الجزء الأول
[مقدمة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رافع السماء وفاتق رتقها، ومنشئ السّحاب وموكف ودقها؛ ومجرى الأفلاك ومدبّرها، ومطلع النّيّرات ومكوّرها، ومرسل الرياح ومسخّرها؛ ومزيّن سماء الدنيا بزينة الكواكب، وحافظها عند استراق السمع بإرسال الشّهب الثواقب، وهادى السارى بمطالع نجومها فى ظلم الغياهب؛ وجاعل الليل سكنا ولباسا، ومبدّل وحشة ظلمائه يفلق الإصباح إيناسا؛ وماحى آيته بآية النهار المبصرة، ومذهب دجنّته بإشراق شمسه النّيره؛ وباسط الأرض فراشا ومهادا، ومرسى الجبال وجاعلها أوتادا؛ ومفجّر العيون من جوانبها وخلالها، ومضحك ثغور الأزهار ببكاء عيون الأمطار وانهمالها؛ ومكرّم بنى آدم بتفضيلهم على كثير من خلقه، ومذلّل الأرض لهم ليمشوا فى مناكبها وليأكلوا من رزقه؛ وحاملهم على ظهر اليمّ فى بطون الجوارى المنشآت، ومعوّضهم عن أعواد السّفن غوارب اليعملات [1] . خلق كلّ دابّة من ماء وأودعها من خفىّ حكمه ما أودع، وباين بين أشكالهم (فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع) . وهدى الطير إلى ما اتخذته من الأوكار واتّخذ لها من المبانى، وجعلها من رسائل المنايا ووسائل الأمانى.
أحمده على نعمه التى كم أولت من منّه؛ ومننه التى كم والت من نعمه، وأشكره على ألطافه التى كم كشفت من غمّه، وأزالت من نقمه.
__________
[1] اليعملة (بفتح الياء والميم) الناقة النجيبة المعتملة المطبوعة والجمع يعمل. وهو اسم لا وصف.(1/1)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبد نطق بها لسانه وقلبه، وأنس بها ضميره ولبّه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذى جعلت له الأرض مسجدا وترابها طهورا، وأنزل عليه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً
. صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله الذين رقوا بنسبهم إليه أعلى المراتب، وتسنّموا من ذروة الشرف والثناء كاهل الكواكب، وعلى أصحابه الذين اتّطدت بهم قواعد الشريعة وعلا منارها، وهدمت معاقل الكفر وعفت آثارها؛ وأنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وجالدوا فى دين الله وجادلوا: صلاة ترفع منار قائلها، وترسل عليه سحائب المغفرة بوابلها! وبعد، فمن أولى ما تدبّجت به الطروس والدفاتر، ونطقت به ألسنة الأقلام عن أفواه المحابر؛ وأصدرته ذوو الأذهان السليمه، وانتسبت إليه ذوو الأنساب الكريمة؛ وجعله الكاتب ذريعة يتوصّل بها إلى بلوغ مقاصده، ومحجّة لا يضلّ سالكها فى مصادره وموارده: فنّ الأدب الذى ما حلّ الكاتب بواديه، إلّا وعمرت بواديه؛ ولا ورد مشارعه، إلّا واستعذب شرائعه؛ ولا نزل بساحته إلّا واتّسعت له رحابها، ولا تأمّل مشكلاته إلّا وتبيّنت له أسبابها.
وكنت ممن عدل فى مباديه، عن الإلمام بناديه؛ وجعل صناعة الكتابة فننه الذى يستظلّ بوارفه، وفنّه الذى جمع له فيه بين تليده وطارفه. فعرفت جليّها، وكشفت خفيّها؛ وبسطت الخرائد [1] ونظمت منها الارتفاع، وكنت فيها كموقد نار على
__________
[1] لعلها: الجرائد. أى جرائد الحسبانات التى يستخرج منها الارتفاع أى مقدار الإيراد. وبقية الكلام تدل على ذلك لأنه استعار اصطلاحات أهل الحساب.(1/2)
يفاع. واسترفعت القوانين، ووضعت الموازين؛ وعانيت المقترحات، واعتمدت على المقايسات؛ وفذلكت على الأصل وما أضيف إليه، وحررت ما بعد الفذلكة فكان العمل على ما استقرّت الجملة عليه؛ واستخرجت وحصّلت، وجمّلت من عرضه وخصّلت؛ وسقت الحواصل، وأوردت المحاسيب وفذلكت على الواصل؛ وطردت ما انساق إلى الباقى والموقوف، ونضّدت شواهد المصروف؛ وشطبت شواهد الارتفاع، وقرنت أعمال المبيع بالمبتاع؛ واستوفيت أعمال الاعتصار وتوالى الغلّات، وتأمّلت سياق الأصناف والآلات؛ ونظرت فى سياقات العلوفات والعوامل، وأجبت عن المخرج والمردود فأعجزت المناظر والمناضل؛ وأتقنت موادّ هذه الصناعة، وتاجرت فيها بأنفس بضاعه.
ثمّ نبذتها وراء ظهرى، وعزمت على تركها فى سرّى دون جهرى؛ وسألت الله تعالى الغنية عنها، وتضرّعت إليه فيما هو خير منها. ورغبت فى صناعة الآداب وتعلّقت بأهدابها، وانتظمت فى سلك أربابها، فرأيت غرضى لا يتمّ بتلقّيها من أفواه الفضلاء شفاها، وموردى منها لا يصفو ما لم أجرّد العزم سفاها.
فامتطيت جواد المطالعه، وركضت فى ميدان المراجعه. وحيث ذلّ لى مركبها، وصفا لى مشربها، آثرت أن أجرّد منها كتابا أستأنس به وأرجع إليه، وأعوّل فيما يعرض لى من المهمّات عليه. فاستخرت الله سبحانه وتعالى وأثبتّ منها خمسة فنون حسنة الترتيب، بيّنة التقسيم والتبويب: كلّ فنّ منها يحتوى على خمسة أقسام.(1/3)
الفن الأوّل فى السماء والآثار العلويّة، والأرض والمعالم السّفليّة ويشتمل على خمسة أقسام:
القسم الأوّل- فى السماء وما فيها.
وفيه خمسة أبواب:
الباب الأوّل- فى مبدإ خلق السماء.
الباب الثانى- فى هيئتها.
الباب الثالث- فى الملائكة.
الباب الرابع- فى الكواكب السبعة.
الباب الخامس- فى الكواكب الثابتة.
القسم الثانى- فى الآثار العلويّة.
وفيه أربعة أبواب:
الباب الأوّل- فى السّحاب، وسبب حدوثه، وفى الثلج، والبرد.
الباب الثانى- فى الصواعق، والنّيازك، والرعد، والبرق.
الباب الثالث- فى أسطقسّ الهواء.
الباب الرابع- فى أسطقسّ النار، وأسمائها.
القسم الثالث- فى الليالى، والأيام، والشهور، والأعوام، والفصول، والمواسم، والأعياد.
وفيه أربعة أبواب:
الباب الأوّل- فى الليالى، والأيّام.(1/4)
الباب الثانى- فى الشهور، والأعوام.
الباب الثالث- فى الفصول.
الباب الرابع- فى المواسم، والأعياد.
القسم الرابع- فى الأرض، والجبال، والبحار، والجزائر، والأنهار، والعيون.
وفيه سبعة أبواب:
الباب الأوّل- فى مبدإ خلق الأرض.
الباب الثانى- فى تفصيل أسماء الأرض.
الباب الثالث- فى طول الأرض، ومساحتها.
الباب الرابع- فى الأقاليم السبعة.
الباب الخامس- فى الجبال.
الباب السادس- فى البحار، والجزائر.
الباب السابع- فى الأنهار، والغدران، والعيون.
القسم الخامس- فى طبائع البلاد، وأخلاق سكّانها، وخصائصها، والمبانى القديمة، والمعاقل، والقصور، والمنازل.
وفيه خمسة أبواب:
الباب الأوّل- فى طبائع البلاد، وأخلاق سكّانها.
الباب الثانى- فى خصائص البلاد.
الباب الثالث- فى المبانى القديمة.
الباب الرابع- فيما وصفت به المعاقل.
الباب الخامس- فيما وصفت به القصور، والمنازل.(1/5)
الفن الثانى فى الإنسان وما يتعلّق به ويشتمل على خمسة أقسام:
القسم الأوّل- فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقّلاته، وطبائعه؛ ووصف أعضائه، وتشبيهها، والغزل، والنّسيب، والمحبة، والعشق، والهوى، والأنساب.
وفيه أربعة أبواب:
الباب الأوّل- فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقّلاته، وطبائعه.
الباب الثانى- فى وصف أعضائه، وتشبيهها. وما وصف به طيب الرّيق، والنّكهة، وحسن الحديث والنّغمة، واعتدال القدود. ووصف مشى النساء.
الباب الثالث- فى الغزل، والنسيب، والهوى، والمحبّة، والعشق.
الباب الرابع- فى الأنساب.
القسم الثانى- فى الأمثال المشهورة عن النبىّ (صلى الله عليه وسلم) .
وعن جماعة من الصحابة (رضى الله عنهم) ، والمشهور من أمثال العرب، وأوابد العرب، وأخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطّيرة، والفراسة، والذّكاء، والكنايات، والتعريض، والأحاجىّ، والألغاز.
وفيه خمسة أبواب:
الباب الأوّل- فى الأمثال.(1/6)
الباب الثانى- فى أوابد العرب.
الباب الثالث- فى أخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطّيرة، والفراسة، والذّكاء.
الباب الرابع- فى الكنايات، والتعريض.
الباب الخامس- فى الأحاجىّ، والألغاز.
القسم الثالث- فى المدح، والهجو، والمجون، والفكاهات، والملح، والخمر، والمعاقرة، والنّدمان، والقيان، ووصف آلات الطرب.
وفيه سبعة أبواب:
الباب الأوّل- فى المدح.
وفيه ثلاثة عشر فصلا. وهى:
حقيقة المدح، وما قيل فيه.
ما قيل فى الجود، والكرم، وأخبار الكرام.
ما قيل فى الإعطاء قبل السؤال.
ما قيل فى الشجاعة، والصبر، والإقدام.
ما قيل فى وفور العقل.
ما قيل فى الصدق.
ما قيل فى الوفاء، والمحافظة.
ما قيل فى التواضع.
ما قيل فى القناعة، والنزاهة.(1/7)
ما قيل فى الشكر، والثناء.
ما قيل فى الوعد، والإنجاز.
ما قيل فى الشفاعة.
ما قيل فى الاعتذار، والاستعطاف.
الباب الثانى- فى الهجاء.
وفيه أربعة عشر فصلا:
ما قيل فى الهجاء، ومن يستحقّه.
ما قيل فى الحسد.
ما قيل فى السّعاية والبغى.
ما قيل فى الغيبة والنميمة.
ما قيل فى البخل واللّؤم، وأخبار البخلاء، واحتجاجهم.
ما قيل فى التطفّل. ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة.
ما قيل فى الجبن، والفرار.
ما قيل فى الحمق، والجهل.
ما قيل فى الكذب.
ما قيل فى الغدر، والخيانة.
ما قيل فى الكبر، والعجب.
ما قيل فى الحرص، والطمع.
ما قيل فى الوعد، والمطل.
ما قيل فى العىّ، والحصر.(1/8)
الباب الثالث- فى المجون، والنوادر، والفكاهات، والملح.
الباب الرابع- فى الخمر، وتحريمها، وآفاتها، وجناياتها، وأسمائها. وأخبار من تنزّه عنها فى الجاهليّة، ومن حدّ فيها من الأشراف، ومن اشتهر بها، ولبس ثوب الخلاعة بسببها. وما قيل فيها من جيّد الشعر، وما قيل فى وصف آلاتها، وآنيتها، وما قيل فى مبادرة اللذّات، وما وصفت به المجالس، وما يجرى هذا المجرى.
الباب الخامس- فى النّدمان، والسّقاة.
الباب السادس- فى الغناء، والسّماع، وما ورد فى ذلك من الحظر والإباحة، ومن سمع الغناء من الصحابة (رضوان الله عليهم) والتابعين، والأئمة، والعبّاد، والزّهّاد، ومن غنّى من الخلفاء، وأبنائهم، والأشراف، والقوّاد، والأكابر، وأخبار المغنّين ممن نقل الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة.
الباب السابع- فيما يحتاج إليه المغنّى، ويضطرّ إلى معرفته، وما قيل فى الغناء، وما وصفت به القيان، وما وصفت به آلات الطرب.(1/9)
القسم الخامس- فى الملك، وما يشترط فيه، وما يحتاج إليه؛ وما يجب له على الرعيّة، وما يجب للرعيّة عليه. ويتّصل به ذكر الوزراء، وقادة الجيوش، وأوصاف السلاح، وولاة المناصب الدينيّة، والكتّاب، والبلغاء.
وفيه أربعة عشر بابا:
الباب الأوّل- فى شروط الإمامة: الشرعيّة، والعرفيّة.
الباب الثانى- فى صفات الملك وأخلاقه، وما يفضل به على غيره. وذكر ما نقل من أقوال الخلفاء والملوك الدّالة على علوّ همّتهم، وكرم شيمتهم.
الباب الثالث- فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة، والنصيحة، والتعظيم، والتوقير.
الباب الرابع- فى وصايا الملوك.
الباب الخامس- فيما يجب على الملك للرعايا.
الباب السادس- فى حسن السياسة، وإقامة المملكة. ويتّصل به الحزم، والعزم، وانتهاز الفرصة، والحلم، والعفو، والعقوبة، والانتقام.
الباب السابع- فى المشورة، وإعمال الرأى، والاستبداد، ومن يعتمد على رأيه، ومن كره أن يستشير.
الباب الثامن- فى حفظ الأسرار، والإذن. والحجاب.(1/10)
الباب التاسع- فى الوزراء، وأصحاب الملك، الباب العاشر- فى قادة الجيوش، والجهاد، ومكايد الحروب؛ ووصف الوقائع، والرباط، وما قيل فى أوصاف السلاح.
الباب الحادى عشر- فى القضاة، والحكام.
الباب الثانى عشر- فى ولاية المظالم، وهى نيابة دار العدل.
الباب الثالث عشر- فى نظر الحسبة، وأحكامها.
الباب الرابع عشر- فى ذكر الكتّاب، والبلغاء؛ والكتابة، وما تفرّع عنها من الوظائف والكتابات، وهى: كتابة الإنشاء، وكتابة الديوان، والتصرّف، وكتابة الحكم، والشروط، وكتابة النسخ، وكتابة التعليم.(1/11)
الفن الثالث فى الحيوان الصامت ويشتمل على خمسة أقسام:
القسم الأوّل- فى السباع، وما يتصل بها من جنسها.
وفيه ثلاثة أبواب:
الباب الأوّل- فى الأسد، والببر، والنّمر.
الباب الثانى- فى الفهد، والكلب، والذئب، والضّبع، والنّمس.
الباب الثالث- فى السّنجاب، والثّعلب، والدّبّ، والهرّ، والخنزير.
القسم الثانى- فى الوحوش، والظباء، وما يتّصل بها من جنسها.
وفيه ثلاثة أبواب:
الباب الأوّل- فيما قيل فى الفيل، والكركدّن، والزّرافة، والمهاة، والإيّل [1] .
الباب الثانى- فى الحمر الوحشيّة، والوعل، واللّمط.
الباب الثالث- فيما قيل فى الظّبى، والأرنب، والقرد، والنّعام.
__________
[1] ويقال أيضا: الأيّل والأيّل (قاموس) .(1/12)
القسم الثالث- وفيه ثلاثة أبواب:
الباب الأوّل- فى الخيل.
الباب الثانى- فى البغال، والحمير.
الباب الثالث- فى الإبل، والبقر، والغنم.
القسم الرابع- وفيه بابان:
الباب الأوّل- فى ذوات السموم القواتل.
الباب الثانى- فيما هو ليس بقاتل بفعله، من ذوات السموم.
القسم الخامس- وفيه سبعة أبواب: ستّة منها فى الطير، وباب فى السمك.
(وذيّلت عليه بباب ثامن، أوردت فيه ما قيل فى آلات صيد البرّ، والبحر) .
الباب الأوّل- فى سباع الطير، وهى: العقبان، والبوازى، والصقور، والشواهين.
الباب الثانى- فى كلاب الطير، وهى: النّسر، والرّخم، والحدأة، والغراب.
الباب الثالث- فى بهائم الطير، وهى: الدّرّاج، والحبارى، والطاووس، والدّيك، والدّجاج، والإوزّ، والبطّ، والنّحام، والأنيس، والقاوند، والخطّاف، والقيق، والزّرزور، والسّمانى [1] ، والهدهد، والعقعق، والعصافير.
__________
[1] فى الأصل السّمّان. وقال فى الصحاح والسّمانى ولا شدّد الميم.(1/13)
الباب الرابع- فى بغاث الطير، وهو: القمرى، والدّبسىّ، والورشان، والفواخت، والشّفنين، والعبطبط، والنّواح، والقطاة، واليمام، وأصنافه، والببّغاء.
الباب الخامس- فى الطير الليلىّ، وهو: الخفّاش، والكروان، والبوم، والصّدى.
الباب السادس- فى الهمج، وهو: النمل، والزّنبور، والعنكبوت، والجراد، ودود القزّ، والذّباب، والبعوض، والبراغيث، والحرقوص.
الباب السابع- فى أنواع الأسماك.
الباب الثامن- يشتمل على ذكر شىء مما وصفت به آلات الصيد فى البرّ، والبحر، ووصف زماة البندق، وما يجرى هذا المجرى.(1/14)
الفن الرابع فى النبات ويشتمل على خمسة أقسام:
(وذيّلت على هذا الفن، فى القسم الخامس، بشىء من أنواع الطّيب، والبخورات، والغوالى، والنّدود، والمستقطرات، وغير ذلك) .
القسم الأوّل- فى أصل النبات، وما تختصّ به أرض دون أرض.
(ويتّصل به ذكر الأقوات، والخضراوات، والبقولات) .
وفيه ثلاثة أبواب:
الباب الأوّل- فى أصل النبات، وترتيبه.
الباب الثانى- فيما تختصّ به أرض دون أرض، وما يستأصل شأفة النبات الشاغل للأرض عن الزراعة.
الباب الثالث- فى الأقوات، والخضراوات، والبقولات.
القسم الثانى- فى الأشجار.
وفيه ثلاثة أبواب:
الباب الأوّل- فيما لثمره قشر لا يؤكل.
الباب الثانى- فيما لثمره نوى لا يؤكل.
الباب الثالث- فيما ليس لثمره قشر ولا نوى.(1/15)
القسم الثالث- فى الفواكه المشمومة.
وفيه بابان:
الباب الأوّل- فيما يشمّ رطبا، ويستقطر.
ويشتمل على أربعة أنواع: وهى «الورد، والنّسرين، والخلاف، والنّيلوفر» .
الباب الثانى- فيما يشمّ رطبا، ولا يستقطر.
ويشتمل على ما قيل فى البنفسج، والنرجس، والياسمين، والآس، والزعفران، والحبق.
القسم الرابع- فى الرياض، والأزهار.
(ويتصل به الصّموغ، والأمنان، والعصائر) .
وفيه أربعة أبواب:
الباب الأوّل- فى الرياض، وما وصفت به نظما، ونثرا.
الباب الثانى- فى الأزهار، وما وصفت به.
الباب الثالث- فى الصموغ.
وفيه ثمانية وعشرون صنفا.
الباب الرابع- فى الأمنان.
القسم الخامس- فى أصناف الطيب، والبخورات، والغوالى، والنّدود، والمستقطرات، والأدهان، والنّضوحات، وأدوية الباه، والخواصّ.
وفيه أحد عشر بابا:
الباب الأوّل- فى المسك، وأنواعه(1/16)
الباب الثانى- فى العنبر، وأنواعه، ومعادنه.
الباب الثالث- فى العود، وأصنافه، وأنواعه، ومعادنه.
الباب الرابع- فى الصّندل، وأصنافه، ومعادنه.
الباب الخامس- فى السّنبل الهندىّ، وأصنافه؛ والقرنفل، وجوهره.
الباب السادس- فى القسط، وأصنافه.
الباب السابع- فى عمل الغوالى، والنّدود.
الباب الثامن- فى عمل الرامك، والسّكّ من الرامك والأدهان.
الباب التاسع- فى عمل النّضوحات، والمياه المستقطرة، وغير المستقطرة.
الباب العاشر- فى الأدوية التى تزيد فى الباه، وتلذّذ الجماع، وما يتصل بذلك.
الباب الحادى عشر- فما يفعل بالخاصّيّة.(1/17)
الفن الخامس فى التاريخ ويشتمل على خمسة أقسام:
القسم الأوّل- فى مبدإ خلق آدم (عليه السلام) وحوّاء، وأخبارهما، ومن كان بعد آدم إلى نهاية خبر أصحاب الرّس.
وفيه ثمانية أبواب:
الباب الأوّل- فى مبدإ خلق آدم (عليه السلام) ، وموسى (عليه السلام) ، وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما.
الباب الثانى- فى خبر شيث بن آدم (عليهما السلام) ، وأولاده.
الباب الثالث- فى أخبار إدريس: النبىّ (عليه السلام) .
الباب الرابع- فى قصّة نوح (عليه السلام) ، وخبر الطّوفان.
الباب الخامس- فى قصّة هود (عليه السلام) مع عاد، وهلاكهم بالريح العقيم.
الباب السادس- فى قصة صالح (عليه السلام) مع ثمود، وعقرهم الناقة، وهلاكهم.
الباب السابع- فى أخبار أصحاب البئر المعطّلة، والقصر المشيد، وهلاكهم.
الباب الثامن- فى أخبار أصحاب الرّسّ، وما كان من أمرهم.(1/18)
القسم الثانى- فى قصّة إبراهيم، الخليل (عليه السلام) ، وخبره مع نمرود؛ وقصّة لوط؛ وخبر إسحاق، ويعقوب؛ وقصّة يوسف؛ وأيّوب؛ وذى الكفل؛ وشعيب (عليهم السلام) .
وفيه سبعة أبواب:
الباب الأوّل- فى قصّة إبراهيم، الخليل (عليه الصلاة والسلام) ، وأخبار نمرود بن كنعان.
الباب الثانى- فى خبر لوط (عليه السلام) مع قومه، وقلب المدائن.
الباب الثالث- فى خبر إسحاق، ويعقوب (عليهما السلام) .
الباب الرابع- فى قصّة يوسف بن يعقوب (عليهما السلام) .
الباب الخامس- فى قصّة أيوب (عليه السلام) ، وابتلائه، وعافيته.
الباب السادس- فى خبر ذى الكفل بن أيوب (عليهما السلام) .
الباب السابع- فى خبر شعيب (عليه السلام) ، وقصته مع مدين.
القسم الثالث- يشتمل على قصّة موسى بن عمران (عليه السلام) ، وخبره مع فرعون؛ وخبر يوشع، ومن بعده؛ وحزقيل، وإلياس، واليسع، وعيلا، وأشمويل، وطالوت، وجالوت، وداود، وسليمان بن داود، وشعيا، وأرميا، وخبر بخت نصّر، وخراب بيت المقدس، وعمارته؛ وما يتصل بذلك من خبر عزيز؛ وقصّة(1/19)
يونس بن متّى، وخبر بلوقيا؛ وزكريا، ويحيى، وعمران، ومريم، وعيسى (عليهم السلام) ، وقصص الحواريّين، وما كان من أمرهم فيمن أرسلوا إليه، وخبر جرجيس.
وفيه ستة أبواب:
(وذيّلت على هذا القسم ذيلا يشتمل على أربعة أبواب، ذكرت فيها ما قيل فى الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى- عليه السلام- إلى الأرض ومدّة إقامته بها، ووفاته، وما يكون بعده، وشيئا من أخبار الحشر والمعاد) .
الباب الأوّل- فى قصّة موسى بن عمران، وهرون؛ وغرق فرعون؛ وأخبار بنى إسرائيل؛ وأخبار قارون؛ وخبر بلعم بن باعوراء، والجبّارين، وغير ذلك.
الباب الثانى- فيما كان بعد موسى بن عمران (عليه السلام) من أخبار يوشع بن النون، ومن بعده؛ وخبر حزقيل، وإلياس، واليسع، وعيلا، وأشمويل، وطالوت، وجالوت، وداود، وسليمان.
الباب الثالث- فى أخبار شعيا، وأرميا، وخبر بخت نصّر، وخراب بيت المقدس، وعمارته؛ وما يتّصل بذلك من خبر عزيز.(1/20)
الباب الرابع- فى قصّة ذى النون يونس بن متّى (عليه السلام) ، وخبر بلوقيا.
الباب الخامس- فى خبر زكريّا، ويحيى، وعمران، ومريم ابنته؛ وعيسى بن مريم (عليهما السلام) .
الباب السادس- فى أخبار الحواريّين الذين أرسلهم عيسى (عليه السلام) ، وما كان من أمرهم بعد رفعه؛ وخبر جرجيس.
التذييل على هذا القسم- ويشتمل على أربعة أبواب:
الباب الأوّل- فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم.
الباب الثانى- فى خبر نزول عيسى إلى الأرض؛ وقتل الدجّال؛ وخروج يأجوج، ومأجوج، وهلاكهم؛ ووفاة عيسى (عليه السلام) .
الباب الثالث- فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى ابن مريم إلى النفخة الأولى.
الباب الرابع- فى أخبار يوم القيامة والحشر، والمعاد؛ والنفخة الثانية فى الصّور.(1/21)
القسم الرابع- فى أخبار ملوك الأصقاع، وملوك الأمم، والطوائف؛ وخبر سيل العرم، ووقائع العرب فى الجاهليّة.
وفيه خمسة أبواب:
الباب الأوّل- فى أخبار ذى القرنين، المذكور فى سورة الكهف.
الباب الثانى- فى أخبار ملوك الأصقاع، وهم: ملوك مصر، والهند، والصين، وجبل الفتح.
الباب الثالث- فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم، وهم: ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف منهم؛ والملوك الساسانيّة؛ وملوك اليونان والسريان؛ والكلدانيين؛ والصقالبة؛ والبوكبرد؛ والإفرنجة؛ والجلالقة؛ وطوائف السودان.
الباب الرابع- فى أخبار ملوك العرب.
(ويتّصل به خبر سيل العرم) .
الباب الخامس- فى أيّام العرب، ووقائعها فى الجاهليّة.
القسم الخامس- فى أخبار الملة الإسلاميّة؛ وذكر شىء من سيرة نبيّنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وأخبار الخلفاء من بعده (رضى الله عنهم) ؛ وأخبار الدولة الأمويّة؛ والعباسيّة؛ والعلويّة؛ ودول ملوك الإسلام، وأخبارهم، وما فتح الله (سبحانه وتعالى) عليهم- على ما سنبيّن ذلك- إن شاء الله (تعالى) .
وفيه اثنا عشر بابا:(1/22)
الباب الأوّل- فى سيرة سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الباب الثانى- فى أخبار الخلفاء من بعده: أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلىّ، وابنه: الحسن (رضى الله عنهم أجمعين) .
الباب الثالث- فى أخبار الدولة الأمويّة بالشام وغيره.
الباب الرابع- فى أخبار الدولة العباسيّة بالعراق، ومصر.
الباب الخامس- فى أخبار الدولة الأمويّة بالأندلس، وأخبار الأندلس بعد انقراض الدولة الأموية.
الباب السادس- فى أخبار إفريقيّة، وبلاد المغرب، ومن وليها من العمّال، ومن استقلّ منهم بالملك.
الباب السابع- فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيّين، فى مدّة الدولتين: الأمويّة، والعباسية، فقتل دونها، بعد مقتل الحسين ابن علىّ (رضى الله عنهما) .
الباب الثامن- فى أخبار صاحب الزنج، والقرامطة، والخوارج بالموصل.
الباب التاسع- فى أخبار من استقلّ بالملك، والممالك، بالبلاد الشرقيّة والشماليّة، فى خلال الدولة العباسيّة، وهم: ملوك خراسان، وما وراء النهر، والجبال، وطبرستان، وغزنة، والغور(1/23)
وبلاد السند، والهند: كالدولة السامانيّة.
والصّفّاريّة، والغزنويّة، والغوريّة، والدّيلميّة الختليّة.
الباب العاشر- فى أخبار ملوك العراق. وما والاه؛ وملوك الموصل، والديار الجزيرية، والبكريّة، والبلاد الشاميّة، والحلبيّة: كالدولة الحمدانيّة.
والدّيلميّة البهويهيّة، والسّلجقيّة، والأتابكيّة.
الباب الحادى عشر- فى أخبار الدولة الخوارزميّة. والجنكزخانيّة، وهى دولة التتار، وما تفرّع منها.
الباب الثانى عشر- فى أخبار ملوك الديار المصريّة الذين ملكوا فى خلال الدولة العباسيّة، نيابة عن خلفائها، وهم: الملوك العبيديّون الذين انتسبوا إلى علىّ بن أبى طالب (رضى الله عنه) ، وما كان من أمرهم، وما ملكوه من بلاد المغرب، وكيف استولوا على الديار المصريّة، والبلاد الشاميّة، والخلبيّة، والثغور، والسواحل، وغير ذلك إنى أن انقرضت دولتهم؛ وقيام الدولة الأيّوبيّة، وأخبار ملوكها بمصر، والشام إلى حين انقراضها؛ وقيام دولة الترك، ومن ملك منهم من أبنائهم، وما حازوه من الأقاليم، وما فتحوه من الممالك، وغير ذلك من(1/24)
أخبارهم، وما استقرّ فى ملك ملوك هذه الدولة إلى حين وضعنا لهذا التأليف فى سنة......
وسبعمائة (فى أيّام مولانا السلطان السيد الأجل المالك الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أبى الفتح محمد، بن السلطان الشهيد، الملك المنصور، سيف الدنيا والدين، أبى المظفر قلاون، الصالحىّ. خلد الله ملكه على ممرّ الزمان، وسقى عهد والده صوب الرّحمة والرّضوان، ببركة سيد ولد عدنان!) هذا مجموع ما يشتمل عليه هذا الكتاب، من فنون وأقسام وذيول وأبواب.
ثم ينطوى كل باب منها على فصول وأخبار، ويحتوى على وقائع وآثار.
ولما انتهت أبوابه وفصوله، وانحصرت جملته وتفصيله، ترجمته:
بنهاية الأرب فى فنون الأدب وأتيت فيه بالمقصود والغرض، وأثبتّ الجوهر ونفيت العرض، وطوّقته بقلائد من مقولى، ورصّعته بفرائد من منقولى. فكلامى فيه كالسارية تلتها السحائب، أو السريّة ردفتها الكتائب. فما هو إلّا مترجم عن فنونه، وحاجب لعيونه.
وما أوردت فيه إلّا ما غلب على ظنّى أنّ النفوس تميل إليه، وأن الخواطر تشتمل عليه. ولو علمت أنّ فيه خطأ لقبضت بنانى، وغضضت طرفى، ولو خبرت طريق(1/25)
المعترض لعطفت عنانى، وثنيت عطفى. لكنّى تبعت فيه آثار الفضلاء قبلى، وسلكت منهجهم فوصلت بحبالهم حبلى. فإن يكن اعتراض، فعلى علاهم لا علىّ العار. وقد علمت أنه من صنف كتابا فقد استهدف، وأصمّ الأسماع وإن كان لبعضها قد شنّف.
وخليق للواقف عليه أن يسدّ ما يجد به من خلل، وأن يغفر ما يلمح فيه من زلل.
فأسبل عليها ستر معروفك الذى سترت به قدما على عوارى. والذى أدّى إليه اجتهادى من تأليفه فقد أصدره، والذى وقفت عنده غايتى فقد أوردته. قد تبلّغت فيه وسعى، لكن ليس من عثرة الكتاب أمان. وبالله سبحانه المستعان! وعليه أتوكّل، وإليه أتضرّع فى التيسير وأتوسل؛ ومن فضله أستمدّ الصواب، وباسمه أستفتح الكتاب [1] !
__________
[1] ورد فى النسخة الفوتغرافية التى اعتمدنا الطبع عليها (وهى المحفوظة بكتبخانة الكوپريلى بالقسطنطينية) ما نصه فى هذا الموضع: «هذا آخر الفهرست لهذا الكتاب. ولنبتدئ إن شاء الله تبارك وتعالى بما بدأ به مؤلفه عفا الله تعالى عنه وهو الفن الأوّل. ونرجو بعون الله وحوله وقوّته الإتمام بسلام. وصلى الله وسلم على أشرف الأنام، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام» - وهى من زيادات الناسخ.(1/26)
الفن الأوّل فى السماء والآثار العلويّة، والأرض والمعالم السّفليّة
وقد أوردت فى هذا الفن نبذة من وصف السماء، التى هى قبلة الدعاء، وباب الرجاء؛ والكواكب السيّارات ذوات السنا والسناء؛ والملائكة الذين هم أولو أجنحة، مثنى، وثلاث، ورباع؛ والسحائب التى تجود بوبلها فتعدل فى قسمها بين السهل واليفاع؛ والرعد الذى إن ونت يحثّها؛ والريح الذى إن اجتمعت يبثّها؛ والبرق الذى شبّه ببنان الحاسب والكفّ الخضيب؛ والثلج الذى خلع على الأرض رداء المشيب؛ وقوس السّحاب الذى تنكّبه الجوّ فأفرغ عليه مصبّغات الحلل، ورمى الجدب ببنادق البرد فتباشرت بالخصب أهل الحلل؛ والنّيران وعبّادها وعددها، والمياه وأمدادها ومددها؛ والليالى والأيام، والشهور والأعوام؛ والسّنة وفصولها ومباديها، والأعياد والمواسم ومتّخذيها؛ والأرض والجبال، والبرارى والرمال؛ والجزائر والبحار، والعيون والأنهار؛ وطبائع البلاد، وأخلاق من سكنها من العباد؛ والمبانى والمعاقل، والقصور والمنازل.
وجعلته خمسة أقسام يستدلّ بها عليه، ويتوصّل من أبوابها إليه.(1/27)
القسم الأوّل فى السماء وما فيها وفيه خمسة أبواب:
الباب الأوّل من القسم الأوّل من الفن الأوّل
1- فى مبدإ خلق السماء
قال الله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها.
والسماء تذكّر وتؤنّث.
فشاهد التذكير قول الله (عزّ وجلّ) : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)
؛ وقول الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما، ... لحقنا بالسماء مع السّحاب!
وشاهد التأنيث، قوله (تبارك وتعالى) : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ)
؛ وقول الشاعر:
يا ربّ، ربّ الناس فى سماته! [1]
__________
[1] هكذا فى الأصول، أى بالتاء المثناة. ولو همزت، لفات الشاهد.(1/28)
2- ذكر ما قيل فى أسماء السماء وخلقها
قد نطقت العرب للسماء بأسماء.
منها: الجرباء. وسمّيت بذلك لكثرة النّجوم بها.
ومنها: الخلقاء. لملاستها.
وبرقع [1] . والرّقيع. ومنه
قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لسعد بن معاذ: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة»
. أى من فوق سبع سماوات.
ومنها: الطرائق. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) .
والسماء مخلوقة من دخان.
3- حكى فى سبب حدوثه
أنّ الله تعالى خلق جوهرة، وصف من طولها وعرضها عظما. ثم نظر إليها نظر هيبة، فانماعت، وعلاها من شدّة الخوف زبد ودخان. فخلق الله من الزبد الأرض، وفتقها سبعا؛ ومن الدخان السماء، وفتقها سبعا. ودليله قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ
. قال: ولما فتق الله تعالى السماوات، أوحى فى كل سماء أمرها.
واختلف المفسّرون فى الأمر، ما هو؟ فقال قوم: خلق فيها جبالا من برد وبحارا؛ وقال قوم: جعل فى كل سماء كوكبا، قدّر عليه الطلوع والأفول، والسير والرجوع.
وقال قوم: أسكنها ملائكة سخّرهم للعالم السّفلىّ، فوكّل طائفة بالسحاب وطائفة بالريح، وجعل منهم حفظة لبنى آدم وكاتبين لأعمالهم ومستغفرين لذنوبهم.
__________
[1] كز برج وقنفذ كما فى القاموس.(1/29)
الباب الثانى
1- فى هيئتها
ذهب المفسّرون لكتاب الله عزّ وجلّ أنّ السماء مسطوحة، بدليل قوله تعالى:
(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) .
وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) .
ويطلق على مجموعها فلك، لقوله تعالى: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) .
وذهب الحسن إلى أنّ الفلك غير السماوات، وأنّه الحامل بأمر الله تعالى للشمس والقمر والنجوم.
قالوا: ولمّا فتق الله تعالى رتق السماوات، جعل بين كلّ سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام.
وروى عن أبى هريرة (رضى الله عنه) ، قال: «بينما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالس هو وأصحابه، إذ أتى عليهم سحاب. فقال النبىّ (صلى الله عليه وسلم) هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا العنان [1] ، هذه روايا الأرض، يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال: أتدرون ما فوقكم؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: هذا الرقيع: سقف محفوظ، وموج مكفوف. ثم قال: هل تدرون ما بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينكم وبينها خمسمائة سنة.
ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: سماء فى بعد ما بينهما
__________
[1] العنان السحاب. واحدته بهاء. (قاموس) .(1/30)
خمسمائة سنة. قال ذلك حتّى بلغ سبع سماوات، ما بين كل سماءين، ما بين السماء والأرض. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنّ فوق ذلك العرش. وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين. ثم قال: هل تدرون ما تحتكم؟
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنّها الأرض. ثم قال: أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: إنّ تحتها أرضا أخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة. حتّى عدّ سبع أرضين، بين كل أرض وأرض خمسمائة سنة» .
أخرجه أبو عيسى الترمذىّ، في «جامعه» .
ويروى عن ابن عبّاس (رضى الله عنهما) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان جالسا بالبطحاء، بين أصحابه، إذ مرّت عليهم سحابة. فنظروا إليها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هل تدرون ما اسم هذه؟ قالوا: نعم. هذا السحاب. فقال (صلى الله عليه وسلم) : والمزن. قالوا: والمزن. قال: والعنان. قالوا: والعنان.
فقال: هل تدرون ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندرى. قال: خمسمائة عام. وبينها وبين السماء التى فوقها كذلك. (حتّى عدّ سبع سماوات) . ثمّ قال: وفوق السماء السابعة بحر، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء (وفى لفظ: كما بين السماء والأرض) . وفوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم [1] مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهم [2] العرش، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض.
وجاء فى رواية أخرى ذكر الكرسىّ، وقال: «ثم ما بين السماء السابعة والكرسىّ مسيرة خمسمائة عام. ثم ما بين الكرسىّ إلى الماء مسيرة خمسمائة عام. والعرش فوق الماء.»
ولم يذكر الأوعال.
__________
[1] فى الترمذىّ: أظلافهنّ وركبهنّ......... ظهورهنّ.
[2] فى الترمذىّ: أظلافهنّ وركبهنّ......... ظهورهنّ.(1/31)
وجاء فى رواية أخرى ذكر الكرسىّ، وأنّ السماوات فى ضمنه. وهى بالنسبة إليه كحلقة ملقاة فى أرض فلاة، والكرسىّ بالنسبة إلى العرش كذرّة ملقاة فى أرض فلاة فيحاء. (وفى رواية كحلقة) .
وروى أن أبا ذرّ (رضى الله عنه) قال: «يا رسول الله: أىّ آية أنزلت عليك أعظم؟ قال: آية الكرسىّ. ثم قال: يا أبا ذرّ! أتدرى ما الكرسىّ؟ قلت: لا؛ فعلّمنى يا رسول الله، مما علّمك الله. فقال: ما السماوات والأرض وما فيهنّ فى الكرسىّ، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وما الكرسىّ فى العرش، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وما العرش فى الماء، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وما الماء فى الريح، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وجميع ذلك فى قبضة الله كالحبّة، وأصغر من الحبّة، فى كفّ أحدكم. تعالى الله سبحانه»
. رواه أبو حاتم فى كتاب العظمة.
والقول فى هيئة السماء، على مذاهب أصحاب علم الهيئة، كثير. أغضينا عنه، لأنه لا يقوم عليه دليل واضح. فلذلك اقتصرنا على ذكر المنقول دون المعقول.
فلنذكر ما جاء فى الأمثال التى فيها ذكر السماء، وما وصفها الشعراء به وشبّهوها.
2- أما الأمثال
فقولهم: أرفع من السماء، للبالغة.
وقول الشاعر:
من ذا رأى أرضا بغير سماء؟
إنّ السماء ترجّى حين تحتجب.
إنّ السماء، إذا لم تبك مقلتها، ... لم تضحك الأرض عن شىء من الزّهر.(1/32)
3- وأما الوصف والتشبيه
فمنه قول عبد الله بن المعتزّ:
كأنّ سماءنا، لمّا تجلّت ... خلال نجومها عند الصّباح،
رياض بنفسج خضل، نداه ... تفتّح بينه نور الأقاح.
وقال آخر:
كأنّ سماءنا، والشّهب فيها، ... وأصغرها لأكبرها مزاحم،
بساط زمرّد نثرت عليه ... دنانير تخالطها دراهم.
ونحوه قول الآخر:
كأنّ سماء الأرض نطع زمرّد، ... وقد فرشت فيه الدّنانير للصّرف.
وقال آخر:
ورأيت السّماء كالبحر إلّا ... أنّ مرسوبه من الدّرّطافى.
فيه ما يملأ العيون كبير ... وصغير ما بين ذلك خافى.
وقال التّنوخىّ يصف ليلة:
كأنما نجومها، ... نصب عيون الرّمّق،
دراهم قد نثرت ... على بساط أزرق.
وقال أبو طالب الرّقّىّ:
وكأنّ أجرام السماء، لوامعا، ... درر نثرن على بساط أزرق.
وقال ظافر الحدّاد:
كأنّ نجوم الليل، لما تبلجت، ... توقّد جمر فى خلال رماد.
حكى، فوق ممتدّ المجرّة شكلها، ... فواقع تطفو فوق لجّة وادى.(1/33)
وقال آخر:
كأنّ النّجوم، نجوم السما، ... وقد لحن للعين من فرط بعد،
مسامير من فضّة سمّرت ... على وجه لوح من اللّازورد.
وقال محمد بن عاصم:
ترى صفحة الخضراء، والنّجم فوقها، ... ككفّ سدوسىّ بدا فيه درهم.
ترى، وعلى الآفاق أثواب ظلمة، ... وأزرارها منها شمال ومرزم [1] .
4- ومما قيل فى الفلك
قال أبو العلاء المعرّىّ:
يا ليت شعرى! وهل ليت بنافعة؟ ... ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك؟
كم خاض فى إثرك الأقوام واختلفوا ... قدما! فما أوضحوا حقّا ولا تركوا.
شمس تغيب ويقفو إثرها قمر، ... ونور صبح يوافى بعده حلك.
طحنت طحن الرّحى من قبلنا أمما ... شتّى، ولم يدر خلق أيّة سلكوا.
وقال، إنّك طبع خامس، نفر. ... عمرى! لقد زعموا بطلا وقد أفكوا!
راموا سرائر للرحمن حجّبها، ... ما نالهنّ نبىّ، لا ولا ملك.
وقال الرئيس أبو علىّ بن سينا [2] :
بربّك! أيّها الفلك المدار، ... أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مدارك، قل لنا، فى أىّ شيء؟ ... ففى أفهامنا منك ابتهار!
__________
[1] المرزم: الثبت القائم على الأرض.
[2] . قال صاحب عيون الأنباء (ج 1 ص 248- 249) إن بعض الناس ينسب هذه القصيدة لابن سينا وليست له، ونص على أنها لابن الشل البغدادى وقد أوردها فى خمسين بيتا.(1/34)
وعندك ترفع الأرواح؟ أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار؟
وفيك الشّمس رافعة شعاعا، ... بأجنحة قوادمها قصار؟
قطوف، ذى النّجوم أم الّلآلى؟ ... هلال أم يد فيها سوار؟
وشهب، ذى المجرّة أم ذبال [1] ... عليها المرخ [2] يقدح والعفار [3] ؟
وترصيع، نجومك أم حباب ... تؤلّف بينها اللّجج الغزار؟
تمدّ رقومها ليلا وتطوى ... نهارا، مثل ما طوى الإزار!
فكم بصقالها صدئ البرايا! ... وما يصدا لها أبدا غرار.
وتبدو ثمّ تخنس راجعات ... وتكنس مثل ما كنس الصوار [4] .
فبينا الشّرق يقدمها صعودا ... تلقّاها من الغرب انحدار.
هى العشواء، ما خبطت هشيم ... هى العجماء، ما جرحت جبار [5] .
وقال أبو عبادة البحترىّ:
أناة! أيّها الفلك المدار! ... أنهب ما تصرّف أم خيار؟
ستبلى مثل ما نبلى، وتفنى ... كما نفنى، ويؤخذ منك ثار.
__________
[1] الذبال: الفتائل.
[2] المرخ: شجر سريع الورى كثيره. وقد وصفه المؤلف فيما بعد (ص 39) بأنه شجر تحتك بعض أغصانه ببعض فتورى نارا.
[3] العقار: شجر يتخذ منه الزناد وهو من شجر النار.
[4] الصوار كالصيار بكسر الصاد وضمها: القطيع من البقر.
[5] الجبار (بضم الجيم) الهدر.(1/35)
الباب الثالث من القسم الأوّل من الفن الأوّل
1- فى ذكر الملائكة
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «أطّت [1] السماء، وحقّ لها أن تئطّ.
ما فيها موضع أربع أصابع، إلّا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد» .
والملائكة أولو أجنحة: مثنى، وثلاث، ورباع، وأكثر من ذلك. فإنه قد ورد أن جبريل (عليه السلام) له ستمائة جناح. وهى الصورة التي رآه النبىّ (صلى الله عليه وسلم) فيها مرّتين:
إحداهما فى الأرض، وقد سدّ ما بين الخافقين. ووصفه الله تعالى بالقوّة، فقال تعالى: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)
. ومن قوّته، أنه اقتلع مدائن قوم لوط، وكانت خمس مدائن، من الماء الأسود، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء، حتّى إنّ أهل السماء يسمعون نبّاح كلابهم، وأصوات دجاجهم؛ ثمّ قلبها.
والمرّة الثانية، رآه (صلى الله عليه وسلم) عند سدرة المنتهى. قال الله تعالى:
(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) .
وكان هبوط جبريل (عليه السلام) على الأنبياء (صلوات الله عليهم) ورجوعه فى أوحى [2] من رجع الطّرف.
__________
[1] أطّ: صوّت.(1/36)
وعظماء الملائكة أربعة، وهم: إسرافيل، وميكائيل، وجبرائيل، وعزرائيل.
وأقربهم من الله تعالى منزلة، إسرافيل.
فإذا أراد الله تعالى بوحى، جاء اللوح المحفوظ حتّى يقرع جبهة إسرافيل، فيرفع رأسه، فينظر فيه. فإن كان إلى السماء، دفعه إلى ميكائيل؛ وإن كان إلى الأرض، دفعه إلى جبرائيل؛ وإن كان بموت أحد، أمر به عزرائيل. صلوات الله عليهم! وقد روى فى قوله تعالى: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)
، هم أربعة من الملائكة:
جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل. فجبريل على الجنود والرياح، وميكائيل على القطر والنبات، وعزرئيل على قبض الأرواح، وإسرافيل يبلّغهم ما يؤمرون به.
وجعل الله تعالى لهم أن يتمثلوا للبشر على ما شاءوا من الصور، كما كان جبريل يتمثل سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على صورة دحية الكلبىّ مرارا، وفى صورة غيره من لرجال؛ وكما تمثّل لمريم عليها السلام بشرا سويا. ونزلت الملائكة فى غزوة بدر على الخيول المسوّمة، وقد سدلوا ذوائب عمائمهم على مناكبهم. وهم مخلوقون من نور. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين!(1/37)
الباب الرابع من القسم الأوّل من الفن الأوّل
1- فى الكواكب السبعة المتحيرة
قال الله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ)
. ذهب المفسرون إلى أنها هى الكواكب السبعة: زحل، والمشترى، والمرّيخ، والشمس، والزّهرة، وعطارد، والقمر.
وقالوا: إن هذه الكواكب هى المعنيّة بقوله تعالى: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) .
وسميت كنّسا لأنها تجرى فى البروج ثم تكنس أى تستتر كما تكنس الظباء؛ وخنسا لاستقامتها ورجوعها. وقيل الخنّس والكنّس منها خمسة، دون الشمس والقمر.
وسميت خنّسا لأن الخنوس فى كلام العرب الانقباض. وفى الحديث الشريف «الشيطان بوسوس للعبد، فإذا ذكر الله تعالى خنس» أى انقبض ورجع. فيكون فى الكوكب بمعنى الرجوع. وكنّسا من قول العرب كنس الظبى اذا دخل الكناس، وهو مقرّه؛ ويكون فى الكوكب اختفاءه تحت ضوء الشمس.
وأسماء هذه الكواكب عند العرب مشتقة من صفاتها.
فقالوا فى زحل: زحل فلان إذا أبطأ، وبذلك سمّى هذا الكوكب لبطئه فى السماء.
وقيل الزّحل والزّحيل [1] الحقد وهو فى طبعه. وهذا الكوكب عند المفسرين هو المعنى بقول الله عز وجل وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ) .
__________
[1] الذحل الذى بمعنى الحقد بالذال المعجمة ولم يذكره أحد من أئمة اللغة فى الزاى. فهو أشتباه على الناقل.
والذى «فى اللسان» أنه سمى بذلك لبعده.(1/38)
وقالوا فى المشترى: إنه إنما سمّى بذلك لحسنه، كأنه اشترى الحسن لنفسه. وقيل لأنه نجم الشراء والبيع، ودليل الأموال، والأرباح.
وقالوا فى المرّيخ: إنه مأخوذ من المرخ (وهو شجر تحتك بعض أغصانه ببعض فتورى نارا) فسمّى بذلك لأحمراره. وقال آخرون المرّيخ سهم لا ريش له إذا رمى به لا يستمرّ فى ممرّه. وكذلك المرّيخ، فيه التواء كثير فى سيره وحكمه، فشبه بذلك.
وقالوا فى الشمس: إنها لما أن كانت واسطة بين ثلاثة كواكب علوية وثلاثة سفلية، سميت بذلك لأن الواسطة التى فى المخنقة تسمّى «شمسة» .
وقالوا فى الزّهرة: إنها مشتقة من الزاهر، وهو الأبيض النّيّر من كل شىء.
وقالوا فى عطارد: إنه النافذ فى الأمور، ولهذا سمّى بالكاتب. وهكذا هذا الكوكب كثير التصرف مع ما يلابسه ويقارنه.
وقالوا فى القمر: إنه مأخوذ من القمرة، وهى البياض؛ والأقمر الأبيض.
والفرس تسمّى هذه الكواكب بلغتها «كيوان» ويعنون به زحل؛ و «تير» ، ويعنون به المشترى (وبعضهم يسميه «البرجيس» ) ؛ و «بهرام» ويعنون به المرّيخ؛ و «مهر» ويعنون به الشمس؛ و «أناهيد» ويعنون به الزّهرة (وبعضهم يسميها «بيدخت» ) ، و «هرمس» (ويعنون به عطارد) ، و «ماه» (ويعنون به القمر) .
وقد جمع بعض الشعراء أسماء هذه الكواكب فى بيت واحد من بيتين يمدح بهما بعض الرؤساء فقال:
لا زلت تبقى وترقى للعلا أبدا ... مادام للسّبعة الأفلاك أحكام!
مهر، وماه، وكيوان، وتير معا ... وهرمس، وأناهيد، وبهرام!(1/39)
وقال أبو إسحاق الصابى:
نل المنى فى يومك الأجود، ... مستنجحا بالطالع الأسعد!
وارق كمرقى زحل صاعدا ... إلى المعالى أشرف المقصد!
وفض كفيض المشترى بالنّدى ... إذا اعتلى فى أفقه الأبعد!
وزد على المرّيخ سطوا بمن ... عاداك من ذى نخوة أصيد!
واطلع كما تطلع شمس الضّحى ... كاسفة للحندس الأسود!
وخذ من الزّهرة أفعالها ... فى عيشك المستقبل الأرغد!
وضاه بالأقلام فى جريها ... عطارد الكاتب ذا السّودد!
وباه بالمنظر بدر الدّجى ... وافضله فى بهجته وازدد!
وقد اختص كلّ كوكب من هذه الكواكب بقول. سنذكر من ذلك ما تقوم به الحجة، وينهض به الدليل من الكتاب والسنة، وما يتمثّل به مما فيه ذكرها، وما ورد فى ذلك من الأوصاف والتشبيهات: نظما ونثرا مما وقفت عليه فى أثناء مطالعتى لكتب الفضلاء وتصانيفهم ودواوينهم. وعدلت عن أقوال المنجمين لما فيها من سوء الطويّة وقبح الأعتقاد: لأن منهم من يرى أن للنجوم فى الوجود تأثيرات وأفعالا. أعاذنا الله تعالى من ذلك!
2- ذكر ما قيل فى الشمس
(والشمس هى النيّر الأعظم) وقد ذهب بعض المفسرين لكتاب الله تعالى إلى أن نور الشمس والقمر فى سائر السماوات بدليل قول الله عز وجل (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) .(1/40)
وجاء فى الحديث
عن النبىّ (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «الشمس والقمر وجوههما إلى السماء وأقفاؤهما إلى الأرض»
وفى حديث آخر
«وجوههما إلى العرش وأقفاؤهما إلى الأرض»
. وفى حديث آخر
«ان الشمس تكون فى الصيف فى السماء الخامسة، وفى الشتاء فى السماء السابعة تحت عرش الرحمن»
. وزعموا أن حركتهما وحركة سائر الكواكب مستقيمة غير مستديرة، وأن الشمس تقطع سماء الدنيا فى يومها، وتغيب فى الأرض فى عين حمئة. ومعنى حمئة ذات حمأة.
وقد جاء فى تفسير قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها)
أى إلى موضع قرارها، لأنها تجرى إلى أبعد منازلها فى الغروب، ثم ترجع؛ ومن قرأ «لا مستقرّ» لها أى هى دائبة السير ليلا ونهارا. وهى قراءة شاذة [1] .
وقد قال الله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ)
وروى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تجرى لمستقر لها تحت العرش، فتخرّ ساجدة؛ فلا تزال كذلك حتّى يؤذن لها فى الطلوع. ويوشك أن يقال لها: ارجعى من حيث جئت؛ وذلك طلوعها من مغربها.
وذهب وهب بن منبّه إلى أن الشمس على عجلة لها ثلاثمائة وستون عروة، وقد تعلق بكل عروة ملك؛ يجرّونها فى السماء ودونها البحر المسجور فى موج مكفوف كأنه جبل ممدود فى الهواء، ولو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت ما على وجه الأرض من شىء حتّى الجبال والصخور. وروى عن كعب أنه قال: «خلق الله القمر من نور وخلق الشمس من نار» .
__________
[1] هذا الرأى هو الذى استقر عليه علماء الفلك أخيرا، بعد التحقيق والتدقيق. فلله در صاحبه! فإنه، وإن كان قد خالفه فيه الدهماء، لكنه قد أقرّه الراسخون فى العلم الآن.(1/41)
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً)
، والسراج لا يكون إلا من نار؛ وهما مضيآن لأهل السماوات؛ كما يضيآن لأهل الأرض.
وقد تقدّم الدليل على ذلك.
3- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الشمس
يقال: أشهر من الشمس، أحسن من الشمس. أدلّ على الصبح من الشمس.
ومن أنصاف الأبيات:
وهل شمس تكون بلا شعاع
فى طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
ولو لم تغب شمس النهار، لملّت
الشمس نمّامة واللّيل قوّاد
الشمس طالعة إن غيّب القمر
وربّما تنكسف الشمس
والشمس تنحطّ فى المجرى وترتفع
إذا الشمس لم تغرب، فلا طلع البدر
ومن الابيات قول الطائى:
فإنّى رأيت الشّمس زيدت محبّة ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد.
وقال علىّ بن الجهم.
والشّمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد.
وقال أبو تمّام:
وإنّ ضريح الرأى والحزم لأمرئ ... إذا بلغته الشمس، أن يتحوّلا.(1/42)
وقوله:
وكلّ كسوف فى الدّرارى شنيعة، ... ولكنّه فى الشمس والبدر أشنع.
وقوله أيضا:
أعندك الشمس تجرى فى منازلها، ... وأنت مشتغل الالحاظ بالقمر؟
وقال البحترىّ:
كذاك الشّمس تبعد أن تسامى، ... ويدنو الضّوء منها والشّعاع.
وقال ابن الرومى:
ورأيته كالشّمس: إن هى لم تنل ... فالدّفء منها والضّياء ينال.
وقال أيضا:
كالشّمس لا تبدو فضيلتها ... حتّى تغشّى الأرض بالظّلم.
وقال أيضا:
كالشمس فى كبد السماء محلّها، ... وشعاعها فى سائر الآفاق.
وقال العبّاس بن الأحنف:
هى الشمس مسكنها فى السماء. ... فعزّ الفؤاد عزاء جميلا!
وقال أبو عبيد البكرىّ:
والشمس يستغنى، إذا طلعت، ... أن يستضاء بغرّة البدر.
وقال أبو الطيب المتنبى:
كالشمس لا تبتغى بما صنعت ... منفعة عندهم ولا جاها.(1/43)
وقال ابن لنكك البصرىّ:
وهبك كالشّمس فى حسن؛ ألم ترها ... يفرّ منها إذا مالت إلى الضّرر؟
وقال ابن عبّاد:
فقلت: وشمس الضّحى تحتمى ... إذا بسطت فى المصيف الأذى.
وقال ابن مسعويه الخالدىّ:
لا يعجبنّك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست فى منازلها.
وقال أبو الفتح البستىّ:
فالحرّ حرّ عزيز النّفس حيث ثوى، ... والشّمس فى كلّ برج ذات أنوار.
4- ذكر ما جاء فى وصف الشمس وتشبيهها
من ذلك قول الوزير المهلّبىّ:
الشّمس فى مشرقها قد بدت ... منيرة ليس لها حاجب.
كأنّها بودقة أحميت، ... يجول فيها ذهب ذائب.
وقال ظافر الحدّاد:
أنظر لقرن الشّمس بازغة ... فى الشّرق تبدو ثم ترتفع!
كسبيكة الزّجّاج ذائبة ... حمراء ينفخها فتتّسع.
وقال أبو هلال العسكرىّ:
والشمس واضحة الجبين كأنّها ... وجه المليحة فى الخمار الأزرق!(1/44)
وكأنّها عند انبساط شعاعها ... تبر يذوب على فروع المشرق!
وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبىّ:
أو ما ترى شمس الأصيل عليلة ... تزداد من بين المغارب مغربا؟
مالت لتحجب شخصها فكأنها ... مدّت على الدّنيا ملاء مذهبا!
ومما وصفت به- وقد قابلت القمر- قول الشاعر:
أما ترى الشمس، وهى طالعة، ... تمنع عنّا إدامة النّظر؟
حمراء صفراء فى تلوّنها ... كأنّها تشتكى من السّهر.
مثل عروس غداة ليلتها ... تمسك مرآتها من القمر.
وقال مؤيد الدين الطغرائى، عفا الله عنه ورحمه:
وكأنّما الشمس المنيرة إذ بدت، ... والبدر يجنح للمغيب وما غرب،
متحاربان: لذا مجنّ صاغه ... من فضّة، ولذا مجنّ من ذهب.
ومن أحسن ما وصفت به فى الطلوع والزوال والغروب قول أعرابىّ.
مخبّأة: أمّا إذا اللّيل جنّها ... فتخفى وأما فى النّهار فتظهر.
إذا انشقّ عنها ساطع الفجر وانجلى ... دجى الليل وانجاب الحجاب المسترّ
وألبس عرض الأفق لونا كأنّه ... على الأفق الغربىّ ثوب معصفر
عليها دروع الزّعفران، يشوبه ... شعاع تلالا فهو أبيض أصفر:
ترى الظّلّ يطوى حين تبدو وتارة ... تراه إذا زالت عن الأرض ينشر.
فأفنت قرونا، وهى فى ذاك لم تزل ... تموت وتحيا كلّ يوم وتنشر!(1/45)
وقال آخر:
وبدالنا ترس من الذّهب الذى ... لم ينتزع من معدن بتعمّل.
مرآة نور لم تشن بصياغة ... كلّا ولا جليت بكفّ الصّيقل.
تسمو إلى كبد السماء كأنّها ... تبغى هناك دفاع أمر معضل.
حتّى إذا بلغت إلى حيث انتهت ... وقفت كوقفة سائل عن منزل.
ثم انثنت تبغى الحدور كأنها ... طير أسفّ مخافة من أجدل.
ومما وصفت به، وقد قابلت الغيم، قول ابن المعتز:
تظلّ الشمس ترمقنا بطرف ... خفىّ لحظه من خلف ستر.
تحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنّين يحاول نيل بكر.
وقال آخر:
وعين الشمس ترنو من بعيد ... رنوّ البكر من خلف السّتور.
وقال محمد بن رشيق:
فكأنّ الشّمس بكر حجّبت ... وكأنّ الغيم ستر قد ستر [1] .
5- ذكر شىء مما وصفت به على طريق الذمّ
فمن ذلك ما قاله عبد الملك بن عمير، وقد سئل عنها فقال: مظهرة للدّاء، مثقّلة للهواء، مبلاة للثوب، جالبة للهب.
وقال آخر: الشمس تشحب اللون، وتغيّر العرق، وترخى البدن، وتثير المرّة.
إذا احتجمت فيها، أمرضتك؛ وإن أطلت النوم فيها، أفلجتك؛ وإن قربت منها، صرت زنجيّا، وإن بعدت عنها، صرت صقلّيّا.
__________
[1] كذا بالأصل ولعل يد الناسخ حرفته عن «سدل» كما هو ظاهر.(1/46)
وقال ابن سنا الملك:
لا كانت الشمس! فكم أصدأت ... ضفحة خدّ كالحسام الصّقيل!
وكم وكم صدّت بوادى الكرى ... طيف خيال جاءنى عن خليل!
وأعدمتنى من نجوم الدّجى ... ومنه روضا بين ظلّ ظليل!
تكذب فى الوعد؛ وبرهانه ... أنّ سراب القفر منها سليل.
وهى إذا أبصرها مبصر ... حديد طرف، راح عنها كليل.
يا علّة المهموم، يا جلدة ال ... محموم، يا زفرة صبّ نحيل!
يا قرحة المشرق عند الضّحى، ... وسلحة المغرب عند الأصيل!
أنت عجوز، لم تبرّجت لى، ... وقد بدا منك لعاب يسيل؟
وقال التيفاشىّ، عفا الله تعالى عنه ورحمه:
فى خلقة الشمس وأخلاقها ... شتّى عيوب ستة تذكر.
رمداء، عمشاء، إذا أصبحت؛ ... عمياء عند اللّيل، لا تبصر.
ويغتدى البدر لها كاسفا ... وجرمها من جرمه أكبر.
حرورها فى القيظ لا تتّقى ... ودفؤها فى القرّ مستحقر.
وخلقها خلق المليك الذى ... ينكث فى العهد ولا يصبر.
ليست بحسناء. وما حسن من ... يحسر عنه اللحظ لا يبصر؟
وقال أبو الطيب المتنبى:
تسوّد الشّمس منّا بيض أوجهنا ... ولا تسوّد بيض العذر واللّمم.
وكان حالهما فى الحكم واحدة ... لو اختصمنا من الدّنيا إلى حكم.(1/47)
6- ذكر ما قيل فى الكسوف
روى أن الشمس كسفت فى عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووافق ذلك موت إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال الناس: إنما كسفت الشمس لأجله
فقال النبىّ (صلى الله عليه وسلم) «إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى يخوّف بهما عباده، وإنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله وكبّروا وصلّوا حتّى يكشف ما بكم» .
وقال محمد بن هانئ فى الكسوف.
هى الحوادث لا تبقى ولا تذر! ... ما للبريّة من محتومها وزر!
لو كان ينجى علوّ من بوائقها، ... لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر!
7- ذكر أسماء الشمس اللغوية
وللشمس أسماء نطقت بها العرب. فمنها: ذكاء، والجارية، والجونة، والغزالة، واللاهة [1] ، والضّحى، والضّحّ، ويوح (بالياء المثناة والباء الموحدة) ، والشّرق، وحناذ، والعين، والمؤوّبة، والسّراج.
__________
[1] الذى فى كتب اللغة أن اللاهة اسم محيّة. وأما الشمس فاسمها إلاهة مثلثة، وأليهة. فلعل ما هنا تصحيف من الناسخ.(1/48)
8- ذكر عبّاد الشمس
قال الشهرستانىّ فى كتابه المترجم «بالملل والنحل» : إن عبدة الشمس طائفة من الهنود يسمّون الديبكينية [1] أى عباد الشمس؛ ومذهبهم مذهب الصابئة. وتوجههم إلى الهياكل السماوية دون قصر الإلهية والربوبيّة عليها. ويزعمون أن الشمس ملك من الملائكة، وأن لها نفسا وعقلا، ومنها نور الكواكب، وضياء العالم، وتكوّن الموجودات السفلية. وهى ملك يستحق التعظيم، والسجود، والتبخير، والدعاء. ومن سنتهم أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهرة على لون النار. وللصنم بيت خاصّ بنوه باسمه ووقفوا عليه ضياعا، وله سدنة وقوّام. فتأتى هذه الطائفة إلى البيت، ويصلّون فيه ثلاث كرّات.
ويأتى أصحاب العلل والأمراض فيصومون له، ويصلّون، ويدعون، ويستشفون به.
9- ذكر ما قيل فى القمر
(وهو النير الثانى) ذهب وهب بن منبّه أن القمر موضوع على عجلة فى فلك، والفلك يدور بأمر الله تعالى إلى ناحية المغرب، والعجلة يجرّها ثلاثمائة وستون ملكا إلى ناحية المشرق؛ وتدوير العجلة من تدوير الفلك الأعظم؛ وتدوير فلك القمر من تدوير العجلة.
ويقال: إن القمر كان كالشمس فى الضياء. فلم يكن يعرف الليل من النهار، فأمر الله تعالى جبريل أن يمرّ عليه بجناحه، فمرّ عليه، فمحاه. فهو ما ترى فيه من السواد.
__________
[1] الذى فى الشهرستانى طبع لويدرة: «الدينكيتيّة» . وهو الأقرب للصواب ويقول مترجمه الألمانى العلامة هاربرد كرانه ولعله من «ديكرت» ومعناه «صانع النهار» .(1/49)
وبهذا القول فسر قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) .
قالوا: ولا يسمّى قمرا إلا بعد مضىّ ثلاث ليال من استهلاله. والأقمر هو الأبيض.
10- ذكر ما قيل فى القمر
(من استهلاله إلى انقضاء الشهر وأسماء لياليه) قالوا: وللقمر من أوّل الشهر إلى آخره خمس حالات؛ وللياليه عشرة أسماء أما حالاته الخمس:
فالأولى: الهلالية، وهى خروجه من تحت شعاع الشمس وظهوره فى الغرب فى أوّل الشهر.
الثانية: أن يفضل فيه النور على الظلمة، وذلك فى الليلة السابعة من الشهر.
الثالثة: الاستقبال، وهو كونه فى البرج السابع من بروج الشمس، ويسمّى الامتلاء لامتلاء القمر فيه نورا، وذلك فى الليلة الرابعة عشرة من الشهر، ويسمّى القمر فيها بدرا لكماله، ويسمّى بذلك لامتلائه، وقيل لمبادرته الشمس بالطلوع، وتسمّى الليلة التى قبلها (وهى الثالثة عشرة) ليلة السّواء لاستواء القمر فيها، وقيل: لاستواء ليلها ونهارها فى الضياء، وهى ليلة التّمام.
الرابعة: أن تفضل الظلمة فيه على النور، وذلك فى الليلة الثانية والعشرين من الشهر.(1/50)
الخامسة: المحاقيّة، وهى مدّة استتاره بشعاع الشمس؛ ويسمّى ذلك أيضا سرارا، وذلك فى الليلة التاسعة والعشرين، ويمكن أن يغيب ثلاث ليال لا يرى ويهلّ فى اليوم الرابع، ويسمّى حينئذ قمرا لا هلالا؛ والشمس تعطيه من نورها كلّ ليلة ما يستضىء به نصف سبع قرصه حتّى يكمل، ثم يسلبه من الليلة الخامسة عشرة، فى كل ليلة نصف سبع قرصه حتّى لا يبقى فيه نور فيستتر.
وأما أسماء لياليه، فإنه يقال لأوّل ثلاثة منها غرر، والثانية شهب، والثالثة زهر، والرابعة بهر، والخامسة بيض، والسادسة درع، والسابعة [1] حنادس، والثامنة ظلم، والتاسعة داد، والعاشرة ليلتان منها محاق وليلة سرار؛ ويسمّون الليلة الثامنة والعشرين الدّعجاء، والليلة التاسعة والعشرين الدّهماء، والليلة الموفية ثلاثين اللّيلاء، ويسمّونها ليلة البراء لتبرّى القمر من الشمس.
11- ذكر أسماء القمر اللّغوية
وللقمر أسماء نطقت بها العرب. فمنها: القمر، والباهر، والبدر، والطّوس، والجلم، والغاسق، والوبّاص، والزّبرقان، والمنشقّ، والواضح [2] ، والباحور، والأبرص، والزّمهرير. ومنه قول الله سبحانه وتعالى: (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)
وقول بعض العرب.
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزّمهرير ما ظهر.
__________
[1] الذى فى اللسان والقاموس: ان الظّلم، ثلاث ليال يلين الدّرع. والحنادس، ثلاث ليال بعد الظلم. ويؤيده ما فى الصحاح: ان الحندس الليل الشديد الظلمة. وقد ذكر ابن سيدة هذه الأسماء فى المخصص (ج 9 ص 30- 31) وأوردها على هذا الترتيب. وعليه فصواب العبارة هكذا:
(والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة حنادس اخ) اهـ.
[2] الذى فى كتب اللغة: ان الوضح القمر، فلعله تحريف من الناسخ.(1/51)
ومن أسمائه: السّنمّار، والسّاهور.
والفخت ضوءه، والأخذ [1] منزلته. وكذلك الوكس، وهى المنزلة التى يكسف فيها:
والهالة دارته.
12- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر القمر
يقال فى أمثالهم:
أضيع من قمر الشتاء! قيل لأنه لا يجلس فيه.
إن يبغ عليك قومك، لا يبغ عليك القمر.
ويقال: أضوأ من القمر؛ وأتمّ من البدر.
ومن أنصاف الأبيات:
أريها السّها وترينى القمر
لا تخرج الأقمار من هالاتها
هكذا البدر فى الظّلام يوافى
كذاك كسوف البدر عند تمامه
ومن الأبيات قول الطائى:
إنّ الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا.
وقال ابن أبى البغل، والبيت الثانى لابن بحر:
المرء مثل هلال حين تبصره ... يبدو ضعيفا ضئيلا ثم يتّسق.
«يزداد حتّى إذا ما تمّ أعقبه ... كرّ الجديدين نقصا ثم ينمحق» .
وقال أبو الفرج الببغا:
ستخلص من هذا السّرار وأيّما ... هلال توارى فى السّرار فما خلص!
__________
[1] عبارة اللسان فى مادة (اخ ذ) : ونجوم الأخذ منازل القمر لأن القمر يأخذ كل ليلة فى منزل منها اهـ.(1/52)
13- ذكر ما قيل فى وصفه وتشبيهه
من ذلك قول عبد الله بن المعتتر فى الهلال:
وانظر إليه كزورق من فضّة ... قد أثقلته حموله من عنبر!
وقول عبد الجبار بن حمديس الصقلىّ:
وربّ صبح رقبناه، وقد طلعت ... بقيّة البدر فى أولى بشائره!
كأنّما أدهم الإظلام حين نجا ... من أشهب الصّبح، ألقى نعل حافره!
وقال آخر:
قد انقضت دولة الصّيام وقد ... بشّر سقم الهلال بالعيد!
يتهلو الثّريّا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود!
وقال أبو هلال العسكرىّ:
فى هلال كأنّه حيّة الرّم ... ل أصابت على اليفاع مقيلا
. بات فى معصم الظّلام سوارا ... وعلى مفرق الدّجى إكليلا.
وقال آخر:
والجوّ صاف والهلال مشنّف ... بالزّهرة الزّهراء نحو المغرب.
كصحيفة زرقاء فيها نقطة ... من فضة من تحت نون مذهب.
وقال آخر:
قلت لمّا دنت لمغربها الشّم ... س ولاح الهلال للنّظّار:
أقرض الشّرق صنوه الغرب دينا ... را فأعطاه الرّهن نصف سوار.(1/53)
وقال أبو العلاء المعرّى:
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بذوب النّضار الكاتب ابن هلال.
وقال آخر:
وكأنّ الهلال نون لجين ... غرقت فى صحيفة زرقاء.
وقال أبو عاصم البصرىّ من شعراء اليتيمة:
رأيت الهلال، وقد أحدقت ... نجوم الثّريّا لكى تسبقه.
فشبّهته وهو فى إثرها ... وبينهما الزّهرة المشرقه،
بقوس لرام رمى طائرا ... فأتبع فى إثره بندقه.
وقال آخر:
ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللّباس.
وقال الواوا الدمشقىّ رحمه الله:
وكأنّ الهلال تحت الثّريّا ... ملك فوق رأسه إكليل!
وقال إبراهيم بن محمد المرادىّ، من شعراء الأنموذج، ملغزا فيه:
دع ذا! وقل للنّاس: ما طارق، ... يطرقكم جهرا ولا يتّقى؟
ليس له روح على أنّه ... يركب ظهر الأدهم الأبلق.
شيخ رأى آدم فى عصره ... وهو إلى الآن بخدّ نقى.
ومدّ وسط السّجن مع قومه ... لا ينبرى من نهجه الضّيّق.
هذا ويمشى الأرض فى ليلة ... أعجب به من موثق مطلق.(1/54)
فتارة ينزل تحت الثّرى ... وتارة وسط السّما يرتقى.
وتارة يوجد فى مغرب ... وتارة يوجد فى المشرق.
وتارة تحسبه سابحا ... يسرى بشاطى البحر كالزّورق.
وتارة تحسبه وهو فى ... أستاره والبعض منه بقى،
ذبابة من صارم مرهف ... بارزة من جفنه المطبق.
يدنو إلى عرس له حسنها ... يختطف الأبصار بالرّونق.
حتّى اذا جامعها يرتدى ... بحلّة سوداء كالمحرق.
وهو على عادته دائما ... يجامع الأنثى ولا يتّقى.
ثم يجوب القفر من أجلها ... مشتملا فى مطرف أزرق.
حتّى اذا قابلها ثانيا ... تشكّه بالرّمح فى المفرق.
وبعد ذا تلبسه حلّة ... يا حسنها فى لونها المونق!
فجسمه من ذهب جامد ... وجلده صيغ من الزّئبق.
وهو إذا أبصرته هكذا ... أملح من صاحبة القرطق.
وقال ابن المعتز:
نظرت فى يوم لذّة عجبا ... وافى به للسّعود مقدار.
يقابل الشمس فيه بدردجى ... يأخذ من نورها ويمتار.
كصيرفىّ يروح منتقدا ... فى كفّه درهم ودينار.(1/55)
وقال عبد الله بن علىّ الكاتب:
كشف البدر وجهه لتمام، ... فوجوه النّجوم مستترات
. وكأنّ البدر التّمام عروس، ... وكأنّ النّجوم مستنقبات.
14- ذكر شىء مما قيل فيه على طريق الذم
حكى أن أعرابيا رأى رجلا يرقب الهلال. فقال له: ما ترقب فيه، وفيه عيوب لو كانت فى الحمار لردّ بها؟ قال: وما هى؟ فقال: إنه يهدم العمر، ويقترب الأجل، ويحلّ الدّين، ويقرض الكتّان، ويشجب اللون، ويفسد اللحم، ويفضح الطارق، ويدلّ السارق.
ومن عيوبه أن الإنسان إذا نام فى ضوئه حدث فى بدنه نوع من الاسترخاء والكسل، ويهيج عليه الزكام والصّداع؛ وإذا وضعت لحوم الحيوانات مكشوفة فى ضوئه، تغيرت طعومها وروائحها.
وقال ابن الرومىّ:
ربّ عرض منزّه عن قبيح ... دنّسته معرّضات الهجاء.
لو أراد الأديب أن يهجو البد ... ر، رماه بالخطّة الشّنعاء.
قال: يا بدر أنت تغدر بالسّا ... رى وتزرى بزورة الحسناء.
كلف فى شحوب وجهك يحكى ... نكتّا فوق وجنة برصاء.
يعتريك المحاق ثمّ يحليّ ... ك شبيه القلامة الحجناء.(1/56)
ويليك النّقصان فى آخر الشّهر ... فيمحوك من أديم السّماء.
فإذا البدر نيل بالهجو، هل يأ ... من ذو الفضل ألسن الشّعراء؟
لا لأجل المديح، بل خيفة الهج ... وأخذنا جوائز الخلفاء!
هذا ما أمكن إيراده فى القمر، فلنذكر خبر عبّاد القمر.
15- ذكر عبّاد القمر
قال الشهرستانىّ: عبّاد القمر طائفة من الهنود يسمّون الحندر بكتية [1] ، أى عبّاد القمر. يزعمون أن القمر ملك من الملائكة يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلىّ، ومنه نضج الأشياء المتكوّنة واتصالها إلى كمالها؛ وبزيادته ونقصانه تعرف الأزمان والساعات؛ وهو تلو الشمس وقرينها، ومنها نوره، وبالنظر إليها زيادته ونقصانه؛ ومن سنّتهم أنهم اتخذوا صنما على عجلة تجرّه أربعة، [2] وبيده جوهرة؛ ومن دينهم أن يسجدوا له ويعبدوه، وأن يصوموا النصف من كل شهر، ولا يفطروا حتّى يطلع القمر، ثم يأتون الصنم بالطعام والشراب واللبن، ثم يرغبون إليه وينظرون إلى القمر، ويسألونه حوائجهم؛ فإذا استهل الشهر علوا السّطوح، وأوقدوا الدّخن، ودعوا عند رؤيته، ورغبوا إليه، ثم نزلوا عن السطوح إلى الطعام والشراب والفرح والسرور، ولم ينظروا إليه إلا على وجوه حسنة. وفى نصف الشهر إذا فرغوا من الإفطار، أخذوا فى الرقص واللعب بالمعازف بين يدى الصنم والقمر.
__________
[1] فى الشهرستانى طبع لوندرة: «الجندريكنية» . وأفادنا مترجمه إلى الألمانية أن «چندراكا» معناه القمر فى لغتهم.
[2] الذى فى الشهرستانى: صنما على صورة عجل وبيد الصم الخ.(1/57)
16- ذكر ما قيل فى الكواكب المتحيرة
والكواكب الخمسة الباقية من الكواكب السبعة تسمّى المتحيرة. ثلاثة منها علوية تعلو أفلاكها فلك الشمس، وهى: زحل، والمشترى، والمرّيخ؛ واثنان سفلية فلكهما تحت فلك الشمس، وهى: الزّهرة، وعطارد.
وسمّيت هذه الكواكب المتحيرة لأنها ترجع أحيانا عن سمت مسيرها بالحركة الشرقية، وتتبع الغربية. فهذا الأرتداد فيها شبه التحير.
17- ذكر عباد الروحانيات
(وما احتجوا به فى سبب عبادتهم لها [1] ) وعباد الروحانيات هم الصابئة. يقال: صبأ الرجل إذا مال وزاغ.
ومذهب هؤلاء أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدّسا عن سمات الحدثان.
وكانت الصابئة تقول: إنا نحتاج فى معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه، إلى متوسط؛ ولكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيا لا جسمانيا.
وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب؛ والجسمانىّ بشر مثلنا يأكل مما نأكل، ويشرب مما نشرب، يماثلنا فى الصورة والمادّة.
قالوا: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) .
وقالوا: الواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرّب إليه بالمتوسطات المقرّبين لديه، وهم الروحانيون المقدّسون المطهرون، جوهرا وفعلا وحالة.
__________
[1] نقل المؤلف هنا بعض عبارات الشهرستانى في الملل والنحل مع تقديم وتأخير (أنظر ص 203 من طبعة الأب كرتون الانكليزى فى لندرة سنة 1842- 1846) .(1/58)
أما الجوهر فهم المقدّسون عن الموادّ الجسمانية، المبرؤون عن القوى الجسدانية، أى منزّهون عن الحركات المكانية، والتغييرات الزمانية؛ قد جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس والتسبيح (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) .
وإنما أرشدنا إلى هذا معلمنا الأوّل، عاذيمون، وهرمس. فنحن نتقرّب إليهم، ونتوكل عليهم، وهم أربابنا، وآلهتنا، ووسائلنا، وشفعاؤنا عند رب الأرباب، وإله الآلهة. فالواجب علينا أن نطهّر نفوسنا من دنس الشهوات الطبيعية، ونهذّب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية، حتّى يحصل لنا مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات. فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبأ فى جميع أمورنا إليهم. فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم، ورازقنا ورازقهم. وهذا التطهير والتهذيب ليس إلا باكتسابنا، ورياضتنا، وفطامنا لأنفسنا عن دنيّات الشهوات، باستمداد من جهة الرّوحانيات؛ والاستمداد هو التضرّع والابتهال. بالدعوات، وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات، وتعزيم العزائم. فيحصل لنفوسنا استعداد أو استمداد من غير واسطة، بل يكون حكمنا وحكم من يدعى الوحى واحدا.
قالوا: والأنبياء أمثالنا فى النوع، وأشكالنا فى الصورة، ومشاركونا فى المادّة.
يأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، ويساهموننا فى الصورة. أناس بشر مثلنا، فمن أين لنا طاعتهم، وبأيّة مزية لهم لزم مشايعتهم؟ (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) .
قال: وأما الفعل، فالروحانيات هم الأسباب المتوسطون فى الاختراع، والإيجاد،(1/59)
وتصريف الأمور من حال إلى حال، وتوجيه المخلوقات من مبدإ إلى كمال، يستمدّون القوّة من الحضرة القدسية، ويفيضون الفيض على الموجودات السفليه.
فمنها- مدبرات الكواكب السبعة السيّارة فى أفلاكها، وهى هياكلها. فلكل روحانى هيكل، ولكل هيكل فلك. ونسبة الروحانىّ إلى ذلك الهيكل الذى اختص به نسبة الروح إلى الجسد. فهو ربه ومديره ومدبره.
وكانوا يسمون الهياكل أربابا (وربما يسمونها أباء) ، والعناصر أمهات.
ففعل الروحانيات تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات فى الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيبات وامثراجات فى المركبات فتتبعها قوّى جسمانية، وتركب عليها نفوس روحانية، مثل أنواع النبات والحيوان. ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحانىّ كلىّ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحانىّ جزئىّ. فمع جنس المطر ملك، ومع كل قطرة ملك.
ومنها- مدبرات الآثار العلوية الظاهرة فى الجوّ مما يصعد من الأرض فينزل مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياج؛ وما ينزل من السماء مثل الصواعق والشهب؛ وما يحدث فى الجوّ من الرعد والبرق والسحاب وقوس قزح وذوات الأذناب والهالة والمجرّة؛ وما يحدث فى الأرض من الزلازل والمياه والأبخرة إلى غير ذلك.
ومنها- متوسطات القوى السارية فى جميع الموجودات، ومدبرات الهداية الشائعة فى جميع الكائنات، حتى لا ترى موجودا ما خاليا عن قوّة وهداية، إذا كان قابلا لهما.
قالوا: وأما الحالة، فأحوال الروحانيات من الرّوح، والرّيحان، والنعمة، واللذة، والراحة، والبهجة، والسرور فى جوار رب العالمين، كيف تخفى؟ ثم طعامهم وشرابهم(1/60)
التسبيح والتقديس والتهليل والتمجيد؛ وأنسهم بذكر الله وطاعته، فمن قائم وراكع وساجد، ومن قاعد لا يريد تبدل حالته لما هو فيه من النعمة واللذة، ومن خاشع بصره لا يرفع، ومن ناظر لا يغمض، ومن ساكن لا يتحرّك، ومتحرّك لا يسكن، وكروبىّ [1] فى عالم القبض، وروحانىّ فى عالم البسط (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ) .
وقد جرت مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء فى المفاضلة بين الروحانىّ المحض والبشرية النبوية، ليس هذا موضع إيرادها.
فلنذكر إن شاء الله تعالى بيوت الهياكل، تلو ما ذكرناه من عباد الروحانيات ومحتجّاتهم!
18- ذكر بيوت الهياكل (وأماكنها ونسبتها إلى الكواكب)
قالوا: ثم لم تقتصر الصابئة على التقرّب إلى الروحانيات بأعيانها، والتلقى بذواتها حتّى اتخذوا أصناما على هيئة الكواكب السبعة، وجعلوا لها بيوتا، وسمّوا البيوت بالهياكل، وجعلوا الهياكل الأفلاك للكواكب. وعظموا هذه الأصنام التى صنعوها، وزعموا أنهم إذا عظموها تحرّكت لهم الكواكب السبعة العلوية بكل ما يريدون.
وحكى المسعودىّ فى كتابه المترجم «بمروج الذهب ومعادن الجوهر» أن هذه الطائفة تزعم أن البيت الحرام هيكل زحل، وإنما طال بقاء هذا البيت على مرور الدهور، معظما فى سائر العصور، لأن زحل تولّاه: إذ من شأنه الثبوت [2] .
__________
[1] الكروبيون سادة الملائكة المقرّبون.
[2] راجع الشهرستانى طبعة كرتن (ص 430- 431) .(1/61)
ومن البيوت المشهورة [1] :
بيت على رأس جبل أصفهان، يسمّى مارس [2] ، ثم اتخذه بعض ملوك المجوس بيت نار؛ وبيت ببلاد الهند، وبيت ببلخ، بناه منوشهر على اسم القمر، وكان الموكل بسدانته يسمونه برمك، وإليه تنسب البرامكة؛ وبيت غمدان باليمن، بناه الضحاك على اسم الزّهرة؛ وبيت بفرغانة [3] ، على اسم الشمس، يعرف بكاوسان، بناه كاوس [4] أحد ملوك الفرس، وخربه المعتضد [5] بالله؛ وبيت ببلاد الصين، بناه ولد عامور بن شوبل [6] بن يافث، وقيل بناه بعض ملوك الترك [7] .
وحكى غير المسعودى أن البيت الأوّل الكعبة. ويذكرون أن إدريس (عليه السلام) أوصى به، وأوصى أن يكون الحج إليه وهو عندهم بيت زحل؛ والبيت
__________
[1] وراجع الشهرستانى (ص 431، 432) .
[2] فى الشهرستانى: فارس.
[3] من مدن خراسان.
[4] فى الأصل: مكاوس [وهو خطأ من الناسخ. والتصويب عن المسعودى وعن الشهرستانى] .
[5] فى الشهرستانى أنه المعتصم.
[6] فى بعض نسخ المسعودى: سوبل (بالسين المهملة) .
[7] انظر الباب الرابع والستين من مروج الذهب، ففيه تفصيل لما أورده النويرى هنا بغاية التلخيص.(1/62)
الثانى وهو بيت المرّيخ، يزعمون انه كان بصور من الساحل الشامىّ؛ والبيت الثالث وهو بيت المشترى، كان بدمشق بناه جيرون بن سعد بن عاد، وموضعه الآن الجامع الأموىّ؛ والبيت الرابع وهو بيت الشمس بمصر، ويسمى عين شمس، وآثاره باقية الى وقتنا هذا [1] ؛ والبيت الخامس وهو بيت الزهرة، كان بمنبج وخرب؛ والبيت السادس بيت عطارد، وكان بصيدا من الساحل الشامىّ وخرب؛ والبيت السابع وهو بيت القمر، كان بحرّان؛ وهو بيت الصابئة الأعظم.
الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الأوّل
1- فى الكواكب الثابتة
ذهب بعض من تكلم فى ذلك أن هذه الكواكب معلقة فى سماء الدنيا كالقناديل، وأنها مخلوقة من نور.
وقال آخرون: إنها معلقة بأيدى ملائكة. وفسر بهذا القول قوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ)
. يقال انتثارها يكون بموت من كان يحملها من الملائكة.
وهذه الكواكب فى سماء الدنيا بنص الكتاب العزيز، لقول الله عز وجل: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) .
__________
[1] زالت هذه الآثار الآن.(1/63)
وقال قتادة: خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاثة: جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها فى البر والبحر. فمن تأوّل غير هذا فقد أخطأ.
قالوا: وإنما سميت بالثوابت، وإن كانت متحرّكة لأنها ثابتة الابعاد على الأبد، لا يقرب أحدها من الآخر، ولا يبعد عنه، ولا يزيد، ولا ينقص، ولا تتغيّر عن جهاتها. لأنها تتحرّك بحركتها الطبيعية حول قطبى العالم. ولهذا سميت ثابتة. وهى فى فلك ثامن غير أفلاك الكواكب السبعة السيارة. ودليل ذلك أن للكواكب السبعة حركات أسرع من حركات هذه.
2- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الكواكب
يقال: أناى من كوكب؛ أبعد من مناط النجم؛ أهدى من النجم.
ومن أنصاف الأبيات:
وأين نزيل الأرض عند الكواكب؟ ... وأين الثّريّا من يد لمتناول؟
والكوكب النّحس يسقى الأرض أحيانا
ومن الأبيات قول أبى تمّام عفا الله عنه:
كالنّجم إن سافرت كان مواكبا ... وإذا حططت الرحل كان جليسا.
وقال أبو نواس:
أين النّجوم الثّابتا ... ت من الأهلّة والبدور؟
وقال آخر:
وكنّا فى اجتماع كالثّريّا، ... فصرنا فرقة كبنات نعش!(1/64)
وقال آخر:
كالفرقدين إذا تأمّل ناظر، ... لم يعل موضع فرقد من فرقد.
وقال الوزير أبو الفتح البستىّ:
وللنّجم من بعد الرّجوع استقامة ... وللشّمس من بعد الغروب طلوع.
وقال جحظة:
مثل الّذى يرجو البلو ... غ إلى الكواكب وهو مقعد.
وقال عمر بن أبى ربيعة:
أيّها المنكح الثّريّا سهيلا، ... عمرك الله! كيف يلتقيان؟
هى شاميّة إذا ما استهلّت، ... وسهيل إذا استهلّ يمانى.
وقال آخر:
وكلّ أخ مفارقه أخوه، ... لعمر أبيك، إلا الفرقدان!
3- ذكر ما قيل فى وصف الكواكب وتشبيهها
من ذلك ما قاله ابن حجّاج فى المجرّة:
يا صاحبىّ استيقظا من رقدة ... تزرى على عقل اللّبيب الأكيس!
هذى المجرّة والنّجوم كأنّها ... نهر تدفّق فى حديقة نرجس!
وقال آخر:
وكأنّ المجرّ جدول ماء ... نوّر الأقحوان فى جانبيه.(1/65)
وقال المهذب بن الزبير فيها:
وترى المجرّة والنّجوم كأنّها ... تسقى الرياض بجدول ملآن.
لو لم يكن نهرا، لما عامت به ... أبدا نجوم الحوت والسّرطان.
وقال أبو هلال العسكرىّ:
تبدو المجرّة منجرّا ذوائبها ... كالماء ينساح أو كالأيم [1] ينساب.
وقال هشام بن إلياس فى الجوزاء:
فكأنّما جوزاؤه فى غربها ... بيضاء سابحة ببركة زئبق.
وكأنّما أومت ثلاث أنامل ... منها تقول: إلى ثلاث نلتقى!
وقال آخر:
وكأنّ الجوزاء لمّا استقلّت ... وتدلّت، سرادق ممدود.
وقال العلوىّ فيها أيضا:
ها إنّها الجوزاء فى أفقها ... واهية ناعسة تسحب.
نطاقها واه لدى أفقها ... ينسلّ منها كوكب كوكب.
وقال ابن وكيع فيها:
قم فاسقنى صافية ... تهتك جنح الغسق!
أما ترى الصّبح بدا ... فى ثوب ليل خلق؟
__________
[1] الأيم، والأين: ضرب من الحيات. (عن النوادر فى اللغة) .(1/66)
أما ترى جوزاءه ... كأنّها فى الأفق،
منطقة من ذهب ... فوق قباء أزرق؟
وقال كعب الغنوىّ:
وقد مالت الجوزاء حتّى كانّها ... فساطيط ركب بالفلاة نزول.
وقال امرؤ القيس فى الثّريّا:
إذا ما الثّريّا فى السّماء تعرّضت ... تعرّض أثناء الوشاح المفصّل.
وقال ابن الطّثريّة:
إذا ما الثّريّا فى السّماء كأنّها ... جمان وهى من سلكه، فتبدّدا.
وقال المبرّد:
إذا ما الثّريّا فى السّماء تعترضت، ... يراها حديد العين ستّة أنجم.
على كبد الجرباء وهى كأنّها ... جبيرة درّ ركّبت فوق معصم.
وقال عبد الله بن المعتز:
فناولنيها، والثّريّا كأنّها ... جنى نرجس حيّا النّدامى بها الساقى.
وقال أيضا:
كأنّ الثّريّا فى أواخر ليلها ... تفتّح نور أو لجام مفضّض.
وقال السلامىّ، شاعر اليتيمة فيها:
فسمونا، والفجر يضحك فى الشّر ... ق إلينا مبشّرا بالصّباح.(1/67)
والثّريّا كراية أو لجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح،
وكأنّ النّجوم فى يد ساق ... يتهادى تهادى الأقداح.
وقال ابن المعتز:
ولاحت لساريها الثّريّا كأنّها ... على الأفق الغربىّ قرط مسلسل.
وقال أبو نضلة:
وتأمّلت الثّريّا ... فى طلوع ومغيب.
فتخيّرت لها التش ... بيه فى المعنى المصيب.
وهى كأس فى شروق ... وهى قرط فى غروب.
وقال آخر:
كأنّ الثّريّا هودج فوق ناقة ... يسير بها حاد مع الليل مزعج،
وقد لمعت بين النّجوم كأنّها ... قوارير فيها زئبق يترجرج.
وقال ابن سكرة الهاشمىّ:
ترى الثّريّا، والغرب يجذبها ... والبدر يهوى والفجر ينفجر.
كفّ عروس لاحت خواتمها ... أو عقد درّ فى البحر ينتثر.
وقال محمد بن الحسن الحاتمىّ:
وخلت الثّريّا كفّ عذراء طفلة ... مختّمة بالدّرّ منها الأنامل.
تخيّلتها فى الجوّ طرّة جعبة ... ملوكيّة لم تعتلقها حمائل.
كأنّ نبالا ستّة من لآلئ ... يوافى بها فى قبّة الأفق نابل.(1/68)
وقال أحمد بن إبراهيم الضبىّ، شاعر اليتيمة:
خلت الثريا إذ بدت ... طالعة فى الحندس:
مرسلة من لؤلؤ ... أو باقة من نرجس
وقال أبو العلاء المعترىّ فى سهيل.
وسهيل كوجنة الحبّ فى اللّو ... ن وقلب المحبّ فى الخفقان.
مستبدّا كأنّه الفارس المع ... لّم يبدو معارض الفرسان.
وقال عبد الله بن المعتز:
وقد لاح للسّارى سهيل كأنّه ... على كلّ نجم فى السّماء رقيب!
وقال الشريف بن طباطبا:
وسهيل كأنّه قلب صبّ ... فاجأته بالخوف عين الرقيب.
وقال أبو عبادة البحترىّ:
كأنّ سهيلا شخص ظمآن جانح ... من اللّيل فى نهر من الماء يكرع.
وقال ابن طباطبا:
كأنّ سهيلا، والنّجوم أمامه ... يعارضها، راع أمام قطيع.
وقال الشريف الرضىّ فى الفرقدين:
وهبّت لضوء الفرقدين نواظرى ... إلى أن بدا ضوء من الفجر ساطع.
كأنّهما إلفان قال كلاهما ... لشخص أخيه: قل فإنّى سامع!(1/69)
وقال آخر:
قلت للفرقدين واللّيل مرخ ... ستر ظلمائه على الآفاق:
ابقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق!
وقال القاضى التنوخىّ:
وأشقر الجوّ قد لاجت كواكبه ... فيه كدرّ على الياقوت منثور.
وقال القاضى الفاضل، عبد الرحيم من رسالة:
«سرنا، وروضة السماء فيها من الزهر زهر، ومن المجرّة نهر؛ والليل كالبنفسج تخلله من النجوم أقاح، أو كالزّنج شعله من الرمح جراح، والكواكب سائرات المواكب لا معرّس لها دون الصّباح؛ وسهيل كالظمآن تدلّى إلى الأرض ليشرب، أو الكريم أنف من المقام بدار الذّل فتغرّب. فكأنه قبس تتلاعب به الرياح، أو زينة قدمها بين يدى الصباح؛ أو ناظر يغضّه الغيظ ويفتحه، او معنى يغمضه الحسن ثم يشرحه؛ أو صديق لجماعة الكواكب مغاضب، أو رقيب على المواكب مواكب؛ أو فارس يحمى الأعقاب، أو داع به إليها وقد شردت عن الأصحاب. والجوزاء كالسرادق المضروب، أو الهودج المنصوب؛ أو الشجرة المنوّرة، أو الحبر المصوّرة. والثريا قد همّ عنقودها أن يتدلّى، وجيش الليل قد همّ أن يتولّى» .(1/70)
القسم الثانى من الفن الأوّل فى الآثار العلوية وفيه أربعة أبواب
الباب الأوّل من القسم الثانى من الفن الأوّل
1- فى السحاب، وسبب حدوثه، وفى الثّلج والبرد
والسحاب من الآثار العلوية.
روى أبو الفرج بن الجوزىّ بإسناد يرفعه إلى عبيد ابن عمير أنه قال: يبعث الله ريحا فتقمّ الأرض، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب، وذلك أنها تحمل الماء فتمجّه.
فى السحاب، ثم يمريه فيدرّكما تدرّ اللّقحة.
وقد روى فى الأثر أن الرياح أربع: ريح تقم؛ وريح تثير، فتجعله كسفا؛ وريح تؤلّف، فتجعله ركاما؛ وريح تمطر.
وروى عن عبد الله بن عباس (رضى الله عنهما) أنه قال: إن الله تعالى يرسل الرياح فتثير سحابا، وينزل عليه المطر فتتمخض به الريح كما تمخض النّتوج بولدها.
وروى عن عكرمة (رضى الله عنه) أنه قال: ينزل الله الماء من السماء السابعة(1/71)
فتقع القطرة على السحاب مثل البعير، والسحاب للمطر كالغربال ينزل منه بقدر.
ولولا ذلك لأفسد ما على الأرض.
وقال الزمخشرى فى تفسيره: السحاب من السماء ينحدر، ومنها يأخذ ماءه لا كزعم من يزعم أنه يأخذ من البحر. ويؤيد ذلك قوله عز وجل (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) .
2- ذكر ما قيل فى ترتيب السحاب
(وأسمائه اللغوية وأصنافه) قال أبو منصور، عبد الملك بن محمد الثعالبىّ فى فقه اللغة، ينقله عن أئمتها:
أوّل ما ينشأ السحاب، فهو نشء.
فإذا انسحب فى الهواء، فهو السحاب.
فإذا تغيرت وتغممت له السماء، فهو الغمام.
فإذا كان غيم ينشأ فى عرض السماء فلا تبصره، وإنما تسمع رعده، فهو العقر.
فإذا أطلّ وأظلّ السماء، فهو العارض.
فإذا كان ذا رعد وبرق، فهو العرّاص.
فإذا كانت السحابة قطعا صغارا متدانيا بعضها من بعض، فهى النّمرة.
فإذا كانت متفرّقة، فهى القزع.
فإذا كانت قطعا متراكمة، فهى الكرفئ (واحدتها كرفئة) .
فإذا كانت قطعا كأنها قطع الجبال، فهى قلع، وكنهور (واحدتها كنهورة) .
فإذا كانت قطعا رقاقا، فهى الطّخارير (واحدتها طخرور) .(1/72)
فإذا كانت حولها قطع من السحاب، فهى مكلّلة.
فإذا كانت سوداء، فهى طخياء، ومتطخطخة.
فإذا رأيتها وخسبتها ما طرة، فهى مخيّلة.
فإذا غلظ السحاب وركب بعضه بعضا، فهو المكفهّر.
فإذا ارتفع ولم ينبسط، فهو النّشاص.
فإذا تقطع فى أقطار السماء وتلبّد بعضه فوق بعض، فهو القرد.
فإذا ارتفع وحمل الماء وكثف وأطبق، فهو العماء، والعماية، والطّخاء، والطّخاف، والطّهاء.
فإذا اعترض اعتراض الجبل قبل أن يطبق السماء، فهو الحبىّ.
فإذا عنّ، فهو العنان.
فإذا أظل الأرض، فهو الدّجن.
فإذا اسودّ وتراكب، فهو المحمومى.
فإذا تعلق سحاب دون السحاب، فهو الرّباب.
فإذا كان سحاب فوق سحاب، فهو الغفارة.
فإذا تدلّى ودنا من الأرض مثل هدب القطيفة، فهو الهيدب.
فإذا كان ذا ماء كثير، فهو القنيف.
فإذا كان أبيض، فهو المزن، والصّبير.
فإذا كان لرعده صوت، فهو الهزيم.
__________
[1] اسم فاعل من احمومى الشيء اذا اسودّ. يوصف به نحو السحاب والليل.(1/73)
فإذا اشتدّ صوت رعده، فهو الأجشّ.
فإذا كان باردا وليس فيه ماء، فهو الصّرّاد [1] .
فإذا كان ذا صوت شديد، فهو الصّيّب.
فإذا أهرق ماءه، فهو الجهام (وقيل بل الجهام الذى لا ماء فيه) .
3- ذكر ما قيل فى ترتيب المطر
قال الثعالبىّ رحمه الله: أخفّ المطر وأضعفه الطّلّ، ثم الرّذاذ، ثم البغش والدّثّ ومثله الرّكّ، ثم الرّهمة.
ويقال أيضا: أوّله رشّ وطشّ، ثم طلّ وزذاذ، ثم نضح ونضخ، وهو قطر بين قطرين، ثم هطل وتهتان، ثم وابل وجود.
4- ذكر ما قيل فى فعل السحاب والمطر
يقال إذا أتت السماء بالمطر اليسير [2] الخفيف: حفشت، وحشكت.
فإذا استمرّ قطرها، قيل: هطلت، وهتنت.
فإذا صبّت الماء، قيل: همعت، وهضبت.
فإذا ارتفع صوت وقعها، قيل: انهلّت، واستهلّت.
__________
[1] فى فقه اللغة بعده: فإذا كان خفيف تسفره الريح فهو الزّبرج، وبعده فإذا كان ذا صوت الخ.
[2] كذا فى فقه الثعالبى وعبارة اللسان: حفشت السماء تحفش حفشا: جاءت بمطر شديد ساعة ثم أقلعت؛ ومثله حشكمت وأغبت فالحفشة والحشكة والغبيه بمعنى واحد.(1/74)
فإذا سال المطر بكثرة، قيل: انسكب، وانبعق.
فإذا سال يركب بعضه بعضا، قيل: اثعنجر، واثعنجج.
فإذا دام أياما لا يقلع، قيل: أثجم، وأغبط، وأدجن.
فإذا أقلع، قيل: أنجم، وأفصم، وأفصى.
5- ذكر أسماء أمطار الأزمنة
قالت العرب: أوّل ما يبدأ المطر فى إقبال الشتاء، فاسمه الخريف، ثم يليه الوسمىّ، ثم الرّبيع، ثم الصّيّف، ثم الحميم.
وقيل المطر الأوّل هو الوسمىّ، ثم يليه الولى، ثم الربيع، ثم الصّيّف، ثم الحميم.
6- ذكر أسماء المطر اللغوية
قال الثعالبىّ:
إذا أحيا الأرض بعد موتها، فهو الحيا.
فإذا جاء عقيب المحل أو عند الحاجة إليه، فهو الغيث.
فإذا دام مع سكون، فهو الدّيمة. والضّرب فوق ذلك قليلا، والهطل فوقه.
فإذا زاد، فهو الهتلان، والهتّان، والتّهتان.
فإذا كان القطر صغارا كانه شذر، فهو القطقط.
فإذا كانت مطرة ضعيفة، فهى الرّهمة.
فإذا كانت ليست بالكثيرة، فهى الغبية، والحفشة، والحشكة.(1/75)
فإذا كانت ضعيفة يسيرة، فهى الذّهاب، والهميمة. [1]
فإذا كان المطر مستمرّا، فهو الودق.
فإذا كان ضخم القطر شديد الوقع، فهو الوابل.
فإذا انبعق بالماء، فهو البعاق.
فإذا كان يروى كل شىء، فهو الجود.
فإذا كان عامّا، فهو الجدا.
فإذا دام أيّاما لا يقلع، فهو العين.
فإذا كان مسترسلا سائلا، فهو المرثعنّ.
فإذا كان كثير القطر، فهو الغدق.
فإذا كان شديد الوقع كثير الصّوب، فهو السّحيفة. [2]
فإذا كان شديدا كثيرا، فهو العزّ، والعباب.
فإذا جرف ما مرّ به، فهو السّحيقة. [3]
فاذا قشرت وجه الأرض، فهى السّاحية.
فإذا أثرت فى الأرض من شدّة وقعها، فهى الحريصة.
فإذا أصابت القطعة من الأرض وأخطأت الأخرى، فهى النّفضة.
فإذا جاءت المطرة لما يأتى بعدها، فهى الرّصدة، والعهاد نحو منها.
__________
[1] فى فقه الثعالبى: الهيمة. بإسقاط الميم الأولى وهو تحريف كما يعلم من مراجعة القاموس.
[2] نقل صاحب اللسان فى مادة (س ح ف) عن الأصمعى: (ان السحيفة بالفاء، المطرة الحديدة التى تجرف كل شىء. والسحيقة بالقاف، المطرة العظيمة القطر الشديدة الوقع القليلة العرض) وهو عكس ما نقله النويرى عن الثعالبى.
[3] نقل صاحب اللسان فى مادة (س ح ف) عن الأصمعى: (ان السحيفة بالفاء، المطرة الحديدة التى تجرف كل شىء. والسحيقة بالقاف، المطرة العظيمة القطر الشديدة الوقع القليلة العرض) وهو عكس ما نقله النويرى عن الثعالبى.(1/76)
فإذا أتى المطر بعد المطر، فهو الولى.
فإذا رجع وتكرر، فهو الرّجع.
فإذا تتابع، فهو اليعلول.
فإذا جاءت المطرة دفعات، فهى الشّآبيب.
7- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر المطر
يقال: أبرد من غبّ المطر. أرقّ من دمع الغمام. أسرع من السيل إلى الحدور. أطغى من السيل. أغشم من السيل. أمضى من السيل. يذهب يوم الغيم ولا يشعر به. قد بلغ السيل الزّبى. اضطره السيل إلى معطشه. أرنيها نمره، أريكها مطره. سبق سيله مطره. قبل السحاب أصابنى الوكف.
ومن أنصاف الأبيات:
هل يرتجى مطر بغير سحاب
وأوّل الغيث طلّ ثم ينسكب
سحابة صيف عن قريب تقشّع
فدرّكما درّ السّحاب على الرّعد
أسرع السّحب فى المسير الجهام
ومن يسدّ طريق العارض الهطل؟
سحاب عدانى فيضه وهو صيّب
يحسب الممطور أن كلّ مطر
سال به السّيل وما يدرى به
ومن الأبيات قول الطائى:
وكذا السّحائب، قلّما تدعو إلى ... معروفها الرّوّاد ما لم تبرق.(1/77)
وقال البحترىّ عفى عنه:
واعلم بأنّ الغيث ليس بنافع ... ما لم يكن للنّاس فى إبّانه.
وقال أبو الطّيّب:
ليت الغمام الّذى عندى صواعقه ... يزيلهنّ إلى من عنده الدّيم!
وقال كثيّر:
كما أبرقت يوما عطاشا غمامة. ... فلمّا رجوها، أقشعت وتجلّت.
وقال آخر:
أنا فى ذمّة السّحاب وأظما! ... إنّ هذا لوصمة فى السّحاب!
وقال آخر:
والله ينشى سحابا تطمئنّ به النّ ... فوس من قبل بلّ الأرض بالمطر.
8- ذكر شىء مما قيل في وصف السحاب والمطر
قال أبو تمّام الطائى:
سحابة صادقة الأنواء ... تجرّ أهدابا على البطحاء.
تجمع بين الضّحك والبكاء: ... بدت بنار وثنت بماء.
وقال أبو عبادة البحترىّ عفا الله تعالى عنه:
ذات ارتجاس بحنين الرّعد ... مجرورة الذّيل صدوق الوعد،
مسفوحة الدّمع بغير وجد ... لها نسيم كنسيم الورد،(1/78)
ورنّة مثل زئير الأسد ... ولمع برق كسيوف الهند.
جاءت بها ريح الصّبا من نجد ... فانتثرت مثل انتثار العقد.
وراحت الأرض بعيش رغد ... من وشى أنوار الثّرى فى برد.
كأنما غدرانها فى الوهد ... يلعبن ترحابا بها بالرّند.
وقال أبو الحسن علىّ بن القاسم القاشانى من شعراء اليتيمة عفى عنه:
إذا الغيوم ارجحنّ باسقها ... وحفّ أرجاءها بوارقها،
وعبّيت للثّرى كتائبها ... وانتصبت وسطها عقائقها،
وجلجل الرعد بينها فحكى ... خفق طبول ألحّ خافقها،
وابتسمت فرحة لوامعها ... واختلفت عبرة حمالقها،
وقيل: طوبى لبلدة نتجت ... بجوّ أكنافها بوارقها.
أيّة نعماء لا تحلّ بها؟ ... وأىّ بأساء لا تفارقها؟
وقال القاضى التّنوخىّ:
سحاب أتى كالأمن بعد تخوّف ... له فى الثّرى فعل الشّفاء بمدنف.
أكبّ على الآفاق إكباب مطرق ... يفكّر أو كالنّادم المتلهف.
ومدّ جناحيه على الأرض جانحا ... فراح عليها كالغراب المرفرف.
غدا البرّ بحرا زاخرا وانثنى الضّحى ... بظلمته فى ثوب ليل مسجّف.
فعبّس عن برق به متبسّم ... عبوس بخيل فى تبسّم معتف.
تحاول منه الشمس فى الجوّ مخرجا ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف.(1/79)
وقال ابن الرومىّ:
سحائب قيست بالبلاد فألفيت ... غطاء على أغوارها ونجودها.
حدتها النّعامى مقبلات فأقبلت ... تهادى رويدا سيلها كركودها.
وقال أبو هلال العسكرىّ:
وبرق سرى، واللّيل يمحى سواده ... فقلت: سوار فى معاصم أسمرا!
وقد سدّ عرض الأفق غيم تخاله ... يزرّ على الدّنيا قميصا معنبرا.
تهادى على أيدى الحبائب والصّبا ... كخرق من الفتيان نازع مسكرا.
تخال به مسكا وبالقطر لؤلؤا ... وبالرّوض ياقوتا وبالوحل عنبرا.
سواد غمام يبعث الماء أبيضا ... وغرّة أرض تنبت الزّهر أصفرا.
أتتك به أنفاس ريح مريضة ... كمفظعة رعناء تستاق عسكرا.
فألقى على الغدران درعا مسرّدا ... وأهدى إلى القيعان بردا محبّرا.
تخال الحيا فى الجوّ درّا منظّما ... وفى وجنات الرّوض درّا منثّرا.
وأقبل نشر الأرض فى نفس الصّبا ... فبات به ثوب الهواء معطّرا.
إذا ما دعت فيه الرّعود فأسمعت ... أجاب حداة واستهلّ فأغزرا.
ويبكى إذا ما أضحك البرق سنّه ... فيجعل نار البرق ماء مفجّرا.
كأنّ به رؤد الشّباب خريدة ... قد اتّخذت ثنى السّحابة معجرا.
فثغر يرينا من بعيد تبلّجا ... ودمع يرينا من بعيد تحدّرا.(1/80)
وقال مؤيد الدين الطّغرائى:
سارية ذات عبوس برقها ... يضحك والأجفان منها تهمل.
كحلّة دكناء فى حاشية ... فيها طراز مذهب مسلسل.
إذا دنت عشارها، صاح بها ... قاصف رعد وحدتها الشمأل.
وقال عبد الله بن المعتزّ:
ومزنة جاد من أجفانها المطر: ... فالرّوض منتظم والقطر منتثر.
ترى مواقعه فى الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستتر.
وقال أيضا:
ما ترى نعمة السّماء على الأر ... ض وشكر الرّياض للأمطار؟
وكأنّ الرّبيع يجلو عروسا ... وكأنّا من قطره فى نثار!
وقال ابن عوف الكاتب فى إطباق الغيم وقربه:
فى مزنة أطبقت فكادت ... تصافح التّرب بالغمام.
وقال آخر:
تبسّمت الرّيح، ريح الجنو ... ب فيها هوى غالبا وادّكارا.
وساقت سحابا كمثل الجبال ... إذا البرق أومض فيه، أنارا.
إذا الرّعد جلجل فى جانبي ... هـ، روّى النّبات وأروى الصّحارى.
تطالعنا الشّمس من دونه ... طلاع فتاة تخاف اشتهارا،
تخاف الرّقيب على نفسها ... وتحذر من زوجها أن يغارا.
فتستر غرّتها بالخما ... ر طورا، وطورا تزيل الخمارا.(1/81)
فلمّا رآه هبوب الجنو ... ب وانهمز الماء فيه انهمارا،
تبسّمت الأرض لمّا بكت ... عليها السّماء دموعا غزارا!
وقال الأسعد بن بليطة من شعراء الذخيرة:
لو كنت شاهدنا عشيّة أمسنا ... والمزن تبكينا بعينى مذنب،
والشمس قد مدّت أديم شعاعها ... فى الأرض تجنح غير أن لم تذهب
خلت الرّذاذ برادة من فضّة ... قد غربلت من فوق نطع مذهب!
وقال أبو عبد الله محمد بن الخياط من شعرائها:
راحت تذكّر بالنّسيم الرّاحا ... وطفاء تكسر للجنوح جناحا.
أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها
كى تهتدى، مصباحا. ... وكأنّ صوت الرّعد خلف سحابها
حاد إذا ونت السحائب، صاحا. ... جادت على التّلعات فاكتست الرّبا
حللا أقام لها الرّبيع وشاحا.
وقال ابن برد الأصغر الأندلسىّ من شعرائها:
وما زلت أحسب فيه السّحاب، ... ونار بوارقها تلتهب:
نجاتىّ توضع فى سيرها ... وقد قرعت بسياط الذّهب.
ومما ورد فى وصفها نثرا قال بعض الأندلسيّين من رسالة:
ثم أرسل الله الرياح من كنائنها، وأخرجها من خزائنها؛ قجرّت ذيولها، وأجرت خيولها؛ خافقة بنودها، متلاحقة جنودها؛ فأثارت الغمام، وقادته بغير زمام؛ وأنشأت بحريّة من السحاب، ذات أتراب وأصحاب؛ كثيرا عددها، غزيرا مددها،(1/82)
فبشّرت بالقطر كلّ شائم، وأنذرت بالورد كلّ حائم، والريح تنثّها، والبرق يحثّها، كأنه قضيب من ذهب، أو لسان من لهب؛ وللسحاب من ضوء البرق هاد، ومن صوت الرعد حاد؛ والريح توسع بلحمتها سداها، وتسرع فى حياكتها يداها. فلما التحم فتقها، والتأم رتقها؛ وامتدّت أشطانها، واتسعت أعطانها؛ وانفسحت أجنابها، وانسدلت أطنابها؛ وتهدّل خملها، وتمخض حملها؛ ومدّت على آفاق السماء نطاقها، وزرّت على أعناق الجبال أطوافها، كأنها بناء على الجوّ مقبوب، أو طبق على الأرض مكبوب؛ تمشى من الثقل هونا، وتستدعى من الريح عونا؛ ومخايلها تقوى، وعارضها أحوى. فلما أذن الله لها بالأنحدار، وأنزل منه الودق بمقدار، أرسلت الريح خيوط القطر من رود السحائب، وأسبلتها إسبال الذوائب. فدرّت من خلف مصرور، ونثرت طلّها نثر الدرور. ثم انخرق جيبها، وانبثق سيبها؛ وصار الخيط حبلا، والطلّ وبلا. فالسحاب يتعلّق، والبرق يتألّق؛ والرعد يرتجس، والقطر ينبجس؛ والنّقط تترامى طباقا، وتتبارى اتساقا؛ فيردف السابق المصلّى، ويتصل التابع بالمولّى؛ كما يقع من المنخل البر، وينتثر من النظام الدّرّ؛ فجيوب السماء تسقطه، وأكفّ الغدران تلقّطه؛ والأرض قد فتحت أفواها، وجرعت أمواها. حتّى أخذت ريّها من المطر، وبلغت منه غاية الوطر، خفى من الرعد تسبيحه، وطفئت من البرق مصابيحه، وحسرت السماء نقابها، وولّت المطر أعقابها؛ وحكت فى ردّها طلق السابق، وهرب الآبق.
ومن رسالة لمحمد بن شرف القيروانى:
برئ عليل البرى، وأثرى فقير الثرى، وتاريخ ذلك انصرام ناجر [1] ، وقد بلغت القلوب
__________
[1] رجب أو صفر. وكل شهر من شهور الصيف (قاموس) .(1/83)
الحناجر، محمارّة احمرت لها خضرة السماء، واغبرّت مرآة الماء، حتّى انهلّ طالع وسمىّ، وتلاه تابع ولىّ، دنا فأسفّ، ووكف فما كفّ. فما فتئ مسكوبا قطره، محجوبا شمسه وبدره، وجليت عروس الشمس، معتذرة عن مغيبها بالأمس. فعندها مزّق عن الدقعاء صحيح إهابها، واختزن درّ البر فى أصداف ترابها. فما مرّت أيام إلا والقيعان مسندسه، والآكام مطوّسه.
ومن رسالة لأبى القاسم، محمد بن عبد الله بن أبى الجد فى وصف مطر بعد قحط:
قال: لله تعالى فى عباده أسرار، لا تدركها الأفكار، وأحكام، لا تنالها الأوهام.
تختلف والعدل متّفق، وتفترق والفضل مجتمع متّسق. ففى منحها نفائس المأمول، وفى محنها مداوس [1] العقول. وفى أثناء فوائدها حدائق الإنعام رائقه، وبين أرجاء سرائرها بوارق الإعذار والإنذار خافقه. وربما تفتحت كمائم النوائب، عن زهرات المواهب.
وانسكبت غمائم الرزايا، بنفحات العطايا. وصدع ليل اليأس صبح الرجاء، وخلع عامل البأس والى الرخاء. ذلك تقدير اللطيف الخبير، وتدبير العزيز القدير! ولما ساءت بتثبط الغيث الظّنون، وانقبض من تبسط الشك اليقين، واسترابت حياض الوهاد، بعهود العهاد، وتأهبت رياض النّجاد، لبرود الحداد، واكتحلت أجفان الأزهار، بإثمد النقع المثار، وتعطلت أجياد الأنوار، من حلى الديمة المدرار، أرسل الله بين يدى رحمته ريحا بليلة الجناح، مخيلة النّجاح، سريعة الإلقاح. فنظمت عقود السحاب، نظم السّخاب، وأحكمت برود الغمام، رائقة الأعلام. وحين ضربت تلك المخيلة فى الأفق قبابها، ومدّت على الأرض أطنابها، لم تلبث أن انهتك رواقها،
__________
[1] جمع مدوس [أى مصاقل العقول] :(1/84)
وانبتك وشيكا نطاقها، وانبرت مدامعها تبكى بأجفان المشتاق، غداة الفراق، وتحكى بنان الكرام، عند أريحيّة المدام، فاستغربت الرياض ضحكا ببكائها، واهتزّ رفات النبات طربا لتغريد مكّائها، واكتست ظهور الأرض من بيض إنائها، خضر ملائها. فكأنّ صنعاء قد نشرت على بسيطها بساطا مفوّفا، وأهدت إليها من زخارف بزّها ومطارف وشيها ألطافا وتحفا. وخيّل للعيون أن زواهر النجوم، قد طلعت من مواقع التّخوم، ومباسم الحسان، قد وصلت بافترار الغيطان. فيا برد موقعها على القلوب والأكباد! ويا خلوص ريها إلى غلل النفوس الصّواد! كأنما استعارت أنفاس الأحباب، أو ترشّفت شنب الثنايا العذاب، أو تحملت ماء الوصال، إلى نار البلبال. أو سرت على أنداء الأسحار وريحان الآصال. لقد تبين للصنع الجليل، من خلال ديمها تنفس ونصول، وتمكن للشكر الجميل، من ظلال نعمها معرّس ومقيل. فالحمد لله على ذلك ما انسكب قطر، وانصدع فجر؛ وتوقّد قبس، وتردّد نفس؛ وهو الكفيل تعالى بإتمام النعمى، وصلة أسباب الحياة والحيا بعزته! وقال الوزير أبو عمرو الباجىّ فى مثل ذلك:
إن لله تعالى قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل؛ ونعما يبسطها إذا شاء إنعاما وترفيها، ويقبضها متى أراد إلهاما وتنبيها؛ ويجعلها لقوم صلاحا وخيرا، ولآخرين فسادا وضيرا. (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)
. وإنه كان من امتساك السّقيا، وتوقّف الحيا؛ ما ريع به الآمن، واستطير له الساكن؛ ورجفت الأكباد فزعا، وذهلت الألباب جزعا؛ وأذكت ذكاء حرّها، ومنعت السماء درّها؛ واكتست الأرض غبرة بعد خضرة، ولبست شحوبا بعد نضرة؛ وكادت برود الرياض تطوى، ومدود نعم الله تزوى؛(1/85)
ثم نشر الله تعالى رحمته، وبسط نعمته، وأتاح منّته، وأزاح محنته. فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح؛ بماء يتدفّق، ورواء غدق، من سماء طبق. استهلّ جفنها فدمع، وسمح دمعها فهمع، وصاب وبلها فنقع. فاستوفت الأرض ريّا، واستكملت من نباتها أثاثا وريّا؛ فزينة الأرض مشهوره، وحلّة الزهر منشوره، ومنّة الرب موفوره؛ والقلوب ناعمة بعد بوسها، والوجوه ضاحكة إثر عبوسها؛ وآثار الجزع ممحوّه، وسور الشكر متلوّه؛ ونحن نستزيد الواهب نعمة التوفيق، ونستهديه فى قضاء الحقوق إلى سواء الطريق؛ ونستعيذ به من المنّة أن تعود فتنه. والمنحة أن تصير محنه! والحمد لله رب العالمين!
9- ذكر شىء مما وصف به الثلج والبرد
قال أبو الفتح كشاجم:
الثّلج يسقط أم لجين يسبك، ... أم ذا حصى الكافور ظلّ يفرّك؟
راحت به الأرض الفضاء كأنّها ... فى كلّ ناحية بثغر تضحك!
شابت ذوائبها فبيّن ضحكها ... طربا وعهدى بالمشيب ينسّك!
وتردّت الأشجار منه ملاءة ... عمّا قليل بالرّياح تهتّك!
وقال أيضا:
ثلج وشمس وصوب غادية ... فالأرض من كلّ جانب غرّه!
باتت. وقيعانها زبرجدة. ... فأصبحت قد تحوّلت درّه!
كأنها والثّلوج تضحكّها ... تعار ممن أحبّه ثغره!
شانت فسرّت بذاك وابتهجت ... وكان عهدى بالشّيب يستكره!(1/86)
وقال الصاحب بن عبّاد:
أقبل الثّلج فى غلائل نور ... تتهادى بلؤلؤ منثور!
فكأنّ السماء صاهرت الأر ... ض فصار النّثار من كافور!
وقال النميرىّ:
أهدى لنا بردا يلوح كأنه ... فى الجو حبّ لآلئ لم يثقب،
أو ثغر حواء اللّثات تبسّمت ... عن واضح مثل الأقاحى أشنب!
الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الأوّل
فى النيازك، والصواعق، والرعد، والبرق، وقوس قزح
(أ) فأما النيازك، فهو ما يرى من الذوائب المتصلة بالشّهب والكواكب.
روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لجماعة من الأنصار: «ما كنتم تقولون فى هذا النجم الذى يرمى به؟ قالوا: يا رسول الله، كنا نقول إذا رأيناها يرمى بها: مات ملك، ولد مولود. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ليس ذلك كذلك، ولكن الله تعالى كان إذا قضى فى خلقه أمرا سمعه الملائكة فيسبحون، فيسبّح من تحتهم لتسبيحهم، فيسبّح من تحت أولئك حتّى ينتهى إلى السماء الدنيا فيسبحون، ثم يقولون ألا تسألون من فوقكم ممّ يسبحون؛ فيقولون قضى الله فى خلقه كذا وكذا، للأمر الذى كان. فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتّى ينتهى إلى السماء الدنيا فيتحدّثون به، فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف. ثم يأتون(1/87)
به الكهّان، فيصيبون بعضا، ويخطئون بعضا. ثم إن الله تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التى يقذفون بها، فانقطعت الكهانة، فلا كهانة اليوم» .
والشهب التى يقذف بها الشياطين غير النجوم الثوابت التى منها البروج والمنازل لقول الله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) .
وقال بعض الشعراء:
وكوكب نظر العفريت مسترقا ... للسّمع فانقضّ يذكى إثره لهبه
كفارس حلّ من تيه عمامته ... وجرّها كلّها من خلفه عذبه
وكتب ابن الحرون إلى صديق له، وقد كثر انقضاض الكواكب، وذلك فى أيام المتوكل على الله:
أما بعد. فإن الفلك قد تفرّى عن شهب ثواقب، كنيران الحباحب، متّقدة كشرر الزنود، وشعل زبر الحديد؛ مازجها عرض حمرة البهرمان، وصفرة العقيان [1] .
فهى كأرسال جراد منتشر، وهشيم ذرته ريح صرصر، فى سرعة الكفّ، ووحى لحظ الطّرف.
(ب) وأما الصواعق، فهى ما قاله الزمخشرىّ فى تفسيره: الصاعقة قصفة من رعد ينقضّ معها شقّة من نار.
وقالوا: إنها تنقدح من السحاب إذا اصطكّت أجرامه. وهى نار لطيفة حديدة لا تمرّ بشىء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدّتها سريعة الخمود. على أنها متى سقطت على نخلة أحرقت عاليها.
__________
[1] العقبان الذهب.(1/88)
وقال صاحب كتاب «مناهج الفكر ومباهج العبر» فى كتابه:
ومن عجيب شأنها أنها تحرق ما فى الكيس، ولا تحرق الكيس؛ وإن احترق فإنما يحترق باحتراق ما ذاب فيه وسال. قال: وهى إذا سقطت على جبل أو حجر كلسته ونفذته، وإذا سقطت فى بحر غاصت فيه وأحرقت ما لاقت من جوانبه.
وربما عرض لها عند انطفائها فى الأرض برد ويبس، فتكوّن منها أجرام حجرية، أو حديدية، أو نحاسية. وربما طبعت الحديد سيوفا لا يقوم لها شىء.
(ج) وأما الرعد وما قيل فيه. قال الله تبارك وتعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) .
قال المفسرون: الرعد ملك موكل بالسحاب، معه كرّ من حديد، يسوقه من بلد إلى بلد كما يسوق الراعى إبله. فكلما خالف سحاب، صاح به فزجره. فالذى يسمع هو صوت الملك.
وقال الزمخشرىّ من تفسيره: الرعد الذى يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوّت عند ذلك.
وأما صوت الرعد، تقول العرب: رعدت السماء.
فإذا ازداد صوتها، قيل: ارتجست.
فإذا زاد، قيل: أرزمت، وقعقعت [1] .
فإذا بلغت النهاية، قيل: جلجلت، وهدهدت.
__________
[1] عبارة فقه اللغة: (فإذا زاد، قيل: أرزمت، ودرّت. فإذا زاد واشتدّ، قيل: قصفت، وقعقعت. فإذا بلغ النهاية الخ) اهـ.(1/89)
المثل
ربّ صلف تحت الراعدة. (للبخيل المتكبر) .
(د) وأما البرق وما قيل فيه، فقد ذهب المفسرون لقول الله تعالى إلى أنه ضرب الملك الذى هو الرعد للسحاب بمخراق من حديد. وروى عن مجاهد: ان الله عز وجل وكّل بالسحاب ملكا. فالرعد قعقعة [1] صوته، والبرق سوطه [2] .
وأما ترتيبه فى لمعانه
تقول العرب إذا برق كأنه يتبسم، وذلك بقدر ما يريك سواد الغيم من بياضه:
أنكلّ انكلالا.
فإذا بدا من السماء برق يسير، قيل: أوشمت السماء. ومنه قيل: أوشم النبت إذا أبصرت أوّله.
فإذا برق برقا ضعيفا، قيل: خفا.
فإذا لمع لمعا خفيفا، قيل: لمح، وأومض.
فإذا تشقق، قيل: انعقّ انعقاقا.
فإذا ملأ السماء وتكشف واضطرب، قيل: تبوّج.
فإذا كثر وتتابع، قيل: ارتعج.
فإذا لمع وأطمع ثم عدل، قيل له: خلّب.
__________
[1] فى الأصل نغنغة: وهو محرّف عن قعقعة بالقاف كما يقتضيه السياق.
[2] فى الأصل صوته. وهو محرّف عن سوطه وهو مخراق الحديد الذى ذكر فى السطر الذى قبله.(1/90)
المثل:
«ليس فى البرق اللّامع مستمتع» .
ذكر ما قيل فى وصف الرعد والبرق
قال أبو هلال العسكرىّ، عفا الله عنه:
والرعد فى أرجائه مترنّم ... والبرق فى حافاته متلهّب.
كالبلق ترمح، والصّوارم تنتضى ... والجوّ يبسم، والأنامل تحسب.
وقال آخر:
إذا ونت السّحب الثّقال وحثّها ... من الرعد حاد ليس يبصر أكمه،
أحاديثه مستهولات وصوته ... إذا انخفضت أصواتهنّ مقهقه،
إذا صاح فى آثارهنّ حسبته ... يجاوبه من خلفه صاحب له.
وقال ابن الدقّاق الأندلسىّ:
أرى بارقا بالأبلق الفرد يومض ... يذهّب أكناف الدّجى ويفضّض.
كأنّ سليمى من أعاليه أشرفت ... تمدّ لنا كفّا خضيبا وتقبض.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ:
ويوم جرى برقه أشقرا ... يطارد من مزنه أشهبا:
ترى الأرض فيه وقد فضّضت ... ووجه السّماء وقد ذهّبا!
وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبىّ، شاعر الذخيرة:
ولما تجلّى اللّيل والبرق لامع ... كما سلّ زنجى حساما من التّبر،
وبتّ سمير النجم وهو كأنه ... على معصم الدّنيا جبائر من درّ.(1/91)
وقال محمد بن عاصم، شاعر الخريدة عفا الله عنه:
أضاء بوادى الأثل واللّيل مظلم ... بريق كحدّ السّيف ضرّجه الدّم.
إذا البرق أجرى طرفه فصهيله ... إذا ما تفرّى رعده المترنّم.
فشبّهته إذ لاح فى غسق الدّجى ... بأسنان زنجىّ بدت تتبسّم.
وقال أيضا:
والبرق يضحك كالحبيب وعنده ... رعد يخشّن كالرّقيب مقاله!
وقال آخر:
أرقت لبرق غدا موهنا ... خفىّ كغمزك بالحاجب.
كأنّ تألّقه فى السما ... يدا كاتب أويدا حاسب.
وقال عبد الله بن المعتزّ، يشير إلى سحابة:
رأيت فيها برقها منذ بدت ... كمثل طرف العين أو قلب يحب.
ثم حدت بها الصّبا حتّى بدا ... فيها إلى البرق كأمثال الشّهب.
تحسبه فيها إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعا يضطرب.
وتارة تبصره كأنّه ... أبلق مال جلّه حين وثب.
حتّى إذا ما رفع اليوم الضّحى ... حسبته سلاسلا من الذّهب.
قوله شجاعا يضطرب مأخوذ من قول دعبل:
أرقت لبرق آخر الليل منصب ... خفىّ كبطن الحيّة المتقلّب.
وقال ايضا:
ما زلت أكلأ برقا فى جوانبه ... كطرفة العين تخبو ثم تختطف.
برق تجاسر من حفّان لامعه ... يقضى اللّبانة من قلبى وينصرف.(1/92)
(هـ) وأما قوس قزح وما قيل فيه. قالوا: وإنما سمى بذلك لتلوّنه.
وكان ابن عبّاس (رضى الله عنهما) يكره أن يسميه قوس قزح، ويسميه قوس الله، ويقول: قزح اسم الشيطان.
وزعم القدماء فى علة تلوّنه وتكوّنه، أنه إذا تكاثف جزء من الهواء بالبرد ثم أشرق عليه نور بعض الكواكب انصبغ ذلك الجزء، وانعطف منه الضوء إلى مايليه من الهواء، كالحمرة الصافية إذا طلعت عليها الشمس سطع نورها، وانعطف منه ألوان مختلفة إلى ما يقرب منها. وحمرته وصفرته من قبل الرّطوبة واليبس.
قالوا: وقياس ذلك النار، فإنها إذا كانت من حطب رطب، كان لونها أحمر كدرا، فإن كانت من حطب يابس، كان لونها أصفر صافيا.
وقال آخرون: القوس يحدث عن رطوبة الهواء وصقالته، حتّى يمكن أن ترسم فيه دائرة الشمس كما ترسم الأشباح فى المرايا، وتشتبك الأشعة بما يكون فيه البخار الرطب فيتولد، فيكون منها تلك الألوان. وإنما توجد دائرة على الناظر، لأن الشمس أبدا تكون فى قفاها، ولذلك ترى فى مقابلة الجهة التى تكون فيها الشمس، فترى فى المغرب إذا كانت الشمس فى المشرق، وترى فى المشرق إذا كانت فى المغرب.
وزعم بعض القدماء أن أثر القوس غير حقيقىّ، وإنما هو تخييل لا وجود له فى نفسه. وقال إن إدراكه على نحو إدراك صورة الإنسان فى المرآة من غير أن تكون منطبعة على الحقيقة فيها ولا قائمة بها. وذلك بحسب غلظ الحس الباصر، وهو لا يرى إلا أن يكون وراء السحاب الصقيل، إذ ذاك يكون كالمرآة مؤديا للبصر على نحو تأدية البلّور، إذا جعل وراءه شىء غير مشفّ، ولا يكون ذلك عن السحاب الصقيل وحده، كما لا يكون عن البلّور وحده، ولا عن غير المشفّ وحده. والله أعلم.(1/93)
ذكر ما قيل فى وصفه وتشبيهه
قال أبو الفرج الوأواء، عفا الله تعالى عنه:
سقيا ليوم بدا قوس الغمام به ... والشّمس طالعة والبرق خلّاس!
كأنه قوس رام والبروق له ... رشق السّهام وعين الشمس برجاس.
وقال سعيد بن حميد القيروانى، رحمة الله عليه:
أما ترى القوس فى الغمام وقد ... نمّق فيه الهواء نوّارا؟
حكى الطّواويس وهى جاعلة ... أذنابها للمياه أستارا.
أخضر فى أحمر على يقق ... على وشاح السّحاب قد دارا.
كأنما المزن وهى راهبة ... شدّت على الأفق منه زنّارا.
وقال ظاهر الدين الحريرى. شاعر الخريدة عفا الله عنه:
ألست ترى الجوّ مستعبرا ... يضاحكه برقه الخلّب؟
وفد بات من قزح قوسه ... بعيدا وتحسبه يقرب؟
كطاقى عقيق وفيروزج ... وبينهما آخر مذهب.
وقال سيف الدولة بن حمدان، من أبيات:
وفد نشرت أيدى الجنوب مطارفا ... على الجوّ دكنّا والحواشى على الأرض.
يطرّزها قوس السّحاب بأصفر ... على أحمر فى أخضر وسط مبيضّ.
كأذيال خود أقبلت فى غلائل ... مصبّغة، والبعض أقصر من بعض.
وقال عبد المحسن الصّورىّ، عفا الله تعالى عنه:
تأمّل الجوّ ترى واليا ... قد ولى العهد على السّحب!
سار، وقوس الله تاج له، ... ركضا من الشّرق إلى الغرب!(1/94)
الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الأوّل
1- فى أسطقسّ [1] الهواء
روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «الريح من روح الله تعالى، تأتى بالرحمة، وتأتى بالعذاب. فلا تسبّوها، واسألوا الله خيرها؛ واستعيذوا بالله من شرّها» .
أخرجه البيهقىّ فى سننه.
وروى أبو الفرج بن الجوزىّ بإسناده أن الريح تنقسم إلى قسمين: رحمة وعذاب؛ وينقسم كل قسم إلى أربعة أقسام. ولكل قسم اسم. فأسماء أقسام قسم الرحمة: المبشّرات، والنّشر، والمرسلات، والرّخاء. وأسماء أقسام قسم العذاب:
العاصف، والقاصف (وهما فى البحر) ، والعقيم، والصرصر (وهما فى البر) .
وقد جاء القرءان بكل هذه الأسماء.
2- ذكر ما قيل فى حدّ الهواء
قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى حدّه: الهواء حرم بسيط، طباعه أن يكون حارّا رطبا مشفا متحرّكا إلى المكان الذى تحت كرة النار التى فوق كرة الأرض والماء.
__________
[1] كلمة معربة عن اليونانية معناها: العنصر.(1/95)
وقال إبّقراط: إنّ تغير حالات الهواء هو الذى يغير حالات الناس مرة إلى الغضب، ومرة إلى السكون، وإلى الهمّ والسرور، وغير ذلك. وإذا استوت حالات الهواء، استوت حالات الناس وأخلاقهم.
وقال: إن قوى النفوس تابعة لأمزجة الأبدان، وأمزجة الأبدان تابعة لتصرف الهواء، إذا برد مرة، وسخن مرة، خرج مرة الزرع نضيجا، ومرة غير نضيج، ومرة قليلا، ومرة كثيرا، ومرة حارّا، ومرة باردا، فتتغير لذلك صورهم ومزاجاتهم. وإذا استوى واعتدل الهواء، خرج الزرع معتدلا، فاعتدلت بذلك الصور والمزاجات.
قال: والعلة فى تشابه التّرك، هو أنه لما استوى هواء بلادهم فى البرد استوت صورهم وتشابهوا.
وقال: إنّ الرياح تقلب الحيوان حالا إلى حال، وتصرفه من حرّ إلى برد، ومن يبس إلى رطوبة، ومن سرور إلى حزن؛ وإنها تغير ما فى البيوت من أصناف المآكل كالتمر، والعسل، والسمن، والشراب، فتسخنها مرة، وتبردها أخرى، وتصلّبها مرة، وتيبّسها مرة. وعلة ذلك أنّ الشمس والكواكب تغير الهواء بحركاتها؛ وإذا تغير الهواء، تغير بتغيره كل شىء.
وقال: إنّ الجنوب إذا هبت، أذابت الهواء وبرّدته، وسخنت البحار والأنهار.
فكل شىء فى رطوبة تغير لونه وحالاته. وهى ترخى الأبدان والعصب، وتورث الكسل، وتحدث ثقلا فى الأسماع، وغشاوة فى الأبصار. وأما الشّمال فإنها تصلب الأبدان، وتصحح الأدمغة، وتحسن اللون، وتصفى الحواس، وتقوّى الشهوة والحركة، غير أنها تهيج السعال، ووجع الصدر.(1/96)
وزعم بعض من تأخر فى الإسلام من الحكماء: أن الجنوب إذا هبت بأرض العراق، تغير الورد، وتناثر الورق، وتشقق القنّبيط، وسخن الماء، واسترخت الأبدان، وتكدّر الهواء.
وزعم آخرون من القدماء: ان الهواء جسم رقيق متى تموّج من المشرق إلى المغرب سمى ريح الصّبا.
قيل: سميت ريح الصّبا، لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها.
والصّبوة الميل. وجاء فى بعض الآثار: ما بعث نبىّ إلا والصّبا معه، وهى الريح التى سخّرت لسليمان (عليه السلام) غدوّها شهر، أى من أوّل النهار إلى الزوال، ورواحها شهر، أى من الزوال إلى المغرب. كان يغدو من تدمر من بلاد الشام فيقيل فى إصطخر من بلاد فارس، ويبيت بكابل من بلاد الهند.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» .
وإذا تموّج من الجنوب إلى الشّمال، سمى ريح الجنوب، وهى الريح التى أهلك الله عز وجل بها عادا.
وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى الفن الخامس من كتابنا هذا.
وإذا تموّج من الشّمال إلى الجنوب، سمى ريح الشّمال.
وهم يزعمون أن مبادئ الرياح شمالية أخذت إلى الجنوب، وغربية أخذت إلى المشرق للطف الهواء فى هاتين الجهتين،.
والعرب تحبّ الصّبا لرقتها، ولأنها تجىء بالسحاب. والمطر فيها والخصت.
وهى عندهم اليمانية.(1/97)
3- ذكر أسماء الرياح اللغوية
قال الثعالبىّ فى فقه اللغة:
إذا وقعت الريح بين ريحين، فهى النّكباء.
فإذا وقعت بين الجنوب والصّبا، فهى الجربياء.
فإذا هبّت من جهات مختلفة، فهى المتناوحة.
فإذا كانت ليّنة، فهى الرّيدانة.
فإذا جاءت بنفس ضعيف وروح، فهى النّسيم.
فإذا كان لها حنين كحنين الإبل، فهى الحنون.
فإذا ابتدأت بشدّة [1] ، فهى العاصف، والسّيهوج.
فإذا كانت شديدة ولها زفزفة وهى الصوت، فهى الزّفزافة.
فإذا اشتدّت حتّى تقلع الخيام، فهى الهجوم.
فإذا حرّكت الأغصان تحريكا شديدا أو قلعت الأشجار، فهى الزّعزاع، والزّعزعان، والزّعزع.
فإذا جاءت بالحصباء، فهى الحاصبة.
فإذا درجت حتّى ترى لها ذيلا كالرّسن فى الرمل، فهى الدّروج.
فإذا كانت شديدة المرور، فهى النّؤوج.
فإذا كانت سريعة، فهى المجفل، والجافلة.
فإذا هبّبت من الأرض كالعمود نحو السماء، فهى الإعصار.
فإذا هبّت بالغبرة، فهى الهبوة.
__________
[1] عبارة الثعالبى. فإذا ابتدأت بشدة، فهى النافجة. فإذا كانت شديدة، فهى العاصف الخ.(1/98)
فإذا حملت المور وجرّت الذيل، فهى الهوجاء.
فإذا كانت باردة، فهى الحرجف، والصّرصر، والعريّة.
فإذا كان مع بردها ندى، فهى البليل.
فإذا كانت حارّة، فهى الحرور، والسّموم.
فإذا كانت حارّة وأتت من قبل اليمن، فهى الهيف.
فإذا كانت باردة شديدة تخرق البيوت، فهى الخريق [1] .
فإذا ضعفت وجرت فويق الأرض، فهى المسفسفة.
فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا، فهى العقيم. (وقد نطق بها القرآن) .
4- فصل فيما يذكر منها بلفظ الجمع
يقال: الرياح الحواشك: المختلفة الشديدة. البوارح: الشّمال الحارّة فى الصيف.
الأعاصير: التى تهيج بالغبار. المعصرات: التى تأتى بالأمطار. المبشّرات: التى تهبّ بالسحاب والغيث. السّوافى: التى تسفى التراب.
5- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر الهواء
يقال:
أخفّ من النسيم. أسرع من الرّيح. ريحهما جنوب (يضرب للمتصافيين) . هو ساكن الريح (اذا كان حليما) . قد هبّت ريحه (إذا قامت دولته) .
ومن أنصاف الأبيات.
إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا
وبعض القول يذهب بالرياح
تجرى الرياح بما لا تشتهى السّفن
لو كنت ريحا كانت الدّبورا
__________
[1] فى اللسان أنها الريح الباردة الشديدة الهبوب كأنها خرقت، أماتوا الفاعل بها.(1/99)
ومن الأبيات:
إذا هبّت رياحك، فاغتنمها. ... فإن لكلّ خافقة سكون!
وقال آخر:
وكلّ ريح لها هبوب ... يوما فلا بدّ من ركود.
وقال آخر:
والريح ترجع عاصفا ... من بعد ما ابتدأت نسيما.
وقال أبو تمّام، عفا الله عنه:
إنّ الرياح إذا ما أعصفت، قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالرّتم.
وقال ابن الرومىّ، رحمة الله عليه:
لا تطفئنّ جوى بلوم إنه ... كالريح تغرى النّار بالإحراق.
6- ذكر ما جاء فى وصف الهواء وتشبيهه
قال عبد الله بن المعتزّ، رحمة الله عليه:
ونسيم يبشّر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول.
ووجوه البلاد تنتظر الغي ... ث انتظار المحبّ ردّ الرسول.
وقال ابن الرومىّ:
حيّتك عنّا شمال طاف طائفها ... تحيّة، فجرت روحا وريحانا.
هبّت سخيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرّا بها، وتنادى الطير إعلانا
. ورقّ تغنّى على خضر مهدّلة ... تسمو بها وتشمّ الأرض أحيانا.
يخال طائرها تشوان من طرب ... والغصن من هزّه عطفيه نشوانا.(1/100)
وقال أيضا:
كأنّ نسيمها أرج الخزامى ... ولاها بعد وسمىّ ولىّ.
هديّة شمال هبّت بليل ... لأفنان الغصون بها نجىّ.
إذا أنفاسها نسمت سحيرا ... تنفّس كالشّجىّ لها الخلىّ.
وقال آخر:
وأنفاس كأنفاس الخزامى ... قبيل الصّبح بلّتها السماء.
تنفّس نشرها سحرا فجاءت ... به سحريّة المسرى رخاء.
وقال إسحاق الموصلىّ:
يا حبّذا ريح الجنوب إذا جرت ... فى الصّبح وهى ضعيفة الأنفاس!
قد حمّلت برد النّدى وتحمّلت ... عبقا من الجثجاث [1] والبسباس [2] !
__________
[1] فى الأصل بالإهمال وهو من إهمال الناسخ. فقد ورد فى مادة (ج ث ث) من لسان العرب:
«الجثجاث شجر أصفر مرّ طيب الريح تستطيبه العرب وتكثر ذكره فى أشعارها» . وقال أبو حنيفة الدينورى إنه من أحرار الشجر وهو أخضر ينبت بالقيظ له زهرة صفرا، كأنها زهرة العرفجة طيبة الريح. وقال ابن البيطار: أول ما رأيته بساحل نيل مصر فى أعلاه فى صحاريه بمقربة من ضيعة هناك، تسمى شاهور، وهى على طريق الطرانة. وقال داود فى تذكرته إنه يسمى باليونانية ترديسيون.
[2] فى اللسان: «البسباس نبات طيب الريح» . وهو المعروف عند علماء العرب بالاسم الفارسى «الرازيانج» وبهذا الاسم كان يعرف فى الأندلس والمغرب ولا يزال معروفا به إلى اليوم فى قطر الجزائر واسمه السريانى «برهليا» ويعرف فى مصر والشام باسم «الشمار» ومنه نوع برى ينبت بالقيروان ويسميه(1/101)
وقال آخر:
إذا خلا الجوّ من هواء، ... فعيشهم غمّة وبوس.
فهو حياة لكلّ حىّ، ... كأنّ أنفاسه نفوس.
وقال ابن سعيد الأندلسىّ:
الرّيح أقود ما يكون لأنّها ... تبدى خفايا الرّدف والأعكان [1] .
وتميّل الأغصان بعد علوّها ... حتّى تقبّل أوجه الغدران.
وكذلك العشّاق يتّخذونها ... رسلا إلى الأحباب والأوطان.
وقال آخر:
أيا جبلى نعمان بالله خلّيا ... سبيل الصّبا يخلص إلىّ نسيمها.
أجد بردها أو تشف منّى خرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها.
فإنّ الصّبا ريح إذا ما تنفّست ... على كبد حرّاء، قلّت همومها.
وقال ابن هتيمل اليمنىّ:
هبّت لنا سحرا، والصبح ملتثم، ... واللّيل قد غاب فيه الشّيب والهرم.
سقيمة من بنات الشّرق أضعفها ... عن قوّة السّير، لمّا هبّت، السّقم.
فبلّغت بلسان الحال قائلة ... ما لم يبلّغه يوما إلىّ فم،
سرّا لغانية تسرى إلىّ به ... من النّسيم رسول ليس يتّهم.
أصافح الرّيح إجلالا لما حملت ... إلىّ من ريح برديها وأستلم.
__________
[1] واحده عكنة بالضم، وهى ما تثنّى من لحم البطن سمنا.(1/102)
الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الأوّل
1- فى أسطقس النار [1] وأسمائها، وعبادها، وبيوت النيران
حكى أصحاب التواريخ فى حدوث النار أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الارض وحجّ، نزل جبل أبى قبيس. فأنزل الله إليه مرختين من السماء، فحكّ إحداهما بالأخرى فأوريا نارا. فلهذا سمى الجبل بأبى قبيس.
ويدل على أن النار من الشجر، قوله عز وجل: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) .
والعرب تقول: «فى كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار» . لأنهما أسرع اقتداحا.
قال الله عز وجل: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) .
وقال أصحاب الكلام فى الطبائع: إن الله عز وجل جمع فى النار الحركة، والحرارة، واليبوسة، واللّطافة، والنور. وهى تفعل بكل صورة من هذه الصور خلاف ما تفعل بالأخرى.
فبالحركة تعلى الأجسام؛ وبالحرارة تسخن؛ وباليبوسة تجفف؛ وباللطافة تنفذ؛ وبالنور تضىء ما حولها.
__________
[1] أنظر فى كتاب الحيوان للجاحظ تفصيلات ومعلومات عن النار. وهى مما يجب الوقوف عليه والاحاطة به من الوجهة العلمية والفلسفية. أما من حيث اللغة والأدب فيراجع ما ورد فى كتاب «سرور النفس بمدارك الحواس الخمس» للتيفاشى باختصار صاحب لسان العرب، وهو موجود بالفتو غرافية فى «دار الكتب المصرية» ومحل الشاهد هو الباب الثامن من ص 391 الى ص 423(1/103)
ومنفعة النار تختص بالإنسان دون سائر الحيوان. فلا يحتاج إليها شىء سواه، وليس به عنها غنى فى حال من الأحوال.
ولهذا عظمتها المجوس، [1] وقالوا: إذ أفردتنا بنفعها، فنفردها بتعظيمها. على أنهم يعظمون جميع ما فيه منفعة على العباد، فلا يدفنون موتاهم فى الأرض، ولا يستنجون فى الأنهار.
2- ذكر أسماء النار
(وأحوالها فى معالجتها وترتيبها) أما أسماؤها، فمنها:
النار، والصّلاء، والسّكن، والضّرمة، والحرق، والحمدة (وهو صوت التهابها) ، والحدمة، والجحيم، والسّعير، والوحى.
وأما تفصيل أحوالها ومعالجتها وترتيبها، فقد قال الثعالبىّ فى فقه اللغة:
إذا لم يخرج الزّند النار عند القدح، قيل: كبايكبو.
فإذا صوّت ولم يخرج، قيل: صلد يصلد.
فإذا أخرج النار، قيل: ورى يرى.
فإذا ألقى الإنسان عليها ما يحفظها ويذكيها، تقول: شيعتها وأثقبتها.
فإذا عالجها لتلتهب، قال: حضأتها وأرّثتها [2] .
فإذا جعل لها مذهبا تحت القدر، قال: سخوتها.
__________
[1]
guebres.mages.
عند الفرنسيين. والمجوس لفظ مشتق من «موغ» و «مغ» ومعناه النور فى اللغة الطورانية.
[2] فى فقه الثعالبى: وأرشيها بالشين وعبارة القاموس فى مادة (ارش) وتأريش النار تأريثها.(1/104)
فإذا زاد فى إيقادها وإشعالها، قال: أحجبتها.
فإذا اشتدّ تأجّجها، فهى جاحمة [1] .
فإذا طفئت البتة، فهى هامدة.
فإذا صارت رمادا، فهى هابية.
والله تعالى أعلم.
3- ذكر عبّاد النار
(وسبب عبادتها وبيوت النيران) أوّل من عبد النار قابيل بن آدم.
وذلك أنه لما قتل أخاه هابيل هرب من أبيه إلى اليمن، فجاءه إبليس لعنه الله، وقال له: إنما قبل قربان هابيل وأكلته النار لأنه كان يخدمها ويعبدها.
فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار.
فهو أوّل من نصب النار وعبدها.
وأوّل من عظمها من ملوك الفرس، جم. وهو أحد ملوك الفرس الأوّل، عظمها ودعا الناس إلى تعظيمها، وقال: إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب، لأن النور عنده أفضل من الظلمة.
ثم عبدت النار بالعراق، وأرض فارس، وكرمان، وسجستان، وخراسان، وطبرستان، والجبال، وأذربيجان، وأرّان، وفى بلاد الهند، والسند، والصين.
__________
[1] عبارة فقه اللغة بعده: (فاذا سكن لهبها ولم يطفأ حرها فهى خامدة) وبعده فاذا طفئت البتة الخ(1/105)
وبنى فى جميع هذه الأماكن بيوت للنّيران، نذكرها بعد إن شاء الله تعالى.
ثم انقطعت عبادة النيران من أكثر هذه الأماكن إلا الهند. فإنهم يعبدونها إلى يومنا هذا. وهم طائفة تدعى الإكنواطرية. [1] زعموا أن النار أعظم العناصر جرما، وأوسعها حيزا، وأعلاها مكانا، وأشرفها جوهرا، وأنورها ضياء وإشراقا، وألطفها جسما وكيانا؛ وأن الأحتياج إليها أكثر من الاحتياج إلى سائر الطبائع؛ ولا نور فى العالم إلا بها؛ ولا نموّ ولا انعقاد إلا بممازجتها.
وعبادتهم لها أن يحفروا أخدودا مربعا فى الأرض ويحشوا النار فيه، ثم لا يدعون طعاما لذيذا، ولا شرابا لطيفا، ولا ثوبا فاخرا، ولا عطرا فائحا، ولا جوهرا نفيسا، إلا طرحوه فيها: تقرّبا إليها، وتبرّكا بها. وحرّموا إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها، خلافا لجماعة أخرى من زهّاد الهند.
وعلى هذا المذهب أكثر ملوك الهند وعظمائها. يعظمون النار لجوهرها تعظيما بالغا، ويقدّمونها على الموجودات كلها.
ومنهم زهّاد وعبّاد يجلسون حول النار صاغين، يسدّون منافسهم حتّى لا يصل إليها من أنفاسهم نفس صدر عن صدر مجرم. وسنّتهم الحثّ على الأخلاق الحسنة، والمنع من أضدادها، وهى: الكذب، والحسد، والحقد، والكفاح، والحرص، والبغى، والبطر. فإذا تجرّد الإنسان عنها، تقرّب من النار.
__________
[1] أفادنا المترجم الألمانى لكتاب الملل والنحل أن هذه الكلمة مأخوذة من «أجنيهترا» وهى لنار المقدّسة (أى التى تتأجج إكراما للإله أجنى.)(1/106)
4- وأما بيوت النيران
(ومن رسمها من ملوك الفرس) قال المسعودىّ:
أوّل من حكى ذلك عنه أفريدون الملك. وذلك أنه وجد نارا يعظمها أهلها، [وهم] [1] معتكفون على عبادتها. [فسألهم عن خبرها ووجه الحكمة منهم فى عبادتها. فأخبروه بأشياء اجتذبت نفسه إلى عبادتها] [2] وأنها واسطة بين الله تعالى وبين خلقه، وأنها من جنس الآلهة النورية، وأشياء ذكروها له. وجعلوا للنور مراتب وقوانين [وفرقوا بين طبع النار والنور] [3] وزعموا أن الحيوان يجتذبه النور، فيحرق نفسه: كالفراش الطائر بالليل فما لطف جسمه، يطرح نفسه فى السراج فيحرقها. وغير ذلك مما يقع فى صيد الليل من الغزلان، والوحش، والطير؛ وكظهور الحيتان من الماء إذا قربت من السراج فى الزوارق كما يصاد السمك ببلاد البصرة فى الليل، فإنهم يجعلون السّرج حوالى المركب، فيثب السمك من الماء إليها؛ وأن بالنور صلاح هذا العالم، وشرف النار على الظلمة إلى غير ذلك.
فلما أخبروا الملك أفريدون بذلك أمر أن تحمل جمرة منها إلى خراسان، فحملت. فاتخذ لها بيتا بطوس. [واتخذ بيتا آخر بمدينة بخارا يقال له برد سورة] [4] .
وبيتا آخر بسجستان كواكر [5] ، كان اتخذه بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن يهراسف.
__________
[1] الزيادة عن المسعودىّ.
[2] الزيادة عن المسعودىّ.
[3] الزيادة عن المسعودىّ.
[4] سماه الشهرستانى: «قباذان» (ص 197) .
[5] سماه الشهرستانى: «كركرا» (ص 197) .(1/107)
وبيت آخر ببلاد الشير والرّان، كانت فيه أصنام أخرجها منه أنوشروان، وقيل إنه صادف هذا البيت، وفيه نار معظمة فنقلها إلى الموضع المعروف بالبركة.
وبيت آخر للنار يقال له كوسجة [1] : بناه كيخسرو الملك.
وقد كان بقومس بيت نار معظم لا يدرى من بناه، يقال له حريش. [2] ويقال إن الإسكندر لما غلب عليها، تركها ولم يطفئها.
وبيت نار آخر يسمّى كنكدز، بناه سياوش بن كاوس الجبار، وذلك فى زمن لبثه بشرق الصين مما يلى البركة.
وبيت نار بمدينة أرّجان من أرض فارس؛ بناه قمار.
وبيت بأرض فارس اتّخذ فى أيام يهراسف. [3]
فهذه البيوت كانت قبل ظهور زرادشت.
ثم اتخذ زرادشت بعد ذلك بيوتا للنيران. فكان مما اتخذ بيت بمدينة نيسابور من بلاد خراسان، وبيت بمدينة نسا والبيضاء من أرض فارس. وقد كان زرادشت أمر يستاسف [4] الملك بطلب نار كان يعظمها جم [5] فطلبت، فوجدت بمدينة خوارزم.
فنقلها يستاسف إلى مدينة دارا بجرد من أرض فارس............ والمجوس تعظم هذه النار ما لا تعظم غيرها من النيران والبيوت............ وللفرس بيت نار
__________
[1] سماه الشهرستانى: «كويسة» (ص 197) .
[2] سماه الشهرستانى: «جرير» (ص 197) .
[3] هو لهراسب.
[4] فى الشهرستانى: كشتاسف.
[5] هو الملك جمشيد.(1/108)
بإصطخر فارس، يعظمه المجوس. كان فى قديم الزمان للأصنام، فأخرجتها جمان بنت بهمن بن اسپنديار وجعلته بيت نار. ثم نقلت عنه النار فخرب...... وفى مدينة سابور من أرض فارس بيت معظم عندهم اتخذه دارا بن دارا. وفى مدينة جور من أرض فارس...... بيت بناه أردشير بن بابك......... وقد كان أردشير بنى بيت نار يقال له بارنوا فى اليوم الثانى من غلبته على فارس. وبيت نار على خليج القسطنطينية من بلاد الروم بناه سابور الجنود ابن أردشير بن بابك حين نزل على هذا الخليج وحاصر القسطنطينية. ولم يزل هذا البيت إلى خلافة المهدىّ. وكان سابور اشترط على الروم بقاء هذا البيت......... وبأرض العراق بيت نار بالقرب من مدينة السلام. بنته بوران [1] بنت كسرى أبرويز، الملكة، بالموضع المعروف بأسنيبا [2] .
وبيوت النيران كثيرة تعظمها المجوس. والذى ذكرناه هو المشهور منها [3] .
5- ذكر نيران العرب
ونيران العرب أربعة عشر نارا.
1- نار المزدلفة. توقد حتّى يراها من دفع من عرفة. وأوّل من أوقدها قصىّ بن كلاب.
2- نار الاستسقاء. كانت الجاهلية الأولى، إذا تتابعت عليهم الأزمات، واشتدّ الجدب، واحتاجوا إلى الأمطار. يجمعون لها بقرا، معلقة فى أذنابها وعراقيبها
__________
[1] فى الشهرستانى: توران.
[2] فى المسعودى: استينيا. وفى الشهرستانى: إسفينيّا.
[3] هذا الباب كله منقول عن مروج الذهب (أنظر طبعة باريس ج 4 ص 72- 86) .(1/109)
السّلع [1] والعشر [2] ، ويصعدون بها إلى جبل وعر، ويشعلون فيها النار، ويضجّون بالدعاء والتضرّع. وكانوا يرون ذلك من الأسباب المتوصّل بها إلى نزول الغيث [3] . وفى ذاك يقول الوديك الطائى:
لا درّ درّ رجال خاب سعيهم، ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر!
أجاعل أنت بيقورا مسلّعة ... ذريعة لك بين الله والمطر؟
وقال أمية بن أبى الصّلت:
ويسوقون باقر السّهل للطّو ... د مهازيل خشية أن تبورا.
عاقدين النّيران فى بكر الأذ ... ناب منها، لكى تهيج النّحورا.
سلع ما ومثله عشر ما ... عائل ما وعالت الببقورا.
3- نار الزائر والمسافر. ويسمونها نار الطّرد. وذلك أنهم كانوا إذا لم يحبوا رجوع شخص، أوقدوا خلفه نارا ودعوا عليه. ويقولون فى الدعاء: أبعده الله وأسحقه! وأوقدوا نارا إثره. قال الشاعر:
وجمّة قوم قد أتوك ولم تكن ... لتوقد نارا خلفها للتندّم.
__________
[1] قال العلامة الدكتور أوغمت هفتر الألمانى والأب المحقق الفاضل لويس شيخو اليسوعى فى حاشية صفحة 36 متن كتاب النبات والشجر الأصمعى الذى عنيا بتحقيقه وطبعه فى بيروت سنة 1908، ما نصه:
السلع نبات. وقيل شجر مر، وقيل أنه سمّ. له ورقة صغيرة شاكة كأن شوكها زغب. وهو بقلة تنفرش كأنها راحة الكلب.
[2] قال الفاضلان المذكوران فى ذلك الموضع أيضا مانصه: «قيل إن العشر من كبار شجر العضاه وهو ذو صمغ حلو وحرّاق مثل القطن. يقتدح به. وهو عريض الورق. يخرج من شعبه ومواضع زهره سكر فيه شىء من المرارة يقال له سكر العشر. ويخرج له نفاخ كشقاشق الجمال. وله نور كالدفلى، مشرق حسن النظر. وله ثمر:
l AselePiasgigaN tea.Le AselePiade:FoRsk GalotRoP isPRoeRa:
[3] أما الافرنج والأمريكان فى هذا العصر فانهم يستنزلون الغيث باطلاق المدافع لاحداث الدوىّ والضجيج والالتهاب فى الجو..(1/110)
والجمّة: الجماعة يمشون فى الدّم، وفى الصلح. ومعنى هذا البيت: لم تندم على ما أعطيت فى الحمالة عند كلام الجماعة، فتوقد خلفهم ناراكى لا يعودوا.
4- نار التحاليف. كانوا لا يعقدون حلفهم إلا عليها، فيذكرون منافعها، ويدعون الله بالحرمان والمنع من منافعها على الذى ينقض العهد، ويطرحون فيها الكبريت والملح. فإذا فرقعت هوّل على الحالف. قال الكميت:
همو خوّفونى بالعمى هوّة الرّدى ... كما شبّ نار الحالفين المهوّل.
وقال أوس بن حجر:
إذا استقبلته الشّمس، صدّ بوجهه ... كما صدّ عن نار المهوّل حالف.
5- نار الغدر. كانت العرب إذا غدر الرجل بجاره، أوقدوا له نارا بمنى، أيام الحج على الأخشب (وهو الجبل المطلّ على منّى) . ثم صاحوا: هذه غدرة فلان.
قالت امرأة من هاشم:
فإن نهلك فلم نعرف عقوقا ... ولم توقد لنا بالغدر نار.
6- نار السّلامة. وهى نار توقد للقادم من سفره، إذا قدم بالسلامة والغنيمة. قال الشاعر:
يا سليمى أوقدى النارا ... إنّ من تهوين قد زارا.
7- نار الحرب. وتسمّى نار الأهبة والإنذار. توقد على يفاع، فتكون إعلاما لمن بعد. قال ابن الرومى:
له ناران: نار قرى وحرب. ... ترى كلتيهما ذات التهاب.
8- نار الصّيد. يوقدونها لصيد الظباء، لتعشى أبصارها.(1/111)
9- نار الأسد. كانت العرب توقدها إذا خافوه؛ فإن الأسد إذا عاين النار حدّق إليها وتأمّلها.
10- نار السّليم. توقد للملدوغ، والمجروح، ومن عضّه الكلب الكلب حتّى لا يناموا فيشتدّ بهم الألم. قال النابغة:
يسهّد من ليل التّمام سليمها ... لحلى النّساء فى يديه قعاقع.
وذلك لأنهم كانوا يعلقون عليه حلى النساء ويتركونه سبعة أيام.
11- نار الفداء. وذلك أن ملوكهم كانوا إذا سبوا قبيلة وخرجت إليهم السادات فى الفداء وفى الاستيهاب، كرهوا أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن.
وأما فى الظلمة فيخفى قدر ما يحبسون من الصيفىّ لأنفسهم، وقدر ما يجودون به، وما يأخذون عليه الفداء. فيوقدون لذلك النار. قال الشاعر:
نساء بنى شيبان يوم أوارة ... على النّار إذ تجلى له فتياتها.
12- نار الوسم. كانوا يقولون للرجل: ما نارك؟ (فى الاستخبار عن الإبل) أو ما سمتك؟ [فيقول] : حياط، أو علاط، أو حلقة، أو كذا، أو كذا.
حكى أن بعض اللصوص قرّب إبلا كان قد أغار عليها وسلبها من قبائل شتّى إلى بعض الأسواق، فقال له بعض التجّار: ما نارك؟ وإنما سأله عن ذلك، لأنهم كانوا يعرفون ميسم كل قوم وكرم إبلهم من لؤمها، فقال:
تسألنى الباعة: ما نجارها، ... إذ زعزعوها فسمت أبصارها؟
وكلّ دار لأناس دارها! ... وكلّ نار العالمين نارها [1] !
__________
[1] يقول العرب فى أمثالهم: «كل نجار إبل نجارها» وشطره الثانى «ونار إبل العالمين نارها» يضربون المثل للمخلط الذى فيه كل لون من الأخلاق وليس له رأى يثبت عليه.(1/112)
13- نار القرى. وهى من أعظم مفاخر العرب. كانوا يوقدونها فى ليالى الشتاء، ويرفعونها لمن يلتمس القرى. فكلما كانت أضخم وموضعها أرفع، كان أفخر.
وهم يتمادحون بها، قال الشاعر:
له نار تشبّ بكلّ واد ... إذا النّيران ألبست القناعا.
وقال إبراهيم بن هرمة:
إذا ضلّ عنهم ضيفهم، رفعوا له ... من النار فى الظّلماء ألوية حمرا.
14- وكانت للعرب نار عظمى تسمّى نار الحرّتين. وهى التى أطفأها الله تعالى بخالد بن سنان العبسىّ. وكانت حرّة ببلاد عبس، تسمّى حرّة الحدثان.
روى عن ابن الكلبىّ أنه قال: كان يخرج منها عنق فيسيح مسافة ثلاثة أو أربعة أميال، لا تمرّ بشىء إلا أحرقته. وأن خالد بن سنان أخذ من كل بطن من بنى عبس رجلا فخرج بهم نحوها، ومعه درّة حتّى انتهى إلى طرفها، وقد خرج منها عنق كأنه عنق بعير فأحاط بهم، فقالوا: هلكت والله أشياخ بنى عبس آخر الدهر! فقال خالد كلّا! وجعل يضرب ذلك العنق بالدّرّة ويقول: «بدّا بدّا، كلّ هدى الله يؤدّى! أنا عبد الله خالد بن سنان!» فما زال يضربه حتّى رجع، وهو يتبعه والقوم معه كأنه ثعبان يتملك حجارة الحرّة حتّى انتهى إلى قليب، فانساب فيه وتقدّم عليه، فمكث طويلا. فقال ابن عم لخالد، يقال له عروة بن شب: لا أرى خالدا يخرج إليكم أبدا! فخرج ينطف عرقا، وهو يقول: زعم ابن راعية المعزى أنى لا أخرج. فقيل لهم بنو راعية المعزى إلى الآن.
وفى هذه النار يقول الشاعر:
كنار الحرّتين لها زفير ... تصمّ مسامع الرجل السّميع.(1/113)
6- ذكر النيران المجازية
ومن النيران، نيران مجازية لا حقيقية. فمنها:
نار البرق. وقد وصفها بعض الأعراب فقال:
نار تجدّد للعيدان نضرتها ... والنار تشعل عيدانا فتحترق
إشارة إلى أن النار تحرق العيدان، إلا نار البرق فإنها تجىء بالغيث.
نار المعدة. وهى التى تهضم الطعام. وهى كنار الحياة، ونار الغريزة. وقوّتها مادّة للصحة، كما أن ضعفها سبب للعلة.
نار الحمّى. وقد قيل: النيران ثلاثة: نار لا تأكل ولا تشرب، وهى نار الآخرة؛ ونار تأكل وتشرب، وهى نار الحمّى، تأكل اللحم وتشرب الدّم؛ ونار تأكل ولا تشرب، وهى نار الدّنيا.
ومن النيران المجازية:
نار الشوق، نار الشّره، نار الشباب، نار الشراب.
قال شاعر يمدح بعض الملوك:
وقيت نار الجحيم يا ملك، ... أربع نيرانه له نسق!
نار شباب تروق نضرتها، ... ونار راح كأنّه شفق،
ونار سلطانه، تقارنها ... نار قرى لا تزال تأتلق،(1/114)
7- ذكر النيران التى يضرب المثل بها
يضرب المثل:
بنار الحباحب. وهى نار لبخيل كان يوقدها. فإذا استضاء بها إنسان، أطفأها.
وقيل: إنها النار التى توريها الخيل بسنابكها من الحجارة. قال الله تعالى:
(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً)
. وقال النابغة:
ويوقدن بالصّفّاح نار الحباحب
وهذا المثل يضرب لما لا منفعة فيه ولا حاصل له.
نار الغضى، يضرب بها المثل فى الحرارة. وهى جمر أبيض لا يصلح إلا للوقود.
نار العرفج. هى نار تتقد سريعا. قال قتيبة بن مسلم لعمرو بن عباد بن الحصين:
«للسّؤدد أسرع إليك من النار فى يبس العرفج» . إذا التهبت فيه النار انتشرت وتسمى نار الزّحفتين، لأن العرفج إذا انتشرت فيه النار عظمت واستفاضت.
فمن كان بالقرب منها زحف عنها، ثم لا تلبث أن تنطفئ من ساعتها. فيحتاج الذى زحف عنها أن يزحف إليها. فلا يزال المصطلى بها كذلك، فلذلك سميت نار الزحفتين.
نار الحلفاء. يضرب بها المثل فى سرعة الاتقاد، كما قيل:
فما ظنّك بالحلفا ... ءأدنيت له نارا.
وفى سرعة الانطفاء، كما قيل: نار الحلفاء، سريعة الانطفاء.(1/115)
8- ذكر ما جاء منها على لفظ أفعل
يقال:
آكل من النار؛ أحرّ من النار؛ أحرّ من الجمر؛ أحسن من النار؛ أسرع من شرارة فى قصباء.
ويقال:
فلان وارى الزناد؛ وريت بك زنادى؛ فلان ثاقب الزّند؛ فلان كابى الزّناد؛ صلدت زناده؛ فلان ما يصطلى بناره؛ هو القابس العجلان؛ هما زندان فى وعاء.
ومن أنصاف الأبيات:
والنار قد يخمدها النّافخ
كملتمس إطفاء نار بنافخ
والجمر يوضع فى الرّماد فيخمد
كذا كلّ نار روّحت تتوهّج
هيهات تكتم فى الظّلام مشاعل
ومن الأبيات قول علىّ بن الجهم:
والنّار فى أحجارها مكنونة ... لا تصطلى إن لم تثرها الأزند
وقال آخر:
والنار بالماء الذى هو ضدّها ... تعطى النّضاج، وطبعها الإحراق.
وقال آخر:
والكاتم الأمر ليس يخفى ... كالموقد النار باليفاع.
وقال آخر:
لا تتّبع كلّ دخان ترى، ... فالنّار قد توقد للكىّ.(1/116)
وقال أبو تمام:
لولا اشتعال النّار فيما جاورت، ... ما كان يعرف طيب عرف العود.
وقال آخر:
وفتيلة المصباح تحرق نفسها ... وتضىء للسّارى، وأنت كذاكا.
9- ذكر ما قيل فى وصف النار وتشبيهها
قال عبد الله بن المعتزّ، غفر الله له:
كأنّ الشّرار على نارها ... وقد راق منظرها كلّ عين.
سحالة تبر إذا ما علا، ... فإمّا هوى ففتات اللّجين.
أخذه العسكرىّ فقال:
أوقدت بعد الهدوّ نارا ... لها على الطارقين عين
. شرارها إن علا نضار، ... لكنّه إن هوى لجين.
وقال السّرىّ الرّفّاء:
والتهبت نارنا، فمنظرها ... يغنيك عن كلّ منظر عجب
. إذا رمت بالشّرار فاطّردت ... على ذراها مطارد اللهب،
رأيت ياقوتة مشبّكة ... تطير عنها قراضة الذّهب.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ:
حمراء نازعت الرّياح رداءها ... وهنا وزاحمت السّماء بمنكب.
ضربت سماء من دخان فوقها، ... لم تدر منها شعلة من كوكب.
وتنفّحت عن كلّ نفحة جمرة ... باتت لها ريح الشّمال بمرقب.
قد ألهبت فتذهّبت فكأنها ... شقراء تمرح فى عجاج أكهب [1] .
__________
[1] الكهبة لون ليس بخالص فى الحمرة. وهو فى الحمرة خاصة (صحاح الجوهرى) .(1/117)
وقال أبو الفتح كشاجم:
كأنما النار والرّماد وقد ... كاد يوارى من نورها النّورا:
ورد جنىّ القطاف أحمر قد ... ذرّت عليه الأكفّ كافورا.
وقال تاج الملوك بن أيوب:
أما ترى النار وهى تضرم فى ... أحشاء كانونها وتلتهب؟
كأنّما الفحم فوقها قضب ... من عنبر وهى تحته ذهب.
وقال أبو مروان بن أبى الخصال:
لابنة الزّند فى الكوانين جمر ... كالدّرارىّ فى دجى الظّلماء.
خبّرونى عنها ولا تكتمونى، ... ألديها صناعة الكيمياء؟
سبكت فحمها صفائح تبر ... رصّعتها بالفضّة البيضاء.
كلّما رفرف النّسيم عليها ... رقصت فى غلالة حمراء.
هذا البيت مأخوذ من قول الخفاجىّ:
وكأنّها والريح عابثة بها ... تزهى فترقص فى قميص أحمر.
وقال أبو هلال العسكرىّ:
نار تلعّب بالسّقوف كأنها ... حلل مشقّقة على حبشان.
ردّت عليها الريح فضل دخانها ... فأتت به سبجا على عقيان.
فالجوّ يضحك فى ابيضاض شرائر ... منها ويعبس فى اسوداد دخان.(1/118)
وقال ابن أبى الخصال:
وعوجوا على ياقوته ذهبيّة، ... يهيم بها المقرور بالسّبرات [1] .
إذا ما ارتمت من فحمها بشرارها، ... رأيت نجوم اللّيل منكدرات.
وقال سيف الدّولة بن حمدان:
كأنما النار والرّماد معا ... وضوءها فى ظلامه يحجب:
وجنة عذراء مسّها خجل ... فاستترت تحت عنبر أشهب.
وقال آخر:
فحم كيوم الفراق تشعله ... نار كنار الفراق فى الكبد.
أسود قد صار تحت حمرتها ... مثل العيون اكتحلن بالرّمد.
وقال أبو طالب المأمونىّ:
ما نرى النار كيف أسقمها القرّ ... فأضحت تخبو وطورا تسعّر؟
وغدا الجمر والرّماد عليه ... فى قميص مذهّب ومعنبر؟
وقال أبو فراس الحمدانىّ:
لله برد ما أش ... دّ ومنظر ما كان أعجب!
جاء الغلام بناره ... هو جاء فى فحم تلهّب.
فكأنما جمع الحلىّ ... فمحرق منه ومذهب.
ثم انطفت فكأنها ... ما بيننا ندّ معشّب.
__________
[1] السّبرة: الغداة الباردة.(1/119)
10- ذكر شىء مما قيل فى الشّمعة والشّمعدان
(والسراج [1] والقنديل [2] )
1- أما الشمعة، فمن جيّد ما قيل فيها
قول الأرّجانىّ:
نمّت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للنّاس من فيها.
قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... إلا برقية نار من تراقيها.
سقيمة لم يزل طول اللسان لها ... فى الحىّ يجنى عليها ضرب هاديها.
غريقة فى دموع، وهى تحرقها ... أنفاسها بدوام من تلظّيها.
تنفّست نفس المهجور إذ ذكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يبكيها.
يخشى عليها الرّدى مهما ألمّ بها ... نسيم ريح إذا وافى يحيّيها.
بدت كنجم هوى فى إثر عفرية ... فى الأرض فاشتعلت منه نواصيها.
نجم رأى الأرض أولى أن يبوّأها ... من السماء، فأمسى طوع أهليها.
كأنها غرّة قد سال شادخها ... فى وجه دهماء يزهيها تجلّيها.
أو ضرّة خلقت للشّمس حاسدة؛ ... فكلّما حجبت، قامت تحاكيها.
وحيدة كشباة الرّمح هازمة ... عساكر الليل إن حلّت بواديها.
ما طنّبت قطّ فى أرض مخيّمة ... إلا وأقمر للأبصار داجيها.
__________
[1] مما يجب التنبية اليه ان «سورج» و «سرج» معناهما الشمس فى اللغة الهندية عن السنسكريتيه (أنظر القاموس الهندى الانكليزى تأليف فوربس) .
[2] فى اللغة اللاتينية CaNdella وفى الفرنسية ChaNdelle بمعنى الشمعة وعنها.CaNdelaBRe
ويقول علماء الافرنج ان اختراع الشمع للاستضاءة مما توصل اليه الغاليون وعلى ذلك يكون الأصل افرنكيا ثم نقله العرب لمعنى المصباح المعرف بالقنديل.(1/120)
لها غرائب تبدو من محاسنها، ... إذا تفكّرت يوما فى معانيها.
كصعدة فى حشا الظّلماء طاعنة ... تسقى أسافلها ريّا أعاليها
. فالوجنة الورد إلا فى تناولها ... والقامة الغصن إلا فى تثنّيها
. صفراء هنديّة فى اللّون إن نعتت، ... والقدّ واللّين إن أتممت تشبيها
. فالهند تقتل بالنّيران أنفسها ... وعندها أنّ ذاك القتل يحييها
. قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجنى على الكفّ إن أهويت تجنيها
. ورد تشاك به الأيدى إذا قطفت، ... وما على غصنها شوك يوقّيها
. ما إن تزال تبيت اللّيل ساهرة ... وما بها غلّة فى الصّدر تطفيها
. صفر غلائلها، حمر عمائمها، ... سود ذوائبها، بيض لياليها
. تحيى الليالى نورا، وهى تقتلها. ... بئس الجزاء لعمر الله تجزيها!
قدّت على قدّ ثوب قد تبطّنها ... ولم يقدّر عليها الثوب كاسيها.
غرّاء فرعاء ما تنفكّ قالية ... تقصّ لمتّها طورا وتفليها.
شبّاء شعثاء لا تكسى غدائرها ... لون الشّبيبة إلا حين تبليها.
قناة ظلماء لا تنفك يأكلها ... سنانها طول طعن أو يشظّيها.
مفتوحة العين تفنى ليلها سهرا؛ ... نعم، وإفناؤها إيّاه يفنيها.
وربّما نال من أطرافها مرض ... لم يشف منه بغير القطع مشفيها.
وقال آخر:
بيضاء أضحكت الظلام فراعها ... فبكت وأسبلت الدّموع بوادرا.
جفّت دموع جفونها فكأنّما ... كسيت من الطّلع النّضيد ضفائرا.(1/121)
وقال أبو القاسم المطرّز من أبيات:
وللشّموع عيون كلّما نظرت ... تظلّمت من يديها أنجم الغسق.
من كلّ مرهفة الأعطاف كالغصن ال ... ميّاد لكنّه عار من الورق.
إنى لأعجب منها وهى وادعة ... تبلى، وعيشتها من ضربة العنق!
وقال آخر:
جاءت بجسم كأنّه ذهب ... تبكى وتشكى الهوى وتلتهب.
كأنها فى أكفّ حاملها ... رمح لجين سنانه ذهب.
وقال محمد بن أبى الثبات، شاعر اليتيمة:
ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرّت، وباطنها مكتسى.
لها مقلة هى روح لها، ... وتاج على الرأس كالبرنس.
إذا غازلتها الصّبا حرّكت ... لسانا من الذّهب الأملس.
وتنتج من حيث ما ألقحت ... ضياء يجلّى دجى الحندس.
فنحن من النّور فى أسعد، ... وتلك من النار فى أنحس!
وقال آخر:
ورشيقة بيضاء تطلع فى الدّجى ... صبحا وتشفى الناظرين بدائها.
شابت ذوائبها أوان شبابها، ... واسودّ مفرقها أوان فنائها.
كالعين: فى طبقاتها ودموعها ... وبياضها وسوادها وضيائها.(1/122)
وقال الصاحب بن عبّاد:
وشمعة قدّمت إلينا ... تجمع أوصاف كلّ صبّ:
صفرة لون، وذوب جسم، ... وفيض دمع، وحرّ قلب.
وقال السرىّ الرفّاء:
مفتولة مجدولة ... تحكى لنا قدّ الأسل.
كأنّها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل.
ومما ورد فى وصفها نثرا.
من رسالة لابن الأثير الجزرىّ جاء منها:
وكان بين يدىّ شمعة تعمّ مجلسى بالإيناس، وتغنى بوجودها عن كثرة الجلّاس؛ وكانت الريح تتلعّب بشعبها، وتدور على قطب لهبها؛ فطورا تقيمه فيصير أنمله، وطورا تميله فيصير سلسله؛ وتارة تجوّفه فيصير مدهنه، وتارة تجعله ذا ورقات فيمثل سوسنه؛ وآونة تنشره فيبسط منديلا، وآونة تلفّه على رأسها فيستدير إكليلا.
ومن رسالة أخرى له:
وكانت الريح تتلعّب بلهبها لدى الخادم فتشكله أشكالا، فتارة تبرزه نجما، وتارة تبرزه هلالا؛ ولربما سطع طورا كالجلّنارة فى تضاعيف أوراقها، وطورا كالأصابع فى انضمامها وافتراقها.
وقال سيف الدّين المشدّ فى الفانوس:
وكانّما الفانوس فى غسق الدّجى ... دنف براه سقمه وسهاده.
حنيت أضالعه ورقّ أديمه ... وجرت مدامعه وذاب فؤاده.(1/123)
2- ومما قيل فى السراج.
من رسالة لأبى عبد الله محمد بن أبى الخصال، جاء منها:
عذرا إليك أيّدك الله! فإنى خططت والنوم مغازل، والقرّ نازل؛ والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجّاج؛ فطورا تبرزه سنانا، وتحرّكه لسانا؛ وآونة تطويه جنّابه، وأخرى تنشره ذؤابه؛ وتارة تقيمه إبرة لهب، وتعطفه برة ذهب؛ وحينا تقوّسه حاجب فتات، ذات غمزات؛ وتسلطه على سليطه، وتديله على خليطه؛ وربما نصبته أذن جواد، ومسخته حدق جراد؛ ومشقته حروف برق، بكفّ ودق؛ ولثمت بسناه قنديله، وألقت على أعطافه منديله؛ فلا حظّ منه للعين، ولا هداية فى الطّرس ميدين.
3- رسالة القنديل والشمعدان.
من إنشاء المولى الفاضل البارع البليغ تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى، سمعتها من لفظه، وقرأتها عليه، وأجاز لى روايتها عنه. وهى الموسومة «بزهر الجنان، فى المفاخرة بين القنديل والشمعدان» .
ابتدأها بأن قال:
الحمد لله الذى أنار حالك الظّلماء، بأنوار بدر السماء؛ وحلّى جيدها، بعقود النجوم، وحرس مشيدها، بسهام الرجوم؛ وجعلها عبرة للاستبصار، ونزهة للأبصار؛ غشاؤها لا زورد مكلل بنضار، أو أقاحىّ خميلة تفتحت فيها أزرار الأزهار؛ تهدى السارى بسواريها، وتزرى بالدرر أنوار دراريها؛ كرع فى نهر مجرّتها النّسران، ورتع فى مراعى رياضها الفرقدان.(1/124)
أحمده على نعمه التى لا يقوم بشكرها لسان، ولا يؤدّى واجب حقها إنسان؛ حمدا يجلب إلى الحامد أنواع الإحسان، ويسوق إلى الشاكر ركائب الخيرات الحسان.
وأصلى وأسلم على سيدنا محمد الذى أنار الله بوجوده ظلمة الوجود، وأظهر بظهوره أفعال الركوع والسجود؛ صلّى الله وسلم عليه وعلى آله الوافين بالعهود، وعلى أصحابه أهل الإفضال والجود، صلاة وسلاما دائمين إلى اليوم الموعود! وبعد فإن فنون الاداب كثيرة الشعوب، متباينة الأسلوب؛ طالما تلاعب الأديب بفنونها بين جدّ ومجون، وكيف لا والحديث ذو شجون. وكنت بحمد الله ممن هو قادر على إبراز ملح الأدب، وعلى إظهار لطائف لغة العرب؛ فتمثّل فى خاطرى المفاخرة بين الشمعدان والقنديل، ولا بدّ من إبراز المفاخرة بينهما فى أحسن تمثيل؛ لأنهما آلتا نور، ونديما سرور؛ طالما مزّقا جلباب الدّجى بأضوائهما، وحسما مادّة الظلمة بأنوارهما؛ وطلعا فى سماء المجالس بدورا، وأخجلا نور الرياض لما أصدرا من جوهرهما نورا. سماكل واحد منهما إلى أنه الأصل، وأن بمدحه يحسن الفصل والوصل؛ وأنه الجوهرة اليتيمه، والبدرة التى ليست لها قيمه؛ سارت بمحاسنه ركائب الركبان، ونظمت فى جيد مجده قلائد العقيان.
فأحببت أن أنظمهما فى ميدان المناظرة ليبرز كل واحد منهما خصائصه الواضحه، ويظهر نقائص صاحبه الفاضحه؛ وليتسنم غارب الاستحقاق بالفضيله، ويؤكد فى تقرير فضائله الراجحة دليله؛ مع أنه لا تقبل الدّعاوى إلا بالبرهان، ولعمرى لقد قيل قدما:
من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الإمتحان.(1/125)
فأتلع الشمعدان جيده للمطاوله، وعرض سمهريّه اللجينىّ للمناضله. وقال:
استنّت الفصال حتّى القرعى
لست بنديم الملوك فى المجالس، كلّا ولا الروضة الغنّاء للمجالس! طالما أحدقت بى عساكر النظار، ووقفت فى استحسان هياكلى رؤية الأبصار؛ وحملت على الرؤوس إذا علّقت بآذانك، وجليت كجلاء المرهفات إذا اسودّ وجهك من دخانك.
فنضنض لسان القنديل نضنضة الصّلّ، وارتفع ارتفاع البازى المطلّ. وقال:
إن كان فخرك بمجالسة السلاطين، فافتخارى بمجالسة أهل الدين!، طالما طلعت فى أفق المحراب نجما ازداد علا، وازدانت الأماكن المقدّسة بشموس أنوارى حلا؛ جمع شكلى مجموع العناصر، فعلى مثلى تعقد الخناصر؛ يحسبنى الرائى جوهرة العقد الثمين، إذا رأى اصفرار لونك كصفرة الحزين؛ ولقد علوتك فى المجالس زمانا، ومن صبر على حرّ المشقة ارتفع مكانا.
فنظر إليه الشمعدان مغضبا، وهمّ بأن يكون عن جوابه منكّبا. وقال:
أين ثمنك من ثمنى، ومسكنك من مسكنى؟ صفائحى صفحات الإبريز، فلذا سموت عليك بالتّبريز؛ تنزّه العيون فى حمائلى الذهبيه، وتسر النفوس ببزوغ أنوارى الشمسيه؛ ولا يملكنى إلا من أوطنته السعادة مهادها، وقرّبت له الرياسة جيادها؛ ولقد نفعت فى الصحة والسّقم، وازدادت قيمتى إذا نقصت فى القيم؛ إن انفصمت عراك فلا تشعب، ولا تعاد إلى سبك نار فتصبّ وتقلب؛ لست من فرسان مناظرتى، ولا من قرناء مفاخرتى.
فالتفت القنديل التفات الضّرغام، وفوّق إلى قرينه سهام الملام. وقال:(1/126)
أنت عندى كثعاله، لا محاله؛ طالك العنقود، فأبرزت أنواع الحقود؛ وأين الثريّا من يد المتناول؟ أم أين السها من كف المتطاول؟ تالله إنك فى صرفك بصفرك مغلوط! لقد خصصت بالعلوّ وخصصت بالهبوط. ترى باطنى من ظاهرى مشرقا، وتخالنى لخزائن الأنوار مطلقا؛ فحديث سيادتى مسلسل، وتاج فضائلى بجواهر العلوّ مكلّل.
فلحظه الشّمعدان بطرف طرفه، وأرسل فى ميدان المناظرة عنان طرفه. وقال:
إنّ افتخارك بالعلوّ غير مفيد، ومزية اختصاصك به ليس له أبّهة مزيد؛ طالما علا القتام وانحطت الفرسان، ومكث الجمر وسما الدّخان؛ ولقد صيّرتك كنظر المشنوق حاله، وكضوء السّها ذباله؛ وأنت الخليق بما قيل:
وقلب بلا لبّ، وأذن بلا سمع
وسلاسلك تشعر بعقلك، وعتوك ينبئ عن غلوّ إسقاط كمثلك؛ عادلت التبر كفّة بكفّه، ووزنته إذ كان فيه خفه؛ فأصخ لمفاخرى الجليله، واستمع مناقبى الجميله. أطارد جيوش الظّلماء برمحى، وأمزق أثوب الديجور بصبحى؛ جمع عاملى بين طلع النخل.
وحلاوة النحل؛ يتلو سورة النور لسانى، ويقوى فى مصادمة عساكر الليل البهيم جنانى؛ أسامر المليك خلوه، ويستجلى من محاسنى أحسن جلوه.
ولله درّ القائل:
انظر إلى شمعدان شكله عجب ... كروضة روّضت أزهارها السّحب.
يطارد الليل رمح فيه من ورق ... سنانه لهب من دونه الذّهب.
فمثل هذه المناقب تتلى، ومثل هذه المحاسن تظهر وتجلى.(1/127)
فأضرم نار تبيينه، فى أحشاء قرينه. فعندها قال القنديل:
لقد أطلت الأفتخار بمحاسن غيرك، لّما وقفت فى المناظرة ركائب سيرك؛ فاشكر اليد البيضاء من شمعك، واحرص على معرفة قيمتك ووضعك؛ وأما افتخارك بتلاوة سورة النور، فأنا أحق بها منك إذ محلى الجوامع، والفرقان فارق بينى وبينك مع أنه ليس بيننا جامع؛ ففضيلتى فيه بيّنه، وآية نورى فى سورة النور مبيّنه؛ فاقطع موادّ اللجاجة، واقرأ الآية المشتملة على الزجاجة؛ يظهر لك من هو الأعلى، ومن بالافتخار الأولى؛ تخالنى درّة علّقت فى الهواء، أو كوكبا من بعض كواكب الجوزاء.
ولله درّ القائل:
قنديلنا فاق بأنواره ... نور رياض لم تزل مزهره.
ذبالة فيه إذا أوقدت ... حكت بحسن الوضع نيلوفره.
لا يحمل الأقذاء خاطرى، ولا يغتمّ مشاهدى وناظرى؛ فأنا خلاصة السبك، والتبر الذى لا يفتقر إلى الحكّ؛ اشتقاق اسمك من النحوس، ومن جرمك تقام هياكل الفلوس؛ لقد عرّضت نفسك للمنيه، وانعكست عليك موادّ الأمنيه؛ مع أن الحق أوضح من لبّة الصباح، وأسطع من ضوء المصباح؛ والآن غضصت بريقك، وخفيت لوامع بروقك؛ فهذه الشهباء والحلبه، وهذه ميادين المناضلة رحبه.
فحار الشمعدان فى الجواب، وجعل ما أبداه أوّلا فصل الخطاب فقال القنديل:
لا بدّ من الإقرار بأن قدحى المعلّى، وأنى عليك بالتقديم الأولى؛ وأن مقامى العالى، ونورى المتوالى.(1/128)
فقال الشمعدان:
لا منازعة فيما جاء به الكتاب من تفضيلك، وكونك الكوكب الدّرّىّ الذى قصر عن بلوغك باع مثيلك.
فجنح الشمعدان للسلّم، وترفع عن استيطان مواطن الإثم؛ وشرع يبدى شعائر الخضوع، وينشر أعلام الأوبة عما قال والرجوع؛ وقال:
لولا حميّة النفوس، ما تجمّلت بمفاخرنا صفحات الطروس؛ ولولا القال والقيل، ما ضمّنا معرض التمثيل؛ ولكن أين صفاؤك من كدرى، وأين نظرك من نظرى؛ خصك الله بنوره، وذكرك فى فرقانه وزبوره.
فعندها تهلك أسارير القنديل، وتبسم فرحا بالتعظيم والتبجيل. وقال:
حيث رجعنا إلى شرع الإنصاف، وإظهار محاسن الأوصاف؛ ففضلك لا يبارى، ووصفك لا يجارى؛ يحسبك الرائى خميلة نور تفتّحت أزهارها، وحديقة نرجس اطّردت أنهارها؛ تسرّ بك النفوس، وتدار على نضارتك الكؤوس؛ وإن اللائق بحالنا طىّ بساط المنافسه، وإخماد شرر المقابسه؛ والاستغفار فيما فرط من كلامنا، والرجوع إلى الله فى إصلاح أقوالنا وأفعالنا.
ونقول:
الأصل فيما نقلناه عدمه، فقد حفى كل واحد منا فى إبراز معايبه قلمه. ونسأل الله أن تدوم لنا نعمه، ويتعاهدنا فى المساء والصباح كرمه! بمنه وجوده وكرمه! آمين!(1/129)
القسم الثالث من الفن الأوّل فى الليالى والأيام، والشهور والأعوام، والفصول والمواسم والأعياد
وفيه أربعة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم
1- فى الليالى والأيام
روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: خلق الله الخلق فى ظلمة.
(وروى: فى عماء) ثم رش عليهم من نوره.
وهذا يدل على أن الظلمة خلقت قبل النور.
وروى أن عبد الله بن عباس (رضى الله عنهما) سئل عن الليل، أكان قبل أو النهار؟ قال: أرأيتم حيث كانت السماوات والأرض رتقا، هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل كان قبل النهار.
والذى ورد فى القرآن من ذكر الليل والنهار، والظلمات والنور بدأ الله (عز وجل) بذكر الليل قبل النهار، وبالظلمات قبل النور.
ويروى أن الله (عز وجل) لما خلق السماء والأرض، وقع ظل السماء على الأرض فأظلمت، فجعل الشمس ضياء والقمر نورا.(1/130)
ثم خلق الزمان وقسمه قسمين: ليلا، ونهارا. فجعل حصة الليل للقمر، وحصة النهار للشمس. فكانا يتعاقبان بالطلوع فيهما، فلم يكن بين الليل والنهار فرق فى الإضاءة.
فلما أراد الله عز وجل خلق النوع الإنسانىّ- وعلم أنه لا غنى له عن حركته للمعاش نهارا وسكونه للراحة ليلا- أمر جبريل فأمرّ جناحه على القمر فمحا نوره. فالسواد الذى يرى فى القمر هو أثر المحو، وصار الليل مظلما، والنهار مبصرا.
وروى أيضا أن الله (عز وجل) خلق حجابا من ظلمة مما يلى المشرق، ووكّل به ملكا يقال له سراهيل. فإذا انقضت مدّة النهار، قبض الملك قبضة من تلك الظلمة واستقبل بها المغرب، فلا تزال الظلمة تخرج من خلل أصابعه وهو يراعى الشفق.
فإذا غاب الشفق، بسط كفه فطبق الدّنيا ظلمة. فإذا انقضت مدّة الليل، قبض كفه على الظلمة، إصبعا بعد إصبع إلى أن يذهب الظلام، حتّى تنتقل الشمس من الشرق إلى الغرب. وذلك من أشراط الساعة. والله أعلم!
2- ذكر ما قيل فى الليل وأقسامه
الليل طبيعىّ، وشرعىّ.
أما الطبيعىّ، فهو من حين غروب الشمس واستتارها إلى طلوعها وظهورها.
وأمّا الشرعىّ، فهو من حين غروبها إلى طلوع الفجر الثانى، وهو المراد بقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) .
والليل ينقسم إلى اثنتى عشرة ساعة، لها أسماء وضعتها العرب، وهى:(1/131)
الشاهد، ثم الغسق، ثم العتمة، ثم الفحمة، ثم الموهن، ثم القطع، ثم الجوشن ثم العبكة [1] ، ثم التّباشير، ثم الفجر الأوّل، ثم الفجر الثانى، ثم المعترض.
هذا ما ذكره ابن النحاس فى وصف صناعة الكتاب.
وحكى الثعالبىّ فى فقه اللغة- عن حمزة الأصفهانىّ، قال: وعليه عهدته- أسماء غير هذه، وهى:
الجهمة، والشّفق، والغسق، والعتمة، والسّدفة، والزّلّة [2] ، والزّلفة، والبهرة، والسّحر، والفجر، والصّبح، والصّباح.
فصل
وقد عبّر بالليالى عن الأيام، كقول الله عزّ وجلّ: (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً)
؛ وقوله تعالى: (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ)
. فعبر عن الأيام بالليالى، لأن كل ليلة تتضمن يوما.
3- ذكر الليالى المشهورة
من الليالى المشهورة:
ليلة البراءة. وهى ليلة النصف من شعبان، قيل سميت بذلك لأنها براءة لمن يحييها؛ وليلة القدر. والصحيح أنها فى مفردات العشر الأخير من شهر رمضان؛ وليلة الغدير. وهى ليلة الثامن عشر من ذى الحجة؛
__________
[1] كذا بالأصل والذى فى كتب اللغة بهذا المعنى «الهتكة» فلعل ما هنا تحريف من الناسخ.
[2] لا توجد هذه الكلمة بهذا المعنى لا فى اللسان ولا فى القاموس ولا فى مستدرك شارحه. وهذا هو الذى دعا الثعالبى لجعل العهدة على حمزة الاصفهانى.(1/132)
وليلة الهرير. وهى ليلة من ليالى صفّين، قتل فيها خلق كثير من أصحاب معاوية (رضى الله عنه) ؛ وليلة الخلعاء. وهى ليلة باتها أبو الطّمحان القينىّ عند ديرانية، فأكل طفيشلها [1] بلحم الخنزير، وشرب خمرها، وزنى بها، وسرق كساءها؛ وليلة النابغة. يضرب بها المثل فى الخوف؛ وليلة المتوكل. تضرب مثلا فى موت نتج من سرور، لأنه قتل فى مجلس أنسه، على ما نذكره فى أخباره إن شاء الله تعالى.
4- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر الليل
يقال:
أطغى من الليل. أطفل من ليل على نهار. أحير من الليل. أستر من الليل. أظلم من الليل. أندى من ليلة ماطرة.
ويقال:
الليل أخفى للويل. الليل نهار الأريب. الليل طويل وأنت مقمر. الليل وأهضام الوادى. الليل أغور (لأنه لا يبصر فيه) .
ويقال:
اتخذ الليل جملا. شمّر ذيلا، وادّرع ليلا. أمر نهار قضى بليل.
__________
[1] نوع من المرق (قاموس) . وقال ابن الخشّاب فى تفسير ألفاظ الكتاب المنصورى للرازى ما نصه:
طفشيل (بهذا الضبط) طعام يتخذ من الحبوب كالباقلىّ والحمّص ونحوهما (عن تكملة المعجمات العربية لدوزى) .(1/133)
ومن أنصاف الأبيات:
الليل حبلى ليس تدرى ما تلد
ما أقصر الليل على الراقد!
ما أشبه الليلة بالبارحه!
وليل المحبّ بلا آخر
إحدى لياليك فهيسى هيسى!
فإنّك كالليل الذى هو مدركى
ومن الأبيات:
إن اللّيالى لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان.
واللّيالى كما عهدت حبالى ... مقربات يلدن كلّ عجيب.
أما ترى اللّيل والنهارا ... جارين لا يبقيان جارا؟
وقال حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تمنّيا!
وقال أبو حية النّميرىّ:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة، ... تقاضاه شىء لا يملّ التّقاضيا.
5- ذكر ما قيل فى وصف الليل وتشبيهه
قد أكثر الشعراء فى وصف الليل بالطّول والقصر. وذكروا سبب الطول الهموم وسبب القصر السرور.
ولهذا أشار بعض الشعراء فى قوله:
إنّ الليالى للأنام مناهل ... تطوى وتنشر بينها الاعمار.
فقصارهنّ مع الهموم طويلة، ... وطوالهنّ مع السرور قصار.(1/134)
وقال آخر:
إنّ التّواصل فى أيامه قصر، ... كما التهاجر فى أيّامه طول.
فليس يعرف تسهيدا ولا رمدا ... جفن برؤية من يهواه مشغول.
وقال ابن بسّام:
لا أظلم الليل ولا أدّعى ... أنّ نجوم الليل ليست تغور.
ليل كما شاءت فإن لم تزر، ... طال؛ وإن زارت، فليل قصير.
أصله من قول علىّ بن الخليل:
لا أظلم الليل ولا أدّعى ... أنّ نجوم الليل ليست تعول.
ليل كما شاءت قصير إذا ... جادت، وإن صدّت، فليل طويل.
وقال آخر:
أخو الهوى يستطيل الليل من سهر، ... والليل فى طوله جار على قدره.
ليل الهوى سنة فى الهجر مدّته؛ ... لكنّه سنة فى الوصل من قصره.
وقال الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
لا أسأل الله تغييرا لما صنعت: ... نامت وقد أسهرت عينىّ عيناها.
فالليل أطول شىء حين أفقدها ... والليل أقصر شىء حين ألقاها.
6- وأما ما وصف به من الطول
قال الخبّاز:
وليل كواكبه لا تسير ... ولا هو منها يطيق البراحا.
كيوم القيامة فى طوله ... على من يراقب فيه الصّباحا.(1/135)
وقال ابن المعتزّ:
مالى أرى الليل مسبلا شعرا ... عن غرّة الصّبح غير مفروق.
وقال بشار:
خليلىّ! ما بال الدّجى لا يزحزح، ... وما بال ضوء الصّبح لا يتوضّح؟
أضلّ النّهار المستنير طريقه؟ ... أم الدّهر ليل كلّه ليس يبرح؟
وقال الرّفاء:
ألا ربّ ليل بتّ أرعى نجومه ... فلم أغتمض فيه ولا اللّيل أغمضا.
كأنّ الثّريّا راحة تشبر الدّجى ... لتعلم طال اللّيل لى أم تعرّضا.
عجبت لليل بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا؟
وقال محمد بن عاصم:
أقول، واللّيل دجى مسبل ... والأنجم الزّهر به مثّل:
يا طول ليل ما له آخر ... منك، وصبح ماله أوّل!
وقال التنوخىّ:
وليلة كأنّها قرب أمل ... ظلامها كالدّهر ما فيه خلل.
كأنّما الإصباح فيها باطل ... أزهقه الله بحقّ، فبطل.
ساعاتها أطول من يوم النّوى ... وليلة الهجر وساعات العذل.
مؤصدة على الورى أبوابها ... كالنار لا يخرج منها من دخل.
وقال أبو محمد، عبد الله بن السيّد البطليوسىّ:
ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبّ، أوفى الجوّ روض نهار؟
كأنّ الليالى السّبع فى الأفق جمّعت ... ولا فصل فيما بينها بنهار.(1/136)
وقال الشريف البياضىّ:
أقول لصحبى والنجوم كأنّها، ... وقد ركدت فى بحر حندسها غرقى:
أرى ثوب هذا اللّيل لا يعرف البلى! ... فهل أرين للصّبح فى ذيله فتقا؟
وقال أيضا:
أقول وللدّجى عمر مديد ... وآخره يردّ إلى معاد.
وقد ضلّت كواكبه، فظلّت ... حيارى ما لها فى الأفق هادى:
لعلّ الليل مات الصّبح فيه، ... فلازم بعده لبس الحداد.
وقال آخر:
أما لظلام ليلى من صباح؟ ... أما للنّجم فيه من براح؟
كأنّ الأفق سدّ، فليس يرجى ... به نهج إلى كلّ النواحى.
كأنّ الشّمس قد مسخت نجوما ... تسير مسير روّاد طلاح.
كأنّ الصّبح مهجور طريد، ... كأنّ الليل مات صريع راح.
كأنّ بنات نعش متن حزنا، ... كأنّ النّسر مكسور الجناح.
وقال آخر:
يا ليلة طالت على عاشق، ... منتظر للصّبح ميعادا!
كادت تكون الحول فى طولها؛ ... إذا مضى أوّلها، عادا.
وقال ابن الرومىّ:
ربّ ليل كأنّه الدّهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد.
ذى نجوم كأنّهنّ نجوم الشّ ... يب ليست تزول، لكن تزيد.(1/137)
وقال أبو الأحنف:
حدّثونى عن النّهار حديثا ... أو صفوه، فقد نسيت النّهارا.
وقال بشّار:
طال هذا اللّيل بل طال السّهر! ... ولقد أعرف ليلى بالقصر.
لم يطل حتّى دهانى فى الهوى ... ناعم الأطراف فتّان النّظر.
فكأنّ الهجر شخص ماثل ... كلّما أبصره النّوم نفر.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ:
يا ليل وجد ينجد ... أما لطيفك مسرى؟
وما لدمعى طليق ... وأنجم الجوّ أسرى؟
وقد طما بحر ليل ... لم يعقب المدّ جزرا.
لا يعبر الطّرف فيه ... غير المجرّة جسرا.
وقال أبو مروان بن أبى الخصال:
وليل كأنّ الدّهر أفضى بعمره ... جميعا إليه، فانتهى فى ابتدائه.
يحدّث بعض القوم بعضا بطوله، ... ولم يمض منه غير وقت عشائه.
وقال إبراهيم ولد ابن لنكك البصرىّ، شاعر اليتيمة:
وليلة أرّقنى طولها ... فبتّها فى حيرة الذّاهل.
كأنّما اشتقّت لإفراطها ... فى طولها من أمل الجاهل.
وقال امرؤ القيس:
وليل كموج البحر مرخ سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى.
فقلت له لما تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل:(1/138)
ألا أيّها الليل الطويل، ألا انجلى ... بصبح! وما الإصباح منك بأمثل!
فيا لك من ليل كأنّ نجومه ... بأمراس كتّان إلى صمّ جندل.
وقال آخر:
أراقب فى السّماء بنات نعش؛ ... ولو أسطيع، كنت لهنّ حادى.
كأنّ اللّيل أوثق جانباه ... وأوسطه بأمراس شداد.
وقال أخرم بن حميد:
وليل طويل الجانبين قطعته ... على كمد، والدّمع تجرى سواكبه.
كواكبه حسرى عليه كأنها ... مقيّدة دون المسير كواكبه.
وقال ابن الرقاع:
وكأنّ ليلى حين تغرب شمسه ... بسواد آخر مثله موصول.
أرعى النجوم. إذا تغيب كوكب، ... أبصرت آخر كالسّراج يجول.
وقال آخر:
ما لنجوم اللّيل لا تغرب؟ ... كأنّها من خلفها تجذب!
رواكد ما غار فى غربها ... ولا بدا من شرقها كوكب.
وقال سعيد بن حميد:
يا ليل، بل يا أبد! ... أنائم عنك غد؟
يا ليل لو تلقى الّذى ... ألقى بها أو تجد،
قصّر من طولك أو ... ضعّف منك الجلد!(1/139)
وقال سيف الدّين المشدّ:
مات الصّباح بليل ... أحييته حين عسعس.
لو كان فى الدّهر صبح ... يعيش، كان تنفّس.
7- أما ما وصف به من القصر
فمن ذلك قول إبراهيم بن العباس:
وليلة إحدى الليالى الزّهر، ... قابلت فيها بدرها ببدرى.
لم تك غير شفق وفجر، ... حتّى تولّت وهى بكر الدّهر.
وقال الشريف الرضىّ:
يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسّحر.
وقال آخر:
يا ليلة جمعتنا بعد فرقتنا ... فبتّ من صبحها لمّا بدا، فرقا.
لما خلوت بآمالى بها، قصرت ... وكاد يسبق فيها فجرها الغسقا.
وقال آخر:
يا ربّ ليل سرور خلته قصرا ... يعارض البرق فى أفق الدّجى برقا.
قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشّفقا.
وقال القاضى السعيد بن سناء الملك:
يا ليلة الوصل، بل يا ليلة العمر! ... أحسنت، إلا إلى المشتاق، فى القصر.
يا ليت زيد بحكم الوصل فيك لنا ... ما طوّل الهجر من أيامك الأخر.(1/140)
أو ليت نجمك لم تقفل ركائبه، ... أو ليت صبحك لم يقدم من السّفر.
أو ليت لم يصف فيك الشرق من غبش، ... فذلك الصّفو عندى غاية الكدر.
أو ليت كلّا من الشرقين ما ابتسما، ... أو ليت كلّا من النّسرين لم يطر.
أو ليت كنت كما قد قال بعضهم: ... «ليل الضّرير فصبحى غير منتظر» .
أو ليت فجرك لم ينفر به رشئى، ... أو ليت شمسك ما جارت على قمرى.
أو ليت قلبى وطرفى تحت ملك يدى ... فزدت فيه سواد القلب والبصر.
أو ليت ألقى حبيبى سحر مقلته ... على العشاء فأبقاها بلا سحر.
أوليت كنت سألتيه مساعدة ... فكان يحبوك بالتكحيل والشّعر.
كأنّها حين ولّت قمت أجذبها ... فانقد فى الشّرق منها الثّوب من دبر.
لا مرحبا بصباح جاءنى بدلا ... من غرّة النّجم أو من طلعة القمر!
وقال عبد الله بن المعتز:
يا ليلة ما كان أط ... يبها سوى قصر البقاء!
أحييتها فأمتّها ... وطويتها طىّ الرداء.
حتّى رأيت الشمس تت ... لو البدر فى أفق السماء.
فكأنه وكأنّها ... قدحان من خمر وماء.
وقال المهلبى:
قد قصر الليل عند ألفتنا ... كأن حادى الصّباح صاح به.
وقال آخر:
كأنّما الليل راكب فرسا ... منهزما والصّباح فى طلبه.(1/141)
8- أما ما وصف به من الإشراق
فمن ذلك قول شاعر أندلسىّ:
ربّ ليل عمرته ... فيك خال من الفكر.
كثرت حوله الحجو ... ل وسارت به الغرر.
وقال أبو بكر الصنوبرى:
يا ليلة طلعت بأسعد طالع ... تاهت على ضوء النهار السّاطع.
بمحاسن مقرونة بمحاسن ... وبدائع موصولة ببدائع.
ضوء الشّموع وضوء وجهك مازجا ... ضوء العقار وضوء برق لامع.
فكأنّما ألقى الدّجى جلبابه ... وأراك جلباب النّهار الساطع.
9- أما ما وصف به من الظلمة
قال الله عز وجل: (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ)
. فهذه أتمّ أوصاف الظلمة.
وقال مضرّس بن ربعىّ:
وليل يقول الناس فى ظلماته: ... سواء صحيحات العيون وعورها
كأنّ لنا منه بيوتا حصينة ... مسوح [1] أعاليها وساج كسورها
وقال أبو تمام:
إليك هتكنا جنح ليل كأنّما ... قد اكتحلت منه البلاد بإثمد
__________
[1] جمع مسح بكسر فسكون وهو الكساء يتخذ من الشعر.(1/142)
وقال أبو نواس:
أبن لى: كيف صرت إلى حريمى، ... وجفن الليل مكتحل بقار
وقال العلوىّ الأصفهانىّ:
وربّ ليل باتت عساكره ... تحمل فى الجوّ سود رايات
لامعة فوقها أسنّتها ... مثل الأزاهير وسط روضات
ومن رسالة لابى عبد الله بن أبى الخصال. جاء منها:
والليل زنجىّ الأديم، تبرىّ النجوم؛ قد جلّلنا ساجه، وأغرقتنا أمواجه؛ فلا مجال للّحظ، ولا تعارف إلا باللفظ؛ ولو نظرت فيه الزرقاء لاكتحلت، ولو خضبت به الشّيبة ما نصلت.
10- ومما قيل فى تباشير الصباح
قال أبو محمد العلوىّ:
كأنّ اخضرار الجوّ صرح ممرّد ... وفيه لآل لم تشن بثقوب.
كأنّ سواد اللّيل فى ضوء صبحه ... سواد شباب فى بياض مشيب.
وقال أبو علىّ بن لؤلؤ، الكاتب:
ربّ فجر كطلعة البدر جلّى ... جنح ليل كطلعة الهجران،
زار فى حلّة النراة فولّى الل ... يل عنه فى حلّة الغربان.
وقال الخالديّان:
وكأنّما الصّبح المنير وقد بدا ... باز [1] أطار من الظّلام غرابا.
__________
[1] البازلغة فى البازى. (عن الجوهرى) ، واخترنا ذلك لأنه منقول عن كلمة فارسية هى «باز» . وتركية «طوغان» وهو نوع من الصقور وأشد الجوارح تكبرا وأضيقها خلقا. يوجد بأرض الترك ويؤخذ للصيد.(1/143)
وقال النظام البلخىّ، من شعراء الخريدة:
فلاح الصبح مبتسم الثّنايا ... وطار اللّيل مقصوص الجناح.
يطير غراب أو كار الدّياجى ... إذا ما حلّ بازىّ الصّباح.
وقال تميم بن المعزّ:
وكأنّ الصّباح فى الأفق باز ... والدّجى بين مخلبيه غراب.
وقال ابن وكيع:
غرّد الطير فنبّه من نعس. ... وأدر كأسك فالعيش خلس!
سلّ سيف الفجر من غمد الدّجى ... وتعرّى الصبح من ثوب الغلس.
وانجلى فى حلة فضّيّة ... ما بها من ظلمة اللّيل دنس.
وقال أبو مروان بن أبى الخصال:
ولمّا رأيت الغرب قد غصّ بالدّجى ... وفى الشّرق من ثوب الصّباح دلائل،
توهّمت أن الغرب بحر أخوضه ... وأن الذى يبدو من الشّرق ساحل.
وقال أسعد بن بليطة الأندلسىّ:
جرت بمسك الدّجى كافورة السّحر ... فغاب، إلا بقايا منه فى الطّرر،
صبح يفيض وجنح الليل منغمس ... فيه كما غرق الزنجىّ فى نهر.
قد حار بينهما فى برزخ قمر ... يلوح كالشّنف بين الخدّ والشّعر.
وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبىّ:
بتنا كأنّ حداد الليل شملتنا ... حتّى بدا الصبح فى ثوب سحولىّ.
كأنّ ليلتنا، والصبح يتبعها، ... زنجيّة هربت قدّام رومىّ.(1/144)
وقال أبو نواس:
فقمت والليل يجلوه الصّباح، كما ... جلا التّبسم عن غرّ الثّنيّات.
وقال عبد الله بن المعتزّ:
قد أغتدى واللّيل فى جلبابه ... كالحبشىّ فرّ من أصحابه.
والصّبح قد كشّر عن أنيابه ... كأنّما يضحك من ذهابه.
وقال السرىّ:
وشرّد الصبح عنّا الليل فاتّضحت ... سطوره البيض فى آياته السّود.
وقال أبو فراس:
مددنا علينا الليل، والليل راضع ... إلى أن تردّى رأسه بمشيب.
بحال تردّ الحاسدين بغيظهم ... وتطرف عنّا عين كلّ رقيب.
إلى أن بدا ضوء الصّباح كأنه ... مبادى نصول فى عذار خضيب.
وقال عبد الصمد بن بابك، شاعر اليتيمة:
واستهلّت لمصرع الليل ورق ... ثاكلات، حدادها التّطويق.
فتضاحكت شامتا وكأنّ الص ... بح جيب على الدّجى مشقوق.
وقال أبو بكر الصنوبرىّ:
وليلة كالرّفرف المعلم ... محفوفة الظّلماء بالأنجم.
تعلّق الفجر بأرجائها، ... تعلّق الأشقر بالادهم.
وقال السلامىّ، شاعر اليتيمة:
وقد خالط الفجر الظّلام كما التقى ... على روضة خضراء ورد وأدهم.(1/145)
وعهدى بها، والليل ساق ووصلنا ... عقار، وفوها الكأس أو كأسها الفم.
إلى أن بدرنا بالنجوم، وغربها ... يفضّ عقود الدّرّ والشّرق ينظم.
ونبّهت فتيان الصّبوح للذّة ... تلوح كدينار يغطّيه درهم.
ومن رسالة للقاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى، عفا الله عنه. جاء منها:
«فلما قضى الليل نحبه، وأرسل الصباح على دهمه شهبه؛ شمّر الليل إزاره، ووضع النجم أوزاره؛ ونزح بالطّيف طاردا، وظلّ وراء الصبح ناشدا؛ وفجر الفجر نهر النهار، واستردّ البنفسج وأهدى البهار؛ فمواكب الكواكب منهزمه، وغرّة الفجر كغرّة مولاى مبتسمه» .
ومما يدخل فى هذا الباب، ما حكى أن بعض الأعراب تزوّج بأربع نسوة، فأراد أن يختبر عقولهنّ.
فقال لإحداهنّ: إذا دنا الصبح فأيقظينى. فلما دنا الصبح، قالت له: قم، فقد دنا الصبح! فقال: وما يدريك؟ قالت: غارت صغار النجوم وبقى احسنها وأضوؤها وأكبرها، وبرد الحلىّ على جسدى، واستلذذت باستنشاق النسيم. فقال لها: إن فى ذلك دليلا.
ثم بات عند الثانية، فقال لها مثل مقالته للأولى. فلما دنا الصبح، أيقظته.
فقال لها: وما يدريك؟ قالت: ضحكت السماء من جوانبها، ولم تبق نابتة إلا فاحت روائحها، وعينى تطالبنى بإغفاءة الصباح. فقال لها: إن فى ذلك دليلا.(1/146)
ثم بات عند الثالثة، فقال لها مثل ذلك. فلما دنا الصبح، أيقظته. فقال لها:
وما يدريك؟ فقالت: لم يبق طائر إلا غرد، ولا ملبوس إلا برد، وقد صار للطّرف:
فى الليل مجال، وليس ذلك إلا من دنوّ الصباح. فقال لها: إن فى ذلك لدليلا.
ثم بات عند الرابعة، فقال لها مثل ذلك. فلما دنا الصبح، قالت له: قم، فقد دنا الصبح! فقال لها: وما يدريك؟ قالت: أبت نفسى النوم، وطلبنى فمى بالسواك واحتجت إلى الوضوء. فقال لها: أنت طالق، فإنك أقبحهنّ وصفا.
11- ذكر ما قيل فى النهار
والنهار طبيعىّ، وشرعىّ.
فالطبيعىّ زمان بين طلوع نصف قرص الشمس من المشرق، وإلى غيابه فى المغرب. والشرعىّ ما بين انفجار الفجر الثانى إلى غروب الشمس.
والفجر فجران: الفجر الكاذب، وهو بياض مستطيل؛ والفجر الصادق بياض مستطير.
وقد وضعت العرب لساعات النهار أسماء، كما وضعت لساعات الليل، وهى:
الذّرور، ثم البزوغ، ثم الضّحى، ثم الغزالة، ثم الهاجرة، ثم الزّوال، ثم الدّلوك، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم الصّبوب، ثم الحدور، ثم الغروب.
ويقال أيضا: البكور، ثم الشّروق، ثم الإشراق، ثم الرّاد، ثم الضّحى، ثم المتوع، ثم الهاجرة، ثم الأصيل، ثم العصر، ثم الطّفل، ثم العشىّ، ثم الغروب.
ذكر ذلك معا أبو جعفر النحاس.(1/147)
وحكى الثعالبىّ فى كتاب فقه اللغة- عن حمزة بن الحسن- قال: وعليه عهدتها:
الشّروق، ثم البكور، ثم الغدوة، ثم الضّحى، ثم الهاجرة، ثم الظّهيرة، ثم الرّواح، ثم العصر، ثم القصر، ثم الأصيل، ثم العشىّ، ثم الغروب.
وكانت العرب العاربة تسمّى أيام الأسبوع بأسماء غير هذه التى تتداولها الناس فى وقتنا هذا، وهى:
«أوّل» وهو الأحد «أهون» وهو الاثنان «جبار» وهو الثلاثاء «دبار» وهو الأربعاء «مؤنس» وهو الخميس «عروبة» وهو الجمعة «شيار» وهو السبت.
نظم ذلك شاعر فقال:
أؤمّل أن أعيش وأنّ يومى ... لأوّل أو لأهون أو جبار،
أو التالى دبار وإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار.
12- ذكر الأيام التى خصّت بالذكر
منها:
الأيام المعلومات. وهى عشر ذى الحجة، وفيها يوم التّروية. وهو اليوم الثامن سمى بذلك لأنهم يرتوون من الماء لما بعده، لأن منى لا ماء بها.
الأيام المعدودات. هى أيام التشريق. وعدّتها ثلاثة بعد يوم النحر. سميت بذلك لأنهم كانوا يشرّقون فيها لحوم الأضاحى فى الشمس والهواء، لئلا تفسد.
أيام العجوز. ويقال فيها الأيام الأعجاز، وهى سبعة: أوّلها السادس والعشرون من شباط من شهور الروم؛ والخامس من برمهات من شهور القبط. وهى لا تخلو من رياح وبرد. وسميت بالعجوز: لأنها فى عجز الشتاء.(1/148)
يوم عبيد، مثل لليوم المنحوس. كان عبيد بن الأبرص قد تصدّى للنعمان فى يوم بؤسه الذى لا يفلح من لقيه فيه، كما لا يخيب من لقيه فى يوم نعيمه، قال أبو تمّام:
من بعد ما ظنّ الأعاذى أنّه ... سيكون لى يوم كيوم عبيد.
يوم المطر. يضرب مثلا فى كفر النعمة. وذلك أنه حكى عن المعتمد على الله ابن عباد صاحب إشبيلية أنه خلا بزوجته الرميكية فى مجلس أنس، والزمان فيه قيظ.
فتمنّت عليه غيما ومطرا. فأمر بمجامر العنبر والعود والنّدّ، حتّى انعقد الدّخان كالضّباب، ثم أمر برشّ صحن المجلس بماء الورد من أعلاه. وحصل بينهما بعد ذلك نبوة، فقالت له: ما رأيت معك يوم سرور قطّ! فقال لها: ولا يوم المصر؟ [1] ؟
صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم فى قوله: إنّهنّ يكفرن العشير.
يوم عاشوراء. وهو اليوم العاشر من المحرّم. ورد فى فضله أحاديث كثيرة.
ويقال إن نوحا (عليه السلام) ركب السفينة فيه فصامه وأمر من معه بصومه.
وصحّ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما هاجر، رأى اليهود فى المدينة صياما فى هذا اليوم. فسألهم عنه، فقالوا: هذا اليوم الذى نجىّ الله تعالى فيه موسى وبنى إسرائيل، وأغرق فرعون وقومه. فنحن نصومه شكرا لله تعالى. فقال (عليه الصلاة والسلام) : أنا أحقّ بأخى موسى. ثم أمر مناديا فنادى: من أكل فليمسك، ومن لم يأكل فليصم! وفيه قتل الحسين بن علىّ (رضى الله عنهما) .
__________
[1] راجع رواية أوفى فى نفح الطيب.. سماه «يوم الطين» . (ص 287 ج 1 طبعة ليدن) .(1/149)
13- ذكر أيام أصحاب الملل الثلاث
يوم الجمعة، للمسلمين. وسبب اتخاذهم له أنه اليوم الذى أتمّ الله فيه خلق العالم، وأوجد فيه أبا البشر آدم (عليه السلام) وفيه قبض، وفيه يكون النفخ فى الصّور، وفيه الصّعق، وفيه الساعة التى لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها حاجة إلا قضاها له.
يوم السبت، لليهود. وحجّتهم على اتخاذهم له أن الله تعالى ابتدأ خلق العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، وأن يوم السبت يوم فراغ ودعة. ولهم فى ذلك أقوال كثيرة.
يوم الأحد، للنصارى. ذكر فى سبب اتخاذهم له أن الله (سبحانه وتعالى) ابتدأ فيه بخلق الأشياء.
14- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر النهار
يقال:
أطول من يوم الفراق. أضوأ من نهار. أنور من وضح النهار.
ويقال:
يذهب يوم الهمّ ولا يشعر به. ما يوم حليمة بسرّ. من ير يوما ير به. يوم السّرور قصير. اليوم خمر وغدا أمر. اليوم عيش وغدا خيش. اليوم فعل وغدا ثواب.
يوم لنا ويوم علينا. لكلّ قوم يوم.
ومن أنصاف الأبيات:
وهل يخفى على الناس النهار
وفى اللّيالى والأيام معتبر(1/150)
ومن الأبيات:
واله ما أمكن يوم صالح ... إنّ يوم الشّر لا كان عتيدا!
وقال آخر:
أمام! لا أدرى، وإن سألت: ... ما نسك يوم جمعة من سبت.
وقال آخر:
وأيام! الشّرور مقصّصات ... وأيّام السّرور تطير طيرا.
وقال آخر:
لا تحملنّ هموم أيّام على ... يوم، لعلّك أن تقصّر عن غده.
15- ذكر شىء مما قيل فى وصف النهار وتشبيهه
فمن ذلك قول شاعر، يصفه بالقصر:
ويوم سرور قد تكامل وصفه ... سوى قصر، لا عيب فيه سواه!
وعهدى به كالرّمح طولا، فعندما ... هززناه للهو التقى طرفاه.
وقال آخر:
بأبى من نعمت منه بيوم، ... لم يزل للسّرور فيه نموّ!
يوم لهو، قد التقى طرفاه ... فكأنّ العشىّ فيه غدوّ.
وقال آخر:
لم ينتشر فلق الإصباح من؟؟؟ صر ... فيه إلى أن طواه فيلق الغسق.
ولم يكن ما تقى جفنى أخى رمد ... كملتقى طرفيه: الصّبح والشّفق.
وما تناولت فيه الرّطل مصطبحا ... إلا أعادته منّى كفّ مغتبق.(1/151)
وقال آخر:
لله يوم مسرّة ... أضوا وأقصر من ذباله!
لما نصبنا للمنى ... فيه بأشراك حباله،
طار النّهار مروّعا ... فيه وأجفلت الغزاله!
وقال آخر:
حثّ الكؤوس! فذا يوم به قصر، ... وما به من تمام الحسن تقصير.
صحو وغيم، يروق الطّرف حسنهما: ... فالصّبحو فيروزج، والغيم بلّور.
وقال آخر:
ويوم كحلى الغانيات سلبته ... حلىّ الرّبا حتّى انثنى وهو عاطل.
سبقت إليه الشمس، والشمس غضّة ... وصبغ الدّجى من مفرق الفجر ناصل.
ومن كلام ابن برد الأصغر الأندلسىّ:
اليوم يوم بكت أمطاره، وضحكت أزهاره؛ وتقنعت شمسه، وتعطّر نسيمه؛ وعندنا بلبل هزج، وساق غنج؛ وسلافتان: سلافة إخوان، وسلافة دنان؛ قد تشاكلتا فى الطباع، وازدوجنا فى إثارة السرور. فاخرق إلينا سرادق الدّجن تجد مرأى لم يحسن إلا لك، ولا يتم إلا بك.
ومن كلامه أيضا:
لم نلتق منذ عرّينا مركب اللهو، وأخلينا ربع الأنس، وقصصنا جناح الطّرب، وعبسنا فى وجوه اللذات. فإن رأيت أن تخفّ إلى مجلس قد نسخت فيه الرياحين(1/152)
بالدواوين، والمجامر بالمحابر، والأطباق، بالأوراق، وتنازع المدام، بتنازع الكلام؛ واستماع الأوتار، باستماع الأخبار؛ وسجع البلابل، بسجع الرسائل؛ كان أشحذ لذهنك، وأرشد لرأيك.
16- ذكر شىء مما وصفت به الآلات
الموضوعة لمعرفة الأوقات قد وضع أهل هذا الفنّ لمعرفة درجات الليل وساعات النهار آلات، يستدلّون بها على معرفة ما مضى من ذلك وما بقى، ولتحرير المواقيت: كالاصطرلاب، والطّرجهارة والبنكام.
ووصف الشعراء والفضلاء ذلك بأوصاف، نذكر منها إن شاء الله تعالى ما نقف عليه.
1- فأما الاصطرلاب وما قيل فيه.
فقال أبو طالب، عبد السلام المأمونى:
وشبيه بالشّمس يسترق الأن ... وار من نور جرمها فى خفاء.
فتراه أدرى وأعلم منها، ... وهو فى الأرض، بالذى فى السّماء.
وقال أيضا:
وعالم بالغيب من غير ما ... سمع، ولا قلب، ولا ناظر! يقابل الشمس فيأتى بما
ضمّنها من خبر حاضر. ... كأنها ناجته لمّا بدا
لعينها بالفكر والخاطر. ... وألهمته علم ما يحتوى
عليه صدر الفلك الدّائر.(1/153)
وقال أبو إسحاق الصابى، وقد أهداه فى مهرجان إلى مخدومه:
أهدى إليك بنو الآمال واجتهدوا ... فى مهرجان جديد أنت تبليه.
لكنّ عبدك إبراهيم، حين رأى ... سمّو قدرك عن شىء يساميه.
لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه!
وقال أبو الصلت أميّة بن عبد العزيز:
أفضل ما استصحب النبيل فلا ... يعدل به فى المقام والسّفر،
جرم إذا ما التمست قيمته ... جلّ عن التّبر وهو من صفر.
مختصر وهو إذ تفتّشه ... عن ملح العلم غير مختصر.
ذو مقلة تستنير ما رمقت ... عن صائب اللحظ صادق النّظر.
تحمله وهو حامل فلكا ... لو لم يدر بالبنان لم يدر.
مسكنه الأرض وهو ينبئنا ... عن جلّ ما فى السماء من خبر.
أبدعه ربّ فكرة بعدت ... فى اللّطف عن أن تقاس بالفكر.
فاستوجب الشّكر والثناء به ... من كلّ ذى فطنة من البشر.
فهو لذى اللّبّ شاهد عجب ... على اختلاف العقول والفطر.
وكتب أبو الفرج الببغاء يصف اصطرلابا أهداه فقال:
آثرتك- أيدك الله- ببرهان الحكمة ونسبها، ومدار الفلسفة وقطبها؛ ومرشد الفكر ومناره، وميزان الحسن ومعياره؛ ونافى الشك ومزيله، وشاهد الأثير ودليله؛ مصوّر الحكمة وممثّلها، ومقسم البروج ومعدّلها؛ وموقف النجوم ومسيّرها، وجامع الأقاليم ومدبّرها؛ مرآة الحبك، وصورة الفلك؛ وأمين الكواكب، وحدّ المشارق والمغارب؛ مما اخترعت العقول تسطيحه، وأتقن الحسّاب تصحيحه؛ وتمارت الفطن(1/154)
فى ترتيبه، واصطلحت الحكماء على تركيبه؛ فأوضحت بالنقش تقسيمه، وأبانت بالكتابة رسومه؛ إلى أن شافهنا بالارتفاع على بعد مسافته، وحصر متفرّق الأمور فى خرقى عضادته؛ واحتوى على قطرى الشّمال والحنوب، واطلع باللطف على خفيّات الغيوب؛ الملقب بالاصطرلاب، الفاصل بين الخطإ والصواب.
وقال أبو نصر الكاتب فيه:
قطب الزمن ومداره، وميزان الفلك ومعياره؛ وأساس الحكمة وموضوعها، وتفصيل الفطنة ومجموعها؛ الناطق فى صمته، الموفى على نعته؛ مظهر السّر المكنون، المخبر بما كان وما يكون؛ ذو شكل مقمر مستدير، ولون مشمس مستنير؛ ومنطقة محيطة بأجزائه، وخطوط معدّلة على اعضائه؛ وكتابة مطبقة بتدويره، ورموز بائحة بضميره؛ متقابل الأهداف، متكامل الأوصاف؛ بحجرة مسكونه، وصفائح مصونه؛ وقدّ موموق، وباب مطروق؛ للعلم فتحه ورتاجه، وعليه طريقه ومنهاجه؛ إذا انتصب قال فحمد، وإذا اضطجع عيى فلم يفسد؛ صفرىّ الانتساب، ذهىّ الإهاب؛ يخترق الأنوار من نقابه، ويستخدم الشّمس فى حسابه؛ يجمع الشرق والغرب فى صفحته، ويستره الحامل فى راحته؛ رافعه ينظر من تحته، وأخباره تسند عن خرته.
2- ومما قيل فى طرجهارة.
قال أبو الفتح كشاجم يصفها [1] :
روح من الماء فى جسم من الصّفر ... مؤلّف بلطيف الحسّ والفكر.
__________
[1] هى من الآلات التى تعرف بها الساعات. ولهم آلات أخرى فى هذا المعنى مثل صندوق الساعات، دبّة الساعات، الرخامة، المكحلة، اللوح (أنظر مفاتيح العلوم للخوارزمى طبع ليدن ص 235) .(1/155)
له على الظّهر أجفان محجّرة ... ومقلة دمعها جار على قدر.
تنشاله حركات فى أسافله ... كأنها حركات الماء فى الشّجر.
وفى أعاليه حسّاب مفصّلة ... للناظرين بلا ذهن ولا نظر.
إذا بكى، دار فى أحشائه فلك ... خافى المسير؛ وإن، لم يبك لم يدر.
ومخرج لك بالأجزاء ألطفها ... من النهار، وقوس اللّيل فى السّحر.
مترجم عن مواقيت يخبّرنا ... عنها فيوجد فيها صادق الخبر.
تقضى به الخمس فى وقت الوجوب وإن ... غطّى على الشمس أو غطّى على القمر.
وإن سهرت لأسباب تؤرّقنى ... عرفت مقدار ما ألقى من السّهر.
محدّد كلّ ميقات، تخيّره ... ذوو التّخيّر للأسباب والسّفر.
الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الأوّل فى الشهور والأعوام
نذكر فى هذا الباب الشهور العربية، واشتقاقها، والشهور العجمية، ودخول بعضها فى بعض، والسنين القمرية، والشمسية، والنسىء ومعناه، وما يجرى هذا المجرى، مما لمحناه أثناء المطالعة بعون الله تعالى وقدرته. وإياه أسأل التوفيق بكرمه ومنته!.
1- ذكر الشهور وما قيل فيها
الشهر إما طبيعىّ، وإما اصطلاحىّ.
فالطبيعىّ هو مدّة مسير القمر من حين يفارق الشمس إلى حين يفارقها مرة أخرى.(1/156)
وقال آخرون: هو عود شكل القمر فى جهة بعينها إلى شكله الأوّل.
وأما الاصطلاحىّ، فهو مدّة قطع الشمس مقدار برج من بروج الفلك. وذلك ثلاثون يوما، وثلث عشر يوم بالتقريب. وهذا مذهب الروم، والسريان، والفرس والقبط. والله (سبحانه وتعالى) أعلم!
2- ذكر الأشهر العربية
(وما يختص بها من القول) والأشهر العربية قسمان: قسم غير مستعمل، وهو الذى وضعته العرب العاربة؛ وقسم مستعمل، وهو الذى وضعته العرب المستعربة. وكلا القسمين موضوع على الأشهر القمرية.
فأما القسم غير المستعمل، فهو أسماء كانت العرب العاربة اصطلحوا عليها، وهى:
مؤتمر، ناجر، خوّان، صوان (ويقال فيه: بصان) ، رنّى، أيّدة، الأصمّ، عادل، ناطل، واغل، ورنة، برك.
وفى هذه الأسماء خلاف عند أهل اللغة. والذى ذكرناه منها هو المشهور، ويدل عليه قول الشاعر:
بمؤتمر وناجر ابتدأنا ... وبالخوّان يتبعه البصان
ورنّى ثم أيّدة تليه ... تعود أصمّ صمّ به السّنان
وعادله وناطله جميعا ... وواغله فهم غرر حسان
وورنة بعدها برك فتمت ... شهور الحول يعقدها البنان.(1/157)
وأما القسم المستعمل، فهو هذه الأسماء المشهورة:
المحرّم، صفر، الربيعان، الجماديان، رجب، شعبان، رمضان، شوّال، ذو القعدة،.
ذو الحجّة.
قيل: وإنما وضعوا هذه الأسماء على هذه الشهور لاتفاق حالات وقعت فى كل شهر، فسمى الشهر بها عند ابتداء الوضع. فسموا المحرّم محرّما: لأنهم أغاروا فيه فلم ينجحوا، فحرّموا القتال فيه، فسمّوه محرّما. وسموا صفرا: لصفر بيوتهم فيه منهم عند خروجهم إلى الغارات. وقيل: لأنهم كانوا يغيرون على الصّفريّة، وهى بلاد.
وشهرا ربيع: لأنهم كانوا يخصبون فيهما بما أصابوا فى صفر، والربيع الخصب.
والجماديان: من جمد الماء، لأن الوقت الذى سميا فيه بهذه التسمية كان الماء جامدا فيه لبرده. ورجب: لتعظيمهم له. والترجيب التعظيم. وقيل: لأنه وسط السنة فهو مشتق من الرواجب، وهى أنامل الأصبع الوسطى. وقيل: إن العود رجب النبات فيه أى أخرجه، فسمى بذلك. وكذلك تشعّب العود فى الشهر الذى يليه، فسمى شعبان. وقيل: سمى بذلك لتشعبهم فيه للغارات. وسمى رمضان، أى شهر الحر.
مشتق من الرمضاء. وشوّال، من شالت الإبل أذنابها إذا حالت، أو من شال يشول إذا ارتفع. وذو القعدة: لقعودهم فيه عن القتال إذ هو من الأشهر الحرم. وذو الحجة، لأن الحج اتفق فيه، فسمى به.
ويقال إن أوّل من سماها بهذه الأسماء، كلاب بن مرّة.
ومن مجموع هذه الأشهر أربعة حرم، ثلاثة سرد، وهى: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ وواحد فرد، وهو رجب.(1/158)
هذا ما رواه الأصمعىّ عن العرب فى ترتيب الأشهر الحرم. واختار غيره أن الواحد الفرد هو المحرّم؛ والسرد رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، لتكون الأربعة أشهر فى سنة واحدة. وهذا مروى عن ابن عباس رضى الله عنهما.
ومنها أربعة أشهر لا تكاد العرب تنطق بها إلا مضافة، وهى: شهرا ربيع، وشهر رجب، وشهر رمضان [1] .
فهذه الشهور العربية وما قيل فيها.
3- وأما شهور اليهود
فأسماؤها:
تشرى، مرحشوان، كسلاو، طابات، شباط، آذار، نيسان، أيّار، سيوان، تموز، آب، أيلول.
4- وأما الشهور العجمية
فإنها شمسية. وهى أقسام، بحسب الأمم التى تنسب إليهم.
فمنها الشهور القبطية، وتنسب لدقلطيانوس. وكل شهر منها ثلاثون يوما.
وما فضل من عدد أيام السنة الشمسية جعلوه كبيسا فى آخر شهر منها، وهى:
توت، بابه، هاتور، كيهك، طوبه، أمشير، برمهات، برموده، بشنس، بؤونه، أبيب، مسرى.
وأوّل توت يكون النوروز. وفى أوّل يوم من كيهك تدخل الأربعينيات، وهى أربعون يوما باردة تؤذن بالشتاء. وفى الرابع من برمودة تدخل الخمسينيات، وهى أيام حارّة تؤذن بالصيف.
__________
[1] أى لا يقال: ربيع الأوّل، ربيع الثانى، رجب، رمضان. بل يضيفون الى كل منها لفظة «شهر» .(1/159)
ومنها شهور السريان والروم. وهما متفقان فى العدد والدّخول. والسريانيون ينسبون شهورهم لأغسطش [1] ، وهو قيصر. وهذه الشهور منها ما ينقص عن الثلاثين، ومنها ما يوفيها، ومنها ما يزيد عليها. وفيها يقول الكيزانىّ:
شهور الروم ألوان: ... زيادات ونقصان.
فتشرينهم الثانى، ... وأيلول ونيسان.
ثلاثون، ثلاثون، ... سواء، وحزيران.
وأشباط ثمان بع ... د عشرين له شان.
والسبعة التى تركها، كل شهر منها يزيد يوما.
ووضع لها بعض المغاربة ضابطا، وهو حروف معجمة ومهملة يجمعها فى أربع كلمات، وهى: «فاز رجل ختم بحجّ» . وجمعها آخر فى مثل ذلك فقال: «غاب عنك زيد فحجّ» . فما كان معجما فهو أحد وثلاثون يوما، وما كان مهملا فهو ثلاثون، والشهر الموافق للألف ثمانية وعشرون.
وأوّل سنة السريان تشرين الأوّل. ودخوله رابع بابه، ويوافق أكتوبر من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم تشرين الثانى، ودخوله فى الخامس من هتور، ويوافقه نومبر [2] من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما؛ ثم كانون الأوّل، ودخوله فى الخامس من كيهك، ويوافقه دچنبر [3] من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛
__________
[1] هو القيصر الرومانى المشهور، نقلا عن اللاتينية.Augustus ولكن العرب حينما عربوا الشهر المعروف باسمه اكتفوا بقولهم أغشت) August (للتمييز بين اللفظين. وأما نحن فى هذه الأيام فقد تركنا هذا الفارق ونقول فى تسمية هذا الشهر «أغسطس» أيضا.
[2]
NovemBRe
ونقول فى مصر الآن نومبر.
[3]
DeeemBRe
ونقول فى مصر الآن ديسمبر.(1/160)
ثم كانون الثانى، ودخوله فى السادس من طوبه، ويوافقه ينير [1] من شهور الروم، وهو أوّل سنتهم، وعدد أيامه أحد وثلاثون يوما؛ ثم شباط، ودخوله فى السابع من أمشير ويوافقه فبرير [2] من شهور الروم، وهو ثمانية وعشرون يوما وربع يوم؛ ثم آذار، ودخوله فى الخامس من برمهات، ويوافقه مارس من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم نيسان، ودخوله فى السادس من برمودة، ويوافقه أبريل من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما؛ ثم أيّار، ودخوله فى السادس من بشنس، ويوافقه مايه من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم حزيران، ودخوله فى السابع من بؤونة، ويوافقه يونيه من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما؛ ثم تموز، ودخوله فى السابع من أبيب، ويوافقه يوليه من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم آب، ودخوله فى الثامن من مسرى، ويوافقه أغشت [3] من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم أيلول، ودخوله فى الرابع من توت، ويوافقه ستنبر [4] من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما.
ونظم بعض الشعراء أرجوزة فى مداخلة الشهور، فقال:
وإن حفظت أشهر السّريان ... وكنت من ذاك على بيان.
ورمت منها عمل المنازل ... فإنها معلومة التداخل.
__________
[1]
JaNvieR
ونقول في مصر الآن يناير. (وقد كان عربه المرحوم رفاعه بك بقوله: «ينويه» ) غير ان هذا الاصطلاح لم يعمل به.
[2]
FevRieR
ونقول فى مصر الآن فبراير (مع الإشباع) .
[3] أنظر حاشية رقم (1) من صفحة 160
[4] نقول الآن فى مصر «سبتمبر» مجاراة للنطق الفرنسى الحديث SePtemBRe.على انهم يقولون «ست» عند ما يريدون السبعة SePt بإهمال حرف الباء، فاذا أرادوا السبعين لفظوا بالباء.(1/161)
أيلول يبدو رابعا من توت ... هذا بحكم النظر المثبوت.
وهكذا تشرين وهو الأوّل ... من بابة أربعة تكمل.
أوّل تشرين الأخير يدخل ... ومن هتور خمسة يا رجل.
أوّل كانون وأعنى الأوّلا ... وخامس من كيهك تعدّلا.
أوّل كانون الأخير سادس ... من طوبة فيها يقيس القائس.
ومن شباط أوّل يوافى ... سابع أمشير بلا خلاف.
أوّل آذار حساب صادق ... من برمهات خامسا يوافق.
برمودة سادسه وأوّل ... نيسان وفق ليس عنه معدل.
أوّل أيّار بغير لبس ... يوافق السادس من بشنس.
بؤونة وافق منه سابعه ... أوّل حزيران لما يتابعه.
أوّل تموز على الترتيب ... يدخل فى السامع من أبيب.
أوّل آب ثامن من مسرى، ... العلم بالمرء اللبيب أحرى.
وقال بعض الشعراء فى مثل ذلك:
متى تشأ معرفة التداخل ... من أوّل الشهور فى المنازل.
فعدّ من توت بلا تطويل ... أربعة فهى ابتدا أيلول.
وبابة كذاك من تشرين ... الأوّل السابق فى السّنين.
والخامس المعدود من هاتور ... أوّل تشرينهم الأخير.
أوّل كانون بغير دلسه ... إذا نقصت من كيهك خمسه.
وطوبة إن مرّ منه ستّة ... أتاك كانون الأخير بغته.(1/162)
ومن شباط أوّل يوافق ... سابع أمشير، حساب صادق.
أوّل آذار إذا جعلته ... لبرمهات خامسا وجدته.
أوّل نيسان لدى التجريد ... السادس المعدود من برمود.
ومثله أيّار مع بشنس ... واحدة مقرونة بخمس.
أما حزيران فيحسبونه ... من أوّل السابع من بؤونه.
كذلك السابع من أبيب ... أوّل تموز بلا تكذيب.
أوّل آب عند من يحصّل ... ثامن مسرى ذاك ما لا يجهل.
وأما شهور الفرس، فهى موافقة لشهور القبط فى العدد. لأن كل شهر منها ثلاثون يوما، إلا أبان ماه، وهو الشهر الثامن، فإنهم يصيفون إليه خمسة أيام لأجل النسىء، ويسمونها الاندركاه. ولكل يوم من أيام الشهر اسم خاص، يزعمون أنه اسم ملك من الملائكة موكل به. فأسماء المشهور منها: افريدون ماه (وهو رأس سنتهم) ، أرديهشت ماه، حرداد ماه، تير ماه، ترد ماه، برماه، مهر ماه، أبان ماه، ادر ماه، دى ماه، بهمن ماه، اسفندار ماه. ويعنون بقولهم «ماه» القمر.
المثل- قول بعض الشعراء:
شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سرار(1/163)
5- ذكر ما يختص بالسنة من القول
وما جاء من اختلاف الأمم فى ابتدائها وانتهائها، والفرق بين السنة والعام أما الفرق بين السنة والعام، فإنهم يقولون «سنة جدب» و «عام خصب» . قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ)
. وقال تعالى:
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) .
والصحيح أنهما اسمان موضوعان على مسمّى واحد. قال الله تعالى: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) .
والسنة طبيعية، واصطلاحية.
فالطبيعية قمرية؛ وأوّلها استهلال القمر فى غرّة المحرّم، وانسلاخها بسراره فى ذى الحجة. وهى اثنا عشر شهرا، وعدد أيامها ثلاثمائة يوم وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس يوما تقريبا؛ ويتم من هذا الخمس والسدس فى ثلاث سنين يوم، فتصير السنة فى الثالثة ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوما. ويبقى شىء يتم منه ومن خمس اليوم وسدسه المستأنف فى السنة يوم واحد إلى أن يبقى الكسر أصلا بأحد عشر يوما عند تمام ثلاثين سنة. وتسمّى تلك السنين كبائس العرب.
وأما السّنة الاصطلاحية فإنها شمسيّة، وعدد أيامها عند سائر الأمم ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوما وربع يوم. فتكون زيادتها على السنة العربية عشرة أيام ونصف يوم وربع يوم وثمن يوم وخمسا من خمس يوم.
ويقال: إنهم كانوا فى صدر الإسلام يسقطون عند رأس كل اثنتين وثلاثين سنة عربية سنة، ويسمونها الازدلاف. لأن كل ثلاث وثلاثين سنة قمرية اثنتان(1/164)
وثلاثون سنة شمسية تقريبا. وذلك لتحرزهم من الوقوع فى النسىء الذى أخبر الله عز وجل أنه زيادة فى الكفر. وهذا الازدلاف هو الذى نسميه فى عصرنا هذا بين كتاب التصرف «التحويل» . لأنا نحوّل السنة الخراجية إلى الهلالية، ولا يكون ذلك إلا بأمر السلطان.
وسنة العالم- على ما اتفق عليه المنجمون- هى من حين حلول الشمس رأس الحمل، وهو الاعتدال الربيعىّ. ومنهم من يجعل أوّلها من حين حلول الشمس رأس الميزان، وهو الاعتدال الخريفىّ.
وابتداء سنة القبط قطع الشمس اثنتى عشرة درجة من السنبلة، وابتدؤا بفعل ذلك فى زمن أغسطش، وهو قيصر الأوّل على ما ذكره أصحاب الزيجات.
وأما الفرس، فأوّل سنتهم عند حلول الشمس أوّل نقطة من الحمل [1] .
وأما السّريانيون، فأوّل سنتهم عند قطع الشمس من الميزان ستّ عشرة درجة.
6- ذكر النسىء ومذهب العرب فيه
يقال إن عمرو بن لحىّ، وهو خزاعة- ويقال اسمه عمرو بن عامر الخزاعىّ- هو أوّل من نسأ الشهور، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة، وجعل الوصيلة، والحامى. وهو أوّل من دعا الناس إلى عبادة هبل، قدم به معه من هيت.
ومعنى النسىء أنهم ينسئون المحرم إلى صفر، ورجب إلى شعبان.
__________
[1] وهذا اليوم هو عيد نيروزهم إلى الآن.(1/165)
وكان جملة ما يعتقدونه من الدّين تعظيم الأشهر الحرم الأربعة، وكانوا يتحرّجون فيها من القتال. وكانت قبائل منهم يستبيحونها فإذا قاتلوا فى شهر حرام، حرموا مكانه شهرا من أشهر الحلّ، ويقولون نسئ الشهر.
وحكى ابن إسحاق صاحب السيرة النبوية (على صاحبها أفضل الصلاة والسلام) أن أوّل من نسأ الشهور على العرب، وأحلّ منها ما أحلّ، وحرّم ما حرّم، القلمّس.
وهو حذيفة بن فقيم بن عامر بن الحرث بن مالك بن كنانة بن خزيمة.
ثم قام بعده ولده عباد، ثم قام بعد عباد ابنه قلع، ثم قام بعد قلع ابنه أمية، ثم قام بعد أمية ابنه عوف، ثم قام بعد عوف ابنه أبو ثمامة جنادة، وعليه ظهر الإسلام.
فكانت العرب إذا فرغت من حجها، اجتمعت عليه بمنى، فقام فيها على جمل، وقال بأعلى صوته: «اللهم إنى لا أخاف ولا [1] أعاف، ولا مردّ لما قضيت! اللهم إنى أحللت شهر كذا (ويذكر شهرا من الأشهر الحرم، وقع اتفاقهم على شنّ الغارات فيه) وأنسأته إلى العام القابل (أى أخرت تحريمه) وحرمت مكانه شهر كذا من الأشهر البواقى!» وكانوا يحلون ما أحلّ، ويحرّمون ما حرّم.
وفى ذلك يقول عمرو بن قيس بن جذل الطّعان، من أبيات يفتخر:
ألسنا الناسئين على معدّ ... شهور الحلّ، نجعلها حراما؟
وحكى السهيلىّ فى كتابه المترجم «بالروض الأنف» أن نسىء العرب كان على ضربين: أحدهما تأخير المحرّم إلى صفر لحاجاتهم إلى شنّ الغارات وطلب الثأر، والثانى تأخير الحج عن وقته تحرّيا منهم للسنة الشمسية. فكانوا يؤخرونه فى كل عام
__________
[1] فى اللسان: «أنا الذى لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لى قضاء» .(1/166)
أحد عشر يوما حتّى يدور الدّور فى ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته. فلما كانت السنة التاسعة من الهجرة، حج بالناس أبو بكر الصدّيق (رضى الله عنه) فوافق حجه فى ذى القعدة، ثم حج رسول الله (صلى الله عليه وسلم فى العام القابل فوافق عود الحج إلى وقته فى ذى الحجة كما وضع أوّلا. فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حجه، خطب فكان
مما قال فى خطبته (صلى الله عليه وسلم) : «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض»
. يعنى أن الحج قد عاد فى ذى الحجة.
7- ذكر السنين التى يضرب بها المثل
يضرب المثل:
بعام الجراد. كان سنة ثمان من الهجرة.
عام الحزن. وهى السنة التى مات فيها أبو طالب عم النبىّ (صلى الله عليه وسلم) وخديجة (رضى الله عنها) وهى سنة عشر من الهجرة، وكان موتها بعده بثلاثة أيام وقيل بسبعة.
عام الرّمادة. كان سنة ثمانى عشرة من الهجرة، فى خلافة عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) . أصاب الناس فيه قحطّ حتّى صارت وجوههم فى لون الرماد من الجوع. وقيل: كانت الريح تسفى ترابا كالرّماد لشدّة يبس الأرض، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى «التاريخ» .
عام الرّعاف. كان سنة أربع وعشرين من الهجرة، سمى بذلك لكثرة ما أصاب الناس فيه من الرّعاف.(1/167)
عام الجماعة. كان سنة أربعين من الهجرة. فيه سلّم الحسن بن علىّ (رضى الله عنهما) الخلافة لمعاوية، فاجتمعت الكلمة فيه.
عام الجحاف. كان سنة ثمانين من الهجرة، وقع بمكة سيل عظيم ذهب بالإبل وعليها الحمول.
عام الفقهاء. وهو سنة أربع وتسعين من الهجرة. فيها مات علىّ بن الحسين زين العابدين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق (رضى الله عنهم) وسعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، وعطاء بن يسار، وسعيد بن زيد بن ثابت.
وفيه قتل الحجاج بن يوسف الثقفىّ سعيد بن جبير.
سنيّات خالد. يضرب بها المثل فى الجدب. وهو خالد بن عبد الملك بن الحارث المعروف بأبى مطير. كان قد تولّى لهشام بن عبد الملك المدينة سبع سنين توالى القحط فيها حتّى أجلى أهل البوادى.
سنة عشر ومائة. مات فيها قرينان فى الزهد: الحسن البصرى ومحمد بن سيرين، وقرينان فى الشعر: جرير والفرزدق.
سنة ست وخمسين وثلاثمائة. مات فيها جماعة من الملوك، وهم: شمكير بن زياد صاحب طبرستان وجرجان، ومعز الدّولة بن بويه، وكافور الأخشيدىّ صاحب مصر، ويقفور ملك الروم، وأبو علىّ محمد بن إلياس صاحب كرمان، وسيف الدّولة ابن حمدان ممدوح المتنبى، والحسن بن فيرزان صاحب أذربيجان.(1/168)
الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الأوّل
1- فى الفصول وأزمنتها
وفصول السنة أربعة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. ولكل فصل منها ثلاثة بروج، وثلاثة أشهر، وسبع منازل، وموافقة من الطبائع الأربع.
1- فأما فصل الربيع، وهو عند العرب الصيف، فطبعه حارّ رطب.
ودخوله عند حلول الشمس برج الحمل، والثور، والجوزاء. وهذه البروج عندهم تدل على الحركة. وله من السن الطفوليّة والحداثة، ومن الرياح الجنوب، ومن الساعات الأولى والثانية والثالثة، ومن القوى القوّة الجاذبة، ومن الأخلاط الدّم، ومن الكواكب القمر والزّهرة، ومن المنازل بعض الفرغ المقدّم والفرغ المؤخر، والرشاء، والسّرطان، والبطين، والثّريّا، والدّبران، وبعض الهقعة. وعدد أيامه أربعة وتسعون يوما.
وحلول الشمس [1] فى الثانى عشر من آذار، ويوافقه مارس من شهور الروم، وفى السادس عشر من برمهات من شهور القبط، وفى العشرين من اسفندار ماه من شهور الفرس. وإذا حلت الشمس برج الحمل، اعتدل الليل والنهار، وصار كل واحد منهما اثنتى عشرة ساعة. ثم يأخذ النهار فى الزيادة، والليل فى النقصان.
وفى هذا الفصل تتحرّك الطبائع، وتظهر الموادّ المتولدة فى الشتاء. فيطلع النبات وتزهر الأشجار وتورق، ويهيج الحيوان للسّفاد، وتذوب الثلوج، وتنبع العيون، وتسيل الأودية.
__________
[1] أى برج الحمل الذى هو أول فصل الربيع.(1/169)
ذكر ما قيل فى وصف فصل الربيع وتشبيهه نظما ونثرا.
فمن ذلك ما قاله الصنوبرىّ:
ما الدّهر إلّا الرّبيع المستنير إذا ... جاء الرّبيع، أتاك النّور والنّور.
فالأرض ياقوتة، والجوّ لؤلؤة، ... والنّبت فيروزج، والماء بلّور.
وقال آخر:
اشرب هنيئا قد أتاك زمان ... متعطّر، متهلّل، نشوان!
فالأرض وشى، والنّسيم معنبر، ... والماء راح، والطّيور قيان.
وقال الثعالبىّ:
أظنّ الرّبيع العام قد جاء زائرا ... ففى الشّمس بزّازا، وفى الرّيح عطّارا.
وما العيش إلا أن تواجه وجهه ... وتقضى بين الوشى والمسك أوطارا.
وقال آخر:
وفصّل فصل الربيع الرياض ... عقودا ورصّع منها حليّا.
وفاخر بالأرض أفق السّماء ... فحلّى الثّرى بنجوم الثّريّا.
وقال الحسن بن وهب:
طلعت أوائل للرّبيع فبشّرت ... نور الرّياض بجدّة وشباب!
وغدا السحاب يكاد يسحب فى الثّرى ... أذيال أسحم حالك الجلباب.
فترى السّماء إذا أجدّ ربابها ... فكأنّما التحفت جناح غراب.
وترى الغصون إذا الرّياح تناوحت ... ملتفّة كتعانق الأحباب.
وقال بعض فضلاء أصفهان فى وصف فصل الربيع من رسالة ذكرها العماد الأصفهانىّ فى الخريدة:(1/170)
أما بعد. فإن الزمان جسد وفصل الربيع روحه، وسرّ حكمة إلهية وبه كشفه ووضوحه؛ وعمر مقدور وهو الشبيبة فيه، ومنهل جمّ وهو نميره وصافيه؛ ودوحة خضرة وهو ينعها وجناها، وألفاظ مجموعة وهو نتيجتها ومعناها؛ فمن لم يستهو طباعه نسيم هوائه، ولم يدرك شفاء دائه فى صفاء دوائه؛ لم يذق لطعم حياته نفعا، ولم يجد لخفض حظه من أيامه رفعا.
2- وأما فصل الصيف، فإن طبيعته الحرارة واليبس، ودخوله عند حلول الشمس برج السرطان، والأسد، والسنبلة.
وهذه البروج تدل على السكون. وله من السنّ الشباب؛ ومن الرياح الصبا؛ ومن الساعات الرابعة والخامسة والسادسة؛ ومن القوى القوّة الماسكة؛ ومن الأخلاط المرّة الصفراء؛ ومن الكواكب المرّيخ، والشمس؛ ومن المنازل بعض الهقعة، والهنعة، والذراع، والنّثرة والطّرف والجبهة (وهى أربعة عشر يوما) والخراتان وبعض الصّرفة. وتنزل الشمس فى برج السرطان فى الرابع عشر من حزيران. وعدد أيامه ثلاثة وتسعون يوما، ويوافقه ينير من شهور الروم؛ وفى العشرين من بؤونه، وإذا حلت الشمس برج السرطان، أخذ الليل فى الزيادة، والنهار فى النقصان. والله أعلم.
ذكر ما قيل فى وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا
فمن ذلك ما قاله ذو الرمّة:
وهاجرة حرّها واقد ... نصبت لحاجبها حاجبى.
تلوذ من الشمس أطلاؤها ... لياذ الغريم من الطّالب.
وتسجد للشمس حرباؤها ... كما يسجد القسّ للرّاهب.(1/171)
وقال مسكين الدّارمىّ.
وهاجرة ظلّت كأنّ ظباءها ... إذا ما اتّقتها بالقرون سجود.
تلوذ بسؤبوب من الشمس فوقها ... كما لاذ من حرّ السّنان طريد.
وقال ابن الفقيسىّ:
فى زمان يشوى الوجوه بحرّ، ... ويذيب الجسوم لو كنّ صخرا.
لا تطير النّسور فيه إذا ما ... وقفت شمسه وقارب ظهرا.
ويودّ الغصن النّضير به لو ... أنّه من لحائه يتعرّى.
وقال أيضا:
يا ليلة بتّ بها ساهدا ... من شدّة الحرّ وفرط الأوار.
كأننى فى جنحها محرم ... لو أنّ للعورة منّى استتار.
وكيف لا أحرم فى ليلة ... سماؤها بالشّهب ترمى الجمار؟
وقال آخر:
ويوم سموم خلت أنّ نسيمه ... ذوات سموم للقلوب لوادغ،
ظللت به أشكو مكابدة الهوى ... فكوزى ملآن ومائى فارغ.
وقال محمد بن أبى الثياب، شاعر اليتيمة:
وهاجرة تشوى الوجوه كأنّها ... إذا لفحت خدّىّ نار توهجّ.
وماء كلون الزيت ملح كأنّه ... بوجدى يغلى أو بهجرك يمزج.
وقال الثعالبىّ:
ربّ يوم هواؤه يتلظّى ... فيحاكى فؤاد صبّ متيّم.
قلت إذ صكّ حرّه حرّ وجهى: ... «ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم» !(1/172)
ومما وصف به من النثر قول بعضهم:
أوقدت الظّهيرة نارها، وأذكت أوارها؛ فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب؛ هاجرة كأنها من قلوب العشّاق، إذا اشتعلت بنيران الفراق؛ حرّ تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمتراكب الرمس؛ لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه سرج [1] ولا خيش؛ فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسجور.
3- وأما فصل الخريف- فإن طبعه بارد يابس؛ ودخوله عند حلول الشمس برأس الميزان والعقرب والقوس.
وهذه البروج تدل على الحركة؛ وله من السن الكهولة؛ ومن الرياح الشّمال؛ ومن الساعات السابعة والثامنة والتاسعة؛ ومن القوى القوّة الهاضمة؛ ومن الأخلاط المرّة السوداء؛ ومن الكواكب زحل؛ ومن المنازل بعض الصّرفة والعوّاء والسّماك والغفر والزّبانيان والقلب وبعض الشولة؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما؛ ويكون حلول الشمس الميزان فى الخامس عشر من أيلول، ويوافقه ستمبر من شهور الروم، وفى الثامن عشر من توت.
وفى هذا الفصل يبرد الهواء، ويتغير الزمان، وتصرم الثمار، ويغيّر وجه الأرض، ويصفرّ ورق الشجر، وتهزل البهائم، وتموت الهوامّ، وتنجحر الحشرات، وتطلب الطير المواضع الدّفئة، وتصير الدّنيا كأنها كهلة مدبرة.
ويقال: فصل الخريف ربيع النفس كما أن فصل الربيع ربيع العين.
والله أعلم.
__________
[1] هكذا بالأصل وفى صبح الأعشى ثلج.(1/173)
ذكر ما قيل فى وصف فصل الخريف وتشبيهه نظما ونثرا.
فمن ذلك ما قاله الصنوبرىّ، عفا الله عنه:
ما قضى فى الربيع حقّ المسرّا ... ت مضيع زمانه فى الخريف.
نحن منه على تلقّى شتاء ... يوجب القصف أو وداع مضيف.
فى قميص من الزمان رقيق ... ورداء من الهواء خفيف.
يرعد الماء منه خوفا إذا ما ... لمسته يد النّسيم الضّعيف.
وقال عبد الله بن المعتز:
طاب شرب الصّبوح فى أيلول! ... برد الظلّ فى الضّحى والأصيل!
وخبت جمرة الهواجر عنّا، ... واسترحنا من النهار الطّويل.
وخرجنا من السّموم إلى بر ... د نسيم، وطيب ظلّ ظليل،
وشمال تبشّر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول.
فكأنّا نزداد قربا الى الجن ... ة فى كلّ شارق وأصيل.
ووجوه البقاع تنتظر الغي ... ث انتظار المحبّ ردّ الرّسول.
تبتغى غلّة لتعمل روضا ... بكثير من الحبا أو قليل.
وقال آخر:
اشرب على طيب الزمان فقد حدا ... بالصّيف من أيلول أسرع حاد.
وأشمّنا باللّيل برد نسيمه ... فارتاحت الأرواح فى الأجساد.
وأفاك بالأنداء قدّام الحيا ... فالأرض للأمطار فى استعداد.
كم فى ضمائر تربها من روضة ... بمسيل ماء أو قرارة واد.
تبدو إذا جاد السّحاب بقطره ... فكأنما كانا على ميعاد.(1/174)
وقال آخر:
لا تصغ للّوم إنّ اللّوم تضليل ... واشرب ففى الشّرب للأحزان تحليل.
فقد مضى القيظ واجتثّت رواحله، ... وطابت الرّاح لما آل أيلول.
وليس فى الأرض نبت يشتكى رمدا ... إلا وناظره بالطّلّ مكحول.
وقال آخر يذمّه:
خذ بالتّدثّر فى الخريف فإنّه ... مستوبل، ونسيمه خطّاف.
يجرى مع الأيّام جرى نفاقها ... لصديقها «ومن الصّديق يخاف» !
ومما وصف به من النثر:
قال أبو إسحاق الصابى يصفه:
الخريف أصح فصول السنة زمانا، وأسهلها أوانا؛ وهو أحد الاعتدالين، المتوسطين بين الانقلابين، حين أبدت الأرض عن ثمرتها، وصرّحت عن زينتها؛ وأطلقت السماء حوافل أنوائها، وتأذّنت بانسكاب مائها؛ وصارت الموارد، كمتون المبارد؛ صفاء من كدرها، وتهذّبا من عكرها؛ واطّرادا مع نفحات الهواء، وحركات الريح الشّجواء؛ واكتست الماشية وبرها القشيب، والطائر ريشه العجيب.
وقال ابن شبل:
كلّ ما يظهر فى الربيع نوّاره، ففى الخريف تجتنى ثماره؛ فهو الحاجب أمامه، والمطرق قدّامه.
وقال ضياء الدّين ابن الأثير الجزرىّ عن الخريف يفتخر على فصل الربيع:
أنا الذى آتى بذهاب السّموم، وإياب الغيوم، واعتصار بنات الكروم، وتكاثر ألوان المشروب والمطعوم؛ وفىّ يترقرق صفاء الأنهار، فتشتبه القوابل بالأسحار، وأيامى(1/175)
هى الذهبيات وتلك نسبة كريمة النّجار؛ ومن ثمراتى ما لا تزال أمّهاته حوامل، وأوراقه نواضر وغيرها ذوابل، وقد شبه بالمصابيح وشبهت أغصانه بالسلاسل.
ولقد أنصف من قال:
محاسن للخريف بهنّ فخر ... على زمن الربيع، وأىّ فخر!
به صار الزّمان أمام برد ... يراقب نزحه وعقيب حرّ.
4- وأما فصل الشتاء، فإن طبعه بارد رطب، ودخوله عند حلول الشمس رأس الجدى والدّلو والحوت.
وهذه البروج تدل على السكون. وله من السنّ الشيخوخة؛ ومن الرياح الدّبور؛ ومن الساعات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة؛ ومن القوى القوّة الدّافعة؛ ومن الاخلاط البلغم؛ ومن الكواكب المشترى وعطارد؛ ومن المنازل بعض الشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وبعض الفرغ المقدّم؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما.
ويكون حلول الشمس برأس الجدى فى الثالث عشر من كانون الأوّل، ويوافقه دچنبر من شهور الروم؛ وفى السابع عشر من كيهك من شهور القبط. وإذا حلت الشمس ببرج الجدى يشتدّ البرد، ويخشن الهواء، ويتساقط ورق الشجر، وتنجحر الحيوانات، وتضعف قوى الأبدان، وتكثر الأنواء، ويظلم الجوّ، وتصير الدّنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت.
وروى عن علىّ (رضى الله عنه) أنه قال: «توقّوا البرد فى أوّله، وتلقّوه فى آخره، فإنه يفعل فى الأبدان كفعله فى الأشجار: أوّله يحرق، وآخره يورق» .(1/176)
ذكر ما قيل فى وصف فصل الشتاء وتشبيهه.
فمن ذلك ما قاله جرير شاعر الحماسة:
فى ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب فى ظلمائها الطّنبا.
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتّى يلفّ على خيشومه الذّنبا.
وقال ابن حكينا البغدادىّ:
البس إذا قدم الشّتاء برودا ... وافرش على رغم الحصير لبودا.
الرّيق فى اللهوات أصبح جامدا ... والدّمع فى الآماق صار برودا.
وإذا رميت بفضل كأسك فى الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا.
وترى على برد المياه طيورها ... تختار حرّ النّار والسّفّودا.
يا صاحب العودين لا تهملهما ... أوقد لنا عودا، وحرّك عودا!
وقال آخر:
ويومنا أرواحه قرّة ... تخمّش الأبدان من قرصها.
يوم تودّ الشمس من برده ... لو جرّت النّار إلى قرصها!
وقال عبد الله بن المعتزّ:
قد منع الماء من اللّمس ... وأمكن الجمر من المسّ.
فليس نلقى غير ذى رعدة، ... ومسلم يسجد للشّمس!
وقال آخر:
ليس عندى من آلة البرد إلّا ... حسن صبرى، ورعدتى، وقنوعى.
فكأنّى لشدّة البرد هرّ ... يرقب الشّمس فى أوان الطّلوع.(1/177)
وقال ابن سكّرة الهاشمىّ، عفا الله تعالى عنه ورحمه:
قيل: ما أعددت للبر ... د وقد جاء بشدّه؟
قلت: درّاعة برد ... تحتها جبّة رعده.
وقال أبو سعيد المخزومىّ:
إذا كنت فى بلدة نازلا ... وحلّ الشّتاء حلول المقيم،
فلا تبرزنّ إلى أن ترى ... من الصّحو يوما صحيح الأديم.
فكم زلقة فى حواشى الطريق ... تردّ الثياب بخزى عظيم!
وكم من لئيم غدا راكبا ... يحبّ البلاء لماش كريم!
وقال الصاحب بن عبّاد:
أنّى ركبت فكفّ الأرض كاتبة ... على ثيابى سطورا ليس تنكتم.
فالأرض محبرة، والحبر من لثق ... والطّرس ثوبى، ويمنى الأشهب القلم.
قال أبو علىّ كاتب بكر شاعر اليتيمة:
يا بلدة أسلمنى بردها ... وبرد من يسكنها للقلق.
لا يسلم الشّاتى بها من أذى ... من لثق، أو دمق، أو زلق.
ومما وصف به نثرا قول بعضهم:
إذا حلّت الشمس برج الجدى مدّ الشتاء رواقه، وحلّ نطاقه؛ ودبّت عقارب البرد لاسبه، ونفع مدخور الكسب كاسبه.
ومن رسالة لابن أبى الخصال، جاء منها:
الكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه؛ والتوى التواء الحباب، واستدار استدارة الغراب؛ وجلده الجليد، وضربه الضّريب وصعّد أنفاسه الصعيد؛(1/178)
فحماه مباح، ولا هرير له ولا نباح؛ والنار كالصّديق، أو كالرّحيق؛ كلاهما عنقاء مغرب، أو نجم مغرّب.
وقال بعضهم:
برد بغير الألوان، وينشّف الأبدان؛ ويجمّد الريق فى الأشداق، والدّمع فى الآماق؛ برد حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره.
وقيل لبعضهم: أىّ البرد أشدّ؟ فقال: إذا دمعت العينان، وقطر المنخران، وتلجلج اللسان، واصطكّت الأسنان.
ووصف ابن وكيع الفصول الأربعة فى أرجوزة فقال:
عندى فى وصف الفصول الأربعه ... مقالة تغنى اللّبيب مقنعه.
ذكر ما قيل فى فصل الصيف
أمّا المصيف، فاستمع ما فيه ... من فطن يفهم سامعيه.
فصل من الدّهر إذا قيل حضر، ... أذكرنا بحرّه نار سقر.
يظلّ فيه القلب مقشعرّا، ... والأرض تشكو حرّه المضرّا.
أوّله فيه ندى منغّص ... كأنه على القلوب يقنص.
يلصق منه الجلد بالثّياب ... ويعلق التّراب بالأثواب.
حتّى إذا ما طردته الشمس ... وفرحت بأن يزول النّفس.
فتّحت النّار لنا أبوابها ... وشبّ فيها مالك شهابها.
حرّ يحيل الأوجه الغرّانا ... حتّى ترى الروم به حبشانا.
يعلو به الكرب ويشتدّ القلق ... وتنضح الأبدان فيه بالعرق.(1/179)
تبصره فوق القميص قد علا ... حتّى ترى مبيضّه مصندلا.
إن كان رثّا، زاد فى تمزيقه؛ ... أو مستجدّا، جدّ جبل زيقه.
ثم يعيد الماء نارا حاميه ... يزيد فى كرب القلوب الصّاديه.
شاربه يكرع فى حميم ... كأنّه من ساكنى الجحيم.
ينسيه ما يلقى من التهابه ... أن يحمد الله على شرابه.
حتّى إذا أعيا، انقضى نهاره ... وأرخيت من ليله أستاره،
تحرّكت فى جنحه دواهى ... سارية، وأنت عنها لاهى.
من عقرب يسعى كسعى اللّصّ ... سلاحها فى إثره كالشّصّ.
وحيّة تنفث سمّا قاتلا ... تزوّد الملسوع حتفا عاجلا.
تبصر ما بجلدها من الرّقش ... كوجنة مصفرة فيها نمش.
لو نهشت بالنّاب منها الخضرا، ... لنثرت منه الحياة نثرا.
فلا تقل إن جاء يوما أهلا ... فلعنة الله عليه فصلا.
ذكر ما قيل فى فصل الخريف
حتّى إذا زال، أتى الخريف: ... فصل بكلّ سوأة معروف.
أهونه يسرع فى حلّ الجسد ... وهو كطبع الموت يبس وبرد.
يجنى على الأجسام من آفاته، ... وأرضه قرعاء من نباته.
لا يمكن النّاس اتّقاء شرّه ... ولا خلاف برده وحرّه.
تبصره مثل الصّبىّ الأرعن ... من كثرة العشّاق والتلوّن.
فأنت منه خائف على حذر ... لأنه يمزج بالصّفو الكدر.(1/180)
أحسن ما يهدى لك النّسيما ... يقلبه فى ساعة سموما.
وهو على المعدود من ذنوبه ... خير من الصّيف على عيوبه.
ذكر ما قيل فى فصل الشتاء
حتّى إذا ما أقبل الشّتاء، ... جاءتك منه غمّة عمياء.
لو أنّه روح، لكان فدما ... أو أنه شخص، لكان جهما.
يلقاك منه أسد يزير ... له وعيد وله تحذير.
تأتيك فى أيّامه رياح ... ليس على لاعنها جناح.
حراكها ليس إلى سكون ... تضرّ بالأسماع والعيون.
يحدث من أفعالها الزّكام ... هذا إذا ما فاتك الصّدام.
ثم يليها مطر مداوم ... كأنه خصم لنا ملازم.
يقطعنا بعضا عن الطريق ... وعن قضاء الحقّ للصّديق.
وربما خرّ عليك السّقف، ... فإن عفا عنك أتاك الوكف.
وإن أردت فى النّهار الشّربا ... فيه، فقد قاسيت خطبا صعبا.
واحتجت أن توقد فيه نارا ... تطير نحو الحدق الشّرارا.
يترك مبيضّ الثّياب أرقطا ... يحكى السّعيدىّ لك المنقّطا.
وبعد ذا تسدّد النقابا ... من خوفه وتغلق الأبوابا.
نعم، وترخى دونه السّتورا ... حتّى ترى صباحه ديجورا.
وإن أردت الشّرب فى الظّلام ... عاقك عن تناول المدام.
حسبك أن تندسّ فى اللّحاف ... من خشية البرد على الأطراف!
ورعده يشغل عن كلّ عمل ... ويؤثر النّوم ويستحلى الكسل.(1/181)
حتّى إذا جئت إلى الرّقاد، ... نمت على فرش من القتاد.
إنّ البراغيث عذاب مزعج ... لكلّ قلب ولجلد ينضج.
لا يستلذّ جلدك المضاجعا ... كأنما أفرشه مباضعا.
تنحّ فصلا فوق ما ذممته ... لو أنه يظهر لى، قتلته.
حتّى إذا ما هو عنّا بانا ... وزال عنّا بعضه، لا كانا!
ذكر ما قيل فى فصل الربيع
جاء إلينا زمن الرّبيع ... فجاء فصل حسن الجميع.
لبرده وحرّه مقدار ... لم يكتنف حدّهما إكثار.
عدّل فى أوزانه حتّى اعتدل ... وحمد التّفصيل منه والجمل.
نهاره فى أحسن النّهار ... فى غاية الإشراق والإسفار.
تضحك فيه الشّمس من غير عجب ... كأنّها فى الأفق جام من ذهب.
وليله مستلطف النّسيم ... مقوّم فى أحسن التّقويم.
لبدره فضل على البدور ... فى حسن إشراق وفرط نور.
كجامة البلّور فى صفائها ... أذابت الجراد فى نقابها.
كأنّها إذا دنت من بدره ... جوزاؤه قبل طلوع فجره.
روميّة حلّتها زرقاء ... فى الجيد منها درّة بيضاء.
هذا وكم تجمع من أمور ... إطراء مطربها من التّقصير.
فيه تظلّ الطّير فى ترنّم ... حاذقة باللّحن لم تعلّم.
غناؤها ذو عجمة لا يفهمه ... سامعه وهو على ذا يغرمه.
من كلّ دبسىّ له رنين ... وكلّ قمرى له حنين.(1/182)
فى قرطق أعجل أن يورّدا ... خاط له الخيّاط طوقا أسودا.
تبصره منه على الحيزوم ... كمثل عقد سبج منظوم.
هذا وفيه للرّياض منظر ... يفشى الثّرى من سرّه ما يضمر.
سرّ نبات حسنه إعلانه ... إذا سواه زانه كتمانه.
فيه ضروب لنبات [1] الغضّ ... يحكى لباس الجند يوم العرض.
من نرجس أبيض كالثّغور ... كأنّه مخانق الكافور.
وروضة تزهر من بنفسج ... كأنّها أرض من الفيروزج.
قد لبست غلالة زرقاء ... وكايدت بلونها السّماء.
يضحك منها زهر الشّقيق ... كأنّه مداهن العقيق.
مضمّنات قطعا من السّبج ... قد أشرقت من احمرار ودعج.
كأنّما المحمرّ فى المسودّ ... منه إذا لاح عيون الرّمد.
وارم بعينيك إلى البهار ... فإنّه من أحسن الأزهار.
كأنّه مداهن من عسجد ... قد سمّرت فى قضب الزّبرجد.
فانهض إلى اللهو ولا تخلّف ... فلست فى ذلك بالمعنّف.
واشرب عقارا طال فينا كونها ... يصفرّ من خوف المزاج لونها.
دونك هذى صفة الزّمان ... مشروحة فى أحسن التّبيان!
وارض بتقليدى فيما قلته ... فإنّنى أدرى بما وصفته.
__________
[1] لعله للنبات بالتعريف.(1/183)
الباب الرابع من القسم الثالث من الفن الأوّل
فى ذكر مواسم الأمم وأعيادها، وأسباب اتخاذهم لها، وما قيل فى ذلك
والذى أورده فى هذا الباب، هو مما وقفت عليه أثناء مطالعتى للكتب الموضوعة فيه، ونقلته منها لمّا تعذر علىّ من أتلقاه من فيه. وضمنته أعياد المسلمين، والفرس والنصارى، واليهود.
1- ذكر الأعياد الإسلامية
والأعياد الإسلامية التى وردت بها الشريعة اثنان: عيد الفطر، وعيد الأضحى.
والسبب فى اتخاذهما، ما
روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «أنه قدم لمدينة، ولأهلها يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ فقالوا: كنا نلعب فيهما فى الجاهلية. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إن الله (عز وجل) قد بدّلكم خيرا منهما، يوم الفطر، ويوم الأضحى» .
فأوّل ما بدئ به من العيدين عيد الفطر، وذلك فى سنة اثنتين من الهجرة. وفيها كان عيد الأضحى.
وعيد ابتدعته الشّيعة، وسموه عيد الغدير. وسبب اتخاذهم له مؤاخاة النبىّ (صلى الله عليه وسلم) علىّ بن أبى طالب (رضى الله عنه) يوم غدير خمّ. والغدير على ثلاثة أيام [1] من الجحفة بسرّة الطّريق. قالوا: وهذا الغدير تصبّ فيه عين، وحوله شجر كثير ملتفّ بعضها ببعض. وبين الغدير والعين مسجد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
واليوم الذى ابتدعوا فيه هذا العيد هو الثامن عشر من ذى الحجة، لأن المؤاخاة كانت
__________
[1] فى صبح الأعشى (ج 2 ص 407) ثلاثة أميال، وفى المعجم [بينه وبين الجحفة ميلان] .(1/184)
فيه فى سنة عشرة من الهجرة، وهى حجة الوداع. وهم يحيون ليلتها بالصلاة، ويصلون فى صبيحتها ركعتين قبل الزوال. وشعارهم فيه لبس الجديد، وعتق الرّقاب، وبرّ الأجانب، والذبائح.
وأوّل من أحدثه معز الدّولة أبو الحسن علىّ بن بويه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره فى سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة.
ولما ابتدع الشيعة هذا اتخذوه من سننهم، عمل عوامّ السّنّة يوم سرور نظير عيد الشيعة فى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. وجعلوه بعد عيد الشيعة بثمانية أيام، وقالوا: هذا يوم دخول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الغار هو وأبو بكر الصدّيق (رضى الله عنه) . وأظهروا فى هذا اليوم الزينة، ونصب القباب، وإيقاد النيران.
2- ذكر أعياد الفرس
وأعياد الفرس كثيرة جدّا. وقد صنف علىّ بن حمزة الأصفهانىّ فيها كتابا مستقلّا ذكر فيه أعيادهم، وسبب اتخاذهم لها، وسنن ملوكهم فيها. وقد رأيت أن أقتصر على المشهور منها، وهى ثلاثة أعياد: النّيروز، والمهرجان، والسّدق.
1- فأما النّيروز، فهو أعظم أعيادهم وأجلّها. يقال إن أوّل من اتخذه جمشيد أحد ملوك الفرس الأول. ويقال فيه جمشاد، ومعنى جم القمر، وشاد الشعاع والضياء؛ وسبب اتخاذهم لهذا العيد أن طهومرت لما هلك، ملك بعده جمشاد.
فسمى اليوم الذى ملك فيه نوروز، أى اليوم الجديد.
ومن الفرس من يزعم أن النّيروز اليوم الذى خلق الله (عز وجل) فيه النور، وأنه كان معظّم القدر عند جمشاد. وبعضهم يزعم أنه أوّل الزمان الذى ابتدأ فيه الفلك بالدوران.(1/185)
ومدّته عندهم ستة أيام، أوّلها اليوم الأوّل من شهر أفريدون ماه، الذى هو أوّل شهور سنتهم. ويسمون اليوم السادس النّوروز الكبير، لأن الأكاسرة كانوا يقضون فى الأيام الخمسة حوائج الناس ثم ينتقلون إلى مجالس أنسهم مع خواصّهم.
وحكى ابن المقفّع أنه كان من عادتهم فيه أن يأتى الملك من الليل رجل جميل الوجه، قد أرصد لما يفعله. فيقف على الباب حتّى يصبح. فإذا أصبح دخل على الملك من غير استئذان. فإذا رآه الملك، يقول له: من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وأين تريد؟ وما اسمك؟ ولأىّ شىء وردت؟ وما معك؟ فيقول: أنا المنصور، واسمى المبارك، ومن قبل الله أقبلت، والملك السعيد أردت، وبالهناء [1] والسلامة وردت، ومعى السنة الجديدة. ثم يجلس، ويدخل بعده رجل معه طبق من فضة، وفيه حنطة، وشعير، وجلبان، وحمّص، وسمسم، وأرز (من كل واحد سبع سنابل وتسع حبات) وقطعة سكر، ودينار ودرهم جديدان. فيضع الطبق بين يدى الملك. ثم تدخل عليه الهدايا. ويكون أوّل من يدخل عليه وزيره، ثم صاحب الخراج، ثم صاحب المعونة، ثم الناس على طبقاتهم ومراتبهم. ثم يقدّم للملك رغيف كبير مصنوع من تلك الحبوب، موضوع فى سلّة. فيأكل منه ويطعم من حضره. ثم يقول: هذا يوم جديد، من شهر جديد، من عام جديد، من زمان جديد، يحتاج أن نجدّد فيه ما أخلق من الزمان، وأحقّ الناس بالفضل والإحسان الرأس لفضله على سائر الأعضاء. ثم يخلع على وجوه دولته ويصلهم ويفرّق فيهم ما حمل إليه من الهدايا.
وكانت عادة عوامّ الفرس فيه رفع النار فى ليلته، ورشّ الماء فى صبيحته.
وفى ذلك يقول المعوج:
__________
[1] ؟؟؟؟؟(1/186)
كيف ابتهاجك بالنّيروز يا سكنى؟ ... وكلّ ما فيه يحكينى وأحكيه!
فناره كلهيب النار فى كبدى! ... وماؤه كتوالى عبرتى فيه!
وقال آخر:
نورز النّاس ونورز ... ت، ولكن بدموعى!
وذكت نارهم، والنّ ... ار ما بين ضلوعى!
2- وأما المهرجان، فوقوعه فى السادس والعشرين من تشرين الأوّل من شهور السّريان، وفى السادس عشر من مهرماه من شهور الفرس.
وهذا الأوان وسط زمان الخريف، وفيه يقول بعض الشعراء:
أحبّ المهرجان لأنّ فيه ... سرورا للملوك ذوى السّناء،
وبابا للمصير إلى أوان ... تفتّح فيه أبواب السّماء.
وهو ستة أيام. ويسمّى اليوم السادس المهرجان الأكبر. قال المسعودىّ:
وسبب تسميتهم لهذا اليوم بهذا الاسم، أنهم كانوا يسمون شهورهم بأسماء ملوكهم.
وكان لهم ملك يسمّى مهر، يسير فيهم بالعنف والعسف. فمات فى نصف الشهر الذى يسمونه مهرماه، فسمى ذلك اليوم مهرجان. وتفسيره «نفس مهر ذهبت» وهذه لغة الفرس الأوّل. وزعم آخرون أن «مهر» بالفارسية حفاظ و «جان» الروح.
وقد نظم عبيد الله بن عبد الله بن ظاهر ذلك، فقال:
إذا ما تحقّق بالمهرجا ... ن من ليس يعرف معناه، غاظا.
ومعناه أن غلب الفرس فيه ... فسمّوه للرّوح حقّا حفاظا.
ويقال إنه إنما عمل فى عهد أفريدون الملك، وأن معنى هذا الاسم «إدراك الثأر» .(1/187)
وسبب اتخاذهم له، أن بيوراسف (وهو الضحاك) ، ويقال له أزدهاق ذو الحيّتين والأفواه الثلاثة، والأعين الستة، الدّاهى الخبيث المتمرّد، لما قتل جمشاد، وملك بعده، غيّر دين المجوسية. وجاء إبليس فى صورة خادم، فقبّل منكبيه، فنبت فيهما حيتان، فكان يطعمهما أدمغة الناس. فأجحف ذلك بالرعية، فخرج رجل بأصبهان، يقال له كابى، ويقال فيه كابيان. ودعا الناس إلى قتاله، فاجتمع له خلق كثير.
فشخص الضحاك لقتاله، فهاب كثرة جمعه وفرّ منهم. فاجتمع الناس على كابى ليملكوه عليهم، فأبى ذلك وقال: ما أنا من أهل الملك، وأخرج صبيا من ولد جمشاد، يسمّى أفريدون وملّكه، فأطاعه الناس فيه وملّكوه عليهم.
وخرج أفريدون فى طلب الضحاك ليأخذ ثأر جدّه فظفر به، وجعل ذلك اليوم عيدا، وسماه المهرجان. ويقال إن المهرجان هو اليوم الذى عقد فيه التاج على رأس- أردشير بن بابك، أوّل ملوك الفرس الساسانية.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يفضل المهرجان على النيروز:
أخا الفرس إنّ الفرس تعلم إنّه ... لأطيب من نيروزها مهرجانها:
لإدبار أيّام يغمّ هواؤها ... وإقبال أيّام يسرّ زمانها.
وكان مذهب الفرس فيه أن يدّهن ملوكهم بدهن البان تبرّكا، وكذلك عوامهم، وأن يلبس القصب والوشى، ويتوّج بتاج عليه صورة الشمس وحجلتها الدّائرة عليها، ويكون أوّل من يدخل عليه الموبذان بطبق فيه أترجّة، وقطعة سكّر، ونبق، وسفر جل، وعنّاب، وتفّاح، وعنقود عنب أبيض، وسبع طاقات آس قد زمزم علمها.(1/188)
ثم يدخل الناس على طبقاتهم بمثل ذلك.
وكان أردشير، وأنو شروان يأمران بإخراج ما فى خزائنهم فى المهرجان والنيروز من أنواع الملابس والفرش، فتفرّق كلّها فى الناس على مراتبهم، ويقولان: إن الملوك تستغنى عن كسوة الصيف فى الشتاء، وعن كسوة الشتاء فى الصيف، وليس من أخلاقهم أن يخبؤوا كسوتهم فى خزائنهم ويساووا العامّة فى فعلها.
وزعم بعض أصحاب التاريخ أن النيروز عملته الفرس قبل المهرجان بألفى سنة وخمسمائة سنة.
3- وأما السّدق، فإنه يعمل فى ليلة الحادى عشر من شهر بهمن ماه.
ويسمّى هذا اليوم عندهم أبان روز، لأن لكل يوم من أيام الشهر عندهم اسما.
ويقال فى سبب اتخاذهم له: إن فراسياب لما ملك، سار إلى بلاد بابل وأكثر فيها الفساد، وخرّب العمران. فخرج عليه دق بن طهماسب، وطرده عن مملكته إلى بلاد التّرك. وكان ذلك فى يوم أبان روز. فاتخذ الفرس هذا اليوم عيدا، وجعلوه ثالثا ليوم النيروز، والمهرجان.
ويقال أيضا فى سبب اتخاذهم له: إن الأب الأوّل، وهو عندهم كيومرث، لما كمل له مائة ولد، زوج الذكور بالإناث، وصنع لهم عرسا أكثر فيه من إشعال النيران، فوافق ذلك الليلة المذكورة، واستسنه الفرس بعده.
وهم يوقدون النيران بسائر الأدهان، ويزيدون فى الولوع بها، حتّى إنهم يلقون فيها سائر الحيوانات.(1/189)
وفى ذلك يقول ابن حجاج من أبيات يمدح بها عضد الدّولة بن بويه:
مولاى يا من نداه يعدو ... ففات سبتا وليس يلحق.
ليلتنا حسنها عجيب ... بالقصف والعزف قد تحقّق.
لنارها فى السّما لسان ... عن نور ضوء الصّباح ينطق.
والجوّ [1] منها قد صار جمرا ... والنجم منها قد كاد يحرق.
ودجلة أضرمت حريقا ... بألف نار وألف زورق.
فماؤها كلّها حميم ... قد فار مما غلى [2] وبقبق.
وقال أبو القاسم المطرّز، فى سدق عمله السلطان ملك شاه، أشعل فيه الشموع والنيران فى السّميريّات بدجلة، وذلك فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة:
وكلّ نار على العشّاق مضرمة ... من نار قلبى أو من ليلة السّدق.
نار تجلّت بها الظّلماء فاشتبهت ... بسدفة الليل فيها غرّة الفلق!
وزارت الشمس فيها الليل واصطلحا ... على الكواكب بعد الغيظ والحنق.
مدّت على الأرض بسطا من جواهرها ... ما بين مجتمع وار ومفترق.
مثل المصابيح إلا أنها نزلت ... من السماء بلا رجم ولا حرق.
أعجب بنار ورضوان يسعّرها ... ومالك قائم منها على فرق!
فى مجلس ضحكت روض الجنان له ... لما جلا ثغره عن واضح يقق.
__________
[1] كذا فى الأصل ولعله «
والجو منها يصير جمرا ... والنجم منها يكاد يحرق
» ليستقيم الوزن.
[2] فى الأصول يغلى.(1/190)
3- ذكر أعياد النصارى القبط
وأعياد النصارى أربعة عشر عيدا: سبعة يسمونها كبارا، وسبعة يسمونها صغارا.
فأما الكبار:
1- فمنها عيد البشارة. ويعنون بها بشارة غبريال، وهو عندهم جبريل عليه السلام على ما يزعمون أنه بشر مريم ابنة عمران بميلاد عيسى (عليهما السلام) . وهم يعملونه فى التاسع والعشرين من برمهات من شهورهم.
2- ومنها عيد الزيتونة. وهو عيد الشّعانين، وتفسيره التسبيح. يعملونه فى سابع أحد من صومهم. وسنّتهم فيه أن يخرجوا بسعف النخل من الكنيسة. ويزعمون أنه يوم ركوب المسيح اليعفور فى القدس، وهو الحمار، ودخوله صهيون وهو راكب، والناس يسبحون بين يديه، وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
3- ومنها الفصح. وهو العيد الكبير عندهم يقولون إن المسيح قام فيه بعد الصّلبوت بثلاثة أيام.
4- ومنها خميس الأربعين. ويسميه الشاميون السّلّاق [1] . وهو الثانى والأربعون من الفطر. يزعمون أن المسيح عليه السلام تسلّق فيه من بين تلاميذه إلى السماء من بعد القيام، ووعدهم إرسال الفار قليط وهو روح القدس.
5- ومنها عيد الخميس. وهو العنصرة يعمل بعد خمسين يوما من يوم القيام يقولون إن روح القدس حلّت بالتلاميذ، وتفرّقت عليهم ألسنة الناس، فتكلموا بجميع الألسنة، وتوجه كل واحد منهم إلى بلاد لسانه الذى تكلم به يدعوهم إلى دين المسيح.
__________
[1] فى الأصل السلاقى. وفى القاموس [وكرمّان عيد للنصارى] وفى صبح الأعشى بغير ياء على الصواب.(1/191)
6- ومنها الميلاد. وهو اليوم الذى ولد فيه المسيح. يقولون إنه ولد فى يوم الاثنين فيجعلون عشية الأحد ليلة الميلاد. وهم يوقدون فيه المصابيح بالكنائس ويزينونها. ويعمل فى التاسع والعشرين من كيهك من شهورهم.
7- ومنها الغطاس. ويعمل فى الحادى عشر من طوبة من شهورهم. ويقولون إن يحيى بن زكريا، وينعتونه بالمعمدان، غسل عيسى عليه السلام فى بحيرة الأردنّ، ويزعمون أن عيسى (عليه السلام) لما خرج من الماء اتصل به روح القدس على هيئة حمامة. والنصارى يغمسون أولادهم فى الماء فيه، ووقته شديد البرد.
وأما الأعياد الصغار:
1- فمنها الختان. ويعمل فى سادس بئونة، يقولون إن المسيح ختن فى هذا اليوم، وهو الثامن من الميلاد.
2- ومنها الأربعون. وهو عند دخول الهيكل يقولون إن سمعان الكاهن دخل بعيسى (عليه السلام) مع أمّه [الهيكل] [1] وبارك عليه. ويعمل فى ثامن أمشير من شهورهم.
3- ومنها خميس العهد. ويعمل قبل الفصح بثلاثة أيام. وسنّتهم فيه أن يأخذوا إناء ويملؤوه ماء ويزمزموا عليه، ثم يغسل البطريك به أرجل سائر الناس. ويزعمون أن المسيح عيسى (عليه السلام) فعل مثل هذا بتلاميذه فى مثل هذا اليوم، يعلمهم التواضع، وأخذ عليهم العهد أن لا يتفرّقوا، وأن يتواضع بعضهم لبعض. وعوامّ النصارى يسمون هذا الخميس خميس العدس، وهم يطبخون فيه العدس المقشور
__________
[1] الزيادة من صبح الأعشى.(1/192)
على ألوان، ويسميه أهل الشام خميس الأرز. ومنها خميس البيض أيضا. ويسميه أهل الأندلس خميس أبريل، وأبريل شهر من شهور الروم.
4- ومنها سبت النّور. وهو قبل الفصح بيوم. يقولون إن النور يظهر على مقبرة المسيح فى هذا اليوم، فتشتعل منه مصابيح كنيسة القيامة التى بالقدس. وليس كذلك، بل هو من تخييلات فعلها أكابرهم ليستميلوا بها عقول أصاغرهم. وقيل إنهم يعلقون القناديل فى بيت المذبح، ويتحيلون فى إيصال النار إليها بأن يمدّوا على سائرها شريطا من حديد فى غاية الدقة، يدهنونه بدهن البلسان ودهن الزّنبق. فإذا صلّوا، وحان وقت الزوال، فتحوا المذبح، فدخل الناس إليه، وقد أشعلت فيه الشموع. ويتوصل بعض القوم إلى أن يعلق بطرف الشريط الحديد النار فتسرى عليه، فتقد القناديل واحدا بعد واحد بسبب الدّهن.
5- ومنها حدّ الحدود. وهو بعد الفصح بثمانية أيام. يعمل أوّل أحد بعد الفطر، لأن الآحاد قبله مشغولة بالصوم. وفيه يجدّدون الآلات، والأثاث، واللباس، ويأخذون فى المعاملات، والأمور الدّنيوية.
6- ومنها التجلى. يقولون: إن المسيح (عليه السلام) ، تجلّى لتلاميذه بعد أن رفع، وتمنّوا عليه أن يحضر لهم إيليا، وموسى، فأحضرهما لهم فى مصلّى بيت المقدس، ثم صعد. ويعمل فى ثالث عشر مسرى من شهورهم.
7- وعيد الصليب. وتزعم النصارى أن قسطنطين بن هيلانى انتقل عن اعتقاد اليونان إلى اعتقاد النصرانية، وبنى كنيسة قسطنطينية العظمى، وسائر كنائس الشام.(1/193)
وسبب ذلك- على ما نقله المؤرّخون- أنه كان مجاورا للبرجان، فضاق بهم ذرعا من كثرة غاراتهم على بلاده. فهمّ أن يصانعهم ويقرّر لهم عليه إتاوة فى كل عام ليكفّوا عنه. فرأى ليلة فى المنام أن ملائكة نزلت من السماء ومعها أعلام عليها صلبان، فحاربت البرجان فهزموهم. فلما أصبح، عمل أعلاما وصوّر فيها صلبانا، ثم قاتل بها البرجان فهزمهم.
وقيل إنه رأى فى المنام صلبانا من نور فى السماء، وقائلا يقول له: اعمل مثل هذا على رؤوس أعلامك وقاتل بها فنصر. فأمر أهل مملكته بالرجوع عن دينهم والدّخول فى دين النصرانية، وأن يقصوا شعورهم، ويخلقوا لحاهم. وإنما فعل ذلك بهم لأن رسل عيسى عليه السلام كانوا قد وردوا على اليونان من قبل يأمرونهم بالتعبد بدين النصرانية، فأعرضوا عنهم، ومثّلوا بهم هذه المثلة نكالا بهم. ففعلوا ذلك تأسّيا بهم.
ولما تنصر قسطنطين، خرجت أمه هيلانى إلى الشام، فبنت الكنائس، وسارت إلى بيت المقدس، فطلبت الخشبة التى صلب عليها المسيح، على ما يزعمون. وكانت مدفونة فى مزبلة. فأخرجت منها، وفيها مواضع سبعة مسامير فلما حملت إليها، غلفتها بالذهب وحملتها إلى ابنها. واتخذت يوم رؤيتها لها عيدا.
قال المسعودىّ: وذلك لأربع عشرة ليلة خلت من أيلول، ووافق ذلك سبع عشرة ليلة خلت من توت من شهور القبط. وكان من مولد عيسى إلى اليوم الذى وجدت فيه الخشبة ثلاثمائة وثمان وعشرون سنة.
وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى أخبار الروم فى فنّ التاريخ، وهو فى الجزء الثالث عشر من هذا الكتاب.(1/194)
4- ذكر أعياد اليهود
وأعياد اليهود التى نطقت بها توراتهم خمسة:
1- منها عيد رأس السنة. ويسمونه رأس هيشا، أى عيد رأس الشهر.
وهو أوّل يوم من تشرين. ينزل عندهم منزلة عيد الأضحية عندنا. ويقولون إن الله عز وجل أمر إبراهيم بذبح إسحاق ابنه عليهما السلام فيه، وفداه بذبح عظيم.
2- ومنها عيد صوماريا. ويسمّى الكبور. وهو عندهم الصوم العظيم الذى فرض عليهم، ويقتل من لم يصمه. ومدّة الصوم خمس وعشرون ساعة، يبدأ فيها قبل غروب الشمس فى اليوم التاسع من شهر تشرين، ويختم بمضىّ ساعة بعد غروبها من اليوم العاشر. ويشترطون رؤية ثلاثة كواكب عند الإفطار. وهى عندهم تمام الأربعين الثالثة التى صام فيها موسى عليه السلام. ولا يجوز أن يقع عندهم فى يوم الأحد، ولا يوم الثلاثاء، ولا فى يوم الجمعة. ويزعمون أن الله تعالى يغفر لهم فيه جميع ذنوبهم إلا الزنا بالمحصنات، وظلم الرجل أخاه، وجحد ربوبية الله تعالى.
3- ومنها عيد المظلّة. وهو ثمانية [1] أيام، أوّلها الخامس عشر من تشرين. وكلها أعياد، واليوم الأخير منها يسمّى عرابا [2] ، وتفسيره شجر الخلاف. وهو أيضا حج لهم.
وهم يجلسون فى هذه الأيام تحت ظلال سعف النخل الأخضر، وأغصان الزيتون.
والخلاف، وسائر الشجر الذى لا ينشر ورقه على الأرض. ويزعمون أن ذلك تذكار منهم لإظلال الله تعالى إياهم فى التّيه بالغمام.
__________
[1] فى صبح الأغشى [سبعة أيام] .
[2] فى صبح الأعشى [عرايا] .(1/195)
4- ومنها عيد الفطير. ويسمونه الفصح. ويكون فى الخامس عشر من نيسان. وهو سبعة أيام يأكلون فيها الفطير، وينظّفون بيوتهم فيها من خبز الخمير.
لأنها عندهم الأيام التى خلص الله تعالى فيها بنى إسرائيل من فرعون وأغرقه، فخرجوا إلى التيه، وجعلوا يأكلون اللحم، والخبز الفطير، وهم بذلك فرحون. وفى آخر هذه الأيام غرق فرعون.
5- ومنها عيد الأسابيع، وهى الأسابيع التى فرضت عليهم فيها الفرائض، وكمّل فيها الدّين. ويسمّى عيد العنصرة، وعيد الخطاب. ويكون بعد عيد الفطير بسبعة أسابيع. يقولون إنه اليوم الذى خاطب الله تعالى فيه بنى إسرائيل من طور سيناء وإن من جملة ما خوطبو به العشر كلمات، وهى وصايا تتضمن أمرا ونهيا. وهو:
من حجوجهم. وحجوجهم ثلاثة: الأسابيع، والفطير، والمظلّة. وهم يعظمونه ويأكلون فيه القطائف ويجعلونها بدلا عن المنّ الذى أنزل عليهم فى هذا اليوم، على ما يزعمون. واتخاذهم لهذا العيد فى اليوم السادس من سيوان.
6- وعيد الفوز. وهو عيد أحدثوه، ويسمونه الفوريم. وذكروا فى سبب اتخاذهم له أن بختنصر لما أجلى من كان ببيت المقدس من اليهود إلى عراق العجم، أسكنهم مدينة جىّ، وهى إحدى مدينتى أصفهان. فلما ملك أردشير بن بابك، سماه اليهود بالعبرانية أجشادوس. وكان له وزير يسمونه بلغتهم هيمون. ولليهود يومئذ حبر يسمّى بلغتهم مردوخاى. فبلغ أردشير أن له ابنة عمّ جميلة الصورة من أحسن أهل زمانها. فطلب تزويجها منه، فأجابه إلى ذلك. فتزوّجها، وحظيت عنده، وصار مردوخاى قريبا منه. فأراد هيمون الوزير إصغاره حسدا له، وعزم على إهلاك طائفة اليهود التى فى جميع مملكة أردشير. فرتب مع نوّاب الملك فى سائر الأعمال(1/196)
أن يقتل كلّ واحد منهم من يعلمه من اليهود. وعيّن لهم يوما وهو النصف من آذار.
وإنما خص هذا اليوم دون غيره، لأن اليهود يزعمون أن موسى عليه السلام ولد فيه، وتوفى فيه. وأراد بذلك المبالغة فى نكايتهم ليضاعف الحزن عليهم بهلاكهم، وبموت موسى (عليه السلام) .
فبلغ مردوخاى ذلك، فأرسل إلى ابنة عمه يعلمها بما بلغه، ويحضها على إعمال الحيلة فى خلاصهم، فأعلمت الملك بالحال، وذكرت له أن الوزير إنما حمله على ذلك الحسد، لقرب مردوخاى منه. فأمر بقتل هيمون الوزير، وأن يكتب أمان لليهود.
فاتخذوه عيدا. واليهود يصومون قبله ثلاثة أيام.
وهذا العيد عندهم عيد سرور، ولهو، وخلاعة، وهدايا يهديها بعضهم لبعض، ويصوّرون فيه من الورق صورة هيمون، ويملئون بطن الصورة نخالة ويلقونها فى النار حتّى تحترق.
7- وعيد الحنكة. وهو أيضا مما أحدثوه. وهو ثمانية أيام، أوّلها ليلة الخامس والعشرين من كسلا. وهم يوقدون فى الليلة الأولى من لياليه على كل باب من أبوابهم سراجا؛ وفى الثانية سراجين؛ ويضعف ذلك فى كل ليلة إلى ثمان ليال. فيكون فى الثامنة ثمانية سرج.
وسبب اتخاذهم لهذا العيد، أن بعض الجبابرة تغلّب على البيت المقدّس وقتل من كان فيه من بنى إسرائيل، وافتض أبكارهم. فوثب عليه أولاد كاهنهم، وكانوا ثمانية، فقتله أصغرهم. فطلب اليهود زيتا لوقود الهيكل فلم يجدوا إلا يسيرا، وزعوه على عدد ما يوقدونه من السرج على أبوابهم فى كل ليلة إلى ثمان ليال. فاتخذوا هذه الأيام عيدا وسموه الحنكة، وهو مشتق من التنظيف، لأنهم نظفوا فيها الهيكل من أقذار شيعة الجبار.(1/197)
القسم الرابع من الفن الأوّل فى الأرض، والجبال، والبحار، والجزائر، والأنهار، والعيون، والغدران
وفيه سبعة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم 1- فى مبدإ خلق الأرض
قال الله تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) .
والأرض سبع، كما أن السماوات سبع. والدّليل على ذلك قوله عز وجل:
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)
واختلف فيها هل هى سبع متطابقات بعضها فوق بعض، أو سبع متجاورات؟
فذهب قوم إلى أنّ الله تعالى خلق سبع سماوات متطابقات متعاليات، وسبع أرضين متطابقات متسافلات؛ وبين كل أرض وأرض، كما بين كل سماء وسماء، خمسمائة عام. وفسر بهذا قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)
. أى كانت سماء واحدة [1] ففتقناهما سبعا.
قيل: ولكل أرض أهل وسكّان مختلفو الصور والهيئات؛ ولكل أرض اسم خاص.
__________
[1] أى وأرضا واحدة [ولعله سقط من قلم الناسخ] .(1/198)
وذهب قوم إلى أنها سبع متجاورات متفرّقات لا متطابقات. فجعلوا الصين أرضا، وخراسان أرضا، والسند والهند أرضا، وفارس والجبال والعراق وجزيرة العرب أرضا، والجزيرة والشام وبلاد إرمينية أرضا، ومصر وإفريقيّة أرضا، وجزيرة الأندلس وما جاورها من بلاد الجلالقة والأنكبردة وسائر طوائف الروم أرضا.
ويقال: إنها كانت على ماء، والماء على صخرة، والصخرة على سنام ثور، والثور على كمكم [1] ، والكمكم على ظهر حوت، والحوت على الماء، والماء على الريح، والريح على حجاب ظلمة، والظلمة على الثرى. وإلى الثرى انقطع علم المخلوقين.
قال الله تعالى: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) .
وزعم آخرون أن تحت الأرض السابعة صخرة. وتحت الصخرة الحوت، وتحت الحوت الماء، وتحت الماء الظلمة، وتحت الظلمة الهواء، وتحت الهواء الثرى.
وقد تقدّم فى الباب الأوّل من هذا الكتاب أن الأرض مخلوقة من الزّبد.
فلا فائدة فى تكراره.
الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الأوّل
1- فى تفصيل أسماء الأرضين وصفاتها
، فى الاتساع، والاستواء، والبعد، والغلظ، والصلابة، والسهولة، والحزونة، والارتفاع، والانخفاض، وغير ذلك قال الثعالبىّ: فى كتابه المترجم «بفقه اللغة» وأسنده إلى أئمة اللغة:
__________
[1] كذا بالأصل؟(1/199)
إذا اتّسعت الأرض ولم يتخللها شجر أو خمر، فهى الفضاء والبراز والبراح؛ ثم الصّحراء والعراء؛ ثم الرّهاء والجهراء.
فإذا كانت مستوية مع الاتّساع، فهى الخبت والجدد؛ ثم الصّحصح والصّردح؛ ثم القاع والقرقر؛ ثم القرق والصّفصف.
فإذا كانت مع الاستواء والاتساع بعيدة الأكناف والأطراف، فهى السّهب والخرق؛ ثم السّبسب والسّملق والملق.
فإذا كانت مع الاتّساع والاستواء والبعد لا ماء فيها، فهى الفلاة والمهمة؛ ثم التّنوفة والفيفاء؛ ثم النّفنف والصّرماء.
فإذا كانت مع هذه الصفات لا يهتدى فيها لطريق، فهى اليهماء والغطشاء.
فإذا كانت تضلّ سالكها، فهى المضلّة والمتيهة.
فإذا لم يكن بها أعلام ولا معالم، فهى المجهل والهوجل.
فإذا لم يكن بها أثر، فهى الغفل.
فإذا كانت قفراء، فهى القىّ.
فإذا كانت تبيد سالكها، فهى البيداء. والمفازة كناية عنها.
فإذا لم يكن فيها شىء من النّبت، فهى المرت والمليع.
فإذا لم يكن فيها شىء، فهى المروراة والسّبروت والبلقع.
فإذا كانت الأرض غليظة صلبة، فهى الجبوب، ثم الجلد، ثم العزاز، ثم الصّيداء، ثم الجدجد.
فإذا كانت صلبة يابسة من غير حصى، فهى الكلد، ثم الجعجاع.(1/200)
فإذا كانت غليظة ذات حجارة ورمل، فهى البرقة والأبرق.
فإذا كانت ذات حصّى، فهى المحصاة والمحصبة.
فإذا كانت كثيرة الحصى، فهى الأمعز والمعزاء.
فإذا اشتملت عليها كلّها حجارة سود، فهى الحرّة واللّابة.
فإذا كانت ذات حجارة كأنها السكاكين، فهى الحزيز.
فإذا كانت الأرض مطمئنة، فهى الجوف والغائط؛ ثم الهجل والهضم.
فإذا كانت مرتفعة، فهى النّجد والنّشز.
فإذا جمعت الأرض الارتفاع والصّلابة والغلظ، فهى المتن والصّمد، ثم القفّ والفدفد والقردد.
فإذا كان ارتفاعها مع اتّساع، فهى اليفاع.
فإذا كان طولها فى السماء مثل البيت، وعرض ظهرها نحو عشرة أذرع، فهى التّلّ؛ وأطول وأعرض منها الرّبوة والرّابية؛ ثم الأكمة؛ ثم الزّبية، وهى التى لا يعلوها الماء.
وبها ضرب المثل فى قولهم: «بلغ السيل الزّبى» ؛ ثم النّجوة، وهى المكان الذى تظن أنه نجاؤك؛ ثم الصّمّان، وهى الأرض الغليظة دون الجبل.
فإذا ارتفعت عن موضع السيل وانحدرت عن غلظ الجبل، فهى الخيف.
فإذا كانت الأرض لينة سهلة من غير رمل، فهى الرّقاق والبرث؛ ثم الميثاء والدّمثة.
فإذا كانت طيبة التربة كريمة المنبت بعيدة عن الأحساء والنّزوز، فهى العذاة.
فإذا كانت مخيلة للنبت والخير، فهى الأريضة.
فإذا كانت ظاهرة لا شجر فيها ولا شىء يختلط بها، فهى القراح والقرواح.
فإذا كانت مهيأة للزراعة، فهى الحقل والمشارة والدّبرة.(1/201)
[فإذا لم تهيأ للزراعة، فهى بور] [1] .
فإذا لم يصبها المطر، فهى الفلّ والجرز فإذا كانت غير ممطورة وهى بين أرضين ممطورتين، فهى الخطيطة.
فإذا كانت ذات ندى ووخامة، فهى الغمقة.
فإذا كانت ذات سباخ، فهى السّبخة.
فإذا كانت ذات وباء، فهى الوبئة والوبيئة.
فإذا كانت كثيرة الشجر، فهى الشّجراء والشّجرة.
فإذا كانت ذات حيّات، فهى المحوّاة [2] .
فإذا كانت ذات سباع أو ذئاب، فهى المسبعة والمذأبة.
2- ذكر تفصيل أسماء التراب وصفاته
قال الثعالبىّ رحمه الله تعالى:
الصّعيد، تراب وجه الأرض.
والبوغاء، والدّقعاء، التراب الرّخو الرقيق الذى كأنه ذريرة.
والثّرى، التراب النّدىّ: وهو كل تراب لا يصير طينا لازبا إذا بلّ.
المور، التراب الذى تمور به الريح.
الهباء، التراب الذى تطيّره الريح فتراه على وجوه الناس وجلودهم وثيابهم [يلتزق لزوقا] [3] .
__________
[1] الزيادة من فقه الثعالبى.
[2] كذا ضبط فى فقه اللغة، وفى اللسان: (وأرض محياة ومحواة كثيرة الجيات) وهو الأولى لاطراد هذا الوزن فى مثل ذلك.
[3] الزيادة من فقه الثعالبى.(1/202)
[والهابى، الذى دقّ وارتفع] [1] .
السّافياء، التراب الذى يذهب فى الأرض مع الريح.
النّبيئة، التراب الذى يخرج من البئر عند حفرها.
الرّاهطاء والدّامّاء، التراب الذى يخرجه اليربوع من جحره ويجمعه..
الجرثومة، التراب الذى يجمعه النمل عند قريته.
العفاء، التراب الذى يعفّى الآثار. وكذلك العفو.
الرّغام، التراب المختلط بالرمل.
السّماد، التراب الذى يسمّد به النبات. فإذا كان مع السّرقين، فهو الدّمال..
3- ذكر تفصيل أسماء الغبار وأوصافه
النّقع والعكوب، الغبار الذى يثور من حوافر الخيل وأخفاف الإبل.
العجاج، الغبار الذى تثيره الريح.
الرّهج والقسطل، غبار الحرب.
الخيضعة، غبار المعركة.
العثير، غبار الأقدام.
المنين ما تقطّع منه.
4- ذكر تفصيل أسماء الطين وأوصافه
قال:
إذا كان الطين حرّا يابسا، فهو الصّلصال.
فإذا كان مطبوخا، فهو الفخّار.
__________
[1] الزيادة من فقه الثعالبى.(1/203)
فإذا كان علكا لاصقا، فهو اللّازب.
فإذا غيّره الماء وأفسده، فهو الحمأ.
(وقد نطق القرآن بهذه الأسماء الأربعة) .
فإذا كان رطبا، فهو الثّأطة والثّرمطة والطّثرة.
فإذا كان رقيقا، فهو الرّداغ.
فإذا كان ترتطم فيه الدوابّ، فهو الوحل. وأشدّ منه الرّدغة والرّزغة. وأشدّ منها الورطة تقع فيها الغنم فلا تقدر على التخلّص منها؛ ثم صارت مثلا لكل شدّة يقع فيها الإنسان.
فإذا كان حرّا طيبا علكا وفيه خضرة، فهو الغضراء.
فإذا كان مخلوطا بالتبن، فهو السّياع.
فإذا جعل بين اللّبن، فهو الملاط.
5- ذكر تفصيل أسماء الرّمال
قال:
العداب، ما استرقّ [1] من الرمل.
الحبل، ما استطال منه.
اللّبب، ما انحدر منه.
الحقف، ما اعوجّ منه.
الدّعص، ما استدار منه.
__________
[1] فى الأصل: ما اشتدّ. ولكن الذى فى لقاموس وفقه اللغة: ما استرق.(1/204)
العقدة، ما تعقّد منه.
العقنقل، ما تراكم منه.
السّقط، ما جعل يتقطّع ويتصل منه.
النّهبورة، ما أشرف منه.
التّيهور، ما اطمأنّ منه.
الشّقيقة، ما انقطع وغلظ منه.
الكثيب والنّقا، ما احدودب وانهال منه.
العاقر، ما لا ينبت شيئا منه.
الهدملة، ما كثر شجره منه.
الأوعس، ما سهل ولان منه.
الرّغام، ما لان منه. وليس هو الذى يسيل من اليد.
الهيام، ما لا يتمالك أن يمسك باليد منه للينه.
الدّكداك، ما التبد بالأرض منه.
العانك، ما تعقّد منه حتّى لا يقدر البعير على المسير فيه.
6- ذكر ترتيب كمية الرمل
قال الثعالبىّ:
الكثير يقال له العقنقل.
فإذا نقص، فهو كثيب.
فإذا نقص، فهو عوكل.(1/205)
فإذا نقص عنه، فهو سقط.
فإذا نقص عنه، فهو عداب.
فإذا نقص، فهو لبب.
وقال فى كتابه «الغريب [1] » :
إذا كانت الرملة مجتمعة، فهى العوكلة.
فإذا انبسطت وطالت، فهى الكثيب.
فإذا انتقل الكثيب من موضع إلى آخر بالرياح وبقى منه شىء رقيق، فهو اللّبب.
فإذا نقص، فهو العداب.
7- ذكر تفصيل أسماء الطرق وأوصافها
قال الثعالبىّ:
المرصاد والنّجد، الطريق الواضح؛ وكذلك الصّراط والجادّة والمنهج واللّقم والمحجّة، وسط الطريق ومعظمه.
واللّاحب، الطريق الموطّأ.
المهيع، الطريق الواسع.
الوهم، الطريق الذى يرد فيه الموارد.
الشّارع، الطريق الأعظم.
النّقب والشّعب، الطريق فى الجبل.
الخلّ، الطريق فى الرمل.
__________
[1] ليس هذا الكتاب الثعالبى؛ وانما هو كتاب «الغريب المصنف» لأبى عمرو الشيبانى؛ الموجود منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية.(1/206)
المخرف، الطريق فى الأشجار. ومنه الحديث: «عائد المريض فى مخارف الجنة» .
النّيسب، الطريق المستقيم؛ وقيل إنه الطريق المستدق الواضح، كطريق النمل والحية وحمر الوحش.
والله أعلم.
الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الأوّل
فى طول الأرض ومسافتها ذهب المتكلمون فى ذلك أن مسافة الأرض خمسمائة عام: ثلث عمران، وثلث خراب، وثلث بحار؛ وأن مقدار المعمور من الأرض مائة وعشرون سنة: تسعون منها ليأجوج ومأجوج، واثنا عشر للسودان، وثمانية للروم، وثلاثة للعرب، وسبعة لسائر الأمم.
وقيل إن الدّنيا سبعة أجزاء: ستة منها ليأجوج ومأجوج، وواخذ لسائر الناس.
وقيل إن الأرض خمسمائة عام: البحار منها ثلاثمائة، ومائة خراب، ومائة عمران.
وقيل إن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ: للسودان منها اثنا عشر ألفا، وللروم ثمانية آلاف فرسخ، ولفارس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف.
وقال وهب بن منبه: ما العمارة من الدّنيا فى الخرب إلا كفسطاط فى الصحراء.
وقال أردشير بن بابك: إن الأرض أربعة أجزاء: جزء منها للترك، وجزء للعرب، وجزء للفرس، وجزء للسّودان.(1/207)
وقيل: إن الأقاليم سبعة، والأطراف أربعة، والنواحى خمسة وأربعون، والمدائن عشرة آلاف، والرساتيق مائتا ألف وستة وخمسون ألفا.
وقال الخوارزمىّ صاحب الزيج: دور المعمور سبعة آلاف فرسخ، وهو نصف سدس الأرض، والجبال، والمفاوز، والبحار. والباقى خراب يباب لا نبات فيه ولا حيوان.
ومثّل المعمور بصورة طائر، رأسه الصين، والجناح الأيمن الهند والسند، والجناح الأيسر الخزر، وصدره مكة والعراق والشام ومصر، وذنبه الغرب.
وزعم أصحاب الهيئة أن قطر الأرض سبعة آلاف وأربعمائة وأربعة عشر ميلا، وأن دورها عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل. وذلك جميع ما أحاطت به من برّ وبحر.
وإنما علم ذلك وحرر من عبد الله المأمون، وذلك أنه لما أشكل عليه ما ذكره المتقدّمون من مقدار الأرض بعث جماعة من أهل الخبرة بالحساب والنجوم- منهم علىّ بن عيسى- إلى برّية سنجار. وتفرّقوا من هناك. فذهب بعضهم إلى جهة القطب الشمالىّ، وذهب آخرون إلى جهة القطب الجنوبىّ، وسار كل منهم فى جهته إلى أن وصل غاية ارتفاع الشمس نصف النهار، وقد زال وتغير عن الموضع الذى اجتمعوا فيه وتفرّقوا منه، مقدار درجة واحدة. وكانوا قد ذرعوا الطريق فى ذهابهم، فنصبوا السهام، ووتدوا الأوتاد، وشدّوا الحبال. ثم رجعوا وامتحنوا الذرع ثانية، فوجدوا مقدار درجة واحدة من السماء سامتت وجه بسيط الأرض ستة وخمسين ميلا وثلثى ميل. (والميل أربعة آلاف ذراع؛ والذراع ست قبضات؛ والقبضة أربع أصابع؛ والإصبع ست شعيرات، بطون بعضها إلى بعض؛ والشعيرة(1/208)
ست شعرات من شعر الخيل) . فضربت هذه الأميال فى جميع درجات الفلك، وهى ثلاثمائة وستون درجة، فخرج من الضرب عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل.
فحكم بأن ذلك دور الأرض.
وقال أبو زيد أحمد بن سهل البلخىّ: مسافة طول الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب نحو من أربعمائة مرحلة، ومسافة عرضها من حيث العمران الذى من جهة الشمال (وهو مساكن يأجوج ومأجوج) إلى حيث العمران الذى من جهة الجنوب (وهو مساكن السودان مائتان وعشرون مرحلة؛ وما بين برارى يأجوج ومأجوج والبحر المحيط فى الجنوب خراب ليس فيه عمارة.
ويقال إن مسافة ذلك خمسة آلاف فرسخ.
حكى هذه الأقوال صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» رحمه الله.
الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الأوّل
1- فى الأقاليم السبعة
ذهب أصحاب الزيجات إلى أن كل إقليم منها كأنّه بساط ممدود، طوله من المغرب إلى المشرق، وعرضه من الجنوب إلى الشمال.
1- فأما الإقليم الأوّل. فمبدؤه من مشرق أرض الصين إلى مدائن أبوابها.
وهى الأنهار التى تدخل السفن فيها من البحر إلى المدائن الجليلة، مثل خانقو وخانفور. [1]
__________
[1] كذا بالأصل والصواب، خانجو عن كتاب «تقويم البلدان» لأبى الفدا.(1/209)
وفيه جزيرة سرنديب. ومن أرض اليمن ما كان جنوبيا من صنعاء، مثل ظفار وحضرموت وعدن. وفيه من بلد النوبة دنقلة؛ ومن بلد السودان غانة. ثم ينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من خط الاستواء إلى مقدار ما يبعد عنه عشرون درجة وثلاث عشرة دقيقة.
وذهب بعض الناس إلى أن أوّل المعمور من حيث يكون العرض وخط الاستواء اثنتى عشرة درجة ونصف وربع درجة، وفيما بين هذا العرض وخط الاستواء مسكون بطوائف من السودان فى عداد الوحوش والبهائم. وعدّ فيه بطليموس من البلاد ذوات العروض ستين مدينة. وأهل هذا الإقليم سود، وهو قليل الساكن لإفراط حرّه.
2- وأما الإقليم الثانى. فيبتدئ من بلاد الصين، ويمرّ على بعض بلاد الهند الساحلية، مثل تانة [1] ، وصيمور، وسندان؛ ومن بلاد السند على المنصورة وديبل، ثم يبلغ عمان. ويكون فيه من أرض العرب: نجران، وهجر، وجنّابة [2] ، ومهرة، وسبأ، وتبالة، والطائف، وجدّة، ومكّة، والمدينة، ومملكة الحبشة، وأرض البجة، وأسوان، وقوص، والصعيد الأعلى، وجنوب بلاد المغرب حتّى ينتهى إلى البحر المحيط؛ وعرضه من غاية الإقليم الأوّل إلى سبع وعشرين درجة واثنتى عشرة دقيقة.
وزعم بطليموس أن فيه أربعمائة وخمسين مدينة. وأهله بين السمرة والسواد، وهو كثير الذهب.
__________
[1] اسم لمدينة ببلاد الهند. قال البيرونى: هى على الساحل. والنسبة اليها «تانشى» ومنها الثياب التانشية (انظر تقويم البلدان) .
[2] فى معجم ياقوت: جنابة بلدة صغيرة من سواحل فارس، وهى فى الاقليم الثالث. وفى «تقويم البلدان» (جنابة بلدة قد خرب غالبها، وهى فرضة لفارس، وضبطها ابن خلكان بفتح الجيم والمشهور الضم) .(1/210)
3- وأما الإقليم الثالث. فمبدؤه من شرق أرض الصين، وفيه مدينة مملكتها، حمدان [1] ؛ وفيه من بلاد الهند تانش والقندهار، ومن بلاد السند المولتان وقزدار [2] . ثم يمرّ ببلاد سجستان، وكرمان، وفارس، وأصبهان، والأهواز، والبصرة، والكوفة، وأرض بابل، وبلاد الجزيرة، والشام، وفلسطين، وبيت المقدس، والقلزم، والتّيه، وأرض مصر، والإسكندرية، وبلاد برقة، وإفريقيّة، وتاهرت، وبلاد طنجة، والسّوس، وينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من غاية الإقليم الثانى فى العرض إلى تمام ثلاث وثلاثين درجة وتسع وأربعين دقيقة.
وزعم بطليموس أن فيه تسعا وخمسين مدينة. وأهله سمر.
4- وأما الإقليم الرابع. فمبدؤه من أرض الصين، ويمرّ على التّبّت والحنق [3] ، ثم على جبال قشمير، ووخان [4] ، وتل حسان، وكابل، والغور، وهراة، وبلخ، وطخارستان؛ ويمتدّ إلى الرىّ، وقمّ، وهمذان، وحلوان [5] ، وبغداد، والموصل، وأذربيجان، ويمتدّ على منبج، وطرسوس، والثغور، وأنطاكية، وجزيرة قبرس، وصقلّيّة، ثم على الزّقاق إلى البحر المحيط؛ وعرضه من غاية الإقليم الثالث فى العرض إلى تتمة تسع وثلاثين درجة وعشرين دقيقة.
__________
[1] هكذا بالأصل. ولعل المراد مدينة واقعة على النهر المشهور باسم خمدان ببلاد الصين.
[2] فى الأصول: «كرورا» وليس بالسند بلد بهذا الاسم. ويترجح أن النساخين حرفوه عن «كردار» ، ويقال فيه «قصدار» (انظر معجم ياقوت) .
[3] فى ياقوت: والختن.... وبرجان، وبذخشان. وهو الصواب.
[4] لم نعثر على بلدة بهذا الاسم ولعلها محرفة عن «وخش» وهى كما فى معجم ياقوت: بلدة من نواحى بلخ. وفى «تقويم البلدان» : انها بلدة بما وراء النهر فى الاقليم الرابع.
[5] أى حلوان العراق، لا حلوان مصر.(1/211)
وزعم بطليموس أن فيه مائة وثلاثين مدينة. وأهله بين السمرة والبياض.
5- وأما الإقليم الخامس. فمبدؤه من أرض الترك المشرفين على يأجوج ومأجوج إلى كاشغر، وبلاساغون، وفرغانة، وإسبيجاب، [1] والشّاش، وأشروسنة، وسمرقند، وبخارى، وخوارزم، وبحر الخزر إلى باب الأبواب، وبرذعة، وميّافارقين، ودروب الروم، وبلادهم. ثم يمرّ على رومية الكبرى، وأرض الجلالقة [2] ، وبلاد الأندلس؛ وينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من غاية الإقليم الرابع إلى تمام ثلاث وأربعين درجة وثمانى عشرة دقيقة.
وذكر بطليموس أن فيه سبعا وتسعين مدينة. وأكثر أهله بيض.
6- وأما الإقليم السادس. فمبدؤه من مساكن ترك المشرق، وهم الخرخيز، والكيماك، والتّغزغر، ثم على بلاد الخوز من شمال تخومها، واللّان، والسّرير، وأرض برجان، ثم على قسطنطينيّة، وأفرنجة [3] ، وشمال الأندلس؛ وينتهى إلى البحر المحيط؛ وعرضه من غاية الإقليم الخامس إلى تمام سبع وأربعين درجة وخمس عشرة دقيقة.
وزعم بطلميوس أن فيه ثلاثا وثلاثين مدينة، وهو كثير الإمداد والثلوج. وأهله بيض الأبدان، شقر الشعور.
7- وأما الإقليم السابع. فليس فيه كبير عمارة، وإنما هو فى المشرق غياض وجبال يأوى إليها طوائف من الترك كالمتوحشين. ويمرّ على بلاد البجناك، ثم على بلاد البلغار، ثم على الروس والصقالبة، وينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من غاية
__________
[1] هى المشهورة أيضا باسم: إسفيجاب.
[2] أهل جلّيقيّة بشمال الأندلس.
[3] أى فرنسا.(1/212)
الإقليم السادس إلى تتمة خمسين درجة ونصف. وفيه الأرض المحفورة، وهى وهدة لا يقدر أحد أن ينزل إليها، ولا أن يصعد منها من هو فيها لبعد قعرها. يسكنها أمّة من الناس لا يدرى من هم. وإنما علم أنها معمورة برؤية الدّخان فيها نهارا، والنار ليلا. يشقها نهر يجرى، والعمارة محيطة به.
وزعم بطليموس أن فيها ثلاثا وعشرين مدينة. وأهل هذا الإقليم بيض صهب الشعور.
وما بقى من المعمور إلى نهايته إلى ثلاث وستين درجة مضاف إلى هذا الإقليم ومحسوب فيه. يسكنه طوائف من الناس، هم بالبهائم فى الخلق والخلق أشبه منهم ببنى آدم.
2- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الأرض
يقال:
أحمل من الأرض. أكتم من الأرض. أصبر من الأرض. آمن من الأرض.
أوثق من الأرض. أوطأ من الأرض. أحفظ من الأرض. أكثر من الرمل.
أظلم من الرمل. أعطش من الرمل. أوجد من التراب.
ويقال:
قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها. رماه بين سمع الأرض وبصرها. أخذت الأرض زخارفها. أفق قبل أن يحفر ثراك. ابتغوا الرزق فى خبايا الأرض.
ومن أنصاف الأبيات:
الأرض من تربة والناس من رجل
أنّى تمطر الأرض السماء(1/213)
ومن الأبيات:
والأرض لا تطعم من فوقها ... إلا لكى تطعم من تطعمه
وقال آخر:
إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع ... من البذر، فهى الأرض. ناهيك من أرض!
وقال آخر:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا، ... فكم تحتها قوم همو منك أرفع!
وقال آخر:
يا أرض كم وافد أتاك فلم ... يرجع إلى أهله ولم يؤب!
3- ذكر شىء مما قيل فى وصف الأرض وتشبيهها
قال الأخطل:
وتيهاء ممحال كان نعامها ... بأرجائها القصوى أباعر همّل.
ترى لامعات الآل فيها كأنّها ... رجال تعرّى تارة وتسربل.
وجوز فلاة لا يغمّض ركبها ... ولاعين هاديها من الخوف تغفل.
وكلّ بعيد الغور لا يهتدى له ... بعرفان أعلام ولا فيه منهل.
ملاعب جنّان كأنّ ترابها ... إذا اطّردت فيها الرّياح تغربل.
ترى الثعلب الحولىّ فيها كأنّه ... إذا ما علا نشزا حصان محجّل.
وقال ذو الرمّة:
ودوّيّة جرداء جدّاء خيّمت ... بها هبوات الصّف من كلّ جانب.
سباريت يخلو سمع مجتازها بها ... من الصّوت، إلا من صياح الثّعالب.(1/214)
وقال ذو الرمّة:
وهاجرة السّراب من الموامى ... ترقّص فى عساقلها الأروم.
تموت قطا الفلاة بها أواما ... ويهلك فى جوانبها النّسيم.
مللت بها المقام فأرقتنى ... هموم لا تنام ولا تنيم.
وقال ضابئ البرجمىّ:
وداويّة تيه يحاربها القطا ... على من علاها من ضلول ومهتدى.
مسافهة للعيس ناء نياطها؛ ... إذا سار فيها راكب، لم يغرّد.
وقال مسلم بن الوليد:
وقاطعة رجل السّبيل مخوفة ... كأنّ على أرجائها حدّ مبرد.
مؤزّرة بالآل فيها كأنّها ... رجال قعود فى ملاء معمّد.
وقال الصاحب بن عباد:
وتيهاء لم تطمث بخفّ وحافر ... ولم يدر فيها النّجم كيف يغور.
معالمها أن لا معالم بينها، ... وآياتها أنّ المسير غرور.
ولو قيل للغيث، اسقها: ما اهتدى لها ... ولو ظلّ ملء الأرض وهو جزور.
تجشّمتها، واللّيل وحف جناحه ... كأنّى سرّ والظّلام ضمير.
وقال الشريف الرضى:
وتنوفة حصباؤها ... خلقت لنار القيظ جمرا.
تبدى جنادبها الأن ... ين أسى على المجتاز ظهرا.
وترى بها العصفور متّ ... خذا وجار الضّبّ وكرا.(1/215)
وقال المتنبى:
مهالك لم يصحب بها الذّئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه.
وقال ابراهيم بن خفاجة الاندلسى:
ومفازة لا نجم فى ظلمائها ... يسرى ولا فلك بها دوّار.
تتلهّب الشّعرى بها فكأنّها ... فى كفّ زنجىّ الدّجى دينار.
ترمى بها الغيطان فيها والرّبى ... آل كما يتموّج التّيّار.
والقطب ملتزم لمركزه بها ... فكأنّه فى ساجه مسمار.
قد لفّنى فيها الظّلام وطاف بى ... ذئب يلمّ مع الدّجى زوّار.
طرّاق ساحات الدّيار مغاور ... خبث لأبناء السّرى غدّار.
يسرى، وقد فضح الدّجى وجه الضّيا، ... فى فروة قد مسّها اقشعرار.
فعشوت فى ظلماء لم يقدح بها ... إلا لمقلته، وبأسى نار.
ورفلت فى خلع علىّ من الدّجى ... عقدت بها من أنجم أزرار.
واللّيل يقصر خطوه، ولربّما ... طالت ليالى الرّكب وهى قصار.
وقال آخر:
ومجهولة الأعلام طامسة الصّوى ... إذا عسفتها العيس بالرّكب، ضلّت.
إذا ما تهادى الرّكب فى فلواتها، ... أجابت نداء الرّكب فيها فأصدت.
وقال مسعود، أخوذى الرمّة يصف بعد فلاة:
ومهمهه فيها السّراب يلمح ... يدأب فيها القوم حتّى يطلحوا.
ثمّ يظلّون كأن لم يبرحوا ... كأنّما أمسوا بحيث أصبحوا.(1/216)
وقال مسلم:
تجرى الرّياح بها مرضى مولّهة ... حسرى تلوذ بأطراف الجلاميد.
وقال آخر:
ودوّيّة مثل السّماء قطعتها ... مطوّقة آفاقها بسمائها.
وقال بعض الاعراب [1] فى الآل:
كفى حزنا أنّى تطاللت كى أرى ... ذرى علمى دمخ فما يريان!
كأنّهما، والآل ينجاب عنهما، ... من البعد عينا برقع خلقان.
قال أبو هلال: وهذا من أغرب ما روى من تشبيهات القدماء.
وقال آخر:
والآل تنزو بالصّوى أمواجه ... نزوالقطا الكدرىّ فى الأشراك.
والظّلّ مقرون بكلّ مطيّة ... مشى المهار الدّهم بين رماك.
وقال ابن المعتز:
وما راعنى بالبين إلا ظعائن ... دعون بكائى، فاستجاب سواكبه.
بدت فى بياض الآل والبعد دونه ... كأسطر رقّ أمرض الخطّ كاتبه.
__________
[1] هو طهمان بن عمرو الدارمى، كما فى ياقوت. وأورد القصيدة بتمامها، وهى 15 بيتا. (معجم البلدان، مادة دمخ) .(1/217)
الباب الخامس من القسم الرابع من الفن الأوّل
1- فى الجبال
قال الله تعالى: « «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» *.
قال المفسرون: خلق الله عز وجل الأرض على الماء فمادت وتكفّأت، كما تتكفّأ السفينة، فأثبتها بالجبال. ولولا ذلك ما أقرّت عليها خلقا.
وروى أبو حاتم فى كتاب العظمة، أن النبىّ (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن الله تعالى لما خلق الأرض، جعلت تميد. فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرّت. فعجبت الملائكة من خلق الجبال، وقالت: يا رب هل خلقت خلقا أشدّ من الجبال؟ قال:
الحديد، قالت: فهل من خلق أشدّ من الحديد؟ قال: النار، قالت: فهل من خلق أشدّ من النار؟ قال: الماء، قالت: فهل من خلق أشدّ من الماء؟ قال:
الريح، قالت: فهل من خلق أشدّ من الريح؟ قال: ابن آدم، يتصدّق بيمينه فيخفيها عن شماله» .
وعن ابن عباس (رضى الله عنهما) أنه قال: «كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض. فبعث الله ريحا فعصفت الماء فأبرز عن حشفة فى موضع البيت. فدحا الأرض من تحتها فمادت فأوتدها بالجبال» .
فكان أوّل جبل وضع، جبل أبى قبيس. وهو الجبل المطلّ على الكعبة.
وفى كنيته بأبى قبيس قولان:
أحدهما- أن آدم كناه بذلك حين اقتبس منه النار التى بين أيدى الناس (وقد تقدّم بيان ذلك فى الباب الرابع من القسم الثانى من هذا الفنّ فى ذكر النّيران) .(1/218)
الثانى- أنه أضيف إلى رجل من جرهم كان يتعبد فيه، اسمه أبو قبيس.
ويقال فيه أبو قابوس، وشيخ الجبال. وكان من قبل يسمّى بالأمين.
وقال محمد بن السائب الكلبىّ: «إن الله عز وجل لما خلق الأرض، مادت بأهلها. فضربها بجبل السّراة فاطمأنت» .
وهو أعظم جبال العرب وأكثرها خيرا، ويسمّى الحجاز. وهو الذى حجز بين تهامة ونجد. فتهامة من جهته الغربية مما يلى البحر، ونجد من جهته الشرقية.
وهو آخذ من قعر عدن إلى أطرار [1] الشأم» . ويسمّى هناك جبل لبنان. فإذا تجاوز اللاذقية ومرّ بالثغور، سمّى جبل اللّكّام. ثم يمتدّ فى بلاد الروم إلى بلاد أرمينية، فيسمّى هناك حارثا وحويرثا. ثم يمتدّ إلى بحر الخزر، وفيه «الباب والأبواب» .
وقال بعض المفسرين فى قوله تعالى: «ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ»
إنه جبل محيط بالعالم من زمرّدة خضراء، وإن جبال الدّنيا متفرّعة عنه.
وقال قوم: إن السماء مطبقة عليه والشمس تغرب فيه، وهو الحجاب الساتر لها عن أعين الناس، فى أحد الوجوه المفسّر بها قوله تعالى: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» .
وقال قوم: إن منه إلى السماء مقدار ميل، وإن الذى يرى من خضرة السماء مكتسب من لونه.
وقال ابن حوقل: جميع الجبال الموجودة فى الدّنيا متفرّعه عن الجبل الخارج من بلاد الصين، مشرقا ذاهبا على خط مستقيم إلى بلاد السودان مغرّبا.
__________
[1] فى الأصل أطبران، وهو تحريف. والتصحيح عن البكرى: أطرار الشام وفيه فى موضع آخر «أطراف بوادى الشام» ومثل هذا فى ياقوت. وأطرار الوادى نواحيه وكذلك أطرار البلاد والطريق واحدها طر. وأطرار البلاد أطرافها. (عن تاج العروس) .(1/219)
وقال أبو الفرج قدامة بن جعفر فى «كتاب الخراج» : وجدت خلف خط الاستواء فى الجنوب وقبل الإقليم الأوّل جبالا تسعة: خمسة منها متقاربة المقادير، أطوالها ما بين أربعمائة ميل إلى خمسمائة ميل؛ وجبلا طوله سبعمائة ميل؛ وجبل القمر، وطوله ألف ميل؛ وجبلا بعضه وراء خط الاستواء، وبعضه فى الإقليم الأوّل؛ وجبلا بعضه وراء خط الاستواء، وبعضه فى الإقليم الثانى.
قال: ومجموع ما عرف فى الأقاليم السبعة من الجبال مائة وثمانية وتسعون جبلا.
منها فى الإقليم الأوّل سبعة عشر جبلا، وفى الإقليم الثانى تسعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم الثالث أحد وثلاثون جبلا، وفى الإقليم الرابع أربعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم الخامس تسعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم السادس أربعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم السابع أربعة وأربعون جبلا.
2- ذكر أسماء ما ارتفع من الأرض إلى أن يبلغ الجبيل
ثم ما ارتفع عن ذلك إلى أن يبلغ الجبل العظيم، وترتيب ذلك قال الثعالبىّ فى كتابه المترجم «بفقه اللغة» وأسنده إلى أئمتها:
أصغر ما ارتفع من الأرض النّبكة؛ ثم الرابية أعلى منها؛ ثم الأكمة؛ ثم الزّبية؛ ثم النّجوة؛ ثم الرّيع؛ ثم القفّ؛ ثم الهضبة (وهى الجبل المنبسط على الأرض) ؛ ثم القرن (وهو الجبل الصغير) ؛ ثم الدّكّ (وهو الجبل الذليل [1] ) ؛ ثم الضّلع (وهو الجبل الذى ليس بالطويل) ؛ ثم النّيق (وهو الجبل الطويل) ؛ ثم الطّود؛ ثم الباذخ والشّامخ؛ ثم الشّاهق؛ ثم المشمخرّ؛ ثم الأقود والأخشب؛ ثم الأيهم؛ ثم القهب (وهو العظيم) ؛ ثم الخشام.
__________
[1] فى الأصل: الجبل الدكيك. وقد اعتمدنا ما فى القاموس وفقه اللغة أيضا.(1/220)
3- ذكر ترتيب أبعاض الجبل
قال الثعالبىّ:
أوّل الجبل الحضيض، وهو القرار من الأرض عند أصل الجبل.
ثم السّفح، وهو ذيله.
ثم السّند، وهو المرتفع فى أصله.
ثم الكيح، وهو عرضه.
ثم الحضن، وهو ما أطاف به.
ثم الرّيد، وهو ناحيته المشرفة على الهواء.
ثم العرعرة، وهى غلظه ومعظمه.
ثم الحيد، وهو جناحه.
ثم الرّعن، وهو أنفه.
ثم الشّعفة، وهى رأسه.
وقال صاحب كتاب «الفاخر» : يقال من أسماء الجبال: العظيم منها الطّور، والطّود، والكفر، والقهب، والعمود، والعلم، والأرعن، [1] والمشمخرّ.
والأيهم الطويل، وهو الشامخ، والشاهق، والباذخ، والباسق، والأقود.
والأخشب، الخشن.
والعقاب، الصّعاب.
والثّنايا، التى ليست بصعبة.
__________
[1] كذا بالأصل: والذى فى القاموس واللسان والمخصص (الرّعن أنف الجبل المتقدّم أو الجبل.
الطويل) فما هنا من تحريف النساخ.(1/221)
والهرشمّ، النّخر.
والخشام، جبل طويل ذو أنف.
والوزر، والملجأ، والقلعة، ما يحصّن فيه.
والقرن، جبل صغير.
والضّلع والدّكّ، فيه دقّة وانحناء.
والنّيق، الذى لا يستطاع أن يرتقى إليه.
وأعلى الجبل قلّته وقنّته وذؤابته.
وعرعرته، غلظه.
والفند، القطعة منه.
وشعفه ومصاده، أعلاه.
والكيح والكاح، عرضه.
والرّكح [1] ، ناحيته المشرفة على الهواء.
والحضيض، أسفله.
قال: وصغار الجبال، اليفع، والضّرس، والضّرب والعنتيبة [2] ، والعنتوت، والأكمة، والهضبة.
والذّريحة، ما انبسط على وجه الأرض.
واللّوذ، حضن الجبل وما يطيف به.
__________
[1] فى الأصل: الوكح بالواو. وهو تصحيف من الناسخ. وقد صححناه اعتمادا على ما فى القاموس والمخصص.
[2] كذا بالأصل ولم نعثر عليها فى القاموس واللسان والمخصص.(1/222)
والرّيد والرّيود، نواحيه المحدّدة.
والحيد، شاخص يتقدّم كالجناح. ومثله الشّنعوف.
والصّدع والشّقب، شقّ فيه.
والغار والكهف، مثل البيوت فيه.
والقردوعة، الزاوية فيه.
واللهب والنّفنف والغار، مهواة بين جبلين.
والشّؤون، خطوط فيه.
والمخرم، منقطع أنفه.
والقرناس، شبه الأنف.
والإرم، العلم فيه.
4- ذكر ترتيب مقادير الحجارة
قال الثعالبى:
إذا كانت صغيرة، فهى حصاة.
فإذا كانت مثل الجوزة وصلحت للاستنجاء بها، فهى نبلة. وفى الحديث:
«اتّقوا الملاعن وأعدّوا النّبل» . يعنى عند إتيان الغائط.
فإذا كانت أعظم من الجوزة، فهى قنزعة.
فإذا كانت أعظم منها وصلحت للقذف، فهى مقذاف ورجمة ومرداة. ويقال:
إن المرداة، حجر الضبّ الذى ينصبه علامة لحجره.
فإذا كانت ملء الكفّ، فهى يهيرّ.(1/223)
فإذا كانت أعظم منها، فهى: فهر، ثم جندل، ثم جلمد، ثم صخرة، ثم قلعة. وهى التى تنقلع من عرض الجبل. وبها سميت القلعة التى هى الحصن.
وقال صاحب كتاب «الفاخر» : من أسمائها، الحجارة؛ والجلمود والجلمد الحجر الصّلب.
والبرطيل، الصّخرة العظيمة.
والصّفوان، الأملس.
والرّضمة، الحجر العظيم.
والأتان، صخرة فى مسيل ماء أو حافة نهر.
والإزاء، التى عند مهراق الدلو.
والرّجمة، ما تطوى به البئر.
والكذّان، الرخو.
واليرمع، الأبيض الرّخو.
والمدقّ والمداك والصّلاية، حجر العطار الذى يسحق عليه العطر.
والفهر، ما يملأ الكفّ ويسحق به العطر.
والمرداة، ما يكسر به الحجر.
والمرداس، ما يرمى به فى البئر لينظر أفيها ماء أم لا. قال الشاعر:
من جعل العدّ القديم الّذى ... أنت له عدّة أحراس،
إلى ظنون أنت من مائه ... منتظر رجعة مرداس.
والنّشف، حجر تدلك به الرّجل فى الحمّام.
والنّقل، ما كان في طرق الجبال.(1/224)
والأثفيّة، ما ينصب عليه القدر.
والقلاعة، ما يرمى به فى المقلاع.
والظّرّان، حجارة محدّدة يذبح بها.
والصّفيح، ما رقّ منه وعرض.
واللّخاف، حجارة عراض.
والفلك، قطعة مستديرة وترتفع عما حولها.
والمدملك، المدوّر.
والكليت، حجر مستدير يسدّ به وجار الضّبع.
والبلّيت، [1] التام.
وقال ابن الأعرابىّ: القبيلة، صخرة على رأس البئر؛ والعقابان من جنبتيها يعضدانها.
ومنها المرو، وهى البيض كالحصى.
والحصباء، الصغار.
والرّضراض، نحوها.
والقضيض، أصغر منها.
والزّنانير، واحدها زنّير، أصغر ما يكون.
__________
[1] كذا بالأصل وعبارة القاموس (والبليت كسكّيت لفظا ومعنى) واللسان (ولبلّيت الرجل الرّمّيت) وهو الحليم الساكن القليل الكلام.(1/225)
5- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر الجبال والحجارة
ما جاء من ذلك على لفظ أفعل. يقال:
أثقل من ثهلان. أثقل من نضاد. أثقل من أحد. أصلب من الحجر. أصلب من الجندل. أقسى من الحجر. أصبر من حجر. أيبس من صخر. أبقى من النّقش فى الحجر.
ويقال:
رمى فلان بحجره. ردّ الحجر من حيث جاءك. وجّه الحجر وجهة ما، أى دبّر الأمر على وجهه. ألقمه الحجر، أى جاوبه بجواب مسكت. رماه بثالثة الأثافى. أنجد من رأى حضنا (وحضن جبل بنجد) أى من رآه لم يحتج أن يسأل هل بلغ نجدا أم لا.
الليل يوارى حضنا، أى يخفى كل شىء حتّى الجبل.
ومن أنصاف الأبيات:
كأنّه علم فى رأسه نار
إذا قطعنا علما بدا علم
قوموا انظروا كيف تزول الجبال
(يضرب لموت الرؤساء) .
جندلتان اصطكّتا اصطكاكا
(يضرب لقرنين يتصاولان) .
ومن الأبيات:
ولو بغى جبل يوما على جبل، ... لانهدّ منه أعاليه وأسفله!
تتناثر الأطواد وهى شوامخ ... حتّى تصير مداوس الأقدام.
جد فقد تنفجر للصّخ ... رة بالماء الزّلال.(1/226)
6- ذكر شىء مما قيل فى وصف الجبال وتشبيهها
قال السموءل بن عاديا:
لنا جبل يحتلّه من نجيره ... منيع يردّ الطّرف وهو كليل!
رسا أصله تحت الثّرى وسمابه ... إلى النّجم فرع لا يرام طويل!
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ:
وأرعن طمّاح الذّؤابة باذخ ... يطاول أعنان السّماء بغارب.
يصدّ مهبّ الرّيح من كلّ وجهة ... ويزحم ليلا شهبه بالمناكب.
وقور على ظهر الفلاة كأنّه ... طوال اللّيالى ناظر فى العواقب.
يلوث عليه الغيم سود عمائم ... لها من وميض البرق حمر ذوائب.
أصخت إليه وهو أخرس صامت ... فحدّثنى ليل السّرى بالعجائب.
وقال: ألاكم كنت ملجأ فاتك ... وموطن أوّاه وموئل تائب!
وكم مرّ بى من مدلج ومؤوّب ... وقال بسفحى من مطىّ وراكب!
ولاطم من نكب الرّياح معاطفى ... وزاحم من خضر البحار جوانبى!
فما كان إلّا أن طوتهم يد الرّدى ... فطارت بهم ريح النّوى والنّوائب.
وما غيّض السّلوان دمعى وإنّما ... نزفت دموعى من فراق الأصاحب.
وأسمعنى من وعظه كلّ عبرة ... يترجمها عنه لسان التّجارب.
فسلّى بما أبكى، وسرّ بما شجى، ... وكان على ليل السّرى خير صاحب.
وقلت وقد نكّبت عنه مطيّتى: ... سلام فإنّا من مقيم وذاهب!(1/227)
وقال أيضا عفا الله عنه:
وأشرف طمّاح الذّؤابة شامخ ... تمنطق بالجوزاء ليلا، له خصر.
وقور على مرّ اللّيالى كأنّما ... يصيخ إلى نجوى وفى أذنه وقر.
تمهّد منه كلّ ركن زكابه ... فقطّب إطراقا وقد ضحك البدر.
ولاذ به نسر السّماء كأنّما ... يجرّ إلى وكر به ذلك النّسر.
فلم أدر من صمت له وسكينة ... أكبرة سنّ وقّرت منه أم كبر.
وقال أيضا يصفه نثرا من رسالة كتبها إلى بعض الرؤساء:
وكيف لى بقربك ودونك كل علم باذخ، مجّ الليل عليه رضابه، وصافحت النجوم هضابه؛ قد ناء بطرفه، وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه؛ قد لاث من غمامه عمامه، وأرسل من ربابه ذؤابه؛ تطرّزها البروق الخواطف، وتهفو بها الرياح العواصف؛ بحيث مدّه البسيط بساطا، وضربت السماء فسطاطا.
الباب السادس من القسم الرابع من الفن الأوّل
1- فى ذكر البحار والجزائر
روى عن ابن عباس (رضى الله عنهما) أنه قال: «لما أراد الله عز وجل أن يخلق الماء خلق ياقوتة خضراء ووصف من طولها وعرضها وسمكها، ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء يترقرق لا يثبت فى ضحضاح. فما يرى من التموّج والاضطراب إنما هو ارتعاده من خشية الله تعالى؛ ثم خلق الريح فوضع الماء على متنه؛ ثم خلق العرش ووضعه على متن الماء» . وفسر بهذا قوله عز وجل: «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» .(1/228)
2- ذكر بحار المعمور من الأرض
وبحار المعمور ثلاثة: أعظمها البحر المحيط، ثم بحر ما نيطش [1] ، ثم بحر الخزر.
فأما البحر المحيط وجزائره، ويسمّى باليونانية أوقيانوس، ويسمّى بحر الظلمات، سمّى بذلك لأن ما يتصاعد من البخار عنه لا تحلله الشمس لأنها لا تطلع عليه. فيغلظ ويتكاثف فلا يدرك البصر هيئته. ولعظم أمواجه، وتكاثف ظلمته، وغلظ مائه، وكثرة أهوائه، لم يعلم العالم من حاله إلا بعض سواحله وجزائره القريبة من المعمور.
والذى علم به من الجزائر ستة من جهة المغرب، تسمّى جزائر السعادات، والجزائر الخالدات.
قال أبو عبيد البكرىّ فى كتابه المترجم «بالمسالك والممالك» : وبإزاء طنجة الجزائر المسماة باليونانية، فرطناتس أى السعيدة. وسميت بذلك لأن فى شعرائها [2] وغياضها كلّها أصناف الفواكه الطيبة من غير غراسة ولا فلاحة، وأن أرضها تحمل الزرع مكان العشب، وأصناف الرياض بدل الشوك. وهى متفرّقة متقاربة.
ويقال إن بعض المراكب عصفت عليها الريح فألقتها إلى جزيرة من هذه الجزائر، فنزل من فيها من الركاب إليها، فوجدوا فيها من أنواع أشجار الفواكه وأشجار الأفاويه وأنواع اليواقيت كل مستحسن. فحملوا منه ما أطاقوا ودخلوا به بلاد الأندلس.
فسألهم ملكها من أين لهم هذا. فأخبروه بأمرهم، فجهز مراكب وسيرها، فلم يقفوا على حزيرة منها. وعدمت المراكب لعظم البحر وشدّة عصف الريح فلم يرجع منها شىء.
__________
[1] كذا فى الأصل، وفى كثير من كتب الجغرافية العربية: وهو المعروف فى كتب الجغرافية العربية مثل أبى الفدا ببحر أزق، وعند الأتراك ببحر آزوف.
[2] الشعراء: الأرض ذات الشجر.(1/229)
ويقال إن هذه الجزائر مسكونة بقوم هم بالوحوش أشبه منهم بالناس. وبينها وبين ساحل البحر عشرة أجزاء.
ويقال إن فى جهة المشرق مما يلى بلاد الصين ستة جزائر أخرى، تسمّى جزائر السيلى. يقال إن ساكنيها قوم من العلويين، وقعوا إليها لما هربوا من بنى أمية.
ويقال إن جزائر السيلى لم يدخلها أحد من الغرباء وطاوعته نفسه على الخروج منها لصحة هوائها ورقة مائها، وإن كان منها فى عيش قشيف.
وفى هذا البحر من الجزائر العامرة جزيرة برطانية، وهى تحاذى جزيرة الأندلس، وأهلها صهب الشعور، زرق العيون.
ومما يلى بلاد إفرانسية جزائر يغمرها خلق من الفرنج، لا ينقادون لبلد، ولا يدينون بدين.
وفيما يلى الأرض الكبيرة جزيرة ذات أبرجة، يحيط بها سبعمائة ميل وخمسون ميلا، وفيها أربع مدائن، فى كل مدينة ملك.
وجزيرة برفاغة. يحيط بها أربعة آلاف ميل، وفيها ثلاث مدائن عامرة.
والدّاخل إليها قليل. وهى كثيرة الأنواء والأمطار. وأهلها يحصدون زرعها قبل جفافه لقلة طلوع الشمس عندهم، ويجعلونه فى بيت ويوقدون النار حوله حتّى يجف.
وجزيرة أنقلطرة. فيها مدائن عامرة، وجبال شاهقة، وأودية، وأرض سهلة.
والشتاء بها دائم. وبين هذه الجزيرة والبر مجاز سعته اثنا عشر ميلا.(1/230)
وفيه مما يلى الصقالبة جزيرتان: إحداهما جزيرة أمرنانيوس النساء، لا يسكنها غير النساء فقط. وتسمّى الأخرى أمرنانيوس الرجال، لا يسكنها غير الرجال. وهم فى كل عام يجتمعون زمان الربيع، ويتناكحون نحوا من شهر ثم يفترقون.
ويقال إن هاتين الجزيرتين لا يكاد يقع طرف أحد عليهما لكثرة الغمام، وظلمة البحر، وعظم الأمواج.
3- ذكر ما يتفرّع من البحر المحيط
يتفرّع من البحر المحيط خليجان: أحدهما من جهة المغرب، ويسمى البحر الرومىّ. والآخر من جهة المشرق، ويسمّى البحر الصينىّ، والهندىّ، والفارسىّ، واليمنىّ، والحبشىّ، بحسب ما يمرّ عليه من البلاد.
وهما المرادان بقوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) .
أى لا يبغى هذا على هذا.
والبرزخ أرض بين الفرما التى هى على بحر الروم، وبين مدينة القلزم التى هى على بحر الحبش [1] ، مسافتها ثلاثة أيام. وقيل: البرزخ إرسال ماء البحر الحلو على ماء البحر الملح، لأنه مغيض له. فلا سبيل لأحدهما على الآخر، بل جعل الله بينهما حاجزا وهو البرزخ.
فأما البحر الرومىّ وجزائره، فإن المؤرّخين قالوا إن الإسكندر حفره وأجراه من البحر المحيط. ويقولون إن جزيرة الاندلس وبلاد البربر كانت أرضا واحدة يسكنها الإشبان والبربر. وكان بعضهم يغير على بعض، والحرب بينهم سجال. فلما
__________
[1] فى الأصل بحر فارس. وكان الأصوب أن يعبر باللفظ الذى اختاره لهذا المقام، وهو البحر الحبشى(1/231)
ملك الإسكندر، رغب إليه الإشبان فيما يحول بينهم وبين البربر. فرأى ان يجعل بينهما خليجا من البحر يمكن به احتراس كل طائفة من الأخرى. فحفر زقاقا طوله ثمانية عشر ميلا، وعرضه اثنا عشر ميلا. وبنى بجانبيه سكرين [1] ، وعقد بينهما قنطرة يجاز عليها، وجعل عليها حرّاسا يمنعون الجواز عليها من جهة البربر إلا بإذن من جعله نائبا عنه فى بلاد الإشبان. وكان قاموس البحر أعلى من أرض الزقاق، فطما وغطّى السّكرين والقنطرة، وساق بين يديه بلادا وطغا على أخرى. حتّى إن المسافرين فيه يخبرون أن المراكب فى بعض الأوقات يتوقف سيرها فيه مع وجود الريح.
فيسبرون أمرها، فيجدون المانع لها سلوكها بين شرفات السور أو بين حائطين.
فعظم طولا وعرضا، وصار بحرا [2] .
قال صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» : وقد زاد عرضه ستة أميال عما كان عليه فى زمن الإسكندر. فصار ثمانية عشر ميلا.
قال: وزعم السالكون فيه أنّ البحر ربما جزر فى بعض الأوقات، فترى القنطرة.
قالوا: وهذا الزقاق صعب شديد متلاطم الأمواج مهول، شبيه بما جاوره من البحر المحيط.
وأهل الأندلس يقولون إن بين هذا البحر وبين البحر المحيط بحرا يسمونه بحر الأيلاية بتفخيم اللام [3] . وهو بحر عظيم الموج صعب السلوك.
__________
[1] السكر (بكسر السين) هو ما سدّ به النهر.
[2] هو المسمى بحر الزقاق واسمه الآن مجاز جبل طارق.
[3] لعل المؤلف يشير إلى خليج ليون فهو مشهور بشدّة التيار وبصعوبة السلوك.(1/232)
ومبدأ جريه من البحر الرومىّ من الإقليم الرابع. فإذا خرج من الزقاق يمرّ مشرّقا فى جهة بلاد البربر وشمال المغرب الأقصى إلى أن يمرّ بالمغرب الأوسط، إلى إفريقية، إلى برقة، إلى الإسكندرية، إلى شمال أرض التيه وأرض فلسطين. فيمرّ بسواحل الشام إلى أن يصل إلى السويدية التى هى فرضة أنطاكية، وعندها حجز البحر. ومنها يعطف فيمرّ على العلايا وأنطالية (وهما فرضتان لبلاد الروم) ، ثم على ظهر بلاد قسطنطينية إلى أن ينتهى إلى المكان الذى منه خرج. وطوله خمسة آلاف ميل، وقيل ستة آلاف. وعرضه مختلف: ففى موضع ثلاثمائة ميل، وفى موضع ستمائة ميل، وفى موضع سبعمائة.
ويقال إن فيه ما يزيد على مائة وسبعين جزيرة. كانت عامرة بطوائف من الفرنج، أخرب المسلمون أكثرها بالمغازى فى صدر الإسلام.
وأجلّ ما ملك المسلمون منها، ثم انتزع أكثره من أيديهم:
1- جزيرة الأندلس.
2- وجزيرة يابسة. وهى حيال جزيرة الأندلس، ومسافتها يومان فى يوم.
وفيها مدينة صغيرة مسوّرة.
3- وجزيرة منرقة، ومسافتها يومان فى نصف يوم. وفيها مدينة عامرة.
4- وجزيرة ميورقة. ويقال فيها ما يورقة. ومسافتها يومان فى يومين، وبها مدينة.
5- وجزيرة رودس [1] . وهى حيال بلاد أفرنجة [1] . ويحيط بها ثلاثمائة ميل.
وفيها حصنان.
__________
[1] هذا الوصف لا ينطبق على جزيرة رودس، بل على جزيرة قورسقة التى هى حيال بلاد أفرنجة أي فرنسا، وهى تابعة لها.(1/233)
6- وجزيرة سردانية. وطولها مائتان وثمانون ميلا، وعرضها مائة وثمانون ميلا. وفيها ثلاث مدائن كبار. وسكانها قوم من الفرنج متوحشون.
وبها معدن فضة.
7- وجزيرة صقلية. وهى حيال إفريقية مضاهية لجزيرة الأندلس.
وشكلها مثلث. يحيط بها خمسمائة ميل. كثيرة الجبال، والحصون، والأمصار، والأنهار، والأشجار.
ومما فيها من المدن المشهورة على ساحل البحر:
بلرمو. وبها يكون الملك؛ وكانت قصبة الجزيرة بعد أن فتحها المسلمون ثم انتقل الناس منها إلى الخالصة. وهى محدثة. بنيت فى أيام القائم ابن المهدىّ العبيدىّ فى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة. ثم صارت بلرمو وبقيت الخالصة ربضا لها؛ وقطانية. وكانت عظيمة فأحرقها البركان الذى فى الجزيرة. فبنى الأمبرطور مدينة عوضها، وسماها غشطارة.
ومسينى. وهى على أحد أركان الجزيرة.
وسرقوسة. وهى على الركن الآخر، والبحر محيط بها من ثلاث جهاتها.
وطرابنش. وهى على الركن الثالث، والبحر محيط بها. ولها مجاز.
ومن بلاد هذه الجزيرة البرية: والشاقة، ومازر، وكركنت، ونوطس، وطبرمين، وقصريانة، والنور، ورغوص، وغيطة، وغير ذلك.
وبهذه الجزيرة. (ويقال بجزيرة ملاصقة لها) بركان، وهو أطمة يخرج منها أجسام كأجسام الناس بغير رؤوس من النار، فتعلو فى الهواء ليلا ثم تسقط فى البحر، فتطفو على وجه الماء. ومنها يكون حجر المرو الذى تحكّ به الأرجل.(1/234)
7- وجزيرة بلونس. ودورها ألف ميل. ولها مجاز إلى البر الطويل، عرضه ستة أميال. فيها ما يزيد على خمسين مدينة؛ القواعد منها خمس عشرة مدينة، وهى مشهورة عند الفرنج.
8- وجزيرة مالطة. وطولها أربعة وعشرون ميلا، وعرضها اثنا عشر، وفى وسطها مدينة واحدة.
9- وجزيرة قوسرة. وفيها مواضع متوحشة.
10- وجزيرة أقريطش. وهى حيال برقة. طولها ثلاثمائة ميل، وعرضها مائة وثلاثون ميلا. وبها مدينتان: إحداهما تسمّى الخندق، والأخرى تسمّى ربض الجبن. وفيها معدن ذهب.
11- وجزيرة قبرس. وهو اسم النحاس، لأن بها معدن نحاس. يحيط بها ألف ميل وخمسمائة ميل. وفيها من المدن الجليلة، ليمسون، والباف بباء مفخمة، والماغوصة. وكلها فى البحر. وفى وسط الجزيرة مدينة الأفقسية، وهى القصبة.
وبها يكون متولى الجزيرة.
4- ويخرج من هذا البحر خليجان
أحدهما يسمى جون البنادقة، والآخر يسمى خليج القسطنطينية.
1- فأما خليج البنادقة. فإنه خليج كبير متسع ليس له فوّهة. وإنما هو جون له ركنان، سعة ما بينهما سبعون ميلا. يحيط بهذا الجون مدن جليلة لطائفة من الفرنج تسمى البنادقة. وهى ذوات حصون وقلاع ممتنعة.(1/235)
ومبدؤه من شرقىّ بلاد قلورية عند مدينة تسمى أذرنت [1] ، ومنتهاه بلاد إيكلاية [2] .
ومن هناك يعطف، وطوله ألف ميل ومائة ميل. وفيه ست جزائر، ثلاثة منها فى ضفة، وثلاثة فى أخرى، بها مدن عامرة. وثلاثة معترضة بين ركنيه مهملة لا ساكن بها.
2- وأما خليج القسطنطينية. ويسمى بحر نيطش فإن فوهته مقابلة لجزيرة رودس، وسعتها غلوة سهم. ويقال إنه كان بين الشطين سلسلة طرفاها فى برجين تمنع المراكب من العبور إلا بإذن الموكل بها.
ويمرّ هذا الخليج نحو مائتى ميل وخمسين ميلا إلى أن ينتهى إلى القسطنطينية فتكون فى غربيه، يحيط بجهتين منها.
وهى مدينة عظيمة مشهورة. وعرض البحر عندها أربعة أميال.
ثم يمرّ ستين ميلا حتّى ينصب فى بحر ما نيطش. وهو بحر سوداق. وعرض فوهته هناك عشرة أميال. وفى موضع أقلّ، وفى موضع أكثر.
فهذا البحر الرومى وجزائره وما تفرّع منه.
والله أعلم.
__________
[1] فى الأصل أكدنت وهو تحريف لمدينة أذرنت قال فى نزهة المشتاق: خليج البنادقيين ومبدؤه من شرقى بلاد قلوريه ... من عند أذرنت ... وينتهى طرفه إلى بلاد إيكلاية.
[2] فى الأصل انكلاية، وهو تحريف ظاهر عن إيكلاية التى ذكرها الإدريسى فى هذا الموضع.(1/236)
5- وأما بحر الهند وجزائره
فمبدؤه من مشرق الصين فوق خط الاستواء. ويجرى إلى جهة الغرب، فيجتاز ببلاد الواق [1] ، وبلاد سفالة الزنج؛ ثم ببلاد الزنج حتّى يصل إلى بلاد بربرا، وهناك حجزه.
وأما الشرقىّ: فمبدؤه من لوقين، وهى أوّل مرافىء الصين ثم بخانقو فرضة الصين العظمى؛ ثم إلى سمندور من بلاد الهند؛ ثم إلى حارتين، إلى قندرينه [2] ، إلى تانة، إلى سندابور، إلى بروص (ويقال بروج، وإليها ينسب القماش البروجى) ، إلى صيمور [3] ، إلى سندان، إلى سوتارة، إلى كنباية. (وإليها ينسب القماش الكنبايتى) ، إلى ديبل (وهى أوّل مرافئ السند) ؛ ثم إلى سرون، ثم إلى التّيز [4] من بلاد مكران، وهى أحد ركنى الخليج الفارسىّ. والركن الآخر يسمى رأس الجمحة: وهو جبل خارج فى البحر، ومن هناك يسمى بحر اليمن، ثم يمتدّ على ظفار؛ ثم على الشّحر ساحل بلاد مهرة؛ ثم على شرمة ولسعا (ساحلى بلاد حضرموت) ، ثم على أبين، ثم على عدن، ثم المخنق، ثم العارة، ثم يمتدّ إلى باب المندب.
__________
[1] قال البيرونى مانصه: (فى كتاب تحقيق ما للهند ص 103 سطر 7) جزيرة الوقوان من جملة قمير.
وهو اسم لا كما تظنه العوام من أنه شجرة حملها كرءوس الناس تصيح ولكن قمير قوم ألوانهم الى البياض قصار القدود على صور الأتراك ودين الهنود مخرمى الآذان وأهل جزيرة الوقواق منهم سود الألوان والناس فيهم أرغب ويجلب منهم الآبنوس الأسود وهو لب شجرة تلقى حواشيها فأما الملمع والشوحط والصندل الأصفر فمن الزنج. اهـ
[2] لعل المقصود: قندابيل (وقد ذكرها ياقوت) .
[3] ويقال صيمون (انظر ياقوت) .
[4] هى قصبة بلاد مكران بالسند.(1/237)
ومن هناك يخرج خليج القلزم، وطوله ثمانية آلاف ميل، وعرضه يختلف.
فى موضع ألف ميل وسبعمائة ميل، وفى موضع ألفان، وفى موضع دون ذلك.
ويقال: إن بينه وبين البحر المحيط بحرا آخر يسمى البحر الزفتى، سمى بذلك لظلمته وسواده، وطوله ألف ميل وخمسمائة ميل.
وهذا البحر- أعنى الهندىّ- بجملته قسمه السالكون له ستّ قطع، وضعوا لها أسماء مختلفة.
1- فالذى يمرّ بأرض الصين يسمى بحر صنجى [1] ، ينسب لمدينة فى جزيرة من جزائره. وهو بحر كثير الأمواج مهول. فإذا كان فى أوّل هياجه ظهر فيه بالليل أشخاص سود، طول الواحد منهم خمسة أشبار وأقلّ من ذلك. يصعدون إلى المراكب ولا يضرون أحدا. فإذا عاينهم السّفّار، أيقنوا بالدّمار. وإذا قدّر الله تعالى نجاتهم من هذه الشدّة، أراهم على رأس الدّقل طائرا أبيض كأنما خلق من النور، فيتباشرون به. فإذا ذهب عنهم الروع، فقدوه.
وفيه من الجزائر المعمورة:
جزيرة شريرة [2] . يحيط بها ألف ميل ومائتا ميل. فيها مدائن كثيرة، أجلها المدينة التى تنسب إليها، ومنها يجلب الكافور.
وجزيرة صنجى. وإليها تنسب هذه القطعة. وطولها مائتا ميل؛ وعرضها أقلّ من ذلك. وفيها جواميس وبقر بغير أذناب.
__________
[1] لعل هذا الاسم هو و «شنجو» لمسمى واحد. وهى المعروفة عند العرب باسم مدينة «زيتون» وهى فرضة الصين (راجع أبا الفدا) .
[2] سماها أبو الفدا: سريرة.(1/238)
وجزيرة أنفوجة. يحيط بها أربعمائة ميل. عمارتها متصلة.
2- ويلى هذه القطعة قطعة تسمّى بحر الصّنف. فى جزيرة من جزائره مدينة.
وهو بحر خبيث كثير الأمطار والرياح الشديدة. وفى جباله معادن الذهب والرصاص، وفيه مغاص اللؤلؤ، وفى غياضه الخيزران. وفيه مملكة المهراج.
ويشتمل على جزائر لا تحصى، ولا يمكن المراكب أن تطوف بها فى سنة. وفيها أنواع الطيب من الكافور، والقرنفل، والعود، والصّندل، والجوزبوّى، والبسباسة، والكبابة.
ومن جزائره المشهورة:
جزيرة الزانج. وتكسيرها سبعمائة فرسخ، وبها يكون المهراج، وهو اسم يطلق على كل من ملكها.
وجزيرة البركان. وهى جزيرة فيها جبل يرمى بالشرر ليلا، وبالرعود القواصف نهارا، وهى أحد آطام الدّنيا المشهورة.
وجزيرة قمار. وإليها ينسب العود القمارىّ. وبها شجر الصندل. دورها أربعة أشهر. وهى مأوى عبّاد الهند وعلمائهم. يسمّى ملكها قامرون.
وجزائر الرامى [1] . وهى نحو ألف جزيرة معمورة. بها الملوك. وفيها معادن الذهب، وشجر الكافور.
وجزائر لنجيالوس. ويقال لنكيالوس. وهى كثيرة، وأهلها سود، مشوّهو الصور لقربها من خط الاستواء. وبها معادن الحديد.
3- ويلى هذه القطعة قطعة تسمّى بحر لاروى، وبحر كله، وبحر الجاوه، وبحر فنصور. وإنما ترادفت عليه هذه الأسماء بحسب ما يمرّ عليه من البلاد والجزائر.
__________
[1] فى الأصل الراقى وفى نزهة المشتاق «الرامى» .(1/239)
وهو بحر لا يدرك قعره. وفيه نحو ألف جزيرة تسمّى جزائر النارجيل، لكثرته بها.
وكلها عامرة بالناس. وبين الجزيرة والجزيرة الفرسخ والفرسخان. وليس يوجد فى سائر جزائر البحر ألطف صنعة من أهل جزائره فى سائر المهن. وبيوت أمواله الودع.
ومن جزائره المشهورة مما يلى أوائل بلاد الهند:
جزيرة الماند. وهى جزيرة يحيط بها ألف ميل. وفيها ثلاث مدن كبار.
وجزيرة كرموه. يحيط بها ثلاثمائة ميل.
وجزيرة بلى. منسوبة لمدينة من الهند على ساحله. يأتيها التجار لاجل الفلفل.
وجزائر الذئاب. وهى كثيرة. وأكبرها جزيرة ديبى. وسكانها قبائل من العرب. يحيط بها أربعمائة ميل. وفيها الموز، وقصب السكر.
وجزيرة السيلان. وطولها ستمائة ميل، وعرضها قريب من ذلك. وفيها مدن كثيرة. وإليها ينسب العود السيلى.
وجزيرة كله. وإليها ينسب البحر. وهى جزيرة خطيرة، طولها ثمانمائة ميل، وعرضها ثلاثمائة ميل وخمسون ميلا. وبها من المدن فنصور. فيها شجر الكافور (وفيها العود الفاخر) وملاير، ولا روى، وكله (وإليها ينسب الدّهن) . ولكل مدينة من هذه المدن خور تعبره المراكب من البحر.
وجزيرة صندابولات. وطولها نحو من مائتى ميل، وعرضها نحو مائة ميل.
تنسب إلى مدينة هى فيها.
وجزائر بداميان. فيها أمم سود، قباح الوجوه. قامة الرجل منهم أقلّ من ذراع. ليس لهم مراكب. فإذا وقع اليهم غريق أو من يتيه من التجّار، أكلوه.(1/240)
4- ويلى هذه القطعة قطعة تسمى بحر هركند، وفيه جزائر كثيرة. ويقال إن عدّتها ألف جزيرة وتسعمائة جزيرة. ويقع فيها العنبر الذى تكون القطعة منه مثل البيت. وسكانها أحذق الناس فى الحياكة، ينسجون القميص بكميّه ودخاريزه قطعة واحدة.
وفيه من الجزائر المشهورة:
جزيرة سرنديب [1] . وهى مدوّرة الشكل، يحيط بها ألف فرسخ. يشقّها جبل الراهون، وهو الجبل الذى هبط عليه آدم (عليه السلام) من الجنة. وفى أوديتها الياقوت والماس والسّنباذج. وطولها مائتان وستون ميلا. ومدينة هذه الجزائر العظمى تسمى أغنا، يسكنها مسلمون، ونصارى، ويهود، ومجوس. ولكل أهل ملة من هذه الملل حاكم. لا يبغى بعضهم على بعض. وكلهم يرجع إلى ملك يسوسهم ويجمع كلمتهم. ولهذا البحر أربعة أودية تصب فى البحر تسمى الأغباب [2] .
5- ويلى هذه القطعة قطعة تسمى بحر اليمن. وأوّله بحر الجمحة، وهو بلاد مهرة. معترض فى البحر فيمرّ بحاسك (وهو أوّل مرافئ اليمن) ؛ ثم يمرّ بمرباط [3] (ساحل بلاد ظفار) ؛ ثم يمرّ بالشّحر (ساحل بلاد مهرة) ؛ ثم بشرمة ولسعا (ساحلى بلاد حضرموت) ؛ ثم بأبين؛ ثم بعدن؛ ثم بالمخنق؛ ثم بالعارة؛ ثم الباب بالمندب.
__________
[1] قال البيرونى فى كتابه على الهند: سنكلديب وهى جزيرة سرنديب (ص 102) وفى أبى الفدا سنكاديب.
[2] الأغباب واحدها غبّ. وهو- على ما قال البيرونى- كالزاوية والعطفة يدخل من البحر إلى البر ويكون للسفن فيه مخاوف وخاصة من جهة المد والجزر. والخور هو شبه الغبّ ولكنه ليس من جهة دخول البحر وإنما هو من مجىء المياه الجارية واتصاله بالبحر ساكنا ومخاوف السفن فيه من جهة العذوبة التى لا تستقلّ بالأثقال استقلال الملوحة بها (تحقيق ما للهند ص 102) .
[3] مدينة بين حضرموت وعمان وهى الفرضة لمدينة ظفار الواقعة على خمسة فراسخ منها.(1/241)
وفيه من الجزائر المشهورة:
جزيرة سقوطرة. وطولها نحو من مائة وثمانين ميلا، وعرضها فى الوسط نحو خمسة عشر ميلا. وبها الصبر. يسكنها قوم من اليونان، تغلبوا على من كان فيها من الهند فى زمن الإسكندر. وبها عيون يقال إن الشرب منها يزيد فى العقل.
ولهذا سميت فى الكتب القديمة جزيرة العقل.
ويلى هذه القطعة قطعة تسمى بحر الزنج، وبحر بربرا؛ ويسمى ساحله الزنجبار.
وفيه مما يلى بلاد اليمن جزائر ومنها:
جزيرة دعون [1] ، وهى مدوّرة.
وجزيرة السود.
وجزيرة حورتان.
وجزيرة مروان. وفيها مدن يسكنها السّرّاق، وهى مقابلة لبلاد مهرة.
وجزائر الديبجات. وهى كثيرة. وأهلها مفرطون فى السواد. وجميع ما عندهم أسود، حتّى قصب السكر والكافور.
وجزيرة القمر. وتسمى جزيرة ملاى. وطولها أربعة أشهر، وعرض الواسع منها يزيد على عشرين يوما. وهى تحاذى جزيرة سرنديب. وفيها بلاد كثيرة أجلها كيدانة، وملاى (وإليها تنسب الجزيرة) ودهمى، وبليق، وخافورا، ودعلى، وقمرية (وإليها ينسب القمر) . ويقال: إن بهذه الجزيرة خشبا، ينحت من الخشبة
__________
[1] من المعلوم أن العرب يسمون شبه الجزيرة بالجزيرة. ولم أجد لهذا الاسم أثرا فيما بين يدىّ من كتب المراجعة فلعلها هى التى ذكرها ياقوت باسم «دغوث» وقال إنها بلد بنواحى الشحر من أرض عمان أو لعلها «دغوطة» التى قال أبو الفدا انها آخر مدن سفالة وآخر العمارة فى البر المتصل.(1/242)
منه شان [1] يكون طوله ستين ذراعا، يجذف على ظهره مائة وستون رجلا.
ولما ضاقت هذه الجزيرة بأهلها بنوا على الساحل محلات يسكنونها فى سفح جبل يعرف بهم. ومنها يخرج نهر النيل [2] .
6- ويخرج من هذا البحر الذى يجمع هذه القطع خليجان
أحدهما بحر القلزم، والآخر بحر فارس.
1- فأما خليج القلزم. فخروجه من باب المندب. وهو جبل طوله اثنا عشر ميلا، وسعة فوهته بمقدار أن الرجل يرى صاحبه من البرّ الآخر. فاذا قارب المندب يمرّ فى جهة الشمال، بغلافقة، والأهواب (وهما ساحلا زبيد) ثم الجردة، ثم الشّرجة، ثم عثّر (وكانت مقرّ ملك قديم) ثم بالسّرّين، وحلى، وعسفان، والجار (وهى فرضة المدينة) والجحفة، والصّفراء، والحوراء، ومدين، وأيلة، والطّور، وفاران، ثم القلزم (وكانت مدينة مسكونة، وكذلك أيلة) . ومن القلزم ينعطف من جهة الجنوب فيمرّ بالقصير (وهى فرضة لقوص) ثم إلى عيذاب (وهى فرضة لبلاد البجّة) ، ثم يمتدّ إلى زيلع (وهى ساحل بلاد الحبشة) ويتصل ببربرا.
وطوله ألف ميل وخمسمائة ميل. وعرضه فى مواضع أربعمائة ميل، ودون ذلك إلى مائتى ميل إلى ما دون ذلك.
وهو بحر كريه المنظر والرائحة.
__________
[1] أى من السفن المعروفة باسم الشوانى.
[2] يخلط الجغرافيون العرب كثيرا بين هذه الجزائر المعروفة بالقمر (بضم فسكون) وبين الجبل المعروف بالقمر (بفتح فسكون) فيجعلونهما شيئا واحدا ويقولون بخروج منابع النيل من تلك الجزائر. وهذا أمر غير معقول:(1/243)
وفيه فيما بين القلزم وأيلة المكان المعروف بتاران، وهو مكان يشبه دردور عمان.
لأنه فى سفح جبل إذا وقفت الريح على دردورته انقطعت بنصفين على شعبتين متقابلتين؛ ثم يخرج من كمّى هاتين الشعبتين، فيثير البحر فتتبلّد السفن باختلاف الريح فلا تكاد تسلم. وهاتان الشعبتان تسميان الجبيلين، ومقدار هذا الموضع ستة أميال، ويسمى بركة الغرندن [1] . ويقال: إنها التى أغرق الله فرعون وقومه فيها. فإذا كان للجنوب أدنى مهب، فلا يمكن سلوكه.
وفيه من الجزائر خمس عشرة جزيرة، العامر منها أربعة، وهى:
جزيرة دهلك. يحيط بها نحو مائتى ميل؛ يسكنها قوم من الحبوش. مسلمون.
وجزيرة سواكن. وهى أقل من ميل فى ميل. وبينها وبين البحر الحبشى بحر قصير يخاض. وأهلها طائفة من البجّة تسمى الحاسد وهم مسلمون، ولهم بها ملك.
وجزيرة النعمان. وبها نويس [2] تعيش من لحوم السلاحف.
وجزيرة السامرىّ. يسكنها قوم من اليهود، سامرة، فى عيش قشيف.
2- وأما خليج فارس. فإنه مثلث الشكل على هيئة القلع.
أحد أضلاعه من تيز مكران. فيمرّ فى بلاد كرمان على هرمز، ومن بلاد فارس على سيراف، وتوح [3] ، ونجيرم، وجنّابة، ودارين، وسينيز، ومهروبان؛ ومنها يفضى
__________
[1] الذى فى تقويم أبى الفداء: الغرندل باللام.
[2] تصغير ناس.
[3] هكذا فى الأصل وفى أبى الفدا. وأما ياقوت فقال إنها توّج. (وضبطها أبو الفدا بضم الثاء وسكون الواو) واتفق أبو الفداء وياقوت على أنها هى التى تسمى أيضا توز (ولكن ياقوت يضبطها بفتح فتشديد) . والذى فى ياقوت هو الصواب كما يؤخذ من «لب اللباب» للسيوطى، ومن «لطائف المعارف» للثعالبى.(1/244)
البحر إلى عبّادان، ومن عبادان ينعطف الضلع الآخر فيمرّ بالخط، وهو ساحل بلاد عمان إلى صور، وهى ساحل بلاد عمان مما يلى بلاد اليمن؛ ثم يمتدّ إلى رأس الجمحة من بلاد مهرة.
والضلع الآخر يمتدّ على سطح البحر من تيز مكران إلى رأس الجمحة.
وهذه الأضلاع غير متفاوتة فى الطول؛ فإن الضلع الذى يمتدّ على سطح البحر طوله خمسمائة ميل، وطول الضلع الآخر من حيث يبتدئ من تيز مكران إلى أن ينتهى إلى عبّادان ثم ينعطف إلى أن يصل إلى رأس الجمحة، تسعمائة ميل.
وفيه مما يلى عبّادان مكان يعرف بالدّردور. وهو بين جبلين، أحدهما يسمى كسير، والآخر عوير. ويضاف إليهما جبل آخر بالقرب منهما يقال فيه «وآخر ما فيه خير» لشدّة ما يرى بها من الأهوال. وهى جبال سود ذاهبة فى الهواء. يتكسر الماء على شعبها. ولا بدّ للمراكب أن تمرّ بينها، وقلّما تسلم.
وفى هذا البحر من الجزائر المشهورة على ألسنة التجار تسع، منها أربعة عامرة، وهى:
جزيرة خارك. يحيط بها اثنا عشر ميلا. وهى عامرة آهلة كثيرة البساتين.
وبها مغاص اللؤلؤ.
وجزيرة كيش. وبها مغاص اللؤلؤ أيضا. وهى آهلة. وتسمى هذه الجزيرة فى عصرنا هذا «قيس» .
وجزيرة أوال. وهى تجاه ساحل البحرين، وبينهما يوم. وبها مدينة. وأوال مدينة من مدائن البحرين.(1/245)
وجزيرة لافت. وتعرف بجزيرة بنى كاوان [1] . وطولها اثنان وخمسون ميلا، وعرضها تسعة أميال. وهى آهلة.
وهاتان الجزيرتان معدودتان فى بلاد جور من أعمال فارس.
ويقال أيضا إنه يخرج من البحر المحيط خليج ثالث فى شمال الصقالبة، ويمتدّ قرب بلد بلغار المسلمين، ويسمى بحر أدريك، منسوب إلى أمّة على ساحله فى جهة الشمال، ثم ينحرف نحو المشرق؛ وبين ساحله وبين أقصى بلاد الترك أرضون وجبال مجهولة خربة.
فهذا البحر المحيط وما يتفرّع منه.
7- وأما بحر ما نيطش [2]
ويسمى البحر الأسود وبحر سوداق. وهى مدينة على ساحله. هى فرضة لبلاد القفجاق مما يلى القسطنطينية. وعليه أيضا للقفجاق مدينة عظيمة تسمى قرم [3] ،
__________
[1] ويسميها الإدريسى: ابن كاوان، وغيره يسميها: بركاوان.
[2] جرى المؤلف على تعريف هذا البحر بأنه المعروف بالبحر الاسود. والحقيقة أن بحر نيطش هو المعروف الآن بالبحر الأسود، وأما بحر ما نيطش فهو المعروف ببحر آزاق وبحر آزوف. ومما يجب التنبيه عليه أن كثيرا من كتاب العرب يخلطون بين هذين البحرين. ولذلك قال المسعودىّ:
«فبحر نيطش وبحر ما نطش يجب أن يكونا بحرا واحدا، وإن تضايق البحر فى بعض المواضع بينهما أو صار بين الماءين كالخليج. وليست تسمية ما اتسع منه وكثير ماؤه بما نطش. وما ضاق منه وقل ماؤه بنيطش ينبغى أن تجمعهما فى اسم ما نطش أو نيطش. فإذا عبّرنا فى بعض المواضع فى مبسوط هذا الكتاب فقلنا «ما نطش» أو «نيطش» فإنما نريد به هذا المعنى فيما اتسع من البحر وضاق» .
(من مروج الذهب، ص 58) .
[3] وبها سميت شبه الجزيرة الموجودة فى البحر الأسود وهى شبه جزيرة القرم.(1/246)
مقصودة من كل الجهات. وبها علماء، وفقهاء، ورؤساء. وهى محدثة. مصّرت فيما بين الثلاثين والأربعين وستمائة للهجرة النبوية. ويسمى هذا البحر أيضا بحر الروس، لجزائر فيه يسكنها أمة تسمى الروس، نصارى. وهو بحر ضخم كثير الأخوار والتّروش [1] والجبال الجرش. وطوله من الشمال إلى الجنوب ألف ميل وثلاثمائة، وعرضه مختلف. ففى موضع ستمائة ميل، وفى موضع ثلاثمائة ميل. والناس مختلفون فيه. فمنهم من يقول إنه بحر مستقل بنفسه، يخرج منه خليج القسطنطينية ويصب فى بحر الروم أو هو مغيض لخليج القسطنطينية. وأكثرهم على أنه بحر مستقل بنفسه لطوله وعرضه وكثرة جزائره. وبعضهم يقول إنه خليج يخرج من البحر المحيط على ظهر بلاد الصقالبة، ويحيط به بلاد البطلمية، وبلاد الغامانية، وبلاد الأزكشية، وبلاد الشركسية، وبلاد العلان [2] والعنكر والناشقرد.
وفيه ست جزائر عامرة، وهى كثيرة المدن والقرى، يسكنها الروس.
8- وأما بحر الخزر
وهو بحر جرجان وطبرستان والديلم. وذلك بحسب ما يمرّ عليه من البلاد. وهو- على ما حكاه ابن حوقل- مدوّر الشكل، ليس له اتصال ببحر آخر.
__________
[1] فى الأصل التروس. ولكن الإدريسى يستعمل لفظة «التروش» بالشين المعجمة. ومعناها الشّعب أى لصخور التى تكون تحت سطح الماء قليلا فتنكسر السفن وتتحطم إذا اصطدمت بها.
[2] العلان ترك تنصروا وهم خلق كثير وقلعتهم إحدى قلاع العالم تتعمم بالسحاب (عن أبى الفدا) وبلادهم فى أرض قفجاق أو قفقاسية وهم المشهورون فى كتب العرب أيضا باسم اللان.(1/247)
قال: ولو أن إنسانا طاف به، لانتهى إلى الموضع الذى ابتدأ منه، لا يقطعه عن ذلك إلّا نهر يصب فيه [1] .
وفى شرقىّ هذا البحر بعض بلاد الديلم، وبلاد طبرستان، وجرجان، وبعض المسافة التى بين جرجان وخوارزم؛ وغربيه بلاد أرّان، وبلاد الخزر، وبعص مفازة الغزية [2] ؛ وشماليه مفازة الطّغزغزية؛ وجنوبيه الجيل [3] ، والديلم. وطوله ثمانمائة ميل، وعرضه ستمائة ميل.
وقال صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» : طوله من جهة الخزر إلى عين الهم ألف ميل [4] ، وعرضه من ناحية جرجان إلى مصب نهر إتل ستمائة ميل [5] ، وخمسون ميلا وهو يقطع عرضا من طبرستان إلى مدينة باب الأبواب فى أسبوع بالريح الطيبة، وفيه أربع جزائر، وهى:
جزيرة سياكوه [6] . وهى تجاه آبسكون، فرضة جرجان. يسكنها طائفة من الترك.
يصاد بها البزاة البيض.
وجزيرة سهلان. وطولها نحو مائة ميل، وعرضها نحو خمسين ميلا.
__________
[1] هذا ملخص العبارة التى أوردها ابن حوقل (وانظر كتابه ص 13) .
[2] فى الأصل: الغرنة. والتصحيح عن أبى الفدا.
[3] فى الأصل: الختل (وهو تحريف ظاهر من النساخ) .
[4] هكذا فى مقدمة الإدريسى (فى جميع النسخ) ولكنه عند كلامه على الجزء السابع من الإقليم الخامس نص على أن طول هذا البحر 800 ميل وأن عرضه 600 ميل (وهذا هو الذى نقله عنه أبو الفدا) ، ثم عاد الادريسى فقال ان طوله 900 ميل.
[5] فى الأصل مائه ميل [والتصحيح عن الإدريسى] .
[6] فى الاصل: بساه كوه. (والتصحيح عن أبى الفدا) .(1/248)
وجزيرة البركان [1] . وهى أطمة عظيمة تظهر منها نار فى الهواء، كأشمخ ما يكون من الجبال. ترى من نحو مائه فرسخ من البر.
وجزيرة تجاه باب الأبواب. كثيرة المروج والأنهار. وهذا البحر يقال إنه كثير التنانين.
وقد اختلف فيها. فمن الناس من يقول إنها دواب تعظم فى قعر البحر فتؤذى ما به من دواب، فيبعث الله عز وجل عليها السحاب والملائكة فتخرجها من البحر وتقلبها فى أرض يأجوج ومأجوج، فتكون طعاما لهم. وهذا مما يحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما. ومنهم من رأى أنها ريح سوداء تكون فى قعر البحر فتظهر إلى النسيم وتلحق بالسحاب، كالزّوبعة التى تثور من الأرض وتستدير ثم تطول فى الهواء. فيتوهم الناس أنها حيّات سود.
وسائر البحار تمدّ وتجزر، خلا هذا البحر.
ويقال إن علة المدّ والجزر تكون عن وضع الملك الموكل بقاموس البحر عقبه فى أقصى بحر الصين، فيفور فيكون منه المدّ؛ ثم يرفعه فيكون من رفعه الجزر.
(ومنهم من روى مكان العقب الإبهام) .
ومنهم من قال إن العلة فيه غير هذا كله.
والله أعلم!
__________
[1] هى شبه الجزيرة المعروفة الآن باسم يشرون. وفيها مدينة. كو المشهورة وهذه المدينة سماها أبو الفدا «باكوى» وسماها المسعودى «باكه» وقال ان بها معدن النفط الأبيض (أى البترول) ثم قال وفى هذه النفاطة أطمة، وهى عين من عيون النار لا تهدأ على سائر الأوقات تتضرم الصعداء.
فهذا هو الذى عناه النويرى باسم «البركان» .(1/249)
ذكر ما فى المعمور من البحيرات المالحة المشهورة وما بها من العجائب
وفى المعمور بحيرات مالحة:
فالذى اشتهر منها:
بحيرة خوارزم. وشكلها مثلث كالقلع، وليس فى المعمور بحيرة أعظم منها.
يحيط بها أربعمائة فرسخ. يصبّ فيها نهرا سيحون وجيحون، اللذان فى أرض الهياطلة، وغيرهما من الأنهار العظيمة الجارية فى بلاد الترك. وهى مع ذلك لا تزيد ولا تعذب.
وزعم صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» أن فى هذه البحيرة حيوانا يظهر على سطحها فى صورة الإنسان يتكلم ثلاث كلمات أو أربعا، بلغة لا تفهم ثم يغوص. وظهوره عندهم يدل على موت ملك من ملوك ذلك الحين.
ومنها بحيرة الطّرّيخ [1] : لسمك صغير يصاد منها ويحمل إلى سائر بلاد أرمينية وأذربيجان. وطولها أربع مراحل، وعرضها مرحلة. يجمع من أطرافها البورق.
والسمك يوجد بها فى زمان مخصوص، يأتيها فى نهر يصب إليها، ويكثر حتّى يصاد بالأيدى. فإذا انقضى ذلك الزمان، لا يوجد منه شىء البتة.
__________
[1] واسمها فى كتب الجغرافية العربية بحيرة أرجيش، وهذا السمك الذى سميت به، كما فى «القاموس» سمك صغار تعالج بالملح وتؤكل. وقد عرّفنا ابن حوقل أنه صغير مقدار الشبر يملح ويحمل الى الجزيرة والموصل والرقة وحران وحلب وسائر الثغور.(1/250)
وفى بلاد أذربيجان بحيرة كبوذان [1] . وكبوذان قرية فى جزيرة، يسكنها ملّاحو المراكب التى يركب فيها من هذه البحيرة. وطول هذه البحيرة نحو ثلاثة أيام، وعرضها كذلك. وفيها جزائر: منها جزيرة فيها قلعة حصينة تسمّى تلا. ولا يكون بهذه البحيرة حيوان البتة، لأن ماءها منتن ردىء.
وفى بلاد البحرين بحيرة. وبها وبالبحر الكبير سميت أرض هجر: «البحرين» .
وفى الشام بأرض الغور بحيرة زغر، وتسمّى المنتنة والميتة. لأنها لا يعيش بها حيوان ولا يتكوّن فيها شىء مما يتكوّن فى المياه الجارية والراكدة من الحيوانات.
وطولها ستون ميلا، وعرضها اثنا عشر ميلا.
ويقال إنها ديار قوم لوط التى خسفهم الله بها. ويقال إنها كانت خمس مدن، أسماؤها: «ضيعه» ، و «ضعوه» ، و «عمره» ، و «دوما» ، و «سذوم» . وكانت سذوم أكبرها وأعظمها.
ويصبّ فى هذه البحيرة نهر الأردنّ وغيره من الأنهار الصغار والسيول من بلاد الكرك وغيرها، فلا تزيد. ويقال إن لها منفذا إلى بحر القلزم. وبساحلها الشرقىّ إلى حدّ أريحا معدن الكبريت الأبيض، يحفر عليه ويخرج. ويتكوّن فى هذه البحيرة شىء على شكل البقر، ويطفو على وجهها ويتفقع، فيجمع منه شىء أسود يسمونه «الحمر» وينقل إلى قلعة الكرك يدّخر بها، يدخل فى النّفط.
__________
[1] هى التى ذكرها أبو الفدا باسم «بحيرة تلا» وياقوت باسم «بحيرة أرمية» . وقد ذكر أن فى وسطها جبلا يقال له «كبوذان» وجزيرة فيها أربع قرى أو نحو ذلك يسكنها ملّاحو سفن هذا البحر (معجم البلدان ج 2 ص 78) .(1/251)
وفى أعمال مصر بحيرة تنّيس، مقدارها إقلاع يوم فى [عرض] [1] نصف يوم.
يكون ماؤها فى أكثر السنة ملحا من دخول ماء البحر الرومىّ إليها، فإذا مدّ النيل صبّ فيها فتحلو فإذا جزر ملحت.
ويقال: إنه كان فى مكانها برّ مسلوك تغلّب عليه البحر فى ليلة واحدة، فما كانت أرضه مستفلة غرق، وما كانت أرضه عالية مثل تنّيس وتونة بقى.
وفى وسط هذه البحيرة جزيرة صغيرة تسمى سنجار، يسكنها قوم صيادون.
وقال إبراهيم بن وصيف شاه فى «كتاب العجائب الكبير» : إن بحيرة تنّيس كانت أجنّة وكروما ومنازل ومنتزهات، وكانت مقسومة بين ملكين من ولد أتريب بن مصر، وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا، فأنفق المؤمن ماله فى وجوه البرّ حتّى باع حصته من أخيه وفرّق مالها أيضا، فأصلحها أخوه وزاد فيها غروسا وفجّر فيها أنهارا وبنى فيها بنيانا، واحتاج أخوه إلى ما فى يده فكان يمنعه ويفتخر عليه بما فى يده من المال والأجنّة، فخاطبه أخوه فى بعض الأيام فسطا عليه، وقال: أنا أكثر منك مالا وولدا وخيرا، فقال له أخوه: فما أراك شاكرا لله تعالى على ما رزقك، ويوشك أن ينزع ذلك منك. ويقال: إنه دعا عليه فغرّق ماء البحر ما كان له فى ليلة واحدة.
وقيل: إن هذين اللذان ذكرهما الله تعالى فى كتابه العزيز، فقال: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ)
الآيات؛ والله تعالى أعلم.
وبالقرب من الإسكندرية بحيرة، طولها إقلاع يوم وعرضها كذلك، يدخل إليها الماء من بحر الروم من مكان الأشتوم، ويخرج منها إلى بحيرة أخرى دونها
__________
[1] الزيادة من «معجم ياقوت» .(1/252)
فى خليج عليه مدينتان، إحداهما تسمّى الجدية، والأخرى تسمّى أتلو [1] كثيرة المقات والنخل، وكلها فى الرمل. ويصب فى البحيرة خليج من النيل يسمّى «الحافر» طوله نصف يوم إقلاعا، وهو كثير الطير والسمك والعشب.
وفى بلاد إفريقية بحيرة بنزرت ماؤها ملح، وطولها ستة عشر ميلا، وعرضها ثمانية أميال. وعلى عشرة أميال منها بحيرة ماؤها عذب تسمّى بحيرة متّيجة [1] .
فإذا جاء الشتاء وكثرت السيولى، غاضت بحيرة بنزرت، وفاضت بحيرة متّيجة حتّى تمدّها ستة شهور فلا يحلو ماؤها؛ فإذا انقضى زمن الشتاء وجاء الصيف، غاضت بحيرة متّيجة، وفاضت بحيرة بنزرت فلا يملح ماؤها. ويصاد فى هذه البحيرة فى كل شهرين من شهور السنة نوع من السمك لا يخالطه غيره؛ وأهل الناحية يعرفون دخول الشهور بتغيّر السمك فيها.
وحكى صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» : أن بتخوم بلاد أرمينية بحيرة يكون فيها الماء والسمك والطير ستة أشهر كوامل، ثم تجف فلا يرى فها ماء ولا سمك ولا طير سبع سنين، فإذا كانت السنة الثامنة ظهر ذلك فيها ستة أشهر ثم ينقطع.
وهذا دأبها مدى الزمان.
وبخلاط بحيرة لا يرى فيها سمك ولا ضفدع ولا سرطان عشرة أشهر من السنة، ثم يظهر ذلك كله فى الشهرين الباقيين.
__________
[1] كذا بالأصل وفى معجم ياقوت «أتكو» بليدة قرية من نواحى مصر قرب رشيد.
[2] وزنها فى القاموس بسكّينة.(1/253)
وبقرية من ناحية پنجهير [1] من بلاد خراسان بحيرة، ما غمس فيها شىء إلا ذاب:
حديدا كان أو خشبا.
وكذلك بركة النّظرون التى بأرض مصر ما وقع فيها شىء إلا صار نطرونا حتّى العظم والحجارة.
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر البحر
(ما جاء من ذلك على لفظ أفعل) يقال: أعمق من البحر. أندى من البحر.
ويقال: حدّث عن البحر ولا حرج.
ويقال: جاء بالطّمّ والرّمّ. والطّم البحر؛ والرّم البر.
ومن أنصاف الأبيات:
وهل يملك البحر أن لا يفيضا؟
ومن ورد البحر استقلّ السّواقيا!
أنا الغريق، فما خوفى من البلل؟
ومن الأبيات:
هو البحر إلا أنّه عذب مورد، ... وذا عجب أنّ العذوبة فى البحر!
وقال ابن الرومىّ:
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلا، وتعلو فوقه جيفه.
__________
[1] فى الأصل «پنجهير» وهى على ما قال ياقوت مدينة بنواحى بلخ. فلذلك أظن أن ذلك الاسم محرف عن «پنجديه» التى قال ياقوت إنها من نواحى خراسان وهو الصقع الذى أشار إليه المؤلف.
نعم إن ياقوت لم يذكر هذه البحيرة عند كلامه على كل من المدينتين ولكن المسعودىّ نص على أن ينجهير من أرض خراسان (ج 2 ص 15 طبع أوروبا) .(1/254)
ومثله قول الآخر:
كمثل البحر يغرق فيه حىّ، ... ولا ينفكّ تطفو فيه جيفه.
وقال ابن الرومىّ:
ألا فارجه واخشه إنه ... هو البحر: فيه الغنى والغرق!
وقال أبو نواس:
من قاس غيركم بكم، ... قاس الثّماد إلى البحور!
وقال آخر:
إذا كنت قرب البحر مالى مخلص ... إليه، فما يغنى اقترابى من البحر!
وقال آخر:
كالبحر يقذف للقريب جواهرا ... منه، ويرسل للبعيد سحائبا.
ذكر شىء مما قيل فى وصف البحر وتشبيهه قال ابن رشيق عفا الله عنه:
البحر مرّ المذاق صعب ... لا جعلت حاجتى إليه.
أليس ماء ونحن طين؟ ... فما عسى صبرنا عليه؟
وقال ابن حمديس:
لا أركب البحر، أخشى ... علىّ منه المعاطب!
طين أنا وهو ماء، ... والطّين فى الماء ذائب.
وقال آخر:
وزاخر ليس له صولة ... إلّا إذا ما هبّت الرّيح. فهو إذا ما سكنت ساكن
كأنما الرّيح له روح.(1/255)
وقال أمية بن عبد العزيز بن أبى الصلت:
تناهى البحر فى عرض وطول، ... وليس له على التحقيق كنه.
وأعجب كلّما شاهدت فيه ... سلامتنا على الأهوال منه.
فحسبى أن أراه من بعيد ... وأهرب فوق ظهر الأرض عنه.
ومما وصف به البحر والسفن قول بشر بن أبى خازم:
أطاعن صفّهم ولقد أرانى ... على زوراء تسجد للرّياح.
إذا اعترضت براكبها خليجا، ... تذكّر ما عليه من جناح.
ونحن على جوانبها قعود، ... نغضّ الطّرف كالإبل القماح.
وقال ابن تولو من أبيات:
تحثّ بنا فيه قلاص كأنها ... وعال، تبدّت من جبال شواهق.
لها كافلا ماء وريح كلاهما ... يعلّمها فى الجرى سبق السّوابق
. إذا انحدرت؛ فالماء ألطف قائد، ... وإن صعدت، فالريح أعسف سائق.
وقال السلامىّ:
وميدان تجول به خيول ... تقود الدّارعين ولا تقاد.
ركبت به إلى اللّذّات طرفا ... له جسم، وليس له فؤاد!
جرى فظننت أنّ الأرض وجه، ... ودجلة ناظر، وهو السّواد.
وقال محمد بن هانئ:
معطّفة الأعناق نحو متونها ... كما نبّهت أيدى الحواة الأفاعيا.(1/256)
إذا اعملوا فيها المجاذيف سرعة، ... ترى عقربا منها على الماء ماشيا.
إذا ما وردن الماء شوقا لبرده، ... صدرن- ولم يشربن- غرثى صواديا.
وقال الرستمىّ:
لم نزل مشفقين مذقيل: سارت ... بك دهم قليلة الأوضاح.
أصلها البرّ وهى ساكنة فى ا ... لبحر سكنى إقامة لا براح.
هى فى الماء وهى صفر من الما ... ء سوى نضح موجها النّضّاح.
فإذا أوقرت، فذات وقار؛ ... وإذا أخليت، فذات جماح.
وتراها فى اللّجّ ذات جناحي ... ن وإن لم تكن بذات جناح.
من مطايا لا يغتذين ولا يس ... أمن سير البكور بعد الرّواح.
منشآت من الجوارى اللّواتى ... لسن من صنعة الجوارى الملاح.
والدات مولّدات بلا ح ... ل نكاح ولا حرام سفاح.
لا من البيض بل من السّود ألوا ... نا وذات الألواح والأرواح.
طائرات مع الرّياح، وطورا ... كاسرات بالجرى حدّ الرّياح.
سائرات لا يشتكين سرى اللي ... ل ولا يرتقبن ضوء الصّباح.
ساكنات بلا خضوع سكون، ... جامحات بلا غرام جماح.
لا يخفن الغمار يقذفن فيها، ... ويخفن المرور بالضّحضاح.
إن صدمن الحصى عطبن ولا يع ... طبن إمّا صدمن حدّ الرّماح.
ما رأى الناس من قصور على الما ... ء سواها يسير سير القداح.
يتسبسبن كالأساود فى الخف ... ة لا فى معادة الأشباح.
فإذا ما تقابلت، قلت: ذود ... من كباش تقابلت للنّطاح.(1/257)
شرعها البيض كالغمامات فى الصّي ... ف صحاحا منها وغير صحاح.
كم مدلّ بالجاه والمال فيها، ... وبه حاجة إلى الملّاح!
قائد جنده لهم أدوات ... نفعها ثمّ فوق نفع السّلاح.
فإذا البحر صال، صالوا عليها ... بمواض تمضى بغير جراح.
يكثرون الصّياح حتّى كأنّ الس ... فن تجرى من خوف ذاك الصّياح.
ومما وصفت به البحار والسفن نثرا قال أبو عمرو صاحب الصلاة القرطبىّ يصف شانيا [1] سافر فيه:
«فارقت مولاى حين أخذت للسّفر عدّة الحزم، وشددت عقدة العزم؛ وانتظمت مع السّفر فى سلك، وركبنا على اسم الله ظهر الفلك؛ فى شان عظيم الشان، أحدقت به النّطق إحداق الحيازم، وأمسكته إمساك الأبازم؛ ثم تتبّع خلله فسدّ، ورخوه فشدّ؛ حذرا على ألواحه من الإنخاع، واتصلت بعرانيسه اتصال الجلود بالأضلاع؛ ثم جلببت جلبابا من القار، وضمّخ فى المتنين والفقار؛ فامتاز بأغرب ميسم، وعاد كالغراب الأعصم؛ [2] قد حسن منه المخبر، وكأنّ الكافور قد قرن فيه بالعنبر. له من التماسيح أجنابها، ومن الخطاطيف أذنابها؛ واستقلّت رجله بفراشها، استقلال السّهام برياشها؛ وقد مدّ قلعيه ذراعيه متلقيا من وفد الرياح مصافحه، ومستهديا منها منافحة. تقلّد الحكم عليها إشتيام [3] ذو تيقظ واستبصار، واستدلال على الأعماق
__________
[1] الشانى اسم لنوع من السفن التجارية والحربية عند المسلمين وجمعه شوانى.
[2] أى الأبيض الجناحين (عن تاج العروس) .
[3] الإشتيام هو رئيس الملّاحين، لفظ أعجمىّ أخذه العرب (راجع الجواليقىّ)(1/258)
والأقصار؛ يستدلّ باختلاف المياه إذا جرى، ويهتدى بالنجوم إذا سرى؛ قد جعل السماء مرآة ينظر فيها، ويحذر من دجن يوافيها؛ فإذا أصدأها الظلام بحنادسه، وصقلها الضياء بمداوسه؛ يسبّح الله فى مصبحه وممساه، ويبسمل فى مجراه ومرساه، ويذكر ربّا يحفظه ولا ينساه. قد اتخذ فيه مواتيه، من أنجد النّواتيه؛ مشمّرين الأثواب، مدبّرين بالصواب؛ يفهمون عنه بالإيماء، ويتصرّفون له تصرّف الأفعال للأسماء؛ ويترنّمون عند الجذب والدّفع، والحطّ والرفع: بهينمة تبعثهم على النّشاط.
والجمام [1] ، وتؤدّيهم فى عملهم بالتمام. فخرجنا ونفح الريح نسيم، ووجه البحر وسيم؛ وراحة الرّيح تصافح عبابه مصافحة الخلّ، وتطوى جناحه طىّ السّجل؛ وتجول من لججه أبرادا، وتصوغ من حبكه أزرادا: كأنما ترسم فى أديم رقشا، أو تفتح فى فصوص نقشا. فلما توسطنا ثبج البحر، وصرنا منه بين السّحر والنّحر؛ صحت الريح من سكرها، وطارت من وكرها؛ فسمعنا من دوىّ البحر زئيرا، ومن حبال الثانى صفيرا؛ ورأيناه يزبد ويضطرب، كأنّه بكأس الجنوب قد شرب؛ واستقبلنا منه وجه باسر، وطارت من أمواجه عقبان كواسر؛ يضطرب ويصطفق، ويختلف ولا يتّفق؛ كأن الجوّ يأخذ بنواصيها، ويجذبها من أقاصيها؛ والشانى تلعب به أكفّ الموج، ويفحص منها بكلكله فوجا بعد فوج؛ ويجوب منها ما بين أنجاد وأغوار، وخنادق وأسوار؛ والبحر تحتنا كأرض تميد بأهلها، وتتزلزل بوعرها وسهلها؛ ونحن قعود، دود على عود؛ قد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا؛ والرّشّ يكتنفنا من كل جانب، ويسيل من أثوابنا سيل المذانب. فشممنا ريح الموت، وظننّا التلف والفوت؛ وبقينا فى همّ ناصب، وعذاب واصب؛ حتّى انتهينا
__________
[1] ذهاب الإعياء والتعب.(1/259)
إلى كنف الجون، وصرنا منه فى كنّ وصون؛ وهدأ من البحر ما استشرى، وتنادينا بالبشرى؛ ووطئنا من الأرض جددا، ولبسنا أثواب الحياة جددا! ......»
ومن رسالة لأبى عامر بن عقال الأندلسىّ عفا الله عنه جاء منها:
« ... وكان جوازه، أيده الله على بحر ساكن، قد ذل بعد استصعابه، وسهل بعد أن رأى الشامخ من هضابه؛ وصارحيّه ميتا، وهديره صمتا؛ وجباله لا ترى بها عوجا ولا أمتا؛ وضعف بعد تعاطيه، وعقد السلّم بين موجه وشاطيه. فعبر آمنا من لهواته، متملّكا لصهواته؛ على جواد يقطع البحر سبحا، ويكاد يسبق الريح لمحا؛ لا يحمل لجاما ولا سرجا، ولا يعرف غير اللّجّة سرجا؛ فلله هو من جواد، له جسم وليس له فؤاد؛ يخترق الهواء ولا يرهبه، ويركض فى الماء ولا يشربه! ......»
ومن رسالة للأستاذ ابن العميد فى مثل ذلك جاء منها:
« ... وكأن العشاريات وقد ردّيت بالقار، وحلّيت باللّجين والنّضار؛ عرائس منشورة الذوائب، مخضوبة الحواجب؛ موشحة المناكب، مقلّدة الترائب؛ متوّجة المفارق، مكلّلة العواتق، فضّية الحلل والقراطق؛ أو طواويس أبرزت رقابها، ونشرت أجنحتها وأذنابها؛ وكأنها إذا جدّت فى اللّحاق، وتنافست فى السّباق؛ نوافر نعام، أو حوافل أنعام؛ أو عقارب شالت بالإبر، أودهم الخيل واضحة الحجول والغرر؛ وكأن المجاديف طير تنفض خوافيها، أو حبائب تعانق حبائب بأيديها......»(1/260)
الباب السابع من القسم الرابع من الفن الأوّل
فى العيون والأنهار والغدران وما وصفت به البرك والدواليب والنّواعير والجداول قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) .
قال المفسرون: هو المطر. ومعنى سلكه أدخله فى الأرض، وجعله عيونا ومسالك ومجارى كالعروق فى الجسد.
قال أبو الفرج، قدامة بن جعفر: مجموع ما فى المعمور من الأنهار فى الأقاليم السبعة مائة نهر وأربعة وثمانون نهرا، منها:
فى الإقليم الأول ثلاثة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم الثانى تسعة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم الثالث ستة وعشرون نهرا؛ وفى الاقليم الرابع أربعة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم الخامس ثمانية وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم السادس ستة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم السابع ثمانية وعشرون نهرا.
ثم قال: وفى هذه الأنهار ما جريانه من المشرق إلى المغرب، كنهر نهاوند ونهر سجستان؛ وما جريانه من الشمال إلى الجنوب كدجلة؛ وما جريانه من الجنوب إلى الشمال، كنهر النّيل ونهر مهران؛ وما جريانه مركّب من هذه الجهات، كنهر الفرات وجيحون ونهر الكرّ.
وسنذكر المشهور منها.(1/261)
فأما نهر النيل
فزعم قدامة بن جعفر أن انبعاثه من جبل القمر وراء خطّ الاستواء، من عين تجرى منها عشرة أنهار، كلّ خمسة منها تنصب إلى بطيحة. ثم يخرج من كل بطيحة نهران، وتجرى الأنهار الأربعة إلى بطيحة كبيرة فى الإقليم الأوّل. ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل.
وقال صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» : «إن هذه البحيرة تسمّى بحيرة كورى منسوبة لطائفة من السودان يسكنون حولها، متوحّشون: يأكلون من وقع إليهم من الناس. ومن هذه البحيرة يخرج نهر غانة، ونهر الحبشة؛ فإذا خرج النّيل منها يشق بلاد كورى ثم بلاد ننه (طائفة من السودان أيضا، وهم بين كانم والنّوبة) ، فإذا بلغ دنقلة (مدينة النوبة) عطف من غربيها إلى المغرب، وانحدر الى الإقليم الثانى، فيكون على شطّيه عمارة النّوبة. وفيه هناك جزائر متسعة عامرة بالمدن والقرى.
ثم يشرّق إلى الجنادل، وإليها تنتهى مراكب النوبة انحدارا، ومراكب الصعيد إقلاعا. وهناك أحجار مضرسة لا مرور للمراكب عليها إلا فى إبّان زيادة النيل.
ثم يأخذ على الشّمال فيكون على شرقيّة مدينة أسوان من بلاد الصعيد الأعلى؛ ثم يمرّ بين جبلين هما يكتنفان لأعمال مصر، أحدهما شرقىّ والآخر غربىّ حتّى يأتى مدينة مصر [1] فتكون فى شرقيه. فإذا تجاوزها بمسافة يوم، انقسم قسمين: أحدهما يمرّ حتّى يصب فى بحر الروم عند مدينة دمياط، ويسمّى بحر الشرق؛ والآخر- وهو عمود النيل ومعظمه- يمرّ إلى أن يصب فى بحر الروم أيضا عند مدينة رشيد، ويسمّى بحر الغرب.
__________
[1] يشير إلى الفسطاط، أى مصر العتيقة فى عرفنا الآن.(1/262)
قالوا: وتكون مسافة النيل من منبعه إلى أن يصب فى رشيد سبعمائة فرسخ وثمانية وأربعين فرسخا. وقيل إنه يجرى فى الخراب أربعة أشهر، وفى بلاد السودان شهرين، وفى بلاد الإسلام شهرا.»
وروى البخارى فى «صحيحه» عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، عن النبىّ (صلى الله عليه وسلم فى حديث المعراج، قال: «ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. (قال: هذه سدرة المنتهى) وإذا أربعة أنهار نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أمّا الباطنان، فنهران فى الجنة؛ وأمّا الظاهران، فالنيل والفرات» .
وليس فى الأرض نهر يزيد حين تنقص الأنهار وتغيض، غيره. وذلك أن زيادته تكون فى الفيظ الشديد فى شمس السّرطان والأسد والسنبلة.
وقد حكى فى فضائل مصر أن الأنهار تمدّه بمائها، وذلك عن أمر الله تعالى.
وقال قوم: إن زيادته من ثلوج يذيبها الصيف على حسب مددها، كثيرة كانت أو قليلة؛ وفى مدده اختلاف كثير.
وكان منتهى زيادته قديما ستة عشر ذراعا، والذراع أربعة وعشرون إصبعا، بمقياس مصر. فان زاد عن ذلك ذراعا واحدا، زاد فى الخراج مائة ألف دينار: لما يروى من الأراضى العالية.
والغاية القصوى فى الزيادة ثمانية عشر ذراعا فى مقياس مصر. [1] فإذا انتهى إلى هذا الحدّ، كان فى الصعيد الأعلى اثنين وعشرين ذراعا: لارتفاع البقاع التى يمرّ عليها.(1/263)
فإذا انتهت زيادته، فتحت خلجانات وترع تتخرّق المياه فيها يمينا وشمالا إلى البلاد البعيدة عن مجرى النيل.
وللنيل ثمان خلجانات، وهى: خليج الإسكندرية؛ وخليج دمياط؛ وخليج منف؛ وخليج المنهى (حفره يوسف الصدّيق عليه السلام) ؛ وخليج أشموم طنّاح؛ وخليج سردوس (حفره هامان لفرعون) ؛ وخليج سخا؛ وخليج حفره عمرو بن العاص، يجرى إلى أن يصبّ فى السّباخ.
ويحصل لأهل مصر إذا وفى النيل ستة عشر ذراعا- وهى قانون الرىّ- فرح عظيم: بحيث إن السلطان يركب فى خواصّ دولته وأكابر الأمراء فى الحراريق إلى المقياس، ويمدّ فيه سماطا يأكل منه الخواصّ والعوامّ، ويخلع على القيّاس، ويصله بصلة مقرّرة له فى كلّ سنة.
وقد ذكر بعض المفسرين «للكتاب العزيز» أن يوم «وفاء النيل» هو اليوم الذى وعد فيه فرعون موسى بالاجتماع، وهو قوله تعالى إخبارا عن فرعون (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)
. والعادة جارية أن اجتماع الناس للتخليق فى هذا الوقت.
ومتى قصّر النيل عن هذا المقدار، غلت الأسعار.
وهو إذا ابتدأ فى زيادته يكون مخضرّا، ثم محمّرا، ثم كدرا.
وإذا انتهى فى الزيادة غشّى الأرض، وتصير القرى فوق الرّوابى فلا يتوصّل إليها إلا فى المراكب أو على الجسور الممتدّة التى تنفق عليها الأموال الكثيرة وتتخذ لحفظ الماء.(1/264)
فإذا انتهى رىّ مكان وأخذ حدّه، قطع جسر ذلك المكان من مكان معروف (يعرفه خولة البلاد ومشايخها) تروى منه الجهة التى تليها مع ما تجمع فيها من الماء المختص بها. ولولا إتقان هذه الجسور وحفر الترع لقلّ الانتفاع بالنيل.
وقد حكى أنه كان يرصد لعمارة الجسور فى كل سنة ثلث الخراج لعنايتهم بها:
لما يترتب عليها من المصالح، ويحصل بها من النفع فى رىّ البلاد.
وقد وصف بعض الشعراء، النيل فى طلوعه وهبوطه، فقال:
واها لهذا النّيل، أىّ عجيبة ... بكر بمثل حديثها لا يسمع!
يلقى الثرى فى العام وهو مسلّم ... حتى إذا ما ملّ عاد يودّع.
مستقبل مثل الهلال، فدهره ... أبدا يزيد كما يزيد ويرجع.
وللشعراء فيه أوصاف وتشبيهات، نذكرها بعد إن شاء الله تعالى في موضعها.
وهذا النهر مخالف فى جريه لسائر الأنهار، لأنه يجرى مما يلى الجنوب مستقبل الشمال. وكذلك نهر مهران بالسّند، ونهر الأرنط، وهو نهر حمص وحماة، ويسمّى العاصى لمخالفته للأنهار فى جريها. وما عداها من الأنهار جريها من الشمال إلى الجنوب:
لارتفاع الشمال عن الجنوب وكثرة مياهه.
وهو أخفّ المياه وأحلاها وأعمّها نفعا وأكثرها خراجا.
وقد حكى أنه جبى فى أيام كيقاوش (أحد ملوك القبط الأوّل مائة ألف ألف وثلاثين ألف دينار؛ وجباه عزيز مصر مائة ألف ألف دينار؛ وجباه عمرو بن العاص اثنى عشر ألف ألف دينار؛ ثم رذل إلى أن جبى أيام القائد جوهر (مولى المعزّ العبيدىّ) ثلاثة آلاف ألف ومائتى ألف دينار.(1/265)
وسبب تقهقره أن الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق فى حفر ترعه وإتقان جسوره وإزالة ما هو شاغل للأرض عن الزراعة كالقصب والحلفاء.
وحكى ابن لهيعة أن المرتّبين لذلك كانوا مائة ألف وعشرين ألف رجل:
سبعون ألفا للصعيد، وخمسون ألفا للوجه البحرىّ.
وحكى ابن زولاق أن أحمد بن المدبر لما ولى الخراج بمصر، كشف أرضها فوجد غامرها أكثر من عامرها، فقال: والله لو عمرها السلطان، لوفت له بخراج الدنيا.
وقيل إنها مسحت أيام هشام بن عبد الملك، فكان ما يركبه الماء العامر والغامر مائة ألف ألف فدان. والفدان أربعمائة قصبة، والقصبة عشرة أذرع.
واعتبر أحمد بن المدبر ما يصلح للزراعة بمصر فى وقت ولايته، فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان. والباقى استبحر وتلف.
واعتبر مدّة الحرث فوجدها ستين يوما. والحراث يحرث خمسين فدانا، فكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وثمانين ألف حرّاث.
وأما الفرات
فهو أحد الرّافدين، ويقال الوافدين، والآخر دجلة، سميا بذلك لأنهما يجريان فى جانبى بغداد: دجلة من شرقيها، والفرات من غربيها: يأتى إليها من دجلة من واسط، والبصرة، والأبلة، والأهواز، وفارس، وعمان، واليمامة، والبحرين، وسائر بلاد الهند، والسند، والصين؛ ويأتى إليها من الفرات من الموصل، وأذربيجان، وأرمينية، والجزيرة، والثغور، والشام، ومصر، والمغرب؛ وقد تقدّم ذكرنا لحديث البخارى أنه يجرى من تحت سدرة المنتهى.(1/266)
وأما مبتدأ جريه الذى يعرفه الناس، فمن مدينة قاليقلا من نهر يسمّى أودخش، ويجرى مقدار أربعمائة وخمسين ميلا مغرّبا، ثم يخرج من جهة الجنوب حتّى يمرّ بين ثغرى ملطية، وسميساط؛ ثم إلى جسر منبج؛ ثم يعطف ويأخذ جهة الجنوب حتّى يصل إلى بالمن ويمر بنصيبين، والرّقة، وقرقيسيا، والرّحبة؛ فيلتحف على عانات؛ ثم يمتدّ حتّى يمر بهيت والأنبار. فإذا جاوزها انقسم قسمين: قسم يأخذ نحو الجنوب قليلا وهو المسمّى بالعلقم، ينتهى إلى بلاد سورا وقصر ابن هبيرة والكوفة والحلّة، إلى البطيحة التى بين البصرة وواسط؛ والقسم الآخر يسمّى نهر عيسى، منسوب لعيسى بن علىّ بن عبد الله بن عباس، وهو ينتهى إلى بغداد، ويمرّ حتّى يصبّ فى دجلة.
قال المسعودىّ: وقد كان الأكثر من ماء الفرات ينتهى إلى بلاد الحيرة؛ ثم يتجاوزها ويصب فى البحر الفارسىّ، وكان البحر يوم ذاك فى الموضع المعروف بالنّجف فى هذا الوقت، وكانت مراكب الهند والصين ترد على ملوك الحيرة فيه.
قال: والموضع الذى كان يجرى فيه بيّن إلى زمن وضعى هذا الكتاب، يعنى «كتاب مروج الذهب» وهو فى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، ويعرف بالعتيق، وعليه كانت وقعة القادسية.
وطول الفرات من حيث يخرج عند ملطية إلى أن يأتى ما يأتى منه إلى بغداد ستمّائة فرسخ وثلاثة وعشرون فرسخا، وفى شطّه مدن فى جزائر تعدّ من أعمال الفرات، وهى الريسة، والناووسة، والقصر، والحديثة، وعانات، والدّالية.(1/267)
وأما نهر دجلة
ويسمى السلامة، وبه سميت بغداد دار السلام على أحد القولين، والثانى السلام على الخلفاء فيها.
وهذا النهر فارزبين العراق والجزيرة، وانبعاثه من أعين بجبال آمد، ويصب إليه نهران يخرجان من أرزن الروم وميّا فارقين وعيون أخرى من جبال السلسلة، فيمرّ ببلد، ثم بالموصل فيصب فيه نهر الخابور الخارج من بلاد أرمينية بين بلاد سورا وقبر سابور؛ ويصب فيه الزاب الأكبر الخارج من بلاد أذربيجان على فرسخ من الحديثة. ويسمى المجنون لحدّته وشدّة جريه، ثم تمرّ دجلة فيصب فيها الزاب الأوسط، ومخرجه من الفرات ويجرى بين إربل ودقوقاء، ويصب فى دجلة أيضا الزاب الأصغر، ومخرجه أيضا من الفرات.
وهذه الزوابى الثلاثة أنبطها زاب بن طهماسب: أحد ملوك الفرس الأول، ثمّ تمرّ دجلة بتكريت إلى أن تتجاوز سامرّا قليلا فيقع فيها نهر عيسى ويمرّ حتّى يشقّ بغداد.
فاذا تجاوزها صب فيه نهر يخرج من بلاد أرمينية يسمّى تامرّا بعد أن يمرّ بناصلو ثم بباجسرا فيسمّى النهروان، ويشق مدينة تعرف به، ثم تمرّ دجلة بجر جرايا والنّعمانية ثم بواسط، ثم إلى البطائح، ثم تخرج منها فتمرّ بالبصرة وتجرى حتّى تنتهى إلى عبّادان، وعندها تصبّ فى البحر الفارسىّ.
وما يمرّ من دجلة بالبصرة يملح إذا مدّ البحر فلا يشرب منه البتة؛ ويحلو إذا جزر.
فأهل البصرة ينتظرون بالاستقاء منه الجزر، وهو يمدّ بكرة ويجزر عشاء.(1/268)
وكانت المراكب التى ترد من الهند والصين تدخل فى دجلة من بحر فارس إلى مدينة المداين، فاتفق أن انبثق فى أسافل كسكر بثق عظيم على عهد قباذ بن فيروز فأهمل حتّى طغى ماؤه وغرّق غمارات وضياعا فصارت بطائح.
ويسمّى هذا البثق دجلة العوراء لتحوّل الماء عنه. وصار بين دجلة الآن ودجلة العوراء مسافة بعيدة تسمّى بطن جوخى، وهو من حدّ فارس من أعمال واسط إلى نحو السّوس من أعمال خوزستان.
ويقال إن كسرى أنفق أموالا عظيمة على أن يحوّل الماء إليها فأعياه ذلك.
ورامه خالد بن عبد الله القسرى فعجز عنه.
ومقدار مسافة جرى نهر دجلة إلى أن يصب فى البحر الفارسى ثلاثمائة فرسخ؛ ومقدار البطائح ثلاثون فرسخا طولا وعرضا. وهى تفيض فى كثير من الأوقات حتى يخشى على بغداد الغرق.
وأما نهر سجستان
ويسمّى الهندمند [1] ، فيقال إن منوچهر بن أيراج [2] بن أفريدون أنبطه.
وهو يجرى من عيون فى بلاد الهند ويمرّ ببلد الغور؛ فإذا تجاوزها، مرّ من أعالى سجستان على بررخّج، ثم على بسط [3] ، ثم على دونج [4] فتفرّع منه أنهار تجرى فى شوارعها. ثم يمرّ عمود النهر حتّى يصب فى بحيرة زرة.
__________
[1] وسماه المسعودى «الهرمند» فى كتاب «التنبيه والإشراف» .
[2] فى المسعودى «أيران» وقال: إن أيران تسميه الفرس أيراج.
[3] هى المشهورة باسم «بست» . ومنها أبو الفتح البستىّ الشاعر المعروف.
[4] لم أعثر على هذا الاسم فيما بيدى من كتب الجغرافية العربية، ولعلها هى نفس المدينة التى ذكرها ياقوت وغيره باسم «زربح» وقال إنها قصبة سجستان.(1/269)
وطول هذا النهر من حيث يبتدئ إلى نهايته مائة فرسخ.
وزعم قوم أنه يخرج من نهر الكنك.
وأما نهر مهران
وهو نهر السند [1] ، فهو يشبه نيل مصر فى زيادته ونقصه واصناف حيوانه وما يتفرّع منه من الخلجان.
وهو يستمدّ من أربعة أنهر: نهران يجريان من السند، ونهر من ناحية كابل، ونهر من بلاد قشمير. وتجتمع فتكون نهرا واحدا، ويجرى حتّى ينتهى إلى الدور فيمرّ بها، ومن ثم يسمّى نهر مهران، ثم يمرّ بالمولتان، ثم بالمنصورة، ثم يجرى إلى ديبل. فإذا تجاوزها صب فى بحر الهند على ستة أميال منها.
وطوله ألف فرسخ.
وأما نهر جيحون [2]
ويسمّى بالفارسية «به روذ» وهو «نهر بلخ [3] » .
وانبعاثه من بحيرة فى بلاد التّبّت، مقدارها طولا وعرضا أربعون ميلا، تجتمع من أنهار الختّل.
__________
[1] لا يزال اسم «مهران» علما يطلقه بعض الهنود إلى الآن على القسم الأسفل من نهر السند.
[2] فى الأصل «جيحان» . وهو خطأ لأن جيحان نهر آخر فى آسيا الصغرى ويعرف بنهر المصيصة ويصب فى بحر الشام. أنظر ياقوت وابن رسته فى «التنبيه والإشراف» .
[3] ويسمى أيضا نهر كالف على ما رواه المسعودى باسم قلعة حصينة، قال ياقوت إنها قائمة على طرفه شبيهة بالمدينة بينها وبين بلخ ثمانية عشر فرسخا.(1/270)
فإذا خرج منها مربوخّان فيسمّى نهر جرياب [1] ، ويجرى من المشرق إلى المغرب إلى أعلى حدود بلخ. ثم يعطف إلى ناحية الشمال إلى أن يصير إلى التّرمذ، ثم منها إلى زمّ وآمل من بلاد خراسان. ثم يجرى إلى أن يمرّ ببلاد خوارزم فيشق قصبتها.
فإذا تجاوزها تشعّب منه أنهار وخلجان يمينا وشمالا، تصب إلى مستنقعات وبطائح يصاد فيها السمك.
ثم تخرج منها مياه تجتمع وتصير عمودا واحدا، تجرى مقدار أربعة وعشرين فرسخا، ثم تصب فى بحيرة خوارزم.
ويكون مقدار جريه من مبدئه إلى نهايته ثلاثمائة وخمسين فرسخا. وقيل: أربعمائة.
وساحله يسمّى الرّوذبار [2] .
ويقال إنه يخرج منه خليج يأخذ سمت المغرب حتّى يقرب من كرمان، ثم يمضى حتّى يصبّ فى بحر فارس.
ونهر جيحون ربما جمد فى الشتاء حتّى تعبر عليه القفول. قالوا: ويبتدئ جموده من ناحية خوارزم.
وأما نهر سيحون
ويسمّى نهر الشّاش، وهو فارز بين بلاد الهياطلة وبلاد تركستان.
قال ابن حوقل: مبتدؤه من أنهار تجتمع فى حدود بلاد التّرك [والإسلام] ، فتصير عمودا واحدا وتجرى حتّى تظهر فى حدود أوزكند من بلاد فرغانة فتصب فيه
__________
[1] فى الأصول «جواب» والتصحيح عن الاصطخرى وابن حوقل.
[2] قال ياقوت: كأن معناه بالفارسية «موضع النهر» . ثم نقل عن السمعانىّ أن الروذبار لفظة لمواضع عند الأنهار الكبيرة فى بلاد متفرّقة. ثم ذكر روذبار بلخ ثم قال وبالشاش أيضا قرية يقال لها روذبار من وراء جيحون. [ولعل المراد هنا بلاد النهر أى نهر جيحون كما قالوا زنجبار أى بلاد الزنج] .(1/271)
فيعظم ويكثر ماؤه، ثم يمتدّ إلى فاراب. فإذا تجاوزها يجرى فى برّية فيكون على جانبيه الأتراك الغزّيّة، ويمرّ إلى أن يصب فى نهر جيحون [1] .
وبين موقعه فى النهر وبين بحيرة خوارزم عشرة أيام.
وأما نهر الكنك [2]
وهو نهر تعظّمه الهند، فينبعث من بلاد قشمير ويجرى فى أعالى بلاد الهند.
وهم يزعمون أنه من الجنة فيعظّمونه غاية التعظيم.
ومن عجائبه أنه إذا ألقى فيه شىء من القاذورات، أظلم جوّه ورجفت أرجاؤه وكثرت الأمطار والرياح والصواعق.
وقد وصفه العتبىّ فى «التاريخ اليمينىّ» فقال:
«وهذا النهر الذى يتواصف الهنود قدره وشرفه، فيرون من عين الخلد التى فى السماء مغترفه؛ إذا أحرق منهم ميت ذرّوه فيه بعظامه، فيظنون أنّ ذلك طهر لآثامه؛ وربما أتاه الناسك من المكان البعيد فيغرق نفسه فيه، يرى أنّ هذا الفعل ينجيه.
والهنود يفرطون فى تعظيمه حتّى إن الرجل منهم إذا أراد الفوز، أحرق نفسه وألقى رماده فيه، أو يأتى إلى النهر (وهناك شجر القنا فى غاية الارتفاع، وقوم هناك بأيديهم سيوف مسلولة وخناجر) فيربط نفسه فى طرف قناة، ثم يحزّ رأسه بيده
__________
[1] اختصر المؤلف كلام ابن حوقل اختصارا خفيفا (وانظر كلام ابن حوقل فى كتابه «المسالك والممالك» ص 392- 393) .
[2] قال أبو الفدا إن اسمه الهندى: كانكو وسماه المسعودى «جنجس» فى كتاب «التنبيه والإشراف» .(1/272)
فيبقى الرأس معلقا فى طرف القناة وتسقط الجثة، أو يلقى نفسه من شاهق على تلك السيوف والخناجر فيتقطع، ومنهم من يلقى نفسه فى النهر فيغرق» .
وأما نهر الكر
فهو نهر بأرض أرمينية.
وانبعاثه من بلاد اللّان، فيمرّ ببلاد الأنجاز [1] حتّى يأتى ثغر تفليس فيشقّه ويجرى فى بلاد الساوردية. [2] ثم يخرج بأرض برذعة، ويحرى إلى برزنج فيصب فيه نهر الرّسّ.
وهذا النهر هو المذكور فى القرآن العزيز فى قوله تعالى (وَأَصْحابَ الرَّسِّ) *
[3] على ما ذهب إليه بعض المفسرين. فإذا صب فيه هذا النهر، صارا نهرا واحدا يصب فى بحر الخزر.
ونهر الرّسّ يخرج من أقاصى بلاد الروم، على ما زعم المسعودى.
وأما نهر إتل
وهو نهر عظيم، فهو نهر الخزر.
ويمرّ جانبه الشرقىّ على ناحية خرخيز، ويجرى ما بين الكيماكية والغزّية. ثم يمتدّ غربا على ظهر بلغار [4] وبرطاس والخزر. ثم ينقسم قسمين: أحدهما إلى مدينة إتل
__________
[1] فى الأصل «الأبحار» . والأصوب «الابخاز» وهو اسم لجهة من بلاد أرمينيه (وقد ذكر الابخاز كل من الإصطخرى وابن حوقل والمقدسى وابن خرداذبة والمسعودى) .
[2] جيل من الأرمن يسميهم العرب أيضا «السياوردية» ويصفونهم بأنهم «أهل العبث والفساد والتلصص (عن حاشية فى ص 192 من «مسالك الممالك» للإصطخرى) .
[3] فى الاصل «كذب أصحاب الرس المرسلين» وهو غير نظم القرآن، فتنبه.
[4] مدينة كانت على نهر؟؟؟ لاد الروسيا. ومنها خرج البلغار الى البلاد المعروفة الآن فأسمهم.(1/273)
يشقّها بنصفين ويجرى إلى أن يصب فى بحر الخزر، ويجرى الآخر فيمرّ ببلد الرّوس حتّى يصب فى بحرهم وهو بحر سوداق.
ويقال إنه يتشعب منه نيّف وتسعون نهرا، وإذا وقع فى البحر، يجرى فيه مسيرة يومين ثم يغلب عليه.
وقيل إنه يجمد فى الشتاء، ويتبين لونه فى لون البحر.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر ما فى المعمور
من الأنهار والعيون التى يتعجّب منها قال صاحب «مباهج الفكر ومناهج العبر» فى كتابه:
«وذكر المعتنون بتدوين العجائب فى كتبهم التى وضعوها لذلك أن فى المعمور أنهارا وعيونا يتعجّب منها إذا أخبر عنها. فذكروا منها نهر الكنك (وقد تقدّم ذكره) وأن بأرض الهند مكانا يعرف بعقبة عورك فيه عين ماء لا تقبل نجسا ولا قذرا، وإن ألقى فيها شىء من ذلك، اكفهرّت السماء وهبّت الريح وكثر الرعد والبرق والمطر. فلا تزال كذلك إلى أن يخرج منها ما طرح فيها.
«وذكروا أن فى ناحية الباميان عينا تسمّى ديواش تفور من الأرض كغليان القدر؛ متى بصق فيها إنسان أورمى فيها شيئا من القاذورات، ازداد غليانها وفورانها وفاضت. فربما أدركت من جعل ذلك فيها فغرّقته.
«وبناحية الباميان أيضا عين تجرى من جبل فى بعض الأحيان. فإذا خرج ماؤها، صار حجرا أبيض.(1/274)
«وبقرية من أعمال فارس كهف بين جبال شاهقة فيه حفرة بقدر الصّحفة، يقطر فيها من أعلى الكهف ماء: إن شرب منه واحد لا يفضل عنه منه شىء، وإن شرب منه ألف عمّهم وأرواهم.
«وبناحية أردشير [1] جرد عين يجرى منها ماء حلو يشرب لشفية الجوف. فمن شرب منه قدحا أقامه مرة، وإن زاد فعلى قدر الزيادة.
«وبدارين من أعمال فارس نهر ماؤه شروب. إذا غطّت فيه الثياب خضّرها.
«وفى بعض رساتيق همذان عيون متى خرج منها الماء تحجّر.
«وبنواحيها أيضا ماء يخرج من تحت قلعة ويجرى فى جداول إلى بعض الرساتيق.
فما تشبّث منه فى صدع أو شقّ صار حجرا صلدا، وإذا صبّ فى خزفة وأقام فيها ثلاثة أيام ثم كسرت، وجد فى جوفها أخرى قد تحجرت من الماء.
«وبناحية تفليس عين تنبع، فإذا خرج منها الماء صار حيّات.
«وبأرض القدموس من حصون الدّعوة بربضها حمّام يجرى إليها الماء من عين هناك. فإذا كان فى أوّل شهر تمّوز ينبع فى الحمّام حيّات فى طول شبرين أوّلا، ثم فى طول شبر، وتكثر. ولا توجد فى غير الحمام. فإذا انقضى شهر تمّوز، عدمت تلك الحيّات، فلا توجد إلى العام القابل.
«وبأرض أرمينية واد لا يقدر أحد ينظر إليه ولا يقف عليه ولا يدرى ما هو.
إذا وضعت القدر على ضفّته غلت ونضج ما فيها. وفيها واد عليه الأرحاء والبساتين.
ماؤه حامض؛ فإذا نزل فى الإناء، عذب وحلا.
__________
[1] فى معجم ياقوت «أردشير خرّه» مضبوطا بالعبارة.(1/275)
«وبالمراغة عيون اذا خرج ماؤها لم يلبث إلا قليلا حتى يتحجّر. فمنه تفرش دورهم.
«وبنواحى أرزن الروم ماء يستقى فيستحجر ويصير ملحا.
«وأكثر مياه بلاد اليمن تستحيل شبّا.
«وبنواحى واحات من أعمال مصر عيون مياهها ألوان مختلفة: من الحمرة والصّفرة والخضرة. تسيل إلى مستنقعات، فتكون ملحا بحسب ألوانها.
«وفى هذه الناحية عيون يطبخ بمائها بدلا عن الخلّ.
«وبنواحى أسوان من الصعيد الأعلى مستنقعات منها النّفط.
«وكذلك بتكريت من أرض العراق.
«وبأرض كتامة [1] من بلد إفريقيّة عين تسمّى عين الأوقات. تجرى فى أوقات الصلوات الخمس. فإذا حضر جنب أو امرأة حائض، لا تبضّ بشىء من الماء. وإذا اتّهم رجلان، أتت بالماء للصادق وشحّت على الكاذب.
«وببلد إفريقية أيضا عين تنبع بالمداد، يكتب به أهل تلك الناحية.
«وبطرطوشة من بلاد الأندلس واد يجرى رملا.
قال: وذكر بعض أصحاب المجاميع أنه كان بمدينة طحا من كورة الأشمونين من صعيد مصر بئر فيها ماء معين يشرب منها طول أيام السنة فيكون الماء كسائر المياه، حتّى إذا كان أوّل يوم من برمودة من شهور القبط فمن شرب من ذلك الماء
__________
[1] فى الأصل: «كامة» وهو غلط من الناسخ، لأن «كتامة» قبيلة من البربر منتشرة فيما بين برقة الى أرض الجزائر.(1/276)
يومئذ خدمته الطبيعة مقدار ما شرب. فاذا كان وقت الزوال عاد الماء إلى حالته الاولى، ثم لا يفعل كذلك إلا فى مثل ذلك اليوم من العام القابل.
وقال: إنه كان بمدينة الأشمونين كنيسة تعرف ببوجرج إلى جانبها بئر لا نداوة فيها ولا بلل فى سائر أيام السنة، فاذا كان اليوم العاشر من طوبة من شهور القبط تمتلئ تلك البئر ماء شروبا. فلا يبقى أحد من نصارى ذلك البلد إلا ويأخذ من ذلك الماء للتبرّك به. حتّى إذا كان عند الزوال، غاض الماء فلا يبقى فى البئر منه شىء ويجفّ لوقته.
«وبأرض مرمنيثا من عمل حصن الأكراد عين تسمّى الفوّارة. تكون فى غالب الأوقات بينها وبين وجه الأرض تقدير ثلاثة أذرع. وتفور فى بعض الأيام ويخرج منها ماء يدير أرحية الطواحين ويسقى البساتين فيستمرّ كذلك بعض يوم ثم يغور.
ويتكرر ذلك فى الأسبوع مرتين وثلاثة.
«وبقلعة بعلبك من الشام بئر تعرف ببئر الرحمة لا يرى فيها الماء إلا إذا حوصرت.
فإنها عند ذلك تمتلئ حتّى تفيض. فإذا زال الحصار جفّت» .
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الماء
(ما جاء من ذلك على لفظ افعل) الأمثال:
يقال:
أسرع من الماء إلى قراره.
أرقّ من الماء.
أحمق من لاعق الماء.(1/277)
أحمق من القابض على الماء.
أصفى من ماء المفاصل.
أعذب من ماء المفاصل.
أجرى من الماء.
أعذب من ماء الحشرج.
أعذب من ماء البارق.
ألطف من الماء.
أوجد من الماء.
ويقال:
أن ترد الماء بماء أكيس.
ماء ولا كصدّاء.
قد بلغ الماء الزّبى.
ويقال:
فلان يرقم على الماء. (إذا كان حاذقا) .
ثأطة مدّت بماء. (للامر يزداد فسادا) .
ليس الرّىّ فى التّشافّ. (فى ذم الاستقصاء) .
الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه؛ وإذا سكن متنه، تحرّك نتنه.
الكدر من رأس العين.
إذا عذبت العيون، طابت الأنهار.
هذا غيض من فيض، وبرض من عدّ. (أى قليل من كثير) .(1/278)
ومن أنصاف الابيات:
والمرء يشرق بالزّلال البارد!
كذلك غمر الماء يروى ويغرق!
والمشرب العذب كثير الزّحام!
مواقع الماء من ذى الغلّة الصادى!
وكيف يعاف الرّنق من كان صاديا؟
ومن الابيات:
يا سرحة الماء قد سدّت موارده ... أما إليك سبيل غير مسدود؟
لحائم حام حتّى لا حيام به ... محلّا عن طريق الماء مصدود!
وقال آخر:
أيجوز أخذ الماء من ... متلهّب الأحشاء صادى؟
وقال آخر:
أرى ماء وبى عطش شديد، ... ولكن لا سبيل إلى الورود!
وقال آخر:
من غصّ داوى بشرب الماء غصّته، ... فكيف يصنع من قد غصّ بالماء؟
وقال آخر:
وما كنت إلّا الماء جئنا لشربه، ... فلمّا وردناه إذا الماء جامد!
وقال آخر:
وفى نظرة الصادى إلى الماء حسرة، ... إذا كان ممنوعا سبيل الموارد!
وقال آخر:
وإنّى للماء المخالط للقذى ... إذا كثرت ورّاده، لعيوف!(1/279)
وقال آخر:
سأقنع بالثّماد، لعلّ دهرا ... يسوق الماء من حرّ كريم!
وقال آخر:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء، خانته فروج الأصابع.
وقال آخر:
وإنّى وإشرافى عليك بهمّتى ... لكالمبتغى زبدا من الماء بالمخض.
وقال آخر:
فقل فى مكرع عذب، ... وقد وافاه عطشان!
وقال آخر:
وكيف الصّبر عنك، وأىّ صبر ... لظمآن عن الماء الزّلال؟
وقال آخر:
وإنّ الماء فى العيدان يجرى، ... وربّتما تغيّر فى الحلوق!
وقال آخر:
إذا أنا عاتبت الملول فإنّما ... أخطّ بأقلام على الماء أحرفا!
وقال آخر:
والماء لس عجيبا أنّ أعذبه ... يفنى، ويمتدّ عمر الآجن الأسن.
وقال آخر:
المال يكسب أهله، ما لم يفض ... فى الراغبين إليه، سوء ثناء.
كالماء تأسن بئره إلا إذا ... خبط السّقاة جمامه بدلاء.(1/280)
ذكر شىء مما قيل فى وصف الماء وتشبيهه
فأما ما اختص به نهر النيل من الوصف.
فمن ذلك قول ابن النّقيب:
كأنّ النّيل ذو فهم ولبّ ... لما يبدو لعين الناس منه.
فيأتى حين حاجتهم إليه، ... ويمضى حين يستغنون عنه!
وقال تميم بن المعزّ العبيدىّ:
يوم لنا بالنّيل مختصر ... ولكلّ يوم مسرّة قصر.
والسّفن تجرى كالخيول بنا ... صعدا، وجيش الماء منحدر.
فكأنّما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر.
ومن رسالة للقاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى قال:
وأما النيل فقد ملأ البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذّراع. فكأنما غار على الأرض فغطّاها، وعار عليها فاستقعدها وما تخطّاها. فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه، ولا مرغوب مرهوب إلا إيّاه.
وأما ما اختصت به دجلة من الوصف.
قال التنوخىّ:
وكأنّ دجلة إذ تغمّض موجها ... ملك يعظّم، خيفة ويبجّل.
عذبت، فما أدرى أماء ماؤها ... عند المذاقة أم رحيق سلسل؟
وكأنّها ياقوتة أو أعين ... زرق يلاءم بينها ويوصّل.
ولها بمدّ بعد جزر ذاهب ... جيشان: يدبرذا، وهذا يقبل.(1/281)
وقال محمد بن عبد الله السلامىّ، شاعر «اليتيمة» :
وميدان تجول به خيول ... تقود الدّارعين [1] ولا تقاد.
ركبت به إلى اللّذّات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد.
جرى فظننت أن الأرض وجه ... ودجلة ناظر وهو السّواد.
وقال الصنوبرىّ:
فلمّا تعالى البدر واشتدّ ضوءه ... بدجلة فى تشرين بالطّول والعرض
وقد قابل الماء المفضّض نوره ... وبعض نجوم الليل يطفى سنا بعض،
توهّم ذو العين البصيرة أنه ... يرى ظاهر الأفلاك فى باطن الأرض.
ومما وصفت به الأنهار
قال الصنوبرى:
والعوجان الذى كلفت به ... قد سوّى الحسن فيه مذعوّج.
ما أخطأ الأيم فى تعوّجه ... شيئا إذا ما استقام أو عرّج.
تدرّج الريح متنه فترى ... جوشن ماء عليه قد درّج.
إن أعنقت بالجنوب أعنق فى ... لطف، وإن هملجت به هملج.
من أين طافت شمس النهار به ... حسبت شمسا من جوفه تخرج.
وقال أبو فراس:
والماء يفصل بين زه ... ر الرّوض فى الشّطّين فصلا.
كبساط وشى جرّدت ... أيدى القيان عليه نصلا.
__________
[1] أنظر قبل هذا ص 256 فى وصف البحر والسفن. وكتب فى بعض الأصول عند هذا الموضع لفظة «مكرر» .(1/282)
وقال الناجم:
انظر إلى الرّوض الذّك ... ى فحسنه للعين قرّه!
فكأنّ خضرته السما ... ء، ونهره فيه المجرّه.
وقال عبد الله بن المعتزّ:
وترى الرّياح إذا مسحن غديره ... وصفينه ونقين كلّ قذاة،
ما إن يزال عليه ظبى كارع ... كتطلّع الحسناء فى المرآة.
ومثله قول الآخر:
وغدير رقّت حواشيه حتى ... بان فى قعره الذى كان ساخا.
وكأنّ الطّيور إذ وردته ... من صفاء به، تزقّ فراخا.
وقال آخر:
والنّهر مكسوّ غلالة فضّة؛ ... فإذا جرى سيل، فثوب نضار.
وإذا استقام، رأيت صفحة منصل [1] ؛ ... وإذا استدار، رأيت عطف سوار.
وقال أبو مروان بن أبى الخصال:
النّهر قد رقّت غلالة خصره ... وعليه من صبغ الأصيل طراز.
تترقرق الأمواج فيه كأنّها ... عكن الخصور تهزّها الأعجاز.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسى:
لله نهر سال فى بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء!
وغدت تحفّ به الغصون كأنّها ... هدب تحفّ بمقلة زرقاء.
والرّيح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء!
__________
[1] المنصل (بضم فسكون فضم) هو السيف.(1/283)
وقال أبو القاسم بن العطار:
مررنا بشاطى النهر بين حدائق ... بها حدق الأزهار تستوقف الحدق.
وقد نسجت كفّ النّسيم مفاضة ... عليه، وما غير الحباب لها حلق!
وقال محمد بن سهل البلخى، شاعر «الذخيرة» :
راقنا النهر صفاء ... بعد تكدير صفائه.
كان مثل السيف مدمى ... فجلوه من دمائه.
أو كمثل الورد غضّا ... فهو اليوم كمائه.
وقال القاضى التنوخى، شاعر «اليتيمة» :
أحبب إلىّ بنهر معقل الذى ... فيه لقلبى من همومى معقل!
عذب إذا ما عبّ فيه ناهل ... فكأنّه من ريق حبّ ينهل.
متسلسل فكأنّه لصفائه ... دمع بخدّى كاعب يتسلسل.
فإذا الرّياح جرين فوق متونه ... فكأنّها درع جلاه الصّيقل!
وقال مؤيد الدين الطّغرائىّ فى الغدير:
عجنا إلى الجزع الذى مدّ فى ... أرجائه الغيم بساط الزّهر.
حول غدير ماؤه المنتمى ... إلى بنات المزن يشكو الخصر.
لولاذه [1] الرّيح سموما به ... لانقلبت وهى نسيم السّحر.
حصباؤه درّ ورضراضه ... سحالة العسجد حول الدّرر.
وقد كسته الرّيح من نسجها ... درعا به يلقى نبال المطر.
__________
[1] كذا بالأصل. وفى ديوانه: «لو لاذت الريح الخ» وهو الصواب.(1/284)
وألبسته الشّمس من صبغها ... نورا به يخطف نور البصر.
كأنّها المرآة مجلوّة ... على بساط أخضر قد نشر.
وقال أيضا:
ملنا إلى النّشر الذى ترتقى ... إليه أنفاس الصبا عاطره.
حول غدير ماؤه دارع ... والأرض من رقّته حاسره.
والشمس إن حاذته رأد الضّحى ... حسناء فى مرآتها ناظره.
والشّهب إن حاذته جنح الدّجى ... تسبح فى لجّته الزاخره.
قد ركّب الخضراء فيه، فمن ... حصبائه أنجمها زاهره.
يخضرّ [1] إن مرت بأرجائه ... لفح سموم فى لظى هاجره.
أنموذج الماء الذى جاءنا ال ... وعد بأن نسقاه فى الآخره!
ومما وصفت به البرك
قال البحترىّ عفا الله عنه:
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات التى لاحت مغانيها!
ما بال دجلة كالغيرى تنافسها ... فى الحسن طورا، وأطوارا تباهيها؟
كأنّ جنّ سليمان الذين ولوا ... إبداعها فأدقّوا فى معانيها.
فلو تمرّ بها بلقيس عن عرض، ... قالت: هى الصّرح تمثيلا وتشبيها.
تنصبّ فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها.
كأنّما الفضّة البيضاء سائلة ... من السبائك تجرى في مجاريها.
__________
[1] فى الأصل «يخضرّ» وفى ديوانه (الموجود منه نسخة مخطوطة «بدار الكتب المصرية» ) «يحضر» ولا معنى لهما. ولعل الصواب «يخصر» من الخصر، وهو شدّة البرد كما يرتضيه السياق.(1/285)
إذا علتها الصّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها.
إذا النّجوم تراءت فى جوانبها ... ليلا، حسبت سماء ركّبت فيها.
لا يبلغ السّمك المحصور غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها.
يعمن فيها بأوساط مجنحّة ... كالطير تنقضّ فى جوّ خوافيها.
كأنها حين لجّت فى تدفّقها ... يد الخليفة لمّا سال واديها!
وقال ابن طباطبا:
كم ليلة ساهرت أنجمها لدى ... عرصات أرض ماؤها كسمائها.
قد سيّرت فيها النجوم كأنّما ... فلك السماء يدور فى أرجائها.
أحسن بها بحرا إذا التبس الدّجى، ... كانت نجوم الليل من حصبائها!
ترنو إلى الجوزاء وهى غريقة ... تبغى النّجاء، ولات حين نجائها!
تطفو وترسب فى اصطفاق مياهها ... لا مستعان لها سوى أسمائها.
والبدر يخفق وسطها فكأنّه ... قلب لها قد ريع فى أحشائها.
وقال عبد الجبار بن حمديس، يصف بركة يجرى إليها الماء من شاذروان من أفواه طيور وزرافات وأسود، من أبيات:
والماء منه سبائك من فضّة ... ذابت على دولاب شاذروان!
فكأنّما سيف هناك مشطّب ... ألقته يوم الرّوع كفّ جبان!
كم شاخص فيه يطيل تعجّبا ... من دوحة نبتت من العقيان!
عجبا لها تسقى هناك ينائعا ... ينعت من الثّمرات والأغصان!
خصّت بطائرة على فنن لها ... حسنت، فأفرد حسنها من ثانى!(1/286)
قسّ الطيور الساجعات بلاغة ... وفصاحة من منطق وبيان.
فإذا أتيح لها الكلام تكلّمت ... بخرير ماء دائم الهملان.
وكأنّ صانعها استبدّ بصنعة ... فخر الجماد بها على الحيوان!
أوفت على حوض لها فكأنّها ... منها إلى العجب العجاب روان.
وكأنّها ظنّت حلاوة مائها ... شهدا، فذاقته بكلّ لسان.
وزرافة فى الجوّ من أنبوبها ... ماء يريك الجرى فى الطّيران.
مركوزة كالرّمح حيث ترى له ... من طعنه الحلق انعطاف سنان.
وكأنّما ترمى السماء ببندق ... مستنبط من لؤلؤ وجمان!
لو عاد ذاك الماء نفطا، أحرقت ... فى الجوّ منه قميص كلّ عنان.
فى بركة قامت على حافاتها ... أسد تذلّ لعزّة السّلطان!
نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها، ... فلذلك انتزعت من الأبدان.
وكأنّما الحيّات من أفواهها ... يطرحن أنفسهنّ فى غدران.
وكأنّما الحيتان إذ لم تخشها، ... أخذت من المنصور عهد أمان!
وقال آخر:
ولقد رأيت، وما رأيت كبركة ... فى الحسن ذات تدفّق وخرير!
عقدت لها أيدى المياه قناطرا ... من جوهر فى لجّة من نور!
وقال علىّ بن الجهم، يصف فوّارة:
وفوّارة ثارها فى السّماء، ... فليست تقصّر عن ثارها!
تراها اذا صعدت فى السّماء ... تعود الينا بأخبارها.
تردّ على المزن ما أنزلت ... على الأرض من صوب مدرارها!(1/287)
وقال ابن حجاج فيها:
علمت فى دارك فوّارة، ... غرّقت الأفق بها الأنجما!
فاض على نجم السما ماؤها، ... فأصبحت أرضك تسقى السما!
وقال تميم بن المعزّ العبيدىّ:
وقاذفة بالماء فى وسط بركة ... قد التحفت ظلّا من الأيك سجسجا.
إذا أينعت بالماء سلّته منصلا ... وعاد عليها ذلك النّصل هودجا.
تحاول إدراك النجوم بقذفها، ... كأنّ لها قلبا على الجوّ محرجا!
ومما وصفت به الدواليب والنواعير
قال أبو حفص بن وضّاح:
لله دولاب يطوف بسلسل ... فى روضة قد أينعت أفنانا!
قد طارحت فيه الحمائم شجوها ... بنحيبها، وترجّع الألحانا.
فكانّه دنف يطوف بمعهد، ... يبكى ويسأل فيه عمّن بانا.
ضاقت مجارى طرفه عن دمعه، ... فتفتّحت أضلاعه أجفانا!
وقال الموفقىّ، رحمه الله:
ناعورة تحسب من صوتها ... متيّما يشكو إلى زائر.
كأنّما كيزانها عصبة ... رموا بصرف الزّمن الواتر.
قد منعوا أن يلتقوا فاغتدوا ... أوّلهم يبكى على الآخر!
وقال آخر:
وناعورة قد ضاعفت بنواحها ... نواحى، وأحرت مقلتىّ دموعها!
وقد ضعفت مما تئنّ، وقد غدت ... من الصّعف والشّكوى بعدّ صلوعها!(1/288)
وقال ابن منير الطرابلسى:
لنواعيرها على الماء ألحا ... ن تهيج الشّجا لقلب المشوق.
فهى مثل الأفلاك شكلا وفعلا، ... قسمت قسم جاهل بالحقوق:
بين عال، سام، ينكّسه الح ... ظ ويعلو بسافل مرزوق.
وقال أبو الفرج الوأواء:
وكريمة سقت الرياض بدرّها، ... فغدت تنوب عن السّحاب الهامع.
بلباس محزون، ودمعة عاشق، ... وحنين مشتاق، وأنّه جازع.
فكأنّها فلك يدور، وعلوه ... يرمى القرار بكلّ نجم طالع.
وقال الصنوبرىّ:
فلك من الدّولاب فيه كواكب ... من مائه تنقضّ ساعة تطلع.
متلوّن الأصوات: يخفض صوته ... بغنائه، طورا وطورا يرفع.
ومما وصفت به نثرا
من رسالة للشيخ ضياء الدين القرطبى إلى بعض إخوانه يستدعى منه ثلاثة أسهم ومليّات. جاء منها:
« ... والحاجة داعية إلى ثلاثة أسهم، كأنها هقعة الأنجم؛ ممتدّة امتداد الرّمح، مقوّمة تقويم القدح؛ غير مشعّثة الأطراف، ولا معقّدة الأعطاف؛ ولا مسوسة الأجواف؛ تحاسن الغصون بقوامها، والقدود بتمامها؛ وتخالف هيفها متلاء خصورها، وتساوى [بين] هواديها وصدورها؛ معتدله القدود، ناعمة الحدود؛(1/289)
مع مليّات أخذت النار منها مأخذها فاسودّت، وتطاولت عليها مدّة الجفاف فاشتدّت؛ وترامت بها مدّة القدم، كأنها فى حيّز العدم؛ صلاب المكاسر، غلاظ المآزر؛ تشبه أخلاقه [1] فى هيجاء السلّم، وتحكى صلابة آرائه فى نفاذ الرأى ومضاء العزم؛ تكظم على الماء بغيظها، فتجود على الأرض بفيضها؛ تمدّ يد أيدها فى اقتضاء إرادتها، وتطلع طلوع الأنجم فى فلك إدارتها؛ وتعانق أخواتها معانقة التشييع، فآخر التسليم أوّل التوديع؛ على أنها تؤذن بحقائق الاعتبار، وتجرى جرى الفلك المدار فى قناة الأعمار:
تمرّ كأنفاس الفتى فى حياته ... وتسعى كسعى المرء أثناء عمره.
يفارق خلّ خلّه، وهو سائر ... على مثل حال الخلّ فى إثر سيره.
ويعلمه التّدوار، لو يعقل الفتى ... بأن مرور العمر فيه كمرّه.
فمن أدركت أفكاره سرّ أمرها، ... فقد أدركت أفكاره سرّ أمره.
ومن فاته، الإدراك أدركه الرّدى: ... إذا جرّعت أنفاسه كأس مرّه.»
ومما وصفت به الجداول
قال ابن المعتزّه عفا الله عنه:
على جدول ريّان، لا يقبل القذى: ... كأنّ سواقيه متون المبارد.
وقال الناجم:
أحاطت أزاهير الرّبيع سويّة ... سماطين مصطفّين، تستنبت المرعى.
على جدول ريّان كالسّهم مرسلا، ... أو الصارم المسلول، أو حيّة تسعى.
__________
[1] أى أخلاق المرسل إليه.(1/290)
وقال المفجّع:
على جدول ريّان ينساب متنه ... صقيلا، كمتن السيف وافى مجرّدا.
إذا الرّيح ناغته، تحلّق وجهه ... دروعا وضاء، أو تحزّز مبردا.
وقال ابن الرومىّ:
على حفافى جدول مسجور ... أبيض مثل المهرق المنشور.
أو مثل متن المنصل المشهور ... ينساب مثل الحيّة المذعور.
وقال ذو الرمّة:
فما انشقّ ضوء الصّبح حتّى تبيّنت ... جداول: أمثال السّيوف القواطع.
وحيث انتهينا من ذكر المياه إلى هذه الغاية فلنذكر عباد الماء.
ذكر عبّاد الماء [1]
وعبّاد الماء طائفة من الهند يسمّون الجلهكيّة [2] ، يزعمون أن الماء ملك، ومعه ملائكة، وأنه أصل كل شىء، وبه كلّ ولادة ونموّ ونشوء وبقاء وطهارة وعمارة، وما من عمل فى الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء.
فإذا أراد الرجل منهم عبادته، تجرّد وستر عورته. ثم دخل الماء حتى يصل إلى وسطه، فيقيم ساعتين وأكثر. ويأخذ ما أمكنه من الرّياحين فيقطّعها صغارا ويلقى فى الماء بعضها بعد بعض، وهو يسبّح ويقرأ. وإذا أراد الانصراف، حرّك الماء بيده. ثم أخذ منه فنقّط على رأسه ووجهه وسائر جسده. ثم يسجد وينصرف.
__________
[1]- هذه العبارة كلها منقولة عن كتاب «الملل والنحل» للشهرستانى.
[2] فى الأصل: المهكنية. [وهو تصحيف وصوابه من الشهرستانى] .(1/291)
القسم الخامس من الفن الأوّل فى طبائع البلاد، وأخلاق سكانها، وخصائصها، والمبانى القديمة، والمعاقل، وما وصفت به القصور والمنازل
وفيه خمسة أبواب
الباب الأوّل من هذا القسم (فى طبائع البلاد، وأخلاق سكّانها)
روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سأل كعب الأحبار عن طبائع البلاد وأخلاق سكّانها، فقال: إن الله تعالى لما خلق الأشياء، جعل كل شىء لشىء.
فقال العقل: أنا لاحق بالشأم، فقالت الفتنة: وأنا معك. وقال الخصب: أنا لاحق بمصر، فقال الذّلّ: وأنا معك. وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصّحّة:
وأنا معك.
وقال محمد بن حبيب: لمّا خلق الله تعالى الخلق، خلق معهم عشرة أخلاق:
الايمان، والحياء، والنجدة، والفتنة، والكبر، والنفاق، والغنى، والفقر، والذل، والشقاء. فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء: وأنا معك. وقالت النجدة:
أنا لاحقة بالشأم، فقالت الفتنة: وأنا معك. وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النّفاق: وأنا معك. وقال الغنى: أنا لاحق بمصر، فقال الذّلّ: وأنا معك. وقال الفقر: أنا لاحق بالبادية، فقال الشقاء: وأنا معك.(1/292)
وحكى عن الحجاج انه قال: لما تبوّأت الأشياء منازلها، قال الطاعون: أنا نازل بالشأم، فقالت الطاعة: وأنا معك. وقال النّفاق: أنا نازل بالعراق، فقالت النعمة:
وأنا معك. وقال الشقاء: أنا نازل بالبادية، فقال الصبر: وأنا معك.
نوع آخر منه
روى عن عبد الله بن عباس (رضى الله تعالى عنهما) أنه قال: إن الله تعالى خلق البركة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى قريش، وواحد فى سائر الناس. وجعل الكرم عشرة أجزاء: فتسعة منها فى العرب، وواحد فى سائر الناس. وجعل الغيرة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الأكراد، وواحد فى سائر الناس. وجعل المكر عشرة أجزاء:
فتسعة منها فى القبط، وواحد فى سائر الناس. وجعل الجفاء عشرة أجزاء: فتسعة منها فى البربر، وواحد فى سائر الناس. وجعل النّجابة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الرّوم، وواحد فى سائر الناس. وجعل الصناعة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الصين، وواحد فى سائر الناس. وجعل الشهوة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى النّساء، وواحد فى سائر الناس. وجعل العمل عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الأنبياء، وواحد فى سائر الناس. وجعل الحسد عشرة أجزاء: فتسعة منها فى اليهود، وواحد فى سائر الناس.
ويقال: قسم الحقد عشرة أجزاء: فتسعة منها فى العرب، وواحد فى سائر الناس. وقسم البخل عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الفرس، وواحد في سائر الناس.
وقسم الكبر عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الروم، وواحد فى سائر الناس. وقسم(1/293)
الطّرب عشرة أجزاء: فتسعة منها فى السّودان، وواحد فى سائر الناس. وقسم الشّبق عشرة أجزاء: فتسعة منها فى اليهود، وواحد فى سائر الناس.
ويقال: أربعة لا تعرف فى أربعة: السّخاء فى الروم، والوفاء فى التّرك، والشجاعة فى القبط، والغمّ فى الزّنج.
نوع آخر منه
حكى عن الحجاج أنه سأل أيوب بن القرّيّة عن طبائع أهل البلاد، فقال:
أهل الحجاز أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم عنها؛ رجالها جفاة، ونساؤها كساة عراة.
وأهل اليمن أهل سمع وطاعه، ولزوم الجماعه. وأهل عمان عرب استنبطوا، وأهل البحرين نبط استعربوا. وأهل اليمامة أهل جفاء، واختلاف آراء. وأهل فارس أهل بأس شديد، وعزّ عتيد. وأهل العراق أبحث الناس عن صغيره، وأضيعهم لكبيره. وأهل الجزيرة أشجع فرسان، وأقتل للأقران. وأهل الشام أطوعهم لمخلوق وأعصاهم لخالق. وأهل مصر عبيد لمن غلب؛ أكيس الناس صغارا، وأجهلهم كبارا.
وحكى عن أبي عثمان «عمرو بن بحر الجاحظ» أنه قال: كنا نعلّم فى المكتب كما نعلّم القرآن: احذروا حماقة أهل بخارى، وغلّ أهل مرو، وشغب أهل نيسابور، وحسد أهل هراة، وحقد أهل سجستان.
وقال أبو حامد القاضى: أعيانى أن أرى خراسانيّا ذكيّا، وطبريا رزينا، وهمدانيا لبيبا، وبصريّا ركيكا، وكوفيّا رئيسا، وبغداديّا سخيّا، وموصليّا لطيفا، وشاميّا خفيفا، وحجازيا منافقا، وبدويّا ظريفا.(1/294)
وقال بختيشوع: تسعة لا تخلو من تسعة: قمّىّ من رعونة، ويمانى من جنون، وواسطىّ من غفلة، وبصرىّ من جدل، وكوفىّ من كذب، وسوادىّ من جهل، وبغدادىّ من مخرقة، وخوزىّ من لؤم، وطبرىّ [1] من زرق.
وقيل: جاور أهل الشام الروم، فأخذوا عنهم اللؤم وقلة الغيرة. وجاور أهل الكوفة أهل السواد، فأخذوا عنهم السّخاء والغيرة. وجاور أهل البصرة الخوز، فأخذوا عنهم الزنا وقلة الوفاء.
ويقال: إن القدماء اعتبروا البلاد وما امتاز به بعضها عن بعض من الطبائع، فوجدوا أخصب بقاع الدنيا ثمانية مواضع: أرمينية، وأذربيجان، وماه دينور، وماه نهاوند، وكرمان، وأصبهان، وقومس، وطبرستان.
ووجدوا أخف بقاع الدنيا ماء، ماء ثمانية مواضع: دجلة، والفرات، وزندرود أصبهان، وماء سوران، وماء هفيجان، وماء جنديسابور، وماء بلخ، وماء سمرقند.
(وغفلوا عن نيل مصر، ولعله أحقّها بهذه الخصوصية من سائر المياه) .
ووجدوا أو بأبقاع الدنيا ستة مواضع: النّوبندجان، وسابورخواست، وجرجان، وحلوان [2] ، وبرذعه، وزنجان. (وغفلوا عن شيزر) .
ووجدوا أعقل أهل البلاد تسعة: أهل أصبهان، والحيرة، والمداين، وماه دينور، وإصطخر، ونيسابور، والرّىّ، وطبرستان، ونشوى (وهى نقجوان) .
ووجدوا أسرى أهل بقاع الدنيا أهل سبعة مواضع: طوسفون (وهى المداين) ، وبلاشون (وهى حلوان [2] ) ، وماسبذان، ونهاوند، والرّىّ، وأصبهان، ونيسابور.
__________
[1] من أهل طبرستان. وأما النسبة إلى طبرية الشام فطبرانىّ.
[2] أى حلوان العراق، لا حلوان مصر.(1/295)
ووجدوا أهل [1] بقاع الدنيا أهل عشرة مواضع: ماسبذان، ومهر جانقذق [2] ، وسورستان، والرّىّ، والرّويان، وأذربيجان، والموصل، وأرمينية، وشهرزور، والصّامغان.
ووجدوا البخل فى أهل ثمان بقاع: مرو، وإصطخر، ودارايجرد، وخوزستان، وماسبذان، وديبل، وماه دينور، وحلوان.
ووجدوا أسفل أهل بقاع الأرض أربعة: أهل السّدجان [3] ، وبادرايا، وماكسايا، وخوزستان.
ووجدوا أقل أهل الأرض نظرا فى العواقب أهل سبعة مواضع: طبرستان، وأرمينية، وقومس، وكرمان، وكوسان، ومكران، وشهرزور.
ويقال: إنه وفد رجل من عجم خراسان على كسرى، فقال له: أخبرنى من أحسن أهل خراسان لقاء؟ قال: أهل بخارى. قال: فمن أوسعهم بذلا للخبز والملح؟
قال: أهل جوزجان. قال: فمن أحسنهم ضيافة؟ قال: أهل سمرقند. قال:
فمن أدقّهم نظرا وتقديرا؟ قال: أهل مرو. قال: فمن أسوأهم طاعة؟ قال:
__________
[1] فى بعض النسخ «آهل» بالمدّ.
[2] هذا الاسم يتركب من ثلاث كلمات: مهر (أى الشمس، المحبة، الشفقة) ؛ جان (أى النفس، الروح) ؛ قذق (وقد يضم أوله ولعله اسم رجل) . فيكون معناه: محبة أو شمس نفس قذق. وهى كورة حسنة من نواحى بلاد الجبل (عن ياقوت) .
[3] كذا فى الأصل ولم يذكرها ياقوت. وإنما ذكر «السيرجان» ، مدينة بين كرمان وفارس. فلعلها مصحفة عنها.(1/296)
أهل خوارزم. قال: فمن أخبثهم طويّة؟ قال: أهل مرو الروذ، إن رضى بذلك أهل أبيورد. قال: فمن أسقطهم عقلا؟ قال: أهل طوس، إن رضى بذلك أهل نسا. قال: فمن أكثرهم شغبا وجدلا؟ قال: أهل سرخس، إن رضى بذلك أهل قوهستان. قال: فمن أضعفهم وأخبثهم؟ قال: أهل نيسابور. قال: فمن أقلّهم غيرة على النساء؟ قال: أهل هراة.
الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الأوّل فى خصائص البلاد
ولنبدأ من ذلك بمكة ويثرب، وأعرب عما أنقله من فضلهما ولا أغرب؛ وأصله بذكر البيت المقدّس والمسجد الأقصى، ولا أشترط الاستيعاب لأن فضائلها لا تحصى.
فأما مكة (شرّفها الله تعالى وعظمها)
ففضائلها مشهورة بيّنة. قال الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)
. وقال الله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) .
قال بعض المفسرين: «أمنا» من النار. وقيل: كان يأمن من الطلب من أحدث حدثا ولجأ إليه فى الجاهلية.
وحكى القاضى عياض فى «كتاب الشفا» أنه حدّث أن قوما أتوا سعدون الخولانى بالمنستير، وأعلموه أن كتامة قتلوا رجلا وأضرموا عليه النار طول الليل، فلم(1/297)
تعمل فيه وبقى أبيض البدن، فقال: لعله حجّ ثلاث حجج؟ قالوا: نعم. قال:
حدّثت أن «من حجّ حجّة أدّى فرضه، ومن حجّ ثانية داين ربّه، ومن حجّ ثلاث حجج حرّم الله شعره وبشره على النار» .
ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قال: «مرحبا بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك!»
. وجاء فى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يدعو الله عند الرّكن الأسود إلا استجاب له»
. وكذلك عند الركن [1] .
وعنه صلى الله عليه وسلم: «من صلّى خلف المقام ركعتين، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وحشر يوم القيامة مع الآمنين» .
ذكر ما كانت الكعبة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض
قال أبو الوليد الأزرقىّ بسند يرفعه إلى كعب الأحبار أنه قال: كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرضين بأربعين سنة. ومنها دحيت الأرض.
وقال يرفعه إلى مجاهد: خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين.
وعنه يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بعث الله ريحا فصفّقت الماء فأبرزت عن حشفة فى موضع البيت كأنها قبّة. فدحا الله عز وجل الأرض من تحتها فمادت ثم مادت.
فأوتدها الله تعالى بالجبال، فكان أوّل جبل وضع فيها أبو قبيس، فلذلك سميت مكة أمّ القرى
__________
[1] كذا فى جميع النسخ ولعله «الركن اليمانى» .(1/298)
وعنه يرفعه إلى مجاهد أنه قال: لقد خلق الله عز وجل موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفى سنة، وإن قواعده لفى الأرض السابعة السّفلى.
ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم عليه السلام، ومبدإ الطواف
قال أبو الوليد الأزرقىّ، يرفعه إلى علىّ بن الحسين رضى الله عنهما إنه أتاه سائل يسأله، فقال له: عمّ تسأل؟ فقال: أسألك عن بدء الطواف بهذا البيت لم كان؟
وأنّى كان؟ وحيث كان؟ وكيف كان بالحجر؟ فقال له: نعم، من أين أنت؟
فقال: من أهل الشام. فقال: أين مسكنك؟ قال: فى بيت المقدس. قال:
فهل قرأت الكتابين؟ (يعنى التوراة والإنجيل) . قال له الرجل: نعم. فقال له: يا أخا أهل الشام احفظ، ولا تروينّ عنّى إلا حقا:
أمّا بدء هذا الطواف بهذا البيت، فإنّ الله تعالى قال للملائكة: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)
، قالت الملائكة: أى ربّ، أخليفة من غيرنا: ممن يفسد فيها ويسفك الدماء، ويتحاسدون، ويتباغضون، ويتنازعون؟ أى ربّ، اجعل ذلك الخليفة منا، فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتباغض، ولا نتحاسد، ولا نتباغى؛ ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك، ونطيعك ولا نعصيك. قال الله تبارك وتعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)
. قال: فظنّت الملائكة أن ما قالوه ردّ على ربهم عز وجل وأنه قد غضب من قولهم، فلاذوا بالعرش، ورفعوا رءوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرّعون ويبكون إشفاقا لغضبه. فطافوا بالعرش ثلاث ساعات. فنظر الله عز وجل إليهم، فنزلت الرحمة عليهم، فوضع الله سبحانه تحت العرش بيتا على أربع(1/299)
أساطين من زبرجد، وغشاه بياقوتة حمراء وسمّى البيت الضراح. ثم قال للملائكة:
طوفوا بهذا البيت، ودعوا العرش، فطافت الملائكة بالبيت وتركوا العرش، وصار أهون عليهم، وهو البيت المعمور الذى ذكره الله عز وجل: يدخله كلّ يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدا. ثم إن الله سبحانه بعث ملائكة فقال:
ابنوا لى بيتا فى الأرض بمثاله وقدره. فأمر الله سبحانه من فى الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت، كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
فقال الرجل: صدقت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا كان،
ذكر زيارة الملائكة البيت الحرام
قال الأزرقىّ، يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما: إن جبريل عليه السلام وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه عصابة حمراء قد علاها الغبار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الغبار الذى أرى على عصابتك، أيّها الرّوح الأمين؟ قال: إنى زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن، وهذا الغبار الذى ترى مما تثير بأجنحتها.
وقال،
رفعه إلى ليث بن معاذ رضى الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا البيت خامس خمسة عشر بيتا، سبعة منها فى السماء إلى العرش، وسبعة منها إلى تخوم الأرض السّفلى، وأعلاها الذى يلى العرش: البيت المعمور. لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت. لو سقط منها بيت، لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السّفلى، ولكل بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من يعمره، كما يعمر هذا البيت.(1/300)
ذكر هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض، وبنيانه الكعبة المشرفة وحجه وطوافه بالبيت
قال الأزرقىّ، يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام إلى الأرض من الجنة، كان رأسه فى السماء ورجلاه فى الأرض.
وهو مثل الفلك من رعدته. قال: فطأطأ الله عز وجل منه إلى الأرض ستين ذراعا، فقال: يا رب مالى لا أسمع أصوات الملائكة ولا حسّهم؟ قال: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابن لى بيتا تطف به واذكرنى حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى، قال: فأقبل آدم عليه السلام يتخطّى، فطويت له الأرض وقبضت له المفاوز، فصارت كل مفازة يمرّ بها خطوة، وقبض له ما كان فيها من مخاض أو بحر فجعله خطوة، ولم يقع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة حتّى انتهى إلى مكة. فبنى البيت الحرام. وإن جبريل عليه السلام ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أسّ ثابت فى الأرض السّفلى فقذفت الملائكة فيه الصخر، ما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا. وإنه بناه من خمسة أجبل: من لبنان، وطورزيتا، وطور سينا، والجودى، وحراء [1] ، حتّى استوى على وجه الأرض.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: فكان أوّل من أسس البيت وصلّى فيه وطاف به، آدم عليه السلام. حتّى بعث الله سبحانه الطّوفان، فدرس موضع البيت فى الطّوفان. حتّى بعث الله تبارك وتعالى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فرفعا قواعده وأعلامه. ثم بنته قريش بعد ذلك. وهو بحذاء البيت المعمور، لو سقط، ما سقط إلا عليه.
__________
[1] فى النسخ «حبرى» . والتصحيح من حاشية الجمل على الجلالين، فقد نقل أثر ابن عباس.(1/301)
وقال أبو الوليد أيضا، ورفعه إلى وهب بن منبّه: إن الله تبارك وتعالى لما تاب على آدم عليه السلام، أمره أن يسير إلى مكة. فطوى له الأرض وقبض له المفاوز، فصارت كلّ مفازة يمرّ بها خطوة، وقبض له ما كان فيها من مخاض ماء أو بحر فجعله له خطوة. فلم يضع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة حتّى انتهى إلى مكة. وكان قبل ذلك قد اشتدّ بكاؤه وحزنه لما كان فيه من عظم المصيبة، حتّى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه ولتبكى لبكائه. فعزّاه الله عز وجل بخيمة من خيام الجنة، ووضعها له بمكة فى موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة. وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة: فيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبر الجنة، فيها نور يتلهّب من نور الجنة. ونزّل معها الركن، وهو يومئذ ياقوتة بيضاء من ربض الجنة.
وكان كرسيّا لآدم عليه السلام، يجلس عليه. فلما صار آدم بمكة، حرسها الله تعالى، حرسه الله تعالى وحرس تلك الخيمة بالملائكة. كانوا يحرسونها ويذودون عنها ساكن الأرض، وساكنوها يومئذ الجنّ والشياطين، فلا ينبغى لهم أن ينظروا إلى شىء من الجنة، لأنه من نظر إلى شىء من الجنة وجبت له. والأرض يومئذ طاهرة نقيّة لم تنجس ولم يسفك فيها الدم، ولم تعمل فيها الخطايا. فلذلك جعلها الله عز وجل مسكن الملائكة، وجعلهم فيها كما كانوا فى السماء يسبّحون اللّيل والنّهار، لا يفترون. وكان وقوفهم على أعلام الحرم صفّا واحدا مستديرين بالحرم كلّه: الحلّ من خلفهم، والحرم كله من أمامهم. ولا يجوزهم جنىّ ولا شيطان. ومن أجل مقام الملائكة، حرّم الحرم حتّى اليوم. ووضعت أعلام حيث كان مقام الملائكة. وحرم الله على حوّاء دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم من أجل خطيئتها التى أخطأت فى الجنة. فلم تنظر إلى شىء من ذلك حتّى قبضت. وإن آدم عليه السلام كان إذا أراد لقاءها ليلمّ بها(1/302)
للولد، خرج من الحرم كله حتّى يلقاها. فلم تزل خيمة آدم مكانها حتّى قبض الله آدم عليه السلام ورفعها الله. وبنى بنو آدم بها من بعدها مكانا: بيتا بالطّين والحجارة.
فلم يزل معمورا، يعمرونه ومن بعدهم حتّى كان زمن نوح عليه السلام. فنسفه الغرق وخفى مكانه. فلما بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام طلب الأساس، فلما وصل إليه ظلّل الله مكان البيت بغمامة. فكانت حفاف البيت الأوّل، ثم لم تزل راكزة على حفافه تظل إبراهيم عليه السلام وتهديه مكان القواعد حتّى رفع الله القواعد قامة. ثم انكشفت الغمامة، فذلك قوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ)
أى الغمامة التى ركزت على الحفاف لتهديه مكان القواعد.
وعن وهب بن منبه أنه قال: قرأت فى كتاب من الكتب الأول، ذكر فيه أمر الكعبة، فوجدت فيه أن ليس من ملك من الملائكة بعثه الله تعالى إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت. فينقضّ من عند العرش محرما ملبّيا، حتّى يستلم الحجر.
ثم يطوف بالبيت سبعا ويركع فى جوفه ركعتين، ثم يصعد.
وقال الأزرقىّ، يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض، أهبطه إلى موضع البيت الحرام. وهو مثل الفلك من رعدته.
ثم أنزل عليه الحجر الأسود يعنى الركن، وهو يتلألأ من شدّة بياضه. فأخذه آدم صلى الله عليه وسلم فضمّه إليه أنسابه. ثم أنزلت عليه العصى فقيل له: تخطّ يا آدم، فتخطّى، فإذا هو بأرض الهند والسند. فمكث هنالك ما شاء الله، ثم استوحش إلى الركن فقيل له: احجج، قال فحج فلقيته الملائكة فقالوا: برّ حجّك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام.(1/303)
قال: وسأل عمر بن الخطاب رضى الله عنه كعب الأحبار فقال: اخبرّنى عن البيت الحرام. فقال كعب: أنزله الله من السماء ياقوتة مجوّفة مع آدم، فقال له:
يا آدم إن هذا بيتى أنزلته معك، يطاف حوله كما يطاف حول عرشى، ويصلّى حوله كما يصلّى حول عرشى. ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة ثم وضع البيت عليه. فكان آدم يطوف حوله كما يطاف حول العرش، ويصلّى عنده كما يصلّى عند العرش. فلما أغرق الله تعالى قوم نوح، رفعه إلى السماء وبقيت قواعده.
وقال وهب بن منبه: كان البيت الذى بوّأه الله تعالى لآدم عليه السلام يومئذ من ياقوت الجنة. وكان من ياقوتة حمراء تلتهب، لها بابان: أحدهما شرقىّ والآخر غربىّ. وكان فيه قناديل من نور آنيتها ذهب من تبر الجنة. وهو منظوم بنجوم من ياقوت أبيض. والركن يومئذ نجم من نجومه وهو يومئذ ياقوتة بيضاء.
والله أعلم.
ذكر فضل البيت الحرام، والحرم
قال أبو الوليد، يرفعه عن وهب بن منبه أنه قال: إن آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش فيها ما رأى من سعتها ولم يرفيها أحدا غيره، فقال: يا رب، أما لأرضك هذه من عامر يسبّحك فيها ويقدّس لك غيرى؟ قال: إنى سأجعل فيها من ذرّيتك من يسبّح بحمدى ويقدّس لى، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى ويسبّحنى فيها خلقى، وسأبوّئك فيها بيتا أختاره لنفسى، وأخصّه بكرامتى، وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمى، فأسمّيه بيتى، وأنطعه [1] بعظمتى، وأحوزه بحرماتى، وأجعله أحق بيوت الأرض
__________
[1] أنطعه: بسط له النطع بالكسر، بساط من أديم (تفسير بهامش الأصل) . وفى بعض النسخ «وأنطفه» بالفاء» .(1/304)
كلها وأولاها بذكرى، وأضعه فى البقعة التى اخترت لنفسى، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السماوات والأرض؛ وقبل ذلك قد كان بعينى: فهو صفوتى من البيوت، ولست أسكنه، ولبس ينبغى لى أن أسكن البيوت؛ ولا ينبغى لها أن تسعنى، ولكن على كرسىّ الكبرياء ولجبروت؛ وهو الذى استقلّ بعزتى، وعليه وضعت عظمتى وجلالى، وهنالك استقرّ قرارى؛ ثم هو بعد ضعيف عنّى لولا قوّتى؛ ثم أنا بعد ذلك ملء كل شىء، وفوق كلّ شىء، ومحيط بكلّ شىء، وأمام كلّ شىء، وخلف كلّ شىء، وليس ينبغى لشىء أن يعلم علمى ولا يقدر قدرتى، ولا يبلغ كنه شانى. أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرما وأمنا، أحرّم بحرماته ما فوقه وما تحته وما حوله. فمن حرّمه بحرمتى فقد عظّم حرماتى، ومن أحلّه فقد أباح جرماتى، ومن أمّن أهله فقد استوجب بذلك أمانى، ومن أخافهم أخفرنى فى ذمتى، ومن عظّم شأنه عظم فى عينى، ومن تهاون به صغر فى عينى؛ ولكل ملك حيازة ما حواليه مما حواليه، وبطن مكة خيرتى وحيرتى؛ وجيران بيتى وعمّارها وزوّارها، وفدى وأضيافى فى كنفى وأفنيتى، ضامنون على ذمتى وجوارى؛ فأجعله أوّل بيت وضع للناس، وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض:؟؟؟ نه أفواجا شعثا غبر على كل ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق، يعجّون بالتكبير عجيجا، ويرجّون بالتلبية رجيجا، وينتحبون بالبكاء نحيبا. فمن اعتمره لا يريد غيره، فقد زرنى ووفد إلىّ ونزل بى؛ ومن نزل بى، فحقيق علىّ أن أتحفه بكرامتى؛ وحقّ على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه، وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته. تعمره آدم من كنت حيا، ثم تعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء: أمة بعد أمة، وقرن بعد قرن، ونبىّ بعد نبىّ، حتّى ينتهى ذلك إلى نبىّ من ولدك وهو خاتم النبيين، فأجعله من عمّاره وسكّانه وحماته، وولاته وسقاته، يكون أمينى عليه من كان حيا. فإذا انقلب إلىّ،(1/305)
وجدنى قد ذخرت له من أجره وفضيلته ما يتمكن به القربة منى والوسيلة إلىّ، وأفضل المنازل فى دار المقام. وأجعل اسم ذلك البيت ودكره وشرفه ومجده وثناءه ومكرمته لنبىّ من ولدك يكون قبل هذا النبى وهو أبوه يقال له إبراهيم، أرفع له قواعده، وأقضى على يديه عمارته، وأنبط له سقايته، وأريه حلّه وحرمه ومواقفه، وأعلمه مشاعره ومناسكه، وأجعله أمة واحدة قانتا لى، قائما بأمرى، داعيا إلى سبيلى؛ أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم؛ أبتليه فيصبر، وأعافيه فيشكر؛ وينذر لى فيفى؛ ويعد لى فينجز؛ أستجيب له فى ولده وذرّيته من بعده وأشفّعه فيهم، وأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته وسقاته وخدّامه وخزّانه وحجّابه حتّى يبتدعوا ويغيروا؛ فإذا فعلوا ذلك فأنا الله أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء. أجعل إبراهيم إمام أهل ذلك البيت وأهل تلك الشريعة، يأتمّ به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن؛ يطئون فيها آثاره، ويتبعون فيها سنّته، ويقتدون فيها بهديه.
فمن فعل ذلك منهم أوفى نذره، واستكمل نسكه؛ ومن لم يفعل ذلك منهم ضيّع نسكه، وأخطأ بغيته. فمن سأل عنى يومئذ فى تلك المواطن: أين أنا؟ فأنا مع الشّعث الغبر الموفين بنذورهم، المستكملين مناسكهم، المبتهلين إلى ربهم الذى يعلم ما يبدون وما يكتمون. وليس هذا الخلق ولا هذا الأمر الذى قصصت عليك شأنه؛ يا آدم، بزائدى فى ملكى ولا عظمتى ولا سلطانى ولا شىء مما عندى إلا كما زادت قطرة من رشاش وقعت فى سبعة أبحر تمدّها من بعدها سبعة أبحر لا تحصى، بل القطرة أزيد فى البحر من هذا الأمر فى شىء مما عندى. ولو لم أخلقه لم ينتقص شىء من ملكى ولا عظمتى ولا مما عندى من الغناء والسّعة، إلا كما نقصت الأرض ذرّة وقعت من جميع ترابها وجبالها وحصاها ورمالها وأشجارها، بل الذرّة أنقص للأرض من هذا الأمر لو لم أخلقه. ليس مما عندى ويعدّ هذا مثلا للعزيز الحكيم.(1/306)
ذكر ما جاء فى طواف سفينة نوح عليه السلام بالبيت
قال أبو الوليد الأزرقىّ، ورفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: كان مع نوح عليه السلام فى السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم، وإنهم كانوا فى السفينة ماله وخمسين يوما، وإن الله جل ثناؤه وجّه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما، ثم وجهها إلى الجودىّ فاستقرّت عليه.
وقال عن مجاهد: كان موضع الكعبة قد خفى ودرس زمن الغرق فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام. فكان موضعه أكمة حمراء مدوّرة، لا تعلوها السيول. غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هنالك ولا يثبت موضعه. وكان يأتيه المظلوم والمبعود من أقطار الأرض، ويدعو عنده المكروب. فقلّ من دعا هنالك، إلا استجيب له. وكان الناس يحجّون إلى مكة، إلى موضع البيت، حتّى بوّأ الله تعالى مكانه لإبراهيم عليه السلام. فلم يزل منذ أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض معظما محرّما تتناسخه الأمم والملل أمّة بعد أمّة، وملّة بعد ملة. قال: وكانت الملائكة تحجّه قبل آدم عليه السلام.
ذكر ما جاء من تخير إبراهيم عليه السلام موضع البيت
قال عثمان بن ساج: بلغنا (والله أعلم) أن إبراهيم خليل الله عليه السلام عرج به إلى السماء فنظر إلى الأرض، مشارقها ومغاربها، فاختار موضع الكعبة. فقالت له الملائكة: يا خليل الرحمن اخترت حرم الله فى الأرض، قال: فبناه من حجارة سبعة أجبل (ويقولون خمسة) . وكانت الملائكة تأتى بالحجارة إلى إبراهيم عليه السلام من تلك الجبال.(1/307)
ذكر حج إبراهيم عليه السلام وإذنه بالحج وحج الأنبياء بعده وطوافهم
قال أبو الوليد عن محمد بن إسحاق: لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن من بناء البيت الحرام، جاءه جبريل عليه السلام فقال: طف به سبعا، فطاف به سبعا، هو وإسماعيل.
يستلمان الأركان كلّها فى كل طواف، فلما أكملا سبعا، صلّيا خلف المقام ركعتين.
قال: فقام معه جبريل فأراه المناسك كلها: الصّفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفة.
فلما دخل منى وهبط من العقبة، مثّل له إبليس عند جمرة العقبة، فقال له جبريل:
ارمه، فرماه بسبع حصيات، فغاب عنه؛ ثم برزله عند الجمرة الوسطى، فقال له جبريل:
ارمه، فرماه إبراهيم بسبع حصيات، فغاب عنه؛ ثم برز له عند الجمرة السفلى، فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات مثل حصى الحذف، فغاب عنه إبليس؛ ثم مضى إبراهيم فى حجه وجبريل يوقفه على المواقف ويعلمه المناسك حتّى انتهى إلى عرفة.
فلما انتهى إليها، قال له جبريل: أعرفت مناسكك؟ قال: نعم، قال: فسميت عرفات بذلك. قال: ثم أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذّن فى الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا ربّ وما يبلغ صوتى؟ قال الله جل ثناؤه: أذّن، وعلىّ البلاغ، قال:
فعلا إبراهيم على المقام فأشرف به حتّى صار أرفع الجبال وأطولها فجمعت له الأرض يومئذ: سهلها، وجبلها، وبرّها، وبحرها، وإنسها، وجنّها حتّى أسمعهم جميعا، فأدخل إصبعيه فى أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وبدأ بشق اليمين فقال:
«أيها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربكم» فأجابوه من تحت التخوم السبعة، ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أقطار الأرض كلها:(1/308)
(لبّيك، اللهمّ لبّيك) . قال: وكانت الحجارة على ما هى اليوم، إلا أن الله عز وجل أراد أن يجعل المقام آية. فكان أثر قدميه فى المقام آية إلى اليوم. قال: أفلا تراهم اليوم يقولون: (لبيك، اللهم لبيك) . فكل من حج إلى اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم.
وأثر قدمى إبراهيم فى المقام آية. وذلك قوله تعالى: (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) .
قال ابن إسحاق: وبلغنى أن آدم عليه السلام كان استلم الأركان كلها قبل إبراهيم، وحجّه إسحاق وسارة من الشام. قال: وكان إبراهيم يحجّه كل سنة على البراق. قال:
وحجّت بعد ذلك الأنبياء والأمم.
وعن مجاهد، قال: حج إبراهيم وإسماعيل، ماشيين.
وعن عبد الله بن ضمرة السلولى: ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيا، جاءوا حجّاجا فقبروا هنالك.
وفى الحديث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان النبىّ من الأنبياء إذا هلكت أمّته لحق بمكة فتعبّد بها النبىّ ومن معه حتّى يموت. فمات بها: نوح، وهود، وصالح، وشعيب. وقبورهم بين زمزم والحجر.
وعن مجاهد: حج موسى النبىّ عليه السلام على جمل أحمر. فمرّ بالرّوحاء عليه عباءتان قطوانيّتان متّزر بإحداهما، مرتد بالأخرى. فطاف بالبيت ثم سعى بين الصفا والمروة. فبينما هو يلبىّ بين الصفا والمروة، إذ سمع صوتا من السماء يقول: (لبّيك عبدى، أنا معك) قال: فخرّ موسى ساجدا.(1/309)
وعن عروة بن الزبير رضى الله عنهما قال: بلغنى أن البيت وضع لآدم يطوف به ويعبد الله عنده؛ وأنّ نوحا قد حجّه وجاءه وعظمه قبل الغرق. فلما أصاب البيت ما أصاب الأرض من الغرق فكان ربوة حمراء معروفا مكانه؛ فبعث الله هودا إلى عاد، فتشاغل بأمر قومه حتّى هلك، ولم يحجّه. ثم بعث الله تعالى صالحا إلى ثمود، فتشاغل بهم حتّى هلك، ولم يحجّه. ثم بوّأه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فحجّه وأعلم مناسكه ودعا إلى زيارته. ثم لم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم، إلا حجه.
وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لقد سلك فجّ الرّوحاء سبعون نبيا، حجّاجا: عليهم لباس الصّوف. مخطّمى إبلهم بحبال اللّيف. ولقد صلّى فى مسجد الخيف سبعون نبيّا.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد مرّ بفجّ الرّوحاء (أو لقد مرّ بهذا الفجّ) سبعون نبيا على نوق حمر خطمها الليف، لبوسهم العباء وتلبيتهم شتّى.
فمنهم يونس بن متّى. فكان يونس يقول: (لبّيك فرّاج الكرب، لبّيك) ؛ وكان موسى يقول: (لبّيك، أنا عبدك لديك، لبّيك) قال: وتلبية عيسى: (لبّيك، أنا عبدك ابن أمتك بنت عبديك، لبّيك) » .
وعن عطاء بن السائب أن إبراهيم رأى رجلا يطوف بالبيت فأنكره، فسأله:
ممن أنت؟ فقال: من أصحاب ذى القرنين، قال: وأين هو؟ قال: هو بالأبطح.
فتلقّاه إبراهيم عليه السلام فاعتنقه، فقال لذى القرنين: ألا تركب؟ قال: ما كنت لأركب، وهذا يمشى، فحجّ ماشيا.(1/310)
ذكر ما جاء من مسئلة إبراهيم عليه السلام الأمن والرزق لأهل مكة والكتب التى وجد فيها تعظيم الحرم
قال أبو الوليد الأزرقىّ، يرفعه إلى محمد بن كعب القرظى أنه قال: دعا إبراهيم عليه السلام للمؤمنين، وترك الكفّار لم يدع لهم بشىء، فقال الله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) .
وقال عثمان بن ساج: وأخبرنى محمد بن السائب الكلبىّ قال: قال إبراهيم عليه السلام (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)
. فاستجاب الله عز وجل له فجعله بلدا آمنا وآمن فيه الخائف ورزق أهله من الثمرات، تحمل إليهم من الآفاق.
وقال مجاهد: جعل الله هذا البلد آمنا، لا يخاف فيه من دخله.
وقال سعيد بن السائب بن يسار: لما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة أن يرزق أهلها من الثمرات، نقل الله أرض الطائف من الشام فوضعها هنالك: رزقا للحرم.
وروى عن محمد بن المنكدر، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما وضع الله الحرم نقل له الطائف من الشام.
وعن الزّهرىّ أنّ الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف، لدعوة إبراهيم خليل الله: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: جاء إبراهيم يطالع إسماعيل عليهما السلام فوحده غائبا، ووجد امرأته الآخرة، وهى السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمى.
فوقف وسلم فردّت عليه السلام واستنزلته وعرضت عليه الطعام والشراب،(1/311)
فقال: ما طعامكم وشرابكم؟ قالت: اللحم والماء، قال: هل من حبّ أو غيره من الطعام؟ قالت: لا، قال: بارك الله لكم فى اللحم والماء.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وجد عندها يومئذ حبّا لدعا لهم بالبركة فيه، فكانت تكون أرضا ذات زرع» .
وعن سعيد بن جبير مثله، وزاد فيه: «ولا يخلو أحد على اللحم والماء فى غير مكة إلا وجع بطنه؛ وإن خلا عليهما بمكة لم يجد لذلك أذى» .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «وجد فى المقام كتاب فيه» هذا بيت الله الحرام بمكة، توكّل الله برزق أهله من ثلاث سبل، مبارك لأهله فى اللحم واللّبن» ووجد فى حجر فى الحجر كتاب من خلقة الحجر «أنا الله ذو بكّة الحرام صغتها يوم صغت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتّى يزول أخشباها مبارك لأهلها فى اللحم والماء» .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما هدموا البيت وبلغوا أساس إبراهيم عليه السلام وجدوا فى حجر من الأساس كتابا، فدعوا له رجلا من أهل اليمن، وآخر من الرّهبان، فإذا فيه: «أنا الله ذو بكة حرّمتها يوم خلقت السموات والأرض والشمس والقمر ويوم صغت هذين الجبلين وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها مبارك لأهلها فى الماء واللبن» .
وعن مجاهد رضى الله عنه قال: وجد فى بعض الزبور «أنا الله ذو بكّة جعلتها بين هذين الجبلين وصغتها يوم صغت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء(1/312)
وجعلت رزق أهلها من ثلاث سبل فليس يوتا [1] أهل مكة إلا من ثلاثة طرق أعلى الوادى وأسفله وكدى وباركت لأهلها فى اللحم والماء» .
ذكر أسماء الكعبة ومكة
عن ابن أبى نجيح قال: إنما سمّيت «الكعبة» لأنها مكعّبة على خلقة الكعب.
قال: وكان الناس يبنون بيوتهم مدوّرة تعظيما للكعبة. فأوّل من بنى بيتا مربّعا حميد بن زهير، فقالت قريش: «ربّع حميد بن زهير بيتا، إمّا حياة وإمّا موتا» .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: إنما سمّيت «بكة» لأنه يجتمع فيها الرجال والنساء جميعا. وقالوا: «بكّة» موضع البيت، ومكّة القرية.
وقال ابن أبى أنيسة: «بكّة» موضع البيت، ومكة هو الحرم كلّه.
وكان ابن جريح يقول: إنما سميت «بكة» لتباكّ الناس بأقدامهم قدّام الكعبة.
ويقال: إنما سميت «بكة» لأنها تبكّ أعناق الجبابرة.
وعن الزهرى: أنه بلغه إنما سمّى «البيت العتيق» من أن الله تعالى أعتقه من الجبابرة.
وعن مجاهد والسدّى: إنما سمى «البيت العتيق» الكعبة، أعتقها الله من الجبابرة؛ فلا يتجبّرون فيه إذا طافوا. وكان البيت يدعى «قادسا» ويدعى «بادرا» ويدعى «القرية القديمة» ويدعى «البيت العتيق» .
وعن مجاهد قال: من أسمائها «مكّة» و «بكّة» و «أمّ رحم» و «أمّ القرى» و «صلاح» و «كوثى» و «الباسّة» .
__________
[1] فى الأصل «بيوت» . وفى بعض النسخ كما فى الصلب بدون نقط. ولعل الصواب يؤتى.(1/313)
وعن ابن أبى نجيح قال: بلغنى أن أسماء مكة «مكة» ؛ و «بكة» ؛ و «أم رحم» ؛ و «أم القرى» : و «الباسّة» ؛ و «البيت العتيق» ؛ و «الحاطمة» :
(تحطم من يستخفّ بها) ؛ و «الناسّة» (تنسّهم، أى تخرجهم إخراجا إذا غشموا وظلموا) .
ذكر ما جاء فى فضل الركن الأسود
عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: ليس فى الأرض من الجنة إلا الرّكن الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة؛ ولولا ما مسّهما من أهل الشّرك ما مسّهما ذو عاهة إلا شفاه الله عز وجل.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أنه قال فى الرّكن الأسود:
لولا ما مسّه من أنجاس الجاهلية وأرجاسهم. ما مسّه ذو عاهة إلا برأ. وقال: نزل الركن، وإنه لأشدّ بياضا من الفضّة.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضى الله عنها، وهى تطوف معه بالكعبة حين استلم الركن: «لولا ما طبع على هذا الحجر، يا عائشة، من أرجاس الجاهلية وأنجاسها، إذن لاستشفى به من كل عاهة، وإذن لألفى كهيئته يوم أنزله الله، وليعيدنه الله إلى ما خلقه أوّل مرة، وإنه لياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة، ولكنّ الله غيره بمعصية العاصين، وستر زينته عن الظّلمة والأثمة لأنهم لا ينبغى لهم أن ينظروا إلى شىء كان بدؤه من الجنة»
. وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يبعث الركن الأسود، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به: يشهد لمن استلمه بحق»
.(1/314)
وعنه رضى الله عنه: الركن يمين الله فى الأرض: يصافح بها عباده كما يصافح أحدكم أخاه.
وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى مكة. فلما دخلنا الطواف، قام عند الحجر وقال: والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك، ما قبّلتك. ثم قبّله ومضى فى الطواف فقال له علىّ رضى الله عنه: بل يا أمير المؤمنين هو يضرّ وينفع، قال: وبم قلت ذلك؟ قال: بكتاب الله، قال: وأين ذلك من كتاب الله؟ قال:
قال الله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا)
. فلما خلق الله تعالى آدم مسح ظهره وأخرج ذرّيته من صلبه فقرّرهم أنه الربّ وهم العبيد، ثم كتب ميثاقهم فى رقّ، وكان هذا الحجر له عينان ولسان، فقال له: افتح فاك، فألقمه ذلك الرّقّ وجعله فى هذا الموضع، وقال: تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة، فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش فى قوم لست فيهم، يا أبا الحسن.
وعن عكرمة: أنّ الحجر الأسود يمين الله فى الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح الركن فقد بايع الله ورسوله.
وعن مجاهد: يأتى الركن والمقام يوم القيامة، كلّ واحد منهما مثل أبى قبيس:
يشهدان لمن وافاهما بالموافاة.
والله أعلم.(1/315)
ذكر ما جاء فى فضل استلام الركن الأسود، واليمانى
عن عطاء بن السائب أن عبيد بن عمير قال لابن عمر رضى الله عنهما: إنى أراك تزاحم على هذين الركنين، فقال: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنّ استلامهما يحطّ الخطايا حطّا» .
وسئل رضى الله عنه، فقيل له: إنا نراك تفعل خصالا أربعا لا يفعلها الناس:
نراك لا تستلم من الأركان إلا الحجر والركن اليمانى، ونراك لا تلبس من النّعال إلا السّبتية، ونراك تضفّر شعرك وقد يصبغ الناس بالحنّاء، ونراك لا تحرم حتّى تستوى بك راحلتك وتوجّه. فقال عبد الله: إنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدع الركن الأسود والركن اليمانى أن يستلمهما فى كل طواف أتى عليهما. قال: كان لا يدعهما فى كل طواف طاف بهما حتّى يستلمهما، لقد زاحم على الركن مرة فى شدّة الزحام حتّى رعف، فخرج فغسل عنه ثم رجع. فعاد يزاحم فلم يصل إليه حتّى رعف الثانية، فخرج فغسل عنه ثم رجع. فما تركه حتّى استلم.
وعن نافع قال: لقد رأيت ابن عمر رضى الله عنهما، زاحم مرة على الركن اليمانى حتّى انبهر فتنحّى فجلس فى ناحية الطواف حتّى استراح، ثم عاد فلم يدعه حتّى استلمه.
قالوا: وليس هذا واجبا على الناس، ولكنه كان يحب أن يصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/316)
ذكر ما جاء فى فضل الطواف بالكعبة
عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من طاف بالبيت، كتب الله له بكلّ خطوة حسنة ومحا عنه سيّئة» .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه رضى الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج المرء يريد الطّواف بالبيت، أقبل يريد الرحمة. فإذا دخله غمرته. ثم لا يرفع فدما ولا يضع قدما إلا كتب الله له بكلّ قدم خمسمائة حسنة، وحطّ عنه خمسمائة سيئة (أو قال خطيئة) ، ورفعت له خمسمائة درجة. فإذا فرغ من طوافه فصلّى ركعتين دبر المقام، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكتب له أجر عتق عشر رقاب من ولد إسماعيل، واستقبله ملك على الركن فقال له: استأنف العمل فيما بقى فقد كفيت ما مضى، وشفّع فى سبعين من أهل بيته»
. وعن حسّان بن عطية: أن الله خلق لهذا البيت عشرين ومائة رحمة ينزلها فى كل يوم، فستّون منها للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين. قال حسان:
فنظرنا فإذا هى كلها للطائفين هو يطوف ويصلى وينظر.
ذكر ما جاء فى فضل زمزم
عن وهب بن منبة أنه قال فى زمزم: والذى نفسى بيده، إنها لفى كتاب الله مضنونة، وإنها لفى كتاب الله برّة، وإنها لفى كتاب الله شراب الأبرار، وإنها لفى كتاب الله طعام طعم وشفاء سقم.
وعن ابن خثيم قال: قدم علينا وهب بن منبه مكة فاشتكى، فجئناه نعوده، فإذا عنده من ماء زمزم. قال: فقلنا له: لو استعذبت، فإن هذا ماء فيه غلظ؟ قال: ما أريد(1/317)
أن أشرب حتّى أخرج منها غيره، والذى نفس وهب بيده، إنها لفى كتاب الله زمزم لا تنزف ولا تذم، وإنها لفى كتاب الله برّة شراب الأبرار، وإنها لفى كتاب الله مضنونة، وإنها لفى كتاب الله طعام من طعم وشفاء من سقم، والذى نفس وهب بيده لا يعمد أحد إليها فيشرب منها حتّى يتضلع إلا نزعت منه داء أو أحدثت له شفاء.
وعن كعب أنه قال لزمزم: إنا نجدها مضنونة ضنّ بها لكم، وإن أوّل من سقى ماءها إسماعيل عليه السلام، طعام من طعم، وشفاء من سقم.
وعن مجاهد قال: ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تريد به شفاء شفاك الله.
وإن شربته لظمإ أرواك الله، وإن شربته لجوع أشبعك الله، وهى هزمة جبريل عليه السلام بعقبه.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التضلّع من ماء زمزم براءة من النّفاق» .
وعن الضحاك بن مزاحم أنه قال: بلغنى أنّ التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق، وأن ماءها يذهب بالصّداع، وأن التطلّع فيها يجلو لبصر، وأنه سيأتى عليها زمان تكون أعذب من النيل والفرات. قال: قال لنا الخزاعىّ: وقد رأينا ذلك فى سنة إحدى أو اثنتين وثمانين ومائتين، وذلك أنه أصاب مكة أمطار كثيرة وسال واديها فى سنة تسع وسبعين، وسنة ثمانين ومائتين، فكثر ماء زمزم وارتفع حتّى قارب رأسها، فلم يكن بينه وبين شفتها العليا إلا سبع أذرع أو نحوها، وعذبت حتّى كان ماؤها أعذب مياه مكة التى يشربها أهلها. وإنا رأيناها أعذب من مياه العيون.(1/318)
وعن الضحاك بن مزاحم أيضا أن الله عز وجل يرفع المياه العذاب قبل يوم القيامة غير زمزم، وتغور المياه العذبة غير زمزم.
ذكر ما جاء من اتساع منى أيام الحج ولم سميت منى
عن أبى الطّفيل، قال: سمعت ابن عباس رضى الله عنهما يسأل عن منى، ويقال له: عجبا لضيقه فى غير أيام الحج! فقال ابن عباس: إن منى يتسع بأهله كما يتسع الرحم للولد.
وعن ابن عباس، قال: إنما سميت منى منى لأن جبريل حين أراد أن يفارق آدم، قال له. تمنّ، قال: أتمنّى الجنة، فسميت منى لتمنى آدم.
وقيل: إنما سميت منى لمنى [1] الدماء بها.
ذكر ما جاء فى فضائل مقبرة مكة
عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «نعم المقبرة هذه!» (لمقبرة أهل مكة)
. وعن محمد بن عبد الله بن صيفىّ أنه قال: من قبر فى هذه المقبرة، بعث آمنا يوم القيامة (يعنى مقبرة مكة) .
ذكر شىء من خصائص مكة
من خصائصها أن الذئب فيها يروّع الظبى ويعارضه ويصيده. فإذا دخل الحرم، كفّ عنه.
__________
[1] المنى هو إراقة الدماء.(1/319)
ومنها أنه لا يسقط على الكعبة حمام إلا إن كان عليلا؛ وأن عادة الطير إذا حاذت الكعبة أن تفترق فرقتين ولا تعلوها. والله أعلم.
وأما المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام
ففضائلها أوسع من أن أحصرها، وأعظم من أن أسبرها. ناهيك بها من بلد اختاره الله تعالى لرسوله، ونص على فضله في محكم تنزيله، قال الله عز وجل: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) .
وروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أىّ مسجد هو؟ فقال: مسجدى هذا،
وهو قول ابن المسيّب وزيد بن ثابت وابن عمر رضى الله تعالى عنهم، وبه أخذ مالك رحمه الله. وقال ابن عباس: هو مسجد قباء.
وروى عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا لمسجد الحرام» .
قال القاضى عياض رحمه الله: إختلف الناس فى معنى هذا الاستثناء على اختلافهم فى المفاضلة بين مكة والمدينة. فذهب مالك أن الصلاة فى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة فى سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام، فان الصلاة فى مسجد النبىّ صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة فيه بدون الألف. واحتج مالك وأشهب وابن نافع وجماعة أصحابه بما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه «صلاة فى المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه» فتأتى(1/320)
فضيلة مسجد الرسول عليه بتسعمائة وعلى غيره بألف. وهذا مبنىّ على تفضيل المدينة على مكة، وهو قول عمر بن الخطاب ومالك وأكثر المدنيين.
وذهب أهل مكة والكوفة إلى تفضيل مكة. وهو قول عطاء وابن وهب وابن حبيب، من أصحاب مالك. وحكاه الباجى عن الشافعى.
قال القاضى أبو الوليد الباجى: الذى يقتضيه الحديث مخالفة حكم مكة لسائر المساجد، ولا يعلم منه حكمها مع المدينة.
قال القاضى عياض: ولا خلاف أن موضع قبر النبى صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض.
قال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة» .
قالوا: هذا يحتمل معنيين، (أحدهما) . أنه موجب لذلك وأن الدعاء والصلاة فيه تستحق ذلك من الثواب كما قيل: «الجنة تحت ظلال السّيوف» . (والثانى) أن تلك البقعة قد ينقلها الله فتكون فى الجنة بعينها. قاله الداودىّ.
وروى ابن عمر وجماعة من الصحابة رضى الله عنهم أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال فى المدينة: «لا يصبر على لأوائها وشدّتها أحد، إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» .
وقال صلى الله عليه وسلم فيمن تحمّل عن المدينة: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» . وقال: «إنما المدينة كالكير: تنفى خبثها وتنصع طيبها» .
وقال: «لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه» .(1/321)
وعنه صلّى الله عليه وسلم: «من مات فى أحد الحرمين حاجّا أو معتمرا، بعثه الله يوم القيامة لا حساب عليه ولا عذاب» . وفى طريق آخر: «بعث من الآمنين يوم القيامة» .
وعن ابن عمر رضى الله عنهما: «من استطاع أن يموت بالمدينة، فليمت بها فإنّى أشفع لمن يموت بها» .
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال: «هذا جبل يحبّنا ونحبّه. اللهم إنّ إبراهيم حرّم مكة، وأنا أحرّم ما بين لا بتيها» .
وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكة أو أشدّ، وانقل حمّاها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا فى صاعنا ومدّنا» .
ودعا النبىّ صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة فقال: «اللهم بارك لهم فى مكيالهم، وبارك لهم فى صاعهم ومدّهم» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من زار قبرى، وجبت له شفاعتى» .
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زارنى فى المدينة محتسبا، كان فى جوارى وكنت له شفيعا يوم القيامة» .
وكان مالك رحمه الله لا يركب فى المدينة دابّة، ويقول: أستحيى من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابّة.
وروى أنه وهب للشافعىّ كراعا كثيرا، فقال له الشافعىّ: أمسك منها دابّة.
فأجابه بمثل هذا الجواب.
وحكى القاضى عياض فى «كتاب الشفاء» قال: حدّث أن أبا الفضل الجوهرىّ لما ورد المدينة زائرا وقرب منها، ترجّل ومشى باكيا منشدا:(1/322)
ولمّا رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرّسوم ولا لبّا،
نزلنا عن الأكوار نمشى، كرامة ... لمن بان عنه أن نلّم به ركبا.
قال: وحكى بعض المريدين أنه لما أشرف على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشأ يقول متمثلا:
رفع الحجاب لنا فلاح لناظر ... قمر تقطّع دونه الأوهام.
وإذا المطىّ بنا بلغن محمدا، ... فظهورهنّ على الرّجال حرام.
قرّبنتا من خير من وطئ الثّرى، ... فلها علينا حرمة وذمام.
وأفتى مالك رحمه الله فيمن قال «تربة المدينة رديّة» بضرب ثلاثين درّة، وأمر بحبسه؛ وكان له قدر. وقال: «ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها النبىّ صلى الله عليه وسلم، يزعم أنها غير طيّبة!» .
وفى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى المدينة: «من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبّل الله منه صرفا ولا عدلا» .
ذكر شىء من خصائص المدينة المشرفة وأسمائها على صاحبها أفضل الصلاة والسلام
من خصائصها، أن العطر والبخور يوجد لهما فيها من الضّوع والرائحة الطيّبة أضعاف ما يوجد فى سائر البلاد؛ ولها فى قصبتها فغمة طيّبة ورائحة عطرة، وإن لم يكن فيها شىء من الطيب البتة. ولهذا سميت «طيبة» و «طابة» .(1/323)
قال الشاعر:
ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا؟
وهذا البيت ينسب لفاطمة الزهراء رضى الله عنها.
ومن أسمائها «طيبة» و «طابة» و «يثرب» و «المدينة» و «الدار» .
قال القاضى عياض رحمه الله: وجدير بمواطن عمرت بالوحى والتنزيل، وتردّد بها جبريل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والرّوح، وضجّت عرصاتها بالتقديس والتسبيح؛ واشملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر؛ مدارس آيات، ومساجد جماعات وصلوات، ومشاهد الفضل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين، ومشاعر المسلمين؛ ومواقف سيد المرسلين، ومتبوّأ خاتم النبيين؛ حيث انفجرت النبوّة، وأين فاض عبابها، ومواطن مهبط الرسالة، وأوّل أرض مسّ جلد المصطفى ترابها: أن تعظّم عرصاتها، وتتنسّم نفحاتها، وتقبّل ربوعها وجدراتها.
وقال:
يا دار خير المرسلين ومن به ... هدى الأنام وخصّ بالآيات.
عندى لاجلك لوعة وصبابة ... وتشوّق متوقّد الجمرات.
وعلىّ عهد إن ملأت محاجرى ... من تلكم الجدرات والعرصات،
لأعفّرنّ مصون شيى بينها ... من كثرة التقبيل والرّشفات.
لولا العوادى والأعادى، زرتها ... أبدا ولو سحبا على الوجنات.
لكن سأهدى من حفيل تحيّتى ... لقطين تلك الدار والحجرات.(1/324)
أذكى من المسك المفتّق نفحة ... تغشاه بالاصال والبكرات.
وتخصّه بزواكى الصّلوات ... ونوامى التسليم والبركات.
وأما البيت المقدّس، والمسجد الأقصى
فالبيت المقدّس أحد القبلتين، والمسجد الأقصى ثالث الحرمين. إليه تشدّ الرّحال، ويكثر النزول والارتحال؛ وفى الأرض المقدّسة تحشر الخلائق ليوم العرض، ويبسط الله تعالى الصخرة الشريفة حتّى تكون كعرض السماء والأرض؛ وتجتمع الناس هناك لفصل الحساب، ويضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
ولنبدأ بذكر الأرض المقدّسة
قال الله عز وجل إخبارا عن موسى عليه السلام: (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)
. قال الزجاج: والمقدّسة المطهّرة.
وقيل للسّطل «القدس» لأنه يتطهّر منه. وسمى بيت المقدس لأنه يتطهّر فيه من الذنوب. وقيل: سماها مقدّسة لأنها طهّرت من الشرك وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين.
وقد اختلف فى الأرض المقدّسة ما هى؟
فذهب ابن عباس رضى الله عنهما إلى أنها أريحا.
وقال السّدّى: أريحا هى أرض بيت المقدس. وقال مجاهد: هى الطّور وما حوله.
وقال الضحاك: هى إيلياء وبيت المقدس. وقال الكلبى: دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ. وقال قتادة: هى الشام كلها.(1/325)
وقال عبد الله بن عمر: والحرم محرّم مقداره من السماوات والأرض، وبيت المقدس مقدّس مقداره من السماوات والأرض.
وقال ابن قتيبة. وقرأت فى مناجاة موسى عليه السلام أنه قال: اللهمّ إنك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن البيوت مكة وإيلياء، ومن إيلياء بيت المقدس.
وقال الله تعالى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) .
والمسجد الأقصى بيت المقدس: سمّى أقصى لأنه أبعد المساجد التى تزار.
وقيل: لبعد المسافة بين المسجدين. وقوله عز وجل «الذى باركنا حوله» قيل:
بالماء والأنهار والأشجار والثمار. وقال مجاهد: سماه مباركا لأنه مقرّ الأنبياء، وفيه مهبط الملائكة والوحى، وهو الصخرة، ومنه يحشر الناس يوم القيامة.
وقال تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) .
قال الثعلبىّ فى تفسيره: قال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن غنم: «التّين مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس» . وقال الضحاك: «هما مسجدان بالشام» . وقال محمد بن كعب: «التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء» . ومجازه على هذا التأويل: منابت التين والزيتون.
وروى عطية عن ابن عباس: «التين مسجد نوح عليه السلام الذى بنى على الجودى، والزيتون بيت المقدس» .(1/326)
وروى نهشل عن الضحاك: «التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى» قال: «وطور سينين، يعنى جبل موسى عليه السلام» .
قال عكرمة: «السّينين الحسن بلغة الحبشة» . وعنه: كل جبل ينبت فهو سينين.
وقال مجاهد: «الطّور الجبل، وسينين المبارك» .
وقال قتادة: «المبارك الحسن» .
وقال مقاتل: «كل جبل فيه شجر فهو سينين، وسيناء وهو بلغة النّبط» .
وقال الكلبىّ: «يعنى الجبل المشجر» .
وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: «أربعة أجبال مقدّسة بين يدى الله تعالى:
طور تينا، وطور زيتا، وطور سينا، وطور تيمانا.
فاما طور تينا: فدمشق.
وأما طور زيتا: فبيت المقدس.
وأما طور سينا: فهو الذى كان عليه موسى عليه السلام.
وأما طور تيمانا: فمكّة.
والبلد الأمين مكة بلا خلاف» .
ومسجد بيت المقدس أحد المساجد الثلاثة التى لا تشدّ الرحال إلا إليها،
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ورد فى الصحيح: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى» .
وفى الصحيح أيضا «أن موسى عليه السلام، لما حضرته الوفاة سأل الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر» .(1/327)
وكانت عمارة مسجد البيت المقدّس بأمر الله عز وجل لنبيه داود عليه السلام أن يعمره ثم لم يقدّر له عمارته وقدّر الله تعالى ذلك على يدى سليمان بن داود عليهما السلام، فهو الذى عمره. وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى مبينا فى الفن الخامس فى التاريخ.
وقد وردت آثار وأحاديث فى فضل بيت المقدس، وفضل زيارته، وثواب الصلاة فيه، ومضاعفة الحسنات والسيئات فيه، وفضل السكنى فيه، والإقامة به، والوفاة فيه، وما به من قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومحراب داود، وعين سلوان، وما ورد فى أن الحشر منه، وما ورد فى فضل الصخرة والصلاة إلى جانبها، وما ورد من أن الله عز وجل عرج بنبيه من بيت المقدس إلى السماء، وثواب الإهلال من بيت المقدس، وما ورد من أن الكعبة تزور الصخرة يوم القيامة.
وسنذكر من ذلك طرفا تقف عليه إن شاء الله تعالى ونحذف أسانيد الأحاديث الواردة فيه رغبة فى الاختصار فنقول. وبالله التوفيق:
أما فضل بيت المقدس
فقد ورد عن الزهرىّ أنه قال: لم يبعث الله عز وجل نبيا، إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس. وقد صلّى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته سبعة عشر شهرا، كما روى فى الصحيحين، حتّى أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .(1/328)
وتحويل القبلة أوّل ما نسخ من أمور الشرع. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلّون بمكة إلى الكعبة. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أمره الله تعالى أن يصلّى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إيّاه إذا صلّى إلى قبلتهم مع ما يجدون من تعيينه فى التوراة.
هذا قول عامّة المفسرين، على ما حكاه الثعلبىّ عنهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد: قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هؤلاء يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله» .
فاستقبله النبىّ صلى الله عليه وسلم. قالوا جميعا: فصلى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا، وكانت الأنصار قد صلّت قبل بيت المقدس ستين يوما، قبل قدوم النبىّ صلى الله عليه وسلم.
وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا فى السبب الذى كان عليه الصلاة والسلام من أجله يكره قبلة بيت المقدس ويهوى قبلة الكعبة.
فقال ابن عباس رضى الله عنهما: لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليهما السلام.
وقال مجاهد: من أجل أن اليهود قالوا: يخالفنا محمد فى ديننا، ويتّبع قبلتنا! وقال مقاتل بن حيّان: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى نحو بيت المقدس، قالت اليهود: يزعم محمد أنه نبى، وما نراه أحدث فى نبوّته شيئا! أليس يصلى إلى قبلتنا ويستسنّ بسنتنا؟ فإن كانت هذه نبوّة. فنحن أقدم وأوفر نصيبا.(1/329)
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق عليه وزاده شوقا إلى الكعبة.
وقال ابن زيد: لما استقبل النبىّ صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، بلغه أن اليهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم، قالوا جميعا:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: وددت أن الله صرفنى عن قبلة اليهود إلى غيرها، فإنى أبغضهم وأبغض موافقتهم، فقال جبريل: إنما أنا عبد مثلك، ليس لى من الأمر شىء؛ فسل ربّك، فعرج جبريل. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحبّ من أمر القبلة. فأنزل الله عز وجل: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ)
الآية
. فلما صرفت القبلة إلى الكعبة قال مشركو مكة: قد تردّد على محمد أمره، واشتاق إلى مولده ومولد آبائه، وقد توجه نحو قبلتهم وهو راجع إلى دينكم عاجلا، وتكلم اليهود والمنافقون فى تحويلها. فأنزل الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
وروى عن كعب أنه قال: إن الله عز وجل ينظر إلى بيت المقدس كل يوم مرتين.
وأما فضل زيارته، وفضل الصلاة فيه
فقد روى عن مكحول أنه قال: من زار بيت المقدس شوقا إليه، دخل الجنة وزاره جميع الأنبياء فى الجنة وغبطوه بمنزلته من الله تعالى؛ وأيّما رفقة خرجوا يريدون بيت المقدس، شيّعهم عشرة آلاف من الملائكة: يستغفرون لهم ويصلّون عليهم،(1/330)
ولهم مثل أعمالهم اذا انتهوا إلى بيت المقدس، ولهم بكل يوم يقيمون فيه صلاة سبعين ملكا؛ ومن دخل بيت المقدس طاهرا من الكبائر، تلقاه الله بمائة رحمة، ما منها رحمة إلا ولو قسمت على جميع الخلائق لوسعتهم؛ ومن صلّى فى بيت المقدس ركعتين يقرأ فيهما ب «فاتحة الكتاب» و «قل هو الله أحد» خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكان له بكل شعرة على جسده حسنة؛ ومن صلى فى بيت المقدس أربع ركعات، مرّ على الصراط كالبرق وأعطى أمانا من الفزع الأكبر يوم القيامة؛ ومن صلى فى بيت المقدس ستّ ركعات، أعطى مائة دعوة مستجابة، أدناها براءة من النار، ووجبت له الجنة؛ ومن صلّى فى بيت المقدس ثمان ركعات، كان رفيق إبراهيم خليل الرحمن؛ ومن صلّى فى بيت المقدس عشر ركعات، كان رفيق داود وسليمان فى الجنة؛ ومن استغفر للمؤمنين والمؤمنات فى بيت المقدس ثلاث مرات، كان له مثل حسناتهم، ودخل على كل مؤمن ومؤمنة من دعائه سبعون مغفرة، وغفر له ذنوبه كلّها.
وروى عن أنس رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى ببيت المقدس خمس صلوات نافلة، كلّ صلاة أربع ركعات يقرأ فى الخمس صلوات عشرة آلاف مرة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
، فقد اشترى نفسه من الله عز وجلّ؛ ليس للنار عليه سلطان» .
وعنه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل فى بيته بصلاة واحدة، وصلاته فى مسجد القبائل بستّ وعشرين، وصلاته فى المسجد الذى يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته فى المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته فى المسجد الحرام بمائة ألف صلاة» .(1/331)
وعن مكحول أن ميمونة رضى الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس قال: «نعم المسكن بيت المقدس! ومن صلى فيه صلاة بألف صلاة فيما سواه. قالت: فمن لم يطق ذلك؟ قال: يهدى له زيتا [1] »
وعن مكحول عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: لا يسمع أهل السماء من كلام بنى آدم شيئا غير أذان مؤذّن بيت المقدس.
وأما ما ورد فى بيت المقدس من مضاعفة الحسنات والسيئات فيه
فقد روى عن نافع، قال: قال ابن عمر رضى الله عنهما، ونحن فى بيت المقدس:
يا نافع، اخرج بنا من هذا البيت، فإن السيئات تضاعف فيه كما تضاعف الحسنات.
وقال جرير بن عثمان وصفوان بن عمرو: الحسنة فى بيت المقدس بألف، والسيئة بألف.
وأما فضل السكنى فيه والإقامة والوفاة به
فقد روى عن ذى الأصابع أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت يا رسول الله إن ابتلينا بالبقاء بعدك، فأين تأمرنا؟ قال: «عليك ببيت المقدس، لعلّ الله يرزقك ذرّية تغدو إليه وتروح» .
__________
[1] يظهر أن بعض الكلمات قد سقطت فى هذا الموضع. ولذلك رأيت إيراد الحديث بلفظ آخر عن ابن الفقيه الهمذانى فى كتابه «مختصر كتاب البلدان» المطبوع فى ليدن سنة 1302 هـ (سنة 1885 م) وهذا نصه: «قالت ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أفتنا عن بيت المقدس، قال: نعم المصلى هو أرض المحشر وأرض المنشر، إيتوه فصلوا فيه فإن الصلاة فيه كألف صلاة. قلت بأبى وأمى أنت من لم يطق أن يأتيه. قال فليهد إليه زيتا يسرج فيه، فإنه من أهدى إليه، كان كمن صلى فيه» .(1/332)
وعن أبى أمامة الباهلىّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحقّ، لعدوّهم قاهرين، لا يضرّهم من خالفهم، حتّى يأتيهم أمر الله عز وجل وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» .
وعن عطاء، قال: لا تقوم الساعة حتّى يسوق الله عز وجل خيار عباده إلى بيت المقدس وإلى الأرض المقدّسة، فيسكنهم إيّاها.
وعن كعب، قال: قال الله عز وجل لبيت المقدس: أنت جنتى وقدسى وصفوتى من بلادى، من سكنك فبرحمة منى، ومن خرج منك فبسخط منى عليه.
وعن وهب بن منبه، قال: أهل بيت المقدس جيران الله، وحقّ على الله عز وجل أن لا يعذّب جيرانه؛ ومن دفن فى بيت المقدس نجا من فتنة القبر وضيقه.
وعن كعب، قال: اليوم فى بيت المقدس كألف يوم، والشهر فيه كالف شهر، والسنة فيه كألف سنة؛ ومن مات فيه فكأنما مات فى السماء، ومن مات حوله فكأنما مات فيه.
وعن خالد بن معدان قال: سمعت كعبا يقول: مقبور بيت المقدس لا يعذّب.
وأما ما به من قبور الأنبياء ومحراب داود وعين سلوان
ففى الأرض المقدّسة قبر إبراهيم الخليل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف عليهم السلام.
وفى الصحيح أن موسى عليه السلام لما حضرته الوفاة سأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدّسة، رمية حجر.(1/333)
وروى الحافظ أبو بكر الخطيب بسنده عن بشر بن بكر عن أمّ عبد الله عن ابنها أنه قال: من أتى بيت المقدس، فليأت محراب داود، فليصلّ فيه، ويسبح فى عين سلوان فإنها من الجنة.
وبسنده إلى سعيد بن عبد العزيز، قال: كان فى زمان بنى إسرائيل فى بيت المقدس عند عين سلوان عين. وكانت المرأة إذا قذفت، أتوا بها فشربت منها فإن كانت بريئة لم تضرّها، وإن كانت نطفة ماتت. فلما حملت مريم حملوها، فشربت منها فلم تزدد إلا خيرا. فدعت الله أن لا يفضح بها امرأة مؤمنة. فغارت العين.
وأما ما ورد فى أن الحشر من البيت المقدس
فقد روى عن أبى ذرّ رضى الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله «أخبرنا عن بيت المقدس. قال: أرض المحشر والمنشر. ايتوه فصلّوا فيه وليأتينّ على بيت المقدس [1] ! ولبسطة قوس أو مسحة قوس فى بيت المقدس أو من حيث يرى بيت المقدس خير من كذا وكذا» .
وعن كعب قال: العرض والحساب من بيت المقدس.
__________
[1] بياض فى الأصل بمقدار كلمة. وقد روى ابن فضل الله العمرى فى «مسالك الأبصار» المطبوع بدار الكتب المصرية (ج 1 ص 136) حديثا تقرب ألفاظه جدا من هذا الحديث ان لم يكونا حديثا واحدا. فلأجل تكملة النقص الموجود فى نسخ النويرى فى هذا الموضع نورد ما
رواه أبن فضل الله وهو: وعن أبى ذر قال: قيل يا رسول الله صلاة فى البيت المقدس أفضل، أم صلاة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: صلاة فى مسجدى هذا أفضل من أربع صلوات فيه. ولنعم المصلى هو أرض المحشر والمنشر! وليأتين على الناس زمان، ولبسطة قوس من حيث يرى بيت المقدس، أفضل وخير من الدنيا جميعا.(1/334)
وعن قتادة فى قوله تعالى (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)
قال: من صخرة بيت المقدس.
وعن يزيد بن جابر «يوم ينادى المناد من مكان قريب» قال: يقف إسرافيل على صخرة بيت المقدس فينفخ فى الصّور فيقول: أيّتها العظام النّخرة، والجلود المتمزّقة، والأشعار المتقطّعة؛ إن الله تعالى أمرك أن تجتمعى للحساب.
وقال المفسرون فى قوله تعالى (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)
هو أن إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادى: «يأيها الناس، هلمّوا إلى الحساب، إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء، وهذه هى النفخة الأخيرة.»
والمكان القريب صخرة بيت المقدس.
قال كعب ومقاتل: هى أقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقال ابن السائب:
باثنى عشر ميلا.
وعن ابن عمر رضى الله عنهما فى قوله تعالى (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ)
قال: هو حائط بيت المقدس الشرقىّ الذى من ورائه واد يقال له وادى جهنم، ومن دونه باب يقال له باب الرحمة.
وأما ما ورد فى فضل الصخرة، والصلاة إلى جانبها
فقد روى عن أنس بن مالك، قال: إن الجنة لتحنّ شوقا إلى بيت المقدس، وإن بيت المقدس من جنة الفردوس، وهى [1] سرّة الأرض.
__________
[1] أى الصخرة.(1/335)
وعن أبى إدريس الخولانىّ: قال: يحوّل الله صخرة بيت المقدس مرجانة بيضاء كعرض السماء والأرض، ثم ينصب عليها عرشه، ثم يقضى بين عباده: يصيرون منها إلى الجنة وإلى النار.
وعن أبى العالية فى قوله تعالى (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) *
قال: من بركتها أن كلّ ماء عذب يخرج من أصل صخرة بيت المقدس.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «الأنهار كلّها والسّحاب والبحار والرياح من تحت صخرة بيت المقدس» .
وقال ابن عباس رضى الله عنهما: صخرة بيت المقدس من صخور الجنة.
قال الزجاج: يقال إنها فى وسط الأرض.
وعن كعب قال: من أتى بيت المقدس فصلّى عن يمين الصخرة وشمالها، ودعا عند موضع السّلسلة، وتصدّق بما قلّ أو كثر، استجيب دعاؤه، وكشف الله حزنه، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه؛ وإن سأل الله الزيادة أعطاه إياها.
وأما ما ورد فى أن الله عز وجل عرج من بيت المقدس إلى السماء
فقد روى الشيخ الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن أحمد الواسطى الخطيب رحمه الله بسنده إلى سوادة بن عطاء الحضرمىّ، قال: نجد فى الكتاب مكتوبا أن الله عز وجل لمّا أن خلق الأرض وشاء أن يعرج إلى السماء وهى دخان، استشرف لذلك الجبال أيّها يكون ذلك عليه؟ وخشعت صخرة بيت المقدس تواضعا لله عز وجل، فشكر الله لها ذلك وجعل المعراج عنها. وكان عليها ما شاء الله أن(1/336)
يكون. قال: فمدّ الجبار يديه حتّى كانتا حيث يشاء أن تكونا، ثم قال: «هذه جنتى غربا، وهذه نارى شرقا، وهذا موضع ميزانى طرف الجبل، وأنا الله ديّان يوم الدّين» وكان معراجه إلى السماء عن الصخرة.
وروى أيضا بسنده إلى هانئ بن عبد الرحمن، ورديح بن عطية عن إبراهيم ابن أبى عبلة أحسبه كذا قال: وسئل عبادة بن الصامت ورافع بن خديج وكانا عقيييّن بدريّين، فقيل لهما: أرأيتما ما يقول الناس فى هذه الصخرة أحقّا هو فنأخذ به، أم هو شىء أصله من أهل الكتاب فندعه؟ فقال كلاهما: سبحان الله! ومن يشكّ فى أمرها، إن الله عز وجل لما استوى إلى السماء، قال لصخرة بيت المقدس:
«هذا مقامى وموضع عرشى يوم القيامة، ومحشر عبادى، وهذا موضع نارى عن يسارها وفيه أنصب ميزانى أمامها، وأنا الله ديّان يوم الدّين» ثم أستوى إلى علّيّين.
وروى أيضا بسنده عن كعب، قال: إن فى التوراة أنه يقول لصخرة بيت المقدس «أنت عرشى الأدنى ومنك ارتفعت إلى السماء، ومن تحتك بسطت الأرض وكلّ ما يسيل من ذروة الجبال من تحتك؛ من مات فيك فكأنما مات فى السماء، ومن مات حولك فكأنما مات فيك، لا تنقضى الأيام والليالى حتّى أرسل عليك نارا من السماء فتأكل آثار أكفّ بنى آدم وأقدامهم منك، وأرسل عليك ماء من تحت العرش فأغسلك حتّى أتركك كالمرآة، وأضرب عليك سورا من غمام غلظه اثنا عشر ميلا، وسياجا من نار؛ وأجعل عليك قبة جبلتها بيدى، وأنزل فيك روحى وملائكتى يسبّحون لى فيك؛ لا يدخلك أحد من ولد آدم إلى يوم القيامة؛ فمن برضوء تلك القبة من بعيد، يقول: طوبى لوجه يخرّ فيك لله ساجدا، وأضرب عليك حائطا من نار،(1/337)
وسياجا من الغمام، وخمسة حيطان من ياقوت ودرّ وزبرجد؛ أنت البيدر، وإليك المحشر، ومنك المنشر» .
وروى أبو الفرج عبد الرحمن بن علىّ بن محمد بن الجوزىّ رحمه الله فى ذلك حديثين، ثم تكلم عليهما وضعّف رواتهما.
أما أحدهما، فقال:
أخبرنا المبارك بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد، قال: أنبأنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن عمر النّصيبى، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن صالح بن عمر المقرى، قال: حدثنا عيسى بن عبيد الله، قال: حدّثنا على ابن جعفر الرازى، قال: حدّثنا العباس بن أحمد بن عبد الله، قال: حدّثنا عبد الله ابن عمر المقدسى، قال: حدّثنا بكر بن زياد الباهلىّ، عن عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أسرى بى إلى بيت المقدس مرّ بى جبريل عليه السلام إلى قبر إبراهيم، فقال: انزل، فصلّ ها هنا ركعتين، ها هنا قبر أبيك إبراهيم. ثم مرّ بى ببيت لحم، فقال: انزل، صلّ ها هنا ركعتين، فإن ها هنا ولد أخوك عيسى. ثم أتى بى إلى الصخرة فقال: من ها هنا عرج ربك إلى السماء» .
قال الحافظ أبو حاتم بن حيّان: هذا حديث لا يشك عوامّ أصحاب الحديث أنه موضوع. وكان بكر بن زياد يضع الحديث على الثقات.
وأما الحديث الثانى، فرواه بسند إلى إبراهيم بن أعين عن رديح بن عطية بن النعمان، عن عبد الله بن بسر الحمصىّ، عن كعب الأحبار، قال: يقول الله عز وجل(1/338)
لبيت المقدس: أنت عرشى الذى منك ارتفعت إلى السماء، ومنك بسطت الأرض، ومن تحتك جعلت كل ماء عذب يطلع فى رءوس الجبال.
قال أبو حاتم الرازىّ: إبراهيم بن أعين منكر الحديث.
هذا ما ورد فى هذا الفصل وقد نبهنا على ما فيه من المآخذ والله أعلم.
وأما ثواب الإهلال من بيت المقدس
فقد
روى عن أم سلمة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم ورضى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أهلّ من بيت المقدس، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» .
قال سالم: وأهلّ ابن عمر رضى الله عنهما من بيت المقدس بعمرة.
وروى عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أحرم من بيت المقدس، قدم مكة مغفورا له» .
وأما ما ورد من أن الكعبة تزور الصخرة يوم القيامة
فقد روى عن كعب الأحبار قال: لا تقوم الساعة حتّى يزور البيت الحرام بيت المقدس، فينقادان جميعا إلى الجنة وفيهما أهلوهما.
وروى عن خالد بن معدان قال: يحشر الله الكعبة إلى الصخرة زفّا إليها زفّا، متعلقين بجميع من حج إليهما، تقول الصخرة مرحبا: بالزائرة والمزور إليها.
هذا ما اتفق إيراده فى فضائل البيت المقدّس، وسنذكر إن شاء الله تعالى من أخباره طرفا آخر وهو فى الباب الثانى، من القسم الثالث، من الفن الخامس فى التاريخ عند ذكرنا لأخبار سليمان بن داود عليهما السلام. فلنذكر خلاف ذلك.(1/339)
وأما اليمن وما يختص به
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإيمان يمان، والحكمة يمانية» .
وقال الجاحظ: من خصائص اليمن السيوف، والبرود، والقرود.
ويقال: ان السيف متى قلع بالهند وطبع باليمن، فناهيك به! وقال الأصمعىّ: أربعة ملأت الدنيا ولا تكون إلا باليمن، وهى الورس، والكندر، والخضض، والعقيق.
وأما الشام وما يختص به
فمن ذلك أن الشام موطن الأنبياء عليهم السلام، ومعدن الزّهّاد والعبّاد.
وحكى أن الابدال السبعين بأرض الشام، بجبل لكام وجبل لبنان.
ومن خصائص الشام:
مسجد دمشق
الذى ما عمر على وجه الأرض مثله وكانت عمارته فى سنة ست وثمانين، عمّره الوليد بن عبد الملك. ووقع الحريق فيه فى سنة إحدى وستين وأربعمائة، فدثرت محاسنه وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة.
وعن قتادة، قال: أقسم الله تعالى بمساجد أربعة، قال: «والتّين» وهو مسجد دمشق، «والزّيتون» وهو بيت المقدس، «وطور سينين» وهو حيث كلم الله موسى، «وهذا البلد الأمين» وهو مكة.(1/340)
وقال محمد بن شعيب: سمعت غير واحد من قدمائنا يذكرون أن التين مسجد دمشق، وأنهم قد أدركوا فيه شجرا من تين قبل أن يبنيه الوليد.
وعن هشام بن عبد الملك قال: لما أمر الوليد ببناء مسجد دمشق، وجدوا فى الحائط القبلىّ من المسجد لوحا فيه نقش فأتوا به الوليد، فبعث إلى الروم والعبرانيين وغيرهم، فلم يستخرجوه. فدلّ على وهب بن منبّه فبعث إليه، فلما قدم أخبره بموضع ذلك اللوح فإذا الحائط الذى وجد فيه بناء هود عليه السلام.
وعن زيد بن واقد قال: وكّلنى الوليد على العمال فى بناء جامع دمشق، فوجدنا فيه مغارة فعرّفنا الوليد ذلك. فلما كان الليل وافى، وبين يديه الشّمع، فنزل فإذا هى كنيسة لطيفة: ثلاثة أذرع فى ثلاثة أذرع، وإذا فيها صندوق، ففتح فإذا فيه سفط، وفى السّفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام، مكتوب عليه: «هذا رأس يحيى بن زكريا» . فأمر الوليد، فردّ إلى مكانه، وقال: اجعلوا العمود الذى فوقه مغيّرا من الاعمدة، فجعلوا عليه عمودا مسفّط الرأس. وكانت البشرة والشعر على رأسه لم يتغير.
وقال أبو زرعة: مسجد دمشق خطّه أبو عبيدة بن الجرّاح، وكذلك مسجد حمص. وقيل: لما قدم المهدىّ يريد بيت المقدس، دخل مسجد دمشق ومعه أبو عبد الله الأشعرىّ كاتبه، فقال: يا أبا عبد الله سبقنا بنو أمية بثلاث، قال:
وما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال: بهذا البيت (يعنى المسجد) لا أعلم على وجه الأرض مثله، وبنبل الموالى فإن لهم موالى ليس لنا مثلهم، وبعمر بن عبد العزيز، لا يكون والله فينا مثله أبدا! ثم أتى بيت المقدس فدخل الصخرة، فقال: يا أبا عبد الله وهذه رابعة.(1/341)
وحكى عمرو بن مهاجر الأنصارىّ قال: حسبوا ما أنفق على الكرمة التى فى قبلة مسجد دمشق، فإذا هو سبعون ألف دينار.
وقال أبو قصىّ: أنفق فى عمارة مسجد دمشق أربعمائة صندوق، كل صندوق أربعة عشر ألف دينار.
وقال بعض شعراء المحدثين فى وصفه:
دمشق قد شاع ذكر جامعها ... وما حوته ربى مرابعها.
بديعة المدن فى الكمال لما ... يدركه الطّرف من بدائعها.
طيّبة أرضها مباركة ... باليمن والسّعد أخذ طالعها.
جامعها جامع المحاسن قد ... فاقت به المدن فى جوامعها.
تذكر فى فضله ورفعته ... أخبار صدق راقت لسامعها.
قد كان قبل الحريق مدهشة ... فغيّرته نار بلاقعها.
فأذهبت بالحريق بهجته ... فليس يرجى إياب راجعها.
إذا تفكّرت فى الفصوص وما ... فيها، تيقّنت حذق واضعها.
أشجارها لا تزال مثمرة ... لا ترهب الريح فى مدافعها.
كأنّها من زمرّد غرست ... فى أرض تبر يغشى بفاقعها.
فيها ثمار تخالها ينعت ... وليس يخشى فساد يانعها.
تقطف باللحظ لا بجارحة ال ... ايدى ولا تجتنى لبائعها.
وتحتها من رخامه قطع، ... لا قطع الله كفّ قاطعها.
أحكم ترخيمها المرخّم قد ... بان عليها إحكام صانعها.(1/342)
وإن تفكّرت فى قناطره ... وسقفه، بان حذق رافعها.
وان تبيّنت حسن قبّته ... تحيّر اللّبّ فى أضالعها.
تخترق الريح فى مخارمها ... عصفا فتقوى على زعازعها.
وأرضه بالرّخام قد فرشت ... ينفسح الطّرف فى مواضعها.
مجالس العلم فيه مونقة ... ينشرح الصدر فى مجامعها.
وكلّ باب عليه مطهرة ... قد أمن الناس دفع مانعها.
يرتفق الخلق من مرافقها ... ولا يصدّون عن منافعها.
ولا تزال المياه جارية ... فيها لما شقّ من مشارعها.
وسوقها لا تزال آهلة ... يزدحم الناس فى شوارعها.
لما يشاءون من فواكهها ... وما يريدون من بضائعها.
كأنّها جنّة معجّلة ... فى الأرض، لولا سرى فجائعها.
دامت برغم العدا مسلّمة ... وحاطها الله من قوارعها.
وقال عبد الله بن سلام: بالشام من قبور الأنبياء ألفا قبر وسبعمائة قبر؛ وقبر موسى بدمشق؛ ودمشق معقل الناس فى آخر الزمان.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: من أراد أن ينظر إلى الموضع الذى قال الله عز وجل فيه (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)
فليأت النّيرب الأعلى بدمشق بين النهرين، وليصعد الغار فى جبل قاسيون، فليصلّ فيه فإنه بيت عيسى وأمّه. ومن أراد أن ينظر إلى إرم، فليأت نهرا فى دمشق يقال له بردى.
ومن أراد أن ينظر إلى المقبرة التى فيها مريم بنت عمران والحواريّون. فليأت مقبرة الفراديس.(1/343)
ومن خصائصها التّفّاح الذى يضرب به المثل فى الحسن والطّيب. وكان يحمل منه إلى الخلفاء فى كل سنة ثلاثون ألف تفاحة.
وبها الغوطة، وهى أحد متنزّهات الدنيا الأربعة. وهى أجلّها.
وسنذكر وصفها فى باب الرياض إن شاء الله تعالى.
وأما مصر وما يختصّ بها من الفضائل
فمن فضلها أن الله عز وجل ذكرها فى كتابه العزيز فى أربعة وعشرين موضعا.
منها ما هو بصريح اللفظ، ومنها ما دلّت عليه القرائن والتفاسير.
فأما صريح اللفظ، فقوله تعالى: (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) .
وقوله تعالى مخبرا عن فرعون: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) .
وقوله عز وجل مخبرا عن يوسف عليه السلام: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) .
وقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) .
وأما ما دلت عليه القرائن، فمنه قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) .
وقوله عز وجل: (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)
. قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب، ووهب بن منبه وغيرهم: هى مصر.
وقوله تعالى: (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) .(1/344)
وقوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها)
. يعنى مصر.
وقوله تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ)
. يعنى قوم فرعون، وأن بنى إسرائيل ورثوا أرض مصر.
وقوله عز وجل: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) .
وقوله تعالى مخبرا عن نبيه موسى عليه السلام: (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) .
وقوله عز وجل مخبرا عن فرعون: (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) .
وقوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) .
وقوله تعالى مخبرا عن قوم فرعون: (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) .
يعنى أرض مصر.
وقوله عز وجل مخبرا عن نبيه يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .
وقوله تعالى: (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) .(1/345)
وقوله عز وجل مخبرا عن بنى إسرائيل: (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) .
وقوله تعالى مخبرا عن نبيه موسى عليه السلام: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) .
وقوله تعالى: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ)
. يعنى أرض مصر.
وقوله تعالى: (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) .
وقوله عز وجل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) .
وقوله تعالى مخبرا عن ابن يعقوب: (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ)
. يعنى أرض مصر.
وقوله تعالى: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) .
وذكر ابن عباس مصر، فقال: سميت مصر بالأرض كلها فى عشرة مواضع من القرآن. والله تعالى أعلم.
وأما ما ورد فيها من الحديث النبوى صلوات الله وسلامه على قائله
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ستفتح عليكم بعدى مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا فإنّ لهم ذمّة ورحما»
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتّخذوا بها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال أبو بكر رضى الله عنه: ولم يا رسول الله؟ فقال: «لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة» .
وعنه صلى الله عليه وسلم، وذكر مصر: «ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤونته» .
وتكررت الأحاديث فى فضلها.(1/346)
وقال عبد الله بن عمرو: وأهل مصر أكرم الأعاجم كلّها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب عامة وبقريش خاصّة.
وقال أيضا: لما خلق الله عز وجل آدم، مثّل له الدنيا: شرقها، وغربها، وسهلها، وجبلها، وأنهارها، وبحارها، وبناءها، وخرابها، ومن يسكنها من الأمم، ومن يملكها من الملوك. فلما رأى مصر، رآها أرضا سهلة ذات نهر جار، مادّته من الجنة، تنحدر فيه البركة، ورأى جبلا من جبالها مكسوّا نورا لا يخلو من نظر الربّ عز وجل إليه بالرحمة. فى سفحه أشجار مثمرة، فروعها فى الجنة تسقى بماء الرحمة.
فدعا آدم فى النيل بالبركة، ودعا فى أرض مصر بالرحمة والبر والتقوى، وبارك على نيلها وجبلها سبع مرات. وقال: «يا أيها الجبل المرحوم، سفحك جنة وتربتك مسكة تدفن فيها عرائس الجنة، أرض حافظة مطبقة رحيمة. لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظ، ولا زال منك ملك وعزّ، يا أرض مصر فيك الخباء والكنوز، ولك البر والثّروة، سال نهرك عسلا. كثّر الله زرعك، ودرّ ضرعك، وزكا نباتك، وعظمت بركتك وخصبت، ولا زال فيك يا مصر خير ما لم تتجبّرى وتتكبّرى أو تخونى، فاذ فعلت ذلك، عراك شرّ، ثم تغوّر خيرك» .
فكان آدم أوّل من دعا لها بالخصب والرحمة والرأفة والبركة.
وقال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: دعا نوح عليه السلام لابن ابنه بيصر ابن حام وهو أبو مصر، فقال: اللهم إنه قد أجاب دعوتى، فبارك فيه وفى ذرّيته وأسكنه الأرض الطيبة لمباركة التى هى أمّ البلاد.
قال عبد الله بن عمرو: لما قّسم نوح عليه السلام الأرض بين ولده، جعل لحام مصر وسواحلها والمغرب وشاطئ النيل. فلما دخل بيصر بن حام وبلغ العريش،(1/347)
قال: «اللهم إن كانت هذه الارض التى وعدتنا على لسان نبيك نوح عليه السلام وجعلتها لنا منزلا فاصرف عنا وباها، وطيّب لنا ثراها، واجمع ماها، وأنبت كلاها، وبارك لنا فيها، وتمم لنا وعدك، إنك على كل شىء قدير، وإنك لا تخلف الميعاد» وجعلها بيصر لابنه مصر وسماها به. والقبط ولد مصر بن بيصر بن حام ابن نوح.
وسنذكر إن شاء الله تعالى أخبار مصر وبنيه عند ذكرنا لملوك مصر، وهو فى الفن الخامس فى التاريخ.
وعن كعب الأحبار: لولا رغبتى فى بيت المقدس لما سكنت إلا مصر. فقيل له: ولم؟ فقال: لأنها معافاة من الفتن ومن أرادها بسوء كبّه الله على وجهه، وهو بلد مبارك لأهله فيه.
وقال أبو بصرة الغفارى: سلطان مصر سلطان الأرض كلّها.
قال: وفى التوراة مكتوب: مصر خزائن الأرض كلّها، فمن أرادها بسوء قصمه الله تعالى.
وقال عمرو بن العاص: ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة.
وقال أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز، قاضى العراق: سألت أحمد بن المدبّر عن مصر فقال: كشفتها فوجدت غامرها أضعاف عامرها. ولو عمرها السلطان، لوفت له بخراج الدنيا.(1/348)
ذكر من ولد بمصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن كان بها منهم
ولد بمصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جماعة، منهم: موسى، وهرون، ويوشع بن نون، ودانيال، وأرميا، ولقمان، وعيسى بن مريم. ولدته أمّه بأهناس، وبها النخلة التى ذكرها الله تعالى لمريم على أحد الأقوال.
ولما سار عيسى إلى الشأم أخذ على سفح المقطم ماشيا، عليه جبة صوف مربوط الوسط بشريط، وأمّه تمشى خلفه، فالتفت إليها وقال: يا أمّاه، هذه مقبرة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما من كان بها منهم، فكان: إبراهيم الخليل، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف عليهم السلام، واثنا عشر سبطا.
ذكر من كان بها من الصدّيقين والصدّيقات رضى الله عنهم
كان بها من الصدّيقين مؤمن آل فرعون الذى ذكره الله عز وجل فى القرآن.
وقيل: إنه ابن لفرعون لصلبه. آمن بموسى ولحق به وجعله الله نبيا وآية.
وكان بها وزراء فرعون الذين وصفهم الله تعالى وفضّلهم على قوم نمرود حين قالوا:
«أرجئه وأخاه» وقال وزراء النمرود: «اقتلوه أو حرّقوه» .
وأخرجت مصر السحرة الذين أحضرهم فرعون لموسى. وكانت عدّتهم مائتى ألف واثنين وثلاثين ألفا وقيل أكثر من ذلك، آمنوا كلّهم فى ساعة واحدة.
ولم نعلم ممن آمن فى ساعة واحدة مثل هذا العدد.(1/349)
ومن فضائل مصر ونبل أهلها أنهم لم يفتنوا بعبادة العجل.
وكان بها من الصدّيقات آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وأم إسحاق، ومريم ابنة عمران، وماشطة بنت فرعون، التى مشطها فرعون بأمشاط الكتّان لما آمنت بموسى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شممت ليلة أسرى بى فى الجنة رائحة ما شممت أطيب منها، فقلت: يا جبريل ما هذا؟ فقال: هذا رائحة ماشطة بنت فرعون» .
ذكر من صاهر أهل مصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
منهم:
إبراهيم الخليل عليه السلام، تزوّج بهاجر أمّ إسماعيل.
ويوسف الصدّيق، تزوّج بنت صاحب عين شمس، وتزوّج زليخا بعد أن عجزت وعميت. دعا الله لها فردّها الله إلى حالتها الأولى، ورزق منها الولد.
وتسرّى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية التى أهداها له المقوقس، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى السيرة النبوية.
ذكر من أظهرته مصر من الحكماء
(الذين عمروا الدنيا بكلامهم وحكمهم وتدبيرهم، وأظهروا ما خفى من العلوم [1] ) قال الحسن بن إبراهيم، صاحب تاريخ مصر:
__________
[1] بعض الحكماء المذكورين فى هذا الفصل ليسوا من أهل مصر بل وفدوا عليها وأقاموا بها مدّة قليلة أو كثيرة.(1/350)
منهم: ذو القرنين، وهو الإسكندر [1] من قرية يقال لها لوبية [2] . وهو الذى قتل دارا بن دارا. وسيأتى خبره إن شاء الله تعالى فى التاريخ فى ذكر ملوك اليونان.
ومنهم: هرمس، وهو المثلث بالنعمة: نبىّ، وحكيم، وملك: وهو الذى صير الرّصاص ذهبا، وبنى الهرمين الكبيرين على أحد الأقوال. وقيل: هو إدريس عليه السلام.
ومنهم تلميذاه: أغاثاذيمون وفيثاغورس، ولهما من العلوم الموروثة صناعة الكيمياء، والنّجوم، والسّحر، وعلم النارنجيات، والطلسمات، والبرابى، وأسرار الطبيعة.
ومنهم أوسلا وسيزوارس وبندقليس، أصحاب الكهانة والزّجر.
ومنهم سقراط، صاحب الحكمة، والكلام على البارئ جل ذكره، وهو صاحب البلاغة.
ومنهم أفلاطون، صاحب السّياسة، والنواميس، والكلام على المدن والملوك.
ومنهم بطليموس، صاحب الرّصد، والمساحة، والحساب؛ وهو صاحب كتاب المجسطى من كتب الأفلاك، وحركة الشمس، والقمر، والكواكب المتحيرة والثابتة، وصورة فلك البروج. وله صفة الأمم الذين يعمرون الأرض، وكتاب الثمرة فى علم النجوم وتسطيح الكرة.
__________
[1] هو الاسكندر الأكبر، ابن فيلّبوس وهو ليس من مصر وإنما غزاها بجيوشه وأسس فيها مدينة الاسكندرية التى صارت بعده مدينة العلم والحكمة.
[2] هذا اللفظ محرف عن «پيلا» وهى احدى مدائن افريقية، وفيها كانت ولادة الاسكندر الاكبر.(1/351)
ومنهم أرسطاطاليس، صاحب المنطق، والآثار العلوية، والحس والمحسوس، والكون والفساد، والسماء والعالم، وسمع الكيان والسمع الطبيعى، ورسالة نبت الذهب، قالوا: وليعقوب بن إسحاق الكندىّ نحو ألف كتاب مستخرجة من كتب أرسطاطاليس.
ومنهم أراطس، صاحب البيضة ذات الثمانية والأربعين صورة فى تشكيل صورة الفلك، والألف كوكب، واثنان وعشرون كوكبا من الكواكب الثابتة، والزيج.
ومنهم أنطوليوس [1] ، صاحب الفلاحة.
ومنهم إبّرخس، صاحب الرصد والآلة المعروفة بذات الحلق.
ومنهم ثاون، صاحب الزيج المنسوب إليه.
ومنهم أسطنس، ودروثيوس، ووالنس، أصحاب كتب أحكام النجوم، وعنهم انتشر ذلك.
ومنهم إيرن، صاحب الهندسة والمقادير، وكتاب جر الأثقال، والحيل الروحانية، وعمل البناكيم والآلات لقياس الساعات.
ومنهم فيلون البزنطى، وله عمل الدواليب والأرحية والحركات بالحيل اللطيفة.
ومنهم أرشميدس، صاحب الحيل والهندسة والمرايا المحرقة وعمل المجانيق ورمى الحصون، والحيل على الجيوش والعساكر برّا وبحرا.
__________
[1] ورد هذا الاسم فى الاصل هكذا: «أفلطيونس» وليس هناك رجل بهذا الاسم. وإنما المشهور بكتابه فى الفلاحة هو «انطوليوس الأفريقى» . وقد ذكره ابن العوام فى كتاب الفلاحة الأندلسية، ويقل عنه.(1/352)
ومنهم ماريه وقلبطره، أصحاب الطّلّسمات، والخواص للطبائع.
ومنهم أبلونيوس، وله كتاب المخروطات وقطع الخطوط.
ومنهم ثيودوسيس، وهو صاحب كتاب الأكر.
ومنهم ذيوفنطس، وله كتاب الحساب.
ومنهم أوطوقيس، وله كتاب الكرة والأسطوانة.
ومنهم المشاءون [1] ، أصحاب الرواق.
وبمصر من العلوم التى عمرت بها الدنيا علم الطب اليونانى، وعلم النجوم، وعلم المساحة، وعلم الهندسة، وعلم الكيمياء، وغير ذلك وبها الطلسمات العشرة.
وبادى [2] الاسكندرانى صاحب الزيج.
والذين نشروا الطب وشرحوه جالينوس، صاحب الطب، تعلمه بمصر، ومن كتبها أخذ.
ومنهم ديسقريد: صاحب الحشائش، وديوچانس، واركاغانس، وارباسيوس، وفريقونوس، وروفس، هؤلاء أصحاب الطب اليونانى.
فهؤلاء حكماء الأرض وعلماؤهم الذين ورثوا الحكمة، من مصر خرجوا، وبها ولدوا؛ ومنها انتشرت علومهم فى الأرض.
قال الحسن بن إبراهيم: وكانت مصر يسير إليها فى الزمن الأوّل طلبة العلم وأصحاب العلم الدقيق لتكون أذهانهم على الزيادة وقوّة الذكاء ودقة الفطنة. والله تعالى أعلم.
__________
[1] فى الأصل: «المساتير» . ولعله يشير إلى أتباع ارسطو الذين يسميهم العرب «المشائين» .
[2] لعل هذا الاسم محرف عن «ثاون» ؟؟؟ دى سبقت الاشارة اليه.(1/353)
ومن فضائل مصر
أنها تمير الحرمين الشريفين، ولولا مصر لما أمكن أهل الحرمين وأعمالهما المقام بهما، ولما توصل إليهما من يرد من أقطار الأرض.
ومنها أنها فرضة الدنيا، يحمل من خيرها إلى سواحلها، وذلك أن من ساحلها بالقلزم ينقل إلى الحرمين، وإلى جدّة، وإلى عمان، وإلى الهند، وإلى الصين، وصنعاء، وعدن، والشّحر، والسّند، وجزائر البحر.
ومن جهة تنّيس، ودمياط، والفرما فرضة بلد الروم، وأقاصى الأفرنجه، وقبرس.
وسائر سواحل الشام، والثغور إلى حدود العراق.
ومن جهة الإسكندرية فرضة أقريطش، وصقلّيّة، وبلد الروم، والمغرب كلّه إلى طنجة، ومغرب الشمس.
ومن جهة الصعيد فرضة بلد النّوبة، والبجة، والحبشة، والحجاز، واليمن.
وفيها من ثغور الرّباط: البرلّس، ورشيد، والإسكندرية، ورباط ذات الحمام، ورباط البحيرة، ورباط إخنا، ورباط دمياط، وشطا، وتنّيس، والأشتوم، والفرما، والورّاده، والعريش، والشّجرتين، ورباط الحرس. وجهة الحبشة، والبجة.
ورباط أسوان على النّوبة. ورباط الواحات على البربر والسّودان. ورباط قوص.
وبها من المساجد والمشاهد والآثار الصالحة، ما لم يكن فى غيرها. ولو استقصينا ذلك، لطال به الشرح وانبسط القول.
وقال سعيد بن عقبة: كنت بحضرة المأمون حتّى قال، وهو فى قبة الهواء:
لعن الله فرعون حين يقول (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)
فلو رأى العراق!. فقلت:(1/354)
يا أمير المؤمنين لا تقل هذا فإن الله عز وجل قال (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)
. فما ظنّك يا أمير المؤمنين بشىء دمره الله، هذا بقيّته؟.
قال: ثم قلت: لقد بلغنى أن أرضا لم تكن أعظم من مصر، وجميع أهل الأرض يحتاجون إليها. وكانت الأنهار بقناطر وجسور وتقدير حتّى إن الماء يجرى تحت منازلهم وأفنيتهم: يحبسونه متى شاءوا، ويرسلونه متى شاءوا. وكانت البساتين بحافتى النيل من أوّله إلى آخره، ما بين أسوان إلى رسيد إلى الشام متصلة لا تنقطع.
ولقد كانت الأمة تضع المكتل على رأسها فيمتلئ مما يسقط من الشجر. وكانت المرأة تخرج حاسرة لا تحتاج إلى خمار لكثرة الشجر.
ومن فضائلها النيل، وقد تقدّم ذكره فى باب الأنهار.
ومن عجائبها الهرمان وسيأتى ذكرهما فى باب المبانى القديمة إن شاء الله تعالى.
ومن عجائبها أن أهلها مستغنون عن كل بلد، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا بسور، استغنى أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا.
وفيها ما ليس فى غيرها، وهو حيوان السّقنقور، والنّمس. ولو لاه لأكلت الثعابين أهلها؛ وهو لها كقنافدّ سجستان لأهلها.
وفيها سمك يسمّى الرّعّاد. وهو سمك إذا أمسكه إنسان أو أمسك ما يتصل به من خيط الصّنارة أو الشبكة التى يقع فيها، ارتعدت يده.
والحطب السّنط الذى لو وقد منه يوما وجمع ما وجد من رماده كان ملء كفّ. وهو صلب العود، سريع الوقود، بطىء الخمود. ويقال: إنه الآبنوس، وإنما البقعة قصّرت عن الكيان فجاء أحمر شديد الحمرة.(1/355)
ودهن البلسان. والأفيون، وهو عصارة الخشخاش. وكان بها اللّبخ، وهو ثمر فى قدر اللوز الأخضر إلا أن المأكول منه الظاهر. ورأيته أنا بها وأكلت منه سنة ثلاث وتسعين وستمائة.
وبها الأترجّ الأبلق.
وبها من المعادن: معدن الزّمرّد، ومعدن النّفط، والشّبّ، والبرام، والرّخام.
وقيل: إن بها سائر المعادن كلّها.
وأهلها يأكلون صيد بحر الرّوم وبحر فارس [1] طريّا.
وفى كل شهر من شهور القبط صنف من المأكول والمشروب والمشموم، يوجد فيه دون غيره. فيقال: رطب توت، ورمّان بابه، وموز هاتور، وسمك كيهك، وماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برموده، ونبق بشنس، وتين بئونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى.
ومنها أن صيفها خريف، وشتاءها ربيع؛ وما يقطعه الحرّ والبرد فى سائر البلاد من الفواكه يوجد فيها فى الحرّ والبرد: لأنها فى الإقليم الثالث والرابع، فسلمت من حرّ الأوّل والثانى، وبرد السادس والسابع [2] .
ويقال: لو لم يكن من فضل مصر إلا أنها تغنى فى الصيف عن الخيش والثلج وبطون الأرض، وفى الشتاء عن الوقود والفراء.
__________
[1] يشير إلى البحر الأحمر المتصل بالخليج الفارسى بواسطة بحر الهند.
[2] قارن ذلك بما ورد فى المقريزىّ (طبع بولاق ج 1 ص 28) .(1/356)
ومما وصفت به
أن صعيدها حجازىّ. حجره كحجر الحجاز ينبت النخل والدّوم (وهو شجر المقل) ، والعشر، والقرظ، والإهليلج، والفلفل، والخيار شنبر. وأسفل أرضها شامىّ: يمطر كمطر الشام، وتقع فيه الثلوج، وينبت التين والزيتون والعنب والجوز واللّوز والفستق وسائر الفواكه، والبقول والرياحين.
وهى ما بين أربع صفات: فضة بيضاء، أو مسكة سوداء، أو زبرجدة خضراء، أو ذهبة صفراء. وذلك أن النيل يعمّ أرضها فتصير كالفضة البيضاء، ثم ينصبّ عنها فتصير مسكة سوداء، ثم تزرع فتصير زبرجدة خضراء، ثم تستحصد فتصير ذهبة صفراء [1] .
وحكى ابن زولاق فى «فضائل مصر» أن أميرها موسى بن عيسى [الهاشمى] [2] وقف بالميدان عند بركة الحبش، فالتفت يمينا وشمالا، وقال لمن كان معه: أترون ما أرى؟ قالوا: وما يرى الأمير؟ قال: أرى عجبا ما فى الدنيا مثله! فقالوا: يقول الأمير! فقال: أرى ميدان رهان، وحيطان نخل، وبستان شجر، ومنازل سكنى، وذروة جبل، وجبّانة أموات، ونهرا عجّاجا، وأرض زرع، ومراعى ماشية، ومراتع خيل، وساحل بحر. [وصائد نهر] وقانص وحش، وصائد سمك، وملّاح سفينة، وحادى إبل، ومفازة رمل، وسهلا، وجبلا! فهذه ثمانية عشر متنزّها فى أقل من ميل فى ميل.
__________
[1] قارن ذلك بما ورد فى المقريزى (طبع بولاق ج 1 ص 26) .
[2] هو والى مصر فى أيام الرشيد سنة 175 هجرية. والزيادة عن المقريزى (طبع بولاق ج 2 ص 153) .(1/357)
وأين هذه الأوصاف من وصف الواصف لقصر أنس بالبصرة حيث يقول:
زر وادى القصر نعم القصر والوادى! ... لا بدّ من زورة من غير ميعاد.
زره فليس له شىء يشاكله ... من منزل حاضر إن شئت أو بادى.
ترى به السّفن والظّلمان حاضرة ... والضبّ والنون والملّاح والحادى.
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسىّ، يصف جبل الرّصد مثل ما وصف به قصر أنس:
يا نزهة الرّصد المصرىّ قد جمعت ... من [1] كلّ شىء حلا فى جانب الوادى.
فذا غدير، وذا روض، وذا جبل: ... فالضّبّ والنّون والملّاح والحادى.
فهذه نبذة من فضائل مصر. ولولا الرغبة فى الاختصار، لكانت فضائلها تكون كتابا مفردا.
وأما جزيرة الأندلس
فقد اقتصرت فى وصفها على رسالة وصفها ابن حزم فيها، فقال:
« ... أرضها شاميّة فى طيبها، تهاميّة فى اعتدالها واستوائها، أهوازية فى عظم خراجها وجبايتها، عدنيّة فى منافع سواحلها، صينيّة فى معادنها، هندية فى عطرها وطيبها وذكائها. وأهلها عرب فى الأنساب والعزّة والأنفة، وفصاحة الألسن، وطيب النّفوس، وإباء الضيم، وقلّة احتمال الذل والإهانة، والنّزاهة عن الخضوع؛ هنديّون فى فرط عنايتهم بالعلوم وحبّهم لها؛ بغداديّون فى ظرفهم ونظافتهم، ورقّة أخلاقهم
__________
[1]- هذه رواية المقريزىّ. أما الاصل فقد ورد فيه الشطر الأول غير موافق فى الوزن للبقية هكذا:
يا نزهة الرصد التى قد نزهت ... عن كل شىء الخ(1/358)
ونباهتهم، ولطافة أذهانهم، وحدّة أفكارهم؛ نبطيّون فى استنباط المياه، ومعاناتهم للغراسة، وتركيب الشجر والفلاحة؛ صينيّون فى إتقان الصنائع العلمية، وإحكام المهن الصورية؛ تركيّون فى معاناة الحروب ومعالجة آلاتها، والنظر فى مهمّاتها» .
قال إبراهيم بن خفاجة، يصفها:
إنّ للجنّة بالأندلس ... مجتلى عين وريّا نفس!
فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس.
وقد أظهرت الأندلس جماعة من الفضلاء والأعيان والأكابر، ذكرهم ابن بسّام فى كتابه المترجم «بالذخيرة، فى محاسن أهل الجزيرة» . وذكرهم الفتح بن خاقان فى كتابه «المطمح» و «قلائد العقيان» وغيرهما.
وسنذكر إن شاء الله تعالى حال الأندلس وابتداء عمارتها وملوكها عند ذكرنا فتحها، وهو فى الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى التاريخ من اخبار الدولة الأموية فى خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان فى سنة 92 من الهجرة.
وأما البصرة وما اختصت به
فمن خصائصها أن للغربان بها ضربا من العجب. وذلك أنها تقع إليها بالخريف حتّى تكون الأرض بها سوداء، وتقع على كل نخلة أصرم ثمرها، ولا تقع على ما لم تصرم، ولو بقى عليها عذق واحد.
ومن عجائبها أيضا، أن التمر يكون مصبوبا فى بيادره، فلا يقع عليه شىء من الذّباب لا فى الليل ولا فى النهار.(1/359)
وأهل البصرة يتخذون المظلّات على التمر والعجوة خوفا عليها من الخفّاش. ومن عادة الذباب الفرار من الشمس إلى الظلّ، فلا يوجد فى تلك الظلال شىء منه البتة.
فيتوهم المتوهّم أن هاتين الحالتين من طلّسم، له من الخاصية ما يمنع الغربان والذباب.
وليس كذلك، وإنما هو من حماية الله ووقايته.
ووصف خالد بن صفوان البصرة، فقال: منابتها قصب، وأنهارها عجب، وسماؤها رطب، وأرضها ذهب.
وفي الكوفة عدم الوفاء.
وأما بغداد وما اختصت به
فإنه يقال: إنها جنة الأرض، ومجتمع الوافدين: دجلة والفرات، وواسطة الدنيا، ومدينة السلام، وقبة الإسلام، لأنها غرّة البلاد، ودار السلام والخلافة، ومجمع الطّرائف والطيبات، ومعدن المحاسن واللطائف، وبها أرباب النّهايات فى كل فن، وآحاد الدهر فى كل نوع.
وكان أبو إسحاق الزجّاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا، وما عداها بادية.
وكان أبو الفضل بن العميد اذا طرأ عليه أحد وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد. فان فطن لفضائلها وخواصّها، جعل ذلك مقدّمة فضله وعنوان عقله.
وقال ابن زريق الكوفىّ، الكاتب:
سافرت أبغى لبغداد وساكنها ... مثلا، فحاولت شيئا دونه الياس.
هيهات! بغداد الدنيا بأجمعها ... عندى، وسكّان بغداد هم الناس.(1/360)
وقال آخر:
سقى الله بغداد من جنة ... غدت للورى نزهة الأنفس.
على أنّها منية الموسرين، ... ولكنّها حسرة المفلس.
وأما الأهواز وما اختصت به
فقال أبو عثمان «عمرو بن بحر الجاحظ» : إن قصبة الأهواز مخصوصة بالحمّى الدائمة اللازمة، حتّى إنها ليست إلى الغريب بأسرع منها إلى القريب.
وقال إبراهيم بن العباس عن مشيخة من أهلها عن القوابل بها: إنهن ربما قبلن الطّفل المولود بها فيجدنه محموما؛ ولا تكاد توجد بها وجنة حمراء لصبىّ ولا صبية، ولا دم ظاهر.
ومن عجائب خصائصها: أن جميع أصناف الطّيب تستحيل رائحته فيها جدّا، حتّى لا تكاد توجد له رائحة. وذلك من كثرة الرّطوبات، وغلظ الهواء، والأبخرة الفاسدة. (وهذا موجود بأنطاكية والقسطنطينيّة) . ويقال: إن الخيل لا تنزو بها ولا تصهل، وإنها تعتلف الحشيش دون التبن؛ لما يلحقها من الرّبو، لنداوة البلد وعفونته.
وأما فارس وما اختصت به
فمن خصائصها: ماء الورد الذى لا يوجد مثله فى سائر البلاد طيبا، والجورى الموصوف من أحد بلادها يجلب إلى أقاصى البلاد، ويضرب به المثل.
ولشيراز من بلاد فارس فغمة طيبة ليست فيما عداها من بلاد فارس.(1/361)
وأما أصفهان وما اختصت به
فهى موصوفة بصحة الهواء، وجودة التّربة، وعذوبة الماء.
وحكى أن الحجاج ولّى بعض خواصّه أصفهان، فقال له: قد ولّيتك بلدة حجرها الكحل، وذبابها النّحل، وحشيشها الزّعفران.
ومن خصائص الرّىّ: برودها موصوفة كبرود اليمن، وتسمّى العدنيّات تشبيها لها ببرود عدن. وفيها الثياب المنيّرة.
قالوا: واللص الحاذق ينسب إلى الرّىّ.
وأما جرجان وما اختصت به
فهى سهليّة جبلية، برّية بحريّة. وأهلها يعدّون زيادة على مائة نوع من أنواع الرياحين، والبقول، والحشائش الصّحراوية، والثمار والحبوب السّهلية التى هى مبذولة بها للفقراء والغرباء.
ومن خصائصها: العنّاب الذى لا يكون فى سائر البلاد مثله، ويقال: هى بغداد الصّغرى، إلا أنها وبيّة، مختلفة الهواء فى اليوم الواحد، قتّالة للغرباء، كثيرة الأنداء.
ويقال: جرجان مقبرة أهل خراسان.
وفى بعض الكتب القديمة أن بخراسان بلدة يقال لها جرجان، يساق إليها قصار الأعمار من الناس.
وكان أبو تراب النيسابورىّ يقول: لما قسمت البلاد بين الملائكة، وقعت جرجان فى قسم أبى يحيى (يعنى ملك الموت) .(1/362)
وأما نيسابور وما اختصت به
فحكى عن عمرو بن الليث الصّفّار أنه كان يقول: كيف لا أقاتل عن بلدة حشيشها الرّيباس، وترابها النّقل، وحجرها الفيروزج. أراد بقوله: «ترابها النّقل» طين الأكل الذى لا يوجد مثله فى الأرض، ويحمل منها إلى أقاصى البلاد وأدانيها، ويتحف به الملوك. قالوا: وربما بيع الرّطل منه بدينار. قال المأمون يصفه:
جد لى من النّقل، فذاك الذى ... منه خلقنا وإليه نصير.
ذاك الذى يحسب فى مثله ... أحجار كافور عليها عبير.
قالوا: والفيروزج لا يكون إلا فى نيسابور، وربما بلغت قيمة الفصّ منه- الذى إذا أربى وزنه على مثقال، وجمع الخضرة والاستدارة، وصبر على النار، وامتنع على المبرد، ولم يتغير بالماء الحارّ- مائتى دينار.
ويقال إن له خاصية فى تقوية القلب بالنظر إليه، كما أنّ للياقوت خاصّيّة فى مسرّة النفس.
ولما دخلها إسماعيل بن أحمد السامانىّ، ملك ما وراء النهر وخراسان. استحسنها واستطابها، وقال: يا لها من بلدة جليلة، لو لم يكن لها عيبان! كان ينبغى أن تكون مياهها التى فى باطن الأرض على ظاهرها، وأن تكون مسالحها [1] التى على ظهرها فى بطنها.
ومن خصائصها الثياب النيسابورية الرّقاق.
وأهلها لا يكرمون الغريب. قال المرادىّ:
لا تنزلنّ بنيسابور مغتربا ... إلّا وحبلك موصول بسلطان.
أولا، فلا أدب يغنى ولا حسب ... يجدى ولا حرمة ترعى لإنسان.
__________
[1] فى الاصل «مشايخها» .(1/363)
وقال أيضا فيها:
قال المرادىّ قولا غير متّهم، ... والنّصح ما كان من ذى اللّبّ مقبول:
لا تنزلنّ بنيسابور مغتربا، ... إن الغريب بنيسابور مخذول.
وأما طوس وما اختصت به
فمن خصائصها السّبج الذى لا يكون إلا بها، ومنها ينقل إلى الآفاق، والحجر الأبيض الذى تتخذ منه القدور.
ويقال: إن الله عز وجل ألان لأهلها الحجارة كما ألان لداود الحديد، حتّى إنهم يتخذون منها ما يتخذ غيرهم من الزّجاج من سائر الأوانى.
وأما بلخ وما اختصت به
فيقال: هى من أقدم البلاد وأخصّها بالملوك، وهى شبيهة بالعراق، وخراسان، والهند. وإليها ينسب جيحون، فيقال: نهر بلخ.
وكان سعيد بن الحسن يقول: العيش فى الصيف ببلخ كتصحيفها [1] .
ومن خصائصها البخاتى [2] والنّيلوفر.
__________
[1] أى مثل ثلج.
[2] فى الأصل: النجادى. [وهو تحريف لا شك فيه] . «والبخاتى» هى نوع من النياق اشتهرت بها هذه المدينة. قال ابن حوقل الرحالة البغدادىّ الشهير فى كتابه «المسالك والممالك» (ص 328، 329) ما نصه:
«ويرتفع من بلخ وأعمالها فى نفسها النوق المتقدمة على ما فى جنسها وتعرف بالبخاتى ولا نظير لها من جنسها فى جميع الأرض. وبها الأترج والنيلوفر وقصب السكر وما لا يكون الا بالبلدان الحارة الا أنه لا نخيل بها» .(1/364)
وأما بست وما اختصت به
فيقال: إن هواءها كهواء العراق، وماءها كماء الفرات؛ ومن خصائصها الإجّاص الذى لا يوجد مثله فى غيرها. ويقال: إن من مات ببست مغفورا له فقد انتقل من جنّة إلى جنّة.
وأما غزنة وما اختصت به
فهى موصوفة بصحة الهواء، وجودة التّربة، وعذوبة الماء، وهى جبلية شمالية؛ ومن خصائصها أن الأعمار بها طويلة، والأمراض قليلة. قالوا: وهى أرض تنبت الذهب، ولا تولد الحيات والعقارب والحشرات المؤذية. ومنها خرج الأجلّاء الأنجاد من الرجال.
وقال أبو سعيد منصور زعيم جرجان: لم أر بلدة في الصيف أطيب، وفى الربيع أشبه، ومن الحشرات أنظف من غزنة. ثم قال: إن قلّة ثمارها من منافعها، لأن كثرة الثمار مقترنة بكثرة الأمراض. وقد وصفها صاحب كتاب «لطائف المعارف» فقال:
واها لغزنة إذ غدت ... للملك والإسلام دارا.
من كعبة قد أصبحت ... للمجد والعليا مدارا.
فى صدرها الملك الّذى ... قطب السّعود عليه دارا.
وقال أيضا فيها:
يا دار ملك نرى كلّ الجمال بها ... وأسعد الدهر تبدو من جوانبها.
كأنما جنّة الفردوس قد نزلت ... بأرض غزنة تعجيلا لصاحبها.(1/365)
وأما سجستان وما اختصت به
فيقال فيها: ماؤها وشل، وثمرها دقل، ولصّها بطل.
ومما تختص به الطاسات وجلاجل البزاة، والطبول الموكبية، والفرش الدّيباج.
وأما الهند وما اختصت به
فيقال: الهند بحرها درّ، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر.
وعود الهند يذكر مع أمّهات الطيب.
وفى الهند الفيل، والكركدّن، والببر، والطاووس، والببغاء.
وفيه الياقوت الأحمر، والصّندل الأبيض، والعاج، وأصناف العطر، والثياب المخملة وغيرها، والّلانس [1] ، والأقمشة.
وأما الصين وما اختصّ به
فإن العرب تقول لكل طرفة من الأونى: صينيّة كائنة ما كانت: لاختصاص الصين بالطّرائف.
وأهل الصين خصّوا بصناعة الطّرف، والملح، وخرط التماثيل، والإبداع فى عمل النّقوش والتصاوير، حتّى إن مصوّرهم يصوّر الإنسان فلا يغادر شيئا إلا الرّوح، ثم لا يرضى بذلك حتّى يفصل بين ضحك الشامت وضحك الخجل، وبين المتبسّم والمستغرب، وبين ضحك المسرور والهازئ؛ ويركّب صورة فى صورة.
وفيه مناديل الغمر التى إذا اتّسخت وألقيت فى النار، نقّيت ولم تحترق.
__________
[1] كذا بالأصل ولعلها محرفة عن القلانس.(1/366)
وفيه الحديد. وربما اشترى بأضعاف وزنه فضة.
وفيه السّنجاب الفارحانىّ الذى هو من أنفس الأوبار. وفيه اللّبود الجياد.
قال الجاحظ فى كتاب «النظر فى التجارة» : إن خير اللّبود الصينية، ثم المغربية الحمر، ثم الطالقانيّة البيض.
وأما سمرقند وما اختصت به
قال قتيبة بن مسلم، لما أشرف على سمرقند لأصحابه: شبّهوها، فلم يأتوا فيها بشىء، فقال: كأنها السماء فى الخضرة، وكأن قصورها النجوم الزاهرة، وكأن أنهارها المجرّة. فاستحسنوا هذا التشبيه.
ومن خصائصها: الكواغد التى عطّلت قراطيس مصر، والجلود التى كان الأوائل يكتبون عليها، لأنها أحسن وأنعم وأرفق وأرقّ. ولا تكون إلا بها وبالصين.
ومن خصائصها: الثياب الوذارية، والنشادر، والزّئبق، والبندق.
وأما بلاد التّرك وما اختصت به
فيه يقال. إنها توازن بلاد الهند في كثرة الخصائص.
وفيها المسك والسّنجاب والسّمور والقاقم والفنك والثّعالب السّود والأرانب البيض وغير ذلك. وفيها البزاة البيض والخيل.
وتثبّتّ من بلاد الترك خاصية: أنه من أقام بها اعتراه سرور لا يدرى ما سببه، ولا يزال متبسما ضاحكا؛ وأن الميت إذا مات فيها لا يدخل على أهله كبير حزن كما يلحق غيرهم عند موت محبوب.(1/367)
وأما خوارزم وما اختصّت به
فانها تقارب بلاد الترك، بل تنافسها في الخصائص والمتاجر.
ومن خصائصها البطيخ الذى يقال له «النارنج» يقال إنه أحلى البطاطيخ وأطيبها.
وكان يحمل منها إلى المأمون وإلى الواثق في قوالب الرصاص، معبّاة في الثلج. فكانت تقوّم الواحدة منه- إذا سلمت ووصلت- بسبعمائة درهم. والله أعلم.
ذكر الخصائص التى تجرى مجرى الطّلّسمات
منها:
مدينة «خبيص» من مدن كرمان. لا يمطر المطر فيها داخل السور أبدا حتّى إن الرجل يخرج يده من سورها إلى خارجها، فتبتلّ يده ولا يبتلّ ساعده.
وبقرية من قرى كرمان أيضا «حصن عادى» ليس فيه فأر. وإذا دخل إليه فأر، مات.
ومدينة «حمص» لا يوجد فيها عقرب. وإذا تثر ترابها على ظهر عقرب، ماتت.
وكذلك قلعة أعزاز [1] من أعمال حلب. ويقال إنه لا يدخل مدينتها حيّة. ومتى نثر عليها من ترابها، ماتت لوقتها. ولا يوجد فيها بعوض البتة. وإن الرجل متى أخرج يده من السور، وقع عليها؛ فإذا أدخل يده، طار عنها.
و «بمصر [2] » أن التماسيح إذا ساقها الماء إليها وحاذتها، انقلبت على طهرها. فإذا بعدت عنها، لا تضر أحدا. بخلاف ما هى في بلاد الصعيد، فإنها تفترس جميع ما تظفر به من الحيوان حتّى الخيل. ولا يقوى على قتالها إلا الجاموس.
ومدينة «سجلماسة» لا يوجد فيها ذباب البتة.
__________
[1] كذا ذكرها أيضا في التقويم بالهمزة. وفي المعجم «عزاز» بدونها.
[2] يعنى مصر العتيقة أى الفسطاط.(1/368)
ذكر خصائص البلاد في أشياء مختلفة
(وهى العلم، والعمل، والجواهر، والملابس، والأوبار، والفرش، والمراكب، والحيوانات ذوات السموم، والحلوى، والثمار، والرياحين، والخلق، والأخلاق، والأمراض، والآثار العلوية) أما خصائصها العلمية والعملية، فيقال: حكماء اليونان، وأطباء جنديسابور، وصاغة حرّان، وحاكة اليمن، وكتّاب السّواد.
ومن خصائصها في الجواهر، يقال: فيروزج نيسابور، وياقوت سرنديب، ولؤلؤ عمان، وزبرجد مصر، وعقيق اليمن، وجزع ظفار، وبجادىّ بلخ، ومرجان إفريقيّة.
ومن خصائصها في الملابس، يقال: برود اليمن، ووشى صنعاء، وريط الشام، وقصب مصر، وديباج الرّوم، وقزّ السّوس، وحرير الصين، وأكسية فارس، وحلل أصبهان، وسقلاطون بغداد، وعمائم الأبلّة، ومنيّر الرىّ، وملحم مرو، وتكك أرمينية، ومناديل الدّامغان، وجوارب قزوين.
ومن خصائصها في الأوبار، يقال: سنجاب خرخيز، وسمّور بلغار، وثعالب الخزر، وفنك كاشغر، وحواصل [1] هراة، وقاقم تغزغز.
__________
[1] ورد هذا اللفظ في كثير من كتب العرب بمعنى الجلود السنية التى يتدفأ بها أهل الترف والنعيم فقد ذكر الهمذانى (ص 235) الفنك والسمور والقاقم والحواصل والوشق والدّلق الخ. وذكره ابن البيطار فقال: «أنه طائر يكون بمصر كثيرا يعرف بالكى (بضم الكاف وإسكان الياء المنقوطة باثنتين من أسفل) ...... ولباسه يصلح للشباب وذوى الأمزاج الحارة ومن يغلب عليه الصفراء.» .
وذكر السيوطى في الجزء الثانى من «حسن المحاضرة» لطائف مصر وأورد من جملتها الحوصل (بغير ألف في النسخة المطبوعة طبع حجر بمصر، ص 176) حيث قال ما نصه: «وطير الحوصل يعمل من جلده الخفاف الناعمة والفرا الأبيض الذى يقوم مقام الفنك في لينه ورقته» .(1/369)
ومن خصائصها في الفرش، يقال: بسط أرمينية، وزلالىّ قاليقلا، ومطارح ميسان، وحصر بغداد [1] .
ومن خصائصها في المراكب، يقال: عتاق البادية، ونجائب الحجاز، وبراذين طخارستان، وحمير مصر، وبغال برذعة.
ومن خصائصها في الحيوانات ذوات السموم، يقال: أفاعى سجستان، وحيّات اصفهان، وثعابين مصر، وعقارب شهرزور، وجرّارات الأهواز، وبراغيث أرمينية، وفأر أرزن، ونمل ميّا فارقين، وذباب تل فافان، واقداح [2] نلد. [3]
ومن خصائصها في الحلواء، يقال: سكّر الأهواز، وعسل أصفهان، وفانيذ ماكسان [4] ودبس أرّجان.
__________
[1] لعله مصحف عن «حصر عبادان» لأن المقريزى طالما يتكلم عن الحصر العبدانية في مواضع كثيرة جدّا من خططه. وكذلك السيوطى قال في لطائف مصر: «وبها من الحصر العبدانى ومن سائر أصناف الحصر ما لا يوجد في غيرها» . وقال المقدسى ص 118 «ان أكثر أهل عبادان صناع الحصر من الحلفاء» وكانت هذه الحصر في غاية من الجمال حتى كان أهل مصر يقلدونها كما رأينا من عبارة السيوطى.
[2] مفرده «قدح» وقال في القاموس: «والقدح والقادح أكال يقع في الشجر والاسنان ... والقادحة الدودة» . وقال ابن البيطار في كلامه على «التربد» نوع من النبات مانصه: «والتربد إذا طال به الزمان عمل فيه القادح كما يعمل في الخشب...... تراه مثقّبا كأنه ثقب برأس ابرة» . ثم قال فى بقية الكلام ما نصه: «لا يجب أن يستعمل منه (أى التربد) إلا...... السليم من السوس» .
[3] هكذا في الأصل. وربما كان محرفا عن «بلد» المدينة المشهورة في العراق.
[4] كذا بالاصل وصوابه «ماسكان» وقد أوردها ياقوت فقال «انها بلد مشهور بالنواحى المجاورة لمكران وراء سجستان» ثم قال «ولا يوجد الفانيذ بغير مكان إلا بهذا الموضع ... واليه ينسب القانيذ الماسكانى» .(1/370)
ومن خصائصها في الثمار، يقال: رطب العراق، وتمر كرمان، وعنّاب جرجان، وإجّاص بست، وسفرجل نيسابور، وتفّاح الشام، ومشمش طوس، وكمّثرى نهاوند، وأترجّ طبرستان، ونارنج البصرة، وتين حلوان، وعنب بغداد، وقشمش هراة، وموز اليمن، وجوز الهند، وبطّيخ خوارزم، وباقلاء الكوفة.
ومن خصائصها في الرياحين، يقال: نرجس جرجان، وورد جور، ونيلوفر السّيروان، ومنثور بغداد، وزعفران قمّ، وشاهسفرم سمرقند.
ومن خصائصها في الخلق والأخلاق، يقال: شقرة الروم، وسواد الزّنج، وغلظ الترك، وجفاء الجيل، ودمامة الصّين، وقصر يأجوج.
ومن خصائصها في الأمراض، يقال: طواعين الشام، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وحمّى خيبر. وجنون حمص، وعرق اليمن، ووباء مصر، وبرسام العراق، والنار الفارسية، وقروح بلخ.
ومن خصائصها في الآثار العلوية، يقال: شتاء أرمينية، ومصيف عمان، وصواعق تهامه، وزلازل دبيل.
وقال الجاحظ في «كتاب الأمصار» : الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والتّخنيث ببغداد، والطّرمذة بسمرقند، والغىّ بالرّىّ، والجفاء بنيسابور، والحسن بهراة، والمروءة ببلخ، والبخل بمرو، والعجائب بمصر.
وحكى عن عمرو بن عامر مزيقيا، أنه قال لقومه لما تحقق كون سيل العرم:
من كان ذا شاء وبعير وجمل غير شرود، فليلحق بالشّعب من كوفان، فلحقت به(1/371)
همدان؛ ومن كان ذا سياسة وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مرّ، فلحقت به خزاعة. ومن كان يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فلحقت بها بنو قيلة، وهم الأوس والخزرج؛ ومن كان يريد الخمر والخمير والأمر والتأمير فليلحق ببصرى وسدير (وهى من أرض الشام) ، فلحقت به غسّان؛ ومن كان يريد الثياب الرّقاق، والخيول العتاق، والذّهب والأوراق، فليلحق بالعراق، فلحقت به لخم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الأوّل (فى المبانى القديمة)
والمبانى القديمة كثيرة، فلنذكر منها ما عظم خطره، وشاع في الآفاق ذكره.
ذكر أوّل بناء وضع على وجه الأرض
قيل: أوّل ما بنى على وجه الأرض «الصّرح» ويسمّى «المجدل» بناه النّمرود الأكبر ابن كوش بن حام بن نوح، بكوثى ربّى من أرض بابل. قيل: وبها إلى هذا العصر من أثره كالجبال. وكان طوله في الهواء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع. وكان مبنيا بالحجارة والرّصاص والكلس والشّمع واللّبان. يناه ليمنعه وقومه من بأس الله عز وجل. وكان قد كفر وطغى وادّعى الألوهية، فأرسل الله تعالى(1/372)
إليه جبريل، فضربه بخافقة جناحه فهدمه، وهام من كان حوله على وجهه، وقد تبلبلت ألسنتهم من الدّهش والذّعر، فكانت عنه هذه اللغات التى يتكلم بها سائر الأمم، وهى اثنتان وسبعون لغة، وسميت تلك الأرض التى كان بها بابل.
ذكر خبر إرم ذات العماد
وهى التى ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز، فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) .
وكان سبب عمارتها أن شدّاد بن عاد بن إرم لما سمع وصف الجنة سوّلت له نفسه أن يبنى مثلها. فبنى مدينة بين حضرموت وصنعاء، طولها اثنا عشر فرسخا، وعرضها مثل ذلك. وأحاط بها سورا ارتفاعه خمسمائة ذراع، غشّاه بصفائح الفضة المموّهة بالذهب، فلا يدركه البصر إذا أشرقت عليه الشمس. وبنى داخلها مائة ألف قصر (بعدد رؤساء أهل مملكته) من الذهب والفضّة، وكذلك جذوع سقوفها وأعمدتها. وأجرى في وسطها نهرا صفّح أرضه بالذهب، وجعل على حافتيه أنواع الجواهر واليواقيت بدلا من الحصباء وألقى فيه المسك والعنبر بدلا من الحمأة. وفرّع منه جداول إلى تلك القصور والمنازل، وغرس على شطوطها من الأشجار ما كان لزهره عرف طيّب ورائحة ذكيّة.
زعموا أنه أقام في بنائها ثلاثمائة سنة، فلما تمّ بناؤها، زاد في طغيانه وخرج من حضرموت إليها ليسكنها. فلما أشرف عليها جاءته صيحة من السماء فأهلكته هو وجنوده.(1/373)
ويروى أن عبد الله بن قلابة خرج في طلب إبل له ندّت فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه، فبلغ معاوية خبره، فاستحضره وسأله فقصّ عليه قصته. فبعث معاوية إلى كعب الأحبار، فقال: هى إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك:
أحمر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له ندّت.
ثم التفت فرأى ابن قلابة فقال: هذا والله ذاك الرجل.
وزعم الأخباريون أنه كان بها أربعمائة ألف وأربعون ألف عمود، ولهذا سميت ذات العماد. وقد ذهب قوم إلى أنها دمشق.
وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر إرم ذات العماد بما هو أبسط من هذا عند ذكرنا لخبر شديد وشدّاد، ابنى عاد؛ وهو في الباب الخامس من القسم الأوّل، من الفن الخامس في التاريخ، وذلك في السّفر الحادى عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا فتأمله هناك. والله تعالى أعلم.
ذكر خبر سدّ يأجوج ومأجوج
هو في الإقليم السادس في آخر الجزء التاسع من تجزئة عشرة أجزاء.
قال [1] صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» إن الواثق بالله لما رأى فى المنام كأنّ السّدّ الذى بناه ذو القرنين مفتوح، أحضر سلّاما الترجمان وقال له:
__________
[1] ان ابن خرداذبة هو أوّل من روى خبر هذه البعثة العلمية عن نفس رئيسها ثم استملاه منه من الكتاب الذى كان كتبه في هذا المعنى الخليفة الواثق بالله (انظر المسالك والممالك طبع ليدن سنة 1306 هـ- سنة 1889 م من صفحة 162- 170) . وعن ابن خرداذبة نقل جميع المؤلفين الذين جاءوا بعده مثل الإدريسى وابن رسته وابن الفقيه الهمذانى والمقدسى. وقد نقل النويرى عن الإدريسى. وكلهم قد يزيد وينقص بعض الكلمات أو يبدلها بغيرها.(1/374)
اذهب فانظر إلى هذا السدّ وجئنى بخبره وحاله وما هو عليه، ثم أمر له بأصحاب يسيرون معه، عددهم خمسون رجلا، ووصله بخمسة آلاف دينار، وأعطاه ديته عشرة آلاف درهم، وأمر أن يعطى كل واحد من أصحابه الخمسين ألف درهم ورزق سنة، وأمر لهم بمائة بغل تحمل الماء والزاد. قال سلام الترجمان: فشخصنا من سامرّا بكتاب الواثق إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية بالنظر إلى تنفيذنا من هناك؛ فكتب لنا كتابا إلى ملك السّرير وأنفذنا إليه، فلما وردنا عليه، أشخصنا إلى ملك اللّان. فلما وصلنا إليه، أشخصنا إلى صاحب فيلان [1] شاه. فلما وردنا عليه [أرسلنا إلى ملك الخزر وهو] اختار لنا خمسة أدلّاء يدلّون على الطريق.
فسرنا من عنده سبعة وعشرين يوما في تخوم بلاد بسجرت إلى أن وصلنا إلى أرض سوداء طويلة ممتدّة كريهة الرائحة، فشققناها في عشرة أيام. وكنا قد تزوّدنا لقطعها أشياء نشمها خوفا من أذى روائحها الكريهة. ثم انفصلنا عنها. فسرنا مدّة شهر في بلاد خراب قد درست ابنيتها ولم يبق منها إلا رسوم يستدل بها عليها. فسألنا من معنا عن تلك المدن، فأخبرونا أنها لمدن التى كان يأجوج ومأجوج يغزونها ويخرّبونها.
ثم سرنا إلى حصون بالقرب من الجبل الذى في شعبة السدّ وذلك في ستة أيام.
وفي تلك الحصون قوم يتكلمون بالعربية والفارسية. وهناك مدينة يدعى ملكها خاقان بن أدكش، وأهلها مسلمون لهم مساجد ومكاتب. فسألونا من أين أقبلنا، فأخبرناهم أنّا رسل أمير المؤمنين الواثق بالله، فعجبوا منا ومن قولنا «أمير المؤمنين» ثم سألونا عن أمير المؤمنين: أشيخ هو أم شابّ؟ فقلنا: شابّ، فعجبوا أيضا.
ثم قالوا: وأين يكون؟ قلنا: هو بالعراق بمدينة سرّ من رأى. فعجبوا أيضا
__________
[1] فى الأصل: «قبلاه شاه» . والتصويب عن ابن خرداذبة.(1/375)
من ذلك، وقالوا: ما سمعنا هذا قطّ. فسألناهم عن إسلامهم من أين وصلهم ومن علّمه لهم؟ فقالوا: وصل إلينا منذ أعوام كثيرة رجل راكب على دابة طويلة العنق طويلة اليدين والرجلين، لها في موضع صلبها حدبة، (فعلمنا أنهم يصفون الجمل) قالوا: فنزل بنا وكلمنا بكلام فهمناه، ثم علّمنا شرائع الإسلام فقبلناها، وعلمنا أيضا القرآن ومعانيه فتعلمناه وحفظناه. قال سلام: ثم خرجنا بعد هذا إلى السدّ لنبصره، فسرنا عن المدينة نحوا من فرسخين، فوصلنا السدّ. فإذا جبل مقطوع بواد عرضه مائة وخمسون ذراعا، وله في وسط هذا الفناء باب من حديد طوله خمسون ذراعا قد اكتنفه عضادتان، عرض كل عضادة منهما خمسة وعشرون ذراعا. والظاهر من تحتها عشرة أذرع خارج الباب. وكله مبنىّ بلبن الحديد مغيب بالنّحاس. وارتفاع العضادتين خمسون ذراعا، وعلى أعلى العضادتين دروند حديد، طوله مائة وعشرون ذراعا. والدّروند للعتبة العليا، وقد ركب منها على كل واحدة من العضادتين مقدار عشرة أذرع. ومن فوق الدّروند بنيان متصل بلبن الحديد المغيب بالنحاس إلى رأس الجبل، وارتفاعه مدّ البصر. وفوقه شرّافات حديد، فى طرف كل شرّافة قرنتان تنثنى أطراف كل واحدة منهما على الأخرى [1] ، وللباب مصراعان مغلقان، عرض كل مصراع خمسون ذراعا في ثخن خمسة أذرع؛ وقائمتاهما في دوّارة على قدر الدروند. وعلى الباب قفل طوله سبعة أذرع في غلظ ذراع في الاستدارة؛ وارتفاع القفل من الأرض خمسة وعشرون ذراعا. وفوق القفل بخمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل،
__________
[1]- هذه رواية ابن حرداذبة. وفي الأصل «قرنان مشى الأطراف بعضها الى بعض» . ورواية المقدسى: «قرنان ينثنى كل واحد في صحبه» .(1/376)
وعلى الغلق مفتاح طوله ذراع ونصف، وله اثنتا عشرة دنداجة [1] ، كل دنداجة منها كأغلظ ما يكون من دساتج [2] الهواوين، معلق كل واحد منها بسلسلة على قدر حلقة المنجنيق [3] . وعتبة الباب السفلى عشرة أذرع بسط مائة ذرع سوى ما تحت العضادتين، الظاهر منها خمسة أذرع. وكلها مكتالة بالذراع السوادىّ. ورئيس ذلك الحصن يركب فى كل جمعة مع عشرة فوارس، مع كل فارس إرزبّة حديد، كل إرزبّة خمسة أمنان.
فيضرب القفل بتلك الإرزبّات في كل يوم ثلاث مرات ليسمع من خلف الباب.
فيعلم أنّ هناك حفظة، وليعلم هؤلاء أن يأجوج ومأجوج لم يحدثوا في الباب حدثا.
وإذا ضرب أصحاب الإرزبّات القفل، وضعوا آذانهم ليسمعوا ما وراء الباب، فيسمعون من ورائه دويّا يدلّ على أن خلفه بشرا. وبالقرب من هذا الموضع حصن يكون عشرة [فراسخ] فى عشرة [فراسخ] . ومع الباب حصنان يكون كل واحد منهما مائتى ذراع في مائتى ذراع؛ وبين هذين الحصنين عين ماء عذبة، فى أحد الحصنين آلة البناء التى بنى بها السدّ من قدور الحديد ومغارف الحديد؛ والقدور فوق ديكدانات [4] على كل ديكدان أربع قدور مثل قدور الصابون؛ وهناك أيضا بقايا من لبن الحديد
__________
[1]- هذه رواية الإدريسى. والذى في ابن خرداذبة «دندانكة» وهى كلمة فارسية معناها «سن» والمراد أسنان المفتاح.
[2] الدستج كلمة فارسية معناها «يدالهاون» أى المدقّ الذى تدق به الأشياء في الهاون.
[3] فى ابن خرداذبة ما يفيد أن المفتاح وحده هو المعلق في السلسلة وهذا نص روايته: «معلق فى سلسلة ملحومة بالباب طولها ثمانى أذرع في استدارة أربعة أشبار والحلقة التى فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق» وهى رواية معقولة أكثر مما ورد في المتن لان المفتاح فقط هو الذى يصح تعليقه دون القفل والغلق.
[4] كلمة فارسية يقابلها عند العرب «الأثافى» .(1/377)
التى بنى بها السدّ وقد التصق بعضها ببعض من الصدإ، وطول اللّبنة ذراع ونصف فى ارتفاع شبر.
قال سلام الترجمان: وقد سألنا من خاطبناه من أهل تلك الجهات هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج قطّ، فأخبرونا أنهم رأوا منهم [مرّة] عددا فوق شرفات الردم، فهبّت عليهم ريح عاصفة، فرمت منهم ثلاثة إلى ناحيتنا. [1] وكان مقدار الرجل منهم شبرين ونصفا.
قال سلام: فكتبت هذه الصفات كلّها، ثم انصرفنا مع الأدلّاء من تلك الحصون، فأخذوا بنا على ناحية خراسان. فسرنا إلى مدينة بختان، إلى غربان، إلى مدينة برساخان، إلى انطرار، إلى سمرقند، فوصلنا إلى عبد الله بن طاهر، ثم وصلنا إلى الرىّ، ثم رجعنا إلى سرّ من رأى بعد خروجنا عنها. فكان مغيبنا في سفرنا ثمانية وعشرين شهرا.
قال: فهذا جميع ما حدّث به سلام.
وقال الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبىّ في تفسيره: إن ارتفاع السدّ مائتا ذراع وخمسون ذراعا. قال: وروى في طوله ما بين طرفى الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون ذراعا. نقله عن وهب بن منبه.
وسنذكر إن شاء الله تعالى من أخبار السدّ وكيفية بنائه وطوله وعرضه، وغير ذلك مما هو متعلق به عند ذكرنا لأخبار ذى القرنين. فتأمّله هناك، وهو في الباب
__________
[1] فى ابن خرداذبه: «فهبت ريح سوداء فألقتهم الى جانبهم» أى الى الجهة التى ظهر منها أولئك الناس، وهو المعقول، لانه عقب بأن طول الرجل كان شبرين ونصفا، ومعنى ذلك في رأى العين من هذا العدو فتنيه.(1/378)
الأوّل من القسم الرابع من الفن الخامس في التاريخ، وهو في السفر الثانى عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا.
ذكر مبانى الفرس المشهورة
ومبانى الفرس كثيرة: قديمة وحديثة.
فمن قديمها «سدّ اللّبن» . بناه قباذ بن فيروز، وقيل إن الذى بناه ابنه كسرى ابن قباذ بن فيروز. كذا ورد في التاريخ.
وهذا السدّ من أرض شروان إلى بلاد اللّان، وبينهما مائة فرسخ، بين شعاب جبل القبق. وهو جبل عظيم قد اشتمل على اثنتين وسبعين أمّة، لكل أمّة لسان وملك، لا يعرف بعضهم بعضا لكثرة غياضه وأشجاره؛ وفيه عيون وأنهار؛ وتقدير مسافته طولا وعرضا نحو شهرين.
ومبدأ السّور من جوف بحر الخزر على مقدار مسافة ميل مارّا إلى البرّ، ثم يمرّ إلى أن يتصل بقلعة طبر شروان. وهو مبنىّ بالصخر والحديد والرّصاص. بناه على زقاق البقر المنفوخة، فكان كلما ارتفع البناء نزلت تلك الزّقاق إلى أن استقرّت في قعر البحر، فغاصت الرجال بالخناجر فشقّوها فتمكن البناء. وجعل بين كل ثلاثة أميال من السور وأقل وأكثر بابا من الحديد على حسب الطريق التى تجعل من أجله، وبنى عليه حصنا وأسكن فيه من يحفظ ذلك الباب ويحرسه.
وزعم المؤرّخون أن سبب بنائه لهذا السور أن الخزر كانت تغير على بلد فارس إلى أن تبلغ همذان والموصل، فحجزهم بهذا السور.(1/379)
ومن مبانى الفرس إيوان كسرى
زعم المسعودىّ أن سابور ذا الأكتاف بناه في نيف وعشرين سنة، وطوله مائة ذراع في عرض خمسين ذراعا في ارتفاع مائة ذراع، وطول كل شرفة منه خمسة عشر ذراعا.
ولما ملك المسلمون المداين، أحرق ستر هذا الإيوان فأخرجوا منه مائة ألف دينار ذهبا.
ولما بنى المنصور بغداد، أحب أن ينقضه ويبتيها به، فاستشار خالد بن برمك فى ذلك فنهاه، وقال: «هو آية للإسلام، ومن رآه علم أن الذى بناه لا يزيل ملكه إلا نبىّ والمؤونة على نقضه أكثر من الارتفاق به» . فقال له: «أبيت إلا ميلا إلى العجم» فهدمت منه ثلمة. فبلغت النفقة عليها مالا كثيرا، فأمسك المنصور عن هدمه، فقال له خالد: «أنا الآن، يا أمير المؤمنين، أشير بهدمه لئلا يتحدّث الناس بعجزك عن هدم ما بناه غيرك» فلم يفعل.
وحكى مثل هذه القصة أنها وقعت ليحيى بن خالد مع الرشيد، وهو إذ ذاك فى اعتقاله. وكان الرشيد بلغه أن تحته كنزا فأراد هدمه واستشار يحيى فأشار عليه بمثل هذا.
ومن عجيب ما يحكى من تقلب الأحوال أن بعض شرفاته هدمت وجعلت فى أساس سور بغداد.
وقال ابن الأثير في تاريخه إن الإيوان باق إلى الآن. (وكان يوم ذاك في سنة خمس وعشرين وستمائة) ، والله أعلم.(1/380)
ومن المبانى القديمة الحضر
وكان حصنا حصينا مبنيّا بالرّخام، يسكنه ملوك الضّيازن. وهو بين دجلة والفرات، بحيال تكريت.
ويقال إن بانيه الساطرون. وذكر أن قصر ملكه قائم إلى وقتنا هذا فى وسط المدينة، وفى وسطه هيكل مربّع مبنىّ بالصخر، وفيه صور دقيقة المعانى.
حكى أن سابور الجنود حاصره أربع سنين فلم يقدر عليه. واتفق أن بنت ملكه وهى النضرة [1] بنت الضّيزن حاضت، فأخرجت من القصر إلى ربضه لأجل ذلك.
فرأت سابور، وكان جميل الصورة، فعشقته. فأرسلت إليه تقول: إن ملّكتك الحصن فما تجعل لى؟ قال: حكّمتك. قالت: تتزوّج بى. فأجابها إلى ذلك، فقالت له: خذ حمامة ورقاء مطوّقة، فاخضب رجليها بدم حيض جارية بكر زرقاء، وأرسلها. فإنها تقع على سور البلد فيقع لوقته. وكان ذلك حلّ طلّسم له. ففعل ذلك، فوقع السّور ودخل سابور الحصن وقتل ملكه وأصحابه واصطفى ابنته لنفسه. فلما كانت ليلة دخولها عليه، لم تزل متململة قلقلة طول ليلتها، فالتمس سابور ما الذى قلقت من أجله، فاذا ورقة آس قد لصقت بعكنة من عكنها، فقال لها: ما كان أبوك يغذوك؟
فقالت: الزّبد والمخّ وشهد أبكار النحل والخمر، فقال لها: أنا أحقّ منك بثار أبيك، ثم أمر رجلا أن يركب فرسا جموحا وأن يربط غدائرها في ذنبه ويركض به.
ففعل ذلك، فتقطّعت.
__________
[1] فى ياقوت: «النضيرة» .(1/381)
وهذا الحصن قد اختلف في موضعه. فقيل: بحيال تكريت بين دجلة والفرات.
وقيل: بالجزيرة. ويقال إنه كان حاجزا بين الرّوم والفرس، وملكته الزّبّاء بنت مليح [1] واسمها فارعة.
وفيه يقول عدىّ بن زيد العبادىّ من قصيدة:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور.
شاده مرمرا وكلّله كل ... سا فللطّير في ذراه وكور.
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور.
ومن المبانى القديمة القليس
وهى كنيسة كانت باليمن بناها أبرهة بن الصباح، ملك اليمن بصنعاء. ونقل إليها الرخام المجزّع والملّون، والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس. وكان أراد أن يرفع بناءها حتّى يشرف منها على بحر عدن. فلما أهلكه الله تعالى وفرّق ملكه، أقفر ما حول هذه الكنيسة، وكثرت حولها السّباع والحشرات. وبقيت إلى زمن السّفّاح فذكر له أمرها، فبعث إليها من خرّبها وأخذ ما كان فيها. حكى ذلك السهيلى في «الروض الأنف» .
وحكى أن كيفية بناء هذه الكنيسة أنه كان لها باب من نحاس طوله عشرة أذرع وعرضه أربعة أذرع، يدخل منه إلى بيت طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا، مسقّف بالساج المنقوش، مسمّر بمسامير الذهب والفضّة. ثم يدخل من البيت إلى إيوان معقود طوله أربعون ذراعا، عن يمينه ويساره عقود مزخرفة.
__________
[1] كذا في الأصل «بنت فريح» . وذكر في تاج العروس في مادة زب ب أنها بنت عمرو بن الظرب وأن أسمها بارعة أو ميسون أو نابلة. فتنبه.(1/382)
ثم يدخل من الإيوان إلى قبّة، ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا، جدرها مموّهة بالذهب والفضة. وفي صدر القبّة منبر من الآبنوس المرصّع بالعاج، المصفّح بالذهب والفضة. ولما تم بناؤها، خرج رجل من بنى كنانة فقعد فيها ليلا (أى أحدث) .
فأغضب أبرهة ذلك، فحلف ليهدمنّ الكعبة، فخرج بجيش كثيف من الحبشة، فكان من أمره ما قصه الله تعالى في كتابه العزيز في سورة النمل: (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) .
وذكر لى أن الذى خرّبها العباس بن الربيع بن عبد الله العامرىّ، عامل المنصور على اليمن.
ومن المبانى المشهورة قنطرة صنجة
وهى من مبانى الروم على نهر عظيم يسمّى بهذا الاسم، يصبّ في الفرات، لا يمكن خوضه: لأن قراره رمل سائل متى وطئه الإنسان برجله سال. وهو ما بين حصن منصور وكيسوم من ديار بكر.
وهذه القنطرة طاق واحد، ما بين جدرانها مائة خطوة. وهى مبنية بحجارة مهندمة، طول الحجر منها عشرة أذرع في ارتفاع خمسة أذرع.
ومن المبانى القديمة ملعبا بعلبك
وهما كبير وصغير.
فالكبير، يحكى أنه من بناء سليمان بن داود عليهما السلام. وهو مبنىّ على عمد شاهقة. وحجارته منها ما هو عشرة أذرع وأكثر.(1/383)
والملعب الصغير تهدّم أكثره، وبقى منه حائط طوله عشرون ذراعا وارتفاعه كذلك.
ليس فيه إلا سبعة أحجار: واحد من أسفله، وحجران فوقه، وأربعة أحجار فوقهما.
ويقال إنه البيت الذى كان فيه الصنم الذى كان يدعى «بعلا» .
ذكر مبانى العرب المشهورة
وهى غمدان، وحصن تيما، والخورنق، والسّدير، والغريّان.
قال الجاحظ: أحبّت العرب أن تشارك الفرس في البناء وتنفرد بالشعر، فبنوا:
غمدان، وكعبة نجران، وحصن مارد، والأبلق الفرد.
فأما غمدان
فكان بصنعاء. زعم بعض المؤرّخين أن بانيه حام بن نوح. وزعم آخرون أن بيوراسب بناه على اسم الزّهرة.
وقال ابن هشام إن الذى أسسه يعرب بن قحطان، وأكمله بعده وائل بن حمير ابن سبإ بن يعرب. وخرّبه عثمان بن عفّان، رضى الله عنه.
وقيل في صفته إنه كان مربّعا، أحد أركانه مبنىّ بالرخام الأبيض، والثانى بالرّخام الأصفر، والثالث بالرخام الأخضر، والرابع بالرّخام الأحمر. وفيه سبعة سقوف طباقا، ما بين السّقف والآخر خمسون ذراعا. وعلى كل ركن تمثال أسد من نحاس، إذا هبّت الريح دخلت من دبره وخرجت من فيه، فيسمع لها صوت كزئير الأسد.
وقال ابن الكلبىّ: كان على كل ركن من أركان غمدان مكتوب «اسلم غمدان، معاديك مقتول بسيف العدوان» .(1/384)
ويقال: إن سليمان بن داود عليهما السلام أمر الشياطين أن يبنوا لبلقيس أربعة قصور: غمدان، وصرواح، وبينين، وسلحين. وكلّها باليمن.
ويروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: لا يستقيم أمر العرب ما دام فيها غمدانها. وهذا القول هو الذى حضّ عثمان على هدمه.
ويقال إن آثاره باقية إلى عصرنا هذا، وإنه تلّ عال مطلّ على صنعاء.
وأما حصن تيماء
فهو الأبلق الفرد. سمّى بالأبلق الفرد لأنه كان مبنيا بحجارة مختلفة الألوان وهو بأرض تيماء.
بناه السموءل بن عاديا اليهودىّ. ويقال إنه من بناء سليمان بن داود عليه السلام.
وبه تضرب العرب المثل في المنعة والحصانة. وفيه يقول الشاعر:
طلب الأبلق العقوق فلمّا ... لم ينله فرام بيض الأنوق.
وقصدت الزّبّاء هذا الحصن وحصن مارد فلم تقدر عليهما، فقالت: «تمرّد مارد وعزّ الأبلق» .
ومارد حصن كان بدومة الجندل. مبنىّ بحجارة سود. ويقال إنه أيضا من بناء السموءل بن عاديا، اليهودىّ.
وأما الخورنق والسّدير
فكان الخورنق على ثلاثة أميال من الحيرة، والسّدير في برّية بالقرب منها.
بناهما النعمان بن امرئ القيس، وهو النعمان الأكبر. ويقال في سبب بنائه لهما:
ن يزدجرد بن سابور كان لا يعيش له ولد، فسأل عن مكان صحيح الهواء، فذكر له(1/385)
ظهر الحيرة. فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان وأمره ببناء الخورنق. فبناه على نهر سنداد في عشرين سنة. بناه له رجل يسمّى سنمار.
فلما فرغ من بنائه، عجب النّعمان من حسن بنائه وإتقانه، فأمر أن يلقى سنمّار من أعلاه حتّى لا يبنى مثله لأحد. ويقال إنه إنما فعل ذلك به لأنه لما أعجبه، شكره على عمله ووصله، فقال: لو علمت أن الملك يحسن إلىّ هذا الإحسان، لبنيت له بناء يدور مع الشمس كيفما دارت؛ فقال له النعمان: وإنك لتقدر على أن تبنى أفضل منه، ولم تبنه؟ فأمر به؛ فطرح من أعلاه.
وقيل: بل قال: أنا أعرف فيه حجرا متى أخذ من موضعه، تداعى البناء. فخاف النعمان إن هو لم ينصفه في أجرته فعل ذلك، فقتله.
والعرب تضرب المثل بفعل النّعمان مع سنمّار في المكافأة على الفعل الحسن بالقبيح، فيقال: جازاه مجازاة سنمّار.
وفيه يقول بعض الشعراء:
جزانى جزاه الله شرّ جزائه ... جزاء سنمّار، وما كان ذا ذنب.
سوى رفعه البنيان عشرين حجّة ... يعلّى عليه بالقراميد والسّكب.
والخورنق تعريب خورنقاه [1] ، وهو الموضع الذى يؤكل فيه ويشرب. والسّدير تعريب سادل أى قبّة في ثلاث قباب متداخلة.
وفي هذه الأبنية يقول الأسود ابن يعفر:
ماذا أؤمّل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم، وبعد إياد؟
أهل الخورنق والسّدير وبارق ... والقصر ذى الشّرفات من سنداد.
__________
[1] والأصح خانقاه. (من هامش الأصل) .(1/386)
وقال عدىّ بن زيد العبادىّ:
وتفكّر ربّ الخورنق إذ أش ... رف يوما، وللهدى تفكير.
سرّه ملكه وكثرة ما يح ... ويه والبحر معرضا والسّدير.
فارعوى قلبه، فقال: فما غب ... طة حىّ إلى الممات يصير؟
وأما الغريّان
فهما أسطوانتان كانتا بظاهر الكوفة.
بناهما النعمان بن المنذر بن ماء السماء، على جاريتين كانتا قينتين تغنّيان بين يديه.
فمائتا، فأمر بدفنهما وبنى عليهما الغريّين.
ويقال إن المنذر غزا الحارث بن أبى شمر الغسّانىّ، وكان بينهما وقعة على عين أباغ، وهى من أيام العرب المشهورة. فقتل للحارث ولدان، وقتل المنذر وانهزمت جيوشه. فأخذ الحارث ولديه وجعلهما عدلين على بعير، وجعل المنذر فوقهما، وقال: «ما العلاوة بدون العدلين» فذهبت مثلا. ثم رحل إلى الحيرة فانتهبها وحرّقها ودفن ابنيه بها، وبنى الغريّين عليهما. حكاه ابن الأثير فى تاريخه «الكامل» .
وأمر المنصور بهدم أحدهما، لكنز توهّم أنه تحتهما. فلم يجد شيئا.
وقيل في سبب بنائهما غير ذلك. والله أعلم.
ذكر الأبنية القديمة التى بالديار المصرية
وهى الأهرام، وحائط العجوز، وملعب أنصنا، ومدينة عين شمس، والبرابى، وحنيّة اللازورد، ومنارة الإسكندرية، ورواق الإسكندرانيّين.(1/387)
فأما الأهرام
التى بأرض مصر فهى كثيرة. وأعظمها الهرمان اللذان بالجيزة غربىّ مصر.
وقد اختلف في بانيهما.
فقال قوم: بانيهما سوريد بن سهلوق بن سرناق. بناهما قبل الطوفان لرؤيا رآها، فقصّها على الكهنة، فنظروا فيما تدل عليه الكواكب النيرة من أحداث تحدث فى العالم، فأقاموا مراكزها في وقت المسألة. فدلت على أنها نازلة من السماء تحيط بوجه الأرض. فأمر حينئذ ببناء البرابى والأهرام، وصوّر فيها صور الكواكب ودرجها وما لها من الأعمال وأسرار الطبائع والنواميس وعمل الصنعة.
ويقال إن هرمس المثلث بالحكمة (وهو الذى يسميه العبرانيون أخنخ، وهو إدريس عليه السلام) استدلّ من أحوال الكواكب على كون الطوفان. فأمر ببناء الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم وما يخاف عليه الذهاب والدّثور.
وكل هرم منها مربع القاعدة، مخروط الشكل، ارتفاع عموده ثلاثمائة ذراع وسبعة عشر دراعا، يحيط به أربعة سطوح متساويات الأضلاع، كل ضلع منها أربعمائة ذراع وستون ذراعا، ويرتفع إلى أن يكون سطحه مقدار ستة أذرع فى مثلها.
ويقال إنه كان عليه حجر شبه المكبّة فرمته الرياح العواصف.
وهو مع هذا العظم من إحكام الصنعة وإتقان الهندسة وحسن التقدير بحيث إنه لم يتأثر إلى يومنا هذا بعصف الرياح وهطل الأمطار وزعزعة الزلازل؛ وطول الحجر منه خمسة أذرع في سمك ذراعين.(1/388)
ويقال إن بانيهما جعل لهما أبوابا على آزاج مبنية بالحجارة في الأرض، طول كل أزج منها عشرون ذراعا. وكل باب من حجر واحد يدور بلولب، إذا أطبق لم يعلم أحد أنه باب. فأزج الشرقىّ منها في ناحية الجنوب، وأزج الغربىّ في ناحية الغرب. يدخل من كل باب منها إلى سبعة بيوت، كل بيت منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة؛ وكلها مقفلة بأقفال. وحذاء كل بيت منها صنم من ذهب مجوّف، إحدى يديه على فيه، وفي جبهته كتابة بالمسند إذا قرئت انفتح فوه فتوجد فيه مفاتيح ذلك القفل فيفتح بها.
والقبط يزعمون أنها والهرم الصغير الملوّن قبور: فالهرم الشرقىّ فيه سوريد الملك، وفي الهرم الغربىّ أخوه هو حيت [1] .
والصابئة تزعم أن أحدها قبر أغاثديمون، والآخر قبر هرمس، والملوّن قبر صاب ابن هرمس؛ وإليه تنسب الصابئة على قول من زعم ذلك منهم؛ وهم يحجّون إليها ويذبحون عندها الدّيكة والعجول السّود، ويبخرون بدخن؛ ويزعمون أنهم يعرفون عند اضطراب ما يذبحون حالة الذبح ما يريدن عمله من الأمور الطبيعية.
وقصرت همم الملوك والخلفاء عن معرفة ما في هذين الهرمين، إلى أن ولى عبد الله المأمون الخلافة وورد مصر، أمر بفتح واحد منها. ففتح بعد عناء طويل، واتفق لسعادته أنه وقع النّقب على مكان يسلك منه إلى الغرض المطلوب، وهو زلّاقة ضيقة من الحجر الصوّان الماتع الذى لا يعمل فيه الحديد، بين حاجزين ملتصقين بالحائط قد نقر في الزّلّاقة حفر، يتمسك السالك بتلك الحفر، ويستعين بها
__________
[1] كذا بالأصل وكذلك في خطط المقريزى. وفي ياقوت «هو جيب» .(1/389)
على المشى في الزّلّاقة لئلا يزلق، وأسفل الزلاقة بئر عظيمة بعيدة القعر. ويقال إن أسفل البئر أبواب يدخل منها إلى مواضع كثيرة وبيوت ومخادع وعجائب.
وانتهت بهم الزّلّاقة إلى موضع مربّع في وسطه حوض من حجر صلد مغطّى. فلما كشف عنه غطاؤه، لم يوجد فيه إلا رمّة بالية. فأمر المأمون بالكف عما سواه.
وهذا الموضع يدخله الناس إلى وقتنا هذا.
وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر الأهرام عند ذكرنا لأخبار ملوك مصر الذين كانوا قبل الطوفان وبعده، وذلك في الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الخامس، وهو في السفر الثانى عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا فتأمله هناك.
وقال بعض أهل النظر، وقد عاين الأهرام: «كلّ بناء يخاف عليه من الدّهر، إلا هذا البناء فإنى أخاف على الدّهر منه» .
ونظم عمارة اليمنىّ هذا القول، فقال:
خليلىّ، ما تحت السماء بنيّة ... تماثل في إتقانها هرمى مصر!
بناء يخاف الدّهر منه، وكلّ ما ... على ظاهر الدنيا يخاف من الدّهر!
تنزّه طرفى في بديع بنائها، ... ولم يتنزّه في المراد بها فكرى.
وقال بعض الشعراء:
حسرت عقول ذوى النّهى الأهرام، ... واستصغرت لعظيمها الأعلام.
ملس منيّفة البناء شواهق، ... قصرت لعال دونهنّ سهام!
لم أدر حين كبا التفكّر دونها ... واستبهمت لعجيبها الأوهام،
أقبور أملاك الأعاجم هنّ، أم ... طلّسم رمل هنّ، أم أعلام؟(1/390)
وقال أبو الطيّب المتنبى:
أين الذى الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا، ويدركها الفناء فتتبع.
وقال أميّة بن عبد العزيز الأندلسىّ:
بعيشك هل أبصرت أحسن منظرا ... على طول ما عاينت من هرمى مصر؟
أنافا بأعنان السّماء وأشرفا ... على الجوّ إشراف السّماك أو النّسر
. وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا ... كأنّهما ثديان قاما على صدر.
وقال آخر:
انظر إلى الهرمين إذ برزا ... للعين في علو وفى صعد!
وكأنما الأرض العريضة إذ ... ظمئت لفرط الحرّ والومد.
حسرت عن الثّديين بارزة ... تدعو الإله لفرقة الولد.
فأجابها: لبّيك! يوسعها ... ريّا ويشفيها من الكمد.
وقال ابن الساعاتىّ:
ومن العجائب، والعجائب جمّة ... دقّت عن الإكثار والإسهاب.
هرمان قد هرم الزمان وأدبرت ... أيّامه، وتزيد حسن شباب.
لله! أىّ بنيّة أزليّة ... تبغى السّماء بأطول الأسباب؟
ولربّما وقفت وقوف تبلّد ... أسفا على الأيّام والأحقاب.
كتمت عن الأسماع فصل خطابها ... وغدت تشير به إلى الألباب.(1/391)
وقال سيف الدين بن جبارة:
لله! أىّ غريبة وعجيبة ... فى صنعة الأهرام للألباب؟
أخفت عن الأسماع قصّة أهلها، ... ونضت عن الإبداع كلّ نقاب.
فكأنّما هى كالخيام مقامة ... من غير ما عمد ولا أطناب.
ومن رسالة لضياء الدين بن الأثير الجزرىّ في ذكر مصر ووصف الأهرام، جاء منها:
بلد أشهد بفضله على البلاد، ووجدته هو المصر وما عداه فهو السّواد. فما رآه راء إلا ملأ عينه وصدره، ولا وصفه واصف إلا علم أنه لم يقدره قدره. وبه عجائب من الآثار، لا يضبطها العيان ولا الإخبار. فمن ذلك الهرمان، اللذان هرم الدهر وهما لا يهرمان؛ قد اختص كل منهما بعظم البناء، وسعة الفناء؛ وبلغ من الارتفاع غاية لا يبلغها الطير على بعد تحليقه، ولا يدركها الطّرف على مدّة تحديقه؛ فإذا أضرم برأسه قبس ظنه المتأمل نجما، وإذا استدارت عليه قوس السماء كان لها سهما» .
وبالقرب من الأهرام صنم على صورة إنسان، تسميه العامّة «أبو الهول» لعظمه.
والقبط يزعمون أنه طلّسم للرمل الذى هناك، لئلا يغلب على أرض الحيزة.
وأما حائط العجوز
والعجوز هى دلوكا ملكة مصر.
وهذا الحائط من العريش (وهو حدّ مصر من جهة الشام) إلى أسوان (وهى حدّ مصر من جهة النوبة) ، شاملا للديار المصرية من الجانب الشرقىّ.
وزعمت القبط أنّ سبب بنائها أن الله عز وجل لما أغرق فرعون وقومه، خافت دلوكا على مصر أن يطمع الملوك فيها. فبنته، وزوّجت النساء بالعبيد حتّى يكثر النّسل والذرّية.(1/392)
وقيل في سبب بنائه: إن دلوكا ولدت ولدا فأخذت لمولده رصدا، فرأت أن التمساح يقتله، فبنت هذا الحائط وقاية له من التّمساح. فلما شبّ الغلام رأى فى مولده ذلك، فأحب أن يراه. فصوّر له من خشب. فلما رآه، هاله منظره واستولى على نفسه الوهم والفزع، فمات [1] .
وأما ملعب أنصنا
فإنه كان مقياسا للنيل.
ويقال: إنه من بناء دلوكا. وكان بناؤه كالطّيلسان، وعليه أعمدة بعدد أيام السنة من الصوّان الأحمر الماتع، بين العمود والعمود خطوة. وكان النيل يدخل إليه من فوهة فيه عند زيادة النيل. فاذا بلغ الحدّ الذى يحصل به الرّىّ، جلس الملك فى مشترف له، ويصيعد قوم إلى رءوس الأعمدة فيتعادون عليها ما بين ذاهب وآت.
فمن زلّت به قدمه منهم، سقط إلى البركة.
وأما مدينة عين شمس
فهى من المبانى التى درست.
وكانت مصر فرعون موسى، ومنها خرج بجنوده فى طلب موسى وبنى إسرائيل؛ وكانت عدّتهم ستمائة ألف، ليس فيهم ابن عشرين سنة ولا ابن ستين سنة. واستقلّ فرعون هذا العدد وقال كما أخبر الله تعالى عنه: (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) .
وكان بها هيكل الشمس فخرب.
__________
[1] لم يرض ابن فضل الله بذكر هذه الخرافة في كتابه. وقد وصف لنا جزءا من هذا السور (انظر مسالك الأنصار المطبوع، ج 1 ص 239) .(1/393)
والفرس تزعم أن هرسيك بناها.
ويقال: إنه كان قد بقى منها عمودان من حجر صلد، فلكات طول كل عمود منهما أربعة وثمانون ذراعا، على رأس كل عمود صورة إنسان على دابة، وعلى رأسيهما شبه الصومعتين من نحاس. فإذا كان (اللّيل) ، قطر من رأس كل واحد منهما ماء.
لا يتجاوز نصف العمود الذى هو مركب عليه. والموضع الذى يصل إليه الماء لا يزال أخضر رطبا.
وقد وقع العمودان بعد الخمسين وستمائة.
وأما البرابى
وهى بيوت حكمة القبط. ويقال: إنه كان لكل كورة من كور مصر برباة، يجلس فيها كاهن على كرسىّ من ذهب.
ومن أعجب البرابى وأعظمها (برباة إخميم) . وهى مبنية بحجر المرمر، طول كل حجر خمسة أذرع في سمك ذراعين. وهى سبعة دهاليز، سقوفها حجارة، طول كل حجر منها ثمانية عشر ذراعا في عرض خمسة أذرع، مدهونة بالّلازورد وسائر الاصباغ، يخالها الناظر إليها كأنما فرغ الدّهّان منها. يقال إن كل دهليز منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة. وجدران هذه الدهاليز منقوشة بصور مختلفة الهيئات والمقادير، يقال إنها رموز على علوم القبط، وهى: الكيمياء، والسّيمياء، والطّلّسمات، والطب. أودعوها هذه الصور.
ويقال إن ذا النون المصرىّ العابد فكّ منها علم الكيمياء.(1/394)
وأما حنيّة اللازورد
وهى بأرض منف. ومنف هذه هى التى تسمّى مصر القديمة.
يقال إن عقد الحنيّة أحسن من عقد قنطرة صنجة التى تقدّم ذكرها. والحنيّة معقودة من حجارة مهندمة، طول كل حجر منها أكثر من خمسة عشر ذراعا. وفيها نقوش وكتابة وطلّسمات مموّهة باللّازورد. وهى من الشرق إلى الغرب، وفي صدرها فضاء فيه بناء مرتفع، عليه بلاطة من الصوّان الأسود، مكتوب فيها بالقلم البرباوى ثلاثون سطرا. يقال إنه قبر الذى بنى الحنيّة، وأنه ديساره: ملك كان بمصر، حكيم.
وللقبط عيد يسمّى ديساره: وهو عيد هذا الملك، ويسمّى عيد العنب.
وأما منارة الإسكندرية
فهى مبنية بحجارة مهندمة مضبّبة بالرصاص، على قناطر من زجاج، والقناطر على ظهر سرطان من نحاس. وفيها نحو ثلاثمائة بيت بعضها فوق بعض، تصعد الدابة بحملها إلى سائر البيوت من داخلها. وللبيوت طاقات ينظر منها إلى البحر.
وبين أهل التاريخ خلاف فيمن بناها.
فزعم بعضهم أنها من بناء الإسكندر بن فيلبّس المقدونىّ. وزعم آخرون أنها من بناء دلوكا، ملكة مصر. ويقال إن على جانبها الشرقىّ كتابة، وإنها نقلت إلى اللسان العربىّ فوجدت «بنت هذه القنطرة فرتنا بنت مرتيوس اليونانية لرصد الكواكب» .(1/395)
ويقال: إن طولها كان ألف ذراع.
وكان في أعلاها تماثيل من نحاس.
منها تمثال قد أشار بسبابته اليمنى نحو الشمس: أينما كانت من الفلك، يدور معها حيثما دارت.
ومنها تمثال وجهه في البحر متى صار العدوّ منهم على نحو من ليلة، سمع له صوت هائل يعلم به أهل المدينة طروق العدوّ.
ومنها تمثال كلما مضى من الليل ساعة، صوّت صوتا مطربا.
ويقال: إنه كان بأعلاها مرآة ترى منها قسطنطينيّة، وبينهما عرض البحر. وكلما جهز الروم جيشا رؤى في المرآة.
وحكى المسعودىّ في «مروج الذهب» أن هذه المنارة كانت في وسط الإسكندرية، وأنها تعدّ من بناء العالم العجيب، بناها بعض البطالسة من ملوك اليونان يقال له الإسكندر، لما كان بينهم وبين الروم من الحروب في البرّ والبحر.
فجعلوا هذه المنارة مرقبا، وجعلوا في أعلاها مرآة من الأحجار المشفّة، تشاهد فيها مراكب البحر إذا أقبلت من رومية على مسافة تعجز الأبصار عن إدراكها.
ولم تزل كذلك إلى أن ملكها المسلمون، فاحتال ملك الروم على الوليد بن عبد الملك بأن أنفذ أحد خواصّه ومعه جماعة إلى بعض ثغور الشام على أنه راغب فى الإسلام.
فوصل إلى الوليد وأظهر الإسلام، وأخرج كنوزا ودفائن كانت في الشام حملت الوليد على تصديقه فيما يدّعيه. ثم قال له: إن تحت المنارة أموالا ودفائن وأسلحة، دفنها الإسكندر. فصدّقه وجهّزه مع جماعة من ثقاته إلى الإسكندرية، فهدم ثلث(1/396)
المنارة وأزال المرآة، ثم فطن الناس أنها مكيدة، فاستشعر ذلك فهرب فى مركب كانت معدّة له. ثم بنى ما هدم بالجص والآجرّ.
ثم قال المسعودىّ: وطول المنارة فى هذا الوقت (يعنى الوقت الذى وضع فيه كتابه، وهو سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة مائتان وثلاثون ذراعا. وكان طولها قديما نحوا من أربعمائة ذراع.
وهى فى عصرنا هذا ثلاثة أشكال: فمنها تقدير الثلث مربع مبنىّ بالحجارة، ثم بعد ذلك بناء مثمّن الشكل بالآجرّ والجص نحو ستين ذراعا، وأعلاها مدوّر الشكل.
ويقال إن أحمد بن طولون بنى فى أعلاها قبة من الخشب فهدمتها الرياح. فبنى فى مكانها مسجدا فى الدولة الظاهرية الركنية بيبرس صاحب مصر رحمه الله تعالى.
ثم هدم فى ذى الحجة سنة اثنتين وسبعمائة بسبب الزّلزلة الحادثة. ثم بنى فى شهور سنة ثلاث وسبعمائة فى دولة السلطان الملك الناصر ولد السلطان الملك المنصور، ثبت الله دولته، وكان المندوب لذلك الأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المنصورىّ، نائب السلطنة الشريفة فى الغيبة.
وقد وصف الشعراء منارة الإسكندرية.
فمن ذلك ما قاله الوجيه الدروىّ:
وسامية الأرجاء تهدى أخا السّرى ... ضياء، إذا ما حندس الليل أظلما.
لبست لها بردا من الأنس ضافيا ... فكان بتذكار الأحبّة معلما.
وقد ظلّلتنى من ذراها بقبّة ... ألاحظ فيها من صحابى أنجما.
فخيّلت أنّ البحر تحتى غمامة ... وأنّى قد خيّمت فى كبد السّما!(1/397)
وقال أبو الفتح الأغر بن قلاقس:
ومنزل جاوز الجوزاء مرتقيا ... كأنّما فيه النّسرين أوكار.
راسى القرارة سامى الفرع فى يده ... للنّور والنّون أخبار وأخيار [1] .
أطلقت فيه عنان القول فاطّردت ... خيل لها فى بديع الشّعر مضمار.
وأما رواق الإسكندرانيين
فهو ملعب كان بالإسكندرية.
كانوا حكماء يجتمعون فيه فلا يرى أحد منهم شيئا دون الآخر، ووجه كل واحد منهم- وإن اختلفت جهاتهم- تلقاء وجه الآخر. وإن عمل أحد منهم شيئا أو تكلم، سمعه الآخر. ونظر القريب والبعيد فيه سواء.
وقد بقيت منه بقايا عمد تكسرت، غير عمود منها يسمّى عمود السّوارى فى غاية الطول والغلظ من الحجر الصوّان الأحمر.
ذكر شىء من عجائب المبانى
قال صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» :
ذكر بعض المصنفين لكتب العجائب، أن الفرس تزعم أن أوشهنج بنى بأرض بابل سبع مدائن، جعل فى كل مدينة منها أعجوبة ليست فى الأخرى.
__________
[1] هكذا فى الأصل. وفى بدائع البدائه «أخبار وآثار» وفى مسالك الأبصار «إخيار وأخيار» وهذا الوجه الأخير أولى ويكون المعنى أن هذه المنارة تخير عن المراكب المضيئة القادمة الى الإسكندرية وأن فيها أخبارا عن السمك السايح فى البحر حولها.(1/398)
فكان فى الأولى- التى يكون فيها الملك- مثال أنهار الدنيا كلّها. فإذا التوى عليه أحد من أهل مملكته بخراجهم، خرّج نهرا من تلك الأنهار الشبيهة بنهر تلك الناحية فغرقوا. فإذا أدّوا الخراج، سدّ عليهم من عنده فانسدّ عنهم.
وفى الثانية حوض. فإذا أراد الملك أن يجمع الناس لشراب، أتى من أحبّ منهم بشراب له خاص فيصبه فى الحوض. يفعل ذلك كل إنسان منهم، فيختلط الجميع. ثم تقوم السّقاة فتأخذ الأوانى ويسقى كلّ واحد من شرابه الذى جاء به.
وفى الثالثة طبل. فإذا غاب من البلد أحد وأراد أهله أن يعلموا خبره، أحىّ هو أو ميت، ضربوا الطبل: فإن كان حيا صوّت، وإن كان ميتا لم يصوّت.
وفى الرابعة المرآة. فإذا غاب الرجل عن أهله وأرادوا أن يعلموا حاله، نظروا فى المرآة فرأوه فى الحالة التى هو عليها.
وفى الخامسة إوزّة نحاس. فإذا دخل المدينة غريب، صفّرت. فيعلمون أن غريبا دخلها.
وفى السادسة قاضيان جالسان على الماء. فيجىء المحقّ والمبطل ليجلسا معهما.
فيجلس المحق، ويرسب المبطل.
وفى السابعة شجرة. لا تظل إلا ساقها. فإذا جلس تحتها واحد أظلته إلى ألف.
فإن زاد على الألف واحد، قعدوا كلهم فى الشمس.
وكنت قد أنكرت هذه الحكاية وقصدت حذفها وإلغاءها والإضراب عنها.
فرأيت ابن الجوزىّ وضعها فى كتابه الذى سماه «سلوة الأحزان» فأوردتها.(1/399)
وحكى أنه كان بمدينة قيساريّة- لما كانت فى أيدى الروم- كنيسة بها مرآة.
إذا اتهم الرجل امرأته بزنا، نظر فى تلك المرآة، فيرى وجه المتّهم فيها. وأن بعض الناس اتّهم فرأوه فيها فقتله الملك، فجاء أهله إلى المرآة حميّة فكسروها.
وحكى الواقدىّ فى فتوح السند: أن عبد الله العبدىّ عامل معاوية على السند غزا بلد القيقان، فأصاب منهم غنائم كثيرة، وأن ملك القيقان بعث إليه يطلب منه الفداء وحمل إليه هدايا كان فيها قطعة من مرآة، يذكر أهل العلم أن الله تعالى أنزلها على آدم عليه السلام، لما كثر ولده وانتشروا فى الأرض، فكان ينظر فيها فيرى من بعد منهم على الحالة التى هو عليها من خير أو شر، فحملها عبد الله إلى معاوية، فبقيت فى ذخائر بنى أمية إلى أن انتقل الملك عنهم إلى بنى العباس، فضاعت فيما فقد من الذخائر [1] .
وقيل: إن بنهاوند حجرا يسمّى الكيلان، بالقرب منه صخرة، من أراد أن يتعرّف حال غائب أو آبق أو سارق، أتى إلى تلك الصخرة فنام تحتها، فيرى فى النوم حال ما تعرف به على ما هو عليه. وعجائب المبانى كثيرة، سنذكر إن شاء الله تعالى منها جملة فى أخبار ملوك مصر الذين كانوا قبل الطوفان وبعده، فتأمّله هناك تجده.
__________
[1] بهامش الأصل ما نصه: «قد ذكر أبو جعفر الطبرى فى تاريخه أن هذه المرآة كانت عند أبى جعفر المنصور فالله أعلم أين صارت بعده» .(1/400)
الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الأوّل (فيما وصفت به المعاقل والحصون)
وهذا الباب قد ترجمت عليه فى الفن الثانى الذى يلى هذا الفن فيما يحتاج إليه الملك. وإنما ضممته إلى هذا الفن لمناسبته له وشبهه به، واستثنيته من الفن الثانى واقتصرت فيه على مجرّد الترجمة. وبالله التوفيق.
وقد أوسع الفضلاء والأدباء والكتاب والبلغاء القول فى هذا المعنى وتواردوا فيه، فاقتصرنا على ما نورده من ذلك، وهو قليل من كثير.
فمن ذلك ما قاله بعض الأندلسيين يصف قلعة فتحت من غير حصار:
« ... وهذه القلعة التى انتهينا إلى قرارها، واستولينا على أقطارها؛ أرحب المدن أمدا للعيون، وأخصبها بلدا إذا أمحلت السّنون؛ فروعها فوق الثّريّا شامخه، وعروقها تحت الثّرى راسخه؛ تباهى بأزهارها نجوم السماء، وتناجى بأسرارها أذن الجوزاء؛ وكانت فى الزمن الغابر، عتت على عظيم القياصر؛ فنازلها بأكثر من النجوم عددا، وطاولها بأوفى من البحر مددا؛ فأبت على طاعته كلّ الإباء، واستعصت على مقارعته أشدّ استعصاء، ومردت مرود مارد على الزّباء؛ فأمكننا الله من ذروتها، وأنزل ركّابها لنا عن صهوتها» .
وقال القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى رحمه الله، يصف آمد من رسالة جاء منها:
« ... وآمد ذكرها بين العالم متعالم، وطالما صادم جانبها من تقادم، فرجع عنها مقدوعا أنفه وإن كان فحلا، وفرّ عنها فريدا بهمّه وإن استصحب خيلا ورجلا؛(1/401)
ورأى حجرها فقدّر أنه لا يفكّ له حجر، وسوادها فظنّ أنه لا ينسخه فجر، وحميّة أنف أنفتها فاعتقد أنه لا يستجيب لزجر؛ من ملوك كلهم قد طوى صدره على الغليل إلى موردها، ووقف وقفة المحب السائل فلم يفز بما أمّل من سؤال معهدها» .
وقال من أخرى يصفها:
« ... وهى العقيلة التى صدر الصّدور الأول محلّا عن وردها، والطريدة التى حصل منها على راحة يأسه وتعب طردها؛ والمحجّبة التى كشفت ستورها، ودار لعصمتها كسوار معصمها سورها، وغلت على أنها السوداء على خطّابها لأن المهج مهورها؛ ولربما نآى بجانبها الإعراض، ونبا جوهرها عن الأعراض، وطاشت دون أوصافها بسهام الأغراض؛ ودرجت الملوك على حسرتها فلم تحسر لها لثاما، وما استطاعت لثغرها ثلما ولا له التثاما» .
وقال من أخرى يصف قلعة نجم، وهى من عيون الرسائل، جاء منها:
« ... هى نجم فى سحاب، وعقاب فى عقاب؛ وهامة لها الغمامة عمامه، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامه؛ عافدة حبوة صالحها الدهر أن لا يحلّها بقرعه، بادية عصمة صافحها الزمن على أن لا يروّعها بخلعه؛ فاكتنفت بها عقارب منجنيقات لم تطبع طبع حمص فى العقارب، وضربتها بحجارة أظهرت فيها العداوة المعلومة فى الأقارب؛ فلم يكن غير ثلاثة إلا وقد أثّرت فيها الحجارة جدريّا بضربها، ولم يصل إلى السابعة إلا والبحر مؤذن بنقبها؛ فاتسع الخرق على الراقع، وسقط سعده عن الطالع، إلى مولد من هو إليها طالع؛ وفتحت الأبراج فكانت أبوابا، وسيّرت الجبال فكانت سرابا» .(1/402)
وقال من أخرى فى فتح بيت المقدس، جاء منها:
« ... زاول المدينة من جانب، فاذا هو أودية عميقة: ولجج وعر غريقة؛ وسور قد انعطف عطف السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقر الدار؛ وقدّم المنجنيقات التى تتولّى عقاب الحصون عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التى تضرب ولا تفارق سهامها ولا سهامها نصالها؛ فصافحت السّور فإذا سهامها فى ثنايا شرفاتها سواك، وقدّم النصر بشرى من المنجنيق تخلد إخلاده إلى الأرض وتعلو علوّه إلى السّماك؛ فشجّ مرابع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها، ورفع مثار عجاجها؛ وأسفر النّقّاب عن الخراب النّقاب، وأعاد الحجر إلى خلقته الأولى من التّراب؛ ومضغ سرد حجارته بأنياب مغوله، وأظهر من صناعته الكثيفة ما يدلّ على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة أنينه إلى أن كادت ترقّ لمقتله» .
وقال أيضا من أخرى:
« ... فنصبنا عليها المنجنيقات تمطر سماؤها نبل الوبال، وتملأ ارضها بالنّكاية والنّكال، وتهدّ بساريات حجارتها راسيات الجبال؛ وتنزل نوازل الأسواء بالأسوار، وتوسع مجال الدّوائر فى الدّيار، وتخطف بخطّافاتها أعمار الأعمار؛ وتطير حمامها بكتب الحمام، وتديم إغراء سهامها فى أهلها بتوفير سهام الإرغام؛ وكشف النقّابون نقاب السّور المحجوج المحجوب، فتهدّم بنيانه، وتداعت أركانه، بتظاهر المنجنيقات عليها والنّقوب» .
ووصف القاضى الفاضل المنجنيق من رسالة فقال:
«فسلّمت كأنّها بنان، ونضنضت كأنها لسان، وأطّت كأنها مرنان، واهتزّت كأنها جانّ، وتقوّمت كأنها سنان، وانعطفت كأنها عنان، وأقدمت كأنها شجاع وأحجمت(1/403)
كأنها جبان. ورمت رءوسهم الموقّرة من أحجارها بأمثال الرءوس المحلّقه، فأعادتهم إلى الخلقة الأولى مخلّقة وغير مخلّقه» .
ووصف النامى المنجنيق فقال:
وحصن زياد غدوة السّبت نافثا ... سماما، أراك ابن الأراقم أرقما.
نصبت له فى الأرض بيت حديقة ... تمدّ لها فى الجوّ كفّا ومعصما.
لها أخوات للمنايا كوامن ... وإن لم يكن ما أضمرته مكنّما.
عذارى، ولكن قد وجدن حواملا ... بعرس تراه للجنادل مأتما.
ترى الصّخر فيه الصّخر وهو نسيبه ... عدوّا بيوم أرضه تمطر السّما.
إذا أقعدت جدرا قياما، رأيتها ... تنبّه قيعانا من التّرب نوّما!
ومما وصفت به المعاقل والحصون نظما.
فمن ذلك قول كعب الأشقرى، يصف قلعة:
محلّقة دون السّماء كأنّها ... غمامة صيف زال عنها سحابها.
ولا يبلغ الأروى شماريخها العلى، ... ولا الطّير إلا نسرها وعقابها.
ولا خوّفت بالذّئب ولدان أهلها، ... ولا نبحت إلا النّجوم كلابها.
وقال أبو تمام، يصف عمّورية:
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدّت صدودا عن أبى كرب.
بكر، فما افترعتها كفّ حادثة ... ولا ترقّت إليها همّة النّوب.
من عهد إسكندر أو قبل ذاك، فقد ... شابت نواصى اللّيالى وهى لم تشب!
وقال الخالديان:
وخلقاء قد تاهت على من يرومها ... بمرقبها العالى وجانبها الصّعب.(1/404)
يزرّ عليها الجوّ جيب غمامه ... ويلبسها عقدا بأنجمه الشّهب.
إذا ما سرى برق، بدت من خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل الحجب.
سموت لها بالرأى: يشرق فى الدّجى ... ويقطع فى الجلّى، ويصدع فى الهضب.
فأبرزتها مهتوكة الجيب بالقنا ... وغادرتها ملصوقة الخدّ بالتّرب!
وقالا أيضا فى قلعة:
وقلعة عانق العيّوق سافلها، ... وجار منطقة الجوزا أعاليها.
لا تعرف القطر، إذ كان الغمام لها ... أرضا توطّأ قطريه مواشيها.
إذا الغمامة لاحت، خاض ساكنها ... حياضها قبل أن تهمى عزاليها.
يعدّ من أنجم الأفلاك مرقبها، ... لو أنّه كان يجرى فى مجاريها.
على ذرى شامخ وعر: قد امتلأت ... كبرا به، وهو مملوء بها تيها.
له عقاب: عقاب الجوّ حائمة ... من دونها، فهى تخفى فى خوافيها.
وقال أبو بكر الخوارزمىّ:
وبكر تحامتها البعول مخافة، ... فقد تركت من كثرة المهر أيّما.
ممنّعة لم يغلط الدّهر باسمها، ... ولم يرها فى النّوم إلا توهّما.
تزلّ عقاب الجوّ عن شرفاتها، ... وتبغى إليها الرّيح مرقى وسلّما!
ويسمع فى الأفلاك صيحة ديكها، ... فتحسب ديك العرش صاح ترنّما.
عجوز، ترى فى صحّة الجسم كاعبا؛ ... ولو أرّخت، كانت من الدّهر أقدما!
توارى أساسا بالتّخوم مؤزّرا، ... وتبرز رأسا بالنّجوم معمّما.
تنازعها الأرض السّماء وتدّعى ... لديها بها حقّا لها متهضّما.
وتحسبها زهر الكواكب كوكبا ... هوى خلف شيطان رجيم، فخيّما!(1/405)
الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الأوّل
(فيما وصفت به القصور والمنازل)
ولنبدأ بذكر ما بناه المتوكل من القصور وما أنفق عليها، ثم نذكر ما قيل فى وصفها، وما وصفت به المنازل الخالية، وما قيل فى حبّ الوطن.
فأما قصور المتوكل، فهى: الكامل، والجعفرىّ، وبركوانا [1] ، والعروس، والبركة، والجوسق، والمختار، والغريب، والبديع، والصّبيح، والمليح، والقصر، والبرج، والمتوكّليّة، والقلّاية.
حكى المؤرّخون أنه أنفق فى بنائها مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار عينا، ومائتا ألف ألف وثمانية وخمسون ألف ألف وخمسمائة ألف درهم.
قالوا: وكان «البرج» من أحسنها. كان فيه صور عظيمة من الذهب والفضة، وبركة عظيمة غشّى ظاهرها وباطنها بصفائح الفضة، وجعل عليها شجرة من الذهب فيها طيور تصوت وتصفّر سماها «طوبى» بلغت النفقة على هذا القصر ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار.
وقد وصفه الشعراء، فمن ذلك قول السرىّ:
مجلس فى فناء دجلة، يرتا ... ح إليه الخليع والمستور.
طائر فى الهواء، فالبرق يسرى ... دون أعلاه والحمام يطير.
فإذا الغيم سار، أسبل منه ... حلل دون جدره وستور.
وإذا غارت الكواكب صبحا، ... فهو الكوكب الذى لا يغور!
__________
[1] كذا بالأصل. وفى معجم ياقوت «يزكوار» .(1/406)
وقال أيضا:
منزل كالرّبيع حلّت عليه ... حاليات السّحاب عقد النّطاق.
يمتع العين في طرائف حسن ... تتحامى بها عن الإطراق.
بين ساج كأنّه ذائب التّب ... ر على مثل ذائب الأوراق.
وقال أيضا:
والقصر يبسم عن وجه الضّحى، فترى ... وجه الضّحى- عند ما أبدى له- شحبا.
يبيت أعلاه بالجوزاء منتطقا، ... ويغتدى برداء الغيم محتجبا!
وقال أبو سعيد الرستمىّ، يصف دارا بناها الصاحب بن عبّاد:
وسامية الأعلام تلحظ دونها ... سنا النّجم في آفاقها متضائلا.
نسخت بها إيوان كسرى بن هرمز، ... فأصبح في أرض المداين عاطلا.
فلو أبصرت ذات العماد عمادها، ... لأمست أعاليها حيا، أسافلا.
ولو لحظت جنّات تدمر حسنها، ... درت كيف تبنى بعدهنّ المجادلا.
متى ترها خلت السماء سرادقا ... عليها وأعلام النجوم تماثلا.
وقال علىّ بن يوسف الإيادىّ، يذكر دارا بناها المعز العبيدىّ بمصر وسماها «العروسين» :
بنى منظرا يسمى «العروسين» رفعة، ... كأنّ الثّريّا عرّست في قبابه.
إذا الليل أخفاه بحلكة لونه، ... بدا ضوءه كالبدر تحت سحابه.
تمكّن من سعد السّعود محلّه، ... فأضحى ومفتاح الغنى فتح بابه.
ولو شاده عزم المعزّ ورأيه ... على قدره في ملكه ونصابه.
لكان حصى الياقوت والتّبر مفرغا ... على المسك من أجّره وترابه.(1/407)
وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلىّ، يصف دارا بناها المعتمد بن عبّاد من أبيات:
ويا حبّذا دار قضى الله أنّها ... يجدّد فيها كلّ عزّ ولا يبلى!
وما هى إلا خطّة الملك الّتى ... يحطّ إليها كلّ ذى أمل رحلا.
إذا فتحت أبوابها، خلت أنّها ... تقول بترحيب لداخلها: أهلا.
وقد نقلت صنّاعها من صفاته ... إليها أفانينا، فأحسنت النّقلا.
فمن صدره رحبا، ومن نوره سنا، ... ومن صيته فرعا، ومن حلمه أصلا!
فأعلت به في رتبة الملك ناديا، ... وقلّ له فوق السّماكين أن يعلى.
نسيت به إيوان كسرى، لأنّنى ... أراه له مولى من الحسن لا مثلا.
ترى الشّمس فيه ليقة تستمدّها ... أكفّ، أقامت من تصاويرها شكلا.
لها حركات أودعت في سكونها، ... فما تبعت من نقلهنّ يد رجلا.
ولما عشينا من توقّد نورها، ... تخذنا سناه في نواظرنا كحلا.
وقال أيضا من قصيدة يصف فيها دارا بناها المنصور ببجاية، جاء منها:
واعمر بقصر الملك ناديك الّذى ... أضحى بمجدك بيته معمورا!
قصر لو انّك قد كحلت بنوره ... أعمى، لعاد على المقام بصيرا.
واشتقّ من معنى الحياة نسيمه، ... فيكاد يحدث للعظام نشورا.
فلو أنّ بالإيوان قوبل حسنه، ... ما كان شيئا عنده مذكورا.
نسى «الصّبيح» مع «المليح» بذكره، ... وسما ففاق «خورنقا» و «سديرا» .
أعيت مطالعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا.
ومضت على القوم الدّهور وما بنوا ... لملوكهم شبها له ونظيرا.
أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفا رفعت بناءها، وقصورا.(1/408)
فلك من الأفلاك، إلّا أنه ... حقر البدور فأطلع «المنصورا» .
أبصرته فرأيت أبدع منظرا ... ثم انثنيت بناظرى محسورا.
وظننت أنّى حالم في جنّة ... لمّا رأيت الملك فيه كبيرا.
وإذا الولائد فتّحت أبوابها، ... جعلت ترحّب بالعفاة صريرا.
عضّت على حلقاتهنّ ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكشيرا.
فكأنّها لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا.
تجرى الخواطر مطلقات أعنّة ... فيه، فتكبو عن مداه قصورا.
بمرخّم الساحات تحسب أنّه ... فرش البها وتوشّح الكافورا.
ومحصّب بالدّرّ تحسب تربه ... مسكا تضوّع نشره وعبيرا.
يستخلف الإصباح منه إذا انقضى ... صبحا على غسق الظّلام منيرا.
ضحكت محاسنه إليك كأنّما ... جعلت له زهر النّجوم ثغورا.
ومصفّح الأبواب تبرا نظّروا ... بالنّقش بين شكوله تنظيرا.
تبدو مسامير النّضار كما علت ... فلك النّهود من الحسان صدورا.
خلعت عليه غلائلا ورسيّة ... شمس تردّ الطّرف عنه حسيرا.
فإذا نظرت إلى غرائب حسنه، ... أبصرت روضا في السّماء نضيرا.
وعجبت من خطّاف عسجده الّتى ... حامت لتبنى في ذراه وكورا.
وضعت به صنّاعه أقلامها، ... فأرتك كلّ طريدة تصويرا.
فكأنّما للشّمس فيه ليقة ... مشقوا بها التّزويق والتّشجيرا.
وكأنّما فرشوا عليه ملاءة ... تركوا مكان وشاحها مقصورا.
يا مالك الملك الذى أضحى له ... ملك السّماء على العداة نصيرا.(1/409)
كم من قصور للملوك تقدّمت ... فاستوجبت بقصورك التأخيرا.
فعمرتها وملكت كلّ رياسة ... منها، ودمّرت العدا تدميرا.
وقال عمارة اليمنىّ، يصف دارا بناها فارس الإسلام من أبيات:
فتملّ دارا شيّدتها همّة، ... يغدو العسير بأمرها متيسّرا.
فاقت على الإطلاق كلّ بنيّة، ... وسمت بسعدك عزّة وتكبّرا.
أنشأت فيها للعيون بدائعا ... دقّت، فأذهل حسنها من أبصرا.
فمن الرّخام: مسيّرا، ومسهّما، ... ومنمنمّا، ومدرهما، ومدنّرا.
وسقيت من ذوب النّضار سقوفها ... حتّى يكاد نضارها أن يقطر.
لم يبق نوع صامت أو ناطق ... إلا غدا فيها الجميع مصوّر.
فيها حدائق لم تجدها ديمة، ... كلّا ولا نبتت على وجه الثّرى.
لم يبد فيها الروض إلا مزهرا، ... والنخل والرّمان إلا مثمرا.
والطّير مذ وقعت على أغصانها ... وثمارها، لم تستطع أن تنفرا.
وبها من الحيوان كلّ مشبّه [1] ... لبس الحرير العبقرىّ مصوّرا.
لا تعدم الأبصار بين مروجها ... ليثا ولا ظبيا بوجرة أعفرا.
أنست نوافر وحشها لسباعها: ... فظباؤها لا تتّقى أسد الشّرى.
وكأنّ صولتك المخيفة أمّنت ... أسرابها أن لا تخاف فتذعرا.
وبها زرافات كأنّ رقابها ... فى الطّول ألوية تؤمّ العسكرا.
نوبيّة المنشا تريك من المها ... روقا، ومن بزل المهارى مشفرا.
جبلت على الإقعاء من أعجازها، ... فتخالها في التّيه تمشى القهقرى!
__________
[1] فى الأصول «مسبهن» . ولعلها تصحيف.(1/410)
وقال أبو الصلت أميّة بن عبد العزيز، يصف قصرا بناه علىّ بن تميم بن المعزّ بمصر:
لله، مجلسك المنيف! فبابه ... بموطّد فوق السّماك مؤسّس.
موف على حبك المجرّة تلتقى ... فيه الجوارى بالجوار الكنّس.
تتقابل الأنوار في جنباته ... فاللّيل فيه كالنّهار المشمس.
عطفت حناياه دوين سمائه ... عطف الأهلّة والحواجب والقسى.
واستشرفت عمد الرّخام وظوهرت ... بأجلّ من زهر الرّبيع وأنفس.
فهواؤه من كلّ قدّ أهيف، ... وقراره من كلّ خدّ أملس.
فلك تحيّر فيه كلّ منجّم، ... وأقرّ بالتقصير كلّ مهندس.
فبدا للحظ العين أحسن منظرا، ... وغدا لطيب العيش خير معرّس.
فاطلع به قمرا، إذا ما أطلعت ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس.
فالناس أجمع دون قدرك رتبة، ... والأرض أجمع دون هذا المجلس!
وقال الوزير أبو سليمان بن أبى أميّة:
يا دار، آمنك الزّما ... ن خطوبة ونوائبه.
وجرت سعودك بالّذى ... يهوى نزيلك دائبه.
فلنعم مأوى الضّيف أن ... ت، إذا تحاموا جانبه.
خطر شأوت به الدّيا ... ر، فأذعنت لك قاطبه.
وقال أبو صخر القرطبىّ:
ديار عليها من بشاشة أهلها ... بقايا، تسرّ النّفس أنسا ومنظرا.
ربوع كساها المزن من خلع الحيا ... برودا، وحلّاها من النّور جوهرا.(1/411)
وقال الشريف الرضىّ:
ما زلت أطّرق المنازل باللّوى ... حتّى نزلت منازل النّعمان.
بالحيرة البيضاء حيث تقابلت ... شمّ العماد، عريضة الأعطان.
شهدت بفضل الرّافعين قبابها. ... ويبين بالبنيان فضل البانى!
ما ينفع الماضين أن بقيت لهم ... خطط معمّرة بعمر فانى!
وأما ما وصفت به المنازل الخالية
فمن ذلك ما قاله البحترىّ يشير إلى «الكرمان» الذى بناه كسرى أنوشروان من أبيات:
فكأنّ الكرمان من عدم الأن ... س وإخلائه بنيّة رمس.
لو تراه، علمت أنّ اللّيالى ... خلعت فيه مأتما بعد عرس.
وهو ينبيك عن عجائب قوم، ... لا يشاب البيان فيها بلبس.
وإذا ما رأيت صورة أنط ... اكية، ارتعت بين روم وفرس.
والمنايا مواثل وأنوشر ... وان يزجى الصّفوف تحت الدّرفس!
وقال أيضا من قصيدة يرثى فيها المتوكل، ويذكر قصره «الجعفرىّ» :
محلّ على القاطول [1] أخلق داره، ... وعادت صروف الدّهر جيشا تعاوره.
كأنّ الصّبا توفى نذورا، إذا انبرت ... تجرّ به أذيالها وتباكره.
وربّ زمان ناعم تمّ عهده، ... ترقّ حواشيه ويونق ناظره.
تغيّر حسن «الجعفرىّ» وأنسه، ... وقوّض بادى «الجعفرىّ» وحاضره.
تحمّل عنه ساكنوه فجاءة، ... فعادت سواء دوره ومقابره.
إذا نحن زرناه، أجدّ لنا الأسى؛ ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره.
__________
[1] نهر مشهور معروف.(1/412)
ولم أنس وحش القصر إذريع سربه، ... وإذ ذعرت أطلاؤه وجاذره.
وإذ صيح فيه بالرّحيل فهتّكت ... على عجل أستاره وسرائره.
وأوحشه حتّى كأن لم يكن به ... أنيس، ولم تحسن لعين مناظره.
كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة ... بشاشتها، والملك يشرق زاهره.
ولم تجمع الدّنيا إليه بهاءها ... وبهجتها، والعيش غضّ مكاسره.
فأين الحجاب الصّعب حيث تمنّعت ... بهيبتها أبوابه وستائره؟
وأين عمود الملك في كلّ نوبة ... تنوب، وناهى الدّهر فيه وآمره؟
وقال عمر بن أبى ربيعة:
يا دار، أمسى دارسا رسمها ... وحشا قفارا ما بها آهل.
قد جرّت الرّيح بها ذيلها، ... واستنّ في أطلالها الوابل.
وقال شاعر أندلسىّ:
قلت يوما لدار قوم تفانوا: ... أين سكّانك الكرام لدينا؟
فأجابت: هنا أقاموا قليلا ... ثم ساروا، ولست أعلم أينا!
وقال عبد الله بن الخياط الأندلسىّ:
يا دار علوة، قد هيّجت لى شجنا ... وزدتنى حزنا! حيّيت من دار!
كم بتّ فيك على اللّذّات معتكفا، ... والليل مدّرع ثوبا من القار!
كانّه راهب في المسح ملتحف، ... شدّ المجرّ له وسطا بزنّار!
وقال أبو حامد أحمد الأنطاكىّ:
إنّ ربعا عرفته مألوفا ... كان للبيض مربعا ومصيفا.
غيّرت آية صروف اللّيالى، ... وغدا عنه حسنه مصروفا.(1/413)
ما مررنا عليه، إلّا وقفنا ... وأطلنا شوقا إليه الوقوفا.
آلفا للبكاء فيه، كأنّى ... لم أكن فيه للغوانى أليفا.
حاسدا للجفون لمّا أذالت ... فى مغانيه دمعها المذروفا!
وقال الشريف الرضىّ من أبيات:
ولقد رأيت بدير هند منزلا ... ألما من الضّرّاء والحدثان!
بالى المعالم، أطرقت شرفاته ... إطراق منجذب القرينة عانى.
أمقاصر الغزلان، غيّرك البلى ... حتّى غدوت مراتع الغزلان!
وملاعب الأنس الجميع طوى الرّدى ... منهم، فصرت ملاعب الجنّان!
وقال أبو الحسن علىّ القابوسىّ نثرا:
«قد كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف؛ ومنتجع الرّكب، ومقصد الوفد؛ فاستبدل بالأنس وحشه، وبالنّضارة غبره، وبالضّياء ظلمه؛ واعتاض من تزاحم المواكب، بالأدم النّوادب؛ ومن ضجيج النّداء والصّهيل، عجيج البكاء والعويل» .
ومن رسالة لضياء الدين بن الأثير الجزرىّ، جاء منها:
« ... دار لعبت بها أيدى الزمن، وفرّقت بين الساكن والسّكن. كانت مقاصير جنّة، فأضحت وهى ملاعب جنّه. ولقد عميت أخبار قطّانها، وعفّت آثارها آثار وطّانها، حتى شابهت إحداهما في الجفا، الأخرى في العفا. وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام، ولا يرفع عنها جلباب ظلام؛ غير أن السحاب بكاهم وأجرى بها سوافح دموعه، والليل شقّ عليهم جيوبه فظهر الصّباح من خلال صدوعه» .(1/414)
ومما قيل في حب الأوطان
قال ابن الرومىّ (وهو أوّل من بيّن السبب في حب الوطن) :
ولى منزل، آليت أن لا أبيعه ... وأن لا أرى غيرى له الدّهر مالكا!
عهدت به شرخ الشّباب ونعمة ... كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا.
فقد ألفته النفس حتّى كأنّه ... لها جسد، إن غاب غودرت هالكا.
وحبّب أوطان الرّجال إليهم ... مآرب قضّاها الشّباب هنالكا.
إذا ذكروا أوطانهم، ذكّرتهم ... عهود الصّبا فيها فحنّوا لذلكا!
ذكر شىء مما قيل في الحمّام
قال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ:
أهلا ببيت النار من منزل ... شيد لأبرار وفجّار!
يدخله ملتمس لذّة ... فيدخل الجنة في النار!
وقال أبو عامر بن شهيد الأندلسىّ:
نعم، أبا عامر بلذّته ... واعجب لأمرين فيه قد جمعا!
ببرانه من زنادكم قدحت، ... وماؤه من بنانكم نبعا!
وقال علىّ بن عطية البلنسىّ:
ربّ حمّام تلظّى ... كتلظّى كلّ وامق.
ثم أذرت عبرات ... صوبها بالوجد ناطق.
فغدا منّى ومنه ... عاشق في جوف عاشق!
وقال أبو طالب المأمونىّ، شاعر اليتيمة:
وبيت كأحشاء المحبّ دخلته ... ومالى ثياب فيه غير إهابى.(1/415)
أرى محرما فيه وليس بكعبة، ... فما ساغ إلا فيه خلع ثيابى.
بماء كدمع الصّبّ في حرّ قلبه ... إذا آذنت أحشاؤه بذهاب.
توهّمت فيه قطعة من جهنّم ... ولكنّها من غير مسّ عقاب.
يثير ضبابا بالبخار مجدّلا ... بدور زجاج في سماء قباب!
وقال آخر:
إنّ حمّامك هذا ... غير مذموم الجوار.
ما رأينا قبل هذا ... جنّة في وسط نار!
وأنشدنى جمال الدّين محمد بن الحكم لنفسه:
قالوا: نراك دخلت حمّاما، وما ... حلف الهوى يلتذ بالأهواء.
فأجبتهم: لم تكف أدمع مقلتى ... حتّى بكيت بجملة الأعضاء.
تم السفر الأوّل (نسخة ما هو مكتوب في آخر الأصل بخط المؤلف) نجز السّفر الأوّل من «كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب» على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم البكرى التيمى القرشى، عرف بالنويرى عفا الله عنه؛ ووافق الفراغ من كتابته في يوم السبت المبارك لعشر بقين من ذى القعدة عام إحدى وعشرين وسبعمائة أحسن الله تقضيه، وذلك بالقاهرة المعزية عمرها الله تعالى يتلوه إن شاء الله تعالى في أوّل السّفر الثانى «الفنّ الثانى في الإنسان وما يتعلق به» والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه، وآله وصحته وسلم آمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل!(1/416)
فهرس الجزء الأوّل
من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى
.... صحيفة
مقدّمة الكتاب 1
الفن الأوّل فى السماء والآثار العلوية، والأرض، والمعالم السفلية 27
القسم الأوّل فى السماء وما فيها، وفيه خمسة أبواب
الباب الأوّل:
مبدأ خلق السماء 28
ذكر ما قيل في أسماء السماء وخلقها 29
ذكر ما حكى في سبب حدوثها 29
الباب الثانى:
فى هيئة السماء 30
فى الأمثال التى ورد فيها ذكر السماء 32
فى وصف السماء وتشبيهها 33
ما قيل في الفلك 34(1/417)
... صحيفة
الباب الثالث:
فى ذكر الملائكة 36
الباب الرابع:
فى الكواكب السبعة المتحيرة 38
ذكر ما قيل في الشمس 40
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الشمس 42
ذكر ما جاء في وصف الشمس وتشبيهها 44
ذكر شىء مما وصفت به على طريق الذم 46
ذكر ما قيل في الكسوف 48
ذكر أسماء الشمس اللغوية 48
ذكر عبّاد الشمس 49
ذكر ما قيل في القمر 49
ذكر ما قيل في القمر (من استهلاله الى انقضاء الشهر وأسماء لياليه) 50
ذكر أسماء القمر اللغوية 51
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر القمر 52
ذكر ما قيل في وصف القمر وتشبيهه 53
ذكر شىء مما قيل فيه على طريق الذم 56
ذكر عبّاد القمر 57
ذكر ما قيل في الكواكب المتحيرة 58
ذكر عبّاد الروحانيات 58
ذكر بيوت الهياكل وأماكنها ونسبتها الى الكواكب 61(1/418)
... صحيفة
الباب الخامس:
فى الكواكب الثابتة 63
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الكواكب 64
ذكر ما قيل في وصف الكواكب وتشبيهها 65
القسم الثانى فى الآثار العلوية، وفيه أربعة أبواب
الباب الأوّل:
فى السحاب، وسبب حدوثه، وفي الثلج والبرد 71
ذكر ما قيل في ترتيب السحاب، وأسمائه اللغوية وأصنافه 72
ذكر ما قيل فى ترتيب المطر 74
ذكر ما قيل فى فعل السحاب والمطر 74
ذكر أسماء أمطار الأزمنة 75
ذكر أسماء المطر اللغوية 75
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر المطر 77
ذكر شىء مما قيل في وصف السحاب والمطر 78
ذكر ما ورد في وصفها نثرا 82
ذكر شىء مما وصف به الثلج والبرد 86
الباب الثانى:
فى النيازك، والصواعق، والرعد، والبرق، وقوس قزح 87(1/419)
... صحيفة
الباب الثالث:
في أسطقسّ الهواء 95
ذكر ما قيل في حد الهواء 95
ذكر أسماء الرياح اللغوية 98
فصل فيما يذكر منها بلفظ الجمع 99
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الهواء 99
ذكر ما جاء في وصف الهواء وتشبيهه 100
الباب الرابع:
فى أسطقسّ النار، وأسمائها، وعبّادها، وبيوت النيران 103
ذكر أسماء النار 104
ذكر عبّاد النار 105
بيوت النيران ومن رسمها من ملوك الفرس 107
ذكر نيران العرب 109
ذكر النيران المجازية 114
ذكر النيران التى يضرب بها المثل 115
ذكر ما جاء منها على لفظ أفعل 116
ذكر ما قيل في وصف النار وتشبيهها 117
ذكر شىء مما قيل في الشمعة والشمعدان، والسراج، والقنديل 120
ما ورد في وصفها نثرا 123
ما قيل في السراج 124
رسالة القنديل والشمعدان 124(1/420)
... صحيفة
القسم الثالث من الفن الأوّل فى الليالى والأيام، والشهور والأعوام، والفصول والمواسم والأعياد، وفيه أربعة أبواب
الباب الأوّل:
فى الليالى والأيام 130
ذكر ما قيل في الليل وأقسامه 131
فصل وقد عبر بالليالى عن الأيام 132
ذكر الليالى المشهورة 132
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الليل 133
ذكر ما قيل في وصف الليل وتشبيهه 134
ذكر ما وصف به الليل من الطول 135
ذكر ما وصف به الليل من القصر 140
ذكر ما وصف به الليل من الإشراق 142
ذكر ما وصف به الليل من الظلمة 142
ذكر شىء مما قيل في تباشير الصباح 143
ذكر ما قيل في النهار 147
ذكر الايام التى خصت بالذكر 148
ذكر أيام أصحاب الملل الثلاث 150
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر النهار 150
ذكر شىء مما قيل في وصف النهار وتشبيهه 151
ذكر شىء مما وصفت به الآلات الموضوعة لمعرفة الأوقات 153(1/421)
... صحيفة
الباب الثانى:
فى الشهور والأعوام 156
ذكر الشهور وما قيل فيها 156
ذكر الأشهر العربية وما يختص بها من القول 157
شهور اليهود 159
الشهور العجمية 159
ذكر ما يختص بالسنة من القول 164
ذكر النسىء ومذهب العرب فيه 165
ذكر السنين التى يضرب بها المثل 167
الباب الثالث:
فى الفصول وأزمنّها 169
ذكر ما قيل في وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا 171
الباب الرابع:
فى ذكر مواسم الأمم وأعيادها، وأسباب اتخاذهم لها، وما قيل في ذلك 184
ذكر الأعياد الإسلامية 184
ذكر أعياد الفرس 185
ذكر أعياد النصارى القبط 191
ذكر أعياد اليهود 195(1/422)
... صحيفة
القسم الرابع من الفن الأوّل فى الأرض، والجبال، والبحار، والجزائر، والأنهار، والعيون، والغدران، وفيه سبعة أبواب
الباب الأوّل:
فى مبدأ خلق الأرض 198
الباب الثانى:
فى تفصيل أسماء الأرضين وصفاتها، فى الاتساع، والاستواء، والبعد، والغلظ، والصلابة، والسهولة، والحزونة، والارتفاع، والانخفاض، وغير ذلك 199
ذكر تفصيل أسماء التراب وصفاته 202
ذكر تفصيل أسماء الغبار وأوصافه 203
ذكر تفصيل أسماء الطين وأوصافه 203
ذكر تفصيل أسماء الرّمال 204
ذكر ترتيب كمية الرمل 205
ذكر تفصيل أسماء الطرق وأوصافها 206
الباب الثالث:
فى طول الأرض ومسافتها 207
الباب الرابع:
فى الأقاليم السبعة 209
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الأرض 213
شىء مما قيل في وصف الأرض وتشبيهها 214(1/423)
... صحيفة
الباب الخامس:
فى الجبال 218
ذكر أسماء ما ارتفع من الأرض الى أن يبلغ الجبيل 220
ذكر ترتيب أبعاض الجبل 221
ذكر ترتيب مقادير الحجارة 223
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الجبال والحجارة 226
ذكر شىء مما قيل في وصف الجبال وتشبيهها 227
الباب السادس:
فى ذكر البحار والجزائر 228
ذكر بحار المعمور من الأرض 229
ذكر ما يتفرع من البحر المحيط 231
ذكر الخلجان التى تخرج من البحر الرومى 235
بحر الهند وجزائره 237
ذكر خلجان البحر الهندى 243
بحر ما نيطش 246
بحر الخزر وجزائره 247
ذكر ما في المعمور من المبحيرات المالحة المشهورة وما بها من العجائب 250
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر البحر 254
ذكر شىء مما قيل في وصف البحر وتشبيهه 255
ذكر ىء مما وصف به البحر والسفن 256
ذكر ما وصفت به البحار والسفن نثرا 258(1/424)
... صحيفة
الباب السابع:
فى العيون والأنهار والغدران وما وصفت به البرك، والدواليب، والنواعير، والجداول 261
نهر النيل 262
نهر الفرات 266
نهر دجلة 268
نهر سجستان 269
نهر مهران 270
نهر جيحون 270
نهر سيحون 271
نهر الكنك 272
نهر الكر 273
نهر إتل 273
ذكر ما في المعمور من الأنهار والعيون التى يتعجب منها 274
ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الماء 277
ذكر شىء مما قيل في وصف الماء وتشبيهه 281
ذكر شىء مما وصفت به الأنهار 282
ذكر شىء مما وصفت به البرك 285
ذكر شىء مما وصفت به الدواليب والنواعير 288
ذكر شىء مما وصفت به الدواليب والنواعير نثرا 289(1/425)
... صحيفة
ذكر شىء مما وصفت به الجداول 290
ذكر عبّاد الماء 291
القسم الخامس من الفن الأوّل
فى طبائع البلاد، وأخلاق سكانها، وخصائصها، والمبانى القديمة، والمعاقل، وما وصفت به القصور والمنازل، وفيه خمسة أبواب
الباب الأوّل:
فى طبائع البلاد، وأخلاق سكانها 292
الباب الثانى:
فى خصائص البلاد 297
مكة المشرفة 297
ذكر ما كانت الكعبة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض 298
ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم عليه السلام ومبدأ الطواف 299
ذكر زيارة الملائكة البيت الحرام 300
ذكر هبوط آدم عليه السلام الى الأرض، وبنيانه الكعبة المشرفة وحجه وطوافه بالبيت 301
ذكر فضل البيت الحرام، والحرم 304
ذكر ما جاء في طواف سفينة نوح عليه السلام بالبيت 307
ذكر ما جاء من تخير إبراهيم عليه السلام موضع البيت 307
ذكر حج إبراهيم عليه السلام وإذنه بالحج وحج الأنبياء بعده وطوافهم 308
ذكر ما جاء من مسألة إبراهيم عليه السلام الأمن والرزق لأهل مكة والكتب التى وجد فيها تعظيم الحرم 311(1/426)
... صحيفة
ذكر أسماء الكعبة ومكة 313
ذكر ما جاء في فضل الركن الأسود 314
ذكر ما جاء في فضل استلام الركن الأسود، واليمانى 316
ذكر ما جاء في فضل الطواف بالكعبة 317
ذكر ما جاء في فضل زمزم 317
ذكر ما جاء من اتساع منّى أيام الحج، ولم سميت منّى 319
ذكر ما جاء فى فضائل مقبرة مكة 319
ذكر شىء من خصائص مكة 319
المدينة المشرّفة (على ساكنها أفضل الصلاة والسلام) 320
ذكر شىء من خصائص المدينة المشرفة وأسمائها 323
البيت المقدّس، والمسجد الأقصى 325
البدء بذكر الأرض المقدسة 325
فضل بيت المقدس 328
فضل زيارة بيت المقدس، وفضل الصلاة فيه 330
ما ورد في بيت المقدس من مضاعفة الحسنات والسيئات فيه 332
فضل السكنى فيه والإقامة والوفاة به 332
ما ببيت المقدس من قبور الأنبياء، ومحراب داود وعين سلوان 333
ما ورد في أن الحشر من بيت المقدس 334
ما ورد فى فضل الصخرة والصلاة الى جانبها 335
ما ورد فى أن الله عز وجل عرج من بيت المقدس الى السماء 336(1/427)
... صحيفة
ثواب الإهلال من بيت المقدس 339
ما ورد من أن الكعبة تزور الصخرة يوم القيامة 339
اليمن وما يختص به 340
الشام وما يختص به 340
مسجد دمشق وما قيل فيه 340
مصر وما يختص بها من الفضائل 344
ذكر من ولد بمصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن كان بها منهم 349
ذكر من كان بها من الصدّيقين والصدّيقات، رضى الله عنهم 349
ذكر من صاهر أهل مصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 350
ذكر من أظهرته مصر من الحكماء 350
ومن فضائل مصر 354
ما وصفت به مصر 357
جزيرة الأندلس 358
البصرة وما اختصت به 359
بغداد وما اختصت به 360
الأهواز وما اختصت به 361
فارس وما اختصت به 361
أصفهان وما اختصت به 362
جرجان وما اختصت به 362
نيسابور وما اختصت به 363(1/428)
... صحيفة
طوس وما اختصت به 364
بلخ وما اختصت به 364
بست وما اختصت به 365
غزنة وما اختصت به 365
سجستان وما اختصت به 366
الهند وما اختصت به 366
الصين وما اختصت به 366
سمرقند وما اختصت به 367
بلاد الترك وما اختصت به 367
خوارزم وما اختصت به 368
ذكر الخصائص التى تجرى مجرى الطّلّسمات 368
ذكر خصائص البلاد في أشياء مختلفة (وهى العلم، والعمل، والجواهر، والملابس، والأوبار، والفرش، والمراكب، والحيوانات ذوات السموم، والحلوى، والثمار، والرياحين، والخلق، والأخلاق، والأمراض والآثار العلوية) 369
الباب الثالث:
فى المبانى القديمة 372
ذكر أوّل بناء وضع على وجه الأرض 372
ذكر خبر إرم ذات العماد 373
ذكر خبر سدّ يأجوج ومأجوج 374(1/429)
... صحيفة
ذكر مبانى الفرس المشهورة 379
من مبانى الفرس إيوان كسرى 380
من المبانى القديمة الحضر 381
من المبانى القديمة القليس 382
من المبانى المشهورة قنطرة صنجة 383
من المبانى القديمة ملعبا بعلبك 383
ذكر مبانى العرب المشهورة 384
غمدان 384
حصن تيماء 385
الخورنق والسدير 385
الغريان 387
ذكر الأبنية القديمة التى بالديار المصرية 387
الأهرام 388
حائط العجوز 392
ملعب أنصنا 393
مدينة عين شمس 393
البرابى 394
حنية اللازورد 395
منارة الاسكندرية 395(1/430)
... صحيفة
رواق الإسكندرانيين 398
ذكر شىء من عجائب المبانى 398
الباب الرابع:
فيما وصفت به المعاقل والحصون 401
الباب الخامس:
فيما وصفت به القصور والمنازل 406
ما وصفت به المنازل الخالية 412
ذكر شىء مما قيل في حب الأوطان 415
ذكر شىء مما قيل فى الحمّام 415
نسخة ما هو مكتوب في آخر الأصل بخط المؤلف 416
تمّ فهرس السفر الأوّل من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى(1/431)
فهرس الجزء الثانى
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ
الفن الثانى
.... صحيفة
فى الإنسان وما يتعلق به 1
القسم الأوّل فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، ووصفه، وتشبيهه، والغزل، والنسيب، والهوى، والمحبة، والعشق، والأسباب؛
وفيه أربعة أبواب
الباب الأوّل:
فى اشتقاقه وتسميته وتنقلاته وطبائعه، وما يتصل بذلك 5
فصل قال أحمد بن محمد بن عبد ربه 7
فصل وأما ترتيب أحواله 10
فصل فى ظهور الشيب وعمومه 12
النفس الغضبية 13
النفس البهيمية 13(مقدمةج 2/1)
... صحيفة
الباب الثانى:
فى وصف أعضاء الإنسان وتشبيهها 16
الشعر وما قيل فيه 16
فصل فى تفصيل أوصافه 17
ومما وصف به الشعر 18
ومما وصفت به شعور النساء 19
ذكر ما قيل فى الشيب والخضاب من المدح والذمّ 21
فأما مدح الشيب 21
وأما ما ورد فى ذم الشيب 24
ومما قيل فى الخضاب من المدح 29
ومما قيل فى ذم الخضاب 30
وأما ما وصف به الوجه 31
ومن ذلك ما قيل فى المؤنث 34
ومما وصف به صفاء الوجه ورقة البشرة 35
ومن ذلك ما قيل فى المؤنث 36
ومما قيل فى صفرة الوجه 37
ومن ذلك ما قيل فى المؤنث 37
ومما قيل فى السمرة 38
ومما قيل فى السواد 38
ومما وصف به أثر الجدرىّ فى الوجه 40(مقدمةج 2/2)
... صحيفة
ومما قيل فى الحواجب 41
ومما وصفت به الحواجب 41
ومما قيل فى العيون ووصفها 42
فصل فى عوارض العين 44
فصل فى كيفية النظر وهيئته 44
ومما وصفت به العيون على لفظ التأنيث 50
ومما قيل فى أدواء العين 52
ومما قيل فى أرمد 53
ومما قيل فى أرمد غطى عينيه بشعريّة 55
فصل فى ترتيب البكاء 56
فصل فيما قيل فى الأنف 57
ومما قيل فى الشفاه والفم 57
فصل فى تقسيم ماء الفم 58
فصل فى ترتيب الضحك 58
ومما قيل فى طيب الريق والنكهة على لفظ التذكير 59
ومما وصف به على لفظ التأنيث 61
ومما قيل فى طيب عرف النساء 62
ومما قيل فى الأسنان 64
فصل فى مقابحها 65
فصل فى ترتيب الأسنان 66
ومما قيل فى السواك 67(مقدمةج 2/3)
... صحيفة
ومما قيل فى اللسان 68
فصل فى عيوبه 68
فصل فى ترتيب العىّ 69
ومما وصف به حسن الحديث والنغمة 70
ومما قيل فى الأذن 72
فصل فى ترتيب الصمم 72
ومما وصف به الصدغ 73
ومما وصفت به الخدود والوجنات 74
ومما وصفت به على لفظ التأنيث 77
ومما وصفت به الخيلان 78
ومما وصفت به على لفظ التأنيث 81
ومما قيل فى العذار 81
ومما وصف به العذار على طريق الذم 87
ومما قيل فى العنق 92
ومما قيل فى اليد إذا باشرت ما يعلق بها 93
ومما مدحت به اليد 94
ومما قيل فى النهود 95
ومما قيل فى البطن 97
ومما قيل فى الأرداف والخصور 97
ومما وصفت به على لفظ التأنيث 99
ومما قيل فى السّوق 100(مقدمةج 2/4)
... صحيفة
ومما وصفت به القدود 101
ومما قيل فى العناق 103
ومما ورد على لفظ التأنيث 105
ومما قيل فى وصف مشى النساء 106
ما جاء من الأمثال فى الإنسان 108
ومما يتمثل به فى ذكر النفس 109
ومما يتمثل به من أعضاء الإنسان الظاهرة والباطنة 110
ما قيل فى الرأس والشعر 110
ما يتمثل به من ذكر الوجه 110
ما يتمثل به من ذكر العين 111
ما يتمثل به من ذكر الأنف 112
ما يتمثل به من ذكر الفم واللسان والأسنان 112
ما يتمثل به من ذكر الأذن 113
ما يتمثل به من ذكر العنق 113
ما يتمثل به من ذكر اليد 113
ما يتمثل به من ذكر الصدر والقلب 115
ما يتمثل به من ذكر الظهر والبطن والجنب 116
ما يتمثل به من ذكر الكبد والدم والعروق 116
ما يتمثل به من ذكر الساق والقدم 117
من ضرب به المثل من الرجال على لفظ أفعل للتفضيل 117
وأما من ضرب بها المثل من النساء 123(مقدمةج 2/5)
... صحيفة
الباب الثالث:
فى الغزل والنسيب والهوى والمحبة والعشق 125
ذكر شىء مما قيل فى الهوى والمحبة والعشق 125
فأما كلام الحكماء والفلاسفة 126
وأما كلام الإسلاميّين وما قالوه فيه 126
ذكر مراتب العشق وضروبه 128
ذكر ما قيل فى الفرق بين المحبة والعشق 130
وأما سبب العشق وما قيل فيه 131
فصل ومن أسباب العشق 135
فصل وذكر بعض الحكماء 135
فصل ويتأكد العشق بإدمان النظر 137
وأما ما قيل فى مدحه وذمه والممدوح منه والمذموم 138
فأما الممدوح منه 138
وأما القسم المذموم منه 145
ذكر شىء من الشعر المقول فى ذم العشق والحب 150
وأما من خاطر بنفسه وألقاها إلى الهلاك لأجل محبوبه 160
وممن خاطر بنفسه فى هواه وعرّضها للتلف فنجا ونال خيرا 165
وأما من كفر بسبب العشق 173
وأما من قتل بسبب العشق 175
وأما من قتل بسبب العشق 176
وأما من قتله العشق 184(مقدمةج 2/6)
... صحيفة
وأما من قتل نفسه بسبب العشق 195
ذكر شىء مما ورد فى التحذير من فتنة النساء وذمّ الزنا والنظر الى المردان والتحذير من اللواط وعقوبة اللائط 198
أما ما ورد من التحذير من فتنة النساء 198
وأما ما جاء فى ذمّ الزنا 201
وأما ما جاء في النهى عن النظر الى المردان ومجالستهم 202
وأما ما جاء في التحذير من اللواط وما ورد في سحاق النساء 204
وأما ما ورد في عقوبة اللائط والملوط به في الدنيا والآخرة 205
أما عقوبة الدنيا 205
وأما عقوبته في الآخرة 208
ذكر نبذة مما قيل في الغزل والنسيب 210
فمما قيل في المذكر 213
ومما قيل في المؤنث 226
ومما قيل في المطلق والمشترك 231
ومما قيل في طيف الخيال 237
ومما قيل في الرد على العذول 241
ومما قيل في رجوع العذول 242
ومما قيل في الوصال 242
ومما قيل في الفراق والبين 243
ومما قيل في مفارقة الأصحاب 246(مقدمةج 2/7)
... صحيفة
ومما قيل في التوديع 246
ومما قيل في الصدّ والهجران 250
ومما قيل في الزيارة 251
ومما قيل في تخفيف الزيارة وموانعها 253
ومنها التأخر عن عيادة المرضى 254
ومما قيل في المدامع 255
ومما قيل في الرضا من المحبوب باليسير 258
ومما قيل في النحول 259
ومما قيل في المحبوب اذا اعتلّ 261
ومما يناسب هذا الفصل ما قيل في شرب الدواء 262
ومما قيل على لسان الورقاء 263
ومما قيل في المراجعات 265
ومما قيل في المردوف 267
ومما قيل في الجناس 268
ومما قيل في الموشّحات 272
الباب الرابع:
فى الأنساب 276
الطبقة الاولى الجذم 277
وأما عزوة العرب الى يمن 283
والطبقة الثانية الجماهير 284(مقدمةج 2/8)
... صحيفة
والطبقة الثالثة الشعوب 284
والطبقة الرابعة القبيلة 284
والطبقة الخامسة العمائر 284
والطبقة السادسة البطون 284
والطبقة السابعة الأفخاذ 285
والطبقة الثامنة العشائر 285
والطبقة التاسعة الفصائل 285
والطبقة العاشرة الرهط 285
أصل النسب أبو البشر آدم عليه السلام 286
إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام 322
ذكر نسب قيس وبطونها 334
الياس بن مضر بن نزار 343
مدركة بن الياس بن مضر 348
مالك بن النضر 352
فهر بن مالك 352
كعب بن لؤى بن غالب 355
مرة بن كعب 356
كلاب بن مرة بن كعب 357
عبد مناف بن قصىّ 359
عبد المطّلب بن هاشم 360(مقدمةج 2/9)
الجزء الثاني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الفن الثانى فى الإنسان وما يتعلق به
وهذا الفن قد اشتمل على معان مؤنسة للسامع، مشنّفة للمسامع؛ مرصّعة لصدور الطروس والدفاتر، جاذبة لنوافر القلوب والخواطر؛ واضحة البيان، معربة عن وصف الإنسان.
فمن تشبيهات فائقه، وغزليّات رائقه؛ وأنساب طاهره، ووقائع ظاهره؛ وأمثال امتدّت أطنابها، وتبينت أسبابها؛ وأوابد جعلتها العرب لها عادة ودليلا، واتخذتها ضلالة وتبديلا؛ ونصبتها أحكاما ونسكا، وصيرتها عبادة ومداواة فتبوّأت بها من النار دركا؛ وشى من أخبار الكهّان، وزجر عبدة الأوثان؛ وكنايات نقلت الألفاظ إلى معان أبهى من معانيها، وبلغت النفوس بعذوبتها غاية أمانيها؛ وألغاز غوّرت بالمعانى وأنجدت، وأشارت إليها بالتأويل حتّى إذا قرّبتها من الأفهام أبعدت؛ ومدائح رفعت للممدوح من الفضل منارا، وأهاجى صيّرت المهجوّ من القوم يتوارى؛ ومجون ترتاح إليها عند خلوتها النفوس، ويبتسم عند سماعها ذو الوجه العبوس؛ وشىء مما قيل في الخمر والمعاقره، وأرباب الطّرب وذوى المسامره؛ وتهان نشرت من البشائر ملاء، ورفعت من المخامد لواء؛ وتعاز حسرت نقاب الحسرات، وأبرزت مصون العبرات.(2/1)
وأوردت فيه نبذة من الزهد والإنابه، وجملة من الدعوات المستجابه.
وطرّزته بذكر ملك، مدّ رواق العدل، ونشر لواء الفضل؛ وقام بفروض الجهاد وسننه، وأراع العدوّ في حالتى يقظته ووسنه؛ وعمّ الأولياء بمواصلة برّه وموالاة نواله، وقهر الأعداء بمراسلة سهامه ومناضلة نصاله؛ وشمل رعاياه بعدله وجوده، واردف سراياه بجيوشه وجنوده، فهو الملك الذى جمع بين شدّة البأس، ولين النّدى، وأزال مرارة الإياس، بحلاوة العطا.
وما يحتاج إليه لإقامة المملكة: من نائب ناهيك به من نائب!، يكفّ بعزمه كفّ الحوادث ويفلّ بحزمه ناب النوائب؛ وينصف الضعيف من القوىّ، ويفرّق ببديهته بين المريب والبرىّ؛ ويتفقد أحوال الجيوش ويصرف همته إليهم، ويجعل اهتمامه بهم وفكرته فيهم وتعويله عليهم؛ إلى غير ذلك من استكمال عددها، والمطالبة بعرض خيولها وإصلاح عددها؛ وسدّ ثغور الممالك، وضبط الطرق وتسهيل المسالك؛ وقمع المفسدين، وإرغام الملحدين؛ وبث السّرايا، وتيسير الأرزاق والعطايا.
ووزير يشيّد قواعد ملكه بحسن تدبيره وجميل سداده، ويعمل فكره فيما يستقرّ بسببه نظام الملك على مهاده؛ ويأمر بتحصيل الأموال من جهات حلّها، ويقرّ مناصب الدّولة الشريفة في الكفاة من أهلها؛ ويتصفّح الأقاليم والمعاملات والأعمال، ويستكفى لمباشرتها أمناء النظّار ومحقّقى المستوفين وكفاة العمال.
وقائد جيوش إن انتدبه للقاء عدوّ بدر الكتائب، وأنهل من دمائهم السّمر العوالى وعلا هامهم بالبيض القواضب؛ تتبعه عساكر تنفر قلوبهم عن الفرار، ويحلّوا من قاتلهم من أعداء الله دار البوار؛ يدّرعون السابريّة [1] الذوائل، ويعتقلون السّمهرية الذّوابل؛
__________
[1] هى دروع دقيقة النسج في إحكام، والذوائل جمع ذائلة وهى الطويلة «قاموس» .(2/2)
ويتقلدون المشرفية البواتر؛ ويتنكّبون القسىّ النواتر [1] ، ويمتطون من كل جواد صفا منه أديمه وعيناه وحوافره، واتسع منه جوفه وجبهته ومناخره؛ وطال منه أنفه وعنقه وذراعه، وقصر منه ظهره وساقه وعسيبه وامتدّ عند الحضر باعه: فهو من أكرم الأصائل، والمعنىّ بقول القائل:
وقد أغتدى قبل ضوء الصّباح ... وورد القطا في الغطاط الحثاث.
بصافى الثّلاث عريض الثلاث ... قصير الثلاث طويل الثّلاث.
وذكرت ما ورد في فضل الرباط والجهاد، وما أعدّ الله تعالى من الثواب لمن أنفق فيه الطّوارف والتّلاد؛ وبذل الكريمين: (النفس والمال) لحسن المآل؛ وهجر الحبيبين: (الوطن والعيال) لبلوغ الآمال.
ومن قاض يحكم بين الناس بالعدل، ويقدّم ذوى النباهة والفضل.
ومتولّى مظالم يردّها على أهلها بقهره وسلطانه، وسطوته وأعوانه.
وناظر حسبة يجرى الأمور على قواعدها الشرعية، وأوضاعها العرفية وقوانيها المرضية.
إلى غير ذلك:
من كاتب، ذى رأى صائب، وفهم ثاقب؛ انقادت له المعانى بأسهل زمام، وأغنت صحائفه عن صفحات الحسام:
لولا حظت عين ابن أوس كتبه ... ما قال: «إن السيف منها أصدق» .
__________
[1] فى القاموس «قوس ناترة تقطع وترها لصلابتها» .(2/3)
وكاتب خراج ضبط بقلمه الأموال، وحرّر بنباهته الغلال؛ وبسط الموازين، ووضع القوانين؛ وفصل بين الخراجىّ والهلالى، وميز ما بين الأعمال والتوالى.
وما لا بدّ للملك منه من خواصّ جبلت على محبته قلوبهم، وتجافت عن المضاجع فى خدمته جنوبهم.
ومن معقل شمخ على الجوزاء بأنفه، واتخذ الثريّا وشاحا لعطفه؛ توارى في قرار التخوم أساسه، ولاح للسارى ككوكب الظلماء مقياسه. فالأرض تدّعيه:
لأنه ثبت على مناكبها، والسماء تنازعها فيه: لأنه تمنطق بكواكبها؛ والجبال تقول منى اتّخذت أحجاره، والمياه تقول علىّ استقرّ قراره؛ وجفن السحاب يهمع لانحطاطه عن هذه الرتبة، والطير تقول إن لم أبلغه فقد اتّحد به من بينى وبينه نسبه.
وضمّنت هذا الفن من المنقول ما يسهل تعاطيه على الأفهام، ووضعته على خمسة أقسام.(2/4)
القسم الأوّل فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، ووصفه، وتشبيهه.
والغزل، والنّسيب، والهوى، والمحبة، والعشق، والأسباب وفيه أربعة أبواب
الباب الأوّل من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، وما يتصل بذلك)
فأما اشتقاقه وتسميته، فقد اختلف الناس في ذلك: هل هو من الأنس الذى هو نقيض الوحشة، أو النّوس الذى هو نقيض السكون، أو الإيناس الذى هو بمعنى الإبصار، أو النّسيان الذى هو نقيض الذّكر.
قال الشريف السيد ضياء الدّين أبو السعادات هبة الله المعروف بابن الشجرى فى «أماليه» (فى المجلس التاسع عشر وهو يوم السبت سابع عشر رجب سنة أربع وعشرين وخمسمائةفى شرح قول أعشى تغلب:
وكانوا أناسا ينفحون فأصبحوا، ... وأكثر ما يعطونك النظر الشّزر.
قوله: «وكانوا أناسا ينفحون» وزن أناس فعال، وناس منقوص منه عند أكثر النحويين: فوزنه عال. والنقص والإتمام فيه متساويان في كثرة الاستعمال ما دام منكورا. فإذا دخلت عليه الألف واللام، التزموا فيه الحذف، فقالوا «الناس» ولا يكادون يقولون «الأناس» إلا في الشعر. كقوله:
إنّ المنايا يطّلع ... ن على الأناس الآمنينا.(2/5)
وحجة هذا المذهب وقوع الأنس على الناس. فاشتقاقه من الأنس نقيض الوحشة: لأن بعضهم يأنس إلى بعض. وبه [1] أخذ بعض الشعراء في قوله:
وما سمّى الإنسان إلا لأنسه ... ولا القلب إلا أنه يتقلّب.
قال: وذهب الكسائىّ إلى أن «الناس» لغة مفردة، وهو اسم تامّ وألفه منقلبة عن واو، واستدلّ بقول العرب فى تحقيره نويس.
قال: ولو كان منقوصا من أناس لردّه التحقير إلى أصله، فقيل «أنيس» .
وقال بعض من وافق الكسائىّ في هذا القول: إنه مأخوذ من النّوس، مصدر ناس ينوس إذا تحرّك. ومنه قيل لملك من ملوك حمير ذو نواس: لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه.
قال الفرّاء: والمذهب الأوّل أشبه، وهو مذهب المشيخة.
وقال أبو علىّ الفارسىّ: أصل الناس الأناس. فحذفت الهمزة التى هى فاء ويدلك على ذلك الإنس والأناسىّ. فأما قولهم في تحقيره نويس فإن الألف لما صارت ثانية وهى زائدة أشبهت ألف فاعل. يعنى أنها أشبهت بكونها ثانية وهى زائدة ألف «ضارب» فقيل نويس، كما قيل ضويرب.
وقال سلمة بن عاصم، وكان من أصحاب الفراء: الأشبه في القياس أن يكون كلّ واحد منهما أصلا بنفسه فأناس من الأنس، وناس من النوس لقولهم في تحقيره نويس كبويب في تحقير باب.
هذا ما قاله ابن الشجرىّ في أماليه.
__________
[1] لم نجد هذه الزيادة في أمالى ابن الشجرى الموجود منها نسخة مخطوطة «بدار الكتب المصرية» .(2/6)
وذهب أبو عمرو الشّيبانىّ: أنه مشتق من الإيناس، الذى هو بمعنى الإبصار؛ وحجته قوله تعالى: «إنّى آنست نارا» أى أبصرت نارا.
وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من النّسيان، وحجتهم أن أصله إنسيان. فحذفت الياء تخفيفا وفتحت السين لأن الألف تطلب فتح ما قبلها. ولأن العرب حين صغرته قالت فيه أنيسيان، فزادت الياء. والتصغير يردّ الأشياء إلى أصولها، ولو لم تكن فى المكبر لما ردّت في المصغّر. وبه أخذ أبو تمام في قوله:
لا تنسين تلك العهود فإنما ... سمّيت إنسانا لأنك ناسى.
وأنكر البصريون ذلك، وقالوا: لا حجة فيه، لأن العرب قد صغرت أشياء على غير قياس كما قالوا في تصغير رجل بمعنى راجل رويجل، وفي تصغير ليلة لييلة، وفي تصغير عشيّة عشيشة.
وقال ابن عباس: إنما سمى الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسى.
وهذا هو الأرجح والله تعالى أعلم.
فصل
قال أحمد بن محمد بن عبد ربه صاحب العقد في كتابه يرفعه إلى وهب بن منبّه إنه قال: قرأت في «التوراة» أن الله عز وجل حين خلق آدم ركّب جسده من أربعة أشياء؛ ثم جعلها وراثة في ولده، تنمى في أجسادهم وينمون عليها إلى يوم القيامة.
رطب، ويابس، وسخن، وبارد. قال: وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلقه من تراب وماء، وجعل فيه يبسا ورطوبة، فيبوسة كل جسد من قبل التراب، ورطوبته(2/7)
من قبل الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح. ثم خلق للجسد بعد هذا الخلق الأوّل أربعة أنواع أخر وهى ملاك الجسد وقوامه، لا يقوم الجسد إلا بهنّ، ولا تقوم واحدة منهنّ إلا بالأخرى: المرّة السوداء، والمرّة الصفراء، والدم الرطب الحارّ، والبلغم البارد. ثم أسكن بعض هذا الخلق في بعض، فجعل مسكن اليبوسة في المرّة السوداء، ومسكن الرطوبة في الدّم، ومسكن البرودة في البلغم، ومسكن الحرارة في المرّة الصفراء. فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع وكانت كلّ واحدة فيه وفقا لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته واعتدل بناؤه. فإن زادت واحدة منهنّ عليهنّ وقهرتهنّ ومالت بهنّ، دخل على أخواتها السّقم من ناحيتها بقدر ما زادت؛ وإن كانت ناقصة عنهنّ، ملن بها وعلونها وأدخلن عليها السّقم من نواحيهنّ، لغلبتهنّ عليها حتّى تضعف عن طاقتهنّ وتعجز عن مقاومتهنّ.
قال وهب: وجعل عقله في دماغه، وشرهه في كليتيه، وغضبه في كبده، وصرامته فى قلبه، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وحزنه وفرحه في وجهه. وجعل فيه ثلاثمائة وستين مفصلا.
ويقال: إنما لقّب الإنسان بالعالم الصغير، لأنهم مثّلوا رأسه بالفلك، ووجهه بالشمس إذ لا قوام للعالم إلا بها كما لا قوام للجسد إلا بالرّوح، وعقله بالقمر لأنه يزيد وينقص ويذهب ويعود؛ ومثلوا حواسّه الخمس ببقية الكواكب السيّارة، وآراءه بالنجوم الثابتة، ودمعه بالمطر، وصوته بالرعد، وضحكه بالبرق، وظهره بالبرّ، وبطنه بالبحر، ولحمه بالأرض، وعظامه بالجبال، وشعره بالنبات، وأعضاءه بالأقاليم، وعروقه بالأنهار، ومغار عروقه بالعيون.(2/8)
ومنها: أن فيه ما يشاكل الجمعة، والشهر، والأيام، والسنة.
أما أيام الجمعة، فإن بدنه سبعة أجزاء، وهى اللحم، والعظام، والعروق، والأعصاب، والدّم، والجلد، والشعر.
وأما الشهور، فإن لبدنه اثنى عشر جزءا مدبرة: ستة منها باطنة؛ وهى الدماغ، والقلب، والكبد، والطّحال، والمعدة، والكليتان؛ وستة ظاهرة، وهى العقل، والحواسّ الخمس؛ فهذه الاثنا عشر مقابلة لشهور السنة.
وأما الأيام، فإن فيه ثلاثمائة وستين عظما؛ منها ما هو لبنية الجسد مائتان وثمانية وأربعون عظما. والإنسان ينقسم إلى أربعة أنواع: الرأس، واليدان، والبدن، والرجلان؛ ففى الرأس اثنان وأربعون عظما؛ وفي اليدين اثنان وثمانون عظما؛ وفى البدن أربعون عظما؛ وفي الرجلين أربعة وثمانون عظما؛ والباقى سمسمانية لسدّ الفروج التى تكون بين العظام. وفيه ثلاثمائة وستون عرقا.
وأما فصول السنة: فإن فيه أربعة أخلاط طبعها طبع الفصول الأربعة، فالدّم كالربيع في حرارته ورطوبته، والمرّة الصفراء كالصيف في حرّه ويبسه، والمرّة السوداء كالخريف في برده ويبنسه، والبلغم كالشتاء في برده ورطوبته. وهذه الأخلاط من أوّل مزاج الأركان التى هى العناصر الأربعة، وهى: النار، والهواء، والماء، والأرض.(2/9)
فصل وأما ترتيب أحواله وتنقل السنّ به إلى أن يتناهى:
[قال [1] الله تبارك وتعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) .
وقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) .
وقال عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما، ثمّ يكون علقة مثل ذلك، ثمّ يكون مضغة مثل ذلك، ثمّ يبعث الله تعالى ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقىّ أو سعيد»
، الحديث.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وكّل الله بالرحم ملكا: فيقول أى رب نطفة! أى ربّ علقة! أى ربّ مضغة! فإذا أراد الله أن يقضى خلقها قال: أى ربّ ذكر
__________
[1]- هذه الزيادة المحصورة بين قوسين مربعين منقولة كما هى عن إحدى النسخ.(2/10)
أم أنثى؟ أشقىّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمّه» .
خرّج ذلك البخارىّ في «صحيحه» فى باب القدر.
وقال الثعلبىّ في تفسير قوله تعالى (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ)
:
«قالت الحكماء: يشتمل الإنسان من كونه نطفة إلى أن يهرم ويموت على سبعة وثلاثين [1] حالا، وسبعة وثلاثين اسما [2] : نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم خلقا آخر، ثم جنينا، ثم وليدا، ثم رضيعا، ثم فطيما، ثم يافعا، ثم ناشئا، ثم مترعرعا، ثم حزوّرا، ثم مراهقا، ثم محتلما، ثم بالغا، ثم أمرد، ثم طارّا، ثم باقلا، ثم مسيطرا، ثم مصرخا، ثم مختطّا، ثم صملّا، ثم ملحيا، ثم مستريما، ثم مصعدا، ثم مجتمعا.
وقال غيره:
ما دام الولد في الرّحم، فهو جنين؛ فإذا ولد، فهو وليد، وما دام لم يستتمّ سبعة أيام، فهو صديغ: لأنه لم يشتدّ صدغه إلى تمام السبعة؛ ثم مادام يرضع، فهو رضيع؛ فإذا قطع عنه اللبن، فهو فطيم، ثم إذا غلظ وذهبت عنه ترارة الرّضاعة، فهو جحوش.
قال الهذلىّ:
قتلنا مخلدا وابنى خراق ... وآخر جحوشا فوق الفطيم.
ثم إذا دبّ ونما، فهو دارج.
فإذا بلغ طوله خمسة أشبار، فهو خماسىّ.
فإذا سقطت رواضعه، فهو مثغور.
فإذا نبتت أسنانه بعد السّقوط، فهو مثّغر ومتّغر معا.
__________
[1] البيانات التالية بعده سبعة وعشرون فلعلها محرفة عنها.
[2] البيانات التالية بعده سبعة وعشرون فلعلها محرفة عنها.(2/11)
فإذا تجاوز [1] عشر سنين أو جاوزها، فهو مترعرع وناشئ.
فإذا كاد أن يبلغ الحلم أو بلغه، فهو يافع ومراهق.
فإذا احتلم واجتمعت قوّته، فهو حزوّر؛ واسمه في جميع هذه الأحوال التى تقدّم ذكرها غلام.
فإذا احضرّ شاربه وأخذ عذاره يسيل، قيل فيه قد بقل وجهه.
فإذا صار ذا فتاء؛ فهو فتى وشارخ.
فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه، فهو مجتمع.
ثم مادام بين الثلاثين والأربعين، فهو شابّ، ثم هو كهل إلى أن يستوفى الستين.
فصل فى ظهور الشيب وعمومه
يقال للرجل أوّل ما يظهر به الشيب، قد وخطه الشيب.
فإذا زاد، قيل خصّفه وخوّصه.
فإذا ابيضّ بعض رأسه، قيل قد أخلس رأسه، فهو مخلس.
فإذا غلب بياضه سواده، فهو أغثم.
فإذا شمطت مواضع من لحيته، قيل وخزه القتير ولهزه.
فإذا كثر فيه الشيب وانتشر، قيل فيه قد تقشّع [2] فيه الشيب.
__________
[1] وردت هذه الجملة هكذا بالأصل. وفي فقه الثعالبى (فاذا كاد يجاوز العشر السنين، أو جاوزها فهو مترعرع وناشئ) وهو الصواب.
[2] كذا بالأصل وفقه اللغة وهو محرف عن «تفشّغ» قال في القاموس (وتفشّغ فيه الشيب أو الدم:
انتشر وكثر) .(2/12)
ويقال أيضا: شاب الرجل، ثم شمط، ثم شاخ، ثم كبر، ثم توجّه، ثم دلف، ثم دبّ، ثم مجّ، ثم هدج، ثم ثلّب، ثم الموت.
وقيل: ما السرور؟ قال: إدراك الحقيقه، واستنباط الدّقيقه.
وأما النفس الغضبية، فهمّ صاحبها منافسة الأكفاء ومغالبة الأقران ومكاثرة العشيرة.
ومن ذلك ما أجاب به حصين بن المنذر، وقد قيل له: ما السّرور؟ قال: لواء منشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير.
وقيل للحسن بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيع جائز، وأمر نافذ.
وقيل لعبد الله بن الأقسم: ما السرو؟ قال: رفع الأولياء، ووضع الأعداء، وطول البقاء، مع الصحّة والنماء.
وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال عمره، ورأى فى عدوّه ما يسرّه.
وقيل لأبى مسلم، صاحب الدعوة: ما السّرور؟ قال: ركوب الهمالجة، وقتل الجبابرة. وقيل له: ما اللذة؟ قال: إقبال الزمان، وعزّ السلطان.
وأما النفس البهيمية، فهمّ صاحبها طلب الراحة. وانهماك النفس على الشهوة من الطعام والشراب والنكاح.
وعلى هذه الطبيعة البهيمية قسمت الفرس دهرها كلّه، فقالوا:(2/13)
يوم المطر للشرب؛ ويوم الريح للنوم؛ ويوم الدّجن للصيد؛ ويوم الصّحو للجلوس.
قيل: ولما بلغ ابن خالويه ما قسمته الفرس من أيامها قال: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم! (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) .
ولكنّ نبينا صلى الله عليه وسلم جزّأ نهاره ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه؛ ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامة، ويقول: «أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغى. فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع، آمنه الله يوم الفزع الأكبر» .
قالوا: والطبيعة البهيمية هى أغلب الطبائع على الإنسان: لأخذها بمجامع هواه، وإيثار الراحة وقلة العمل.
ومن ذلك قولهم: الرأى نائم، والهوى يقظان؛ وقولهم: الهوى إله معبود.
ومن ذلك ما أجاب به امرؤ القيس، وقد قيل له: ما السرور؟ فقال: بيضاء رعبوبه، بالطيب مشبوبه، باللحم مكروبه. «وكان مفتونا بالنساء» .
وقيل لأعشى بكر: ما السرور؟ قال: صهباء صافيه، تمزجها ساقيه، من صوب غاديه. «وكان مغرما بالشراب» .
وقيل لطرفة بن العبد: ما السرور؟ قال مطعم هنىّ، ومشرب روىّ، وملبس دفىّ، ومركب وطىّ. «وكان يؤثر الخفض والدّعة» . وهو القائل:
فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى، ... وعيشك! لم أحفل متى قام عوّدى.
فمنهنّ سبقى العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد.(2/14)
وكرّى إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا نبّهته المتورّد.
وتقصير يوم الدّجن، والدّجن معجب، ... ببهكنة تحت الخباء المعمّد.
وسمع هذه الأبيات عمر بن عبد العزيز فقال: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عوّدى: لولا أن أعدل في الرعيه، وأقسم بالسويّه، وأنفر في السّريّه.
وقال عبد الله بن نهيك، عفا الله تعالى عنه:
فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى، ... وعيشك، لم أحفل متى قام رامس.
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كأنّ أخاها مطلع الشمس ناعس.
ومنهنّ تجريد الكواعب كالدّمى ... إذا ابتزّ عن أكفالهنّ الملابس.
ومنهن تقريط الجواد عنانه ... إذا ابتدر الشخص الخفىّ الفوارس.
وقيل ليزيد بن مزيد: ما السرور؟ فقال: قبلة على غفلة:
وقيل لحرقة بنت النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ قالت: شرب الجريال، ومحادثة الرجال.
وقيل للحسن بن هانئ: ما السرور؟ فقال: مجالسة الفتيان، فى بيوت القيان، ومنادمة الإخوان، على قضب الرّيحان؛ ثم أنشد:
قلت بالقفص لموسى، ... ونداماى نيام:
يا رضيعى ثدى أمّ ... ليس لى عنه فطام!
إنما العيش سماع ... ومدام وندام.
فإذا فاتك هذا، ... فعلى الدّنيا السلام!(2/15)
الباب الثانى من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى وصف أعضاء الإنسان وتشبيهها)
وما وصف به طيب الريق والنّكهة، وحسن الحديث، والنّغمة، واعتدال القدود، ووصف مشى النساء. وهو مرتب على ترتيب بنية الإنسان في المذكر والمؤنث.
فأما الشّعر وما قيل فيه، قال الثعالبىّ عن أئمة اللغة:
العقيقة، الشعر الذى يولد به الإنسان.
الفروة، شعر معظم الرأس.
الناصية، شعر مقدّم الرأس.
الذّؤابة، شعر مؤخّر الرأس.
الفرع، شعر رأس المرأة.
الغديرة، شعر ذؤابتها.
الغفر، شعر ساقها.
الدّبب، شعر وجهها.
الوفرة، ما بلغ شحمة الأذن من الشعر.
الّلمّة، ما ألمّ بالمنكب منه.
الطّرّة، ما غشّى الجبهة منه.
الجمّة والغفرة، ما غطّى الرأس منه.(2/16)
الهدب، شعر أشفار العين.
الشارب، شعر الشّفة العليا.
العنفقة، شعر الشفة السّفلى.
المسربة، شعر الصدر. وفي الحديث أنه كان عليه الصلاة والسلام دقيق المسربة.
الشّعرة، العانة.
الإسب، شعر الأست.
الزّبب، شعر بدن الرجل. ويقال بل هو كثرة الشعر في الاذنين.
فصل فى تفصيل أوصافه
يقال: شعر جفال، إذا كان كثيرا.
ووحف، إذا كان متصلا.
وكثّ، إذا كان كثيرا كثيفا مجتمعا.
ومعلنكس، ومعلنكك، إذا زادت كثافته.
ومنسدر، إذا كان منبسطا.
وسبط، إذا كان مسترسلا.
ورجل، إذا كان غير جعد ولا سبط.
وقطط، إذا كان شديد الجعودة.
ومقلعطّ، إذا زاد على القطط.
ومفلفل، إذا كان نهاية في الجعودة كشعر الزّنج.(2/17)
وسخام، إذا كان حسنا ليّنا.
ومغدودن، إذا كان طويلا ناعما.
وقال الأصمعىّ: من لم يخفّ شعره قبل الثلاثين لم يصلع أبدا؛ ومن لم يحمل اللحم قبل الثلاثين لم يحمله أبدا.
ومما وصف به الشعر، قال نصر بن أحمد، عفا الله تعالى عنه:
سلسل الشّعر فوق وجه، فحاكى ... ظلمة الليل فوق ضوء الصّباح.
وقال ابن الرومىّ:
وفاحم وارد يقبّل مم ... شاه إذا اختال مرسلا غدره.
قبل كاللّيل من مفارقه ... منحدرا لا يذمّ منحدره.
حتّى تناهى إلى مواطنه ... يلثم من كلّ موطئ عفره.
كأنّه عاشق دنا شغفا ... حتّى قضى من حبيبه وطره.
وقال فتح الدّين بن عبد الظاهر:
حلّ ثلاثا يوم حمّامه ... ذوائبا يعبق منها الغوال.
فقلت، والقصد ذؤاباته: ... يا سهرى في ذى اللّيال الطّوال!
وقال آخر:
قد علّق القلب بدبّوقة ... وجنّ منها فهو مفتون؟
واعجيا للعشق في حكمه ... بشعره قبّد مجنون.(2/18)
وقال آخر:
رأيت على قدّ الحبيب ذؤابة ... فعينى على تلك الذّؤابة تهمع.
يقول لى الواشون: مالك باكيا؟ ... فقلت: بعينى شعرة فهى تدمع.
وقال آخر:
وشعرة عاينها ناظرى ... على قوام مائس الخطره.
فسال دمعا وهمى جفنه، ... والدّمع لا شكّ من الشّعره.
وقال آخر:
ولربّ ممشوق القوام تضمّه ... ممشوقة، فتعانقا غصنين.
أرخت ذوائبها وأسبل شعره، ... فتقابلا قمرين في ليلين!
ومما وصفت به شعور النساء؛ قال بكر بن النطّاح:
بيضاء تسحب من قيام فرغها ... وتغيب فيه فهو جثل أسحم.
فكأنّها فيه نهار ساطع، ... وكأنّه ليل عليها مظلم.
وقال آخر:
نشرت علىّ ذوائبا من شعرها، ... حذر الكواشح والعدوّ المحنق.
فكأنّنى وكأنها وكأنّه ... صبحان باتا تحت ليل مطبق.
وقال عمر بن أبى ربيعة:
سبته بوحف في العقاص كأنّه ... عناقيد، دلّاها من الكرم قاطف.
أسيلات أبدان، دقّاق حضورها، ... وثيرات ما التفّت عليه الملاحف.(2/19)
وقال المتنبى:
ومن كلّما جرّدتها من ثيابها، ... كساها ثيابا غيرها الشّعر الوحف.
وقال أيضا:
دعت خلاخيلها ذوائبها، ... فجئن من فرقها إلى القدم.
وقال في أخرى:
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها ... فى ليلة، فأرت ليالى أربعا.
واستقبلت قمر السماء بوجهها، ... فأرتنى القمرين في وقت معا.
وقد ألمّ في ذلك بقول ابن المعتزّ:
سقتنى في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خدّيها بغير رقيب.
فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى، ... وشمسين من خمر وخدّ حبيب.
وقال ابن المعتزّ:
فلمّا أن قضت وطرا وهمّت ... على عجل بأخذ للرّداء،
رأت شخص الرّقيب على تدان ... فأسبلت الظّلام على الضّياء.
وغاب الصبح منها تحت ليل، ... وظلّ الماء يقطر فوق ماء.
وقال ابن لنكك:
هل طالب ثأر من قد أهدرت دمه ... بيض، عليهنّ نذر قتل من عشقا؟
من العقائل ما يخطرن عن عرض ... إلّا أرينك في قدّ قنا ونقا.
رواعف بخدود زانها سبج ... قد زرفن [1] الحسن في أصداغها حلقا.
__________
[1] زرفن صدغيه جعلهما كالزّرفين وهو حلقة الباب.(2/20)
نواشر في الضّحى من فرعها غسقا، ... وفي ظلام الدّجى من وجهها فلقا.
أعرن غيد ظباء روّعت غيدا، ... والورد توريد خدّ، والمها حدقا.
وقال ابن دريد الأزدىّ:
غرّاء لو جلت الخدود شعاعها ... للشّمس عند طلوعها، لم تشرق.
غصن على دعص تألّق فوقه ... قمر تألّق تحت ليل مطبق.
لو قيل للحسن: احتكم لم يعدها. ... أو قيل: خاطب غيرها! لم ينطق.
فكأنّنا من فرعها في مغرب، ... وكأنّنا من وجهها في مشرق.
وقال آخر:
جعودة شعرها تحكى غديرا ... يصفّقه الجنوب مع الشّمال.
ذكر ما قيل في الشيب والخضاب من المدح والذم
فأما مدح الشيب، فقد
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» .
وقال ابن أبى شيبة: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نتف الشيب وقال: هو نور المؤمن» .
وفي الحديث عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ان أوّل من رأى الشيب إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا ربّ ما هذا؟ فقال له: الوقار، فقال: رب زدنى وقارا» .(2/21)
وتأمل حكيم شيبه فقال: مرحبا بزهرة الحنكة ويمن الهدى ومقدّمة العفّة ولباس التقوى.
وقيل: دخل أبو دلف على المأمون وعنده جارية له، وكان أبو دلف قد ترك الخضاب، فأشار المأمون إلى الجارية فقالت له: شبت يا أبا دلف، إنا لله وإنا اليه راجعون. فسكت عنها أبو دلف، فقال له المأمون: أجبها، فقال:
تهزّأت إذ رأت شيبى فقلت لها: ... لا تهزئى من يطل عمر به يشب!
شيب الرجال لهم زين ومكرمة، ... وشيبكن لكنّ الويل فاكتئبى!
فينا لكنّ- وإن شيب بدا- أرب، ... وليس فيكنّ بعد الشّيب من أرب!
وقال آخر:
أهلا وسهلا بالمشيب ومرحبا، ... أهلا به من وافد ونزيل!
أهدى الوقار وذاد كلّ جهالة ... كانت، وساق إلى كلّ جميل.
فصحبت في أهل التقى أهل النهى ... ولقيت بالتعظيم والتبجيل.
ورأى لى الشّبّان فضل جلالة ... لما اكتهلت، وكنت غير جليل.
فإذا رأونى مقبلا، نهضوا معا: ... فعل المقرّ لهيبة التفضيل.
إن قلت، كنت مصدّقا في منطقى، ... ماضى المقالة حاضر التعديل.
وقال مسلم بن الوليد:
الشّيب كره، وكره أن يفارقنى ... اعجب لشىء على البغضاء مودود.
وقال علىّ بن محمد الكوفىّ:
بكى للشّيب، ثم بكى عليه ... وكان أعزّ من فقد الشّباب.
فقل للشّيب: لا تبرح حميدا ... إذا نادى شبابك بالذّهاب.(2/22)
وقال العسكرىّ:
يودّ أنّ شيبه ... إذ جاء لا ينصرف.
يخلف ريعان الصّبا ... والموت منه خلف.
وقال ابن المعتزّ:
قد يشيب الفتى، وليس عجيبا ... أن يرى النّور في القضيب الرّطيب.
وقال أبو تمام:
ولا يؤرّقك إيماض القتير به ... فإنّ ذاك ابتسام الرأى والأدب.
وقال أبو الفتح البستى:
يا شيبتى دومى ولا تترحّلى ... وتيقّنى أنّى بوصلك مولع!
قد كنت أجزع من حلولك مرة، ... فالآن من خوف ارتحالك أجزع!
وقال آخر:
فأمّا المشيب فصبح بدا ... وأما الشّباب فليل أفل.
سقى الله هذا وهذا معا ... فنعم المولّى ونعم البدل!.
وقال أبو الفتح كشاجم:
تفكّرت في شيب الفتى وشبابه ... فأيقنت أن الحقّ للشّيب واجب.
يصاحبنى شرخ الشباب فينقضى، ... وشيبى لى حتّى الممات مصاحب.
وقال أبو العلاء السروىّ، شاعر اليتيمة:
حىّ شيبا أتى لغير رحيل، ... وشبابا مضى لغير إياب!
أىّ شىء يكون أحسن من عا ... ج مشيب في آبنوس شباب؟(2/23)
وقال أبو عوانة الكاتب:
هزئت إذرأت مشيبى، وهل غي ... ر المصابيح زينة للسماء؟
وتولّت فقلت قولا بإفصا ... ح لها، لا بالرّمز والإيماء:
إنما الشيب في المفارق كالنّو ... ر بدا والسّواد كالظلماء.
لا محيص عن المشيب أو المو ... ت، فكن للحوباء أو للنّماء!
إن عمرا عوّضت فيه عن المو ... ت بشيب من أعظم النّعماء!
وقال ابن عبد ربه:
كأنّ سواد لمته ظلام ... يطلّ من المشيب عليه نور.
وقال أبو عبد الله الاسباطى:
لا يرعك المشيب، يا ابنة عبد ال ... لّه، فالشيب زينة ووقار!
إنما تحسن الرّياض إذا ما ... ضحكت في ظلالها الأنوار.
وأما ما ورد في ذم الشيب، قال قيس بن عاصم رحمة الله عليه: الشيب خطام المنيّة.
وقال غيره: الشيب نذير الموت.
وقد ورد في بعض التفاسير في قوله تبارك وتعالى (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ)
. قيل: هو الشيب.
وقال أعرابىّ: كنت أنكر البيضاء، فصرت أنكر السوداء؛ فيا خير مبدول ويا شرّ بدل.(2/24)
وقيل للنبىّ صلى الله عليه وسلم: عجّل عليك الشيب يا رسول الله، قال: «شيّبتني هود وأخواتها»
. قيل: هى عبس، والمرسلات، والنازعات.
وقيل لعبد الملك بن مروان: عجّل عليك الشيب يا أمير المؤمنين، قال: شيبنى ارتقاء المنابر وتوقّع اللحن.
وقال بعضهم: خرجت إلى ناحية الطّفاوة، فإذا أنا بامرأة لم أر أجمل منها، فقلت:
أيتها المرأة، إن كان لك زوج فبارك الله له فيك، وإلا فأعلمينى. قال فقالت:
وما تصنع بى؟ وفيّ شىء لا أراك ترتضيه. قلت: وما هو؟ قالت: شيب في رأسى.
قال: فثنيت عنان دابتى راجعا، فصاحت بى: على رسلك، أخبرك بشىء، فوقفت وقلت: وما هو، يرحمك الله؟ قالت: والله ما بلغت العشرين بعد، وهذا رأسى فكشفت عن عناقيد كالحمم، وقالت: والله ما رأيت برأسى بياضا قطّ، ولكن أحببت أن تعلم أنّا نكره منك ما تكره منا، وأنشدت:
أرى شيب الرّجال من الغوانى ... بموضع شيبهنّ من الرجال!
قال: فرجعت خجلا، كاسف البال.
قال أبو تمام:
غدا الشيب مختطا بفودىّ خطّة ... سبيل الرّدى منها إلى النفس مهيع.
هو الزّور يجفى، والمعاشر يجتوى، ... وذو الإلف يقلى، والجديد يرقّع.
له منظر في العين أبيض ناصع، ... ولكنه في القلب أسود أسفع.
وقال آخر:
تقول لمّا رأت مشيبى ... بدا، وعندى له انقباض:
لا ترج عطفا عليك منّى، ... سوّد ما بيننا البياض!(2/25)
وقال آخر:
وقالوا: مشيب المرء فيه وقاره، ... وما علموا أن المشيب هو العيب.
وأىّ وقار لامرئ عرّى الصّبا، ... ومن خلفه شيب وقدّامه شيب؟
وقال آخر:
من شاب، قد مات وهو حىّ، ... يمشى على الأرض مشى هالك!
لو كان عمر الفتى حسابا ... كان له شيبه فذلك [1] .
وقال محمود الورّاق:
بكيت لقرب الأجل، ... وبعد فوات الأمل!
ووافق شيب طرا ... بعقب شباب رحل.
شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل.
طوى صاحب صاحبا ... كذاك اختلاف الدّول!
وقال عبيد بن الأبرص:
والشيب شين لمن أمسى بساحته! ... لله درّ شباب اللّمة الخالى.
وقال البحترىّ:
وددت بياض السيف يوم لقيننى ... مكان بياض الشيب حلّ بمفرقى.
وقال أبو العتاهية:
عريت عن الشباب، وكان غضّا، ... كما يعرى من الورق القضيب.
ألا ليت الشباب يعود يوما ... فأخبره بما فعل المشيب!
__________
[1] الفذالك جمع الفذلكة أى نتائج الحساب التى يقال عندها: فذلك يكون كذا. (أنظر: شفاء الغليل للخفاجى) .(2/26)
وقال آخر:
يا حسرتا أين الشباب الذى ... على تعدّيه المشيب اعتدى؟
شبت، فما أنفكّ من حسرة ... والشيب في الرأس رسول الرّدى!
إنّ مدى العمر قريب فما ... بقاء نفسى بعد قرب المدى؟
وقال آخر:
هذا عذارك بالمشيب مطرّز ... فقبول عذرك في التصابى معوز!
ولقد علمت- وما علمت توهّما- ... أن المشيب لهدم عمرك يرمز.
وقال أيضا:
ألست ترى نجوم الشّيب لاحت ... وشيب المرء عنوان الفساد!
وقال أيضا:
أبلى جديدى هذان الجديدان ... والشأن في أن هذا الشّيب ينعانى!
كأنما اعتمّ رأسى منه بالجبل الر ... اسى، فأوهنى ثقلا وأوهانى.
وقال آخر:
لما رأت وضح المشيب بعارضى ... صدّت صدود مجانب متحمّل.
فجعلت أطلب وصلها بتلطّف، ... والشيب يغمزها بأن لا تفعلى!
وقال كشاجم:
ضحكت! من شيبة ضحكت ... لسواد اللّمّة الرجله
ثم قالت وهى هازئة: ... جاء هذا الشيب بالعجله!
قلت: من حبّيك، لا كبر، ... شاب رأسى فانثنت خجله.(2/27)
وثنت جفنا على كحل ... هى منه الدّهر مكتحله.
أكثرت منه تعجّبها! ... فهى تجنيه وتعجب له.
وقال أبو تمام:
دقة في الحياة تدعى جلالا، ... مثل ما سمّى اللّديغ سليما.
غرّة مرّة ألا إنّما كن ... ت أغرّا أيام كنت بهيما.
وقال ابن المعتز:
لقد أبغضت نفسى في مشيبى ... فكيف تحبّنى الخود الكعاب؟
وقال أبو هلال العسكرىّ:
فلا تعجبا أن يعبن المشيبا ... فما عبن من ذاك إلا معيبا!
إذا كان شيبى بغيضا إلىّ ... فكيف يكون إليها حبيبا؟
وقال محمد بن أميّة:
رأين الغوانى الشيب لاح بعارضى، ... فأعرضن عنّى بالخدود النّواضر.
وكنّ إذا أبصرننى أو سمعن بى، ... دنون فرقّعن اللّوى بالمحاجر.
وقال آخر:
قالت، وقد راعها مشيبى: ... كنت ابن عمّ فصرت عمّا.
واستهزأت بى، فقلت أيضا: ... قد كنت بنتا فصرت أمّا.
وقال آخر:
تضاحكت لمّا رأت ... شيبا تلالا غرره.
قلت لها: لا تعجبى ... أنبيك، عندى خبره.
هذا غمام للردّى، ... ودمع عينى مطره.(2/28)
ومما قيل في الخضاب من المدح، ما
روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «غيّروا هذا الشيب، وجنّبوه السواد» .
وكان أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه يخضب بالحناء وبالكتم.
وقد مدح الشعراء الخضاب.
فمن ذلك قول عبد الله بن المعتزّ:
وقالوا: النّصول مشيب جديد! ... فقلت: الخضاب شباب جديد!
إساءة هذا بإحسان ذا ... فإن عاد هذا فهذا يعود.
وقال أبو الطيب المتنبى:
وما خضب الناس البياض لأنّه ... قبيح، ولكن أحسن الشّعر فاحمه.
وقال محمود الورّاق:
للضّيف أن يقرى ويعرف حقّه! ... والشيب ضيفك، فاقره بخضاب.
وقال عبدان الأصبهانىّ:
فى مشيبى شماتة لعداتى، ... وهو ناع منغّض لحياتى.
ويعيب الخضاب قوم، وفيه ... أىّ أنس إلى حضور وفاتى.
لا ومن يعلم السرائر منّى ... ما به رمت خلّة الغانيات.
إنما رمت أن يغيّب عنى ... ما ترينيه كلّ يوم مراتى.
وهو ناع إلىّ نفسى، ومن ذا ... سرّه أن يرى وجوه النّعات؟(2/29)
وقال ابن الرومىّ:
يا بياض المشيب سوّدت وجهى، ... عند بيض الوجوه سود القرون!
فلعمرى، لأخفينّك جهدى ... عن عيانى وعن عيان العيون!
ولعمرى، لأمنعنّك أن تض ... حك في رأس آسف محزون!
بخضاب فيه ابيضاض لوجهى ... وسواد لوجهك الملعون!
وقال آخر:
نهى الشيب الغوانى عن وصالى ... وأوقع بين أحبابى وبينى.
فلست بتارك تدبير ذقنى ... إلى أن ينقضى أمدى لحينى.
أدبّر لحيتى ما دمت حيّا ... وأعتقها ولكن بعد عينى.
وقال آخر:
قالوا: فلان لم يشب، ... وأرى المشيب عليه أبطا.
فأجبتهم: لولا حدي ... ث الصّبغ لانكشف المغطّى.
ومما قيل في ذم الخضاب: قال محمود الورّاق، رحمه الله:
يا خاضب الشيب الّذى ... فى كلّ ثالثة يعود.
إن النّصول إذا بدا ... فكأنه شيب جديد.
وله بديهة روعة ... مكروهها أبدا عتيد.
فدع المشيب لما أرا ... د فلن يعود لما تريد.
وقال آخر:
تستّر بالخضاب، وأىّ شىء. ... أدلّ على المشيب من الخضاب؟(2/30)
وقال ابن الرومىّ:
قل للمسوّد حين سوّد: هكذا ... غشّ الغوانى في الهوى إياكا!
كذب الغوانى في سواد عذاره، ... فكذبنه في ودّهنّ كذاكا!
وقال المتنبى:
ومن هوى كلّ من ليست مموّهة ... تركت لون مشيبى غير مخضوب.
ومن هوى الصدق في قولى وعادته ... رغبت عن شعر في الوجه مكذوب.
وقال الأمير شهاب الدين بن يغمور عفا الله عنه:
يا صابغ الشّيب، والأيام تظهره: ... هذا الشباب، وحقّ الله مصنوع!
إن الجديد إذا ما كان في خلق ... يبين للناس أن الثوب مرقوع.
وأما ما وصف به الوجه، فمن ذلك ما قيل في المذكر قال الوجيهىّ:
مستقبل بالذى يهوى، وإن كثرت ... منه الإساءة، معذور بما صنعا.
فى وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب، وجيها حيثما شفعا.
وقال الآخر:
رأيت الهلال على وجهه ... فلم أدر أيّهما أنور؟
سوى أنّ ذاك قريب المزار ... وهذا بعيد لمن ينظر.
وذاك يغيب وذا حاضر ... فما من يغيب كمن يحضر.
ونفع الهلال كثير لنا ... ونفع الحبيب لنا أكثر.(2/31)
وقال ابن لنكك:
البدر والشمس المني ... رة والدّمى والكوكب:
أضحت ضرائر وجهه ... من حيث يطلع تغرب.
وكأنّ جمر جوانحى ... فى خدّه يتلّهب.
وكأنّ غصن قوامه ... من ماء دمعى يشرب.
وصوالج في صدغه ... بسواد قلبى تلعب.
وقال ابن المعدّل:
نظرت إلى من زيّن الله وجهه، ... فيا نظرة كادت على عاشق تقضى!
وكبّرت عشرا، ثم قلت لصاحبى: ... متى نزل البدر المنير إلى الأرض؟
وقال الخبز أرزّى:
رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النّظر
فلم أدر من حيرتى فيهما ... هلال الدّجى من هلال البشر!
فلولا التورّد في الوجنتين ... وما راعنى من سواد الشّعر،
لكنت أظنّ الهلال الحبيب ... وكنت أظنّ الحبيب القمر!
وقال أبو الشيص:
تخشع شمس النهار طالعة ... حين تراه، ويخشع القمر.
تعرفه أنه يفوقهما ... بالحسن، فى عين من له بصر.
وقال أبو هلال العسكرىّ:
ووجه نشرّب ماء النعيم، ... فلو عصر الحسن منه العصر.(2/32)
وقال آخر:
ليس فيها أن يقال لها: ... كملت، لو أن ذا كملا.
كلّ جزء من محاسنها ... صائر من حسنها مثلا.
وقال عمر بن أبى ربيعة:
وفتاة إن يغب بدر الدّجى، ... فلنا في وجهها عنه خلف.
أجمع الناس على تفضيلها، ... وهواهم في سواها مختلف.
وقال الجمانىّ من أبيات:
نرى الشمس والبدر معناهما ... بها واحدا، وهما معنيان.
إذا طلعت وجهها، أشرقا ... بطلعتها، وهما آفلان.
ومما وصف به صفاء الوجه ورقّة البشرة، فمن ذلك ما قيل مذكرا.
قال أبو نواس:
نظرت إلى وجهه نظرة ... فأبصرت وجهى في وجهه.
وقال آخر.
أعد نظرا! فما في الخدّ نبت، ... حماه الله من ريب المنون!
ولكن رقّ ماء الوجه حتّى ... أراك مثال أهداب الجفون!
ومثله قول الآخر:
ولما استدارت أعين الناس حوله ... تلاحظه كيف استقلّ وسارا،
تمثّلت الأهداب في ماء وجهه، ... فظنّوا خيال الشّعر فيه عذارا.(2/33)
وقال الأرّجانىّ
ما أنس، لا أنسى له موقفا، ... والعيس قد ثوّرهنّ الحداه.
لمّا تجلّى وجهه طالعا، ... وقد ترامت نظرات الوشاه.
قابلنى حين بدت أدمعى ... فى خدّه المصقول مثل المراه.
يوهم صحبى أنه مسعدى ... بأدمع لم تذرها مقلتاه.
وإنما قلّدنى منّة ... بدمع عين من جفونى امتراه.
ولم تقع في خدّه قطرة ... إلا خيالات دموع البكاه.
وقال أيضا:
وأغيد رقّ ماء الوجه منه، ... فلو أرخى لثاما عنه، سالا.
تبين سوادها الأبصار فيه، ... فحيث لحظت منه، حسبت خالا.
ومن ذلك ما قيل في المؤنث، قال بشار
وما ظفرت عينى غداة لقيتها ... شىء، سوى أطرافها والمحاجر.
بحوراء من حور الجنان عزيزة، ... يرى وجهه في وجهها كلّ ناظر.
وقال السرىّ الرفاء
بيضاء تنظر من طرف تقلّبه ... مفرّق بين أجساد وأرواح.
ماء النعيم على ديباج وحنبها ... يجول بين حتى ورد وتفّاح.
رقّت فلو مرج الماء القراح بها ... والراح، لامترجت بالماء والراح(2/34)
وقال آخر:
ليس فيها أن يقال لها: ... كملت، لو أن ذا كملا.
كلّ جزء من محاسنها ... صائر من حسنها مثلا.
وقال عمر بن أبى ربيعة:
وفتاة إن يغب بدر الدّجى، ... فلنا في وجهها عنه خلف.
أجمع الناس على تفضيلها، ... وهواهم في سواها مختلف.
وقال الجمانىّ من أبيات:
نرى الشمس والبدر معناهما ... بها واحدا، وهما معنيان.
إذا طلعت وجهها، أشرقا ... بطلعتها، وهما آفلان.
ومما وصف به صفاء الوجه ورقّة البشرة، فمن ذلك ما قيل مذكرا.
قال أبو نواس:
نظرت إلى وجهه نظرة ... فأبصرت وجهى في وجهه.
وقال آخر.
أعد نظرا! فما في الخدّ نبت، ... حماه الله من ريب المنون!
ولكن رقّ ماء الوجه حتّى ... أراك مثال أهداب الجفون!
ومثله قول الآخر:
ولما استدارت أعين الناس حوله ... تلاحظه كيف استقلّ وسارا،
تمثّلت الأهداب في ماء وجهه، ... فظنّوا خيال الشّعر فيه عذارا.(2/35)
وقال الأرّجانىّ
ما أنس، لا أنسى له موقفا، ... والعيس قد ثوّرهنّ الحداه.
لمّا تجلّى وجهه طالعا، ... وقد ترامت نظرات الوشاه.
قابلنى حين بدت أدمعى ... فى خدّه المصقول مثل المراه.
يوهم صحبى أنه مسعدى ... بأدمع لم تذرها مقلتاه.
وإنما قلّدنى منّة ... بدمع عين من جفونى امتراه.
ولم تقع في خدّه قطرة ... إلا خيالات دموع البكاه.
وقال أيضا:
وأغيد رقّ ماء الوجه منه، ... فلو أرخى لثاما عنه، سالا.
تبين سوادها الأبصار فيه، ... فحيث لحظت منه، حسبت خالا.
ومن ذلك ما قيل في المؤنث، قال بشار
وما ظفرت عينى غداة لقيتها ... شىء، سوى أطرافها والمحاجر.
بحوراء من حور الجنان عزيزة ... يرى وجهه في وجهها كلّ ناظر.
وقال السرىّ الرفاء
بيضاء تنظر من طرف تقلّبه ... مفرّق بين أجساد وأرواح.
ماء النعيم على ديباج وجنبها ... يجول بين حتى ورد وتفّاح.
رقّت فلو مرج الماء القراح بها ... والراح، لامترجت بالماء والراح(2/36)
وقال الأرّجانىّ من أبيات:
ولمّا تلاقينا، وللعين عادة ... تثير وشاة عند كلّ لقاء،
بدت أدمعى في خدّها من صقاله، ... فغاروا وظنوا أن بكت لبكائى!
ومما قيل في صفرة الوجه، فمن ذلك ما قيل مذكرا.
قال أبو عبادة البحترىّ:
بدت صفرة في وجهه، إنّ حمدهم ... من الدّرّ ما اصفرّت نواحيه في العقد.
وقال آخر:
لم تشن وجهه المليح، ولكن ... جعلت ورد وجنتيه بهارا.
وقال الأرّجانىّ وأجاد:
راق ماء الحياة من وجنتيه، ... فهو مرآة أوجه العشّاق!
ومن ذلك ما قيل في المؤنث، قال سلم الخاسر:
تبدّت فقلت: الشمس عند طلوعها ... بوجه غنىّ اللون عن أثر الورس!
فقلت لأصحابى، وبى مثل ما بهم، ... على مرية: ما هاهنا مطلع الشمس!
وقال أبو تمام:
صفراء- صفرة صحة- قد ركّبت ... جثمانها في ثوب سقم أصفر.
وقال مسعود الأصبهانىّ، شاعر الخريدة:
وقينة قال لها ناقص: ... كملت، لولا صفرة اللون.
قلت: اتّئد! فالشمس مصفرّة، ... وهى صلاح الأرض في الكون!(2/37)
ومما قيل في السّمرة، قال شاعر:
كيف لا أعشق ظبيا ... سارحا في ظلّ ملك.
إنما السّمرة فيه ... مزج كافور بمسك.
وقال آخر:
يا ذا الذى يذهب أمواله ... فى حبّ هذا الأسمر الفائق!
ما الذهب الصامت مستكثرا ... إذهابه في الذهب الناطق!
وقال آخر:
ذهبىّ اللون! تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح.
خوّفونى من فضيحته! ... ليته وافى، وأفتضح!
ومما قيل في السّواد (وهو يختص بالمؤنث) :
قال الزركشىّ في «دنانير» البرمكية:
أشبهك المسك، وأشبهته: ... قائمة في لونه قاعده.
لا شكّ، إذ لونكما واحد، ... أنكما من طينة واحده.
وقال ابن الرومىّ:
أكسبها الحبّ أنها صبغت ... صبغة حبّ القلوب والحدق.
فأقبلت نحوها الضمائر وال ... أبصار، يعبقن أيّما عبق!
يفترّ ذاك السواد عن يقق ... فى ثغرها كاللّآلئ النّسق.
كأنّها، والمزاح يضحكها، ... ليل تفرّى دجاه عن غسق.(2/38)
وقال الصنوبرىّ
يا غصنا من سبج رطب، ... أضبح منك الدرّ في كرب!
حبّك من قلبى مكان الذى ... أشبهته من حبّة القلب.
وقال محمد بن عبد الله السلامىّ، شاعر اليتيمة عفا الله عنه:
يا ربّ غانية بيضاء تصبحنى ... من العتاب كؤوسا ليس تنساغ.
أشتاق طرّتها أو صدغها ومعى ... من كلّها طرر سود وأصداغ!
كأننا، لا أتاح الله فرقتنا! ... يا كعبة المسك، يا زنجيّة، زاغ.
وقال آخر:
أحبّ النساء السّود من أجل تكتم، ... ومن أجلها أحببت من كان أسودا!
فجئنى بمثل المسك أطيب نفحة! ... وجئنى بمثل الليل أطيب مرقدا!
وقال العسكرىّ:
صرفت ودّى إلى السّودان من هجر، ... ولا التفتّ إلى روم ولا خزر!
أصبحت أعشق من وجه ومن بدن ... ما يعشق الناس من عين ومن شعر.
فإن حسبت سواد الخدّ منقصة، ... فانظر إلى سفعة في وجنة القمر!
وقال بشار وأجاد:
يكون الخال في خدّ نقىّ ... فيكسبه الملاحة والجمالا،
ويونقه لأعين مبصريه، ... فكيف إذا رأيت اللون خالا؟
وقال أبو علىّ بن رشيق:
دعائك الحسن فاستجيبى ... باسمك في صبغة وطيب.
نيهى على البيص واستطيلى، ... تبه شباب على مشيب!(2/39)
ولا يرعك اسودادلون ... كمقلة الشادن الرّبيب.
فإنما النّور عن سواد ... فى أعين الناس والقلوب!
وقال آخر:
إن أزهرت ليلا نجوم السما ... بيضا على أسود مرخى الإزار.
وأوجب العكس مثالا لها، ... فالسّود في الأرض نجوم النهار.
ومما وصف به أثر الجدرىّ في الوجه، فمن ذلك قول الناجم:
يا قمرا جدّر لما استوى ... واكتسب الملح بتلك الكلوم!
أظنّه غنّى لشمس الضّحى ... فنقّطته فرحا بالنّجوم.
وقال آخر:
وقالوا: شابه الجدرىّ، فانظر ... إلى وجه به أثر الكلوم!
فقلت: ملاحة نثرت عليه! ... وما حسن السماء بلا نجوم؟
ومثله قول الآخر:
أيّها العائبون وجها مليحا ... نثر الحسن فيه نبذ خدوش!
أىّ أفق بها بغير نجوم؟ ... أىّ ثوب زها بغير نقوش؟
وقال أبو زيد القاضى:
غاية الحاسد الذى لام فيه ... أن رأى فوق خدّه جدريّا.
إنما وجهه هلال تمام، ... جعلوا برقعا عليه الثريّا!(2/40)
وقال أبو تمام بن رباح
خدّك مرآة كلّ حسن، ... تحسن من حسنها الصّفات!
مالى أرى فوقه نجوما، ... قد كسفت وهى نيّرات!
ومما قيل في الحواجب، فمن محاسنها: الزّجج، والبلج.
فأما الزّجج، فدقة الحاجبين وامتدادهما.
وأما البلج، فهو أن يكون بينهما فرجة. والعرب تستحب ذلك.
ومن معايبها: القرن، والزّبب، والمعط.
فالقرن، اتصال الحاجبين. والعرب تكرهه.
والزّبب، كثرة شعرهما.
والمعط، تساقط الشعر عن بعض أجزائهما.
ومما وصفت به الحواجب، قال الزاهى:
وأغيد مجدول القوام جبينه ... سنا القمر البدرىّ في الغصن الرّطب.
تنكّب قوس الحاجبين فسهمه ... لواحظه المرضى، وبرجاسه قلبى!
وقال عبد الله بن أبى الشيص:
حذرت الهوى حتّى رميت من الهوى ... بأصرد سهم من قسى الحواجب.
وقال محمد بن عبد الرحمن الكوفىّ:
ومستلب عين الغزال وقد ترى ... بجبهته عين الغزالة ماثلا.
تناول قوس الحاجبين مفوّقا ... بأسهم ألحاظ تشكّ المقاتلا.(2/41)
وقال آخر:
غزانى الهوى في جيشه وجنوده ... وعبّى علىّ الخيل من كلّ جانب.
بميمنة أعلامها أعين المها ... وميسرة تقضى بزجّ الحواجب.
وقال آخر:
لها حاجبان، الحسن والغنج منهما ... كأنهما نونان من خطّ ماشق.
ومما قيل في العيون ووصفها، فمن محاسنها:
الدّعج، وهو شدّة السّواد مع سعة المقلة.
البرج، وهو شدّة سوادها وشدّة بياضها.
النّجل، سعتها.
الكحل، سواد جفونها من غير كحل.
الحور، اتساع سوادها كأعين الظباء. وقيل: هو سواد العين وشدّة بياضها.
الوطف، طول أشفارها؛ وفي الحديث أنه كان عليه الصلاة والسلام في أشفاره وطف.
الشّهلة، حمرة في سوادها.
ومن معايبها:
الحوص، ضيق العين.
الخوص، غؤورها مع الضيق.
الشّتر، انقلاب الجفن.
العمش، هو أن العين لا تزال سائلة رامصة.(2/42)
الكمش، أن لا تكاد تبصر.
الغطش، شبه العمش.
الجهر، أن لا تبصر نهارا.
العشا، أن لا تبصر ليلا.
الخزر، أن ينظر بمؤخر عينه.
الغضن، أن يكسر عينه حتّى تتغضّن جفونه.
القبل، أن يكون كأنه ينظر إلى أنفه. وهو أهون من الحول.
الشّطور، أن تراه ينظر إليك وهو ينظر إلى غيرك. وهو قريب من صفة الأحول.
وفيه يقول الشاعر:
حمدت إلهى إذ بلانى بحبّه ... وبى حول أغنى عن النظر الشّزر.
نظرت إليه- والرقيب يظنّنى ... نظرت إليه- فاسترحت من العذر.
الشّوص، أن ينظر بإحدى عينيه ويميل وجهه في شق العين التى ينظر بها.
الخفش، صغر العين وضعف البصر. ويقال إنه فساد في العين يضيق له الجفن من غير وجع.
الدّوش، ضيق العين وفساد البصر.
الإطراق، استرخاء الجفن.
الجحوظ، خروج المقلة وظهورها من الحجاج.
البخق، أن يذهب البصر؛ والعين منفتحة.
الكمه، أن يولد الإنسان وهو أعمى.
البخص، أن يكون فوق العين أو تحتها لحم ناتئ.(2/43)
فصل فى عوارض العين
يقال:
حسرت عينه، إذا اعتراها كلال من طول النظر.
زرّت عينه، إذا توقّدت من خوف.
سدرت عينه، إذا لم تكد تبصر.
اسمدرّت عينه، إذا لاحت لها سمادير؛ وهى ما يتراءى لها من أشباه الذّباب وغيره.
قدعت عينه، إذا ضعفت من الإكباب على النظر.
حرجت عينه، إذا حارت.
قال ذو الرمّة:
وتحرج العين فيها حين تنتقب
هجمت، إذا غارت.
ونقنقت، إذا زاد غؤورها؛ وكذلك حجلت وهجّجت.
ذهبت، إذا رأت ذهبا كثيرا فحارت فيه.
شخصت، إذا لم تكد تطرف من الحيرة.
فصل فى كيفية النظر وهيئته
إذا نظر الإنسان إلى الشىء بمجامع عينيه، قيل: قد رمقه.
فإذا نظر من جانب أذنه، قيل: لحظه.(2/44)
فإذا نظر إليه بعجلة، قيل: لمحه.
فإذا رماه ببصره مع حدّة، قيل: حدجه بطرفه.
(وفي حديث ابن مسعود «حدّث القوم ما حدجوك بأبصارهم» ) .
فإن نظر إليه بشدّة وحدّة، قيل: أرشقه وأسفّ النظر إليه.
(وفي حديث الشعبىّ أنه كره أن يسفّ الرجل إلى أمّه وأخته وابنته) .
فإن نظر إليه نظر المتعجّب أو الكاره المبغض، قيل: شفنه وشفن إليه شفونا وشفنا.
فإن أعاره لحظ العداوة، قيل: نظر إليه شزرا.
فإن نظر إليه بعين المحبة، قيل: نظر إليه نظرة ذى علق.
فإن نظر إليه نظرة المستثبت، قيل: توضّحه.
فإن نظر إليه واضعا يده على حاجبه مستظلّا بها من الشمس ليستبين المنظور إليه. قيل استكفّه واستوضحه واستشرفه.
فإن شر الثوب ورفعه لينظر إلى صفاقته: قيل استشفّه.
فإن نظر إلى الشىء كاللّمحة ثم خفى عنه، قيل: لاحه لوحة. قال الشاعر:
وهل تنفعنّى لوحة لو ألواحها
فإن نظر إلى جميع ما في المكان حتّى يعرفه، قيل: نفضه نفضا.
فإن نظر في كتاب أو حساب، قيل: تصفّحه.
فإن فتح عينيه لشدّة النظر، قيل: حدّق.
فإن لألأهما، قيل برّق.
فإن انقلب حملاق عينيه، قيل: حملق.
فإن عاب سواد عينيه من الفزع، قيل برق بصره.(2/45)
فإن فتح عين مفزّع أو مهدّد، قيل: حمّج.
فإن بالغ في فتحها وأحدّ النظر عند الخوف، قيل: حدّج.
فإن كسر عينه عند النظر، قيل: دنقش وطرفش.
فإن فتح عينه وجعل لا يطرف، قيل: شخص. وفي القرآن العزيز: (شاخصة أبصارهم) .
فإن أدام النظر مع سكون، قيل: أسجد.
فإن نظر إلى أفق الهلال ليراه، قيل: تبصّره.
فإن أتبع الشىء بصره، قيل: أتأره بصره.
وقد أوسع الشعراء في وصف العيون ووصفوها بالمرض والسّقم، وإن كانت صحيحة. فمن ذلك قول الشاعر:
برّح السّقم بى وليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا.
إنّ للأعين المراض سهاما ... صيّرت أنفس الورى أغراضا.
جوهر الحسن منذ أعرض للقل ... ب ثنى الجسم كلّه أعراضا.
وقال جرير:
إنّ العيون التى في طرفها مرض ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا.
يصرعن ذا الّلبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا.
وقال ذو الرمّة:
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولين [1] بالألباب ما تفعل الخمر.
__________
[1] المشهور فعولان. بالرفع وصف للعينين.(2/46)
فإذا نظر إليه بعجلة، قيل: لمحه.
فإذا رماه ببصره مع حدّة، قيل: حدجه بطرفه.
(وفي حديث ابن مسعود «حدّث القوم ما حدجوك بأبصارهم» ) .
فإن نظر إليه بشدّة وحدّة، قيل: أرشقه وأسفّ النظر إليه.
(وفي حديث الشعبىّ أنه كره أن يسفّ الرجل إلى أمّه وأخته وابنته) .
فإن نظر إليه نظر المتعجّب أو الكاره المبغض، قيل: شفنه وشفن إليه شفونا وشفنا.
فإن أعاره لحظ العداوة، قيل: نظر إليه شزرا.
فإن نظر إليه بعين المحبة، قيل: نظر إليه نظرة ذى علق.
فإن نظر إليه نظرة المستثبت، قيل: توضّحه.
فإن نظر إليه واضعا يده على حاجبه مستظلّا بها من الشمس ليستبين المنظور إليه. قيل استكفّه واستوضحه واستشرفه.
فإن نشر الثوب ورفعه لينظر إلى صفاقته: قيل استشفّه.
فإن نظر إلى الشىء كاللّمحة ثم خفى عنه، قيل: لاحه لوحة. قال الشاعر:
وهل تنفعنّى لوحة لو ألواحها
فإن نظر إلى جميع ما في المكان حتّى يعرفه، قيل: نفضه نفضا.
فإن نظر في كتاب أو حساب، قيل: تصفّحه.
فإن فتح عينيه لشدّة النظر، قيل: حدّق.
فإن لألأهما، قيل برّق.
فإن انقلب حملاق عينيه، قيل: حملق.
فإن عاب سواد عينيه من الفزع، قيل برق بصره.(2/47)
فإن فتح عين مفزّع أو مهدّد، قيل: حمّج.
فإن بالغ في فتحها وأحدّ النظر عند الخوف، قيل: حدّج.
فإن كسر عينه عند النظر، قيل: دنقش وطرفش.
فإن فتح عينه وجعل لا يطرف، قيل: شخص. وفي القرآن العزيز: (شاخصة أبصارهم) .
فإن أدام النظر مع سكون، قيل: أسجد.
فإن نظر إلى أفق الهلال ليراه، قيل: تبصّره.
فإن أتبع الشىء بصره، قيل: أتأره بصره.
وقد أوسع الشعراء في وصف العيون ووصفوها بالمرض والسّقم، وإن كانت صحيحة. فمن ذلك قول الشاعر:
برّح السّقم بى وليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا.
إنّ للأعين المراض سهاما ... صيّرت أنفس الورى أغراضا.
جوهر الحسن منذ أعرض للقل ... ب ثنى الجسم كلّه أعراضا.
وقال جرير:
إنّ العيون التى في طرفها مرض ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا.
يصرعن ذا الّلبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا.
وقال ذو الرمّة:
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولين [1] بالألباب ما تفعل الخمر.
__________
[1] المشهور فعولان. بالرفع وصف للعينين.(2/48)
وقال أبو تمام:
متطلّب بصدوده قتلى ... فرد المحاسن وجهه شغلى.
ألحاظه في الخلق مسرعة ... فيما تريد كسرعة النّبل.
وقال آخر:
ألحاظكم تجرحنا في ألحشاء ... ولحظنا يجرحكم في الخدود.
جرح بجرح، فاجعلوا ذا بذا! ... فما الّذى أوجب هذا الصّدود؟
وقال آخر:
ومقلة شادن أودت بقلبى، ... كأنّ السّقم لى ولها لباس.
يسلّ اللحظ منها مشرفيّا ... لقتلى، ثم يغمده النّعاس.
وقال ابن الرومىّ:
يا عليلا، جعل العلّ ... ة مفتاحا لظلمى!
ليس في الأرض عليل ... غير جفنيك وجسمى.
بك سقم في جفون، ... سقمها أكّد سقمى.
وقال تاج الدين بن أيوب:
أسقمنى طرفك السّقيم، وقد ... حكاه منّى في سقمه الجسد!
هبّ نسيم من نحو أرضك لى ... فزادنى في هواك ما أجد.
وهاج شوقى، والنار ما برحت ... عند هبوب الرّياح تتّقد.
وقال ابن المعتز:
ضعيفة أجفانه، ... والقلب منه حجر!
كأنما ألحاظه ... من فعله تعتذر.(2/49)
ومما وصفت به العيون على لفظ التأنيث، فمن ذلك ما قاله عدىّ بن الرقاع:
وكأنّها بين النّساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم.
وسنان أقصده النّعاس فرنّقت ... فى عينه سنة وليس بنائم.
وقال الناجم:
كاد الغزال يكونها، ... لكنّما هو دونها.
والنّرجس الغضّ الجن ... ىّ أغضّ منه جفونها.
من كان يعرف فضلها ... فعن القياس يصونها.
وقال أبو دلف:
نقتنص الآساد من غيلها، ... وأعين العين لنا صائده!
ينبو الحسام العضب عنا وقد ... تكلم فينا النظرة القاصدة!
تهابنا الأسد، ونخشى المها: ... آبدة ما مثلها آبذه!
وقال آخر:
لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجر في المعاجر!
أمضى وأنفذ في القلو ... ب من الخناجر في الحناجر!
وقال آخر:
ينظرن من خلل السّجوف كأنّما ... يمطرن أحشاء الكريم نبالا!
وقال أبو فراس الحمدانىّ عفا الله تعالى عنه ورحمه:
وبيض بألحاظ العيون كأنّما ... هززن سيوفا أو سللن خناجرا.
تصدّين لى يوما بمنعرج اللّوى ... فغادرن قلبى بالتصبّر غادرا.(2/50)
سفرن بدورا، وانتقبن أهلّة، ... ومسن غصونا، والتفتن جآذرا.
وأطلعن في الأجياد للدّرّ أنجما ... جعلن لحبّات القلوب ضرائرا.
وقال ابن الرومىّ:
نظرت، فأقصدت الفؤاد بطرفها، ... ثم انثنت عنّى، فكدت أهيم!
ويلاى! إن نظرت وإن هى أعرضت: ... وقع السّهام ونزعهنّ أليم!
وقال أيضا:
لطرفها وهو مصروف كموقعه ... فى القلب حين يروع القلب موقعه.
تصدّ بالطّرف لا كالسّهم تصرفه ... عنّى، ولكنّه كالسّهم تنزعه.
وقال الأرّجانى:
نقبوهنّ خشية العشّاق! ... أو لم تكف فتنة الأحداق؟
إنّ في الأعين المراض لشغلا ... للمعنّى عن الخدود الرّقاق!
كلّ ما فات في الليالى المواضى ... فهو في ذمّة اللّيالى البواقى.
وقال أيضا:
سترن المحاسن إلا العيونا ... كما يشهد المعرك الدّارعونا.
سللن سيوفا ولاقيننا! ... فلا تسأل اليوم ماذا لقينا.
كسرن الجفون ولولا الرّضا، ... بحكم الغرام كسرنا الجفونا.
وحسب الشهيد سرورا بأن ... يعاين حورا مع القتل عينا.
وقال أبو نواس:
ضعيفة كرّ الطّرف تحسب أنها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم.(2/51)
وقال آخر:
يا من تكحّل طرفها ... بالسّحر لا بالإثمد!
نفسى كما عذّبتها ... وقتلتها بالإثم، دى [1] !
ومما قيل في أدواء العين، فمن ذلك:
الغمص، أن لا تزال العين ترمص.
اللّحح، أسوأ الغمص.
اللّخص، التصاق الجفون.
العائر، الرّمد الشديد. وفيه يقول النابغة:
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذى العائر الأرمد.
وكذلك الساهك.
الغرب، ورم في المآقى.
السّبل، أن يكون على بياضها وسوادها شبه غشاء.
السّجا [2] ، أن يعسر على الإنسان فتح عينيه إذا انتبه من النوم:
الظّفر، ظهور ظفرة (وهى جليدة تغشى العين من تلقاء المآقى) .
الطّرفة، أن يحدث في العين نقطة حمراء.
الانتشار، أن يتسع ثقب الناظر حتّى يلحق البياض من كل جانب.
الحثر، أن يخرج في العين حبّ وهو الجرب.
القمر، أن يعرض للعين فترة وفساد. يقال: قمرت عينه.
__________
[1] فعل أمر للمؤنث من «ودى» بمعنى دفع الدية بسبب الإثم الذى وقع منها
[2] فى «فقه اللغة» الجسأة [بتقديم الجيم على السين ولعله الصواب] .(2/52)
ومما قيل في أرمد، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتز (وقيل إنها لابن الرومىّ، وقيل للناجم) :
قالوا: اشتكت عينه! فقلت لهم: ... من كثرة الفتك نالها الوصب!
حمرتها من دماء من قتلت، ... والدم في النّصل شاهد عجب.
وقال ابن منير الطرابلسىّ:
رنا وفي طرفه احمرار، ... يغضّ من سحر مقلتيه.
وفاض من نرجسيه ماء، ... ضرّجه ورد وجنتيه.
فقلت يا ممرضى بوجه، ... أظنّ دائى سرى إليه!
هيهات، لا تجحدنّ قتلى! ... هذا دمى شاهد عليه!
وقال الواثق بالله:
لى حبيب قد طال شوقى إليه، ... لا أسميّه من حذارى. عليه.
لم تكن عينه لتجحد قتلى، ... ودمى شاهد على وجنتيه!
وقال الصولىّ:
يكسر لى طرفا به حمرة، ... قد خلط النّرجس في ورده.
ما احمرّت العين، ولكنّه ... يكحلها من وردتى خدّه!
وقال آخر:
قالوا: بدت في عينه حمرة ... قد حازها من وردة الخدّ.
فقلت لم يرمد ولكنه ... يصافح النّرجس بالورد!(2/53)
وقال أبو عبد الله بن الحدّاد الوزير:
يا شاكى الرّمد الذى بشكاته، ... قد صار دهرى فيه ليلة أرمدا!
الله والإشفاق يعلم أنّنى ... لو أستطيع فدا، لكنت لك الفدا!
كم من دم سفكت جفونك لم تزل ... تخفى وتكتم سفكه حتّى بدا.
لم يشتمل بدم غرار مهنّد ... إلا وقد أهدى النفوس إلى الرّدى.
وقال أبو الفرج الببغاء:
بنفسى ما يشكوه من راح طرفه ... ونرجسه مما دهى حسنه ورد!
أراقت دمى ظلما محاسن وجهه، ... فأضحت وفي عينيه آثاره تبدو!
غدت عينه كالجمر حتّى كأنما ... سقى عينه من ماء توريده الخدّ.
لئن أصبحت رمداء مقلة مالكى، ... لقد طال ما استشفت به مقل رمد!
وقال آخر:
قضب الهند والقنا أخدانك! ... والمقادير في الورى أعوانك!
أيّها ذا الأمير ما رمدت عي ... نك! حاشا لها، ولا أجفانك!
بل حكت فعلك الكريم لبضحى ... شانها في العلى سواء وشانك.
فهى تحمرّ مثل سيفك في الرّو ... ع، وتصفو كما صفا إحسانك.
وقال آخر وأجاد:
لقد جار ما تشكوه في الحكم واعتدى ... وأسرف في أفعاله وتمرّدا!
فمن لى بأن لو كنت أعرف حيلة ... تصيّر أجفانى لأجفانك الفدا؟
دهت عينك العين التى قد قضى القضا ... بأنك فيها سوف تصبح أرمدا.(2/54)
فمذ بدّلت من نرجس بشقائق، ... أعادت لجين الدمع منّى عسجدا.
سللت حسام اللحظ منها على الورى، ... وقد كان أحرى أن يصان ويغمدا!
فأنت الذى أبليتها بالذى بها، ... إذا السيف لم يغمد تراكبه الصّدا.
ومما قيل في أرمد غطى عينيه بشعريّة، [1] قول السراج الورّاق:
شعريّتى، مذرمدت قد حجبت ... طرفى عنكم، فصرت محبوسا.
الحمد لله! زادنى شرفا: ... كنت سراجا فصرت فانوسا.
وقال آخر:
غطّى على عينيه شعريّة، ... تشعل في القلب لهيب الغرام.
كأنّه البدر بدا نصفه، ... ونصفه الآخر تحت الغمام!
وقال آخر:
لا تحسبوا شعريّة أصبحت ... من رمد في وجهه مرسله.
وإنما وجنته كعبة، ... أستارها من فوقها مسبله.
ومن رقعة كتبها أرمد (وهو عبد الله بن عثمان الواثقى) عفا الله عنه. قال:
صادف ورود كتابه رمدا في عينى قد حصرنى في الظّلمه، وحبسنى بين الغم والغمّه، وتركنى أدرك بيدى ما كنت أدرك بعينى: كليل سلاح البصر، قصير خطو النظر. قد ثكلت مصباح وجهى، وعدمت بعضى، الذى هو آثر عندى
__________
[1] لم نعثر على هذه الكلمة في اللسان ولا في القاموس. وفي شفاء الغليل للخفاجى: أن «شعريّة نسبة الى الشعر: غشاء أسود رقيق يكون على وجه النساء والأرمد، وأصله أنه ينسج من الشعر ثم يطلق على كل ما شابهه، وهى مولّدة» .(2/55)
من كلّى. فالبيض عندى سود، والقريب منّى بعيد! قد أحاط الوجع أجفانى، وقبض عن التصرّف بنانى؛ ففراغى شغل، ونهارى ليل، وطوال الخطا قصار، وقصار أوقاتى طوال. وأنا ضرير وإن عددت في البصراء، وأمّىّ وإن كنت من جملة الكتّاب والقرّاء. قد قصرت العلة خطوتى قلمى وبنانى، وقامت بين يدى ولسانى.
وقد كانت العرب تزاوج بين كلمات، فيقولون:
القلّة ذلّة، والوحدة وحشة، والهوى هوان، والأقارب عقارب، والمرض حرض، والرّمد كمد، والعلة قلّة، والقاعد مقعد.
والله تعالى أعلم.
فصل فى ترتيب البكاء
إذا تهيأ الرجل للبكاء، قيل: أجهش.
فإذا امتلأت عينه دموعا، قيل: أغرورقت عينه، وترقرقت.
فإذا سالت، قيل: دمعت، وهمعت.
فإذا كثرت دموعه، قيل: همت.
فإن كان لبكائه صوت، قيل نحب ونشج.
فإذا صاح مع بكائه، قيل: أعول.
قال سلم الخاسر:
أتتنى تؤنّبنى في البكاء ... فأهلا بها، وبتأنيبها!
تقول، وفي قولها حشمة: ... أتبكى بعين ترانى بها؟
فقلت: إذا استحسنت غيركم، ... أمرت الدّموع بتأديبها.(2/56)
فصل فيما قيل في الأنف
الشّمم، ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاها.
القنا، طول الأنف، ودقّة أرنبته، وحدب في وسطه.
الفطس، تطامن قصبته مع ضخم الأرنبة.
الخنس، تأخّر الأنف عن الوجه.
الذّلف، شخوص طرفه مع صغر أرنبته.
الخشم، فقدان حاسّة الشمّ.
الخرم، شقّ في المنخرين.
الخثم، عرض الأنف. (يقال ثور أخثم) .
القغم، اعوجاج في الأنف. (قال الشاعر:
ليّن المنخرين معتدل الما ... رن لا سائل ولا جعد.)
ومما قيل في الشّفاه والفم، الشّدق، سعة الشّدقين.
الضّجم، ميل في الفم وفيما يليه.
الضّزز، لصوق الحنك الأعلى بالأسفل.
الهدل، استرخاء الشفتين وغلظهما.
اللّطع، بياض يعتريهما.
القلب، انقلابهما.
الجلع، قصرهما عن الانضمام.(2/57)
فصل فى تقسيم ماء الفم
ما دام فيه، فهو ريق، ورضاب.
فإذا علك، فهو عصيب.
فإذا سال، فهو لعاب.
فإذا رمى به، فهو بزاق، وبصاق.
فصل فى ترتيب الضحك [1]
التبسّم أوّل مراتبه، ثم الإهلاس وهو إخفاؤه، ثم الافترار، ثم الانكلال وهما الضحك الحسن، ثم الكتكتة أشدّ منهما، ثم القهقهة والقرقرة والكركرة، ثم الاستغراب، ثم الطّخطخة، ثم الإهزاق والزّهزقة، وهو أن يذهب الضحك به كلّ مذهب.
قال كشاجم:
عذبت في الرّشف منه شفة ... مصّها أطيب من نيل الأمل!
وعليها حمرة في لعس ... تستعير اللون من صبغ الخجل!
هى فيما خلت آثار دم ... من فؤادى، علّ فيه ونهل!
__________
[1] فى الأصل: فى تقسيم ماء الوجه وترتيب الضحك. ولعدم وجود كلام على تقسيم ماء الوجه حذفناه من العنوان.(2/58)
وقال ابن سكّرة الهاشمىّ:
يا ضاحكا، يستهلّ مضحكه ... عن برد واضح وعن شنب!
أعطيتنى قبلة رشفت بها الش ... هد مشوبا بعبرة العنب.
كأنّنى إذ لثمت فاك بها ... لثمت تفّاحة من الذهب.
وقال كشاجم:
كأنّ الشفاه اللعس منها خواتم ... من التّبر مختوم بهنّ على درّ.
وقال سيف الدّولة بن حمدان، فى صباه:
أقبّله على عجل ... كشرب الطائر الفزع.
رأى ماء فأطمعه ... فخاف عواقب الطّمع.
فصادف فرصة فدنا ... ولم يلتذّ بالجرع.
ومما قيل في طيب الريق والنكهة على لفظ التذكير، فمن ذلك قول ابن الرومىّ:
أهيف الغصن، أهيل الدّعص لما ... يقتسم قدّه وشاح ومرط.
طيّب طعمه إذا ذقت فاه، ... والثّريّا في جانب الغرب قرط.
وقال آخر:
با مانعى طيب المنام، ومانحى ... ثوب السّقام، وتاركى كالآل!
عمّن أخذت جواز منعى ريقك ال ... معسول، يا ذا المعطف العسّال؟
عن ثغرك النظّام، أم عن شعرك ال ... فحّام، أم عن طرفك الغزّال؟(2/59)
وقال آخر
أتدرون شمعتنا لم هوت؟ ... لتقبيل ذا الرّشإ الأكحل!
درت أن ريقته شهدة ... فحنّت إلى إلفها الأوّل.
وقال بشار بن برد:
يا أطيب الناس ثغرا غير مختبر ... إلّا شهادة أطراف المساويك!
وقال ابن وكيع البستىّ:
ريق إذا ما ازددت من شربه ... ريّا، ثنانى الرّىّ ظمآنا.
كالخمر أروى ما يكون الفتى ... من شربها أعطش ما كانا.
وقال ابن الرومىّ:
يا ربّ ريق بات بدر الدّجى ... يمجّه بين ثناياكا.
يروى ولا ينهاك عن شربه ... والماء يرويك وينهاكا.
وقال أبو الفتح كشاجم:
بلغته الكأس فارتعدت ... طربا منها إلى فمه.
منعته أن يؤخّرها ... فى يديه من تحشّمه.
فحساها ثم أعقبها ... أرجا من طيب مبسمه.
وقال آخر:
بقدر الصّبابة عند المغيب، ... تكون المسرّة عند الحضور.
وأطيب ما كان يرد الثّغور ... إذا هو صادف حرّ الصّدور.(2/60)
ومما وصف به على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول ابن ميّادة:
كأنّ على أنيابها المسك شابه ... بعيد الكرى من آخر الليل عابق.
وما ذقته إلا بعينى تفرّسا ... كما شيم في أعلى السحابة بارق.
يضم إلىّ الليل أذيال حبّها ... كما ضمّ أردان القميص البنائق.
وقال البحترىّ:
كأنّ على أنيابها بعد هجعة، ... إذا ما نجوم الليل حان انحدارها،
مجاجة مسك صفّقت بمدامة ... معتّقة صهباء، حان اعتصارها.
وقال ذو الرمة:
أسيلة مجرى الدّمع هيفاء طفلة ... عروب، كإيماض الغمام ابتسامها.
كأنّ على فيها، وما ذقت طعمه، ... زجاجة خمر طاب فيها مدامها.
وقال كشاجم:
البدر لا يغنيك عنها إذا ... غابت وتغنيك عن البدر.
فى فمها مسك ومشمولة ... صرف ومنظوم من الدّرّ.
فالمسك للنّكهة، والخمر للرّ ... يقة، واللّؤلؤ للثّغر.
وقال الهذلىّ:
وما صهباء صافية شمول، ... كعين الدّيك منجاب قذاها،
تشجّ بماء سارية عريص ... على ظمإ به رصف صفاها،
بأطيب نكهة من طعم فيها ... إذا ما طار عن سنة كراها.(2/61)
وقال ابن الرومىّ:
وما تعتريها آفة بشريّة ... من النّوم إلا أنها تتختّر.
كذلك أنفاس الرّياض بسحرة ... تطيب وأنفاس الأنام تغيّر.
وما ذفته إلا بشمّ ابتسامها ... وكم مخبر يدنيه للعين منظر.
وغير عجيب طيب أنفاس روضة ... منوّرة باتت تراح وتمطر.
وقال جميل:
وكأنّ طارقها على علل الكرى، ... والنجم وهنا قد دنا لتغوّر،
يستاف ريح مدامة معلولة ... بذكىّ مسك أو سحيق العنبر.
وقال الشريف الموسوىّ، شاعر اليتيمة:
يا عذبة المبسم! بلّى الجوى ... بنهلة من ريقك البارد!
أرى غديرا سيّحا ماؤه، ... فهل لذاك الماء من وارد؟
من لى بذاك العسل الذائب ال ... جارى خلال البرد الجامد؟
ومما قيل في طيب عرف النساء، قالوا: من أجود ما قيل في ذلك من قديم الشعر قول الاعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل،
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزّر بعميم النبت مكتهل،
يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل.(2/62)
وقول القطامىّ:
وماريح قاع ذى خزامى وحوله ... شذا أرج من طيّب النّبت غارب،
بأطيب من مىّ إذا ما تقلّبت ... من الليل وسنى جانبا بعد جانب.
أخذه ابن المعتز ببعض لفظه وزاد زيادة حسنة، فقال:
وما ريح قاع زاهر مسّت النّدى ... وروض من الرّيحان سحّت سحائبه،
فجاء سحيرا بين يوم وليلة ... كما جرّ من ذيل الغلالة ساحبه،
بأطيب من أنياب سرّة موهنا ... إذا الليل أدجى وارجحنّت كتائبه.
إذا رغبت عن جانب من فراشها ... تضوّع مسكا أين مالت جوانبه.
وقال ابن الرومىّ:
والعرف ندّ ذكىّ، وهى ذاكية ... إذا أساء جوار العطر أبدان.
نعيم كلّ بهار من مجامرها ... ويشمس الليل منها فهو ضحيان.
كأنها، وعثان النّدّ يشملها، ... شمس عليها ضبابات وأدجان.
وقال ابن الأحنف:
ذكرتك بالرّيحان لمّا شممته ... وبالراح لما قابلت أوجه الشّرب.
تذكّرت بالريحان منك روائحا ... وبالراح طعما من مقبّلك العذب.
ومن البليغ قول سحيم:
فما زال بردى طيّبا من ثيابها ... إلى الحول، حتّى أنهج البرد باليا.
وأبلغ منه قول الأحنف:
وجد الناس ساطع المسك من دج ... لة قد أوسع المشارع طيبا.
فهم ينكرون ذاك وما يد ... رون أن قد حللت منها قريبا.(2/63)
وقال آخر، وأحسن:
جارية أطيب من طيبها ... والطّيب فيها المسك والعنبر.
ووجهها أحسن من حليها ... والحلى فيها الدّرّ والجوهر.
وقال امرؤ القيس:
ألم تر أنى كلّما جئت طارقا، ... وجدت بها طيبا، وإن لم تطيّب.
وقال آخر:
أتاها بعطر أهلها فتضاحكت ... وقالت: وهل يحتاج عطر إلى عطر؟
وقد بالغوا حتّى وصفوا طيب المواضع التى وطئها المحبوب.
وأوّل من قال ذلك النميرى الشاعر في زينب بنت يوسف أخت الحجاج فقال:
تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات.
وقال جميل:
ألا أيّها الربع الذى غيّر البلى! ... عفا وخلا، من بعد ما كان لا يخلو.
تداءب ريح المسك فيه وإنما ... به المسك أن جرّت به ذيلها جمل.
وقول الآخر:
أرى كلّ أرض دست فيها، وإن مضت ... لها حجج، يزداد طيبها ترابها!
ومما قيل في الأسنان، فمن محاسنها:
الشّنب، وهو رقّة الأسنان واستواؤها وحسنها.
الرّتل، حسن تنضيدها واتساقها.
التّفليج، تفرّج ما بينها.(2/64)
الشّتت، تفرّقها من غير تباعد بل في استواء وحسن. (يقال: ثغر شتيت، إذا كان مفلّجا حسنا أبيض) .
الأشر، تحزيز في أطراف الثنايا يدل على حداثة السن.
الظّلم، الماء الذى يجرى على الأسنان من البريق لا من الرّيق.
فصل فى مقابحها
الرّوق، طولها.
الكسس، صغرها.
الثّعل، تراكبها وزيادة سنّ فيها.
الشّغا، اختلاف منابتها.
اللّصص، شدّة تقاربها وانضمامها.
اليلل، إقبالها على باطن الفم.
الدّفق، انصبابها إلى قدّام.
الفقم، تقدّم سفلاها على العليا.
القلح، صفرتها.
الطّرامة، خضرتها.
الحفر، ما يلزق بها.
الدّرد، ذهابها.
الهتم، انكسارها.
اللّطط، سقوطها.(2/65)
فصل فى ترتيب الأسنان
وهى: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربع أنياب، وأربع ضواحك، وثنتا عشرة رحا، وأربعة نواجذ.
قال أبو الفتح كشاجم:
عرضن! فعرّضن القلوب من الجوى ... لأسرع في كىّ القلوب من الجمر!
كأن الشّفاه اللّعس فيها خواتم ... من المسك، مختوم بهنّ على درّ.
وقال أيضا:
كالغصن في روضة تميس: ... تصبو إلى حسنها النّفوس.
ما شهدت والنّساء عرسا، ... فشكّ في أنها عروس!
تبسم عن باسم برود ... تعبق من طيبه الكؤوس.
يجمع فيه لمجتنيه: ... مسك، وورد، وخندريس.
وقال المتنبى:
ويبسمن عن درّ تقلّدن مثله ... كأنّ التّراقى وشحّت بالمباسم.
وقال الصنوبرىّ:
تلك الثّنايا من عقدها نظمت، ... بل نظم العقد من ثناياها.
وقال البحترىّ:
ويرجع الليل مبيضّا إذا ضحكت ... عن أبيض خصل السّمطين وضّاح.
وقال ابن الرومىّ:
كأنّى لم أبت أسقى رضابا: ... يموت به ويحيا المستهام!(2/66)
تعلّلنيه واضحة الثّنايا، ... كأنّ لقاءها حولا لمام.
تنفّس كالشّمول ضحى شمال ... إذا ما فضّ عن فمها الختام.
وقال النابغة:
تجلو بقادمتى حمامة أيكة ... بردا، أسفّ لثاته بالإثمد.
كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه، وأسفله ندى.
وقال شقيق بن سليل:
وتبسم عن ألمى اللّثات، مفلّج: ... خليق الثّنايا بالعذوبة والبرد.
وقال جميل:
بذى أشر كالأقحوان يزينه ... ندى الطّلّ، إلا أنه هو أملح.
وقال السمهرىّ:
كأنّ وميض البرق بينى وبينها، ... إذا حان من بعض البيوت، ابتسامها.
وقال آخر:
أحاذر في الظلماء أن تستشفّنى ... عيون العبارى في وميض المضاحك!
ومما قيل في السّواك، قول بعض الشعراء:
أقول لمسواك الحبيب: لك الهنا، ... بلثم فم ما ناله ثغر عاشق!
فقال، وفي أحشائه حرق الجوى ... مقالة صبّ للديار مفارق:
تذكّرت أوطانى فقلبى كما ترى، ... أعلّله بين العذيب وبارق!(2/67)
وقال آخر:
نقل الأراك بأن ريقة ثغره ... من قهوة، مزجت بماء الكوثر.
قد صحّ ما نقل الأراك لأنه ... قد جاء يروى عن «صحاح الجوهرى» .
وقال آخر:
بالله، إن جزت بوادى الأراك ... وقبلت أغصانه اللّدن فاك،
فابعث إلى المملوك من بعضها ... فإنّنى والله ما لى سواك!
ومما قيل في اللسان، فمن محاسنه:
إذا كان الرجل حادّ اللسان قادرا على الكلام، فهو ذرب اللسان، وفتيق اللسان.
فإذا كان جيّده، فهو لسن.
فإذا كان يضعه حيث أراد، فهو ذليق.
فإذا كان فصيحا بيّن اللهجة، فهو حذاقىّ.
فإذا كان مع حدّة اللسان بليغا، فهو مسلاق.
فإذا كان لا يعترض لسانه عقدة، ولا يتحيّف بيانه عجمة، فهو مصقع.
فإذا كان المتكلم عن القوم، فهو مدره.
فصل فى عيوبه
الرّتّة، حبسة في لسان الرجل، وعجلة في كلامه.
اللّكنة والحكلة، عقدة في اللسان وعجمة في البيان.
الهتهتة (بالتاء والثاء) ، حكاية التواء اللسان عند الكلام.(2/68)
التّعتعة (بالتاء والثاء) . حكاية صوت الألكن والعىّ.
الّلثغة، أن يصيّر الراء لاما من كلامه.
الفأفأة، أن يتردّد في الفاء.
التّمتمة، أن يتردّد في التاء.
اللّفف، أن يكون في للسان ثقل وانعقاد.
اللّيغ، أن لا يبيّن الكلام.
اللّجلجة، أن يكون فيه عىّ وإدخال بعض كلامه في بعض.
الخنخنة، أن يتكلم من لدن أنفه. ويقال: هى أن لا يبيّن الرجل كلامه فيخنخن فى خياشيمه.
المقمقة، أن يتكلم من أقصى حلقه.
فصل فى ترتيب العىّ
يقال: رجل عيىّ. ثم حصر، ثم فهّ، ثم مفحم، ثم لجلاج، ثم أبكم.
قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: المرء مخبوّ تحت لسانه.
وقال شاعر:
وما المرء إلّا الأصغران: لسانه ... ومعقوله. والجسم خلق مصوّر.
وقال امرؤ القيس:
وذلك من نبإ جاءنى، ... وخبّرته عن أبى الأسود.
ولو عن نثا غيره جاءنى، ... وجرح اللسان كجرح اليد.
(النّثا القبيح من الكلام) .(2/69)
وقال جرير:
لسانى وسيفى: صارمان كلاهما! ... وللسّيف أشوى وقعة من لسانيا!
(قوله أشوى إذا أخطأ المقتل) .
وقال آخر:
وجرح السيف تدمله فيبرى، ... وجرح الدّهر ما جرح اللسان!
ومما وصف به حسن الحديث والنغمة، فمن ذلك قول ذى الرمّة:
ولمّا تلاقينا، جرت من عيوننا ... دموع كففنا غربها بالأصابع.
ونلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع.
وقال أيضا:
وإنا ليجرى بيننا حين نلتقى ... حديث له وشى كوشى المطارف!
حديث كوقع القطر في المحل يشتفى ... به من جوّى في داخل القلب، لاطف.
وقال ابن الرومىّ:
ولقد سئمت مآربى، ... فكأنّ طيّبها خبيث.
إلّا الحديث فإنّه ... مثل اسمه أبدا حديث.
وقال بشّار:
وكأنّ رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا.
وكأنّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا.
وتخال ما اشتملت علي ... هـ ثيابها: ذهبا وعطرا.(2/70)
وقال البحترىّ:
فلمّا التقينا- والنّقا موعد لنا- ... تعجّب رائى الدّرّ حسنا ولاقطه.
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها، ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه!
وقال آخر:
ظللنا نشاوى عند أمّ محمد ... بنوم، ولم نشرب شرابا ولا خمرا!
إذا صمتت عنّا، صحونا بصمتها؛ ... وإن نطقت، هاجت لألبابنا سكرا.
وقال ابن الرومىّ عفا الله عنه:
وحديثها السّحر الحلال، لو انّه ... لم يجن قتل العاشق المتحرّز.
إن طال لم يملل، وإن هى أو جزت ... ودّ المحدّث أنها لم توجز.
شرك القلوب، وفتنة ما مثلها ... للمطمئنّ، وعقلة المستوفز.
وقال القطامىّ:
فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذى الغلّة الصادى.
وقال علىّ بن عطية البلنسىّ:
كلّمتنى فخلت درّا نثيرا، ... وتأمّلت عقدها هل تناثر.
فازدهاها جمالها، فأرتنى ... عقد درّ من التبسّم آخر!
وقال الوأواء الدّمشقىّ:
وحديث كأنّه ... أوبة من مسافر.
كان أحلى من الرّقا ... دلدى طرف ساهر.(2/71)
بتّ ألهو بطيبه ... فى رياض زواهر:
بين ساق وسامر ... ومغنّ وزامر.
وقال الطائىّ:
مدّت إليك بنانة أسروعا، ... تشكو الفراق، ومقلة ينبوعا.
كادت لعرقان النّوى ألفاظها ... من رقّة الشّكوى تكون دموعا.
وقال ابن المعتزّ:
وسرّ أحاديث عذاب لو أنّها ... جنى النحل، لم تمجج حلاوتها النحل.
ومما قيل في الأذن، الصّمع، صغرها.
السّكك، كونها في نهاية الصّغر.
القنف، استرخاؤهما وإقبالهما إلى الوجه.
الخطل، غلظهما.
فصل فى ترتيب الصّمم
يقال:
بأذنه وقر.
فإذا زاد، فهو صمم.
فإذا زاد، فهو طرش.
فإذا زاد حتّى لا يسمع الرعد، فهو صلخ.(2/72)
ومما وصف به الصّدغ، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتزّ:
ريم! يتيه بحسن صورته، ... عبث الفتور بلحظ مقلته.
فكأن عقرب صدغه وقفت، ... لما دنت من نار وجنته.
وقال ابن الرومىّ:
أبدا نحن في خلاف: فمنّى ... فرط حبّ ومنك لى فرط بغض.
فبصدغيك فوق خطّ عذار ... ظلمات، وبعضها فوق بعض.
وقال الصاحب بن عبّاد:
وعهدى بالعقارب حين تشتو ... تخفّف لدغها وتقلّ ضرّا.
فما بال الشتاء أتى، وهذا ... عقارب صدغه يزددن شرّا؟
وقال ابن المعتزّ:
أمن سبج في عارضيه صوالج ... معطّفة تفّاح خدّيه تضرب؟
وما ضرّه نار بخدّيه الهبت؛ ... ولكن بها قلب المحبّ يعذّب؟
عناقيد صدغيه بخدّيه تلتوى ... وأمواج ردفيه بخصريه تقلب.
شربت الهوى صرفا زلالا، وإنما ... لواحظه تسقى وقلبى يشرب.
وقال الثعالبىّ:
وصو لجان في يدى شادن ... لا يسمح العاشق أن يذكره
. وصو لجان المسك في خدّه ... متّخذ حبّة قلبى كره.(2/73)
وقال الناشئ الأصغر:
لك صدغ كأنما ... نونه نون كاتب.
يلدغ الناس إذ تعق ... رب لدغ العقارب.
وقال الصاحب بن عبّاد:
يا شادنا في وجهه عقرب ... ما يستجيب الدّهر للراقى.
يسلم خدّاه على لدغها، ... ولدغها في كبدى باقى!
وقال عمر المطوعىّ:
بنفسى من تمّت محاسن وجهه! ... فما هو إلا البدر عند تمام.
وأرسل صدغا فوق خدّ كأنه ... جناح غراب فوق طوق حمام.
وقال آخر:
حلّت بمقارب صدغه في خدّه ... قمرا، فجلّ بها عن التشبيه!
ولقد عهدناه يحلّ ببرجها ... فمن العجائب كيف جلّت فيه؟
وقال العماد الأصبهانىّ:
وإذا بدا لك صدغه في وجهه، ... أبصرته قمرا بدا في العقرب!
وقال أبو الفتح كشاجم:
ومنعن ورد خدودهنّ فلم نطق ... قطفا لها لعقارب الأصداغ!
ومما وصفت به الخدود والوجنات، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير.
قال أبو الفتح كشاجم:
غدا، وغدا تورّد وجنتيه ... لعين محبه يصف الرّياضا.(2/74)
على خدّيه ماء عسجدىّ؛ ... فلو نظر الرقيب إليه، غاضا.
وقال آخر:
دعوت بماء في زجاج، فجاءنى ... حبيبى به خمرا نظرت له شزرا.
فقال: هو الماء القراح وإنما ... تجلّى له خدّى فأوهمك الخمرا!
وقال أبو القاسم عبد الغفار المصرىّ، شاعر اليتيمة:
ورد الخدود أرقّ من ... ورد الرّياض وأنعم.
هذا تنشّقه الأنو ... ف، وذا يقبّله الفم.
فإذا عدلت، فأفضل ال ... وردين ورد يلثم.
وقال أيضا (ويروى للوأواء الدمشقى) :
لا تظلموا الناس ولا تطلبوا ... بثارى اليوم أذى مسلم!
ويا لقومى دونكم شادنا ... معتدل القامة والمبسم!
فإن أبى إلا جحود الهوى ... واكتتم الأمر ولم يعلم،
قولوا له يكشف عن خدّه؛ ... فإن فيه نقطا من دمى.
وقال ابن الرومىّ:
وغزال ترى على وجنتيه ... قطر سهميه من دماء القلوب.
لهف نفسى لتلك من وجنات ... وردها ورد شارق مهضوب!
أنهلت صبغ نفسها ثم علّت ... من دماء القتلى بغير ذنوب.
جرحته العيون فاقتصّ منها ... بجوى في القلوب دامى النّدوب.(2/75)
وقال أيضا:
يا وجنتيه اللتين من بهج ... فى صدغيه اللذين من دعج!
ما حمرة فيكما: أمن خجل، ... أم صبغة الله، أم دم المهج؟
وقال أبو الفتح البستىّ:
ومهفهف غنج الشمائل أزعجت ... قلبى محاسن وجهه إزعاجا.
درت الطبيعة أن فاحم شعره ... ليل فأذكت وجنتيه سراجا.
وقال عبد الله بن المعتزّ:
يا من يجود بموعد من لحظه ... ويصدّ حين أقول: أين الموعد؟
ويظلّ صبّاغ الحياء بخدّه ... تعبا: يعصفر تارة ويورّد.
وقال الراضى بالله:
يصفرّ وجهى إذا تأمّلنى ... خوفا، ويحمرّ خدّه خجلا.
حتّى كأنّ الذى بوجنته ... من ماء وجهى إليه قد نقلا.
وقال الخبز أرزى:
صل بخدّى خدّيك، تلق عجيبا ... من معان يجاز فيها الضمير.
فبخدّيك للرّبيع رياض، ... وبخدّى للدّموع غدير.
وقال أيضا:
أظهر الكبرياء من فرط زهو، ... فتلقّيته بذلّ الخضوع.
وحبانى ربيع خدّيه بالور ... د فأمطرته سحاب الدّموع.
وقال الصنوبرىّ:
رقّ، فلو كلّفته أعيننا ... أن يرشح الخمر خدّه، رشحا.(2/76)
وقال المفجّع:
ظبى إذا عقرب أصداغه، ... رأيت ما لا يحسن العقرب.
تفّاح خدّيه له نضرة ... كأنّه من دمعتى يشرب.
وقال آخر:
ومبيح أسرار القلو ... ب بوجنتيه وحاجبيه.
جمع الإله له المحا ... سن ثم أفرغها عليه.
وكأنّ مرآتين علّ ... قتا بصفحة عارضيه.
وكأنّ ورد الجلّن ... ار مضعّف في وجنتيه.
وقال علىّ بن عطيّة البلنسىّ في غلام جرح خدّه:
وأحوى رمى عن قسىّ الحور ... سهاما يفوّقهنّ النظر.
يقولون: وجنته قسّمت ... ورسم محاسنه قد دثر.
وما شقّ وجنته عابثا ... ولكنّها آية للبشر.
جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر.
ومما وصفت به على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتزّ:
نجل العيون، سواحر اللحظات ... هيّجن منك سواكن الحركات.
أقبلن يرمين الجمار تنسّكا، ... فجعلن قلبك موضع الجمرات.
فكأنهنّ غصون بان ناعم ... يحملن تفّاحا على الوجنات.(2/77)
وقال ابن الرومىّ:
تشرع الألحاظ في وجنتها ... فتلاقى الرّىّ من مشربها.
فهى حسب العين من نزهتها، ... وهى حسب الأذن من مطربها.
وقال ديك الجنّ:
بأبى الثلاث الآنسا ... ت الرائقات الغانيات!
أقبلن، والأصداغ في ... وجناتهنّ معقربات!
ألفاظهنّ مؤنّثا ... ت والجفون مذكّرات!
حتّى إذا عاينتهنّ ... وللأمور مسبّبات،
جمّشتهنّ، وقلت: طي ... ب عناقكنّ هو الحياة!
فحجلن حتّى خلت أنّ ... خدودهنّ معصفرات.
ومما وصفت به الخيلان، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير.
قال بعض الشعراء:
فى الساعد الأيمن خال له ... مثل السّويداء على القلب.
كأنه من سبج فاحم ... مركّب من لؤلؤ رطب.
وقال ابن منير الطرابلسى:
لاح لنا عاطلا، فصيغ له ... مناطق من مراشق المقل.
حياة روحى وفي لواحظه ... حتفى بين النّشاط والكسل.
ما خاله من فتيت عنبر صد ... غيه ولا قطر صبغة الكحل.
لكن سويداء قلب عاشقه ... طفت على نار وردة الخجل.(2/78)
وقال أيضا:
أنكرت مقلته سفك دمى، ... وعلى وجنته فاعترفت.
لا تخالوا خاله في خدّه ... قطرة من صبغ جفن نطفت.
تلك من نار فؤادى جذوة ... فيه ساخت وانطفت ثم طفت!
وقال آخر:
لا تخال الخال يعلو خدّه ... نقط مسك ذاب من طرّته.
ذاك قلبى سلبت حبّته ... فاستوت خالا على وجنته.
وقال ابن منير:
كأنّ خدّيه دينارين قد وزنا ... وحرّر الصّيرفىّ الوزن واحتاطا.
فخفّ إحداهما عن وزن صاحبه، ... فحطّ فوق الذى قد خفّ قيراطا.
وقال آخر:
أضحى ليوسف في الجمال خليفة، ... يخشأه كلّ العالمين إذا بدا.
عرّج معى وانظر إليه لكى ترى ... فى خدّه علم الخلافة أسودا.
وقال آخر:
كم قلت للنفس: إليه اذهبى، ... فحبّه المشهور من مذهبى!
مهفهف القدّ له شامة ... من عنبر في خدّه المذهب.
آيسنى التوبة من حبّه ... طلوعه شمسا من المغرب!
وقال آخر:
ومهفهف من شعره وجبينه ... يغدو الورى في ظلمة وضياء.
لا تنكروا الخال الذى في خدّه ... كلّ الشقيق بنقطة سوداء.(2/79)
وقال آخر:
لهيب الخدّ حين رأته عينى ... هوى قلبى عليه كالفراش.
فأحرقه فصار عليه خالا؛ ... وها أثر الدّخان على الحواشى!
وقال آخر:
بدا على خدّه خال يزيّنه، ... فزادنى شغفا منه إلى شغفى.
كأنّ حبّة قلبى عند رؤيته ... طارت فقلت لها: فى الخدّ منه قفى!
وقال آخر:
خيلان خدّك ردّت ... صحيح قلبى مريضا.
فى العين سود، ولكن ... ما زلن في القلب بيضا.
وقال آخر:
خدّك مرآة كلّ حسن ... يحسن من حسنها الصّفات.
مالى أرى فوقه نجوما ... قد كسفت وهى نيّرات؟
وقال آخر:
حجّت إلى وجهك أبصارنا ... طائفة، يا كعبة الحسن!
تمسح خالا منك في وجنة ... كالحجر الأسود في الركن.
وقال الأسعد بن بليطة:
سكران لا أدرى- وقد وافى بنا- ... أمن الملاحة أم من الجريال.
تتنفّس الصّهباء في لهواته ... كتنفّس الرّيحان في الآصال.
وكأنما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في ليال وصال.(2/80)
ومما وصفت به على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول أبى الفتح كشاجم:
فديت زائرة في العيد واصلة ... لمستهام بها للوصل منتظر.
فلم يزل خدّها ركنا ألوذبه، ... والخال في صحنه يغنى عن الحجر.
وقال العباس بن الأحنف:
ومحجوبة في الخدر عن كلّ ناظر، ... ولو برزت، ما ضلّ بالليل من يسرى.
بخال بذاك الخدّ أحسن منظرا ... من النّقطة السّوداء في وضح البدر.
ومما قيل في العذار، فمن ذلك ما ورد فيه على سبيل المدح.
قال مانى الموسوس عفا الله عنه ورحمه:
وما غاضت محاسنه؛ ولكن ... بماء الحسن أورق عارضاه.
سمعت به فهمت إليه شوقا! ... فكيف لك التصبّر، لو تراه؟
وقال أبو فراس:
من أين للرشإ الغرير الأحور ... فى الخذ مثل عذاره المتحدّر؟
يا من يلوم على هواه سفاهة! ... أنظر إلى تلك السوالف، تعذر.
قمر كأنّ بعارضيه كليهما ... مسك تساقط فوق ورد أحمر.
وقال ابن المعدّل:
سالت مسايل عارضي ... هـ بنفسجا في ورده.
فكأنّه من حسنه ... عبث الربيع بخدّه.(2/81)
وقال الخبّاز البلدى:
وعارض مثل دارة البدر ... دار بوجه كليلة القدر.
فلو تراه وحسن منظره، ... شهدت أنّ الجمال للشّعر.
وقال ابن المعتزّ:
وتكاد الشمس تشبهه ... ويكاد البدر يحكيه.
كيف لا يخضرّ عارضه، ... ومياه الحسن تسقيه؟
وقال محمد بن وهب:
صدودك في الورى هتك استتارى، ... وساعده البكاء على اشتهارى.
ولم أخلع عذارى فيك إلّا ... لما عاينت من حسن العذار.
وكم أبصرت من حسن، ولكن ... عليك من الورى وقع اختيارى.
وقال أبو الفرج الوأواء:
وشمس [1] بأعلاه ولبلان أسبلا ... بخدّيه، إلا أنّها ليس تغرب.
ولمّا حوى نصف الدّجى نصف خدّه ... تحيّر حتّى مادرى أين يذهب.
وقال الخبز أرزّى:
انظر إلى الغنج يجرى في لواحظه، ... وانظر إلى دعج في طرفه الساجى!
وانظر إلى شعرات فوق عارضه ... كأنهنّ نمال سرن في العاج!
وقال أيضا:
وجه تكامل حسنه ... لما تطرّفه عذاره.
والسيف أحسن ما ترى ... ما كان مخضرّا غراره.
__________
[1] فى الأصل: «ليل» . والتصويب عن اليتيمة.(2/82)
وقال الأمير سيف الدّين المشدّ:
ولائم في عذار بدر ... لم أستطع عن هواه ميلا.
فقلت، والدّمع في جفونى ... لفرط وجدى تسيل سيلا:
ضللت في خدّه نهارا! ... كيف رشادى، وصار ليلا؟
وقال أيضا:
ولمّا أن بدا في الخدّ شعر ... توقّف عند منتصف العذار.
فقلت للائمى فيه: تعجّب ... لنصف الليل في نصف النهار!
وقال أيضا:
ومهفهف يحمى ورود رضابه ... بصوارم سلّت من الأجفان.
كتب العذار بليقة مسكيّة ... فى خدّه سطرا من الرّيحان.
وقال أيضا:
يقول العواذل لمّا بدا ... على خدّه شعر زائر:
ذوى ورد خدّيه، قلت: اقصروا ... فنرجس ألحاظه وافر!
وقال آخر:
وقالوا: تسلّى فقد شانه ... عذار أراحك من صدّه.
فقلت: وهمتم، ولكنّنى ... خلعت العذار على خدّه.
وقال آخر:
بروحى وقلبى ذلك العارض الذى ... غدا مسكه فوق السّوالف سائلا.
درى خدّه أنّى أجنّ من الهوى، ... فأظهر لى قبل الجنون سلاسلا!(2/83)
وقال آخر:
أصبحت مأسورا بغنج لحاظه ... ومقيّدا من صدغه بسلاسل.
حتّى بدا سيف العذار مجرّدا ... فخشيت منه، فقلت هذا قاتلى!
وقال آخر:
قالت: اسودّ عارضاك بشعر، ... وبه تقبح الوجوه الحسان!
قلت: أشعلت في فؤادى نارا، ... فعلى عارضىّ منه دخان!
وقال آخر:
قلت، وقد أبصرته مقبلا ... وقد بدا الشّعر على الخدّ:
صعود ذا النمل على خدّه ... يشهد أن الرّيق من شهد.
ومثله قول الآخر:
قالوا: التحى، فاصب إلى غيره! ... قلت لهم: لست إذا أسلو!
لو لم يكن من عسل ريقه، ... ما دبّ في عارضه النّمل.
وقال آخر:
عذاره أحسن ما فيه، ... وتيهه من أحسن التّيه.
فى فمه الشّهد، فلا تعجبوا ... إن دبّ نمل بعذاريه.
وقال آخر:
أصلى بنار الخدّ عنبر خاله ... فغدا العذار دخان ذاك العنبر.
وقال آخر (وقد تقدّم إيراده في صفاء الخدّ) .
أعد نظرا، فما في الخدّ نبت ... حماه الله من ريب المنون!
ولكن رقّ ماء الوجه حتّى ... أراك مثال أهداب الجفون.(2/84)
ومثله قول الآخر (وقد تقدّم إيراده) :
ولمّا استدارت أعين الناس حوله ... تلاحظه كيف استقلّ وسارا،
تمثّلت الأهداب في ماء وجهه ... فظنّوا خيال الشّعر فيه عذارا.
وقال الحاجرىّ:
وما اخضرّ ذاك الخدّ نبتا، وإنما ... لكثرة ما شقّت عليه المرائر.
وقال آخر:
يا لائمى في حبّ ذى عارض، ... ما البلد المخصب كالماحل!
يموج ماء الحسن في وجهه ... فيقذف العنبر في الساحل.
وقال آخر:
ولمّا بدا خطّ العذار بوجهه ... كظلمة ليل في ضياء نهار،
تغلغل في قلبى هواه فلم أزل ... خليع عذار في جديد عذار.
وقال آخر:
قالوا: التحى، فامتحت بالشّعر بهجته! ... فقلت: لولا الدّجى لم يحسن القمر.
من كان منتظرا للصبر عنه به، ... فإنّنى لغرامى كنت أنتظر.
خطّت يد الحسن منه فوق وجنته: ... هذى محاسن، يا أهل الهوى، أخر!
وقال آخر:
وقلت: الشّعر يسلينى هواه! ... ولم اعلم بأنّ الشّعر حينى.
فظلت لشقوتى أفدى وأحمى ... سواد عذاره بسواد عينى.
وقال محمد بن عبد الله السلامى، شاعر اليتيمة:
عذارك جادت عليه الرّيا ... ض بأجفانها وبآماقها.(2/85)
وطال غرام الغوانى به ... فقد طرّزته بأحداقها.
وقال ابن سكّرة الهاشمىّ:
وغزال لولا نميمة شعر ... ذكّرته، لقلت: إحدى الجوارى.
شارب أشرب الصّبابة قلبى، ... وعذار خلعت فيه عذارى.
وقال آخر:
قالوا: التحى وستسلو عنه، قلت لهم: ... هل يحسن الروض ما لم يطلع الزّهر؟
هل التحى طرفه الساجى، فأهجره؟ ... وهل تزحزح عن ألحاظه الحور؟
وقال أبو الفتح كشاجم:
من عذيرى من عذارى قمر، ... عرّض القلب لأسباب التلف؟
زيد حسنا وضياء بهما، ... فهو الآن كبدر في سدف.
خمّشا خدّيه ثم انعطفا، ... آه ما أحسن ذاك المنعطف!
علم الشّعر الذى عاجله ... أنه جار عليه، فوقف.
فهو في وقفته معترف ... بالتناهى في التعدّى والسّرف.
وقال آخر:
لا تعتقدوا ما لاح في وجنته ... شعرا، غلطا! ما ذاك من شمته!
بل ساكن ماء الحسن قد حرّكه ... موج قذف العنبر في حافته.
وقال عبد الله بن سارة الإشبيلىّ:
ومعذّر رقّت حواشى حسنه، ... فقلوبنا حذرا عليه رقاق.
لم يكس عارضه السواد، وإنما ... نفضت عليه صباغها الأحداق.(2/86)
وقال أبو بكر الدانىّ، شاعر الذخيرة:
بدا على خدّه عذار ... فى مثله يعذر الكئيب.
وليس ذاك العذار شعرا، ... لكنّما سرّه غريب.
لمّا أراق الدّماء ظلما، ... بدت على خدّه الذّنوب.
وقال عبد الجليل الأندلسىّ:
ومعذّرين كأنما بخدودهم ... طرق العيون ومنهج الأوداج.
وكأنما صقلوا الجمال فأظهروا ... مشى النّمال على متون العاج.
ومما وصف به العذار على طريق الذمّ، فمن ذلك ما قاله الوزير أبو المغيرة ابن حزم، عند ما عرضت عليه رسالة بديع الزمان في الغلام الذى خطب إليه ودّه بعد أن عذّر، قال:
«ورد كتابك ينشد ضالّة ودّنا، ويرقع خلق عهدنا؛ ويطلب ما أفاءته جريرتك «إلينا، وذهبت به جنايتك علينا؛ أيام غصنك ناضر، وبدرك زاهر؛ لا نجد رسولا «إليك، غير لحظة تخرق حجاب الدّموع، أو زفرة تقيم مناد الضّلوع؛ فإن رمنا شكوى «ينفث بها مصدورنا، ويستريخ إليها مهجورنا؛ لقينا دونها أمنع سدّ، وأقبح كفّ «وصدّ، وأقدح ردّ.
وفي فصل منها:
«حتّى إذا طفئت تلك النّيران، وانتصف لنا منك الزمان؛ بشعرات أغشت «هلالك كسوفا، وقلبت ديباجك صوفا؛ وأعادت نهارك ليلا، وناحت عليك تلهّفا(2/87)
«وويلا؛ وأطار حمامك غرابك، وحجب ضياءك ضبابك؛ فصار عرسك مأتما، «وعاد وصلك محرّما، قال القائل:
«وبتّ مداما تسرّ النزيف ... فأصبحت تجرع خلّا ثقيفا.
«وصرت حجازا جديب المحلّ، ... وقد كنت للطالب الخصب ريفا.
«أقبلت تتسلّل إلينا لواذا، وتطلب منا عياذا؛ قد أنساك ذلّ العزل عزّ الولايه، «وأولاك طمعا نسياننا تلك الجناية؛ أيّام ترشقنا سهام ألحاظك رشقا، وتقتلنا سيوف «ألفاظك عشقا؛ وتميس غصنا، فتثير حزنا؛ وتطلع شمسا، فتفتّت نفسا.
«فالآن نلقاك بدمع قد جفّ، ووجد قد كفّ؛ وعزاء قد أبّد، وصبر قد أغار «وأنجد؛ وننظر منك إلى روض قد صوّح، وسار قد أصبح؛ وأعجم قد أفصح، «ومبهم قد صرّح. فلا شكّ قد رفع الغطاء، ولا إفك قد برح الخفاء، ولا لوم قد وقع «الجزاء. وهلّا ذكرت المثل الممتهن «الصّيف ضيّعت اللبن!» ونسيت من أحرقت «قلبه صدّا، وأقلقت جنبه ردّا؛ وملأت جوانحه نارا، وتركت نومه غرارا؛ «أن يوفيك قرضا، ويجازيك حتّى ترضى؛ حين نكّس علمك، وعثرت قدمك؛ «وضاقت طرقك، وأظلم أفقك؛ وهوى نجمك، وخاب قدحك؛ وفلّ سيفك، وحطّ «رمحك؛ فاطو ثوب وصلك فلا حاجة لنا إلى لباسه، وازو طارق شخصك فلا رغبة «لنا في إيناسه؛ فما يشتهى اليوم زيارة رمس، من زهد فيه أمس. قال:
«حانت منيته فاسودّ عارضه، ... كما تسوّد بعد الميّت الدار.
«يا من نعته إلى الإخوان لحيته، ... أدبرت، والناس إقبال وإدبار!
«فيا لدهر مضى ما كان أحسنه! ... إذ أنت ممتنع والشّرط دينار.
«ايّام وجهك مصقول عوارضه، ... وللرياض على خدّيك أنوار!(2/88)
وقال علىّ بن نصر الكاتب تعزية لمن طلعت لحيته:
«لكل حادثة يفجع بها الدهر- أحسن الله معونتك- حدّ من القلق والالتياع، «ومبلغ من التحرّق والارتياع؛ تستوجب فنّا من التعزيه، وتستحق نصيبا من العظة «والتسليه؛ والاختصار فيها لما قرب خطبه وشانه، والإكثار لما جلّ محلّه «ومكانه.
«ومصابك هذا- أعانك الله- فى بياض روضك لما اسودّ، كمصابك في سواده «إذا ابيضّ؛ والألم ببياض روضه جميما، نظير الألم به يوم يعود هشيما.
«فليس أحد يدفع عظيم النازل بك، ولا يستصغر جسيم الطارق لك؛ وإن كان «ما يتعقبه من المشيب أقذى للعيون.
«التفتت عنك النواظر، وكانت منتفتة إليك، ووقفت عنك الخواطر، وكانت «موقوفة عليك؛ وصيّرك قذى الأجفان وكنت جلاها، وجعلك كربة النفوس «وكنت هواها؛ وأبدلك من أنس التقبل، وحشة التنقل؛ وعوّضك من رقة الترفرف، «كلفة التأفّف؛ فتبارك الله الذى صرف عنك الابصار، ونقّل فيك الأطوار! «فعويلا دائما وبكاء! وعزاء عن الذكر الجميل عزاء! فلكل أجل كتاب، وعلى كل «جائحة ثواب.
«ولقد استوفيت أمد الصبا والصبابه، واستنبت الحسرة عليها والكآبه. فرزيّتك «راسية والرزايا سوائر، ومصيبتك ثابتة والمصائب عوائر. «إنا لله وإنا إليه «راجعون» .(2/89)
«ثم لا حيلة، فإنها الأيام التى لا تثبت على حاله، ولا تعرف غير التنقل والاستحاله! «فآجرك الله في وجه نضب ماؤه، وذهب رواؤه ومات حياؤه! وفي ضيعة استأجم «برّها، واستدغل نورها؛ وأسبع طريقها، واتسعت تنوفتها! وفي جاه كان عامرا «فخرب، ودخل كان وافرا فذهب، وتذكار كان واصلا إلى القلوب فحجب! «فأصبحت مسبوق السكّيت، وظللت حيا وأنت الميت؛ فلا حول ولا قوّة إلا بالله «من محن ذفعت إليها، ولم تعن بحال عليها.
«وقد يشغل الإنسان عن نوائبه المشاركون فيها، ويسلّيه عنها المساهمون في معنى «معانيها؛ وأنت من بين هذه المنزلة لا شريك لك، فإنهم يعتاضون عنها ولست «بمعتاض، ويركضون للعيش ولست بركاض. والدهر يطوى محاسنك طىّ السجلّ «كتابه، وينشر مقابحك نشر اليمانى أثوابه. ويملّ الطرف رؤيتك فلا يفيق عليك «جفنا، ويمجّ السمع ذكرك فلا يجد عنده أذنا.
ومنها:
وقد جعلت رقعتى هذه جامعة بين البكاء عليك والأنين، وناظمة بين العزاء والتأبين. لها حلاوة النثر، وعليها طلاوة الشعر. نتجتها قريحة عليك، ونسجتها خواطر خاطرت إليك؛ تخفّف غرامك والناس مشاغيل بتثقيله، وتكرم مكانك والإجماع واقع على تهوينه. فإن عرفت لى ذاك، وإلا عرفه الصّدق؛ وإن شكرنه، وإلا شكره الحق.
والسلام عليك من أسير لا يخلص بالفدية، وقتيل بسيف السّبال واللحية.»
وقال الصنوبرىّ:
ما بدت شعرة بخدّك إلّا ... قلت في ناظرىّ أو في فؤادى.(2/90)
أنت بدر جنى الخسوف عليه ... ظلمة، لا أرى لها من نفاد.
فاسوداد العذار بعد ابيضاض ... كابيضاض العذار بعد اسوداد.
وقال آخر:
أصبح نحسا- وكان سعدا- ... من كان مولى فصار عبدا.
بكى على حسنه زمانا، ... لما رأى الشّعر قد تبدّى.
لو نبت الشّعر في وصال، ... لعاد ذاك الوصال صدّا!
وقال الخبز أرزى:
بدا الشّعر في وجهه، فانتقم ... لعاشقه منه لمّا ظلم.
وما سلّط الله نبت اللّحى ... على المرد إلّا زوال النّعم.
توحّشت العين في وجهه، ... وحقّ لها وحشة في الظّلم.
إذا اسودّ فاضل قرطاسه، ... فما ظنّه بمجارى القلم؟
ولم يعل في خدّه كالدّخا ... ن إلّا وأسفله كالحمم.
وقال التّنوخىّ:
قلت لأصحابى، وقد مرّ بى ... منتقبا بعد الضّيا بالظّلم:
بالله، يا أهل ودادى! قفوا ... كى تبصروا كيف زوال النّعم!
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ في ملتح:
ما للعذار، وكان وجهك قبلة، ... قد خطّ فيه من الدّجى محرابا.
وإذا الشّباب- وكان ليس بخاشع- ... قد خرّ فيه راكعا، وأنابا.(2/91)
وقال أيضا:
وافى بأوّله صحيفة صفحة ... جعل العذار بها يسيل مدادا.
متجهّما ثكل الشّباب كأنما ... لبس العذار على الشّباب حدادا.
وقال عمر المطوعىّ، من شعراء اليتيمة:
غدا- منذ التحى- ليلا بهيما، ... وكان كأنّه القمر المنير.
فقد كتب السّواد بعارضيه ... لمن يقرا: «وجاءكم النّذير» .
وقال عبد الجليل الأندلسىّ، من شعراء الذخيرة:
وأمرد يستهيم بكل واد ... وينصب للحشا خدّا صليبا.
دعوت دعاء مظلوم عليه، ... وكان الله مستمعا مجيبا.
فطوّقه الزمان بما جناه ... وعلّق من عدريه؟؟؟
ومما قيل في العنق، يقال:
الجيد، طولها- التّلع، إشرافها- الهنع، نطامنها- الغلب، غلظها- البتع، شدّتها- الصّعر، ميلها- الوقص، قصرها- الخضع، خضوعها- الحدل، عوجها.
وقال دعبل:
أتاح لك الهوى بيض حسان ... سلبنك بالعيون وبالنّحور.
نظرت إلى النّحور فكدت تقضى ... فأولى لو نظرت إلى الخصور.(2/92)
وقال قيس بن الخطيم.
وجيد كجيد الرّيم صاف يزينه ... توقّد ياقوت وفصل زبرجد.
كأنّ الثريّا فوق ثغرة نحرها ... توقّد في الظّلماء أىّ توقّد.
ومما قيل في اليد إذا باشرت ما يعلق بها، يقال:
من اللحم غمرة، ومن الشحم زهمة، ومن السمن نسمة، ومن الزّبد وضرة، ومن الجبن نشمة، ومن اللبن مذقة، ومن البيض زهكة، ومن السمك صمرة، ومن الزيت قنمة، ومن الخمر عتكة، ومن الخل خمطة، ومن العسل ونحوه لزجة، ومن الطّيب عطرة، ومن الغالية عبقة، ومن الزعفران ردعة، ومن العنبر لطخة، ومن الخلوق ضمخة، ومن الحنّاء قنئة، ومن الدّم ضرجة، ومن الماء بللة، ومن الطين لثقة وردغة، ومن البرد صردة، ومن التراب كثبة وغضرة، ومن القار حلكة، ومن الفحم حممة، ومن المداد طرسة، ومن الحديد سهكة، ومن الفضة سبكة، ومن الذهب نضرة، ومن النار شعلة، ومن الرياحين فوحة، ومن البقل زهرة، ومن الفاكهة الرطبة لزقة، ومن البابسة فكهة، ومن العمل مجلة ونفطة، ومن الخشونة شثنة وثفنة، ومن الشوك مشطة وشظية، ومن الحطب حزمة، ومن الرمح كعبة، ومن الصولجان لعبة، ومن الجود سبطة، ومن العظية منحة، ومن البخل جعدة، ومن المنع لحزة، ومن العدم تربة، ومن الرزّ زنخة، ومن الصابون حفرة، ومن الفرصاد قانية، ومن الرجيع قثمة، ومن كل القاذورات قذرة، ومن الوسخ درنة. اه(2/93)
ومما مدحت به اليد، قال مؤيد الدّين الطّغرائى:
ويد تمدّ المال راحتها ... أبدا، ويغمر ظهرها القبل.
إن ضنّ غيث أوخبا قمر، ... فجبينه ويمينه البدل.
وقال عبد المؤمن بن هبة الله الأصبهانىّ
قالوا: بدت عارضة- لا بدت! - ... فى كفّ ذاك السيّد الأوحد.
راحته راحة من يجتدى، ... وكفّه كفّ الذى يعتدى.
فلا أصابت يده آفة! ... فكم يد عندى لتلك اليد!
وقال ابن دريد:
يا من يقبّل كفّ كلّ ممخرق، ... هذا ابن يحيى ليس بالمخراق!
قبّل أنامله، فلسن أناملا؛ ... لكنهنّ مفاتح الأرزاق!
وقال إبراهيم بن العباس بن محمد:
لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل.
فباطنها للنّدى، ... وظاهرها للقبل.
وبسطتها للغنى، ... وسطوتها للأجل.
وقال ابن الرومىّ:
فامدد إلىّ يدا تعوّد بطنها ... بذل النّوال، وظهرها التقبيلا.
وقال أبو نواس:
يا قمرا، أبرزه ماتم ... يندب شجوا بين أتراب!
يبكى فيذرى الدّرّ من نرجس، ... ويلطم الورد بعنّاب.(2/94)
وقال الناشى:
من كفّ جارية كأنّ بنانها ... من فضّة قد طرّفت عنّابا.
وكأنّ يمناها إذا نطقت بها ... تلقى على يدها الشّمال حسابا.
وقال الراضى بالله:
قالوا: الرّحيل! فأنشبت أظفارها ... فى خدّها، وقد اعتلقن خضابا.
فاخضّر تحت بنانها فكأنّها ... غرست بأرض بنفسج عنّابا.
وقال ابن كيغلغ:
لمّا اعتنقنا للوداع وأعربت ... عبراتنا عنّا بدمع ناطق،
فرّقن بين معاجر ومحاجر، ... وجمعن بين بنفسج وشقائق.
وقال كشاجم:
فما أنسها، لا أنس منها إشارة ... بسبّابة اليمنى إلى خاتم الفم!
وأعلنت بالشكوى إليها فأومأت ... حذارا من الواشين أن لا تكلّم.
فلم أر شكلا واقعا فوق شكله ... كعنّابة تومى بها فوق عندم.
ومما قيل في النهود، يقال:
ثندوة الرّجل، ثدى المرأة، خلف الناقة، ضرع الشاة والبقرة، طبى الكلبة.
قال ابن الرومىّ:
صدور فوقهنّ حقاق عاج، ... وحلى زانه حسن اتّساق!
يقول الناظرون إذا رأوها: ... أهذا الحلى من هذى الحقاق؟
وما تلك الحقاق سوى ثدىّ ... قدرن من الحقاق على وفاق.(2/95)
نواهد لا يعدّ لهنّ عيب ... سوى منع المحبّ من العناق.
وهو مأخوذ من قول بعض الأعراب: ... أبت الرّوادف والثّدىّ لقمصها
مسّ البطون، وأن تمسّ ظهورا.
وقال محمد بن مبادر:
ولها ثديان ما عدوا ... من حقاق العاج أن كعبا.
قسمت نصفين دعص نقا ... وقضيبا لان، فاضطربا.
وقال عبد الله بن أبى السّمط بن مروان:
كأنّ الثّدىّ إذا ما بدت ... وزان العقود بهنّ النّحورا،
حقاق من العاج مكنونة ... يسعن من الدّرّ شيئا كثيرا.
وقال علىّ بن الجهم:
كنت مشتاقا وما يحجزنى ... عنك إلا حاجز يمنعنى.
شاخص في الصدر، غضبان على ... قبب البطن وطىّ العكن.
يملأ الكفّ ولا يفضله، ... وإذا أثنيته لا ينثنى.
وقال ابن الرومىّ:
ملقمات أطفالهنّ ثديّا ... ناهدات كأحسن الرّمّان.
مفعمات كأنها حافلات ... وهى صفر من درّة الألبان.
وقال ابن المعتزّ:
قبيح بمثلك أن تهجرى، ... وأقبح من ذاك أن تهجرى.
أقاتلى بفتور الجفون ... ورمّانتين على منبر،
كحقين من لبّ كافورة ... برأسيهما نقطتا عنبر!(2/96)
ومما قيل في البطن، يقال:
الدّحل، عظمه- الحبن، خروجه- الثّجل، استرخاؤه- القمل، ضخمه- الضّمور، لطافته- العجر والبجر، شخوصه- التّخرخر، اضطرابه.
قال محمد بن مبادر:
والبطن ذو عكنة لطيف ... صفر وشاحاه جائلان.
أشرف من فوقه عليه ... ثديان ميلان ناهدان.
ومما قيل في الأرداف والخصور، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير.
فمنه قول عبد الله بن طاهر:
صبّ كئيب يشتكيك الهوى ... كما اشتكى خصرك من ردفكا.
لسانه عن وصف أسقامه ... أكلّ منه عن مدى وصفكا.
وقال ابن أبى البغل:
كأنّه في اعتداله غصن ... وفي السّراويل منه أمواج.
إذا مشى كالقضيب جاذبه ... ردف له كالكشيب رجراج.
ويعلم الله أنّنى رجل ... إليه مذ قد كثرت محتاج.(2/97)
وأنشد أبو بكر بن دريد عفا الله عنه ورحمه:
قد قلت لمّا مرّ يخطر ماشيا ... والرّدف يجذب خصره من خلفه.
يا من يسلّم خصره من ردفه ... سلّم فؤاد محبّه من طرفه.
وقال السرىّ الرّفاء:
ضعفت معاقد خصره وعهوده ... فكأنّ عقد الخصر عقد وفائه.
وقال المتنبى:
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأنّ عليه من حدق نطاقا.
وقال السرىّ الرفّاء:
أحاطت عيون الناظرين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق.
وقال الأمير سيف الدّين المشدّ:
وأهيف القدّ بتّ أشكو ... له تلافى وما تلافى.
فلان عطفا ودقّ خصرا ... وإنما ردفه تجافى.
وقال أبو نواس:
ليّن القدّ لذيذ المعتنق ... يشبه البدر إذا البدر اتّسق.
مثقل الرّدف إذا ولّى حكى ... موثقا في القيد يمشى في زلق.
وإذا أقبل كادت أعين ... نحوه تجرح فيه بالحدق.
وقال آخر وأجاد:
أيا من نصفه غصن ... يميل ونصفه كفل.
صفاتك في تباينها ... فمنفصل ومتّصل.
فنصفك موج عاصفة ... ونصفك شارب ثمل.(2/98)
ومما وصفت به على لفظ التأنيث، فمنه قول أبى عبادة البحترىّ:
كأنّهنّ وقد قاربن في نظرى ... ضدّين في الحسن تثقيلا وإخطافا.
رددن ما خفّفت عنه الخصور إلى ... ما في المآزر فاستثقلن أردافا.
وقال آخر:
لها ردف تعلّق في لطيف ... فذاك الرّدف لى ولها ظلوم.
يعذّبنى إذا فكّرت فيه ... ويتعبها إذا قصدت تقوم.
وقال مؤمل وأفرط:
من رأى مثل حبّتى ... تشبه البدر إذ بدا.
تدخل اليوم ثم تد ... خل أردافها غدا.
وقال أبو هلال:
تمشى بأرداف أبين قعودها ... بين النّساء كما أبين قيامها.
وقال علىّ بن عطية البلنسى:
وإنسيّة زارت من اللّيل مضجعى ... فعانقت غصن البان منها إلى الفجر.
أسائلها أين الوشاح؟ وقد سرت ... معطّلة منه، معطّرة النّشر.
فقالت: وأومت، للسّوار نقلته ... إلى معصمى لما تقلقل في خصرى.
وقال الطائىّ:
من الهيف لو أنّ الخلاخل صيّرت ... لها وشحا جالت عليها الخلاخل.(2/99)
وقال إسحاق الموصلىّ:
ظباء كاليعافير ... كنوس في المقاصير.
وأدبرن بأعجاز ... كأوساط الزّنابير.
وقال عمر بن أبى ربيعة:
يتقابلن كالبدور على الأغ ... صان في مثقل من الأرداف.
بخصور تحكى خصور الزّنابي ... ر ضعاف هممن بالانقصاف.
وقال آخر:
عظمت روادفها فآذت خصرها ... ووشاحها قلق كقلب المغرم.
وقال آخر:
آخرها متعب لأوّلها ... فبعضها جائر على بعض.
وقال آخر:
تمشى فتثقلها روادفها ... فكأنّها تمشى إلى خلف.
وقال البجلىّ:
إن العزيز علىّ خصرك إنه ... بالرّدف حمّل منك ما لا يحمل.
فخذى له جسمى مكان وشاحه ... إن العليل بشكله يتعلّل.
ومما قيل في السّوق، فمن ذلك قول الأمير سيف الدّين المشدّ:
ساق تجلّى كأنّه قمر، ... يحمل شمسا، أفديه من ساق!
شمّر عن ساقه غلائله، ... فقلت: مهلا، واكفف عن الباقى!
لمّا رآنى، وقد فتنت به ... من فرط وجدى وعظم أشواقى،
غنّى وكأس المدام في يده: ... قامت حروب الهوى على ساق.(2/100)
وقال عروة:
فقمن بطيئا مشيهنّ تأوّدا ... على قصب قد ضاق عنه خلاخله.
كما هزّت الميزان ريح فحرّكت ... أعاليه منه وارجحنّت أسافله.
وقال كثيّر عزّة:
ويجعلن الخلاخل حين تلوى ... بأسوقهنّ في قصب خدال.
وقال كشاجم:
قلت: وقد أبصرتها حاسرا ... عن ساقها فاضل سربالها:
لو لم تكن من برد ساقها، ... لاحترقت من نار خلخالها.
وله أيضا:
وإذا لبسن خلاخلا، ... كذّبن أسماء الخلاخل.
ومما وصفت به القدود، فمن ذلك قول أبى فراس الحمدانىّ:
غلام فوق ما أصف ... كأنّ قوامه ألف.
إذا ما مال يرعبنى: ... أخاف عليه ينقصف.
وأشفق من تأوّده: ... أخاف يذيبه التّرف.
وقال الخبز أرزّىّ:
أهيف يحكى بقدّه الألفا ... يخسر من لم يكن به كلفا.
أحسن من بهجة الخلافة والأم ... ن لمن قد يحاذر التّلفا.
لو أبصر الوجه منه منهزم ... يطلبه ألف فارس، وقفا.(2/101)
وقال مانى:
أتمنّى الذى إذا أنا أو مأ ... ت إليه بطرف عينى، تجنّى.
أهيف كالقضيب لو أنّ ريحا ... حرّكت هدب ثوبه، لتثنّى!
وقال آخر:
أيا سائلى عن قدّ محبوبى الّذى ... كلفت به وجدا وهمت غراما.
أبى قصر الأغصان ثمّ رأى القنا ... طوالا، فأضحى بين ذاك قواما.
وقال آخر، وهو محمد بن التلمسانى:
يا مخجلا بقوامه ... أغصان بانات اللّوى!
ما أنت عندى والقضي ... ب الّلدن في حدّ سوى!
هذاك حرّكه الهوا ... ء وأنت حرّكت الهوى!
وقال آخر:
يا غصنا راح الصّبا ... يثنيه، لا ريح الصّبا!
ما إن بدا للعين إلا ... ارتاح قلبى وصبا.
ولا انثنى يخطر إلا ... ازداد قلبى وصبا.
وقال آخر، وهو كشاجم:
معتدل من كلّ أعطافه، ... مستحسن القامة والملتفت.
لو قيست الدّنيا ولذّاتها ... بساعة من وصله، ما وفت.
سلّطت الألحاظ منه على ... قلبى، فلو أودت به ما اشتفت.
واستعذنت روحى هواه فلا ... تصحو ولا تسلو، ولو أتلفت.(2/102)
ومما قيل في العناق، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير.
فمنه قول الحسين بن الضحاك:
وموشّح، نازعت فضل وشاحه ... وكسوته من ساعدىّ وشاحا.
بات الغيور يشقّ جلدة خدّه ... وأمال أعطافا علىّ ملاحا.
وقال آخر:
بتّ وبدر الدّجى نديمى ... وهو موات بلا امتناع.
فقلت للحاسدين لمّا ... أشرقت الشمس بالشّعاع:
القلب والطّرف منزلاه ... وهو إلى الآن في الذّراع.
وقال ابن المعتز:
ما أقصر الليل على الراقد! ... وأهون السّقم على العائد!
يفديك ما أبقيت من مهجتى، ... لست لما أوليت بالجاحد.
كأنّنى عانقت ريحانة ... تنفّست في ليلها البارد.
فلو ترانا في قميص الدّجى، ... حسبتنا في جسد واحد.
وقال أبو هلال في نحو ذلك:
ونحن في نظم الهوى واحد ... كأنّنا عقدان في نحر.
وقال ابن الصولى:
طال عمر الليل عندى ... إذ تولّعت بصدّ.
يا ظلوما نقض العه ... د ولم يوف بعهد!(2/103)
أنسيت الوصل إذ بت ... نا على مرقد ورد.
واعتنقنا كوشاح ... وانتظمنا نظم عقد.
وتعطّفنا كغصني ... ن، فقدّانا كقدّ.
وقال ابن عبد كان الكاتب:
وكلانا مرتد صاحبه ... كارتداء السّيف في يوم الوغى.
بخدود شافيات من جوّى ... وشفاه مرويات من ظما.
نتساقى الريق فيما بيننا: ... زقّ أمّات القطا زغب القطا.
وقال على بن الجهم:
سقى الله ليلا ضمّنا بعد فرقة، ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذّب!
فبتنا جميعا: لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا، لم تسرّب.
وقال الخبزأرزّىّ:
طوّقته طوق العتاق بساعدى، ... وجعلت كفّى للّثام وشاحا.
هذا هو الفوز العظيم فخلّنا، ... متعانقين فما نريد براحا!
وقال صالح بن يونس:
لى سيّد ما مثله سيّد، ... تصدّت الحمّى له فاشتكى.
عانقته عند موافاته، ... والأفق بالليل قد احلولكا.
فجاءت الحمّى كعاداتها، ... فلم تجد ما بيننا مسلكا!
وقال الحسين بن علىّ بن بشر الكاتب:
ضممته ضمّ مفرط الضّمّ، ... لا كأب مشفق ولا أمّ.
ولم نزل، والظلام حارسنا، ... جسمين مستودعين في جسم.(2/104)
ألثمه في الدّجى، وبرق ثنا ... ياه يرينى مواضع اللّثم.
ثمّ افترقنا عند الصباح وقد ... أثّرت فيه كهيئة الختم.
وقال أبو عبد الله الحامدىّ:
سقانى وحيّانى وبات معانقى! ... فيا عطف معشوق على ذلّ عاشق!
ويا ليلة، باتت سواعدنا بها ... تدور على الأعناق دور المخانق!
نبثّ من الشّكوى حديثا كأنّه ... قلائد درّ في نحور العواتق.
ومما ورد على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول أبى إسحاق الصابى:
هيفاء تحكى قضيبا ... قد جمّشته الرّياح.
تفترّ عن سمط درّ ... عليه مسك وراح.
جرّدتها واعتنقنا: ... كلّ لكلّ وشاح!
باتت، وكلّ مصون ... لى من حماها مباح.
فى ليلة لم يعبها ... فى الدّهر إلا الصّباح.
وقال أيضا:
أقول وقد جرّدتها من ثيابها ... وعانقتها كالبدر في ليلة التّمّ:
لئن آلمت صدرى بشدّة ضمّها، ... لقد جبرت قلبى وإن أوهنت عظمى!
وقال أبو الفضل الأصبهانىّ:
يا ليلة قرنت لنا ... فيها المآرب بالنّجاح.
بتنا برغم وشاتنا ... متعانقين إلى الصّباح.(2/105)
متمازجين كانّنا ... روحان من ماء وراح.
ظنّ الوشاة لفرط ضمّ ... ى أنّنى بعض الوشاح!
ومما قيل في وصف مشى النساء، يقال:
تهالكت المرأة، إذا انفتلت في مشيتها.
تأوّدت، إذا اختالت في تثنّ وتكسّر.
بدحت وتبدّحت، إذا أحسنت مشيتها.
تهزّعت تهزّعا، إذا اضطربت في مشيتها.
قرصعت قرصعة، وهى المشية القبيحة؛ وكذلك مثعت مثعا.
وقال الأعشى:
غرّاء، فرعاء، مصقول عوارضها ... تمشى الهوينى كما يمشى الوجى الوحل
كأنّ مشيتها من بيت جارتها ... مزّ السحابة: لا ريث ولا عجل.
وقال آخر:
يمشين مشى قطا البطاح تأوّدا، ... قب البطون، رواجح الأكفال.
وقال ابن عائشة من أبيات:
فكأنّهنّ إذا أردن خطا ... يقلعن أرجلهنّ من وحل
وقال أبو الفتح كشاجم:
وتهتزّ في مشيها مثل ما ... تهزّ الصّبا غصنا ناعما.
وتأمر بالأمر فيه الذى ... كرهت فأرضى به راغما.(2/106)
وقال آخر:
شبّهت مشيتها بمشية ظافر ... يختال بين أسنّة وسيوف.
صلف تباهت نفسه في نفسه، ... لما انثنى بسنانه المرعوف.
وقال آخر:
تمشى الهوينى إذا مشت فضلا ... مشى النّزيف المخمور في صعد.
تظلّ من زور بيت جارتها ... واضعة كفّها على الكبد.
وقال المنخّل اليشكرىّ:
ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير.
فدفعتها فتدافعت ... مشى القطاة إلى الغدير.
ولمتها فتنفّست ... كتنفّس الظّبى البهير.
وقال عمر بن أبى ربيعة:
أبصرتها ليلة، ونسوتها ... يمشين بين المقام والحجر.
يرفلن في الرّيط والمروط كما ... تمشى الهوينى سواكن البقر.
وقال ابن مقبل:
يهززن للمشى أوصالا منعّمة ... هزّ الجنوب ضحى عيدان يبرينا [1] .
أو كاهتزاز ردينىّ تداوله ... أيدى التّجار فزادوا متنه لينا.
يمشين هيل النّقا مالت جوانبه ... ينهال حينا وينهال الثّرى حينا.
__________
[1] العيدان: النخل الطوال واحدته بهاء، ويبرين: اسم قرية كثيرة النخل والعيون العذبة بحذاء الأحياء.(2/107)
وقال أشجع السلمىّ:
وماجت كموج الماء بين ثيابها ... يميل بها شطر ويعدلها شطر.
إذا وصفت ما فوق مجرى وشاحها ... غلائلها ردّت شهادتها الأزر.
وقال العباس بن الأحنف:
شمس مقدّرة في خلق جارية ... كأنما كشحها طىّ الطّوامير.
كأنها حين تمشى في وصائفها ... تخطو على البيض أو خضر القوارير!
انتهى الغرض في وصف الأعضاء، وما شاكلها واتصل بها.
فلنذكر إن شاء الله تعالى ما جاء فيما قدّمناه من الأمثال.
فأما ما جاء منها في الإنسان، يقال:
شديد على الإنسان ما لم يعوّد.
وما علّم الإنسان إلا ليعلما.
الناس من جهة التمثيل أكفاء.
الناس أخياف وشتّى في الشّيم.
الناس بزمانهم اشبه منهم بآبائهم.
وما الناس إلا هالك وابن هالك.
والناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمهجور ومحقور.
وقال آخر:
الناس أكيس من أن يحسدوا رجلا ... حتّى يروا عنده آثار إحسان.(2/108)
ويقال:
المرء أعلم بشأنه.
المرء مع من أحبّ.
دع امرأ وما اختار.
كلّ امرئ في شأنه ساع.
كلّ امرئ مصبّح في أهله.
كلّ امرئ من شجو صاحبه خلو.
المرء يعجز لا محالة.
المرء توّاق إلى ما لم ينل.
المرء يجمع، والزمان يفرّق.
ويقال:
الرّجال بالأموال.
تقطّع أعناق الرجال المطامع.
ولكلّ دهر دولة ورجال.
ومما يتمثل به في ذكر النفس، يقال:
النفس مولعة بحبّ العاجل.
النفس أعلم من أخوك النافع.
أكذب النفس إذا حدّثتها.(2/109)
ما عاتب الرجل اللبيب كنفسه.
الجود بالنفس أقصى غاية الجود.
نفس عصام سوّدت عصاما.
ومما يتمثل به من أعضاء الإنسان الظاهرة والباطنة ما قيل في الرأس والشعر من نجا برأسه فقد ربح.
رماه بأقحاف رأسه. أى بالدواهى.
اختلفت رءوسها فرتعت.
كلّ رأس به صداع.
ويقال:
ادقّ من الشّعر.
اهون من الشّعر الساقط.
ما يتمثل به من ذكر الوجه وجه المحرّش أقبح. أى وجه مبلّغ القبيح أقبح من وجه قائله.
فى وجه مالك تعرف إمرته.
قبل البكاء كان وجهك عابسا.
قال أبو تمام:
وما أبالى، وخير القول أصدقه، ... حقنت لى ماء وجهى أم حقنت دمى.(2/110)
وقال ابن الرومىّ:
وقلّ من ضمنت خيرا طويّته ... إلا وفي وجهه للخير عنوان.
له محيّا جميل يستدلّ به ... على جميل، وللبطنان ظهران.
وقال آخر:
صلابة الوجه صلاح الفتى ... ورقّة الوجه من الخرقة.
ما يتمثل به من ذكر العين، يقال:
أسرع من طرف العين.
أسرع من لمح البصر.
العين ترجمان القلب.
شاهد البغض اللحظ.
ربّ عين أنمّ من لسان.
ليس لما قرّت به العين ثمن.
نظرة من ذى علق.
عين عرفت فذرفت.
لحظه أصدق من لفظه.
ليس لعين ما رأت، ولكن لكفّ ما أخذت.
لا تطلب أثرا بعد عين.
من أطاع طرفه، أصاب حتفه.
وأىّ عار على عين بلا حور.
والدّمع قد يعلن ما في الصّدور.(2/111)
ومن الأبيات:
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة؛ ... ولكنّ عين السّخط تبدى المساويا.
وقال الأمير أبو الفضل الميكالىّ:
كم والد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الابعد.
كالعين لا تنظر ما حولها، ... ولحظها يدرك ما يبعد.
ما يتمثل به من ذكر الأنف
أنفك منك وإن كان أجدع. يضرب في القريب السّوء.
شفيت نفسى وجدعت أنفى.
لأمر ما جدع قصير أنفه.
كلّ شىء أخطأ الأنف جلل.
لدغت حيث لا يضع الراقى أنفه. يضرب للأمر الذى لا دواء له.
ربّ حام لأنفه وهو جادعه. يضرب لمن أنف من الشىء فتوقعه الأنفة في أشدّ منه.
مات حتف أنفه.
جدع الحلال أنف الغيرة. قاله رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
أنف في السّماء، واست في الماء!
ما يتمثل به من ذكر الفم، واللسان، والأسنان
كل جان يده إلى فيه.
حدّثنى، فاه إلى فيّ.
فلان خفيف الشّفة. أى قليل المسألة.(2/112)
سكت ألفا، ونطق خلفا.
قرع سنّ النادم.
كدمت في غير مكدم. أى طلبت غير مطلب.
وجرح الدّهر ما جرح اللّسان.
وجرح اللسان كجرح اليد.
ما يتمثل به من ذكر الأذن
جاء فلان ناشرا أذنيه.
لبست على ذلك أذنى.
أساء سمعا فأساء إجابة.
كلامه يدخل في الأذن بلا إذن.
جعلت ذلك دبر أذنى.
ما يتمثل به من ذكر العنق
حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
أذلّ الحرص أعناق الرجال.
وقال أبو الفتح البستىّ:
فكم دقّت وشقّت واسترقّت ... فضول العيش أعناق الرّجال.
ما يتمثل به من ذكر اليد
أهدى من اليد إلى الفم.
ألزم من اليمين للشّمال.(2/113)
يداك أوكتا، وفوك نفخ.
اليد العليا خير من اليد السّفلى.
آثر لديه من يمين يديه.
ذهبوا أيدى سبا. أى متفرّقين.
بالساعد تبطش الكفّ.
على يدى دار الحديث. إذا كان خبيرا بالأمر.
هو على حبل ذراعه. أى موافق له.
تربت يداه. دعاء عليه بالفقر.
ما تبلّ إحدى يديه الأخرى. البخيل.
تركه على أنقى من الراحة.
فلان يقلّب كفّيه.
سقط في يديه. للنادم.
أعطاه عن ظهر يد. أى ابتدأه لا عن مكافأة.
ما سدّ فقرك مثل ذات يدك.
إن الذّليل الذى ليست له عضد.
يد تشحّ، وأخرى منك تأسونى.
على اليد ردّ ما أخذت.
وما الكفّ إلا إصبع ثم إصبع.(2/114)
ومن الأبيات:
قد تطرف الكفّ عين صاحبها، ... ولا يرى قطعها من الرّشد.
وقال آخر:
فلو أنّها إحدى يدى رزئتها؛ ... ولكن يدى بانت على إثرها يد.
وقال أبو تمام:
وهل يستعيض المرء من خمس كفّه، ... ولو صاغ من حرّ اللّجين بنانها؟
ما يتمثل به من ذكر الصدر والقلب
صدرك أوسع لسرّك.
صدور الاحرار، قبور الأسرار.
لا بدّ للمصدور من أن ينفث.
ألزم له من شعرات صدره.
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
القلب طليعة.
القلوب تتقلّب.
قال بعض الشعراء:
متى تجمع القلب الذّكىّ وصارما ... وأنفا حميّا، تجتنبك المظالم.
وقال آخر:
إنّ التباعد لا يضرّ ... إذا تقاربت القلوب.(2/115)
ما يتمثل به من ذكر الظهر والبطن والجنب
استظهر على الدّهر بخفّة الظّهر.
قلب الأمر ظهرا لبطن.
لا تجعل حاجتى بظهر. أى لا تلقها وراء ظهرك.
انقطع السّلى في البطن. لتناهى الشّدّة.
نزت به البطنة. لمن لا يحتمل النّعمة.
لكلّ جنب مصرع.
لجنبه فلتكن الوجبة، فى الدعاء عليه.
دمّث لجنبك قبل النّوم مضطجعا.
ما يتمثل به من ذكر الكبد والدّم والعروق
يا بردها على الكبد! فلان بين الخلب والكبد.
ما ينفع الكبد يضرّ الطّحال.
ويقال:
جرى منه مجرى الدّم في العروق.
هو أعزّ من دم الفؤاد.
سرّك من دمك.
لا تكايل بالدّم.
لا يحزنك دم هراقه أهله. للجانى على نفسه.(2/116)
فلان لا يشرب الماء إلا بدم.
العرق نزّاع.
ألا إنّ عرق السّوء لا بدّ مدرك!
ما يتمثل به من ذكر الساق والقدم، يقال:
التفّت الساق بالساق. فى الشدّة.
كشفت الحرب عن ساقها، وكشرت عن نابها.
قدح في ساقه، إذا عمل في شىء يكرهه.
لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا.
قد شمّرت عن ساقها، فشمّرى! فى الحثّ على الجدّ.
ويقال:
له قدم في الخير، أى سابقة.
إنك لا تسعى برجلى من أتى.
وقال الشاعر:
إنّ قريشا- وهى من خير الأمم- ... لا يضعون قدما على قدم.
من ضرب به المثل من الرجال على لفظ أفعل للتفضيل
يقولون:
أسخى من حاتم.
أجود من كعب بن مامة.(2/117)
أجود من هرم. قال الميدانى: هو هرم بن سنان بن أبى حارثة.
وفيه يقول زهير بن أبى سلمى:
إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كنّ الجواد على علّاته هرم.
أقرى من مطاعيم الرّيح. ومطاعيم الريح أربعة: منهم أبو محجن الثقفىّ.
وكان لبيد بن ربيعة العامرىّ يطعم إذا هبّت الصّبا.
أشجع من ربيعة بن مكدّم.
أعزّ من كليب بن وائل.
أعزّ من مروان القرظ.
أسود من قيس بن عاصم.
أحلم من الاحنف بن قيس.
أزكن من إياس بن معاوية.
أفتك من البرّاض بن قيس النمرىّ، خليع بنى كنانة. فتك بعروة الرّجّال، والمساور بن مالك الغطفانىّ، وأسد بن خيثم الغنوىّ بسبب لطيمة النعمان. وبسبب ذلك كانت أيام الفجار الأخر؛ وسنذكرها في وقائع العرب إن شاء الله تعالى.
أوفى من الحارث بن عباد. وخبره مشهور مع مهلهل أخى كليب لما أمنه يوم تحلاق اللّم أوفى من عوف بن محلّم.
أوفى من هانئ بن قبيصة. وخبره مشهور في أدرع النعمان؛ وبسببها كانت وقعة ذى قار.
أوفى من السّموءل بن عادياء.
أجمل من ذى العمامة. وهو سعيد بن العاص بن أمية، ويكنى أبا أحيحة؛ وهو المقول فيه:
أبو أحيحة من يعتمّ عمّته ... يضرب ولو كان ذا مال وذا ولد.
أمضى من سليك المقانب.(2/118)
أغلى فداء من حاجب بن زرارة؛ ومن بسطام بن قيس؛ ومن الأشعث.
أسرته مذحج ففدى نفسه بثلاثة آلاف بعير.
أعدى من الشّنفرى؛ ومن السّليك بن السّلكة.
أبطأ من فند. وهو مولى لعائشة بنت طلحة؛ وقال أبو هلال العسكرى: عائشة بنت سعد بن أبى وقّاص، بعثت به مولاته ليقتبس نارا، فأتى مصر، فأقام بها سنة، ثم جاء يشتد ومعه نار، فتبددت فقال: تعست العجلة! أنوم من عبّود. كان عبود عبدا أسود؛ وكان الله عز وجل قد بعث نبيا إلى قومه. قال الميدانى:
إن النبىّ هو خالد بن صفوان، نبىّ أهل الرّسّ. فلم يؤمن به أحد منهم إلا ذلك العبد الأسود، وإن قومه احتفروا له بئرا فصيروه فيها وأطبقوا عليه صخرة. فكان ذلك الأسود يخرج من القرية فيحتطب، ويبيع الحطب فيشترى به طعاما وشرابا، ثم يأتى به إليه فيعينه الله تعالى على الصخرة فيرفعها ويدلى إليه الطعام والشراب. فاحتطب يوما وجلس فنام على شقّه الأيسر سبع سنين. ثم هبّ من نومه فانقلب على شقّه الأيمن، فنام سبع سنين، وهو يظن أنه نام ساعة من نهار. ثم احتمل حزمته وأتى القرية، فباع الحطب وجاء الى الحفرة فلم يجد النبىّ وكان قد بدا للقوم فأخرجوه. فكان يسأل عن الأسود، فيقولون: لا ندرى.
فضرب به المثل لمن ينام نوما طويلا. وقيل فيه غير ذلك. وذكره الميدانى في أمثاله ولم يذكر السبعة الثانية، وإنما ذكرها صاحب كتاب المفاخر [1] .
أنعم من خريم الناعم. هو رجل من ولد سنان بن أبى حارثة، كان في زمن الحجاج.
أبلغ من سحبان وائل. ويقال أخطب من سحبان: وهو الذى يقول:
لقد علم الحىّ اليمانون أنّنى ... إذا قلت: أمّا بعد، أنّى خطيبها.
أخطب من قسّ. هو قسّ بن ساعدة بن حذافة بن زهير بن إياد بن نزار. وكان من حكماء العرب وهو أول من كتب من فلان الى فلان؛ وأوّل من أقرّ بالبعث من غير علم؛ وأوّل من قال: «البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر» . وقيل: إنّه عمّر مائة وثمانين سنة.
__________
[1] هو كتاب «الفاخر» وتوجد منه نسخة بدار الكتب المصرية.(2/119)
روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: وفد وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلما فرغ من حوائجهم قال: أفيكم من يعرف قسّ بن ساعدة الإيادىّ؟ فقالوا: كلنا نعرفه! قال:
ما فعل؟ قالوا: هلك! فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: كأنّى به على جمل أحمر بعكاظ قائما، يقول:
«أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا! كلّ من عاش مات، وكلّ من مات فات، وكل ما هو آت آت! إنّ في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا: مهاد موضوع، وسقف مرفوع، وبحار تموج، وتجارة لن تبور وليل داج، وسماء ذات أبراج! أقسم قسّ حقّا: إن كان في الأرض رضا ليكوننّ بعده سخط! وإن لله عز وجل دينا هو أحبّ إليه من دينكم الذى أنتم عليه! ما لى أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا؟ أم تركوا فناموا!»
ثم أنشد أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه شعرا حفظه له، وهو:
فى الذاهبين الأوّل ... ين من القرون لنا بصائر.
لمّا رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر.
ورأيت قومى نحوها ... تسعى: الأصاغر والأكابر.
لا يرجع الماضى إلىّ ... ولا من الباقين غابر.
أيقنت أنّى لا محا ... لة حيث صار القوم صائر!
ويقال: أعيا من باقل. وهو رجل من ربيعة ابتاع ظبيا وحشيا بأحد عشر درهما، وجعل بقية الدراهم في فيه. فسئل عن ثمنه، ففعل بيديه تجاه السائل (أى فتح أصابعه وفغر فاه وأدلى لسانه يشير بذلك إلى ثمنه) . فحصل من ذلك انفلات الظبى؛ وسقوط الدراهم؛ والإساءة على السائل فضرب به المثل.
أبرّ من العملّس. كان برّا بأمه فكان يحملها على عاتقه.
أبرّ من فلحس. وهو رجل من شيبان. حمل أباه على ظهره وحجّ به.
وفيه أيضا يقال:
أسأل من فلحس كان سيدا عزيزا، يسأل سهما في الجيش وهو في بيته فيعطى لعزه؛ فإذا أعطى سأل لامرأته؛ فإذا أعطى سأل لبعيره، وكان له ولد يقال له زاهر، فكان مثله، فقيل فيه:
«العصا من العصيّة» .(2/120)
ويقال:
أخيب صفقة من شيخ مهو. وهو حىّ من عبد القيس اشتروا الفسو من إياد وكانوا يعرفون به، فعرفت به عبد القيس. قال الميدانى: هذا الشيخ اسمه عبد الله بن بيدرة، اشترى الفسو من إياد ببردى حبرة، وقال لقومه: اشتريت لكم عار الدهر، فقالت عبد القيس في ذلك:
إن الفساة قبلنا إياد ... ونحن لا نفسو ولا نكاد.
وفيهم يقول شاعر:
يا من رأى كصفقة ابن بيدره ... من صفقة خاسرة مخسّره؟
المشترى العار ببردى حبره! ... شلّت يمين صافق ما أخسره!
أخسر صفقة من أبى غبشان. فإنه باع مفاتيح الكعبة من قصىّ بزقّ خمر.
أضلّ من سنان. وهو ابن أبى حارثة المرّى؛ وكان قومه عنفوه على الجود، فركب ناقة له ورمى بها الفلاة، فلم ير بعد ذلك. وسمته العرب ضالّة غطفان؛ وقالوا: إن الجانّ استفحلته تطلب كرم نجله.
أبطش من دوسر. وهى كتيبة النعمان.
أهدى من قيس بن زهير.
أفرغ من حجّام ساباط. يقال إنه كان إذا أعوزه من يحجمه حجم أمّه. فلم يزل يحجمها حتى نزف دمها، فماتت.
أندم من الكسعىّ. واسمه محارب بن قيس، وقيل غامد بن الحارث. وكان أرمى الناس، لا يخطئ له سهم، فخرج ومعه قوس وخمس سهام فرمى صيدا في الليل فأصاب سهمه ونفذ، فوقع في الحجر فقدح نارا.
ثم رمى كذلك حتى استنفد السّهام. وهو يظن أنه أخطأ في الجميع فكسر قوسه، وخلع إبهامه. فلما أصبح رأى رميّته، فندم على فعله.
أمنع من الحارث بن ظالم. وسيأتى خبره في وقائع العرب أبخل من مادر. وسيأتى خبره في باب الهجاء.(2/121)
أكذب من مسيلمة الحنفىّ، (وخبره مشهور في دعواه النبوّة) ومن المهلّب، (وكان يكذب لأصحابه في حرب الأزارقة، يعدهم بالنّجدة والإمداد) .
أحمق من راعى ضأن ثمانين، (وذلك أن أعرابيا بشّر كسرى ببشارة سرّ بها، فقال له كسرى:
سلنى ما شئت! فقال: أسألك ضأنا ثمانين) ؛ ومن هبنّقة، وهو ذو الودعات؛ واسمه يزيد بن ثروان أحد بن قيس بن ثعلبة؛ وبلغ من حمقه أنه ضلّ له بعير، فنادى من وجد بعيرى فهو له، فقيل له: فلم تنشده؟
قال: فأين حلاوة الوجدان. وفيه يقول الشاعر:
عش بجدّ وكن هبتقة القي ... سىّ نوكا أو شيبة بن الوليد.
ربّ ذى إربة مقلّ من الما ... ل وذى عنجهية مجدود.
العنجهية الجهل أحمق من ربيعة البكّاء. هو ربيعة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ومن حمقه أن أمّه تزوّجت بعد أبيه، فدخل عليها الخباء، وكان قد التحى فوجد زوجها بياضعها، فتوهّم أنه يريد قتلها، فبكى وهتك الخباء، فاجتمع الناس وسألوه عن شأنه، فأخبرهم أنه وجده على بطنها يريد قتلها، فقالوا:
«أهون مقتول» فصار مثلا.
أتيه من أحمق ثقيف. وهو يوسف بن عمرو.
ألصّ من شظاظ. وهو رجل من بنى ضبّة.
أزنى من قرد. وهو قرد بن معاوية بن هذيل.
أمطل من عرقوث.
وقال كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الاباطيل.
أشام من خوتعة. وهو رجل من بنى غفيلة بن قاسط أخى النمر بن قاسط.
أشأم من قدار (وهو عاقر الناقة) ؛ ومن أحمر ثمود (وهو عاقرها أيضا) .(2/122)
أشأم من طويس. وهو مخنّث، كان يقول إنه ولد يوم مات النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ وفطم يوم مات أبو بكر؛ وبلغ يوم قتل عمر؛ وتزوّج يوم قتل عثمان؛ وولد له يوم قتل علىّ.
أمكر من قيس بن زهير.
وأمّا من ضرب بها المثل من النساء
يقال. أنجب من مارية. ولدت لزرارة: حاجبا، ولقيطا، وعلقمة.
أنجب من بنت [1] الحارث. ولدت لزياد العبسىّ بنيه الكلمة، وهم: ربيعة الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحافظ، وأنس الفوارس.
أنجب من أمّ البنين [2] . ولدت لمالك بن جعفر بن كلاب، ملاعب الأسنة عامرا، فارسا.
أنجب من عاتكة: ولدت لعبد مناف هاشما، وعبد شمس، والمطّلب.
أسرع من نكاح أمّ خارجة. وهى عميرة بنت سعد بن عبد الله بن قدار بن ثعلبة بن معاوية بن زيد ابن الغوث بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان. ولدت في نيّف وعشرين حيّا من العرب. كان الرجل يقول لها: خطب! فتقول: نكح! قال أبو الفرج الأصبهانى: فمن ولدت، الدّيل، وليث، والحارث بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة؛ وغاضرة بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة؛ والعنبر، وأسيد، والهجيم بنو عمرو بن تميم؛ وخارجة ابن يشكر (وبه كانت تكنّى) ؛ وسعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن مزيقيا (وهو أبو المصطلق) .
__________
[1] صوابه الخرشب وهى فاطمة بنت الخرشب الأنمارية انظر «مجمع الأمثال» و «تاج العروس» .
[2] هم كما في «أمثال الميدانى» أبو براء، وملاعب الأسنة عامر، وطفيل فارس فرزل وربيعة، ومعاوية، وأم البنين هى ابنة عمرو بن عامر فارس الضحياء، وبذلك تعلم ما في الأصول من السقط.(2/123)
قال: وزعموا أن بعض أزواجها طلّقها فرحل بها ابن لها عن حيه إلى حيها فلقيها راكب، فلما تبينته، قالت لابنها: هذا خاطب لى لا شكّ فيه، افتراه يعجلنى أن أنزل عن بعيرى، فجعل ابنها يسبّها.
أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها. وذلك أن زوجها طلقها، فطالبته بمهرها، فأخذ أحد خلخاليها من رجلها وأعطاها إيّاه، فرضيت به.
أحمق من دغة. هى مارية بنت مغنج [1] بن ربيعة بن عجل، وقيل بنت منعج؛ تزوّجت وهى صغيرة فى بنى العنبر بن تميم، فحملت. فلما أدركها المخاض، ظنّت أنها تريد الخلاء فتبرزت فولدت فاستهلّ الولد.
فانصرفت وهى تقدّر أنها إنما أحدثت. فقالت لضرّتها يا هنتاه، هل يفغر الجعرفاه؟ قالت: نعم، ويدعو أباه! فمضت ضرّتها للولد فأخذته، فبنو العنبر تسمّى بنى الجعراء.
أبصر من زرقاء اليمامة. وهى امرأة من طسم، كانت تبصر الراكب على مسيرة ثلاث ليال. وسيأتى إن شاء الله تعالى خبرها في وقعة طسم وجديس.
أزنى من هرّ. وهى امرأة يهودية؛ وهى التى قطع المهاجر يدها فيمن قطع من النساء حين شمتن بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أشبق من حبّى المدنيّة.
أشأم من البسوس. وهى جارة جسّاس بن مرّة، صاحبة الناقة التى قتل بسببها كليب، وثارت الحرب بين بكر وتغلب أربعين سنة.
ويقال:
أمنع من أمّ قرفة. وهى امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزارى. كان يعلّق في بيتها سبعون سيفا، كلّ سيف لذى محرم منها. فضرب بها المثل. والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] فى الأصلى «معج» وفي اللسان والقاموس وشرحه «مغنج» وفي بعض النسخ «منعج» قال المغفل بن سلمة: من أعجم العين فتح الميم ومن أهملها كسر الميم. قاله البكرى في شرح أمالى القالى.(2/124)
الباب الثالث من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى الغزل، والنّسيب، والهوى، والمحبة، والعشق)
ولنبدأ بذكر الهوى، لأنه السبب الباعث على الغزل. وذلك أنه إذا حلّ في الأجسام ارتاحت النفوس، ورقّت القلوب، وانجذبت الخواطر، وصفت الأذهان، وسهل على القرائح فأبرزته الألسن. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.
ذكر شىء مما قيل في الهوى، والمحبة، والعشق، وما قيل في ماهية العشق، وحقيقته وسببه، وما قيل في مدحه، وذمّه، والممدوح منه، والمذموم، وضرر العشق في الدّنيا، والآفات التى تجرى على العاشق: من المرض، والجنون، والضّنا، والمخاطرات بالنفوس، وإلقائها إلى الهلاك.
ثم نذكر أخبار ومن أخرجه عن دينه حتّى كفر بربه، ومن قتل، وقتل فيه، ومن قتل نفسه.
ثم نذكر ما ورد في التحذير من فتنة النساء، وذمّ الزنا، والنظر إلى المردان، والتحذير من اللّواط، وعقوبة اللائط، وغير ذلك من أمر العشق، على ما سنشرحه إن شاء الله تعالى فنقول، وبالله التوفيق.
أمّا ماهية العشق وحقيقته، فقد تكلم عليه أوائل الحكماء والفلاسفة وغيرهم من المسلمين، على ما نشرحه إن شاء الله تعالى.(2/125)
فأما كلام الحكماء والفلاسفة
فقال أفلاطون: العشق، حركة النفس الفارغة بغير فكرة.
وسئل ديوجانس عن العشق، فقال: سوء اختيار صادف نفسا فارغة.
وقال أرسطاطاليس: العشق، هو عمى الحسّ عن إدراك عيوب المحبوب.
وقال فيثاغورس: العشق، طبع يتولد في القلب ويتحرّك وينمى ثم يتربّى، ويجتمع إليه موادّ من الحرص، وكلما قوى ازداد صاحبه في الاهتياج واللّجاج، والتمادى في الطمع، والفكر في الأمانىّ، والحرص على الطلب، حتى يؤدّيه ذلك إلى الغم المقلق.
وإلى هذا المعنى أشار المتنبى بقوله:
وما العشق إلا غرّة وطماعة: ... يعرّض قلب نفسه فيصاب.
وقال بعض الفلاسفة: لم أرحقّا أشبه بباطل، ولا باطلا أشبه بحق من العشق:
هزله جدّ، وجدّه هزل، وأوّله لعب، وآخره عطب.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه مرض وسواسىّ شبيه بالماليخوليا.
وأما كلام الإسلاميين وما قالوه فيه
فقد حكى عن أبى العالية الشامىّ، قال: سأل المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟ فقال: هو سوانح للمرء يهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه! قال فقال له ثمامة:
اسكت يا يحيى! إنما عليك أن تجيب في مسئلة طلاق أو محرم صاد ظبيا، أو قتل نملة؛ فأما هذه فمسائلنا نحن! فقال له المأمون: ما العشق؟ يا ثمامة، فقال: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مملّك، ومالك قاهر، مسالكه لطيفة،(2/126)
ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة؛ ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطى عنان طاعتها، وقيود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله، وغيض في القلوب مسلكه! فقال له المأمون: أحسنت والله، يا ثمامة! وأمر له بألف دينار.
وحكى عن الفضل بن يعقوب: قال لما اجتمع ثمامة بن أشرس، ويحيى بن أكثم عند المأمون، قال ليحيى: خبّرنى عن العشق ما هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، سوانح تسنح للعاشق يؤثرها، ويهيم بها تسمّى عشقا! فقال له ثمامة: يا يحيى، أنت بمسائل الفقه أبصر منك بهذا، ونحن بهذا أحذق منك! فقال المأمون: فهات ما عندك! فقال: يا أمير المؤمنين، إذا امتزجت خواطر النفوس بوصل المشاكلة نتجت لمح نور ساطع تستضىء به نواظر العقول، ويتصوّر من ذلك اللمح نور خاص بالنفوس متصل بجواهرها يسمّى عشقا! فقال له المأمون: صدقت، هذا وأبيك الجواب! وحكى عن الأصمعىّ، قال: دخلت على هرون الرشيد، فقال: يا أصمعىّ، إنى أرقت ليلتى هذه، فقلت: ممّ؟ أنام الله عين أمير المؤمنين، قال: فكّرت فى العشق ممّ هو، فلم أقف عليه، فصفه لى حتّى إخاله جسما مجسما! قال الأصمعىّ:
لا والله ما كان عندى قبل ذلك فيه شىء فأطرقت مليّا، ثم قلت: نعم يا سيّدى، إذا تقاربت الأخلاق المشاكلة وتمازجت الأرواح المشابهة، لمح نور ساطع يستضىء به العقل، وتهتز لإشراقه طباع الحياة، ويتصوّر من ذلك النور خلق خاص بالنفس متصل بجوهريتها يسمّى العشق! فقال: أحسنت والله! يا غلام، أعطه وأعطه وأعطه! فأعطيت ثلاثين ألف درهم.(2/127)
وحكى عن الأصمعىّ أنه قال: لقد أكثر الناس في العشق، فما سمعت أوجز ولا أجمل من قول أعرابيّة (وقد سئلت عن العشق) فقالت: ذلّ وجنون. قلت:
هذه صفة ثمرة العشق ومآله.
والتحقيق أن العشق شدّة ميل النفس إلى صورة تلائم طبعها، فإذا قوى فكره فيه تصوّرت حصولها وتمنّت ذلك، فيتجدّد من شدّة الفكر مرض.
وقيل لبعضهم: ما العشق؟ فقال: ارتياح في الخلقة، وفرح يجول في الرّوح، وسرور ينساب في أجزاء القوى.
وقال أبو العيناء: سألت أعرابيّا عن الهوى، فقال: هو أظهر من أن يخفى.
وأخفى من أن يرى، كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى.
وسئل يحيى بن معاذ عن حقيقة المحبة، فقال: التى لا تزيد بالبر، ولا تنقص بالجفاء.
وسئل بعض الصوفية عن الهوى والمحبة فقال: الهوى يحلّ في القلب، والمحبة يحلّ فيها القلب! وللعشق مراتب من ابتدائه إلى انتهائه.
ذكر مراتب العشق وضروبه
قالوا: أوّل ما يتجدّد الاستحسان للشخص تحدث إرادة القرب منه، ثم المودّة.
(وهو أن يودّ لو ملكه) ، ثم يقوى الودّ فيصير محبة، ثم يصير هوى (فيهوى بصاحبه فى محابّ المحبوب من غير تمالك) ، ثم يصير عشقا، ثم يصير تتيّما (والتتيّم حالة يصير بها المعشوق مالكا للعاشق لا يوجد في قلبه سواه) ، ثم يزيد التتيّم فيصير ولها (والوله إلخروج عن حدّ الترتيب، والتعطل عن أحوال التمييز) .(2/128)
وقال بعضهم: أوّل مراتب العشق الميل إلى المحبوب، ثم العلاقة، ثم الحب، ثم يستحكم الهوى فيصير مودّة تزيد بالمؤانسة، وتدرس بالجفاء والأذى، ثم الخلّة، ثم الصّبابة (وهى رقة الشوق) تولّدها الألفة، ويبعثها الإشفاق، ويهيجها الذكر، ثم تصير عشقا. وهو على أضرب. فمبدؤه يصفى الذهن، ويهذّب العقل. كما قال ذو الرياستين لأصحابه: «اعشقوا، ولا تعشقوا حراما! فإن عشق الحرام يطلق اللسان ويرفع التبلّد ويطلق كفّ البخيل ويبعث على النظافة ويدعو إلى الذكاء، فإذا زاد؛ مرض الجسد، فإذا زاد؛ أخرج العقل وأزال الرأى فاستهلك، ثم يترقّى فيصير ولها، ويسمّى ذو الوله مدلّها، ومستهاما، ومستهترا، وحيران؛ ثم بعدها التتيّم فيدعى متيّما، والتتيّم نهاية الهوى، وآخر العشق؛ ومن التتيّم يكون الداء الدّوىّ، والجنون الشاغل» .
وقال بعض الحكماء: أوّل الحب العلاقة (وهو شىء يحدثه النظر أو السمع فيخطر للبال، ويعرض للفكر، ويرتاح له القلب، ثم ينمى بالطمع، واللّجاج، وإدمان الذكر) ، ثم يقوى فيصير حبّا، ثم يصير هوى، ثم يصير خلّة، ثم عشقا، ثم ولها، فيسمّى صاحبه مدلّها، ومستهاما، وهائما، وحيران، ثم يصير متيّما، وهو أرفع منازل الحب، لأن التتيم التعبّد؛ والوجد ألم الحب، والهيمان الذهاب في طلب غرض لا غاية له؛ والكلف والشّغف اللهج بطلب الغرض.
وقال الفرّاء: اللّوعة، حرقة القلب من الحب.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلّام: العلاقة الحب اللازم للقلب؛ والجوى الهوى الباطن؛ واللّوعة حرقة الهوى؛ واللاعج الهوى المحرق؛ والشّغف أن يبلغ الحب شغاف القلب (وهو جلد دونه) ؛ والتّتيم أن يستعبده الهوى؛ والتّبل أن يسقمه الهوى،(2/129)
يقال: رجل متبول؛ والتّدليه، ذهاب العقل من الهوى، يقال: رجل مدلّه؛ والهيوم أن يذهب على وجهه؛ والشّغف إحراق القلب مع لذة يجدها وهو شبيه باللّوعة.
وقال أبو عبد الله بن عرفة: الإرادة قبل المحبة، ثم المحبة، ثم الهوى، ثم العشق.
وقال ابن دريد: الصّبابة رقّة الهوى. واشتقاق الحب من أحب البعير، إذا برك من الإعياء.
ذكر ما قيل في الفرق بين المحبة والعشق
قالوا: المحبة جنس، والعشق نوع. فإن الرجل يحب أباه وأمه، ولا يبعثه ذلك على تلف نفسه، بخلاف العاشق.
وقد حكى أن بعض العشاق نظر إلى جارية كان يهواها، فارتعدت فرائصه وغشى عليه، فقيل لبعض الحكماء: ما الذى أصابه؟ فقال: نظر من يحبّه، فانفرج قلبه، فتحرّك الجسم لانفراج القلب! فقيل له: فنحن نحب أهالينا ولا يصيبنا ذلك فقال: تلك محبة العقل، وهذه محبة الرّوح! وقالوا: كل عشق يسمّى حبّا، وليس كل حب يسمّى عشقا. لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السّرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد، والجبن اسم لما فضل عن شدّة الاحتراس، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة.
قال الشاعر:
ثلاثة أحباب: فحبّ علاقة، ... وحبّ تملّاق، وحبّ هو القتل!(2/130)
وأما سبب العشق وما قيل فيه، فقالوا: سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه. وأكثر أسباب المصادفة النظر. ولا يكون ذلك بالملح، بل بالتثبت في النظر ومعاودته بالنظر، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس، ورامت التقرّب منه، وتمنّت الاستمتاع به. فيصير فكرها فيه، وتصويرها إياه في الغيبة حاضرا، وشغلها كله به، فيتجدّد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى. وكلما قويت الشهوة البدنية، قوى الفكر في ذلك. وقد أمر الله عز وجل بغضّ البصر فقال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)
. فقرن غض البصر بحفظ الفرج، لأنه يسببه ويؤول إليه.
وعن علىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: «لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى! وليست لك الآخرة» .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العينان تزنيان، وزناهما النظر» .
وعن علىّ رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم! «يا علىّ، اتّق النظرة بعد النّظرة! فإنها سهم مسموم، يورث الشّهوة في القلب» .
وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نظر الرجل إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس» .
وعن يحيى بن سعيد قال: كان عيسى بن مريم عليه السلام يقول: «النظر يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها خطيئة!» .(2/131)
وعن سفيان قال: قال عيسى عليه السلام: «إيّاكم والنظر! فإنّه يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة!» .
وقال الحسن البصرىّ: من أطلق طرفه، أطال أسفه.
وقال ذو النون: اللّحظات تورث الحسرات: أوّلها أسف، وآخرها تلف. فمن تابع طرفه، تابع حتفه.
وقال حكيم: أوّل العشق النظر، وأوّل الحريق الشّرر.
وقال أبو الفرج بن الجوزىّ: البصر صاحب خبر القلب. ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها، فيجول الفكر فيها فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. فاحذر من شر النظر! فكم أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد! وهو سبب الآفات، إلا أن علاجه في بدايته قريب. فإذا كرر تمكن الشرّ فصعب علاجه. فإن النظرة إذا أثّرت في القلب، فإن أعجل الحازم بغضها وحسم المادّة من أوّلها سهل علاجه، وإن كرر النظر نقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب متفرّغ ونقشها فيه. فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقى بها الشجرة، فلا تزال تنمو فيفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، ويخرج بصاحبه الى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات، ويلقى في التلف.
وقد أكثر الشعراء في وصف ما يحدثه النظر من البلايا، فمن ذلك، قول الفرزدق:
تزوّد منها نظرة لم تدع له ... فؤادا، ولم يشعر بما قد تزوّدا.
فلم أر مقتولا ولم أر قاتلا ... بغير سلاح مثلها حين أقصدا.(2/132)
وقال إبراهيم بن العباس بن صول الكاتب:
فمن كان يؤتى من عدوّ وحاسد، ... فإنّى من عينى أتيت ومن قلبى!
هما اعتورانى نظرة ثم فكرة، ... فما أبقيا لى من رقاد ولا لبّ!
وقال إسمعيل بن عمار الأعرابىّ:
عينان مشئومتان، ويحهما! ... والقلب حيران مبتلى بهما.
عرّفتاه الهوى لظلمهما، ... يا ليتنى قبله عدمتهما!
وقال أبو عبد الله المارستانىّ:
رمانى بها طرفى فلم يخط مقتلى، ... وما كلّ من يرمى تصاب مقاتله!
إذا متّ، فابكونى قتيلا لطرفه ... قتيل عدوّ حاضر ما يزايله!
وقال ابن المعتز:
متيّم يرعى نجوم الدّجى ... يبكى عليه رحمة عاذله!
عينى أشاطت بدمى في الهوى، ... فابكوا قتيلا بعضه قاتله!
وقال المتنبى:
وأنا الّذى اجتلب المنيّة طرفه ... فمن المطالب؟ والقتيل القاتل!
وقال ابن المعتز:
وما أدرى، إذا ما جنّ ليل، ... أشوقا في فؤادى أم حريقا؟
ألا يا مقلتىّ، دهيتمانى ... بلحظكما فذوقا! ثم ذوقا!
وقال أبو عبد الله بن الحجاج:
يا من رأى سقمى يزي ... د وعلّتى تعيى طبيبى.
لا تعجبنّ فهكذا ... تجّنى العيون على الدّلوب!(2/133)
وقال أبو منصور بن الفضل:
لواحظنا، تجنى ولا علم عندها ... وأنفسنا مأخوذة بالجرائر.
ولم أر أغبى من نفوس عفائف ... تصدّق أخبار العيون الفواجر.
ومن كانت الأجفان حجّاب قلبه ... أذنّ على أحشائه بالفواقر!
وقال أبو محمد بن الخفاجىّ:
رمت عينها عينى، وراحت سليمة! ... فمن حاكم بين الكحيلة والعبرا؟
فياطرف، قد حذّرتك النظرة التى ... خلست فما راقبت نهيا ولا زجرا!
ويا قلب، قد أرداك من قبل مرة! ... فويحك! لم طاوعته مرّة أخرى؟
وقال عبد المحسن بن غالب الصورىّ:
ما نظرة إلا لها سكرة ... كأنّما طرفك خمّار.
هذا هوى يصدر عنه جوى ... يتلوه لوعات وأفكار.
وهذه أفعالها، هذه! ... ما بعد رأى العين إخبار.
ولم يكن أوّل من غرنى! ... كلّ غرير الطّرف غرّار!
وقال أبو شجاع الوزير:
لأعذّبنّ العين غير مفكّر ... فيها، جرت بالدمع أم فاضت دما!
ولأهجرنّ من الرّقاد لذيذه ... حتّى يصير على الجفون محرّما!
سفكت دمى، فلأسفكنّ دموعها ... وهى التى بدأت فكانت أظلما!
هى أوقعتنى في حبائل فتنة: ... لو لم تكن نظرت، لكنت مسلّما!
وقال آخر عفا الله عنه:
يا عين أنت قتلتنى، ... وجعلت ذنبك من ذنوبى!(2/134)
وأراك تهوين الدّمو ... ع كأنّها وفق الحبيب.
تالله، أحلف صادقا ... والصّدق من شيم الأريب!
لو ميّزت نوب الزما ... ن من البعيد إلى القريب،
ما كنّ إلا دون ما ... جنت العيون على القلوب!
وقال آخر، وأجاد:
أنا ما بين عدوّي ... ن هما: قلبى وطرفى.
ينظر الطّرف ويهوى ال ... قلب، والمقصود حتفى.
وقال ابن الحريرىّ:
فتصبّر، ولا تشم كلّ برق! ... ربّ برق فيه صواعق حين!
واغضض الطّرف، تسترح من غرام ... تكتسى فيه ثوب ذلّ وشين.
فقياد الفتى موافقة النف ... س، وبدء الهوى طموح العين.
فصل
قالوا: ومن أسباب العشق، سماع الغناء وإنشاد الغزل. فإن ذلك يصوّر في النفس نقوش صور فتخمّر خميرة صورة موصوفة، ثم تصادف نظرا مستحسنا، فتتعلق النفس بما كانت تطلبه حالة الوصف.
فصل
وذكر بعض الحكماء أنه لا يقع العشق إلا لمجانس، وأنه يضعف ويقوى على قدر التشاكل. واستدل
بقول النبىّ صلى الله عليه وسلم! «الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»
. قال: وقد كانت الأرواح موجودة(2/135)
قبل الأجسام، فمال الجنس إلى الجنس. فلما افترقت في الأجساد، بقى في كل نفس حب ما كان مقارنا لها. فإذا شاهدت النفس من نفس نوع موافقة، مالت إليها ظانّة أنها هى التى كانت قرينتها. فإن كان التشاكل في المعانى كانت صداقة ومودّة، وإن كان في معنى يتعلق بالصورة، كان عشقا. وإنما يوجد الملل والإعراض من بعض الناس لأن التجربة أبانت ارتفاع المجانسة والمناسبة.
وأنشدوا على ذلك:
وقائل: كيف تهاجرتما؟ ... فقلت قولا فيه إنصاف:
لم يك من شكلى ففارقته، ... والناس أشكال وألّاف.
قال أبو الفرج بن الجوزىّ: فإن قيل إذا كان سبب العشق نوع موافقة بين شخصين في الطباع، فكيف يحب احدهما صاحبه والآخر لا يحبه؟ فالجواب أنه يتفق فى طبع المعشوق ما يوافق طبع العاشق، ولا يتفق في طبع العاشق ما يلائم طبع المعشوق. فإذا كان سبب العشق اتفاقا في الطباع بطل قول من قال: إن العشق لا يكون إلا للأشياء المستحسنة. إنما يكون العشق لنوع مناسبة وملاءمة، ثم قد يكون الشىء حسنا عند شخص غير حسن عند آخر. وحكى على ذلك حكاية رفعها بالسند إلى علىّ بن الحسين القرشىّ، عن رجل من أهل المدينة كان أديبا ظريفا طلّابا للأدب والملح، قال: كنت يوما في مجلس رجل من قريش ومعنا قينة ظريفة حسنة الصورة، ومعنا فتى من أقبح ما رأته العين، والقينة مقبلة عليه بحديثها وغنائها.
فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا فتى من أحسن الناس وجها، وأثراهم ثوبا، وأطيبهم ريحا، فأقبل علىّ صاحب البيت، فقال: إن في أمر هذين لعجبا! قلت: وما ذاك؟
قال: هذه الجارية تحب هذا (يعنى القبيح الوجه) وليس لها في قلبه محبة، وهذا(2/136)
الحسن الوجه يحبها، وليس له في قلبها محبة. فبينا نحن على شرابنا إذ سرّ الفتى الحسن الوجه فتغنّى وقال:
بيد الذى شغف الفؤاد بهم ... فرج الذى ألقى من السّقم!
فاستيقنى أن قد كلفت بكم ... ثم افعلى ما شئت عن علم!
فأقبلت عليه، وقالت: قد علمنا ذاك، فمه! ثم تركته، وأقبلت على القبيح الوجه، فلبثنا ساعة، ثم تغنى الفتى أيضا:
ألا ليتنى أعمى أصمّ تقودنى ... بثينة لا يخفى علىّ كلامها!
فقالت: اللهم أعط عبدك ما سأل! فغاظتنى، فقلت لها: يا فاجرة تختارين هذا، وهو أقبح من ذنوب المصرّين، على هذا الذى هو أحسن من توبة التائبين، فقالت لى: ليس الهوى بالاختيار! ثم أنشأت تغنى وتقول:
فلا تلم المحبّ على هواه ... فكلّ متيمّ كلف عميد
يظنّ حبيبه حسنا جميلا، ... وإن كان الحبيب من القرود!
فقلت: أجل! إنه لكما قلت، وليس في هذا حيلة، وذكرت قول عمر ابن أبى ربيعة:
فتضاحكن، وقد قلن لنا: ... حسن في كلّ عين ما تودّ!
فصل
قالوا: ويتأكد العشق بإدمان النظر، وكثرة اللقاء، وطول الحديث. فإن انضم إلى ذلك معانقة أو تقبيل فقد تمّ استحكامه.
وقد ذكر حكماء الأوائل أنه إذا وقعت القبل بين المتحابّين ووصلت بلّة من ريق كل واحد منهما إلى معدة الآخر، اختلط ذلك بجميع البدن ووصل إلى جرم(2/137)
بد، وهكذا إذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه، فإنه يخرج مع ذلك النفس شىء من نسيم كل واحد منهما فيختلط بأجزاء الهواء، فإذا استنشق من ذلك الهواء دخل في الخياشيم، فوصل بعضه إلى الدماغ فسرى فيه كسريان النّور في جرم البلّور، ووصل بعضه إلى جرم الرئة، ثم إلى القلب فيدبّ في العروق الضوارب في جميع البدن فينعقد في بدن هذا ما تحلل من بدن هذا فيصير مزاجا، فيتولد به العشق وينمى.
هذا ما قيل في سبب العشق والله أعلم.
وأما ما قيل في مدحه وذمّه والممدوح منه والمذموم، قال ابن الجوزىّ فى كتابه المترجم ب «ذمّ الهوى» : اختلف الناس في العشق، هل هو ممدوح أو مذموم. فقال قوم: هو ممدوح، لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع، ولا يقع عند جامد الطبع. ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ الطبيعة. فهو يجلو العقول، ويصفّى الأذهان، ما لم يفرط. فإن أفرط عاد سمّا قاتلا. وقال آخرون: هو مذموم، لأنه يستأسر العاشق ويجعله في مقام المستعبد. قال: قلت: وفصل الحكم فى هذا الفصل أن نقول: أما المحبة والودّ والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا يذم، وأما العشق الذى يزيد على حدّ الميل والمحبة فيملك العقل ويصرّف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم. ويتحاشى من مثله الحكماء.
هذا ما قيل في مدحه وذمّه مجملا. والله تعالى أعلم.
فأما الممدوح منه، وهو الذى قدّمنا ذكره، فقد وقع فيه جماعة من الخلفاء والأكابر فلم يعب عليهم ولا نقصهم. وقد تكلموا في مدحه وتفضيله بما سنذكر منه إن شاء الله تعالى طرفا.(2/138)
فقالوا: العشق يولّد الأخلاق الحميدة! وقالوا: لو لم يكن في الهوى إلا أنه يشجّع الجبان، ويصفّى الأذهان، ويبعث حزم العاجز، لكفاه شرفا! وقال أعرابىّ: من لم يحبّ قط فهو ردىء التركيب جافى الطبع كزّ المعاطف.
وقد روى أن الشعبىّ كان ينشد:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى، ... فأنت وعير في الفلاة سواء!
وسمع ابن أبى مليكة غناء وهو يؤذّن، فطرب. فقيل له في ذلك، فقال:
إذا أنت لم تطرب ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا.
وسئل أبو نوفل: هل يسلم أحد من العشق؟ فقال: نعم الجلف الجافى الذى ليس فيه فضل ولا عنده فهم. فأما من في طبعه أدنى ظرف أو معه دماثة أهل الحجاز ورقّة أهل العراق، فهيهات! وحكى أبو الفرج بن الجوزىّ بسند يرفعه إلى اليمان بن عمرو مولى ذى الرياستين، قال: كان ذو الرياستين يبعثنى ويبعث أحداثا من أهله إلى شيخ عالم بخراسان، له أدب وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلّموا منه الحكمة، فإنه حكيم!، وكنا نأتيه.
فإذا انصرفنا من عنده، سألنا ذو الرياستين واعترض ما حفظناه فنخبره به. فقصدناه ذات يوم، فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق؟
فقلنا: لا. فقال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العيىّ، ويفتح جبلّة البليد، ويبعث على التنظيف وتحسين اللباس وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذّكاء، ويشرّف الهمة! وإياكم والحرام! فانصرفنا من عنده إلى ذى الرياستين، فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك فهبناه أن نخبره. فعزم علينا فأخبرناه، فقال: صدق والله! فهل(2/139)
تعلمون من أين أخذ هذا؟ فقلنا: لا. قال ذو الرياستين: إن بهرام جوركان له ابن، وكان قد رشّحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة، ساقط المروءة، خامل النفس، سيئ الأدب. فغمه ذلك ووكّل به من يلازمه من المؤدّبين والحكماء ليعلموه.
فكان يسألهم عنه فيحكون عنه ما يغمّه من سوء فهمه وقلة أدبه. إلى أن سأل بعض مؤدّبيه يوما، فقال له المؤدّب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره ما صيّرنا إلى اليأس من فلاحه، قال: وما ذاك الذى حدث؟ قال: إنه رأى ابنة فلان المرزبان فعشقها حتى غلب عليه هواها، فهو لا يهذى إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها. فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه! ثم دعا بأبى الجارية، فقال: إنى مسرّ إليك سرّا فلا يعدونّك. فضمن له ستره. فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها، فإذا استحكم طمعه فيها تجنّت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ومن همته همة الملوك، وأنه يمنعها من مواصلته أنه لا يصلح للملك. ثم ليعلمه خبرهما، فقبل أبوها ذلك منه. ثم قال للمؤدّب الموكل به خوّفه منى وشجعه على مراسلة المرأة! ففعل ذلك وفعلت الصبيّة ما أمرها به أبوها. فلما انتهت إلى التجنى عليه، وعلم الفتى السبب الذى كرهته له، أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرّماية وضرب الصوالجة حتّى مهر في ذلك. ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج من الدوابّ والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما عنده. فسرّ الملك بذلك، وأمر له بما طلب. ثم دعا مؤدّبه، فقال: إن الموضع الذى وضع به ابنى نفسه من حبّ هذه المرأة لا يزرى به. فتقدّم إليه أن يرفع ذلك إلىّ ويسألنى أن أزوّجه إياها. ففعل.
ورفع الفتى ذلك إلى أبيه، فاستدعى أباها، وزوّجه بها، وأمر بتعجيلها إليه، وقال له:(2/140)
إذا اجتمعت بها فلا تحدث شيئا حتّى آتيك! فلما اجتمع أتاه، فقال: يا بنىّ لا يضعنّ منها عندك مراسلتها إيّاك، وليست في حبالك! فإنى أنا أمرتها بذلك. وهى أعظم الناس منّة عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك، حتّى بلغت الحدّ الذى تصلح معه للملك بعدى. فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك! ففعل الفتى ذلك، وعاش مسرورا بالجارية، وعاش أبوه مسرورا به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته وشرفه بصيانة سره وطاعته، وأحسن جائزة المؤدّب، وعقد لابنه على الملك من بعده.
قال اليمان: ثم قال لنا ذو الرياستين: سلوا الشيخ الآن: لم حملكم على العشق؟
فسألناه: فحدّثنا بحديث بهرام جور وابنه.
فهذا ممن ارتفع بالهوى وترقّى بسببه إلى مرتبة الملك.
وحكى ابن الجوزىّ أيضا، قال: حدّث القاسم بن محمد النّميرىّ، قال: ما رأيت شابا ولا كهلا من ولد العباس أصون لنفسه، وأضبط لجأشه وأعفّ لسانا وفرجا من عبد الله بن المعتزّ! وكان ربما عبثنا بالهزل في مجلسه، فجرى معنا فيه فيما لا يقدح به عليه قادح. وكان أكثر ما يشغل به نفسه سماع الغناء، وكان كثيرا ما يعيب العشق، ويقول: هو ضرب من الحمق! وكان إذا رأى منا من هو مطرق أو مفكّرا تهمه بالعشق ويقول: وقعت والله يا فلان! وقلّ عقلك وسخفت! إلى أن رأيناه، وقد حدث به سهو شديد، وفكر دائم، وزفير متتابع، وسمعناه ينشد أشعارا منها:
مالى أرى الثّريّا ... ولا أرى الرّقيبا؟
يا مرسلا غزالا، ... أما تخاف ذيبا؟(2/141)
وسمعناه مرة أخرى ينشد، وهو يشرب في إناء قد لفه، فاتهمناه فيه، وكتب عين هذا الشعر:
ما قليل منك لى بقليل، ... يا منى عينى وغاية سولى!
سل بحقّ الله عينيك عنّى: ... هل أحسّت في الهوى بقتيل؟
أنت أفسدت حياتى بهجر، ... ومماتى بحساب طويل!
وأنشد:
أسر الحبّ أميرا ... لم يكن قبل أسيرا.
فارحموا ذلّ عزيز ... صار عبدا مستجيرا!
وأنشد يوما، وقد راى دار بعض الناس، فقال:
أيا داركم فيك من لذّة ... وعيش لنا، كان ما أطيبه!
ومن قينة أفسدت ناسكا، ... وكانت له في التّقى مرتبه.
وقال أيضا مرّة:
لقد قتلت عيناك نفسا كريمة، ... فلا تأمنن إن متّ سطوة ثائر!
كأنّ فؤادى في السّماء معلّق، ... إذا غبت عن عينى، بمخلب طائر.
وأنشد يوما، وفي يده خاتم:
حصلت منك على خا ... تم حوته البنان!
فما يفارق كفّى ... كأنّه قهرمان.
يا أهل ودّى بعدتم ... وأنتم جيران!
قال النميرىّ: فقلت له: جعلنا الله فداك! هذه أشياء قد كنت تعيب أمثالها منا، ونحن الآن ننكرها منك! وكان يرجع عن بعض ذلك تصنعا، ثم لا يلبث(2/142)
مستوره ان يظهر حتى تحقق عندنا عشقه، ودخل في طبقة المرحومين، فسمعته يوما ينشد:
مكتوم، يا أحسن خلق الله ... لا تتركينى هكذا بالله!
ثم تنفس إثر ذلك فأجبته:
قد ظفر العشق بعبد الله ... وانهتك السّتر بحمد الله.
فقل له: سمّ لنا سيّدى ... هذا الذى تهوى، بحقّ الله!
فضحك وقال: لا، ولا كرامة! فكتبت إليه من الغد:
بكت عينه وشكا حرقة ... من الوجد في القلب ما تنطفى.
فقلت له: سيّدى، ما الذى ... أرى بك؟ قال: سقام خفى.
فقلت: أعشق؟ فقال: اقتصر ... على ما ترى بى، أما تكتفى؟
فكتب إلىّ:
يا من يحدّث عنّى ... بظنّ سمع وعين!
إن كنت تخطب سرّى، ... فارجع بخفّى حنين!
فكتبت إليه:
هيهات لحظك عندى ... يقرّ فيه بعشقك!
دع عنك خفّى حنين ... واحرص على حلّ ربقك!
تعال نحتال فيما ... تهوى، برفقى ورفقك!
وصرت إليه فقال: يا أبا طيب، قد عصيت إبليس أكثر مما عصى ربّه إلى أن أوقعنى في حبائله، فأنشدته:(2/143)
من أين لا كان إبلي ... س جاءنى بك يسعى؟
أبداك لى من بعيد ... فقلت: طوعا وسمعا!
فأخبرنى بقصته. فسعيت له بلطيف الحيلة وأعاننى بحزم الرأى حتّى فاز بالظفر.
قال أبو بكر الصولى: اعتل عبد الله بن المعتز فأتاه أبوه عائدا وقال: ما عراك، يا بنىّ؟ فأنشأ يقول:
أيّها العاذلون، لا تعذلونى ... وانظروا حسن وجهها تعذرونى!
وانظروا هل ترون أحسن منها، ... إن رأيتم شبيهها فاعذلونى!
بى جنون الهوى، وما بى جنون ... وجنون الهوى جنون الجنون!
قال: فتتبع أبوه الحال حتّى وقع عليها، فابتأع الجارية التى شغف بها بسبعة آلاف دينار، ووجّهها إليه.
وحكى أن الرشيد كان له ثلاث جوار اشتدّ شغفه بهنّ، فقال العباس بن الأحنف على لسانه:
ملك الثّلاث الآنسات عنانى ... وحللن من قلبى بكلّ مكان!
مالى تطاوعنى البريّة كلّها، ... وأطيعهنّ وهنّ في عصيانى؟
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه عززن أعزّ من سلطانى!
أخذ المعنى والروىّ سليمان بن الحكم المستعين، أحد خلفاء بنى أمية بالأندلس، فقال:
عجبا يهاب الليث حدّ سنانى، ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان!
وأقارع الأهوال لا متهيّبا ... منها سوى الإعراض والهجران!
وتملّكت نفسى ثلاث كالدّمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان!(2/144)
ككواكب الظلماء لحن لناظر ... من فوق أغصان على كثبان.
هذى الهلال، وتلك بنت المشترى ... حسنا، وهذى أخت غصن البان!
حاكمت فيهنّ السّلوّ إلى الصّبا ... فقضى لسلطان على سلطان.
فأبحن من قلبى الحمى وثنيننى ... عن عزّ ملكى كالأسير العانى.
لا تعذلوا ملكا تذلّل في الهوى! ... ذلّ الهوى عزّ وملك ثانى!
إن لم أطع فيهنّ سلطان الهوى ... كلفا بهنّ، فلست من مروان!
وإذا الكريم أحبّ، أمّن إلفه ... خطب القلى وحوادث السّلوان!
وقال العباس:
لا عار في الحبّ إنّ الحبّ؛ مكرمة ... لكنّه ربّما أزرى بذى الخطر!
وأما القسم المذموم منه، وهو الذى ثنّينا بذكره في صدر هذا الفصل فقد أكثر الناس القول في ذمه، وبيّنوا أسبابه.
فقال ابن الجوزىّ: بيان ذمه أن الشىء إنما يعرف مذموما أو ممدوحا بتأمل ذاته وفوائده وعواقبه، وذات العشق لهج بصورة، وهذا ليس فيه فضيلة فتمدح، ولا فائدة في العشق للنفس الناطقة، إنما هو أثر غلبة النفس الشّهوانية.
وقال بعض الحكماء: ليس العشق من أدواء الحصفاء الحكماء، إنما هو من امراض الخلعاء الذين جعلوا دأبهم ولهجهم متابعة النفس وإرخاء عنان الشهوة وإمراح النظر في المستحسنات من الصور. فهنالك تتقيد النفس ببعض الصور فتأنس، ثم تألف، ثم تتوق، ثم تلهج، فيقال «عشق» . وليس هذا من صفة الحكماء:(2/145)
لأن الحكيم من استطال رأيه على هواه، وتسلطت حكمته على شهوته. فرعونات طبعه مقيّدة أبدا كصبىّ بين يدى معلمه أو عبد بمرأى سيده؛ وما كان العشق قط إلا لأرعن بطّال. وقلّ أن يكون لمشغول بصناعة أو بتجارة، فكيف لمشغول بالعلوم والحكم، فإنها تصرفه عن ذلك. ولهذا لا تكاد تجده في الحكماء.
وقال ابن عقيل: العشق مرض يعترى النفوس العاطلة، والقلوب الفارغة المتلمحة للصور لدواع من النفس، ويساعدها إدمان المخالطة، فيتأكد الإلف ويتمكن الأنس، فيصير بالإدمان شغفا. وما عشق قط إلا فارغ. فهو من علل البظّالين وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر، وطلب الحقائق؛ المستدل بها على عظم الخالق. ولهذا قلما تراه إلا في الرّعن البطرين، وأرباب الخلاعة النّوكى. وما عشق حكيم قط: لأن قلوب الحكماء أشدّ تمنعا عن أن توقفها صورة من صور الكون مع شدّة تطلبها، فهى أبدا تلحظ وتخطف ولا تقف. وقلّ أن يحصل عشق من لمحة، وقلّ أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة، فإنه مارّ في طلب المعانى، ومن كان طالبا لمعرفة الله لا توقفه صورة عن الطلب لأنها تحجبه عن الصور.
وقال ابن الجوزىّ: واعلم أن العشاق قد جاوزوا حدّ البهائم في عدم ملكة النفس فى الانقياد إلى الشهوات: لأنهم لم يرضوا أن يصيبوا شهوة الوطء وهى أقبح الشهوات عند النفس الناطقة من أىّ موضع كان حتى أرادوها من شخص بعينه فضمّوا شهوة إلى شهوة، وذلّوا للهوى ذلّا على ذل. والبهيمة إنما تقصد دفع الأذى عنها حسب. وهؤلاء استخدموا عقولهم في تدبير نيل شهواتهم.
ثم قال: والعشق بيّن الضرر في الدّين والدنيا. أما في الدّين فإنه يشغل القلب عن الفكر فيما له خلق: من معرفة الله تعالى، والخوف منه، والقرب إليه. ثم ينفذ ما ينال(2/146)
من موافقة غرضه المحرّم الذى يكون فيه خسران آخرته، ويعرّضه لعقوبة خالقه.
فكلما قرب من هواه، بعد من مولاه. ولا يكاد العشق يقع في الحلال المقدور عليه فان وقع، فياسرعان زواله! قالت الحكماء: كل مملوك مملول. وقال الشاعر:
وزادنى شغفا بالحبّ أن منعت ... أحبّ شىء إلى الإنسان مانحا.
فان كان المعشوق لا يباح، اشتدّ القلق به والطلب له. فإن نيل منه غرض، فالعذاب الشديد في مقابلته. على أن بلوغ الغرض يزيد ألما فتربى مرارة الفراق على لذّة الوصال. كما قال الشاعر:
كلّ شىء ربحته في التّدانى ... والتّلاقى، خسرته في الفراق.
فإن منعه خوف الله تعالى عن نيل غرض، فالامتناع عذاب شديد فهو معذب فى كل حال.
هذا ضرره في الدّين.
وأما ضرره في الدّنيا فإنه يورث الهمّ الدائم، والفكر اللازم، والوسواس، والأرق، وقلة المطعم، وكثرة السهر. ويتسلط على الجوارح فتنشأ الصفرة في البدن، والرّعدة فى الأطراف، واللّجلجة في اللسان، والنّحول في الجسد. فالرأى عاطل، والقلب غائب عن تدبير مصلحة، والدموع هواطل، والحسرات تتتابع، والزّفرات تتوالى، والأنفاس لا تمتدّ، والأحشاء تضطرم. فإذا غشّى على القلب غشاء ثانيا أخرج إلى الجنون. وما أقربه حينئذ من التلف! قال: هذا، وكم جنى من جناية على العرض، ووهّن الجاه بين الخلق. وربما أوقع فى عقوبات البدن وإقامة الحدود.
وقال جالينوس: العشق من فعل النفس، وهى كامنة في الدماغ والقلب والكبد.(2/147)
وفي الدماغ ثلاثة مساكن:
مسكن للتخيّل، وهو في مقدّم الرأس؛ ومسكن للفكر، وهو في وسطه؛ ومسكن للذّكر، وهو في مؤخّره.
ولا يسمى عاشقا إلا من إذا فارق معشوقه لم يخل من تخيله فيمتنع من الطعام والشراب باشتغال الكبد، ومن النوم باشتغال الدماغ بالتخيل والفكر والذكر فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به.
وقال الجاحظ: ذكر لى عن بعض حكماء الهند أنه قال: إذا ظهر العشق عندنا فى رجل أو امرأة، غدونا على أهله بالتعزية.
قال: وبلغنى أن عاشقا مات بالهند عشقا، فبعث ملك الهند إلى المعشوق فقتله به.
وقال الربعى: سمعت أعرابية تقول: مسكين العاشق! كل شىء عدوّه! هبوب الريح يقلقه، ولمعان البرق يؤرّقه، ورسوم الديار تحرقه، والعذل يؤلمه، والتذكّر يسقمه، والبعد والقرب يهيجه، والليل يضاعف بلاءه، والرقاد يهرب منه. ولقد تداويت بالقرب والبعد فلم ينجع فيه دواء، ولا عزّ بى عزاء.
وقال شاعر:
وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا ... يملّ، وأن النّأى يشفى من الوجد!
بكلّ تداوينا، فلم يشف ما بنا! ... على أنّ قرب الدار خير من البعد!
وأنشد المارستانىّ:
إذا قربت دار كلفت، وإن نأت ... أسفت! فلا بالقرب أسلو ولا البعد!(2/148)
وإن وعدت زاد الهوى لانتظارها، ... وإن بخلت بالوعد متّ على الوعد!
ففى كلّ حبّ لا محالة فرحة، ... وحبّك ما فيه سوى محكم الجهد!
وحكى الزبير بن بكّار قال: حدّثنى موهوب بن راشد قال: وقفت امرأة من بنى عقيل على أخت لها، فقالت لها: يا فلانة، كيف أصبحت من حبّ فلان؟
قالت: قلقل والله حبّه الساكن، وسكّن المتحرّك! ثم أنشدتها:
ولو أنّ ما بى بالحصى فلق الحصى، ... وبالرّيح لم يسمع لهنّ هبوب!
ولو أنّنى أستغفر الله كلّما ... ذكرتك لم يكتب على ذنوب!
قالت: لا جرم والله، لا أقف حتّى أسأله كيف أصبح من حبّك! فجاءته فسألته فقال: إنما الهوى هوان، وإنما خولف باسمه، وإنما يعرف ما أقول من كان مثلى قد أبكته المعارف والطلول.
وقال مسلم بن عبد الله بن جندب الهذلىّ: خرجت أنا وريان السوّاق إلى العقيق فلقينا نسوة نازلات من العقيق ذوات جمال وفيهن جارية حسناء العينين، فأنشد ريان قول أبىّ:
ألا يا عباد الله، هذا أخوكم ... قتيل! فهلّا فيكم اليوم ثائر؟
خذوا بدمى إن متّ كلّ خريدة ... مريضة جفن العين، والطّرف ساحر!
وأقبل علىّ، وأشار إليها فقال: يا ابن الكرام دم أبيك في أثوابها فلا تطلب أثرا بعد عين! قال: فأقبلت علىّ امرأة جميلة، أجمل من تيك، فقالت: أنت ابن جندب؟ فقلت: نعم. قالت: إن أسيرنا لا يفكّ، وقتيلنا لا يودى، فاحتسب أباك، واغتنم نفسك! ومضين.(2/149)
ذكر شىء من الشعر المقول في ذمّ العشق والحب
قال الأصمعىّ: سئل أعرابىّ عن الحبّ، فقال: وما الحب؟ وما عسى أن يكون؟
هل هو إلا سحر أو جنون. ثم قال:
هل الحبّ إلا زفرة بعد زفرة، ... وحرّ على الأحشاء ليس له برد؟
وفيض دموع العين منّى كلّما ... بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو؟
وقال: قلت لأعرابىّ: ما الحب؟ فقال:
الحبّ مشغلة عن كلّ صالحة ... وسكرة الحبّ تنفى سكرة الوسن.
وقال محمد بن عبد الله بن مبادر:
من فتى أصبح في الحبّ ... سقاه الحبّ سمّا؟
كلّما أخفى جوى الحبّ ... ، عليه الدمع نمّا.
ساهر لا يطعم النو ... م إذا الليل ادلهمّا.
كلّما راقب نجما ... فهوى، راقب نجما.
أنتمو همّى فإن لم ... تصلونى متّ غمّا.
يا ثقاتى، خطم الحبّ ... لكم انفى وزمّا!
يا أخى، دائى جوى الحبّ ... وداء الناس حمّى.
لا تلم مفتضحا في ال ... حبّ، إن الحبّ أعمى!
وقال محمد بن ابى أمية:
فو الله، ما أدرى امن لوعة الهوى ... صبرت على التقصير أم ليس لى قلب؟
أقبّح أمرا، والفؤاد يودّه، ... أجنّ فؤادى في الهوى؟ بل هو الحبّ.(2/150)
وقال أبو عبادة البحترىّ:
قال بطلا وأفال الراى من ... لم يقل إن المنايا في الحدق!
إن تكن محتسبا من قد ثوى ... بحمام، فاحتسب من قد عشق!
وقال أبو تمام:
أمّا الهوى فهو العذاب، فإن جرت ... فيه النّوى فالتّيم كلّ التّيم.
وقال ابن أبى حصينة:
والعشق يجتذب النفوس إلى الرّدى ... بالطّبع، واحسدا لمن لم يعشق!
طرق الخيال فهاج لى بطروقه ... ولها، فليت خيالها لم يطرق!
وقال صالح بن عبد القدّوس:
عاص الهوى إن الهوى مركب ... يصعب بعد اللّين منه الذّلول!
إن يجلب اليوم الهوى لذّة ... ففى غد منه البكا والعويل.
وقال ابن المعتزّ:
فكأنّ الهوى امرؤ علوىّ ... ظنّ أنّى وليت قتل الحسين!
وكأنّى لديه نجل زياد ... فهو يختار أوجع القتلتين!
وقال أبو عبد الله بن الحجاج:
ويحك، يا قلبى ما أغفلك! ... تعشق من يعشق أن يقتلك؟
وأنت يا طرفى أوقعتنى، ... ويحك يا طرفى مالى ولك؟
قد كان من حقّ بكائى على ... تبتّلى بالحبّ أن يشغلك.
حتّى توصلت لقتلى، فلا ... كنت ولا كان الذى أرسلك!(2/151)
وقال عبد المحسن بن غالب الصورىّ:
وكان ابتداء الذى بى مجونا، ... فلمّا تمكّن أمسى جنونا.
وكنت أظنّ الهوى هيّنا ... فلاقيت منه عذابا مهينا.
وقال أبو بكر بن محمد بن عمر العنبرىّ:
يا صاح، إنّى مذ عرفت الهوى ... غرقت في بحر بلا ساحل!
عينى لحينى نظرت نظرة ... رحت بها في شغل شاغل.
علّقته في البيت من فارس؛ ... لكنّه في السّحر من بابل.
يظلمنى، والعدل من شأنه! ... ما أوجع الظّلم من العادل!
وقال آخر:
من سرّه أن يرى المنايا ... بعينه منظرا صراحا.
فليحس كأسا من التجنّى ... وليعشق الأوجه الملاحا!
يا أعينا أرسلت مراضا ... فاختلست أعينا صحاحا!
وقال آخر:
ما أقتل الحبّ! والإنسان يجهله ... وكلّ ما لم يذقه فهو مجهول.
راح الرّماة إلى بعض المها، فإذا ... بعض الرّماة ببعض الصّيد مقتول!
وأما الآفات التى تجرى على العاشق من المرض والضّنا والجنون والمخاطرات بالنفوس وإلقائها إلى الهلاك، فهى كثيرة جدّا، مشاهدة ومسموعة.
فمن ذلك ما حكاه أبو الفرج بن الجوزىّ بسند يرفعه، قال: لما بعثت قريش عمارة بن الوليد مع عمرو بن العاص إلى النجاشىّ يكلمانه فيمن قدم عليه من المهاجرين، فراسل عمارة جارية لعمرو بن العاص كانت معه فصغت إليه. فاطلع عمرو على ذلك(2/152)
فوجد على عمارة. وكان عمارة أخبر عمرا أن زوجة النجاشىّ علقته وأدخلته إليها فوشى عمرو بعمارة عند النجاشىّ وأخبره بالخبر، فقال له النجاشىّ: ائتنى بعلامة أستدلّ بها على ما قلت! ثم عاد عمارة فأخبر عمرا بأمره وأمر زوجة النجاشىّ، فقال له عمرو:
لا أقبل هذا منك إلا أن تعطيك من دهن الملك الذى لا يدّهن به غيره. فكلمها عمارة فى ذلك، فقالت: أخاف من الملك فأبى أن يرضى منها حتّى تعطيه من ذلك الدّهن فأعطته منه فأعطاه عمرا فجاء به عمرو إلى النجاشىّ فنفخ سحرا في إحليل عمارة. فذهب مع الوحش (فيما تقول قريش) فلم يزل متوحّشا يرد ماء في جزيرة بأرض الحبش حتى خرج إليه عبد الله بن أبى ربيعة في جماعة من أصحابه فرصده على الماء فأخذه فجعل يصيح به: يا بجير أرسلنى! فإنى أموت إن أمسكتنى! فأمسكه فمات في يده.
وحكى عن محمد بن زياد الأعرابىّ قال: رأيت بالبادية أعرابيا في عنقه تمائم وهو عريان وعلى سوأته خرقة وفي رجله حبل ومن خلفه عجوز آخذة بطرف الحبل وهو يعضّ ذراعيه، فقلت للعجوز: من هذا؟ فقالت: ابن ابنتى! فقلت لها:
أبه مسّ من الجنّ؟ فقالت: لا والله ولكنه نشأ وابنة عمّ له في مكان واحد، فعلّقها وعلّقته. فحبسها أهلها ومنعوها منه فزال عقله وصار إلى ما ترى! فقلت لها: ما اسمه قالت: عكرمة. فقلت: أيا عكرمة ما أصابك؟ قال: أصابنى داء قيس وعروة وجميل: فالجسم منى نخيل، والفؤاد عليل. قال: فتركته ومضيت.
وحكى عن عباس بن عبيد، قال: كان بالمدينة جارية ظريفة حاذقة بالغناء فهويت فتى من قريش، فكانت لا تفارقه ولا يفارقها. فملّها الفتى وفارقها، وتزايدت محبتها له حتى ولهت. وتفاقم الأمر بها حتّى هامت على وجهها ومزّقت ثيابها، فرآها مولاها فى ليلة من الليالى، وهى تدور في السّكك ومعه أصحاب له، فجعلت تبكى وتقول:(2/153)
الحبّ أوّل ما يكون لجاجة ... تأتى به وتسوقه الأقدار.
حتّى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى ... جاءت أمور لا تطاق كبار.
قال: فما بقى أحد إلا رحمها. فقال لها مولاها: يا فلانة، امضى معنا إلى بيتنا! فأبت وقالت:
شغل الحلى أهله أن يعارا
قال: وذكر بعض من رآها ليلة وقد لقيتها جارية أخرى مجنونة فقالت لها:
فلانة، كيف أنت؟ قالت: كما لا أحب، فكيف أنت من ولهك وحبّك؟ قالت:
على ما لم يزل، يتزايد على مرّ الأيام! قالت لها: فغنّى بصوت من أصواتك فإنى قريبة.
الشّبه بك! فأخذت قصبة توقّع بها وغنّت:
يا من شكا ألما للحبّ شبّهه ... بالنار في القلب من حزن وتذكار!
إنّى لأعظم ما بى أن أشبّهه ... شيئا يقاس إلى مثل ومقدار.
لو أنّ قلبى في نار لأحرقها، ... لأنّ أجزاءه أذكى من النّار!
ثم مضت.
وحكى عن سليمان بن يحيى بن معاذ قال: قدم علىّ بنيسابور إبراهيم بن سبابة الشاعر البصرى. فأنزلته علىّ فجاء ليلة من الليالى وهو مكروب قد هاج. فجعل يصيح بى: يا أبا أيوب! فخشيت أن يكون قد غشيته بلية، فقلت: ما تشاء؟
فقال:
أعيانى الشادن الرّبيب!
فقلت: بماذا؟
فقال:
أشكو إليه فلا يجيب!
فقلت: داره وداوه!(2/154)
فقال:
من أين أبغى شفاء دائى؟ ... وإنما دائى الطّبيب!
فقلت: إذن يفرّج الله عز وجل! فقال:
يا ربّ، فرّج إذا وعجّل، ... فإنّك السامع المجيب!
ثم انصرف.
وحدث عن على بن محمد النوفلىّ عن أبى المختار عن محمد بن قيس العبدىّ، قال:
إنى لبمزدلفة بين النائم واليقظان إذا سمعت بكاء حرقا وغناء عاليا. فاتبعت الصوت فإذا أنا بجارية كأنها الشمس حسنا ومعها عجوز. فلطئت بالأرض لأمتع عينى بحسنها، فسمعتها تقول:
دعوتك يا مولاى سرا وجهرة ... دعاء ضعيف القلب عن محمل الحبّ!
بليت بقاسى القلب لا يعرف الهوى ... وأقتل خلق الله للهائم الصبّ!
فإن كنت لم تقض المودّة بيننا ... فلا تخل من حبّ له أبدا قلبى!
رضيت بهذا ما حييت فإن أمت ... فحسبى معادا في المعاد به حسبى!
قال: وجعلت تردّد هذه الأبيات وتبكى، فقمت إليها وقلت: بنفسى من أنت؟
مع هذا الوجه وهذا الجمال يمتنع عليك من تريدين؟ قالت: نعم! والله إنه يفعل تصبرا وفي قلبه أكثر مما في قلبى! قلت: فإلى كم البكاء؟ قالت: أبدا! أو يصير الدمع دما وتتلف نفسى غما. فقلت: إن هذه آخر ليلة من ليالى الحج، فلو سألت الله تعالى التوبة مما أنت فيه، رجوت أن يذهب حبه من قلبك! قالت: يا هذا، عليك بنفسك في طلب رغبتك، فإنى قد قدّمت رغبتى إلى من ليس يجهل بغيتى! وحوّلت وجهها عنى، وأقبلت على بكائها وشعرها.(2/155)
وحكى أبو الفرج، عبد الرحمن بن على بن محمد بن الجوزىّ في كتابه المترجم ب «ذمّ الهوى» بسند رفعه إلى هشام بن عروة، قال: أذن معاوية بن أبى سفيان يوما للناس، فكان فيمن دخل عليه فتى من بنى عذرة. فلما أخذ الناس مجالسهم، قام الفتى العذرىّ بين السماطين فأنشأ يقول:
معاوى، يا ذا الفضل والحلم والعقل ... وذا البرّ والإحسان والجود والبذل!
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مسكنى ... وأنكرت مما قد أصبت به عقلى.
ففرّج- كلاك الله- عنّى فإننى ... لقيت الذى لم يلقه أحد قبلى!
وخذ لى- هداك الله- حقّى من الذى ... رمانى بسهم كان أهونه قتلى!
وكنت أرجّى عدله إن أتيته ... فأكثر تردادى مع الحبس والكبل!
سبانى سعدى وانبرى لخصومتى ... وجار ولم يعدل وغاصبنى أهلى.
فطلّقتها من جهد ما قد أصابني! ... فهذا أمير المؤمنين من العدل؟
فقال معاوية: أدن بارك الله عليك! ما خطبك؟ فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! إننى رجل من بنى عذرة، تزوّجت ابنة عمّ لى. وكانت لى صرمة من الإبل وشويهات فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتنى نائبة الزمان وحادثات الدهر، رغب عنى أبوها.
وكانت جارية فيها الحياء والكرم، فكرهت مخالفة أبيها. فأتيت عاملك مروان بن الحكم مستصرخا به راجيا لنصرته. فذكرت له قصتى، فأحضر أباها وسأله عن قضيتى. وكان قد بلغه جمالها، فدفع لأبيها عشرة آلاف درهم، وقال له: هذه لك، وزوّجنى بها وأنا أضمن خلاصها من هذا الأعرابىّ! فرغب أبوها في البذل فصار الأمير لى خصما وعلىّ منكرا! فانتهرنى وأمر بى إلى السجن وأرسل إلىّ أن أطلقها فلم أفعل. فحبسنى وضيق علىّ وعذبنى بأنواع العذاب، فلما أصابنى مسّ الحديد وألم العذاب ولم أجد(2/156)
بدّا عن ذلك، طلقتها. فما استكملت عدّتها حتّى تزوّج بها. فلما دخل بها أرسل إلىّ فأطلقنى. وقد أتيتك يا أمير المؤمنين مستجيرا بك، وأنت غياث المكروب، وسند المسلوب. فهل من فرج؟ ثم بكى وقال في بكائه:
فى القلب منّى نار ... والنار فيها استعار!
والجسم منّى نحيل ... واللون فيه اصفرار.
والعين تبكى بشجو ... فدمعها مدرار.
والحبّ داء عسير ... فيه الطّبيب يحار.
حمّلت منه عظيما ... فما عليه اصطبار.
فليس ليلى ليلا ... ولا نهارى نهار!
فرقّ له معاوية وكتب إلى ابن الحكم كتابا غليظا، وكتب في آخره:
ركبت أمرا عظيما لست أعرفه ... أستغفر الله من جور امرئ زانى!
قد كنت تشبه صوفيّا له كتب ... من الفرائض أو آيات فرقان.
حتّى أتانا الفتى العذرىّ منتحبا ... يشكو إلىّ بحقّ غير بهتان.
أعطى الإله عهودا لا أخيس بها: ... أو لا فبرّئت من دين وإيمان!
إن أنت راجعتنى فيما كتبت به ... لأجعلنّك لحما بين عقبان!
طلّق سعاد، وجهّزها معجّلة ... مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان!
فما سمعت كما بلّغت من عجب ... ولا فعالك حقّا فعل إنسان!
ثم طوى الكتاب ودفعه إلى الكميت ونصر بن ذبيان وقال: اذهبا به إليه! قال: فلما ورد كتاب معاوية على ابن الحكم وقرأه تنفس الصّعداء، وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلّى بينى وبينها سنة ثم عرضنى على السيف! وجعل يؤامر نفسه(2/157)
فى طلاقها فلا يقدر. فلما أزعجه الوفد طلقها وأسلمها إليهما. فلما رآها الوفد على هذه الصورة العظيمة وما اشتملت عليه من الجمال المفرط، قالوا: لا تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين! وكتب ابن الحكم كتابا لأمير المؤمنين معاوية، ودفعه إليهما مع الجارية. فكان مما كتب فيه يقول:
لا تحنثنّ أمير المؤمنين فقد ... أوفى بعهدك في رفق وإحسان.
وما ركبت حراما حين أعجبنى، ... فكيف سمّيت باسم الخائن الزانى؟
أعذر فانك لو أبصرتها لجرت ... منك الأمانى على تمثال إنسان!
وسوف تأتيك شمس ليس يعدلها ... عند البريّة من إنس ومن جان!
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت، ... أقول ذلك في سرّ وإعلان!
فلما ورد الكتاب على معاوية وقرأه، قال: لقد أحسن في الطاعة، ولكن أطنب فى ذكر الجارية! ولئن كانت أعطيت حسن النّغمة مع هذا الوصف الحسن فهى أكمل البرية! فأمر بإحضارها، فلما مثلت بين يديه، استنطقها فإذا هى أحسن الناس كلاما وأكملهم شكلا ودلالا. فقال: يا أعرابىّ، هذه سعدى! ولكن هل لك عنها من سلوة بأفضل الرغبة؟ قال نعم، إذا فرّقت بين رأسى وجسدى! فقال: أعوّضك عنها يا أعرابىّ ثلاث جوار أبكار ومع كل واحدة ألف دينار وأقسم لك من بيت المال ما يكفيك في كل سنة ويعينك على صحبتهنّ. فشهق شهقة ظن معاوية أنه مات. فقال له: ما بالك يا أعرابىّ؟ قال: أشرّبال وأسوأ حال، استجرت بعدلك من جور ابن الحكم، فعند من أستجير من جورك؟ ثم أنشأ يقول:
لا تجعلنى والأمثال تضرب بى ... كالمستغيث من الرّمضاء بالنار!
اردد سعاد على حيران مكتئب ... يمسى ويصبح في همّ وتذكار!(2/158)
قد شفّه قلق ما مثله قلق. ... وأسعر القلب منه أىّ إسعار!
كيف السّلوّ، وقد هام الفؤاد بها ... وأصبح القلب عنها غير صبّار؟
قال: فغضب معاوية غضبا شديدا، ثم قال: يا أعرابىّ، أنت مقرّ بأنك طلقتها! ومروان مقرّ بأنه طلقها، ونحن نخيرها فان اختارتك أعدناها إليك بعقد جديد، وإن اختارت سواك زوّجناه بها. ثم التفت إليها أمير المؤمنين وقال: ما تقولين، يا سعدى؟
أيما أحبّ إليك، أمير المؤمنين في عزه وشرفه وسلطانه وما تصيرين إليه عنده، أو مروان بن الحكم في عسفه وجوره، أو هذا الأعرابى في فقره وسوء حاله؟
فأنشأت تقول:
هذا [1] ، وان كان في فقر وإضرار، ... أعزّ عندى من قومى ومن جارى!
وصاحب التّاج أو مروان عامله ... وكلّ ذى درهم عندى ودينار!
ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان ولا لغدزات الأيام! وإن لى معه صحبة لا تنسى ومحبة لا تبلى! والله إنى لأحق من صبر معه في الضراء كما تنعّمت معه في السرّاء! فعجب كلّ من كان حاضرا. فأمر له بها ثم أعادها له بعقد جديد، وأمر لهما بألف دينار. فأخذها وانصرف يقول:
خلّوا عن الطّريق للأعرابى! ... ألم ترقّوا، ويحكم ممّا بى؟
قال: [2] فضحك معاوية وأمر بها فأدخلت في قصوره حتى انقضت عدّتها من ابن الحكم ثم أمر برفعها إلى الأعرابى.
__________
[1] روى هذا الشعر في نسخة أخرى على وجه آخر وهو:
هذا وإن أصبح في أطمار ... وكان في نقص من اليسار
أكثر عندى من أبى وجارى ... وصاحب الدرهم والدينار
أخشى إذا غدرت حرّ النار
[2] وجدت هذه الزيادة في بعض النسخ.(2/159)
ولقد ساق ابن الجوزى في كتابه من أخبار العشاق وما نالهم من الأمراض والجنون والضنا، وقصّ كثيرا من أخبارهم، تركنا إيراد ذلك رغبة في الاختصار، لأنه أمر غير منكور.
وأما من خاطر بنفسه وألقاها إلى الهلاك لأجل محبوبه، فمن ذلك ما روى عن أبى ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان أنه قال: كان عبد الملك يجلس يومين في الأسبوع جلوسا عامّا للناس: فبينا هو جالس في مستشرف له وقد ادخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصّة غير مترجمة. فيها:
«إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته فلانة تغنينى ثلاثة أصوات ثم ينفذ فىّ ما شاء من حكمه، فعل!» .
فاستشاط من ذلك غضبا وغيظا، وقال: يا رباح! علىّ بصاحب هذه القصة! فخرج الناس جميعا فأدخل عليه غلام كما عذّر، من أحسن الفتيان، فقال له عبد الملك:
يا غلام، هذه قصتك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وما الذى غرّك منّى؟ والله لأمثلنّ بك ولأردعنّ بك نظراءك من أهل الجسارة! ثم قال: علىّ بالجارية فجىء بها كأنها فلقة قمر! وبيدها عودها ووضع لها كرسىّ، فجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام! فقال لها: يا جارية، غنينى بشعر قيس بن ذريح:
لقد كنت حسب النفس، لو دام ودنا؛ ... ولكنما الدنيا متاع غرور!
وكنّا جميعا قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالى غبطة وسرور.
فما برح الواشون حتّى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة لظهور.(2/160)
فغنّت. فخرج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تخريقا، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنك الصوت الثانى! فقال: غنينى بشعر جميل:
ألا ليت شعرى! هل أبيتنّ ليلة ... بوادى القرى؟ إنى إذا لسعيد!
إذا قلت: ما بى يا بثينة قاتلى ... من الحبّ! قالت: ثابت ويزيد!
وإن قلت: ردّى بعض عقلى أعش به ... مع الناس! قالت: ذاك منك بعيد!
فلا أنا مردود بما جئت طالبا، ... ولا حبّها فيما يبيد يبيد!
يموت الهوى منّى إذا ما لقيتها، ... ويحيا إذا فارقتها فيعود!
فغنته الجارية. فسقط الغلام مغشيّا عليه ساعة. ثم أفاق، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث! فقال يا جارية! غنينى بشعر قيس بن الملوّح:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ... غزال غضيض المقلتين ربيب.
فلا تحسبى أن الغريب الذى نأى، ... ولكنّ من تنأين عنه غريب!
فغنته الجارية فطرح نفسه من المستشرف، فتقطع قبل وصوله إلى الأرض. فقال عبد الملك: ويحه! لقد عجّل على نفسه! ولقد كان تقديرى فيه غير الذى فعل! وأمر بإخراج الجارية عن قصره، فأخرجت. ثم سأل عن الغلام فقالوا: غريب، لا يعرف إلا أنه منذ ثلاث ينادى في الأسواق، ويده على رأسه:
غدا يكثر الباكون منا ومنكم، ... وتزداد دارى من دياركم بعدا!
وحكى أن مثل هذه الحكاية جرت في مجلس سليمان بن عبد الملك.
حكى عن أبى عثمان الجاحظ أنه قال: قعد سليمان بن عبد الملك يوما للمظالم وعرضت عليه القصص فمرّت به قصة فيها: إن رأى امير المؤمنين أن يخرج إلىّ فلانة(2/161)
(إحدى جواريه) حتّى تغنينى ثلاثة أصوات، فعل. فاغتاظ سليمان وأمر أن يؤتى برأسه. ثم أتبع الرسول برسول آخر فأمره أن يدخل الرجل إليه. فلما مثل بين يديه، قال له: ما الذى حملك على ما صنعت؟ فقال: الثقة بحلمك، والاتكال على عفوك! فأمره بالجلوس، فجلس حتى لم يبق من بنى أمية أحد. ثم أمر بإخراج الجارية فأخرجت ومعها عود، ثم قال: اختر! فقال: تغنى لى بقول قيس بن الملوّح:
تعلّق روحى روحها قبل خلقنا ... ومن بعد أن كنّا نطافا وفي المهد!
فعاش كما عشنا فأصبح ناميا، ... وليس- وإن متنا- بمنقصف العهد.
يكاد فضيض الماء يخدش جلدها، ... اذا اغتسلت بالماء من رقّة الجلد.
وإنّى لمشتاق إلى ريح جيبها، ... كما اشتاق إدريس إلى جنّة الخلد!
فغنت. ثم قال: تأمر لى برطل. فأمر له به فشربه. ثم قال: تغنى بقول جميل:
علقت الهوى منها وليدا، فلم يزل ... إلى اليوم ينمى حبّها ويزيد.
وأفنيت عمرى في انتظار نوالها ... وأبليت فيها الدّهر وهو جديد.
فلا أنا مردود بما جئت طالبا، ... ولا حبّها فيما يبيد يبيد.
إذا قلت: ما بى يابثينة قاتلى ... من الحبّ! قالت: ثابت ويزيد.
وإن قلت: ردّى بعض عقلى أعش به ... مع الناس! قالت: ذاك منك بعيد.
فغنّت، فقال له سليمان: قل ما تريد؟ قال: تأمر لى برطل، فأمر له به فشربه.
ثم قال: تغنى بقول قيس بن ذريح:
«لقد كنت حسب النفس»
الأبيات(2/162)
فغنت. فقال له سليمان: قل ما تشاء! قال: تأمر لى برطل! فأمر له به، فما استتمه حتّى وثب فصعد إلى أعلى قبة ثم زجّ نفسه على دماغه فمات. فاسترجع سليمان وقال: أتراه توهّم الجاهل أنى أخرج إليه جاريتى وأردّها إلى ملكى؟ يا غلام خذ بيدها فانطلق بها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها وتصدّقوا بثمنها عنه.
فلما انطلقوا بها، نظرت إلى حفرة في الدار قد أعدّت للمطر، فجذبت يدها من أيديهم وأنشأت تقول:
من مات عشقا فليمت هكذا! ... لا خير في عشق بلا موت!
وزجت نفسها في الحفرة على دماغها. فماتت.
وقد حكى أيضا مثل هذه، وأنها وقعت للرشيد.
روى عن أبى بكر محمد بن علىّ المخزومىّ قال: اشتريت للرشيد جارية مدنية.
فأعجب بها وأمر الفضل بن الربيع أن يبعث في حمل أهلها ومواليها لينصرفوا بجوائزها.
وأراد بذلك تشريفها. فوفد إلى مدينة السلام ثمانون رجلا، ووفد معهم رجل من أهل العراق استوطن المدينة كان يهوى الجارية. فلما بلغ الرشيد خبر مقدمهم أمر الفضل أن يخرج إليهم ليكتب اسم كل واحد منهم وحاجته، ففعل. فلما بلغ إلى العراقىّ قال: ما حاجتك؟ قال له: إن أنت كتبتها وضمنت لى عرضها مع ما يعرض، أنبأتك بها. فقال: أفعل ذلك، فقال: حاجتى أن أجلس مع فلانة حتّى تغنّينى ثلاثة أصوات وأشرب ثلاثة أرطال، وأخبرها بما تجنّ ضلوعى من حبها! فقال الفضل: أنت موسوس مدخول عليك في عقلك! فقال: يا هذا، قد أمرت أن تكتب ما يقول كلّ واحد منا فاكتب ما أقول واعرضه، فإن أجبت إليه وإلا فأنت في أوسع العذر، فدخل الفضل مغضبا فوقف بين يدى الرشيد، وقرأ عليه ما كتب من حوائجهم. فلما فرغ(2/163)
قال: يا أمير المؤمنين فيهم واحد مجنون! سأل ما أجلّ مجلس أمير المؤمنين عن التفوّه به.
فقال: قل، ولا تجزعنّ! فقال: قال كذا وكذا. فقال: اخرج إليه، وقل له «إذا كان بعد ثلاث، فاحضر لينجز لك ما سألت» . وكن أنت متولّى الاستئذان له. ثم دعا بخادم فقال له: امض إلى فلانة فقل لها: حضر رجل يذكر كذا وكذا وقد أجبناه إلى ما سأل فكونى على أهبة. وخرج الفضل إلى الرجل وأخبره بما قال الرشيد، فانصرف وجاء فى اليوم الثالث. فعرّف الفضل الرشيد خبره فقال: يوضع له بحيث أرى كرسىّ من فضة، وللجارية كرسىّ من ذهب! وليخرج إليه ثلاثة أرطال! ففعلوا ذلك وجاء الفتى فجلس على الكرسىّ، والجارية بإزائه، فجعل يحدّثها والرشيد يراهما، فقال له الخادم: لم تدخل فتشتو وتصيّف! فأخذ رطلا وخرّ ساجدا، وقال: إن شئت أن تغنّى فغنّى:
خليلىّ عوجا! بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند بأرضكما قصدا!
وقولا لها: ليس الضلال أجازنا؛ ... ولكنّما جزنا لنلقاكما عمدا!
غدا يكثر الباكون منا ومنكم، ... وتزداد دارى من دياركم بعدا!
فغنت، فشرب الرطل، وحادثها ساعة. فاستحثه الخادم فأخذ الرطل بيده وقال:
غنى جعلنى الله فداءك!
تكلّم منّا في الوجوه عيوننا، ... فنحن سكوت والهوى يتكلّم!
ونغضب أحيانا ونرضى بطرفنا، ... وذلك فيما بيننا ليس يعلم!
فغنته وشرب الرطل الثانى وحادثها ساعة. واستعجله الخادم فخرّ ساجدا يبكى واخذ الرطل بيده واستودعها الله وقام ودموعه تستبق استباق المطر وقال: إذا شئت أن تغنّى فغنّى.(2/164)
أحسن ما كنّا تفرّقنا ... وخاننا الدّهر وما خنّا!
فليت ذا الدّهر لنا مرّة ... عاد لنا الدّهر كما كنا!
فغنته الصوت، فقلّب الفتى طرفه فبصر بدرجة في الصحن، فأمها. فاتبعه الخدم ليهدوه الطريق، ففاتهم وصعد الدرجة فألقى نفسه إلى الأرض على رأسه فمات. فقال الرشيد: عجّل الفتى! ولو لم يعجّل لوهبتها له! وممن خاطر بنفسه في هواه وعرّضها للتلف فنجا ونال خيرا، ما حكاه ابن الجوزى بسند يرفعه إلى أبى الفرج أحمد بن عثمان بن إبراهيم الفقيه المعروف بابن الترسى قال: كنت جالسا بحضرة أبى، وأنا حدث، وعنده جماعة.
فحدّثنى حديث وصول النعم إلى الناس بالألوان الظريفة. وكان ممن حضر صديق لأبى. فسمعته يحدّث أبى، قال: حضرت عند صديق لى من التّجّار- كان يتّجر بمائة ألف دينار- فى دعوة. وكان حسن المروءة، فقدّم مائدة وقدّم عليها ديكريكة [1] فلم يأكل
__________
[1] فى الباب الثانى الخاص بالحوامض من كتاب «صفة الأطعمة» الموجود منه نسخة فتوغرافية بدار الكتب المصرية مانصه:
«ديكبريكة. يقطّع اللحم أوساطا ويترك في القدر ويلقى عليه يسير ملح وكف حمص مقشور وكسفرة يابسة ورطبة وبصل مقطع وكراث ويطرح عليه غمرة ما، ويغلى ثم تؤخذ رغوته ويلقى عليه شيرج يسير وخل خمر ومرى ويلقى عليه قليل فلفل مسحوق ناعم ويطبخ حتّى يتبين طعمه. ومن الناس من يحليها بقليل سكر فاذا نضجت طرح فيها أطراف الطيب مع فلفل وكزبرة يابسة وتترك حتى تهدأ وترفع» انتهى.
والظاهر أن صواب اللفظ (ديكبرديكة) ثم اختصر أو حرف الى ديكبريكة وديكريكة لأن الذى فى المعاجم الفارسية (ديك برديك) فمعنى (ديك) القدر و (بر) فوق وعلى، فيكون المراد قدر فوق قدر. وتقول هذه المعاجم إن هذا النوع المزدوج يستعمل لأعمال التصعيد والتقطير. ولا يبعد أن يكون هذا الطعام مما يعالج في طبخه بالبخار أى بوضع قدره على قدر أخرى فيها ماء يغلى على النار فسمى الطعام باسم وعائه اه.
أفادنيه حضرة صاحب السعادة العلامة أحمد تيمور باشا.(2/165)
منها، فامتنعنا. فقال: كلوا! فإنى أتأذّى بأكل هذا اللون. فقلنا: نساعدك على تركه.
قال: بل أساعدكم على الأكل، واحتمل الأذى! فأكل وأكلنا، فلما أراد غسل يده أطال. فعددت عليه أنه قد غسلها أربعين مرة. فقلت: يا هذا، وسوست! فقال: هذه الأذية التى قرفت منها! فقلت: وما سببها؟ فامتنع من ذكر السبب، فلما ألححت عليه، قال: مات أبى وسنى عشرون سنة، وخلّف لى نعمة وفيرة ورأس مال ومتاعا في دكانه. فقال لما حضرته الوفاة: يا بنىّ! إنه لا وارث لى غيرك، ولا دين علىّ ولا مظلمة. فإذا أنا متّ فأحسن جهازى وتصدّق عنى بكذا وكذا، وأخرج عنى حجّة بكذا، وبارك الله لك في الباقى! ولكن احفظ وصيتى! فقلت: قل! قال: لا تسرف فى مالك، فتحتاج إلى ما في أيدى الناس فلا تجده. واعلم أن القليل مع الإصلاح كثير، والكثير مع الفساد قليل. فالزم السّوق وكن أوّل من يدخلها، وآخر من يخرج منها.
وإن استطعت أن تدخلها سحرا بليل فافعل، فإنك تستفيد بذلك فوائد تكشفها لك الأيام، ومات. فأنفذت وصيته، وعملت بما أشار به. وكنت أدخل السوق سحرا، وأخرج منها عشاء. فلا أعدم من يجىء يطلب كفنا فلا يجد من قد فتح غيرى فأحتكم عليه، ومن يبيع شيئا والسوق لم تقم فأبتاع منه، وأشياء من هذه الفوائد. ومضى علىّ سنة وكسر، فصار لى بذلك جاه عند أهل السوق وعرفوا استقامتى وأكرمونى.
فبينا أنا جالس يوما ولم تتكامل السوق، وإذا بامرأة راكبة حمارا مصريا وعلى كفله منديل دبيقىّ [1] ومعها خادم وهى بزىّ القهارمة. فبلغت آخر السوق ثم رجعت، فنزلت عندى. فقمت إليها وأكرمتها، وقلت: ما تأمرين؟ وتأملتها فإذا بامرأة لم أر قبلها
__________
[1] دبيق (بالباء الموحدة ثم الياء) مدينة كانت بالقرب من دمياط وكانت مشهورة بنفائس المنسوجات التى تعرف باسمها.(2/166)
ولا بعدها إلى الآن أحسن منها في كل شىء. فتكلمت وقالت: أريد كذا وكذا (ثيابا طلبتها) . فسمعت نغمة ورأيت شكلا قتلنى فعشقتها في الحال أشدّ عشق، وقلت:
اصبرى حتى يخرج الناس، فآخذ ذلك لك فليس عندى إلا القليل مما يصلح لك.
وأخرجت الذى عندى وجلست تحادثنى، وكأن السكاكين في فؤادى من عشقها.
وكشفت عن أنامل رأيتها كالطّلع، ووجه كدارة القمر. فقمت لئلا يزيد علىّ الأمر، وأخذت لها من السوق ما أرادت، وكان ثمنه مع مالى نحو خمسمائة دينار، فأخذته وركبت ولم تعطنى شيئا. وذهب عنى لما تداخلنى من حبها أن أمنعها من المتاع إلا بالمال، وأن أستدل على منزلها ومن دار من هى؟ فحين غابت عنى، وقع لى أنها محتالة وأن ذلك سبب فقرى. فتحيرت في أمرى وكتمت خبرى، لئلا أفتضح بما للناس علىّ. وأجمعت على بيع ما في يدى من المتاع وإضافته إلى ما عندى من الدراهم وأدفع أموال الناس إليهم ولزوم البيت والاقتصار على غلة العقار الذى ورثته. وأخذت أشرع فى ذلك مدة أسبوع، وإذا بها قد أقبلت ونزلت عندى، فحين رأيتها أنسيت جميع ما جرى علىّ، وقمت إليها. فقالت: يا فتى، تأخرنا عنك لشغل عرض لنا، وما شككنا فى أنك لم تشك أنا احتلنا عليك، فقلت: قد رفع الله قدرك عن هذا! فقالت، هات التخت والطيار [1] ، فأحضرته، فأخرجت دنانير عتقا، فوفتنى المال بأسره. وأخرجت تذكرة بأشياء أخر. فأنفذت إلى التجّار أموالهم وطلبت منهم الذى أرادت، وحصّلت أنا
__________
[1] فى شرح المقامات الحريرية للطرّزى المسمى بالايضاح في تفسير قول الحريرى في المقامة الثانية والأربعين
«ثم اعتضد عصا التّسيار ... وأنشد ملغزا في الطيار.
وذى طيشة شقه مائل ... وما عابه بهما عاقل»
ما نصه: «الطيار معيار الذهب لأنه على شكل الطائر وقيل هو ميزان لا لسان له أفادنيه حضرة صاحب السعادة العلامة أحمد تيمور باشا.(2/167)
فى الوسط ربحا جيدا. وأحضر التّجّاز الثياب فقمت وثمنتها معهم لنفسى. ثم بعتها عليها بربح عظيم، وأنا في خلال ذلك أنظر إليها نظر من تألّف حبها، وهى تنظر إلىّ نظر من فطنت بذلك ولم تنكره. فهممت بخطابها ولم أقدر عليه. وجمعت المتاع فكان ثمنه ألف دينار. فأخذته، وركبت ولم أسألها عن موضعها. فلما غابت عنى، قلت: هذه الآن الحيلة المحكمة! أعطتنى خمسمائة دينار وأخذت ألف دينار، وليس إلا بيع عقارى الآن، والحصول على الفقر! وتطاولت غيبتها عنى بنحو شهر. وألحّ التجّار علىّ بالمطالبة، فعرضت عقارى على البيع، ولازمنى بعض التجّار فوزنت جميع ما كنت أملكه ورقا وعينا. فبينا أنا كذلك، إذ نزلت عندى. فزال عنى جميع ما كنت فيه برؤيتها. واستدعت الطيّار والتخت، فوزنت المال ورمت إلىّ تذكرة يزيد ما فيها على ألفى دينار بكثير. فتشاغلت بإحضار التجّار ودفع أموالهم إليهم وأخذ المتاع منهم، وطال الحديث بيننا. فقالت لى: يا فتى، ألك زوجة؟ فقلت: لا، والله ما عرفت امرأة قط، وأطمعنى ذلك فيها، وقلت: هذا وقت خطابها، والإمساك عنها عجز، ولعلها تعود أو لا تعود. وأردت كلامها فهبتها. وقمت كأنى أحثّ التجار على جمع المتاع. وأخذت يد الخادم وأخرجت إليه دنانير وسألته أن يأخذها ويقضى لى حاجة. فقال: أفعل، فقصصت عليه قصتى وسألته توسط الأمر بينى وبينها.
فضحك وقال: والله إنها لك أعشق منك لها! وو الله ما بها حاجة إلى أكثر هذا الذى تشتريه، وإنما تأتيك محبة لك وطريقا إلى مطاولتك، فخاطبها ودعنى، فجسّرنى على خطابها فخاطبتها وكشفت لها عشقى ومحبتى وبكيت، فضحكت. وتقبلت ذلك أحسن قبول. وقالت: الخادم يأتيك برسالتى. ونهضت ولم تأخذ شيئا من المتاع، فرددته على أصحابه. وحصل لى مما اشترته أوّلا وثانيا ألوف دراهم ربحا،(2/168)
ولم أعرف النوم في تلك الليلة شوقا إليها، وخوفا من انقطاع السبب بيننا. فلما كان بعد أيام جاءنى الخادم، فأكرمته وسألته عن خبرها، فقال: هى والله عليلة من شوقها إليك، فقلت: اشرح لى أمرها، فقال: هذه مملوكة السيدة أم المقتدر وهى من أخص جواريها، واشتهت رؤية الناس والدخول والخروج. فتوصلت حتّى جعلتها قهرمانة.
وقد والله حدّثت السيدة بحديثك وبكت بين يديها وسألتها أن تزوّجها منك، فقالت السيدة: لا أفعل أو أرى هذا الرجل. فإن كان يستأهلك وإلا لم أدعك ورأيك.
وتحتاج أن تحتال في إدخالك الدار بحيلة، فإن تمت وصلت بها إلى تزويجك بها، وإن انكشفت ضرب عنقك. وقد أنقذتنى إليك في هذه الرسالة، وقالت لك:
إن صبرت على هذا، وإلا فلا طريق لك والله إلىّ، ولا لى إليك بعدها! فحملنى ما في نفسى أن قلت: أصبر، فقال: إذا كانت الليلة فاعبر إلى المحرم، وادخل إلى المسجد، وبت فيه. ففعلت ذلك. فلما كان وقت السّحر، إذا بطيار [1] قد قدم، وخدم قد رفعوا صناديق فراغا. فجعلوها في المسجد وانصرفوا. وخرجت الجارية فصعدت إلى المسجد، والخادم معها. فجلست وفرقت باقى الخدم في حوائج، واستدعتنى فعانقتنى وقبلتنى. ولم أكن نلت ذلك منها قبله. ثم أجلستنى في بعض الصناديق وأقفلته. وطلعت الشمس وجاء الخدم بثياب وحوائج من المواضع التى كانت أنفذتهم إليها، فجعلت ذلك بحضرتهم في باقى الصناديق، وأقفلتها. وحملت إلى الطيار وانحدر. فلما حصلت فيه ندمت وقلت: قتلت نفسى لشهوة، وأقبلت ألومها تارة، وأشجّعها وأمنّيها أخرى، وأنذر النّذور على خلاصى، وأوطّن مرة نفسى على القتل إلى أن بلغنا الدار. وحمل الخدم الصناديق، وحمل صندوقى
__________
[1] أى زورق من الزوارق الخفيفة.(2/169)
الخادم الذى يعرف الحديث، وبادر به أمام الصناديق وهى معى، والخدم يحملون بقيتها. وكلما جازت بطائفة من الخدم والبوّابين، قالوا: نريد أن نفتّش الصندوق، فتصيح عليهم وتقول: متى جرى الرسم معى بهذا؟ فيمسكون عنها وروحى في السّياق إلى أن انتهينا إلى خادم خاطبته هى بالأستاذ. فعلمت أنه أجل الخدم، فقال:
لا بدّ من فتح الصندوق الذى معك، فخاطبته بلين وذل، فلم يجبها. وعلمت أنها ما ذلّت ولها حيلة، فأغمى علىّ. وأنزلوا الصّندوق ليفتحوه. فبلت من شدّة ما نالنى من الفزع، فجرى البول من خلال الصندوق. فصاحت: يا أستاذ، أهلكت علينا متاعا بخمسة آلاف دينار في الصندوق. ثياب مصبّغات وماء ورد، وقد انقلب على الثياب، والساعة تختلط ألوانها، وهى هلاكى مع السيدة! فقال لها: خذى صندوقك إلى لعنة الله أنت وهو، مرّى! فصاحت بالخدم: احملوا، فأدخلت الدار ورجعت إلىّ روحى، فبينا نحن كذلك إذ قالت: وا ويلاه! الخليفة والله! فجاءنى أعظم من الأوّل. وسمعت كلام خدم وهو يقول من بينهم: ويك يا فلانة! إيش في صندوقك؟ أرينى هو، فقالت: ثياب لستى يا مولاى، والساعة أفتحه بين يديها، وتراه، وقالت للخدم: أسرعوا ويلكم! فأسرعوا فأدخلتنى إلى الحجرة وفتحت الصندوق وقالت: اصعد من هذه الدرجة إلى الغرفة فاجلس فيها، وفتحت صندوقا آخر فقلبت بعض ما فيه إلى الصندوق الذى كنت فيه، وأقفلت الجميع. وجاء المقتدر وقال: افتحيه، ففتحته، فلم ير شيئا فيه. فصعدت إلىّ وجعلت تقبلنى وترشفنى. ونسيت ما جرى. ثم تركتنى، وأقفلت باب الحجرة يومها.
ثم جاءتنى ليلا فأطعمتنى وسقتنى وانصرفت. فلما كان من غد جاءتنى، فقالت:
السيدة الساعة تجىء، فانظر كيف تخاطبها، ثم عادت بعد ساعة مع السيدة،(2/170)
وقالت: انزل، فنزلت. فإذا بالسيدة جالسة على كرسىّ وليس معها إلا وصيفتان وصاحبتى. فقبّلت الأرض وقمت بين يديها، فقالت: اجلس، فقلت: أنا عبد السيدة وخادمها، وليس من محلى أن أجلس بحضرتها، فتأملتنى وقالت:
ما اخترت يا فلانة إلا حسن الوجه والأدب، ونهضت، فجاءتنى صاحبتى بعد ساعة، وقالت: أبشر، فقد أذنت لى في تزويجك، وما بقى الآن عقبة إلا الخروج.
فقلت: يسلم الله! فلما كان من غد حملتنى في الصندوق. فخرجت كما دخلت بعد مخاطرة أخرى وفزع ثان. ونزلت في المسجد ورجعت إلى منزلى، فتصدّقت، وحمدت الله تعالى على السلامة. فلما كان بعد أيام جاءنى الخادم ومعه كيس وفيه ثلاثة آلاف دينار عينا وقال: أمرتنى ستى بإنفاذ هذا إليك من مالها، وقالت:
اشتر به ثيابا ومركوبا وخدما، وأصلح به ظاهرك، واحضر يوم الموكب إلى باب العامّة، وفف حتّى تطلب. فقد وافق الخليفة أن يزوجك بحضرته. فأخذت المال وأجبت عن رقعة كانت معه، واشتريت ما قالوه بشىء يسير منه وبقى الأكثر عندى. وركبت إلى باب العامة في يوم الموكب بزىّ حسن. وجاء الناس فدخلوا إلى الخليفة، ووقفت إلى أن استدعيت ودخلت. فإذا أنا بالمقتدر جالسا والقضاة والقوّاد وغيرهم من الهاشميين. فهبت المجلس وعلّمت كيف أسلّم. ففعلت.
وتقدّم المقتدر إلى بعض القضاة الحاضرين فخطب لى وزوّجنى. وخرجت من حضرته. فلما انتهيت إلى بعض الدهاليز، عدل بى إلى دار عظيمة مفروشة بأنواع الفرش الفاخرة وفيها من الآلات والخدم والقماش ما لم أر مثله قطّ. وانصرف من أدخلنى. فجلست يومى لا أقوم إلا إلى الصلاة. وخدم يدخلون وخدم يخرجون، وطعام عظيم ينقل وهم يقولون: الليلة تزف فلانة باسم صاحبتى إلى زوجها البزّاز،(2/171)
وأنا لا أصدّق فرحا. فلما جاء الليل أثّر فيّ الجوع وأقفلت الأبواب، ويئست من الجارية، فقمت أطوف الدار فوقعت على المطبخ. ووجدت الطباخين جلوسا فاستطعمتهم فلم يعرفونى وقدّرونى بعض الوكلاء. فقدّموا إلىّ هذا اللون مع رغيفين فأكلتهما وغسلت يدى بأشنان كان في المطبخ وقدّرت أنها قد نقيت.
وعدت إلى مكانى. فلما جنّ الليل إذا طبول وزمور وأصوات عظيمة. وإذا أنا بالأبواب قد فتّحت وصاحبتى قد أهديت إلىّ وجاءوا بها فجلوها علىّ، وأنا أقدّر أن ذلك في النوم. ثم تركت معى في المجلس. وتفرّق ذلك البوش. فلما خلونا، تقدّمت إليها فقبلتها وقبلتنى. فلما شمّت رائحة لحيتى، رفستنى فرمت بى عن المنصّة وقالت: أنكرت والله أن تفلح يا عامّى، يا سفلة، وقامت لتخرج، فقمت وعلقت بها وقبلت الأرض ورجليها، وقلت: عرفينى ذنبى واعملى بعده ما شئت، فقالت: ويحك، أكلت ولم تغسل يدك! فقصصت عليها قصتى، فلما بلغت إلى آخرها قلت: علىّ وعلىّ- وحلفت بطلاقها وطلاق كل امرأة أتزوّجها وصدقة مالى وجميع ما أملكه والحجّ ماشيا على قدمىّ وكلّ ما يحلف به المسلمون- لا أكلت بعدها ديكيريكة إلا غسلت يدى أربعين مرة. فاستحيت وتبسمت وصاحت:
يا جوارى! فجاء مقدار عشر جوار ووصائف، فقالت: هاتوا شيئا نأكل، فقدّمت ألوان ظريفة وطعام من أطعمة الخلفاء. فأكلنا وغسلنا أيدينا.
واستدعت شرابا فشربنا وغنّى أولئك الوصائف أطيب غناء وأحسنه، ثم قمنا إلى الفراش فخلوت بها وبتّ بأطيب ليلة، ولم نفترق أسبوعا. وكانت يوم الأسبوع وليمة عظيمة اجتمع فيه الجوارى. فلما كان من الغد، قالت لى: إن دار الخلافة لا تحتمل المقام فيها أكثر من هذا مع جارية غيرى، لمحبة سيدتى لى. وجميع ما تراه(2/172)
فهو هبة من السيدة لى. وقد أعطتنى خمسين ألف دينار من عين وورق وجوهر.
ولى ذخائر في خارج القصر كثيرة من كل لون. وجميعها لك، فاخرج إلى منزلك، وخذ معك مالا واشتردارا سريّة واسعة الصحن، فيها بستان، كثيرة الحجر.
وتحوّل إليها، وعرفنى لأنقل إليها هذا كله، ثم آتيك، وسلمت إلىّ عشرة آلاف دينار عينا. فخرجت وابتعت الدار وكتبت إليها بالخبر. فحملت إلىّ تلك النعمة بأسرها. فجميع ما أنا فيه منها، فأقامت عندى كذا وكذا سنة أعيش معها عيش الخلفاء، ولم أدع مع ذلك التجارة. فزاد مالى وعظمت منزلتى وأثرت حالى، وولدت لى هؤلاء الفتيان وأومأ إلى أولاده. ثم ماتت (رحمها الله) وبقى علىّ من مضرّة الديكيريكة ما شاهدته.
وبالجملة فلا يغترّ أحد بهذه الحكاية وأمثالها، فيجهل بنفسه فيهلكها. «فما المغرّر محمود وإن سلما» .
وأما من كفر بسبب العشق فكثير جدّا لا ينحصرون، ومما ورد فى ذلك حكاية عجيبة أوردتها لغرابتها وهى مما حكاه ابن الجوزىّ في كتابه المترجم «بذم الهوى» قال:
سمعت شيخنا أبا الحسن علىّ بن عبيد الله الزعفرانى يحكى أن رجلا اجتاز بباب امرأة نصرانية، فرآها فهويها من وقته، وزاد الأمر به حتّى غلب على عقله، فحمل إلى البيمارستان. وكان له صديق يتردّد إليه ويترسّل بينه وبينها. ثم زاد الأمر به، فقالت أمّه لصديقه: إنى أجىء إليه فلا يكلمنى، فقال: تعالى معى،(2/173)
فأتت معه. فقال له: إن صاحبتك بعثت إليك رسالة، قال: كيف؟ قلت:
هذه أمك تؤدّى رسالتها. فجعلت أمه تحدّثه عنها بشىء من الكذب. ثم زاد الأمر عليه ونزل به الموت، فقال لصديقه: قد جاء الأجل وحان الوقت وما لقيت صاحبتى في الدّنيا، وأنا أريد أن ألقاها في الآخرة. فقال له: كيف تصنع؟
قال: أرجع عن دين محمد، وأقول عيسى ومريم والصليب الأعظم. فقال ذلك ومات.
فمضى صديقه إلى تلك المرأة فوجدها عليلة فجعل يحدّثها، وأخبرها بموت صاحبها، فقالت: أنا ما لقيته في الدّنيا وأنا أريد أن ألقاه في الآخرة. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنا بريئة من دين النصرانية.
فقام أبوها فقال للرجل: خذوها الآن فإنها منكم، فقام الرجل ليخرج، فقال له:
قف ساعة؛ فوقف، فما لبث أن ماتت.
قال: وبلغنى عن رجل ببغداد (يقال له صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يعرف بالصلاح) أنه صعد يوما إلى المنارة ليؤذن فرأى بنت رجل نصرانىّ كان بيته إلى جانب المسجد. فافتتن بها، فجاء فطرق الباب فقالت له: من أنت؟ قال: أنا صالح المؤذن. ففتحت له الباب فدخل وضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات، فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتينى على ما أريد وإلا قتلتك، فقالت: لا، إلا أن تترك دينك، فقال كلمة الكفر وبرئ من الإسلام. ثم تقدّم إليها فقالت: إنما قلت هذا لتقضى غرضك ثم تعود إلى دينك. فكل من لحم الخنزير، فأكل منه، قالت: فاشرب الخمر، فشرب. فلما دبّ الشراب فيه دنا منها فدخلت بيتا وأغلقت بينها وبينه(2/174)
الباب، وقالت له: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبى زوّجنى منك. فصعد فسقط فمات. فخرجت إليه ولفته في مسح. وجاء أبوها فقصت عليه القصة فأخرجه فى الليل ورماه في السكة. وظهر حديثه، فرمى على مزبلة.
وأما من قتل بسبب العشق فلا يكاد ذلك يحصر كثرة، وأعظمه وأشدّه واقعة عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ، لعنه الله.
قال النبىّ صلى الله عليه وسلم لابن عمه علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه: «يا علىّ أشقى الأوّلين عاقر ناقة صالح، وأشقى الأوّلين والآخرين قاتلك، وهو هذا» وأشار إلى ابن ملجم قبحه الله تعالى ولعنه
، وأوجب له خزيه ومقته وعذابه، وذلك نكالا لما اجترأ عليه في قتله أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وذلك أن ابن ملجم قبحه الله رأى امرأة من تيم الرباب يقال لها قطام، كانت من أجمل النساء وكانت ترى رأى الخوارج، وقد قتل علىّ رضى الله عنه قومها يوم النّهروان.
فلما رآها ابن ملجم عشقها فخطبها فقالت: لا أتزوّجك إلا على ثلاثة آلاف درهم وعبد وقينة، وأن تقتل علىّ بن أبى طالب. فحمله العشق على أن خسر الدّنيا والآخرة، وتزوّجها على ذلك. وكان من خبره في قتل علىّ رضى الله عنه ما نذكره إن شاء الله تعالى في التاريخ.
وفي ذلك يقول الشاعر:
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كهر قطام بيّنا غير معجم.
ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة، ... وضرب «علىّ» بالحسام المصمّم.
فلا مهر أغلى من «علىّ» وإن علا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم!(2/175)
ومنهم من حمله العشق على قتل أبيه. وهو أبو عبد الملك مروان بن عبد الرحمن ابن مروان بن عبد الرحمن الناصر، ويعرف هذا «بالطليق» . كان يتعشق جارية كان أبوه قد ربّاها معه وذكر أنها له، ثم استأثر بها وخلا معها. فحمله العشق على أن انتضى سيفا ورصد أباه في بعض خلواته بها فقتله. فسجنه المنصور بن أبى عامر سنين، ثم أطلقه. فلقّب «بالطّليق» واعتراه من ذلك شبه الجنون فكان يصرع فى بعض الأوقات.
وأما من قتل بسبب العشق، فروى عن الشعبىّ قال: دخل عمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقال له عمر: يا عمرو، أخبرنى عن أشجع من لقيت، فقال: نعم يا أمير المؤمنين.
خرجت مرة أريد الغارة. فبينا أنا أسير إذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس، وهو كأعظم ما يكون من الرجال خلقا، وهو محتب بسيف.
فقلت له: خذ حذرك فإنى قاتلك، فقال: ومن أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معديكرب، فشهق شهقة فمات.
فهذا أجبن من رأيت يا أمير المؤمنين.
وخرجت يوما حتّى انتهيت إلى حىّ. فإذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز وإذا صاحبه في وهدة يقضى حاجة. فقلت: خذ حذرك فإنى قاتلك، قال: من أنت؟
قلت: أنا عمرو بن معديكرب، قال: أبا ثور، ما أنصفتنى، أنت على ظهر فرسك، وأنا في بئر، فأعطنى عهدا أنك لا تقتلنى حتى أركب فرسى وآخذ حذرى، فأعطته عهدا أن لا أقتله حتى يركب فرسه ويأخذ حذره. فخرج من الموضع الذى كان فيه(2/176)
حتى احتبى بسيفه وجلس. فقلت له: ما هذا؟ فقال: ما أنا راكب فرسى ولا بمقاتلك، فإن نكثت عهدك فأنت أعلم، فتركته ومضيت فهذا يا أمير المؤمنين أحيل من رأيت! ثم إنى خرجت يوما آخر حتّى انتهيت إلى موضع كنت أقطع فيه. فلم أر أحدا فأجريت فرسى يمينا وشمالا فظهر لى فارس. فلما دنا منى إذا هو غلام قد أقبل من نحو اليمامة. فلما قرب منى سلّم فرددت عليه وقلت: من الفتى؟ قال أنا الحارث بن سعد، فارس الشهباء، فقلت له: خذ حذرك، فإنى قاتلك فقال: الويل لك! من أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معديكرب، قال: الحقير الذليل؟ والله ما يمنعنى من قتلك إلا استصغارك، فتصاغرت نفسى إلىّ وعظم عندى ما استقبلنى.
فقلت له: خذ حذرك، فو الله لا ينصرف إلا أحدنا، قال: أغرب، ثكلتك أمّك! فإنى من أهل بيت ما نكلنا عن فارس قط! فقلت: هو الذى تسمع، قال: اختر لنفسك، إما أن تطرد لى، وإما أن أطرد لك، فاغتنمتها منه، فقلت: أطرد لى، فأطرد وحملت عليه، حتى إذا قلت إنى وضعت الرمح بين كتفيه، إذا هو قد صار حزاما لفرسه، ثم اتبعنى فقرع بالقناة رأسى، وقال: يا عمرو، خذها إليك واحده، فو الله لولا أنى أكره قتل مثلك لقتلتك، فتصاغرت إلىّ نفسى، وكان الموت والله يا أمير المؤمنين أحبّ إلىّ مما رأيت، فقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا، فقال:
اختر لنفسك، فقلت: أطرد لى، فأطرد لى. فظننت أنى قد تمكنت منه واتبعته حتّى إذا ظننت أنى قد وضعت الرمح بين كتفيه، فإذا هو قد صار لببا لفرسه، ثم اتبعنى ففرع رأسى بالقناة وقال: يا عمرو، خذها إليك اثنتين، فتصاغرت إلىّ نفسى فقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا، فقال: اختر لنفسك، فقلت: أطرد(2/177)
لى، فأطرد حتّى إذا قلت إنى وضعت الرمح بين كتفيه وثب عن فرسه فإذا هو على الأرض، فأخطأته ومضيت، فاستوى على فرسه واتبعنى فقرع بالقناة رأسى وقال:
يا عمرو، خذها إليك ثالثة، ولولا أنى أكره قتل مثلك لقتلتك، فقلت له:
اقتلنى، فإن الموت أحب إلىّ مما أرى بنفسى وأن تسمع فتيان العرب بهذا، فقال يا عمرو: إنما العفو ثلاث، وإنى إن استمكنت منك الرابعة قتلتك، وأنشأ يقول:
وكّدت أغلاظا من الأيمان ... إن عدت يا عمرو إلى الطّعان،
لتوجرنّ لهب السّنان ... أولا، فلست من بنى شيبان!
فلما قال هكذا، كرهت الموت، وهبته هيبة شديدة، وقلت: إنّ لى إليك حاجة، قال: وما هى؟ قلت: أكون لك صاحبا، ورضيت بذلك يا أمير المؤمنين، قال:
لست من أصحابى، فكان ذلك والله أشدّ علىّ وأعظم مما صنع. فلم أزل أطلب إليه حتى قال: ويحك، وهل تدرى أين أريد؟ قلت: لا، قال: أريد الموت عيانا، فقلت: رضيت بالموت معك، فقال: امض بنا، فسرنا جميع يومنا وليلتنا حتّى جنّنا الليل وذهب شطره. فوردنا على حىّ من أحياء العرب، فقال لى: يا عمرو فى هذا الحىّ الموت، ثم أومأ إلى قبة في الحىّ فقال: وفي تلك القبة الموت الأحمر، فإما أن تمسك علىّ فرسى فأنزل فآتى بحاجتى، وإما أن أمسك عليك فرسك فتنزل فتأتينى بحاجتى، فقلت: لا، بل انزل أنت، فأنت أعرف بموضع حاجتك، فرمى إلىّ بعنان الفرس ونزل، فرضيت لنفسى يا أمير المؤمنين أن أكون له ساسا. ثم مضى حتّى دخل القبة فاستخرج منها جارية لم تر عيناى قط مثلها حسنا وجمالا، فحملها على ناقة، ثم قال: يا عمرو، قلت: لبيك، قال: إما أن تحمينى وأقود أنا، وإما أن(2/178)
أحميك وتقود أنت، قلت: بل تحمينى أنت، وأقود أنا، فرمى إلىّ بزمام الناقة، وسرنا بين يديه وهو خلفنا حتّى أصبحنا، فقال لى: يا عمرو، قلت: لبيك، ما تشاء؟
قال: التفت فانظر هل ترى أحدا؟ قال: فالتفت، فقلت: أرى جمالا، قال:
أغذّ السير، ثم قال لى: يا عمرو، قلت: لبيك، قال: انظر، فإن كان القوم قليلا فالجلد والقوّة والموت، وإن كانوا كثيرا فليسوا بشىء، قال: فالتفتّ، فقلت:
هم أربعة أو خمسة، قال: أغذّ السير، ففعلت، وسمع وقع الخيل، فقال لى: يا عمرو، قلت: لبيك! قال: كن عن يمين الطريق، وقف وحوّل وجوه دوابنا إلى الطريق، ففعلت، ووقفت عن يمين الراحلة ووقف هو عن يسارها. ودنا القوم منا، فإذا هم ثلاثة نفر فيهم شيخ وهو أبو الجارية وأخواها غلامان شابان، فسلموا فرددنا السلام، ووقفوا عن يسار الطريق. فقال الشيخ: خلّ عن الجارية يا ابن أخى، فقال:
ما كنت لأخلّيها ولا لهذا أخذتها، فقال لأصغر ابنيه: اخرج إليه، فخرج وهو يجرّ رمحه وحمل عليه الحارث وهو يقول:
من دون ما ترجوه خضب الذابل ... من فارس مستلئم مقاتل،
ينمى إلى شيبان خير وائل ... ما كان سيرى نحوها بباطل!
ثم شدّ عليه قطعنه طعنة دقّ منها صلبه، فسقط ميتا. فقال الشيخ لابنه الآخر: اخرج إليه يا بنىّ، فلا خير في الحياة على الذّلّ، فخرج إليه وأقبل الحارث يقول:
لقد رأيت كيف كانت طعنتى! ... والطّعن للقرن الشديد همّتى.
والموت خير من فراق خلّتى ... فقتلتى اليوم ولا مذلّتى!(2/179)
ثم شدّ عليه فطعنه طعنة سقط منها ميتا. فقال له الشيخ: خلّ عن الظعينة يا ابن أخى، فإنى لست كمن رأيت، قال: ما كنت لأخلّيها ولا لهذا قصدت، فقال له الشيخ: اختر يا ابن أخى، فإن شئت طاردتك، وإن شئت نازلتك، فاغتنمها الفتى ونزل. ونزل الشيخ وهو يقول:
ما أرتجى بعد فناء عمرى؟ ... سأجعل السّنين مثل الشّهر.
شيخ يحامى دون بيض الخدر. ... إنّ استباح البيض قصم الظّهر.
سوف ترى كيف يكون صبرى.
فأقبل الحارث وهو يقول:
بعد ارتحالى وطويل سفرى ... وقد ظفرت وشفبت صدرى.
والموت خير من لباس الغدر، ... والعار أهديه لحىّ بكر.
ثم دنا فقال له الشيخ: يا ابن أخى، إن شئت نازلتك، وإن بقيت فيك قوّة ضربتنى؛ وإن شئت فاضربنى، فان بقيت في قوّة ضربتك. فاغتنمها الفتى فقال:
وأنا أبدؤك، قال: هات، فرفع الحارث السيف، فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به إلى رأسه، ضرب بطنه ضربة فقد معاه، ووقعت ضربة الحارث في رأسه. فسقطا ميتين. فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أفراس وأربعة أسياف، ثم أقبلت إلى الناقة فعقدت أعنة الأفراس بعضها إلى بعض وجعلت أقودها. فقالت الجارية: يا عمرو، إلى أين؟ ولست لى بصاحب، ولست كمن رأيت، ولو كنت صاحبى لسلكت سبيلهم! فقلت: اسكتى، قالت: فإن كنت صادقا فأعطنى سيفا ورمحا، فإن غلبتنى فأنا لك، وإن غلبتك قتلتك، فقلت لها: ما أنا بمعطيك ذلك، وقد عرفت أصلك وجرأة قومك وشجاعتهم، فرمت بنفسها عن البعير وهى تقول:(2/180)
أبعد ما شيخى وبعد إخوتى ... أطلب عيشا بعدهم في لذّة؟
هل لا تكون قبل ذا منيّتى؟
وأهوت إلى الرّمح فكادت تنتزعه من يدى. فلما رأيت ذلك خفت إن هى ظفرت بى أن تقتلنى، فقتلتها فهذا أشدّ ما رأيته يا أمير المؤمنين.
فقال عمر بن الخطاب: صدقت يا عمرو.
وروى ابن الجوزىّ بسند يرفعه إلى الليث بن سعد أنه قال: أتى عمر رضى الله عنه بفتى أمرد قد وجد قتيلا ملقى في الطريق. فسأل عمر عن أمره واجتهد فلم يقف له على خبر، ولم يعرف قاتله. فشقّ ذلك عليه، وقال: اللهم ظفّرنى بقاتله.
حتّى إذا كان رأس الحول أو قريب من ذلك، وجد صبىّ مولود ملقى بموضع القتيل فأتى به عمر. فلما أتى به وأخبر بمكانه، قال: ظفرت تالله بدم القتيل إن شاء الله تعالى، فدفع الصبىّ إلى امرأة، وأمرها أن تقوم بشأنه وأعطاها نفقة. وقال: انظرى من يأخذه منك، فإذا وجدت امرأة تقبله وتضمه إلى صدرها فأعلمينى بمكانها. فلما شبّ الصبىّ جاءت جارية فقالت للمرأة إن سيدتى بعثتنى إليك لتبعثى إليها بالصبىّ لتراه وتردّه إليك. قالت: نعم، اذهبى به إليها وأنا معك، فذهبت بالصبىّ والمرأة معها إلى سيدتها. فلما رأته أخذته فقبلته وضمّته إلى صدرها. وإذا هى بنت شيخ من الأنصار، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرت عمر خبرها. فاشتمل على سيفه، ثم أقبل على منزلها، فوجد أباها متكئا على باب داره. فسلم عليه، وقال له: أبا فلان، قال: لبّيك، قال: ما فعلت ابنتك فلانة؟ قال: يا أمير المؤمنين، جزاها الله خيرا، هى من أعرف الناس بحق الله تعالى وحق أبيها، مع حسن صلاتها(2/181)
وصيامها والقيام بدينها، فقال عمر: قد أحببت أن أدخل إليها فأزيدها رغبة في الخير وأحثّها على ذلك. فقال: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، امكث مكانك حتّى أعود إليك، فاستأذن بعمر، فلما دخل عمر، أمر من كان عندها بالخروج عنها، فخرجوا. وبقيت هى وعمر ليس معهما ثالث. فكشف عمر عن السيف، وقال:
لتصدقينى وإلا ضربت عنقك، وكان عمر لا يكذب، فقالت: على رسلك يا أمير المؤمنين، فو الله لأصدقنّك. إن عجوزا كانت تدخل علىّ فاتخذتها أمّا، وكانت تقوم من أمرى بما تقوم به الوالدة، وكنت لها بمنزلة البنت، فأمضت بذلك حينا.
ثم إنها قالت لى يوما: يا بنية، إنه قد عرض لى سفر، ولى بنت في موضع أتخوّف عليها فيه أن تضيع، وقد أحببت أن أضمها إليك حتّى أرجع من سفرى، فعمدت إلى ابن لها شاب أمرد، فهيأته كهيئة الجارية وأتتنى به لا أشك أنه جارية. فكان برى منى ما ترى الجارية من الجارية حتّى أغفلنى يوما وأنا نائمة فما شعرت حتّى علانى وخالطنى. فمددت يدى إلى شفرة كانت إلى جنبى فقتلته.
ثم أمرت به فألقى حيث رأيت. فاشتملت منه على هذا الصبى، فلما وضعته ألقيته فى موضع أبيه. فهذا والله خبرهما، فقال عمر: صدقت، بارك الله فيك، ثم أوصاها ووعظها ودعا لها وخرج، وقال لأبيها: بارك الله لك في ابنتك، فنعم الابنة هى! وقد وعظتها وأمرتها، فقال: وصلك الله يا أمير المؤمنين، وجزاك خيرا عن رعيّتك.
وروى أيضا بسنده إلى أبى عباد قال: أدركت الخادم الذى كان يقوم على رأس الحجاج، فقلت له: أخبرنى بأعجب شىء رأيته من الحجاج! قال: كان ابن اخيه أميرا على واسط، وكان بواسط امرأة يقال لها أبّة، لم يكن بواسط في ذلك الوقت(2/182)
أجمل منها. فأرسل ابن أخيه إليها يراودها عن نفسها مع خادم له. فأبت عليه وقالت: إن أردتنى فاخطبنى إلى إخوتى، وكان لها أربعة إخوة فأبى، وقال:
لا، إلا كذا. وعاودها فأبت، فراجعها وأرسل إليها بهدية فأخذتها وعزلتها.
وأرسل إليها عشية الجمعة: إنى آتيك الليلة، فقالت لأمّها: ان الأمير بعث إلىّ بكذا وكذا. فأنكرت أمّها ذلك، وقالت أمها لاخوتها إن أختكم قد زعمت كيت وكيت: فأنكروا ذلك وكذبوها. فقالت إنه قد وعدنى أن يأتينى الليلة، ترونه.
قال: فقعد إخوتها في بيت حيال البيت الذى هى فيه، وجويرية لها على باب الدار تنتظره. فجاء ونزل عن دابته وقال لغلامه: إذا أذن المؤذن في الغلس، فأتنى بدابتى، ودخل والجارية أمامه. فوجد أبّة على سرير مستلقية. فاستلقى إلى جانبها ثم وضع يده عليها، وقال: إلى كم ذا المطل؟ فقالت له: كف يدك يا فاسق، ودخل إخوتها عليه بأيديهم السيوف فقطّعوه ثم لفوه في نطع وجاءوا به إلى سكة من سكك واسط فألقوه فيها. وجاء الغلام بالدابة فجعل يدقّ الباب دقّا رفيقا فلا يكلمه أحد. فلما خشى الضوء وأن تعرف الدابة انصرف. وأصبح الناس فإذا هم به على تلك الصفة. فأتوا به الحجاج فأخذ أهل تلك السكة، فقال أخبرونى: ما قصته؟
قالوا: لا نعلم حاله، غير أنا وجدناه ملقى. ففطن الحجاج فقال: علىّ بمن كان يخدمه، فأتى بذلك الخصىّ الذى كان الرسول بينهما، فقالوا: هذا كان صاحب سره، فقال له الحجاج: اصدقنى عن خبره وقصته، فأبى. فقال: إن صدقتنى لم أضرب عنقك، وإن لم تصدقنى فعلت بك وفعلت. قال: فأخبره الأمر على جهته. فأمر بالمرأة وأمها وإخوتها، فجىء بهم، وعزلت المرأة عنهم. فسألها فأخبرته بمثل ما أخبر به الخصىّ، ثم سأل إخوتها، فأخبروه بمثل ذلك ولم يختلفوا، وقالوا: نحن صنعنا به الذى ترى،(2/183)
فأمر برقيقه ودوابه للمرأة، فقالت المرأة: هديته عندى، فقال: بارك الله لك فيها، وكثّر في النساء مثلك، هى لك، وما ترك من شىء فهو لك، وقال: مثل هذا لا يدفن.
فألقوه للكلاب، ودعا بالخصىّ فقال: أما أنت فقد قلت لك إنى لا أضرب عنقك! وأمر بضرب وسطه، فقطع نصفين.
والأخبار في مثل هذا كثيرة، فلا تطوّل بذكرها.
وأما من قتله العشق فكثير جدّا لا يكاد يحصر، روى عن عكرمة قال:
إنى لمع ابن عباس عشية عرفة، إذ أقبل فتية يحملون فتى من بنى عذرة في كساء، وهو ناحل البدن، أحلى من رأيت من الفتيان، فوضعوه بين يديه ثم قالوا: استشف لهذا يا ابن عمّ رسول الله، فقال: وما به؟ فترنم الفتى بصوت ضعيف خفىّ الأنين، وهو يقول:
بنا من جوى الأحزان والحبّ لوعة ... تكاد لها نفس الشّفيق تذوب!
ولكنّما أبقى حشاشة معول ... على مابه عود هناك صليب!
وما عجب موت المحبّين في الهوى؛ ... ولكن بقاء العاشقين عجيب!
قال: ثم حمل فمات في أيديهم، فقال ابن عباس: هذا قتيل الحبّ، لا عقل ولا قود.
قال عكرمة: فما رأيت ابن عباس سأل الله تعالى تلك الليلة- حتّى أمسى- إلا العافية مما ابتلى به ذلك الفتى.
وروى عن الأصمعىّ قال: حدّثنى أبو عمرو بن العلاء قال: حدّثنى رجل من بنى تميم قال: خرجت في طلب ضالّة لى. فبينا أنا أدور في أرض بنى عذرة أنشد ضالّتى،(2/184)
إذا بيت معتزل عن البيوت، وإذا في كسر البيت شابّ مغمى عليه، وعند رأسه عجوز لها بقيّة من جمال، وهى ساهية تنظر إلى وجه الفتى. فسلمت فردّت السلام. فسألتها عن ضالّتى فلم يك عندها منها علم. فقلت: أيتها العجوز، من هذا الفتى؟ قالت:
ابنى، ثم قالت: هل لك في أجر لا مؤنة فيه؟ فقلت: والله إنى لأحبّ الأجرو إن رزئت! فقالت: إن ابنى هذا يهوى ابنة عمّ له علقها وهما صغيران. فلما كبر حجبت عنه، فأخذه شبيه بالجنون. ثم خطبها إلى أبيها فامتنع من تزويجه، وخطبها غيره فزوّجها إياه. فنحل جسم ولدى واصفرّ لونه وذهل عقله. فلما كان منذ خمس، زفّت إلى زوجها، فهو كما ترى: لا يأكل ولا يشرب، مغمى عليه. فلو نزلت إليه فوعظته! قال: فنزلت إليه فلم أدع شيئا من الموعظة إلا وعظته به حتّى أن قلت له فيما قلت:
إنهنّ الغوانى صاجبات يوسف، ناقضات العهد، وقد قال فيهن كثيّر عزّة:
هل وصل عزّة إلا وصل غانية ... فى وصل غانية من وصلها خلف؟
قال: فرفع رأسه، محمرة عيناه كالمغضب، وقال: لست ككثيّر عزة! إنّ كثيّرا رجل مائق، وأنا رجل وامق! ولكننى كأخى تميم حيث يقول:
ألا لا يضير الحبّ ما كان ظاهرا، ... ولكنّ ما اختاف الفؤاد يضير!
ألا قاتل الله الهوى كيف قادنى ... كما قيد مغلول اليدين أسير!
فقلت له: فإنه قد جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابه بى» .
فأنشأ يقول:
ألا ما للمليحة لا تعود؟ ... أبخل بالمليحة أم صدود؟
مرضت فعادنى أهلى جميعا ... فما لك لا نرى فيمن يعود!(2/185)
فقدتك بينهم فبكيت شوقا، ... وفقد الإلف يا أملى شديد!
وما استبطأت غيرك فاعلميه ... وحولى من ذوى رحمى عديد!
ولو كنت السقيمة، كنت أسعى ... إليك ولم ينهنهنى الوعيد!
قال: ثم شهق شهقة وخفت، فمات. فبكت العجوز وقالت: فاضت والله نفسه! فدخلنى أمر لم يدخلنى مثله قط. فلما رأت العجوز ما حلّ بى، قالت: يا فتى لا ترع! عاش بأجل، ومات بقدر، وقدم على ربّ كريم، واستراح من تباريحه وغصصه! ثم قالت: هل لك في استكمال الصنيعة؟ قلت: قولى ما أحببت! قالت: تأتى البيوت فتنعاه اليهم ليعاونونى على رمسه، فإنى وحيدة. قال: فركبت فرسى وقصدت البيوت وأقبلت أنعاه إليهم. فبينا أنا أنعاه، إذا خيمة رفع جانب منها، وإذا امرأة قد خرجت كأنها القمر ليلة البدر. ناشرة شعرها، تجرّ خمارها، وهى تقول: بفيك الكثكث! بفيك الحجر! من تنعى؟ قلت: أنعى فلانا! قالت: أوقد مات؟ قلت: إى والله قد مات! قالت: فهل سمعت له قولا، قلت: اللهم لا، إلا شعرا، قالت:
وما هو؟ فأنشدتها قوله:
ألا ما للمليحة لا تعود
الأبيات.
فاستعبرت باكية وأنشأت تقول:
عدانى أن أزورك يا مناى ... معاشر كلّهم واش حسود!
أشاعوا ما علمت من الدّواهى ... وعابونا، وما فيهم رشيد!.
فأما إذ ثويت اليوم لحدا ... فكلّ الناس دورهم لحود.
فلا طابت لى الدّنيا فواقا ... ولا لهم ولا أثرى عديد!(2/186)
ثم شهقت شهقة وخرّت مغشيّا عليها، وخرج النساء من البيوت واضطربت ساعة وماتت. فو الله ما برحت حتّى دفنتهما جميعا.
وروى الساجى عن الأصمعىّ قال: رأيت بالبادية رجلا قددق عظمه، وضؤل جسمه، ورق جلده. فتعجبت ودنوت منه أسأله عن حاله. فقالوا: اذكر له شيئا من الشعر يكلمك، فقلت:
سبق الفضاء بأنّنى لك عاشق ... حتّى الممات، فأين منك مذاهبى؟
فشهق شهقة ظننت أن روحه قد فارقته، ثم أنشأ يقول:
أخلو بذكرك لا أريد محدّثا، ... وكفى بذكرك سامرا وسرورا!
قال: فقلت له: أخبرنى عنك! قال: إن كنت تريد علم ذلك فاحملنى وألقنى على باب تلك الخيمة! ففعلت، فأنشأ يقول بصوت ضعيف يرفعه:
ألا ما للمليحة لا تعود ... أبخل بالمليحة أم صدود؟
فلو كنت المريضة كنت أسعى ... إليك ولم ينهنهنى الوعيد!
فإذا جارية مثل القمر، قد خرجت فألقت نفسها عليه فاعتنقا. وطال ذلك، فسترتهما بثوبى خشية أن يراهما الناس. فلما خفت عليهما الفضيحة، فرّقت بينهما، فإذا هما ميتان. فما برحت حتّى صليت عليهما ودفنا. فسألت عنهما، فقيل لى:
عامر بن غالب، وجميلة بنت أميل المزنيّان.
وروى ابن الجوزىّ بسند يرفعه إلى محمد بن خلف قال: ذكر بعض الرواة عن العمرىّ قال: كان أبو عبد الله الجيشانىّ يعشق صفراء العلاقمية. وكانت سوداء، فاشتكى من حبها، وضنبى حتّى صار إلى حدّ الموت. فقال بعض أهله لمولاها: لو وجهت(2/187)
صفراء إلى أبى عبد الله الجيشانى، فلعله أن يعقل إذا رآها! ففعل. فلما دخلت عليه قالت له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: بخير ما لم تبرحى! قالت:
ما تشتهى؟ قال: قربك! قالت: ما تشتكى؟ قال: حبّك! قالت: فتوصى بشىء؟ قال: نعم، أوصى بك إن قبلوا منى! فقالت: إنى أريد الانصراف! قال: فتعجلى ثواب الصلاة علىّ! فقامت فانصرفت، فلما رآها مولية تنفس الصعداء.
ومات من ساعته.
وروى أيضا بسند يرفعه إلى عوانة بن الحكم أن عبد الله بن جعفر وفد إلى عبد الملك بن مروان فحدّثه، قال: اشتريت جارية بعشرة آلاف درهم، فوصفت ليزيد بن معاوية فأرسل إلىّ يقول: إما أن تهديها إلىّ، وإما أن تبيعها بحكمك، فكتبت إليه: لا تخرج والله من ملكى ببيع ولا هبة أبدا. ومكثت عندى لا أزداد لها إلا حبا. حتّى أتتنى عجوز من عجائزنا، فذكرت أن بعض عزّاب المدينة يهواها، وأنه يجىء في كل يوم متنكرا فيقف بالباب حتّى يسمع غناءها. فراعيت مجيئه ليلة، فإذا به قد أقبل متقنع الرأس حتّى قعد مستخفيا فدعوت قيّمة الجارية، فقلت: انطلقى الساعة فأصلحى هذه الجارية بأحسن ما أمكن، وعجلى بها، ففعلت. فقمت وقبضت على يدها وفتحت الباب وأتيت إلى الرجل فحركته فانتبه مذعورا. فقلت: لا بأس عليك، خذ هذه الجارية، هى لك، فإذا هممت ببيعها فارددها إلىّ، فدهش الفتى. فدنوت إلى أذنه فقلت: ويحك، قد أظفرك الله عز وجل ببغيتك، فانصرف إلى منزلك، فإذا الفتى ميت، فلم أر شيئا قط أعجب من ذلك، وهانت علىّ الجارية، فكرهت أن أوجّه بها إلى يزيد فيعلم حالها أو تخبره(2/188)
عن نفسها فيحقد ذلك علىّ. فمكثت مدّة مديدة ثم ماتت. ولا أظنها ماتت إلا كمدا وأسفا على الفتى.
وروى ابن الجوزىّ أيضا بسنده قال: حكى عن شبابة بن الوليد العذرىّ أن فتى من بنى عذرة يقال له أبو مالك بن النضر، كان عاشقا لابنة عمّ له عشقا شديدا.
فكان على ذلك مدّه، ثم إنه فقد بضع عشرة سنة، لا يحسّ له خبر. قال شبابة:
فأضللت إبلا لى. فخرجت في طلبها. فبينا أنا أسير في الرمال إذا بهاتف يهتف.
بصوت ضعيف:
يا ابن الوليد، ألا تحمون جاركم ... وتحفظون له حتّى القرابات؟
عهدى إذا جار قوم نابه حدث، ... وقوه من كلّ مكروه الملمّات!
هذا أبو مالك المسمى ببلقعة ... من الضّباع وآساد بغابات!
طليح سوق، بنار الحبّ محترق، ... تعتاده زفرات إثر لوعات!
أما النهار فيصيه تذكّره، ... والليل مرتقب للصبح هل ياتى.
يهدى بجارية من عذرة اختلست ... فؤداه، فهو منها في بليّات!
فقلت: دلّنى عليه، رحمك الله! قال: نعم، اقصد الصوت، فقصدته، فسمعت أتينا من خباء فاذا قائل يقول:
يا رسيس الهوى، أذبت فؤادى ... وحشوت الحشا عذابا أليما!
فدنوت منه فقلت: أبو مالك؟ قال: نعم! قلت: ما بلع بك إلى ما أرى؟ قال:
حبّى سعاد ابنة أبى الهندام العذرىّ، شكوت يوما ما أجد من حبها إلى ابن عمّ لنا فاحتملنى إلى هذا الوادى، منذ بضع عشرة سنة، يأتينى كل يوم بخبرها ويقوتنى من عنده. فقلت إنى أصير إلى أهلها فأخبرهم ما رأيت. قال: أنت وذاك، قال: فانصرفت(2/189)
فأخبرتهم، فرقّوا له فزوّجوه بحضرتى. فرجعت إليه لأفرّج عنه، فلما أخبرته الخبر، نظر إلىّ، ثم تأوّه تأوّها شديدا بلغ من قلبى، ثم قال:
ألآن إذ حشرجت نفسى وخامرها ... فراق دنيا وناداها مناديها!
ثم زفر زفرة فمات. فدفنته في موضعه ثم انصرفت فأخبرتهم الخبر. فأقامت الجارية بعده ثلاثا لا تطعم، ثم ماتت.
وحكى عن المبرد قال: خرجت أنا وجماعة من أصحابى مع المأمون. فلما قربنا من الرّقّة، إذا نحن بدير كبير، فقال لى بعض أصحابى: مل بنا إلى هذا الدير لننظر من فيه ونحمد الله تعالى على ما رزقنا من السلامة، فدخلنا إلى الدير، فرأينا مجانين مغلغلين، وهم فى نهاية القذارة، فاذا فيهم شابّ عليه بقية من ثياب ناعمة، فلما بصربنا قال: من أنتم يافتيان؟ حياكم الله! فقلنا: نحن من العراق. فقال: بأبى العراق وأهلها! بالله أنشدونى أو أنشدكم! فقال المبرد: قلت: والله إن الشعر من هذا لظريف، فقلنا:
أنشدنا، فأنشأ يقول:
الله يعلم أنّنى كمد ... لا أستطيع أبثّ ما أجد!
روحان لى: روح تضمّنها ... بلد وأخرى حازها بلد!
وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر ولا يقوى لها جلد.
وأظنّ غائبتى كشاهدتى ... فكأنّها تجد الذى أجد!
قال المبرد: بالله زدنا، فأنشأ يقول:
لمّا أناخوا قبيل الصّبح عيرهم ... ورحّلوها فثارت بالهوى الإبل،
وقلّبت من خلال السّجف ناظرها ... ترنو إلىّ ودمع العين منهمل،(2/190)
وودّعت ببنان عقدها عنم، ... ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل!
ويلى من البين! ماذا حلّ بى وبها ... من نازل البين؟ حان البين فارتحلوا!
يا راحل العيس، عرّج كى نودّعها! ... يا راحل العيس، فى ترحالك الأجل؟
إنّى على العهد لم أنقض مودّتهم، ... يا ليت شعرى! بعد العهد ما فعلوا؟
قال: فقال رجل من البغضاء الذين معى: ماتوا! قال: قال إذن فأموت! فقال له: إن شئت! فتمطّى واستند إلى السارية التى كان مشدودا فيها فمات. فما برحنا حتّى دفناه.
وحكى عن أبى يحيى التيمى، قال: كنا نختلف إلى أبى مسعر بن كدام، وكان يختلف معنا فتى من النّسّاك، يقال له أبو الحسن، ومعه فتى حسن الوجه يفتتن به الناس إذا رأوه. فأكثر الناس القول فيه وفي صحبته إياه. فمنعه أهله أن يصحبه وأن يكلمه. فذهل عقله حتّى خيف عليه التلف. فلقيته فأخبرته بذلك، فتنفس الصّعداء ثم أنشأ يقول:
يا من بدائع حسن صورته ... تثنى إليه أعنّة الحدق!
لى منك ما للناس كلّهم: ... نظر وتسليم على الطّرق.
لكنّهم سعدوا بأمنهم ... وشقيت حين أراك بالفرق!
ثم صرخ صرخة وشخص بصره نحو السماء وسقط إلى الأرض. فحرّكته فإذا هو ميت.
وروى ابن الجوزىّ قال: أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطىّ، قال:
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبى نصر الحميدىّ قال: حدّثنى أبو محمد علىّ بن أحمد(2/191)
الفقيه الحافظ قال: حدّثنى أبو عبد الله محمد بن الحسن المذحجىّ الأديب، قال:
نت أختلف في النحو إلى أبى عبد الله محمد بن خطاب النحوى في جماعة، أيام الحداثة. وكان معنا أسلم بن سعيد قاضى قضاة الأندلس. قال محمد بن الحسن:
وكان من أجمل من رأته العيون. وكان معنا عند ابن خطاب أحمد بن كليب.
وكان من أهل الأدب والشعر فاشتدّ كلفه بأسلم، وفارق صبره، وصرف فيه القول متسترا بذلك، إلى أن فشت أشعاره فيه وجرت على الألسنة، وأنشدت في المحافل.
فلعهدى بعرس في بعض الشوارع و «البكورىّ» الزامر في وسط المحفل يزمر بقول أحمد بن كليب في أسلم.
أسلّمنى في هوا ... هـ أسلم، هذا الرّشا!
غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا!
وشى بيننا حاسد ... سيسأل عمّا وشى!
ولو شاء أن يرتشى ... على الوصل روحى، ارتشى!
ومغنّ محسن يسايره. فلما بلغ هذا المبلغ، انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب ولزم بيته والجلوس على بابه. فكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب دار أسلم نهاره كله. فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهارا. فإذا صلّى المغرب واختلط الظلام، خرج مستروحا، وجلس على باب داره. فعيل صبر أحمد بن كليب.
فتحيل في بعض الليالى ولبس جبّة من جباب أهل البادية، واعتمّ بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجا وبالأخرى قفصا فيه بيض. وجاء كأنه قدم من بعض الضّياع، فتقدّم إلى أسلم وقبل يده، وقد اختلط الظلام، وقال: يا مولاى، من يقبض(2/192)
هذا؟ فقال له أسلم: من أنت؟ فقال: أجيرك في الضّيعة الفلانية- (وقد كان يعرف أسماء ضياعه) . فأمر أسلم غلمانه بقبض ذلك منه على عادتهم في قبول هدايا العاملين في ضياعهم. ثم جعل أسلم يسأله عن أحوال الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام فتأمله فعرفه، فقال له: يا أخى! وإلى هاهنا تتبعنى؟ أما كفاك انقطاعى عن مجالس الطلب، وعن الخروج جملة، وعن القعود على بابى نهارا حتّى قطعت علىّ جميع مالى فيه راحة فصرت في سجنك؟ والله لا فارقت بعد هذه الليلة قعر منزلى، ولا جلست بعدها على بابى، لا ليلا ولا نهارا، ثم قام. وانصرف أحمد بن كليب حزينا كئيبا.
قال محمد: واتصل ذلك بنا فقلنا لأحمد بن كليب: وخسرت دجاجك وبيضك؟
فقال: هات كلّ ليل قبلة في يده، وأخسر أضعاف ذلك! فلما يئس من رؤيته البتة، نهكته العلة وأضجعه المرض. قال محمد بن الحسن: فأخبرنى شيخنا محمد بن خطاب قال: فعدته فوجدته بأسوإ حال. فقلت له: لم لا تتداوى؟ فقال: دوائى معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم فيّ البتة، فقلت له: وما دواؤك؟ قال: نظرة من أسلم! فلو سعيت في أن يزورنى لأعظم الله جزاءك بذلك، وآجره. قال: فرحمته وتقطعت نفسى عليه، فنهضت إلى أسلم فاستأذنت عليه، فأذن لى وتلقّانى بما يجب، فقلت:
لى حاجة، فقال: وما هى؟ قلت: قد علمت ما جمعك مع أحمد بن كليب من ذمام الطلب عندى. فقال: نعم، ولكن قد تعلم أنه برّح بى، وشهر اسمى وآذانى.
فقلت له: كل ذلك يغتفر في مثل هذه الحال التى هو فيها، والرجل يموت، فتفضل بعيادته. فقال لى: والله ما أقدر على ذلك، فلا تكلّفنى هذا! فقلت: لا بدّ من ذلك فليس عليك فيه شىء، وإنما هى عيادة مريض. قال: ولم أزل به حتّى أجاب، فقلت له: فقم الآن، قال: لست والله أفعل، ولكن غدا، فقلت له: ولا خلف،(2/193)
قال: نعم. فانصرفت إلى أحمد بن كليب فأخبرته بوعده فسرّ بذلك وارتاحت نفسه.
فلما كان من الغد بكّرت إلى أسلم، وقلت له: الوعد، قال: فوجم، وقال: والله لقد تحملنى على خطّة صعبة علىّ، وما أدرى كيف أطيق ذلك؟ فقلت له: لا بدّ أن تفى بوعدك لى، قال: فأخذ رداءه ونهض معى راجلا، فلما أتينا منزل أحمد، وكان يسكن في درب طويل. فعند ما توسّط الزّقاق وقف واحمرّ وخجل، وقال:
يا سيدى، للساعة والله أموت! وما أستطيع أن أعرض هذا على نفسى! فقلت:
لا تفعل بعد أن بلغت المنزل، قال: لا سبيل والله إلى ذلك البتّة! ورجع هاربا فاتّبعته وأخذت بردائه، فتمادى وتمزق الرداء وبقيت قطعة منه في يدى لشدّة إمساكى له. ومضى ولم أدركه. فرجعت ودخلت على أحمد، وكان غلامه قد دخل عليه لما رآنا من أوّل الزقاق مبشّرا. فلما رآنى تغير وجهه وقال: أين أبو الحسن؟
فأخبرته بالقصة فاستحال من وقته واختلط وجعل يتكلم بكلام لا يعقل منه أكثر من الاسترجاع. فاستبشعت الحال وجعلت أتوجّع وقمت، فثاب إليه ذهنه، وقال لى: يا أبا عبد الله، قلت: نعم، قال: اسمع منى، واحفظ عنّى، وأنشأ يقول:
أسلم، يا راحة العليل ... رفقا على الهائم النّحيل!
وصلك أشهى إلى فؤادى ... من رحمة الخالق الجليل!
قال: فقلت له: اتق الله، ما هذه العظيمة؟ قال: قد كان، فخرجت عنه فو الله ما توسطت الزقاق حتّى سمعت الصراخ عليه وقد فارق الدّنيا.
وهذه الحكاية مشهورة عند أهل الأندلس. وأسلم هذا من بنى خالد وكانت فيهم وزارة وحجابة. وهذا الباب طويل والحكايات والأخبار والوقائع فيه كثيرة يطول الشرح بذكرها.(2/194)
وأما من قتل نفسه بسبب العشق، فحكى عن عبد الرحمن بن إسحاق القاضى قال: انحدرت من «سرّ من رأى» مع محمد بن إبراهيم أخى إسحاق، ودجلة تزخر من كثرة مائها. فلما سرنا ساعة، قال: ارفقوا بنا، ثم دعا بطعامه فأكلنا، ثم قال:
ما ترى في النبيذ؟ قلت له: أعز الله الأمير، هذه دجلة قد جاءت بمدّ عظيم يرغب مثله، وبينك وبين منزلك مبيت ليلة، فلو شئت أخرته، قال: لا بدّ لى من الشراب، واندفعت مغنية فغنّت، واندفعت أخرى فغنته:
يا رحمتا للعاشقينا، ... ما إن أرى لهم معينا!
كم يشتمون ويضربو ... ن ويهجرون، فيصبرونا!
فقالت لها المغنية الأولى: فيصنعون ماذا؟ قالت: يصنعون هكذا، ورفعت الستارة وقذفت بنفسها في دجلة. وكان بين يدى محمد غلام ذكر أنّ شراءه ألف دينار، بيده مذبّة، لم أر أحسن منه. فوضع المذبّة من يده وقذف بنفسه في دجلة، وهو يقول:
أنت التى غرّقتنى ... بعد الفضا، لو تعلمينا!
فأراد الملاحون أن يطرحوا أنفسهم خلفهما، فصاح بهم محمد: دعوهما يغرقا إلى لعنة الله! قال: فرأيتهما وقد خرجا معتنقين ثم غرقا.
وحكى عن جميل بن معمر العذرىّ أنه قال: دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لى: يا جميل حدّثنى بعض أحاديث بنى عذرة، فإنه بلغنى أنهم أصحاب أدب وغزل، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، انتجعوا عن حيّهم مرة فوجدوا النّجعة بموضع نازح فقطنوه. فخرجت أريدهم. فبينا أنا أسير، غلطت الطريق وجنّ علىّ الليل،(2/195)
فلاح لى باب فقصدته. فوردت على راع في أصل جبل قد ألجأ غنمه إلى كهف فى الجبل، فسلمت عليه، فردّ علىّ السلام، وقال: أحسبك قد ضللت الطريق؟
قلت: قد كان ذلك، فأرشدنى! قال: بل أنزل حتّى تريح ظهرك، وتبيت ليلتك، فإذا أصبحت وقّفتك على القصد. فنزلت فرحّب بى وأكرمنى، وعمد إلى شاة فذبحها، وأجّج نارا، وجعل يشوى ويلقى بين يدىّ، ويحدّثنى في خلال ذلك. ثم قام إلى كساء فقطع به جانب الخباء ومهّد لى جانبا، ونزل جانبا خاليا. فلما كان في الليل سمعته يبكى ويشكو إلى شخص. فأرقت ليلتى. فلما أصبحت، طلبت الإذن فأبى، وقال:
الضيافة ثلاث! فأقمت عنده، وسألته عن اسمه ونسبه وحاله، فانتسب لى. فإذا هو من بنى عذرة، من أشرافهم. فقلت: يا هذا، وما الذى أحلّك هذا الموضع؟ فأخبرنى أنه كان يهوى ابنة عمّ له وتهواه، وأنه خطبها إلى أبيها فأبى أن يزوّجه إيّاها لقلّة ذات يده، وأنه زوّجها رجلا من بنى كلاب فخرج بها عن الحىّ وأسكنها في موضعه ذلك، وأنه تنكّر ورضى أن يكون راعيا لتأتيه ويراها. وجعل يشكو إلىّ صبابته بها وعشقه لها، حتى إذا جنّنا الليل وحان وقت مجيئها، جعل يتقلقل ويقوم ويقعد كالمتوقّع لها. فلما أبطأت عن الوقت المعتاد وغلبه الشوق، وثب قائما وأنشأ يقول:
ما بال ميّة لا تأتى لعادتها! ... أهاجها طرب أم صدّها شغل؟
لكن قلبى لا يلهيه غيرهم ... حتّى الممات، ولالى غيرهم أمل!
لو تعلمين الّذى بى من فراقكم ... لما اعتللت ولا طابت لك العلل!
روحى فداؤك! قد هيّجت لى سقما ... تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل!
لو أن عاديّه منّى على جبل، ... لزال وانهدّ من أركانه الجبل!(2/196)
ثم قال: يا أخا بنى عذرة، مكانك حتّى أعود إليك! فما أتوهّم أن أمر ابنة عمّى صحيح! ثم مضى. فما لبث أن أقبل وعلى يده شىء محمول، وقد علا شهيقه ونحيبه، فقال: يا أخا بنى عذرة، هذه ابنة عمى، أرادت أن تأتينى فاعترضها الأسد فأكلها! ثم وضعها عن يده، وقال: على رسلك حتّى أعود اليك، ومضى فأبطأ حتّى يئست من رجوعه. ثم أقبل ورأس الأسد على يده، فألقاها وجعل ينكت على أسنان الأسد ويقول:
ألا أيّها الليث المخيل بنفسه! ... هلكت! لقد حرّت يداك لنا حزنا!
وغادرتنى فردا وقد كنت آلفا ... وصيّرت بطن الأرض ثمّ لنا سجنا!
أقول لدهر خاننى بفراقه: ... معاذ إلهى أن أكون له خدنا!
ثم قال: يا أخا بنى عذرة، إنك سترانى بين يديك ميّتا! فإذا متّ فاعمد إلىّ وابنة عمّى، فأدرجنا في كفن واحد، واحفر لنا جدثا واحدا، وادفنّا فيه، واكتب على قبرى هذين البيتين:
كنّا على ظهرها، والعيش في مهل! ... والشّمل يجمعنا والدار والوطن
ففرّق الدهر والتصريف ألفتنا ... فصار يجمعنا في بطنها الكفن.
وردّ الغنم إلى صاحبها وأعلمه بقصتنا، ثم عمد إلى خناق فطرحه في عنقه، فناشدته الله تعالى أن لا يفعل، فأبى وجعل يخنق نفسه حتّى سقط ميتا. فكفّنتهما ودفنتهما فى قبر واحد، وكتبت البيتين على قبرهما، ورددت الغنم إلى صاحبها، وأعلمته بقصتهما فحزن حزنا شديدا أشفقت منه على نفسه.(2/197)
ذكر شىء مما ورد في التحذير من فتنة النساء، وذمّ الزنا، والنظر إلى المردان، والتحذير من اللّواط، وعقوبة اللّائط
أما ما ورد من التحذير من فتنة النساء، فقد
روى عن أبى أمامة بن يزيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت في الناس بعدى فتنة أضرّ على الرجال من النّساء» .
وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الدّنيا حلوة خضرة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتّقوا الدّنيا واتّقوا النساء؛ فإن أوّل فتنة بنى إسرائيل كانت في النّساء» .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أخوف ما أخاف على أمّتى النساء واخمرة» .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لم يكن كفر من مضى إلّا من قبل النساء، وهو كائن، كفر من بقى من قبل النساء.
وعن حسان بن عطية، قال: ما أتيت أمّة قطّ إلا من قبل نسائهم.
وعن سعيد بن المسيب، قال: ما يئس الشيطان من ابن آدم قطّ، إلا أتاه من قبل النّساء.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال إبليس لربه عز وجل: يا ربّ قد أهبط آدم، وقد علمت أن سيكون لهم كتاب(2/198)
ورسل، فما كتابهم ورسلهم؟ قال الله عز وجل: رسلهم الملائكة والنّبيّون منهم، وكتبهم التوراة والإنجيل والزّبور والفرقان، قال: فما كتابى؟ قال: كتابك الوشم، وقرآنك الشّعر، ورسلك الكهنة، وطعامك ما لم يذكر اسم الله عليه، وشرابك من كل مسكر. وصدقك الكذب، وبيتك الحمّام، ومصايدك النساء، ومؤذّنك المزمار، ومسجدك الأسواق» .
ومن فتنة النساء، ما روى عن وهب بن منبّه أن عابدا كان في بنى إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه. وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكرا. فخرج البعث عليهم فلم يدروا عند من يخلّفون أختهم، ولا من يأمنون عليها، فأجمعوا رأيهم على أن يخلّفوها عند العابد. فأتوه وسألوه أن يخلّفوها عنده. فأبى ذلك. فلم يزالوا به حتّى قال: أنزلوها في بيت جوار صومعتى، فأنزلوها في ذلك البيت، ثم انطلقوا وتركوها. فمكثت في جوار العابد زمانا ينزل إليها الطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. قال: فتلطف له النبطان. فلم يزل يرغّبه في الخير ويعظّم عنده خروج الجارية من بيتها نهارا، ويخوّفه ان يراها أحد فيعلقها. فلم يزل به حتّى مشى بطعامها ووضعه عند باب بيتها، ولا يكلّمها. فلبث بذلك زمانا. ثم جاءه إبليس فرغّبه فى الخير والأجر، وقال له: لو كنت تمشى إليها بطعامها حتّى تضعه في بيتها. كان أعظم لأجرك. فلم يزل به حتّى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها. فلبث بذلك زمانا. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وحضّه عليه، وقال له: لو كنت تكلمها وتحدّثها، فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة، فلم يزل به حتّى حدّثها(2/199)
زمانا، يطلع إليها من فوق صومعته. ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فقال له: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدّثها، وتقعد على باب بيتها فتحدّثك، كان آنس لها.
فلم يزل به حتّى أنزله فأجلسه على باب صومعته يحدّثها، وتخرج الجارية من بيتها حتّى تقعد على بابها. فلبثا زمانا يتحدّثان. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير، فقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من بيتها فحدّثتها، كان آنس لها. فلم يزل به حتّى فعل. فلبثا بذلك زمانا. ثم جاءه إبليس فقال: لو دنوت من باب بيتها، ثم قال:
لو دخلت البيت فحدّثتها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد، كان أحسن، فلم يزل به حتّى دخل البيت فجعل يحدّثها نهاره كله. فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزيّنها له حتّى ضرب العابد بيده على فخذها وقبّلها. ثم لم يزل يحسنها في عينه ويسوّل له حتّى وقع عليها فأحبلها، فولدت غلاما. فجاء إبليس، فقال له: أرأيت إن جاء إخوتها، وقد ولدت منك كيف تصنع؟ فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها، فقتله. ثم جاءه، فقال:
أتراها تكتم ما صنعت بها؟ خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها، فذبحها وألقاها في الحفرة.
فمكث ما شاء الله حتّى قفل إخوتها من الغزو. فجاءوه فسألوه عن أختهم فنعاها لهم وترحّم عليها وبكاها، وقال: كانت خير امراة، وهذا قبرها. فأتى إخوتها القبر فبكوها وترحّموا عليها، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم. قال: فلما جنّهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في النوم فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم. فأخبره بقول العابد وبموتها. فكذّبه الشيطان، وقال: لم يصدقكم أمر أختكم. إنه أحبلها وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فرقا منكم، وألقاهما في الحفرة خلف باب البيت. وأتى الأوسط في منامه، فقال له مثل ذلك؛ ثم أتى أصغرهم، فقال له مثل(2/200)
ذلك. فلما استيقظ القوم، استيقظوا متعجبين لما رآه كلّ واحد منهم. فأقبل بعضهم على بعض يقول: لقد رأيت عجبا! وأخبر بعضهم بعضا بما رأى، فقال كبيرهم: هذا حلم، ليس هذا بشىء، فامضوا بنا ودعوا هذا، فقال أصغرهم:
لا أمضى حتّى آتى ذلك لمكان فأنظر فيه، فانطلقوا فبحثوا الموضع، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين. فسألوا عنها العابد، فصدّق قول إبليس فيما صنع بهما. فاستعدوا عليه ملكهم فأنزل من صومعته وقدّموه ليصلبوه. فلما أوثقوه على الخشبة، أتاه الشيطان، فقال له: قد علمت أنى صاحبك الذى فتنتك في المرأة حتّى أحبلتها وذبحتها وابنها، فإن أنت أطعتنى اليوم وكفرت بالله الذى خلقك، خلّصتك مما أنت فيه، فكفر العابد بالله. فلما كفر، خلّى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه.
قال وهب: ففيه نزلت هذه الآية: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) .
نسأل الله العافية من فتنتهن، ونعوذ به من الشيطان الرجيم.
وأما ما جاء في ذم الزنا. فكفى به ذمّا قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزنى الزّانى حين يزنى وهو مؤمن»
الحديث
وعن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أمّة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزنى» .(2/201)
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اشتدّ غضب الله تعالى على الزّناة» .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء. فإذا زنى العبد، نزع منه سربال الإيمان.
فاذا تاب ردّ عليه» .
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذنب بعد الشّرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحلّ له» .
وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيّاكم والزّنا، فإنّ في الزنا ستّ خصال، ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة: فأما اللواتى فى الدنيا، فذهاب نور الوجه، وانقطاع الرّزق، وسرعة الفناء؛ وأما اللّواتى في الآخرة، فغضب الربّ، وسوء الحساب، والخلود في النار، إلا أن يشاء الله تعالى» .
وعن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله أىّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا، وهو خلقك!» قلت: ثم أىّ؟ قال: «أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك» . قلت: ثم أىّ؟ قال: «أن تزنى بحليلة جارك» .
والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة.
وأما ما جاء في النهى عن النظر إلى المردان ومجالستهم. روى عن أبى السائب انه قال: لأنا على القارئ من الغلام الأمرد أخوف منّى عليه من سبعين عذراء.
وفي لفظ عنه: لأنا أخوف على عابد من غلام أمرد من سبعين عذراء.(2/202)
وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا رأيتم الرجل يلحّ النظر إلى غلام أمرد، فاتّهموه.
وكان سفيان الثورىّ رضى الله عنه لا يدع أمرد يجالسه.
وعن يعقوب بن سوال قال: كنا عند أبى نصر بشر بن الحارث. فوقفت عليه جارية ما رأينا أحسن منها، فقالت يا شيخ: أين مكان باب حرب؟ فقال لها:
هذا الباب الذى يقال له باب حرب. ثم جاء بعدها غلام فسأله، فقال له يا شيخ:
أين مكان باب حرب؟ فأطرق بشر. فردّ عليه الغلام السؤال فغمّض عينيه. فقلنا للغلام: أىّ شىء تريد فقال: باب حرب. فقلنا: بين يديك. فلما غاب، قلنا يا أبا نصر، جاءتك جارية فأجبتها وكلمتها، وجاءك غلام فلم تكلمه؟ فقال: نعم، يروى عن سفيان الثورىّ أنه قال: مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان، فخشيت على نفسى من شيطانيه.
وعن أبى سعيد الخراز، قال: رأيت إبليس في النوم، وهو يمرّ عنّى ناحية، فقلت:
تعال، فقال: أىّ شىء أعمل بكم؟ أنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس، قلت ما هو؟ قال: الدنيا، فلما ولّى. التفت إلىّ فقال: غير أن لى فيكم لطيفة، قلت: ما هى؟ قال: صحبة الأحداث.
وعن مظفر القرميسينىّ، قال: من صحب الأحداث على شرط السلامة والنصيحة، أدّاه ذلك إلى البلاء؛ فكيف من صحبهم على غير وجه السّلامة؟
وقد ذكر أبو الفرج في كتابه المترجم «بذم الهوى» من افتتن بالأحداث، وصرح بأسمائهم. فلم نؤثر التعرّض لذلك، لما فيه من التشنيع عليهم والإذاعة لمساويهم.(2/203)
وأما ما جاء في التحذير من اللواط وما ورد في سحاق النساء،
روى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملعون ملعون من عمل بعمل قوم لوط»
. وعنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط» .
وعن جابر بن عبد الله، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أخوف ما أخاف على أمّتى عمل قوم لوط» .
وفي لفظ آخر
عنه صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف على أمّتى من بعدى عمل قوم لوط، ألا فلتترقّب أمتى العذاب إذا كان الرجال بالرجال والنساء بالنساء» .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها» .
وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يعل فحل فحلا حتّى كان قوم لوط، فإذا علا الفحل الفحل، ارتجّ أو اهتزّ عرش الرحمن عز وجل، فاطّلعت الملائكة تعظيما لفعلهما، فقالوا: يا ربّ، ألا تأمر الأرض أن تغور بهما، وتأمر السماء أن تحصبهما، فيقول الله تعالى: إنّى حليم لا يفوتنى شىء» .
وعن سماك بن حرب، عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنه قال: إن الرجل ليأتى الرجل فتضجّ الأرض من تحتهما، والسماء من فوقهما، والبيت والسقف، كلهم يقولون: أى ربّ، ائذن لنا بنطبق بعضنا على بعض فنجعلهم نكالا ومعتبرا، فيقول الله عز وجل: إنهم وسعهم حلمى ولن يفوتونى.(2/204)
وكان سفيان الثورىّ رحمه الله يقول: لو أنّ رجلا عبث بغلام بين إصبعين من أصابع رجليه يريد الشهوة، لكان لواطا.
وروى عن مكحول عن واثلة بن الأسقع أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سحاق النساء زنّى بينهن» .
وأما ما ورد في عقوبة اللائط والملوط به في الدنيا والآخرة:
أما عقوبة الدنيا، فقد جاء بها نصّ القرآن في قصة قوم لوط، وشرح أفعالهم، وما عذبوا به في آى كثيرة.
وجاء في الأحاديث النبوية، على قائلها أفضل الصلاة والسلام، فى عقوبة اللائط والملوط به ما يدل على التغليظ والتشديد.
فمن ذلك
ما روى عن عكرمة عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيمن عمل عمل قوم لوط: يقتل الفاعل والمفعول به،
وفي لفظ آخر
عن ابن عباس عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم: اقتلوا الفاعل والمفعول به، فى عمل قوم لوط.
وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل بعمل قوم لوط فاقتلوه» .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فارجموا الأعلى والأسفل» .(2/205)
وعن محمد بن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، أنه وجد رجلا في بعض الأضاحى ينكح رجلا كما تنكح المرأة. فجمع أبو بكر رضى الله عنه لذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم، فيهم علىّ بن أبى طالب، وقال: إن هذا ذنب لم تعمل به أمّة إلا أمّة واحدة. ففعل الله بهم ما قد علمتم. أرى أن نحرّقه بالنار، فاجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرّق بالنار. فأمر به أبو بكر رضى الله عنه أن يحرّق بالنار.
وقد حرّقهم عبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك.
- وعن يزيد بن قيس أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه رجم لوطيّا.
- وعن سعيد بن زيد قال: سئل عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، ما حدّ اللوطىّ؟ قال: ينظر أعلى بيت في القرية فيرمى منكّسا ثم يتبع بالحجارة.
وللتابعين ولأئمة العلماء في ذلك أقوال:
فمنهم من رأى أن حدّه كحدّ الزنا، وفرّق بين المحصن وغير المحصن.
ومنهم من رأى أن حدّه القتل أحصنا، أو لم يحصنا.
روى سفيان عن جابر عن الشعبىّ أنه قال: اللّوطىّ يرجم، أحصن أو لم يحصن.
وعن ابن أبى نجيح عن عطاء قال: حدّ اللوطىّ حدّ الزانى؛ وإن أحصن رجم، وإلا جلد. وبه قال الهيثم.
وعن قتادة عن الحسن أنه قال في الرجل يخالط الرجل: إن كان أحصن، جلد ورجم؛ وإن كان لم يحصن، جلد ونفى.
وعن مالك بن أنس عن الزهرى قال: يرجم، أحصن أو لم يحصن.(2/206)
وعن الطيالسىّ قال: حدّثنا إسحاق الكوسخ، قال: قلت لأحمد بن حنبل:
أيرجم اللوطى، أحصن أو لم يحصن؟ قال: يرجم، أحصن أو لم يحصن.
وقد روى عن أحمد بن حنبل أن حدّ اللوطىّ كحدّ الزانى، يختلف بالثّيوبة والبكارة.
وهو قول محمد عن الشافعىّ.
وقال الحكم: يضرب اللوطىّ دون الحدّ. قال ابن الجوزىّ: وإلى هذا مال أبو حنيفة.
وأما مذهب ابن حزم الظاهرىّ فإنه لا يضرب في اللّواط فوق عشرة أسواط.
وقال النخعىّ: لو كان أحد ينبغى أن يرجم مرتين، لكان ينبغى أن يرجم اللوطىّ مرتين.
وحكى أبو الفرج بن الجوزىّ، قال: أخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علىّ، قال: أخبرنا علىّ بن جعفر الصوفى، قال: سمعت الموازينى يقول: قال لى رجل من الحاج: مررت بدار قوم لوط، وأخذت حجرا مما رجموا به، فطرحته في مخلاة، ودخلت مصر. فنزلت في بعض الدور في الطبقة الوسطى. وكان في سفل الدار حدث، فأخرجت الحجر من خرجى، ووضعته في روزنة في البيت. فدعا الحدث الذى كان في البيت صبيا إلى عنده واجتمع معه، فسقط الحجر على الحدث من الروزنة، فقتله.
وقال أيضا: أخبرتنا شهدة، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عثمان بن مكىّ، قال: أخبرنى جدّى أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن أحمد، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشا المقرى، قال: سمعت أبا عبد الله(2/207)
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: خرجت حاجّا إلى مكة. فلما كانت ليلة عرفات، رأى الإمام الذى حجّ بنا تلك الليلة مناما.
فلما صرنا إلى مكة بعد انقضاء الحج، سمعنا مناديا ينادى فوق الحجر: أنصتوا يا معشر الحجيج، فأنصت الخلق، فقال: يا معشر الحجيج، إن إمامكم رأى أن الله عز وجل قد غفر لكل من وافى البيت العام إلا رجلا واحدا فإنه فسق بغلام.
وأما عقوبته في الآخرة، فقد
روى عن أبى سلمة عن أبى هريرة وعبد الله ابن عباس رضى الله عنهم، قالا: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فى خطبته: «من نكح امرأة في دبرها أو غلاما أو رجلا، حشر يوم القيامة أنتن من الجيفة، يتأذّى به الناس حتّى يدخله الله نار جهنم. ويحبط الله عمله، ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا. ويجعل في تابوت من نار، ويسمّر عليه بمسامير من حديد من نار، فتشتبك تلك المسامير في وجهه وفي جسده»
. قال أبو هريرة: وهذا لمن لم يتب.
وعن انس بن مالك رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولا يجمعهم مع العالمين، يدخلون النار أوّل الداخلين إلا أن يتوبوا؛ فمن تاب، تاب الله تعالى عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن خمر، والضارب أبويه حتّى يستغيثا، والمؤذى جيرانه حتّى يلعنوه، والناكح حليلة جاره» .
وعن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّوطيّان لو اغتسلا بماء البحر، لم يجزهما إلا أن يتوبا» .(2/208)
وعن أنس رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات من أمّتى يعمل عمل قوم لوط، نقله الله إليهم حتّى يحشر معهم» .
قلت: وقد بلغنى من كثير من الناس أن رجلين مشيا على جانب البركة المعروفة ببركة قوم لوط، وهى في غور الكرك على جانبها ضياع، منها الصافية واللاخية وسويمة وغيرها، وتعرف هذه البركة أيضا بالمنتنة، ويقال إنها إحدى المدائن التى خسف بها (من مدائن قوم لوط) . فجعلا يتباسطان. فكان من جملة ما قالاه أو قاله أحدهما للآخر فلم ينكره: هذه بركة أصحابنا، فطلعت من البركة موجة اختطفتهما معا، وألقتهما في البركة. فكان آخر العهد بهما.
وهذه الحكاية يتداولها أهل تلك البلاد. لا ينكرها سامع منهم على قائل. ولا يبعد أن يعاقب من تجاهر بمعاصى الله وانتسب لمن كفر بالله وعصاه وكذّب رسوله أن يعاقبه الله بما عاقبهم به ويلحقه بهم. وفي بعض هذا عبرة لمن اعتبر.
ولنرجع إلى سياق ما جاء في ذلك من الأحاديث والأخبار.
روى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزىّ بسنده إلى أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قبّل غلاما بشهوة، عذّبه الله في النار ألف سنة؛ ومن جامعه لم يجد رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام، إلا أن يتوب» .
وعن خالد عن إسمعيل بن كثير عن مجاهد، قال: لو أن الذى يعمل ذلك العمل (يعنى عمل قوم لوط) اغتسل بكل قطرة في السماء وكلّ قطرة في الأرض، لم يزل نجسا.(2/209)
وعن عبّاد بن الوليد العنبرىّ قال: سمعت إبراهيم بن شمّاس يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: لو أنّ لوطيّا اغتسل بكل قطرة من السماء، لقى الله تعالى غير طاهر.
وعن طلحة بن زيد عن برد بن سنان عن أبى المنيب عن عبد الله بن عمر رضى الله تعالى عنهما، قال: يحشر اللوطيون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير.
وعن أبى الصهباء عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم قال:
من خرج من الدنيا على حال، خرج من قبره على تلك الحال، حتّى إن اللوطىّ يخرج يطلق ذكره على دبر صاحبه مفتضحين على رءوس الخلائق يوم القيامة.
هذا ما أمكن إيراده في هذا الفصل على سبيل الاختصار والإيجاز، وإلا فالأخبار فى العشق وتوابعه وما يتولد عنه كثيرة جدّا، ووقفنا منها على كثير، ولا يحتمل أن يورد في الكتب الشاملة لفنون مختلفة أكثر مما أوردناه. فلنذكر الآن نبذة مما قيل في الغزل والنسيب.
ذكر نبذة مما قيل في الغزل والنسيب
هذا الباب- أكرمك الله وعافاك، ووقاك من فتنته وكفاك- باب متسع، قد أكثر الشعراء القول فيه، وتنوّعوا في أساليبه ومعانيه؛ لو استقصيناه لطال به هذا التصنيف، وانبسط هذا التأليف؛ وكان بمفرده كتبا مبسوطة وأسفارا كبيرة، فلخصنا منه دررا نفيسة وأعلاقا خطيرة؛ واقتصرنا منه على ما رقّ معناه وراق، وحسن لفظه وشاق؛ وارتاحت إليه النفوس، وتحلت به الطروس؛ ولمحته النواظر، وانجذبت إليه الخواطر. وقد تنوّع الشعراء في الغزل: فتغزّلوا في المحبوب باسمه،(2/210)
وكنوا عنه واستعاروا له، ووصفوا أعضاءه وشبهوها بأشياء، فشبهوا العيون بالنّرجس، وأفعالها بالخمر والسّهام؛ وشبّهوا الحواجب بالقسىّ، والجبين بالصّباح، والشّعور بالليالى، والسّوالف بالغوالى والصوالج والعقارب؛ وشبهوا الوجه بالشمس والقمر؛ وشبهوا الخدود بالورد والتّفاح؛ وشبهوا الثّغور بالأقحوان، واللمى بالخمر، والريق بالشّهد، والشّفاه بالعقيق، والأسنان بالّلؤلؤ؛ وشبهوا النّهود بالرّمّان، والقوام بالغصون، والأرداف بالكثبان. وغير ذلك. وقد تقدّم إيراد ذلك كله مستوفى فى موضعه، وهو في الباب الذى قبل هذا الباب.
وتغزلوا أيضا في أصناف الفواكه المأكولة والمشمومة؛ وتغزلوا في الرياض والأزهار.
وسنورد إن شاء الله ذلك في موضعه، وهو في القسم الثانى والثالث والرابع من الفن الرابع من كتابنا هذا، فى السفر العاشر من هذه النسخة.
فلنورد الآن هاهنا من باب الغزل والنسيب خلاف ما قدّمنا ذكره مما ذكرناه وما نذكره إن شاء الله تعالى.
والذى نورده في هذا الباب نبذة مما قيل في المذكّر، والمؤنّث، والمطلق، والمشترك، وطيف الخيال، والردّ على العذول، ورجوع العذول، والوصال، والفراق، والبين، والتوديع، والصدّ، والهجران؛ وما قيل في الزيارة وتخفيفها، وموانعها، والمدامع، والرضا من المحبوب باليسير، والنّحول؛ وما قيل في المحبوب إذا اعتلّ؛ وما قيل على لسان الورقاء، والمراجعات، والمردوف، والجناس، والموشّحات.(2/211)
فمما قيل في المذكر
قال العماد الأصفهانى الكاتب:
وأحور يسبى بطرف يكلّ ... وتخجل منه الظّبا والظّباء.
بخدّيه من حسنه والشباب ... تجمّع ضدّان: نار وماء.
وفي مقلتيه وقد صحّتا ... كما صحتا سقم وانتشاء.
عففت وعفت الحيا في هوا ... هـ حتّى استوى صدّه واللّقاء.
وكلّ حياء يذود العفا ... ف عن ودّه، فعليه العفاء!
وقال آخر:
وكأنّ بهجة وجهه في شعره ... قمر بدا في ليلة ليلاء.
وكأنّ عقرب صدغه في خده ... وقفت مخافة ناره والماء.
قمر رجوت من الزمان وصاله ... يوما، فأخلف بالصّدود رجائى!
وقال عبد الجليل بن وهبون:
وافت به غفلة الرّقيب ... والنجم قد مال للغروب،
نشوان قد هزّت الحميّا ... منه قضيبا على كثيب!
يعثر في ذيله فيحكى ... عثرة عينيه في القلوب!
والله لو نالت الثّريّا ... ما نال من بهجة وطيب،
دنا إليها الهلال حتّى ... قبّل في كفّها الخضيب!
وقال ابن حجاج:
ومذلّل! أما القضيب فقدّه ... شكلا وأمّا ردفه فكثيب!
يمشى وقد فعل الصّبا بقوامه ... فعل الصّبا بالغصن، وهو رطيب.(2/212)
متلوّن يبدى ويخفى شخصه ... كالبدر يطلع تارة ويغيب.
أرمى مقاتله فتخطئ أسهمى ... غرضى، ويرمى مهجتى فيصيب!
نفسى فداؤك! إنّ نفسى لم تزل ... يحلو فداؤك عندها ويطيب!
مالى ومالك لا أراك تزورنى ... إلا ودونك كاشح ورقيب!
وقال أبو نواس:
شبيه بالقضيب وبالكثيب! ... غريب الحسن ذو دلّ غريب!
بعيد. إن نظرت إليه يوما، ... رجعت وأنت ذو أجل قريب!
ترى للصّمت والحركات فيه ... سواما لا يذاد عن القلوب.
ويمتحن القلوب بمقلتيه، ... فينكشف البرىء من المريب!
وقال الوأواء الدمشقىّ:
بدر تقنّع بالظّلا ... م على قضيب في كثيب!
تدعو محاسنه القلو ... ب إلى مشافهة الذّنوب.
فعلت به ريح الصّبا ... ما ليس تفعل بالقضيب.
عقلت ركائب حسنه ... بعقولنا عند المغيب.
وتلطّمت وجناتنا ... بيد الدّموع من النّحيب!
وقال الأمير تاج الملوك ابن أيوب:
سلب الفؤاد فلا عدمت السالبا! ... ورنا، فكان اللحظ سهما صائبا!
قمر مشارقه الجيوب، فلا ترى ... أبدا له إلا القلوب مغاربا!
ملك الفؤاد بمقلتين وحاجب ... أمسى لحسن الصبر عنّى حاجبا.
وحكى القضيب شمائلا عبثت به ... أيدى النّسيم شمائلا وجنائبا!(2/213)
وقال أيضا:
يا أيّها البدر الّذى ... مطلعه طوق القبا!
يا جنّة القلب الّذى ... أضرم فيه لهبا!
فدّيت هذا الوجه، ما ... أحسنه وأعجبا!
لم تر عينى قبله ... صبحا تردّى غيهبا!
وقال أبو نواس:
يا بدعة في مثال ... يجوز حدّ الصّفات!
فالوجه بدر تمام ... بعين ظبى فلاة!
والقدّ قدّ غلام ... والغنج غنج فتاة!
مذكّر حين يبدو، ... مؤنّث الخلوات!
زها علىّ بصدغ ... مزرفن الحلقات.
من فوق خدّ أسيل ... يضىء في الظّلمات!
وقال كشاجم:
معتدل من كلّ أعطافه! ... مستحسن الإقبال والملتفت!
لو قيست الدّنيا ولذّاتها ... بساعة من وصله، ما وفت!
سلّطت الألحاظ منه على ... قلبى؛ فلو أودت به ما اشتفت!
واستعذبت روحى هواه فما ... تسلو ولا تصحو، ولو أتلفت!
وقال فضل الرّقاشىّ:
وشاطر فاتك الشّمائل قد ... خالط منه المجون تخنيثا.
تراه طورا مذكّرا؛ فإذا ... عاقر راحا، رأيت تأنيثا.(2/214)
ألثغ إن قلت يا فديتك: قل ... موسى، يقل من رطوبة: موثا.
ما زال حتّى الصباح معتنقى ... مطارحى في الدّجى الأحاديثا.
وقال كشاجم:
بليت بوجدين [1] وجدى بظبى ... يصدّ، وما به إلا لجاج.
وعذّبنى قضيب في كثيب ... تساوى فيه لين واندماج.
أغار إذا دنت من فيه كاس ... على درّ يقبّله زجاج.
وقال أيضا:
يا لقومى! من لمكتئب ... دمعه في الخدّ منسفح؟
لامه العذّال في رشإ ... عذره من مثله يضح.
وادّعوا نصحى! وأخون ما ... كان عذّالى إذا نصحوا!
خوّفونى من فضيحته، ... ليته وافى وأفتضح!
كيف يسلو القلب عن غصن، ... علّه من مائه المرح؟
ذهبىّ الحسن تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح!
وكأنّ الشمس نيط لها ... قمر، يمناه والقدح.
صدّ أن مازحته غضبا! ... ما على الأحباب إن مزحوا؟
وهو لا يدرى لنخوته ... أننا في النّوم نصطلح!
ثمّ لا أنسى مقالته: ... أطفيلىّ ومقترح؟
__________
[1] كذا في الأصول، وهو مخالف للوزن الشعرى، والذى في ديوان كشاجم المطبوع:
بليت ولجّ بى وجد بظبى
الابيات.(2/215)
وقال تاج الملوك ابن أيوب:
فديت وجه الحبيب بدرا! ... والبدر يفدى، وليس يفدى!
سى فؤادى بليل شعر ... وصبح وجه وغصن قدّ.
فى فمه عنبر مداف ... فى قهوة خولطت بشهد.
كأنّما خدّه شقيق، ... نقّط من خاله بندّ.
ظبى من التّرك ذو دلال ... يستحسن الجور والتعدّى.
كأنّه غصن خيزران، ... إذا انثنى أو قضيب رند.
يحلّ في الحبّ عقد صبرى ... إن شدّ في الخصر عقد بند!
وقال أبو نواس:
أيا من بحبّى علىّ اجترى؟ ... ومن بلسانى علىّ افترى؟
ومن بيدى غلّنى للهوى، ... فأصبحت للحبّ مستأسرا؟
أما والذى جعل المستهام ... صديق السّهاد عدوّ الكرى!
لقد ذهبت مهجتى باطلا، ... لئن متّ منك على ما أرى!
وقال آخر:
ومهفهف طاوى الحشا ... خنث المعاطف والنظر!
ملأ القلوب بصورة ... تليت محاسنها سور!
فإذا رنا وإذا شدا ... وإذا سقى وإذا سفر:
فضح الغزالة والحم ... امة والمدامة والقمر!
وقال آخر:
إذا أكثر الواشون فينا مقالهم ... وليس لهم عندى وعندك من ثار
،(2/216)
وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة ... وقلّت حماتى عند ذاك وأنصارى،
لقيناهم من مقلتيك وأدمى ... وأنفاسنا بالسّيف والسّيل والنار.
وقال آخر، من شعراء اليتيمة:
وأغنّ أغيد حبّه ... مستأنس لى، وهو نافر!
إن قلت: زرنى! قال: نم، ... فالطّيف ليس يزور ساهر!
كيف السبيل إلى الرّقا ... د كما رسمت، وأنت هاجر؟
ويقول لى فيما يقو ... ل: نعم! وما للقول آخر!
حتّى أشاور! قلت: ل ... كنّى هويت ولم أشاور!
وقال تاج الملوك:
يا قمرا أقبل يسعى على ... دعص من الأغصان مهزوز!
وصلك، واويلى! على طيبه ... أصبح ذا منع وتعزيز.
ما كان إلا بيضة الدّيك لى ... أو مطرة في شهر تمّوز.
وقال أبو نواس:
عذّبنى قلبى بمن قلبه ... للصّبّ مثل الحجر القاسى.
أحور فتّان قطوف الخطا ... أغيد مثل الغصن ميّاس.
أبيت ليلى ونهارى معا ... معلّقا منه بوسواس.
إنّى وإن لم يك لى نائل ... منه لأرجوه على ياس.
وقال سيف الدّين المشدّ:
إلى قدّك اللّدن يعزى الهيف! ... فما هبّت الرّيح إلا انعطف!
قوام أراد قضيب النّقا ... يحاكيه، لمّا انثنى، فانقصف!(2/217)
فيا راميا قد رمانى هواه ... بنار الأسى في بحار الأسف!
سهام جفونك قلبى غدا ... لها غرضا، وضلوعى هدف.
وأوردتنى في الهوى موردا ... تجرّعت فيه مرير التّلف.
وأعرضت عنّى، ولا ذنب لى! ... فكم ذا الدّلال! وكم ذا الصّلف!
ومخطف خصر على ردفه، ... فكلّ فؤاد به مختطف!
وقال أبو القاسم العطار:
وبى غزال، إذا صادفت غرّته ... جنيت من وجنتيه روضة أنفا!
كالبدر مكتملا، كالظّبى ملتفتا، ... كالروض مبتسما، كالغصن منعطفا!
وقال تاج الملوك:
يا قمرا في غصن من بانة، ... يميل عجبا في كثيب من نقا!
أصبح قلب المستهام مغربا ... له، وأطواق القباء مشرقا!
أغيد، لا يقصد إلّا تلقى! ... ولم يزل قلبى به معلّقا.
ذكّرنى حسن ابتسام ثغره ال ... واضح لمع البرق إذ تألّقا.
وطالما ذكّرنى رضابه ال ... بارد صرف الراح إذ تعتّقا.
أغنّ، ما فوّق سهم لحظه ... إلا أصاب القلب لمّا فوّقا.
حاجبه قوس ولحظ عينه ... سهم، فما يخطى إذا ما رشقا.
وقال أبو نواس.
جال ماء الشّباب في خدّيكا، ... وتلالا البهاء في عارضيكا.
ورمى طرفك المكحّل بالسّح ... ر فؤادى فصار رهينا لديكا.(2/218)
أنا مستهتر بحبّك صبّ ... لست أشكو هواك إلّا إليكا.
يا بديع الجمال والحسن والدّ ... لّ، حياتى وميتتى في يديكا.
بأبى أنت! لو بليت بوجدى ... لم يهن ما لقيت منك عليكا!
أصبحت بالهوى سهام المنايا ... قاصدات إلىّ من عينيكا!
وقال أيضا:
يا من جداه قليل ... ومن بلاه طويل!
ومن دعانى إليه ... طرف أحمّ كحيل،
وواضح النبت يحكى ... مزاجه الزّنجبيل،
ووجنة جائل ما ... ؤها وخدّ أسيل.
وغصن بان تثنّى ... قدّا، وردف ثقيل،
ويجمع الحسن فيه ... وجه وسيم جميل!
فكلّ ناحية من ... قلبى إليه تميل!
وقال الوأواء الدمشقى:
رماه ريم فأصا ... ب القلب منه، إذ رمى.
واحتجّ في قتلته ... بأنّه ما علما.
يا معشر الناس! أما ... ينصفنى من ظلما؟
علّم سقم طرفه ... جسمى منه سقما.
فسقم جسمى في الهوى ... من طرفه تعلّما.
لو قيل لى: ما تشتهى؟ ... مخيّرا محكّما.
لقلت أن ألثمه: ... نحرا ووجها وفما!(2/219)
وقال الوزير أبو مروان عبد الملك بن جهور:
أحوى النواظر، ألعس الشّ ... فتين، عذب الرّيق، ألمى!
لو زارنى طيف له ... عند الهجوع ولو ألمّا،
لأفاد روحا أو لفرّ ... ج من هموم النفس همّا!
وقال آخر:
وأهيف، مهزوز القوام إذا انثنى ... وهبت لعذرى فيه ذنب اللّوائم.
بثغر كما يبدو لك الصّبح باسم، ... وشعر كما يبدو لك لليل فاحم.
مليح الرضا والسّخط، تلقاه عاتبا ... بألفاظ مظلوم وألحاظ ظالم.
ومما شجانى أنّنى يوم بينهم ... شكوت الذى ألقى إلى غير راحم.
وحمّلت أثقال الجوى غير حامل ... وأودعت أسرار الهوى غير كاتم.
وأبرح ما لا قيته أنّ متلفى ... بما حلّ بى في حبّه، غير عالم.
ولو كنت مذ بانوا سهرت لساهر ... لهان، ولكنّى سهرت لنائم.
وقال أبو نواس:
يا ريم هات الدّواة والقلما ... أكتب شوقى إلى الّذى ظلما!
غضبان قد غرّنى رضاه ولو ... يسئل ممّا غضبت، ما علما.
فليس ينفكّ منه عاشقه ... فى جمع عذر لغير ما اجترما.
أظلّ يقظان في تذكّره ... حتّى إذا نمت، كان لى حلما.
لو نظرت عينه إلى حجر، ... ولّد فيه فتورها سقما!
وقال سيف الدين المشدّ:
وبى رشيق القوام لدن ... لقدّه ينسب الرّدينى!(2/220)
ما نظرته العيون إلّا ... فدته من نظرة وعين!
قابل بالكأس وجنتيه، ... فخفّ نجم بنيّرين.
وزيّنت كفّه الحميّا! ... ما أحسن التّبر في اللّجين!
وقال كشاجم:
بالله يا متفرّدا في حسنه ... ومقلّبا هاروت بين محاجره!
ومحكّما أردافه في خصره، ... ومصافحا خلخاله بضفائره!
لا تغضبنّ على فتى يرضى بما ... أوليته، ولو انتعلت بناظره.
ويكاتم الأسرار حتّى إنه ... ليصونها عن أن تمرّ بخاطره.
وقال أبو تمام الطائى:
لها، وأعارنى ولها! ... وأبصر ذلّتى فزها!
له وجه يعزّبه، ... ولى حرق أذلّ بها!
دقيق محاسن، وصلت ... محاسن وجنتيه بها.
ألاحظ حسن وجنته، ... فتجرحنى وأجرحها.
وقال أيضا:
نشرت فيك رسيسا كنت أطويه! ... وأظهرت لوعتى ما كنت أخفيه!
إن كان وجهك لى تترى محاسنه، ... فإنّ فعلك لى تترى مساويه!
مرتجّة في تهاديه أسافله، ... مهتزّة في تثنّيه أعاليه!
تاهت على صور الأشياء صورته ... حتّى إذا كملت، تاهت على التّيه!(2/221)
وقال المخزومىّ:
أىّ محبّ فيك لم أحكه؟ ... وأىّ ليل فيك لم أبكه؟
إن كان لا يرضيك إلا دمى، ... فقد أذنّا لك في سفكه!
وقال أبو نواس:
يا قابرى بملاله ... ودامرى بمطاله!
ويا مبدّل ليلى ... قصاره بطواله!
أعوذ منك بوجه ... بدر الدّجى في مثاله!
لكنّه منه أحلى ... لحسن موضع خاله.
هلّا رحمت صريعا ... تحت الرّدى وطلاله؟
من لا يرى منه فوق ال ... فراش غير خياله.
مثل الخلال نحيلا ... يخفى على عذّاله.
فمن بغى لك سوءا، ... فكان في مثل حاله!
وقال محمد بن عبد الله السلامىّ، شاعر اليتيمة:
ومختصر الخصر، من بعده ... هربت فألقيت في صدّه!
وقابلنى وجهه مقبلا ... بحدّ الحسام وإفرنده.
فما زلت أعصر من خمره ... وأقطف من مجتنى ورده.
وأظما فأرشف من ريقه! ... فيا حرّ صدرى من برده!
وقال أبو هلال العسكرىّ:
أقول لمّا لاح من خدره، ... واللّيل يرخى الفضل من ستره:
أبدره أحسن من وجهه، ... أم وجهه أحسن من بدره؟(2/222)
قد مالت الرّقّة في شطره، ... ومالت الغلظة في شطره.
فأزره غصّت بأردافه، ... ووشحه جالت على خصره.
أصبحت لا أدرى- وإن لم يكن ... فى الأرض شىء أنا لم أدره-
أشعره أحسن من قدّه؟ ... أم قدّه أحسن من شعره؟
ودرّه يؤخذ من لفظه، ... أم لفظه يؤخذ من درّه؟
وثغره ينظم من عقده، ... أم عقده ينظم من ثغره؟
فمن عذير الصّبّ من صدّه؟ ... ومن مجير القلب من هجره؟
يا ليته يعرف حبّى له! ... عساه يجزينى على قدره!
وقال تاج الملوك بن أيوب:
يا هلالا لاح في غصن، ... تشرق الدّنيا بطلعته!
وغزالا طالما خضع ... الأسد الضارى لهيبته!
ما رنا إلّا وجرّد لى ... صارما من لحظ مقلته.
صل عليلا، أنت أعلم من ... كلّ مخلوق بعلّته.
قد أطالت مقلتاك بلا ... سبب تعذيب مهجته.
كلّما لجّت عواذله ... أجّجت نيران لوعته.
فاتّئد من طول عذلك لى، ... يا عذولى في محبّته!
من بنى الأتراك معتدل، ... قد تمادى في قطيعته.
ليس يشفى القلب من ظمإ ... غير رشفى راح ريقته!
لا، ولا يطفى لظى كبدى ... غير تقبيلى لوجنته!
ليت أن الدّهر مكّننى ... بيدى من حلّ تكّته!(2/223)
وقال آخر:
ومهفهف! عنّى يميل ولم يمل ... يوما إلىّ، فقلت من ألم الجوى:
لم لا تميل إلىّ، يا غصن النّقا؟ ... فأجاب: كيف، وأنت من جهة الهوى؟
وقال ابن منير الطرابلسىّ:
من ركّب البدر في صدر الرّدينىّ، ... وموّه السّحر في حدّ اليمانىّ؟
وأنزل النّيّر الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسروانىّ؟
طرف زنا أم قراب سلّ صارمه؟ ... وأغيد ماس أم أعطاف خطّىّ؟
وبرق غادية أم برق مبتسم، ... يفترّ من خلل الصّدغ الدّجوجىّ؟
ويلاه، من فارسىّ النّحر مفترس ... بفاتر أسدىّ الفتك ريمىّ!
يكنّ ناظره ما في كنانته! ... فليس ينفكّ من إقصاد مرمىّ!
أذلّنى بعد عزّ؛ والهوى أبدا ... يستعبد الليث للظّبى الكناسىّ.
مامان مانىّ [1] ، لولا ليل عارضه ... ما شدّ خيل المنايا بالأمانىّ.
تكنّف الحسن منه وجه مشتمل ... نفار أحور في تأنيث حورىّ.
أما وذائب مسك من ذوائبه ... على أعالى القضيب الخيزرانىّ؟
لو قيل للبدر: من في الأرض تحسده؟ ... إذا تجلّى، لقال ابن الفلانىّ!
أربى علىّ بشتّى من محاسنه ... تألّفت بين مسموع ومرئىّ.
إباء فارس مع لين الشّآم مع الظ ... رف العراقىّ في النّطق الحجازىّ.
وما المدامة بالألباب ألعب من ... فصاحة البدو في ألفاظ تركىّ!
أشبهته ببعادى، ثم كان له ... مزية الخلق والأخلاق والزّىّ.
من أين لى لهب يجرى على ذهب ... فى صحن أبيض صافى الماء فضّىّ؟
__________
[1] الإشارة إلى مانى القائل بالثنوية أى بالنور والظلام.(2/224)
وروضة لم تحكها كفّ سارية ... ولا شكا خدّها من لثم وسمىّ؟
يحفّها سوسن غضّ يغازله ... بنرجس بنطاف السّحر مولىّ.
من منقذى أو مجيرى من هوى رشإ ... أفتى وأفتك من عمرو بن معدىّ؟
لا يعشق الدّهر إلا ذكر معركة ... أو خوض مهلكة أو ضرب هندىّ.
ولا يحدّث إلا عن ربابته ... من المهار العوالى والمهارىّ.
والصّافنات ولبس الضافيات وشر ... ب الصافيات وإطراب الأغانىّ،
أشهى إليه من الدّوح الظّليل على الرّ ... وح العليل وتغريد القمارىّ،
شدّ الجياد لأيّام الجلاد وإر ... شاد الصّعاد إلى طعن الأناسىّ؟
وحثّ باز على نأى وحمل قطا ... مىّ تكدّر منه عيش كدرىّ؟
فى غلمة كغصون البان يحملها ... كثبان برد على غادات بردىّ؟
يمشون في الوشى أسرابا، فتحسبهم ... روض الرّبيع على بيض الأداحىّ.
والساحر الساخر الغرّار بينهم ... كالشمس تكسف أنوار الدّرارىّ.
مهفهف القدّ، سهل الخد، أغرب في ال ... جمال من لثغة في لفظ نجدىّ.
يلهيه عن كتب تروى ونصرته ... لشافعىّ فقيه أو حنيفىّ.
عوج القسىّ وقبّ الأعوجيّة والشّ ... هب الهماليج تربى في الأوارىّ.
والشّعر في الشّعر الداجى على الغنج السّ ... اجى يليّن منه قلب حوشىّ.
فلو بصرت به يصغى وأنشده، ... قلت النّواسىّ يشجو قلب عذرىّ.
أو صائد الإنس قد ألقى حبائله ... ليلا فأوقع فيها صعيد وحشىّ.
أغراه بى بعد ما جدّ النّفار به ... شدو القريض وألحان السّريجىّ.
فصار أطوع لى منه لمقلته، ... وصرت أعرف فيه بالعزيزىّ.(2/225)
ومما قيل في المؤنث، قال ابن الرومى:
مخفّفة مثقّلة، تراها ... كأن لم يعد نصفيها غذاء!
إذا الإغباب جدّد حسن شىء ... من الأشياء، جدّدها اللّقاء.
لها ريق تشفّ له الثّنايا، ... ويروى عنه- لا منه- الظّماء.
وأنفاس كأنفاس الخزامى ... قبيل الصّبح، بلّتها السّماء!
تنفّس نشرها سحرا، فجاءت ... به سحريّة المسرى رخاء!
وقال أبو نواس:
ما هوى إلا له سبب ... يبتدى منه وينشعب.
فتنت قلبى محجّبة، ... وجهها بالحسن منتقب.
خلّيت والحسن تأخذه ... تنتقى منه وتنتخب.
فاكتسب منه طرائفه ... واستزادت بعض ما تهب.
صار جدّا ما مزحت به ... ربّ جدّ ساقه اللّعب!
وقال أيضا:
يا قمرا، أبصرت في مأتم ... يندب شجوا بين أتراب!
يبكى فيذرى الدّرّ من نرجس، ... ويلطم الورد بعنّاب.
أبرزه المأتم لى كارها، ... برغم دايات وحجّاب!
لا تبك ميتا حلّ في رمسه، ... وابك قتيلا لك بالباب!(2/226)
وقال سيف الدين المشد:
وبمهجتى! من لو بدت ... للشمس من تحمت النّقاب،
سترت محاسن وجهها ... خجلا، ولاذت بالسّحاب!
وقال القاضى أبو على التّنوخى، شاعر اليتيمة:
أقول لها والحىّ قد فطنوا بنا ... ومالى عن أيدى المنون براح:
لما ساءنى أن وشّحتنى سيوفهم ... وإنّى لكم دون الوشاح وشاح.
وقال عمارة اليمانى:
طرقتها، والليل وحف الجناح، ... وما تلبّست بثوب الجناح.
فى ليلة بات نجادى بها ... ذوائبا يخفقن فوق الوشاح.
والحسن قد ألّف أشتاته ... غصن تثنّى فوق ردف رداح.
نام رقيب الصّبح عن ليلتى، ... وبات لى كلّ مصون مباح!
أجمع من خدّ ومن مبسم ... بحمرة الورد بياض الأقاح.
حصلت من ريق ومن منطق ... على اقتراح ونمير قراح.
ترنّحت من نشوات الصّبا ... فبتّ مسرورا بنشوان صاح.
وفاح من نشر الصّبا عنبر ... أحرقه الفجر بجمر الصّباح!
وقال أبو نواس:
وذات خدّ مورّد ... قوهيّة المتجرّد.
تأمّل العين منها ... محاسنا ليس تنفد.
فالحسن في كل جزء ... منها معاد مردّد.(2/227)
فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولّد.
وكلّما عدت فيه ... يكون لى العود أحمد!
وقال علىّ بن عبد الرحمن بن المنجم:
شبّهتها بالبدر فاستضحكت ... وقابلت قولى بالنّكر.
وسفّهت قولى وقالت: متى ... سمجت حتّى صرت كالبدر.
البدر لا يرنو بعين كما ... أرنو، ولا يبسم عن ثغر.
ولا يميط المرط عن ناهد، ... ولا يشدّ العقد في نحر.
من قاس بالبدر صفاتى، فلا ... زال أسيرا في يدى هجرى!
وقال العماد الأصفهانىّ:
لثن الأهلّة بالمعاجر ... وكحلن بالسّقم المحاجر.
ونظرن عن حدق حجر ... ن بها على آرام حاجر.
شهرت لحاظ ظبائهنّ ... على القلوب ظبا بواتر.
آرام خدر بالّلحا ... ظ تصيد آسادا خوادر.
غيد لسفك دم المحب ... تظافرت منها الظّفائر.
بيض التّرائب حمرها ... خضر اللّمى سود الغدائر.
وقال كشاجم:
جعلت إليك الهوى ... شفيعا فلم، تشفعى!
وناديت مستعطفا ... رضاك فلم تسمعى.
أتاركتى مدنفا ... أخا جسد موجع!
ومغريتى والدّمو ... ع قد أحرقت مدمعى.(2/228)
أحين سبيت الفؤا ... د بالنظر المطمع،
جفوت وأقصيتنى؟ ... فهلّا، وقلبى معى؟
وقال ابن المعلم:
صعدة القدّ وسيف الكحل ... حكما حكم الهوى في أجلى.
يا لقومى! حملت ثقل دمى ... غادة يثقلها حمل الحلى!
قدّها معتدل يظلمنى! ... حزنى من قدّها المعتدل!
خصرها ينشط، لكن ردفها ... أبدا بقهره بالكسل.
نظرة من مقلتى جارية ... وثنت عطف القضيب الثّمل.
لست أدرى: قمر في كلّة ... ما أرى، أم دمية في هيكل؟
سألت جسمى عن ساكنه! ... ومن الجهل سؤال الطّلل!
وقال سيف الدين المشدّ:
وغادة، أعشق من أجلها ... بدر الدّجى والظّبى والخيزران.
لأنّ ذا يشبهها بهجة، ... وذاك ألحاظا، وهذا بنان.
وقال أبو نواس:
يا منسى المأتم أشجانه ... لما أتاهم في المعزّينا!
حلّت عجار الوشى عن صورة ... ألبسها الله التّحاسينا!
استفتنتهنّ بتمثالها ... فهنّ للتّكليف يبكينا.
حقّ لذاك الوجه أن يزدهى ... عن حزنه من كان محزونا.
وقال أيضا:
أيا ليت شعرى أمن صخرة ... فؤادك هذا الذى لا يلين!(2/229)
تقول إذا ما اشتكيت الهوى، ... كما يشتكى الباس المستكين:
أفى النّوم أبصرت ذا كلّه؟ ... فخيرا رأيت، وخيرا يكون!
وقال المشوق الشامى:
أترى بثار أو بدين ... علقت محاسنها بعينى؟
فى خصرها وقوامها ... ولحاظها ما في الرّدينى.
وبوجهها ماء الشّبا ... ب خليط نار الوجنتين.
وقال السرىّ الرفّا، شاعر اليتيمة:
قامت وخوط البانة ال ... ميّاس في أثوابها.
ويهزّها سكران: سك ... ر شرابها وشبابها!
تسعى بصهباوين من ... ألحاظها وشرابها.
وكأنّ كأس مدامها ... لمّا ارتدت بحبابها:
توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها.
وقال ابن الرومىّ:
من بنات الرّوم، لا يكذبنا ... لونها المشرق عن منصبها.
قامة الغصن- إذا ما اعتدلت، ... قامة الغصن- إلى منكبها.
شهد الشاهد من أحسنها، ... فحكى الغائب من أطيبها.
تشفع الحسن بإحسان لها ... يجلب الأفراح من مجلبها.
تشرع الألحاظ في وجنتها ... فتلاقى الرّىّ في مشربها.
وجنة للغنج فيها عقرب، ... وبلاء الصبّ من عقربها.(2/230)
وإذا قامت إلى ملعبها ... كمهاة الرمل في ملعبها،
سألت أردافها أعطافها: ... هل رأت أوطأ من مركبها؟
وقال أبو الحسين بن فارس:
مرّت بنا هيفاء مقدودة ... تركيّة تنمى لتركي.
ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجّة نحوىّ.
ومما قيل في المطلق والمشترك
، قال الطغرائى:
فيم التعجّب من قلبى وصبوته ... كأنّكم لم تروا من قبله عجبا!
ذوقوا الهوى ثم لوموا ما بدا لكم؛ ... أولا، فخلّوا ملامى واربحوا التّعبا!
وقال أيضا:
وكنت أرانى مفلتا شرك الهوى، ... وقد صادنى سحر العيون النّوافث.
وأسمعنى داعى الغرام نداءه، ... فقمت إليه مسرعا غير لابث.
وأعطيت إخوان البطالة صفقتى، ... وبعت قديما من غرامى بحادث.
فما صفقتى في البيع صفقة خاسر، ... ولا بيعتى للحبّ بيعة ناكث.
فلا تعذلونى في غرامى بعد ما ... تولّى الصّبا، فالعذل أوّل باعث!
ولا تبحثوا عن سرّ قلبى إنّه ... صفا، ليس يمضى فيه معول باحث.
أرى صبوات الحبّ قد جدّ جدّها، ... وقد كان بدء الحب مزحة عابث!
وقال الأرّجانىّ:
قفا معى في هذه المعاهد! ... لا بدّ للصّبّ من المساعد!
لا تبحلا يا صاحبىّ واسمحا ... بوقفة على المعنّى الواجد.(2/231)
فى منزل عهدت في عراصه، ... لو ردّ معهودا بكاء عاهد،
كواعبا من الدّمى لواعبا ... مشبهة الثّغور لا القلائد.
يمشين من فرط النّعيم والصّبا ... كالقضب الموائل الموائد.
فيهنّ ظبى علق القلب به ... من الظّباء النّفر الشوارد.
إذا تبدّى مرض بطرفه، ... لم يخل من أفئدة عوائد.
رميته، فصادنى. فمن رأى ... صيدا يمرّ بفؤاد الصائد؟
قطعت من قلبى رجائى في الهوى! ... والقطع طبّ كلّ عضو فاسد!
وقال أبو القاسم عبد الله الدينورىّ، شاعر اليتيمة:
يا لعصر الخلاعة المودود ... ولظلّ الشّبيبة الممدود!
وارتشافى الرّضاب من برد الثّغ ... ر ولثمى عليه ورد الخدود!
وبكورى إلى مجالس علم ... ورواحى إلى كواعب غيد!
فى قميص من السّرور مذال ... ورداء من الشّباب جديد!
وقال تاج الملوك بن أيوب:
ألّا رحمتم متيما دنفا ... ما زال من جوركم بكم عائذ!
صبّا قضى الله أن يهيم بكم ... ولا مردّ لحكمه النافذ!
يلوذ حبّا دون الأنام بكم ... وحسبه أنه بكم لائذ!
وقال فخر الدين الوركانى، شاعر الخريدة:
أأحبابنا أمّا حياتى بعدكم ... فموت، وأما مشربى فمنغّص
وأسعد شىء فيّ قلبى لأنّه ... لديكم، وجسمى بالبعاد مخصّص!(2/232)
وقال العماد الأصفهانى:
بذلت لهم- أبغى رضاهم- مودّتى ... وقلبى وصبرى والرّقاد، فما رضوا.
وهبنى عن كلّ تعوّضت بعدهم ... فقل لى: بماذا عنهم أتعوّض؟
وما كان ظنّى أنّ عيشى ينقضى ... ونجم الصّبا ينقضّ والعهد ينقض.
وقال الطغرائى:
إن الألى أرضاك قولهم ... بالأمس، تحت رضاهم سخط!
لمّا صفا ذاك الجمال لهم، ... تاهوا على العشّاق واشتطّوا.
همّوا ببين فاستطار له ... قلبى، فكيف يكون إن شطّوا؟
وقال الطغرائى أيضا:
فى القلب من حرّ الفراق شواظ، ... والدمع قد شرقت به الألحاظ.
ولقد حفظت عهودكم، وغدرتم. ... شتّان غدر في الهوى وحفاظ!
لله أىّ مواقف رقّت لنا ... فيها الوسائل، والقلوب غلاظ!
وقال أيضا:
وسائل عن جوى قلبى، فقلت له: ... ما أنت عندى على سرّ بمتّهم!
طاب الجوى في الهوى حتّى أنست به، ... فهو المرارة يحلو طعمها بفمى!
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه:
أتقتلنى ظلما وتجحدنى قتلى، ... وقد قام من عينيك لى شاهدا عدل!
أطلّاب ذحلى، ليس لى غير شادن ... بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحلى!
أغار على قلبى، فلما أتيته ... أطالبه فيه، أغار على عقلى!
بنفسى التى ضنّت بردّ سلامها! ... ولو سألت قتلى، وهبت لها قتلى!(2/233)
إذا جئتها صدّت حياء بوجهها، ... فتهجرنى هجرا ألذّ من الوصل.
وإن حكمت جارت علىّ بحكمها؛ ... ولكنّ ذاك الجور أشهى من العدل.
كتمت الهوى جهدى، فجوّده الأسى ... بماء البكا، هذا يخطّ وذا يملى!
وأحببت فيها العذل حبّا لذكرها، ... فلا شىء أحلى في فؤادى من العذل!
أقول لقلبى كلّما ضامه الأسى: ... إذا ما أبيت العزّ، فاصبر على الذّلّ!
برأيك لا رأيى تعرّضت للهوى، ... وأمرك لا أمرى وفعلك لا فعلى.
وجدت الهوى نصلا من الموت مغمدا ... فجرّدته ثم اتكأت على النصل!
فإن كنت مقتولا على غير ريبة ... فأنت الذى عرّضت نفسك للقتل!
وهذه الأبيات معارضة لصريع الغوانى في قوله:
أديرا علىّ الكأس، لا تشربا قبلى ... ولا تطلبا من عند قاتلتى ذحلى!
فما حزنى أنّى أموت صبابة؛ ... ولكن على من لا يحلّ لها قتلى!
فديت التى صدّت وقالت لتربها: ... دعوه، الثّريّا منه أقرب من وصلى!
وقال ابن عبد ربه:
صحا القلب، إلا خطرة تبعث الأسى ... لها زفرة موصولة بحنين.
بلى، ربّما حلت عرى عزماته ... سوالف آرام وأعين عين.
لواحظ حبّات القلوب إذا رنت ... بسحر عيون وانكسار جفون.
وريط من الموشىّ أينع تحته ... ثمار صدور، لا ثمار غصون.
برود كأنوار الربيع لبسنها ... ثياب تصاب لا ثياب مجون.
فرين أديم الليل عن نور أوجه ... تجنّ بها الألباب كلّ جنون.
وجوه جرى فيها النعيم فكلّلت ... بورد خدود يجتنى بعيون.(2/234)
سألبس للأيّام درعا من العزا، ... وإن لم يكن عند اللّقا بحصين.
وكيف، ولى قلب إذا هبّت الصّبا ... أهاب بشوق في الضّلوع دفين؟
وقال آخر:
هزّوا القدود وجرّدوا الأجفانا! ... فاطلب لنفسك، إن قدرت أمانا.
والق السّلاح إذا انثنوا وإذا رنوا؛ ... وكن الجبان وإن ملكت جنانا.
واحذر ضراما بالعيون، وسل به ... مثلى، وجانب بالقدود طعانا.
فلقد رأيت الأسد وهى كواسر ... تخشى بمعترك الهوى الغزلانا.
لا تعبثنّ بذابل وبباتر! ... وخف المهفهف واحذر الوسنانا!
لولا تشابه مقلة أو قامة، ... ما خفت يوما صعدة وسنانا.
وأنا الّذى حضر الوقائع في الهوى ... وأقام في أسر الغرام زمانا.
ولكم رأيت به الشّدائد مرّة! ... ولكم رأيت به الممات عيانا!
وثبتّ بين معاطف ولواحظ ... فى موقف يذر الشّجاع جبانا!
مستسلما للعشق: لا مستصرخا ... صبرا، ولا مستنجدا سلوانا.
أرجو الشهادة إن قتلت به، وما ... ولّيت فيه ولا ثنيت عنانا.
يا ويح قلب ما خلا من شغله ... بصبابة ومحبّة مذكانا!
لو فتّشوه لما لقوا لسوى الهوى ... فيه ولا غير الغرام مكانا.
وقال التلعفرىّ:
هذا العذول عليكم، مالى وله؟ ... أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الوله!
شرط المحبة أنّ كلّ متيّم ... صبّ يطيع هواه، يعصى عذّله.
وأخذتمونى حين سار بحبّكم ... مثلى، ومثلى سرّه لن يبذله!(2/235)
ما أعربت والله عن وجدى بكم ... وصبابتى إلّا دموعى المهمله.
جزتم مداكم في قطيعتكم، فلا ... عطف لعائدكم يرام، ولا صله.
أألومكم في هجركم وصدودكم، ... ما هذه في الحبّ منكم أوّله!
قسما بكم، قد حرت مما أشتكى! ... حسبى الدّجى، فعدمته ما أطوله!
ليلى كيوم الحشر معنى إن يكن ... لا ليل ذاك له، فذا لا صبح له.
يا سائلى من بعدهم عن حالتى! ... ترك الجواب جواب هذى المسأله!
حالى إذا حدّثت لا لمعا ولا ... جملا لإيضاحى لها من تكمله [1] .
عندى جوى يذر الفصيح مبلّدا: ... فاترك مفصّله! ودونك مجمله [2] !
القلب ليس من الصّحاح فيرتجى ... إصلاحه، والعين سحب مثقله [3] .
يا نازحين، وفي أكلّة عيسهم ... رشأ عليه حشا المحبّ مقلقله!
قمر له في الطّرف بل في القلب بل ... فى النّثرة الحصداء أشرف منزله [4] .
الصّدغ منه عقرب، ولحاظه ... أسد، وخلف الظّهر منه سنبله [5] .
ما أجور الألحاظ منه إذا رنا! ... وإذا انثنى، فقوامه ما أعدله!
لو لم يصب صدغيه عارض خدّه، ... ما أصبحت في عارضيه مسلسله.
لله منه مهفهف أجنيته ... عسل الهوى فجنيت منه حنظله!
لو كنت فيه قبلت نصح عواذلى، ... ما أدبرت أيام حظّى المقبله!
__________
[1] إشارة إلى الكتب الشهيرة: اللمع، الجمل، الإيضاح، التكملة. وكلها في علم العربية.
[2] يشير إلى «الفصيح» لثعلب، و «المفصل» للزمخشرىّ، و «المجمل» لابن فارس. وكلها كتب في اللغة.
[3] الاشارة إلى «للصحاح» للجوهرى، و «العين» للخليل بن أحمد. وهما من كتب اللغة.
[4] يشير إلى بعض منازل القمر، وهى: الطرفة، والقلب، والنثرة.
[5] يشير إلى بعض البروج، وهى: العقرب، والأسد، والسنبلة.(2/236)
وقال الطغرائىّ:
رويدكم! لا تسبقوا بقطيعتى ... صروف الليالى، إنّ في الدّهر كافيا.
ويا قلب، عاود ما ألفت من الجوى! ... معاذ الهوى أن تصبح اليوم ساليا!
ويا كبدى، ذوبى! ويا مقلتى، اسهرى! ... ويا نفس لا تبقى من الوجد باقيا!
فلا تطمعوا في برء مابى، فإنّه ... هو الداء قد أعيا الطبيب المداويا!
ومما قيل في طيف الخيال
، قال قيس بن الخطيم:
إنى شربت، وكنت غير شروب! ... وتقرّب الأحلام غير قريب.
ما تمنعى يقظى، فقد تؤتينه ... فى النوم غير مكدّر محسوب.
كان المنى تلقاءها، فلقيتها ... ولهوت من لهو امرئ مكذوب!
وقال عمرو بن قميئة:
نأتك أمامة، إلا سؤالا ... وإلّا خيالا يوافى خيالا.
خيالا يخيّل لى نيلها، ... ولو قدرت لم يخيّل نوالا!
قال أبو هلال العسكرى: ومن هاتين القطعتين أخذ المحدثون أكثر معانيهم فى الخيال.
وقال البعيث:
أزارتك ليلى، والرّكاب خواضع؟ ... وقد بهر الليل النجوم الطّوالع!
وأعطتك غايات المنى غير أنّها ... كواذب ان حصّلتها وخوادع.(2/237)
وقال أبو تمام:
استزارته فكرتى في المنام، ... فأتاها في خفية واكتتام.
يا لها ليلة تزاورت الأر ... واح فيها سرّا عن الأجسام!
مجلس لم يكن لنا فيه عيب ... غير أنّا في دعوة الأحلام!
وقال الحمدونىّ:
لم أنله، فنلته بالأمانى ... فى منامى سرّا من الهجران!
واصل الحلم بيننا بعد هجر، ... فاجتمعنا ونحن مفترقان.
وكأنّ الأرواح خافت رقيبا، ... فطوت سرّها عن الأبدان.
منظر كان نزهة العين إلّا ... أنه منظر بغير عيان.
وقال ابن الرومىّ:
طرقتنا، فأنالت نائلا ... شكره- لو كان في النّبه- الجحود.
ثم قالت، وأحسّت عجبى ... من سراها حيث لا تسرى الأسود.
لا تعجّب من سرانا، فالسّرى ... عادة الأقمار والناس هجود.
أخذ العسكرىّ المعنى، فقال:
رقبت غفلة الرّقيب، فزارت ... تحت ليل مطرّز بنهار.
فتعجّبت من سراها، فقالت: ... غير مستطرف سرى الأقمار!
ثم مالت بكأسها فسقتنى ... جلّناريّة على جلّ نارى!
وقال آخر:
فيا ليت طيفا، خيّلته لى المنى، ... وإن زادنى شوقا إليك، يعود!
أكلّف نفسى عنك صبرا وسلوة، ... وتكليف ما لا يستطاع شديد!(2/238)
وقال العسكرىّ:
طرق الخيال، فزار منه خيالا. ... فسرى يغازل في الرّقاد غزالا.
يا كشفة للكرب، إلّا أنّه ... ولّى على دبر الظّلام فزالا.
قعد المتيّم، وهو أكثر صبوة ... وأشدّ بلبالا وأكسف بالا!
وقال العماد الأصفهانىّ:
ظبى طربت لطيفه المتأوّب ... طرب العليل لرؤية المتطبّب.
لم أدر زورته، أكانت خطفة ... من بارق أم لمعة من كوكب.
زار الكرى متهيّبا رقباءه، ... أهلا به من زائر متهيّب!
لمّا رأى وجدى، تأوّه رحمة. ... لله من متأوّه متأوّب!
وأتى ليقرب من وساد متيّم؛ ... لمّا أحسّ بناره، لم يقرب.
وقال محمد بن بختيار:
لو أنّ طيف الخيال يسرى، ... بلّ سراه غليل صدرى.
ولو أراد الحبيب أن لا ... يضيمنى، ما استطاب هجرى.
يلومنى في هواه من لا ... يعلم أنّ الملام يغرى.
كم ليلة زار في دجاها، ... فكان تحت الظلام بدرى.
يتحفنى باحمرار خدّ ... مورّد وابيضاض ثغر.
يجمع لى بين سكر لحظ ... وسكر ريق وسكر خمر،
ودرّ لفظ ودرّ ثغر ... ودرّ كأس ودرّ نحر.(2/239)
وقال آخر:
قلت للمعرض الّذى صدّ عنّى: ... إنّ طيف الخيال لى عنك يغنى.
قال: لا تحمد الخيال فما زا ... رك إلّا عن اختيارى وإذنى.
كدت تقضى أسى، فقلت لطيفى: ... أحى لى روحه بزور التّمنّى!
ليس شحّا بأن تموت؛ ولكن ... خفت أن تستريح بالموت منّى!
وقال آخر:
فإن يحجبوها بالنهار، فما لهم ... بأن يحجبوا بالليل عنّى خيالها!
وقال المجنون:
وإنّى لأستغشى، وما بى نعسة؛ ... لعلّ لقاها في المنام يكون!
تخبّرنى الأحلام أنّى أراكم، ... ألا ليت أحلام المنام يقين!
وقال المؤمل:
أتانى الكرى ليلا بشخص أحبّه؛ ... أضاءت له الآفاق، والليل مظلم.
فكلّمنى في النّوم غير مغاضب، ... وعهدى به يقظان لا يتكلّم!
وذكر العباس بن الأحنف العلة في طروق الخيال، فقال:
خيالك حين أرقد نصب عينى ... إلى وقت انتباهى لا يزول.
وليس يزورنى صلة، ولكن ... حديث النفس عنك به الوصول.
وتبعه الطائىّ فقال:
زار الخيال لها، لا بل أزاركه ... فكر، إذا نام فكر الحلو لم ينم.
ظبى تقنّصته لمّا نصبت له ... فى آخر الليل أشراكا من الحلم.(2/240)
ومما قيل في الردّ على العذول، قال أبو نواس:
ما حطّك الواشون من رتبة ... عندى، ولا ضرّك مغتاب.
كأنّما أثنوا- ولم يشعروا- ... عليك عندى بالذى عابوا.
وقال تاج الملوك:
مه يا عذول عن المحبّ، فإنّما ... عذل المحبّ يزيد في بلباله!
لا تعذلنّ على الصّبابة مغرما ... حتّى تبيت من الزّمان بحاله!
وقال أيضا من قصيدة:
ولقد قلت للذى لا منى في ... ك، وما زال حاله مثل حالى:
يا عذولى في حبّه، كفّ عذلى. ... أنا ما للعذول فيه وما لى!
كلما زدت في ملامى وعذلى، ... زدت في لوعتي وفي بلبالى!
وقال الأرّجانى:
وجدى بلومك، يا عذول يزيد! ... فاستبق سهمك، فالرمىّ بعيد!
بلغ الهوى من سرّ قلبى موقعا: ... لا العذل يبلغه ولا التفنيد!
وتنمّ بالشّجو المكتّم عبرتى، ... ومن الدّموع على الغرام شهود!
وقال سيف الدين المشدّ:
يا عاذلى، خلّ عنّى! ... أسمعت غير سميع!
لا ترج منّى سلوّا! ... فما فؤادى مطيعى!
وكيف أكتم ما بى ... من لوعة وولوع،
والذّاريات جفونى، ... والمرسلات دموعى [1] !
__________
[1] إشارة إلى اسم السورتين الكريمتين: الذاريات والمرسلات.(2/241)
وقال ابن الخيمى:
وتأمرنى العذّال بالصبر عنكم، ... ومن ذا الذى يرضى عن الحلو بالصّبر؟
ومن أعجب الأشياء أنّ عواذلى ... يطيلون لومى في الهوى، والهوى عذرى!
ومما قيل في رجوع العذول، قال ابن وكيع:
أقبل والعذّال يلحوننى، ... فكلّهم قال: من البدر؟
فقلت: ذا من طال في حبّه ... منكم لى التعنيف والزّجر!
قالوا: جهلنا، فاغتفر جهلنا ... فليس عن ذا لامرئ صبر!
عذرك في الحبّ له واضح، ... وما لنا في لومنا عذر!
وقال أيضا:
أبصره عاذلى عليه، ... ولم يكن قبل ذا رآه.
فقال لى: لو عشقت هذا، ... ما لامك الناس في هواه!
قل لى: إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواه؟
وظلّ من حيث ليس يدرى، ... يأمر بالحبّ من نهاه!
ومما قيل في الوصال، قال ابن الرومىّ:
ولقد يؤلّفنا اللّقاء بليلة ... جعلت لنا حتّى الصباح نظاما.
نجزى العيون جزاءهنّ عن البكا ... وعن السّهاد ولا نصيب أثاما.
فنبيحهنّ مرادهنّ، يردنه ... فيما ادّعين، ملاحة ووساما.(2/242)
ونكافئ الآذان، وهى حقيقة ... إذ لا تزال تكابد اللّوّاما.
فنثيبهنّ من الحديث مثوبة ... تشفى الغليل وتكشف الأسقاما.
ونكافئ الأفواه عن كتمانها، ... إذ لا يزال لها الصّمات لجاما.
فنبيحهنّ ملاثما ومراشفا، ... ما ضرّها أن لا تكون مداما!
نجزى الثلاثة أنصباء ثلاثة ... مقسومة آناؤها أقساما.
ومما قيل في الفراق والبين، قال بعض الكتّاب: فى الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأوبة، والسلامة من الملال، وعمارة القلب بالشوق، والدلالة على فضل المواصلة واللقاء.
قال شاعر:
جزى الله يوم البين خيرا، فإنّه ... أزانا على علّاته أمّ ثابت!
وقال ابن الرومىّ:
فإذا كان في الفراق اعتناق، ... جعل الله كلّ يوم فراقا!
وقال أبو حفص الشطرنجىّ:
من يكن يكره الفراق، فإنّى ... أشتهيه لموضع التّسليم!
إنّ فيه اعتناقة لفراق ... وانتظار اعتناقة لقدوم.
وقال سيف الدولة بن حمدان:
راقبتنى العيون فيك، فأشفق ... ت؛ ولم أخل قطّ من إشفاق.
ورأيت العدوّ يحسدنى في ... ك مجدّا بأنفس الأعلاق.(2/243)
فتمنّيت أن تكون بعيدا، ... والذى بيننا من الودّ باق!
ربّ هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون خوف فراق!
وأرى هذا كلّه على سبيل التعلل ليس إلا، وإنما الفراق لا شكّ في إيلامه للقلوب.
قال بعض الشعراء:
فلم لا تسبل العبرات منّى، ... ولست على اليقين من التّلاقى؟
فلا وأبيك، ما أبصرت شيئا ... أمرّ على النّفوس من الفراق!
وقال آخر:
يا ربّ، باعد بين جفنى والكرى ... مادام من أهواه في هجرانى!
إنّى لأخشى أن أنام فألتقى ... بخياله، خوف الفراق الثانى!
وقال آخر:
فارقته وبودّى لو تفارقنى ... روح الحياة، وأنّى لا أفارقه!
وقال أبو تمام:
الموت عندى والفرا ... ق: كلاهما ما لا يطاق!
يتعاونان على النفو ... س: فذا الحمام وذا السّياق!
لو لم يكن هذا كذا، ... ما قيل: موت أو فراق!
وقال غريب بن سعيد شاعر «اليتيمة» :
ألان يوم الفراق قسوته ... حتّى جرى دمعه وما شعرا.
فخلت ما سال من مدامعه ... درّا على وجنتيه منتثرا.
لم يبك شوقا، لكن بكى جزعا ... لهول يوم الفراق إذ حضرا.(2/244)
فى مشهد لو أطاق شاهده ... فيه استتارا لوجهه، سترا.
أبى أساه وفيض أدمعه ... إلا اشتهارا في الحبّ، فاشتهرا.
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه:
هيّج البين دواعى سقمى، ... وكسا جسمى ثوب الألم!
أيّها البين، أقلنى مرّة ... فإذا عدت، فقد حلّ دمى.
يا خلىّ الرّوع، نم في غبطة! ... إنّ من فارقته لم ينم.
ولقد هاج لقلبى سقما ... ذكر من لو شاء، داوى سقمى.
وقال آخر:
بكت وبكيت لوشك الفراق؛ ... فقف، تر من مد معينا العجب!
فذا فضّة في عقيق جرى، ... وهذا عقيق جرى في ذهب!
وقال آخر:
قلت له والرّقيب يزعجه ... مستعجلا للفراق: أين أنا؟
فمدّ كفّا إلى ترائبه ... وقال: كن آمنا، فأنت هنا!
وقال آخر:
قد قلت إذ سار السّفين به، ... والشّوق ينهب مهجتى نهبا:
لو كان لى ملك أصول به، ... «لأخذت كلّ سفينة غصبا»
وقال كشاجم:
مزجت دموع العين م ... نّى يوم بانوا بالدّما.
فكأنّما مزجت بخدّ ... ى مقلتى خمرا بما!(2/245)
وقال آخر:
لم أنس يوم الفراق موقفها، ... وطرفها في دموعها غرق.
وقولها، والرّكاب سائرة: ... تتركنا هكذا، وتنطلق؟
ومنه ما قيل في مفارقة الأصحاب:
لمّا رأيت مصاحبى ومعاشرى ... لجديد ودّى بالقطيعة مزّقا،
فارقته وسللت من يده يدى، ... وقرأت لى وله: «وإن يتفرّقا» .
وقال آخر:
قالوا: قطعت صديقك البرّ الذى ... منه استفدت مكارم الأخلاق.
فأجبتهم: بعض المفاصل ربّما ... فسدت، فتقطع في صلاح الباقى!
وقال آخر:
ولقد شكرت مفارقى ... إذ ساء في أخلاقه.
لو كان أحسن عشرتى، ... لهلكت يوم فراقه.
ومثله قول الآخر:
علّمتنى بهجرها الصّبر عنها، ... فهى مشكورة على التّقبيح!
وأرادت بذا قبيح فعال ... صنعته، فكان عين المليح!
ومما قيل في التوديع، قال البحترىّ:
أقول له عند توديعه، ... وكلّ بعبرته مبلس:
لئن قعدت عنك أجسامنا، ... لقد سافرت معك الأنفس!(2/246)
وقال أبو الطيب المتنبى:
يا راحلا، كلّ من يودّعه ... مودّع دينه ودنياه.
إن كان فيما نراه من كرم ... فيك مزيد، فزادك الله!
وقال البحترىّ:
ألم ترنى يوم فارقته ... اودّعه، والهوى يستزيد
أولّى إذا أنا ودّعته، ... فيغلبنى الشوق حتّى أعود.
وقال أبو تمام:
نأى وشيك وانطلاق، ... وغليل شوق واحتراق.
بأبى فتى ودّعته ... تاهت بصحبته الرّفاق!
بدر يضىء لعاشقي ... هـ فما يطيف به المحاق!
وقال ابن زيدون:
ودّع الصبر محبّ ودّعك، ... حافظ من سرّه ما استودعك!
يقرع السّنّ على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا، إذ شيّعك!
يا أخا البدر سناء وسنا، ... حفظ الله زمانا أطلعك!
إن يطل بعدك ليلى، فلكم ... بتّ أشكو قصر الليل معك!
وقال أبو عبد الرحمن شاعر «اليتيمة» :
إذا دهاك الوداع فاصبر ... ولا يهولنّك البعاد!
وانتظر العود عن قريب، ... فانّ قلب الوداع عادوا.(2/247)
وقال آخر:
ودّعته حيث لا تودّعه ... روحى، ولكنّها تسير معه
ثم تولّى وفي القلوب له ... ضيق مجال وفي الدموع سعه
وقال الإمام الصولى:
لو كنت يوم الوداع حاضرنا ... وهنّ يشكون علّة الوجد،
لم تر إلا الدّموع جارية ... تسقط من مقلة على خدّ.
كأنّ تلك الدّموع قطر ندى، ... يقطر من نرجس على ورد!
وقال أبو منصور أحمد بن محمد اللخمىّ:
وقفت يوم النوى منهم على بعد ... ولم أودّعهم وجدا وإشفاقا.
إنّى خشيت على الأظعان من نفسى ... ومن دموعى: إحراقا وإغراقا.
وقال ابن نباتة:
ولمّا استقلّت للّرواح حمولهم ... ولم يبق إلا شامت وغيور،
وقفنا: فمن باك يكفكف دمعه، ... وملتزم قلبا يكاد يطير!
وقال آخر:
ولمّا وقفنا للوداع، وقلبها ... وقلبى يبثّان الصّبابة والوجدا،
بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعى ... عقيقا فصار الكلّ في نحرها عقدا.
وقال آخر:
ودّعتها ولهيب الشّوق في كبدى ... والبين يبعد بين الرّوح والجسد،
وداع صبّين لم يمكن وداعهما ... إلا بلحظة عين أو بنان يد.(2/248)
وحاذرت أعين الواشين فانصرفت ... تعضّ من خوفها العنّاب بالبرد.
وكان أوّل عهد العين يوم نأت ... بالدّمع آخر عهد القلب بالجلد.
وقال الهيثم الكلاعىّ، من شعراء «اليتيمة» :
ولم أنسها يوم الوداع، ومسحها ... بوادر دمع العين. والعين تذرف.
أفانين تجرى من دموع ومن دم ... على الخدّ منها تستهلّ وترعف.
وتكرارنا نجوى الهوى ذات بيننا، ... وكلّ إلى كلّ يلين ويعطف.
جعلنا هناك الهجر منّا بجانب، ... وللبين داع بالتّرحّل يهتف.
ولولا النوى، لم نشك ضعفا عن الأسى! ... ومن يحمل الأشجان بالبين يضعف!
فقلت: كلانا مثقل من صبابة؛ ... ولكنّنى عن حملها منك أضعف.
وقال الظاهر البصرىّ:
نفسى الفداء لمن جاءت تودّعنى ... يوم الفراق بقلب خائف وجل!
قد كنت فارقت روحى يوم فرقتها؛ ... لكن حييت بطيب الضّمّ والقبل!
وقال يزيد بن معاوية:
جاءت بوجه كأنّ البدر برقعه ... حسنا على مثل غصن البانة الثّمل.
إحدى يديها تعاطينى معتّقة ... كخدّها عصفرته حمرة الخجل.
ثمّ استبدّت وقالت وهى عالمة، ... بما تقول وشمس الكأس لم تفل:
لا ترحلنّ، فما أبقيت لى جلدا ... مما أطيق به توديع مرتحل!
ولا من الصبر ما ألقى الفراق به ... ولا من الدّمع ما أبكى على طلل!
ومن الناس من كره الوداع. وفي ذلك يقول البحترىّ:
الله جارك في انطلاقك ... تلقاء شامك أو عراقك!(2/249)
لا تعذلنّى في مسي ... رى يوم سرت ولم ألاقك!
إنّى خشيت مواقفا ... للبين تسفح غرب ماقك!
وعلمت أنّ بكاءنا ... حسب اشتياقى واشتياقك!
وذكرت ما يجد المودّ ... ع عند ضمّك واعتناقك،
فتركت ذاك تعمّدا ... وخرجت أهرب من فراقك!
وقال آخر:
الله يعلم ما تركت وداعه، ... ولقد جزعت لبعده وفراقه،
إلا مخافة أن يذيب فؤاده ... ما في فؤادى منه عند عناقه!
وقال آخر:
إنّ تركى فضيلة التشييع ... لاجتنابى مشقّة التّوديع.
ما يفى أنس ذا بوحشة هذا، ... فرأيت الصّواب ترك الجميع!
وقال آخر:
ما تركت الوداع يوم افترقنا ... عن ملال ولا لوجه قبيح.
أنت روحى على الحقيقة ما زل ... ت، وما اخترت أن أودّع روحى!
ومما قيل في الصدّ والهجران، قال أبو عبادة البحترىّ:
هجر الحبيب، فمتّ من شغف ... لمّا حرمت عزيمة الصّبر!
فإذا قضيت، فناد: يا حزنى، ... هذا قتيل الصّدّ والهجر!
والبدر في حلّ وفي سعة ... من سفكه دم عبده الحرّ!(2/250)
وقال ابن ميّادة:
كانوا بعيدا، فكنت آملهم ... حتّى إذا ما تقاربوا، هجروا.
فالبعد منهم على رجائهم ... أنفع من قربهم إذا هجروا!
وقال أبو الحسن أحمد بن عمر النهروانىّ:
على قلبى الاحبّة بالت ... مادى في الهوى غلبوا.
وبالهجران من عين ... ىّ طيب النوم قد سلبوا.
وما طلبوا سوى قتلى، ... فهان علىّ ما طلبوا!
ولما سمع الشيخ العالم صدر الدين محمد بن الوكيل هذه الأبيات، عارضها، وأنشدنى لنفسه في صفر الأغر الميمون سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.
لئن غلبوا على عقلى، ... لقد سلبوا لمن غلبوا!
وإن أبكى تبسّمهم، ... فخلّب برقهم خلبوا!
وإن ترج العيون، فقد ... إليها السّهد قد جلبوا!
وإن عطفوا برقّتهم، ... فدرّ مدامعى حلبوا.
ومما قيل في الزيارة، قال الوزير ابو عبد الله بن الحدّاد:
إذا جاءنى زائرا حسنه ... أقام عليه رقيبا عتيدا.
إذا ما بدا، سربلته العيون ... وخرّت وجوه إليه سجودا.
هو البدر والغصن: خدّا وقدّا، ... كما أنه الظّبى: لحظا وجيدا.
أتى زائرا وفؤادى خلىّ، ... فمرّ به مستهاما عميدا.
وغادرنى بعده في غرام ... تضرّم بين ضلوعى وقودا!(2/251)
وقال نصير الخبز أرزّى، شاعر «اليتيمة» عفا الله عنه:
خليلىّ! هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشّى إلى عبد!
أتى زائرا من غير وعد وقال لى: ... أصونك عن تعليق قلبك بالوعد!
وقال الوأواء الدمشقى:
زار بليل على صباح ... على قضيب على كثيب!
حتّى أتت ألسن الليالى ... معتذرات من الذّنوب.
فيالها زورة أخذنا ... بها أمانا من الخطوب!
وقال أبو عبد الله الحدّاد:
يا زائرا، ملأ النّواظر نورا ... والنّفس لهوا والفؤاد سرورا!
لو أستطيع، فرشت كلّ مسالكى ... حدقا وبيض سوالف ونحورا.
وقال آخر:
أهلا وسهلا بطارق طرقا، ... أحببت فيه السهاد والارقا!
زار على غفلة الرقيب ويم ... ناه تدارى وشاحه القلقا.
فبتّ منه معانقا صنما ... ينفح مسكا وعنبرا عبقا.
لو شئت، أنشأت من ذوائبه ... ليلا، ومن نور وجهه فلقا!
وقال أبو عبد الله الحامدىّ من شعراء «اليتيمة» :
مشتاقة طرقت في الليل مشتاقا! ... أهلا بمن لم يخن في العهد ميثاقا!
أهلا بمن ساق لى طيف الأحبّة في ... ليل الدّجنّة، بل أهلا بما ساقا!
يا زائرا زار من قرب على بعد، ... آنست مستوحشا! لا ذقت ماذاقا!(2/252)
الله يعلم لو أنى استطعت، لقد ... فرشت ممشاك آماقا وأحداقا!
يا ليل، عرّج على إلفين قد جعلا ... عقد السواعد للأعناق أطواقا!
وقال مؤيد الدين الطغرائىّ:
وزائرة وافت، فأجللت خدّها ... وقبّلت إكراما لموردها الأرضا!
فيازورة جاءت على غير موعد، ... فقرّت عيون واشتفت أنفس مرضى!
فلم أر إلّا ما ألذّ وأشتهى، ... ولم أر إلّا ما أودّ وما أرضى!
على أنّها ولّت ولم أقض سنّة ... - من الوطر الممطول دهرا- ولا فرضا!
وما سوّغتنا ليلة الوصل قرضها ... إلى أن بدا الإصباح يسترجع القرضا.
وقال ابن سكّرة، من شعراء «اليتيمة» :
أهلا وسهلا بمن زارت بلا عدة ... تحت الظلام ولم تحذر من الحرس!
تستّرت بالدّجى عمدا، فما استترت ... وبات إشراقها ليلا على قبس!
ولو طواها الدّجى عنّا، لأظهرها ... برق اللّثات وعطر النّحر والنّفس!
ومما قيل في تخفيف الزيارة وموانعها، قال شاعر الحماسة:
ولمّا رأيت الكاشحين تتّبعوا ... هوانا وأبدوا دوننا نظرا شزرا،
جعلت- وما بى من جفاء ولا قلى- ... أزوركم يوما وأهجركم شهرا!
وقال مسلم بن الوليد:
أقلل زيارتك الصّدي ... ق، يراك كالثّوب استجدّه!
إنّ الصّديق يملّه ... أن لا يزال يراك عنده.
إلّا الكرام ذوى النّهى، ... إنّ الكريم يديم عهده!(2/253)
وقال آخر:
إذا ما كثرت على صاحب ... وقد كان يدنيك من نفسه،
فلا بدّ من ملل واقع، ... يغيّر ما كان من أنسه!
وقال آخر:
لئن تأخّرت عن مفروض خدمتكم ... تجشّما، فضميرى غير متّهم!
سعى ودادى إليكم بالوفاء لكم، ... والسّعى بالقلب فوق السعى بالقدم!
وقال ابن المعلم:
لم أطو بحر نداك- مع قربى- قلى ... إلا مخافة موجه المتراكب.
وعلمت أنّى إن أتيتك زائرا، ... ثقّلت، والتثقيل ليس بواجب.
وقال المعوّج:
ثلاثة منعتها من زيارتنا، ... وقد طوى الليل جفن الكاشح الحنق:
نور الجبين، ووسواس الحلىّ، وما ... يمسّ أردانها من عنبر عبق.
هب الجبين بفضل الثوب تستره، ... والحلى تنزعه، ما الشأن في العرق؟
وقال أبو فراس الحمدانىّ:
لقد نافسنى الدّهر ... بتأخيرى عن الحضره.
فما ألقى من العل ... ة ما ألقى من الحسرة!
ومنها التأخر عن عيادة المرضى، قال ابن زريق الكوفىّ الكاتب:
يا مريضا لسقمه، ... مرض العلم والوفا!
لم يكن تركى العيا ... دة هجرا ولا جفا.(2/254)
لم أطق أن أراك يا ... أكرم الناس مدنفا!
طال خوفى عليك، وال ... حمد لله إذ كفى!
وقال آخر:
منعتنى عليك رقّة قلبى ... من دخولى عليك في العوّاد.
لو بأذنى سمعت منك أنينا، ... لتفرّى على الأنين فؤادى.
وقال آخر:
فو الله! ليس انقطاعى جفا ... وفي كبدى منك نار تشبّ!
ولكنّنى قطّ لا أشتهى ... أرى من أحبّ كما لا أحبّ!
ومما قيل في المدامع، قال العسكرىّ: أبلغ ما قيل في امتلاء العين من الدمع قول بعض الأعراب:
فظلت كأنّى من وراء زجاجة ... إلى الدّار من فرط الصّبابة أنظر.
وقال البحترىّ:
ويحسن دلّها والموت فيه، ... وقد يستحسن السيف الصّقيل!
وقفنا والعيون مثقّلات ... يعالج دمعها طرف كليل!
نهته رقبة الواشين حتّى ... تعلّق: لا يغيض ولا يسيل!
وقال السرىّ:
بنفسى من ردّ التحية ضاحكا، ... فجدّد بعد اليأس في الوصل مطمعى!
إذا ما بدا، أبدى الغرام سرائرى ... وأظهر للعذّال ما بين أضلعى.
وحالت دموع العين بينى وبينه، ... كأنّ دموع العين تعشقه معى.(2/255)
وقال الصولىّ:
قد كان في طول البكالى راحة، ... وعنان سرّى في يد الكتمان.
حتّى إذا الإعلان نبّه واشيا، ... رقأت دموعى خشية الإعلان!
وقال بشّار:
ماء الصّبابة، نار الشّوق تحدره ... فهل سمعتم بماء فاض من نار؟
وقال أبو هلال العسكرىّ:
أشكو الهوى بدموع قادها قلق ... حتّى علقن بجفن ردّها الفرق.
ففى الفؤاد سبيل للأسى جدد، ... وفي الجفون مقيل للكرى قلق.
لهيب قلبى أفاض الدّمع من بصرى، ... والعود يقطر ماء وهو يحترق!
وقال الصولىّ: أنشد أبو الحسن بن رجاء المبرّد يوما بيت ذى الرّمّة:
«لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفى شجىّ البلابل!»
وقال: من قال في مثله، فقد ملح.
وقال الحسن بن وهب:
ابك! فما أكثر نفع البكا! ... والحبّ إشفاق وتعليل!
افزع إليه في ازدحام الجوى ... ففيه مسلاة وتسهيل.
وهو إذا انت تأمّلته ... حزن على الخدّين محلول!
وقال العباس بن أحمد بن الأحنف:
إنّى لأجحد حبّكم وأسرّه ... والدمع معترف به لم يجحد.
والدمع يشهد أنّنى لك عاشق ... والناس قد علموا وإن لم يشهد!(2/256)
وقال آخر:
فلا تنكرن لون الدّموع فإنّما ... يبيّضها تصعيدها من دم القلب!
وقال العسكرىّ:
آفة السّر من دمو ... ع دوام دوامع!
كيف يخفى مع الدّمو ... ع الهوامى الهوامع؟
ما رأينا أخا هوى ... سرّه غير ذائع!
إنّ نيران حبّه ... باديات الطلائع!
وقال خالد الكاتب:
بكيت دما حتّى بقيت بلا دم، ... بكاء فتى فرد على شجن فرد!
أأبكى الذى فارقت بالدّمع وحده؟ ... لقد جلّ قدر الدمع فيه إذا عندى!
وقال آخر:
غدت بأحبّتى كوم المطايا، ... فبان النوم وامتنع القرار.
وكان الدّمع لى ذخرا معدّا، ... فأنفقت الذخيرة يوم ساروا!
وقال آخر:
طال عهدى بها فلمّا رأتنى، ... نظمت لؤلؤا على تفّاح!
وقال آخر:
إذ لا جواب لمفحم متحيّر ... إلا الدموع تصان بالأطراف.
وقال آخر:
تقول غداة البين عند وداعها: ... إلى الكبد الحرّى: فسر، ولك الصّبر!
وقد سبقتها عبرة: فدموعها ... على خدّها بيض، وفي نحرها حمر!
معناه: أن الدّموع إذا انحدرت إلى نحرها احمرّت من الطّيب.(2/257)
قالوا: وأحسن ما قيل في صفة الدّموع إذا امتزجت بالدماء، قول أبى الشّيص:
لهون عن الإخوان إذ سفر الضّحى ... وفي كبدى من حرّهنّ حريق.
مزجت دما بالدّمع حتّى كأنما ... يذاب بعينى لؤلؤ وعقيق.
وقول أبى تمام:
نثرت فريد مدامع لم تنظم، ... والدمع يحمل بعض ثقل المغرم!
وصلت نجيعا بالدّموع، فخدها ... فى مثل حاشية الرّداء المعلم!
ومن أجود ما قيل في بياض الدمع على حمرة الخدّ قول الصولىّ:
كأنّ تلك الدّموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد!
وهى أبيات تقدّمت في التوديع.
ونحوه قول ابن الرومىّ:
لمّا دنا البين وزاح الدّلّ، ... ودّعتها ودمعها منهلّ.
وخدّها من قطره مخضلّ ... كأنه ورد عليه طلّ!
وقال آخر:
كأنّ الدّموع على خدّها ... بقيّة طلّ على جلّنار.
ومما قيل في الرضا من المحبوب باليسير، فمن ذلك قول حميد بن ثور:
أقلّب طرفى في السماء لعلّه ... يوافق طرفى طرفها حين تنظر!
ومثله قول ابن المعلوط:
أليس اللّيل يجمع أمّ عمرو ... وإيّانا؟ فذاك لنا تدانى!
بلى، وأرى السماء كما تراها، ... ويعلوها النهار كما علانى!(2/258)
وقال جميل:
وإنى لأرضى منك، يابثن، بالّذى ... لو استيقن الواشى لقرّت بلابله!
بلا، وبأن لا أستطيع، وبالمنى ... وبالأمل المكذوب قد خاب آمله!
وبالنّظرة العجلى، وبالحول ينقضى، ... أواخره لا نلتقى وأوائله!
وقريب منه قول الآخر:
يودّ بأن يمسى سقيما لعلّها ... إذا سمعت منه بشكوى تراسله!
ويهتزّ للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يوما عند سلمى شمائله!
أخذ العسكرىّ المعنى فقال:
وقلت: عساها إن مرضت تعودنى ... فأحببت لو أنّى غدوت مريضا!
وزدت اتّساعا في المكارم والعلا ... ليصبح جاهى عندهنّ عريضا!
وقال أبو الفضل بن عبد العزيز:
يا من هجرت فلا تبالى! ... هل ترجع دولة الوصال؟
هل أطمع يا عذاب قلبى ... أن ينعم في هواك بالى؟
الطّرف كما عهدت باك ... والجسم كما ترين بالى!
ما ضرّك أن تعلّلينى ... فى الوصل بموعد المحال!
أهواك وأنت حظّ غيرى، ... يا قاتلتى، فما احتيالى؟
ومما قيل في النحول، فمن ذلك قول المتنبى:
أبلى الهوى أسفا يوم النّوى بدنى، ... وفرّق الهجر بين الجفن والوسن!
روح تردّد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن.(2/259)
كفى بجسمى نحولا أننى رجل ... لولا مخاطبتى إيّاك- لم ترنى!
وقال آخر:
أسرّ إذا بليت، وذاب جسمى ... لعلّ الريح تحملنى إليه!
وقال ابن المعتزّ:
ماذا ترى في مدنف ... يشكوك طول سقمه؟
أضنيته فما يطي ... ق ضعفه حمل اسمه،
ولا يراك عائدا ... إلا بعين وهمه!
وقال كشاجم:
وما زال يبرى أعظم الجسم حبّها ... وينقصها حتّى لطفن عن النّقص.
فقد ذبت حتّى صرت لو أنا زرتها، ... أمنت عليها أن يرى أهلها شخصى.
ومن أبلغ ما قيل في ذلك، قول ديك الجنّ:
أنحل الوجد جسمه والحنين، ... وبراه الهوى فما يستبين!
لم يعش أنّه جليد؛ ولكن ... دقّ جدّا، فما تراه المنون!
وقال نصير بن أحمد:
أنحلنى الحبّ فلو زجّ بى ... فى مقلة النائم، لم ينتبه!
وكان لى فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت، تمنطقت به!
وقال الحسن بن وهب:
أبليت جسمى من بعد جدّته، ... فما تكاد العيون تبصره.
كأنه رسم منزل خلق ... تعرفه العين، ثمّ تنكره!(2/260)
ومما قيل في المحبوب إذا اعتلّ، قال العباس بن الأحنف:
زعموا لى أنّها صارت تحمّ! ... ابتلى الله بهذا من زعم!
اشتكت أكمل ما كانت، كما ... يكسف البدر إذا ما قيل تمّ!
وقال أحمد بن إسحاق الطالقانىّ:
لقد حلّت الحمّى بساحة خدّه ... فأبدلت التّفّاح بالسّوسن الغضّ!
قال أبو هلال العسكرىّ: والأصل في ذلك قول عبد بنى الحسحاس. ونقل فى كتابه ديوان المعانى بسند رفعه قال: كتب عبد الله بن عامر إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه: إنى اشتريت لك عبدا حبشيا شاعرا. فكتب إليه عثمان: لا حاجة لى فيه، فإن قصارى الشاعر منهم أن يهجو أعراضهم ويشبب بكريمتهم. فاشتراه بنو الحسحاس، فرئى يوما وهو ينشد:
ماذا يريد السّقام من قمر ... كلّ جمال لوجهه تبع؟
ما يبتغى- خاب- من محاسنه؟ ... أما له في القباح متّسع؟
غيّر من لونه وصفّر ما ... ورّد منه الجمال والبدع.
لو كان يبغى الفداء، قيل له: ... ها أنا دون الحبيب يا وجع!
ثم يقول لنفسه: أحسنك والله! يريد أحسنت. وكان العبد كما حدس عثمان، فما زال يهجو مواليه ويشبّب بنسائهم، حتّى قتلوه. فضحكت منه امرأة وقد ذهبوا به ليقتلوه، فقال:
فإن تضحكى منّى، فيا ربّ ليلة ... جعلتك فيها كالقباء المفرّج!(2/261)
وقال لهم:
فلقد تحدّر من جبين فتاتكم ... عرق على ظهر الفراش وطيب!
وهو الذى مدح نفسه بقوله:
إن كنت عبدا، فنفسى حرّة كرما؛ ... أو أسود اللون، إنى أبيض الخلق!
ولم أورد هذه الواقعة هنا لأنه موضعها من كل وجه، وإنما الشىء بالشىء يذكر.
وقال شاعر:
لو لم تكن حمّاه مشغوفة ... تعشقه طورا وتهواه،
ما عانقبت إذ أقبلت جسمه ... وقبّات إذ فارقت فاه!
وقال آخر:
لو كان كلّ مريض ... يزداد مثلك حسنا،
لكان كلّ صحيح ... يودّ لو كان مضنى!
وقال محمد بن العباس الخوارزمىّ، من شعراء «اليتيمة» :
ولى من أمّ ملدم كلّ يوم ... ضجيع لا يلذّ له منام!
مقبّلة وليس لها ثنايا، ... معانقة وليس لها التزام!
كأنّ لها ضرائر من غذائى، ... فيغضبها شرابى والطّعام.
إذا ما صافحت صفحات جسمى، ... غدا ألفا وأمسى وهو لام.
ومما يناسب هذا الفصل ما قيل في شرب الدواء، فمن ذلك قول أبى تمام:
أعقبك الله صحّة البدن، ... ما هتف الهاتفات في الغصن.
كيف وجدت الدّواء؟ أوجدك الله ... شفاء به مدى الزّمن!(2/262)
وقال ابن حجاج:
يا من به تتباهى ... مجالس الخلفاء!
ومن تقصّر عنه ... مدائح الشّعراء!
يا سيّدى كيف أصبح ... ت بعد شرب الدّواء؟
خرجت منه تضاهى ... فى الحسن بدر السّماء!
فى ثوب صحّة جسم ... مطرّز بالشّفاء.
ومما قيل على لسان الورقاء- وكل مطوّقة عند العرب حمامة: كالدّبسى والقمرىّ والورشان وما أشبه ذلك. وجمعها حمام. يقال للذكر والأنثى منه حمامة.
والحمامة تبكى، وتغنّى، وتنوح، وتغرّد، وتسجع، وتقرقر، وتترنّم.
وإنما لها صوت سجيع لا يفهم: فجعله الحزين بكاء، والطّرب غناء.
قال حميد بن ثور:
مطوّقة خطباء تسجع كلّما ... دنا الصيف وانزاح الربيع فأنجما.
تغنّت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في نوحها متلوّما.
فلم أر مثلى شاقه صوت مثلها، ... ولا عربيّا شاقه صوت أعجما!
وقال مجنون بنى عامر:
ألا يا حمامات اللّوى عدن غدوة ... فإنّى إلى أصواتكنّ حزين!
فعدن؛ فلمّا عدن، كدن يمتننى ... وكدت بأسرار لهنّ أبين!
فلم تر عينى مثلهنّ حمائما ... بكين، ولم تدمع لهنّ عيون!(2/263)
وقال أبو الأسود الدؤلى:
وساجع في فروع الأيك هيّجنى! ... لم أدر لم ناح ممّا بى ولم سجعا؟
أباكيا إلفه من بعد فرقته، ... أم جازعا للنّوى من قبل أن يقعا؟
يدعو حمامته، والطير هاجعة: ... فما هجعت له ليلى وما هجعا!
شكا النّوى فبكى خوف الأسى فرمى ... بين الجوانح من أوجاعه وجعا!
كأنّه راهب في رأس صومعة ... يتلو الزّبور، ونجم الصّبح قد طلعا!
وقال جحدر العكلىّ:
وقدما هاجنى فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تجاوبان.
تجاوبتا بلحن أعجمىّ ... على عودين من غرب وبان.
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دانى!
وقال عوف بن محلّم:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد! ففيم تنوح؟
وقال ابن عبد ربه من ابيات:
وكيف، ولى قلب اذا هبّت الصّبا ... أهاب بشوق في الضّلوع دفين؟
ويهتاج منه كلّ ما كان ساكنا ... دعاء حمام لم تبت بوكون.
وإنّ ارتياحى من بكاء حمامة ... كذى شجن داويته بشجون.
كأنّ حمام الأيك لمّا تجاوبت، ... خزين بكى من رحمة لحزين!
وقال ابن قلاقس:
غناء حمام في معاطف بان ... إلى مذهب الحبّ القديم ثنانى.(2/264)
تغنّى فأعطاف الغصون رواقص ... وأحداق أزهار الرّياض روانى.
فذكّرنى شرخ الزمان فمدمعى ... سفوح وقلبى دائم الخفقان.
وقال أعرابىّ:
وقبلى أبكى كلّ من كان ذا هوى ... هتوف البواكى والدّيار البلاقع.
وهنّ على الأغصان من كلّ جانب ... نوائح، ما تخضلّ منها المدامع!
وقال فتح الدين بن عبد الظاهر:
نسب الناس للحمامة حزنا، ... وأراها في الحزن ليست هنا لك!
خضبت كفّها وطوّقت الجي ... د وغنّت، وما الحزين كذلك!
وقال ابن الرومىّ:
أشجتك داعية مع الإشراق، ... هتفت بساق من ذؤابة ساق؟
أيكيّة تدعو، ولم أر باكيا ... ريب الزمان قرينها لفراق.
تبدو أواميت [1] الشّجى في صوتها ... وترى عليها أنّة الإطراق.
لو تستطيع، تسلّبت من طوقها ... لو كان منتحلا من الأطواق.
ومما قيل في المراجعات، فمن ذلك قول وضّاح اليمن:
قالت: ألا لا تلجن دارنا، ... إنّ أبانا رجل غائر!
أما رأيت الباب من دوننا؟ ... قلت: فإنّى واثب طافر!
قالت: فإن القصر من دوننا! ... قلت: فإنّى فوقه ظاهر!
__________
[1] يطلق الامت في اللغة على الضعف والوهن ويجمع على إمات وأموت ولم تر جمعه على أواميت.(2/265)
قالت: فإنّ الليث عال به ... قلت: فسيفى مرهف باتر!
قالت: فهذا البحر ما بيننا ... قلت: فإنّى سابح ماهر!
قالت: أليس الله من فوقنا؟ ... قلت: بلى! وهو لنا غافر.
قالت: فإمّا كنت أعييتنا، ... فأت إذا ما هجع السّامر!
واسقط علينا كسقوط النّدى، ... ليلة لا ناه ولا زاجر!
وقال المؤمل بن أميل:
وطارقات طرقننى رسلا، ... والليل كالطّيلسان معتكر.
فقلن: جئنا إليك عن ثقة ... من عند خود كأنّها قمر!
هل لك في غادة منعّمة ... يحار فيها من حسنها النّظر؟
فى الجيد منها طول إذا التفتت ... وفي خطاها إذا خطت قصر.
فقمت أسعى إلى محجّبة ... تضىء منها البيوت والحجر.
فقلت لمّا بدا تخفّرها: ... جودى، ولا يمنعنّك الخفر.
قالت: توقّر، ودع مقالك ذا ... أنت امرؤ بالقبيح مشتهر!
والله لا نلت ما تحاول أو ... ينبت في بطن راحتى شعر!
لا أنت لى قيّم فتجبرنى ... ولا أمير علىّ مؤتمر.
قلت: ولكن ضيف أتاك به ... تحت الظلام القضاء والقدر.
فاحتسبى الأجر في إنالته، ... ويا سرى قد تطاول العسر!
قالت: فقد جئت تبتغى عملا ... تكاد منه السماء تنفطر.
فقلت: لمّا رأيتها حرجت ... وغشيتها الهموم والفكر:
لا عاقب الله في الصّبا أبدا ... أنثى ولكن يعاقب الذّكر!(2/266)
قالت: لقد جئتنا بمبتدع، ... وقد أتتنا بغيره النّذر.
قد بيّن الله في الكتاب فلا ... وازرة غير وزرها تزر.
قلت: دعى سورة لهجت بها ... لا تحرمنّا لذّاتنا السّور.
وجهك وجه تمّت محاسنه، ... لا وأبى لا تمسّه سقر.
وقال آخر:
خطرت فقلت لها مقالة مغرم: ... ماذا عليك من السّلام فسلّمى.
قالت: بمن تعنى فحبّك بيّن ... فى سقم جسمك؟ قلت: بالمتكلّم.
فتبسّمت، فبكيت، قالت: لا ترع ... فلعلّ مثل هواك بالمتبسّم.
قلت: اتّفقنا في الهوى، فزيارة ... أو موعدا قبل الزيارة قدّمى.
فتضاحكت عجبا، وقالت: يا فتى ... لو لم أدعك تنام، بى لم تحلم.
وقال آخر:
ولمّا نزلنا على زمزم، ... ونحن نريد طواف الإفاضه،
بكيت، فقالت: علام البكا؟ ... فقلت: على الودّ أخشى انتقاضه.
فقالت: ثكلتك من عاشق ... تشمّر ذيلك قبل المخاضه.
فقلت: صدقت، ولكنّنى ... أعلّم نفسى طريق الرّياضه.
ومما قيل في المردوف، قال بعض الشعراء:
عيناك على سفك دمى أسرفتا ... والجسم نحيل.
أطلق برضاك في الهوى أسرفتى ... حيران ذليل.(2/267)
فى ريقك خمرتان قد حرّمتا ... من غير دليل.
والعاشق ظمآن فيا حرّ! متى ... تسقيه قليل؟
وقال آخر:
فى خدّك وردتان قد ركّبتا ... من فوق قضيب.
فى قلبى جمرتان قد أضرمتا: ... نار ولهيب.
حلّفتك بالإله يا خير فتى ... رفقا بكئيب.
حيران يهيم بين حتّى ومتى ... والأمر عجيب.
وقال آخر:
يا بدر! عصيت في الهوى عذّالى ... طوعا لهواك.
وانقدت لأمرك الكبير العالى ... ما قلّ وفاك!.
إن كان رضاك سقم جسمى البالى ... صبرا لرضاك.
عذّب جسدى بسائر الأحوال ... إلا بجفاك.
وقال آخر:
يا مرتحلا إلى الحمى مصرفه ... بالله عليك
خذ معك كتاب، فيه خبرى. ... لى ثمّ رشا عساك تستعطفه
إن هان عليك ... فى رد جواب، للمنتظر.
إن عرّض بى، فقل: نعم أعرفه ... يشتاق اليك
قد رقّ وذاب، بين البشر. ... ما يتركه هواك أو تتلفه
والأمر اليك ... ما الهجر صواب، من مقتدر.
ومما قيل في الجناس، قال ابو الفضل الميكالى:
مواعيده بالوصل أحلام. نائم ... أشبّهها بالقفر أو بسرابه
فمن لى بوجه لو تحيّر في الدجى ... أخو سفر في جنح ليل سرى به(2/268)
وقال أيضا:
صل محبّا، أعياه وصف هواه ... فضناه ينوب عن ترجمانه.
كلّما راقه سواك، تصدّت ... مقلتاه بدمعه ترجمانه.
وقال آخر:
ما ضرّ من قد أباح قتلى ... فى حبّه لو أباح ريقه.
أبى فؤادى السلوّ عنه ... لكنه ما أبى حريقه.
وقال آخر:
أقول والليل مرخىّ غياهبه ... والدّير يسمعنى حسّ النواقيس:
يا نفس كم بين مسرور بلذّته ... وبين مبلى بتشتيت النوى قيسى.
وقال آخر:
يا من تنكّدت الدنيا لغيبته ... أساخط أنت عنى اليوم أم راضى؟
أمرضت بالهجر قلب المستهام فما ... عليك، بالوصل لو داويت أمراضى؟
وقال آخر:
لقد راعنى بدر الدجى بصدوده ... ووكّل أجفانى برعى كواكبه.
فيا عبرتى سحّى دما لفراقه ... ويا كبدى صبرا على ما كواك به!
وقال آخر:
قلت له: ماذا السواد الذى ... فيك تبدّى؟ قال: ذا غاليه.
فقلت: قبّلنى إذا قبلة ... فقال: خذها قبلة غاليه.
فقلت: ما تغلو على عاشق ... فى حبكم، ذى كبد غاليه.(2/269)
وقال آخر:
شافه كفّى رشأ ... بقبلة ما شفت.
فقلت إذ قبّلها: ... يا ليت كفّى شفتى!
وقال آخر:
لم يكفكم أخذ قلبه سلبا ... حتى أخذتم عن طرفه وسنه.
كم ليلة بات للغرام وكم ... يوم وشهر ما نامه وسنه.
وقال آخر:
يا من لحظاته أسود وثبت ... قد صحّ هواك في فؤادى وثبت.
جرّدت لها سيوف صبرى فنبت ... يا من غرس الهوى بقلبى فنبت.
وقال آخر:
يا من بحشاشتى- إذا غاب- سكن ... هيّجت من الغرام ما كان سكن.
يا من شرع الصدود في الحبّ وسنّ ... من بعدك مهجورك ما ذاق وسن.
وقال آخر:
أهوى قمرا سفك دمى حلّ له ... فى أىّ شريعة ومن حلّله.
ما بلّل شعره وما حلّله ... إلا سمح البخيل وانحلّ له.
وقال آخر:
من بلّل صدغ قاتلى من سلسل؟ ... من أودع ثغره رحيقا سلسل؟
من علّلنى في حبّه؟ من سلسل؟ ... يا عاذل إن جهلت ما بى سل سل.
وقال آخر:
يا بانة لحبّها ... فى القلب أصل قد نبت.(2/270)
سيوف صبرى عن سيو ... ف مقلتيك قد نبت.
تلك لحاظ أعين ... أم أسد غيل وثبت؟ [1]
لواحظ لو برزت ... فى يوم حرب، لسبت.
وعقرب الصّدغ التى ... لكلّ قلب لسبت.
أسناؤكم تاقت لها الن ... فوس يوما وصبت.
لا سيّما إن حملت ... نشرك ريح وصبت.
فخيلهم دون بلو ... غ السّول فينا قد كبت.
أفدى حبيبا زارنى ... فكم عدوّ قد كبت.
رعى حقوقى في الهوى ... عليه لمّا وجبت.
وسكّن الأحشاء بال ... وصال لمّا وجبت.
وقال أيضا:
من لفتى، جار علي ... هـ طرفه فيما قضى؟
صبّ إذا الدهر قضى ... عليه بالبين، قضى.
يبكى على دهر تول ... ى بالتدانى أو مضى.
تمطر عيناه إذا ال ... برق الشآمى أو مضا.
وقال آخر:
رمى حرّ قلبى بهجرانه ... رشا مادرى قدر ما قد رمى.
وقد كان قدّم إحسانه ... ولكنه قدّ ما قدّما.
فتسليم أمرى به للقضا ... ذخرت به أجر ما أجرما.
__________
[1] لعل هنا بيتا سقط من الأصل ولم نعثر عليه.(2/271)
ومما قيل في الموشّحات، فمن ذلك ما قاله بعض الأندلسيين:
يد الإصباح، قدحت زناد الأنوار ... فى مجامر الزّهر.
دهر جذلان، واعتدال ريعان ... فما الإظعان؟ عن طلّا وغزلان.
راق الزمان، وشدت على البان ... ذات الجناح، وانثنت قدود الأشجار.
فى الغلائل الخضر ... لنا أجساد، للسرور تنجذب
كما تنقاد، لربيعها العرب. ... حتى الجماد، لا يفوته الطرب
طافت بالراح، سحب فسكر النّوّار. ... من سلافة القطر
إن انخلاعى، مع رشا وصهباء ... لدى بقاع، حكت وشى صنعاء.
وللشّعاع، لهب على الماء ... وللرياح، فى متون تلك الأنهار.
شبك من التّبر ... وريم المى، بات بيده صدرى
كبدر تمّا، وسط غرّة الشهر. ... شدوت لمّا، راعنى سنا الفجر
قل للصباح: إن تدن بطرد الأقمار. ... فمع الدجى نسرى
وغصن مائل، الهلال أعلاه ... له من نابل، فى النفوس قتلاه.
سيف الحمائل، غمده عذاراه ... طوع الجماع، إن يكن كثير النّفار.
فهى عادة العفر
وقال ابن بقى:
ما بى شمول، إلا شجون ... مزاجها في الكأس، دمع هتون.(2/272)
لله ما بذّر، من الدموع ... صبّ قد استعبر، من الولوع.
أودى به جؤذر، يوم البقيع ... فهو قتيل؛ لابل طعين.
بين الرجا والياس، له منون ... [خرجت للحين، كفّى بكفّى
وحيل ما بينى، وبين إلفى. ... لا شك بالبين، يكون حتفى
حان الرحيل، ولى ديون. ... إن ردها العباس، فهو الأمين] [1]
أما ترى البدرا؟ بدر السعود ... قد اكتسى خضرا، من البرود.
إذا انثنى نضرا، من الفدود ... أضحى يقول،: مت يا حزين.
قد اكتسى بالياس، الياسمين ... قلت وقد شرّد، النوم عنّى
وآيس العوّد، السقم منّى: ... صدّ فلما صدّ، قرعت سنّى
جسمى نحيل، لا يستبين. ... يطلبه الجلّاس، حيث الأنين
تجاوز الحدّا، قلبى اشتياقا ... وكلّف السهدا، من لا أطاقا.
قلت وقد مدّا، ليلى رواقا ... ليلى طويل، ولا معين:
يا قلب بعض الناس، أما تلين؟
وقال سراج الدين عمر الكتّانى الحلبىّ، يمدح الملك المنصور صاحب حماه:
جسمى ذوى، بالكمد، والسهر، والوصب، من جانى ... ذى شنب، كالبرد، كالدّرر، كالحبب، جمانى.
__________
[1] الزيادة من نفح الطيب.(2/273)
لى غصن بان نضر ... يسبيك منه الهيف.
يرتع فيه النظر ... فزهره يقتطف.
والخدّ منه قفر ... والجسم منه ترف.
قد جاءنا يعتذر ... عذاره المنعطف.
ثم التوى، كالزرد، معبقرى، معقربى، ريحانى ... فى مذهب، مورّد، مدنّر، مكتّب، سوسانى.
ظبى له مرتشف ... كالسلسبيل البارد.
غصن نقا ينعطف ... من لين قدّ مائد.
بدر علاه سدف ... من ليل شعر وارد.
مقرطق مشنّف ... يختال في القلائد.
بين اللّوى، وثهمد، كجؤذر، فى ربرب، غزلانى ... ذى ضرب، ذى غيد، ذى حور، ذى هدب، وسنانى.
أما وحلى جيده! ... ورنّة الخلاخل!
والضمّ من بروده ... قدّ قضيب مائل.
والورد من خدوده، ... إذ نمّ في الغلائل.
لا كنت من صدوده ... متصلا بعاذل!
نار الجوى، لا تخمدى، واستعرى، وكذّبى، سلوانى ... وأسبلى، واطّردى، وانهمرى كالسّحب، أجفانى.(2/274)
مولاى جفنى ساهر ... مؤرّق كما ترى.
فلا خيال زائر ... يطرقنى ولا كرى.
إنّى عليل صابر ... فما جزا من صبرا؟
إن سحّ دمعى الهامر ... فلا تلمه إن جرى.
جال الهوى، فى جلدى، ومضمرى، أضرّبى، كتمانى ... مؤنّبى، اتّئد، لا تفتر. وجنّب، عن عانى.
إن صال بالهجر وصد ... رحت بصبرى مرتدى.
عنه وإن طال الأمد ... إلى ذرى محمد.
وكيف يخشى من قصد ... ملكا كريم المحتد.
الملك المنصور قد ... سما سماء السّودد.
ثم استوى، بأجرد، مضمّر، ومقضب، يمانى ... ذى شطب، مهنّد. وسمهرى. مضطرب، مرّانى.
ملكا علت همّاته ... من فوق هام المشترى.
وبخّلت راحاته ... سحّ السحاب الممطر.
وعوّذت راياته ... بمحكمات السّور.
بدر بدت هالاته ... من الصباح المسفر.
تحت لوى، منعقد، بالظّفر، فى موكب، فرسانى ... كالأشهب، فى الأسعد، كالأقمر. فى أعذب، سيحانى.(2/275)
يا ملكا دون الورى ... تخطبه الممالك.
ومالكا إذا سرى ... تحجبه الملائك.
بعض عطاك هل ترى ... جادت به البرامك.
فاستجلها من عمرا ... ثغر مناها ضاحك.
لا يجتوى: كالشّهد، كالسّكّر. كالضّرب، معانى ... كالسّحب، كالعسجد، كالجوهر، من حلب، كتّانى.
انتهى ما أوردناه من الغزل والنسيب في هذا الموضع؛ وقد آن أن نأخذ في ذكر الأنساب وبالله التوفيق.
الباب الرابع من القسم الأوّل من الفن الثانى في الأنساب
قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا)
. ومعرفة أنساب الأمم مما افتخرت به العرب على العجم، لأنها احترزت على معرفة نسبها، وتمسكت بمتين حسبها؛ وعرفت جماهير قومها وشعوبها، وأفصح عن قبائلها لسان شاعرها وخطيبها؛ واتحدت برهطها وفصائلها وعشائرها، ومالت إلى أفخاذها وبطونها وعمائرها؛ ونفت الدعىّ فيها، ونطقت بملء فيها.
وسأورد منها إن شاء الله تعالى ما يكتفى به، ويتمسك بأسبابه.
وقد وقفت على المقدّمة التى وضعها الشريف «أبو البركات الجوّانىّ» فرفعت له علما، ونصبت له إلى المعالى سلما: لأنه أتقن أصولها، وحرّر فصولها؛ وأورد(2/276)
فيها من الأنساب ما ينتفع به اللبيب، ويستغنى بوجوده الكاتب الأريب. فوجدته بدأ فيها بذكر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بآبائه، وشرح جملة من نسبه الطاهر وأبنائه. فرأيت أن أسرد النسب من أصله، وأبدأ بآدم عليه السلام، ثم بنسله؛ وأجعل العمدة على سرد عمود النسب المتصل بسيد البشر.
وأذكر من ذلك ما اشتهر عند أهل الأنساب وانتشر؛ إلى أن أنتهى إلى اسمه الشريف فأجعله خاتمة النسب، وأتمسك من شريعته ومحبته بأوثق سبب.
وأرجو ببركته بلوغ مآربى، ونجح مطالبى؛ وستر عيوبى، ومغفرة ذنوبى؛ وتزكية عملى، وسدّ خللى، والتجاوز عن سيئاتى، والمسامحة بفلتاتى ولفتاتى؛ والخيرة فى حركاتى وسكناتى.
هذا والله رجائى من كرم ربى، وإن قل عملى وكثر ذنبى؛ وعلى الشريف العمدة فيما أوردته، والعهدة فيما نقلته؛ فمن تأليفه نقلت، وعلى مقالته اعتمدت.
قال السيد الشريف نقيب النقباء أبو البركات بن أسعد بن على بن معمر الحسينى الجوّانى، النسابة رحمه الله: إن جميع ما بنت عليه العرب في نسبها أركانها، وأسست عليه بنيانها، عشر طبقات.
الطبقة الأولى الجذم
وهو الأصل إما إلى عدنان وإما إلى قحطان، والجذم القطع، يقال: جذم وجدم؛ وذلك لما كثر الاختلاف في عدد الآباء وأسمائهم فيما فوق ذلك، وشق على العرب تشعب المناهج فيه وتصعب المسالك؛ قطع الخوض فيما فوق قحطان ومعدّ وعدنان، واقتصر على ذكر ما دونهما، لاجتماعهم على صحته.
ومنه قول سيدنا رسول الله(2/277)
صلى الله عليه وسلم لما انتسب إلى معدّ بن عدنان: «كذب النسابون فيما فوق ذلك»
لتطاول العهد. فمن كان من ولد قحطان، قيل يمنىّ. ومن كان من ولد معدّ بن عدنان، قيل خندفى، أو قيسى، أو نزارى، وإن كان الجميع داخلا في نزار، أعنى معدّ بن عدنان؛ وإنما كان بعد نزار جماجم استغنى بالنسبة إليها عن نزار بن معدّ بن عدنان؛ ولأن جمهور العلماء طبقوا النسب على ما قدّمناه أربع طبقات: خندفىّ، وقيسىّ، ونزارىّ، ويمنىّ. فقولهم: خندفى أى كل من يرجع إلى الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان؛ وهو جمّاع خندف، فتوسعت العرب في ذلك إلى أن قالوا:
إلياس هو خندف، لأن ولده وهم مدركة، وطابخة، وقمعة، أمهم خندف، وهى ليلى بنت حلوان بن عمران، بن إلحاف بن قضاعة، خندفت في طلب ولدها أى أسرعت، فقال لها إلياس: مالك تخندفين؟ أى تهرولين فسميت خندف، فرجع إلى خندف أبطن عدّة: كمزينة، والرّباب، وضبّة، وصوفة، والشّعيرا، وتميم، وهذيل، وأسد، والقارة، وكنانة، وقريش، فقيل لولد إلياس «خندف» ثم قيل لإلياس نفسه خندف إذ كان أبا لمن أمه خندف لا غير ولا ولد له إلا من خندف.
ولذلك نظائر وأشباه في العرب، كما قيل لمالك بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر:
«عائدة» لأن أم ولده عائدة بنت الحمس بن قحافة الخثعميّة.
وكما قيل لعوف بن وائل بن قيس بن عوف بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر: «عكل» لأن أمة يقال لها عكل حضنت ولده.
وكما قيل لعمرو بن أدّ بن طابخة بن إلياس: «مزينة» لأن أم ولده مزينة بنت كلب بن وبرة القضاعية.(2/278)
وكما قيل لعمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار «جديلة قيس» لأن أم ولده جديلة بنت مرّ، أخت تميم بن مر، بن أدّ، بن طابخة.
وكما قيل للحارث بن عدىّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان «عاملة» لأن أم ولده عاملة بنت مالك بن وديعة القضاعية.
وكما قيل لأشرس بن السكون بن أشرس بن كندة «تجيب» لأن أم ولده تجيب.
بنت ثوبان المذحجيّة، وغير ذلك مما يطول الكلام باستقصائه والله أعلم.
وأما قولهم قيسىّ، فالمراد به من ولد قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان، ويكون عيلان هاهنا أخا إلياس بن مضر، وكان [1] اسم إلياس عيلان.
وقال الوزير ابن المغربى: هو الناسّ بتشديد السين فيكون مضر أعقب إلياس والناس. ومن العلماء من قال: إن عيلان كان حاضنا، حضن قيسا وليس بأب فيقول قيس عيلان بن مضر، مضاف إليه بغير ذكر البنوّة، كما قيل في فخذ من قضاعة سعد هذيم، وهذيم حاضن، وغير ذلك في العرب كثير والأوّل أصح. وهذا قيس بن عيلان بن مضر هو الذى قيل لقيس بن قيس والله أعلم.
وذهب قوم إلى أن ولد معدّ بن عدنان كلهم يقال لهم: قيس وهو خطأ، وإنما هم يجوّزون ذلك على وجه بعيد ليميزوا بالعزوة إلى ذلك بين يمن وغيرها: فيقولون: قيس ويمن، فيظن السامع أنهما أخوان، وأين قيس من قحطان جدّ يمن: لأن قحطان أبا اليمن هو أخو الجدّ العشرين لقيس: وهو فالغ بن عابر، وقحطان بن عابر.
وسيرد ذلك في سرد النسب بعون الله ومشيئته.
__________
[1] لعله أو كان اسم إلياس الخ ليستقيم الكلام.(2/279)
وبيانه هاهنا أن قيس بن عيلان، بن مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان، ابن أد [1] ، بن أدد، بن إسماعيل الذبيح، بن إبراهيم الخليل، بن تارح: وهو آزر بن ناحور، بن ساروغ، بن أرغو، بن فالغ، بن عابر. ففالغ أخو قحطان، وقحطان هو الجد الذى ترجع إليه يمن كلها؛ وهو أحد جذمى النسب كما تقدّم.
فقد بان أن قول من يقول قيس: ويمن قبيلة ليس بشىء، وإنما قال ذلك لولد معدّ بن عدنان إشارة لإعلام السائل إذا سأل المعدىّ من أىّ نسب هو، فكأنه يقول له من البطن التى منها قيس. وهذا بعيد وشاذ.
ومما يؤكد بعده أنا إذا جوزنا ذلك لمن ينتسب إلى جمجمة فوق قيس كربيعة ابن نزار بن معدّ بن عدنان، وإياد بن نزار وغير ذلك وان كان بعيدا فكيف يجوز أن يطلق ذلك على قريش. فنقول: هم قيس، وإنما قريش بنو فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وإلياس هو عم قيس فيكون قريش دون قيس بهذه العدّة، فلا يجوز أن يقال: إن قريشا من قيس، وقيس إنما هو ابن عم الأب السادس من قريش: وهو مدركة؛ ولو كان عمّا له، لكان ربما يجوز على وجه التعارف عند العرب بأن العم أب كما أخبر الله تعالى عن نبيه يعقوب عليه السلام فقال تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)
، والذى ذهب إلى أن العم أب قال: أنا أطلق على ولد معدّ بن عدنان قيسا لأن قيسا منهم، فأقول: قريش من قيس. وهذا بعيد من وجه أن قيسا ليس
__________
[1] هكذا بالأصل. وفي كتاب الجوّانى المنقول منه هذا الفصل والموجود منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية، ناقصة الآخر (ابن أدّ بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إسماعيل الذبيح الخ) .(2/280)
بعم لقريش، وإنما هو ابن عم، ولا ترجع العزوة في الانتساب إلى ذيل الأعقاب، إنما يعزى لأعلى النسب؛ لا لأسفل العقب؛ ولو صح ذلك، لعزى الإنسان لابن ابن عمه وهذا لا يصح.
فقد وضح أن العزوة إلى قيس لا تصح إلا لمن يرجع إليه بالولادة منه: لأن ربيعة وإيادا ابنى نزار أعلى منه، فلا يصح أن يعزوا إليه؛ وقريش وكنانة أسفل منه فلا يصح أن يعزوا إليه.
وبالجملة فإنه ابن عم لهما، أعنى قريشا وكنانة، وأخ لهما أعنى ربيعة وإيادا؛ ولا يجوز أن يعزى الأب إلى ابنه إذ كانت النسبة في ذلك لا ترجع إلى الابن إنما ترجع إلى الأب. ولو اعتمد ذلك في الأنساب لاختلطت العزوة إلى كل أب بالأب الآخر فلم يتميز، ولم يقف عند حدّ دون الآخر. وهذا يؤول إلى الجهالة بالأبطن والأفخاذ والعشائر.
وأمّا شهرة العزوة إلى قيس، فلما فيها من الجماجم والرءوس والقبائل والأرحاء وهى عند النسابين أكبر من تميم ومن بكر ابنى مرّ بن أد بن طابخة؛ إذ كان في قيس بنو عبس، وذبيان، وغطفان، وأعصر، وهوازن، وعدوان، وفهم: وهم جديلة قيس، وسليم، وثقيف، وعامر، وجشم، ونصر، وبكر، وسعد، وسلول، وربيعة، وكلاب، وقشير، وحبيب، وعقيل، وحريش، وخفاجة، وطهفة، وغير ذلك من الأفخاذ والعشائر التى تشرح في مواضعها بمشيئة الله وعونه.
وأما نزار بن معدّ بن عدنان، ففيها من الأبطن والأفخاذ والعشائر: كبنى ربيعة الفرس، وضبيعة أضجم، وأكلب، وأسلم، ويقدم، وأجلان، وهميم، وعبد القيس، ودهن، والنّمر، وتغلب، ووائل، وبكر، وصعب، وعلى، وحبيب، وعنزة، وعنز،(2/281)
ورفيدة، وإراشة، ويشكر، وعكابة، وعجل، ولجيم، وحنيفة، وزمّان، والدول [1] ، وشيبان، وذهل، ومازن، وسدوس، وبلىّ، وعوف، وبدر، ومعن، ودعمىّ، وزهرة، وحذافة.
فأما أنمار بن نزار، فانقلب في يمن كما انقلبت قضاعة في غير ذلك من الأفخاذ والعشائر مما بين في موضعه إن شاء الله تعالى والحمد لله.
وأما يمن، فهم أولاد قحطان، بن عابر، بن شالخ، بن أرفخشذ، بن سام، بن نوح عليه السلام.
وفيها عدّة جماجم وقبائل وأبطن وأفخاذ وعشائر: كسبإ، وطيئ، والأشعر، وحمير، وقضاعة، وغسّان، وأوس، والخزرج، والأزد، ولخم، وجذام، وعاملة، وخولان، وغافق، ومذحج، وحرب، وسعد العشيرة، ومعافر، وهمدان، وكندة، وكلب، ومهرة، وصنهاج [2] ، وبارق، وبجيلة، وثعلبة، ودرما، وزريق، وعنيز، وعتّاب، وبحتر، وجرم، ومراد، وعبس، وجعفىّ، وسلمان، وتجيب، وصدا، والنّخع، والصّدف، وحضرموت وغير وذلك.
وكل ما ذكرناه فهو أبطن وأفخاذ وعشائر مختلطة، وما قصدنا فيها الترتيب، على طبقات النسب والتعقيب، وإنما جئنا من كل عزوة ببعض مشاهيرها التى تنسب إليها: ليتبين بعضها من بعض ويعلم غرضنا في تحرير ما قدمناه والله أعلم.
__________
[1] بضم الدال وإسكان الواو وهو غير الدؤل الذى ينسب اليه أبو الأسود الدؤلى.
[2] الذى في القاموس: وصنهاجة قوم بالمغرب من ولد صنهاجة الحميرى وفي تاج العروس: «قال ابن دريد بضم الصاد ولا يجوز غيره. قال شيخنا والمعروف عندنا الفتح خاصة في القبيلة بحيث لا يكادون يعرفون غيره» .(2/282)
وأما عزوة العرب إلى يمن: وهم ولد قحطان، فلكونهم نزلوا اليمن؛ وكان منهم ملوك الحيرة وأصحاب سدّ مأرب فتيامنوا، فنسبوا إلى اليمن.
وقيل: إنما قيل لهم: يمن بأيمن بن هميسع بن حمير، وهو جدّ الملوك التبابعة؛ والأوّل أولى.
وأكثر العزوة لمن ينقلب عن نسبه إلى اليمن، لأجل أن الملوك كانت في اليمن:
مثل آل النّعمان بن المنذر من لخم، وآل سليح من قضاعة، وآل محرّق، وآل العرنجج وهو حمير الأكبر بن سبإ كالتبابعة والأذواء وغيرهم.
والعرب يطلبون العزّ ولو كان في شامخات الشواهق [1] [وبطون الأمالق البوالق فينتسبون الى الأعز لحماية الحمية وإباءة الدنية وسكون النفوس الى نفيس الكثرة والعصبية بطريق دقيق في النظر لا على الظن المشتهر] : كما جرى لقضاعة بن معدّ ابن عدنان [2] [لما خلف على أمه الجرهمية بعد] مالك بن مرة بن عمرو بن زيد بن مالك ابن حمير أباه معد بن عدنان؛ فجاءت بقضاعة على فراش مالك بن مرة فنسبه العرب إلى زوج أمّه [3] [مالك بن مرة، عادة للعرب فيمن يولد على فراش زوج أمه] . وقيل إن اسم الجرهمية: قضاعة، فلما جاءت بولدها سمته باسمها. وقيل بل كان اسمه عميرا فلما تقضع عن قومه أى بعد سمى قضاعة. والعادة عند العرب أن تنسب الرجل إلى زوج أمّه؛ ألا ترى أنها قالت في عبد مناة بن كنانة: بنو على وهو على بن مسعود الأزدىّ وكان حضن بنى أخيه لأمّه وهم بكر وعامر ومرة أولاد عبد مناة بن كنانة، فغلب
__________
[1] زيادات وجدت في نسخة الجوّانى المخطوطة ولم توجد في الأصل «الفوتو غرافىّ» .
[2] زيادات وجدت في نسخة الجوّانى المخطوطة ولم توجد في الأصل «الفوتو غرافىّ» .
[3] زيادات وجدت في نسخة الجوّانى المخطوطة ولم توجد في الأصل «الفوتو غرافىّ» .(2/283)
اسمه عليهم لما تزوّج أمّهم هند ابنة بكر بن وائل وخلف عليها بعد أخيه، فضم إليه بنى أخيه المذكورين مع أمّهم هذه، وهم صغار فربوا في حجره فنسبهم العرب إلى على. وسيأتى من هذا الباب أمثال له في مواضعها إن شاء الله تعالى.
والطبقة الثانية الجماهير، والتجمهر:
الاجتماع والكثرة؛ ومنه قولهم: جماهير العرب أى جماعتهم، ومنه ترجمة مجموع لغة العرب «الجمهرة» الكتاب الذى ألفه أبو بكر بن دريد وجمهرة «الأنساب» أى مجموعها والله أعلم.
والطبقة الثالثة الشعوب،
واحدها شعب؛ ويقال شعب؛ ويقال في القبيلة بالفتح وفي الجنبل بالكسر: وهو الذى يجمع القبائل وتتشعب منه، ويشبه بالرأس من الجسد؛ قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى)
الآية.
والطبقة الرابعة القبيلة
، وهى التى دون الشعب تجمع العمائر؛ وإنما سميت قبيلة لتقابل بعضها ببعض واستوائها في العدد؛ وهى بمنزلة الصدر من الجسد.
والطبقة الخامسة العمائر، واحدها عمارة: وهى التى دون القبائل. وتجمع البطون؛ وهى بمنزلة اليدين.
والطبقة السادسة البطون،
واحدها بطن: وهى التى تجمع الأفخاذ.(2/284)
والطبقة السابعة الأفخاذ،
واحدها فخذ وفخذ، مثل كبد وكبد: وهى أصغر من البطن. والفخذ تجمع العشائر.
والطبقة الثامنة العشائر،
واحدها عشيرة: وهم الذين يتعاقلون إلى أربعة آباء.
وسميت بذلك لمعاشرة الرجل إياهم، قال الله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) .
فدعا النبى صلى الله عليه وسلم علياء قريش إلى أن اقتصر على بنى عبد مناف؛ وهم يجتمعون معه في الجدّ الرابع. فمن هاهنا جرت السنة بالمعاقلة إلى أربعة آباء؛ وهم بمنزلة الساقين من الجسد اللتين يعتمد عليهما دون الأفخاذ.
والطبقة التاسعة الفصائل
، واحدها فصيلة؛ وهم أهل بيت الرجل وخاصته؛ قال الله تعالى: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ)
وهى بمنزلة القدم.
والطبقة العاشرة الرهط،
وهم رهط الرجل وأسرته: بمنزلة أصابع القدم.
والرهط دون العشرة، والأسرة أكثر من ذلك، قال الله عز وجل: (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ)
. قال السيد أبو طالب في قصيدته المشهورة التى يمدح فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأحضرت عند البيت رهطى وأسرتى ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل.(2/285)
ورهطه بنو عبد المطلب وكانوا دون العشرة. وأسرته من بنى عبد مناف الذين عاضدوه في نصرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تمثيل التفصيل- عدنان جذم، قبائل معد جمهور، نزار بن معد شعب، مضر قبيلة، خندف عمارة: وهم ولد إلياس بن مضر، كنانة بطن، قريش فخذ، قصى عشيرة، عبد مناف فصيلة، بنو هاشم رهط.
وحيث انتهى القول في ذكر الطبقات فلنأخذ الآن في بسط النسب وسرده فنقول وبالله التوفيق.
أصل النسب
(أبو البشر آدم عليه السلام)
وآدم هو الجدّ الخمسون لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمود النسب الطاهر المحمدىّ من آدم عليه السلام في ابنه شيث بن آدم عليهما السلام: وهو هبة الله، وأمّه حواء أمة الله.
ولما قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل، ولد شيث؛ وقال آدم عليه السلام:
هذا هبة من الله وخلف صالح. وهو الذى بنى الكعبة- شرفها الله تعالى- بالطين والحجارة على موضع الخيمة التى كان الله تعالى وضعها لآدم من الجنة.
وقال وهب: إن الله تعالى أنزل على شيث خمسين صحيفة، ورزق عدّة من البنين والبنات.
والعقب منه في ابنه أنوش بن شيث وأمّه لبود ابنة آدم عليه السلام. وهو الذى غرس النخلة وزرع الحبة، ونطق بالحكمة؛ وتدعى أمّه محوايلة البيضاء.(2/286)
والعقب منه في ابنه قينان بن أنوش، وله ولد اسمه أروى (أعنى لأنوش) ، اعقب وانقرض عقبه.
والعقب من قينان في ابنه مهلائيل بن قينان ولم يرزق غيره.
والعقب منه في ولده يارد بن مهلائيل. وكان ليارد اخوة.
والعقب من يارد في ابنه أخنوخ بن يارد، وهو إدريس النبى عليه السلام، وأمّه تدعى بره. قيل سمى إدريس لدرسه الصحف الثلاثين التى أنزلها الله تعالى عليه؛ وهو أوّل من خطّ بالقلم، وكان له إخوة انقرضوا.
والعقب منه في ابنه متوشلخ بن أخنوخ، وأمّه بروخا.
وعقبه في ابنه لملك بن متوشلخ، واسمه لامخ.
والعقب منه في ابنه نوح النبىّ عليه السلام، وأمّه قينوش ابنة بركائل بن محوايل، وهو عليه السلام آدم الثانى: لأنه لا عقب لآدم عليه السلام إلا من نوح وولده. وإخوة نوح عليه السلام جماعة: منهم صالح بن ملك، وسقطان، ومنان، وترسيس، وصدفا؛ وكان لهم أولاد انقرضوا كلهم والعقب من نوح لا غير؛ ورزق ملك والد نوح عليه السلام نوحا، وله من العمر مائة واثنان وثمانون سنة؛ وتوفى وقد مضى من عمر نوح خمسمائة سنة.
واختلف في عمر نوح: فقيل عاش ألف سنة إلا خمسين عاما: ستمائة قبل الطوفان وثلاثمائة وخمسين سنة بعده. وقيل بل لبث قبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في قصته في التاريخ. وعمود النسب من نوح فى ابنه سام بن نوح عليه السلام؛ وسام هو الجدّ الأربعون لسيدنا رسول الله(2/287)
صلى الله عليه وسلم، وأمّه عمردة. وإخوة سام حام، ويافث، وبوناطل، وسالوم وهو الذى غرق في الطوفان.
وأما سام بن نوح، فإن الله تعالى جعل في ذرّيته الكتاب والنبوّة والملك والجمال والبياض، ونزلوا ما بين ساقيد إلى البحر، وما بين البحر إلى الشام: وهو وسط الأرض، والحرم وما حوله، والحرم إلى حضرموت، وإلى عمان، وإلى عالج والدهناء.
والعقب من يافث بن نوح طرسوس، وهمذان، والجبال، والجزر، وفرنجة، والصقالبة الذين على تخوم القسطنطينية، واشكار، والترك، وقبرس، ويأجوج، ومأجوج، وكومر، والمصيصة، وأدنه، وروادنيم، وماسج، وخراسان، وباوال، ويونان، وبرجام، وكرد بن مرد بن يافث.
قال: وهذه رواية العلماء بالنسب، وسنذكر خبر كرد بعد هذا في موضعه.
ومن ولد يونان بن يافث الروم واليونانيون؛ كان منهم الفلاسفة وأهل الحكمة كالإسكندر وغيره.
وولد بوناطل بن نوح: وهو الذى عقد الألوية للناس حين تفرقوا: الأرغار، والبعاس، والدكايك، والدمشق؛ وهم أمم لا يحصون خلف صين الصين.
والعقب من حام بن نوح، الهند والسند والنوب، والزنج، والحبشة، والقبط، والبربر، ومصرايم أو اسمه مصر بن حام.
وذكر صاحب الشجرة: أن مصرايم أعقب من ابنه لوديم، وأن لوديم أعقب قبط مصر بالصعيد، والبيهيم، والتفوحيم، والبرنسيم، والكشلوجيم، والقابدقابين، ومودشايا، وكوشابا، وهبورشابا(2/288)
قال: وهؤلاء بأجمعهم ولد قوط بن حام، وأندلش، وكوشان؛ فولد قوط بن حام مصر، فولد مصر بن قوط قبط: وهم قبط مصر؛ وبهم سمّيت مصر مصر.
قال: هذا قول شيوخنا. وذكر أهل التاريخ: أن مصر سمّيت بمصر بن بيصر بن حام؛ كل ذلك قد قيل وهو الأكثر عن العلماء.
وقال أبو المنذر النسابة في روايته: إن السند والهند وما بينهما من البلاد قتلهم يوشع ابن نون إلا بقيّة منهم يسيرة لحقوا بأطراف بلاد السودان: وهم الذين ما بين مصر إلى بلاد السودان، ومنهم البربر والبجة.
وذكر صاحب الشجرة: أن كوش أبو الحبش، وأنه كوش بن حام، وأنه أعقب من نمرود أبى ملوك بابل، ومن أحويلا وهو الواحات، ومن سفنا وهو أبو زغاوة، ومن سبإ، ومن سفخا: وهو أبو الدمدم، ومن رعما وهو أبو البقاقو من السودان، والعقب من زعما هذا من سبإ أبى الهند ومن دادان أبى السند.
وذكر أبو المنذر النسابة أن كنعان بن حام أعقب من حماة، وحمص، واروادودى وطرابلس، وصيدون، وهى صيداء، وحاث، ونفوسة، وهوارة، ومزاتة، وامورا، وكركاسى، ومزانة من البربر.
قال الجوّانىّ: وهذا كلّه بيّن الخلاف بين النسابين؛ ومن النسابين من يلحق لواتة وهم ولد برّ بالبربر هذا بن كنعان بن حام، ومن اللواتيّين من يقول فيهم: إنهم قيس، ويعبرون أنهم من ولد جابر بن بغيض، بن ريث، بن غطفان؛ وأنّ جابرا جدّهم عمّ فزارة. ومن لواتة ومزاتة من يزعم أنهم قوم ناقلة صاروا إلى بلد البربر، وأن البربر إنما هم هوّارة، وصنهاجة، وأن أباهم تزوّج امرأة منهم يقال لها: تصوين، فنسبوا إلى أمهم، وهوّارة تزعم أنهم قوم ناقلة من يمن جهلوا أنسابهم.(2/289)
وولد لواتة بن برّ: وهو لواتة أربعة أفخاد: وهم زنّارة ومصّانا ونيطا وتطوفا؛ ولكلّ فخذ من هذه الأفخاذ عدّة عشائر، حصل الإضراب عن ذكرها رغبة فى الاختصار. فلنرجع إلى عمود النسب فنقول:
إن عمود النسب الشريف من سام بن نوح في ابنه أرفخشذ بن سام؛ وأمه من بنات الملوك.
وكان لسام من الأولاد غير أرفخشذ: إرم ولاوذ وأشوذ وغليم وماش (والموصل ولد وأبو الأرمن وخوزستان أولاد سام) [1] . وفيهم خلاف عند النسابين.
والعقب من إرم بن سام من عوص وجاثر وماش وأهلوا وإيران أولاد إرم.
فالعقب من أهلوا بن إرم بن سام: قادسان.
والعقب من أكراد [2] جدّ القبيلة المعروفة بالأكراد، فى قول أكثر النّسّابين. ومن عشيرة القبيلة من يذكر أنهم من بنى عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العبسىّ كما نذكره في بنى هوازن.
وفي الأكراد عدّة بطون: كالحلاليّة والمروانيّة وغيرهما.
وقد ذكر بعض النسابين أن كرد بن مرد بن يافث بن نوح. وفي ذلك خلاف.
والعقب من عوص بن إرم بن سام: عاد، وبه سمّيت عاد إرم.
والعقب من ماش بن إرم بن سام من نبيط: وهو نبط سواد العراق.
__________
[1] هكذا في الأصل بحروفه وجاء في «العبر» أن بنى أشوذ هم أهل الموصل وبنى غليم أهل خوزستان، ولعله الصواب.
[2] لعله والعقب من إيران في كرد الخ، انظر «العبر» .(2/290)
والعقب من جاثر بن إرم: ثمود وجديس. فالعقب من ثمود بن جاثر: فالج وهيلع وبنوق وأرام؛ من ولده صالح النبىّ عليه السلام ابن أسف بن كماشج بن أرام بن ثمود.
والعقب من لاوذ بن سام: عمليق وهو أبو العمالقة والفراعنة والجبابرة بمصر والشام، وطسم بن لاوذ وأميم بن لاوذ. وفرعون موسى: هو الوليد بن مصعب ابن أشمير بن الهون بن عمليق بن لاوذ بن سام.
وولد الفرس أشور [1] بن سام: تيرش وهم الفرس؛ وبهم سمّيت فارس؛ ومنهم الأكاسرة.
وولد غليم بن سام: خوزان وهم الخوز الذين مساكنهم بلاد الأهواز مما يلى بحر الصين.
فلنرجع إلى سرد عمود النسب فنقول: إن عمود النسب منه في شالخ [2] بن أرفخشذ وكان له من الأولاد غير شالخ مالك وقينان ابنا أرفخشذ. قال: وزعموا أن قينان أوّل من نظر في علم النجوم بعد الطوفان واستنبط ذلك من تنّور صفر كان فيه علمها قبل الطوفان، ودفن في الأرض فاستخرجه وعلم ما فيه.
والعقب من شالخ في ابنه عابر بن شالخ، وعابر: هو هود النبىّ عليه السلام؛ وأمّه مرجانة وهو جماع النسب. وله من الأولاد: فالغ، وفيه عمود النسب، وهو أبو قريش وقحطان ويقطن. فولد يقطن بن عابر: جرهم بن يقطن، كانوا ولاة البيت الحرام فمكثوا ما شاء الله، ثم استحلّوا المحارم، وكثرت فيهم المآثم، فأخرجهم الله تعالى من جوار بيته، ورماهم بالفناء فلم يبق منهم أحد. وفيهم يقول القائل:
وبادوا كما بادت بقيّة جرهم
__________
[1] هكذا بالأصل وفي «العبر» : أنهم من ولد إيران بن أشوذ بن سام بن نوح. وفي ابن الأثير أنهم بنو فارس بن تيرش بن ماسور بن سام.
[2] وردت هكذا في كل المصادر التى يعتمد عليها في النسب ووردت في الكتاب المقدس في سفر التكوين (شالح) بالحاء المهملة.(2/291)
وقحطان بن عابر هو أبو اليمن كلها، وجذم نسبها.
وولد قحطان هم العرب المتعرّبة؛ إذ العرب ثلاث فرق: عاربة ومتعرّبة ومستعربة.
فأما العاربة فهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح: وهم عاد، ثم ثمود، ثم أميم، ثم عبيل، ثم طسم، ثم جديس، ثم عمليق، ثم جرهم، ثم وبار. فعاد وعبيل ابنا عوص بن إرم بن سام بن نوح، وطسم وعمليق وأميم: بنو لاوذ بن سام؛ وثمود وجديس ابنا جاثر بن إرم بن سام؛ ووبار وجرهم ابنا فالغ بن عابر: فهذه العرب العاربة.
وأما المتعربة فهم بنو قحطان بن عابر الذين نطقوا بلسان العرب العاربة وسكنوا ديارهم.
وأما المستعربة فهم بنو إسماعيل بن إبراهيم: وهم بنو عدنان بن أدّ.
قال الشريف الجوّانى: وهذا مختصر من نسب اليمن. قال: إن العقب من قحطان ابن عابر من يعرب بن قحطان: وهو الذى زعمت يمن أن العرب إنما سميت عربا به وأنه أوّل من تكلم بالعربية ونزل أرض اليمن فهو أبو اليمن كلّها.
وذكر بعض النسّابين أن حضرموت بن قحطان، وإليه ينسب كلّ حضرمىّ.
وقيل. حضرموت من ولد حمير، وإنه حضرموت بن عمرو بن قيس بن معاوية ابن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن ابن الهميسع بن حمير. قال: وعلى ذلك اعتماد شيوخنا في النسب.
وقال آخرون: هو حضرموت بن يقطان بن عابر.(2/292)
فولد يعرب بن قحطان: يشجب؛ فولد يشجب بن يعرب: سبأ واسمه عبد شمس؛ وإنما سمى بسبإ لأنه أوّل من سبى من العرب، فولد سبأ بن يشجب: حمير وكهلان.
وقالت طائفة من النسّابين: ومراء بن سبإ. فولد مراء بن سبإ: شعبان قبيلة وصريحان قبيلة، ولهم عدد ومدد.
وولد حمير بن سبإ بن يشجب: مالكا وعامرا وعوفا وسعدا ووائلة وعمرا وهميسعا.
فأما عمرو بن حمير فهم آل ذى رعين ملوك اليمن: وهم بنو الحارث بن عمرو ابن حمير.
ومن النسّابين من ينسب ذارعين الى أنه ولد زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير: وهم عشيرة ذى أصبح وعشيرة سيف بن ذى يزن.
قال: وشيوخنا في النسب ينسبون التبابعة الملوك إلى أيمن بن هميسع بن حمير ولا خلاف عندهم فيه وأنهم يرجعون إلى أيمن.
وأما عامر بن حمير، فمنه قبائل يحصب كلّها، وهو يحصب بن دهمان بن عامر بن حمير. قال: ومن شيوخ النسب من قال: يحصب بن ذى يزن بن ذى أصبح بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهم حمير الأصغر.
وأما هميسع بن حمير فمن ولده: صنهاجة: القبيلة المشهورة المعقبة بالمغرب وفي ذلك خلاف؛ وهى من بنى زهير بن أيمن بن هميسع بن حمير، وصنهاجة اسم الجدّ للقبيلة كلها: وهو صنهاجة بن المثنّى بن المسور بن يحصب بن ذى يزن بن ذى أصبح بن(2/293)
زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدىّ بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهم حمير الاصغر بن سبإ الأصغر بن كعب بن كهف الظلم، بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع المذكور.
قال: وإلى ذى أصبح هذا يرجع الإمام مالك بن أنس الأصبحىّ. وقيل: ذو يزن ابن أسلم بن زيد، وذو أصبح بن مالك بن زيد.
قال: ومن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس هذا الذى في عمود النسب ثلاث بطون غير سهل بن عمرو: وهم شعبان بن عمرو وحيران بن عمرو وحضرموت بن عمرو؛ وحضرموت هذا هى القبيلة التى ينسب إليها كلّ حضرمىّ وقد تقدّم ذكره.
وأما سعد بن حمير، فمنه السّلف البطن المشهورة، وأسلم بطن: وهما ابنا ربيعة ابن سعد بن حمير.
وأما وائلة بن حمير، فمنهم السّكاسك: وهم بنو زيد بن وائلة بن حمير، وهى غير سكاسك كندة.
وأما مالك بن حمير فمن ولده قضاعة: وهم قضاعة بن مالك بن مرّة بن عمرو بن زيد بن مالك بن حمير البطن المشهورة على ما نذكره. وقيل: إنها من ولد معدّ بن عدنان وفي ذلك يقول القائل:
أبوكم معدّ كان يكنى ببكره ... قضاعة ما كنّى به من تجمجما.
ومن قضاعة ثلاث بطون: وهم عمران بن الحاف بن قضاعة وعمرو بن الحاف وأسلم بن الحاف بن قضاعة.(2/294)
فأما البطن الأولى من قضاعة: وهم ولد عمران، فأعقب حلوان بن عمران بن الحلف بن قضاعة من خمس قبائل: وهم تغلب الغلباء، ويقال: تغلبىّ قضاعىّ أو يمنىّ، يراد به هذا الأب؛ وتغلبىّ معدّىّ أو نزارىّ، فيراد به تغلب بن وائل بن قاسط الذى فى أسد بن ربيعة بن نزار؛ وعشم بن حلوان، وزبّان بن حلوان، وعمرو بن حلوان وهو سليح وتزيد بن حلوان (بالتاء باثنتين من فوق وفتحها) .
والعقب من تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة: وبرة بن تغلب.
والعقب من وبرة بن تغلب من خمس أفخاذ: كلب بن وبرة، وإليه ينسب كلّ كلبىّ، وفيهم عدة أفخاذ وعشائر: كبنى عوف وبنى ضمضم وبنى غليم وبنى زهير وبنى كنانة، والجميع عشائر يرجعون إلى عذرة بن زيد الله بن رفيدة بن ثور بن كلب، وعرينة بن ثور بن كلب بن وبرة، وإليه يرجع كل عرنىّ، وأسد بن وبرة، والبرك ابن وبرة، والنّمر بن وبرة، والتغلب بن وبرة، وفهد، وضبع، ودبّ، وسيد، وسرحان، وذئب أولاد وبرة بن تغلب الغلباء.
فمن أسد بن وبرة: بنو القين بن جسر بن شيع الله بن أسد، وتنوخ: وهو مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد؛ والى تنوخ هذا ينسب كلّ تنوخىّ؛ واليه يرجع أبو العلاء المعرّى الشاعر.
وأعقب نمر بن وبرة بن تغلب في ثلاث أفخاذ: خشين، واليه يرجع كلّ خشنىّ وهو نمير، منهم أبو ثعلبة الخشنىّ الصحابىّ رضى الله عنه؛ ومشجعة بن تيم بن النّمر بن وبرة، واليه يرجع كلّ مشجعىّ، وغاضرة بن النّمر وعاتية بن النمر إلا أنهما دخيلان فى سليم. قالوا: عاتية وغاضرة ابنا سليم بن منصور.(2/295)
وأما زبّان بن حلوان فأعقب من جرم بن زبّان، واليه يرجع كلّ جرمىّ. وفي جرم عدة بطون: منها ملكان بن جرم بفتح الميم واللام؛ بطن.
وأما عمرو بن الحاف بن قضاعة فأعقب من ثلاث أفخاذ: بلىّ بن عمرو، وبهراء ابن عمرو، وحيدان، وقيل: حدّان بن عمرو؛ والى بلىّ هذا ينسب كلّ بلوىّ ككعب ابن عجرة البلوىّ، وبنو العجلان، وبنو أنيف، وبنو عصية [1] : وهم كلّهم حلفاء الأنصار: بنى عمرو بن عوف من الأوس وهى قبائل من بلىّ في الأنصار، منهم: المجذّر ابن ذياد وطلحة بن البرّاق، وأبو بردة بن نيار الصحابىّ بلوىّ حليف الأنصار واسمه هانئ.
وأما بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فإليه ينسب كلّ بهرانىّ كالمقداد بن الأسود الكندىّ ولم يكن كنديّا ولكن كان بهرانيّا قضاعيّا: لأنه المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد بن لؤىّ بن ثعلبة ابن مالك بن الشّريد بن أبى أهون بن قيس بن دريم بن القين بن أهود بن بهراء.
وإنما قيل المقداد بن الأسود لأن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف ابن زهرة تبنّاه لحلف كان بينهم فنسب اليه، وكان أبوه عمرو حليفا في كندة.
وفي بهراء بطون.
وأما حيدان، ويقال: حدّان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فمن بطونه خمس:
عريب بن حيدان، وعريد بن جيدان، وتزيد بن حيدان؛ واليه تنسب الثياب التّزيدية، ومهرة بن حيدان. وإلى مهرة هذا ينسب كلّ مهرىّ، وفي مهرة أفخاذ، وحيادة بن حيدان.
__________
[1] هكذا في الأصل، وفي الجوّانى: «غصينة» .(2/296)
وأما أسلم بن الحاف بن قضاعة، فأعقب من فخذين: حوتكة وسود؛ فأما سود ابن أسلم بن الحاف، فأعقب من زيد وليث ابنى سود، وأعقب زيد بن سود من أربع بطون: جهينة، واليه يرجع كلّ جهنىّ، ونهد: رهط أبى عثمان النّهدىّ؛ واليه يرجع كلّ نهدىّ، وسعد هذيم، وعذرة؛ واليه يرجع كلّ عذرىّ أولاد زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
وقال ابن الكلبىّ: عذرة بن زيد اللّات بن رفيدة بن كلب بن وبرة.
فأما جهينة بن زيد، فرهط عقبة بن عامر الجهنىّ الصحابىّ. وفي جهينة الحرقة وهم بنو أحمس بن عامر بن مودعة بن جهينة.
وفي نهد بن سود المقدّم ذكره: بنو حرقة بن خزيمة بن نهد.
وفي عذرة بن زيد بن سود بن أسلم: بنو ضنّة بالنون بن عبد بن كبير بن عذرة بن زيد ابن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
ومن ولد ليث بن سود بن أسلم: بنو علّة بكسر العين مشدّدة اللام بن غنم بن سعد ابن زيد بن ليث بن سود، وفي سعد هذيم بن زيد بن سود: بنو علّة بن غنم ابن ضنّة بن سعد هذيم بن زيد بن سود بن أسلم.
قال: فهذا نهاية الاختصار في نسب حمير. وهذا ولد كهلان أخيه.
قال: وولد كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر عليه السلام: زيدا، فولد زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن قحطان: مالكا وعريبا وهما فخذان.
فالعقب من عريب بن زيد بن كهلان من يشجب.(2/297)
والعقب من يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان من زيد بن يشجب.
والعقب من زيد هذا: أدد بن زيد بن يشجب.
والعقب من أدّد في طيّئ بن أدد، واسمه جلهمة؛ وهو البطن العليا، واليه ينسب كل طائىّ، والأشعر بن أدد، واليه يرجع كل أشعرى، واسم الأشعر نبت، وإنما قيل له الأشعر: لأنه ولد أشعر الجسد، ومالك بن أدد وهو مذحج، واليه يرجع كلّ مذحجىّ. وقيل: إن مذحج أمّ مالك بن أدد فنسب اليها ولدها. وقيل: بل هى أكمة حمراء ولد عليها مالك، فعرف بها ولده. وقيل: بل اجتمعوا على الأكمة باليمن، والأكمة تسمى مذحج، فقالوا: تعالوا نجعل مذحجا أمّا.
وذكر ابن عبد البرّ في روايته: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكثر القبائل في الجنة مذحج»
: ومذحج إحدى الجماجم التسع من جماجم العرب، سمّوا جماجم لأن ميلادها استوى بميلاد قبائل بإزائها من أفناء العرب، ثم تفرّعت منها قبائل اجتزأت بأسمائها والانتساب إليها فبعدت عنها واكتفت بانتسابها إليها.
ومرّة بن أدد: أربع أبطن لأدد.
والعقب من طيئ بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان من فخذين: فطرة والغوث ابنى طيئ.
والعقب من فطرة بن طيّئ بن أدد من سعد بن فطرة. ومنه في خارجة بن سعد ومنه في جندب، ومنه في رومان بن جندب.
والعقب من رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة من بطنين: ذهل وثعلبة، وهما الثّعلبتان وجماعة صغار.(2/298)
والعقب من الغوث بن طيّئ من عمرو بن الغوث.
والعقب من عمرو بن الغوث بن طيّئ من ثعل: بطن، ونبهان: بطن، وهناء ابن عمرو: بطن، وثعلبة بن عمرو: بطن، ومزروعة بن عمرو: بطن، وحسّان بن عمرو: بطن، وزيد بن عمرو: بطن، وخشين بن عمرو: بطن؛ وإلى نبهان هذا ينسب كل نبهانىّ.
والعقب من نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيّئ من ابنيه: سعد ونائل، ومن بنى سعد بن نبهان: بنو اليسر بن ثعلبة بن نصر بن سعد بن نبهان: فخذ، وإلى هناء ابن عمرو هذا ينسب كلّ هنائىّ.
والعقب من ثعل بن عمرو بن الغوث [1] . فأما سلامان فالعقب منه من عنيز وثعلبة ونبل [2] أولاد سلامان لصلبه؛ وعنيز هذا جدّ القبيلة المشهورة؛ وثعلبة هذا جدّ ثعلبة طائفة من العربان المجاورين للدّاروم من الشام [وهم] بطنان: درما وزريق، فالعقب من عنيز بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ من فخذين: فرير بن عنيز، له عدد، وعتود بن عنيز.
والعقب من عتود، من معن وبحتر ابنيه، وإليهما يرجع كلّ معنىّ وبحترىّ، والشاعر البحترىّ منهم.
والعقب من معن بن عتود من ثلاث: ثوب، وودّ، ومالك: بنى معن بن عتود.
__________
[1] أسقط الناسخ الخبر وهو «من سلامان وجرول فأما الخ» كما يؤخذ مما يأتى في التفصيل فتنبه.
[2] كذا بالأصل. ولعلها محرفة عن «نابل» أنظر نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب؛ للقلقشخدى.
فى الكلام على بنى نابل.(2/299)
والعقب من ثوب بن معن: غنم له عدد، وأبو حارثة فأعقب من غنم بن ثوب بن معن بن سلسلة الفخذ التى يرجع إليها كلّ بنى سلسلة المعنيّون.
وأما بحتر بن عتود بن عنيز بن سلامان فالعقب منه في تدول بن بحتر.
والعقب من تدول من ستة أفخاذ: وهم جدىّ، وسنام، وأيمن، وخيثم، وأعور، وسالم أولاد تدول.
وأما ثعلبة بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ فأعقب من عوف ابن ثعلبة، وأعقب عوف من فخذين: درما وزريق؛ ودرما هو عمرو بن عوف ودرما أمّه. فأعقب درما بن عوف بن ثعلبة بن سلامان من خمس أفخاذ: سلامة والأحمر وعمرو وقصير والأوس: أولاد درما. وأعقب زريق بن عوف بن ثعلبة من فخذين: لبنى والأشعث ولدى زريق.
وأما جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ، فأعقب من ابنيه: معاوية وربيعة؛ فأعقب معاوية بن جرول من سنبس [1] : القبيلة المشهورة، وعدىّ ولوذان:
أولاد معاوية.
والعقب من سنبس بن معاوية بن جرول من ثلاث أفخاذ: عمرو، ولبيد، وعدىّ؛ فأما لبيد بن سنبس، فأعقب من حرمز، فأعقب حرمز من يحصب وجرم؛ وعقدة أولاد لبيد فخذان. وإلى لبيد هذا تنسب العرب السّنابسة الذين بالبحيرة من أعمال مصر؛ وهم من فخذ يقال لها: قنّة بن خلّاد.
وأما عدىّ بن سنبس بن معاوية، فأعقب من أبان بن عدىّ، وهو فخذ.
__________
[1] ضبط في الأصل بضم السين والباء وكذا في صبح الأعشى: وضبطه السويدىّ في سبائك الذهب بفتح السين. وذكر في القاموس أنه بالكسر وكذا هو في الصحاح واللسان وكتاب المعارف لابن قتيبة.(2/300)
والعقب من ربيعة بن جرول بن أبى أحزم: هزومة، وأعقب هزومة من أحزم، وأعقب أحزم من عبشمس مكسور الباء متصلا.
وأما مذجح: وهو مالك بن أدد بن زيد فأعقب من أفخاذ أربعة: سعد العشيرة، ومراد: هو يحابر، وعنس، ولميس، وجلد أولاد مالك وهو مذجح. وإلى مراد هذا ينسب كلّ مرادىّ، وسمّى مرادا لتمرّده، وإلى عنس ينسب كلّ عنسىّ، منهم عمّار بن ياسر الصحابىّ والأسود العنسىّ الكذّاب.
والعقب من سعد العشيرة بن مالك من ثلاث عشرة فخذا: وهم زيد اللات، وعابد اللات، وعبد اللات، وجا [1] ، وجعفىّ، وجرد، وحكم، وأوس اللات، ونمرة، وأنس اللات، وسعد اللات، وعمرو، وصعب: أولاد سعد العشيرة لصلبه.
فإلى جعفىّ هذا ينسب الجعفيّون، وإلى نمرة ينسب النمريّون؛ وفي نمرة فخذان:
جدا، على وزن ندا، وسلهم ابنا نمرة.
وأما جعفىّ فالعقب منه في فخذين: مرّان، وحريم ابنى جعفىّ بن سعد العشيرة، يرجع [2] بنو سلهم بن حكم فخذ بكسر السين والهاء.
وأما صعب بن سعد العشيرة، فالعقب منه في زبيد، واسمه منبّه، وإليه يرجع كل زبيدىّ؛ وفيهم عدّة أفخاذ منهم بنو حرب وغيرهم. وقيل للفخذ زبيد وهم بنو منبّه الأكبر لأن منبّها الأصغر بن صعب بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد قال:
من يزبدنى رفده؟ فأجابه إلى ذلك أعمامه كلّهم بنو منبّه الأكبر، فقيل لهم جميعا زبيد. ومن بنى زبيد مازن بن منبّه.
__________
[1] كذا بالأصل وصوابه «خارجة» .
[2] كذا بالأصل والكلام مبنور.(2/301)
والعقب من مراد بن مذجح من فخذين: ناجية وزاهر ابنى مراد بن مذجح.
والعقب من ناجية: جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد: رهط هند بن عمرو الجملىّ الذى قتله ابن يثربى في يوم الجمل؛ وجمل هذه رهط سيفويه القاص. قال:
وينزلون بنهر الملك؛ وعطيف بن ناجية بن مراد رهط فروة بن مسيك العطيفىّ الصحابىّ، وسلمان بن يشكر بن ناجية بن مراد رهط عبيدة السّلمانىّ؛ وهو جاهلى إسلامىّ من كبار التابعين.
ومن ناجية: قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد: رهط أويس القرنىّ نفعنا الله والمسلمين ببركته.
وفي مراد، تجوب: وهو رجل من حمير، كان أصاب دما في قومه فلجأ إلى مراد فقال: جئت اليكم أجوب البلاد لأحالفكم؛ فقيل له: أنت تجوب، فسمّى به؛ وهو في مراد رهط عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ التّجوبىّ لعنه الله، قاتل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه.
وأمّا جلد بن مذحج، فأعقب منه علّة بن جلد؛ والعقب من علة من ثلاث أفخاذ:
عمرو وعامر وحرب. فمن بنى حرب بن علة: رهاء: وهو رهاء بن منبّه بن حرب ابن علة: منهم مالك بن مرارة الرّهاوىّ الصحابىّ، ويزيد بن شجرة الرّهاوىّ، وصداء: وهو يزيد بن حرب بن علة، منهم زياد بن الحارث الصّدائىّ الصحابىّ.
وأمّا عمرو بن علة بن جلد بن مذحج، فالعقب منه ثلاث أفخاذ: النّخع القبيلة المشهورة، وكعب، وعامر.
فأمّا النّخع بن عمرو، فأعقب منه فخذان: مالك وعوف ابنا النّخع.(2/302)
وأمّا كعب بن عمرو، فأعقب منه فخذان: الحارث، وهم بلحارث بن كعب ورعيل بن كعب.
وأمّا عامر بن عمرو بن علة، فالعقب منه في فخذ واحدة: وهى مسلية بن عامر.
وأمّا مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ، فأعقب من فخذين: مرهم والحارث ابنى مرّة بن أدد؛ فالعقب من الحارث من فخذين: عدىّ ومالك ولديه. فالعقب من مالك بن الحارث بن مرّة خولان بن عمرو بن مالك وإليه ينسب كلّ خولانىّ، ومعافر بن يعفر بن مالك بن الحارث ابن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب؛ وإليه ترجع المعافر في أنسابها، ولهم خطة بمصر، ومنهم فخذ بنى قرافة وهى أمّهم: وهم الذين عرفت بهم القرافة بمصر، ومسجدهم المسجد المعروف بمسجد الرحمة بالقرافة؛ وهم بنو عضّ بن سيف بن وائل بن الحرىّ بن المعافر بن يعفر.
وأما عدىّ بن الحارث بن مرّة فأعقب من أربع أبطن لصلبه: وهم عفير ولخم:
قبيلة؛ واسمه مالك بن عدىّ، وجذام بن عدىّ: قبيلة؛ واسمه عامر، والحارث بن عدىّ وهو عاملة: قبيلة، وإنما سمّيا لخما وجذاما: لأنّ أحدهما لخم وجه أخيه فسمّى لخما، واللخمة: اللطمة، وجذم الآخر إصبع أخيه فقطعها فسمّى جذاما: وهما القبيلتان المشهورتان؛ والحارث بن عدىّ وهو عاملة وإليه يرجع كلّ عاملىّ، وعاملة وهى بنت مالك بن وديعة بن قضاعة؛ وهى أمّ ولد الحارث المذكور.
فأما عفير بن عدىّ بن الحارث فأعقب من ثور بن عفير، وثور هو كندة الملوك فأعقب كندة من فخذين: معاوية وأشرس ابنى ثور. والعقب من معاوية هذا من ابنيه مرتّع وزيد؛ فمن ولد مرتّع: بنو امرئ القيس وبنو الرائش وبنو معاوية(2/303)
الأكرمين وبنو وهب. وبنو بدّا مشدّد، خمسة: بنو الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتّع. وإلى معاوية بن الحارث يرجع امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو ابن حجر آكل المرار بن معاوية المذكور الكندىّ الشاعر. والنسب إلى امرئ القيس بن الحارث بن معاوية المقدّم ذكره: مرقسىّ، مسموع عن العرب، وكلّ امرئ القيس غيره في العرب فالنسب مرئىّ بوزن مرعىّ.
والعقب من أشرس بن ثور وهو: كندة بن عفير بن عدىّ: السّكون بن أشرس، والسّكاسك: وهو حميس السّكسك بن أشرس، وإليهما ينسب السّكونيون والسّكسكيّون؛ ومن السكونيّين معاوية بن حديج السكونىّ الصحابىّ، وحاشد بن أشرس، ومالك بن أشرس.
والعقب من السكون بن أشرس من فخذين: شبيب وعقبة ابنى السّكون.
أعقب شبيب بن السكون من أشرس وشكامة، فأعقب أشرس بن شبيب بن السّكون ابن أشرس من عدىّ وسعد: وهم تجيب البطن المشهورة؛ ولهم خطة بمصر، وعرفوا بتجيب: وهى أمّهم بنت ثوبان بن سليم بن رهاء بن منبّه بن حرب بن علة ابن جلد بن مذحج.
والعقب من مالك بن أشرس بن شبيب المذكور: الصّدف، واسمه عمرو بن مالك، وإليه ينسب كلّ صدفىّ بالفتح كما قالوا: شقرىّ ونمرىّ وسلمىّ: فى شقرة تميم ونمر ابن قاسط وسلمة من الأنصار. ومن النسّابين من قال: الصدف هو سماك بن عمرو ابن دعمىّ بن حضرموت.
وأما لخم بن عدى، فأعقب من فخذين وهما لصلبه: نمارة وجديلة، ويقال:
جديلة؛ وذكر الوزير أبو القاسم بن المغربىّ أنه قيل فيها: جدبلة بالباء بواحدة.(2/304)
والعقب من نمارة بن لخم بن عدىّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن مالك بن نمارة فخذ، وحبيب بن نمارة، وهو عمم [وعدىّ بن نمارة] [1] سمّى بذلك لأنّه أوّل من اعتمّ، وهو الذى عمّم ملوك العراق؛ ولهم إخوة صغار: كالوجفا بن نمارة وقبيصة وعمرو وعوف ومجن أولاد نمارة أعقبوا؛ ومن ينسب اليهم يعزى لجدّهم لخم وأمّهم نمارة.
ومن بنى مالك بن نمارة الفخذ الأولى: بنو راشدة بن مالك بطن مشهورة.
ومن بنى عدىّ بن نمارة؛ وهم عمم بن لخم: بنو نصر بن ربيعة من ربيعة بن نصر.
ومن ولد نصر بن ربيعة: النعمان بن المنذر بن ماء السماء: وهى أمّه، بضدّ ما في غسّان، لأن غسّان عامرا ماء السماء أب فهو ثمّ «أب» وهاهنا «أمّ» ، وماء السماء هاهنا هو امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدىّ بن نصر بن ربيعة.
قال: وفي ذلك خلاف.
ومن بنى حبيب بن نمارة: بنو الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة، ينتسب كلّ دارىّ إلى هذه البطن، وهم رهط تميم الدارىّ الصحابىّ المعروف بالمختطف، وقد انقرض تميم الدارىّ ولا عقب له.
وأما جريلة [2] بن لخم ويقال: جزيلة، فأعقب من أراش وحجر وحليل ويشكر وعمرو، أولاد جزيلة بن لخم. فمن بنى أراش بن جزيلة أرش بن أراش لا غير؛ ويقال:
أريش مصغّرا.
__________
[1] الزيادة عن «السبائك» وتؤخذ أيضا من كلامه الآتى قريبا.
[2] كذا في الأصل وفي السبائك أيضا بالزاى وأوردها القاموس في مادة (ج ز ل) وهو مخالف لما سلف له قريبا من قوله (جديلة) فتنبّه.(2/305)
والعقب من أرش بن أراش من فخذين: غنم وحدس- بالحاء المهملة والدال المهملة المحرّكتين- والحمراء القبيلة؛ لها خطة بمصر، والأشعث فخذ، وهذه الحمراء فى غيرها من الحمراء من قضاعة، وفهم، وعدوان، والأزد، وهذيل بن مدركة وبنى الأزرق وهم من الروم؛ ومنهم سمّيت الحمراوات.
فأعقب غنم بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم من صعب وفهم وزرّ وعمرو:
أولاد غنم.
ومن شيوخ النسب من قال: إن النعمان بن المنذر بن ماء السماء بن امرئ القيس.
ابن المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عيينة بن أبى الحرام بن العمرّط بن غنم ابن عودة بن عبيد بن زرّ المذكور.
والعقب من حدس بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم من ربيعة ورميمة.
والعقب من ربيعة بن حدس أربع عشائر: منارة، وسعد، وكعب، والهذيم:
بنو ربيعة.
والعقب من هذيم هذا من حداد وعامر والحارث: بنى الهذيم.
والعقب من رميمة بن حدس بن أريش بن أراش بن جزيلة من عمرو وجدّه.
والعقب من عمرو بن رميمة هذا: الحارث وصعب وعلامة وعدىّ والمنذر وثعلبة.
فأما الحارث بن عمرو فأعقب من أبىّ بن الحارث، فأعقب أبىّ من كليب وعدىّ.
والعقب من كليب بن أبىّ [بن] الحارث من أربع أفخاذ: فيض والحارث وغنم وعميت: أولاد كليب.(2/306)
والعقب من فيض بن كليب من أربع أفخاذ: أبى الشتاء، ورقاش، وقحران، وصابى: أولاد فيض بن كليب.
والعقب من الحارث بن كليب بن أبىّ من سعد وجدّه. وولد كعب بن غنم ثلاث أفخاذ: بنى قرقر بن كعب وبنى برّ بن كعب وبنى مرقّش بن كعب.
ومن بنى برّ بن كعب: بنو واسع بن كعب: وهم بنو رومى وزهير وزير وحسان وبرّ: أولاد واسع، كلّ منهم فخذ.
والعقب من عميت بن كليب بن أبىّ من دعجان وجدّه، ومن أفخاذه: مغالة بن دعجان: الفخذ المعروفة في آخرين.
وأما حجر بن جزيلة بن لخم، فأعقب من ثلاث أفخاذ: أزدة وزغر وأذبّ.
فأعقب أزدة من فخذين: منيع وعوف ابنى أزدة بن حجر. وأعقب زغر بن حجر من مالك بن دعن، وهو الذى استخرج يوسف الصدّيق عليه السلام من الجبّ، وله عقب. فهذا مختصر في نسب لخم.
وأما جذام واسمه عامر، فالعقب منه في بطنين: حرام وحشم ابنى جذام.
والعقب من حرام بن جذام من فخذين: إياس ومالك ابنى حرام بن جذام.
والعقب من إياس بن حرام من ربيل بن إياس، ومن سعد بن إياس، فأعقب سعد هذا من أفصى، فأعقب أفصى بن سعد بن إياس من فخذين: زيد ومالك ابنى أفصى، وأعقب مالك هذا من سعد بطن المنسوب اليها بنو سعد جذام، وإن كان فى جذام عدّة سعود، لكن هذه ذات القعدد والبيت والصيت.(2/307)
ومن ولد زيد بن أفصى بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام: سعد بن مالك بن زيد المذكور: بطن؛ ووائل بن مالك ولهبة؛ وإلى وائل بن مالك بن زيد: يرجع زيد [1] بن زنباع في نسبه.
والعقب من مالك بن حرام بن جذام، من وائل وسعد. أعقب وائل بن مالك من حبيش وجمع ومازن. من ولد حبيش: شعيب النبىّ عليه السلام: وهو شعيب بن ثويب بن حبيش المذكور ابن وائل بن مالك بن حرام بن جذام. وأعقب سعد ابن مالك بن حرام بن جذام من غطفان: البطن الأكبر في جذام. وأعقب غطفان ابن سعد من يامة بن عنبس بن غطفان وغنم بن غطفان. وأعقب يامة بن عنبس ابن غطفان من علىّ بن يامة. وأعقب علىّ من كعب بن علىّ. وأعقب كعب بن علىّ من ثلاثة أفخاذ لصلبه: عبيد ومطرود وعوف؛ من ولد عبيد بن كعب هذا:
الضّبيب بن قرط بن حفيد بن؟؟؟ ح [2] بن عبيد: فخذ. وأعقب مطرود الضبيب هذا من ثعلبة بن أميّة بن الضبيب: فخذ، وعمرو بن مالك بن الضبيب: فخذ. وأعقب مطرود بن كعب بن علىّ من خالد وعمرو ومبذول ونفاثة.
فأعقب غنم بن غطفان بن سعد، من نضرة بن غنم في آخرين، فأعقب نضرة ابن غنم بن صبرة الفخذ المشهورة ابن نصر.
والعقب من حشم بن جذام من بديل بن حشم. فالعقب من بديل: بكر وشنوءة ابنى بديل. والعقب من بكر هذا من سود بن بكر. والعقب من سعد: أسود وعمرو
__________
[1] لعل الصواب «روح» .
[2] كذا بالأصل ولم نعثر على صحّها في كتب الأنساب.(2/308)
ابنا سود. والعقب من أسعد بن سود بن بكر بن بديل بن حشم بن جذام من فخذين: السلّم والهون ابنى أسعد. وفي سود أيضا: السلّم بن مالك بن سود بإسكان اللام فخذ.
والعقب من عمرو بن سود من لهبة وحبيش وعدا: أولاد عمرو.
فهذا مختصر من نسب جذام.
وأما عائذة: وهم ولد الحارث بن عدىّ بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب وهو أخو جذام ولخم، فالعقب من الحارث بن عدىّ المذكور من فخذين: الزهد ومعاوية ابنى الحارث: وهما ابنا عاملة كما تقدّم؛ وزهد: فعل، من موهم: شىء زهيد أى قليل.
والعقب من الزهد بن الحارث بن عدىّ من ثلاث أفخاذ: عوكلان وزحفان وسلمان: بنى الزهد. ومن بنى عوكلان المذكور السلّم بن ظبيان بن أبى عزم بن عوكلان المذكور.
والعقب من معاوية بن الحارث بن عدىّ أخو الزهد خمس أفخاذ لصلبه: ثعل، وعجل، وسلمة، وقرّة، وثعلبة. قال: وهذا النهاية في اختصار نسب مرّة بن أدد.
وأما الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، فأعقب من جماهير بن الأشعر وله عدد، وعبد الثريّا بن الأشعر وعبد شمس والأدغم ونعيم: أولاد الأشعر. وأعقب جماهير وهو جماهر بن الأشعر من ناجية بن جماهير له عدد. وأعقب ناجية من وائل بن ناجية وهو البيت.
وهذا مختصر نسب الأشعريّين. ومنهم من الصحابة: أبو موسى وأبو عامر وأبو برزة؛ وهم فخذ متسع وفيه عدّة أفخاذ وعشائر يطول الكتاب بشرحها.(2/309)
قال: وهذا نسب بنى مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان.
فالعقب من مالك بن زيد من بطنين: وهما نبت والخيار ابنا مالك. والعقب من نبت من الغوث ابنه. والعقب من الغوث بن نبت من عمرو والأزد؛ وإلى هذا الأزد ينسب كلّ أزدىّ.
فمن ولد عمرو بن الغوث: بجيلة: وهم ولد أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان ابن عمر وأم الغوث وبجيلة بن أنمار: وهى بنت صعب بن سعد العشيرة بن مذحج، وقد قيل: بل هى أم ولد أنمار.
والعقب من أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان بن عمرو بن مالك بن زيد: خمس قبائل: الغوث وعبقر وصهيبة ووداعة وأفتل: وهو خثعم: بنو أنمار بن أراش.
قال: وذكر علماؤنا في النسب أن بجيلة هو عبقر والغوث وصهيبه، وسمّوا بذلك لأجل أمهم بجيلة، وأن خثعم هو أفتل وأمّه هند بنت الغافق الأزدىّ، وسمّى خثعم باسم جمل كان لآل أنمار أو لآل أفتل بن أنمار، وكانوا يسمّونه خثعم. ويقال: بل قيل خثعم لأنهم تخثعموا بالدم؛ والأوّل أقرب إلى الصحيح.
والعقب من الغوث بن أنمار من ثلاث أفخاذ: وهم زيد وأحمس وقيس كندة:
بنو الغوث. وفي أحمس هذا: أسلم بن أحمس: فخذ؛ وفي أسلم بن أحمس بن الغوث:
دهن. معاوية بن أسلم بن أحمس؛ فخذ: رهط عمّار بن أبى معاوية الدّهنىّ الصحابىّ.
والعقب من عبقر: بجيلة بن أنمار بن أراش بن عمرو من ثلاث أفخاذ: قسر وعلقة وقطن: أولاد عبقر. وفي قسر: عرينة بن زيد بن قسر، يقال له: قسرىّ فى النسب، ويقال: عرنىّ. والى علقة يرجع كلّ علقىّ.(2/310)
والعقب من صهيبة بجيلة بن أنمار بن أراش بن عمرو: أتيد بن خطام بن صهيبة ابن أنمار: فخذ.
والعقب من زرعة بن أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان بن عمرو من ثلاث أفخاذ: حزرق وسمط وحبيب: أولاد زرعة.
والعقب من خثعم وهو أفتل بن أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان من ثلاث أفخاذ: شهران وربيعة وناهش: أولاد عقرس بن خلف بن أفتل وهو خثعم.
وفي ربيعة بن أفرس: بنو أكلب بن ربيعة.
فهذا مختصر كاف في بجيلة وخثعم.
وأما الأزد بن الغوث (واسمه دراء: مثل رداء وقيل: درء مثل درع،) فالعقب من ولده أربع أبطن: وهم مازن وغسّان؛ وغسّان ماء بسدّ مأرب باليمن وقيل: بالمشلّل نزاوا به فنسبوا اليه. والى غسّان هذا ينسب كلّ غسّانىّ، ونصر وعبد الله والهنو بنو الأزد بن الغوث. والى غسّان هذا يرجع الأنصار، وقد يكون من غسّان من ليس أنصاريّا كثيرا، ويكون من مازن من ليس غسّانيا.
والذى نزل على غسان من الأزد بعض بنى امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول ابن مازن وماويّة وربيعة وامرؤ القيس: بنو عمرو بن الأزد، وكرز وعامر ابنا ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد.
والعقب من عبد الله بن الأزد بن الغوث من ثلاث أفخاذ: الحارث وقرن وعدثان:
أولاد عبد الله بن الأزد(2/311)
والعقب من عدثان [1] هذا من عكّ وسود ومالك وغالب وكعب. ومن بنى سود ابن عدثان: طاحية بن سود: فخذ.
والعقب من عك بن عدثان فخذان: الشاهد وصحار ابنا عكّ.
والعقب من الشاهد بن عكّ: غافق، وإليه ينسب كلّ غافقىّ، قال: ولهم خطّة بمصر، وساعدة ابنا الشاهد. وقيل: بل هو غافق بن الحارث بن عك بن الحارث ابن عدثان.
والعقب من صحار بن عك بن عدثان: بولان وعبس وغسّان: أولاد صحار هذا.
وأما نضر بن الأزد، فأعقب من مالك بن نصر من أربع قبائل: عبد الله وراسب وميدعان وأكفر من حمار: أولاد مالك بن نصر بن الأزد. والى راسب ينسب كلّ راسبىّ. وفي بنى مالك راسبيّون أخر يأتى ذكرهم إن شاء الله تعالى.
والعقب من عبد الله بن مالك في كعب بن عبد الله. ومنه في الحارث بن كعب.
والعقب من الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك من ثلاث أفخاذ: كعب ومالك ونبيشة وهو فاسخة. فمن ولد فاسخة بن الحارث بن كعب: بنو غراء بن شريق ابن فاسخة؛ ومن ولد مالك بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر: بنو مجاعة وبنو الأرنب: ابنى مالك.
والعقب من كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر: زهران وأحجن وعبد الله: أولاد كعب بن الحارث. والى زهران ينسب كلّ زهرانىّ.
__________
[1] ورد في كل كتب النسب التى تحت أيدينا باسم (عدنان) بالنون وقال عنها صاحب القاموس ما يأتى:
«وعك بن عدثان بالثاء المثلثة ابن عبد الله بن الأزد، وليس ابن عدنان أخا معدّ» .(2/312)
ومن أفخاذه: دهمان بن نصر بن زهران، وغاضرة بن زهران، ودوس بن عدثان من زهران، منهم: أبو هريرة الدوسىّ الصحابىّ؛ واسمه عمرو بن عامر، وفي اسمه خلاف.
والعقب من أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر من ثلاث: أسلم ولهب وقرن، أولاد أحجن فمن أفخاذ أسلم هذا: بنو ثمالة وهو عوف بن أسلم بن أحجن: رهط محمد بن يزيد المبرّد النحوىّ؛ وفيه يقول عبد الصمد ابن المعدّل.
سألنا عن ثمالة كلّ حىّ ... فقال القائلون: ومن ثماله؟
فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهاله.
وأما ميدعان بن مالك بن نصر فمنه أربع أفخاذ: راسب واليه ينسب الراسبيّون أيضا، ومنهب وحبيب ومعاوية: بنو مالك بن ميدعان.
فهذا مختصر نسب بنى نصر الأزديّين.
وأما الهنو بن الأزد، فأعقب من سبع أفخاذ: الهون وبديد ودهنة وبرقا وعوجا وأفكه وحجر: أولاد الهنو. فأعقب الهون من فخذين: النّدب ونكل.
وأما مازن بن غسّان بن الأزد فأعقب من فخذين لصليه: وهما عمرو وثعلبة العنقاء، سمّى بالعنقاء: لطول عنقه.
فالعقب من عمرو بن مازن بن الأزد في عدّة أولاد، كلّهم في الأزد، من جماجمهم:
عدىّ والعاص. فأما العاص فمن ولده: بنو بقيلة بن سنين بن زيد بن سعد بن عدىّ ابن نمير بن صوفة بن العاص بن عمرو بن مازن، وسمّى بقيلة: لأنه لبس ثوبين أخضرين.(2/313)
وأما عدىّ بن عمرو بن مازن بن الأزد، فأعقب من عدّة أولاد، من جماجمهم:
هند بن هند بن عمرو بن عدىّ وصبرة بن عمرو بن صبرة بن حارثة بن عدىّ ومسعود بن مازن بن ذئب بن عدىّ؛ اليه يرجع سطيح الكاهن وكلّ مسعودىّ فى الأزد، وجميع بنى عدىّ بن عمرو يعزون الى الأزد.
وأعقب ثعلبة العنقاء بن مازن بن غسّان من امرئ القيس البطريق بن ثعلبة؛ فأعقب امرؤ القيس البطريق: حارثة الغطريف؛ فأعقب الفطريف من عامر ماء السماء؛ فأعقب عامر ماء السماء من عمران وعمرو وهو مزيقياء سمّى بذلك: لأنه كان يمزّق في كلّ يوم [حلّتين] لئلا يلبسهما غيره.
والعقب من عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة العنقاء بن مازن بن غسّان وهو السّراج بن الأزد بن الغوث فى ست أفخاذ: ثعلبة: بطن الأنصار، وحارثة: بطن خزاعة، وجفنة: بطن، وعمران من أزد عمان، ومحرّق: بطن، سمّى بذلك لأنه أوّل من حرّق بالنار، وكعب: أولاد عمرو مزيقياء واليهما يرجع نسب الأنصار. فأما الأوس بن ثعلبة بن عمرو فأعقب من مالك بن الأوس، وأعقب مالك من خمس قبائل: النّبيت، وعوف، وجشم، وامرئ القيس، ومرّة: أولاد مالك بن الأوس.
قال: وسمّى النّبيت نبيتا لكثرة ولده، فأعقب النبيت من فخذين: الحارث وكعب وهو ظفر بن الخزرج بن النبيت الأوسىّ. فأعقب الحارث بن الخزرج بن النبيت من ابنيه: جشم وحابية. فأعقب جشم من رعوان وانقرض، ومن عبد الأشهل:
ابنى جشم. وأعقب حابية بن الحارث من مجذعة وجويرة وجشم بنى حارثة. ومن بنى جشم بن حارثة: بنو خديج بن رافع بن عدىّ بن جشم، وطهر بن رافع بن عدى.(2/314)
واما ظفر وهو كعب بن الخزرج بن النبيت بن مالك بن الأوس- وبنو ظفر البطن المشهورة في الأوس- فأعقب من أربع أفخاذ: وهم بنو مرة وهيثم وعبد رداح وسواد: بنى ظفر بن الخزرج. ومن بنى سواد: بنو الحطيم بن عدىّ بن عمرو ابن سواد: فخذ؛ فهؤلاء بنو النبيت.
أما عوف بن مالك بن الأوس، فأعقب من عمرو، وأعقب عمرو من لوذان، فجدّهم بنو السّميعة وثعلبة وحبيب وعوف: أولاد عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.
والعقب من عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس من بنيه: مالك وجلس وكلفة. فأعقب مالك بن عوف من بنيه: عزير ومعاوية وزيد. وأعقب زيد بن مالك هذا من ضبيعة: الفخذ المشهورة، وأميّة الفخذ المشهورة في الإسلام، وعبيد أولاد زيد. وبنو ضبيعة بن زيد بن مالك، يقال لولده: بنو كسر الذهب، منهم:
بنو حارثة بن عامر بن مجمّع بن عطاف بن ضبيعة بن زيد: بطن معروفة. ومن أفخاذ كلفة بن عمرو بن عوف: جلاح بن حريش بن جحجبى من كلفة: بطن.
وأما جشم بن مالك بن الأوس بن حارثة، فأعقب من خطمة: بطن؛ واسم خطمة عبد الله، وإنما سمّى خطمة: لأنه خطم رجلا بسيفه على خطمه فسمّى به، وأعقب خطمة بن جشم من ثلاث أفخاذ: الحارث وعامر ولوذان: بنى خطمة.
وأما امرؤ القيس بن مالك بن الأوس، فأعقب من فخذين: بنى السلّم وبنى واقف، وإليه يرجع كلّ واقفىّ في الأوس.
وأما مرّة بن مالك بن الأوس بن حارثة، فأعقب من ثلاث أفخاذ: عامر وسعيد ومازن.
وهذا نهاية الاختصار في ولد الأوس.(2/315)
وأما الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من خمس أفخاذ:
الحارث وعمرو وعوف وجشم وكعب: بنى الخزرج.
والعقب من الحارث هذا من سبع أفخاذ: عوف وحرديش وجشم وصخر وجديم والخزرج وزيد: أولاد الحارث، ومن عوف بن الحارث بن الخزرج: خدرة وخدار ابنا عوف؛ ولخدرة يرجع أبو سعيد الخدرىّ، وهو فخذ بنى خدرة.
وأما عمرو بن الخزرج فمن ولده: بنو النجّار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج:
البطن المشهورة؛ واسم النجار: تيم الله يدعى العتر، وإليه يرجع حسّان بن ثابت ابن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدىّ بن عمرو بن مالك بن النجار الشاعر: أعنى بالشاعر حسّان، وقد انقرض عقب حسّان.
وأما عوف بن الخزرج فمن أفخاذه: بنو غنم قوقل: فخذ، وهو أطم كان لبنى غنم، وسالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وغنم: رهط عبادة بن الصامت الصحابىّ. ومن بنى عوف بن الخزرج: سالم الحبلى بن غنم بن عوف، سمّى بذلك لعظم بطنه.
وأما جشم بن الخزرج، فأعقب من فخذين: وهما تزيد وغصب ابناه لصلبه؛ فمن أفخاذ تزيد بن جشم هذا: بنو سلمة وربيعة ابنا سعد بن علىّ بن راشد بن ساردة ابن تزيد. وسلمة رهط معاذ بن جبل الصحابىّ بكسر اللام.
وأما غصب بن جشم بن الخزرج، فمن أفخاذه: بنو زريق وبياضة: ابنى عامر ابن زريق بن عبد بن حارثة بن مالك بن غصب بن جشم بن الخزرج.(2/316)
وأما كعب بن الخزرج فمن أفخاذه: سعيد وقيس ابنا سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة ابن أبى جذيمة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج؛ وقد انقرض قيس بن سعد بن عبادة.
ومن كعب بن الخزرج المذكور غير طريف هذا: ثلاث أفخاذ أخر إخوة طريف ابن الخزرج هذا: وهم ثعلبة وعامر وعمرو؛ كان لعامر هذا ابن الخزرج بن ساعدة ابن كعب بن الخزرج الأوّل: بنو قسّيّة بن عامر وقد انقرضوا عن آخرهم.
فهذا مختصر كاف في أنساب الأوس والخزرج.
وأما حارثة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من أربع أفخاذ: عمرو بن ربيعة بن حارثة وهو أبو خزاعة؛ وإنما قيل لهم خزاعة: لأنهم انخزعوا من بنى عمرو مزيقياء بن عامر، والانخزاع التقاعس والتخلّف، فأقاموا بمرّ الظّهران بجنبات الحرم وولّوا حجابة البيت دهرا وهم حلفاء بنى هاشم؛ وقد اختلف النسّابون في خزاعة بعد إجماعهم على أنهم ولد عمرو بن لحىّ وأنّ خزاعة هو كعب بن عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف، وهو ابن الياس بن مضر؛ وعمرو بن لحىّ: هو الذى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [فيه] لأكثم بن أبى الجون الخزاعىّ: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار، ما رأيت رجلا أشبه منه برجل منك» ، فقال أكثم: أيضرّنى شبهه يا رسول الله؟ فقال: «لا، لأنك مسلم وهو كافر»
والقصب: الحشوة من الأمعاء وهو المصران؛ وكان عمرو بن لحىّ أوّل من غيّر دين إسماعيل عليه السلام، فنصب الأوثان وسيّب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحامى. قال عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما: نزل القرءان بلغة الكعبين: كعب بن لؤىّ وكعب بن(2/317)
عمرو بن لحىّ، وذلك أن دارهم كانت واحدة، وأفصى بن حارثة بن عمرو مزيقياء وعدىّ بن حارثة وعمرو بن حارثة.
فأما عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مريقياء، قال شيخنا شيخ الشرف: عمرو هو خزاعة نفسه أعقب من خمس أفخاذ: كعب وسعد وعدىّ ومليح وهو لحىّ:
بطن كثّير بن عبد الرحمن الشاعر، وعوف بن عمرو خزاعة.
فأما كعب بن عمرو خزاعة بن ربيعة، فأعقب من ستّ أفخاذ: وهم منقذ وسلول وحبشيّة ومطرود ومازن وسعد: أولاد كعب بن عمرو خزاعة.
فأما سلول بن كعب، وإليه ينسب كلّ سلولىّ، فأعقب من ثلاث أفخاذ:
حبشيّة وعدىّ وحرمز، فأعقب حبشيّة بن سلول من قمير وضاطر وكليب وحليل وغاضرة: بنيه لصلبه. وأعقب عدىّ بن سلول من حبير وهينه وحريز:
بنى عدىّ.
وأما حبشيّة بن كعب بن عمرو خزاعة، فأعقب من ابنيه لصلبه: غاضرة وحرام.
وأما سعد بن عمرو وهو خزاعة، فأعقب من ثلاث قبائل: بنى المصطلق، وبنى عامر وبنى الكاهن.
وأما أفصى بن حارثة بن عمرو مزيقياء، فإنه أعقب من أسلم: بطن في آخرين:
وهم ملكان وزيد وعمرو وعدىّ وجهادة وحطّاب وسوادة وجريش وامرؤ القيس وصهيبة وجشم. فمن بنى أسلم بن أفصى: سلامان: فخذ، وهوزن: فخذ: ابنا أسلم بن أفصى، ومن ملكان، بالفتح، بن أفصى: غبشان بن ملكان: فخذ، منهم:
ذو الشّمالين المقتول ببدر.(2/318)
وأما عدىّ بن حارثة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من سعد بارق، نزل بماء بالسراة أيام سدّ مأرب يسمّى بارق، وقيل: هو جبل. وقيل: بل تبعوا البرق فسمّوا بذلك، وعمرو وعوف: بنى عدىّ.
وأما عمران بن عمرو مزيقياء، فأعقب من الأسد والحجر ابنيه لصلبه؛ فأعقب الأسد من ثلاث أفخاذ: العتيك وشهيل والحارث: بنى الأسد. فمن ولد العتيك:
أسد بن الحارث بن العتيك: فخذ، ووائل بن الحارث، واليه ينسب المهلّب بن أبى صفرة.
وأما الحجر بن عمران بن عمرو مزيقياء، فأعقب من أربع أفخاذ: زيد مناة ومرحوم وعمرو وسود: أولاده لصلبه؛ فأعقب عمرو بن الحجر من ابنه رباب.
وأما كعب بن عمرو مزيقياء، فأعقب من خمس أفخاذ: السموءل وحنظلة وثعلبة ومالك وقاتل الجوع: أولاد كعب بن عمرو.
وأما عمرو بن حارثة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من ثلاث أفخاذ: حارثة والرّبعة وملادس: بنى عمرو.
وأما جفنة بن عمرو مزيقياء، فهم ملوك الشام. والعقب من جفنة من ثلاث أفخاذ: كعب ورفاعة والحارث: بنى جفنة في آخرين.
فالعقب من كعب بن جفنة بن مزيقياء، من أمام والحارث: ابنيه لصلبه؛ ومن ولد أمام: جبلة بن الأيهم بن عمرو بن جبلة بن الحارث الأعرج بن جبلة بن لحارث الأوسط بن ثعلبة بن الحارث الأكبر بن عمرو بن حجر بن هند بن أمام هذا ابن كعب بن جفنة بن عمرو مزيقياء. وقيل: بل هو جبلة بن الأيهم بن جبلة(2/319)
ابن الحارث الأكبر بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، وفيه اختلاف؛ وجبلة هو الذى تنصّر في خلافة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، ومن رفاعة بن جفنة: السموءل ابن أوفى بن عادياء بن رفاعة بن جفنة: بطن؛ وأعقب الحارث بن جفنة من المنذر ابن النعمان بن الحارث: بطن، ومن الحسحاس ومنارة: ابنى عوف بن الحارث:
بطن. وجماعة من قبيلة الأرمن نصارى يزعمون أن جدّهم هيّر يرجع الى جفنة غسّان.
وأما الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان، فالعقب من ولده في همدان: وهو أوسلة ابن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار المذكور. وقيل: هو الجبار بالجيم والباء الموحدة.
والعقب من همدان: ابن مالك بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان هذا، ومن جشم: ابن بكيل وهو الحبك: فخذ، وحاشد ابنا جشم لصلبه. فأعقب الحبك من دومان وسوران وخيران. فمن ولد دومان بن الحبك وهو بكيل: أرحب ومرهنه: ابنا عامر بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان، اليه ينسب كلّ أرحبىّ. ومن حاشد ابن جشم بن خيران: سبيع: فخذ، ابن سبع بن صعب ابن خيران بن معاوية بن كبير بن خيران: وهو مالك بن زيد بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران: رهط أبى إسحاق السّبيعىّ؛ وفي ذلك خلاف بين النسّابين فى الأسماء.
وذكر بعض النّسابين أنّ ألهان بن مالك: أخا همدان بن مالك، اليه يرجع وينسب كلّ ألهانىّ: وهم قليل، ويام بن أحىّ بن نافع بن خيران وهو مالك بن زيد: رهط زبيد اليامىّ شيخ التّوّزىّ.(2/320)
وذكر بعض النّسابين: أن الأوزاع، وهم من مزيدة بن زيد عددهم في همدان وهم من حمير، واليه يرجع كلّ أوزاعىّ. ومن ولد سدد بن زرعة وهو حمير الأصغر:
الأوزاع بن سعد بن عوف بن عدىّ بن مالك بن زيد بن سدد، والأوزاع بن زيد ابن سدد، والأوزاع بن سدد، والأوزاع بن شقران بن المعلّل بن سدد.
قال: وهذه النهاية في اختصار أنساب اليمن. وقد احتوت على الغاية في حسن إيصال البطون وتبيينها في الترتيب؛ فلنرجع الى عمود النسب المحمدىّ فنقول:
إن عمود النسب من عابر بن شالخ في ابنه: فالغ بن عابر؛ وأمّه ميشاخا؛ وكان له من الولد غير عمود النسب الجبابرة، مثل تميم وقينان وسيرى [1] ومدبّر وغيرهم انقرضوا كلّهم لم يعقب منهم إلا أرغو بن فالغ، وهو الجدّ الذى يرجع إليه كلّ قرشىّ وكلّ قيسى، وهو أحد شعبى النسب.
والعقب من ولده في أرغو بن فالغ [1] وكان منه جبابرة انقرضوا. وعقبه في ابنه ساروغ بن أرغو. وكان له غير عمود النسب من العقب عشائر وأولاد جبابرة. منهم يعصم، ويعظم، ونعمان، وبعلاك، وبهران، وكاشم، وطولان، وغيرهم هلكوا دارجين.
والعقب منه في ابنه ناحور بن ساروغ، فالعقب من ناحور في ابنه تارح: وهو آزر بن ناحور.
ومن تارح غير عمود النسب: هاران بن تارح وناحور بن تارح، فولد هاران: لوطا النبىّ صلى الله عليه وسلم.
وعمود النسب من آزر في ابنه:
__________
[1] الاسمان المرقومان برقم 1 وردا في الأصل هكذا، وفي التوراة: (سترى) . (رعو بن فالج) .(2/321)
إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام
وهو الجدّ الحادى والثلاثون لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأمه أدبا بنت نمر بن أرغو بن فالغ بن عابر. وله من الولد غير إسمعيل عمود النسب: إسحاق عليه السلام ويشباق: وهو طالب، وسوّاح: وهو خاضع، وزمران: وهو نجدان، ومدان، ويقشان: وهو مصعب؛ فهؤلاء ولد إبراهيم عليه السلام لصلبه، والعقب منهم غير عمود النسب وهو إسماعيل لإسحاق لا غير. فولد إسحاق صلى الله عليه وسلم:
يعقوب إسرائيل الله صلى الله عليه وسلم والعيص وهو عيصو، [1] ، ولدا في بطن واحد، فخرج عيصو أوّلا وخرج يعقوب بعده، ويده عالقة بعقبه فسمّى يعقوب. وأمّهما رفقا بنت [1] ناحور بن تارح بنت عمّ أبيهما إسحاق. فولد العيص بن إسحاق: رعوال [1] ويعوس وأليفاز ويعلام وقورح وروم. فولد أليفاز بن العيص: عمالق [1] وغيره.
وولد رعوال بن العيص: ناجب وغيره. وولد روم بن العيص بن إسحاق: بنى الأصفر لأن روم كان رجلا أصفر في بياض فلذلك سمّيت الروم: بنى الأصفر.
قال: وعمر عيصو مائة وسبعا وأربعين سنة. وكذلك يعقوب؛ ودفنا معا عند قبر ابيهما إبراهيم الخليل عليه السلام في مزرعة حبرون. وقيل: هى مزرعة عفرون كان إبراهيم اشتراها لقبره، وفيها دفنت سارة.
ومن ولد العيص: أيوب النبىّ عليه السلام، قيل: هو أيوب بن أموص بن تارح ابن رفو بن عيصان بن إسحاق، وأمّه من ولد لوط بن هاران عليه السلام.
وولد يعقوب عليه السلام: اثنى عشر سبطا. منهم يوسف النبى عليه السلام:
عزيز مصر وصاحبها، وإخوته: كاد [1] وبنيامين ويهوذا ونفتالى وزبولون وشمعون
__________
[1] الأسماء المنمرة بنمرة 1 وردت كذا في الأصل؛ وفي التوراة: عيسو. رفقة. رعوئيل. يعوش.
عماليق. جاد.(2/322)
ورأوبين، وكشاحا، ولاوى، ودان، وياشير [1] . جاء من ولد يهوذا: سليمان النبىّ عليه السلام، وجاء من سليمان: مريم ابنة عمران أمّ المسيح عليهما السلام. وجاء من لاوى بن يعقوب: موسى كليم الله وهارون عليهما السلام ابنا عمران بن قاهث، وجاء من ولد هارون: يحيى بن زكريّا والياس واليسع والعزيز. وقد روى: أن الياس بن حضر نبىّ، وأنه المعنىّ بقوله تعالى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ
في قراءة نافع وابن عامر، وأن آل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم.
والعقب من يوسف الصدّيق عليه السلام: أفرائيم ومنشّا [2] ابنيه لصلبه؛ فمن ولد أفرائيم: يوشع بن نون وصىّ موسى عليه السلام: وهو الذى ردّت عليه الشمس فى حربه: وهو يوشع بن نون بن عازر بن شوتالج بن داباد بن ناحب بن العاد ابن ناحب بن يارد بن شوتالج بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب. وفي ولد منشا ابن يوسف: موسى بن منشا بن يوسف. وولد لمنشا ابنة اسمها رحمة: وهى امرأة أيوب عليه السلام.
قال: وزعم أهل التوراة أن الله تعالى نبّأه وأنه صاحب الخضر. وذكر المؤرّخون أنه لما مات يعقوب، فشا في الأسباط الكهانة فبعث الله تعالى موسى بن منشا يدعوهم الى عبادة الله تعالى، وهو قبل موسى بن عمران بثمانمائة سنة والله تعالى أعلم.
ونرجع إلى عمود النسب؛ وهو من إبراهيم في ولده إسماعيل: الذبيح بن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وأمه أم ولد، تدعى هاجر، من قبط مصر، من قرية يقال لها: أمّ العرب نحو الفرما.
__________
[1] فى التوراة: أشير.
[2] فى التوراة: منسّى.(2/323)
واختلف العلماء فيما بين عدنان إلى إسماعيل في ذكر الآباء: فمن العلماء من ينسب اليمن إلى إسمعيل عليه السلام ويقولون: إنهم من ولد يمن بن نبت بن إسماعيل، وافترق باقى ولد إسماعيل في أقطار الأرض فدخلوا في قبائل العرب ودرج بعضهم فلم ينسب النسابون لهم نسبا إلا من كان من ولد قيدار ابنه عمود النسب.
قال: واتفق أهل العلم بالنسب كما وجدوه في التوراة وكما حملوه عن علماء أهل الكتاب، وكما روى عن عبد الله بن عباس: أن النسب فيما بين آدم وإسماعيل صحيح على ما أوردناه لا خلف فيه بينهم ولا خلاف إلا في الأسماء لتنقل الألسنة، وإنما الخلاف فيما بين إسماعيل وعدنان، وذلك أن قدماء العرب لم يكونوا أصحاب كتب يرجعون إليها، وإنما كانوا يرجعون إلى حفظ بعضهم من بعض، فمن أجل ذلك حدث الاختلاف فيما حفظوه، فقال قوم برواية وقال آخرون برواية. قال: وهذه الرواية التى أوردها في هذا التأليف هى أحسن الروايات، وهى عمدة أكثر النسّابين الأجلّاء، وعليها كان يعتمد شيخ الشرف محمد بن أبى جعفر الحسينىّ العبيدلىّ النسابة، وهى رواية عبد الله بن عباس، واختيار أبى بكر محمد بن عبده العبقسىّ النسّابة الطرسوسى وغيره.
وكان لإسماعيل عليه السلام من الولد غير قيدار عمود النسب أحد عشر ولدا:
وهم مسّا ويطور ومسماع ودوماء، وقيل: هو الذى بنى دومة الجندل، ومبشام وإديال ونعابوا وتيما، وحداد ونافيس وقيدما.
وعمود النسب من إسماعيل عليه السلام في ابنه قيدار بن إسماعيل، وأمّه هالة بنت الحارث بن مضاض الجرهمىّ ويقال: اسمها سلمى، وقيل: الحنفا، وقيل: هى أم أولاد إسماعيل كلهم.(2/324)
والعقب منه في ابنه حمل بن قيدار؛ وأمه الغاضريّة بنت مالك الجرهمىّ.
والعقب منه في نبت بن حمل وأمّه هامة بنت زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان، وتدعى حريرة.
والعقب من نبت في ابنه سلامان بن نبت.
والعقب من سلامان في ابنه الهميسع بن سلامان، أمّه حارثة بنت مراد بن زرعة ذى رعين الحميرىّ.
والعقب منه في ابنه اليسع بن الهميسع.
والعقب من اليسع في ابنه أدد بن اليسع، وأمّه حيّة من قحطان.
والعقب منه في ابنه أدّ بن أدد، وأمّه النعجا بنت عمرو بن تبّع سعد ذى فائش الحميرىّ.
والعقب منه في ابنه عدنان بن أدّ، وأمّه المتمطّرة بنت عدى الجرهميّة: وهو الجدّ الحادى والعشرون لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال أكثر النسّابين: إن العقب من عدنان غير معدّ عمود النسب من عكّ:
وهو الحارث والذئب والنعمان والضحّاك لا عقب له: وهو المذهب الذى يقال فى المثل: «أحسن من المذهب» وعدىّ درج؛ والغنىّ وأبىّ وعدن: وهو صاحب عدن، وعمرو ونبت وأدّ وعدا انقلبت في اليمن.
فأما عكّ بن عدنان فكلّ من كان منهم بالمشرق فهم ينسبون الى الأزد، والذى فى الأزد أيضا عكّ بن عدنان بالثاء المثلّثة ابن عبد الله بن الأزد.(2/325)
وقال شيخ الشرف النسّابة: عكّ بن عدنان بالنون. وقال الأفطسىّ النسابة:
عكّ بن الحارث بن عدنان بن عبد الله بن الأزد، وكلّ من كان منهم بالشام ومصر واليمن والمغرب فهم مقيمون على نسبهم في عدنان.
وأما الذئب بن عدنان فيزعمون أن الأوس والخزرج من ولده. قال عبّاس بن مرداس:
وعكّ بن عدنان الذين تلعّبوا ... بغسّان حتى طرّدوا كلّ مطرد
نرجع. وعمود النسب من عدنان في ابنه معدّ بن عدنان، وأمّه مهدد بنت اللهمّ الجرهميّة.
قال [1] النسابون في أولاده لصلبه فقالوا: إن ولده أحد عشر رجلا: وقالوا: ثمانية، وزاد آخرون، وقال قوم: لم يكن له غير نزار.
قال: فالذى أورد له أحد عشر ولدا قال: والعقب من معدّ بن عدنان: عبيد الرّمّاح أعقب، وجنيد وجنادة وحيد وقبضة، وقيل: بل اسمه قنص انقرض، وقناصة وحيدان أعقب، وشطّ وعوف وسنام وقضاعة، قال العلماء: وكلّهم انتقلوا في اليمن وغيرها إلا نزارا. وقد قيل: إن حيدان هذا هو أبو مهرة: القبيلة. وقال النسّابون:
والقحم أعقب، وسنام أعقب، وحبيب والضحّاك أعقب، وأود أعقب: أولاد معدّ.
فأمّا عبيد الرّمّاح فانتسب في بنى مالك بن كنانة، ومنهم كان إبراهيم بن عربىّ صاحب اليمامة.
وأمّا سنام بن معدّ فإنه انتسب في سعد العشيرة بن مالك في اليمن.
__________
[1] لعله: قال واختلف النسابون الخ.(2/326)
وأمّا حيدة بن معدّ فانتسب في الأشعريّين.
وأمّا القحم بن معدّ فانتسب في مالك بن كنانة.
وأمّا أود بن كعب فانتسب في مذحج.
وأمّا قنص فانقرض عقبه، وقيل: كان منهم النعمان بن المنذر.
وروى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: ذو القرنين عبد الله بن الضحاك بن معدّ بن عدنان.
نرجع. وعمود النسب من معدّ بن عدنان في ابنه نزار بن معدّ وأمّه معانة بنت جوشم [1] الجرهميّة، ومنه غير مضر الذى هو عمود النسب ثلاث بطون: ربيعة الفرس وإياد وأنمار: بنو نزار. والصّريحان من ولد إسماعيل عليه السلام: مضر الحمراء وربيعة الفرس. وقولهم: ربيعة الفرس ومضر الحمراء، فزعموا أنه لما مات نزار تقسم بنوه ميراثه واستهمّوا عليه؛ وكان له فرس، مشهور فضله في العرب فأصابه ربيعة فقيل: ربيعة الفرس؛ وكان له ناقة حمراء، مشهورة الفضل بين العرب فأصابها مضر فقيل: مضر الحمراء؛ وكان له جفنة عظيمة يطعم فيها الطعام فأصابها إياد؛ وكان له قدح كبير يسقى فيه اللبن إذا أطعم فأصابه أنمار. هذا أحد ما قيل في ذلك، وسنذكر ما قيل في قسمة ميراث نزار وما اتفق لأولاده مع الأفعى الجرهمىّ في أمثال العرب في حرف الهمزة وفي قولهم: «إن العصا من العصيّة» ، وهو في الباب الأوّل من القسم الثانى من هذا الفن في أوّل السفر الثالث من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
__________
[1] كذا في الأصل وفي الطبرىّ: جرشم.(2/327)
نرجع. فأمّا أنمار بن نزار فإنها انقلبت في اليمن، قال: كذا روينا عن شيوخنا فى النسب ومن قال: إنها انقلبت في اليمن يقول فيه: إنّ خثعم وبجيلة ابنا أنمار بن نزار، وإنما لحقا باليمن وانتسبا عن جهل منهما إلى أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث ابن النبيت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وأمّا إياد بن نزار وهى القبيلة التى يرجع اليها كلّ إيادىّ، فمنها فخذان: بنو دعمىّ ابن إياد، وبنو زهر بن إياد؛ ومن زهر بنو حذاقة بن زهر: عشيرة في إياد، اليها ينسب الحذاقيّون.
وأما ربيعة الفرس بن نزار بن معدّ، فأعقب من ثلاثة أبطن: أسد، وهو البطن الأعظم من ربيعة، وضبيعة بن ربيعة، وأكلب. وضبيعة يقال له: ضبيعة الأضجم:
لأنه كان مائل الفم. ومن أكلب أفخاذ: منها لصلبه: هرير وعوف ومعن ومبشّر وجليلة.
والعقب من ضبيعة بن ربيعة بن نزار من ثلاث قبائل: جلّى وعوف وبدر: بنو أحمس بن ضبيعة؛ ومن بنى جلّى: بنو مجمّع الشعوب: ربيعة بن سلمة بن سعد بن بلال ابن بهثة بن حرب بن وهب بن جلّى: بطن.
وأما أسد بن ربيعة فمنه ثلاث بطون: أفصى بن دعمىّ بن جديلة بن أسد، وعنزة ابن اللهازم بن أسد، واسمه عمرو، وعميرة بن أسد؛ وإلى عنزة ينسب كلّ عنزىّ محرّك النون.
والعقب من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار فخذان: وهما أسلم ويقدم: ابنا يذكر ابن عنزة بن أسد. فمن أسلم فخذان: بنو صباح، وهو قمر الليل والنهار، وبنو حلّان:(2/328)
ابنى العتيك بن أسلم. ومن يقدم بن يذكر فخذان: تيم ونصر: ابنا يقدم. ومن بنى تيم: بنو هميم بن عبد العزّى بن ربيعة بن تيم بن يقدم.
والعقب من عميرة بن أسد بن ربيعة بن نزار فخذان: هما مبشّر وعدىّ: ابنا عميرة بن أسد بن ربيعة.
وأما أفصى بن دعمىّ بن جديلة بن أسد، فمنه بطنان: هنب وعبد القيس: ابنا أفصى بن دعمىّ بن جديلة؛ وإلى عبد القيس هدا ينسب كلّ عبقسىّ.
والعقب من عبد القيس بن أفصى بن دعمىّ بن جديلة بن أسد من افصى بن عبد القيس، واللّبود بن عبد القيس. والعقب من أفصى بن عبد القيس من لكيز بن أفصى وشنّ بن أفصى. فمن لكيز بن أفصى ثلاث عشائر: وديعة وصباح ونكرة.
فمن ولد نكرة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس: دهن بن عذرة بن منبّه بن نكرة بن لكيز ابن أفصى بن عبد القيس؛ وليس دهن هذا فخذ عمارة الدهنىّ، إنما فخذه دهن التى في بجيلة.
والعقب من وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمى من عمرو بن وديعة ودهن بن وديعة وغنم بن وديعة.
والعقب من عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى- وقال لولده: العمور- أنمار وعجل ومحارب والدّيل: أولاد عمرو بن وديعة.
والعقب من هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة من قاسط ابن هنب وعمرو بن هنب، فمن ولد عمرو بن هنب هذا: عتيب بن عمرو، ومن عتيب في دهن: فخذ، وخفاجة: ابنى عتيب.(2/329)
والعقب من قاسط بن هنب من النمر بن قاسط؛ واليه ينسب كل نمرى، وعمرو وهو غفيلة بن قاسط: قبيلة، ومعاوية بن قاسط في عاملة، ووائل بن قاسط:
البطن الأعظم من قاسط.
فالعقب من النمر بن قاسط من تيم الله ويقال: تيم اللات، وأوس مناة: ابنى النمر؛ ومن النمر بن قاسط: بنو الضّحيان وهو عامر بن سعد بن الخزرج بن سعد بن تيم الله ابن النمر. واليه كانت الرياسة واللواء والحكومة والمرباع. وقيل له الضحيان لأنه كان يحكم بين العرب في الضّحى.
وأما وائل بن قاسط بن هنب، فأعقب من أربع أبطن: تغلب بن وائل: البطن المشهورة، اليها يرجع كلّ تغلبىّ معدّىّ. (وفي قضاعة أيضا تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة جدّ بنى كلب) ، وبكر بن وائل، وعنز بن وائل ساكنة النون كما ينسب في نزار إلى عنزة بن أسد كلّ عنزىّ محرّك النون، وعمرو بن وائل.
فمن عنز بن وائل بن قاسط فخذان: وهما رفيدة بن عنز وأراشة بن عنز، وفيهما عدّة أفخاذ وعشائر.
والعقب من بكر بن وائل بن قاسط بن هنب من الحارث وعلىّ ويشكر وجشم وبدن:
بنى بكر؛ وإلى علىّ هذا ينسب كلّ علوىّ في نزار؛ وإلى يشكر هذا ينسب كلّ يشكرىّ.
والعقب من يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب من ثلاث قبائل لصلبه:
وهم حرب وكنانة وكعب؛ فأعقب حرب بن يشكر من جشم وذهل: ولدى كنانة بن حرب؛ ومن بنى جشم بن حرب: بنو عصيم بن سعد بن عمرو بن جشم؛ وبنو الحمير: حبيّب بن كعب بن جشم، وإلى جشم هذا ينسب كلّ جشمىّ في نزار.(2/330)
وأعقب كنانة بن يشكر من ذبيان بالكسر بضد ذبيان عبس الذى هو بالضمّ؛ وأعقب ذبيان من فخذ وائلة وعامر: ابنى ذبيان بن كنانة بن يشكر. فمن بنى عامر بن ذبيان:
بنو جشم بن عامر: فخذ يقال لهم: الجشميّون أيضا.
وأما بنو علىّ الوائلى فالعقب من علىّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى ابن دعمىّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة من صعب بن علىّ وحده؛ وإليه يرجع كلّ صعبىّ في نزار. والعقب من صعب من ثلاث بطون: عكابة ولحيم [1] ومالك: أولاد صعب بن علىّ بن بكر بن وائل، فأعقب مالك بن صعب في بنى زمّان بن مالك:
فخذ، وإليه ينسب كلّ زمّانىّ.
وأما لحيم بن صعب، فأعقب من حنيفة بن لحيم: البطن المشهورة، ومن عجل ابن لحيم.
قال الزبير بن بكّار: وحنيفة امرأة نسب إليها ولدها: وهى حنيفة بنت كاهل بن أسد بن خزيمة. فأعقب حنيفة من ثلاث قبائل: الدّؤل بن حنيفة: القبيلة المشهورة فى بنى حنيفة، ويقال في النسبة إليه: دؤلىّ كذا بضد النسبة الى دؤل كنانة، وعامر ابن حنيفة وعدىّ بن حنيفة؛ وفيهم عدّة عشائر وقبائل، والعزوة إلى حنيفة تغنى عنها؛ منها بنو يربوع بن الدؤل بن حنيفة إليه ينسب كلّ يربوعىّ: وهم قبيلة خولة بنت جعفر بن قيس بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع المذكور أمّ أبى القاسم محمد بن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه المعروف بابن الحنفيّة؛ وهو الذى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لعلىّ «سيولد لك ولد وقد نحلته اسمى وكنيتى» .
__________
[1] كذا بالأصل وفي كتاب المعارف لابن قتيبة: «لجيم» بالجيم المعجمة.(2/331)
قال: ولعبيد بن ثعلبة بن يربوع غير سلمة خمس أفخاذ لصلبه: مسلمة وشيبان وزيد ووهب وأرقم؛ ولهم عدد في بنى مسلمة المذكور: عمرو بن معدى كرب بن الحارث بن مسلمة، إليه ينسب كنز الدولة حامى أسوان.
وأما عجل بن لحيم فأعقب من أربع أبطن: وهى سعد وكعب وهم قليل، وربيعة وضبيعة أولاد عجل؛ وإليه ينسب كلّ عجلىّ. وفيهم عدّة أفخاذ وعشائر، وإلى ضبيعة ينسب كلّ ضبعىّ.
وأما عكابة بن صعب بن علىّ فأعقب من بطنين: ثعلبة وفيه العدد، وقيس:
ابنى عكابة.
والعقب من ثعلبة بن عكابة بن صعب بن على من خمسة: قيس من اللهازم:
بطن، ومالك وتيم الله من اللهازم: قبيلة أولاد ثعلبة بن عكابة، وشيبان وذهل وهما الذهلان: ابنا ثعلبة؛ وإلى شيبان هذا يرجع كلّ شيبانىّ، وإلى ذهل يرجع كلّ ذهلىّ.
فأما قيس ابن ثعلبة فأعقب من ضبيعة وسعد: ابنيه لصلبه. والعقب من ضبيعة ابن قيس بن ثعلبة بن عكابة من ربيعة وهو جحدر، وإليه يرجع كلّ جحدرىّ، وسعد وتيم وعباد ومالك: بطن.
وأعقب تيم الله بن ثعلبة بن عكابة من سبع أفخاذ: وهم الحارث وذهل وعدىّ ومالك وعامر وزمّان وحاطبة؛ ومن بنى مالك بن تيم الله: بنو عائش بن مالك: فخذ.
فأما شيبان بن ثعلبة بن عكابة فأعقب من ثلاث بطون لصلبه: ذهل، وإليه يرجع الذهليّون، وتيم وثعلبة؛ وثعلبة هذا: هو الفخذ الذى ينسب إليه ويرجع أبو الصقر محمد بن إسماعيل وزير المعتمد. وفيه يقول ابن الرومىّ الشاعر:(2/332)
قالوا: أبو الصقر من شيبان، قلت لهم: ... كلّا لعمرى ولكن منه شيبان
وكم أب قد علا بابن له شرفا ... كما علا برسول الله عدنان
وأعقب ذهل بن شيبان من أولاده لصلبه: وهم مرّة؛ وإليه يرجع المرّيون الشيبانيّون وأبو ربيعة ومحلّم وصبح [1] والحارث وعمرو: وهو جذرة وعوف وعبد غنم، ومن ولد أبى ربيعة بن ذهل: المزدلف: وهو عمرو بن أبى ربيعة: فخذ كبيرة.
وفي مرة بن ذهل بن شيبان عدّة أفخاذ: وهم سعد ودبّ وسيّار وكثيّر وجندب وبجير وجسّاس ونضلة وهمّام: قبيلة الأحلاف أولاد مرة. قال: وهمام بن مرة ابن ذهل هو بيت ذهل وقعدد فخرهم. وأعقب لصلبه الأحلاف من مازن وعوف وثعلبة خمسين بيتا، وعمرو وعائشة والأسعد وحبيب: هؤلاء هم الأحلاف ومرّة وعبد الله والحارث.
وأما ذهل بن ثعلبة وهو أحد الذهليين فمنه بطنان لصلبه: شيبان وعامر، فأعقب شيبان بن ذهل بن ثعلبة من سبع أفخاذ لصلبه: وهم سندوس ومازن وعمرو الأعمى وعلباء ومالك وعامر وزيد مناة. وإلى سدوس هذا ينسب كلّ سدوسىّ. ومن ولد مازن هذا: أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيّان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن. وإليه أيضا ينسب أبو عثمان المازنىّ النحوىّ وكلّ مازنىّ، وفي مذحج في بنى سليم: زبيد مازن المعروفة.
نعود إلى باقى نسب وائل.
وأما تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب، واسم تغلب دثار وكان أكثرهم نصارى، فالعقب منه في ثلاث أفخاذ لصلبه: عمران وهم قليل، وأوس وغنم؛ وفيه العدد
__________
[1] كذا بالأصل وفي كتاب المعارف لابن قتيبة: صبيح.(2/333)
والبيت؛ ومن قبائل غنم الخنّاقون: بكر ورزاح ومالك وعدىّ: بنو معاوية ابن عمرو بن غنم بن تغلب، والأراقم الستة: جشم ومالك وعمرو والحارث ومعاوية وثعلبة: أولاد بكر بن حبيب بن غنم بن عمرو بن تغلب، ومن جشم هذا: بنو عطيف مجزئة بن حارثة بن مالك بن جشم بن بكر بن حبيب: رهط سيف الدولة ابن حمدان. فهذا نهاية الاختصار في نسب بنى نزار.
وعمود النسب منه في ابنه مضر بن نزار، وأمّه سودة بنت عكّ العدنانية. ومنه غير عمود النسب وهو الياس ابنه قيس بن عيلان بن مضر؛ واسم عيلان: الناس، وهو أخو الياس. ويقال: قيس عيلان بن مضر؛ وعيلان حاضن كان لقيس فنسب إليه كما نسب غير واحد من العرب إلى الحضان: كسعد هذيم حضنه هذيم فنسب إليه؛ والصحيح: أن عيلان بن مضر، واسمه الناس، وقيسا ولده. وقد قيل فى الناس: النّاس بتشديد السين.
ذكر نسب قيس وبطونها
والعقب من قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان ثلاثة نفر:
خصفة وسعد وعمرو. وقال قائلون: وبر بن قيس وإنه ولد طوائف من البربر، وفي ذلك خلاف عند النسّابين.
فالعقب من خصفة هذا من بطنين: عكرمة ومحارب ابنى خصفة بن قيس.
وقيل: إن خصفة بن عكرمة غلب اسمها عليه فنسب إليها كما قيل في خندف. أعقب عكرمة بن خصفة من منصور بن عكرمة: البيت الأوّل من بنى قيس، فيه العدد، وسعد بن عكرمة وأبى مالك وعامر: بنى عكرمة. أعقب منصور بن عكرمة من هوازن(2/334)
ابن المنصور: القبيلة المشهورة، ومن سليم بن منصور: القبيلة المشهورة، وسلامان ابن منصور: قبيلة، ومازن بن منصور: قبيلة.
فأما هوازن فأعقب من بكر بن هوازن لا غير، وأعقب بكر بن هوازن من ثلاث أفخاذ: معاوية بن بكر، وفيه العدد، وقسىّ وهو ثقيف، واسمه منبّه بن بكر، وإليه يرجع كلّ ثقفىّ؛ وسعد بن بكر؛ وإليه يرجع كلّ سعدىّ من عشيرة حليمة بنت أبى ذؤيب السعديّة: ظئر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى حليمة بنت أبى ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قصيّة بن نصر ابن سعد المذكور؛ واسم زوجها وهو والد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة: الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة بن ملّان بن ناصرة بن قصيّة بن نصر بن سعد؛ وكنيته أبو كبشة؛ وبه كانت العرب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
ابن أبى كبشة. وقيل في أبى كبشة [أقوال] منها أن جدّه لأمّه السيدة آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة كان يكنى أبا كبشة فنسبوه إلى ذلك ليتمه وموت أبيه. وكان أيضا عمرو بن زيد أبو أسد النجارىّ أبو سلمى بن عبد المطلّب جدّ النبىّ صلى الله عليه وسلم يكنى: أبا كبشة. وقيل: بل لحظوا لقولهم: أبا كبشة يعنون أبا كبشة جرير بن غالب بن الحارث، وهو أبو قيلة أمّ وهب بن عبد مناف والد آمنة أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن قتيبة: إنه كان يعبد الشعرى دون العرب، فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة الله دون عبادة الأصنام، شبّهوه فى شذوذه عنهم بشذوذ بعض أجداده من قبل أمّه بعبادة الشعرى وانفصاله منهم.
وأما معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، فأعقب من صعصعة بن معاوية: القبيلة العظمى، وجشم بن معاوية؛ وإليه ينسب(2/335)
كلّ جشمىّ في هوازن. وله ثلاث أفخاذ: عصيمة وزمّان وبنو جشم ونصر ابن معاوية جدّ النصريّين القيسيّين. ومنه فخذان: بنو دهمان وبنو عوف: ابنى نصر، وجحش بن معاوية: فخذ، وسيّار بن معاوية: فخذ، وكلاب بن معاوية، ومنجاب ابن معاوية، وعمرو بن معاوية، وأدحيّة بن معاوية، ودحيّة بن معاوية، ودحوة ابن معاوية، والسّبّاق: وهو يعيش بن معاوية، وعوف بن معاوية، وجحاش بن معاوية: هؤلاء كلّهم أفخاذ قليلو العدد، يقال لهم: الهوازنيّون.
وأما صعصعة بن معاوية فأعقب لصلبه عامر: القبيلة المشهورة، ومرّة: وهم سلول؛ وكلّ سلولىّ ينسب إلى مرّة هذا؛ وأمّ ولده سلول الشيبانيّة: وهى سلول ابنة شيبان بن ذهل بن ثعلبة؛ وولده عشرة أفخاذ: وهم عمرو وضبيعة ونهار وسحيم:
وهو أعيا، وغاضرة وعديّة وجابر ومعاوية وجنى ودهى. وباقى ولد صعصعة لصلبه قبائل صغار: عبد الله وعائد وعمرو وقيس وكبير وسيار ومساور وزبيبة وربيعة وغالب ووائل ومازن وعوف ومنجور والحارث: خمس عشرة قبيلة؛ وفي هذه القبائل: بنو عادية وبنو عديّة بالضم، فأما بنو عادية فهى أم عبد الله عادية والحارث.
وأما بنو عدية فهى أم قيس عدية وعوف عدية. والى عمرو بن صعصعة بن معاوية تعزى الطائفة المعروفة بالأكراد. ومن النسّابين من ذكرهم إلى كرد بن مرد بن عمرو بن صعصعة المذكور. ومنهم من نسبهم إلى أكراد بن فارسان بن أهلوا بن إرم بن سام بن نوح، وعليه اعتمدوا. ومنهم من قال: كرد بن مرد بن يافث ابن نوح.
وأما غامر بن صعصعة فأعقب من أربع بطون: وهم نمير وسواءة وهلال وربيعة.(2/336)
فأما نمير بن عامر. واليه ينسب كلّ نميرىّ، ففيهم عدّة أفخاذ: بنو المقشّب:
وهو ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير، وبنو خويلفة بن عبد الله بن الحارث ابن نمير، وبنو أسقع: وهو مالك بن عامر بن نمير.
وأما سواءة بن عامر بن صعصعة فمنه عدّة أفخاذ: منها بنو حبيب بن سواءة وبنو جسّاس بن سواءة وبنو حرثان بن سواءة.
وأما هلال بن عامر بن صعصعة فالبطن المشهور، وقد نزلوا المغرب من تلمسان إلى طرابلس، فأعقب هلال من إحدى عشرة قبيلة وهم أولاده لصلبه.
أوّلهم البيت المقدّم عبد الله ونهيك وربيعة وعائذة وعبد مناف ورويبة وصخر وشعبة وشعيبة وناشرة وحضرة.
وفي هلال عدّة أفخاذ وعشائر: كزغبة ورياح وفادع والأثيج وحوثة، وقرّة وغيرهم.
فأعقب عبد الله: وهو البطن الأولى من بنى هلال من ثلاث أفخاذ: رويبة ابن عبد الله وحوثة وحارثة: ابنى عبد الله؛ فأعقب رويبة بن عبد الله من أربع عشائر: زغبة ورياح وهزوم ومعاوية: بنى رويبة بن عبد الله، فمن بنى الهزم بن رويبة بن عبد الله: ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله أمّ المؤمنين زوج النبى صلى الله عليه وسلم، ومن بنى رياح: بنو نجيّة بن علىّ ابن فادع: فخذ أعقب، إليه يرجع جنادة بن كامل مقدّم بنى هلال.
وأما نهيك بن هلال فأعقب من خمس قبائل لصلبه: وهم معشر وأبو ربيعة وأبو معاوية وسهل وأبو جشم.(2/337)
وأما عبد مناف بن هلال فأعقب من أربع قبائل: الحارث وعمرو وربيعة ويعمر: بنى عبد مناف لصلبه. فمن بنى ربيعة بن عبد مناف بن هلال: قرّة بن عمرو بن ربيعة: فخذ مشهورة كبيرة، إليه يرجع كلّ قرّىّ. ومن بنى عمرو بن عبد مناف بن هلال: زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف أمّ المساكين زوج النبى صلى الله عليه وسلم أمّ المؤمنين. فهذا مختصر قبائل هلال.
وأما ربيعة بن عامر بن صعصعة، فأعقب من خمس قبائل: وهم الحارث وكليب وعامر وكلاب وكعب: بنوه لصلبه.
أما الحارث بن ربيعة فأعقب من فخذين لصلبه: عوف وعويف.
وأما كليب بن ربيعة فأعقب من خمس أفخاذ لصلبه: أبان وجهم وجشم وخلف ومسروق.
وأما عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فأعقب من أربع أفخاذ لصلبه: عمرو وعوف والبكّاء ومعاوية.
وأما كلاب بن ربيعة بن عامر فأعقب من عشر أبطن، قال الشاعر:
وإن كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت برىء من قبائلها العشر
يعنى شمر بن ذى الجوشن الضّبابىّ، والعشر أبطن لصلب كلاب: وهم جعفر وأبو بكر واسمه عبيد، ومعاوية: وهو الضّباب بن كلاب وعامر وربيعة والأضبط وعمرو وعبد الله ورؤاس «قيل: بالفتح وواو بدل الهمز» ، وكعب.
فأما جعفر بن كلاب فأعقب من أربعة أفخاذ لصلبه: مالك والأحوص وخالد وعتبة؛ وفيهم عدّة عشائر.(2/338)
وأما أبو بكر عبيد بن كلاب فأعقب من ثلاثة أفخاذ لصلبه: عبد وكعب وعبد الله. فأما عبد بن أبى بكر فمن العشائر التى لصلبه: بنو قرط وبنو قريط.
وأما كعب بن أبى بكر فمن العشائر التى لصلبه: بنو جحش بن كعب.
وأما عبد الله بن أبى بكر فمن عشائره لصلبه: بنو المجنون: وهو ربيعة بن عبد الله.
وأما معاوية بن كلاب وهو الضّباب فمنه ثلاث عشرة، قبيلة: وهم ضبّ ومضبّ وضباب؛ ولأجلهم عرف هذا البطن أعنى بنى معاوية بالضّباب، وحسيل وحسل وعمرو وأنس والأعور وزفر وأنيس ومالك وربيعة وزهير: أولاد عمرو بن معاوية.
ومن ولد الأعور هذا شمر بن شرحبيل بن الأعور قاتل الحسين بن علىّ رضى الله عنه.
وأما عامر بن كلاب فمنه أربع قبائل لصلبه: وهم بنو الأصمّ، وهم قليل، وبنو كعب وهو البيت من عامر بن كلاب وطريف بن عامر وعقيل بن عامر. فأعقب كعب بن عامر من الوحيد: وهو عامر بن كعب، من أفخاذه: خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب، منه أمّ البنين بنت حزام بن خالد المذكور زوج علىّ بن أبى طالب، وهى أمّ ابنه العباس السقّاء؛ عرف بذلك لأنه سقى الحسين الماء بكربلا.
وأما ربيعة بن كلاب فمنه ثلاثة أفخاذ لصلبه: وهم بجير وعبيد ونفيل أبو نمير.
وأما الأضبط بن كلاب فتخذه: بنو ويرين الأضبط؛ ومن بنى وبر سبع عشائر: وهم وهب الأكبر ووهب الأصغر وواهب وإهاب ووهبان وخالد وأبو ربيعة: أولاد وبر بن الأضبط.
وأما عمرو بن كلاب فمنه فخذان: نفيل وأبو عوف: ابنا عمرو بن كلاب.(2/339)
وأما عبد الله بن كلاب فأعقب من ثلاثة أفخاذ: عامر وعمرو والصّموت:
أولاده لصلبه. ومن عشائر الضموت بن عبد الله: ضبيعة الأغرّ بن عبد الله ابن الصموت.
وأما رؤاس بن كلاب فأعقب من ثلاثة أفخاذ: بجاد وبجيد وعبيد: أولاده لصلبه؛ ومن بجيد: عفيّف بن بجيد: فخذ؛ وإلى رؤاس هذا ينسب كلّ رؤاسىّ.
وأما كعب بن كلاب فأعقب من أربعة لصلبه: عامر ووهب وربيعة وأوس.
فهذا مختصر بنى كلاب وأبطنها- نعود إلى باقى ولد ربيعة بن عامر.
وأما كعب بن ربيعة بن عامر فأعقب من ستة أبطن لصلبه: وهم جعدة بن كعب: البطن المشهورة؛ إليها يرجع كلّ جعدىّ؛ وفيها عدّة قبائل وعشائر، وحبيب ابن كعب: البطن المشهورة؛ وإليها يرجع كلّ حبيبى؛ وفيها أفخاذ، وعبد الله بن كعب منه العجلان بن عبد الله: بطن، وربيعة بن عبد الله، ونهم بن عبد الله؛ وفيهم أفخاذ، وقشير بن كعب، وإليه يرجع كلّ قشيرىّ؛ وفيها عدّة أفخاذ وعشائر، والحريش بن كعب، وإليه يرجع كلّ حرشىّ: كعبد الله بن الشّخّير بن عوف بن كعب بن وقدان بن الحريش الحرشىّ الصحابىّ وغيره، وعقيل بن كعب: البطن المشهورة، إليها يرجع كلّ عقيلىّ بالضم. والعقب من عقيل بن كعب: بن ربيعة ابن عامر من خفاجة بن عمرو بن عقيل: البطن المشهورة، وعبد الله وربيعة ومعاوية وعامر وعبادة؛ كلّ هؤلاء أبطن. والعقب من خفاجة من أحد عشر فخذا لصلبه: وهم بنو معاوية دى القرح: فخذ، وبنو كعب دى النّويرة، وبنو الأقرع:
فخذ، وبنو كعب الأصغر، وبنو عامر، وبنو مالك، وبنو الهيثم، وبنو الوازع؛(2/340)
إليه ينسب كلّ وازعىّ، وبنو عمرو، وبنو حزن، وبنو خالد. والفخذ العظمى من بنى عقيل بعد بنى خفاجة: بنو يزيد بضم الياء بن عبد الله بن يزيد بن قيس بن حوثة بن طهفة بن حزن بن عبادة: عشيرة الأمير أبى المنيع شرف الدولة محمد بن مرداس؛ ودرج شرف الدولة، وهو ملك العرب.
فهذا مختصر من نسب بنى عقيل، وهؤلاء هوازن وهم بكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان: وهو البطن المشهورة، فأعقب من بهثة بن سليم، وأعقب بهثة من خمسة أفخاذ لصلبه: معاوية وعوف وامرئ القيس والحارث وثعلبة. ومن بنى امرئ القيس بن بهثة: بنو عصيّة بن خفاف بن امرئ القيس: بطن.
وأما محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، فأعقب فخذين لصلبه: طريف وجسر، ويقال لبنى جسر: بنو علىّ لأن العقب من جسر بن محارب في علىّ بن جسر لا غير.
انقضى ذكر بنى خصفة بن قيس بن عيلان.
وأما سعد بن عيلان فأعقب من بطنين لصلبه: وهما غطفان، ومنبه: وهو أعصر؛ والعقب من ريث بن غطفان من أربع أبطن لصلبه: بغيض ومازن وأشجع وإليه يرجع كلّ أشجعىّ، وأهون: بنو ريث.
والعقب من بغيض بن ريث [من عبس وذبيان] وهما القبيلتان المشهورتان.
وذكر بعض النسّابين أنمار بن بغيض منهم أبو كبشة الأنمارىّ. وقيل: إن أبا كبشة الأنمارىّ إنما هو من مذحج.(2/341)
والعقب من عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان من فخذين: قطيعة وورقة ابنى عبس.
والعقب من قطيعة بن عبس من الحارث، ومعتمر: قبيلة قليلة، وعوف: قبيلة، وغالب: قبيلة الحطيئة، ومريطة: قبيلة من ولد خالد بن سنان نبىّ أهل الرّسّ بن جابر ابن غيث بن مريطة.
والعقب من الحارث بن قطيعة بن عبس من جروة وعامر ومازن: قبيلة وذكوان وشدّاد: بنى الحارث بن قطيعة. ومن مازن بن الحارث أفخاذ: منهم جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن: فخذ؛ إليه يرجع الجذميون بالجيم: منهم عشيرة بنى زهير ابن جذيمة في آخرين.
وأما ذبيان بن بغيض، فأعقب من فزارة: البطن المشهورة، وسعد؛ فأعقب فزارة بن ذبيان من مرّة وظالم ورومىّ، درج وشمخ وعدىّ ومازن: أولاد فزارة؛ وفيهم قبائل وعشائر وأفخاذ.
وأما سعد بن ذبيان فمن بطونه المرّيون: بنو مرّة بن عوف بن سعد، وفيهم أفخاذ، وبنو عقال بن سعد: فخذ، وبنو بجالة بن ثعلبة بن سعد وبنو عجب بن ثعلبة وبنو رزام بن ثعلبة.
وأما عبد الله بن غطفان بن سعد فالعقب منه في بهثة بن عبد الله وقطبة وعدىّ وعذرة وكلب وباعث وشبابة وغنم وعوف ومنبّه؛ عشرة أفخاذ.
وأما أعصر: وهو منبّه بن سعد بن قيس فأعقب من باهلة: وهم ولد مالك بن أعصر، وهى باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة أخت بجيلة بن مذحج؛ ولد سعد(2/342)
ابن مالك بن يعصر ومعن بن مالك بن يعصر فغلب اسمها عليهم ونسبوا إليها؛ وكلّ باهلىّ ينسب إلى باهلة وهم ولد مالك بن أعصر بن معن بن مالك، وغنىّ بن أعصر بن سعد بن قيس أعقب من غنم وجعدة، إليها ينسب كلّ غنوىّ والطّفاوة، اسمه الحارث بن أعصر إليه ينسب الطّفاويّون، وعامر بن أعصر.
وأما عمرو بن قيس بن عيلان، فمنه بطنان لصلبه: وهما عدوان واسمه الحارث، وفهم: ابنا عمرو بن قيس؛ وإنما قيل له عدوان: لأنه عدا على أخيه فهم فقتله.
وفهم وعدوان يقال لهما: جديلة قيس، وهى أمّهم جديلة بنت مرّ بن أدّ: أخت تميم بن مرّ. ومن قبائل عدوان: بنو يشكر وبنو دوس: ابنى عدوان: القبيلتان المشهورتان.
هذا آخر مختصر نسب قيس بن عيلان بن مضر.
فلنرجع إلى عمود النسب. وعمود النسب من مضر في ابنه:
الياس بن مضر بن نزار
وأمّه الرّباب بنت إياد المعدّية؛ ومنه غير عمود النسب (وهو مدركة) بطن واحد وهو طابخة بن الياس؛ قال: لأن قمعة بن الياس فيه خلاف كثير، وأكثر مشايخ النسب يذكرون أنه درج ولا عقب له؛ وذكر آخرون: أنه أبو خزاعة، وخزاعة ليست بأب ولا أمّ وإنما هم انخزعوا من مضر الى اليمن ببطن مرّ، وذلك حين أقبل بنو عمرو بن عامر يريدون الحجاز؛ ألا ترى قول عون بن أيّوب الأنصارىّ [1] :
ولما هبطنا بطن مرّ تخزّعت ... خزاعة منّا في حلول كراكر
حمت كلّ واد من تهامة واحتمت ... بصمّ القنا والمرهفات البواتر
__________
[1] كذا بالأصل وفي اللسان أن القائل: حسان بن ثابت.(2/343)
وقد أوردنا نسب خزاعة في بنى عمرو بن عامر ماء السماء الغسّانىّ في نسب اليمن، ومن قبائل طابخة بن الياس خمس: بنو مرّ بن أدّ بن طابخة، وبنو ضبّة بن أدّ ابن طابخة، وبنو عمرو، وبنو خميس، وبنو عبد مناة: أولاد أدّ بن طابخة.
فأما بنو مرّ بن أدّ بن طابخة، فمنه بنو تميم بن مرّ، وبنو ثعلبة بن مرّ: ظاعنة من الشّعيراء، وبنو صوفة: وهم ولد الغوث: وهو الرّبيط بن مرّ وبكر بن مرّ من الشعيراء، ومحارب بن مرّ، فهم عدّة أفخاذ وقبائل. وقبائل تميم: وهم ثلاث: زيد مناة والحارث وعمرو: أولاد تميم لصلبه. فمن قبائل زيد مناة بن تميم نهشل بن دارم ابن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وبنو سدوس بن دارم: قبيلة.
وبنو عبد الله بن دارم: منهم عطارد: قبيلة حاجب بن زرارة بن عدس (وكلّ من عداه بفتح الدال) ابن زيد بن عبد الله بن دارم مجوس، وبنو أبان بن دارم: قبيلة. وبنو ثعلبة بن يربوع بن حنظلة: قبيلة. وبنو كليب بن يربوع: قبيلة. وبنو رياح بن يربوع: قبيلة. وبنو غدانة بن يربوع: قبيلة. وبنو جارية بن سليط بن يربوع.
وبنو البراجم: وهم ظليم وعمرو وقيس وغالب وكلفة: أولاد حنظلة بن مالك؛ فهؤلاء بنو حنظلة بن مالك؛ سموا براجم لتجمّعهم كالأصابع. ثم قبيلة الجوع:
وهم ولد ربيعة بن مالك بن زيد مناة؛ والكردوسان من بنى زيد مناة: معاوية وقيس ابنا مالك بن زيد مناة بن تميم. ومن زيد مناة: بنو سعد بن زيد مناة، منه عدّة قبائل، منهم قبائل الأبناء: وهم عبشمس وعوافة وعوف وجشم ومالك وعمرو: بنو سعد بن زيد مناة. ومن بنى سعد بن زيد مناة: بنو الحرام: وهو من الخدعة بن كعب ابن سعد، وبنو حمّان بن عبد العزّى بن كعب بن سعد، وبنو الأعرج: وهو الحارث(2/344)
ابن كعب بن سعد، وبنو قريع بن عوف بن كعب بن سعد، وبنو بهدلة بن عوف ابن كعب، وبنو برنيق بن عوف بن كعب، وبنو عطارد بن عوف بن كعب قليلون.
ومن قبائل كعب بن سعد المذكور: بنو منقر بن عبيد بن مقاعس: وهو الحارث ابن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم وهم المنقريّون. ومن بنى زيد مناة:
بنو امرئ القيس بن زيد مناة. له عدد ومدد، منه ثلاثة أفخاذ: بنو عصيّة وبنو مالك وبنو الحارث: أولاد امرئ القيس المذكور. ومن بنى زيد مناة: بنو عامر الصحيح بن زيد مناة؛ فهؤلاء بنو زيد مناة بن تميم.
وأما الحارث بن تميم فمنه شقرة بن الحارث: قبيلة، اسمه معاوية، وسمّى شقرة ببيت قاله:
وقد أحمل الرمح الأصمّ كعوبه ... به من دماء القوم كالشقرات
والشقرات: شقائق النعمان، والنعمان: الدم؛ والله أعلم.
وأما عمرو بن تميم فمنه سبعة أفخاذ. وهم بنو مالك وبنو العنبر وبنو الهجيم وبنو أسيد وبنو الحبطة: وهو الحارث. وبنو القليب: وهو أليهة [وزن عليهة] وكعب: بنو عمرو ابن تميم؛ وولى كعب هذا البيت قبل قريش.
فأما مالك بن عمرو بن تميم فمنه فخذان: مازن، منهم أوفى بن مطر المازنىّ جلىّ العرب، والحرماز: وهو الحارث بن مالك. فمن بنى مازن بن مالك بن عمرو بن تميم: أنمار بن مازن: فخذ قليلون، ورألان بن مازن: قبيلة، وحرقوص بن مازن، ورزام بن مازن: قليل، وخزاعىّ بن مازن: قليل.
وأما بلعنبر بن عمرو بن تميم فأعقب من ثلاثة: كعب وجندب ومالك: أولاد العنبر؛ وكلّ بلعنبرىّ ينسب إلى بلعنبر هذا: وهى قبيلة مشهورة.(2/345)
وأما بلهجيم بن عمرو بن تميم وهو الهجيم فأعقب من خمسة: عامر وسعد وعمرو وربيعة وأنمار. ويقال لبلعنبر وبلهجيم: الخبطات [1] . وكذلك أخوهما الحارث الخبط؛ وهو الذى عرفوا بذلك من أجله، يقال: إنه أكل خبطا فسمّى به [2] .
وأما أسيد بن عمرو بن تميم فأعقب من ستة لصلبه: عقيل ونمير وجروة: قبيلة، وعمرو والحارث. فمن بنى جروة بن أسيد بن هند بن أبى هالة: نبّاش ابن زرارة ابن وقدان بن حبيب بن سلامة بن غوىّ بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم:
ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأمّه خديجة بنت خويلد.
وأما الحارث الخبط بن عمرو بن تميم فمنه قبيلة سعد بن الحارث، وهى قبيلة الخبطات، ومشادة بن الحارث الخبط ونضلة بن الحارث الخبط: فهؤلاء بنو تميم فى مرّ بن أدّ بن طابخة.
وأما بنو ضبة بن أدّ فثلاث قبائل: سعد وسعيد وباسل. ولسعد وسعيد المثل السائر «أسعد أم سعيد» . أما سعيد بن ضبة فقليل عددهم. وأما سعد بن ضبة فأعقب من اثنين: ثعلبة وبكر: ابنى سعد؛ فأما ثعلبة بن سعد، فمن قبائلها: بنو مسعود بن دلجة بن نعيم بن قرامة بن كعب بن ربيعة بن ثعلبة بن سعد: قبيلة ينسب إليها كلّ مسعودىّ، وبنو مبذول بن عامر بن ربيعة بن كعب بن ربيعة بن ثعلبة
__________
[1] كذا في الأصل الكوبريلى بإعجام الخاء. والصواب بالمهملة كما في كتب الأنساب واللغة، أنظر القاموس واللسان في مادة: ح ب ط.
[2] إنه أكل خبطا فسمّى به كذا في الأصل، وجاء في القاموس: أن الذين سموا بهذا الاسم هم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاعوا في الطريق حتى أكلوا الخبط وهو الورق المضروب بالمخابط يجفف ويطحن، فسموا بسريّة الخبط أو جيش الخبط وعليه يكون اسم الحارث الحبط بالحاء المهملة.(2/346)
ابن سعد: قبيلة. ومن بنى بكر بن سعد بن ضبة: صبح وبجالة: ابنا ذهل بن مالك ابن بكر بن سعد: فخذان، وعائذة [1] بن مالك بن بكر بن سعد: فخذ، ونصر بن عبد الله ابن بكر بن سعد: فخذ.
وأما باسل بن ضبة فإنه خرج مغاضبا لابيه فوقع بأرض الدّيلم فتزوّج امرأة من الديلم، فولدت له الديلم بن باسل: جدّ القبيلة المشهورة؛ ومن رجالها في الجاهلية:
زيد الفوارس بن حصين، وفي الإسلام ابن شبرمة القاضى. وأعقب من الديلم فخذان: الأبيض بن معاوية بن الديلم، وبجير بن معاوية بن الديلم. فأعقب الأبيض ابن معاوية من الضحاك ولار وشهريار وإيران وناشر: أولاد الأبيض بن معاوية ابن ديلم من بهرام بن الضحاك؛ وفيروز وزر بوران وبريانوس: أربعة أفخاذ. وأعقب بريانوس بن الضحاك من قابوس بن بريانوس. وأعقب قابوس من شاه مرد.
وأعقب لار بن الأبيض من كامياد بن لار. وأعقب كامياد من ابنه جور.
وأعقب بجير بن معاوية بن ديلم من باسل بن تيداذما، فأعقب تيداذما من دادوه.
فهذه النهاية في اختصار نسب الديلم؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأمّا عمرو بن أدّ بن طابخة فهو مزينة، ومزينة أمه: وهى بنت كلب بن وبرة ابن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكلّ مزنىّ ينسب إلى مزينة هذا. ومن مزينة: عثمان وأوس: ولدا عمرو؛ فمن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طابخة بطنان: عدا ولاطم: ابنا عثمان. ومن مزينة: النعمان بن مقرّن وزهير بن أبى سلمى؛ وليس في العرب سلمى بالضمّ سواه، ورؤبة بن العجّاج.
قال رسول الله
__________
[1] وردت في بعض كتب الأنساب بالدال المهملة وفي بعضها بالذال المعجمة فتنبه.(2/347)
صلى الله عليه وسلم! «أسلم وغفار ومزينة وجهينة (أو قال: لمن كان من جهينة) خير من بنى تميم وبنى عامر بن صعصعة ومن الحليفين أسد وغطفان» .
وأما عبد مناة بن أدّ بن طابخة فمنه ثور أطحل بن عبد مناة: بطن- رهط سفيان الثورىّ رحمه الله، (وأطحل جبل) ، وبنو الرباب: ولد تيم بن عبد مناة وعدىّ بن عبد مناة وعوف بن عبد مناة: سمّوا الرّباب: لأنهم غمسوا أيديهم في ربّ إذ تحالفوا على بنى تميم.
قال: ومن النسّابين من يجعل الرباب بنى تميم وعدىّ وثور وعكل: وهم بنو عبد مناة وضبة بن أدّ.
فأما عدىّ بن عبد مناة، فإليه ينسب كلّ عدوىّ ليس من عدىّ قريش؛ ومنهم:
أبو قتادة العدوىّ: تابعىّ؛ وإلى عوف بن عبد مناة ينسب كلّ عوفىّ؛ ومنهم:
عطيّة العوفىّ. قال: وشيخ الشرف النسابة يقول: إن عكلا هو عوف بن وائل ابن قيس بن عوف بن عبد مناة، وعكل: أمة لامرأة من حمير يقال لها: بنت ذى اللّحية، تزوّجها عوف بن وائل، فولدت له جشما وسعدا وعليّا، ثم هلكت، فحضنت عكل ولدها فغلبت عليهم ونسبوا اليها.
وأما تيم بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة ففخذه: عمرو بن الحارث بن التيم بن عبد مناة وفيه العدد.
انقضت خندف فلنرجع الى عمود النسب من الياس في ابنه:
مدركة بن الياس بن مضر
واسمه عمرو، وأمّه خندف: وهى ليلى بنت حلوان القضاعيّة؛ وإنما سمّى مدركة:
لان أباه الياس خرج منتجعا، ومعه أهله وماله، فدخلت بين إبله أرنب، فنفرت(2/348)
الإبل، فخرج أولاد الياس، فأدركها عمرو، فسمّاه أبوه الياس: مدركة؛ وخرجت ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة أمّه تهرول فقال لها الياس: مالك تخندفين؟ والخندفة: الهرولة، فسمّيت خندف، وخرج عامر بن الياس أخو مدركة.
فى طلب الأرنب فاصطادها وطبخها، فقال له أبوه الياس: أنت طابخة، ورأى عمرا أخاهما قد انقمع في الظلّة فهو يخرج رأسه منه، فقال له أبوه الياس: أنت قمعة.
ومن مدركة غير عمود النسب: بنو هذيل بن مدركة، ومن هذيل: بطنان لصلبه: بنو لحيان وسعد؛ ومن قبائل سعد بن هذيل: بنو خناعة بن سعد، وبنو صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل؛ منهم: عبد الله بن مسعود ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن قار بن مخزوم بن صاهلة الصحابىّ: أحد القرّاء رضى الله عنه. ومن شعراء هذيل: أبو ذؤيب الهذلىّ وأبو كبير وأبو المثلّم وغيرهم.
وعمود النسب من مدركة في ابنه خزيمة بن مدركة، وأمّه سلمى بنت اسلم القضاعية؛ ومنه غير كنانة عمود النسب قبيلتان: وهما الهون وأسد. فأما الهون ابن خزيمة، فأعقب من عضل والدّيش ابنى بليغ بن الهون، وهم القارة: سمّوا قارة: لأن يعمر بن عوف بن الشدّاخ أحد بنى ليث لما أراد أن يفرّقهم في بطون كنانة، قال رجل منهم: دعوة قارة لا تنفرونا فنجفل مثل إجفال الظليم فسمّوا قارة:
وهم رماة العرب وفيهم قيل «قد أنصف القارة من راماها» وسبب هذا المثل أن رجلين التقيا، أحدهما من القارة، فقال القارىّ للاخر: إن شئت صارعتك، وإن شئت سابقتك، وإن شئت راميتك، فقال خصمه: قد اخترت المراماة، فقال القارىّ:(2/349)
قد أنصف القارة من راماها ... إنا إذا ما فئة تلقاها
نردّ أولاها على أخراها
ثم انتزع له سهما فصلّ فؤاده؛ وقيل غير ذلك.
ومن أسد بن خزيمة أربع عشائر: بنو كاهل وصعب وعمرو ودودان: بنى أسد.
فمن دودان: بنو عمرو بن دودان: قبيلة: وهم وجوه بنى أسد؛ منهم: زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة؛ زوّجت النبىّ صلى الله عليه وسلم: وهى بنت عمّته أميمة بنت عبد المطلب.
وبنو سعد بن الحارث بن ثعلبة بن دودان: قبيلة. من شعرائهم: بشر بن أبى خازم الوالبىّ الجاهلىّ. وبنو قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان: قبيلة، منهم: فخذ بنى نصر بن قعين، ومنهم بنو فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة ابن دودان: قبيلة. وبنو أعيا بن طريف: قبيلة، وبنو قيس بن طريف: قبيلة، وبنو كعب بن عمرو بن قعين: قبيلة، وبنو سواءة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان: فخذ، وبنو ناشرة بن نصر بن سواءة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان.
وعمود النسب من خزيمة بن مدركة في ابنه كنانة بن خزيمة، وأمّه عوانة بنت سعد القيسية. وبنو كنانة أوّل عرب تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسبه.
ومن بنى كنانة غير عمود النسب وهو النضر: خمس قبائل لصلبه: بنو عبد مناة وعمرو وعامر وملكان ومالك منهم: بنو حداد بن مالك بن كنانة: فخذ.
فأما عبد مناة بن كنانة، فمنهم: بنو بكر وبنو عامر وبنو مرة: بنى عبد مناة، ومن بنى بكر بن عبد مناة: بنو الدّئل بن بكر بن عبد مناة: رهط أبى الأسود الدؤلىّ:(2/350)
وهو ظالم بن عمرو بن سفيان بن عمرو بن حلس بن نفاثة بن عدىّ بن الدئل بن بكر المدكور: وهو تلميذ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه في النحو، ويقال في النسبة إلى هذا الفخذ: دؤلى مهموز مفتوح.
ومن بنى بكر: بنو الحارث بن بكر: فخذ، وبنو ليث بن بكر: فخذ؛ منهم: بنو حدج بن ليث بن بكر فخذ، وبنو ضمرة بن بكر: فخذ. منهم: بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر: رهط أبى ذرّ الغفارىّ: وهو جندب بن جنادة بن قيس بن عمرو بن مذيل بن صعير بن حرام بن غفار، وقد انقرض أبو ذرّ الغفارىّ رضى الله عنه.
وأما عامر بن عبد مناة بن كنانة، فمنه: قين بن عامر: قبيلة أهل الغميصاء، قتلهم خالد بن الوليد رضى الله عنه.
وأما مرّة بن عبد مناة بن كنانة، فمنه: بنو مدلج بن مرّة: قبيلة سراقة بن مالك ابن جعشم وهم المدلجيّون، قالوا: وهم قافة العرب وأعلمهم بالزجر والقيافة.
وأما عمرو بن كنانة، فهم العمريّون. وأما عامر بن كنانة، فهم العامريّون، وأما ملكان بن كنانة فهم الملكانيّون، وأما مالك بن كنانة فمنه في الحارث، ومن الحارث فى ثعلبة، ومن ثعلبة في فخذين: بنو عامر وبنو غنم. أما غنم فمنه: فراس بن غنم: وهم الفراسيّون. ومن بنى غنم: أمّ رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتّاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم: وهى أم عائشة بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنها زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم.
ومن عامر عشيرتان: بنو مخدج بن عامر بن ثعلبة المخدجيّون، وبنو فقيم بن عدىّ بن عامر النسأة. فهؤلاء أفخاذ كنانة؛ والله أعلم.(2/351)
وعمود النسب من كنانة بن خزيمة في ابنه النّضر بن كنانة، واسمه قيس، وأمّه برّة بنت مرّ الأدّية، والنضر: الذهب؛ وكان له: يخلد [1] بن النضر، منه: بدر بن الحارث بن يخلد الذى سمّيت به بدر بدرا. قال: وليس له ولد باق والعقب من النضر بن كنانة في ابنه عمود النسب وهو:
مالك بن النضر وأمه عكرشة بنت عدوان القيسيّة؛ ولا عقب لمالك إلا من عمود النسب وهو ابنه:
فهر بن مالك وهو قريش، وأمّه جندلة بنت عامر الجرهميّة، وكلّ من لم يلده فهر فليس بقرشىّ. وقد قيل في تسميته بقريش أقوال: منها أنه اسم دابّة في البحر، وأنه اسم للقبيلة، وأحسن ما قيل فيه: إن التقريش: التفتيش، فكان يقرش عن خلّة كلّ ذى خلّة فيسدّها بفضله: فمن كان محتاجا أغناه، ومن كان عاريا كساه، ومن كان طريدا آواه، ومن كان خائفا حماه، ومن كان ضالا هداه. قال الحارث بن حلّزة اليشكرىّ عفا الله تعالى عنه:
أيها الناطق المقرّش عنا ... عند عمرو، وهل لذاك بقاء؟
وقيل: التقرّش: التجمّع، وسمّيت قريش لتجمّعها، فإنها لما تجمّعت بمكة وجمعت خصائل الخير سمّيت قريشا؛ وتسمّى أيضا الحمس من الحماسة؛ وذلك أنها تحمّست فى دينها فقالت: لا نطوف بالبيت عراة، ولا تسلأ نساؤنا سمنا، ولا تغزل وبرا، ولا نخرج إلى عرفات، ولا نزايل حرمنا، ولا نعظّم غيره، ولا نطوف بين الصفا والمروة.
__________
[1] كذا بالاصل ووردت في مكان آخر منه «مخلد» .(2/352)
وكانوا يقفون بالمزدلفة ومن سواهم من العرب يقال لهم: الحلّة: كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: نكرم البيت أن نطوف فيه بثيابنا التى اجترحنا فيها الآثام.
قال: ومن بنى فهو غير غالب عمود النسب: بنو الحارث بن فهر وبنو محارب ابن فهر. فمن بنى الحارث بن فهر: قيس بن الخلج [1] بن الحارث. ويقال: الخلج بلاد قيس، سمّوا بذلك: لأنهم نزلوا الخلج بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام. منهم آل هرمة الشاعر: وهم هرمة بن الهذيل بن ربيع بن عامر ابن صبح بن عدىّ بن قيس.
ومن بنى الحارث بن فهر: أبو عبيدة أمين هذه الأمة: وهو عامر بن عبد الله ابن الجرّاح بن هلال بن أهيب بن الحارث بن فهر، لا عقب له.
ومن بنى محارب بن فهر: ضرار بن الخطّاب بن مرداس بن كثير بن حبيب بن شيبان بن محارب بن فهر وهو القائل:
ونحن بنو الحرب العوان نشبّها ... وبالحرب سمّينا فنحن محارب
وعمود النسب من فهر بن مالك في ابنه غالب بن فهر وأمّه ليلى بنت الحارث الهذلية، منه فخذ واحد غير عمود النسب، وهم الأدرميون: ولد تيم بن غالب.
والأدرم: الناقص الذقن، وهم قليل وقد ولدوا في العرب ولادات. وعمود النسب من غالب بن فهر في ابنه لؤى بن غالب، وأمه عاتكة بنت مخلد الكنانية النضرية، وقيل بل هى سلمى بنت عمرو الخزاعية؛ وهو تصغير اللأى وهو ثور الوحش مهموز، وقال أبو حنيفة: اللأى البعرة، وقيل لؤىّ تصغير لأى وهو البطء: نقيض العجلة.
__________
[1] وردت في القاموس بضمتين وفي كتاب المعارف لابن قتيبة بتسكين اللام.(2/353)
وأنشد أبو أسامة:
فدونكم بنى لأى أخاكم ... ودونك مالكا يا أمّ عمرو
وقال ابن دريد: هو مشتقّ من لواء الجيش وهو مهموز، وإن كان من لوى الرمل فهو مقصور، قال امرؤ القيس:
بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل
واللوى: اعوجاج في ظهر الفرس. قال: ومن قبائل بنى لؤى غير كعب عمود النسب: بنو عامر وبنو أسامة وبنو خزيمة: وهم عائذة قريش وسعد، وإليه ينسب بنو نباتة بفتح النون وضمها: وهى أمّ سعد بن لؤىّ؛ بها يعرفون، وإليها ينسبون، وقيل:
نسبوا إلى حاضنة لهم اسمها نباتة من بنى القين بن جسر بن شيع الله؛ ويقال: سبع الله ابن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة. والحارث بن لؤىّ، وعوف وجشم: أولاد لؤىّ.
فأما عامر بن لؤىّ، فمنهم ابن أمّ مكتوم الأعمى الذى نزل فيه (عَبَسَ وَتَوَلَّى)
وهو مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ واسمه عمرو بن قيس بن زائدة ابن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤىّ؛ ومنهم عمرو ابن عبدودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، الذى قتله علىّ بن أبى طالب يوم الخندق.
وأما بنو أسامة بن لؤىّ، فيزعم من نسب بنى ناجية إلى قريش أنهم يلقون بنى لؤىّ عند أسامة بن لؤىّ، وقد كان علىّ بن أبى طالب سباهم حين أقاموا على النصرانية ثم باعهم فيمن يريد، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة الشيبانىّ بمائة ألف درهم، فقدّم منها(2/354)
ثلاثين ألفا وأعتقهم، فأنفذ علىّ عتقهم، وهرب مصقلة ببقيّة المال إلى معاوية.
وقد قيل عن علىّ إنه قال: ما أعقب عمّى سامة بن لؤىّ.
وأما خزيمة بن لؤىّ، فإليه ينسب القوم الذين يزعمون أنهم عائدة قريش. قال:
وشيخ الشرف بن أبى جعفر النسابة يدفعهم عن النسب؛ وهم قوم تكثر بهم معاوية فأدخلهم في قريش، وعائدة هى ابنة الخمس بن قحافة بن خثعم، بها يعرفون: وهم بنو الحارث بن مالك بن عبيد بن خزيمة بن لؤىّ، وعائدة أمّ الحارث هذا؛ ويقال:
الحارث بن مالك بن عوف بن حرب بن خزيمة بن لؤى، وهم بمالك خمس أفخاذ من عوف: بنو جذيمة، وبنو عامر، وبنو سلامة، وبنو معاوية: أولاد عوف، وعائدة مع بنى محلب بن ذهل بن شيبان، باديتهم مع باديتهم، وحاضرتهم مع حاضرتهم يد واحدة.
فلنرجع إلى عمود النسب، وهو من لؤىّ بن غالب في ابنه:
كعب بن لؤىّ بن غالب
وأمّه مارية بنت كعب القضاعيّة. ومنه غير مرّة عمود النسب وهما بطنان:
بنو عدىّ وبنو هصيص؛ فأما بنو عدىّ، فمنهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب.
وسعيد بن زيد بن نفيل المذكور أحد العشرة. ومن بنى عدىّ: عبد الله بن مطيع ابن الأسود بن نضلة بن عوف بن عبيد بن عويج بفتح العين وضمها، بن عدىّ بن كعب، وهو وأبوه من الصحابة، وهو الذى أمره أهل المدينة حين أخرجوا بنى أميّة منها فى وقعة الحرّة.(2/355)
وأما بنو هصيص بن كعب فمنه فخذان: بنو جمح وبنو سهم: ابنى عمرو بن هصيص.
فأما بنو سهم: فمنهم عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص.
وأما بنو جمح، فمنهم عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح: هاجر الهجرتين وشهد بدرا. ومنهم صفوان بن أميّة بن خلف بن وهب بن حذافة المذكور، كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم! «أبا وهب» . ومنهم أبو محذورة: أوس بن معين ابن لوذان بن سعد بن جمح، مؤذن المسجد الحرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويرجع إلى عمود النسب وهو كعب بن لؤى في ابنه:
مرّة بن كعب
وأمّه وحشيّة بنت شيبان الفهرية. ومنه غير كلاب الذى هو عمود النسب: بطنان وهما: بنو تيم، منهم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه ويكنى بعتيق، ابن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنيسه في الغار بنصّ القرءان بقوله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا)
فشهد له القرءان بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناهيك بذلك شرفا، وصهره، وخليفته صلى الله عليه وسلم ورضى عن أبى بكر وأرضاه.
ومن بنى تيم: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم أحد العشرة، وبنو يقظة بن مرّة، منهم: ام سلمة الصادقة: زوج النبى صلى الله عليه وسلم،(2/356)
وهى بنت أبى أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرّة، وخالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم الملقّب بسيف الله.
قال وقد انقرض ولد خالد بن الوليد فلم يبق منهم أحد شرقا ولا غربا، وإن انتمى إليهم أحد فهو مبطل في انتمائه، وكلّ من ادّعى إليه، فقد كذب. قال الشريف:
وكان شيخنا الفقيه مجلّى بن جميع بن نجاء الشافعىّ قاضى مصر يدعى إليه، وهو على كتبه بخطه وشافهنا به ولا صحّة لذلك وعمود النسب من مرّة بن كعب في ابنه:
كلاب بن مرة بن كعب
وأمّه هند بنت بهز بن حكيم. وقيل عروة. ومنه غير قصىّ عمود النسب:
بطن واحد: وهم زهرة بن كلاب؛ منهم: السيّدة آمنة بنت وهب بن عبد مناف، ابن زهرة: أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن عوف بن الحارث ابن زهرة: أحد العشرة، وسعد بن أبى وقّاص.
ويرجع عمود النسب منه في ابنه قصىّ بن كلاب بن مرّة.
وأمّه فاطمة بنت سيل الأزديّة، واسمه زيد؛ ويدعى مجمّعا: لجمعه أمر قريش بالرحلتين وأوّل من جمع يوم الجمعة. وقيل: إنما سمّى قصىّ «مجمّعا» : لأنه لما أخرج خزاعة من مكة ورأى أنه من صريح ولد إسماعيل عليه السلام، وأنه أحقّ من خزاعة بالبيت الحرام، وبنى دار الندوة. وجعل بابها إلى البيت الحرام، وتجمّعت قريش بمكة، فسمى بذلك «مجمّعا» ، لأنه جمعهم ولم يجعل معهم غيرهم، وكان يجمعهم في دار الندوة.(2/357)
وأما الرحلتان، فأوّل من سنّهما هاشم: فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة إلى النجاشىّ فيكرمه، ويرحل في الصيف إلى الشام إلى غزّة، وبها مات؛ وربما وصل إلى أنقرة ويدخل على قيصر فيكرمه. وقد قال ابن الزّبعرى:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكّة مسنتون عجاف
سنّت إليه الرحلتان كلاهما: ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف [1]
وأما أوّل من جمع يوم الجمعة فهو كعب بن لؤىّ، وكان يسمّى: يوم العروبة؛ فكان يجمعهم ويعظهم ويحثّهم على اتباع نبىّ من صلبه.
وإنما سمّى قصيّا: لأن أمّه فاطمة بنت سعد بن سيل لما تقصّت به مع زوجها ربيعة بن جذام القضاعىّ، فأحملها إلى بلاده من أرض عذره من بلاد الشام سمّى بذلك. قال: ومنه غير عمود النسب وهو عبد مناف بطنان: بنو أسد بن عبد العزّى ابن قصىّ، وبنو عبد الدار بن قصىّ.
فأما بنو أسد، فمنهم خديجة بنت خويلد بن أسد: زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ ومنهم:
الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد أحد العشرة وحوارىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما بنو عبد الدار بن قصىّ، فمنهم الحجبة، فيهم: بنو شيبة بن عثمان بن أبى طلحة عبد الله بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار. وفي بنى عبد الدار: هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. قال. وهى مسألة في النسب يمتحن بها من يدّعى علم النسب: يقال له: من يعلم في بنى قصىّ جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هاشم بن عبد مناف غيرهاشم بن عبد مناف بن قصىّ؟
نرجع إلى عمود النسب من قصىّ بن كلاب في ابنه:
__________
[1] يلاحظ القارئ أن قافيتى البيتين غير متجانستين والعرب يفعلون ذلك في أشعارهم، ويسمى «الإقواء» وهو اختلاف إعراب القوافى.(2/358)
عبد مناف بن قصىّ
وأمّه حبّى بنت حليل الخزاعيّة، واسمه المغيرة والقمر. ومنه غيرهاشم عمود النسب ثلاث بطون: بنو المطّلب: وهو العيص، وبنو عبد شمس وبنو نوفل: أولاد عبد مناف. فمن بنى عبد شمس: أميّة الأصغر، يقال لولده: العبلات: لأن أمّ أميّة هذا عبلة بنت عبيد من البراجم بن تميم، وبنو أميّة الأكبر بن عبد شمس، منهم:
ذو النورين: عثمان بن عفّان بن العاص بن أميّة بن عبد شمس أحد العشرة وزوج ابنتى النبىّ صلى الله عليه وسلم ورضى عنه. ومن بنى عبد شمس: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يثنى عليه في صهارته خيرا. ومن بنى عبد المطّلب بن عبد مناف: رهط بن عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب البدرىّ، انقرض، وشافع ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطّلب جدّ الشافعىّ رضى الله عنه:
وهو محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع. ومن بنى نوفل: جبير بن مطعم ابن عدىّ بن نوفل، وكان ممّن قام في أمر الصحيفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكر له ذلك، وهم يد مع بنى أميّة.
وعمود النسب من عبد مناف في ابنه هاشم بن عبد مناف، وأمّه عاتكة بنت مرّة السلميّة، واسمه عمرو العلا، وسمّى هاشما لكرمه وهشمه الثريد في الجدب مبتدئا بذلك، انقرض جميع ولده من الذكور إلا عمود النسب عبد المطّلب، وكان له أسد ابن هاشم، منه: فاطمة بنت أسد أمّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه؛ وهى أوّل هاشميّة تزوّجت هاشميّا فولدت له؛ وانقرض أسد إلا منها،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هى أمّى بعد أمّى
. والعقب من هاشم في ابنه:(2/359)
عبد المطّلب بن هاشم
وأمه سلمى بنت زيد النجّارية: وهو شيبة الحمد، أعقب من غير عبد الله عمود النسب من بنى أبى طالب عبد مناف بن عبد المطّلب والعباس بن عبد المطّلب والحارث بن عبد المطّلب وأبا لهب بن عبد المطّلب وهو عبد العزّى.
فأما بنو أبى طالب فهم ثلاث بطون: بنو علىّ بن أبى طالب بن عبد المطّلب:
وهم العلويّون، وبنو جعفر الطيّار: وهم الجعفريّون، وبنو عقيل بن أبى طالب:
وهم العقيليّون.
فالعلويّون خمس أفخاذ: بنو الحسن بن علىّ، وبنو الحسين بن علىّ، وبنو محمّد ابن الحنفيّة: وهم المحمّديون، وبنو العباس السقّاء بن علىّ: سمّى بذلك لأنه كان قد سقى أخاه الحسين الماء بالقربة في الطّفّ، وبنو عمر الأطراف بن علىّ.
وفي كلّ فخذ منهم عدّة عشائر.
وأما الجعفريّون فثلاث أفخاذ: بنو علىّ بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وهم الزينبيّون، لأن أمّ علىّ هذا زينب بنت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت علىّ رضى الله عنه، وبنو إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وبنو إسحاق العرضىّ بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب. والعرض: موضع بالمدينة. وفي كلّ فخذ عدّة عشائر.
وأما العقيليّون، ففخذان: بنو محمّد ومسلم: ابنى عبد الله الأحول بن محمد بن عقيل بن أبى طالب: فهؤلاء بطون بنى طالب.
وأما العباسيّون، فبطنان: بنو عبد الله الحبر ومعبد: ابنى العبّاس بن عبد المطلب.(2/360)
فأما عبد الله، فمنه ثمانى أفخاذ: بنو عبد الله وانقرض، وبنو عيسى، وبنو عبد الصمد، وبنو داود، وبنو إسماعيل، وبنو صالح: صاحب الشام، وبنو سلمان: صاحب البصرة، وبنو محمد الكامل: جدّ الخلفاء أولاد علىّ السجّاد بن عبد الله بن العبّاس.
وأما معبد، فمنه فخذان: بنو داود ومحمد: ابنى ابراهيم بن عبد الله بن معبد بن العبّاس: فهؤلاء بنو العباس بن عبد المطّلب.
وأما الحارث بن عبد المطّلب، فمنه ثلاث أفخاذ: وهم الحارثيّون: بنو ربيعة، وبنو نوفل، وبنو أبى سفيان: أولاد الحارث بن عبد المطلب: فهؤلاء بنو الحارث.
وأما أبو لهب عبد العزّى، فمنه فخذان: بنو عتبة وبنو معتّب: ولدى أبى لهب.
وعمود النسب الشريف في عبد الله بن عبد المطّلب، وأمّه آمنة بنت عمرو المخزوميّة، ولا عقب لعبد الله بن عبد المطّلب إلّا من سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمد النبىّ العربىّ، ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصىّ ابن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (واسمه قيس) ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان ابن أدّ بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ابن تارح: وهو آزر بن ناحور ابن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر: وهو هود النبىّ عليه السلام؛ وهو جماع قيس ويمن ونزار وخندف بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام ابن لمك بن متوشلخ [1] بن أخنوخ: وهو إدريس النبىّ عليه السلام ابن يارد بن مهلائيل [2]
__________
[1] فى التوراة: متوشالخ.
[2] فى التوراة: مهللئيل.(2/361)
ابن قينان بن أنوش بن هبة الله شيث بن أبى البشر آدم عليه الصلاة والسلام وعلى سائر أنبياء الله تعالى أجمعين.
نسب كأنّ عليه من شمس الضحى ... نورا ومن فلق الصباح عمودا
وروى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما خلق الله تعالى آدم، أهبطنى في صلبه إلى الأرض، وحملنى في صلب نوح في السفينة، وقذف بى في النّار في صلب إبراهيم، ثم لم يزل ينقلنى من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجنى من بين أبوين لم يلتقيا على سفاح قطّ» .
والى هذا أشار العبّاس بن عبد المطلب رضى الله تعالى عنه بقوله حيث يقول:
من قبلها طبت في الجنان، وفي ... مستودع، حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد، لا بشر ... أنت، ولا مضغة، ولا علق
بل نطفة، تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله، الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم، بدا طبق
اللهم صلّ على أسعد الخلق سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم أفضل صلواتك وسلامك عدد خلقك، وأجر لطفك في أمورنا في الدنيا والآخرة، حسبنا الله ونعم الوكيل! كمل الجزء الثانى من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى في أوّل الجزء الثالث: «القسم الثانى من الفن الثانى في الأمثال» وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلّى الله وسلّم على أشرف الخلق أجمعين(2/362)
فهرس الجزء الثالث
من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويريّ
القسم الثاني من الفن الثانى في الأمثال المشهورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم، والمشهور من أمثال العرب، وأوابد العرب وأخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطيرة، والفراسة والذكاء، والكنايات، والتعريض، والأحاجى، والألغاز وفيه خمسة أبواب
الباب الأوّل:
في الأمثال 1
ما تمثل به من أقوال النبى صلّى الله عليه وسلم 2
ومن كلام أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه 4
ومن كلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه 5
ومن كلام عثمان بن عفان رضى الله عنه 6
ومن كلام على بن أبى طالب كرم الله وجهه 6
ومن كلام عبد الله بن عباس رضى الله عنهما 6(مقدمةج 3/1)
... صحيفة
ومن أمثال العرب المرتبة على حروف المعجم 6
حرف الهمزة 7
حرف الباء 19
حرف التاء 21
حرف الثاء 23
حرف الجيم 23
حرف الحاء 26
حرف الخاء 28
حرف الدال 30
حرف الذال 30
حرف الراء 31
حرف الزاى 33
حرف السين 34
حرف الشين 35
حرف الصاد 36
حرف الضاد 38
حرف الطاء 38
حرف الظاء 39
حرف العين 39
حرف الغين 42
حرف الفاء 43(مقدمةج 3/2)
... صحيفة
حرف القاف 44
حرف الكاف 46
حرف اللام 48
حرف الميم 50
حرف النون 54
حرف الهاء 55
حرف الواو 56
ما جاء فيما أوله (لا) 57
حرف الياء 60
ومما يتمثل به من أشعار الجاهلية 61
امرؤ القيس بن حجر 61
زهير بن أبي سلمى 61
النابغة الذبيانيّ 62
طرفة بن العبد 63
أوس بن حجر 63
بشر بن أبى خازم 64
المتلمس 64
الأفوه الأودىّ 64
تميم بن أبى مقبل 65
حميد بن ثور 65
عدىّ بن زيد 65(مقدمةج 3/3)
... صحيفة
الأسود بن يعفر 66
علقمة بن عبدة 66
عمرو بن كلثوم 66
الحارث بن حلزة 66
حاتم الطائىّ 67
المرقّش الأصغر 67
النمر بن تولب 67
مهلهل بن ربيعة 67
طفيل الغنوىّ 68
عروة بن الورد 68
الاعشى (ميمون بن قيس) 68
لقيط بن معبد 68
تأبط شرا 69
المثقّب العبدىّ 69
الممزّق العبدىّ 69
أفنون التغلبىّ 69
الأضبط بن قريع 69
سويد بن أبى كاهل 69
ومما يتمثل به من أشعار المخضرمين 70
لبيد بن ربيعة 70
كعب بن زهير 70(مقدمةج 3/4)
... صحيفة
النابغة الجعدىّ 71
أمية بن أبى الصلت الثقفى 71
حسان بن ثابت 71
الحطيئة 71
متمم بن نويرة 72
أبو ذؤيب الهذلىّ 72
الخنساء 72
عمرو بن معديكرب 73
معن بن أوس 73
زياد بن زيد 73
أيمن بن خزيم 73
ومما يتمثل به من أشعار المتقدمين في صدر الاسلام 74
القطامىّ 74
الطرماح 74
الكميت بن زيد الأسدىّ 74
المساور بن هند 74
عدىّ بن الرقاع 75
الفرزدق 75
جرير 76
الأخطل 76
الصلتان العبدىّ 77(مقدمةج 3/5)
... صحيفة
كثيّر عزّة 77
جميل 78
عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة 78
ومما يتمثل به من أشعار المحدثين 78
إبراهيم بن هرمة 78
بشار بن برد 79
أبو العتاهية 80
سلم بن عمرو الخاسر 81
صالح بن عبد القدوس 82
ابن ميادة 83
أبو نواس 83
أبو عيينة المهلبىّ 84
عبد الله بن أبى عتبة 84
العباس بن الأحنف 84
مسلم بن الوليد 85
منصور النمرىّ 85
العتابىّ 76
أشجع السلمىّ 87
الجرهمىّ 87
محمود الوراق 88
محمود بن حازم الباهلىّ 88(مقدمةج 3/6)
... صحيفة
السموءل بن عادياء 89
محمد بن أبى زرعة الدمشقىّ 89
أبو الشيص 89
علىّ بن جبلة 89
اللجلاج الحارثىّ 89
عبد الصمد بن المعذّل 90
الحمدونىّ 90
العتبىّ 90
أبو سعيد المخزومىّ 91
دعبل بن علىّ الخزاعىّ 91
إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ 92
المؤمل بن أميل 92
إبراهيم بن العباس 92
أبو علىّ البصير 93
سعيد بن حميد 93
علىّ بن الجهم 93
ابن أبى فنن 93
يزيد بن محمد المهلبىّ 94
عمارة بن عقيل 94
أحمد بن أبى طاهر 94
أبو تمام حبيب بن أوس الطائىّ 94(مقدمةج 3/7)
... صحيفة
أبو عبادة البحترىّ 96
ديك الجن 98
ابن الرومىّ 99
عبد الله بن المعتز 99
عبيد بن عبد الله بن طاهر 100
ابن طباطبا العلوىّ 101
منصور الفقيه 101
ابن بسام 102
جحظة 102
الصنوبرىّ 103
أبو الفتح كشاجم 104
ومما يتمثل به من أشعار المولدين 104
أبو فراس الحمدانىّ 104
أبو الطيّب المتنبى 104
السرىّ بن أحمد 107
أبو بكر محمد بن هاشم الخالدىّ 107
أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدىّ 108
الخباز البلدىّ 108
أبو إسحاق الصابىء 108
عبد العزيز عمر بن نباتة 108
ابن لنكك البصرىّ 109(مقدمةج 3/8)
... صحيفة
أبو الحسن عبد الله 109
أبو الفرج الببغاء 110
ابن سكرة الهاشمىّ 110
ابن الحجاج 110
ابو الحسن الموسوىّ النقيب 111
أبو طالب المأمونىّ 112
ابن العميد 112
الصاحب بن عبّاد 113
الحسن بن علىّ بن عبد العزيز القاضى 113
أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمىّ 113
بديع الزمان أبو الفضل الهمذانىّ 114
إسماعيل الناشئ 114
أبو الفتح علىّ بن محمد البستىّ 115
الباب الثانى:
في أوابد العرب 116
البحيرة 116
الوصيلة 116
السائبة 117
الحامى 117
الأزلام 117
الميسر 118(مقدمةج 3/9)
... صحيفة
نكاح المقت 120
رمى البعرة 120
ذبح العتائر 120
عقد السلع والعشر 120
ذبح الظبى 121
حبس البلايا 121
خروج الهامة 121
إغلاق الظهر 121
التعمية والتفقئة 121
بكاء المقتول 122
رمى السن في الشمس 122
خضاب النحر 122
التصفيق 122
جز النواصى 122
كىّ السليم عن الجرب 123
ضرب الثور 123
كعب الأرنب 123
حيض السمرة 124
الطارف والمطروف 124
وطء المقاليت 124
تعليق الحلى على السليم 124(مقدمةج 3/10)
... صحيفة
ذهاب الخدر 125
الحلأ 125
التعشير 125
عقد الرتم 125
دائرة المهقوع 126
شق الرداء والبرقع 126
نوء السماك 126
النسىء 126
وأد البنات 126
الباب الثالث:
في أخبار الكهنة ويتصل به الزجر والفأل والطيرة والفراسة والذكاء 128
أخبار الكهنة 128
الزجر 134
الفأل والطيرة 143
الفراسة والذكاء 149
الباب الرابع:
فى الكنايات والتعريض 152
الباب الخامس:
في الألغاز والأحاجى 162
ومما يتصل بهذا الباب مسائل العويص 171(مقدمةج 3/11)
القسم الثالث من الفن الثانى فى المدح، والهجو، والمجون، والفكاهات، والملح، والخمر، والمعاقرة والندمان، والقيان، ووصف آلات الطرب وفيه خمسة أبواب
.... صحيفة
الباب الأوّل:
في المدح وفيه ثلاثة عشر فصلا 173
ذكر ما قيل في الأفتخار 200
ذكر ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام 204
ذكر من انتهى اليهم الجود في الجاهلية وذكر شىء من أخبارهم 208
ذكر ما قيل في الإعطاء قبل السؤال 218
ذكر ما قيل في الشجاعة والصبر والإقدام 220
ذكر ما قيل في وفور العقل 230
ذكر ما قيل في حد العقل وماهيته وما وصف به 233
ذكر ما قيل في الصدق 237
ذكر ما قيل في الوفاء والمحافظة والأمانة 239
ذكر ما قيل في التواضع 244
ذكر ما قيل في القناعة والنزاهة 247
ذكر ما قيل في الشكر والثناء 248
ذكر ما قيل في الوعد والإنجار 254
ذكر ما قيل في الشفاعة 257
ذكر ما قيل في الاعتذار والاستعطاف 258(مقدمةج 3/12)
... صحيفة
الباب الثانى:
في الهجاء وفيه أربعة عشر فصلا 265
ذكر ما قيل في الهجاء ومن يستحقه 266
ومما قيل في الهجاء من النظم 271
ذكر ما قيل في الحسد 284
ذكر ما قيل في السعاية والبغى والغيبة والنميمة 289
ذكر ما قيل في البخل واللؤم 294
احتجاج البخلاء وتحسينهم للبخل على قبحه 314
ذكر ما قيل في التطفيل ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة 323
ذكر آداب الأكل والمؤاكلة 338
ذكر الاقتصاد في المطاعم والعفة عنها 340
ذكر أخبار الأكلة 343
ذكر ما قيل في الجبن والفرار 346
ذكر ما قيل في الحمق والجهل 353
ذكر ما قيل في الكذب 359
ذكر ما قيل في الغدر والخيانة 364
ذكر أخبار أهل الغدر وغدراتهم المشهورة 365
ذكر ما قيل في الكبر والعجب 370
ذكر ما قيل في الحرص والطمع 376
ذكر ما قيل في الوعد والمطل 378
ذكر ما قيل في العىّ والحصر 381(مقدمةج 3/13)
الجزء الثالث
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
القسم الثانى من الفن الثانى في الأمثال المشهورة
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم، والمشهور من أمثال العرب، وأوابد العرب، وأخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطيرة، والفراسة، والذكاء، والكنايات، والتعريض، والأحاجى، والألغاز؛ وفيه خمسة أبواب.
الباب الأوّل من هذا القسم (فى الأمثال)
ضرب الله عزوجل الامثال في كتابه العزيز في آى كثيرة، فقال تعالى:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ)
وتكرر ذكر الأمثال.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبى الصراط أبواب مفتّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول ادخلوا الصراط ولا تعرّجوا» فالصراط: الإسلام، والستور: حدود الله تعالى، والأبواب: محارم الله، والداعى: القرآن.(3/1)
قال المبرّد: المثل مأخوذ من المثال وهو قول سائر، شبّه به حال الثانى بالأوّل والأصل فيه التشبيه. قال: وقولهم مثل بين يديه، إذا انتصب؛ معناه أشبه الصورة المنتصبة. وفلان أمثل من فلان، أى أشبه.
والمثال: القصاص، لتشبيه حال المقتصّ منه بحال الأوّل.
وقال ابن السّكّيت: المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ويوافق معناه.
وقال إبراهيم النظّام: يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية فهو نهاية البلاغة.
وقال ابن المقفّع: إذا جعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث.
وأوّل ما نبدأ به من ذلك ما تمثّل به من أقوال سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
فمن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم وهو مما لم يسبق إليه:
«إيّاكم وخضراء الدّمن» فقيل له: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: «المرأة الحسناء فى منبت السّوء!» «كلّ الصيد في جوف الفرا» قاله لأبى سفيان يتألّفه على الإسلام.
«مات فلان حتف أنفه» .
«لا ينتطح فيه عنزان» .
«إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» المنبتّ: المنقطع عن أصحابه في السفر؛ والظهر: الدابّة، قاله في الغلوّ في العبادة.(3/2)
«الآن حمى الوطيس» : ضربه في الحرب.
«يا خيل الله اركبى» .
«اشتدّى أزمة تنفرجى» .
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط وإنما يتفاضلون بالعافية» .
«الناس كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» .
«النّاس كإبل، مائة لا تجد فيها راحلة» .
«المؤمن هيّن ليّن، كالجمل الأنف إن انقيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ» .
«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» .
«أصحابى كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم» .
«مثل أصحابى كالملح لا يصلح الطعام إلا به» .
«أمّتى كالمطر، لا يدرى أوّله خير أم آخره» .
«مثل أبى بكر كالقطر أين وقع نفع» .
«عمّالكم كأعمالكم وكما تكونوا يولّى عليكم» .
وقال لما كتب كتاب المهادنة بينه وبين سهيل بن عمرو: «والعقد بيننا كشرج العيبة» يعنى إذا انحلّ بعضه انحلّ جميعه.
«المرأة كالضّلع العوجاء إن قوّمتها كسرتها، وإن داريتها استمتعت بها» .
«المتشبّع بما لم يعطه كلابس ثوبى زور» .
«الدالّ على الخير كفاعله» .
«لو توكلتم على الله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» .(3/3)
«وعد المؤمن كالأخذ باليد» .
«مثل المؤمن كالنحلة، لا تأكل إلا طيّبا ولا تطعم إلا طيّبا» .
«مثل المؤمن كالسّنبلة تميل أحيانا، وتعتدل أحيانا» .
«مثل الجليس الصالح كالعطّار، إن لم تصب من عطره أصبت من ريحه، ومثل الجليس السوء كالكير إن لم يحرق ثوبك آذاك بدخانه» .
«علم لا ينفع كنز لا ينفق منه» .
وقال: «المؤمن مرآة أخيه» .
«قد جدع الحلال أنف الغيرة» .
«الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى» .
«نيّة المرء خير من عمله» .
«إن من الشّعر لحكمة وإن من البيان لسحرا» .
«من كثّر سواد قوم فهو منهم» .
«الأعمال بخواتمها» .
«ساقى القوم آخرهم شربا» .
«المرء على دين خليله فلينظر امرؤ من يخالّ» .
«المستشير معان والمستشار مؤتمن» .
ومن كلام أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه
إن الله قرن وعده بوعيده:
ليست مع العزاء مصيبة.
الموت أهون مما بعده وأشدّ مما قبله.(3/4)
ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغى، والنّكث، والمكر.
ذلّ قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة.
احرص على الموت توهب لك الحياة؛ قاله لخالد بن الوليد حين بعثه إلى أهل الرّدّة.
كثير القول ينسى بعضه بعضا. وإنما لك ما وعى عنك.
لا تكتم المستشار خبرا فتؤتى من قبل نفسك.
خير الخصلتين لك أبغضهما إليك.
صنائع المعروف تقى مصارع السوء.
ومن كلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه
من كتم سرّه كان الخيار في يده.
أشقى الولاة من شقيت به رعيّته.
اتقوا من تبغضه قلوبكم.
أعقل الناس أعذرهم للناس.
اجعلوا الرأس رأسين.
أخيفوا الهوامّ قبل أن تخيفكم.
لو أن الشكر والصبر بعيران لما بنيت أيهما ركبت.
من لم يعرف الشرّ كان أجدر أن يقع فيه.
ما الخمر صرفا بأذهب للعقول من الطبع.
إلى الله أشكو ضعف الأمين وحبنة القوىّ.
اقتصاد في سنّة خير من اجتهد في بدعة.
لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلقا.(3/5)
ومن كلام عثمان بن عفان رضى الله عنه
ما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن.
الهدية من العامل اذا عزل، مثلها منه اذا عمل.
أنتم إلى إمام فعّال، أحوج منكم إلى إمام قوّال؛ قاله يوم صعد المنبر فأرتج عليه.
وقال يوم قتل: لأن أقتل قبل الدماء، أحبّ الىّ من أن أقتل بعد الدماء.
ومن كلام علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه
من رضى عن نفسه كثر الساخط عليه؛ ومن ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد؛ ومن بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها ظلم.
رأى الشيخ خير من مشهد الغلام.
الناس من خوف الذلّ في الذلّ.
إن من السكوت ما هو ابلغ من الجواب.
ومن كلام عبد الله بن عباس رضى الله عنهما
لكل داخل دهشة فابدءوه بالتحية؛ ولكل طاعم حشمة فابدءوه باليمين.
ومن أمثال العرب ما نقلته من كتاب «الأمثال» للميدانىّ.
[والميدانىّ «1» : هو أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميدانىّ النيشابورىّ- والميدانىّ: بفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الدال المهملة نسبة إلى ميدان زياد، وهى محلة بنيسابور؛ توفى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة] ووضعته على حروف المعجم.
فمن ذلك ما جاء منها على حرف الهمزة:(3/6)
حرف الهمزة
تقول العرب: «إنّ الموصّين بنو سهوان» قال الميدانىّ: يضرب لمن يسهو عن طلب شىء أمر به، وبنو سهوان: بنو آدم عليه السّلام حين عهد اليه فسها ونسى.
وقولهم: «إنّ الرّثيئة تفثأ الغضب» قال: الرثيئة: اللبن الحامض يخلط بالحلو؛ والفثء: التسكين؛ وزعموا أن رجلا نزل بقوم وكان ساخطا عليهم، وكان جائعا فسقوه الرثيئة فسكن غضبه، فقال هذا المثل: يضرب في الهدية تورث الوفاق.
وقولهم: «إن الحديد بالحديد يفلح» أى يستعان في الأمر الشديد بما يشاكله ويقاويه.
وقولهم: «إن السلامة منها ترك ما فيها» فى اللّقطة وذمّ الدنيا «1» .
والنفس تكلف بالدنيا وقد علمت ... أن السلامة منها ترك ما فيها
وقولهم: «إن العصا من العصيّة» يقال: إن أوّل من قال ذلك الأفعى الجرهمىّ، ذلك أن نزارا لما حضرته الوفاة جمع بنيه: مضر، وإيادا، وربيعة، وأنمارا، فقال: يا بنىّ! هذه القبة الحمراء- وكانت من أدم- لمضر؛ وهذه الفرس الأدهم والخباء الأسود لربيعة؛ وهذه الخادم- وكانت شمطاء- لإياد؛ وهذه البدرة والمجلس لأنمار، فإن أشكل عليكم كيف تقسمون، فأتوا الأفعى الجرهمىّ ومنزله بنجران؛ فتشاجروا(3/7)
فى ميراثه، فتوجهوا إليه، فبينماهم في سيرهم إذ رأى مضر أثر كلإ قد رعى، فقال:
إن البعير الذى رعى هذا أعور، وقال ربيعة: إنه لأزور، وقال إياد: إنه لأبتر، وقال أنمار: إنه لشرود، فساروا قليلا، فإذاهم برجل يوضع «1» حمله فسألهم عن البعير، فقال مضر: أهو أعور؟ قال: نعم، وقال ربيعة: أهو أزور؟ قال: نعم، وقال إياد: أهو أبتر؟ قال: نعم، وقال أنمار: أهو شرود؟ قال: نعم، هذه والله صفة بعيرى، فدلونى عليه، فقالوا: والله ما رأيناه. فقال: هذا والله الكذب كيف أصدّقكم وأنتم تصفونه بصفته؟ فساروا حتى قدموا نجران؛ فلما نزلوا، نادى صاحب البعير، هؤلاء أصحاب جملى وصفوا لى صفته ثم قالوا: لم نره؛ فاختصموا إلى الأفعى، فقال لهم: كيف وصفتموه وأنتم لم تروه؟ فقال مضر: رأيته قد رعى جانبا وترك جانبا، فعلمت أنه أعور؛ وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة والثانية فاسدة، فعلمت أنه أزرر لأنه أفسدها بشدّة وطئه؛ وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره ولو كان ذيّالا لمصع به؛ وقال أنماره عرّفت أنه شرود، لأنه يرعى فى المكان الملتّف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرقّ منه؛ فقال الأفعى: ليسوا بأصحاب جملك فاطلبه، ثم سألهم: من أنتم؟ فأخبروه بخبرهم، وبما جاءوا له، فأكرمهم، وقال:
أتحتاجون إلىّ وأنتم كما أرى؟ ثم أنزلهم وذبح لهم شاة، وأتاهم بخمر؛ وجلس لهم الأفعى بحيث لا يرى؛ فقال ربيعة: لم أركاليوم أطيب لحما لولا أن شاتة غذيت بلبن كلبة؛ وقال مضر: لم أر كاليوم أطيب خمرا لولا أن حبلته نبتت على قبر؛ فقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أسرّى لولا أنه ليس لأبيه الذى يدعى له؛ فقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا من كلامنا، وكلامهم بأذنه، فدعا قهرمانة، فقال: ما هذه الخمر،(3/8)
وما أمرها؟ قال: هى من حبلة غرستها على قبر أبيك؛ وقال للراعى: ما هذه الشاة؟
فقال: هى عناق أرضعتها بلبن كلبة وكانت أمّها ماتت؛ ثم أتى أمّه، فقال: اصدقينى، من أبى؟ فأخبرته أنها كانت تحت ملك كثير المال وكان لا يولد له، فخفت أن يموت وليس له ولد، فأمكنت من نفسى ابن عمّ له كان نازلا عليه فولدتك، فرجع إليهم وقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال نزار فهو لمضر، فذهب بالإبل الحمر والدنانير، فسمّيت: مضر الحمراء. وأما صاحب الفرس الأدهم والخباء الأسود فله كل شىء أسود، فصار لربيعة الخيل الدّهم وما شاكلها، فقيل: ربيعة الفرس. وأما الخادم الشمطاء فلصاحبها الخيل البلق والماشية، فسميت: إياد الشمطاء، وقضى لأنمار بالدراهم والأرض فصدروا من عنده على ذلك، فقال الأفعى: إن العصا من العصيّة، وإنّ خشينا من أخشن؛ فأرسلهما مثلا.
وقولهم: «إن العوان لا تعلّم الخمرة» : يضرب للرجل المجرّب.
وقولهم: «إنى لآ كل الرأس وأنا أعلم بما فيه» : يضرب للأمر تأتيه وأنت تعلم ما فيه مما تكره.
وقولهم: «أنف في السماء، واست في الماء» : يضرب للمتكبر الصغير الشأن.
وقولهم: «إن الذليل الذى ليست له عضد» أى أنصار وأعوان: يضرب لمن يخذله ناصره.
وقولهم: «إن يدم أظلك فقد نقب خفىّ» لأفضل: ما تحت منّسم البعير:
والخفّ: قائمته: يصريه المشكو إليه لشاكى أى أنا منه في مثل ما تشكوه.(3/9)
وقولهم: «إن تسلم الجلّة فالنّيب هدر» الجلّة: جمع جليل يعنى العظام من الإبل، والنيب: جمع ناب وهى الناقة المسنّة؛ معناه إذا سلم ما ينتفع به هان ما لا ينتفع به.
وقولهم: «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» يقال: إن بنى ثعلبة ابن سعد في الجاهلية تراهنوا على الشمس والقمر ليلة أربع عشرة، فقالت طائفة:
تطلع الشمس والقمر يرى، وقالت طائفة: بل يغيب قبل طلوعها، فتراضوا برجل جعلوه بينهم، فقال رجل منهم: إن قومى يبغون علىّ، فقال العدل: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر؛ فذهبت مثلا: يضرب للأمر المشهور.
وقولهم: «إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا» الإعصار: ريح شديدة تهبّ فيما بين السماء والأرض: يضرب للمدل بنفسه إذا صلّى بمن هو أدهى منه وأشد.
وقولهم: «إنّك خير من تفاريق العصا» قالوا: قالته غنيّة الأعرابية لابنها، وكان عارما مع ضعفه، فواثب يوما فتى فقطع أذنه فأخذت ديتها، فزادت حسن حل ثم واثب آخر فقطع شفته فأخذت الدية فذكرته في أرجوزتها فقالت
أحلف بالمروة حقّا والصّفا ... إنك أجدى «1» من تفاريق العصا
فقيل لأعرابى: ما تفاريق العصا؟ فقال: العصا تقطع ساجورا والسواجير للكلاب والأسرى من الناس ثم تقطع عصا الساجور فتصير أوتادا ويقطع الوتد فيصير كل قطعة شظاظا وإن جعل لرأس الشظاظ كالفلكة صار للبختىّ مهارا وهو(3/10)
العود الذى يدخل في أنفه، واذا فرق المهار جاءت منه تواد وهى الخشبة التى تشدّ على خلف الناقة.
وقولهم: «إنّه ليعلم من أين تؤكل الكتف» : يضرب للرجل الداهى؛ قال بعضهم: لم تؤكل الكتف من أسفلها؟ قال: لأنها تنقشر عن عظمها وتبقى المرقة مكانها ثابتة.
وقولهم: «إنّك لا تجنى من الشّوك العنب» أى لا تجد عند ذى المنبت السوء جميلا؛ والمثل من قول أكثم قال: إذا ظلمت فاحذر الانتصار، فان الظلم لا يكسبك إلا مثل فعلك.
وقولهم: «أخو الظّلماء أعشى بالليل» : يضرب لمن يخطئ حجته ولا يبصر المخرج مما وقع فيه.
وقولهم: «إنّك لتكثر الحزّ وتخطئ المفصل» : يضرب لمن يجتهد فى السعى ثم لا يظفر بالمراد.
وقولهم: «أوّل الشجرة النّواة» : يضرب للأمر الصغير يتولد منه الكبير.
وقولهم: «إذا صاحت الدّجاجة صياح الدّيك فلتذبح» قاله الفرزدق فى امرأة قالت الشعر.
وقولهم: «إذا رآنى رأى السّكين في الماء» : يضرب لمن يخافك جدّا.(3/11)
وقولهم: «إنك ريّان فلا تعجل بشربك» : يضرب لمن أشرف على إدراك بغيته فيؤمر بالرفق.
وقولهم: «أبطش من دوسر» هى إحدى كتائب النعمان أشدّها بطشا ونكاية؛ قال بعض الشعراء
ضربت دوسر فيهم «1» ضربة ... أثبتت أوتاد ملك فاستقر
وقولهم: «أبرما قرونا» البرم: الذى لا يدخل مع القوم في الميسر لبخله، والقرون:
الذى يقرن بين الشيئين؛ وأصله أن رجلا كان لا يدخل في الميسر ولا يرى اللحم فجاء إلى امرأته وبين يديها لحم تأكله فأقبل يأكل معها بضعتين يقرن بينهما فقالت له:
أبرما قرونا: يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين.
وقولهم: «الثّيّب عجالة الراكب» : يضرب في الحث على الرضا بيسير الحاجة عند إعواز جليلها.
وقولهم:
«البس لكلّ حالة لبوسها ... إمّا نعيمها وإمّا بوسها»
أوّل من قال ذلك بيهس: وهو رجل من بنى غراب بن فزارة، وكان سابع سبعة إخوة، فأغار عليهم أناس من بنى أشجع، وهم في إبلهم فقتلوا منهم ستة وتركوا بيهسا لحمقه فقال: دعونى أتوصل معكم إلى أهلى فأقبل معهم. فلما كان من الغد نحروا جزورا في يوم شديد حرّ، فقال بعضهم: أظلو لحمكم لا يفسده الضّحّ، فقال(3/12)
بيهس: لكن بالأثلاث «1» لحم لا يظلّل، فأرسلها مثلا؛ ثم فارقهم وأتى أمه فأخبرها الخبر فقالت: ما جاء بك من بين إخوتك وأنت أخبثهم، فقال: ما خيّرك القوم فتختارى، فأرسلها مثلا؛ ثم أعطته ثياب إخوته ومتاعهم، فقال: يا حبذا التراث لولا الذّلة، فأرسلها مثلا؛ وأخذ يوما يبرم سكينا، فقيل له: ما تصنع بها؟ فقال:
أقتل بها قتلة إخوتى، فقيل له: إنك لأحمق، فقال: ما يؤمنك من أحمق في يده سكين، فأرسلها مثلا؛ ثم إنه مرّ بنسوة من قومه يصلحن امرأة يردن أن يهدينها لبعض قتلة إخوته فكشف ثوبه عن استه وغطى به رأسه، فقيل له: ما تصنع؟
فقال:
البس لكل حالة لبوسها، ... إما نعيمها وإما بوسها
وقولهم: «الصيف ضيّعت اللبن» قال الأصمعىّ: معناه تركت الشىء فى وقته؛ وقال غيره: تركت الشىء وهو ممكن، وقال أبو عبيدة: أوّل من قاله عمرو بن عدس، وكان قد تزوّج دختنوس بعد ما كبر، فكان ذات يوم نائما في حجرها فجخف وسال لعابه فتأففته فانتبه وهى تتأفف منه، فقال: أتحبين أن أطلّقك؟ قالت: نعم، فطلقها، وتزوّجها فتى ضرير حسن الوجه، ففجأتهم ذات يوم غارة والفتى نائم فجاءت دختنوس فأنبهته وقالت له: الخيل، فجعل يقول: الخيل الخيل، من الخوف حتى مات فرقا وسبيت دختنوس فبلغ عمرو الجبر مركب ولحقهم وقاتل حتى استنقذ(3/13)
جميع ما أخذوا واستنقذها فوضعها قدّامه على السرج وردّها إلى أهلها، ثم اصابتهم سنة فبعثت إليه تقول: نحتاج اللبن فبعث إليها بلقحة وقال: الصيف ضيّعت اللبن.
وقولهم: «اضطره السيل إلى معطشه» وهو أن رجلا عطش وكان قد أتى واديا له غور وماء شديد الجرية، فبقى في أصل شجرة لا يقدر أن ينزل فيأخذ به الماء، ولم يجد ماء فمات عطشا: يضرب لمن ألقاه الخير الذى كان فيه إلى شرّ.
وقولهم:
«إنّ الحماة أولعت بالكنّه ... وأو لعت كنّتها بالظّنّه»
الحماة: أمّ الزوج؛ والكنّة: امرأة الابن والأخ؛ والظّنّة: التهمة؛ وبين الحماة والكنة عداوة مستحكمة: يضرب بها المثل في الشر يقع بين قوم هم أهل لذلك.
وقولهم: «إن لله جنودا منها العسل» قاله معاوية: لما بلغه أن الأشتر سقى عسلا فيه سمّ فمات: يضرب عند الشماتة بمصاب العدوّ.
وقولهم: «إن الهوى ليميل باست الراكب» أى من هوى شيئا مال نحوه قبيحا أو جميلا، كما قيل
وما زرتكم عمدا ولكنّ ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تهوى به الرّجل
وقولهم: «إن الجواد قد يعثر» : يضرب لمن يكون الغالب عليه فعل الجميل ثم تكون منه الزلّة.(3/14)
وقولهم: «إن الشفيق بسوء ظنّ مولع» : يضرب للمعنىّ بشأن صاحبه لأنه لا يكاد يظن به غير وقوع الحوادث كظنون الوالدات بالأولاد.
وقولهم: «إن خصلتين خيرهما الكذب لخصلتا سوء» : يضرب للرجل يعتذر من شىء فعله بالكذب.
وقولهم: «أحاديث طسم وأحلامها» : يضرب لمن يخبرك بما لا أصل له.
وقولهم: «أحشفا وسوء كيلة» : يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين.
وقولهم: «الحق أبلج، والباطل لجلج» : معناه أن الحق واضح بيّن والباطل يتلجلج فيه أى يتردّد فلا يجد صاحبه مخرجا.
وقولهم: «الحزم سوء الظّنّ بالناس» : هذا المثل قاله اكثم بن صيفىّ.
وقولهم: «اختلط الخاثر بالزّبّاد» . الخاثر: ما خثر من اللبن، والزّبّاد: الزّبد:
يضرب للقوم يقعون في التخليط من أمرهم.
وقولهم: «أخطأت استه الحفرة» : يضرب لمن رام شيئا فلم ينله.
وقولهم: «ادع الى طعانك، من تدعوه الى جفانك» أى استعمل في حوائجك من تخصّه بمعروفك.
وقولهم: «أروغانا يا ثعال، وقد علقت بالحبال» ثعالة: الثعلب: يضرب لمن يراوغ وقد وجب عليه الحق.(3/15)
وقولهم: «إرم فقد أفقته مريشا» يقال: أفقت السهم إذا وضعت فوقه فى الوتر: يضرب لمن تمكّن من طلبته.
وقولهم: «أضرطا وأنت الأعلى؟» قاله سليك بن سلكة السعدىّ، وذلك انه بينا هو نائم إذ جثم عليه رجل من الليل وقال: استأسر فقال له سليك: الليل طويل وأنت مقمر، فأرسلها مثلا: ثم ضمه سليك بيديه ضمّة أضرطته، فقال له:
أضرطا وأنت الأعلى فأرسلها مثلا: يضرب لمن يشكو في غير موضع الشكوى.
وقولهم: «أضللت من عشر ثمانيا» : يضرب لمن يفسد أكثر ما يليه من الأمر.
وقولهم: «أعط أخاك تمرة، فإن أبى فجمرة» : يضرب لمن يختار الهوان على الكرامة.
وقولهم: «أكذب النّفس إذا حدّثتها» معناه لا تحدّث نفسك بأنك لا تظفر، فإن ذلك يثبّطك. قال لبيد
أكذب النفس إذا حدّثتها ... إنّ صدق النفس يزرى بالأمل
وقولهم: «أكبرا وإمعارا؟» أى أتجمع بين الكبر والفقر.
وقولهم: «أمكرا وأنت في الحديد؟» هذا المثل قاله عبد الملك بن مروان لعمرو ابن سعيد لما قبض عليه وكبلّه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن لا تفضحنى بأن تخرجنى للناس فتقتلنى بحضرتهم فافعل، وإنما أراد عمرو بهذه المقالة أن يخالفه عبد الملك فيخرجه فيمنعه منه أصحابه، فقال: أنا أمية! أمكرا وأنت في الحديد.
يضرب لمن أراد أن يمكر وهو مقهور.(3/16)
وقولهم: «أهون هالك عجوز في هام سنة» : يضرب للشىء يستخفّ به وبهلاكه.
قال الشاعر
وأهون مفقود إذا الموت نابه ... على المرء من أصحابه من تقنّعا
وقولهم: «أو سعتهم سبّا وأودوا بالإبل» أصله أن رجلا من العرب أغير على إبله فأخذت، فلما تواروا صعد أكمة وجعل يسبّهم ثم رجع إلى قومه فسألوه عن إبله، فقال هذا المثل.
ويقال: إن أوّل من قاله كعب بن زهير بن أبى سلمى، وذلك أن الحارث بن ورقاء الصيداوىّ أغار على بنى عبد الله بن غطفان واستاق إبل زهير وراعيه، فقال زهير في ذلك قصيدته التى أوّلها
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ... وزوّدوك اشتياقا أيّة سلكوا
وبعث بها إلى الحارث فلم يردّ الإبل، فهجاه، فقال كعب ابنه: أو سعتهم سبّا وأودوا بالإبل، فذهبت مثلا: يضرب لمن لم يكن عنده إلا الكلام.
وقولهم: «أوردها سعد وسعد مشتمل» : هو سعد بن زيد مناة أخو مالك الذى يقال فيه: إنّك ابل من مالك، وذلك أن مالكا تزوّج بامرأة وبنى بها فأورد الإبل أخوه سعد ولم يحسن القيام عليها والرفق بها، فقال مالك
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل(3/17)
فضرب مثلا لمن قصّر في طلب الأمر.
وقولهم: «إن الشّقىّ وافد البراجم» قاله عمرو بن هند الملك. وذلك أن سويد بن ربيعة التميمىّ قتل أخاه سعد بن هند وهرب فنذر عمرو ليقتلن بأخيه مائة من بنى تميم، فسار إليهم بجمعه فلقيهم الخبر فتفرّقوا في نواحى بلادهم فلم يجد إلا عجوزا كبيرة وهى حمراء بنت ضمرة، فلما نظر اليها قال: إنى لأحسبك أعجمية، قالت:
لا والذى أسأله أن يخفض جناحك، ويهدّ عمادك، ويضع وسادك، ويسلبك بلادك، ما أنا بأعجمية، قال: فمن أنت؟ قالت: أنا بنت ضمرة بن جابر، ساد معدّا كابرا عن كابر، وأنا أخت ضمرة بن ضمرة، قال: فمن زوجك؟ قالت: هوذة ابن جرول، قال: وأين هو الآن؟ أما تعرفين مكانه؟ قالت: لو كنت أعلم مكانه حال بينى وبينك، فقال عمرو: أما والله لولا أنى أخاف أن تلدى مثل أبيك وأخيك وزوجك لاستبقيتك، فقالت: والله ما أدركت ثارا، ولا محوت عارا، مع كلام كثير كلّمته به فأمر بإحراقها، فلما نظرت إلى النار، قالت: ألا فتى مكان عجوز! فذهبت مثلا، ثم مكثت ساعة فلم يفدها أحد، قالت: هيهات صارت الفتيان حمما، فذهبت مثلا ثم ألقيت في النار ولبث عمرو عامّة يومه لا يقدر على أحد، حتّى إذا كان آخر النهار أقبل راكب يسمى عمّارا توضع به راحلته حتى أناخ اليه، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا رجل من البراجم، قال: فما جاء بك إلينا؟ قال:
سطع الدّخان وكنت طويت منذ أيام وظننته طعاما، فقال عمرو: إن الشقىّ وافد البراجم، فذهبت مثلا وأمر به فألقى في النار، قيل: إنه أحرق مائة من بنى تميم:
تسعة وتسعين من بنى دارم، وواحدا من البراجم.(3/18)
وقال بعضهم: ما بلغنا أنه أصاب من بنى تميم غير وافد البراجم وإنما أحرق النساء والصبيان؛ قال حرير
وأخزاكم عمرو كما قد خزيتم ... وأدرك عمّارا شقىّ البراجم
ولذلك عيّرت بنو تميم بحب الطعام؛ قال الشاعر
إذا ما مات ميت من تميم ... وسرّك أن يعيش، فجىء بزاد
بخبز أو بلحم أو بتمر ... أو الشّىء الملفّف في البجاد
تراه ينقّب الآفاق حولا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
وهذا المثل يضرب لمن يوقع نفسه في هلكة طمعا.
حرف الباء
تقول العرب: «بلغ السيل الزّبى» هى جمع زبية وهى حفرة تحفر للأسد إذا أرادوا صيده لا يعلوها الماء فإذا بلغها السيل كان مجحفا: يضرب لمن جاوز الحدّ.
وقولهم: «بين العصا ولحائها» اللحاء: القشر: يضرب للمتخالّلين المتفقين؛ ويروى: لا مدخل بين العصا ولحائها.
وقولهم: «بينهم داء الضرائر» هى جمع ضرّة يضرب للعداوة إذا رسخت بين قوم.
وقولهم: «بينهم عطر منشم» قال الأصمعىّ: منشم كانت عطارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا من طيبها فاذا فعلوا ذلك كثرت(3/19)
بينهم القتلى فكان يقال: أشأم من عطر منشم: يضرب في الشرّ العظيم، وفيه يقول زهير
تداركتما عبسا وذبيان بعد ما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم.
وقولهم: «به داء ظبى» : أى أنه لا داء به كما أن الظبى لا داء به، وقيل:
ربما يكون بالظبى داء لا يعرف مكانه معناه أنّ به داء لا يعرف.
وقولهم: «بلغت الدّماء الثّنن» الثّنة، الشعرات التى في مؤخّر رسغ الدابّة:
يضرب عند بلوغ الشرّ النهاية.
وقولهم: «برح الخفاء» أى زال من قولهم ما برح، والمعنى زال الشرّ فوضح الأمر، ويقال: الخفاء المتطأطىء من الأرض، والبراح المرتفع أى صار الخفاء براحا.
وقولهم: «بنان كفّ ليس فيها ساعد» : يضرب لمن له همة ولا مقدرة له على ما في نفسه.
وقولهم: «بات فلان يشوى القراح» : يعنى الماء الخالص لا يخالطه شىء:
يضرب لمن ساءت حاله، وفقد ماله بحيث يشوى الماء شهوة للطبيخ.
وقولهم: «بخ بخ ساق بخلخال» هى كلمة يقولها المتعجب من حسن الشىء وكماله. وأوّل من قال ذلك الورثة بنت ثعلبة، وذلك أنّ ذهل بن شيبان كان زوج الورثة وكانت لا تترك له امرأة إلا ضربتها فتزوّج رقاش بنت عمرو بن عثمان من بنى ثعلبة، فخرجت رقاش يوما وعليها خلخالان، فقالت الورثة ذلك، فذهبت مثلا.(3/20)
حرف التاء
قولهم: «ترك الظّبى ظلّه» أى كناسه الذى يستظلّ به: يضرب لمن نفر من شىء فتركه تركا لا يعود له.
وقولهم: «تركته على مثل ليلة الصّدر» وهى ليلة ينفر الناس من منى فلا يبقى منهم احد.
وقولهم: «تركته أنقى من الرّاحة» أى على حال لا خير فيه كما لا شعر على الراحة: يضرب في اصطلام الدهر.
وقولهم: «تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها» : أى لا تكون ظترا وإن آذاها الجوع.
أوّل من قاله الحارث بن سليل الأسدىّ وكان حليفا لعلقمة بن حصفة الطائىّ فزاره فنظر إلى ابنته الزّبّاء وكانت من أجمل أهل دهرها، فقال: أتيتك خاطبا وقد ينكح الخاطب، ويدرك الطالب، ويمنح الراغب، فقال له علقمة: أنت كفء كريم يقبل منك الصفو، ويؤخذ منك العفو، فأقم ننظر في أمرك، ثم انكفأ إلى أمها، فقال:
إن الحارث سيّد قومه حسبا ومنصبا وبيتا، وقد خطب الينا الزبّاء فلا ينصرفنّ إلا بحاجته، فقالت المرأة لابنتها: أى الرجال أحب إليك الكهل الحججاح، الواصل المناح، أم الفتى الوضاح؟ قالت: بل الفتى الوضّاح، فقالت: إن الفتى يغيرك، وإن الشيخ يميرك، وليس الكهل الفاضل، الكثير النائل، كالحديث السنّ، الكثير المنّ، قالت يا أماه: إن الفتاة تحب الفتى، كحبّ الرّعاء أنيق الكلا، قالت: أى(3/21)
بنية! إن الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب، قالت: إن الشيخ يبلى شبابى، ويدنّس ثيابى، ويشمت بى أترابى. فلم تزل أمها بها حتى غلبتها على رأيها، فتزوّجها الحارث على مائة وخمسين من الإبل وخادم وألف درهم، فابتنى بها، ثم رحل بها إلى قومه فبينا هو ذات يوم جالس بفناء قومه وهى إلى جانبه، إذ أقبل شباب من بنى أسد يعتلجون فتنفست الصّعداء، ثم أرخت عينيها بالبكاء، فقال: ما ببكيك؟ قالت:
مالى وللشيوخ، الناهضين كالفروخ، فقال لها: ثكلتك أمّك! تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها، ثم قال لها: وأبيك، لرب غارة شهدتها، وسبيّة أردفتها، وخمرة شربتها، فالحقى بأهلك فلا حاجة لى فيك، وهذا المثل يضرب في صيانة الرجل نفسه عن خسيس المكاسب.
وقولهم: «تجشّأ لقمان من غير شبع» : يضرب لمن يدّعى ما ليس يملك.
وقولهم: «تخبر عن مجهوله مرآته» : أى منظره يخبر عن مخبره.
وقولهم: «تشكو إلى غير مصمّت» : أى إلى من لم يهتم بشأنك. قال الشاعر
إنك لا تشكو إلى مصمّت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت
وقولهم: «تجاوز الرّوض إلى القاع القرق» : يضرب لمن يعدل بحاجته من الكريم إلى اللئيم، والقرق: المستوى.
وقولهم: «تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه» ويروى: لا أن تراه: يضرب لمن خبره خير من مرآه، أوّل من قاله: المنذر بن ماء السماء.(3/22)
وقولهم: «تقطّع أعناق الرجال المطامع» : يضرب في ذمّ الطمع.
وقولهم: «تقلّدها طوق الحمامة» كناية عن الخصلة القبيحة التى لا تزايله ولا تفارقه.
حرف الثاء
قولهم: «ثار حابلهم على نابلهم» الحابل: صاحب الحبالة، والنابل: صاحب النبل أى اختلط أمرهم: يضرب في فساد ذات البين وتأريث الشرّ في القوم.
وقولهم: «ثور كلاب في الرّهان أقعد» : هو كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة القيسىّ كان يحمق، وذلك أنه ارتبط عجل ثور ليسابق عليه، والأقعد من القعيد وهو المختلف المتباطئ: يضرب لمن يروم ما لا يكون.
حرف الجيم
قولهم: «جرى المذكّيات غلاب» المذكّية من الخيل التى أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان والغلاب المغالبة: يضرب لمن يوصف بالتبريز على أقرانه فى حلبة الفضل؛ وأوّل من قاله نذكره إن شاء الله تعالى في حرب داحس والغبراء.
وقولهم: «جزاء سنمّار» وهو الذى بنى الحورنق وتقدّم خبره في مبانى العرب.
وقولهم: «جرحه حيث لا يضع الراقى أنفه» قالته جندلة بنت الحارث، وكانت تحت حنظلة بن مالك وهى عذراء، وكان حنظلة شيخا كبيرا فخرجت في ليلة(3/23)
مطيرة فبصر بها رجل فوثب عليها وافتضّها، فصاحت وقالت: لسعت. قيل أين؟
قالت: حيث لا يضع الراقى أنفه: يضرب لمن يقع في أمر لا حيلة له في الخروج منه.
وقولهم: «جعجعة ولا أرى طحنا» : يضرب لمن يعد ولا يفى.
وقولهم: «جرى منه مجرى اللّدود» وهو ما يصبّ في أحد شقّى الفم من الدواء، يضرب لمن يبغض ويكره.
وقولهم: «جماعة على أقذاء» . معناه اجتماع بالأبدان، وافتراق بالقلوب، وهو بمعنى قوله صلّى الله عليه وسلم «هدنة على دخن» : يضرب لمن يضمر أذى ويظهر صفاء.
وقولهم: «جار كجار أبى دؤاد» يعنون كعب بن مامة فإنه كان إذا جاوره رجل فإن مات وداه، وإن هلك له بعير أو شاة أخلف عليه، فضربت به العرب المثل في حسن الجوار، قال طرفة
إنّى كفانى من أمر هممت به ... جار كجار الحذّاقىّ الذى اتّصفا
والحذاقىّ هو أبو دؤاد.
وقولهم: «جدع الحلال أنف الغيرة» قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة زفت فاطمة إلى علىّ رضى الله عنهما.
وقولهم: «جوّع كلبك يتبعك» . أوّل من قال ذلك ملك من ملوك حمير كان جائرا على أهل مملكته يسلبهم ما في أيديهم وإن امرأته سمعت صوت السؤّال(3/24)
فقالت: إنى لأرحم هؤلاء وإنى لأخاف أن يكونوا عليك سباعا، بعد ما كانوا لك أتباعا، فقال: جوّع كلبك يتبعك، ثم إنه غزابهم ولم يقسم عليهم شيئا فقالوا لأخ له: قد ترى ما نحن فيه من الجهد ونحن نكره خروج الملك عنكم إلى غيركم فساعدنا على قتل أخيك واجلس مكانه، فوافقهم على ذلك، ثم وثبوا على الملك فقتلوه، فمرّ به عامر بن جذيمة وهو مقتول، فقال: ربما أكل الكلب مؤدّبه اذا لم ينل شبعه، فأرسلها مثلا، والمثل يضرب في اللئام وما ينبغى أن يعاملوا به.
وقولهم: «جاءتهم عوانا غير بكر» أى مستحكمة غير ضعيفة يريدون حربا أو داهية عظيمة.
وقولهم: «جاء بصحيفة المتلّمس» إذا جاء بالداهية؛ وكان من خبر صحيفة المتلمس أن المتلمس وطرفة قدما على عمرو بن المنذر بن امرىء القيس فجعلهما فى صحابة قابوس بن المنذر أخيه وأمرهما بلزومه، وكان قابوس شابا يعجبه اللهو، فطال بقاؤهما عنده، فهجا طرفة عمرا بأبيات فبلغته فاستدعاهما فحباهما بحباء وكتب معهما إلى أبى كرب عامله على هجر أن يقتلهما، وقال: قد كتبت لكما بحباء ومعروف، فلما صدرا من عنده، قال المتلمس لطرفة: هل لك في كتابينا، فإن كان فيهما خير مضينا له، وإن كان شرّا اتقيناه، فأبى طرفة وقرأ المتلمس كتابه فإذا فيه السوءة فألقاه في الماء وقال لطرفة: ألق كتابك فأبى ومضى بكتابه، قال: ومضى المتلمس حتى لحق بملوك بنى جفنة بالشام وسار طرفة بكتابه، فلما انتهى إلى العامل قتله.
وقولهم: «جندلتان اصطكّتا» : يضرب لقرنين يتصاولان.(3/25)
وقولهم: «جزيته حذو النّعل بالنّعل» : للمكافأة.
وقولهم: «جاءوا على بكرة أبيهم» أى جاءوا جميعا لم يتخلّف منهم أحد.
وقيل: بل البكرة تأنيث البكر. بصفهم بالقلة أى بحيث تحملهم بكرة أبيهم. وقيل بل البكرة التى يستقى عليها، معناه جاءوا بعضهم يتلو بعضا كدوران البكرة على نسق واحد؛ وقيل: المراد بالبكرة الطريقة كأنهم جاءوا على طريقة أبيهم، وقال ابن الأعرابىّ:
البكرة: جماعة من الناس أى بأجمعهم.
وقولهم: «جاوز الحزام الطيّبين» : يضرب في تجاوز الحدّ.
حرف الحاء
قولهم: «حرّك لها حوارها تحنّ» الحوار: ولد الناقة، والجمع القليل أحورة والكثير حوران وحيران، معناه ذكّره بعض أشجانه يهج له، قاله عمرو بن العاص لمعاوية حين أراد أن يستنصر أهل الشام، أى أرهم دم عثمان على قميصه.
وقولهم: «حلبتها بالساعد الأشدّ» أى أخذتها بالقوّة إذ لم يتأتّ بالرفق.
وقولهم: «حذو القذّة بالقذّة» أى مثلا بمثل: يضرب في التسوية بين الشيئين؛ ومثله: حذو النّعل بالنّعل، وقد تقدّم.
وقولهم: «حلب الدهر أشطره» معناه أنه اختبر الدّهر شطرى خيره وشرّه فعرف ما فيه.(3/26)
وقولهم: «حسبك من غنى شبع ورىّ» ؛ قال امرؤ القيس
إذا ما لم تكن إبل فمعزى ... كأنّ قرون جلّتها العصىّ
فتملا بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع ورىّ
قال أبو عبيدة: يحتمل معنيين أحدهما أعط كل ما كان لك وراء شبعك وريّك، والآخر القناعة باليسير.
وقولهم: «حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق» أى اكتف بالقليل عن الكثير.
وقولهم: «حسبك من شرّ سماعه» أى اكتف بسماعه ولا تعاينه، قال:
ويجوز أن يريد يكفيك سماع الشرّ وإن لم تقدم عليه ولم تنسب إليه، والمثل قالته فاطمة بنت الخرشب من بنى أنمار بن بغيض أمّ الربيع بن زياد، وذلك أن ابنها الربيع كان أخذ من قيس بن زهير بن جذيمة درعا، فتعرّض قيس لأمّ الربيع وهى على راحلتها فأراد أن يذهب بها ليرتهنها بالدرع، فقالت له: أين عزب عنك عقلك يا قيس؟ أترى بنى زياد مصالحيك! وقد ذهبت بأمّهم يمينا وشمالا وقال الناس ما قالوا وشاءوا، وإن حسبك من شرّ سماعه، فذهبت كلمتها مثلا تقول: كفى بالمقالة عارا وإن كان باطلا.
وقولهم: «حلّقت به عنقاء مغرب» : يضرب لما يئس منه؛ قال الشاعر
إذا ما ابن عبد الله خلّى مكانه ... فقد حلّقت بالجود عنقاء مغرب
قال الميدانىّ: والعنقاء طائر عظيم معروف الاسم مجهول الجسم يقال: كان بأرض الرّس جبل يقال له: دمخ مصعّد في السماء، وكان يأتيه طائر عظيم لها عنق(3/27)
طويلة؛ وهى من أحسن الطير؛ فيها من كل لون، وكانت تقع منتصبة وتنقضّ على الطير فتأكلها، فجاعت يوما وأعوزها الطير فانقضّت على صبىّ فذهبت به فسميت عنقاء مغرب: لأنها تغرب بكل ما تأخذه، ثم انقضّت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمتها إلى جناحين لها صغيرين سوى جناحيها الكبيرين ثم طارت، فشكوا ذلك إلى نبيّهم: خالد بن صفوان، فقال: اللهم خذها واقطع نسلها وسلّط عليها آفة! فأصابتها صاعقة فاحترقت فضربتها العرب مثلا.
قال عترة بن الأخرس الطائىّ في مرثية خالد بن زيد
لقد حلّقت بالجود عنقاء كاسر ... كفتخاء دمخ حلّقت بالحزوّر
فما إن لها بيض فيعرف بيضها ... ولا شبه طير منجد أو مغوّر
وقولهم: «حتّام تكرع ولا تنقع» كرع إذا تناول الماء بفيه من موضعه:
يضرب للحريص في جمع الشىء.
وقولهم: «حسبك من إنضاجه أن تقتله» : يضرب لطالب الثأر فيقول:
لأقتلنّ فلانا وقومه أجمعين فيقال: لا تعدّ، حسبك أن تدرك ثأرك وطلبتك:
ويضرب لمتجاوز الحدّ.
حرف الخاء
قولهم: «خير حالبيك تنطحين» : يضرب لمن يكافئ المحسن بالإساءة، ومثله:
خير إناءيك تكفئين.(3/28)
وقولهم: «خامرى أمّ عامر» معناه استترى؛ وأمّ عامر: الضبع، يشبه بها الأحمق، ومثله: خامرى حضاجر، أتاك ما تحاذر: وهو اسم للذكر والأنثى من الضباع.
وقولهم: «خلالك الجوّ فبيضى واصفرى» قاله طرفة بن العبد، وكان فى سفر مع عمّه فنصب فحّا للقنابر ونثر حبّا فلم يصد شيئا، فلما تحملوا رأى القنابر يلقطن الحبّ الذى نثره لهنّ، فقال في ذلك
يا لك من قنبرة بمعمر! ... خلالك الجوّ فبيضى واصفرى
ونقّرى ما شئت أن تنقّرى ... قد رحل الصيّاد عنك فابشرى
ورفع الفخّ فماذا تحذرى؟ ... لا بدّ من صيدك يوما فاصبرى!
يضرب في الحاجة يتمكّن منها صاحبها.
وقولهم: «خلع الدّرع بيد الزّوج» المثل لرقاش بنت عمرو بن تغلب بن وائل، وكان زوجها كعب بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة، فقال لها: اخلعى؛ فقالت:
خلع الدّرع بيد الزّوج، فقال: اخلعيه لأنظر إليك، فقالت: التجرّد لغير النكاح مثلة، فذهبت كلمتاها مثلين يضربان في وضع الشىء في غير موضعه.
وقولهم
«خلّ سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه»
يضرب لمن كره صحبتك وزهد فيك.
وقولهم: «خمر أبى الرّوقاء ليست تسكر» : يضرب للغنىّ الذى لا فضل له على أحد.(3/29)
حرف الدال
قولهم: «دمّث لجنبك قبل النّوم مضطجعا» أى استعدّ للنوائب قبل حلولها؛ والتدميث: التليين.
وقولهم: «دع امرءا وما اختار» : يضرب لمن لا يقبل النصح؛ قال الشاعر
إذا المرء لم يدر ما أمكنه ... ولم يأت من أمره أزينه!
وأعجبه العجب فاقتاده ... وتاه به التّيه فاستحسنه،
فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوما ويبكى سنه!
حرف الذال
قولهم: «ذكّرنى فوك حمارى أهلى» أصله أن رجلا خرج يطلب حمارين ضلّاله، فرأى امرأة فأعجبته فنسى الحمارين، فلما أسفرت عن وجهها رآها فوهاء فقال: ذكّرنى فوك حمارى أهلى، وقال
ليت النّقاب على النساء محرّم ... كى لا تغرّ قبيحة إنسانا
وقولهم: «ذهبوا أيدى سبا» ويقال: تفرقوا، أى تفرّقوا تفريقا لا اجتماع معه.
وقصة سبإ لمّا تفرقوا بسبب سيل العرم مشهورة؛ وسنذكرها إن شاء الله تعالى فى التاريخ.(3/30)
وقولهم: «ذهبوا شغر بغر، وشذر مذر، وخذع مذع» أى في كل وجه.
وقولهم: «ذلّ بعد شماسه اليعفور» : يضرب لمن انقاد بعد جماحه؛ واليعفور:
فرس.
وقولهم: «ذهبت طولا، وعدمت معقولا» : يضرب للطويل بلا طائل.
حرف الراء
قولهم: «رمتنى بدائها وانسلّت» أصل هذا المثل: أن سعد بن زيد مناة تزوّج رهم ابنة الخزرج، وكانت من أجمل النساء، وكان ضرائرها إذا ساببنها يقلن لها: يا عفلاء، فقالت لها أمّها: إذا ساببنك فابدئيهنّ بذلك، ففعلت رهم ذلك مع ضرّتها، فقالت: رمتنى بدائها وانسلّت، فذهبت مثلا: يضرب لمن يعيّر الآخر بما هو يعيّر به.
وقولهم: «رماه بثالثة الأثافى» وهى قطعة من الجبل يوضع إلى جنبها حجران وينصب عليها القدر: يضرب لمن رمى بداهية عظيمة.
وقولهم: «ربّ صلف تحت الراعدة» الصّلف: قلّة الخير، والراعدة:
السحابة ذات الرعد: يضرب للبخيل مع السّعة.
وقولهم: «رجع بخفّي حنين» أصله أن حنينا كان إسكافا بالحيرة وساومه أعرابىّ بخفّين فاختلفا حتى أغضبه، فلما ارتحل الأعرابىّ أخذ حنين الخفين فألقى أحدهما على طريق الأعرابىّ، ثم ألقى الآخر بموضع آخر على طريقه، فلما مرّ الأعرابىّ بالخف الأوّل قال: ما أشبه هذا بخف حنين ولو كانا خفين لأخذتهما،(3/31)
ثم مرّ بالآخر فندم على ترك الأوّل فأناخ راحلته وانصرف إلى الأوّل وقد كمن له حنين، فأخذ الراحلة وذهب بها وأقبل الأعرابىّ إلى أهله ليس معه غير خفّى حنين، فذهبت مثلا: يضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة.
وقولهم: «ربّ ساع لقاعد، وآكل غير حامد» أوّل من قاله النابغة الذّبيانى، وكان سبب ذلك أن وفدا وفد إلى النعمان وفيهم رجل من بنى عبس يقال له: شقيق، فمات عنده، فلما حبا النعمان الوفود بعث بحبائه إلى أهله، فقال النابغة فى ذلك
أتى أهله منه حباء ونعمة ... وربّ امرىء يسعى لآخر قاعد
وقولهم: «ربّ ملوم لا ذنب له» قاله أكثم بن صيفىّ، معناه قد ظهر للناس منه أمر أنكروه عليه وهم لا يعرفون عذره؛ وقيل: إن رجلا قال للأحنف ابن قيس: أنا أبغض التمر والزبد، فقال: ربّ ملوم لا ذنب له.
وقولهم: «ربّ كلمة تقول لصاحبها دعنى» : يضرب في النهى عن الإكثار مخافة الإهجار؛ ذكروا أن ملكا من ملوك حمير خرج إلى الصيد ومعه نديم له فوقفا على صخرة ملساء، فقال النديم: لو أن إنسانا ذبح على هذه الصخرة إلى أين كان يبلغ دمه، فأمر بذبحه، وقال: ربّ كلمة تقول لصاحبها دعنى.
ومثله قولهم: «ربّ رأس حصيد لسان» : يضرب للأمر بالسكوت.
وقولهم: «ردّ الحجر من حيث جاءك» : أى لا تقبل الضّيم وارم من رماك.(3/32)
حرف الزاى
قولهم: «زيّن في عين والد ولده» : يضرب في عجب الرجل برهطه.
وقولهم: «زاحم بعود أو دع» اى لا تستعن إلا بأهل السنّ والتجربة.
وقولهم: «زوج من عود، خير من قعود» ، قالته بعض نساء العرب، قالوا:
كان ذو الإصبع العدوانىّ غيورا، وله بنات أربع، وكان لا يزوّجهنّ غيرة عليهنّ، فاستمع عليهنّ يوما وقد خلون يتحدّثن، فقالت إحداهنّ: لتقل كلّ واحدة منا ما في نفسها، ولنصدقنّ جميعا، فاشتهت كلّ واحدة من الثلاثة زوجا وصفت من جماله وكماله وسعة حاله، ثم أبت الصغرى أن تتكلّم، فقالوا: لا بدّ أن تقولى، وألحّوا عليها، فقالت:
زوج من عود، خير من قعود، فزوّجهنّ.
وقولهم: «زرغبّا تزدد حبّا» قاله معاذ بن صرم الخزاعىّ، وكانت أمّه من عكّ، وكان يكثر من زيارة أخواله، فأقام فيهم زمانا، ثم خرج يتصيّد مع بنى أخواله، فحمل على عير، فلحقه ابن خال له يقال له: الغضبان فتخاصما، فقال له الغضبان: والله! لو كان فيك خير لما تركت قومك، فقال: زر غبّا، تزدد حبّا، فأرسلها مثلا، وفي ذلك يقول الشاعر
إذا شئت أن تقلى فزر متواليا ... وإن شئت أن تزداد حبّا فزر غبّا
وقال آخر
عليك بإغباب الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا
ألم تر أنّ القطر يسأم دائما ... ويسأل بالأيدى إذا هو أمسكا(3/33)
حرف السين
قولهم: «سبق السيف العذل» قاله ضبّة بن أدّ لمّا لامه الناس على قتل قاتل ابنه في الحرم، ويقال: إنه لخزيم بن نوفل الهمدانىّ.
وقولهم: «سقط العشاء به على سرحان» أصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء، فوقع على ذئب فأكله، وقال ابن الأعرابىّ: أضله أن رجلا من بنى غنىّ يقال له: سرحان ابن هزلة كان بطلا فاتكا فقال رجل! والله لأرعينّ إبلى هذا الوادى، فورد بإبله، فوجد سرحان فقتله، وأخذ إبله وقال
أبلغ نصيحة: أنّ راعى أهلها ... سقط العشاء به على سرحان
سقط العشاء به على متقمّر ... طلق اليدين معاود لطعان
يضرب في طلب الحاجة يؤدّى صاحبها إلى التلف.
ومثله قولهم: «سقط العشاء به على متقمّر» وهو الأسد.
وقولهم: «سكت ألفا، ونطق خلفا» الخلف: الردىء من القول وغيره.
وقولهم: «ساء سمعا فأساء جابة» أوّل من قاله سهيل بن عمرو أخو بنى عامر، وكان قد خرج بابنه أنس، فوقف بجزورة مكة، فأقبل الأخنس بن شريق الثّقفىّ فقال له: من هذا؟ فقال: ابنى! فقال: حياك الله يا فتى [أين أمّك؟] فقال: لا والله ما أمّى في البيت، ولكنها انطلقت إلى أمّ حنظلة تطحن دقيقا، فقال أبوه: ساء سمعا فأساء جابة، فأرسلها مثلا.(3/34)
وقولهم: «سحاب نوء ماؤه حميم» : يضرب لمن له لسان لطيف وليس وراءه خير.
وقولهم: «سوء الاستمساك خير من حسن الصّرعة» : معناه حصول البعض مع الاحتياط خير من الكلّ مع التهوّر.
حرف الشين
قولهم: «شخب في الإناء وشخب في الأرض» : يضرب لمن يتكلّم فيصينب مرة ويخطئ أخرى.
وقولهم: «شرق بالرّيق» أى ضرّه أقرب الأشياء إلى نفعه.
وقولهم: «شنشنة أعرفها من أخزم» قاله أبو أخزم الطائىّ: وكان له ابن يقال له: أخزم، فمات وترك بنين، فوثبوا على جدّهم يوما فأدموه، وكان أبوهم عاقّا له فقال
إنّ نبىّ ضرّ جونى بالدّم ... شنشنة أعرفها من أخزم
والشنشنة: الطبيعة والعادة: يضرب في قرب الشبه.
وقولهم: «شمّر ذيلا، وادّرع ليلا» : يضرب على الحثّ في الجدّ والطلب.
وقولهم: «شنوءة بين يتامى رضّع» الشنوءة: ما يستقذر من القول والفعل:
يضرب لقوم اجتمعوا على فجور وفاحشة ليس فيهم مرشد ولا ناه.
وقولهم:
«شيخ بحوران له ألقاب» وبعده ... الذئب والعقعق والغراب
حوران بأرض الشام: يضرب لمن يظهر للناس العفاف، ومن حقّه أن يحترز منه.(3/35)
وقولهم: «شغل الحلى أهله أن يعارا» : يضرب للمسئول شيئا هو إليه أحوج من السائل.
وقولهم: «شبّ عمرو عن الطّوق» قاله جذيمة الأبرش، وعمرو هذا هو ابن أخته وهو عمرو بن عدىّ بن نصر.
حرف الصاد
قولهم: «صبرا على مجامر الكرام» قال ذلك يسار الكواعب، وكان عبدا أسود يرعى لأهله إبلا ضخمة، وكان معه عبد يراعيه، فمرّ أهله يوما سائرين بحذاء الإبل التى يرعاها، فعمد إلى لقوح فحلبها في علبة، حتّى ملأها ثم مشى بها، وكان أفجح الرّجّلين، حتى أتى بها ابنة مولاه يسقيها، وهى راكبة على جملها، فنظرت إلى رجليه فتبسمت، ثم شربت اللبن وجرته خيرا، فانطلق فرحا حتّى أتى صاحبه، فقصّ عليه القصة، فقال: اسخر بنفسك ولا تسخر ببنات الأحرار؛ فقال: والله لقد دحكت إلىّ دحكة لا أخيّبها، يريد: ضحكت، وكان أعجمىّ اللسان، ثم باتا فقام فحلب في علبة فملأها، ثم أتى ابنة مولاه، فنبّهها من نومها فاستيقظت وشربت، ثم اضطجعت وجلس يسار حيالها، فقالت: ما حاجتك؟ فقال: ما أعلمك بحاجتى! فقالت:
لا والله! فما هى؟ قال: ذاك الرجل الذى دحكت إلىّ. فقالت: حيّاك الله، وقامت إلى سفط لها فأخرجت منه بخورا ودهنا طيبا، وعمدت إلى موسى كانت تحفّ به الشعر، وأخذت مجمرة فيها نار، فوضعت عليها البخور ووضعتها تحته، وطأطأت كأنها تصلح البخور، فعمدت إلى مذاكيره فمسحتها بالموسى، فلما أحس بحرارة الحديد. قال: صبرا على مجامر الكرام، ثم أومأت إلى أنها تدهنه وقالت:(3/36)
إن هذا دهن طيب، إلا أن فيه حرارة فتصبّر عليه، فإن ريحك ريح الإبل وأنا أعافك، ثم أشمّته الدهن على الموسى، ورفعته فوضعته بين عينيه فاستلتت بها أنفه. وقالت:
قم إلى إبلك يابن الخبيثة، فأتى صاحبه، فلما رآه. قال: أمقبل أنت أم مدبر؟
قال: أخزاك الله، أو قد عمى بصرك؟
إذ لا ترى أنفا ولا أذنين ... أما ترى وبّاصة العينين
هذا أحد الأقوال في هذا المثل: يضرب لمن يؤمر بالصبر على ما يكره. ويقال:
إن أعرابيا قدم الحضر بإبل، فباعها بمال كثير وأقام لحوائج له، ففطن قوم من جيرته لما معه من المال، فعرضوا عليه تزويج جارية وصفوها بالجمال والحسب طمعا في ماله، فرغب فيها فزوّجوه إياها، ثم اتخذوا طعاما وجمعوا الحىّ، وجلس الأعرابىّ في صدر المجلس، فأكلوا الطعام وأداروا الكؤوس وشرب الأعرابىّ، ثم أتوه بكسوة فاخرة، فلبسها وقدّموا له مجمرة فيها بخور لا عهد له به، وكان لا يلبس السراويل، فلما جلس على المجمرة، سقطت مذاكيره في النار، فظن أن ذلك سنّة لا بدّ منها، واستحيا أن يكشف ثوبه. فقال: صبرا على مجامر الكرام، فذهبت مثلا واحترقت مذاكيره، وتفرّق القوم، وارتحل إلى البادية وترك المرأة والمال، فلما وصل إلى قومه وقصّ عليهم القصة. قالوا: است لم تعوّد المجمر، فذهبت مثلا: يضرب لمن لا قديم له.
وقولهم: «صار الزّجّ قدّام السّنان» : يضرب في سبق المتأخّر المتقدّم من غير استحقاق لذلك.
وقولهم: «صرّح المحض عن الزّبد» : يضرب للأمر إذا انكشف وتبيّن.(3/37)
وقولهم: «صفقة لم يشهدها حاطب» هو حاطب بن أبى بلتعة كان حازما، فباع بعض أهله بيعة غبن فيها حين لم يشهدها حاطب، فسارت مثلا لكلّ أمر ينبرم دون صاحبه.
حرف الضاد
قولهم: «ضربه ضرب غرائب الإبل» وذلك أن الغريبة تزدحم على الحياض عند الورود، وصاحب الحوض يطردها ويضربها بسبب إبله: يضرب فى دفع الظالم عن ظلمه بأشدّ ما يمكن.
وقولهم: «ضلّ الدّريص نفقه» الدّريص: ولد الفأرة واليربوع والهرّة وأشباه ذلك، ونفقه: حجره: يضرب لمن يعنى بأمره ويعدّ حجّة لخصمه، فينسى عند الحاجة.
وقولهم: «ضلّ حلم امرأة فأين عيناها؟» أى هب أنّ عقلها ذهب فأين ذهب بصرها؟: يضرب في استبعاد عقل الحليم.
وقولهم: «ضائف اللّيث قتيل المحل» : يضرب لمن اضطرّ لشىء فغرّر بنفسه في طلبه.
حرف الطاء
قولهم: «طويته على بلاله وعلى بللته» قال الشاعر
وصاحب مرامق داجيته ... على بلال نفسه طويته
ويقال: طويت السقاء على بللته إذا طويته وهو ند لأنه إن طوى يابسا تكسّر، وإن طوى نديّا عفن: يضرب للرجل يحمل على ما فيه من العيب؛ قال الشاعر(3/38)
ولقد طويتكم على بللاتكم ... وعلمت ما فيكم من الأذراب
فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذا المودّة أقرب الأنساب
والأذراب: جمع ذرب وهو الفساد.
وقولهم: «طويته على غرّه» : غرّ الثوب: أثر كسره الأوّل: يضرب لمن يوكل إلى رأيه وما انطوى عليه.
حرف الظاء
قولهم: «ظالع يعود كسيرا» : يضرب للضعيف ينصر من هو أضعف منه.
وقولهم: «ظئر رءوم، خير من أمّ سؤوم» : الظئر؛ الحاضنة، والرءوم:
العطوف، والسؤوم: الملول: يضرب في عدم الشفقة وقلة الاهتمام.
وقولهم: «ظاهر العتاب خير من باطن الحقد» معناه ظاهر.
وقولهم: «ظلال صيف ما لها قطار» : يضرب لمن له ثروة ولا يجدى على أحد.
حرف العين
قولهم: «عند الصباح يحمد القوم السّرى» أوّل من قاله خالد بن الوليد لما بعث إليه أبو بكر رضى الله عنه. وكان باليمامة أن يسير إلى العراق، ونالته مشقة بسبب العطش، فأسرى حتى أدرك الماء فقال: عند الصباح يحمد القوم السرى:
يضرب لمن يحمل المشقة رجاء الراحة.
وقولهم: «عند جهينة الخبر اليقين» : يضرب في معرفة الشىء حقيقة.(3/39)
وقولهم: «عير عاره وتده» أى أهلكه؛ وأصله أنّ رجلا أشفق على حماره فربطه إلى وتد، فهجم عليه السبع فلم يمكنه الفرار فأهلكه.
وقولهم: «عند النّطاح يغلب الكبش الأجمّ» وهو الذى لا قرن له:
يضرب لمن غلبه صاحبه بما أعدّ له.
وقولهم: «على أهلها تجنى براقش» قالوا: كانت براقش كلبة لقوم من العرب، فأغير عليهم فهربوا وهى معهم، فنبحت فاتبع القوم آثارهم بنباحها، فأدركوهم فقتلوهم، ففيها بقول حمزة بن بيض
بل جناها أخ علىّ كريم ... وعلى أهلها براقش تجنى
وقيل في هذا المثل غير ذلك.
وقولهم: «عسى الغوير أبؤسا» الغوير: تصغير غار، والابؤس: جمع بؤس وهو الشدّة، قالته الزّبّاء عند رجوع قصير من العراق، ومعه الرجال، وكان الغوير على طريقه، ومعناه لعل الشرّ يأتيكم من قبل الغار: يضرب للرجل يقال له: لعل الشرّ جاء من قبلك.
وقولهم: «عشب ولا بعير» : يضرب للرجل له مال كثير ولا ينفقه على نفسه ولا على غيره.
وقولهم: «عاد غيث على ما أفسد» : يضرب للرجل فيه فساد، وصلاحه أكثر.
وقولهم: «عاد السهم الى النّزعة» أى رجع الحق إلى أهله.(3/40)
وقولهم: «عصا الجبان أطول» لانه يفعل ذلك من فشله، يرى أن طولها أشدّ ترهيبا لعدوّه من قصرها.
وقولهم: «على الخبير سقطت» المثل لمالك بن جبير العامرىّ، وتمثّل به الفرزدق حين لقى الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، عند مقدمه من العراق وخروج الحسين إليه وقد قال له: ما وراءك؟ فقال: على الخبير سقطت؛ قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بنى أميّة، والنصر من السماء.
وقولهم: «عادة السّوء شرّ من المغرم» معناه أن المغرم إذا أدّيته فارقك، وعادة السوء لا تفارق صاحبها.
وقولهم: «عجعج لمّا عضّه الظّعان» أى صاح، والظعان: نسع يشدّ به الهودج: يضرب لمن يضجّ إذا لزمه الحقّ.
وقولهم: «عند الرّهان تعرف السّوابق» : يضرب لمن يدّعى ما ليس فيه.
وقولهم: «عاد الأمر إلى نصابه» : يضرب في الأمر يتولّاه أربابه.
وقولهم: «عينك عبرى والفؤاد في دد» الدّد والدّدن والدّدا: اللعب واللهو: يضرب لمن يظهر حزنا لحزنك وفي قلبه خلاف ذلك.
وقولهم: «عرفطة تسقى من الغوادق» ويروى: الغوابق؛ العرفطة: شجرة خشنة المسّ، والغوادق: السحاب الكثير الماء: يضرب للشّرّير يكرّم ويبجّل.(3/41)
حرف الغين
قولهم: «غدّة كغدّة البعير وموت في بيت سلوليّة» قاله عامر بن الطّفيل؛ وذلك أنه لما قدم على النبىّ صلّى الله عليه وسلم! وقدم معه أربد بن قيس اخو لبيد ابن ربيعة العامرىّ الشاعر لأمّه، فقال رجل: يا رسول الله، هذا عامر بن الطّفيل قد أقبل، قال: «دعه، فإن يرد الله به خيرا يهده» فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد، مالى إن أسلمت؟ قال: «لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم» قال: تجعل لى الأمر بعدك، قال: «ليس ذاك إلىّ، إنما ذاك إلى الله تعالى يجعله حيث يشاء» قال:
فتجعلنى على الوبر وأنت على المدر، قال: «لا» قال: فماذا تجعل لى؟ قال: «أجعل لك أعنّة الخيل تغزو عليها» ، قال: أو ليس ذلك إلىّ اليوم؟ وكان قد أوصى إلى أربد بن قيس: «إذا رأيتنى أكلّمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف» فاخترط أربد سيفه شبرا فحبسه الله تعالى فلم يقدر على سلّه، فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال: «اللهمّ اكفنيهما بما شئت» فأرسل الله تعالى على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، وولّى عامر بن الطّفيل هاربا وقال:
يا محمد، دعوت ربّك فقتل أربد، والله لأملأنّها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا، فقال:
رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يمنعك الله من ذلك» فسار عامر حتى نزل ببيت امرأة سلوليّة، فخرجت على ركبته غدّة عظيمة، فقال: غدّة كغدّة البعير وموت فى بيت سلوليّة، ثم مات على ظهر فرسه؛ وسلول أقلّ العرب وأذلّهم، فسار كلامه مثلا:
يضرب في خصلتين إحداهما شرّ من الأخرى.
وقولهم: «غرّنى برداك من خدافلى» ويروى: من غدافلى؛ أصل المثل(3/42)
أن رجلا استعار بردى امرأة فلبسهما، ورمى بخلقان كانت عليه، فاسترجعت المرأة برديها فقاله: يضرب لمن ضيّع ماله طمعا في مال غيره.
حرف الفاء
قولهم: «فى وجه المال تعرف أمرته» أى نماءه وخيره؛ ويقال: أمرت أموال بنى فلان إذا نمت وكثرت: يضرب لمن يستدلّ بحسن ظاهره على حسن باطنه.
وقولهم: «فى بيته يؤتى الحكم» زعمت العرب أن الأرنب التقطت تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضبّ، فقالت الأرنب:
يا أبا الحسل، قال: سميعا دعوت، قالت: أتيناك لنختصم إليك، قال:
عادلا حكّمتما، قالت: فاخرج إلينا، قال: فى بيته يؤتى الحكم، قالت: إنى وجدت تمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب، قال: لنفسه بغى الخير، قالت: لطمته، قال: بحقّك أخذت، قالت: لطمنى، قال: حرّ انتصر، قالت: فاقض بيننا، قال: حدّث حديثين امرأة، فإن أبت فأربعة؛ فذهبت أقواله كلّها أمثالا.
وقولهم: «فتى ولا كمالك» قاله متمّم بن نويرة في أخيه مالك لمّا قتل.
وقولهم: «فى دون هذا ما تنكر المرأة صاحبها» أوّل من قاله جارية من مزينة، قال الحكم بن صخر الثّقفىّ: خرجت منفردا فرأيت بإمّرة (وإمّرة موضع) ، جاريتين أختين لم أر كجمالهما، فكسوتهما وأحسنت إليهما، قال: ثم حججت من قابل ومعى أهلى، وقد اعتللت ونصل خضابى، فلمّا صرت بإمرة، إذا إحداهما قد جاءت، فسألت(3/43)
سؤال منكرة، قال فقلت: فلانة؟ قالت: فدّى لك أبى وأمّى، أنّى تعرفنى وأنكرك؟
قال فقلت: أنا الحكم بن صخر، قالت: رأيتك عام أوّل شابا سوقة، وأراك العام شيخا ملكا، وفي دون هذا ما تنكر المرأة صاحبها، فذهبت مثلا، قال قلت: ما فعلت أختك؟ قال: فتنفّست الصّعداء، وقالت: تزوّجها ابن عمّ لها وذهب بها، فذاك حيث تقول
إذا ما قفلنا نحو نجد وأهلها ... فحسبى من الدنيا قفول إلى نجد
قال قلت: أمّا إنى لو أدركتها لتزوّجتها، قالت: وما يمنعك من شريكتها فى حسنها وجمالها وشقيقتها؟ قال قلت: يمنعنى من ذلك قول كثيّر حيث يقول
إذا وصلتنا خلة كى تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبيّة أوّل
فقالت: كثيّر بينى وبينك، أليس الذى يقول
هل وصل عزّة إلا وصل غانية؟ ... فى وصل غانية من وصلها خلف
قال: فتركت جوابها عيّا.
وقولهم: «فاتكة واثقة برىّ» زعموا أن امرأة كثر لبنها وطفقت تهريقه، فقال لها زوجها: لم تهر يقينه؟ فقالت: فاتكة واثقة برىّ: يضرب للمفسد الذى وراء ظهره ميسرة.
حرف القاف
قولهم: «قطعت جهيزة قول كلّ خطيب» أصله أن قوما اجتمعوا يخطبون في صلح بين حيّين، قتل أحدهما من الآخر قتيلا ليرضوا بالدية، فبينماهم فى ذلك، إذ جاءت أمة يقال لها: جهيزة، فقالت: إن القاتل قد ظفر به بعض(3/44)
أولياء المقتول فقتله، فقالوا: قطعت جهيزة قول كلّ خطيب: يضرب لمن يقطع على الناس ما هم فيه بجهله.
وقولهم: «قبل البكاء كان وجهك عابسا» : يضرب للبخيل يعتلّ بالإعدام.
ومثله: «قبل النّفاس كنت مصفرّة» .
وقولهم: «قلب الأمر ظهرا لبطن» : يضرب في حسن التدبير.
وقولهم: «قد شمّرت عن ساقها فشمّرى» : يضرب في الحثّ على الجدّ فى الأمر.
وقولهم: «قد يضرط العير والمكواة في النار» قاله عرفطة بن عرفجة سيّد بنى هزّان، وكان بينه وبين الحصين بن نبيت العكلىّ حروب ووقائع، فقتلت عكل رجلا من بنى هزّان، وأسر عرفطة بن عكل رجلين، فقال لهما: أيّكم أفضل لأقتله بصاحبنا؟ فجعل كلّ واحد منهما يخبر أنّ صاحبه أكرم منه، فأمر بقتلهما جميعا، فقدّم أحدهما للقتل، فجعل الآخر يضرط، فقال عرفطة: قد يضرط العير والمكواة في النار، فأرسلها مثلا: يضرب للرجل يخوّف بالأمر فيجزع قبل وقوعه. وهذا أحد الأقوال فيه؛ وقيل غير ذلك.
وقولهم: «قد بيّن الصبح لذى عينين» : يضرب في ظهور الأمر كلّ الظهور.
وقولهم: «قد أنصف القارة من راماها» القارة: قبيلة قد تقدّم ذكرها فى الأنساب.
وقولهم: «قبل الرّماء تملأ الكائن» أى تؤخذ أهبة الأمر قبل وقوعه.(3/45)
ومثله. «قبل الرّمى يراش السهم» : يضرب في تهيئة الآلة قبل الحاجة اليها.
وقولهم: «قلب له ظهر المجنّ» : يضرب لمن كان لصاحبه على مودّة، ثم حال عن عهده.
وقولهم: «قد ألقى عصاه» إذا استقرّ من سفر أو غيره؛ يقال: إنه لما بويع لأبى العباس السفّاح، قام خطيبا فسقط القضيب من يده، فقام رجل من القوم وأنشد
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وقولهم: «قد ونى طرفاه» : يضرب لمن ذلّ وضعف عن أن يتمّ له أمر؛ قال النجاشىّ
وإنّ فلانا والإمارة كالذى ... ونى طرفاه بعد ما كان أجدعا
وقولهم: «قدّت سيورهم من أديمك» : يضرب للشيئين يستويان في الشبه قال الشاعر
وقدّت من أديمهم سيورى
وقولهم: «قد بلغ الشّظاظ الوركين» الشظاظ: عويد يجعل في عروة الجوالق: يضرب فيما جاوز الحدّ، وهو كقولهم: جاوز الحزام الطّبيين.
حرف الكاف
قولهم: «كان كراعا، فصار ذراعا» : يضرب للذليل الضّعيف صار عزيزا قويّا.
وقولهم: «كلام كالعسل، وفعل كالأسل» : يضرب في اختلاف القول والفعل.(3/46)
وقولهم: «كنت تبكى من الأثر العافى فقد لا قيت أخدودا» : يضرب لمن يشبكو القليل من الشرّ ثم يقع في الكثير.
وقولهم: «كلّ ذات بعل ستئيم» هذا من أمثال أكثم بن صيفىّ؛ قال الشاعر
أفاطم إنى هالك فتثبّتى ... ولا تجزعى، كلّ النساء تئيم
أى ستفارق زوجها.
وقولهم: «كلّ أزبّ نقور» قاله زهير بن جذيمة لأخيه أسيد، ونذكر الخبر فى وقائع العرب.
وقولهم: «كلّ فتاة بأبيها معجبة» : يضرب في عجب الرجل بعشيرته ورهطه.
وقولهم: «كلّ الصيد في جوف القرا» الفرا: الحمار الوحشى؛ أضل المثل أن ثلاثة نفر خرجوا متصيّدين، فاصطاد أحدهم أرنبا، والآخر ظبيا، والثالث حمارا، فتطاولا عليه بصيدهما، فقال: كلّ الصيد في جوف الفرأ: يضرب لمن يفضّل على أقرانه، وقد تمثّل به رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقولهم: «كدمت غير مكدم» : يضرب لمن يطلب شيئا في غير مطلبه.
وقولهم: «كالثور يضرب لمّا عافت البقر» : يضرب في عقوبة البرىء بذنب المجرم، ويأتى ذكر ذلك في أوابد العرب.
وقولهم: «كالكبش يحمل شفرة وزنادا» : يضرب لمن يتعرّض للهلاك.
وقولهم: «كالمستغيث من الرمضاء بالنار» : يضرب في الخلتين يجتمعان على الرجل.(3/47)
وقولهم: «كالقابس العجلان» : يضرب لمن عجّل في طلب حاجته.
وقولهم: «كلاهما وتمرا» أوّل من قاله عمرو بن حمران الجعدىّ، وذلك أنه مرّ برجل وبين يديه زبد وسنام وتمر، فقال: أنلنى ممّا بين يديك، فقال:
أيّما أحبّ إليك أزبد أم سنام؟ فقال: كلاهما وتمرا، فسارت مثلا.
وقولهم: «كالباحث عن المدية» يقال: إن رجلا وجد صيدا، ولم يكن معه ما يذبحه به، فبحث الصيد بأظلافه في الأرض، فسقط على شفرة فذبحه بها: يضرب فى طلب الشىء يؤدّى صاحبه إلى تلف النفس.
وقولهم: «كذى العرّ يكوى غيره وهو راتع» : يضرب في أخذ البرىء بذنب الجانى، ويأتى ذكره في أوابد العرب.
وقولهم: «كالمحتاض على عرض السراب» : يضرب لمن يطمع في محال.
وقولهم: «كلّ لياليه لنا حنادس» : يضرب لمن لا يصل إليك منه إلا ما تكره.
حرف اللام
قولهم: «لو ذات سوار لطمتنى» معناه لو ظلمنى من كان كفؤا لى لهان علىّ، ولكن ظلمنى من هو دونى، وهو كقول بعضهم
فلو أنى بليت بهاشمىّ ... خؤولته بنو عبد المدان
لهان علىّ ما ألقى ولكن ... تعالى فانظرى بمن ابتلانى
وقولهم: «لو غير ذات سوار لطمتنى» روى الأصمعىّ: أن حاتما الطائىّ مرّ ببلاد عنزة في بعض الأشهر الحرم فناداه أسير لهم: يا أبا سفانة: أكلنى الإسار(3/48)
والقمل، فقال: ويحك، أسأت إذ نوّهت باسمى في غير بلاد قومى، فساوم القوم به ثم قال: أطلقوه واجعلوا يدىّ في القدّ مكانه، ففعلوا ذلك؛ ثم جاءته امرأة ببعير ليفصده فنحره فلطمته فقال: لو غير ذات سوار لطمتنى، يعنى أنى لا أقتصّ من النساء، ثم عرف، ففدى نفسه فداء عظيما.
وقولهم: «لو ترك القطا ليلا لنام» قالته امرأة عمرو بن مامة، وقد نزل عليه قوم من مراد، فطرقوه ليلا، فأثاروا القطا، فرأته امرأته فنبّهته فقال: إنما هذا القطا، فقالت: لو ترك القطا ليلا لنام؛ فسار مثلا: يضرب لمن حمل على مكروه من غير إرادته؛ وقيل: إن التى قالته له حذام بنت الريّان.
وقولهم: «لبس له جلد النمر» : يضرب في إظهار العداوة وكشفها.
وقولهم: «لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب» أصله أن رجلا من العرب كان يعبد صنما، فجاء ثعلب فبال عليه، فقال في ذلك:
أربّ يبول الثّعلبان برأسه؟ ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
وقولهم: «ليس هذا بعشّك فادرجى» : يضرب لمن يرفع نفسه فوق قدره.
وقولهم: «لم أجد لشفرتى محزّا» : يضرب عذرا في تعذّر الحاجة.
وقولهم: «لو سئلت العارية أين تذهبين لقالت أكسب أهلى ذمّا» هذا من كلام أكثم بن صيفىّ: يضرب في سوء الجزاء للمنعم.
وقولهم: «ليس من العدل، سرعة العذل» أى لا ينبغى أن تعجّل بالعذل قبل أن تعرف العذر.(3/49)
وقولهم: «ليس القدامى كالخوافى» : يضرب عند التفضيل.
وقولهم: «لو كويت على داء لم أكره» أى لو عوتبت على ذنب ما امتعضت.
وقولهم: «ليس على الشّرق طخاء يحجب» أى ليس على الشمس سحاب:
يضرب في الامر المشهور الذى لا يخفى على أحد.
وقولهم: «لأكوينّه كيّة المتلوّم» أى كيّا بليغا؛ والمتلوّم: الذى يتتبّع الداء حتى يعلم مكانه: يضرب في التهديد الشديد.
وقولهم: «لأمر ما جدع قصير أنفه» قالته الزّبّاء لما رأت قصيرا مجدوعا؛ وخبره يأتى في باب المكايد.
حرف الميم
قولهم: «ما تنفع الشّفعة في الوادى الرّغب» الشّفعة: المطرة الهيّنة، والرّغب:
الواسع: يضرب للذى يعطيك قليلا لا يقع منك موقعا.
وقولهم: «ما وراءك يا عصام؟» يقال: أوّل من قال ذلك الحارث بن عمرو ملك كندة، وذلك أنه بلغه جمال ابنة عوف بن محلّم فأرسل إليها امرأة ذات عقل ولسان، يقال لها: عصام، وقال: اذهبى لتعلمينى بحالها، فلما انتهت إليها ونظرتها خرجت وهى تقول: «ترك الخداع، من كشف القناع» فذهبت مثلا، ثم عادت اليه، فقال لها: ما وراءك يا عصام؟ فقالت: «صرّح المحض عن الزّبد» فأرسلتها مثلا؛ وساق الميدانىّ على هذا المثل كلاما طويلا قالته عصام في وصف أعضاء المخطوبة.(3/50)
وقولهم: «ما يوم حليمة بسرّ» هى حليمة بنت الحارث بن أبى شمر، كان أبوها وجّه جيشا إلى المنذر بن ماء السماء فأخرجت لهم طيبا في مركن فطيّبتهم؛ فلما انتهت إلى لبيد بن عمرو وذهبت لتخلّقه، قبّلها، فلطمته وأتت أباها، فقال لها:
ويلك اسكتى عنه، فهو أرجاهم عندى ذكاء فؤاد، وإنى مرسله، فإن قتل فقد كفى الله شرّه؛ فسار إلى المنذر بالجيش، فقتلوا المنذر وكان يوما مشهورا، فقيل فيه:
ما يوم حليمة بسرّ.
وقولهم: «ما أشبه الليلة بالبارحة» أى ما أشبه بعض القوم ببعض.
وقولهم: «مرعى ولا كالسّعدان» قالوا: السّعدان أخثر العشب لبنا، ومنابته السهول: يضرب مثلا للشىء يفضّل على أقرانه وأشكاله؛ وأوّل من قال المثل: خنساء بنت عمرو بن الشريد، وقيل: بل قالته امرأة من طيىء تزوّجها امرؤ القيس بن حجر الكندىّ فقال لها: أين أنا من زوجك الأوّل؟ فقالت:
مرعى ولا كالسّعدان، أى إنك إن كنت رضا فلست كفلان.
وقولهم: «ماء ولا كصدّاء» صدّاء: ركيّة عذبة؛ قال ضرار السعدىّ
وإنى وتهيامى بزينب كالذى ... تطلّب من أحواض صدّاء مشربا
معناه أنه لا يصل إليها إلا بالمزاحمة لفرط حسنها، كالذى يرد الماء فإنه يزاحم عليه لفرط عذوبته.
وقولهم: «محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا» هو سالم بن دارة الغطفانىّ، ودارة: أمّه، وكان قد هجا بعض بنى فزارة فاغتاله زميل فقتله، ففيه يقول الكميت
فلا تكثروا فيه الضّجاج فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا(3/51)
وقولهم: «ملكت فأسجح» الإسجاح: حسن العفو، أى ملكت الأمر فأحسن العفو؛ وقد تمثّل به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض غزواته؛ ونذكر الخبر فى ذلك في المغازى.
وقولهم: «من ينكح الحسناء يعط مهرها» أى من طلب حاجة بذل ماله فيها.
وقولهم: «من سرّه بنوه ساءته نفسه» قاله ضرار بن عمرو الضبىّ: وكان ولده ثلاثة عشر رجلا، كلّهم قد غزا ورأس، فرآهم يوما وأولادهم، فعلم أنهم لم يبلغوا هذه الأسنان إلا مع كبر سنّه، فقال: من سرّه بنوه ساءته نفسه، فأرسلها مثلا.
وقولهم: «من أشبه أباه فما ظلم» معناه ظاهر.
وقولهم: «من ير يوما يربه» قاله كلحب بن شؤبوب الأسدىّ، وكان يغير على طيىء وحده، فدعا حارثة بن لأم رجلا من قومه يقال له: عترم، فقال له: أما تستطيع أن تكفينى مؤونة هذا الخبيث؟ فقال: بلى، فأرسل عشرة عيون عليه، فعلموا مكانه فانطلق إليه عترم فوجده نائما في ظلّ أراكة فنزل ومعه آخر فأخذ كلّ واحد منهما بإحدى يديه فانتبه فنزع يده اليمنى من ممسكها وقبض على حق الآخر فقتله وبادر الباقون فأخذوه وشدّوه وثاقا وأتوا به حارثة، فقال له: يا كحب، إن كنت أسيرا فطالما أسرت، فقال: من ير يوما ير به، فأرسلها مثلا، وقال حوذة وهو ابن المقتول لحارثة: أعطينه أقتله بأبى، فقال: دونكه! وجعلوا يتكلّمون وهو يعالج كتافه حتى انحلّ، ثم وثب على رجليه فاتبعوه بالخيل فأعجزهم.
وقولهم: «من سلك الجدد أمن العثار» الجدد: الأرض المستوية: يضرب فى طلب العافية.(3/52)
وقولهم: «من يشترى سيفى وهذا أثره؟» قاله الحارث بن ظالم، وذلك انه لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب بزهير بن جذيمة العبسىّ على ما نذكره إن شاء الله فى وقائع العرب وهرب، فوجّه النعمان فوارس في طلبه فأدركوه سحرا فعطف عليهم وقتل منهم جماعة وكرّوا عليه فجعل لا يقصد لجماعة إلا فرّقها وهو يقول: من يشترى سيفى وهذا أثره، فارتدعوا عنه وانصرفوا إلى النعمان.
وقولهم: «من مال جعد وجعد غير محمود» قاله جعد بن الحصين أبو صخر ابن جعد الشاعر، وكان قد كبر فتفرّق عنه بنوه وأهله، وبقيت له جارية سوداء تخدمه، فعلقت بفتى من الحىّ يقال له: عرابة، فجعلت تنقل إليه ما في بيت جعد، ففطن جعد لذلك، فقال في ذلك
أبلغ لديك بنى عمرو مغلغلة ... عمرا وعوفا وما قولى بمردود
بأنّ بيتى أمسى فوق داهية ... سوداء قد وعدتنى شرّ موعود
تعطى عرابة بالكفّين مجتنحا ... من الخلوق وتعطينى على العود
أمسى عرابة ذا مال يسرّ به ... من مال جعد، وجعد غير محمود
يضرب للرجل يصاب من ماله ويذمّ.
وقولهم: «من مأمنه يؤتى الحذر» قاله أكثم بن صيفىّ.
وقولهم: «من يمش يرض بما ركب» : يضرب للذى يضطرّ إلى ما كان يرغب عنه.
وقولهم: «من يلق أبطال الرجال يكلم» قاله عقيل بن علقمة المرّى، وقد رماه عملّس ابنه بسهم فحلّ فخذيه، فقال أبياتا منها(3/53)
إنّ بنىّ زمّلونى بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم
من يلق أبطال الرجال يكلم
وقولهم: «من لا يذد عن حوضه يهدّم» أى من لم يدفع عن نفسه يظلم، قاله زهير بن أبى سلمى.
وقولهم: «مكره أخوك لا بطل» قاله أبو حنش خال بيهس: يضرب لمن يحمل على ما ليس من شأنه.
وقولهم: «من نام لا يشعر بشجو الأرق» : يضرب لمن غفل عما يعانيه صاحبه من المشقّة.
حرف النون
قولهم: «نفس عصام سوّدت عصاما» هو عصام بن شهبر حاجب النعمان ابن المنذر: يضرب في نباهة الرجل من غير قديم؛ وقيل في هذا
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما
وصيّرته ملكا هماما
وقولهم: «نظرة من ذى علق» أى من ذى هوى: يضرب لمن ينظر بودّ.
وقولهم: «نزت به البطنة» : يضرب لمن لا يحتمل النّعمة؛ قال الشاعر
فلا تكوننّ كالنازى ببطنته ... بين القرينين حتى ظلّ مقرونا(3/54)
وقولهم: «نجوت وأرهنتهم مالكا» قال عبد الله بن همّام السّلولىّ
فلمّا خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنتهم مالكا
يضرب لمن ينجو من هلكة نشب فيها شركاؤه وأصحابه.
وقولهم: «نام عصام ساعة الرحيل» : يضرب لمن طلب الأمر بعد ما ولّى.
حرف الهاء
قولهم: «هدنة على دخن» .
وقولهم: «هذا أوان شدّكم فشدّوا» .
ومثله قولهم: «هذا أوان الشدّ فاشتدّى زيم» قال الأصمعىّ: زيم: اسم فرس: يضرب للرجل يؤمر بالجدّ.
وقولهم: «هو على حبل ذراعك» أى الأمر فيه إليك: يضرب في قرب المتناول؛ وحبل الذراع: عرق في اليد.
وقولهم: «هان على الأملس ما لا قى الدّبر» : يضرب في سوء اهتمام الرجل بشأن صاحبه.
وقولهم: «هو بين حاذف وقاذف» لحاذف بالعصا، والقاذف بالحصى:
يضرب لمن هو بين الشرّين.
وقولهم: «هو على طرف الثّمام» الثمام: نبت ضعيف سهل المتناول تسدّ به خصاص البيوت، وربما حشيت به المخادّ؛ قالوا: إنه ينبت على قدر قامة الإنسان:
يضرب في تسهيل الحاجة وقرب النجاح.(3/55)
وقولهم: «هى الخمر تكنى الطّلاء» : يضرب للأمر ظاهره حسن وباطنه على خلاف ذلك.
حرف الواو
قولهم: «وافق شنّ طبقة» قال الشرقىّ بن القطامىّ: كان رجل من دعاة العرب وعقلائهم يقال له: شنّ، فآلى أنه يطوف البلاد حتى يجد امرأة مثله فيتزوّجها، فبينا هو في بعض مسيره إذ وافقه رجل في الطريق فسارا جميعا، فقال له شنّ: أتحملنى أم أحملك؟ فقال: أنا راكب وأنت راكب، فكيف تحملنى أو أحملك؟! ثم سارا فانتهيا إلى زرع قد استحصد، فقال شنّ: أترى هذا الزرع أكل أم لا؟ فقال: لم أر أجهل منك، نبتا مستحصدا فتقول: أكل أم لا! فسكت؛ ثم سارا حتى دخلا القرية فلقيا جنازة، فقال شنّ: أترى صاحب هذا النعش حيّا أم ميّتا؟ فقال له الرجل:
ترى جنازة تسأل عنها أميّت صاحبها أم حىّ! فسكت عنه شنّ وأراد مفارقته فأبى أن يتركه وسار به إلى منزله، وكان للرجل بنت يقال لها: طبقة، فلما دخل عليها أبوها سألته عن ضيفه، فقال: ما رأيت أجهل منه، وحدّثها بحديثه، فقالت: يا أبت ما هذا بجاهل! قوله: أتحملنى أو أحملك؟ أراد أتحدّثنى أم أحدّثك، وأما قوله:
أترى هذا الزرع أكل أم لا؟ فأراد هل باعه أهله فأكلوا ثمنه أم لا؟ وأما الجنازة فأراد هل ترك عقبا يحيا بهم ذكره أم لا؟ فخرج الرجل فقعد مع شنّ فحادثه، وقال له:
أتحب أن أفسر لك ما سألتنى؟ قال نعم، ففسره، فقال شنّ: ما هذا من كلامك، فأخبرنى من صاحبه؟ فقال: ابنة لى، فخطبها إليه فزوّجه إياها وحملها إلى أهله، فلما رأوها قالوا: وافق شنّ طبقة، فذهبت مثلا: يضرب للمتوافقين؛(3/56)
وقال الاصمعىّ: هم قوم كان لهم وعاء من أدم فتشنّن فجعلوا له طبقا فوافقه فقيل:
وافق شنّ طبقه، ورواه أبو عبيدة في كتابه، وقال ابن الكلبىّ: طبقة: قبيلة من إياد كانت لا تطاق فأوقعت بها شنّ بن أفصى بن دعمىّ فانتصفت منها وأصابت فيها فضربتا مثلا وأنشد
لقيت شنّ إيادا بالقنا ... طبقا، وافق شنّ طبقه
وقولهم: «وجدت الناس اخبر تقله» أصله اخبر الناس تقلهم: يضرب فى ذمّ الناس وسوء معاشرتهم.
وقولهم: «ولود الوعد عاقر الإنجاز» : يضرب لمن يكثر وعده ويقلّ نقده.
وقولهم: «ودّع مالا مودعه» لأنه إذا استودعه غيره فقد ودّعه وغرّر به ولعله لا يرجع اليه.
وقولهم: «ومورد الجهل وبىء المنهل» : يضرب في النّهى عن استعمال الجهل.
ما جاء في ما أوّله (لا)
قولهم: «لا مخبأ لعطر بعد عروس» ويقال: «لا عطر بعد عروس» أوّل من قاله امرأة من عذرة، يقال لها: أسماء بنت عبد الله، وكان لها زوج من بنى عمّها يقال له: عروس، فمات عنها، فتزوّجها رجل من قومها يقال له نوفل، وكان أعسر أبخر بخيلا ذميما، فلما دخل بها قال: ضمّى إليك عطرك، فقالت: لا عطر بعد عروس، فذهبت مثلا، ويقال: إن رجلا تزوّج امرأة، فلما أهديت إليه(3/57)
وجدها تفلة فقال لها: أين الطّيب؟ فقالت: خبّأته، فقال لها: لا مخبأ لعطر بعد عروس: يضرب مثلا لمن لا يدّخر عنه نفيس.
وقولهم: «لا يلدغ «1» المؤمن من حجر مرّتين» : يضرب لمن أصيب ونكب مرّة بعد أخرى، يقال هذا من امثال النبىّ صلّى الله عليه وسلم قاله لأبى عزّة الشاعر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أسره يوم بدر فمنّ عليه وأطلقه ثم أتاه يوم أحد فأسره، فقال: منّ علىّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين» أى لو كنت مؤمنا لم تعد لقتالنا.
وقولهم: «لا أطلب أثرا بعد عين» أوّل من قاله مالك بن عمرو العامرى «2» ، وكان من حديثه أن بعض ملوك غسّان كان يطلب في بنى عامر ذحلا فأخذ منهم مالكا وسماك ابنى عمرو العامرىّ فاحتبسهما زمانا ثم دعا بهما، فقال لهما: إنى قاتل أحدكم فأيكما أقتل؟ فجعل كلّ واحد منهما يقول: اقتلنى مكان أخى، فقتل سماكا وخلّى سبيل مالك، فقال سماك حين ظنّ أنه مقتول فأقسم لو قتلوا مالكا، لكنت لهم حيّة راصده
برأس سبيل على مرقب ... ويوما على طرق وارده
فأمّ سماك فلا تجزعى ... فللموت ما تلد الوالده
وانصرف مالك إلى قومه فأقام فيهم زمانا ثم إنّ ركبا مرّوا وواحد منهم يتغنّى بقول سماك
فأقسم لو قتلوا مالكا
فسمعته أمّ سماك، فقالت: يا مالك، قبح الله الحياة بعد سماك، اخرج في الطلب فخرج فلقى قاتل أخيه يسير في ناس من قومه فقال:(3/58)
من أحسّ لى الجمل الأحمر، فقالوا له وقد عرفوه: يا مالك اكفف ولك مائة من الإبل، فقال: لا أطلب أثرا بعد عين، فذهبت مثلا.
وقولهم: «لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا» أصله في الحرباء: يضرب لمن لا يدع حاجة إلا سأل أخرى.
وقولهم: «لا ماءك أبقيت، ولا حرك أنقيت» ويروى: ولا درنك؛ اصله أنّ رجلا كان في سفر ومعه امرأته، وكانت عاركا فطهرت وكان معها ماء يسير فاغتسلت به فنفد ولم يكفها لغسلها فعطشا فقال هذا القول فسار مثلا، وقيل: إنّ الذى قاله الضبّ بن أروى الكلاعىّ قاله لامرأته عمرة بنت سبيع؛ قال الفرزدق
وكنت كذات الحيض لم تبق ماءها ... ولا هى من ماء العذابة طاهر
وقولهم: «لا ناقتى في هذا ولا جملى» المثل للحارث بن عبّاد حين قتل جسّاس بن مرّة كليبا وحاجت الحرب بين الفريقين واعتزلهما الحارث؛ قال الراعى
وما هجرتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لى في هذا ولا جمل
يضرب عند التبرؤ من الظلم والإساءة.
وقولهم: «لا ينتطح فيها عنزان» قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقولهم: «لا ينبت البقلة، إلا الحقلة» الحقلة: القراح، أى لا يلد الوالد.
إلا مثله: ويضرب مثلا للكلمة الخسيسة تخرج من الرجل الخسيس.
وقولهم: «لا تدخل بين العصا ولحائها» : يضرب في المتخالّين المتصافيين.
وقولهم: «لا يحزنك دم هراقه أهله» قال هذا المثل جذيمة: يضرب لمن يوقع نفسه فيما لا مخلص له منه.(3/59)
حرف الياء
قولهم: «يداك أوكتا وفوك نفخ» أصله أن رجلا كان في جزيرة من جرائر البحر فأراد أن يعبر على زقّ قد نفخ فيه فلم يحسن إحكامه، فلمّا توسّط البحر خرجت منه الريح فغرق فاستغاث برجل، فقال له: يداك أوكتا وفوك نفخ، فذهبت مثلا: يضرب لمن يجنى على نفسه الحين.
وقولهم: «يشجّ ويأسو» : يضرب لمن يصيب في التدبير مرّة ويخطىء أخرى؛ قال الشاعر
إنى لأكثر ممّا سمتنى عجبا ... يد تشجّ وأخرى منك تأسونى
وقولهم: «يسرّ حسوا في ارتغاء» أصله أن الرجل يؤتى باللبن فيظهر أنه يريد الرّغوة خاصّة فيشربها، وهو في ذلك ينال من اللبن: يضرب لمن يريك أنه يعينك وإنما يجرّ النفع إلى نفسه؛ قال الكميت
فإنى قد رأيت لكم صدودا ... وتحساء بعلّة مرتغينا
وقولهم: «يمشى رويدا ويكون أوّلا» : يضرب للرجل يدرك حاجته في تؤدة ودعة، وينشد فيه
تسألنى أمّ الوليد جملا ... يمشى رويدا ويكون أوّلا
وقولهم: «يصبح ظمآن وفي البحر فمه» : يضرب لمن يعاشر بخيلا مثريا.
وقولهم: «يملأ الدّلو الى عقد الكرب» مأخوذ من قول عتبة بن أبى لهب
من يساجلنى يساجل ماجدا ... يملا الدّلو إلى عقد الكرب.
وهو الحبل الذى يشدّ في وسط العراقىّ: يضرب لمن يبالغ فيما يلى من الأمر.(3/60)
وقولهم: «يكوى البعير من يسير الداء» : يضرب في حسم الأمر الضائر قبل أن يعظم ويتفاقم.
وقولهم: «يعود على المرء ما يأتمر» ويروى: يعدو؛ معناه يعود على الرجل ما تأمره به نفسه فيأتمر، أى يمتثله ظنّا منه أنه رشد، وربما كان هلاكه فيه، ومنه قول امرئ القيس
أحار بن عمرو كأنى خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر
ومما يتمثل به من أشعار الجاهلية
امرؤ القيس بن حجر:
قد تقدّم من شعره في الاستشهاد على أمثال العرب ما يستغنى عن إعادته في هذا المكان.
ومن شعره
والبرّ خير حقيبة الرّجل ... رضيت من الغنيمة بالإياب
إن الشقاء على الأشقين مصبوب
وقال أيضا
وقاهم جدّهم بينى أبيهم ... وبالأشقين ما كان العتاب
وقال فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب
زهير بن أبى سلمى
يقول
ومن يغترب يحسب عدوّا صديقه ... ومن لا يكرّم نفسه لا يكرّم
ومهما يكن عند امرىء من خليقة ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم(3/61)
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يعص أطراف الزّجاج فإنه ... مطيع العوالى ركّبت كلّ لهذم
وقال أيضا
وهل ينبت الخطّىّ إلّا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
وقال أيضا
والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر
وقال أيضا
فإنّ الحقّ مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
يقول: إنما الحقوق تصحّ بواحدة من هذه الثلاث: يمين أو محاكمة أو حجّة واضحة؛ وكان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه يتعجّب من معرفته بمقاطع الحقوق.
النابغة الذّبيانى:
اسمه زياد بن عمرو، ويكنى أبا أمامة؛ غلب عليه «النابغة» لأنه عبر برهة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله؛ وكذلك الجعدىّ؛ وقيل: إنما لقّب بالنابغة لقوله
فقد نبغت لهم منّا شؤون
وقيل في نسبه: زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرّة ابن عوف بن سعد بن ذبيان.(3/62)
فمما يتمثّل به من شعره قوله
فإنك كالليل الذى هو مدركى ... فإن مطيّة الجهل الشباب
وقال
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث، أىّ الرجال المهذّب؟
وقال أيضا
استبق ودّك للصديق ولا تكن ... قتبا يعضّ بغارب ملحاحا
طرفة بن العبد
يقول
حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض ... ما أشبه الليلة بالبارحه
وقال أيضا
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وقال أيضا
وأعلم علما ليس بالشكّ أنه ... إذا ذلّ مولى المرء فهو ذليل
أوس بن حجر
يقول
فإنكما يا ابنى حباب وجدتما ... كمن دبّ يستخفى وفي الكفّ جلجل
وقال أيضا
وما ينهض البازى بغير جناحه ... ولا يحمل الماشين إلا الحوامل
اذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال أيضا
ولست بخابئّ أبدا طعاما ... حذار غد، لكلّ غد طعام(3/63)
بشر بن أبى خازم
يقول
وأيدى الندى في الصالحين قروض ... كفى بالموت نأيا واغترابا
المتلمس
وهو جرير بن عبد المسيح يقول
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقال أيضا
لذى الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلا ليعلما
ولو غير أخوالى أرادوا نقيصتى ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وما كنت إلا مثل قاطع كفّه ... بكفّ له أخرى فأصبح أجذما
وقال أيضا
ولا يقيم على ذلّ يراقبه ... إلا الأذلّان عير السوء والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يشجّ فلا يرثى له أحد
الأفوه الأودىّ
يقول
إنما نعمة دنيا متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار
وصروف الدهر في أطباقه ... حلقة فيها ارتفاع وانحدار
بينما الناس على عليائها ... إذ هووا في هوّة منها فغاروا
وقال أيضا
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمّع أوتاد وأعمدة ... وساكن، بلغوا الأمر الذى كادوا
تهدى الأمور بأهل الرأى ما صلحت ... وإن تولّت فبالأشرار تنقاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا(3/64)
تميم بن أبى مقبل
يقول
خليلىّ لا تستعجلا وانظرا غدا ... عسى أن يكون الرفق في الأمر أرشدا
وقال أيضا
ما أنعم العيش! لو أن الفتى حجر ... تنبوا الحوادث عنه وهو ملموم
حميد بن ثور
يقول
أرى بصرى قد رابنى بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما
ولن يلبث العصران يوما وليلة ... إذا طلبا- أن يدركا ما تيّمما
عدى بن زيد
يقول
كفى واعظا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدى
عن المرء لا تسأل وسل عن قريبه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدى
وظلم ذوى القربى أشدّ مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهنّد
إذا ما رأيت الشرّ يبعث أهله ... وقام جناة الشرّ للشرّ فاقعد
قال أيضا
يا راقد الليل مسرورا بأوّله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
وقال
قد يدرك المبطئ من حظّه ... والخير قد يسبق جهد الحريص
وقال
لو بغير الماء حلقى شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصارى
وقال
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار؟(3/65)
الأسود بن يعفر
يقول
ماذا أؤمل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أرض تخيّرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أمّ دؤاد
أهل الخورنق والسّدير وبارق ... والقصر ذى الشّرفات من سنداد
جرت الرياح على محلّ ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... فى ظلّ ملك ثابت الأوتاد
فإذا النعيم وكلّ ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد
علقمة بن عبدة
يقول
فإن تسألونى بالنساء فإننى ... عليم بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودّهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهنّ عجيب
وقال أيضا
وكلّ حصن وإن طالت إقامته ... على دعائمه لا بدّ مهدوم
ومن تعرّض للغربان يزجرها ... على سلامته لا بدّ مشئوم
عمرو بن كلثوم
يقول
وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذى لا تصحبينا
وإنّ غدا وإنّ اليوم رهن ... وبعد غد بما لا تعلمينا
الحارث بن حلّزة
يقول
لا تكسع الشّول بأغبارها ... إنك لا تدرى من الناتج؟
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شرّ اللبن الوالج(3/66)
حاتم الطائىّ
يقول
أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وقد علم الأقوام لو أن حاتما ... أراد ثراء المال، كان له وفر
وقال أيضا
وأنت إذا أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك، نالا منتهى الذمّ أجمعا
المرقّش الأصغر
يقول
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغى لائما
النمر بن تولب
يقول
يودّ الفتى طول السلامة جاهدا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل؟
وقال أيضا
ومتى تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الذى يهب الرغائب فارعب
لا تغصبنّ على امرىء في ماله ... وعلى كرائم صلب مالك فاغضب
وقال
فلا وأبى، الناس لا يعلمون ... ، للخير خير وللشرّ شرّ
فيوما علينا ويوما لنا ... ويوما نساء ويوما نسرّ
مهلهل بن ربيعة، واسمه عدىّ
يقول
أعزر على تغلب بما لقيت ... أخت بنى الأكرمين من جشم
أنكحها ففدها الأراقم في ... جنب وكان الخباء من أدم
لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرّج ما أنف خاطب بدم
ليسوا بأكفائنا الكرام ولا ... يغنون من ذلّة ولا عدم(3/67)
طفيل الغنوىّ
يقول
إنّ النساء كأشجار نبتن معا ... منهن مرّ، وبعض المرّ مأكول
إنّ النساء متى ينهن عن خلق ... فإنه واجب لا بدّ مفعول
عروة بن الورد
يقول
وما شاب رأسى من سنين تتابعت ... علىّ ولكن شيّبتنى الوقائع
وقال أيضا
ومن يك مثلى ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كلّ مطرح
ليبلغ عذرا أو ينال رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
الأعشى:
وهو ميمون بن قيس من بنى قيس بن ثعلبة يقول
كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وقال أيضا
تعالوا فإنّ الحكم عند ذوى النهى ... من الناس كالبلقاء باد حجولها
وقال أيضا
ومن يغترب عن قومه لم يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا
وتدفن منه الصالحات وإن يسىء ... يكن ما أثار النار في رأس كبكبا
وقال أيضا
عوّدت كندة عادة فاصبر لها ... اغفر لجاهلها وروّ سجالها
لقيط بن معبد
يقول
قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا، قد ينال الأمر من فزعا
هيهات، ما زالت الأموال مذ أبد ... لأهلها- إن أصيبوا مرّة- تبعا(3/68)
تأبط شرّا:
وهو ثابت بن جابر يقول
لتقرعنّ علىّ السنّ من ندم ... اذا تذكّرت يوما بعض أخلاقى
المثقّب العبدىّ
يقول
فإما أن تكون أخى بحقّ ... فأعرف منك غثّى من سمينى
وإلا فاطرحنى واتّخذنى ... عدوّا أتّقيك وتتّقينى
فإنى لو تعاندنى شمالى ... عنادك ما وصلت بها يمينى
الممرّق العبدىّ
يقول
فإن كنت ماكولا فكن أنت آكلى ... وإلّا فأدركنى ولمّا أمزّق
أفنون التغلبىّ
يقول
لعمرك ما يدرى الفتى كيف يتّقى ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
الأضبط بن قريع السّعدىّ
يقول
قد يجمع المال غير آكله ... وبأكل المال غير من جمعه
لا تحقرنّ الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
وأقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه
سويد بن أبى كاهل
يقول
ربّ من أنضجت غيظا قلبه ... قد تمنّى لى موتا لم يطع
ويرانى كالشّجى في حلقه ... عسرا مخرجه ما ينتزع
ويحيّينى إذا لاقيته ... وإذا يحلو له لحمى رتع
انتهى ما يتمثل به من أشعار الجاهلية.(3/69)
ومما يتمثل به من أشعار المخضرمين
المخضرمون: هم الذين أدركوا الجاهليّه والإسلام.
منهم لبيد بن ربيعة،
وفاته سنة إحدى وأربعين، وعمره مائة سنة وسبع وخمسون سنة يقول
وإذا رمت رحيلا فارتحل ... واعص ما يأمر توصيم الكسل
واكذب النفس إذا حدثتها ... إنّ صدق النفس يزرى بالأمل
وقال أيضا
وما المال والأهلون إلّا وديعة ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وقال أيضا
كانت قناتى لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربّى في السلامة جاهدا ... ليصحّنى فإذا السلامة داء
وقال أيضا
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقال أيضا
إلى لحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
كعب بن زهير
يقول
ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل(3/70)
النابغة الجعدىّ:
وهو قيس بن عبد الله، وقيل حسّان بن قيس بن عبد الله وبكنى النابغة: أبا ليلى، وهو أسنّ من الذبيانىّ، وطال عمره حتى أدرك أيّام بنى أمية، وهو الذى قال له النبىّ صلّى الله عليه وسلم «لا يفضض الله فاك» فما سقطت له سنّ، وفي رواية: فكان أحسن الناس ثغرا إذا سقطت له سنّ تنبت له أخرى، وعاش عشرين ومائة سنة، وقبل أكثر.
ومما يتمثل به من شعره قوله
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
وقال أيضا
كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدم
أميّة بن أبى الصّلت الثقفى
يقول
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
حسّان بن ثابت
يقول
وإن امراء يمسى ويصبح سالما ... من الناس- إلا ما جنى- لسعيد
وقال أيضا
ربّ حلم أضاعه عدم المال ... وجهل غطّى عليه النعيم
ما أبالى أنبّ بالحزن تيس ... أم لحانى بظهر غيب لئيم؟
الحطيئة:
واسمه جرول بن اوس بن مخزوم. وقيل: جرول بن أوس بن مالك ابن غطفان بن سعد ويكنى: أبا مليكة، والحطيئة لقب غلب عليه؛ قيل لقب به(3/71)
لقصره وقربه من الأرض؛ وقيل: حبق في مجلس قومه فقال: إنما هى حطأة فسمّى الحطيئة.
فمما يتمثل به من شعره قوله
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
وقال أيضا
أقلّوا عليهم لا ابا لأبيكم ... من اللوم أوسدّوا المكان الذى سدّوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا
متمم بن نويرة
يقول
وكنّا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
فلما تفرّقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
أبو ذؤيب الهذلىّ
يقول
وتجلّدى للشامتين أريهم ... أنى لريب الدهر لا أتضعضع
واذا المنّية أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
الخنساء:
وهى تماضر بنت عمرو بن الشريد تقول
ومن ظنّ ممن يلاقى الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا
وقالت أيضا
نهين النفوس وبذل النفوس ... عند الكريهة أبقى لها(3/72)
عمرو بن معديكرب
يقول
إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وقال أيضا
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن ردّيت بردا
إن الجمال مآثر ... ومكارم أورثن مجدا
معن بن أوس
يقول
وفي الناس- إن رثّت حبالك- واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحوّل
إذا انصرفت نفسى عن الشىء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
وقال أيضا
أعلّمه الرماية كلّ يوم ... فلما اشتدّ ساعده رمانى
زياد بن زيد
يقول
ولا أتمنى الشرّ- والشرّ تازكى- ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب
وقال أيضا
هل الدهر والأيام إلا كما ترى؟ ... رزيّة مال أو فراق حبيب
أيمن بن خزيم بن فاتك الأسدىّ
يقول
إن للفتنة ميطا بيننا ... فرويد الميط منها تعتدل
فإذا كان عطاء فأتهم ... وإذا كان قتال فاعتزل
انتهى ما يتمثل به من أشعار المخضرمين.(3/73)
ومما يتمثل به من أشعار المتقدّمين في صدر الإسلام
القطامىّ:
واسمه عمير بن شييم يقول
ومعصية الشفيق عليك ممّا ... يزيدك مرّة منه استماعا
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتّبعه اتّباعا
أراهم يغمزون من آستركّوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا
كذاك وما رأيت الناس إلا ... إلى ما جرّ جانيهم سراعا
وقال أيضا
قد يدرك المتأنّى بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وربما فات بعض القوم أمرهم ... مع التأنّى وكان الرأى لو عجلوا
والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى ولأمّ المخطئ الهبل
الطّرمّاح بن حكيم بن الحكم
يقول
لقد زادنى حبّا لنفسى أننى ... بغبض إلى كلّ امرىء غير طائل
وأنى شقىّ باللئام ولن ترى ... شقيّا بهم إلا كريم الشمائل
الكميت بن زيد الأسدىّ
يقول
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب ... فلا رأى للمضطرّ إلا ركوبها
وقال أيضا
فيا موقدا نارا لغيرك ضوءها ... ويا حاطبا في حبل غيرك تحطب
المساور بن هند
يقول
شقيت بنو أسد بشعر مساور ... إن الشقىّ بكل حبل يخنق(3/74)
عدىّ بن الرقاع
يقول
وإذا نظرت إلى أميرى زادنى ... ضنا به نطرى إلى الأمراء
بل ما رأيت جبال أرض تستوى ... فيما عشيت ولا نجوم سماء
كالبرق منه وابل متتابع ... جود وآخر ما يبصّ بماء
والمرء يورث مجده أبناءه ... ويموت آخر وهو في الأحياء
الفرزدق،
واسمه همام بن غالب يقول
فوا عجبا حتى كليب تسبّنى ... كأنّ أباها نهشل أو مجاشع
وقال أيضا
ترجّى ربيع ان يجىء صغارها ... بخير وفد أعيا عليك كبارها
وقال أيضا
فإن تنج منها، تنج من ذى عظيمة ... وإلا فإنى لا إخالك ناجيا
وقال أيضا
يمضى أخوك فلا تلقى له خلفا ... والمأل بعد ذهاب المال مكتسب
وقال أيضا
ليس الشفيع الذى يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذى يأتيك عريانا
وقال أيضا
قل لنضر، والمرء في دولة السلطان ... أعمى مادام يدعى أميرا
فإذا زالت الولاية عنه ... واستوى بالرجال، عاد بصيرا
وقال أيضا
ولا يلين السلطان يكايدنا ... حتى بلين لصرس الماضغ الحجر(3/75)
وقال أيضا
هل ابنك إلا ابن من الناس فاصبرن ... فلن يرجع الموتى حنين المآتم
جرير:
هو ابن الخطفى توفّى سنة عشر ومائة يقول
إن الكريمة ينصر الكرم ابنها ... وابن اللئيمة للّئام نصور
وقال أيضا
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع
وقال أيضا
وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
وقال أيضا
رأيتك مثل البرق يحسب ضوءه ... قريبا وأدنى ضوئه منك نازح
وقال أيضا
أمّا الرجال فجعلان ونسوتهم ... مثل القنافذ لا حسن ولا طيب
الأخطل:
واسمه مالك بن غياث بن غوث، وقال أبو الفرج الأصبهانى: اسمه غياث ابن غوث بن الصلت بن طارقة بن سيحان بن عمرو، ورفع نسبه إلى جشم بن بكر ويكنى: أبا مالك، قال: وقال المدائنى هو غياث بن غوث بن سلمة بن طارقة.
فمما يتمثّل به من شعره قوله
والناس همّهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال(3/76)
قال أيضا
إنّ الصنيعة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ يكمن حينا ثم ينتشر
وأقسم المجد حقّا لا يخالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشّعر
وقال أيضا
وإذا دعونك يا أخىّ فإنه ... أحنى إليك مودّة ووصالا
وإذا دعونك عمّهنّ فإنه ... نسب يزيدك عندهنّ خبالا
وقال أيضا
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر
وقال أيضا
يا مرسل الريح جنوبا وصبا ... إن غضبت قيس فزدها غضبا
الصّلتان العبدىّ
يقول
وإن يك بحر الحنظليّين واحد ... فما يستوى حيتانه والضفادع
وما يستوى صدر القناة وزجّها ... وما يستوى في الراحتين الأصابع
كثيّر عزة:
وهو كثّير بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعىّ، توفّى سنة خمس ومائة يقول
وإنى وتهيامى بعزّة بعد ما ... تخلّيت ممّا بيننا وتخلت
لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلّما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت
فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة ... إذا وطّنت يوما لها النفس ذلّت
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت(3/77)
وقال أيضا
قضى كلّ ذى دين فوفّى غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها
وقال أيضا
ومن لا يغمّض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبّع جاهدا كلّ عترة ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
جميل
يقول
فإن بك حرب بين فومى وبينها ... فإنى لها في كلّ نائبة سلم
وقال أيضا
ولربّ عارضة عينا وصلها ... بالجدّ تحلطه بقول الهازل
فأجبتها في القول بعد تستّر ... حبّى بثينة عن وصالك شاغلى
لو كان في قلبى كقدر قلامة ... وصلا وصلتك أو أتتك رسائلى
عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة
يقول
ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشقت أكبادنا ممّا نجد
واستبدّت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
وقال أيضا
لا تلمنى وأنت زيّنتها لى ... أنت مثل الشيطان للإنسان
ومما يتمثّل به من أشعار المحدثين
منهم إبراهيم بن هرمة
يقول
عجبت أثيلة أن رأتنى مخلقا ... تكلتك أمّك، أىّ ذاك يروع؟
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع(3/78)
وقال ايضا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
بشّار بن برد
يقول
اذا كنت في كلّ الأمور معانتا ... صديقك لم تلق الذى لا نعاتبه
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه ... مقارف دنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم نشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأىّ الناس نصفو مشاربه
وقال أيضا
ولا تجعل الشورى عليك غصاضة ... فإن لخوافى عدّة للقوادم
وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم؟؟
وقال أيضا
كبكر تشهّى لذيذ النّكاح ... وتفرّق من صولة الناكج
وقال أيضا
أنت من قلبها محلّ شراب ... يشتهى شربه ويخشى صداعه
وقال أيضا
الحرّ يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الردّ
وصاحب كالدّمّل للممدّ؟؟ ... حملته في رقعة من جلدى
وقال أيضا
وإذا جفوت قطعت عنك منافعى ... والدّرّ يقطعه جفاء الحالب
وقال أيضا
ولولا الذى خبّروا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شمّ(3/79)
وقال أيضا
تأتى المقيم- وما سعى- حاجاته ... عدد الحصى، ويخيب سعى الناصب
وقال أيضا
أنا والله أشتهى سحر عينيك ... وأخشى مصارع العشّاق
وقال أيضا
نرجو غدا، وغدا كحاملة ... فى الحىّ لا يدرون ماتلد
وقال أيضا
سقط الطير حيث ينتثر الحبّ ... وتغشى منازل الكرماء
ليس يعطيك للرجاء ولا الخوف ... ولكن يلذّ طعم العطاء
وقال أيضا
والصعب يمكن بعد ما جمحا ... ولن تبلغ العليا بغير الدراهم
وقال أيضا
ولا بدّ من شكوى إلى ذى مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجّع
أبو العتاهية
يقول
أذلّ الحرص أعناق الرجال ... وكلّ غنّى في العيون جليل
روائح الجنّة في الشباب ... وأىّ الناس ليس له عيوب
وقال أيضا
إنّ الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للدّين، أىّ مفسده!(3/80)
وقال أيضا
أنت ما استغنيت عن صاحبك ... الدهر أخوه
فإذا احتجت إليه ... ساعة مجّك فوه
وقال أيضا
ما يحرز المرء من أطرافه طرفا ... إلا تخوّنه النقصان من طرف
وقال أيضا
يصاد فؤادى حين أرمى ورميتى ... تعود إلى نحرى ويسلم من أرمى
وقال أيضا
ولربّ شهوة ساعة ... قد أورثت حزنا طويلا
سلم بن عمرو الخاسر:
وهو مولى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وهو بصرىّ لقّب الخاسر لأنه ورث من أبيه مصحفا فباعه واشترى بثمنه طنبورا، وقيل:
بل خلّف أبوه مالا فأنفقه في الأدب والشعر، فقال له بعض أهله: إنك لخاسر الصفقة، فلقّب بذلك.
فما يتمثّل به من شعره قوله
من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللذة الجسور
لولا منى العاشقين ماتوا ... غمّا، وبعض المنى غرور
وقال أيضا
ولو ملكت عنان الريح تصرفه ... فى كلّ ناحية ما فاتك الطلب
وقال ايضا
لا تسأل المرء عن خلائقه ... فى وجهه شاهد من الخبر(3/81)
صالح بن عبد القدّوس
يقول
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
والجاهل الآمل ما في غد ... كحفظه في اليوم أو أمسه
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
والحمق داء ماله حيلة ... ترجى كبعد النجم من لمسه
وقال أيضا
وإنّ عناء أن تفهّم جاهلا ... فيحسب جهلا انه منك أفهم
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... اذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وقال أيضا
إذا وترت امرءا فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا
وقال أيضا
شرّ المواهب ما تجود به ... من غير محمدة ولا أجر
وقال أيضا
لا تجد بالعطاء في غير حقّ ... ليس في منع غير ذى الحقّ بخل
إنما الجود أن تجود على من ... هو لل؟؟ منك والبذل أهل
وقال أيضا
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله اقواما بأقوام
وليس رزق الفتى من لطف حيلته ... لكن جدود بأرزاق وأقسام
كالصّيد يحرمه الرامى المجيد وقد ... يرمى فيرزقه من ليس بالرامى(3/82)
وقال أيضا
إن يكن ما به أصبت جليلا ... فذهاب العزاء منه أجلّ
كلّ آت لا شك آت وذو الجه ... ل معنّى والغمّ والحزن فضل
ابن ميّادة:
هو الرّماح بن بى أبرد كنيته شرحبيل يقول
وا عجبا من خالد كيف لا ... يخطئ فينا مرّة بالصواب
وقال أيضا
وأرانا كالزرع يحصده الده ... ر فمن بين قائم وحصيد
وكأنّا للموت ركب مخبّون ... سراع لمنهل مورود
أبو نواس الحسن بن هانئ
يقول
دع عنك لومى فإن اللوم إغراء ... ألا ربّ إحسان عليك ثقيل
وقال
وللرجاء حرمة لا تجهل ... وأىّ جدّ بلغ المازح
وقال أيضا
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق
وقال أيضا
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره
وقال أيضا
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد!
وقال أيضا
صار جدّا ما مزحت به ... ربّ جدّ ساقه اللعب(3/83)
وقال أيضا
كفى حزنا أنّ الجواد مقتّر ... عليه ولا معروف عند بخيل
وقال أيضا
وأوبة مشتاق بغير دراهم ... إلى أهله من أعظم الحدثان
أبو عيينة المهلّبىّ
يقول
وكيف جحود القلب والعين تشهد ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد
وشتّان ما بين الولاية والعزل
وقال أيضا
وإذا تطاولت الرءوس ... فغطّ رأسك ثمّ طاطه
عبد الله بن أبى عتبة المهلّبى
يقول
كل المصائب قد تمرّ على الفتى ... فتهون غير شماتة الأعداء
وقال أيضا
ما كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار
العبّاس بن الأحنف
يقول
لو كنت عاتبة لسكّن روعتى ... أملى رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فما لصدّك حيلة ... صدّ الملول خلاف صدّ العاتب
وقال أيضا
صرت كأنّى ذبالة نصبت ... تضىء للناس وهى تحترق
وقال أيضا
أرى الطريق قريبا حين أسلكه ... إلى الحبيب، بعيدا حين أنصرف(3/84)
وقال أيضا
كفى حزنا أنّ التباعد بيننا ... وقد جمعتنا والأحبّة دار
وقال أيضا
اقمنا مكرهين بها فلمّا ... ألفناها خرجنا مكرهينا
وقال أيضا
ولا خير في ودّ يكون بشافع ... من عالج الشوق لم يستبعد الدارا
مسلم بن الوليد:
هو مولى الأنصار، ثم مولى آل أبى أمامة: أسعد بن زرارة الخزرجى ولقّب صريع الغوانى، وممّا يتمثّل به من شعره قوله
دلّت على عيبها الدنيا وصدّقها ... ما استرجع الدهر ممّا كان أعطانى
وكان يقول أخذت معنى هذا البيت من التوراة.
وقال أيضا
يعدّ الفتى مر الليالى سليمة ... وهنّ به عما قليل عواثر
وقال أيضا
أما الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل
منصور النمرىّ:
هو منصور بن الزبرقان بن سلمة. وقيل منصور بن سلمة بن الزبرقان بن شريك، مطعم الكبش الرّخم؛ سمّى بذلك لأنه أطعم ناسا نزلوا به ونحر لهم. ثم رفع رأسه فإذا هو برخم يحمن حول أضيافه، فأمر أن يذبح لهنّ كبش ويرمى لهنّ ففعل ذلك ونزلن عليه فمزّقنه؛ وهو ابن مالك بن سعد بن عامر الضحيان، سمّى(3/85)
بذلك لأنه كان سيد قومه وحاكمهم وكان يجلس لهم إذا أضحى النهار؛ وهو ابن سعد ابن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمىّ بن جديلة ابن أسد بن ربيعة بن نزار.
فمما يتمثّل به من شعره قوله
لعلّ لها عذرا وأنت تلوم ... ورب امرىء قد لام وهو مليم
وقال أيضا
ما كنت أوفى شبابى كنه عزّته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
وقال أيضا
أقلل عتاب من استربت بودّه ... ليست تنال مودة بعتاب
العتّابىّ:
هو كلثوم بن عمرو بن أيوب بن عبيد بن حبيش بن أوس بن مسعود ابن عمرو بن كلثوم الشاعر ابن مالك بن عتّاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب.
فمما يتمثل به من شعره قوله
وإن عظيمات الأمور مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود
وقال أيضا
ولله في عرض السموات جنّة ... ولكنها محفوفة بالمكاره
وقال أيضا
قلت للفرقدين، والليل ملق ... سود أكنافه على الآفاق
ابقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق(3/86)
أشجع السّلمىّ:
هو أشجع بن عمرو أبو الوليد، وقيل: أبو عمرو من أهل الرّقّة.
فمما يتمثل به من شعره قوله
نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن تحت التراب نسيب
وقال ايضا
سبق القضاء بكلّ ما هو كائن ... فليجهد المتقلّب المحتال
وقال أيضا
داء قديم في بنى آدم ... فتنة إنسان بإنسان
وقال أيضا
وعلى عدوك يا ابن عمّ محمد ... رصدان، ضوء الصبح والإظلام
فاذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام
الجرهمىّ
وأعددته ذخرا لكل ملمة ... وسهم الرزايا بالذخائر مولع
وقال أيضا
إذا مامات بعضك فابك بعضا ... فإن البعض من بعض قريب
وقال أيضا
أرى الحلم في بعض المواطن دلة ... وفي بعضها عزّا يسوّد فاعله
وقال أيضا
ودون الندى في كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل
وقال أيضا
العيش لا عيش إلا ما قنعت به ... قد يكثر المال والإنسان مفتقر(3/87)
وقال أيضا
وهل حازم إلا كآخر عاجز ... اذا حل بالإنسان ما يتوقّع
محمود الورّاق:
هو محمود بن الحسن البغدادى مولى بنى زهرة، ويكنى أبا الحسن.
فمما يتمثّل به من شعره قوله
وإذا غلا شىء علىّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
وقال أيضا
ما كدت أفحص عن أخى ثقة ... إلّا ذممت عواقب الفحص
وقال أيضا
الدهر لا يبقى على حالة ... لا بدّ أن يقبل أو يدبرا
فإن تلقّاك بمكروهه ... فاصبر فإن الدهر لن يصبرا
وقال أيضا
إذا كان وجه العذر ليس بواضح ... فإنّ اطراح العذر خير من العذر
محمود بن حازم الباهلىّ
ألا إنما الدّنيا على المرء فتنة ... على كل حال أقبلت أم تولّت
وقال أيضا
وقائل كيف تفرّقتما ... فقلت قولا فيه إنصاف
لم يك لى شكلا ففارقته ... والناس أشكال وألّاف(3/88)
السّموءل بن عادياء
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل
وقال أيضا
إذا كنت ملحيّا مسيئا ومحسنا ... فغشيان ما تهوى من الأمر أكيس
محمد بن أبى زرعة الدّمشقى
لا يؤنسنّك أن ترانى ضاحكا ... كم ضحكة فيها عبوس كامن
وقال أيضا
قد يمهن الهندىّ وهو حسام ... ويحثّ الجواد وهو جواد
أبو الشيص:
واسمه محمد بن رزين بن تميم بن نهشل، وأبو الشّيص لقب غلب عليه، وكنيته أبو جعفر وهو عمّ دعبل بن علىّ.
فمما يتمثل به من شعره قوله
اذا لم تكن طرق الهوى لى ذليلة ... تنكبتها وانحزت من جانب السّهل
علىّ بن جبلة بن عبد الرحمن الأنبارىّ،
وهو الملقّب العكوّك قال
وأرى الليالى ما طوت من شرّتى ... ردّته في عظتى وفي إفهامى
وعلمت انّ المرء من سنن الردى ... حيث الرميّة من سهام الرامى
وقال أيضا
وخافت على التطواف قومى وإنما ... تصاب غرار الوحش وهى رتوع
اللجلاج الحارثىّ
وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تهوى به الرجل(3/89)
وقال أيضا
اذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
عبد الصمد بن المعذّل
ليس لى عذر وعندى بلغة ... إنما العذر لمن لا يستطيع
وقال أيضا
وأعلم أن بنات الرجاء ... تحلّ العزيز محلّ الذليل
وأن ليس مستغنيا بالكثير ... من ليس مستغنيا بالقليل
وقال ايضا
أرى الناس أحدوثة ... فكونوا حديثا حسن
كان لم يكن ما أتى ... وما قد مضى لم يكن
إذا وطن رابنى ... فكل بلاد وطن
إذا عزّ يوما أخوك ... في بعض أمر فهن
الحمدونىّ
إن المقدّم في حذق بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم
العتبى
قالت عهدتك مجنونا، فقلت لها: ... إن الشباب جنون برؤه الكبر
وقال أيضا
وحسبك من حادث بامرىء ... يرى حاسديه له راحمينا(3/90)
أبو سعيد المخزومى:
واسمه عيسى بن خالد بن الوليد، والصحيح أنه أبو سعد لا سعيد.
فمما يتمثل به من شعره قوله
وكم رأينا للدهر من أسد ... بالت على راسه ثعالبه
وقال أيضا
إذا ضنّ الجواد بما لديه ... فما فضل الجواد على البخيل؟
وقال أيضا
ليس لبس الطيالس ... من لباس الفوارس
لا ولا حومة الوغى ... كصدور المجالس
وظهور الجياد غير ... ظهور الطنافس
ليس من مارس الخطوب ... كمن لم يمارس
دعبل بن علىّ الخزاعىّ:
هو أبو جعفر واسمه محمد ودعبل لقب غلب عليه، والدعبل: البعير المسنّ، وقيل: الناقة التى معها أولادها.
فمما يتمثّل به من شعره قوله
لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
وقال ايضا
هى النفس ما حسّنته فمحسّن ... إليها وما قبّحته فمقبّح
وقال أيضا
جئنا به يشفع في حاجة ... فاحتاج في الإذن إلى شافع(3/91)
وقال أيضا
تلك المساعى اذا ما أخرت رجلا ... أحب للناس عيبا كالذى عابه
كذاك من كان هدم المجد عادته ... فإنه لبناء المجد عيّابه
إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ
وكلّ مسافر يزداد شوقا ... إذا دنت الديار من الديار
المؤمل بن أميل
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
لا تسحبونى غنيّا عن مودّتكم ... إنى إليكم وإن أيسرت مفتقر
إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول مولى يزيد بن المهلّب يكنى أبا إسحاق،
وأصله من خراسان.
فمما يتمثّل به من شعره قوله
ورب أخ ناديته لملمة ... فألفيته منها أجلّ وأعظما
وقال أيضا
وكنت أذمّ إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذمّ الزمانا
وكنت أعدّك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
وقال أيضا
دنت بأناس عن تناء زيارة ... وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها
وإن مقيمات بمنقطع اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها(3/92)
أبو علىّ البصير:
وهو الفضل بن جعفر الكوفىّ يقول
فلا تعتذر بالشّغل عنّا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشّغل
وقال أيضا
لعمر أبيك ما نسب المعلّى ... الى كرم وفي الدنيا كريم
ولكنّ البلاد إذا اقشعرّت ... وصوّح نبتها رعى الهشيم
سعيد بن حميد
يقول
إنّ جهد المقلّ غير قليل ... وعلى المريب شواهد لا تدفع
وقال أيضا
وإنك كالدنيا تذمّ صروفها ... ونوسعها سبّا ونحن عبيدها
علىّ بن الجهم
يقول
ولكلّ حال معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عمّا تحمد
وقال أيضا
وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التفضّل
ولا عار إن زالت عن المرء نعمة ... ولكنّ عارا أن يزول التجمّل
وقال أيضا
ارض للسائل الخضوع وللقارف ... ذنبا مذلّة الأعذار
ابن أبى فنن:
هو أحمد بن صالح بن أبى معشر مولى المنصور يقول
أرى الدهر يخلقنى كلّما ... لبست من الدهر ثوبا جديدا(3/93)
وقال أيضا
سرّ من عاش ماله فإذا حاسبه ... الله سرّه الإعدام
وقال أيضا
ربّ أمر سرّ أخره ... بعد ما ساءت أوائله
يزيد بن محمد المهلبىّ
يقول
لا عار إن ضامك دهر أو ملك
وقال
وإن الناس جمعهم كثير ... ولكن من تسرّ به قليل
وقال أيضا
ومن ذا الذى ترضى سجاياه كلّها ... كفى المرء نبلا ان تعدّ معايبه
عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير
يقول
فإن تلحظى حالى وحالك مرّة ... بنظرة عين عن هوى النفس تحجب
ترى كلّ يوم مرّ من بؤس عيشتى ... عليك بيوم من نعيمك يحسب
أحمد بن أبى طاهر
يقول
ودين الفتى بين التماسك والنهى ... ودنيا الفتى بين الهوى والتغرّر
وقال أيضا
حسن الفتى أن يكون ذا حسب ... من نفسه، ليس حسنه حسبه
أبو تمام حبيب بن أوس الطائى
يقول
ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل ... لسان المرء من جذم الفؤاد
وذى النقص في الدنيا بذى الفضل مولع(3/94)
وقال
ما أبّ من أبّ لم يظفر بحاجته ... ولم يعب طالب للنّجح لم يجب
وقال أيضا
ومن لم يسلّم للنوائب أصبحت ... خلائقه طرّا عليه نوائبا
وقال أيضا
لأمر عليهم أن يتمّ صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه
وقال أيضا
لا تنكرى عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالى
وقال أيضا
واذا تأمّلت البلاد رأيتها ... تثرى كما تثرى الرجال وتعدم
وقال أيضا
واذا أمرؤ أهدى اليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله
وقال أيضا
خلقنا رجالا للتجلد والأسى ... وتلك الغوانى للبكا والمآتم
وقال أيضا
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدى الفتى في دهره وهو عالم
ولو كانت الأرزاق تجرى على الحجى ... هلكن إذا من جهلهنّ البهائم
وقال أيضا
أآلفة النحيب كم افتراق ... أطلّ فكان داعية اجتماع
وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوف على ترح الوداع(3/95)
وقال أيضا
واذا أراد الله نشر فضيلة ... يوما، أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وقال أيضا
خشعوا لصولتك التى هى عندهم ... كالموت يأتى ليس فيه عار
وقال أيضا
ذاك الذى قرحت بطون جفونه ... مرها وتربة أرضه من إثمد
وقال أيضا
وتركى سرعة الصّدر اعتباطا ... يدلّ على موافقة الورود
وقال أيضا
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه ... مغارم في الأقوام وهى مغانم
وقال أيضا
وإن أمرءا ضنّت يداه على أمرىء ... نيل يد من غيره لبخيل
أبو عبادة البحترىّ،
وهو الوليد بن عبيد بن يحيى بن عبيد بن شملان بن جابر ابن مسلمة بن مسهر بن الحارث بن خيثم بن أبى حارثة بن جدى بن نزول بن بحتر الطائىّ.
فمما يتمثل به من شعره قوله
وأبرح ممّا حلّ ما يتوقّع
وقال أيضا
وليس تقترن النعماء والحسد(3/96)
وقال أيضا
إن المعنىّ طالب لا يظفر
وقال أيضا
أرى الكفر للنعماء ضربا من الكفر
وقال أيضا
يزين اللآلى في النظام ازدواجها
وقال
وكان رجائى أن أؤوب مملّكا ... فصار رجائى أن أؤوب مسلّما
وقال أيضا
متى أحرجت ذا كرم تخطّى ... اليك ببعض أخلاق اللئيم!
وقال أيضا
والشىء تمنعه يكون بفوته ... أجدى من الشىء الذى تعطاه
وقال أيضا
تناس ذنوب قومك إنّ حفظ الذنوب ... اذا قدمن من الذنوب
وقال أيضا
واذا ما خفيت كنت حريّا ... أن أرى غير مصبح حيث أمسى
وقال أيضا
متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا تنتظر إلا خمول نبيه
وقال أيضا
وأرى النجابة لا يكون تمامها ... لنجيب قوم ليس بابن نجيب(3/97)
وقال أيضا
واذا ما الشريف لم يتواضع ... للأخلّاء فهو عين الوضيع
وقال أيضا
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... الى المجد حتى عدّ ألف بواحد
وقال أيضا
ليس الذى يعطيك تالد ماله ... مثل الذى يعطيك مال الناس
وتفاضل الأخلاق إن حصّلتها ... فى الناس حيث تفاضل الأجناس
وقال أيضا
لا ييأس المرء أن ينجّيه ... ما يحسب الناس أنه عطبه
يسرّك الشىء قد يسوءوكم ... نوّه يوما بخامل لقبه
وقال أيضا
اذا محاسنى اللاتى أدلّ بها ... كانت ذنوبى فقل لى كيف أعتذر
وقال أيضا
وعطاء غيرك إن بذل ... ت عناية فيه عطاؤك
ديك الجن، واسمه عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله ابن رغبان بن زيد بن تميم بن مجد من أهل حمص يقول
وشافى النصح يعدل بالأشافى ... وليس القدر إلا بالأثافى
وقال
اذا شجر المودة لم تجده ... بغيث البرّ أسرع في الجفاف(3/98)
وقال أيضا
يرقد الناس آمنين وريب الد ... هر يرعاهم بمقلة لصّ
ابن الرومىّ
يقول
وكم داخل بين الحميمين مصلح ... كما انغل بين العين والجفن مرود
وقال أيضا
هو باز صائد أرسلته ... فارجعوه سالما إن لم يصد
وقال أيضا
وما الحمد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن الى بعض
اذا الأرض ردّت ريع ما أنت زارع ... من البذر فهى الأرض ناهيك من أرض
وقال أيضا
واذا أتاك من الأمور مقدّر ... ففررت منه فنحوه نتوجّه
وقال أيضا
كيف ترضى الفقر عرسا لامرىء ... وهو لا يرضى لك الدنيا أمه!
وقال أيضا
عدوّك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
عبد الله بن المعتزّ
يقول
فإن العيون وجوه القلوب
وقال أيضا
أمّ الكرام قليلة الأولاد(3/99)
وقال أيضا
أبطأ فيض الدلاء أملؤها
وقال أيضا
اصبر على كيد الحسود ... فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها ... إذ لم تجد ما تاكله
وقال أيضا
ولا همّ إلا سوف يفتح قفله ... ولا حال إلا للفتى بعدها حال
وقال أيضا
لا تأمنوا من بعد خير شرّا ... كم غصن أخضر عاد جمرا
وقال أيضا
وإنى على إشفاق عينى من البكا ... لتجمح منى نظرة ثم أطرق
كما حلّئت عن ماء برد طريدة ... تمدّ اليه جيدها وهى تفرق
وقال أيضا وإشارته الى الديك
صفّق إما ارتياحة لسنا ال ... فجر وإما على الدجى أسفا
عبيد بن عبد الله بن طاهر
ألم تر أن المرء تدوى يمينه ... فيقطعها عمدا ليسلم سائره؟
فكيف تراه بعد يمناه صانعا ... لمن ليس منه حين تدوى سرائره؟
وقال أيضا
ألا قبّح الله الضرورة إنها ... تكلّف أعلى الخلق أدنى الخلائق!(3/100)
وقال أيضا
وكم قائل قد قال مالك راجلا؟ ... فقلت له من أجل أنك فارس!
وقال أيضا
ومن سرّه أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتّخذ شيئا يخاف له فقدا
ابن طباطبا العلوىّ:
هو أبو الحسن محمد بن أحمد العلوى الأصبهانى يقول
إنّ في نيل المنى وشك الردى ... وقياس القصد عند السرف
كسراج دهنه قوت له ... فاذا غرّقته فيه طفى
وقال أيضا
لقد قال أبو بكر ... صوابا بعد ما أنصت
خرجنا لم نصد شيئا ... وما كان لنا أفلت
وقال أيضا
يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا ... عاما وردّ من الصّبا أياما!
منصور الفقيه المقرىء
يقول
يا من يخاف أن يكون ... ما أخاف سرمدا
أما سمعت قولهم ... إنّ مع اليوم غدا!
وقال أيضا
الملح يصلح كلّ ما ... يخشى عليه من الفساد
فاذا الفساد جرى علي ... هـ فحكمه حكم الرّماد
وقال أيضا
كلّ مذكور من الناس اذا ما ... فقدوه صار في حكم الرّماد(3/101)
وقال أيضا
كلّ مذكور من الناس ... اذا ما فقدوه
صار في حكم حديث ... حفظوه ونسوه
وقال أيضا
كلّ من أصبح في دهرك ... ممن قد تراه
هو من خلفك مقراض ... وفي الوجه مراه
ابن بسّام:
هو على بن محمد بن نصر بن منصور بن بسّام كنيته أبا الحسن يقول
وكم أمنيّة جلبت منيّه
وقال
ولولا الضرورة ما جئتكم ... وعند الضرورة يؤتى الكنيف!
وقال أيضا
قل لأبى القاسم المرجّى ... قابلك الدهر بالعجائب
مات لك ابن وكان زينا ... وعاش ذو الشين والمعائب
حياة هذا كموت هذا ... فلست تخلو من المصائب
وقال أيضا
ربّ يوم بكيت منه فلما ... جزت في غيره بكيت عليه
وقال أيضا
قد يحمل الشيخ الكبي ... ر جنازة الطفل الصغير
جحظة:
هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك النديم يقول
وللمساكين ايضا بالندى ولع(3/102)
وقال أيضا
وآفة التبر ضعف منتقده
وقال أيضا
متى يلتقى الميت والغاسل؟
وقال أيضا
لا تعدنّ للزمان صديقا ... وأعدّ الزمان للأصدقاء
وقال أيضا
وما كذب الذى قد قال قبلى: ... اذا ما مرّ يوم مرّ بعضى
وقال أيضا
اذا الشهر حلّ ولا رزق لى ... فعدّى لأيامه باطل
وقال أيضا
واذا جفانى جاهل ... لم أستخر ما عشت قطعه
وجعلته مثل القبور ... أزوره في كلّ جمعه
الصنوبرىّ
يقول
محن الفتى يخبرن عن فضل الفتى ... كالنار مخبرة بفضل العنبر
وقال أيضا
ربّ حال كأنها مذهب الدي ... باج صارت من رقة كاللاذ «1»
وزمان مثل ابنة الكرم حسنا ... عاد عند العيون مثل الداذى «2»
أو ما من فساد رأى الليالى ... أنّ شعرى هذا وحالى هذى!(3/103)
أبو الفتح كشاجم:
هو محمود بن الحسين بن السندىّ بن شاهك، وشاهك أمّه يقول
يعاد حديثه فيزيد حسنا ... وقد يستقبح الشىء المعاد
وقال أيضا
شخص الأنام الى جمالك فاستعذ ... من شرّ أعينهم بعيب واحد!
ومما يتمثّل به من أشعار المولّدين:
منهم أبو فراس الحمدانىّ
غنى النفس لمن يع ... قل خير من غنى المال
وفضل الناس في الأنف ... س ليس الفضل في الحال
وقال أيضا
ونحن أناس لا توسّط عندنا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالى نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
وقال أيضا
وندعو كريما من يجود بماله ... ومن يبذل النفس النفيسة أكرم
وقال أيضا
وجميل العدوّ غير جميل ... وقبيح الصديق غير قبيح!
أبو الطيب المتنبّى يقول
مصائب قوم عند قوم فوائد(3/104)
وقال أيضا
إن المعارف في أهل النّهى ذمم
وقال أيضا
وخير جليس في الزمان كتاب
وقال أيضا
وتأبى الطباع على الناقل
وقال أيضا
ومنفعة الغوث قبل العطب
وقال أيضا
ومن فرح النفس ما يقتل
وقال أيضا
اذا عظم المطلوب قلّ المساعد
وقال أيضا
أنا الغريق فما خوفى من البلل
وقال أيضا
فإن الرفق بالجانى عتاب
وقال أيضا
بغيض الىّ الجاهل المتعاقل
وقال أيضا
وكلّ امرىء يولى الجميل محبب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب(3/105)
وقال أيضا
اذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
وقال أيضا
والأمر لله، ربّ مجتهد ... ما خاب إلا لأنه جاهد
وقال أيضا
وليس يصحّ في الأفهام شىء ... اذا احتاج النهار الى دليل
وقال أيضا
ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له ما من صاقته بدّ
وقال
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
وقال أيضا
وإن يكن الفعل الذى ساء واحدا ... فأفعاله اللّاتى سررن ألوف
وقال أيضا
واذا أتتك مذمّتى من ناقص ... فهى الشهادة لى بأنى فاضل
وقال أيضا
وما الحسن في وجه الفتى شرفا له ... اذا لم يكن في فعله والخلائق!
وقال أيضا
وما يوجع الحرمان من كفّ حارم ... كما يوجع الحرمان من كفّ رازق!(3/106)
وقال أيضا
إنّا لفى زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته ... ما فاته وفضول العيش أشغال
وقال أيضا
وقيّدت نفسى في ذراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا
وقال أيضا
ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ... تجرى الرياح بما لا تشتهى السفن!
السرىّ بن أحمد بن السرىّ الموصلىّ
يقول
اذا العبء الثقيل توزّعته ... أكفّ القوم هان على الرقاب
وقال أيضا
فإنك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من النسيم على الرياض
وقال أيضا
إلى كم أحبّر فيك المديح ... ويلقى سواى لديك الحبورا؟
أبو بكر محمّد بن هاشم الخالدىّ
يقول
إن خانك الدهر فكن عائذا ... بالبيد والظّلماء والعيس
ولا تكن عبد المنى فالمنى ... رءوس أموال المفاليس
وقال أيضا
وأخ رخصت عليه حتى ملّنى ... والشىء مملول اذا ما يرخص
ما في زمانك ما يعزّ وجوده ... إن رمته إلا صديق مخلص(3/107)
أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدىّ [أخوه]
يقول
يا هذه إن رحت في ... خلق فما في ذاك عار
هذى المدام هى الحياة ... قميصها خرق وقار
وقال أيضا
صغير صرفت اليه الهوى ... وما خاتم في سوى خنصر
الخبّاز البلدىّ:
هو أبو بكر محمد بن أحمد بن حمدان، نسبة الى «بلد» وهى من بلاد الجزيرة التى منها الموصل يقول
اذا استثقلت أو أبغضت خلّقا ... وسرّك بعده حتى التّناد
فشرّده بقرض دريهمات ... فإن القرض داعية الفساد
أبو إسحاق الصابىء
يقول
نعم الله كالوحوش وما تألف ... إلّا الأخاير النّساكا
نفّرتها آثام قوم وصارت ... لأولى البرّ والتّقى أشراكا
وقال أيضا
ومن الظلم أن يكون الرضى سرا ... ويبدو الإنكار وسط النادى
وقال أيضا
الضبّ والنون قد يرجى التقاؤهما ... وليس يرجى التقاء اللبّ والذهب
عبد العزيز عمر بن نباته
يقول
فلا تحقرنّ عدوّا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن السيوف تحزّ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر(3/108)
وقال أيضا
مثل خلعت على الزمان رداءه ... عوز الدراهم آفة الأجواد
وقال أيضا
يهوى الثناء مبرّز ومقصّر ... حبّ الثناء طبيعة الإنسان
وقال أيضا
ونبت بنا أرض العراق فما مجنّاها بمجنه ... غير الرحيل، كفى البلاد
برحلة العجفاء هجنه
ابن لنكك البصرىّ:
هو أبو الحسين محمد بن محمد يقول
وماذا أرجّى من حياة تكدّرت؟ ... ولو قد صفت كانت كأضغاث أحلام
وقال أيضا
عدنا في زماننا ... عن حديث المكارم
من كفى الناس شرّه ... فهو في جود حاتم
وقال أيضا
جار الزمان علينا في تصرّفه ... وأىّ دهر على الأحرار لم يجر
عندى من الدهر مالو أنّ أيسره ... يلقى على الفلك الدوّار لم يدر
أبو الحسن عبد الله بن محمد بن محمد السلامىّ
يقول
تبسّطنا على الأيام لما ... رأينا العفو من ثمر الذنوب
وقال أيضا
والمرء ما شغلته فرصة لذة ... ناسى الحوادث آمن الحدثان(3/109)
وقال وكان رقادى بين كأس وروضة ... فصار سهادى بين طرف وصارم
وقال أيضا
ركوب الهول أركبك المذاكى ... ولبس الدرع ألبسك الغلائل
أبو الفرج الببّغا
يقول
ما الذل إلا تحمّل المنن ... فكن عزيزا إن شئت أو فهن
وقال أيضا
ومن طلب الأعداء بالمال والظبى ... وبالسعد لم يبعد عليه مرام
وقال أيضا
ولم أر مذ عرفت محلّ نفسى ... بلوغ منى تساوى حمل منّ
وقال أيضا
أكلّ وميض بارقة كذوب ... أما في الدهر شىء لا يريب؟
ابن سكّرة الهاشمىّ:
هو محمد بن عبد الله يقول
وعلة الحال تنسى علّة الجسد
وقال أيضا
وقد ينبت الشوك بين الأقاحى
وقال أيضا
الموت أنصف حين عدّل قسمة ... بين الخليفة والفقير البائس
ابن الحجّاج:
هو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج يقول
وربّ كلام تستثار به الحرب(3/110)
وقال أيضا
خود تزفّ الى ضرير مقعد
وقال أيضا
واللوزة المرّة يا سادتى ... يفسد في الطّعم بها السكّر
وقال أيضا
ما زلت أسمع كم من واقف خجل ... حتى ابتليت فكنت الواقف الخجلا
وقال أيضا
وبى مرضان مختلفان حال ال ... عليلة منهما يمنى بحالى
اذا عالجت هذا جفّ كبدى ... وإن عالجت ذاك ربى طحالى
أبو الحسن الموسوىّ النقيب:
هو محمد بن الحسين بن موسى يقول
أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العزّ والهون
ومنظر كان بالسرّاء يضحكنى ... يا قرب ما عاد بالضّراء يبكينى
وقال أيضا
والحرّ من حذر الهوا ... ن يزاول الامر الجسيما
وهو العظيم وغير بد ... ع منه إن ركب العظيما
وقال أيضا
ما السؤدد المطلوب إلّا دون ما ... يومى اليه السؤدد المولود
فاذا هما اتفقا تكسرت القنا ... إن غالبا وتضعضع الجلمود
وقال أيضا
اشتر العزّ بما بيع ... فما العزّ بغالى(3/111)