أن هذا سوء أدب وقلّة معرفة وقلة مبالاة بالخطأ والتكذيب والردّ القبيح! ثم قال: والله العظيم وحق رسوله وإلا فأنا برىء من المهدىّ إن أصابه أحد بسوء أو سقط عليه حجر من السماء أو سقط من دابّته أو سقط عليه سقفه أو مات فجأة لأقتلنك به. والله! والله! والله! فلا تعرض له وأنت أعلم [3] ! قم الآن فاخرج؛ فخرج وقد كاد يموت. فلما كان بعد ذلك دخلت على الرشيد وإبراهيم عنده [فأعرضت عن إبراهيم [4]] فجعل ينظر إلىّ مرة وإليه مرة ويضحك؛ ثم قال: إنى لأعلم محبّتك لإسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه، وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلا بعد أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه واعرف حقّه وبرّه وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالف ما تهواه عاقبته بيد مستطيلة منبسطة ولسان منطلق. ثم قال لى: قم إلى مولاك وابن مولاك فقبّل رأسه؛ فقمت إليه وقام إلىّ وأصلح الرشيد بيننا.
قال أبو الفرج: وكان إسحاق جيّد الشعر، كان يقول الشعر وينسبه للعرب.
فمن ذلك قوله:
لفظ الخدور إليك حورا عينا ... أنسين ما جمع الكناس قطينا
فإذا بسمن فعن كمثل غمامة ... أو أقحوان الرمل بات معينا
وأصحّ ما رأت العيون محاجرا [5] ... ولهنّ أمراض ما رأيت عيونا
__________
[1] فى الأغانى: عليك.
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «من دخولك فيما لا يشبهك ثم إظهارك إياه وغلبت لذتك الخ» .
[3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأنت أعلم ولا تعرض له» .
[4] زيادة عن الأغانى.
[5] كذا بالأغانى، وفى الأصل: «جوارحا» .(5/6)
فكأنما تلك الوجوه أهلّة ... أقمرن بين العشر والعشرينا
وكأنهنّ إذا نهضن لحاجة ... ينهضن بالعقدات من يبرينا
وأشعاره فى هذا النوع كثيرة.
روى عن الأصمعىّ قال: دخلت أنا وإسحاق بن إبراهيم الموصلىّ يوما على الرشيد فرأيناه لقس [1] النفس؛ فأنشده إسحاق:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصرى ... فذلك شىء ما إليه سبيل
أرى الناس خلّان الكرام ولا أرى ... بخيلا له حتى الممات خليل
وإنى رأيت البخل يزرى بأهله ... فأكرمت نفسى أن يقال بخيل
ومن خير حالات التى لو علمته ... إذا نال خيرا أن يكون ينيل [2]
فعالى فعال المكثرين تجمّلا ... ومالى كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأى أمير المؤمنين جميل!
قال: فقال الرشيد: لا تخف [3] إن شاء الله؛ ثم قال: لله درّ أبيات تأتينا بها ما أشدّ أصولها، وأحسن فصولها، وأقلّ فضولها! وأمر له بخمسين ألف درهم. فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعرى أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة! فضحك الرشيد وقال: اجعلوها مائة ألف درهم. قال الأصمعىّ: فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم منّى.
قال أبو عبد الله بن حمدون: سأل المتوكل عن إسحاق، فعرّف أنه كفّ وأنه بمنزله ببغداد، فكتب فى إحضاره. فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدّام السرير وأعطاه
__________
[1] لقست نفسه (من باب فرح) : غئت وخبثت.
[2] كذا فى الأغانى وكتب الأدب.
وفى الأصل:
ومن خير خلات الفتى قد علمته ... إذا قال خيرا أن يقال نبيل
[3] كذا فى الأغانى: وفى الأصل: «لا كيف ان شاء الله» .(5/7)
مخدّة وقال: بلغنى أن المعتصم دفع إليك فى أوّل يوم جلست بين يديه مخدّة، وقال: إنه لا يستجلب ما عند حرّ مثل إكرامه. ثم سأله: هل أكل؟ فقال نعم؛ فأمر أن يسقى. فلما شرب أقداحا قال: هاتوا لأبى محمد عودا؛ فجىء به فاندفع يغنّى بشعره:
ما علّة الشيخ عيناه بأربعة ... تغرورقان بدمع ثم ينسكب
قال ابن حمدون: فما بقى غلام من الغلمان الوقوف [على الحير [1]] إلا وجدته يرقص طربا وهو لا يعلم بما يفعل؛ فأمر له بمائة ألف دينار [2] . ثم انحدر المتوكل الى الرّقة وكان يستطيبها لكثرة تغريد الطير فيها؛ فغنّاه إسحاق:
أأن هتفت ورقاء فى رونق الضّحى ... على فنن غضّ النبات من الرّند
بكيت كما يبكى الوليد ولم تزل ... جليدا وأبديت الذى لم تكن تبدى
فضحك المتوكل ثم قال: يا إسحاق، هذه أخت فعلتك بالواثق لمّا غنّيته بالصالحيّة:
طربت إلى أصيبية صغار ... وذكّرنى الهوى قرب المزار
فكم أعطاك لمّا أذن لك فى الانصراف؟ قال: مائة ألف دينار [2] ؛ فأمر له بمائة ألف دينار [2] وأذن له بالانصراف [3] . وكان آخر عهده بإسحاق. توفى بعد ذلك بشهرين. وكانت وفاته فى شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين. وكان يسأل الله تعالى ألا يبتليه بالقولنج [4] لما رأى من صعوبته على أبيه، فرأى فى منامه كأنّ قائلا يقول له: قد أجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج ولكنّك
__________
[1] زيادة عن الأغانى. والجير: اسم قصر بسرّ من رأى بناه المتوكل وأنفقى على عمارته وأربعة آلاف ألف درهم.
[2] فى الأغانى: «درهم» .
[3] عبارة الأغانى: «وأذن له بالانصراف الى بغداد. وكان هذا آخر عهدنا به لأن إسحاق الخ»
[4] مرض يصيب المعدة يعسر معه خروج الثفل والريح.(5/8)
تموت بضدّه، فأصابه ذرب فى شهر رمضان، فكان يتصدّق فى كل يوم يمكنه صومه بمائة درهم، ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات فى الشهر. ولما نعى إلى المتوكل غمّه وحزن عليه وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته. رحمه الله تعالى.
ذكر أخبار علّويه
هو أبو الحسن على بن عبد الله بن سيف. وجدّه سيف من الصّغد الذين سباهم الوليد بن عثمان بن عفّان واسترقّ منهم جماعة اختصهم لخدمته وأعتق بعضهم ولم يعتق الباقين فقتلوه. قال أبو الفرج الأصفهانى: وكان علىّ هذا مغنّيا حاذقا، ومؤدّبا محسنا، وصانعا متقنا، وضاربا متقدّما، مع خفّة روح وطيب مجالسة وملاحة نوادر. وكان إبراهيم الموصلىّ علّمه وخرّجه وعنى بتحذيقه جدّا، فبرع وغنّى لمحمد الأمين وعاش إلى أيام المتوكّل ومات بعد إسحاق الموصلى بيسير. وكان سبب وفاته أنه خرج عليه جرب، فشكاه إلى يحيى بن ماسويه، فبعث إليه بدواء مسهل وطلاء، فشرب الطلاء واطّلى بالدواء، فقتله ذلك. قال: وكان علّويه أعسر، فكان عوده مقلوب الأوتار: البمّ أسفل الأوتار كلها ثم المثلث فوقه ثم المثنى ثم الزّير؛ فكان عوده إذا كان فى يد غيره يكون مقلوبا، وإذا أخذه كان فى يده اليمنى وضرب باليسرى فيكون مستويا. وكان إسحاق يتعصّب له فى أكثر أوقاته على مخارق. وقال حماد ابن إسحاق: قلت لأبى: أيّما أفضل عندك مخارق أم [1] علّويه؟ فقال: يا بنىّ، علّويه أعرقهما فهما بما يخرج من رأسه، وأعلمهما بما يغنّيه ويؤدّيه، ولو خيّرت [2] بينهما من يطارح جوارىّ، أو شاورنى من يستنصحنى لما أشرت إلا بعلّويه؛ لأنه يؤدّى
__________
[1] فى الأصل: «أو» .
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «خيرنى» .(5/9)
الغناء، [و] [1] إذا صنع شيئا صنعه صنعة محكمة، ومخارق لتمكّنه من حلقه وكثرة نغمه لا يقنع بالأخذ منه، لأنه لا يؤدّى صوتا واحدا كما أخذه ولا يغنيّه مرّتين غناء واحدا لكثرة زوائده فيه، ولكنهما إذا اجتمعا عند خليفة أو سوقة غلب مخارق على المجلس والجائزة بطيب صوته وكثرة نغمه.
وقال أبو عبد الله بن حمدون: حدّثنى أبى قال: اجتمعت مع إسحاق يوما فى بعض دور بنى هاشم، وحضر علّويه فغنّى أصواتا ثم غنّى من صنعته:
ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة ... إلىّ فهلّا نفس ليلى شفيعها!
فقال له إسحاق: أحسنت أحسنت والله يا أبا الحسن! أحسنت ما شئت! فقام علّويه من مجلسه فقبّل رأس إسحاق وعينيه وجلس [2] بين يديه وسرّ بقوله سرورا كثيرا؛ ثم قال: أنت سيدى وابن سيدى [وأستاذى [3]] وابن أستاذى، ولى إليك حاجة.
قال: قل، فو الله إنى أبلغ فيها ما تحبّ. قال: أيّما أفضل أنا عندك أم مخارق؟
فإنى أحبّ أن أسمع منك فى هذا المعنى قولا يؤثر ويحكيه عنك من حضر، فشرّفنى به.
فقال إسحاق: ما منكما إلا محسن مجمل، فلا ترد أن يجرى فى هذا شىء. قال: سألتك بحقّى عليك وبتربة أبيك وبكل حقّ تعظّمه إلا حكمت! فقال: ويحك! والله لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب، فأمّا إذا أبيت إلا ذكر ما عندى، فلو خيّرت أنا من يطارح جوارىّ ويغنّينى لما اخترت غيرك، ولكنكما إذا غنيّتما بين يدى خليفة أو أمير غلبك على إطرابه واستبدّ عليك بجائزته. فغضب علّويه وقام وقال: أفّ من رضاك وغضبك! وكان الواثق بالله يقول: علّويه أصحّ الناس صنعة بعد إسحاق، وأطيب الناس صوتا بعد مخارق، وأضرب الناس بعد زلزل وملاحظ، فهو مصلّى كلّ سابق نادر
__________
[1] زيادة نراها لازمة.
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وصلى» .
[3] زيادة من الأغانى.(5/10)
وثانى كل أوّل، وأصل كل متقدّم. وكان يقول: [غناء] [1] علّويه مثل نقر الطست يبقى ساعة فى السمع بعد سكوته.
وقال عبد الله بن طاهر: لو اقتصرت على رجل واحد يغنّينى لما اخترت سوى علّويه؛ لأنه إن حدّثنى ألهانى، وإن غنّانى أشجانى، وإن رجعت إلى رأيه كفانى.
وقال محمد بن عبد الله بن مالك: كان علّويه يغنّى بين يدى الأمين، فغنّى فى بعض غنائه:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد
وكان الفضل بن الربيع يضطغن عليه شيئا، فقال للأمين: إنما يعرّض بك ويستبطئ المأمون فى محاربته إياك؛ فأمر به فضرب خمسين سوطا وجرّ برجله حتى أخرج، وجفاه مدّة؛ حتى سأل كوثرا أن يترضّاه له فترضّاه له وردّه إلى الخدمة وأمر له بخمسة آلاف درهم [2] . فلما قدم المأمون تقرّب إليه بذلك فلم يقع له بحيث يحبّ، وقال: إن الملك بمنزلة الأسد أو النار فلا تتعرّض لما يغضبه، فإنه ربما جرى منه ما يتلفك ثم لا يقدر بعد ذلك على تلافى ما فرط منه؛ ثم قرب من المأمون بعد ذلك.
قال علّويه: أمرنا المأمون أن نباكره لنصطبح، فلقينى عبد الله بن إسماعيل المراكبى مولى عريب فقال: أيها الظالم المعتدى، أما ترحم ولا ترقّ! عريب هائمة من الشوق إليك تدعو الله وتستحكمه عليك وتحلم بك فى نومها فى كل ليلة ثلاث مرات. قال [علّويه: فقلت أمّ الخلافة زانية] [1] ومضيت معه. فحين دخلت قلت: أستوثق من الباب فإنى أعرف الناس بفضول الحجّاب؛ وإذا عريب جالسة على كرسىّ تطبخ ثلاث قدور من دجاج. فلما رأتنى قامت فعانقتنى وقبّلتنى وقالت: أىّ شىء تشتهى؟
__________
[1] زيادة عن الأغانى.
[2] فى الأغانى: «دينار» .(5/11)
فقلت: قدرا من هذه القدور؛ فأفرغت قدرا بينى وبينها فأكلنا، ودعت بالنبيذ فصبّت رطلا فشربت نصفه وسقتنى نصفه؛ فما زلت أشرب حتى كدت أن أسكر.
ثم قالت: يا أبا الحسن، غنّيت البارحة فى شعر لأبى العتاهية أعجبنى، أفتسمعه [1] وتصلحه؟ فغنّت:
عذيرى من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لى ولا إن صرت طوع يديه
وإنّى لمشتاق إلى ظلّ صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه
فصيّرناه مجلسنا. وقالت: قد بقى فيه شىء؛ فلم أزل أنا وهى حتى أصلحناه، ثم قالت: أحبّ أن تغنّى أنت أيضا فيه لحنا ففعلت، وجعلنا نشرب على اللحنين ثلاثا [2] . ثم جاء الحجّاب فكسروا الباب واستخرجونى، فدخلت على المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان وأصفّق وأغنّى بالصوت؛ فسمع المأمون والمغنّون ما لم يعرفوه فاستطرفوه، وقال المأمون: ادن يا علّويه وردّده، فردّدته عليه سبع مرات.
فقال لى فى آخرها عند قولى: «يروق ويصفو إن كدرت عليه» : يا عليوه خذ الخلافة وأعطنى هذا الصاحب.
وقال علّويه: قال إبراهيم الموصلىّ يوما: إنى قد صنعت صوتا وما سمعه منى أحد بعد، وقد أحببت أن أنفعك به وأرفع منك بأن ألقيه عليك وأهبه لك، وو الله ما فعلت هذا بإسحاق قطّ، وقد خصصتك به، فآنتحله وادّعه، فلست أنسبه إلى نفسى، وستكسب به مالا. فألقى علىّ:
إذا كان لى شيئان يا أمّ مالك ... فإنّ لجارى منهما ما تخيّرا
فأخذته عنه وادّعيته، وسترته طول أيام الرشيد خوفا من أن أتّهم فيه وطول أيام الأمين، حتى حدث عليه ما حدث وقدم المأمون من خراسان، وكان يخرج
__________
[1] كذا بالأغانى؛ وليس فى الأصل همزة الاستفهام.
[2] فى الأغانى: «مليا» .(5/12)
إلى الشّمّاسيّة فيتنزّه، فركبت يوما فى زلالى [1] وجئت أتبعه، فرأيت حرّاقة علىّ بن هشام، فقلت للملّاح: اطرح زلالى على الحرّاقة ففعل، واستؤذن لى فدخلت وهو يشرب مع الجوارى، وما كانوا يحجبون جواريهم، فغنيّته الصوت فاستحسنه جدّا وطرب عليه، وقال: لمن هذا؟ فقلت: هذا صوت صنعته وأهديته لك ولم يسمعه أحد قبلك؛ فأزداد به عجبا وطربا، وقال للجارية: خذيه عنه، فألقيته عليها حتى أخذته، فسرّ بذلك وطرب، وقال لى: ما أجد لك مكافأة على هذه الهديّة إلا أن أتحوّل عن هذه الحرّاقة بما فيها وأسلمه إليك؛ فتحوّل إلى أخرى وسلّمت لى بخزانتها وجميع آلاتها وكل شىء فيها؛ فبعت ذلك بمائة ألف وخمسين ألف درهم، واشتريت ضيعتى الصالحيّة.
وقال علّويه: خرج المأمون يوما ومعه أبيات قد قالها وكتبها فى رقعة بخطّه وهى:
خرجت إلى صيد الظّباء فصادنى ... هناك غزال أدعج العين أحور
غزال كأنّ البدر حلّ جبينه ... وفى خدّه الشّعرى المنيرة تزهر
فصاد مؤادى إذ رمانى بسهمه ... وسهم غزال الإنس طرف ومحجر
فيا من رأى ظبيا يصيد، ومن رأى ... أخا قنص يصطاد قهرا ويقسر
قال: فغنّيته فأمر لى بعشرين [2] ألف درهم.
ذكر أخبار معبد اليقطينى
قال أبو الفرج: كان معبد هذا غلاما مولّدا من مولّدى المدينة، أخذ الغناء عن جماعة من أهلها، واشتراه بعض ولد علىّ بن يقطين. وأخذ الغناء بالعراق عن إسحاق وابن جامع وطبقتهما، وخدم الرشيد ولم يخدم غيره من الخلفاء، ومات فى أيامه.
__________
[1] زلال (على وزن غراب مضاف الى ياء المتكلم) : ضرب من سفن دجلة كالحراقة والطيار.
[2] فى الأغانى: «عشرة آلاف» .(5/13)
وكان أكثر انقطاعه إلى البرامكة. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ حكاية عنه أحببت أن أذكرها فى هذا الموضع، وهى ما رواه بسنده إلى محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعىّ، قال حدّثنى معبد الصغير المغنّى مولى على بن يقطين قال: كنت منقطعا إلى البرامكة أحدّثهم وألازمهم. فبينا أنا ذات يوم فى منزلى إذا أتانى آت فدقّ بابى، فخرج غلامى ثم رجع إلىّ فقال لى: على الباب فتى ظاهر المروءة يستأذن عليك؛ فأذنت له، فدخل شابّ ما رأيت أحسن وجها منه ولا أنظف ثوبا ولا أجمل زيّا منه من رجل دنف عليه آثار السّقم [ظاهرة] [1] . فقال لى: إنى أحلول لقاءك منذ مدّة ولا أجد إلى ذلك سبيلا، وإن لى حاجة. فقلت: وما هى؟ فأخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدىّ فقال: أسألك أن تقبلها وتصنع فى بيتين قلتهما لحنا تغنّينى به. فقلت: هاتهما؛ فأنشدنى:
والله يا طرفى الجانى على بدنى ... لتطفئنّ بدمعى لوعة الحزن
أو لأبوحنّ [2] حتى يحجبوا سكنى ... فلا أراه وقد أدرجت فى كفنى
قال: فصنعت فيه لحنا ثم غنيّته إياه، وأغمى عليه حتى ظننته قدمات، ثم أفاق فقال: أعد، فديتك! فنا شدته الله فى نفسه وقلت: أخشى أن تموت؛ فقال:
هيهات! أنا أشقى من ذلك. وما زال يخضع لى ويتضرّع حتى أعدته، فصعق صعقة أشدّ من الأولى حتى ظننت أن نفسه قد فاضت. فلما أفاق رددت عليه الدنانير فوضعتها بين يديه، وقلت: يا هذا، خذ دنانيرك وانصرف عنى، قد قضيت حاجتك وبلغت وطرا مما أردته، ولست أحبّ أن أشرك فى دمك. فقال: [يا] [1] هذا، لا حاجة لى فى الدنانير، وهذه مثلها لك، ثم أخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدىّ وقال: أعد الصوت علىّ مرة أخرى وحلّ لك دمى! فشرهت نفسى فى الدنانير،
__________
[1] زيادة عن الأغانى.
[2] كذا فى الاغانى، وفى الأصل: «أو لا توجن» ولا معنى له.(5/14)
وقلت: لا والله ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط. قال: وما هى؟ قلت:
أولاهن أن تقيم عندى وتتحرّم بطعامى. والثانية أن تشرب أقداحا من النهيذ تطبّب [1] قلبك وتسكّن ما بك. والثالثة أن تحدّثنى بقصّتك. قال: أفعل ما تريد. فأخذت الدنانير ودعوت بطعام فأصاب منه إصابة معذّر، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا، وغنيّته بشعر غيره فى معناه وهو يشرب ويبكى، ثم قال: الشرط أعزّك الله! فغنيّته صوته فجعل يبكى أحرّ بكاء وينشج أشدّ نشيج وينتحب. فلما رأيت ما به قد خفّ عما كان يلحقه ورأيت النبيذ قد شدّ قلبه، كررت عليه صوته مرارا. ثم قلت: حدّثنى حديثك، فقال: أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزّها فى ظاهرها وقد سال العقيق فى فتية من أقرانى وأخذانى، فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجرة [2] منا، وبصرت منهن بفتاة كأنها قضيب قد طلّه الندى، تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس من يلاحظهما. فأطلنا وأطلن حتى تفرّق الناس، وانصرفن وانصرفنا وقد أبقت بقلبى جرحا بطيئا اندماله؛ فعدت إلى منزلى وأنا وقيذ، وخرجت من الغد إلى العقيق وليس به أحد فلم أر لها ولا لصواحبها أثرا، ثم جعلت أتتبّعها فى طرق [3] المدينة وأسواقها، وكأنّ الأرض أضمرتها فلم أحسّ لها بعين ولا أثر، وسقمت حتى أيس منى أهلى. وخلت بى ظئرى فاستعلمتنى حالى وضمنت لى كتمانها والسعى فيما أحبّه منها، فأخبرتها بقصتى؛ فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع وهى سنة خصب وأنواء وليس يبعد عنك المطر، ثم هذا العقيق فتخرج حينئذ وأخرج معك فإن النسوة سيجئن؛ فإذا فعلن ورأيتها أتبعها حتى أعرف موضعها ثم أصل بينك وبينها وأسعى لك فى تزويجها. فكأنّ نفسى اطمأنت إلى ذلك ووثقت به وسكنت إليه، فقويت وطمعت وتراجعت إلىّ نفسى. وجاء مطر بعقب ذلك وسال العقيق
__________
[1] فى الأغانى: «تشد» .
[2] ناحية.
[3] كذا بالأغانى. وفى الأصل: «طريق المدينة» .(5/15)
وخرج الناس وخرجت مع إخوانى اليه، فجلسنا مجلسنا الأوّل بعينه، فما كنا والنسوة إلا كفرسى رهان؛ فأومأت إلى ظئرى فجلست، وأقبلت على إخوانى فقلت: لقد أحسن القائل:
رمتنى بسهم أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحا به وندوبا
فأقبلت على صواحباتها وقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول:
بنا مثل ما تشكو فصبرا لعلنّا ... نرى فرجا يشفى السّقام قريبا
فسكتّ عن الجواب خوفا من أن يظهر منى ما يفضحنى وإياها، وعرفت ما أرادت. ثم تفرّق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظئرى حتى عرفت منزلها، وصارت إلىّ فأخذت بيدى ومضينا إليها، فلم نزل نتلطّف حتى وصلت إليها، فتلاقينا وتزاورنا على حال مخالسة ومراقبة، حتى شاع حديثى وحديثها وظهر ما بينى وبينها، فحجبها أهلها وسدّوا أبوابها؛ فما زلت أجهد فى لقائها فلا أقدر عليه، وشكوت ذلك إلى أبى لشدّة ما نالنى وسألته خطبتها لى. فمضى أبى ومشيخة أهلى إلى أبيها فحطبوها؛ فقال:
لو كان بدأ بهذا قبل أن يفضحها ويشهرها لأسعفته بما التمس، ولكنه قد فضحها فلم أكن لأحقّق قول الناس فيها بتزويجه إياها؛ فانصرفت على يأس منها ومن نفسى.
قال معبد: فسألته أن ينزل بجوارى، وصارت بيننا عشرة. ثم جلس جعفر بن يحيى ليشرب فأتيته، فكان أوّل صوت غنيّته صوتى فى شعر الفتى، فشرب وطرب عليه طربا شديدا، وقال: ويحك! إن لهذا الصوت حديثا فما هو؟ فحدّثته، فأمر بإحضار الفتى فأحضر من وقته، واستعاده الحديث فأعاده؛ فقال: هى فى ذمتى حتى أزوّجك إياها؛ فطابت نفسه وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح، وغدا جعفر إلى الرشيد فحدّثه الحديث، فعجب منه وأمر بإحضارنا جميعا فأحضرنا، وأمر بأن أغنيّه الصوت(5/16)
فغنيته إياه وشرب عليه وسمع حديث الفتى؛ فأمر من وقته بكتاب الى عامل الحجاز بإشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته؛ فلم تمض إلا مسافة الطريق حتى أحضروا. فأمر الرشيد بإحضار أبى الجارية إليه فأحضر، وخطب إليه الجارية للفتى وأقسم عليه ألّا يخالف أمره؛ فأجابه وزوّجها إياه؛ وحمل الرشيد إليه ألف دينار لجهازها وألف دينار لنفقة طريقه، وأمر للفتى بألف دينار ولى بألف دينار، وأمر جعفر لى وللفتى بألف دينار. وكان المدينىّ بعد ذلك من ندماء جعفر بن يحيى.
ذكر أخبار محمد الرف
هو محمد بن عمرو مولى بنى تميم، كوفىّ المولد والمنشأ. والرفّ [1] لقب غلب عليه.
وكان مغنيّا ضاربا صالح الصّنعة مليح النادرة. وكان أسرع خلق الله أخذا للغناء وأصحّهم أداء له وأذكاهم. وكان اذا سمع الصوت مرتين أو ثلاثا أدّاه لا يكون بينه وبين من أخذه عنه فرق فيه. وكان متعصّبا على ابن جامع مائلا إلى إبراهيم الموصلىّ وابنه إسحاق، وكانا يرفعان منه ويقدّمانه ويأخذان له الصّلات من الخلفاء. وكانت فيه عربدة إذا سكر. فعربد بحضرة الرشيد مرة، فأمر بإخراجه ومنعه من الدخول إليه وجفاه وتناساه. قال أبو الفرج: وأحسبه مات فى خلافته أو خلافة الأمين.
ومن أخباره فى جودة الأخذ وسرعة الحفظ ما رواه حماد بن إسحاق عن أبيه قال:
غنّى ابن جامع يوما بحضرة الرشيد:
جسور على هجرى جبان عن الوصل ... كذوب عدات يتبع الوعد بالمطل
مقدّم رجل فى الوصال مؤخّر ... لأخرى يشوب الجدّ فى ذاك بالهزل
__________
[1] ورد فى أكثر أصول الأغانى المخطوطة والمطبوعة «الرف» بالراء المهملة، وورد فى بعض المواضع من أصول الأغانى «الزف» بالزاى المعجمة.(5/17)
يهمّ بنا حتى إذا قلت قد دنا ... وجاذبنى عطفاه مال إلى البخل
يزيد امتناعا كلما زدت صبوة ... وأزداد حرصا كلما ضنّ بالبذل
فأحسن فيه ما شاء وأجمل، فغمزت عليه محمد الرفّ وفطن لما أردت، واستحسنه الرشيد وشرب عليه واستعاده مرتين أو ثلاثا. ثم قمت إلى الصلاة وغمزت الرف فجاءنى، وأومأت إلى مخارق وعلويّه وعقيد فجاءونى؛ فأمرته بإعادة الصوت فأعاده وأدّاه كأنه لم يزل يرويه؛ ولم يزل يكرره على الجماعة حتى غنّوه. ثم عدت إلى المجلس؛ فلما انتهى الدور إلىّ ابتدأت فغنيّته قبل كل شىء غنيّته. فنظر إلى ابن جامع محدّدا طرفه؛ وأقبل علىّ الرشيد وقال: أكنت تروى هذا الصوت؟
قلت: نعم يا سيّدى. فقال ابن جامع: كذب والله ما أخذه إلا منى الساعة.
فقلت: هذا صوت أرويه قديما، وما فيمن حضر [أحد] [1] إلا وقد أخذه منّى. وأقبلت عليهم فقلت لهم: غنّوه؛ فغنّاه علّويه ثم عقيد ثم مخارق. فوثب ابن جامع فجلس بين يديه فحلف بحياته وبطلاق امرأته أنّ اللحن صنعه منذ ثلاث ليال وما سمع به قبل ذلك الوقت. فأقبل الرشيد علىّ وقال: بحياتى اصدقنى عن القصّة، فصدقته، فجعل يضحك ويصفّق ويقول: لكل شىء آفة، وآفة ابن جامع الرفّ.
قال إسحاق بن إبراهيم: كان محمد الرفّ أروى خلق الله تعالى للغناء وأسرعهم أخذا لما سمعه، ليست عليه فى ذلك كلفة، إنما يسمع الصوت مرة واحدة وقد أخذه.
وكنا معه فى بلاء إذا حضر، فكان [2] كل من غنّى منّا صوتا فسأله عدو له أو صديق بأن يلقيه عليه فبخل ومنعه إياه وسأل محمد الرفّ أن يأخذه فما هو إلا أن يسمعه مرّة واحدة حتى أخذه وألقاه على من سأله. قال: وكان أبى يبرّه ويصله ويجديه من
__________
[1] زيادة من الأغانى.
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وكل من غنى الخ» .(5/18)
كل جائزة وفائدة تصل إليه. وكان محمد الرفّ مغرى بابن جامع خاصّة من بين المغنّين ليخله، وكان لا يفتح ابن جامع فاه بصوت إلا وضع عينه عليه وصغى بسمعه إليه حتى يحكيه. وكان فى ابن جامع بخل شديد لا يقدر معه على أن يسعفه ببرّ ورفد. وساق نحو ما تقدّم إلا أنه قال: إن الرّف أخذ الصوت لأوّل مرة وألقاه على إسحاق فأخذه عنه فى ثلاث مرار. قال حماد: وللرفّ صنعة يسيرة، وذكر منها أصواتا.
ذكر أخبار محمد بن الأشعث
قال أبو الفرج: كان محمد بن الأشعث القرشىّ ثم الزّهرىّ كاتبا، وكان من فتيان أهل الكوفة وظرفائهم، وكان يقول الشعر ويغنّى فيه. فمن ذلك قوله فى سلّامة زرقاء ابن رامين:
أمسى لسلّامة الزرقاء فى كبدى ... صدع يقيم طوال الدهر والأبد
لا يستطيع صناع القوم يشعبه ... وكيف يشعب صدع الحبّ فى الكبد
إلّا بوصل التى من حبّها انصدعت ... تلك الصدوع من الأسقام والكمد
وكان ملازما لابن رامين ولجاريته سلّامة الزرقاء، فشهر بذلك، فلامه قومه فى فعله فلم يحفل بمقالتهم؛ وطال ذلك منه ومنهم، حتى رأى بعض ما يكره فى منزل ابن رامين، فمال الى سحيقة جارية زريق ابن منيح مولى عيسى بن موسى، وكان زريق شيخا كريما نبيلا، يجتمع إليه أشراف أهل الكوفة من كل حىّ، وكان الغالب على منزله رجلا من ولد القاسم بن عبد الغفار العجلىّ كغلبة محمد بن الأشعث على منزل ابن رامين؛ فتلازما على ملازمة زريق. وفى ذلك يقول محمد بن الأشعث:(5/19)
يابن رامين بحت بالتصريح ... فى هواى سحيقة ابن منيح
قينة عفّة ومولى كريم ... ونديم من اللّباب الصريح
ربعىّ مهذّب أريحىّ ... يشترى الحمد بالفعال الرّبيح
نحن منه فى كل ما تشتهى الأن ... فس من لذّة وعيش نجيح
عند قوم من هاشم فى ذراها ... وغناء من الغزال المليح
فى سرور وفى نعيم مقيم ... قد أمنّا من كل أمر قبيح
فاسل عنّا كما سلوناك إنّى ... غير سال عن ذات نفسى وروحى
حافظ منك كل ما كنت قد ض ... يّعت مما عصيت فيه نصيحى
فالقلى ما حييت منى لك الده ... ر بودّ لمنيّتى ممنوح
يابن رامين فالزمن مسجد الح ... ىّ بطول الصلاة والتسبيح
قال عمر بن نوفل وهو راوى هذه الأبيات: فلم يدع ابن رامين شريفا بالكوفة إلا تحمّل به على ابن الأشعث وهو يأبى أن يرضى عنه وأن يعاود زيارته، حتى تحمّل عليه بالجحوانىّ، وهو محمد بن بشر بن جحوان الأسدىّ وكان يومئذ على الكوفة، فكلّمه فرضى عنه وعاد إلى زيارته، ولم يقطع منزل زريق. وقال فى سحيقة:
سحيقة أنت واحدة القيان ... فما لك مشبه فيهنّ ثانى
فضلت على القيان بفضل حذق ... فحزت على المدى قصب الرّهان
سجدن لك القيان مكفّرات ... كما سجد المجوس لمرزبان
ولا سيما إذا غنّت بصوت ... وحرّكت المثالث والمثانى
شربت الخمر حتى خلت أنى ... أبو قابوس أو عبد المدان
فإعمال اليسار على الملاوى ... ومن يمناك ترجمة البيان(5/20)
ولمحمد بن الأشعث أصوات له فيها غناء. منها:
رحبت بلادك يا أمامه ... وسلمت ما سجعت حمامه
وسقى ديارك كلما ... حنّت الى السّقيا غمامه
إنّى وإن أقصيتنى ... شفق [1] أحبّ لك الكرامه
وأرى أمورك طاعة ... مفروضة حتى القيامه
وله غير ذلك من الأصوات.
ذكر أخبار عمرو بن بانة
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد مولى ثقيف.
وكان أبوه صاحب ديوان ووجها من وجوه الكتّاب، ونسب إلى أمه. وكان مغنّيا محسنا، وشاعرا صالح الشعر، وصنعته صنعة متوسّطة، وكان مرتجلا. قال: وكتابه فى الأغانى أصل من الأصول. وكان يذهب مذهب إبراهيم بن المهدىّ فى الغناء، ويخالف إسحاق ويتعصّب عليه تعصّبا شديدا ويواجهه بنفسه. وهو معدود فى ندماء الخلفاء ومغنّيهم، على ما كان به من الوضح. وفيه يقول الشاعر:
أقول لعمرو وقد مرّ بى ... فسلّم تسليمة جافيه
لئن فضّلوك بفضل الغنا ... ءفقد فضّل الله بالعافيه
وقال أحمد بن حمدون: كان عمرو حسن الحكاية لمن أخذ عنه الغناء، حتى كان من يسمعه لو توارى عن عينه [عمرو [2]] لم يشكّ فى أنه هو الذى أخذ عنه، لحسن حكايته. وكان محظوظا ممن يعلّمه، ما علّم أحدا قطّ إلا خرج نادرا مبرّزا. وله أخبار مع الخلفاء وإنعام منهم عليه، منهم المتوكل على الله. رحمه الله.
__________
[1] فى الأغانى: «سفها» .
[2] زيادة عن الأغانى.(5/21)
ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعىّ
هو أبو العباس عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، والربيع، على ما يدّعيه أهله، ابن يونس بن أبى فروة. وآل أبى فروة يدفعون ذلك ويزعمون أنه لقيط وجد منبوذا كفله يونس، فلما خدم المنصور ادّعى إليه. قال أبو الفرج الأصفهانى:
وكان شاعرا مطبوعا ومغنّيا محسنا جيّد الصنعة نادرها. قال: وهو أوّل من غنّى بالكنكلة فى الإسلام.
وكان سبب دخوله فى الغناء على ما رواه أبو الفرج بسنده إليه قال: كان سبب دخولى فى الغناء وتعلّمى إياه أنّى كنت أهوى جارية لعمّتى رقيّة بنت الفضل ابن الربيع، وكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفا من أن يظهر ما لها عندى، فيكون ذلك سبب منعى منها؛ فأظهرت لعمّتى أنى أشتهى أن أتعلّم الغناء ويكون ذلك فى ستر عن جدّى- وكان جدّى وعمّتى على حال من الرقّة علىّ والمحبّة لى لا نهاية وراءها، لأن أبى توفّى فى حياة جدّى الفضل- فقالت:
يا بنىّ، وما دعاك إلى ذلك؟ فقلت: شهوة غلبت على قلبى، إن منعت منها متّ غمّا- قال: وكان لى فى الغناء طبع قوىّ- فقالت لى: أنت أعلم وما تختاره، والله ما أحبّ منعك من شىء، وإنى كارهة أن تحذق فى ذلك وتشتهر فتسقط ويفتضح أبوك وجدّك. فقلت: لا تخافى من ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به.
ولازمت الجارية لمحبتى إياها بعلّة الغناء، فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها حتى تقدّمت الجماعة حذقا وأقرّت لى بذلك، وبلغت ما كنت أريد من الجارية، وصرت ألازم مجلس جدّى. ثم لم يكن يمرّ لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزّبير بن دحمان ولا لغيرهم صوت إلا أخذته، وكنت سريع الأخذ، إنما كنت أسمعه مرّتين أو ثلاثا(5/22)
وقد صحّ لى. وأحسست فى نفسى قوّة فى الصناعة، فصنعت أوّل صوت صنعته فى شعر العرجىّ:
أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها ... وأدنت على الخدّين بردا مهلهلا
ثم صنعت:
أقفر من بعد خلّة شرف ... فالمنحنى فالعقيق فالجرف
وعرضتهما على الجارية التى كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما؛ فقالت:
لا يجوز أن يكون فى الصنعة فوق هذا. وكان جوارى الحارث بن بسخنّر وجوارى أبيه يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جوارى عمّتى وجوارى جدّى ويأخذن أيضا ما ليس عندهن، فأخذنهما منّى، وسألن الجارية عنهما فأخبرتهن أنهما من صنعتى.
ثم اشتهرا حتى غنّى الرشيد بهما يوما فاستظرفهما، وسأل إسحاق: هل تعرفهما؟
فقال: لا، وإنهما لمن أحسن الصنعة وجيّدها ومتقنها. ثم سأل الجارية عنهما فوقفت خوفا من عمّتى وحذرا أن يبلغ جدّى أنها ذكرتنى؛ فانتهرها الرشيد فأخبرته القصّة؛ فوجّه من وقته فدعا بجدّى فقال له: يا فضل، أيكون لك ابن يغنّى ثم يبلغ فى الغناء المبلغ الذى يمكنه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين ويتداولهما جوارى القيان فلا تعلمنى بذلك، كأنك رفعت قدره عن خدمتى فى هذا الشأن! فقال له جدّى: وحقّ ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك وإلا فأنا برئ من بيعتك وعلىّ العهد والميثاق [1] والعتق والطلاق إن كنت علمت بشىء من هذا قط إلا منك الساعة. [فمن هذا من ولدى؟ قال: عبد الله بن العباس هو [2] ، فأحضرنيه.
الساعة [3]] . فجاء جدّى وهو يكاد أن ينشق غيظا، فدعانى؛ فلما خرجت إليه شتمنى
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «والبيان» .
[2] لعل العبارة: «هو عبد الله ابن العباس» .
[3] زيادة عن الأغانى.(5/23)
وقال: [يا كلب [1]] بلغ من أمرك أنك تجسر على أن تتعلّم الغناء بغير إذنى! ثم زاد ذلك حتى صنعت، ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجوارى فى دارى، ثم تجاوزهن إلى جوارى الحارث بن بسخنّر، فاشتهرت، وبلغ أمير المؤمنين فتنكّر لى ولا منى، وفضحت آباءك فى قبورهم وسقطت للأبد إلا من المغنّين! فبكيت مما جرى علىّ وعلمت أنه صدقنى؛ فرحمنى وضمّنى إليه وقال: قد صارت الآن مصيبتى فى أبيك مصيبتين، إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى بك وهى موصولة بحياتى، ومصيبة [2] باقية العار علىّ وعلى أهلى بعدى، وبكى وقال: عزّ علىّ يا بنىّ أنّى أراك أبدا ما بقيت على غير ما أحبّ؛ وليست لى فى هذا الأمر حيلة لإنه أمر قد خرج عن يدى. وقال: جئنى بعود حتى أسمعك وأنظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة فى هذه الفضيحة وإلا جئت بك منفردا وعرّفته خبرك واستعفيته لك.
فأتيت بعود وغنّيته غناء قديما؛ فقال: لا، بل صوتيك اللذين صنعتهما، فغنيّته إياهما، فاستحسنهما وبكى، ثم قال: بطلت والله يا بنىّ وخاب أملى فيك. فوا حزنا عليك وعلى أبيك! فقلت: ليتنى متّ قبل ما أنكرته أو أخرست! ومالى حيلة! لكنى وحياتك يا سيّدى- وإلا فعلىّ عهد الله وميثاقه والعتق والطلاق وكل يمين يحلف بها [حالف [3]] لازمة [لى [3]]- لا غنيّت أبدا إلا لخليفة أو ولىّ عهد. فقال:
قد أحسنت فيما نبهت [4] عليه من هذا. فركب وأمر بى فأحضرت، ووقفت بين يدى الرشيد وأنا أرعد؛ فاستدعانى واستدنانى حتى صرت أقرب الجماعة إليه، ومازحنى
__________
[1] زيادة عن الأغانى.
[2] فى الأغانى: مصيبته، ولعلها: مصيبتك.
[3] زيادة عن الأغانى.
[4] الذى فى أساس البلاغة: «تنبهت على الأمر: تفطنت له» .(5/24)
وأقبل علىّ وسكّن منى [1] ، وأمر جدّى بالانصراف؛ وأما إلى الجماعة فحدّثونى وسقيت أقداحا [2] وغنّى المغنون جميعا؛ وأومأ إلىّ إسحاق بعينه أن ابدأ فغنّ إذا بلغت النوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك ليكون ذلك أملح وأجمل بك. فلما جاءت النّوبة إلىّ أخذت عودا ممن كان إلى جنبى وقمت قائما واستأذنت فى الغناء؛ فضحك الرشيد وقال: غنّ جالسا؛ فغنيّت لحنى الأوّل، فطرب واستعاده ثلاث مرّات وشرب عليه ثلاثة أنصاف. ثم غنيّت الثانى فكانت هذه حاله، فسكر ودعا بمسرور وقال: احمل الساعة مع عبد الله عشرة آلاف دينار وثلاثين ثوبا من فاخر ثيابى وعيبة مملوءة طيبا، فحمل ذلك كله معى. قال عبد الله: ولم أزل كلما أراد ولىّ عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة هو أم غيره دعانى وأمرنى أن أغنّى، فأعرّفه يمينى فيستأذن الخليفة فى ذلك، فإن أذن لى فى الغناء علم أنه ولىّ عهد وإلا عرف أنه غيره، حتى كان آخرهم الواثق فدعانى فى ايام المعتصم وسأله أن يأذن لى فى الغناء، فأذن لى ثم دعانى من الغد فقال: ما كان غناؤك إلا سببا لظهور سرّى وأسرار الخلفاء قبلى! والله لقد هممت أن آمر بضرب رقبتك! لا يبلغنى أنك امتنعت من الغناء عند أحد، فو الله لئن امتنعت لأضربن عنقك! فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت، وطلّق من كان عندك يومئذ، وأرحنا من يمينك هذه المشئومة. فقمت وأنا لا أعقل جزعا منه؛ فأعتقت جميع ما كان بقى عندى من مماليكى الذين حلفت يومئذ وهم فى ملكى ثم تصدّقت بجملة، واستفتيت فى يمينى أبا يوسف القاضى حتى خرجت منها؛ وغنيّت بعد ذلك إخوانى جميعا حتى اشتهر أمرى، وبلغ المعتصم خبرى فتخلّصت منه.
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأقبل على الجماعة وشكر منى الخ» .
[2] فى الأغانى: «وسقيت الجماعة وغنى الخ» .(5/25)
وروى أبو الفرج أيضا عن الصّولىّ عن الحسين بن يحيى قال: قلت لعبد الله ابن العباس: إنه بلغنى لك خبر مع الرشيد أوّل ما شهرت بالغناء فحدّثنى به؛ فقال:
نعم! أوّل صوت صنعته:
أتانى يؤامرنى فى الصّبو ... ح ليلا فقلت له غادها
فلما دار [1] لى وضربت عليه بالكنكلة، عرضته على جارية [2] لنا يقال لها راحة، فاستحسنته، وأخذته عنى. وكانت تختلف إلى إبراهيم الموصلى، فسمعها يوما تغنيّه وتناغى [3] به جارية من جواريه، فآستعادها إياه فأعادته؛ فقال: لمن هذا الصوت؟
قالت: صوت قديم. قال: كذبت، لو كان قديما لعرفته. وما زال يداريها ويتغاضب عليها حتى اعترفت له أنه من صنعتى، فعجب من ذلك. ثم غناه يوما بحضرة الرشيد ليغرب به على المغنّين؛ فاستحسنه الرشيد، فقال له: لمن هذا يا إبراهيم؟
فأمسك عن الجواب وخشى أن يكذبه فينمى إليه الخبر من غيره، وخاف من جدّى إن يصدقه؛ فقال له: مالك لا تجيبنى؟ قال: ما يمكننى يا أمير المؤمنين. فاستراب بالقصّة، فأقسم الرشيد أنه إن لم يعرّفه عاقبه عقوبة توجعه، وتوهّم أنه لعليّة بنت المهدىّ أو لبعض حرمه فأستطير غضبا. فلما رأى إبراهيم الجدّ منه صدقه فيما بينه وبينه سرّا. فدعا لوقته بالفضل بن الربيع وقال له: أيصنع ولدك غناء يرويه الناس ولا تعرّفنى! فجزع وحلف بحياته وبيعته أنه ما عرف ذلك قط ولا سمع به إلا فى وقته ذلك. وساق باقى الخبر نحو ما تقدّم.
قال عبد الله بن العباس: دخل محمد بن عبد الملك الزيات على الواثق وأنا بين يديه أغنّيه وقد استعادنى صوتا فأعدته، فآستحسنه محمد بن عبد الملك [وقال: [4]] هذا والله
__________
[1] فى الأغانى: «تأتى لى» .
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «على جارة» .
[3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «تغانى» .
[4] زيادة نراها لازمة.(5/26)
يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه وإصغائك إليه؛ فقال: أجل! هذا والله مولاى وابن موالىّ لا يعرفون غير ذلك. فقال: ليس كل مولى يا أمير المؤمنين مولى لمواليه، ولا كل مولى يتجمّل بولائه يجمع ما جمعه عبد الله من ظرف وأدب وصحّة عقل وفضل علم وجودة شعر. فقال له: صدقت يا محمد. فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكرا لحسن محضره، فقلت فى أضعاف كلامى: وأفرط الوزير، أعزّه الله تعالى، فى وصفى وتقريظى بكل شىء حتى وصفنى بجودة الشعر، وليس ذلك عندى، وإنما أعبث بالبيتين والثلاثة. ولو كان عندى أيضا شىء من ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير ويحكيه فى هذا المجلس الرفيع المشهور [1] . فقال:
والله يا أخى لو عرفت مقدار قولك:
يا شادنا رام إذ م ... رّ فى الشّعانين [2] قتلى
يقول لى: كيف أصبح ... ت؟ كيف يصبح مثلى
لما قلت هذا القول. والله لو لم يكن لك شعر فى عمرك إلا قولك: «كيف يصبح مثلى» لكنت شاعرا مجيدا. وهذا الشعر قاله عبد الله بن العباس فى نصرانية كان يهواها ولا يصل إليها إلا إذا خرجت إلى البيعة. وله معها أخبار وأشعار له فيها أصوات. منها قوله:
إنّ فى القلب من الظّبى كلوم ... فدع اللّوم فإنّ اللّوم لوم
حبذا يوم الشّعانين وما ... نلت فيه من نعيم لو يدوم
إن أكن أعظمت أن همت به ... فالذى تركب من عذلى عظيم
لم أكن أوّل من سنّ الهوى ... فدع العذل فذا داء قديم
__________
[1] لعله «المشهود» .
[2] الشعانين: عيد للنصارى قبل الفصح بأسبوع.(5/27)
وروى أبو الفرج بسنده إلى محمد بن جبير قال: كنا عند أبى عيسى بن الرشيد فى زمن ربيع وعندنا مخارق وعلّويه وعبد الله بن العباس الربيعىّ وعبد الله بن الحارث بن بسخنّر ونحن مصطبحون فى طارمة مضروبة على بستانه وقد تفتّح فيه ورد وياسمين وشقائق والسماء متغيّمة غيما مطبقا وقد بدأت ترشّ رشّا ساكبا، فنحن فى أكمل نشاط وأحسن يوم، إذ خرجت قيّمة دار أبى عيسى فقالت: يا سيّدى، قد جاءت عساليج؛ قال: تخرج إلينا فليس بحضرتنا من تحتشمه. قال: فخرجت إلينا جارية شكلة حلوة حسنة العقل والهيئة والأدب فى يدها عود فسلّمت، وأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست. وغنّى القوم حتى انتهى الدّور إليها، وظننا أنها لا تصنع شيئا وخفنا أن تهابنا فتحصر، فغنّت غناء حسنا مطربا متقنا، لم تدع أحدا ممن حضر إلا غنّت صوتا من صنعته فأدّته على غاية الإحكام؛ فطربنا واستحسنّا غناءها وخاطبناها بالاستحسان؛ وألح عبد الله بن العباس من بيننا بالاقتراح عليها والمزاح معها والنظر اليها. فقال أبو عيسى: عشقتها وحياتى يا عبد الله! فقال: لا والله يا سيّدى وحياتك ما عشقتها، ولكن استملحت كل ما شاهدته منها من منظر وشكل وعقل وعشرة وغناء. فقال له: ويحك! فهذا والله هو العشق وسببه. ورب جدّ جرّه اللعب. قال: وشربنا؛ فلما غلب النبيذ على عبد الله غنّى أهزاجا قديمة وحديثة، وغنّى فيما بينها هزجا فى شعر قاله فيها لوقته، فما فطن له إلا أبو عيسى، وهو:
نطق المكتوم منّى فبدا ... كم ترى المكتوم منّى لا يضح
سحر عينيك إذا ما رنتا ... لم يدع ذا صبوة أو يفتضح
ملكت قلبا فأمسى غلقا ... عندها صبا بها لم يسترح [1]
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل:
ملكت نفسى وأمسى علقا ... عندنا صبا بها لم يسترح(5/28)
بجمال وغناء حسن ... جلّ عن أن ينتقيه [1] المقترح
أورث القلب هموما ولقد ... كنت مسرورا بمرآه فرح
ولكم مغتبق همّا وقد ... باكر اللهو بكور المصطبح
فقال له أبو عيسى: فعلتها والله يا عبد الله، صح والله قولى لك فى عساليج وأنت تكابر حتى فضحك السّكر. فجحد وقال: هذا غناء كنت أرويه. فخلف أبو عيسى أنه ما قاله وما غنّاه إلا فى يومه؛ وقال له: احلف بحياتى أنّ الأمر ليس هو كذلك! فلم يفعل. فقال أبو عيسى: والله لو كانت لى لوهبتها لك، ولكنها لآل يحيى ابن معاذ، وو الله إن باعوها لأملّكنّك إياها ولو بكل ما أملك! ووحياتى لتنصرفنّ قبلك إلى منزلك. ثم دعا بحافظتها وخادما من خدمه فوجّه بها معهما إلى منزله.
والتوى عبد الله قليلا وتجلّد ثم انصرف. واتصل الأمر بينهما بعد ذلك فاشترتها عمته رقيّة بنت الفضل بن الربيع من آل يحيى بن معاذ، وكانت عندهم حتى ماتت.
قال: وقالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس: قد بلغنى أنك عشقت جارية اسمها عساليج، فأعرضها علىّ، فإما أن عذرتك أو عذلتك؛ فوجّه إليها فحضرت، وقال لبذل: هذه هى يا سيّدتى، فاسمعى وانظرى ثم مرينى بما شئت أطعك. فأقبلت عليه عساليج وقالت: يا عبد الله، أتشاور فىّ! فو الله ما شاورت فيك لمّا سحبتك.
فقالت بذل: أحسنت والله يا صبيّة! ولو لم تحسنى شيئا و [لا [2]] كانت فيك خصلة تحمد لوجب أن تعشقى لهذه الكلمة. ثم قالت لعبد الله: ما ضيّعت، احتفظ بصاحبتك هذه.
وقال حمدون بن إسماعيل: دخلت يوما على عبد الله بن العباس الربيعىّ وخادم له يسقيه، وبيده عود وهو يغنّى:
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «أن يقنفيه» .
[2] التكملة عن الأغانى.(5/29)
إذا أصطبحت ثلاثا ... وكان عودى نديمى
والكأس تضحك [1] ضحكا ... من كفّ ظبى رخيم
فما علىّ طريق ... لطارقات الهموم
فما رأيت أحسن مما حكى حاله فى غنائه ولا سمعت أحسن مما غنّى. ومن صنعته وشعره قوله:
صدع البين الفؤادا ... إذ به الصائح نادى
بينما الأحباب مجمو ... عون إذ صاروا فرادى
فأتى بعض بلادا ... وأتى بعض بلادا
كلما قلت تناهى ... حدثان [2] الدّهر زادا
ذكر أخبار وجه القرعة
هو أبو جعفر محمد بن حمزة بن نصير الوصيف مولى المنصور، ويلقّب وجه القرعة، أحد المغنّين الحذّاق الضّرّاب الرواة. أخذ الغناء عن إبراهيم الموصلىّ وطبقته. وكان حسن الأداء طيّب الصوت لا علّة فيه، إلا أنه كان إذا غنّى الهزج خاصّة خرج لا لسبب يعرف، إلا أنه [إن [3]] تعرّض للحنين فى جنس من الأجناس فلا يصح له البتة.
وروى أبو الفرج بسنده عن محمد الهاشمىّ أنه شهد إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ عند عمه هارون بن عيسى وعنده محمد بن الحسن بن مصعب، قال: فأتانا محمد بن
__________
[1] فى الأغانى: «تغرب» .
[2]- هذه رواية الأغانى. وفى الأصل:
كلما قلت تناهت ... حادثات الدهر زادا
[3] زيادة عن الأغانى.(5/30)
حمزة وجه القرعة، وكان شرس الأخلاق أبىّ النفس، وكان إذا سئل الغناء أباه، فإذا أمسك عنه كان هو المبتدئ به؛ فأمسكنا عنه حتى طلب العود فأتى به فغنّى:
مرّ بى سرب ظباء ... رائحات من قباء
زمرا نحو المصلّى ... يتمشّين حذائى
فتجاسرت وألقي ... ت سرابيل الحياء
وقديما كان لهوى ... وفنونى بالنساء
قال: وكان يحسنه ويجيده، فجعل إسحاق يشرب ويستعيده حتى شرب ثلاثة أرطال، ثم قال: أحسنت يا غلام! هذا الغناء لى وأنت تتقدّمنى فيه! ولا يخلق الغناء ما دام مثلك ينشأ فيه.
وقال أيضا: كنا فى البستان المعروف ببستان خالص النصرانىّ ببغداد، ومعنا محمد ابن حمزة وجه القرعة وهو يغنينا:
يا دار أقفر رسمها ... بين المحصّب والحجون
يا بشر إنى فاعلمى ... والله مجتهداً يمينى
ما إن صرمت حبالكم ... فصلى حبالى أو ذرينى
فإذا برجل راكب على حمار يؤمّنا وهو يصيح: أحسنت والله! فقلنا: أصعد إلينا كائنا من كنت؛ فصعد وقال: لو منعتمونى من الصعود لما امتنعت؛ ثم سفر اللثام عن وجهه فإذا هو مخارق. فقال: يا أبا جعفر، أعد علىّ صوتك فأعاده، وشرب رطلا من شرابنا وقال: لولا أنى مدعوّ الخليفة لأقمت عندكم واستمعت هذا الغناء الذى هو أحسن من النزهة غبّ المطر.
وله مع إسحاق بن إبراهيم ومخارق أخبار شهدا له فيها بحسن الصنعة؛ وكفاه ذلك فضلا فى صناعته.(5/31)
ذكر أخبار محمد بن الحارث بن بسخنّر [1]
قال أبو الفرج الأصفهانى: هو من أهل الرّىّ، مولى المنصور، من ولد بهرام شوبين مرزبان الرىّ. قال: وهو مرتجل قليل الصّنعة حسن الغناء والنغم بقوّة وشجا واقتدار شديد على الغناء، وكان فى زمانه أحد المعدودين فى حسن الأدب وتمام المروءة وحسن الزّىّ والآلة، وكان عظيم التّيه رفيع الهمة، وكانت له منزلة عند المأمون. قال محمد بن الحارث: كنت مع المأمون وهو يريد بلاد الروم ومعه عدّة من المغنّين، فجلس يوما والمعتصم والعباس معه من حيث لا نراهم وهم يسمعون غناءنا؛ فغنّى المغنّون جميعا وغنّيت هزجا لإسماعيل بن جامع، فبعث إلىّ المأمون بأصل شاهشفرم [2] وقد لفّ أصله بمنديل حرير؛ فجاءنى به الغلام وقال: أعد الصوت؛ فأخذته وشممته ووثبت فأعدته قائما، ووضعت الأصل بين يدى وشربت رطلا وقلت للمغنّين: حكم لى أمير المؤمنين بالحذق والغناء. فقالوا: وكيف؟ قلت: دفع إلىّ لواء الغناء من بينكم. فقالوا: ليس كما ذكرت، ولكن حيّاك إذ أطربته، والرسول قائم فانصرف بالخبر، فما لبث أن رجع إلىّ فقال: هو كما ذكرت.
قال أبو العنبس بن حمدون: كان محمد بن الحارث أحسن خلق الله شمائل وإشارة إذا غنّى. وقال أحمد بن حمدون: صنع محمد بن الحارث [هزجا فى هذا الشعر [3]] :
أمسيت عبدا مسترقّا ... أبكى الألى سكنوا دمشقا
أعطيتهم قلبى فمن ... يبقى بلا قلب فأبقى!
__________
[1] كذا فى تصحيح كتاب الأغانى للأستاذ الشقيطى المطبوع بمصر سنة 1334 هـ. وبسختر هو أحد الأعاجم من مرازبة الرى موالى المنصور الخليفة العباسىّ الثانى. وفى الأصل: «بشخير» وهو تحريف.
[2] فى مفردات ابن البيطار: «شاهسفرم» وهو ضرب من النبات عطر الرائحة.
[3] التكملة من الأغانى.(5/32)
وطرحه على المسدود الطّنبورىّ فوقع له موقعا حسنا؛ واستحسنه محمد منه فقال:
أتحبّ أن أهبه لك؟ قال: نعم؛ قال: قد فعلت. فكان المسدود يغنّيه ويدّعيه، وإنما هو لمحمد بن الحارث.
قال محمد: لمّا قدم المأمون من خراسان لم يشتق مغنّيا بمدينة السلام غيرى.
فبعث إلىّ فكنت أنادمه سرّا، ولم يظهر للندماء حتى ظفر بإبراهيم بن المهدىّ؛ فلما عفا عنه ظهر للندماء.
ولمحمد بن الحارث شعر، منه قوله:
ومن ظنّ أنّ التّيه من فضل قدره [1] ... فإنى رأيت التيه من صغر القدر
ولو كان ذا عزّ ونفس أبيّة ... لغضّ الغنى منه وعزّ عن الفقر
رأى نفسه لا تستقلّ بحقّها ... فتاه لنقص النفس أو قلّة الشكر
ذكر أخبار أحمد بن صدقة
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو أحمد بن صدقة بن أبى صدقة. كان أبوه حجازيّا مغنّيا، قدم على الرشيد وغنّى له. وقد ذكرنا أخباره فى النوادر من كتابنا هذا، فلا حاجة بنا إلى إعادتها. وكان أحمد طنبوريّا محسنا مقدّما حاذقا حسن الغناء محكم الصّنعة. قال: وله غناء كثير فى الأرمال والأهزاج وما يجرى مجراها من غناء الطّنبوريّين. وكان ينزل الشأم. ووصف للمتوكل فأمر بإحضاره، فقدم عليه فغنّاه، فاستحسن غناءه وأجزل صلته. واشتهاه الناس وكثر من يدعوه؛ فكسب بذلك أكثر مما كسبه مع المتوكل أضعافا.
وروى أبو الفرج عن أحمد بن صدقة قال: اجتزت بخالد بن يزيد الكاتب، فقلت له: أنشدنى بيتين من شعرك حتى أغنّى فيهما. فقال: وأىّ حظّ لى فى ذلك!
__________
[1] فى الأصل: «من فضل قدرة» .(5/33)
تأخذ أنت الجائزة وأحصل أنا على الإثم! فخلفت أنى إن أخذت بشعره فائدة جعلت له فيها حظّا، وأذكرت به الخليفة وسألته فيه. فقال: أمّا الحظّ من جهتك فأنت أنذل من ذلك، ولكن عسى أن تفلح فى مسئلة الخليفة؛ وأنشدنى:
تقول سلا، فمن المدنف ... ومن عينه أبدا تذرف!
ومن قلبه قلق خافق ... عليك وأحشاؤه ترجف!
فلما جلس المأمون للشرب دعانى، وكان قد غضب على حظّية له، فحضرت مع المغنّين. فلما طابت نفسه وجّهت إليه بتفّاحة من عنبر عليها مكتوب بالذهب:
«يا سيّدى سلوت» ، وما علم الله أنى عرفت شيئا من خبرهما. وانتهى الدّور إلىّ فغنيّت البيتين؛ فاحمرّ وجه المأمون وانقلبت عيناه وقال: يابن الفاعلة، لك علىّ وعلى حرمى صاحب خبر! فوثبت وقلت: يا سيّدى، ما السبب؟ قال: من أين عرفت قصّتى مع جاريتى حتى غنيّت فى معنى ما بيننا؟ فحلفت أنى لم أعرف شيئا من ذلك، وحدّثته بحديثى مع خالد، فلما انتهيت إلى قوله: «أنت أنذل من ذلك» ضحك وقال: صدق، وعجب من هذا الاتّفاق؛ وأمر لى بخمسة آلاف درهم ولخالد بمثلها.
وروى عنه أيضا قال: دخلت على المأمون فى يوم الشعانين [1] وبين يديه عشرون وصيفة جلب روميّات مزنّرات قد تزيّنّ بالديباج الرومىّ، وعلّقن فى أعناقهن صلبانا من الذهب، وفى أيديهن الخلوص والزيتون. فقال لى المأمون: ويلك يا أحمد! قد قلت فى هؤلاء أبياتا فغنّ بها، ثم أنشدنى:
__________
[1] الشعانين: عيد من أعياد النصارى ويسمى: «الزيتونة» يعملونه فى سابع أحد من صومهم.
ومعنى الشعانين: التسبيح.(5/34)
ظباء كالدّنانير ... ملاح فى المقاصير
جلاهنّ الشّعانين ... علينا فى الزّنانير
وقد زرفنّ [1] أصداغا ... كأذناب الزرازير
وأقبلن بأوساط ... كأوساط الزّنابير
فحفظته وغنيّته؛ فلم يزل يشرب والوصائف يرقصن بين يديه بأنواع الرقص من الدّستبندا [2] إلى الإيلىّ حتى سكر، وأمر لى بألف دينار، وأمر بأن ينثر على الجوارى ثلاثة آلاف دينار، فقبضت الألف ونثرت ثلاثة آلاف الدينار فانتهبتها معهنّ.
قال: ولم يزل أحمد بالعراق حتى بلغه موت بنيّة له بالشأم، فشخص نحو منزله، وخرج عليه الأعراب فأخذوا ما معه وقتلوه.
ذكر أخبار أبى حشيشة
قال أبو الفرج: أبو حشيشة لقب غلب عليه، وهو محمد بن أبى أميّة، ويكنى أبا جعفر. وكان أهله جميعا متّصلين بإبراهيم بن المهدىّ، وكان هو من بينهم يغنّى بالطّنبور أحسن الناس غناء. وخدم جماعة من الخلفاء، أوّلهم المأمون ومن بعده إلى المعتمد. قال: وكان أكثر انقطاعه إلى أبى أحمد بن الرشيد أيام حياته. وكان أبوه وجدّه وأخواله كتّابا.
قال أحمد بن جعفر جحظة فى ترجمة أبى حشيشة: وكان له صنعة تقدّم فيها كلّ طنبورىّ لا أحاشى أحدا فى ذلك. قال: فمنها:
__________
[1] زرفن صدغيه: جعلهما كالزرفين، وهو حلقة الباب.
[2] الدستبندا: نوع من أنواع رقص المجوس يأخذ بعضهم بيد بعض ويدورون ويرقصون.(5/35)
كأنّ هموم الناس فى الأرض كلّها ... علىّ وقلبى بينهم قلب واحد
ولى شاهدا عدل سهاد وعبرة ... وكم مدّع للحبّ من غير شاهد
قال جحظة: ورأيته بين يدى المعتمد على الله وقد غنّاه من شعر علىّ بن محمد ابن نصر:
حرمت بذل نوالك ... واسوءتا من فعالك!
لمّا ملكت وصالى ... آيستنى من وصالك
فوهب له مائتى دينار. قال: وغنّى يوما عند ابن المدبّر بحضرة عريب؛ فقالت له: أحسنت يا أبا جعفر! ولو عاش الشيخان ما قلت لهما هذا (تعنى علّويه ومخارقا) .
وقال أبو الفرج: إنّ أبا حشيشة ألّف كتابا جمع فيه أخباره مع من عاشر وخدم من الخلفاء؛ قال: وهو تاب مشهور. قال: أوّل من سمعنى من الخلفاء المأمون، وصفنى له مخارق، فأمر بإشخاصى إليه، وأمر لى بألف درهم أتجهّز بها. فلما وصلت إليه أدنانى وأعجب بى؛ وقال للمعتصم: هذا أثر خدمك وخدم آبائك وأجدادك يا أبا إسحاق. وذكر ما كان يشتهيه عليه كلّ خليفة، فقال: كان المأمون يشتهى من غنائى:
كان ينهى فنهى حتى [سلا [1]] ... وانجلت عنه غيايات الصّبا
خلع اللهو وأضحى مسبلا ... للنّهى فضل قميص وردا
قال: وكان المعتصم يشتهى علىّ:
أسرفت فى سوء الصّنيع ... وفتكت بى فتك الخليع
__________
[1] آخر الشطر الأوّل من البيت مفقود من الأصل، ولم نوفق اليه حين التصحيح. فلعل الكلمة التى وضعناها تكون قريبة من الأصل.(5/36)
وولعت بى متمرّدا ... والعذر فى طرق الولوع
صيّرت حبّك شافعا ... فأتيت من قبل الشّفيع
قال: وكان الواثق يختار من غنائى:
يا تاركى متلذّذ ال ... عذّال جذلان العداة
انظر إلىّ بعين را ... ض نظرة قبل الممات
خلّيتنى بين الوعي ... د وبين ألسنة الوشاة!
ماذا يرجّى بالحيا ... ة منغّص روح الحياة!
قال: وكان المتوكل يحبّنى ويستخفّنى، وكانت أغانيه التى يشتهيها علىّ كثيرة.
منها:
أطعت الهوى وخلعت العذارا ... وباكرت بعد المراح العقارا
ونازعك الكأس من هاشم ... كريم يحبّ عليها الوقارا
فتى فرّق الحمد أمواله ... يجرّ القميص ويرخى الإزارا
رأى الله جعفر خير الأنام ... فملّكه ووقاه الحذارا
قال: وكان المستعين يشتهى علىّ:
وما أنس لا أنس منها الخشوع ... وفيض الدّموع وغمز اليد
وخدّى مضاف إلى خدّها ... قياما الى الصبح لم نرقد
قال: واشتهى علىّ المعتمد:
قلبى يحبّك يا منى ... قلبى ويبغض من يحبّك
لأكون فردا فى هوا ... ك، فليت شعرى كيف قلبك؟(5/37)
قال حجظة: وكانت وفاة أبى حشيشة بسرّ من رأى. وسببها أنه اصطبح عند قلم غلام الفضل بن كاوش فى يوم بارد؛ فقال له: أنا لا آكل إلا طعاما حارّا، فأتاه بفجليّة باردة وقال: تساعدنى وتأكل معى، فأكل منها فحمد قلبه فمات.
ذكر أخبار القيان
وأوّل من غنّى من النساء ومن اشتهر بالغناء منهنّ فى الإسلام قالوا: أوّل من غنّى الغناء العربىّ جرادتا ابن جدعان. قال أبو الفرج الأصفهانىّ:
قال ابن الكلبىّ: كان لابن جدعان أمتان يسمّيان الجرادتين يغنّيان فى الجاهليّة، وسمّاهما جرادتى عباد [1] ؛ ووهبهما عبد الله بن جدعان لأميّة بن أبى الصّلت الثّقفىّ وكان قد امتدحه. وابن جدعان هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب. كان سيّدا جوادا؛ فرأى أميّة ينظر الى الجرادتين وهو عنده فأعطاه إياهما. وقد قيل فى سبب إعطائه إياهما: إن أميّة بن أبى الصّلت قدم عليه؛ فقال له عبد الله: أمر ما أتى بك! فقال أميّة: كلاب غرماء قد نجتنى ونهشتنى. فقال له عبد الله: قدمت علىّ وأنا عليل وحقوق لحقتنى ولزمتنى، فأنظرنى قليلا وقد ضمنت قضاء دينك فلا أسألك عن مبلغه، قال: فأقام أميّة أياما ثم أتاه فقال:
أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء
وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذّب والسّناء
كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق الكريم ولا مساء
تبارى الريح مكرمة ومجدا ... إدا ما الكلب أحجره الشّتاء
__________
[1] فى الأغانى: «جرادتى عاد» .(5/38)
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه [1] الثناء
إذا خلّفت عبد الله فاعلم ... بأنّ القوم ليس لهم جزاء
فأرضك كلّ مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لهم سماء
وهل تخفى السماء على بصير! ... وهل بالشمس طالعة خفاء!
فلمّا أنشده أميّة هذا الشعر كانت عنده قينتان، فقال لأميّة: خذ أيّتهما شئت، فأخذ إحداهما وانصرف [2] ؛ فمرّ بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها، وقالوا له: لقد ألفيته عليلا، فلو رددتها عليه، فإن الشيخ محتاج إلى خدمتها، كان [3] ذلك أقرب لك عنده وأكثر من كل حقّ ضمنه. فوقع الكلام من أميّة موقعا وندم؛ فرجع إليه ليردّها عليه. فلما أتاه بها، قال ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشا لاموك على أخذها؛ وذكر لأميّة ما قال القوم. فقال أميّة: والله ما أخطأت يا أبا زهير.
قال: فما الذى قلت فى ذلك؟ فقال:
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... ببذل وما كلّ العطاء يزين
وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين
فقال عبد الله لأمية: خذ الأخرى؛ فأخذهما جميعا وخرج. فلما أن صار إلى القوم بهما أنشأ يقول:
ومالى لا أحيّيه وعندى ... مواهب قد طلعن من النّجاد
لأبيض من بنى عمرو بن تيم ... وهم كالمشرفيّات الحداد
لكلّ قبيلة هاد ورأس ... وأنت الرأس تقدم كلّ هاد
__________
[1] فى الأصل: «تعرّضه» .
[2] كذا بالأغانى. وفى الأصل: «قال لأمية: خذ إحداهما أيهما شئت فأخذها وانصرف الخ» .
[3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «فكان ... » بزيادة الفاء.(5/39)
عماد الخيف قد علمت معدّ ... وإنّ البيت يرفع بالعماد
له داع بمكّة مشمعلّ ... وآخر فوق دارته ينادى
إلى ردح من الشّيزى ملاء ... لباب البرّ يلبك بالشّهاد
وكان سبب قول أميّة بن أبى الصلت هذا الشعر أنّ عبد الله بن جدعان وفد على كسرى فأكل عنده الفالوذ؛ فسأل عنه فقيل له: هذا الفالوذ. قال: وبم يصنع؟
قيل: لباب البرّ يلبك مع عسل النحل. قال: أبغونى غلاما يصنعه؛ فأتوه بغلام يصنعه فابتاعه، ثم قدم به مكة؛ فأمره أن يصنع الفالوذ ففعل، ثم وضع الموائد من الأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر، فحضره الناس. وكان فيمن حضر أميّة بن أبى الصلت فقال الأبيات. وقال فيه أيضا:
ذكر ابن جدعان بخي ... ر كلّما ذكر الكرام
من لا يخون ولا يعقّ ... ولا يبخّله الأنام
يهب النجيبة والنجي ... ب له الرّحالة والزّمام
وابن جدعان ممن ترك شرب الخمر فى الجاهليّة، وقد تقدّم ذكره. وهجاه دريد ابن الصّمّة بشعر؛ فلقيه بعد ذلك عبد الله بسوق عكاظ، فحيّاه وقال: هل تعرفنى يا دريد؟ قال لا. قال: فلم هجوتنى؟ قال: ومن أنت؟ قال: عبد الله بن جدعان. قال: هجوتك لأنك كنت أثرا كريما فأحببت أن أضع شعرى موضعه.
فقال له عبد الله: لئن كنت هجوت لقد مدحت؛ وكساه وحمله على ناقة برحلها، فقال دريد:
إليك ابن جدعان أعملتها ... مخفّفة للسّرى والنّصب
فلا خفض حتى تلاقى امرأ ... جواد الرّضا وحليم الغضب
وجلدا إذا الحرب مرّت به ... يعين عليها بجزل الحطب(5/40)
وجلت البلاد فما إن أرى ... شبيه ابن جدعان وسط العرب
سوى ملك شامخ ملكه ... له البحر يجرى وعين الذهب
وأخبار ابن جدعان كثيرة وسيادته فى الجاهليّة مشهورة، ليس هذا موضع إيرادها، وإنما أوردنا ما أوردنا منها فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد، فالشىء بالشىء يذكر. فلنرجع إلى أخبار القيان.
ذكر أخبار جميلة
هى جميلة مولاة بنى سليم، ثم مولاة بطن منهم يقال لهم بنو بهز، وكان لها زوج من موالى بنى الحارث بن الخزرج، وكان ينزل فيهم، فغلب عليها ولاء زوجها فقيل لها: مولاة الأنصار. وقد قيل: إنها كانت لرجل من الأنصار ينزل بالسّنح.
وقيل: كانت مولاة الحجّاج بن علاط السّلمىّ. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وهى أصل من أصول الغناء، أخذ عنها معبد وابن عائشة وحبابة وسلّامة وعقيلة والعتيقة وغيرهم. وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطاة:
إنّ الدّلال وحسن الغنا ... ء وسط بيوت بنى الخزرج
وتلكم جميلة زين النساء ... إذا هى تزدان للمخرج
إذا جئتها بذلت ودها ... بوجه منير لها أبلج
قال: وكانت جميلة أعلم خلق الله بالغناء. وكان معبد يقول: أصل الغناء جميلة وفرعه نحن، ولولا جميلة لم نكن نحن مغنّين. قال: وسئلت جميلة: أنّى لك هذا الغناء؟
قالت: والله ما هو إلهام ولا تعليم، ولكنّ أبا جعفر سائب خاثر كان جارنا، وكنت أسمعه يغنّى ويضرب بالعود فلا أفهمه، فأخذت تلك النغمات وبنيت عليها غنائى، فجاءت أجود من تأليف ذلك الغناء، فعلمت وألقيت؛ فسمعنى مولياتى يوما وأنا(5/41)
أغنّى سرّا، ففهمننى ودخلن علىّ وقلن: قد علمنا ما تكتمين وأقسمن علىّ؛ فرفعت صوتى وغنيّتهن بشعر زهير بن أبى سلمى:
وما ذكرتك إلا هجت لى طربا ... إنّ المحبّ ببعض الأمر معذور
ليس المحبّ كمن إن شطّ غيّره ... هجر الحبيب، وفى الهجران تغيير
فحينئذ شاع أمرى وظهر ذكرى وقصدنى الناس وجلست للتعليم؛ فكان الجوارى يكثرن عندى، وربما انصرف أكثرهن ولم يأخذن شيئا سوى [1] ما سمعننى أطارح غيرهن، وقد كسبت لموالىّ ما لم يخطر لهم ببال، وأهل [2] ذلك كانوا وكنت.
وقد أقرّ لجميلة كلّ مكىّ ومدنىّ من المغنّين. قال: ولما قدم ابن سريح والغريض وابن مسجح وسلم بن محرز المدينة واجتمعوا هم ومعبد وابن عائشة حكّموها بينهم؛ واجتمعوا عندها، وصنع كل منهم صوتا وغناه بحضرتها- وقد ذكر الأصفهانىّ الأصوات- فلما سمعت الأصوات قالت: كلّكم محسن مجيد فى غنائه ومذهبه.
قال ابن عائشة: ليس هذا بمقنع. قالت: أمّا أنت يا أبا يحيى فتضحك الثّكلى بحسن صوتك ومشاكلته النفوس. وأمّا أنت يا أبا عبّاد فنسيج وحده بتأليفك [3] وحسن نظمك وعذوبة غنائك. وأمّا أنت يا أبا عثمان فلك أوّليّة هذ الأمر وفضله. وأمّا أنت يا أبا جعفر فمع الخلفاء تصلح. وأمّا أنت يا أبا الخطّاب فلو قدّمت أحدا على نفسى لقدّمتك. وأمّا أنت يا مولى العبلات فلو ابتدأت قدّمتك عليهم. ثم سألوها جميعا أن تغنّيهم لحنا كما غنّوا، فغنّتهم، فكلهم أقرّوا لها وفضّلوها.
وكانت جميلة قد آلت أنها لا تغنّى أحدا إلا فى منزلها. فكان عبد الله بن جعفر
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ولم يأخذن شيئا مما سمعننى» .
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأصل» .
[3] فى الأغانى: «بجودة تأليفك» .(5/42)
يأتيها فى مجلسها فيجلس عندها وتغنّيه. فأرادت أن تكفّر عن يمينها وتأتيه فتغنّيه فى بيته؛ فقال: لا أكلّفك ذلك.
وروى الأصفهانىّ أنّ ابن أبى عتيق وابن أبى ربيعة والأحوص بن محمد الأنصارىّ أتوا منزل جميلة واستأذنوا عليها فأذنت لهم. فلما جلسوا سألت عن عمر، فقال لها: إنى قصدتك من مكة للسلام عليك؛ فقالت: أهل الفضل أنت.
قال: وقد أحببت أن تفرّغى لنا نفسك اليوم وتخلى مجلسك؛ قالت: أفعل. فقال لها الأحوص: أحبّ ألّا تغنّى إلا بما نسألك؛ فقالت: ليس المجلس لك، القوم شركاؤك؛ فقال: أجل. قال عمر: فإنى أرى أن نجعل الخيار إليها. قال ابن أبى عتيق: وفّقك الله. فدعت بعود فغنّت:
تمشى الهوينى إذا مشت فضلا ... مشى النّزيف [1] المخمور فى الصّعد
تظلّ من بعد بيت جارتها ... واضعة كفّها على الكبد
يا من لقلب متيّم سدم ... عان رهين مكلّم كمد
أزجره وهو غير منزجر ... عنها بطرف مكحّل السّهد
قال راوى هذه الحكاية: فلقد سمعت للبيت زلزلة وللدار همهمة. فقال عمر:
لله درّك يا جميلة! ماذا أعطيت! أنت أوّل الغناء وآخره! ثم سكتت ساعة وأخذت العود فغنّت، فطرب القوم وصفّقوا بأيديهم وفحصوا بأرجلهم وحرّكوا رءوسهم، وقالوا: نحن فداؤك من المكروه، ما أحسن ما غنيّت وأجمل ما قلت!. وأحضر الغداء فتغدّى القوم بأنواع من الأطعمة ومن الفواكه، ثم دعت بأنواع الأشربة؛ فقال عمر: لا أشرب، وقال ابن أبى عتيق مثل ذلك؛ فقال الأحوص: لكنّى
__________
[1] النزيف: السكران.(5/43)
أشرب، وما جزاء جميلة أن يمتنع من شرابها! فقال عمر: ليس ذاك كما ظننت.
فقالت جميلة: من شاء أن يحملنى بنفسه ويخلط روحه بروحى فعل، ومن أبى ذلك عذرناه، ولم يمنعه ذلك عندنا ما يريد من قضاء حوائجه والأنس بمحادثته. قال ابن أبى عتيق: ما يحسن بنا إلا مساعدتك. فقال عمر: إنى لا أكون أخسّكم، افعلوا ما شئتم تجدونى سامعا مطيعا. فشرب القوم أجمع؛ فغنّت بشعر ابن أبى ربيعة:
ولقد قالت لجارات لها ... كالمها يلعبن فى حجرتها
خذن عنى الظلّ لا يتبعنى ... ومضت تسعى إلى قبّتها
لم تعلّق رجلا فيما مضى ... طفلة غيداء فى حلّتها
لم يطش قطّ لها سهم ومن ... ترمه لا ينج من رميتها
فصاح عمر ثم شقّ جيب قميصه إلى أسفله، ثم ثاب اليه عقله فندم واعتذر وقال: لم أملك من نفسى شيئا. وقال القوم: قد أصابنا الذى أصابك وأغمى علينا غير أننا قد فارقناك فى تخريق الثّياب. فدعت جميلة بثياب فجعلتها على عمر فقبلها ولبسها، وانصرف القوم إلى منازلهم. وكان عمر نازلا على ابن أبى عتيق، فوجّه إلى جميلة بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب كانت معه فقبلتها جميلة، وانصرف عمر إلى مكة جذلان مسرورا.
وروى أبو الفرج بأسانيد رفعها إلى يونس الكاتب والزبير بن بكّار عن عمه مصعب قالا: حجّت جميلة فخرج معها من الرجال المغنّين والنساء والأشراف وغيرهم جماعة ذكرهم أبو الفرج، منهم من المغنّين هنب وطويس والدّلال ومعبد ومالك بن أبى السّمح وابن عائشة ونافع الخير ونافع بن طنبورة وغير هؤلاء ممن ذكرهم؛ ومن النساء المغنّيات جماعة ذكرهنّ: منهن الفرهة وعزّة الميلاء وحبابة وسلّامة وخليدة وعقيلة والشّماسيّة وفرعة ونبيلة ولذّة العيش وسعيدة والزّرقاء؛ ومن غير المغنّين من(5/44)
الأشراف ابن أبى عتيق والأحوص وكثيّر عزّة ونصيب؛ وجماعة من الأشراف الرجال والنساء. وحج معها من القيان مشيّعات لها ومعظّمات لقدرها خمسون قينة وجّه بهنّ مواليهنّ معها وأعطوهنّ النفقات وحملوهنّ على الإبل فى الهوادج والقباب وغير ذلك؛ فأبت جميلة أن تنفق واحدة منهنّ درهما فما فوقه حتى يرجعن. قال: وتخاير من خزج معها فى اتخاذ أنواع اللّباس العجيب والهوادج والقباب. قال: ولما قاربوا مكة تلقّاهم سعيد بن مسجح وابن سريج والغريض وابن محرز والهذليّون وجماعة من المغنّين من أهل مكة وفتيان كثير [1] ؛ ومن غير المغنّين عمر بن أبى ربيعة والحارث ابن خالد المخزومىّ والعرجىّ وجماعة من الأشراف. فدخلت جميلة مكة وما بالحجاز مغنّ حاذق ولا مغنيّة إلا وهو معها وجماعة من الأشراف [ممن سمّينا وغيرهم من الرجال والنساء، وخرج أبناء أهل مكة من [2]] الرجال والنساء ينظرون إلى جمعها وحسن هيئتهم. فلما قضت حجّها سألها المكيّون أن تجعل لهم مجلسا؛ فقالت: للغناء أم للحديث؟ فقالوا: لهما جميعا. قالت: ما كنت لأخلط جدّا بهزل، وأبت أن تجلس للغناء. فقال عمر بن أبى ربيعة: أقسمت على من كان فى قلبه حبّ لسماع غنائها إلا خرج معها إلى المدينة، فإنى خارج معها. فخرجت فى جمع كثير من الأشراف وغيرهم أكثر من جمعها بالمدينة. فلما قدمت المدينة تلقّاها الناس والأشراف من الرجال والنساء، فدخلت بأحسن مما خرجت منها، وخرج الرجال والنساء فوقفوا على أبواب دورهم ينظرون إلى جمعها وإلى القادمين معها. فلما دخلت إلى منزلها وتفرّق الناس إلى منازلهم ونزل أهل مكة على أقاربهم وإخوانهم، أتاها الناس مسلّمين، وما استنكف من ذلك صغير ولا كبير. فلما مضى لمقدمها عشرة أيام جلست للغناء، وقالت لعمر بن أبى ربيعة: إنى جالسة لك ولأصحابك، فإذا شئت فعد الناس.
__________
[1] فى الأغانى: «وقيان كثيرة لم يسمين» .
[2] زيادة عن «الأغانى» .(5/45)
فغصّت الدار بالأشراف من الرجال والنساء، وابتدأت جميلة فغنّت بشعر لعمر بن أبى ربيعة:
هيهات من أمة الرّحمن منزلنا [1] ... إذا حللنا بسيف البحر من عدن
واحتلّ أهلك أجيادا فليس لنا [2] ... إلا التّذكّر أو حظّ [3] من الحزن
لو أنها أبصرت بالجزع عبرته ... وقد تغرّد قمرىّ على فنن
إذا رأت غير ما ظنّت بصاحبها ... وأيقنت أنّ لحجا ليس من وطنى
ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها ... وموقفى وكلانا ثمّ ذو شجن
وقولها للثّريّا وهى باكية ... والدمع منها على الخدّين ذو سنن
بالله قولى له من غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث فى اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت [4] بها ... فما أصبت بترك الحج من ثمن
فكلهم استحسن الغناء، وضجّ القوم لحسن ما سمعوا، وبكى عمر حتى جرت دموعه على ثيابه ولحيته. ثم أقبلت على ابن سريج فقالت: هات، فغنّى صوته بشعر لعمر:
أليست بالّتى قالت ... لمولاة لها ظهرا
أشيرى بالسّلام له ... إذا ما نحونا نظرا
وقولى فى ملاطفة ... لزينب نولّى عمرا
وهذا سحرك النّسوا ... ن قد خبّرننى الخبرا
__________
[1] كذا فى الأغانى وديوان عمر بن أبى ربيعة. وفى الأصل: «منزلها» .
[2] كذا فى الأغانى والديوان. وفى الأصل: «فليس لهم» .
[3] كذا فى الأغانى والديوان.
وفى الأصل: «همّ» .
[4] فى الأصل:
إن كنت حاولت دينا أو نعمت به(5/46)
ثم قالت لسعيد بن مسجح: هات يا أبا عثمان، فاندفع فغنّى. ثم قالت: يا معبد هات، فاندفع فغنّى فاستحسنته. ثم قالت: هات يابن محرز، فإنى لم أؤخّرك لخساسة بك ولا جهلا بالذى يجب فى [1] الصناعة، ولكنى رأيتك تحبّ من الأمور كلّها أوسطها وأعدلها. فجعلتك حيث تحب واسطة بين المكيّين والمدنيّين، فغنّى. ثم قالت للغريض: هات يا مولى العبلات؛ فغنّى بشعر عمرو بن شأس الأبيات، وفى آخرها:
أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمرى بالهوان فقد ظلم
فقالت: أحسن عمرو بن شأس ولم تحسن، إذ أفسدت غناءك بالتعريض، وو الله ما وضعناك إلا موضعك ولا نقصناك من حظّك، فبماذا أهنّاك! ثم أقبلت على الجماعة فقالت: يا هؤلاء اصدقوه وعرّفوه نفسه ليقنع [2] بمكانه. فأقبل القوم عليه وقالوا: يا أبا زيد، قد أخطأت إن كنت عرّضت. فقال: قد كان ذلك، ولست بعائد؛ وقام إلى جميلة فقبّل طرف ثوبها واعتذر، فقبلت عذره وقالت: لا تعد، وأقبلت على ابن عائشة فقالت: يا أبا جعفر، هات، فغنّى، فقالت: حسن ما قلت.
ثم أقبلت على نافع وبديح فقالت: أحبّ أن تغنيّا جميعا بصوت ولحن واحد، فغنيا. ثم أقبلت على الهذلّيين الثلاثة فقالت: غنّوا صوتا واحدا، فاندفعوا فغنّوا.
ثم أقبلت على نافع بن طنبورة فقالت: هات يا نقش الغضارة ويا حسن اللسان؛ فاندفع فغنّى، فقالت: حسن والله. ثم قالت: يا مالك هات، فإنى لم أؤخّرك لأنك فى طبقة آخرهم، ولكن أردت أن أختم بك، يومنا تبرّكا بك، وكى يكون أوّل مجلسنا كآخره ووسطه كطرفه؛ فإنك عندى ومعبدا فى طريقة واحدة ومذهب واحد،
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «من الصناعة» .
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ليقع» .(5/47)
لا يدفع ذلك إلا ظالم ولا ينكره إلا عاضل للحق، والحقّ أقول، فمن شاء أن ينكر؛ فسكت القوم كلهم إقرارا بما قالت. فاندفع فغنّى:
عدوّ لمن عادت وسلم لسلمها ... ومن قرّبت سلمى أحبّ وقرّبا
هبينى امرأ إمّا بريئا ظلمته ... وإمّا مسيئا تاب بعد وأعتبا
أقول التماس العذر لمّا ظلمتنى ... وحمّلتنى ذنبا وما كنت مذنبا
ليهنك إشمات العدوّ بهجرنا ... وقطعك حبل الودّ حتى تقضّبا
فقالت جميلة: يا مالك، ليت صوتك قد دام لنا ودمنا له! وقطعت المجلس، وانصرف عامّة الناس وبقى خواصّهم. قال: ولما كان فى اليوم الثانى حضر القوم جميعا. فقالت لطويس: هات يا أبا عبد النّعيم، فغنّى:
قد طال ليلى وعادنى طربى ... من حبّ خود كريمة الحسب
غرّاء مثل الهلال آنسة ... أو مثل تمثال صورة الذّهب
صادت فؤادى بجيد مغزلة ... ترعى رياضا ملتفّة العشب
فقالت جميلة: حسن والله يا أبا عبد النعيم. ثم قالت للدّلال: هات يا أبا يزيد، فغنّى، فاستحسنت غناءه. ثم قالت لهنب: إنا نجلّك اليوم لكبر سنّك ورقّة عظمك؛ فقال: أجل. ثم قالت لبرد الفؤاد ونومة الضّحى: هاتيا جميعا لحنا واحدا، فغنيّا، فقالت: أحسنتما. ثم قالت لفند وزجة [1] وهبة الله: هاتوا جميعا صوتا واحدا، إنكم متفقون فى الأصوات؛ فاندفعوا فغنّوا. ثم غنّت جميلة بشعر الأعشى:
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا ... واحتلّت الغور فالجدّين فالفرعا
واستنكرتنى وما كان الذى نكرت ... من الحوادث إلا الشّيب والصّلعا
__________
[1] فى الأغانى: «رحمة» .(5/48)
تقول بنتى وقد قرّبت مرتحلا ... يا ربّ جنّب أبى الأوصاب والوجعا
وكان شىء إلى شىء فغيّره ... دهر ملحّ على تفريق ما جمعا
قال: فلم يسمع شىء أحسن من ابتدائها بالأمس وختمها فى اليوم؛ وقطعت المجلس وانصرف قوم وأقام آخرون. فلما كان فى اليوم الثالث اجتمع الناس فضربت ستارة وأجلست الجوارى، فضربن كلّهنّ، وضربت هى فضربت على خمسين وترا فزلزلت الدار. ثم غنّت على عودها وهنّ يضربن على ضربها:
فإن خفيت كانت لعينك قرّة ... وإن تبد يوما لم يعمّمك عارها
من الخفرات البيض لم تر غلظة ... وفى الحسب الضّخم الرفيع نجارها
فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها
بأطيب من فيها إذا جئت موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرّطيب نارها
فدمعت أعين كثير منهم حتى بلّوا ثيابهم وتنفّسوا الصّعداء، وقالوا: بأنفسنا أنت يا جميلة! ثم قالت للجوارى: اكففن فكففن؛ وقالت: يا عزّ غنّى، فغنّت بشعر لعمر:
تذكّرت هندا وأعصارها ... ولم تقض نفسك أوطارها
تذكّرت النفس ما قد مضى ... وهاجت على العين عوّارها
لتمنح رامة منّا الهوى ... وترعى لرامة أسرارها
إذا لم نزرها حذار العدا ... حسدنا على الزّور زوّارها
فقالت جميلة: يا عزّ، إنك لباقية على الدهر، فهنيئا لك حسن هذا الصوت مع جودة هذا الغناء. ثم قالت لحبابة وسلّامة: هاتيا لحنا واحدا، فغنّتا فاستحسن غناؤهما. ثم أقبلت على خليدة فقالت: بنفسى أنت! غنّى فغنّت، فاستحسن منها(5/49)
ما غنّت. ثم قالت لعقيلة والشّمّاسيّة: هاتيا، فغنّتا. ثم قالت لفرعة ونبيلة ونديمة ولذة العيش هاتين، فغنّين، فقالت: أحسنتنّ. وقالت لسعيدة والزّرقاء: غنيا، فغنّتا. ثم قالت للجماعة فغنّوا؛ وانقضى المجلس وعاد كل إنسان إلى وطنه. فما رئى مجلس ولا جمع أحسن من هذه الأيام الثلاثة. وقد ذكر أبو الفرج ما غنّى به كل واحد منهم فأوردنا بعضه وتركنا بعضه اختصارا. وأخبار جميلة كثيرة، قد ذكر منها أبو الفرج الأصفهانىّ جملة تدلّ على أنها كانت مبجّلة عند الأشراف معظّمة عند المغنّين؛ يأخذون عنها ويأتمرون بأمرها، ويسعون إليها، وينطقون إذا استنطقتهم، ويكفّون إذا استكفّتهم؛ وفيما قدّمناه دلالة على ذلك والله أعلم.
ذكر أخبار عزّة الميلاء
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت عزّة مولاة للأنصار، ومسكنها المدينة، وهى أقدم من غنّى الغناء الموقع من نساء الحجاز، وماتت قبل جميلة. قال: وقد أخذ عنها معبد ومالك بن أبى السّمح وابن محرز وغيرهم من المكيّين والمدنيّين. وكانت من أجمل النساء وجها وأحسنهنّ جسما. وسمّيت الميلاء لتمايلها فى مشيتها.
وقال معبد: كانت من أحسن النساء ضربا [1] بعود، مطبوعة على الغناء، لا يعييها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغنّى أغانى القيان القدماء [2] مثل شيرين وزرياب وخولة والرّباب وسلمى ورائقة [3] ؛ وكانت رائقة أستاذتها. فلما قدم نشيط وسائب؛
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «صوتا بعود» .
[2] فى الأغانى: «من القدائم» .
[3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ورائعة» بالعين المهملة.(5/50)
خاثر المدينة غنيّا أغانى بالفارسيّة [1] ، فأخذت عزّة عنهما نغما وألّفت [2] عليها ألحانا عجيبة؛ فهى أوّل من فتن أهل المدينة بالغناء وحرّض رجالهم ونساءهم عليه.
وقال الزّبيرىّ. وجدت مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزّة قالوا: لله درّها! ما كان أحسن غناءها، وأطلّ صوتها، وأندى حلقها، وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهى، وأجمل وجهها، وأظرف لسانها، وأقرب مجلسها، وأكرم خلقها، وأسخى نفسها، وأحسن مساعدتها!. وكانت جميلة تقول مثل ذلك فيها.
وكان ابن سريح فى حداثة سنّه يأتى المدينة فيأخذ عنها ويتعلّم منها؛ وكان بها معجبا، وكان إذا سئل: من أحسن الناس غناء؟ قال: مولاة الأنصار المتفضّلة على كل من غنّى وضرب بالمعازف والعيدان من الرجال والنساء.
وكان ابن محرز يقيم بمكة ثلاثة أشهر ثم يأتى المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزّة، وكان يأخذ عنها. وقد تقدّم ذلك فى أخباره.
وكان طويس أكثر ما يأوى إلى منزل عزّة، وكان فى جوارها، وكان إذا ذكرها يقول: هى سيّدة من غنّى من النساء، مع جمال بارع، وخلق فاضل، وإسلام لا يشوبه دنس؛ تأمر بالخير وهى من أهله، وتنهى عن الشرّ وهى تجانبه، فناهيك بها! ما كان أنبلها وأنبل مجلسها!. ثم قال: كانت إذا جلست جلوسا عامّا فكأنّ الطير على رءوس أهل مجلسها، فمن تكلّم أو تحرّك نقر رأسه.
وقال صالح بن حسّان الأنصارىّ: كانت عزّة مولاة لنا، وكانت عفيفة جميلة.
وكان عبد الله بن جعفر وابن أبى عتيق وعمر بن عبد الله بن أبى ربيعة يغشونها
__________
[1] كذا بالأغانى. وفى الأصل: «أغانى الفارسية» .
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وألقت عليهما» الخ.(5/51)
فى منزلها فتغنّيهم. وغنّت عمر بن أبى ربيعة لحنا لها فى شىء من شعره، فشقّ ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها. فلما أفاق قال له القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطّاب؛ قال: إنى سمعت والله ما لم أملك معه نفسى ولا عقلى.
وكان حسّان بن ثابت معجبا بها، وكان يقدّمها على سائر قيان المدينة. وقد ذكرنا خبرها مع النعمان بن بشير وحسّان بن ثابت، وأن كلّ واحد منهما سمع غناءها، فبكى حسّان بن ثابت واستعاد النعمان بن بشير صوتها مرارا؛ وتقدّم أيضا من أخبارها فى خبر عائشة بنت طلحة وأخبار جميلة ما يستغنى عن إعادته فى هذا الموضع. فلنذكر من سواها.
ذكر أخبار سلّامة القسّ
كانت سلّامة القسّ هذه مولّدة من مولّدات المدينة، وبها نشأت، وأخذت الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبى السّمح ومن دونهم، فمهرت فيه.
وإنما سمّيت سلّامة القسّ لأنّ رجلا يعرف بعبد الرحمن بن أبى عمّار بن جشم بن معاوية- وكان منزله بمكة، وهو من قرّاء أهل المدينة، كان يلقّب بالقسّ لعبادته- شغف بها وشهر بحبها. وكان سبب ذلك أنه سمع غناءها على غير تعمّد منه فبلغ منه كلّ مبلغ. فرآه مولاها فقال: هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى. فقال له مولاها:
أنا أقعدها حيث تسمع غناءها ولا تراها. فلم يزل به حتى دخل، فأسمعه غناءها فأعجبه. فقال: هل لك أن أخرجها إليك؟ قال لا. فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه، فغنّت فشغف بها وشغفت به وعرف ذلك أهل مكة. فقالت له يوما: أنا والله أحبّك. فقال: وأنا والله الذى لا إله إلا هو أحبّك. فقالت:
والله أشتهى أن أعانقك وأقبّلك. فقال: والله وأنا أشتهى مثل ذلك. قالت:(5/52)
وأشتهى والله أن أضاجعك وأضع بطنى على بطنك وصدرى على صدرك قال:
وأنا والله كذلك. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ والله إنّ المكان لخال. قال:
يمنعنى منه قول الله عزّ وجل: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
، فأنا أكره أن تحول مودّتى إياك عداوة يوم القيامة. ثم قام وانصرف وعاد إلى ما كان عليه من النّسك، ولم يعد إليها بعد ذلك. وكان يشبّه بعطاء بن أبى رباج.
وله فيها أشعار كثيرة، منها قوله:
إنّ التى طرقتك بين ركائب ... تمشى بمزهرها وأنت حرام
لتصيد قلبك أو جزاء مودّة ... إنّ الرّفيق له عليك ذمام
باتت تعلّلنا وتحسب أننا ... فى ذاك أيقاظ ونحن نيام
حتى إذا سطع الضياء لناظر ... فإذا وذلك [1] بيننا أحلام
قد كنت أعذل فى السّفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتى به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضّلالة والهدى أقسام
وقوله أيضا فيها:
ألم ترها- لا يبعد الله دارها- ... إذا رجّعت فى صوتها كيف تصنع!
تمدّ نظام القول ثم تردّه ... إلى صلصل من صوتها يترجّع
وقوله فيها:
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر ... وهل أنت عن سلّامة اليوم مقصر
ألا ليت أنّى حيث صارت بى النّوى ... جليس لسلمى كلّما عجّ مزهر
__________
[1] كذا فى الأصل. ولعلها: «فاذا بذلك» .(5/53)
وله من قصيدة طويلة أوّلها:
سلّام هل لى منكم ناصر ... أم هل لقلبى عنكم زاجر
قد سمع الناس بوجدى بكم ... فمنهم اللائم والعاذر
فى أشعار كثيرة يطول الشرح بذكرها. ومدحها الأحوص أيضا بشعر كثير.
وقال فيها أيضا ابن قيس الرّقيّات.
وروى أبو الفرج الأصفهانىّ قال: كانت سلّامة وريّا أختين، وكانتا من أجمل النساء وأحسنهنّ غناء؛ فاجتمع الأحوص وابن قيس الرقيّات عندهما. فقال لهما ابن قيس الرقيّات: إنى أريد أن أمدحكما بأبيات فأصدق فيها و [لا [1]] أكذب.
فإن أنتما غنيّتمانى بذلك وإلّا هجوتكما ولم أقربكما أبدا. قالتا: فما قلت؟ قال: قلت:
لقد فتنت ريّا وسلّامة القسّا ... فلم يتركا للقسّ عقلا ولا نفسا
فتاتان أمّا منهما فشبيهة ال ... هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا
تكنّان أبشارا رقاقا وأوجها ... عتاقا وأطرافا مخضّبة ملسا
فغنّته سلّامة فاستحسنه. وقال ابن قيس الرقيّات للأحوص: يا أخا الأنصار، ما قلت؟ قال قلت:
سلّام هل لمتيّم تنويل ... أم قد صرمت وغال ودّك غول
لا تصرمى عنّى ولاءك إنه ... حسن لدىّ وإن بخلت جميل
أزعمت أنّ مودّتى وصبابتى ... كذب وأنّ زيارتى تقليل [2]
فغنّت الأبيات. فقال ابن قيس الرقيّات: أحسنت والله! ما أظنك إلا عاشقة لهذا الجلف. فقال له الأحوص: وما الذى أخرجك إلى هذا؟ قال: حسن غنائها
__________
[1] التكملة عن الأغانى.
[2] فى الأغانى: «تعليل» .(5/54)
بشعرك، فلولا أنّ لك فى قلبها محبّة مفرطة ما جاء هكذا [1] حسنا على هذه البديهة.
فقال الأحوص: على قدر حسن شعرى على شعرك هكذا حسن الغناء به. وما هذا [منك] [2] إلا حسد، وليس ذلك إلا ما حسدت عليه. فقالت سلّامة: لولا أنّ الدخول بينكما يوجب بغضة لحكمت بينكما حكومة لا يردّها أحد. قال الأحوص: فأنت [من ذلك [2]] آمنة. قال ابن قيس الرقيّات: كلّا! قد أمنت أن تكون الحكومة عليك، فلذلك سبقت بالأمان لها. فتفرّقا على ذلك. ثم مشى ابن قيس الرقيّات إلى الأحوص فاعتذر إليه فقبل عذره. ومن شعر الأحوص فيها:
سلّام إنّك قد ملكت فأسجحى ... قد يملك الحرّ الكريم فيسجح
منّى على عان أطلت عناءه ... فى الغلّ عندك والعناة تسرّح
إنّى لأنصحكم وأعلم أنه ... سيّان عندك من يغشّ وينصح
وإذا شكوت إلى سلامة حبّها ... قالت أجدّ منك ذا أم تمزح
وحكى أبو الفرج قال: لمّا قدم عثمان بن حيّان المرّى المدينة واليا عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنك قد وليت المدينة على كثرة من الفساد؛ فإن كنت تريد أن تصلح فطهّرها من الغناء والرّثاء [3] . فصاح فى ذلك وأجّل أهله ثلاثا يخرجون فيها من المدينة، وكان ابن أبى عتيق غائبا، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح. فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم فقال: لا أدخل منزلى حتى أدخل على سلّامة القسّ.
فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلى حتى جئتكم لأسلّم عليكم. فقالوا: ما أغفلك عن أمرنا! وأخبروه الخبر. فقال: اصبروا علىّ الليلة. فقالوا: نخاف ألّا يمكنك شىء.
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل،: «ما جاء هذا ... » .
[2] زيادة عن الأغانى.
[3] فى الأغانى: «والزنا» .(5/55)
قال: إن خفتم شيئا فاخرجوا فى السحر. ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيّان فأذن له، فسلّم عليه وذكر غيبته وأنه جاء ليقضى حقّه، ثم جزاه خيرا على ما فعل من إخراج أهل الغناء والرّثاء، وقال: أرجو ألّا تكون [عملت [1]] عملا هو خير لك من ذلك. قال عثمان: قد فعلت ذلك وأشار علىّ به أصحابك. فقال: قد أصبت، ولكن ما تقول فى امرأة كانت هذه صناعتها وكانت تكره على ذلك، ثم تركته وأقبلت على الصلاة والصيام والخير، وأنا رسولها إليك تقول: أتوجه إليك وأعوذ بك أن تخرجنى من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده؛ قال قال: فإنى أدعها لك ولكلامك. فقال ابن أبى عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع من كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها ينبغى أن يترك تركتها؛ قال نعم فجاءه بها. وقال:
احملى معك سبحة وتخشّعى ففعلت. فلما دخلت على عثمان سلّمت عليه وجلست وحدّثته، فإذا هى من أعلم الناس بأمور الناس، فأعجب بها؛ وحدّثته عن آبائه وأمورهم ففكه لذلك فقال ابن أبى عتيق: اقرئى للأمير. فقرأت؛ فقال لها: احدى ففعلت.
وكثر عجبه منها. فقال: كيف لو سمعتها فى صناعتها! فلم يزل ينزله شيئا فشيئا حتى أمرها بالغناء فغنّته. فقام عثمان من مجلسه وقعد بين يديها، ثم قال: لا والله ما مثل هذه تخرج. فقال ابن أبى عتيق: لا يدعك الناس تقرّ سلّامة وتخرج غيرها. قال:
فدعوهم جميعا. فتركهم جميعا وأصبح الناس يتحدّثون بذلك.
ثم اشترى يزيد بن عبد الملك سلّامة، وكانت لمصعب بن سهيل الزّهرىّ، وقيل: لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف. وكانت حبابة جارية آل لاحق؛ فاشتراهما جميعا؛ فاشترى سلّامة بعشرين ألف درهم، وتسلّمها رسل يزيد فخرجوا بها وشيعّها
__________
[1] زيادة عن الأغانى.(5/56)
الناس. فلما نزلت سقاية سليمان بن عبد الملك قالت للرّسل: إنّ لى قوما كانوا يغشوننى ويسلّمون علىّ، ولا بدّ لى من وداعهم والسلام عليهم؛ فأذن للناس عليها، فأتوا حتى ملؤا رحبة القصر والفناء؛ ووقفت هى بينهم بارزة ومعها العود فغنّت:
فارقونى وقد علمت يقينا ... ما لمن ذاق ميتة من إياب
إنّ أهل الحصاب قد تركونى ... موزعا مولعا بأهل الحصاب
أهل بيت تتايعوا [1] للمنايا ... ما على الدّهر بعدهم من عتاب
كم بذاك الحجون من حىّ صدق ... من كهول أعفّة وشباب
سكنوا الجزع جزع بيت أبى مو ... سى إلى النخل من صفىّ السّباب
فلى الويل بعدهم وعليهم ... صرت فردا وملّنى أصحابى
قال: فلم تزل تردّد هذا الصوت حتى راحت، وانتحب الناس بالبكاء عند ركوبها؛ فما شئت أن ترى باكيا نبيلا إلا رأيته.
قالوا: وكانت حبابة عند يزيد متقدّمة على سلّامة، وكانت حبابة تنظر الى سلّامة بتلك العين الجليلة المتقدّمة وتعرف فضلها عليها؛ فلما رأت أثرة يزيد لها ومحبّته إيّاها استخفّت بها. فقالت لها سلّامة: أى أخيّة، نسيت فضلى عليك! ويلك! أين تأديب الغناء! أين حق التعليم! أنسيت قول جميلة لك وهى تطارحنا:
خذى إحكام ما أطارحك من أختك سلّامة، فلا تزالين بخير ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفا!. فقالت: صدقت والله لا عدت لشىء تكرهينه أبدا. وماتت حبابة وعاشت سلّامة بعدها دهرا.
__________
[1] كذا فى ديوانه والأغانى ج 1 ص 321 طبع دار الكتب المصرية. وفى الأصول: «تتابعوا» بالباء الموحدة.(5/57)
ولما مات يزيد أحضرها ابنه الوليد وأمرها بالغناء، فتنغصّت من ذلك وبكت، ثم غنّته. فقال: رحم الله أبى وأطال عمرى وأمتعنى بحسن غنائك!. يا سلّامة، بم كان أبى يقدّم حبابة عليك؟ قالت: لا أدرى والله. قال: لكننى أدرى ذلك، بما قسم الله عزّ وجلّ لها. قالت: يا سيّدى أجل. وهى إحدى من اتّهم بهنّ الوليد من جوارى أبيه.
ذكر أخبار حبابة
كانت حبابة جارية مولّدة من مولّدات المدينة لرجل من أهلها يعرف بابن دبابة، [1] وقيل: بل كانت لآل لا حق المكيّين، وقيل: كانت لرجل يعرف بابن مينا.
وكانت تسمّى العالية [2] ، فسماها يزيد بن عبد الملك لما اشتراها حبابة. وكانت حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء طيّبة الصوت ضاربة بالعود. أخذت الغناء عن ابن سريج وابن محرز ومالك بن أبى السّمح ومعبد وعن جميلة وعزّة الميلاء.
وكان يزيد بن عبد الملك يقول: ما تقرّ عينى بما [3] أوتيت من الخلافة حتى أشترى سلّامة جارية مصعب بن سليم وحبابة جارية ابن لاحق المكيّة. فأرسل فاشتريتا له. فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قال الأوّل:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وكان يزيد بن عبد الملك فى خلافة أخيه سليمان قد قدم المدينة فتزوّج سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان على عشرين ألف دينار، وربيحة بنت محمد بن على ابن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب على مثل ذلك، واشترى العالية [2] بأربعة آلاف
__________
[1] فى الأغانى: «يعرف بابن رمانة وقيل: ابن مينا وهو خرجها وأدّبها» .
[2] كذا فى الأغانى طبع بولاق والطبرى طبع ألمانيا. وفى الأصل: «الغالية» بالغين المعجمة.
[3] كذا فى الأغانى، وفى الأصل: «لم يقر عينى ما أوتيت الخ» .(5/58)
دينار. فبلغ ذلك سليمان فقال: لأحجرنّ عليه. فبلغ يزيد ذلك فاستقال مولى حبابة؛ ثم اشتراها بعد ذلك رجل من أهل إفريقية. فلما ولى يزيد اشترتها سعدة امرأته وعلمت أنه لا بدّ طالبها ومشتريها. فلما حصلت عندها قالت له: هل بقى عليك شىء من الدنيا لم تنله؟ قال: نعم، العالية. قالت: أو رأيتها؟ قال نعم. قالت:
أفتعرفها؟ قال نعم. فرفعت الستر فرآها، فقالت: هذه هى؟ قال نعم؛ قالت:
هى لك، وخرجت عنهما. فسمّاها حبابة وعظم قدر سعدة عنده. ويقال: إنها أخذت عليها قبل أن تهبها له أن توطّئ لابنها عنده فى ولاية العهد.
قال: وارتفع قدر حبابة عند يزيد وتمكّن حبّها فى قلبه تمكنا عظيما. وكان أوّل ذلك أنه أقبل يوما الى البيت الذى هى فيه فقام من وراء الستر فسمعها تترنّم وتغنّى:
كان لى يا يزيد حبّك حينا ... كاد يقضى علىّ لمّا التقينا
فرفع الستر فوجدها مضطجعة مقبلة على الجدار، فعلم أنها لم تعلم به ولم يكن ذلك لمكانه؛ فألقى نفسه عليها وحرّكت منه.
قال: وأراد يزيد بن عبد الملك أن يتشبّه بعمر بن عبد العزيز، وقال: بماذا صار عمر أرجى لربه منى!. وقيل: بل لامه مسلمة بن عبد الملك على الإلحاح على الغناء والشرب، وقال له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الإماء عن النظر فى الأمور، والوفود ببابك وأصحاب الظّلامات يصيحون وأنت غافل! قال: صدقت والله، وهمّ أن يترك الشرب، ولم يدخل على حبابة أياما، فشقّ ذلك عليها فأرسلت الى الأحوص أن يقول أبياتا فى ذلك، فقال:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلّدا
بكيت الصّبا جهدى فمن شاء لامنى ... ومن شاء آسى فى البكاء وأسعدا(5/59)
وإنّى وإن فنّدت فى طلب الصّبا ... لأعلم أنّى لست فى الحبّ أوحدا
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى ... وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا
قال: فلما كان فى يوم الجمعة تعرّضت له حبابة عند خروجه الى الصلاة، فلقيته والعود فى يدها، فغنّت البيت الأوّل، فغطى وجهه وقال: مه لا تفعلى. ثم غنّت «وما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى» فعدل إليها وقال: صدقت، قبّح الله من لامنى فيك! يا غلام، مر مسلمة فليصلّ بالناس. وأقام معها يشرب وهى تغنيّه وعاد الى حاله، وقال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: الأحوص. فاستدعاه واستنشده الشعر فأنشده الأبيات. ثم أنشده قصيدته التى أوّلها:
يا موقد النّار بالعلياء من إضم ... أوقد فقد هجت شوقا غير منصرم
وهى قصيدة طويلة، فقال له يزيد: ارفع حوائجك؛ فكتب إليه فى نحو أربعين ألف درهم من دين وغيره فأمر له بها. وقد قيل فى أمر هذه الأبيات:
إن حبابة لمّا بعثت الى الأحوص فى عمل الشعر قالت له: إن رددت أمير المؤمنين عن رأيه فلك ألف دينار، فدخل الأحوص عليه واستأذنه فى الإنشاد؛ فقال:
ليس هذا وقتك. فلم يزل به حتى أذن له فأنشده الأبيات. فلما سمعها وثب حتى دخل على حبابة وهو يتمثّل:
وما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى ... وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا
قالت: ما ذاك [1] يا أمير المؤمنين؟ فقال: أبيات أنشدنيها الأحوص، فسلي ما شئت. قالت: ألف دينار تعطيها الأحوص؛ فأعطاه ألف دينار.
__________
[1] فى الأغانى: «فقالت ما ردّك يا أمير المؤمنين» .(5/60)
قال: وقال يزيد يوما لسلّامة وحبابة: أيّكما غنّتنى ما فى نفسى فلها حكمها.
فغنّت سلّامة فلم تصب ما فى نفسه؛ وغنّت حبابة بشعر ابن قيس الرّقيّات:
حلق من بنى كنانة حولى ... بفلسطين يسرعون الرّكوبا
جزعت [1] أن رأت مشيبى عرسى ... لا تلومى ذوائبى أن تشيبا
فأصابت ما فى نفسه، فقال: احتكمى. قالت: تهب لى سلّامة ومالها. قال:
اطلبى غيرها؛ فأبت غيرها؛ فقال: أنت أولى بها ومالها، فلقيت سلّامة من ذلك أمرا عظيما. فقالت حبابة: لا ترين إلّا خيرا. فجاءها يزيد فسألها أن تبيعه إيّاها بحكمها. فقالت: أشهدك الآن أنها حرّة، فاخطبها الآن أزوّجك مولاتى.
قال: وغنّت حبابة يوما يزيد:
ما أحسن الجيد من مليكة والّ ... لبّات إذ زانها ترائبها
يا ليتنى ليلة- إذا هجع النا ... س ونام الكلاب- صاحبها
فى ليلة لا يرى بها أحد ... يسعى علينا إلّا كواكبها
فطرب يزيد، وقال: هل رأيت قطّ أطرب منّى؟ قالت: نعم، ابن الطيار معاوية ابن عبد الرحمن بن جعفر. فكتب يزيد الى عبد الرحمن بن الضحّاك فحمله إليه.
فلما قدم أرسلت إليه حبابة: إنما بعث إليك لكذا وكذا وأخبرته بالقصة؛ فإذا أدخلت عليه وتغنّيت فلا تظهرنّ طربا حتى أغنّى الصوت الذى غنيّته؛ فقال: سوءة على كبر السنّ! فدعاه يزيد وهو على طنفسة خزّ، ووضع لمعاوية مثلها، وجاءوا بجامين فيهما مسك، فوضع أحدهما بين يدى يزيد والآخر بين يدى معاوية. قال معاوية:
فلم أدر كيف أصنع، فقلت: أنظر كيف يصنع فأصنع مثله؛ فكان يقلّبه فتفوح
__________
[1] فى الأغانى: «هزئت» .(5/61)
ريحه وأفعل مثل ذلك. فلما جىء بحبابة وغنّت، فلما غنّت ذلك الصوت أخذ معاوية الوسادة فوضعها على رأسه وقام يدور ويقول: الدّخن بالنّوى يعنى اللّوبيا! وأمر له يزيد بصلات فى دفعات مبلغها ثمانية آلاف دينار.
وحكى أيضا أنها غنّت يوما يزيد فطرب، ثم قال: هل رأيت أطرب منّى؟
قالت: نعم، مولاى الذى باعنى. فغاظه ذلك، فكتب فى حمله مقيّدا. فلما وصل أمر يزيد بإدخاله عليه فأدخل يرسف فى قيوده، وأمر يزيد حبابة أن تغنّى فغنّت:
تشطّ بنا دار جيراننا ... وللدّار بعد غد أبعد
فوثب حتى ألقى نفسه على الشمعة فاحترقت لحيته، وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا! فضحك يزيد وقال: لعمرى إن هذا لأطرب [1] الناس! وأمر بحلّ قيوده ووصله بألف دينار ووصلته حبابة، وردّه الى المدينة.
وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده الى غانم الأزدىّ قال: نزل يزيد بن عبد الملك ببيت رأس بالشأم ومعه حبابة، فقال: زعموا أنه لا يصفو لأحد يوما عيشه الى الليل لا يكدّره شىء عليه، وسأجرّب ذلك؛ ثم قال لمن معه: إذا كان غد لا تخبرونى بشىء ولا تأتونى بكتاب. وخلا هو وحبابة، فأتيا بما يأكلان، فأكلت رمّانة فشرقت بحبّة منها فماتت، فأقام لا يدفنها ثلاثا حتى تغيّرت وأنتنت وهو يشمّها ويرشفها. فعاتبه على ذلك ذووه وأقر باؤه وصديقه وعابوا عليه ما يصنع، وقالوا:
قد صارت جيفة بين يديك، فأذن لهم فى غسلها ودفنها، فأخرجت فى نطع، وخرج معها لا يتكلّم حتى جلس على قبرها. فلما دفنت قال: أصبحت والله كما قال كثيّر:
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «إن مثل هذا يطرب الناس» .(5/62)
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتّجلّد
وكلّ خليل راءنى فهو قائل ... من اجلك هذا هامة اليوم أو غد
فما بقى إلا خمس عشرة ليلة ومات، فدفن الى جنبها.
وروى أيضا عن مسلمة بن عبد الملك قال: لمّا ماتت حبابة جزع عليها يزيد، فجعلت أسكّنه وأعزّيه وهو ضارب بذقنه على صدره ما يكلّمنى حتى دفنها. فلمّا بلغ إلى بابه التفت إلىّ وقال: فإن تسل عنك النفس ... البيت، ثم دخل بيته فمكث أربعين يوما ثم هلك.
قال: وروى المدائنىّ أنه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إيّاها؛ فقال:
لا بدّ أن تنبش حتى أنظر إليها، فنبشت وكشف له عن وجهها وقد تغيّرت تغيّرا قبيحا، فقيل له: يا أمير المؤمنين، اتّق الله تعالى! ألا تراها كيف صارت! فقال: ما رأيت قطّ أحسن منها اليوم، أخرجوها. فجاء مسلمة ووجوه أهله [1] ، فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها؛ وانصرف، وكمد كمدا شديدا حتى مات، فدفن إلى جانبها.
وروى عن عبد الله بن عروة بن الزّبير قال: خرجت مع أبى إلى الشأم زمن يزيد بن عبد الملك. فلما ماتت حبابة وأخرجت، لم يستطع يزيد الركوب من الجزع ولا المشى، فحمل على منبر على رقاب الرجال. فلمّا دفنت قال: لم أصلّ عليها، انبشوا عنها. فقال له مسلمة: ننشدك الله يا أمير المؤمنين، إنما هى أمة من الإماء وقد واراها الثرى. فلم يأذن للناس بعد حبابة إلا مرّة واحدة؛ قال: فو الله ما استتمّ دخول الناس حتى قال الحاجب: اخرجوا رحمكم الله. ولم ينشب يزيد أن مات كمدا.
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وركبه أهله» .(5/63)
ذكر أخبار خليدة المكّيّة
قال أبو الفرج: هى مولاة لابن شمّاس، كانت هى وعقيلة وربيحة يعرفن بالشّمّاسيّات. وقد أخذت الغناء عن ابن سريج ومالك ومعبد.
وروى أبو الفرج بسنده إلى الفضل بن الربيع أنه قال: ما رأيت ابن جامع يطرب لغناء كما يطرب لغناء خليدة المكيّة. وكانت سوداء، وفيها يقول الشاعر:
فتنت كاتب الأمير رباح ... يا لقومى خليدة المكّيّه
وغنّت هشام بن عروة يوما، فلما سمعها قال: اكتبى على صدرك (قل هو الله أحد) وبين يديك المعوّذتين لا تصيبك العين.
وقال عمر بن شبّة: بلغنى أنّ محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان أرسل إلى خليدة المكيّة أبا عون مولاه يخطبها عليه. فاستأذن فأذنت له وعليها ثياب رقاق لا تسترها، ثم وثبت فقالت: إنما ظننتك بعض سفهائنا، ولكنّنى ألبس لك ثياب مثلك ففعلت. وقال: قد أرسلنى إليك مولاى، وهو من تعلمين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن عثمان بن عفّان ومن علىّ وهو ابن عمّ أمير المؤمنين، يخطبك. قالت: قد نسبت فأبلغت، فاسمع نسبى أنا بأبى [أنت] [1] ! إن أبى بيع على غير عقد الإسلام ولا عهده، فعاش عبدا ومات فى رجله قيد وفى عنقه سلسلة على الإباق والسّرقة، وولدتنى أمى على غير رشدة وماتت وهى آبقة، فأنا من تعلم. فإن أراد صاحبك نكاحا مباحا أو زنا صراحا فهلمّ الينا فنحن له. فقال: إنه لا يدخل فى الحرام. فقالت: لا ينبغى أن يستحيى من الحلال، فأمّا نكاح السرّ فلا والله لا فعلته ولا كنت عارا على القيان. قال: فأتيت محمدا فأخبرته؛ فقال:
__________
[1] التكملة عن الأغانى.(5/64)
ويحك! أتزوّجها مغنّية وعندى بنت طلحة بن عبيد الله! لا! ولكن ارجع إليها فقل لها: تختلف إلىّ أردّد بصرى فيها لعلّى أسلو، فرجعت إليها فأبلغتها الرسالة فضحكت وقالت: أمّا هذا فنعم، لسنا نمنعه.
ذكر أخبار متيّم الهشاميّة
قال أبو الفرج: كانت متيّم مولّدة صفراء من مولّدات البصرة، وبها نشأت وتدرّبت [1] وغنّت. وأخذت عن إسحاق وأبيه قبله وعن طبقتهما من المغنّين. وكانت من تخريج بذل وتعليمها. واشتراها علىّ بن هشام بعد ذلك فازدادت أخذا ممن كان يغشاه من أكابر المغنّين. وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وأدبا. وكانت تقول:
الشعر ليس مما يستجاد ولكنه يستحسن من مثلها. وحظيت عند علىّ بن هشام حظوة شديدة، وتقدّمت جواريه جمع عنده، وهى أمّ ولده كلهم.
حكى أبو الفرج قال: كان عند علىّ بن هشام برذون أشهب قرطاسىّ فى نهاية الحسن والفراهة وكان به معجبا، وكان إسحاق بن إبراهيم يشتهيه شهوة شديدة ويعرّض لعلىّ مرارا فى طلبه فلم يسمح به. فسار إسحاق إلى علىّ يوما وقد صنعت متيم:
فلا زلن حسرى ظلّعا، لم حملنها ... إلى بلد ناء قليل الأصادق
فاحتبسه علىّ وبعث إلى متيّم يأمرها أن تجعل صوتها فى صدر غنائها ففعلت، فأطربت إسحاق إطرابا شديدا، وجعل يستعيده ويستوفيه ليزيد فى طربه [2] وهو يصغى إليه ويتفهّمه حتى صحّ له. ثم قال لعلىّ: ما فعل البرذون الأشهب؟ قال: على ما عهدت من حسنه وفراهته. قال: اختر الآن منّى خلّة من اثنتين: إمّا أن
__________
[1] فى الأغانى: «وتأدّبت» .
[2] عبارة الأغانى: «وجعل يسترده فترده وتستوفيه ليزيد فى إطرابه إسحاق وهو يصغى ... » .(5/65)
طبت لى نفسا [به [1]] وحملتنى عليه، وإمّا أن أبيت فأدّعى والله هذا الصوت [لى [1]] وقد أخذته، أفتراك تقول: إنه لمتيّم وأقول: إنه لى، فيؤخذ قولك ويترك قولى؟
فقال: لا والله ما أظنّ هذا ولا أراه؛ يا غلام، قد البرذون إلى منزل إسحاق، لا بارك الله لك فيه!.
وحكى أن علىّ بن هشام مولاها كلّمها بشىء فأجابته جوابا لم يرضه، فدفع [يده] فى صدرها، فغضبت ونهضت وتثاقلت عن الخروج إليه. فكتب إليها:
فليت يدى بانت غداة مددتها ... إليك ولم ترجع بكفّ وساعد
فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا ... فلست إلى يوم التّنادى بعائد
قال: وعتبت عليه مرّة فتمادى عتبها، فترضّاها فلم ترض، فكتب إليها: الإدلال يدعو إلى الملال، وربّ هجر دعا إلى صبر، وإنما سمّى القلب قلبا لتقلّبه؛ وقد صدق عندى العباس بن الأحنف حيث يقول:
ما أرانى إلا سأهجر من لي ... س يرانى أقوى على الهجران
ملّنى [2] واثقا بحسن وفائى ... ما أضرّ الوفاء بالإنسان
قال: فخرجت إليه من وقتها ورضيت.
وروى عن يحيى المكّى قال: قال لى علىّ بن هشام: لمّا قدمت جدّتى شاهك من خراسان، قالت: اعرض جواريك علىّ؛ فعرضتهن عليها. ثم جلسنا على الشراب وغنّتنا متيّم، فأطالت جدّتى الجلوس، فلم أنبسط إلى جوارى كما كنت أفعل، فقلت هذين البيتين:
أنبقى على هذا وأنت قريبة ... وقد منع الزّوّار بعض التكلّم
سلام عليكم لا سلام مودّع ... ولكن سلام من حبيب متيّم
__________
[1] زيادة عن الأغانى.
[2] فى الأغانى:
قد حدا بى إلى الجفاء وفائى(5/66)
وكتبت بهما فى رقعة ورميتها إلى متيّم؛ فأخذتها ونهضت لصلاة الظهر، ثم عادت وقد صنعت فيه لحنا فغنّته. فقالت شاهك: ما أرانا إلا قد ثقّلنا عليكم اليوم؛ وأمرت الجوارى فحملوا محفّتها، وأمرت للجوارى بجوائز ساوت بينهن، وأمرت لمتيّم بمائة ألف درهم.
قال: ومرّت متيّم فى نسوة وهى متخفّية بقصر على بن هشام بعد أن قتله المأمون. فلما رأت بابه مغلقا لا أنيس به وقد علاه التراب والغبرة وطرحت فى أفنيته المزابل وقفت عليه وتمثّلت:
يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنّنى ... بكيت عيشى فيك إذ ولّى
قد كان لى فيك هوى مرّة ... غيّبه الترب وما ملّا
فصرت أبكى بعده جاهدا [1] ... عند ادّكارى حيث قد حلّا
والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بدّ للمحزون أن يسلى
قال: ثم بكت حتى سقطت من قامتها، وجعل النسوة يناشدنها [ويقلن [2]] :
الله الله فى نفسك! فإنك الآن تؤخذين. فبعد لأى مّا احتملت تتهادى بين امرأتين حتى جاوزت الموضع.
وحكى عنها قالت: بعث إلىّ المعتصم بعد قدومه بغداد؛ فلما دخلت أمر بالعود فوضع فى حجرى، وأمرنى بالغناء فغنّيت:
هل مسعد لبكائى ... بعبرة أو دماء
وذاك شىء قليل ... لسادتى النّجباء
__________
[1] فى الأغانى: «فصرت أبكى جاهدا فقده» .
[2] زيادة عن «الأغانى» .(5/67)
- وهذا الشعر لمراد جارية علىّ بن هشام ترثيه- فقال: اعدلى عن هذا الصوت؛ فغنيّت:
ذهبت عن الدنيا وقد ذهبت عنّى
فدمعت عيناه وقال: غنّى غير هذا؛ فغنيّت:
أولئك قومى بعد عزّ وثروة [1] ... تفانوا فإلّا تذرف العين أكمد
فبكى بكاء شديدا، ثم قال: ويحك! لا تغنّى فى هذا المعنى شيئا. فغنيّته:
لا تأمن الموت فى حلّ وفى حرم ... إنّ المنايا بجنبى [2] كلّ إنسان
واسلك طريقك هونا غير مكترث ... فسوف يأتيك ما يمنى لك المانى
فقال: والله إنى لأعلم أنك إنما أردت بما غنيّت ما فى قلبك لصاحبك [وأنّك] لم تريدينى، ولو أعلم أنك تريديننى لقتلتك، ولكن خذوها! فأخذوا بيدى فأخرجت.
وهذه متيّم هى التى كان يهواها عبد الصمد بن المعذّل، وأظنّ ذلك قبل اتصالها بعلىّ بن هشام، وهى إذ ذاك عند رجل من وجوه البصرة.
قال: وكانت لا تخرج إلا متنقّبة. فحكى المبرّد وغيره: أنها قدمت يوما إلى ابن عبيد الله بن الحسين العنبرىّ القاضى، فآحتاج إلى أن يشهد عليها، فأمر بها أن تسفر ففعلت. فقيل لعبد الصمد: لو رأيت متيّم وقد أسفرها القاضى لرأيت شيئا عجيبا! فقال:
ولمّا سرت عنها القناع متيّم ... تروّح منها العنبرىّ متيّما
رأى ابن عبيد الله وهو محكّم ... عليها لها طرفا عليه محكّما
__________
[1] فى الأغانى: «ومنعة» .
[2] فى الأغانى: «تغشى» .(5/68)
وكان قديما كالح الوجه عابسا ... فلما رأى منها السفور تبسّما
فإن يصب قلب العنبرىّ فقبله ... صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما
فبلغ قوله يحيى بن أكثم؛ فكتب إليه: عليك لعنة الله! أىّ شىء أردت منّى حتى أتانى شرّك من البصرة! فقال لرسوله: قل له: متيّم أقعدتك على طريق القافية.
ذكر أخبار ساجى جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
قال أبو الفرج: كانت ساجى إحدى المحسنات المبرّزات المتقدّمات، وهى تخريج مولاها عبيد الله. وكان مهما صنع من الغناء نسبه إليها، وكان قد بلغ من ذلك الغاية، ولكنه كان يترفّع عن ذكره ويكره أن ينسب إليه.
حكى أبو الفرج عن أحمد بن جعفر جحظة قال: كتب المعتضد إلى عبيد الله ابن عبد الله بقمّ [1] أن يأمر جاريته ساجى بزيارته ففعل. قال جحظة: فحدّثنى من حضر ذلك المجلس من المغنيّات قالت: دخلت علينا وما فينا إلا من ترفل فى الحلىّ والحلل وهى فى أثواب ليست كأثوا بنا فاحتقرناها؛ فلما غنّت احتقرنا أنفسنا؛ ولم تزل تلك حالنا حتى صارت فى أعيننا كالجبل وصرنا كلا شىء. ولمّا انصرفت أمر لها المعتضد بمال وكسوة. ودخلت إلى مولاها فجعل يسألها عن خبرها وما رأت مما استظرفت وسمعت واستغربت؛ فقالت: ما استحسنت هناك شيئا ولا استغربته من غناء ولا غيره إلّا عودا من عود محفورا فإنى استظرفته.
قال جحظة: فما قولك فيمن تدخل إلى دار الخليفة ولا تمدّ عينها إلى شىء تستظرفه وتستحسنه إلّا عودا!
__________
[1] قم: مدينة كبيرة بين أصبهان وساوة.(5/69)
قالوا: وكان المعتضد إذا استحسن شيئا بعث به إلى ساجى فتغنّى فيه. وكانت صنعتها فى عصره تسمّى غناء الدار. وماتت ساجى فى حياة مولاها وكان عليلا، فرثاها ببيتين فقال:
يمينا يقينا لو بليت بفقدها ... وبى نبض عرق للحياة وللنّكس
لأوشكت قتل النفس قبل فراقها ... ولكنها ماتت وقد ذهبت نفسى
ذكر أخبار دقاق
قال أبو الفرج: كانت دقاق مغنيّة محسنة متقنة الأداء والصنعة جميلة الوجه.
أخذت الغناء عن أكابر مغنّى الدّولة العبّاسية. وكانت ليحيى بن الربيع، فولدت له ابنه أحمد. ومات يحيى فتزوّجت بعده بعدّة من القوّاد والكتّاب فماتوا وورثتهم، ثم انقطعت إلى حمدونة بنت الرشيد ثم إلى غضيض. وكانت مشهورة بالظّرف والمجون.
قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدىّ: وكانت تواصل جماعة كانوا يميلون إليها وترى كلّ واحد منهم أنها تهواه. وكانت أحسن أهل عصرها وجها وأشأمهم على من تزوّجها أو رابطها. فقال فيها إبراهيم بن المهدىّ:
عدمتك يا صديقة كلّ خلق ... أكلّ الناس ويحك تعشقينا
وكيف إذا خلطت الغثّ منهم ... بلحم سمينهم لا تبشمينا
قال أبو هفّان: خرج يحيي بن الربيع إلى بعض النواحى وترك جاريته دقاق فى داره؛ فعملت [بعده [1]] الأوابد. فقال موسى [2] الأعمى [فيه [1]] :
__________
[1] زيادة عن الأغانى.
[2] فى الأغانى: «أبو موسى» .(5/70)
قل ليحيى نعم صبرت على المو ... ت ولم تخش ريب سهم المنون
كيف قل لى أطقت ويحك يا يح ... يى على الضّعف منك حمل القرون
يشير بقوله: «سهم ريب المنون» إلى شؤمها.
ذكر أخبار قلم الصالحيّة
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت قلم الصالحيّة مولّدة صفراء حلوة حسنة الغناء والضّرب حاذقة، قد أخذت عن إبراهيم وابنه إسحاق ويحيى المكّى وزبير بن دحمان.
وكانت لصالح بن عبد الوهاب [أخى أحمد بن عبد الوهاب [1]] كاتب صالح بن الرشيد، وقيل: بل كانت لابنه [2] . قال: وكانت لها صنعة يسيرة نحو عشرين صوتا، فاشتراها الواثق بعشرة آلاف دينار.
قال أحمد بن الحسين بن هشام: كانت قلم إحدى المغنّيات المحسنات المتقدّمات، فغنّى بين يدى الواثق لحن لها فى شعر محمد بن كناسة، وهو:
فىّ انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسى على سجيّتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
فسأل: لمن الصنعة؟ فقيل: لقلم الصالحيّة جارية صالح بن عبد الوهاب. فبعث إلى محمد بن عبد الملك الزّيات فأحضره وسأله: من صالح بن عبد الوهاب؟ فأخبره.
قال: وأين هو؟ قال: ببغداد. قال: ابعث وأشخصه وليحضر معه جاريته قلم.
فكتب فى إشخاصهما، فقدما على الواثق، فدخلت عليه، فأمرها بالجلوس والغناء، فغنّت فاستحسن غناءها وأمر بابتياعها. فقال صالح: أبيعها بمائة ألف دينار وولاية مصر. فغضب الواثق من ذلك وردّها اليه. ثم غنّى بعد ذلك زرزر الكبير فى مجلس
__________
[1] زيادة عن الأغانى.
[2] فى الأغانى «لأبيه» .(5/71)
الواثق بشعر الغناء فيه لها؛ فقال الواثق: لمن هذا الغناء؟ فقال: لقلم الصالحيّة؛ فبعث إلى ابن الزيّات بإشخاصها ففعل، فدخلت على الواثق فأمرها بالغناء، فغنّته من صنعتها فأعجبه غناؤها، وبعث الى صالح فأحضره وقال له: إنّى قد رغبت فى هذه الجارية فاستم فى ثمنها سوما يجوز أن تعطاه. فقال: أمّا إذ وقعت الرغبة فيها من أمير المؤمنين فما يجوز أن أملك شيئا له فيه رغبة، وقد أهديتها الى أمير المؤمنين، فإنّ من حقها علىّ إذا تناهيت فى قضائه أن أصيّرها ملكه، فبارك الله له فيها. فقال الواثق: قد قبلتها، وأمر ابن الزيّات أن يدفع إليه خمسة آلاف دينار، وسمّاها اعتباطا.
فلم يعطه ابن الزيّات المال ومطله به؛ فوجّه إلى قلم من أعلمها بذلك؛ فغنّت الواثق صوتا وقد اصطبح؛ فقال لها: بارك الله فيك وفيمن ربّاك. فقالت: يا سيّدى وما نفع من ربّانى منّى إلّا التعب والغرم والخروج منّى صفرا! فقال: أو لم نأمر له بخمسة آلاف دينار؟ قالت: بلى! ولكنّ ابن الزيّات لم يعطه شيئا. فدعا بخادم من خاصّة الخدم ووقعّ إلى ابن الزيّات بحمل خمسة آلاف الدينار إليه وبخمسة آلاف أخرى معها. قال صالح: فصرت مع الخادم إليه فقرّ بنى وقال: أمّا خمسة الالاف الأولى فقد حضرت، وخمسة الآلاف الأخرى أنا أدفعها اليك بعد جمعة. قال:
فقمت، ثم تناسانى كأنه لم يعرفنى. فكتبت إليه أقتضيه؛ فبعث إلىّ: اكتب لى قبضا بها وخذها بعد جمعة. فكرهت أن أكتب إليه قبضا فلا يحصل لى شىء.
قال: فاستترت فى منزل صديق لى. فلما بلغه استتارى خاف أن أشكوه إلى الواثق، فبعث إلىّ بالمال وأخذ كتابى بالقبض. قال: فابتعت بالمال ضيعة وتعلّقت بها وجعلتها معاشى، وقعدت عن عمل السلطان، فما تعرّضت لشىء بعدها.(5/72)
ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس
قال أبو الفرج: كانت جارية من مولّدات المدينة حلوة الوجه حسنة الغناء، قد أخذت عن الطبقة الأولى من المغنّين. وكان يحيى بن نفيس مولاها صاحب قيان، يغشاه الأشراف ويسمعون غناء جواريه. ثم اشتريت للمهدىّ، وهو ولىّ عهد، بسبعة عشر ألف دينار. وقيل: إنها ولدت له عليّة بنت المهدىّ وقيل: أمّ عليّة غيرها. قال: وكان عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزّبير يأتيها فيسمع منها، وكان يأتيها فتيان قريش فيسمعون منها. فقال عبد الله بن مصعب حين قدم المنصور منصرفا إلى الحجّ ومرّ بالمدينة يذكر بصبص:
أراحل أنت أبا جعفر ... من قبل أن تسمع من بصبصا
هيهات أن تسمع منها إذا ... جاوزت العيس بك الأعوصا
فخذ عليها مجلسى لذّة ... ومجلسا من قبل أن تشخصا
أحلف بالله يمينا ومن ... يحلف بالله فقد أخلصا
لو أنها تدعو إلى بيعة ... بايعتها ثم شققت العصا
فبلغ الشعر أبا جعفر المنصور، فغضب ودعاه، ثم قال: أما إنكم يا آل الزبير قديما ما قادتكم [1] النساء وشققتم معهنّ العصا، حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع المغنيّات! فدونكم يا آل الزبير هذا المرتع الوخيم.
وقال هارون بن محمد بن عبد الملك وهو ابن ذى الزوائد فيها:
بصبص أنت الشمس مزدانة ... فإن تبدّلت فأنت الهلال
سبحانك اللهمّ ما هكذا ... فيما مضى كان يكون الجمال
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «كادتكم» .(5/73)
إذا دعت بالعود فى مشهد ... وعاونت يمنى يديها الشّمال
غنّت غناء يستفزّ الفتى ... حذقا وزان الحذق منها الدّلال
قال: وهوى محمد بن عيسى الجعفرىّ بصبص فهام بها وطال ذلك عليه؛ فقال لصديق له: قد شغلتنى هذه عن صنعتى وكلّ أمرى، وقد وجدت مسّ السّلوّ عنها، فاذهب بنا إليها حتى أكاشفها ذلك وأستريح. فأتياها؛ فلما غنّتهما قال لها محمد بن عيسى: أتغنّين:
وكنت أحبّكم فسلوت عنكم ... عليكم فى دياركم السّلام
فقالت: لا، ولكنى أغنّى:
تحمّل أهلها عنها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء
قال: فاستحيا وازداد بها كلفا ولها عشقا؛ فأطرق ساعة ثم قال لها: أتغنّين:
وأخضع بالعتبى إذا كنت مذنبا ... وإن أذنبت كنت الذى أتنصّل
قالت: نعم، وأغنّى أحسن منه:
فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله ... وننزلكم منّا بأقرب منزل
فتقاطعا فى بيتين وتواصلا فى بيتين، وما شعر بهما أحد.
قال: وحضر أبو السائب المخزومىّ مجلسا فيه بصبص، فغنّت:
قلبى حبيس عليك موقوف ... والعين عبرى والدمع مذروف
والنفس فى حسرة بغصّتها ... قد شفّ أرجاءها التساويف
إن كنت بالحسن قد وصفت لنا ... فإنّنى بالهوى لموصوف
يا حسرتا حسرة أموت بها ... إن لم يكن لى إليك معروف
قال: فطرب أبو السائب ونعر وقال: لا عرف الله من لا يعرف لك معروفك، ثم أخذ قناعها عن رأسها ووضعه على رأسه وجعل يبكى ويلطم ويقول(5/74)
لها: بأبى أنت! والله إنى لأرجو أن تكونى عند الله أفضل من الشّهداء لما توليناه من السرور، وجعل يصيح: واغوثاه! يا لله ما يلقى العاشقون!.
وقال عثمان بن محمد الليثىّ: كنت يوما فى منزل ابن نفيس، فخرجت إلينا جاريته بصبص، وكان فى القوم فتى يحبها، فسألته حاجة فقام ليأتيها بها، فنسى أن يلبس نعله ومضى حافيا. فقالت له: يا فلان، نسيت نعلك؛ فرجع فلبسها وقال: أنا والله كما قال الأوّل:
وحبّك ينسينى عن الشىء فى يدى ... ويشغلنى عن كلّ شىء أحاوله
فأجابته فقالت:
وبى مثل ما تشكوه منّى وإنّنى ... لأشفق من حبّ لذاك تزايله
ذكر أخبار جوارى ابن رامين وهنّ سلّامة الزّرقاء، وربيحة، وسعدة
قال أبو الفرج: وابن رامين هو عبد الملك بن رامين مولى عبد الملك بن بشر ابن مروان. وكان له جوار مغنّيات مجيدات، وهنّ سلّامة الزرقاء، وربيحة، وسعدة. وفيهنّ يقول إسماعيل بن عمّار قصيدته التى أوّلها:
هل من شفاء لقلب لجّ محزون ... صبا وصبّ إلى رئم ابن رامين
إلى ربيحة إن الله فضّلها ... بحسنها وسماع ذى أفانين
نعم شفاؤك منها أن تقول لها ... قتلتنى يوم دير اللّجّ [1] فآحيينى
أنت الطبيب لداء قد تلبّس بى ... من الجوى فانفثى فى فىّ وارقينى
نفسى تأبى لكم إلّا طواعية ... وأنت تحمين أنفا أن تطيعينى
__________
[1] دير اللج: هو بالحيرة مما بناه النعمان بن المنذر.(5/75)
ومنها:
لم أنس سعدة والزّرقاء يومهما ... باللّجّ شرقيّه فوق الدكاكين
يغنّيان ابن رامين ضحاءهما ... بالمسجحىّ وتشبيب المحبّين
فما دعوت به فى عيش مملكة ... ولم نعش يومنا عيش المساكين
وهى أبيات طويلة، وله فيهنّ غيرها.
قال: واشترى جعفر بن سليمان بن علىّ سلّامة الزرقاء بثمانين ألف درهم؛ وقيل: إنه اشترى ربيحة بمائة ألف درهم، والأوّل أصح. وقيل: إنّ الذى اشترى ربيحة محمد بن سليمان، واشترى صالح بن علىّ سعدة بتسعين ألف درهم. وقيل:
اشترى معن بن زائدة إحداهنّ. قال: وكانت سلّامة الزرقاء عاقلة شكلة. قال:
ولمّا اشتراها جعفر ومضت لها مدّة عنده، سألها يوما: هل ظفر منك أحد قطّ ممن كان يهواك بخلوة أو قبلة؟ فخشيت أن يبلغه شىء كانت فعلته بحضرة جماعة أو يكون قد بلغه شىء، فقالت: لا والله إلا يزيد بن عون العبادىّ الصيرفى، فإنه قبّلنى قبلة وقذف فى فىّ لؤلؤة بعتها بثلاثين ألف درهم. فلم يزل جعفر بن سليمان يحتال له حتى وقع به فضربه بالسّياط حتى مات.
وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ فى خبر يزيد بن عون هذا بسند رفعه إلى عبد الرحمن بن مقرون أنه اجتمع هو وروح بن حاتم عند ابن رامين، وأن الزرقاء خرجت عليهم فى إزار ورداء [قهويّين [1]] مورّدين، كأنّ الشمس طالعة بين رأسها وكعبها. قال: فغنّتنا ساعة؛ ثم جاء الخادم الذى كان يأذن لها- وكان الإذن عليها دون مولاها- فقام على الباب وهى تغنّى، حتى إذا قطعت الغناء نظرت إليه فقالت:
مه! قال: يزيد بن عون العبادىّ الصيرفىّ الملقّب بالماجن على الباب. قالت:
__________
[1] زيادة عن الأغانى.(5/76)
ائذن له. فلما استقبلها طفر ثم أقعى بين يديها، فوجدت والله له، ورأيت أثر ذلك، وتنوّقت تنوّقا [1] خلاف ما كانت تفعل بنا. فأدخل يده فى ثوبه فأخرج لؤلؤتين فقال:
انظرى يا زرقاء، جعلت فداك! ثم حلف أنه نقد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم.
قالت: فما أصنع بك؟ قال: أردت أن تعلمى. فغنّت صوتا ثم قالت: يا ماجن هبهما لى! قال: إن شئت والله فعلت. قالت: قد شئت. قال: فاليمين التى حلفت بها لازمة [لى [2]] إن أخذتهما إلا بشفتيك من شفتىّ. فقال ابن رامين للغلام:
ضع لى ماء ثم خرج عنا؛ فقالت: هاتهما. فمشى على ركبتيه وكفّيه وهما بين شفتيه وقال: هاك؛ فلما ذهبت تتناولهما جعل يصدّ عنها يمينا وشمالا ليستكثر منها؛ فغمزت جارية على رأسها، فخرجت كأنها تريد حاجة ثم عطفت عليه؛ فلما دنا وذهب ليروغ دفعت منكبيه وأمسكتهما حتى أخذت الزرقاء اللؤلؤتين بشفتيها من فمه ورشح جبينها عرقا حياء منا. ثم تجلّدت علينا فأقبلت عليه [3] وقالت: المغبون فى استه عود.
فقال: فأمّا أنا فلا أبالى، والله لا يزال طيب هذه الرائحة فى أنفى وفى ما حييت.
قال: واجتمع عند ابن رامين معن بن زائدة وروح بن حاتم وابن المقفّع. فلما تغنّت الزّرقاء وسعدة بعث معن فجىء ببدرة فصبّها بين يديها، وبعث روح فجىء ببدرة فصبّها بين يديها، ولم تكن عند ابن المقفّع دراهم، فبعث فجاء بصكّ ضيعة، وقال: هذه عهدة ضيعتى خذيها، فأمّا الدراهم فما عندى منها شىء. وشربت زرقاء دواء فأهدى لها ابن المقفّع ألف درّاجة [4] .
وعن إسحاق بن إبراهيم قال: كان روح بن حاتم بن المهلّب كثير الغشيان لمنزل ابن رامين، وكان يختلف إلى الزّرقاء، وكان محمد بن جميل يهواها وتهواه؛ فقال لها:
__________
[1] تنوق فى الأمر: تأنق فيه.
[2] زيادة عن الأغانى.
[3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «علينا» .
[4] نوع من الطيور.(5/77)
إنّ روح بن حاتم قد ثقل علينا. قالت: فما أصنع وقد غمر مولاى ببرّه! قال:
احتالى له. فبات عندهم روح ليلة، فأخذت سراويله وهو نائم فغسلته. فلما أصبح سأل عنه، فقالت: غسلناه. فظنّ أنه أحدث فيه فاحتيج إلى غسله فآستحيا من ذلك فانقطع عنهم؛ وخلا وجهها لابن جميل.
ذكر أخبار عنان جارية الناطفىّ
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت عنان مولّدة من مولّدات اليمامة، وبها نشأت وتأدّبت، واشتراها الناطفىّ وربّاها. وكانت صفراء جميلة الوجه شكلة مليحة الأدب والشعر سريعة البديهة، وكان فحول الشعراء يساجلونها ويعارضونها فتنتصف منهم. ولها مع أبى نواس الحسن بن هانئ وغيره من الشعراء والفضلاء معاياة ومراجعات، نذكر منها طرفا.
قال أبو حبش: قال لى النّاطفىّ: لو جئت إلى عنان فطارحتها! فعزمت على الغدوّ إليها، وبتّ ليلتى أحوك بيتين، ثم غدوت عليها فأنشدتها:
أحبّ الملاح البيض قلبى وربّما ... أحبّ الملاح الصّفر من ولد الحبش
بكيت على صفراء منهنّ مرّة ... بكاء أصاب العين منّى بالعمش
فقالت عنان:
بكيت عليها إنّ قلبى يحبّها ... وإنّ فؤادى كالجناحين ذو رعش
تعنّيتنا بالشعر لمّا أتيتنا ... فدونك خذه محكما يا أبا حبش
وقال مروان بن أبى حفصة: لقينى الناطفىّ فدعانى إلى عنان، فانطلقت معه. فدخل إليها قبلى فقال: جئتك بأشعر الناس مروان بن أبى حفصة؛ فوجدها(5/78)
عليلة فقالت: إنى عن مروان لفى شغل. فأهوى إليها بسوط فضربها، وقال لى:
ادخل؛ فدخلت وهى تبكى، فرأيت الدموع تتحدّر من عينيها؛ فقلت:
بكت عنان فجرى دمعها ... كالدّرّ إذ يسبق من خيطه
فقالت مسرعة:
فليت من يضربها ظالما ... تيبس يمناه على سوطه
قال مروان: فقلت: أعتق ما أملك إن كان فى الجنّ والإنس أشعر منها.
وقال أحمد بن معاوية قال لى رجل: تصفّحت كتبا فوجدت فيها بيتا جهدت جهدى أن أجد من يجيزه فلم أجد. فقال لى صديق لى: عليك بعنان جارية الناطفىّ؛ فأتيتها فأنشدتها البيت وهو:
وما زال يشكو الحبّ حتى رأيته ... تنفّس من أحشائه وتكلّما
فلم تلبث أن قالت:
ويبكى فأبكى رحمة لبكائه، ... إذا ما بكى دمعا بكيت له دما
وقال موسى بن عبد الله التميمىّ: دخل أبو نواس على الناطفىّ وعنان جالسة تبكى، وقد كان الناطفىّ ضربها، فأومأ إلى أبى نواس أن حرّكها بشىء؛ فقال أبو نواس:
عنان لو جدت لى فإنّى من ... عمرى فى (آمن الرّسول [1] بما)
فقالت:
فإن تمادى ولا تماديت فى ... قطعك حبلى أكن كمن ختما
فقال أبو نواس:
علّقت من لو أتى على أنفس ال ... ماضين والغابرين ما ندما
__________
[1] لعله يريد من اقتباس هذه الآية، وهى قبيل آخر سورة البقرة، أن يدل على أنه فى آخر مرحلة من حياته وأنه لم يبق من عمره إلا بمقدار ما تقع هذه الآية من السورة المذكورة.(5/79)
فقالت:
لو نظرت عينها إلى حجر ... ولّد فيه فتورها سقما
وقال أبو جعفر النّخعىّ: كان العبّاس بن الأحنف يهوى عنان جارية الناطفىّ.
فجاءنى يوما فقال لى: امض بنا إلى عنان. فصرنا إليها، فرأيتها كالمهاجرة له؛ فجلسنا قليلا؛ ثم ابتدأ العبّاس فقال:
قال عبّاس وقد أج ... هد من وجد شديد
ليس لى صبر على الهج ... ر ولا لذع الصّدود
لا ولا يصبر للهج ... ر فؤاد من حديد
فقالت عنان:
من تراه كان أغنى ... منك عن هذا الصّدود
بعد وصل لك منّى ... فيه إرغام الحسود!
فاتّخذ للهجر إن شئ ... ت فؤادا من حديد
ما رأيناك على ما ... كنت تجنى بجليد
فقال عبّاس:
لو تجودين لصبّ ... راح ذا وجد شديد
وأخى جهل بما قد ... كان يجنى بالصّدود
ليس من أحدث هجرا ... لصديق بسديد
ليس منه الموت إن لم ... تصليه ببعيد
قال: فقلت للعبّاس: ويحك! ما هذا الأمر؟ قال: أنا جنيت على نفسى بتتايهى عليها. فلم أبرح حتى ترضّيتها له.
وقال الأصمعىّ: بعثت الىّ أمّ جعفر أنّ امير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك. قال: فكنت أربع لأن أجد للقول(5/80)
فيها موضعا فلا أجده ولا أقدم عليه هيبة له؛ إذ دخلت يوما فرأيت فى وجهه أثر الغضب فانخزلت. فقال: مالك يا أصمعىّ؟ قلت: رأيت فى وجه أمير المؤمنين أثر الغضب، فلعن الله من أغضبه! فقال: هذا الناطفىّ، والله لولا أنّى لم أجر فى حكم قطّ متعمّدا لجعلت على كل جبل منه قطعة! ومالى فى جاريته من أرب غير الشعر. قال الأصمعىّ: فذكرت رسالة أمّ جعفر فقلت: أجل، والله ما فيها غير الشعر، أفيسرّ أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق! فضحك حتى استلقى. واتّصل قولى بأمّ جعفر فأجزلت لى الجائزة.
وقال يعقوب بن إبراهيم: طلب الرشيد من الناطفىّ جاريته، فأبى أن يبيعها بأقلّ من مائة ألف دينار. فقال الرشيد: أعطيك مائة ألف دينار على أن تأخذ الدينار بسبعة دراهم، فامتنع عليه، فأمر أن تحمل إليه. فذكروا أنها دخلت مجلسه فى هيئتها؛ فقال لها الرشيد ويلك! إن هذا قد اعتاص علىّ فى أمرك. فقالت:
ما منعك أن توفيه وترضيه؟ فقال: ليس يقنع بما أعطيه، وأمرها بالانصراف.
فتصدّق الناطفىّ حين رجعت إليه بثلاثين ألف درهم. فلم تزل فى قلب الرشيد حتى مات مولاها. فلما مات بعث الرشيد مسرورا الخادم، فأخرجها الى باب الكرخ وأقامها على سرير وعليها رداء سندىّ قد جلّلها، فنودى عليها فيمن يزيد بعد أن شاور الفقهاء فيها، فقالوا: هذه كبد رطبة وعلى الرجل دين، فأشاروا ببيعها. وكانت تقول وهى على المصطبة: أهان الله من أهاننى وأرذل من أرذلنى! فوكزها مسرور بيده. وبلغ بها مسرور مائتى ألف درهم؛ فجاء رجل فقال: علىّ زيادة خمسة وعشرين ألف درهم؛ فوكزه مسرور وقال: أتزيد على أمير المؤمنين! فبلغ بها مائتين وخمسين ألف درهم وأخذ مالها. قال: ولم يكن فيها عيب يعاب، فطلبوا(5/81)
لها عيبا لا تصيبها العين، فأوقعوا بخنصر رجلها فى ظفره شيئا. قال: وأولدها الرجل الذى اشتراها ولدين، ثم خرج بها الى خراسان فمات هناك وماتت بعده.
ذكر أخبار شارية جارية إبراهيم بن المهدىّ
قال أبو الفرج: كانت شارية مولّدة من مولّدات البصرة. يقال: إنّ أباها كان من بنى سامة بن لؤىّ المعروفين ببنى ناجية، وإنه جحدها. وكانت أمّها أمة، فدخلت فى الرقّ. وقيل: إن أمّها كانت تدّعى أنها بنت محمد بن زيد من بنى سامة ابن لؤىّ، وقيل: إنها كانت تدّعى أنها من بنى زهرة، وقيل: بل سرقت فبيعت، فاشترتها امرأة من بنى هاشم فأدّبتها وعلّمتها الغناء، ثم اشتراها إبراهيم بن المهدىّ، فأخذت عنه غناءه كلّه أو أكثره. وبذلك يحتجّ من يقدّمها على عريب ويقول:
إنّ إبراهيم خرّجها، وكان يأخذها بصحة الأداء لنفسه وبمعرفة ما يأخذها به؛ ولم تلق عريب ذلك، لأن المراكبىّ لم يكن يقارب إبراهيم فى العلم ولا يقاس به فى بعضه فضلا عن سائره.
قال: ولما عرضتها مولاتها الهاشميّة للبيع ببغداد عرضت على إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ فأعطى فيها ثلاثمائة دينار، ثم استغلاها بذلك ولم يردها. فجىء بها الى ابراهيم بن المهدىّ فساوم بها؛ فقالت له مولاتها: إن إسحاق بن إبراهيم أعطى بها ثلاثمائة دينار وأنت أحقّ بها. فقال: زنوا لها ما قالت فوزن لها. ثم دعا بقيّمته فقال: خذى هذه الجارية ولا تزيّنيها سنة، وقولى للجوارى يطرحن عليها. فلما كان بعد سنة أخرجت إليه، فنظر إليها وسمع منها؛ فأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم؛ فلما أتاه أراه إيّاها وأسمعه غناءها، وقال: هذه جارية تباع، فبكم تأخذها لنفسك؟
قال إسحاق: آخذها بثلاثة آلاف دينار وهى رخيصة بها. فقال له إبراهيم: أتعرفها؟(5/82)
قال لا. قال: هذه الجارية التى عرضتها الهاشميّة بثلاثمائة دينار فلم تقبلها. فعجب إسحاق من حالها وما صارت إليه.
وقد حكى عن هبة الله بن إبراهيم بن المهدىّ أنها عرضت ببغداد على إبراهيم فأعجب بها إعجابا كبيرا، [فلم يزل يعطى بها حتى [1]] بلغت ثمانية آلاف درهم. قال:
ولم يكن عند أبى درهم ولا دانق؛ فقال لى: ويحك! قد والله أعجبتنى هذه الجارية إعجابا شديدا، وليس عندنا شىء. فقلت له: بع ما تملكه حتى الخزف وتجمع ثمنها. فقال لى: [قد تذكّرت فى شىء [1]] ، اذهب إلى علىّ بن هشام فأقرئه منّى السلام، وقل له: قد عرضت على جارية وقد أخذت بمجامع قلبى، وليس عندى شىء، فأحبّ أن تقرضنى عشرة آلاف درهم. فقلت: إن ثمنها ثمانية آلاف درهم، فلم نكثر على الرجل بعشرة آلاف درهم! فقال: إذا اشتريتها بثمانية آلاف درهم فليس لنا بدّ من أن نكسوها ونقيم لها ما تحتاج إليه. قال: فصرت إلى علىّ بن هشام وأبلغته الرسالة؛ فدعا بوكيل له وقال: ادفع إلى خادمه عشرين ألف درهم، وقل له: أنا لا أصلك، ولكن هى لك حلال فى الدنيا والآخرة.
قال: فصرت إلى أبى بالدراهم، فلو طلعت عليه بالخلافة لم تكن تعدل عنده تلك الدراهم. قال: وكانت أمّها خبيثة، وكانت كلما لم يعط إبراهيم ابنتها ما تشتهى ذهبت إلى عبد الوهاب بن علىّ، ودفعت إليه رقعة يوصلها إلى المعتصم تسأله أن تأخذ ابنتها من إبراهيم.
وحكى عن يوسف بن إبراهيم المصرىّ صاحب إبراهيم بن المهدىّ أنّ إبراهيم وجّه به إلى عبد الوهاب بن علىّ فى حاجة كانت له. قال: فلقيته وانصرفت من عنده؛ فلم أخرج من دهليز عبد الوهاب حتى استقبلتنى امرأة؛ فلما نظرت فى وجهى
__________
[1] زيادة عن الأغانى. وفى الأصل: «إعجابا كبيرا فبلغت» .(5/83)
سترت وجهها، فأخبرنى شاكرىّ أن المرأة امّ شارية جارية إبراهيم. فبادرت إلى إبراهيم وقلت له: إنى رأيت أمّ شارية فى دار عبد الوهاب، وهى من تعلم، وما يفجؤك إلا حيلة قد أوقعتها. فقال لى: اشهدك أنّ جاريتى شارية صدقة على ميمونة بنت إبراهيم بن المهدىّ، ثم أشهد ابنه هبة الله على مثل ما أشهدنى، وأمرنى بالركوب إلى ابن أبى دواد وإحضار من قدر عليه من الشهود المعدّلين عنده؛ فأحضر أكثر من عشرين شاهدا. وأمر بإخراج شارية فاخرجت. فقال لها: استرى وجهك؛ فجزعت من ذلك، فأعلمها أنما أمرها بذلك لخير يريده لها ففعلت. فقال لها:
تسمّى؛ فقالت: أنا أمتك. فقال لهم: تأمّلوا وجهها ففعلوا. ثم قال: فإنى أشهدكم أنها حرّة لوجه الله تعالى، وأنى قد تزوّجتها وأصدقتها عشرة آلاف درهم؛ يا شارية أرضيت؟ قالت: نعم يا سيّدى، قد رضيت، والحمد لله تعالى على ما أنعم به علىّ. فأمرها بالدخول، وأطعم الشهود وطيّبهم وانصرفوا. قال: فما أحسبهم تجاوزوا دار ابن أبى دواد حتى دخل علينا عبد الوهاب بن علىّ، فأقرأ عمّه سلام المعتصم، ثم قال له: يقول لك أمير المؤمنين: من المفترض علىّ طاعتك وصيانتك عن كلّ ما يسوءك، إذ كنت عمّى وصنو أبى. وقد رفعت [امرأة [1]] إلىّ قصّة ذكرت فيها أن شارية ابنتها، وأنها امرأة من قريش من بنى زهرة، واحتجّت بأنه لا تكون بنت امرأة من قريش أمة. فإن كانت هذه المرأة صادقة فى أنّ شارية بنتها، وأنها من بنى زهرة، فمن المحال أن تكون شارية أمة.
والأشبه بك والأصلح إخراج شارية من دارك وتصيّرها عند من تثق به من أهلك، حتى يكشف عما قالته هذه المرأة. فإن ثبت ذلك أمرت من جعلتها عنده بإطلاقها، وكان فى ذلك الحظ لك فى دينك ومروءتك. وإن لم يصح ذلك
__________
[1] التكملة عن الأغانى (ج 14 ص 110 طبع بولاق) .(5/84)
أعيدت الجارية إليك وقد زال عنك القول الذى لا يليق بك ولا يحسن. فقال إبراهيم: فديتك، هب شارية بنت زهرة بن كلاب، أينكر على [ابن [1]] العباس بن عبد المطلب أن يكون بعلا لها؟! فقال عبد الوهاب لا. فقال: أبلغ أمير المؤمنين- أبقاه الله- السلام، وأخبره أنّ شارية حرّة، وأنى قد تزوّجتها بشهادة جماعة من العدول. وقد كان الشهود أعلموا ابن أبى دواد بالقصة، فركب إلى المعتصم وحدّثه بالحديث معجبا له منه؛ فقال: ضلّ سعى عبد الوهاب. ثم دخل عبد الوهاب على المعتصم. فلما رآه يمشى فى صحن الدار سدّ المعتصم أنفه وقال: يا عبد الوهاب، أنا أشمّ رائحة صوف محرق، وأحسب عمّى لم يقنعه ردّك على أذنك صوفة حتى أحرقها، فشممت رائحتها منك. فقال: الأمر على ما ظنّ أمير المؤمنين وأسمج.
قال: ثم ابتاع إبراهيم من بنته ميمونة شارية بعشرة آلاف درهم وستر ذلك عنها؛ فكان عتقه إياها وهى فى ملك غيره، ثم ابتاعها من ميمونة فحلّت له، فكان يطؤها بملك اليمين وهى تتوهّم أنها زوجته. فلما توفّى طلبت شارية مشاركة أمّ محمد بنت خالد زوجة إبراهيم فى الثّمن، فأظهرت خبرها؛ فأمر المعتصم بابتياعها من ميمونة بخمسة آلاف وخمسمائة دينار فحوّلت الى داره، وكانت فى ملكه حتى توفّى. وقال ابن المعتز: وقد قيل: إنّ المعتصم ابتاعها بثلاثمائة دينار؛ وملكها إبراهيم ولها سبع سنين وربّاها تربية الولد.
قال: وحدّثت شارية أنها كانت مع إبراهيم فى حرّاقة قد توسّط بها دجلة فى ليلة مقمرة، فاندفعت فغنّت:
لقد حثّوا الجمال ليه ... ربوا منّا فلم يئلوا
__________
[1] زيادة عن الأغانى.(5/85)
فوثب إليها فأمسك فاها فقال: أنت والله أحسن من الغريض وجها وغناء، فما يؤمننى عليك! أمسكى.
ويقال: إنها لم تضرب بالعود إلا فى أيام المتوكل لمّا اتّصل الشرّ بينها وبين عريب، فصارت تقعد بها عند الضرب، فضربت بعد ذلك.
قال ابن المعتز: وحدّث محمد بن سهل بن عبد الكريم المعروف بسهل الأحول، وكان قاضى الكتّاب فى زمانه، كان يكتب لإبراهيم وكان ثقة، قال: أعطى المعتصم إبراهيم بشارية سبعين ألف دينار، فامتنع من بيعها. قال: فعاتبته على ذلك، فلم يجبنى بشىء. ثم دعانى بعد أيام وبين يديه مائدة لطيفة، فأحضر الغلام سفّودا فيه ثلاثة فراريج، فرمى إلىّ بواحدة فأكلتها وأكل اثنتين، ثم شرب رطلا وسقانى؛ ثم أتى بسفّود آخر ففعل كما فعل وشرب [كما شرب [1]] وسقانى؛ ثم ضرب ستر إلى جانبه فسمعت حركة العيدان؛ ثم قال: يا شارية تغنّى، فسمعت شيئا ذهب بعقلى.
فقال: يا سهل، هى التى عاتبتنى فى أن أبيعها بسبعين ألف دينار، لا والله ولا هذه الساعة الواحدة بسبعين ألف دينار! وحكى عن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: أمرنى المعتز بالله ذات يوم بالمقام عنده فأقمت، ومدّت الستارة وخرج من كان يغنّى وراءها وفيهنّ شارية، ولم أكن سمعتها قبل ذلك فاستحسنت ما سمعت منها؛ وقال لى المعتز: يا عبيد الله، كيف ما تسمع منها عندك؟ فقلت: حظ العجب من هذا الغناء أكثر من حظ الطرب؛ فاستحسن ذلك، وأخبرها به فاستحسنته.
قالوا: وكانت شارية أحسن الناس غناء منذ توفّى المعتصم إلى آخر خلافة الواثق. وقيل: إن إبراهيم بن المهدىّ لم يطأ شارية، وإن الذى افتضّها المعتصم.
وكان إبراهيم يسمّى شارية بنتى.
__________
[1] زيادة عن الأغانى.(5/86)
وقال يعقوب بن بيان: كانت شارية لصالح بن وصيف. فلما بلغه رحيل موسى بن بغا من الجبل يريده بسبب قتل المعتز، أودع شارية جوهره، فظهر لها جوهر كثير بعد ذلك. فلما أوقع موسى بصالح استترت شارية عند هارون بن شعيب العكبرىّ، وكان أنظف خلق الله طعاما وأسراهم مائدة، وأوسخهم كلّ شىء بعد ذلك، وكان له بسرّ من رأى منزل وفيه بستان كبير، وكانت شارية تسمّيه أبى، وتزوره فى منزله فتحمل معها كل شىء تحتاج إليه حتى الحصير تقعد عليه.
وكانت من أكرم الناس. عاشرها أبو الحسن علىّ بن الحسين عند هارون هذا، ثم أضاق [1] فى وقت فاقترض منها على غير رهن عشرة آلاف دينار فأقرضته، ومكثت أكثر من سنة ما أذكرته بها ولا طالبته بردّها.
قال يعقوب بن بيان: وكان الناس بسرّ من رأى متحازبين، فقوم مع شارية، وقوم مع عريب، لا يدخل أصحاب هذه فى هؤلاء، ولا أصحاب هذه فى هؤلاء.
وكان [أبو الصقر [2]] إسماعيل بن بلبل عريبيّا؛ فدعا علىّ بن الحسين يوم جمعة أبا الصقر وعنده عريب وجواريها. فاتصل الخبر بشارية فبعثت بجواريها إلى علىّ ابن الحسين بعد يوم أو يومين، وأمرت إحداهنّ- قال: وما أدرى [من [2]] هى:
مهرجان أو مطرب أو قمرية، إلا أنها إحدى الثلاث- أن تغنّيه:
لا تعودنّ بعدها ... فترى كيف أصنع
فلما سمع الغناء ضحك وقال: لست أعود.
قال: وكان المعتمد قد وثق بشارية فلم يكن يأكل إلا طعامها؛ فمكثت دهرا تعدّ له كلّ يوم جونتين، فكان طعامه منهما فى أيام المتوكل.
__________
[1] يقال: أضاق الرجل اذا ذهب ماله وافتقر.
[2] زيادة عن الأغانى.(5/87)
وقال أبو الفرج: حدّثنى جحظة قال: كنت عند المعتمد يوما فغنّت شارية بشعر مولاها إبراهيم بن المهدىّ ولحنه:
يا طول علّة قلبى المعتاد ... إلف الكرام وصحبة الأمجاد
ما زلت آلف كلّ قرم ماجد ... متقدّم الآباء والأجداد
فقال لها: أحسنت والله! فقالت: هذا غنائى وأنا عارية، فكيف لو كنت كاسية! فأمر لها بألف ثوب من جميع أصناف الثياب الخاصّة، فحمل ذلك إليها.
فقال لى علىّ بن الحسين بن يحيى المنجم: اجعل انصرافك معى، ففعلت. فقال لى:
هل بلغك أنّ خليفة أمر لمغنّية بمثل ما أمر به أمير المؤمنين اليوم لشارية؟ قلت لا. فأمر بإخراج سير الخلفاء، فأقبل بها الغلمان فى دفاتر عظام، فتصفّحناها كلها فما وجدنا أحدا قبله فعل مثل ذلك. انقضت أخبار شارية.
ذكر أخبار بذل
قال أبو الفرج: كانت بذل صفراء مولّدة من مولّدات المدينة وربّيت بالبصرة، وهى إحدى المحسنات المتقدّمات الموصوفات بكثرة الرواية. يقال: إنها كانت تغنّى ثلاثين ألف صوت. قال: ولها كتاب فى الأغانى منسوب الأصوات [غير مجنّس [1]] يشتمل على اثنى عشر ألف صوت، يقال: إنها عملته لعلىّ بن هشام. قال:
وكانت حلوة الوجه ظريفة ضاربة متقدّمة. وابتاعها جعفر بن موسى الهادى؛ فأخذها منه محمد الأمين وأعطاه مالا جزيلا. وأخذت بذل عن أبى سعيد مولى فائد ودحمان وفليح وابن جامع وإبراهيم وطبقتهم.
__________
[1] زيادة عن الأغانى.(5/88)
وقال جحظة عن أبى حشيشة: وكانت أحسن الناس غناء فى دهرها، وكانت أستاذة كل محسن ومحسنة، وكانت أروى خلق الله للغناء. وكانت لجعفر بن موسى الهادى؛ فوصفت لمحمد الأمين، فبعث إلى جعفر فسأله أن يزيره إياها فأبى؛ فأتاه الأمين إلى منزله فسمع ما لم يسمع مثله قطّ؛ فقال لجعفر: يا أخى، بعنى هذه الجارية.
فقال له: يا سيّدى، مثلى لا يبيع جارية. قال: هبها لى. قال: هى مدبّرة [1] . فاحتال الأمين عليه حتى أسكره وأمر بحمل بذل إلى الحرّاقة وانصرف بها. فلما أفاق جعفر سأل عنها، فأخبر بالخبر، فسكت. فبعث إليه محمد من الغد، فجاء وبذل جالسة فلم يقل شيئا. فلما أراد جعفر أن ينصرف قال الأمين: أوقروا حرّاقة ابن عمىّ دراهم فأوقرت، فكان مبلغ ذلك عشرين ألف ألف درهم. وبقيت بذل عند الأمين إلى أن قتل؛ ثم خرجت فكان ولد جعفر وولد الأمين يدّعون ولاءها؛ فلما ماتت ورثها ولد الأمين.
وقال محمد بن الحسن الكاتب: إن الأمين وهبها من الجوهر ما لم يملك أحد مثله، فسلّم لها بعد مقتل الأمين، فكانت تبيع منه الشىء بعد الشىء بالمال العظيم؛ فكانت على ذلك مع ما يصل إليها من الخلفاء إلى أن ماتت وعندها منه بقية عظيمة.
قال: ورغب إليها وجوه القوّاد والكتّاب والهاشمييّن فى التزويج فأبته، وأقامت على حالها حتى ماتت.
وحكى أبو حشيشة قال: كنت يوما عند بذل وأنا غلام، وذلك فى أيّام المأمون وهو ببغداد، وهى فى طارمة [2] لها تمتشط؛ فخرجت إلى الباب فرأيت الموكب فظننت أنّ الخليفة يمرّ على ذلك الموضع؛ فرجعت إليها فقلت: يا سيّدتى، الخليفة يمرّ على
__________
[1] دبر العبد اذا قال له: أنت حر بعد موتى.
[2] الطارمة: بناء من خشب كالقبة. معرب.(5/89)
بابك. فقالت: انظروا أىّ شىء هذا، إذ دخل بوّابها فقال: علىّ بن هشام بالباب.
فقالت: وما أصنع به! فقامت إليها جاريتها وشيك [1] ، وكانت ترسلها إلى الخليفة وغيره فى حوائجها، فأكبّت على رجلها وقالت: الله! الله! أتحتجبين على علىّ بن هشام! فدعت بمنديل فطرحته على رأسها ولم تقم إليه. فقال: إنى جئتك بأمر سيّدى أمير المؤمنين، وذلك أنه سألنى عنك فقلت له: لم أرها منذ أيام؛ فقال: هى عليك غضبى، فبحياتى لا تدخل منزلك حتى تدخل إليها فتسترضيها!. فقالت: إن كنت جئتنا بأمر الخليفة فأنا أقوم، فقامت فقبّلت رأسه ويديه؛ وقعد ساعة وانصرف.
فقالت: يا وشيك، هاتى الدواة وقرطاسا ففعلت، فجعلت تكتب فيه يومها وليلتها حتى كتبت اثنى عشر ألف صوت- وقيل: سبعة آلاف صوت- ثم كتبت إليه: يا علىّ بن هشام، تقول: استغنيت عن بذل بأربعة آلاف صوت أخذناها منها! وقد كتبت هذا وأنا ضجرة، فكيف لو فرّغت لك قلبى كلّه!. وختمت الكتاب وقالت لها: امضى به إليه. فما كان أسرع من أن جاء رسوله (خادم أسود يقال له مخارق) بالجواب يقول فيه: يا سيّدتى، لا والله ما قلت الذى بلغك، ولقد كذب علىّ عندك، إنما قلت: لا ينبغى أن يكرن فى الدنيا أكثر من أربعة آلاف صوت، وقد بعثت إلىّ بديوان لا أؤدّى شكرك عليه أبدا؛ وبعث إليها بعشرة آلاف درهم وتخوت فيها بزّ [2] ووشى وملح وتختا مطبقا فيه أنواع الطيب.
وقيل: إن إبراهيم بن المهدىّ كان يعظّمها، ثم يرى أنه يستغنى عنها بنفسه.
فصارت إليه، فدعت بعود فغنّت فى طريقة واحدة وانقطاع واحد وإصبع واحدة مائة صوت لم يعرف إبراهيم منها صوتا واحدا، ثم وضعت العود وانصرفت، ولم تدخل داره حتى طال طلبه لها وتضرّعه إليها فى الرجوع إليه.
__________
[1] فى الأغانى (ج 15 ص 145 طبع بلاق) : «وشيكة» .
[2] فى الأغانى: خز.(5/90)
وقال أحمد بن سعيد المالكىّ: إن إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ خالف بذلا فى نسبة صوت غنّته بحضرة المأمون؛ فأمسكت عنه ساعة ثم غنّت ثلاثة أصوات فى الثقيل الثانى واحدا بعد واحد، وسألت إسحاق عن صانعها فلم يعرفه. فقالت للمأمون: هى والله لأبيه أخذتها من فيه، فإذا كان لا يعرف غناء أبيه فكيف يعرف غناء غيره! فاشتدّ ذلك على إسحاق حتى رئى ذلك فيه.
وقال حماد بن إسحاق: غنّت بذل بين يدى أبى:
إن ترينى ناحل البدن ... فلطول الهمّ والحزن
كان ما أخشى بواحدتى ... ليته والله لم يكن
قال: فطرب أبى طربا شديدا وشرب رطلا وقال لها: أحسنت يا بنتى، والله لا تغنّين صوتا إلا شربت عليه رطلا.
انتهت أخبار بذل.
ذكر أخبار ذات الخال
قال أبو الفرج الأصبهانىّ: واسم ذات الخال خشف، وكانت لأبى الخطّاب النحاس المعروف بقرين مولى العبّاسة بنت المهدىّ. وكانت ذات الخال من أجمل النساء وأكملهنّ، وكان لها خال فوق شفتها العليا، وقيل: على خدّها. وكان إبراهيم الموصلى يتعشّقها، وله فيها أشعار كثيرة كان يقولها ويغنّى فيها حتى شهرها بشعره وغنائه. واتصل خبرها بالرشيد، فاشتراها بسبعين ألف درهم. فقال لها ذات يوم:
أسألك عن شىء، فإن صدقتنى وإلا صدقنى غيرك وكذّبتك. قالت: أصدقك.
قال: هل كان بينك وبين إبراهيم الموصلىّ شىء قط؟ وأنا أحلّفه أن يصدقنى.
قال: فسكتت ساعة ثم قالت: نعم! مرّة واحدة؛ فأبغضها. وقال يوما فى مجلسه:(5/91)
أيّكم لا يبالى أن يكون كشخانا [1] حتى أهبه ذات الخال؟ فبدر حمويه الوصيف فقال:
أنا؛ فوهبها له. ثم اشتاقها الرشيد يوما فقال: ويلك يا حمويه! وهبنا لك الجارية على أن تسمع غناءها وحدك! فقال: يا أمير المؤمنين، مر فيها بأمرك. قال: نحن عندك غدا. فمضى فآستعدّ لذلك واستعار لها من بعض الجوهريين بدنة [2] وعقودا ثمنها اثنا عشر ألف دينار، فأخرجها إلى الرشيد وهى عليها. فلما رآه أنكره وقال:
ويلك يا حمويه! من أين لك هذا؟! ما ولّيتك عملا تكسب فيه مثله ولا وصل إليك منّى هذا القدر! فصدقه عن أمره، فبعث الرشيد إلى أصحاب الجوهر، فأحضرهم واشترى الجوهر منهم ووهبه لها، وحلف ألّا تسأله فى يومه ذلك حاجة إلّا قضاها؛ فسألته أن يولّى حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل ذلك وكتب له عهده بذلك، وشرط على ولىّ العهد أن يتممها له إن لم تتمّ فى حياته.
قال الأصفهانىّ: ولإبراهيم الموصلىّ فى ذات الخال شعر كثير غنّى فيه.
فمنه قوله:
أذات الخال قد طال ... بمن أسقمته الوجع
وليس إلى سواكم فى الّ ... ذى يلقى له فزع
أما يمنعك الإسلا ... م من قتلى ولا الورع
وما ينفكّ لى فيك ... هوى تغترّه خدع
ومنها:
جزى الله خيرا من كلفت بحبّه ... وليس به إلا التّموّه [1] من حبّى
وقالوا قلوب الغانيات رقيقة ... فما بال ذات الخال قاسية القلب
__________
[1] الكشخان: الديوث.
[2] البدنة: قميص لا كمين له تلبسه النساء.
[1] فى الأغانى (ج 15 ص 83 طبع بولاق) : «اتموّه» .(5/92)
وقالوا لها هذا حبيبك معرضا ... فقالت لهم إعراضه أيسر الخطب
فما هى إلا نظرة بتبسّم ... فتنشب رجلاه ويسقط للجنب
وله فيها أشعار كثيرة غير ما أوردناه.
ذكر أخبار دنانير البرمكيّة
قال أبو الفرج: كانت دنانير مولاة يحيى بن خالد البرمكىّ، وكانت صفراء مولّدة، من أحسن الناس وجها، وأظرفهم وأكملهم أدبا، وأكثرهم رواية للغناء والشعر، ولها كتاب مجرّد فى الأغانى مشهور. وكان اعتمادها فى غنائها على ما أخذته من بذل، وهى خرّجتها؛ وقد أخذت أيضا عن الأكابر الذين أخذت بذل عنهم مثل فليح وإبراهيم وابن جامع وإسحاق ونظرائهم. وكانت تغنّى غناء إبراهيم فتحكيه فيه حتى لا يكون بينهما فرق؛ فكان يقول ليحيى: متى فقدتنى ودنانير باقية فما فقدتنى.
وقال أحمد بن المكىّ: كانت دنانير لرجل من أهل المدينة، كان قد خرّجها وأدّبها، وكانت أروى الناس للغناء القديم، وكانت صفراء صادقة الملاحة. فلما رآها يحيى وقعت من قلبه موقعا فاشتراها. وشغف بها الرشيد حتى كان يصير إلى منزل مولاها فيسمعها، فألفها واشتدّ إعجابه بها، ووهب لها هبات سنيّة. منها أنه وهب لها فى ليلة عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار، فردّته عليه فى مصادرة البرامكة بعد ذلك. وعرفت أمّ جعفر الخبر فشكته إلى عمومته وأهله، فصاروا جميعا اليه فعاتبوه؛ فقال: مالى فى هذه الجارية أرب فى نفسها، وإنما أربى فى غنائها؛ فاسمعوها، فإن استحقّت أن تؤلف لغنائها وإلّا فقولوا ما شئتم. فلمّا سمعوها عذروه؛ وعادوا إلى أمّ جعفر وأشاروا عليها ألّا تلحّ فى أمرها؛ فقبلت ذلك، وأهدت إلى الرشيد عشر جوار منهنّ أمّ المأمون وأمّ المعتصم وأمّ صالح.(5/93)
وقال عمر بن شبّة: إنّ دنانير أصابتها العلّة الكلبية فكانت لا تصبر عن الطعام ساعة واحدة، وكان يحيى يتصدّق عنها فى كل يوم من شهر رمضان بألف دينار لأنها كانت لا تصومه. وبقيت عند البرامكة مدّة طويلة.
وقال إسحاق وأحمد بن الطيّب: إنّ الرشيد دعا بدنانير بعد البرامكة، فأمرها أن تغنّى. فقالت: يا أمير المؤمنين، إنى آليت ألّا أغنّى بعد سيّدى أبدا. فغضب وأمر بصفعها فصفعت، وأقيمت على رجليها وأعطيت العود؛ فأخذته وهى تبكى أحرّ بكاء، واندفعت فغنّت:
يا دار سلمى بنازح السّند ... من الثّنايا ومسقط اللّبد
لمّا رأيت الديار قد درست ... أيقنت أنّ النعيم لم يعد
قال: فرقّ لها الرشيد، وأمر بإطلاقها، فانصرفت.
وقال أبو عبد الله بن حمدون: إنّ عقيدا مولى صالح بن الرشيد خطب دنانير وشغف بها فردّته؛ فاستشفع إليها بمولاه صالح بن الرشيد وببذل والحسن بن محرز فلم تجب، وأقامت على الوفاء لمولاها. فكتب اليها عقيد:
يا دنانير قد تنكّر عقلى ... وتحيّرت بين وعد ومطل
شغفى شافعى إليك وإلّا ... فاقتلينى إن كنت تهوين قتلى
أنا بالله والأمير وما آ ... مل من موعد الحسين وبذل
ما أحبّ الحياة يا حبّ إن لم ... يجمع الله عاجلا بك شملى
فلم يعطفها ذلك عليه، ولم تزل على حالها حتى ماتت. ولعقيد هذا فيها أشعار فيها غناء. وكان عقيد حسن الغناء؛ وله فيها أصوات؛ منها قوله:
هذى دنانير تنسانى وأذكرها ... وكيف تنسى محبّا ليس ينساها
أعوذ بالله من هجران جارية ... أصبحت من حبّها أهذى بذكراها(5/94)
قد أكمل الحسن فى تركيب صورتها ... فارتجّ أسفلها واهتزّ أعلاها
قامت لتمشى فليت الله صوّرنى ... ذاك التراب الذى مسّته رجلاها
والله والله لو كانت، إذا برزت، ... نفس المتيّم فى كفّيه ألقاها
ذكر أخبار عريب [1] المأمونيّة
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت عريب مغنّية محسنة، وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخطّ والمذهب فى الكلام، ونهاية فى الحسن والجمال والظّرف وحسن الصوت وجودة الضّرب وإتقان الصّنعة والمعرفة بالنّغم والأوتار والرواية للشعر؛ لم يتعلّق بها أحد من نظرائها، ولا رئى فى النساء- بعد القيان الحجازيّات مثل جميلة وعزّة الميلاء وسلّامة الزرقاء ومن جرى مجراهنّ على قلّة عددهنّ- نظير لها.
قال: وكان فيها من الفضائل التى وصفناها ما ليس لهنّ مما يكون فى مثلها من جوارى الخلفاء ومن نشأ فى قصور الخلفاء وغذى برقيق العيش الذى لا يدانيه عيش الحجاز والمنشأ بين العامّة والعرب الجفاة. قال: وقد شهد لها من لا تحتاج مع شهادته الى غيره؛ فروى عن حمّاد بن إسحاق قال قال أبى: ما رأيت امرأة أضرب من عريب، ولا أحسن صنعة ووجها، ولا أخفّ روحا، ولا أحسن خطابا بارعا، ولا أسرع جوابا، ولا ألعب بالشّطرنج والنّرد، ولا أجمع لخصلة
__________
[1] ورد هذا الاسم مضبوطا فى الأغانى ج 21 ص 184 طبع ليدن والمحاسن والأضداد للجاحظ ص 199 طبع ليدن (بضم أوّله وفتح ثانيه) . ولكن رأينا فى الأغانى من الشعر ما يؤيد أن ضبطه بفتح أوّله وكسر ثانيه؛ ومن هذا الشعر:
لقد ظلموك يا مظلوم لما ... أقاموك الرقيب على عريب
ولو أولوك إنصافا وعدلا ... لما أخلوك أنت من الرقيب
ومن هذا الشعر أيضا:
قاتل الله عريبا ... فعلت فعلا عجيبا(5/95)
حسنة لم أرها فى امرأة غيرها قطّ. قال حماد: فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم، فقال: صدق أبو محمد، هى كذلك. قلت: أفسمعتها؟ قال: نعم، هناك (يعنى فى دار المأمون) . قلت: أفكانت كما ذكر أبو محمد فى الحذق؟ قال يحيى: هذه مسئلة الجواب فيها على أبيك، هو أعلم منّى بها. فأخبرت أبى بذلك، فضحك ثم قال: أما استحييت من قاضى القضاة أن تسأله عن مثل هذا! وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ: استدعانى المأمون يوما فدخلت عليه، فسألنى عن صوت وقال لى: أتدرى لمن هو؟ فقلت: أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله بذلك. فأمر جارية من وراء السّتارة أن تغنّيه، فضربت فإذا هى قد شبّهته بالقديم؛ فقلت: زدنى معها عودا آخر، فإنه أثبت لى؛ فزادنى عودا آخر.
فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا صوت محدث لامرأة ضاربة. قال: من أين قلت ذلك؟ فقلت: إنى لمّا سمعت لينه عرفت أنه محدث من غناء النساء، ولمّا رأيت جودة مقاطعه علمت أنّ صاحبته ضاربة حفظت مقاطعه وأجزاءه، ثم طلبت عودا آخر فلم أشكّ. قال: صدقت، الغناء لعريب.
وقال ابن المعتزّ: قال علىّ بن يحيى: أمرنى المعتمد على الله أن أجمع غناء عريب الذى صنعته، فأخذت منها دفاترها وصحفها التى كانت قد جمعت فيها غناءها، فكتبته فكان ألف صوت، وقد قيل أكثر من ذلك. وقد وصفها أبو الفرج الأصفهانىّ وأطنب فى وصفها وتفضيلها، واستدلّ على ذلك وبسط القول فيه.
وأمّا ما قيل فى نسبها وسنّها وكيف تنقّلت بها الحال إلى أن اتصلت بالمأمون، فقد روى عن إسماعيل بن الحسين خال المعتصم أنها ابنة جعفر بن يحيى، وأنّ البرامكة لما نهبوا سرقت وهى صغيرة فبيعت. قال أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبىّ:(5/96)
إن أمّ عريب كانت تسمّى فاطمة، وكانت يتيمة؛ فتزوّجها جعفر بن يحيى بن خالد؛ فأنكر عليه أبوه، وقال له: تتزوّج بمن لا يعرف لها أمّ ولا أب! اشتر مكانها ألف جارية. فأخرجها جعفر وأسكنها فى دار فى ناحية باب الأنبار سرّا من أبيه، ووكّل بها من يحفظها، وكان يتردّد إليها؛ فولدت عريب فى سنة إحدى وثمانين ومائة.
وكانت سنوها إلى أن ماتت ستّا وتسعين سنة. قال: وماتت أمّ عريب فى حياة جعفر، فدفعها إلى امرأة نصرانيّة وجعلها داية [1] لها. فلما حدثت بالبرامكة تلك الحادثة باعتها من سنبس النخّاس، فباعها من المراكبىّ.
قال ابن المعتزّ: وأخبرنى يوسف بن يعقوب قال: كنت إذا نظرت قدمى عريب شبّهتهما بقدمى جعفر بن يحيى. قال: وسمعت من يحكى أنّ بلاغتها فى كتبها ذكرت لبعض الكتّاب، فقال: وما يمنعها من ذلك وهى بنت جعفر بن يحيى! هذا ملخص ما حكاه أبو الفرج فى نسبها.
وأمّا أخبارها مع من ملكها وكيف تنقّلت بها الحال، فقد حكى ابن المعتزّ عن الهشامىّ أنّ مولاها خرج بها إلى البصرة فأدّبها وخرّجها وعلّمها الخطّ والنحو والشعر والغناء، فبرعت فى ذلك أجمع، وتزايدت حتى قالت الشعر. وكان لمولاها صديق يقال له حاتم بن عدىّ من قوّاد خراسان، وقد قيل: إنه كان يكتب لعجيف على ديوان العرض؛ فكان مولاها يدعوه كثيرا ويخالطه. فركبه دين فاستتر عنده؛ فمدّ عينه الى عريب وكاتبها فأجابته، ودامت المواصلة بينهما وعشقته؛ ثم انتقل من منزل مولاها. فلم تزل تحتال حتى اتّخذت سلّما من سبّ [2] ، وقيل: من خيوط غلاظ، وكان قد اتخذ لها موضعا، ثم لفّت ثيابها وجعلتها فى فراشها بالليل ودثّرتها
__________
[1] الداية: الظئر المرضعة والمربية.
[2] السب: شقة كتان رقيقة. وفى الأصل:
«سقب» . وفى الأغانى: «عقب» . فلعلهما محرفان عما أثبتناه.(5/97)
بدثارها، ثم تسوّرت الحائط وهربت، وأتته فمكثت عنده؛ ومولاها لا يتهمه بشىء من أمرها. فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبىّ يهجو أباه ويعيّره بها- وكان كثيرا ما يهجوه-:
قاتل الله عريبا ... فعلت فعلا عجيبا
ركبت والليل داج ... مركبا صعبا مهيبا
فارتقت متّصلا بالنّ ... جم أو منه قريبا
صبرت حتى إذا ما ... أقصد النوم الرّقيبا
مثّلث بين حشايا ... ها، لكى لا تستريبا
خلفا منها إذا نو ... دى لم يلف [1] مجيبا
ومضت يحملها الخو ... ف قضيبا وكثيبا
محّة لو حرّكت خف ... ت عليها أن تذوبا
فتدلّت لمحبّ ... فتلقّاها حبيبا
جذلا قد نال فى الدّن ... يا من الدّنيا نصيبا
أيّها الظبى الذى تس ... حر عيناه القلوبا
والذى يأكل بعضا ... بعضه حسنا وطيبا
كنت نهبا لذئاب ... فلقد أطمعت ذيبا
وكذا الشاة إذا لم ... يك راعيها لبيبا
لا يبالى وبأ المر ... عى إذا كان خصيبا
ولقد أصبح عبد اللّ ... هـ كشخانا جريبا
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «لم تلق» .(5/98)
قد لعمرى لطم الخدّ ... وقد شقّ الجيوبا
وجرت منه دموع ... بلّت الذّقن الخضيبا
قال ابن المعتزّ: وحدّثنى محمد بن موسى بن يونس: أنها ملّته بعد ذلك فهربت منه، فكانت تغنّى عند أقوام عرفتهم ببغداد وهى مستترة متخفّية. فلمّا كان يوم من الأيام اجتاز ابن أخى المراكبىّ ببستان كانت فيه مع قوم تغنّى، فسمع غناءها فعرفه؛ فبعث إلى عمّه وأقام هو مكانه، فلم يبرح حتى جاء عمّه وكبسها، فأخذها وضربها مائة مقرعة وهى تصيح: يا هذا، لم تقتلنى! لست أصبر عليك، أنا امرأة حرّة، فإن كنت مملوكة فبعنى، لست أصبر على الضّيق. فلما كان من الغد ندم على فعله وصار إليها فقبّل رأسها ويدها ورجلها ووهب لها عشرة آلاف درهم. ثم بلغ محمدا الأمين خبرها فأخذها. قال: وكان الأمين فى حياة أبيه طلبها منه فلم يجبه إلى ذلك. فلما أفضت إليه الخلافة جاء المراكبىّ ومحمد راكب ليقبّل يده؛ فأمر بمنعه ودفعه، ففعل ذلك الشاكرىّ [1] ؛ فضربه المراكبىّ وقال: أتمنعنى من تقبيل يد مولاى! فجاء الشاكرىّ لمّا نزل محمد الأمين فشكاه؛ فأمر بإحضار المراكبىّ فأمر بضرب عنقه، فسئل فى أمره فعفا عنه وحبسه، وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع؛ وبعث فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له. فلمّا قتل محمد الأمين هربت عريب الى المراكبىّ فكانت عنده.
قال ابن المعتزّ: وأمّا رواية إسماعيل بن الحسن خال المعتصم فإنها تخالف هذا، وذكر أنها إنما هربت من دار مولاها المراكبىّ إلى محمد بن حامد الخاقانىّ المعروف بالخشن أحد قوّاد خراسان، وكان أشقر أصهب أزرق العين. وفيه تقول عريب ولها فيه غناء:
__________
[1] الشاكرىّ: الأجير والمستخدم، وهو معرب جاكر. (عن القاموس) .(5/99)
بأبى كلّ أصهب ... أزرق العين أشقر
جنّ قلبى به ولي ... س جنونى بمنكر
وقال إسحاق بن إبراهيم: لمّا نمى إلى الأمين خبر عريب بعث فى إحضارها وإحضار مولاها فأحضرا، فغنّت بحضرة إبراهيم بن المهدىّ، فطرب الأمين واستعادها، وقال لإبراهيم: كيف سمعت؟ قال: سمعت يا سيّدى حسنا، وإن تطاولت بها الأيام وسكن روعها ازداد غناؤها حسنا وطيبا. فقال للفضل بن الربيع: خذها إليك وساوم بها ففعل، فاشتطّ مولاها فى السّوم ثم أوجبها له بمائة ألف درهم.
وانتقض أمر الأمين وشغل عنها فلم يأمر لمولاها بشىء حتى قتل بعد أن افتضّها؛ فرجعت إلى مولاها، ثم هربت منه إلى ابن حامد؛ فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد فتظلم المراكبىّ من محمد بن حامد، فأمر المأمون بإحضاره وسئل عنها فأنكرها.
فقال له المأمون: كذبت، وقد سقط إلىّ خبرك، وأمر صاحب الشّرط أن يجرّده فى مجلس الشّرط ويضع عليه السّياط حتى يردّها فأخذه. فبلغها الخبر، فركبت حمار مكار وجاءت وقد جرّد ليضرب، وهى مكشوفة الوجه وهى تصيح: إن كنت مملوكة فليبعنى، وإن كنت حرّة فلا سبيل علىّ. فرفع خبرها إلى المأمون، فأمر بتعديلها عند قتيبة بن زياد القاضى فعدّلت عنده. وتقدّم إليه المراكبىّ مطالبا بها، فسأله البيّنة على ملكه إياها فعاد متظلّما إلى المأمون وقال: قد طولبت بما لم يطالب به أحد فى رقيق. وتظلمت زبيدة بنة جعفر إليه وقالت: من أغلظ ما جرى علىّ، بعد قتل ابنى، هجوم المراكبىّ على دارى [1] وأخذ عريب منها. فقال المراكبىّ: إنما أخذت ملكى، لأنه لم ينقدنى الثمن. فأمر المأمون بدفعها إلى محمد ابن عمر الواقدىّ، وكان قد ولّاه القضاء بالجانب الشرقىّ، فأخذها من قتيبة بن زياد
__________
[1] فى الأصل: «داره» وهو تحريف.(5/100)
وأمر ببيعها ساذجة؛ فآشتراها المأمون بخمسين ألف درهم، وقيل: اشتراها بخمسة آلاف درهم. ودعا عبد الله بن إسماعيل وقال له: لولا أنّى حلفت ألّا أشترى مملوكا بأكثر من هذا لزدتك، ولكنى سأولّيك عملا تكسب فيه أضعاف هذا الثمن، ورمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر قيمتهما ألف دينار، وخلع عليه خلعا سنيّة. فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ينتفع بهذا الأحياء، وأمّا أنا فإنى لا محالة ميّت؛ لأن هذه الجارية كانت حياتى. وخرج فاختلط وتغيّر عقله ومات بعد أربعين يوما. وذهبت بالمأمون كلّ مذهب ميلا إليها ومحبّة لها، حتى قيل: إن المأمون قبّل رجلها فى بعض الأيام وإنها قالت أثر ذلك: والله يا أمير المؤمنين، لولا ما شرّفها الله به من وضع فمك الكريم عليها لقطعتها! ولكن لله علىّ ألّا أغسلها لغير وضوء أو طهر إلا بماء الورد ما عشت. فكانت تفعل ذلك إلى أن ماتت.
وحكى علىّ بن يحيى المنجّم أنّ المأمون لمّا مات بيعت فى ميراثه- ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها- فاشتراها المعتصم بمائة ألف وأعتقها فهى مولاته. وقيل: إنه لمّا مات محمد الأمين تدلّت عريب من قصر الخلد بحبل إلى الطريق وهربت إلى حاتم بن عدىّ.
وحكى إبراهيم بن رباح قال: كنت أتولّى نفقات المأمون، فوصف له إسحاق ابن إبراهيم الموصلىّ عريب، فأمره أن يشتريها له، فاشتراها بمائة ألف درهم؛ فأمرنى المأمون بحملها، وأن أحمل إلى إسحاق مائة ألف درهم، ففعلت ذلك؛ فلم أدر كيف أثبتها، فكتبت فى الدّيوان أنّ مائة الألف خرجت فى ثمن جوهرة، ومائة الألف الأخرى خرجت لصائغها ودلّالها. فجاء الفضل بن مروان الى المأمون وقد رأى ذلك وأنكره، وسألنى عنه فقلت: نعم، هو ما رأيت. فسأل المأمون عن ذلك فقال: وهبت لدلّال وصائغ مائة ألف درهم! وغلّظ القصّة؛ فأنكرها(5/101)
المأمون، ودعانى فدنوت وأخبرته أنّ المال الذى خرج فى ثمن عريب وصلة إسحاق، وقلت: أيّما أصوب يا أمير المؤمنين: ما فعلت، أم أثبت فى الديوان أنها خرجت ثمن مغنيّة وصلة مغنّ. فضحك المأمون وقال: الذى فعلت أصوب. ثم قال للفضل ابن مروان: يا نبطىّ، لا تعترض على كاتبى هذا فى شىء.
ولعريب أخبار قد بسط أبو الفرج الأصبهانىّ القول بها فى كتابه الذى ترجمه «تحف الوسائد فى أخبار الولائد» ، وذكر أيضا نتفا من أخبارها فى كتابه المترجم «بالأغانى» . منها خبرها مع محمد بن حامد المعروف بابن الخشن، وأخبار لها مع المأمون، وأخبار مع صالح المنذرىّ الخادم، وإبراهيم بن المدبّر، وغير ذلك من أخبارها. وقد رأينا أن نثبت لمعا من ذلك.
أما أخبارها مع محمد بن حامد- وهو أحد من كانت تعشقه وتهواه وتخاطر بنفسها فى الاجتماع به- فمنها ما روى عن ابن عبد الملك الضرير أنها لمّا صارت فى دار المأمون احتالت حتى وصلت إليه، وكانت تلقاه فى الوقت بعد الوقت حتى حملت منه وولدت بنتا؛ فبلغ ذلك المأمون فزوّجه إياها. وقال محمد بن موسى: اصطبح المأمون يوما ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعة من المغنّين وعريب معه على مصلاة؛ فأومأ إليها محمد بن حامد بقبلة؛ فاندفعت فغنّت ابتداء:
رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليمانى المسهّم
تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بأن تقول له: طعنة. فقال المأمون للندماء: أيّكم أومأ إلى عريب بقبلة؟ والله لئن لم يصدقنى لأضربنّ عنقه! فقال محمد بن حامد:
أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها، والعفو أقرب للتقوى. فقال: قد عفوت عنك.
فقال: كيف استدلّ أمير المؤمنين على ذلك؟ فقال: ابتدأت صوتا، وهى لا تغنّى(5/102)
ابتداء إلا لمعنّى، فعلمت أنها لم تبتدئ هذا الصوت إلا لشىء أومئ إليها به، ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة، فعلمت أنها أجابته بطعنة. وقد حكى أنّ المأمون قال فى هذه الواقعة عن محمد بن حامد: نكشخنه قبل أن يكشخننا [1] ؛ فزوّجه إياها، واشترط عليه أن يحضرها إلى مجلسه فى أوقات عيّنها له المأمون.
وقال حمدون: كنت ليلة فى مجلس المأمون ببلاد الروم بعد العشاء الآخرة فى ليلة ظلماء ذات رعود وبروق؛ فقال لى المأمون: اركب الساعة فرس النّوبة وسر إلى عسكر أبى إسحاق، (يعنى المعتصم) ، فأدّ إليه رسالتى وهى كيت وكيت. فركبت فلم تثبت معى شمعة، وسمعت وقع حافر دابّة فرهبت ذلك فجعلت أتوقّاه حتى صكّ ركابى تلك الدابّة، وبرقت بارقة فأبصرت وجه الراكب فإذا عريب؛ فقلت: عريب؟
قالت: نعم، حمدون؟ قلت نعم. ثم قلت لها: من أين أقبلت فى هذا الوقت؟
قالت: من عند محمد بن حامد. قلت: وما صنعت عنده؟ قالت: يانكس، عريب تجىء فى هذا الوقت من عند محمد بن حامد خارجة من مضرب الخليفة راجعة إليه تقول لها: أىّ شئ عملت معه! صلّيت معه التراويح، أو قرأت عليه أجزاء من القرآن، أو دارسته شيئا من الفقه! يا أحمق، تحادثنا وتعاتبنا وآصطلحنا ولعبنا وشربنا وغنّينا وانصرفنا. قال: فأخجلتنى وغاظتنى وافترقنا. ومضيت فأدّيت الرسالة؛ ثم عدت إلى المأمون وأخذنا فى الحديث وتناشدنا الأشعار، فهممت أن أحدّثه بحديثها ثم هبته، فقلت: أقدّم قبل ذلك تعريضا بشىء من الشعر فأنشدته:
ألا حىّ أطلالا لقاطعة الحبل ... ألوف تساوى صالح القوم بالرّذل
فلو أنّ من أمسى بجانب تلعة ... الى جبلى طىّ فساقطة النعل
__________
[1] كشخنه وكشخه: شتمه بالكشخنة وهى الدّياثة وعدم الغيرة.(5/103)
جلوس إلى أن يقصر الظّلّ عندها ... لراحوا وكلّ القوم منها على وصل
فقال لى المأمون: اخفض صوتك لا تسمع عريب فتغضب وتظنّ أنّا فى حديثها؛ فأمسكت عما أردت أن أخبره به، وخار الله لى فى ذلك.
وقال محمد بن عيسى الواثقىّ: قال لى محمد بن حامد ليلة: أحبّ أن تفرّغ لى مضربك، فإنى أريد أن أجيئك فأقيم عندك؛ ففعلت وأتانى. فلما جلس جاءت عريب فدخلت وجلسنا؛ فجعل محمد يعاتبها ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا! فقالت لى: يا محمد، هذا عندك رأى! ثم أقبلت عليه فقالت: يا عاجز، خذ بنا فيما نحن فيه، واجعل سراويلى مخنقتى وألصق خلخالى بقرطى، فإذا كان غد فاكتب بعتابك فى طومار حتى أكتب اليك بعذرى فى مثله، ودع عنك هذا الفضول؛ فقد قال الشاعر:
دعى عدّ الذنوب إذا التقينا ... تعالى لا نعدّ ولا تعدّى
فأقسم لو هممت بمدّ شعرى ... إلى باب [1] الجحيم لقلت مدّى
وقال أحمد بن حمدون: وقع بين عريب وبين محمد بن حامد شرّ حتى كادا يخرجان إلى القطيعة، وكان فى قلبها منه أكثر مما فى قلبه منها. فلقيته يوما فقالت: كيف قلبك يا محمد؟ قال: أشقى ما كان وأقرحه. فقالت: استبدل تسل. فقال لها:
لو كانت البلوى باختيار لفعلت! فقالت: لقد طال إذا تعبك. فقال: وما يكون! أصبر مكرها! أما سمعت قول العبّاس بن الأحنف:
تعب يطول مع الرّجاء لذى الهوى ... خير له من راحة فى الياس
لولا كرامتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندى كبعض النّاس
قال: فذرفت عيناها، واعتذرت اليه واعتنقته، واصطلحا وعادا إلى ما كانا عليه.
__________
[1] فى الأغانى: «الى نار الجحيم» .(5/104)
وحكى أحمد بن جعفر بن حامد قال: لمّا توفّى عمّى محمد بن حامد، صار جدّى إلى منزله، فنظر إلى تركته وجعل يقلّب ما خلّف، ويخرج إليه منها الشىء بعد الشىء، إلى أن أخرج إليه سفط مختوم؛ ففضّ الخاتم وفتحه، فاذا فيه رقاع عريب إليه؛ فجعل يتصفّحها ويبتسم، فوقعت فى يده رقعة فقرأها ووضعها بين يديه، وقام لحاجته؛ فقرأتها فإذا فيها:
ويلى عليك ومنكا! ... أوقعت فى الحقّ شكّا
زعمت أنّى خؤون ... جورا علىّ وإفكا
إن كان ما قلت حقّا ... أو كنت أزمعت تركا
فأبدل الله ما بى ... من ذلّة الحبّ نسكا
قال: وهذا الشعر لعريب.
وامّا أخبارها مع المأمون وإخوته وغير ذلك من أخبارها- قال صالح ابن علىّ بن الرشيد المعروف بزعفرانة: تمارى خالى أبو علىّ والمأمون فى صوت، فقال المأمون: أين عريب؟ فجاءت وهى محمومة، فسألها عن الصوت؛ فقالت فيه بعلمها. فقال لها: غنّيه. فولّت لتجىء بالعود؛ فقال: غنّيه بلا عود. فاعتمدت من الحمّى على الحائط وغنّت، وأقبلت عقرب فرأيتها وقد لسبت يدها مرّتين أو ثلاثا، فما نحّت يدها ولا سكتت حتى فرغت من الصوت؛ ثم سقطت وقد غشى عليها.
قال عثمان بن العلاء عن أبيه: عتب المأمون على عريب فهجرها [1] أياما؛ ثم اعتلّت فعادها فقال: كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «فهجرته» .(5/105)
الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذمّ بدء الغضب حمد عاقبة الرضا. فخرج المأمون إلى جلسائه فحدّثهم بالقصة؛ ثم قال: أترى لو كان هذا من كلام النّظام لم يكن كثيرا! وقال أحمد بن أبى دواد: جرى بين المأمون وبين عريب كلام، فكلّمها المأمون بشىء غضبت منه فهجرته أياما. فدخلت على المأمون، فقال: يا أحمد، اقض بيننا.
فقالت عريب: لا حاجة لى فى قضائه ودخوله بيننا، وأنشأت تقول:
ونخلط الهجر بالوصال ولا ... يدخل [1] فى الصّلح بيننا أحد
وكانت قد تمكّنت من المأمون وأخذت بمجامع قلبه، وذهب به حبّها كلّ مذهب؛ وقد قدّمنا أنه قبّل رجلها.
وكانت عريب تهوى أبا عيسى بن الرشيد أخا المأمون، وكان المثل يضرب بحسنه وحسن غنائه، وكانت تزعم أنها ما عشقت أحدا من بنى هاشم وأصفته من الخلفاء وأولادهم سواه. ولم تزل عريب مبجّلة عند الخلفاء محبوبة اليهم مكرّمة لديهم إلى أن غضب عليها المعتصم والواثق وانحرفا عنها. وكان سبب ذلك أن المعتصم وجد لها كتابا إلى العبّاس بن المأمون ببلد الروم تقول فيه: اقتل أنت العلج حتى أقتل أنا الأعور الليلىّ هاهنا (تعنى الواثق، وكان المعتصم استخلفه ببغداد) .
ولعمرى إنّ هذا من الأمور العظيمة التى لا تحتمل من الأولاد والإخوة فكيف من أمة مغنّية! ولو لم تكن لها عندهم المكانة العظمى والمحلّ الكبير لما أبقوها بعد الاطّلاع من باطن حالها على هذه الطّويّة. وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان، وتصوغ فى ذلك الشعر تغنّيه لحنا فيكون أجود من لحنه.
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ولا يصلح» .(5/106)
قال: وكانت عريب تتعشّق صالحا المنذرىّ الخادم، فتزوّجته سرّا. فحكى عنها أنّ بعض الجوارى دخلت عليها يوما؛ فقالت لها عريب: ويحك! تعالى إلىّ! فجاءت؛ فقالت: قبّلى هذا الموضع منّى، فإنك تجدين ريح الجنّة، وأومأت إلى سالفتها، ففعلت ثم قالت لها: ما السبب فى هذا؟ قالت: قبّلنى الساعة صالح المنذرىّ فى هذا الموضع. قال: ووجّهه المتوكل إلى مكان بعيد فى حاجة؛ فقالت عريب فيه:
أمّا الحبيب فقد مضى ... بالرّغم منّى لا الرّضا
أخطأت فى تركى لمن ... لم ألق [1] منه عوضا
وكانت عريب تهوى إبراهيم بن المدبّر ويهواها، ولها معه أخبار وحكايات، وبينهما أشعار وفكاهات. فمن مكاتباتها إليه ما روى عن ابن المعتز قال: كتبت إليه تدعو له فى شهر رمضان: أفديك بسمعى وبصرى، وأهلّ الله عليك هذا الشهر باليمن والمغفرة، وأعانك على المفترض منه والمتنفّل، وبلّغك مثله أعواما، وفرّج عنك وعنّى فيه [2] . وكتبت فى شىء بلغها عنه: وهب الله لنا بقاءك ممتّعا بالنّعم. ما زلت أمس فى ذكرك، فمرّة بمدحك، ومرّة بأكلك وبذكرك بما فيك لونا لونا. اجحد ذنبك الآن، وهات حجج الكتّاب ونفاقهم. فأمّا خبرنا أمس فإنا شربنا من فضل نبيذك على تذكارك رطلا، وقد رفعنا حسابنا إليك، فارفع حسابك إلينا، وخبّرنا من زارك أمس وألهاك، وأىّ شىء كانت القصّة على جهتها. [ولا تخطرف [3] فتحوجنا إلى كشفك والبحث عليك وعن حالك] ، وقل الحق، فمن صدق [نجا [4]] .
وما أحوجك إلى تأديب، فإنك لا تحسن أن [5] تودّ. [والحقّ أقول إنه يعتريك كزاز [6]
__________
[1] كذا فى الأغانى (ج 18 ص 184 طبع بلاق) . وفى الأصل
لم ألف عنه معرضا
[2] فى الأصل: «فيك» .
[3] تخطرف الشىء: جاوزه.
[4] التكلملة عن الأغانى.
[5] كذا فى الأغانى (ج 19 ص 122 طبع بلاق) . وعبارة الاصل: «وما أحوجك الى تأديب فانك لا تحسن أن تؤدبه» :
[6] الكزاز: تشنج يصيب الإنسان من البرد الشديد.(5/107)
شديد يجوز حدّ البرد. وكفاك بهذا من قولى عقوبة. وإن عدت سمعت أكثر منه [1]] . والسلام.
ولما نكب عبد الله بن يحيى بن خاقان ابن المدبّر وحبسه، كتبت إليه كتابا تتشوّقه وتخبره استيحاشها له واهتمامها بأمره، وأنها قد سألت الخليفة فى أمره فوعدها ما تحبّ. فأجابها عن كتابها، وكتب فى آخر الجواب:
لعمرك ما صوت بديع لمعبد ... بأحسن عندى من كتاب عريب
تأمّلت فى أثنائه خطّ كاتب ... ورقّة مشتاق ولفظ خطيب
وراجعنى من وصلها ما استفزّنى ... وزهّدنى فى وصل كلّ حبيب
فصرت لها عبدا مقرّا بملكها ... ومستمسكا من ودّها بنصيب
وقال أبو عبد الله بن حمدون: اجتمعت أنا وإبراهيم بن المدبّر وابن ميّادة والقاسم بن زرزر فى بستان بالمطيرة فى يوم غيم ورذاذ يقطر أحسن قطر ونحن فى أطيب عيش وأحسن يوم، فلم نشعر إلا بعريب قد أقبلت من بعيد؛ فوثب إبراهيم من بيننا فخرج حافيا حتى تلقاها، وأخذ بركابها حتى نزلت، وقبّل الأرض بين يديها. وكانت قد هجرته مدّة لشىء أنكرته عليه. فجاءت وجلست وأقبلت عليه متبسمة، ثم قالت: إنما جئت إلى من هاهنا لا إليك. فآعتذر وشفعنا له فرضيت.
وأقامت عندنا يومئذ وباتت، واصطبحنا من غد وأقامت عندنا. فقال إبراهيم:
بأبى من حقّق الظنّ به ... وأتانا زائرا مبتديا
كان كالغيث تراخى مدّة ... وأتى بعد قنوط مرويا
طاب يومان لنا فى قربه ... بعد شهرين لهجر مضيا
فأقرّ الله عينى و؟؟؟ ... سقما كان لجسمى مبليا
__________
[1] التكملة عن الأغانى.(5/108)
وقال فيها أيضا:
ألا يا عريب وقيت الرّدى ... وجنّبك الله صرف الزّمن
فإنّك أصبحت زين النساء ... وواحدة النّاس فى كلّ فنّ
فقربك يدنى لذيذ الحياة ... وبعدك ينفى لذيذ الوسن
فنعم الأنيس ونعم الجليس ... ونعم السمير ونعم السّكن
وقال أيضا فيها وفى جاريتين بدعة وتحفة:
إنّ عريبا خلقت وحدها ... فى كلّ ما يحسن من أمرها
ونعمة لله فى خلقه ... يقصّر العالم فى شكرها
أشهدنى جاريتاها على ... أنّهما محسنتا دهرها
فبدعة تبدع فى شجوها ... وتحفة تتحف فى زمرها
يا ربّ أمتعها بما خوّلت ... وامدد لها يا ربّ فى عمرها
وقال علىّ بن العباس بن أبى طلحة الكاتب: كنت عند إبراهيم بن المدبّر، فزارته بدعة وتحفة، وأخرجتا رقعة من عريب؛ فقرأها فإذا فيها: بنفسى أنت وسمعى وبصرى، وقلّ ذلك لك. أصبح يومنا هذا طيبا- طيّب الله عيشك- قد احتجبت سماؤه، ورق هواؤه، وتكامل صفاؤه، وكأنه أنت فى رقّة شمائلك وطيب محضرك ومخبرك، لا فقدت ذلك أبدا منك! ولم يصادف حسنه وطيبه منّا نشاطا ولا طربا لأمور صدّتنى عن ذلك، أكره تنغيص ما أشتهيه لك من السرور بشرحها. وقد بعثت إليك ببدعة وتحفة ليؤنساك وتسرّ بهما، سرّك الله وسرّنى بك!. فكتب إليها:
كيف السرور وأنت نازحة ... عنّى! وكيف يسوغ لى الطرب!
إن غبت غاب العيش وانقطعت ... أسبابه وألحّت الكرب(5/109)
وأنفذ الجواب [1] [اليها] . فلم تلبث أن جاءت على حمار مصرىّ، فبادر إليها وتلقاها حافيا حتى جاء بها إلى صدر المجلس، يطأ الحمار بساطه وما عليه، حتى أخذ بركابها فأجلسها فى مجلسه وجلس بين يديها. ثم قال:
ألا ربّ يوم قصر الله طوله ... بقرب عريب، حبّذا هو من قرب
بها تحسن الدّنيا وينعم عيشها ... وتجتمع السّرّاء للعين والقلب
وقال إبراهيم بن اليزيدىّ: كنت مع المأمون فى بلد الروم. فبينما أنا أسير فى ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح وإلى جانبى قبّة، إذ برقت برقة فإذا فى القبّة عريب.
فقالت: يا إبراهيم بن اليزيدىّ. فقلت: لبّيك! قالت: قل فى هذا البرق أبيانا ملاحا لأغنّى فيها. فقلت:
ماذا بقلبى من أليم الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردنّ أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق
فارقته وهو أعزّ الخلق ... علىّ والزّور خلاف الحقّ
ذاك الذى يملك منّى رقّى ... ولست أبغى ما حييت عتقى
فتنفّست نفسا ظننته قد قطع حيازيمها؛ فقلت: ويحك! على من هذا التنفس؟ فضحكت ثم قالت: على الوطن. فقلت: هيهات! ليس هذا كله على الوطن. فقالت: ويلك! أظننت أنك تستفزّنى! والله لقد نظرت نظرة مريبة فى مجلس فادّعاها أكثر من ثلاثين رئيسا، والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا الوقت.
__________
[1] فى الأصل: «وابتدأ الجواب فلم تلبث» . والتصويب والزيادة عن الأغانى (ج 19 ص 125 طبع بلاق) .(5/110)
وقال أبو العبيس بن حمدون: غضبت عريب على بعض جواريها، فجئت إليها وسألتها أن تعفو عنها؛ فقالت- فى بعض ما تقوله مما تعتدّ به عليها من ذنوبها-:
يا أبا العباس، إن كنت تشتهى أن ترى زناى وصفاقة وجهى وجرأتى على كلّ عظيمة أيّام شبابى، فانظر إليها واعرف أخبارها. قال: وكانت فى شبابها يقدّم إليها البرذون فتطفر عليه بلا ركاب.
وقال أبو العبّاس بن الفرات: حدّثتنى بدعة جارية عريب: أنّ عريب كانت تجد فى رأسها بردا وكانت تغلّف رأسها بستين مثقالا مسكا وعنبرا، وتغسله من جمعة إلى جمعة، فإذا غسلته جدّدت غيره، وتقتسم الجوارى غسالة رأسها.
وقال علىّ بن المنجّم: دخلت يوما على عريب مسلّما عليها، فلما جلست هطلت السماء بمطر عظيم. فقالت: أقم عندى اليوم حتى أغنّيك أنا وجوارىّ، وابعث إلى من أحببت من إخوانك، فأمرت بدوابّى فردّت، وجلسنا نتحدّث. فسألتنى عن خبرنا بالأمس فى مجلس الخليفة ومن كان يغنيّنا، وأىّ شىء استحسنّاه من الغناء. فأخبرتها أنّ صوت الخليفة كان لحنا صنعه بنان من الماخورىّ. فقالت: وما هو؟ فقلت:
تجافى ثم تنطبق ... جفون حشوها الأرق
وذى كلف بكى جزعا ... وسفر القوم منطلق
به قلق يململه ... وكان وما به قلق
جوانحه على خطر ... بنار الشّوق تحترق
فوجّهت رسولا إلى بنان، فحضر وقد بلّته السماء؛ فأمرت بخلع فاخرة فخلعت عليه، وقدّم له طعام فأكل، وجلس يشرب معنا. فسألته عن الصوت فغنّاها إياه.
فأخذت دواة ورقعة وكتبت:(5/111)
أجاب الوابل الغدق ... وصاح النّرجس الغرق
وقد غنّى بنان لنا: ... «جفون حشوها الأرق»
فهاك الكأس مترعة ... كأنّ ختامها حدق
قال: فما شربنا بقيّة يومنا إلا على هذه الأبيات.
وأخبار عريب كثيرة، قد وضع عبد الله بن المعتز فيها ديوانا. وفيما أوردناه من أخبارها كفاية لا تحتمل المختصرات أكثر منها. والله تعالى أعلم.
ذكر أخبار محبوبة
قال أبو الفرج: كانت مولّدة من مولدات البصرة، شاعرة، سريعة الخاطر، مطبوعة، لا تكاد فضل الشاعرة اليمانية تتقدّمها، وكانت أجمل من فضل وأعفّ، وكانت تغنّى غناء غير فاخر.
وقال علىّ بن الجهم: كانت محبوبة لعبد الله بن طاهر أهداها إلى المتوكّل فى جملة أربعمائة جارية. وكانت بارعة الحسن والظّرف والأدب، مغنّية محسنة، فحظيت عند المتوكل حتى كان يجلسها خلف السّتارة وراء ظهره إذا جلس للشّرب، فيدخل رأسه إليها فيراها ويحدّثها فى كل ساعة.
وقال علىّ بن يحيى المنجّم: كان علىّ بن الجهم يقرب من أنس المتوكل جدّا، فلا يكتمه شيئا من سرّه مع حرمه وأحاديث خلواته. فقال له يوما: إنّى دخلت على قبيحة فوجدتها قد كتبت اسمى على خدّها بغالية، فلا والله ما رأيت شيئا أحسن من سواد تلك الغالية على بياض ذاك الخدّ؛ فقل فى هذا شيئا- قال: وكانت محبوبة حاضرة الكلام من وراء الستارة- فدعا علىّ بن الجهم بدواة، فإلى أن أتى بها وابتدأ يفكّر قالت محبوبة على البديهة من غير فكرة ولا رويّة:(5/112)
وكاتبة فى الخدّ بالمسك جعفرا ... بنفسى مخطّ المسك من حيث أثّرا
لئن كتبت فى الخدّ سطرا بكفّها ... لقد أودعت قلبى من الحبّ أسطرا
فيامن لمملوك لملك يمينه ... مطيع له فيما أسرّ وأظهرا!
ويا من هواها فى السريرة جعفر ... سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا
قال: فبقى علىّ بن الجهم واجما لا ينطق بحرف، وأمر المتوكّل بالأبيات فبعثت إلى عريب وأمرها أن تغنّى فيها. قال علىّ بن الجهم: فتحيّرت والله وتقلّبت خواطرى، فو الله ما قدرت على حرف واحد أقوله.
وقال أيضا: غاضب المتوكل يوما محبوبة وهجرها ومنع جواريها جميعا من كلامها؛ ثم نازعته نفسه إليها وأراد ذلك، ثم نازعته العزّة منها وامتنع من ابتدائها، وامتنعت من ابتدائه دلالا عليه لمحلّها منه. قال علىّ: فبكّرت إليه يوما؛ فقال لى:
يا علىّ، إنى رأيت البارحة فى نومى كأنّى صالحت محبوبة. فقلت: أقرّ الله عينك يا أمير المؤمنين وأنامك على خير وأيقظك على سرور! أرجو أن يكون هذا الصلح فى اليقظة. فبينا هو يحدّثنى وأحدّثه إذا بوصيفة قد جاءت فأسرّت إليه شيئا، فقال:
أتدرى ما أسرّت إلىّ هذه؟ قلت لا. قال: حدّثتنى أنها اجتازت بمحبوبة الساعة وهى فى حجرتها تغنّى، أفلا تعجب من هذا؟ أنا مغاضبها وهى متهاونة بذلك، لا تبدؤنى بصلح ثم لا ترضى حتى تغنّى فى حجرتها؛ فقم بنا حتى نسمع ما تغنّى. ثم قام وتبعته حتى انتهى إلى حجرتها، وإذا هى تغنّى:
أدور فى القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ولا يكلّمنى
حتى كأنّى أتيت معصية ... ليست لها توبة تخلّصنى
فهل لنا شافع إلى ملك ... قد زارنى فى الكرى وصالحنى
حتى إذا ما الصّباح لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمنى(5/113)
فعجب المتوكل، وأحسّت بمكانه فأمرت بخدمها فخرجوا وتنحيّنا، وخرجت إليه فحدّثته أنها رأته فى منامها فانتبهت وقالت هذه الأبيات وغنّت فيها؛ فحدّثها هو أيضا رؤياه واصطلحا. فلما قتل المتوكل سلاه جميع جواريه غيرها؛ فإنها لم تزل حزينة هاجرة لكل لذّة حتى ماتت. ولها فيه مراث.
حكى أبو الفرج: أنّ وصيفا بعد قتل المتوكل أحضرها يوما وأحضر الجوارى، فجئن وعليهن الثياب الملوّنة المذهبة والحلىّ وقد تزيّنّ وتعطّرن، وجاءت محبوبة وعليها ثياب بيض غير فاخرة حزنا على المتوكل. فغنّى الجوارى جميعا وشربن، وطرب وصيف وشرب. ثم قال: يا محبوبة، غنّى؛ فأخذت العود وغنّت وهى تبكى:
أىّ عيش يطيب لى ... لا أرى فيه جعفرا
ملكا قد رأته عي ... نى قتيلا معفّرا
كلّ من كان ذا هيا ... م وحزن فقد برا
غير محبوبة التى ... لو ترى الموت يشترى
لاشترته بملكها ... كلّ هذا لتقبرا
إنّ موت الكثيب أص ... لح من أن يعمّرا
فاشتدّ ذلك على وصيف وأمر بقتلها؛ فاستوهبها بغا منه فوهبها له. فأعتقها وأمر بإخراجها وأن تكون حيث تختار من البلاد. فخرجت إلى بغداد من سرّ من رأى، وأخملت ذكرها طول عمرها؛ وما طمع فيها أحد. رحمها الله تعالى.
ذكر أخبار عبيدة الطّنبوريّة
قال أبو الفرج الأصفهانى: كانت عبيدة الطّنبوريّة من المحسنات المتقدّمات فى الصّنعة والأدب، شهد لها بذلك إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ؛ قال: وحسبها(5/114)
بشهادته. قال: وكان أبو حشيشة يعظّمها ويعترف لها بالرياسة والأستاذيّة.
وكانت من أحسن الناس وجها وأطيبهم صوتا، وكانت لا تخلو من عشق. قال:
ولم يعرف فى الدنيا امرأة أعظم صنعة منها فى الطّنبور. وكانت لها صنعة عجيبة.
فمنها فى الرمل:
كن لى شفيعا إليكا ... إن خفّ ذاك عليكا
وأعفنى من سؤالى ... سواك ما فى يديكا
يا من أعزّ وأهوى ... مالى أهون لديكا
قال: وحضرت يوما عند علىّ بن الهيثم اليزيدىّ وعنده عمرو بن مسعدة وهارون بن أحمد بن هشام؛ فجاءه إسحاق بن إبراهيم الموصلى فأخبره خبرهم. فقال له إسحاق: إنى كنت أشتهى أن أسمع عبيدة، ولكنها إن عرفتنى وسألتمونى أن أغنّى بحضرتها انقطعت ولم تصنع شيئا، فدعوها على جبلّتها [1] ؛ فوافقوه على ذلك، ودخل وكتموها أمره، وكانت لا تعرف إسحاق. وقدّم النبيذ، فغنّت لحنا لها:
قريب غير مقترب ... ومؤتلف كمجتنب
له ودّى ولى منه ... دواعى الهمّ والكرب
أواصله على سبب ... ويهجرنى بلا سبب
ويظلمنى على ثقة ... بأنّ إليه منقلبى
قال: فطرب إسحاق وشرب نصفا، ثم تغنّت وشرب، حتى والى بين عشرة أنصاف؛ قال علىّ بن الهيثم: وشربنا معه. وقام إسحاق ليصلّى؛ فقال لها هارون: ويحك يا عبيدة! ما تبالين والله متى متّ! قالت: ولم؟ قال: أتدرين من المستحسن غناءك والشارب عليه ما شرب؟ قالت: لا والله. قال: إسحاق بن إبراهيم، فلا
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «فدعوها على حملتها» .(5/115)
تعرّفيه أنك قد عرفتيه. فلما جاء إسحاق ابتدأت تغنّى فلحقتها هيبة له واختلاط، فنقصت نقصانا بيّنا. قال: أعرّفتموها من أنا؟ فقلت: نعم، عرّفها هارون. فقال إسحاق: نقوم إذا فننصرف؛ فإنه لا خير فى عشرتكم الليلة ولا فائدة لى ولا لكم؛ وقام فانصرف.
وقال ملاحظ غلام أبى العبّاس: اجتمع الطّنبوريّون عند أبى العباس بن الرشيد يوما وفيهم المسدود وعبيدة. فقالوا للمسدود: غنّ؛ فقال: لا والله، لا تقدّمت على عبيدة وهى الأستاذ، فما غنّى حتى غنّت. وقال محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعىّ: سمعت إسحاق يقول: الطنبور إذا تجاوز عبيدة هذيان.
هذا ما أمكن إيراده فى هذا الباب من أخبار من اشتهر بالغناء، وأخبار القيان، وهو مختصر مما أورده أبو الفرج الأصفهانى- رحمه الله تعالى- فى كتابه المترجم بالأغانى من أخبارهم. ولم نلتزم استيعابهم بل ذكرنا أكثرهم وأشهرهم بالغناء، وذكرنا من أخبارهم ما فيه كفاية. فلنذكر خلاف ذلك.(5/116)
الباب السابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فيما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ إلى معرفته، وما قيل فى الغناء، وما وصفت به القيان، ووصف آلات الطّرب
ذكر ما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ إلى معرفته وما قيل فى الغناء والقيان من جيّد الشعر
قال مالك بن أبى السّمح: سألت ابن أبى إسرائيل عن المحسن المصيب من المغنّين، فقال: هو الذى يشبع الألحان، ويملا الأنفاس، ويعدّل الأوزان، ويفخّم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفى النّغم الطّوال، ويحسن مقاطع النّغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواضع النّبرات، ويستوفى ما يشاكلها من النّقرات. فعرضت ما قال على معبد، فاستحسنه وقال:
ما يقال فيه أكثر من هذا. وقد رويت هذه المقالة عن ابن سريج. وقال إبراهيم الموصلىّ: الغناء على ثلاثة أضرب: فضرب مله مطرب يحرّك ويستخفّ، وضرب ثان له شجى ورقّة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة. وقال: كان هذا كله مجموعا فى غناء ابن سريج. وقال أبو عثمان الناجم: بحوحة الحلق الطيّب تشبه مرض الأجفان الفاترة.
وأمّا ما قيل فى الغناء وما وصفت به القيان.
حكى أنّ بعض المحدثين سمع غناء بخراسان بالفارسيّة، فلم يدر ما هو غير أنه شوقه لشجاه وحسنه؛ فقال فى ذلك، وقيل إنه لأبى تمّام:(5/117)
حمدتك ليلة شرفت وطابت ... أقام سهادها ومضى كراها
سمعت بها غناء كان أولى ... بأن يقتاد نفسى من عناها
ومسمعة بحار السّمع فيها ... ولم تصممه، لا يصمم صداها
مرت أوتارها فشفت وشاقت ... فلو يسطيع حاسدها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدى فلم أجهل شجاها
فكنت كأننى أعمى معنّى ... بحبّ الغانيات وما رآها
وقال كشاجم فى بحّة حلق المغنّى:
أشتهى فى الغناء بحّة حلق ... ناعم الصوت متعب مكدود
كأنين المحبّ أضعفه الشو ... ق فضاهى به أنين العود
لا أحبّ الأوتار تعلو كما لا ... أشتهى الضرب لازما للعمود
وأحبّ المحنبات [1] كحبّى ... للمبادى موصولة بالنّشيد
كهبوب الصّبا توسّط حالا ... بين حالين شدّة وركود
وقال الناجم:
شدو ألذّ من ابتدا ... ء العين فى إغفائها
أحلى وأشهى من منى ... نفس وصدق رجائها
وقال محمد بن بشير:
وصوت لبنى الأحرا ... ر أهل السّيرة الحسنى
شج يستغرق الأوتا ... ر حتى كلّها تفنى
فما أدرى اليد اليسرى ... به أشقى أم اليمنى؟
__________
[1] فى ديوان كشاجم طبع بيروت وفى نسختين مخطوطتين منه أيضا محفوظتين بدار الكتب المصرية:
«وأحب المجنبات» .(5/118)
وقلنا لمغنّيه ... وقد غنّى على المثنى
ألا يا ليت هذا الصو ... ت حتى الصّبح لا يفنى
فقد أيقظت اللذّا ... ت عينا لم تزل وسنى
وما أفهم ما يعنى ... مغنّيه إذا غنّى
ولكنّى من حبّى ... له أستحسن المعنى
وقال الثّعالبىّ:
غناؤك يهزم جيش الكروب ... وعيناك للناس عذر الذنوب
فويل القلوب إذا ما رنوت ... وإمّا شدوت فويل الجيوب
وقال أيضا:
وسائلة تسائل عنك قلنا ... لها فى وصفك العجب العجيبا
رنا ظبيا وغنّى عندليبا ... ولاح شقائقا ومشى قضيبا
وقال عكاشة يصف قينة:
من كفّ جارية كأنّ بنانها ... من فضّة قد طرّفت عنّابا
وكأنّ يمناها إذا نطقت به ... تلقى على يدها الشّمال حسابا
وقال ابن الرومىّ:
وقيان كأنها أمّهات ... عاطفات على بنيها حوانى
مطفلات وما حملن جنينا ... مرضعات ولسن ذات لبان
كلّ طفل يدعى بأسماء شتّى ... بين عود ومزهر وكران [1]
أمّه دهرها تترجم عنه ... وهو بادى الغنى عن التّرجمان
__________
[1] فى الأصل: «ذكران» وهو تحريف.(5/119)
وقال أيضا:
كأنما رقة مسموعها ... رقّة شكوى سبقت دمعه
غنّت فلم تحتج إلى زامر ... هل تحوج الشمس إلى شمعه
كأنما غنّت لشمس الضّحى ... فألبستها حسنها خلعه
وقال الناجم:
ما صدحت عاتب ومزهرها ... إلّا وثقنا باللهو والفرح
لها غناء كالبرء فى جسد ... أضناه طول السّقام والتّرح
تعبدها الرّاح فهى ما صدحت ... إبريقنا ساجد على القدح
وقال أيضا:
ما تغنّت إلّا تكشّف همّ ... عن فؤاد وأقشعت أحزان
تفضل المسمعين طيبا وحسنا ... مثل ما يفضل السّماع العيان
وقال أبو عبادة البحترىّ:
وأشارت على الغناء بألحا ... ظ مراض من التّصابى، صحاح
فطربنا لهنّ قبل المثانى ... وسكرنا لهنّ قبل الراح
وقال كشاجم وهو أبو الفتح محمود:
أفدى التى أهدت لنا ... شمس الضّحى والليل حالك
مملوكة جلّت فلي ... س تفى بقيمتها الممالك
عرضت فأعطت عودها ... ضربا يعرّض للمهالك
وتبعتها فتصرّفت ... بالضّرب فى كلّ المسالك
ويئست من إدراكها ... فجعلت صوتى عند ذلك:
قصرت يدى عنك الغدا ... ة، فكيف لى بيد تنالك(5/120)
وقال أيضا:
بدت فى نسوة مثل ال ... مها أدمجن إدماجا
يجاذبن من الأردا ... ف كثبانا وأمواجا
ويسترن من الأبشا ... ر فى الدّيباج ديباجا
وقضبانا من الفضّ ... ة قد أثمرت العاجا
وقد لاثت من الكور ... على مفرقها تاجا
فلما طفن بالمجل ... س أفرادا وأزواجا
تجاوبن فغنّين ... ك أرمالا وأهزاجا
وحرّكن من الأوتا ... ر إمساكا وإدماجا
فلا لوم على قلب ... ك إن هيّج فاهتاجا
وقال علىّ بن عبد الرحمن بن يونس المنجّم فى عوّادة:
غنّت فأخفت صوتها فى عودها ... فكأنما الصوتان صوت العود
غيداء تأمر عودها فيطيعها ... أبدا ويتبعها اتّباع ودود
أندى من النّوار صبحا صوتها ... وأرقّ من نشر الثّنا المعهود
فكأنما الصوتان حين تمازجا ... ماء الغمامة وابنة العنقود
وقال أبو عون الكاتب:
تشدو فيرقص بالرءو ... س لها ويزمر بالكئوس
وقال الناجم:
طفقت تغنّينا فحلنا أنّها ... لسرورنا بغنائها تعنينا
وقال أبو هلال العسكرىّ:
وهيّجت لى من شجو ومن فرح ... أيد نثرن على الأوتار عنّابا
لا عيب فى العيش إلّا خوف غيبتكم ... إنّ السرور إذا ما غبتمو غابا(5/121)
وقال هارون بن علىّ المنجّم:
غصن على دعص نقّا منهال ... سعى بكأس مثل لمع الآل
وفاتنات الطّرف والدّلال ... هيف الخصور رجّح الأكفال
يأخذن من طرائف الأرمال ... ومحكم الخفاف والثّقال
تجرى مع النّاس بلا انفصال ... مثل اختلاط الخمر بالزّلال
تدعو إلى الصّبوة كلّ سال ... تصرع كلّ فاتك بطّال
بين حرام اللهو والحلال ... أكرم من مصارع الأبطال
وقال شاعر يذمّ مغنّيا:
ومغنّ بارد النّغ ... مة مختلّ اليدين
ما رآه أحد فى ... دار قوم مرّتين
صوته أقطع للّذّ ... ات من سطوة بين
وقال ابن الرومىّ:
فظلت أشرب بالأرطال لا طربا ... عليه بل طلبا للسّكر والنّوم
ذكر ما قيل فى وصف آلات الطرب
فمن ذلك ما وصف به العود. نظم أبو الفتح محمود المعروف بكشاجم قول الحكماء: إنّ العود مركّب على الطبائع الأربع، فقال:
شدت فجلت أسماعنا بمخفّف ... يحدّثها عن سرّها وتحدّثه
مشاكلة أوتاره فى طباعها ... عناصر منها أحدث [1] الخلق محدثه
فللنار منه الزّير والبمّ أرضه ... وللريح مثناه وللماء مثلثه
__________
[1] فى ديوان كشاجم: «ألف الخلق» .(5/122)
وكلّ امرئ يرتاح منه لنغمة ... على حسب الطّبع الذى منه يبعثه
شكاضرب يمناها فظلّت يسارها ... تطوّقه طورا وطورا ترعّثه
فما برحت حتى أرتنا مخارقا ... يجاوبه فى أحسن النّقر عثعثه
وحتى حسبت البابليّين [2] ألقيا ... على لفظها السّحر الذى فيه تنفثه
وقال آخر:
جاءت بعود تناغيه فيسعدها ... انظر بدائع ما تأتى به الشّجر
غنّت على عوده الأطيار من طرب ... رطبا، فلما ذوى غنّت به البشر
فلا يزال عليه أو به طرب ... يهيجه الأعجمان: الطير والوتر
وقال آخر:
سقى الله أرضا أنبتت عودك الذى ... ذكت منه أنفاس وطابت مغارس
تغنّت عليه الورق والعود أخضر ... وغنّت عليه الغيد والعود يابس
وقال آخر:
لا تحسب العود إن غنّتك شادنة ... جاءتك بالطّيف فيه نغمة الوتر
وإنما الطير ألقت عنده خبرا ... فعذّبوه فنمّ العود بالخبر
وقال آخر:
فكأنه فى حجرها ولد لها ... ضمّته بين ترائب ولبان
طورا تدغدغ بطنه فإذا هفا ... عركت له أذنا من الآذان
وقال الناجم:
إذا احتضنت عودها عابث ... وناغته أحسن أن يعربا
تدغدغ فى مهل بطنه ... فيسمعنا مضحكا معجبا
__________
[1] يريد هاروت وماروت اللذين ورد ذكرهما فى القرآن الكريم.(5/123)
وقال الحمدونىّ:
وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم
يبدى ضمير سواه فى الحديث كما ... يبدى ضمير سواه الخطّ بالقلم
وقال كشاجم:
جاءت بعود كأنّ نغمته ... صوت فتاة تشكو فراق فتى
مخفّف خفّت النفوس به ... كأنما الزّهر حوله نبتا
دارت ملاويه فيه واختلفت ... مثل اختلاف الكفّين شبّكتا
لو حرّكته وراء منهزم ... على بريد لعاج والتفتا
يا حسن صوتيهما كأنّهما ... أختان فى صنعة تراسلتا
وهو على ذا ينوب إن سكتت ... عنها، وعنه تنوب إن سكتا
وقال أيضا:
وجارية مثل شمس النّهار ... أو البدر بين النجوم الدّرارى
أتتك تميس بقدّ القضيب ... وترنو بعين مهاة القفار
وترفل فى مصمت أبيض ... تلوّن من خدّها الجلّنارى
وتحمل عودا فصبح الجواب ... يشارك أرواحنا فى المجارى
له عنق كذراع الفتاة ... ودستانة بمكان السّوار
فجادت عليه وجادت له ... بعسف اليمين ولطف اليسار
فما أمهلته ولا نهنهته ... من الظّهر حتى تقضّى النهار
ولمّا تغنّت غناء الوداع ... بكيت وقلت لبعض الجوارى:
لئن عشت عند هزار اللّقاء ... لقد متّ عند هزار الإزار(5/124)
وقال أيضا:
وكثيرة النّغمات تحسبها ... فى كلّ عضو أوتيت حلقا
غنّت فظلت إخالنى طربا ... أسمو إلى الأملاك أو أرقى
وتكلّمت أوتارها فأنا ... فيها أخبّر بالذى ألقى
تحكى أنينى وهى شاكية ... مما أجنّ وتشتكى عشقا
وترى لها عودا تعانقه ... وكلامه وكلامها وفقا
لو لم تحرّكه أناملها ... كان الهواء يفيده نطقا
جسّته عالمة بحالته ... جسّ الطبيب لمدنف عرقا
فحسبت يمناها تحرّكه ... رعدا، وخلت يسارها برقا
وقال أيضا:
تميس من الوشى فى حلّة ... تجرّر من فضل أذيالها
وتحمل عودا فصيح الجواب ... يضاهى اللّحون بأشكالها
له عنق مثل ساق الفتاة ... ودستانة مثل خلخالها
فظلّت تطارح أوتاره ... بأهزاجها وبأرمالها
وتعمل جسّا لجسّ العروق ... وتلوى الملاوى بأمثالها
وقال آخر يصف الطّنبور:
مخطف الخصر أجوف ... جيده نصف سائره
أنطقته يدا فتى ... فاتر اللّحظ ساحره
فجلا عن ضميره ... ما حوى فى خواطره(5/125)
وقال سيف الدين المشدّ فى دفّ:
وطاريّة قرعت طارها ... وغنّت عليه بصوت عجيب
فعاينت شمس الضّحى أقبلت ... وبدر تقدّمها عن قريب
وقال أيضا يصف شبّابة:
وعارية من كلّ عيب، حبيبة ... إلى كل قلب بات بالبين مجروحا
لها جسد ميت يعيش بنفخة ... متى داخلته الريح صارت به روحا
تعيد الذى يلقى عليها بلذّة ... تزيد فؤاد الصّبّ وجدا وتبريحا
وتنطق بالسحر الحلال عن الهوى ... وتوحى إلى الأسماع أطيب ما يوحى(5/126)
القسم الرابع من الفنّ الثانى فى التهانى والبشائر والمراثى والنوادب والزهد والتوكل والأدعية وفيه أربعة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم فى التهانى والبشائر
والتهانى تنقسم إلى قسمين وتنحاز فى جهتين: خصوص وعموم. فالخصوص هو ما يتعلّق بالرجل من منصب يليه، ونعمة تواليه؛ وولد رزقه، وشفاء من مرض أقلقه وأرّقه؛ وقدوم من سفر، وزواج قضى به الأرب والوطر. والعموم هو ما يتعلّق بالجمهور، ويتساوى فيه الملك والمملوك والآمر والمأمور: من انصباب غيث عمّ الرّبا والوهاد، وجريان نيل شمل بريّه البلاد وآمن العباد؛ وهزيمة عدوّ زاد فى عدوانه وتمادى فى طغيانه، وفتوح حصن أمن أهله بتشييد أركانه وإتقان بنيانه.
ذكر شىء مما هنّئ به ولاة المناصب
كتب بعض الفضلاء تهنئة بخلافة فقال:
أمّا بعد، فإن أولى النعم بالدوام، وأرجاها للبقاء والتمام، وأجدرها بالخلود، وأقربها إلى المزيد، وأحراها بالسلامة على نوب الأيام وتصاريف الأحداث، نعمة نشأت بفنائه، وسكنت ذراه فحمدت مثواه، وساسها أولياؤها بحسن المجاورة وكرم المصاحبة سياسة الحانى الشفيق، وكفلوها كفالة الحدب الرفيق؛ فنمت وتمّت، وخصّت وعمّت؛ ثم اعترضها من ريب الزمان ما هاج سواكنها، وأزعج كوامنها؛(5/127)
وأصارها إلى الوحشة بعد الأنس، والنّفرة بعد الإلف، تتقلقل تقلقل العوادى، وتشرد شرود الضوالّ، لافظة لها الأقطار ونابية بها المحالّ؛ إلى أن أعادها الله تعالى بلطفه إلى مغناها المعروف، وربعها المألوف؛ واستقرّت بعد الاضطراب، وفاءت بعد الاغتراب. وتلك نعمة الله عند سيّدنا أمير المؤمنين، لما جدّد له من كرامته، واصطفاه له من خلافته، وطوّقه إياه من إمامته؛ وردّه إليه من تدبير الملك، واعتمد عليه من سياسة الأنام؛ فأحيا به السّنن القاصرة، وأزال به الرسوم الجائرة؛ ونهج به سبيل العدل، وأقام به منار الفضل.
وقال طريح بن إسماعيل الثّقفىّ فى المنصور لمّا أفضت الخلافة إليه:
لمّا أتى الناس أنّ ملكهم ... إليك قد صار أمره سجدوا
واستبشروا بالرضا تباشرهم ... بالخلد لو قيل إنهم خلدوا
كنت أرى أنّ ما وجدت من الفر ... حة لم يلق مثله أحد
حتى رأيت العباد كلّهم ... قد وجدوا فيك مثل ما أجد
قد طلب الناس ما بلغت فما ... نالوا ولا قاربوا ولا جهدوا
يرفعك الله بالتّكرّم والتق ... وى فتعلو وأنت تقتصد
وقال زيد السّندىّ يهنئ الوزير يعقوب بن كلّس بوزارة العزيز بمصر:
إنّ الوزارة لم تزل بك صبّة ... تهواك لم يخطر سواك ببالها
خطبت فلم تعط القياد لطالب ... وأبت على طلّابها بوصالها
وقال ابن بشر الصّقلّىّ الكاتب يهنّئ الحسن بن إبراهيم التّسترىّ بوزارة مصر، وقد وزر للمستنصر فى سنة أربع وخمسين وأربعمائة:
بيومك طارت فى البلاد البشائر ... وطابت بمرجوع الحديث المحاضر
وأصبحت الأمصار أمنا وغبطة ... أسرّتها مهتزّة والمنابر
وقام خطيب الحمد فى كل موقف ... يعدّد ما تملى عليه المآثر(5/128)
ومنها:
لقد عاشرت منك الوزارة ما جدا ... له كنف لا يجتويه المعاشر
فسيح امتداد الظّلّ بين رحابه ... وبين المعالى آهل الرّبع عامر
«فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر»
وما زلت ملحوظا لها ومؤهّلا ... لذا الأمر مذ شدّت عليك المآزر
وقال آخر:
كلّما رمت أن أهنّيك وقتا ... بمحلّ من العلا ترتقيه
شمت مقدارك الذى أعجز الوا ... صف أعلى من الذى أنت فيه
وكتب الحمدونىّ أخو صاحب التّذكرة يهنّئ بالسلامة من حريق وقع فى دار الخلافة:
الدّنيا- أعزّ الله أنصار الخدمة الشريفة- دار الامتحان والاختبار، ومجاز الابتلاء والاعتبار؛ ولله فيما نزّله فيها إلى عباده من نعمه، وتخوّلهم من مواهبه وقسمه، عادات يقتضيها بالغ حكمته، وماضى إرادته ومشيئته؛ ليستيقظ الذاهل، ويعترف الجاهل؛ ويزداد العالم اللبيب اعتبارا، ويستفيد العاقل الأريب تفكّرا واستبصارا؛ فلا يغفل عن واجب الشكر إذا سيقت النعمة إليه، ولا يلهو عن استدعاء المزيد منها بالاعتراف إذا أسبغت عليه؛ وهو أن البارى سبحانه إذا تابع آلاءه إلى عبد ووالاها، [وجرّدها [1]] له من الشوائب وأخلاها؛ أماط عن مشاربها أكدار الدنيا المطبوعة على الكدر، وغمر مساربها بالأمن من طوارق الغير؛ خيف عليها الانتقاض والزوال، وتوقّع لها الانتهاء والانتقال. ومن ذلك الخبر المروىّ: أنه لما أنزل الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا) ابتهج الصحابة رضى الله تعالى عنهم إلا عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فإنه بكى. فقالوا:
__________
[1] زيادة يقتضيها سياق الكلام. ولعل هذه الكلمة أو ما فى معناها سقطت من الناسخ.(5/129)
ما يبكيك وقد أكمل الله لنا ديننا برحمته، وأتمّ لنا سابغ نعمته؟ فقال: يبكينى أنه ماتم أمر إلا بدا نقصه. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريب. وإذا كانت مشوبة برائع يتخلّل صفوها، وطارق يجهم فى بعض الأوقات عفوها [1] ؛ كان ذلك صارفا عنها عين الكمال، مؤذنا بطول الآجال؛ حاكما لها بتراخى عمر البقاء، دالّا على الصعود بها إلى درج المكث الطويل والارتقاء؛ وحكمه حكم المرض الذى تصحّ به الأجساد، وتمحّص ذنوب من يسلّط عليه من العباد:
فلا يبهج الأعداء سوء ظنونهم ... فلله صنع فى الذى ساء ظاهر
فكم طالب شيئا به الشرّ كامن ... وكم كاره أمرا به الخير وافر
فلله الحمد الذى جعل ما جرت به الأقدار من الألم الواقع ظاهره، الوجل لوقعه ناظره؛ لعنايته جلّت عظمته عنوانا، وعلى دوام نعمته دليلا واضحا وبرهانا. وإليه الرغبة فى أن يجعل الديار وساكنيها، والناس فى أقاصى الدّنيا وأدانيها؛ لشريف الحوزة التى بها صلاح العالم فداء، وعنها للمكروه وقاء. فكل حادث مع دوام هذه الأيام الزاهرة جلل، وكل غمر [2] من نوائب الدهر ما دافع لطف الله عنها وشل.
وقال أبو عبادة البحترىّ يهنّئ الفتح بن خاقان بسلامته من الغرق:
بعدوّك الحدث الجليل الواقع ... ولمن يكايدك الحمام الفاجع
قلنا: لعا لمّا عثرت ولا تزل ... نوب الليالى وهى عنك رواجع
ولربما عثر الجواد وشأوه ... متقدّم ونبا الحسام القاطع
لن [3] تظفر الأعداء منك بزلّة ... والله دونك حاجز ومدافع
إحدى الحوادث شارفتك فردّها ... صنع الإله ولطفه المتتابع
__________
[1] العفو: الفضل والمعروف وخيار الشىء وأجوده.
[2] الغمر: الماء الكثير. وفى الأصل: «وكل غم» وهو تحريف، لأنه يريد المقابلة بينه وبين «وشل» بعده.
[3] كذا فى ديوان البحترى. وفى الأصل: «إن تظفر» .(5/130)
حتى برزت لنا وجأشك ساكن ... من نجدة وضياء وجهك ساطع
ما حال لون عند ذاك ولاهفا ... عزم ولا راع الجوانح رائع
وقال المتنبّى يهنّئ بعافية:
المجد عوفى إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم
وما أخصّك فى برء [1] بتهنئة ... إذا سلمت فكلّ الناس قد سلموا
ومما هنّئ به من اتّصل بزوجة ذات جمال وحسب، وأصالة وأدب.
وقلما تقع التهنئة بذلك إلامين صديقين صحّ بينهما الالتئام، وسقطت بينهما مؤنة الاحتشام؛ وتساويا فى الرتبة، واتّحدا فى الصحبة.
فمن ذلك ما كتب به الوزير أبو الحسن العامرىّ إلى بعض إخوانه وقد ابتنى بأهل:
بأيمن طائر وأتمّ سعد ... يكون من الكريمين اجتماع
أما إنّه المجد اليفاع، والحسن المطاع، تعارفت الطباع، فالتأمت الأنفس الشّعاع؛ كما التقى الثّريّان، واقترن النيّران؛ كما حاصر الرئم الضيغم، وهاصر النسيم الغصن المنعّم؛ كما راق فوق المعطف الصارم العضب، كما التقت الصهباء والبارد العذب؛ بل كما فازت القداح، ونظم الوشاح؛ واعتنق شنّ طبقه، واعتلق الرّوض عبقه. فحبّذا النّسب شابكه الصّهر، والحسب عاقده التّقى والبرّ؛ على حين جرت الأيامن، واكتنف الحرم الآمن. وبالبنين والرّفاء، والنعيم والصّفاء، والثروة والنماء والزمن الرّغد والعزّة القعساء الشّماء؛ على الوفاق، والوئام والاتّساق؛ والحظوظ والجدود، والفسطاط الممدود، وهصر العيش الأملود، والالتئام وتتابع البشرى بالفارس المولود. ومالى تأوّدت أعطافا، وتأنّقت أوصافا! وتهلّلت جذلا، وبسطت فى الدعاء مذلا [2] ! أهنأنى الأرب، أم صفا لى المشرب! وقد غبت عن اليوم المشهود،
__________
[1] كذا فى ديوان المتنبى. وفى الأصل: «وما أخصك فى قون» .
[2] كذا فى الأصل.(5/131)
وعطّلت سدّة الإذن للوفود، ولم أقم فى السّماط، سافرا عن وجه الاغتباط؛ أتلقّى الوالج بمبرور التحيّة، وأفدّى الخارج بحكم السرور والأريحيّة؛ وأتخدّم رفع الوحى والإيماء، وأتقدّم من المصافاة والموالاة فى الغفير الجمّاء، كلا! ولا شهدت ليلة الزّفاف، وما حلت من محاسنها الأفواف؛ حيث دارت المنى سلافا؛ وصارت العلا دوحة ألفافا؛ وأبدى رونق السيف جلاء، وأبرز عقيلة الحىّ هداء؛ هنالك حلّت النعماء، ونهلت الأظماء؛ فياله منظرا، ووعدا منتظرا؛ لو ناجيته من كثب، وكرعت منه فى المنهل الأعذب! بلى! إنه [1] وقع، فشفى ونفع؛ والرّكب سنح، فنعم ما منح؛ أهداها حملا، فكأنما أسداها أملا؛ أثلج الفؤاد، وأورى الزّناد، وفى بالنفس أو كاد؛ وملت [2] عن قراه، نفس جذلت بسراه، وأرجت لذكراه. ولله ما أحظاه مقدما وأعلاه فى الإحسان قدما، لو وهبت لمقتضاه من الكرامة دما. وقد كان فى الحق أن أهاجر، وأعصى الناهى والزاجر؛ فابسط لى عذرا، وأعدّنى لك ذخرا، وطب مدى الدهر خبرا وخبرا.
ومما هنئ به من رزقه الله ولدا وزاده به قوّة وعددا. فمن ذلك ما كتب به الأستاذ ابن العميد فى فصل يهنئ عضد الدولة بن بويه وقد ولد له ابنان توءمان:
وصل كتاب الأمير بالبشرى التى أبت النعمة بها أن تقع مفردة، وامتنعت العارفة فيها أن تسنح موحدة، حتى تيسّرت منحتان فى وطن، وانتظمت موهبتان فى قرن، وطلع من النجيبين أبى القاسم وأبى كاليجار- أدام الله عزّهما- طالعا ملك، ونجما سعد، وشهابا عزّ، وكوكبا مجد؛ فتأهلت بهما رباع المحاسن، ووطّئت لهما أكناف المكارم، واستشرفت إليهما صدور الأسرّة والمنابر. وفهمته وشكرت
__________
[1] فى الأصل: «ان» وهو غير واضح.
[2] وردت هذه الكلمة هكذا بالأصل؟(5/132)
الله تعالى شكر من نادى الامال فأجابته مكتّبة، ودعا الأمانى فجاءته [1] مصحبة [2] ، وحمدته حمدا مكافئا جسيم ما أتاح وعظيم ما أفاد؛ واكتنفنى من السرور ما فسح مناهج الغبطة، وسهّل موارد البهجة؛ وأشعت ما ورد إشاعة شرحت صدور الأولياء بمسارّها، وأزعجت قلوب الأعداء عن مقارّها؛ وسألت الله إتمام ما آذن [3] به الأميران السيّدان من سعادة لا يهتدى إليها الاختيار علوّا، ولا ترتقى اليها الأفكار سموّا؛ وسلطان تضيق البحار عن اتساعه، وتنخفض الأفلاك عن ارتفاعه؛ ويبلّغهما أفضل ما تقسمه السعود، وتعلو به الجدود، حتى يستغرقا مع السابقين إخوتهما مساعى الفضل، ويشيدا قواعد الفخر، ويرجما صروف الدهر، ويضبطا أطراف الأرض، وهو تعالى قريب مجيب.
ومن كلام الوزير الفقيه أبى القاسم محمد بن الجدّ الأندلسىّ:
إنّ أحقّ ما انبسط فيه للتهنئة لسان، وتصرّف فى ميادين معانيه بيان وبنان؛ أمل رجّى فتأبّى زمانا، واستدعى فلوى عنانا؛ وطاردته الأمانىّ فأتعبها حينا، وغازلته الهمم فأشعرها حنينا؛ ثم طلع غير مرتقب، وورد من صحبة المناجح فى عسكر لجب؛ وكان كالمشير إلى ما بعده من مواكب الآمال، والدليل على ما وراءه من كواكب الإقبال؛ أو كالصّبح افترّت عن أنوار الشمس مباسمه، والبرق تتابعت إثر وميضه غمائمه. وفى هذه الجملة ما دلّ على المولود، المؤذن بترادف الحظوظ وتضاعف السعود. فياله نجم سعادة، طلع فى أفق سيادة؛ وغصن سناء، تفرّع عن دوحة علاء. لقد تهلّلت وجوه المحاسن باستهلاله، وأقبلت وفود الميامن لاستقباله؛ ونظمت له قلائد التّمائم، من جواهر المكارم؛ وخصّ بالثّدىّ الحوافل، بلبان الفضائل. وما كان منبت الشرف بإفراد
__________
[1] فى الأصل: «فجعلته» .
[2] مصحبة: منقادة.
[3] فى الأصل: «ما أدنا» .(5/133)
تلك الأرومة الكريمة إلا مقشعرّ الرّبا، مغبرّ الثرى، متهافت أغصان الرضا. فأمّا وقد اهتزّ أيكة السّيادة قضيب، ونشأ من نبتة النّجابة نجيب؛ فأخلق بذلك المنبت أن تعاوده نضرته، وترفّ عليه حبرته؛ ويراجعه رونقه وبهاؤه، وتضاحكه أرضه وسماؤه. فالحمد لله على ما أتاحه من انثناء الأمل من جماحه، واختيال الجذل فى حلبة غرره وأوضاحه. وهو المسئول أن يهبك منه صنعا يحسن فى مثله الحسد، ويتمنّى لفضله النسل والولد، بعزّته.
وقال أبو هلال العسكرىّ:
قد زاد فى عدد الكرام كريم ... محض صريح فى الكرام صميم
عالى المحلّة لا يزال كأنه ... للفرقدين وللسّماك نديم
فلأمره التتميم كيف تصرّفت ... حالاته، ولشأنه التفخيم
فابشر فقد وافاك يوم رزقته ... حظّ بتخليد السرور زعيم
فرع تكفّل دهره بتمامه ... حتى يكّر الدهر وهو أروم
إنّ الهلال يصير بدرا كاملا ... ويهدّ سدّ اللّيل وهو بهيم
وهو الوجيه إذا تبدّى وجهه ... وغدا إذا نزل العظيم عظيم
فلأهله شرف به متوطّد ... ولهم به شرف أشمّ عميم
فاقرر به عينا فإنّ خلاله ... تصفو وتسلس أو يقال نسيم
ولجدّه التصميم حيث تلاحقت ... أقرانه ولشأوه التّقديم
ومن كلام الصاحب بن عبّاد تهنئة ببنت:
أهلا وسهلا بعقيلة النساء، وأمّ الأبناء؛ وجالبة الأصهار، وأولاد الأطهار؛ والمبشّرة بإخوة يتنافسون، ونجباء يتلاحقون.
فلو كان النّساء كمثل هذى ... لفضّلت النّساء على الرّجال(5/134)
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
فادّرع يا سيّدى اغتباطا، واستأنف نشاطا؛ فالدنيا مؤنّثة والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها؛ والأرض مؤنّثة ومنها خلقت البرية؛ وفيها كثرت الذّرّيّة؛ والسماء مؤنّثة وقد تزيّنت بالكواكب، وحليت بالنجم الثّاقب؛ والنّفس مؤنّثة وهى قوام الأبدان، وملاك الحيوان؛ والجنّة مؤنّثة وبها وعد المتّقون، وفيها ينعم المرسلون.
فهنيئا هنيئا ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت؛ وأطال بقاءك ما عرف النسل والولد، وما بقى الأبد، وكما عمّر لبد.
ومن كلام أبى المكارم بن عبد السلام من شعراء الخريدة:
هذا شعيب النبىّ بابنته صفوراء استأجر موسى كليم الله. وهذا سيّد المرسلين، أبقى الله بفاطمة ابنته نسله إلى يوم الدّين. وهذه أمّ الكتاب سمّيت الفاتحة، وهى لأبواب مناجاة الرحمن فاتحة. وهذه محكمات القرآن، بها ثبتت شرائع الإيمان.
وهذه سورة النساء وسمّيت بهنّ وهى من الطّوال، ولا سورة من القصار سمّيت بالرجال. على أنّ الدّنيا بأسرها مؤنّثة والملوك من خدّامها، والشّمس مؤنّثة والضّياء والبهاء من تمامها؛ والنفس تؤنّث وبها فضّل الناس، والحياة تؤنّث وهى أساس الحواس؛ والعين تؤنّث وبها يتوسّل الى علم الدقائق؛ واليد تؤنّث وهى المتصدّية لتحبير الأشياء، والعضد تؤنّث وبها استعانة سائر الأعضاء؛ والسماء تؤنّث وهى تزجى الأمطار، والأرض تؤنّث وهى مجمع أطايب الثّمار، والجنّة تؤنّث وبها وعد الأبرار الأخيار؛ والعين (أعنى الذهب) تؤنّث وبها يدفع الهلك، والقوس تؤنّث وبها عزّ الملك.
ومما هنّئ به فى المواسم والقدوم- قال ابن الرومى تهنئة بعيد الفطر:
قد مضى الصّوم صاحبا محمودا ... وأتى الفطر صاحبا مودودا
ذهب الصّوم وهو يحكيك نسكا ... وأتى الفطر وهو يحكيك جودا(5/135)
وقال آخر:
رأى العيد وجهك عيدا له ... وإن كنت زدت عليه جمالا
وكبّر حين رآك الهلال ... كفعلك حين رأيت الهلالا
رأى منك ما منه أبصرته ... هلالا أضاء ووجها تلالا
وقال ابن الرومىّ يهنّئ بعيد أضحى وهو يوم نوروز:
عيدان: أضحى ونوروز كأنهما ... يوما فعالك من بؤس وإنعام
كذاك يوماك: يوم سيبه ديم ... على العفاة، ويوم سيفه دامى
وقال أبو إسحاق الصّابى:
يا سيّدا أضحى الزما ... ن بأنسه منه ربيعا
أيّام دهرك لم تزل ... للنّاس أعيادا جميعا
حتى لأوشك بينها ... عيد الحقيقة أن يضيعا
وقال الشّريف الرّضىّ تهنئة بقدوم:
قدم السّرور بقدمة لك بشّرت ... غرر العلا وعوالى التّيجان
قلقت ظبا الأسياف منك بفرحة ... فتكاد تنهضها من الأجفان
قد كان هذا الدهر يلحظ جانبى ... عن طرف ليث ساغب ظمآن
فالآن حين قدمت عدن صروفه ... يرمقننى بنواظر الغزلان
ومما قيل من شواذّ التهانى وهى الجمع بين التهنئة والتعزية، والبشارة والتسلية- فمن ذلك ما قاله عبد الملك بن صالح للرشيد، وكان من يحسده قد قال للرشيد عنه: إنه يعدّ كلامه. فأنكر الرشيد ذلك وقال: بل هو طبع. وجلس فى بعض الأيام ودخل عبد الملك؛ فقال الرشيد للفضل: قل له: ولد لأمير المؤمنين(5/136)
فى هذه الليلة ابن ومات له ابن. فقال الفضل له ذلك. فدنا عبد الملك وقال:
يا أمير المؤمنين، سرّك الله فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرّك، وجعلها واحدة بواحدة، ثواب الشاكر وأجر الصابر. فقال الرشيد: أهذا الذى زعموا أنه يتصنّع الكلام! ما رأى الناس أطبع من عبد الملك فى الفصاحة.
ومن ذلك ما حكاه ثمامة بن أشرس قال: لمّا دخل المأمون بغداد بعد قتل الأمين دخلت عليه زبيدة بنة جعفر أمّ الأمين، فجلست بين يديه وقالت: الحمد لله! إن أهنّئك بالخلافة فقد هنّأت بها نفسى قبل أن أراك، وإن كنت فقدت ابنا خليفة لقد اعتضت ابنا خليفة. وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أمّ ملأت عينها منك. وأنا أسأل الله أجرا على ما أخذ، وإمتاعا بما وهب. فقال المأمون:
ما تلد النساء مثل هذه، ما تراها أبقت فى الكلام لبلغاء الرجال! وقال عبد الله بن الحسن الجعفرىّ السمرقندىّ يهنّئ العزيز بخلافة مصر ويرثى أباه المعزّ:
قد أصبح الجوهر العلوىّ منتقلا ... فى خير من كان من خير الورى بدلا
يا منحة كملت فى محنة عظمت ... لو لاك فى الدّهر ما نال امرؤ أملا
صنع من الله فى خطب أتيح لنا ... عمّ البلاد وعمّ السّهل والجبلا
كان الزمان بمن أبقى ومن أخذت ... صروفه مدنبا طورا ومنتصلا
قام العزيز بما أفضى المعزّ به ... إليه مضطلعا بالعبء محتملا
فقام أحفظ مسترعى رعى فكفى ... من بعد خير إمام قوم الميلا
كالسيف منصلتا والبحر مندفقا ... والبدر مؤتلقا والغيث محتفلا
ومنها:
فى طلعة البدر من شمس الضّحى عوض ... وظلمة الّليل يجلو جنحها ابن جلا(5/137)
وما الأئمّة إلا أنجم زهر ... يبدو لنا كوكب إن كوكب أفلا
إنّ المعزّ الذى لا خلق يشبهه ... إلّا العزيز ابنه إن قال أو فعلا
ملك وجدنا التّقى والعدل عدّته ... إذا الملوك استعدّوا الكيد والحيلا
سمت الى العالم النّورىّ همّته ... ففارق القمّ الأرضىّ وانتقلا
وراجعت نفسه فى القدس عنصرها ... ولم يزل بحبال الله متّصلا
لم يرض خلقا من الدّنيا يجاوره ... إلّا الملائك فى الفردوس والرّسلا
لولا نزار وعين الله تحرسه ... كنّا بفقد معدّ أمّة هملا
فإن مضى كافل [1] الدّنيا وما ضمنت ... فذا ابنه كافل عنه بما كفلا
وإن هوى الجبل الراسى فذا جبل ... راس لنا بعده، أعظم به جبلا!
عمّت خلافته الدّنيا برونقها ... كأنه الشّمس فيها حلّت الحملا
ملك أغرّ وأيّام محجّلة ... ودولة كلّ وقت تقهر الدّولا
أضحت ملوك بنى الدّنيا له خولا ... وما حوت كلّ دار منهم نفلا
يأيّها الملك المأمول نائله ... ومن هو الغاية القصوى لنا أملا
كان السرير سرير الملك منخفضا ... حتى ارتقيت ذراه فارتقى وعلا
ومن ذلك ما كتب به عامل الى المصروف به:
قد قلّدت العمل بناحيتك، فهنأك الله بتجدّد [2] ولايتك، فأنفذت خليفتى لخلافتك، فلا تخله من هدايتك، إلى أن يمنّ الله بزيارتك.
فأجابه: ما انتقلت عنّى نعمة صارت إليك، ولا خلوت من كرامة اشتملت عليك. وإنى لأجد صرفى بك ولاية ثانية وصلة وافية؛ لما أرجو لمكانك من حسن الخاتمة ومحمود العاقبة. والسلام.
__________
[1] فى الأصل: «كامل الدنيا» .
[2] فى الأصل: «تجدد» من غير حرف الجر.(5/138)
وكتب إبراهيم بن عيسى الكاتب يهنّئ إبراهيم بن المدبّر بالعزل عن عمل:
ليهنئ أبا إسحاق أسباب نعمة ... مجدّدة بالعزل، والعزل أنبل
شهدت لقد منّوا عليك وأحسنوا ... لأنك بعد العزل أعلى وأفضل
آخر:
إنّ الأمير هو الّذى ... يضحى أميرا عند عزله
إن زال سلطان الولا ... ية فهو فى سلطان فضله
وكتب أبو إسحاق الصّابى الى رجل زوّج أمّه:
قد جعلك الله- وله الحمد- من أهل التحصيل، والرأى الأصيل؛ وصحّة الدّين، وخلق ذى اليقين. فكما أنّك لا تتّبع الشهوة فى محظور تحلّه، فكذلك لا تطيع الأنفة فى مباح تحظره. وتأدّى إلىّ من اتّصال الوالدة- يسّر الله لها فى مدّتك، وأحسن بالبقيّة منها إمتاعك- بأبى فلان، أعزّه الله، ما علمت فيه أنّك بين طاعة للدّيانة توخّيتها، ومشقّة تجشّمتها؛ وأنّك جدعت أنف الغيرة بها، وأضرعت خدّ الحميّة فيها، وأسخطت نفسك بإرضائها، وعصيت هواك لرأيها.
فنحن نهنّيك بعزيمة صبرك، ونعزّيك عن فائت مرادك؛ ونسأل الله الخيرة لك فيه، وأن يجعلها أبدا معك فيما شئت وأبيت، وتجنّبت وأتيت.
وقال كاتب متقدّم فى مثل ذلك:
الرضا بما يبيحه حكم الله أولى من الامتعاض فيما تحظره أنفة الحميّة. ولا قبح فيما أحلّ الله، كما لا جمال فيما حرّم الله. فعرّفك الله الخيرة فيما اختارته من طهارة العفاف ونبل الحصانة، وعطفك من برّها على ما تؤدّى به حقّها، وما لزمك من المعروف فى مصاحبتها.(5/139)
وكتب الصّاحب بن عبّاد تهنئة بزواج أمّ وتعزية بموت أب، فقال:
الأيّام- أطال الله بقاءك- تجرى على أنحاء مختلفة، وشعب متفرّقة؛ وأحكامها تتفاوت بيننا بما يسوء ويسرّ، وينفع ويضرّ. وبلغنى من نفوذ قضاء الله فى شيخك- رحمه الله- ما أزعجنى، وأبهم طرق السلوة دونى، وإن كان من خلّفك غير خارج عن مزيّة الأحياء، ولا حاصل فى زمرة الأموات. والله يأسو كلمك، ويسدّ ثلمك. وقد فعل ذلك بأن أتاح الله لك بعد أبيك أبا لا يقصر عنه شفقة عليك وحنوّا، وإيثارا لك وبرّا. وقد لعمرى وفّقت حين وصلت بحبلك حبله، وأسكنت الكبيرة- حرسها الله تعالى- ظلّه؛ لئلا تفقد من الماضى- عفا الله عنه- إلّا شخصه. فالحمد لله الذى أرشدك لما يعيد الشّمل مجتمعا بعد فراقه، والعدد موفورا بعد انتقاصه؛ حمدا يقضى لك بالمسرّة، ويحسم دونك مراد الوحشة، ويلقّيك ثواب ما قضيته من الحق، وتحمّلته فيه من الأوق [1] ؛ إنه فعّال لما يريد.
فهذه نبذة كافية فى التهانى الخاصة؛ فلنذكر العامّة.
ذكر نبذة من التهانى العامّة والبشائر التامّة
ولنبدأ من ذلك بما قيل فى البشارة بوفاء النيل، لما فيه من عموم المنافع الشاملة، وشمول النّعم الكاملة، والخصب الذى يتساوى فى الانتفاع به الغنىّ والفقير، والمأمور والأمير.
فمن ذلك ما كتب به المولى الفاضل، الصدر الكبير الكامل، ذو المناقب والمآثر، والفضائل وللفاخر، شهاب الدين محمود الحلبىّ:
__________
[1] الأوق: الثقل.(5/140)
وسرّه بنبأ النيل الذى عمّ نيلا، وجرّ على وجه الأرض ملاءة ملأته، فشمّر المحل للرّحلة ذيلا، وجرّد على الجدب سيف خصبه فسال محمرّ دمه على وجه الصّعيد سيلا، وجرى وسرى فى ضياء إشراقه وظلمة تراكمه إلى الأرض التى بارك به حولها، فجلّ من أجراه نهارا وسبحان من أسرى به ليلا. صدرت هذه المكاتبة إليه- أعزّه الله تعالى- ونعم الله قد عمّت، وآلاؤه مع تحقّق المزيد قد تمّت، وموادّ فضله قد أمّت الأقطار فقامت صلاة الصّلات إذ أمّت؛ وكلمة الخصب قد نمت فى الآفاق، فوشت بمكنون حديثها للأرض ونمّت؛ والخصب قد أقبل على الجدب فلم يكن له بمقاومته قبل، وطوفان الرّحمة قد طبق الوهاد، فلم يغن المحل أن قال: سآوى منه إلى جبل. والسيل قد بلغ فى تتبّع بقايا القحط الزّبى، والنّيل قد عمّ بنيله الأرض حتى كلّل مفارق الآكام وعمّم رءوس الرّبا؛ وحمى الأرض من تطرّق المحول إليها فأصبحت منه فى حرم، وظهرت به عجائب القدرة، ومنها أنّ ابن الستة عشر بلغ إلى الهرم، وبثّ جوده فى الوجود فلو صوّر نفسه لم يزدها على ما فيه من كرم؛ وتلقّت منه النفوس أبهج محبوب طرد ممقوتا، ووثقت من حمرته بالغنى والمنى إذ لم تدر أياقوتا تشاهد منه أم قوتا. وجرى فى الوفاء على أكمل ما ألف من عادته، وظهر بإشراقه وعموم نفعه ظهور الشّمس فألقى على الأرض أشعّة سعادته؛ وأقبلت به على الخلق بوادر الإقبال، وركب الناس منه فى سفن النجاح والنجاة فهى تجرى بهم فى موج كالجبال. وبلّغ الله به المنافع فزعزع الشّمّ ولم يتجاسر على الجسور، وأمن الناس به طروق المحل المطرود به عنهم فضرب بينهم بسور، وأقطع الخصب الأرض كلها فله فى كل بقعة مثال مرئىّ ومنشور منشور، وبعث إلى كل عمل من سرايا جوده عارضا مغضبا على المحل ما يخطر إلّا وسيفه مشهور؛ وأودع بطن الثّرى موادّ ثرائه، واستقبل الورى بوجه ما تأمّله امرؤ(5/141)
صادى الجوانح إلا ارتوى من مائه، وأظهر الله به مثال ما سلف من كرامة أصفيائه؛ إذ جعل تحت كل نخلة من سراه سريّا، وجلا به عن الأمّة ظلم الغمّة إذ أطلع منه فى أوّل مطالعه المرتقبة محيّا بدريّا. وذلك أنه لما كان فى اليوم الفلانىّ وفى النّيل المبارك ستة عشر ذراعا، ومدّ بحسن صنع الله إلى مصالح البلاد يدا صناعا؛ وركبنا إلى المقياس الذى تعلم به مواقع الرحمة فى كلّ يوم، وتهدى منه واردات السرور إلى كلّ قوم؛ ووقفنا به لابسين من رحمة الله تعالى أحسن لباس، آنسين من أنوار رحمة الله التى أزالت اليأس وأذهبت الباس، ناظرين إلى أثر رحمة الله التى أحيت الأرض بعد موتها، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وجرى الأمر فى التخليق على أجمل عادات البدور، وعلّقت ستارة المقياس لا للإخفاء على عادة الأستار، بل للإشاعة والظهور؛ واستقرّ حكم المسرّة على السّنن المعهود، وعاد للناس عيد سرورهم إذ ذاك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود. وركب مولانا السلطان إلى سدّ الخليج والماء قد استطال عليه، وسرت سرايا أمواجه إليه، وصدمه بقوّة فاندفع منكسرا بين يديه؛ فانجبرت القلوب بكسره، واستوفت الأنفس السّرور بأسره، وأيقن كل ذى عسر بحصول يسره؛ وساق الله به الماء إلى الأرض الجرز فأحياها وحيّاها، ورقّ لوجهها المغبرّ فستر بردائه المحمرّ صفحة محيّاها. كل ذلك وهو- بحمد الله تعالى- آخذ فى الازدياد، جار على وفق المراد إلى حدّه المعتاد، سالك ببلاغه سبيل أهل البلاغة إذ يهيمون فى كلّ واد. وها هو الآن يرتفع إلى كلّ ربوة على جناح النّجاح، ويخيف السّبل وما عليه حرج ويقطع الطّرق وليس عليه جناح.
فليأخذ مولانا حظّه من هذه البشرى التى عمّ بشرها، ووجب على كل مؤمن شكرها؛ ويتحقق أنّ هذه بوادر خير تسرى إليه على ركائب السّحائب، وطلائع خصب هى لديه أقرب غائب وأسرع آئب. والله تعالى يعزّ أنصاره، ويوالى مبارّه، بمحمد وآله.(5/142)
وكتب أيضا فى مثل ذلك:
ضاعف الله نعمة المجلس العالى، وبشّره بما أجرى الأمّة عليه من عوائد كرمه، وسره بما يسره من خصوص برّه وعموم نعمه، وهنّاه بما سنّاه [1] من هرب جيش المحل بعد قدم وثباته وثبات قدمه، وأورد على سمعه من أنباء نصرة الخصب ما يتحقّق به أن لم يبق فى الأرض علم إلا تحت علمه، وأنه ذبح الجدب بسيف مدده الذى أنبأ بحمرة عندمه عن دمه، وبثّ سراياه فى الأقطار، على متون القطار، مرهفا على بقايا المحل سيوف بروقه ونبال ديمه؛ وضرب قباب موجه على المسالك، فلو هبّت بينها عاصفة جدب تعثّرت بأطناب خيمه، ولعب على ما شمخ من الرّبا، فعجب له من كامل يلعب وقد بلغ إلى هرمه! صدرت هذه المكاتبة تقصّ عليه من نعم الله أحسن القصص، وتهدى إليه من موادّ فضله ما يخصّ الشأم وأهله منه بأوفى الأقسام وأوفر الحصص، وتحثّه على شكر الله تعالى الذى به ينتهز من مزيد برّه أعظم الحظوظ وأفضل الفرص، وتعلم أنّ الله نصر جيش الرخاء بمدد لطفه على اليأس الذى تولّى الشيطان أمره فلمّا تراءت الفئتان نكص، وأنعم على خلقه بما أرخصته عزائم كرمه بهم، فوجب أن تقابل نعمه بعزائم الشكر دون الرّخص؛ وذلك أن الله تعالى أجاب دعوة المضطرّ، وأفاض برّه العميم على الغنىّ والفقير والقانع والمعترّ؛ وأحيا الأرض بعد موتها، وتدارك برحمته دنيا الدّهماء بعد أن أشرفت على فوتها؛ وأجرى الخلق على عوائد كرمه، وأجرى لهم بقدرته من حجب الغيب موادّ نعمه، وأعلى لديهم موارد نيلهم حتى كاد ما يشرب بفروق ساقه يتناول الماء بفمه؛ وأمر البحر فأقبل بالفرج القريب من الأمد البعيد، وأذن له فى الترفّع من محلّه فسجد على التّرب شكرا وتيمّم الصعيد وإن لم يبق به الآن على وجه
__________
[1] سناه: سنه وسهله.(5/143)
الأرض صعيد؛ وأسرى منه ركائب السرور إلى الأقطار ففى كلّ ناد من هديره حاد وفى كل برّ من بروره بريد، وذكّر بإحياء الأرض بعد موتها إحياء أمواتها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
، ونشر ألويته على الثّرى لأهل الأرض بشرا بين يدى رحمته، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ
؛ وأقبل بعد نقص عامه الماضى بوجه عليه حمرة الخجل، وعزم سبق سيفه إلى المحل العذل بل الأجل، وحزم أدرك الجدب بوجه قبل أن يقول: سآوى إلى جبل، واستظهار على كلّ ما علا من الأرض حتى إن الهرمين باتا منه على وجل؛ ومهّد الأرض التى كانت ترقبه فهو لها المنتظر على الحقيقه، ووطئ بطن القرى فنتج الخصب بينهما وذبح المحل فى العقيقه؛ وقطع الطّرق فآمن بذلك كلّ حاضر وباد ورائح وغاد، واتّبعه الرّىّ لا الرّوىّ حتى أضحى كالشعراء يهيم فى كل واد؛ وعمت بركاته على الأرض «فتركن كل قرارة كالدرهم» من الخصب مرتعا، وأربى على ريّه فيما [1] سلف من السنين، فأضحى كهوى ابن أبى ربيعة «يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا» ؛ وتجعّد على الآكام فخيّل للعيون أنها تسيل، وشيّب مفارق الرّبا ببياض زبده، وعادة بياض الشيب أن يخضب بورق النيل. وكأنّ ما بقى من المحل قد جعل بينه وبينه سدّا، وتستّر منه ورآه وهو يملى ويعدّ له عدّا؛ فصدمه بقلبه وجعله دكّا إذ جاء أمر ربه وأدركه وملكه، وسفك دمه فجرى مستطيلا إذ سفكه؛ ووفى بما وعد من ظفره، وأتى لنصرة الخصب من مكان بعيد فأسفر عن النّجح وجه سفره، وأسبل على مقياسه ستر السرور لإخفاره ذمّة الجدب لا لخفره، وبشّر مصره بنصرة سرايا السحائب
__________
[1] فى الأصل: «وأربى على ريه ما سلف من السنين» وظاهر أنه غير مستقيم. ويجوز أن يكون الأصل: «وأربى ريه على ما سلف» فحدث فيه تقديم وتأخير من الناسخ.(5/144)
فى أقطار الممالك لأنها من أشياعه ونفره. ولما كان اليوم الفلانى علّق الستر وخلّق المقياس، وكسر الخليج فكان فى كسره جبر للخليقة ومنافع للناس؛ وذلك بعد أن وفّى النيل المبارك ستة عشر ذراعا، وصرف فى مصالح البلاد يدا تضنّ بالبذل خرقا وتكفى بحسن التدبير ضياعا، [وبثّ فى أرجاء الأعمال بحارا تحسب بتلاطم الأمواج ركاما وبمضاعفة الفجاج [1] سراعا] . وهو بحمد الله آخذ فى ازدياده إلى حدّه، جار على اعتياده فى المشى على وجه الثرى وخدّه؛ يتتبّع أدواء المحل تتبّع طبيب خبير، ويعكس بيت أبى الطّيّب فتمسى وبسطها تراب، ويصبّحها وبسطها حرير. وقد وثقت الأنفس بفضل الله العميم، وأصبح الناس بعد قطوب اليأس تعرف فى وجوههم نضرة النّعيم؛ تيمّنا ببركة أيّامنا التى أعادت إليهم الهجوع، وأعاذتهم مما ابتلى به غيرهم من الخوف والجوع. فليأخذ المجلس العالى حظّه من هذه البشرى التى خصّت وعمّت، ووثقت النفوس بمزيد النعمة إذ قيل: تمّت؛ ويذيعها فى الأقطار، ويعرّفهم قدر ما منح الله جيوش الإسلام من فضله الذى يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفّار؛ ويستقبل نعم الله التى سيسم الأرض وسميّها ويولى النعم وليّها ويأتى بالبركات أتيّها حتى تغصّ بالنعم تلك الرّحاب، ويظنّ لعموم رىّ البلاد الشاميّة أنّ نيل مصر وصل إليها على السّحاب؛ ويقيم منار العدل الذى هو خير بالأرض من أن تمطر، ويعفّى آثار الظلم حتى لا تكاد تظهر.
ومما قيل فى التهانى بالفتوحات، وهزيمة جيوش الأعداء.
فمن ذلك ما كتب به المهلّب بن أبى صفرة إلى الحجّاج بن يوسف الثقفىّ فى حرب الأزارقة:
__________
[1] وردت هذه الجملة هكذا بالأصل!(5/145)
أمّا بعد، فالحمد لله الذى لا تنقطع موادّ نعمته من خلقه حتى تنقطع موادّ السّكر. وإنّا وعدوّنا كنا على حالتين: يسرنّا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسوءهم منّا أكثر مما يسرّهم؛ فلم يزل الله عز وجل يزيدنا وينقصهم، ويعزّنا ويذلّهم، ويؤيّدنا ويخذلهم، ويمحصنا ويمحقهم؛ حتى بلغ الكتاب أجله، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
وكتب الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة حين ولّى العراق من قبل عبد الله ابن الزبير إليه يخبره بهزيمة الخوارج: أمّا بعد، فإنا مذ خرجنا نؤمّ هذا العدوّ فى نعم من الله متّصلة علينا، ونقمة من الله متتابعة عليهم؛ نقدم ويحجمون، ونجدّ ويرحلون، إلى أن حللنا بسوق الأهواز. والحمد لله رب العالمين.
ثم كتب إليه بعد هذا الكتاب [1] : أمّا بعد، فإنا لقينا الأزارقة بجدّ وحدّ، وكانت فى الناس جولة ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر بنيّات صادقة وأبدان شداد وسيوف حداد؛ فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا دريئة رماحنا وضريبة سيوفنا، وقتل الله أميرهم ابن الماحوز؛ وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأوّلها. والسلام.
وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون لمّا فتح بغداد وقتل محمدا الأمين:
أمّا بعد، فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين فى النسب واللّحمة، لقد فرّق الله بينهما فى الولاية والحرمة؛ لمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن الأمر الجامع للمسلمين.
قال الله عز وجل: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ
. ولا صلة لأحد فى معصية الله، ولا قطيعة فى ذات الله. وكتبت إلى أمير المؤمنين وقد قتل المخلوع
__________
[1] فى الكامل المبرد (ص 640 صبع أوربا) ان هذا الكتاب من المهك الى الحارث.(5/146)
وردّاه الله رداء نكبة، وأحمد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له ما كان ينتظر من صادق وعده. والحمد لله المتولّى لأمير المؤمنين بنعمته، والراجع إليه بمعلوم حقّه، والكائد له ممن ختر عهده ونكث عقده؛ حتى ردّ له الألفة بعد تفريقها، وأحيا الأعلام بعد دروس أثرها، ومكّن له فى الأرض بعد شتات أهلها.
ولمّا فتح المعتصم عمّوريّة أكثر الشعراء من ذكر هذا الفتح؛ فمن ذلك قول أبى تمام حبيب بن أوس الطائى من قصيدته التى يقول فى أوّلها:
السيف أصدق إنباء من الكتب ... فى حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف فى ... متونهنّ جلاء الشكّ والرّيب
والعلم فى شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا فى السبعة الشّهب
جاء منها:
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ... نظم من الشّعر أو نثر من الخطب
فتح تفتّح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض فى أثوابها القشب
ومنها:
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدّت صدودا عن أبى كرب
بكر فما افترعتها كفّ حادثة ... ولا ترقّت إليها همّة النّوب
من عهد إسكندر أو قبل ذاك فقد ... شابت نواصى اللّيالى وهى لم تشب
حتى إذا مخض الله السنين لها ... مخض الحليبة كانت زبدة الحقب
أتهم الكربة السوداء سادرة ... منها وكان اسمها فرّاجة الكرب
لمّا رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الحرب
أشار فى هذا البيت إلى فتح أنقرة.(5/147)
ومنها:
لبّيت صوتا زبطريّا هرقت له ... كأس الكرى ورضاب الخرّد العرب
قيل: كانت الروم لمّا فتحت زبطرة صاحت امرأة من المسلمين: وا محمداه! وا معتصماه! فلما بلغه الخبر ركب لوقته يؤمّ الشأم، وصاح: لبّيك! لبّيك! ولم يرجع إلى أن فتح أنقرة وعمّوريّة. ومنها:
خليفة الله جازى الله سعيك عن ... جرثومة الدّين والإسلام والحسب
إن كان بين صروف الدهر من رحم ... موصولة أو ذمام غير منقضب
فبين أيّامك الّلاتى نصرت بها ... وبين أيام بدر أقرب النّسب
وكتب أبو عبيد [عبد] الله البكرى إلى المعتمد على الله المؤيّد بنصر الله يهنّئه بالفتح الذى كان فى سنة سبع وسبعين وأربعمائة:
أطال الله بقاء سيّدى ومولاى الجليل القدر، الجميل الذكر، ذى الأيادى الغرّ، والنعم الزّهر؛ وهنأه ما منحه من فتح ونصر، واعتلاء وقهر. بطالع السعد يا مولاى أبت، وبسانح اليمن عدت، وبكنف الحرز عذت، وفى سبيل الظّفر سرت، وبقدم البرّ سعيت، وبجنّة العصمة أتيت، وبسهم السّداد رميت فأصميت. صدر عن أكرم المقاصد وأشرف المشاهد، وعود بأجلّ ما ناله عائد وآب به وارد؛ فتوح أضحكت مبسم الدهر، وسفرت عن صفحة البشر، وردّت ماضى العمر، وأكبت [1] وارى الكفر؛ وهزّت أعطاف الأيام طربا، وسقت أقداح السرور نخبا، وثنت آمال الشرك كذبا، وطوت أحشاء الطاغية رهبا؛ فذكرها زاد الراكب، وراحة اللّاغب؛ ومتعة الحاضر، ونقلة المسافر.
__________
[1] أكبت: جعلته لا يورى. وفى الأصل: «أكفت» . ولعله تحريف من الناسخ.(5/148)
بها تنقض الأحلاس فى كلّ منزل ... وتعقد اطراف الحبال وتطلق
شملت النعمة وجبرت الأمة، وجلت الغمّة؛ وشفت الملّة، وبرّدت الغلّة، وكشفت العلّة.
كان داء الإشراك سيفك واشت ... دّت شكاة الهدى وكان طبيبا
فغدا الدّين جديدا، والإسلام سعيدا، والزمان حميدا؛ وعمود الدين قائما، وكتاب الله حاكما؛ ودعوة الإيمان منصورة، وعين الملك قريرة. فهنأ الله مولانا وهنأنا هذه المنح البهيّة مطالعها، الشّهيّة مواقعها؛ المشهورة آثارها، المأثورة أخبارها؛ ونصر الله أعلامه ففى البرّ تحلّ وتعقد، وعضد حسامه فبالقسط يسلّ ويغمد؛ وأيّد مذاهبه فبالتّحزّم تسدى وتلحم، وأمّر كتائبه ففى الله تسرج وتلجم. فكم فادح خطب كفاه، وظلام كرب جلاه، وميّت حقّ أحياه، وحىّ باطل أرداه! وكم جاحم ضلالة أطفأ ناره، وناجم فتنة قلّم أظفاره، ومفلول سنّة أرهف شفاره، ومستباح حرمة حمى ذماره. فلله هذه المساعى الكريمة والمنازع القويمة، المتبلّجة عن ميمون النّقيبة ومحمود العزيمة؛ فقد تمثّل بها العهد الأوّل والقرن الأفضل الذى أخرج للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ والذى سطع هذا السّراج، وانتهج هذا المنهاج؛ فلا زالت الفتوح تتوالى عليه، وصنائع الله تتّصل لديه، إدالة من مشاقّيه وإذالة لمحاربيه، وإبادة لمناوئيه. وإن أجلّ هذه النعم فى الصدور، وأحقّها بالشكر الموفور؛ ما منّ الله به من سلامة مولاى التى هى جامعة لعزّ الدّين وصلاح كافّة المسلمين، بعد أن صلى من الحرب نيرانها، فكان أثّبت أركانها وأصبر أقرانها:
وقفت وما فى الموت شكّ لواقف ... كأنّك فى جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم
هنيئا لضرب الهام والمجد والعلا ... ووجهك والإسلام أنّك سالم(5/149)
فلله الحمد والإبداع والإلهام، وله المنّة وعلينا متابعة الشكر والدوام. وقد فازت الكفّ الكليم، بأعلى قداح المكلوم لدى المقام الكريم؛ وإنها لهى التالية للإصبع الدامية فى المنزلة العالية.
بصرت بالراحة العليا [1] فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التّعب
ومن كلام القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ جواب كتاب ورد عليه يخبر فيه بانتصار المسلمين. ابتدأه بقوله عز وجل: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
. وصلت بشرى المجلس السامى- أعلاه الله وشيّده، وأسعده وأصعده، وشكر مشهده وأنجح مقصده، وملأ بالحسنات أمسه ويومه وغده، وأهلك وعادى أعداءه وحسّده، واجتبّ بسيفه زرع الكفّار وذراه وحصده- بما منّ الله سبحانه من نصرة المسلمين عند لقاء عدوّهم؛ وما وليهم الله من القوّة والإظهار، وما قذف فى قلوب الكفر من الخوف والحذار؛ وشرح القضيّة شرحا شرح الصدور، واستوى فيها الغيّاب مع الحضور؛ فكانت البشارة منه وكانت المباشرة له، وما كلّ من بشّر باشر، ولا كلّ من غار غاور؛ ولا كلّ من خبّر عن السيوف لقيها بوجهه، ولا كلّ من حدّث عن الرماح عانقها بصدره. فنفعه الله بالإسلام كما نفع الإسلام به، وأتمّ النعمة عليه كما أتمّها فيه؛ وتقبّل جهاده الذى جلا فيه الكربات، وابتغى فيه القربات. ويتوقّع إن هان العدوّ فى العيون، وظهر منه غير ما كان فى الظنون، أن يكسر الله بكم مصافّه، ويفتح عليكم بلاده، ويطهّر بسيوفكم الشام، ويسرّ بنصركم الإسلام، ويشرّف بيوم نصركم الأيّام. والخير يغتنم إذا عنّت فرصه، ويصاد إذا أمكن الصائد قنصه، والجهاد فرض على المطيق تقتضيه عزائمه ولا تقتضيه رخصه. وقد حضر المولى وحضر كلّ خير، وحضر من رأيه ما يكفى
__________
[1] فى ديوان أبى تمام: «الكبرى» .(5/150)
أمر العدوّ ولو لم يكن إلا رأيه لا غير؛ فكيف وفى يده من العضب، مثل ما فى صدره من القلب؛ كلاهما حديد لا تكلّ مضاربه، ولا تخونه ضرائبه، ولا تفنى إذا عدّدت عجائبه. فكم له من يوم أغرّ محجّل الأطراف، وليلة فى سبيل الله دهماء الأهوال بيضاء الأوصاف؛ والنفوس واثقة بأن الظّفر على يده يجرى، والمبشّر من جهته يسرّ ويسرى. والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
وكتب أيضا فى مثل ذلك: ورد كتاب المجلس- نصر الله عزمته، وشكر همّته، وأتمّ عليه نعمته، وصرف به وعنه صرف كلّ دهر وملمّته ومؤلمته، وأعان أولياءه على أن يؤدّوا خدمته، ويستوهبوا له فضل الله ورحمته، وأجزل قسمه من الخير الذى يحسن بين محبّيه قسمته- سافرا عن مثل الصباح السافر، متحدّثا عن روض أفعاله بلسان النسيم السّحرىّ الساحر، حاملا حديث بيضه وسمره حديث السامر.
وهنّأ بالفتح وهو المهّنأ به، وكيف لا يهنّأ بالفتح من هو فاتحه! وكيف لا يشرح خبره من هو فاتح كلّ صدر وشارحه! ولقد دعا له لسان كلّ مسلم وساعدت لسانه جوارحه؛ وعلم أنه باشر الحرب وتولّى كبرها، وأخمد جمرها، ولقى أقرانها، وافترس فرسانها، وجبّن شجعانها، وشجّع جبانها؛ وأنفق الكريمين على النفس: النّفس والمال، وحفظ على الإسلام الطّرفين: الفاتحة والمآل. وإذا تأمل المجلس الدنيا علم أن الذى يبقى بها أحاديث، وإذا نظر إلى المال علم أن الذى فى الأيدى منه مواريث؛ فالحازم من ورث ماله ولم يورثه لغيره، والسعيد من لم يرض لنفسه من الحديث إلا بخيره. وما يخفى عن أحد ما فعله، ولا ما بذله، ولا ما هان عليه، ولا ما أهان الله كرائم المال بيديه؛ ولقد حلّت نعمة الله فى محلّها لديه، وكان كفأها الكريم الذى أصدقها ما فى كفّيه.
هذا ثنائى وهاتيكم مناقبكم ... يا أعين النّاس ما أبعدت إسهادى(5/151)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً
، بل هو سبحانه يوفى عباده مثاقيل الذّرّ، وللصابرين عنده الأجر بغير حساب لجلالة قدر الصبر.
والمجلس صبّر نفسه على المشقّات فليبشر بثوابها، وكثّر أعمال البرّ فهو يدخل الجنّة بفضل الله من جميع أبوابها. وكما يهنّأ المجلس بالافتتاح فهو يهنّأ بالجراح؛ ولا يغسل ثوب العمل إلا الدم المسفوح، وكل جرح إنما هو باب إلى الجنة مفتوح. والحمد لله على أن أمتع الأمّة بنفسه التى بذلها، وقد باعها له وأبقاها لنا وقبلها. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ.
وكتب المرحوم علاء الدين علىّ بن القاضى محيى الدين بن الزكىّ إلى أخيه بهاء الدين مبشّرا بفتح صفد، وكان هذا الفتح فى يوم الجمعة ثامن عشر شوّال سنة أربع وستين وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار دولة الترك فى أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس:
يقبّل اليد الكريمة، ويبثّ ما يعالجه من لواعج الأشواق التى تركته بين الأصحاب مدلّها، وسلبت لبّه فلا أعلم عليه من دلّها؛ وينهى أن المملوك فارق كريم جنابه وتوجّه إلى صفد المحروسة فوصل إليها فى تاريخ كذا، ووافاها والحصن قد تزعزعت أركانه، والكفر قد انهدم بنيانه، وشمّر عن ساق الهزيمة شيطانه؛ وحماة الحرب قد وقفت فى مراكزها، وكماة الهيجاء قد استعدّت لأخذ فرص النصر ومناهزها؛ والرماح قد اهتزّت شوقا الى لقائهم، والسيوف قد آلت أنها لا توافق على مقامهم، والمجانيق تزور حماهم وتلك الزيارة لشقائهم؛ وتدمّر بحجارتها عليهم تدميرا، وتريهم من بأسها يوما عبوسا قمطريرا، وتصير بهم إلى الهلاك وتعدهم جهنّم وساءت مصيرا؛ والقسىّ ترسل اليهم المنايا فى أجنحة السهام، وقد أحدقت بهم كماة الترك كأنها ظباء(5/152)
بأعلى الرقمتين قيام؛ فمن نازع بقوسه وهو لمهج الكافرين منازع، ومن متدرّع بنحره نحو المنايا يسارع، ومن وارد منهل المنيّة وآخر فى إثره كارع، ومن متدرّع وحاسر علما أن ليس لقضاء الله دافع؛ وما زادهم إلا إيمانا وتسليما، وما سلك بهم إلا صراطا مستقيما، وما اشترى أنفسهم وأموالهم إلا بالجنّة وأعدّ لهم أجرا كريما. والسلطان- عزّ نصره- قد شحذ شبوات عزمه، وفوّق سديد سهمه ليفوز بجزيل سهمه؛ وهو يرتّب عساكره، ويهيّئ ميامنه ومياسره، وينفذ أوائله ويقدّم أواخره، ويحثّ صناديده، ويثبت رعاديده؛ ويسعر همّة مساعره، ويذكى نار الحرب فى مجامره؛ ويقابل الأبراج ببروج يهدمونها، ويكل بالنّقوب نقباء يحفرونها، ويعد للمؤمنين مغانم كثيرة يأخذونها؛ ويعدّ لكل مقام رجالا، ويرتّب لكل مقاتل من المسلمين قتالا، ويبسط لهم بقتل الكافرين آمالا؛ حتى قامت الحرب على ساق، وضاق بأهل الشقاق الخناق؛ وبلغت الأرواح منهم التّراقى، ودارت عليهم كؤوس المنايا فانتشى المسقّى والساقى؛ وأحدقت بهم الجياد تصهل، وسحب القسىّ تهطل، وكواذب الآمال تعدهم وتمطل؛ وخرصوا لأنفسهم الفرج فكذّبتهم أسنّة الخرصان، ونظروا إلى الحياة بعين الطمع فكحلتهم بنات الحنيّة المرنان؛ فلما أشرب [1] العجز نفوسهم، واستوى فى الشّورى مرءوسهم ورئيسهم؛ ومنوا بالمنايا من كل جانب، وسمح كلّ منهم بالمال والذهب مذ علم أنّه ذاهب؛ وتحقّقوا أن لا ملجأ من السيف إلا إليه، ولا معوّل بعد المعوّل إلا عليه، وتيقّنوا أن لا مقام لهم ولا مقرّ، وقال الكافر يومئذ أين المفرّ. والمسلمون مثابرون على العمل الصالح يرفعونه، ومبادرون أجل عدوّهم يمزّقون منه كل ما يرقعونه؛ وإذا بصيحة كالصيحة التى تأخذهم وهم ينظرونها، أو الصعقة التى ينتظرونها، إذ أمرّت السيوف على رقابهم وهم يبصرونها؛
__________
[1] فى الأصل: «اشراب» وهو غير واضح.(5/153)
فارتجّت أرجاء الحصن بالاصطخاب، ووقع الاختلاف بينهم والاضطراب؛ وقيل:
إن الكافر قد طلب الأمان، وإنه ركب ظهر المذلّة مذ ناوله الجزع العنان، وإن الكفر قد ذلّ للإيمان، وإن شيطانه قد نكص على عقبه لما تراءت الفئتان؛ فأمسكت المجانيق عن ضربها، وكفّت الحنايا عن إرسال شهبها، وأقصرت ليوث الحرب الضارية عن وثبها. فما كان إلّا هنيهة وقد خرج رسول منهم حيث لا تنفع الرسائل، واخترق وشيج القنا وشوك النّصال وظبا المناصل، ورأى كثرة هالته فكادت تنقدّ تحت الذعر منه المفاصل، ومشى إلى السلطان خاضعا وأعيا على السّماطين يقوم كلما عوّجته الأفاكل.
وقبّل كمّا قبّل التّرب قبله ... وكلّ كمىّ واقف متضائل
وأدّى الرسالة وإذا هى كما قال أبو الطيب دروع، ورجع إلى أهله وفى قلبه من جيش الإسلام- كثره الله- صدوع.
فأقبل من أصحابه وهو مرسل ... وعاد إلى أصحابه وهو عاذل
فأبوا لنصيحته قبولا، وقالوا: قاتلك الله رسولا؛ لقد خرجت عن سنّة إخوانك، وألقيت إلى المسلمين فاضل عنانك، ولم ترقب رضا أقسّتك [1] ورهبانك.
والرعب قد خرج به عن قومه وآله، وهو يناشدهم الله فى أموالهم وأنفسهم وينشدهم بلسان حاله:
أمرتهم أمرى بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا الرّشد إلا ضحى الغد
فلما استحكمت مرّة عصيانهم، وأبوا إلا مغالاة فى طغيانهم؛ ولم يسمحوا بتسليم ذلك الحصن الحصين، وقالوا: إنه على حفظ أرواحنا لقوىّ أمين؛ أرسلت عليهم من المجانيق حجارة كالمطر، إلا أنها ترمى بشرر كالقصر فتهدم قصورا كالشرر؛
__________
[1] فى الأصول: «أقسائك» وهو تحريف.(5/154)
فزعزعت منها بروجا وبدنا، وقالت: هذا جزاؤكم وإن عدتم عدنا، ولنتبعنّ بعدها آثاركم ونقلع منكم قلاعا ومدنا. فلما أكذبهم الحصن فى آمالهم، وأراهم الله قرب آجالهم؛ وكان ذلك فى اليوم الأغرّ يوم الجمعة والفتح، سلكوا فى التسليم عادة لم يسلكوها، ورأوا من الجزع خطّة ملكتهم ولم يملكوها؛ فأجمعوا أمرهم وشركاءهم إلا أنه كان عليهم غمّة، وطلبوا الذّمام ومن قبلها كانوا لا يرقبون فى مؤمن إلّا ولا ذمّة؛ فألقوا إلى الإسلام يومئذ السلم، ورأوا نور الله الظاهر أشهر من نار على علم؛ فخرجوا من الحصن زرافات وأوزاعا، مهطعين إلى الداعى كيوم يخرجون من الأجداث سراعا. فلو تراهم نحو المنايا يركضون، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ.
جرت الرياح على مقرّ ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
وصدق الله المؤمنين وعده، وكان بصدق وعده حقيقا، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً
. فلما كان يوم السبت نادى فيهم السيف بالرحيل، ولم يتزوّدوا من متاع الدنيا إلا القليل؛ وقام النصر على منابر الهامات خطيبا، وكثر القتل فصار المهنّد الصقيل خضيبا؛ وأجرى أودية من دمائهم، ولم يغادر بقيّة من ذمائهم؛ واستوى العبيد منهم والأرباب، وصار فرسانهم فرانس الذئاب، واستمرءوا المرعى الوخيم فرعاهم الذّباب؛ ووجدوا غبّ البغى علينا، وقلنا: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا
؛ وآب المسلمون بخير عميم، وفتح عظيم وأجر كريم؛ وجعل الله الجنّة جزاء للسالمين منهم والذاهبين، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ
. فليأخذ حظّه من هذه البشرى فإن لها من النصر العزيز ما بعدها، ومن المغانم الكثيرة ما ينجز للأمّة المحمديّة وعدها؛ ويثق بأن(5/155)
له إن شاء الله من ثواب هذه الغزوة أوفر نصيب، وأن سهم عزمه فى نحور الأعداء إن شاء الله مصيب؛ فقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن بالمدينة قوما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» . والله لا يخليه من أجرها، ولا يحرمه وافر برّها؛ ويتحفه من مقربات التهانى بما تكون له هذه بمنزلة العنوان فى الكتاب، والآحاد فى الحساب؛ وركعة النافلة بالنسبة إلى الخمس، والفجر الأوّل قبل طلوع طلعة الشمس؛ وأن يديم على الإسلام والمسلمين حياة مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين، ويؤيّده بالملائكة المقربين، ما دامت السموات والأرضون، إن شاء الله تعالى.
ومن إنشاء المولى المرحوم محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر كتاب كتبه عن السلطان الملك الأشرف خليل إلى الملك المظفّر يوسف بن عمر صاحب اليمن قرين كتاب السلطان الملك المنصور المسيّر إليه بالهناء بفتح طرابلس الشأم:
أعز الله نصرة المقام وأوفد عليه كلّ بشرى أحسن من أختها، وكل تهنئة لا يجلّيها إلا هو لوقتها، وكل مبهجة يعجز البيان والبنان عن ثبتها ونعتها، وتتبلّج فتودّ الدّرر والدرارى لو زفّت هذه إلى تراقيها وسمت هذه إلى سمتها؛ وصبّحه منها بكل هاتفة أسجع من هواتف الحمائم، وبكلّ عارفة أسرع من عوارف الزّهر عند عزائم النسائم، وبكل عاطفة أعنّة الإتحاف بالإيجاف الذى شكرت الصّفاح منه أعظم قادر والصحائف أكرم قادم، والغزو الذى لا تخصّ تهامة ببشراه بل جميع النجود والتهائم، وذوو الصوارم والصرائم، وأولو القوى والقوائم، وكلّ ثغر عن ابتهاج أهل الإسلام باسم، وكلّ برّبرّ بتوصيل ما ترتّب عليه من ملاحم، وكلّ بحر عذب يمون كلّ غاز لا يحبس عن جهاد الكفار فى عقر الدار الشكائم، وكلّ بحر ملح كم تغيّظ من مجاورة أخيه لأهل الشرك ومشاركتهم فيه فراح وموجه المتلاطم. المملوك يجدّد(5/156)
خدمة يقتفى فيها أثر والده، ويجرى فى تبليغها على أجمل عوائده، ويستفتح فيها استفتاحا تحفّ به من هنا ومن هنا تحف محامده؛ ويصف ولاء قد جعله أجمل عقوده وأكمل عقائده، ويشفعهما بإخلاص قد جعله ميله أحسن وسائله وقلبه أزين وسائده؛ ويطلع العلم الكريم أن من سجايا المتعرّضين إلى الإعلان بشكر الله فى كلّ ما يعرض للمسلمين من نصر، ويفرض لهم من أجر غزوكم قعد عنه ملك فيما مضى من عصر؛ أن يقدروا تلك النعمة حقّ قدرها من التحدّث بنعمتها، والتنبيه لسماع نغمتها؛ وإرسال أعنّة الأقلام فى ميادين الطروس، وإدارة حرباء وصف خير حرب إلى مواجهة خير الشموس. ولما كانت غزوات مولانا السلطان ملك البسيطة الوالد- خلّد الله سلطانه- قد أصبحت ذكرى للبشر، ومواقفه للنصر فكم جاءت هى والقدر على قدر؛ وقد صارت سيرها وسيرها هذه شدو الأسمار، وهذه جادّة يستطيب منها حسن الحدو السّفّار، فكم قاتلت من يليها من الكفّار، وكم جعلت من يواليها وهو منصورها منصورا بالمهاجرين والأنصار. ولما أذلّ الله ببأسها طوائف التتار فى أقاصى بلاد العجم، وجعل حظّ قلوبهم الوجع من الخوف ونصيب وجهوهم الوجم، وأخلى الله من نسورهم الأوكار ومن أسودهم الأجم، وقصرت بهم هممهم حتى صاروا يخافون الصبح إذا هجم والظن اذا رجم، وصارت رؤية الدماء تفزعهم فلو احتاج أحدهم لتنقيص دم لمرض لأحجم من خوفه وما احتجم. وأباد الله الأرمن فحل بالنّيل منهم الويل، وما شمّر أحد من الجنود الإسلامية عن ساعد إلا وشمّر هو من الذّل الذّيل، ولا أثارت الجياد من الخيل عثيرا منعقدا إلا وظنّوه مساء قد أقبل أو ليل. وانتهت نوبة القتل بهم والإسار إلى «التّكفور ليفون» ملك الأرمن الذى كان يحمى سرحهم ويمرّد صرحهم، ويستنطق هتف التّتار ويسترجع صدحهم؛ وتعتزّ طرابلس الشأم بأنه خال إبرنسها الكافر، ولسان مشورته السفير ووجه تدبيره(5/157)
السافر؛ وطالما غرّ وأغرى، وجرّ وأجرى، وضرّ وأضرى؛ فلما توكّل مولانا السلطان وعزم وعزم فتوكّل، وتحقّق أن البلاء به قد نزل، وما تشكّك أن ذلك فى ذهن القدر قد تصوّر وتشكّل؛ وأنّ يومه فى الفتك سيكون أعظم من أمسه وأعظم منهما معاداة غده، وأن نصر الله لن يخلفه صادق موعده، أكل يده ندامة على ما فرّط فى جنب الله؛ وساق الحتف لنفسه بيده فعمر الله بروحه الخبيثة الدّرك الأسفل من النار، وسقاه الحتف كأسا بعد كأس لم يكن لها غير الهلك من خمار.
وكانت طرابلس هى ضالّة الإسلام الشريدة، وإحدى آبقاته من الأعوام العديدة؛ وكلما مرّت شمخت بأنفها، وتأنّقت فى تحسين منازه منازهها وتزيين ريحانها وعصفها، ومرّت وهى لا تغازل ملكا بطرفها وكلما تقادم عهدها تكثرت بالأفواج والأمواج من بين يديها ومن خلفها؛ إذ البحر لها جلباب والسحاب لها خمار، وليس بها من البرّ إلا بمقدار ساحة الباب من الدار؛ كأنها فى سيف ذلك البحر جبل قد انحطّ، أو ميل استواء قد خرج عن الخط، وما قصد أحد شطّها بنكاية إلا شطّ واشتط؛ قدّر الله أن صرف مولانا السلطان إليها العنان، وسبق جيشه اليها كلّ خبر وليس الخبر كالعيان، وجاءها بنفسه النفيسة والسعادة قد أحرسته عيونها وتلك المخاوف كلّهن أمان، وقد اتخذ من إقدامه عليها خير حبائل ومن مفاجأته لها أمدّ عنان؛ وفى خدمته جنود لا تستبعد مفازة، وكم راحت وغدت وفى نفوسها للأعداء حزازة؛ فامتطوا بخيولهم من جبال لبنان تيجانا لها صاغتها الثّلوج، ومعارج لا ترافق بها غير الرياح الهوج؛ وانحطّت تلك الجيوش من تلك الجنادل، انحطاط الأجادل، واندفعوا فى تلك الأوعار اندفاع الأوعال، ولم يحفل أحد منهم بسرب لاصق ولا بجبل شاهق فقال: هذا منخفض أو عال؛ وشرعوا فى التحصيل لما يوهى ذلك التحصين، وابتناء كلّ سور أمام أسوارها من التدبير الحسن والرأى الرصين؛ فما لبثوا إلا مقدار ما قيل(5/158)
لهم: دونكم والاحتطاب، ونقل المجانيق على الخيل وعلى الرقاب؛ حتى جرّوها بأسرع من جرّ النّفس، وأجروها على الأرض سفائن وكم قالوا: السفينة لا تجرى على يبس.
وفى الحال نقلت إليها فرأوا من متوقّلها [1] من يمشى بها على رجلين ومنهم من يمشى على أربع، ووجّهت سهامها وجوهها إلى منافذها فما شوهدت منها عين إلا وكان قدّامها منها إصبع؛ وألقيت العداوة بين الحجارة من المجانيق وبين الحجارة من الأسوار، فكم نقبت ونقّبت من فلذة كبدها عن أسرار؛ وأوقدت نيران المكايد ثمّ فكم حولها من صافن ومن صافر. وكم رمتهم بشرر كالقصر فوقع الحافر كما يقال على الحافر.
وما برحت سوق أهل الإيمان فى نفاق على أهل النّفاق، وأكابرهم تساق أرواحهم الخبيثة إلى السّياق. وكان أهل عكّاء قد أنجدوهم من البحر بكلّ برّ، ورموا الإسلام بكل شرر وكل شرّ؛ فكان السهم الذى يخرج منها لا يخرج إلا مقترنا بسهام. وشرفات ذلك الثغر كالثنايا ولكنها لكثرة من بها لا تفترّ عن ابتسام؛ وما زالت جنود الإسلام كذلك، ومولانا السلطان لا ترى جماعة مقدمة ولا متقدّمة إلا وهو يرى بين أولئك.
واستمرّ ذلك من مستهلّ شهر ربيع الأول إلى يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر، فزحف عليها فى بكرة ذلك النهار زحفا يقتحم كلّ هضبة ووهده، وكلّ صلبة وصلده، حتى أنجز الله وعده، وفتحها المسلمون مجازا وفى الحقيقة فتحها وحده. وطلعت سناجق الإسلام الصّفر على اسوارها، ودخلت عليهم من أقطارها، وجاست الكسّابة خلال ديارها؛ فاحتازها مولانا السلطان لنفسه ملكا، وما كان يكون له فى فتحها شريك وقد نفى عنها شركا؛ وكلما قيل: هذه طرابلس فتحت قال النصر بمن قتل فيها من النّجد الواصلة وأكثر عكا [2] وأهل عكا؛ وأعاد الله قوّة الكفر بها أنكاثا،
__________
[1] توقل فى الجبل: صعد.
[2] كذا وردت هذه الكلمات بالأصل، وهى كما يظهر قلقة غير واضحة.(5/159)
وكان أخذها من مائة سنة وثمانين سنة فى يوم ثلاثاء واستردّت فى يوم الثلاثا. ولما عمّت هذه البشائر [و] وكل بها مولانا السلطان إلى كلّ من يستجلى حسان هذه العرائس، ويستحلى نفيس هذه النفائس؛ سيّر مولانا السلطان إلى مولانا بشرى فقعقع بها البريد، لتتلى بأمر مولانا على كل من ألقى السمع وهو شهيد، وكما عمّ السرور بذلك كلّ قريب قصد أن يعمّ الهناء كل بعيد. وأصدر المملوك هذه الخدمة يتحجّب بين يدى نجواها، ويتوثّب بعد هذه المفاتحة لكلّ سانحة يحسن لدى المولى مستقرّها ومثواها. لا برح المقام يستبشر لكماة الإسلام بكل فضل وبكلّ نعمى، ويفرح لسرح الكفر إذا انتهك ولسفح الملك إذا يحمى، ولسمع الشّرك إذا يصمّ ولقلبه إذا يصمى.
وكتب المولى محيى الدين أيضا عن نفسه مطالعة إلى السلطان الملك المنصور يهنّئه بهذا الفتح:
هنّئت يا ملك البسيطه ... فتحا به النّعمى محيطه
وبقيت يا خير الملو ... ك بسيفك الدّنيا محوطه
يقبّل الأرض ويبتهل إلى دعاء صالح يقدّمه بين يدى بشره وبشراه، وكلّ مقام محمود من الإجابة يحوّله فى سرّه ونجواه؛ ويهنّىء بهذا الفتح الذى كم مضى ملك وفى قلبه منه حسره، وما ادّخر الله إلا لمولانا السلطان أجره وفخره. فالحمد لله على هذا النصر العزيز وهذا الفتح المبين، والظفر الذى أعطاه الله إيّاه فى شهر وقد أقامت جموع الكفر حتى حازت بعضه فى مدّة سبع سنين. وله الشكر على أن جعل الكفر من بعد قوة أنكاثا، وجعل أخذ مدينة طرابلس من الكفّار فى يوم الثلاثاء وكان أخذها من المسلمين فى يوم الثلاثاء؛ وله المنّة فى ردّ هذه الأخيذة، وجعلها بين يدى مولانا السلطان منبوذة. ثم المنّة لله على أن سطر فى سيرة مولانا السلطان هذه(5/160)
السّنة، وجعلها ما بين نومة عين وانتباهتها فى أقرب من سنة، وردّ إباقها على المسلمين بعد أن أقامت هاربة عند الكفار مائة سنة وستّا وثمانين سنة؛ والله يلحق بها فى الفتح أخواتها من المدن، ولا يلبث إن شاء الله هاديا بها بعدها مثل عكّاء وصور وصيدا حتى يراهنّ الى قبضته قد عدن، إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى الأمير حسام الدين طرنطاى عن الأمير بدر الدين بيدرا فى ذلك:
المملوك يهنئ بهذا الفتح الذى كادت به هذه الغزوة تزهو على غيرها من الغزوات وتتيه، وأشرقت الأرض بنور ربها ابتهاجا بما أمضاه الله منه وما سيمضيه، وبما سيعطيه حتى يرضيه، وذلك أن فتح طرابلس التى طالما شمخت بأنفها على الملوك، وكم أبت على مستفتح فما قال لغيره إباؤها: لله أبوك؛ وأخّر الله مدّتها إلى خير الأزمان، وفتحها على يدى سلطاننا الذى حقّق الله به آمالا تنفذ إلا منه بسلطان.
فالحمد لله الذى عضد هذا الملك من مولانا بخير من دبّره، وحماه منه بأقطع حسام جرّده الله لنقض ما أمرّه؛ وما من فتوح ولا أمر ممنوح إلا ومولانا منضّد عقوده، ومجهّز بريده، ومطلع سعوده؛ ورافع علمه، وممضى سيفه ومرضى قلمه. فأمتع الله الأمة من مولانا السلطان بسلطان يستردّ لهم الحقوق ويتقاضى الديون، وأمتع الله سلطانها من مولانا بمن آراؤه أقفال الممالك وسيوفه مفاتيح الحصون.
ومن إنشاء المولى شهاب الدين محمود الحلبى ما كتب به عن الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة الشريفة إلى النائب بقلعة الجبل عند كسرة التتار بمرج الصّفّر فى شهر رمضان سنة اثنتين وسبعمائة:
وبشّره بالفتح الذى أعاد الله به الأمة خلقا جديدا، والنصر الذى أنزل الله فيه من الملائكة أنصارا للملّة وجنودا، والظفر الذى أطفأ الله به من نار الكفر ما لم يكن(5/161)
يرهب خمودا، والغزوة التى زلزل الله بها جبال أهل الشرك وقد تدفّقت على الأرض أمثال البحار عددا وعديدا. المملوك يقبّل اليد العالية التى لها من هذه النّصرة وإن لم تبلغها أجر الرامى المسدّد سهمه، المعجّل من التهانى غنمه، الموفّر من المحامد الجزيلة قسمه؛ ويهنّىء المولى بهذا الفتح الذى مدّ الله به على الأمة جناح رحمته وفضله، ومنّ على أيّامنا الزاهرة فيه بالشأم وأهله، وبرز فيه الإسلام كلّه للشرك كلّه. ولله الحمد الذى أعز دينه ونصره، وحصد بسيوف الإسلام عدوّ دينه بعد أن حصره؛ وأباد جيوش الشّرك وهم مائة ألف أو يزيدون، وأفنى أحزاب أهل الكفر وكانوا أمثال الرمال لا يعدّون؛ وينهى أنّ علمه الكريم قد أحاط بما كان من أمر هذا العدوّ المخذول ودخوله إلى البلاد المحروسة بجيوشه وكتائبه وجموعه وجنوده من أشياع أهل الكفر وأحزاب الشرك. ولما تواصلت الأخبار بقربه، واستعداده بحزبه، ومهاجمته البلاد، وإيقاع الرّعب فى قلوب أهلها بالتنوّع فى الفساد؛ ساق الرّكاب الشريف فى طلبه يطوى المراحل، ويقطع فى كلّ يوم منزلتين بل منازل.
ولما حلّ الركاب الشريف بمرج الصّفّر على مرحلة من دمشق المحروسة فى يوم السبت مستهلّ شهر رمضان المعظّم زيّنت العساكر المنصورة للقاء حال وصولها، واستعدّت للحرب دون تشاغل بأسباب نزولها؛ فوافى العدوّ المخذول فى مائة ألف من جيوش تسيل كالرمال، وتعلو الجبال بأشدّ من الجبال؛ وحين وصلوا حملوا على الميمنة بجملتهم، وقصدوا إزاحتها عن موقفها بحملتهم؛ فتلقّتهم الجيوش المنصورة بنفوس قد بايعت الله على لقاء عدوّ الله وعدوّها، ووثقت بما أعد الله لها من الجزاء فى رواحها فى سبيله وغدوّها؛ وصدمتهم صدمة كسرت حدّهم، وأوهنت شدّتهم وشدّهم؛ وأزالت طمعهم، وأبانت ظلعهم؛ وسالت [1] عليهم الجيوش المنصورة من
__________
[1] فى الأصل. «وأسالت» .(5/162)
كلّ جانب، وحميت الحرب بين الكتائب الإسلاميّة وبين تلك الكتائب؛ ودخل الليل ونار الحرب تشتعل، والجياد من المحاجر تحفى وبالجماجم تنتعل؛ فأووا إلى جبال اعتصموا بهضابها، واحتموا بتوعّر مسالكها وضيق عقابها؛ وأحاطت بهم الجيوش المنصورة لحوسهم [1] لا لحفظهم، وتضمّ أطرافهم لا لحبّهم بل لبغضهم؛ فكانوا- بعد كثرة من قتل منهم فى المعركة الأولى أو فرّ من أوّل الليل- جمعا يناهز الأربعين ألف فارس، فأصبحوا يعاودون القتال، وينزلون إلى أطراف الجبال للنّزال؛ والجيوش المنصورة تلزمهم من كل جانب، وتحكّم فى أبطالهم القنا والقواضب.
وجرت فى أثناء ذلك حملات ظهر فى كلّ منها خسارهم، وشهد عندهم بما يكابدون قتلهم وإسارهم؛ وبعد ذلك نزلوا من جانب واحد يطلبون الفرار، ويتوقّعون القتل إن تعذّر الإسار؛ فساقت خلفهم الجيوش المنصورة تتخطّفهم رماحها، وتتلقّفهم صفاحها؛ وتقاذفت بمن نجا منهم الفلوات، وغرّقتهم أمواج السّراب قبل أمواج الفرات؛ فأخذوا قنصا باليد من بطون الأودية ورءوس الشّعاب، ولم يحصل أحد منهم على الغنيمة بالإياب؛ وقتل أكثر مقدّمى التمانات [2] وفرّ كبيرهم وأنّى له الفرار، وبين يديه مفاوز إن سلك منها تناولته بأرماح من العطش القفار. فليأخذ المولى حظّه من هذه البشرى التى تنبىء عن الفتح العظيم والفضل العميم، والنّصرة التى حفظ الله بها على الإسلام البلاد والثغور والأموال والحريم؛ ويكتب إلى البلاد بمضمونها، ويسرّ قلوب أهل الثغور بمكنونها؛ ويستنهض المولى الأمّة لشكر الله عليها، ومن ذا الذى يقوم بشكر ذلك! ويعرّفهم مواقع هذه النّصرة التى أنجد الله فيها الإسلام بالملائك؛ ويتقدّم أمره بضرب البشائر بكلّ مكان، ويشهر فى جميع الثغور أن عدوّ
__________
[1] فى الأصل: «لحرسهم» بالراء. والحوس: القتل.
[2] فى أحد الأصول: «التومانات» .(5/163)
الله وعدوّ الإسلام دخل فى خبر كان؛ وأن الله تعالى كسر جيوش التتار كسرا لا يجبر صدعه، ولا يتأتّى إن شاء الله تعالى جمعه. والله تعالى يسمعه من التهانى كلّ ما يسرّ الإسلام وأهله، ويشكر قوله فى مصالح الإسلام وفعله؛ إن شاء الله تعالى.
الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثانى فى المراثى والنوادب
والمراثى إنما جعلت تسلية لمن عضّته النوائب بأنيابها، وفرّقت الحوادث بين نفسه وأحبابها؛ وتأسية لمن سبق الى هذا المصرع، ونهل من هذا المشرع؛ ووثوقا باللّحاق بالماضى، وعلما أنّ حادثة الموت من الديون التى لا بدّ لها من التقاضى؛ وأنه لا سبيل إلى الخلود والبقاء، ولا بدّ لكلّ نفس من الذّهاب ولكلّ جسد من الفناء.
قال الله تعالى فى محكم تنزيله مخاطبة لرسوله: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ.
فليرض من فجع بخليله وشقيقه، وصاحبه وصديقه؛ وأهله وولده، وجمعه وعدده، وماله ومدده؛ نفسه الجامحة فى ميادين أسفها وبكائها، الجانحة إلى طلب دوائها من مظانّ أدوائها؛ بزمام الصبر الجميل، لينال الأجر الكريم والثواب الجزيل؛ فقد أثنى الله تعالى على قوم بقوله: وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ
؛ وقال تعالى إخبارا عن لقمان فى وصيّته لابنه: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
. وليسترجع من أصابته مصيبة أو نزلت به بليّة، وطرقته حادثة أو ألّمت به رزيّة؛ لما جعل الله تعالى للمسترجع بفضله ومنّته، من صلاته عليه ورحمته؛ قال الله عز وجل:(5/164)
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
. وليتأسّ الفاقد برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله فيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وليقتد بأصحابه رضى الله عنهم ليفوز بثواب الصابر ويحوز أجر الشاكر.
وباب الرّثاء فهو باب فسيح الرّحاب والنوادى، فصيح اللسان فى إجابة المنادى ذى القلب الصادى؛ متباين الأسلوب، مختلف الأطراف متباعد الشعوب؛ منه ما يصمى القلوب بنباله، ومنه ما يسلّيها بلطيف مقاله؛ ومنه ما يبعثها على الأسف، ومنه ما يصرفها عن موارد التلف. وقد أكثر الشعراء القول فى هذا الباب، وارتقوا الذّروة العلياء من هذه الهضاب؛ ووجدوا مكان القول ذا سعة فقالوا، وأصابهم هجير اللوعة فمالوا إلى ظلّه وقالوا. قال الأصمعىّ: قلت لأعرابىّ: ما بال المراثى أشرف أشعاركم؟ قال: لأنا نقولها وقلوبنا محترقة. وعلى الجملة فالموت هو المصيبة التى لا تدفع، والرزيّة التى لا تردّ بكثرة الجموع ولا تمنع؛ والحادثة التى لا تنصرف بالفداء وإن جلّ مقداره، والنازلة التى لا تتأخر عن وقتها بالدعاء وإن عظمت فى غيرها آثاره؛ وهو أحد الأربعة التى فرغ منها، وصرفت وجوه المطامع عنها.
وقد قالت الحكماء: أعظم المصائب كلّها انقطاع الرجاء. وقالوا: كل شىء يبدو صغيرا ثم يعظم إلا المصيبة فإنها تبدو عظيمة ثم تصغر. وقالوا: لا يكون البكاء إلا من فضل، فإذا اشتدّ الحزن ذهب البكاء. قال شاعر:
فلئن بكيناه لحقّ لنا ... ولئن تركنا ذاك للصّبر
فلمثله جرت العيون دما ... ولمثله جمدت فلم تجر
وقيل: مرّ الأحنف بامرأة تبكى ميّتا ورجل ينهاها؛ فقال: دعها فإنها تندب عهدا وسفرا بعيدا. قيل لأعرابيّة مات ابنها: ما أحسن عزاءك؟ قالت:(5/165)
إنّ فقدى إيّاه آمننى كلّ فقد سواه، وإنّ مصيبتى به هوّنت علىّ المصائب بعده؛ ثم أنشأت تقول:
كنت السواد لمقلتى ... فعمى عليك النّاظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
ليت المنازل والدّيا ... ر حفائر ومقابر
إنّى وغيرى لامحا ... لة حيث صرت لصائر
وقد نقل أبو الفرج الأصفهانى: أن بعض هذا الشعر لإبراهيم بن العباس بن محمد بن صول يرثى ابنا له فقال:
أنت السواد لمقلة ... تبكى عليك وناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
ولم يزد على هذين البيتين شيئا. أخذ الحسن بن هانىء معنى البيت الأوّل فقال فى الأمين:
طوى الموت ما بينى وبين محمد ... وليس لما تطوى المنيّة ناشر
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لى شىء عليه أحاذر
لئن عمرت دور بمن لا نحبّه ... لقد عمرت ممّن نحبّ المقابر
وقيل: من أحسن ما قيل فى التّعازى أنّ أعرابيّا مات له ثلاثة بنين فى يوم واحد فدفنهم وعاد إلى مجلسه، فجعل يتحدّث كأن لم يفقد أحدا؛ فليم على ذلك، فقال: ليسوا فى الموت ببديع، ولا أنا فى المصيبة بأوحد، ولا جدوى للجزع، فعلام تلوموننى، وهذه ثلاثة الأقسام لا رابع لها!. وعزّى أعرابىّ رجلا فقال: لا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها. وقيل: لمّا دفن على بن أبى طالب رضى الله عنه فاطمة رضى الله عنها تمثّل على قبرها بهذين البيتين:(5/166)
لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكلّ الذى دون الممات قليل
وإن افتقادى واحدا بعد واحد ... دليل على ألّا يدوم خليل
وعزّى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه الأشعث بن قيس عن ابنه فقال:
إن تحزن فقد استحقّت ذلك منك الرّحم، وإن تصبر ففى الله خلف من كلّ هالك، مع أنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور؛ سرّك الله وهو بلاء وفتنة، وحزنك وهو ثواب ورحمة.
وعزّى أكثم بن صيفىّ حكيم العرب عمرو بن هند الملك عن أخيه فقال: أيها الملك، إنّ أهل هذه الدار سفر لا يحلّون عقد الرحال إلا فى غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، وارتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك من سيظعن ويدعك؛ فما أحسن الشكر للمنعم والتسليم للقادر! وقد مضت لنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد أصله! واعلم أن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها، وخير من الخير معطيه، وشرّ من الشر فاعله.
وقال ابن السّماك: المصيبة واحدة، فإن كان فيها جزع فهى اثنتان. وقال أبو على الرّازى: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ولا متبسّما إلا يوم مات ابنه علىّ؛ فقلت له فى ذلك؛ فقال: إنّ الله أحبّ أمرا فأحببت ما أحبّ الله. وقال صالح المرّىّ: إن تكن مصيبتك فى أخيك أحدثت لك خشية فنعم المصيبة مصيبتك، وإن تكن مصيبتك بأخيك أحدثت لك جزعا فبئست المصيبة مصيبتك. وقال علىّ بن موسى للفضل بن سهل يعزّيه: التهنئة بآجل الثواب أولى من التّعزية على عاجل المصيبة. وعزّى الرشيد رجل فقال: كان لك الأجر يا أمير المؤمنين لا بك، وكان العزاء لك لا عنك. أخذه الآخر فقال:
كن المعزّى لا المعزّى به ... إن كان لا بدّ من الواحد(5/167)
وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك وقد اشتدّ به الألم: كيف تجدك يا بنىّ؟ قال: أجدنى فى الموت، فاحتسبنى، فإنّ ثواب الله خير لك منى. قال:
والله يا بنىّ لأن تكون فى ميزانى أحبّ إلىّ من أن أكون فى ميزانك. قال: وأنا والله لأن يكون ما تحبّ أحب إلىّ من أن يكون ما أحبّ.
وعزّى شبيب بن شبّة أبا جعفر المنصور بأخيه أبى العباس السفّاح فقال:
جعل الله ثواب ما رزئت لك أجرا، وأعقبك عليه صبرا؛ وختم لك بعافية تامّة، ونعمة عامّة؛ فثواب الله خير لك منه، وأحقّ ما صبر عليه ما ليس إلى تغييره سبيل.
ودخل البلاذرىّ على علىّ بن موسى الرّضا يعزّيه بآبنه فقال: أنت تجلّ عن وصفنا، ونحن نقصر عن عظتك، وفى علمك ما كفاك، وفى ثواب الله ما عزّاك.
فهذه نبذة فى التعازى كافية، وجنّة لمن تحصّن بها من ذوى الفجائع واقية.
فلنذكر المراثى.
ذكر شىء من المراثى والنوادب
ولنبدأ من ذلك بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشىء مما قيل عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاة ولده إبراهيم عليه السلام: «يا إبراهيم لولا أنه أمر حقّ ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أوّلنا لحزنّا عليك حزنا هو أشدّ من هذا وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ»
. ذكره الجوّانىّ النسابة فى شجرة الأنساب، وذكره غيره مختصرا.
ومنه ما روى أن فاطمة رضى الله عنها وقفت على قبره صلى الله عليه وسلم وقالت:(5/168)
إنّا فقد ناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذغبت عنّا الوحى والكتب
فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لمّا نعيت وحالت دونك الكتب
ووقف علىّ رضى الله عنه على قبره صلى الله عليه وسلم ساعة دفن وقال: إنّ الصبر لجميل إلّا عنك، وإن الجزع لقبيح إلا عليك؛ وإنّ المصاب بك لجليل، وإنه قبلك وبعدك لجلل. وقد ألّم الشعراء بهذا المعنى؛ فقال إبراهيم بن إسماعيل فى علىّ ابن موسى الرّضا:
إنّ الرزيّة يابن موسى لم تدع ... فى العين بعدك للمصائب مدمعا
والصبر يحمد فى المواطن كلّها ... والصبر أن نبكى عليك ونجزعا
ووقف أعرابىّ على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قلت فقبلنا، وأمرت فحفظنا؛ وقلت عن ربّك فسمعنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً
، وقد ظلمنا أنفسنا وجئناك فاستغفر لنا؛ فما بقيت عين إلا سالت.
ودخل عمر بن الخطاب على أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما فى مرض موته، فقال: يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لقد كلّفت القوم بعدك تعبا، وولّيتهم نصبا؛ فهيهات من شقّ غبارك! وكيف باللّحاق بك!.
وقالت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها وأبوها يغمّض:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فنظر إليها وقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أغمى عليه، فقالت:
لعمرك ما يغنى الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فنظر إليها كالغضبان وقال: قولى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ(5/169)
مِنْهُ تَحِيدُ
. ثم قال: انظروا ملاءتىّ فاغسلوهما وكفّنونى فيهما، فإن الحىّ أحوج إلى الجديد من الميّت. ووقفت رضى الله عنها على قبره رضى الله عنه فقالت:
نضّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك؛ فقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّا بإقبالك عليها؛ ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزءك، وأعظم المصائب بعده فقدك؛ إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك وحسن العوض منك؛ فإنا لنتنجّز موعود الله بحسن العزاء عليك، وأستعيضه منك بالاستغفار لك. أما لئن كانوا أقاموا بأمور الدنيا لقد قمت بأمر الدّين حين وهى شعبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه. فعليك السلام ورحمة الله توديع غير قالية لك، ولا زارية على القضاء فيك. ثم انصرفت.
ولما قبض رضى الله عنه سجّى عليه بالثوب، فارتجّت المدينة بالبكاء ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجاء علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول: رحمك الله أبا بكر، كنت والله أوّل القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدّهم يقينا، وأعظمهم غناء، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقا وفضلا وهديا وسمتا؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله فى كتابه صدّيقا فقال: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
، يريد محمدا ويريدك. كنت والله للإسلام حصنا وعلى الكافرين عذابا، لم تفلل حجّتك، ولم تضعف بصيرتك؛ ولم تجبن نفسك. كنت كالجبل الذى لا تحرّكه العواصف ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا فى بدنك،(5/170)
قويّا فى أمر الله، متواضعا فى نفسك، عظيما عند الله؛ جليلا فى الأرض، كبيرا عند المؤمنين. لم يكن لأحد عندك مطمع ولا لأحد عندك هوادة؛ فالقوى عندك ضعيف حتى تأخذ الحقّ منه، والضعيف عندك قوىّ حتى تأخذ الحقّ له. فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلّنا بعدك.
فانظر إلى هذا الأسلوب العجيب، وتأمّل هذا النّمط الغريب؛ الذى جمع بين سلاسة الألفاظ وإيجازها، وإصابة المعانى وإعجازها. ولا يستكثر على من أنزل القرآن بلغتهم، أن يكون هذا القول من بديهتهم.
ولنذكر لمعة من رسائل البلغاء والفضلاء، ولمحة من أشعار الأدباء والشعراء.
فمن ذلك رسالة كتبها الوزير الفقيه الكاتب أبو القاسم محمد بن عبد الله بن الجدّ، إلى الوزير الفقيه أبى القاسم الهورينى يعزّيه عن أخيه، ابتدأها بأن قال:
لا بدّ من فقد ومن فاقد ... هيهات ما فى الناس من خالد
كن المعزّى لا المعزّى به ... إن كان لا بدّ من الواحد
إذا لم يكن بدّ من تجرّع الحمام، وتشتّت النّظام، وانصداع شمل الكرام؛ فمن الاتفاق السعيد والقدر الحميد أن يرث أعمار البنية الكريمة مشيّد علاها، وتسلم من القلادة وسطاها، فمدار الكنانة على معلّاها، وفخار الحلبة بمحرز مداها. وفى هذه النّبذة إشارة إلى من فرط من الإخوة النبلاء، ودرج من السادة النّجباء؛ فإنهم وإن كانوا فى رتبة الفضل صدورا، وغدوا فى سماء النّبل بدورا؛ فإنّ شمس علائك أبهر أضواء وأزهر أنوارا، وظلّ جنابك على بنيهم ومخلّفيهم أندى آصالا وأبرد أسحارا.
نعى إلىّ- أوشك الله سلوانك، ولا أخلى من شخصك الكريم مكانك! - الوزير(5/171)
أبو فلان، بردّ الله ثراه، وكرّم مثواه؛ فكأنّما طعن ناعيه فى كبدى، وظعن باكيه بذخيرة جلدى. لا جرم أنّى دفعت إلى غمرة من التّلدّد لو صدم بها النجم لحار، أودهم بها الحزم لخار؛ ثم ثابت إلىّ نفسى وقد وقذها الجزع، وعضّها الوجع؛ فأطلت الاسترجاع، وجمعت الجلد الشّعاع، وها أنا عند الله أحتسبه جماع فضائل، وجمال محافل؛ وحديقة مكارم صوّحت، وصحيفة محاسن درست وانمحت. وما اقتصرت من رسم التعزية المألوف، على القليل المحذوف؛ إلا لعلمى بأن المعزّى لا يورد عليك غريبا، ولا يسمعك من مواعظه عجيبا؛ فبك يقتدى اللّبيب، وعلى مثالك يحتذى الأديب، وإلى غرضك فى كل موطن يوفى [1] المصيب؛ وفى تجافى الأقدار عن حوبائك، وسقوطها دون فنائك؛ ما يدعو إلى حسن التعزية. لا صدع الله جمعك، ولا قرع بنبأة المكروه سمعك.
ومن إنشاء القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى:
ورد الخبر بمصرع فلان الذى عزّ على المعالى، وعزّيت به الليالى؛ وسقط به نجم الشرف وهوى، وجفّ به روض الكرم وذوى؛ ونقصت الأرض من أطرافها، ورجفت الجبال من أعرافها؛ وبكت عليه السماء فإنّ يده كانت من سحبها، وتناثرت له النجوم فإنّ عزمه كان من شهبها؛ واظلمت فى عينى الدنيا الظالمة، وتجرّعت منها كأسا لا تسيغها النفس كاظمة؛ وتقسّمت الأيام فريقين فى مودّتى وعداوتى، فآها على السالفة ولا مرحبا بالقادمة؛ وأصبحت أخوض الماء وأحشائى تتقطّع غليلا، وأرى الناس كثيرا بعينى وبقلبى قليلا.
وما النّاس فى عينىّ إلّا حجارة ... لبينك والأعراس إلا مآتم
__________
[1] كذا بالأصول. ولعله محرف عن: «يرمى» .(5/172)
فقد استوحشت الدنيا لفقده، وارتابت بنفسها من بعده، وعلمت حلاوة قربه بمرارة بعده؛ وانصرف ذوو الأبواب عن بابه، واجتنبت الآمال مغنى جنابه، وبكت الرياض على آثار سحابه.
فإن يمس وحشا بابه فلربّما ... تناطح أفواجا عليه المواكب
ومن إنشائه أيضا رحمه الله تعالى: ما شككت- أطال الله بقاءك- حين ورد النعى بالمصائب التى قصمت الظهور بمكروهها، وحسرت فيها الحسرات عن وجوهها؛ أنّ السماء على الأرض قد انطبقت، وأنّ الأيام ما أبقت والسعادة قد أبقت؛ والحياة لم يبق فى طولها طائل، والصبر بهجير اللوعة ظلّ منسوخ زائل؛ وشمس الفضائل قد غربت وكيف بطلوعها، ونفس المكارم قد نزعت من بين ضلوعها؛ وغاب الإسلام قد غاب منه أىّ ليث، ورياض الآمال قد أقلع عن سقياها أىّ غيث. فإنّا لله وإنا اليه راجعون، رضا بحكمه، وتجلّدا على ما رمى به الحادث من سهمه، وطبّا للقلوب على مضض البلاء وكلمه، وفرارا من الجمع بين مصيبة الفاقد وإثمه. وسقى الله ذاك الضريح ما شاء أن يسقيه من سحاب كصوب يديه، ورحمه رحمة تحفّ بجانبيه. وآها للماء العذب كيف ارتشفته النوازل وأبقت الملح، ثم آها للصباح الطّلق كيف اغتالته الأصائل وأطلقت الجنح؛ ووا أسفا لتلك الذخيرة التى فذلكت بها الأيّام ذخائرى، والسريرة التى طالما صنتها أن تمرّ بسرائرى؛ شفقا عليها من سهام دهر بالذخائر مولعة، وسترا لها من عين زمان على السرائر موقعة. ولئن صحب قلبى بعده أضلعى، وتحمّلت بعد فقده على ظلعى؛ فإنّا غدا على أثره، وإن كنّا اليوم على خبره. وقصر الحياة الى قصور، كما أن محصول غرورها غرور. والتأدّب بأدب الله أولى ما خفّف به المسلوب عن منكبه، وطريق السّلوان لابدّ أن يراجعه عزم منكبّه.
فأنشدها الله إلا جعلت مصيبتها مصيبة على الشامت بما تلبسه من صبر يلبس عليه(5/173)
المصيبة فيشبّهها بنعمة، وبما تستشعره من تجلّد فى النازلة ينزل عليها صلوات من ربّها ورحمة. ولن ترى أعجب من مصاب لا ترى به إلا مصابا، وساكن ترب لم يبق بعده إلا من سقى بدمعه ترابا؛ اشترك فيه الأمّتان العرب والعجم، وعزّى به العزيزان المجد والكرم، واستباح الدهر به الصيد فى الحرم.
وتشابه الباكون فيه فلم يبن ... دمع المحقّ لنا من المتعمّل
وكتب أيضا فى مثل ذلك: أخّرت مكاتبة الحضرة- مدّ الله فى عمرها وفى صبرها وفى أجرها، وألهمها التسليم لحكم من هو غالب على أمرها- إلى أن تنقضى نبوة الخطب، وتضع الأنفاس أوزارها للحرب، ويخرج ماء الجفن نار القلب؛ وتراجع الخواطر إلى عاداتها، وتنظر فى الدنيا التى ما صحبت إلا على عادياتها ومعاداتها؛ فتكون الحضرة عرفت من غير تعريف، ووقفت على الحزم من غير توقيف؛ وتوفّر عليها الثواب بغير مشارك، ورجعت إلى فهم مدرك وصواب مدارك. وتأخير التعزية عن البادرة خلاف ما شرع فيها، ولكن إنما يحتاج أن يثبّت من صبره هاف، ويرمّ من تجلّده عاف. وقد علم الله اهتمامى واغتمامى بفقد شيخها رحمه الله وعدمها منه من لا عوض عنه إلا ثواب الله الذى يهوّن الوقائع، ويوطّن على الروائع. وأسباب التعزية غير واحدة، منها أنه إنما درج فى السنّ التى هى معترك المنايا، ومنها أنه ما خرج عن الدنيا الى أن رأى منها خلفا يهوّن الرزايا؛ ومنها أنه لقى الله بعمل صالح هو بمشيئة الله نجاته، ومنها أنه فارقها على الرضا عنها ويكفيها مرضاته، وعلى الدعاء المقبول لها ونعمت الجنن دعواته.
ولكن للألّاف لا بدّ حسرة ... إذا جعلت أقرانها تنقطع
ومنها أن الحزن لو أطيع والحزم لو أضيع لما أفضى إلى مراد، ولا أعاد ميّتا قبل المعاد. وأحقّ متروك ما يأثم طالبه، ويؤجر مجانبه.(5/174)
عن الدهر فاصفح إنه غير معتب ... وفى غير من قد وارت التّرب فاطمع
والحضرة تعلمنى من لا حقة رجوعها إلى الله بعد الاسترجاع، ومن تسليم خاطر الحزن إلى حكم الله ما يسرّ خاطر الاستطلاع؛ وحسبه- أبقاه الله تعالى- من كل هالك، ولا يجزع المحاسب من فذالك، ومثله من أخذ بعزائم الله فيما هو آخذ وتارك.
جبر الله مصابه، وعظّم ثوابه، وسقى الماضى وروّى ترابه، ولا تذهب النفس حسرة لما شهدت العين ذهابه.
وتخطّفته يد الرّدى فى غيبتى ... هبنى حضرت فكنت ماذا أصنع
ومن إنشاء الشيخ ضياء الدين أحمد بن محمد القرطبىّ ما كتب به الى الصاحب شرف الدين الفائزىّ يعزّيه فى مملوك توفّى له، وكان الصاحب قد جزع لفقده. ابتدأ كتابه بأن قال:
فدى لك من يقصّر عن مداكا ... فلا أحد إذا إلا فداكا
إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة، وسنّة فى الأسى مستحسنة؛ وإنما الأنفس ودائع مستودعة، وعوار مسترجعة، ومواهب بيد الفناء مستنزعة.
فالعمر نوم والمنيّة يقظة ... والمرء بينهما خيال سارى
وما برح ذوو العزمات يتلقّون واردات المصائب بصبرهم، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. وإنّ يد الله لمليّة بفيض المواهب، وفى الله عوض من كل بائن وخلف من كل ذاهب. وإذا سلم مولانا فى نفسه وولده، فلا بأس إذا تطرّقت يد الردى إلى ملك يده.
فأنت جوهرة الأعناق، ما ملكت ... كفّاك من طارف أو تالد عرض(5/175)
والحمد لله الذى جعل المصيبة عندك لا بك، والرزيّة لك لا فيك.
إذا سلمت فكلّ الناس قد سلموا
واذا تخطّتكما المنيّة فلها فى سواكما الخيار، ولنا القدح المعلّى إذا أورى زند هذا الاختيار. ولا بدّ فى مشرع المنيّة من مفقود وفاقد.
كن المعزّى لا المعزّى به ... إن كان لا بدّ من الواحد
وهذا فقد وهبه الله لمولانا من حيث إنه أخذه منه، وأبقاه له من حيث رآه ذاهبا عنه؛ فهو بالأمس عارية مردودة، واليوم ذخيرة موجودة؛ وكان عطيّة مسلوبة وهو الآن نعمة موهوبة؛ كنت له وهو الآن لك، وفزت به والسعيد من فاز بما ملك. وهذه دار دواؤها داؤها، وبقاؤها فناؤها؛ طالبها مطلوب، وسالبها مسلوب؛ وإن لنا فيمن سلف لعزاء، ولنا برسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء؛ ولا بدّ من ورود هذا المشرع، وملاقاة هذا المصرع.
ومن إنشاء المولى شهاب الدين محمود الحلبى ما كتب به عن بعض النوّاب إلى الأمير عزّ الدّين الحموىّ النائب- كان بدمشق- تعزية بولده:
أعزّ الله أنصار المقرّ الكريم العالى، ولا هدمت له الخطوب ركنا، ولا فجأت له الحوادث حمّى ولا طلبت عليه إذنا، ولا هصرت أيدى الأقدار من عروشه الناضرة غصنا، ولا أذاقته الأيّام بعد ما مرّ أسفا على من يحبّ ولا حزنا، ولا سلبه الجزع رداء الصّبر الذى يخصّه بجزيل الأجر وإن شركه فى الأسى والأسف كلّ منا.
المملوك يقبّل اليد الكريمة، وينهى أنه اتّصل به النبأ الذى صدع قلبه، وشغل بالبكاء طرفه وبالأسف لسانه وبالحزن لبّه؛ وهو ما قدّره الله تعالى من وفاة المولى الأمير ركن الدين عمر- تغمده الله برضوانه- الذى اختار الله له ما لديه، وارتضى له البقاء(5/176)
الدائم على الفانى فنقله إليه؛ على أن الدين فقد منه ركنا شديدا، ورأيا سديدا، وعزما وحزما معينا مفيدا، وأميرا أردنا أن يعيش سعيدا، فأبى الله إلا أن يموت شهيدا؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كان للرجاء فى اعتضاد الدولة القاهرة به أىّ مجال، وللآمال فى الانتظار ببأسه ظنون تحقّق أن الغلبة للدّين دائما مع أن الحروب سجال؛ وللمواكب بطلوع طلعته أىّ إشراق، وللعيون عن مشاهدة كماله وأبهة جلاله أىّ إغضاء وأىّ إطراق. ولله أىّ بدر هوى من أفق بروجه [1] عن فلك، وأىّ شمس ما رأته الجوارى الكنّس إلا قلن: حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك؛ وأىّ حصن كانت منه ثمار الشجاعة تجتنى، وأىّ أسد براثنه الصوارم وأجماته القنا. لقد فتّ فى عضد الدين مصابه، وأذهب صحّة الأنس به وحلاوة وجوده أوصاب فقده وصابه؛ وكادت الصوارم أن تشقّ عليه غمودها، والرّايات أن تقطّع عليه ذوائبها وتغيّر بنودها، والرماح أن تعرض على النار لتقصف لا لتثقّف قدودها؛ والجياد أن تتعثّر للحزن بذيولها، وتعتاض بالنّوح عن صهيلها. ولو أنصف لأكنّته القلوب فى ضمائرها، ولو قبل الفداء لسمحت فيه النفوس بالنفائس ولو كانت الحياة من ذخائرها؛ أو لو كان الحتف مما يدافع بالجنود تحطّمت دونه القنا فى دروع عساكرها، ولكنه السبيل الذى لا محيد عن طريقه، والمعرّس الذى لا بدّ لكل حىّ من النزول على فريقه؛ وهو الغاية التى تستنّ إليها النفوس استنان الجياد، والحلبة التى كنّا نحن وهذا الدارج نركض إليها ولكنّ السابق كان الجواد؛ على أن المتأخّر لا بدّ له من اللّحاق، وماذا عسى يسرّ البدر بكماله وهو يعلم أن وراءه المحاق! وفى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يعلم أن كلّ رزء بعده جلل، وإذا انتقل العبد إلى الله تعالى غير مفتون فى دينه ولا مثقل الظهر من الأوزار حمد فى غد ما فعل؛ وغبط بقدومه
__________
[1] فى الأصل: «من أفق سروجه» .(5/177)