[المقدمة]
مقدمة المحقق
القاضي أبو عليّ، المحسّن بن عليّ التنوخيّ «1» ، ووالده القاضي أبو القاسم، عليّ بن محمد «2» ، وولده القاضي أبو القاسم عليّ بن المحسّن «3» ، أسماء لامعة في عالم الأدب والشعر والقضاء.
وكتاب نشوار المحاضرة، تأليف القاضي أبي عليّ، المحسّن التنوخيّ، من الكتب النادرة المثال، في عالم الكتاب العربي.
قضى التنوخيّ، في تصنيف كتابه هذا، عشرين عاما «4» ، وأخرجه في أحد عشر مجلدا «5» ، واشترط فيه على نفسه، أن لا يضمّنه شيئا نقله من كتاب «6» .
وقدّم المؤلف، كتابه النشوار، للقرّاء، بأنّه «كتاب يشتمل على ما تناثر من أفواه الرجال، وما دار بينهم في المجالس» «7» .
وقال: إنّه سمّاه «نشوار المحاضرة «8» ، لأنّ النشوار ما يظهر من كلام(المقدمة/5)
حسن. يقال: إنّ لفلان نشوارا حسنا، أي كلاما حسنا» .
وذكر عن سبب تأليفه الكتاب «إنّه اجتمع قديما مع مشايخ، قد عرفوا أخبار الدول، وشاهدوا كل غريب عجيب، وكانوا يوردون كلّ فنّ من تلك الفنون، فيحفظ ذلك، ويتمثل به. فلما تطاولت السنون، ومات أكثرهم، خشي أن يضيع هذا الجنس، فأثبته في هذا الكتاب» .
وقال: إنّه ألّف هذا الكتاب «ليستفيد منه العاقل اللبيب، والفطن الأريب، ويجد فيه ما يحثّه على العلم بالمعاش والمعاد، والمعرفة بعواقب الصلاح والفساد، وما تفضي إليه أواخر الأمور، وتساس به كافة الجمهور» .
وقال المؤلف مزهوّا بكتابه: «إنّه ما سبق إلى كتب مثل هذا الكتاب، ولم تخلّد بطون الصحف، بشيء من جنسه وشكله» . وإنّ كثيرا مما ورد في الكتاب «لا نظير له، ولا شكل، وهو وحده جنس وأصل» .
ثم تراجع عن زهوه، فختم المقدمة متواضعا، وقال: «إنّه يرجو أن لا يبور ما قد جمعه، ولا يضيع ما قد تعب فيه وكتبه، فلو لم يكن فيه إلّا أنّه خير من أن يكون موضعه بياضا، لكانت فائدة» .
بدأ تعلّقي بكتاب النشوار، عند مطالعتي ما أصدرته المطابع من أجزائه «1»(المقدمة/6)
وكنت كلما أعدت مطالعة جزء من تلك الأجزاء، زاد تعلّقي به، وحاولت مرّات ومرّات، أن أبحث عن الأجزاء الضائعة، فأضمّها إلى المطبوعة، في طبعة جديدة، أبذل الجهد في تحقيقها، والعناية في إخراجها، ولكنّ انصرافي إلى عملي في المحاماة، كان يحول بيني وبين ذلك، ثم انفسح لي من بعد ذلك، وقت قصرته على تحقيق رغبتي السالفة، في البحث عن الأجزاء الضائعة من النشوار، وتحقيق ما طبع من تلك الأجزاء.
وبدأت، فجمعت أفلاما للنسخ المخطوطة من كتاب النشوار، فاجتمع عندي، فلم مخطوطة الجزء الأول، من المكتبة الوطنية بباريس «1» ، وفلم مخطوطة مجلّد يشتمل على الجزئين الأول والثاني، من مكتبة مراد ملا باصطنبول «2» ، وفلم مخطوطة تشتمل على أحد أجزاء النشوار، كانت من جملة كتب مكتبة العلامة أحمد تيمور رحمه الله في القاهرة «3» ، وفلم مخطوطة تشتمل على الجزء الثامن من النشوار، من مكتبة المتحف البريطاني في لندن «4» ، وفلم مخطوطة بعنوان «نشوان المحاضرة» بعث به إليّ أحد إخواني من مصر، حسبه أحد أجزاء النشوار، وتبيّن لي أنّه من تأليف سبط بن الجوزي المتوفى سنة 654، وتشتمل هذا المخطوطة على أقاصيص وحكايات، على غرار النشوار، ولم يخل اطّلاعي عليها من فائدة، فقد وقعت فيها على بعض حكايات النشوار الضائعة.(المقدمة/7)
وقد أدرجت، بعد هذه المقدمة، وصفا مختصرا، لكل واحدة من هذه المخطوطات.
وتبيّن لي من المقارنة، بين مخطوطة باريس (ب) ، ومخطوطة اصطنبول (ط) ، أن مخطوطة باريس، وإن كان قد وصفت بأنّها الجزء الأول، إلا أنها قد اشتملت على أكثر ما ورد في مخطوطة اصطنبول التي ضمّت الجزئين الأول والثاني، وحيث أن المؤلف، رحمه الله، عيّن لنا، في مقدمة الجزء الأول، حجم كل جزء من أجزاء مؤلفه، بأنّه مائة ورقة، فقد رأيت أن هذا الوصف، ينطبق على ما ورد في مخطوطة اصطنبول، فاتخذت تلك المخطوطة أساسا للتفريق بين الجزئين، وأثبتّ ما انفردت به كلّ مخطوطة، مضافا إلى ما اتّفقتا في استيعابه، لئلا تضيع الفائدة من إيراد ما اشتملت عليه المخطوطتان، بصورة كاملة.
ولمّا كان الجزء الثاني من النشوار، قد تعيّن، بظهوره في مخطوطة اصطنبول، فقد اعتبرت جزءا ثالثا من النشوار، المخطوطة التي اشتملت عليها المكتبة التيمورية، وهي المخطوطة التي سبق أن طبعت بدمشق، باعتبارها جزءا ثانيا، ونشرت في أجزاء مجلة المجمع العلمي العربي.
ثم حاولت، من بعد ذلك، أن أتتبّع الفقرات الضائعة من النشوار، في ثنايا الكتب، فأعيد جمعها، وكان ذلك بدء عمل مضن، بذلت فيه وقتا، وجهدا، وصبرا، وراجعت مؤلّفات ابن الجوزي: المنتظم، والأذكياء، وأخبار الحمقى والمغفلين، وذم الهوى، وتلبيس إبليس، كما راجعت تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ الوزراء للصابي، ومؤلّفي ياقوت الحموي: معجم الأدباء، ومعجم البلدان، ووفيات الأعيان، وغيرها من الكتب، فوجدت فيها ينبوعا ثرّا، من القصص التي تروى عن(المقدمة/8)
مؤلف النشوار، غير أنّها وردت بأسماء مختلفة «1» ، ووجدت أن قسما من تلك القصص، قد أثبتت في الأجزاء المنشورة من النشوار «2» فتأيّد لي من ذلك،(المقدمة/9)
أن القصص التي وردت مرويّة عن أصحاب تلك الأسماء، إنّما هي مرويّة عن صاحب النشوار، وإنّها قد اقتطعت من ذلك الكتاب، فاستللتها من مواضعها، وضممتها إلى بعضها، واعتبرتها من الفقرات الضائعة من النشوار، وسأعنى بتحقيقها، ونشرها، إن شاء الله، في أجزاء متتابعة.(المقدمة/10)
وتبيّن لي من دراسة قصص النشوار، ما طبع منها، وما لم يطبع، أن المؤلف بدأ بجمع كتابه هذا في السنة 360 «1» ، ثم بدأ في السنة 373 أو بعدها، فاقتطع منه مجموعة من القصص التي تشتمل على أحاديث تتعلق بمن ابتلي، ثم سرّي عنه، وضمّها إلى قصص أخرى نقلها من الكتب، فأخرجها كتابا سمّاه «كتاب الفرج بعد الشدّة» «2» .
قال القاضي التنوخيّ: إنّه لم يسبقه أحد إلى كتب مثل هذا الكتاب، وأقول أنا: إنّه لم يسبقني أحد، إلى ما قمت به من استخلاص الفقرات الضائعة من النشوار، والبحث عنها في مظانّها، حتى تمكّنت، بعد الكد والتعب، أن أستخلص فقرات، قد تتّسع لها مجلدات أربعة، وإن مد الله في عمري، فسوف أخرج هذه المجلدات المشتملة على الفقرات الضائعة.
ولعلّ بعض القصص التي نقلتها، كانت من رواية أبي القاسم التنوخي، ابن المؤلف، ولعلّ بعض القصص، وإن كانت من رواية المؤلف، إلّا أنّه ليس ثمّة دليل قاطع، على أنّها مما اشتمل عليه كتاب النشوار، وردّي على من اعترض على إيرادها، عين ما كتبه المؤلف في خاتمة مقدمة الجزء(المقدمة/11)
الأول من الكتاب، حيث قال: «لو كان في إيراد هذه القصص، وتسجيلها، خير من موضعها بياضا، لكانت فائدة» .
ولا بد لي، في موقفي هذا، من توجيه الشكر الوافر، والثناء العاطر، إلى كل من أعانني في عملي هذا، وفي مقدمتهم الأساتذة قاسم محمد الرجب، صاحب مكتبة المثنى، والدكتور إحسان عباس الأستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت، والسيد ميخائيل عواد، الباحث المحقق، والدكتور صالح أحمد العلي الأستاذ في جامعة بغداد، والذوات الكرام القائمين بإدارة مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت، والذوات الكرام القائمين بإدارة المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ببيروت، فقد كان لمعونتهم، الأثر البيّن في إخراج هذا السفر.
والله أسأل، أن يكلل مهمتي بالنجاح، وأن يعينني على إخراج الأجزاء الباقية من هذا الكتاب القيّم، وأن ينفع به طلاب العلم والمعرفة. إنّه سميع مجيب.
بحمدون في 2/3/1971 عبود الشالجي المحامي(المقدمة/12)
وصف محطوطة باريس (ب)
تشتمل هذه المخطوطة على الجزء الأول من كتاب نشوار المحاضرة، ورقمها في المكتبة الوطنية بباريس 3482 عربي، وقد رمز إليها في هذا الكتاب بحرف (ب) .
تشتمل على 193 ورقة كل ورقة في صفحتين، في كل صفحة 17 سطرا.
الخط جيّد قديم.
في صدر الكتاب: «كتاب نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة تأليف القاضي أبي عليّ المحسّن بن علي بن محمد بن أبي الفهم التنوخي غفر الله له ولوالديه ولنا ولوالدينا ولجميع المسلمين» .
وقد أضاف ناسخ آخر، إلى ما تقدّم، بخطّ حديث، هذه الجملة:
«كتاب جامع التواريخ المسمى» ، وهذه الإضافة هي التي أدّت إلى الوهم الذي وقع فيه ناشر والأجزاء المطبوعة من النشوار، فسمّوه «جامع التواريخ» .
وفي آخر الكتاب، ورد ما يلي:
«وكان الفراغ من كتابته في يوم الجمعة مستهل رجب الفرد سنة ثلاثين وسبعمائة الحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم» .(المقدمة/13)
وصف مخطوطة اصطنبول (ط)
تشتمل هذه المخطوطة على الجزئين، الأول والثاني من النشوار، وهي محفوظة في مكتبة مراد ملا في اصطنبول، وقد رمزت إليها في هذا الكتاب بحرف (ط) .
الخط حسن قديم، وفيه تصحيف كثير.
تشتمل المخطوطة على 213 ورقة، كل ورقة، في صفحتين. في كل صفحة 17 سطرا.
الجزء الأول من 1 إلى 105، وصدر النسخة مدوّن فيه: «الجزء الأول من نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، للتنوخيّ.
وعلى النسخة أسماء أشخاص ملكوها، أحدهم: أبو بكر بن رستم بن أحمد الشيرواني.
وفي آخر النسخة: «تمّ الجزء الأول، ويتلوه في الجزء الثاني بمشيئة الله، قد قدمت في الجزء الأول الحمد لله والثناء عليه، وذكرت من الأخبار ما لم تدر، مما لم تجر العادة بكتب مثلها، ولا ما يكاد أن يتجاوز به الحفظ» .
الجزء الثاني من 106 إلى 213. وصدر النسخة مدوّن فيه: «الجزء الثاني من نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة» .
وفي آخر النسخة: «الحمد لله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما» .
وبعد هذا مطالعة ورد فيها: أنهيته مطالعة.
أبو بكر بن رستم الشيرواني سنة 1097(المقدمة/14)
وصف المخطوطة التيمورية
تشتمل هذه المخطوطة على 129 ورقة، في كلّ ورقة صفحتان، في كلّ صفحة 15 سطرا.
خطّها قديم، وسط، وفيه تصحيف كثير.
مخرومة الآخر.
وصف مخطوطة المتحف البريطاني
تشتمل هذه المخطوطة على الجزء الثامن من كتاب نشوار المحاضرة ورقمها في مكتبة المتحف البريطاني 9586 شرقي.
تشتمل على 110 ورقة، في كل ورقة صفحتان، في كل صفحة 15 سطرا.
الخط جيد وقديم، والتصحيف قليل.
جزء من المقدمة مخروم.
في آخر الكتاب، ورد: «تمّ الجزء الثامن ويتلوه التاسع، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين» .(المقدمة/15)
وصف مخطوطة كتاب نشوان «1» المحاضرة تأليف سبط بن الجوزي
تشتمل هذه المخطوطة، على 180 ورقة، الورقة في صفحتين، الصفحة 19 سطرا.
وجه الكتاب: نشوان «2» المحاضرة للعلامة سبط بن الجوزي عفي عنه آمين وأول الكتاب: «الحمد لله الذي صرف أفكار قلوبنا إلى السراط المستقيم ونورها بنور الهداية إلى الدين القويم، وتوحد بالعزة والجبروت، وتفرّد بالملك والملكوت» .
وآخر الكتاب: «تم الكتاب بحمد الله وعونه، والحمد لله وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله» .(المقدمة/16)
ترجمة المؤلف القاضي أبي عليّ المحسّن بن عليّ التنوخيّ
القاضي أبو عليّ، المحسّن بن عليّ التنوخيّ، وقد ساق ياقوت الحمويّ، نسبه إلى قضاعة «1» هو ابن القاضي أبي القاسم، عليّ بن محمد التنوخي «2» ، ولد الأب سنة 278 في أنطاكية، ونشأ بها، ولمّا زار الخليفة المعتضد أنطاكية في السنة 287 «3» ، كان التنوخيّ الأب، صبيّا في المكتب «4» ، وكان لأبيه- جدّ المحسّن- موقف محمود، مع المعتضد، إذ أقنعه بالرجوع عمّا صمّم عليه، من هدم سور المدينة.
قدم التنوخيّ الأب، بغداد، في حداثته «5» ، فأتمّ دروسه فيها، وتفقّه، وكان من الذكاء، والفطنة، وقوّة الحافظة، على جانب عظيم «6» .
وكان قاضي القضاة- إذ ذاك- أبو جعفر، أحمد بن إسحاق بن البهلول، وهو تنوخيّ، وأبو القاسم تنوخيّ، فصادفت لياقة أبي القاسم، وذكاؤه، وفهمه، هذه الصلة بينه وبين قاضي القضاة «7» ، فقلّده القضاء بعسكر مكرم، وتستر، وجنديسابور، والسوس، وأعمال ذلك، وكان ذلك في السنة 311، وكانت سنّ أبي القاسم إذ ذاك 33 سنة «8» .
ولمّا سلّم قاضي القضاة، إلى أبي القاسم التنوخيّ، عهده بالقضاء، أوصاه بتقوى الله، وبأشياء من أمور العمل، وسياسته في الدين والدنيا،(المقدمة/17)
وبأمر جاريه، أي راتبه، فقد كان مسبّبا، أي مقرّرا، على خزينة الأهواز «1» .
ولم ينس قاضي القضاة، أن يشدّد على أبي القاسم التنوخيّ، في النصيحة، بأن يكتم عن الناس، حقيقة سنّه، كيلا ينسب إلى الحداثة، وقلّة الحنكة.
ويقول أبو القاسم التنوخيّ، إنّ الصدفة الحسنة، أطلعت له، خلال سفره إلى محلّ عمله، شعرة بيضاء في لحيته، فأخذ يتعمّل لإخراجها، ليراها الناس، متجّملا بها «2» .
وكان تقليد أبي القاسم التنوخيّ، القضاء في جنوبي العراق، مبدأ صلة ربطت هذه العائلة بتلك المنطقة.
تقلّد أبو القاسم التنوخيّ، القضاء بهذه المنطقة، سنين، ثم صرف، فقصد الأمير سيف الدولة الحمدانيّ، زائرا ومادحا، فأكرم سيف الدولة مثواه «3» ، وأحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة «4» ببغداد، فاعيد إلى عمله، وزيد في رزقه، وولي القضاء رئاسة، بعهد كتبه له الوزير أبو عليّ ابن مقلة، وشهد الشهود عنده، فيما حكم بين أهل عمله بالحضرة، والظاهر أنّه تقلّد القضاء بالكرخ من الحضرة «5» .
إنّ ذكاء أبي القاسم التنوخيّ، وألمعيّته، أيّام تقلّده القضاء في جنوب العراق، نبّهت إليه أبا عبد الله البريديّ، شيخ البريديّين، وكان إذ ذاك، عاملا من عمّال السلطان في تلك المنطقة، فلمّا علت منزلته، وقويت سطوته، اجتذب إليه أبا القاسم التنوخيّ، فألحقه بخدمته، ونصبه مستشارا له، وأناط به الترسّل في أموره البالغة الأهميّة، التي لا يمكن أن يعوّل فيها، إلّا على شخص مثل أبي القاسم التنوخيّ، وافر الذكاء، عظيم الحرمة.
فقد كان في السنة 324 رسول البريديّ إلى القائد ياقوت، حيث عقد(المقدمة/18)
معه صلحا، وزوّج ابنة البريديّ من ابن ياقوت «1» .
وفي السنة 325 كان رسول البريدي إلى الأمير أبي بكر بن رائق «2» .
كما إنّه في السنة 326 كان رسول البريديّ إلى أمير الأمراء بجكم، حيث عقد بينهما مصالحة، توّجت بزواج بجكم من سارة ابنة أبي عبد الله البريديّ «3» .
وفي هذا الوقت، ولد للقاضي أبي القاسم التنوخيّ، في السنة 327، بالبصرة، غلام سمّاه المحسّن، وهو صاحب النشوار «4» .
ولد المحسّن، في بيت فقه وعلم، فنشأ منذ طفولته محبّا للدرس، وهو يحدّثنا عن ذكرياته في الكتّاب «5» ، كما إنّه سمع من أبي بكر الصولي، وهو حدث «6» ، وكان أوّل سماعه الحديث، وهو في السابعة من عمره «7» .
والمحسّن، يعتبر البصرة بلده، ويتحدّث عن نفسه، باعتباره بصريّا، فيقول في إحدى قصصه: ولي الجهنيّ «عندنا بالبصرة» الحسبة «8» ، كما إنّه يروي في نشواره كثيرا من القصص، عن حوادث وقعت بالبصرة، وعن أشخاص بصريّين، لا يتسنّى لغير البصريّ، أن يتحدّث عنهم.
وتوفّي أبو عبد الله البريدي، في السنة 332، فأقام أبو القاسم التنوخيّ بالبصرة، وانضاف إلى المهلّبيّ، صديقه القديم «9» ، الذي بدأ نجمه يلمع في سماء العراق، منذ أن ترك خدمة أبي زكريا، يحيى بن سعيد السوسيّ «10» ، واتّصل بالأمير أبي الحسين أحمد بن بويه، الذي أصبح بعد أن استولى على العراق، الأمير معزّ الدولة.(المقدمة/19)
ولقي أبو القاسم التنوخيّ، من الوزير المهلّبيّ، كل رعاية وعناية، وكان يميل إليه جدا، ويتعصّب له، ويعدّه ريحانة الندماء «1» ، وكان من جملة القضاة الذين يجتمعون، مع الوزير المهلّبي، مرّتين في كل أسبوع، على اطّراح الحشمة، والتبسّط في القصف واللهو «2» .
وبلغ من وفاء المهلبيّ، لأبي القاسم التنوخيّ، انّه لما توفيّ التنوخيّ في السنة 342، صلى عليه المهلبيّ، وقضى ما عليه من الديون، وكان مقدارها خمسون ألف درهم «3» .
نشأ المحسّن التنوخيّ، بالبصرة، وسمع من أبي بكر الصولي، وأبي العبّاس الأثرم، والحسين بن محمد النسويّ، وطبقتهم «4» ، وشبّ، وتفقّه، وشهد عند القاضي أحمد بن سيّار، قاضي الأهواز»
، ولمّا نزل الوزير المهلبيّ بالسوس، قصده المحسّن التنوخيّ، للسلام عليه، وتجديد العهد بخدمته، فرحّب الوزير به، وطالبه بأن يلحق به في بغداد، ليقلّده القضاء «6» ، فأطاع، ولحق بالمهلبيّ الذي كلّم في أمره قاضي القضاة، فقلّده في السنة 349 قضاء القصر، وبابل، بسقي الفرات «7» ، ثم ولاه المطيع لله القضاء بعسكر مكرم وايذج ورامهرمز «8» .
واستقر المحسّن التنوخيّ ببغداد، وشملته عناية الوزير المهلبيّ، فأصبح من ملازمي مجلسه، وقد أثبت في نشواره، قصصا عدّة، عن مكارم أخلاق المهلبيّ، وشريف طباعه «9» .
إنّ استعراض القصص التي أدرجها التنوخيّ في النشوار، ينير لنا الطريق(المقدمة/20)
من آجل معرفة المدّة التي قضاها ببغداد، وما صادفه فيها من حوادث.
فهو يروي، في إحدى قصصه، حديثا سمعه من الأمير جعفر بن ورقاء الشيباني، في السنة 349 «1» .
كما يروي لنا، في قصّة أخرى، حديثا سمعه في السنة نفسها من أبي أحمد بن أبي الورد، شيخ من أبناء القضاة «2» .
وهو في إحدى قصصه، يروي لنا، أنّه اجتمع في السنة 350 بأبي عليّ بن أبي عبد الله ابن الجصّاص، وسأله عن أخبار والده، وأثبت أجوبته التي أجاب بها «3» .
كما يروي لنا، في قصّة أخرى، حديثا بلغه في نفس السنة، وهو ببغداد عن صوفيّ، سمع، فطرب، فتواجد، فمات «4» .
وقد اشتملت بعض قصصه عن مجالس الوزير المهلبيّ، على حوادث نصّ التنوخيّ على وقوعها في السنة 350 «5» والسنة 351 «6» .
وأورد، في موضع آخر من كتابه، أنّه حضر مجلس أبي العبّاس بن أبي الشوارب «7» ، قاضي القضاة- إذ ذاك-، وأنّه، أي التنوخيّ، كان يكتب له، على الحكم والوقوف بمدينة السلام «8» ، مضافا إلى ما كان(المقدمة/21)
يخلفه عليه، بتكريت «1» ودقوقا «2» ، وخانيجار «3» ، وقصر بن هبيرة «4» ، والجامعين «5» ، وسوراء «6» ، وبابل «7» ، والإيغارين «8» ، وخطرنية «9» .
وقد تقلّد أبو العبّاس هذا، قضاء القضاة، في النصف الثاني من السنة 350 «10» ، وعزل في النصف الأول من السنة 352 «11» .
وهو في إحدى القصص «12» يخبرنا بأنّه كان في السنة 352 ببغداد، وأنّه زار أبا الغنائم ابن الوزير المهلبيّ وهنّأه بحلول شهر رمضان.
قصّ التنوخيّ علينا، في إحدى قصصه، أنّه سأل أبا الطيّب المتنبي، عن نسبه، وأنّ المتنبي اعتذر عن الإفصاح من حقيقة نسبه «13» ، وكان المتنبّي.
قد مرّ ببغداد، في السنة 353.
وكان وجود التنوخيّ في بغداد، قد سهّل له الاتّصال بمجموعة من العلماء، والأدباء، والشعراء، فهو في قصصه يروي لنا، ما أملاه عليه أبو(المقدمة/22)
إسحاق الصابي «1» ، وما سمعه من ابن سكّرة الهاشميّ «2» ، ومن ابن الحجّاج «3» ، وإليه بعث أبو العلاء المعريّ، قصيدته الشهيرة، «هات الحديث عن الزوراء أو هيتا» «4» .
وأورد التنوخيّ، في إحدى قصصه، أنّه شاهد بيع ضياع شخص من أهالي عمان، اغتاله نقيب ديلميّ، اسمه كردك، واستولى على أمواله ظلما «5» ، ويلوح لي أنّ ذلك وقع في السنة 354.
والظاهر، أنّ المحسّن التنوخيّ، قد بارح بغداد، ما بين السنة 355 والسنة 360، ويتّضح هذا من فقرة وردت، في مقدّمة الجزء الأول من النشوار، حيث قال: واتّفق أنّني حضرت بمدينة السلام، في السنة 360، بعد غيبتي عنها سنين، فوجدتها محيلة ممّن كانت به عامرة ... الخ، وأنّ ذلك هو الذي دفعه إلى تأليف كتابه النشوار، حيث بدأ به في السنة 360، وأنهاه في السنة 380، على ما رواه غرس النعمة «6» ، وأثبته ياقوت في ترجمته» .
واستقرّ التنوخيّ، ببغداد، منذ السنة 360، وكانت حرمته باقية، فهو في إحدى قصصه، يحدّثنا عن شعر سمعه من الشاعر ابن الحجّاج في السنة 360 وهو ينشده في مجلس الوزير أبي الفضل الشيرازيّ «8» .(المقدمة/23)
وهو يروي لنا، في إحدى قصصه، أنّ أبا الحسن ابن الأزرق التنوخيّ، أخبره في السنة 361، بأنّ خاطف المغنّية التي تغنّي بالقضيب، قد توفيت بمنزلها في جواره، في تلك السنة «1» .
أمّا في السنة 363، فقد روى لنا التنوخيّ، أنّه كان متولّيا القضاء بواسط «2» ، وهو في إحدى قصصه، يحدّثنا عن شيخ لقيه بواسط، في ربيع الأول من السنة 363 «3» .
وفيما بعد السنة 363، لجأ التنوخيّ، إلى البطيحة «4» ، هاربا من ابن بقيّة «5» ، وزير عزّ الدولة، بختيار «6» ، بن معزّ الدولة، حيث ألفى هناك جماعة من معارفه، كانوا يجتمعون في الجامع هناك، ويتشاكون أحوالهم.
ولعلّ فساد الصلة بين التنوخيّ، وبين الوزير ابن بقيّة، كان من أهمّ الأسباب التي قوّت علاقته بعضد الدولة، فإنّ التنوخيّ، تقدّم في عهد عضد الدولة، تقدّما عظيما، وتقلّد القضاء في أماكن عدّة، وأثبته عضد الدولة نديما له، وخصّص له كرسيا يجلس عليه في مجلس شرابه، وكثير من الندماء قيام «7» .(المقدمة/24)
ويقصّ التنوخيّ علينا في إحدى قصصه «1» ، أنّه كان، ذات يوم، يماشي عضد الدولة، في دار المملكة بالمخرّم، وأنّ الملك حدّثه عن مقدار ما صرف على البستان والمسنّاة.
وفي السنة 367، كان التنوخيّ، في صحبة عضد الدولة «2» ، في حملته التي قام بها لاستئصال أبي تغلب بن حمدان، وقد قلّد التنوخيّ، جميع ما فتحه ممّا كان في يد أبي تغلب، مضافا إلى ما كان قد تقلّده من قبل، وهو:
حلوان وقطعة من طريق خراسان.
وهو في إحدى قصصه «3» يروي لنا، كيف ورد محمد بن ناصر الدولة، يحجل في قيوده، حتى دخل على عضد الدولة في الموصل، فأمر بقيوده ففكّت، وبالخلع فأفيضت عليه، وبالجنائب فقيدت معه.
وقيام التنوخيّ في السنة 369 بالخطبة في الاحتفال الذي جرى عند عقد زواج الخليفة الطائع، على ابنة الملك عضد الدولة «4» ، يدلّنا، على قوّة صلته، في ذلك الحين، ببلاطي الخليفة والملك.
وهو في إحدى قصصه «5» يروي لنا حديثا، حدّثه به، في السنة 370 الملك عضد الدولة، عن شقيق له اعتبط، وعن حلم حلمت به أمّه، ممّا(المقدمة/25)
لا يتحدّث به أحد، إلّا لأخصّ الأصدقاء.
وبلغت الصلة بين التنوخيّ وعضد الدولة، من القوّة، بحيث أصبح يرافقه في أسفاره، وكانت هذه المرافقة، من أهمّ الأسباب التي جرّت عليه المصائب، فقد كان في همذان في السنة 371 «1» ، في معسكر الملك، وزار صديقه أبا بكر بن شاهويه، فحدّثه أبو بكر، حديثا، أخطأ التنوخيّ في الإفضاء به إلى أبي الفضل بن أبي أحمد الشيرازيّ، الذي نقله بنصّه وفصّه إلى عضد الدولة، فغضب عضد الدولة على التنوخيّ «2» ، غير أنّ غضبه ما برح أن انفثأ، وعاد معه إلى بغداد.
وكان عضد الدولة، قد زوّج ابنته من الخليفة الطائع لله، مؤمّلا أن تلد له حفيدا، يكون وليّ عهد الخلافة، وتصبح الخلافة في بيت بني بويه، ويصير الملك والخلافة، مشتملين على الدولة الديلميّة «3» .
ولكنّ الخليفة الطائع لله «4» الذي أحسّ بما أضمره عضد الدولة، أبعد هذه الابنة عن فراشه، فاهتمّ والدها بالأمر، ولم يجد خيرا من القاضي التنوخيّ، يتوسّط في القضية، بالنظر لعلاقته الطيّبة بالبلاطين، ولأنّه هو الذي خطب خطبة عقد النكاح «5» .(المقدمة/26)
فطلب من التنوخيّ «أن يمضي إلى الخليفة، وأن يقول له عن والدة الصبيّة، إنّها مستزيدة لإقبال مولانا عليها» «1» .
وكأنّ التنوخي خشي مغبّة الدخول في هذا الحديث، أو كأنّه استشعر أن لا فائدة من التحدّث فيه، فقد أحسّ بأنّه أصبح بين نارين، إن كلّم الخليفة أغضبه، وإن اعتذر أغضب عضد الدولة، وهما أمران أحلاهما مرّ، فاختار لنفسه أن يتمارض، وحبس نفسه في داره، متعلّلا بالتواء ساقه، وأنّه لا يطيق مبارحة فراشه.
ولكنّ عضد الدولة، أحسّ بأنّ التنوخيّ متمارض، فبعث إليه من كشف أمره، وعندئذ صبّ جام غضبه عليه، فعزله من جميع أعماله، ونصب بدلا منه، قضاة ستّة، يقومون بالعمل الذي كان منوطا به وحده، كما أنّه أصدر إليه أمره، بأن يظلّ في داره حبيسا، لا يبارحها «2» ، وظلّ التنوخيّ على حاله هذه، حتى توفّي عضد الدولة في السنة 372.
وليس فيما بين أيدينا من قصص النشوار، ما نستطيع أن نتبيّن منه، كيفيّة حياة القاضي المحسّن التنوخي، بعد وفاة عضد الدولة، والذي يلوح لنا، أنّه لم يتقلّد عملا من أعمال السلطان. وأنّه قصر وقته، على إتمام كتابه «النشوار» ، الذي بدأ به في السنة 360، وعلى تأليف كتاب «الفرج بعد الشدة» ، الذي بدأ به في السنة 373 «3» ، وقد استخلص أكثر أخباره من النشوار، وعلى تربية ولده أبي القاسم عليّ، الذي ولد في السنة 370.
وكما أنّ المحسّن التنوخيّ، كان وحيد والديه، على ما يظهر، وقد ولد،(المقدمة/27)
وأبوه كهل في الخمسين، فكذلك أبو القاسم عليّ بن المحسّن، كان وحيد والديه، وقد ولد، وأبوه كهل عبر الأربعين، والعجيب أنّ أبا القاسم، عليّ بن المحسن، قد ولد له ولد، سمّاه محمدا، وهو وحيده أيضا، وقد ولد له، والأب شيخ قد تجاوز السبعين «1» .
وهؤلاء الثلاثة، الجدّ، والأب، والابن، يشبه أحدهم الآخر، في الفضل، وفي الذكاء، وفي كرم النفس، وفي انخراطهم في سلك القضاء، وفي تمذهبهم بمذهب أبي حنيفة، وفي تمسّكهم بالاعتزال، والدفاع عنه.
ويتضح تعصّب المحسّن للمعتزلة، من القصص التي أوردها في النشوار، فهو يثني عليهم، كلّما ورد ذكرهم «2» .
وقد أضاف المحسّن التنوخيّ، إلى تعلّقه بالاعتزال، تعرّضه للتصوّف والصوفيّة «3» .
كما أنّ القصص التي أوردها عن الحنابلة، وعن رئيسهم البر بهاري «4» ، تدلّ على مقدار ضيقه بهم، وانزعاجه من تصرّفاتهم، وعلى عنف رئيسهم البر بهاري، واستهانته بالأنفس والأرواح «5» .
اتّهم ابن الأثير، في كتابه الكامل في التاريخ «6» ، المحسّن التنوخيّ،(المقدمة/28)
بأنّه كان شديد التعصّب على الشافعيّ، يطلق لسانه فيه. وهذه تهمة لم يقم عليها دليل، وهذه مؤلّفات التنوخيّ، ما تيسّر لنا منها، تنفي عنه هذه التهمة، والمحسّن التنوخي، اتقى لله، من أن يعرض للشافعيّ بسوء.
ويلاحظ، أنّ التنوخي، قد أدرج في نشواره، قصصا عدة، دلّت على اعتقاده بالتنجيم «1» ، ولعلّ عدم الاستقرار الذي رافق القرن الرابع الهجريّ، كان من الأسباب التي دفعت التنوخيّ، وأباه، إلى الاعتقاد بالتنجيم، والعيافة، والزجر، وغيرها، مما يتمسّك به الإنسان، رغبة منه في الفرار من الحقيقة المرّة، إلى خيال يبشّر بمستقبل أطيب من حاضر لا خير فيه.
وفي النشوار، قصص لا تحصر، عن القضاة، وأخبارهم، وعمّا قام به بعضهم من أفعال كريمة في رفع المظالم، وردع المعتدي الظالم، بل إنّ هذا الموضوع، هو الموضوع الرئيسي الذي اشتمل عليه هذا الكتاب، بالنظر لاختصاص المؤلف واطّلاعه على خباياه «2» ، اطّلاعا تاما.
ولما كانت المنافسة، بين أبناء الصناعة. الواحدة، أمر مترقّب منتظر، فالذي لا شكّ فيه، أنّ التنوخي المؤلّف، ووالده، وبعض أقربائه من التنوخيّين، من قضاة وشهود، قد حصلت بين بعضهم، وبين بعض القضاة، منافرة، ولذلك، فإنّ التنوخيّ، لم يتأخّر عن إثبات القدح في أولئك القضاة، ولكنّه لكمال عقله، لم يشتم أحدا من هؤلاء القضاة بلسانه، وإنّما شتمهم بلسان غيره، فهو يورد شعرا للشاعر الفلاني، هجا به القاضي الفلاني، أو يثبت قولا قاله الفقيه الفلاني، في القاضي الفلاني «3» .(المقدمة/29)
إنّ كثيرا من القصص الواردة في النشوار، تؤيّد علاقة التنوخيّين أبي القاسم، وولده أبي عليّ المحسّن، بالأهواز، هذه المنطقة، التي سمّاها هارون الرشيد «سرة الدنيا» «1» ، وسماها عبد الله المأمون «سلّة الخبز» »
، فقد كان لهما أقارب في الأهواز «3» ، وكان لكلّ منهما فيها ضيعة «4» ، وقد تقلّد أبو القاسم الأب القضاء في الأهواز «5» ، كما تقلّده أبو عليّ المحسّن أيضا «6» .
بقيت ملاحظة، يجدر بي أن أثبتها هنا، وهي أنّ التنوخيّ، اختار في نشواره، شعرا لشعراء مفلقين، كأبي فراس الحمداني مثلا، ثم قرن بشعرهم شعرا لا يتعدى درجة النظم، وليس التنوخيّ، بالذي يصعب عليه التمييز بين الشعر الجيّد والشعر الرديء، ولكنّه أثبت بعض الرديء، لأنّه قيل في مدحه، أو مدح أبيه، ولعمري، إنّ حبّ الإنسان نفسه، يدفعه إلى إثبات ما قيل في مدحه، حتى ولو لم يكن من جيّد الشعر «7» .
وللمحسّن التنوخيّ شعر، مجموع في ديوان، قال عنه أبو نصر، سهل ابن المرزبان «8» إنّه رآه في بغداد، وإنّ حجمه كان أكبر من حجم ديوان(المقدمة/30)
أبي القاسم والده، وإنّ بعض العوائق حالت بينه وبين تحصيله، فاشتدّ أسفه عليه «1» . ونحن نشارك أبا نصر، في أسفه، فإن ديوان التنوخيّ، معتبر الآن، في جملة الدواوين الضائعة.
وقد أورد الثعالبي «2» ، في اليتيمة، شعرا في مدح المحسّن التنوخيّ من نظم أبي عبد الله بن الحجّاج «3» . كما روى في ترجمة المحسّن، أبياتا من شعره، قال إنّه مرتاب في نسبتها إليه، لفرط جودتها «4» . والثعالبيّ على حقّ في ارتيابه، فإنّ الباقي المتوفّر لدينا من شعر التنوخيّ، لا يرتفع إلى مستوى تلك الأبيات.
أمّا مؤلفات المحسّن التنوخيّ، فإنّ أشهرها نشوار المحاضرة، الذي أسلفنا إنّه ألّفه في عشرين سنة، في أحد عشر مجلدا.
وله: كتاب الفرج بعد الشدّة، في ثلاث مجلدات، ألّفه بعد كتاب النشوار «5» .
وله أيضا: كتاب المستجاد من فعلات الأجواد، وقد طبع بدمشق، حقّقه الأستاذ محمد كرد علي، وفي المطبوع مآخذ كنت أتمنّى لو أشار إليها المحقّق رحمه الله، منها: أنّ بعض القصص الواردة في الكتاب «6» جاءت على لسان «القاضي أبي القاسم عليّ بن المحسّن مؤلف كتاب الفرج بعد الشدة» .(المقدمة/31)
مع أنّ مؤلّف الكتاب هو والده المحسّن. ومنها: أنّ بعض القصص «1» ، جاء فيها: «قال القاضي أبو القاسم عليّ بن المحسّن التنوخي، حدثني أبو الفرج الأصبهاني من حفظه ... الخ» ، مع أنّ أبا الفرج الأصبهاني توفيّ في السنة 356 والقاضي أبو القاسم عليّ بن المحسّن ولد سنة 370.
وللمحسّن التنوخي أيضا: مجموعة أقوال في الحكمة، سمّاها «عنوان الحكمة والبيان» ؛ ذكر ذلك المستشرق مرجليوث، في مقدمة الترجمة الإنكليزية للجزء الأول من النشوار «2» .
توفّي أبو عليّ، المحسّن التنوخيّ، في السنة 384، عن 57 عاما، وخلّف ولده أبا القاسم عليّ بن المحسّن، صبيّا في الرابعة عشرة، وقد صاحب التوفيق هذا الصبيّ، فجرى على سنن والده، ودرس الفقه، وقبلت شهادته عند الحكّام في حداثته «3» ، وتقلّد القضاء والإشراف على دار الضرب «4» .
ولأبي القاسم هذا، ترجمة في معجم الأدباء جديرة بالمطالعة «5» .
هذا ما أمكنني استخلاصه، عن حياة القاضي التنوخيّ، ممّا تيسّر لديّ من القصص التي قصّها علينا، ولو تيسّر لديّ عدد من القصص أكثر لكان ما استخلصته أوفر.
ولعلّ الحظ الحسن، يقود أحدا في مستقبل الأيّام، إلى العثور على بعض الأجزاء الضائعة من النشوار، فيضيف بنشرها، إلى الكتاب العربيّ، ثروة عظيمة.
بحمدون في 2/3/1971 عبود الشالجي المحامي(المقدمة/32)
الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اللهم يسّر وأعن الحمد لله الواحد العدل، وصلى الله على محمد نبيه خاتم الرسل، وعلى آله الطيّبين ذوي الطهارة والفضل.
هذه ألفاظ تلقّطتها من أفواه الرجال، وما دار بينهم في المجالس، وأكثرها ممّا لا يكاد يتجاوز به الحفظ في الضمائر، إلى التخليد في الدفاتر، وأظنّها ما سبقت إلى كتب مثله، ولا تخليد بطون الصحف بشيء من جنسه وشكله، والعادة جارية في مثله، أن يحفظ إذا سمع ليذاكر به إذا جرى ما يشبهه ويقتضيه، وعرض ما يوجبه ويستدعيه.
ولعلّ قارئها والناظر فيها أن يستضعفها إذا وجدها خارجة عن السّنن «1» المعروفة في الأخبار، والطريق المألوف في الحكايات والآثار، الراتبة «2» في الكتب، المتداولة بين أهل الأدب، ولا سيّما ما لم يعلم السبب الذي رغّبني في كتبها، وهو أنّي اجتمعت قديما مع مشايخ فضلا، علماء أدباء «3» ، قد عرفوا أحاديث الملل، وأخبار الممالك والدول، وحفظوا مناقب الأمم ومعايبهم، وفضائلهم ومثالبهم، وشاهدوا كل فنّ غريب، ولون «4» طريف(1/1)
عجيب، من أخبار الملوك والخلفاء، والكتّاب والوزراء، والسادة والأمراء، والرؤساء والفضلاء، والمحصّلين والعقلاء، والأجواد والبخلاء، وذوي الكبر والخيلاء «1» ، والأشراف والظرفاء «2» ، والمخرّفين والجلساء «3» ، والمحادثين والندماء، والأذكياء والفهماء، والأسخياء والكرماء، والسفهاء والحلماء، والفلاسفة والحكماء «4» ، والمتكلّمين والعلماء «5» ، والمحدّثين والفقهاء «6» ، وأهل الآراء والأهواء «7» ، والمتأدبين والأدباء، والمترسّلين والفصحاء، والرّجّاز والخطباء، والعروضيّين والشعراء، والنسّابين والرواة، والحفّاظ والدراة «8» ، واللّغويين والنحاة، والشهود والقضاة «9» ، والأمناء والولاة «10» ، والمتصرّفين والكفاة، والفرسان والأمجاد، والشجعان والأنجاد، والجند والقوّاد،(1/2)
وأصحاب القنص والاصطياد، والجواسيس والمتخبّرين»
، والسعاة والغمّازين «2» ، والورّاقين «3» والمعلّمين، والحسّاب والمحرّرين «4» ، والعمّال وأصحاب الدواوين «5» ، والتنّاء «6» والمزارعين، وأرباب الخراج والأرضين، والأكرة «7» والفلّاحين، والمتكلمين على الطرق «8» ، [وأصحاب الحادور والحلق] «9» ، والواعظين والقصّاص «10» ، وذوي التّنمّس والإخلاص «11» ، وأهل الصوامع والخلوات، والسيّاح في الجبال والفلوات، والنسّاك والصالحين، والأبدال والمتفرّدين، «12»(1/3)
والمريدين والمخبتين «1» ، والعبّاد والمتبتّلين «2» ، والزهّاد والمتوحّشين «3» ، والصوفيّة «4» والمتواجدين «5» ، والأئمّة والمؤذّنين، والقرّاء والملحّنين، [2 ب] والرّجحاء والمبرّزين، وأهل النقص والمقصّرين، [والأغنياء والمملقين] «6» والأغبياء والمتخلّفين، والفطناء والمتقدّمين، والشطّار والمتّقين «7» ، وأصحاب العصبيّة والسكاكين «8» ، وقطّاع الطّريق والمتلصّصين، والجيران والمتغرّبين، وأهل الخسارة والعيّارين «9» ، ولعّاب النرد والشطرنجيّين «10» ، والملاح والمتطايبين «11» ،(1/4)
[والمسامرين والمضاحكين] «1» وأصحاب النادرة والمضحكين، والمورثين والمبذّرين «2» ، والطفيليّة والمتطرّحين «3» ، والأكلة والمواكلين، والشرّاب [2 ط] والمعاقرين، والمغنّيات والمغنّين، والرقّاصين والمخنّثين «4» ، وأصحاب الستائر «5» والمقيّنين «6» ، والمتقاينين «7» والمستمعين «8» ، وأهل الهزل والمتخالعين، والمجّان والمجانين «9» ، والبله والمغفّلين، والمفكّرين والموسوسين «10» ، وأهل المذهب والسوداويّين «11» ، والمشعبذين والمحتالين «12» ،(1/5)
والملحدة والمتنبّين «1» ، والأطبّاء والمنجّمين «2» ، والكحّالين والفصّادين «3» ، والأساة والمجبّرين «4» ، ومعالجي الجرائح والقمائحيّين «5» ، وأصحاب الزجر «6» ، والزّراقين «7» ، وأهل القرعة «8» والمقالين «9» ، والطوّاف بالسهام «10» والمفسّرين «11» ، والشحّاذين والمجتدين «12» ، والمجدودين والمحدودين «13» ، والسعاة(1/6)
والمسافرين «1» والمشاة والمتغرّبين، والسبّاح والغوّاصين، [والبانانية والملّاحين] «2» ، وسلّاك البحار والمفازات «3» ، وأهل المهن والصناعات، والمياسير والفقراء، والتجّار والأغنياء، والفواضل من النساء، وحرايرهنّ والإماء، وخواصّ الأحجار والحيوانات، وغريب الأدوية والعلاجات، والرقى «4» والنيرنجيّات «5» ، والأحاديث المفردات، وشاذّ الاتفاقات، وطريف المنامات، وشريف الحكايات، وغير ذلك من ضروب أحاديث أهل الخير والشرّ، والنفع والضرّ، وسكّان المدر والوبر «6» ، والبدو والحضر، شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وكان القوم الذين استكثرت منهم، وأخذت ذلك عنهم، يحكونه في أثناء «7» مذاكراتهم، وفي عرض مجاراتهم، وبعد انقضاء ملحهم «8» وآدابهم،(1/7)
والخوف من ملل يلحق السامعين لعلومهم وحكمهم، نفيا للمساكنة، واجترارا للمثافنة «1» ، وصلة للمجالسة، وفتحا للمؤانسة، وسبرا «2» لأحاديث الدنيا ماضيها وباقيها، وتواصفا لسير أهلها وما جرى فيها، وتمثيلا بين ما شاهدوه منها، وسمعوه عنها، [وعابوه من فعلها] «3» وعانوه من تقلّبها، وقاسوه من تصرّفها، وأخبروا به من عجائبها، ويوردون كل فنّ من تلك الفنون على حسب ما تقتضيه المحادثة، وتبتغيه المفاوضة، فأحفظ عنهم ذلك في الحال وأتمثّل به وأستفيده في أحوال.
فلمّا تطاولت السنون، ومات [أكثر أولئك] «4» المشيخة الذين كانوا مادّة هذا الفنّ، ولم يبق من نظرائهم إلّا اليسير الذي إن مات ولم يحفظ عنه ما يحكيه، مات بموته ما يرويه، ووجدت أخلاق ملوكنا [3 ب] ورؤسائنا لا تأتي من الفضل، بمثل ما تحتوي عليه تلك الأخبار من النّبل، فيستغنى بما يشاهد من نظيره، عن حفظ ما سلف وتحبيره، بل هي مضادّة لما تدلّ عليه تلك الحكايات من أخلاق المتقدّمين وضرائبهم، وطبائعهم ومذاهبهم، حتى إنّ من بقي من هؤلاء الشيوخ إذا ذكر ما يحفظه من هذا الجنس بحضرة أرباب الدولة، ورؤساء الوقت، خاصّة ما كان منه متعلّقا بالكرم، ودالا على حسن الشيم، ومتضمّنا ذكر وفور النعم، وكبر الهمم، وسعة الأنفس، وغضارة الزمان «5» ، ومكارم الأخلاق، كذّبوا به ودفعوه، وحصّلوه في أقسام الباطل واستبعدوه، ضعفا عن إتيان مثله، واستعظاما منهم لصغير ما وصلوا إليه، بالإضافة إلى كبير(1/8)
ما احتوى أولئك عليه، وقصورا عن [3 ط] أن تنتج خواطرهم أمثال تلك الفضائل والخصال، وأن تتسع صدورهم لفعل ما يقارب تلك المكارم والأفعال هذا مع أن في زمانهم هذا من العلماء المحتسبين «1» في التعليم، [والحكماء] «2» والأدباء المنتصبين للتأديب والتفهيم، وأهل الفضل والبراعة، في كلّ علم وأدب، وجدّ وهزل وصناعة، من يتقدّم بجودة الخاطر، وحسن الباطن والظاهر، وشدّة الحذق فيما يتعاطاه، والتبريز فيما يعانيه ويتولّاه، كثيرا ممن تقدّمه في الزمان، وسبقه بالمولد في ذلك الأوان، ويقتصر منهم على الأكرام دون الأموال، وقضاء الحاجات دون المغارم والأثقال، فما يرفعون به رأسا، ولا ينظرون إليه الّا اختلاسا، لفساد هذا العصر، وتباعد حكمه من ذلك الدهر، وإنّ موجبات الطبائع فيه متغيّرة متنقّلة، والسنن دارسة متبدّلة، والرغبة في التعلّم معدومة، والهمم باطلة مفقودة، والاشتغال من العامّة بالمعاش قاطع، ومن الرؤساء بلذّاتهم البهيميّة مانع «3» ، فنحن حاصلون فيما روي من الخبر إنّ الزمان لا يزداد إلّا صعوبة، ولا الناس إلّا شدّة، ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الخلق، وما أحسن ما أنشدني أبو الطيّب المتنبّي لنفسه من قصيدة، في وصف صورتنا:
أتى الزّمان بنوه في شبيبته ... فسرّهم وأتيناه على الهرم «4»(1/9)
واتّفق أيضا، أنّني حضرت المجالس بمدينة السلام، في سنة ستين وثلاثمائة، بعد غيبتي عنها [4 ب] سنين، فوجدتها مختلّة ممّن كانت به عامرة، وبمذاكرة آهلة ناظرة، ولقيت بقايا من نظراء أولئك الأشياخ، وجرت المذاكرة، فوجدت ما كان في حفظي من تلك الحكايات قديما قد قلّ، وما يجري من الأفواه في معناها قد اختلّ، حتى صار من يحكي كثيرا ممّا سمعناه يخلطه بما يحيله ويفسده، ورأيت كلّ حكاية ممّا أنسيته لو كان باقيا في حفظي لصلح لفنّ من المذاكرة، ونوع من نشوار المحاضرة «1» فأثبتّ ما بقي على ما كنت أحفظه قديما، واعتقدت إثبات كلّ ما أسمعه من هذا الجنس، وتلميعه بما يحثّ على قراءته من شعر لمتأخّر من المحدثين، أو مجيد من الكتّاب والمتأدّبين، أو كلام منثور لرجل من أهل العصر، أو رسالة أو كتاب بديع المعنى أو حسن النظم والنثر «2» ، ممّن لم يكن في الأيدي شعره ولا نثره، ولا تكرّر نسخ ديوانه، ولا تردّدت معاني إحسانه، وما فيه من مثل طريّ، أو حكمة جديدة، أو نادرة حديثة، أو فائدة قريبة المولد، ليعلم أنّ الزمان قد بقّى من القرائح والألباب، في ضروب العلوم(1/10)
والآداب، أكثر ممّا كان قديما أو مثله، ولكن تقبّل أرباب تلك الدول [4 ط] للأدب أظهره ونشره «1» ، وزهد هؤلاء الآن في هذا الأدب غمره وستره، ولهذه الحال ما انطمست المحاسن في هذه الدول، وردّت أخبار هؤلاء الملوك، وخلت التواريخ من عجائب ما يجري في هذا الوقت، لأنّ ذوي الفضل لا يفنون أعمارهم بتشييد مفاخر غيرهم، وإنفاق نتائج خواطرهم، مع بعدهم عن الفائدة، وخلوّهم من العائدة، وأكثر الملوك وذوي الأحوال، والرؤساء وأرباب الأموال، لا يجودون عليهم فيجيد هؤلاء لهم نسج الأشعار والخطب، وحوك الرسائل والكتب التي تبقى فيها المآثر، ما أقام الدهر الغابر، فقد بخل هؤلاء، وغفل هؤلاء، ورضي كلّ واحد من الفريقين بالتقصير فيما يجده، والنقص فيما يعتمده، وإلّا فقد خرج في أعمارنا وما قاربها من السنين، من مكنون أسرار العلم، وظهر من دقيق الخواطر والفهم، ما لعلّه كان معتاصا «2» على الماضين، وممتنعا على كثير من المتقدمين، وجرت في هذه المدّة من الحوادث الكبار، والوقائع العظام [والانقلابات العجيبة] «3» ، والاتّفاقات الغريبة، والحيل الدقيقة، والأمور المحكمة الوثيقة، التي لا يوجد مثلها سالفا. في أضعاف هذه السنين مضاعفا، ما لو قيّد بتأليف الكتب، وحفظ بتصنيف الأشعار فيه والخطب، أو خلّد على شرحه في تواريخ السنين والحقب، لأوفى على ما سلف، وتقدّم في علوّ الرتب.
وقد أثبتّ من هذا أيضا طرفا طفيفا، ونبذا موجزا [5 ب] خفيفا، لئلّا تخرج هذه الأخبار عن سبيلها، ولا تخلو مع ذلك من فنون لا توجد(1/11)
إلّا فيها، وليستفيد منها العاقل اللبيب، والفطن الأريب، إذا طرقت سمعه، وخالطت فهمه، من آداب النفس، ولطافة الذهن والحسّ، ما يغنيه عن مباشرة الأحوال، وتلقّي مثله من أفواه الرجال، ويحثّه على العلم «1» بالمعاش والمعاد، والمعرفة بعواقب الصلاح والفساد، وما تفضي إليه أواخر الأمور، ويساس به كافة الجمهور، ويجنّبه من المكاره حتى لا يتوغل في أمثالها، ولا يتورّط بنظائرها وأشكالها، ولا يحتاج معها إلى إنفاد «2» عمره في التجارب، وانتظار ما تكشفه له السنون من العواقب.
فأوردت ما كتبته ممّا كان في حفظي سالفا، مختلطا بما سمعته آنفا، من غير أن أجعله أبوابا مبوّبة، ولا أصنّفه أنواعا مرتّبة، لأن فيها أخبارا تصلح أن يذاكر بكلّ واحد منها في عدّة معاني «3» وأكثرها ما لو شغلت نفسي فيه، بالنظم والتأليف، والتصنيف والترتيب، لبرد واستثقل، وكان إذا وقف قارئه على خبر من أوّل كلّ باب فيه، علم أن مثله باقيه، فقلّ لقراءة جميعه ارتياحه ونشاطه، وضاق فيه توسّعه وانبساطه، ولكان ذلك أيضا يفسد ما في أثنائه من الفصول والأشعار، والرسائل والأمثال، والفصول التي إن رتّبت على الأبواب وجب أن توصل بما تقدّم من أشباهها، وتردّد في الكتب من أمثالها، فينتقض ما شرطناه، ويبطل [5 ط] ما ذكرناه، من أنّ هذه الأخبار جنس لم يسبق إلى كتبه «4» ، وأنا إنّما تلقّطتها من الأفواه دون الأوراق، ويخرج بذلك عن القصد والمراد، والغرض(1/12)
المطلوب في الاستقامة والسداد، إذ ليست الفائدة فيها التنويع، ولا المغزى التأليف، بل لعلّ كثيرا ممّا فيها لا نظير له ولا شكل، وهو وحده جنس وأصل، واختلاطها أطيب في الآذان وأدخل، وأخفّ على القلوب والأذهان وأوصل.
وعلى أنّي وإن كنت أتجنّب بجهدي أن أثبت فيها شيئا قد كتب قبلي، أو تنبّه على الفائدة في إثباته سواي، إلّا الشعر فإنّه غير داخل في هذا الأمر، فإنّي في الأوّل ربما كتبت شيئا أعلم أنّه موجود في الدفاتر عقيب شيء يوجبه ويدعو إليه، ولأجل فائدة تحبّبه وتحضّ عليه «1» ، واعتمادا لترصيع هذه الأخبار، بما يحبّبها إلى أكثر طلّاب الآثار، وقد جعلت كلّ واحد من أجزائها، وهو مائة ورقة، واحدة «2» قائما بنفسه، مستغنيا عن الباقي من جنسه، لا يخلّ بفائدة لقارئه دون غيره [6 ب] ، ولا يضطرّه إلى سواه مع حضوره، وإن كان في غيره ضروب أخر من الفوائد لا تعلم إلّا منه، وصدّرت كلّ جزء برسالة تدلّ على جنس الأخبار الموردة في جميع الأجزاء، والغرض منها، والسبب الباعث على جمعها، مختصرة لهذا الشرح الطويل، وموجزة في جملة هذا الكلام الكثير، وأوردت في كلّ خبر ما اتّفق إيراده مختلطا بما ربّما كان في الأجزاء الأخر ما هو في معناه داخل، ومن نوعه وفنّه حاصل، وممّا ليس فيها أخ له على حسب ما سنح وتيسّر، واتّفق ولم يتعذّر.
وأرجو أن لا يبور ما جمعته، ولا يضيع ما تعبت فيه وكتبته، وأثبتّه(1/13)
من ذلك وصنعته، فلو لم يكن فيه، إلّا أنّه خير من أن يكون موضعه بياضا، لكانت فائدة إن شاء الله تعالى.
وإيّاه أسأل التوفيق في المقال، والتسديد في جميع الأفعال، والعصمة من الزلل، والحفظ من الخطإ والوهل «1» ، إنّه بذلك وليّ، وبالمرجوّ فيه منه مليّ، وهو حسبي، وإليه في كلّ أمر مرجعي، وعليه توكّلي، ولا حول لي ولا قوّة إلّا به، إنّه نعم المولى والوكيل.(1/14)
1 لماذا لا يكذبون على الوزير أعزّه الله
حدّثني أبو العبّاس هبة الله بن محمد بن يوسف، المعروف بابن المنجّم النديم، وهو أحد بني يحيى بن أبي منصور المنجّم «1» ، صاحب المأمون، ومحلّ أهله وسلفه وبيته في منادمة الخلفاء والوزراء والأمراء مشهور، وموضعهم من الكلام والنجوم والعلم والأدب وقول الشعر وتصنيف الكتب في أنواع ذلك معروف، ومكانهم من المنزلة في خدمة السلطان وعظم النعمة والحال متعالم، ومحلّ أبي العبّاس في نفسه أشهر من أن يجهل في العلم والأدب وقول الشعر والمعرفة بالجدل والفقه، وغير ذلك مما يقوم به، وقد نادم أبا محمد المهلّبي «2» رحمه الله، واختصّ به ونفق عليه [6 ط] سنين كثيرة، ومن بعده من الوزراء، وغيرهم من الرؤساء، وهو أحد بقايا [رجال] «3» أهل بيته، قال:(1/15)
كنت بحضرة أبي مخلد عبد الله بن يحيى الطبريّ صاحب معز الدولة «1» فجرى ذكر الكرم والكرام، والجود والأجواد، وما كانت البرامكة وغيرها تأتيه من الأفضال على الناس، فأخذ أبو مخلد يدفع هذا ويبطله، حتى قال:
هذه حيل نصبها الشحّاذون على دراهم الناس، لا أصل لها.
فقلت له: أيها الشيخ إن قلت ذلك، فقد قال صاعد «2» مثله، فأجيب.
فقال: ما قال؟
فقلت له: حكي له جود البرامكة، فقال: هذا من موضوعات الورّاقين وكذبهم، وكان أبو العيناء «3» حاضرا، فقال له: فلم لا يكذب على الوزير أعزّه الله [مثل هذا] «4» وهو [حيّ] «5» يرجى ويخاف، وأولئك موتى مأيوس من خيرهم وشرّهم مثل هذا الكذب؟
قال: فخجل أبو مخلد.(1/16)
2 الوزير ابن الزيات يذكر البرامكة وهو في التنور
وفي معنى هذا [7 ب] ما أذكره، وإن كان موجودا في الكتب، ولكنّه على سبيل الاستعادة، وهو حسن.
حدّثني أبو محمد يحيى بن محمد الأزديّ، قال: بلغني أنّ ابن الزيّات «1» لمّا حصل «2» في التنّور قال له بعض خدمه: لهذا وشبهه كنّا نشير عليك بفعل الإحسان، وتقليد رقاب الرجال بالامتنان، واتّخاذ الصنائع في حال القدرة لتجازى بها الآن عند الحاجة.
فقال: لو كنت فعلت هذا، ما حصلت منه على طائل، لما في نفوس الناس من ضعف الإخاء، وكثرة الغدر، وقلّة الوفاء، وتراني كنت أفعل أكثر من أفعال البرامكة؟ ما نفعهم لمّا حصلوا في مثل حالي من إسلام الزمان وجور السلطان؟
فقال له الخادم: لو لم ينفعهم إلّا ذكرك لهم في مثل هذه الحال التي أنت فيها لكان ذلك أكبر نفع.(1/17)
3 أبو الشبل يقارن في الكرم بين البرامكة وبين عبيد الله بن يحيى بن خاقان
وحدّثني أبو الفرج عليّ بن الحسين [بن محمد المعروف] «1» بالأصبهانيّ الكاتب «2» ، قال: حدّثني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أبو الشبل عاصم بن وهب البرجميّ، قال:
حضرت مجلس عبيد الله بن يحيى بن خاقان «3» ، وكان إليّ محسنا، وعليّ مفضلا، فجرى ذكر البرامكة «4» ، ووصف الناس لهم بالجود، وما قالوا(1/18)
في كرمهم وجوائزهم، فأكثروا.
فقمت في وسط المجلس، وقلت: أيّها الوزير، قد حكمت في هذا الخطب حكما نظمته في بيتي شعر، لا يقدر أحد أن يردّه عليّ، وإنّما جعلته شعرا ليبقى ويدور، أفيأذن الوزير في إنشادهما؟
فقال: قل، فربّ صواب قلت «1» ، فقلت:
رأيت عبيد الله أندى أناملا ... وأكرم من فضل ويحيى وخالد «2»
ورواه لنا مرّة أخرى فقال فيه:
[رأيت عبيد الله] «3» أفضل سؤددا ... وأكرم من فضل ويحيى وخالد «4»
أولئك جادوا والزمان مساعد ... وقد جاد ذا والدهر غير مساعد «5»(1/19)
4 الحسن المنجم عامل معزّ الدولة على الأهواز وحبّه للعمارة
حضرت مجلس الحسن بن عليّ بن زيد المنجّم، غلام أبي نافع، وهو إذ ذاك عامل معزّ الدولة رحمه الله على الأهواز وقطعة من كورها، ومحلّه عنده كمحلّ [7 ط] وزرائه، وكان قد خدم أبي رحمه الله قديما، بعد مفارقته خدمة القاسم بن دينار عامل الأهواز «1» ، وتوكّل له في داره وضيعته، وخلفه على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز، ثمّ خلطه بخدمة أبي عبد الله البريديّ «2» ، فعلت منزلته «3» ، ثم بلغت به الحال ما ذكرته، فكنت(1/20)
إذا جئته، وهو إذ ذاك على غاية الجلالة، وأنا في حد الأحداث، اختصّني.
وكان يعجبه أن يقرّظ في وجههه، فأفاض قوم في مدحه، وذكر عمارته للوقوف، والسقايات، وإدراره الماء في ذنابة المسرقان «1» وتفريقه مال الصدقات على أهلها، وذنّبت معهم في ذلك.
فقال لي هو: يا بنيّ، أرباب هذه الدولة إذا حدّثوا عنّي بهذا وشبهه، قالوا: المنجّم إنّما يفعل هذا رياء، وما أفعله إلّا لله تعالى، وإن كان رياء فهو حسن أيضا، فلم لا يراؤون هم [8 ب] بمثل هذا الرياء؟ ولكنّ الطباع خسّت «2» ، حتى في الحسد أيضا، كان الناس قديما إذا حسدوا رجلا على يساره، حرصوا على كسب المال حتى يصيروا مثله، وإذا حسدوه على علمه، تعلّموا حتى يضاهوه، وإذا حسدوه على جوده، بذلوا حتى يقال إنّهم أكرم منه، وإذا ... وعدّد أشياء كثيرة، فالآن لما ضعفت الطبائع، وصغرت النفوس، وعجزوا أن يجعلوا أنفسهم مثل من حسدوه، في المعنى الذي حسدوه عليه، عدلوا إلى تنقّص المبرّز، فإن كان فقيرا شنّعوا «3» على فقره، وإن كان عالما خطّأوه، وإن كان جوادا قالوا هذا متاجر بجوده وبخّلوه، وإن كان فعّالا للخير، قالوا هذا مراء.(1/21)
5 الوزير حامد بن العباس يرى قشر باقلاء في دهليز داره
حدّثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشميّ [رحمه الله] «1» ، قال:
كان حامد بن العبّاس «2» من أوسع من رأيناه نفسا، وأحسنهم مروءة، وأكثرهم نعمة، وأشدّهم سخاء، وتفقّدا لمروءته.
وكان ينصب في داره كلّ يوم عدّة موائد، ولا يخرج من الدار أحد من الجلّة والعامّة والحاشية وغيرهم إذا حضر الطعام، أو يأكل، حتى غلمان الناس، فربما نصب في داره في يوم واحد أربعين مائدة.
وكان يجري على كل من يجرى عليه الخبز لحما، وكانت جراياته كلّها الحوّارى «3» .
فدخل يوما إلى دهليز داره «4» ، فرأى فيها قشر باقلاة، فأحضر وكيله، وقال: ويلك يؤكل في داري الباقلا «5» ؟(1/22)
قال: هذا من فعل البوّابين.
قال: أو ليست لهم جرايات لحم؟
قال: بلى.
قال: فسلهم عن السبب، فسألهم، فقالوا: لا نتهنّأ بأكل اللحم دون عيالنا، فنحن ننفذه إليهم لنأكله معهم ليلا، ونجوع بالغدوات فنأكل الباقلّا، فأمر حامد أن يجرى عليهم جراية لعيالاتهم، تحمل إلى منازلهم، وأن يأكلوا جراياتهم في الدهليز، ففعل ذلك.
فلمّا كان بعد أيّام، رأى قشر باقلّاة في الدهليز أيضا، فاستشاط، وكان حديدا، سفيه اللسان، فشتم وكيله، وقال: ألم أضعف الجرايات، فلم في دهليزي قشور الباقلّا؟
فقال: إنّ الجرايات لمّا تضاعفت [8 ط] ، جعلوا الأوّلة «1» لعيالاتهم في كلّ يوم، وصاروا يجمعون الثانية عند القصّاب، فإذا خرجوا من النوبة ومضوا نهارا إلى منازلهم، في نوبة «2» استراجاتهم فيها، أخذوا ذلك مجتمعا من القصّاب فتوسّعوا به.
فقال: فلتكن الجرايات بحالها، ولتتّخذ «3» مائدة في كلّ يوم، تنصب غدوة قبل نصب موائدنا، يطعم عليها هؤلاء، ووالله، لئن وجدت بعدها في دهليزي قشر باقلّاة، لأضربنّك وجميعهم بالمقارع.
ففعل ذلك، وكان ما زاد من نفقة الأموال، أمرا عظيما.(1/23)
6 الوزير حامد بن العباس يخبىء أربعمائة ألف دينار في بئر مستراح
حدّثني القاضي أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن الحارث «1» [9 ب] ابن عيّاش «2» الجوهريّ البغداديّ، وأبو الحسن بن المأمون الهاشميّ:
أنّه وجد لحامد في نكبته التي قتل فيها، في بئر لمستراح له، أربعمائة ألف دينار عينا، دلّ عليها لمّا اشتدّت به المطالبة.
وأخبرني غيرهما: أنّ حامدا كان عمل حجرة، وجعل فيها مستراحا، وكان يتقدّم إلى وكيله أن يبتاع له الدنانير، ويجيء بها، فكلّما حصل له كيس، أخذه تحت ثيابه، وقام كأنّه يبول، فدخل ذلك المستراح، فألقى الكيس في البئر، وخرج من غير أن يصبّ فيها ماء ولا يبول، ويوهم الفرّاش أنّه فعل ذلك، فإذا خرج أقفل المستراح، ولم يدخله غيره، على رسم مستراحات السراة التي يختصّونها، وإذا أراد الدخول، فتحه له الخادم الموسوم بالوضوء، وذلك الخادم أيضا لا يعلم السرّ في ذلك، فلمّا تكامل ذلك المال، قال: هذا المستراح ضيّق البناء، قبيح، فسدّوه لأغيّره، فسدّ البئر، وعطّل المستراح، فحصل «3» ذلك المال مصونا في الموضع، لا يعرف خبره غيره.
فلما اشتدّت به المطالبة، دلّ عليه، فأخرج وما ذهب منه شيء، ولا عرف خبره إلّا من جهته.(1/24)
7 مصادرة التاجر ابن الجصاص في زمن المقتدر زادت على ستّة ملايين دينار
وحدّثني أبو الحسين بن عيّاش: أنّه سمع جماعة من ثقات الكتّاب يقولون: إنّهم حصّلوا ما ارتفعت به مصادرة أبي عبد الله بن الجصّاص «1» في أيّام المقتدر، فكانت ستّة آلاف ألف دينار، سوى ما قبض من داره، وبعد الذي بقي له من ظاهره.(1/25)
8 ابن الجصاص التاجر يبقى له من بعد المصادرة مليون دينار
سمعت الأمير أبا محمد، جعفر بن ورقاء، بن محمد بن ورقاء الشيبانيّ «1» ، يحدّث في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، قال:
اجتزت بابن الجصّاص، بعد إطلاقه إلى داره من المصادرة بأيّام، وكانت بيننا مودّة ومصاهرة، فرأيته على روشن داره، على دجلة، في وقت حار، من يوم شديد الحرّ، وهو حاف حاسر، يعدو من أوّل الروسن إلى آخره، [كالمجنون] «2» .
فطرحت طيّاري «3» إليه، وصعدت بغير إذن، فلما رآني استحيا، وعدا إلى مجلس له.
فقلت له: ويحك ما لك، ما الذي قد أصابك؟.(1/26)
فدعا بطست وماء، فغسل وجهه ورجليه، ووقع ساعة كالمغشيّ عليه، ثم قال: أولا يحقّ لي أن يذهب عقلي، وقد خرج من يدي كذا، وأخذ منّي كذا، وجعل يعدّد أمرا عظيما ممّا خرج منه، فمتى أطمع في خلفه، ولم لا يذهب عقلي أسفا عليه؟ [9 ط] فقلت له: يا هذا إنّ نهايات الأموال غير مدركة، وإنّما يجب أن تعلم أنّ النفوس لا عوض لها، والعقول والأديان، فما سلم لك ذلك، فالفضل معك، وإنّما يقلق هذا القلق، من يخاف الفقر، والحاجة إلى الناس، أو فقد العادة في مأكول ومشروب وملبوس، وما جرى مجرى ذلك، أو النقصان في جاه، فاصبر، حتى أواقفك «1» أنّه ليس ببغداد اليوم، بعد ما خرج منك، أيسر منك من أصحاب [10 ب] الطيالس.
فقال: هات.
فقلت: أليس دارك هذه، هي التي كانت قبل مصادرتك، ولك فيها من الفرش والأثاث ما فيه جمال لك، وإن لم تكن في ذلك الكبر المفرط؟
فقال: بلى فقلت: وقد بقي لك عقارك بالكرخ، وقيمته خمسون ألف دينار.
فقال: بلى.
[فقلت: ودار الحرير وقيمتها عشرة آلاف دينار.
قال: بلى] «2» .
فقلت: وعقارك بباب الطاق، وقيمته ثلاثون ألف دينار.(1/27)
فقال: بلى.
فقلت: وبستانك الفلانيّ، وضيعتك الفلانيّة، وقيمتهما كذا وكذا.
فقال: بلى.
فقلت: وما لك بالبصرة وقيمته مائة ألف دينار.
فقال: بلى.
فجعلت أعدّد عليه، من عقاراته، وضياعه، إلى أن بلغت القيمة سبعمائة ألف دينار.
فقلت: وأصدقني عمّا سلم لك من الجوهر والأثاث والقماش والطيب والجواري والعبيد والدوابّ، وعن قيمة ذلك، وقيمة دارك؟
فأخذ يصدقني، ويقوّم، وأحصي، إلى أن بلغت القيمة لذلك، ثلاثمائة ألف دينار.
فقلت له: يا هذا، من ببغداد اليوم من يحتوي ملكه على ألف ألف دينار؟ وجاهك عند الناس الجاه الأوّل، وهم يظنون أنّ الذي بقي لك ضعف هذا «1» ، فلم تغتمّ؟
قال: فسجد لله، وحمده، وبكى، ثم قال: والله، لقد غلب الفكر عليّ حتى نسيت جميع هذا أنّه لي، وقلّ في عيني، لإضافتي إياه إلى ما أخذ منّي، ولو لم تجئني الساعة، لزاد الفكر عليّ حتى يبطل عقلي، ولكنّ الله تعالى أنقذني بك، وما عزّاني أحد، بأنفع من تعزيتك، وما أكلت منذ ثلاث شيئا، فأحبّ أن تقيم عندي، لنأكل ونتحدّث ونتفرّج.
فقلت: أفعل، فأقمت يومي عنده وأكلنا، وتحدّثنا بقيّة يومنا.(1/28)
9 حكاية تدل على دهاء التاجر أبي عبد الله بن الجصّاص
وكنت أنا، اجتمعت ببغداد، في سنة [نيّف و] «1» خمسين وثلاثمائة، مع أبي عليّ بن أبي عبد الله بن الجصّاص «2» ، فرأيت شيخا طيّبا، حسن المحاضرة، فسألته عن الحكايات التي تنسب إلى أبيه، مثل قوله خلف إمام قد قرأ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
، فقال: إي لعمري، بدلا من آمين «3» .
ومثل قوله للخاقانيّ الوزير: أسهرني البارحة صوت كلاب في الحارة «4» على بابي، كلّ كلب مثلي ومثل الوزير.
وقوله له، وأراد تقبيل رأسه، فقال: إنّ فيه دهنا فلا تفعل، فقال:
لو كان في رأس الوزير خرا لقبّلته «5» .
ومثل قوله: قمت البارحة في الظلمة إلى الخلاء فما زلت اتلحّظ المقعدة حتى وقعت [10 ط] عليها «6» .(1/29)
ومثل قوله وقد وصف مصحفا بالعتق، فقال: هو كسرويّ «1» ، وأمثال هذا على كثرته عنه، وتواتر الرواية له.
فقال لي: أمّا أمر المقعدة، وإي لعمري، وما كان من هذا الجنس، فكذب، وما كانت فيه سلامة «2» تخرجه [11 ب] إلى هذا، وما كان إلّا من أدهى الناس وأخبثهم «3» ، ولكنّه كان يطلق بحضرة الوزراء قريبا ممّا حكي عنه، بسلاسة طبع «4» كانت فيه، ولأنّه كان يحبّ أن يصوّر نفسه عندهم بصورة الأبله، ليأمنه الوزراء، لكثرة خلواته بالخلفاء، فيسلم عليهم، وأنا أحدّثك عنه بحديث حدّثنا به، لتعلم معه إنّه كان في غاية الحزم، وإنّ فاعله لا يجوز عليه مثل ما حكي عنه.
فقلت: أحبّ أن تفعل.
قال: حدّثنا أبي قال: إنّ أبا الحسن بن الفرات «5» ، لما ولي بعض(1/30)
وزاراته قصدني قصدا قبيحا، لشيء كان في نفسه عليّ، فأنفذ العمّال إلى ضياعي، وأمر بنقض معاملاتي، وبسط لسانه بثلبي وتنقّصي في مجالسه، وأدام الغضّ منّي إذا دخلت إليه.
فوسّطت بيني وبينه جماعة، وبذلت له أشياء توجب صلاح ما بيننا، فما نجعت، وأقام على قصدي، وأنا محتمل، طامع في رجوعه «1» .
فدخلت يوما داره، فسمعت حاجبه يقول وقد وليّت عنه: أيّ بيت مال يمشي على وجه الأرض؟ ألفا ألف دينار تمشي وليس لها من يأخذها؟
فعلمت أنّ هذا من كلام صاحبه، وأنّي منكوب، وكان عندي في ذلك الوقت سبعة آلاف ألف دينار، عينا وجوهرا، سوى غيرهما ممّا يحتوي عليه ملكي.
فضاقت عليّ الدنيا، وسهرت ليلتي بأسرها أفكّر في أمري معه، فوقع لي الرأي في الثلث الأخير، فركبت في الحال إلى داره، فوجدت الأبواب مغلقة، فطرقتها.
فقال البوّابون: من هذا؟
فقلت: ابن الجصّاص.
فقالوا: ليس هذا وقت وصول، والوزير نائم.
فقلت: عرّفوا الحجّاب أنّي حضرت لمهمّ، فعرّفوهم، فخرج إليّ أحدهم، فقال: إنّه إلى ساعة ينتبه، فتجلس وتنتظر.
فقلت: الأمر أهمّ من ذلك، فأنبهه وعرّفه عنّي هذا.(1/31)
فدخل، فأبطأ ساعة، ثم خرج، فأدخلني من دار إلى أخرى، حتى انتهيت إلى مرقده، وهو على سرير وحواليه نحو خمسين فراشا لغلمان له، كأنّهم حفظة، وقد قاموا، وبعض الفرش تنقل، وهو جالس في فراشه، مرتاعا، قد ظنّ أنّ حادثة حدثت، أو أنّي جئته برسالة الخليفة، وهو متوقّع لما أورده.
فرفعني، وقال: ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟
فقلت: خير، ما حدثت حادثة، ولا معي رسالة، وما جئت إلّا في أمر يخصّ الوزير ويخصّني، لم تصلح مفاوضته فيه إلّا على خلوة شديدة.
فسكن، ثم قال لمن حوله: انصرفوا، فمضوا.
وقال: هات.
فقلت: أيّها الوزير إنّك قد قصدتني أقبح قصد، وشرعت في هلاكي، وإزالة نعمتي، وفي إزالتها خروج نفسي، وليس من النعمة والنفس عوض، ولعمري انّي قد أسأت في خدمتك، وقد كان في بعض هذا التقويم بلاغ [12 ب] عندي، وقد جهدت في استصلاحك بكلّ ما قدرت عليه، ووسّطت [11 ط] بيني وبينك فلانا، وبذلت كذا، وقلت «1» كذا، فأبيت إلّا الإقامة على أذاي، وليس شيء أضعف من السنّور، وإذا عاثت في دكّان بقّال، فظفر بها، ولزّها إلى الزاوية ليخنقها، وثبت عليه، فخدشت وجهه وبدنه، ومزّقت ثيابه، وطلبت الحياة بكلّ ما يمكنها، وقد وجدت نفسي معك في مثل هذه الصورة، ولست أضعف بطشا من السنّور، وقد جعلت هذا الكلام عذرا بيننا، فإن نزلت تحت حكمي في الصلح، وإلّا فعليّ وعليّ، وحلفت له بأيمان غليظة، لأقصدنّ الخليفة الساعة،(1/32)
ولأحوّلنّ إليه من خزانتي ألفي ألف دينار عينا وورقا «1» ، ولا أصبح إلّا وهي عنده، وأنت تعلم قدرتي عليها، وأقول له: خذ هذا المال، وسلّم ابن الفرات إلى فلان، واستوزره، وأذكر له أقرب من يقع في نفسي أنّه يجيب إلى تقليده، ممّن له وجه مقبول، ولسان عذب، وخطّ حسن، [ومخرقة حادّة] «2» ، ولا أعتمد إلّا بعض كتّابك، فإنّه لا يفرّق بينك وبينهم إذا رأى المال حاضرا، فيسلمك في الحال لهم، ويراني المتقلّد بعين من أخذه وهو صغير، فجعله وزيرا، وغرم عنه هذا المال الكثير، ويعتقد أنّي ربّه، ووليّ نعمته، فيخدمني، ويتدبّر بتدبيري، في جميع أمره، فأسلمك إليه، فيفرغ عليك العذاب، حتى يأخذ منك الألفي ألف دينار بأسرها، وأنت تعلم أنّ حالك تفي بها، ولكنّك تفتقر بعدها، ويرجع إليّ المال، ولا يذهب عليّ منه دانق، وأكون قد أهلكت عدوّي، وشفيت غيظي، واسترجعت مالي، وصنت نعمتي، وازداد محلّي عظما بصرف وزير، وتقليد وزير.
فلمّا سمع هذا أسقط في يده «3» ، وقال: يا عدوّ الله أو تستحلّ هذا؟
فقلت: لست عدوّ الله، بل عدوّ الله من استحلّ منّي ما أحوجني إلى الفكر في مثل هذا، ولم لا أستحلّ مكروه من يريد هلاكي وزوال نعمتي؟
فقال: أو أيش؟.
قلت: أو أن تحلف الساعة بما أستحلفك به من الأيمان المغلظة، أنّك تكون لي لا عليّ، في صغير أمري وكبيره، ولا تنقض لي رسما، ولا تغيّر(1/33)
معاملة، ولا تضع منّي، وتزيد في رفعتي، وذكري بالجميل، ولا تبغي لي الغوائل، ولا تدسّس عليّ المكاره، ولا تشرع لي في سوء ولا نكبة أبدا، ظاهرا ولا باطنا، وتفعل ... وتفعل ... ، فاشترطت عليه الأمن من كلّ ما كنت أخافه منه.
فقال: وتحلف أنت أيضا بمثل هذه اليمين على جميل النيّة، وحسن الطاعة، والمؤازرة.
فقلت: أفعل.
فقال: لعنك الله فما أنت إلّا إبليس، سحرتني والله.
واستدعى دواة، وعملنا [13 ب] نسخة اليمين، فأحلفته بها أوّلا، ثم حلفت له.
فلما أردت القيام، قال: يا أبا عبد الله لقد عظمت في نفسي وخففّت ثقلا عنّي، فو الله ما كان المقتدر «1» يفرّق بيني مع كفايتي وغنائي وموقعي، وبين أخسّ كتّابي- كما ذكرت- مع المال الحاضر، فليكن ما جرى مطويّا.
فقلت: سبحان الله.(1/34)
فقال: وإذا كان غدا، فصر إلى المجلس [العامّيّ] «1» لترى ما أعاملك به.
فنهضت، فقال: يا غلمان، بأسركم بين يدي أبي عبد الله، فخرج بين يديّ مائتا غلام، فعدت إلى داري وما طلع الفجر، فاسترحت [12 ط] .
وجئته في وقت المجلس، فرفعني فوق جميع من كان بحضرته، وقرّظني التقريظ التام، وعاملني بما علم منه الحاضرون، رجوعه لي، وأمر بإنشاء الكتب إلى عمّال النواحي، بإعزاز وكلائي، وصيانة أسبابي وضياعي وتقدّم إلى كتّاب الدواوين بإخراج كل ما كانوا أدخلوه إليها من تغيير رسومي، والزيادة عليّ، وأن أجرى على الرسوم القديمة.
فشكرته، وقمت، فقال: يا غلمان بين يديه، فخرج الحجّاب يجرّون سيوفهم بين يديّ، والناس يشاهدون ذلك، ويعجبون منه، وقد رجع جاهي، ولم يعلم أحد سبب صلاح ما بيننا، فما حدّثت بذلك إلّا بعد القبض عليه.
ثم قال لي أبو عليّ ابنه: فهل كان هذا فعل ورأي من يليق به ما حكي من تلك الحكايات عنه؟
فقلت لا.(1/35)
10 حكاية تدل على ذكاء التاجر أبي عبد الله بن الجصّاص
حدّثني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن بكر بن داسة، قال: حدّثني بعض شيوخنا قال:
كنّا بحضرة أبي عمر القاضي «1» ، فجرى ذكر ابن الجصّاص وغفلته، فقال أبو عمر: معاذ الله ما هو كذلك، ولقد كنت عنده منذ أيّام مسلّما، وفي صحنه سرادق «2» مضروب، فجلسنا بالقرب منه نتحدّث، فإذا بصرير نعل من خلف السرادق فصاح: يا غلام جئني بمن مشت خلف السرادق الساعة، فأخرجت إليه جارية سوداء.
فقال: ما كنت تعملين هاهنا؟
قالت: جئت إلى الخادم أعرّفه أنّي قد فرغت من الطبيخ، وأستأذن في تقديمه. فقال: انصرفي لشأنك.
فعلمت أنّه أراد أن يعرّفني أنّ ذلك الوطء وطء سوداء مبتذلة، وأنّها ليست من حرمه ولا ممّن يصونه، فيزيل عنّي أن أظنّ به مثل ذلك في حرمه، فكيف يكون هذا مغفّلا؟(1/36)
11 مروءة التاجر ابن الجصاص واتّساع حاله
حدّثني أبو العبّاس هبة الله بن المنجّم، أنّ جدّه حدّثه:
أنّه لما قبض المقتدر على ابن الجصّاص، أنفذ إلى داره من يحصي ما فيها ويحمله.
فقال لي الذي كتب الإحصاء: إنّا وجدنا له في جملة قماشه سبعمائة مزمّلة «1» خيازر «2» ، فما ظنّك بمروءة وقماش يكون هذا في جملته؟(1/37)
12 ثلاثون جاما في تركة يأنس الموفقي ثمنها ثلاثة ملايين دينار
كنت بحضرة الوزير أبي محمّد الحسن بن محمّد بن هارون المهلّبي «1» رحمه الله ببغداد وقد دخل إليه أبو إسحق القراريطي «2» بعد وروده [14 ب] من مصر، وأبو القاسم الجهنيّ «3» حاضر.(1/38)
فقال له: يا سيّدي تسل أبا إسحق عن الحكاية التي كنت حكيتها لك في أمر الجامات البجاذيّ «1» ؟ فإنّي كنت ذكرت لك أنّه كان حاضرا لأمرها [وما علمت أنّه قدم من مصر فأواطئه] «2» .
فقال له أبو محمد: ما بك إلى هذا حاجة.
فقال: بلى يا سيّدي، ثم التفت إلى القراريطيّ، فقال: إنّي حكيت لسيّدنا الوزير أنّ المقتدر أنفذني أيّام تقلّدي له المواريث لقبض تركة فلان، فذكر أميرا جليلا، قد أنسيت اسمه على الحقيقة، وأظنّه قال: يأنس «3» الموفّقي، وأنفذك مستظهرا بك لتحصي التركة، وإنّها كانت هائلة عظيمة، وإنّا وجدنا فيها ثلاثين جامة بجاذيّ، كلّ جامة فتحها شبر وكسر، في غلف من لبّ الخيازر، مبطّنة بالحرير والديباج، مضرّبة بالنبات، محلّاة بالذهب، فأثبتناها، وحملناها إلى المقتدر، فهاله حسنها، وأحضر ابن الجصّاص، وأمره بتقويمها، فقال: ما أعرف لها قيمة، ولا رأيت مثلها قط، ولولا أنّي شاهدتها [13 ط] ، لكذّبت بوجود مثلها، ولو قلت إنّ قيمة كل واحدة مائة «4» ألف دينار، ما خشيت البعد.
وإنّي لمّا حدّثت سيّدنا الوزير أيّده الله، بهذا الحديث، كذّبني(1/39)
جماعة من ندمائه، وكنت أنت يا سيّدي بمصر، فإن رأيت أن تقيم الآن لي الشهادة.
فقال القراريطيّ: قد صدق- أيّد الله الوزير- أبو القاسم، أنا رأيت هذه الجامات، وقبضتها للمقتدر من هذه التركة وسمعت ابن الجصّاص يقول هذا، وقد نسي أبو القاسم شيئا جرى «1» لم يذكره.
فقال أبو محمد: ما هو؟
فقال: سألنا خازن الرجل عن هذه الجامات وسببها، فقال: لا أعلم من أين وصلت إليه، ولكن كان عنده منها، ثمانون جامة، فأهدى إلى جماعة من الملوك منها وبقي هذه البقيّة.
فاستطرف أبو محمّد المهلّبي الحكاية واستحسنها.(1/40)
13 مروءة الوزير حامد بن العباس ومكارم أخلاقه
حدّثني أبو العبّاس هبة الله بن محمد بن يوسف بن يحيى بن عليّ بن يحيى ابن أبي منصور المنجّم، قال: حدّثني جدّي، قال:
وقفت امرأة لحامد بن العبّاس على الطريق، فشكت إليه الفقر، وطلبت منه البرّ، ورفعت إليه قصّة «1» كانت معها، فلمّا جلس، وقّع لها بمائتي دينار.
فأنكر الجهبذ «2» دفع هذا القدر إلى مثلها، فراجعه. فقال حامد:
والله ما كان في نفسي أن أهب لها إلّا مائتي درهم، ولكنّ الله أجرى لها على يدي مائتي دينار، فلا أرجع في ذلك، أعطها، فدفع إليها.
فلما كان بعد أيّام رفع إليه رجل قصّة يذكر فيها: إنّ امرأتي وإيّاي كنّا فقيرين، فرفعت امرأتي قصّة إلى الوزير، فوهب لها مائتي دينار، فاستطالت بها عليّ، وتريد الآن إعناتي لأطلّقها، فإن رأى الوزير أن يوقّع لي إلى من يكفّها عنّي، فعل.
قال: فضحك حامد، ووقّع له بمائتي دينار، وقال: أعطوه [15 ب] إيّاها، وقولوا له: قد صار الآن مالك مثل مالها، فهي لا تطالبك بالطلاق.
فقبضها الرجل وانصرف غنيّا.(1/41)
14 الوزير علي بن عيسى وصاحب ديوان السواد
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول «1» الأنباريّ التنوخيّ المعروف والده بأبي بكر الأزرق، قال:
كان أبو عيسى أخو أبي صخرة «2» جارنا ببغداد، وكان عظيم الحال، كثير المال، تامّ الجاه، شيخا من شيوخ الكتّاب، قد تقلّد كبار الأعمال، وخلف إسماعيل بن بلبل «3» قديما على الوزارة، فلما ولي محمد بن عبيد الله الخاقاني «4» [الوزارة] «5» قلّده ديوان السواد، فلما صرف بأبي الحسن عليّ(1/42)
ابن عيسى»
وورد أبو الحسن من اليمن والشام، لمّا كان نفي إليه عقيب قصّة ابن المعتز، وتقلّد الوزارة، لم يره أهلا لديوان السواد، ولأنّ صنعته لم تكن بالتامّة التي تفي بهذا الديوان، ولم يمكنه صرفه لمكانة كانت له في الدار «2» ، فكان يقصده بالغضّ في المجالس، ولا يرفعه الرفعة التي يستحقّها صاحب ديوان السواد، [وإذا أراد عملا من الديوان أو خراجا أو حسابا وقّع إلى كتّاب الديوان، واستدعاهم، وخاطبهم وهو حاضر، لا يكلّمه في ذلك، فيغضّ منه بهذا، الغضّ الشديد] «3» ، فإذا أراد عملا يعلم أنّ صناعة أبي عيسى لا تفي به وأنّه لا يمكنه الكلام عليه، خاطبه فيه على رؤوس الأشهاد، ليبين نقصه ويفتضح،، وإذا أراد مهمّا أحضر كتّاب الديوان فخاطبهم فيه، ليكون ذلك نهاية الغضّ منه.
فلمّا طال ذلك على أبي عيسى، جلس عنده يوما حتى لم يبق في مجلسه غيره [14 ط] ، وغير إبراهيم بن عيسى أخي الوزير «4» .
فقال له عليّ بن عيسى: هل من خاجة؟
فقال: نعم، إذا خلا مجلس الوزير.(1/43)
قال: فأخبرت عن إبراهيم إنّه قال: لما سمعت هذا قمت وانصرفت.
فلما كان من الغد جئت إلى أخي، فوجدت أبا عيسى في صدر المجلس، حيث يستحقّ صاحب الديوان أن يكون وهو يأمر، وينهى، وينبسط، ويتكلّم، والخطاب معه في الأعمال دون الكتّاب، وقد صار في السماء.
فدعتني نفسي إلى مسألة الوزير عن ذلك، فجلست إلى أن لم يبق في مجلسه غيري، فقال: شيء تقوله يا بنيّ؟
[فقلت: شيء من الفضول أريد أن أسأل الوزير عنه] «1» .
فقال: إن كان فضولا فلا تسل عنه.
قال: قلت لا بدّ.
فقال: هات.
قلت: استخلاك أمس أبو عيسى فأخليته، ثم رأيتك اليوم تعامله بضدّ ما كنت تعمله قبل هذا، فما سبب ذلك؟
فقال: نعم، إنّه خاطبني بخطاب عظم به في عيني، وكبر به في نفسي، وعلمت صدقه فيه، فرجعت له، قال لي، وقد خلا بي: أيّها الوزير، أنا رجل شيخ من شيوخ الكتّاب، عارف بمقدار ما أحسنه من صناعة [16 ب] الكتابة، وتقصيري فيها عن الغاية، وليس يخفى عليّ ما يعاملني به الوزير من الغضّ والهتك والتعريض للفضيحة في الصناعة، ومخاطبة الكتّاب في الديوان إذا أراد مهمّا، ومخاطبتي إذا نزل معضل، ويجب أن يعلم الوزير أيّده الله، أنّ حالي، ومالي، وباطني، أكثر ممّا يقع له، ويعرفه من ظاهري على كثرته، وأنّي ما أتصرّف طلبا للفائدة، ولا خوفا(1/44)
من الفقر، وإنّما أريد الزيادة في الجاه، واتّصال نفوذ الأمر والنهي، وقد عشت طول هذه السنين، آمرا، ناهيا، مستورا في صناعتي، ما تعرّض لي أحد من الوزراء، ولا تعرّضت لهم، وسلمت عليهم، وسلموا عليّ، ومهما عمله الوزير فيّ من الغضّ فليس يمكنه أن يزيل من نفوس الخاصّة والعامّة، أنّي خلفت إسماعيل بن بلبل على الوزارة، وتقلّدت كذا وكذا، وأخذ يعدّد كبار الأعمال التي وليها، وأنّ مثل هذا لا يناط بعاجز، ولا أن يستخرج من النفوس عظم محلّي فيها، مع سعة الحال، وكثرة الضياع والمال، ولا يمكنه في طمس محلّي أكثر مما قد عمله، وأنا بين أمور، إمّا توصّلت إلى إزالة ذلك عنّي بما لعلّه يثقل على الوزير، أو آثرت صفاء نيته فاستعفيت من العمل، ولزمت بيتي، فلم أكن فيه خاملا ولا ساقطا، ثم حصلت حيث أختار، من الكون في جملة أولياء الوزير أو أعدائه، فإمّا أعفاني ممّا يستعمله معي، وردّني إلى العادة التي يستحقّها من نصب في مثل منصبي، أو أعفاني من العمل لألزم بيتي.
فقلت له: يا أبا عيسى، لن ترى بعد هذا شيئا تنكره، ولن أكون لك إلّا على أفضل محبّتك، فبكّر إليّ ليبين لك مصداق ذلك.
فلمّا جاءني اليوم، عاملته بما رأيته.(1/45)
15 حكايات عن وقار الوزير علي بن عيسى وزماتته
ويشبه قول عليّ بن عيسى لأخيه: إن كان فضولا فلا تسل عنه، ما كان يبلغنا عنه من الزماتة الشديدة، والوقار العظيم، ومطالبة نفسه باحتشام الخلق، واستعمال ذلك مع أهله وولده.
حدّثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: بلغني عن بعض أكابر ولده [15 ط] أنّه دخل إليه في آخر عمره، وهو مستلق، فلمّا رأى ابنه جلس منتصبا.
وأخبرني أبي رحمه الله، وأبو الحسين بن عيّاش: أنّهما كانا يشاهدان أبا الحسن في آخر الأوقات في المجالس الحافلة، يجلس عند باب مفتوح، وبين البابين مسورة «1» يستند إليها، وعلى الباب ستر قد أرخي حتى بلغ الأرض وغطّى المسورة، وصار حجابا بين الناس وبينها، وهو ملتزق بالسّتر احتشاما للناس أن يستند بحضرتهم، وما زال الناس على هذا. «2»(1/46)
16 حكاية عن تزمت القاضي أبي جعفر بن البهلول
حدّثني أبو الحسن بن أبي طالب بن أبي جعفر بن البهلول «1» ، قال:
كنت وأنا صبيّ، أجيء، وألعب، بحضرة جدّي «2» ، فيصيح [17 ب] عليّ.
قال: ما دخلت إليه قط، وهو مكشوف الرأس، إلّا أخذ القلنسوة من خلف مسورته، ولبسها، وجلس متزمّتا «3» عليّ [وسنّي إذ ذاك عشر سنين، أو حواليها] «4» ، إلى أن أنصرف، فأراه إذا بعدت، وقد وضعها [عن رأسه] «5» .(1/47)
17 بين الوزير علي بن عيسى والوزير أبي عليّ بن مقلة
ويشبه فعل أبي الحسن عليّ بن عيسى بأبي عيسى أخي أبي صخرة، ما أخبرني به الثقة، قال:
أخبرني جماعة من الكتّاب، أنّه بلغه «1» أنّ المقتدر قد عمد «2» على صرفه بأبي عليّ بن مقلة «3» ، وكان يخلفه إذ ذاك على عدّة دواوين، فاستدعاه، وطالبه بأعمال يعملها له من الدواوين، فوعده بإحضارها.
فلما كان بعد أيّام، خاطبه بحضرة الناس يريد الغضّ منه، فقال له:
طلبت منك أعمالا فما أحضرتها، وأنا أعلم تعذّرها عليك، فإن كان الأمر كذلك، فأفصح عن نفسك.
فقال ابن مقلة: قد أحضرتها، ووضعها بين يديه.
فأخذ يقرؤها، ويعجّب مشايخ الكتاب الحضور من خطائه فيها، ويواقفه على ضعف صناعته، ويفضحه في موضع موضع يخرّجه، ويقول له في عرض الخطاب؛ هذه حياكة: ليست كتابة، ويضرب(1/48)
على عمل عمل، ويرسم في أضعافه، كيف يجب أن يعمل، والكتّاب الحاضرون يعجبون من حسن ما يورده أبو الحسن، وضعف ما أورده أبو عليّ، إلى أن ضرب على جميع الأعمال، ثم قال له: قم فاعملها على هذا، وحرّرها، وجئني بها، فقام أبو عليّ [يجرّ رجله] «1» .
فلمّا ولّى عن حضرة أبي الحسن، قال: إنّ أمرا عجز عنه عليّ بن محمد بن الفرات، ونحن فيه مرتبكون، تقوم به أنت؟ لشيء عجيب «2» .
قال: فلما كان في اليوم الرابع أو الخامس من هذا الحديث، قبض على عليّ بن عيسى، وسلّم إلى أبي عليّ، وقلّد الوزارة، فاعتمد الغضّ من أبي الحسن، فما قدر على ذلك بأكثر من المكاره، والمخاطبة له في وجهه بما يرتفع عنه أرباب المروءات.
فمن ذلك، انّ هذا المخبر أخبرني، قال: حدّثني أبو أحمد الشيرازيّ الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر «3» قال:
كنت بحضرة أبي عليّ بن مقلة يوما في وزارته وقد دخل عليه عليّ بن عيسى فجلس بين يديه، وكان أبو عبد الله العلويّ الموسويّ حاضرا «4» ، وأبو(1/49)
عليّ الحسن بن هارون «1» .
فقال أبو عليّ بن مقلة للحسن بن هارون: اكتب رقعة عن أبي عبد الله يصف فيها اختلال ضيعته، ويسأل فيها الاحتساب له بمظلمة، وإطلاق معونة له.
ففعل الحسن بن هارون ذلك في الحال، وعرض الرّقعة، فوقّع بإخراج الحال، وأنفذ إلى الكاتب بأن أخرج الحال [16 ط] مصدقا [18 ب] لما في الرقعة. ففعل ذلك.
فوقّع تحت إخراج الحال بإطلاق عشرين كرّا حنطة وعشرين كرّا شعيرا معونة له، والاحتساب بما ذكر مبلغه في المظلمة، وقال لأبي عليّ الحسن ابن هارون: سلّمه إلى أبي عبد الله.
قال، فاستحسن الحاضرون كرمه في ذلك على رجل علويّ، وأخذ أبو الحسن عليّ بن عيسى يشكر له ذلك ويصوّبه له.
فقال له مجيبا: فلم لم تفعل مثل هذا يا أبا الحسن في وزارتك؟
قال، فنهض أبو الحسن، وقال: استودع الله الوزير، ولم يجب بحرف واحد.(1/50)
18 تزمت الوزير علي بن عيسى وتخشنه
ومن زماتة أبي الحسن عليّ بن عيسى وتخشّنه «1» ، انّه كان يحبّ أن يبين فضله في هذا على كلّ أحد، أخبرني به غير واحد:
إن أبا عمر القاضي «2» دخل إليه يوما في بعض وزاراته، وعلى أبي عمر قميص دبيقيّ ششتريّ فاخر «3» ، فأراد أبو الحسن أن يخجله فقال له: يا أبا عمر بكم اشتريت شقّة هذا القميص؟
فقال: بمائتي دينار «4» .
فقال أبو الحسن: ولكنّي اشتريت لي هذه الشقّة التي قطعت منها هذه الدرّاعة وهذا القميص الذي تحتها بعشرين دينارا.
فقال له أبو عمر مسرعا كأنّه قد أعدّ له الجواب: الوزير أعزّه الله يجمّل الثياب، ولا يحتاج إلى المبالغة فيها، [ونحن نتجمّل بالثياب، فنحتاج إلى المبالغة فيها] «5» لأنّا نلابس العوام، ومن نحتاج إلى التفخيم عليه، وإقامة الهيبة في نفسه بها، والوزير أيّده الله يخدمه الخواصّ، أكثر من خدمة العوام، ونعلم أنّه يدع هذا عن قدرة.
قال: فكأنّما ألقم أبا الحسن حجرا، وسكت عنه.(1/51)
19 الوزير علي بن عيسى يفرض على ملك الروم أن يحسن معاملة الأسارى المسلمين
حدّثني القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن «1» ، قال حدّثني مكرّم ابن بكران، عن «2» أبي يحيى بن مكرّم القاضي «3» ، قال:
كنت خصيصا بأبي الحسن عليّ بن عيسى، وربما شاورني في شيء من أمره، قال: دخلت عليه يوما وهو مغموم جدّا، فقدّرت أنّه بلغه عن المقتدر أمر كرهه، فقلت هل حدث شيء؟ وأومأت إلى الخليفة.
فقال: ليس غمّي من هذا الجنس، ولكن ممّا هو أشدّ منه.
فقلت: إن جاز أن أقف عليه فلعلّي أقول فيه شيئا.
فقال: نعم، كتب إليّ عاملنا بالثّغر، أنّ أسارى المسلمين في بلد الروم، كانوا على رفق وصيانة إلى أن ولي آنفا، ملك الروم، حدثان،(1/52)
فعسفا الأسارى، وأجاعاهم، وأعرياهم، وعاقباهم، وطالباهم بالتنصّر، وأنّهم في جهد جهيد، وبلاء شديد، وليس هذا ممّا لي فيه حيلة، لأنّه أمر لا يبلغه سلطاننا، والخليفة لا يطاوعني، فكنت أنفق الأموال، وأجتهد، وأجهّز الجيوش حتى تطرق القسطنطينية.
فقلت [19 ب] أيّها الوزير، هاهنا رأي أسهل ممّا وقع لك، يزول به هذا.
فقال: قل يا مبارك.
فقلت: إنّ بانطاكية عظيما للنصارى يقال له البطرك «1» ، وببيت المقدس آخر يقال له القاثليق «2» ، وأمرهما ينفذ على ملك الروم، [حتى انّهما ربّما حرما الملك فيحرم عندهم، ويحلّانه فيحلّ] «3» . وعند الروم انّه من خالف منهم هذين فقد كفر، وانّه لا يتمّ جلوس الملك ببلد الروم إلّا برأي هذين، وان يكون الملك قد دخل إلى بيعتهما، وتقرّب بهما، والبلدان في سلطاننا [17 ط] ، والرجلان في ذمّتنا، فيأمر الوزير بأن يكتب إلى عاملي البلدين بإحضارهما، وتعريفهما ما يجري على الأسارى، وانّ هذا خارج عن الملك، وانّهما إن لم يزيلا هذا، لم يطالب بجريرته غيرهما، وينظر ما يكون من الجواب.
قال: فاستدعى كاتبا، وأملى عليه كتابين في ذلك «4» ، وأنفذهما في الحال، وقال: سرّيت عنّي قليلا، وافترقنا.
فلما كان بعد شهرين وأيّام، وقد أنسيت الحديث، جاءني(1/53)
فرانق «1» من جهته يطلبني، فركبت وأنا مشغول القلب بمعرفة السبب في ذلك، حتى وصلت إليه، فوجدته مسرورا، فحين رآني قال: يا هذا، أحسن الله جزاءك عن نفسك ودينك وعنّي.
فقلت: ما الخبر؟
قال: كان رأيك في أمر الأسارى أبرك رأي وأصحّه، وهذا رسول العامل قد ورد بالخبر، وأومأ إلى رجل كان بحضرته، وقال له: خبّرنا بما جرى.
فقال الرجل: أنفذني العامل مع رسول البطرك والقاثليق، برسالتهما إلى قسطنطينية «2» وكتبا إلى ملكيها: إنّكما قد خرجتما عن ملّة المسيح بما فعلتماه بالأسارى وليس لكما ذلك، فإنّه حرام عليكما، ومخالف لما أمرنا به المسيح من كذا وكذا، وعدّدا أشياء في دينهما، فإمّا زلتما عن هذا، واستأنفتما الإحسان إلى الأسارى، وتركتما مطالبتهم بالتنصّر، وإلّا لعنّا كما على هذين الكرسيّين وحرمنا كما.
قال: فمضيت مع الرسول، فلما صرنا بقسطنطينية، حجبت عن الملكين أيّاما، وخليا بالرسول «3» ، ثمّ استدعياني إليهما، فسلّمت عليهما، فقال لي ترجمانهما: يقول لك الملكان، إنّ الذي بلغ ملك العرب من فعلنا بالأسارى، كذب وتشنيع، وقد أذنّا في إدخالك دار البلاط لتشاهد أساراكم، فترى أحوالهم بخلاف ما بلغكم، وتسمع من شكرهم لنا، ضدّ ما اتّصل بكم.(1/54)
قال: ثم حملت إلى دار البلاط، فرأيت الأسارى، وكأنّ وجوههم قد أخرجت من القبور، تشهد بالضرّ [الشديد والجهد الجهيد] «1» وما كانوا فيه من العذاب [إلى حين قدومنا] «2» إلّا أنّهم مرفّهون في ذلك الوقت، وتأمّلت ثيابهم، فإذا جميعها [20 ب] جدد، فعلمت أنّي منعت من الوصول تلك الأيّام حتى غيّر زيّ الأسارى [وأصلح أمرهم] «3» .
وقال لي الأسرى: نحن للملكين شاكرون، فعل الله بهما وصنع، وأو مأوا إليّ: إنّ الأمر كان كما بلغكم، ولكنّه خفّف عنّا، وأحسن إلينا، بعد حصولك هاهنا.
وقالوا لي كيف عرفت حالنا؟ ومن تنبّه علينا، وأنفذك بسببنا؟
فقلت لهم: ولي الوزارة عليّ بن عيسى فبلغه ذلك، فأنفذ من بغداد، وفعل كذا وكذا.
قال: فضجّوا بالدعاء إلى الله تعالى للوزير، وسمعت امرأة منهم تقول: مرّ يا عليّ بن عيسى لا نسي الله لك هذا الفعل «4» .
قال: فلما سمع ذلك عليّ بن عيسى أجهش بالبكاء، وسجد حمدا لله سبحانه وتعالى، وبرّ الرسول، وصرفه.
فقلت له: أيّها الوزير، أسمعك دائما تتبرّم بالوزارة، وتتمنى الانصراف عنها في خلواتك خوفا من [18 ط] آثامها، فلو كنت في بيتك، هل كنت تقدر أن تحصّل هذا الثواب ولو أنفقت فيه أكثر مالك؟ فلا تفعل، ولا تتبرّم بهذا الأمر فلعلّ الله يمكّنك ويجري على يديك أمثال هذا الفعل، فتفوز بثوابه في الآخرة، كما تفرّدت بشرف الوزارة في الدنيا.(1/55)
20 ابن رزق الله، التاجر البغدادي يوقف في بلاد الروم أكسية لتدفئة أسارى المسلمين
حدّثني أبو محمد، عبد الله بن أحمد بن داسه البصريّ، قال: حدّثني عليّ بن إبراهيم بن حمّاد القاضي: إنّ بعض مشايخ العرب «1» أخبره عن رجل من المسلمين، أسر، ثم رجع إلى دار الإسلام، قال:
لما حملنا إلى بلد الروم مرّت بنا شدائد، فحصلنا عدّة ليال لا ننام من البرد، وكدنا نتلف، ثم دخلنا قرية، فجاءنا راهب فيها بأكسية وقطف «2» ثقيلة دفيّة، فغطّى جميع الأسارى، كلّ واحد بواحدة، فعشنا تلك الليلة، فأقامونا في تلك القرية أيّاما، فكانت سبيلنا هذه، ثم نقلونا إلى أخرى، فعادت حالنا في العري والبرد إلى الأولى.
فسألنا عن السبب في ذلك، فقالوا: إنّ رجلا ببغداد من التجّار يقال له ابن رزق الله، صهر ابن أبي عوف «3» ، توصّل إلى أن حصلت له هذه الأكسية والقطف عند الراهب، بغرامات مال جليل، وسأله أن يغطّي بها من يحصل في قريته من أسارى المسلمين، وضمن له أن ينفق على بيعة في بلد الإسلام بإزاء هذا في كل سنة شيئا ما دامت الأكسية محفوظة للأسارى، فالراهب يفعل ذلك في هذه القرية، وما قبلها وما بعدها ليس فيها شيء من هذا. فأقبلنا ندعو لابن رزق الله كلما نفحنا البرد، ولحقتنا الشدّة، ونحن لا نعرفه.(1/56)
21 شخص متعطل زوّر كتابا عن لسان الوزير ابن الفرات، إلى عامل مصر
حدّثني أبو الحسين، عبد الله بن أحمد بن عيّاش القاضي:
إنّ رجلا دامت عطلته، فزوّر كتبا عن عليّ بن محمد بن الفرات «1» ، وهو وزير، إلى أبي زنبور «2» [21 ب] عامل مصر، وخرج إليه، ولقيه بها فأنكرها أبو زنبور، لإفراط التأكيد فيها، وكثرة الدعاء للرجل، وأنّ محلّه عنده لم يكن يقتضي ذلك الترتيب، واستراب بالخطاب أيضا.
فوصل الرجل بصلة يسيرة، وأمر له بجراية، وقال: تأخذها إلى أن أنظر في أمرك.
وأنفذ الكتب في خاصّ كتبه إلى ابن الفرات، وشرح له الصورة، وكان فيها: إنّ للرجل حرمة وكيدة بالوزير، وخدمة قديمة.
قال: فوصلت الكتب إلى أبي الحسن بن الفرات، وأصحابه بين يديه فعرّفهم الصورة، وعجّبهم منها، وقال: ما الرأي في أمر الرجل؟
فقال بعضهم: تقطع يده لتزويره على الوزير.(1/57)
وقال بعضهم: يقطع إبهامه.
وقال بعضهم: يضرب ويحبس.
وقال بعضهم: يكشف لأبي زنبور أمره، ويتقدم إليه بطرده، ويقتصر به على الحرمان مع بعد الشقّة «1» .
فقال ابن الفرات: ما أبعد طباعكم عن الجميل، وأنفرها من الحرّية «2» ، رجل توسّل بنا، وتحمّل المشقّة إلى مصر، وأمّل بجاهنا الغنى، ولعلّه كان لا يصل [19 ط] إلينا، ولا حرمة له بنا فيأخذ كتبنا، فخفّف عنّا بأن كتب لنفسه ما قدّر أنّ به صلاحه، ورحل ملتمسا للرزق، وجعلنا سببه، يكون أحسن أحواله عند أجملكم محضرا الخيبة؟
ثم ضرب بيده إلى الدواة، وقلب الكتاب المزوّر، ووقّع عليه «3» بخطه:
هذا كتابي، ولا أعلم لأيّ سبب أنكرته. ولا كيف استربت به، كأنّك عارف بجميع من خدمنا في النكبة، وأوقات الاستتار، وقديم الأيّام، وقد أحطت علما بجميعهم، فأنكرت أبا فلان هذا- أعزّه الله- من بينهم، وحرمته بي أوكد ممّا في هذا الكتاب، وسببه عندي أقوى ممّا تظنّ، فأجزل عطيّته، وتابع برّه «4» ووفّر حظّه من التصرّف فيما يصلح له، وافعل به واصنع، وأصدر الكتاب في الحال.
فلما كان بعد مدّة طويلة، دخل عليه رجل جميل الهيئة، حسن الزيّ والغلمان، فأقبل يدعو له، ويبكي، ويقبّل الأرض بين يديه،(1/58)
وابن الفرات لا يعرفه، ويقول: يا بارك الله عليك- وكانت هذه كلمته- ما لك؟
فقال له: أنا صاحب الكتاب المزوّر إلى أبي زنبور، الذي حقّقه تفضّل الوزير، فعل الله به وصنع.
قال: فضحك ابن الفرات، وقال: فبكم وصلك؟
قال: وصل إليّ من ماله، وبتقسيط قسّطه لي، وبتصرّف صرّفني فيه، عشرون ألف دينار.
قال ابن الفرات: الحمد لله، الزمنا، فإنّنا ننفعك بأضعافها.
قال: فلزمه وفاتشه، فوجده كاتبا، فاستخدمه، وأكسبه مالا عظيما، وصار ذلك سببا لحرمة الرجل به.(1/59)
22 أبو عمر القاضي يعامل بالجميل رجلا زوّر عنه رقعة بطلب التصرّف
حدّثني أبو أحمد بن أبي الورد [شيخ من أبناء القضاة لقيته سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ببغداد] «1» ، قال حدّثني أبي [22 ب] وكان خصيصا بأبي عمر القاضي «2» .
إنّ رجلا زوّر عنه رقعة إلى أبي القاسم ابن الحواريّ «3» ، يسأله تصريفه وكانت بينهما مودّة.
وصار الرجل بالرقعة إلى أبي القاسم، فأخذت منه وحجب، فجلس يتوقّع الجواب.
فاتّفق أن جاء القاضي أبو عمر وأنا معه ليسلّم على ابن الحواريّ، ودخلنا، فوجد القاضي الرقعة بحضرته مشبهة بخطه، فوجم لذلك، وتشوّف «4» لمعرفة الخبر، وكان فيه من الوقار والرصانة والفضل المشهور الذي ضرب به المثل، [ما لم يتبين لابن الحواريّ معه ذلك عليه، وفطنت أنا لدربتي بأخلاقه] «5» .
وحانت لابن الحواريّ التفاتة، فرأى الرقعة في يده، فقال: أيّها القاضي الساعة وصلت، وأنا أفعل ما التمسته في معنى الرجل.(1/60)
فشكره أبو عمر، وخاطبه بما أو همه فيه انّها رقعته، من غير أن يطلق ذلك، وكان أفعل الناس لهذا، وأقدرهم على أن يتكلّم دائما في الأمور بما يحتمل معنيين، ويحتاج إلى تفسير للمقصد، توقّيا منه، ودهاء.
وقال أبو عمر: فليطلب الرجل، إن كان حاضرا ويدخل، فطلبوه وأدخلوه، وقد امتقع لونه.
فقال له ابن الحواريّ: أنت الموصل لرقعة القاضي أعزّه الله؟
فقال: نعم.
فقال له أبو عمر: إنّه أعزّه الله قد وعد بتصريفك والإحسان إليك، فالزمه.
قال: وتحدّثا ساعة، ونهض أبو عمر، وقال لي سرّا: [20 ط] جئني به. فتأخّرت وونّسته «1» ، وحملته إليه، فدخلت عليه به وهو خال ينتظرنا وحده.
فقال له: ويلك، أتزوّر على خطّي، وأنا حاكم، وخطّي ينفذ في الأموال والفروج والدماء؟ ما كان يؤمنك أن أعرّف أبا القاسم أمرك فتصير نكالا.
فبكى الرجل وقال: والله، أيّها القاضي، ما حملني على ذلك إلّا عدم القوت، وشدة الفقر، وأنّي وثقت بكرمك ففعلت ذلك، إذ كان غير متّصل بحكم ولا شهادة، وقدّرت أيضا أنّ ذلك ينستر عنك، وأنتفع أنا من حيث لا يضرّك.
فقال له أبو عمر: الله إنّ الفقر حملك على هذا؟
فقال: إي والله، فبكى أبو عمر، وسارّ خادما له، فغاب الخادم قليلا،(1/61)
ثم جاء بصرّة فيها مائة دينار، ومنديل فيه دست ثياب، فسلّمه إلى الرجل.
فقال له أبو عمر: اتّسع بهذا، والبس هذا، والزم أبا القاسم فإنّي أؤكّد عليه أمرك، واحلف لي أن لا تزوّر على خطّي أبدا.
فحلف له الرجل على ذلك وانصرف.
فلما كان بعد شهور جاءنا مسلّما على أبي عمر بمركوب حسن وثياب فاخرة، فأخذ يشكر أبا عمر ويدعو له، وهو لا يعرفه، وقد ذكرته أنا.
فقال له أبو عمر: يا هذا على أيّ شيء تشكرني؟
فقال: أنا صاحب الرقعة إلى أبي القاسم ابن الحواريّ، الذي [23 ب] وصلني القاضي بماله، وأحياني بجاهه، وقد صرّفني أبو القاسم طول هذه المدة، فبلغت حالي إلى هذا، وأنا أدعو الله للقاضي أبدا.
فقال أبو عمر: الحمد لله على حسن التوفيق.(1/62)
23 أراد أن يزوّر على رجل مرتعش اليد
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش القاضي، قال:
رأيت صديقا لي على بعض زواريق الجسر ببغداد، جالسا في يوم ريح شديد، وهو يكتب.
فقلت ويحك في مثل هذا الموضع، ومثل هذا الوقت؟
فقال: أريد أن أزوّر على رجل مرتعش، ويدي لا تساعدني، فتعمدت الجلوس هاهنا لتحرّك الزورق بالموج في هذه الريح، فيجيء خطّي مرتعشا، فيشبه خطّه.(1/63)
24 الوزير ابن مقلة يزوّر عليه أخوه
حدّثني أبو الحسين «1» ، قال:
حضرت أبا عليّ بن مقلة، وقد عرضت عليه، وهو وزير، عدّة تسبيبات، وتوقيعات، قد زوّرها عليه أخوه أبو عبد الله «2» ، وارتفق عليها «3» ، وكان أبو عبد الله حاضرا، فاستقبح أن يفضحه فيها.
فلمّا كثرت عليه، التفت إليه، فقال: يا أبا عبد الله، قد خفّفت عنّا، حتى ثقّلت، وخشينا أن نثقّل عليك، فأحبّ أن تخفّف عن نفسك هذا التعب.
قال: فضحك أبو عبد الله، وقال السمع والطاعة للوزير.(1/64)
25 عمران المملكة أساس صلاح الرعية
حدّثني القاضي أبو الحسن عليّ بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخيّ قال:
استتر في دورنا عند أبي، أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، المعروف بابن حنزابة «1» ، وكنت حدثا، فكان يستدعيني دائما، ونتحدّث، وألعب معه الشطرنج.
فقال لي يوما، وقد جرى حديث نقصان [21 ط] دخل المقتدر عن خرجه: نظرت، فإذا دخل المملكة كذا وكذا، وخرجها كذا وكذا، وإذا دخل ضياع عمّي أبي الحسن، وما قبض معها من ضياعنا، كان في وقت قبضها، كذا وكذا، وهو اليوم ثلث ذلك، ولو مكّنت من ضياعنا وحدها، لعمّرتها، فعاد ارتفاعها إلى ما كان عليه، فوفر ما بين الارتفاعين يعمّر الدنيا كلها، وإنّما أملاكنا شقص «2» يسير من الأرض، فكيف لو كان للدنيا من يهتمّ بعمارة جميعها؟
قال القاضي أبو الحسن: وما سمعت أعظم من هذا، وذلك قبل تقلّد أبي الفتح الوزارة.
وكان أبو الحسن، يحفظ مبلغ المال، وأخبرني به، فذهب عنّي.(1/65)
26 الوزير ابن الفرات يحسن إلى خياط
حدّثني أبي رضي الله عنه، قال:
بلغني أنّ أبا الحسن بن الفرات، اجتاز وهو متوسّط الحال، في بعض الدروب الضيّقة «1» راكبا، وبين يديه غلامان، فسال عليه ميزاب من دار فصيّره آية ونكالا.
فقال لأحد غلمانه: اطلب لي موضعا أدخله.
فدقّ على قوم بابهم، وكان صاحب الدار خيّاطا، فلما رأى شارة أبي الحسن، وهيأته، أعظمه وخدمه، وأدخله وأجلسه، وأخذ ثيابه فدفعها إلى زوجته لتغسلها [24 ب] ، وجلس يحادثه، وبادر الغلام الآخر إلى دار أبي الحسن فجاءه بخلعة ثياب قبل أن يفرغ من غسل ذلك القماش، فلبسها، وأمر بترك تلك الثياب على القوم، وانصرف.
وضرب الدهر ضربه، وولي الوزارة الأوّلة «2» .
فاجتاز يوما راكبا في موكب عظيم، فقام الناس ينظرونه، وقام الخيّاط، فلما رآه عرفه، فقال لأهل سوقه: إنّ لي مع هذا الرجل قصّة طريفة، وأخبرهم بها.
فقالوا له: إنّه كريم، ولو قصدته لانتفعت.
فلمّا كان من غد قصده الخيّاط، فصادف مصيره إلى بابه ركوب ابن الفرات، فدعا له، وقال: لي بالوزير حرمة.(1/66)
فتأمّله ابن الفرات، فعرفه، وتذكّر قصّته، فأمر بإجلاسه.
فلما عاد استحضره وسأله عن خبره، وخبر زوجته، وأولاده.
فأخبره [ووصف خلّة] «1» .
فقال له: أيّما أحب إليك الجائزة أو الخدمة لنا؟
فقال: بل خدمة الوزير.
فأمر له بألف دينار، وأن يجعل رئيسا على الخيّاطين في داره، ففعل به ذلك.
فما مضت عليه مديدة حتى صار صاحب عشرات ألوف «2» .(1/67)
27 الوزير المهلبي يحسن إلى كوّاز
وقد شاهدت أنا، قريبا من هذا، من الوزير أبي محمد، الحسن بن محمد المهلّبي رحمه الله، وذلك: إنّ أبا محمد عبد الرحمن بن نصر السكّريّ البصريّ، صاحب البريديّين، وتقلّد شرطة البصرة دفعات، دعاه في وزارته، فجاء إليه إلى داره في شارع المربد.
فلمّا أراد الرجوع من داره إلى مسماران «1» - وكان أبو محمد المهلّبي رحمه الله، قد نزلها- استقبح الاجتياز بالجامع مع أنّه شارب، فعدل في الأزقّة إلى سيحان «2» ، ليركب منها طيّاره.
فلما بلغ حيث تعمل الكيزان، حقنه بوله، فدخل دار قوم ضعفاء، فبال، فدعا له صاحب الدار.
فقال له: هذه الدار لك؟ قال: لا، هي بأجرة معي.
قال: كم أجرتها؟ قال: خمسة دراهم في الشهر.
قال: وكم تساوي؟ قال: خمسمائة درهم.
قال: وكم رأس مالك في عمل الكيزان؟ قال: مائة درهم.
فدفع إليه في الحال ألف درهم، وقال: اشتر منها الدار، وردّ [22 ط] الباقي في رأس مالك، وركب.(1/68)
28 من مكارم أخلاق الوزير أبي محمد المهلبي
وكان رحمه الله «1» ، من بقايا الكرام، ولقد شاهدت له مجلسا في شهر رمضان، سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، كأنّه من مجالس البرامكة، ما شهدت مثله قط قبله ولا بعده، وذلك:
إنّ كاتبه على ديوان السواد، أبو الحسين عبد العزيز بن إبراهيم، المعروف بابن حاجب «2» النعمان، سقط من روشن «3» في دار أبي محمّد على دجلة، فمات في اليوم الثامن من السقطة.
فجزع عليه أبو محمد، وجاء من غد إلى أولاده، لأنّهم كانوا دفنوه «4» عشيّا، وكنت معه [وحضر، وقد أعدّوا له دستا يجلس فيه، فلما دخل عدل عنه ولم يجلس فيه] «5»
، فعزّاهم بأعذب لسان، وأحسن بيان [25 ب] ، ووعدهم الإحسان، وقال: أنا أبوكم، وما فقدتم من ماضيكم غير شخصه.
ثم قال لابنه الأكبر أبي عبد الله: قد ولّيتك موضع أبيك، ورددت(1/69)
إليك عمله، ووليّت أخاك أبا الحسين، وكان هذا صبيّا سنّه إذ ذاك عشر سنين أو نحوها [كتبة حضرة ابني أبي الغنائم] «1» ، وأجريت عليه كذا وكذا- رزقا كثيرا، وقد ذهب عنّي- فليلزمه، فإن سنيهما متقاربة، ليتعلّم بتعلّمه، وينشأ بنشأته، فيجب حقّه عليه.
ثم قال لأبي العلاء صاعد بن ثابت، خليفته على الوزارة «2» : اكتب عهدا لأبي عبد الله، واستدع كلّ من كان أبو الحسين رحمه الله، مستأجرا منه شيئا، فخاطبه في تجديد الإجارة للورثة، فإن أكثر نعمته، إنّما كانت دخالات وإجارات ومزارعات، وقد انحلّت الآن بموته، ومن امتنع فزده من مالي، واسأله، ولا تقنع إلّا بتجديد العقد كيفما جرت الحال.
ثم قال لأبي المكارم بن ورقاء، وكان سلف «3» الميت: إنّ ذيل أبي الحسن طويل، وقد كنت أعلم إنّه يجري على أخواته وأولادهنّ وأقاربه شيئا كثيرا في كلّ شهر، وهؤلاء الآن يهلكون بموته، ولا حصّة لهم في إرثه، فقم إلى ابنة أبي محمد المادرائي- يعني زوجة المتوفّى-، فعزّها عنّي، واكتب عنها جريدة «4» بأسماء جميع النساء اللواتي كان أبو الحسن يجري عليهنّ، وعلى غيرهنّ، من الرجال وضعفاء حاشيته.
وقال لأبي العلاء: إذا جاءك بالجريدة، فأطلقها عاجلا لشهر، وتقدّم(1/70)
بإطلاقها على الإدرار، فبلغت الجريدة ثلاثة آلاف وكسرا في الشهر، وعملت في المجلس وأطلق مالها وامتثل جميع ما رسم به أبو محمد.
فلم يبق أحد إلّا بكى رقّة واستحسانا لذلك.
ولقد رأيت أبا عبد الله محمد بن الحسن الداعي العلويّ «1» رحمه الله، ذلك اليوم، وكان حاضرا المجلس، وقد أجهش بالبكاء، وأسرف في شكر أبي محمّد، وتقريظه، على قلّة كلامه إلّا فيما يعنيه، وعلى سوء رأيه- كان- في أبي محمد، ولكنّ الفضل بهره، فلم يمنعه ما بينهما، أن نطق بالحق.
وقلت أنا، لأبي محمد في ذلك اليوم: لو كان الموت يستطاب في وقت من الأوقات، لطاب لكل ذي ذيل طويل، في أيّام سيّدنا الوزير [أطال الله بقاءه] «2» ، فإنّ هذا الفعل، تاريخ الكرم، [وغاية تسامي الهمم] «3» [23 ط] وبه يتحقّق ما يروى عن الأسلاف من الأجواد، والماضين من الكرماء الأفراد، وغير ذلك، ممّا حضرني في الحال.
ثم نهض أبو محمّد رحمه الله، فارتفعت الضجّة من النساء، والرجال، وأهل الدار، والشارع، بالدعاء له، والشكر.(1/71)
29 الوزير المهلبي وأبو عبد الله الأزدي الموصلي
حدّثني أبو محمد، يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزديّ الموصليّ:
إنّ أبا [26 ب] عبد الله، والده، رحمه الله «1» ، توسّط بين أبي محمد المهلّبي، وناصر الدولة، في مال يحمله إلى معزّ الدولة، من صلح الموصل، فأنفق من المال أربعين ألف درهم، لإضافة لحقته.
وسبّب عليه المهلّبيّ بالمال كاملا، وهو لا يعرف الخبر، وكانت بينهما مودّة وأنس، فصحّح أبو عبد الله الموجود، ودافع بما أنفق.
وجلس يوما في داره ليحتال العوض ويردّه، فجاءته رقعة أبي محمد يدعوه للشرب، فدافع، فعاوده، فركب، فأكلا، وجلسا للشراب.
فقال له أبو عليّ الأنباري «2» : أرى فيك يا سيّدي أبا عبد الله فتورا، وكانت بينهما مودّة، [وأبو عليّ- إذ ذاك- يخلف الوزير أبا محمد على الوزارة] «3» وعنده ابنته «4» ، فحدّثه أبو عبد الله بالحديث، وإن قلبه مشغول، إلى أن يتمّ له العوض ويردّه، وسأله كتمان ذلك.
وتبيّن المهلّبيّ في أبي عبد الله ذلك الفتور، فسأله عنه فورّى عن الصدق وكبرت نفسه عن إخباره بذلك، فأمسك عنه، وقام أبو عبد الله إلى البول،(1/72)
فقال أبو محمد لأبي عليّ الأنباريّ: أما ترى فتور أبي عبد الله وهو صديقك، وقد رأيته يسارّك، وأظنه قد خرج إليك بسبب كسله، فما هو؟
فحدّثه أبو عليّ بالحديث.
فلما عاد، قال له أبو محمد: يا أبا عبد الله، أيّدك الله، ما أنصفتني في المودّة، ولا أنصفت نفسك في السياسة، تهتم بسبب أربعين ألف درهم، أملك إسقاطها عنك، فتكاتمني ذلك، حتى كأنّها عليك لغريب، أو بحقّ واجب.
وأخذ أبو عبد الله يجحد، ويقطّب في وجه أبي عليّ، ثم أخرج سرّه.
فقال المهلّبيّ، لأبي عليّ، يجب الساعة أن ينفذ إلى الجهبذ، أن يكتب له- أيّده الله- روزا بها «1» ، وأن تجعل أنت لها وجوها في الخرج، وتولّد بها نفقات واجبات- كما تعلم- على الأمير معزّ الدولة «2» ، لتسقط عن أبي عبد الله- أيّده الله- ولا نغرمها نحن.
قال: فاستدعى الجهبذ وأخذ روزه، وسلّمه إليه.
ثم قال له المهلّبيّ: أيّ شيء ضرّك أو ضرّني من هذا، سقط عنك همّ وثقل، وعنّي بقضائي بعض حقك، وخرج المال من مال الأمير، عد الآن إلى شربنا.
فما برح ليلته تلك من عنده، وسقط المال عنه.(1/73)
30 عطايا الوزير المهلبي متواصلة
وقد أخبرني جماعة من ندماء أبي محمد:
إنّه فرّق في ليلة من اللّيالي عليهم، وعلى جماعة كانوا حضورا معهم، من مغنّين وملهين وغير ذلك، من الدراهم والثياب، ما يبلغ قيمة الجميع خمسة آلاف دينار.
ورأيته أنا، غير مرّة، قد وهب للجهنيّ «1» ولأبي الفرج الأصبهانيّ «2» خمسة آلاف درهم [وأربعة آلاف درهم] «3» ، ولغيرهما [27 ب] دائما.(1/74)
31 الوزير القاسم بن عبيد الله يأمر أستاذه بالارتفاق
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش، قال: حدّثني أبو إسحق إبراهيم بن السريّ الزجّاج «1» ، قال:
كنت أؤدّب القاسم بن عبيد الله «2» ، وأقول له: إن بلّغك الله مبلغ أبيك، ووليت الوزارة، ماذا تصنع بي؟ فيقول: ما أحببت. فأقول له: تعطيني عشرين ألف دينار «3» ، وكانت غاية أمنيتي، فيقول: نعم [24 ط] .
فما مضت إلّا سنون، حتى ولي القاسم الوزارة، وأنا على ملازمتي له، وقد صرت نديمه، فدعتني نفسي إلى إذكاره بالوعد، ثم هبته.
فلما كان في اليوم الثالث من وزارته، قال لي: يا أبا إسحق، لم أرك أذكرتني بالنذر؟.
فقلت: عوّلت على رعاية الوزير أيّده الله، وأنّه لا يحتاج إلى إذكار لنذر عليه، في أمر خادم واجب الحقّ.
فقال لي: إنّه المعتضد، ولولاه ما تعاظمني دفع ذلك إليك في مكان(1/75)
واحد، ولكنّي أخاف أن يصير لي معه حديث، فاسمح لي بأخذه متفرّقا.
فقلت: يا سيّدي، أفعل.
فقال: اجلس للناس، وخذ رقاعهم، للحوائج الكبار، واستجعل عليها «1» ، ولا تمتنع عن مسألتي شيئا تخاطب فيه، صحيحا كان أو محالا، إلى أن يحصل لك مال النذر.
قال: ففعلت ذلك، وكنت أعرض عليه، كلّ يوم، رقاعا، فيوقّع فيها لي، وربّما قال: كم ضمن لك على هذا؟ فأقول: كذا وكذا، فيقول: غبنت «2» ، هذا يساوي كذا وكذا، ارجع فاستزد، فأراجع القوم، ولا أزال أماكسهم، ويزيدوني حتى أبلغ الحدّ الذي رسمه لي.
قال: وعرضت عليه شيئا عظيما، فحصلت عندي عشرون ألف دينار [وأكثر منها] «3» ، في مديدة.
فقال لي بعد شهور: يا أبا إسحق، حصل مال النذر؟
فقلت:. لا، فسكت.
وظللت أعرض، فيسألني في كل شهر أو نحوه، هل حصل المال؟
فأقول: لا، خوفا من انقطاع الكسب، إلى أن حصل عندي ضعف ذلك المال.
وسألني يوما، فاستحييت من الكذب المتّصل، فقلت: قد حصل ذلك ببركة الوزير.
فقال: فرّجت والله عني، فقد كنت مشغول القلب، إلى أن يحصل لك.(1/76)
قال: ثمّ أخذ الدواة، فوقّع لي إلى خازنه بثلاثة آلاف دينار صلة فأخذتها، وامتنعت أن أعرض عليه شيئا، ولم أدر كيف يقع منه.
فلما كان من غد جئته، وجلست على رسمي، فأومأ إليّ، أن هات ما معك، يستدعي منّي الرقاع على الرسم.
فقلت: ما أخذت رقعة من أحد، لأنّ النذر قد وقع الوفاء به، ولم أدر كيف أقع من الوزير.
فقال: سبحان الله، أتراني كنت أقطع شيئا قد صار لك عادة [28 ب] ، وعلم به الناس، وصارت لك به منزلة عندهم وجاه، وغدوّ ورواح إلى بابك، ولا يعلم سبب انقطاعه، فيظن ذلك لضعف جاهك عندي، أو تغيّر رتبتك؟ أعرض عليّ على رسمك، وخذ بلا حساب.
فقبّلت يده، وباكرته من غد بالرقاع، وكنت أعرض عليه كل يوم شيئا إلى أن مات، [وقد تأثّلت حالي وكبرت] «1» .(1/77)
32 الوزير عبيد الله بن سليمان يبيح جزءا من مال الدولة لأحد صنائعه
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش، قال: حدّثني شيخ من شيوخنا، ذكره هو، وقد غاب «1» عنّي اسمه «2» ، قال: حدّثني أبو عبد الله بن أبي عوف «3» ، قال:
استتر عندي، عبيد الله بن سليمان «4» ، فدخلت إليه يوما، في حجرة كنت أفردتها له من داري، فقام إليّ، فقلت له ممازحا كما جرى على لساني: يا سيّدي اخبأ لي هذا، إلى وقت انتفع به فيه.
قال: فلمّا كان بعد مدّة، انتقل من عندي، فما مضت الأيّام حتى ولي الوزارة.
فقال لي أهلي: لو قصدته، وكانت حالي إذ ذاك صغيرة.
فقلت لهم: لا أفعل، أنا في ستر، وقصدي له الآن كأنّه اقتضاء(1/78)
لثمن معروف أسديته إليه، وما أرضى لنفسي بهذا، ولو كان لي عنده [25 ط] خير لابتدأني به، فبتّ ليلتي تلك مفكرا، وكان هذا يوم الخلع.
فلما كان في السّحر جاءني فرانقه «1» برقعة بخطّه، يعاتبني على تأخّري عنه، ويستدعيني.
فصرت إليه، فإذا هو جالس، والخلق عنده، فلما صرت مع دسته، قام إليّ قياما تاما، وعانقني، وقال لي في أذني: هذا وقت تنتفع فيه بقيامي لك، وجلس، وأجلسني معه على طرف الدست، فقبّلت يده، وهنّأته ودعوت له.
ومضت ساعة، فإذا قد استدعاه المعتضد «2» ، فقام، وأمرني أن لا أبرح.
فجلست، وامتدّت العيون إليّ، وخوطبت في الوقت، بأجلّ خطاب، وعظّمت.
ثم عاد عبيد الله ضاحكا، وأخذ بيدي إلى دار الخلوة، فقال: ويحك إنّ الخليفة [الساعة] «3» استدعاني بسببك، وذلك انّه كوتب بخبر قيامي لك في مجلس الوزارة، فلمّا استدعاني الآن بدأ لينكر عليّ وقال: تبتذل مجلس الوزارة بالقيام لتاجر؟ ولو كان هذا لصاحب طرف كان محظورا «4» ، أو وليّ عهد كان كثيرا، وأخذ يتحاور في ذلك «5» .
فقلت: يا أمير المؤمنين، لم يذهب عنّي حقّ المجلس، وتوفية الرتبة(1/79)
حقّها، ولكنّ لي عذرا، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسمعه، ثم ينفذ حكمه فيّ، وأخبرته بخبري معك وقت استتاري عندك، فقال: أمّا الآن، فقد عذرتك، فلا تعاود، فانصرفت.
ثم قال لي عبيد الله: يا أبا عبد الله إنّي قد شهرتك شهرة، إن لم تكن معك مائة ألف دينار [29 ب] معدّة للنكبة، هلكت، فيجب أن نحصّلها لك لهذه الحال فقط، ثم نحصّل لك نعمة بعدها، تسعك وعقبك.
فقلت: أنا عبد الوزير، وخادمه، ومؤمّله.
فقال: هاتم «1» فلانا الكاتب، فجاء.
فقال: أحضر التجّار الساعة، وتقصّ «2» عليهم في تسعير مائة ألف كرّ «3» من غلّات السلطان بالسواد بما يساوي، وعرّفني.
فخرج، وعاد بعد ساعة، وقال: قد قرّرت ذلك معهم.
فقال له: بع على أبي عبد الله، هذه المائة ألف كر، بنقصان دينار واحد ممّا قرّرت به السعر مع التجّار، وبعه له عليهم بالسعر المقرّر معهم، وطالبهم بأن يعجّلوا له «4» فضل ما بين السعرين اليوم، وأخّرهم بالثمن إلى أن يتسلّموا الغلّات، واكتب إلى النواحي بتقبيضهم إيّاها.
قال: ففعل ذلك، فقمت عن المجلس، وقد وصل إليّ مائة ألف(1/80)
دينار في بعض يوم، وما عملت شيئا.
ثم قال: اجعل هذه أصلا لنعمتك، ومعدّة للنكبة، ولا يسألنّك أحد من الخلق شيئا إلّا أخذت رقعته، وواقفته على أجرة لك عليها، وخاطبتني.
قال: فكنت أعرض عليه في كل يوم ما يصل إليّ فيه ألوف دنانير، وأتوسّط الأمور الكبار، وأداخل في المكاسب الجليلة، حتى بلغت النعمة إلى هذا الحد.
وكنت ربما عرضت عليه رقعة، فيقول لي: كم ضمن لك على هذه؟
فأقول: كذا وكذا.
فيقول: هذا غلط، هذا يساوي كذا وكذا، ارجع فاستزد.
فأقول له: إنّي أستحي.
فيقول: عرّفهم أنّي لا أقضي لك ذلك إلّا بهذا القدر، وأنّي رسمت لك هذا.
قال: فأرجع، فأستزيد ما يقوله، فأزاد.(1/81)
33 الوزير عبيد الله بن سليمان ورقاع إسماعيل القاضي
حدّثني أبي رضي الله عنه، قال: سمعت القاضي أبا عمر، يقول:
عرض إسماعيل القاضي «1» ، وأنا معه، على [26 ط] عبيد الله بن سليمان، رقاعا في حوائج الناس، فوقّع فيها.
فعرض أخرى، وخشي أن يكون قد ثقّل عليه، فقال له: إن جاز أن يتطوّل الوزير أعزّه الله بهذا، فوقّع له.
فعرض أخرى، [وقال: إن أمكن الوزير أن يجيب إلى هذا، فوقّع، ثم عرض أخرى] «2» ، وقال: إن سهل على الوزير أن يفعل ذلك، فوقّع له، فعرض أخرى، وقال شيئا من هذا الجنس.
فقال له عبيد الله: يا أبا اسحق، كم تقول إن أمكن؟ وإن جاز؟
وإن سهل؟ من قال لك إنّه يجلس هذا المجلس، ثم يتعذّر عليه فعل شيء على وجه الأرض من الأمور، فقد كذبك، هات رقاعك كلّها، في موضع واحد.
قال: فأخرجها إسماعيل من كمّه، وطرحها بحضرته، فوقّع فيها، وكانت مع ما وقّع فيه قبل الكلام نحو ثمانين «3» رقعة.(1/82)
34 الوزير ابن مقلة يتبرّم برقاع ذوي الحاجات
حدّثني الحسين [30 ب] بن الحسن الواثقيّ، قال:
كنت أرى دائما، أبا محمد جعفر بن ورقاء «1» ، يعرض على أبي عليّ ابن مقلة «2» ، في وزارته، الرقاع الكثيرة، في حوائج الناس، في مجالس حفله وخلوته، فربّما تجاوز ما يعرضه في يوم، مائة رقعة.
فعرض عليه يوما، في مجلس خال، شيئا كثيرا، فضجر أبو عليّ، وقال له: إلى كم يا أبا محمد؟
فغضب جعفر، وقال: أيّد الله الوزير، إن كان فيها شيء لي فخرّقه، إنّما أنت الدنيا ونحن طرق إليك، وعلى بابك الأرملة، والضعيف، وابن السبيل، والفقير، ومن لا يصل إليك، فإذا سألونا سألناك، فإن صعب هذا عليك، أمرنا الوزير- أيّده الله- أن لا نعرض عليه شيئا، ونعرّف الناس ثقل حوائجهم عليه، وضعف جاهنا عنده، ليعذرونا.
فقال له أبو عليّ: لم أذهب حيث ذهبت يا أبا محمد، وإنّما أردت أن تكون هذه الرقاع الكثيرة في مجلسين، أو مجلس يحضر فيه الكتّاب فيخفّفون عنّي بالتوقيعات فيها، ولو كانت كلّها حوائج تخصّك لقضيتها، وكان سروري بذلك أعظم، هاتها.
قال: فأخذها جميعها، ووقّع له فيها بما التمس أرباب الرقاع.
فشكره جعفر، وقبّل يده، وانصرف.(1/83)
35 الوزير علي بن عيسى ورقاع أبي بكر الشافعيّ
حدّثني الفضل بن أحمد الحيّاني «1» ، قال: قال لي أبو بكر الشافعيّ «2» صاحب عليّ بن عيسى:
لما أفلتنا من مصادرة المحسّن بن الفرات، بعد ما جرى عليّ من مكروهه، ومصادرته، وإيقاعه بي بسبب صحبتي لعليّ بن عيسى، وأفضى الأمر إلى أبي الحسن عليّ بن عيسى، أردت الانتفاع بأمور أتكلّم فيها، أخلف بما آخذه منها، بعض ما صودرت عليه، فأخذت رقاعا كثيرة للناس، وكنت أعرضها على أبي الحسن فيوقّع فيها.
فعرضت عليه يوما شيئا كثيرا، فضجر مني، فقلت: أيها الوزير، إذا كان حظّنا من أعدائك، في أيّام نكبتك الصفع، ومنك، في أيّام ولايتك، المنع، فمتى- ليت شعري- وقت النفع؟
قال: فضحك، ووقّع لي في جميعها، وما تضجّر من شيء أعرضه عليه بعد ذلك.(1/84)
36 الوزير علي بن عيسى ومحمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشميّ
حدّثني أبو السريّ، عمر بن محمد القارىء «1» ، قال: حدّثني أبو القاسم عيسى بن عليّ بن عيسى «2» ، قال: قال لي أبي:
عرض عليّ أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشميّ [27 ط] ، في بعض وزاراتي، رقعة التمس فيها محالا، وقبّل يدي، فعملت على إجابته إليه، وتركت الرقعة بحضرتي، أتفكّر كيف أعمل ذلك من غير عتب.
وعرض لي رأي في الركوب، فنهضت.
فقبض محمد بن الحسن على يدي، وقال: أنا نفيّ من العبّاس إن تركت الوزير يركب، إلا بعد أن يوقّع لي في رقعتي، أو يقبّل يدي كما قبّلت يده.
قال: فوقّعت له قائما [31 ب] ، وعجبت من سوء أدبه، وعظم وقاحته.(1/85)
37 الوزير أبو محمد المهلبيّ ومحمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشميّ
ولقد شاهدت «1» أبا بكر محمد بن الحسن، هذا، في سنة خمسين وثلاثمائة، وقد تقلّبت الأيّام به، وبأهل بيته، بحضرة أبي محمّد المهلّبيّ، وقد كان العيّارون ثاروا ببغداد، وأوقعوا فتنا عظيمة، كان أصلها بنو هاشم، وغلقوا الجامع بالمدينة «2» فلم تصلّ فيه تلك الجمعة.
وكان سبب ذلك، عربدة وقعت بين رجل عباسيّ وبين رجل علويّ، على نبيذ، في خندق طاهر «3» ، فقتل العلويّ، وثار أهله به، وثارت الفتنة ودخلت العامّة فيها، وعظم الأمر، حتى أجلس الديلم في الأرباع، وكان شيئا هائلا.
ولم تسكن الفتنة، فقبض أبو محمد، على أكثر بني العبّاس، الوجوه والمستورين، والعيّارين منهم والذعّار «4» ، حتى قبض في جملتهم على عدّة قضاة وشهود هاشميّين وصلحاء، وكان ممّن قبض عليه محمد بن الحسن ابن عبد العزيز.
وجلس لهم الوزير أبو محمد، يوما، ليناظرهم، وسامهم «5» أن يسمّوا(1/86)
له العيّارين منهم، والأحداث، وحملة السكاكين، ليقبض عليهم، ويفرج عن الباقين، وأن يكفّل منه أهل الصلاح، لأهل الطلاح، ويأخذون على أيديهم، لتطفأ نائرة «1» الفتنة.
وكان القاضي أبو الحسن، محمد بن صالح الهاشميّ، حاضرا، فأخذ يتكلّم بكلام سديد، في دفع هذا، وترقيق المهلّبيّ، ويرفق به.
فاعترض ابن عبد العزيز الخطاب، وتكلّم بكلام فيه حراشة «2» وجفاء وخشونة.
فسمعت أبا محمد يقول له: يا ماصّ كذا وكذا، ما تدع جهلك، والخيوط «3» التي في رأسك، كأنّي لا أعرفك قديما وحديثا، وأعرف حمقك، وحمق أبيك، وتشنيعك لمجالس الوزراء، وشهوتك أن تقول: قال الوزير، فقلت له، وما تظن إلا أنّ المقتدر على السرير، وأنا أحد وزرائه، ولا تعلم أنّ صاحب السرير اليوم، هو الأمير معزّ الدولة الديلميّ، يرى أنّ في سفك دمك قربة إلى الله تعالى، وأنّ وزنك عنده كوزن الكلب، يا غلمان جرّوا برجله.
فجرّت رجله ونحن حاضرون، فرأيت قلنسوة كانت على رأسه، وقد سقطت.
ثم قال: طبّقوا عليه زورقا، وانفوه إلى عمان، فأجلس في الزورق، وحدر.
فقبّلت الجماعة يده، وراسله الخليفة المطيع لله في أمره، ولم تزل(1/87)
المراسلات، إلى أن عفا عنه، وألزمه بيته، وأخذ خطّ أهله بجميع ما كانوا امتنعوا منه، ممّا سامهم إيّاه، وتلقّط خلقا من أحداث الهاشميّين، وغيرهم من العامّة، وأهل الذعارة والعصبيّة، فجعلهم في زواريق، وطبّقها عليهم، وسمّرها، وأنفذها إلى بصنّى «1» وبيروذ «2» ، فحبسهم في حبوس ضيّقة هناك، ودور تجري مجرى القلاع، فكانوا فيها [32 ب] إلى أن مات أبو محمّد، ومات منهم خلق في الحبس، ثم أطلق [28 ط] بقيّتهم، على قلّتها، بعد موته بسنين، وزالت الفتنة إلى الآن.(1/88)
38 لو سلم من العشق أحد لسلم منه أبو خازم القاضي
حدّثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمديّ «1» ، كاتب القضاة من بني عبد الواحد بالبصرة، وله شعر جيّد حسن، واتّساع تام في الأدب، رواية «2» له وحفظ، وكتب مصنّفة فيه، قال: حدّثني أبو إسحاق الزجّاج، قال:
كنّا ليلة بحضرة القاسم بن عبيد الله «3» [يشرب] «4» ، وهو وزير، فغنّت [بدعة] «5» جارية [عريب] «6» .
أدلّ فأكرم به من مدلّ ... ومن ظالم لدمي مستحلّ
إذا ما تعزّز قابلته ... بذلّ وذلك جهد المقلّ
فأدّت فيه صنعة حسنة، فطرب القاسم عليه طربا شديدا، واستحسن الصنعة والشعر، وأفرط في وصف الشعر.
فقالت بدعة: يا مولاي، إنّ لهذا الشعر خبرا أحسن منه.(1/89)
قال: ما هو؟
قالت: هو لأبي خازم القاضي «1» .
قال: فعجبنا من ذلك، مع شدّة تقشّف أبي خازم، وبغضه «2» ، وورعه، وتقبّضه.
فقال لي الوزير: بالله يا أبا إسحاق، بكّر إلى أبي خازم، وسله عن هذا الشعر وسببه.
فباكرته، وجلست حتى خلا وجهه، ولم يبق إلّا رجل بزيّ القضاة عليه قلنسوة، فقلت له: شيء أقوله على خلوة.
فقال: قل، فليس هذا ممّن أكتم.
فقصصت عليه الخبر، وسألته عن الشعر والسبب.
فتبسّم، وقال: هذا شيء كان في الحداثة، قلته في والدة هذا- وأومأ إلى القاضي الجالس، فإذا هو ابنه- وكنت إليها مائلا، وكانت لي مملوكة، ولقلبي مالكة، أمّا الآن فلا عهد لي بمثله منذ سنين، وما عملت شعرا منذ دهر طويل، وأنا أستغفر الله مما مضى.
قام: فوجم الفتى، وخجل، حتى ارفضّ عرقا.
وعدت إلى القاسم فأخبرته، فضحك من خجل الابن، [وقال: لو سلم من العشق أحد، لكان أبو خازم مع بغضه] «3» .
وكنّا نتعاود ذلك زمانا.(1/90)
39 علويّ يفتخر بنفسه
أنشدني أبو إسحاق «1» ، إبراهيم بن عليّ النصيبينيّ المتكلّم، وأبو الفرج عبد الواحد بن نصر الببغاء «2» وغيرهما، قالوا:
أنشدنا أبو عبد الله ابن الأبيض العلويّ بالشام، لنفسه:
وأنا ابن معتلج البطاح تضمّني ... كالدرّ في أصداف بحر زاخر
ينشقّ عنّي ركنها وحطيمها ... كالجفن يفتح عن سواد الناظر
كجبالها شرفي ومثل سهولها ... خلقي ومثل ظبائهن مجاوري «3»
[وذكر أبو الحسن السلامي «4» : إنّ أبا الحسن الرامي مرّ على عليّ بن خلف القطّان البغداديّ، وأنشده هذه الأبيات لنفسه] «5» .(1/91)
40 ابن قناش الجوهري يصف دجلة
أنشدني أبو جعفر طلحة بن عبيد الله الطائيّ البغداديّ، المعروف بابن قناش الجوهريّ لنفسه:
أنا ظام فاسقنيها ... إنّني حلف اختيال
ما ترى دجلة كالس ... احب أذيال الدلال
وهي تزهى بقصور ... عن يمين وشمال [29 ط]
وبماء قد حكى المدّ ... به ظهر غزال [33 ب]
41 في هجاء مغن طنبوري
[ص 34] أنشدني أبو الحسن، محمد بن عبد الواحد، في ابن طرخان «1» المغنّي الطنبوريّ، لنفسه، وله اتّساع في الأدب تام:
قل لابن طرخان «2» أما تستحي ... تقرن تطفيلك بالباس
يا أخرج الناس من إيقاعه ... وأدخل الناس إلى الناس
وقال:
يا من يصيح بحلق ما له طبقه ... ولا يوافق زيرا لان أو خرقه
فارقت بينك والإيقاع في قرن ... فأنت أطفل من كلب على مرقه
فإن دعيت ففي الأحيان عن غلط ... وإن حظيت بشيء فهو من صدقه(1/92)
42 للكاتب بشر بن هارون في هجاء أحد خلفاء القضاة ببغداد
أنشدني أبو نصر بشر بن هارون، الكاتب النصرانيّ البغداديّ «1» ، لنفسه، في أبي رفاعة بن كامل، أحد خلفاء القضاة ببغداد، على بعض سوادها:
قضى شعري على القاضي بحكم ... أجاب إليه مصفوعا مذالا
ولو لم يستجب لنتفت منه ... سبالا إن وجدت له سبالا
ونتف سباله شيء محال ... لأنّ الحلق صيّره محالا(1/93)
43 بشر بن هارون الكاتب يشكو من رئيسين صرف أحدهما بالآخر
وأنشدني «1» لنفسه في شعبان سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، في رئيسين صرف أحدهما بالآخر، [وإنّما كتبتهما إذ ذاك، لأنهما كانا حينئذ قدّروهما في أبي الفضل الشيرازيّ «2» لمّا صرف عن الوزارة بأبي الفرج بن فسانجس] «3» :
مضى من كان يعطينا قليلا ... ووافى من يشحّ على القليل
وأحسب أن سيملكنا مكدّ «4» ... متى اطّرد القياس على الدليل
فقل للفاطميّ «5» لقد تمادت ... أناتك في الحلول وفي الرحيل
فحثّ السير علّ الله يهدي ... شفاء منك للبلد العليل(1/94)
44 أبو نصر البنص في مجلس سيف الدولة، يعلّل سبب تسميته بالبنص
أخبرني أبو جعفر طلحة بن عبيد الله بن قناش، إنّه كان بحضرة سيف الدولة «1» ، وقد كان من ندمائه، قال:
كان يحضر معنا أبو نصر البنص، وكان هذا رجلا من أهل نيسابور، أقام ببغداد قطعة من أيّام المقتدر، وبعدها إلى أيّام الراضي، وكان من أصحابنا في المذهبين، يعني في الفقه مذهب أبي حنيفة، وفي الكلام مذهب أهل العدل والتوحيد «2» ، وكان مشهورا بالطيبة، والخلاعة، وخفّة الروح، وحسن المحاضرة، مع عفّة وستر، وتقلّد الحكم في عدّة نواح بالشام.
فقيل له يوما بحضرة سيف الدولة، لم لقّبت بالبنص؟
قال: ما هذا لقب، إنّما هو اشتقاق من كنيتي، كما انّنا لو أردنا أن نشتقّ من أبي عليّ مثل هذا، وأومأ إلى ابن البازيار، لقلنا ألبعل، ولو اشتققنا من أبي الحسن مثل هذا، وأومأ إلى سيف الدولة، لقلنا ألبحس.
فضحك منه، ولم ينكر عليه.(1/95)
45 أبو نصر البنص في مجلس أبي بكر بن دريد
وخبّرني أبو جعفر، قال:
حضرت ببغداد مجلس أبي بكر بن دريد «1» ، وأبو نصر هذا يقرأ عليه قصيدته التي أوّلها [30 ط] :
أماطت لثاما عن أقاحي الدمائث ... بمثل أساريع الحقوف العثاعث
إلى أن بلغ إلى قوله:
إذا أنسوا ضبّا بجانب كدية «2» ... أحاطوا على حافاتها بالربائث «3»
[34 ب] فقطع القراءة، وقال: يا أبا بكر، أعزّك الله، ما الربائث «4» ؟
قال ابن دريد: العرب تسمي الحراب العراض الحدائد، ربائث «5» .
فقال له البنص: أخطأت يا أبا بكر أعزّك الله.
فعجبنا من جرأته على تخطئة أبي بكر في العلم، وتشوّفنا إلى ما يجري.
فقال له أبو بكر، وكان وطيء الخلق: فما هي يا أبا نصر، أعزّك الله؟
قال: جمع ربيثاء «6» ، هذه [التي تقدّم] «7» في السكرجات «8» .
وعاد يقرئنا في القصيد، محتدّا، فضحكنا منه.(1/96)
46 أبو نصر البنص وصاحب الشرطة
حدّثني أبو حامد أحمد بن بشر بن عامر الخراسانيّ، القاضي الفقيه، قال: قال لي أبو نصر البنص هذا:
كنت في بعض المدن، وأنا غريب، فنزلت في خان، فكان يختلف إليّ أحداث ورجال، أقرئهم الفقه في غرفتي، وإذا انقضى الدرس، لعبنا ومزحنا.
فظنّ أهل الخان، أنّ اجتماعهم عندي، مع ما يسمعونه من المزح، لفساد، فاستعدوا عليّ إلى صاحب الشرطة، وقالوا إنّني قوّاد.
فأحضرت، فلما وقفت بين يديه، رأيت على رأسه غلاما أمرد حسن الوجه قائما، فأنعظت من شهوته، فقال لي الوالي: أنت قوّاد؟
قال: وكنت بلا سراويل، فكشفت عن أيري، وقلت: هذا، أصلحك الله، أير قوّاد؟
فضحك، وقال: لا، وفرّق القوم عني، وأخذني لعشرته، فكنت أختلف إليه، مدّة كوني في البلد، وأعاشره.(1/97)
47 بين الأمير معزّ الدولة ووزيره أبي جعفر الصيمريّ
حدّثني أبو حامد القاضي، قال:
كنت قائما بين يدي معزّ الدولة «1» ، فقال لأبي جعفر الصيمريّ «2» وزيره، بالفارسيّة: يا أبا جعفر، أريد الساعة خمسمائة ألف دينار «3» ، لمهمّ لا يجوز تأخيره.
فقال له الصيمريّ: أيّها الأمير، رد ذلك، فإنّي أيضا أريد مثله.
فقال له: فإذا كنت أنت وزيري، فممّن أريد هذا إلّا منك؟
فقال له الصيمريّ: فإذا لم يكن في الدّخل فضل لذلك عن الخرج، فمن أين أجيئك به؟
قال: فحرد عليه معزّ الدولة وقال: الساعة والله أحبسك في الكنيف، حتى تجيء بذلك.
فقال: إذا حبستني في الكنيف، خريت لك نقرة «4» بهذا المال؟
فضحك منه، وأمسك عنه «5» .(1/98)
48 المدائني يتماجن على شيخ صوفيّ
حدّثني أحمد بن محمد المدائنيّ، قال:
وقفت في جامع المدينة ببغداد على حلقة صوفيّة، يتحاورون على الخطرات والهواجس «1» ، ومسائل تشبه الوسواس، لم أفهمها.
وخطر لي أن أمجن بهم، فقلت: أيّها الشيخ المصدّر، مسألة.
فقال: هات.
فقلت: أخبرني إذا كنت شيخا في معناك، حلسا في ذات نفسك، فأصاب يافوخك تقطيع [بعضب خزري] «2» على سبيل العلم، وكنت تحت الإرادة، هل يضرّ أوصافك شيء، مع تعلّقك بحبل القدرة [35 ب] ، يا بطّال؟
قال: فوقع لمن حوله إنّها مسألة، وأخذوا يتعاطون الجواب.
وفطن الشيخ، فخفت أن يأمرهم بي، فانسللت.(1/99)
49 أبو أحمد الحارثيّ وصوفيّ يترنّم بالرباعيّات
حضرني أبو أحمد عبد الله بن عمر الحارثيّ، وعندي صوفيّ يترنّم بشيء من [31 ط] الرباعيّات، فلم يستطبه أبو أحمد.
فقال له على البديهة: يا أخي لا أقطع حديثك إلّا بخير.
50 الشافعي وغلام الهرّاس
حدثني الفضل بن أحمد الحيّاني «1» ، قال: قال لي الشافعيّ، صاحب عليّ ابن عيسى «2» :
علق مرّة بلجام مركوبي، غلام هرّاس، بيده غضارة هريسة «3» ينادي عليها، وشالها «4» إلى أنفي، وقال: جمع اللوز والغنم، ثم نادى يمينه «5» .
فقلت أعزّك الله، هذا وجهي إلى الوزير، أخبره بهذا الخبر، فإن رأيت أن تطلقني، فعلت.(1/100)
51 أبو محمد الواسطيّ والمغنّية التي يهواها
حدّثني أبو أحمد الحارثيّ، قال:
كان عندنا بواسط، رجل متخلّف موسر، يقال له: أبو محمد بن أبي أيّوب، وكان يعاشرنا بمغنّية يهواها، وكان من غنائها، صوت أوّله:
إنّ الخليط أجدّ منتقله ... ولوشك بين حمّلت إبله
وكانت تغني فيه لحنا صعبا حسنا، لا يفهمه أبو محمّد لتخلّفه، فاقترحه يوما عليها، فقال: بالله يا ستي غنّي لي:
إنّي خريت فجئت أنتقله فقالت: ويل لي، أنا أغنّي شيء من هذا؟
ففطنت لما يزيد، فقلت لها: إنّه يريد أن تغنّي له:
إنّ الخليط أجدّ منتقله فقالت له: قطع [الله] «1» ظهرك، أين ذا من هذا؟ وغنّت الصوت.
وكان من غنائها:
خليليّ هيّا نصطبح بسواد «2»(1/101)
فقال لها يوما: بالله يا ستّي، غنّي:
خليليّ هيّا نصطبح بسماد
فقالت له: إذا عزمت على هذا، فوحدك «1» .
قال: ودخلت إلينا يوما على غفلة، ونحن نصافعه ويصافعنا بالمخادّ، فاستحيا، وسألنا أن ندعه، فتركناه.
فلما، جلسنا على الشرب، طلب منها صوتا له عليها «2» ، وهو:
أبيني «3» سلاحي لا أبا لك إنّني ... أرى الحرب لا تزداد إلّا تماديا
فأعطته مخدّة «4» .(1/102)
52 أبو الفرج الببغاء يمدح سيف الدولة
أنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزوميّ النصيبينيّ الكاتب المعروف بالببغاء «1» ، قصيدة له في سيف الدولة، يذكر وقعة كانت له مع بني كلاب، وعفوه عنهم:
إذا استلّك الجانون أغمدك الحلم ... وإن كفّك الإبقاء أنهضك العزم
وهي حقيقة بأن تورد كلّها، ولكنّي اخترت من شعره، ما يصلح للمكاتبة في الحوادث، أو الأمثال، أو معنى لم يسبق إليه، فتركت أكثر محاسن شعره، وحسن نظمه، وبلاغته، وعذوبة كلامه، وأكثر إحسانه، موكولا إلى من ينظر في ديوانه.
ومن هذه القصيدة، مثل:
ومن لم يؤدّ به لفرط عتوّه ... إذا ما جنى الإنصاف أدّبه الظلم [36 ب]
ومنها:
إذا العرب لم تجز اصطناع ملوكها ... بشكر تعاوت في سياستها العجم
أعدها إلى عادات عفوك محسنا ... كما عوّدتها قبل آباؤك الشمّ
فإن ضاق عنها العذر عندك في الذي ... جنته فما ضاق التفضّل والحلم [32 ط](1/103)
53 القاضي أبو بكر بن سيار وحساب الأصابع
حدّثني القاضي أبو بكر أحمد بن سيّار، قال «1» :
ضربوا مثلا للإنسان فقالوا:
ابن عشر سنين، قد دار في أهله، كما دارت هذه على هذه، وأومأ إلى ابهامه وسبّابته، وعقد عشرا.(1/104)
وابن عشرين، قد التصب بين أمري الكسب والعيال، كما انتصبت هذه بين هاتين، وعقد بأصابعه عشرين.
وابن ثلاثين، قد استوى، كما استوت هذه على هذه، وعقد ثلاثين بأصابعه.
وابن أربعين، قد قام كما قامت هذه، وعقد بأصابعه.(1/105)
وابن خمسين قد انحنى، كما انحنت هذه، وعقد خمسين بأصابعه.
وابن ستين، وعقدها بأصابعه، قد انحطّ في عمره وقوّته، كما انحطّت هذه على هذه.
وابن سبعين، قد اضطجع، كما اضطجعت هذه على هذه.(1/106)
وابن ثمانين، وعقدها، قد احتاج إلى ما يتوكّأ عليه، كما توكّأت هذه على هذه.
وابن تسعين، قد ضاق عمره وأمعاؤه، كما ضاقت هذه.
وابن مائة، قد انتقل عن الدنيا إلى الأخرى، كما انتقل العقد من اليمين إلى الشمال.(1/107)
54 هنديّ يقتل فيلا بحيلته من غير سلاح
وحدّثني القاضي أبو بكر أحمد بن سيّار «1» ، قال: حدّثني شيخ من أهل اليمن، وذكر أنّ اسمه نعمان، وجدتهم يذكرون ثقته، ومعرفته بأمر البحر، وأنّه دخل الهند والصين، قال:
كنت ببعض بلدان الهند، وقد خرج على ملكها خارجيّ، فأنفذ إليه الجيوش، فطلب الأمان، فأمّنه، فسار ليدخل، من موضعه، إلى بلد الملك، فلما قرب، أخرج الملك الجيش ليلتقيه، والآلات، وخرجت العامّة، تنتظر دخوله، فخرجت معهم.
فلما بعدنا في الصحراء، وقف الناس ينتظرون طلوع الرجل، وهو راجل، في عدّة الرجال، وعليه ثوب ديباج، ومئزر في وسطه، جريا على زيّ القوم، فتلقّوه بالإكرام، ومشوا به، حتى انتهى إلى أفيلة عظيمة، قد أخرجت للزينة، وعليها الفيّالون، وفيها فيل عظيم يختصّه الملك لنفسه، ويركبه في بعض الأوقات.
فقال له الفيّال، لمّا قرب منه: تنحّ عن طريق الفيل، فسكت، فأعاد عليه، فسكت.
فقال له: يا هذا، احذر على نفسك، وتنحّ عن طريق فيل الملك.
فقال له الخارجي: قل لفيل الملك يتنحّى عن طريقي.(1/108)
فغضب الفيّال، وأغرى الفيل به، بكلام كلّمه، فغضب الفيل وعدا إلى الخارجيّ، ولفّ خرطومه، وشاله الفيل شيلا عظيما، والناس يرونه، وأنا فيهم، ثم خبط به الأرض، فإذا هو قد انتصب على قدميه فوق الأرض، ولم ينحّ يده عن الخرطوم.
فزاد غضب الفيل، وشاله أعظم من ذلك، وعدا، ثم رمى به الأرض، فإذا هو قد حصل عليها مستويا على قدميه، منتصبا، قابضا على الخرطوم.
قال: فشاله الفيل الثالثة، وفعل به مثل ذلك، فحصل على الأرض منتصبا، قابضا على الخرطوم، وسقط الفيل ميتا، لأنّ قبضه على الخرطوم تلك المدة، منعه من النفس، فقتله.
قال: فوكّل به، وحمل [33 ط] إلى الملك، وحدّث بالصورة، فأمر بقتله.
فاجتمع القحاب- بهذا اللفظ- وهم النساء الفواجر، يفعلن ذلك بالهند ظاهرا، عند البدّ، تقربا إليه عندهم، بلا اجتعال «1» ، وهم العدول هناك، يشهدون في الحقوق، ويقمن الشهادة، فيقطع بها حاكمهم. ويشاورن في الأمور، وفي الآراء، وعندهن، إنهن ببذلهنّ نفوسهنّ عند البدّ، بغير اجتعال، قد صرن في حكم الزهّاد، والعبّاد.
قال: فقالت القحاب للملك، يجب أن تستبقي مثل هذا، ولا تقتله، فإنّ فيه جمالا للمملكة، ويقال: إنّ للملك خادما، قتل فيلا بقوّته وحيلته، من غير سلاح.
فعفا عنه الملك واستبقاه «2» .(1/109)
55 ملك الهند يحاور الحكماء من رعيته
[حدّثني القاضي أبو بكر أحمد بن سيّار، قال: حدثني شيخ من أهل التيز ومكران «1» ، لقيته بعمان، ووجدتهم يذكرون ثقته، ومعرفته بأمر البحر] «2» ، وحدّثني القاضي، قال: حدّثني هذا الشيخ:
إنّ رجلا بالهند من أهلها حدّثه: أنّ خارجيّا، خرج في بعض السنين، على ملك من ملوكهم، فأحسن التدبير، وكان الملك معجبا برأيه، مستبدّا به، فأنفذ إليه جيشا، فكسره الخارجيّ، فزحف إليه بنفسه.
فقال له وزراؤه: لا تفعل، فإن الخوارج تضعف بتكرير الجيوش عليها، والملك لا يجب أن يغرّر بنفسه، بل يطاول الخارجيّ، فإنّه لا مادة له يقاوم بها جيشا بعد جيش، إذا توالت عليه جيوش الملك.
فلم يقبل «3» ، وخرج بنفسه، فواقعه، فقتله الخارجيّ، وملك داره ومملكته، فأحسن السيرة، وسلك سبيل الملوك.
فلما طال أمره، وعزّ ذكره، وقوي سلطانه، جمع حكماء الهند، من سائر أعماله، وأطراف بلدانه، وكتب إلى عمّاله أن يختار أهل كل بلد، مائة منهم، من عقلائهم وحكمائهم، فينفذونهم إليه، ففعلوا.
فلما حصلوا ببابه، أمرهم باختيار عشرة منهم، فاختاروا، فأوصل(1/110)
العشرة، وأوصل من أهل دار المملكة عشرة، وقال لهم: يجب على العاقل، أن ينظر عيوب نفسه فيزيلها، فهل ترون فيّ عيبا، أو في سلطاني نقصا؟ [37 ب] فقالوا: لا، إلّا شيئا واحدا، إن أمنتنا قلناه.
قال: أنتم آمنون.
قالوا: نرى كل شيء لك جديدا، يعرّضون إنّه لا عرق له في الملك.
فقال: فما حال ملككم الذي كان قبلي؟
قالوا: كان ابن ملك.
قال: فأبوه؟ قالوا: ابن ملك.
قال: فأبوه؟ إلى أن عدّد عشرة أو أكثر، وهم يقولون، ابن ملك، فانتهى إلى الأخير. فقالوا: كان متغلّبا.
قال: فأنا ذلك الملك الأخير، وإن طالت أيامي، مع إحساني السيرة، بقي هذا الملك بعدي، في ولدي [وولد ولدي] «1» ، فصار لأولاد أولادهم من العرق في الملك، مثل ما كان لملككم الذي كان من قبلي.
فسجدوا له، وكذا عادتهم إذا استحسنوا شيئا، ولزمتهم حجّة، وانصرفوا، فازداد بذلك الملك توطّدا له.
قلت أنا للقاضي: هذا شيء قد سبقت العرب إليه في كلمتين، استغني بهما عن هذا المثل الطويل العجميّ.
فقال: ما هما؟
فقلت [34 ط] : روت العرب أنّ رجلين تفاخرا، فقال أحدهما لصاحبه: نسبي منّي ابتدأ، ونسبك إليك انتهى.(1/111)
56 الصيمريّ وزير معزّ الدولة يرفق بأحد المصادرين
حدّثني أبو القاسم سعيد بن عبد الرحمن الكاتب الأصبهانيّ، قال:
حضرت الصيمريّ «1» ، في وزارته لمعزّ الدولة، وقد أحضر رجلا مصادرا، وقد قرّر أمره على مال.
فقال له: أعطني كفيلا، واخرج فصحّح المال.
فقال: لا كفيل لي أوثق من إحسانك إليّ أيها الأستاذ.
فرقّ له، وخفّف مصادرته، وأحسن إليه.(1/112)
57 مهاترة بين بصريّ وسيرافيّ
حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن بكر، قال: حدّثني أبو بكر سعيد بن هارون الطبيب، وكان أبوه سيرافيّا «1» وجيها في بلده وغيرها، موسرا، قال:
خاصم أبي رجل من أهل البصرة، فقال له الرجل: تكلّمني وأنت قطعة سيرافيّ؟
فقال له سعيد: أنا نجار «2» في بلدي، وأنت عار في بلدك «3» .(1/113)
58 الوزير أبو محمد المهلبيّ وحدّ الإقبال والإدبار
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف «1» ، قال: حدّثني قاضي القضاة أبو محمد عبيد الله بن أحمد»
، قال:
تجارينا بحضرة أبي محمد المهلّبيّ، ذكر الإقبال والإدبار، فقال:
ليس الإقبال أكثر من الحركة والتواضع، ولا الإدبار أكثر من الكسل والتكبّر.(1/114)
59 من شعر أبي الفرج الببغاء
أنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد النصيبينيّ المخزومي الكاتب، المعروف بالببغاء «1» لنفسه قصيدة منها:
جاورت بالحبّ قلبا لم تذر فكري ... للحبّ مستمتعا فيه ولم تدع
يصبو ولكن يكفّ الحلم صبوته ... وأشرف الحبّ أدناه من الورع
وبي أمسّ غرام لو أنست إلى الشكوى ... ولكن أعدّ الصبر للجزع
ما بال أهل زماني من تجاهلهم ... بموضعي بين مغبون ومختدع
من لم تزد قومه أفعاله شرفا ... بالفضل فهو لمعنى غير مخترع «2» [38 ب]
عفت الموارد لمّا «3» لم أجد ظمأ ... في كثرة الماء ما يغني عن الجرع(1/115)
60 لأبي الفرج الببغاء في الأمير سيف الدولة
وأنشدني لنفسه قصيدة في سيف الدولة «1» رحمه الله أوّلها:
أفادت بك الأيّام فرط تجارب ... كأنّك في فرق الزمان مشيب
وكلّ بعيد قرّب «2» الحين نحوه ... سلاهبك الجرد الجياد قريب
تباشر أقطار البلاد كأنّها ... رياح لها في الخافقين هبوب
وتملأ ما بين الفضائين عثيرا ... مثارا بوجه الشمس منه شحوب
وما يدرك العلياء إلّا مهذب ... يصاب على مقداره ويصيب
فلا تصطف الإخوان قبل اختبارهم ... فما كلّ خلّ تصطفيه نجيب(1/116)
61 من مكارم أخلاق أبي المنذر النعمان بن عبد الله
حدّثني القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن «1» ، قال: حدّثني وكيل كان لأبي المنذر النعمان بن عبد الله «2» ، قال:
كان من عادة النعمان، إذا كان في انسلاخ كلّ شتوة، أن يعمد إلى جميع ما استعمله من خزّ وصوف وفرش وكوانين وآلة الشتاء، فيبيعه في النداء «3» .
ثم ينفذ إلى حبس القاضي، فينظر من حبس بإقراره، دون قيام البيّنة عليه، ولا حال له، فيؤدّي ما عليه من ثمن تلك الآلات، أو يصالح عنه [35 ط] ويخرجه، إن كان المال ثقيلا.
ثم يعمد إلى من يبيع بيعا يسيرا، مثل بقليّ «4» ورهداريّ «5» ، ومن رأس(1/117)
ماله دينار، وديناران، وثلاثة، فيعطيه من عشرة دنانير إلى مائة درهم، وأقلّ وأكثر، ليزيد في رأس ماله.
ويعمد إلى من يبيع في الأسواق مثل طنجير، وقدر، وقميص خلق، وما يغلب على الظنّ أنّ مثله لا يباع إلّا من ضرّ شديد، وإلى امرأة تبيع غزلها عجوز، فيعطيهم أضعاف ثمنه، ويدعه عليهم.
ويعمل ألوانا من هذا الجنس كثيرة، يأمرني بفعلها، وصرف ثمن تلك الآلات إليها.
فإذا انقضى «1» الصيف عمد إلى ما عنده من دبيقيّ، وقصب، وحصر، ومزمّلات، وآلة الصيف، فيفعل به مثل ذلك.
فإذا جاء الشتاء والصيف ثانية، استجدّ جميع ما يحتاج إليه.
فلما كثر ذلك عليّ من فعله، قلت له: يا سيّدي، إنّك، هوذا، تفقر نفسك، من حيث لا تنفع غيرك، لأنّك تشتري هذه الثياب، والآلات، والفرش، في وقت الحاجة إليها بضعف قيمتها، وتبيعها وقت استغناء كافّة الناس عنها، فتشترى منك بنصف قيمتها، فيخرج منك في ذلك، مال عظيم، فإن أذنت لي، ناديت على كلّ ما يباع، فإذا استقرت العطيّة، وأخذت الدراهم «2» ، أخذته لك بزيادة، وعزلته إلى الصيف أو الشتاء، ودفعت مثل ثمنه، من مالك، إلى هذه الوجوه.
فقال لي: ما أحبّ هذا، تلك الآلات قد متّعني الله بها طول شتائي أو صيفي، وبلّغني وقت الغناء «3» [39 ب] عنها، وما أنا على ثقة من أنّي(1/118)
أعيش إلى وقت الحاجة إليها ثانيا، ولعلّي قد عصيت الله عليها، وفيها، فأنا أحبّ بيع أعيانها؛ وصرف الثمن بعينه، في هذه الوجوه، شكرا لله على تبليغي وقت الاستغناء عنها، وكفّارة لما عصيته فيها، ثم إن أحياني الله إلى وقت الحاجة إليها، فليس ذلك بغال، ولا يتعذّر شراء مثله، واستجداد خلفه، والتمتّع بالجديد.
وفي بيعي إيّاه رخيصا، وشراي له غاليا، فائدة أخرى، وهي أن ينتفع الضعفاء من التجّار الذين أبتاع ذلك منهم، وأبيعه عليهم، بما فيه من الأرباح عليّ، ولا يؤثّر ذلك في حالي.(1/119)
62 من مكارم أخلاق أبي المنذر النعمان بن عبد الله
أخبرني القاضي «1» ، وقال: أخبرني هذا الوكيل «2» :
إنّ النعمان كان يعجبه، إذا قدّم إليه لون من طعام طيّب، أو حلو عجيب، أن لا يمعن في أكله، ويأمر بدفعه بعينه إلى السؤّال «3» .
وكان رسمه، أن يفرّق في كلّ يوم، جميع ما يشال من مائدته، ويفضل في مطبخه، عن وظائف غلمانه، فكان يجتمع على بابه، كلّ يوم، منهم جمع عظيم.
قال: فأكل يوما عنده صديق له هاشميّ، فقدّم إليه لون طيّب، فما استتمّ أكله حتى أمر به للسؤّال، فشيل.
وقدّم جدي سمين، فما تهنّأوا بأكله حتى أمر به فرفع إلى السؤّال، وقدم جام لوزينج معمول بالفستق، وكان يعجب النعمان، ويلزمه على كلّ [36 ط] جام خمسون درهما، وخمسة دنانير، وأقلّ، وأكثر، على قدر كبر الجام، فما أكلوا منه إلّا يسيرا، حتى قال: ارفعوه إلى السؤّال.
فقبض الهاشميّ على الجام، وقال: يا هذا، أحسب أنّنا نحن السؤّال، ودعنا نتهنّا بأكله، لم تدفع كل ما تشتهيه للسؤّال؟ وما للسؤّال وهذا؟(1/120)
لهم في لحم البقر، وعصيدة التمر كفاية، والله لا شلته.
فقال: يا سيّدي، إنّ عادتي ما تراه.
قال: بئست العادة، لا نصبر لك عليها، تقدّم أن يعمل للسؤّال إذا كان لا بدّ لك من ذلك، مثل هذا، ودعنا نحن نتمتّع بأكله، أو ادفع إليهم مثل ثمنه.
فقال: أفعل مستأنفا، وأتقدّم بأن يصنع لهم مثله، فأمّا ثمنه، فإنّ السائل لا تسمو نفسه، ولا يتّسع صدره لعمل مثل هذا، ولو دفع إليه أضعاف ثمنه مرارا، لأنه إذا حصلت عنده الدراهم، صرفها إلى غير هذا، في أمره المختلّ الذي هو إلى إصلاحه أحوج، ولا يحسن أيضا، عمل مثل هذا، وأنا أحبّ أن يشاركوني في الالتذاذ بما آكل، يا غلام، تقدّم الساعة بعمل جامة «1» مثل هذه، وتفريقها على السؤّال، ففعل ذلك.
وكان بعدها إذا حضر من يحتشمه، أمر بعمل مثل ما يقدّم إليه، والصدقة به، ولم يأمر برفع ذلك من [40 ب] حضرته، إلّا إذا بشمه الحاضرون.(1/121)
63 أبو القاسم بن الحواريّ وعظيم برّه بأمّه
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش، قال:
كان يألف أبا القاسم بن الحواريّ «1» ، رجل من أهل عكبرا «2» يخطب بأهلها، وكان ماجنا، خفيف الروح، مليح الحديث والكلام، طيّب النشوار والأدب، يكنى بأبي عصمة، وكان يؤاكله دائما، ويختصّ به «3» ، وينفق عليه.
وكان أبو القاسم، شديد البرّ بأمّه، فكان يتنغّص لها بالماء فضلا عمّا سواه، ولا يتهنّأ بأكل شيء، إلّا إذا أكلت منه، وكان من عادته إذا استطاب لونا، أن ينفذه من مائدته إليها.
فأكل عنده أبو عصمة هذا، أوّل يوم، وهو لا يعرف رسمه، فقدّم(1/122)
لوزينج طيّب، فما شبع منه أبو عصمة حتى أمر به أبو القاسم فرفع إلى والدته.
وقدمت مضيرة جيّدة، بفراخ مسمّنة، ودجاج هنديّ، ودهن الجوز والخردل، فما أكلوا منها حسبا «1» حتى أمر ابن الحواريّ، برفعها إلى والدته، فأخذ أبو عصمة رغيفا، وقام يمشي مع الغضارة.
فقال له ابن الحواريّ: إلى أين يا أبا عصمة؟
قال: إلى الوالدة يا سيّدي، آكل معها هذه المضيرة، فإنّ هذه المائدة خراب، والخصب عندها.
فضحك ابن الحواريّ، وتقدم بردّ اللون إليه.(1/123)
64 أبو عصمة الخطيب وأهل عكبرا
قال «1» ، وكان أبو عصمة هذا لي صديقا، وبي آنسا، فقال لي يوما:
إنّ أهل عكبرا سفّل، وأنا مبتلى بالخطبة «2» بهم، فإذا صعدت المنبر، أو مأت إليهم بيدي، إيماء السلام، فيؤذّن المؤذّن، ويحسبون أنّي قد سلّمت عليهم، وإنّما أقول: لحاكم كلّكم في استي.(1/124)
65 أصل نعمة سليمان الثلاج في بغداد
حدّثنا أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازيّ الكاتب «1» ، قال: حدّثني ابن سليمان الثلّاج «2» قال: قال لي أبي:
كان أصل نعمتي من ثمن خمسة أرطال ثلجا، وذلك أنّه عزّ الثلج في بعض السنين ببغداد، وقلّ، وكان عندي منه شيء بعته، وبقي منه خمسة أرطال.
فاعتلّت شاجي «3» جارية عبيد الله بن عبد الله [37 ط] بن طاهر «4» ، وهو إذ ذاك أمير بغداد، فطلبت منه ثلجا، فلم يوجد إلّا عندي.
فجاؤوني، فقلت: ما عندي إلّا رطل واحد، ولا أبيعه إلّا بخمسة آلاف درهم، وكنت قد عرفت الصورة.
فلم يجسر الوكيل على شراء ذلك، ورجع يستأذن عبيد الله، وكانت شاجي بمنزلة روحه، وهي تتضوّر على الثلج، وتلحّ في طلبه.
فشتمه عبيد الله، وقال: امض واشتره بأيّ ثمن كان ولا تراجعني.
فجاءني، فقال: خذ خمسة آلاف درهم، وهات الرطل.(1/125)
فقلت: لا أبيعك إيّاه إلّا بعشرة آلاف درهم، فلم يجسر على الرجوع للاستئذان، فأعطاني عشرة آلاف درهم، وأخذ الرطل.
وسقيت العليلة منه، فقويت نفسها، وقالت: أريد رطلا [41 ب] آخر.
فجاءني الوكيل بعشرة آلاف درهم، وقال: هات رطلا آخر، إن كان عندك، فبعت ذلك عليه.
فلما شربته العليلة، تماثلت، وجلست، وطلبت زيادة، فجاؤوني يلتمسون ذلك.
فقلت: ما بقي عندي إلّا رطل واحد، ولا أبيعه إلا بزيادة، فداراني، وأعطاني عشرة آلاف درهم، وأخذ رطلا.
وداخلتني رغبة في أن أشرب أنا شيئا من الثلج، لأقول إنّي شربت ثلجا سعر الرطل منه عشرة آلاف درهم.
قال: فشربت منه رطلا.
وجاءني الوكيل قرب السحر، وقال: الله، ألله، قد والله صلحت العليلة، وإن شربت شربة أخرى برأت، فإن كان عندك منه شيء، فاحتكم في سعره.
فقلت له: والله، ما عندي إلّا رطل واحد، ولا أبيعه إلّا بثلثين ألفا.
فقال: خذ.
فاستحييت من الله أن أبيع رطل ثلج بثلثين ألفا، فقلت: هات عشرين ألفا، واعلم أنّك إن جئتني بعدها بملء الأرض ذهبا، لم تجد عندي شيئا، فقد فني.
فأعطاني العشرين ألف، وأخذ الرطل.(1/126)
فلما شربته شاجي، أفاقت، واستدعت الطعام، فأكلت، وتصدّق عبيد الله بمال.
ودعاني من غد، فقال: أنت- بعد الله- رددت حياتي بحياة جاريتي، فاحتكم.
فقلت: أنا خادم الأمير وعبده.
قال: فاستخدمني في ثلجه وشرابه، وكثير من أمر داره.
فكانت تلك الدراهم التي جاءتني جملة، أصل نعمتي، وقويت بما انضاف إليها من الكسب مع عبيد الله، طول أيّامي معه «1» .(1/127)
66 بغداد في أيام المقتدر
تجارينا عند القاضي أبي الحسن محمد بن صالح بن عليّ الهاشميّ ابن أمّ شيبان «1» في سنة ستّين وثلاثمائة، عظم بغداد، وكثرة أهلها، في أيّام المقتدر، وما كان فيها من الأبنية، والشوارع، والدروب، وكبر البلد، وكثرة أهله، في سائر أنواع الناس.
وذكرت أنا كتابا رأيته، لرجل يعرف بيزدجرد بن مهبندان الكسرويّ «2» ، كان على عهد المقتدر، بحضرة أبي محمد المهلّبيّ، كان سلّم إليّ وإلى جماعة ممّن حضر، كراريس منه، لننسخه، وننفذه إلى الأمير ركن الدولة، لأنّه التمس كتابا في وصف بغداد، وإحصاء ما فيها من الحمّامات، وإنّها كانت عشرة آلاف «3» ، ذكر في الكتاب مبلغها وعدد من يحتوي عليه البلد من الناس، والسّفن، والملّاحين، وما يحتاج إليه في كلّ يوم من الحنطة [38 ط] ، والشعير، والأقوات، وإنّه حصّل «4» ما يصل إلى أصحاب المعابر فيه من الملّاحين «5» فكان في كلّ يوم، أربعين(1/128)
ألفا، أو ثلاثين ألفا.
وذكر غيري كتابا ألّفه أحمد ابن الطيّب «1» ، في مثل هذا.
فقال لي القاضي أبو الحسن: أمّا ذاك، فعظيم لا نعلمه، وقد شاهدنا [42 ب] منه ما لا يستبعد معه أن يكون كما أخبر يزدجرد، وأحمد بن الطيّب، إلّا إنّا لم نحصه فنقطع العلم به، ولكن بالأمس، في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، لمّا ضمن محمد بن أحمد المعروف بترة، بادوريا «2» ، عمّرها، وتناهى في ذلك، فأحصينا وحصّلنا ما زرع فيها من جربان الخسّ، في هذه السنة، وقدّرنا بكلواذى وقطربّل وقرب بغداد، ما يحمل إليها من الخسّ على تقريب، فكان الجميع ألفي جريب «3» ، ووجدنا كلّ جريب خسّ يزرع فيه ستّة أبواب «4» ، يقلع من كلّ باب من الأصول، كذا وكذا، ولم أحفظه، يكون للجريب كذا وكذا أصلا، وسعر الخسّ إذ ذاك، على أوسط الأسعار كلّ عشرين خسّة بدرهم واحد «5» ، فحصل لنا أنّ ارتفاع الجريب، على أوسط الريع والسعر، ثلاثمائة وخمسون درهما،(1/129)
قيمتها خمسة وعشرون دينارا، يكون لألفي جريب، خمسون ألف دينار، وكلّ ذلك يؤكل ببغداد، فما ظنّك ببلد يؤكل فيه في فصل من فصول السنة، صنف واحد من صنوف البقل، بخمسين ألف دينار.
ثم قال لنا القاضي، ولقد أخبرني رجل يبيع سويق الحمّص «1» ، دون غيره من الأسوقة، أسماه وأنسيته، إنّه أحصى ما يتّخذ في سوقه من سويق الحمّص في كلّ سنة، فكان مبلغه مائة وأربعون كرّا «2» ، وأنّه يخرج في كلّ سنة منه، حتى لا يبقى منه شيء، فإذا حال الحول، طحنوا مثل ذلك.
هذا وسويق الحمّص، غير طيّب، وإنّما يأكله الضعفاء والمتجمّلون، شهرين أو ثلاثة من السنة، عند عدم الفواكه، وأضعافهم مرارا من الناس، من لا يأكل ذلك أصلا.
ثم قال: قال لي بعض مشايخ الحضرة: عمارة بغداد، في سنة خمس وأربعين «3» ، عشر ما كانت عليه في أيّام المقتدر «4» ، على تحصيل وضبط، يعني في الأبنية والناس.(1/130)
67 أحاديث في احتباس الحمل
جرى بحضرة القاضي أبي الحسن محمد بن صالح الهاشميّ «1» احتباس «2» الحمل، وقول الشافعيّ ومالك فيه ما قالاه.
فحكيت أنا فيه، ما روي من أنّ محمد بن عجلان، ولد لأربع سنين، وأنّ أسنانه كانت تطحن «3» .
فقال لي القاضي أبو الحسن: كان لأبي، زوجة من ولد الأشعث بن قيس، كوفيّة، فحملت منه أحد عشر شهرا بحساب صحيح ضبطناه وأعلمناه، مع شدّة الاستظهار والتحصيل، فيما يجب تحصيله والاستظهار به في مثل ذلك، فولدت بعد أحد عشر شهرا بنتا، فعاشت البنت سنين، ولها أولاد.
قال: وحدّثني أبي عن جدّي: إنّه شاهد بالكوفة، أربعة إخوة [43 ب] ولدوا في بطن واحد، وعاشوا كلّهم، وأسنّوا، ومنهم من أعقب.
قال لنا القاضي: إنّ إسماعيل بن أبي خالد المحدّث، له ثلاثة إخوة ولدوا في بطن واحد، وكلهم عاشوا وأسنّوا «4» .(1/131)
68 قد ينال الإنسان باللين ما لا ينال بالشدّة
حدّثني أبو العبّاس هبة الله بن محمد بن المنجّم [39 ط] ، عن أسلافه:
إنّ المأمون «1» نكب عاملا له، يقال له: عمرو بن نهيوي، صهر موسى بن أبي الفرج بن الضحّاك، من أهل السواد، موسرا، فأمر محمد ابن يزداد «2» أن يتسلّمه إليه، ويعذّبه، ويعاقبه، حتى يأخذ خطّه بعشرة آلاف ألف درهم، ويستخرجها منه.
فسلّم عمرو إلى محمد، فأكرمه، وألطفه، وأمر بخدمته وترفيهه، وأفرده في حجرة سريّة من داره، وأخدمه فيها من الفرش والغلمان بما يليق به، ولم يكلّمه ثلاثة أيّام، والمأمون يسأل عن الخبر، فيبلغه ترفيهه له، فيغتاظ، ويسأله، فيقول: هو مطالب.
فلما كان في اليوم الرابع، استدعى عمرو محمدا، فدخل إليه.(1/132)
قال محمد بن يزداد: فقال لي: يا هذا، قد عرفت ما تقدّم به إليك الخليفة في أمري، ووالله ما رأيت هذا المال، ولا نصفه، ولا ثلثه قط، ولا يحتوي عليه ملكي، ولعلّ الخليفة يريد دمي، وقد جعل هذا إليه طريقا، وقد تفضّلت عليّ بما لا يسعني معه أن أدّخر جهدا في تجميلك عند صاحبك، وقد كتبت تذكرة بجميع ما يحتويه ملكي، ظاهرا وباطنا، وهي هذه، وسلّمها إليّ، وإذا هي تشتمل على ثلاثة آلاف ألف درهم، وعليّ، وعليّ، وحلف بالطلاق والعتاق، والأيمان المغلّظة، ما تركت لنفسي بعد ذلك، إلّا ما عليّ من كسوة تستر عورتي، وهذا وسعي، وجهدي، فإن رأيت أن تأخذه، وتسأل الخليفة الرضا به منّي، فإن فعل فقد خلّصني الله بك، ونجّاني من القتل على يدك، وإن أبى، فإنّه يسلمني إلى عدوّي الفضل بن مروان «1» ، وهو القتل، ووالله، لا أعطيت على هذا الوجه، درهما واحدا، ولا كنت ممن يجيء على الهوان، دون الإكرام، وسأتلف، ولا يصل الخليفة إلى حبّة من مالي، ولكنّ المنّة لك عليّ حاصلة «2» ، فإن عشت شكرتها، وإن متّ فالله مجازيك عنّي.
قال: فأخذت التذكرة، ورحت إلى المأمون.
فقال: ما عملت في أمر عمرو بن نهيوي؟
فقلت: إنّه قد بذل ألفي ألف درهم، وليس عنده أكثر من ذلك.(1/133)
فاستشاط، وقال: لا، ولا كرامة له، ولا أربعة آلاف ألف، ولا ثمانية آلاف ألف.
وقال لي الفضل: ما دمت ترفّهه، وتكرمه، وتجلسه على الدسوت، وتخدمه بنفسك وغلمانك، كيف لا يتقاعد؟
فقلت له: فتسلّمه أنت إن شئت.
فقال الخليفة [44 ب] : خذه إليك.
فأخذه، وأرهقه، وطالبه بعشرة آلاف ألف، ودهقه «1» ، وضربه، وهو لا ينحلّ بشيء.
فنزل معه إلى خمسة آلاف ألف، فلم يستجب.
فقنع منه بثلاثة آلاف ألف، فلم يجب.
فلما زاد عليه المكروه، وخاف الفضل أن يتلف في العذاب، فيجب المال عليه في نفسه بإتلافه إيّاه، رفق به، وداراه، وخلع عليه، ورفّهه أيّاما.
وقال له: كان محمد بن يزداد بذل عنك ألفي ألف درهم، وقد قنعت بها منك، فهاتها.
فقال: ما ملكتها قط، ولا بذلتها لمحمّد.
فجاء الفضل إلى المأمون، فاقتصّ عليه خبره معه، في معاقبته، ومطالبته أولا، بالكلّ، واقتصاره ثانيا، وترفيهه له، وإكرامه، وقناعته منه بألفي ألف درهم، وإقامته على أنّه لا مال له، وإنكاره [40 ط] أن يكون بذل ذلك، وكنت حاضرا.
فانقطع الحبل في يد المأمون، وكاد يهمّ بالفضل.(1/134)
فقلت: يا أمير المؤمنين الرجال لا يكالون، وليس كلّ أحد يجيء على الهوان، وإنّ الفضل استخطأ رأيي فيما عاملت عمروا به، فصار إليه، وعامله بمثله حيث لم ينفع ذلك، ولو تركني معه في الأوّل، لاستخرجت منه ثلاثة آلاف ألف عفوا، وهذه تذكرة بخطّ عمرو تحتوي على ثلاثة آلاف ألف، فأخرجتها، وطرحتها بين يديه.
وقلت: لو كنت علمت أنّ أمير المؤمنين يجيبني في ذلك الوقت، إلى ثلاثة آلاف ألف، عنه، لبذلتها، فبذلت ألفي ألف، حتى إن لم يقنع، زدت ألف ألف، والآن فقد فسد هذا، ووالله، لا أعطي عمرو، مع ما جرى عليه، حبّة، فإن استحلّ أمير المؤمنين دمه، فذاك إليه، وإلّا فليس إلى استخراج شيء منه سبيل.
قال: فاستحيا المأمون، وأطرق مفكّرا مليّا، ثم رفع رأسه، وقال:
والله لا كان كاتب من كتّابي، ولا نبطيّ من عمّالي، أكرم، وأوفى، وأصحّ تدبيرا منّي، قد وهبت لك يا محمد، عمروا وما عليه، فخذه، واصنع به ما شئت.
فتسلّمته من الفضل بن مروان، وأطلقته مكرّما إلى بيته.(1/135)
69 الحجاج بن يوسف الثقفي يأمر بتعذيب آزادمرد
ويشبه هذا الحديث، حديثا، وجدته بخطّ القاضي أبي جعفر بن البهلول «1» ، ذكر أن محمّد بن أحمد الحشميّ «2» ، أخبره، قال:
قال الحجّاج بن يوسف «3» ، لمحمّد بن المنتشر: خذ إليك آزادمرد ابن الفرند، فدقّ يده على رجله، حتى تستخرج منه المال الذي عليه.
قال محمّد: فاستخرجت منه بالرفق، ثلاثمائة ألف درهم، في جمعة، فلم يرض ذلك الحجّاج، فأخذه منّي، ودفعه إلى معدّ، صاحب عذابه، فدقّ يده، ودهقه، ودقّ ساقه.
فمرّ به عليّ، وأنا في السوق، معترضا على بغل، فقال: يا محمد ادن، فدنوت منه.(1/136)
فقال: إنّك وليت مني مثل هذا، فأحسنت إليّ، فأدّيت ما أدّيت عفوا، ووالله [45 ب] لا يؤخذ مني درهم واحد كرها، ولي عند فلان ثلاثون ألفا، فخذها جزاء لما صنعت.
فقلت: والله، لا أخذت منك، وأنت على هذه الحال، شيئا.
قال: أتدري ما سمعت من أهل دينكم، يحكون عن نبيّكم؟
قلت: لا.
قال: سمعتهم يقولون ويحكون عنه، إنّه قال: إذا أراد الله بقوم خيرا ولّى عليهم خيارهم، وأمطرهم المطر في أوانه، وإذا أراد بقوم سوءا «1» ، ولّى عليهم شرارهم، وأمطرهم المطر في غير أوانه، ثم أمر قائد البغل، أن يقوده.
فلم أرم من مكاني «2» ، حتى جاءني رسول الحجّاج، وقال: أجب، فمضيت إليه، فوجدته متنمّرا، والسيف منتضى في حجره.
فقال: ادن.
فقلت: لا والله، لا أدنو وهذا في حجرك.
فأضحكه الله، وأغمد السيف، وقال: ما خاطبك به المجوسيّ؟
قلت: والله، ما غششتك منذ ائتمنتني، ولا كذبتك منذ صدقتني، فقصصت عليه القصّة.
فلما أردت أن أذكر الرجل الذي عنده الثلاثون ألف، أعرض، وقال:
لا تذكره، أما إنّ الكافر عالم «3» بآثار رسول الله [41 ط] صلّى الله عليه وسلّم.(1/137)
70 الأمير معزّ الدولة البويهي ووزيره أبو محمد المهلّبيّ
كان معزّ الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه «1» ، لمّا ابتنى قصره بباب الشّماسية «2» ، والإصطبلات المتّصلة بآخره من أحد جوانبه، التي لم يسبق إلى حسنها، وعمل الميدان على دجلة متّصلا بين القصر والبستان الشارع على دجلة، الذي يلازق «3» دار صاعد بن مخلد «4» ، الذي كان منزلا لأبي جعفر(1/138)
محمّد بن يحيى بن شيرزاد «1» ثم صيّره أبو جعفر الصيمريّ «2» بستانا، والجميع الآن داخل في جملة قصر معزّ الدولة.
أوّل ما بدأ بأن بنى السور المحيط بالقصر والميدان، والمسنّاة العظيمة التي من حدّ رقّة «3» الشّماسية إلى بعض الميدان، وطول ما بناه منها ألف وخمسمائة ذراع، وعرضها نيّف وسبعون آجرّة كبارا، سوى الدّستاهيجات «4» التي تخرج منها إلى داخلها لضبطها.
وكان العمل في ذلك متصلا، والصنّاع فيه متفرّقين.
وهذا بعد أن كان عمل على بناء مدينة لنفسه، وخرج إلى كلواذى «5» ليتّخذها هناك، ثم أراد اتخاذها حيال كلواذى، ثم رحل إلى قطربّل «6» ، فأراد أن يبنيها عندها، ثم تقرّر رأيه على بناء دار بباب الشمّاسية، حصينة، يستغني بها عن المدينة، وتخفّ عليه نفقتها.
وقدّر لذلك ألوف ألوف دراهم، وزادت النفقة على التقدير أضعافا.
وكان يطالب وزيره أبا محمّد المهلّبي بتوجيه وجوه الأموال لذلك،(1/139)
مع قصور الدّخل «1» عن الخرج، فيلقى منه عنتا «2» .
ثم كلّفه تولّي [46 ب] البناء بنفسه وكتّابه، فكان، وهم، يتولّون ذلك.
فسعى بعض أصحاب معزّ الدولة إليه، أنّهم يسنفون «3» البناء في السور، ليتعجّل بنفقة خفيفة، ويسرقون الباقي.
وأوقفه على موضع منه، كان فيه ساف لبن لم يحكمه الصنّاع، ومشى عليه بحضرة معزّ الدولة- لأنّه ركب إليه- فانقلعت منه لبنة.
فحمي طبعه، وكان حديدا جدّا، سليم الباطن مع ذلك، وإذا أخرج حدّته، وانقضت سورة غضبه، يندم على فعله، ولكن من يقوم على تلك الحدّة.
فأحضر المهلّبيّ، وواقفه على ما رآه، فأخذ يحتجّ عليه.
فحمي، وأمر به، فبطح، وضرب مقارع كثيرة.
ثم قال: اخنقوه، فجعل في عنقه حبل، وأمسكه ركابيّون فوق السور، ليشيلوه، فيخنق.
وبلغ خبره القوّاد، والأتراك، وخواصّه، فبادروا إلى تقبيل الأرض بين يديه، ومسألته الصفح عنه، فأنزله، وأطلقه.
فمضى إلى داره كالميت، وأظهر قلّة حفل بذلك، لئلّا يشمت أعداؤه، ويطمعوا في صرفه، ويتقوّلون «4» عليه بانكسار إن بان منه، ولئلّا يبلغ صاحبه أنّه مستوحش من ذلك، فيستوحش منه.(1/140)
وكانت عادته أن يشرب في تلك الليلة النبيذ، ويدعو الغناء، فجمع النّدماء، ليري قلّة الاكتراث بما جرى عليه.
وعاد إلى داره وقد قرب المساء، فدعا بما يأكله، فأكل، وندماؤه معه، وليس فيه فضل لشدّة الألم، وهو يتجلّد، ويتحدّث.
ثم دعا بنبيذ، فقالوا له: أيّها الوزير، لو استرحت، وطرحت نفسك، كان أولى من النبيذ، فليس هذا وقته، وذنّبوا له في هذا.
فأخذ هو يعزّيهم عمّا جرى [42 ط] عليه، ويسلّيهم، وتمثّل في كلامه بهذا البيت:
فإنّ أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما صنع الدهر
ثم شرب أقداحا، وقام.
أخبرني بذلك، من حدّثه به «1» ، من ندماء أبي محمد، عن مشاهدة.(1/141)
71 الأمير معز الدولة وحدّة طبعه
وكانت عادة الأمير معزّ الدولة، إذا حمي جدا، أن يأمر بالقتل، ويكره أن يتمّ ذلك، ويعجبه أن يسأل العفو.
وقد فعل هذا، كثيرا جدّا، بخلق من جملة أصحابه.
وأوّل ما عرف ذلك منه، وأقدم لأجله على مساءلته العفو، إذا أمر بقتل صاحب له، أنّه أنكر على رجل بالأهواز، وهو إذ ذاك مقيم بها، وكان الرجل ضرّابا «1» يعرف «2» بابن كردم، أهوازيّ، ضمن منه عمالة دار الضرب بسوق الأهواز، فضرب دنانير رديئة، ولم يعلم الأمير بها، فأنفذها إلى البصرة ليشتري بها الدوابّ، والبريديّون إذ ذاك بها، فلم تؤخذ لشدّة فسادها، فردّت، وعاد الراضة الذين كان أنفذهم لذلك، فعرّفوه الخبر، فحمي [47 ب] ، وأحضر ابن كردم هذا، وخاطبه، وازداد طبعه حميا، إلى أن أمر بأن يخنق على قنطرة الهندوان «3» ، بالأهواز.
فأخرج من بين يديه، وخنق، ومات، وعاد من كان أمره بذلك، فوقف بحضرته.
فقال له: ما فعل الرجل؟ قال: خنقناه ومات.
فكاد أن يطير غضبا، وشتمه، وشتم الحاضرين، وقال: ما كان فيكم من يسألني أن لا أقتله؟ وأخذ يبكي، وكان فيه تحرّج من القتل.
فقالوا: ما علمنا، وخفناك.
فكان بعد ذلك إذا أمر بقتل إنسان، سئل، وروجع، فيعفو.(1/142)
72 من مكارم أخلاق الأمير سيف الدولة
أخبرني طلحة بن عبيد الله بن قناش، قال:
كنت يوما في مجلس حديث وأنس، بحضرة سيف الدولة، أنا وجماعة من ندمائه، فأدخل إليه رجل، وخاطبه، ثم أمر بقتله، فقتل في الحال.
فالتفت إلينا، وقال: ما هذا الأدب السيّء، وما هذه المعاشرة القبيحة التي نعاشر ونجالس بها؟ كأنّكم ما رأيتم الناس، ولا سمعتم أخبار الملوك، ولا عشتم في الدنيا، ولا تأدّبتم بأدب دين ولا مروءة.
قال: فتوهّمنا أنّه قد شاهد من بعضنا حالا يوجب هذا، فقلنا:
كلّ الأدب إنّما يستفاد من مولانا أطال الله بقاءه- وهكذا كان يخاطب في وجهه- وما علمنا أنّا عملنا ما يوجب هذا، فإن رأى أن ينعم بتنبيهنا، فعل.
فقال: أما رأيتموني، وقد أمرت بقتل رجل مسلم لا يجب عليه القتل، وإنّما حملتني السطوة والسياسة لهذه الدنيا النكدة، على الأمر به، طمعا في أن يكون فيكم [رجل] «1» رشيد فيسألني العفو عنه، فأعفو، وتقوم الهيبة عنده وعند غيره، فأمسكتم حتى أريق دم الرجل، وذهب هدرا.
قال: فأخذنا نعتذر إليه، وقلنا: لم نتجاسر على ذلك.
فقال: ولا في الدماء؟ ليس هذا بعذر.
فقلنا: لا نعاود.
واعتذرنا حتى أمسك.(1/143)
73 الخليفة المعتضد يعذب شخصا حاول الخروج عليه
حدّثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدّثني أبي قال:
كنت أكتب لبدر اللاني «1» [43 ط] في أيام الموفّق «2» ، والمعتضد «3» ، وأدخل الدار معه، وأليه، فرأيت محمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة «4» ، وقد جعله كردناكا «5» .(1/144)
قال: فقلت له: كيف فعل ذلك؟ وما كان سببه؟
فقال: إنّ رجلا من أولاد الواثق، كان يسكن مدينة المنصور، سعى في طلب الخلافة، واستوزر شيلمة، فأخذ له البيعة على أكثر أهل الحضرة، من الهاشميّين، والقضاة، والقوّاد، والجيش، وأهل بغداد الأحداث، وأهل العصبيّة، وقوي أمره، وانتشر خبره، وهمّ بالظهور في المدينة، والاعتصام بها، والتحصّن، حتى إذا أخذ المعتضد، صار إلى دار الخلافة.
فبلغ المعتضد الخبر على شرحه، إلّا اسم المستخلف.
فكبس شيلمة [48 ب] وأخذه، فوجد في داره جرائد «1» بأسماء من بايع، وبلغ الهاشميّ الخبر، فهرب.
وأمر المعتضد بالجرائد، فأحرقت ظاهرا، لئلّا يعلم الجيش بوقوفه عليها فتفسد نيّاتهم له، بما يعتقدون من فساد نيّته عليهم.
وأخذ يسائل شيلمة عن الخبر، فصدقه عن جميع ما جرى، إلّا اسم الرجل الذي يستخلف، فرفق به ليصدقه عنه، فلم يفعل.
وطال الكلام بينهما [فتوعّده] «2» ، فقال له: والله، لو جعلتني كردناكا، ما أخبرتك باسمه.
فقال المعتضد للفرّاشين: هاتم أعمدة الخيم الكبار الثقال، [فجاءوه بها] «3» وأمر أن يشدّ عليها شدّا وثيقا [فشدّ] «4» ، وأحضروا فحما عظيما، وفرش على الطوابيق «5» بحضرته، وأجّجوا نارا، وجعل الفرّاشون يقلّبون(1/145)
شيلمة على تلك النار، وهو مشدود على الأعمدة «1» ، إلى أن مات وانشوى «2» .
[وأخرج من بين يديه ليدفن، فرأيته على هذه الصورة] «3» .
قال: وأمر المعتضد بهدم السور المحيط بالمدينة، فهدم منه شيء يسير، فاجتمع إليه الهاشميّون، فقالوا: يا أمير المؤمنين، فخرنا، وذكرنا، ومأثرتنا «4» فأمر بقطع الهدم، وصرف حفظة كانوا عليه متوكّلين برعيه، ورخّص فيه، وتركه وأهمله، وخلّى بينه وبين الناس.
فما مضت إلّا سنيّات، حتى هدم الناس أكثره، أوّلا فأوّلا، ووسّعوا به ما يجاوره من دورهم، واستضافوا مكانه إليها، حتى إنّ ذلك اتّسع، فجعل وزير «5» المقتدر، على كل دار هذا حكمها، أجرة العرصة بحسب ذلك، وكان لها ارتفاع «6» كثير.
ثم تبع ذلك بسنين، خراب المدينة، أوّلا فأوّلا، حتى بلغت إلى ما هي عليه.(1/146)
74 بابك الخرّمي وجلده وصبره على العذاب
ومن عجيب أخبار قوّة النفس:
إنّ أخا بابك الخرّمي «1» ، المازيار «2» ، قال له لما أدخلا على المعتصم: يا بابك إنّك قد عملت ما لم يعمله أحد، فاصبر الآن صبرا لم يصبره أحد.
فقال له: سترى صبري.
فلما صار بحضرة المعتصم، أمر بقطع أيديهما وأرجلهما بحضرته.
فبدىء ببابك، فقطعت يمناه، فلما جرى دمها، مسح به وجهه كلّه، حتى لم يبق من حلية وجهه، وصورة سحنته، شيء.
فقال المعتصم: سلوه لم فعل هذا؟
فسئل، فقال: قولوا للخليفة، إنّك أمرت بقطع أربعتي، وفي نفسك قتلي، فلا شك أنّك لا تكويها، [44 ط] وتدع دمي ينزف إلى أن تضرب عنقي، فخشيت أن يخرج الدم منّي، فتبين «3» في وجهي صفرة يقدّر لأجلها(1/147)
من حضر، أنّي قد فزعت من الموت، وانّها لذلك، لا من خروج الدم، فغطيّت وجهي بما مسحته عليه من الدم حتى لا تبين الصفرة.
فقال المعتصم: لولا أنّ أفعاله لا توجب العفو عنه، لكان حقيقا بالاستبقاء لهذا الفضل، وأمر بإمضاء أمره فيه.
فقطعت أربعته، ثم ضرب عنقه، وجعل الجميع على بطنه «1» ، وصبّ عليه النفط، وضرب [49 ب] بالنار.
وفعل مثل ذلك بأخيه «2» ، فما كان فيهما من صاح وتأوّه.(1/148)
75 عافية الباقلّاني وخالد الحذّاء يسيران حافيين على باب حديد محميّ
وقد حكي: أنّ عافية الباقلّاني، وخالد الحذّاء «1» ، رئيسي أصحاب العصبيّة في زمانهما، بايعا «2» على أن يحمى لهما باب حديد، ويمشيان عليه، ففعلا ذلك. فلما حصلا فوقه، حلّ أحدهما مئزره، ثم ضرب يده إلى الآخر، وضبطه، وقال: انطرني أتوزّرهما عطفيّين «3» ، أي انتظر حتى أتّزر.
قال: فما فارقه، حتى شدّ مئزره، وهما فوق الباب المحميّ، ثم تمّم مشيه، حتى خرج منه، وقد غلب بتلك الساعة «4» ، وإن لم يكن في الباب الحديد حيلة، أو عادة، مثلما يكون أسفل القدر، كالنار إذا دام الوقود عليها، فيأخذها الإنسان [لساعته] «5» على راحته، لأنّ البخار يتصاعد، ثم يدعها قبل أن ينعكس البخار إلى أسفلها.
وقد شاهدت أنا، أبا الأغرّ بن [أبي] «6» شهاب التيميّ «7» بالبصرة، فعل ذلك، وإلّا، فلا أدري ما هو.(1/149)
وقد أخبرني غير واحد، أنّ القطعة الحديد، إذا أدخلت الكور، وأحميت حتى تبيضّ بياضا شديدا، فأخذها الإنسان، فلطعها مرتين، أو ثلاثة، قبل أن يرجع فيها الحمي، لم تضرّ لسانه.
وقد شاهدت أنا، أبا الحسن عليّ بن محمد بن أحمد التنوخيّ، وقد أدخل إلى فيه، غير مرّة، شمعة [مشعلة] «1» فيها رطل، وعضّ عليها، وكشّر شفتيه لي، حتى تبيّنت اتّقاد الشمعة في فيه، ساعة، ثم أخرجها غير منطفئة.
وسألته عن علّة ذلك، فقال: يحتاج إلى حذق في سرعة الإدخال، حتى لا تحرق الشفتين، فإذا حصلت في داخل الفم، لم تضرّ، لأنّ ما يتصاعد من حمي الجوف، يغلب على حماها «2» ، فلا تضرّ.(1/150)
76 كيف قتل الخليفة المعتضد وزيره إسماعيل بن بلبل
ومن طريف عقوبات المعتضد، قتلته إسماعيل بن بلبل «1» ، حدّثني أبي، قال: أخبرني جماعة من أهل الحضرة، يعرفون ويحصّلون:
إنّ المعتضد أمر بإسماعيل بن بلبل، فاتّخذ له تغار «2» كبير، وملىء إسفيداجا حيّا «3» ، وبلّه، ثم جعل بالعجل رأس إسماعيل فيه، إلى آخر عنقه، وشيء من صدره، وأمسك حتى جمد الإسفيداج، فلم تزل روحه تخرج بالضراط، إلى أن مات «4» .(1/151)
77 الخليفة المعتضد يقتل آخر بسدّ جميع منافذه
وأخبرني أيضا «1» رحمه الله:
إنّ المعتضد، أمر برجل «2» فسدّ بالقطن أنفه، سدّا شديدا، وفمه، وعيناه، وأذناه، [ومنخراه] «3» ، وذكره، وسوءته «4» ثم كتّف وترك، فلم يزل ينتفخ، ويزيد، إلى أن طار قحف رأسه ومات «5» .(1/152)
78 قرطاس الرومي وكيف عاقبه المعتضد
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب التنوخيّ، قال:
قال أبي:
كنت مع [45 ط] صاحبي الذي كنت أكتب له، بدر اللّاني، في عسكر الموفّق، وهو يقاتل صاحب الزنج «1» .
فرمى زنجيّ «2» من أصحاب الخائن «3» ، يقال له: قرطاس، الموفّق، بسهم، فأصاب ثندوءته «4» ، وصاح [50 ب] : خذها مني وأنا قرطاس، فصارت مثلا للرماة إلى الآن «5» .
فحمل الموفّق صريعا في حد التلف، ونزع السهم وكان مقطّنا «6» ، فبقي الزجّ «7» مكانه، وجمّع «8» ، وانتفخ، وأمدّ «9» ، وأشرف على الموت.(1/153)
واستخبر بذلك أهل عسكر الخائن، وكانوا يصيحون بنا في كلّ يوم:
ملّحوه، أي: قد مات الموفّق، فاجعلوه مكسودا «1» .
فأجمع رأي الطبّ على بطّه، فلم يمكّنهم الموفّق من ذلك.
فقالوا للمعتضد: إنّه إن لم يبطّ، عمل إلى داخل، فأتلفه.
فقال: احتالوا عليه وبطّوه، وأنا أمنعكم منه «2» .
فطوّل أحد الطب، ظفر إبهامه اليمين، وجعل تحته حديدة مبضع، وجاء إلى الموفّق، فقال: أيّها الأمير، دعني أجسّه، وأنظر كيف هو.
فقال: لعلّك تبطّه؟
فأراه يده، وقال: كيف أبطّه، وليس في يدي حديد، فمكّنه منه، فجسّه وخرقه بالمبضع من أوّله إلى آخره مستعجلا، فندر الزجّ وخرج، وتبعته مدّة عظيمة وقيح.
ففزع الموفّق في حال البطّ، لمجيئه على غفلة، فلكم»
الطبيب، فقلبه عن مكانه، فلمّا استراح بما خرج من الموضع، ووجد خفّة، خلع على الطبيب، وأجازه، وعولج إلى أن برئ.
وجعل أبو العباس وكده «4» طلب قرطاس، وكان إذا رآه في الحرب، طرح نفسه لأخذه، فيحاربه قرطاس أشدّ حرب، ويقول له بعجمته:
«يا بلئباس، يريد يا أبا العبّاس، إن وقعت في يدك، قدّ مني أوتارا» .
قال: فلم يزل المعتضد يجهد نفسه في أمره، حتى أخذه أسيرا، وقد(1/154)
وقعت به جراحات، فجاء به إلى الموفّق، فأمر بضرب عنقه.
فقال له المعتضد: تهب لي قتله، حتى أعمل به ما أريد.
فقال: أنت أحقّ به، فخذه، فأخذه، فقدّ من أصابعه الخمس «1» أوتارا.
قال: فقلت لأبي: كيف فعل ذلك؟
فقال: قلع أظفاره، وسلخ جلد أصابع كفّه من رؤوسها، إلى أكتافه، وعبر بها صلبه وكتفيه إلى آخر أصابعه الأخرى، وجلد بني آدم غليظ، فخرج له ذلك، فأمر أن تفتل له أوتار، ففعل، وصلب بها قرطاس «2» .(1/155)
79 من طريف حيل اللصوص- 1
ومن طريف حيل اللصوص، الواقعة في عهدنا «1» ، انّ أبا القاسم، عبيد الله بن محمد الخفّاف، حدّثني:
إنّه شاهد لصّا قد أخذ، وتشاهدوا عليه، إنّه يفشّ «2» الأقفال في الدور اللطاف التي يخمّن على أنّها لعزب.
فإذا دخل، حفر في الدار حفرة لطيفة، كأنّها بئر النرد، وطرح فيها جوزات، كأنّ إنسانا كان يلاعبه، وأخرج منديلا فيه مقدار مائتي جوزة، فتركه إلى جانبها، ثم دار فكوّر كلّ ما في الدار، ممّا يطيق حمله.
فإن لم يفطن به أحد، خرج من الدار، وحمل ذلك كلّه.
وإن جاء [51 ب] صاحب الدار، ترك عليه قماشه، وطلب المفالتة والخروج.
فإن كان صاحب الدار جلدا، فواثبه ومنعه، وهمّ [46 ط] بأخذه وصاح: اللصوص، واجتمع الجيران، أقبل عليه، وقال: ما أبردك، أنا أقامرك بالجوز منذ شهور وقد أفقرتني، وأخذت منّي كلّ ما أملكه، [وأهلكتني] «3» ما صحت، ولا فضحتك بين جيرانك، أنت لمّا قمرتك الآن قماشك، أخذت تدّعي عليّ اللصوصية؟ يا غث، يا بارد، بيني وبينك دار القمار، الموضع الذي تعارفنا فيه، قل بحذائهم، وبحذاء هؤلاء الحاضرين،(1/156)
قد ضغيت «1» حتى أدع عليك قماشك.
فكلمّا قال الرجل: هذا لصّ، فيقول الجيران: إنّما يريد أن لا يفضح [نفسه] «2» بالقمار، فقد ادّعى عليه اللصوصيّة، ولا يشكّون أنّه مقامر، وأن الرجل صادق، ويخلّصون بينهما، ثم يأخذ الجوز وينصرف، [ويفتضح الرجل بين جيرانه] «3» .
80 من طريف حيل اللصوص- 2
وأخبرني أيضا «4» :
إنّه شاهد آخر، كان يدخل الدار الآهلة [نهارا] «5» ، ويعتمد التي فيها النساء، ورجالهم خارجون.
فإن تمّت له الحيلة، وأخذ منها شيئا، انصرف.
وإن فطن له، وجاء صاحب الدار، أو همه أنّه صديق زوجته، وأنّه من بعض غلمان القوّاد، ويقول له: استر عليّ هذا عند صاحبي، وعلى نفسك، ويتزيّا بالأقبية «6» ، يوهم الرجل أنّه لا يمكنه رفعه إلى السلطان(1/157)
في الزنا، إن اختار فضيحة نفسه.
وكلّما ادّعى عليه اللصوصيّة، صاح بهذا الحديث، فيجتمع الجيران، فيشيرون على الرجل بالستر على نفسه.
وكلّما أنكر ذلك، قالوا: هذا محبة بزوجته، ويخلّصون اللصّ من يده، حتى ربما أجبروه على صرفه.
وكلّما جحدت المرأة، وحلفت، وبكت، وأقسمت «1» إنّه لصّ، كان ذلك أدعى لهم إلى تخليته.
فيتخلّص، ويعود الرجل، ويطلّق زوجته، ويفارق أمّ ولده، فأخرب غير منزل، وأفقر آخرين، بهذا.
إلى أن دخل دارا فيها عجوز، لها أكثر من تسعين سنة، ولم يعلم، وأدركه ربّ البيت، فأخذ يوهمه ذلك، فقال: يا كشخان «2» ليس في الدار إلّا أمّي، ولها تسعون سنة، وهي منذ أكثر من خمسين سنة، قائمة الليل، صائمة النهار، طول الدهر، أفتراها هي عشقتك، أم أنت عشقتها؟
وضرب فكيّه.
واجتمع الجيران، فقال اللصّ ذلك، فكذّبوه، لما يعرفون به المرأة من الدين «3» والصلاح، فضرب، وأقرّ بالصورة «4» فحمل إلى السلطان.(1/158)
81 القصريّ غلام الحلاج كان يصبر على الجوع خمسة عشر يوما
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال:
بلغني أنّ الحسين بن منصور الحلّاج «1» [كان] «2» لا يأكل شيئا [52 ط] شهرا أو نحو ذلك، على تحصيل ورصد، قال: فهالني هذا، وكانت بيني وبين أبي الفرج بن روحان الصوفيّ مودّة، وكان صالحا من أصحاب الحديث، ديّنا، وكان القصريّ، غلام الحلّاج، زوج أخته، فسألته عن ذلك.
فقال: أمّا ما كان الحلّاج يفعله، فلا أعلم كيف كان يتمّ له، ولكنّ صهري القصريّ غلامه، قد أخذ نفسه سنين، بقلّة الزاد، ودرّجها على ذلك، حتى تمكّن بعد مدّة، أن يصبر عن الأكل خمسة عشر يوما، ونحو ذلك [47 ط] ، أقلّ أو أكثر.
وكان يتمّ له ذلك بحيلة كانت تخفى عليّ، فلما حبس في جملة الحلّاجية، كشفها لي، وقال: إنّ الرصد، إذا وقع بالإنسان شديدا، وطال فلم(1/159)
تنكشف معه حيلة، ضعف عنه الرصد [ثم لا يزال يضعف، كلّما لم تنكشف حيلته، حتى يبطل أصلا، فيتمكّن حينئذ، من فعل ما يريد] «1» .
وقد رصدني هؤلاء منذ خمسة عشر يوما، فما رأوني آكل شيئا [بتّة] «2» ، وهذا نهاية صبري عن فقد الغذاء، وإن لم آكل بعده بيوم، تلفت، فخذ رطلا من الزبيب الخراسانيّ، ورطلا من اللوز [السمين] «3» .
ودقّهما، واجعلهما مثل الكسب «4» وأصلحهما صفيحة رقيقة، فإذا جئتني غدا، فاجعلها بين ورقتين من دفتر، وخذ الدفتر في يدك مكشوفا، مطويّا في كفّك طيّا مدوّرا من غير انتشار، ليخفى ما فيه، فإذا خلوت بي، ولم تر من يلاحظني، فاجعل ذلك تحت ذيلي، وانصرف، فإنّني آكله سرّا، وأشرب الماء إذا تمضمضت للطهور «5» ، فيكفيني خمسة عشر يوما أخرى، إلى أن تجيئني «6» ثانيا، على هذا السبيل.
ومتى رصدني هؤلاء في هذه الخمسة عشر يوما الثانية، لم يجدوني آكل شيئا على الحقيقة، إلى أن تعود أنت بعد هذه المدّة بالقوت، فأغتفلهم في أكله أيضا، فيقوم بي.
قال: فكنت أعمل ذلك معه، طول حبسه.(1/160)
82 ما اشترطه أبو سهل بن نوبخت لكي يؤمن بدعوة الحلّاج
حدّثني أبو الحسن بن الأزرق، قال:
لما قدم الحلّاج بغداد يدعو، استغوى كثيرا من الناس، والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى، لدخوله من طريقهم.
فراسل أبا سهل بن نوبخت «1» ، ليستغويه، وكان أبو سهل من بينهم، مثقّفا، فهما، فطنا.
فقال أبو سهل لرسوله: هذه المعجزات التي يظهرها، قد تأتي فيها الحيل، ولكن أنا رجل غزل، ولا لذّة لي أكثر من النساء وخلوتي بهنّ، وأنا مبتلى بالصلع، حتى إنّي أطوّل شعر قحفي، وأجذبه إلى جبيني، وأشدّه بالعمامة، وأحتال فيه بحيل، ومبتلى بالخضاب، لستر المشيب.
فإن جعل لي شعرا، وردّ لحيتي سوداء بلا خضاب، آمنت بما [53 ب] يدعوني إليه، كائنا ما كان، إن شاء قلت إنّه باب «2» الإمام، وإن شاء الإمام، وإن شاء قلت إنّه النبيّ، وإن شاء قلت إنّه الله تعالى.
قال: فلما سمع الحلّاج جوابه أيس منه، وكفّ عنه «3» .
وقال لي أبو الحسن: وكان الحلّاج، يدعو كلّ قوم إلى شيء من هذه الأشياء التي ذكرها أبو سهل، على حسب ما يستبله طائفة طائفة.(1/161)
83 الحلاج في مجلس الوزير حامد بن العباس
أخبرني أبو الحسين بن عيّاش القاضي، عمّن أخبره:
إنّه كان بحضرة حامد بن العبّاس، لما قبض على الحلّاج، وقد جيء بكتب وجدت في داره، من قوم تدلّ مخاطبتهم، إنّهم دعاته في الأطراف، يقولون فيها:
وقد بذرنا لك في كلّ أرض ما يزكو فيها، وأجاب قوم إلى أنّك الباب- يعنون الإمام- وآخرون أنّك صاحب الزمان- يعنون الإمام الذي تنتظره الأماميّة- وقوم إلى أنّك [48 ط] صاحب الناموس الأكبر- يعنون النبيّ صلى الله عليه وسلم- وقوم إلى أنّك أنت هو هو- يعنون الله عزّ وجل-[تعالى الله عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا] «1» .
قال: فسئل الحلاج عن تفسير هذا الرمز، فأخذ يدفعه، ويقول:
لا أعرف هذه الكتب، هذه مدسوسة عليّ، لا أعلم ما فيها، ولا معنى لهذا الكلام.
وحدّثني أبو الحسين بن عيّاش، عمن حضر مجلس حامد ابن العباس الوزير «2» ، وقد جاءوا بدفاتر وجدت للحلّاج، فيها:
إنّ الإنسان إذا أراد الحجّ فإنّه يستغني عنه، بأن يعمد إلى بيت من داره، فيعمل فيه محرابا ذكره، ويغتسل، ويحرم، ويقول كذا، ويفعل كذا، ويصلّي كذا، ويقرأ كذا، ويطوف بهذا البيت كذا، ويسبّح كذا، ويصنع كذا، أشياء قد رتّبها وذكرها من كلام نفسه، قال: فإذا فرغ(1/162)
من ذلك، فقد سقط عنه الحجّ إلى بيت الله الحرام.
وهذا شيء معروف عند الحلّاجيّة، وقد اعترف لي رجل منهم، يقال إنّه عالم لهم، ولكن ذكر أنّ هذا رواه الحلّاج عن أهل البيت صلوات الله عليهم، وقال ليس عندنا إنّه يستغنى به عن الحجّ، ولكنّه يقوم مقامه، إن لم يقدر على الخروج، بإضاقة، أو منع، أو علّة، فأعطاني المعنى، وخالف في العبارة.
قال لي أبو الحسين: فسئل الحلّاج عن هذا، وكان عنده إنّه لا يوجب عليه شيئا، فأقرّ به، وقال: هذا شيء رويته كما سمعته، فتعلّق بذلك عليه.
واستفتى حامد، القاضيين أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخيّ الأنباري «1» ، وأبا عمر محمد بن يوسف «2» ، وهما إذ ذاك، قاضيا بغداد.
فقال أبو عمر: هذه زندقة، يجب عليه القتل بها، لأنّ الزنديق لا يستتاب.
وقال أبو جعفر: لا يجب عليه القتل، إلّا أن يقرّ بأنّه يعتقد هذا، لأنّ الناس قد يروون الكفر ولا يعتقدونه، فإن أخبر أنّ هذا شيء رواه وهو [54 ب] يكذّب به، فلا شيء عليه، وإن أخبر إنّه يعتقده، استتيب منه، فإن تاب، فلا شيء عليه، وإن لم يتب، وجب عليه القتل.
قال: فعمل في أمره على فتوى أبي عمر، وعلى ما شاع وذاع من أمره، وظهر من إلحاده وكفره، واستغوائه الناس، وإفساده أديانهم،(1/163)
فاستؤذن المقتدر في قتله، وكان قد استغوى نصرا القشوري»
، من طريق الصلاح والدين، لا ممّا كان يدعو إليه، فخوّف نصر السيّدة أمّ المقتدر «2» .
من قتله، وقال: لا آمن أن يلحق ابنك- يعني المقتدر- عقوبة هذا الشيخ الصالح، فمنعت المقتدر من قتله، فلم يقبل، وأمر حامدا بأن يقتله، فحمّ المقتدر يومه ذاك، فازداد نصر والسيّدة افتتانا، وتشكّك المقتدر فيه، فأنفذ إلى حامد من بادره بمنعه من قتله، فتأخّر ذلك أياما، إلى أن زال عن المقتدر ما كان يجد من العلّة، فاستأذنه حامد في قتله، فضعّف الكلام فيه «3» ، فقال له حامد: يا أمير المؤمنين، إن بقي، قلب الشريعة، وارتدّ خلق على يده، وأدّى ذلك إلى زوال سلطانك، فدعني أقتله، وإن أصابك شيء، فاقتلني، فأذن [49 ط] له في قتله، فعاد، فقتله من يومه، لئلّا يتلوّن المقتدر.
فلما قتل، قال أصحابه، ما قتل هو، وإنّما قتل برذون كان لفلان الكاتب، اتّفق إنّه نفق «4» ذلك اليوم. وهو يعود إلينا بعد مدّة، فصارت هذه الجهالة، مقالا لطائفة منهم.(1/164)
84 طرائف من مخاريق الحلاج
وكانت أكثر مخاريق الحسين بن منصور الحلّاج، هذا، التي يظهرها كالمعجزات، ويستغوي بها جهلة «1» الناس، إظهار المآكل في غير أوانها، بحيل يقيمها، فمن لا تنكشف له، يتهوّس بها، ومن كان فطنا، لم تخف عليه.
فمن طريف ذلك، ما أخبرني بها أبو بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم الشاهد الأهوازيّ، قال: أخبرني فلان المنجّم، وأسماه، ووصفه بالحذق والفراهة، قال:
بلغني خبر الحلّاج، وما كان يفعله من إظهار تلك العجائب [والمخرقات] «2» التي يدّعي أنّها معجزات، فقلت أمضي وانظر من أيّ جنس هي من المخاريق.
فجئته، كأنّي مسترشد في الدين، فخاطبني وخاطبته، ثم قال: تشهّ «3» الساعة ما شئت، حتى أجيئك به.
وكنّا في بعض بلدان الجبل التي لا تكون فيها الأنهار. فقلت له: أريد سمكا طريا [في الحياة] «4» الساعة.
فقال: أفعل، اجلس مكانك.
فجلست، وقام، وقال: أدخل البيت، وأدعو الله تعالى أن يبعث لك [به] «5» .(1/165)
قال: فدخل بيتا حيالي وأغلق بابه، وأبطأ ساعة طويلة، ثم جاءني وقد خاض وحلا إلى ركبته، وماء، ومعه سمكة تضطرب كبيرة.
فقلت له: ما هذا؟
فقال: دعوت الله تعالى، فأمرني أن [55 ب] أقصد البطائح «1» فأجيئك بهذه، فمضيت إلى البطائح فخضت الأهوار «2» ، وهذا الطين منها، حتى أخذت هذه.
فعلمت أنّ هذه حيلة، فقلت له: تدعني أدخل البيت، فإن لم تنكشف لي حيلة فيه آمنت بك.
فقال: شأنك.
ودخلت البيت، وأغلقته على نفسي، فلم أجد فيه طريقا ولا حيلة.
فندمت، وقلت: إن أنا وجدت فيه حيلة وكشفتها له، لم آمن أن يقتلني في الدار، وإن لم أجد، طالبني بتصديقه، فكيف أعمل؟
قال: وفكّرت في البيت، فدققت «3» تأزيرة «4» ، وكان مؤزّرا بإزار ساج،(1/166)
فإذا بعض التأزير فارغ، فحرّكت منه جسريّة «1» خمّنت «2» عليها، فإذا هي قد انقلعت، فدخلت فيها، فإذا ثمّ باب مسمّر، فولجت منه إلى دار كبيرة، فيها بستان عظيم، فيه صنوف الأشجار، والثمار، والنوّار، والريحان، التي هي في وقتها، وما ليس هو في وقته، مما قد عتّق، وغطّي، واحتيل في بقائه، وإذا بخزائن مليحة، فيها أنواع الأطعمة المفروغ منها، والحوائج لما يعمل في الحال، إذا طلب، وإذا بركة كبيرة في الدار، فخضتها، فإذا هي مملوءة سمكا، كبارا وصغارا، فاصطدت واحدة كبيرة، وخرجت، فإذا رجلي قد صارت بالوحل والماء إلى حدّ ما رأيت رجله.
فقلت: الآن إن خرجت، ورأى هذا معي، قتلني، فقلت: أحتال عليه في الخروج.
فلمّا رجعت إلى البيت، أقبلت أقول: آمنت، وصدّقت.
فقال لي: ما لك؟
قلت: ما هاهنا حيلة، وليس إلا [50 ط] التصديق بك.
قال: فاخرج.
فخرجت، وقد بعد عن الباب، وتموّه عليه قولي، فحين خرجت، أقبلت أعدو إلى باب الدار، ورأى السمكة معي، فقصدني، وعلم أنّي قد عرفت حيلته، فأقبل يعدو خلفي، فلحقني، فضربت بالسمكة صدره ووجهه، وقلت له: أتعبتني، حتى مضيت إلى اليمّ «3» ، فاستخرجت لك هذه منه.(1/167)
قال: فاشتغل [عني] «1» بصدره وبعينيه، وما أصابه «2» من السمكة، وخرجت.
فلمّا صرت خارج الدار، طرحت نفسي مستلقيا، لما لحقني من الجزع والفزع.
فخرج إليّ، وصاح بي، وقال: ادخل.
فقلت: هيهات، والله لئن دخلت، لا تركتني أخرج أبدا.
فقال: اسمع، والله لئن شئت قتلك على فراشك، لأفعلنّ، ولئن سمعت بهذه الحكاية لأقتلنّك، ولو كنت في تخوم الأرض، وما دام خبرها مستورا، فأنت آمن على نفسك، امض الآن حيث شئت، وتركني، ودخل.
فعلمت أنّه يقدر على ذلك، بأن يدسّ أحد من يطيعه «3» ويعتقد فيه ما يعتقد، فيقتلني.
فما حكيت الحكاية [56 ب] ، إلى أن قتل.(1/168)
85 من أقوال الحلاج وتواقيعه
وكان الحلّاج، له الكتب المصنّفة في مذاهبه، يسلك في كلامه فيها، مذاهب الصوفيّة، في الهوس، ويكثر من ذكر النور الشعشعانيّ، وإذا أفصح بكلام مفهوم، كان ترسّله حسنا، وتلفّظه به مليحا.
أخبرني بعض أصحابه من الكتّاب، قال: خرج له توقيع إلى بعض دعاته، تلاه عليّ، فحفظت منه قوله فيه:
وقد آن الآن أوانك، للدولة الغرّاء، الفاطميّة الزهراء، المحفوفة بأهل الأرض والسماء، وأذن للفئة الظاهرة، مع قوة ضعفها في الخروج إلى خراسان، ليكشف الحقّ قناعه، ويبسط العدل باعه «1» .
وأخبرني هذا الرجل، عمّن حدّثه من أصحابه، قال: كنّا معه في بعض طرقات بغداد، فسمعنا زمرا طيّبا شجيّا.
فقال بعضنا: ما هذا؟
فقال لنا هو «2» : هذا نوح إبليس على الدنيا.(1/169)
86 ضرب العود يماثل صوت الهيب في أصول النخل
حدّثني أبو محمد، الحسن بن محمد البومنيّ «1» البصريّ، وكان علّامة لهم حسن النّشوار، رواية للأخبار، ثقة، قال:
اجتاز بعض البصريّين، ومعه ابن له حدث، في طريق، فسمعا صوت ضرب عود، فاستطابه الفتى.
فقال لأبيه: يا أبت ما هذا؟
قال: يا بنيّ، هذا صوت الهيب في أصول النخل.
والهيب: حديدة عظيمة كالبيرم «2» يقلع بها أصول النخل، لا تنقلع إلّا بها. [وهي تسمى ببغداد العتلة «3» فمنها منبسط كالأسطام «4» محدّد، وتكون ثقيلة، لعل فيها نحو العشرة أمناء] «5» .(1/170)
87 أبو جعفر الصيمريّ وزير معزّ الدولة يسخف في مجلس العمل
وكان هذا البومنيّ «1» حسن البلاغة، طويل اللسان، يتكلّم في أمور الكافّة بالبصرة، إذا عرضت المهمّات العظام «2» ، ويناظر السلطان.
فلما جاء أبو جعفر الصيمريّ «3» إلى هناك، وطالب الناس بالمعطّل «4» - ولهذه المطالبة شرح طويل- ناظره البومنيّ في أنّها غير واجبة، فلم ينزل تحت الحجّة، وأخلد إلى القدرة.
فوعظه البومنيّ، وقال: أيّها الأستاذ، إنّ بلدنا، بلد كثير الصالحين، ضعيف الأهل، ما خير قط «5» لمن ظلمهم، وإنّ أهله يكلونك إلى الله تعالى، [51 ط] ويرمونك بسهام الأسحار، يعني الدعاء.
فقلب الصيمريّ الكلام إلى السّخف، وكان شديد «6» الاستعمال له ظاهرا في مجلس الحفل والعمل، فقال: يا شيخ، سهام الأسحار في لحيتك، يعني الضراط» .(1/171)
88 أبو علي الجبائي والحلاج
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخيّ، قال: أخبرني جماعة من أصحابنا:
إنّه لمّا افتتن الناس بالأهواز وكورها بالحلّاج، وما يخرجه لهم من الأطعمة والأشربة، في غير حينه، والدراهم التي سمّاها دراهم القدرة، حدّث أبو عليّ الجبائي «1» بذلك، فقال: إنّ هذه الأشياء محفوظة في منازل يمكن الحيل فيها، ولكن أدخلوه بيتا من بيوتكم، لا منزله هو «2» ، وكلّفوه أن يخرج منه خرزتين سوداء وحمراء «3» ، فإن فعل فصدّقوه.
فبلغ الحلّاج [57 ب] قوله، وإنّ قوما قد عملوا على ذلك، فخرج عن الأهواز.(1/172)
89 بعض اعتقادات أصحاب الحلاج
وأهل مقالته «1» الآن، يعتقدون أنّ اللاهوت الذي كان حالّا فيه، حلّ في ابن له بتستر «2» .
وأنّ رجلا بها هاشميّا ربعيا، يقال له: محمد بن عبد الله، ويكني بأبي عمارة، قد حلّت فيه روح محمّد بن عبد الله [النبي] «3» صلوات الله عليه، وهو يخاطب فيهم بسيّدنا، وهي من أعلى المنازل عندهم.
وأخبرني، من استدعاه بعض الحلاجيّة، إلى أبي عمارة هذا، بالبصرة، وله مجلس يتكلّم فيه على مذاهب الحلّاج، ويدعو إليه.
قال: فدخلته، وظنّوا أنّي مسترشد، فتكلّم بحضرتي، والرجل أحول، فكان يقلّب عينيه «4» في سقف البيت، فيجيش خاطره بذلك الهوس.
فلما خرجنا، قال لي الرجل: آمنت؟
فقلت: أشدّ ما كنت تكذيبا بقولكم الآن، هذا عندكم الآن بمنزلة النبيّ، لم لا يجعل نفسه غير أحول؟
فقال: يا أبله، كأنّه أحول؟ إنّما هو يقلّب عينيه في الملكوت «5» .(1/173)
90 خال المؤمنين عند الحلاجية- 1
وأبو عمارة هذا، متزوّج بامرأة من الأهوازيّين، يقال لها بنت ابن جان بخش «1» ، ولها أخ فاجر يغنّي «2» بالطنبور، وكان أبوه شاهدا «3» جليلا تانئا موسرا، والحلاجيّة تعتقد أنّه بمنزلة محمد بن أبي بكر، خال المؤمنين.
فحدّثني عبيد الله بن محمد، قال:
كنا نسير بالأهواز يوما، ومعنا كاتب ظريف من أهل سيراف «4» يقال له المبارك بن أحمد، فاجتزنا بالرجل، فقام، وسلّم علينا.
فقال لي الكاتب: من هذا؟
فقصصت عليه قصّته بأشرح من هذا، فقلب رأس بغله ورجع.
فقلت له: إلى أين يا أبا سعيد؟
قال: ألحقه، فأسأله عمّا سارّته به أخته عائشة أمّ المؤمنين، يوم الجمل، لمّا أفضى إليها بيده ليخرجها من الهودج.
فضحكت من ذلك، ورددته.(1/174)
91 خال المؤمنين عند الحلاجية- 2
وكان هذا الفتي، ابن جان بخش «1» ، قد ورث مالا جليلا، ودخل الديلم الأهواز عقيب ذلك، فتقاين «2» بالمال، وعاشر الديلم، فأنفق أكثره عليهم، فتعلّم الكلام بالديلميّة، حتى صار إذا تكلّم بها، كأنّه من بلد الديلم «3» ، وعرف أسماء قراهم، وعلامات بلدانهم.
فلما خفّ ماله، اشترى بغلين، ودابتين، وزوبينات «4» ، وسلاحا [52 ط] وآلة الجند، وجعل لرأسه شعرا مثل شعور الجيل «5» والديلم، وسمّى نفسه حلوز بن با علي، وكان أبوه في الأصل يكنى بأبي عليّ، وهذا الاسم من أسماء الجيل.
وجاء إلى أبي القاسم البريديّ، وهو بالبصرة يحارب الأمير أحمد ابن بويه، فاستأمن إليه ومن الديلم والجيل خمسمائة، وقصّته مشهورة.
قال: فأخبرني هو، قال: كنت، أداخل وأدعوهم، ولا يشكّون أنّي ديلميّ، وأعطيهم علامات بلدانهم، فإذا وقع من يفطن بي، أعطيته شطر الرزق.(1/175)
قال: وكنت [58 ب] آكل الثوم، ولا أتعالج للصنان، وأصير جيفة «1» على مذاهب الديلم، وأجيء، فأرتفع في القيام، حتى ألزق بأبي القاسم، ممّا يلي رأسه، فيموت من بغض رائحتي.
قال: وعلت حالي عنده، فكان يطرح لي كرسيّا برسم الخاصة، فإذا جلست، اصطدت الذباب، وقتلته بحضرته، كأنّي ديلميّ فجّ، فكان يضجّ منّي، ويقول: يا قوم، أعفوني من هذا الديلميّ الفجّ، البغيض، المنتن، وخذوا منّي أضعاف رزقه.
فأقمت عنده سنين «2» ، إلى أن انكشف خبري، فهربت من يده.
وهذا من طيّب أخبار المورثين «3» المتخلّفين، فأفردته.(1/176)
92 من أخبار متخلفي المورثين- 1
ومن طيّب أخبار متخلّفي المورثين، ما أخبرت به:
من أنّ أحدهم ورث مالا جليلا جسيما، فتقاين «1» ، وعمل كلّ ما اشتهى، فبلغني إنّه قال: أريد أن تفتحوا لي صناعة لا تعود عليّ بشيء، أتلف بها هذا المال.
فقال له أحد جلسائه: اشتر التمر من الموصل واحمله إلى البصرة، فإنّك تهلك المال.
فقال: هذا إذا فعل، عاد منه، ولو اثنان في العشرة، تبقى من أصل المال.
فقال له آخر: اشتر هذه الإبر الخياطيّة، التي تكون ثلاثا بدرهم، وأربعا، وتتبّعها، فإذا اجتمع لك عشرة آلاف إبرة بجملة الدراهم، فاسبكها نقرة، وبعها بدرهمين.
فقال: أليس يرجع من ثمنها درهمان؟
فقال له أحدهم: كأنّك تريد ما لا يرجع شيء منه البتّة؟
فقال: نعم.
فقال: تشتري ما شئت من الأمتعة، وتخرج به إلى الأعراب، فتبيعه عليهم، وتأخذ سفاتجهم إلى الأكراد، وتبيع على الأكراد، وتأخذ سفاتجهم إلى الأعراب.
قال: وكان يعمل هذا، حتى فني ماله «2» .(1/177)
93 من أخبار متخلفي المورثين- 2
وبلغني أنّ آخر، أسرع في ماله، فبقيت منه نحو خمسة آلاف دينار «1» ، فقال: أريد «2» أن تفنى بسرعة، حتى أنظر أيّ شيء أعمل بعدها.
فعرضت عليه أشياء من هذا الجنس، فلم يردها.
فقال له بعض أصحابه: تبتاع زجاجا مخروطا بالمال كلّه، إلّا خمسمائة دينار، وتعبّيه بحذائك، ويكون في نهاية الحسن، وتنفق الخمسمائة دينار في يوم واحد، في جذور «3» المغنيّات، والفاكهة، والطيب، والشراب، والثلج، والطعام، فإذا قارب الشراب أن يفنى، أطلقت فارتين في الزجاج، وأطلقت خلفهما سنّورا، فيتعادى الفار والسنّور في الزجاج، فيتكسّر جميعه، وتنهب الباقي.
فقال: هذا طيّب.
فعمل ذلك، وجلس يشرب، فحين سكر، قال: هي، وأطلق الرجل الفارتين والسنّور، وتكسّر [53 ط] الزجاج، وهو يضحك، ونام.
وقام الرجل ورفقاؤه، فجمعوا ذلك [59 ب] الزجاج، وعملوا من قنّينة قد تشعّثت قدحا، ومن قدح قد تكسّر برنيّة غالية «4» ، ولزقوا ما تصدّع،(1/178)
وباعوه بينهم، فرجع عليهم منه دراهم صالحة اقتسموها، وانصرفوا عن الرجل، فلم يعرفوا خبره.
فلما كان بعد سنة، قال صاحب المشورة، بالزجاج والفار والسنّور، لو مضيت إلى ذلك المدبر، فعرفت خبره.
فجاء، فإذا هو قد باع قماش بيته، وأنفقه، ونقض داره، وباعها، وسقوفها، حتى لم يبق إلّا الدهليز، وهو نائم فيه، على قطن، متغطّ بقطن قد فتق من لحف وفرش، بيعت وبقي القطن، فهو يتوطّاه، ويتغطّى به من البرد.
قال: فرأيته، وكأنّه سفرجل بين القطنين.
فقلت: يا ميشوم، ما هذا؟
قال: ما تراه.
فقلت: في نفسك حسرة؟
قال: نعم.
قلت: ما هي؟
قال: أشتهي أن أرى فلانة، مغنيّة كان يعشقها، وأتلف أكثر المال عليها.
قال: وبكى، فرققت له، وأعطيته من منزلي ثيابا، فلبسها، وجئنا إلى بيت المغنّية، فقدّرت أنّ حاله قد ثابت «1» ، فدخلنا إليها «2» ، فحين رأته، أكرمته، وبشّت به، وسألته عن خبره، فصدقها عن الصورة.
فقالت له في الحال: قم، قم.
قال: لم؟
قالت: لئلا تجيء ستّي وتراك وليس معك شيء فتحرد عليّ لم(1/179)
أدخلتك، فاخرج إلى برّا «1» حتى أصعد أكلّمك من فوق.
فخرج، وجلس ينتظر أن تخاطبه من روزنة «2» في الدار إلى الشارع، وهو جالس.
فقلبت عليه مرقة من قدر سكباج «3» ، وصيّرته آية ونكالا، وضحكت.
فبكى، وقال: يا أبا فلان، بلغ أمري إلى هذا»
؟ أشهد الله، وأشهدك أنّي تائب.
قال: فأخذت أطنز به «5» ، وقلت: أيش تنفعك التوبة الآن؟
قال: ورددته إلى بيته، ونزعت ثيابي عنه، وتركته بين القطن، كما كان أوّلا، وحملت ثيابي، فغسلتها، وأيست منه، فما عرفت له خبرا، نحو ثلاث سنين.
فأنا ذات يوم، في باب الطاق «6» فإذا بغلام يطرّق «7» لرجل راكب، فرفعت رأسي إليه، فإذا به على برذون فاره، بمركب خفيف مليح فضّة،(1/180)
وثياب حسنة، ودراريع فاخرة، وطيب طيّب، وكان من أولاد الكتّاب، وكان قديما [أيام يساره] «1» يركب من الدواب أفرهها، ومن المراكب أفخرها، وآلته وثيابه، [وقماشه] «2» أفخر شيء ممّا كان يقدر عليه، أو ورثه عن والديه.
فحين رآني، قال: فلان، فعلمت أنّ حاله قد صلحت، فقبّلت فخذه، وقلت: سيّدي أبو فلان.
فقال: نعم.
قلت، إيش هذا؟
قال: صنع الله، والحمد له، البيت، البيت، فتبعته، حتى انتهى إلى بابه، فإذا بالدار [60 ب] الأوّلة، قد رمّها «3» ، وجعلها صحنا واحدا، فيه بستان، وجصّصها من غير بياض، وطبّقها «4» ، وترك فيها مجلسا واحدا، حسنا، عامرا، وجعل باقي المجالس صحنا، وقد صارت طيّبة، إلّا أنّها ليست بذلك السرو الأول.
وأدخلني إلى حجرة كانت له قديما، يخلو فيها، وقد أعادها إلى أحسن ما كانت عليه، وفيها فرش حسن [54 ط] ليس من ذلك الجنس، وفي داره أربعة غلمان، قد جعل كلّ خدمتين إلى واحد منهم، وخادم شيخ، كنت أعرفه له، قد ردّه، وجعله بوّابا، وشاكريّ «5» ، وهو سائسه.
وجلس، فجاؤوه بآلة مقتصدة نظيفة، فخدم بها، وبفاكهة مختصرة(1/181)
متوسّطة، وطعام نظيف كاف، إلّا أنّه قليل، فأكلنا، وبنبيذ تمر جيّد، فجعلوه بين يديّ، وبمطبوخ جيّد بين يديه.
ومدّت ستارة، فإذا بغناء طيّب، وبخّر بعود طريّ «1» وندّ جميعا، وأنا متشوّف إلى علم السبب.
فلما طابت نفسه، قال: يا فلان، تذكر أيّامنا الأوّلة؟
قلت: نعم.
قال: أنا الآن في نعمة متوسّطة، وما قد أفدته «2» من العقل، والعلم بالزمان، أحبّ إليّ من تلك النعمة، هو ذا ترى فرشي؟
قلت: نعم.
قال: إن لم يكن بذلك العظم، فهو مما يتجمّل به أوساط الناس.
قلت: نعم.
قال: وكذلك آلتي، وثيابي، ومركوبي، وطعامي، وفاكهتي، وشرابي، فأخذ يعدّد ويقول في كل فصل: إن لم يكن ذلك المفرط، ففيه جمال، وبلاغ، وكفاية.
إلى أن ذكر كلّ ما عنده «3» ، ويضيف ذلك إلى أمره الأوّل، ويقول:
هذا يغني عن ذلك، وقد تخلّصت من تلك الشدّة الشديدة، تذكر يوم عاملتني المغنّية لعنها الله بما عاملتني به؟ وما عاملتني به أنت ذلك اليوم، وقلته في كلّ يوم، وفي يوم الزجاج؟
فقلت: هذا قد مضى، والحمد لله الذي أخلف عليك، وخلّصك مما كنت فيه، فمن أين لك هذه النعمة، والجارية التي تغنّينا الآن؟(1/182)
فقال: اشتريتها بألف دينار «1» ، وربحت جذور القيان «2» ، وأمري الآن على غاية الانتظام والاستقامة.
فقلت: من أين هذا؟
قال: مات خادم لأبي، وابن عمّ لنا بمصر، في يوم واحد، فخلّفا ثلاثين ألف دينار، فحملت إليّ بأسرها، فوصلت في وقت واحد، وأنا بين القطن، كما رأيت، فحمدت الله، واعتقدت أن لا أبذّر، وأن أدبّر، وأعيش بها إلى أن أموت، وأنفقها على اقتصاد.
فعمّرت هذه الدار، واشتريت جميع ما فيها من فرش وآلة وثياب ومركوب وجواري وغلمان، بخمسة آلاف دينار، وجعلت تحت الأرض خمسة آلاف دينار [61 ب] ، عدّة للحوادث، وابتعت ضياعا ومستغلات بعشرة آلاف دينار، تغلّ لي في كلّ سنة، مقدار نفقتي، على هذا المقدار الذي تراه من النفقة، ويفضل لي في كلّ سنة إلى وقت ورود الغلّات، شيء آخر، حتى لا أحتاج أن أقترض ولا أن أستدين، وأمري يمشي على هذا.
وأنا في طلبك منذ سنة، ما عرفت لك خبرا، فإنّي أحببت أن ترى رجوع حالي، ومن دوام صلاحها، واستقامتها، أن لا أعاشرك، يا عاضّ بظر أمّه، أبدا، خذوا يا غلمان برجله.
فجرّوا والله برجلي، وأخرجوني، ولم يدعوني أتمّم شربي عنده ذلك اليوم.
وكنت ألقاه بعد ذلك على الطريق راكبا. فيضحك إذا رآني، ولا يعاشرني، ولا أحدا من تلك الطبقة «3» .
ويبعد في نفسي، ما حكي من أمر سفاتج الأعراب والأكراد، والزجاج، [55 ط] فإن هذا عندي، لا تسمح به نفس مجنون.(1/183)
94 ابن الدكيني يرث عن والده خمسمائة ألف دينار
ولكن قد حكي: أنّ رجلا من أولاد التجّار ببغداد، يقال له: ابن الدكينيّ، وخبره مشهور ببغداد، مات أبوه، فخلّف عليه «1» خمسمائة ألف دينار، فلعب بها لعبا لم يسمع قط بأعظم منه.
وكان يضاهي المقتدر، وإذا بلغه أنّه عمل شيئا من ألوان اللذة والطيب واللعب، عمل ما يقاربه من جنسه.
وإنّه كان يجذر دائما بمائتي دينار في يوم، وينثر على المغنّيات خمسة آلاف درهم «2» ، وعشرة آلاف درهم «3» ، غير دفعة، ويهب لهم الخلع، كلّ خلعة بثلاثة آلاف درهم، وألفي درهم، ومائة دينار.
ويهب منها في مجلس، عشر خلع، وخمس عشرة خلعة «4» ، يخرجها من دكّان أبيه من التخوت، فيهبها.
وإنّه كان إذا أصبح مخمورا، أحضر الثياب الدبيقيّ، فتخرّق بحضرته باليد، عصائب للفصد، ويقول «5» : لا يزيل خماري غير سماع أصواتها.
وإنّه أنفق في فصاد «6» فصدته عشيقته، ثلاثة آلاف دينار. وأشياء من هذا السّرف.(1/184)
وإنّه لما لم يبق له إلّا نحو خمسين ألف دينار من ماله، تاب من هذا كلّه، ولزم يده «1» ، وتجهز للحجّ. فأنفق فيه، وفي أبواب الثواب «2» عشرة آلاف دينار.
فلما قضى حجّه، وعاد يريد بغداد، مات في طريقه وهو شاب، فورث ورثته باقي ذلك المال.
95 وآخر بالبصرة ورث عن والده مائة ألف دينار
وسمعت بعض الطيّاب «3» ، يقول، وقد جرى ذكر رجل عندنا بالبصرة، ورث مقدار مائة ألف دينار «4» ، فتقاين بها في سنين قريبة، وعاد فقيرا.
فقال له ذلك الرجل: يا أخي فرسخ قراضة في هذا العمل بضاعة «5» .(1/185)
96 تاجر من العسكر يحاسب ولده على ما أتلف من المال
حدّثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال:
كان بالعسكر «1» رجل تاجر، موسر من التجّار، يقال له أحمد بن عمر بن حفص، فخرج إلى أصفهان، فأنفق ابن له من ماله في القيان، ثلاثة آلاف دينار، وكوتب بذلك، فعاد.
فلما اجتمعا، طالبه بالحساب، فدافع.
فقال له أبوه يوما: إلى كم تدافع بالحساب، وقد بلغني خبر ما أتلفت فيه المال؟ فإن كنت استفدت بذلك عقلا، وعلما بالزمان، وحنّكتك الشدائد والأمور، وأدّبتك، فليس هذا بغال، بهذا القدر من مالي، فإنّه مالك، وإن لم تكن أفدت ذلك، فإن المصيبة فيك عندي، أعظم من المصيبة بذهاب المال.(1/186)
97 أحمد الخراساني صاحب ابن ياقوت
وحدّثني أبو الحسن بن الأزرق، قال:
كان أحمد بن محمّد الخراسانيّ، الذي صار بعد ذلك، صاحبا لابن ياقوت «1» ، جاءني وقد ورث خمسين ألف درهم، في أوّل عمره، فدخل دار الزكوريّة المغنّية، وتعشّق جارية لها، كانت [62 ب] مشهورة ببغداد، بالحسن والظرف، وطيب الغناء، يقال لها زهرة «2» ، كان الأحداث ببغداد قد استهتروا بها.
فقالت الزكوريّة: أراك قد عشقت جاريتي هذه، فكم معك؟
قال: خمسين ألف درهم، قالت: هذه دور بلا نحبة «3» .
فما مضت إلّا أيّام، حتى أتلفها، فرأيته بجبّة لا قميص تحتها ولا فوقها، يمشي حافيا، ثم صنع الله له بعد ذلك، [وخدم ابن ياقوت، فأثرى وعقل] «4» .(1/187)
98 ابن وسنا الخزاعيّ والكلام الذي يطيّر الآجرّ
وحدّثني «1» قال:
كان رجل من الرجّالة، يقال له ابن وسنا الخزاعيّ، يتعشّق حدثا ببغداد، يقال له الحسين بن غريب البقّال»
، حسن الوجه، رائعا، خفيف الروح [56 ط] حسن الالتقاء، فأنفق عليه مالا، وباع عقارا كان له، ثم خفّ ماله، فأمسك يده عنه، وقطعه.
[فقيل له بعد ذلك: لم تركت ابن غريب، وحلفت أن لا تكلّمه؟
فقال: كلام حسين بن غريب يطيّر الآجرّ] «3» .(1/188)
99 درة الرقاص الصوفيّ وأبو غالب بن الآجري
سمعت درّة، الرقّاص الصوفيّ، يقول:
استترت مع أبي غالب بن الآجريّ، كاتب صافي، أحد الساجيّة «1» ، شهرا، فضاق صدري، فتركته وهربت منه، وغبت أيّاما عند إخواني، ثم جئته، فعاتبني. فقلت: يا هذا ضاق صدري.
فقال لي: استتر معي أيام استتاري، فإذا خلّصني الله، دعوتك أيّاما متتابعة، بعدد أيّام استتارك عندي، أجذر لك في كلّ يوم غناء بمائة دينار.
فاستترت معه بعد هذا نحو شهر، ثم فرّج الله عنه، وظهر، وعادت حاله.
فلما التقينا، قلت: النذر.
قال: نعم، إجلس، لنجعل اليوم أوّله، فجذر ذلك اليوم، وتلك الليلة، قيانا بمائة دينار، وأنفق قريبا منها، ثم لم يدع القيان يخرجن، إلّا أن يملهنّ، فيحضر بدلهنّ.
وجلسنا على تلك الحال، يجذر في كل يوم وليلة بمائة دينار قيانا، وينفق في طعام وشراب وفاكهة وطيب، مثلها.
وكان ربّما احتاج إلى لقاء صاحبه، والتصرّف في شغله، فيخرج، ويركب، ويتصرّف [63 ب] ، ويعود ليلا، أو عشيّا، وكما يستوي له، والغناء جالس، والمطبخ قائم، ونحن نأكل ونسمع، وهو غائب عن داره، حتى وفّى لي أيّاما بعدد أيّام استتاري معه، وكانت أكثر من ثلاثين يوما.(1/189)
100 آخرة أبي غالب بن الآجريّ
ولقد رأيت أنا، أبا غالب الآجريّ هذا، وقد ورد البصرة في أيّام أبي القاسم البريديّ «1» ، فاستشفع على أبي بغلامه مبشّر، لأنّه كان قد ملكه في أيّام نعمته.
وكنت أرى مبشّرا غلامنا، يبرّه في الأوقات، من ماله، بعشرين درهما، وثلاثين درهما، ويأخذ له من أبي سبعين درهما، ومائة درهم، في أوقات، وهو يجيء إلى مبشّر، فيواكله، ويشاربه، ويعاشره، وكأنّه نديم له، بدالّة ملكه إيّاه، وأرى عليه قميصا مخرّقا، ودرّاعة «2» مرقوعة، ونعلين كنباتي «3» في رجله يمشي بهما في الطرق، وغلامه خلفه، ومعه خفّ منعّل، فإذا حصل في دهليزنا لبسه، ودخل إلى أبي.
ولزمنا مدّة، إلى أن خاطب أبي بعض العمّال في تصريفه «4» بعشرة دنانير في الشهر، فصرّف فيما هذا مقداره.(1/190)
101 درة الصوفي يتحدث عن المورثين
وقال لي درّة الصوفيّ:
كان المورث، إذا اجتذبنا إلى اللعب معه، ومعه عشرة آلاف دينار، أو مائتا ألف درهم، سمّيناه: المعجّل.
فقلت له: ما معنى هذا؟
فقال: النساء، إذا مات لهن ابن له شهور دون السنة، أو سنة إلى حدّ الفطام، سمّينه المعجّل.
وكنّا نحن نسمي هذا بالمعجّل، بمعنى أنّ ماله، لا يبلغ به في هذا العمل، إلّا إلى حدّ الطفل الذي يموت في شهور، أو سنة [وأشهر للنساء] «1» ، فيسمّونه المعجّل.
ونعوذ بالله من الإدبار، وتغيّر النعم، وإيحاشها بقلّة الشكر.(1/191)
102 فصل من كتاب كتبه القاضي التنوخيّ إلى رئيس
ولقد كتبت، في محنة لحقتني، إلى رئيس، كتابا فيه فصل يتعلق بما ذكرته، من منادمة أبي غالب الكاتب، لمبشّر مولانا، بدالّة ملكه له، وقبوله برّه بتلك الحجّة، استحسنته، فأوردته هاهنا وهو:
«لا أحوجك الله إلى اقتضاء ثمن معروف أسديته، [ولا ألجأك إلى قبض عوض عن جميل أوليته] «1» ، ولا جعل يدك السفلى لمن كانت عليه هي العليا، وأعاذك من عزّ مفقود، وعيش مجهود [57 ط] ، وأحياك ما كانت الحياة أجمل بك، وتوفّاك إذا كانت الوفاة أصلح لك، بعد عمر مديد، وسموّ بعيد، وختم بالحسنى عملك، وبلّغك في الأولى أملك، وسدّد فيها مضطر بك، وأحسن في الأخرى منقلبك، إنّه سميع مجيب، جواد قريب» .(1/192)
103 أبو الحسن الموصلي كاتب أبي تغلب والسيّدة جميلة ابنة ناصر الدولة
حدّثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، قال:
رأيت أبا الحسن عليّ بن عمرو الموصليّ «1» يكتب إلى أبي تغلب بن ناصر الدولة «2» ، وكتب في موضع من الكتاب «أمور حميدة» .
فقلت له: هذا الموضع يصلح أن يكون فيه «أمور [64 ب] جميلة» فأمّا حميدة، فهي لفظة مستكرهة «3» .
فقال: صدقت، ولكنّي كتبت، وأنا بالموصل، رقعة إلى أبي تغلب، فيها «أمور جميلة» فوصلت إليه، وهو عند أخته جميلة «4» ، وهي غالبة(1/193)
عليه، محتوية على أمره، لا يقطع شيئا دونها، ولا يفصل رأيا إلّا عن مشورتها، وكانت الرقعة مما احتاج إلى مطالعتها بما فيها [فقرأها عليها] «1» فأنكرت عليّ قولي «جميلة» ، لأنّه اسمها، إنكارا شديدا، احتجت معه إلى الاعتذار مما كتبت، فما كتبت بعدها إلى الآن، «جميلة» في شيء من مكاتباتي إلى أحد، وصار تركها لي طبعا «2» .(1/194)
104 علية بنت المهدي تتحامى اسم طلّ
ويشبه هذا، قول عليّة بنت المهدي «1» ، لمّا قرأت القرآن فبلغت إلى قوله عزّ وجلّ: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ
«2» ، فقالت: «فإن لم يصبها وابل فما نهى أمير المؤمنين عن ذكره» ، ولم تقل طلّ، لأنّه كان اسم خادم تعشّقته، فبلغ الرشيد أخاها خبرها معه، فجرى عليها منه مكروه غليظ، وأحلفها على أشياء منها أنّها لا تذكره.
105 امرأة بغدادية تتظرّف فتحرّف القرآن
وقد حكي: أنّ بعض النساء الظراف، قرأت: «تعلم ما في روحي، ولا أعلم ما في روحك» «3» ، ولم تقل «نفسي» لأنّ الظراف، لا يقولون ذلك «4» .
فقال لها بعض من سمعها: ويحك، فأنت أظرف من الله؟ قولي كما قال.(1/195)
106 بجكم أمير الأمراء وفتوّة جارية الهاشميّة
أخبرني غير واحد:
إنّ بجكم الماكاني «1» أمير الأمراء ببغداد، عشق جارية من القيان بها، يقال لها فتوّة جارية الهاشمية، وكان يتكبّر عن شرائها، ويرفع نفسه أن يبوح بمحبّتها، ويحضرها، فيعطيها كلّ شيء.
وكان قد استعمل لها عودا، من عود هندي، قام عليه بمال، وكانت تغنّي به.
فسكر يوما، فخسف وجه العود، وقلعه، وملأه لها دراهم، فوسع نيّفا وعشرين ألف درهم.(1/196)
107 أبو العباس البغداديّ وإنفاقه ماله في الفساد
وكان عندنا بالبصرة، دلّال من أهلها يعرف بأبي العبّاس البغداديّ «1» ورث في حداثته مالا جليلا، فتقاين «2» بجميعه، فلمّا افتقر، صار دلّالا، فكسب أيضا كسبا ثانيا كبيرا، فما كان يبقي منه شيئا، بل ينفقه كله في الفساد.
فأخبرني بعض شيوخ البصرة، قال:
رأيته، وهو حدث، في ليلة من شهر رمضان، مملوء الكمّ، يريد دار بدعة الدرونيّة، وكانت إذ ذاك مغنّية البلد، المشهورة فيه، بالنبل، والحذاقة، والطيب، والحسن، ولها أخبار كثيرة طريفة.
فقلت: أيش في كمّك يا أبا العبّاس.
فقال: مخلّط خراسان «3» أتصدّق به على بدعة، صدقة شهر رمضان.(1/197)
فلم أشكّ في أنّه كذلك.
فقلت: فأطعمني منه، فطرح في كمّي منه شيئا ثقّل به كمّي، وافترقنا.
فلما بلغت بيتي أردت أن أطعم عيالي منه، فنظرت فإذا هو لوز ذهب، وسكّر فضّة، وفستق وبندق عنبر، وزبيب ندّ، فخبّيته «1» .
فلما كان من غد، نظرت فإذا قيمته [58 ط] مال، فجئت إليه، ورددته عليه.
فقال [65 ب] : يا بارد، أيش هذا حتى تردّه؟ جميع ما كان في كمّي البارحة، كذا، فرّقته على بدعة وجواريها.
فقلت: لو علمت هذا ما طلبته منك.
قال: فظننت أنّي على الحقيقة أحمل إليها لوزا وسكرا وزبيبا وفستقا؟(1/198)
108 كل نفس آتيناها هداها
حدّثني أحمد بن عبد الله بن بكر البصريّ، قال: حدّثني عروة الزبيريّ «1» :
إنّه حجّ في سنة الهبير «2» ، فاشترى من مكّة قردا، وكان مع عديله «3» كلب، فألف القرد الكلب، فكانا يأكلان في موضع واحد.
قال: فقطع علينا القرمطيّ، وأخذنا السيف، وتفرّق الناس، وحيل بينهم، وبين أمتعتهم ورحالاتهم، ومشيت أنا، فأفلتّ فيمن أفلت، وجئت إلى الكوفة، وما أملك درهما واحدا.
فبينا أنا جالس يوما أفكّر، لمن أسأل، وكيف أعمل، إذ سمعت جلبة وضوضاء.
فخرجت أبصر ما هي؟ فإذا القرد قد ركب الكلب، وجاء كذلك، فدخلا الكوفة، والناس يضحكون منهما.(1/199)
وإذا القرد كان يطعم الكلب، ويريد منه الركوب، واحتال لنفسه بذلك، طول الطريق.
فلما رأيت القرد والكلب استدعيتهما فجاءا إليّ.
فقال الناس: ما هذا؟
فقلت: هما لي، فأخذتهما.
وبلغ أمير الكوفة الخبر، فراسلني في بيعهما عليه.
فبعتهما عليه بثلاثمائة درهم، فكانت سبب صلاح حالي في الوقت، وخرجت عن البلد.(1/200)
109 ما للماء للماء وما للخمر للخمر
وروي عن وهب بن منبّه «1» :
أنّه كان في عهد بني إسرائيل، خمّار، فسافر بخمر له ومعه قرد، وكان يمزج الخمر بالماء نصفين، ويبيعه بسعر الخمر، والقرد يشير إليه أن لا تفعل، فيضربه.
فلما فرغ من بيع الخمر، وأراد الرجوع إلى بلده، ركب البحر، وقرده معه، وخرج فيه ثيابه، والكيس الذي جمعه من ثمن الخمر.
فلما سار في البحر، استخرج القرد الكيس من موضعه، ورقى الدقل وهو معه، حتى صار في أعلاه، ورمى إلى المركب بدرهم، وإلى البحر بدرهم.
فلم يزل ذلك دأبه، حتى قسم الدراهم نصفين، فما كان بحصّة الخمر، رمى به إلى المركب، فجمعه صاحبه، وما كان بحصّة الماء رمى به إلى البحر فهلك، ثم نزل عن الدقل [حتى حصل في المركب] «2» .(1/201)
110 قرود اليمن ترجم الزاني والزانية
حدّثني أبو عمر أحمد بن عبد الله بن أحمد بن بكر البصريّ، قال:
حدّثني النعمان الواسطيّ المحدّث «1» إنّه كان باليمن، فحدّثه بعض من يثق به من الرعاة هناك، قال:
كنت أرعى غنما لي في بعض الأودية، فرأيت قردين، ذكرا وأنثى، وهما نائمان في مكان من الجبل.
فجاء قرد ذكر، يخفي مشيه، حتى حرّك الأنثى، وهي إلى جنب الذكر، فانتبهت، ومضت معه، وافترشها، وأنا أراهما.
فانتبه ذكرها، فرآها، فزعق زعقة عظيمة، فاجتمع إليه من القرود عدد كثير، هالني.
فصاح بين أيديهم، فأقبلوا يتشمّمون الأنثى، حتى فرغوا كلهم من تشمّمها.
ثم نزلوا بها، وبالذكر الذي وطئها، تخفيّا من ذكرها، إلى وهدة بعيدة، فدحرجوهما فيها قهرا، ثم رجموهما بالحجارة، حتى ماتا «2» .(1/202)
111 دب في شيراز ينفخ في زق حداد
قال: حدّثني أبو الحسن الزجّاج، صديق- كان لي- ثقة: إنّه شاهد بشيراز، دبّا، ينفخ في زقّ حدّاد، كأنّه أقامه مقام [59 ط] الأجير «1» .
112 دبّ يضرب بمطرقة حدّاد
قال: وشاهدت «2» أيضا دبّا يضرب بالمطرقة، على حدّاد، فغلط يوما، فضرب دماغ الحدّاد، فقتله «3» .(1/203)
113 خاقان المفلحي يستطيب لحم الدبّ والضبع
حدّثني أبو محمد الصّلحيّ «1» الكاتب، قال: حدّثني أبي، وكان يكتب لخاقان المفلحيّ «2» ، قال:
شربت معه يوما، فنقّلني «3» بقديد «4» ، فلمّا حصل في فمي، لم أستطبه.
فقلت: أيّها الأمير، ما هذا؟
فقال: هذا قديد الدبّ.
فرميت به، وقذفت، وثارت بي أخلاط، وصارت علّة، فأقمت أربعة أشهر عليلا في بيتي.
قال: وكان خاقان، يأكل لحم السباع، والضباع، ويستطيبها، ولحم كلّ شيء له لحم «5» .(1/204)
114 وصف له الطبيب فرّوجا، فأكل مهرا
وأخبرني وهب بن يوسف، اليهودي، الطبيب، عن داود اليهوديّ، الشاميّ، قال:
كنت أخدم خاقان، فاعتلّ، فحميته، فاحتمى، وصلح، وأقبلت العافية.
فقال لي: لا أقدر أحتمي أكثر من هذا.
فقلت له: كل فرّوجا.
فلما كان من غد، جئته، فوجدت الحمّى، قد عادت أعظم ممّا كانت، وهي في طريق البرسام «1» .
فقلت له: ما عمل الأمير أمس؟
فقال: أكلت فرّوجا.
فقلت: ليس هذا من فعل الفرّوج، أي فرّوج هذا، حتى فعل هذا؟
فقال لي بعض غلمانه: إنّه ذبح مهرا، وأكل منه أطايبه.
فقلت: أيّها الأمير، أصف لك فرّوجا، فتأكل لحم دابة؟
فقال: بابا، إنّما أكلت فرّوج الدابّة.
فقلت في نفسي: خذ الآن فرّوج الموت.
وما زلت أعالجه شهورا كثيرة، حتى برئ «2» .(1/205)
115 وظيفة خاقان المفلحي في كل يوم من اللحم ألف ومائتا رطل
قال أبو محمد الصلحيّ، عن أبيه:
كانت وظيفة خاقان المفلحيّ، في كلّ يوم، ألف رطل ومائتي رطل لحما، له، ولغلمانه، وخدمه، وكلّ ما يتّخذ في داره، إذا كان في أعماله.
فإذا كان ببغداد، اقتصر على النصف من ذلك، وهو ستمائة رطل لحما، سوى الحيوان الذي يذبح في المطبخ «1» .(1/206)
116 وظيفة الوزير أبي الفرج بن فسانجس من اللّحم في كلّ يوم
وأخبرني بعض وكلاء وزراء هذا الزمان، وهو أبو الفرج بن فسانجس «1» :
إنّ وظيفته كانت، في أيّام وزارته، في كلّ يوم، نيّف وستّين رطلا لحما، له، ولنسائه، وغلمانه، وجميع ما يتّخذ في دوره، وثلاثة جدي، وعشر دجاجات، وأربعة أو خمسة أفرخ، وثلاث جامات حلوى من السوق، وليست من فاخره، وإنّما هي زلابية دقيقة، أو فالوذج، أو ما يجري مجرى ذلك «2» .(1/207)
117 كفى بالأجل حارسا
سمعت قاضي القضاة، أبا السائب «1» ، يحكي:
إنّ رجلا كان له على رجل دين، فهرب منه، فلقيه صاحب الدين في صحراء، فقبض عليه، وأخرج قيدا كان معه، فقيّده ونفسه به، وجعل إحدى الحلقتين في رجل غريمه، والأخرى في رجل نفسه، ومشيا إلى قرية تقرب من الموضع، فجاءاها، وقد أدركهما المساء، وأغلق أهل القرية باب سورها، فاجتهدا في فتحها لهما، فأبى أهل القرية، فباتا في مسجد خراب على باب القرية، فجاء السبع وهما نائمان، فقبض على صاحب [66 ب] الدين فافترسه، وجرّه، فانجرّ الغريم معه. فلم تزل تلك حاله إلى أن فرغ السبع من أكل صاحب الدين، وشبع، وانصرف، وترك المديون وقد تجرّح من جرّه وسحبه عليه، وبقيت ركبة الغريم في القيد، فحملها الرجل مع قيده، وجاء إلى القرية، فأخبرهم الخبر، حتى حلّوا قيده، وسار لوجهه ذلك «2» .(1/208)
118 عريان أعزل يصيد الأسد
حدّثني القاضي أبو بكر أحمد بن سيّار:
إنّ رجلا أجنّه الليل في بعض أسفاره، فبات في خان خراب، بقرب أجمة، وماء مستنقع، وكانت ليلة قمراء، وكان الموضع مسبعا، والرجل عارف بذلك، فرقي سطح الخان، وطلب لبنا «1» فشرّجه على باب الدرجة، وجلس يترقّب، فإذا رجل عريان، قد جاء حتى جلس على الماء.
قال: فقلت له: ما تصنع؟
قال: جئت لأصطاد السباع.
فقلت: يا هذا اتّق الله في نفسك «2» .
فقال: الساعة ترى.
فلم يلبث هنيهة، أن طلع سبع، فتراءى له الرجل، فصاح به، فقصده:
فلما قرب منه، طرح الرجل نفسه في الماء، فرمى السبع بنفسه خلفه في الماء، فغاصا، فإذا بالرجل قد خرج من وراء [60 ط] السبع، وعلّق خصييه بيده، ثم أخرج من منديل على رأسه، قصبة مقدار ذراع، مجوّفة، فارسيّة، وثيقة، نافذة، فدسّها «3» في جاعرة «4» السبع، وأقبل يدخل فيها(1/209)
الماء بإحدى يديه، وكلّما دخل جوف الأسد الماء ثقل، وضعف بطشه، وهو يمرس مع ذلك خصاه، إلى أن غرّقه، وقتله.
ثم جرّه في الماء فأخرجه إلى الشطّ، وسلخ جلده، وأخذ جبهته، وكفّه، وشحمه، ومواضع يعرفها منه لها ثمن.
ثم صاح بي: يا شيخ، كذا أصطاد السباع.
وتركني ومضى.(1/210)
119 لئيم يفخر بلؤمه
حدّثني أبو القاسم عبد الله بن محمد بن مهرويه، بن أبي علّان الأهوازيّ الكاتب، خال والدي، قال:
كانت بيني وبين أبي جعفر بن قديدة، عداوة، وكنت قد تبت من التصرّف مع السلطان.
فتقلّد ضياع السيدة أمّ المقتدر، وفيها ما يجاور ضيعتي، فآذاني أذى شديدا، في الشرب، والأكرة، وقصد إخراب ضيعتي، وإبطال جاهي، فصبرت عليه.
فقبض يوما على أكّار لي، فصفعه صفعا عظيما، فأنفذت إليه كاتبا كان يكتب لي على ضيعتي، يعرف بأبي القاسم علي بن محمد بن خربان، ليعاتبه، ويستكفّه، ويأخذ الأكّار، فتلقّى الرجل بكلام غليظ.
فعاد إليّ، فقال: إنّ هذا قد جدّ بك، [فخذ حذرك] «1» ، ودبّر أمرك بغير ما أنت فيه.
فقلت: ما الخبر؟
فعرّفني ما جرى عليه.
ففكّرت، فلم أر لحسم مادّته عني، وأذيّته في نفسه، غير ضمان ضياع السيّدة «2» ، وتسلّمه، ومطالبته بالحساب [67 ب] ، وإيقاعه في المكاره.
فكتبت إلى كاتب السيّدة، وخطبت ضمان النواحي، بزيادة ثلاثين ألف دينار في ثلاث سنين، عمّا رفعها ابن قديدة، على أن يسلّم إليّ، لأحاسبه(1/211)
وأطالبه، بما يخرجه الحساب عليه، وأوفّره، مضافا إلى هذه الزيادة. وأنفذت الكتاب مع فيج «1» قاصد.
فحين نفذ، اغتممت، وقلت: ضياع لا أعرف حاصلها على الحقيقة، لم حملت نفسي على هذا؟ وكان احتمال عداوة الرجل، أيسر من هذا.
وطرحت نفسي مفكّرا، وأنا بين النائم واليقظان، حتى رأيت، كأنّ رجلا شيخا، أبيض الرأس واللحية، بزيّ القضاة، قد دخل إليّ، وعليه طيلسان أزرق، وقلنسوة، وخفّ أحمر.
فقال: ما الذي يغمّك من هذا الأمر؟ ستربح في أوّل سنة من هذا الضمان، على ما زدته، عشرة آلاف دينار، وتخسر في الثانية، عشرة، وتخرج في الثالثة بغير ربح ولا خسران، ويكون تعبك بإزاء اشتفائك من عدوّك.
فانتبهت متعجّبا، وسألت: هل دخل إليّ أحد؟
فقالوا: لا، فقويت نفسي قليلا.
فلما كان في اليوم الثاني والعشرين، ورد رسول من بغداد، بكتب إليّ قد أجبت فيها إلى ملتمسي، وكوتب في طيّها، عامل كان لهم بالطيّب «2» مقيما، يشرف على جميع عمّالهم بكور الأهواز «3» يؤمر بقدومها وتسليم ابن قديدة إليّ، وعقد الضمان عليّ.(1/212)
فأنفذت إلى العامل سفتجة بألف دينار مرفقا «1» ، وكتبت إليه، وسألته الحضور، وأنفذت إليه الكتب الواردة.
فلما كان بعد أيّام، كنت جالسا مع عامل الأهواز، على داره بشاطىء دجيل «2» فإذا بعسكر عظيم [61 ط] قد طلع من جانب المأمونيّة.
فارتاع، وظن أنّ صارفا «3» قد ورد، وأنفذ من سأل عن الخبر، فعاد، وقال: فلان، عامل السيّدة، فعبر في طيّاره، وأنا معه، لتلقّيه.
فحين اجتمعا، قال له: يا سيّدي، أريد ابن أبي علان.
فقلت: أنا هو يا سيّدي.
قال: ولم يكن يعرفني، ولا أعرفه إلّا بالوجوه «4» فأقامني من موضعي، ورفعني فوق الجماعة، وتحيّر العامل، ومن حضر.
وقال له: أريد ابن قديدة، فأنفذ إليه، فاستدعاه.
فحين حضر قيّده، وقال لي: يا أبا القاسم تسلّمه.
فقال العامل: أيش هذا التعب؟ وأقبلت الجماعة تمازحني.
فقلت: هو أحوجني إلى هذا.
قال: فتسلّمته، وقمت إلى داري.
وعبر عامل السيّدة، فحملت إليه من الألطاف، والأنزال، والهدايا،(1/213)
ما صلح، وعقد عليّ الضمان من غد، وانصرف في اليوم الثالث.
وحملت إليه [68 ب] ألف دينار أخرى مرفقا.
وحصّلت ابن قديدة معي في المكاره متردّدا، ووفّرت من جهته مالا على السيّدة، وكاتبها، وكذا العامل، وارتجعت ما لزمني على مؤونة العامل ومرفقه.
وأطلقته بعد شهور إلى داره، وقد ركبه دين ثقيل، وباع شيئا من ضيعته، وانكسر جاهه، وانخزلت نفسه.
ونظرت في الضمان، وتصرّمت السنة، فربحت عشرة آلاف دينار.
فقلت: قد جاء ما قال الشيخ في المنام، فأثبتّها عند الصارف «1» ، ولم أدخلها في دخلي، ولا في خرجي.
فلما كانت السنة الثانية، قعدت بي الأسعار، فخسرت ذلك القدر، فأدّيته بعينه في الخسران.
فلما كانت السنة الثالثة، خرجت رأسا برأس، ما خسرت ولا ربحت شيئا.
فصحّحت مال الضمان، وكتبت أستعفي، وقد علمت أنّ النكبة قد بلغت بابن قديدة إلى حدّ لا يجسر أن يتقلّد معها، ولا أن يقلّد أيضا.
فلم يعفني كاتب السيّدة، وطالبني بتجديد الضمان على الزيادة، وعمل على التأوّل عليها من ابن قديدة.
وأنفذ في إشخاصي، خادما من كبار خدم السيّدة، فجاء في طيّار، وأمر هائل، فتخوّفت من الشخوص معه، فأحصل في الحبس، وتستمر عليّ المكاره، وأنقطع عن الشروع في الخلاص.(1/214)
فأنزلت الخادم، وهاديته، ولا طفته، وحملت إليه خمسة آلاف درهم فاستعظمها، وعبدني «1» .
فقلت له: إنّ ذيلي طويل «2» ، وأريد أن أصلح أمري، ثم أخرج، فتمهلني أسبوعا، وتدعني أخلو في منزلي، وأصلح ما أحتاج إليه، ثم أخرج معك، فمكّنني من ذلك.
فقلت لإخوتي، وأصهاري، وكتّابي: ليدعه كلّ واحد منكم يوما، له، ولغلمانه، وأسبابه، وامنعوهم من معرفة خبري، وشاغلوهم بالنبيذ، والشطرنج، والمغنّيات، ففعلوا ذلك.
وخرجت أنا تحت الليل بمرقّعة «3» ، راكبا حمارا، ومعي غلامان من غلماني، ودليل، وليس معي شيء من الدنيا، إلّا سفاتج بخمسة آلاف دينار.
وسرت واشتغل الخادم بالدعوات، فما عرف خبري إلّا وأنا بواسط «4» ، فقامت قيامته، وانحدر في طريق الماء، فوصل إلى الأبلّة «5» ، وقد قاربت أنا [62 ط] بغداد، ثم دخلتها متخفّيا، وطرحت نفسي على أبي المنذر النعمان ابن عبد الله «6» ، وكانت لي به حرمة وصحبة، أيّام تقلّده الأهواز، وتصرّفي(1/215)
معه، فلقي بي أبا الحسن، عليّ بن عيسى، وهو إذ ذاك الوزير «1» ، وعرّفه محلّي.
فقال لي: قد كنت أحبّ أن أراك، لما يبلغني من حسن صناعتك، وطرح إليّ أعمالا، فعملتها بحضرته، وأعجبته [69 ب] صناعتي، وقرّظني.
ولزمته أيّاما، وخبري منستر عن كاتب السيّدة، ثم خاطب الوزير [في أمريّ] «2» ، وخوطبت السيّدة. فقالت: لا أقرّر أمره، أو يصير إلى ديواني.
فقال لي: امض وأنا من ورائك، ولا تخف. فمضيت، فاعتقلوني، فراسلتهم في أمري.
وحضر أبو المنذر، ديوان السيّدة، فتوسّط ما بيني وبينهم، وقرّر الأمر على صلح ثلاثة آلاف دينار، أو نحوها- الشك منّي- وضمنها عنّي، وأخذني إلى داره، فأدّيتها إليه من جملة السفاتج.
وطالبني عليّ بن عيسى، بالتصرّف معه، فعرّفته توبتي منه، وإنّي إنّما ضمنت هذا الضمان، لضرورة، وشرحت له الخبر، فأعفاني.
فرجعت إلى الأهواز، وقد مضت السنون على العداوة بيني وبين ابن قديدة، إلّا أنّه منهزم.
وكتب السلطان ببيع ضياعه بالأهواز «3» ، وكان الناس يشترون ما يغلّ في سنة وأكثر، بنصف ثمنه، فاشتريت ما كان فيه غناي، وخرقت فيه الحكم.(1/216)
واشترى أبو عبد الله البريديّ «1» لنفسه، بأسماء قوم، أمرا عظيما، برأيي واختياري له، وكان سرّه «2» عندي، وكان في ذلك الوقت لا يتقصّى عليّ.
واشترى ابن قديدة، فيمن اشترى، وتصرّفنا في الضياع.
فكتب السلطان بإلزامنا زيادة عظيمة، أظنه قال: مائة ألف دينار.
فقال لي البريديّ: كيف أعمل في الزيادة؟
قلت: لا يلزمها الناس لك، وواضعت أهل البلد على الامتناع، فجمعهم، وخاطبهم، فامتنعوا، واحتاج إلى أن خبطهم.
فخلا بي، فقال: ما أعرف في هذا غيرك، فدبّره لي، وألزمني ذلك.
فقلت: مكّنّي من العمل بما أريد، وعليّ المال.
فقال: أنت ممكّن.
فجلست أنا وغلام جوذاب «3» ، فقسّطنا المال على أهل البلد، وأخرجنا أنفسنا، فما ألزمناها شيئا، ونقّصنا من عنينا به، وزدنا بإزاء ذلك على غيره.
قال: واعتمدت أن قسّطت على ابن قديدة ضعف ما يلزمه، وعملنا بذلك جرائد.
وناظرنا الناس على الالتزام بما قسّطناه، فامتنعوا، وقالوا: على أيّ حساب هذا؟ وحاسبونا، وناظرونا.
فقلت للجماعة: من صلح له أن يلتزم هذا التقسيط، وإلّا فليحاسبنا على ما قبضه من غلّات الضياع التي اشتراها، وأنا أرد عليه ما يبقى له من الثمن بعد ذلك، وآخذ ما اشتراه، وألتزم هذه الزيادة.(1/217)
وكان كلّ إنسان قد اشترى ما في شركته، وما في جواره، ممّا كان يتأذّى به هو وأسلافه، منذ مائة سنة، وما كان يتمنّاه ويشتهيه منذ ذلك العهد، وما قد ارتحصه، واستصلحه.
فقامت قيامة أهل البلد، والتزموا عن آخرهم [70 ب] التقسيط، على ما فصّلته عليهم، من غير محاسبة.
وورّكت «1» على ابن قديدة مالا عظيما، فلم يكن له فيه وجه.
فأنا جالس في بيتي ليلة، إذ جاءني [63 ط] ، فدخل إليّ. فقلت:
ما هذا يا أبا جعفر؟ وقمت إليه، وسلّمت عليه، فعاتبني، وخضع لي.
فقلت: ما تريد؟
فقال: تخفّف عنّي من التقسيط، وتعاونني بمالك، فو الله، ما معي ما أؤدّيه.
فخفّفت عنه منه شيئا يسيرا، وأقرضته ثلاثين ألف درهم، وكتبت بها عليه قبالة «2» ، وأشهدت فيها جماعة عدول البلد، وتركتها في بيتي، فلم أفكّر في المال سنين، ورجعت أدسّ المكاره، والمغارم، والمحن عليه، وهو يذوب، وينقص في كل يوم.
فلما علمت أنّه قد بلغ آخر أمره، طالبته بالدين، فاستتر عنّي في منزله.
فاستعديت عليه إلى القاضي أبي القاسم عليّ بن محمد التنوخيّ «3» ، فكتب(1/218)
لي عدوى «1» إلى صاحب المعونة.
فهرب من داره، فنادى القاضي على بابه بالحضور، فلم ينجع ذلك.
فسألت البريديّ إخراجه، فكبس عليه وأخرجه، وأحضره معي إلى القاضي، فقامت البيّنة عليه بالمال. فسألت القاضي حبسه.
فقال لي القاضي عليّ بن محمد: الحبس في الأصل غير واجب، وذوو المروءات لا يحبسون مع أصاغر الناس في حبس واحد، ولكن أمكّنك من أن تلازمه بنفسك أو أصحابك، كيف شئت.
فلازمته في مسجد على باب القاضي [بأصحابي] «2» ومضيت إلى البريديّ، فقلت: قد لحقت خصمي عناية القاضي، فالله الله فيّ، فإنّي لا آمن أن يدسّ ابن قديدة إلى أكرته، أو إلى قوم من الجيش، فيؤخذ من يدي، ويخرج إلى بغداد، فيبطل المال عليّ، ويحصل هناك يسعى بي، ويعرّض نعمتي للزوال.
قال: فخاطب البريديّ القاضي في ذلك، فتقرّر الأمر بينهما على أنّي اكتريت دارا قريبة من حبس القاضي، أؤدّي أنا أجرتها، وأجلس ابن قديدة فيها، وألازمه بأصحابي، وأوكّل بها رجّالة أعطيهم من مالي أجرتهم يحفظونه.
فنقلته إليها، فأقام فيها سنة وكسرا، وهو لا يؤدّي المال، ويكايدني عند نفسه «3» ، وأنا قد رضيت أن يتأخّر المال، ويبقى هو محبوسا.(1/219)
واعتلّ علّة صعبة، فجاءتني أمّه، وكانت بيني وبينها قرابة، فسألتني إطلاقه، وبكت، فلم أفعل.
إلى أن بلغني أنّه في النزع، وجاءتني تبكي، فرحمتها، فأطلقته لها، بعد أن كفلته منها.
فمات بعد ثلاثة أيام، وابتعت بالمال ضياعا من ضياعه «1» .(1/220)
120 كيف تاب بن أبي علان من التصرف
قلت لأبي القاسم ابن أبي علان: كيف كانت توبتك من التصرّف؟
وما سببها؟
قال: كان سبب ذلك، أنّ أبا [71 ب] عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ رحمه الله «1» ، كان يجيء إلى الأهواز فينزل عليّ، لأنّي كنت كاتب ديوان الأهواز، وخليفة أبي أحمد بن الحسين بن يوسف على العمالة، والأمر كلّه إليّ أدبّره.
وكان أبو عليّ يقدم الأهواز في كل سنة دفعة، وقت افتتاح الخراج، ويستضيف إلى خراج ضيعته بجبّى «2» ، خراج قوم كان رسمهم أن يكونوا في أثره على مرور السنين.
فإذا قدم البلد، أعظمه الناس وأكرموه، ولا ينزل إلّا عليّ في أكثر الأوقات، فأقرّر «3» أمره مع العامل.
وربما كان العامل غير صاحبي، أو من لا يعرف محل أبي عليّ، فيكون ما يقرّر عليه أمره أقلّ من ذلك [64 ط] ، إلّا أنّه كان لا يخلو من أن يسقط عنه نصف الخراج أو ثلثه.
فإذا عاد إلى جبّى، لم يلزم نفسه من خراج ضيعته شيئا البتة، ونظر إلى ما بقي، بعد إسقاط خراجه من النظر، ففضّه على القوه الذين في أثره، وألزمهم بإزاء ذلك، أن يضيف كلّ واحد منهم، رجلا من الفقراء(1/221)
الذين يتعلّمون منه العلم طول السنة، فيكون ما يلزم الواحد، على الواحد منهم، شيئا يسيرا لا يبلغ خمس ما أسقطه عنه من الخراج بجاهه.
ويعود هو فيخرج من ضيعته العشر الصحيح، فيتصدّق به على الفقراء من أهل الحوز «1» ، قريته التي هو مقيم فيها، وعلى أهل محلّته، وكان هذا دأبه في كلّ سنة.
فنزل عليّ في بعض قدماته، فبلغت له مراده في أمر الخراج، وجلسنا ليلة نتحدّث.
فقلت له: يا أبا عليّ أتخاف عليّ مما أنا فيه شيئا؟
فقال: يا أبا القاسم، وكيف لا أخاف عليك، والله، لئن متّ على هذه الحال، لا رحت «2» رائحة الجنّة.
فقلت: ولم؟ ولأيّ شيء؟ وإنّما أنا أعمل الحساب، وأجري مجرى ناسخ، وآخذ أجري من بيت المال، أو يجيئني رجل مظلوم، قد لزمته زيادة باطلة في خراجه، فأسقطها عنه، وأصلحها له في الحساب، فيهدي إليّ بطيب قلبه، أو أرتفق من مال السلطان بشيء، ولي في فيء المسلمين قسط يكون هذا بإزائه.
فقال: يا أبا القاسم، إنّ الله لا يخادع، أخبرني، ألست أنت تختار المسّاح، وتنفذهم إلى المساحة، وتوصيهم بالتقصّي، فيخرجون، فيزيدون بالقلم واحدا أو اثنين في العشرة، ويجونك «3» بالتزاوير، فتسقطها أنت، وتعمل الجرائد، وتسلّمها إلى المستخرج، وتقول له: أريد أن يصحّ المال في(1/222)
كذا وكذا يوما عند الجهبذ، وإلّا دققت يديك على رجليك؟
قلت: نعم.
قال: فيخرج المستخرج فيبثّ الفرسان، والرّجالة، والرسل، والمستحثّين، ويضرب، ويصفع، ويقيّد، وأنت [72 ب] تأمره وتنهاه، وإذا قلت له: أطلق رجلا، أو أخّره بما عليه، قبل أمرك، وإذا لم تأذن له طالبه حتى يؤدّي؟
قلت: نعم.
قال: فيحصل المال عند الجهبذ، فتخرج إليه الصكاك من ديوانك وبعلاماتك؟
فقلت: نعم.
قال: فأي شيء بقي من العمل لم تتولّ وزره، وتضمن غرمه، وتتحمّل إثمه؟ تب إلى الله، وإلّا فأنت هالك، ودع التصرّف، وأصلح أمر آخرتك.
قال: وأخذ يعظني، ويخطب عليّ، حتى بكيت.
ثم قال لي: لست بأعظم [نعمة ولا أكبر منزلة] «1» من جعفر بن حرب «2» ، فإنّه كان يتقلّد كبار أعمال السلطان، وكانت نعمته تقارب نعمة الوزراء، وكان يعتقد الحقّ «3» ومنزلته في العلم المنزلة المشهورة، وصنّف غير كتاب من كتبه الباقية إلى الآن في أيدي الناس، وهو يتصرّف مع السلطان.
فاجتاز يوما راكبا في موكب له عظيم، ونعمته على غاية الوفور، ومنزلته(1/223)
بحالها من الجلالة، فسمع رجلا يقرأ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ
«1» فقال: اللهم بلى، وكرّرها دفعات، وبكى، ثم نزل [65 ط] عن دابته، ونزع ثيابه، ودخل إلى دجلة، فاستتر بالماء إلى حلقه، ولم يخرج حتى فرّق جميع ماله في المظالم التي كانت عليه، وردّها، ووصّى فيها، وتصدّق بالباقي، وعمل ما اقتضاه مذهبه، ووجب عليه عنده.
فاجتاز رجل، فرآه في الماء قائما، وسمع بخبره، فوهب له قميصا ومئزرا، فاستتر بهما، وخرج فلبسهما، وانقطع إلى العلم والعبادة، حتى مات.
ثم قال لي أبو عليّ: فافعل أنت يا أبا القاسم مثل هذا، فإن لم تطب نفسك به كلّه، فتب.
قال: فأثّر كلامه فيّ، وعملت على التوبة، وترك التصرّف، ولم أزل أصلح أمري لذلك مدّة، حتى استوى لي التخلّص من السلطان، فتبت، وتركت معاودة التصرّف.(1/224)
121 أبو فراس الحمداني من مناجيب بني حمدان
من مناجيب بني حمدان، أبو فراس، الحارث بن أبي العلاء بن حمدان «1» ، فإنّه برع في كل فضل، على ما أخبرني جماعة شهدوه، وأثق بهم، حسن خلق لم ير في عصره- زعموا- بالشام أحسن منه، مع خلق طاهر، وحسن باطن وظاهر، وفروسيّة تامّة، وشجاعة كاملة، وكرم [مستفيض] «2» ، لأنّه نشأ في تربية سيف الدولة رضي الله عنه، وحجره، وأخذ أخلاقه، وتأدّب بآدابه، مع ملاحة خطّ، وترسّل، وشعر في غاية الجودة، وديوانه كبير، إلّا أنّه كان قبيل موته اختاره، على ما أخبرني به أبو الفرج الببغاء، فنفى منه شيئا كثيرا.
قال: واقفني على نفيه، لأنّه عرضه عليّ، فكلّ ما استضعفناه نفاه، وما اجتمعنا على استجادته أقرّه، وحرّره في نسخة تداولها الناس [73 ب] ، ومات وما بلغ الأربعين، مقتولا.(1/225)
قال: وأظنّ مبلغ سنّه كانت سبعا وثلاثين سنة، أو نحوها، لمّا قتل.
وكان قرغويه غلام أبي الهيجاء الذي كان أحد قوّاد سيف الدولة، وحاجبه، احتال عليه، حتى قتله في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة.
قال: وذلك أنّ الجيوش السيفيّة «1» افترقت بعد وفاة صاحبها، فكلّ قطعة حوت بلدا، وصار معظمهم مع قرغويه «2» بحلب، واحتوى عليها، وانضمّت قطعة إلى أبي فراس، فغلب بها على حمص.
فلما استقام الأمر لقرغويه، رخل بالأمير أبي المعالي شريف بن سيف الدولة «3» ، وهو إذ ذاك صبيّ، وأبو فراس خاله، لقتال أبي فراس، ثم جرت بينهما مراسلة، واصطلحوا.
وجاء أبو فراس، وهو لا تحدّثه نفسه أنّ قرغويه يجسر عليه، ولا أنّه يخاف أبا المعالي وهو ابن أخته، فدخل إلى أبي المعالي وخرج، وما أحبّ الأمير أبو المعالي به سوءا.(1/226)
إلّا أن قرغويه خاف أن يتمكّن من ابن أخته، فيحمله على قتله، فنصب له قوما اغتالوه في العسكر، وهم عقيب حرب لم تهدأ، وتخليط لم يسكن.
وأراد الأمير أبو المعالي إنكار ذلك، فمنعه قرغويه، وطاح دم الرجل، رحمه الله.
[وحدّثني أبو الحسن، أنّ أبا محمد الصلحيّ، وكان أبوه يكتب لأبي فراس أيّام ملكه، حدّثه بمثله، على غير هذا، وجملته: أنّه أسر، فجاء وهو أسير، راكبا، فما شاهدته طائفة من غلمان سيف الدولة، إلّا ترجّلت له، وقبّلت فخذه، فلما رأى ذلك قرغويه قتله في الحال] «1» .(1/227)
122 كيف أسر أبو فراس الحمداني
قال: وكان سيف الدولة، قلّده منبج «1» وحرّان «2» وأعمالهما، فجاءه خلق من الروم، فخرج إليهم في سبعين نفسا من غلمانه [66 ط] وأصحابه، يقاتلهم، فنكأ فيهم، وقتل، وقدّر أنّ الناس يلحقونه، فما اتّبعوه، وحملت الروم بعددها عليه، فأسر.
فأقام في أيديهم أسيرا سنين، يكاتب سيف الدولة أن يفتديه بقوم كانوا عنده من عظماء الروم، منهم البطريق المعروف بأغورج، وابن أخت الملك، وغيرهما، فيأبى سيف الدولة ذلك، مع وجده عليه، ومكانه من قلبه، ويقول: لا أفدي ابن عمي خصوصا، وأدع باقي المسلمين، ولا يكون الفداء إلا عامّا للكافّة، والأيّام تتدافع.
إلى أن وقع الفداء قبيل موت سيف الدولة، في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، فخرج فيه أبو فراس، ومحمد بن ناصر الدولة، لأنّه كان أسيرا في أيديهم، والقاضي أبو الهيثم عبد الرحمن بن القاضي أبي الحصين «3» عليّ بن(1/228)
عبد الملك، لأنّهم كانوا أسروه أيضا في حرّان، قبل ذلك بسنين، وخرج من المسلمين عدد عظيم.
قال: ولأبي فراس كلّ شيء حسن من الشعر، في معنى أسره.
فمن ذلك، أنّ كتب سيف الدولة تأخّرت عنه، وبلغه إنّ بعض الأسراء قال: إن ثقل هذا المال على الأمير سيف الدولة، كاتبنا فيه صاحب خراسان، فاتّهم أبا [74 ب] فراس بهذا القول، لأنّه كان ضمن للروم وقوع الفداء، وأداء ذلك المال العظيم، فقال سيف الدولة: ومن أين يعرفه أهل خراسان؟
فكتب إليه قصيدة أوّلها:
أسيف الهدى وقريع العرب ... إلى م الجفاء وفيم الغضب
وما بال كتبك قد أصبحت ... تنكّبني مع هذي النّكب
وإنّك للجبل المشمخرّ ... لي ولقومك بل للعرب
على تستفاد وعاف يفاد ... وعزّ يشاد ونعمى تربّ
وما غضّ منّي هذا الأسار ... ولكن خلصت خلوص الذهب
ففيم يقرّعني بالخمول ... مولى به نلت أعلى الرتب
أتنكر أنّي شكوت الزمان ... وأنّي عتبتك فيمن عتب
فالّا رجعت فأعتبتني ... وصيّرت لي ولقولي الغلب
ولا تنسبنّ إليّ الخمول ... عليك أقمت فلم أغترب
وأصحبت منك فإن كان فضل ... وإن كان نقص فأنت السبب
وإنّ خراسان إن أنكرت ... علاي فقد عرفتها حلب(1/229)
ومن أين ينكرني الأبعدون ... أمن نقص جدّ أمن نقص أب
ألست وإيّاك من أسرة ... وبيني وبينك فوق النسب
وداد تناسب فيه الكرام ... وتربية ومحلّ أشب «1»
فلا تعدلنّ فداك ابن عمّك ... لا بل غلامك عمّا يجب
أكنت الحبيب وكنت القريب ... ليالي أدعوك من عن كثب «2»
فلمّا بعدت بدت جفوة ... ولاح من الأمر ما لا أحب
فلو لم أكن بك ذا خبرة ... لقلت صديقك من لم يغب
وما شكّكتني فيك الخطوب ... ولا غيّرتني عليك النّوب
وأشكر ما كنت في صحبتي ... وأحلم ما كنت عند الغضب
قال الببغاء: وله في صفة أسره، وعلل لحقته هناك، ومراث لنفسه في الأسر، وتعطّف لسيف الدولة، وصفة الأسر، وما لحقه فيه، شعر كثير، حسن أكثره، بمعان مخترعة، لم يسبق إليها.
ونحن نورد ما نختاره من ذلك، بعد هذا إن شاء الله تعالى.(1/230)
123 إذا اختلّ أمر القضاء في دولة اختلّ حالها
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش، قال:
كان أوّل ما انحلّ من نظام سياسة الملك، فيما شاهدناه من أيّام بني العباس، القضاء، فإن ابن الفرات، وضع منه، وأدخل فيه قوما بالذمامات «1» ، لا علم لهم، ولا أبوّة فيهم، فما مضت إلا سنوات، حتى ابتدأت الوزارة تتّضع «2» ، ويتقلّدها كلّ من ليس لها بأهل، حتى بلغت في سنة نيّف وثلاثين وثلاثمائة، أن تقلّد وزارة المتّقي أبو العباس الأصبهانيّ الكاتب «3» ، وكان غاية في [75 ب] سقوط المروءة، والرقاعة.
ولقد استأذنت عليه يوما، فجاء البوّاب إليه، فقال: ابن عيّاش بالباب، فسمعته يقول له من وراء الستر: يدخل.
فقلت في نفسي: لا إله إلا الله، تبلغ الوزارة إلى هذا الحدّ في السقوط؟
وحتى كان يركب وليس بين يديه إلا ابن حدبنا صاحب الرّبع «4» ،(1/231)
وحتى رأيت في شارع الخلد «1» قردا معلّما، يجتمع الناس عليه.
فيقول له القرّاد: تشتهي أن تكون بزّازا؟
فيقول: نعم، ويومئ برأسه.
فيقول: تشتهي تكون عطّارا؟
فيقول: نعم، برأسه.
فيعدّد الصنائع عليه، فيومئ برأسه.
فيقول له في آخرها: تشتهي تكون وزيرا؟
فيومئ برأسه: لا، ويصيح، ويعدو من بين يدي القرّاد، فيضحك الناس.
قال: وتلى سقوط الوزارة، اتّضاع الخلافة، وبلغ صيّورها «2» إلى ما نشاهد، فانحلّت دولة بني العباس، بانحلال أمر القضاء.
وكان أول وضع ابن الفرات من القضاء، تقليده إيّاه، أبا أميّة الأحوص الغلابيّ البصريّ «3» ، فإنّه كان بزّازا، فاستتر عنده ابن الفرات، وخرج من داره إلى الوزراة.(1/232)
فقال له في حال الاستتار: إن وليت الوزارة، فأيّ شيء تحب أن أعمل بك؟
قال: تقلّدني شيئا من أعمال السلطان.
قال: ويحك، لا يجيء منك عامل، ولا أمير، ولا صاحب شرطة، ولا كاتب، ولا قائد، فأيّ شيء أقلّدك؟
قال: لا أدري، ما شئت.
قال: أقلّدك القضاء.
قال: قد رضيت.
فلما خرج، وولي الوزارة، وهب له، وأحسن إليه، وقلّده قضاء البصرة، وواسط، وسبع كور الأهواز.
وكان يداعبه، ويتلهّى به «1» ، ويسخر منه في أوقات استتاره عنده، وقبلها، ويمدّ يده إليه، فلمّا ولّاه القضاء، وقرّه عن ذلك.
ثم انحدر أبو أميّة إلى أعماله، فأراد أن يغطّي نقصه في نفسه، وقلّة علمه، ويصل ذلك بشيء يتجمّل به، فعفّ عن الأموال، فما أخذ شيئا، وتصوّن وتوقّر، واقتصر على الأرزاق، وصلات ابن الفرات الدارّة، فستر ذلك جميع عيوبه.
وتناوله الشعراء، فقال فيه القطرانيّ البصريّ: [68 ط] .
عبث الدهر بنا و ... الدهر بالأحرار يعبث
من عذيري من زمان ... كل يوم هو أنكث
ما ظننّا أنّنا نبقى ... وأن «2» نحيا ونلبث
فنرى الأحوص يقضي ... وأبا عيسى يحدّث(1/233)
124 من محاسن الأحوص الغلابي القاضي بالبصرة
حدّثني أبو الحسين محمد بن عبيد الله بن محمد القاضي، المعروف بابن نصرويه، قال:
كنت أيّام أبي أميّة الغلابيّ، وتقلّده القضاء بالبصرة، حدثا، وكنت أجيئه مع خالي، وكان الحرّ عندنا بالبصرة إذ ذاك، شديدا مفرطا، أكثر من شدّته الآن [76 ب] .
وكان أبو أميّة يخرج في كلّ عشيّة من داره في مربّعة الأحنف، وعليه مئزر، وعلى ظهره رداء خفيف، وفي رجليه نعلان كنباتي ثخان «1» ، وبيده مروحة، وهو قاضي البصرة «2» ، والأبلّه «3» ، وكور دجلة «4» ، وكور الأهواز «5» ، وواسط «6» ، وأعمال ذلك، فيمشي حوله من يتّفق أن يكون في الوقت من غير تعمّل، حتى ينتهي إلى موضع حلقة أبي يحيى زكريا(1/234)
الساجي «1» ، فيجلس إليه، وربما سبقه، وجاء أبو يحيى، وجلسا يتحدّثان، ويجتمع إليهما أترابهما، وإخوانهما القدماء، فيستعملون من التخالع والانبساط في الحديث، والمزح، ما ليس بقليل.
ويجيء سعيد الصفّار، وكان يخلف أبا أميّة على البصرة، بقلنسوة عظيمة، وقميص، وخفّ، وطيلسان، فيسلّم عليه بالقضاء، ويشاوره في الأمور، فيقول له: قم عنّي، لا يجتمع عليّ الناس، لا تقطعني عن لذّتي بمحادثة إخواني القدماء، قم إلى مجلسك.
فيقوم سعيد، فيجلس بالبعد منه في الجامع، في موضع برسمه، ينظر بين الناس.
وما كان ذاك يغضّ من قدره عند الناس، وكانت سيرته أحسن سيرة، واستعمل من العفّة عن الأموال، ما لم يعهد مثله.
وكان ديوان وقوف البصرة إذ ذاك ببغداد، فإذا أراد أحد أربابها شيئا، خرجوا إلى بغداد حتى يوردوا الأمر فيه من الحضرة، فلحق الناس مشقّة، فنقل أبو أميّة ديوانها إلى البصرة، فكثر الدعاء له، وصارت سنّة، وبقي الديوان بالبصرة.
وكان- مع هذا- يتيه على ابن كنداج، وهو أمير البصرة «2» ، ولا يركب إليه مرّة، إلا إذا جاءه ابن كنداج مرّة، ويعترض على ابن كنداج(1/235)
في الأمور، ويسمع الظلامات فيه، وينفذ إليه في إنصاف المتظلّم، فيضجّ ابن كنداج من يده، ويكتب إلى ابن الفرات في أمره، فترد عليه الأجوبة بالصواعق، ويأمره بالسمع والطاعة، فيضطر إلى مداراته، والركوب إليه، وتلافيه.
فقبض على ابن الفرات، وأبو أميّة لا يعلم، وورد كتاب على الطائر- بذلك- إلى ابن كنداج، فركب بنفسه في عسكره إلى أبي أميّة، فقدّر أنّه قد جاء مسلّما، فخرج إليه، فقبض عليه، ومشّاه بين يديه، طول الطريق، إلى داره ببني نمير، حتى أدخله السجن، من تحت الخشبة «1» فأقام فيه مدّة، ثم مات.
ولم يسمع بقاض أدخل السجن من تحت الخشبة غيره، ولا بقاض مات في السجن سواه.
ثم ولي ابن الفرات [69 ط] الوزارة أيضا، فحين جلس، سأل عن أصحابه، وصنائعه، وسأل عن أبي أميّة، فعرّف ما جرى عليه، ووفاته، فاغتمّ لذلك.
وقال: فاتني بنفسه، فهل له ولد أقضي فيه حقّه؟
فقالوا: ابن رجل.
فكتب بحمله إليه مكرّما، فحمل.(1/236)
فلما دخل عليه، وجد سلامه سلام متخلّف، فقال له: ما اسمك؟
قال [77 ب] أبو غشّان، وكانت لثغته كذا، ولم يفرّق لتخلّفه بين الاسم والكنية.
فقال ابن الفرات: عزيز عليّ أن لا أقضي حقّ أبي أميّة، في نفسه، ولا في ولده، كيف اقلّد هذا القضاء؟
فوصله بمال جزيل، وأمر بإجراء أرزاق عظيمة عليه، وصرفه إلى بلده، وكان يأخذها إلى أن زال أمر ابن الفرات.(1/237)
125 أبو عمر القاضي يقلد ابنا لأحمد بن حنبل القضاء ثم يصرفه
حدّثني أبو نصر أحمد بن عمرو «1» البخاري القاضي، قال: حدّثني جماعة من ثقات أهل بغداد:
إنّ أبا عمر القاضي «2» قلّد ابنا لأحمد بن حنبل القضاء.
فتظلّم إليه منه، وذكر عنده بشناعات لا يليق مثلها بالقضاة، فأراد صرفه.
فعوتب على ذلك، وقيل: إنّ مثل هذا الرجل لا يجوز ان يكون ما رمي به صحيحا، فإن كان صحّ عندك، وإلّا فلا تصرفه.
فقال: ما صحّ عندي، ولا بدّ من صرفه.
فقيل: ولم؟
قال: أليس قد احتمل عرضه، أن يقال فيه مثل هذا، وتشبّهت صورته بصورة من إذا رمي بهذا جاز أن يتشكّك فيه؟ والقضاء أرقّ من هذا، فصرفه.(1/238)
126 أبو خازم القاضي يغضب إذا سمع مدحا للقاضي بأنّه عفيف
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش القاضي، عمّن حدّثه:
إنّه كان يساير أبا خازم القاضي «1» في طريق، فقام إليه رجل، فقال:
أحسن الله جزاءك أيّها القاضي، في تقليدك فلانا القضاء ببلدنا، فإنّه عفيف.
فصاح عليه أبو خازم، وقال: اسكت عافاك الله، تقول في قاض إنّه عفيف، هذه من صفات أصحاب الشرط، والقضاة فوقها «2» .
قال: ثم سرنا، وهو واجم ساعة.
فقلت: ما لك أيها القاضي؟
قال: ما ظننت أنّي أعيش حتى أسمع هذا، ولكن فسد الزمان، وبطلت هذه الصناعة، ولعمري إنّه قد دخل فيها من يحتاج القاضي معه إلى التقريظ، وما كان الناس يحتاجون أن يقولوا: فلان القاضي عفيف، حتى تقلّد فلان، وذكر رجلا لا أحبّ أن أسميّه.
فقلت: من الرجل؟ فامتنع.
فألححت عليه، فأومأ إلى أبي عمر.(1/239)
127 إسراع الناس إلى العجب مما لم يألفوه
وحدّثني أبو الحسين، قال:
لما قلّد المقتدر أبا الحسين «1» بن أبي عمر «2» القاضي، المدينة «3» رئاسة، في حياة أبيه أبي عمر، خلع عليه، واجتمع الخلق من الأشراف، والقضاة، والشهود، والجند، والتجّار، وغيرهم على باب الخليفة، حتى خرج أبو الحسين وعليه الخلع، فساروا معه.
قال: وكنت فيهم مع عمّي، للصهر الذي كان بينه وبينهم، ولأنّه كان أحد شهودهم.
فسار عمّي، وأنا معه، في أخريات الموكب، خوفا من الزحام، ومعنا شيخ من الشهود كبير السن، أسماه أبو الحسين وأنسيته أنا.
فكنّا لا نجتاز بموضع، إلّا سمعنا ثلب الناس لأبي الحسين، وتعجّبهم من تقلّده [رئاسة.
فقال عمّي للشيخ: يا أبا فلان ما ترى ازورار الناس [70 ط] من تقلّد] «4»(1/240)
هذا الفتى، مع فضله، ونفاسته، وعلمه، وجلالة سلفه؟
فقال له الشيخ [78 ب] : يا أبا محمّد، لا تعجب من هذا، فلعهدي، وقد ركبت مع أبي عمر يوم خلع عليه بالحضرة، وقد اجتزنا بالناس، وهم يعجبون من تقلّده، أضعاف هذا العجب، حتى خفت أن يثبوا بنا، وهذا أبو عمر الآن قدوة «1» في الفضل، ومثال في العقل والنبل، ولكنّ الناس يسرعون إلى العجب ممّا لم يألفوه.(1/241)
128 من قدّم أمر الله على أمر المخلوقين كفاه الله شرّهم
حدّثني أبو الحسن عليّ بن القاضي أبي طالب محمد بن القاضي أبي جعفر ابن البهلول، قال:
طلبت السيّدة أمّ المقتدر»
، من جدّي، كتاب وقف لضيعة كانت ابتاعتها، وكان الكتاب في ديوان القضاء، فأرادت أخذه لتخرّقه، وتبطل الوقف، ولم يعلم جدّي بذلك.
فحمله إلى الدار، وقال للقهرمانة: قد أحضرت الكتاب كما رسمت «2» فأيش تريد «3» ؟
فقالوا: نريد أن يكون عندنا.
فأحسّ بالأمر، فقال لأمّ موسي القهرمانة «4» : تقولين للسيّدة أعزّها(1/242)
الله، هذا والله ما لا طريق إليه أبدا، أنا خازن المسلمين على ديوان الحكم فإمّا مكّنتموني من خزنه كما يجب، وإلا فاصرفوني وتسلّموا الديوان دفعة، فاعملوا به ما شئتم، وخذوا منه ما أردتم، ودعوا ما أردتم، أمّا أن يفعل شيء منه على يدي، فو الله لا كان هذا ولو عرضت على السيف.
ونهض والكتاب معه، وجاء إلى طيّاره، وهو لا يشكّ في الصرف، فصعد إلى ابن الفرات، فحدّثه بالحديث، وهو وزير.
فقال: ألا دافعت عن الجواب، وعرّفتني حتى كنت أتلافى ذلك، الآن أنت مصروف، ولا حيلة لي مع السيّدة في أمرك.
قال: وأدّت القهرمانة الرسالة إلى السيّدة، فشكته إلى المقتدر.
فلمّا كان في يوم الموكب، خاطبه المقتدر شفاها في ذلك، فكشف له الصورة، وقال مثل ذلك القول في الاستعفاء.
فقال له المقتدر: مثلك يا أحمد يقلّد القضاء، أقم على ما أنت عليه، بارك الله فيك، ولا تخف أن يثلم ذلك عرضك عندنا «1» .
قال: فلما عاودته السيّدة، بلغنا أنّه قال لها: الأحكام ما لا طريق إلى اللعب به، وابن البهلول مأمون علينا، محبّ لدولتنا، وهو شيخ ديّن، مستجاب الدعوة، ولو كان هذا شيء يجوز، ما منعك إيّاه.
فسألت السيّدة كاتبها ابن عبد الحميد عن ذلك، وشرحت له الأمر.(1/243)
فلما سمع ما قاله جدّي، بكى بكاء شديدا- وكان شيخا صالحا من شيوخ الكتّاب- وقال: الآن علمت «1» أنّ دولة السيّدة وأمير المؤمنين تبقى، وتثبت أركانها، إذ كان فيها مثل هذا الشيخ الصالح الذي يقيم الحقّ على السيّدة، ولا يخاف في الله لومة لائم. فأيّ شيء يساوي شراؤكم لوقف؟
وإن [79 ب] أخذتم كتابه فخرّقتموه، فأمره شائع ذائع، والله فوق كل شيء، وبه عالم.
فقالت السيّدة: وكأنّ هذا لا يجوز؟
فقال لها: لا، هذه حيلة من أرباب الوقف على مال الله، وأعلمها أنّ الشراء لا يصحّ بتخريق كتاب الوقف، وهذا لا يحلّ.
فارتجعت المال، وفسخت الشراء، وعادت تشكر جدّي، وانقلب ذلك له أثرا جميلا عندهم.
فقال لنا جدّي بعد ذلك: من قدّم أمر الله تعالى على أمر المخلوقين كفاه الله [71 ط] شرّهم.(1/244)
129 القاضي أبو محمد البصريّ والد القاضي أبي عمر يؤدّب مملوكا من وجوه مماليك الخليفة المعتضد
حدّثني أبي رضي الله عنه، قال: سمعت القاضي أبا عمر يقول:
قدّم خادم من وجوه خدم المعتضد بالله «1» ، إلى أبي «2» في حكم، فجاء فارتفع في المجلس.
فأمره الحاجب بموازاة خصمه، فلم يفعل إدلالا بعظم محلّه في الدولة.
فصاح أبي عليه، وقال: هاه، تؤمر بموازاة خصمك، فتمتنع؟
يا غلام، عمرو بن أبي عمرو النخّاس «3» الساعة، لأتقدّم إليه ببيع هذا العبد، وحمل ثمنه إلى أمير المؤمنين.
ثم قال لحاجبه: خذ بيده، وساو بينه وبين خصمه.
فأخذ كرها وأجلس مع خصمه.
فلما انقضى الحكم، انصرف الخادم، فحدّث المعتضد بالحديث، وبكى بين يديه.
فصاح عليه المعتضد، وقال: لو باعك لأجزت بيعه، ولما رددتك إلى ملكي أبدا، وليس خصوصك بي، يزيل مرتبة الحكم، فإنّه عمود السلطان، وقوام الأديان.(1/245)
130 قاضي همذان يمتنع عن قبول شهادة رجل مستور
سمعت قاضي القضاة، أبا السائب عتبة بن عبيد الله «1» ، يقول:
كان في بلدنا، يعني همذان، رجل مستور، فأحبّ القاضي قبوله «2» فسأل عنه، فزكّي له سرّا وجهرا.
فراسله في حضور المجلس، ليقبله، وأمر فأخذ خطّه في كتب ليحضر فيقيم الشهادة فيها.
وجلس القاضي، وحضر الرجل مع الشهود، ونودي به، فجاء مع شاهد آخر، فلما جلسا ليشهدا، أمرهما القاضي بالقيام، فقاما، ونظر بين الخصوم، وتقوّض المجلس، ولم يقبله.
فورد على الرجل أمر عظيم، ودسّ إلى القاضي من يسأله عن سبب ذلك.
فقال القاضي: إنّي أردت قبوله لستره ودينه، ثم انكشف لي أنّه مراء، فلم يسعني قبوله.
فقيل له: كيف انكشف هذا للقاضي، بعد أن دعاه للقبول؟
قال: كان يدخل إليّ في كلّ يوم، فأعدّ خطاه، من حيث تقع عيني عليه من داري إلى مجلسي، فلما دعوته اليوم للشهادة، جاء، فعددت خطاه من ذلك المكان، فإذا هي قد زادت خطوتين أو ثلاث، فعلمت أنّه متصنّع لهذا الأمر، مراء، فلم أقبله.(1/246)
131 الصفح الجميل عفو بلا تقريع
حدّثني أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان، المعروف بابن أبي عمرو الشرابيّ حاجب أمير المؤمنين المطيع «1» لله [80 ب] قال:
دخلت في حداثتي يوما على أبي السائب القاضي، فقصّر في القيام، وأظهر ضعفا عنه للسنّ، والعلل المتّصلة به، وتطاول لي، فجذبت يديه بيديّ، حتى أقمته القيام التامّ.
وقلت له: أعين قاضي القضاة- أيّده الله- على إكمال البرّ، وتوفية الإخوان الحقّ.
قال: وقد كنت عاتبا عليه في أشياء عاملني بها، وإنّما جئته للخصومة، فبدأت لأصل الكلام.
فحين رأى الشرّ في وجهي، قال: تتفضل باستماع كلمتين ثم تقول ما شئت.
فقلت له: قل.
فقال: روينا عن ابن عبّاس في قوله تعالى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ
«2» قال: عفو بلا تقريع، فإن رأيت أن تفعل ذلك، فعلت.
فاستحييت من الاستقصاء عليه.(1/247)
132 بين الأصبهانيّ الكاتب والخومينيّ عامل سوق الأهواز
حضرت أبا عبد الله الخومينيّ «1» عامل سوق الأهواز، وقد دخل إليه أبوبكر أحمد بن عبد الله، المعروف بأبي بكر بن عبد الله أبي سعيد الأصبهانيّ الكاتب.
فأخذ يريه أنّه [72 ط] يريد القيام، ويتثاقل فيه، حتى يسبقه أبو بكر ابن أبي سعيد بالجلوس، إلى قيامه له.
ففطن أبو بكر، فوقف من بعيد، وقال: هي، قم قائما حتى أجيء، وإلا انصرفت من موضعي.
فضحك الخوميني، وقال: والله يا سيدي، ما أردت هذا.
وقام له القيام التامّ.(1/248)
133 شيخ من الكتاب ينصح أبا الحسين بن عيّاش
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش، قال:
تقلّد سليمان بن الحسن «1» الوزارة الأولى عقيب اختصاصي به وأنسي، فكنت أجيئه على ذلك الأنس، ما تغيّر عليّ، ولا أنكرت منه شيئا.
وكنت شابّا، ولم تكن لي مداخلة بالملوك، وكنت أجيئه والناس محجوبون فأدخل على الرسم، وهو خال.
فاتفق أنّي بتّ ليلة موكب عند أبيه، أبي محمد، فبكّرت من غد لأراه، ثم أنصرف.
فجئت، والقاضي أبو عمر، وابنه أبو الحسين، والقاضي ابن أبي الشوارب «2» ، وابنه «3» ، والقاضي ابن البهلول، والناس من الأشراف، والكتّاب، ووجوه القوّاد، وأهل الحضرة، محجوبون، وهم جلوس في الرواق، والحاجب واقف على باب السلّم، وكان ينفذ إلى حجرة خلوة له، هو فيها.(1/249)
فلما رآني الحاجب، أمر فرفع لي الستر، فدخلت إليه، وهو يتبخّر وعليه سواده، يريد الركوب إلى المقتدر، وليس بين يديه أحد.
فطاولني في الحديث، إلى أن فرغ، وشدّ سيفه ومنطقته، وخرج، وأنا خلفه.
فتلقّاه الناس بالسلام، وتقبيل اليد، فخرجوا خلفه، فاختلطت بهم.
فإذا بإنسان يجذب طيلساني، فالتفتّ، فإذا هو فلان، شيخ من شيوخ الكتّاب، أسماه أبو الحسين وأنسيته أنا، وذكر أنّه كان صديقا لأبي، ولأبيه من قبله.
فقال لي: يا أبا الحسين، فداك عمّك، في بيتك خمسون ألف دينار؟
فقلت: لا والله.
قال: فتقوى على خمسين ألف مقرعة وصفعة؟
قلت: لا والله [81 ب] .
قال: فلم تدخل إلى الوزير، وفلان، وفلان- وعدّد من حضر- محجوبون، يتمنّون الوصول، ولا يقدرون، ثم لا ترضى، حتى تطيل عنده، وتخرج في يوم موكب، وراءه، وليس معه غيرك، ولا خمسون ألف دينار معدّة عندك، تؤدّيها إذا نكب هذا، فأخذت بتبعة الاختصاص به، وأنت لا تقوى على ما يولّد هذا.
فقلت: يا عمّ لم أعلم، وأنا رجل فقيه، ومن أولاد التجّار، ولا عادة لي بخدمة هؤلاء.
فقال: يا بنيّ لا تعاود، فإن هذا يولّد لك اسما، ويجرّ عليك تبعة.
قال: فتجنّبت بعد ذلك الدخول إلى سليمان في أوقات مجالسه العامّة، وأيّام المواكب خاصّة.(1/250)
134 أبو يوسف القاضي واللوزينج بالفستق المقشور
حدّثني أبي، قال: بلغني من غير واحد:
إنّ أبا يوسف «1» صحب أبا حنيفة «2» ، لتعلّم العلم، على فقر شديد، فكان ينقطع بملازمته عن طلب المعاش، فيعود إلى منزل مختلّ، وأمر قلّ.
فطال ذلك، وكانت امرأته «3» تحتال له ما يقتاته يوما بيوم.
فلما طال ذلك عليها، خرج إلى المجلس، وأقام فيه يومه، وعاد ليلا فطلب ما يأكل، فجاءته بغضارة مغطّاة، فكشفها، فإذا فيها دفاتر.
فقال: ما هذا؟ قالت: هذا ما أنت مشغول به نهارك أجمع، فكل منه ليلا، قال: فبكى [73 ط] ، وبات جائعا، وتأخّر من غد عن المجلس، حتى احتال ما أكلوه.
فلما جاء إلى أبي حنيفة، سأله عن سبب تأخّره، فصدقه.
فقال: ألا عرّفتني، فكنت أمدّك؟ ولا يجب أن تغتمّ، فإنّه إن طال عمرك فستأكل بالفقه، اللوزينج بالفستق المقشور.
قال أبو يوسف: فلمّا خدمت الرشيد، واختصصت به، قدّمت بحضرته يوما جامة لوزينج بفستق، فحين أكلت منها، بكيت، وذكرت أبا حنيفة.
فسألني الرشيد عن السبب في ذلك، فأخبرته.(1/251)
135 سبب اتصال أبي يوسف القاضي بالرشيد
وحدّثني أبي، قال:
كان سبب اتّصاله «1» بالرشيد «2» إنّه قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة، فحنث بعض القوّاد في يمين، فطلب فقيها يستفتيه فيها، فجيء بأبي يوسف، فأفتاه أنّه لم يحنث، فوهب له دنانير، وأخذ له دارا بالقرب منه، واتّصل به.
فدخل القائد يوما إلى الرشيد، فوجده مغموما، فسأله عن سبب غمّه، فقال: شيء من أمر الدين قد حزبني «3» ، فاطلب لي فقيها أستفتيه، فجاءه بأبي يوسف.
قال أبو يوسف: فلما دخلت إلى ممرّ بين الدور، رأيت فتى حسنا، أثر الملك عليه، وهو في حجرة في الممرّ محبوس، فأومأ إليّ بإصبعه مستغيثا، فلم أفهم عنه إرادته، وأدخلت إلى الرشيد، فلما مثلت بين يديه، سلّمت، ووقفت.
فقال لي: ما اسمك؟
قلت [82 ب] : يعقوب. أصلح الله أمير المؤمنين.
قال: ما تقول في إمام شاهد رجلا يزني، هل يحدّه؟
قلت: لا يجب ذلك.(1/252)
قال: فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي إنّه قد رأى بعض أولاده الذكور على ذلك، وإنّ الذي أشار إليّ بالاستغاثة، هو الابن الزاني.
قال: ثم رفع رأسه، فقال: ومن أين قلت هذا؟
قلت: لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: ادرؤوا الحدود بالشبهات، وهذه شبهة يسقط الحد معها.
فقال: وأي شبهة مع المعاينة؟
قلت: ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم.
قال: ولم؟
قلت: لأن الحدّ حقّ الله تعالى، والإمام مأمور بإقامة الحدّ، فكأنّه قد صار حقا له، وليس لأحد أخذ حقّه بعلمه، ولا تناوله بيده، وقد أجمع المسلمون على وقوع الحدّ بالإقرار والبيّنة، ولم يجمعوا على إيقاعه بالعلم.
قال: فسجد مرّة أخرى، وأمر لي بمال جليل، ورزق في الفقهاء في كل شهر، وأن ألزم الدار.
قال: فما خرجت، حتى جاءتني هديّة الفتى، وهديّة أمّه، وأسبابه، فحصل لي من ذلك، ما صار أصلا للنعمة، وانضاف رزق الخليفة، إلى ما كان يجريه عليّ ذلك القائد.
ولزمت الدار، فكان هذا الخادم يستفتيني، وهذا يشاورني، فأفتي وأشير، فصارت لي مكنة فيهم، وحرمة بهم، وصلاتهم تصل إليّ، وحالتي تقوى.
ثم استدعاني الخليفة، وطاولني، واستفتاني في خواصّ أمره، وأنس بي.
فلم تزل حالي تقوى معه، حتى قلّدني قضاء القضاة.(1/253)
136 أنس الرشيد بأبي يوسف القاضي
قال لي أبي [74 ط] : بلغني أنّ أبا يوسف، لما مات، خلّف في جملة، كسوته، مائتي «1» سراويل خزّ، دون غيرها من أصناف السراويلات.
وأنّ جميع سراويلاته كانت مختصّة كلّ سراويل بتكّة أرمنيّ تساوي دينارا، وبلغ من محلّه عنده «2» ، أن طلبه الرشيد يوما، فجاء وعليه بردة، أنسا به، فحين رآه الرشيد، قال لمن بحضرته:
جاءت به معتجرا ببرده ... سفواء «3» ترمي بنسيج وحده(1/254)
137 كيف نصب أبو جعفر بن البهلول قاضيا
حدّثني القاضي أبو الحسن عليّ بن أبي طالب بن القاضي أبي جعفر بن البهلول «1» قال: حدّثني أبي «2» ، عن أبيه، وحدّثني أيضا، أبو الحسن أحمد ابن يوسف الأزرق «3» عن أبي جعفر بن البهلول القاضي «4» ، قال:
لما استقرّت الأمور للناصر لدين الله «5» ، بعد فراغه من أمر الزنج «6» ، نظر في البلدان ومصالحها، وأمر بارتياد قضاة من أهل البلدان لها.
فسأل عن الأنبار، ومن فيها يصلح لتقلّد القضاء، فأسميت له.
وكان عارفا بأبي، إسحاق بن البهلول، حين استقدمه المتوكّل إلى سرّ من رأى [83 ب] حتى حدّثه، ولم أكن تقلّدت شيئا من ذلك.
قال: فأمر بإحضاري وتقليدي.(1/255)
فتقدّم إسماعيل بن بلبل، إلى إسماعيل بن إسحاق القاضي»
في ذلك، وكاتبني بالحضور، فحضرت، فعرّفني الصورة، وحملني إلى إسماعيل.
فقلت لهما: أنا في كفاية وغناء، ولا حاجة بي إلى تقلّد القضاء.
فأمسكا عنّي، فعدت إلى منزلي ببغداد لأصلح أمري وأرجع.
فجاءني جعفر بن إبراهيم الحصينيّ الأنباريّ، وكان من عقلاء العجم «2» بالأنبار، ولي صديقا، فقال لي: لأيّ شيء استدعيت؟ فحدّثته.
فقال: اتّق الله في نفسك، إنّ الذي جرى بينك وبينهما خاف عن الناس، وإنّك تعود إلى بلدك، فيقول أعداؤك: طلب للقضاء، فلما شوهد، وجد لا يصلح، فردّ.
فقلت: ما أصنع، وقد قلت ما قلت؟
قال: ترجع إلى إسماعيل فتصدقه عما جرى بيننا.
قال: فباكرت إسماعيل، فحين رآني، قال: هذا وجه غير الوجه الأمسيّ.
قلت: هو كذلك.
قال: هي «3» .
قلت: كان كذا وكذا، فأخبرته بما جرى بيني وبين جعفر بن إبراهيم.
فقال: نصحك والله «4» هذا الصديق، والأمر على ما قاله، قم بنا إلى الوزير.(1/256)
قال: فحملني إليه، فلما رآنا إسماعيل تبسّم، وقال: كيف عاد أبو جعفر؟
قال: فقصّ عليه إسماعيل القاضي الخبر.
فقال: جزى الله هذا الصديق عنك خيرا، فقد أشار عليك بالرأي الصحيح، اكتبوا عهده.
قال: فكتب عهدي عن الناصر، على الأنبار «1» ، وهيت «2» وعانات «3» ، والرحبة «4» ، وقرقيسيا «5» ، وأعمال ذلك، وعدت إلى بلدي.
قلت أنا: ولم يزل محلّ أبي جعفر ينمى ويزيد، حتى قلّد مدينة أبي جعفر المنصور «6» عند صرف أبي عمر في قصّة ابن المعتز «7» ، فظهر من فضله ما اشتهر.(1/257)
138 ارتفاع محل القاضي ابن البهلول في دولة المقتدر
وكان «1» عند المقتدر ووزرائه، بصورة الناسك الزاهد، من ذلك ما حدّثني به أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول، قال: حدّثني أبو علي أحمد بن جعفر بن إبراهيم الحصيني [75 ط] الأنباريّ الكاتب، قال:
مات واثق «2» مولى المعتضد، فأوصى أن يصلّي عليه أبو الحسن عليّ بن عيسى «3» ، فحضر الحقّ «4» وجوه الدولة، من القوّاد، والكتّاب، والأشراف، والقضاة، وغيرهم.
فكان فيمن حضر، القاضيان أبو جعفر «5» ، وأبو عمر «6» ، وكنت حاضرا.
قال: فوضعت الجنازة، وقيل [لأبي الحسن] «7» عليّ بن عيسى تقدّم، فجاء ليتقدّم، فوقعت عينه على أبي جعفر، فجذبه، وقدّمه، وتأخّر هو.(1/258)
قال: فلمّا انقضت الصلاة، طلبت أبا عمر، لأنظر كيف هو، فوجدته قد اسودّ وجهه غمّا، بتقديمهم أبا جعفر عليه.
فجئت إلى أبي جعفر [84 ب] ، وهنّأته بذلك، وأخبرته بخبر أبي عمر، فاستسرّ «1» بذلك، وسرّ بعلمي أنا بالأمر، ومشاهدتي له، لأجل البلديّة «2» .
قال لي أبو الحسن: هذا، مع نفرة كانت بينهما «3» ، ولكن أبا الحسن لفضله، لم يكن يدفع أهل الفضل عنه، وإن لم يكن ما بينه وبينهم مستقيما.(1/259)
139 الحسين بن القاسم بن عبيد الله يتصرّف تصرّفا يكون أوكد الأسباب في عزله عن الوزارة
حدّثني أبو الحسن عليّ بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول، قال:
كان قد ارتكب الحسين بن القاسم بن عبيد الله «1» دين عظيم، عشرات ألوف دنانير، فدعاه غرماؤه إلى القاضي، فخافهم، واستتر.
وجاء إلى جدّي فشاوره في أمره، وقال: إن بعت ملكي، كان بإزاء ديني، وحصلت فقيرا، وقد رضيت أن أجوع، وأعطي غلّتي بأسرها الغرماء، وليس يقنعون بذلك، فكيف أعمل؟ يحتال لي القاضي في ذلك! وكان منزل الحسين في الجانب الشرقيّ، والحكم فيه إلى أبي عمر.
فقال له جدّي: إنّ من مذهب مالك، الحجر على الرجال إذا بان سفههم في الأموال، وإن عني بك أبو عمر، جعل استدانتك من غير حاجة كانت بك إليها، وإنّما بذرّت المال، وتخرّقت في النفقة، دليلا على سفهك في مالك.(1/260)
ولو صار أن يسمع في ذلك شهادة من يعرّفه عن حالك، فيثبت حينئذ السفه عنده، فيحجر عليك، ويمنعك من التصرّف في مالك، ويدخل فيه أيدي أمنائه، ويحول بينك وبينه. فإذا أثبت عنده الغرماء عليك الدين، أمرهم، يعني أمناءه، بأن يصرفوا الغلّات إليهم، قضاء للدين، وبقيت عليك الأصول.
قال: فطرح الحسين نفسه على أبي عمر، ففعل به ذلك، فظهر وصلحت حاله، وجرى أمره مع الغرماء. على ذلك.
قال: ولما ولي الحسين الوزارة، وفسد عليه مؤنس «1» ، فسعى في صرفه، وقال للمقتدر: يا أمير المؤمنين، هذا لم يكن موضعا لحفظ ماله، حتى حجر عليه القضاة لسفهه وتبذيره فيه، كيف يحمد حتى يردّ إليه مال الدنيا وتدبيرها، وسياسة العالم، وهو عجز عن تدبير داره ونفقته؟
وكان ذلك أوكد الأسباب في صرفه.(1/261)
140 عدد الشهود الذين قبلهم القاضي التيميّ بالبصرة
حدّثني أبو الحسين محمد بن عبيد الله المعروف بابن نصرويه، قال:
قبل التيميّ، القاضي كان قديما عندنا بالبصرة، ستة وثلاثين ألف شاهد، في مدّة ولايته.
فقلت له: هذا عظيم [76 ط] ، فكيف كان ذلك؟
فقال لي: كان القضاة على مذهب أبي حنيفة، وغيره من الفقهاء، في أنّ الناس كلّهم عدول، على الشرائط التي تعرفها، وكان يشهد الناس عند التيميّ بأسرهم، فإذا سمع شهاداتهم، سأل عنهم، فيزكّون، فيقبلهم، وكان الناس يشهد بعضهم لبعض، من الجيران، وأهل [85 ب] الأسواق، ولا نعرف ترتيب قوم مخصوصين للشهادة، إلى أن ولي إسماعيل «1» .
قال: وكان مبلغ من قبله التيميّ، ستة وثلاثون ألف شاهد، منهم عشرون ألفا لم يشهدوا عنده إلّا شهادة واحدة.(1/262)
141 أسد بن جهور وما فيه من سوداء ونسيان
أخبرني أبو القاسم الجهنيّ، قال:
كانت في أسد بن جهور «1» سوداء ونسيان.
فحضرته يوما، وهو في دار بعض الوزراء، وقد جلس يتحدّث، ومعنا بعض القضاة، وكان اليوم حارّا، فوضعنا عمائمنا، ووضع القاضي قلنسوته.
فطلب الوزير أسدا، فقام مستعجلا، فأخذ قلنسوة القاضي، فلبسها ودخل على الوزير.
فصاح القاضي به، وجماعتنا، فما سمع، حتى دخل كذلك على الوزير، فضحك منه.
[وخجل أسد وعاد إلينا راجعا عنه] «2» .(1/263)
142 المتوكل يختار فتى لمنادمته
حدّثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان، قال: حدّثني أبو جعفر بن حمدون، قال: حدّثني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمدون، قال:
كنت مع أبي «1» ، وأنا صبيّ، بسرّ من رأى، وهو ينادم المتوكّل على الله «2» ، فخرج إلى الصيد، وهو معه، وأنا مع أبي.
فانفرد أبي في يوم من الأيام، يبول، وأنا معه، فأعطاني دابّته،(1/264)
فأمسكتها [وحوّلت وجهي عنه] «1» ، وجلس يبول، إذ جاء المتوكل يحرّك وحده، ويقصده، وقد انفرد عن الجيش، ليولع به.
فلما قرب منه، قال له: من هذا الصبيّ الذي يمسك دابتك؟
قال: عبد أمير المؤمنين، ابني.
قال: فلم قد حوّل وجهه عنك؟
[قال: فعنّ لأبي أن يتنادر، ولم يراع كون النادرة عليّ وعلى أمّي] «2» ، فقال: حوّل وجهه عنّي استحياء من كبر أيري.
قال: فقلت أنا للخليفة: والله يا أمير المؤمنين، لو رأيت أير جدّي، لعلمت أنّ أيره عنده زرّ.
فضحك المتوكل، وقال: يا أحمد، ابنك والله أطيب منك، فأحضره معك للندام «3» .
فحضرت منذ ذلك اليوم، وصرت في الندماء.(1/265)
143 المعتضد يلاعب ابن حمدون بالنرد
وحدّثني «1» ، وقال: حدّثني أبو جعفر «2» ، قال: حدّثني أبو محمد «3» ، قال:
كنت قد حلفت، وعاهدت الله تعالى، أن لا أعتقد مالا من القمار، وأنّه لا يقع في يدي شيء منه، إلّا صرفته في ثمن شمع يحرق، أو نبيذ يشرب، أو جذر مغنيّة تسمع.
قال: فجلست يوما ألاعب المعتضد «4» بالنرد، فقمرته سبعين ألف درهم.
فنهض المعتضد يصلّي العصر، من قبل أن يأمر لي بها، وكان له ركوع طويل قبلها، فتشاغل به.
وصلّيت أنا العصر فقط، فجلست أفكّر، وأندم على ما حلفت عليه، وقلت: كم عساي أشتري من هذه السبعين ألفا، شمعا، وشرابا، وكم أجذر؟ وما كانت هذه العجلة في اليمين، ولو لم أكن حلفت، كنت الآن [86 ب] قد اشتريت بها ضيعة.
قال: وكانت اليمين بالطلاق، والعتاق، وصدقة الملك، والضيعة.
وأغرقت في الفكر، والمعتضد يراني، وأنا لا أعلم.
فلما سلّم من [77 ط] الركوع، سبّح، وقال لي: يا أبا عبد الله في أيّ شيء فكّرت؟(1/266)
فقلت: خيرا يا مولاي.
فقال: بحياتي أصدقني، فصدقته.
فقال: وعندك أنّي أريد أن أعطيك سبعين ألفا في القمار؟
فقلت له: أفتضغو «1» ؟
قال: نعم، ضغوت، قم ولا تفكّر في هذا.
قال: ودخل في صلاة العصر الفرض.
قال: فلحقني غمّ أعظم من الأوّل، وفكر أشدّ منه، وندم على فوت المال، وقلت لم صدقته، وأخذت ألوم نفسي.
قال: فلما فرغ من صلاته، وجلس، قال لي: يا أبا عبد الله، بحياتي أصدقني عن هذا الفكر الثاني.
فلم أجد بدّا، فصدقته.
فقال: أمّا القمار فقد فاتك، لأنّي قد ضغوت بك، ولكنّي أهب لك سبعين ألف درهم غير تلك، من مالي، فلا يكون عليّ إثم في دفعها، ولا عليك إثم في أخذها، وتخرج من يمينك، فتأخذها وتشتري بها ضيعة حلالا.
فقبّلت يده، فأحضر المال، وأعطانيه، فأخذته، واعتقدت به ضيعة(1/267)
144 المعتضد يسدد دين نديمه مرتين
وحدّثني أبو محمد قال: حدّثني أبو جعفر، قال: حدّثني أبو محمد ابن حمدون، قال:
كان عليّ دين ثقيل، مبلغه خمسة آلاف دينار، ولم يكن لي وجه قضائه، ولم تكن القضاة تعدي عليّ «1» ، لملازمتي المعتضد.
فجلس المعتضد للمظالم بنفسه مجالس عدة، فتظلّم إليه منّي غرمائي.
فأحضرني، وسألني عن الدين، فأقررت به عنده للقوم.
ففكّر المعتضد في حبسي به لهم، فيبطل أنسه بي، ويتحدّث عنه إنّه بخل بقضاء دين نديم له، ورأى أن يلتزم المال.
ثم قال للغرماء: المال عليّ، ووقّع لهم [به] «2» في الحال.
فأخذوه، وانصرفوا.
فلما خلونا، قال: يا عاضّ كذا «3» ، أيّ شيء كانت هذه المبادرة إلى الإقرار، ما قدرت أن تجحد، ولا أغرم أنا المال، ولا تحبس أنت؟
فقلت: لم أستحلّ ذلك، وكيف أجحد قوما في وجوههم، وقد أعطوني أموالهم؟
قال: ومضت على هذا مديدة، فأضقت، فاستدنت ألوفا أخرى دنانير، أقلّ من تلك، وطولبت بها، فدافعت، لأن دخلي لم يكن يفي بنفقتي، وما أقيم من المروءة، أكثر من قدر حالي، فما كان لي وجه أقضي منه الدين.(1/268)
وجلس المعتضد للمظالم، فرفع إليه القوم، فأحضرني، وسألني، فأقررت، فوزن المال عنّي.
ثم قال للقاضي الذي يلي حضرته: خذ هذا، فناد عليه في البلد بسفهه «1» في ماله، وعدمه «2» ، وإنّه لا يملك ما يباع عليه فيقضي به دينه، وإنّ من عامله [87 ب] بعد هذا فقد طوّح بماله.
فاضطربت من ذلك.
فقال: لا والله، لا جعلت أنت غرماءك كل يوم، حيلة على مالي.
قال: فما نفعني معه شيء، حتى مضيت إلى دار القاضي وجلست معه في مجلسه، وهو يشيّع في الناس ذلك، ويجريه في وجهي، ولم يناد عليّ.(1/269)
145 بين ابن المدبر وعريب
حدّثني أبو محمد، قال: حدّثني أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي الكاتب، قال: أخبرني من أثق به، أنّ إبراهيم بن المدبّر «1» قال:
كنت أتعشّق عريب «2» ، دهرا طويلا، وأنفقت [78 ط] عليها مالا جليلا «3» ، فلما قصدني الزمان، وتركت التصرّف، ولزمت البيت، كانت هي أيضا، قد أسنّت، وتابت من الغناء، وزمنت.
فكنت جالسا يوما، إذ جاءني بوّابي، وقال: طيّار عريب بالباب، وهي فيه تستأذن.
فعجبت من ذلك، وارتاح قلبي إليها، فقمت حتى نزلت إلى الشطّ، فإذا هي جالسة في طيّارها.
فقلت: يا ستّي، كيف كان هذا.
قالت: اشتقت إليك، وطال العهد، فأحببت أن أجدده، وأشرب عندك اليوم.(1/270)
قلت: فاصعدي.
قالت: حتى تجيء محفّتي.
قال: فإذا بطيّار لطيف، قد جاء وفيه المحفّة، فأجلست فيها، وأصعد بها الخدم.
وتحدّثنا ساعة، ثم قدّم الطعام، فأكلنا، وأحضر النبيذ، فشربت، وسقيتها فشربت، وأمرت جواريها بالغناء، وكان معها منهنّ عدّة، محسنات، طيّاب، حذّاق، فتغنّين أحسن غناء وأطيبه، فطربت وسررت.
وقد كنت، قبل ذلك بأيّام، عملت شعرا، وأنا مولع في أكثر الأوقات بترديده، وإنشاده، وهو:
إن كان ليلك نوما لا انقضاء له ... فإن جفني لا يثنى لتغميض
كأنّ جنبي في الظلماء تقرضه ... على الحشيّة أطراف المقاريض
أستودع الله من لا أستطيع له ... شكوى المحبّة إلّا بالمعاريض
فقلت لها: يا ستّي، إنّي قد عملت أبياتا، أشتهي أن تصنعي فيها لحنا.
فقالت: يا أبا إسحاق مع التوبة؟
قلت لها: فاحتالي في ذلك كيف شئت.
فقالت: روّ هاتين الصبيّتين الشعر، وأومأت إلى بدعة وتحفة جاريتيها.
فحفّظتهما الشعر، وفكّرت ساعة، ووقّعت بالمروحة على الأرض، وزمزمت مع نفسها، ثم قالت لهما: أصلحا الوتر الفلاني على الطريقة الفلانيّة، [وأضربا بالإصبع الفلانية، وافعلا كذا وكذا، إلى أن فتح لهما(1/271)
الضرب، ثم قالت غنّياه على الطريقة الفلانيّة] «1» ، واجعلا في الموضع الفلاني كذا.
فغنّتاه، كأنّهما قد سمعتاه قبل ذلك دفعات، وما خرج الغناء من بين شفتيها.
[فطربت] «2» وقلت في نفسي: عريب تزورني [88 ب] وتلحّن شعري، وهي على كلّ حال مغنّية، وتنصرف من عندي صفرا؟ والله، لا كان هذا، ولو انّني متّ ضرا وجوعا وفقرا.
فقمت إلى جواريّ، وشرحت الحال لهنّ، وقلت: عاونّني بما يحضركن، فدفعت إليّ هذه خلخالا، وهذه سوارا، وهذه عقد حبّ، وهذه جان «3» ، إلى أن اجتمع لي من حليهنّ ما قيمته ألف دينار.
قال: واستدعيت زنبيلّا مشبّكا ذهبا كان عندي، فيه مائة مثقال، فجعلت ذلك فيه، وخرجت به إليها، وقلت: يا سيدتي، هذه طرف، أحببت إتحاف هاتين الصبيّتين بها، فأحبّ أن تأمريهما بأخذها.
فامتنعت امتناعا ضعيفا، وقالت: يا أبا إسحاق، بيننا اليوم هذا، أو فضل فضل له؟
فقلت: لا بدّ.
فقالت لهما: خذاه، فأخذتاه، وجلست إلى وقت المغرب.
ثم قامت لتنصرف، فشيّعتها [79 ط] إلى دجلة.
فلمّا أرادت الجلوس في طيّارها، قالت: يا أبا إسحاق لي حاجة.
قلت: مري بأمرك.(1/272)
قالت: قد ابتاعت فلانة، أمّ ولدك، ضيعة يقال لها كذا، وهي تجاورني، وأنا شفيعتها «1» ، وأريد أن تأمرها بأخذ المال منّي والنزول عنها لي.
فعلمت أنّها إنّما جاءت لهذا السبب.
فقلت: مكانك، فتوقّفت في الطيّار.
فدخلت إلى أمّ ولدي وضمنت لها المال، وأخذت العهدة بالضيعة، فجئت بها إليها.
وقلت: قد وهبتها لك، وضمنت المال لها، وفي غد أتقدّم بالأشهاد لك في ظهر الكتاب. فخذيه معك عاجلا.
فشكرتني ومضت.
وكان شراء الضيعة ألف دينار.
فقام عليّ يومها، وتلحينها هذا الشعر بألفي دينار ومائة دينار.(1/273)
146 الزجاج يدرس النحو على المبرّد
حدّثني أبو الحسن بن الأزرق قال: حدّثني أبو محمد بن درستويه النحويّ «1» قال: حدّثني الزجّاج «2» ، قال:
كنت أخرط الزجاج، فاشتهيت النحو، فلزمت المبرّد «3» لتعلّمه، وكان لا يعلّم مجانا، ولا يعلّم بأجرة إلّا على قدرها.
فقال لي: أيّ شيء صناعتك؟
قلت: أخرط الزجاج، وكسبي في كل يوم درهم ودانقان، أو درهم ونصف، وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أعطيك في كلّ يوم درهما، وأشرط لك أنّي أعطيك إيّاه أبدا، إلى أن يفرّق الموت بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه.
قال: فلزمته، وكنت أخدمه في أموره، ومع ذاك أعطيه الدرهم،(1/274)
فنصحني في التعليم، حتى استقللت.
فجاءه كتاب من بني مارية «1» ، من الصراط، يلتمسون معلّما نحويّا لأولادهم، فقلت له: أسمني لهم، فأسماني، فخرجت إليهم، فكنت أعلّمهم، وأنفذ إليه في كل شهر ثلاثين درهما، وأتفقّده بعد ذلك بما أقدر عليه.
ومضت على ذلك مدّة، فطلب منه عبيد الله بن سليمان، مؤدّبا لابنه القاسم [89 ب] .
فقال له: لا أعرف لك إلّا رجلا زجّاجا بالصراة «2» مع بني مارية.
قال: فكتب إليهم عبيد الله فاستنز لهم عنّي، فنزلوا له.
فأحضرني وأسلم القاسم إليّ، فكان ذلك، سبب غناي.
وكنت أعطي المبرّد ذلك الدرهم في كلّ يوم، إلى أن مات، ولا أخليه من التفقّد معه بحسب طاقتي.(1/275)
147 بيتان من نظم أبي محمد الشامي كاتب الأمير سيف الدولة
حدّثني أبو محمد يحيى بن محمد، وأبو الفرج الببغاء، قالا: أنشدنا أبو محمّد عبد الله بن محمد الشامي، كاتب سيف الدولة [لنفسه] «1» .
وقالوا يعود الماء في النهر بعد ما ... عفت منه آثار «2» وسدّت مشارع «3»
فقلت إلى أن يرجع الماء جاريا ... ويعشب جنباه تموت الضفادع(1/276)
148 ليحيى بن محمد في مواهب المغنية
وأنشدني أبو محمد «1» لنفسه في قينة ببغداد، مشهورة بالإحسان، تسمى مواهب «2» ، كانت جارية لأبي عليّ الحسن بن هارون الكاتب «3» ، باعها، فاشتراها أبو الفضل العباس بن الحسين «4» الوزير [الآن] «5» فلما تزوّج ابنة(1/277)
الوزير أبي محمد المهلبي «1» ، زينة بنت الحسن «2» ، دفعها إلى أبي محمد، فأعتقها، وزوّجها غلاما من غلمانه يسمى غالب، ويعرف بالشار زادي»
، وهي [80 ط] الآن تخدم الأمير عزّ الدولة «4» بصناعتها:
تمام الحجّ أن تقف الركائب ... على دار تحلّ بها مواهب
ولولا أن يقال صبا لقلنا ... عجائب دون أيسرها عجائب(1/278)
149 لأبي الفرج الببغاء في الأمير سيف الدولة
أنشدني أبو الفرج الببغاء لنفسه، قصيدة له في سيف الدولة: أوّلها:
سقت العهاد خليط ذاك المعهد ... ريّا وحيّا البرق برقة ثهمد
في جحفل كالسيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد
فكأنّما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلّة في الجلمد
وكأنّ طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الأثمد
ووصف فيها اللواء فقال:
ومملّك رقّ القنا مستخرج ... باللطف أسرار الرياح الرّكّد
خرس يناجيها فتفهم نطقه ... وتجيبه أنفاسها بتصعّد
قلق كأنّ الجوّ ضاق به فما ... ينفكّ بين توثّب وتهدّد
وكأن همّة ربّه قالت له ... طل وارق في درج المعالي واصعد
[وفيها يقول] «1» :
إنّ المحامد رتبة لا يبلغ ... الإنسان راحتها إذا لم يجهد
من لم تبلّغه السيادة «2» نفسه ... دون الأبوّة لم يكن بمسوّد
[يقول في آخرها يصف القصيدة] «3» :
حلل من المدح ارتضى لك لبسها ... شكري فأغرب مفرد في مفرد «4»
لما نشرت عليك فاخر وشيها ... قالت لك العلياء أبل وجدّد(1/279)
150 لأبي الفرج الببغاء يعزّي الأمير سيف الدولة بولده أبي المكارم
وأنشدني «1» لنفسه يعزّي سيف الدولة بابنه أبي المكارم «2» من قصيدة أوّلها:
سرورنا بك فوق الهمّ بالنوب «3» ... فما يغالبنا حزن على طرب
إذا تجاوزت الأقدار عنك فهل ... من واجب الشكر أن يرتاع من سبب
حتّام تخدعنا الدنيا بزخرفها ... ولا تحصّلنا منه على أرب
نسرّ منها بما تجني عواقبه ... همّا ونهرب والآجال في الطلب(1/280)
151 سيف الدولة يقيم الفداء مع الروم على شاطىء الفرات
قال: وكان سيف الدولة أقام الفداء «1» بشاطئ الفرات في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، فأنفق عليه خمسمائة ألف دينار، وأخرج كلّ من قدر على إخراجه من أسارى المسلمين من بلد الروم، واشترى كل أسير بثلاثة وثمانين دينارا وثلث روميّة، من ضعاف الناس «2» ، فأمّا الجلّة ممّن كان أسيرا، ففادى بهم رؤساء كانوا عنده أسرى من الروم.
وكانت الحال هائلة فيما أخبرني جماعة حضروا، يبقى فخرها وثوابها له.
فقال أبو الفرج قصيدة في ذلك، أنشدنيها، أوّلها:
ما المال إلّا ما أفاد ثناء ... ما العزّ إلّا ما حمى الأعداء
[فقال فيها، في ذكر الفداء] «3»
وفديت من أسر العدوّ معاشرا ... لولاك ما عرفوا الزمان فداء
كانوا عبيد نداك ثم شريتهم ... فغدوا عبيدك نعمة وشراء
والأسر إحدى الميتتين وطالما ... خلدوا به فأعدتهم أحياء [81 ط]
وضمنت نفس أبي فراس للعلا ... إذ منه أصبحت النفوس براء
ما كان إلا البدر طال سراره ... ثم انجلى وقد استتم بهاء
يوم غدا فيه سماحك يعتق ... الأسراء منك ويأسر الأمراء(1/281)
152 رأي أحد القضاة في الخليفة المقتدر
جرى في مجلس أبي «1» يوما ذكر المقتدر بالله وأفعاله، فقال بعض الحضّار:
كان جاهلا.
فقال أبي: مه، فإنّه لم يكن كذلك، وما كان إلا جيّد العقل، صحيح الرأي، لكنّه كان مؤثرا للشهوات.
ولقد سمعت أبا الحسن عليّ بن عيسى يقول، وقد جرى ذكره بحضرته في خلوة: ما هو إلّا أن يترك هذا الرجل النبيذ خمسة أيّام متتابعة، حتى يصحّ ذهنه، فأخاطب منه رجلا ما خاطبت أفضل منه، ولا أبصر بالرأي، وأعرف بالأمور، وأسدّ في التدبير، ولو قلت إنّه إذا ترك النبيذ هذه المدّة، في أصالة الرأي، وصحّة العقل كالمعتضد والمأمون، ومن أشبههما من الخلفاء، ما خشيت أن أقع بعيدا، وما يفسده غير متابعة الشرب، ولا يخبّله سواها.(1/282)
153 المؤتمن أبو القاسم سلامة يتحدّث عن صحّة تفكير الخليفة المقتدر
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: سمعت المؤتمن أبا القاسم سلامة «1» ، أخا نجح الطولوني «2» ، يقول:
اجتمع عليّ بن عيسى «3» وعليّ بن محمد الحواريّ «4» ، ونصر القشوري «5» ، وأنا معهم، على رأي عقدناه في بعض الأمور الكبار، التي حدثت في أيّام المقتدر.
فلما صحّ الرأي عندنا، وتقرّر في أنفسنا دخلنا على المقتدر فعرضناه [91 ب] عليه، واستأذنّاه في إمضائه.
فقال لنا: هذا خطأ في الرأي، والصواب كيت وكيت.
ففكّرنا فيما قال، فوجدنا الصواب معه، وقد خفي علينا، فرجعنا عن رأينا لرأيه، وعملنا عليه.(1/283)
154 حديث القاضي أبي طالب ابن البهلول مع الخليفة المقتدر
حدّثني أبو الحسن، قال حدّثني القاضي أبو طالب ابن البهلول «1» ، قال:
حضرت في بعض أيّام المواكب، باب دار الخلافة، فوقفت في طيّاري، والقضاة في طيّاراتهم، والقوّاد، والكتّاب، نتوقّع الإذن.
فاستدعيت وحدي من بين القضاة، فدخلت على المقتدر، فوجدت أبا عليّ بن مقلة، قائما بين يديه، وهو الوزير إذ ذاك.
فقال لي المقتدر [بهذا اللفظ والإعراب] «2» : قد كان أبوك عضدا، وأنت بحمد الله، خلف منه، وقد ترى كلب غلماني هؤلاء عليّ، ومطالبتهم إيّاي بالأموال، ولو قد فقدوني لتمنّوا أيّامي، وقد عزمت على بيع ضياعي النمروديّات بالأهواز «3» ، فتكتب إلى خليفتك على القضاء بها، في الاجتماع مع أحمد بن محمد البريديّ «4» على بيع ذلك، والمعاونة فيه.
فقلت: إذا كان الأمر من أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، بهذا الموضع من العناية، خرجت أنا فيه.
فقال: لسنا نكلّفك ذلك، ولكن اكتب إلى خليفتك فيه.
قال: فخرجت، وامتثلت أمره، وكاتبت أبا القاسم عليّ بن محمد(1/284)
التنوخيّ «1» ، وكان يخلفني إذ ذاك، على كور الأهواز، وقصصت عليه ما جرى.
ومضت الأيّام، وصرف ابن مقلة، بأبي القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد [82 ط] فأنفذ أبا الحسن بن الحرث صاحبه إلى الأهواز، صارفا للبريديّ، فزاد على من كان اشترى الضياع مالا عظيما.
وكتب أليّ أبو القاسم التنوخي «2» ، إنّه «3» قد استثنى من المال بجملة عظيمة لنفسه، وخنسها «4» .
وكانت في نفسي على ابن الحرث موجدة، فأسررت ذلك في نفسي.
وانحدرت في يوم موكب على رسمي، وكنّا في طيّاراتنا، إذ خرج خلفاء «5» الحجّاب يطلبونني وحدي.
فصعدت، والقضاة كلهم محجوبون، فدخلت على المقتدر، وبحضرته سليمان «6» ، وعليّ بن عيسى، وكان يسدّده، ويصل معه، ويخاطب ويتخاطب على الأمور.
فقال لي المقتدر: قد أحمدنا ما كان من خليفتك على القضاء بالأهواز، فيما كنّا تقدمنا به في أمر النيرمذيات «7» ، وقد كتب ابن الحرث إنّه قد زاد على المبتاعين زيادة قبلوها، وامتنعوا عن أدائها إلّا بعد أن أقول بلساني(1/285)
إنّي قد أمضيت البيع، وإنّي لا أقبل بعدها زيادة، ولا أفعل هذا، فاكتب إلى خليفتك بأنّي قد قلت ذلك، وأن يسجّل لهم بما ابتاعوه.
فأردت أذيّة ابن الحرث [92 ب] فقلت يحتاج في المكاتبة إلى ذكر مبلغ الزيادة.
فالتفت، فنظر إلى عليّ بن عيسى نظر منكر، فرأيته يرتعد، وقال له: مبلغ الزيادة كذا وكذا.
فقال لي: اكتب إلى خليفتك، بأنّها كذا وكذا.
فدعوت له، وانصرفت.
فلما ولّيت، ثقّلت في مشيتي لأسمع ما يجري، فسمعته يقول لعليّ بن عيسى: أيّ شيء أقبح من هذا؟ كأنّه أنكر لم لم يعرف مبلغ الزيادة أوّلا، فيذكرها لي من غير أن أحتاج إلى استدعاء علمها منه.
قال: وكرّر الإنكار، قال: أيّ شيء أقبح من هذا؟ وأخرج عن الأدب فيه؟ تحقّقا برسم الملوك في أن يتكلّموا هم بجميع ما يحتاج إليه، في جميع الأمور، من غير تقصير يحوج المخاطب إلى مطالبتهم بالزيادة في البيان.
وأومأ في آخر كلامه، إلى أنّي إن ذكرت ذلك عنه للناس، غضّ منه، ومن الملك.
فسمعت عليّ بن عيسى، يقول له: يا أمير المؤمنين، هذا خادمك، وابن خادمك، وغذيّ نعمتك، ونشو دولتك، ليس مثله من ظنّ به هذا.(1/286)
155 الخليفة المعتضد يتنبأ بأن ضياع الدولة يجري على يد ولده المقتدر
حدّثني أبو عليّ الحسن بن محمد الأنباري الكاتب [قال: سمعت دلويه الكاتب] «1» ، يحكي عن صافي الحرمي الخادم «2» ، مولى المعتضد، إنّه قال:
مشيت يوما بين يدي المعتضد، وهو يريد دور الحرم، فلما بلغ إلى باب دار شغب أمّ المقتدر، وقف يتسمّع ويطّلع من خلل الستر، فإذا هو بالمقتدر، وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها، وهو جالس وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه «3» في السنّ، وبين يديه طبق فضّة، فيه عنقود عنب، في وقت فيه العنب عزيز جدا، والصبيّ يأكل عنبة واحدة، ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة، على الدور، حتى إذا بلغ الدور إليه أكل واحدة مثلما أكلوا، حتى فني العنقود، والمعتضد يتمزّق غيظا.
قال: فرجع، ولم يدخل الدار، ورأيته مهموما.
فقلت: يا مولاي، ما سبب ما [83 ط] فعلته؟ وما قد بان عليك؟
فقال: يا صافي، والله لولا النار والعار، لقتلت هذا الصبيّ اليوم، فإنّ في قتله صلاحا للأمّة.(1/287)
فقلت: يا مولاي، حاشاه، أيّ شيء عمل؟ أعيذك بالله يا مولاي، إلعن إبليس.
فقال: ويحك، أنا أبصر بما أقوله، أنا رجل قد سست الأمور، وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بدّ من موتي، وأعلم أن الناس بعد موتي لا يختارون إلّا ولدي، وأنهم سيجلسون ابني عليّا- يعني المكتفي «1» - وما أظن عمره يطول، للعلّة التي به، قال صافي، يعني الخنازير التي كانت في حلقه، فيتلف عن قريب، ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعده منهم أكبر من جعفر، فيجلسونه وهو صبيّ، وله من الطبع في السخاء، هذا الذي قد رأيت من أنّه أطعم الصبيان مثلما أكل، وساوى بينه وبينهم، في شيء عزيز في [93 ب] العالم، والشحّ على مثله في طباع الصبيان، فتحتوي عليه النساء، لقرب عهده بهنّ، فيقسم ما جمعته من الأموال، كما قسم العنب، ويبذّر ارتفاع الدنيا ويخربها، فتضيع الثغور، وتنتشر الأمور وتخرج الخوارج، وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عن بني العباس أصلا.
فقلت: يا مولاي بل يبقيك الله، حتى ينشأ في حياتك، ويصير كهلا في أيّامك، ويتأدّب بآدابك، ويتخلّق بخلقك، ولا يكون هذا الذي ظننت.
فقال: احفظ عنّي ما أقوله، فإنّه كما قلت.
قال: ومكث يومه مهموما.
وضرب الدهر ضربه، ومات المعتضد، وولي المكتفي، فلم يطل(1/288)
عمره، ومات، وولي المقتدر، [فكانت الصورة] «1» كما قال المعتضد بعينها.
فكنت كلما وقفت على رأس المقتدر وهو يشرب، ورأيته قد سكر ودعا بالأموال، فأخرجت إليه، وحلّت البدر «2» ، وجعل يفرّقها على الجواري والنساء، ويلعب بها، ويمحقها، ويهبها، ذكرت مولاي المعتضد، وبكيت.
قال: وقال صافي: كنت يوما واقفا على رأس المعتضد، فأراد أن يتطيّب، فقال: هاتم فلانا الطّيبيّ،- خادم يلي خزانة الطيب- فأحضر.
فقال له: كم عندك من الغالية؟
فقال: نيّف وثلاثون حبّا «3» صينيّا، مما عمله عدّة من الخلفاء.
فقال: فأيّها أطيب؟
قال: ما عمله الواثق «4» .
قال: أحضرنيه.
فأحضره حبّا عظيما، يحمله خدم عدّة، بدهق ومصقلة «5» ففتح، فإذا الغالية قد ابيضّت من التعشيب، وجمدت من العتق، في نهاية الذكاء.
فأعجبت المعتضد، وأهوى بيده إلى حوالي عنق الحبّ، فأخذ من(1/289)
لطاخته شيئا يسيرا، من غير أن يشعّث رأس الحب، وجعله في لحيته، وقال:
ما تسمح نفسي بتطريق التشعيث على هذا الحب، شيلوه «1» ، فرفع.
ومضت الأيّام، فجلس المكتفي للشرب يوما، وهو خليفة، وأنا قائم على رأسه، فطلب غالية، فاستدعى الخادم، وسأله عن الغوالي، فأخبره بمثل ما كان [84 ط] أخبر به أباه.
فاستدعى غالية الواثق، فجاءه بالحبّ بعينه، ففتح، فاستطابه، وقال:
أخرجوا منه قليلا، فأخرج منه مقدار ثلاثين [أو أربعين] «2» مثقالا، فاستعمل منه في الحال ما أراده، ودعا بعتيدة «3» له، فجعل الباقي فيها، ليستعمله على الأيّام.
وولي المقتدر الخلافة، وجلس مع الجواري يشرب يوما وكنت على رأسه، فأراد أن يتطيّب، فاستدعى الخادم، وسأله، فأخبره بمثل ما أخبر به أباه وأخاه.
فقال: هات الغوالي كلّها، [فأحضرت [94 ب] الحباب كلّها] «4» ، فجعل يخرج من كل حبّ، مائة مثقال، وخمسين، وأقلّ، وأكثر، فيشمّه «5» ويفرّقه على من بحضرته، حتى انتهى إلى حبّ الواثق، فاستطابه.
فقال: هاتم عتيدة، فجاءوه بعتيدة، وكانت عتيدة المكتفي بعينها، ورأى الحبّ ناقصا، والعتيدة فيها قدح الغالية، ما استعمل منه كثير شيء.(1/290)
فقال: ما السبب في هذا؟
فاخبرته بالخبر على شرحه، فأخذ يعجب من بخل الرجلين، ويضع منهما بذلك.
ثم قال: فرّقوا الحب بأسره على الجواري، فما زال يخرج منها أرطالا، وأنا أتمزّق غيظا، وأذكر حديث العنب، وكلام مولاي المعتضد، إلى أن مضى قريب من نصف الحبّ.
فقلت له: يا مولاي، إنّ هذه الغالية أطيب الغوالي وأعتقها، ولا يعتاض منها، فلو تركت منها لنفسك، وفرّقت الباقي من غيرها كان أولى.
قال: وجرت دموعي لما ذكرته من كلام المعتضد، فاستحى مني، ورفع الحبّ.
فما مضت إلّا سنتين من خلافته، حتى فنيت تلك الغوالي، واحتاج إلى أن عجن غالية بمال عظيم.(1/291)
156 يقال إن جميع الغوالي استعملت في الوحل الذي عملته السيّدة أمّ المقتدر
أخبرني غير أبي عليّ «1» :
إنّ تلك الغوالي كلّها، وما كان في الخزائن من المسوك والعنابر، استعمل كلّه في الوحل «2» الذي كانت السيّدة عملته.
وخبر الوحل مستفيض على ألسنة العوامّ، فلا وجه للإطالة بذكره.
ورأيت، أهل العلم والخبرة بأمور الخلافة وأخبارها، يكذّبون بذلك تكذيبا شديدا، فلم أورده لهذا السبب.(1/292)
157 أنموذج من إسراف السيدة أم المقتدر
حدّثني أبو الحسن البرسي، العامل بالبصرة، إن بعض بني إسحاق الشيرازي المعروف بالخرقيّ، ممن كان يعامل أمّ المقتدر، أسماه هو وأنسيته أنا، حدّثه: إنّها طلبت منه في يوم يقرب من نيروز المعتضد «1» ، ألف شقّة زهريّة خفافا جدا.
قال: فبعثت «2» في جمعها، والرسل تكدّني بالاستعجال، والقهارمة يستبطؤوني، حتى تكاملت، وصرت بها إلى الدار.
فخرجت القهرمانة، فقالت: اجلس في الحجرة التي برسمك، واستدع الخيّاطين، وتقدّم أن يقطعوا ذلك أزرارا على قدر حبّ القطن، [ويحشونها من الخرق، ويخيطونها، ليجعل بدل حبّ القطن] «3» ويشرّب دهن البلسان، وغيره من الأدهان الطيّبة الفاخرة، وتوقد في المجامر [85 ط] البرام «4» على رؤوس الحيطان ليلة النيروز بدلا من حبّ القطن(1/293)
والنفط «1» والمجامر الطين.
ففعلت ذلك، ومضت تلك الثياب الكثيرة الأثمان في هذا.
قال، وقال لي: كنت أشتري لها ثيابا دبيقيّة، يسمونها [95 ب] ثياب النعال.
وذلك إنها كانت صفاقا، تقطع على مقدار النعال المحذوّة، وتطلى بالمسك والعنبر المذاب، وتجمّد، ويجعل بين كل طبقتين من الثياب، من ذلك الطيب ما له قوام، ونحن نفعل بطاقات كثيرة كذا، وتلفّ بعضها على بعض، ثم تصمّغ حواليها بشيء من العنبر، وتلزق حتى تصير كأنّها قطعة واحدة، وتجعل الطبقة الأوّلة بيضاء مصقولة، وتخرز حواليها بالإبريسم، ونجعل لها شركا «2» ، من إبريسم كلّها، كالشّرك المضفورة من الجلود، وتلبس.
قال: وكانت نعال السيّدة من هذا المتاع، لا تلبس النعل إلّا عشرة أيام، أو حواليها، حتى تخلق، وتتفتّت، وتذهب جملة دنانير في ثمنها، وترمى.
فيأخذها الخزّان، أو غيرهم، فيستخرجون من ذلك العنبر والمسك فيأخذونه. [وهو يساوي جملة دنانير] «3»(1/294)
158 أنموذج من إسراف الخليفة المقتدر
أخبرني أبو القاسم الجهنيّ:
إنّ المقتدر أراد الشرب على نرجس في بستان لطيف، في صحن دار من صغار صحونه.
فقال بعض من يلي أمر البستان: سبيل هذا النرجس أن يسمّد قبل شرب الخليفة عليه بأيّام، فيحسن ويقوى.
فقال هو: ويلك، يستعمل الخرء في شيء بحضرتي وأريد أن أشمّه؟
قال: بهذا جرت العادة في كل ما يراد تقويته من الزروع.
فقال: وما العلّة في ذلك؟
قال: لأنّ السماد يحميه، فيعينه على النبات والخروج.
قال: فنحن نحميه بغير السماد، وتقدّم، فسحق من المسك بمقدار ما احتاج إليه البستان من السماد، وسمّد به.
وجلس يشرب عليه يومه وليلته، واصطبح من غده عليه، فلما قام، أمر بنهبه.
فانتهب البستانبانون «1» والخدم، ذلك المسك كله من أصول النرجس، واقتلعوه مع طينه، حتى خلّصوا المسك، فصار البستان قاعا صفصفا.
وخرج من المال شيء عظيم في ثمن ذلك المسك.(1/295)
159 أنموذج من إسراف الخليفة الراضي
حدّثني أبو إسحاق الطبريّ «1» ، غلام أبي عمر الزاهد «2» ، غلام ثعلب «3» ، وكان منقطعا إلى بني حمدون، قال: حدّثني أبو جعفر بن حمدون، قال:
كنّا نشرب مع الراضي بالله يوما، في مجلس مغمّى «4» بالفاكهة الحسنة الفاخرة. فغرض «5» من الجلوس فيه، فقال: افرشوا لنا المجلس الفلانيّ، واطرحوا فيه ريحانا ونيلوفر فقط، طرحا فوق الحصر، بلا أطباق، ولا تعبية في مشامّ، كما تفعل العامّة، وعجّلوا ذلك الساعة، لننتقل إليه.
قال: فلم تكن إلّا لحظة، حتى قالوا له: قد فرغنا من ذلك.
فقال لنا: قوموا، فقمنا معه.
فلما رأى المجلس، قال للشرابيّة: غيّروا لون هذا الريحان بشيء من الكافور يسحق ويطرح فوقه، فليس [96 ب] هو مليح هكذا.(1/296)
قال: فأقبلوا يجيئون بصواني الذهب، وفيها [86 ط] الكافور الرباحي «1» المسحوق أرطالا، ويطرح فوق الريحان، وهو يستزيدهم، إلى أن صار الريحان كالمغطّى ببياض الكافور، وكأنّه ثوب أخضر، قد ندف عليه قطن رقيق، أو روضة سقط عليها ضرائب «2» الثلج.
فقال حينئذ: حسبكم.
قال: فقدّرت ما استعمل من الكافور، كان أكثر من ألف مثقال بشيء كثير.
فشربنا عليه معه، فلمّا قام، أمر بنهبه.
فأخذ غلماني منه مثاقيل كثيرة، لأنّهم كانوا في جملة الخدم والفرّاشين والغلمان الذين نهبوا ذلك.(1/297)
160 الراضي يأمر لكلّ واحد من ندمائه بوزن الآجرّة دراهم
سمعت أبا بكر محمّد بن يحيى الصولي «1» ، وأنا إذ ذاك في حدّ الصبيان، يحكي لأبي، حكاية طويلة عن الراضي، فيها شعر له، وقصّة، لم تعلق بذهني «2» كلّها في الحال، لصغري عن ذلك.
فسأله أبي أن يمليها، فأملاها على صاحب لأبي كان جالسا بحضرته، وكتبها على ظهر جزء كان قد قرأه عليه، فيه أشعار وأخبار غير ذلك، هو باق عندي، وحصّلت منها ما بقي في حفظي:
إنّه دخل إلى الراضي، وهو يبني شيئا، أو يهدم شيئا- أنا الشاكّ- فأنشده أبياتا، وكان الراضي جالسا على آجرّة حيال الصنّاع.
قال: كنت أنا وجماعة من الندماء «3» قيام، فأمر بالجلوس بحضرته، فأخذ كلّ واحد منّا آجرة، فجلس عليها.
واتّفق أنّي أخذت آجرتين ملتزقتين بشيء من اسفيداج، فجلست عليهما.(1/298)
فلمّا قمنا، أمر بأن توزن جرة كلّ واحد منا، ويدفع إليه بوزنها دراهم، أو دنانير- الشكّ مني-.
قال: فتضاعفت جائزتي على جوائز الحاضرين، بتضاعف وزن آجرّتي على آجرّهم.
حدّثني عليّ بن الحسن الحاجيّ «1» ، قال: حدّثنا أبو الحسن العروضيّ، معلّم الراضي [ونديمه] «2» بهذا الحديث، فذكر مثله، ولم يذكر تضاعف جائزة الصولي، إلّا أنّه قال: كنت أنا وجماعة الندماء.(1/299)
161 ختم الراضي الخلفاء في أمور عدّة
وللراضي فضائل كثيرة، وقد ختم الخلفاء في أمور عدّة، منها:
انّه آخر خليفة له شعر.
وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش، والأموال.
[وآخر خليفة بنى] «1» .
وآخر خليفة خطب على منبر في يوم جمعة.
وآخر خليفة جالس الجلساء، ووصل إليه الندماء.
وآخر خليفة كانت نفقته، وجوائزه، وعطاياه، وخدمته، وجراياته، وخزائنه، ومطابخه، وشرابه، ومجالسه، وخدمه، وحجّابه، وأموره، جارية على ترتيب الخلافة الأولى.
وآخر خليفة سافر بزيّ الخلفاء القدماء.
وقد سافر بعده المتّقي، وسافر المطيع غير سفر، ولكن ليس [97 ب] كذلك.(1/300)
162 أنموذج من إسراف المتوكل
حدّثني أبو القاسم الجهنيّ، قال: حدثني أبو محمد بن حمدون، عن أبيه:
إن المتوكّل اشتهى أن يجعل كلّ ما تقع عليه عينه، في يوم من أيّام شربه، أصفر.
فنصبت له قبّة صندل مذهبّة، مجلّلة بديباج أصفر، مفروشة بديباج أصفر.
وجعل بين يديه الدستنبو «1» والأترج الأصفر، وشراب أصفر في صواني ذهب.
ولم يحضر من جواريه إلّا الصفر، عليهن ثياب قصب «2» [87 ط] صفر.
وكانت القبّة منصوبة على بركة مرصّصة يجري فيها الماء، فأمر أن يجعل في مجاري الماء إليها الزعفران على قدر، ليصفرّ الماء ويجري من البركة، ففعل ذلك.
وطال [جلوسه] «3» وشربه، فنفد ما كان عندهم من الزعفران «4» ، فاستعملوا العصفر «5» ، ولم يقدّروا أنّه ينفد قبل سكره، فيشترون منه، فنفد.(1/301)
فلما لم يبق إلا قليل، عرفوه، وخافوا أن يغضب إن انقطع، ولا يمكّنهم قصر الوقت من شري ذلك من السوق.
فلما أخبروه أنكر لم لم يشتروا أمرا عظيما، وقال: الآن إن انقطع هذا تنغّص يومي فخذوا الثياب المعصفرة القصب، فانقعوها في مجرى الماء ليصبغ لونه بما فيها من الصبغ، ففعل ذلك.
ووافق سكره مع نفاد كلّ ما كان في الخزائن من هذه الثياب.
فحسب ما لزم على ذلك الزعفران والعصفر، وثمن الثياب التي هلكت، فكان [قدر جميعه] «1» خمسين ألف دينار.
ويشبه هذا ما أخبرنا به الجمّ الغفير:
إنّ الحسن بن سهل «2» ، لما زفّ ابنته بوران «3» إلى المأمون، بفم الصلح «4» ، انقطع بهم الحطب في المطبخ يوم العرس، أحوج ما كانوا إليه، فعرّفوه ذلك.(1/302)
فأمر بالخيش «1» ، فصب عليها الزيت وغيره من الأدهان حتى تشرّبها، وأمر بإيقاده تحت القدور، وبثّ الرسل في طلب الحطب.
فاستعمل «2» من ذلك الخيش شيء كثير إلى أن حمل الحطب.
163 الوزير المهلبيّ يشتري لمجلس شرابه وردا بألف دينار
وشاهدنا نحن، أبا محمد المهلبيّ في وزارته، وقد اشترى في ثلاثة أيّام متتابعة، وردا بألف دينار، فطرح في بركة عظيمة كانت له في دار كبيرة، تعرف بدار البركة، وشرب عليه، ونهب.
وكان في البركة فوّارة حسنة، فطرح الورد فيها، وفرشه في مجالسه.
وكان لذلك شرح طويل.(1/303)
164 أبو القاسم البريدي يشرب على ورد بعشرين ألف درهم
وشرب أبو القاسم بن أبي عبد الله البريديّ «1» ، بالبصرة، على ورد بعشرين ألف درهم، في يوم واحد، على رخصه هناك، واسترخاص السلطان لما يشتهيه، وطرح فيه عشرين ألف درهم خفافا، وزنها عشرة آلاف درهم، وشيئا كثيرا من قطع الندّ المثاقيل اللطاف، وقطع الكافور اللطاف، والتماثيل، ولعب به [98 ب] شاذكلى «2» ، وانتهب الفرّاشون الورد، مع ما فيه من الدراهم والطيب.
وقيل إنّ ذلك المجلس قام عليه بثلاثة آلاف دينار مع جذور المغنّيات، وثمن الطيب، وما أنفق على المائدة، والشراب، والثلج، ذلك اليوم.
أخبر بهذا أبو العباس النخّاس المعروف بالشامي، في الوقت، وأنا أسمع، وأرانا من الدراهم شيئا، وذكر إنّه انتهبها مع الغلمان.(1/304)
165 كان أبو العباس الشامي نخاسا فأصبح قوّادا
وكان هذا الشاميّ «1» أمّة وحده في مذهبه، فإنّه كان يصحب أبا عبد الله البريدي، على طريق التنخّس، ويشتري الجواري السواذج «2» والمغنّيات فيبيعهنّ عليه.
فربما كره جارية فردّها عليه، وما دار بينهما ميزان.
ثم اتّسع [88 ط] ذلك الباب لأبي العبّاس، فصار يستعمله مع الكافّة، ثم تجاوزه إلى بذل قيان له، وإخراجهنّ بحضرته، وأن يمازحهنّ، ويلاعبهنّ الرجال، ولا ينكر ذلك.
وربما تجاوزوا هذا إلى غيره، ولا ينكر، ويجتعل «3» عليه- فيما بلغني- من وجوه كثيرة.(1/305)
166 أبو العباس الشامي النخاس كان صفعانا طيّبا
وكان «1» ، مع هذا، صفعانا طيّبا.
فمن ذلك: إنّه دخل يوما على أبي يوسف البريديّ «2» ، فصفعه بمخدّة ديباج حسنة مثمنة.
فأخذها الشامي، وعدا، ليسلّمها إلى غلامه، فيحملها إلى بيته.
فقال له أبو يوسف: قد أخذتها! ويلك.
قال: فأردّها أطال الله بقاء سيدنا من حيث جاءت، ولا آخذها؟
فقال: لا يا ماصّ كذا، خذها، لا بورك لك فيها.
فدفعها إلى غلامه.(1/306)
167 أبو العباس الشامي النخاس يطلب من القاضي قبوله للشهادة
ومنها:
إنّه «1» كان مشهورا بالقيادة، وكان يعادي بزّازا بالبصرة، يعرف بالآدمي.
فبلغه أن القاضي جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، عمل على قبوله «2» ، وما كان لذلك أصل، وإنّما كان إرجافا.
فجاء إليه، وكان منبسطا عليه بالمزاح، لمعرفته به.
فقال له: أيها القاضي، إن رأيت أن تقبل شهادتي.
فقال له القاضي: ما بلغ الأمر إلى قبول مثلك، فأيّ شيء دعاك إلى هذا، يا أبا العبّاس؟ ومازحه.
قال: بلغني أنّك تريد أن تقبل الآدمي، وأنا وهو [جميعا] «3» : كنا نقود على البريديّ، فاقبلني أنا أيضا.
فضحك وقال: لا لك أقبل، ولا له.(1/307)
168 الوزير المهلبيّ والشامي النخاس
وجاء «1» إلى الأهواز، بجارية له مغنّية، إلى أبي محمد المهلّبيّ، وكنت بالأهواز.
وحدّثني بهذا الخبر جماعة ممّن شاهدوه من ندمائه.
فغنّت له، وكانت تجلس عنده للغناء، وهو غير حاضر، دفعات كثيرة.
فقال له المهلّبيّ يوما، وقد جرى بحضرته ذكر الجماع، فأخذ الشاميّ يخبر عن نفسه، بالعجز عنه، لأنّه كان قد نيّف على «2» الثمانين.
فقال له المهلبيّ: فجاريتك يا أبا العباس حبلى، فمن أين هذا الحبل؟
فقال: [99 ب] يا سيّدي إذا ولدت، سمّيت ابنها العبّاس بن الحسن «3» ، يعرّض بأنّه ابن وزير، يصلح للوزارة، وإنّه ابنك.
فضحك والجماعة منه.(1/308)
169 أبو مخلد يستولي على دست مجلس معزّ الدولة
أخبرنا أبو عليّ أحمد بن موسى حمولي «1» ، صاحب معزّ الدولة، قال:
كنّا يوما قياما. بحضرة مولانا الأمير- يعني معزّ الدولة- فدخل إليه أبو مخلد «2» ، فرأى تحته دست ديباج جديد، حسن جدا، قد استعمله «3» بتستر، وقام عليه بألفي دينار.
فقال له: أيّها الأمير، تنحّ عن الدست، فإنّ عليه شيئا.
فلم يفهم الأمير مراده، وتزحزح عن دسته، فجذبه، وحمل جزءا منه على كتفه «4» ، وقام.
فقال له الأمير: يا بغّاء «5» - بكلام الديلم- إلى أين؟
قال: إلى طيّاري أنقل هذا الدست إليه أولا أولا كما ترى، ومن يعارضني؟ أو يجسر على ذلك؟
قال: فضحك الأمير، وقال: ما يعارضك أحد.
قال: فنقل، يشهد الله، الدست بآلته كاملا، على ظهره، إلى طيّاره وأنا أراه، حتى أخذه جميعه.(1/309)
170 أبو مخلد يستولي على طنفسة رآها في مجلس الخليفة المطيع
وكانت لأبي مخلد، مروءة عظيمة، وشهوة للفرش خاصة.
فدخل يوما إلى أمير المؤمنين، المطيع لله، فرأى في المجلس طنفسة «1» عظيمة خليفيّة من [89 ط] خز ورقم أصفر «2» ، فلما رآها تحيّر.
فقال لأبي أحمد الشيرازيّ، كاتبه «3» : أريد أن أعمل بهذه، كما عملت بدست «4» معزّ الدولة، وكان قد اشتهر خبره في نقل الدست على ظهره.
فقال له أبو أحمد: مثل هذا لا يجوز أن يفعل بحضرة الخليفة، لأن الهزل لا يستعمل مع هؤلاء، وخاصة هذا مجلس عام، ولكن أنا أعيد استحسانك لها، وأستوهبها لك منه.
فلما تقوّض الموكب، خرج أبو أحمد، فوجده جالسا في الدهليز.
فقال: ما هذا أيها الشيخ؟
قال: ترجع، وتعرّف مولانا، أنّي لا أبرح، والله، إلا بالطّنفسة، وإنّما قبلت رأيك فوقّرته «5» ، وإلّا كنت قد أخذتها كما أخذت الدست.(1/310)
فرجع أبو أحمد، وأخبره «1» ، الخبر على شرحه، فأمر بحملها إلى طيّاره.
فحملت معه، ثم انصرف.
أخبرني أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازيّ بذلك.
171 ابن دية الأنماطي يقوّم ثمن قسم من فرش أبي مخلد بمائتي ألف دينار
وسمعت ابن دية الأنماطي، وهو رئيس هذه الصناعة «2» ببغداد، ومن لم يشاهد أحد بها من المتاع ما شاهده، يخبر في مجلس حافل، إنّه شاهد لأبي مخلد فرشا أخرجه إليه ليقوّمه له.
قال: فقوّمته له، قيما استرخصتها جدّا، فبلغت القيمة مائتي ألف دينار، ولا أدري ذلك فرشه كلّه، أو له شيء آخر من الفرش سواه.(1/311)
172 الشيخ الخياط وأذانه في غير وقت الأذان
حدّثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد [100 ب] الهاشميّ القاضي:
إنّ شيخا من التجّار، كان له على بعض القوّاد مال جليل، يماطله به.
قال: فعملت على الظلامة إلى المعتضد، لأنّي كنت إذا جئت إلى القائد حجبني، واستخفّ بي غلمانه.
وكنت إذا تحمّلت عليه، فاستشفعت، لم ينجع فيه. وتظلمت إلى عبيد الله بن سليمان «1» منه، فما نفعني.
فقال لي بعض إخواني: عليّ أن آخذ لك المال، ولا تحتاج إلى الظلامة إلى الخليفة [ولا إلى غيره] «2» ، فقم معي الساعة.
قال: فقمت معه، فجاء بي إلى خيّاط في سوق الثلاثاء «3» ، شيخ، وهو جالس يخيط، ويقرىء في المسجد، فقصّ عليه قصّتي، وسأله أن يقصد القائد فيسأله إزاحة علّتي، وكانت داره قريبة من موضع الخيّاط «4» ، فقام معنا.(1/312)
فلما مشينا تأخّرت، وقلت لصديقي: إنّك قد عرّضت هذا الشيخ، ونفسك، وإيّاي، إلى مكروه غليظ، هذا إذا حصل على باب الرجل، صفع، وصفعنا معه، فإنّه لم يلتفت لشفاعة فلان وفلان، ولم يفكّر في الوزير، يفكّر في هذا؟
فضحك الرجل، وقال: لا عليك، امش واسكت.
فجئنا إلى باب القائد، فحين رأى غلمانه الخيّاط أعظموه، وأهووا ليقبّلوا يده، فمنعهم.
وقالوا: ما جاء بك يا شيخ؟ فإنّ صاحبنا راكب، فإن كان أمر نعمله نحن بادرنا إليه، وإلّا فادخل واجلس حتى يجيء.
فقويت نفسي بذلك، فدخلنا، وجلسنا.
وجاء الرجل، فلما رأى الخيّاط، أعظمه إعظاما تامّا، وقال: لست أنزع ثيابي، أو تأمر بأمرك.
فخاطبه في أمري.
فقال: والله، ما عندي إلّا [90 ط] خمسة آلاف درهم، فسله أن يأخذها، ورهنا من مراكبي الفضّة والذهب، إلى شهر، [لأعطيه] «1» .
فبادرت أنا إلى الإجابة، فأحضر الدراهم، والمراكب بقيمة الباقي، فقبضت ذلك.
وأشهدت الخيّاط وصديقي عليه، بأنّ الرهن عندي، إلى شهر على البقيّة، فإن جاز الأجل، فأنا وكيل ببيعه، وأخذ مالي من ثمنه، فأشهدتهما على ذلك، وخرجنا.
فلما بلغنا إلى موضع الخيّاط، طرحت المال بين يديه، وقلت: يا شيخ،(1/313)
إنّ الله قد ردّ عليّ هذا بك، فأحبّ أن تأخذ ربعه، أو ثلثه، أو نصفه، بطيب من قلبي.
فقال: يا هذا، ما أسرع ما كافأتني على فعل الجميل بالقبيح، انصرف بمالك، بارك الله لك فيه.
فقلت: قد بقيت لي حاجة.
فقال: قل.
قلت: تخبرني عن سبب طاعة هذا لك، مع تهاونه بأكابر أهل الدولة.
فقال: يا هذا قد بلغت مرادك، [وأخذت مالك] «1» فلا تقطعني عن شغلي، وما أعيش منه.
فألححت عليه.
فقال: أنا رجل أؤمّ، وأقرىء في هذا المسجد، منذ أربعين سنة، ومعاشي [101 ب] من هذه الخياطة، لا أعرف غير هذا.
وكنت منذ دهر، قد صلّيت المغرب، وخرجت أريد منزلي، فاجتزت بتركيّ كان في هذه الدار، فإذا قد اجتازت امرأة جميلة الوجه عليه، فتعلّق بها وهو سكران، ليدخلها داره، وهي ممتنعة تستغيث، وليس أحد يغيثها، وتصيح، ولا يمنعها منه أحد «2» ، وتقول في جملة كلامها: إنّ زوجي قد حلف بطلاقي أن لا أبيت عنه، فإن بيّتني هذا، أخرب بيي، مع ما يرتكبه منّي من المعصية، ويلحقه بي من العار.
قال: فجئت إلى التركيّ، ورفقت به، وسألته تركها، فضرب رأسي(1/314)
بدبّوس كان في يده. فشجّني «1» ، وآلمني «2» ، وأدخل المرأة. فصرت إلى منزلي فغسلت الدم، وشددت الشجّة، واسترحت.
وخرجت أصلّي العشاء، فلمّا فرغنا منها، قلت لمن حضر: قوموا معي إلى عدوّ الله، هذا التركيّ، ننكر عليه، ولا نبرح، حتى نخرج المرأة.
فقاموا، وجئنا، فضججنا «3» على بابه، فخرج إلينا في عدّة من غلمانه، فأوقع بنا الضرب، وقصدني من بين الجماعة، فضربني ضربا عظيما، كدت أتلف منه، فشالني الجيران إلى منزلي كالتالف.
فعالجني أهلي، ونمت نوما قليلا للوجع، وأفقت نصف الليل، فما حملني النوم فكرا في القصّة.
فقلت: هذا قد شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات، فلو أذّنت، وقع له إنّ الفجر قد طلع، فأطلق المرأة، فلحقت بيتها قبل الفجر، فتسلم من أحد المكروهين، ولا يخرب بيتها، مع ما قد جرى عليها.
فخرجت إلى المسجد متحاملا، وصعدت المنارة، فأذّنت، وجلست أطّلع منها إلى الطريق، أترقّب منها خروج المرأة، فإن خرجت، وإلّا أقمت الصلاة، لئلّا يشكّ في الصباح، فيخرجها.
فما مضت إلّا ساعة، والمرأة عنده، فإذا الشارع قد امتلأ خيلا ورجلا ومشاعل، وهم يقولون: من هذا الذي أذّن الساعة؟ أين هو؟
ففزعت وسكتّ، ثم قلت [91 ط] أخاطبهم، لعلّي أستعين بهم على إخراج المرأة.(1/315)
فصحت من المنارة: أنا أذنت.
فقالوا لي: انزل، فأجب أمير المؤمنين.
فقلت: دنا الفرج، ونزلت، فمضيت معهم، فإذا هم غلمان مع بدر «1» .
فأدخلني على المعتضد، فلما رأيته هبته، وارتعدت، فسكّن منّي.
وقال: ما حملك على أن تغرّ المسلمين بأذانك في غير وقته، فيخرج ذو الحاجة في غير حينها، ويمسك المريد للصوم، في وقت أبيح له فيه الإفطار؟
فقلت: يؤمني أمير المؤمنين، لأصدق؟
فقال: [102 ب] أنت آمن على نفسك.
فقصصت عليه قصة التركيّ، وأريته الآثار التي بي.
فقال: يا بدر، عليّ بالغلام والمرأة، الساعة، الساعة، وعزلت في موضع.
فلما كان بعد ساعة قليلة، أحضر الغلام والمرأة، فسألها المعتضد عن الصورة، فأخبرته بمثل ما قلته.
فقال لبدر: بادر بها الساعة إلى زوجها مع ثقة يدخلها دارها، ويشرح له خبرها، ويأمره عنّي بالتمسّك بها، والإحسان إليها.
ثم استدعاني، فوقفت، فجعل يخاطب الغلام، وأنا قائم أسمع.
فقال له: يا فلان، كم رزقك؟
قال: كذا وكذا.
قال: وكم عطاؤك؟(1/316)
قال: كذا وكذا.
قال: وكم وظائفك؟
قال: كذا وكذا.
قال: وجعل يعدّد عليه ما يصل إليه، والتركيّ يقرّ بشيء عظيم «1» .
قال: فقال له: كم لك جارية؟
قال: كذا وكذا.
قال: فما كان لك فيهنّ، وفي هذه النعمة العريضة، كفاية عن ارتكاب معاصي الله عزّ وجلّ، وخرق هيبة السلطان؟ حتى استعملت ذلك، وتجاوزته إلى الوثوب بمن أمرك «2» بالمعروف؟
فأسقط الغلام في يده، ولم يحر جوابا «3» .
فقال: هاتم «4» جوالق، ومداقّ الجص، وقيودا، وغلّا، فأحضر ذلك.
فقيّده، وغلّه، وأدخله الجوالق، وأمر الفرّاشين، فدقّوه بمداقّ الجص.
وأنا أرى ذلك، وهو يصيح، ثم انقطع صوته، ومات.
فأمر به، فغرّق في دجلة، وتقدّم إلى بدر بحمل ما في داره.
ثم قال لي: يا شيخ أيّ شيء رأيت من أجناس المنكر، كبيرا كان أو صغيرا، أو أيّ أمر، صغيرا كان أو كبيرا، فمر به «5» وأنكره، ولو على هذا، وأومأ بيده إلى بدر.(1/317)
فإن جرى عليك شيء، أو لم يقبل منك، فالعلامة بيننا أن تؤذّن في مثل هذا الوقت، فإنّي أسمع صوتك فأستدعيك، وأفعل مثل هذا بمن لا يقبل منك، أو بمن يؤذيك.
قال: فدعوت له وانصرفت.
وانتشر الخبر في الأولياء والغلمان، فما سألت أحدا منهم بعدها إنصافا لأحد، أو كفّا عن قبيح إلّا أطاعني، كما رأيت، خوفا من المعتضد.
وما احتجت أن أؤذّن إلى الآن، [في غير وقت الأذان] «1» .(1/318)
173 مثل على تيقظ المعتضد وعلو همته
حدّثني أبي، عن أبي محمد ابن حمدون «1» ، قال:
كنت بحضرة المعتضد ليلة على شرب، إذ جاءه كتاب، فقرأه وقطع الشرب، وتنغّص به.
واستدعى عبيد الله بن سليمان «2» ، فأحضر للوقت، وقد كاد يتلف، وظنّ أنّه قد قبض عليه.
فرمى بالكتاب إليه، فإذا هو كتاب صاحب خبر السرّ بقزوين إليه، يقول: إنّ رجلا من الديلم، وجد بقزوين «3» ، وقد دخلها متنكّرا.
فقال لعبيد الله: اكتب [92 ط] الساعة، إلى صاحبي الحرب والخراج «4» ، وأقم قيامتهما، وتهدّدهما [103 ب] عنّي بالقتل، لم تمّ هذا، وتشدّد في الإنكار، وطالبهما بتحصيل الرجل، ولو من تخوم الديلم «5» ، وأعلمهما «6» إنّ دمهما مرتهن به، حتى يحضرانه.(1/319)
وارسم لهما أن لا يدخل البلد مستأنفا أحد، ولا يخرج ألا بجواز «1» ، حتى لا تتمّ حيلة لأحد من الديلم في الدخول سرّا، وأن يزيدا في الحذر والتيقّظ، [ونفّذنا الناس إليهم] «2» ، وأفرط في التأكيد.
فقال عبيد الله: السمع والطاعة، أمضي إلى داري، فأكتب.
فقال: لا، إجلس بمكانك، واكتب بخطّك، واعرض عليّ.
قال: فأجلسه، وعقله ذاهل، فكتب ذلك، وعرضه عليه، فلمّا ارتضاه، دعا بخريطة إلى حضرته، فجعلت الكتب فيها، وأنفذها.
وقال لعبيد الله: أنفذ معها من يأتيك بخبر وصولها النهروان «3» ، وسيرها عنه، وانصرف.
فنهض عبيد الله، وعاد المعتضد إلى مجلس شربه، وكان قد لحقه تعب عظيم، فاستلقى ساعة، ثم عاد يشرب.
فقلت له: يا أمير المؤمنين، تأذن في الكلام؟
فقال: نعم.
فقلت: كنت على سرور، وطيب نفس، فورد خبر قد كان يجوز أن تأمر فيه غدا بما أمرت به الساعة، فضيّقت صدرك، وقطعت شربك، ونغّصت على نفسك، وروّعت وزيرك، وأطرت عقول عياله وأصحابه،(1/320)
باستدعائه في هذا الوقت المنكر، حتى أمرته بهذا الذي لو أخّرته إلى غد، لكان جائزا.
فقال: يا ابن حمدون، ليست هذه من مسائلك، ولكنّا أذنّا لك في الكلام. إن الديلم شرّ أمّة في الدنيا، وأتمّهم مكرا، وأشدّهم بأسا، وأقواهم قلوبا، ووالله، لقد طار عقلي فزعا على الدولة من أن يتطرّق إليهم دخول قزوين سرّا، فيجتمع فيها منهم عدّة، يوقعون بمن فيها ويملكونها، وهي الثغر بيننا وبينهم، فيطول أمد ارتجاعها منهم، ويلحق الملك من الضعف والوهن بذلك أمر عظيم، يكون سببا لبطلان الدولة، وتخيّلت أنّي إن أمسكت عن التدبير ساعة، إنّه يفوت، وإنّهم يحتوون على قزوين، ووالله لو ملكوها، لنبعوا عليّ من تحت سريري هذا، واحتووا على دار المملكة، فما هنّأني الشرب، ولا طابت نفسي بمضيّ ساعة من زماني فارغة من تدبير عليهم.
فعملت ما رأيت.(1/321)
174 التفريط في حفظ حدود أذربيجان أدّى إلى فساد المملكة
وحدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال:
كنت حدثا في الديوان في سنة سبع عشرة وثلاثمائة، والوزير إذ ذاك أحمد بن عبيد الله الخصيبي «1» .
فأنشأنا من الديوان، كتبا إلى ابن أبي الساج «2» ، عن السلطان، يأمره فيها بالمسير إلى الحضرة «3» ، لقتال القرمطيّ «4» .
فوردت الأجوبة للخليفة، لا للديوان.
فسمعت مشايخ الكتّاب، يتحدّثون عنه «5» ، إنّه كتب يقول: أنا في(1/322)
ثغر أعظم [104 ب] من ثغور الروم، وبإزاء سدّ أحصن من سد يأجوج ومأجوج، وإن أخللت به، انفتح منه أعظم من أمر القرمطيّ، ولم يؤمن أن يكون سببا لزوال المملكة في سائر النواحي [93 ط] .
قال: فأخذ الكتّاب يتطانزون «1» بذلك، وقالوا: في أيّ ثغر هو؟
ومن بإزائه إلّا الديلم، وإنّما هم أكرة، ولكنّه يريد ترفيه نفسه، والخلاف على السلطان.
قال: وأنشئت كتب أخر، يؤمر فيها بترك ما هو بسبيله، والقدوم، فقدم وخرج إلى القرمطيّ، فقتله القرمطيّ.
فما مضت إلّا مديدة يسيرة، على قتله، حتى سار القاسم بن الحسن الداعي العلويّ «2» ، وما كان الديلميّ «3» صاحب جيشه، من طبرستان إلى الريّ، فأخذاها من يد أصحاب السلطان.
وخرج أسفار بن شيرويه الديلميّ «4» فسار إلى طبرستان «5» ، فأخذها منهما.(1/323)
فرجع الداعي إليه، فقاتله، فقتله أسفار، وتوطّأ له الأمر، وسار إلى الريّ «1» ، فقاتله ما كان.
وثار مرداويج الجيليّ «2» ، وكان أحد أصحاب أسفار، به، فقتله، واحتوى على عسكره، وتملّك أعماله، وأخذ الريّ، والجبل «3» ، والأعمال.
وتفرّقت أعمال ابن أبي الساج على جماعة أهملوا سياستها.
واستفحل أمر الديلم، وتزايد على الأوقات، وضعف السلطان، وانفتقت الفتوق عليه، وكثرت الفتن، وقتل المقتدر.
وجاء مرداويج إلى أصبهان «4» ليسير إلى بغداد. وقدم شيرج «5» بن ليلى إلى الأهواز، فتملّكها.
وكان الأمير عماد الدولة عليّ بن بويه «6» يخلفه على الكرج حينئذ، فاستغوى(1/324)
من معه، وسار بهم فملك أرّجان «1» لنفسه.
وهدّده مرداويج بالمسير إليه، فداراه، ووعده أن يكون من قبله، وأنفذ الأمير ركن الدولة «2» ، أخاه، رهينة إليه.
وسار فأوقع بياقوت «3» ، وهو في سبعمائة نفر من الديلم، وياقوت في الطمّ والرمّ «4» ، وملك فارس، وظفر بأموالها، وكنوزها، فقوي، وعمل مرداويج على إنفاذ عسكر إليه، ليأخذه، ثم يسير إلى بغداد، فوثب غلمانه الأتراك به، فقتلوه، وجاء رجاله إلى الأمير عماد الدولة، وقد كان ملك فارس، وطرد ياقوت عنها، فقوي أمره، وعظم شأنه.
ومرّت على ذلك سنيّات، فأنفذ أخاه الأمير معزّ الدولة إلى الأهواز، ولم يزل أمره يقوى، حتى ملك بغداد.
وحصل الأمر على ما قاله المعتضد، وابن أبي الساج، وصاروا ملوك الأرض.
وحصلت للديلم ممالك، غير ممالك الأمراء من بني بويه، كثيرة، بعد أن كان الناس يتمثّلون إذا ظلموا، فيقولون: [105 ب] أي شيء خبرنا؛ في يد الديلم نحن أم في يد الأتراك؟ فصاروا في ممالكهما وأيديهما.
ونسأل الله السلامة.(1/325)
175 مثل آخر على تيقظ المعتضد وعلو همته
حدّثني القاضي أبو الحسن محمّد بن عبد الواحد الهاشمي، قال: حدّثني أبو عليّ الحسن بن إسماعيل بن إسحاق القاضي «1» ، وكان ينادم المعتضد، ويتجاسر عليه، قال:
كنّا نشرب يوما مع المعتضد، حتى دخل عليه بدر «2» ، فقال: يا مولاي، قد أحضر القطّان الذي من بركة زلزل «3» .
قال: فترك مجلس النبيذ، وقام إلى مجلس في آخر ذلك المجلس، دونه، ونحن نراه ونسمع كلامه، ومدّت بيننا وبينه ستارة، ولبس قباء، وأخذ بيده حربة، وجلس كالمغضب المهول، حتى فزعنا نحن [94 ط] منه، مع أنسنا به «4» .
وأدخل إليه شيخ ضعيف، فقال له بصياح شديد: أنت القطّان الذي قلت أمس ما قلت؟
فغشي على القطّان، فأمر به فعزل ناحية.
فلمّا سكن جاءوه به، فقال: ويلك، مثلك يقول ليس للمسلمين(1/326)
ناظر في أمورهم، فأين أنا؟ وأيّ شغل شغلي؟
قال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل سوقيّ، لا أعرف غير الغزل والقطن ومخاطبة النساء والعامّة، وإنّما اجتاز بنا رجل بايعنا شيئا كان معه، فوجدنا ميزانه ناقصا، فقلت هذا الكلام، وعنيت به المحتسب لا غيره.
[فقال له المعتضد: الله، إنّك أردت به المحتسب؟] «1» .
فقال: والله ما عنيت غيره، وأنا تائب أن أتكلّم بما يشبه هذا.
فقال: يحضر المحتسب «2» ، ويبالغ في الإنكار عليه لم غفل عن إنكار مثل هذا، ويؤمر بتعييره «3» ، وتتبّع «4» الطوّافين، وأهل الأسواق، والتعيير عليهم.
وقال للشيخ: انصرف، لا بأس عليك، ودخل، فضحك، وانبسط، وعاد يشرب.
فلما حمل عليّ النبيذ، قلت له: يا مولاي، تعرف فضولي، فتأذن لي في أن أقول؟
فقال: قل.
قلت: كان مولانا في أطيب شرب، وأتم سرور، فتركه، وتشاغل عنه بخطاب كلب من السوقة «5» ، كان يكفيه أن يصيح عليه راجل من رجّالة صاحب الربع «6» صيحة، ولم يقنع مولانا في أمره بالوصول إلى حضرته،(1/327)
حتى غيّر له لبسته، وشهر سلاحه، واستقصى خطابه بنفسه، لأجل كلمة تقول العامة مثلها دائما، ولا يميّزون معناها.
فقال: يا حسن، أنت لا تعلم ما يجرّ هذا الكلام، إنّ مثل هذا إذا انتشر على ألسنة العوامّ، تلقّفه «1» بعضهم من «2» بعض، وتجرّأوا عليه، وربوا على قوله، حتى يصير منهم كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يبعد أن يولّد ذلك لهم امتعاضا عند أنفسهم للسياسة والدين، فتثور الفتن على السلاطين.
وليس شيء أبلغ في حسم ذلك، من قطع مادّته من الأصل في [106 ب] أوّله.
فإنّ هذا، ممّا جرى عليه، قد طارت روحه، فهو يخرج، ويحدّث بأضعاف ما لحقه من الإنكار، وأكثر ممّا شاهده من الهيبة والفخامة، وفوق ما سمعه من المطالبة بموجبات السياسة، ومرّ الحقيقة، فينتشر عند العوامّ ما نحن عليه من التيقّظ، وإنّ كلمة تكلّم بها الرجل منهم لم تخف عليّ، وما «3» غفلت عن مناظرة صاحبها، وعقابه [فيعرفوني بذلك] «4» فيغنيني «5» ذلك عن أفعال كثيرة، ويحذر جميعهم، ويضبط نفسه، وتنحسم مادّة شرّ، لو جرى، لاحتيج إلى ضروب من الكلف غليظة في صلاحه، قد انحسمت بيسير من القول والفعل.
فأقبلنا ندعو له ونطريه [أنا والجماعة] «6» .(1/328)
176 مثل على ضبط المعتضد أمر جنده وتشدّده في منعهم من التعدّي
حدّثني وكيل كان لأبي القاسم ابن أبي علان، سلّمه إليّ بتوكيل «1» في ضيعتي بالأهواز، وكان ابن أبي علان يقول إنّه أسنّ منه، وكان ثقة، ما علمت، يقال له: ذو النون بن موسى، قال:
كنت غلاما، والمعتضد إذ ذاك بكور الأهواز، فخرجت يوما من قرية بمناذر «2» يقال لها شانطف، أريد عسكر مكرم «3» ، ومعي حمار [95 ط] أنا راكبه، وهو موقر بطّيخا، قد حملته من القرية لأبيعه في البلد، يعني العسكر.
فلقيني جيش عظيم لم أعلم ما هو، وتسرع إليّ منهم جماعة، وأخذ واحد منهم ثلاث بطيخات أو أربعا، وحرّك.
فخفت أن ينقص عدده، فأتّهم به، فبكيت، وصحت، والحمار يسير «4» بي على المحجّة، والعسكر يجتاز عليها.
فإذا بكوكبة عظيمة يقدمها رجل منفرد، فوقف، وقال: ما لك يا غلام تبكي وتصيح؟(1/329)
فعرّفته حالي، فوقف بي، ثم التفت إلى القوم، فقال: هي، عليّ بالرجل الساعة.
قال: فكأنّه كان وراءه، حتى ورد «1» في سرعة الطرف.
فقال: هذا هو يا غلام؟
فقلت: نعم.
فأمر به [فبطح] «2» وضرب بالمقارع، وهو واقف، وأنا على حماري، والعسكر واقف.
وجعل يقول، وهو يضرب: يا كلب، يا كذا وكذا، ما كان معك ثمن هذا البطيخ؟ ما كان في حالك فضل لشرائه؟ ما قدرت تمنع نفسك منه؟
هو مالك؟ مال أبيك؟ أليس هو الرجل الذي قد تعب بنفسه في زرعه، وسقيه، وماله، وأداء خراجه؟ أليس كذا؟ أليس كذا؟ يعدّد عليه أشياء من هذا الجنس، والمقارع تأخذه، إلى أن ضربه نحو مائة مقرعة [107 ب] .
ثم أمر برفعه، فرفع، وسار، وسار الناس.
فأخذ الجيش يشتمونني، ويقولون، يضرب فلان بسبب هذا الأكّار الخوزيّ، لعنه الله، مائة مقرعة.
فسألت بعضهم عن الخبر، فقال: هذا الأمير أبو العبّاس.(1/330)
177 شدّة ضبط المعتضد عسكره
حدّثني عبد الله بن عمر الحارثيّ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني أبو محمد عبد الله بن حمدون، قال:
كان المعتضد، في بعض متصيّداته، مجتازا بعسكره، وأنا معه، فصاح ناطور في قراح قثّاء «1» ، فاستدعاه، وسأله عن سبب صياحه.
فقال: أخذ بعض الجيش من القثّاء شيئا.
فقال: اطلبوهم، فجاءوا بثلاثة أنفس.
فقال: هؤلاء الذين أخذوا القثّاء؟
فقال الناطور: نعم.
فقيّدهم في الحال، وأمر بحبسهم. فلما كان من الغد، أنفذهم إلى القراح، فضرب أعناقهم فيه، وسار.
فأنكر الناس ذلك، وتحدّثوا به، ونفرت قلوبهم منه.
ومضت على ذلك مدّة طويلة، فجلست أحادثه ليلة، فقال لي: يا أبا عبد الله هل يعيب الناس عليّ شيئا؟ عرّفني حتى أزيله.
قلت: كلّا، يا أمير المؤمنين.
فقال: أقسمت عليك بحياتي، إلّا ما صدقتني.
قلت: وأنا آمن؟(1/331)
قال: نعم.
قلت: إسراعك إلى سفك الدماء.
قال: والله، ما هرقت دما منذ وليت هذا الأمر، إلّا بحقّه.
قال: فأمسكت إمساك من يتبيّن عليه الكلام.
فقال: بحياتي ما يقولون «1» ؟
قلت: يقولون إنّك قتلت أحمد بن الطيّب «2» ، وكان خادمك، ولم تكن له جناية ظاهرة.
قال: دعاني إلى الإلحاد، فقلت له: يا هذا أنا ابن عمّ صاحب الشريعة، وأنا الآن منتصب منصبه، فألحد حتى أكون من؟ وكان قال لي: إن الخلفاء لا تغضب، فإذا غضبت لم ترض، فلم يصحّ إطلاقه.
فسكتّ، سكوت من يريد الكلام.
فقال لي: في وجهك كلام.
فقلت: الناس ينقمون [96 ط] عليك أمر الثلاثة أنفس، الذين قتلتهم في قراح القثّاء.
فقال: والله، ما كان أولئك المقتولين هم الذين أخذوا القثّاء، وإنّما كانوا لصوصا حملوا من موضع كذا وكذا، ووافق ذلك أمر أصحاب القثّاء، فأردت أن أهوّل على الجيش، بأنّ من عاث من عسكري، وأفسد(1/332)
بهذا القدر، كانت هذه عقوبتي له: القتل، ليكفّوا عمّا فوقه، ولو أردت قتلهم لقتلتهم في الحال، وإنّي حبستهم، وأمرت بإخراج اللصوص في غد مغطّين الوجوه، ليقال إنّهم أصحاب القثّاء، ويقتلون بفعل ذلك.
فقلت: كيف تعلم العامّة هذا؟
قال: بإخراجي القوم الذين أخذوا القثّاء، أحياء، وإطلاقي لهم في هذه الساعة.
ثم قال: هاتم القوم، فجاءوا بهم، وقد تغيّرت حالهم من الحبس والضرب.
فقال لهم: ما قصّتكم؟
فاقتصّوا عليه قصّة القثّاء.
فقال لهم: أفتتوبون من مثل هذا الفعل، حتى أطلقكم؟
فقالوا: نعم.
فأخذ عليهم التوبة، وخلع عليهم، ووصلهم، وأمر بإطلاقهم، وردّ أرزاقهم عليهم.
فانتشرت الحكاية، وزالت عنه التّهمة «1» .(1/333)
178 بين المعتضد ونديمه ووزيره
حدثني أبي، عن أبي محمد، عبد الله بن حمدون، قال:
قال لي المعتضد، يوما، وقد قدّم إليه عشاء على النبيذ: لقّمني.
قال: وكان الذي قدّم إليه فراريج، ودرّاريج «1» ، فلقّمته من صدر فرّوج.
فقال: لا، لقّمني من فخذه. فلقّمته لقما.
ثم قال: هات من الدرّاج، فلقّمته من أفخاذها.
فقال: ويلك، هوذا تتنادر عليّ؟ هات من صدورها.
فقلت: يا مولاي، ركبت القياس، فضحك.
فقلت له: إلى كم أضحكك، ولا تضحكني؟
قال: شل «2» المطرح، وخذ ما تحته.
قال: فشلته، فإذا بدينار واحد.
فقلت: آخذ هذا؟
فقال: نعم.
فقلت له: بالله، هوذا تتنادر أنت الساعة عليّ؟ خليفة يجيز نديمه بدينار واحد؟
فقال: ويلك، لا أجد لك في بيت المال حقّا أكثر من هذا، ولا تسمح نفسي أن أعطيك من مالي شيئا، ولكن هوذا، أحتال لك بحيلة، تأخذ(1/334)
فيها خمسة آلاف دينار. فقبّلت يده.
فقال: إذا كان غدا، وجاء القاسم «1» فهوذا أسارّك حين تقع عيني عليه، سرارا طويلا، ثم ألتفت إليه كالمغضب، وانظر أنت إليه من خلال ذلك، كالمخالس لي، نظر المترثّي.
فإذا انقطع السرار، فستخرج، ولا تبرح من الدهليز.
فإذا خرجت، خاطبك بجميل، وأخذك إلى دعوته، وسألك عن حالك، فاشك الفقر والحلّة، وقلّة حظّك مني، وثقل ظهرك بالدين والعيال، وخذ ما يعطيك، واطلب كل ما تقع عينك عليه، فإنّه لا يمنعك، حتى تستوفي الخمسة آلاف دينار.
فإذا أخذتها فسيسألك عما جرى بيننا، فاصدقه، وإيّاك أن تكذبه، وعرّفه أنّ ذلك، حيلة منّي عليه، حتى وصل إليك هذا، وحدّثه بالحديث على شرحه، وليكن إخبارك إيّاه، بعد امتناع شديد، وإحلاف منه بالطلاق [97 ط] والعتاق أن تصدقه، وبعد أن تخرج من داره، كلّ ما يعطيك إيّاه.
فلما كان من غد، حضر القاسم، فحين رآه، بدأ يساررني، وجرت القصّة، على ما واضعني عليه، فخرجت، فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني.
فقال لي: يا أبا محمد، ما هذا الجفاء؟ لا تجيئني، ولا تزورني، ولا تسألني حاجة، فأقضيها لك، فدعوت له.
فقال: ما يقنعني إلّا أن تزورني اليوم، ونتفرّج.
فقلت: أنا خادم الوزير.
فأخذني إلى طيّاره، وجعل يسألني عن حالي، وأخباري، فاشكو إليه(1/335)
الخلّة، والإضاقة، والدّين، وجفاء الخليفة، وإمساك يده، فيتوجّع، ويقول: يا هذا، مالي مالك، ولن يضيق عليك، ما اتّسع عليّ [ولا تتجاوزك نعمة تخلّصت إليّ، أو يتخطّاك حظّ نازل بفنائي] «1» ، ولو عرّفتني لعاونتك، وأزلت هذا عنك.
فشكرته، وبلغنا إلى داره، فصعد، ولم ينظر في شيء، وقال: هذا يوم أحتاج أن اختصّ فيه بالسرور بأبي محمد، فلا يقطعني عنه أحد.
فأمر كتّابه بالتشاغل بالأعمال، وخلا بي في دار الخلوة، وجعل يحادثني ويبسطني، وقدّمت الفاكهة، فجعل يلقّمني بيده، وجاء الطعام، فكانت هذه سبيله، وهو يستزيدني. فلمّا جلس للشراب، وقّع لي بثلاثة آلاف دينار مالا، فأخذتها في الوقت.
وأحضرني ثيابا، وطيبا، ومركوبا، فأخذت ذلك.
وكانت بين يديّ صينية فضّة، فيها مغسل فضّة، وخرداذيّ بلّور «2» ، وكوز وقدح بلّور، فأمر بحمله إلى طيّاري.
وأقبلت كلما رأيت شيئا حسنا، له قيمة وافرة، طلبته منه.
وحمل إليّ فرشا نفيسا، وقال: هذا للبنات.
فلما تقوّض المجلس، خلا بي، وقال: يا أبا محمد، أنت عالم بحقوقي عليك، ومودّتي لك.
فقلت: أنا خادم الوزير.
فقال أريد أن أسألك عن شيء، وتحلف لي أنّك تصدقني عنه.
فقلت: السمع والطاعة، فأحلفني بالله، وبالطلاق، والعتاق، على الصدق.(1/336)
ثم قال لي: بأي شيء ساررك الخليفة اليوم في أمري؟
فصدقته عن كل ما جرى، حرفا بحرف.
فقال: فرّجت عني، وأن يكون هذا هكذا، مع سلامة نيته لي، أسهل عليّ. فشكرته، وودّعته. وانصرفت إلى بيتي.
فلما كان من الغد، باكرت المعتضد، فقال: هات حديثك. فسقته إلى آخره.
فقال: احتفظ بالدنانير، ولا يقع لك، أنّك تعامل بمثل هذا بسرعة «1» .
وحدثني أبو السريّ، محمد بن عمر التازيّ البغداديّ «2» ، ويعرف بابن عتّاب السقطيّ «3» ، قال: حدّثني أبو الطيّب واثق بن رافع، مولى ابن أبي الشوارب، قال: حدّثني أبو محمد عبد الله بن حمدون، بهذا الحديث، فأورده بغير هذه الألفاظ، والمعنى واحد. إلّا أنّه ليس في حكاية واثق، العشاء بالفراريج والدرّاريج، ولا أنّ المعتضد وهب له دينارا.
وأوّل حكاية واثق عن ابن حمدون، قال:
شكوت إلى المعتضد، ديني وإضاقتي، فقال: أمّا مالي فلا طمع لك فيه، ولكن أعمل لك حيلة، وذكر الحكاية «4» [98 ط] .(1/337)
179 عاشق تسبب في قتل حبيبته وزوجها
ومن الأخبار المفردات، والاتفاقات التي سمعناها، وشاهدنا بعضها، ما أخبرني به أبو القاسم الجهنيّ «1» ، قال:
كان في جواري ببغداد، امرأة جميلة مستورة، ولها ابن عمّ يهواها، كان ربّي معها، فعدل بها أبوها عنه، إلى رجل غريب، زوّجه بها، فكان ابن العم، يلزم بابها، طمعا فيها، وأحسّ الزوج بذلك، فكان يتحرّز، وكان خبيثا.
فخرج يوما في بعض شأنه، وأرادت المرأة أن تتبرّد، فنزعت ثيابها، وجلست عند البئر تغتسل، وتركت خواتيم ذهب، كانت في يدها، عند ثيابها في الدار، وكانت لطيفة، وفيها عقعق «2» مخلّى في الدار، فأخذ الخواتيم، وخرج وهي في منقاره، إلى الباب، على عادة العقاعق، في أخذ كلّما يجدونه وخبئه.
فوافق خروجه، اجتياز ابن عمها، ورأى الخواتيم، فسعى خلف العقعق، وأخذها منه، ولبسها، وقعد بالباب، ليراه زوج المرأة، فيظنّ أنّه كان عندها، فيطلّقها، فيتمكّن هو من تزوّجها.
فجاء الزوج، فقام ابن العم مسلّما عليه، وتعمّد أن يرى الخواتيم في يده، وانصرف، فعرفها الزوج، ودخل، فرأى امرأته تغتسل، فلم يشكّ(1/338)
أنّه غسل جنابة، وأنّ ابن العمّ، قد وطئها.
فقال لجارية كانت معهم: اذهبي في حاجة كذا، فمضت فيها، وغلق الباب، وأضجع المرأة، ولم يسلها عن شيء، وقتلها.
وعادت الجارية، فرأت ستّها مقتولة، فريعت «1» ، وخرجت، وصاحت، فبدر «2» الجيران به، وأهلها، فقبضوا عليه، وحمل إلى السلطان، فقتل بها، فأخرج ابن العم الحديث، وكان ذلك سبب توبته، ولزم العبادة، وترك الدنيا إلى أن مات.(1/339)
180 كلب يكشف عن قاتل سيده
ومنها «1» : إنّ مبشّر الرومي، مولى أبي، حدّثني: إنّه سمع مولى كان له قبل أبي، يعرف بأبي عثمان، زكريّا المدنيّ، ويقال له: ابن فلانة، وكان هو تاجرا جليلا، عظيما، كثير المال، مشهورا بالجلالة، والثقة، والأمانة، يحدّث:
إنّه كان في جواره ببغداد، رجل من أصحاب العصبيّة، يلعب بالكلاب.
فأسحر يوما في حاجة، وتبعه كلب كان يختصّه من كلابه، فردّه، فلم يرجع، فتركه.
ومشى، حتى انتهى إلى قوم كانت بينه وبينهم عداوة، فصادفوه بغير حديد «2» ، فقبضوا عليه، والكلب يراهم، فأدخلوه، فدخل معهم، فقتلوه، ودفنوه في بئر في الدار، وضربوا الكلب، فسعى، وخرج وقد لحقته جراحة، فجاء إلى بيت صاحبه يعوي، فلم يعبأوا به.
وافتقدت أمّ الرجل، ابنها، يومه وليلته، فتبيّنت الجراحة بالكلب، وأنّها من فعل من قتل ابنها، وأنّه قد تلف، فأقامت عليه المأتم، وطردت الكلاب عن بابها.
فلزم ذلك الكلب الباب، ولم ينطرد، فكانوا يتفقّدونه في بعض الأوقات.
فاجتاز يوما، بعض قتلة صاحبه بالباب، وهو [99 ط] رابض، فعرفه الكلب، فخمش ساقه، ونهشه، وعلق به.(1/340)
واجتهد المجتازون في تخليصه منه، فلم يمكنهم، وارتفعت ضجّة، وجاء حارس الدرب، فقال: لم يتعلّق هذا الكلب بالرجل، إلّا وله معه قصّة، ولعلّه هو الذي جرحه.
وخرجت أمّ القتيل، فحين رأت الرجل، والكلب متعلّقا به، وسمعت كلام الحارس، تأمّلت الرجل، فذكرت أنّه كان أحد من يعادي ابنها ويطلبه، فوقع في نفسها إنّه قاتل ابنها، فتعلّقت به، وادّعت عليه القتل، وارتفعا إلى صاحب الشرطة، فحبسه، بعد أن ضرب، ولم يقرّ، ولزم الكلب باب الحبس.
فلما كان بعد أيّام، أطلق الرجل، فحين أخرج من باب الحبس، علق به الكلب، كما فعل أوّلا، فعجب الناس من ذلك.
وأسرّ صاحب الشرطة، إلى بعض رجّالته، أن يفرّق بين الكلب والرجل، ويتبع الرجل ويعرف موضعه، ويترصّده، ففعل ذلك.
فما زال الكلب، يسعى خلف الأول، والراجل يتبعه، إلى أن صار في بيته.
فكبس صاحب المعونة، الدار، فلم يجد أثرا.
وأقبل الكلب يصيح، ويبحث في موضع البئر التي طرح فيها القتيل.
فقال الشرطيّ: انبشوا موضع نبش الكلب، فنبش، فوجد الرجل قتيلا.
فأخذ الرجل، وضرب، وأقرّ على نفسه، وعلى جماعة بالقتل، فقتل هو، وطلب الباقون، فهربوا.(1/341)
181 خبأ ماله في برنية فعجّل ذلك في سرقتها
ومنها «1» : إنّ أبا الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، حدّثني، قال:
كان لنا صديق، مستظهر على الزمان، قد سلم على الحوادث، عمره كلّه.
فلمّا تواترت الكبسات ليلا ببغداد، خاف على مال عنده عتيد، فجعل ثلاثة آلاف دينار عينا، في برنيّة «2» ، وحفر لها في عرض حائط، كان بين بيتين من داره، وكانت الحفيرة قريبة من زاوية الحائط، والزاوية على الطريق، ومضى على هذا مدّة.
فجاء اللصوص، ينقبون على داره، فوقع نقبهم على الزاوية، فقدّروا أنّ الحائط عرضا، فنقبوا في طوله من حيث الزاوية، فوصلوا إلى البرنيّة، فأخذوها.
فلما شاهدوا ما فيها اكتفوا به، وانصرفوا، ولم يدخلوا الدار.
وتضعضعت حال الرجل.(1/342)
182 الأمير عماد الدولة بن بويه تقع عليه حيّة فيجد كنزا
ومنها «1» : ما حدّثني به أبو الحسن بن مهذب القزوينيّ، كاتب سوريل، أحد قوّاد الديلم، قال:
لما ملك الأمير عماد الدولة، أحمد بن بويه «2» ، شيراز، ظهر له من الكنوز القديمة، والقريبة، أمر عظيم، على أوصاف طريفة.
فكان منها: إنّه دخل مستراح دار الإمارة، التي يسكنها، فسقطت عليه حيّة من سقف المستراح «3» ، وكان أزجا «4» عتيقا، فارتاع لذلك، وأمر بنقضه، فوجد فيه خمسين ألف دينار عينا.(1/343)
183 الأمير عماد الدولة يجد كنزا في خان مهجور
قال «1» : وكنت قائما بحضرته «2» يوما، فسعي إليه ببيت في خان في السوق، وأنّ فيه ودائع عظيمة القدر، لبعض أصحاب ياقوت «3» .
فقال لي: امض فخذها [100 ط] .
فجئت، وفتحت الباب، وإذا بشيء كثير، فاستدعيت كاتبا آخر، وجلسنا نحصي.
فوقعت عيني على بيت في آخر الخان، مقفل بعدّة أقفال، قد رثّت، لعتقها، ووقع في نفسي أنّ فيه وديعة أخرى لبعض أصحاب السلطان.
فقلت للخانيّ: لمن هذا البيت، وأىّ شيء فيه؟
فقال: لا أدري، إلّا أنّه مقفل منذ أكثر من ثلاثين سنة.
فقوي طمعي فيه، فقلت: افتحوه، ففتحوه، فلم يجدوا فيه شيئا.
فاستربت بالأمر، وقلت: بيت عليه عدّة أقفال، طول هذه السنين، فارغ؟ هذا محال، فتّشوه.
وفتّش بدن الحائط، فلم يجدوا شيئا.
فقلعت بارية فيه، وأمرت بالحفر، فحفر، ولم نر شيئا.
وعزمنا على الانصراف، فوجدنا خمس قماقم مملوءة دنانير، فحملناها إلى الأمير، وحدثته بالحديث، فوهب لي منها، ألف دينار.(1/344)
184 الأمير معزّ الدولة يستخرج كنزا من المدائن
ومن ذلك «1» : ما أخبرني به الحسين بن محمد بن الحسين الجبائيّ، قال:
حدّثني أبو الحسن الدامغانيّ، صاحب معزّ الدولة:
إنّه كان جالسا في الدهليز، في يوم نوبة، فجاء رجل يصيح: نصيحة.
فقلت له: ما هي؟
قال: لا أخبر بها إلّا الأمير.
فدخلت، فعرّفته، فقال: هاته، فأدخلته إليه.
فقال: أنا رجل صيّاد بناحية المدائن «2» ، وكنت أصيد، فعلقت شبكتي، في أسفل جرف بشيء، ولم أدر ما هو، فخلّصتها، فتعذّرت، فغصت في الماء، فوجدتها متعلقة بعروة حديد، فحفرت، فإذا بقمقم مملوء، فرددته إلى مكانه، وجئت أعرّف الأمير.
فقال لي: انحدر الساعة معه، وأحضرني المال. وردّ الرجل إليّ على حاله.
فانحدرت، وجئت إلى المدائن العتيقة، والجرف، ووجدنا القمقم بحاله، كما قال الرجل.(1/345)
فتتبّعت نفسي الطلب، وأمرت بأن يحفروا، ويطلبوا.
فحفروا، وأطالوا الحفر كثيرا، فوجدنا ثمانية قماقم أخر «1» ، مالا.
فحملت الجميع، والرجل، إلى الأمير، وحدثته بالحديث، ففرح بذلك، وقال: أعطوا الرجل من المال عشرة آلاف درهم، واصرفوه.
فقال الرجل: لا أريد ذلك، ولا حاجة لي إليه.
فقال له الأمير: ولم؟
قال: أريد أن تهب لي الصيد في تلك الناحية، وتأمر بأن يمنع كلّ أحد من أن يصطاد فيها غيري.
فضحك الأمير، وجعل يعجب من حماقته. وقال: اكتبوا له بما سأل.
فكتب له بذلك.(1/346)
185 كردك النقيب الديلميّ يغتال مستأمنا طمعا في ماله
ومنها «1» : ما جرى في عصرنا، وأخبرت به، من أمر كردك النقيب «2» :
وذلك، إنّ معزّ الدولة، أنفذه إلى رجل بعمان «3» ، يقال له النوكاني، كان قد ملكها عقيب انقراض بني وجيه، ملوكها، فراسله في تسليمها إليه، وتهدّده بالجيش.
وكان الرجل تاجرا موسرا، إلّا انّ أهل البلد ملّكوه، فملك.
فلمّا جاءته الرسالة، انحلّ، وأجاب إلى تسليم البلد [101 ط] . وخلع على كردك وردّه.
فاضطرب أهل البلد عليه، وجيشه، وثاروا به، وقبضوا عليه، وخيّروه موضعا ينفى إليه، فاختار البصرة.
وجمع متاعه، وأمواله، وصكاك ضياعه وعقاره، بعمان، والبصرة، وحسابه، وثبت ودائعه، وذخائره، وكلّ ما يملكه، من قليل، وكثير، وعتيد.
قال: وجعله في مركب، وخطف يريد البصرة، وقد احتوى مركبه على مال كثير.(1/347)
فلقيه كردك في الطريق يريده، وعنده أنّه بعمان، بجواب الرسالة.
فلما رآه طرح إليه، فعرّفه خبره. فوجده في نفر يسير، فطمع فيه، وبات معه في مركبه، ونقل إليه من غلمانه قطعة.
فلما كان الليل، قيّده، وطرحه في البحر، واحتوى على جميع ما في المركب، ونقل، إلى مركبه، من الجواهر، والطيب، وفاخر المتاع، والجواري، ما أراد، وترك الباقي في المركب.
وسار حتى أتى معزّ الدولة، فعرّفه ما عمل، وسلّم إليه عقود الضياع «1» ، وثبت الودائع «2» ، واستوهب منه من بقي من الجواري، وأشياء أرادها أيضا من المتاع، فوهبها له.
وطاح دم الرجل.
وقبض الأمير الضياع، وأمر ببيعها، فبيعت، وقد شاهدت بيعها.
وبلغني، أنّ المشترين، كانوا يستلمون كتب الرجل بشرائها، فتسلّم إليهم.(1/348)
186 ابن الحراصة يضمن القمار والفجور ببغداد وحماية اللصوص بألفي درهم في كلّ شهر
ومن ذلك «1» : ما كان يجري ببغداد من رجل يعرف بابن الحراصة، نفّاط، مع قائد من قوّاد الديلم، يقال له أبو الحسن شير مردي بن بلعباس قاضي الديلم.
وكان هذا النفّاط، مظهرا للقمار، والعيارة، والفجور، وبيع الخمور، وتأوي إليه اللصوص، فلا ينكر أحد ذلك عليه، لأجل شير مردي، وضمانه ذلك منه، بألفي درهم، في كلّ شهر.
وبلغني: أنّه كان إذا عجز عليه مال الضمان، قبض على من يجتاز ببابه، ويدخلهم فيها، ويقال لهم: إمّا وطئتم ما تريدون، ووزنتم كذا وكذا، أو لا، فزنوه وانصرفوا، ولا يخرجون إلّا بذلك.
وكان ينزل الجانب الشرقيّ، بقرب الجسر، وباب الطاق، في الموضع المعروف ببين القصرين، بدار الجاشياريّ، على دجلة.(1/349)
187 ابن الحراصة ترتكب الفاحشة في داره علانية
فحدّثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال «1» :
اجتزت بداره «2» من الشط، فرأيت في صحنها، ظاهرا بغير استتار، نفسين يتجامعان.
فقلت لمن كان معي في السماريّة «3» ، اعدلوا بنا ننكر هذا.
فطرحنا إليهما، وأخذت الجماعة ترجمهما من الشطّ، وتستنفر الناس.
فقال بعض من معنا: لعنكما الله، ما كان في الدار بيت تدخلون فيه؟
فذكرت في الحال ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: عند ظهور المنكر، أشدّ الناس أمرا بالمعروف، من يقول ألا تواريتما، أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم.
ونزل إلينا أصحاب ابن الحراصة، فخفنا منهم على نفوسنا، وجلسنا في السمارية، وانصرفنا [102 ط] .
فلم يزل كذلك، إلى أن زاد الأمر، وأكثر على معزّ الدولة في استقباح ذلك، فأمر بكبسه، فهرب، وتفرّقت جموعه.(1/350)
188 إمرأة تشوي ولدها وتأكله
ومنها «1» : إنّ أحمد بن إبراهيم الجعفي، أحد شهودي- كان- بقصر ابن هبيرة «2» ، وأنا أتقلّدها، إذ ذاك، أخبرني:
إنّه شاهد في وقت الغلاء الشديد الذي كان ببغداد، ونواحيها، في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، امرأة قد شوت ولدها، وجلست تأكله «3» .
ففطن المسلمون بها، فأخذوها، وبقيت معها حتى حملوها إلى السلطان، فقتلها.
وقد أخبرني عدد كثير من أهل بغداد، أنّ هذا جرى عندهم في هذا الوقت، وأنّهم شاهدوه.
واختلف عليّ قول بعضهم، لأنّ فيهم من قال: شوت ابنا لجارة كانت لها، ومنهم من قال: ابنا لها، ومنهم من قال: ابنة جارتها.
وأيّ شيء حصل من ذلك، فهو طريف «4» عظيم.(1/351)
189 عشرون ألف درهم ثمن كرّ واحد من الحنطة
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش القاضي، قال: حدّثني أبو عبد الله الموسويّ العلويّ، البغداديّ:
إنّه باع في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، عند اشتداد الغلاء «1» ، على معزّ الدولة، وهو محاصر، مقيم بظاهر بغداد من الجانب الغربيّ «2» ، كرّا معدّلا «3» حنطة، بعشرين ألف درهم.
قال: ولم أخرج الغلّة حتى تسلّمت المال، وحصل في داري، ثم أخرجت الغلّة فاكتالوها، وأخذوها.
فنعوذ بالله من مثل هذه الأحوال.(1/352)
190 أبو الفرج الببغاء يمتدح الأمير سيف الدولة
أنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المعروف بالببغاء، لنفسه قصيدته إلى سيف الدولة، يذكر وقعة كانت له مع بعض العرب، وهي:
عدل الصوارم أعدل الأحكام ... وشبا الأسنّة أكتب الأقلام
أخلق بمن كفر الغنى أن يغتدي ... كفرانه سببا إلى الإعدام
من كان في الإكرام مفسدة له ... فهوانه أولى من الإكرام
هذان البيتان من الأمثال الجياد، التي يجب أن تسير.
وفي هذه القصيدة أشياء حسان، منها قوله:
فتركتهم صرعى كأنّك بالظبى ... عاطيتهم في الروع كأس مدام
متهاجرين على الدنّو كأنّما ... أنفت رؤوسهم من «1» الأجسام «2»
تمّ الجزء الأول ويتلوه في الجزء الثاني بمشيئة الله:
قد قدّمت في الجزء الأول الحمد لله والثناء عليه وذكرت من الأخبار ما لم تدر، ممّا لم تجر العادة بكتب مثلها، ولا ما يكاد أن يتجاوز به الحفظ «3»(1/353)
محتويات الكتاب
5 مقدّمة المحقّق
17 ترجمة المؤلّف
1 مقدّمة المؤلّف
15 1 لماذا لا يكذبون على الوزير أعزّه الله
17 2 الوزير ابن الزيّات يذكر البرامكة وهو في التنّور
18 3 أبو الشبل يقارن في الكرم بين البرامكة وبين عبيد الله بن يحيى بن خاقان
20 4 الحسن المنجّم عامل معزّ الدولة على الأهواز وحبّه للعمارة
22 5 الوزير حامد بن العباس يرى قشر باقلاء في دهليز داره
24 6 الوزير حامد بن العباس يخبئ أربعمائة ألف دينار في بئر مستراح
25 7 مصادرة التاجر ابن الجصّاص في زمن المقتدر زادت على ستّة ملايين دينار
26 8 ابن الجصاص التاجر يبقى له بعد المصادرة مليون دينار
29 9 حكاية تدلّ على دهاء التاجر أبي عبد الله بن الجصّاص
36 10 حكاية تدلّ على ذكاء التاجر أبي عبد الله بن الجصّاص
37 11 مروءة التاجر بن الجصّاص واتّساع حاله
38 12 ثلاثون جاما في تركة يأنس الموفّقي ثمنها ثلاثة ملايين دينار(1/355)
41 13 مروءة الوزير حامد بن العباس ومكارم أخلاقه
42 14 الوزير عليّ بن عيسى وصاحب ديوان السواد
46 15 حكايات عن وقار الوزير عليّ بن عيسى وزماتته
47 16 حكاية عن تزمّت القاضي أبي جعفر بن البهلول
48 17 بين الوزير عليّ بن عيسى والوزير أبي عليّ بن مقلة
51 18 تزمّت الوزير عليّ بن عيسى وتخشّنه
52 19 الوزير عليّ بن عيسى يفرض على ملك الروم أن يحسن معاملة الأسارى المسلمين
56 20 ابن رزق الله التاجر البغداديّ يوقف في بلاد الروم أكسية لتدفئة أسارى المسلمين
57 21 شخص متعطّل، زوّر كتابا عن لسان الوزير ابن الفرات، إلى عامل مصر
60 22 أبو عمر القاضي يعامل بالجميل، رجلا زوّر عنه رقعة بطلب التصرّف
63 23 أراد أن يزوّر على رجل مرتعش اليد
64 24 الوزير ابن مقلة يزوّر عليه أخوه
65 25 عمران المملكة أساس صلاح الرعيّة
66 26 الوزير بن الفرات يحسن إلى خيّاط
68 27 الوزير المهلّبي يحسن إلى كوّاز
69 28 من مكارم أخلاق الوزير أبي محمد المهلّبي
72 29 الوزير المهلّبي وأبو عبد الله الأزدي الموصلي
74 30 عطايا الوزير المهلّبي متواصلة
75 31 الوزير القاسم بن عبيد الله، يأمر أستاذه بالارتفاق(1/356)
78 32 الوزير عبيد الله بن سليمان، يبيح جزءا من مال الدولة لأحد صنائعه.
82 33 الوزير عبيد الله بن سليمان ورقاع إسماعيل القاضي
83 34 الوزير ابن مقلة يتبرّم برقاع ذوي الحاجات
84 35 الوزير عليّ بن عيسى ورقاع أبي بكر الشافعي
85 36 الوزير عليّ بن عيسى ومحمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشميّ
86 37 الوزير أبو محمد المهلّبي ومحمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشميّ
89 38 لو سلم من العشق أحد، لسلم منه أبو خازم القاضي
91 39 علويّ يفتخر بنفسه
92 40 ابن قناش الجوهري يصف دجلة
92 41 في هجاء مغنّ طنبوريّ
93 42 للكاتب بشر بن هارون في هجاء أحد خلفاء القضاة ببغداد
94 43 بشر بن هارون الكاتب يشكو من رئيسين صرف أحدهما بالآخر
95 44 أبو نصر البنص في مجلس سيف الدولة يعلّل سبب تسميته بالبنص
96 45 أبو نصر البنص في مجلس أبي بكر بن دريد
97 46 أبو نصر البنص وصاحب الشرطة
98 47 بين الأمير معزّ الدولة ووزيره أبي جعفر الصيمري
99 48 المدائني يتماجن على شيخ صوفيّ
100 49 أبو أحمد الحارثي وصوفيّ يترنّم بالرباعيّات(1/357)
100 50 الشافعي وغلام الهرّاس
101 51 أبو محمد الواسطي والمغنّية التي يهواها
103 52 أبو الفرج الببغاء يمدح سيف الدولة
104 53 القاضي أبو بكر بن سيّار وحساب الأصابع
108 54 هندي يقتل فيلا بحيلته من غير سلاح
110 55 ملك الهند يحاور الحكماء من رعيته
112 56 الصيمريّ وزير معزّ الدولة يرفق بأحد المصادرين
113 57 مهاترة بين بصريّ وسيرافيّ
114 58 الوزير أبو محمد المهلّبيّ وحد الإقبال والإدبار
115 59 من شعر أبي الفرج الببغاء
116 60 لأبي الفرج الببغاء في الأمير سيف الدولة
117 61 من مكارم أخلاق أبي المنذر النعمان بن عبد الله
120 62 من مكارم أخلاق أبي المنذر النعمان بن عبد الله
122 63 أبو القاسم بن الحواري وعظيم برّه بأمّه
124 64 أبو عصمة الخطيب وأهل عكبرا
125 65 أصل نعمة سليمان الثلاج في بغداد
128 66 بغداد في أيام المقتدر
131 67 أحاديث في احتباس الحمل
132 68 قد ينال الإنسان باللين ما لا ينال بالشدّة
136 69 الحجّاج بن يوسف الثقفي يأمر بتعذيب آزاد مرد
138 70 الأمير معزّ الدولة اليويهي ووزيره أبو محمد المهلّبي
142 71 الأمير معزّ الدولة وحدّة طبعه
143 72 من مكارم أخلاق الأمير سيف الدولة(1/358)
144 73 الخليفة المعتضد يعذّب شخصا حاول الخروج عليه
147 74 بابك الخرمي وجلده وصبره على العذاب
149 75 عافية الباقلّاني وخالد الحذّاء يسيران حافيين على باب حديد محميّ
151 76 كيف قتل الخليفة المعتضد وزيره إسماعيل بن بلبل
152 77 الخليفة المعتضد يقتل آخر بسدّ جميع منافذه
153 78 قرطاس الرومي وكيف عاقبه المعتضد
156 79 من طريف حيل اللصوص- 1
157 80 من طريف حيل اللصوص- 2
159 81 القصريّ غلام الحلاج كان يصبر على الجوع خمسة عشر يوما
161 82 ما اشترطه أبو سهل بن نوبخت، لكي يؤمن بدعوة الحلّاج
162 83 الحلّاج في مجلس الوزير حامد بن العباس
165 84 طرائف من مخاريق الحلّاج
169 85 من أقوال الحلّاج وتواقيعه
170 86 ضرب العود يماثل صوت الهيب في أصول النخل
171 87 أبو جعفر الصيمريّ وزير معزّ الدولة يسخف في مجلس العمل
172 88 أبو عليّ الجبائي والحلّاج
173 89 بعض اعتقادات أصحاب الحلّاج
174 90 خال المؤمنين عند الحلّاجيّة- 1
175 91 خال المؤمنين عند الحلّاجيّة- 2
177 92 من أخبار متخلّفي المورثين- 1(1/359)
178 93 من أخبار متخلّفي المورثين- 2
184 94 ابن الدكيني يرث عن والده خمسمائة ألف دينار
185 95 وآخر بالبصرة ورث عن والده مائة ألف دينار
186 96 تاجر من العسكر يحاسب ولده على ما أتلف من المال
187 97 أحمد الخراساني صاحب ابن ياقوت
188 98 ابن وسنا الخزاعي والكلام الذي يطيّر الآجر
189 99 درّة الرقّاص الصوفي وأبو غالب بن الآجري
190 100 آخرة أبي غالب بن الآجري
191 101 درة الصوفي يتحدّث عن المورثين
192 102 فصل من كتاب كتبه القاضي التنوخيّ إلى رئيس
193 103 أبو الحسن الموصلي كاتب أبي تغلب، والسيدة جميلة ابنة ناصر الدولة
195 104 عليّة بنت المهدي تتحامى اسم طلّ
195 105 امرأة بغداديّة تتظرّف فتحرّف القرآن
196 106 بجكم أمير الأمراء وفتوة جارية الهاشمية
197 107 أبو العباس البغدادي وانفاقه ماله في الفساد
199 108 كلّ نفس آتيناها هداها
201 109 ما للماء للماء وما للخمر للخمر
202 110 قرود اليمن ترجم الزاني والزانية
203 111 دبّ في شيراز ينفخ في زق حدّاد
203 112 دبّ يضرب بمطرقة حدّاد
204 113 خاقان المفلحي يستطيب لحم الدبّ والضبع
205 114 وصف له الطبيب فرّوجا فأكل مهرا(1/360)
206 115 وظيفة خاقان المفلحي في كل يوم من اللحم ألف ومائتا رطل
207 116 وظيفة الوزير أبي الفرج بن فسانجس من اللحم في كل يوم
208 117 كفى بالأجل حارسا
209 118 عريان أعزل يصيد الأسد
211 119 لئيم يفخر بلؤمه
221 120 كيف تاب ابن أبي علان من التصرّف
225 121 أبو فراس الحمداني من مناجيب بني حمدان
228 122 كيف أسر أبو فراس الحمداني
231 123 إذا اختلّ أمر القضاء في دولة، اختلّ حالها
234 124 من محاسن الأحوص الغلابيّ القاضي بالبصرة
238 125 أبو عمر القاضي يقلد ابنا لأحمد بن حنبل القضاء ثم يصرفه
239 126 أبو خازم القاضي يغضب إذا سمع مدحا للقاضي بأنّه عفيف
240 127 إسراع الناس إلى العجب ممّا لم يألفوه
242 128 من قدّم أمر الله على أمر المخلوقين كفاه الله شرهم
245 129 القاضي أبو محمد البصريّ والد القاضي أبي عمر يؤدّب مملوكا من وجوه مماليك الخليفة المعتضد
246 130 قاضي همذان يمتنع عن قبول شهادة رجل مستور
247 131 الصفح الجميل عفو بلا تقريع
248 132 بين الأصبهاني الكاتب والخوميني عامل سوق الأهواز
249 133 شيخ من الكتاب ينصح أبا الحسين بن عيّاش(1/361)
251 134 أبو يوسف القاضي واللوزينج بالفستق المقشور
252 135 سبب اتّصال أبي يوسف القاضي بالرشيد
254 136 أنس الرشيد بأبي يوسف القاضي
255 137 كيف نصب أبو جعفر بن البهلول قاضيا
258 138 ارتفاع محل القاضي ابن البهلول في دولة المقتدر
260 139 الحسين بن القاسم بن عبيد الله يتصرّف تصرّفا يكون أوكد الأسباب في عزله عن الوزارة
262 140 عدد الشهود الذين قبلهم القاضي التيميّ بالبصرة
263 141 أسد بن جهور، وما فيه من سوداء ونسيان
264 142 المتوكل يختار فتى لمنادمته
266 143 المعتضد يلاعب ابن حمدون بالنرد
268 144 المعتضد يسدد دين نديمه مرتين
270 145 بين ابن المدبّر وعريب
274 146 الزجّاج يدرس النحو على المبرّد
276 147 بيتان من نظم أبي محمد الشامي كاتب الأمير سيف الدولة
277 148 ليحيى بن محمد في مواهب المغنّية
279 149 لابي الفرج الببغاء في الأمير سيف الدولة
280 150 لأبي الفرج الببغاء يعزّي الأمير سيف الدولة بولده أبي المكارم
281 151 سيف الدولة يقيم الفداء مع الروم على شاطئ الفرات
282 152 رأي أحد القضاة في الخليفة المقتدر
283 153 المؤتمن أبو القاسم سلامة، يتحدث عن صحّة تفكير الخليفة المقتدر(1/362)
284 154 حديث القاضي أبي طالب بن البهلول مع الخليفة المقتدر
287 155 الخليفة المعتضد يتنبأ بأنّ ضياع الدولة يجري على يد ولده المقتدر
292 156 يقال إنّ جميع الغوالي استعملت في الوحل الذي عملته السيّدة أم المقتدر
293 157 أنموذج من إسراف السيّدة أم المقتدر
295 158 أنموذج من إسراف الخليفة المقتدر
296 159 أنموذج من إسراف الخليفة الراضي
298 160 الراضي يأمر لكل واحد من ندمائه بوزن الآجرّة دراهم
300 161 ختم الراضي الخلفاء في أمور عدّة
301 162 أنموذج من إسراف المتوكل
303 163 الوزير المهلّبي يشتري لمجلس شرابه وردا بألف دينار
304 164 أبو القاسم البريدي يشرب على ورد بعشرين ألف درهم
305 165 كان أبو العباس الشامي نخّاسا فأصبح قوّادا
306 166 أبو العباس الشامي النخّاس كان صفعانا طيّبا
307 167 أبو العباس الشامي النخّاس يطلب من القاضي قبوله للشهادة
308 168 الوزير المهلّبي والشامي النخّاس
309 169 أبو مخلد يستولي على دست مجلس معز الدولة
310 170 أبو مخلد يستولي على طنفسة رآها في مجلس الخليفة المطيع
311 171 ابن دية الأنماطي يقوّم ثمن قسم من فرش أبي مخلد بمائتي ألف دينار
312 172 الشيخ الخياط وأذانه في غير وقت الأذان
319 173 مثل على تيقّظ المعتضد وعلوّ همته(1/363)
322 174 التفريط في حدود أذربيجان أدّى إلى فساد المملكة
326 175 مثل آخر على تيقّظ المعتضد وعلوّ همّته
329 176 مثل على ضبط المعتضد أمر جنده وتشدّده في منعهم من التعدّي
331 177 شدّة ضبط المعتضد عسكره
334 178 بين المعتضد، ونديمه، ووزيره
338 179 عاشق تسبّب في قتل حبيبته وزوجها
340 180 كلب يكشف عن قاتل سيده
342 181 خبأ ماله في برنيّة، فعجل ذلك في سرقتها
343 182 الأمير عماد الدولة بن بويه، تقع عليه حيّة فيجد كنزا
344 183 الأمير عماد الدولة، يجد كنزا في خان مهجور
345 184 الأمير معزّ الدولة، يستخرج كنزا من المدائن
347 185 كردك النقيب الديلمي، يغتال مستأمنا طمعا في ماله
349 186 ابن الحراصة يضمن القمار والفجور ببغداد وحماية اللصوص بألفي درهم في كلّ شهر
350 187 ابن الحراصة ترتكب الفاحشة في داره علانية
351 188 امرأة تشوي ولدها وتأكله
352 189 عشرون ألف درهم ثمن كرّ واحد من الحنطة
353 190 أبو الفرج الببغاء يمتدح الأمير سيف الدولة(1/364)
فهرس أسماء الأشخاص
(أ)
إبراهيم بن عيسى- أخو الوزير علي بن عيسى بن الجراح 43، 44
إبليس 169
الأثرم- أبو العباس 20
ابن الأثير- عز الدين علي بن محمد الشيباني 28
الآجري- أبو غالب 189، 190، 192
ابن أحمد بن حنبل- القاضي 238
أبو أحمد- الأمير الموفق طلحة بن المتوكّل
أبو أحمد بن الحسين بن يوسف- عامل الأهواز 221
أحمد بن طولون 236
أحمد بن الطيّب- السرخسي
أحمد بن عمر بن حفص 186
الآدمي- البزاز البصري 307
أردشير بن بابك 213
أزادمرد بن الفرند 136
الأزدي- أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد الأزدي القاضي 82 256، 257، 262
الأزدي- أبو علي الحسن بن إسماعيل بن إسحاق القاضي 326
الأزدي- أبو عبد الله محمد بن سليمان بن فهد الموصلي 72(1/365)
الأزدي- أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الموصلي 17، 72، 264، 266، 268، 276، 277
أبو إسحاق- صاحب الطبقات 235
أسماء بنت المنصور 180
إسماعيل بن بلبل- أبو الصقر الوزير 42، 45، 151، 256، 257
الأشعث بن قيس- الكندي
الأصبهاني- أبو بكر أحمد بن عبد الله بن سعيد 248
الأصبهاني- أبو العباس أحمد بن عبد الله الأصبهاني الكاتب 231
الأصبهاني- أبو الفرج علي بن الحسين صاحب الأغاني 32، 18، 19، 38، 74
الأصبهاني- أبو القاسم سعيد بن عبد الرحمن الكاتب 112
اغورج- بطريق رومي 228
الآمدي- أبو القاسم الحسن بن بشر 89
امرؤ القيس 225
أبو أميّة القاضي- الغلابي
الأمير الناصر- الموفق طلحة بن المتوكل
الأنباري- أبو علي أحمد بن جعفر بن إبراهيم الحصيي 258
الأنباري- جعفر بن إبراهيم الحصيني 255
الأنباري- أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب 72، 287، 292
الأنماطي- ابن دية 311
الأهوازي- أبو بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم الشاهد 165
ابن أبي أيوب- أبو محمد الواسطي 101
(ب)
ابن البازيار- أبو علي 95
بابك الخرمي 147(1/366)
الباقلاني- عافية 149
الببغاء- أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي 91، 103، 115، 116، 225، 230، 276، 279، 280، 281، 353
بجكم- الماكاني، أمير الأمراء 10، 19، 196
البحتري- أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي 151، 228
البخاري- أبو نصر أحمد بن عمرو القاضي 238
بختيار- أبو منصور عز الدولة بن معز الدولة 71، 94، 138، 193، 277، 278
بدر- غلام المعتضد 316، 317، 326
بدر اللاني- 144، 153
بدعة- جارية عريب 89، 271
بدعة الدرونية 197
البرامكة- بنو خالد بن برمك 16، 17، 18، 19، 69، 252
البربهاري- الحسن بن علي بن خلف 28
البربير- الشيخ أحمد 104
البرجمي- أبو الشبل عاصم بن وهب 18، 19
البرسي- أبو الحسن عامل البصرة 293
آل برمك- البرامكة
البرمكي- جحظة، أبو الحسن أحمد بن جعفر 26
البرمكي- خالد 19
البرمكي- الفضل بن يحيى بن خالد 19
البرمكي- أبو الفضل يحيى بن خالد 18، 19
البريدي- أبو الحسين عبد الله بن محمد 20، 190
البريدي- أبو عبد الله أحمد بن محمد 18، 19، 20، 190، 217، 219، 284، 305
البريدي- أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمد 175، 176، 190، 304، 305،
البريدي- أبو يوسف يعقوب بن محمد 20، 305، 306(1/367)
البريديون- آل البريدي 20، 68، 142
البستي- أبو الفتح علي بن محمد بن الحسين بن يوسف 93
بشر بن هارون النصراني الكاتب، أبو نصر 93، 94
البصري- أبو محمد يوسف بن يعقوب بن حماد- والد القاضي أبي عمر 245
ابن بطوطة- محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي 312
البغدادي- أبو العباس 197
البغدادي- أبو القاسم 277
ابن بقيّة- وزير بختيار 24
البنص- أبو نصر 95، 96، 97
ابن البهلول- التنوخي أبو جعفر القاضي
بوران- خديجة بنت الحسن بن سهل 302
البومني- أبو محمد الحسن بن محمد البصري 170
بويه- بنو 247، 325
ابن البيطار- ضياء الدين بن عبد الله بن أحمد الأندلسي المالقي 2
(ت)
التازي- محمد بن عمر البغدادي، ابن عتاب السقطي 85، 337
تجنّي- محظية الوزير المهلّبي وأم أولاده 278
تحفة- جارية عريب المأمونية 271
تره- محمد بن أحمد
التنوخي- 9
التنوخي- القاضي أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول 17، 18، 10، 47، 136، 163، 242، 243، 249، 255، 257، 258، 259، 260
التنوخي- أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق 24، 9، 42، 46، 114، 144، 153، 159، 161، 172، 186، 188، 227، 255، 258، 274،(1/368)
283، 322، 342، 350
التنوخي- إسحاق بن البهلول 255
التنوخي- أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول 47، 65، 150، 242، 255، 260
التنوخي- القاضي أبو القاسم علي بن محمد، والد المؤلّف 5، 17، 18، 19، 20، 28، 29، 30، 31، 46، 66، 152، 218، 219، 245، 252، 254، 282، 284، 289، 319، 334
التنوخي- القاضي أبو القاسم عليّ بن المحسّن، ابن المؤلف 5، 27، 28، 29، 32، 7، 155، 192، 220
التنوخي- محمد بن داود بن إبراهيم، جد المؤلف 17
التنوخي- القاضي محمد بن علي بن المحسّن التنوخي 28
التنوخي- القاضي أبو عليّ المحسّن بن عليّ، مؤلف النشوار 5، 8، 9، 11، 13، 14، 17، 19، 20، 21، 22، 23، 24، 25، 26، 27، 28، 29، 30، 31، 32
التنوخي- أبو طالب محمد بن أبي جعفر بن البهلول 255، 284
التنوخي- أبو بكر الأزرق، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول الأنباري 10، 42، 144، 153
توزون- أبو الوفاء، أمير الأمراء 20، 277
تيمور- أحمد تيمور 6، 3، 5، 6، 26، 37، 73، 144، 212، 289
التيمي- أبو الأغر بن أبي شهاب 149
التيمي- القاضي بالبصرة 162
(ث)
الثعالبي- أبو منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري 31، 103
ثعلب- أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار 274، 296(1/369)
(ج)
ابن جان بخش- 174، 175
الجبائي- الحسين بن محمد بن الحسين 345
الجبائي- أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام 10، 172، 221
الجراح- محمد بن داود 25
ابن الجصّاص- أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الجوهري 21، 25، 26، 29، 31، 36، 37، 40
ابن الجصّاص- أبو عليّ بن أبي عبد الله 21، 29
جعفر الصادق- الإمام 6
جعفر بن المعتضد- المقتدر
الجعفي- أحمد بن إبراهيم 351
الجنّابي- أبو طاهر القرمطي 199
الجهنيّ- أبو القاسم 19، 38، 74، 263، 295، 301، 338
ابن جهور- أسد، عامل الكوفة 263
جواد- الدكتور مصطفى 275
ابن الجوزي- أبو الفرج عبد الرحمن بن علي 8، 77، 338
الجيلي- طاهر 98
(ح)
ابن حاجب النعمان- أبو عبد الله بن عبد العزيز بن إبراهيم 69
ابن حاجب النعمان- أبو الحسين عبد العزيز بن إبراهيم 69، 70
الحارثي- أبو أحمد عبد الله بن عمر 100، 101، 331
الحاجي- علي بن الحسين 299(1/370)
حامد بن العباس- الوزير 22، 23، 24، 41، 43، 122، 159، 162
ابن الحجّاج- أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد الشاعر 23، 31، 93، 277
الحجّاج بن يوسف الثقفي- 136، 137، 215
ابن حدبنا- صاحب الربع 231
ابن أبي الحديد- عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني 170
الحذّاء- خالد 149
ابن الحراصة- 349، 350
ابن حرب- جعفر المعتزلي 10، 223
ابن الحرث- أبو الحسن صاحب الوزير سليمان بن الحسن بن مخلد 285، 286
الحسن بن علي 18
الحسن بن علي- أبو محمد الإمام 264
الحسن بن هارون- أبو علي 50، 277
أبو الحسين القاضي- عمر بن يوسف 208، 240، 249
الحسين بن علي- أبو عبد الله الإمام 264
الحسين بن غريب البقال 188
الحسين بن القاسم بن عبيد الله 260، 261
الحشمي- محمد بن أحمد 136
أبو الحصين- القاضي علي بن عبد الملك الرقي- الرقي
الحلاج- أبو المغيث الحسين بن منصور 10، 159، 161، 162، 164، 165، 169، 172، 173
حلوز بن باعلي 175
الحمداني- أبو فراس الحارث بن سعيد 30، 225، 226، 228، 229، 281
الحمداني- محمد بن ناصر الدولة الحسن 25، 228
الحمداني- أبو المكارم بن سيف الدولة 280
الحمداني- سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله 18، 18، 38، 95، 103، 225، 228، 229، 230، 276، 279، 280، 281، 353(1/371)
الحمداني- أبو المعالي، سعد الدولة، شريف بن سيف الدولة 226، 227
الحمداني- فضل الله بن الحسن، أبو تغلب 26، 193
الحمداني- ناصر الدولة الحسن بن عبد الله 72، 204، 231
الحمدانية- جميلة بنت ناصر الدولة 193، 194
ابن حمدون- إبراهيم 264
ابن حمدون- أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم 264، 265، 301
ابن حمدون- أبو جعفر 264، 266، 268، 296
ابن حمدون- أبو محمد عبد الله بن أحمد 264، 266، 268، 301، 319، 321 331، 334، 337
حمولي- أبو علي أحمد بن موسى 309
الحموي- شهاب الدين ياقوت بن عبد الله البغدادي 8، 17، 18، 232
ابن حنزابة- أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات- ابن الفرات أبو حنيفة- النعمان بن ثابت ابن الحواري- أبو القاسم عليّ بن محمد 60، 61، 62، 122، 123، 283
الحيّاني- الفضل بن أحمد 84، 100
(خ)
أبو خازم القاضي- عبد الحميد بن عبد العزيز 89، 90، 239
خاطف المغنّية- التي تغنّي بالقضيب 24
خاقان المفلحي 204، 206
الخاقاني- محمد بن عبيد الله بن خاقان 29، 42
ابن أبي خالد- إسماعيل المحدّث 131
ابن خانجير 174، 175
خديجة بنت الحسن بن سهل- بوران(1/372)
الخراساني- أحمد، صاحب بن ياقوت 187
الخراساني- أبو حامد أحمد بن بشر بن عامر 97، 98
ابن خربان- أبو القاسم علي بن محمد، كاتب ابن أبي علان 211
الخرقي- إسحاق الشيرازي 293
الخرمي- بابك
الخصيبي- أحمد بن عبيد الله، الوزير 322
الخطيب البغدادي- أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت 8، 136
الخفاف- أبو القاسم عبيد الله بن محمد 156، 157
خمارويه- ابن أحمد بن طولون 204
الخوارزمي- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف 2
الخوميني- أبو عبد الله، عامل سوق الأهواز 248
(د)
ابن داسه- أبو عمر أحمد بن عبد الله بن أحمد بن بكر البصري 202
ابن داسه- عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن بكر 113
ابن داسه- أبو محمد عبد الله بن أحمد بن بكر 36، 56، 199
الدامغاني- أبو الحسن، صاحب معز الدولة 345
ابن درستويه- أبو محمد عبد الله بن جعفر النحوي 274
درّة الرقاص الصوفي- 189، 190
ابن دريد- أبو بكر محمد بن الحسن 10، 96
ابن الدكيني- المورث 184
دلويه- أبو محمد، كاتب نصر القشوري، حاجب المقتدر والقاهر 155
الديلمي- أسفار بن شيرويه 323، 324
الديلمي- ما كان 323(1/373)
(ر)
الراضي- الخليفة محمد بن جعفر المقتدر 65، 95، 196، 249، 277، 296، 298، 299، 300
الرامي- أبو الحسن 91
ابن رائق- الأمير أبو بكر محمد بن رائق أمير الأمراء 19، 38
الربيع ابن حبيب بن عمرو الفراهيدي- 235
الرجب- قاسم محمد، صاحب مكتبه المثنى 12
ابن رزق الله- التاجر البغدادي 56
الرشيد- هارون بن المهدي 30، 19، 195، 251، 252، 254، 302
رشيق- خادم الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان 18
أبو رفاعة- ابن كامل، أحد خلفاء القضاة ببغداد 93
الرقّي- أبو الحصين، القاضي علي بن عبد الملك 228
ركن الدولة- أبو علي الحسن بن بويه 25، 128، 138، 325
الرميكيّة- زوجة المعتمد بن عباد اللخمي، صاحب إشبيلية 292
ابن الرومي- علي بن العباس الشاعر 75، 151
(ز)
الزاهد- أبو عمر محمد بن عبد الوهاب بن هاشم، غلام ثعلب 296
ابن الزبير- عبد الله، أبو بكر 136
الزجّاج- أبو إسحاق إبراهيم بن السريّ 9، 10، 75، 89، 274
الزجّاج- أبو الحسن 203(1/374)
الزكوريّة- المغنّية 187
زلزل- الضارب بالعود 326
أبو زنبور- الحسين بن أحمد بن رستم المادرائي 57
زهرة- جارية الزكوريّة المغنّية 187
زهرة العجمية- 187
ابن الزيات- الوزير محمد بن عبد الملك 17
زينة- ابنة الوزير أبي محمد الحسن المهلّبي- 278
(س)
سابور ذو الأكتاف 257
ابن أبي الساج- الأمير يوسف 208، 322، 324، 325
الساجي- أبو يحيى زكريا بن يحيى 234
أبو السائب- عتبة بن عبيد الله بن موسى 208، 246
سبط ابن الجوزي- يوسف قز أوغلى 7، 16
سعد بن أبي وقاص- 345
سعد الدولة- ابن سيف الدولة- الحمداني
أبو سعيد- سلطان العراق، ابن محمد خدابنده 312
السفاح- أبو العباس، عبد الله بن علي 257
سقراط- الفيلسوف اليوناني 113
السقطي- ابن عتاب- التازي، أبو السري، محمد بن عمر
ابن سكّرة الهاشمي- الشاعر 23
السكّري- أبو محمد عبد الرحمن بن نصر البصري، صاحب البريديّين 68
ابن السكّيت- يعقوب بن إسحاق إمام اللغة والأدب 264(1/375)
سلامة- المؤمن أبو القاسم، حاجب المقتدر 283
السلامي- أبو الحسن محمد بن عبد الله 91
سليمان- الثلاج 125
سليمان بن الحسن بن مخلد- الوزير 249، 250، 285، 322
ابن سهل- الحسن 144، 302
ابن سهل- الفضل 144، 302
السوسي- أبو زكريا يحيى بن سعيد 19
ابن سيار- القاضي أبو بكر أحمد، قاضي الأهواز 20، 104، 108، 110، 209
السيّدة- أم المقتدر، شغب، مولاة المعتضد 164، 211، 213، 214، 216، 242، 243، 244، 287، 292، 293، 294
سيف الدولة- الحمداني
سيف بن ذي يزن 201
السرخسي- أبو العباس أحمد بن مروان بن الطيّب 129، 332
(ش)
الشابوراي- غالب، غلام الوزير المهلبي 278
شاجي- جارية الأمير عبيد الله بن عبد الله بن طاهر 125، 127
الشارزادي- غالب، غلام الوزير المهلبي 278
الشافعي- أبو بكر، صاحب الوزير علي بن عيسى 84، 100
الشافعي- الإمام محمد بن إدريس 29، 131، 208
الشالجي- عبود، المحامي 3، 12، 32
الشامي- داود اليهودي 205
الشامي- أبو محمد عبد الله بن محمد كاتب سيف الدولة 276
الشامي- أبو العباس النخّاس 304، 305، 306، 307، 308
ابن شاهويه- أبو بكر 26(1/376)
شبيب الخارجي- 213
الشرابي- ابن أبي عمرو أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان، حاجب المطيع 247
الشريف الرضي 31
شغب- أم المقتدر- السيّدة
ابن أبي الشوارب- القاضي الحسن بن عبد الله الأموي 249
ابن أبي الشوارب- القاضي أبو العباس عبد الله بن الحسن الأموي 21، 22
ابن أبي الشوارب- القاضي أبو الحسن محمد بن الحسن بن عبد الله 249
ابن أم شيبان- الهاشمي أبو الحسن محمد بن صالح القاضي
الشيباني- الأمير أبو محمد، جعفر بن ورقاء 21، 26، 83
الشيرازي- أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر 49، 125، 270، 310
الشيرازي- أبو الفضل بن أبي أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي 26
الشيرازي- الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين صهر المهلبي 23، 94، 277
شيرج بن ليلى- 324
ابن شيرزاد- أبو جعفر محمد بن يحيى 20، 138
ابن شيرمردي- أبو الحسن بن بلعباس 349
الشيرواني- أبو بكر بن رستم بن أحمد 14
شيلمه- محمد بن الحسن بن سهل 144، 145، 155
(ص)
الصابي- أبو إسحاق إبراهيم بن هلال 23
الصابي- أبو الحسن هلال بن المحسّن 8، 67، 129
صاحب الزنج- علي بن محمد الورزنيني 144، 153
الصاحب بن عباد- كافي الكفاة إسماعيل 91، 114، 225
صاعد بن ثابت- أبو العلاء 70
صاعد بن مخلد- كاتب الأمير الموفق 16، 138(1/377)
صافي- أحد الساجية 189
صافي الحرمي- الخادم 287، 289
الصدر- محمد 275
الصفار- سعيد البصري 235
الصفار- عمرو بن الليث 16
الصلحي- أبو محمد الكاتب 204، 206
الصوفي- أبو الفرج بن روحان 159
الصولي- أبو بكر محمد بن يحيى 19، 20، 43، 298، 299
الصيمري- أبو جعفر محمد بن أحمد، وزير معز الدولة 46، 98، 112، 139، 171، 248، 277
(ض)
الضبّي- أبو جعفر هارون بن محمد القاضي 89
ابن الضحّاك- موسى بن أبي الفرج 132
(ط)
الطالبيون- آل أبي طالب 289
ابن طاهر- عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب 25
ابن طاووس- رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى 5
الطائع لله- الخليفة عبد الكريم بن الفضل المطيع بن جعفر المقتدر 25، 26، 27، 85، 247
الطبري- أبو إسحاق إبراهيم بن محمد 296
الطبري- أبو مخلد عبد الله بن يحيى 16، 309، 310، 311
الطبيب- أبو بكر سعيد بن هارون 113(1/378)
الطبيب- وهب بن يوسف اليهودي 205
ابن طرخان- أبو القاسم 92
طل- خادم عليّة بنت المهدي 195.
الطولوني- نجح أخو سلامة المؤتمن 283
أبو الطيّب الواسطي- النعمان بن نعيم بن أبان.
(ع)
عائشة أم المؤمنين 174
عبادة المخنث- نديم المتوكل 264
ابن عباس- عبد الله 247
عباس- الدكتور إحسان 12
أبو العباس- الأمير- المعتضد
العباس بن الحسن- الوزير 25، 308
العباس بن عبد المطلب 85
ابن عبد الحميد- كاتب السيّدة 243
عبد الرحمن بن عيسى- أخو الوزير علي بن عيسى 277
عبد الله بن إبراهيم بن مكرم- أبو يحيى القاضي
عبد الله- أخو بابك الخرمي 147، 148
عبد الله بن محمد بن مهرويه- أبو القاسم- ابن أبي علان الأهوازي
عبيد الله بن سليمان- الوزير 43، 78، 80، 82، 239، 275، 312، 319
عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين- الأمير 125، 127
عبيد الله بن محمد 174
عبيد الله بن يحيى بن خاقان- الوزير 18، 19
العجلي- عيسى بن أبي دلف 22
العجلي- معقل بن أبي دلف 22(1/379)
عروة الزبيري 199
العروضيّ- أبو الحسن- معلم الراضي ونديمه 299
عريب- جارية المأمون 89، 270، 271
عز الدولة- بختيار
أبو عصمة- خطيب عكبرا 122، 123، 124
عضد الدولة- أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة 24، 25، 26، 27، 91، 193، 194، 196، 278
ابن أبي علان الأهوازي- عبد الله بن محمد بن مهرويه، خال أبي القاسم التنوخي والد المؤلف 211، 213، 220، 223، 329
العلوي- أبو عبد الله بن الأبيض 91
العلوي- أبو عبد الله الموسوي 49، 352
العلوي- الحسن بن القاسم- الملقب بالداعي 71، 323
العلوي- أبو عبد الله محمد بن الحسن الداعي 71
العلوي- محمد بن عمر 114
عليّ بن إبراهيم بن حمّاد- القاضي 56
عليّ بن أبي طالب- أبو الحسن الإمام 264
عليّ بن بسّام- الشاعر 263
أبو عليّ البصري 9
أبو عليّ التنوخي 9
عليّ بن أبي عليّ 9، 10
عليّ بن أبي عليّ البصري 9، 10
عليّ بن أبي عليّ البغدادي 9
عليّ بن أبي عليّ التنوخي 9
عليّ بن أبي عليّ القاضي 9
عليّ بن أبي عليّ المعدل 9
العلي- الدكتور صالح أحمد 12(1/380)
عليّ بن عيسى- أبو الحسن الوزير 11، 22، 25، 42، 43، 46، 48، 49، 50، 51، 52، 55، 84، 85، 100، 117، 216، 258، 259، 282، 283، 286
عليّ بن محمد بن الفرات- ابن الفرات
عليّ محمد فهمي- مؤلّف 7
عليّ بن المحسّن 9
عليّ بن المحسّن التنوخي 9
عليّ بن المحسّن القاضي 9
عليّ بن موسى- شيخ من أخيار الكتاب 244
عليّ بن يلبق 277، 283
عليّة بنت المهدي 195
عماد الدولة- أبو الحسن عليّ بن بويه 98، 138، 324، 325، 343، 344
عمر بن عبد العزيز- الخليفة الأموي 136
عمر بن محمد القارىء- أبو السريّ 85
أبو عمر القاضي- محمد بن يوسف بن يعقوب الأزدي 36، 51، 52، 60، 61، 62، 82، 128، 163، 238، 239، 240، 241، 245، 249، 257، 258، 259، 260، 261
عمران بن شاهين 98
عمرو بن أبي عمرو- النخّاس 245
عمرو بن الليث الصفار- الصفار
عمرو بن نهيوي 132، 133، 135
ابنة العمّي- ضاربة الطبل 277
عوّاد- كوركيس 7
عوّاد- ميخائيل 12، 127، 128
ابن أبي عوف- أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن المروزي 9، 56، 78
ابن عيّاش- أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن الحارث الجوهري البغدادي القاضي 24،(1/381)
25، 46، 57، 63، 64، 75، 78، 122، 162، 231، 239، 240، 249، 352
أبو عيسى- أخو أبي صخرة- أحمد بن محمد بن خالد 42، 43، 44، 45، 48
عيسى المتطبب- طبيب القاهر ومستشاره 283
عيسى ابن الوزير عليّ بن عيسى 85
أبو العيناء- محمد بن القاسم بن خلاد- الضرير 16
(غ)
غرس النعمة- محمد بن هلال بن المحسّن بن إبراهيم الصابي 23
غلاب- جدة القاضي أبي أميّة الغلابي 232
الغلابي- أبو أميّة الأحوص الغلابي قاضي البصرة 232، 233، 234، 236، 237
غلام جوذاب- أبو عليّ- كاتب البريدي 217
(ف)
الفارابي- أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان 6
الفارسي- سلمان 345
الفارسي- أبو علي النحوي 274
فاطمة- الزهراء البتول 264
الفتح بن خاقان- وزير المتوكل 265
فتوّة- جارية الهاشميّة- عشيقة بحكم 196
ابن الفرات- أبو الحسن عليّ بن محمد- الوزير 22، 30، 33، 42، 43، 49، 52، 57، 59، 65، 66، 93، 117، 164، 199، 207، 231، 232، 236، 237، 243
ابن الفرات- أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات- ابن حنزابه 65، 249(1/382)
ابن الفرات- المحسّن بن أبي الحسن الوزير 30، 42، 43، 84، 117، 122
ابن الفرانقي- السرخسي
ابن فسانجس- أبو الفرج محمد بن العباس 94، 207، 277
الفضل بن مروان- الوزير 133، 134، 135
الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي- البرمكي
(ق)
أبو القاسم 9
أبو القاسم التنوخي 9، 10، 11
القاسم بن دينار- عامل الأهواز 20
القاسم بن عبيد الله- الوزير 9، 10، 75، 89، 90، 274، 275، 335
أبو القاسم بن المحسّن 9، 10
القاهر- محمد بن المعتضد 242، 261، 277، 283
ابن قديدة- أبو جعفر 211، 213، 214، 216، 217، 218، 219
القراريطي- أبو إسحاق محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الإسكافي 38، 40
القرامطة- 164
قرطاس الرومي 153، 155
قرغويه- غلام أبي الهيجاء بن حمدان 226، 227
القرمطي- أبو طاهر الجنابي 322
ابن قريعة- القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن 52، 117، 120
القزويني- أبو الحسن بن مهذب- كاتب سوريل القائد الديلمي 343
قسطنطين الأكبر 54
القشوري- نصر- حاجب المقتدر 164، 283، 325
القصري- غلام الحلاج 159
القطان- علي بن خلف البغدادي 91(1/383)
القطراني- الشاعر البصري 233
ابن قناش- أبو جعفر طلحة بن عبيد الله الطائي البغدادي الجوهري 92، 95، 96، 143
القهرمانة- أم موسى 122، 242، 243
(ك)
الكاظم- الإمام موسى 252
كرد علي- محمد 31
كردك- النقيب الديلمي 23، 347، 348
ابن كردم- الأهوازي الضرّاب 142
الكرملي- الأب انستاس ماري 3
كسرى 345
كسرى ابرويز 166
ابن كنداج- محمد بن إسحاق- أمير البصرة 235، 236
(م)
المادرائي- أبو زنبور الحسين بن أحمد بن رستم- أبو زنبور
المادرائي- محمد بن علي 57
بنو مارية- من أهل الصراة 275
المازيار 147
ما كان- الديلمي 196
مالك- ابن أنس- الإمام 131، 260
المأمون- عبد الله بن هارون 30، 15، 132، 133، 134، 135، 270، 282، 289، 302
المبارك بن أحمد السيرافي 174(1/384)
المبرّد- محمد بن يزيد الثمالي 9، 274، 275
مبشّر- الرومي- مولى أبي القاسم التنوخي 190، 192، 340
متز- آدم- المستشرق 104
المتّقي- أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر المقتدر 20، 38، 231، 249، 277، 300
المتنبّي- أبو الطيّب أحمد بن الحسين الجعفي الكندي 22، 9، 95، 113
المتوكل- جعفر بن محمد المعتصم 17، 18، 78، 82، 144، 255، 264، 265، 301
ابن المثنى- أبو الحسين أحمد 89
ابن المثنى- أبو أحمد طلحة بن الحسن 89
المحسّن 9
المحسّن بن عليّ التنوخي 9
المحسّن بن الفرات- ابن الفرات
محمد بن أحمد- المعروف بترة 129
محمد بن إسحاق بن المتوكل- صهر أمّ موسى القهرمانة 243
محمد بن أبي بكر 174
محمد- أبو القاسم، رسول الله صلوات الله عليه 13، 14، 15، 16، 105، 137، 253، 350
محمد بن سليمان- أبو عبد الله- كاتب سيف الدولة 72
محمد بن عبد الله- أبو عمارة الحلّاجي 173، 174
محمد بن عبد الله بن طاهر 125
محمد بن عجلان 131
ابنة أبي محمد المادرائي- زوجة أبي الحسين عبد العزيز بن إبراهيم المعروف بابن حاجب النعمان 70
محمد بن المنتشر 136
ابن مخلد- الحسن 249
المدائني- أحمد بن محمد 99(1/385)
ابن المدبّر- إبراهيم الكاتب 270، 271
المدني- أبو عثمان زكريا 340
المرتضي بالله- ابن المعتز عبد الله
مرجليوث- د. س. المستشرق 6، 11، 32
مرداويج بن زيار الجيلي 16، 138، 196، 323، 324، 325
ابن المرزبان- أبو نصر سهل 30، 31
المزني- أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى 235
المستعين- أحمد بن محمد بن المعتصم 133
المستكفي بالله- عبد الله بن عليّ المكتفي 138، 208، 247، 249
المطيع لله- الفضل بن جعفر المقتدر 20، 78، 138، 247، 249، 300، 310
المعتز بالله- محمد بن جعفر المتوكل 125، 265
ابن المعتز- عبد الله بن محمد 25، 257
أم المعتز بالله قبيحة 265
المعتصم بالله- أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد 17، 133، 147، 148، 264، 289
المعتضد بالله- أبو العباس أحمد بن الموفق طلحة 9، 17، 16، 75، 78، 79، 144، 145، 151، 152، 153، 154، 155، 202، 245، 258، 260، 266، 268، 269، 270، 274، 282، 287، 289، 291، 293، 312، 316، 318، 319، 325، 326، 327، 328، 330، 331، 333، 334، 337
المعتمد- الخليفة أحمد بن المتوكل 18، 78، 144، 151، 236، 270،
معد- صاحب عذاب الحجاج 136
ابن معروف- أبو محمد عبيد الله بن أحمد، قاضي القضاة 114
معروف الكرخي- 159
المعرّي- أبو العلاء أحمد بن الحسين 23
معزّ الدولة- الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه 19، 7، 15، 16، 20، 46، 69،(1/386)
71، 72، 73، 87، 94، 98، 112، 138، 139، 140، 141، 171، 190، 204، 248، 277، 309، 325، 345، 347، 348 350، 351، 352
المغربي- عبد القادر 41، 70
المفلحي- خاقان المفلحي
المقتدر- أبو الفضل جعفر بن المعتضد 10، 11، 22، 25، 26، 30، 31، 34، 37، 39، 40، 42، 48، 57، 65، 87، 95، 117، 122، 128، 130، 159، 164، 184، 240، 242، 243، 249، 250، 258، 260، 261، 282، 283، 284، 285، 287، 288، 289، 290، 295، 322
ابن مقسم- أبو بكر- مبتدع قراءة في القرآن 283
ابن مقلة- أبو الحسن عبد الله بن علي- أخو الوزير 64
ابن مقلة- الوزير أبو عليّ محمد بن عليّ بن الحسين 18، 48، 49، 64، 83، 164، 231، 249، 260، 277، 284، 322
المكتفي- عليّ بن المعتضد 75، 260، 288، 290، 316
مكرم بن بكر 52
ابن أخت ملك الروم 228
المنتصر- محمد بن جعفر المتوكل 265
المنجّم- أبو منصور 15
المنجّم- الحسن بن علي بن زيد- غلام أبي نافع 20
المنجّم- هارون بن أبي منصور 15
المنجّم- أبو العباس هبة الله بن محمد بن يوسف النديم 15، 37، 41، 132
المنجّم- يحيى بن أبي منصور 15
المنصور- أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس 15، 16، 180، 232، 252، 257، 312
المهتدي- محمد بن هارون 78، 153(1/387)
المهدي- محمد بن عبد الله المنصور 195
ابن مهرويه 18
المهلّبي- أبو الغنائم الفضل بن الوزير أبي محمد المهلّبي 22، 70
المهلّبي- أبو محمد الحسن بن محمد- وزير معز الدولة 19، 20، 21، 15، 38، 40، 68، 87، 88، 94، 114، 128، 138، 139، 140، 248، 277، 278، 303، 308، 309
مواهب- المغنّية 277، 278
الموسوي- أبو أحمد 114
الموصلي- الشيخ شمس الدين 104، 106
الموصلي: أبو الحسن علي بن عمرو بن ميمون 193
الموفّق- أبو أحمد طلحة بن جعفر المتوكل 16، 78، 138، 144، 153، 154، 155، 255، 257
مؤنس- المظفر القائد 34، 261
المؤيّد- إبراهيم بن المتوكل 265
الميكالي- الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد 103
(ن)
الناصر- الأمير الموفّق أبو أحمد طلحة بن المتوكل- الموفّق
الناصر- عبد الرحمن أمير الأندلس 34
النسوي- الحسين بن محمد 20
ابن نصرويه- القاضي أبو الحسين محمد بن عبيد الله 234، 262
النصيبينيّ- أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ المتكلّم 91
نعمان- شيخ من أهل اليمن 108
النعمان بن ثابت- أبو حنيفة الإمام 28، 95، 251، 252، 262
النعمان بن عبد الله الكاتب- ابو المنذر 69، 117، 120، 215، 216(1/388)
النعمان بن نعيم بن أبان- أبو الطيّب الواسطي 202
أبو نؤاس- الحسن بن هانئ الحكمي الشاعر 19
ابن نوبخت- أبو سهل، إسماعيل بن علي 10، 161
النوكاني 347
(هـ)
الهاشمي- أبو الحسن بن المأمون 24
الهاشمي- أبو الحسن محمد بن صالح القاضي- ابن أم شيبان 87، 128، 129، 130، 131
الهاشمي- أبو الحسن محمد بن عبد الواحد القاضي 22، 89، 92، 312، 326
الهاشمي جعفر بن عبد الواحد 89، 307
الهاشمي- محمد بن الحسن بن عبد العزيز 85، 86، 87
هدبة بن خالد 235
أبو الهيثم- القاضي عبد الرحمن بن القاضي أبي الحصين الرقّي 228
(و)
الواثق- هارون بن محمد المعتصم 17، 145، 223، 264، 289، 290
واثق- مولى المعتضد 258
واثق- بن رافع، أبو الطيّب، مولى ابن أبي الشوارب 337
الواثقي- الحسين بن الحسن 83
أبو محمد الواسطي- ابن أبي أيوب
بنو وجيه- ملوك عمان 347
ابن أبي الورد- أبو أحمد- شيخ من أبناء القضاة 21، 60
ابن ورقاء- أبو المكارم 70(1/389)
ابن وسنا الخزاعي 188
وهب بن منبه 201
(ي)
ياقوت- القائد 18، 187، 325، 344
ابن ياقوت- محمد 283، 325
ابن ياقوت- مظفر، القائد 187، 325
يأنس الموفقي 38، 39
يحيى بن عبد الله- العلوي الثائر 252
أبو يحيى القاضي- عبد الله بن إبراهيم بن مكرم 52
ابن يزداد- محمد 132، 133، 134، 135
يزدجرد بن مهمندار الفارسي 128، 129
أبو يوسف القاضي- يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري 251، 252، 254
يوسف بن يعقوب الأزدي القاضي- أبو محمد البصري(1/390)
فهرس جغرافيّ
(أ)
215 119 الأبلّة
325 174 ارجان
324 174 أصبهان
257 137 الأنبار
23 ت م الإيغاران
(ب)
138 70 باب الشماسيّة
180 93 باب الطاق
22 ت م بابل
129 66 بادوريا
22 ت م البرج
326 175 بركة زلزل
234 124 البصرة
166 83 البطائح
88 37 بيروذ
88 37 بصنّى
(ت)
173 89 تستر
22 ت م تكريت
(ج)
22 ت م الجامعين
324 174 الجبل
221 120 جبّى
(ح)
228 122 حرّان
222 120 الحوز
(خ)
22 ت م خانيجار
22 ت م خطرنية
86 37 خندق طاهر
(د)
213 119 دجيل
22 ت م دقوقا
(ر)
257 137 الرحبة
139 70 الرقّة(1/391)
324 174 الريّ
22 ت م سوراء
312 172 سوق الثلاثاء
68 27 سيحان
113 57 سيراف
(ص)
275 146 الصراة
(ط)
323 174 طبرستان
212 119 الطيّب
(ع)
257 138 عانات
186 96 العسكر
329 176 عسكر مكرم
347 185 عمان
(ف)
302 162 فم الصلح
(ق)
257 137 قرقيسيا
319 173 قزوين
54 99 قسطنطينيّة
22 ت م قصر ابن هبيرة
139 70 قطربّل
(ك)
22 ت م الكرج
234 124 كور الأهواز
234 124 كور دجلة
139 70 كلواذى
(م)
345 184 المدائن
240 127 المدينة
21 ت م مدينة السلام
257 137 مدينة المنصور
21 4 المسرقان
68 27 مسماران
110 55 مكران
329 176 مناذر
228 122 منبج
(ن)
320 173 النهروان
(هـ)
142 71 الهندوان
257 137 هيت
(و)
215 119 واسط(1/392)
فهرس عمراني عام
(أ)
3 المقدمة الأبدال
146 73 الارتفاع
64 24 الارتفاق
343 182 الأزج
170 86 الأسطام
3 المقدمة الأكرة
2 المقدمة الأمين
166 84 الأهوار
76 31 استجعل
309 169 استعمله
151 76 إسفيداج
230 122 أشب
4 المقدمة أصحاب العصبيّة والسكاكين
11 المقدمة اعتاص
268 144 اعدى
12 المقدمة أنفد
311 171 أنماطيّ
2 المقدمة أهل الآراء
(ب)
129 66 الباب
7 المقدمة البانانيّة
149 75 بايع
289 155 البدرة
180 93 برّا
205 114 البرسام
293 157 البرمة
181 342 البرنيّة
295 158 البستانبان
53 19 البطرك
309 169 بغّاء
90 38 البغض
117 61 البقليّ
39 12 بيجاذه
170 86 البيرم
(ت)
166 83 تأزيرة
51 18 التخشّن(1/393)
60 22 التشوّف
190 100 التصريف
327 175 التعيير
151 76 التغار
177 92 تقاين
233 123 تلهّى به
3 المقدمة التنّاء
6 المقدمة التنجيم
4 المقدمة التواجد
(ث)
179 93 ثاب
125 65 الثلاج
(ج)
53 19 الجاثليق
209 118 جاعرة
121 62 الجامة
178 93 جذر المغنّي
129 66 الجريب
70 28 الجريدة
153 78 جمّع
41 13 الجهبذ
175 91 الجيل
(ح)
3 المقدمة الحادور والحلق
289 155 الحبّ
189 99 الحجريّة
87 37 الحراشة
252 135 الحزب
123 63 الحسب
322 174 الحضرة
2 المقدمة الحكمة
150 75 حماها
22 5 الحوّاري
(خ)
22 5 الخبز الحوّاري
336 178 خرداذى
4 المقدمة أهل الخسارة
99 48 الخطرات
232 123 الخلد
5 المقدمة الخنث
285 154 خنس
37 11 خيازر
302 162 الخيش
2 المقدمة الخيلاء
87 37 الخيوط
(د)
334 178 دراريج
190 100 الدّراعة(1/394)
2 المقدمة الدراية
310 170 الدست
139 70 الدستاهيجات
301 162 الدستنبو
134 68 الدهق
289 155 الدهق والمصقلة
175 91 الديلم
(ذ)
86 37 الذعر
231 123 الذمامات
(ر)
222 120 راح الشيء
96 45 ربيثاء
7 المقدمة الرقية
117 61 رهداري
2 المقدمة الرواية
73 29 روز
180 93 الروزنة
69 28 روشن
(ز)
153 78 الزج
6 المقدمة أصحاب الزجر
6 المقدمة الزرّاق
301 162 الزعفران
4 المقدمة الزهد
175 91 الزوبين
(س)
5 المقدمة أصحاب الستائر
189 99 الساجيّة
305 165 الساذجة
7 المقدمة الساعي
8 المقدمة السبر
36 10 السرادق
327 175 السوقة
269 144 السفه
254 136 سفواء
180 93 السكباج
96 45 سكرجة
70 28 سلف
350 187 السميرية
1 المقدمة السّنن
140 70 السنيف
120 62 السؤال
5 المقدمة السوداء
130 66 السويق(1/395)
(ش)
304 164 شاذكلى
181 93 الشاكري
100 50 شال
315 172 شجّة
6 المقدمة الشحّاذ
294 157 الشرك
273 145 الشفعة
65 25 شقص
2 المقدمة الشهود
290 155 شيلوه
(ص)
319 173 صاحب الحرب
319 173 صاحب الخراج
231 123 صاحب الربع
214 119 الصارف
213 119 الصارف
4 المقدمة الصوفية
232 123 الصيّور
(ض)
297 160 الضرائب
142 71 الضرّاب
157 79 الضغو
(ط)
145 73 الطابوقة
6 المقدمة الطب
181 93 طبّق
79 32 صاحب الطرف
180 93 طرّق
5 المقدمة الطفيلي
325 174 الطمّ والرمّ
180 93 الطنز
310 170 طنفسة
6 المقدمة الطوّاف بالسهام
215 119 طول الذيل
185 95 الطيّاب
26 8 الطيّار
(ظ)
2 المقدمة الظرف
(ع)
3 المقدمة العامل
4 المقدمة العبادة
170 86 العتلّة
290 155 العتيدة
269 144 العدم(1/396)
219 119 العدوى
199 108 العديل
4 المقدمة العصبيّة
301 162 العصفر
338 179 العقعق
2 المقدمة علم الكلام
219 119 عند نفسه
4 المقدمة العيّارين
33 9 العين
(غ)
296 159 غرض
8 المقدمة الغضارة
3 المقدمة الغمّاز
118 61 الغناء
178 93 الغالية
(ف)
315 172 فجّ
281 151 الفداء
54 19 الفرانق
156 79 فشّ القفل
315 172 فشخ
6 المقدمة الفصاد
184 94 الفصّاد
212 119 الفيج
(ق)
157 80 القباء
218 119 قبالة الدين
331 177 القثاء
204 113 القديد
322 174 القرامطة
6 المقدمة أهل القرعة
301 162 القصب
41 13 القصّة
56 20 قطف
153 78 قطّن
6 المقدمة القمائحيون
346 184 القمقم
(ك)
296 159 الكافور
2 المقدمة الكبر
230 122 كثب
6 المقدمة الكحّال
80 32 الكرّ
352 189 الكر المعدّل
144 73 الكردناك والكردناج(1/397)
160 81 الكسب
158 80 الكشخان
190 100 الكنباتيّة
(ل)
209 118 اللبن
138 70 لزق
185 94 لزم يده
(م)
5 المقدمة المبذّر
3 المقدمة المتخبّر
5 المقدمة المتقاين
4 المقدمة المتّقي
8 المقدمة المثافنة
3 المقدمة المتكلم على الطرق
6 المقدمة المجدود
5 المقدمة المجنون
327 175 المحتسب
2 المقدمة المحدّث
6 المقدمة المحدود
102 51 المخدّة
2 المقدمة المخرّف
197 107 مخلّط خراسان
7 المقدمة المدر
153 78 المدّة
5 المقدمة أهل المذهب
213 119 المرفق
215 119 المرقّعة
4 المقدمة المريد
37 11 المزمّلة
46 15 المسورة
276 147 المشرعة
5 المقدمة المشعبذ
6 المقدمة المعبّرون
95 44 المعتزلة
296 159 مغمّى
7 المقدمة المفازة
6 المقدمة المفايلون
6 المقدمة المفسرون
5 المقدمة المقيّن
94 43 المكدّي
154 79 المكسود
4 المقدمة الملّاح
7 المقدمة الملح
6 المقدمة الملحد
173 89 الملكوت
4 المقدمة المملق
3 المقدمة المنمّس
5 المقدمة الموسوس(1/398)
(ن)
113 57 النجار
245 129 النخّاس
117 61 النداء
265 142 الندام
4 المقدمة النرد
164 83 نفقت الدابّة
98 47 النقرة
204 113 النقل
280 150 النوب
(هـ)
199 108 الهبير
99 48 الهواجس
256 137 هي
(و)
3 المقدمة الواعظ
7 المقدمة الوبر
293 156 الوحل
3 المقدمة الوراقة
33 9 الورق
218 119 ورّك
154 78 الوكد
(ي)
305 165 يجتعل
222 120 يجونك(1/399)
فهرس الكتب والمراجع
إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب- معجم الأدباء
الأعلام: خير الدين الزركلي- الطبعة الثالثة
الأغاني: أبو الفرج الأصبهاني- طبعة دار الكتب بالقاهرة 17 مجلدا
الأغاني: أبو الفرج الأصبهاني- طبعة بولاق
الألفاظ الفارسية المعربة: أدي شير- المطبعة الكاثو ليكية بيروت.
الأنساب: السمعاني- نشر المستشرق د. س. مرجليوث- طبع لندن 1913.
إحصاء العلوم: أبو نصر الفارابي- تصحيح عثمان محمد أمين بمطبعة السعادة بمصر 1931.
اصطلاحات الصوفية، الواردة في الفتوحات المكيّة: مذيل لكتاب التعريفات للجرجاني.
تاريخ بغداد: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت- بيروت.
تاريخ الخلفاء: جلال الدين السيوطي.
تجارب الأمم: أبو علي أحمد بن محمد المعروف بمسكويه- تحقيق آمدروز- طبع مصر 1914.
تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء: أبو الحسن هلال بن المحسّن الصابي- تحقيق عبد الستار أحمد فراج- القاهرة 1958.
التعريفات: السيد الشريف الجرجاني- طبعة اصطنبول 1283.
الجامع لمفردات الأدوية والأغذية: ضياء الدين عبد الله بن أحمد الأندلسي المالقي المعروف بابن البيطار- طبعة بولاق 1291.
حكاية أبي القاسم البغدادي: أبو المطهر الأزدي- تحقيق ونشر آدم متز- هيدلبرج 1909.
خزانة الأدب: عبد القادر البغدادي- 4 مجلدات- طبع بولاق
خلاصة الذهب المسبوك، المختصر من سير الملوك: عبد الرحمن سنبط قنيتو الإربلي- تحقيق السيد مكي السيد جاسم 1964.
دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربيّة: 15 مجلدا 1933.
ديوان أبي فراس: رواية أبي عبد الله الحسين بن خالويه- طبع دار صادر- بيروت 1955.(1/400)
ديوان البحتري: أبو عبادة الوليد- تحقيق رشيد عطية- بيروت 1911.
شذرات الذهب، في أخبار من ذهب- عبد الحي بن العماد الحنبلي 8 مجلدات- طبعة القدسي.
الشرح الجلي على بيتي الموصلي: الشيخ أحمد البربير- بيروت 1302.
شرح نهج البلاغة: عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله ابن أبي الحديد المدائني
20 مجلدا- طبعة الحلبي بالقاهرة.
صلة الطبري: عريب بن سعيد القرطبي- المطبعة الحسينية بمصر.
الطبيخ: محمد بن عبد الكريم البغدادي- تحقيق الدكتور داود الجلبي- بيروت.
الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية: محمد بن علي طباطبا المعروف بابن الطقطقا طبعة صادر بيروت.
الفرج بعد الشدّة: أبو عليّ المحسّن التنوخي- طبعة دار الهلال بمصر 1914
فرج المهموم في مواقع النجوم: رضي الدين أبو القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسني الحسيني- طبع النجف.
فضائل بغداد: يزدجرد بن مهمندار الفارسي- تحقيق ميخائيل عواد- بغداد 1962.
الفهرست: ابن النديم- طبعة غوستاف فلوغل- ليبزك.
فوات الوفيات: ابن شاكر الكتبي- طبع بولاق- مجلدان اثنان.
الكامل في التاريخ: ابن الأثير- عن طبعة المستشرق تورنبرغ- 13 مجلدا مع الفهارس- طبع دار صادر 1966.
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: الحاج خليفة- طبعة اصطنبول 6 مجلدات.
لسان العرب: ابن منظور المصري- طبعة صادر- بيروت.
مجلّة أهل النفط: المجلد الرابع.
مجلّة المجمع العلمي العربي بدمشق: المجلدات 2 و 3 و 5.
مجلّة المشرق: المجلد الثالث- بيروت.
مروج الذهب: المسعودي- تحقيق محيي الدين عبد الحميد- طبعة الشعب، القاهزة 1966.
المستجاد من فعلات الأجواد: أبو علي المحسّن التنوخي- تحقيق محمد كرد علي، دمشق.
المشترك وضعا والمفترق صقعا: ياقوت الحموي- طبع وستنفلد- 1844.
مطالع البدور في منازل السرور: علاء الدين الغزولي- مطبعة الوطن بمصر 1299.(1/401)
معجم الأدباء: ارشاد الأريب إلى معرفة الأديب- ياقوت الحموي- طبعة مرجليوث 1924 7 مجلدات.
معجم البلدان: ياقوت الحموي- طبعة وستنفلد 6 مجلدات مع الفهارس.
المعجم في أسماء الألبسة عند العرب: رينهارت دوزي- امستردام 1845.
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي- مطبعة دار الكتب بالقاهرة 1934.
مفاتيح العلوم: الخوارزمي- الطبعة المنيرية.
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي- 5 مجلدات طبعة حيدر آباد الدكن- 1357.
المنجد: الأب لويس معلوف- ط 19- بيروت.
المنظمات البحريّة الإسلاميّة في شرق البحر الأبيض المتوسط: علي محمد فهمي- بالإنكليزية ط/ 2 القاهرة 1966.
مهذب رحلة ابن بطوطة: محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، ابن بطوطة- تحقيق أحمد العوامري، ومحمد أحمد جاد المولى- المطبعة الأميرية ببولاق 1934.
نخب تاريخيّة وأدبيّة جامعة لأخبار الأمير سيف الدولة الحمداني: جمع المستشرق ماريوس كنار- الجزائر 1934.
نكت الهميان في نكت العميان: صلاح الدين الصفدي- تحقيق أحمد زكي باشا- القاهرة
1913.
الهفوات النادرة: غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال الصابي- تحقيق الدكتور صالح الأشتر- دمشق 1967.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: القاضي شمس الدين أحمد بن خلكان- تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد- طبع القاهرة 6 مجلدات.
الولاة والقضاة: أبو عمر محمد بن يوسف الكندي- تحقيق المستشرق رفن كست- بيروت 1908.
يتيمة الدهر، في محاسن أهل العصر: عبد الملك الثعالبي- مجلدان اثنان- أربعة أجزاء، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد- القاهرة 1956.(1/402)
رموز
-: راجع ت م: ترجمة المؤلف
الأرقام التي نقش بجانبها نجمة تشير إلى صفحات مقدمة المحقق وترجمة المؤلف. الأرقام المطبوعة بحروف سوداء تشير إلى التراجم.
الأرقام المثبتة في العمود الأيمن: للصفحات، والأرقام التالية لها: للقصص.
استدراكات
الصفحة السطر الخطأ الصواب
10 3 ناظرة ناضرة
19 5 بكران عن بكر ابن عم
38 16 لأبي الحسن لأبي الحسين
52 12 أبي قريعة قريعة
95 18 8/58 8/580(1/403)
الفهارس
محتويات الكتاب 355
فهرس أسماء الأشخاص 365
فهرس جغرافي 391
فهرس عمراني عام 393
فهرس الكتب والمراجع 400(1/405)
الجزء الثاني
[مقدمة]
مقدمة المحقق
اللهمّ يسّر أقدّم لقراء العربيّة، الجزء الثاني من كتاب نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، للقاضي أبي عليّ المحسّن التنوخي.
وقد أوردت في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب، جميع ما رغبت في إيراده، ولم يبق عندي، هاهنا، ما أزيد.
وقد تردّدت، بادئ الأمر، في إصدار هذا الجزء، لتعذّر الحصول على بعض المراجع من جهة، وصعوبة الوصول إلى الموجود منها، من جهة أخرى، وفكرت في تأخير إصداره، إلى وقت يتيسّر لي فيه الوصول إلى تلك المراجع، ليخرج الكتاب أتمّ تحقيقا، فيكون أوفر نفعا، ولكن الإقبال الذي أسبغه قراء العربية، مشكورين، على الجزء الأول من النشوار، شجّعني على إصدار الجزء الثاني، على ما في تحقيقه من نقصان.
وقد رأيت أن لا أؤخّر إصدار ما حققت من أجزاء هذا الكتاب، توخيّا لتحقيق أتمّ، وسعيا وراء معرفة أوفر، فإن العلم لا حدود له، والمعرفة لا حصر لها، وقد أحسن العماد الأصبهاني إذ قال: ما كتب إنسان كتابا في يومه، إلّا قال في غده، لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل.(2/5)
فاستخرت الله، ورأيت أن أعجّل بإصدار هذه الأجزاء، ما تيسّر منها. مسابقا بإصدارها عوادي الزمان، وحوادث الأيّام.
والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
بحمدون في 28 تموز 1971 عبود الشالجي المحامي(2/6)
مقدّمة المؤلف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قد قدّمت في الجزء الأول، الحمد لله، والثناء عليه، وذكرت من الأخبار، ما لم تدر، لأنها مما لم تجر العادة بكتب مثلها، ولا ما يكاد أن يتجاوز به الحفظ في الضمائر، إلى التخليد في الدفاتر، وإنّها من جنس ما سبقت إلى كتبه، وإنّما يستحسن في المحاضرة، ويطيب في المذاكرة، إذا جرى ما يقتضيه، وعرض ما يستدعيه.
وذكرت إنّها تتضمّن من شريف الفوائد، وطريف المآثر، كلّ لون، وتجمع كل لون من الحكم الجديدة، والأمثال المفيدة، والرسائل البليغة، والأشعار المطربة المليحة، التي لم يشهرها قائلوها بالنشر، ترفّعا لأنفسهم فيها عن النشر والتسطير، أو كما اتّفق عليهم.
وتثنّى مع ذلك [بنتف] من كرم الأجواد، وقصص الأمجاد، والأحاديث الأفراد، ومعايب البخّال «1» ، ونوادر الجهّال، وواعظ المنامات، وطريف الاتّفاقات، وعيون الفنون والحكايات، وأخبار ضروب الناس وأخلاطهم وجلّتهم وأوساطهم، مما لا تعبّر عنه الكتب، ولا يكاد يوجد مسطورا عند أهل الأدب.
وأفصحت عن السبب الذي حرّكني على جمعها، ونشّطني لكتبها،(2/7)
وهو ما اعتبرته «1» من تغيّر الطبائع، واستحالة الصنائع، وموت الرجال، وقلّة الأموال، وفقد الكمال، في أكثر الأحوال، وعدم الراغب في الحفظ، لليسير من اللفظ، فضلا عن الكثير، وتواطئ الجمهور، على هذه الأمور، في هذا الزمان الصعب، الكثير النّوب، القاطع بمحنه عن الأدب.
واعتذرت إلى قارئها من التقصير فيها، بأن قلت: إنّه لو لم يكن فيها، إلّا أنّها خير من موضعها بياضا، لكفى.
وأطلت الكلام في صدر الجزء الأول بما لا يقتضيه هذا المكان، والله الموفّق للإحسان، وهو خير مستعان «2» .(2/8)
1 علوّ نفس أبي جعفر القاضي
حدّثني أبي «1» ، رضي الله عنه، قال: حدّثني سهل بن عبد الله الإيذجي «2» ، وكان أحد شهودها ووجوهها «3» ، ويخلفني على القضاء، وغيري، بها طويلا، قال: حدّثني أبي، وكان رئيس البلد، ومن وجوه شهوده:
أنّ أبا جعفر، محمد بن منصور القاضي «4» ، لما تقلّد كور الأهواز «5» ، من قبل المتوكل، أوّل دفعة، ووردها، أحبّ أن يطوف عمله.
قال: وكان شديد الشرف، عظيم النعمة والنفقة في مروءته، حتى إنّه كان يستعمل في مطبخه، بدلا من الشيرج «6» ، دهن اللوز والجلّوز «7» .
وكان في داره رحى لطيفة، يديرها حمار له، يستخرج عليها دهن اللوز دائما.
وكان يستعمل في مطبخه، من اللحم، والدجاج، والفراخ، والحملان، والجداء «8» ، أكثر ممّا يتّخذه الوزراء، في كثير من الأمور.(2/9)
فقدم علينا، فأبعدنا في تلقّيه «1» ، وسألناه النزول علينا، فامتنع. وقال:
لا يجوز للقاضي أن ينزل على أحد.
فقلنا [106 ط] له: فنفرغ لك أحد المنازل، فكأنّه أجاب إلى هذا.
وسبقناه إلى البلد، فأخلينا له دارا من دورنا، وجاء فنزل فيها.
فاجتهدنا في قبول غلمانه لطفا «2» منّا، أو شيئا، قليلا أو كثيرا، فامتنعوا، وقالوا: إنّه متى علم أنّكم فعلتم ذلك، صارت عداوة، وما قبل لأحد من خلق الله شيئا قط.
فلمّا كان بعد أسبوع، استدعاني، فقال لي: يا أبا محمد، كيف سعر الخبز عندكم؟
فقلت: خمسون رطلا بدرهم.
فقال: فالدجاج؟
فقلت: ثلاث بدرهم.
فقال: فالفراخ؟
فقلت: ستة بدرهم.
قال: فالجداء؟
فقلت: أجود جدي بدرهمين.
وأخذ يسائلني عن العسل، والسكّر، وحوائج السقط، وغير ذلك.
من الفواكه، والثلج، وأنا أخبره بسعر البلد على الحقيقة، بالذي يشترى لنا، ولسائر الناس مثله، ويقول: أهكذا يشترى لكم؟ فأقول: نعم.
فلما استتمّ الكلام، قال: يا غلام، قل للموكّلين، والفراشين، أن(2/10)
يحملوا، ويشدّوا الثّقل «1» على البغال والجمال، وتقدّم إلى الغلمان بالمسير مع السواد، وأن يتخلّف معي للركوب من جرت عادته بذلك، وأسرجوا لي الدواب والعمّاريّة «2» ، فقلت: أحدث، أعزّ الله القاضي، أمر؟.
فقال: نعم، إنّني أحاسب وكيلي، في كل أسبوع يوما، على ما ينفقه في طول الأسبوع، ولما كان البارحة، حاسبته، فرفع إليّ من أسعار ما اشتراه، مثل ما ذكرت، فكدت أن أوقع «3» به، ولم أشكّ في أنّكم قد دسستم إلى الباعة، أن يبيعوه بهذا السعر، إرفاقا لنا، لمّا امتنعنا من قبول هداياكم، ثم توقّفت عن الإيقاع به، إلى أن أسألك عن الصورة، وأكشف.
فلما جئتني اليوم، وسألتك، وأنت عندي مقبول الشهادة، وقلت لك، أن تخبرني، كيف تشتري أنت وأهل البلد، فأخبرتني أنّك وهم تشترون بهذا، علمت أنّ هذا بلد لا تقوم فيه مروءة لشريف، وأنّ الضعيف والشريف فيه يتساويان في اللذّات والمروءات، فلا حاجة لي بالمقام «4» فيه، ولا بدّ أن أرحل الساعة، وأجعل مقامي بحيث تبين مروءتي، وتظهر نعمة الله عندي.
قال: ورحل عنّا من يومه «5» .(2/11)
2 الحكم كالسهم إذا نفذ لم يمكن ردّه
وحدّثني أبي، رضي الله عنه، إنّ بعض المعمّرين من الشهود بالأهواز، حدّثه، وذكر هو الشاهد وأنسيته أنا، عن أبيه أو بعض أهله، قال:
كان محمد بن منصور، يتقلّد بكور الأهواز، وعمر بن فرج الرّخّجيّ «1» ، يتقلّد الخراج بها.
وكانا يتوازيان في المرتبة السلطانية. فلا يذهب القاضي إلى الرخجيّ إلا بعد أن يجيئه، ويتشاحّان على التعظيم. وترد كتب الخليفة إليهما، بخطاب واحد، قال: وتولّدت [107 ط] من ذلك، عداوة بينهما، فكان الرخّجيّ يكتب في القاضي، إلى المتوكل، فلا يلتفت إلى كتبه، لعظم محلّه عند المتوكّل، ويبلغ ذلك القاضي، فيقلّ الحفل به، ويظهر الزيادة في التعاظم عليه.
فلما كان في بعض الأوقات، ورد كتاب المتوكل، على الرخّجيّ، يأمره بأمر في معنى الخراج، وأن يجتمع مع محمد بن منصور القاضي، ولا(2/12)
ينفرد عنه، وورد بالكتاب، خادم كبير من خدم السلطان.
فأنفذ الرخّجيّ إلى القاضي، فأعلمه، وقال: يصير إلى ديوان الخراج لنجتمع فيه على امتثال الأمر.
فقال القاضي: ولكن تصير أنت إلى الجامع، فنجتمع فيه، وتردّد الكلام بينهما، إلى أن قال الرخّجيّ للخادم: ارجع إلى حضرة أمير المؤمنين، واذكر القصّة، وإنّ قاضيه يريد إيقاف ما أمر به.
وبلغه الخبر، فركب محمد بن منصور، إلى الديوان، ومعه شهوده، فدخله، والرخجيّ فيه في دست، وكتّابه بين يديه، فلما بصروا به، قاموا إليه، إلّا الرخّجيّ.
فعدل القاضي عن موضعه في الديوان، فجلس في آخر البساط، بعد أن أمر غلامه، فطوى البساط، وجلس على البارية «1» ، وحفّ شهوده به، وجاء الخادم، فجلس عند القاضي، وأوقفه على الكتاب.
ولم يزل الرخّجيّ، يخاطب «2» القاضي، وبينهما مسافة، حتى فرغوا من الأمر.
فلما فرغوا، قال الرخّجيّ، للقاضي: يا أبا جعفر، ما هذه الجبريّة «3» ؟
لا تزال تتولّع بي، وتتحكّك بمنافرتي ومضاهاتي، وتقدّر أنّك عند الخليفة- أطال الله بقاءه- مثلي، ومحلّك يوازي محلّي.
قال: وأسرف في هذا الجنس من الفنّ، وحمي في الخطاب، والقاضي ساكت.
إلى أن قال الرخّجيّ، في جملة الكلام: والخليفة- أعزّ الله نصره-(2/13)
لا يضرب على يدي في أمواله التي بها قيام دولته، ولقد أخذت من ماله، ألف ألف دينار، وألف ألف دينار، وألف ألف دينار، وألف ألف دينار، فما سألني عنها. وإنّما إليك أن تحلّف منكرا على حقّ، أو تفرض لامرأة على زوجها، أو تحبس ممتنعا عن أداء حقّ.
وأخذ يعدّد هذا وشبهه، وأبو جعفر، كلّما ذكر الرخّجيّ ألف ألف دينار، وثنّى القول، يعدّد بأصابعه، وقد كشفها ليراها الناس.
فلما أمسك عمر، لم يجب بشيء، وقال: يا فلان الوكيل.
قال: لبيك أيّها القاضي.
قال: سمعت ما جرى؟
قال: نعم.
قال: قد وكّلتك لأمير المؤمنين وللمسلمين، على هذا الرجل في المطالبة بهذا المال.
فقال له الوكيل: إن رأى القاضي أن يحكم بهذا المال للمسلمين.
قال: والرخّجيّ ممسك، والناس حضور على بكرة أبيهم «1» ، لا يدرون ما يريد أن يفعل.
قال: فأخذ محمد بن منصور دواة، وكتب بخطته في مربّعة «2» سجلا بذلك المال، ورمى به إلى الشهود، وقال: اشهدوا على إنفاذي الحكم بما في هذا الكتاب، وإلزامي فلان ابن فلان، هذا، وأومأ بيده إلى [108 ط] الرخّجيّ، بما أقرّ به عندي من المال المذكور مبلغه في هذا الكتاب للمسلمين.(2/14)
وكتب الشهود خطوطهم بالشهادة بذلك، وختموها، وأخذها محمد ابن منصور، وجعلها في كمّه، ونهض.
وأخذ الرخّجيّ يهزأ بالقاضي، ويظهر التهاون بفعله ذلك.
وقال له لمّا أراد القيام، طانزا «1» : يا أبا جعفر، بالغت في عقوبتي، قتلتني.
فقال أبو جعفر: إي والله.
فما سمعناه أجابه بغيرها، وافترقا، وكتب صاحب الخبر، للوقت، إلى المتوكل.
قال: فبلغنا أنّ كتابه لما عرض على المتوكل، أحضر وزيره، وقال له: يا فاعل يا صانع، أنا أقول لك منذ دهر، حاسب هذا الخائن المقتطع، الرخّجيّ، على أموالنا، وأنت تدافع، حتى حفظها الله علينا، بقاضينا محمد بن منصور، ورمى إليه بكتاب صاحب الخبر.
وقال له: قد ظهرت الآن أموالنا، في سقطات قوله، وفلتات لسانه «2» ، وهذه عادة الله عزّ وجل عند أئمّة عباده، أن يأخذ لهم أعداءهم، اكتب الساعة بالقبض على الرخّجيّ، وتقييده، وغلّه، وحمله.
قال: فخرج الوزير، وهو على غاية القلق، لعنايته بالرخّجيّ، واستدعى خليفته «3» وقال له: اكتب إليه الساعة، قد تسرّعت يا مشوم، وقتلت نفسك، ما كان الذي دعاك إلى معاداة القضاة؟، قد جرى كيت وكيت، وأنت مقتول إن لم تتلاف أمر محمد بن منصور، فاجتهد فيه، وأعلمه، أنّي هوذا، أؤخّر اليوم فقط، في إنفاذ من يقبض عليه، إلى أن يحكم(2/15)
أمره مع القاضي، وأقول للخليفة: إنّي قد أنفذت إليه، وأنفذ إليه في غد، من يمتثل الأمر فيه.
فلما ورد كتابه على الرخّجيّ، قامت قيامته، وأحضر من يختصّ به، فشاوره. فقال له: تركب الساعة إليه، وتطرح نفسك عليه.
قال: فركب إليه، في موكب «1» عظيم، فحجبه القاضي. فاجتهد في أن يوصله إليه، فما كان إلى ذلك طريق، فرجع خجلا.
وقال لأصحابه: ما ترون؟ فإنّي أخاف أن يقدم العشيّة من يقبض عليّ.
فقالوا له: إنّ للقاضي رجلا تانئا «2» ، من أهل البلد، يقال له: فلان، قد اصطنعه، وائتمنه، ويريد قبول شهادته، وهو غالب عليه جدا، فتستدعيه، وتكتب له روزا «3» بشيء من خراجه، وتسأله أن يوصلك إليه، ويستصلحه لك.
فأحضره الرخّجيّ، وكتب له روزا بألف دينار من خراجه، وسأله ذلك.
فقال له: أمّا استصلاحه لك، فلا أضمنه، ولكن أوصلك إليه.
فقال له: قد رضيت.
فقال: إذا كان وقت المغرب، فانتظرني، وخرج الرجل.
فلمّا كان وقت المغرب، صار إلى الرخّجيّ، فقال: تلبس عمامة، وطيلسانا، وتركب حمارا، وتجيء.
قال: ففعل ذلك، وركبا بغير شمعة.
وجاء الرجل، فقال للحاجب: استأذن لي على القاضي، ولصديق لي معي، فدخل إليه وخرج فقال: ادخلا.(2/16)
فحين شاهد القاضي الرخّجيّ، اقبل يصيح ويقول: هذا الحال، وأنت أمين؟ هاه.
ثم قال [109 ط] للرخّجيّ: اخرج عافاك الله عن داري.
قال: فبادر الرخّجيّ، فأكبّ على رأسه، فلما رآه القاضي قد فعل ذلك، قام إليه، فعانقه.
وبكى الرخّجيّ بين يديه، ودفع الكتاب إليه.
قال: فبكى القاضي، وقال: عزيز عليّ يا هذا، ما كان اضطرّك إلى الإقرار؟
فقال: تحتال في أمري، فقال: والله ما لي حيلة، فإنّ الحكم كالسهم، إذا نفذ لم يمكن ردّه، فجهد به الرخّجيّ، فما زاده على ذلك، فانصرف بأقبح منصرف.
فلما كان من الغد، ورد خادم، فقبض عليه وغلّه، وقيّده وحمله.
وورد كتاب الخليفة على القاضي، يقول: أحسن الله جزاءك على ما فعلته في حفظ أموال المسلمين، وقد كنّا نأمر بمحاسبته، فيتأخّر ذلك لعوائق، والآن فقد أقرّ طائعا غير مكره، فما نؤثر معاملته، إلّا بما يعمله أهل الذمة لو كانوا في مكاننا، من أخذ الحق بالحكم، وقد أنفذته على الواجب، بارك الله عليك، وإنّ للرجل أملاكا قبلك، فتنصب من يبيعها، وتحمل ثمنها إلى بيت المال، قضاء لما أقرّ به.
قال: فنصب محمد بن منصور، من باع أملاك الرخّجيّ في كور الأهواز، على عظمها، وحمل ثمنها إلى بيت المال، فهي الأملاك المبيعة، التي تعرف إلى اليوم بالرخجيّات.
وحصل الرخّجيّ في العذاب بسر من رأى «1» .
2 ن 2(2/17)
3 شيخ أهوازي يسعى في صرف عامل الأهواز
وحدّثني خال والدي، أبو القاسم بن أبي علّان، عبد الله بن محمد ابن مهرويه «1» . قال: أخبرني شيخ من شيوخنا، قال:
كان عمر بن فرج الرخّجيّ، يتقلّدنا في الدفعة الأولى، ثم صرف عنّا، وولينا عامل بعده.
فخرجنا في بعض السنين نتظلّم، وكانت أملاك عمر عندنا كثيرة وله البستان المعروف بالتفرّج قديما، الذي في وسط البلد، ويعرف الآن بالبستان الصغير.
قال: فلما حصلنا بحضرة الخليفة نتظلّم، عارضنا عمر، وأخذ يكلّمنا بكلام عارف بالبلد، محتجّ بحجاج صحيح يبطل به ظلامتنا.
وكان المتكلم عنّا، فلان، رئيس البلد، أسماه أبو القاسم وأنسيته، فأومأ إلينا أن اسكتوا، فسكتنا.
فقال: أيدّ الله أمير المؤمنين، قد أضجرناه اليوم بالخطاب، فنعود في مجلس ثان.
فقال: ذاك إليكم.
فانصرفنا، فقلنا له: ما حملك على هذا؟
فقال: إنّكم لا تعلمون ما علمت.
قال: فلما كان عشيّا، جئنا إلى منزل عمر، ودخل إليه، ونحن(2/18)
معه، فاستخلاه مجلسه، فأخلاه.
فقال له: يا هذا، إنّك أخذت اليوم تسعى على دمائنا، وناظرتنا مناظرة عارف ببلدنا، ولو رددنا عليك، لكنّا إما أن نقطعك، أو تقطعنا فنهلك، ولم تكن بك حاجة إلى ما عاملتنا به، ولا فائدة لك.
ولا أنت الآن عاملنا، فيخرج عن يدك ما تنظر لنا به، وإنّا قد وردنا ومعنا في أنفسنا أمر، إن عدنا إلى بلدنا بغيره سقط جاهنا، وقال أكثر أهل الكور: خرجوا فما عملوا شيئا، ولا يخلو إمّا أن يكون ما التمسناه حقّا أو باطلا، فإن كان حقا، فقطعك لنا عنه ظلم [110 ط] وإن كان باطلا، فمنعك لنا منه ذلّ، وليس يجوز لنا الرجوع إلّا به، لأنّ في رجوعنا ذهاب الجاه، وطمع العمال «1» في نعمتنا، وأنت تعلم ما لك عندنا من الضياع والأموال، وعليّ وعليّ، قال: وحلف بالطلاق وأيمان البيعة، لئن لم تعاونّا غاية المعاونة، وتشهد لنا في المجلس الثاني بكلّ ما نريده لأخرجنّ الساعة، وأعملنّ عملا بخراجك وضياعك، وما أسقطته عن نفسك أيّام تقلّدك البلد، من أصول الخراج، واقتطعته من العمالة أيضا، ويشتمل على ألفي ألف دينار، وأقول للخليفة: إنّ لك عندنا مبقلة، ستون جريبا، قيمتها ستون ألف دينار- يعني البستان الذي تقدّم ذكره- وهو المتوكّل «2» ، وأقيم هؤلاء شهودا كلهم، يشهدون عليك بصحّة المال، ويواجهونك بما أنسبه إلى أنّك أخذته منهم ومن غيرهم، ويحلفون عليه، وأواجهك بالسعاية والوقيعة، بحضرة المتوكّل، وأدع ما قدمت له، حتى إذا وقعت في النكبة والمطالبة، رهبني الوزراء أوّلا،(2/19)
وكلّ من يعلم أنّني كنت سبب نكبتك، من العمّال، وأصحاب الدواوين، وصاروا أعوانا لي وشهودا، فأبلغ بذلك محبتي، وأرجع إلى منزلي سالما، وأنت منكوب.
قال: فحين سمع عمر ذلك، اسودّ وجهه، وقال: أو أيش؟
قال: تحلف أنّك تشهد لنا، وتعاوننا.
قال: فحلف على ذلك، وقمنا.
فلما كان في المجلس الثاني، حضرنا حضرة المتوكّل، وأقبلنا نتظلّم، وعمر يشهد لنا، ويصدّق قولنا.
فما برحنا إلّا بصرف عاملنا، وبالنظر لنا في معظم حوائجنا، واحتسابه لنا بمظالم التمسناها، وبلغنا ما أمّلناه وقدّرناه، وزدنا عليه، وخرجنا.
فقال لنا الشيخ: كيف رأيتم هذا الرأي؟ أيّما كان أجود، هذا، أو أن نحاجّ عمر بن فرج في ذلك المجلس، ويحاجّنا، ويضرّنا بمناظرته، فيضجر الخليفة، فيأمر بإخراجنا، فلا نصل إليه أبدا، ويقول: هؤلاء طامعون بالمال، ونعود بالخيبة إلى منازلنا، بعد السفر والنفقة.
فقلنا له: أحسن الله جزاءك، فأنت أبصر منّا بالرأي «1» .(2/20)
4 من مكارم أخلاق المأمون
من أحاديث أبي الحسن محمد بن عليّ بن الخلّال البصري، رحمه الله، قال: حدّثني أبو القاسم، عليّ بن محمّد بن أبي الفهم التنوخيّ، رحمه الله «1» ، قال: قال محمد بن منصور القاضي:
التمس أمير المؤمنين المأمون، رجلا يكون بصحبته في بعض أسفاره، فأشير عليه بي، وكنت حديث السنّ، فركبت معه في العمّارية، فأجلسني عن يمينه، فلما أمسينا غلبني النوم.
فقال لي من غد: نومك يا محمد، نوم الشباب، فاجعل الليل أثلاثا، فثلث للحديث، وثلث للنوم، وثلث للذكر، ثم أدارني فأجلسني عن شماله.
ثم قال لي: أتدري لم أجلستك بالأمس عن يميني؟
فقلت: لا، يا أمير المؤمنين.
فقال: إنّي وجدت في معدتي بلّة «2» وما تنخّمت «3» قط عن يميني.
قال القاضي التنوخيّ: وكان محمد بن منصور [111 ط] هذا، نبيلا، جليلا، ذا مروءة تامّة «4» .(2/21)
5 مروءة القاضي محمد بن منصور
وأخبرني بعض شيوخنا:
إنّه «1» لما تولّى الحكم بكور الأهواز، دخل إلى جنديسابور، فنظر في حساب وكيله، فإذا هو قد احتسب عليه بثمن جدي، درهم، وثمن عشرة أفراخ، درهم.
فقال للموكّل له: ألم أتقدّم إليك، ألّا تبتاع شيئا، من بائع يعلم أنّك وكيلي؟
قال: بلى، وعلى ذلك أعمل.
قال: فلو لم يعلم البائع، أنّك وكيلي، لما حاباك هذه المحاباة.
فقال: هذا ما ابتعته بهذا البلد، وهكذا يباع لسائر المبتاعين.
فالتفت إلى بعض شهوده، فقال: أهكذا هو؟
فقالوا: قد حيف عليه، أيّها القاضي، إنّا لنبتاع الجدي بأربعة دوانيق، ونحوها.
فقال: هذا بلد لا يقيم فيه ذو مروءة.
ثم أسرع بالرحيل عنه «2» .(2/22)
6 حرمة القضاء في العهد العباسي
قال التنوخيّ: وأخبرني بعض شيوخنا، عنه «1» :
إنّه كان جالسا للحكم، في المسجد الجامع بسوق الأهواز، فاجتاز بباب الجامع عامل الكور، فرأى جمع الناس. فقال: ما هذا؟
قالوا: هذا القاضي.
قال: هذا كلّه لأبي جعفر؟
فنقلت الحكاية إليه، فقطع النظر، وانصرف إلى داره، وكتب إلى السلطان يومئذ، يقول: إنّ فلانا العامل، اجتاز بي، وأنا أنظر في الحكم في المسجد الجامع، فذكرني بحضرة العامّة، بالكنية دون اللقب، ذكر المزري عليّ، المانع لي من التشريف الذي البسنيه أمير المؤمنين، وإنّ الذي أنظر فيه إنّما هو انتزاع أموال الناس، التي فيها يتهالكون، وعليها يتقاتلون، وأنا أنتزعها بالهيبة والكرامة.
فخرج أمر السلطان، بأن يضرب ذلك العامل، على باب المسجد بالأهواز ألف سوط.
فلما وقف على ذلك، خليفة العامل بالحضرة، اجتهد في إزالته بكل حيلة، فما أمكنه.
فبذل للفيج «2» الحامل للكتاب، مائة دينار، ليتأخر عن النفوذ، ليلة واحدة، ثم بادر برسوله إلى العامل، يصف ما جرى، وما فعله من استنظار الفيج، ليقدّم الحيلة في الدفع عن نفسه.(2/23)
فلمّا ورد الرسول إلى العامل، نهض من وقته، إلى بعض إخوان القاضي، من شهود البلد، وطرح نفسه عليه، ولم يعلم باطن أمره، وسأله إصلاح قلب القاضي له.
فصار معه إلى باب القاضي ليلا، ولم يزل حتى وصل إليه، وأغرق في الاعتذار إليه، والخضوع له، حتى قال: قد قبلت العذر، وصفحت عن الذنب، فانصرف.
فغاداه الفيج بما أمر به في بابه، فقال: إنّي قد صفحت عنه «1» .
7 جزاء الوالي الظالم
قال أبو الحسين محمد بن علي بن إبراهيم بن شعيب، وحدّثني القاضي أبو عبد الله الحسين بن شعيب الأرجاني، وكان من شيوخ أهل العلم والرئاسة ببلده:
أنّ عاملا للمكتفي «2» رحمة الله عليه، بكورة أرجان «3» ، طالب بعض أهل الخراج بخراجه، فتغيّب عنه، فأمر بإحراق بابه.
فاتصل الخبر بالمكتفي، فأنفذ من قبض [112 ط] على العامل، فضربه على باب المسجد بأرجان، ألف سوط «4» .(2/24)
8 الجذوعي القاضي يشهد على الخليفة المعتمد
قال أبو الحسين محمد بن علي «1» ، وحدّثني أبي رحمه الله، وسمعته من غيره:
إنّ القضاة والشهود، بمدينة السلام، أدخلوا على المعتمد على الله «2» للشهادة عليه في دين كان اقترضه عند الإضافة بالإنفاق على حرب صاحب الزنج «3» .
فلما مثلوا بين يديه، قرأ عليهم إسماعيل بن بلبل «4» الكتاب، ثم قال:
إن أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- يأمركم أن تشهدوا عليه، بما في هذا الكتاب.
فشهد القوم، حتى بلغ الكتاب إلى الجذوعي القاضي «5» ، فأخذه بيده وتقدم إلى السرير، فقال: يا أمير المؤمنين، أشهد عليك بما في هذا الكتاب؟
فقال: اشهد.
فقال: لا يجوز، أو تقول: نعم، فأشهد عليك.(2/25)
فقال: نعم، فشهد في الكتاب، ثم خرج.
فقال المعتمد: من هذا؟
فقيل له: هذا الجذوعي البصري.
فقال: وما إليه؟
فقالوا: ليس إليه بشيء.
فقال: مثل هذا لا يكون مصروفا، فقلّدوه واسطا.
فقلّده إسماعيل، وانحدر.
فاحتاج يوما إلى مشاورة الحاكم، فيما يشاور في مثله، فقال: استدعوا القاضي، فحضر، وكان قصيرا، وله دنّيّة «1» طويلة، فدخل في بعض الممرّات ومعه غلام له، فلقيه غلام كان للموفّق «2» ، وكان شديد التقدّم عنده، وكان مخمورا، أو سكرانا، فصادفه في مكان كان خاليا من الممرّ، فوضع يده على دنّيّته، حتى غاص رأسه فيها، وتركه ومضى.
فجلس الجذوعي في مكانه، فأقبل غلامه، حتى فتقها، وأخرج رأسه منها، وثنى رداءه على رأسه، وعاد إلى داره، وأحضر الشهود، وأمرهم بتسلّم الديوان، ورسل الموفّق يتردّدون، وقد سترت الحال عنه. حتى قال بعض الشهود، لبعض الرسل، الخبر، فعاد إلى الموفق، فأخبره بذلك.
فأحضر صاحب الشرطة، وأمره بتجريد الغلام، وحمله إلى القاضي، وضربه هناك ألف سوط.
وكان والد هذا الغلام من جلّة القوّاد، ومحلّه محلّ من لو همّ بالعصيان أطاعه أكثر الجيش، فترجّل القوّاد، وصاروا إليه، وقالوا: مرنا بأمرك،(2/26)
فقال: إنّ الأمير الموفّق، أشفق عليه منّي.
فمشى القوّاد بأسرهم مع الغلام، إلى باب الجذوعي، فدخلوا عليه وضرعوا له، فأدخل صاحب الشرطة، والغلام، وقال: لا تضربه.
فقال: لا أقدم على خلاف أمر الموفّق.
فقال: فإنّي أركب إليه، وأزيل ذلك عنه.
فركب فشفع له، وصفح عنه «1» .
9 إيحاشك فقد، وإيناسك وعد
حدّثني أبي رضي الله عنه:
إنّ صديقا لأبي خليفة القاضي «2» ، اجتاز عليه راكبا، وهو في مسجده، فسأله أن ينزل عنده ليحادثه.
فقال: أمضي وأعود.
فقال له أبو خليفة: إيحاشك فقد، وإيناسك وعد «3» .(2/27)
10 أبو خليفة القاضي والكلام المسجوع
قال: وكان أبو خليفة «1» كثير الاستعمال للسجع في ألفاظه.
وكان بالبصرة رجل يتحامق، ويتشبّه به، يعرف بأبي الرطل، ولا يتكلّم إلّا بالسجع، هزلا كلّه.
فقدّمت هذا الرجل امرأته إلى أبي خليفة، وهو يلي قضاء البصرة [113 ط] إذ ذاك، وادّعت عليه الزوجية والصّداق، فأقرّ لها بهما.
فقال له أبو خليفة: أعطها مهرها.
فقال أبو الرطل: كيف أعطيها مهرها، ولم تفلع «2» مسحاتي نهرها؟
قال أبو خليفة: فأعطها نصف صداقها.
قال: لا، أو أرفع ساقها، وأضعه في طاقها.
فأمر به أبو خليفة، فصفع.
أخبرني غير واحد: إنّ أبا الرطل هذا، كان إذا سمع رجلا يقول:
لا تنكر لله قدرة، قال هو: ولا للهندبا خضرة، ولا للنخلة بسرة، ولا للعصفر حمرة، ولا للزردج صفرة، ولا للقفا نقرة.
قال: وكان إذا سمع العامة يقولون: ديوك لا تغرق، قال هو: والديك لا تسرق، وسنور لا يزلق، ونور لا يعبق، وذرة لا تسرق، حتى لا تغرق، ونار لا تحرق، وخليفة لا يسرق، وقاض لا يحنق «3» .(2/28)
11 بين علي بن عيسى وعليّ بن الفرات
سمعت بعض شيوخ الكتاب يتحدّثون، قالوا:
كان أبو الحسن عليّ بن عيسى «1» ، شديد الإعظام لصناعة الكتابة، شحيحا على محلّه منها، غير مسامح لشيء يعاب به، مهما صغر فيها.
وكانت المسابقة فيما بينه وبين أبي الحسن عليّ بن الفرات «2» فيها، وكان كلّ واحد منهما، يتقلّد ديوانا، في وزارة العباس بن الحسن.
وكان يتصرّف في الديوان الذي يتقلّده علي بن عيسى، عامل يعنى به ابن الفرات، فقصده عليّ بن عيسى، وعمل له مؤامرة بمائة ألف دينار في عمله، وعزم على أخذها منه، وأحضره، وسلّم إليه المؤامرة.
وقال له: إن كان عندك جواب لها، فأجب، وإلّا فالتزم المال.
فقال: آخذها إلى بيتي، وأجيب.
فقال له: خذها.
وأخذها العامل، وجاء إلى ابن الفرات، فشرح له الصّورة، وسأله أن ينظر في المؤامرة [ويلقّنه الجواب على كل باب منها.
فقرأها ابن الفرات، وقال للعامل] «3» لولا الاتفاق، لما انحلّ عنك منها درهم، ولكنّ الله سهّل لك غلطا غلط به عليّ بن عيسى على نفسه فيها،(2/29)
وهو رجل شديد الضنّ بصناعة الكتابة، غير مسامح لنفسه في العيب بها، وقد غلط غلطا قبيحا، لو غلط مثله صغير من الكتّاب لافتضح، وبطلت صناعته، وسقط محلّه، وذاك إنّه قد صدّر في أول المؤامرة بابا، ذكر فيه ما وصل من فضل الكيل في غلات عملك، وأنّك لم تورده، وألزمك مالا جليلا عنه، ثم ذكر بعد ذلك، أنّك اقتطعت من غلّات المقاسمة، أشياء أوردها، وذكر الحجج عليك فيها، وألزمك مالا جسيما، هو شطر مال المؤامرة.
وقد كان من قانون الحساب، ورسم الصناعة في مثل هذا، أن يبتدئ بما ثنّى به من الاقتطاع الواقع في أصول الغلّات، ثم يثنّي بذكر فضل الكبا.
فإمّا إذا صدّر فضل الكيل، فقد صحّح لك الأصول، فإيراده ما اقتطعته من الأصول، ناقض للفعل الأول، وهو خطأ قبيح في الكتبة، مسقط لمحلّ من يعمله.
وسبيلك أن تمضي إليه وتخلو به، وتقول: يا سيدي محلّك في هذه الصناعة، لا يقتضي ما قد عملته في هذه [114 ط] المؤامرة، وقد أخطأت خطأ قبيحا، وهو كذا وكذا، وواقفه عليه.
وقل له: لا يخلو أمري معك من حالين:
إمّا كشفت خطأك للناس، ففضحتك في الصناعة بما تنكبني به من المال، وألزمت بعد ذلك ما يبقى في المؤامرة، وهو يسير.
وإمّا تفضلت بإبطال هذه المؤامرة، وأبطلت عنّي مالها، وسترت على نفسك خطأك، وارتفقت مني، مع هذا، بما شئت، وابذل له مرفقا جليلا «1» ، فإنّ حذره على صناعته، وحبّه للمرفق، سيحمله على(2/30)
إبطال المؤامرة، وتخريقها.
فإن امتنع من ذلك، واقفته على الخطإ بين الملإ، فإنّه يوجب عليه أن يسقط عنك ما خرّجه في أصول غلّات الناحية، وهو شطر المال.
قال الرجل: فمضيت إلى عليّ بن عيسى سحرا، إلى منزله، فحين رآني، قال: ما عملت في جواب المؤامرة؟
قلت: بيننا شيء أقوله سرا.
قال: أدن.
فدنوت منه، فقلت له ما قاله لي ابن الفرات بعينه، وفتحت المؤامرة، ووقفته على الموضع.
فحين رآه اغتمّ، وقال: يا هذا، قد وفّر الله عليك المرفق، فإنّ مرفقي في هذا الأمر التيقّظ على الخطإ الواقع منّي، وستره على نفسي، والحذر من مثله مستأنفا، وقد أسقط الله عنك جميع المؤامرة، ولن تسمع بعدها لفظة في معناها، والله بيني وبين ابن الفرات، فإن هذا من تعليمه لك، وليس أنت ممن يعرف مثله.
قال: فمضيت من عنده، وقد زالت المطالبة، وربحت المرفق، وعدت إلى ابن الفرات، فحدثته، فضحك «1» .(2/31)
12 الوزير ابن الفرات يفحم مناظريه ويكاد يأكلهم
واخبرني بعض الكتّاب، قال:
كان ابن الفرات «1» قد صودر على ألف ألف وستمائة ألف دينار، فأدّى جميعها في مدّة ستة عشر شهرا، من وقت القبض عليه، وكان في الحبس، يتوقّع أن يطلق.
فخاف عليّ بن عيسى «2» ، وحامد بن العبّاس «3» ، من إطلاقه، فتشاورا في شيء يستعملانه مع المقتدر، يمتنع معه من إطلاقه.
قال: وكان أبو زنبور «4» ، قد استقدم ليحاسب، وكان من صنائع عليّ بن عيسى في وزارته الأولى.
فلما ولي ابن الفرات، أقرّه، وأحسن إليه، فكان أبو زنبور يحمل إليه في كلّ شهر عشرة آلاف دينار، مرفقا عن أعماله، ويخفيها، فتصل في أعدال البزّ، وما يشاكل ذلك.
فقال عليّ بن عيسى، لحامد: ما أشكّ أنّ ابن الفرات، قد كان يرتفق من عامل مصر، بمرفق جليل، فنحضر أبا زنبور، ونسأله عن ذلك.
فأحضراه، وسألاه عن مرفقه، فكشف لهما عن الصورة، وصدّقهما(2/32)
عنها، ولم يكن فيه من الفضل ما يخفي ذلك، على الرجل ونفسه «1» .
فقال عليّ بن عيسى: هذا مال عظيم، فخذ خطّ أبي زنبور، بأنّه كان يحمل إليه ذلك، واعرضه على الخليفة.
ففعلا ذلك، وعرضاه عليه، وقالا له: يجب أن يطالب بذلك.
فقال الخليفة: أخرجوه [115 ط] ، وطالبوه، بعد أن تناظروه.
قال: فجلس حامد بن العبّاس، وعليّ بن عيسى، ونصر القشوري «2» وابن الحواري «3» ، وأحضروا أبا زنبور معهم، واستدعوا ابن الفرات من محبسه ليناظروه.
وكان شفيع المقتدريّ «4» ، يتعصّب لابن الفرات، ويعتني بأمره، ويقوم فيما بينه وبين الخليفة، فقال للمقتدر «5» : يا مولاي، إنّ ابن الفرات منكوب، وهؤلاء أعداؤه، ولعلّه أن يجيبهم بجواب لك فيه فائدة، فلا يبلغونك إيّاه، فأنفذ من يحضر المجلس، ويرقي إليك ما يجري.
فقال له: إمض أنت، وافعل هذا.
قال: فخرج شفيع، فوجد ابن الفرات، في الصحن، وقد أخرج من محبسه، وهو يمشي، ليدخل مجلس الوزير.
فقال له: اثبت، فإنّي معك.
3 ن 2(2/33)
فقويت نفسه، ودخل المجلس، وحامد في صدر دست عظيم، برسم الوزارة، في دار الخلافة، وعلي بن عيسى عن يمينه، وبجنبه ابن الحواريّ، ونصر القشوري عن يساره، وبجنبه أبو زنبور.
فسلّم ابن الفرات، وتخطّى حتى جلس بين يدي حامد، فرفعه قليلا.
وخاطبه ابن الفرات بالوزارة، وسلّم على عليّ بن عيسى، وأدار عينه في المجلس، فعرف كلّ من فيه، إلّا أبا زنبور، فإنّه كان لغيبته بمصر، لم يشاهده قط.
فقال لمن كان إلى جانبه: من هذا؟
فقال له: هذا أبو زنبور عامل مصر.
فأحسّ ابن الفرات، بأنّه في بليّة سببها أبو زنبور. فقال: تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه «1» .
قال: وكان أبو زنبور قصيرا دميما مقبّحا.
فقال أبو زنبور في الحال: لوددت أنّ الأرض ابتلعتني قبل ذلك.
قال: فقال له حامد، وعليّ بن عيسى: هذا فلان بن فلان، عامل مصر، قد ذكر أنّه كان يرفقك في كل شهر، من مال عمله، بعشرة آلاف دينار، تكون لمدة ولايتك، كذا وكذا، وما حملت لبيت المال شيئا منها، ويجب الآن عليك أداءها، فما تقول؟
فقال لهما: إنّ هذا- وأومأ إلى أبي زنبور- إن كان قد أمر بالسعاية، بوزير عامله، فكشف ستره في أيّام نكبته، وسعى بمرفق أرفقه به في حال ولايته، وأبان بذلك عن قدر عقله، وأمانته، وعقل من يركن إليه مستأنفا، فإنّه قد صدق فيما أخبر به.
ولم أكن لأرتفق هذا منه، لأدع له شيئا من مال السلطان، ولا لأمكّنه(2/34)
من اقتطاعه، ولكن لأمهله من وقت إلى آخر، وأزيد في إكرامه، ومخاطبته، وأرفّهه عن إنفاذ المستحثّين، ومن تلزمه عليهم المؤونة التي لا يجب الاحتساب بمثلها، وكلّما يرتفق الوزراء من العمال، قديما، وحديثا [فهذا سبيله] .
وإنّما صودرت على ألف ألف وستمائة ألف دينار، أدّيتها صلحا، عن هذا ومثله وشبهه، وإلّا فأي شيء كان موجب مصادرتي إلّا عن هذا وما يشبهه؟ فالمصادرة قد غسلت عنّي هذا كله.
ولكن، قد وجب على أبي زنبور من هذا المرفق، باعترافه [116 ط] لمدّة عطلتي وحبسي، وهي ستة عشر شهرا، مائة ألف وستون ألف دينار.
فإن كان أرفق الوزير أعزّه الله بها، فقد سقطت عنه، والكلام فيها بين الخليفة والوزير، وإن كان لم يحملها إليه، فيجب الآن أن يحملها إلى أمير المؤمنين.
قال: فقام شفيع في الحال.
فقال له عليّ بن عيسى: إلى أين يا أبا اليسر؟
قال: إلى مولانا، أحكي له ما جرى، فإنّه أنفذني لهذا السبب، وأمرني به، ومضى.
وحمل ابن الفرات إلى حبسه.
فعاد شفيع، وقال: يقول لكم مولانا، لا يبرح أحد منكم، أو تحمل إليّ هذه المائة ألف وستون ألف دينار، كيف شئتم.
فقال عليّ بن عيسى: جئنا به لنصادره، فصادرنا.
فألزموا أبا زنبور معظم المال، وعاونوه بشيء تحمّل قسطه حامد، وعليّ بن عيسى.
وضمنوا المال، ثم انصرفوا «1» .(2/35)
13 أفضل ما يخلف المرء لعقبه صديقا وفيا
حدّثني أبو القاسم الجهنيّ «1» ، قال:
كنت بحضرة أبي الحسن بن الفرات «2» ، وابن الجصّاص «3» حاضر، فتذاكروا ما يعتقده الناس لأولادهم.
فقال ابن الفرات: ما أجلّ ما يعتقده الناس لأعقابهم؟
فقال بعض من حضر: الضياع.
وقال بعضهم: العقار «4» .
وقال آخرون: المال الصامت «5» .
وقال آخرون: الجواهر الخفيفة الثمن، فإنّ بني أمية سئلوا: أي الأموال كانت أنفع لكم في نكبتكم؟ فقالوا: الجوهر الخفيف الثمن، كنّا نبيعه، فلا نطالب بمعرفة، ولا يتنبّه علينا به، والواحدة منه أخفّ محملا من ثمنها، وابن الجصّاص ساكت.
فقال له ابن الفرات، كالمستهزئ به: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟
فقال: أجلّ ما يعتقده الناس لأولادهم، الصنائع والإخوان، فإنّهم إن اعتقدوا لهم ضياعا، أو عقارا، أو صامتا، من غير إخوان، ضاع(2/36)
ذلك وتمحق، وأحدّث الوزير أعزّه الله بحديث جرى منذ مدّة، يعلم معه صدق قولي.
فقال له ابن الفرات: ما هو؟
فقال: الناس يعلمون أنّي صنيعة أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون «1» ، وكان رجلا مستهترا بالجوهر «2» ، يعتقده لنفسه، وأولاده، وجواريه.
فكنت جالسا يوما في داري، فجاءني بوّابي، فقال: بالباب امرأة تستأذن، في زيّ رثّ، فأذنت لها، فدخلت، فقالت لي: تخلي لي مجلسك، فأخليته.
فقالت لي: أنا فلانة، جارية أبي الجيش.
فحين قالت ذلك، ورأيت صورتها، عرفتها، وبكيت لما شاهدتها عليه، ودعوت غلماني ليحضروني ما أغيّر به حالها.
فقالت: لا تدع أحدا، فإنّي أظنّك دعوتهم لتغيير حالي، وأنا في غنية وكفاية، ولم أقصدك لذلك، ولكن لحاجة هي أهمّ من هذا.
فقلت: ما هي؟
فقالت: تعلم إنّ أبا الجيش، لم يكن يعتقد لنا إلّا الجوهر. فلما جرى علينا بعده من طلب السلطان، ما جرى، وتشتّتنا، وزال عنّا ما كنّا فيه، كان عندي جوهر قد سلّمه إليّ، ووهبه لي، ولابنته [117 ط] منّي فلانة، وهي معي هاهنا.
فخشيت أن أظهره بمصر فيؤخذ مني، فتجهّزت للخروج، وخرجت(2/37)
على هيأة زريّة، مستخفية، وابنتي معي، فسلّم الله تعالى، ووصلنا هذا البلد، وجميع مالنا سالم.
فأخرجت من الجوهر شيئا، قيمته على أبي الجيش خمسة آلاف دينار، وصرت به إلى سوق الحرّازين «1» فبلغ ألفي دينار.
فقلت: هاتم.
فلما أحضروا المال، قالوا: أين صاحب المتاع؟
قلت: أنا هي.
قالوا: ليس محلّك أن يكون هذا لك، وأنت لصّة، فتعلّقوا بي وجذبوني، ليحملوني إلى صاحب الشرطة.
فخشيت أن أقع في يده فأعرف، فيؤخذ الجوهر، وأطالب أنا بمال، فأخرج الباقي.
فرشوت القوم بدنانير يسيرة كانت معي، وتركت الجوهر عليهم، وأفلتّ.
فما نمت ليلتي غمّا على ما ذهب، وخشية الفقر، لأنّ ما لي هذا سبيله، فأنا غنيّة فقيرة، فلم أدر ما أفعل.
فذكرت كونك ببغداد، وما بيننا وبينك، فجئتك، والذي أريده منك جاهك، تبذله لي، حتى تتخلّص لي ما أخذ مني، وتبيع الباقي، وتحصّل لي ثمنه مالا، وتشتري به لي ولابنتي عقارا، نقتات من غلّته.
قال: فقلت: من أخذ منك الجوهر؟
فقالت: فلان.
فأحضرته، فجاءني، فاستخففت به «2» ، وقلت: هذه امرأة من داري،(2/38)
وأنا أنفذتها بالمتاع لأعرف قيمته، ولئلا يراني الناس أبيع شيئا بدون قيمته، فلم تعرّضتم لها؟
فقال: ما علمنا ذلك، ورسمنا- كما تعلم- لا نبيع شيئا، إلّا بمعرفة، ولما طالبناها بذلك اضطربت، فخشينا أن تكون لصّة.
فقلت له: أريد الجوهر الساعة، فجاءني به، فلما رأيته عرفته، وكنت أنا اشتريته لأبي الجيش بخمسة آلاف دينار.
فأخذته منهم، وصرفتهم.
وأقامت المرأة في داري، ونقلت ابنتها إليّ، وأخرجت الجوهر، فألّفته عقودا، وعرضته، وتلطفت لها في بيعه بأوفر الأثمان، فحصل لها منه أكثر من خمسين ألف دينار.
فابتعت لها بذلك ضياعا وعقارا ومسكنا، فهي تعيش به وولدها، إلى الآن.
فنظرت، فإذا الجوهر لمّا كان معها بلا صديق، كان حجرا، بل كان سببا لمكروه يجري عليها، وقد رشت على الخلاص منه دنانير، ولما وجدت صديقا يعينها، حصّل لها منه هذا المال الجليل.
فالصديق أفضل العقد «1» .
فقال ابن الفرات: أجدت يا أبا عبد الله.
ثم قال لنا: الناس ينسبون هذا الرجل إلى الغفلة، وقد سمعتم ما يقول، فكيف يكون مثل هذا مغفّلا «2» ؟(2/39)
14 المأمون ومحبته للجوهر
وقد حكي: أنّ المأمون كان محبّا للجوهر، وكان الناس يغالون فيه، في أيّامه، فأراد أن يحتال بحيلة تضع من قدره، ليرخص قيمته [118 ط] ، فيشتريه.
فجمع أصحابه يوما، وخاطبهم. فقال: ما أجلّ الذخائر؟
فتقرر رأيهم على الجوهر.
فقال: هاتم جوهرة، فجاءوا بواحدة شراؤها عليه مائة دينار.
فقال للجوهريين: كم تساوي هذه؟
قالوا: مائة دينار.
فقال: يا غلام، اكسرها قطعا، فكسرت.
فقال: كم تساوي الآن؟
فقالوا: دانق فضّة.
فأخرج دينارا، فقال: كم يساوي هذا؟
قالوا: عشرين درهما.
فقال: كسّروه قطعا، فكسّر.
فقال: كم يساوي الآن؟
قالوا: تسعة عشر درهما صحاحا.
فقال: أجلّ الذخائر هذا الذي إذا كسر، لم يذهب من قيمته شيء.
قال: فانتشرت الحكاية بين من حضر من الجوهريّين، ونقص نصف ثمنه على الحقيقة، وقلّت رغبة أهل الدولة في شرائه.
فبلغ ذلك المأمون، فتتبّعه، واشتراه رخيصا «1» .(2/40)
15 أموي يتحدث عما أعانهم في نكبتهم
وحكي عن بعض بني أميّة:
أنّ المنصور «1» سأله لما نكبهم، أيّ شيء كان أنفع لكم في هربكم؟
فقال: ما وجدنا شيئا أنفع من الجوهر القليل الثمن، الذي تبلغ قيمة الحبة منه خمسة دنانير، لأنّا استصحبنا الفاخر منه، والقريب الثمن، فما كنّا نقدر على بيع الفاخر لشدّة الطلب لنا، والخوف من أن يعرّف به، فينبّه علينا، ونؤخذ، وكان هذا اليسير الثمن، يشترى منّا، من غير أن يعرّف، فننتفع به، ويخفى أمرنا، فكان أنفع.
قال: فأيّ النساء وجدتم أفضل؟ قال: بنات العم، كنّ أصبر علينا، وأشفق.
قال: فأيّ الرجال، وجدتم أفضل؟ قال: الموالي «2» .
قال: فأمر المنصور المهدي، أن يتزوج ابنة عمه «3» ، واتخذ المنصور مواليه عمّالا في أعماله، وقدّمهم، ورفع منهم «4» .(2/41)
16 لقمة بلقمة
حدّثني أبو بكر البسطامي، غلام ابن دريد «1» ، قال:
كان لامرأة، ابن، غاب عنها، غيبة منقطعة.
فجلست تأكل يوما، فحين قطعت لقمة، وأهوت بها إليّ فيها.
تصدّق منها سائل وقف بالباب، فامتنعت من أكل اللقمة، وحملتها مع تمام الرغيف، فتصدّقت بها، وبقيت جائعة.
وكانت شديدة الحذر على ابنها، والدعاء بردّه، فما مضت إلّا ليال يسيرة على هذا الحديث، حتى قدم ابنها، فأخبر بشدائد مرّت به عظيمة.
وقال: أعظم شيء مرّ على رأسي، أنّي كنت في وقت كذا، أسلك أجمة في البلد الفلاني، إذ خرج أسد، فقبض عليّ من حمار كنت فوقه، فغار الحمار «2» فتشبّكت مخالب السبع، في مرقّعة كانت عليّ، فما وصلت إليّ، وذهب عقلي، وجرّني فأدخلني الأجمة.
فما هو إلّا أن برك عليّ ليفرسني، حتى رأيت رجلا عظيم الخلق، أبيض الوجه والثياب، وقد جاء حتى قبض على قفا الأسد، وشاله «3» حتى(2/42)
خبط به الأرض، وقال: قم يا كلب، لقمة بلقمة.
فقام السبع مهرولا، وثاب إليّ عقلي [119 ط] ، وطلبت الرجل، فلم أجده.
وجلست ساعات، إلى أن عادت إليّ قوّتي، ثم نظرت إلى نفسي، فلم أجد بها بأسا، فمشيت، فلحقت القافلة، وأخبرتهم فعجبوا من خلاصي، ولم أدر ما معنى لقمة بلقمة.
فنظرت المرأة إلى الوقت فإذا هو الوقت الذي أخرجت اللقمة من فيها، فتصدّقت بها.
فأخبرته الخبر «1» .(2/43)
17 كفى بالأجل حارسا
حدّثني إبراهيم بن الخضر، وكان أحد أمناء القضاة ببغداد، قال:
حدّثني صديق لي أثق به، قال:
خرجت إلى الحائر «1» ، فرأيت رجلا، فرافقته في الطريق، ولم أكن أعرفه، وكان ذلك في أيّام الحنابلة، ونحن نزور متخفّين.
فلما صرنا في أجمة بانقيا «2» ، قال لي رفيقي: يا فلان، إنّ نفسي تحدّثني أنّ السبع يخرج الساعة فيفرسني دونك، إن كان ذلك، فخذ حماري، وقماشي، فأدّه إلى منزلي، في موضع كذا وكذا، وعرّفهم خبري.
قال: فقلت: ما يكون إلّا خيرا وسلامة.
فما استتم الكلام، حتى خرج سبع، فحين رآه الرجل، سقط، وأخذ يتشهّد، وقصده السبع، فما كذب أن أخذه، وجرّه عن الحمار.
فسقت أنا الحمار، مع ما عليه، وأسرعت حتى خرجت، ولحقت بالقرية، وعجبت من حدسه على نفسه، وصدق ظنّه، ولحقني غمّ لفراقه، وما جرى عليه.
ورجعت إلى بغداد، فحين دخلت، لم تكن لي همّة، حتى استوصفت الموضع، وقصدته، فدققت الباب، أسأل عنه، فقلت لمن فيه: خذوا قماش صاحبكم، رحمه الله.
قالوا: قد خرج الساعة في حاجة له، وهو حيّ والحمد لله، فلم أشكّ في أنّي غلطت، فقلت: من هو؟ قالوا: فلان، اسمه.(2/44)
فزاد تعجّبي، فجلست، فما أطلت، حتى طلع عليّ، فحين رأيته طار عقلي جزعا، وفرحا، وتشكّكا، فقلت: حديثك.
قال: إنّ السبع ساعة جرّني، وأدخلني الأجمة، هزّني، وسحبني، فأنا لا أعقل.
ثم سمعت صوت شيء، فإذا بخنزير عظيم قد خرج، فحين رآه السبع، تركني، وقصد الخنزير، فدقّه، وأقبل يأكله، وأنا أراه، ومعي بقيّة من عقلي.
فلما أن فرغ منه، خرج من الأجمة، وتركني، وقد جرح فخذي جراحة خفيفة.
فقمت، فوجدتني أطيق المشي، فأقبلت أمشي في الأجمة، أطلب الطريق، فإذا بجيف ناس، وبقر، وغنم، وغير ذلك، منها ما قد صار عظاما بالية، ومنها ما هو طريّ.
فانتهيت إلى خرق متمعطة «1» ، ومخالي للفيوج مطروحة، فسوّلت لي نفسي تفتيش ذلك.
ثم وقفت على شيء مكوّر، فإذا هو هميان «2» ، ففتحته، فإذا فيه ألف دينار صفر، فأخذتها، ولم أفتّش الباقي، وخرجت، فما عرّجت، وعدت إلى منزلي، فسبقتك.
قال: وأخرج الدنانير، فأراني إياها، وكشف عن الجراحة، [120 ط] فسلّمت إليه متاعه، وافترقنا «3» .(2/45)
18 كتاب من يحيى بن فهد الأزدي للأمير أبي تغلب بن حمدان
كتب أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي، إلى الأمير أبي تغلب «1» فضل الله بن ناصر الدولة، عند اعتقاله أخاه أبا الفوارس محمد، لخوفه منه، وحمله إيّاه إلى القلعة مقيّدا، وحبسه فيها، وذلك في شعبان سنة ستين وثلاثمائة، في الليلة الثامنة منه «2» .
وكتب أبو محمّد ذلك، لمّا بلغه الخبر، بمحضر منّا، كالارتجال، بغير فكر طويل، ولا تعمّل شديد، نسخته:
من اختاره الله تعالى لجليل الأمور، واصطفاه لحراسة الأمّة وحماية الثغور، وخصّه بنفاذ الرأي فيما يحلّه ويعقده، ونصره على كلّ عدوّ يرصده، وكفاه كيد من يبغي عليه ويحسده، وقرن عزماته بالصواب في جميع ما يمضيه، وبلّغه في الدنيا ما يرتجيه، وجعل ما يبرمه مطّردا على التوفيق، وذاهبا مع السداد في أجمل طريق. معونة له على ما أسنده- جل ذكره- إليه، وحفظا للملّة وذبّا عنها على يديه، لا سيّما إذا كان مقدّما لتقوى الله سبحانه، في سائر أفعاله، مؤثرا لرضاه تعالى، في جميع أحواله، غير خارج عن حدوده في تدبير، ولا ناكث عن صراطه في صغير ولا كبير.(2/46)
والحمد لله الذي خصّ مولانا الأمير السيّد، أطال الله بقاءه، من هذه الأوصاف الشريفة، والأخلاق المنيفة، بما فضّله به على ملوك الزمان، وأنطق بذكره وشكره كل لسان، وجعل القلوب كلها، شاهدة به، والآراء على اختلافها، متفقة عليه.
والحمد لله الذي جعل تدبيراته جارية على الصواب، ماضية على سنن الكتاب، محروسة من عيب كل عائب، ثاقبة كالنجم الثاقب، الذي لا يدفع علوّه دافع، ولا ينازع في سموّه منازع.
وإيّاه نسأل، كافّة أوليائه، وخدم دولته، وإليه أرغب، الرغبة التامة من بينهم، في إيزاعه الشكر على ما أولاه، وإلهامه حمده، تقدست أسماؤه، على ما خوّله وأعطاه، وأن يديم له شأنه وتسديده، ويصل بالحق وعده ووعيده، ويحسن من كل نعمة وموهبة، حظّه ومزيده، ويجعل قوله مبرورا، وعدوّه مقهورا، وفعله مشكورا، وقلبه مسرورا، ولا يخليه من جدّ سعيد، إنّه ولي حميد، فعّال لما يريد.
وورد الخبر، بما جرى من الاستظهار على من شكّ في مناصحته ووفائه، وظهر في الدولة سوء رأيه، بعقب تتابع الأنباء، بما كان أضمره من الغدر، وأضبّ عليه من قبح الأمرة، وبما بان منه من إعمال الحيلة على ثلم المملكة، والسعي في تفريق الكلمة، وإفساد البلاد، وإخافة العباد، ولم يصادف وروده، إلّا مستبشرا [120 ط مكرر] به، مستنصبا له، عالما بجميل صنع الله- عز وجل- في وقوعه، شاكرا له على ما أبلاه، وأولاه من المعونة عليه، عارفا بأن مولانا الأمير- أدام الله تأييده- لم يأمر به، وما وجد سبيلا إلى الصلاح، إلّا سلكها، ولا ترك سبيلا إلى الاستصلاح إلّا ركبها، فلم يزده ذلك إلّا تماديا في العصيان وغيّا، ومرورا في ميدان البغي وبغيا يحسن به العدول عن صلة الرحم، بحكم الله عز وجلّ، إذ جعل البغي في كتابه،(2/47)
محلّا للإخلال بحق النسب، حيث يقول، وهو أحسن القائلين إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
«1» فبيّن سبحانه: إنّ الفحشاء ضدّ للعدل، والمنكر مسقط للإحسان، والبغي موجب لقطع القرابة، وأوجب تبارك اسمه، لمولانا الأمير- أدام الله عزّه- النّصر على الباغي، بقوله عزّ من قائل، ومن بغي عليه لينصرنّه الله.
على أنّ الذي أتاه مولانا، أطال الله بقاءه، في بابه، لمواصلة الرحم أقرب، ولأسبابها ألزم وأوجب، إذ حال بينه وبين ما يؤثمه ويرديه، وصدفه عمّا كان يفسد دينه ودنياه بالإيغال فيه، ولم ينقله بذلك، إلّا إلى عيش رغد، وأمر تامّ، ونعمة دارّة، وحال سارّة.
والله يكافىء مولانا الأمير السيّد أطال الله بقاءه على قدر نيّته، ويجازيه بجميل طويته، ويبلّغه من الدنيا بحسب حفظه فيها للدين، ويكبت أعداءه بذبّه عن المسلمين، ويهنّيه بنعمه عليه، ويمتّعه بمواهبه لديه، ويرغم أعداه، ويحمده بدء كلّ أمر وعقباه، إنّه جواد كريم، سميع مجيب «2» .(2/48)
19 من شعر يحيى بن فهد الأزدي
أنشدني أبو محمد يحيى بن محمد لنفسه:
يا من علاقة حبّه فرض ... ضاقت عليّ ببعدك الأرض
فالقلب يخفق وحشة لكم ... حتى كأنّ سواده نبض
وأنشدني لنفسه:
وصفراء من ماء الكروم عتيقة ... مكرّمة لم تمتهن بعصير
صبغت بها كأسي وأطلقت شمسها ... على نوره إلّا بقيّة نور
كسالفة شقراء «1» قد رفّ تحتها ... جربّان وشي أبيض وحرير
كأنّ شعاع الكأس نار توقّدت ... على كفّ ساق زيّنت بخصور
فما حضرت حتى تبدّل ما جنى ... عليّ زماني من أسى بسرور
وأنشدني لنفسه: [121 ط]
لقد نفرت عيني عن النوم بعدكم ... فليس إلى طيب الرقاد تتوق
وقد ألفت طول البكاء كأنّها ... لدمع عيون العالمين طريق
وأنشدني لنفسه:
يا موقد النار في فؤادي ... وآمر العين بالسهاد
حللت من ناظري وقلبي ... - على تعدّيك- في السواد
فليس ترقا دموع عيني ... أو يظفر القلب بالمراد
وليس يطفى لهيب قلبي ... أو تملك العين للرقاد(2/49)
وأنشدني لنفسه:
أصبحت من شوقي ومن ضرّي ... تنمّ أنفاسي على سرّي
وكلّما جئتك أشكو الهوى ... ازددت يا مولاي في هجري
فكم تراني صابرا للبلا؟ ... ستغلب البلوى على صبري
وأنشدني لنفسه:
يغدو عليّ بوجه مشرق غنج ... يا طيب مبتكري فيه وإصباحي
في صورة البدر في قدّ القضيب على ... دعص من الرمل يخطو فوق رحراح
وأنشدني لنفسه من أبيات:
الليل يعجب منّي كيف أسهره ... والشوق ينهى الكرى عنّي وأزجره
والصبح قد ضلّ عن ليلي بوادره ... فما يلمّ بهذا الليل آخره
وأدهم الليل وقف ما يغالبه ... من الصباح على الظلماء أشقره
وأنشدني لنفسه:
إذا أتاك امرؤ يبغيك حاجته ... فقد علاك بفضل ماله ثمن
فاسمع له طائعا وانجح مطالبه ... واعرف له حقه لا خانك الزمن
وأنشدني لنفسه:
يا هاجرا لغلامه ... ومقاطعا لكلامه
ومواصلا لصدوده ... وعتابه وملامه
لم قد هويت جفاءه ... وتركته بغرامه
أمنن عليه بوصلة ... لخضوعه وسقامه
وأنشدني لنفسه:
يا هلالا بدا فوافق سعدا ... وغزالا كأنّه الغصن قدّا(2/50)
ومثالا تكامل الحسن فيه ... فحكت وجنتاه خمرا ووردا
كلما ازددت في القطيعة بعدا ... زدتني جفوة وهجرا وصدّا
تتعدّى وحقّ أن تتعدّى ... كلّ من يملك الجمال تعدّى
إنّني ما اتخذت غيرك مولى ... فاتخذني لحسن وجهك عبدا
وأنشدني لنفسه:
سقى الشوق عيني ماء وجد ولوعة ... فإنسانها في ذلك الماء يسبح
إذا حرّكته من جوى الحب زفرة ... ترقرق فوق الخد منه الملوّح
وأنشدني لنفسه قصيدة يفتخر فيها، أوّلها: [122 ط]
سوى حلمي يخفّ مع الشباب ... وغير أعنّتي يثني التصابي
يقول فيها:
كأنّ عواقب الأيّام مدّت ... فقرّت من فؤادي في كتاب
فلست أدافع الجلّى بشكّ ... ولا أشكو الحوادث بارتياب
وأنشدني أيضا قصيدة أخرى أوّلها:
أبى شرف المناصب والأصول ... وفضل في القلوب وفي العقول
وقلب لا يخوّف بالمنايا ... ونفس لا تقرّ على خمول
لمثلي أن يميل إلى اكتساب ... بغير السمهريّة والنصول
وأنشدني من قصيدة يفتخر فيها:
تعوّد كفّي قائم السيف صاحبا ... يساعده في كل أمر يحاول
سريع مضاء الشفرتين كأنّه ... إذا سلّ من ماء المنية سائل
كأنّ مدبّ النمل فوق غراره ... إذا صحّ منه للعقول التأمل «1»(2/51)
20 بين يحيى بن فهد الأزدي وأبي الفرج الببغاء
وكتب «1» إلى أبي الفرج الببغاء «2» ، إلى الموصل، يتشوّقه، بعد خروجه من بغداد:
ظعنت فما لأنسي من ثواء ... وبنت فبان عن قلبي السرور
ولو أنّي قضيت حقوق نفسي ... تبعتك كيفما جرت الأمور
وودّي ليس ينقصه مغيب ... كما لا يستزيد له حضور
فإن تبعد فإنّك ملء صدري ... وودّك جلّ ما تحوى الصدور
فأجابه أبو الفرج:
بقربك من بعادك أستجير ... وهل في الدهر غيرك من يجير
نأيت فما لسلواني دنوّ ... وغبت فما للذّاتي حضور
وقد صاحبت إخوانا ولكن ... متى تغني عن الشمس البدور
فيا من رعت منه الدهر قدما ... بمن تسمو بخدمته الأمور
ومن قدّرت أنّ له نظيرا ... فحين طلبت أعوزني النظير
إذا كنت السرور وغبت عنّي ... فكيف يتمّ بعدك لي سرور
ولأبي محمد، إلى أبي الفرج، في فصل من كتاب، وقد اعتلّ بعده:
فقدت السلامة لما نأيت ... وحالفت لما بعدت الضنينا(2/52)
وكان اقترابك لي صحّتي ... فحين ارتحلت عدمت القرينا
وما هوّن السقم يا سيّدي اشتياقي ... وحاشى له أن يهونا
فكتب إليه أبو الفرج، في صدر كتاب:
كتابي عن سلامة،
وعن كمد فلّ غرب السلوّ ... وشوق أعاد حراكي سكونا
وقلب يرى كلّ شيء يعين ... قلوب العباد عليه معينا [123 ط]
ولم أر بعدك شيئا يسرّ ... فأفتح أنسا إليه الجفونا
وجملة أمري أنّي اشتكيت ... وقد كان دهري لي مستلينا
وجرّبت مذغبت عنّي الكرام ... فكانوا الشكوك وكنت اليقينا
وأنشدني لنفسه:
يدعي [حبيبي] «1» إلى هجري فيعدل بي ... عن هجره مرض في القلب مكتوم
لو كان ينصفني ما كان يهجرني ... لكنّني الدهر في حبّيه مظلوم «2»(2/53)
21 فقرات من رسائل
لبعض الكتاب، في وصف قاض «1» :
الحمد لله الذي ليس من دونه احتراز، ولا لذاهب عنه مجاز «2» ، هو من لا يبهره الإطراء، ولا يحيله الإغراء.
آخر:
الحمد لله على حلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، الذي لا يودى مسيله، ولا يخيب سؤوله.
آخر:
إنّ لله علينا من النعم ما لا نحصيه، مع كثرة سخطه على ما نعصيه، فما ندري أيّها نذكر، ولا على أيّها نشكر، أجميل ما نشر وأبدى، أم قبيح ما ستر وأخفى «3» .(2/54)
22 بين أبي عمر القاضي وأبي عصمة الخطيب
حدّثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عيّاش «1» ، وأبو جعفر طلحة بن عبيد الله بن قناش «2» الطائي الجوهري البغدادي، وجمعت خبريهما، قالا:
كان أبو عصمة العكبريّ الخطيب، غالبا على أبي القاسم بن الحواري «3» ، وكانت منزلته في الطيبة مشهورة، قال، فحدّثنا:
أنّ أبا عمر «4» خطب لابن رائق «5» الكبير، على ابنة قيصر الكبرى، فأطال وأبلغ، وكان يوما حارّا.(2/55)
فلما انقضت الخطبة، قيل له: اخطب على البنت الأخرى، للابن الآخر.
فكره الإطالة، لئلا يضجر الخليفة، وأراد التقرّب إليه، فحمد الله سبحانه بكلمتين، ثم قرأ آية من القرآن، وعقد النكاح.
فنهض المقتدر مبادرا لشدّة الحرّ، ووقع ذلك عنده ألطف موقع لأبي عمر.
قال: فعاد ابن الحواري إلى داره، وجئت، فجلست عنده أحادثه، وأتطايب له، وأغمز رجله.
فقال: جرى اليوم لأبي عمر القاضي كلّ جميل، ووصفه الخليفة، وقرّظه، واستحسن إطالته في الخطبة الأولى، وإيجازه في الثانية، وقال:
مثل هذا الرجل، وفيه هذا الفضل، لم لا نزيد في الإحسان إليه؟ فقرّرت مع الخليفة، بأن يزيده في أرزاقه وأعماله، كذا وكذا، فأمرني بتنجيز ذلك له من الوزير.
قال: وكان ابن الحواري، صديقا لأبي عمر.
فلما سمعت ذلك، دعتني نفسي إلى أن أستبق بالخبر، إلى أبي عمر، لأستحقّ البشارة، وأتقرّب إليه.
وطال عليّ الوقت، حتى نام أبو القاسم، فركبت دابّتي، وجئت إلى أبي عمر، فأنكر مجيئي ذلك الوقت [124 ط] ، وعلم أنّه لمهمّ، فأوصلني، فجلست، وهنّأته، وحدّثته بالحديث على شرحه.
فقال أبو عمر: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأحسن الله جزاء أبي القاسم، ولا عدمتك.
فاستقللت شكره، وولّد لي فكرا، مع ما بان لي في وجهه من التعجّب منّي.
فلمّا خرجت ندمت ندما شديدا، وقلت: سرّ السلطان، أفشاه إلى رجل عنده فوق الوزير، فباح ذلك الرجل به بحضرتي وحدي، لا يسرّه(2/56)
عنّي، ولعلّه هو، أراد أن يعتدّ به على أبي عمر، بادرت أنا بإخراجه، إن راح أبو عمر فشكره على ذلك، أو ذاكره به، فعلم أنّ ذلك من فعلي، بأيّ صورة يتصورني؟ أليس يراني بصورة من خرج بسرّ؟ وإخراج السرّ، في الخير والشرّ، والفرح والغم، والجيّد والرديء، واحد؟
وإن أدّاه ذلك إلى استثقالي واحتشامي، أليس في هذا انتقاص معيشتي وخيري؟ ثم إن حجبني عنه، من يوصلني إليه؟ ومن يرغب في استخدامي بعده أو يدخلني داره؟ أو ليس ينتشر في البلد، إنّه طردني، لأنّني أفشيت له سرّا، لا يدرى ما هو.
ليس إلّا أن أرجع إلى أبي عمر، فأسأله كتمان ذلك.
قال: فرجعت من حيث قدّمت لي دابتي، ولم أركب.
فحين وقع ناظر أبي عمر عليّ، قال لي: يا أبا عصمة «1» ، ولا حرف، ولا حرف.
قال: فكأنّه حسب ما حسبته لنفسي، وعلم ما علمته، ممّا طرأ عليّ، فلمّا رآني قد استدركت ذلك، علم أنّي ما رجعت إلّا لأسأله كتمان هذا، فبدأني بما قاله. فشكرته وانصرفت، ولم أجلس.
وقد أخبرني أبو الحسين بن عيّاش رحمه الله، بهذا الخبر، عن أبي عصمة، ولم يذكر فيه حديث الخطبة، ولا أي شيء كان السرّ، وهذا الحديث أشرح، فأوردته هكذا «2» .(2/57)
23 القاضي يخطب بين يدي الخليفة في الإملاك
حدّثني أبو الحسن بن الأزرق «1» ، قال: حدّثني القاضي أبو طالب بن البهلول «2» ، قال:
لما تأخّر أبي «3» عن حضور المواكب، وكان لا يخطب في الإملاكات غيره، عرض للمقتدر «4» رأي، في إملاك بحضرته.
فقال لي عليّ بن عيسى «5» هذا شيء كان إلى أبيك، وأنت أحقّ به.
فقلت: لا أقوم به.
فقال لأبي عمر «6» : فاخطب أنت.
فاستعفاه، وسأله أن يجعل ذلك إلى ابنه «7» ، فجعل إليه.
وكان يخطب بحضرة المقتدر في الإملاكات «8» .(2/58)
24 وصف طبق قطائف
وصف القاضي المعروف بالنقّاش، طبق قطائف، قدّم إليه، فقال:
اقشعرّ جلده «1» من كثرة حمله «2» .
25 النداء على الرطب الآزاد
حدّثني خالي، قال:
سمعت مناديا ببغداد، ينادي على الرطب الآزاد «3» : هوذا أولاد الخلافة، في الغلائل نيام «4» .(2/59)
26 الوزير ابن مقلة وأبو أحمد الفضل الشيرازي الكاتب
حدّثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي، قال:
حدّثني أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازيّ الكاتب «1» ، قال:
كنت أكتب بين يدي أبي علي بن مقلة «2» ، وهو وزير، وكانت حالي صغيرة، وكنت أستحلي قينة كنت أنفق جميع ما أكسبه عليها.
وكان أبو عليّ يعرف ذلك من خبري، فيخصّني بالأعمال التي تكسب المنافع، وإذا أراد كتب عهد [125 ط] لعامل، أو إجابة صاحب طرف، لم يعدل بذلك عنّي، فأنتفع بالمائتي دينار، والثلاثمائة، والأكثر، والأقلّ، ولا أبقي شيئا.
قال: فكان من ذلك، أنّ كتاب ملك جرزان «3» ، ورد عليه، فرمى به إليّ، وأمرني بالإجابة عنه.
فجاءني موصله، يتنجّز الجواب، وحمل إليّ مائتي دينار، وثياب ديباج، وغير ذلك.
فأجبته جوابا جميلا، وأخذت ذلك فأنفقته كلّه على المغنّية.(2/60)
واصبحت بعد أيّام، وهي عندي، وليس معي ما أجذرها «1» به في يومي ذلك، وأنا قلق من انصرافها، ولا حيلة لي في إسلامها، حتى جاءني غلامي، فقال لي: إنّ صاحب جرزان على الباب.
فتثاقلت به، وقلت: لم يبق شيء أتوقّعه منه، وقد كتبت كتبه، وأنا متشاغل بحيلة ما أجذر هذه اليوم، فاحجبه عني.
قال: فخرج وعاد وقال: قد أعطاني عشرة دراهم، وسألني إيصاله إليك.
قال: فطمعت فيه، وقلت: إذا أعطى غلامي عشرة دراهم، فالأمر يحتمل أن يصل إليّ، هاته.
قال: فدخل، وأخرج الكتاب، وقال: يا سيّدي، كانت العادة، إذا عنون الكتاب إلى صاحبي، وقيل: لأبي فلان بن فلان، أن يقال بعد ذلك: ملك جرزان، ولم يقل هذا، وفيه عليه غضّ في عمله، فحلق «2» ذلك.
قال: فقلت هذا لا يجوز إلّا بأمر من الوزير، وهذا أمر عظيم، وإذا قيل ذلك فكأنّما قد أزلنا ملك السلطان عن ذلك الصقع، وأخذت أهوّل الأمر، وأفخّمه، بقدر طاقتي.
فقال: يا سيّدي، لا زمان «3» عليّ في مساءلة الوزير، لأنّي أريد الخروج اليوم مع القافلة، فخذ مني ما شئت، واكتب لي.
قال: فزاد طمعي فيه، وقلت: هذا أمر لا يمكن للوزير فعله، إلّا بأمر الخليفة.
قال: فما زلت معه في ألوان، إلى أن دفع لي في الحال، ثلاثمائة دينار عينا.(2/61)
فقلت: على شريطة أن لا يرى الكتاب أحد معك، ولا تقم اليوم ببغداد.
قال: فشار طني على ذلك.
فكتبت إلى جانب العنوان «ملك جرزان» فقط، وأخذت الدنانير وانصرف الرجل، ولم أدع الجارية تبرح ومعي شيء من الدنانير.
قال: ثم دخلت إلى أبي عليّ. بعد ذلك بأيّام، فرمى إليّ كتبا، وقال:
اكتب لصاحبها عهدا على أعماله بتستر «1» .
قال: فجاءني الرجل، وحمل إليّ مائتي دينار، وثلاثة أثواب تسترية، وعمامة منها، فكتبت عهده، وقطعت الثياب، وكنت أنفق من تلك الدنانير.
قال: وكان بين أبي عليّ، وبين أبي العبّاس الخصيبيّ «2» ، من العداء والمشاحة على الوزارة، ما عرفه الناس «3» ، وكانت لأبي العبّاس عليّ، حقوق، ورياسة قديمة، فكنت أحبّ لقاءه، وأخاف من أجل الوزير، فكنت ربّما مضيت إليه في الأيّام سرّا، واعتذرت من تقصيري باتّصالي بالوزير، فيعذرني.
فاتّفق أنّي مضيت إليه يوما سحرا، في تلك الثياب الجدد، وعدت إلى دار الوزير، فلما صرت في الحجرة [126 ط] التي كان فيها، وجدته «4»(2/62)
وأبا الحسين ابنه «1» ، مختليين، وفي ناحية من الدار جماعة من الكتاب جلوس، منهم أبو جعفر بن شيرزاد «2» ، وأبو محمد المادرائي «3» ، وأبو علي الحسن بن هارون «4» ، وغيرهم.
فعدلت لأجلس مع الجماعة، فلمّا رآني الوزير، صاح: تعال، بحرد.
قال: فقمت فزعا، أن يكون الخبر بلقائي الخصيبيّ، قد رقي إليه، فجئته، فأسرّ إلى أبي الحسين، بشيء في أمري، لا أدري ما هو، ثم ضحك وقال: اجلس، فلما ضحك، سكنت نفسي، وجلست.
فقال: اليوم يوم سبت، والهوا «5» طيّب، فما ترى في ترك العمل والصّبوح؟
فقلت: هذا والله عين الرأي، وحقيقة الصواب، ونفس الواجب، وما لا يجوز العدول عنه، ولا الخروج منه، ولا التأخّر عن فعله، وأخذت أصف طيب الصبوح، وأروي ما حضرني فيه، في الحال.
قال: فقال لحاجبه: قل لأصحابنا، يمضون إلى الديوان، وينظر كلّ(2/63)
واحد في أمره، وما إليه، وأخل دار العامة، ولا تستأذن عليّ لأحد، حتى أتشاغل بالصبوح.
ثم دعا الفراشين، فأمرهم بفرش حجرة كان يستطيبها، وقال:
أريد أن تكون في نهاية الضياء، من غير أن يسقط فيها خرم إبرة شمس.
فقام فلم تكن إلّا ساعة، حتى جلس فيها، فأكلنا معه، ونفسي متطلّعة إلى ما جرى.
فلما نهضنا لغسل أيدينا، سألت أبا الحسين عن ذلك، فقال: إنّ الوزير لما رآك، قال: هذا الرجل يخدمنا، ويختصّ بنا، وواجب الحقّ علينا، وهو يعشق مغنّية لعلّ ثمنها شيء يسير، ويتلف كلّ ما يكسبه عليها، ولا نشتريها له؟ أيّ شيء أقبح من هذا؟
قال: فقلت له- وكنت أعرف في أبي الحسين شدّة- فأيّ شيء قلت له يا سيّدي؟
قال: قد قوّيت رأيه.
قلت: لا يقنعني هذا والله، أريد أن تتجرّد، وتصمّم، وتذكّره، ولا تدعه أو يتنجّز لي ثمنها اليوم.
فقال: أفعل.
وقام أبو الحسين لينام، فلم يحملني أنا النوم، وقعدت، فعملت أبياتا في الوزير، أشكره على هذا الرأي، وأتنجّز الوعد، وحرّرتها بأحسن ما قدرت عليه من خطّي.
فلما جلسنا للشرب، وشرب الوزير أقداحا، رميت إلى أبي الحسن ابن هارون بن المنجم، بالرقعة، وكانت له عادة عندي في التعصّب لشعري، والمدح لي عند الوزير، لنفاقه عليه، واختصاصه به، من بين ندمائه.(2/64)
فأخذ أبو الحسن الرقعة، فأنشد منها الشعر، وأتبع ذلك بوصفها وتقريظها، وتبعه الجماعة، واستحسن الوزير ذلك، فأخذ الرقعة، فقطع بالسكّين سحاة عريضة منها «1» ، فكتب في رأسها شيئا، ودفعه إلى أبي الحسين، فكتب فيها شيئا، ثم أخذها الوزير، فلفّها شديدا حتى صارت كالزرّ، ورمى بها، فإذا هي في حجري، ففتحتها، فإذا فيها: ندى الخادم، عشرة آلاف درهم، وبخط أبي الحسين: فلان الجهبذ خمسة آلاف درهم.
قال: فجئت لأنهض، فأشكره، وأقبّل يده، فأومأ إليّ [127 ط] بإصبعه، أن اسكت، ووضعها على فيه، فسكتّ، وشربنا إلى أن حضرت المغرب، وقام الوزير ليصلّي، وقمنا.
قال: فاستدعاني، فقال: أخذت المال؟
فقلت: لا.
فقال: إنّا لله، ظننتك أفره من هذا، إذا قال لك السلطان، هات لأعرف لك، فابسط حجرك «2» ، ولا تنتظر غضارة «3» ، إن صرفني الخليفة الليلة عن الوزارة، كيف تصل أنت إلى المال؟ إن متّ؟ إن كان كذا؟
فقلت: حاشاك يا سيّدي، لعن الله هذه الدراهم، مع هذا القول، يبقيك الله ألف سنة.
فقال: دع ذا عنك، ثم نادى الخادم، فجاء، فقال: خذ هذه الرقعة، وأحضر المال الساعة، قبل أن أتمّم الصلاة.
قال: فأخذها الخادم ودخل هو في الصلاة، ودخلنا نحن، فو الله،(2/65)
ما تمّمنا صلاتنا، حتى حضر المال، ولم يكن معي غلام يحمله، إلّا صبيّ بحمل دواتي، ولا يطيق ذلك.
قال: فالتفتّ إلى بدعة الصغيرة، وكانت في المجلس، وكان بيني وبينها ودّ، وهي تتعصّب لي، فقلت: يا ستّي، أعيريني بعض خدمك، يحمل هذا المال معي، إلى داري، فإنّ غلامي لا يطيقه.
قال: وكانت بدعة الحمدونية «1» ، إذا حضرت المواضع، معها عدّة جوار وخدم وفرّاشين.
قال: فدفعت إليّ غلامها، وكان مقدّما عندها، فسلّمت إليه المال، فحفظه، حتى أدّاه إلى منزلي.
فاستدعيت مولاة الجارية، وبذلته لها في ثمنها، فقالت: لا أبيعها إلّا بثلاثين ألفا، فاستقبحت إعلام الوزير بالصورة، وتاقت نفسي إلى نفقة «2» المال، فأسلفتها منه للجذور، خمسة آلاف درهم، وأنفقت الباقي عليها في مدّة يسيرة «3» .(2/66)
27 الوزير ابن مقلة يهدي لكاتبه عطرا وشرابا ومالا
حدّثني أبو محمد أيضا «1» ، قال: حدّثني أبو أحمد أيضا «2» ، قال:
غدوت في بعض الأيّام إلى حضرة الوزير أبي عليّ بن مقلة، وأنا في بقية خمار «3» ، وقد خلّفت في داري هذه الجارية.
فلما مضى من النهار ساعتان، عنّ للوزير قطع العمل، والتشاغل بالشرب.
فقطعت من رأس الدرج «4» ، قطعة، وكتبت فيها إلى أخي، آمره باحتباس الجارية، وبإعداد أشياء رسمتها له، وأعلمته أنّني على أثر الرقعة، مع تشاغل الوزير بالأكل، وعملت على الاحتجاج للوزير بالخمار، والوزير يلحظ ما أكتبه، ويقرؤه، وأنا لا أعلم.
وسلّمت الرقعة إلى غلامي، ومضى بها إلى منزلي.
فلم يكن بأسرع من أن نهض الوزير، واستدعى المائدة، وأمرني بالأكل معه، فامتنعت، واحتججت بعظم الخمار، وأنّني لا أقدر على شمّ الطعام، فضلا عن أكله.
فألحّ علي، فألححت في الامتناع.(2/67)
فاستدعى عملا كان بين يديه، وأخرج منه عدّة كتب، وآمرني بالانفراد، والإجابة عنها.
فورد عليّ من ذلك ما أقلقني، ولم أعلم غرضه، ولا أنّه يستدعيني إلى الطعام، ويشير عليّ بالدخول معه في ذلك الأمر، وتأخير الكتابة إلى غد، وأنا مقيم على شكوى الخمار، وتعذّر الأكل عليّ.
إلى أن فرغت من الكتب، وقد توسّط [128 ط] أكله، وجئت بها مقدّرا أنّه يأذن لي في الانصراف.
فقال: قد تبقّى من مدّة أكلنا، ما تبلغ به وطرك من الطعام، فاستخر الله، وساعدنا.
فأقمت على الامتناع.
فاستدعى عملا ثانيا، وأخرج منه عدّة كتب أخر، وقال لي: إذا كنت غير داخل معنا في أمرنا، فأجب عن هذه أيضا.
فورد عليّ أعظم من الأوّل، وانفردت للإجابة، إلى أن فرغت منها، مع فراغه من الأكل.
وجئت بالكتب فعرضتها عليه، وأنا لا أشكّ في الانصراف.
فقال لي: لست أشكّ في تصرّم خمارك، فاستدع ما تأكله، والحق بنا.
فأقمت على الامتناع.
فاستدعى عملا ثالثا، ليشغلني بشيء، وتبسّم.
فقلت له: ما هذه الحاجة الداعية إلى اتّصال العمل علي في هذا اليوم.
فقال: قد قرأت رقعتك إلى أخيك، من ظهرها.
فعرفت من حيث أتيت، فضحك، وضحكت.
وأمر بإحضار مائتي دينار، وعشرين دنّا من الشراب العتيق، وسلّم(2/68)
ذلك إلى غلامي، ثم أمر بإحضار صندوق صغير له، فيه طبب، فقدّم إلى حضرته، ومنديل دبيقيّ «1» ، وجعل فيه من الصندوق، من الندّ «2» كفا، ومن العود المقليّ «3» كفّا، وكذلك من الكافور والمسك، مثل ذلك، واستدعى قدحا، فجعل فيه أواق «4» غالية، ووضعه في المنديل، وختمه بخاتمه.
وقال: إمض، فأنفق هذه الدنانير، واشرب الشراب، وتبخّر بهذا البخور.
فأخذت جميع ذلك، وانصرفت «5» .(2/69)
28 أنت تحركت على الصفراء ليس الصفراء تحرّكت عليك
وحدّثني أبو محمد أيضا «1» ، قال حدّثني أبو أحمد «2» أيضا قال:
كانت هذه الجارية صفراء، تسمى «بهجة» .
فشربت معها ليلة، وأصبحت مخمورا، فآثرت الجلوس معها، على لقاء الوزير أبي عليّ، وكان يعرف خبري معها.
فأردت الاعتذار إليه من التأخّر عن الخدمة، وأخفي خبري عليه، فكتبت إليه رقعة أعتذر فيها، وأقول: إنّ الصفراء «3» تحركت عليّ، فتأخّرت.
فوقّع على ظهرها بخطّه: أنت تحرّكت على الصفراء، ليس الصفراء تحرّكت عليك «4» .
قلت: وهذا التوقيع يشبه ما أنشدنا أبو الحسن عليّ بن هارون بن المنجم، لنفسه، في جارية صفرآء، وقد شكا إلى الطبيب مرة الصفراء، ولا أدري أيّهما أخذ من صاحبه:(2/70)
قال الطبيب وقد تأمّل سحنتي ... هذا الفتى أودت به الصفراء «1»
فعجبت منه إذ أصاب وما درى ... قولا وظاهر ما أراد خطاء «2»
29 بغل لا يصلح للبيع
رأى رجل في حمّام، رجلا وافر المتاع، فقال له عابثا: تبيع هذا البغل؟
قال: لا، ولكنّي أحملك عليه «3» .(2/71)
30 القاضي أبو الحسن الهاشمي يغسل الخليفة الراضي
وحدّثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي رحمه الله «1» ، قال: لمّا مات الراضي رضي الله عنه «2» ، أنفذ إليّ، فاستدعيت لغسله، فحضرت، ودخلت إلى الموضع الذي هو فيه من دار الخلافة، فإذا به مسجّى، على وجهه إزار مرويّ [129 ط] غليظ «3» .
فقلت: لا إله إلا الله، مثل هذا يطرح على وجه خليفة؟
فقال لي بعض الخدم: إنّه لمّا مات، أخذ كل إنسان، ما هو مثبت عليه، فرده إلى الخزانة، حتى طرحت أنا عليه إزاري هذا.
قال: فطلبنا مرجلا أو مسينة «4» لنغلي فيها ماء حارا، فما وجدنا، حتى جاءوا بها بعد مدة من حجرة بعض الخدم.
فغسلته، وكفّنته بأكفان جميلة من داري «5» ، وصلّيت أنا والخدم عليه، وحمل إلى داره بالرصافة فدفن فيها «6» .(2/72)
31 الخليفة الواثق، يهمل بعد موته فيأكل الحرذون عينيه
حدّثني الحسين بن الحسن بن أحمد بن يحيى الواثقيّ، قرابة أبي، قال: حدّثني أبي، قال حدّثني أبي أحمد «1» ، قال:
كنت أخدم الواثق «2» ، وأخدم تخته، في علّته التي مات فيها.
فكنت قائما بين يدي الواثق، في علّته، أنا وجماعة من الأولياء، والموالي، والخدم، إذ لحقته غشية، فما شككنا أنّه قد مات.
فقال بعضنا لبعض: تقدّموا فاعرفوا خبره، فما جسر أحد منهم يتقدّم.
فتقدّمت أنا، فلما صرت عند رأسه، وأردت أن أضع يدي على أنفه وأعتبر نفسه، لحقته إفاقة، ففتح عينيه، فكدت أن أموت فزعا من أن يراني قد مشيت في مجلسه إلى غير رتبتي.
فتراجعت إلى خلف، فتعلّقت قبيعة «3» سيفي بعتبة «4» المجلس، وعثرت به، فانكببت عليه، فاندقّ سيفي، وكاد أن يدخل في لحمي، ويجرحني.(2/73)
فسلمت، وخرجت، واستدعيت سيفا ومنطقة أخرى، ولبستها وجئت حتى وقفت في مرتبتي ساعة. فتلف الواثق تلفا لم تشكّ جماعتنا فيه، فتقدّمت فشددت لحييه، وغمّضته، وسجّيته، ووجهته إلى القبلة، وجاء الفرّاشون، وأخذوا ما تحته في المجلس، ليردّوه إلى الخزانة، لأنّ جميعه مثبت عليهم، وترك وحده في البيت.
فقال لي ابن أبي دؤاد القاضي: إنّا نريد أن نتشاغل بعقد البيعة، ولا بدّ أن يكون أحدنا يحفظ الميت إلى أن يدفن، فأحبّ أن تكون أنت ذلك الرجل.
وقد كنت من أخصّهم به في حياته، وذلك أنّه اصطنعني، واختصّني، حتى لقّبني الواثقيّ، باسمه، فحزنت عليه حزنا شديدا، وقلت: دعوني، وامضوا.
فرددت باب المجلس، وجلست في الصحن، عند الباب أحفظه، وكان المجلس في بستان عظيم، أجربة، وهو بين بستانين.
فحسست بعد ساعة، في البيت، بحركة عظيمة أفزعتني، فدخلت أنظر ما هي، فإذا بحرذون «1» قد أقبل من جانب البستان، وقد جاء حتى استلّ عيني الواثق، فأكلهما.
فقلت: لا إله إلّا الله، هذه العين التي فتحها منذ ساعة، فاندقّ سيفي هيبة لها، صارت طعمة لدابّة ضعيفة.
قال: وجاءوا فغسلوه بعد ساعة، فسألني ابن أبي دؤاد، عن سبب عينيه، فأخبرته.
قال: والحرذون، دابّة أكبر من اليربوع قليلا «2» .(2/74)
32 ما أرانا إلا كنا خزانا للوليد
حكي عن هشام بن عبد الملك «1» ، إنّه لما ثقل، وأخذ في النزع، أغمي عليه، ثم أفاق، فطلب شيئا.
فقيل له: إنّ الخزّان قد أقفلوا على جميعه، وتفرّقوا.
قال: فتنفّس [130 ط] الصّعداء «2» ، وقال: ما أرانا إلّا كنّا خزّانا للوليد «3» بن يزيد «4» .(2/75)
33 الخليفة القاهر يعذب أم المقتدر زوجة أبيه، ويصلبها منكّسة
وهذه شغب «1» أم المقتدر بالأمس، تنعّمت ما لم يتنعّمه أحد، ولعبت من أموال الدنيا بما استفاض خبره.
فلما قتل المقتدر «2» قبض عليها القاهر «3» ، فعذّبها صنوف العذاب حتى قيل إنّه علّقها بثدييها، يطالبها بالأموال. وحتى علّقها منكّسة «4» ، فبالت، فكان بولها يجري على وجهها.
فقالت له: يا هذا، لو كانت معنا أموال، ما جرى في أمرنا من الخلل، ما يؤدّي إلى جلوسك، حتى تعاقبني بهذه العقوبة، وأنا أمّك في كتاب الله عزّ وجل، وأنا خلّصتك من ابني في الدفعة الأولى، حتى أجلست هذا المجلس «5» .(2/76)
34 الخليفة القاهر يعذب أم المقتدر ويضطرها لبيع أملاكها
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش، قال: حدّثني عمي أبو محمد، قال:
أنفذني أبو الحسين بن أبي عمر القاضي «1» ، وابن حباب الجوهري، إلى القاهر، وكان قد طلب منه شاهدين، ليشهدا على أمّ المقتدر، بتوكيلها، في بيع أملاكها.
قال: فصرنا إلى دار الخلافة، واستؤذن لنا، فدخلنا إلى القاهر، وهو جالس في صحن كبير، عند باب ممدود عليه ستارة ديباج، وسبنيّة «2» ، على كرسيّ حديد، وفي يده حربة يقلّبها، وخدمه قيام على رأسه.
فسلّمنا عليه، ووقفنا.
ودفع إلينا أحد الخدم، كتابا أوّله: أقرّت شغب، مولاة أمير المؤمنين المعتضد صلوات الله عليه، أم جعفر المقتدر رحمة الله عليه.
فوقفنا عليه، فإذا هو وكالة ببيع أملاكها، في سائر النواحي.
فقلنا للخادم: فأين هي؟
قال: وراء الباب.
فاستأذنّا الخليفة في خطابها، فقال: افعلا.(2/77)
فقلنا: أنت عافاك الله هاهنا، حتى نقرأ عليك؟
فقالت: نعم.
فقرأنا عليها الكتاب وقرّرناها، ثم توقّفنا عن كتب الشهادة، فأومأ بعضنا إلى بعض، كيف نعمل في رؤيتها؟ وإلّا لم يمكنّا إقامة الشهادة، وهبنا الخليفة.
فقال: ما لكم تتآمرون؟
فقلنا: يا أمير المؤمنين، هذه شهادة، نحتاج أن نقيمها عند قاض من قضاة أمير المؤمنين؟
فقال: نعم.
قلنا: فإنها لا تصحّ لنا دون أن نرى المرأة بأعيننا، ونعرفها بعينها واسمها، وما تنسب إليه.
فقال: افعلوا.
قال: فسمعت من وراء الستارة، بكاء، ونحيبا، ورفعت الستارة.
فقلت لها: أنت شغب، مولاة أمير المؤمنين المعتضد بالله صلوات الله عليه، أمّ جعفر المقتدر رحمة الله عليه.
قال: فبكت ساعة، ثم قالت: نعم.
فقرّرناها على ما في الكتاب، وأسبل السّتر، فتوقّفنا عن الشهادة.
فقال القاهر بضجر: فأي شيء بقي؟
فقلنا: يعرّفنا أمير المؤمنين إنّها هي.
فقال نعم، هذه شغب، مولاة أبي المعتضد بالله، أمير المؤمنين، وأمّ أخي جعفر المقتدر بالله، ونهض.
فأوقعنا «1» خطوطنا في الكتاب، وانصرفنا.(2/78)
قال: ولمّا رأيتها، وجدتها امرأة عجوزا، دقيقة الوجه والمحاسن [131 ط] ، سمراء اللون إلى البياض والصفرة، عليها أثر ضرّ شديد، وثياب غير فاخرة» .
فما انتفعنا بأنفسنا ذلك اليوم، فكرا في تقلّب الزمان، وتصرّف الحدثان «2» .
وجئنا، فأقمنا الشهادة، عند أبي الحسين القاضي «3» .(2/79)
35 يقتلون شيخا حسن الشيبة ثم يظهر أنّه خنّاق
حدّثني أبو جعفر، أصبغ بن أحمد الكاتب «1» ، شيخ خدم قديما الصيمريّ، وحجب أبا محمد المهلبي «2» ، وهو إذ ذاك يخلف أبا جعفر الصيمري «3» على الأمور كلّها، فلما ولي أبو محمد الوزارة، صرفه عن حجبته، وصرّفه فيما يتصرّف فيه المستخرجون والمستحثّون، قال:
حدّثني بعض غلمان بجكم «4» ، قال: أنفذني إلى الأنبار «5» ، في جماعة غلمان، لقتل قوم كانوا محبّسين من الأعراب، وأمرنا بحمل رؤوسهم إليه، وكتب لنا في ذلك.
فجئنا إلى العامل، فأوصلنا إليه الكتاب، فسلّم القوم إلينا، فضربنا أعناقهم، وقطعنا رؤوسهم.(2/80)
وأقمنا ليلتنا هناك، وبكّرنا، والرؤوس في مخالي دوابّنا، مسمّطة «1» عليها، ونحن نريد بغداد.
وكنّا عشرة غلمان، والمقتّلين عشرة.
فلما صرنا في بعض الطريق، وحمي النهار، أوينا إلى قرية خراب، وجلسنا نأكل، والمخالي بين أيدينا، فيها الرؤوس، قد نحّيناها عن الدواب، وتركنا الدواب ترعى.
فلما فرغنا من أكلنا، قمنا إلى المخالي، فافتقدنا من الرؤوس التي فيها واحدا، فقامت قيامتنا، وقلنا نحن مقتولون به، سيقول لنا بجكم:
أخذتم منه مالا، وتركتموه، كيف نعمل؟
فأجمع رأينا على أن نخرج إلى تلك الصحراء، فنعترض رجلا كائنا من كان أوّل ما نلقاه، فنقتله، ونجعل رأسه في المخلاة، بدلا من الذي ضاع، ونسير.
فخرجنا على هذا، فأوّل من استقبلنا، رجل شيخ، حسن الشيبة والثياب، له سجّادة وسمت «2» ، وهو راكب حمارا، عليه خرج مثقل، وهو يسير.
فأوقعنا به وقتلناه، بعد أن تذمّمنا من قتله، مع ما رأيناه عليه، إلّا أنّا خفنا أن ينتشر الناس في الطريق، فلا يمكنّا قتل أحد، ونكون نحن المقتّلين.
فقتلنا الرجل، وقطعنا رأسه، وجئنا لنجعله في المخلاة، فإذا نحن برأس ملقى بين أرجل الدواب، فشككنا فيه، وعددنا الرؤوس، فإذا هي أحد عشر.(2/81)
فشككنا، حتى أخذ كل واحد منا رأسا، وبقي في الأرض رأس واحد فاضلا.
فقامت قيامتنا، ولطمنا، وقلنا: قتلنا رجلا مسلما بغير سبب، وشقّ ذلك علينا.
وكان معنا شيخ من الغلمان، جار «1» ، فقال: يا قوم، إنّكم ما سلّطتم على هذا الشيخ، إلّا وله عند الله سريرة سوء، ففتّشوا رحله، لعلّكم تستدلّون على ما يزول به غمّنا في قتله.
فقمنا إلى رحله «2» ، فحططنا الخرج عنه، وفتحناه، فأوّل شيء خرج علينا، هو بكرة، ثم تلا ذلك، ثياب ملوّثة بالدم وبالغائط.
وتوالت الأدلّة علينا، فإذا هو خنّاق شدّاخ.
فحمدنا الله تعالى على [132 ط] ما سلّمنا من قتل من لا يستحق القتل.
وتقاسمنا قماشه، ودفنّا رأسه في الطريق.
وجئنا فسلّمنا العشرة الرؤوس إلى بجكم «3» .(2/82)
36 القاضي أبو عمر وحسن تصرّفه ووفور عقله
حدّثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشميّ «1» ، قال:
ركبت مع القاضي أبي عمر «2» ، في يوم موكب، في طيّاره «3» ، إلى دار المقتدر.
فصعد هو وابنه «4» ، وجلست أنا والجماعة، في الطيّار، ننتظر رجوعه.
فرأيت جماعة من الخدم، وقد وقفوا له، يشتمونه بأقبح لفظ، ويقولون له:
يا ظالم، يا مرتشي، وهو مطرق إلى الأرض، يمشي إلى أن دخل الدار.
فهالني إقدامهم عليه، وقبح الصورة، وقلت في نفسي: إن لم يكن هذا الفساد برأي الخليفة، وإلا فيجب أن يشتكي إليه منهم الساعة، حتى يؤدّبوا.
فلمّا عاد، خاطبه أولئك الخدم، بأقبح من الخطاب الأول، فعلمت أنّه ما شكاهم، ولم أقدم على مخاطبته في ذلك، لعظم هيبته، وافترقنا.
فلما كان عشيّ ذلك اليوم، عدت إليه، وهو متخلّ، وقد استدعى(2/83)
بعض أصحابه، ودفع إليه تخوت ثياب فاخرة، وطيبا، وأشياء قيمتها خمسمائة دينار، وأمره بحملها إلى خادم كان رئيس أولئك الخدم الذين سبّوه غدوة.
وقال له: إقره السلام، وقل له كنت راسلتني في أن أحكم لفلان بشيء، لم تجز إجابتك إليه، لأنّه لم يكن مذهبي، ولا ممّا يجوز عندي في الحكم، ولو عرضت على السيف لم أجب إلى محال في حكم، فرددتك.
فكان منك بالأمس ما لم يرض الله به، ولا قدح في شيء من أمرنا، ولكنّي استدللت به على عتبك، ووقع لي أنّ الرجل كان وعدك بشيء ساءك فوته، وقد أنفذت إليك هذا- وضع الهدية بين يديه- وأحبّ أن تقبله، وتعذرني.
قال: فاغتظت منه، وقلت في نفسي: يؤدّي جزية، ويعطي مصانعة عن عرضه، أيّ رأي هذا؟
فمضى الرسول، وافترقنا، ما بدأني بشيء، ولا بدأته به.
فلما كان في الموكب الثاني، صحبته، فصعد من الطيّار، وجلست على رسمي، فإذا بأولئك الخدم، وعدّة أكثر منهم، وقد وقفوا له سماطين، يقولون: يا عفيف، يا نظيف، يا مأمون، يا ثقة، يا جمال الإسلام، يا تأريخ القضاة، ويدعون له، ويشكرونه، حتى صعد من الطيار. وخدموه أحسن خدمة، وهو ساكت على رسمه، إلى أن دخل الدار، ثم عند خروجه إلى أوّل ما نزل طيّاره.
فتحيّرت مما رأيتهم عليه من التضادّ في الدفعتين، مع قرب العهد.
فلما استقررنا في الطيّار، قال لنا أبو عمر: كأنّي بكم أنكرتم ما جرى منهم في ذاك الموكب، قلتم: لو شكاهم إلى الخليفة، فأمر بتأديبهم، أليس كذا وقع لكم؟(2/84)
قلنا: بلى.
قال: كيف رأيتم ما شاهدتم اليوم؟
قلنا: أحسن منظر.
قال: إنّه لم يذهب [133 ط] عليّ ما فكّرتم فيه، ولكنّي علمت أنّه لو شكوتهم، كنت بين أمور:
إن لم يقع إنكار، فتنخرق هيبتي، ويبطل جاهي، ويطمع كلّ أحد فيّ، ويجر عليّ ذلك أمورا كبارا.
أو وقع إنكار ضعيف، كان ذلك إغراء لهم.
أو وقع إنكار قويّ، صاروا كلّهم أعدائي، وتنقّصوني، وعاداني بعداوتهم من فوقهم من الخدم، ولهم بالسلطان خلوات ليست لي، فيولّدون عليّ عنده من الحكايات والسعايات، ما يفسد عليّ رأيه في مديدة.
وإنّي علمت أنهم ما قصدوني بهذا لشيء بيني وبينهم، وإنّما هي طاعة منهم، للخادم الذي هو رئيس عليهم، وأنّ ما حمله على ذلك، ما كان طمع في أخذه على قضاء الحاجة التي سألني فيها فرددته.
وعلمت أنّي إذا عوّضته واستصلحته، صلح لي جميع هؤلاء.
فعملت ما رأيت، فانصلح هؤلاء، وجميع الخدم، وأمنت عداوتهم، وعادوا يكذّبون أنفسهم فيما رموني به ذلك اليوم، ويخاطبوني بضدّه، بحضرة أكثر من كانوا خاطبوني ذلك اليوم بالقبيح بحضرته، وصاروا لي خدما، وزاد ذلك في محلي، أن يرى أعدائي، خدم الخليفة، يخدمونني، ويدعون لي، ولم يكن الخليفة، لو بلغ غاية الإنكار عليهم، يأمرهم بهذا من خدمتي.
وما علم الغرباء، لأيّ سبب رضوا عني، وفعلوا بي هذا، ويجوز(2/85)
ان يظن أعدائي، أو يرجف أوليائي، أنّ الخليفة أمرهم بهذا، وأنكر عليهم ما جرى أولا، فتلافوني بهذا الفعل، وقد بلغت أكثر ما أردت، ولم أبلغ الغاية، ولا عاديت أحدا «1» .
واعلم يا أبا الحسن، إنّ أشياء قليلها كثير، [منها] إيثار العداوة،- وذكر أشياء لم أحفظها- فأيّ الرأيين الآن عندك أصوب؟
فقلت: رأي القاضي، جمّل الله [الدنيا] ببقائه، وفعل به وصنع «2» .(2/86)
37 القاضي أبو عمر يستميل أحد خدم الخليفة
وقد سمعت هذا الخبر عن جماعة غير القاضي أبي الحسن «1» ، منهم أبو عمر عبيد الله بن الحسين بن أحمد السمسار البغدادي الشاهد، وكان يخلف القضاة على بعض الأعمال، ويتقلّد سوق الرقيق بمدينة السلام، فذكروا:
أنّ أبا عمر القاضي، لمّا جرى عليه من الخادم ما جرى، أحضر حضريّا «2» كان يخدمه، وقال له: إمض فتوصّل إلى فلان الخادم وابك بين يديه بكاء شديدا، وقل له: إنّ أخي مات، وخلّف مالا وأطفالا، ولم يوص.
وإنّ القاضي قد ردّ ذلك إلى بعض أسبابه، وفي هذا ذهاب جاهي، وإن كان قد فعل الحق في ذلك، فالله، الله، فيّ، تسأله أن يردّ إليّ المال والطفل، واحرص على ذلك، واحمل له هذه الدنانير- وأعطاه مائة دينار-، وقل له: إذا فعلت ذلك، أعطيتك مائة أخرى، ولا تقنع منه أو يركب إليّ ويسألني.
قال: فمضى الحضريّ، وتوصّل إلى ذلك.
فقال له الخادم: ويحك، هذا قد عاملته بكل قبيح، فكيف أسأله حاجة؟
قال: فلم يزل الحضريّ يرفق به [134 ط] إلى أن أجاب.(2/87)
فجاء فأخبر القاضي بأنّه يركب إليه في يوم كذا، فانتظره.
وجاء الخادم إلى أبي عمر، فسأله ما اقترحه الحضري، وهو لا يشكّ في أنّها حاجة، فرفق به أبو عمر، وداراه، ومسحه «1» ، وأزال كلّ ما في نفسه، وقضى له الحاجة، ووقّع له بما أراد، وسلّم إلى الحضريّ التوقيع، فشكر ودعا.
وشكر الخادم وانصرف.
واستدعى أبو عمر الحضريّ، فأخذ التوقيع، وخرّقه، ودفع إليه المائة الدينار الأخرى، وقال: تمضي بها إلى الخادم، فمضى بها إليه.
وصار الخادم صديقا له، وقد أخذ مرفق أبي عمر، وهو لا يدري بذلك، واستقامت الحال «2» .(2/88)
38 جواب مفحم
وأخبرني غير واحد من أهل الحضرة:
إنّ هاشميا وقف لأبي عمر، في طريقه إلى الجامع، وكان سأله شيئا فلم يجبه إليه، فقال له: يا بارقيّ «1» ، يعرّض به، وما كان عليه من مبايعة ابن المعتز «2» ، ليكتب أصحاب الأخبار «3» بذلك، فيجدّد له سوءا عند الخليفة.
فوقف أبو عمر، وقال للرجل: يا هذا إنّ أمير المؤمنين أعزّه الله قد عفا عن هذا الذنب، فإن رأيت أن تعفو، فعلت.
قال: فخجل الهاشميّ، وعجب الناس من ثبات أبي عمر، وحسن جوابه، وسرعة فطنته، وتلطّفه «4» .(2/89)
39 رقية تحبس السم
حضرت أبا الحسن أحمد بن يوسف الأزرق «1» ، وقد رقى ملسوعا من عقرب، فقال الملسوع: قد زال الوجع، وقام وهو كالمعافى، بعد أن دخل ضاجّا من الألم.
فسألته عن ذلك، فقال: هذه رقية لها خبر طريف، حدّثني به، أبو أحمد الوزّان «2» ، فجرّبتها على خلق، فأنجعت «3» .
فسألته إخباري الخبر، قال: حدّثني أبو أحمد هذا، قال: حدّثني أحمد بن الطيّب السرخسي «4» ، قال:
كنت قائما بين يدي المعتضد «5» ، فدخل إليه بعض الخدم، فقال:
بالباب رجل يصيح: نصيحة، وقد قلنا له: ما هي؟ فقال: لا أقولها إلّا للخليفة.
فقال: لعلّ له ظلامة «6» ، أو حاجة، فراجعوه.
فكرّر الكلام، إلى أن أمر بإدخاله، فقال له: ما نصيحتك؟
فقال: معي رقية تحبس السمّ.(2/90)
فقال المعتضد: هاتوا عقربا.
قال: فكأنّها كانت معدّة لهم، فجاءوا بعقرب في الوقت، فطرحت على خادم، فلسعته، فصاح، فرقاه الرجل، فسكن ما كان يجده الخادم.
فقال لأحمد بن الطيّب: اكتب هذه الرقية، وأمر له بثلاثمائة دينار.
فأملاها أحمد بن الطيّب علينا، وهي: أن تأخذ حديدة، وتمرّها من أعلى اللسعة في البدن إلى موضع اللسعة، كأنّك تردّ شيئا، وتقول:
بسم الله لومر سر لومر بهل بتي تنبه تنبه كرورابا كرورابا ابهتح ابهتح بهشترم بهوداله مهراشترم لوته قرقر سفاهه فلا تزال تكرّرها، وتمسح الحديدة، إلى أن يذكر [135 ط] الملسوع، أنّ السمّ الذي في بدنه قد انحدر إلى الموضع الملسوع «1» ، ويسكن عنه الضربان، إلّا من حيث موضع اللسعة، فيفتح الموضع حينئذ بإبرة، ويعصر، فإنّ السمّ يخرج، ويزول الألم في الحال.
قال أبو الحسن: وقد جرّبتها على العقرب مرارا كثيرة، فنفعت.
وسبيلها أن تجرّب في غير ذلك من السموم، فإنّ الذي قال الرجل: إنّها تحبس السمّ، ولم يخصّ شيئا من السموم بعينه.
أبو أحمد الوزّان هذا، قد رأيته، وكان شيخا صالحا، يتوكّل للقاضي أبي جعفر بن البهلول، وأبي طالب، في بيع الحطب، وحدّثني عنهما بأشياء «2» .(2/91)
40 دواء للسعة الزنبور
حدّثني عليّ بن محمد الأنصاري، قال: قال لي المرعوس «1» المتطبّب، وكان يخدم بجكم:
إنّ الزنبور، إذا لسع إنسانا، فإن اتّفق في الحال أن يكون محاذيا له إنسان محاذاة صحيحة، فيعمد الرجل المحاذي للملسوع، إلى كوز ماء، فيصبّه على جبينه وقحف رأسه، إن كانت اللسعة في بدنه، فإنّه يسكن.
قال: فلسعني مرّة زنبور، فقلت لرجل كان في محاذاتي، صبّ على جبيني ورأسي ذلك الكوز الماء، ففعل، فسكن ما بي في الحال «2» .
41 طبيب يلطخ مريضا بالعذرة
قال: وقد عالج صبيّا في رأسه بثور، بأن نوّره «3» ، ثم غسله، وطلاه بغائط رطب، وأقامه في الشمس نحو ساعة زمانية، ثم غسله، وطلاه بدواء كان معه، فزالت البثور «4» .(2/92)
42 ذرق العصفور يزيل الآكلة
وقال لي هذا الطبيب: إنّ خرا العصافير اليابس، إذا سحق، وجمع «1» بالزيت، وحشي به الموضع الذي قد وقعت فيه الآكلة «2» من الأبدان، أصلحها، وأزال الآكلة.
قال: وقال لي إنّ الشبّ إذا جعل في الزيت، وأمرّ على الموسى، لم يحلق شيئا «3» .
43 البول المغليّ يحل القولنج
قال «4» : وقد رأيت هذا الطبيب، وقد شفى رجلا به قولنج «5» شديد، ببول أغلاه، وطرح فيه جند بادستر «6» ، وعقاقير أخر، فانحلّ قولنجه، في الحال «7» .(2/93)
44 عجوز تداوي من البثور
قال «1» : وكانت بي بثور في ساقي، قد تطاولت، فخرجت إلى قرية تقارب مابروان، من أعمال الأنبار «2» ، فنزلت على مزارع فيها، يقال له إبراهيم بن شمعون، فرأى تلك البثور.
فقال لي: عندنا عجوز ترقى من هذا، فأحضرنيها، فقالت: هذه علّة يقال لها الدروك، وأنا أرقيها «3» .
فرقتها طويلا، ثم ألقت على ساقي الآس، والدهن، وقالت:
لا تحلّه ثلاثة أيام.
فلما كان بعد ثلاثة أيّام حللته، وقد عوفيت «4» .(2/94)
45 حظ القاضي أبي جعفر بن البهلول يدفع كارثة
حدّثني أبو أحمد الوزّان هذا، قال:
كنت أتوكّل لأبي جعفر بن البهلول القاضي، في بيع حطبه الذي كان يتّجر فيه من الحرار «1» ، وأزنه على المشترين.
فبلغني يوما خبر طوف «2» عظيم، قد ورد له، فخرجت إلى دممّا «3» أستقبله، وكان هائلا مهولا.
وكانت القنطرة إذ ذاك مخوفة، على شفا الوقوع، والزواريق ممنوعة من الاجتياز بها لئلا تنكسر.
فأقمت يومي أنتظر الطوف [136 ط] ، فإذا الجماعة قد جاءوني، وقالوا: إنّه طوف عظيم، وقد حصل في جرية الماء، وليس يطيقه من فيه، والساعة يجيء، فيقع على القنطرة ويكسرها، فيكون فيه هلاك أبي جعفر مع السلطان.
قال: وهم في الحديث، حتى إذا رأيت الطوف، قد جاء كالجبل،(2/95)
وهو متصوّب إلى القنطرة، لم آشكّ في المكروه، ورأيت الرجال الذين فيه قد ألقوا نفوسهم إلى الماء، وهم لا يشكّون في تصوّبه إلى القنطرة.
فأقبلت أدعو الله بصرفه عنها، إلى أن قرب، فدهشت، وجرى على لساني أن صحت: يا بخت أحمد بن إسحاق ردّه، ثلاث دفعات.
قال: فرأيت، والله، الطوف، وقد تعوّج، ووقف وقفة شديدة، فتقطّع، فصار حطبا متفرقا، يجيء على رأس الماء، لا يضرّ القنطرة، وجنح معظمه في الموضع الذي تقطّع فيه، ووقعت البشارات والضجيج.
فقلت: ما الخبر؟
قالوا: إنّه لما عدل عن القنطرة، جنح على جزيرة أخرى كانت مغطّاة بالماء، فلما جنح عليها، تقطّع، فكانت هذه صورته.
قال: فجمعنا الحطب من أسفل القنطرة، وما ذهب منه عود، ولا لزمتنا عليه مؤنة، وجعلناه في عدّة أطواف، وجئنا به إلى بغداد.
وجئت إلى القاضي أبي جعفر، وعرّفته ذلك، فحمد الله عزّ وجل، وتصدّق بصدقة جليلة «1» .(2/96)
46 الأمير معز الدولة يزاد فوق وظيفته رغيفين وباقة بصل
جرى حديث ارتفاع الناس، وتقلّب الزمان بالإنسان، فحدّثني أبو الحسن بن الأزرق «1» ، قال:
حدّثني الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين الشيرازي «2» ، قال:
حدّثني الأمير معز الدولة «3» ، رحمه الله، قال:
كنت ببلد الديلم أحتطب لأهلي، فقالت لي أختي الكبيرة، ليس يكفينا هذا الحطب، فجئنا بكارة «4» أخرى حطبا لهم «5» اليوم.
فقلت لها: لا أقدر، وقد جئتكم بما قدرت عليه.
فقالت: إن جئت بشيء، زدتك رغيفين مما أخبزه.
فجئتها على ظهري بكارة أخرى، وقد تلفت.
فقالت: إن جئتني بكارة ثالثة، أعطيتك مع الخبز الذي أزيدك إيّاه على وظيفتك «6» باقة بصل.(2/97)
فجئتها بالكارة الثالثة.
فلما خبزت، أعطتني وظيفتي، وزادتني رغيفين، وباقة بصل، بإزاء ما حملته.
ثم صنع الله لي وتغيّرت حالي إلى ما تراه «1» .
قال: وقال لي أبو الفضل الوزير، لولا أنّ الأمير حدّث بهذا، دفعات كثيرة، في مجالس حافلة، فأخرجه مخرج الافتخار، لا السر، لما تحدّثت به «2» .(2/98)
47 أبو علي حمولي القمي يرتفع من حارس في خان إلى أعلى المراتب
وسمعت أبا علي أحمد بن موسى حمولي القميّ «1» ، يحدّث، في حديث له طويل، وهو إذ ذاك في السماء، رفعة، وجلالا، ويسارا، وإليه طراز الحرم «2» الديباج، وابتياع الثياب، ومرتبته عند معزّ الدولة، أجلّ مرتبة:
انّه كان أمينا على زورق «3» ، زمانا، من سورا إلى القصر «4» ، لشدّة الحاجة والفقر.
وحدّثني أبو الفرج الأصبهاني «5» ، قال:
أعرف أبا علي حمولي، حارسا لمتاع التجّار، في خان يطرح إليه متاع الموصل، في موضع داره على دجلة [137 ط] «6» .(2/99)
48 إن الفتى من يقول ها أنذا
جرى في مجلس أبي رضي الله عنه «1» ، بحضرته، يوما، ذكر رجل كان صغيرا فارتفع.
فقال بعض الحاضرين: من ذاك الوضيع؟ أمس كنّا [نراه] بمرقّعة يشحذ.
فقال أبي: وما يضعه أنّ الزمان عضّه، ثم ساعده، كلّ كبير إنّما كان صغيرا أوّلا، والفقر ليس بعار، إذا كان الإنسان فاضلا في نفسه، وأهل العلم خاصّة لا يعيبهم ذلك.
وأنا أعتقد أنّ من كان صغيرا فارتفع، أو فقيرا فاستغنى، أفضل ممّن ولد في الغنى، أو في الجلالة، لأنّ من ولد في ذلك، إنّما عمل له غيره، فلا حمد له هو خاصّة فيه، ومن لم يكن له فكان، فإنّما بجدّه أو كدّه، وصل إلى ذلك، فهو أفضل من أن يصل إليه ميراثا، أو بجدّ غيره، وكدّ سواه «2» .(2/100)
49 حريق الجمل ببغداد
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش رحمه الله، قال: حدّثني عمّي، قال:
حدّثني أبي، قال:
لما وقع ببغداد، حريق الجمل، اختلّ دكاني فيما اختلّ، وذهب مني مال عظيم.
فقلت له: كيف كان حريق الجمل؟
قال: اجتاز في سوق الخرّازين «1» ، جمل عليه قصب، وكان رجل يثقب لؤلؤا، وبين يديه نار، فوقع طرف القصب على النار، فاشتعلت وبلغت إلى الجمل في لحظة.
فكان الجمل، كلّما أحسّ بوقع النار عدا، وتنافض الشرار منه، في جانبي الطريق، فحرّق كل ما يجتاز به.
فلم يزل على ذلك، إلى أن تلف الجمل، وتشاغل الناس بطفي الحريق الواقع في الدور والعقار.
فكان حدّ ما احترق، من أوّل سوق الخرّازين إلى طاق الحرّاني «2» ، ووسط قطيعة الربيع «3» . وتلف ناس كثير، وزالت نعم عظيمة، بذهاب(2/101)
الأموال، ورؤوس أموال التجار، وانهدام العقارات.
قال: وكان هذا عقيب انتقال المعتصم «1» إلى سر من رأى «2» ، فهمّ الناس بالانتقال عن بغداد، وإن تخرب، فبلغ ذلك المعتصم.
قال: فخاطبه أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد «3» ، في إطلاق مال للناس.
فقال المعتصم: خذ خمسة آلاف ألف درهم، وأخلف بها جميع ما ذهب من الناس.
فأخذ ابن أبي دؤاد المال، وجاء فجلس في مجلس الشرقية «4» ، واجتمع إليه الناس، فعرّفهم علم الخليفة بأمرهم، وما كان منه في خطابه، وما أنفذ معه من المال، فقال: ولم يذكر مبلغه، إلّا أنّه قال: قد حملت من المال ما أخلف به، جميع ما ذهب من جميعهم.
قال: وكنت حاضرا المجلس، أسمع الكلام.(2/102)
فقام إليه شيخ كان حاضرا، فقال: أيّها القاضي، إنّ هذا مال عظيم، فكم أنفذ إلينا أمير المؤمنين معك؟ فقال: خمسة آلاف ألف درهم.
فالتفت الشيخ إلى نفسين في المجلس، فقال: قوما، فقاما.
فقال: أيّها القاضي هذان، قد ذهب منهما، في أثمان عقاريهما، ورؤوس أموالهما، خمسة آلاف ألف درهم، أليس هكذا يا معشر المسلمين؟، واستشهد الحاضرين، فقالوا: نعم.
فقال: [138 ط] أيّها القاضي، إذا كان هذان، وهما نفسان، من جميع من قد حضر، قد ذهب منهما قدر ما حمله أمير المؤمنين، فالباقون من أين يأخذون؟
قال: فتحيّر ابن أبي دؤاد، وقال: ما ترون في هذا؟
فقالوا: الرأي لك.
قال: فقال أولئك النفسان: أمّا نحن، فما نريد شيئا، ولا نسأل الخلف، إلّا من الله عزّ وجل، ولا نطلبه إلّا من فضله، ولكنّا نشير عليك أيّها القاضي، فقال: افعلا.
قالا: تجعل هذا المال، مقسوما بين أهل البضائع [اليسيرة] ، وصغار الناس، فإن رغب أحد من الأكابر، في أن يشارك الأصاغر فيه، فإن ذاك إليه وإليك.
قال: فقام خلق كثير، فقالوا: أمّا نحن، فما نريد شيئا، اجعله للأصاغر، وانصرفوا.
ففضّ المال، على أرباب البضائع اليسيرة، ثم لم يكف، واحتيج لهذا إلى أضعاف ما حمل من المال.
فلما نفد المال، خرج ابن أبي دؤاد ليلا، لكثرة الازدحام عليه، والطلب منه، ونفاد ما عنده «1» .(2/103)
50 إبراهيم بن الحسن البزاز
يخسر في حريق واحد ما يزيد على أربعمائة ألف درهم سمعت إبراهيم بن الحسن البزّاز، يقول:
[خلف الحريق سريع] «1» ، كان حريق بالكرخ «2» في سنة نيف وأربعين وثلاثمائة «3» فتلف لي متاع في دكّاني وداري بمائتي ألف درهم، سوى أثمان العقار.
فقلت: كم كانت أثمان العقار؟
فقال: أكثر من هذا.
قال: فنمّى «4» الله، عزّ وجل، ما بقي، وأعدت منه عقاري، ورأس مالي في دكّاني، فما أفرّق اليوم بين أمري، وبين ما كان قبل الحريق.
قلت له: ففي دكانك اليوم متاع بمائتي ألف درهم؟
فضحك، وقال: هذا لا يسأل عنه التجّار، ولا يصدقون أيضا إذا سئلوا، ولكن ما أفرّق بين حالي الساعة، وذلك الوقت، وأنا من الله عزّ وجلّ في خير.
فقال بعض أصدقائه، ممّن يعرف أمره: في دكّانه متاع بأكثر من هذا.(2/104)
51 أبو القاسم الجهني
يفخر بأنّه قد أجهد نفسه فيما لا يليق بالرجل الحرّ حدّثني أبو القاسم الجهنيّ «1» ، قال:
جرى بيني وبين محمد [108 ب] بن خلف، القاضي وكيع «2» ، ملاحاة في شيء، بحضرة أبي الحسن بن الفرات، فولّدت بيننا عداوة، فبحثت عن عيوبه.
فبلغني أنّ له أبا ساقطا في أصحاب الصناديق بباب الطاق، فركبت حتى جئت إليه، فرأيته يعمل الصناديق بيده، وفاتشته، فإذا هو أسقط رجل، وأجهله.
وانصرفت فكاتبت جماعة من وجوه الشهود بالجانبين «3» ، وأشرافهم من البطنين «4» ، وأكابر التجّار والكتّاب والتنّاء، وواعدتهم بحضور مسجد هناك كبير، فحضر خلق كثير.
وركبت، فحين حصلت هناك، قلت: عليّ بخلف الصناديقي، فجاءوا بالشيخ كما أقيم من العمل، وآلته معه، ويده ملوّثة، كما كنت وصيّتهم.(2/105)
فقلت لهم: أعزّكم الله، إنّي كنت سألتكم الحضور لأخاطب هذا الشيخ بحضرتكم بشيء آخذ خطوطكم به، فاحفظوا ما يجري.
ثم قلت: يا شيخ، من أنت؟
قال: أنا خلف بن فلان.
قلت: وكيع القاضي، من هو منك [139 ط] ؟
قال: ابني.
فقلت لمن حضر من شيوخ المحلّة: هو كما قال؟
فقالوا: نعم.
قلت: أنت بهذه الصورة مع اتّساع حال ابنك؟
قال: لأنّه عاقّ بي، فعل الله به وصنع، ودعا عليه.
فقلت له: يا شيخ، تحفظ القرآن؟
قال: أحفظ منه ما أصلّي به.
فقلت: تحسن شيئا من القراءات؟
قال: لا.
قلت: وكتب الحديث قط؟
قال: لا.
قلت: رويت من الأخبار، والآثار، والآداب، والأشعار شيئا؟
قال: لا.
فلم أزل أعدّد عليه العلوم وأصنافها، وهو يقول لا، لا.
قلت: فتحسن شيئا من النحو أو العروض أو المنطق؟
قال: لا.
فقلت: أعزّكم الله، إنّ وكيعا رجل كذّاب، متعاط للعلم والأدب، ولم آمنه في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكذب في العلوم،(2/106)
وأن يجعل ذلك طريقا متى مات هذا الشيخ، فيقول: حدّثني أبي، وأخبرني أبي، ويضع على لسانه كلّ كذب.
فأردت أن تحفظوا على هذا الشيخ ما ذكره من انّه ليس من هذا [الأمر] «1» ، ولا إليه، حتى لا يمكنه ادّعاء ذلك عليه بعد موته، وأن تعرفوا أيضا فسقه بعقوقه والده، وسقوط مروءته، بتركه أباه على هذه الحال.
قال: فما فارقتهم حتى أخذت خطوطهم بما جرى، على أشنع شرح قدرت عليه، وأجابوا هم إليه.
وصرت بالمحضر معي إلى مجلس الوزير، وتركته في خفيّ، وأجريت الحديث مع وكيع، إلى [109 ب] أن شاغبته في الكلام، وقلت: لا تسكت يا ابن الصناديقي الجاهل، فامتعض.
وأخرجت المحضر، وعرضته على الوزير، وسألته أن ينفذ ويستدعي أباه ويشاهده.
فضحك الوزير، وسقط وكيع من عينه.
وقامت قيامته من يدي.(2/107)
52 أبو القاسم الجهني يتولى الحسبة بالبصرة
وولي أبو القاسم الجهنيّ، عندنا بالبصرة، الحسبة «1» ، من قبل أبي جعفر الصيمريّ «2» ، فسمعت إذ ذاك، شيوخنا، يقولون:
إنّهم ما شاهدوا ولا سمعوا، من بلغ مبلغه، في ضبط العامّة، ورفع الغشوش، ومن عرف من أسرار الصنائع، والأمتعة، ما عرفه، حتى كأنّه لا يحسن شيئا غيرهما، مثله.
وطالب الناس بمطالبات صعبة، فانتشر له حديث عظيم جميل، في البلد بذلك، وهيبة في نفوس الأكابر، فضلا عن الأصاغر.
فاجتاز يوما وبين يديه رجّالته، بمؤذّن يؤذّن لبعض الصلوات، فقالوا: الجهنيّ، والجهنيّ.
فتطلّع المؤذّن، فرآه، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل لك عليّ طريقا، فقال للرجّالة: خذوه إلى الدار.
فضجّ من ذلك، وقام معه الجيران، وجاءوا، ونزل الجهنيّ في داره:
فأدخلهم.
فقالوا له: أمرت بإحضار هذا الرجل المؤذّن، فأيّ طريق لك عليه؟
فقال: تحتاج أن تحلف لي أن لا تدخل المسجد بالنعل الذي تدخل به(2/108)
الكنيف، فإنّ هذا يفسد صلاة الناس، ولا يحلّ، ولا تؤذّن وأنت جنب.
فسألوه أن يعفيه، [فأبى] ، وقال: إمّا أن يحلف أو لا يدخل المسجد، فما زال به حتى أحلفه على ذلك.
فلما أراد الانصراف، قال له: يا شيخ، الآن علمت أنّ لي عليك طريقا، وإنّ بيننا معاملة، أم لا؟
فقال: أيّدك الله، أخطأت، ولم أعلم.
فقال: لا تعاود الكلام فيما لا تحتاج إليه، فإنّ الفضول ضارّ «1» .(2/109)
53 الكوكبي محتسب الأهواز والقاضي ابن السراج
حدّثني أبو العباس نصر بن محمد الشاهد [رحمه الله] «1» خليفة أبي [رضي الله عنه] «2» على فرض الأهواز، قال:
كان الكوكبيّ محتسبا عندنا من قبل أخي أم موسى القهرمانة، وكان خشنا، منبسط اليد، جلدا.
فوقعت بينه وبين أبي الحسن «3» بن عليّ السراج القاضي نفرة، فأمسك عنه أياما، ثم صار إلى بابه على غفلة، وقد كان أخلّ بالجلوس في الجامع مجلسين.
فوقف في رجّالته على الباب، وقال: قولوا للقاضي، ليس لك أن تواصل الجلوس في منزلك، أبرز إلى الجامع ينلك «4» القوي والضعيف، كما أمرت في عهدك.
فدخل إليه الغلمان، فأخبروه، فقامت قيامته، فأخرج من بحضرته من الشهود يدارونه.
فقال: لا أدخل، ولا أنصرف، أو يركب إلى الجامع.
فما زالوا به حتى أصلحوا بينهما.(2/110)
54 أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
حدّثني القاضي أبو عمر عبيد الله [110 ب] بن الحسين المعروف بابن السمسار، قال: حدّثني أبو علي بن إدريس الجمّال الشاهد، قال: حدّثني أبو عبد الله بن أبي عوف «1» ، قال:
كان سبب اختصاصي بعبيد الله بن سليمان»
، أنّي جزت يوما في الجامع بالمدينة «3» ، فوجدته وهو ملازم في يد غريم له، في عقب النكبة «4» ، بثلاثمائة دينار، وكنت أعرف محلّه من غير مودّة بيننا.
فقلت له: لأيّ شيء أنت هاهنا أعزّك الله جالس وما مضيت إلى الصلاة؟
فقال: ملازم في يد هذا بثلاثمائة دينار عليّ.
فسألت الغريم إنظاره، فقال: لا أفعل.
قلت: فالمال لك عليّ، تصير إليّ «5» بعد أسبوع حتى أعطيك إياه.
فقال: تعطيني خطّك بذلك.
فاستدعيت دواة ورقعة، وكتبت له ضمانا بالمال إلى شهر، فرضي وانصرف.
وقام عبيد الله فأخذ يشكرني.(2/111)
فقلت: تمّم أيّدك الله سروري، بأن تصير معي إلى منزلي.
فحملته وأركبته حماري، ومشيت خلفه، إلى أن دخل داري، فأكلنا ما كان أصلح لي في يوم الجمعة، كما يفعل التجّار «1» ، ونام.
فلمّا انتبه، أحضرته كيسا، وقلت: لعلّك على إضاقة، فأسألك بالله، إلّا أخذت منه ما شئت.
قال: فأخذ منه دنانير، وقام فخرج.
فأقبلت امرأتي تلومني وتوبّخني، وقالت: ضمنت عنه ما لا يفي به حالك، ولم تقنع إلّا بأن أعطيته شيئا آخر.
فقلت: جميلا أسديته، [ويدا جليلة] «2» ، وهو رجل حرّ كريم، كبير جليل، من بيت وأصل، فإن نفعني الله به فذاك، وإن تكن الأخرى فلن يضيع عند الله.
[ومضى على الحديث مدة، وحلّ الدين، وجاء الغريم يطالبني، فأشرفت على بيع عقاري، ودفع ثمنه إليه، ولم أستحسن مطالبة عبيد الله] «3» ودفعت الرجل بوعد وعدته إلى أيّام.
فلما كان بعد يومين من هذا الحديث، جاءتني رقعة عبيد الله يستدعيني، فجئته.
فقال: قد وردت عليّ غليلة من ضيعة لي، أفلتت من البيع في النكبة، ومقدار ثمنها [مقدار] «4» ما ضمنت عني، فتأخذها، وتبيعها [141 ط](2/112)
وتصحّح ذلك للغريم. فقلت: أفعل ذلك «1» .
فحمل الغلّة إليّ، فبعتها، وحملت الثمن بأسره إليه، وقلت له: أنت مضيق، وأنا أدفع الغريم، وأعطيه البعض من عندي [فاتّسع أنت بهذا.
فجهد أن آخذ منه شيئا، فحلفت أن لا أفعل، ووفّرت «2» الثمن عليه.
وجاء الغريم، فألحّ عليّ، فأعطيته من عندي البعض] «3» . ودفعت به مديدة.
فلم يمض على ذلك إلّا شيء يسير، حتى ولي عبيد الله الوزارة «4» ، فأحضرني من يومه، وجعلني في السماء، وقام لي في مجلسه، وكسبت به الأموال «5» ، وقدر هذه النعمة التي أنا فيها.(2/113)
55 حكاية تدل على مقدار عناية الوزير عبيد الله ابن سليمان بابن أبي عوف
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول «1» ، قال:
حدّثني أبي، قال: [111 ب] .
خرجت من حضرة عبيد الله بن سليمان «2» في وزارته، أريد الدهليز، فخرج ابن أبي عوف «3» فصاح البوابون، والحجّاب، والخلق، هاتم دابّة أبي عبد الله.
فحين قدّمت دابته ليركب، خرج الوزير ليركب، فرآه، فتنحّى أبو عبد الله بن أبي عوف، وأمر بإبعاد دابّته لتقدّم دابّة الوزير، فحلف الوزير إنّه لا يركب، ولا تقدّم دابّته، حتى يركب ابن أبي عوف.
قال: فرأيته قائما، والناس قيام بقيامه، حتى قدمت دابّة ابن أبي عوف فركبها، ثم قدّمت دابّة الوزير، فركبها، وسارا جميعا.(2/114)
56 ابن أبي عوف يحتال في إيصال كتبه إلى الوزير
وحدّثني أبو الحسن «1» ، قال: حدّثني أبي «2» ، قال:
لما خرج عبيد الله «3» إلى الجبل «4» ، واستخلف القاسم، لم يكن يعامل ابن أبي عوف «5» ، مثلما كان أبوه يعامله.
فشقّ ذلك عليه، وخاف أن ينفذ كتبه بشكايته إلى أبيه، فتقع في يد القاسم.
فجاءني دفعات، يسلّم عليّ، ولا يسألني حاجة، حتى جعلني صديقا، ثم سألني أن أجعل كتبه إلى الوزير في طيّ كتب حرم صاحبي «6» إليه، وكان في جملة القوّاد المجرّدين مع عبيد الله، فكنت أفعل ذلك دائما، فيوصل صاحبي الكتب إلى الوزير سرّا، وتنفذ الأجوبة، فترد كتب عبيد الله على القاسم، في الخاص، بالصواعق في أمر ابن أبي عوف.
ويوكّل القاسم بالطرق، وتؤخذ له كتب أكثر الناس، فيقف عليها، ولا يجد لابن أبي عوف كتابا، فيتميّز غيظا، ولا يدري من أين يؤتى، إلى أن قدم عبيد الله.(2/115)
57 تصرّف من ابن أبي عوف يدل على نفس صغيرة
قال «1» :
وسألني في تلك الأيام، رجل من أهل الثغر «2» ، أن أشفع له إلى ابن أبي عوف، في معاونته على أسرى له في بلاد الروم «3» ، فامتنعت من ذلك، لعلمي أنّه تاجر على كلّ حال.
فألحّ عليّ، فكتبت له رقعة إليه، فجاءني الرجل فشكرني، وذكر أنّه أعطاه أربعين دينارا.
ومضت السنون، فسألني ابن أبي عوف أن أؤجره رقّة «4» من ضياعي بالأنبار «5» ، يعمل فيها البطّيخ الذي نسب فيما بعد إلى العبدلاوي «6» ، وإنّما هو مضاف «7» إلى أبي عبد الله بن أبي عوف، فآجرته إيّاها بمال جليل.
وعمل البطّيخ فأنجب، فلما طالبته بالأجرة، احتسب عليّ الأربعين دينارا التي برّ بها الثغري، بشفاعتي.(2/116)
58 سبب سقوط محل ابن أبي عوف
وكان سبب سقوط محلّه، على ما أخبرني به أبو الحسين بن عيّاش القاضي رحمه الله، قصّة ابنته، فإنّه ذكر أنّ الخبر استفاض ببغداد:
أنّه دخل داره، فوجد مع ابنته [142 ط] رجلا ليس لها بمحرم، فقبض عليه، وعمل على ضربه بالسياط، فأشير عليه أن لا يفعل، وقيل له إن في ذلك هتكا لابنتك ولك، فأطلق الرجل وقيّد المرأة واحفظها، فلم يقبل، واستدعى صاحب الشرطة [112 ب] فضرب الرجل بالسياط على باب داره، وكان الرجل ظريفا أديبا، فأنشأ يقول متمثلا وهو يضرب:
لها مثل ذنبي اليوم إن كنت مذنبا ... ولا ذنب لي إن كان ليس لها ذنب
يا قوم، أيحدّ أحد الزانيين، دون الآخر، أخرجوا صاحبتي، وإلّا فأفرجوا عنّي.
قال: فافتضح بذلك، وانهتك، وتناوله الشعراء والخطباء والناس [بألسنتهم] حتى سقط محلّه.
وكان من ذلك، ما قاله ابن بسام «1» ، في قصيدة أوّلها:
يا قومنا إنّ القيامة دانيه ... زان يحدّ ولا تحدّ الزانيه
[ويكمل «2» البيت الأوّل، بيت تمام له، وهو:
فيا بعل ليلى، ليس يجمع سلمها ... وحربي وفيما بيننا شبّت «3» الحرب] «4»(2/117)
59 الموفق طلحة يراسل أخاه المعتمد في خلع المفوّض وتقليد العهد لغيره
حدّثني أبو أحمد عبد الله بن عمر السرّاج الواسطي، المعروف بالحارثي، قال: حدّثنا أبو بكر [قال: حدّثني] «1» يوسف بن يعقوب المقرئ الواسطي «2» ، قال:
لمّا دخل الناصر لدين الله الموفّق «3» ، مدينة واسط بعد صاحب الزنج «4» ، وأقام بها، [و] المعتمد «5» بفم الصلح «6» ، ووقعت المراسلة بينهما في خلع(2/118)
المفوّض «1» وتقليد العهد من يختاره الموفق، استدعاني الموفق، وجماعة من شهود واسط، وخاطبنا في النفوذ إلى المعتمد، لنشهد عليه بذلك.
فقالت الجماعة: السمع والطاعة، ونهضت، غيرى، فإنّي سكتّ، وجلست.
فقال الموفق: شيء تقوله؟
فقلت: إن أذن الأمير الناصر أعزّه الله، قلت.
قال: قل.
قلت: أيّها الأمير إنّك تنفذنا إلى إمام، ولسنا نأمن أن يشهدنا على غير ما تريد أن يشهدنا عليه، وإذا وقفنا بحضرته، فأشهدنا لم يجز أن نشهد على غير ما يشهدنا عليه، فما تأمر؟
قال: فكأنّي أيقظته من رقدة، وأعلمته أنّه إن أشهدنا على تثبيت أمر المفوّض، وخلعه هو، وتفسيقه، وقع الأمر موقعه.
فقال: أحسن الله جزاءك، وأضرب عن إنفاذنا.
قال: ثمّ كان يختصّني بعد ذلك، ويستدعيني في أوقات، وكان ذلك أوّل ما بان من محلّي عند أهل بلدي، وتقدمت به عليهم.(2/119)
60 متى حدّثت ابن مقلة نفسه بالوزارة
حدثني أبو الحسن بن الأزرق التنوخي «1» ، قال: حدّثني بعض أصحابنا، قال: حدّثني أبو علي بن مقلة «2» ، قال:
كنت خصيصا بأبي الحسن بن الفرات «3» قبل وزارته الأولى، وكاتبا له.
فلما تقلّد الوزارة، استدعاني بعد جلوسه، وقال: أحضر ابن الأخرس «4» التاجر، وجماعة من التجّار غيره، وبايعهم ثلاثين ألف كر من غلّات السواد، واستقص السعر معهم، واستثن في كل كرّ بدينارين، وطالبهم بحصول الاستثناء [113 ب] اليوم، وحصّله، وعرّفني.
قال: فاحضرتهم، وقررّت السعر معهم، وطالبتهم بالاستثناء عاجلا، فقالوا: نصحّحه في مدة ثلاثة أيام، فعرّفته، فأجاب.
فقال: إذا حصل الاستثناء فاكتب [143 ط] لهم إلى العمّال، بتسليم الغلّات، وقبض الأثمان.
[فلما كان في اليوم الثالث، حملوا مال الاستثناء، وكتبت لهم بالتسليم، وقطعني شغل عرض عن مطالعة الوزير بذلك] «5» .
فلما كان بعد يومين، قلت له: ذلك المال الذي استثني به من غلّات(2/120)
السواد، حاصل منذ أيّام عندي، فما الذي يأمر الوزير فيه؟
فقال: يا سبحان الله، كأنّك قدّرت أنّي استثنيت به لنفسي؟
لقد قبّحت فيّ الظن، وإنّما أردت بذلك الإصلاح لحالك، وأن أعتقد لك نعمة يبين بها أثر صحبتي عليك، فأصلح به أمرك.
قال: فقبّلت يده، وشكرته، وعدت إلى منزلي، وما أتمالك فرحا.
فحين علمت حصول المال لي، حدّثتني نفسي بالوزارة، ودعتني نفسي إلى تأهيل «1» نفسي لها، والسعي في طلبها.
فما زلت من ذلك الوقت أشرع فيها، حتى تمّت لي «2» .(2/121)
61 شيخ من الديناريين يثني ابن مقلة عن طلب الوزارة
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش، قال:
كنت بحضرة أبي عليّ بن مقلة، وقد أرجف له بالوزارة الأولى.
فدخل عليه شيخ من الديناريّين «1» ، كان يكرمه أبو علي «2» ، فأعظمه، وجلسا يتشاوران طويلا.
ثم زاد الكلام بينهما حتى سمعت بعض كلام الشيخ، وهو يعاتبه على طلب الوزارة، ويثنيه عنها، ويشير عليه أن لا يدخل فيها، وأبو علي ساكت.
فلمّا انقضى كلامه، قال له أبو علي: بلغني عن معاوية، وهو ممّن لا يدفع عن علم بالدنيا، أنّه قال: من طلب عظيما خاطر بعظيم «3» .
قال: فقال له الشيخ: أستودع الله الوزير، وقام.
فما كان إلّا بعد أسبوع أو أقل، حتى خلع على أبي عليّ، وقلّد الوزارة.(2/122)
62 من طلب عظيما خاطر بعظيم
حدّثني أبو الفضل «1» محمد بن عبد الله [بن المرزبان] «2» ، قال: كنت بسيراف «3» ، وقت [أن] اجتاز بها أبو عبد الله البريدي «4» ، يقصد علي بن بويه «5» ، فأعظمه الليث «6» ، وحمله، ولقيه وجوه سيراف في الجيش والناس كلهم، وكنت فيهم.
فسمعته، وهو على دابته، وهو يقول: من طلب عظيما خاطر بعظيم.
وما أحسن ما أنشدنا المتنبي «7» لنفسه، من قصيدة مشهورة له:
غريب من الخّلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد(2/123)
63 وجزاء سيئة سيئة مثلها
حدّثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش، قال:
لما ولي أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد «1» الوزارة، صارفا لأبي عليّ بن مقلة «2» ، وتضمّنه هو وأبو العبّاس الخصيبيّ «3» بالمال الذي [114 ب] ضمناه به، وتسلّماه، كنت أختلف إلى أبي القاسم، على رسمي في ملازمته، فأرى أبا العبّاس بحضرته يخاطبه في معنى أبي عليّ، والتشديد في مطالبته، وربما أحضراه ليوقعا به، فأقوم لئلا يراني قد رأيت ذلك منه.
فكنت أجلس بحيث أرى واسمع ولا يراني، فيطالب، ويضرب.
فإذا أوجعه المكروه، قال: لي في موضع كذا، كذا وكذا.
فيرفع المكروه عنه، ويمضون إلى الموضع، فلا يجدون لما ذكره حقيقة.
فإذا سألوه [114 ط] قال: ما لي حال، ولا مال، وإنّما برّدت عن نفسي في الحال، ودفعت الموت، ولا يمكّن أبو القاسم سليمان، من ردّ المكروه عليه أياما.
فطالت قصّته، ولم يستخرج منه شيء، فجرت بينه وبين أبي العباس مخاصمة بهذا السبب، وقال: لا بدّ من بسط العذاب عليه، حتى يروج [بعض] «4» المال من جهته، وكان سليمان يستحي.(2/124)
فتقرّر الرأي على أن نقل إلى دار ابن الحرث «1» ، وكان الخصيبيّ يجيء إليها، فيعاقبه، ويستخرج المال منه.
قال: فاتّفق أنّني دخلت يوما مسلّما على ابن الحرث، وعزمنا على الجلوس للأنس، فدخل الخصيبيّ، فدخلت بيتا من الدار لئلّا يراني.
وخليا، وأخرجا ابن مقلة، فأخذ الخصيبيّ يوبّخه، ويستخفّ به، على ما ارتكبه منه، ومن سليمان، ويشتفي منه بالخطاب بكل لون قبيح، وقد أقامه بين غلامين، وأقام خلفه آخر.
إلى أن قال له في جملة كلامه: أقرأني يعقوب البريديّ «2» [بالبصرة] «3» جوابك إليه، لما عدت من البحر، في ظهر كتابه إليك، يقول إنّه قد امتثل أمرك في نفيي وحملي إلى البحر «4» ، فوقّعت بخطّ يدك قطعها الله: يا عاجز، ألا سملته «5» ، ثم حملته، يا عاضّ كذا وكذا «6» ، أردت أن ينطبق لفظك بانطباق ناظري؟ يا غلام اصفع.
قال: فصفع، وأخذ خطّه بالمال «7» .(2/125)
64 مشعوذ يدّعي الولاية
ومن الأخبار المفردات، ما أخبرني به أبو الحسن أحمد بن يوسف بن الأزرق، قال:
قدم علينا بالأنبار رجل من أهل القصر «1» ، يقال له عمر، يعظ العامّة، ويري «2» نسكا، ويقول: من أطاع الله، أطاعه كلّ شيء، وإنّه يغمس يده في الزيت الحار المغليّ الشديد الحرارة، فلا يضرّه.
فافتتن أهل البلد به، واجتمعوا إلى الجامع، ليشاهدوا ذلك، وسألوني الحضور، فحضرت، وإخوتي، وسلطان البلد، وقد نصب ديكدان «3» في صحن الجامع على دكّة، ووضع فوقه طنجير «4» ، والرجل قائم يصلّي.
فلما جئنا طلبوا زيتا، فأنفذت على يد غلامي، فجاءوا بخماسيّة «5» ، فصبّت في الطنجير، وأوقد عليها وقود جيّد شديد [115 ب] .
فلما أغلي الزيت ونشّ «6» ، أقبل على أخي، وقال: يا أبا أحمد، الله الله، لا يكون ما أحضرته غير الزيت، فأهلك.
فحين قال هذا، انكشف لي أنّها حيلة، فقلت له: ما هو إلّا الزيت.(2/126)
فنزع ثيابه، وعمد إلى «1» بقيّة كانت في الخماسيّة من الزيت [لم تغل] «2» ، مقدارها نصف رطل، فصبّها في الطنجير، ودعا شاربا «3» ، فغسل يده غسلا شديدا، وذراعيه، وصدره، ثم أخذ كفّا من الماء البارد، فرشّه على الزيت، فزاد نشيشه.
ثم صعد على الدكّة، وفي يده صنجات، فرمى بها في الطنجير، ثم أدخل يده بسرعة شديدة، وصاح بأعلى صوته: لا إله إلّا الله، وغرف بكفه الصنجات، فأخرجها، ورمى بها بحدّة، وهو يصيح: يا الله [145 ط] ، يا الله، بأعلى صوته.
ثم تقدّم إلى الزيت، فاغترف بكفّه منه، فغسل به صدره، وذراعيه، وهو يصيح صياحا شديدا، يوهم به من حضر أنّه يريد الدعاء، وكان عندي، أنّه تألّم وتوجّع وتأوّه.
ثم نزل، فأقبل يدعو، ويقول للعامّة: أنا أرجو أن أجيئكم بعد أيّام، بسباع الأجمة، أقودها بآذانها.
فحملناه معنا إلى منزلنا، واغتسل «4» بماء حار، وتدلّك، وبخّرناه، وأقام عندنا يومه.
فسألناه عن سبب ذلك.
فقال: من أطاع الله، أطاعه كلّ شيء، فأمسكنا عنه.
فلما كان بعد أيّام، جاء جماعة من أهل الأنبار، فقالوا: نحن نغلي الزيت، ونعمل كما عمل، ونغلي القار، ونأخذه من القدر بأيدينا حارا.(2/127)
قال فجمعناهم بحضرته، فعملوا ذلك، فأبلس، وقال: هذا، إنّما لحقتكم بركتي.
وهرب من البلد من غد.
فسألنا الذين عملوا ذلك، فقالوا جرّبنا على أنفسنا، وتصبّرنا كما يصبر الواحد منّا على الماء الحار الشديد الحرارة في الحمّام، ولا يصبر عليه آخرون.
ويشبه هذا، ما أخبرني به أبو أحمد بن أبي سلمة العسكري، أحد الشهود بها «1» ، انّه شاهد رجلا، يدخل يده في قدر السكّر الحار، ويخرج منه ما يطرحه في الظروف.
وأخبرني أبو الطيّب، انّه رأى الشبلي الصوفي، يدخل يده في طنجير حار، فيه فالوذج «2» حار مغليّ، فيأخذ منه اللقم، فيأكلها.
قال: وهذا أشدّ ما شاهدته، وفعل ذلك مرارا.
فقال له في بعضها، صوفيّ كان حاضرا: ويحك اعمل أنّ في يدك كشتبان «3» ، حلقك مصهرج «4» ؟(2/128)
65 الشبلي يتواجد
قال: وكان الشبلي «1» ينتف شعر رأسه، وكانت لهذا الشبلي، عجائب وحكايات، منها، ما سمعته من الوزير أبي محمد المهلبي، قال:
اجتزت ببغداد، في بعض طرقها، فرأيت الناس مجتمعين على رجل طريح.
فقلت: ما هذا؟
فقالوا: الشبليّ [116 ب] جاز الساعة على هذا الهرّاس «2» ، ومناديه يقول:
إلى كم تغلط؟ فتواجد «3» ، وصاح حتى أغمي عليه.
قال: فمضيت، وعجبت من جهله «4» .
فرأيت بعض الصوفية «5» ، فأخبرته الخبر، وقلت له: ويحك، أيش في هذا، حتى يصيح الشبليّ منه، ويتواجد؟
فقال: يعتقد أنّ الله تعالى كلّمه على لسان المنادي.
فقلت: هذا أظرف، لو كان بحذاء المنادي مناد لهرّاس آخر، يصيح مثل صياحه، إلى كم تغلط، أيّهما كان كلام الله؟
فقال: الجواب عليه في هذا.(2/129)
66 إذا عتق الشمع عشرات السنين ثم استعمل أبطأت النار فيه
ومن الأخبار المفردات أيضا، ما أخبرني به أبو الحسين بن عيّاش، قال:
دعانا أبو الطيّب بن أبي جعفر الطائي مع أبي القاسم سليمان بن الحسن «1» ، وابنه أبي محمد، دعوة أنفق فيها مائتي دينار، وأظهر من الآلات، والنعم والمروءة، كل شيء حسن طريف غريب فاخر.
وكان [146 ط] أحسن ما شاهدنا له شمعتين موكبيّتين «2» فيهما ثلاثون أو أربعون منّا، في تورين «3» كبيرين، نصبهما في وسط المجلس، وفرّق الشموع الصغار حواليهما.
فكان الفرّاشون إذا أرادوا قطّ الشمعتين، تطاولوا شديدا، حتى يقطّوهما «4» .
وكان لون الشمعتين غير مليح «5» يضرب إلى البياض، ممّا قد عشب عليهما من التراب.(2/130)
وجلسنا إلى قريب من الغداة «1» ، وهما تتّقدان في ليلة شتويّة، ونمنا، وانتبهنا، وهما تتّقدان، [فنظرت] «2» فإذا الذي اتّقد «3» من كلّ واحدة منهما، أصابع يسيرة، وهما بحالهما.
قال: فما تمالكت، أن سألته، فيما بيني وبينه، عن سبب ذلك.
فقال: هما عندي، وعند أبي [من قبلي] «4» ، منذ خمسين سنة، ما استعملناهما.
وعندنا شمع كثير هذا سبيله، تعمّدنا تعتيقه، لأنّه بلغ أبي أنّ الشمع إذا عتّق عشرات سنين، ثم استعمل، كان ما يحترق منه هذا القدر، ونحوه.
فعتّق شمعا كثيرا، ونسيه، ومات، وتشاغلت بعده عن استعماله [سنين] «5» ، فلما احتفلت لهذه الدعوة الآن، ذكرت الشمع العتيق الذي في خزائننا، فأخرجت هاتين منه، وكان من أمرهما ما رأيت، وصحّت التجربة لنا فيهما.(2/131)
67 حجام يحجم بالنسيئة إلى الرجعة
أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني «1» ، قال: أخبرنا أبو بكر يموت بن المزرع «2» ، قال: سمعت أبا عثمان الجاحظ «3» ، يحدّث:
إنّه رأى حجّاما «4» بالكوفة، يحجم بنسيئة إلى الرجعة «5» ، لشدّة إيمانه بها.(2/132)
68 اذان رجل من القطيعة
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني «1» . قال:
سمعت رجلا من القطيعة «2» ، يؤذّن: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلّا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن عليّا وليّ الله، محمد وعليّ خير البشر، فمن أبى فقد كفر، ومن رضي فقد شكر، [ضرطت هند [117 ب] على ابن عمر] «3» ، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله.
وهذا عظيم مفرط، ونستغفر الله منه، ونستعيذ به من الجهل.(2/133)
69 الحنابلة يبنون مسجدا ضرارا
أخبرني جماعة من البغداديين:
إنّ الحنابلة «1» بنوا مسجدا ضرارا، وجعلوه سببا للفتن والبلاء «2» .
فتظلّم منه إلى عليّ بن عيسى، فوقّع في ظهر القصّة.
أحقّ بناء بهدم، وتعفية رسم، بناء أسّس على غير تقوى من الله، فليلحق بقواعده، إن شاء الله تعالى.(2/134)
70 أبو عبد الله الكرخي آية في سرعة الحفظ
حدّثني أبي [رضي الله عنه] «1» ؛ قال: حدّثني أبو عبد الله المفجّع «2» ، قال:
أنشدت أبا محمد القاسم بن محمد الكرخي «3» ، قصيدة طويلة مدحته بها، فلمّا استتممتها، خرج ابنه أبو عبد الله جعفر بن القاسم «4» من خيش «5» كان في صدر المجلس الذي كنّا فيه، فقال: يا شيخ، ألا تستحي، تمدحنا بقصيدة ليست لك، تدّعيها؟
قال: ولم أكن أعرف خبره في سرعة الحفظ، فقلت: أعيذك بالله يا سيّدي، والله ما قالها غيري.
فقال: سبحان الله، هذه علّمنيها المعلّم في المكتب من كذا وكذا(2/135)
سنة، وابتدأ ينشدها حتى مضى [147 ط] في جميعها، ما أخلّ ببيت واحد، [وكانت فوق الخمسين بيتا.
فأسقط في يدي، فخجلت] «1» ، واندفعت أحلف، بالطلاق والعتاق، أنّها لي، وأنا لا أدري من أين أتيت.
فلمّا رحمني القاسم قال: يا هذا لا تقلق، فأنا أعلم أنّك صادق، ولكنّ أبا عبد الله لا يسمع شيئا ينشد، طويلا ولا غيره، إلّا حفظه في دفعة واحدة حين يسمعه، وانّه حفظها لمّا أنشدتنا إيّاها.
وأجازني، وانصرفت.(2/136)
71 أبو عبد الله الكرخي يحفظ جماعة تحتوي على ارتفاع فارس
حدّثني أبي [رضي الله عنه] «1» :
أنّ جماعة «2» كان عملها جعفر بن القاسم «3» ، تحتوي على ارتفاع «4» فارس، أو ناحية من فارس، الشكّ مني، ومشايخ الناحية «5» ، ومعاملاتها «6» ، وخراجها «7» ، وما أدّي، وما بقي، ودخل ذلك، وخرجه، وكان يرفع حسابها إلى الوزير.
فطلبت الجماعة منه، ففقدت.
فقال جعفر «8» : لا عليكم، وأملاها من حفظه في الحال بحضرة الوزير، ورفع الحساب عليها.
ثم وجدت الجماعة، فوجدت موافقة لها حرفا بحرف، إلّا في باب واحد، فإنّه جاء به مقدّما ومؤخّرا.(2/137)
72 نادرة عن شخص آخر آية في سرعة الحفظ
حدّثني أبو القاسم عبد الله «1» بن محمد بن عثمويه الكاتب، قال: حدّثني الكرماني كاتب كان لأبي بكر بن الصيرفي، صاحب الجيش، قال:
أنفذني صاحبي لأنفق في رجال أبي محمد جعفر بن محمد بن ورقاء «2» ، فأنفقت فيهم، واستفضلت أنا وكاتب أبي محمد، والجهبذ، والنقيب، نحو عشرة آلاف درهم.
فقالوا: ندخل في [118 ب] موضع، ونتحاسب، ونقسم.
فدخلنا مسجدا حيال دار أبي محمد، ولم نر فيه إلّا رجلا عليلا نائما، كأنّه سائل، فحقرناه.
وأخذنا نتحاسب، ونقول: وصل إلينا من رزق فلان الساقط كذا، وفلان البديل كذا، ومن الصرف كذا، ومن فضل الوزن كذا، ومن كذا كذا، إلى أن حصّلنا مبلغ الفضل، وما يخصّ كلّ واحد منا.
فأقبلنا نزن، فشال العليل رأسه، وقال: يا أصحابنا، أخرجوا لي قسطا.
فقلنا: ومن أنت؟
قال: أنا رجل من المسلمين، قد سمعت ما كنتم فيه.
فقلنا: هو ضعيف، أعطوه خمسة دراهم.(2/138)
فقال: لا أريد إلّا قسطا صحيحا بالسويّة، مثل ما يأخذه أحدكم.
فاستخففنا به.
فقال: لا عليكم، إمّا أعطيتموني ما التمست، وإلّا جلست الساعة في سميريّة، ومضيت إلى أبي بكر الصيرفي، وقلت: إنّكم أخذتم باسم [فلان الساقط كذا، وباسم] «1» فلان البديل كذا وكذا.
قال: فأعاد جميع ما قلنا وتحاسبنا عليه، حتى ما أخلّ بحرف واحد منه، فأقلّ ما يعمل بكم، إذا لم يصرفكم ويؤذيكم، أن يرتجع منكم ما سرقتم.
فنظرنا إلى ما قاله فوجدناه صحيحا، فرمنا منه أن يقتصر على بعض ما طلبه.
فقال: لا والله إلا بقسط كما يأخذ أحدكم.
فلم نجد من دفع ذلك إليه بدّا، فدفعنا إليه قسطا، مثل ما أخذه واحد منا.
فأخذه وافترقنا «2» [148 ط] .(2/139)
73 والد المؤلف يحفظ قصيدة تشتمل على ستمائة بيت في يوم وليلة
حدّثني أبي [رضي الله عنه] «1» ، قال:
سمعت أبي [رحمه الله] «2» ينشد يوما، وسنّي إذ ذاك خمس عشرة سنة، بعض قصيدة دعبل «3» الطويلة التي يفتخر فيها باليمن، ويعدّد مناقبهم، ويردّ على الكميت فخره «4» بنزار، أوّلها:
أفيقي من ملامك يا ظعينا ... كفاني اللوم مرّ الأربعينا
وهي نحو ستمائة بيت، فاشتهيت حفظها، لما فيها من مفاخر اليمن [لأنّهم] «5» أهلي.
فقلت: يا سيّدي، تخرجها إليّ حتى أحفظها، فدافعني، فألححت عليه.
فقال: كأنّي بك، تأخذها، فتحفظ منها خمسين بيتا أو مائة بيت، ثم ترمي بالكتاب، وتخلقه عليّ.
قلت: ادفعها إليّ.(2/140)
فأخرجها، وسلّمها إلي، وقد كان كلامه أثّر فيّ، فدخلت حجرة كانت برسمي في داره، فخلوت فيها، ولم أتشاغل يومي وليلتي بشيء غير حفظها.
فلما كان في السحر، كنت قد فرغت من جميعها، وأتقنتها، فخرجت إليه غدوة على رسمي، فجلست بين يديه.
فقال: هي، كم حفظت من القصيدة؟
فقلت: قد حفظتها بأسرها.
فغضب، وقدّر أنّي قد كذبته، وقال لي: هاتها.
فأخرجت الدفتر من كمّي، فأخذه، وفتحه، ونظر فيه، وأنا أنشد، إلى أن مضيت في أكثر [119 ب] من مائة بيت.
فصفح منها عدّة أوراق، وقال: أنشد من هاهنا.
فأنشدت مقدار مائة بيت [أخر، فصفح إلى أن قارب آخرها بمائة بيت، فقال أنشدني من هاهنا، فأنشدته مائة بيت منها] «1» إلى آخرها.
فهاله ما رآه من حسن حفظي، فضمّني إليه، وقبّل رأسي وعيني، وقال: بالله، يا بنيّ، لا تخبر بها أحدا، فإنّي أخاف عليك من العين «2» .(2/141)
74 مقدار ما حفظه والد المؤلف من الشعر
حدّثني أبي «1» [رضي الله عنه] «2» ، قال:
حفّظني أبي، وحفظت بعده، من شعر أبي تمام [الطائي] «3» والبحتري، سوى ما كنت أحفظه لغيرهما من المحدثين من الشعراء، مائتي قصيدة.
قال: وكان أبي وشيوخنا بالشام، يقولون: من حفظ للطائيين «4» أربعين قصيدة، ولم يقل الشعر، فهو حمار في مسلاخ «5» إنسان.
فقلت الشعر وسنّي دون العشرين، ثم بدأت بعمل مقصورتي التي أولها:
لولا التناهي لم أطع نهي النهى ... أيّ مدى يطلب من جاز المدى «6»(2/142)
75 حفظ القرآن في ستة أشهر
حدّثني أبو عبد الله بن هارون التستريّ المقرئ [رحمه الله] «1» ، وكان أقام بمسجدنا بالبصرة، قال:
أقمت أحفظ القرآن سنين كثيرة، كلّما بلغت إلى موضع، أنسيت الذي قبله، حتى كأنّي ما سمعته قط، فشق ذلك عليّ.
فحججت، وتعلّقت بأستار الكعبة، ودعوت الله تعالى، وسألته أن يعينني على حفظه.
ورجعت إلى البصرة، فلزمت التلقين، فحفظت القرآن في ستة أشهر على حرف أبي عمرو، ثم تعاطيت السبعة «2» .
فما حال الحول عليّ، إلا وقد أحكمت أكثرها.(2/143)
76 من أقوال الصوفية
بلغني عن بعض الصوفيّة «1» ، إنّه قال:
الاستغفار صابون المعاصي، والشكر [149 ط] لله عزّ وجلّ سفتجة «2» الرزق، والصلاة جوارشن «3» المعدة، والصوم ريباس البدن «4» ، واليقين الرأس الأكبر.
وعن بعضهم، من أهل زماننا:
المعرفة بالله، دليل لا ضيعة معه، والعمل الصالح، زاد لا يخاف معه طول السفر.(2/144)
77 ناصر الدولة الحمداني يتّبع وصية أبيه أبي الهيجاء
حدّثني أبو محمد يحيى بن محمد «1» ، قال: حدّثني أبو إسحاق محمد ابن أحمد القراريطي «2» قال: حدّثني ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان «3» ، قال:
كان أبي أبو الهيجاء «4» شديد الانحراف عنّي أوّل نشوّي، لما يراه من الفضل فيّ، وخوفه منّي على أعماله.
فكان يغضّ مني، ويتجافاني، ويمسك يده عنّي، فأتحمّل ذلك، وأصبر عليه.
فولي طريق خراسان «5» ، فجلس يعرض دوابّه، فبقّى منها خمسين(2/145)
دابّة، ما بين زمن وأعجف، إلى غير ذلك.
ثم قال: يا حسن، أريد أن أخرج بعد شهرين إلى العمل، وهذه الدواب مسلّمة إليك، [فإن صلحت، فقد صلحت] «1» وقد رددت أمرها إليك، لأجرّبك بها في الأمور الكبار، فإن قمت بها حتى تصحّ وتبرأ وتسمن، وكان فيك فضل [120 ب] لذلك، علمت «2» أنّك تصلح لما هو فوقه، وإن لم تصلح على يدك، فهو أوّل عمل رددته إليك من أمري وآخره، فعجبت من أنّ أوّل عمل أهّلني له، أن أكون سائس دوابّ، ولم أجد بدّا من الصبر.
فقلت: السمع والطاعة.
وأخذت الدواب، وأفردت لها إسطبلا، وجعلت لنفسي فيه دكّة، واستأجرت لها سوّاسا، وأدررت أرزاقهم، وطالبتهم بأشدّ الخدمة، وكنت أحضر أمر الدواب دفعات في اليوم، حتى توقّح وتعالج وتسمن، وأفردت بياطرة فرها «3» لذلك.
فما مضى عليها إلّا شهر وأيّام، حتى صحّت وسمنت، وصارت على غاية الحسن.
وأزف خروجه، فقال لي: يا حسن ما فعلت بتلك الدوابّ؟
فقلت: قم إلى الإسطبل حتى تراها.
فقام، فرآها في غاية الحسن، فسرّ بذلك، وأعجبه، وأثنى عليّ، وقال: يا حسن، هوذا أعلّمك بدل قيامك بهذا الأمر شيئا تنتفع به، وفيه قضاء لحقّك، بقدر ما أتعبتك فيه.
فقلت: قل، يا سيدي.(2/146)
قال: إذا رأيت السلطان قد رفع من أهلك رجلا، أو الزمان قد نوّه به ورأسه، فإيّاك أن تحسده، وتشغل نفسك بعداوته، فإنّك تتعب، ولا تصل إلى فائدة، وتسقط أنت، ولا يضرّه هو، وتغتمّ أنت، ولا يتأذّى هو، وتغضّ من نفسك، بغضّك من رجل صار كبيرا من أهلك، فإنّه ما ارتفع إلّا بآلة فيه، يدفعك بها، أو إقبال بدفعك عنه، واجهد أن تخدمه، وتصافيه الودّ، ليكون ذلك الفضل الذي فيه، فضلا لك، وذلك الفخر راجعا إليك، وتتجمّل بثنائه عليك، وإطرائه لك، وتصير أحد أعوانه، فإنّه أحسن بك من أن تكون من أعوان غيره ممّن ليس من أهلك، ويراك الناس عنده وجيها، فيكرمونك له، فإن كان له منزلة من السلطان، جاز أن تصل إليها باستخلافه إيّاك [150 ط] عليها، وانتقاله إلى ما هو أكبر منها، وكذلك إن كانت منزلته من غير سلطان، فلا تقل أنا أقعد منه في النسب، وأنّي خير قرابته، وهذا أمس كان وضيعا، وكان دوننا، فإنّ الناس بأوقاتهم.
فقلت: نعم يا سيدي.
قال: ثم أقبل عليّ، وونّسني، وولّد لي في نفسه، القيام على تلك الدواب، منزلة.
فقال: اخرج معي إلى العمل.
وخرج، فخرجت معه، وكنت أسايره إلى جسر النهروان وأحادثه، فولّد ذلك الانبساط في نفسي طمعا فيه، وأن أسأله شيئا.
فذكرت بجسر النهروان، أنّ له ضيعة جليلة عظيمة، بنواحي الموصل، يقال لها: النهروان، كنت أشتهيها.
فقلت له: يا سيّدي، قد [121 ب] كثرت مؤونتي، وتضاعفت نفقتي،(2/147)
فلو وهبت لي النهروان ضيعتك، لأستعين بغلّتها على خدمتك، ما كان ذلك منكرا.
قال: فحين سمع هذا، تغيّظ غيظا شديدا، واندفع يشتمني أقبح شتيمة، وقال: يا كلب، سمت بك نفسك إلى أن تمتلك النهروان؟
وقنّعني بالسوط «1» الذي كان في يده، وهو مفتول كالمقرعة، فوقع السوط على وجهي، فشجّه من أوّله إلى آخره، وأحسست بالنار في وجهي، وورد ذلك على غفلة، فتداخلني له ألم عظيم، وغيظ مما عاملني به أشدّ من الألم.
وقلت في نفسي، ما كان هذا جوابي، وقد كان يقنعه أن يردّني، ولكن نيّته لي فاسدة بعد.
وقصرّت عن مسايرته، ولحقني غلماني، فوقفوا معي ساعة، حتى صلحت قليلا، وسار هو، ففتلت رأس دابتي، وأنفذت من ردّ بغلين كانا لي في السواد، عليهما قماشي وثيابي وغلماني، ورجعت أريد بغداد، وأنا وقيذ «2» من الألم والغيظ حتى وردت بغداد.
وكان الوزير إذ ذاك عليّ بن عيسى، وهو في غاية العناية بأبي، وهو قلّده العمل، وكان يحبّني، ويكرمني، ويختصّني، ففكرت أن أدخل إليه، أشكو أبي، وأريه الأثر الذي بي.
فقصدت دارنا، فأدخلت البغلين والقماش إلى الدار، ولم أنزل، وتوجهت إلى دار الوزير.
فحين نزلت عن دابتي، وصرت في الصحن، ذكرت وصيّة أبي لي في أمر الأهل، وندمت على دخول دار الوزير، وقلت: لأن أقبل(2/148)
الوصية في أبي، أولى من قبولها في الأهل، فعملت على أن أغالط الوزير، ولا أعرّفه.
وجئت، فسلّمت على الوزير، ووقفت بين يديه، ولم تكن عادتي تجري بالجلوس «1» بحضرته.
فحين رآني أعظم الأثر الذي بوجهي، وقال: ما لحقك؟ وأنكره، لأنّه كان قبيحا جدا.
فقلت: لعبت بالصولجان والكرة، فأفلتت، فضربت وجهي.
فقال: أليس كنت قد خرجت مع أبيك، فلم رجعت؟
فقلت: خرجت مشيّعا، فلما بعد، عدت لألزم خدمة الوزير.
قال: فأخذ يسألني عن مسير أبي، فإذا بأبي قد دخل، وإذا هو لمّا رجعت من الطريق، وبلغه خبر رجوعي [151 ط] قد اغتاظ، فرجع، إمّا ليردّني، أو ليقبض عليّ، وجاء إلى داره، فعرف أنّي لم أنزل، وأنّي توجهت إلى دار الوزير، فلم يشكّ في أنّي قد مضيت أشكوه.
فجاء، فوجدني أخاطبه، فتحقّق ذلك عنده، فجلس.
فقال له الوزير: ما ردّك يا أبا الهيجاء؟
فقال: أيها الوزير، ما هذا حقّ خدمتي لك، ومناصحتي إيّاك، وانقطاعي إليك، وأخذ يعتب على الوزير أعظم عتب، وأنا قائم، ساكت، أسمع [122 ب] .
فقال له الوزير: ما «2» هذا العتب عليّ؟ أيّ شيء عملت؟
فقال: تمكّن هذا الكلب من ذكري بحضرتك، والتبسّط فيّ.
فقال: من تعني؟(2/149)
فقال: الحسن، هذا القائم، فعل الله به وصنع.
فقال له الوزير: يا هذا، قد وسوست، أيّ شيء كان أوّل هذا؟ والله، ما نطق هذا الفتى في أمرك بحرف، ولا سمعته قط ذكرك بما يوجب عتبا عليه، وكيف عليّ في تمكيني منه، ولو فعل ذلك، لغضّ به عندي من نفسه.
فاستحيا أبي، وعلم أنّي لم أخاطب الوزير بشيء، وأمسك.
فقال له الوزير: لا بدّ أن تحدّثني بما بينكما، فإنّك ما حملت نفسك على الرجوع، إلّا لأمر عظيم، وهو ذا أرى الحسن أيضا به أثر قبيح، وقد سألته، فقال: إنّ كرة أفلتت من يد غلمان ضرب معهم بالصولجان فأصابت وجهه، فوقع لي أنّه صادق، فلمّا جئت الآن، وقدّرت أنّه قد شكاك، وقع لي إنّ هذا شيء من فعلك، ولا بدّ أن تصدقني.
قال: فقصّ عليه أبو الهيجاء القصّة، كما جرت.
فأقبل عليه عليّ بن عيسى، وقال: أما تستحي يا أبا الهيجاء، أن يكون هذا قدر حلمك عن ابنك، وأكبر ولدك؟ فإذا كنت بهذا الطيش معه، فكيف تكون مع الغريب؟ وأيّ شيء كان في مسألته لك أن تهب له ضيعة؟
ولو فعلت ذلك، ما كان ذلك بدعا من برّ «1» الآباء بأولادهم. ولمّا لم تسمح له بذلك، قد كان يجب أن تردّه ردّا جميلا، أو قبيحا إذا اغتظت، وأمّا أن تبلغ به ضرب السياط، آه، آه.
قال: وزاد عليه في العتب والتوبيخ، وهو مطرق مستحيي.
حتى قال له: وليس العجب من هذا، حتى رجعت من عملك، غيظا عليه، وقدّرت أنّه قد شكاك إليّ، وأنّي أطلق له أن يتنقّصك، فجئت عاتبا عليّ، لوهم توهمته فيه.
قال: فأخذ أبي يعتذر إليه من ذلك.(2/150)
فقال: والله، ما أقبل عذرك، ولا تنغسل عن نفسي هذه الآثار، إلّا بأن تشهد لحسن بالضيعة، وتهبها له، جزاء عن ظلمك إيّاه.
فقال: السمع والطاعة لأمر الوزير.
فقال لي عليّ بن عيسى: انكبّ على رأس أبيك ويده فقبّلهما.
قال: ففعلت ذلك.
وجذب عليّ بن عيسى دواته ودرجا، فأعطاهما أبا الهيجاء، وقال:
اكتب له بالضيعة، إلى أن تشهد، فكتب أبي بالضيعة لي.
وقال الوزير: خذ، خذ، فإذا عاد إلى البيت، فاكتب عليه العهد [بالوثيقة] «1» ، وأشهد عليه جماعة من العدول، فإن امتنع عرّفني حتى أطالبه [152 ط] لك بذلك.
قال: وخرجنا ونحن مصطلحون.
فلما صرنا في الدهليز، قال أبي: يا [123 ب] حسن أنا علّمتك على نفسي، بالوصيّة التي وصّيتك بها، كأنّي بك وقد جئت لتشكوني، فلما صرت في الدهليز ذكرت وصيّتي لك، فقلت: لأن أستعملها مع أبي، أولى بي، فلما صرت في مجلس الوزير، قلت له ما قلت، ولم تشكني إليه.
قلت: [كذا] «2» والله يا سيدي كان.
فقال: إذا كان فيك من الفضل ما قد حفظت معه وصيّتي، في مثل هذه الحال، فما ترى بعدها مني ما تكرهه.
فقبّلت يده، وعدت معه إلى دارنا.
فسلّم إليّ الضيعة، وأشهد بها لي، وصلحت نيته بعد ذلك، واستقامت الحال بيننا.
وكان قبول تلك الوصيّة أبرك شيء عليّ.(2/151)
78 بين ابن أبي البغل عامل أصبهان وأحد طلّاب التصرّف
حدّثني أبو القاسم سعد بن عبد الرحمن الأصبهاني، كاتب الأمير أبي حرب، سند الدولة، الحبشي بن معز الدولة «1» ، ومحلّه من النبل والجلالة والثقة، والأدب، والعلم، مشهور، قال:
كان أبو الحسين بن أبي البغل «2» ، يتقلّد بلدنا، فأخبرني من حضر مجلسه، وقد دخل إليه شيخ قدم من بغداد، بكتب من وزير الوقت، ومن جماعة من رؤساء الحضرة، وإخوان أبي الحسين بها، يخاطبونه بتصريفه «3» ونفعه.(2/152)
فسلّم وجلس، وأوصل الكتب، وصادف منه ضجرا وضيق صدر، وكانت إضبارة عظيمة، فاستكثرها ابن أبي البغل، ولم يقرأها جميعها.
فقال له الرجل: إن رأيت أن تقرأها، وتقف على جميعها.
فصخب «1» ، وتغيّظ، وقال: أليس كلها في معنى واحد؟ قد والله بلينا بكم يا بطّالين «2» ، كل يوم يصير إلينا منكم واحد يريد تصرّفا، لو كانت خزائن الأرض إليّ، لكانت قد نفدت.
ثم قال للرجل: يا هذا، ما لك عندي تصرّف، ولا إليّ عمل شاغر «3» أردّه إليك، ولا فضل في مالي أبرّك منه [فدبّر أمرك] «4» بحسب هذا.
قال: والرجل ساكت جالس، إلى أن أمسك ابن أبي البغل.
فلما سكت، ومضت على ذلك [ساعة] «5» قام الرجل قائما، وقال:
أحسن الله جزاءك، وتولّى مكافأتك عنّي بالحسنى، وفعل بك وصنع.
قال: وأسرف الرجل في شكره، والدعاء له، والثناء عليه، بأحسن لفظ، وأجود كلام، وولى منصرفا.
فقال ابن أبي البغل: ردّوا من خرج.
وقال له: يا هذا، هوذا تسخر مني؟، على أيّ شيء تشكرني؟ على أياسي لك من التصرّف، أو على قطع رجائك من الصلة، أو على قبيح ردّي لك عن الأمرين، أو تريد خداعي بهذا الفعل؟
قال: لا، ما أردت خداعك، وما كان منك من قبيح الردّ، غير منكر، فإنّك سلطان، ولحقك ضجر.(2/153)
ولعلّ الأمر على ما ذكرته من كثرة الواردين عليك [124 ب] وقد بعلت «1» بمن حضر، ونحوسى أن صار هذا الردّ القبيح، والأياس الفظيع، في بابي.
ولم أشكرك إلّا في موضع الشكر، لأنك صدقتني عمّا لي عندك في أوّل مجلس، فعتقت عنقي من ذلّ الطمع، وأرحتني من التعب بالغدوّ [153 ط] والرواح إليك، وخدمة من أستشفع بهم عليك، وكشفت لي ما أدبّر به أمري، وبقيّة نفقتي معي، ولعلّها تقوم بتجمّلي، الذي أتجمّل به إلى بلد آخر، فإنّما شكرتك على هذا، وعذرتك فيما عاملتني به، لما ذكرته أوّلا.
قال: فأطرق ابن أبي البغل خجلا، ومضى الرجل.
فرفع رأسه بعد ساعة، وقال: ردّوا الرّجل، فردّوه.
فاعتذر إليه، وأمر له بصلة، وقال: تأخذها إلى أن أقلّدك ما يصلح لك، فإنّي أرى فيك مصطنعا «2» .
فلما كان بعد أيّام قلّده عملا جليلا، وصلحت حال الرجل.(2/154)
79 ابن أبي البغل يأمر بإشخاص أحد عماله لكي يقطع سحاة كتاب
حدّثني أبو القاسم «1» ، قال:
كانت في أبي الحسين ابن أبي البغل «2» ، منافرة ومناكدة «3» .
فورد عليه يوما، كتاب من عامل له، من بلد بينه وبينه فراسخ كثيرة، وقد سحاه بسحاة «4» غليظة.
واجتهد أبو الحسين في قطع السحاة بيده، وجهد جهدا شديدا، فما كان له إلى ذلك طريق، فترك الكتاب، ووقّع بإشخاص العامل، ومضى اليوم.
فلما كان بعد أيّام، قدم العامل، فلما جلس بين يديه، قال لصاحب الدواة:
أين ذلك الكتاب الذي ورد منه بالأسحاة الغليظة؟ فأحضره.
فقال له: اقطع هذه الأسحاة.
فرامها العامل، فلم يكن فيها حيلة، فأخذ سكّينا من [دواة] «5» بعض الكتّاب بحضرته، فقطعها.(2/155)
فقال له: ارجع الآن إلى عملك، فإنّما دعوتك «1» لتقطع هذه الأسحاة.
وأعلمك أنّك في أيّ وقت سحيت كتابا لك بمثلها، أنّي أستحضرك لتقطعه.
فردّه في الحال إلى عمله، وما تركه [أن] «2» يقيم [ولا] «3» ساعة، ولا سأله عن شيء من أمره.(2/156)
80 لابن بشر الآمدي يهجو قاضي البصرة
كان قد ولي القضاء بالبصرة، في سنة ست «1» وخمسين وثلاثمائة «2» ، رجل لم يكن عندهم بمنزلة من صرف به، لأنه ولي صارفا لأبي الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشميّ «3» ، فقال فيه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي «4» ، كاتب القاضيين أبي القاسم جعفر «5» ، وأبي الحسن محمد بن عبد الواحد:
رأيت قلنسية «6» تستغيث ... من فوق رأس تنادي خذوني
وقد قلقت فهي طورا تميل ... من عن يسار ومن عن يمين
فقلت لها أيّ شيء دهاك ... فردّت بقول كئيب حزين
دهاني أن لست في قالبي ... وأخشى من الناس أن يبصروني
وأن يعبثوا بمزاح معي ... وإن فعلوا ذاك بي قطّعوني
فقلت لها مرّ من تعرفين ... من المنكرين لهذي الشؤون [125 ب]
ومن كان يشهق أمّا رآك ... ويخرج من جوفه كالرنين
ومن كان يصفع في الله لا ... يملّ ويشتدّ في غير لين
ويسلح ملأك كيل التمام ... إمّا على صحة أو جنون
ففارقها ذلك الانزعاج ... وعادت إلى حالها في السكون(2/157)
81 أبو رياش الشاعر يعاتب الوزير المهلبي
أنشدني أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي «1» - ومحلّه من علم اللغة [154 ط] والشعر، المحلّ المعروف- لنفسه في أبي محمد المهلّبي «2» ، وكان امتدحه، فتأخرّت عنه صلته، وطال «3» إليه تردده، على ما أخبرني به أبو رياش.
قال: فقلت:
وقائلة قد مدحت الوزير ... وهو المؤمّل والمستماح
فماذا أفادك ذاك المديح ... وهذا الغدوّ معا والرواح
فقلت لها ليس يدري امرؤ ... بأيّ الأمور يكون الصلاح
عليّ التقلّب والاضطراب ... جهدي وليس عليّ النجاح(2/158)
82 بين أبي العباس بن دينار وأبي يحيى الرامهرمزي
سمعت أبا يحيى زكريا بن محمد بن زكريّا الرامهرمزيّ، يحدّث أبي «1» ، قال:
كان أبو العباس عبيد الله بن دينار، صديقي، [كما علم القاضي] «2» وكان مقيما عندنا برامهرمز «3» .
فلحقته إضافة، فضيّق على عياله، فأنفذوا إليّ أساورة ودمالج وخلاخل ذهب، واقترضوا عليها ثلاثمائة دينار، فأقرضتهم.
ومضت شهور، وجاء الديلم يريدون البلد، وخرج بجكم إليهم، فتهارب الناس منهم، وعملنا على الهرب متى انهزم بجكم، فما كان بأسرع من أن جاءنا منهزما «4» ، فطار الناس على وجوههم.
وقال أبو العباس لحرمه: أخرجوا، فتباطؤوا بسبب حليهنّ.
فلما زاد عليه الأمر، دخل، فقال: ما لكم؟ إن كنتم قد صادقتم صديقا، فأقيموا، وعرّفوني لأهرب وحدي، وإن كنتم اتخذتم حبّة «5» ،(2/159)
فاحملوها معنا، وإلّا فالسيف قد لحق بنا، فما هذا التباطؤ «1» عن الهرب، لندرك.
فحدّثوه بحديث الحلي ورهنه، فكتب إليّ:
بسم الله الرحمن الرحيم [يا أبا يحيى، جعلت فداك] «2» ،
سلبت الجواري حليهنّ فلم تدع ... سوارا ولا طوقا على النحر مذهبا
فاستحييت منه، وبعثت بالحلي، فأخذه، ورحل بجواريه، ورحلنا.
ودخل الديلم البلد «3» .(2/160)
83 حجر خاصّيته طرد الذباب
حدّثني أبو أحمد «1» عبد الله بن عمر الحارثي، قال: حدّثني رجل خراساني «2» من بعض أصحاب الصنعة، ممن كان يعرف الأحجار الخواصيّة، قال:
اجتزت برهداريّ «3» بمصر، فرأيت عنده حجرا أعرفه، يكون وزنه خمسة دراهم، مليح المنظر، وقد جعله بين يديه [في جملة] «4» قماشه.
وكنت أعرف أن خاصيته في طرد الذباب، وكنت في طلبه منذ سنين كثيرة.
فحين رأيته ساومته فيه، فاستام عليّ به خمسة دراهم [126 ب] فلم أماكسه ودفعتها إليه صحاحا.
فلما حصلت في يده، وحصل الحجر في يدي، أقبل يطنز بي «5» ، ويسخر منّي.
ويقول: يجون «6» هؤلاء الحمير، لا يدرون أيش يعطون، ولا أيش يأخذون، والله، إنّ هذه الحصاة رأيتها منذ أيام مع صبيّ، فوهبت له دانق فضّة، وأخذتها، وقد اشتراها هذا الأحمق مني بخمسة دراهم.
فرجعت إليه، وقلت له: يجب أن أعرّفك أنّك أنت الأحمق، لا أنا.
قال: كيف؟(2/161)
قلت: قم معي، حتى أعرّفك ذلك.
فأقمته ومضينا «1» ، حتى اجتزنا بكسّار «2» يبيع التمر في قصعة، والذباب محيط بها.
فنحّيت الرجل بعيدا من [155 ط] القصعة، وجعلت الحجر عليها، فحين استقر عليها طار جميع الذباب.
وتركته ساعة، وهي خالية من ذبابة واحدة فما فوقها، ثم أخذت الحجر فرجع الذباب، ثم رددته، فطار الذباب.
ففعلت ذلك ثلاث مرات، ثم خبأت الحجر.
وقلت: يا أحمق، هذا حجر الذباب، وأنا قدمت في طلبه من خراسان، يجعله الملوك عندنا على موائدهم، فلا يقربها الذباب ولا يحتاجون إلى مذبّة، ولا إلى مروحة، والله، لو لم تبعني إيّاه إلّا بخمسمائة دينار، لاشتريته منك.
قال: فشهق شهقة، قدّرت أنّه تلف، ثم أفاق منها بعد ساعة، وافترقنا.
وخرجت بعد أيّام إلى خراسان والحجر معي، فبعته على نصر بن أحمد أميرها «3» بعشرة آلاف درهم.(2/162)
84 يوسف بن وجيه صاحب عمان يذعن لحكم مستشاريه
حدّثني أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعيد العسكري، قال:
كان عندنا بعسكر مكرم «1» شيخ أصبهاني مشهور يعرف بالكافوري، يتّجر في الجوهر، وكان حسن البصيرة بها.
فأخبرني إنّه اشترى فصّين، وباعهما مالكهما على أنّهما بجاذيان «2» ، ولم يعرفهما، قال: فعرفتهما أنا، وعلمت أنّهما بلخش، وهو جنس يشبه الياقوت الأحمر، فاشتريتهما منه بثلاثمائة درهم «3» ، وجلوتهما بالبصرة، فخرج لهما من الماء أمر عظيم.
واتفق أن خرجت إلى عمان «4» ، وهما معي، فعرضتهما على يوسف ابن وجيه، الأمير «5» ، وادعيت أنّهما ياقوت أحمر، فعرضهما «6» لكل جوهريّ، فكانوا يصدّقونني.
فابتاعهما مني، بعد خطوب طويلة ومراوضات، بخمسين ألف درهم، وقبضت الثمن.(2/163)
ثم شكّ فيهما، فأحضرني، وطالبني بالمال.
فقلت: إن كنت تريد أخذ المال باليد والقدرة، فأنت السلطان مالي بك قوّة، وإن كنت تريد أخذه بحجّة، فبيني وبينك أهل الصنعة.
فقال: ليس بعمان من أثق بعلمه «1» .
فقلت له: فسرنديب قريبة منك، وهي المعدن [127 ب] فأنفذهما إلى هناك، فإن قيل إنّهما ليسا بياقوت، رددت المال.
ووضعت في نفسي أن أتّجر في المال، إلى أن ينكشف الأمر، فأربح فيه مالا، ثم أردّ عليه أصل ماله.
قال: فضمّنني المال على الشرط والمقام «2» ، وأنفذ الفصّين.
فلما كان بعد سنة، أو قريبا منها، أحضرني، وأخرج كتبا إليه من [وكيله] «3» هناك، يذكر فيها أنّه جمع أهل الصنعة بسرنديب كلّهم، وعرض عليهم الفصّين، فقالوا: هما ياقوت أحمر، إلّا أنّه فيه رخاوة، ولو كان أصلب من هذا، ما كان له قيمة، وانّ هذا ياقوت ليس [هو من] «4» هذا المعدن.
فقرأت الكتب.
فقال: ردّ المال.
فقلت: ما يلزمني، ما بعتك على أنّهما من معدن سرنديب، أو غيره من المعادن، ولا على أنّهما صلبان أو رخوان، وقد شهد أهل المعدن أنّهما ياقوت، وقد نعتوهما بالرخاوة، وقالوا إنّه لولا هذا العيب، ما كان لهما قيمة.(2/164)
ولولا هذا العيب، ما بعتك بخمسين ألف دينار، وأنا [156 ط] تاجر، قد قصدت بلدك، فلا تظلمني.
فقال لمن بحضرته؛ ما تقولون؟
فقالوا: نحن معه.
فأفرج عنّي.
85 سلب دنانيره ثم استعادها بدرهمين
وحدّثني أيضا الحارثيّ، عمّن حدّثه، قال:
سافرت في بعض الجبال، وكان معي دنانير خفت عليها، فأخذت قناة مجوّفة، وجعلت في أنبوبة منها الدنانير، حتى امتلأت بها، فلم تجلجل «1» ، ولا جاء لها صوت، ثم صببت في رأسها الرصاص [الحار] «2» ، حتى خفي أمرها، والتزقت، وجعلت فيها حلقة وسيرا «3» ، وكنت أمشي وأتوكّأ عليها.
فخرج علينا اللصوص والأكراد، في عدّة مواضع، وأخذوا كلّ ما كان في القافلة، ولم يعرض لي أحد.
إلى أن خرج علينا آخر دفعة، لصوص رجّالة، فشلحونا، فرأى أحدهم عكّازي، فاستملحها، وأخذها.
فلحقني من الجزع عليها، بسبب الدنانير، أمر عظيم.(2/165)
فأخذ أهل القافلة، يتلهّون بي «1» ، ويقولون: معنا من ذهبت منه الأموال والأمتعة، ما قلق «2» قلقك على خشبة، وأنا ممسك، لا أصرّح بما كان فيها.
قال: وتمادى السفر بنا، إلى أن وصلت إلى مقصدي، فبقيت منقطعا [بي] «3» ، واحتجت إلى أن تصرّفت ببدني «4» في بعض المهن نحو سنة.
فلما كان بعد سنة، اجتزت برهداري «5» على الطريق، وإذا بين يديه قناة تشبه قناتي، وتأمّلتها فإذا هي [هي] «6» ، ورطلتها فإذا ثقلها بحاله.
فقويت نفسي، وقلت للرجل: تبيعني إيّاها؟
فقال: نعم.
فقلت: بكم.
فقال: بدرهمين.
ولم أكن أملك غيرهما، فقلت: أعطيه إيّاهما على الله تعالى «7» ، فإن كان مالي فيها فقد فزت، وإلّا أبلي عذرا بيني وبين نفسي.
فأعطيته الدرهمين، وأخذت العكّاز، وصعدت [128 ب] إلى مسجد، وطلبت أشفى «8» من بعض الأساكفة، وأصعدت به معي إلى المسجد، وشققت العصا، فإذا بدنانيري قد خرجت عليّ بعينها.
فأخذتها، ورميت القناة، وحمدت الله تعالى على حفظ ذلك عليّ.
وانصرفت فتجهزّت، وخرجت إلى بلدي بتجارة ومير «9» .(2/166)
86 امرأة تدعي أن زوجها كان يعشق السراويلات
حدّثني أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب «1» ، قال:
مات عندنا بالأنبار، فلان، وأسماه، وكان عظيم النعمة، وافر المروءة، كثير الثياب، وكان لكثرتها، يحصّل كلّ فنّ منها في عدّة صناديق.
وكانت دراريعه الدبيقيّة «2» مفردة، والدراريع الديباج مفردة، وكذلك القمص، والسراويلات، والجباب، والطيالس، والعمائم.
قال: وكان له بنو عمّ ورثوه، وأمّ ولد قد تزوّجها.
فلما مات، أخرجت جميع آلاته، وقماشه، وثيابه، إلّا اليسير، من الدار، فخبأته.
وذهب عليها صناديق السراويلات، فلم تخرجها، وجاء بنو العمّ، فختموا على الخزائن.
فلمّا انقضت المصيبة «3» ، فتحوها، فوجدوها أخلى من فؤاد أمّ موسى «4» ،(2/167)
فخاصموها إلى قاضي البلد، فلم تنقطع الخصومة.
فدخلوا الحضرة «1» ، وتظلّموا منها فأشخصت، وحملت [157 ط] إلى القاضي أبي جعفر بن البهلول، ووقّع إليه بالنظر فيما بينهم على طريق المظالم.
فحضروا عنده وأخذ يسائلهم عن دعواهم «2» ، وهي منكرة جميعها.
فقالوا له: أيّها القاضي، فلان أنت أعرف الناس [بعظم] «3» مروءته وثيابه، وما كنت تشاهده له، وكلّه كان في يدها له.
وساعة مات ختمنا خزائنه، وهي كانت في الدار، ولمّا فتحناها لم نجد له فيها إلّا عدّة صناديق فيها سراويلات، وقطعا يسيرة من ثيابه.
فأين مضى هذا؟ ومن أخذه؟ وما السبب في عظم السراويلات وقلّة الثياب؟
قال: فأقبلت الجارية محتدّة، كأنّها قد اعدّت الجواب، فقالت:
أعزّ الله القاضي، أما سمعت ما حكاه الجاحظ من أنّ رجلا كان يعشق الهواوين «4» ، فجمع منها مائتي هاون، هذا كان يعشق السراويلات.
قال: فضحك القاضي أبو جعفر، وانفضّ «5» المجلس عن غير شيء.
فما انتصفوا منها بعد ذلك.(2/168)
87 ينكر الدين، ويأبى أن يحلف اليمين
تقدم إليّ رجلان، بالأهواز، فادعى أحدهما على الآخر حقّا. فأنكره.
فسألته «1» ، وقلت: أتحلف؟
فقال: ليس له عليّ شيء، فكيف أحلف؟ لو كان له عليّ شيء، حلفت له، وأكرمته.(2/169)
88 بحث في الرباب بين القاضي وأحد العدول
سمعت القاضي أبا القاسم جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ، يقول:
كنت بحضرة القاضي أبي عمر، بعد قبوله شهادتي بمدّة، على خلوة وأنس، فجرى حديث الملاهي.
فقلت: فلان [129 ب] يضرب بالرباب «1» .
قال: فصاح عليّ القاضي أبو عمر، وقال: هاه، هوذا تهزأ بنا، هوذا تنمّس علينا؟ ما هذا الكلام؟
فقلت: ما هو أيّد الله القاضي؟ فو الله، ما أدري أنّي قلت شيئا يتعلّق بما قاله القاضي.
فقال: قولك يضرب، كأنّك لا تعلم أنّ الرباب يجرّ حتى يسمع «2» صوته، ولا يضرب به.
فحلفت له بأيمان مغلظة أنّي ما علمت هذا، ولا رأيت الرباب قط.
فقال: إنّ هذا أقبح، سبيل الصالح أن يعلم طرق الفساد ليجتنبها على بصيرة، لا على جهل.
فعدت إلى داري، فقلت لسائس كان معي: ويلك اطلب لي ربابيّا «3» .
فطلبه، وجاء به، فجرّه بين يدي، فرأيته، فكان ما قاله أبو عمر صحيحا.(2/170)
89 القاضي أبو عمر يتردد في قبول شهادة شاهد تظاهر بالانزعاج من رائحة الخمر
قال:
واجتاز أبو عمر «1» بطريق قد كسر فيه دنّ خمر، ومعه بعض الشهود، فقال الشاهد: شه، شه، أفّيه، أفّيه «2» ، فأمسك عنه.
فلما جاء في المجلس ليقيم شهادة لزمته، توقّف عن استماعها، فقامت قيامة الشاهد، وطرح عليه من يسأله.
فقال: هذا كذّاب أو جاهل، فلا يسعني قبوله، وذكر حديث الخمر.
وقال: ليس تحريمها يقلب رائحتها من الطيب إلى النتن، حتى يقول هذا ما قاله، وما قاله إلّا وهو يعلم أنّ رائحتها طيبة، فنمّس وكذب، أو هو جاهل بهذا القدر، فلا أقبله.(2/171)
90 قوّاد ابن قوّاد
حدّثني «1» أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد «2» [158 ط] ، قال: حدّثني بعض الكتّاب، قال:
سافرت وجماعة من أصدقائي، نريد مصر للتصرّف.
فلما حصلنا بدمشق، كان معنا عدّة بغال، عليها ثقل وغلمان لنا، ونحن على دوابّنا، أقبلنا نخترق الطرق «3» [لا ندري أين ننزل] «4» .
فاجتزنا برجل شاب، حسن الوجه والثياب، جالس على باب دار شاهقة، وفناء فسيح، وغلمان بين يديه وقوف.
فقام إلينا، وقال: أظنّكم على سفر، ووردتم الآن؟
فقلنا: نحن كذلك.
فقال: فتنزلون عليّ.
وألحّ علينا، وسألنا، فاستحيينا من محله، وحسن ظاهره، وهيبته «5» ، وحططنا على بابه، ودخلنا.
وأقبل «6» أولئك الغلمان، يحملون ثقلنا، ويدخلونه الدار، ولا يدعون أحدا من غلماننا يخدمنا، حتى حملوه بأسره، في أسرع وقت.(2/172)
وجاءونا بالطساس والأباريق، فغسلنا وجوهنا، وأجلسونا في مجالس حسنة، مفروشة بأنواع الفرش الذي لم نر مثله.
وإذا الدار في نهاية الحسن والفخر والكبر، وفيها دور عدة، وبستان عظيم، وصاحب المنزل يخدمنا بنفسه.
وعرض علينا الحمّام، فقلنا نحن محتاجون إليه، فأدخلنا إلى حمام في الدار [في نهاية السرو، ودخل إلينا غلامان أمردان وضيئان، في نهاية الحسن] «1» فخدمانا بدلا [130 ب] من القيّم [والمزين] «2» ، وأخرجنا من الحمام، إلى غير ذلك المجلس، فقدّم إلينا مائدة حسنة جليلة، عليها من الحيوان، وفاخر الطبيخ «3» ، والألوان، ونادر الخبز، وغريب البوارد، وكلّ شيء.
وإذا بغلمان مرد، في نهاية الحسن والزيّ، قد دخلوا إلينا، فغمزوا أرجلنا، فلحقنا من ذلك، مع الغربة وطول العهد بالجماع، عنت، فأمرناهم بالانصراف، وفينا من لم يستحلّ التعرّض لهم، وتعفّف «4» عن ذلك، لنزولنا على صاحبهم.
ثم انتبهنا، فنقلنا إلى مجلس آخر على صحنين، في أحدهما بستان حسن، فأخرج إلينا من آلات النبيذ كل طريف [ظريف] «5» ، وأحضر من الأنبذة، كل شيء طيّب حسن.
وشربنا أقداحا يسيرة، ثم ضرب بيده إلى ستارة ممدودة، فإذا بجوار(2/173)
خلفها، فقال: غنّوا، فغنّى الجواري اللواتي كنّ خلفها، أحسن غناء وأطيبه.
فلما توسّطنا الشرب، قال: ما هذا الاحتشام لأضيافنا أعزّهم الله؟
أخرجن، وهتك الستارة.
قال: فخرج علينا جوار لم نر قط أحسن، ولا أملح، ولا أظرف منهنّ، من بين عوّادة، وطنبوريّة «1» ، وكرّاعة «2» ، وربابيّة، وصنّاجة «3» ، ورقّاصة، وزفّانة «4» ، بثياب فاخرة وحلي، فغنّيننا، واختلطن بنا في المجلس والجلوس، وكان تجنّبنا أشدّ، وانقباضنا أكثر، وضبطنا أنفسنا أعظم.
فلما كدنا أن نسكر، ومضت قطعة من الليل، أقبل صاحب الدار علينا، وقال: يا سادة، إنّ تمام الضيافة، وحقّها، الوفاء بشرطها، وأن يقيم المضيف بحق الضيف في جميع ما يحتاج إليه، من طعام، وشراب [159 ط] ، وجماع، وقد أنفذت إليكم نصف النهار «5» بالغلمان، فأخبروني بهافكم عنهم، فقلت: لعلّهم أصحاب نساء، فأخرجت هؤلاء «6» ، فرأيت من انقباضكم عن ممازحتهنّ، ما لو خلوتم بهنّ، كانت الصورة واحدة، فما هذا؟(2/174)
قلنا: يا سيّدنا، أجللناك عن ابتذال «1» من في دارك لهذا، وفينا من لا يستحلّ الدخول في الحرام.
فقال: هؤلاء مماليكي، وهنّ أحرار لوجه الله إن كان لا بدّ «2» من أن يأخذ كلّ واحد منكم بيد واحدة منهنّ، ويتمتّع ليلته بها، فمن شاء زوّجته بها، ومن شاء غير ذلك، فهو أبصر، لأكون قد قضيت حقّ الضيافة.
فلمّا سمعنا هذا، وقد انتشينا، طربنا، وفرحنا، وصحنا، وأخذ كلّ واحد منّا واحدة، فأجلسها إلى جانبه، وأقبل يقبّلها، ويقرصها، ويمازحها.
فتزوّجت أنا بواحدة منهنّ، وغيري ممّن رغب في ذلك، وبعضنا لم يفعل.
وجلس معنا بعد هذا ساعة، ثم نهض.
فإذا بخدم قد جاءوا، فأدخلوا كلّ واحد وصاحبته، إلى بيت في نهاية الحسن [131 ب] والطيب، مفروش بفاخر الفرش، وفيه برذعة وطيّة سريّة «3» ، فبخّرونا عليها، ونوّمونا، والجواري إلى جنوبنا، وتركوا معنا شمعة في البيت، وما نحتاج إليه من آلة المبيت، وأغلقوا، وانصرفوا، فبتنا في أرغد «4» عيش ليلتنا.(2/175)
فلما كان السحر، باكرنا الخدم، فقالوا: ما رأيكم في الحمّام؟
فقد أصلح، فقمنا ودخلناه، ودخل المرد معنا، فمنّا من أطلق نفسه معهم فيما كان امتنع عنه بالأمس.
وخرجنا، فبخّرونا بالند العتيق «1» ، وعطّرونا «2» بماء الورد والمسك والكافور، وقدمت إلينا المرايا المحلّاة «3» .
وأخبرنا غلماننا، إنّ صورتهم في ليلتهم، كانت كصورتنا، وإنّهم أتوا بجواري الخدمة الروميّات، فوطئوهن.
فأقبل بعضنا على بعض، نعجب من قصّتنا، وبعضنا يخاف أن تكون حيلة، وبعضنا يقول: هذا في النوم نراه؟
ونحن في الحديث، إذ أقبل صاحب الدار، فقمنا إليه، وأعظمناه، فأخذ يسألنا عن ليلتنا، فوصفناها له، وساءلنا عن خدمة الجواري لنا، فحمدناهنّ عنده.
فقال: أيّما أحب إليكم، الركوب إلى بعض البساتين للتفرّج إلى أن يدرك الطعام، أو اللعب بالشطرنج، والنرد، والنظر في الكتب «4» ؟
فقلنا: أما الركوب فلا نؤثره، ولكن اللعب بالشطرنج والنرد والدفاتر، فأحضرنا ذلك، وتشاغل كلّ منّا بما اختاره.
ولم تكن إلّا ساعتين أو ثلاثة من النهار، حتى أحضرنا مائدة كالمائدة الأمسيّة «5» ، فأكلنا، وقمنا إلى الفرش، وجاء الغلمان المرد، فغمزونا، وغمزهم منّا من كان يدخل في ذلك، وزالت المراقبة.(2/176)
وانتبهنا فحملنا إلى الحمّام، وخرجنا فتبخّرنا، وأجلسنا في مجلسنا بالأمس.
وجاء أولئك الجواري، ومعهنّ غيرهنّ، ممّن هنّ [160 ط] أحسن منهنّ، فقصدت كلّ واحدة، صاحبها بالأمس، بغير احتشام، وشربنا إلى نصف الليل، فحملن معنا إلى الفرش.
فكانت حالنا هذه أسبوعا.
فقلت لأصحابي: ويحكم، أرى الأمر يتّصل، ومن المحال أن يقول لنا الرجل ارتحلوا عنّي، وقد استطبتم أنتم مواضعكم، وانقطعتم عن سفركم، فما آخر هذا؟
فقالوا: ما ترى؟
قلت: أرى أن نفاتش الرجل، فننظر إيش هو؟ فإن كان ممّن يقبل هديّة أو برّا، عملنا على تكرمته وارتحلنا، وإن كان بخلاف ذلك، كنّا معتقدين له المكافأة في وقت ثان، وسألناه أن يحضرنا من نكتري منه، ويبذرقنا «1» ، ورحلنا.
فتقرّر رأينا على هذا.
فلمّا جلسنا تلك العشيّة على [132 ب] الشرب قلت له: قد طال مقامنا عندك، وما أضاف أحد أحدا أحسن ممّا أضفتنا، ونريد الرحيل إلى مصر لما قصدناه، من «2» طلب التصرّف، وأنا فلان بن فلان، وهذا فلان، فعرّفت نفسي والجماعة، وقد حمّلتنا من أياديك ومننك، ما لا يسعنا معه أن نجهلك «3» ، ويجب أن تعرّفنا نفسك، فنبث شكرك، ونقضي حقّك، ونعمل على الرحيل.(2/177)
فقال: أنا فلان بن فلان، أحد أهل دمشق، فلم نعرفه، فقلنا: إن رأيت أن تزيدنا في الشرح.
فقال: جعلت فداكم أنا رجل قوّاد.
فحين قال هذا، خجلنا، ونكّسنا رؤوسنا.
فقال: [جعلت فداكم] «1» ما لكم؟ إنّ لقيادتي خبرا، أظرف ممّا رأيتموه «2» .
فقلنا: إن رأيت أن تخبرنا.
فقال: نعم، أنا رجل كان آبائي تنّاء تجارا، عظيمي النعمة والأموال، وانتهت النعمة إلى أبي، وكان ممسكا، مكثرا.
ونشأت له، وكنت متخرّقا، مبذّرا، محبّا للفساد، والنساء، والمغنّيات، والشرب، فأتلفت مالا عظيما من مال أبي، إلّا أنّه لم يؤثّر في حاله، لعظمه.
ثم اعتلّ، وأيس من نفسه، وأوصى، فدعاني، وقال:
يا بنيّ، إنّي قد خلّفت «3» لك نعمة قيمتها مائة ألف دينار وأكثر، بعد أن أتلفت عليّ خمسين ألف دينار، وإنّ الإنفاق، لا آخر له إذا لم يكن بإزائه دخل، ولو أردت تمحيق هذا المال عليك في حياتي، أو الآن، حتى لا تصل إلى شيء منه، لفعلت، ولكنّي «4» أتركه عليك، فاقض حقّي بحاجة تقضيها لي، لا ضرر عليك فيها.
فقلت: أفعل.
فقال: أنا أعلم أنّك ستتلف جميع هذا المال في مدة يسيرة، فعرّفني(2/178)
إذا افتقرت، ولم يبق معك شيء، تقتل نفسك، ولا تعيش في الدنيا؟
فقلت: لا.
قال: فتحمل على رأسك؟
فقلت: لا.
[قال: فتحسن تتصرّف، وتكسب المال؟.
قلت: لا] «1» .
قال: فعرّفني من أين تعيش؟
قال: ففكّرت ساعة، فلم يقع لي إلا أن قلت: أصير قوّادا.
قال: فبكى ساعة، ثم مسح عينيه، وقال: لست أعيب عندك هذه الصناعة، فإنّها ما جرت على لسانك، إلّا وقد دارت في فكرك، ولا دارت في فكرك، وأنت تنصرف عنها [161 ط] أبدا بعدي، ولكن أخبرني كيف يتمّ لك المعاش فيها؟
فقلت: قد تدرّبت بكثرة دعواتي القحاب والمغنّيات، ومعاشرتي لشرّاب النبيذ، فأجمعهم على الرسم، فينفقون «2» في بيتي، ويعملون ما يريدون، وآخذ منهم الدراهم، وأعيش.
فقال: إذا يبلغ السلطان خبرك في جمعة «3» ، فيحلقون رأسك، وذقنك «4» ، وينادي عليك، ويتفرّق جمعك، ويبطل معاشك، ويقول(2/179)
أهل [133 ب] بلدك «1» أنظروا إلى فلان، كيف ينادى عليه، وقد صار بعد موت أبيه قوّادا.
ولكن إن أردت هذه الصناعة، فأنا أعلّمك إيّاها، وإن كنت لا أحسنها، فلعلّك تستغني فيها، ولا تفتقر، ولا يتطرّق عليك السلطان بشيء.
فقلت: إفعل.
قال: تحلف لي أنّك تقبل مني.
فحلفت.
فقال: إذا متّ، فاعمل على أنّك أنفقت جميع مالك، وافتقرت، وابتدئ فكن قوّادا ولك ضياع وعقار، ودور وأثات، وآلة وجواري وقماش، وخدم وجاه وتجارات، واعمد «2» لكلّ ما في نفسك أن تعمله إذا افتقرت، فاعمله وأنت مستظهر على زمانك، بما معك، وجيها عند إخوانك، بمالك، واعمل على أنّك قد أنفقته، واجعل معيشتك ممّا «3» تريد أن تحصّله «4» إذا افتقرت، فإنّك تستفيد بذلك أمورا: منها: أنّك تبتدئ [أمرك] «5» بهذا، فلا ينكر عليك في آخره، ومنها: أنّك تفعل ذلك بجاه وعقار وضياع وأحوال قويّة، فلا يطمع فيك سلطان، وإن طمع فيك رشوت، وبذلت من قدرة وجدة، فتخلّصت.
فقلت: كيف أعمل؟
قال: تجلس، إذا متّ، ثلاثة أيّام للعزاء، إلى أن تنقضي المصيبة،(2/180)
فإذا انقضت «1» ، نفّذت وصيّتي، وتجمّلت بذلك عند الناس، وقضيت حقّي.
ثم تظهر أنّك قد تركت اللعب، وأنّك تريد حفظ مالك، مع ضرب من اللذة.
ثم تبتدئ فتشتري من الجواري المغنيات والسواذج، كلّ لون، ومن الغلمان المرد، والخدم البيض والسود، ما تحتاج إليه وتشتهيه، ودارك، وضياعك، وآلتك، [كما تحب في السرو والنبل] «2» ، كما خلّفته.
فإن احتجت إلى استزادة شيء، فاستزد، وتنوّق.
وعاشر من تريد أن تعاشره، من غير أن تدخل إليك مغنّية قيان، ولا من تأخذ جذرا.
وداخل الأمير، والعامل، وادعهما مرّة في كلّ شهر أو شهرين، وهادهما أيّام الأعياد، بالألطاف الحسنة، والقهما [في] «3» كلّ أسبوع دفعة، واجتهد أن تعاشرهما على النبيذ في دورهما، والقهما بالسلام، وقضاء الحق.
واتّخذ في كل يوم مائدة حسنة، وادع القوم، ومن يتّفق «4» معهم، وليكن ذلك بعقل وترتيب.
فإنّ ذلك أوّلا، لا يظهر مدة طويلة، فإذا ظهر، صدّق به أعداؤك، وكذّب به إخوانك، وقالوا: لعلّ هذا على سبيل المجون «5» والشهوة، وعلى طريق التخالع، أو مسامحة الإخوان، وإلّا فأيّ لذّة له في ذلك وهو ليس(2/181)
مخنّثا، ولا مجنونا، ولا [162 ط] فقيرا فيحتاج إلى هذا، فيبقى «1» الخلاف فيك مدّة أخرى، وأنت مع هذا، قد وصلت [134 ب] سلطانك «2» ، ولعلّ العشرة بينكما قد وقعت، فيستدعي مغنياتك، وتسمعهن في منزله «3» ، فيصير لك بمنادمته رسم، وجاهك مع إخوانك باق ببرّك وملاقاتك لهم، فهم يحامون عليك «4» العاقل منهم، ويحافظ لك الآخر، فتصير في مراتب ندماء الأمير «5» ، وفي جملته، وتصير قيادتك كالتشنيع عليك، والعيب لك «6» ، وتخرج عن حدّ القوّاد المحض، الذين يؤذون دائما «7» ، وتكبس منازلهم.
قال: فاعتقدت في الحال، أنّ الصواب ما قاله.
ومات في علّته، فجلست ثلاثة أيّام، ثم نفّذت وصيّته، وفرّقتها كما أمرني، ثم بيّضت الدور، وهي هذه، وزدت فيها ما اشتهيت، واستزدت من الآلات، والفرش «8» ، وإلآنية «9» ، كما أردت، وابتعت هؤلاء الجواري والغلمان والخدم، من بغداد، ودبّرت أمري على ما قاله أبي، من غير مخالفة لشيء منه.
فأنا أفعل هذا منذ سنين كثيرة، ما لحقني فيه ضرر، ولا خسران «10» ،(2/182)
وما فيه أكثر من إسقاط المروءة، وقلّة الحفل «1» بالعيب.
وأنا أعيش أطيب عيش وأهنأه، والتذّ أتمّ لذّة [وأحلاها] «2» مع هؤلاء الجواري، والغلمان، والخدم، ومن يعاشرني عليهم.
ودخلي بهم، أكثر من خرجي، ونعمتي الموروثة باقية بأسرها، ما بعت منها شيئا بحبّة فضّة «3» فما فوقها.
وقد اشتريت من هذه الصناعة عقارا جليلا، وأضفته إلى ما خلّف أبي عليّ، وأمري يمشي كما ترون.
فقلنا: يا هذا، فرّجت والله عنّا، وأوجدتنا طريقا إلى قضاء حقّك.
وأخذنا نمازحه، ونقول: فضلك في هذه الصناعة غير مدفوع «4» ، لأنّك قوّاد ابن قوّاد، وما كان الشيخ ليدبّر لك هذا، إلّا وهو بالقيادة أحذق منك.
فضحك، وضحكنا، وكان الفتى أديبا، خفيف الروح.
وبتنا ليلتنا على تلك الحال.
فلما كان من الغد، جمعنا له بيننا، ثلاثمائة دينار من نفقاتنا، وحملناها إليه.
فأخذها، ورحلنا عنه.(2/183)
91 أراد جوامرك فطلب جوانبيرة
أخبرني غير واحد:
أنّ أسد بن جهور «1» العامل، كان بخيلا، وله سؤدد، يتقلّد كبار الأعمال، وهو عظيم الحال والمال.
قال: وكتب يوما إلى عامل له، في رستاق: إحمل إليّ مائتي جوانبيرة «2» .
فقال العامل: وما يصنع بهذه العجائز كلّهنّ، وهذه العدّة كيف تجتمع لي من قرية؟
فجمع ما قدر عليه من النساء بين الشباب «3» والعجائز، وأنفذهنّ طوعا وكرها.
وكتب إليه: إنّ كتابك وصل بجمع مائتي جوانبيرة، وهذا لا يوجد إلّا في بلد كبير، أو عدّة رساتيق، وقد جمعت لك كذا وكذا، وحملته مع موصل هذا [135 ب] الكتاب.
فلما قرأ كتابه، قال: ادفعوهم إلى الطبّاخ، وقولوا له يذبح منهم اليوم [163 ط] كذا وكذا، ويصلح منهم كذا وكذا.
فقيل له: يذبح لك النساء؟
قال: ما طلبت نساء.
قالوا: أنت طلبت نساء.(2/184)
قال: ردّوا الكتاب، فردّوه.
قال: إنّا لله، إنّما أردت جوامرك «1» وكتبت جوانبيرة، إدفعوا إلى النساء شيئا واصرفوهنّ، واكتبوا له بجمع الجوامركات.
ففعل ذلك «2» .(2/185)
92 أسد بن جهور وبخله على الطعام
قالوا:
وكان «1» معروفا بالبخل على الطعام جدا، وكان ندماؤه يلقون من ذلك جهدا.
وكان يحضرهم، ويطالبهم بالجلوس، ويحضر كل شيء لذيذ شهيّ من الطعام، فإن ذاقه منهم أحد، ولو دانقا، استحلّ دمه، وعجّل عقوبته.
وكانت [علامته معهم] «2» إذا شيلت المائدة، أن يمسحوا أيديهم في لحاهم ليعلم أنّهم ما شعّثوا «3» شيئا يزهمها «4» .
وكان له ابن أخت، يجترئ عليه، ولا يفكّر فيه، ويهتك ستره إذا واكله.
فقدّمت يوما دجاجة هندية، فائقة سريّة، فحين أهوى ابن أخته إليها، قبض على يده أشدّ قبض، وقال: يا غث، يا بارد، يا قبيح العشرة، يا قليل الأدب، في الدنيا أحد يستحسن إفساد مثل هذه؟.
فقال ابن اخته: يا لئيم، يا بخيل، يا سيّء الاختيار «5» ، فلأيّ شيء تصلح؟ تجعل عقدة على وجه التركة للأعقاب؟ واسطة للمخانق، في صدور(2/186)
المجالس؟ سريّة يتمتع بالنظر إليها؟ ما أقدر، شهد الله، أن أدعها من يدي.
فتصابرا عليها «1» ، إلى أن قال له الفتى: فافتدها من يدي.
قال: بما تحبّ.
قال: ببغلتك الفلانية. قال: قد فعلت.
[قال: بسرجها ولجامها المحلّى الفلاني. قال: قد فعلت] «2» .
قال: ما أرفع يدي عنها، أو يحضر ذلك.
قال: يا غلام أحضرها.
فأحضرت البغلة والمركب، فسلّمها الفتى إلى غلامه، وأخرجها، ورفع يده عن الدجاجة.
وانقضى الطعام، وشيلت المائدة، وقام لينام.
فخرج ابن أخته، فقال للطبّاخ: عليّ بالفائقة الساعة، وبجميع ما شلتموه من المائدة، فأحضر إليه، وردّ الندمان، وقعدوا، فأكلوا ذلك وانصرفوا، وقد أكل الدجاجة والطعام أجمع، وحصلت له البغلة والمركب.
قال: وإنّما كان لا يطيق أن يرى ذلك يؤكل، فأمّا إذا نحّي من بين يديه، لم يسأل عنه، ولم يطالب به.
أخبرني أبو الحسن «3» بن الأزرق، قال: حدّثني أبي، عن الحسن بن مخلد «4» بهذا الحديث أنّه حصل مع ابن خالة [الحسن بن مخلد] «5» ، قال:
رأيت الفتى، قد غدا إلينا، إلى ديوان الخراج على بغلة الحسن بن مخلد، فسألناه عن السبب، فأخبرنا بذلك.(2/187)
93 ناصر الدولة يحاسب على بقية دجاجة
سمعت أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشمي [136 ب] يقول:
كنت بحضرة ناصر الدولة «1» ببغداد، فاستدعى بشيء يأكله متعجّلا، ليتعلّل به.
فجاءوه بدجاجة مشويّة، ورغيف واحد، وسكرجتي ملح وخلّ، وقليل بقل.
فجعل يأكل، وأنا أحادثه، إذ دخل الحاجب فأخبره بحضور قوم [164 ط] لا بدّ من وصولهم، يحتشمهم.
فأمر برفع الدجاجة، فرفعت، ومسح يده، ودخل القوم، فخاطبهم بما أراد، وانصرفوا.
فقال: ردّوا الطبق، فأحضر، فتأمّل الدجاجة ساعة، ثم حرد.
وقال: أين تلك الدجاجة؟
فقالوا: هي هذه.
فقال: لا، وحقّ أبي، عليّ بالطبّاخ، فحضر.
فقال: هذه هي تلك الدجاجة؟
فسكت.
فقال: أصدقني ويلك.
قال: لا.(2/188)
قال: فما عملت بتلك؟
قال: لمّا شيلت، لم نعلم أنّها تردّ إليك، فأخذها بعض الغلمان الصغار وأكلها، فلما طلبتها، أخذنا هذه فكسرنا منها، وشعّثنا، مثلما كنت كسرت من تلك وشعّثت، طمعا في أنّك لا تعلم بذلك، وقدّمناها.
فقال له: يا حمار، تلك كنت قد كسرت منها الفخذ الأيمن، وأكلت جانب الصدر الأيسر، وهذه مأكولة جانب الصدر الأيمن، مكسورة الفخذ الأيسر، لا تعاود بعدها لمثل هذا.
[قال: السمع والطاعة.
وانصرف الطباخ.
فجعلت أعجب من تفقّده- وهو ملك- لمثل هذا] «1» .(2/189)
94 الحسن بن مخلد وبخله على الطعام
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش، قال: حدّثني جحظة «1» ، قال:
ربحت بأكلة افتديتها «2» خمسمائة دينار، وخمسمائة درهم، وخمسة أثواب فاخرة، وعتيدة طيب سريّة.
قلت: كيف كان ذلك؟
قال: كان الحسن «3» بخيلا على الطعام، سمحا بالمال، وكان يأخذ ندماءه، [بغتة] «4» فيسقيهم النبيذ، ويواكلهم، فمن أكل، قتله قتلا، ومن شرب عنده على الخسف «5» ، حظي عنده.
قال: فكنت عنده يوما، فقال لي: يا أبا الحسن، قد عملت غدا على الصبوح الجاشريّ «6» ، فبت عندي.
فقلت: لا يمكنني، ولكنّي أبا كرك قبل الوقت، فعلى أيّ شيء عملت أن تصطبح؟(2/190)
فقال: أعدّ لنا كذا وكذا، ووصف ما تقدّم به إلى الطباخ بعمله، فعقدنا الرأي على أن أباكره.
وقمت، وجئت إلى بيتي، فدعوت طبّاخي، وتقدمت إليه بأن يصلح لي مثل ذلك بعينه، ويفرغ منه وقت العتمة «1» ، ففعل، ونمت.
[وقمت] «2» وقد مضى نصف الليل، فأكلت ما أصلح، وغسلت يدي وأسرج لي، وأنا عامل على المضيّ إليه، إذ طرقتني رسله، فجئته.
فقال: بحياتي، أكلت شيئا؟
قلت: أعيذك بالله، انصرفت من عندك قبيل المغرب، وهذا نصف الليل، فأيّ وقت أصلح لي شيء؟ أو أي وقت أكلت شيئا؟ سل غلمانك، على أيّ حال وجدوني؟
فقالوا: والله، وجدناه يا سيّدنا وقد لبس ثيابه، وهو ذا ينتظر [137 ب] أن يفرغ له من إسراج بغلته، ليركبها.
فسرّ بذلك سرورا شديدا، وقدّم الطعام، فما كان فيّ فضل أشمّه، فأمسكت عن تشعيثه ضرورة، وهو يستدعي أكلي، ولو أكلت أحلّ دمي.
قال: وكذا كانت عادته، فأقول له: هوذا آكل يا سيّدي، وفي الدنيا أحد يأكل [165 ط] أكثر من هذا؟
وانقضى الأكل، وجلسنا على الشرب، فجعلت أشرب بأرطال، وهو يفرح، وعنده أنّي أشرب على الريق، أو على ذلك الأكل الذي خلست معه.
ثم أمرني بالغناء، فغنّيت، فاستطاب ذلك، وطرب، وشرب أرطالا.
فلما رأيت النبيذ، قد عمل فيه، قلت: يا سيّدي، أنت تطرب على(2/191)
غنائي، فأنا على أيّ شيء أطرب؟
قال: يا غلام، هات الدواة، فأحضرت، فكتب لي رقعة، ورمى بها إليّ، وإذا هي إلى صيرفيّ يعامله بخمسمائة دينار، فأخذتها، وشكرته.
ثم غنّيت، فطرب، وزاد سكره، فطلبت منه ثيابا، فخلع عليّ خمسة أثواب.
ثم أمر أن يبخّر من كان بين يديه، فأحضرت عتيدة حسنة سريّة، فيها طيب كثير، فأخذ الغلمان يبخّرون الناس منها، فلما انتهوا، قلت:
يا سيّدي وأنا أرضى أن أتبخّر حسب؟
فقال: ما تريد؟
قلت: أريد نصيبي من العتيدة.
فقال: قد وهبتها لك.
وشرب بعد ذلك رطلا آخر، واتّكأ على مسورته، وكذا كانت عادته إذا سكر.
فقام الناس من مجلسه، وقمت وقد طلع الفجر وأضاء، وهو وقت تبكير الناس في حوائجهم.
فخرجت كأنّي لصّ قد خرج من بيت قوم، على قفا غلامي الثياب والعتيدة كارة.
فصرت إلى منزلي، ونمت نومة، ثم ركبت إلى درب عون «1» ، أريد الصيرفي، حتى لقيته في دكانه، وأوصلت الرقعة إليه.
فقال: يا سيدي، أنت الرجل المسمى في التوقيع؟
قلت: نعم.(2/192)
قال: أنت تعلم، أنّ أمثالنا يعاملون للفائدة.
قلت: نعم.
قال: ورسمنا أن نعطي في مثل هذا، ما يكسر في كلّ دينار، درهم.
قلت له: لست أضايقك في هذا [القدر] «1» .
فقال: ما قلت هذا لأربح عليك الكثير، أيّما أحبّ إليك، تأخذ كما يأخذ الناس، وهو ما عرّفتك، أو تجلس مكانك إلى الظهر حتى أفرغ من شغلي، ثم تركب معي إلى داري، فتقيم عندي اليوم والليلة، ونشرب، فقد- والله- سمعت بك، وكنت أتمنّى أن أسمعك، ووقعت الآن لي رخيصا، فإذا فعلت هذا، دفعت إليك الدنانير بما تساوي، من غير خسران.
فقلت: أقيم عندك.
فجعل الرقعة في [138 ب] كمّه، وأقبل على شغله.
فلما دنت الظهر «2» ، جاء غلامه ببغل فاره، فركب، وركبت معه، وصرنا إلى دار سريّة حسنة، بفاخر الفرش والآلات، ليس فيها إلّا جوار روم للخدمة، من غير فحل.
فتركني في مجلسه، ودخل، ثم خرج إليّ بثياب أولاد الخلفاء، من حمّام داره، وتبخّر، وبخّرني بيده، بندّ عتيق جيّد، وأكلنا أسرى طعام، وأنظفه، وقمنا إلى مجلس للشرب سريّ، فيه فواكه وآلات بمال.
وشربنا ليلتنا، فكانت ليلتي عنده [166 ط] أطيب من أختها عند الحسن بن مخلد.(2/193)
فلما أصبحنا أخرج كيسين، في أحدهما دنانير، وفي الآخر دراهم، فوزن لي خمسمائة [دينار من أحدهما، ثم فتح الآخر فإذا هو دراهم طريّة «1» ، فوزن لي منها خمسمائة درهم] «2» .
وقال: يا سيّدي تلك ما أمرت به، وهذه الدراهم هديّة مني.
فأخذتها، وانصرفت.
وصار الصيرفيّ صديقي، وداره لي.(2/194)
95 إنّ بالحيرة قسا قد مجن
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش «1» ، قال:
كان جحظة «2» لما أسنّ، يفسو في مجالسه، فيلقى من يعاشره، من ذلك جهدا.
وكنت أحبّ غناءه، والكتابة عنه، لما عنده من الآداب، وكان يستطيب عشرتي، وكنت إذا جلست، أخذت عليه الريح، وجلست فوقها.
فجئته يوما في مجلس الأدب، والناس عنده، وهو يملي، فلما خفّوا، قال لي، ولآخر كان معي، أسماه لي، وحدّثني ذلك الرجل بمثل هذا الحديث:
اجلسا عندي، حتى أجلسكما على لبود، وأطعمكما طباهجة «3» بكبود، وأسقيكما معتّقة اليهود، وأبخّر كما بعود، وأغنيكما غناء المسدود «4» ، أطيب من الندود.
فقلنا: هذا موضع سجدة.
وجلسنا، وصديقي لا يعرف خلّته «5» في الفساء، وأنا قد أخذت الريح، فوفى لنا بجميع ما شرطه.
وقال لنا، وقد غنّى، وشربنا: نحن بالغداة في صورة العلماء،(2/195)
وبالعشيّ في صورة المخنكرين «1» .
فلما أخذ النبيذ منه، أقبل يفسو، وصديقي يغمزني، ويتعجّب، فأغمزه، وأقول: إنّ ذلك عادته، وخلّته، وإنّ سبيله أن يحتمل.
إلى أن غنّى جحظة، صوتا مليحا، الشعر والصنعة له فيه، وكان يجيده جدا، وهو:
إنّ بالحيرة «2» قسّا قد مجن ... فتن الرهبان فيها وافتتن
ترك الإنجيل حبّا للصبا ... ورأى الدنيا مجونا فركن «3»
وطرب صديقي ذاك، عليه طربا شديدا، استحسانا له، وأراد أن يقول أحسنت والله يا أبا الحسن، فقال: افس عليّ كيف شئت.
فخجل جحظة «4» .(2/196)
96 بين جحظة وأبي الحسين بن عياش
قال: وأخبرني أنّه كان معه في حديديّ «1» لابن الحواريّ «2» ، وقد حملهم إلي بلا شكر «3» ليتفرجوا [139 ب] ، والحديديّ يمدّه الملّاحون بالقلوس، وجحظة بين يدي الرجل، قد صار في أعلى الريح لأنها كانت شمالّا، على سطح الحديديّ.
فأقبل جحظة يفسو، فأنكر الرجل ذلك، وقال: ما هذا الفساء؟
من أين هذا؟
فقال جحظة: هؤلاء المدّادون سفل، فإذا مدّوا فسوا، وهم أعلى منّا في الريح، فهي تحمل فساءهم إلينا.
قال: فاشتبه ذلك على الرجل.
فقلت له: يا أبا الحسن، لو أن فساء هؤلاء يريد الطرادة «4» ويجيء على حبلها مستويا إلى نفس الطرادة ما وصل إلينا بهذه السرعة، والريح من جهتك لا من جهة الملاحين، وأنا أنبّه عليك.
قال: فأقبل يصانعني، ويفتدي من يدي، أن لا أغمز به.
فقلت: على شريطة أن تقطع.
قال: نعم.(2/197)
97 أبو عيشونة الشاطر
حدّثني أبو القاسم الصروي الكاتب، قال:
كان بمدينة السلام، شاطر، يعرف بأبي عيشونة «1» ، فاجتاز به بعض العلماء من أهل الأدب، في هيج «2» قد وقع، وقد خرج ليأخذ ثياب المجتازين [167 ط] فقبض عليه، وقال: اطرح ثيابك.
فقال: أنا فلان.
فاستحيا منه، فقال: خذ عليّ ما أنشدك.
قال: هات.
فقال:
خمسون ألف فتى ما منهم أحد ... إلا كألف فتى ضرغامة بطل
شدّوا ثيابهم يوما على أمل ... فأفرغوها وأدلوها على الأجل
فقال الرجل: أحسنت، فبالله، زدني من شعرك، فقال:
ولقد هيّج البلا ... حين عضّ السفر جلا
ولقد قام حبكم ... في فؤادي بأعلى العلا
فقال: خلطت.
قال: أنا أبو عيشونة، وحياة أصحابي، أنج بنفسك.
فمضى الرجل وتركه.(2/198)
98 الحذّاء الماجن بباب الطاق
رأيت حذّاء ما جنا بباب الطاق «1» ، يعرف بالمدلق «2» ، ويلقّب بالقاضي، يسمّي النعال، بأسماء من جنس الصفعة، على سبيل الهزل.
فيقول لمن يخاطبه: هذه صلعكية، وهذه رأسكية، وهذه قفوية.
فقال له واحد: كم أعطيت بها؟
فقال: إذا نزلت في حلقك، عرّفتك ثمنها، وأخذته منك، ومتى وقعت في عنقك وكرهتها، فأنا آخذها منك بالثمن.(2/199)
99 طبيب يتماجن على مريض
ورأيت طبيبا يتماجن على مريض، وقد شكا إليه شيئا.
فقال: هذا يدلّ على أنّك، ثارت بك الصفراء «1» ، وكان الذي شكاه المريض رطوبة.
فقال: يا هذا أنا مرطوب، فكيف تثور بي الصفراء؟
قال: فالسوداء «2» .
قال: لا أعلم.
[قال: الذي عندي، انّه ثارت بك الملمّعة] «3» .
ففطن الرجل لموضع قوله: الصفراء والسوداء، ثم وصف له ما يصلح له، مما شكاه إليه، [من علته] » .(2/200)
100 يريد نعلا وجهه مليح وأسفله وثيق
قال لي أبو طلحة الحذّاء البصري، وكان مألفا للأحداث والمتأدبين، قال لي صديق لي:
أريد نعلا يكون لها وجه [140 ب] مليح، وأسفل وثيق.
فقلت: يا حبيبي، عليك بفلان العلق «1» ، إن وزنت خمسين درهما في اليوم، ولست أجد لك بهذه الصفة إلّا هو.
101 كما تدين تدان
حدثنا أبو عبد الله بن ورام «2» الكوفيّ المتكلّم، قال:
كان عندنا بالكوفة، رجل، له ابن عاقّ به، فلاحاه يوما في شيء، فجرّ برجله حتى أخرجه من بيته، وسحبه في الطريق شيئا كثيرا.
فلما بلغ إلى موضع منه، قال له: يا بنيّ حسبك، فإلى هاهنا جررت برجل أبي من الدار، حتى جررتني منها «3» .(2/201)
102 طيب الطعام يستخرج لبّ الشكر
حدّثني أبو الحسن «1» بن سهيل الحذّاء، عن بعض الصوفيّة، أنّه قال:
طيّب الطعام يستخرج لبّ الشكر.
103 سعد السعود
أنشدني إسحاق بن إبراهيم بن علي النصيبيّ «2» المتكلّم لنفسه، في غلامه سعد:
وفّق الله من دعاك بسعد ... فلقد كان فيه عين السعيد «3»
أبصر السعد غرّة بين عينيك ... فسماك باسمه المحمود
فإذا ما دعاك داع لأمر ... كنت فيه يا سعد سعد السعود(2/202)
104 من رسائل أبي محمد المهلبي
وجدت في كتب أبي «1» ، كتابا من أبي محمد المهلّبي «2» إليه، قبل تقلّده الوزارة «3» ، بسنين، أوّله:
كتابي أطال الله بقاء سيدنا القاضي، عن سلامة [168 ط] لا زالت له إلفا، وعليه وقفا
وحمدا لمولى أستمدّ بحمده ... له الرتبة العلياء والعزّ دائما
وأن يسخط الأيام بالجمع بيننا ... ويرضي المنى حتى يرينيه سالما
وصل كتابه، أدام الله عزّه، فقمت معظّما له، وقعدت مشتملا على السرور به
وفضضته فوجدته ... ليلا على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... د البيض زينت بالشعور
بنظام لفظ كالثغور ... أو اللآلي في النحور
أنزلته في القلب منزلة ... القلوب من الصدور(2/203)
105 أبو طلحة يروي حديثا غير شريف
سمعت أبا طلحة [الحذّاء] «1» ، يقول:
روى فلان، عن فلان، بإسناد طويل، من أصبح في يوم سبت، وعنده طباهجة «2» عنبرية، وبالقرب منه باقلّاني «3» ، ولم يصطبح، فلا صبّحه الله بخير ولا عافية «4» .(2/204)
106 واصل بن عطاء والخوارج
أخبرني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخيّ «1» :
أنّ أبا حذيفة، واصل بن عطاء «2» ، خرج يريد سفرا في رهط من أصحابه، فاعترضهم جيش من الخوارج.
فقال واصل لأصحابه: لا ينطق منكم أحد، ودعوني معهم.
فقالوا: نعم.
قال: فقصدهم واصل، واتّبعه أصحابه.
فلما قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا بهم، فقال: كيف تستحلّون هذا، وما تدرون ما نحن، ولأيّ شيء جئنا؟
قالوا: نعم، فما أنتم؟
قال: قوم من المشركين، جئناكم مستجيرين لنسمع كلام الله.
قال: فكفّوا عنهم، وبدأ رجل يقرأ عليهم القرآن.
فلما أمسك، قال له واصل: قد سمعنا كلام الله، فأبلغنا مأمننا [141 ب] حتى ننظر في الدين.(2/205)
فقالوا: هذا واجب، سيروا.
قال: فسرنا، والخوارج «1» - والله- معنا برماحهم، يسيّروننا ويحموننا، عدّة فراسخ، حتى قربنا من بلد لا سلطان لهم عليه.
فقالوا: ذاك مأمنكم؟
فقال واصل: نعم، فارجعوا عنّا.
فانصرفوا.
وذهب أبو حذيفة في «2» ذلك، إلى قول الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ
«3» .(2/206)
107 بين معتزلي وأشعري
حدّثني أبو الحسن «1» ، قال:
كان إسماعيل الصفار البصريّ، أحد شيوخ أصحابنا المعتزلة، وكان الناس إذ ذاك يتشدّدون على أهل الحق «2» ، ويباينونهم في الخلاف.
قال: فوقعت ليلة في الدرب الذي كان ينزله إسماعيل بالبصرة، صاعقة.
فلما أصبح، قال لغلمانه: أكنسوا لي الباب، وافرشوا لي عليه، وإلّا أرجف بي المخالفون.
ففعلوا، وجلس على بابه.
فاجتاز بعض جلّة شيوخ البصرة من المخالفين، فلما رآه، قال: ألم نخبر أنّ الله رماك بصاعقة من عنده «3» ؟
قال: ولم؟ أنا أقول إنّي أرى الله جهرة «4» ؟(2/207)
108 خلاف بين المعتزلة وبين غوغاء من العوام
وقال رجل من أصحاب إسماعيل «1» بالبصرة: أنّ القرآن مخلوق، بحضرة غوغاء من العوام، فوثبوا عليه، وحملوه إلى نزار الضبيّ «2» ، وكان أميرا على البصرة، فحبسه.
فطاف إسماعيل على المعتزلة، فجمع [169 ط] منهم أكثر من ألف رجل، وبكّر بهم إلى باب الأمير، فاستأذن عليه، فأذن له.
فقال: أعزّ الله الأمير، بلغنا أنّك حبست رجلا لأنّه قال: أنّ القرآن مخلوق، وقد جئناك، ونحن ألف، وكلّنا يقول: أن القرآن مخلوق، وخلفنا من أهل البلد أضعاف عددنا، يقولون بمقالتنا، فإمّا حبست جميعنا مع أخينا، أو أطلقته معنا.
قال: فعلم أنّه متى ردّهم ثارت فتنة لا يأمن عواقبها، وانّ الرأي يوجب الرفق بهم.
فقال: بل نطلقه لكم.
فأطلقه، وانصرفوا به عدوا.(2/208)
109 دفن أبي هاشم الجبائي وأبي بكر بن دريد في يوم واحد
حدّثني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجيّ القاضي «1» ، قال:
لمّا توفي الشيخ أبو هاشم الجبائي «2» ، ببغداد، اجتمعنا لدفنه، فحملناه إلى مقابر الخيزران «3» ، في يوم مطير، ولا يعلم بموته أكثر الناس، وكنا جماعة في الجنازة.
فبينا نحن ندفنه، إذ حملت جنازة أخرى ومعها جميعة عرفتهم بالأدب.
فقلت لهم: جنازة من هذه؟(2/209)
فقالوا: جنازة أبي بكر بن دريد «1» .
فذكرت حديث الرشيد، لمّا دفن محمد بن الحسن «2» والكسائي «3» بالريّ في يوم واحد» .
قال: وكان هذا في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة «5» ، فأخبرت أصحابنا بالخبر، وبكينا على الكلام والعربية طويلا، وافترقنا.(2/210)
110 بين الهبيري وابن أبي خالد الأحول
حدّثني [142 ب] أبي، رضي الله عنه، بإسناد ذكره:
أنّ رجلا من شيوخ الكتاب يعرف بالهبيريّ، لزمته العطلة، وأضرّت به، فكان يلازم ابن أبي خالد الأحول «1» ، وهو إذ ذاك يدبّر أمر الوزارة.
فطالت ملازمته داره، وكان ابن أبي خالد يستثقله، فحجب عن الدار.
فكان يبكّر كل يوم فيقف على دابّته بالباب، حتى يخرج الوزير، ثم ينتظر إلى أن يعود، ويدخل الوزير، وينصرف هو.
فطال ذلك على الوزير، حتى برم به، فقال لكاتب له: إلق هذا الرجل، وقل له: إنّه لا تصرّف لك عندي، ولست أحب أن أراك في كل وقت، فانصرف عني، ولا تقرب بابي.
قال الكاتب: فاستحييت أن أؤدّي عن صاحبي مثل هذه الرسالة إلى شيخ من جلّة «2» الكتاب، وإن كان الزمان قد حطّه، وعلمت أنّ ذلك قد صدر عن الوزير، لسوء رأيه فيه، ومقته له، واستثقاله إيّاه.
فصرت إلى منزلي، وأخذت معي خمسة آلاف درهم، وصرت إلى الهبيري، فقلت:
الوزير أعزّه الله، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: هوذا تشق عليّ رؤيتك بالباب، والأشغال تقطعني عنك، ولا تصرّف عندي أرتضيه لك في هذا الوقت، وقد حملت إليك خمسة آلاف درهم، فاستعن بها في نفقتك،(2/211)
والزم دارك، واربح العناء، فإذا سنح عندي شغل يصلح لك، استدعيتك.
قال: فاستشاط الشيخ، وقال: جعلني من الشحّاذين «1» والمستميحين، ينفذ إليّ برفد، والله لا قبلته.
قال: فاستجهلته، وداخلني غيظ [170 ط] من فعله، فقلت: يا هذا، والله، ما هذه الدراهم من مال الوزير، ولا هي إلّا من مالي، ورسالته أقبح مما تذهب إليه، وإنّي كرهت تلقّيك بها، وأنت من شيوخ هذه الصناعة، فتحمّلت لك هذا الغرم من مالي، من غير علم صاحبي، صيانة لك وله.
فقال: أمّا أنت، فأحسن الله جزاءك، ولا حاجة بي إلى مالك، ولو مصصت الثماد «2» ، ولكن أنشدك الله، إلّا ما أبلغتني رسالته بعينها، وحزت بذلك شكري.
قال: فأدّيتها إليه على حقّها وصدقها.
قال: فقال: أحب أن تتحمّل الجواب.
فقلت: قل.
قال: تقول له: والله، ما آتيك لك نفسك، وإنّما أنت رجل قد صرت بابا لأرزاقنا، إذ كنا لا نحسن صناعة غير الكتابة، ولا تصرّف فيها إلّا من عندك، ومن أراد دخول الدار، يجب أن يأتيها من بابها، وعلى الإنسان أن يتعرّض للرزق، ويأتي بابه، فإن قسم الله له منه شيئا، أخذه، وإلّا كان قد أدّى [143 ب] ما عليه.
وليس يمنعني استثقالك لي، من قصدك، فإن قسم الله لي شيئا من(2/212)
جهتك، أو على يدك، أخذته على رغمك، وإلّا فلا أقلّ من أن أؤذيك برؤيتي، كما تؤذيني بعطلتي.
قال: فانصرفت متعجّبا منه، ولم أعد على الوزير ذلك، لئلا يغتاظ، وتغافلت يومي.
فلما كان من الغد، بكّر الوزير خارجا من داره، وأنا معه، فإذا بالشيخ، فلما رآه، التفت إليّ، وقال: ألم أنفذك إليه برسالة؟
قلت: بلى.
قال: فلم عاد؟
قلت: الخطب طويل طريف، وإذا اطمأنّ الوزير في مجلسه حدّثته.
قال: فلمّا نزل في طيّاره، قال: أخبرني بما جرى.
فقصصت عليه القصّة. وحملي الدراهم من مالي، وما جرى بأسره، وأدّيت إليه رسالته بعينها، فكاد أن يطير غيظا.
وانتهى الكلام، وقد قدّم الطيّار «1» إلى دار الخلافة، فدخل إليه وفي نفسه حديث الهبيري، والغيظ منه، فوقف بحضرة الخليفة، وجرى الكلام.
فقال له الخليفة: قد ألطّ «2» عامل مصر بالمال، وجنح إلى المدافعة، فاختر رجلا شهما، ننفذه مشرفا عليه، ومطالبا بما مضى.(2/213)
قال: وكان ابن أبي خالد يعتني برجل متصرّف يقال له الزبيريّ، فأراد أن يسمّيه لذلك، فقال: الهبيريّ، لما كان في نفسه منه، وقرب العهد بذكره، والغيظ من أمره.
فقال الخليفة: أو يعيش الهبيري؟
قال: يا أمير المؤمنين لم أرد الهبيري، وإنّما أردت فلان بن فلان الزبيريّ.
قال: يجوز أن تكون أردت الزبيري، ولكن أخبرني بخبر الهبيريّ، فقد كانت له بي حرمة «1» في حياة أبي، وبأسبابنا، وهو واجب الحقّ علينا.
فقال: نعم، هو يعيش.
قال: فأنفذه إلى مصر.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنّه لا يصلح.
قال: ولم؟
قال: قد اختلّ.
قال: أحضرنيه حتى أشاهده، فإن كان مختلّا، أمرت له بصلة وجار، وإن كان ينهض بالعمل أنفذته.
قال: [171 ط] يا أمير المؤمنين، إنّه متعطّل منذ سنين، وقد خمل، وذهب اسمه، وصوته، وهذا عمل يحتاج إلى من له نباهة.
قال: إذا أقبلنا عليه، وندبناه لمثل هذا الأمر العظيم، تجدّد ذكره، وتطرّى أمره.
قال: إنّه لا حال له تنهضه.
قال: يطلق له من مالنا مائة ألف درهم، يصلح بها حاله، ويحمل إليه(2/214)
من البغال والدواب والخيم والآلات.
قال: فأخذ يعتلّ عليه.
قال: أرى فيك تحاملا عليه، لتصدقنّي عن أمره معك.
فلجلج.
فقال: بحياتي أصدقني، فصدقه عن الخبر.
فقال الخليفة: قد والله أجرى الله عزّ وجل رزقه على يدك بالرغم منك، كما قال، وو الله لا [144 ب] برحت، أو تكتب عهده، ويوصل بجميع ما أمرت به.
ثم قال: عليّ بالهبيري.
فأحضر، وخرج ابن أبي خالد عليه، فقال:
يا هذا، قد والله جاء رزقك على يدي بالرغم مني، وجرى كذا وكذا، وأخبره الخبر «1» ، وسلّم إليه التوقيعات بما أمر له به الخليفة، والكتب إلى مصر، وواقفه «2» على العمل، وأخرجه إليه.(2/215)
111 بين ابن أبي الأضخم وابن أبي خالد الأحول
وحدّثني أيضا عن ابن أبي خالد هذا، قال: كان بغيضا «1» .
قال: فاتّفق أن بكّر إليه يوما رجل شيخ من شيوخ الكتّاب، يقال له: ابن أبي الأضخم «2» متعطّلا، قد طالت عطلته، يغتنم أن يراه سحرا خاليا «3» فيشكو إليه حاله، ويسأله التصرّف.
فبكّر بكورا شديدا، فتلقّاه برد قبيح، وقال له: أيش هذا المهمّ في مثل هذا الوقت؟
قال: فاحتدّ عليه الشيخ، وقال: ما العجب منك، العجب منّي، حين ربطت أملي بك، وأسهرت عيني توقّعا للفجر في البكور إليك، وأسهرت عيالي وغلماني وتحمّلت التجشّم إليك، وأنزلت بك حاجتي، حتى تتلقّاني بمثل هذا، وعليّ، وعليّ، وحلف بأيمان البيعة، لا دخلت دارك أبدا، ولا سألتك حاجة، ولا طلبت منك تصرّفا، أو تجيئني إلى داري معتذرا ممّا تلقّيتني به، وتقضي حاجتي في منزلي، ونهض.
فلمّا صار الرجل إلى منزله ندم ندما شديدا، وقال: هذا رجل لئيم الطبع، سيء الظفر، شرس الخلق، وأنا مضطرّ إلى لقائه، ومساءلته في حوائجي، فلم حلفت بهذه اليمين؟
وما أحد أسوء حالا منّي، فإنّ هذا الوزير لا يفكر فيّ، ولا يجيئني والله أبدا، ولا يكون لي طريق إلى قصده.(2/216)
ويحسّ العمال بذلك، فيخرّبون ضيعتي، وتدوم عطلتي، ويلحقني كيت وكيت.
وأقبل يلوم نفسه ويؤنّبها، ويفكّر كيف يعمل، وقد أسفر النهار وتعالى، إلى أن صار نحو ساعتين.
فدخل إليه غلمانه فقالوا: يا سيّدنا، الوزير مجتاز في شارعنا.
فقال: وما علينا منه.
فدخل آخر فقال: يا سيدي، قد والله عدل من الشارع إلى دربنا.
[ودخل آخر فقال: يا سيّدي، إنّه يقصد دارنا] «1» .
وتبادر الغلمان، فقالوا: قد صار بالباب، يستأذن عليك.
قال: فنهض الشيخ، وخرج إليه، وقبّل يده، وقال: [172 ط] أبيت، أيّدك الله، إلّا الأخذ بالفضل.
قال: لا تشكرني، واشكر أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، على ذلك.
ودخل إليه فقال: إنّك انصرفت، وقد أمضّني خطابك، وقد كان ما خاطبتك به على ضجر منّي، وعلى غير اعتقاد.
وركبت في الحال إلى الخليفة، فخاطبني، وأنا مشغول القلب بما دار بيننا فوجد كلامي مضطربا، وأقسم عليّ لأخبرنّه، فأخبرته، فأخذ يعذلني ويوبّخني على ما [145 ب] لقيتك به.
وقال: لا تقف، إمض إليه الساعة معتذرا، وأخرجه من يمينه «2» .
واقض حاجته، وانظر في أموره.
قال: ثم دعا بدواة، فوقّع لي بما كنت سألته، وبمال وصلني به.
وتصرّف قلّدنيه، ونهض.
فشكرته، ودعوت للخليفة، وحمدت الله تعالى على ما وفّقه لي.(2/217)
112 إذا نزل القضاء لم ينفع الدعاء
حدّثني أبو الحسن بن سهيل الحذّاء، قال: حدّثني أبو الحسن علي بن عبد الله [الحذّاء] «1» ، قال: حدّثني جعفر الخلدي «2» الصوفي، قال:
كنّا مع ابن واصل الصوفي في سنة إحدى عشرة بالهبير «3» .
فلما أخذ الناس في الوقعة، وبدأ السيف في أهل القافلة، اجتمعنا إليه، فقلنا: تدعو الله لنا أن يخلّصنا.
قال: ليس هذا وقت الدعاء، هذا وقت الرضا والاستسلام، إنّه إذا نزل القضاء، لم ينفع الدعاء.(2/218)
113 من شعر ابن الحجاج البغدادي
حضرت أبا عبد الله بن الحجّاج الكاتب البغدادي «1» ، صاحب السفه في شعره، ينشد أبا الفضل الوزير لنفسه، يوم قبض ببغداد على حرم أبي الفرج محمد بن العباس وأسبابه «2» وأطلق الوزير أبو الفضل العبّاس بن الحسين «3» ،(2/219)
وتقلّد الوزارة، وكان محبوسا في دار أبي الفرج، فجلس فيها أكثر يومه.
وكان ذلك اليوم، يوم الثلاثاء، لسبع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ستين وثلاثمائة «1» ، وخلع عليه في الغد، وهو يوم الأربعاء.
وكان القبض عليه يوم ثلاثاء، وخلع على أبي الفرج للوزارة، صارفا له، يوم الأربعاء، وبين الأمرين أربعمائة يوم، وجاء أبو الفرج فجلس في دار أبي الفضل، ونظر في الوزارة:
يا سيّدا طلعته لم تزل ... أشهى إلى عيني من النوم
لم تظلم الناس وحاشاك أن ... تحيف بالظلم على القوم
جازيتهم مثل الذي أسلفوا ... في الدار والمجلس واليوم
ثم خرج عن مجلسه.
فجلس جماعة في دار الوزير أبي الفضل، فأنشدنا شيخ حضر من الكتاب لابن زريق الكاتب «2» في مثله، وهو أبو القاسم ابن زنجي «3» ، قال أنشدني ابن(2/220)
زريق لنفسه في الكوفيّ «1» ، لما صرف:
إنّا لقينا حجابا منك أرمضنا ... فلا يكن ذلّنا فيه لك الغرضا
فاسمع مقالي ولا تعجل عليّ فما ... أبغي بنصحك لا مالا ولا عرضا
في هذه الدار في هذا المكان «2» على ... هذي الوسادة كان العزّ فانقرضا «3»(2/221)
114 عائدة الجهنية تنظم الشعر الحسن
أنشدتني عائدة «1» بنت محمد الجهنيّة لنفسها، وهذه امرأة فاضلة، كاتبة [173 ط] كانت زوجة عم الوزير ابن شيرزاد «2» ، وخليفته على كتابة بجكم «3» وسبكتكين «4» في الديوان الذي كان لأبي جعفر، وجاءه ابن زريق، فحجب، ثم دخل بحيلة على ما أخبرنا.
قال، فأنشدته [146 ب] هذه الأبيات «5» ، فلما ولي الوزارة، نفعه، واستخدمه.
فلما قبض على الحسن بن علي المنجّم «6» ، وحبس ابنته في دار أبي [رضي الله عنه] «7» وكّل هذه المرأة بها، وهي إذ ذاك عجوز، فكانت تناشدنا الأشعار، وتنشدنا لنفسها كل شيء جيّد.
فأخبرتني أنّها قالت تهجو أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخيّ، لما ولي(2/222)
الوزارة، وتعيبه بقصر قامته، [وهزاله] «1» :
شاورني الكرخيّ لما دنا النيروز ... والسنّ له ضاحكه
فقال ما نهدي لسلطاننا ... من خير ما الكفّ له مالكه
قلت له كل الهدايا سوى ... مشورتي ضائعة هالكه «2»
أهد له نفسك حتى إذا ... أشعل نارا كنت دوباركه «3»
أنشدتني ذلك في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة «4» .
الدوباركه: كلمة أعجمية، وهي اسم للعب على قدر الصبيان يخلّونها «5» أهل بغداد في سطوحهم ليالي النيروز المعتضدي، ويلعبون بها، ويخرجونها في زيّ حسن، من فاخر الثياب والحلي، ويحلّونها كما يفعل بالعرائس، وتخفق بين يديها الطبول والزمور، وتشعل النيران.(2/223)
فهجته هذه المرأة بما تحقّق عندي أنّها صادقة فيه، لأنّه يليق بكلام النساء.
وقد كانت تنشدني لنفسها أفحل من هذا الكلام، وكتبت ذلك عنها، وهو ثابت في مواضع من كتبي، وما تعلّق بحفظي لها غير هذه الأبيات.
115 لو كان هذا المخنث شاعرا كان أشعر الناس
حدّثني أبي «1» ، قال: كنت أماشي المعوجّ الشاميّ الشاعر، ببغداد، وكان دقيقا، دقيق الوجه، أشهل، معوجّ الوجه.
فلقينا مخنّث، فولع به المعوجّ.
فقال له المخنّث: لا تسكت، يا من كأنّه ديك يطّلع في سطل ماء.
فأسرع المعوج من يده، وقال: لو كان هذا شاعرا كان أشعر الناس، والله ما شبّهني أحد، أصحّ من تشبيهه.(2/224)
116 بين مخنث وامرأة
حدّثني أبو الطيّب بن هرثمة، قال:
كنت مجتازا ببغداد، ومخنّث يمشي، فرأته امرأة، وكان حسن البدن «1» .
فقالت: ليت على ابنتي شحم هذا المخنّث.
قال: فقال لها المخنّث: مع بغائي، فشتمته.
فقال لها: كيف صار، تأخذين الجيّد، وتدعين الرديء.
117 بين مخنث ومغنية
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش، قال:
سمعت مخنّثا يهاتر «2» مغنّية، فقال لها: لا تسكتين، وحرك كأنّه دكّان حجام، داخله دم، وخارجه شعر.(2/225)
118 بين مخنث وامرأة تولعت به
قال «1» : وبلغني أنّ مخنّثا قال لامرأة تولّعت «2» به:
اشتغلي بحرك الذي قطع لسانه، وسوّد وجهه، وجعل إلى جانبه كنيف ينجرّ إليه.
119 فتى يهاتر مغنية
قال «3» : وهاتر صديق لنا مغنّية، فقال لها: يا من خرق حيضها حشو مسورة «4» .(2/226)
120 الحر العاملي ومكاشفته باللواط
حدّثني أبو الطيّب بن هرثمة، قال [174 ط] :
كان الحرّ العامليّ، مكاشفا «1» [147 ب] باللّواط، حتى أنّه كان يقول لغلامه، بحضرة الناس: إمض إلى البيت الذي نكتك فيه البارحة، فجئني منه بكذا.
قال: فقال ليلة لغلام له: أعطني فردا.
فقال: لا أفعل.
قال: ولم؟
قال: هي ليلة جمعة.
قال: وأيّ فرق بينها وبين غيرها من اللّيالي؟
قال: الذنب فيها يكتب ذنبين.
قال: فاحسب أنّ ليلة السبت قد تنايكنا فردين.(2/227)
121 أبو عيسى ابن بنت أبي نوح ومكاشفته بالبغاء
قال «1» : وكان أبو عيسى ابن بنت أبي نوح، مكاشفا بالبغاء «2» .
فقال يوما رجل بحضرته: فلان بغّاء.
فقال: لا، ولا كرامة، من ذلك العاميّ السفلة، حتى يكون بغّاء؟
بأيّ أبوة؟ بأيّ نعمة؟ بأيّ كتبة؟ بأيّ صناعة؟ بأيّ ملوكية؟ بأيّ عرق؟.(2/228)
122 الصولي والإسفيذباج بالمباعر المحشوة
قال «1» : وأكلنا يوما مع الصوليّ «2» في داره، فقدمت إسفيذباج «3» بمباعر محشوّة «4» . فأقبل يحثّنا على أكل الحشوات.
حتى قال في جملة الكلام: ومن فضلها، وطيبها، إنّها تشبه زباب المراهقين.
قال: فقلت لصديق كان إلى جانبي: كاشف هذا أيضا بما يرمي به من البغاء.(2/229)
123
لم أمرّضه فأسلو ... لا ولا كان مريضا
حدّثني أبي «1» قال:
خرج إلينا يوما، أبو الحسن الكاتب «2» ، فقال: أتعرفون ببغداد رجلا يقال له: ابن أصدق؟
قال: فلم يعرفه من أهل المجلس غيري، فقلت: نعم، فكيف سألت عنه؟
فقال: أي شيء يعمل؟
قلت: ينوح على الحسين عليه السلام.
قال: فبكى أبو الحسن، وقال: إنّ عندي عجوزا ربّتني من أهل كرخ جدّان «3» عفطية «4» اللسان، الأغلب على لسانها النبطية، لا يمكنها أن تقيم كلمة عربيّة صحيحة، فضلا عن أن تروي شعرا، وهي من صالحات نساء المسلمين، كثيرة الصيام والتهجّد.
وإنّها انتبهت البارحة في جوف الليل، ومرقدها قريب من موضعي، فصاحت بي: يا أبا الحسن.
فقلت: ما لك؟
فقالت: الحقني.(2/230)
فجئتها، فوجدتها ترعد، فقلت: ما أصابك؟
فقالت: إنّي كنت قد صلّيت وردي «1» فنمت، فرأيت الساعة في منامي، كأنّي في درب من دروب الكرخ، فإذا بحجرة نظيفة بيضاء، مليحة الساج، مفتوحة الباب، ونساء وقوف عليها.
فقلت لهم: من مات؟ وما الخبر؟ فأومأوا إلى داخل الدار.
فدخلت، فإذا بحجرة لطيفة، في نهاية الحسن، وفي صحنها امرأة شابّة لم أر قط أحسن منها، ولا أبهى ولا أجمل، وعليها ثياب حسنة بياض مرويّ «2» ليّن، وهي ملتحفة فوقها بإزار أبيض جدّا، وفي حجرها رأس رجل يشخب دما.
فقلت: من أنت؟.
فقالت: لا عليك، أنا فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه، وهذا رأس ابني الحسين، عليه السلام، قولي لابن أصدق عنّي أن ينوح:
لم أمرّضه فأسلو ... لا ولا كان مريضا
[148 ب] فانتبهت فزعة.
قال: وقالت العجوز: لم أمرّطه، بالطاء، لأنّها لا تتمكّن من إقامة الضاد، فسكّنت منها إلى أن نامت.
ثم قال لي: يا أبا القاسم [175 ط] مع معرفتك الرجل، قد حمّلتك الأمانة، ولزمتك، إلى أن تبلّغها له.
فقلت: سمعا وطاعة، لأمر سيدة نساء العالمين.
قال: وكان هذا في شعبان، والناس إذ ذاك يلقون جهدا جهيدا من(2/231)
الحنابلة، إذا أرادوا الخروج إلى الحائر «1» .
فلم أزل أتلطّف، حتى خرجت، فكنت في الحائر، ليلة النصف من شعبان.
فسألت عن ابن أصدق، حتى رأيته.
فقلت له: إنّ فاطمة عليها السلام، تأمرك بأن تنوح بالقصيدة [التي فيها] «2» :
لم امرّضه فأسلو ... لا ولا كان مريضا
وما كنت أعرف القصيدة قبل ذلك.
قال: فانزعج من ذلك، فقصصت عليه، وعلى من حضر، الحديث، فأجهشوا بالبكاء، وما ناح تلك الليلة إلّا بهذه القصيدة، وأوّلها:
أيّها العينان فيضا ... واستهلّا لا تغيضا
وهي لبعض الشعراء الكوفيّين.
وعدت إلى أبي الحسن، فأخبرته بما جرى.(2/232)
124 كان الناس لا يستطيعون النياحة على الحسين عليه السلام خوفا من الحنابلة
قال أبي، وابن عيّاش:
كانت ببغداد، نائحة مجيدة حاذقة، تعرف بخلب «1» ، تنوح بهذه القصيدة «2» .
فسمعناها في دور بعض الرؤساء، لأنّ الناس إذ ذاك كانوا لا يتمكّنون من النياحة إلا بعزّ سلطان، أو سرّا، لأجل الحنابلة.
ولم يكن النوح إلّا مراثي الحسين وأهل البيت عليهم السلام فقط، من غير تعريض بالسلف.
قالا: فبلغنا أنّ البربهاري «3» قال: بلغني أنّ نائحة يقال لها: خلب، تنوح، اطلبوها فاقتلوها «4» .(2/233)
125 عناية رسول الله صلوات الله عليه بأبي حسان الزيادي
حدّثني أبي، رضي الله عنه، بإسناد ذكره:
أنّ أبا حسان الزياديّ «1» ، كان من وجوه فقهاء أصحابنا، ومن غلمان أبي يوسف، وكان من أصحاب الحديث.
وكان تقلّد القضاء قديما، ثم تعطّل، فأضاق، فلزم مسجدا حيال داره، يفتي، ويدرّس الفقه، ويؤمّ، ويحدّث، وإضاقته كل يوم تزداد، وهو يطلب التصرّف، أو الرزق، ولا يظفر به، وقد نفد ما عنده، وباع كلّ ما يملكه، وركبه دين عظيم.
إذ جاءه يوما رجل خراسانيّ، وقد حضر وقت خروج الناس من بغداد إلى مكّة.
فقال له: إنّي أريد الخروج إلى الحجّ، وهذه عشرة آلاف درهم معي، تقبلها وديعة لي، فإن رجعت من الحجّ رددتها عليّ، وإن رجع الناس ولم(2/234)
أرجع، فاعلم أنّي هلكت، وهي لك هبة حلالا.
قال أبو حسان: فأخذتها إلى منزلي، وقصصت على زوجتي الخبر.
فقالت: نحن في ضرّ شديد، فلو تصرفّت فيها من الآن، وقضيت دينك، واتّسعت، فلعل [149 ب] الله يجعلها لك، فتكون قد تعجّلت العيش.
فقلت: لا أفعل.
فما زالت في يومي وليلتي، تحملني على ذلك، حتى أجبتها إليه من غد، ففضضت الختم عن الكيس، وقضيت منه ديني، وتأثّثت «1» ، وتوسّعت في منزلي، واشتريت ثيابا لي، ولها، ولبناتي، وأصلحت جميع [176 ط] أمري بنحو خمسة آلاف درهم من ذلك.
ومضى على هذا الحديث ثلاثة أيّام، أو أربعة، فانفتلت «2» يوما عن الصلاة، فإذا بالخراسانيّ ورائي.
فلما رأيته قامت قيامتي، وقلت: ما لك؟
فقال: قد انصرفت «3» عن السفر إلى مكّة، وأريد المقام ببغداد، فتردّ إليّ تلك الوديعة.
فقلت له: لست أتمكّن من ذلك الساعة، فتجيئني غدا غدوة.
فنهض، ونهضت إلى منزلي، وما بي طاقة للمشي، فيما بين المسجد وبيتي.
فدخلت، وسقطت مغشيا عليّ، واجتمع أهلي.
فلما أفقت، قالوا: ما دهاك؟
قلت: أنتم حملتموني على التصرّف في مال الخراسانيّ، وقد جاءني(2/235)
الساعة يطلبه، فكيف أعمل؟ الآن أفتضح، ويذهب جاهي، وأهلك بين الناس، وأحبس، فأموت ضرّا وغمّا.
فبكوا، وبكيت.
وجاءت المغرب «1» ، فلم أقدر على الخروج إلى المسجد، وكذلك العشاء، ثم قمت، فصليت في البيت.
فقلت: هذا أمر لا يكشفه إلّا الله، وليس لي إلّا التضرع «2» إليه، فجدّدت طهورا، وصففت قدميّ في المحراب، أصلّي، وأبكي، وأدعو حتى ختمت القرآن، وقد كاد أن يطلع الفجر، وما اكتحلت غمضا.
فقلت لأهلي: الساعة يجيء الرجل إلى المسجد، فكيف أعمل؟
فقالوا: لا ندري.
فقلت: أسرجوا لي، وكانت لي بغلة أركبها.
وقلت لهم: أنا، هوذا، أركب، لا أدري إلى أين أمضي، ولست أرجع إليكم وإن تلفت، ولا وجه لي يقوى على كلام الخراسانيّ، فإن طالبكم وخرج بكم إلى مكروه، فسلّموا إليه بقيّة المال، وأصدقوه الحديث، وإن أمكنكم مدافعته، فدعوني مستورا، فلعلّي أرجع بفرج، أو رأي في أمره.
وركبت، لا أدري أين أقصد، وليس معي ضياء، ولا غلام، وتركت عنان البغلة على عرفها «3» .
وجاءت إلى الجسر، وعبرته إلى الجانب الشرقيّ، وأنا عليها، وصارت(2/236)
بي إلى باب الطاق، وعطفت بي في الشارع الكبير، المنفذ إلى دار الحليفة.
فلمّا توسطته، إذا بموكب عظيم، وضياء، وقوم يجيئون «1» من ناحية دار الخليفة.
فقلت: أتنكّب الطريق، حتى لا يزحموني بدوابّهم.
فجذبت العنان لأدخل دربا، فإذا بهم يصيحون بي، فوقفت.
فقالوا: من أنت؟ ومن تكون؟
قلت رجل من [150 ب] الفقهاء، فمسكوني، فجاذبتهم، وجاء رئيسهم.
فقال: من أنت رحمك الله؟ لا بأس عليك إن صدقت.
قلت: رجل من الفقهاء والقضاة.
قال: بمن تعرف؟
قلت: بأبي حسان الزياديّ.
فصاح: الله أكبر، الله أكبر، أجب أمير المؤمنين، فسرت معه، حتى أدخلت على المأمون.
فقال لي: من أنت؟
قلت: رجل من الفقهاء والقضاة، أعرف بالزياديّ، ولست منهم، إنّما سكنت في محلة لهم، فنسبت إليهم.
فقال: بأي شيء تكنى؟
قلت: بأبي حسّان.
قال: ويحك ما دهاك؟ وما قصّتك؟ فإن [177 ط] رسول الله، صلى الله عليه، ما تركني البارحة أنام بسببك، أتاني دفعة في أول الليل، وفي(2/237)
وسطه، وهو يقول: أغث أبا حسان الزياديّ، فأنتبه، ولا أعرفك، وأنسيت السؤال عنك، فلما كان الساعة، أتاني، فقال: أغث أبا حسان الزياديّ، فما تجاسرت على النوم، وأنا ساهر من ذلك الوقت، وقد بثثت الناس في جانبي البلد، أطلبك، فما قصّتك؟
قال: فصدقته عن الخبر، حتى لم أكتمه منه حرفا.
وقلت: أنا رجل كنت أتقلّد للرشيد من أبي يوسف القضاء بناحية، فلما مات، صرفت، وانقطعت أرزاقي، ولزمتني العطلة والإضاقة، فكان من خبري مع رجل خراسانيّ كيت وكيت.
فبكيت، وبكى وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هاتوا خمسة آلاف درهم، فجاءوا بها.
فقال: خذ هذه فارددها مكان ما تصرّفت به.
ثم قال: هاتم عشرة آلاف درهم، فجاءوا بها، [فقال: خذ هذه فأصلح بها أمرك. وتوسّع بها في نفسك.
ثم قال: هاتم ثلاثين ألفا، فجاءوا بها] «1» ، فقال: خذ هذه، فأصلح بها أمر بناتك، وزوّجهن، وإذا كان يوم الموكب، فصر إلينا بسواد «2» لنقلّدك عملا، ونرزقك رزقا.
فحمدت الله، وشكرته، وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوت لأمير المؤمنين، وانصرفت والمال معي، وصرت إلى منزلي، وما طلعت الشمس، وأهل المسجد يتوقّعون خروجي للصلاة، وقد أنكروا تأخّري عنهم، فنزلت، فصلّيت بهم، وسلّمت، وإذا بالخراسانيّ، فأدخلته منزلي، وأخرجت إليه بقيّة ماله، فرأى ختمه غير صحيح.(2/238)
وقلت: خذ هذا، فهو بقيّة مالك، فقد صرفته، وأومأت إلى المال الذي كان معي، وقلت خذ تمام مالك.
فقال: ما قصتك؟
فأخبرته الخبر، فبكى، وحلف لا يأخذ شيئا.
وحلفت عليه، فقال: والله، لا أخذته، ولا أدخلت في مالي شيئا من مال هؤلاء.
وبدأت بالنظر في أمر بناتي، وتزويجهنّ، وتجهيزهنّ، وتقدمت بابتياع سواد، ودابّة، وغلام.
وصرت إلى المأمون، يوم الموكب، [151 ب] فأدخلت، فسلّمت، فأوقفت مع القضاة، وأخرج إليّ عهدا من تحت مصلاه، وسلّمه إليّ.
وقال: قد قلّدتك القضاء [بالمدينة الشرقية من] «1» الجانب الغربي، وهذا عهدي إليك عليها، فاتّق الله، وقد أجريت لك كذا وكذا، في كلّ شهر، رزقا.
فما زال أبو حسّان يتقلّدها في أيام المأمون.(2/239)
126 العلويون وآل طاهر
حدّثني أبي «1» ، قال: حدّثني الصولي «2» ، أنّ عبيد الله بن عبد الله بن طاهر «3» حدّثه، قال:
لما عاد محمد بن عبد الله، أخي، من مقتل يحيى بن عمر العلويّ «4» ، رضي الله عنه، بعد مديدة، دخلت إليه بعد ذلك يوما سحرا، وهو كئيب مطاطىء الراس، في أمر عظيم، كأنّه قد عرض على السيف «5» ، وبعض جواريه قيام لا يتجاسرن على مسألته، وأخته واقفة.
فلم أقدم على خطابه، فأومأت إليها، ما له؟
قالت: رأى رؤيا هالته.
فتقدمت إليه، وقلت: أيّها الأمير، روي عن النبي صلى الله عليه، إنّه قال [178 ط] : إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره، فليتحوّل من جانبه إلى الآخر، وليقل ثلاثا، أستغفر الله، ويلعن إبليس، ويستعيذ بالله، ثم ينام.(2/240)
فرفع رأسه، وقال: يا أخي، فكيف إذا كانت الطامّة من جهة رسول الله صلى الله عليه.
[فقلت: أعوذ بالله] «1» .
فقال لي: ألست ذاكرا رؤيا طاهر بن الحسين؟
فقلت: بلى.
قال عبيد الله: وكان طاهر، وهو صغير الحال رأى النبي صلى الله عليه في منامه، فقال له: يا طاهر، إنّك ستبلغ من الدنيا أمرا عظيما، فاتّق الله، واحفظني في ولدي، فإنّك لا تزال محفوظا ما حفظتني في ولدي.
فقال: ما تعرّض طاهر لقتال علويّ قط، وندب إلى ذلك غير دفعة فامتنع منه.
ثم قال لي أخي محمد بن عبد الله «2» : إنّي رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه في منامي، كأنّه يقول لي: يا محمد، نكثتم؟
فانتبهت فزعا، وتحوّلت، واستغفرت الله تعالى، وتعوّذت من إبليس، ولعنته، واستغفرت الله تعالى، ونمت.
فرأيته صلّى الله عليه ثانية، وهو يقول: يا محمد، نكثتم؟
[ففعلت كما فعلت في الأوّلة.(2/241)
فرأيته صلى الله عليه وهو يقول: نكثتم] «1» وقتلتم أولادي؟ والله، لا تفلحون بعدها أبدا.
فانتبهت، وأنا على هذه الحال، وهذه الصورة، منذ نصف الليل ما نمت.
قال: واندفع يبكي، وبكيت معه.
فما مضت على ذلك إلّا مديدة، حتى مات محمد «2» ، ونكبنا بأسرنا أقبح نكبة، وصرفنا عن ولاياتنا، ولم يزل أمرنا يخمل، حتى لم يبق لنا اسم على منبر، ولا علم في جيش، ولا إمارة.
وحصلنا إلى الآن تحت المحن.(2/242)
127 بين الوزير علي بن عيسى والعطّار الكرخي
حدّثني جماعة من أهل الحضرة:
أنّ رجلا عطارا [152 ب] من أهل الكرخ «1» ، كان مشهورا بالستر «2» ، ارتكبه دين، فقام «3» من دكانه [ولزم منزله وأقبل على الدعاء والصلاة ليالي كثيرة.
فلما كان] «4» ليلة جمعة، وصلّى صلاته، ودعا ونام.
قال: فرأيت النبي صلى الله عليه في منامي، وهو يقول لي: اقصد عليّ ابن عيسى الوزير «5» ، فقد أمرته لك بأربعمائة دينار، فخذها، وأصلح بها أمرك.
قال: وكان عليّ قيمة ستمائة دينار.
فلمّا كان من غد، قلت: قد قال رسول الله صلى الله عليه، من رآني(2/243)
في المنام، فقد رآني، لأنّ الشيطان لا يتمثّل بي، فلم لا أقصد الوزير؟
قال: فقصدته، فلما جئت إلى الباب، منعت من الوصول إليه، فجلست إلى أن ضاق صدري، وهممت بالانصراف، فخرج الشافعيّ «1» صاحبه، وكان يعرفني معرفة ضعيفة، فأخبرته الخبر.
فقال: يا هذا، إنّ الوزير، والله، في طلبك منذ السّحر، وإلى الآن، وقد سئلت عنك، فما عرفتك، وما عرّفنيك أحد، والرسل مبثوثة في طلبك، فكن مكانك.
قال: ومضى، فدخل، فما كان بأسرع من أن دعوني، فدخلت إلى أبي الحسن عليّ بن عيسى.
فقال: ما اسمك؟
قلت: فلان ابن فلان العطّار.
قال: من أهل الكرخ؟
قلت: نعم.
قال: يا هذا أحسن الله جزاءك في قصدك إيّاي [179 ط] ، فو الله ما تهنّيت بعيش منذ البارحة، جاءني رسول الله صلى الله عليه، في منامي، فقال: أعط فلان بن فلان العطّار في الكرخ أربعمائة دينار، يصلح بها شأنه، وكنت اليوم، طول نهاري، في طلبك، وما عرّفنيك أحد.
ثم قال: هاتم ألف دينار، فجاءوا بها عينا.
فقال: خذ منها أربعمائة دينار، امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه، وستمائة دينار، هبة مني لك.
فقلت: أيّها الوزير ما أحبّ أن أزاد «2» على عطية رسول الله صلى الله(2/244)
عليه شيئا، فإنّي أرجو البركة فيها، لا فيما عداها.
فبكى عليّ بن عيسى، وقال: هذا هو اليقين، خذ ما بدا لك.
فأخذت أربعمائة دينار، وانصرفت.
فقصصت قصّتي على صديق لي، وأريته الدنانير، وسألته أن يحضر غرمائي، ويتوسّط بيني وبينهم، ففعل.
وقالوا: نحن نؤخّره ثلاث سنين بالمال، فليفتح دكّانه.
فقلت: لا، بل يأخذون مني الثلث من أموالهم، وكانت ستمائة.
فأعطيت كل من له شيء، ثلث ماله، وكان الذي فرّقته مائتي دينار.
وفتحت دكاني «1» ، وأدرت المائتين الباقية في الدكان، فما حال الحول عليّ، إلّا ومعي ألف دينار.
فقضيت ديني كلّه، وما زال مالي يزيد، وحالي تصلح.(2/245)
128 يحفظ شعرا في منامه
حدّثني أبو أحمد الحارثيّ عبد الله بن عمر، قال:
رأيت في منامي كأنّي مجتاز بالبصرة في بني نمير على مجلس الشرطة، والناس مجتمعون [153 ب] .
فقلت: ما هذا؟
قالوا: فتى يضرب عنقه.
فاطّلعت في الحلقة، فإذا بفتى حسن الوجه، قد أجلس وشدّ ليضرب عنقه.
فقال لهم: دعوني أتكلّم بكلمتين، ثم اعملوا ما شئتم.
فقالوا له: تكلّم.
فقال: هل هاهنا رجل من أهل الأدب، يحفظ عنّي ما أقوله قلت: نعم، فقال:
أيا شاهدي قتل المشوق تحمّلا ... زكيّ سلام طيّبته مقاصده
إلى الظبية اللعساء في سند الحمى ... بحيث تحدّى باب عثمان قاصده
فقولا لها «1» إنّ المشوق الذي اعتدت ... عليه لريب الدهر أيد تراصده
مضى وبأحناء الضلوع هواكم ... إلى أن يرى إنشاءه بعد حاصده
ثم قال لي: احفظها يا أخي «2» عليّ، فإنّه لا خامس لقافيتها، بشرط أن لا تغيّر الصاد والدال، ثم ضربت عنقه.(2/246)
وانتبهت، وأنا أنشد الأبيات في الحال، فعلقتها.
وطلبت- فيما أعرفه وأذكره- قافية خامسة للأبيات، فلم أجد.
قلت أنا: وطلبت لها قافية، فوجدت ما يصلح أن يضاف إليها، فاصده من الفصد، وعاصده، ولا أدري كيف ذهب ذلك عن أبي أحمد.
ولعلّ غيري إن فتّش، وجد قوافي أخر، إلّا أنّها قافية عزيزة على هذا الشرط، كيف تصرّفت الحال.(2/247)
129 المعتضد يهدم سور أنطاكية
حدّثني أبي، قال:
لما خرج المعتضد إلى قتال [180 ط] وصيف الخادم «1» ، إلى طرسوس «2» ، وأخذه، عاد إلى أنطاكية «3» ، فنزل خارجها، وطاف بالبلد بجيشه، وكنت صبيّا إذ ذاك في المكتب.
قال: فخرجت في جملة الناس، فرأيته وعليه قباء أصفر بلا سواد، وسمعت رجلا يقول: الخليفة بقباء أصفر بلا سواد؟
قال: فقال له أحد الجيش: هذا كان عليه وهو جالس في داره ببغداد، فجاءه الخبر بعصيان وصيف، فخرج في الحال من داره إلى باب الشماسية، فعسكر، وحلف أن لا يغيّر هذا القباء، أو يفرغ من أمر وصيف، فأقام بباب الشماسيّة، أياما، حتى لحقه الجيش، ثم خرج، فهو عليه إلى الآن ما غيّره.
قال: فحدّث أبي بعد ذلك: وأنفذ المعتضد إلى سور أنطاكية بفعلة يهدمونه، فماج الناس، ولجّت «4» العامّة، وتشاور شيوخ المدينة في هذا،(2/248)
فأجمع رأيهم أن كفّوا العامّة، ومضوا إلى مضرب الخليفة، وسألوا الوصول.
فأنفذ إليهم أن اختاروا عشرة منكم، يدخلون إليّ، ويخاطبونني.
فاختاروا عشرة كنت منهم.
فحدّثني قال: دخلنا عليه، فسلّمنا، ووقفنا، فأمر بإجلاسنا، فجلسنا.
فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن في وجه عدو كلب، وجهاد متصل [ونفير دائم] «1» ، والعدوّ يطرقنا ونطرقه، فإن هدمت هذا السور، كان ذلك أقوى عدّة للعدوّ [154 ب] علينا، وكان البلد له عند أيسر ضعف يلحقنا، وحادثة تطرقنا، فإن رأيت أن ترحم ضعفنا، وتستر ذرارينا، بهذا السور.
فقال: قد كثرت الحوادث علينا في هذه الثغور، واعتصام كل مخالف، بحصن منها، وقد علمتم ما لحقنا بالأمس من ابن الشيخ «2» ، واليوم من هذا الخادم «3» ، وقد سبق منّي القول، أن لا أدع حصنا إلّا هدمته، وأنا أهدم هذا السور، وأحصّنكم من العدو، بإضعاف عدد الشحنة، وإدرار الأرزاق، وإطلاق مال للمطوّعة، يقوون به على جهاد العدو، فتكون قوّتهم مانعة للعدو، وكأنّ السور لم يزل، ولا يطمع أحد في التحصّن به على العصيان.
قال: فلم يكن عند أصحابي حجّة، وضعف كلامهم، ورأيت المجلس كالمنفضّ «4» على هذا.
فقمت، واستأذنت في الكلام، فأذن لي.(2/249)
فقلت: [يا أمير المؤمنين، على أن أقول ما عندي، وأنا آمن؟
قال: نعم.
قلت] «1» : يا أمير المؤمنين، إنّ الله لو خلّد أحدا «2» في الأرض، لخلّد محمدا صلى الله عليه، وإنّ هذه الحصون والأسوار لم توضع لسنة بعينها، ولا لأيّام خليفة بعينه، وإنّما جعلت لتبقى على الدهور، وتدفع عن أهلها في أيّام كل ملك، سائسا كان أو متوانيا.
ولو كنّا نثق بحياة أمير المؤمنين أبدا، ما سألناه خلاف ما يراه، ولو كنّا نثق أنّ من يلي أمور المسلمين بعده يكون لهم، باهتمامه بمصالحهم، [181 ط] وسياسته لخاصّتهم وعامتّهم، مثله، لسهّل ذلك علينا المصيبة بفقدان السور الذي لا عوض عنه، ولو كان من يتقلّد بعده، مثله، لما كان لنا في ذلك عزاء عن السور، فإنّا لا نأمن من إهمال من يجيء بعد ذلك الخليفة أيضا، أن تشغله حادثة عنّا، تمنعه من مصالحنا، فنكون نحن دريّة «3» لسيوف الروم، ورماحهم.
وإنّك يا أمير المؤمنين إن هدمت هذا السور، بقي بلدنا ما دمت حيا، ثم خرج عن أيدي المسلمين بعدك، وقتلتنا الروم، وسبت ذرارينا، وصليت بإثمنا في القيامة، وعارنا في الدنيا، فالله، الله، فينا، فقد صدقتك يا أمير المؤمنين، والأمر إليك بعد ذلك.
قال: فنكّس المعتضد رأسه ساعة، ثم رفعه، وقد بكى.
وقال: فكيف أعمل، وقد سبق قولي بأنّي أهدمه؟
فقلت له: تعمل الفعلة في هذا اليوم فقط، فيكون في ذلك إبرار(2/250)
لقول أمير المؤمنين، ثم إذا رحل هو عنّا، أذن لنا في إعادة ما هدم اليوم فقط.
فقال: أنفذوا غدا من يردّ الفعلة، ويمنعهم من هدم السور بعد اليوم، وقد أذنت لكم في إعادة ما انهدم [155 ب] .
فشكرناه، ودعونا له، وارتفعت الصيحة «1» بالدعاء له.
وعدنا، فوجدنا الفعلة، قد هدموا ذلك اليوم قطعة منه، فأعدناها بعد خروج المعتضد، من أموالنا.
فهي معروفة إلى الآن في السور، لتغيّر بنائها عن البناء الأول.(2/251)
130 بحث في شكوى الزمان وفساد الإخوان
جرى بيني وبين أبي الحسن [أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين] «1» ، الكاتب الأهوازي، وهذا الرجل من معقلي الناس وفضلائهم، عقلا، ونبلا، وبراعة في صناعته، وتقدّما، وقد ولي كبار الأعمال للسلطان، وخلف أبا عبد الله البريديّ على الأهواز «2» ، وتولّاها لمعزّ الدولة «3» مكان أبي عبد الله البريديّ، عقيب هربه من معزّ الدولة «4» ، ثم استخلفه بعد ذلك، أبو القاسم البريديّ على البصرة «5» ، ثم خلف أبا عليّ الطبريّ «6» ، وأبا محمد المهلّبيّ «7»(2/252)
[وكان إذ ذاك على كور الأهواز، ثم تقلّد عمالة البصرة لسباشي الحاجب الخوارزميّ التركيّ «1» ، ثم لمعزّ الدولة، رئاسة في أيام وزارة أبي محمد المهلّبيّ] «2» ، وحلب الدهر أشطره، وجرّب الأمور، وسبر الزمان، ذكر الزمان وتصرّفه، وفساد الإخوان فيه، وقلّة المودّات، وما بلغني عن أبي الحسن ابن الفرات «3» ، أنّه قال: جزى الله عنّا من لا نعرفه ولا يعرفنا خيرا، وأنّه قال: أحصيت ما أنا فيه من المكاره، فما وجدت منه شيئا لحقني، إلا ممّن أحسنت إليه.
فقال لي أبو الحسن: هذا صحيح، ولكن حدث عند فساد الزمان، وإلّا فالأكثر من عدد الناس، كان قديما، على تصرّف زمانهم، ما يعتقدونه من مودّات إخوانهم، فلمّا فسدت الطباع، وتسمّح الناس في شروط مودّاتهم «4» ، صار الإنسان ساكنا «5» ممّن لا يعرفه، لا يلحق به شره، ولا يناله ضرّه، وإنّما يلحق الآن الضرر من المعارف، ومن يقع عليه اسم الإخوان، وذلك إنّهم يطالبون في المودّة بما لا يفعلون مثله، فإن أسدى إليهم إحسانا [عرف طبعه فهي العداوة القليلة] «6» ، وإن حفظ الإنسان ما يضيّعونه أبدا حصل تحت الرقّ، وإن قارضهم الإفعال ثارت العداوة، وتواترت عليه المكاره، هذا إذا سلم من أن يبدأك من تظنّه صديقا بالشرّ والتجنّي، والمعاملة [182 ط] القبيحة بالتوهّم والتظنّي، من غير تثبّت ولا استصلاح،(2/253)
فأمّا إذا كان ليس بينكما أكثر من المعرفة فالضرر معها بالثقة، لأن كل مكروه يلحقك، إذا حصّلته، كان ممن يعرفك ويقصدك به على علم بك، فأمّا الضرر ممن لا تعرفه، فبعيد جدا، مثل لصوص يقطعون عليك الطريق، غرضهم [156 ب] أخذ المال منك، أو من غيرك، وما يجري هذا المجرى، وعلى أنّ أشد الضرر من اللصوص، ما وقع عن تعيين، وعلى معرفة بالإنسان.
فمهما أمكن للعاقل أن يقلّ من المعارف، واجتلاب من يسمى أخا في هذا الزمان، فليفعل، وليعلم أنّه قد أقلّ من الأعداء، وكلما استكثر منهم، فقد استكثر من الأعداء.
وكأنّ ابن الرومي «1» جمع هذا [المعنى] «2» ، فقال:
عدوّك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصحاب
فإنّ الداء أقتل ما تراه ... يكون «3» من الطعام أو الشراب(2/254)
131 من شعر أبي فراس الحمداني
هذا شعر أبي فراس بن أبي العلاء بن حمدان بن حمدون العدويّ التغلبيّ «1»
أشدّ عدوّيك الذي لا تحارب ... وخير خليليك الذي لا تناسب
لقد زدت بالأيّام والناس خبرة ... وجرّبت حتى هذّبتني التجارب
فأقصاهم أقصاهم عن إساءتي ... وأقربهم مما كرهت الأقارب
وأعظم أعداء الرجال ثقاتها ... وأهون من عاديته من تحارب
وما أنس دار ليس فيها مؤانس ... وما قرب أهل ليس منهم مقارب
نسيبك من ناسبت بالودّ قلبه ... وجارك من صافيته لا المصاقب «2»
وله:
إذا كان فضلي لا أسوّغ نفعه ... فأفضل عندي أن أرى غير فاضل
ومن أضيع الأشياء مهجة عاقل ... يجور «3» على حوبائها حكم جاهل «4»
وله:
لمن أعاتب؟ مالي؟ أين يذهب بي؟ ... قد صرّح الدهر لي بالمنع والياس
أبغي الوفاء بدهر لا وفاء به ... كأنّني جاهل بالدهر والناس «5»(2/255)
وله:
وأخ أطعت فما رأى لي طاعتي ... حتى خرجت بأمره عن أمره
وتركت حلو العيش لم أحفل به ... لما رأيت أعزّه في مرّه
والمرء ليس ببالغ في أهله ... كالصقر ليس بصائد في وكره «1»
وله:
في الناس إن فتّشتهم ... من لا يعزّك أو تذلّه
فاترك مجالسة «2» اللئيم ... فإنّ فيها العجز كلّه «3»
وله: [183 ط]
غنى النفس لمن يعقل ... خير من غنى المال
وفضل الناس في الأنفس ... ليس الفضل في الحال «4»
وله:
ندلّ على موالينا ونجفو ... ونعتبهم وإنّ لنا الذنوبا
بأقوال يجانبن المعاني ... وألسنة يخالفن القلوبا «5»
وله:
ولقد علمت كما علمت ... وإن أقمت على صدوده
إنّ الغزالة والغزالة ... في ترائبه وجيده «6»(2/256)
وله:
قد كان لي فيك حسن صبر ... خلوت يوم الفراق منه
لم يبق لي في الجفون إلّا ... ما استنزلتني الخدود عنه «1»
وله:
لي صديق على الزمان صديقي ... ورفيق مع الخطوب رفيقي
لو رآني إذا استهلّت دموعي ... في صبوح ذكرته أو غبوق
أسرق الدمع من نديمي بكأسي «2» ... فأحلّي عقيانها بالعقيق
وله:
هل تحسّان لي صديقا صدوقا ... يحفظ العهد أو رفيقا رفيقا [157 ب]
لا رعى الله يا حبيبيّ دهرا ... فرّقتنا صروفه تفريقا «3»
وله «4» :
من السلوان في عينيك ... آيات وآثار
أراها منك في القلب ... وفي القلوب أبصار(2/257)
إذا ما برد الحبّ ... فما تسخنه النار
وله:
الحزن مجتمع والصبر مفترق ... والحبّ مختلف عندي ومتّفق «1»
ولي إذا كلّ عين نام صاحبها ... عين تحالف فيها الدمع والأرق
لولاك يا ظبية الأنس التي نظرت ... لما وصلن إلى مكروهي الحدق
لكن نظرت وقد سار الخليط ضحى ... بناظر كل حسن منه مسترق
وله:
يا من يلوم على هواه جهالة ... انظر إلى تلك السوالف تعذر
حسنت وطاب نسيمها فكأنها ... مسك تساقط فوق ورد أحمر «2»
وله:
ومرتد بطرّة ... مسدلة «3» الرفارف
كأنّها مسبلة «4» ... من زرد مضاعف «5»
وله: [184 ط]
يا ليلة لست أنسى طيبها أبدا ... قد كان كلّ سرور حاضرا فيها
باتت وبتّ وبات الزق ثالثنا ... حتى الصباح فتسقيني وأسقيها(2/258)
كأنّ سود عناقيد بلمّتها ... أهدت سلافتها صرفا إلى فيها «1»
وله:
بتنا نعلّل من ساق أعدّ «2» لنا ... بخمرتين من الصهباء والخدّ
كأنّه حين أذكى نار وجنته ... سكرا وأسبل فضل الفاحم الجعد
يعلّ ماء عناقيد بطرّته ... بماء ما حملت خدّاه من ورد «3»
وله:
وظبي غرير في فؤادي كناسه ... إذا اكتنفت «4» غور الفلاة وقورها
فمن خلقه لبّاتها ونحورها ... ومن خلقه عصيانها ونفورها
وله:
وجناته تجني على عشّاقه ... ببديع ما فيها من اللألاء
ض بيض علتها «5» حمرة فتورّدت ... فعل المدام مزجتها بالماء
فكأنما برزت لنا بغلالة ... بيضاء تحت غلالة حمراء «6»(2/259)
وله:
كأنّما تساقط الثلج ... لعيني من يرى «1»
أوراق ورد «2» أبيض ... والناس في شاذكلى «3»
وله:
كأنّما الماء عليه الجسر ... درج بياض خط فيه سطر
كأنّنا حين استتب العبر ... أسرة موسى حين شقّ البحر «4»(2/260)
132 نسخة كتاب من أبي محمد يحيى الأزدي إلى الأمير أبي تغلب بن ناصر الدولة
كان الحسين وإبراهيم ابنا ناصر الدولة، خالفا على أخيهما أبي تغلب فضل الله بن ناصر الدولة، عقيب قبضه على أخيهم محمد بن ناصر الدولة، وإصعاده به إلى القلعة مقيّدا، وقبضه نعمته، وخرجا إلى أعماله محاربين له، ومواطئين حمدان بن ناصر الدولة، على محاربة أبي تغلب، واجتمعا معه، فخرج أبو تغلب بالجيوش إليهم، فلقيهم، وانهزم حمدان، ودخل الحسين إلى أبي تغلب، وانحدر إبراهيم إلى باب السلطان ببغداد، ليدخل في الأمان، وكان ابتداء ذلك في شعبان سنة ستين، والصلح في شوال «1» .
فكتب أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد، إلى أبي تغلب بالتهنئة [158 ب] على ذلك كتابا نسخته:
لم تزل عادة الله عند مولانا الأمير السيّد، أطال الله بقاءه، وأدام تأييده [185 ط] ، وكبت أعداءه، جارية بالمواهب النبيلة، والنّعم المتصلة الجليلة، [متّسقة] «2» على التوفيق والسداد، مطّردة بمنّة «3» الله أجمل اطّراد، لما خصّه الله تعالى به من حسن النية وجميل الاعتقاد، وأفرده من تغمّد الحق في الإصدار والإيراد، وألهمه إيّاه من التوفّر على شكره وحمده، واجتلاب(2/261)
المزيد لذلك من عنده، فابتداءاته- أدام الله تأييده- دالّة على حسن عواقبها، ومبشّرة بنيل البغية في أوائل الأمور وأواخرها، وأفعاله مقترنة أبدا بالرشاد، وآراؤه بحمد الله مصاحبة للصواب والسداد، وراياته موصولة بالعزّ والنصر، ونعم الله عنده محفوظة بالحمد والشكر، وبحسب ذلك تكون دواعي المزيد، على قدر تضاعف التمكين والتأييد، ولهذه الشيم السنية، والفضائل الجليلة العلية، والطوية الحميدة المرضية، ما يجدّد الله منحه لديه، ويديم دفاعه عنه وإحسانه إليه، ويسبغ آلاءه ونعمه عليه، ويجعل كلمته العليا، وكلمة أعدائه بسهم الله السفلى، وينوّه باسمه- ثبّته الله- في سائر البلاد، ويجعل زناده- أناره الله- أضوأ زناد، ويشرّف الدعاء- على التنائي- بذكره، ويصل ألسنة من قرب وبعد بشكره، والحمد لله على ما خوّله وأولاه، وإليه الرغبة في زيادته فيما نوّله وأعطاه، وحراسته في بدء كلّ أمر وعقباه، وإعلائه على كل من حسده وناواه، وقصّر عن شأوه فعاداه، والحمد لله الذي جعل سفرته ظاهرة البركة، سعيدة السكون والحركة، ميمونة الأحوال، محمودة الحلّ والترحال، مؤذنة بحسن الانقلاب، على أحسن الوجوه وأجمل الأسباب، عائدة بشكر الرعية ودعائهم، جامعة لنيّاتهم على اختلاف آرائهم، وهو المرجوّ الإعانة على ما قرّب إليه، والمسؤول حسن التوفيق لما يزلف لديه، إنّه وليّ حميد، فعّال لما يريد، ولقد صدق الله، وله الحمد، في مولانا- أدام الله عزّه- ظنون أوليائه وأهل طاعته، وحقّق بما تفضّل به من ظهوره على أعدائه، تقديرات خدمه وعبيد نعمه، فشكرهم لله تعالى على ما منحه من التوفيق والنعمة في ذلك بحسب موقعها، ومقدارها وموضعها، وما يخصّهم ويعمّ غيرهم منها، ويصل إلى القاضي والداني الحظّ بها، ولن يرتفع لغادر علم إلا وضعه الله سبحانه [159 ب] وتعالى بمثله- أيّده الله- من كرام المخلصين لديه، ولا يبسط لمبطل أمل(2/262)
إلّا قطعه الله تعالى بأقرب الطائعين إليه، فعال الله جلّ ذكره في عباده، ليجعل جنده المنصورين، وأعداءه المقهورين، وليظهر حقّه على يد مستحقّه، ويهلك من هلك عن بيّنة، ويحيي من حيّ عن بيّنة، وإنّ الله لسميع عليم، وردّ الله الذين كفروا نعمة مولانا بغيظهم إليه أيده الله، لم ينالوا خيرا، إلّا منه [186 ط] حرسه الله، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويّا عزيزا، وهنّأ الله مولانا الأمير نعمه عليه، وضاعف قسمه ومنحه إليه، وأصلح به وعلى يديه، وجعل الخير والسعادة واصلين إليه، وكبت عداته وحسدته، وبلّغه في الدين والدنيا أمنيته، ولا ابتزّه ثوب نعمته، وحرس الأمّة بحراسة مهجته، وصرف عين السوء عن دولته، وشدّ قواها بقدرته، فالسعيد من وفّق لخدمته، وحظي بجميل رأيه، والشقيّ من نفر عن حوزته، وخرج عن ظلّه وجملته، والله وليّه والدافع عنه، والذابّ عن الإسلام وأهله ببقائه، والمحسن إليهم بالمدافعة عن حوبائه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(2/263)
133 رسالة إلى رجل تزوجت أمه
حدّثني أبو الفرج الببغاء «1» ، قال:
جرى بحضرة الأمير سيف الدولة»
، ذكر رجل تزوجت أمّه من أصحابه، وحديث الترسّل والكتابة، فقال لي: اكتب الساعة على البريد، رقعة عن نفسك إلى هذا الرجل، تعزّيه بتزويج أمّه.
فكتبت رقعة بين يديه ارتجالا وحفظتها:
من سلك سبيل الانبساط، لم يستوعر مسلكا في المخاطبة فيما يحسن الانقباض في ذكر مثله، واتصل بي ما كان من أمر الواجبة الحق عليك، المنسوبة بعد نسبتك إليها، إليك، ومن الله صيانتها في اختيارها ما لولا أن الأنفس تتناكره، وشرع المروءة يحظره، لكنت في مثله بالرضا أولى، وبالاعتداد بما جدّده الله من صيانتها أحرى.
فلا يسخطنك من ذلك، ما رضيه موجب الشرع، وحسّنه أدب الديانة «3» فمباح الله أحقّ أن يتّبع.
وإيّاك أن تكون ممّن إذا عدم اختياره سخط اختيار القدر له، والسلام.(2/264)
134 حديث العلوية الزمنة
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، قال:
كانت في شارع دار الرقيق «1» ، صبيّة علويّة، زمنت «2» نحو خمس عشرة سنة، وكان أبي يتفقّدها.
وكانت مسجّاة «3» لا يمكنها أن تنقلب من جنب إلى جنب، أو يقلبها غيرها، ولا تقعد، أو تقعد، وكان لها من يخدمها في ذلك، وفي الإنجاء والأكل.
وكانت فقيرة، وإنما قوتها مما يبرّها الناس، فلما مات أبي اختلّ أمرها، فبلغ تجنّي، جارية أبي محمد المهلّبيّ أمرها، فكانت تقيم بأكثر أمرها [160 ب] .
وإنّها أصبحت في يوم من الأيام، وقد باتت في ليلته زمنة على تلك الصورة، فأصبحت من غد، وقد مشت، وبرئت، وقامت، وقعدت.
وكنا مجاورين لها، وكنت أرى الناس ينتابون بابها، كالموسم، فأنفذت امرأة من داري، صدوقة، ممّن شاهدتها زمنة على طول السنين، فسألتها عن الخبر.
فقالت: إنّي ضجرت من نفسي، فدعوت الله تعالى طويلا بالفرج أو الموت، وبت وأنا على غاية الألم والصياح والقلق، وضجرت المرأة التي(2/265)
كانت تخدمني [187 ط] ، فلما استثقلت في النوم، رأيت كأنّ رجلا قد دخل عليّ، فارتعت منه.
فقال: لا تراعي، فأنا أبوك، فظننته عليّ بن أبي طالب، عليه السلام.
فقلت: يا أمير المؤمنين، ما ترى ما أنا فيه؟ لو دعوت الله تعالى أن يهب لي العافية.
فقال لي الرجل: أنا أبوك محمد رسول الله.
فقلت: يا رسول الله، ادع الله لي.
قالت: فحرّك شفتيه، ثم قال لي: [هاتي يديك، فأعطيته يديّ، فأخذهما، وأجلسني.
ثم قال لي] «1» : قومي على اسم الله.
فقلت: يا رسول الله، كيف أقوم؟
فقال: هاتي يديك، فأخذهما، فأقامني.
ثم قال: امشي على اسم الله.
فقلت: كيف أمشي؟
فقال: هاتي يديك، فمشّاني، ثم جلست، ففعل بي ذلك، ثلاث مرات.
ثم قال لي: قد وهب الله لك العافية، فاحمديه، وتركني، ومضى.
فانتبهت، وأنا لا أشكّ أنّي أراه، لسرعة انتباهي.
فصحت، فظنّت خادمتي أنّي أريد البول، أو شيئا مما يثقل عليها، فتثاقلت.(2/266)
فقلت لها: ويحك ائتيني، فقد رأيت رسول الله، صلى الله عليه، في النوم، فانتبهت، وأنا مسجّاة.
فاستشرحتني.
فقلت لها: إنّي رأيت رسول الله، صلى الله عليه، فدعا لي في النوم، وقال: قد وهب الله لك العافية.
فقالت لي العجوز: ويحك، فإنّي أرجو أن تكوني قد برئت من العلّة، هاتي يديك، فأقامتني، والله، كما أقامني «1» النبيّ صلى الله عليه، في النوم، ولم أكن عرّفتها ذلك.
فأعطيتها يدي، فأجلستني، وقالت لي: قومي، فقمت، فتعبت، ثم جلست، ففعلت بي ذلك ثلاث مرّات.
ثم قمت، فمشيت [وحدي.
فصاحت الخادمة سرورا بالحال، وإعظاما لها، فقدّر الجيران أنّي قد متّ، فجاءوا] «2» ، فقمت فمشيت بحضرتهم متوكئة، فكثروا عليّ في الليل، وفي غد، حتى كدت أتلف، وما زالت قوّتي ترجع إليّ، إلى أن مشيت كما أمشي الآن، ولا قلبة بي.
قال: وقد رأيتها بعد ذلك، أنا، تمشي وتجيء إلى عيالنا ماشية، وهي الآن باقية صحيحة، وهي أصلح وأورع وأزهد امرأة سمعت بخبرها في هذا الزمان، لا تعرف غير الصلاة والصيام، وطلب الرزق على أجمل الوجوه، عاتق «3» إلى الآن، ديّنة جدا.(2/267)
ولا تحرف إلى الآن في المشاهد، وعند [161 ب] أهلها، إلا بالعلويّة الزمنة «1» .(2/268)
135 إذا لم تكن في الشاهد ثلاث خلال من خلال أهل النار صار هو من أهل النار
سمعت قاضي القضاة أبا السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى «1» ، يقول:
الشاهد، إذا لم تكن فيه ثلاث خلال، من خلال أهل النار، صار هو من أهل النار.
فقلت له: ما هي؟
قال: قلّة الحياء، لأنّ الشاهد، إذا كان مستحيا، أجاب إلى كل محال يسأله، فيذهب دينه، ويصير من أهل النار، والحياء في الأصل من الإيمان، وأهل الإيمان في الجنّة، كما روى في الخبر، فقلّة الحياء من خصال أهل النار، [فهذه [188 ط] واحدة] «2» .
والثانية: إنّه يحتاج أن يكون فيه سوء الظنّ، لأنّه متى أحسن ظنّه تمّت عليه الحيلة والتزويرات، فيشهد بالمحال، فيدخل النار، وإذا كان سيء الظنّ سلم، وسوء الظن في الأصل إثم، كما قال الله تعالى، والإثم من خصال أهل النار.
وذكر الأخرى: وقد أنسيتها أنا.
ثم قال: ما ظنّكم ببلد فيه عشرات ألوف ناس، ليس فيهم شهود إلّا عشرة أنفس أو أقل أو أكثر، وأهل ذلك المصر كلهم يريدون الحيلة على هؤلاء العشرة، كيف يسلمون إن لم يكونوا شياطين الإنس في التيقّظ والذكاء والتحرّز والفهم.(2/269)
136 شطرنجي يتحدث عن فضائل الشطرنج
حدّثني أبي، قال:
كان لي صاحب يخدم أبي، ويخدمني بعده، من أهل أنطاكية، يقال له: أبو إبراهيم، وكان مستهترا بلعب الشطرنج «1» ، وكان له فيها عجائب، منها:
إنّ غلماني كانوا يلاعبونه بها، وكان إذا لعب بها برك على الأرض، واتّكأ على ذراعيه كالنائم، فيجيء أحدهم من ورائه، فيعبّي على ظهره عدّة مخاد، فلا يشعر بها، فإذا انقضى الدست، أحسّ بذلك، فنحّاها عن ظهره، وشتمهم «2» .
قال: فحدّثني هو، قال:
دخلت ليلة إلى صديق لي مستهتر بالشطرنج أيضا، وكانت المغرب قد وجبت.
فقال لي: بت عندي الليلة حتى نلعب بالشطرنج ونتحدّث، فما بتّ.
فقال: نصلّي، ونلعب دستا أو دستين إلى وقت العتمة، وتنصرف.
فصلّينا، وجعل السراج عندنا، ولعبنا، وطاب لي اللعب، فواصلناه،(2/270)
والليل يمضي ونحن لا نشعر به، إلى أن أحسسنا في أنفسنا بتعب شديد وضجر، ووافق ذلك سماعنا الاذان.
فقلت له: قد أذّنت العتمة، وتعبت، ولا بدّ من قيامي.
فصاح بغلمانه، فلم يجيبوه، فقام معي، فأنبههم «1» ، وقال: أمضوا بين يديه.
فلما خرجنا نظرنا، فإذا الأذان، هو أذان الغداة «2» ، وإذا الليلة كلّها قد مضت، ونحن لا نعقل.
قال [أبي] «3» : وكذا كان على الاستهتار بها، فإذا لمته، قال:
ليس أنا مستهتر بها، المستهتر بها هو مثل من قيل له [162 ب] وقد احتضر: قل لا إله إلّا الله، فقال: شاهك، ودع الرخ.
قال: فقلت له: لا أعرف مثلك، كأنّك لست ترضى من نفسك، إلّا بهذا القدر؟
قال: وكان يصف من فضائل الشطرنج أشياء، فيقول: هي تعلّم الحرب وتشحذ اللّبّ، وتدرّب الإنسان على الفكر، وتعلّمه شدّة البصيرة.
فلو لم يكن فيها شيء من المعوز في غيرها إلّا أن أهل الأرض يلعبون بها منذ ألوف سنين، ما وقع فيها دست معاد قط من أوله إلى آخره [لكفى] «4» .(2/271)
137 يخاف على غلبته في النرد من العين
وبلغني عن بعض لعّاب النرد «1» :
إنّ لعبا توجه عليه لرسيله «2» ، فقال له المتوجه عليه اللعب: غلبتك، صلّ على النبي.
فقال: لم أفعل ذا؟
فقال: حتى لا [189 ط] تصيب غلبتي العين.
138 مقامر بالنرد يكفر إذا خسر
وإنّ آخر منهم «3» ، كان إذا غلب، يكفر، ويعرّض بأنّ غلبه من فعل الله عزّ وجل.
فامتنع رسيله عن ملاعبته، وقال: هوذا تكفر، ولا ألعب معك.
فشارطه أن يلاعبه على أن لا يكفر، فلعب معه، فغلبه دفعات.
فقال لرسيله: يا هذا، لست أنقض الشرط «4» بأن أكفر، ولكن قل أنت: أليس هذا قصد قبيح؟(2/272)
139 بحث في عبارة الرؤيا
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي، قال:
حدّثني أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب «1» ، قال: وكان أبو هاشم إذا ذكر أبا عليّ «2» ، قال: قال أبو عليّ، وفعل أبو عليّ، وكان من أمر أبي عليّ، وما سمعناه قط قال: الشيخ، ولا شيخنا، إلّا مرة واحدة، فإنّه حكى شيئا من الكلام، فقال فيه: شيخنا أبو عليّ، قال:
وكذا كانت عادته.
قال [قال أبو عليّ] : رأى رجل مناما، فجاء يفسره عليّ، فمجمج «3» .
فقلت له: اصدق، فإن المنام لا يكذب فيه.
قال: فقال لي: رأيت ذكرك قد طال حتى بلغ إلى عنقك، ثم تطوّق عليه دفعات.
فقال له أبو عليّ: أنا رجل يطول ذكري على ذكر الناس مقدار ما رأيت من طول ذكري.
قال لي أبو الحسن: ومضى على هذا سنون، فحدّثني أبو عبد الله بن نافع البزّاز جارنا، وكان هذا موسرا، يملك نحو سبعين ألف دينار، وله أولاد ذكور وإناث.(2/273)
فقال لي: رأيت في المنام ذكري قد تفرّك «1» فلم يبق منه شيء.
فذكرت في الحال، تفسير أبي عليّ الرؤيا في أمر ذكره، فقلت في نفسي: إن صحّ القياس فهذا رجل ينقرض ذكره من الدنيا.
فما مضت إلّا أيّام، حتى مات أحد أولاده، ثم تتابعت في سنين يسيرة عليه المصائب، فلم يبق له ولد، ثم مات هو بعد ذلك بمدّة فانمحى ذكره على الحقيقة.(2/274)
140 ضيق أحوال الناس أبعدهم عن ممارسة البرّ والإحسان
تجارينا ذكر شدّة زماننا، وفقر الناس [163 ب] فيه، وضيق أحوالهم، واستحبابهم البخل، حتى إنّ بعضهم يسميّه احتياطا، وبعضهم إصلاحا، وتوصية الناس بعضهم بعضا به، وتحذّر التجّار من معاملات الناس، ومسك الناس أيديهم عن الإحسان إلى أحد، أو برّه، أو إغاثة ملهوف، أو التنفيس عن مكروب، وإنّ ذلك في الأكثر لضيق أحوالهم.
فقال لي أبو الحسن أحمد بن يوسف «1» : لقد كان يجيء الرجل من أهل العلم، فيجبى «2» له من أصحابنا «3» الألف الدرهم، والأقلّ، والأكثر، في يوم، لا يحتاج إلى أحد يخاطبه في ذلك، مع قلّة عدد أصحابنا إذ ذاك.
ولقد قدم رجل أردنا أن نرتبطه ليتعلّم، لجودة قريحته، وكان يحتاج إلى مائة درهم في كل شهر، فكلّمت إبراهيم بن [190 ط] خفيف الكاتب، صاحب ديوان النفقات، وكان من أصحابنا، ورجلا آخر من أصحابنا، فأجريا عليه مائة درهم في كل شهر، كلّ واحد منهما خمسين درهما، وكان الرجل يأخذها، إلى أن خرج من بغداد، سنين.
ولقد قال لي يوما بعض من حضر إلى مجلس أبي الحسن الكرخي «4» [رضي(2/275)
الله عنه] «1» من الفقهاء: يحتاج أهل المجلس إلى أكسية، فقد قرص «2» الهواء.
فقمت أفكر فيمن أخاطبه في ذلك، فاجتزت في طريقي بدار، فقال لي بعض من كان معي: هذه دار تاجر موسر من أهل الخير، فلو خاطبته، ولم أكن أعرفه، فدخلت إليه، فعرفني ولم أعرفه، فقام، وأكرم.
وقال لي: حاجتك؟ فذكرت له حال الأكسية.
فقال: كم تريدون؟
فقلت: خمسين كساء، فحملها معي في الحال، ففرّقها فيهم.
ولقد جاءني منذ أيّام رجل من أهل البيوتات فشكا من خلّته ما أبكاني، وذكر أنّ صلاح أمره في نيف وثلاثين درهما، فما طمعت له فيها من أحد، ولا عرفت من أعلم أنّني إن خاطبته فيها أجاب.
وورد لنا في هذه السنة صاحب لأبي هاشم «3» ، فخاطبنا له جماعة، واجتهدنا في تحصيل شيء له، نغيّر به حاله، فما حصل له من ذلك قليل ولا كثير.
ولقد كان في الدرب الذي أنزله هذا، وهو درب مهرويه، خلق من أمراء، وكتّاب، [وتنّاء] «4» ، وتجّار، حسبت ما كانوا يملكون، فكان أربعة آلاف ألف دينار، وما في هذا الدرب اليوم من يحتوي ملكه على أربعة آلاف درهم، غير أبي العريان، أخي عمران بن شاهين «5» .(2/276)
141 قردة على جانب عظيم من الذكاء
حدّثني أبو الحسن بن سهيل الحذّاء، قال: حدّثني أبو العباس الفرغاني الصوفيّ، وكان من أصحاب الحديث، ومن الصوفيّة، وممّن يعرف بصدق اللهجة والنسك، قال:
رأيت بمكّة قردة عند رجل يريد بيعها، خفيفة الروح، فساومت فيها، فتباعد عليّ في الثمن.
فألححت عليه، وقلت له: يا هذا، أخبرني شراءها، واربح ما شئت عليّ.
قال: لا أخبرك.
فما زلت أداريه، إلى أن قال لي: شراؤها خمسة دراهم.
قال: فأومأت القردة إليّ بيدها ثلاثة، أي إنّه اشتراني بثلاثة دراهم.
فقلت له: كذبت، شراؤها عليك ثلاثة دراهم.
قال: فقام ليضرب القردة، وقال: هذا من عملها.
فمنعته، وأعطيته خمسة دراهم، وأخذتها «1» .(2/277)
142 مخنث حاضر الجواب
حدّثني أبو الحسن «1» بن سهيل [الحذّاء] ، قال:
حدّثني أبو العباس الفرغاني الصوفي «2» وكان ممّن يختم القرآن في ركعة، وكثير الصلاة، وأخفّ الناس روحا، وأشدّهم مجونا، وأطيبهم قولا «3» ورقصا، قال:
اجتزت في الطريق بمخنّث يتغوّط، وهو جالس [163 ب] ويده على جيهته «4» ، كأنّه إنسان مغموم [191 ط] .
فوقع لي أن أولع به، فقلت: يا أختي، لم أنت مغمومة؟ تخافين ألّا يجيئك بدله؟ خلفه سريع، الله يخلف عليك.
فقال لي بالعجلة: ليس غمّي لهذا، ولكن غمّي أنّكم جماعة، وهو قليل، ولا يكفي غداءكم اليوم.(2/278)
143 الشاعر أبو نصر البنص وجارية بغدادية
حدّث أبو حامد القاضي الخراساني «1» ، قال: قال لي أبو نصر البنص «2» :
جزت في أيّام زيادة الماء على دار في دجلة، فإذا روشن «3» حسن، وعليه جوار يلعبن، فأخذن يولعن بي «4» .
فأنعظت، وكشفت أيري، ونمت، فقام منتصبا، فصحت: الهليون الرطب «5» .(2/279)
فكشفت إحداهن عن حرها، وصاحت: الفرانيّ السميذ «1» .
فعطعط «2» الملّاحون بنا.
144 فص حجر خاصيته طرد الذباب
حدّثني أبو الخطّاب محمد بن عليّ بن إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخيّ «3» ، قال:
كان لأبي فصّ حجر خمريّ اللون، عليه صورة ذبابة، وقد شاهدته غير دفعة، يأخذه «4» ، فيجعله في دكان اللبّان، وهو مملوء ذبابا، فيتطاير الذباب كلّه عنه، فلا تبقى واحدة، فإذا نحّاه رجع الذباب، فإذا عاد تنحّوا.
وقد شاهدت ذلك غير دفعة «5» .(2/280)
145 أسد بن جهور وكثرة نسيانه
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخيّ «1» قال: حدّثني أبي «2» [رضي الله عنه] «3» ، قال:
كان أسد بن جهور «4» ، كثير النسيان، فحضرته يوما في مجلس عبيد الله ابن سليمان «5» ، وهو يخاطبه في أمر من الأمور، فيقول له أسد: سمعا «6» لأمر القاضي أعزّه الله، وقد نسي أنّه الوزير.
قال: وكان إلى جانبه أبو العباس بن الفرات «7» ، فغمزه أبو العباس، وقال: قل الوزير.
فقال: نعم، أعزّ الله القاضي.
فضحك ابن الفرات وقال: لست القاضي، فارجع إلى صاحبك فقضّه «8» .(2/281)
146 أسد بن جهور يطلب الماء للدواة مرارا ثم يشربه
قال «1» : وكنت يوما عند أسد، فجفّت دواته وهو يكتب منها.
فقال: يا غلام كوز ماء للدواة.
فجاء الغلام بالكوز ليصبّه فيها، فأخذه وشربه، ومضى الغلام.
فقال: ويلك، هات الماء للدواة.
فجاءه به ثانية، فشربه أيضا، ومضى الغلام، واستمدّ من الدواة فكانت أجفّ.
فقال: ويلكم، كم أطلب ماء للدواة ولا يجيئني «2» .
فجاؤوه بكوز ثالث، فأخذه ليشربه «3» .
فقال الغلام: يا سيّدي، تصبّ في الدواة أولا.
فقال: نعم، نعم، فصبّه في الدواة «4» .(2/282)
147 بين أبي بكر الأزرق التنوخي وأسد بن جهور
قال «1» :
وأخرجني ابن الفرات في سنة تسع وتسعين «2» ، أنظر في أمر إصلاح الطريق ونفقات الموسم «3» ، وسبّب لذلك مالا على الكوفة، وأسد بن جهور عاملها «4» .
فلما جئتها، وكان لي صديقا، تأخّر عن قصدي، فتأخّرت عنه أيضا، فولّد بيننا ذلك وحشة، فاستقصيت عليه في المطالبة بالمال، وتقاعد بي، فصارت مكاشفة.
فكتبت إلى الوزير أحرّضه عليه، وكتب يتشكّاني [165 ب] ، فوردت [192 ط] الكتب إلى شاكر الإسحاقي، وهو أمير الكوفة «5» ، أن يجمع بيننا في المسجد، ولا يبرح، ولا ينفصل، أو يرضيني بالمال.
فركبت، وجئت إلى باب الإسحاقي، ولم أدخل، وعرّفته ما ورد، وانّني متوجه إلى الجامع.
فركب ولحقني، وقال: ورد عليّ مثل هذا.
فقلت: تحضر أسد، فركب إليه، فأحضره.(2/283)
فحين اجتمعنا تخارجنا في الكلام، إلى أن قلت له: أتظنّ أنّي لا أعرف أباك، وأنّه كان راجلا «1» على باب ديوان الضياع، برزق دينارين في الشهر.
قال: وكان اجتماعنا في أوّل يوم من شهر رمضان، فلم ينته الكلام إلى فصل، وجاءت المغرب «2» ، فقام شاكر ليركب، وأسد معه، فجلست أنا.
فقالا: لم تجلس؟
فقلت: أنا لا أخالف أمر الوزير، ولا أبرح إلّا بفصل، أو بالمال.
فقال شاكر لأسد: اجلس معه ولا تبرح.
وقال لي: لولا أنّ قعودي معكما لا فائدة فيه، ويضرّني، لقعدت، واعتذر إليّ، فعذرته، وانصرف.
وقمت أنا إلى موضع من الجامع، يقال له قبّة خالد، فجلست عنده أصلّي، وجلس أسد مكانه، وأنفذ إلى داره يستدعي الإفطار، وأنفذت إلى داري، فجاء طعامه وطعامي معا.
فقام إليّ، وسألني أن أجعل إفطاري معه، [وفرغ الجامع إلا من أصحابنا] «3» ، وبسطت سفرته، وأصلحت مائدته.
وأقبل أسد يسألني المجيء إليه، وأنا أمتنع، إلى أن حلف، وكنت أعرف بخله.
فقلت لغلماني: أخرجوا طعامنا فصدّقوا «4» به، على من حوالي الجامع، ففعلوا.(2/284)
وجئت، فأكلت معه منبسطا، أكل صائم، ولونه يتغيّر، ولا يقدر على النطق، فتقطّعت نفسه.
ولم نزل متلازمين في الجامع، خمسة عشر يوما «1» من رمضان إلى أن راج المال، وأنا أواكله هكذا.
فلما افترقنا، انعلّ بعد العيد بأيّام، علّة مات منها.
فقلت: إنّا لله، ليت لا يكون ما عملته معه سببا لموته غمّا «2» .(2/285)
148 بين طاهر بن يحيى العلوي وأحد أصحابه
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدّثني أبو القاسم عليّ بن الأخزر «1» المشهور بعلم النحو، وكان نبيلا، جليلا [ثقة] «2» مرتفعا عن الكذب، قال:
حججت، فدخلت إلى طاهر بن يحيى العلويّ، أسلّم عليه، فجاءه رجل، فقبّل رأسه ويديه، وأخذ يعتذر إليه.
فقال: لا تعتذر، فقد زال ما في نفسي، وقبلت عذرك، وإن شئت أخبرتك عن قصدك إيّاي، وسبب عذري لك من قبل أن تخبرني.
فتعجّب الرجل، وقال: افعل يا سيّدي.
قال: إنّك رأيت رسول الله صلى الله عليه في منامك، فعاتبك على قطع عادتك عني [193 ط] إذا دخلت المدينة حاجّا، وإنّك طويتني عدّة حجج دخلت فيها إلى المدينة ولم تجئني.
فقلت له: إنّ الحياء [166 ب] منعك من قصدي، وإنّك لا تأمن أن لا أبسط عذرك.
فقال لك: إنّي آمر طاهر ببسط عذرك، فلا تجف «3» ولدي، وصله، فجئت إليّ، فقال الرجل: كذا والله كان، فمن أين لك يا سيّدي هذا؟
قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه، في المنام، وأخبرني بما جرى بينكما على هذا الشرح.(2/286)
149 يا قديم الإحسان
حدّثني أبو الحسن أيضا «1» ، قال:
كان في باب الشام «2» رجل يقال له: لبيب العابد «3» ، زاهد، ناسك، صالح، فأخبرني، قال:
كنت مملوكا روميّا، فمات مولاي، فعتقني «4» ، فحصّلت لنفسي رزقا برسم الرجّالة «5» ، وتزوّجت بستّي، زوجة مولاي، وقد علم الله، أنّي لم أتزوجها إلّا لصيانتها، لا لغير ذلك، فأقمت معها مدّة.
ثم إنّي رأيت يوما حيّة وهي داخلة إلى جحرها، [فأخذتها، فمسكتها بيدي] «6» ، فانثنت عليّ، فنهشت يدي، فشلّت، ثم شلّت الأخرى بعد مدّة، ثم زمنت رجلاي، واحدة بعد أخرى، ثم عميت، ثم خرست.
فمكثت على هذه الحال سنة، لم تبق فيّ جارحة صحيحة، إلّا سمعي، أسمع به ما أكره.
وكنت طريحا على ظهري، لا أقدر على إشارة، ولا إيماء، فأسقى(2/287)
وأنا ريّان، وأترك وأنا عطشان، وأطعم وأنا ممتلىء، وأفقد الطعام وأنا جائع، لا أدفع عن نفسي، ولا أقدر على إيماء بما يفهم مرادي منه.
فدخلت امرأة بعد سنة إلى زوجتي، فسألتها عنّي، فقالت: كيف لبيب؟
فقالت لها، وأنا أسمع: لا حيّ فيرجى، ولا ميت فينسى.
فغمّني ذلك، وبكيت، وضججت إلى الله تعالى في سرّي «1» .
وكنت في جميع ذلك الحال، لا أجد ألما في شيء من جسمي، فلمّا كان في ذلك اليوم، ضرب بدني كلّه ضربا شديدا لا أحسن أن أصفه، وألمت ألما مفرطا.
فلمّا كان في الليل، سكن الألم، فنمت، وانتبهت، ويدي على صدري، فعجبت من ذلك وكيف صارت يدي على صدري، ولم أزل مفكّرا في ذلك، ثم قلت لعل الله قد وهب عافيتي، فحركتها، فإذا هي قد تحركت، ففرحت، وطمعت في العافية.
وقلت: لعلّ الله أذن بخلاصي، فقبضت إحدى رجليّ إليّ، فانقبضت، وبسطتها، فانبسطت، وفعلت بالأخرى كذلك، فتحركت، فقمت قائما، لا قلبة بي، ونزلت عن السرير الذي كنت مطروحا عليه، فخرجت إلى الدار، ورفعت طرفي، فرأيت الكواكب، وإذا أنا قد أبصرت، ثم انطلق لساني، فقلت: يا قديم الإحسان، بإحسانك القديم.
ثم صحت بزوجتي، فقالت: أبو عليّ.
فقلت: الساعة صرت أبو عليّ.
فأسرجت، وطلبت مقراضا، وكان لي سبال كما يكون للجند،(2/288)
فقصصته، فضجّت من ذلك، وقالت: ما [194 ط] هذا؟
فقلت: بعد هذا لا أخدم غير ربّي، فصار هذا سبب عبادتي.
قال: وخبره [167 ب] مستفيض، ومنزلته في العبادة مشهورة، وصارت هذه الكلمة عادته، لا يقول في حشو كلامه، وأكثر أوقاته غيرها: يا قديم الإحسان.
قال: وكان يقال: إنّه مجاب الدعوة، وكان الناس يقولون إنّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح يده عليه، فسألته عن ذلك، فحدّثني بهذا الحديث، وقال: ما كان سبب عافيتي غيره.
قال: وقال لي: كان لي قراح على شاطىء دجلة، بالمدائن، وكان فيه تلال وأشياء ينبغي أن تستخرج، ويطمّ بها مواضع فيه، فتحتاج إلى رجال كثيرة.
فكنت ليلة فيه، وكانت قمراء، [فاجتاز بي خلق كثير من الفعلة، قد انصرفوا من عمل بثق، فرأوني] «1» فعرفوني.
فقلت لهم: هل لكم أن تكسحوا هذا القراح الليلة، وتسوّوا تلوله بالأرض، وتأخذوا مني كذا وكذا.
فقالوا: نعم، أتحفنا «2» بالأجرة، فعملوا ذلك، فأصبحنا وقد صار أرضا مستوية.
فقالت العامة: الملائكة أصلحوه، وكذبوا، ما كان غير هذا.(2/289)
150 الحلاج في جامع البصرة
حدّثني أبو الحسين محمد بن عبيد الله القاضي المعروف بابن نصرويه «1» قال:
حملني [خالي] «2» معه إلى الحسين بن منصور الحلّاج «3» ، وهو إذ ذاك في جامع البصرة، يتعبّد، ويتصوّف، ويقرئ، قبل أن يدّعي تلك الجهالات «4» ، ويدخل في ذلك.
وكان أمره إذ ذاك مستورا، إلّا أن الصوفية تدّعي له المعجزات من طرائق التصوف، وما يسمّونه معونات، لا من طرائق المذهب «5» .
قال: فأخذ خالي يحادثه، وأنا صبيّ جالس معهم، أسمع ما يجري.
فقال لخالي: قد عملت على الخروج من البصرة.
فقال له خالي: لم؟(2/290)
قال: قد صيّر لي أهل هذا البلد حديثا، وقد ضاق صدري، وأريد أن أبعد عنهم.
فقال له: مثل ماذا؟
قال: يرونني أفعل أشياء، فلا يسألونني عنها، ولا يستكشفونها فيعلمون أنّها ليست كما وقع لهم، ويخرجون ويقولون: الحلّاج مجاب الدعوة، وله معونات قد تمّت على يده، وألطاف، ومن أنا حتى يكون لي هذا؟
بحسبك، إنّ رجلا حمل إليّ منذ أيّام دراهم، وقال لي: اصرفها إلى الفقراء، فلم يكن يحضرني في الحال أحد، فجعلتها تحت بارية «1» من بواري الجامع، إلى جنب أسطوانة عرفتها، وجلست طويلا فلم يجئني أحد، فانصرفت إلى منزلي، وبتّ ليلتي، فلما كان من غد، جئت إلى الأسطوانة، وجلست أصلّي، فاحتفّ بي قوم من الصوفيّة، فقطعت الصلاة، وشلت البارية، وأعطيتهم تلك الدراهم.
فشنعوا عليّ بأن قالوا: إنّي إذا ضربت يدي إلى التراب صار في يدي دراهم.
قال: وأخذ يعدّد مثل هذا أشياء، فقام خالي عنه، وودّعه، ولم [168 ب] يعد إليه.
وقال: هذا منمّس، وسيكون له بعد هذا شأن.
فما مضى إلّا قليل، حتى [195 ط] خرج من البصرة، وظهر أمره وتلك الأخبار عنه «2» .(2/291)
151 جحظة البرمكي يغضب من خسارته في النرد
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي، قال: حدّثني أبو علي ابن الأعرابي الشاعر قال:
كنت في دعوة جحظة، فأكلنا، وجلسنا نشرب، وهو يغنّي، إذ دخل رجل، فقدّم إليه جحظة زلّة كان زلّها له من طعامه ونحن نأكل، وكان بخيلا على الطعام.
قال: وكأنّ الرجل، كان طاوي سبع «1» ، فأتى على الزلّة، وشال الطيفورية فارغة، وجحظة يرمقه بغيظ، ونحن نلمح جحظة، ونضحك.
فلما فرغ، قال له جحظة: تلعب معي بالنرد؟
فقال: نعم.
فوضعاها بينهما، ولعبا، فتوالى الغلب على جحظة من الرجل، بأن تجيء الفصوص «2» على ما يريد الرجل من الأعداد.
فأخرج جحظة رأسه من قبّة الخيش، إلى السماء، وقال، كأنّه يخاطب الله تعالى:
لعمري، إنّي أستحق هذا، لأنّي أشبعت «3» من أجعته.(2/292)
152 بين مؤذن ومحتسب
وحدّثني «1» ، قال:
سمعت بعض شيوخنا يحكون: إنّ رجلا مؤذّنا عادى محتسبا، فأحضره.
فقال له: أيّ شيء بيننا، مما يوجب استدعاءك لي.
قال: أريد أن تعرّفني وقت الصلاة، فإن كنت عالما بها، وإلّا لم أدعك تؤذّن مع الناس بالصلاة في غير وقتها.
ووجده غير قيّم بذلك، فمنعه من الأذان.(2/293)
153 أبو بكر بن دريد كان آية في الحفظ
وحدّثني «1» ، قال: حدّثني جماعة، عن أبي بكر بن دريد «2» ، أنّه قال:
كان أبو عثمان الأشنانداني معلّمي، وكان عمّي الحسين بن دريد يتولّى تربيتي، فإذا أراد الأكل، استدعى أبا عثمان، فأكل معه.
فدخل عمّي يوما، وأبو عثمان المعلّم يروّيني قصيدة الحارث بن حلّزة «3» التي أوّلها:
آذنتنا ببينها أسماء
فقال لي عمّي: إذا حفظت هذه القصيدة، وهبت لك كذا وكذا.
ثم دعا بالمعلّم ليأكل معه، فدخل إليه، فأكلا، وقعدا بعد الأكل ساعة، فإلى أن خرج المعلّم، حفظت ديوان الحارث بن حلّزة بأسره.
فخرج المعلّم، فعرّفته ذلك، فاستعظمه، وأخذ يعتبره عليّ فوجدني قد حفظته، فدخل إلى عمّي، فأخبره، فأعطاني ما كان وعدني.
قال: وكان أبو بكر واسع الحفظ جدا، ما رأيت أحفظ منه، كان يقرأ عليه دواوين العرب كلها، أو أكثرها، فيسابق إلى حفظها فيحفظها.
وما رأيته قط قرئ عليه ديوان شاعر، إلّا وهو يسابق إلى قراءته [لحفظه له] «4» .(2/294)
154 البربهاري رئيس الحنابلة ببغداد
حدّثني أبو الحسن، قال: سمعت أبا محمد السليماني الهاشمي، المعروف بعباد [رحله] «1» ، وقد جرى ذكر [169 ب] البربهاري «2» بحضرته، فقال:
وقف يوما للقاهر «3» ، فقال: يا أمير المومنين أهلك الهاشميين.
فقال القاهر: أفعل، وإنّما أراد أن يذكّره بهم، ويقول: أهلك.
ورأى عينا هائجة، فقال: لو استعمل لها الخضرط، عوفيت.
فقيل له: ليس هو الخضرط.
فقال: نعم، غلطت، هو الخضخض.
فسكتوا عنه، وإنّما أراد الحضض «4» .(2/295)
155 أبو الفرج الببغاء ينشىء نسخة كتاب على لسان الأمير سيف الدولة بشأن الفداء
حدّثني أبو الفرج الببغاء «1» ، قال:
لمّا [196 ط] أقام سيف الدولة الفداء «2» ، بشاطىء الفرات في رجب سنة خمس وخمسين وثلاثمائة «3» ، لزمه عليه خمسمائة ألف دينار، في شراء الأسارى، والأموال التي وصلهم بها، ورمّ بها أحوالهم.
وأخرج جميع ذلك من ماله، صبرا واحتسابا، وطلبا للثواب والذكر، من غير أن يعاونه أحد من الملوك عليه، ولا غيرهم.
وكان ذلك خاتم أعماله الحسنة، وأفعاله الشريفة، التي تجاوز الوصف، وتفوت العدّ.
فلما فرغ من ذلك، تقدّم إلى كل من بحضرته، في الوقت، من أهل الكتابة، أن ينشىء كل واحد منهم، نسخة كتاب ليكتب عنه إلى من في البلدان من الجيش والرعية، بخبر تمام الفداء، ووصف الحال فيه.
فكتبت عنه في ذلك:
كتابنا، تولّاكم الله بكفايته، وحرسنا فيكم بناظر رعايته، من معسكرنا بالبقعة المعروفة بالمعقلة من شاطىء الفرات، بعد إمضائنا أمر الفداء الذي اختصّنا الله فيه بشرف ذكره، وانتخبنا للنهوض بمعظم أمره، وولينا(2/296)
بالمعونة في تحمّل ثقله، ووفّقنا للفوز بإحراز فضله، بعد أن استراحت فيه النيات إلى الغفلة، ومطاوعة الشحّ، ومساكنة الراحة، وتظنّون بالله الظنون.
فالحمد لله حمدا نستديم بالإخلاص فيه مدد عوارفه وأياديه، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
ولما كانت منح الله تعالى لدينا، ونعمه المتظاهرة علينا، أعظم من أن تطاول بثناء، وأجلّ من أن تقابل بجزاء، رأينا الاعتراف بما أحرزناه من سالفها، والإشادة بما قابلناه من مستأنفها، أقدر على استزادتها، وأولى بحراستها.
ولم نزل، ولله المنة، منذ عرفنا ما ندبنا إليه، وتأملنا ما حضّنا عليه، من الخفوف لجهاد الكافرين والتعبّد بقتال المخالفين، بين رأي يتضمّن التوفيق عواقبه، وعزم يصرع الإقبال مغالبه، و [فتح يجمع الإسلام أثره، وبلاء تتداول الأيّام خبره] «1» .
ولا ننصرف عن غزو إلّا إلى نفير «2» ، ولا نتشاغل بنظر إلّا إلى تدبير، ولا نعتدّ بالمال إلّا ما أنفقناه، ولا نسرّ بذخر إلّا ما أنفدناه «3» ، فيما حرس الأمّة، وحصّن الملّة، وبثّ العدل، وجمع الشمل [170 ب] .
إلى أن استعبدنا ملوكهم بالأسر، وجسنا ديارهم «4» بكتائب النصر، وأوحشنا المراتب من أربابها، واستنزلنا عن الحصون «5» أصحابها، وفجعنا ملكهم بصهره وابن أخته قهرا، وأثكلنا أخاه مراغمة وصغرا.(2/297)
فلما أدلنا الحق من الضلال، وأعاده الله تعالى بنا من العزّ إلى أشرف حال «1» ، عدلت السيوف عن دمائهم إلى أغمادها، واستبدلت إصدارها بإيرادها، ونصلت الرماح أسنّتها، وطاوعت الخيل أعنّتها، واستماحتنا الأعداء إلى الموادعة، ورغبت إلينا بالتضرع في المسألة.
واستفتحوا ذلك بطلب الفداء الذي لا يسعنا الامتناع منه، ولا نجد تأوّلا في الإضراب عنه.
فرأينا بعد الإثخان في الأرض، فكّ من في أيديهم من الموحّدين، ومن في رقّهم من المسلمين [197 ط] ، أفضل كاسب لعاجل الشكر، وأوفى ضامن لآجل الأجر.
فأنفذنا إلى سائر الأقطار، وبثثنا الأصحاب في جميع الأمصار، لإحصاء السبي وانتزاعه، والتوفّر على جمعه وابتياعه، من خالص ملكنا، وخاصّ مالنا، من غير مسامحة لأحد من أهل زماننا في معاونتنا، بغير الثياب التي شركناهم بها في نيل الحمد وكسب المثوبة.
وأضفناهم إلى من ملكناه بحكم الرماح، وأحرزناه بقهر الخيل والصفاح، من أكابر البطارقة، وأنجاب الزراورة، ووجوه الأعلاج، وأنجاد الأنجاس «2» .
ولم يزل من سلف قبلنا من الملوك، وتقدّمنا من السلاطين، في عقد الهدن، وإقامة الأفدية، يرغب إلى سائر نظرائه، وذوي السعة من أتباعه، والمكنة من رعيته، في معاونته بالأحوال، ومعاضدته ببذل الأموال.
وأبى الله لنا إلّا التفرّد بأجر ذلك وشكره، وحميد أثره، وجميل ذكره.(2/298)
وندبنا أكابر الغلمان، وثقاة الخدم، لتسييرهم بأعمّ رأفة وأتمّ رفق، حسب ما أمرنا به من ترفيه السبي، ومراعاة الأسرى، إلى أن عبرنا بجميعهم من الفرات، بحيث سألنا صاحبهم الانجذاب إليه، ورغب إلينا في النزول عليه، تأنّسا بمجاورة الدروب المستصعبة، وحذرا من مفارقة الجبال المستعصمة.
فلما اقتضى قربنا سرعة المسير، وتنجّزه دنوّنا لإمضاء الأمر بعد التقرير.
أقدم مرتابا بإقدامه، وسار متّهما عواقب رأيه واعتزامه، بجموع يفرّق الجزع آراءها، وقلوب يشتت الخوف أهواءها، وأفكار مكدودة بالوجل، ومنن «1» مستعبدة لأوامر الفشل، يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدوّ فاحذرهم، إلى أن حلّ بفنائنا ملقيا مقاليد أمره [171 ب] إلى الاستسلام، وآخذا من وفائنا بأوكد ذمام.
وافتتحنا الفداء يوم السبت غرّة رجب الذي هو غرّة الأشهر الحرم، وقد عرّف الله تعالى المسلمين ما استودعناه من صالح الأعمال، وزكيّ الأفعال، وتعجّل البركات، وتناصر الخيرات، فاستمرّ بأكمل هدي، وأنجح سعي، وأبسط قدرة، وأعمّ نصرة، وأعزّ سلطان، وأوضح برهان، وكلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، والله عزيز حكيم.
ولم تزل الحال في ذلك جارية على أحكم نظام، وأحسن التئام، إلى أن استنقذ الله بنا من كاد تطاول الأسر يستغويه، والإياس من الخلاص أن يرديه، وهم على أفضل ما عهدناهم عليه من حسن اليقين، والتمسّك بعصم الدين.
وسار عنّا من فاديناه من البطارقة المذكورين، والزراورة المشهورين، بأجسام ضاعنة، وقلوب قاطنة، تتلفّت إلى ما خلّفته من غامر تفضّلنا، وألفته من ألطاف تطوّلنا.(2/299)
فهم بعد الفداء موثقون في أسر الإحسان، ومع الخلاص مقرونون برقّ التطوّل والامتنان.
ولما أحضرونا من أسروه من الأعمال [النازحة، والبلدان الشاسعة، ولم نستخر ادّخار الأموال] «1» عن خلاصهم [198 ط] ولا الشحّ بها عن تعجيل فكاكهم، فابتعناهم من الأثمان بأعظمها، ومن الأموال بأجسمها، ولم نطع في ادّخار الذهب والفضة، المقرون بمخاوف الوعيد، وفظيع التهديد، أمر الشكّ في ربح الصفقة بمتاجرة الله تعالى، جلّ اسمه واثقين بعاجل الخلف، وآجل الجزاء، وذلك الفوز العظيم.
وتداركنا من عمارة أحوالهم، ما كان مختلا بمعاناة الفقر، ومتهافتا بتطاول الأسر، وانقلبنا قافلين بأسعد منقلب، وأربح مكتسب، وأتم إقبال، وأجمل حال، بعد أن أجفل العدوّ خذله الله، مستطيلا مدّة إقامته، وشاكّا في إحراز سلامته، متوهّما أن الخيول تطلبه، والرماح تتعقّبه، لا يعرّج على ضعفاء ساقته، ولا يلوي على أخصّ من في جملته.
وتقدّمنا بمكاتبة أوليائنا، وكافّة رعيّتنا، بذكر ما هيأه الله عزّ وجل لنا من تظاهر النعم، وتواتر القسم، وليشهروا ذلك على منابر الصلوات، ويعلنوه بالرسائل والمكاتبات، إذ كان ما يتوجّه بالله سبحانه من تتابع [النعم و] «2» المنح، وتواصل العوارف، عائدا على الملّة، ومساويا بالنفع به الأمّة.
فالحمد لله الذي اختصّنا من اختياره، وأفردنا بإيثاره، بما رآنا له أهلا لخلافة نبيّه صلى الله عليه وسلّم في حراسة أمّته، وإعزاز كلمته.
وإليه نرغب في توفيقنا للاعتراف بعوارفه، لما تكون به النعم محروسة [173 ب] والموهبة محفوظة، لا ينتقصها كفران، ولا يرتجعها عدوان، إن شاء الله تعالى.(2/300)
156 الشاعر المعوجّ يمدح بدر الحمامي
حدّثني أبي، قال: حدّثني المعوجّ، قال:
كبا الفرس ببدر الحمامي «1» ، وافتصد، فدخلت إليه، فأنشدته أبياتا عملتها في الحال، وهي:
لا ذنب للطّرف إن زلّت قوائمه ... وليس يلحقه من عائب دنس
حمّلت بأسا وجودا فوقه وندى ... وليس يقوى بهذا كلّه الفرس
قالوا افتصدت فما نفس العلى معها ... خوفا عليك، ولا نفس لها نفس
كفّ الطبيب دعا كفا يقبلها ... ويطلب الرزق منها حين يحتبس
فأمر لي بخمسة آلاف درهم، فأخذتها وانصرفت.(2/301)
157 الشاعر الصروي يمدح صاحب النشوار
وكنت سقطت من بغلة، فعمل أبو القاسم عبيد الله، قصيدة أنشدنيها، منها:
أسمت فتاة العير حمل العلى وقد ... نهيت من الإشفاق عن حملك القبّا «1»
ومشيّتها تحت الشريعة والقضا ... ولو سمت رضوى حمل ذين قضى نحبا
فيا عجبا أن لم يسخ رسغها القضا ... وما هدّ ثقل الدين من متنها الصلبا
ومن ذا يطيق الطود حملا «2» إذا رسا ... ومن يحمل البحر الخضّم إذا عبّا [199 ط]
فزلّت ببدر منك لم يخف نوره ... وغيث حيا أحيا بسقطته التربا
وقمت سليم الجسم يدعو لك الثرى ... ويلثم منك الرجل والنعل والركبا
نهنّي بك المحراب والآي والتقى ... ودستك والأقلام والحكم والكتبا(2/302)
158 أبيات من نظم أبي القاسم عبيد الله بن محمد الصروي
أنشدني أبو القاسم عبيد الله بن محمد الصروي، لنفسه، يصف زرّاقة النفط:
وصفراء في فيها لعاب كلونها ... إذا قذفته لاعب الريح واستنّا
يجلّله «1» من بطنها في خروجه ... رداء دجى حتى يصير لها حصنا
لها ذنب في رأسه ذنب له ... إذا جرّ منها ردّ في جوفها طعنا
يمجّ بروقا بين ليلين من حشا ... إلى فم أفعى ما ترى بينه سنّا
تخوض الوغى عريانة لتخيفه ... ولو سئلت لم تعرف الخوف والأمنا
وأنشدني لنفسه:
وناولني في أسفل الكأس فضلة ... مزعفرة صفراء والكأس أبيض
كنرجسة في الروض ترنو بمقلة ... مذهبّة والجفن منها مفضّض
وأنشدني لنفسه في صفة إبريق وساق:
ولاح لنا الإبريق من كفّ شادن ... له وجنة من لحظنا أبدا تدمى
كملحوظة مدّت يدا دون وجهها ... وأخرى بها ردّت على رأسها «2» الكمّا
على شعر في عارضيه كأنّما ... زرعن المها أجفانها فيه والسقما
كأنّ الليالي قد عددن سنينه ... فصيرن في خديّه داراته رقما(2/303)
وأنشدني لنفسه يصف مجدورا:
بدر وغصن «1» من فوق دعص نقا ... لم أصغ في حبّه إلي لاحي
له لحاظ مرضى بلا سقم ... سكرى من الغنج تسكر الصاحي
جدّر فاعتاض من تورّده ... بصفرة في ملثّم ضاح
كأنّه فوق خدّه حبب ... يلعب بعد المزاج في الراح [173 ب]
وأنشدني لنفسه في كانون:
كأنّ تأجج كانوننا ... تكاثف نور من العصفر
وأحدث إخماده زرقة ... تأجّج في مدمج أحمر
كبركة خمر بحافاتها ... بقايا تفتّح نيلوفر «2»
وأنشدني لنفسه أيضا في كانون:
أنظر إلى كانوننا ... يضحك من غير فرح
كحمرة في شفق ... دبّجها قوس قزح [200 ط](2/304)
159 لأبي الفرج الببغاء في وصف كانون
وحدّثني أبو الفرج الببغاء «1» ، قال:
كنت بحضرة أبي العشائر بن حمدان «2» ، وبين يديه كانون، قد عمل النار في باطن فحمه، فعملت في الحال، وأنشدته:
ومجلس حلّ من يحلّ به ... من المعالي في أرفع الدرج
أمسى ندام الكانون فيه لنا ... أكثر أنس النفوس والمهج
يبدي لنا ألسنا كالسنة الحيّات ... من ثابت ومختلج
لما بدا الفحم فيه أسود كالليل ... وبثّ الشرار كالسرج
ودبّ صبغ اللهيب فيه بتضريج ... خدود «3» الشقائق الضرج
ظننت شمس الضحى به انكشفت ... للخلق في قبّة من السبج(2/305)
160 لأبي الفرج الببغاء في صفة شمعة
أنشدني لنفسه «1» في صفة شمعة:
وصفر كأطراف العوالي قدودها ... قيام على أعلى كراس من الصّفر «2»
تلبّسن من شمس الأصيل غلائلا ... فأشرقن في الظلماء بالخلع الصّفر
عرائس يجلوها الدجى لمماتها ... وتحيا إذا أذرت دموعا من التبر
إذا ضربت أعناقها في رضا الدجى ... أعارته من أنوارها خلع الفجر
تبكّى على أحشائها بجسومها ... فأدمعها أجسامها أبدا تجري
علاها ضياء عامل في حياتها ... كما تعمل الأيّام في قصر العمر(2/306)
161 للسري الرفاء في الغزل
أنشدني غير واحد، قالوا: أنشدنا سري بن أحمد [الكندي] «1» الرفاء «2» ، لنفسه:
وذي غنج يرنو بمقلة جؤذر ... متى يعد فيه «3» خالع العذر يعذر
له فوق ورد الخدّ خال كأنّه ... إذا احمرّ ورد الخدّ نقطة عنبر(2/307)
162 بين قاضي القضاة أبي السائب والشاعر ابن سكّرة الهاشمي
أخبرني جماعة من أهل عصرنا من المتأدبين ببغداد:
أنّ أبا الحسن محمد بن عبد الله بن سكّرة «1» الهاشمي، دخل إلى قاضي القضاة أبي السائب عتبة بن عبيد الله «2» ، وهو جالس للحكم، فكتب رقعة كالقصص، ودفعها إليه، وقد كان مدحه فتأخّرت صلته عنه.
فلما قرأها أبو السائب، لم يبن في وجهه غضب، ولا نكير، ووقّع فيها شيئا بخطّه.
وقال: أين رافع هذه القصّة؟
فقام ابن سكرة، فدفعها إليه، فأخذها مقدّرا أنّ فيها ما يستكفّ لسانه عنه من صلة أو برّ، فلما قرأها استحيا وانصرف.
فقرئت الرقعة، فإذا الابتداء بخطّ ابن سكرة شعر، والجواب بخط أبي السائب نثر، كما نسخناها هاهنا:
يا عتبة بن عبيد ... حوشيت من كل عيب «3»
لبيك يا مختصر «4» [174 ب](2/308)
وأبعد الله قوما ... رموك عندي بريب
قالوا بأنّك تهوى ... زبيبة «1» بن شعيب
فقلت هذا محال ... أصبوة بعد شيب؟
لقد هتفتم بشيخ ... نقيّ ذيل وجيب
رأيتم الأير فيه؟ ... فلم شهدتم بغيب؟
وأنت فحوشيت من كل سوء كذبوا أحسن الله جزاءك، وقلت ما يشبهك، وربما كانت [201 ط] بئس ما فعلوا، والحمد لله على ذلك جهلا منهم بطرق الشهادة «2»(2/309)
163 طبيعة الأمير سيف الدولة في إسداء المكارم
حدّثني أبو الفرج الببغاء، قال:
تأخّر عني رسمي من الكسوة، على الأمير سيف الدولة، وكان آثر الأشياء عنده، وأنفقها عليه، وأحبّها إليه، أن يسأل فيعطي، وأن يستزاد فيزيد، وأن يطالب، ويناظر، حتى كان دائما يعزل للإنسان شيئا، يريد هبته له، خلف ظهره، ويقول: أريد أن أعطي فلانا هذا.
فيخرج من يحضر، فيحدّث الرجل، فيحضر، ولا يعطيه.
فيقول له الرجل: إيش وراء مسورة مولانا؟
فيقول: وأي شيء عليك؟ «1» وأيش فضولك؟
فيقول: هذا والله لي عزله مولانا.
فيقول: لا.
فيقول: بلى، ويأخذه، ويجاذبه عليه، فإذا فعل ذلك، أعطاه، وزاده شيئا آخر، يلتذّ بهذا.
قال: فكتبت إليه، أستحثّه على رسمي من الكسوة:
الرضا بالمأمول، أطال الله بقاء سيّدنا الأمير سيف الدولة، دليل «2» على همّة الآمل، ومحلّ المسؤول في نفسه، مترجم عن نفاسة نفس السائل، إذ كان الناس من التخلّق بالكرم، والتفاضل بالهمم، في منازل غير متقاربة،(2/310)
ومراتب غير متناسبة، وشرف أدبه، في شرف طلبه.
ورجاء سيف الدولة الشرف الذي ... يتقاصر التفصيل عن تفصيله
ضمنت تأميلي نداه فردّه ... جذلان من سفر الظنون بسوله
وغنيت «1» حين بلغت ورد نواله ... عن ورد ممتنع النوال بخيله
فالغيث يغبطني على إنعامه ... والدهر يحسدني على تأميله
وعلمي بأنّ أقرب مؤمليه- أيّده الله- إليه، وأوجبهم حرمة عليه، أشدّهم استزادة لنعمه، وأكثرهم تسحّبا على كرمه، بعثني على التقرّب إلى قلبه بالسؤال، ومناجاة كرمه بلسان الآمال. [فسألته متقربا «2» ، وطلبته متسحّبا، فإن رأى العادل إلّا في ماله، والمقتصد إلّا في أفضاله، سيّدنا الأمير سيف الدولة أطال الله بقاءه] «3» .
أن تعلم الأيام موضع عبده ... من عزّه ومكانه من رائه
بشواهد الخلع التي يغدو بها ... متطاولا شرفا على نظرائه
فمن العجائب حبس توقيع له ... وموقّع التوقيع من شفعائه
فعل إن شاء الله تعالى «4» .(2/311)
164 كيف تأثلت حال أبي عبد الله ابن الجصّاص
حدّثني أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعلان، قال: حدّثني أبو علي أحمد بن الحسين بن عبد الله الجوهريّ، ابن الجصّاص، قال: قال لي أبي:
كان بدء إكثاري، أنّي كنت في دهليز حرم أبي الجيش خمارويه «1» بن أحمد بن طولون، وكنت أتوكّل له ولهم في ابتياع الجوهر وغيره [202 ط] ممّا يحتاجون إليه، وما كنت أكاد أفارق [175 ب] الدهليز لاختصاصي بهم.
فخرجت إليّ قهرمانة لهم في بعض الأيّام، ومعها عقد جوهر، فيه مائتا حبّة، لم أر قبله أحسن منه، ولا أفخر، تساوي كل حبّة منه ألف دينار عندي.
فقالت: نحتاج أن تخرط هذه حتى تصغر، فتجعل لأربع عشرات اللعب.
فكدت أن أطير، وأخذتها، وقلت السمع والطاعة.
[وخرجت في الحال مسرورا] «2» ، وأنا على وجهي، فجمعت التجّار، ولم أزل أشتري ما قدرت عليه، حتى حصلت مائة حبّة أشكال من النوع الذي أرادته.
وجئت بها عشيّا، فقلت: إن خرط هذا يحتاج إلى زمان وإنظار «3» ،(2/312)
وقد خرطنا اليوم ما قدرنا عليه، وهو هذا، ودفعت إليهم المجتمع، والباقي يخرط في أيام.
فقنعت بذلك، وارتضت الحب، وخرجت.
فما زلت أيّاما في طلب الباقي، حتى اجتمع، فحملت إليهم مائتي حبّة قامت عليّ بأثمان قريبة، تكون دون مائة ألف درهم، أو حواليها، وحصلت جوهرا بمائتي ألف دينار.
ثم لزمت دهليزهم، وأخذت لنفسي غرفة كانت فيه، فجعلتها مسكني «1» .
قال: فلحقني من هذا، أكثر ممّا يحصى، حتى كثرت النعمة، وانتهت إلى ما استفاض خبره.(2/313)
165 سبب اختصاص أبي عبد الله ابن الجصاص بأبي الجيش خمارويه أمير مصر
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش. قال: سمعت مشايخنا، يقولون:
إنّ أصل اختصاص ابن الجصّاص بأبي الجيش ابن طولون، أنّ أبا الجيش كان يشرب، إذا قعد للشرب، أربعين رطلا من نبيذ مصر المعروف بالشيروي «1» .
قال: ومن يشرب منه رطلا، يقدر أن يشرب من غيره أرطالا.
وكان لا يصبر معه أحد من ندمائه، ويسكرون قبله، فيصعب ذلك عليه، ويبقى وحده، فكان يتطلّب المجيدين للشرب.
فوصف له ابن الجصاص، وهو إذ ذاك يتّجر في الجوهر، فاستدعاه، فأدخل إليه، فحين مثل بين يديه، قبّل الأرض، ولم يكن الناس يعرفون ذلك، فاستظرف خمارويه حسن أدبه.
وقال: أبو من؟
قال: عبد الأمير الحسين.
فقال: هذه اثنتان.
فواكله، وشاربه، قدحا وقدحا، حتى سكر خمارويه، ثم شرب بعده رطلا.
فبلغ ذلك خمارويه من غد، فأدخله، وأجازه جائزة عظيمة.
وقال: ما صناعتك؟
قال: الجوهر.(2/314)
فقال: لا يبتاع لنا شيء إلّا على يده، وكان مشغوفا به، فكسب فيه الأموال.
وحصل يأكل معه، ويشاربه إذا أراد الشرب، فينام ندماؤه كلهم غيره، فولّد ذلك له أنسا تاما به، فكان يخرج إليه على النبيذ بأسراره، ويحادثه، ويأنس به.
وردّ إليه أمر داره، والإشراف على جميع نفقاته.
ولم تزل حاله تقوى وتتزايد، حتى عرض له تزويج ابنته بالمعتضد، فأنفذه في الرسالة [176 ب] حتى عقد الإملاك، ثم أجرى أمر الجهاز على يده، فجرف الأموال بغير حساب.
قال: فأخبرني بعض أصحابنا، [203 ط] أنه لحق بعض الفرش الذي كان في جهاز قطر الندى ابنة خمارويه «1» ، مطر، فيما بين دمشق والرملة «2» ، فنزلها ابن الجصاص، وكتب إليه يعرّفه الخبر، ويستأذنه في تطرية ذلك، فأذن له فيه.
فأقام شهرين لهذا السبب، وطرّى الفرش، فاحتسب في النفقه، ثلاثين ألف دينار.
قال: ولما حصلت قطر الندى ببغداد، أضاق خمارويه إضاقة شديدة، لأنّه افتقر بما حمله معها، وخرج من جميع نعمته، حتى طلب شمعة، فاحتبست عليه ساعة، إلى أن احتيلت.
فقال: لعن الله ابن الجصّاص، أفقرني في السر.(2/315)
166 بين الخليفة المكتفي والتاجر ابن الجصّاص
قال: ومن عجيب أخبار ابن الجصّاص، انّه طلب منه المكتفي «1» عقدا حسنا من فاخر الجوهر، يبتاعه منه.
فقال: كم يبلغ يا أمير المؤمنين؟
قال: ثلاثين ألف دينار.
قال: لا تصيب كما تريد، ولكن عندي عقد فيه ستّون حبّة، ولا أبيعك إيّاه بأقل من ستين ألف دينار، فإن أذنت «2» ، حملته.
فقال: افعل.
فحمله إليه، والعبّاس بن الحسن «3» قائم بين يديه، فعرضه عليه، فهال المكتفي أمره وحسنه، وقال: ما رأيت مثل هذا قط.
فقال: ومن أين عندك أنت مثل هذا يا أبا مشكاحل «4» ؟
فتنكّر المكتفي، وتنمّر، وهمّ به.
فأومأ إليه العبّاس بالإمساك، فأمسك، وترك العقد ابن الجصّاص، بحضرة الخليفة، وخرج.(2/316)
فقال المكتفي للعبّاس: بالله، وبحقي «1» عليك، هذه الكنية تلقبّني بها العامة؟
فقال: لا والله يا مولانا، ولكن هذا رجل رقيع «2» عاميّ، والعامّة إذا افتخرت على إنسان، قالت له مثل هذا، وقد ربحت بهذه الكلمة العقد، بلا ثمن، فدعني وابن الجصّاص، فإن جاءك فأحله عليّ.
فلما كان بعد أيّام، جاء ابن الجصاص، فأذكر المكتفي بثمن العقد.
فقال له: إلق العبّاس.
فجاء إليه، فطالبه بالمال.
فقال: ويحك، تطالب بثمن العقد، بعد ما لقّبت الخليفة بسببه، واجترأت عليه بما لا يجوز أن تجترئ بمثله على بعض غلمانه؟ لا تتكلّم بهذا فتولّد لنفسك منه، ما لا تحتاج إليه.
فأمسك ابن الجصّاص، وذهب منه العقد والمال بالكلمة «3»(2/317)
167 إسماعيل بن بلبل والأعرابيّ العائف
حدّثني أبو الحسين بن عيّاش، قال:
أخبرني من أثق به، إنّ إسماعيل بن بلبل «1» ، لمّا قصده صاعد «2» ، لزم داره، وكان له حمل قد قرب وضعه، فقال: اطلبوا لي منجّما يأخذ مولده، فأتي به.
فقال له بعض [177 ب] من حضر، ما تصنع أيّدك الله بالنجوم؟ هاهنا أعرابيّ عائف «3» ، ليس في الدنيا أحذق منه.
فقال: يحضر، فأسماه الرجل، فطلب، وجاء.
فلما دخل عليه، قال له إسماعيل: تدري لأي شيء طلبناك؟
قال: نعم.
قال: ما هو؟
فأدار عينه في الدار، فقال: لتسألني عن حمل، وقد كان إسماعيل أوصى أن لا يعرّف، فتعجب من ذلك.
فقال له: فأي شيء هو؟ أذكر أم أنثى؟
فأدار عينه [204 ط] في الدار، فقال: ذكر.
فقال: للمنجّم: ما تقول؟
قال: هذا جهل.
فبينا نحن كذلك، إذ طار زنبور على رأس إسماعيل، وغلام يذب عنه، فضرب الزنبور، فقتله.(2/318)
فقام الأعرابي، وقال: قتلت والله المزنّر، ووليت مكانه، ولي حقّ البشارة، وجعل يرقص، وإسماعيل يسكّنه، فنحن كذلك إذ وقعت الصيحة بخبر الولادة.
فقال: انظروا ما المولود؟ فقالوا: ذكر.
فسرّ إسماعيل بذلك سرورا شديدا، لإصابة العائف في زجره، وترجيّه الوزارة، وهلاك صاعد، ووهب للأعرابيّ شيئا، وصرفه.
فما مضى على هذا إلّا دون شهر، حتى استدعى الموفّق إسماعيل، وقلّده الوزارة، وسلّم إليه صاعدا، [فكان يعذّبه، حتى قتله.
فلمّا سلّم إليه صاعد] «1» ، ذكر حديث الأعرابي، فطلبه، فجاءوا به.
فقال: خبّرني كيف قلت ما قلته ذلك اليوم؟ وليس لك علم بالغيب، ولا هذا ممّا يخرج في نجوم.
فقال: نحن إنّما نتفاءل ونزجر الطير، ونعيف ما نراه، فسألتني أوّلا، لأيّ شيء طلبت؟
فتلمّحت الدار، فوقعت عيني على برّادة «2» عليها كيزان معلقة في أعلاها، فقلت: حمل.
فقلت لي: أصبت، ثم قلت لي: أذكر أم أنثى؟
فتلمّحت، فرأيت فوق البرّادة عصفورا ذكرا، فقلت: ذكر.
ثم طار الزنبور عليك، وهو مخصّر، والنصارى مخصّرون بالزنانير، والزنبور عدوّ، أراد أن يلسعك، وصاعد نصراني الأصل، وهو عدوّك، فزجرت أنّ الزنبور عدوّك [صاعد] وأنّ الغلام لمّا قتله، إنّك ستقتله.
قال: فوهب له شيئا صالحا، ثم صرفه.(2/319)
168 أعراب ثلاثة يتنبأون بموت قاضي القضاة ودفنه في داره
وحدّثنا أبو الحسين، قال:
اجتزت أنا وأبو طاهر بن نصر القاضي، بشارع القاضي، نقصد دار قاضي القضاة أبي الحسين «1» ، في علّته التي مات فيها، لنعوده، فإذا بثلاثة من الأعراب ركبان.
فشال «2» أحدهم رأسه، وقد سمع غرابا ينعب على حائط دار أبي الحسين قاضي القضاة.
فقال للنفسين اللذين خلفه: إنّ هذا الغراب ليخبرني بموت صاحب الدار.
فقال له الآخر: أجل إنّه ليموت بعد ثلاثة أيّام.
فقال الآخر: نعم ويدفن في داره.
فقلت: أسمعت ما قالوا؟ فقال: نعم.
فقلت: هؤلاء أجهل قوم، وافترقنا.
فلما كان في ليلة اليوم [178 ب] الرابع سحرا، ارتفعت الصيحة بموت قاضي القضاة أبي الحسين، فذكرت قول الأعرابي، وعجبت.
وحضرنا جنازته، ودفن في داره.
فقلت لأبي طاهر: رأيت أعجب من وقوع مقالة الأعراب بعينها؟
أيش هذا؟(2/320)
فقال: لا والله، ما أدري، ولكن تعال حتى نسأل عنهم [205 ط] ، ونقصدهم، ونستخبر منهم من أين لهم ذلك.
قال: فكنّا أيّاما، نسأل عنهم، وعن حلّتهم من البلد، فلا نخبر.
إلى أن أخبرونا بنزول حلة «1» من بني أسد بباب حرب «2» ، فقصدناهم.
فقلنا: هل فيكم من يبصر الزجر؟
فقالوا: أجل، ثلاثة إخوة في آخر الحيّ، يعرفون ببني العائف، ودلّونا على أخبيتهم.
فجئنا، فصادفنا أصحابنا بأعيانهم، ولم يعرفونا، فأخبرناهم بما سمعناه منهم، وسألناهم عنه.
فقالوا: إنّا، وغيرنا من العرب، نعرف نعيبا للغراب بعينه، لا ينعبه في موضع إلّا مات ساكنه، مجربا على قديم السنين في البوادي، لا يخطئونه، ورأينا ذلك الغراب، نعب ذلك النعيب الذي نعرفه.
[فقلنا للآخر: كيف قلت إنّه يموت بعد ثلاثة أيّام؟
قال: كان ينعب ثلاثا متتابعات ثم يسكت، ثم ينعب ثلاثا على هذا، فحكمت بذلك] «3» .
فقلت للآخر: وكيف قلت إنّه يدفن في داره؟
قال: رأيت الغراب يحفر الحائط بمنقاره ورجليه، ويحثو على نفسه التراب، فقلت «4» : إنّه يدفن في داره.(2/321)
169 عيافة أعرابي
حدّثنا أبو الحسين بن عيّاش، قال:
أخبرني صديق لي أنّه خرج إلى الحائر «1» [على ساكنيه السلام] «2» ليزور.
فاجتاز في طريقه بموضع قريب من الأعراب، وهم نزول، فحطّ رحله ونزل، وجلس يأكل هو وغلمانه، فوقف به بعض أولئك الأعراب يستطعم.
قال: فقلت له: اجلس حتى نأكل، وندفع إليك نصيبا.
فجلس قريبا منا، فإذا بغراب قد طار قريبا منه، وصاح صياحا متتابعا.
فقام الأعرابي يرجمه، ويقول: كذبت يا عدوّ الله، كذبت يا عدوّ الله.
قال: فقلنا له: ما الخبر يا أعرابي؟
قال: يقول الغراب إنّكم ستقتلونني، وأنتم تريدون أن تطعموني، فكذّبته في خبره.
قال: فاستحمقناه، وتمّمنا أكلنا.
وكان في السفرة سكّين بزماورد «3» عظيمة حادة، أنسيناها في السفرة.
فجمعنا السفرة بما فيها، وقلنا للأعرابيّ: خذها، وفرّغ ما فيها، واردد السفرة.(2/322)
فجمعها بما فيها، وشالها، فضرب بها ظهره بحميّة، من فرحه بتمكيننا إيّاه من جميع ما فيها، فخرجت السكين بحدّتها، فدخلت بين كتفيه، فخرّ صريعا يصرخ: صدق الغراب لعنه الله، متّ ورب الكعبة.
فخشينا أن [179 ب] يصير لنا مع الأعراب قصّة، فتركنا السفرة، وقمنا مبادرين، فاختلطنا بالقافلة حتى لا نعرف، وتركناه يتشحّط في دمائه «1» .
ولا نعلم هل عاش أو مات.(2/323)
170 من أحاديث الزراقين
حدّثني أبو الحسين «1» ، قال: حدّثنا سليمان بن الحسن «2» ، قال: قال لي أبو معشر المنجّم «3» ، وقد جرى حديث الزرّاقين:
رأيت أعجب شيء، وهو أنّ رجلا في جواري بسرّ من رأى اعتقل، فأتاني أبوه، وكان لي صديقا [206 ط] ، فقال: تركب معي إلى صاحب الشرطة، نسأله إطلاقه، فركبت.
فاجتزنا بزرّاق على الطريق. فقلت: هل لك في أن نتلهّى بهذا الزرّاق؟
فقال: افعل.
فقلت له: انظر في نجمنا، وأيّ شيء هو، وفي أيّ شيء هوذا نمضي؟
ففكّر الزرّاق ساعة، ثم قال: تمضون في أمر محبوس.
قال: فانتقع «4» لون أبي معشر، ودهش، وتلجلج لسانه.
فقلت أنا له: فهل يطلق أم لا؟
قال: تمضون وقد أطلق.
فقال لي أبو معشر: انطلق بنا، فهذا اتّفاق طريف، وهوس.(2/324)
فسرنا وجئنا إلى صاحب الشرطة، فسألناه في أمر الرجل.
فقال: الساعة- والله- وردت عليّ رقعة فلان، يسألني في أمره، فأطلقته.
فنهض أبو معشر مبادرا، وقال: إن لم أعرف من أين أصاب الزرّاق في حكمه، ذهب عقلي، وخرّقت كتبي، واعتقدت بطلان النجوم، ارجع بنا إليه.
قال: فرجعنا، فوجدناه في مكانه من الطريق.
فقال له أبو معشر: قم بنا، فأخذناه، وحمله إلى داره.
وقال له: أتعرفني؟
قال: لا.
قال: أنا أبو معشر المنجّم.
فقبّل الزرّاق يده، وقال: أستاذنا، وقد سمعت باسمك.
قال: دعني من ذلك، لك خمسة دنانير عينا، وأصدقني من أين حكمت لنا بما حكمت به.
قال: أنا والله أصدقك، ولا أجسر آخذ منك شيئا، وأنت أستاذ هذه الصناعة.
اعلم أنّي لا أحسن من النجوم شيئا، وإنّما أنا أزرق وأهذي على النساء، وبين يديّ هذا التخت والإصطرلاب والتقويم للخلق حيلة.
ولكنّي قد صحبت أهل البوادي في وقت من الأوقات، وتعلّمت منهم الزجر والفال والعيافة.
وهم يعتقدون إذا سئلوا عن شيء أن ينظروا إلى أوّل ما تقع عليه عيونهم، فيستخرجون منه معنى يجعلونه طريقا لما يسألون عنه، وما يحكمون به.
فلمّا سألتني في أيّ شيء نمضي؟ تلجلجت، فوقعت عيني على(2/325)
سقّاء معه ماء محبوس في قربته، فقلت: محبوس.
فقلت: هل يطلق أم لا؟ فنظرت أطلب شيئا أزجره، فرأيت السقّاء قد صبّ الماء، وهو يخرج من قربته، فقلت: إنّكم [180 ب] تمضون وقد أطلق، فهل أصبت؟
فقال له أبو معشر: نعم، وفرّجت عنّي أيضا، أعطوه الدنانير، واصرفوه.
فأبى أن يأخذ، فما تركه أبو معشر حتى أخذها وخرج.
فطرح نفسه كالمستريح من أمر عظيم، ووضع يده على فؤاده، وقال:
فرّج عني «1» .(2/326)
171 بين الأمير الموفق وأبي معشر المنجم
حدّثني أبو أحمد عبد الله بن عمر بن الحارث الحارثيّ «1» ، قال: حدّثني أبي، قال:
كنت أحد من يعمل في خزانة السلاح [للمعتمد] «2» وكنت قائما [207 ط] بحضرة الموفّق، في عسكره لقتال صاحب الزنج، وبحضرته أبو معشر، ومنجّم آخر، أسماه أبي وأنسيته أنا.
فقال لهما: خذا الطالع في شيء أضمرته منذ البارحة، أسألكما عنه، وأمتحنكما به، وأخرجا ضميري.
فأخذا الطالع، وعملا [الزايرجه] «3» ، وقالا جميعا: تسألنا عن حمل ليس لإنسيّ.
فقال: هو كذلك، فما هو؟
قال: ففكّرا طويلا، ثم قالا: عن حمل لبقرة.
قال: هو كذلك، فما تلد؟
قالا جميعا: ثور.
قال: فما شيته؟(2/327)
فقال أبو معشر: أسود في جبهته بياض.
وقال الآخر: أسود وفي ذنبه بياض.
قال الموفّق: ترون ما أجسر هؤلاء، أحضروا البقرة، فأحضرت وهي مقرب.
فقال: اذبحوها، فذبحت، وشق بطنها، وأخرج منها ثور صغير أسود، أبيض طرف الذنب، وقد التفّ ذنبه، فصار على جبهته.
فتعجّب الموفّق، ومن حضره، من ذلك عجبا شديدا، وأسنى جائزتيهما.
قال: وحدثني أبي، قال:
كنت أيضا بحضرة الموفّق، فأحضر أبا معشر هذا، وهذا المنجّم، فقال لهما: معي خبيء، فما هو؟
فقال أحدهما، بعد أن أخذ الطالع، وعمل الزايرجه، وفكّر طويلا، وقال: هو شيء من الفاكهة.
وقال أبو معشر: هو شيء من الحيوان.
فقال الموفق للآخر: أحسنت، وقال لأبي معشر: أخطأت، ورمى من يده تفاحة.
وأبو معشر قائم، فتحيّر، وعاود النظر في الزايرجه، ساعة، ثم عدا يسعى نحو التفاحة، حتى أخذها، فكسرها، ثم قال: الله أكبر، وقدّمها إلى الموفّق فإذا هي تنغش بالدود «1» .
فهال الموفق ما رآه من إصابته، وأمر له بجائزة عظيمة.(2/328)
172 مما شاهده المؤلف من صحّة أحكام النجوم
وهذا بعيد دقيق، ولكن فيما قد شاهدته من بعض صحّة أحكام النجوم، كفاية.
هذا أبي «1» حوّل مولد نفسه في السنة التي مات فيها «2» ، فقال لنا: هي سنة قطع على مذهب المنجّمين، وكتب بذلك إلى بغداد، إلى أبي الحسن بن البهلول القاضي «3» ينعي نفسه إليه، ويوصيه.
فلما اعتلّ أدنى علّة، وقبل أن تستحكم «4» علّته، أخرج التحويل، ونظر فيه طويلا، وأنا حاضر، فبكى، وأطبقه، واستدعى كاتبه، وأملى عليه وصيّته التي مات عنها، وأشهد فيها من يومه.
فجاءه أبو القاسم غلام زحل المنجّم «5» ، فأخذ يطيّب نفسه، ويورد عليه [181 ب] شكوكا.
فقال: يا أبا القاسم، لست ممن يخفى هذا عليه، فأنسبك إلى غلط،(2/329)
ولا أنا ممّن يجوز عليه هذا فتستغفلني، وجلس فواقفه على الموضع الذي خافه، وأنا حاضر.
ثم قال له أبي: دعني من هذا، بيننا شكّ في أنّه إذا كان يوم الثلاثاء العصر، لسبع بقين من الشهر، فإنّه ساعة قطع عندهم «1» ؟ [208 ط] .
فأمسك أبو القاسم، ولم يجبه، واستحيى منه أن يقول نعم، وبكى «2» أبو القاسم غلام زحل لأنّه كان خادما لأبي.
وبكى أبي طويلا، ثم قال: يا غلام الطست، فجاءه به، فغسل التحويل وقطّعه، وودّع أبا القاسم توديع مفارق.
فلما كان في ذلك اليوم، العصر بعينه، مات، كما قال.(2/330)
173 الأخذ بالحزم أولى
أخبرني غير واحد من أصحابنا، أنّ أبا محمد عبد الله بن العباس الرامهرمزي المتكلّم، أخبره، قال:
أردت الانصراف من عند أبي عليّ الجبائي «1» إلى بلدي، فجئته مودّعا، فقال لي:
يا أبا محمد، لا تخرج اليوم، فإنّ المنجّمين يقولون: إنّه من سافر في مثله غرق «2» ، فأقم إلى يوم كذا وكذا، فإنّه محمود عندهم.
فقلت: أيّها الشيخ مع ما تعتقده في قولهم، كيف تجيء بهذا؟
فقال: يا أبا محمد، لو أخبرنا مخبر ونحن في طريق، أنّ فيه؟؟؟
أليس كان يجب في الحكمة علينا أن لا نسلك ذلك الطريق، إذا قدرنا على سلوك غيره، وإن كان ممّن يجوز عليه الكذب؟
قلت: نعم.
قال: فهذا مثله، وقد يجوز أن يكون الله تعالى أجرى العادات، بأن تكون الكواكب إذا نزلت هذه المواضع حدث كذا، والأخذ بالحزم أولى.
قال: فأخّرت خروجي إلى اليوم الذي قاله.(2/331)
174 أبو علي أحذق الناس بالنجوم
حدّثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: حدّثني أبو هاشم الجبائي «1» ، قال:
كان أبو علي «2» من أحذق الناس بالنجوم، فولد في جواره مولود.
فقال أبوه «3» : إنّي أحب أن تأخذ طالعه.
قال: وكان ليلا، فأخذ الاصطرلاب «4» وعمل مولده، وحكم له بأشياء، صحّت كلها بعد ذلك.(2/332)
175 أبو الحسن الأهوازي وسابور ذو الأكتاف
جرى الحديث يوما بحضرة أبي، في البخل والبخلاء، واختصاص الملوك بذلك، وكان أبو الحسن مطهّر بن إسحاق بن يوسف الأهوازيّ الشاهد حاضرا، فقال:
دخلت يوما إلى أبي عبد الله البريديّ، وقد نصبت مائدته، فاستدعاني إليها، وكنت جائعا، فأقبلت آكل منبسطا.
فقدّم جدي مشويّ حار، فضربت يدي إلى كتفه، فأكلتها.
ثم قدّم بعده ألوان أخر، وجدي بارد، فضربت يدي إلى كتفه فأكلتها.
ثم قدّم بعده ألوان، وقدم جدي مبزّر «1» ، فأخذت الكتف فأكلتها.
ثم جدي بماء وملح، فجئت لآخذ الكتف، فسبقتني يد أبي عبد الله إليه، فكففت يدي.
فقال لي: يا أبا الحسن، أنت اليوم سابور ذو الأكتاف.
فاستحييت، وخجلت، وعلمت أنّه ما قالها إلّا من غيظ، فقصّرت.
وتوقّيت بعد ذلك مواكلته.
فقال أبي: ما كان [182 ب] أبو عبد الله بخيلا على الطعام، وإنّما كان نهما «2» ، شديد الجوع، وكان في أوّل أكله، وإلى وسطه، يلحقه هذا [209 ط] النهم، وربما أطلق ما يشبه هذا، فيظنّ من لا يعرف طبعه أنّه بخيل، ويحتاج من يواكله إلى التقصير، حتى يمضي نصف أكله.
فإذا مضى نصف أكله، انبسط، وانطلق وجهه، وساءه وغمّه أن يقصّر من يحضر في مواكلته، وقال: هوذا ينسبوني إلى البخل ثم لا يأكلون.(2/333)
176 أبو عبد الله الكرخي يحبّ مؤاكلة الأكول
ولكنّ أبا عبد الله جعفر بن القاسم الكرخيّ «1» هو الجواد على الطعام والمال.
ولقد دخلت «2» إليه يوما بالأهواز، وهو عاملها، أقلّب عليه ثيابا «3» ، ولم تكن بيننا معرفة، فأخذ منها ما أراد، وواقفني على الأثمان، وطال جلوسي عنده، فجاء غلمانه بأطباق فاكهة، فقمت.
فقال: ما هذا الخلق النبطيّ يا أبا الحسن «4» ؟ اجلس، فجلست، وأخذنا في الأكل، وكنت جائعا، فأقبلت آكل كمّثراة، كمّثراة، في لقمة، وخوخة خوخة، في لقمة، وتينة تينة، في لقمة، وهو ينظر إلى ذلك، ويستحسنه، ويضحك منه، ويعجبه ويستطرفه، وكان ضعيف الأكل جدّا.
وكلّما جئت لأقطع، حلّف عليّ، ولقّمني بيده.
ثم شيلت الفاكهة، وجاءوا بالطعام، وكانت هذه صورتي عنده، وانصرفت.
فلمّا كان من غد نصف النهار، وكنت جالسا في دكّاني بالبزّازين، فإذا بفرّاش ومعه غلام تحته بغل.
فقال: العامل يطلبك، فلم أدر ما هو، فركبت البغل وصرت إليه،(2/334)
وإذا المائدة منصوبة، وهو ينتظرني.
فقلت: ما يأمر الأستاذ أيّده الله؟
فقال: إنّي استطبت مؤاكلتك بالأمس، وأكلت فضلا ممّا جرت عادتي به، فلمّا قدّمت اليوم المائدة، لم أتهنّأ بالأكل، فعزلتها واستدعيتك، وأريد أن تجيني «1» في كلّ يوم.
قال: فكنت أتأخّر في الأيّام، فيعاتبني، وينفذ إليّ بغلا أركبه.
وولّد ذلك لي محلّا عظيما في البلد، وجاها، وكسبت به عليه في البزّ وغيره، ممّا رد إليّ شراءه من جميع ما كان يحتاج إليه في داره، مالا جليلا.(2/335)
177 بين أبي جعفر بن شيرزاد وأبي عبد الله الموسويّ
حدّثنا أبو العباس هبة الله بن المنجّم، قال: سمعت أبا عبد الله الموسوي «1» العلويّ، يقول:
قصدني أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد «2» في أيّام تدبيره الأمر، قصدا قبيحا، وعمل لي كتّابه مؤامرة في خراجاتي، بمائة ألف درهم،(2/336)
أكثرها واجب عليّ، وباقيها كالواجب.
وأحضرني للمناظرة عليها، فاعتقلني في داره.
فضقت ذرعا بما نزل بي، وعلمت أنّ المال سيؤخذ منّي إذا نوظرت، وأنّه يؤثّر [183 ب] في حالي، ويهتك جاهي، فلم أدر ما أعمل.
فشاورت بعض من يختصّ به، فقال: طمعه فيك- والله- قويّ، وما ينفعك معه شيء غير المال.
فقلت: فكّر في حيلة أو مخادعة.
ففكّر، ثم قال: لا أعرف لك دواء إلّا شيئا واحدا، إن سمحت به نفسك [210 ط] ، وتركت العلويّة «1» عنك، وفعلته، نجوت.
فقلت: ما هو؟
قال: هو رجل سمح على الطعام، محبّ لأكله على مائدته، موجب لحرمته، وأرى لك، إذا وضع طعامه، أن تخرج إليه، فإنّك معه في الدار، ولا يمنعك الموكّلون من ذلك، فتجيء بغير إذن، فتجلس على المائدة، وتأكل، وتنبسط، وتخاطبه «2» في أمرك عقيب الأكل، وتسأله، وترفق به، وتخضع له، فإنّه يسامحك بأكثرها، ويقرّب ما بينك وبينه.
فشقّ ذلك عليّ، ثم نظرت، فإذا وزن المال أشقّ منه.
وكان أبو جعفر، لا يأكل إلّا بعد المغرب، في كلّ يوم مرّة «3» ، فلم آكل ذلك اليوم شيئا، وراعيت مائدته، فلما وضعت المائدة، قمت.
فقال الموكّل: إلى أين؟(2/337)
قلت: إلى مائدة الوزير، فما قدر أن يمنعني، وجاء معي.
فلما رآني أبو جعفر، أكبر ذلك، وتهلّل وجهه، وقال: إلى عندي يا سيّدي، إلى عندي، وأجلسني إلى جنبه، وأقبلت آكل، وأنبسط في الأكل والحديث، إلى أن رفعت المائدة، وقام أبو جعفر، وقمنا، وشيلت المائدة، واستدعاني إلى موضعه، فغسلت يدي بحضرته.
فلما فرغت، أردت أن أبتدأه بالخطاب، فقال لي: قد آذيتك يا سيّدي أبا عبد الله بتأخيرك عن منزلك، فامض إلى بيتك، وما أخاطبك بشيء مما في نفسي، ولا فيما أردت مخاطبتك فيه، [ولا مطالبة عليك من جهتي] «1» بعدما تفضلت به.
فشكرته، وقلت: إن رأى سيّدنا أيّده الله، أن يتمّم معروفه عليّ بتسليم المؤامرة «2» إليّ، فعل.
فقال: هاتموها، فما برحت، إلّا وهي معي في خفّي، وانصرفت إلى منزلي، وسقط المال عنّي.
ولزمته للسلام، وصرت أتعمّد مؤاكلته، والتخصّص به، فسلمت عليه طول أيّامه، وسلم جاهي ومالي عليه، إلى أن مضى.(2/338)
178 اللص والعجوز الجلدة أمّ الصيرفي
حدّثني [أبو جعفر] «1» محمد بن الفضل بن حميد الصيمريّ، مؤدبي، قال:
كان في بلدنا عجوز صالحة، كثيرة الصيام والقيام، وكان لها ابن صيرفيّ منهمك على الشرب واللعب.
وكان يتشاغل بدكّانه أكثر نهاره، ثم يعود عشيّا إلى منزله، فيخبئ كيسه عند والدته، ويمضي، فيبيت في مواضع يشرب فيها.
فعيّن بعض اللصوص على كيسه ليأخذه، وتبعه في بعض العشايا، ودخل وراءه إلى الدار، وهو لا يعلم، فاختفى فيها، وسلّم هو كيسه إلى أمّه، وخرج، وبقيت وحدها في الدار [184 ب] .
وكان لها في دارها، بيت مؤزّر بالساج إلى أكثر حيطانه، عليه باب حديد، تجعل قماشها وكلّ ما تملكه فيه، والكيس، فخبأت الكيس فيه تلك الليلة خلف الباب، وجلست فأفطرت بين يديه.
فقال اللص: هذه الساعة تفطر، وتكسل، وتنام، وأنزل فأفتح الباب، وآخذ الكيس والقماش.
قال: فلما أفطرت، قامت إلى الصلاة، فظن «2» اللص أنّها تصلّي العتمة وتنام.
فانتظرها [211 ط] ، فمدّت الصلاة، وتطاول عليه الأمر، ومضى نصف الليل.
وتحيّر اللص ممّا نزل به، وخاف أن يدركه الصبح، ولا يظفر بشيء.(2/339)
فطاف في الدار، فوجد إزارا جديدا، وطلب جمرا فظفر به، ووقع في يده شيء كان لهم فيه دخنة طيبة، فلبس الإزار، وأشعل ذلك البخور، وأقبل ينزل على الدرجة، ويصيح بصوت غليظ وتعمّد أن يجعله جهوريا، لتفزع العجوز.
وكانت معتزلية جلدة، ففطنت لحركته، وأنّه لص، فلم تره أنّها فطنت.
وقالت: من هذا؟ بارتعاد وفزع شديد.
فقال لها: أنا رسول الله رب العالمين، أرسلني إلى ابنك هذا الفاسق، لأعظه، وأعامله بما يمنعه من ارتكاب المعاصي.
فأظهرت أنّها قد ضعفت، وغشي عليها من الجزع، وأقبلت تقول:
يا جبريل، سألتك بالله، إلّا رفقت به، فإنّه واحدي.
فقال اللصّ: ما أرسلت لقتله.
فقالت: فما تريد؟ وبما أرسلت؟
قال: لآخذ كيسه، وأؤلم قلبه بذلك، فإذا تاب رددته إليه.
فقالت: شأنك، يا جبريل، وما أمرت.
فقال: تنحّي من باب البيت.
فتنحّت: وفتح هو الباب، ودخل ليأخذ الكيس والقماش، واشتغل في تكويره.
فمشت العجوز قليلا قليلا، وجذبت الباب بحميّة، فردّته، وجعلت الحلقة في الرزّة «1» ، وجاءت بقفل، فقفلته.
فنظر اللصّ إلى الموت بعينه، ورام حيلة في داخل البيت، من نقب أو منفذ، فلم يجدها.(2/340)
فقال لها: افتحي الباب لأخرج، فقد اتّعظ ابنك.
فقالت: يا جبريل، أخاف أن أفتح الباب، فتذهب عيني من ملاحظتي لنورك.
فقال: إنّي أطفىء نوري حتى لا تذهب عينك.
فقالت: يا جبريل، إنّك رسول رب العالمين، لا يعوزك أن تخرج من السقف أو تخرق الحائط بريشة من جناحك، وتخرج، فلا تكلّفني أنا التغرير ببصري «1» .
فأحسّ اللص بأنّها جلدة «2» ، فأخذ يرفق بها، ويداريها، ويبذل التوبة.
فقالت له: دع ذا عنك، لا سبيل إلى الخروج إلّا [185 ب] بالنهار، وقامت تصلّي، وهو يهذي، ويسألها، وهي لا تجيبه، حتى طلعت الشمس، وجاء ابنها، فعرف خبرها، وحدّثته بالحديث، فمضى وأحضر صاحب الشرطة، وفتح الباب، وقبض على اللصّ.(2/341)
179 من بركة المعتزلة انّ صبيانهم لا يخافون الجنّ
سمعت جماعة من أصحابنا، يقولون:
من بركة المعتزلة، انّ صبيانهم لا يخافون الجنّ.
وقد حكي لنا: أنّ لصّا حصل في دار معتزليّ، فأحسّ به، فطلبه، فنزل إلى بئر في الدار.
فأخذ الرجل حجرا عظيما ليدليه عليه، فخاف اللص التلف.
فقال له: الليل لنا والنهار لكم، يوهمه أنّه من الجنّ.
فقال له المعتزليّ: [فزن معي نصف الأجرة «1» ، ورمى بالحجر فهشمه.
فقال له: متى يأمن أهلك من الجنّ؟ فقال المعتزلي] «2» : دع ذا عنك واخرج.
فخرج وخلّاه.(2/342)
180 محدّث قارب المائة يتواجد في مجلس خاطف المغنّية
سمعت أبي، قال:
جئت إلى أبي القاسم ابن بنت منيع «1» ، لأكتب عنه الحديث، فقال لي من في منزله: قد توجّه في حاجة له، وكانت سنّه إذ ذاك نحو مائة سنة.
فجلسنا ننتظره [212 ط] ، فإذا به قد جاء محمولا، فألقي كالمغشيّ عليه، واستراح.
فقلنا له: يا أبا القاسم، ما كان هذا الأمر العظيم حتى خرجت فيه بنفسك، ألا كلّفتنا حاجتك؟
فقال: ليس هذا مما أكلّفكم إيّاه، مضيت إلى مجلس ستي خاطف، فسمعتها، وتواجدت من قولها.
قال:: فعجبنا من شيخ محدّث يحضر مجلس امرأة تغنّي بالقضيب «2» .
وأخبرني جماعة أثق بهم، أنّها تدعى «3» إلى هذا الوقت، وتغني بالقضيب وأنّ لها نحو السبعين سنة.
وأخبرني أبو الحسن بن الأزرق أيضا في سنة إحدى وستين وثلاثمائة، أنّها توفيت في منزلها في جواره «4» في هذه السنة.(2/343)
181 الباغندي المحدّث يخطىء في موضعين
حدّثني أبو الطيّب بن هرثمة: أنّه سمع الباغندي «1» المحدّث، يقول لجارية كانت تخدمه وقد حرد عليها: ذهب زمانك الذي كنت تخضبين فيه [خديك] «2» بالكلكين.
يريد: تطلين على وجهك الكلكون «3» .
وأنّه سمعه قال، في حديث حدّث به، في قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا
«4» ، فقال: فاكهة وأنّا «5» .(2/344)
182 حكاية تدل على ذكاء القرد
حدّثني أبو الطيّب محمد بن أحمد بن عبد المؤمن، أحد الصوفية الطيّاب من أهل سرّ من رأى «1» ، ثم مرّ ببغداد، وأقام بالأهواز طويلا، وتوكّل على أبواب القضاة، وعاش نحو السبعين سنة، وكان ماجنا، خفيف الروح، قال:
بتّ ليلة في خان، ومعنا قرّاد، ومعه قرد، وكنّا كلّنا في بيت واحد ضيّق.
ففسا بعض من كان معنا، وزاد في الفسا.
فلم يزل القرد يجيء إلى فقحة كلّ واحد منا فيشمّها، ويقف عندها ساعة، إلى أن وقع على فقحة الرجل الذي يفسو.
قال: فرأيته، وقد جاء إلى قطن كان مع صاحبه، فاستخرج منه كبّة «2» ، وأخذها بيده، ثم جاء إلى سراويل الذي يفسو، فخرقه، فلم يزل يدس القطن في جحره.(2/345)
183 هذا من تعليم القرد
وأخبرني «1» [186 ب] أنّ بعض الصوفية حدّثه:
إنّه اجتمع في بيت واحد من خان «2» ، مع قرّاد أمرد، فراوده عن نفسه، فحين حصل فوقه، التمس منه تمكينه من إتيانه في ذاته، فامتنع.
فأومأ إليّ القرد بيده، وأخرج عليها بصاقا من فيه، ولم يزل يضعه بها هكذا إلى نفسه.
قال: فأقحمت على الغلام.
فقال: هذا والله من تعليم القرد، فضحكت.
فلما نزلت عنه، قام إلى القرد، يضربه ويقول: يا فاعل، يا صانع علّمته عليّ.
قال: فلم أزل به حتى خلّصته من يده «3» [213 ط] .(2/346)
184 القرود والقلانس
وأخبرني بعض من سافر في الآفاق، وهو أبو غانم عبد الملك بن عليّ السقطيّ البصريّ:
أنّه كان في بعض طرقات اليمن، ومعهم رجل معه قفص فيه قلانس.
فأصابتهم سماء «1» ، فابتلّت القلانس، فأخرجها الرجل، فشرّها «2» في الشمس، لمّا نزلوا.
وإذا بقطعة عظيمة من القرود، قد أحاطوا بالقافلة، فلما رأوا القلانس، وكانت خارجة عن القافلة بالقرب منّا، وقفوا ينظرون إليها.
فجاء قرد كبير يقدمهم، فلبس في رأسه واحدة، وأخذ كلّ واحد منهم واحدة فلبسها إلى أن فنيت القلانس.
فتأمّلت صاحبها يلطم ويقول: إن مضوا هؤلاء، وهي على رؤوسهم، افتقرت، فإنّي لا أملك غير هذه القلانس.
فقال أهل القافلة: اجلس، واسكت، ولا تهجهم، فجلس.
فلما كان بعد ساعة، وضع القرد الكبير القلنسوة من رأسه، فوضعوا كلّهم القلانس، وانصرف، فتبعوه في الانصراف.
وقام الرجل إلى قلانسه فجمعها «3» .(2/347)
185 القرود المستأنسة في اليمن تشتري الحاجات من السوق
وحدّثني أيضا «1» ، قال:
رأيت قرودا عدّة مستأنسة ببلدان اليمن «2» ، القرد منها يخرج بالزنبيل من منزل صاحبه، ومعه الفضّة، فيقف على بائع اللحم، والخبز، وغيرهما، ويومىء له بما يريده، ويعطيه ثمنه، ويحمل الحاجة إلى منزل صاحبه «3» .(2/348)
186 أبو عبد الله المزابلي والروح الأمين جبريل رسول رب العالمين
وحدّثني أبي، قال:
كان عندنا بجبل أنطاكية، المعروف بجبل اللّكام «1» ، رجل يتعبّد، يقال له: أبو عبد الله المزابليّ.
وسمّي بذلك، لأنّه كان بالليل يدخل إلى البلد، فيتتبّع المزابل، فيأخذ ما يجده فيها، فيغسله، ويقتات به، لا يعرف قوتا غير ذلك، وأن يتوغّل في جبل اللّكام، فيأكل من الأثمار المباحة فيه.
وكان صالحا مجتهدا، إلّا أنّه كان حشويا، غير وافر العقل، وكانت له سوق عظيمة في العامّة بأنطاكية.
وكان بها موسى بن الزكوريّ صاحب المجون والسفه «2» في شعره والحماقات وكان له جار يغشى المزابليّ.
فجرى بين موسى بن الزكوريّ، وجاره ذاك شرّ، فشكاه إلى المزابليّ فلعنه المزابليّ في دعائه، وكان الناس يقصدونه في كل يوم جمعة غدوة، فيتكلّم عليهم ويدعو.
فلما سمعوا لعنه لابن الزكوريّ، جاء الناس إلى داره أرسالا لقتله، فهرب، ونهبت داره، وطلبته العامّة فاستتر.
فلما طال استتاره، قال: إنّي سأحتال على [187 ب] المزابليّ بحيلة(2/349)
أتخلّص منه بها، فأعينوني، فقلت: ما تريد؟
فقال: أعطوني ثوبا جديدا، وشيئا من الندّ والمسك، ومجمرة، ونارا، وغلمانا يؤنسوني الليلة في الطريق إلى الجبل.
قال أبي: فأعطيته ذلك كلّه.
فلما كان في نصف الليل، مضى، وخرج الغلمان معه إلى الجبل، حتى صعد فوق الكهف الذي يأوي إليه المزابليّ، فبخّر بالندّ والمسك، فدخلت الريح إلى كهف أبي عبد الله، وصاح بحلق عظيم: يا أبا عبد الله المزابليّ.
فلما شمّ تلك الرائحة، وسمع الصوت، أنكرهما.
فقال: ما لك عافاك الله، ومن أنت؟
فقال ابن الزكوريّ: أنا الروح الأمين، جبريل، رسول رب العالمين، أرسلني إليك.
فلم يشكّ المزابليّ في صدق القول، فأجهش بالبكاء والدعاء، وقال:
يا جبريل، من أنا حتى يرسلك ربّ العالمين إليّ.
فقال: الرحمان يقرؤك السلام، ويقول لك: موسى ابن الزكوريّ غدا رفيقك في الجنة.
فصعق أبو عبد الله، وسمع صوت الثياب، وقد كان خرج فرأى بياضها، فتركه موسى ورجع.
فلما كان من الغد، كان يوم جمعة، فأقبل المزابليّ يخبر الناس برسالة جبريل، ويقول: تمسّحوا بابن الزكوريّ، واسألوه أن يجعلني في حلّ، واطلبوه لي.
فأقبل العامّة أرسالا إلى دار ابن الزكوري، يطلبونه ليتمسّحوا به ويستحلّوه للمزابليّ، فظهر، وأمن على نفسه «1» .(2/350)
187 عيار بغدادي يحتال على أهل حمص
حدّثني أبو الطيّب بن عبد المؤمن، قال:
خرج بعض حذاق المكدّين من بغداد إلى حمص، ومعه امرأته.
فلما حصل بها، قال لها: إنّ هذا بلد حماقة ومال، وإنّي أريد أن أعمل معييا «1» - قال: وهذه كلمة لهم إذا أرادوا أن يعملوا حيلة كبيرة- فساعديني عليها بالصبر.
قالت: شأنك.
فقال: كوني بموضعك، ولا تجتازين بي البتّة، وإذا كان كلّ يوم خذي لي ثلثي رطل زبيبا، وثلثي رطل لوزا نيّا، فاعجنيه، واجعليه وقت الهاجرة على آجرة نظيفة، لأعرفها، في الميضأة الفلانيّة، وكانت قريبة من الجامع، ولا تزيديني على هذا شيئا، ولا تمرّين بناحيتي.
فقالت: أفعل.
قال: وجاء هو، وأخرج جبّة صوف كانت معه، فلبسها، وسراويل صوف، ومئزرا جعله على رأسه.
واعتمد اسطوانة في الجامع بحيث يجتاز عليها أكثر الناس، فلزمها يصلّي نهاره أجمع، وليله أجمع، ولا يستريح إلّا في الأوقات المحضورة فيها الصلاة، وإذا جلس للراحة سبّح، ولم ينطق بلفظة.
ولم يشعر به أيّاما، ثم تنبّه على مكانه.
وروعي مدة، وعرف خبره، ووضعت العيون عليه، فإذا هو لا يقطع(2/351)
الصلاة، ولا يذوق الطعام، فتحيّر أهل البلد في أمره.
وكان لا يخرج من الجامع إلّا في الهاجرة، في كل يوم دفعة، حتى يمضي إلى تلك الميضأة، فيبول، ويعمد إلى تلك الآجرة، وقد عرفها، وعليها ذلك [188 ب] المعجون، وقد صار مستحيلا، وصورته صورة الغائط الناشف المستحيل، فمن يدخل ويخرج، لا يشك أنّه غائط، فيأكله، ويقيم أوده، ويرجع، فإذا تمسّح لصلاة العتمة في الليل، شرب كفايته من الماء.
وأهل حمص يظنون أنّه لا يذوق الماء ولا الطعام، وأنّه طاو طول تلك المدّة.
فعظم شأنه ومحلّه عندهم، وقصدوه، وكلّموه، فلم يجب، وأحاطوا به، فلم يلتفت، واجتهدوا في خطابه، فلزم لهم هذا الصمت والعمل.
فزاد محلّه عندهم، حتى إنّهم كانوا إذا خرج للطهور، جاءوا إلى موضعه فيتمسّحون به، ويأخذون التراب من موضع مشيه، ويحملون إليه المرضى فيمسح بيده عليهم.
فلمّا رأى أنّ منزلته قد بلغت إلى ذلك، وكان قد مضى على هذا الفعل سنة، اجتمع في الميضأة مع امرأته، وقال:
إذا كان يوم الجمعة، كما تصلي الناس «1» ، فتعالي، فاعلقي بي، والطمي وجهي، وقولي لي: يا عدوّ الله يا فاسق، قتلت ابني ببغداد، وهربت إلى هاهنا، وجئت تتعبّد، وعبادتك مضروب بها وجهك.
ولا تفارقيني، وأظهري أنّك تريدين قتلي بابنك، فإن الناس يجتمعون عليك، وأمنعهم أنا من أذيّتك، وأعترف بأنّي قتلته، وتبت، وجئت إلى هاهنا، للعبادة والتوبة، والندم على ما كان منّي.(2/352)
فاطلبي قودي بإقراري، وحملي إلى السلطان، فسيعرضون لك الدية فلا تقبليها، أو يبذلوا لك عشر ديات، أو ما استوى لك بحسب ما ترين من زيادتهم، وحرصهم.
فإذا تناهت عطيّتهم في افتدائي إلى حدّ يقع لك أنّهم لا يزيدون بعده شيئا، فاقبلي الفداء منهم، واجمعي المال، وخذيه، واخرجي من يومك عن البلد إلى طريق بغداد، فإنّي سأهرب، وأتبعك.
فلما كان من الغد جاءت المرأة، فلما رأته، فعلت به ما قال لها، ولطمته وقالت المقالة التي علّمها.
فقام أهل البلد ليقتلوها، وقالوا: يا عدوّة الله، هذا من الأبدال «1» هذا من قوّام العالم «2» ، هذا قطب الوقت «3» ، هذا صاحب الزمان، هذا، هذا.
فأومأ إليهم أن اصبروا ولا تنالوها بسوء، فصبروا، وأوجز صلاته، ثم سلّم، وتمرّغ في الأرض طويلا.
ثم قال للناس: هل سمعتم لي كلمة منذ أقمت فيكم؟
فاستبشروا لسماع كلامه، وارتفعت صيحة عظيمة، وقالوا: لا.
قال: فإنّي إنّما أقمت عندكم تائبا ممّا ذكرته، وقد كنت رجلا في زيغ وخسارة، فقتلت ابن هذه المرأة، وتبت، وجئت إلى هاهنا للعبادة،(2/353)
وكنت محدّثا نفسي بالرجوع إليها، وطلبتها لتقيدني «1» ، خوفا من أن لا تكون توبتي قد صحّت، وما زلت أدعو الله تعالى أن يقبل توبتي، ويمكّنها مني، إلى أن أجيبت دعوتي [189 ب] ، وقبل الله توبتي، لمّا جمعني وإيّاها، ومكّنها من قودي، فدعوها تقتلني، وأستودعكم الله تعالى.
قال: فارتفعت الصيحة والبكاء.
وقال له هذا: يا عبد الله ادع لي.
وقال له هذا: ادع لي.
وأقبلت المرأة بين يديه، وهو مارّ إلى والي البلد، وهو يمشي على تأنّ ورفق، ليخرج من الجامع إلى دار الأمير، فيقتله بابنها.
فقال الشيوخ: يا قوم لم ضللتم عن مداواة هذه المحنة؟ وحراسة بلدكم بهذا العبد الصالح؟ فارفقوا بالمرأة، وسلوها قبول الدية، ونجعلها من أموالنا.
فأطافوا بها، وسألوها، فقالت: لا أفعل.
قالوا: خذي ديتين.
فقالت: شعرة من ابني بألف دية.
فما زالوا حتى بلغوا عشر ديات.
فقالت: اجمعوا المال، فإذا رأيته، إن طاب قلبي بقبوله، والعفو عن الدم، فعلت، وإلّا قتلت القاتل.
فقالوا: نعم.
فقال الرجل: قومي عافاك الله، وردّيني إلى موضعي من الجامع.
قالت: لا أفعل.(2/354)
قال: فذاك إليك.
فما زالوا يجمعون إلى أن جمعوا مائة ألف درهم، فقالوا: خذيها.
قالت: لا أريد إلّا قتل قاتل ابني، فهو آثر في نفسي.
فأقبل الناس يرمون بثيابهم، وأرديتهم، وخواتيمهم، والنساء بحليهنّ، والرجال كلّ يرمي بشيء من متاعه، ومن لم يتحمّل من ذلك الفداء، كان في أمر عظيم، وكأنّه قد خرج من الدنيا.
فأخذته، وأبرأته من الدم، وانصرفت.
فأقام الرجل في الجامع أيّاما يسيرة، حتى علم أنها قد بعدت، ثم هرب في بعض الليالي، وطلب من غد فلم يوجد، ولا عرف له خبر.
حتى انكشف لهم أنّها حيلة عملها، بعد مدّة طويلة «1» .(2/355)
188 صوفيّ سمع، فطرب، فتواجد، فمات
رأيت ببغداد صوفيا يعرف بأبي الفتح، أعور، في مجلس أبي عبد الله ابن البهلول، يقرأ بألحان، قراءة حسنة، وصبيّ يقرأ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ
«1» .
فزعق الصوفيّ: بلى، بلى، دفعات، وأغمي عليه طول المجلس، وتفرّق الناس عن الموضع.
وكان الاجتماع في صحن دار كنت أنزلها، فلم يكن الصوفيّ أفاق، فتركته مكانه، فما أفاق إلى قرب العصر، ثم قام.
فلما كان بعد أيّام، سألت عنه، فعرفت أنّه حضر عند جارية بالكرخ، تقول بالقضيب «2» ، فسمعها تقول الأبيات التي فيها:
وجهك الميمون حجّتنا ... حين تأتي الناس بالحجج
فتواجد ودقّ صدره، إلى أن أغمي عليه، فسقط.
فلما انقضى المجلس، حرّكوه، فوجدوه ميتا، فشالوه، ودفنوه، واستفاض الخبر بهذا وشاع.
والأبيات لعبد الصمد بن المعذّل «3» ، وهي في أمالي الصولي عنه بإسناد ثابت في أصول سماعاتي:(2/356)
يا بديع الدلّ والغنج ... لك سلطان على المهج [190 ب]
إنّ بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج
لا أتاح الله لي فرجا ... يوم أدعو منك بالفرج
وجهك المأمول حجّتنا ... يوم تأتي الناس بالحجج
والصوفيّة، إذا قالوا: وجهك المأمول، يقلبونه إلى ما لهم في ذلك من المعاني.
وكانت قصّة هذا الرجل، وموته في سنة خمسين وثلاثمائة، وأمره من مفردات الأخبار «1» .(2/357)
189 مكدّيان بغداديان يحتالان على الناس
حدّثني جماعة من شيوخ بغداد:
إنّه كان بها في طرفي الجسر سائلان أعميان، يتوسّل أحدهما بأمير المؤمنين عليّ عليه السلام، والآخر بمعاوية، ويتعصّب لهما الناس، وتجيئهما القطع «1» دارّة.
فإذا انصرفا جميعا، اقتسما القطع، وإنّهما كانا شريكين، يحتالان بذلك على الناس «2» .(2/358)
190 كلنا صيادون لكن الشباك تختلف
حدّثني أبو أحمد عبد السلام بن عمر بن الحارث «1» ، قال:
جاء رجل من الصوفية إلى بجكم»
وهو بواسط، فوعظه، وتكلّم عليه بالفارسية والعربية، حتى أبكاه بكاء شديدا.
فلمّا ولّى من بين يديه خارجا، قال بجكم لبعض من بحضرته: احمل معه ألف درهم، وادفعها إليه.
قال: فحملت، فأقبل بجكم على من بين يديه، فقال: ما أظنه يقبلها وهذا محترق بالعبادة، أيش يعمل بالدراهم.
قال: فما كان بأسرع من أن رجع رسوله الذي كان أنفذه بالدراهم، فارغ اليد.
فقال له بجكم: أيّ شيء عملت؟
قال: أخذت إليه الدراهم، وأعطيته إيّاها.
قال بجكم: فأخذها؟
قال: نعم.
فعضّ بجكم على شفتيه، وقال: إنّا لله، حيلة تمت عليّ، كلّنا صيادون لكنّ الشباك تختلف «3» .(2/359)
191 تاجر يتحدث عن صفقة عقدها وّراء باب الأبواب
وحدّثني أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب «1» ، عن رجل من التجّار الموغلين في الأسفار، قال:
سافرت إلى وراء باب الأبواب «2» بمسافة بعيدة، ومعي متاع.
فبلغت أرضا لها أهل بيض شقر، مرط، دقاق، قصار، عراة، قليلو الأظفار، لغتهم لغة غير الفارسية والتركية، لا أعرفها، لا ورق «3» ، في بلادهم، ولا عين «4» ، وإنّما يتعاملون بالأمتعة، والأغلب عندهم الغنم.
فحملت إلى ملكهم، فعرضت عليه ما معي، فاستحسن منه ثوب ديباج كان معي، منقّطا، فسألني عن ثمنه، فاستمت مالا كثيرا.
فقال لي: لا مال عندنا وإنّما هي هذه الأمتعة، فإن صلحت لك، فخذ ما شئت.
فقلت: لا تصلح لي.
فقال: فالغنم؟
فقلت: كم عساك تعطيني؟(2/360)
فقال: حكمك.
فقلت: بعدد كل نقطة في الثوب شاة. [191 ب] فقال: قد أجبتك.
فأخذت أعدّ النقط، فلم ينضبط لي ذلك، وجهد جميع من عنده في هذا، فتعذّر عليهم.
فقال لي: ما نعمل الآن، قد تعبنا، وأتعبناك في شيء لا يصحّ، فهممت بحمل الثوب والانصراف.
ففكّر ساعة، ثم قال لترجمانه: قال له يبسط الثوب.
وكان له ترجمانان، يكلّم أحدهما بلغته، فيكلّم الترجمان، ترجمانا آخربلغة أخرى، فيكلّمني ذاك بالفارسية، فأفهم.
قال: فبسطت الثوب، وأمر الملك، فأحضر كلّ ما قدر عليه من حصى صغار وأحجار لطيفة، فترك على كل نقطة حصاة، حتى امتلأ الثوب بالحصى والحجارة اللطاف فوق النقط.
ثم أمر بجمع أمر عظيم من الغنم، وأوقفت بحضرته، وأمر رجالا أن يجلسوا، ورجالا [أن يقوموا] فجلس بعضهم على الثوب.
فكانوا يأخذون حصاة حصاة فيلقونها عن الثوب، فكلما ألقى من الجلوس رجل حصاة، أخذ رجل من القيام، شاة من الموضع الذي فيه الغنم إلى رحلي، وسلّمت إلى أصحابي، حتى استوفيت على عدد الحصى الذي كان فوق الثوب، بكل نقطة شاة.
قال: فاستحسنت فطنته لذلك، فقلت للتراجم: قولوا له: ما أنصرف إلى بلدي بشيء أحسن من فطنة الملك، لاستخراج هذا، فكيف وقع له هذا وهو لا يلابس مثله؟ وأنا تاجر، وما وقع لي، ولا لجميع أهل مملكته.
قال: فأعجبه قولي، وقال: إنّك لما أردت الانصراف، تأسّفت على(2/361)
ما يفوتني من الثوب، ففكّرت، والملوك لا بدّ أن يدرّبهم الملك، ويصيّر لهم مزيّة في حيل الرأي في الحوادث التي تطرقهم، ليست لغيرهم، لأنّ أفكارهم صافية من الاهتمام بما يهتم به غيرهم من المعايش، موقوفة على مصالح المملكة، ومداراة الخوارج، أو على الشهوات، قدر ما شغلوا به نفوسهم، وليس يتحصّل لواحد منهم الملك، إلّا لشرفه، ومعنى قد فضل به، وتقدّم من أجله، إما بسعادة تخدمه، أو بفضل في نفسه، فلما رأيت أنّ الثوب يريد «1» أن يفوتني، فكّرت، كيف الحيلة في عدّ النقط، فوقع لي ما رأيت.
فقلت له: أيّها الملك، فائدتي بما سمعته منك، من هذا الكلام، أحب إليّ من فائدتي بما ربحته عليك في ثمن الثوب.
قال: فأجازني بجائزة سنيّة، وأصحبني من آنسني، وخدمني في طريقي، وحمل معي تلك الغنم، إلى أن خرجت من أعماله، فبعتها بمال عظيم «2» .(2/362)
192 أبو علي الأنباري والطبيب يوحنّا الأهوازي
حدّثني أبو عليّ الأنباري «1» ، قال:
كنت بحضرة أبي يوسف البريديّ «2» ، فكتبت كتبا كثيرة «3» ، وحمي النهار، فقمت ضجرا، أمشي في الصحن الأعظم من الدار، فلقيت يوحنّا الطبيب الأهوازيّ النصرانيّ «4» ، فقال: يا أبا [192 ب] عليّ افتصد الساعة، وإلّا طعنت.
فقلت: أمس افتصدت.
قال: فحلّ إزارك، وسراويلك.
قال: فوقفت، وفعلت ذلك.
فقال لي: لو لم يتغيّر لونك إلى الإسفار، لفصدتك ثانية.
قال: فعجبت من فطنته لاجتماع الدم في وجهي، ومعالجته بسرعة «5» .(2/363)
193 طبيب يتحدث عن بعض خواص النارنج
وحدّثني أبو عليّ «1» ، قال: دخل يوحنّا «2» يوما إلى داري، وبحضرتي مطاولات «3» كثيرة، فيها نارنج، فحين رآها، قال يوحنّا: منذ كم هذه الأطباق عندك؟
فقلت: منذ أيام.
فقال: إنّا لله، تقدّم برفعها الساعة، والا لم أجلس وهي أمامي «4» .
فقلت: شيلوها.
ثم قلت: ما السبب في هذا؟
فقال: إنّ النارنج خاصيته أن يرعف «5» ، وإنّه لا يرعف أحد عقيب إدمانه شمّه رعافا يكون سببه شمّه أو بالاتفاق، إلّا يدوم رعافه إلى أن يموت، فلا حيلة فيه «6» .(2/364)
194 من شعر ابي القاسم الصروي
أنشدني أبو القاسم الصرويّ لنفسه:
ويوم كيوم البين حرّا قطعته ... على سابح طاوي الأياطل سابق
أخوض عليه جمرة القيظ حاسرا ... كأنّي على الهجران في قلب عاشق «1»
[193 ب] .
وهذا آخر الكتاب
وكان الفراغ من كتابته في يوم الجمعة مستهل رجب الفرد سنة ثلاثين وسبعمائة. الحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم [نسخة ب] .(2/365)
محتويات الكتاب
5:: مقدمة المحقق
7:: مقدمة المؤلف
9: 1: علوّ نفس أبي جعفر القاضي
12: 2: الحكم كالسهم إذا نفذ لم يمكن ردّه
18: 3: شيخ أهوازيّ يسعى في صرف عامل الأهواز
21: 4: من مكارم أخلاق المأمون
22: 5: مروءة القاضي محمد بن منصور
23: 6: حرمة القضاء في العهد العباسي
24: 7: جزاء الوالي الظالم
25: 8: الجذوعي القاضي يشهد على الخليفة المعتمد
27: 9: إيحاشك فقد وإيناسك وعد
28: 10: أبو خليفة القاضي والكلام المسجوع
29: 11: بين علي بن عيسى وعلي بن الفرات
32: 12: الوزير ابن الفرات يفحم مناظريه ويكاد يأكلهم
36: 13: أفضل ما يخلّف المرء لعقبه صديقا وفيّا
40: 14: المأمون ومحبّته للجوهر
41: 15: أمويّ يتحدّث عمّا أعانهم في نكبتهم
42: 16: لقمة بلقمة
44: 17: كفى بالأجل حارسا(2/367)
46: 18: كتاب من يحيى بن فهد الأزدي للأمير أبي تغلب بن حمدان
49: 19: من شعر يحيى بن فهد الأزدي
52: 20: بين يحيى بن فهد الأزدي وأبي الفرج الببغاء
54: 21: فقرات من رسائل
55: 22: بين أبي عمر القاضي وأبي عصمة الخطيب
58: 23: القاضي يخطب بين يدي الخليفة في الإملاك
59: 24: وصف طبق قطائف
59: 25: النداء على الرطب الآزاد
60: 26: الوزير بن مقلة وأبو أحمد الفضل الشيرازي الكاتب
67: 27: الوزير بن مقلة يهدي لكاتبه عطرا وشرابا ومالا
70: 28: أنت تحركت على الصفراء، ليس الصفراء تحركت عليك
71: 29: بغل لا يصلح للبيع
72: 30: القاضي أبو الحسن الهاشميّ يغسل الخليفة الراضي
73: 31: الخليفة الواثق يهمل بعد موته فيأكل الحرذون عينيه
75: 32: ما أرانا إلا كنّا خزّانا للوليد
76: 33: الخليفة القاهر يعذب أم المقتدر زوجة أبيه ويصلبها منكّسة
77: 34: الخليفة القاهر يعذب أم المقتدر ويضطرها لبيع أملاكها
80: 35: يقتلون شيخا حسن الشيبة، ثم يظهر أنه خنّاق
83: 36: القاضي أبو عمر وحسن تصرفه ووفور عقله
87: 37: القاضي أبو عمر يستميل احد خدم الخليفة
89: 38: جواب مفحم
90: 39: رقية تحبس السم
92: 40: دواء للسعة الزنبور(2/368)
92: 41: طبيب يلطخ مريضا بالعذرة
93: 42: ذرق العصفور يزيل الآكلة
93: 43: البول المغليّ يحلّ القولنج
94: 44: عجوز تداوي من البثور
95: 45: حظ القاضي أبي جعفر بن البهلول يدفع كارثة
97: 46: الأمير معز الدولة يزاد فوق وظيفته رغيفين وباقة بصل
99: 47: أبو علي حمولي القميّ يرتفع من حارس في خان إلى أعلى المراتب
100: 48: إن الفتى من يقول ها أنذا
101: 49: حريق الجمل ببغداد
104: 50: إبراهيم بن الحسن البزاز يخسر في حريق واحد ما يزيد على أربعمائة ألف درهم
105: 51: أبو القاسم الجهني يفخر بأنّه قد أجهد نفسه فيما لا يليق بالرجل الحرّ
108: 52: أبو القاسم الجهني يتولى الحسبة بالبصرة
110: 53: الكوكبي محتسب الأهواز والقاضي ابن السراج
111: 54: أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم
114: 55: حكاية تدل على مقدار عناية الوزير عبيد الله بن سليمان بابن أبي عوف
115: 56: ابن أبي عوف يحتال في إيصال كتبه إلى الوزير
116: 57: تصرّف من ابن أبي عوف يدل على نفس صغيرة
117: 58: سبب سقوط محل ابن أبي عوف
118: 59: الموفق طلحة يراسل أخاه المعتمد في خلع المفوض وتقليد العهد لغيره(2/369)
120: 60: متى حدّثت ابن مقلة نفسه بالوزارة
122: 61: شيخ من الديناريين يثني ابن مقلة عن طلب الوزارة
123: 62: من طلب عظيما خاطر بعظيم
124: 63: وجزاء سيئة سيئة مثلها
126: 64: مشعوذ يدعي الولاية
129: 65: الشبلي يتواجد
130: 66: إذا عتّق الشمع عشرات السنين ثم استعمل أبطأت النار فيه
132: 67: حجّام يحجم بالنسيئة إلى الرجعة
133: 68: أذان رجل من القطيعة
134: 69: الحنابلة يبنون مسجدا ضرارا
135: 70: أبو عبد الله الكرخي آية في سرعة الحفظ
137: 71: أبو عبد الله الكرخي يحفظ جماعة تحتوي على ارتفاع فارس
138: 72: نادرة عن شخص آخر آية في سرعة الحفظ
140: 73: والد المؤلف يحفظ قصيدة تشتمل على ستمائة بيت في يوم وليلة
142: 74: مقدار ما حفظه والد المؤلف من الشعر
143: 75: حفظ القرآن في ستة أشهر
144: 76: من أقوال الصوفيّة
145: 77: ناصر الدولة الحمداني يتبع وصيّة أبيه أبي الهيجاء
152: 78: بين ابن أبي البغل عامل أصبهان وأحد طلاب التصرف
155: 79: ابن أبي البغل يأمر بأشخاص أحد عمّاله لكي يقطع سحاة كتاب(2/370)
157: 80: لابن بشر الآمدي يهجو قاضي البصرة
158: 81: أبو رياش الشاعر يعاتب الوزير المهلبي
159: 82: بين أبي العباس بن دينار وأبي يحيى الرامهرمزي
161: 83: حجر خاصيته طرد الذباب
163: 84: يوسف بن وجيه صاحب عمان يذعن لحكم مستشاريه
165: 85: سلب دنانيره ثم استعادها بدرهمين
167: 86: امرأة تدعي أنّ زوجها كان يعشق السراويلات
169: 87: ينكر الدين ويأبى أن يحلف اليمين
170: 88: بحث في الرباب بين القاضي وأحد العدول
171: 89: القاضي أبو عمر يتردد في قبول شهادة شاهد تظاهر بالانزعاج من رائحة الخمر
172: 90: قواد ابن قواد
184: 91: أراد جوامرك فطلب جوانبيره
186: 92: أسد بن جهور وبخله على الطعام
188: 93: ناصر الدولة يحاسب على بقية دجاجة
190: 94: الحسن بن مخلد وبخله على الطعام
195: 95: إنّ بالحيرة قسّا قد مجن
197: 96: بين جحظة وأبي الحسين بن عيّاش
198: 97: أبو عيشونة الشاطر
199: 98: الحذّاء الماجن بباب الطاق
200: 99: طبيب يتماجن على مريض
201: 100: يريد نعلا وجهه مليح وأسفله وثيق
201: 101: كما تدين تدان(2/371)
202: 102: طيّب الطعام يستخرج لبّ الشكر
202: 103: سعد السعود
203: 104: من رسائل أبي محمد المهلّبي
204: 105: أبو طلحة يروي حديثا غير شريف
205: 106: واصل بن عطاء والخوارج
207: 107: بين معتزليّ وأشعريّ
208: 108: خلاف بين المعتزلة وبين غوغاء من العوام
209: 109: دفن أبي هاشم الجبائي وأبي بكر بن دريد في يوم واحد
211: 110: بين الهبيريّ وابن أبي خالد الأحول
216: 111: بين ابن أبي الأضخم وابن أبي خالد الأحول
218: 112: إذا نزل القضاء لم ينفع الدعاء
219: 113: من شعر ابن الحجّاج البغدادي
222: 114: عائدة الجهينة تنظم الشعر الحسن
224: 115: لو كان هذا المخنّث شاعرا، كان أشعر الناس
225: 116: بين مخنّث وامرأة
225: 117: بين مخنّث ومغنّية
226: 118: بين مخنّث وامرأة تولّعت به
226: 119: فتى يهاتر مغنّية
227: 120: الحر العاملي ومكاشفته باللواط
228: 121: أبو عيسى ابن بنت أبي نوح ومكاشفته بالبغاء
229: 122: الصولي والاسفيذباج بالمباعر المحشوّة
230: 123: لم أمرّضه فأسلو، لا ولا كان مريضا
233: 124: كان الناس لا يستطيعون النياحة على الحسين خوفا من الحنابلة(2/372)
234: 125: عناية رسول الله صلوات الله عليه بأبي حسان الزيادي
240: 126: العلويون وآل طاهر
243: 127: بين الوزير علي بن عيسى والعطار الكرخي
246: 128: يحفظ شعرا في منامه
248: 129: المعتضد يهدم سور أنطاكية
252: 130: بحث في شكوى الزمان وفساد الإخوان
255: 131: من شعر أبي فراس الحمداني
261: 132: نسخة كتاب من أبي محمد يحيى الأزدي إلى الأمير أبي تغلب بن ناصر الدولة
264: 133: رسالة إلى رجل تزوجت أمّه
265: 134: حديث العلويّة الزمنة
269: 135: إذا لم تكن في الشاهد ثلاث من خلال أهل النار صار هو من أهل النار
270: 136: شطرنجيّ يتحدث عن فضائل الشطرنج
272: 137: يخاف على غلبته في النرد من العين
272: 138: مقامر بالنرد يكفر إذا خسر
273: 139: بحث في عبارة الرؤيا
275: 140: ضيق أحوال الناس أبعدهم عن ممارسة البر والإحسان
277: 141: قردة على جانب عظيم من الذكاء
278: 142: مخنّث حاضر الجواب
279: 143: الشاعر أبو نصر البنص وجارية بغدادية
280: 144: فص حجر خاصيته طرد الذباب
281: 145: أسد بن جهور وكثرة نسيانه(2/373)
282: 146: أسد بن جهور يطلب الماء للدواة مرارا ثم يشربه
283: 147: بين أبي بكر الأزرق التنوخي وأسد بن جهور
286: 148: بين طاهر بن يحيى العلوي وأحد أصحابه
287: 149: يا قديم الإحسان
290: 150: الحلاج في جامع البصرة
292: 151: جحظة البرمكي يغضب من خسارته في النرد
293: 152: بين مؤذن ومحتسب
294: 153: أبو بكر بن دريد كان آية في الحفظ
295: 154: البربهاري رئيس الحنابلة ببغداد
296: 155: أبو الفرج الببغاء ينشىء نسخة كتاب على لسان الأمير سيف الدولة بشأن الفداء
301: 156: الشاعر المعوج يمدح بدر الحمامي
302: 157: الشاعر الصروي يمدح صاحب النشوار
303: 158: أبيات من نظم أبي القاسم عبيد الله بن محمد الصروي
305: 159: لأبي الفرج الببغاء في وصف كانون
306: 160: لأبي الفرج الببغاء في صفة شمعة
307: 161: للسري الرفاء في الغزل
308: 162: بين قاضي القضاة أبي السائب والشاعر ابن سكرة الهاشمي
310: 163: طبيعة الأمير سيف الدولة في إسداء المكارم
312: 164: كيف تأثلت حال أبي عبد الله الجصّاص
314: 165: سبب اختصاص أبي عبد الله بن الجصّاص بأبي الجيش خمارويه أمير مصر
316: 166: بين الخليفة المكتفي والتاجر ابن الجصّاص(2/374)
318: 167: إسماعيل بن بلبل والأعرابي العائف
320: 168: أعراب ثلاثة يتنبأون بموت قاضي القضاة ودفنه في داره
322: 169: عيافة أعرابي
324: 170: من أحاديث الزرّاقين
327: 171: بين الأمير الموفق وأبي معشر المنجّم
329: 172: مما شاهده المؤلف من صحّة أحكام النجوم
331: 173: الأخذ بالحزم أولى
332: 174: أبو عليّ أحذق الناس بالنجوم
333: 175: أبو الحسن الأهوازي وسابور ذو الأكتاف
334: 176: أبو عبد الله الكرخي يحب مؤاكلة الأكول
336: 177: بين أبي جعفر بن شيرزاد وأبي عبد الله الموسوي
339: 178: اللص والعجوز الجلدة أم الصيرفي
342: 179: من بركة المعتزلة أن صبيانهم لا يخافون الجن
343: 180: محدّث قارب المائة يتواجد في مجلس خاطف المغنّية
344: 181: الباغندي المحدّث يخطىء في موضعين
345: 182: حكاية تدلّ على ذكاء القرد
346: 183: هذا من تعليم القرد
347: 184: القرود والقلانس
348: 185: القرود المستأنسة في اليمن تشتري الحاجات من السوق
349: 186: أبو عبد الله المزابلي والروح الأمين جبريل رسول ربّ العالمين
351: 187: عيّار بغداديّ يحتال على أهل حمص(2/375)
356: 188: صوفيّ، سمع، فطرب، فتواجد، فمات
358: 189: مكدّيان بغداديان يحتالان على الناس
359: 190: كلنا صيّادون ولكنّ الشباك تختلف
360: 191: تاجر يتحدث عن صفقة عقدها وراء باب الأبواب
363: 192: أبو علي الأنباري والطبيب يوحنا الأهوازي
364: 193: طبيب يتحدث عن بعض خواص النارنج
365: 194: من شعر أبي القاسم الصروي(2/376)
فهرس أسماء الأشخاص أ
(أ)
أبو إبراهيم- الأنطاكي الشطرنجي 270
إبليس 241
ابن الأثير- عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري 66، 118، 119
أحمد بن إسحاق- أبو جعفر بن البهلول القاضي التنوخي- التنوخي
أحمد بن الطيّب- السرخسي
ابن الأحموش- تاجر الغلات 120
الأحول- أحمد بن أبي خالد- وزير المأمون 211، 214، 215، 216
ابن الأخرس- تاجر الغلات 120
ابن الأخزر- أبو القاسم عليّ النحويّ 286
الأرجانيّ- أبو عبد الله الحسين بن شعيب 24
الأزدي- أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد 46، 49، 52، 60، 67، 70، 145، 172، 261، 265، 268
أرسطاطاليس 201
الإسحاقي- شاكر- أمير الكوفة 283، 284
إسماعيل بن بلبل- الوزير 25، 26، 318، 319
الإشنانداني- أبو عثمان- معلم أبي بكر بن دريد 294
أصبغ بن أحمد- أبو جعفر الكاتب 80
الأصبهاني- أبو القاسم سعد بن عبد الرحمن 152، 155(2/377)
الأصبهاني- أبو الفرج علي بن الحسين- صاحب الأغاني 99، 132، 133
الأصبهاني- أبو بكر محمد بن داود- صاحب كتاب الزهرة 210
ابن أصدق- النائح على الحسين عليه السلام 230، 231، 232
ابن أبي الأضخم- شيخ من شيوخ الكتاب 216
ابن الأعرابي- أبو عليّ الشاعر 292
الأعشى- أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل 89
الآمدي- أبو القاسم الحسن بن بشر 157
بنو أميّة- 36، 41
الأنباري- أبو علي الحسن بن محمد 167، 290، 360، 363، 364
الأنصاري- علي بن محمد 92، 93، 94
الأهوازي- أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين الكاتب 230، 232، 252، 253
الأهوازي- أبو الحسن مطهّر بن إسحاق بن يوسف الشاهد 333، 334
الأهوازي- أبو زكريا يوحنا الطبيب النصراني 363، 364
الإيذجي- أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله القاضي 209
الإيذجي- سهل بن عبد الله 9، 209
(ب)
الباغندي- أبو بكر محمد بن سليمان بن الحارث بن عبد الرحمن الأزدي 344
الببغاء- أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي 52، 264، 296، 305، 306
بجكم- أمير الأمراء- القائد التركي 80، 81، 82، 92، 121، 159، 221، 222، 336، 359
البحتري- أبو عبادة- الوليد بن عبيد الطائي 142، 281
بختيار- أبو منصور عز الدولة بختيار بن معز الدولة 152، 157، 219، 253(2/378)
أم بختيار- زوجة معز الدولة 252
بدر اللاني- القائد التركي 115
بدعة الحمدونية- بدعة الصغيرة
بدعة الصغيرة- المعروفة ببدعة الحمدونية 66
بدعة الكبيرة- جارية عريب المأمونيّة 66
البربهاري- الحسن بن علي بن خلف- رئيس الحنابلة 233، 295
البرمكي- جعفر بن يحيى بن خالد 194
البريدي- أبو عبد الله أحمد بن محمد 123، 163، 221، 222، 252، 290، 333، 363
البريدي- أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمد 252
البريدي- أبو يوسف يعقوب بن محمد 125، 167، 290، 363
البزاز- إبراهيم بن الحسن 104
البزاز- أبو محمد خلف بن هشام الأسدي- أحد القراء العشرة 143
ابن بسّام- أبو الحسن علي بن محمد بن نصر 117
البسطامي- أبو بكر، غلام ابن دريد، وزوج ابنته 42
البصريّ- أبو طلحة الحذّاء- الحذّاء
البصريّ- أبو الحسن محمد بن عليّ بن الخلّال- الخلال
البصريّ- أبو محمد يعقوب بن إسحاق- أحد القراء العشرة 143
ابن أبي البغل- أبو الحسين محمد بن أحمد بن يحيى 152، 153، 154، 155
ابن بلبل- إسماعيل الوزير- إسماعيل بن بلبل
البنص- أبو نصر النيسابوري 279
بهجة- الصفراء- عشيقة أبي الفضل الشيرازي الكاتب 70
البيهقي- إبراهيم بن محمد- صاحب كتاب المحاسن والمساوئ 54(2/379)
(ت)
تجنّي- جارية الوزير أبي محمد المهلّبي وأم أولاده 265، 268
التستري- أبو عبد الله بن هارون المقرىء 143
أبو تمام- حبيب بن أوس الطائي 142
التنوخي- أبو عبد الله بن البهلول 356
التنوخي- علي بن إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول 280
التنوخي- أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي 58، 90، 91، 95، 96، 168
التنوخي- أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول 58، 90، 91، 97، 114، 115، 116، 120، 126، 187، 205، 207، 273، 275، 281، 286، 287، 292، 293، 294، 295، 332، 343
التنوخي- أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول 329
التنوخي- أبو القاسم علي بن محمد القاضي- والد صاحب النشوار 9، 12، 21، 25، 27، 42، 55، 100، 135، 137، 140، 141، 142، 159، 203، 209، 211، 222، 224، 230، 231، 233، 234، 240، 248، 268، 270، 329، 330، 333
التنوخي- أبو عليّ المحسّن بن عليّ القاضي- صاحب النشوار 3، 5، 23، 42، 55، 72، 80، 86، 91، 123، 141، 234، 268، 279، 287، 290
التنوخي- أبو طالب محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي 58، 90، 91
التنوخي- محمد بن أبي الفهم داود بن إبراهيم- جد صاحب النشوار 140، 142، 248
التنوخي- أبو الخطاب محمد بن علي بن إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول 280
التنوخي- أبو بكر الأزرق، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول 115، 281، 282، 283(2/380)
توزون- القائد التركي، أمير الأمراء 63، 222، 336
تيمور- أحمد 126، 155، 162، 174، 177، 184، 185، 194، 195، 322
(ث)
الثعالبي- أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري 158، 305
(ج)
الجاحظ- أبو عثمان عمرو بن بحر 132، 168
جارية أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون 37
الجبائي- أبو هاشم عبد السلام بن أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب 209، 273، 276، 332
الجبائي- أبو علي محمد بن عبد الوهاب 273، 331، 332
جبريل- رسول رب العالمين 340، 341، 349، 350
جحظة- أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد البرمكي 190، 194، 195، 196، 197، 292
الجذوعي- أبو عبد الله محمد بن محمد بن إسماعيل بن شداد الأنصاري 25، 26، 27
ابن الجصاص- أبو علي أحمد بن الحسين بن عبد الله الجوهري 312
ابن الجصاص- أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الجوهري 36، 39، 312، 315، 316، 317
أبو جعفر القاضي- محمد بن منصور القاضي
الجعفري- أبو هاشم 240
ابن جعلان- أبو الحسين أحمد بن محمد 312
الجمّال- أبو علي بن إدريس الشاهد 111
الجنيد- أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز الصوفي 129(2/381)
الجهني- أبو القاسم 36، 105، 108
الجهنيّة- عائدة بنت محمد 222
الجهنية- عابدة بنت محمد 222
ابن جهور- أسد- أحد كبار عمال الدولة العباسية 184، 186، 281، 282، 283، 284، 285
ابن الجوزي- أبو الفرج عبد الرحمن بن علي 70
الجوهري- ابن حباب 77
أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون- خمارويه
(ح)
الحارثي- أبو أحمد عبد السلام بن عمر بن الحارث 359
الحارثي- أبو أحمد عبد الله بن عمر بن الحارث السراج الواسطي 118، 161، 165، 246، 327، 359
الحافي- بشر 321
حامد بن العباس- وزير المقتدر 32، 33، 34، 35، 89، 313
الحبشي- الأمير سند الدولة أبو حرب الحبشي بن معز الدولة 152
ابن الحجاج- أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد 219
الحجاج بن يوسف الثقفي 118
الحذّاء- أبو الحسن بن سهيل 202، 218، 277، 278
الحذّاء- أبو طلحة البصريّ 201، 204
الحذّاء- أبو الحسن عليّ بن عبد الله 218
الحر- العاملي الشاعر 227
حرب بن عبد الملك- أحد قواد أبي جعفر المنصور 321
ابن الحرث- صاحب الوزير أبي القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد 125
الحسن بن هانىء الحكمي- أبو نواس الشاعر 89(2/382)
الحسين عليه السلام- الإمام الشهيد 44، 231، 233
الحسين بن دريد- عم أبي بكر بن دريد 294
أبو الحسين- عمر بن محمد بن يوسف الأزدي القاضي 58، 77، 79، 83، 320
الحصري- أبو إسحاق إبراهيم بن علي القيرواني- صاحب زهر الآداب وذيله المسمى جمع الجواهر في الملح والنوادر 219
الحمداني- إبراهيم بن ناصر الدولة الحسن 261
الحمداني- أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان 255، 256، 257، 258، 259، 260، 305
الحمداني- ناصر الدولة الحسن بن عبد الله 55، 145، 146، 150، 151، 188، 221، 336
الحمداني- الحسين بن ناصر الدولة الحسن 261
الحمداني- حمدان بن ناصر الدولة الحسن 261
الحمداني- الأمير سيف الدولة أبو الحسن عليّ بن عبد الله 55، 145، 264، 279، 296، 305، 307، 310، 311
الحمداني- أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي- والد سيف الدولة 145، 149، 150، 151
الحمداني- أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة 46، 145، 261
الحمداني- أبو الفوارس محمد بن ناصر الدولة 46
الحمدانية- جميلة بنت ناصر الدولة 219
ابن حمدي- اللص البغدادي 336
الحموي- أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي 60
الحموي- تقي الدين أبو بكر بن علي المعروف بابن حجّة- صاحب ثمرات الأوراق 89
ابن حنبل- الإمام أحمد 321
ابن حنزابة- الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات- ابن الفرات
أبو حنيفة- الإمام النعمان- النعمان بن ثابت(2/383)
ابن الحواري- أبو القاسم علي بن محمد 33، 34، 55، 56، 197
(خ)
الخادم- وصيف 248، 249
خاطف- المغنّية بالقضيب 343
الخاقاني- محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان- وزير المقتدر 152
الخالدي- جعفر الصوفي 218
الخراساني- أبو حامد القاضي- أحمد بن عامر بن بشر المروزي 279
الخزاعي- أبو علي دعبل بن علي- شاعر أهل البيت 140
الخصيبي- أبو العباس أحمد بن عبيد الله الوزير 62، 63، 124، 125
ابن الخضر- إبراهيم- أحد أمناء القضاة ببغداد 44
الخطيب البغدادي- أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت 74، 234
الخلّال- أبو الحسن محمد بن علي البصري 21
خلب- النائحة على الحسين عليه السلام 233
الخلدي- أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير بن القاسم الخوّاص الصوفي 218
أبو خليفة- الفضل بن الحباب بن محمد الجمحي القاضي 27، 28
ابن خفيف- إبراهيم الكاتب 275
خمارويه- أبو الجيش بن أحمد بن طولون 37، 38، 39، 312، 315
(د)
دبيس بن صدقة الأسدي 321
ابن دريد- أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي 42، 210، 294
أبو دلف- القاسم بن عيسى 102
دنانير- جارية البرامكة 204
ابن أبي دؤاد- أبو عبد الله أحمد الأيادي القاضي 74، 102، 103، 234(2/384)
دينار- بن عبد الله- مولى الرشيد 122
ابن دينار- أبو العباس عبيد الله بن دينار 159
الديناريّة- زوجة الوزير أبي عليّ بن مقلة 122
(ر)
ابن رائق- الأمير أبو بكر محمد- أمير الأمراء 55، 121، 221، 222، 336
الراضي- أبو العباس محمد بن أبي الفضل جعفر المقتدر 55، 63، 72، 121، 125، 223، 233
الرامهرمزي- أبو يحيى زكريا بن محمد بن زكريا 159
الرامهرمزي- أبو محمد عبد الله بن العباس المتكلّم 331
رباح- شيرزنجي- قائد الزنج 118
الربيع- بن يونس بن محمد بن أبي فروة كيسان- مولى المنصور العباسي 101
الرخجي- عمر بن فرج- أحد عمال الدولة العباسيّة 12، 13، 14، 15، 16، 17، 18، 20
الرشيد- هارون بن محمد المهدي 102، 210، 238
أبو الرطل- البصري- المتكلم بالسجع 28
الرضا- الإمام أبو الحسن علي بن موسى الكاظم 140
الرفاء- السري بن أحمد الكندي 307
الرقيق- عثمان الصوفي 278
ركن الدولة- أبو علي الحسن بن بويه 123، 152
ابن الرومي- أبو الحسن علي بن العباس بن جريج 254
أبو رياش- أحمد بن أبي هاشم القيسي 158
ريطة- بنت أبي العباس السفاح- زوجة المهدي 28(2/385)
(ز)
الزبيري- أحد المتصرّفين 214
غلام زحل- أبو القاسم عبيد الله بن الحسن المنجّم 329، 330
ابن زريق- أبو محمد بن زريق الكوفي الكاتب 220، 221، 222
ابن الزكوري- موسى الشاعر- صاحب المجون والسفه والحماقات 349، 350
أبو زنبور- الحسين بن أحمد المادرائي- المادرائي
ابن زنجي- أبو القاسم إسماعيل بن أبي عبد الله محمد (الملقب زنجي) بن إسماعيل الأنباري الكاتب 220
الزهراء- فاطمة بنت النبي محمد صلوات الله عليه
زيات- حبيب- العالم البحاثة 213
الزيات- أبو عمارة حمزة بن حبيب- أحد القراء السبعة 143
الزيادي- أبو حسّان الحسن بن عثمان القاضي 234، 235، 237، 238، 239
زيد بن علي بن الحسين الشهيد عليهما السلام 75
الزينبيّ- أبو تمام الحسن بن محمد الهاشمي القاضي 219
(س)
أبو السائب- عتبة بن عبيد الله بن موسى- قاضي القضاة 269، 308، 309
سابور ذو الأكتاف 333
ابن أبي الساج- الأمير يوسف- من كبار رجال الدولة العباسيّة 248
الساماني- أبو الحسن نصر بن أحمد الساماني- الملقب بالسعيد 162
سباشي الخوارزمي- الحاجب- القائد التركي 253
سبك- المفلحي- غلام يوسف ابن أبي الساج 33
سبكتكين- القائد التركي 222
ابن السراج- أبو الحسن بن علي القاضي 110(2/386)
السراج- أبو أحمد عبد الله بن عمر بن الحارث الواسطي- الحارثي
السرخسي- أحمد بن الطيّب 90، 91
سعد- غلام إسحاق بن إبراهيم بن عليّ النصيبيّ 202
السفّاح- أبو العباس عبد الله بن محمد بن عليّ 41
السقطيّ- أبو غانم عبد الملك بن علي البصري 347، 348
ابن سكّرة- أبو الحسن محمد بن عبد الله الهاشمي 308
سليمان بن الحسن بن مخلد- الوزير 124، 125، 130، 324
سليمان بن عبد الملك بن مروان 315
سليمان بن وهب- كاتب الموفق 111
السليماني- أبو محمد الهاشمي- عباد رحله
ابن السمسار- أبو عمر عبيد الله بن الحسين بن أحمد البغدادي الشاهد 87، 111
السيّد الحميري- إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ 132
السيّدة- شغب- أم الخليفة المقتدر 76، 77، 78، 79
سيدة نساء العالمين- فاطمة الزهراء
سيف الدولة- الأمير أبو الحسن علي بن عبد الله- الحمداني
ابن سينا- الرئيس أبو عليّ شرف الملك بن عبد الله- صاحب القانون 93
(ش)
الشافعي- أبو بكر، صاحب الوزير علي بن عيسى 244
الشالجي- عبود 3، 6
ابن شاهين- عمران، أمير البطائح 276
الشبلي- أبو بكر دلف بن جحدر الصوفي 128، 129
شرف الدولة- شيرويه بن عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة الحسن بن بويه 336
الشرواني- أبو بكر بن رستم 346
ابن شعيب- أبو الحسين محمد بن علي بن إبراهيم 24، 25(2/387)
شغب- أم الخليفة المقتدر- السيّدة
شفيع اللؤلؤي- اللؤلؤي
شفيع المقتدري- المقتدري
ابن شمعون- إبراهيم، من أهالي الأنبار 94
الشهرستاني- أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد- صاحب الملل والنحل 206
الشيباني- أبو محمد جعفر بن محمد بن ورقاء 138
الشيباني- أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد 210
الشيباني- مزيد بن يزيد بن مزيد 102
ابن الشيخ- عيسى بن الشيخ بن الشليل 249
الشيرازي- أبو الفضل العباس بن الحسين، وزير بختيار 97، 98، 219، 220
الشيرازي- أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر 60، 67، 70
ابن شيرزاد- أبو جعفر محمد بن يحيى 63، 222، 313، 336، 337، 338
شيرزنجي- رباح، قائد الزنج- رباح
(ص)
الصابي- أبو الحسن هلال بن المحسّن 29، 95، 195، 220
صاحب الزنج- علي بن محمد الورزنيني 25، 118، 327
صاعد بن مخلد- كاتب الموفق 318، 319
الصروي- أبو القاسم عبيد الله بن محمد 198، 302، 303، 365
الصفار- إسماعيل البصري المعتزلي 207، 208
الصناديقي- خلف- والد القاضي وكيع 105، 106
الصوفي- أبو الفتح الأعور 356
الصولي- أبو بكر محمد بن يحيى 229، 240، 356
الصيرفي- أبو بكر- صاحب الجيش 138، 139
الصيمري- أبو جعفر محمد بن أحمد- وزير معز الدولة 80، 108، 252(2/388)
(ض)
الضبّي: أبو معد نزار بن محمد 208
(ط)
الطائي- أبو الطيّب بن أبي جعفر 130
طاهر بن الحسين 241
ابن طاهر- صاحب قلق المشتاق 210
ابن طاهر- طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر 242
ابن طاهر، عبيد الله- عبيد الله بن عبد الله بن طاهر- الأمير
ابن طاهر- الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر 240، 241، 242
الطبرسي- أبو علي الفضل بن الحسن- صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن 344
الطبري- الإمام أبو جعفر محمد بن جرير- صاحب التفسير والتاريخ 233
الطبري- أبو علي الحسن بن محمد- عامل الأهواز 252
ابن طولون- أحمد 190، 301
أبو الطيب- بن هرثمة 128، 225، 227، 228، 229، 344
(ع)
العابد- لبيب 287، 288
عاصم- أبو بكر عاصم بن أبي النجود بهدله الكوفي- أحد القراء السبعة 143
ابن عامر- أبو عمران عبد الله بن عامر اليحصبي- أحد القراء السبعة 143
عباد رحله- أبو محمد السليماني الهاشمي 295
العباس بن الحسن- الوزير 29، 317، 318
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب 54
ابن عبد المؤمن- أبو الطيّب محمد بن أحمد الصوفي 345، 346، 351
عبيد الله بن سليمان- الوزير 111، 112، 113، 114، 115، 281
عبيد الله بن طاهر بن الحسين- الأمير 240، 241، 242(2/389)
ابن عثمويه- أبو القاسم عبد الله بن محمد الكاتب 138
أبو العريان- أبو الفتح، أخو عمران بن شاهين أمير البطائح 276
عريب المأمونيّة 66
العسكري- أبو أحمد بن أبي سلمة 128
العسكري- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعيد 163
أبو عصمة- الخطيب العكبري 55، 57
عضد الدولة- أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة البويهي 46، 152، 336
العكبري- الخطيب- أبو عصمة
ابن أبي علان- أبو القاسم عبد الله بن محمد بن مهرويه- خال والد صاحب النشوار 18
العلوي- طاهر بن يحيى 286
العلوي- يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين الشهيد عليهم السلام 240
علي- أبو الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام 130، 190، 195، 225، 226، 233، 318، 320، 322، 324
علي بن بويه- عماد الدولة
علي بن عيسى- أبو الحسن، وزير المقتدر 29، 31، 32، 33، 34، 35، 58، 89، 134، 148، 150، 151، 243، 244، 245
علية بنت المهدي 204
عماد الدولة- أبو الحسن علي بن بويه 123
أبو عمر- محمد بن يوسف الأزدي القاضي 55، 56، 57، 58، 83، 84، 86، 87، 88، 89، 170، 171
أبو عمرو بن العلاء- أبو عمرو زبان بن العلاء المازني- أحد القراء السبعة 143
ابن أبي عوف- أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن المروزي 111، 114، 115، 116، 117
ابن عياش- أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن الحارث بن عياش الجوهري البغدادي القاضي 55، 57، 77، 101، 117، 122، 124، 130، 190، 195،(2/390)
225، 226، 233، 318، 320، 322، 324
أبو عيشونه- الشاطر 198
أبو العيناء- محمد بن القاسم بن خلاد البصري 102
(ف)
فاطمة- الزهراء بنت النبي محمد صلوات الله عليه 231، 232
ابن الفرات- أبو العباس أحمد بن محمد 281
ابن الفرات- أبو الحسن علي بن محمد- وزير المقتدر 29، 31، 32، 33، 34، 35، 36، 37، 39، 63، 105، 120، 152، 220، 253، 281، 283
ابن الفرات- أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات- ابن حنزابة 222
ابن الفرات- أبو أحمد المحسّن بن علي بن الفرات 63
الفرغاني- أبو العباس الصوفي 277، 278
ابن فسانجس- أبو الفرج محمد بن العباس- وزير بختيار 219، 220
(ق)
القاسم بن عبيد الله بن سليمان- وزير المعتضد والمكتفي 115
القاهر- محمد بن أحمد المعتضد 76، 77، 78، 79، 121، 145، 295
القتيبي- أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري 210
القراريطي- أبو إسحاق محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الإسكافي- الوزير 145
ابن قريعة- القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن 268
القشوري- نصر الحاجب- حاجب المقتدر 33، 34
قضاعة بن مالك بن حمير 142
قطر الندى- أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون 312، 315
القمي- أبو علي أحمد بن موسى حمولي 99(2/391)
ابن قناش- أبو جعفر طلحة بن عبيد الله بن قناش الجوهري البغدادي 55
قيصر- القائد التركي 55
(ك)
الكاتب- أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله- الأهوازي
الكافوري- الأصبهاني- تاجر الجوهر 163
كثيّر عزة- أبو صخر كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر الخزاعي 132
ابن كثير- أبو معبد عبد الله بن كثير المكي- أحد القراء السبعة 143
الكرخي- أبو عبد الله جعفر بن أبي محمد القاسم 135، 136، 137، 334
الكرخي- أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال 275
الكرخي- أبو محمد القاسم بن علي بن محمد 135، 136
الكرماني- كاتب أبي بكر الصيرفي صاحب الجيش 138
الكرملي- الأب أنستاس ماري 110
الكسائي- أبو الحسن علي بن حمزة- أحد القراء السبعة 143، 210
الكلبي- القاضي، قاضي الأهواز 9
الكميت- أبو المستهل الكميت بن زيد بن خنيس الأسدي 140
الكوفي- أبو عبد الله أحمد بن علي 221
الكوفي- أبو عبد الله بن ورام- المتكلم 201
الكوكبي- محتسب الأهواز 110
(ل)
اللاني- بدر، القائد التركي- بدر اللاني
اللؤلؤي- شفيع 33
الليث- عامل سيراف 123(2/392)
(م)
المادرائي- أبو زنبور الحسين بن أحمد 32، 33، 34، 35
المادرائي- أبو محمد الحسن بن أحمد 63
المأمون- أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد 21، 40، 75، 102، 211، 237، 239، 248
المبرّد- أبو العباس محمد بن يزيد الثمالي الأزدي 206
المتقي- أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر المقتدر 63، 223
المتنبّي- أبو الطيّب أحمد بن الحسين الجعفي الكندي 123
المتوكل- جعفر بن المعتصم 9، 12، 15، 19، 20، 102، 234، 241
محمد بن الحسن بن فرقد- أبو عبد الله- الشيباني
محمد- أبو القاسم النبي صلوات الله عليه 89، 106، 134، 231، 234، 237، 238، 240، 241، 242، 243، 244، 250، 266، 267، 272، 286، 289، 346
محمد بن منصور- أبو جعفر القاضي 9، 12، 13، 14، 15، 17، 21، 22، 23
مختار- أحمد- صاحب التوفيقات الإلهامية 220
ابن مخلد- الحسن- الوزير 187، 190، 193
ابن مخلد- أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد- سليمان بن الحسن
ابن مخلد- أبو محمد بن أبي القاسم سليمان بن الحسن 130
المدلق- الحذّاء الماجن الملقب بالقاضي 199
مرجليوث- د. س. المستشرق 126، 201، 214، 215، 286
ابن المرزبان- أبو الفضل محمد بن عبد الله 123
المرعوس- المتطبب 92
المزابلي- أبو عبد الله 349، 350
ابن المزرع- أبو بكر يموت- ابن أخت الجاحظ 132
مزيد بن يزيد بن مزيد الشيباني(2/393)
المستعين- أحمد بن محمد بن المعتصم 241
المسدود- المغنّي 195
المسعودي- أبو الحسن علي بن الحسين بن علي 12، 27، 142
مصعب بن الزبير 118
المطيع- الفضل بن جعفر المقتدر 104، 223
معاوية بن صخر بن حرب بن أمية 122، 358
ابن المعتز- أبو العباس عبد الله بن محمد المعتز بن جعفر المتوكل 89
المعتز- محمد بن جعفر المتوكل 241
المعتصم- أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد 74، 102، 128، 345
المعتضد- أحمد بن طلحة الموفق 76، 77، 78، 90، 91، 102، 111، 119، 248، 250، 251، 295، 312، 315، 327
المعتمد- أحمد بن جعفر المتوكل 25، 111، 118، 119، 187، 190، 327
ابن المعذل- أبو القاسم عبد الصمد بن المعذل بن غيلان العبدي 356
معز الدولة- أبو الحسين أحمد بن بويه 80، 97، 98، 99، 104، 108، 123، 152، 158، 167، 203، 219، 223، 252، 253، 276، 336
المعلوف- أمين 74، 93
المعوجّ- الشامي الشاعر 224، 301
المغربي- عبد القادر- الباحث المحقق 137
المفجّع- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبيد الله- صاحب ثعلب 135
المفلحي- سبك سبك المفلحي
المفوض- جعفر بن أحمد المعتمد 119
المقتدر- أبو الفضل جعفر بن أبي العباس أحمد المعتضد 32، 33، 55، 56، 58، 72، 76، 77، 78، 79، 111، 118، 119، 121، 124، 145، 281، 336
أم المقتدر- شغب- مولاة المعتضد- السيّدة(2/394)
المقتدري- شفيع 33، 35
المقرىء- أبو الحسين 313
ابن مقلة- أبو الحسين علي بن محمد بن علي- الوزير 63، 64، 65
ابن مقلة- أبو علي محمد بن عليّ- الوزير 60، 62، 63، 64، 65، 67، 70، 120، 121، 122، 124، 125، 221
المكتفي- علي بن أحمد المعتضد 24، 73، 316، 317
ملك جرزان 60، 61، 62
المنجم- أبو معشر جعفر بن محمد بن عمر البلخي 324، 325، 326، 327، 328
المنجم- الحسن بن علي 222
ابن المنجم- أبو الحسن بن هارون 64، 65، 70
ابن المنجم- أبو العباس هبة الله 336
المنصور- أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي العباسي 41، 101، 321
ابن بنت منيع- عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز- المحدّث 343
المهتدي- أبو عبد الله محمد بن هارون الواثق العباسي 118
المهدي- أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر عبد الله المنصور العباسي 41
المهلّبي- أبو محمد الحسن بن محمد- وزير معز الدولة 80، 123، 129، 158، 167، 203، 209، 219، 252، 253، 265، 268، 290، 307، 363
المهلبيّة- زينة بنت الوزير أبي محمد المهلّبي، زوجة الوزير أبي الفضل الشيرازي 219
موسى- الإمام بن جعفر الصادق عليهما السلام 133
أم موسى- الهاشمية القهرمانة 152
أخو أم موسى القهرمانة 110
الموسوي- أبو أحمد نقيب الطالبيين 331
الموسوي- أبو عبد الله بن أبي موسى العلوي 188، 336، 338
الموفق- الأمير الناصر أبو أحمد طلحة بن جعفر المتوكل 25، 26، 27، 90، 119 190، 319، 327، 328(2/395)
(ن)
نازوك- القائد التركي، صاحب الشرطة ببغداد 313
ناصر الدولة- الحسن بن عبد الله الحمداني
الناصر لدين الله- الأمير الموفق طلحة بن المتوكل- الموفق
نافع- أبو رويم نافع بن عبد الرحمن المدني- أحد القراء السبعة 143
النبي صلى الله عليه وآله وسلم- محمد أبو القاسم النبي صلوات الله عليه النساج- خير 129
نصر بن محمد- أبو العباس الشاهد 110
ابن نصر- أبو طاهر القاضي 320
ابن نصرويه- أبو الحسين محمد بن عبيد الله القاضي 290، 363
النصيبي- النصيبيني- إسحاق بن إبراهم بن علي 202
النعمان بن ثابت- الإمام أبو حنيفة 209، 210
النقاش- القاضي 59
أبو نواس- الحسن بن هانىء الحكمي- الحسن بن هانىء
ابن بنت أبي نوح- أبو عيسى 228
(هـ)
ابن هارون- أبو علي الحسن 63
هارون- بن غريب الحال- خال المقتدر 336
الهاشمي- أبو القاسم جعفر بن عبد الواحد 157، 170
الهاشمي- أبو الحسن محمد بن عبد الواحد 72، 83، 87، 157
الهاشمي- أبو عبد الله بن أبي موسى- الموسوي الهبيري- من شيوخ الكتاب 211، 213، 214، 215
ابن هرثمة- أبو الطيّب- أبو الطيّب 128
هشام بن عبد الملك بن مروان 75(2/396)
(و)
الواثق- هارون بن المعتصم 73، 74، 102، 195
الواثقي- أحمد بن محمد بن يحيى 73
الواثقي- الحسن بن أحمد بن يحيى 73
الواثقي- الحسين بن الحسن بن أحمد بن يحيى 73
الواسطي- أبو بكر يوسف بن يعقوب المقرىء 118
ابن واصل- الصوفي 218
واصل بن عطاء- أبو حذيفة 205، 206
الورزنيني- علي بن محمد- صاحب الزنج
ابن ورقاء- أبو محمد جعفر بن محمد بن ورقاء- الشيباني
الوزان- أبو أحمد 90، 91، 95
وكيع القاضي- أبو بكر محمد بن خلف بن حيان الضبيّ 9، 105، 106، 107
الوليد بن يزيد بن عبد الملك الأموي 75
(ي)
ياقوت الحموي- أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي- الحموي
يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين الشهيد- العلوي
يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي 75
يزيد بن القعقاع- أبو جعفر المخزومي- أحد القراء العشرة 143
يزيد بن الوليد بن عبد الملك الأموي 75
أبو يوسف القاضي- يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري 234، 238
يوسف بن وجيه- أمير عمان 163(2/397)
فهرس جغرافي
(أ)
248 129 أنطاكية
9 1 إيذج
(ب)
360 191 باب الأبواب
287 149 باب الشام
44 17 بانقيا
197 96 بلا شكر
(ث)
116 57 الثغر
(ج)
115 56 الجبل
349 186 جبل اللّكام
60 26 جرزان
(ح)
44 17 الحائر
322 169 الحائر
168 86 الحضرة والحاضرة
321 168 الحلة
196 95 الحيرة
(د)
122 61 دار دينار
192 94 درب عون
95 45 دممّا
(ر)
159 82 رامهرمز
12 2 رخّج
116 57 الرقّة
315 165 الرملة
(س)
345 182 سامراء
102 49 سر من رأى
99 47 سورا(2/398)
(ش)
265 134 شارع دار الرقيق
129 65 شبليّة
102 49 الشرقية
(ط)
101 49 طاق الحراني
248 129 طرسوس
(ع)
128 64 العسكر
163 84 عمان
(ق)
99 47 القصر
126 64 القصر
133 68 القطيعة
101 49 قطيعة الربيع
(ك)
104 50 الكرخ
243 127 الكرخ
230 123 كرخ جدّان
(م)
209 109 مقابر الخيزران(2/399)
فهرس عمراني عام
(أ)
344 181 الأبّ
10 1 أبعد في التلقّي
271 136 أذان الغداة
137 71 الارتفاع
59 25 الآزاد
38 13 استخفّ به
37 11 استهتر
332 174 الاسطرلاب
229 122 اسفيذباج
166 85 الأشفى
8 م اعتبر
171 89 إف
171 89 أفّيش
334 176 أقلّب
93 42 الآكلة
213 110 ألطّ
324 170 امتقع
283 147 الأمير
324 170 انتقع
90 39 أنجع
207 107 أهل الحق
69 27 أواق
(ب)
93 43 بادستر
13 2 البارية
204 105 الباقلاني
7 م البخّال
353 187 البدل
177 90 البذرقة
175 90 البرذعة
322 169 بزماورد
105 51 البطنان
154 78 بعل
216 111 البغيض
228 121 البغيّ
21 4 بلّة
213 110 البلم
(ت)
235 125 تأثّث(2/400)
16 2 التانىء
335 176 تجيني
34 12 تسمع بالمعيدي
323 169 تشحط بدمه
274 139 تفرّك
166 85 تلهّى به
21 4 التنخّم
130 66 التور
(ث)
11 1 الثّقل
212 110 الثماد
72 30 الثياب المرويّة
(ج)
13 2 جاءوا على بكرة أبيهم
190 94 الجاشريّة
105 51 الجانبان
13 2 الجبريّة
9 1 الجداء
61 26 الجذر
341 178 الجلدة
9 1 الجلّوز
137 71 الجماعة
179 90 الجمعة
93 43 جندبادستر
144 76 الجوارشن
185 91 جوامرك
184 91 جوانبيره
(ح)
159 82 الحبّة
132 67 الحجامة
65 26 الحجر
197 96 الحديديّ
74 31 الحرذون
108 52 الحسبة
225 116 حسن البدن
87 37 الحضري
295 154 الحضض
(خ)
137 71 الخراج
101 49 الخرّازين
45 17 الخرق المتمطّعة
233 124 خلب
195 95 الخلّة
15 2 خليفة العامل
67 27 الخمار
126 64 خماسيّة(2/401)
206 106 الخوارج
(د)
69 27 دبيقي
194 94 الدراهم الطبريّة
194 94 الدراهم الطريّة
67 27 الدرج
250 129 دريئة
174 90 دفّافة
245 127 الدكّان
26 8 الدنيّة
313 164 الدهليز
223 114 الدوباركه
126 64 ديكدان
(ر)
284 147 الراجل
170 88 الرباب
170 88 الربابيّ
132 67 الرجعة
82 35 الرحل
340 178 الرزّة
272 137 الرسيل
59 25 الرطب الآزاد
364 193 الرعاف والرعف
94 44 الرقية
317 166 رقيع
16 2 روز
279 143 الروشن
144 76 الريباس
(ز)
327 171 الزائجة
292 151 الزار
174 90 الزفن
265 134 زمنت
118 59 الزنج
186 92 الزهم
(س)
77 34 السبنيّة
81 35 السجّادة
155 79 السحاة
175 90 سريّة
144 76 السفتجة
317 166 سقيع
347 184 السماء
81 35 سمت
125 63 السمل
279 143 السميذ(2/402)
238 125 السواد
200 99 السوداء
38 13 سوق الخرّازين
165 85 السير
(ش)
127 64 الشارب
42 16 شال
212 110 الشحاذ
347 184 شرّ
270 136 الشطرنج
310 163 شعليك
130 66 الشموع الموكبيّة
171 89 شه شه
9 1 الشيرج
(ص)
174 90 الصنّاجة
284 147 صدّق
75 32 الصعداء
306 160 الصفر
70 28 الصفراء
200 99 الصفراء
154 78 الصنيع
(ط)
142 74 الطائيّان
204 105 طباهجة
197 96 الطرّادة
99 47 الطراز
145 77 طريق خراسان
126 64 الطنجير
15 2 الطنز
161 83 الطنز
95 45 طوف
83 36 الطيّار
(ظ)
90 39 الظلامة
(ع)
267 134 العاتق
125 64 عاضّ
353 187 العالم
283 147 عامل الخراج
116 57 العبدلاوي
73 31 العتبة
287 149 عتقني
191 94 العتمة(2/403)
240 126 عرض على السيف
236 125 عرف الديك
236 125 عرف الفرس
279 143 العطعطة
230 123 العفطيّ
36 13 العقار
39 13 العقد
201 101 العلق
166 85 على الله
11 1 العمّاريّة
360 191 العين
(غ)
42 16 غار
131 66 الغداة
341 178 الغرر
256 131 الغزالة
65 26 الغضارة
353 187 الغوث
(ف)
128 64 الفالوذج
116 57 الفداء
279 143 الفراني
292 151 فصّ النرد
28 10 فلع
23 6 الفيج
(ق)
317 166 قاعد ورا طبق
243 127 قام
302 157 القبّ
73 31 قبيعة السيف
213 110 قدّم
353 187 القطب
358 189 القطع
330 173 القطع
166 85 قلق
157 80 القلنسية والقلنسوة
148 77 قنّع
278 142 القوّال
93 43 قولنج
(ك)
97 46 كارة
345 182 الكبّة
174 90 الكرّاعة
162 83 الكسّار
128 64 الكشتبان
344 181 الكلكون(2/404)
(ل)
10 1 اللّطف
304 158 لينوفر
(م)
36 13 المال الصامت
333 175 المبزّر
207 107 المجسّم
195 95 المخنكرون
111 54 المدينة
14 2 المربّعة
30 11 المرفق
265 134 مسجّاة
134 69 مسجد الضرار
88 37 المسح
72 30 المسخنة
142 74 المسلاخ
81 35 مسمّطة
137 71 مشايخ الناحية
316 166 أبو مشكاحل
154 78 المصطنع
279 143 مصعنبة
128 64 المصهرج
167 86 المصيبة
364 193 المطاولات
317 166 مطبوخ
137 71 معاملات الناحية
351 187 المعيي
245 127 مغازة
69 27 المقل
200 99 الملمّعة
155 79 المناكدة
229 122 المنبار
225 117 المهاترة
338 177 المؤامرة
(ن)
334 176 النبط
69 27 الندّ
175 90 النّد العتيق
175 90 النّد الفتيق
292 151 النرد
126 64 نشّ
328 172 نغش
66 26 النفقة
333 175 النهم
92 41 نوّره(2/405)
(هـ)
129 65 الهرّاس
279 143 الهليون
45 17 الهميان
63 26 الهوا
168 86 الهواوين
198 97 الهيج
(و)
360 191 الورق
175 90 وطيّة
97 46 الوظيفة
218 112 وقعة الهبير
148 77 الوقيذ
226 118 ولع به
(ي)
360 191 يريد
279 143 يولعن(2/406)
فهرس الكتب والمراجع
أخبار الحمقى والمغفلين: ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي- طبع بيروت.
أخبار القضاة: القاضي وكيع، أبو بكر محمد بن خلف بن حيان الضبيّ، طبع مصر.
إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب- معجم الأدباء.
اصطلاحات الصوفية، الواردة في الفتوحات المكية: مذيل لكتاب التعريفات للجرجاني.
الأعلام: خير الدين الزركلي- الطبعة الثالثة.
الأغاني: أبو الفرج الأصبهاني- طبعة بولاق.
الأغاني: أبو الفرج الأصبهاني- طبعة دار الكتب بالقاهرة.
الأغاني: أبو الفرج الأصبهاني- طبعة ليدن.
الألفاظ الفارسية المعربة: أدي شير- المطبعة الكاثوليكية بيروت.
الأنساب: السمعاني أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميميّ- نشر المستشرق د. س. مرجليوث- طبع لندن 1913.
البصائر والذخائر: أبو حيان التوحيدي، تحقيق الدكتور إبراهيم الكيلاني، طبع دمشق
تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت- بيروت
تاريخ الحكماء: جمال الدين أبو الحسن عليّ بن يوسف القفطي
تاريخ الرسل والملوك: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، طبع دار المعارف بمصر
تجارب الأمم: أبو علي أحمد بن محمد المعروف بمسكويه- تحقيق آمدروز- طبع مصر 1914.
تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء: أبو الحسن هلال بن المحسن الصابي- تحقيق عبد الستار أحمد فراج- القاهرة 1958
التعريفات: السيد الشريف الجرجاني- طبعة اصطنبول 1283(2/407)
تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية مع ذكر أصلها بحروفه- طوبيا العنيسي- دار العرب للبستاني بالقاهرة 1965.
التوفيقات الإلهامية: أحمد مختار.
ثمرات الأوراق: تقي الدين أبو بكر بن علي المعروف بابن حجّة الحموي- حاشية على المستطرف- طبعة الحلبي بالقاهرة.
الجامع لمفردات الأدوية والأغذية: ضياء الدين عبد الله بن أحمد الأندلسي المالقي المعروف بابن البيطار- طبعة بولاق 1291.
جمع الجواهر في الملح والنوادر: أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني- طبعة الخانجي سنة 1353 بالقاهرة.
حكاية أبي القاسم البغدادي: أبو المطهر الأزدي، تحقيق ونشر آدم متيز- هيدلبرج 1909.
دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية: 15 مجلدا 1933.
درة الغوّاص في أوهام الخواص: الحريري، أبو محمد القاسم بن علي.
ديوان أبي فراس: رواية أبي عبد الله الحسين بن خالويه- طبع دار صادر بيروت 1955.
شذرات الذهب، في أخبار من ذهب: عبد الحي بن العماد الحنبلي 8 مجلدات، طبعة القدسي.
الطبيخ: محمد بن عبد الكريم البغدادي- تحقيق الدكتور داود الجلبي- بيروت.
غاية النهاية في طبقات القراء: شمس الدين محمد بن الجزري- تحقيق برجستراسر- طبعة الخانجي 1932.
الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية: ابن الطقطقا، علي بن محمد بن طباطبا- طبعة دار صادر.
الفرج بعد الشدة: أبو عليّ المحسّن التنوخي- طبعة دار الهلال بمصر 1914.
فرج المهموم في مواقع النجوم: رضي الدين أبو القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد ابن طاووس الحسنيّ الحسينيّ- طبع النجف.
فقه اللغة: الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري- طبعة البابي بالقاهرة 1938.(2/408)
الفهرست: ابن النديم، أبو الفرج محمد بن إسحاق بن محمد بن إسحاق- طبعة غوستاف فلوغل- ليبزك.
فوات الوفيات: ابن شاكر الكتبي- طبع بولاق- مجلدان اثنان.
القانون في الطب: ابن سينا، أبو عليّ شرف الملك الحسين بن عبد الله- طبعة بولاق بالقاهرة.
الكامل في التاريخ: ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري- عن طبعة المستشرق تور نبرغ- طبع دار صادر 1966- 13 مجلدا مع الفهرس.
الكامل في اللغة والأدب: المبرّد، أبو العباس محمد بن يزيد الثماليّ الأزدي. طبع دار التقدم بمصر 1323.
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: الحاج خليفة- طبعة اصطنبول 6 مجلدات.
لسان العرب: ابن منظور المصري- طبعة صادر.
لطائف المعارف: الثعالبي: أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري- تحقيق إبراهيم الأبياري وحسن كامل الصيرفي- طبعة الحلبي بالقاهرة.
مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: المجلد الثالث ح 5 و 7 و 8 و 11.
مجلة المشرق- لبنان- السنة الثالثة والأربعون- آب- كانون الأول 49.
مجمع البيان في تفسير القرآن: الطبرسي، أبو علي، الفضل بن الحسن- طبع بيروت 10 ح 5 م.
المحاسن والمساوىء: البيهقي، إبراهيم بن محمد- مطبعة السعادة بمصر 1906.
مروج الذهب: المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن عليّ- تحقيق محيي الدين عبد الحميد- طبعة الشعب- القاهرة 1966.
المشترك وضعا والمفترق صقعا: ياقوت الحموي، أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي- طبع وستنفلد 1864.
مطالع البدور في منازل السرور: علاء الدين الغزولي- مطبعة الوطن بمصر 1299.
معالم القربة في أحكام الحسبة: ابن الإخوة، محمد بن محمد بن أحمد القرشي- تحقيق روبن ليوي- طبع دار الفنون بكيمرج 1937.
معجم الأدباء: إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب- ياقوت الحموي، أبو عبد الله ياقوت ابن عبد الله الحموي الرومي البغدادي- طبعة مرجليوث 1924 7 مجلدات(2/409)
معجم الأنساب والأسر الحاكمة في التاريخ الإسلامي: المستشرق زامباور- جامعة فؤاد الأول 1951.
معجم البلدان: ياقوت الحموي، أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي- طبعة وستنفلد 6 مجلدات مع الفهارس.
معجم الحيوان: أمين المعلوف- طبع دار المقتطف 1932.
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي- مطبعة دار الكتب بالقاهرة 1934.
مفاتيح العلوم: الخوارزمي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب- الطبعة المنيرية 1342.
الملل والنحل: الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد- هامش على الملل والنحل لابن حزم- طبعة الخانجي 1321.
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم- ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي- طبعة حيدر آباد الدكن 1357.
المنجد: الأب لويس معلوف- ط 19- بيروت.
الموسوعة التيمورية- أحمد تيمور.
نخب تاريخية وأدبية جامعة لأخبار الأمير سيف الدولة الحمداني: جمع المستشرق ماريوس كنار- الجزائر 1934.
الهفوات النادرة: غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال الصابي- تحقيق الدكتور صالح الأشتر، دمشق 1967.
الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، طبع دار صادر.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: ابن خلكان، القاضي شمس الدين.
أحمد بن محمد بن أبي بكر- تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد- طبع القاهرة 1948.
الولاة والقضاة: أبو عمر محمد بن يوسف الكندي- تحقيق المستشرق رفن كست- بيروت 1908.
يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر: الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري- تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد بالقاهرة 1956.(2/410)
رموز
-: راجع
م: مقدمة المؤلف
الأرقام المطبوعة بحروف سوداء تشير إلى التراجم
الأرقام المثبتة في العمود الأيمن: للصفحات، والأرقام التالية لها: للقصص.(2/411)
الفهارس
محتويات الكتاب 365
فهرس أسماء الأشخاص 377
فهرس جغرافي 398
فهرس عمراني عام 400
فهرس الكتب والمراجع 407(2/412)
الجزء الثالث
[مقدمة]
مقدمة المحقق
(ربّ أعن) أقدم لقراء العربية، هذا الجزء الذي اعتبرته جزءا ثالثا، من كتاب نشوار المحاضرة، وأخبار المذاكرة، للقاضي أبي عليّ المحسّن بن عليّ التنوخي.
وكان هذا الجزء من جملة المخطوطات التي اشتملت عليها مكتبة العلامة أحمد تيمور بالقاهرة، أوصلها إلى المجمع العلمي العربي بدمشق المستشرق المعروف الأستاذ مرجليوث، فنشرها المجمع تباعا في مجلته في السنة 1932 واعتبرها الجزء الثاني من النشوار.
ولما كان الجزء الثاني من النشوار، قد تعيّن بظهوره في مخطوطة اصطنبول، وفقا لما فصّلت في مقدمة الجزء الأول، وقد أكملت تحقيقه ونشره منذ حين.
لذلك، فقد اعتبرت هذه المخطوطة، جزءا ثالثا من أجزاء النشوار، وأرجو أن أوفق في إصدار الأجزاء التالية له، وفقا لما وعدت به من قبل.
ومن الله أسأل التأييد والإعانة، والحفظ والصيانة، إنّه عزيز حميد، فعّال لما يريد.
بحمدون 5/11/1971 عبود الشالجي المحامي(3/5)
مقدمة المؤلف
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين قد قدّمت فيما قبل هذا الجزء من هذه الأخبار، عن سبب جمعي لها، وأفصحت عن معناي «1» فيها، وكرّرت ذلك في رسالة كل جزء، وإن تغيّرت العبارة، إمّا تصريحا أو إشارة، وأعلمت قارئها، ومكرّر النظر فيها، أنّها نوع لم أسبق إلى كتبه، لأنها مقصورة في الأكثر، على أن يتذاكر بها، لاحتوائها على ضروب من الأحاديث السابقة والسالفة في زماننا، التي تظلم عندي بأن لا تكتب، وتعمّدت خلطها بفنون من طريف السير والحكايات، وحديث الاتفاقات والمنامات، وغريب الرقى والامتحانات، وأخبار ضروب الناس من أهل [الحرف] والمهن والصناعات، والملوك والرؤساء وأهل [المروآت] ، وغيرهم من الأخلاط والأوساط، وعجيب [الأخبار] والمعاملات، وتلميعها بطريّ الشعر، وجديد [الملحة والنثر، ممّن] ضمّني وإياه دهر، دون أن يقارب [2] زماني زمانه، واشتهر حذقه وإحسانه، وشرحت العلّة في ترك تبويبها، واستفادة خلطها دون ترتيبها، ونبّهت على الفوائد التي تتضمّن وتجمع، واعتذرت مع ذلك، إلى من لعلّها لا تنفق عليه، أو تكسد وتبور لديه، بأن قلت: إنّها على كلّ حال، خير من مواضعها بياضا، وذكرت(3/7)
أنّها تصلح لمن قد فرغ من أكثر العلوم، واشتهى قراءة ما يدلّه على أخلاق أهل الأزمنة، وسننهم، وطرائقهم، وعاداتهم، وأن يقايس بين ما نحن فيه، وما مضى، ليعلم كيف ماتت الدنيا، وانقلبت الأهواء، وانعكست الآراء، وفقدت المكارم، وكثرت المحن والمغارم، وهلك أهل الفضل والتفضّل، وتلف أهل الستر والتجمّل، وصغرت الهمم، وتلاشت النعم، وفقد الجمال، وعدم النبل والجلال، في أكثر الخصال، وجمهور الرجال.
وحقّا أقول، لو عاش حكيم من أهل تلك الأزمنة، حتى يرى ما حصلنا عليه، ودفعنا إليه [3] ، ما شكّ في قيام الساعة، أو أنّ الناس بدّلوا بهائم مهملة، أو جعلوا آلات غير مستعملة، لفقد الأحرار، وشدّة الإعسار، وبطول المكاسب، وتواتر النوائب، وحدوث السنن القبيحة، والعوائد المسبّبة الفضيحة، ونسأل الله العظيم، فرجا عاجلا، وصلاحا للعالم شاملا، إنّه سميع مجيب، رحيم ودود، ذو العرش المجيد، فعّال لما يريد، وهو تعالى حسبنا ونعم الوكيل والمعين.(3/8)
1 الأمين لا يتهم
حدّثني أبو العبّاس محمد بن نصر الشاهد «1» ، قال:
كان أبو عبد الله جعفر بن القاسم الكرخيّ «2» ، كتب إلى أبي جعفر بن معدان «3» ، أن يختار له وكيلا، ينظر له في ضيعته بالأهواز، فاختار له عمر ابن محمد الأشجعيّ، صاحبه، فنظر في الضيعة سنين.
ثم ولي الكرخيّ الأهواز، ووردها، فطالب الأشجعيّ بالحساب، فرفعه، وتتبّعه كاتبه، فخرّجوا عليه فيه ستة آلاف دينار.
فأمر الكرخيّ، فلوزم الأشجعيّ [4] في دهليزه، وطولب بالمال، فكتب إلى ابن معدان بخبره.
قال: وكان رسم الكرخيّ، أن يستدعي أبا جعفر بن معدان، في كلّ يوم، إلى طعامه، فاستدعاه في ذلك اليوم، فتأخّر، وراسله، بأنّه من كان صاحبه، وثقته، واختياره، متّهما، مسلّطا عليه محالات الكتاب، معتقلا، لا يستدعى للمؤاكلة.
قال: فامتنع الكرخيّ من الأكل، وأنفذ إليه الأشجعي، مع كاتب له، والحساب، وقال: والله ما كنت بالذي أدع محالا يستمرّ على صاحبك، وما أخرج عليه إلّا شيئا صحيحا، وقد يجوز أن يكون ضيّع ذلك، ولم(3/9)
يتناوله، ولعمري إنّ من يكون اختيارك، وثقتك، لا يخون، ولم يك ملازما، وإنّما أجلسته انتظارا لك، لتجيء فتدبّر أمره، وإذا كان ذلك قد شقّ عليك، فمالي لك، وهذا الرجل والحساب، إن شئت أن تستوفي لي ذلك، أو بعضه، أو تدعه جميعه، فافعل، ولا تتأخّر عني، فلست آكل، أو تجيء.
قال: فأطلق الأشجعي إلى منزله [5] ، وركب هو إلى الكرخيّ، ثم لم يعاود أحدهما صاحبه في معنى الأشجعيّ بكلمة، وفاز بالدنانير.
ومضت القصة على ذلك.
2 يرى مناما فيمزق كتابا
حدّثني القاضي أبو بكر محمّد بن عبد الرحمن بن أحمد بن مروان «1» ، قال: حدّثني خالي محمد بن هارون، قال: قال لي بعض أصحابنا:
كنت في بعض اللّيالي، أنظر في كتاب التشريح لجالينوس، فغلبتني عيني، فرأيت هاتفا، يهتف بي، ويقرأ:
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ، وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً
«2» .
فاستيقظت، ومزّقت الكتاب «3» .(3/10)
3 القاضي أبو خازم يتأنى في أحكامه
وحدّثني القاضي أبو بكر «1» ، قال: حدثني مكرّم بن بكر «2» ، قال:
كنت في مجلس أبي خازم القاضي «3» ، فتقدّم رجل شيخ، ومعه غلام حدث، فاستدعى الشيخ عليه ألف دينار عينا دينا.
فقال له: ما تقول؟. فأقرّ.
قال: فقال للشيخ: ما تشاء؟
قال: حبسه.
فقال للغلام: قد سمعت، فهل لك [6] في أن تنقده البعض، وتسأله الإنظار؟
قال: لا.
فقال الشيخ: إن رأى القاضي أن يحبسه.
قال: فتفرّس أبو خازم فيهما ساعة، ثم قال: تلازما، إلى أن أنظر بينكما في مجلس آخر.
قال: فقلت لأبي خازم، وكانت بيننا مودّة وأنسة: لم أخرّ القاضي حبسه؟
فقال: ويحك إنّي أعرف في أكثر الأحوال، في وجوه الخصوم،(3/11)
وجه المحقّ من المبطل، وقد صارت لي بذلك دربة لا تكاد تخطئ، وقد وقع لي أنّ سماحة هذا بالإقرار، هي عن بليّة، وأمر يبعد عن الحقّ، وليس في ملازمتهما بطلان حقّ، ولعله أن ينكشف لي من أمرهما شيء، أكون معه في الحكم على ثقة، أما رأيت قلّة تغاضبهما في المناظرة؟ وقلّة اختلافهما؟ وسكون جأشهما، مع عظم المال، وما جرت عادة الأحداث بفرط التورّع، حتى يقرّ مثل هذا طوعا، عجلا، بمثل هذا المال.
قال: فبينا نحن كذلك نتحدّث، إذ استؤذن على أبي [7] خازم، لبعض وجوه تجّار الكرخ، ومياسيرهم، فأذن له، فدخل، وسلّم عليه، وسبّب لكلامه، فأحسن، ثم قال:
قد بليت بابن لي حدث، يتلف مالي في القيان والبلاء، عند مقيّن «1» يعرف بفلان،- وأسماه- فإذا منعته مالي، احتال بحيل تضطرّني إلى غرم له، وإن عذلته عن ذلك، وعدّدت حالي معه، طال، وأقربه اليوم، إنّه قد نصب المقيّن، ليطالبه بألف دينار عينا، ويجعل ذلك دينا حالا، وبلغني أنّه قد تقدّم إلى القاضي، فيطالبه، فيحبس، وأقع مع أمّه في بليّة وتنغيص عيش، إلى أن أؤدّي ذلك عنه إلى المقيّن، فإذا قبضه المقيّن، حاسبه به من الجذور «2» .
ولما سمعت ذلك، بادرت إلى القاضي لأشرح له الأمر، فيداويه بما يشكره الله تعالى عليه، فجئت، فوجدتهما على الباب.
فحين سمع أبو خازم ذلك، تبسّم، وقال لي: كيف رأيت؟(3/12)
قال: فقلت: هذا، ومثله، من فضل الله عزّ وجلّ، على [مولانا القاضي] وجعلت أدعو [8] له.
فقال: عليّ بالغلام والشيخ، فأدخلا.
فأرهب أبو خازم الشيخ، ووعظ الغلام، فأقرّ الشيخ أنّ الصورة كما بلغت القاضي، وأن لا شيء له عليه.
وأخذ الرجل بيد ابنه، وانصرفا.
4 أبو جدي كنية التيس
قال لي القاضي «1» :
كان مكرم «2» هذا، من فضلاء الرجال، وعلمائهم، وكنت أرى رجلا يدعوه: أبا جدي «3» .
فقلت له: ما غرضك؟
فقال: ألست تعلم أنّ أبا الجدي، هو التيس «4» .(3/13)
5 لأبي علي الحاتمي في الأمير سيف الدولة
أنشدني أبو علي محمد بن الحسن بن المظفّر «1» الحاتميّ، قصيدة له في سيف الدولة «2» ، وهي:
دنوّ فراق خلّف الصبر نائيا ... ووجد محبّ غادر الدمع جاريا
وقفت بمغنى الشوق أنشد أهله ... فحاكى بلى جسمي هناك المغانيا
حكى نفسي فيها صباها وأدمعي ... حياها وأعضاي الطلول البواليا
يذكر فيها [9] :
وكفّل أرواح العداة إلى الوغى ... حساما مليّا بالذي رام وافيا
له صفحة تنبو على أنّ حدّه ... يبيد أعاديه ويغني المواليا
كذا النار تهدي في الضلالة ساريا ... وتحرق من عادت، وتنفع صاليا
جعلت الظبى كأسا تدير دم العدى ... ووقع الظبى الألحان والحرب ساقيا
فإن كان بيت المال أصبح عاطلا ... لديك فقد أضحى بك المجد حاليا «3»(3/14)
6 ما قاله أحد ملوك الهند
أنشدني أحمد بن عبد الله المعروف بالبختريّ «1» ، القاضي، البغدادي، لأبي العلاء صاعد بن ثابت «2» ، قال أنشدني لنفسه:
ثنتان من همّتي ما ينقضي أسفي ... عليهما أبدا من خيفة الفوت
لم أحب منتجع الدنيا بجملتها ... ولا حميت الورى من صولة الموت [10]
فاجتمعت «3» مع أبي العلاء صاعد، بعد ذلك، بواسط، في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلاثمائة، فسألته عن البيتين، فقال: غلط عليّ، وما أخبرته أنهما لي.
فقلت: فلمن هما؟.
فقال: كان أبو الحسن داود، كاتب الوقف بالبصرة، حدّثني، بإسناد ذهب عني: إنّ ملكا من ملوك الهند، حارب ملكا، فقتل في المعركة، فألفاه بعض أصحابه طريحا بين القتلى، وفيه بقيّة من الروح، فنزل إليه، فقال: هل لك حاجة؟ فأنشده لنفسه شعرا، فسّر، ونقل، فكان هذان البيتان، في جملة الشعر.(3/15)
7 من شعر أحد الكتاب في بيمارستان البصرة
أخبرني أبو القاسم حسين بن محمد بن نبيل، كهل كان من أولاد الجند ببغداد، فخرج إلى الأهواز، وأقام بها يكتب لعليّ بن أحمد الخراساني، حاجب معز الدولة، وكان أديبا سمّاعة لكتب أهل الأدب، وكان إماميّ المذهب، قال:
رأيت في بيمارستان البصرة، رجلا من الكتّاب محبوسا، يقول [11] الشعر، فأنشدني لنفسه:
أدافع نفسي بالتعلّل والصبر ... وأمنع نفسي بالحديث عن الفكر
وأرجو غدا حتى إذا جاءني غد ... تزايد بي همّي فيسلمني «1» صبري
فلا الهمّ يسليني ولا الغمّ ينقضي ... ولا فرح يأتي سوى أدمع تجري
إلى الله أشكو ما ألاقي فإنّه ... عليم بأنّي قد تحيّرت في أمري «2»
قال: وأنشدني لنفسه أيضا:
أيّ شيء يكون أقبح منّا ... إن نقضنا عهد الإخاء وخنّا
إنّ في حرمة المودّة أن نغضي ... جميعا على الخيانة منّا
وإذا ما أصابنا الدهر بالعين ... رددناه بالتغافل عنّا
قال: وأنشدني لنفسه:(3/16)
ما بال دمعك، أين الدمع يا عيني ... عسى أصابتك عين الدهر بالعين
إنّي لأجزع من فقد البكاء كما ... قد كنت أجزع قبل البين للبين [12]
8 مدائح قيلت في أبي القاسم التنوخي والد المحسّن
كان يلزم أبي «1» ، بالأهواز، شاعر يعرف بأبي الخير، صالح بن لبيب، فدخل إليه يوما، وأنا حاضر، فأعطاه رقعة صغيرة، فقرأها أبي، وتبسّم، وأمر له في الحال بدراهم، وانصرف.
فأخذت الرقعة، فإذا هي بخطّه، وفيها:
يا من أراق له السماح ندى ... أضحى به الأحرار في رقّ
فضلا سبقت العالمين به ... والفضل مقصور على السبق
ألزمت نفسك غير لازمها ... وعرفت لي حقّين لا حقّي
ودخل إليه يوما شاعر يعرف بالهمذاني، لا أعرف اسمه، ولا نسبه، فدفع إليه رقعة، فيها:
كفى القاضي رضاي بما ارتضاه ... ولم أذمم رضاي ولا رضاه
فأمر له في الحال، بجائزة سنيّة.
2 ن 3(3/17)
9 من نظم عضد الدولة
أنشدني غير واحد، من الشيرازيّين، للأمير عضد الدولة، أبي شجاع ابن ركن الدولة، أبي علي [13] :
بهطّة «1» قصّر عن وصفها ... من يدّعي الأوصاف بالزور
كأنّها في الجام مجلوّة ... لآلئ في ماء كافور
وله أيضا:
رأيت بساطا للزبرجد ناضرا ... قد ابرز أطرافا تعدّ قحافا
قحافا من البلور ملأى وفرّغا ... وممزوجة فيه رفعن سجافا
تدير رؤوسا «2» للندامى كؤوسها ... وتترك أحلام الحليم سخافا
وقال أيضا:
نحرنا بيننا دنّا ... فعاد الليل إصباحا
وداجا نحره مثل ... الغرابين إذا صاحا «3»(3/18)
10 من رسالة لأبي القاسم التنوخي
حدّثني أبو العلاء صاعد بن ثابت «1» ، قال:
كتب إليّ القاضي أبو القاسم عليّ بن محمد التنوخي «2» ، جواب كتاب كتبته إليه:
وصل كتابك.
فما شككت وقد جاء الرسول به ... أنّ الشباب أتاني بعد ما ذهبا «3»
[14](3/19)
11 كان قتل أبي يوسف البريدي أبرك الأشياء على سيف الدولة
حدّثني أبو يعلى محمّد بن يعقوب البريديّ الكاتب «1» ، قال:
لمّا قصدت سيف الدولة «2» أكرمني، وأنس بي، وأنعم عليّ، وكنت أحضر ليلا في جملة من يحضر.
قال: فقال لي ليلة من الليالي: كان قتل أبيك، أبرك الأشياء عليّ.
فقلت: كيف ذاك، أطال الله بقاء مولانا؟
قال: لمّا رجعنا من بغداد «3» ، اقتصر بي أخي ناصر الدولة «4» ، على نصيبين «5» ، فكنت مقيما فيها، ولم يكن ارتفاعها يكفيني، فكنت أدافع الأوقات، وأصبر على مضض من الإضاقة مدّة.
ثم بلغتني أخبار الشام، وخلوّها إلّا من يأنس المؤنسي «6» ، وكون ابن(3/20)
طغج «1» بمصر بعيدا عنها، ورضاه بأن يجعل يأنس عليها، ويحمل إليه الشيء اليسير منها، ففكّرت في جمع جيش، وقصدها، وأخذها، وطرد يأنس، ومدافعة ابن طغج، إن سار إليّ، بجهدي، فإن قدرت على ذلك، وإلّا كنت قد تعجّلت من أموالها، ما تزول به إضاقتي مدّة، ووجدت جمع الجيش لا يمكن إلّا بالمال [15] ، وليس لي مال، فقلت: أقصد أخي، وأسأله أن يعاونني بألف رجل من جيشه، يزيح هو علّتهم «2» ، ويعطيني شيئا من المال، وأخرج بهم، فيكون عملي، زائدا في عمله، وعزّه.
قال: وكانت تأخذني حمّى ربع «3» ، فرحلت إلى الموصل «4» على ما بي، ودخلت إلى أخي، وسلّمت عليه.
فقال: ما أقدمك؟
فقلت: أمر أذكره بعد.
فرحّب، وافترقنا.
فراسلته في هذا المعنى، وشرحته له، فأظهر من المنع القبيح، والردّ الشديد، غير قليل.
ثم شافهته، فكان أشدّ امتناعا.(3/21)
وطرحت عليه جميع من كان يتجاسر على خطابه في مثل هذا، فردّهم.
قال: وكان لجوجا، إذا منع من الأوّل، شيئا يلتمس منه، أقام على المنع.
قال: ولم يبق في نفسي، من يجوز أن أطرحه عليه، وأقدّر انّه يجيبه، إلّا امرأته الكرديّة، والدة أبي تغلب «1» .
قال: فقصدتها، وخاطبتها في حاجتي، وسألتها مسألته.
فقالت: أنت تعلم خلقه، وقد ردّك، وإن سألته عقيب ذلك، ردّني أيضا، فأخرق جاهي عنده، ولم يقض [16] الحاجة، ولكن أقم أيّاما، حتى أظفر منه، في خلال ذلك، بنشاط، أو سبب أجعله طريقا للكلام، والمشورة عليه، والمسألة له.
قال: فعلمت صحّة قولها، فأقمت.
قال: فإنّي جالس بحضرته يوما، إذ جاءه برّاج «2» ، بكتاب طائر، عرّفه سقوطه من بغداد.
فلما قرأه، اسودّ وجهه واسترجع، وأظهر قلقا وغمّا، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، يا قوم، المتعجرف، الأحمق، الجاهل، المبذّر، السخيف الرأي، الرديء التدبير، الفقير، القليل الجيش، يقتل الحازم، المرتفق، العاقل، الوثيق الرأي، الضابط، الجيّد التدبير، الغنيّ، الكثير الجيش؟ إنّ هذا لأمر عجيب.
قال: فقلت له: يا سيّدي ما الخبر؟
فرمى بالكتاب إليّ، وقال: قف عليه.(3/22)
فإذا هو كتاب خليفته ببغداد، بتاريخ يومه «1» ، يقول: في هذه الساعة، تناصرت الأخبار، وصحّت بقتل أبي عبد الله البريدي «2» ، أخاه أبا يوسف واستيلائه على البصرة.
قال: فلما قرأت ذلك، مع ما سمعته من كلامه [17] ، متّ جزعا وفزعا، ولم أشكّ أنّه يعتقدني كأبي عبد الله البريديّ، في الأخلاق التي وصفه بها، ويعتقد في نفسه أنّه كأبي يوسف، وقد جئته في أمر جيش ومال، ولم أشكّ أنّ ذلك سيولّد له أمرا في القبض عليّ، وحبسي، فأخذت أداريه، وأسكّن منه، وأطعن على أبي عبد الله البريديّ، وأزيد في الاستقباح لفعله، وتعجيز رأيه، إلى أن انقطع الكلام.
ثم أظهرت له، إنّه قد ظهرت الحمّى التي تجيئني، وإنّه وقتها، وقد جاءت، فقمت، فقال: يا غلمان، بين يديه.
فركبت دابّتي، وحرّكت إلى معسكري، وقد كنت منذ وردت، وعسكري ظاهر البلد، ولم أنزل دارا.
قال: فحين دخلت إلى معسكري، وكان بالدير الأعلى «3» ، لم أنزل، وقلت لغلماني: ارحلوا، الساعة، الساعة، ولا تضربوا بوقا، واتبعوني.
وحرّكت وحدي، فلحقني نفر من غلماني، وكنت أركض على وجهي، خوفا من مبادرة ناصر الدولة إليّ بمكروه [18] .(3/23)
قال: فما عقلت، حتى وصلت إلى بلد «1» ، في نفر قليل من أهل معسكري، وتبعني الباقون.
فحين وردوا، نهضت للرحيل، ولم أدعهم أن يراحوا، وخرجنا.
فلما صرنا على فرسخ من بلد، إذا بأعلام وجيش لاحقين بنا، فلم أشكّ أنّ أخي أنفذهم للقبض عليّ.
فقلت لمن معي: تأهّبوا للحرب، ولا تبدأوا، وحثّوا السير.
قال: فإذا بأعرابيّ، يركض وحده، حتى لحق بي، وقال: أيّها الأمير، ما هذا السير المحثّ؟ خادمك دنحا، قد وافى برسالة الأمير ناصر الدولة، ويسألك أن تتوقّف عليه حتى يلحقك.
قال: فلما ذكر دنحا، قلت: لو كان شرّا، ما ورد دنحا فيه.
فنزلت، وقد كان السير كدّني، والحمّى قد أخذتني، فطرحت نفسي لما بي، ولحقني دنحا، وأخذ يعاتبني على شدّة السير، فصدقته عمّا كان في نفسي.
فقال: اعلم انّ الذي ظننته انقلب، وقد تمكّنت لك في نفسه هيبة، بما جرى، وبعثني إليك برسالة، يقول لك: إنّك قد كنت جئتني تلتمس كيت [19] وكيت، فصادفت منّي ضجرا، وأجبتك بالردّ، ثم علمت أن الصواب معك، فكنت منتظرا أن تعاودني في المسألة، فأجيبك، فخرجت من غير معاودة ولا توديع، والآن، إن شئت فأقم بسنجار «2» ، أو بنصيبين، فإنّي منفذ إليك ما التمست من المال والرجال، لتسير إلى الشام.(3/24)
قال: فقلت لدنحا: تشكره، وتجزيه الخير، وتقول كذا وكذا، أشياء واقفته عليها، وتقول: إنّي خرجت من غير وداع، لخبر بلغني في الحال، من طروق الأعراب لعملي، فركبت لألحقهم، وتركت معاودة المسألة تخفيفا، فإذا كان قد رأى هذا، فأنا ولده، وإن تمّ لي شيء، فهو له، وأنا مقيم بنصيبين، لأنتظر وعده.
قال: وسرت، ورجع دنحا، فما كان إلّا أيّام يسيرة، حتى جاءني دنحا، ومعه ألف رجل، قد أزيحت عللهم، وأعطوا أرزاقهم ونفقاتهم، وعرضت دوابّهم وبغالهم، ومعهم خمسون ألف دينار، وقال: هؤلاء [20] الرجال، وهذا المال، فاستخر الله، وسر.
قال: فسرت إلى حلب، وملكتها، وكانت وقائعي مع الأخشيدية، بعد ذلك، المعروفة، ولم تزل بيني وبينهم الحرب، إلى أن استقرّت الحال بيننا، على أن أفرجوا لي عن هذه الأعمال «1» ، وأفرجت لهم عن دمشق، وما وراءها، وأمنت ناصر الدولة، واستغنيت عنه.
وكل ذلك، فسببه قتل عمك لأبيك «2» .(3/25)
12 لأبي علي الحاتمي يمدح
أنشدني أبو عليّ الحاتميّ «1» ، فصلا من رسالة عملها إلى بعض الرؤساء في صفته:
أفكاره همم إيعاده نقم ... وعوده قسم تأميله عصم
ألفاظه حكم أوطانه حرم ... ألحاظه نعم آلاؤه ديم
تبغي الخلائق أن يحصوا فضائله ... ودون ذلك ما تستنفذ الكلم
ولو أرادوا جميعا كتم معجزه ... أبى له الله ما يأتون والكرم [21]
تبغي مجاراته في فعله بشر ... قد قصّرت منهم عن كعبه القمم
وكيف يسطاع فعل أو يرام علا ... ما ليس تدركه الأوهام والفهم(3/26)
13 يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
حدّثني بعض الأهوازيين، قال:
رأيت أبا الحسن المنبريّ، الشاميّ، الطائيّ، الشاعر، بالأهواز، على باب الحسن بن علي المنّجم «1» ، وهو عاملها، يتردّد مدّة، وكان قد امتدحه.
قال: فتذاكرنا شدّة تلوّن أخلاق المنجّم، وجنونه، ونواميسه في وقت، وعدوله عن ذلك في وقت آخر.
ثم قلت له: فأين أنت منه؟
فقال: ما آيس من ردّه، ولا أطمع في وعده.
قلت أنا: وهذا كأنّه مأخوذ من الأبيات التي هجي بها الحسن بن رجاء، وهي مشهورة، فلذلك لم أوردها على جملتها.
والأخير من الأبيات هو:
لكنّها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما [22](3/27)
14 بحث في معرفة السارق
حكي لي عن بعض الصالحين، في إخراج السّرق، قال:
تأخذ قدحا فيه ماء، وتأخذ خاتما، فتشدّه فيه بشعرة، وتدليه في القدح، وتكتب خمس رقاع، فيها أسماء المتّهمين بالسّرقة، وتكتب: السارق، في القدح، وتضع رقعة، تكتب فيها اسم من تتّهمه، على حرف القدح، وتقرأ عليه: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ، وَاذْكُرُوا ما فِيهِ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
«1» .
فإذا ضرب الخاتم القدح، نظرت في الرقعة «2» ، فإنّ السارق، هو صاحب الاسم، وإن لم يضرب القدح، فتضع أخرى، فإن السارق هو، إذا ضرب.(3/28)
15 آيات لإعادة الآبق
وقال لي في الآبق «1» :
تكتب فاتحة الكتاب مدوّرة، ويكتب في وسطها، كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ، يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً. فَما لَهُ مِنْ نُورٍ
«2» ، اللهم اجعل الأرض علوها، وسفلها، وسهلها، وجبلها [23] ، وبرّها، وبحرها، في قلب فلان بن فلان، أضيق من مسك «3» شاة، حتى يرجع.(3/29)
16 السرج واللجام في جهاز كل عروس
تذاكرنا في مجلس ببغداد، حضره أبو عليّ محمد بن منصور الشاهد، المعروف بابن كردي، حديث غلبة النساء على الرجال، إلا النفر من الرجال.
فقال لي أبو علي: كان لنا شيخ فاضل، من أهل القطيعة «1» ، كان يضرب لنا في هذا مثلا، فيقول:
إنّ في جهاز العروس إلى زوجها، سرجا ولجاما «2» ، فإذا انقضت أيّام العرس، إن سبق الرجل إلى السرج، فأسرج المرأة، ووضع اللجام في رأسها، وركبها، ملك عليها أمرها، وإن تراخى لحظة، وضعت هي السرج على قفاه، واللّجام في فيه، وركبته، فلم تنزل عنه، إلّا بطلاق أو موت.(3/30)
17 الوزير عبيد الله بن سليمان والجهبذ اليهودي سهل بن نظير
حدّثني أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان الكاتب الشيرازيّ «1» ، قال:
حدّثني سهل بن نظير اليهوديّ الجهبذ «2» ، قال: حدّثني جدّي سهل بن نظير، وكان يتجهبذ للوزير على قديم السنين [24] ، منذ أيّام الفتنة، وإلى أن مات، قال:
لما نكب عبيد الله بن سليمان «3» ، بعد كتبته للموفّق، النكبة العظيمة، كنت أتوسّم فيه الرفعة، وعلوّ الحال، فكنت أحمل إلى عياله، في كل شهر مائة دينار، وهو في الحبس، ثم أطلق، فكنت أحملها إليه، إلى أن وليّ الوزارة، فعرف لي ذلك، وبلغ بي كلّ مبلغ، وشكرني عليه أتمّ شكر.
قال: ثم إنّ عبيد الله، نكب جرادة الكاتب، وكانت قد جرت له عليّ الرئاسة، وعلى الناس والرؤساء، وكان له إحسان سالف إليّ كثير، فكنت أحمل إلى عياله، في كل شهر، مائة دينار، وأحدر به إلى البصرة.
قال: فبلغ ذلك عبيد الله بن سليمان، وأنا لا أعلم، فدخلت إليه يوما، فقال لي: يا سهل، بارك الله لك في عداوتنا.
قال: فقلت له: أيّها الوزير، من أنا حتى أعاديك، وأنا أخسّ كلب ببابك؟(3/31)
قال: وأكثرت التنصّل، والتهيّب، وبكيت، وقلت: يا سيّدي، ما هذا الكلام؟ إن كان شيء رقى إلى الوزير [25] أيّده الله، عنّي، واقفني عليه، ولعلّ عندي فيه، حجّة، أو برهانا، على بطلانه.
قال: فقال لي: تحمل إلى عيال جرادة، في كل شهر مائة دينار.
قال: فقلت: أيّها الوزير، أنا ما فعلت هذا، ولا تجاسرت عليه، إنّما فعله الرجل الذي كان يحمل إلى عيال الوزير- أيّده الله- مائة دينار في كل شهر رعاية لحقّ إحسانه إليه، فرعى لجرادة أيضا إحسانا له إليه أيضا، فحمل إليه، مثل ما كان يحمل، إلى عيال الوزير- أيّده الله-.
فاحمرّ وجهه خجلا، وأطرق، وسكت مليّا، ثم تصبّب وجهه بالعرق، وقلت: قبض والله عليّ، ونكبني.
قال: فأسقطت «1» .
فرفع رأسه، وقال: أحسنت يا سهل، ما ترى بعد هذا منّي إنكارا «2» ، ولا بقي في نفسي عليك شيء، فأجرهم على رسمهم، ولا يوحشك ما خاطبتك به.(3/32)
18 عاقبة الظلم
حدّثني عبيد الله بن محمّد بن عبد الله الأهوازيّ، قال: حدّثني أبو الفضل البلخي «1» الفقيه، قال: حدّثني الخليل [26] بن أحمد السجستانيّ «2» ، قاضيها قال:
قدم علينا صاحب جيش خراسان «3» ، من قبل نصر بن أحمد «4» ، ومعه خلق عظيم من الجيش، فملك سجستان، وأكثر أصحابه الفساد في البلد، وامتدّت أيديهم إلى النساء في الطرقات قهرا.
قال: فاجتمع الناس إليّ، وإلى فلان الفقيه، وقد ذكره البلخيّ وأنسيته أنا، وشكوا الحال، فمضينا معهم إلى صاحب الجيش، فدخلت إليه، 3 ن 3(3/33)
أنا والفقيه، وجماعة من رؤساء البلد، وكان المبتدئ بالخطاب، الفقيه، فوعظه، وعرّفه ما يجري.
قال: فقال له: يا شيخ، ما ظننتك بهذا الجهل، معي ثلاثون ألف رجل، نساؤهم ببخارى «1» ، فإذا قامت أيورهم، كيف يصنعون؟ ينفذونها بسفاتج «2» إلى حرمهم؟ لا بدّ لهم أن يضعوها فيمن هاهنا كيف استوى لهم، هذا أمر لا يمكنني إفساد قلوب الجيش بنهيهم عنه، فانصرف.
قال: فخرجنا.
فقالت لنا العامّة: أيش قال الأمير؟
قال: وأعاد [27] عليهم الفقيه الكلام بعينه.
فقالوا: هذا القول منه فسق، وأمر بالفسق، ومكاشفة بمعصية الله تعالى، فهل يحلّ لنا عندك قتاله بهذا القول؟
فقال لهم الفقيه: نعم، قد حلّ لكم قتاله.
قالوا: فتأذن؟
قال: نعم.
قال: فبادرت العامّة، وانسللنا من الفتنة، فلم نصلّ المغرب من تلك الليلة، وفي البلد أحد من الخراسانيّة.
قال: لأنّه اجتمع من العامّة، من لا يضبط عدده، فقتلوا خلقا عظيما من الخراسانيّة، واستحرّ القتل فيهم، ونهبت دار الأمير، وطلبوه ليقتلوه، فأفلت على فرسه، ومعه كلّ من قدر على الهرب، ومضوا على وجوههم.
فما جاءنا بعدهم جيش من خراسان، أصلا.(3/34)
19 خراج الأهواز في سنة خمس وثلاثمائة
حدّثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن مهرويه، المعروف بابن أبي علان، قال: حدثني أبي أبو القاسم «1» ، قال:
كنت أكتب لعبيد الله بن الحسن بن يوسف «2» على كور الأهواز «3» ، فكتب عليّ بن عيسى «4» يطالبنا بالحساب [28] ، فتقدم إليّ أبو أحمد عبيد الله بن الحسن، بعمله، وبالخروج للمواقفة عليه، وذلك في سنة ست وثلاثمائة.
قال: فجمعت الحساب، وعملت جماعة «5» لسنة خمس وثلاثمائة، بارتفاع مال الخراج بالأهواز، وكورها، سوى الضياع، فكان مبلغ ذلك، ستة عشر ألف ألف وثمانمائة ألف درهم وكسر، وكلها قد صحّ في الاستخراج، ولم يبق للسلطان إلّا نيّف وأربعين ألف درهم.
قال: وكان مال الضياع، يقارب هذا، إلّا إنّه لم يكن في حسابنا.(3/35)
20 خضاب يسود الشعر
حدّثني عبد الله بن عمر الحارثيّ «1» ، قال:
عجّل علي المشيب، فغمّني ذلك، وفكّرت في أن أخضب لحيتي، فنمت، فرأيت في النوم، كأنّي أشاور طبيبا في خضاب، فقال لي: لا تحتاج إلى خضاب، ولكن أصف لك شيئا يسوّد الشعر ويحفظ لونه، ويمنع من السواد أن يبيضّ، خذ من دهن النارجيل «2» العتيق، وزن خمسة دراهم، ومن الإهليلج «3» الأصفر، وزن [29] نصف درهم، ومن النوشاذر «4» ، وزن دانق «5» ، واسحق الجميع، ودفه بالدهن حتى يختلط، واطل به الشعر، فإنه يسودّ.
فانتبهت، وقد حفظت ذلك، فعملته، فاسودّ شعري، وتأخّر الشيب عنّي دهرا طويلا.(3/36)
21 طلاء يمنع الحبل
وحدّثني «1» ، قال:
كنت في شبابي، أتمتّع بالجواري والمماليك، فكان العزل يثقل عليّ جدّا، فاشتريت جارية، بدنانير كثيرة، وكنت أخاف أن تحبل، فيذهب ثمنها، فنمت مشغول القلب بذلك، فأريت قائلا يقول: إذا أحببت أن لا تحمل المرأة، فخذ بنجا، واسحقه، واعجنه بلبن فرس، وجفّفه، واجعله في كيمخت، وعلّقه على المرأة، فإنّها لا تحبل.
فقلت له: ما سمعت هذا من طبيب.
فقال: إن أحببت أن تمتحن صحّة ذاك، فخذ هذا الدواء، واجعله في قارورة ما، واجعلها على النار، وأوقد تحتها، فإنّه لا يغلي، ولو مكث سنة.
قال: وانتبهت، وجرّبت ذلك، فوجدته صحيحا.(3/37)
22 الخليفة المعتضد يشهد على نفسه العدول
وحدّثني أيضا الحارثي «1» [30] ، قال: حدّثني أبي، وكان يخدم في دار الموفق، والمعتضد بعده:
إنّ المعتضد أراد أن يشهد على نفسه العدول، في كتاب، صدره:
هذا ما شهد عليه العدول جميعا، انّ أمير المؤمنين، عبد الله، أبا العباس المعتضد بالله، أشهدهم على نفسه، في صحة منه، وجواز أمر.
وعرضت النسخة، على عبيد الله بن سليمان، فضرب عليها، وقال:
هذا لا يحسن كتبه عن الخليفة، أكتبوا: في سلامة من جسمه، وإصابة من رأيه.(3/38)
23 الحارثي يستهدي النبيذ
قال لي الحارثي «1» :
استهديت من صديق لي نبيذا «2» ، فأنفذ إليّ نبيذا حامضا، فرددته عليه، وكتبت إليه:
الجيران، أحقّ بهذا من الإخوان «3» .
24 صفة نبيذ لا يسكر
ووصف لنا «4» مرة، نبيذا طريّا شربه، فقال:
«هو دواء الفهم، عمل من ثمر البلاذر» «5» .
أي هو لا يسكر، لضعف فعله.(3/39)
25 الكاتب ابن جبير يفاضل بين الوزير ابن الفرات والوزير علي بن عيسى
حدّثنا أبو الفتح عبد الله بن محمد المروزي «1» الكاتب، قال: حدّثني بعض شيوخ الكتّاب، قال [31] :
قال ابن الفرات «2» ، لأبي منصور بن جبير، كاتبه «3» ، أيّما أكفأ، أنا، أو عليّ بن عيسى «4» ؟
فقال: الوزير أكفأ وأضبط.
قال: دعني من هذا.
قال: تؤمنني؟
قال: قد أمنتك.
قال: عليّ بن عيسى، إذا حضر بين يدي الخليفة، فأراد أن يكتب سرّا له، لم يحتج إلى غيره، وكتب هو، وسحا «5» ، وختم «6» ،(3/40)
وخرط «1» بيده وأنفذ العمل، وأنت، لا بد لك من زنجي «2» ، ولوطي صاحب دواته يقرأ، فيبطل الأمر بظهور اثنين عليه.
قال: فضّلت عليّا علينا.
قلت: لا والله يا سيّدي، ولكن يكون علي بن عيسى كاتبك.
26 دناءة نديم، ولؤم أمير
حدّثني عبد الله بن أحمد بن داسه «3» :
إنّ أبا القاسم البريديّ «4» ، أيّام تقلّده الأمر بالبصرة «5» ، شرب يوما، وعنده جماعة من ندمائه، فافتقد قحف «6» بلّور، كان معجبا به، وطلبه الشرابيّة، فلم يعرف له خبر.
فحلف إنّهم إن لم يحضروه، ضربهم بالمقارع.(3/41)
فقال له أحدهم: لا تعجل، ولكن مر [32] بإحضار كلّ من كان البارحة حاضرا.
فأمر بإحضارهم، فجلسوا، وأنفذ الغلام إلى منزل كلّ واحد منهم، برسالة منه، أن أنفذوا القحف البلّور، الذي حملته إليكم البارحة.
فعاد أحد الرسل، من دار أحدهم، ومعه القحف.
فافتضح ذلك النديم، وسقط محلّه.
وهذا، مضادّ لما حكي عن بعض الأكاسرة، إنّه كان يشرب، فوقعت عينه على غلام من غلمانه، وقد سرق صينيّة ذهب، مع ما فيها، وحملها، فأمسك الملك، وفاز بها الغلام.
فافتقدها الخزّان في الغد، وجاءوا في طلبها، فدعاهم، وقال: لا تتعبوا في طلبها، فقد أخذها من لا يردّها، ورآه من لا ينمّ عليه.
قال: فأمسكوا.
فلما كان بعد سنة، كان الملك يشرب، فدخل ذلك الغلام، فرأى عليه منطقة ذهب حسنة.
فقال له الملك سرّا: هذا من ذاك؟
فقال: نعم.
فقال: إن كان ما عندك من الدنانير التي في الصينيّة [33] ، قد نفد، فعرّفني، لأدفع إليك أخرى «1» .(3/42)
27 ألوان من الحجاب
وحدّثني «1» ، قال: وحدّثنا أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى «2» ، قال:
لما قدم حامد بن العباس «3» الأبلّة «4» ، يريد الأهواز «5» ، وهو وزير «6» ، خرجت لتلقّيه، فرأيت له حرّاقة «7» ، ملّاحوها خصيان بيض، وعلى سطحها شيخ، يقرأ القرآن، وهي مظلّلة، مستّرة.
فسألت عن ذلك، فقالوا: هذه حرّاقة الحرم، لا يحسن أن يكون ملّاحوها فحولة.
قال: وقال لي أبو الحسين: دخلت إلى ابن الجصّاص»
في داره ببغداد، فرأيت خصيانا بيضا مزيّنين «9» .(3/43)
28 جواب لأبي العيناء
قال «1» : حدّثنا أبو الحسين «2» ، قال:
رأيت لأبي العيناء «3» ، خادمين، خصيّين، أسودين، يقودانه.
فقيل له: كيف اتّخذت خصيين أسودين؟
فقال: حتى لا يتّهما بي، ولا أتّهم بهما.
29 أبو العيناء لا ينسى ما حفظ
وحدّثني «4» ، قال: حدّثنا أبو الحسين «5» ، قال:
قدم أبو العيناء البصرة، في سنة نيف وثمانين «6» ، بعد الغيبة الطويلة، التي غاب عنها، وخدمته للخلفاء، والوزراء، [34] بسرّ من رأى.
وكان أبو خليفة «7» ، إذ ذاك، عالم البصرة، بالحديث، والأخبار،(3/44)
واللّغة، والنحو، ومحمد بن جعفر بن بسّام، قاضيها، وكان له محلّ من الأدب، واللغة، والشعر، كبير، وكنت منقطعا إليه، ملازما له، أدرس عليه الفقه، فكان أوّل من ائتمنني، ورفع شأني.
فقال لي: يا أبا الحسين، قد قدم أبو العيناء، وأحبّ أن أجمع بينه، وبين أبي خليفة، وننظر أثرهما.
فقلت: عليّ ذلك.
قال: فمضيت، ولقيت أبا العيناء، وعقدت عليه وعدا للحضور، عند ابن بسّام، وعلى أبي خليفة، فاجتمعا.
فأخذ أبو العيناء، في الرواية عن الأصمعي «1» ، ومشاهداته مع المتوكّل «2» ، وابن أبي دؤاد «3» ، وفلان، وفلان، والشعراء.
قال: فأسكت أبو خليفة، فلم ينجرّ معه، ولم يلحق به.
قال: فأثنينا على أبي العيناء، وقرّظناه.
فقال: يا أيّها القاضي، أنا لا أنسى ما كنت أحفظه منذ أربعين سنة.(3/45)
30 أبو العيناء وأحمد بن الحسن بن المثنى
وحدّثنا أيضا «1» ، قال: حدّثني أبو عبيد محمد [35] بن علي الآجرّي، قال:
كنت عند أبي العيناء، لما قدم البصرة، سنة نيف وثمانين، بتسبيبات له على عمّالها، وكان معنا أصحاب الحديث.
فقيل له: قد دخل إليك ابن المثنّى، فقام، وقدّر، أنّ أبا علي الحسن ابن المثنّى، قصده.
فقال له بعض الحاضرين: إنّه أحمد بن الحسن بن المثنّى، فجلس، قبل أن يقرب منه أبو الحسين.
ثم استدنى أبا الحسين، وأكرمه، وسأله عن خبر أبيه، [فأخبره بوفاته، فترحّم عليه، وقال: أنا أسنّ منه.
فسألناه عن مقدار الزيادة، فقال] «2» : لا أدري، كنت يوما في مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالبصرة «3» ، وقد اجتاز بنا «4» ، وكان أصحاب الحديث حضورا، وكان موسى لا يطلق أن يدخل مجلسه غلام أمرد، ليسمع الحديث، فحين رآه موسى، صاح: يا غلام، أخرجه.
فقلنا له: أعزّ الله القاضي، هذا ابن أخيك، أبو علي بن المثنّى.
قال: فرفعه، وقدّمه.(3/46)
31 أبو خازم القاضي
يريد أن يولّي أحمد بن الحسن بن المثنى القضاء وحدّثني «1» ، قال: حدّثني أبو الحسين «2» ، قال:
لما نشأت، كتب أبو خازم القاضي «3» ، إلى أبي، يقول: إنّه قد بلغني أنّه قد نشأ لك فتى يطلب العلم، ومن حاله، وصفته، [36]- قال، وقرّظني- فأنفذه إليّ، لأقلّده القضاء.
قال: فقال لي أبي: ما تقول؟
فقلت: أنفذني، فإنّك، هوذا، ترى ما نحن فيه من الإضاقة، فلعلّي أتّسع بالأرزاق، [فقال أبي: لا تفعل] «4» ، فإنّ الأعمال تفنى، والصيانة تبقى.(3/47)
32 أبو العيناء في دار الواثقي أمير البصرة
وحدّثني «1» ، قال: حدّثني بعض شيوخنا:
إنّ أبا العيناء، قصد دار الواثقيّ «2» ، وهو الأمير بالبصرة- إذ ذاك-، فأجلس في الدهليز «3» ساعة، إلى أن استؤذن له.
وجرى الحديث، فقال رجل، في حديث أقتضى ذلك، يا أبا العيناء، أنت صائم اليوم؟
فقال: أمّا في هذه الدار، فنعم.
فكتب صاحب الخبر، إلى الواثقيّ، بذلك، فأذن له في الحال، واعتذر إليه، من إجلاس البوّابين له في الدهليز، وانكر ذلك عليهم.(3/48)
33 منافرة بين ضريرين
قال «1» :
واجتمع أبو العيناء، وأبو علي البصير «2» ، يوما في مجلس، فاستطال عليه أبو العيناء، فقال له أبو عليّ «3» : نحن جميعا ضريران، فما هذا التطاول؟
فقال: ولا سواء، أنت من عميان العصا، وأنا من عميان المواكب «4» [37] .(3/49)
34 المصالحة بين تاجر أفلس وبين دائنيه
حدّثني محمد بن أحمد بن عثمان بن الحارث الزيّات، قال: حدّثني أبي، قال:
كان لي، ولجماعة من التجار ببغداد، على رجل من البزّازين، أربعة آلاف دينار، فقام للناس «1» ، فاجتمعنا، ففتحنا دكّانه، فوجدنا فيه متاعا ثمنه أربعمائة دينار.
فقال: إن اخترتم أخذها وإبرائي من الباقي، فخذوا، فإنّي لا أرجع إلى شيء غير ذلك، وإن اخترتم أن تؤخّروني بالدين، وأفتح دكّاني، وأعمل بهذه الأربعمائة دينار، دفعت إليكم في كل سنة أربع مائة دينار، فيأخذ كلّ واحد منكم العشر من ماله، وتستوفون المال في عشر سنين.
فأجبناه، إلّا رجلا، يعيد ويقول: زيدوني على العشر، ولو دينارا واحدا، في السنة.
فقلنا للرجل: أجبه إلى هذا.
فقال: إن أعطيت هذا الدينار، زيادة، على أربعمائة الدينار، في السنة، مضت الأربع مائة دينار في التسع سنين، وبقيت، بقيّة دينكم، بحالها.
فعجبنا من ذلك، وقلنا: أوجدنا [38] صحّة ما قلت.
فقال: هذه الأربعمائة الدينار، إذا اتّجرت فيها سنة، وسلمت، فربحي أربعمائة دينار.(3/50)
يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلاثمائة وتسعة وتسعون دينارا.
فأتّجر فيها، في الحول الثاني، فيحصل معي سبعمائة، وثمانية وتسعون دينارا، يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلاثمائة وسبعة وتسعون دينارا.
فيحول الحول الثالث، فيصير المال سبعمائة وأربعة وتسعون دينارا يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلاثمائة وخمسة وخمسون دينارا «1» .
يحول الحول الرابع، فيصير سبعمائة وستون دينارا، يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، ويبقى خمسائة وثمانون دينارا «2» .
ويحول الحول الخامس، سبعمائة دينار، يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلاثمائة وخمسة وثمانون دينارا «3» .
ويحول الحول السادس، فيخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلاثمائة وتسعة وسبعون دينارا «4» .
ويحول الحول [39] السابع، فيصير سبعمائة وأربعة وخمسين دينارا، يبقى ثلاثمائة وسبعة وخمسين دينارا «5» .
ثم يحول الحول الثامن، فيصير مائتين وتسعين دينارا، يخرج منها ثلاثمائة دينار، بقي منها مائتين وتسعة وستّين دينارا «6» . والدين دين، ولا يمكن أن أدفع إليكم، إذا كان الأصل أربعمائة، أكثر من أربعمائة.
فأجبناه إلى الاقتصار على الأربعمائة، وفتح دكانه، وعمل، ورزق.(3/51)
35 إنفاق بلا دخل، يذهب بالأموال
وحدّثني «1» ، قال: حدّثني أبي، فقال:
كلّ كيس يكون فيه ألف درهم، فتخرج منه درهما واحدا، ولا يدخله درهم آخر، فإنّ الكيس كلّه يذهب، إن كان بتجارة، فبنقصان ربحها، وإن كان بنفقة، فليس يحتاج إلى دليل.
وإنّما يحفظ الأموال، فضولها، وينستر التاجر بربحه.
36 بين الجبائي والكرخي
حدّثني عبد الله بن أحمد بن داسه «2» ، قال: حدّثني أبو عبد الله، محمّد بن إبراهيم بن عبيد الله، الفقيه، الحنفي [40] ، الأرمني، قال:
كان أبو زهير الجبائي، الفقيه، ورعا، حاذقا بمذهب أبي حنيفة، فدخل بغداد، فبلغته أخبار أبي الحسن الكرخيّ «3» ، رضي الله عنه، في ورعه.(3/52)
قال: فلقيه، فقال له: يا أبا الحسن، بلغني انّك تأخذ من السلطان رزقا في الفقه.
قال: نعم.
قال: ومثلك في علمك، ودينك، يفعل هذا؟
فقال له أبو الحسن: أو ليس قد أخذ الحسن البصري «1» ، رضي الله عنه، في زمنه، وفلان، وفلان، فعدّد خلقا من الصالحين والفقهاء، ممن أخذ من بني أميّة.
فقال له أبو زهير: ذهاب هذا عليك أطرف، بنو أميّة، كانت مصائبهم في أديانهم، وجبايتهم الأموال سليمة، لم يظلموا في العشر، ولا في الخراج، وكان الفقهاء يأخذون من الأموال مع سلامتها، وهؤلاء «2» ، مع سلامة أديانهم، أموالهم فاسدة، وجباياتهم بالظلم والغش.
فسكت أبو الحسن، فلما كان وقت قبض جائزته، لم يطالب بها، وتركها، ولم يقبض شيئا من الجاري، إلى [41] أن مات.
قال لي عبد الله بن داسه: أن [أبا] زهير هذا، هو أستاذ أبي محمد ابن عبدل، الذي علّمه الفقه على مذاهب أصحابنا «3» .
وكان أبو محمد بن عبدل، أستاذنا نحن في الفقه، وقد درست عليه، وشاهدته الطويل العريض، وما سمعت منه هذه الحكاية.(3/53)
37 الخصال المذمومة في الشيخ
وحدّثني «1» ، قال: قال لي بعض شيوخنا:
إنّ الشيخ إذا أسنّ، صارت فيه ثلاث خصال مذمومة: إذا قام عجن «2» ، وإذا مشى زفن «3» ، وإذا سعل قرن «4» .(3/54)
38 شيخ من أهل المذار يرى مناما
وحدّثني «1» ، قال: حدّثني عبد الله بن معاذ، قال: حدّثني شيخ من أهل المذار «2» ، قال:
كان لي زرع في ضيعة، وكان حسنا، جيّدا، وافرا، وكنت واسع الطمع فيه، فبتّ ليلة، فرأيت في منامي، كأنّي بنفسين يطوفان الصحارى المزدرعة، ويقول أحدهما للآخر، اكتب: زرع فلان كرّ، وفلان كرّين، قال: وأنا أحفظ الأسماء، وبلغ الكيل إلى أن جاء إلى قراحي، فقال:
اكتب [42] ، وزرع فلان ثلاثة أكرار.
فقلت له: أعزّك الله، زرعي- والله- في غاية الجودة، وأنا أؤمل فيه عشرة وأكثر.
فقال لصاحبه: اكتب ثلاثة أكرار.
قال: فلما كان من الغد، انتبهت متعجّبا، وقمت.
وما مضت أيّام، حتى لحقت الغلّة آفة، ونجا بعض الناس، وأصيب بعضهم، وحصد جيراني، وحصدت.
قال: فحصل لي، والله، ثلاثة أكرار «3» ، لا تزيد قفيزا، ولا تنقص قفيزا.
قال: وعرفت خبر القوم الذين كنت حفظت أسماءهم، ومبلغ كيلهم، فإذا كيل الجميع، قد خرج على ذلك المبلغ سواء.(3/55)
39 من أقوال معز الدولة
بلغني من جهة وثقت بها، عن معزّ الدولة «1» ، إنّه قال: ما نام بين طلوع الفجر، إلى طلوع الشمس، مقبل قط.
وهذا منه، [على] أنّه رجل أعجميّ، حسن جدا.
والأصل في ذلك، قول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام:
إنّ النبي صلى الله عليه وسلّم، قال: «بورك لأمتي في بكورها» «2» ،(3/56)
40 القاضي أبو عمر ينقذ بعمامته شخصا من الغرق
حدثنا أبو أحمد بن أبي [43] الحسك الشاهد، قال:
كان أبو عمر القاضي «1» ، يجتاز بباب دارنا، دائما، ذاهبا إلى ضيعته المعروفة بالصالحيّة، وأنا صبيّ، وبعد ذلك، إلى أن صرت حدثا.
قال: فسمعت- إذ ذاك- أنّه اجتاز، فلما صار على شاطئ نهر عيسى «2» ، رأى رجلا في الماء، وهو يصيح: الغريق، ولم يكن بين يدي أبي عمر، إلّا غلام واحد.
قال: فصعد أبو عمر بحماره على تلعة، وصاح بأعلى صوته: يا ناس، يا ناس، دفعات، فلم يجبه أحد، لخلّو الموضع، وانقطاع الطريق.
فنزل عن حماره، وخلع عمامة كانت عليه، ورمى بها إلى الرجل، وأخذ طرفها بيده، وأمسك بيده الأخرى شجرة كانت هناك.
وقال للرجل: لا خوف عليك، فاجذب العمامة، بكل قوّة.
قال: فما زال الرجل يجذبها، ويقرب، إلى أن قرب من الشطّ، حتى رقى في الشطّ، وخرّ مغشيا عليه.
وجازت جماعة، فرأوا القاضي على تلك الصورة، فدعوا له، وشكروه، وبادروا إلى الرجل، وعصروا جوفه من الماء، ونجا، وعاش [44] .(3/57)
41 الإكثار من الغالية يدفئ في الجو البارد
حدّثني عبد الله بن أحمد بن بكر البصري «1» ، قال:
كان المهريّون «2» بالبصرة، لهم نعم ومروءات، وكانوا في جيراننا، فحدّثني شيوخنا: إنّ فتى منهم، وكان ظريفا، ركب في يوم شات، شديد البرد، والماء قد جمد، وليس عليه من الحشو «3» شيء، إنّما كان عليه قميصان، وعمامة، وطيلسان «4» ، وخفّ، فدخل إلى قوم، فعجبوا من صبره على البرد، فنزع خفّه، فإذا هو قد طلا رجليه بالغالية «5» ، وحشا منها شيئا كثيرا، بين أصابعه، وفي سرّته، واستعمل منها شيئا كثيرا في لحيته، وأخذ خرقة، وطلا عليها، ووضعها على رأسه، وتعمّم عليها، فحمي حميا، لم يحتج معه إلى أكثر من قميصين.(3/58)
42 الإكثار من الغالية يسبب العمى
قال «1» : وحدّثني شيوخنا:
انّ محمد بن سليمان بن عليّ الهاشميّ «2» ، كان في ضيعته التي يقال لها:
المحدثة، خارج البصرة، جالسا في مجلس على بستان، وفي بعض زوايا البستان، إجّانة «3» صينيّ كبيرة، مملوءة غالية.
فدخل إليه قوم من العامّة، في [45] حاجة لهم، وكان أحدهم، خسيس الحال، فلما رأى الغالية، سرق منها شيئا كثيرا، اغترفه ملء كفه، فوضعه على رأسه وأطبق عمامته عليه، وأطال القوم الجلوس، وهو معهم، فلما قاموا، قام معهم، فلم يبصر، فقال: خذوا بيدي فقد عميت.
فاغتم محمد بن سليمان، لذلك، وجاء بطبيب في الحال، وقال: ما دهاك! فلم يصدقه.
فأمر الطبيب بكشف رأسه، فرأى الغالية، فصب عليها الماء البارد، حتى لم يبق لها أثر، ثم طلاه بالصندل «4» والماورد، والكافور «5» ، وأقامه في الهواء ساعة، فعاد بصره إلى حال الصحة، وانصرف.(3/59)
43 مثل من الأمانة
وحدّثني، قال: حدّثني أبو الحسن محمّد بن إسحاق بن عبّاد النجار، وهو شيخ من وجوه التمّارين بالبصرة، طال عمره، وحدّث، وكتبت عنه، ولم أسمع هذه الحكاية منه، قال:
كان في جوارنا فلان، فتصدّق ليلة على ضرير اجتاز به، وهو لا يعرفه، فأراد أن يفتح [46] إحدى صرتين في كمّه، في إحداهما دنانير، وفي الأخرى دراهم، فيعطيه درهما، فأعطاه دينارا.
وانصرف الضرير، وهو لا يشكّ أنّ معه درهما.
فبكّر به إلى بقال يعامله، فقال: خذ هذا الدرهم، واحسب ما لك عليّ، وأعطني بالباقي كذا وكذا.
فقال له البقال: يا هذا، من أين لك هذا؟
قال: أعطانيه البارحة فلان.
قال: إنّه دينار، فخذه.
فأخذه الضرير، وجاء به من الغد إلى الرجل، وقال: إنّك تصدّقت عليّ بهذا، وأظنّك أردت أن تعطيني درهما، وغلطت، وما أستحلّ أخذه مغالطة، فخذه.
فقال له الرجل: قد وهبته لك، وإذا كان في رأس كلّ شهر، فتعال إليّ، أعطيك شيئا آخر، مجازاة لأمانتك.
وكان يجيئه في رأس كل شهر، فيعطيه خمسة دراهم.
قال: فلم أر أعجب من أمانة البقّال والضرير، ولو كان في هذا الوقت، لجرى الأمر بضدّ ذلك [47] .(3/60)
44 لا يعرّض القرآن للمسألة
قال «1» : وقال لي ابن عباد «2» : وكان «3» يقرأ بالسبعة «4» ، فكنت أسمعه طول الليل يقرأ، وكان فقيرا، فإذا كان النهار، خرج يتصدّق «5» ، فأسمعه ينشد على الطريق، الرقائق «6» والزهديّات، لا أسمعه يتصدّق بغيرها.
فقلت له يوما: يا فلان، أنت تحفظ القرآن، وأراك تتصدّق بالرقائق، فكيف لا تقرأ وتتصدّق كما يفعل الأضرّاء؟
فقال: والله لا أعرّض القرآن للمسألة أبدا.(3/61)
45 السورجي وزوجته
حدّثني أبو محمد «1» ، قال: حدّثني السورجيّ، شيخ كان يجاورنا، مستور، قال:
كانت لي امرأة صالحة، فكنت إذا اشتريت لحما لتطبخه لنا، طبخته، وغرفته جميعه، وجاءتني به، وكنت أكولا، فكنت آكله جميعه، وتجوع هي، وأولادها.
فقلت لها: يا هذه، إذا طبخت شيئا، فاقسميه قسمين، وجيئيني بأحدهما، ودعي الآخر، لنفسك، وأولادك.
فقالت: لا والله، لا أفعل هذا، بل أقدّمه إليك كلّه، لتأكل أجوده، فإنّك [48] أنت تسأل عنه.
46 يتمنى أن يمرض ليعوده حبيبه
أنشدني أبو الحسن بن أبي الليث، لنفسه:
عصيت الهوى وأطعت العذول ... وكنت كما قال فيّ الحسود
وملّكت رقّك وهو المنى ... وبعتك للدين فيمن يزيد
لئن لم أكن أتمنّى السقام ... لعلّي ألقاك فيمن يعود(3/62)
47 المعتضد يكتب رقعة في رفع ظلامة
حدّثني محمد بن أحمد بن عثمان الزيّات، قال: حدّثني أبو بكر بن حورى- شيخ كان من أهل فامية «1» ، من أعمال النهروان، قد أقام ببغداد سنين، وكان مشهورا بصحبة ابن أبي عوف «2» - قال:
كنت ألزم ابن أبي عوف، سنين، لجوار بيننا ومودّة، لا أسأله حاجة، لأنّها لم تكن تعرض لي، وكنت أتخفّف بين يديه في حوائج ينفذني فيها، وكان رسمي في كلّ ليلة، أجيئه بعد العتمة، وقد صلّى ودخل منزله، فحين يراني [49] ، يمدّ رجله في حجري، فأغمزها، وأحادثه، فيسألني عن الأخبار والحوادث ببغداد، وكنت أسأل عنها، وأتطلّبها من كل موضع، وأجيئه بها، وأخبره بخبر من قدم البلد، ومن سافر عنه، ومن مات، ومن ولد، ومن خاصم، ومن ورث، ومن يرجف به الناس، وأخبار الجيران، وبكل غثّ وسمين، إلى أن ينعس، فإذا نعس، قبض رجله، فقمت إلى بيتي، وقد مضى ثلث الليل، أو بعضه، أو أقل.
[وجرى الأمر] على هذا سنين.
فلما كان ذات يوم، جاءني سقطيّ «3» كان يعاملني، فقال: قد دفعت إلى شيء إن تمّ عليّ، افتقرت.(3/63)
فقلت: ما هو؟
فقال: رجل كنت أعامله، فاجتمع لي عليه ألف دينار، فطالبته، فرهنني عقد جوهر، قوّم بألف دينار، إلى أن يفتكّه بعد شهور، أو أبيعه، وأذن لي في ذلك.
فلما كان أمس، وجّه مؤنس الفحل، صاحب الشرطة «1» ، من كبس دكّاني، وفتح صندوقي، وأخذ العقد، وقد استتر الرجل.
فقلت له: لا تفكّر في هذا [50] ، فإنّي أخاطب أبا عبد الله بن أبي عوف، فيلزمه ردّه صاغرا.
قال: وأنا مدلّ بابن أبي عوف، لمكاني منه، ومكنته من المعتضد.
فلما كان تلك الليلة، جئته، فمدّ رجله في حجري، على الرسم وحادثته، وعرّفته الأخبار، وقلت له في جملتها، أمر السقطيّ مع مؤنس.
ثم قلت: هذا الرجل جاري، ومعاملي، وأوجب الناس حقا عليّ، ولا بدّ- والله- من تفضّلك يا سيّدي، واعتنائك في أمره، وإلزام مؤنس، ردّ العقد. قال: فحين سمع هذا نحّى رجله من حجري وقال:
ما أنا وهذا؟ أعادي صاحب شرطة الخليفة؟ وكيف استجزت أن تعرّضني لمثل هذا، وتسألني فيه؟ كأنّي بك، وقد قلت: ابن أبي عوف صديقي ألزمه ردّ هذا، ولم تشفق على جاهي، وكأنّ صلاح حال السقطيّ، أحبّ إليك من صيانة جاهي، ما أنا، عافاك الله، وهذا؟ ولا أليه.
قال: فورد عليّ من هذا، أعظم مورد، وقلت في نفسي: هذا رجل [51] قد خدمته، كذا وكذا سنة، هذه الخدمة، التي لم تخدمها العبيد، على أنّي ما سألته قطّ حاجة، ولا احتجت إليه في شيء، ولا له عليّ رزق، ولا(3/64)
أفضال، يلقاني في حاجة قد سألته فيها، بمثل هذا؟ شهد الله، لا دخلت له دارا بعدها أبدا.
وأمسكت وجلست لا أتكلم، ثم قمت قبل الوقت الذي كنت أقوم فيه، وعدت إلى منزلي منكسرا مغموما.
فلما كان من الغد، بكّرت، لئلا يجيئني الرجل، بسبب حاجته، فأفتضح عنده، ولم أدخل بيتي إلى وقت المغرب، ثم جئت، فصلّيت، وطرحت، واعتقدت أنّني لا أمضي إليه.
فلما صلّيت العتمة، جاءني خادم لابن أبي عوف، فقال: الشيخ بقرأ عليك السلام، ويقول: لم تأخرت الليلة؟ إن كنت معافى، فتعال، وإن كنت متشكّيا جئناك.
فاستحييت، وقلت: أمضي الليلة، ثم أنقطع.
فحين دخلت إليه، ورآني، مدّ رجله في حجري، فأخذتها، وغمزتها على الرسم.
فقال: أيش عندك «1» [52] من الأخبار؟
فأقبلت أحدّثه، بحديث غثّ، متكلّف، متصنّع، فلم يزل يصبر على ذلك ساعة، ثم قبض رجله، فقمت.
فقال: يا أبا بكر، انظر أيش تحت المصلّى.
وإذا برقعة في قرطاس، فأخذتها، وتقدمت إلى الشمعة، وإذا فيها:
«يا مؤنس، جسرت على قصد دكّان رجل تاجر، يعرف بفلان، وفتحت صندوقه، وأخذت منه عقد جوهر قيمته ألف دينار، وأنا في الدنيا؟ والله، لولا أنّها أول غلطة غلطتها، ما جرى في ذلك مناظرة، اركب بنفسك إلى(3/65)
دكّان الرجل، حتى تردّ العقد في الصندوق، بيدك ظاهرا» .
فقلت لأبي عبد الله: أيش هذا يا سيّدي؟
فقال: خطّ المعتضد إلى مؤنس، بما أردته، مثّلت بين وجدك وعتبك، مع بقاء الحال مع مؤنس كما هي، وبين رضاك وقضاء حقك، وإيحاش مؤنس، فاخترتك عليه، فأخذت خطّ أمير المؤمنين، بما تراه، فامض، وأوصله إليه، فإنّه يفعل ما أمره به.
فقبّلت رأسه، وشكرته [53] ، وانصرفت، وأنا من الفرح لا أعقل.
وجئت إلى الرجل، وأخذت بيده، ومضينا إلى مؤنس، وسلّمت التوقيع إليه، فحين قرأه اسودّ وجهه، وارتعد حتى سقطت الرقعة من يده، ثم قال:
يا هذا، الله بيني وبينك، هذا شيء ما علمت به، وتموه عليّ، فألا تظلّمتم إليّ، فإن لم أنصفكم، فإلى الوزير، ما هذا؟ بلّغتم الأمر إلى أمير المؤمنين، من أوّل وهلة؟
قال: وانتشطت، فقلت: بعلمك جرى، والعقد معك.
قال: فأحضر العقد، وقال: خذوا الألف دينار، التي عليه الساعة، واكتبوا على الرجل، بطلان ما ادّعاه.
فقلت: لا نفعل.
فقال: خذوا ألفا وخمسمائة دينار.
فقلت: والله، لو أعطيتنا ألف ألف دينار، ما رضينا، أو تركب بنفسك إلى الدكّان، والعقد معك، فتردّه إلى الصندوق، ولا نكذّب أنفسنا، أو تردّ التوقيع، فقال: أسرجوا لي.
قال: فركب، والله، في موكبه، حتى وقف على دكّان الرجل، وردّ العقد [54] بيده إلى الصندوق.
فجاءنا صاحبه، في ذلك اليوم، ودفع الألف دينار، وارتجعه.(3/66)
48 ابن أبي دؤاد وكرمه وعلوّ همته
حدّثني عبد الله بن أحمد بن داسه «1» ، قال: حدّثني أبو أحمد بن أبي الحسك الشاهد، قال: حدّثني بمصر، أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله ابن نصر، القاضي، وهو قاضيها يومئذ «2» ، قال: حدّثني شيخ كان في جوارنا ببغداد، بدرب الروّاسين، من باب الشام «3» ، قال:
كان أبو عبد الله بن أبي دؤاد «4» ، ينزل بباب الشام، وهو صغير الحال، فكنا نعرف أحواله.
فباع يوما منديلا كان له، بسبعة دراهم، لتعذّر القوت عليه.
قال: فاجتاز في طريقه، وهو عطشان، فرأى شاربا، فعدل إلى(3/67)
الموضع، ودعاه، واستسقاه، فكسر الشارب «1» شفة كوز «2» كان معه، وملأه ودفعه إليه.
فقال له ابن أبي دؤاد: لم فعلت ذلك؟
فقال: قد شرب في هذا الموضع قبلك من لم أرض لك، أن تجعل شفتك في موضع شفته، فكسرت الموضع [55] من الكوز لتشرب من موضع، ما وقعت عليه شفة غير شفتك.
قال: فشرب الماء ثم دفع إليه السبعة دراهم، التي لم يكن يملك غيرها «3» .(3/68)
49 دعوة الأم لأولادها مستجابة
حدّثني أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنّى «1» ، قال:
كانت أمّي قد رأت ليلة القدر «2» ، فدعت الله بدعاء كثير، فلما كان من الغد، قال لها أبي: هل دعوت الله لي؟
فقالت: شغلني الدعاء لأولادك، عن الدعاء لك.
قال: فكنّا نرى أنّ ما أفاء الله تعالى علينا من نعمة، بعد ذلك، إنّما كان بدعائها.(3/69)
50 أبو الهيجاء بن حمدان ومتانة أعصابه
حدّثني أبو الفضل الشيرازيّ الكاتب محمد بن عبد الله بن المرزبان «1» ، قال: حدّثني شيخ من شيوخ النخّاسين الجلّة ببغداد، قال:
كنت أعامل أبا الهيجاء، عبد الله بن حمدان «2» ، في الرقيق، فكان يشتري مني، ولا يبيع شيئا يشتريه بوجه، إمّا أن يهبه، أو يعتقه.
فجاءني يوما، إلى حجرتي، ولم تكن عادته جرت بذلك، فوجدته [56] ، وهو مستعجل، يريد الخروج إلى القصر «3» ، لقتال أعراب بلغه أنّهم عاثوا في الطريق، وكان يليه، فقال: بعني الساعة جارية.
فعرضت عليه عدّة جوار، فاختار مولّدة منهنّ، وحملها في عماريّته «4» ، على بغل.
فلما كان بعد شهور أقلّ من ستّة، جاءني بها رجل من الجند، يريد بيعها.
فقلت لها: أليس كان الأمير أبو الهيجاء، اشتراك منّي؟
فقالت: بلى، ولكنّه وهبني لهذا.(3/70)
قال: فلم أبعها حتى كاتبته، وعرّفته خبرها، لئلا تكون قد هربت، أو وقع بها حيلة.
فلما أعلمني أنّه وهبها، شرعت في بيعها في الحال، فتعذّر، وأقامت عندي أيّاما.
فسألتها عن أخبار أبي الهيجاء، وأمره في داره، فأخبرتني بأشياء من ذلك. فكان من طريف ما أخبرتني به، أن قالت:
أخرجني من عندك في العمّارية، وسرنا يومنا وليلتنا، إلى قريب من انتصاف الليل، فكدّني السير وأتلفني، ثم حطّ العمّارية في الصحراء، ثم ضربت له خيم، ولأصحابه، فصرنا في عسكر، وأشعلت النيران، ونصب له سرير [57] مخلّع «1» في خيمة له، واستدعاني، فجئت وهو على فراشه، فلاعبني، ثم نزع «2» سراويله، وجلس منّي مجلس الرجل من المرأة، فوقعت صيحة عظيمة، فنهض عنّي، ولم يكن أولج، وضرب بيده إلى تحت الفراش، وإذا سيف مجرّد، فأخذه، وخرج بلا سراويل، وصاح أنا أبو الهيجاء، وسألهم عن سبب الصيحة، فقالوا: سبع أطاف بالخيم.
فخرج يعدو، ومعه خلق من غلمانه وأصحابه، وأهاجوا السّبع، وطلبوه، وناصبوه الحرب، وناصبهم، وأنا أسمع الصياح، وزأرات الأسد، وقد تلفت فزعا، ثم يأتيه هو، من بين الجماعة، فقتله، فحمل رأسه، وجاءني وهو في يده، فلما رأيته صحت، فرمى بالرأس، وغسل يده.
ثم جاءني، فطرحني، وإذا أيره قائم، كما كان في وقت نهوضه، ما تغيّر، ثم جامعني، ثم نهضت.
فما رأيت قلبا أثبت من قلبه، ولا أيرا أقوى من أيره.(3/71)
51 هجاه بالشعر فأجابه بأخذ الشعير
حدّثني عبد الله بن أحمد بن داسه «1» ، قال: حدّثني أبو سهل بن زياد القطان «2» قال:
كان بإسكاف «3» ، شاعر [58] له ضويعة «4» ، فهجا عاملها، وبلغه ذلك، فأمسك عنه، فلما كان وقت الغلّة، ركب العامل إلى البيدر، وقسمه، وحمل غلّة الشاعر أصلا.
فجاء الشاعر إليه يشكو، ويداريه.
فقال: يا هذا ليست بيننا معاملة، أنت هجوتنا بالشعر، ونحن هجوناك بالشعير، وقد استوت الحال بيننا وبينك.(3/72)
52 خلف النار الرماد
حدّثني محمد بن عديّ بن حرّ. وجماعة من البصريّين، قالوا:
لما نشأ لأبي الحسين محمد بن عبيد [الله] بن نصرويه «1» ، مع فضله، ورجلته، ومحلّه المشهور من الدهاء والفضل «2» ، والعلم والعقل، ابنه الباقي الآن، وأخبر أبو الحسين بتأخّره، غمّه ذلك.
قال: وكان أبو الحسين، يوما جالسا، إذ جاء ابنه هذا يسعى إليه، كأنّه في مهمّ، ثم نتف طاقة شعر كانت على أذن أبي الحسين، وسعى، فآلمه ذلك، وغمّه بلوغ تخلف الصبي، إلى هذا الحد، ورثينا لما جرى.
قال لنا: خلف النار الرماد «3» .(3/73)
53 كما تدين تدان
وحدّثني [59] الحسين بن محمد الجبائي، قال:
لما سعى أبو طاهر الحسين بن الحسن، عامل البصرة «1» ، على أبي الحسين ابن نصرويه «2» ، حتى نكب النكبة الثانية، التي ألزمه فيها العباس بن الحسين «3» ، ما ألزمه من المال، راسل أبا طاهر، فقال له: اعلم انّ الصيّاد الفاره، لا يذبح شباشه «4» ، وأنا كنت لك في هذا البلد، مع التجار والناس، مثل(3/74)
شباش الصيّاد، فبي إنّما ظنّ الناس أنّك عادل، وكنت تأخذ من تريد من الأوساط والأصاغر، ولا ينكشف أمرك، وقد صرت بما عاملتني، مثل الصيّاد الذي ذبح شباشه، فليس عزمه بعدها أن يصطاد، وستعلم أنّك لا تنتفع بنفسك، ولا بالبلد بعدي.
ثم عدل إلى السعاية عليه مع أبي الفضل العباس بن الحسين الوزير، فما خرج من البصرة حتى قبض عليه، ونكبه، وقلّد البصرة، أبا القاسم عليّ ابن الحسين بن إبراهيم «1» ، ابن أخت أبي الفرج محمد بن العباس بن فسانجس «2» ، وألزم مالا ثقيلا لم ينهض به، وتلف أبو طاهر في المطالبة، والضرب، ومات [60] في الحبس، وانسحق هو وأهله، إلى آخر دهرهم، وكل ذلك بتدبير أبي الحسين، وترتيبه المكاره عليهم.(3/75)
54 الصوفي المتوكل وجام فالوذج حار
حدّثني محمد بن هلال «1» بن عبد الله، قال: حدّثنا القاضي أحمد بن سيّار، قال: حدّثني رجل من الصوفيّة، قال:
كنت أصحب شيخا من الصوفية، أنا وجماعة في سفر، فحدّثني حديث التوكّل، والأرزاق، وضعف النفس فيهما، وقوّتها.
فقال ذلك الشيخ: عليّ وعليّ، لا ذقت مأكولا، أو يبعث إليّ بجامة فالوذج حار، ولا آكل إلّا بعد أن يحلف عليّ.
قال: وكنّا نمشي في الصحراء.
فقالت له الجماعة: الآخر «2» جاهل.
ومشى ومشينا، وانتهينا إلى قرية، ومضى عليه يومان، وليلتان، لم يطعم فيهن شيئا.
ففارقته الجماعة، غيري، فإنّه طرح نفسه في مسجد القرية، مستسلما للموت ضعفا، فأقمت عليه.
فلما كان في ليلة اليوم الرابع، وقد انتصف الليل، وكاد أن يتلف الشيخ، فإذا بباب المسجد قد فتح، وإذا جارية سوداء، ومعها طبق مغطّى.
فلما رأتنا [61] ، قالت: أنتم غرباء، أو من أهل القرية؟
فقلنا: غرباء.(3/76)
فكشفت الطبق، فإذا بجام فالوذج «1» ، يفور لحرارته.
فقالت: كلوا، فقلت له: كل، فقال: لا أفعل.
فقلت له: والله لتأكلنّ، لأبرّ قسمه، فقال: لا أفعل.
قال: فشالت «2» الجارية يدها، فصفعته صفعة عظيمة، وقالت: والله، لئن لم تأكل لأصفعنّك هكذا، إلى أن تأكل.
قال: فقال: كل معي.
فأكلنا، حتى نظّفنا الجام، وجاءت الجارية تمضي.
فقلنا لها: مكانك، أخبرينا بخبرك، وخبر هذا الجام.
فقالت: نعم، أنا جارية رجل هو رئيس هذه القرية، وهو رجل أحمق حديد «3» ، فطلب منّا منذ ساعة، فالوذجا، فقمنا لنصلحه، وهو شتاء وبرد، فإلى أن تخرج الحوائج من البيت، وتشعل النار، ويعقد الفالوذج، تأخّر عنه.
فطلبه، فقلنا: نعم، وطلبه ثانيا، ولم نكن فرغنا منه، وطلبه الثالثة، فحرد «4» وحلف بالطلاق، لا يأكله، ولا أحد من داره، ولا أحد من أهل القرية، ولا يأكله إلا رجل غريب.
فجعلناه [62] في الجام، وخرجنا نطلب في المساجد رجلا غريبا، فلم نجد، إلى أن انتهينا إلى هذا المسجد، فوجدنا كما، ولو لم يأكله هذا الشيخ، لقتلته ضربا، إلى أن يأكل، لئلّا تطلق ستّي من زوجها.
قال: فقال الشيخ: كيف ترى، إذا أراد أن يرزق؟(3/77)
55 سائل بالأبلة، وسائل بالصين
وحدّثني «1» ، قال: حدّثني القاضي أحمد بن سيّار، قال: حدّثني شيخ من التجار بعمان، قال:
كنت بالأبلّة، أريد الخروج إلى البحر، فرأيت سائلا بباب الجامع، فصيح اللسان، مليح المسألة، فرققت له، وأعطيته دراهم صالحة.
وخطفت «2» في الوقت إلى عمان، فأقمت بها شهورا، ثم قضي لي أن مضيت إلى الصين، فدخلتها سالما، فإذ أنا يوما أطوف، فإذا الرجل بعينه قائما في السوق يتصدّق.
فتأملته، فعرفته، فقلت له: ويحك، سائلا بالأبلّة، وسائلا بالصين.
فقال: قد دخلت إلى هذا البلد، ثلاث دفعات، وهذه الرابعة، لطلب المعيشة، فلا أجدها إلّا من الكدية «3» ، فأرجع إلى الأبلّة، ثم أرجع إلى هاهنا.
قال: فعجبت من شدّة [63] حرمانه.(3/78)
56 تاجر يتمدّح بتجسسه على رسائل التجّار
وحدّثني، قال: حدّثني قاضي القضاة أبو محمد بن معروف، رضي الله عنه «1» ، قال: حدّثني بعض أهل بغداد، عن أبي عبد الله بن أبي عوف «2» ، إنّه قال:
ضاق صدري، في وقت من الأوقات، ضيقا شديدا، لا أعرف سببه، فتقدّمت إلى من حمل لي طعاما كثيرا، وفاكهة، وعدة من جواريّ، إلى بستان لي على نهر عيسى «3» ، وأمرت غلماني، وأصحابي، أن لا يجيئني أحد منهم بخبر يشغل قلبي، ولو ذهب مالي كلّه، ولا يكاتبوني، وعملت على أن أقيم في البستان بقيّة أسبوعي، أتفرّج مع أولئك الجواري.
قال: وركبت حماري «4» ، وقد تقدّمني كلّما أمرت بحمله.(3/79)
فلما قربت من البستان، استقبلني فيج «1» ، معه كتب.
فقلت له: من أين وردت؟
فقال: من الرقّة «2» .
فتتبّعت نفسي، أن أقف على كتبه، وأخبار الرقّة، وأسعارها.
فقلت له: تعرفني؟
فقال: نعم.
فقلت: أنت قريب من بستان لي، فتعال معي، حتى أهب لك دنانير، وأغيّر حالك، وأطعمك، وتستريح الليلة في [64] البستان، وتدخل بغداد غدا.
فقال: نعم.
ومشى معي راجعا، حتى دخل البستان، فأمرت من فيه، أن يدخله حمّاما فيه، ويغيّر ثيابه ببعض ثياب غلماني، ويطعمه.
فابتدوا «3» معه في ذلك.
وتقدّمت إلى غلام لي فاره، فسرق كتبه، وجاءني بها، ففتحتها، وقرأت جميع ما فيها، وعرفت من أسرار التجّار الذين يعاملوني شيئا كثيرا، وتفرّجت بذلك.
ووجدت جميع الكتب، محشوّة إلى التجار، بأن يتمسّكوا بما في أيديهم من الزيت، ولا يبيعوا منه شيئا، فإنّه قد غلا عندهم وعزّ، ويوصونهم بحفظ ما في أيديهم.(3/80)
فأنفذت إلى وكلائي في الحال، فاستدعيتهم، فجاءوا، فقلت لهم:
خذوا من فلان الناقد «1» ، وفلان الناقد، كل ما عندهم من العين والورق «2» الساعة، ولا ينقضي اليوم إلّا وتبتاعون كلما تقدرون عليه من الزيت، واكتبوا إليّ، عند انقضاء النهار، بالصورة.
فمضوا، فلما كان العشاء، جاءني خبرهم، بأنهم قد ابتاعوا زيتا، بثلاثة آلاف دينار، فكتبت إليهم بقبض ألوف دنانير أخر، وبشرى كل ما [65] يقدرون عليه من الزيت.
وأصبحنا، فدفعت إلى الفيج ثلاثة دنانير، وقلت له: إن أقمت عندي، دفعت إليك ثلاثة دنانير أخرى.
فقال: أفعل.
وجاءتني رقعة أصحابي، بأنّهم ابتاعوا زيتا بأربعة آلاف دينار، وانّه قد تحرّك سعره لطلبهم إيّاه، فكتبت بأن يبتاعوا كلّ ما يقدرون عليه، وإن كان قد زاد.
وشاغلت الرسول، اليوم الثالث، ودفعت إليه في اليومين، ستّة دنانير، وأقام ثلاثة أيام، وابتاع أصحابي بثلاثة «3» آلاف دينار أخرى.
وجاءوني عشيّا، فقالوا: كان ما ابتعناه اليوم زائدا على ما قبله، في كلّ عشرة، نصف درهم، ولم يبق في السوق شيء يفكّر فيه.
فصرفت الرسول، وأقمت في بستاني أيّاما، ثم عدت إلى داري، وقد قرأ التجّار الكتب، وعرفوا خبر الزيت بالرقّة، فجاءوني يهرعون «4» ،(3/81)
ويبذلون في الزيت، زيادة اثنين في العشرة، فلم أبع، فبذلوا زيادة ثلاثة في العشرة، فلم أبع.
ومضى على ذلك، نحو من شهر، فجاءوني يطلبون زيادة خمسة، وستة، فلم أفعل.
فجاءوا بعد [66] أيّام، فبذلوا للواحد الواحد.
فقلت في نفسي: ترك هذا خطأ، فبعته بعشرين ألف دينار.
فنظرت، فلم يكن لضيق صدري، وانفرادي في البستان، ذلك اليوم سبب، إلّا ما أحبّه الله تعالى، أن يوصل إليّ ربح عشرة آلاف دينار.(3/82)
57 صائغ يتمدّح بأنه اؤتمن فخان
وحدّثني «1» ، قال: حدّثني صائغ كان يخدم في خزانة الأمير معزّ الدولة «2» ، يعرف بطاهر، قال:
كنت أشرب يوما في منزلي، وعندي جماعة من إخواني، فانقطع بنا النبيذ، فخرجت أحتال لهم شيئا من ذلك، فلقيني ركابيّ، فقال: الأمير يطلبك.
فقلت: قل إنّك لم ترني.
قال: لا أفعل.
فقلت: خذ منّي دينارا، وقل إنّك لم تجدني.
قال: وأنا معه، إذ جاء ركابيّ آخر، فبذلت لهما دينارين، فأبيا، وجاء الثالث، فمضيت، وحملت معي غلاما كان لي.
فحين دخلت إلى الأمير، قال لي: امض، فانظر ما يقول لك عليّ المغنّي، في الخزانة، فافعله.
فجئت الى الخزانة، فقلت لعلي: أيش تريد؟
فأخرج إليّ، مناطق «3» كثيرة ذهبا، موكّدة «4» بلا سيوف، [67] ممّا أخذه معزّ الدولة، من تركة أخته «5» ، وكانت الأخت، تشدّها في أوساط الجواري،(3/83)
وتلبسهنّ القراطق «1» والخفاتين «2» ، وتلك المناطق فوقها، ويخدمنها كذلك، فلما حصلت لمعزّ الدولة، لم يستحسنها، فأمر بكسرها، وصياغتها مراكب، وسيوفا، ومناطق أعجمية.
فقال لي: اجلس واقلعها، حتى ننظر كم يجتمع منها، ويصاغ.
فقلت: ليس معي آلتي التي تستعمل.
فقال: أنفذ من يحضرها.
فأنفذت غلامي، فأحضر بعض الآلة، فما زلت أقلع، وأغتفل المغنّي، وأسرق، وأجعل ذلك في كمّي، وتحت عمامتي، وأرمي إلى غلامي، فإذا حصل معه شيء، قلت له: هات المبرد، هذا قد كلّ، فامض، وجئني بغيره، أو هات الآلة الفلانيّة، فيمضي، ويحصّل ما قد سرقناه، ويجيء بالآلة، وأسرق، وأعطيه، وأطلب آلة أخرى، على هذا، إلى أن جاء المساء، فجمع عليّ المغنّي، تلك المناطق، وأخذ الوعد عليّ، في الحضور في غد، ومعي الصنّاع، وشريكي المرسوم «3» معي بالخدمة في الخزانة، فانصرفت، فوزنت [68] ما قد حصل عندي، وكان أربعمائة وثمانين مثقالا.
فقلت لعيالي: هذا، حملت إليه كرها، حتى أخذته، بعد أن بذلت، أن أعطي دينارين جعلا، ولا أمضي، وحدّثتهم بالقصة.
فلما كان من الغد، حضر الصنّاع، وشريكي، وجلسنا نفكّك الباقي، وأحضرنا شيئا آخر، فما استوى لنا أن نسرق إلّا مائة وستين مثقالا، قاسمته عليها، وعجبت من رزقي في ذلك.(3/84)
58 من مكارم أخلاق الأمير الموفق
حدّثني أبو الحسن ثابت بن إبراهيم بن زهرون، الحرّاني، الصابئ، الطبيب «1» ، قال: حدثني أبي «2» ، قال:
كنت، بين يدي الموفّق «3» ، يوما، فقال لي: يا إبراهيم، أنا أشتهي شهوة منذ سنين، وهو ذا «4» ، أستقبح أن أطلبها، وقد عنّ لي الساعة مواضعتك على طلبها.
قال: فقلت: يأمر الأمير «5» .
قال: ويحك، أنا والله، منذ سنين كثيرة، أشتهي كبود الدجاج، وقوانصها مطبهجة «6» ، وأستقبح أن أطلبها، فيظنّ صاحب المائدة، انّ نفسي قد تتبّعته، شحّا به عليهم، لأنّ رسمهم جار، بأن يرتفقوا [69] بأخذه(3/85)
وبيعه، وأريد إذا قدّمت المائدة، وجلست معي للأكل، أن تتشهّى «1» ذلك عليّ، وتشير به من طريق الطبّ، لأتقدّم إليهم باتخاذ شيء منه يسير، فيصير ذلك القدر رسما في كلّ يوم، لا يؤثّر عليهم قدره، ويبيعون هم الباقي، فإنّه كثير، وأكون قد قضيت شهوتي.
قال: فعجبت من كرمه، وفرط حيائه من خدمه، حتى يلفّق الحيلة في الوصول إلى شهوته، من غير إيحاشهم، أو تعرض لذمّهم.
وقدّمت المائدة، فجلس يأكل عليها وحده، وجلست مع الندماء، آكل، على مائدة بين يديه.
فلما أكل بعض أكله، قلت: لم لا يأمر الأمير «2» الناصر، بأن يتّخذ له شيء يسير في زبديّات، من كبود الدجاج المسمّن، وقوانصه، بالبيض، والمرّي «3» ، فيطجّن «4» بعضه، فيولع منه بالشيء اليسير، فإن في ذلك كذا وكذا، وأخذت أصف ما حضرني في الوقت، ونحن أيضا نشتهي أن نأكل منه.
فقال: يصلح لنا من غد، كذا وكذا زبديّة، مطجّن، وكذا وكذا [70] زبديّة، من كبود الدجاج المسمّنة، وقوانصها.
فأصلحوا ذلك، وصار رسما جاريا، ولم يفطن أحد منهم لما جرى.(3/86)
59 بحث في الأمانة
حدّثني عبيد الله بن أحمد بن بكير «1» ، قال: حدّثني أبو جعفر الضبّي، الفقيه الحنفي، وقد شاهدته أنا «2» ، وكان من شيوخ التجّار المستورين، فقيها، يحضر مجلس أبي «3» للخلاف «4» ، ويناظر، ولم أسمع منه هذه الحكاية، قال:
حدّثني شيخ من التجّار، بسيراف، قال:
كان عندنا نفسان، يمشيان في طريق، فرأيا صرّة دراهم ملقاة في الطريق، فقال أحدهما للآخر: خذها واحفظها لصاحبها.
فقال الرجل: لا أفعل.
فقال: لكني آخذها، وأحفظها، فإن وجدت صاحبها، رددتها عليه.
قال: فأخذها ومشى. فإذا برجل يصيح.
فقالا له: ما لك؟
فقال: صرّة صفتها كذا وكذا، فيها دراهم لي، سقطت منّي الساعة.
فقال الذي هي معه: خذها، فإنّها هذه.
فسلّمها إليه، ثم قال لصاحبه: أليس لو كان الناس كلهم على مذهبك [71] ، في أن لا يحفظوا على الناس، لضاعت أموالهم.
فقال له الآخر: أليس لو كان الناس كلهم على مذهبي، ما ضاعت الصرّة، ولكانت تبقى في الطريق مكانها، حتى يرجع صاحبها، فيأخذها.(3/87)
60 الخوارج يقطعون السارق من المرفق
حدّثني أبو الحسين علي بن لطيف «1» ، المتكلّم على مذهب أبي هاشم «2» ، قال:
كنت مجتازا بناحية قزدار «3» ، مما يلي سجستان «4» ومكران «5» ، وقد كان يسكنها الخليفة من الخوارج، وهي بلدهم ودارهم، فانتهيت إلى قرية لهم، وأنا عليل، فرأيت قراح بطيخ «6» ، فابتعت واحدة، فأكلتها، فحممت(3/88)
في الحال، ونمت يومي وبقيّة ليلتي، في قراح البطيخ، ما عرض لي أحد بشيء، وكنت قبل ذلك، قد دخلت القرية، فرأيت شيخا خيّاطا في مسجد، فسلّمت إليه رزمة ثيابي، وقلت له: تحفظها لي.
فقال: دعها في المحراب.
فتركتها، ومضيت إلى القراح، فلما أفقت من الغد، عدت إلى المسجد، فوجدته مفتوحا، ولم أر الخياط، ووجدت الرزمة بشدّها في المحراب.
فقلت [72] ما أجهل هذا الخيّاط، ترك ثيابي وحدها، وخرج، ولم أشكّ في أنّه قد حملها بالليل إلى بيته، وردّها في الغد إلى المسجد، انتظارا لي.
فجلست أفتحها، وأخرج شيئا شيئا، فإذا بالخيّاط.
فقلت له: كيف خلّيت «1» ثيابي؟
فقال: أفقدت «2» منها شيئا؟
قلت: لا.
فقال: ما سؤالك؟
قلت: أحببت أن أعلم.
قال: تركتها البارحة في موضعها، ومضيت إلى بيتي.
فأقبلت أخاصمه، وهو يضحك.
وقال: أنتم قد تعودتم أخلاق الأرذال، ونشأتم في بلاد الكفر، التي فيها السرق والخيانة، وهذا لا نعرفه هاهنا، لو بقيت ثيابك مكانها، إلى أن تبلى، ما أخذها أحد غيرك، ولو مضيت إلى المشرق والمغرب، ثم عدت(3/89)
لوجدتها مكانها، فإنّا نحن، لا نعرف لصّا، ولا فسادا، ولا شيئا ممّا عندكم، ولكن، ربما لحقنا «1» في السنين الطويلة، شيء من هذا، فنعلم انّه من جهة غريب قد اجتاز بنا، فنركب وراءه، ولا يفوتنا، فندركه، فنقتله، إمّا نتأوّل عليه بكفره، وسعيه في الأرض [73] بالفساد، أو نقطعه كما يقطع السرّاق عندنا من المرافق، فلا نرى شيئا من هذا.
قال: وسألت عن سيرة أهل البلد، بعد ذلك، فإذا الأمر كما ذكره، وإذا هم لا يغلقون أبوابهم بالليل، وليس لأكثرهم أبواب، إنّما هي شرائج «2» تردّ الكلاب والوحوش.(3/90)
61 الأمير معز الدولة يطوف في قصور دار الخلافة
حدّثني أبو الحسن، عليّ بن أحمد الحاجب، المعروف بابن الخراسانيّ، وكان يحجب معزّ الدولة، قال:
كنت مع معزّ الدولة «1» يوما في دار الخلافة «2» ، بحضرة المطيع لله «3» ، فلما انفضّ الموكب «4» ، قال لي: قل له: إنّي أريد أن أطوف في الدار، فأراها وأشاهد بساتينها، وصحونها، فيأمر من يطيفني فيها.
قال: فقلت ذلك للخليفة، بالعربية.
فأمر الخليفة، شاهك خادمه، وابن أبي عمرو «5» حاجبه، أن يطيفاه فيها.
فلما مشيا بين يديه، وأنا وراءهما أمشي، وبعدنا عن حضرة الخليفة، وقفا، فقالا: أيّها الأمير إنّه لا يصلح أن تطوف الدار، إلّا ومعك نفسان،(3/91)
أو ثلاثة، أو نحو هذا [74] ، فاختر لنفسك من تريد، وردّ أصحابك.
قال: فأخذ الصيمريّ كاتبه «1» ، معه، ونحو عشرة غلمان، من حجّابه، وغلمانه، وترك باقي غلمانه، وجيشه، في صحن السلام.
فتوقّفت أشدّ منطقتي، فسبقني، ودخل مع شاهك، وابن أبي عمرو، ولم ينتظروني، وأسرع في مشيه.
فشددت منطقتي ولحقته، وجذبت ثيابه من ورائه، فالتفت، فقلت بالفارسية: في أي موضع أنت؟ ما لك تعدو على وجهك؟ وليس تعلم انّك في دار قد قتلت ألف أمير ووزير، أيش كان غرضك في طوف هذه الدار وحدك؟ ما كان يؤمنك، لو وقف لنا عشرة من الخدم، أو عشرون نفسا، في هذا الممر الضيّق، فنقتل.
قال: فكنت أكلّمه بالفارسية، وأصحاب الخليفة لا يفهمون.
فقال له الصيمريّ، بالفارسيّة: قد صدقك.
فقال لنا: إن أنا رجعت الساعة، علموا أنّي قد فزعت، فضعفت هيبتي في نفوسهم، ونظروا إليّ بعين جبان، ولكن التفّوا حولي، فإنّ مائة من هؤلاء، لا يقاومونا [75] ، ولا صاحبهم يجسر أيضا، على الحيلة عليّ.
وتسرّع في مشيه، حتى انّنا لم نثبت ما شاهدناه، حقّ تثبيته.
حتى انتهينا إلى دار فيها صنم من صفر، على صورة امرأة، وبين يديها أصنام صغار، على صور الوصائف، فما رأينا شيئا قط، أحسن من ذلك، وخاصّة المرأة.
قال: فتحيّر معز الدولة، وسأل عن ذلك، وقالوا: هذا صنم يقال(3/92)
له: شغل، حمل إلى المقتدر من بلد من بلدان الهند، وكان يعبده أهل ذلك البلد، ففتحه صاحب عمان، وملكه، وحمل الصنم.
فقال معزّ الدولة: قد والله عشقت هذا الصنم، لحسنه، ولو كان جارية، مع زهدي في الجواري، لاشتريتها بمائة ألف دينار، وأريد أطلبه من الخليفة، ليكون قريبا مني، فأراه في كلّ وقت.
فقال له الصيمريّ: لا تفعل، فإنّك تنسب في ذلك، إلى أخلاق الصبيان.
قال: وأسرعنا الطوف، والخروج، فما عقلنا، ولا رجعت نفوسنا إلينا، حتى صار مع عسكره، وغلمانه [76] .
فلما نزل إلى طيّاره، التفت إلى الصيمريّ، وقال: يا أبا جعفر، قد زادت محبّتي للخليفة، لأنّه لو كان يضمر لي سوءا، وكان فيه شرّ، لكان قد قتلني اليوم بأسهل حيلة.
فقال له الصيمريّ: الأمر كذلك، فاحمد الله.
قال: فلما رجع إلى داره، أمر أن يحمل إلى نقيب الطالبيّين عشرة آلاف درهم، ليفرّقها فيهم، شكرا لله عزّ وجل، على سلامته.
ففرّقت، ولم يعرفوا سبب ذلك.(3/93)
62 أجر الطبيب عن سقي دهن الخروع
حدّثني أبو محمد عبد الله بن داسه «1» ، قال: حدّثنا أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى «2» ، قال: حدّثنا أبي، قال:
كان في بني منقر، بالبصرة، طبيب يختلف إلى عيسى بن أبان القاضي «3» ، أيّام مقامه بالبصرة، يسقيه في كل سنة، دهن الخروع «4» ، أيّاما متوالية من كلّ سنة، فإذا فرغ، وقّع له إلى وكيله بمائتي درهم.
قال: فغلط سنة من السنين، فوقّع له بمائتي دينار.
فلما عرض الطبيب الرقعة على الوكيل، استراب بها، وقال: حتى أستأذنه.
وجاء إليه فأراه التوقيع [77] ، فقال: ما أردت هذا، ما أردت إلا المائتي درهم التي هي رسمه، ولكنّ هذا شيء أجراه الله على يدي، لا أرجع عنه، أعطه إياه.
فأعطاه.(3/94)
63 ابن الوزير علي بن عيسى يمنع والديه من الاجتماع
وحدّثني أبو محمد «1» ، قال: حدّثني أبو سهل بن زياد القطان «2» ، قال:
كان عليّ بن عيسى «3» ، يدخل في كلّ أسبوع، يوما، إلى زوجته، والدة أبي القاسم، ابنه.
وكان أبو القاسم «4» ، قد نشأ وترجّل «5» .
فلما كان يوم النوبة، أدخل أبو القاسم أمّه إلى حجرة، وقفلها عليها، وأخذ المفتاح.
فوافى عليّ بن عيسى، فأنكر قفلها.
فقال له الجواري: إنّ أبا القاسم ابنه، فعل ذلك.
فاستحيا، وعرف غرضه، فلم يدخل إلى أمّه بعد ذلك، إلّا لعيادة، أو حال ظاهرة.(3/95)
64 الوزير أبو علي بن مقلة يثني على القاضي أبي عمر
وحدّثني «1» ، قال: حدّثني أبو الفرج منصور بن القاسم القنائيّ الكاتب، قال:
دخل أبو عمر القاضي «2» ، على أبي عليّ بن مقلة «3» ، وهو وزير، وعليّ ابن عيسى «4» عنده جالس، فرفع أبا عمر عليه، فامتنع، فرفعه ثانية، فامتنع، وجلس دون أبي الحسن.
فانصرف، فراسله [78] إلى طيّاره، واستدعى ابنه أبا الحسين «5» ، فجاء إليه، فقال: تقول لأبي عمر، إنّي ما رفعتك على عليّ بن عيسى، لتخالف أمري، وتمتنع من ذلك. وتجلس دونه.
فعاد إليه أبو الحسين، فقال له ما جرى.
فقال له: ارجع إليه، وقل له: هذا رجل رأس عليّ، ثم أدال «6» الزمان منه، فكرهت أن أرتفع عليه، فيتصوّرني الوزير، بصورة من يرتفع على رؤسائه، وما فعلت ذلك، إلّا لك، وإعظاما للرياسات.
فعاد أبو الحسين، إلى ابن مقلة، وأعاد عليه ذلك.
فقال: قل له: أحسن الله جزاءك، فمنك يتعلّم العقل.(3/96)
65 الخليفة المعتضد يبحث عن حجّة لقتل وزيره
حدّثنا أبو محمد «1» ، قال: حدّثنا أبو الحسين محمد بن عبيد الله بن نصرويه، عن شيوخه.
إنّ المعتضد «2» ، لما قبض على إسماعيل بن بلبل «3» ، أحضر إسماعيل بن إسحاق القاضي «4» ، وقال له: بلغني أنّك تعلم أنّ إسماعيل بن بلبل، زنديق، فما تقول في قتله؟
فقال: ما أقول في رجل تكنّى، وسمّي أبوه بالطيور «5» .
فعلم المعتضد أنّه يدافع، فقال ليوسف القاضي «6» : هل عندك من أمره شيء؟
فقال: نعم. أمرني الموفّق «7» بالنفقة على [79] الموسم «8» ، وتقدم إلى إسماعيل، أن يعطيني المال، فكنت ألزم مجلسه، أطالبه بذلك.
7 ن 3(3/97)
فلزمته يوما من الغداة إلى المغرب، ما رأيته صلّى، ولا نهض من موضعه.
ثم لزمته أيّاما متتابعة، وكان هذا حكمه، فقلت لعلّه يقضيها ليلا.
فقال لي في آخر يوم: بت عندي الليلة لأعطيك المال، وجلس يتحدّث، وأنا بين يديه، إلى أن نعس، فأراد إكرامي، فأمرني بالنوم بحضرته، فنمت، وما رأيته خلال ذلك صلّى.
فقال له المعتضد: انصرف، فقد أخبرتني بما أردته منك.
وقتله «1» .(3/98)
66 عمرو بن الليث الصفار يعاقب واحدا من حرسه
حدّثنا [80] أبو محمد «1» ، قال: حدّثنا أبو الحسن بن أبي نصر، أنّ ابن أبي الوليد بن أبي عبد الله بن ابي دؤاد، قال: حدّثني أبي «2» :
أنّ عمرو بن الليث «3» ، كان له بيت ينام فيه، ويحرسه غلمان له ليلا، فانتبه ليلة، فوجد بعض الغلمان، قد استند إلى الحائط، ونام قائما، فجعل مرفقه، على صماخه «4» ، وغمز عليه، حتى قتله.
فما رؤي في داره، نائما، ممّن كان يحرسه، بعد ذلك.(3/99)
67 حميد الطوسي يأمر بقتل الطباخ لأنّه لم ينضج دجاجة
حدّثنا أبو محمد، قال: حدّثني أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي، قال: قال ابن عيّاش «1» :
كنت آكل مع حميد الطوسيّ «2» ، فضربت يدي إلى دجاجة مشوية، ثم رغبت عنها شبعا، فلم أكسرها، وانقضى الطعام، وغسلت يدي، وخرجت، فإذا بضوضاء في الدهليز، وإذا برجل يبكي.
فقام إليّ، وقال: يا رجل، أحي نفسا، كنت أنت سبب قتلها.
فقلت: ما الخبر؟
فقال: أنا طبّاخ حميد، وإنّك مسست دجاجة، ثم لم تكسرها، فقدّر حميد أنّني شويتها، ولم أنضجها، فأمر بقتلي.
فعدت إلى حميد، فحين رآني، قال: والله لا شفّعتك في الطبّاخ.
قلت: يسمع الأمير ما أقوله، ويعمل ما يراه، قال: قل.
فحلفت بالأيمان المغلظة، إنّ الدجاجة كانت نضيجة، وإنّما رغبت عنها، لأنّ الشبع صدّني، ثم اتبعت المسألة في أمر الطبّاخ.
فقال: أهب لك ذنبه، على أن لا يدخل داري، إنّنا قد أيسنا من الآخرة، وإنّما هي الدنيا، فلا نحتمل، والله، لأحد، تنغيصها علينا [81] .(3/100)
68 إسحاق المصعبي تحرّكه رقاع أصحاب الأرباع في بغداد
وحدّثني «1» ، قال: حدّثني أبو يحيى بن مكرم، القاضي البغدادي «2» ، قال: حدّثني أبي، قال:
كان في جواري شيخ يعرف بأبي عبيدة، حسن الأدب، كثير الرواية للأخبار، وكان ينادم إسحاق بن إبراهيم المصعبي «3» .
فحدّثني: إنّ إسحاق استدعاه ذات ليلة، في نصف اللّيل، بعدّة رسل.
قال: فهالني ذلك، وأوحشني، لما أعرفه من زعارة أخلاقه، وشدّة إسراعه إلى القتل، وخفت أن يكون قد نقم عليّ شيئا في العشرة، أو بلغه عني باطل، فأحفظه «4» ، فيقتلني.
فخرجت طائر العقل، حتى أتيت داره.
فأدخلت من دار إلى أخرى، إلى أن أدخلت دار الحرم، فاشتدّ جزعي، ثم أدخلت إلى حجرة لطيفة، فسمعت في دهليزها، بكاء امرأة، متخافتا، وهو جالس على كرسيّ، وبين يديه سيف مسلول.(3/101)
فذهب عليّ أمري، وسلّمت، ووقفت.
فقال: اجلس يا أبا عبيدة، فسكن روعى، وجلست.
فرمى إليّ قصصا «1» ، فإذا هي رقاع أصحاب الشرط في الأرباع «2» ، يخبر كلّ [82] واحد منهم، بخبر يومه، وفي أكثرها، كبسات وقعت، بنساء من بنات الوزراء، والرؤساء من الكتّاب، وبنات القوّاد والأمراء، مع رجال على ريب، وإنّهنّ محصّلات في الحبوس، ويستأذن في أمرهنّ.
فقلت: قد وقفت على هذه الرقاع، فما يأمرني الأمير؟
فقال: إن هؤلاء، كلّهنّ، أجلّ آباء مني، وأكثر حسبا ومالا، وقد أفضى بهنّ الدهر، إلى ما قد رأيت، وقد وقع لي أنّ بناتي سيبلغن إلى هذا، وقد جمعتهن- وهن خمس- بالقرب من هذا الموضع، لأقتلهنّ كلّهنّ الساعة، وأستريح، فماذا ترى في هذا؟.
فقلت: أيّها الأمير، إن آباء هؤلاء المحبّسات، أخطأوا في تدبير هنّ، لأنّهم خلّفوا عليهنّ النعم، ولم يحفظوهنّ بالأزواج، فخلون بأنفسهنّ، ففسدن، ولو كانوا علّقوهنّ على الأكفاء، ما جرى هذا منهنّ.
والذي أراه، أن تستدعي فلانا، القائد، فله خمسة بنين، كلّهم جميل الوجه حسن النشوة «3» ، فتزوّج كلّ واحدة منهن، بواحد، فتكفى العار، والنار.
فقال [83] أحسنت يا أبا عبيدة، أنفذوا الساعة إليه، وافرغ لي من هذا.
قال: فراسلت الرجل، فما طلع الفجر، حتى حضر وأولاده،(3/102)
وعقدت النكاح لهم، على بنات إسحاق، في خطبة واحدة، وحمل إسحاق بين يدي كلّ واحدة، خمسة آلاف دينار، عينا، وشيئا كثيرا من الطيب، والثياب، والدوابّ، والبغال، والغلمان.
فأعطاني كلّ واحد من الأزواج شيئا ممّا وصل إليه، وأنفذ لي أمّهات الأولاد، هدايا في الحال، وشكرنني على تخليص بناتهنّ، وانقلبت الحال إلى السرور.
فخرجت، وقد حصل لي ثلاثة آلاف دينار عينا، وشيء كثير، من الطيب والثياب «1» .(3/103)
69 شغف المتوكل بالعود الهندي
حدّثني الحسين بن محمّد الجبائي، قال: حدّثني أبو القاسم عمرو ابن زيد البزّاز الشيرازيّ، المقيم ببغداد، قال: حدّثني ابن حمدون «1» النديم، عن آبائه، انّ أحدهم أخبره:
إنّ المتوكل «2» ، كان مشغوفا بالعود الهندي «3» ، فشكا إليه ذات ليلة، إعوازه، قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين [84] ، الملوك لا تستقبح أن تستهدى من الملوك، طرائف ما في بلادها، فلو أنفذت إلى ملك الهند، هديّة حسنة، واستهديت منه عودا هنديا، ما كان ذاك عيبا.
قال: فتكون أنت الرسول.
فأبيت.
فألزمني، إلى أن أجبت، فتمنّيت أنّي لم أكن أشرت عليه بالرأي، وإن كان صحيحا، لأجبر على الخطر بالنفس، وقلت في نفسي: قد كان يسعني السكوت.
وأعدّ المتوكّل الهدايا، وتأهّبت للخروج، ووصّيت، لإيآسي من الرجوع.
فلما أجدّ بي الخروج، قلت: ليس إلّا أن أحمل معي شرابا كثيرا، فإذا اشتدّت الأمواج، شربت، وسكرت، ولا أعقل إن غرقت، ولا أحسّ بعظم الأمواج، مع السكر.(3/104)
فاستكثرت من الشراب القطربّلي «1» والغناء الحسن «2» ، والتفاح الشاميّ، وجعلت بعضه في العسل، ليبقى.
وخرجت، فأقمت بالبحر شهورا، وعانيت أهوالا عظيمة، إلى أن وصلت إلى الساحل من بلد الهند، فأركبت الظهر، وسرت من بلد إلى آخر، إلى أن دخلت بلهوار «3» ، دار «4» الملك [85] الأعظم من ملوك الهند، وهو اسم الملك الأعظم هنالك.
فوصلت إلى البلد، مع أصحابه، وقد تلقّيت، وأكرمت، وخدمت، وأنزلت دارا حسنة، من دورهم.
ثم جلس مجلسا عاما، فدخلت إليه، وهو في حفله، وتأهبّه، وجيشه، ورعيّته، وقد جلس على سرير ملكه، وعليه مئزران حرير صينيّ، وقد اتّشح بأحدهما «5» ، واتّزر بالآخر «6» ، وفي حلقه خيط فيه صرّة من ذلك الحرير «7» ، لا أدري ما فيها.
وكلّمني بترجمانه، وقال: يقول لك الملك، لأيّ شيء قصدت؟
فقلت له: إن أمير المؤمنين أحب صلة الحال والمودّة بينه وبينه، فبعثني لذلك، وحمل على يدي هداياه، وسألت أن يأمر بتسلّمها.(3/105)
فأعاد الترجمان عنه، جوابا حسنا جميلا، وإنّه أمر بقبض الهديّة، وانصرفت، ورسله معي، فتسلّمها.
وتردّدت إلى المجالس العامّة، دفعات.
فلمّا كان بعد أيّام، استدعاني في نصف نهار، وكان الزمان حارّا، فدخلت دار العامّة التي كنت أصل إليه [86] فيها، فلم أجد فيها كثير أحد، فأدخلت من موضع إلى آخر، حتى أدخلت إليه، وهو جالس في حجرة في غاية الحسن، والسرو، والظرف، والملاحة، وفاخر الآلات، كأنّها من حجر دار الخلافة، ودست طبريّ «1» في نهاية الحسن، والملك جالس فيه، وعليه قميص قصب «2» في نهاية الخفّة والحسن، وسراويل دبيقيّ «3» ، بتقطيع بغدادي «4» ، وعلى مسورته «5» رداء قصب «6» فاخر جدا، وبين يديه آلات ذهب، وفضّة، وصياغات كثيرة عراقيّة، كلها حسنة، مملوءة بالكافور «7» والماورد، والعنبر «8» ، والندّ «9» ، والتماثيل «10» .(3/106)
فلما دخلت، كلّمني بالعربيّة، بلسان طلق ذلق، وقال: كيف أنت من قشف «1» بلادنا؟
فشكرت إنعامه، وقرّظت بلاده، وذكرت له أنّي في ريف «2» من تفقّده، وبرّه.
فباسطني، وطاولني «3» ، واستطاب حديثي، وأفضت معه في فنون من الأمور، حتى تكامل انبساطه إليّ.
وتأمّلت أمره كله، فإذا رجل عراقيّ، متأدّب.
فسقاني من شراب بين يديه [87] ، أصفر، في قدح، في صينيّة، وقال: اشرب هذا، وقل لي، هل عندكم مثله؟
فقبّلت يده، وقبّلت القدح، وشربته، وقلت: هذا، في نهاية الطيب والحسن والجودة.
فقال: أصدقني، هل عندكم مثله؟
فوصفت له الشراب القطربّلي، وذكرت منافعه، وفضائله، وطيبه، وزدت في الوصف، وبسطته، فرأيت في عينه، استبعادا لقولي.
فقلت له: إنّي كنت استصحبت منه شيئا في طريقي، وقد فضل منه فضلة، لا أرضاها لحضرة الملك، ولكن إن أمر بإحضارها، ليعتبر بها صحّة ما ذكرته له، أحضرتها.
فقال: افعل.(3/107)
فقلت لغلامي: احمل كلما بقي عندنا من الشراب، فجاء الغلام بأدنّ «1» يسيرة.
وقلت له: أن يحمل شيئا من التفاح الشاميّ.
فحمل ممّا كان في العسل، عدّة تفاحات، ومسحها من العسل، وكان في بعضه قد بقيت منه بقيّة صالحة.
فلمّا وضعت الدنان بين يديه، أمرت غلامي، ببزلها في قدح [88] ، وشربت منه أوّلا، ثم دفع إليه، فاستحسن ذلك.
ثم أخذ التفّاح، فلما رأى لونه، رأى شيئا غير ما عنده، وشمّه، فكاد أن يشهق استطابة، وشربه، وتقدّح «2» بشيء من التفّاح، وقد كنت كسرت واحدة، وأكلت نصفها في حال شربه، وتركت النصف الآخر بين يديه «3» ، فتنقّل به، ومسح فاه.
ثم قال لي: ما ظننت أنّ في الدنيا مثل هذا الشراب، ولا مثل هذا(3/108)
النّقل، ولقد بعد في نفسي ما أخبرتني به، فلما شاهدته صدّقتك، وعظم في نفسي بلد يكون مثل هذا فيه مبتذلا، ولم أصدّق ذلك لو لم أشاهده.
ثم قال لي: ويحك، تشربون مثل هذا، وتتنقّلون بمثل هذا، وتموتون؟
إنّ هذا لأمر عجيب.
ثم صار يستدعيني، كلّ يوم، إلى تلك الحجرة، فآكل معه، ونشرب، ويخرج إليّ بالأحاديث.
فلما أنست به، قلت له: أيّها الملك، أتأذن لي، أن أسأل عن شيء؟
قال: قل.
قلت: إنّ الله عزّ وجل، قد جمع لك من [89] الملك العظيم، أنّك جالس في هذه الحجرة في قطعة من دار الخلافة بالعراق، بلا فرق ولا شكّ، وقد أعطاك من حسن الرأي والفهم، واللسان العربيّ، ما جعلك به، كأنّك رجل من أهل بغداد، فمن أين لك هذا؟
فقال: ويحك، إنّ أبي كان من أولاد الملوك، وقتل أبوه، وانتزى على ملكه بعض قوّاده، ثم خرج عليه، ولم يكن من أهل بيت الملك، فهرب أبي خوفا على دمه، إلى عمان، فدخلها مستخفيا، وتنقّل في البلدان، إلى أن وقع ببغداد، في زيّ التجّار، ومعه من يخدمه، ويكتم أمره، وطاف بلدان العراق، وكانت المادة تحمل إليه من هاهنا.
فأقام بالعراق سنين، حتى تفصّح بالعربية، وعاشر أهل العراق، ونكح منهم، وخالطهم، وتطاولت السنون به، ومات ذلك الخارجيّ، الذي قتل أباه، وغصبه الملك، فأوقف أهل المملكة الملك عليه، وكاتبوه بالصورة، واستقدموه، وأمدّوه بالأموال، فاستصحب قوما من [90] العراقيّين، من أهل الأدب والعشرة، وأهل الصنائع، فقدم، فملك الأمر، وجعل غرضه،(3/109)
طلب العراقيين، وأسنى لهم العطايا، فكثروا عنده، فبنوا له هذه الحجرة، وخدموه بهذه الآلات.
فكان يجلس لأهل المملكة في زيّهم، لئلا يشيع عليه مخالفتهم في الزيّ، وينقص بين ملوكهم، فيهون أمره عندهم، ويجلس في خلواته هكذا.
فلما ولدت، أسلمني إلى العراقيين، والهنديّين، فكلّموني باللغتين، فنشأت أتكلّم بهما، ثم أدّبني العراقيّون، وغلبوا عليّ.
فلمّا مات، سلّم الملك إليّ، فاتّبعت طرائقه في الجلوس العام لأهل المملكة بزيّهم، والانفراد عنهم في الخلوة بهذا الزيّ.
قال: فقلت له: فما ذلك الذي تعلّقه في حلقك في الصرّة؟
فقال: هذه الصرّة، فيها عظم من عظام الرجل الذي جاء بعبادة البدّ»
وأقام هذه الشريعة لهم، وله كذا وكذا ألف سنة، وذكر عشرات ألوف سنين.
وقال: إنّ [91] الرجل، لمّا مات، وصّى، بأن يجعل في تابوت، بعد تابوت، كذا وكذا ألف سنة، فما يزال، كلّما بلي شيء من عظامه، احتفظوا بالباقي، ونحّوا البالي، لئلّا يسرع الفساد إلى الصحيح، إلى أن لم يبق منه إلّا هذا العظم الواحد، فخافوا أن يبلى أيضا، فجعلوه في حقّ من ذهب، وجعلوهما في صرّة، وصارت الملوك تعلّقه في حلوقها، في خيط، تعظيما، وتبركا به، وتشرّفا بمكانه، وصيانة له عن البلى، فقد علّق في حلق كذا وكذا ملك، مدّة أيّام ملكهم كذا وكذا سنة، وذكر أمرا عظيما، وقد صار عندنا كالبردة التي لصاحبكم «2» ، يلبسها خلفاؤكم.
قال: فلما طال مقامي، وضجرت، سألته الإذن في تسريحي، وأعلمته(3/110)
إعجاب الخليفة، بالعود الهنديّ، وأشرت عليه بالاستكثار منه، وقلت:
هو أحبّ إليه من جميع ما تهديه إليه، من غيره.
فأنفذ منه شيئا عظيما، هائلا، كثيرا، وفيه من [92] الطرائف ما لم يسمع بمثله.
وأنفذ معه من الجواهر، واليواقيت، والتوتيا، وطرائف بلاده، ما يكون قيمته مالا جليلا، وأضعاف ما حملناه إليه.
فلما أردت توديعه، قال: اصبر، ثم دعا بصندوق، ففتحه، وأخرج منه مفتاح ذهب، وأخرج منه قطع عود هندي لطافا، فأعطانيها، وقد كان قدّ «1» ما أعطانيه نصف رطل، ودعا بدرج، وجعله فيه، وقفله، وسلّمه ومفتاحه إليّ، وقال: هذا خاصّة، توصله من يدك إلى يده.
قال: فأنكرت ذلك في نفسي، وقلت: أبت الهندية فيه إلّا الحمق.
قال: فبان له التنكّر في وجهي. فقال: أظنّك احتقرته؟ فقلت:
وما هذا حتى توصيني فيه بمثل هذا.
فقلت: الملك يقول.
فقال: يا غلام، هات مجمرة، ونارا.
فأتى بهما، ودعا بمنديل لطيف للكمّ «2» ، فأتى به، وأخرج من ذلك العود شظيّة، مقدار أقلّ من نصف دانق فضّة «3» ، فطرحها في النار، وبخّر بها المنديل، ثم قال: شمّ.(3/111)
فشممت شيئا، لم أدر ما [93] هو، لا يشبه الندّ، ولا العود، ولا شيئا طيّبا نتبخّر به، ما شممت مثله قط.
فقلت: يحقّ لهذا أن يوصيني به الملك بما وصّى.
فقال: اصبر، حتى أريك منه أعجب ممّا رأيت.
ودعى بطشت وماء، فأحضرهما، وأمر بغسل المنديل بالصابون، فغسل بين يديه، ثم أمر بأن يجفف في الشمس، ويحضر.
قال: ففعل.
ثم قال: شمّه.
فشممت الرائحة بعينها، لم تتغيّر، ولا نقصت.
فأعاد الغسل بالصابون، والتجفيف، دفعات تقارب العشرة، إلى أن انقطعت الرائحة في الأخيرة.
فهالني ذلك.
فقال: اعرف الآن قدر ما معك، واعلم أنّه ليس في خزائن ملوك الهند كلّها، من هذا، رطل واحد، غير ما أعطيتك، وعرّف صاحبك فضيلته.
قال: فودعته، وانصرفت.
ورزق الله السلامة، ودخلت على المتوكّل، فسرّ بقدومي، وأكرمني، وسلّمت إليه الهدايا، فحسن موقعها منه، وأعدت عليه أكثر حديثي مع الملك، إلى أن بلغت خبر النصف رطل عود، وأخرجته، فسلّمته إليه، ولم أشرح [94] له خبر الخرقة. فاستحمق الرجل، كما استحمقته، فقصصت عليه الشرح، وأخرجت المجمرة، والنار، وخرقة، وفعلت كما فعل الملك، فهاله ذلك، أمرا عظيما، وسرّ به سرورا شديدا، وقال: هذا النصف رطل بسفرتك.(3/112)
قال الحسين: فقال لي عمرو بن زيد: استبعدت أمر هذا العود، إلى أن حدّثني بعض التجّار الثقات، المشهورين بدخول الهند دفعات، بحديث هذا العود، ووصفه لي، فخرج الحديثان واحدا على اتّفاق.
فقلت: هل سمعت من سبب قلّته؟
فقال: سألتهم عن سبب ذلك، فقالوا: ليس ينبت إلّا في موضع واحد، في قلّة جبل، بيننا وبينه مشاقّ، وغرر «1» ، وأخطار، ووحوش ضارية كثيرة، فالملوك تتكلّف إنفاق الأموال العظيمة، على مرور الأيّام، والشهور، والأعوام، حتى يصل أصحابهم إلى ذلك الجبل، ويصعدون منه إلى حيث يمكن، فيبلغون إلى حيث لا طريق فيه، ولا حيلة، ويرون تيوسا، كالتيوس الجبليّة التي هاهنا، ترعى في [95] تلك الأشجار من بعد، فربّما اتّفق أن يروا الواحد، وهو في الذروة، وفي فيه قطعة من هذا العود يأكله، فيرمونه بالسهام، فإذا اتفق أن يصيبه السهم، فيسقط التيس إليهم بحميّة السهم، وفي فمه ذلك العود، فيتناولوه من فيه، وإلّا فلا سبيل إلى الحصول على شيء من العود البتة.
ففي سنين طوال، تتفق هذه القطعة اليسيرة، بعد المشقّة العظيمة، على مراصدة الرجال بذلك.
فبهذا السبيل يقلّ.(3/113)
70 الكاتب بشر بن هارون النصراني يهجو وزيرا
[أنشدنا] أبو عليّ عبد الله بن الحجاج، لأبي نصر النصرانيّ، الكاتب «1» ، يهجو أبا الفضل الشيرازيّ «2» - الوزير كان- من أبيات:
ما كلّ من طوّل عثنونه ... ينال فضلا يا أبا الفضل
طوّلت عثنونك تبغي العلى ... أيّ على في ذنب البغل
ولست أحصي كم رأيت امرأ ... ألحى ولكن كوسج العقل «3»(3/114)
71 رأي الوزير ابن الفرات في سياسة المملكة
حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبريّ «1» ، الشاهد، قال:
حدّثنا الحسين بن فلان، الكاتب [96] ، النصراني، الملقّب ببظر أمّ الدنيا «2» ، قال: قال لي ابن الفرات:
أوّل أمور السلطان مخرقة «3» ، فإذا استحكمت، وتمّت، صارت سياسة «4» .(3/115)
72 الخليفة لا يخاتل
وحدّثنا «1» : قال: حدّثنا قاضي القضاة أبو محمد بن معروف «2» ، قال:
كنت مع المطيع لله «3» ، في طيّاره، وقد ركب، وأنا واقف بين يديه، مع حاجبه، وكلّما دعت له طائفة، سألني عنها، فأخبره بها، حتى دعت له طائفة من الطالبيّين.
فقال: من هؤلاء؟
فقلت: الطالبيّون «4» .
فأعرض عنهم، وأطرق ساعة، وعبس، إلى أن جازهم.
ثم قال: يا عبيد الله «5» .
قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: العلويّة أهلي، وأقرب الناس إليّ، وو الله إنّي أحبّهم، ولكنّي أعلم، انّهم يبغضوني، ومثلي لا يخاتل، ولا يجوز أن أعاملهم إلّا بما رأيت «6» .(3/116)
73 علم الخرق وعلم الورق
وسمعته «1» يقول: سمعت جعفر الخلديّ الصوفيّ «2» ، يقول: لو تركني الصوفيّة، لجئتكم بإسناد الدنيا.
مضيت إلى عباس الدوريّ «3» ، وأنا حدث، فكتبت عنه مجلسا [97] واحدا، وخرجت من عنده، فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفيّة، فقال: أيش هذا معك؟ فأريته إيّاه.
فقال: ويحك، تدع علم الخرق، وتأخذ علم الورق «4» .
قال: ثم خرّق الأوراق.
ودخل كلامه في قلبي، فلم أعد إلى عباس.(3/117)
74 المواساة بخل، إنما هو الإيثار
وسمعته «1» يقول: سمعت جعفرا «2» يقول: سمعت جنيدا الصوفيّ «3» ، يقول: سمعت سريّ السقطيّ الصوفيّ «4» ، يقول:
أعرف قوما يرون المواساة بخلا، إنّما هو الإيثار «5» .(3/118)
75 الجنيد والسائل
وسمعته «1» يقول: سمعت جعفر الخلدي «2» ، يقول:
وقف سائل على الجنيد «3» ، ونحن في حلقته، فسأله.
فردّ عليه، فقال: يا هذا، الصناعة واحدة، ولكنّا أظرف، انصرف أغناك الله.
فانصرف.
76 جعفر الخلدي يحجّ على التوكل
وسمعته «4» يقول: سمعت جعفرا الخلديّ يقول:
حججت ستّا وخمسين حجّة «5» ، منها عشرون حجة على المذهب، يعني على التوكّل بلا زاد ولا راحلة «6» .(3/119)
77 كتم رويم حبّ الدنيا أربعين سنة
وسمعته يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول:
من أراد أن يستكتم سرّا له، فليستكتم [98] رويم «1» ، فإنّه كتم حبّ الدنيا أربعين سنة.
فقيل له: كيف؟
قال: كان يتصوّف أربعين سنة، فولي بعد ذلك، إسماعيل بن إسحاق القاضي «2» ، قضاء بغداد، وكانت بينهما مودّة وكيدة، فجذبه إليه، وجعله وكيلا على بابه، فترك الصوفيّة، والتصوّف «3» ، والتوكّل «4» ، ولبس الخز «5» ، والقصب «6» ، والدبيقي «7» ، والمروي «8» ، وركب الحمير والبغال، وأكل الطيّبات، وبنى الدور.
وإذا هو كان يكتم حبّ الدنيا، لما لم يجدها، فلمّا وجدها، أظهر ما كان يكتم من حبّها.(3/120)
78 البريء جريء والحائن خائف
وسمعته «1» يقول: سمعت أبا القاسم البزّاز الصوفيّ «2» يقول: سمعت الجنيد يقول: قال لنا السريّ السقطيّ:
البريء جريء، والخائن خائف، والجاني مستوحش «3» .
ومن الشعر الجيّد في هذا المعنى:
أمستوحش أنت لمّا أسأت ... فأحسن إذا شئت واستأنس(3/121)
79 الجاهل ميت، والعاصي سكران
حدّثنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، القاضي «1» ، قال حدّثنا أبو القاسم البزّاز «2» ، قال: حدّثني بعض أصحاب سهل بن عبد الله التستريّ الزاهد «3» ، قال: قال لنا سهل:
الجاهل ميت، والعاصي سكران، والمصرّ [99] هالك «4» .(3/122)
80 كن صحيحا تكن فصيحا
من «1» أمثال العامّة: كن صحيحا، تكن «2» فصيحا.
ومن أمثالهم في هذا المعنى: إذا كان بولك صحيحا، فاضرب به وجه الطبيب.
أي إذا كنت سليما، فلا تبال ما صنعت.
81 حسن الأدب بين يدي الله
سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبريّ «3» ، يقول: سمعت جعفرا الخلديّ «4» ، يقول: سمعت جنيدا «5» ، يقول: سمعت سريّا السقطيّ «6» ، يقول:
الناس في الأعمال يتقاربون، وإنّما قارب من قارب «7» ، بحسن الأدب «8» بين يدي الله تعالى.(3/123)
82 ابن نصرويه يشاور شابا
وحدّثني «1» ، قال:
كان أبو الحسين بن نصرويه «2» ، ربّما شاورني في الشيء يجري، فأستعظم ذلك منه، وأقول: مثلك وأنت الشيخ المجرّب، المحنّك، المدرّب، المهذّب، يشاور مثلي، وأنا ولدك، هذا مما يوحشني منك، ويقع لي أنّك تجريه مجرى الهزل.
فيقول لي: قد رفعك الله عن هذا، وإنّما كان [100] هذا يجري كما قلت، لو كنت لا أناقضك الرأي، وتناقضني، وأحاجّك وتحاجّني، إلى أن يتقرّر الشيء بيننا، فأعمل بما يتقرّر، فأمّا وأنت تراني أفعل هذا، فلا مظنّة فيه، وأمثل ما عندك في نفسي أنّك شاب، ولعمري إنّ علم الشباب محقور.(3/124)
83 الوزير المهلبي ينعى على أبي تمام الزينبيّ نقص مروءته
وحدّثني، قال: سمعت أبا الحسين بن نصرويه يقول:
وافى أبو محمد المهلّبيّ «1» ، لما كتب لمعزّ الدولة «2» ، البصرة «3» ، فاعتقل القاضي أبا القاسم جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ «4» ، ليغضّ منه، ويشفي أبا تمام الزينبيّ الهاشميّ، لأجل ما كان بينهما من المصاهرة، وعداوته لابن عبد الواحد، ولم يكن بين ابن عبد الواحد، والمهلّبيّ، شيء يختصّ به من عداوة.
فدخل أبو تمام إلى المهلبيّ مسلّما، فلما خرج، قال المهلبيّ لغلمانه:
انظروا إلى أين بلغ؟.
فعادوا، وقالوا: قد خرج من الدهليز، وانصرف.
فقال: أقبض على مثل ابن عبد الواحد، لا لشيء إلّا لأجله، ويدخل إليّ، وهو معتقل عندي، فلا يكون فيه من المروءة، ما يدخل إليه [101] ، ويعرض نفسه عليه، ويتكفّل بأمره، ويسألني فيه، ويكون سبب إطلاقه، ويسترقّه بذلك؟ قم يا أبا الحسين فخذ بيد ابن عبد الواحد إلى منزله، فقد أطلقته.
قال: فمضيت إلى ابن عبد الواحد، وهو في الحبس، فحدّثته بما جرى، وجئت به إلى المهلبيّ حتى شكره، وانصرف إلى منزله.(3/125)
84 الوزير المهلبي يفاضل بين ابن عبد الواحد والزينبي
وحدّثني «1» ، قال: سمعت أبا الحسين بن نصرويه، يقول:
حضرت مجلس المهلبيّ، وقد دخل إليه جعفر بن عبد الواحد، فلقيه بوجه مقطب، وقصر به، ثم جلس، وأخرج من كمّه رقعة، فتأملت التثاقل والتكرّه في وجهه، فقرأها، ووقّع فيها، ثم أخرج أخرى، وأخرى، إلى أن عرض عليه عدّة رقاع، فوقّع، وكلّما وقّع في واحدة، انبسط وجهه في وجه ابن عبد الواحد، إلى أن تكاملت الرقاع.
ثم قام ابن عبد الواحد، ودخل أبو تمام الزينبيّ، فرفعه المهلّبيّ، أتمّ رفعة، واهتشّ له، وأقبل عليه بوجهه، فأخرج رقعة فعرضها عليه، فوقّع له، وأخرج عدّة رقاع، وكان [102] كلّما أخرج رقعة، ووقّع فيها، ظهر في وجهه الكراهية والتثاقل، إلى أن فرغ من الرقاع. فأخذها أبو تمام، وقام.
فأقبل المهلّبي، وقال: يا أبا الحسين، شتّان بين الرجلين، دخل إليّ ابن عبد الواحد فعملت على أن أقصيه، بما عاملته من قلّة الرفع والتقرّب، فعرض عليّ أوّل رقعة، فاعتقدت قبل قراءتها أن أردّها، فلما قرأتها، وجدتها لحاجة غيره، فاستحييت أن يكون أكرم منّي، وقد بذل جاهه لمن سأله سؤالي، مع ما يعلمه بما له عندي، فما منعه ذلك أن يستميح بجاهه للسائل، وأبخل أنا بما أقدر عليه، فيكون أكرم منّي، فأنفت من ذلك، ووقّعت له، ثم توالت رقاعه، فوجدت جميعها في حوائج الناس، ما له(3/126)
ولا لأحد ممّن يخصّه شيء منها، فوقّعت في جميعها، ونفسي سمحة بذلك، وقد نبل في عيني، وتذمّمت من ردّه.
وقد دخل هذا، فعاملته من الأكرام بما رأيت، لما بيني وبينه، فعرض رقاعه، فوجدت أوّلها في شيء يخصّه، فوقّعت له، وكلّما عرض رقعة تطلّبت أن يكون [103] فيها شيء لغيره، فأقضيه له «1» ، وأجعل له محمدة عليه، فما وجدت الجميع إلّا له، وفيما يخصه، فكرهت ذلك منه، وانحطّ من عيني، ولم أستحسن ردّه، لما بيننا، فوقّعت له، فكيف يمكنني أن أرفع ممن هذا سبيله، وأضع ممّن ذلك سبيله.
85 الغيبة فاكهة القراء
سمعت أبا إسحاق «2» ، يقول: سمعت جعفرا الخلدي «3» ، يقول: سمعت الجنيد «4» ، يقول: سمعت السريّ السقطيّ «5» يقول:
فاكهة القرّاء الغيبة «6» .(3/127)
86 سري السقطي يشتهي أكلة
وسمعته «1» يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول: سمعت الجنيد يقول:
سمعت السريّ السقطيّ، يقول:
أشتهي منذ ثلاثين سنة، شهوة ما قدرت عليها.
فقيل له: ما هي؟
قال: أشتهي آكل أكلة، لا يكون فيها لله عزّ وجل عليّ تبعة، ولا لمخلوق، فما وجدت ذلك «2» .(3/128)
87 من مكارم أخلاق أبي عمر القاضي
وسمعت أبا إسحاق «1» ، يقول: سمعت بعض شهود الحضرة القدماء، يقول:
كنت بحضرة أبي عمر القاضي «2» ، وجماعة من شهوده، وخلفائه الذين يأنس بهم، فأحضر ثوبا يمانيا «3» ، قيل له في ثمنه خمسون دينارا، فاستحسنه كلّ من حضر [104] المجلس.
فقال: يا غلام، هات القلانسيّ، فجاء.
فقال: اقطع جميع هذا الثوب، قلانس، واحمل إلى كلّ واحد من أصحابنا قلنسوة.
ثم التفت إلينا، وقال: إنّكم استحسنتموه بأجمعكم، ولو استحسنه واحد، لوهبته له، فلما اشتركتم في استحسانه، لم أجد طريقا، إلّا أن يحصل لكلّ واحد منكم، واحدة منها.(3/129)
88 تعليق المهلبي على كتاب القنائيّ الكاتب
حدّثني أبو الحسين محمد بن محمد بن إسماعيل بن شانده الواسطي، قال:
كان أبو قرّة، الحسين بن محمد القنائيّ الكاتب «1» ، قد كتب لأبي عليّ كتاب ابن العباس الديلميّ، المعروف بالكوسج، ضامن واسط، برسالة الوزير أبي محمد المهلبي، ومشورته عليه بذلك، ثم استوحش منه، فاستتر منه، يومين، أو ثلاثة، وراسله، فأمّنه، وظهر، فكتب أبو قرة، إلى المهلبيّ، بخبره، بعد ظهوره، بسبب استتاره، لئلا يهجّن أخباره عند أبي عليّ.
قال: فوقّع بخطّه على ظهر الكتاب، توقيعا قرأته، فكان:
أحسن الله إليك، كما أحسن توفيقك، فلتسكن [105] نفسك، فإنّي عونك، ومن ورائك، إن شاء الله.(3/130)
89 الوزير المهلبي يستولي على غلّات بالبصرة دون رضى أصحابها
وحدّثني «1» أيضا، قال:
كان المهلّبيّ، في بعض انحداراته إلى البصرة، وهو وزير، أضاق، فأخذ غلّة عظيمة، بعشرة آلاف دينار، لأبي عليّ «2» ، وجدها بالبصرة، وأخذ غلّات التجار المحدورة من دستميسان «3» ، وواسط «4» ، وغلّات خلق كثير، وباعها، وصرفها، في دخل وخرج المملكة.
فأشير على أبي عليّ، بالإصعاد إلى سبكتكين الحاجب «5» ، ومسألته ليخبر معزّ الدولة بذلك، فيأمر بارتجاعها منه.
فخالف أبو عليّ، وانحدر إلى المهلّبي، فتلقّاه بالأبلّة «6» .
قال: فلما صعدت إليه، هشّ بي، وسرّ سرورا عظيما، وقال:
ما جاء بك؟
فقلت: بلغني أنّ الوزير أيّده الله، أخذ غلّة وجدها لي بالبصرة، فسررت بذلك، لتقديري أنّه شرّفني بهذه الحال، وبسط يده في مالي، كما(3/131)
يبسطها في مال نفسه، وأوليائه، إذا احتاج إلى أموالهم، وتشرّفت بذلك، إلى أن بلغني أنّه أخذ مع مالي، أموال التجّار، وأصحاب الضياع، وأصاغر الناس [106] ، من أهل دستميسان، وواسط، فأقلقني ذلك، وعلمت أنّ هذا، لو كان على سبيل الأنس، لخصّني به سيّدنا الوزير، ولم يشرك فيه معي، هذه الطبقة، التي لا يجوز لمثله أن يأنس بها في قرض ولا استعانة، وإنّما هم للمصادرات فقط، فخفت أن يكون جميل رأيه فيّ، استحال، في تخليطي بهذه الطائفة، فجئت مستصلحا لرأيه، وواقفا تحت أمره.
قال: فأعجبه قولي جدا، فقال لي: يا أبا عليّ، أنت والله مقبل،- وكرّرها مرارا-، قبل أن تدخل بلحظة، حضرني من قال: إنّك قد أصعدت إلى الحاجب سبكتكين، لتشاكيني إليه، فاعتقدت لك كلّ قبيح، وعملت على نصرة فعلي، إن جرى فيه كلام، بكلّ ما يجوز أن ينصر به مثله، فأنا أفكّر في ذلك، إذ استؤذن لك عليّ، فدخلت، فسحرتني، وو الله، لا خرجت من هذا الموضع، أو أوصلك إلى مالك، أو أكثره، وأقيم لك بالباقي وجوها ناضّة «1» .
وجذب الدواة، فكتب الوجوه، بما يعجل «2» ، ويسبّب «3» ، وفرغ من ذلك [107] ، وأمر بإنشاء الكتب، وسبّب لي بالباقي، على سباشي الخوارزمي، مولى معز الدولة، ضامن البصرة «4» .
فأخذته في مدة قريبة، وأصعدت إلى واسط.(3/132)
90 وشديد عادة منتزعة
حدّثني أبو بكر بن جعفر السواق، أحد تجّار الكرخ ببغداد، المشهورين باليسار والستر، وحفظ القرآن، ووجه من وجوههم، قال:
كان عليّ وعد بنقدة «1» ، لابن عبدان الصيرفيّ، وهذا رجل باق إلى الآن، من وجوه الصيارف، بدرب عون «2» ، من المياسير، فأخّرت إنجازه، لضرورة لحقتني، ولم تكن عادتي جارية معه بمثل ذلك.
فجاءني يقتضيني، وقال في عرض الخطاب: أقول لك يا أبا بكر، كما قال الله: وشديد عادة منتزعة.
فقلت: إنّا لله، إنّا لله، ما قال الله عزّ وجلّ هذا «3» .
قال: فاستحيا منّي، وقام، فما عاد إليّ أيّاما.
فلما حضرت الدراهم، أنفذتها إليه.(3/133)
91 صلاة التجار
وكان عندنا بالبصرة، رجل من التجّار، مستور، يعرف بأبي عليّ ابن سعدان، أحد الباعة في دار البطّيخ «1» ، موسر، يركب، وينبسط «2» [108] في المجالس، وفي الكلام.
فأخبرني أبو طلحة الأزدي، صاحب بني المثنى «3» ، شيخ مستور، قال:
رأيته مرّة، ونحن جلوس في دهليز جعفر بن عبد الواحد القاضي «4» ، ننتظر الإذن عليه، وقد حضرت العصر، فقام كلّ واحد منا، فصلى، وقام ابن سعدان، فصلى صلاة، لم أر قط أسخف منها.
فقلت له: يا أبا عليّ، هذه ليست صلاة، فأحسن صلاتك، فإنّ هذه الصلاة، كما قال ابن المعتزّ:
صلاتك بين الملا نقرة ... كما اختلس الجرعة الوالغ
فقال لي: يا أبا طلحة، أعزّك الله، هذا فضول لا نعرفه، نحن نصلّي صلاة التجّار.
فقلت له: هذا أعجب، كأنّ الله عزّ وجلّ، فرض على التجّار صلاة غير الصلاة التي فرضها على سائر عباده؟(3/134)
وتمام الشعر، لابن المعتزّ، مشهور، وكان النميريّ، نديمه، صلّى بحضرته، صلاة سخيفة «1» ، ثم سجد بعدها، سجدة طويلة.
فقال ابن المعتزّ، ارتجالا، البيت الأول، وتمامه: [109]
وتسجد من بعدها سجدة ... كما ختم المزود الفارغ «2»
92 من بزّ يوما بزّ به
حدّثني محمد بن عديّ بن زحر البصريّ، جارنا بها، قال:
رأيت أبا إسحاق ياسين، [وهو] رجل كان ينزل بالقرب من الجامع بالبصرة، وقد حدّث في آخر عمره، يناظر رجلا في الجامع، وهو يقول له: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
من بزّ يوما بزّ به ... والدهر لا يغترّ به»(3/135)
93 القاضي ابن البهلول يوصي القاضي التنوخيّ لمّا نصبه للقضاء
حدّثني أبي «1» ، قال:
كان أوّل شيء قلّدته، القضاء بعسكر مكرم «2» ، وتستر «3» ، وجنديسابور «4» والسوس «5» ، وأعمال ذلك، من قبل القاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق ابن البهلول التنوخيّ «6» . وكنت في السنة الثالثة «7» والثلاثين من عمري، وذلك في شهور إحدى عشرة وثلاثمائة، لأن مولدي في ذي الحجة من سنة ثمان وسبعين ومائتين.
فلما سلّم إليّ أبو جعفر العهد، أوصاني بتقوى الله عزّ وجل، وبأشياء من أمور العمل، وسياسته في الدنيا والدين، وبأمر جاريه «8» ، أتنجّزه «9» من العامل هناك، لأنّه كان مسبّبا عليه «10» ، فودّعته، ونهضت [110] .(3/136)
فقال: اجلس، فقد أنسيت مهمّا.
فجلست، فقال: إنّك شاب، وفضلك تامّ، وعملك وافر، وإنّك سترد على قوم فيهم شرّ، وسيحسدونك على فضلك، أو يطلبون معايبك، إذا حكمت عليهم بالحقّ، فلا يجدون طريقا إلى الغضّ منك، إلّا بنسبتك إلى الحداثة، وقلّة حنكتها، ولن تعدم منهم ذلك، فإن صدقت حقّقوا ما يريدون، والكذب لا يجوز، فإيّاك أن تخبر بسنّك على حقيقتها، ولكن إذا سئلت عنها، فقل: دون الأربعين سنة، فلو كانت عشرين، أو أقلّ، لكنت صادقا، وفي فزعك إلى الأربعين ستر عليك، لأنّها الأسدّ، وحدّ التكهّل والحنكة، فإن بليت بمن يطوّل معك، فيقول: دون الأربعين بكم؟
فقل: لست أذكر، وانو أنّك لست تخبر، ليقطع الخطاب، ويقع للسائل، أنّك ناس حقيقة سنّك.
قال: فخرجت، واتّفق أنّ شعرة واحدة، ابيضّت في لحيتي، في مسافة الطريق، فلمّا دخلت الأهواز، تعمّلت لإخراجها بالمشط، إلى حيث يلحقها النظر، تجمّلا بها [111] .
واستقبلني محمد بن جعفر بن معدان الشاهد «1» ، وكان يخلف أبا جعفر، على الوقوف، وقد كاتبه بإعظامي، وتلقيّ، فجاءني بمركوب إلى الشطّ، وركبته إلى دار اتّخذت لي، وكان يغشاني «2» في كلّ يوم.
فلمّا أردت الخروج إلى عملي، قال لي: قد هالني ما رأيته من فضل القاضي أيّده الله، فكم سنوه؟
فذكرت، وصيّة أبي جعفر، فقلت: دون الأربعين سنة.(3/137)
فقال: دونها بكم؟
فقلت: لست أذكر.
فلم يشكّ أنّي ناس لتحقّقها، فأمسك عنّي.
وهذا ضدّ ما نشاهده الآن، فإنّي قد رأيت ببغداد، قاضيين، هاشميّين خطيبين، شاهدين، أحدهما أجلّ وأنبه، وإليهما أعمال جليلة، وأحدهما قد تقلّد من جهة الخليفة جلائل الأعمال، ووهّل «1» نفسه، لقضاء القضاة، وخطب ذلك فما تمّ له، وهما يخضبان لحيتهما، ظاهرا، بالسواد «2» ، وأحدهما ترك ذلك، قبل موته بسنين، وهو الأدون محلّا، والآخر باق مقيم على الخضاب، إلى الآن، ونسأل الله سترا جميلا، فإنّ الخضاب، وإن كانت فيه روايات [112] ، فإنّما يعذر فيه الجند، والكتاب، ومن لا يتصدّى للحكم والشهادة، فأمّا من نصب نفسه، فلا عذر له فيه.(3/138)
94 ابن شاهويه القاضي يبحث في قضيّة شرعيّة
حدّثني أبو القاسم عبد الرحيم بن جعفر، الفقيه المعروف، بابن السمّاك، السيرافي، قال:
كنت بحضرة أبي بكر محمد بن أحمد بن عليّ بن شاهويه «1» ، القاضي بأرجان، فتقدّم إليه نفسان، إدّعى أحدهما على الآخر ألف درهم.
فسأله: فأنكر.
فقال للمدعي: لك بيّنة؟
فقال: لا، ولكن استحلفه لي.
فقال للمدعى عليه: أتحلف؟
قال: قد كان قدّمني إلى القاضي الذي كان قبلك، واستحلفني له، على هذه الدراهم.
فقال للمدعي: ما تقول؟
فقال: نعم، قد كان حلف لي كاذبا.
فقال: انصرف، فلا مطالبة لك عليه.
فانصرفا.(3/139)
ثم التفت إليّ، وإلى أبي الوعد الفقيه على مذهبنا، يعني مذهب أبي حنيفة، وجماعة من الفقهاء كانوا قعودا، والجماعة حنفيّون، فقال:
أرأيتم إن ادّعى هذا المدّعي الألف، إنّه قد حلف المدعى عليه، وإنّي ما حلّفته، وأردنا أن نعرض اليمين عليه [113] ، فذكر أنّه قد حلف على هذا المعنى، ولم يزل ذلك يتردّد بينهما، في دعوى كلّ واحد على صاحبه، كيف نفصل الحكم بينهما؟
قال: ففكّرنا جميعا ساعة، ثم جرى خوض لم يتقرّر له معنى، ولم يتّضح لنا وجه الفتوى.
فقلت له: إن رأى القاضي، أن يذكر ما عنده.
فقال: حكى لنا القاضي أبو طاهر الدبّاس، عن أبي خازم القاضي «1» ، في هذه المسألة بعينها إنّه قال:
للحاكم أن يستحلف الذي ادّعيت عليه الألف في الابتداء، إنّ هذا المدعي عليك الألف درهم، لم يستحلفك عليها عند حاكم آخر.(3/140)
95 الدليل على تحليل نبيذ التمر
سئل بعض غلمان أبي الحسن الكرخي «1» ، عن الدليل على تحليل النبيذ التمريّ «2» المعمول بالداذيّ «3» ، الشديد، المسكر، فقال:
قد وجدنا، أنّ الله تعالى، لما وعدنا بالجنّة، ووصفها لنا، أباح لنا في الدنيا من جنس ما وعدنا به، وحلّل لنا تناولها، لنعرف بذلك فضل ما وعدنا به في الجنّة، ودوام ذلك، وانقطاع هذا.
فلما وعدنا بالخمر في الجنّة، وقد حرّمها علينا في الدنيا [114] ، ولا طريق إلى علم فضلها، لنحرص على الأعمال التي توجب دخول الجنّة، وشربها فيها، فوجب أن يبيح لنا في الدنيا، شيئا من جنسها كهذا، نستدلّ به على طيبها، فكان النبيذ.(3/141)
96 دليل آخر على تحليل النبيذ
وكان قد سئل عن مثل هذا مرّة أخرى، فقال:
إنّ الله تعالى، خلق المنثور الذي ليس بخيريّ، والله لا يخلق ما لا فائدة فيه، وليس فيما عدا الخيريّ من المنثور فائدة، إلّا أن يشرب عليه النبيذ «1» .
وكان يخرج هذا القول، مخرج الجدّ، لمن يستضعفه، ومخرج الهزل، مع أهل العلم «2» .(3/142)
97 الجبائي وتحليل النبيذ
وأصحاب الحديث، والحفّاظ، يقولون: إنّه لم يصحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حديث في تحريم النبيذ، ولا في تحليله.
فذهب أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي «1» ، في مسألة أملاها في تحليل النبيذ، مشهورة، إلى أنّ الأصل في الأشياء، أنّها على الإباحة، إلى أن يثبت حظرها.
فلما كان العقل، لا يدلّ على تحريم النبيذ، ولم ينقطع العذر عن تحريمه «2» ، وجب أن يكون على الأصل من الإباحة.
ثم [115] نصر ذلك، بأشياء أوردها، واعترض أدلّة المحرّمين له، وبيّن فسادها، وأورد زيادات على نفسه، وانفصل عنها بما يطول شرحه، ويخرج عمّا نحن فيه، إن أوردناه.(3/143)
98 الوزير المهلبي يناظر بعض دعاة الفتنة ببغداد
حضرت مجلس أبي محمد المهلبي، وكانت العامّة ببغداد، قد هاجت في أيام وزارته، وعظمت الفتنة، وقبض على جماعة من العيّارين «1» وحملة السكاكين «2» ، وجعلهم في زوارق مطبقة، وحملهم إلى بيروذ «3» ، وحبسهم هناك.
فاستهانوا بالقصّة، وكثف أمرهم، وكثر كلام القصّاص في الجوامع، ورؤساء الصوفية، فخاف من تجديد الفتنة، فقبض على خلق منهم، وحبسهم، وأحضر أبا السائب «4» ، قاضي القضاة إذ ذاك، وجماعة من القضاة، والشهود، والفقهاء، وكنت فيهم، لمناظرتهم، وأصحاب الشرط، لنأمن مضرّتهم، إذا قامت الحجج عليهم.
فاتّفق أن بدىء برجل من رؤساء الصوفيّة، يعرف بأبي إسحاق بن ثابت، ينزل بباب الشام «5» ، أحد الربانيّين «6» ، عند أصحابه، فقال له:(3/144)
بلغني أنّك [116] تقول في دعائك: «يا واحدي بالتحقيق، يا جاري اللصيق» ، فمن لا يعلم بأنّ الله لا يجوز أن يوصف بأنّه لصيق على الحقيقة، فهو كافر، لأنّ الملاصقة من صفات الأجسام، ومن جعل الله جسما كفر، فمن يكون محلّه في العلم هذا، يتكلّم على الناس؟
وقل لي: ما معنى ما بلغني عنك، أنّك تقول في جملة كلامك: «أخذتني منّي، ولم تبقني عليّ، فها أنا بلا أنا» .
حصلنا على أنّكم تهذوا «1» ، وتوهموا الناس، على أنّكم ربانيين «2» ، وتستدعونهم، بالجهالات، إلى الضلالات، وتفتنون حضرة السلطان عليه.
السياط يا غلام.
فلم يزل يسأل في أمره، حتى كفّ عنه، وكتب عليه أن لا يتكلّم على الناس، ولا يحلّق حلقة.(3/145)
99 لماذا كنى نفسه أبا البيان
كان يجيء- بالبصرة- إلى معلّمي، معلّم يكنى أبا الحسن، وكنى نفسه، أبا البيان.
فسمعت معلّمي يعاتبه على ذلك، ويقول: يا هذا، غيّرت كنيتك، وهي مقبولة، وكنية أمير المؤمنين.
فقال له: يا أبا جعفر، كم رأيت في عمرك من كنيته أبو [117] الحسن؟
قال: لا أحصي.
قال: فهل رأيت أبا البيان غيري؟
قال: لا.
قال: خذ بيدك، هذه واحدة من فضائلها، ومن ذلك أنّي أشتهر بها، ولا أشارك فيها.
ومن فضائلها: أن تسقط عني التلقيب، وأن يشتغل الناس بها، عمّا سوى ذلك من عيوبي.(3/146)
100 طريقة أبي البيان المؤدّب في التدريس
ورأيته يوما عند معلّمي، في مكتبي، وقد حضر وقتا كان فيه المعلّم يأخذ علينا الشعر، وكانت عادته أن يقيم الصبيان صفا، فيطالبهم بإنشاد القصيدة.
فأقامهم في تلك العشيّة، وقد حضر أبو البيان، فقال له: يا أبا جعفر، ما هذا التفريط؟
قال: وكيف؟
قال: إنّ لي عادة في سياسة الصبيان، لا أرخّص لهم فيها، إن سألتني علمتك إيّاها.
فقال: افعل.
قال: تقدّم إلى صبيانك، أن يمتثلوا أمري، لأريك ذلك.
فقال لهم أبو جعفر: انظروا ما يأمركم به أبو البيان، فافعلوه.
فأقبل عليهم يخاطبهم في كلامه، فقال: لكم أقول أيها الصبيان، ولمن يجاوركم من الغلمان، إلى حدود الأحداث والفتيان، اسمعوا [118] وعوا، فمن خالف بعد البرهان، أنزلت به غليظ الامتحان، تراصّوا في صفوفكم، والزقوا أقدامكم، وأقيموا ألواحكم، وأقبلوا عليّ بألحاظكم، وأحضروا فيما تنشدون قلوبكم، وارفعوا أصواتكم، وقولوا قول صبيّ واحد:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وصاح بالشعر مطرّبا.
فما ملك الصبيان الضحك، وضحك معلّمي معهم.(3/147)
فقال: يا أبا جعفر، التراب والجندل بفيك وعلى رأسك، والويل والويح محيطان بك، أتطمع أن تعلّمهم بهذه الهيبة؟ حفّت بك اللعنة والخيبة، أسبابك أفسدت، أمن قدري بضحكك وضعت؟ أم سترك عند هؤلاء الأنكاد هتكت؟ أشهد الله، لا أكلمك، أو تعتذر.
وأخذ أبو جعفر، يداريه، ويعتذر إليه، حتى رضي لوقته.
وكان يقول الشعر، وينشده أبا جعفر دائما، وما حفظت منه شيئا.
ولولا أنّ هذه الألفاظ، تعاودناها في المكتب ونحن صبيان، لم تعلق بحفظي، فلما ترعرعت، كتبتها [119] في موضع، وأنسيتها، ثم نقلتها منه، إلى هذا الموضع، وبقيت عندي إلى الآن.
101 مؤدب يتشاتم مع التلاميذ
وسمعت، وأنا في الكتاب، أنّه جاء إلى معلمي، فأسلم إليه ابنه، فقال له: لم نقلته من عند المعلّم الأوّل؟
قال: لأنّني جزت به يوما، والصبيان يتشاتمون، وهو لا يمنعهم بأكثر من أن يقول: قيّدوا ألفاظكم، أخزى الله حرماتكم، لا تتشاتموا يا بني البظر.
وإذا هو، ليس يمنعهم من سوء الأدب، ويدخل في جملة المتشاتمين، فنقلته.(3/148)
102 رقية للمرأة كي لا تسقط حملها
حدّثني عبد الله بن عمر بن الحارث «1» ، قال:
كان أبي يكتب آي الرقى، على أصل وقع إليه في ذلك.
وكان ممّا يكتبه رقية للمرأة، إذا خافت أن تسقط ولدها، وتعلّق في وسطها، فلا تسقط.
قال: وجرّبنا عليه ذلك، على طول السنين، فلم يخطئ.
يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا
، الآية «2» ، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
، الآية «3» وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ [120] اللَّهُ
«4» ، إلى آخر السورة «5» ، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
، الآية «6» .(3/149)
103 رقية لإعادة الآبق
قال «1» : وكان يكتب رقية الآبق، ما رأيتها أخلفت، وهي أن تأخذ رقّا «2» فتكتب فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ
«3» ، إلى: نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
، أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ، يَغْشاهُ مَوْجٌ
، إلى آخر قوله تعالى: فَما لَهُ مِنْ نُورٍ
«4» ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
«5» ، أدركه بآيات الله، يردّه رب السموات والأرض، فاجعل ما بينهما أضيق على فلان- يعني الآبق- من مسك «6» حمل، حتى تمكّن منه، فإنّه من فضلك وعطائك.
ويدفن الرق في عتبة باب.(3/150)
104 رقية لإمساك الرعاف
قال «1» : وكان يكتب للرعاف «2» ، في ورقة، ويعلقه على جبهة المرعوف:
بسم الله الرحمن الرحيم، وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي
«3» - إلى قوله تعالى: لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
. وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً
«4» .
105 رقية للخراج
وكان يكتب للخراج «5» [121] على ورقة سلق، وتوضع على الخراج:
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ...
الآية «6» .(3/151)
106 القطيعي الطبيب وذكاؤه ومكارم أخلاقه
حدّثنا أبو الحسن عليّ بن محمد بن أبي محمد الصلحيّ الكاتب، قال:
رأيت [بمصر] طبيبا كان بها، مشهورا، يعرف بالقطيعيّ، وكان يقال: إنّه كان يكسب في كلّ شهر ألف دينار، من جرايات يجريها عليه قوم من رؤساء العسكر، ومن السلطان، وممّا يأخذ من العامّة.
قال: وكان له دار، قد جعلها شبيه البيمارستان، من جملة داره، يأوي إليها ضعفاء الأعلّة، يعالجهم، ويقوم بأودهم، وأدويتهم، وأغذيتهم، وخدمتهم، وينفق أكثر كسبه في ذلك.
قال أبو الحسن: فأسكت بعض فتيان الرؤساء بمصر- وأسماه لي، فذهب عنّي اسمه- وكنت هناك، فحمل إليه أهل الطب، وفيهم القطيعيّ، فأجمعوا على موته، إلّا القطيعيّ.
وعمل أهله على غسله، ودفنه.
فقال القطيعيّ: دعوني أعالجه، فإن برئ، وإلّا ليس يلحقه أكثر من الموت، الذي قد أجمع [122] عليه هؤلاء.
فخلّاه أهله معه.
فقال: هاتم غلاما جلدا، ومقارع، فأتي بذلك.
فأمر به فمدّد، فضربه عشر مقارع، من أشدّ الضرب، ثم مس مجسّه، وضربه عشرا أخرى شديدة، ثم مسّ مجسّه، وضربه عشرا أخرى.
ثم مسّ مجسّه، فقال للطبّ: أيكون للميت، نبض يضرب؟
فقالوا: لا.
قال: فجسّوا.(3/152)
فجسّوه، فقالوا: قد زاد نبضه.
فضربه عشرا أخرى، فقوي النبض.
فضربه عشرا أخرى، فتحرّك الميت.
فضربه عشرا أخرى، فصاح.
فقطع عنه الضرب، فجلس العليل يجسّ بدنه، ويتأوّه، وقد ثابت قوّته إليه.
فقال: ما تجد؟
فقال: أنا جائع.
فقال: أطعموه الساعة.
فجاءوه بما أكل، ورجعت قوّته، وقمنا، وقد برئ.
فقال له الطبّ: من أين لك هذا؟
قال: كنت مسافرا في قافلة فيهم أعراب يخفروننا، فسقط منهم فارس عن فرسه، فأسكت، فقالوا: قد مات، فعمد شيخ منهم، فضربه ضربا عظيما كثيرا، وما رفع الضرب [123] عنه، حتى أفاق، فعلمت أنّ الضرب، جلب إليه حرارة أزالت سكتته.
فقست عليه أمر هذا العليل.(3/153)
107 مهاترة بين رجلين من الخاصة
حدّثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد الأزديّ، قال: حدّثني أبو عليّ الحسن بن محمد الأنباري «1» الكاتب، قال:
كنت، وأنا حدث، أوقّع بين يدي، [أبي] محمد دلويه «2» ، وهو، إذ ذاك، يكتب للمؤتمن سلامة- أخي نجح الطولوني- حاجب القاهر.
فجاءه يوما أبو عليّ الحسين بن القاسم بن عبيد الله «3» ، وأبو جعفر الكرخي «4» مسلّمين، فحبسهما للأنس، وأجلسهما في دست، في صدر قبّة كانت له، وجلس دونهما على مطرح «5» ، وفرش في بيت إلى جانب القبّة، له باب إليها، وأجلس فيه ابنه، وأجلسني معه، وكأنّه رفع الرجلين عن معاشرتهما لنا، ونحن أحداث، وأراد بذلك سماع كلامهما، والأنس بسماع الغناء.
وكان إلى جانب القبّة، بيت آخر، فأجلس الغناء «6» فيه، ومدّت ستارة على بابه.
وأخذوا في الشراب، ونحن نسمع الغناء، وما يجري من [124] كلامهم، ولا نرفع أصواتنا بالكلام، لئلّا يسمعوا ذلك.(3/154)
فلما توسّطوا الشراب، أحضر باكورة «1» ، فقبّلها، ثم أقبل عليهما، وقال: الإنصاف أن أقسمها أثلاثا، ولكنّي قد وفّرت قسمي عليكما يا سيّديّ، فاقتسماها أنتما.
فأخذها الحسين بن القاسم، فقال: يا سيّدي، يا أبا جعفر، هذه تحبّ أن آخذ أنا ثلثيها، وأعطيك ثلثها؟
فقال الكرخي: فعلام يا سيّدي؟
فقال: لأنّك، أنت وأخوك، ولدتما توأما، فأنت نصف توأم، وأنا تامّ لأنّي ولدت وحدي، ولو كان أخوك حاضرا، لكان لي ولك وله أثلاثا، ومع غيبته، فأنت لا تستحقّ أكثر من الثلث.
فقال له أبو جعفر: ما أعجب هذا، أنت رجل كان جدّك نصرانيا، يعتقد أنّ الله ثالث ثلاثة، ونشأ أبوك فصار ثنويا، وترك مرتبة، ونشأت أنت فكان القياس أن تترك مرتبة واحدة أخرى، ولكنّك تركت مرتبتين، فنشأت ملحدا، لا تعتقد شيئا أصلا، ولم نعيّرك بذلك، تعيّرنا أنت [125] بالتوأم، ولا ذنب لنا فيه، وما هو عار على الحقيقة.
فغضب الحسين بن القاسم، وابتدر ليجيب.
فقام دلويه، وقال: الطلاق ثلاثا، لازم لي، وكلّ ما أملكه صدقة، إن أجبت يا سيّدي بشيء، ولا تكلّمت أنت يا سيّدي، يا أبا جعفر بشيء، فإنّ هذا يخرج الآن عن المزاح إلى العربدة، والأحقاد، والوحشة التي تبقى، وقدركما يرتفع عن هذا.
قال: فسكتا ساعة واجمين، ولم يزل أبو محمد، يداريهما، ويبسطهما، ويستعطف كل واحد منهما لصاحبه، حتى اصطلحا.(3/155)
108 ابن سكرة الهاشمي يهجو القاضي ابن أبي الشوارب
أنشدني محمد بن عبد الله بن سكّرة الهاشميّ «1» ، وهو من ولد عبد الله ابن علي بن المهدي، المعروف بابن ريطة «2» ، غلب عليه اسم أمّه، كما غلب على إبراهيم بن المهديّ، اسم أمّه شكلة «3» ، يهجو أبا العباس بن أبي الشوارب «4» ، وهو من ولد خالد بن أسيد الأموي، أخي عباد بن أسيد صاحب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لما تقلّد قضاء القضاة، وكانت العامّة تلقّبه [126] بحدندل:
خلعت على حدندل من مديحي ... قميصا لا اكتسى رجل كساه
على نفسي دعوت لأنّ جهلي ... دعاني أن شرهت إلى نداه
وكيف رجوت جودا من عدوي ... ولم أغسل حسامي من دماه(3/156)
109 من مختار شعر أبي فراس
لأبي فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون العدوي التغلبي «1» ، قصيدة أوّلها:
وقوفك في الديار عليك عار ... وقد ردّ الشباب المستعار «2»
ويقول فيها:
وطال الليل بي ولربّ دهر ... نعمت به لياليه قصار
وندماني السريع إلى ندائي ... على عجل وأقداحي الكبار
عشقت بها عواريّ الليالي ... أحق الخيل بالركض المعار «3»
إذا انحسر الظلام امتدّ آل ... كأنّا درّه وهو البحار
يموج على النواظر فهو ماء ... ويلفح بالهواجر فهو نار
فكم بلد شتتناهنّ فيه ... ضحى وعلى منابره المغار «4» [127]
وكنّ إذا أغرن على ديار ... رجعن ومن طرائدها الدمار «5»
وكم ملك نزعنا الملك منه «6» ... وجبّار بها دمه جبار(3/157)
وله قصيدة أوّلها:
عذيري من طوالع في عذاري «1»
يقول فيها:
أرى نفسي تطالبني بأمر ... قليل دون غايته اصطباري «2»
وما يغنيك من همم طوال ... إذا قرنت بأحوال قصار «3»
وقيل لي انتظر زمنا «4» ومن لي ... بأنّ الموت ينتظر انتظاري(3/158)
110 للشاعر الببغاء يصف شرابا
أنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزوميّ، المعروف بالببغاء «1» ، الكاتب، لنفسه، يصف شرابا في قدح أبيض، أبياتا ثابتة في ديوانه، اختصرت منها قوله:
بالقفص «2» للقصف منزل كثب «3» ... ما للتصابي «4» في غيره أرب [128]
دارت نجوم الكؤوس في فلك ... منه له من فتوّتي قطب
من كلّ جسم كأنّه عرض ... يكاد لطفا باللحظ ينتهب
نور وإن لم يغب ووهم ولو صحّ ... وماء لو كان ينسكب
لا عيب فيه سوى إذاعته السرّ ... الذي في حشاه يحتجب
كأنّما صاغه النفاق فما ... يخلص منه صدق ولا كذب
فهو إلى لون ما يجاوره ... على اختلاف الطباع ينتسب
إذا ادّعاه اللجين أكذبه ... بالراح في صبغ جسمه الذهب
جلت عروس المدام حالية ... فيه علينا الأدوار والنخب
فالراح بدر والجام هالته ... والأفق كفّي والأنجم الحبب(3/159)
111 زمان الهوى ألذ زمان
وأنشدني لنفسه مقطوعة: [129]
فليالي الصبا أسرّ ليال ... وزمان الهوى ألذّ زمان
وأسرّ البلاد ما حمد الساكن ... فيها خلائق الجيران «1»(3/160)
112 مريض بالاستسقاء تشفيه أكلة جراد
حدّثني «1» بعض المتطبّبين، قال: حدّثنا أبو منصور بن مارية «2» ، كاتب أبي مقاتل، صالح بن مرداس «3» الكلابيّ، صاحب حلب «4» ، وكان أبو منصور من رؤساء أهل الصراة، الذين يضرب بهم المثل، في كل فنّ، وكان أديبا، وقد شاهدته، ولم أسمع منه هذه الحكاية، قال: أخبرني [أحد] شيوخنا، قال:
كان بعض أهلنا قد استسقى، وأيس من الحياة، فحمل إلى بغداد، فشوور الطبّ «5» فيه، فوصفوا له أدوية كثارا، فعرفوا أنّه قد تناولها بأسرها، فلم تنجع، فأيسوا منه، وقالوا: لا حيلة لنا في برئه، وهذا تالف.
فسمع العليل ذلك، فقال لمن كان معه: دعوني الآن أتزوّد من الدنيا، وآكل ما أشتهي، ولا تقتلوني بالحمية «6» قبل أجلي.
فقالوا: كل ما تريد.(3/161)
فكان يجلس على دكان «1» باب الدار التي نزلها ببغداد، فمهما رآه يجتاز [130] على الطريق، اشتراه، وأكله.
فمرّ به رجل يبيع الجراد مطبوخا، فأجلسه، واشترى منه عشرة أرطال، وأكلها بأسرها.
فلما كان بعد ساعة من أكله، انحلّ طبعه «2» ، وتواتر قيامه، حتى قام في ثلاثة أيّام أكثر من ثلاثمائة مجلس، وضعف، وأيس منه.
ثم انقطع القيام، وقد زال كل ما كان في جوفه، وأنابت إليه قوّته، وبرأ.
فخرج برجليه، في اليوم الخامس، يتصرّف في حوائجه، فرآه أحد الطب، وعجب من أمره، وسأله عن الخبر، فعرّفه.
فقال: ليس من شأن الجراد، أن يفعل هذا الفعل، ولا بدّ أن يكون في الجراد الذي فعله، خاصيّة، فأحب أن تدلّني على بائع الجراد.
قال: فما زالوا في طلبه، حتى اجتاز بالباب، دفعة ثانية، ورآه الطبيب، فقال: ممّن اشتريت هذا الجراد؟.
فقال: ما اشتريته، أنا أصيده، وأجمع منه شيئا كثيرا، وأطبخه على الأيّام، وأبيعه.
فقال: من أين تصطاده؟
قال: فذكر قرية على فراسخ يسيرة من بغداد.
فقال [131] له الطبيب: أعطيك دنانير، وتدع شغلك، وتجيء معي إلى الموضع الذي اصطدت منه الجراد.(3/162)
قال: نعم.
فخرجا، وعاد الطبيب من غد، ومعه من الجراد شيء، وحشيشة.
قالوا له: ما هذا؟
فقال: صادفت الجراد الذي يصيده هذا الرجل، يرعى في صحراء جميع نباتها حشيشة يقال لها: مازريون «1» ، وهي من دواء الاستسقاء «2» ، وإذا دفع إلى العليل منها وزن درهم، أسهله إسهالا يزيل الاستسقاء، ولكن لا يؤمن أن ينضبط، ولا يقف، فيقتله بالذرب، فالعلاج بها خطر جدا، وهي مذكورة في الكتب، ولفرط غررها «3» ، لا يكاد أن يصفها الطبّ، فلما وقع الجراد على هذه الحشيشة، وأنضجتها معدته، ثم طبخ الجراد، فضعف فعلها، بطبخين اجتمعا عليها، وقصر، وتناولها هذا، وقد تعدّلت بمقدار ما أبرأته، ولم تدفع طبعه دفعا لا ينقطع، فبرأ.(3/163)
113 مريض بالاستسقاء يبرأ بعد أن طعم لحم أفعى
حدّثنا محمد بن أحمد بن طوطو الواسطي، أبو الحسين، قال: سمعت أبا علي عمر بن يحيى العلويّ الكوفيّ [132] ، يقول «1» :
كنت في بعض حججي، في طريق مكة، فاستسقى رجل كان معنا، من أهل الكوفة، وثقل في علّته.
وسلّ «2» الأعراب قطارا «3» من القافلة، وكان العليل على جمل منه، فلما افتقد، جزعنا عليه، وعلى القطار، وكنّا راجعين إلى الكوفة.
فلما كان بعد مدة، جاءنا العليل إلى الكوفة، معافى.
فسألته عن قصّته، وسبب عافيته، فقال: إن الأعراب، لما سلّوا القطار ساقوه إلى خيمهم، وكانت قريبة من المحجّة، على فراسخ يسيرة، فأنزلوني، ورأوا صورتي، فطرحوني في آخر بيوت الحيّ، وتقاسموا ما كان في القطار.
وكنت أزحف، وأتصدّق بين البيوت ما آكله، فأطعم، فتمنيت الموت، وسهل عليّ، وكنت أدعو الله تعالى، به.
فرأيتهم يوما، وقد عادوا من ركوبهم، فأخرجوا أفاعي قد اصطادوها، وقطعوا رؤوسها وأذنابها، واشتووها، وأكلوا.
فقلت: هؤلاء يأكلون هذه الأفاعي، ولا تضرّهم للعادة التي تربوا(3/164)
عليها [133] ، ولعلّي أنا، إن أكلت شيئا منها، تلفت، فأستريح ممّا أنا فيه.
فقلت لبعضهم: أطعمني من هذه الحيّات، فرمى إليّ بواحدة، فيها أرطال، مشوية، فأكلتها بأسرها، وأمعنت، طلبا للموت، فأخذني نوم عظيم، وانتبهت، وقد عرقت عرقا عظيما، واندفعت طبيعتي، فقمت في بقيّة يومي وليلتي، أكثر من مائتي مجلس، إلى أن سقطت طريحا، والطبع يجري، فقلت: هذا طريقي إلى الموت، فأقبلت أتشهّد، وأدعو بالمغفرة.
فلما أضاء الصبح، تأمّلت بطني، وإذا هي قد ضمرت جدا، وزال عنها ما كان بها، فقلت: أيش ينفعني هذا، وأنا ميت؟
فلما أضحى النهار، انقطع القيام، ووجبت الظهر، فلم أحس بقيام، وجعت، فجئت لأزحف على العادة، فوجدت نفسي خفيفا، وقوّتي صالحة، فتحاملت، وقمت، ومشيت، وطلبت منهم مأكولا، فأطعموني، فقويت، فبتّ تلك اللّيلة الثانية معافى، ما أنكرت شيئا من أمري.
فأقمت أيّاما، إلى أن وثقت من نفسي، بأنّي إن مشيت نجوت، فأخذت الطريق مع بعضهم [134] ، إلى أن صرت على المحجّة «1» ، ثم سلكتها منزلا، منزلا، إلى الكوفة مشيا.(3/165)
114 ابن نصرويه يجيز شاعرا مدحه بثلاثة دراهم
حدّثني أبو أحمد الفضل بن محمد، ابن بنت المفضّل بن سلامة البصريّ، قال:
كنت عند أبي الحسين محمد بن عبيد الله بن نصرويه «1» فدخل إليه شاعر غريب، ورد [إلى] «2» البصرة، يعرف بالمطرّف الحميري، فامتدحه بقصيدة حسنة، فأمر غلامه أن يعطيه عطيّة، سارّه بها، فلما قام الشاعر معه، أعطاه إيّاها، فإذا بالشاعر، قد رجع من الدهليز، فرمى بالقرطاس، في حجر ابن نصرويه، فكان فيه ثلاثة دراهم، ثم استخفّ به، بكلام قبيح، وأنشده ثلاثة أبيات هجاء له باسمه، ونسبه، طيّبة، ارتجلها، وخرج.
فقال لي أبو الحسين: يا أبا أحمد، الحقه، وردّه، وترضّاه «3» ، وابذل له عنّي مائة درهم، وأن لا يعيد في هجائي شيئا.
فتبعته، وسعيت على أثره، حتى لحقته، وما زلت أداريه، إلى أن بذلت له المائة درهم، فقال:
لا ألبس النعماء من رجل ... ألبسته عارا على الدهر [135]
وانصرف، فلا أدري، الشعر له، أو لغيره.(3/166)
115 بحث في شكوى الزمان
وحدّث أبو العباس الحسين بن عليّ بن الفضل بن سليمان الواسطيّ، قال:
كنت جالسا ببغداد، في سنة ثماني عشرة «1» ، عند صديق لي بباب الطاق»
، فتشاكينا الهمّ والغمّ، وفساد الزمان، إذ ذاك، ولو كان لنا ذاك الفساد الآن، لكان غاية الصلاح.
فقال لي: يا أبا العبّاس، هوّن عليك، فلو وقف الإنسان في هذه السوق العظيمة، وأشار بيده إلى باب الطاق، وصاح: يا مكروب، لما بقي فيها أحد، إلّا قال له: لبيك.(3/167)
116 توقيع للقاضي ابن معروف
لما تقلّد الطائع لله، أمير المؤمنين، الخلافة «1» ، طالب القاضي أبا محمد، عبيد الله بن أحمد بن معروف «2» ، أن يتولى له الوزارة، فامتنع عليه من ذلك، وبذل له أن يتدبر أمره، ويقوم له بترتيب الأمور إلى أن يستكتب من يراه.
فكان يحضر دائما، ويعينه بنفسه، ويدبّر الأمور، وربما لم يكن في الدار كاتب، فيوقّع بخطّه في الأمور.
وأمّا أول يوم، فكان نظر الوزراء، فمن ذلك، أنّه وقّع بتوقيع نسخته: [136] ليكتب للحسين بن موسى الهاشميّ «3» ، من الحضرة بالمظالم، وتسيير الحجيج أيّام المواسم، ونقابة الطالبيّين من بني هاشم.
وكتب عبيد الله بن أحمد في يوم كذا من شهور كذا «4» .(3/168)
117 كتاب كتبه أبو إسحاق الصابي
قرأت كتابا كتبه أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، الكاتب «1» ، في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلاثمائة عن ابن بقيّة، وهو إذ ذاك وزير «2» إلى أبي المظفّر حمدان «3» بن ناصر الدولة، وهو بحلوان متقلدا لها ولطريق خراسان، وقد أنزل عياله في دار أبي العلاء صاعد «4» ببغداد، يسأله تفريغها «5» ، وخطّ «6» أبو إسحاق نسخته، نقلتها من خطّه:
كتابي أطال الله بقاء سيّدي الأمير، وأدام تأييده ونعمته، يوم كذا، عن سلامة، وسيّدي الأمير، أدام الله عزّه، يعرف مذهبي في رعاية الحقوق التي تضعف أسبابها، ويصغر أصحابها، فما عنده فيما تناهى عندي، يزيد تأكّدا ووجوبا، وتقدّما وتمهيدا، وما منزلة أبي العلاء صاعد بن ثابت، عندي، تخفى على سيدي الأمير [137] أدام الله عزّه، فأذكرها، وهو بضعة مني لا تتميّز، وكاللحمة التي لا تنفصل، وليس ما تحدثه أحوال الزمان والتصرّف، من شوائب تشوب، وتوائب تنوب، مغيّرا للأصول، ولا قادحا في الاعتقاد، و [ما] كانت صورته في الوحشة التي لحقته، وأخلت(3/169)
منه داره، موجبة للرخصة في أن تنزل، ولو رام ذلك منها غير سيّدي الأمير أدام الله عزّه، لعزّ عليه أن يناله، وإنّما سمحت له بذلك، لثقتي بطاعته لي، وعلمه بأنّ ذلك المنزل منزلي، وأنّني أعيره وأسترده، وأتصرّف فيه تصرّف من يملكه، وقد قبح بي أن يكون أبو العلاء، مع أواصره الوكيدة، وملازمته لي المتّصلة، ممنوعا منه «1» ، وأسبابه منتقلين عنه، وتردّد منّي في ذلك، مراسلات ومكاتبات، أحمدت نتاجها، الحكاية عن الحرّة- يعني امرأة حمدان- أيدّها الله، في التذمّم، ومعرفة الحقّ، وإيثار الانتقال، وأنكرت أن يقف الأمر مع هذه الحال، فالأعراض «2» كثيرة مبذولة، وأنا أسأل سيّدي الأمير أيّده الله، أن يوجب ما أوجبت، ويعرف ما عرفت [138] ، ويراعيني أوّلا، ثم حقوق أبي العلاء ثانيا، ويكتب إلى من ينوب عنه، بقبول ما يعرضه، والانتقال إليه، ويسلم الدار، فلو كانت [له] ، لاستنزلته- والعياذ بالله- «3» عن ملكها، ولم أقنع بخروجها عن اليد، فكيف إذا، وهي مستعارة، والحكم فيها الردّ، وسيّدي الأمير وليّ ما يراه في هذا الأمر الخاص بي، وحاشاي أن أعيد فيه قولا أو كتابا، أو أتجشّم من أجله قصدا أو إعادة، فقد أنفذت بكتابي هذا، قاصدا يوصله أبو الفتح قرّة بن دنحا، في معناه، ما يعرفه الأمير من جهته إن شاء الله.
ونسخة التوقيع بخطّ الوزير: أنا راغب إلى الأمير، أدام الله عزّه، في هبة هذه الدار لي، ولا أقول أكثر من هذا، والسلام.(3/170)
118 أبو العلاء صاعد يفتخر
[حدّثني] أبو العلاء صاعد بن ثابت «1» ، قال:
لما كثر دخولي إلى الملك عضد الدولة «2» ، ببغداد، سنة أربع وستين وثلاثمائة، وكان إذا رآني، يقول لي سائلا: يا أبا العلاء، ما أنحل جسمك؟
فلما كثر ذلك عليّ، عملت [139] أبياتا، وأنشدته إيّاها، وهي:
يقول مليك الأرض جسمك ناحل ... على ذاك عرضي والثناء جميل
وأحسن ما في الهندوانيّ أنّه ... نحيف رقيق الشفرتين صقيل
فان أك معروق العظام فإنّني ... نهوض بأعباء الأمور حمول
أقوّم أغصان الخطوب إذا التوت ... برفقي ومثلي في الكفاة قليل
أرى الملك المنصور أنكر مضربي ... وأيّ حسام ليس فيه فلول
وكم لك عندي من يد وصنيعة ... أقصّر عن شكري لها فتطول
ومن لفظة تسري إليّ ونظرة ... عليها من الرأي الجميل دليل
إذا صحّ لي من حسن رأيك لمحة ... فليس لمقدور إليّ سبيل [140](3/171)
119 كظم الغيظ من مكارم الأخلاق
حدّثني إبراهيم بن عيسى بن نصر السوسيّ، النصرانيّ، الكاتب «1» ، قال: قال أبي:
قام في نفسي حقد على رجل، لقبيح عاملني به، أربعين سنة، ما كافأته عليه إلى أن مات.(3/172)
120 الأمير سيف الدولة يصفح عن أحد أتباعه ويعيد إليه نعمته
حدّثنا «1» أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن معروف، أخو قاضي القضاة، أبي محمّد عبيد الله بن أحمد بن معروف، قال:
كنت بمصر، وكان بها رجل يعرف بالناظريّ، من تنّاء حلب، وقد قبض سيف الدولة «2» ضيعته، وصادره، فهرب منه إلى كافور الإخشيدي «3» ، فأجرى عليه جراية في كلّ شهر، سائغة، كما كان يجري على جميع من يقصده، من الجرايات التي سمّاها: الراتب، وكان مالا عظيما، مقداره في كلّ شهر [خمسون ألف دينار، لأرباب النعم، وأجناس الناس، وليس فيها لأحد من الجيش ولا من الحاشية، ولا من المتصرّفين في الأعمال شيء] «4» .
قال: فجرى ذكر هذا الناظريّ، بحضرة كافور، وقيل إنّه بغّاء «5» ، وكثرت الحكايات عنه بحضرته، فأمر بقطع جرايته.
فرفع إليه، يشكو انقطاع المادّة، ويسأل التوقيع، بإجرائه على رسمه، فأمر، فوقّع على ظهر الرقعة: قد صحّ عندنا أنّك رجل تصرف [141](3/173)
ما نجريه عليك، فيما يكره الله عزّ وجلّ، من فساد نفسك، وما نرى أن نعينك على ذلك، فالحق بحيث شئت، فلا خير لك عندنا.
قال: وخرج التوقيع إلى الرجل، فأعضل به، فعمل محضرا، وأخذ فيه خطوط خلق كثير، ممن يعرفه بالستر، وأنّه ما عرف قط ببغاء، ولا صحبة الأحداث، وجعله طيّ رقعة إلى الأستاذ كافور، يحلف فيها بالطلاق والعتاق، والأيمان المغلظة، أنّه ليس ببغّاء، واحتجّ بالمحضر، وتركه في طيّ الرقعة.
وقال: إنّه لم يكن يدفع إليه ما دفع، لأجل حفظ فرجه، أو هتكته، وإنّما كان ذلك، لأنّه منقطع، وغريب، وهارب، ومفارق نعمة، ويسأل ردّه إلى رسمه.
ورفع القصة إلى كافور.
قال: فلا أدري إلى أين انتهى أمره، إلّا أنّه صار فضيحة، وتحدّث الناس بحديثه.
واتّفق خروجي من مصر، عقيب ذلك، إلى حضرة سيف الدولة، بحلب «1» ، وجرت أحاديث المصريّين، وكان يتشوّق إلى أن يسمع حديثهم، فقلت: أمر عجب، جرى بها [142] اتّفاقا، إنّه كان بها رجل يقال له الناظريّ، فقصصت القصّة عليه.
فاستضحك من ذلك ضحكا عظيما، وقال: هذا المشؤوم بلغ إلى مصر؟
قال: فقال لي محمد الأسمر، علمت أنّ هذا الرجل، صديقي جدا، وقد هلك، وافتقر، وفارق نعمته، فأحبّ أن تخاطبه في أمره، عقيب ما(3/174)
جرى، لأعاونك، فلعلّ الله أن يفرّج عنه.
قال: فقلت: افعل.
قال: فأخذ يسألني عن الأمر، فأعدت عليه شرحه، فعاد يضحك.
فقلت له: أطال الله بقاء مولانا، قد سررت، وضحكت، فيجب أن يكون لذلك ثمرة، إمّا لي، أو للرجل الذي قد صيّرته فضيحة بحلب، بما أخبرت بحديثه.
فقال: أمّا لك، فنعم، وأمّا له، فما يستحقّ، فإنّه فعل، وصنع، وأخذ يطلق القول فيه.
قال: فقلت له: فوائدي من مولانا متّصلة، ولست أحتاج مع إنعامه، ودوام إحسانه، إلى التسبّب إلى الفوائد، ولكن، إن رأى أن يجعلها لهذا المفتضح المشؤوم.
قال: فقال: تنفذ إليه سفتجة بثلاثة آلاف درهم.
قال: فشكرته، والجماعة [143] ، وخاطبته بأن يأذن له بالعود إلى وطنه، ويؤمّنه.
فقال: ويكتب له أمان، ويؤكّد، ويؤذن له في العود إلى وطنه.
قال: فغمزني الأسمر في الاستزادة، فقلت: أطال الله بقاء مولانا، إنّ الثلاثة آلاف درهم، لو نفذت إليه، إلى مصر، من غير أن يؤذن له في العود، ما كفته لمن يحمله على نفسه، لأنّ أكثر أهل مصر بغّائين، وقد صافّوه في الناكة، وغلبوه باليسار، فلا يصل هو إلى شيء، إلّا بالغرم الثقيل.
قال: فأعجبه ذكري لأهل مصر بذلك، فقال: كيف قلت أيّها الأخ؟
فقلت: المياسير من أهل مصر، لهم العبيد العلوج، يأتونهم، لكلّ واحد منهم عدّة غلمان، والمتوسّطين يدعون العلوق والزنوج المشهورين(3/175)
بكبر الأيور، فينفقون أموالهم عليهم، ولا يصل الفقير والمتجمّل إليهم.
ولقد بلغني آنفا، وأنا بمصر، أنّ رجلا من الفقراء، اشتدّ عليه حكاكه، فطلب من يأتيه، فلم يقدر عليه، فخرج إلى الموضع الفلاني- قرية ذكرها، قريبة من مصر- فأقام بها [144] ، فكان إذا اجتاز به المجتازون، استغوى منهم من يمتاز بهذا الحال، فحمله على نفسه، وكان يعيش بالمجتاز بعد المجتاز، ويتمكّن من إرضائه بما لا يمكن بمصر، فعاش بذلك برهة، حتى جاءه يوما بغّاء آخر، فسكن معه في الموضع، فكان إذا جاء الغلام الذي يصلح لهذه الحال، تنافسا عليه، فأفسد على الأوّل أمره، فجاء إلى الثاني، فقال له: بيني وبينك، شيخنا ابن الأعجميّ الكاتب، رئيس البغّائين فجذبه إلى مصر، واحتكما إليه.
فقال: إنّي كنت لمّا اشتدّ بي أمري الذي تعرفه، ومنعني فقري من اتّخاذ الناكة بمصر، عدلت إلى الموضع الفلانيّ، فعملت كذا، وقصّ عليه القصّة، فجاء هذا، وصنع، وقصّ عليه القصّة، وشرح له أمره، فإن رأيت أن تحكم بيني وبينه، فاحكم.
فحكم بينهما ابن الأعجميّ، ومنع الثاني من المقام في الناحية، وقال:
ليس لك أن تفسد عليه عمله، وناحيته، اطلب لنفسك موضعا آخر.
فيمكن الناظريّ- أيّد الله مولانا [145] الأمير سيف الدولة- أن يستشفي بثلاثة آلاف درهم، أمرت له بها، في بلد هذه عزّة الناكة فيه، وكثرة البغّائين؟. هذا لو كان مقيما، فكيف وقد أنعمت عليه بالمسير، ويحتاج إلى بغال يركبها في الطريق بأجرة، وديون عليه يقضيها، ومؤن.
قال: فضحك ضحكا شديدا، من حكاية البغّائين، وحكم ابن الأعجميّ بينهما، وكان هذا من مشهوري كتّاب مصر، فقال: اجعلوها خمسة آلاف درهم.(3/176)
قال: فقلت له، أنا والجماعة: فيرد أطال الله بقاء الأمير مولانا، بخمسة آلاف درهم، قد أنفقها في الطريق، إلى سوء المنقلب؟.
قال: وكان يعجبه أن يماكس، فيجود مع المسألة، والدخول عليه مدخل المزاح في ذلك، والطيبة، واقتضاء الغرماء بعضهم لبعض، وما أشبه هذا «1» .
قال: فقال: قد طوّلتم عليّ، في أمر هذا الفاعل الصانع، أطلقوا له عن ضيعته بأسرها، ووقّعوا له بذلك إلى الديوان، وعن مستغلّه، وانقلوا من في داره عنها، وتقدّموا بأن تفرش أحسن [146] من الفرش الذي كان نهب له منها، لمّا سخط عليه.
قال: فأكبت الجماعة، تقبّل يده ورجله، وتحلف أنّها ما رأت مثل هذا الكرم قطّ، هذا، مع سوء الرأي فيه، وسوء حديثه، ويقولون: ما على الأرض بغاء أبرك على صاحبه منه.
فضحك، ونفذت الكتب، والتوقيعات، بما رسمه.
فلما كان بعد مدّة، جاء الرجل، وعاد إلى نعمته، وخلع عليه سيف الدولة، ونظر في حوائجه.(3/177)
121 سخاء الأمير سيف الدولة
حدّثنا أبو القاسم بن معروف، قال:
دخلت إلى حلب، إلى أبي محمد الصلحيّ الكاتب «1» ، وأبي الحسن المغربيّ «2» ، أسلّم عليهما، وكانا في خدمة سيف الدولة «3» ، وهما في دار واحدة نازلان لضيق الدور، وكان وكيل كلّ واحد منهما، يبكّر يوما، فيقيم لهما، ولغلمانهما، ما يحتاج إليه، للمادّة «4» والوظائف «5» ، فإذا كان من الغد، بكّر الآخر، فأقام الوظائف، لهما، ولغلمانهما، على هذا.
قال: فلمّا استقررت عندهما، دخل إليهما رجل ضرير، فسلّم، وجلس، ثم قال [147] : إنّ لي بالأمير سيف الدولة، حرمة قديمة، وجوارا، واختصاصا، أيّام مقامه بالموصل، وقد قصدته، ومعي رقعة، فإن رأيتما(3/178)
أن توصلاها إليه، وأخرج رقعة عظيمة، هائلة جدّا، فلما رأياها، قالا له: هذه عظيمة ولا ينشط الأمير أن يقرأها، فغيّرها، واختصرها، وعد في وقت آخر، فإنّا نأخذها، ونوصلها إليه.
فقال: الذي أحبّ، أن تتفضلا بعرض هذه الرقعة.
فدفعاه عن ذلك، فقام كالآيس، يجرّ رجله، منكسر القلب، فداخلتني عليه رقّة.
وركبت، فدخلت على سيف الدولة، وهو جالس، وكان رسمه، أن لا يصل إليه بتة، أحد، إلّا برقعة، يكتبها الحاجب باسم من حضر، واحدا كان أو أكثر، فإذا قرأ اسم الرجل، فإن شاء دعا به، وإن شاء أمر بصرفه.
فلما استقررت، عرض عليه الحاجب، رقعة، فيها: فلان بن فلان الموصليّ، الضرير.
فقال: وهذا يعيش؟ أين هو؟
فقال: بالباب.
قال: يدخل، فما أظنّه- مع ما أعرفه من زهده في الطلب- قصدنا إلا لجهد لحقه [148] .
قال: فدخل، فإذا الشيخ الذي رأيته عند الصلحيّ والمغربيّ.
فلما قرب منه، استدناه، وبشّ به، وقال: يا هذا، ما سمعت بأنّا في الدنيا؟ ما علمت مكاننا على وجه الأرض؟ ما جاز لك أن تزورنا، مع ما بيننا من الحرمة الأكيدة، والسبب الوكيد؟ لقد أسأت إلى نفسك، وأسأت الظنّ بنا.
قال: فجعل الرجل، يدعو له، ويشكره، ويعتذر، فقرّبه، وأجلسه.
فجلس ساعة، ثم قام، فسلّم إليه الرقعة بعينها، فأخذها، وقرأها(3/179)
إلى آخرها، وقال: يا يونس بن بابا- وكان خازنه- فحضر، فأوعز إليه بشيء، ثم استدعى حاجب الكسوة، فسارّه بشيء، واستدعى رئيس الإصطبل، فأمره بشيء.
وانصرفت الجماعة، وجاء ابن بابا، فوضع بين يديه، صرّتين عظيمتين، فيهما دنانير تزيد على خمسمائة دينار.
وجاء حاجب الكسوة، بثياب كثيرة صحاح، من ثياب الشتاء والصيف، منثّرة بطيب كثير، وصياغات، من ربع، ومرآة، وما جرى مجرى ذلك.
وجاء عريف الفراشين «1» ببسط، وزلاليّ «2» [149] ، وثياب ديباج للفرش، وسبنيّات، وأشياء كثيرة من أنواع الفرش بألوف دنانير، فصار ذلك كالتلّ بين يديه.
وكان يعجبه، إذا أمر لإنسان بشيء، أن يحضره إلى حضرته، بحيث يراه، ثم يعطيه لمن وهبه له.
قال: فأخرج ذلك، والضرير لا يعلم، وعنده، أنّه قد تغافل عنه، [فهو في الريب] «3» وأخذ لا يسارّ الضرير، ولا يقول له شيئا.
وجاء صاحب الكراع، ومعه بغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم، بمركب ثقيل حسن.
وجاء الخادم، ومعه خادم بثياب جدد، فسلّمت البغلة إليه، فأمسكها في الميدان أسفل الدكّة التي عليها سيف الدولة.
ثم قال للخادم: كم جرايتك؟(3/180)
قال: عشرون دينارا في الشهر.
قال: قد جعلتها لك ثلاثين دينارا، وخدمتك لهذا الشيخ خدمة لنا، فلا تقصّر فيها ولا ينكسر قلبك، وأحسن خدمته، ادفعوا له جرايته لسنة، فدفعت في الحال إليه.
ثم قال: فرّغوا الدار الفلانية. فتقدّم بتفريغها.
ثم تقدّم: أن يحمل إلى [150] عياله، زورق من تلّ فافان»
، إلى الموصل، فيه كرّان «2» حنطة، وكرّ شعير، ويملأ ببقولة الشام، ومآكلها.
ففعل ذلك كلّه.
ثم استدعى أبا إسحاق بن شهرام، المعروف بابن ظلوم المغنّية، وكان يكتب له، ويترسّل، إلى ملك الروم، ويبعثه في صغير أموره، وكبيرها، فسارّه بشيء.
فأخذ أبو إسحاق، الشيخ، وجعل يخاطبه عن الأمير سيف الدولة، باعتذار طويل، ويقول: إنّك جئتنا في وقت، هو آخر السنة، وقد تقسّمت أموالنا الحقوق، والزوّار، والجيوش، وببابنا خلق من الرؤساء، ونحتاج أن نواسيهم، ولولا ذلك، لأوفينا على أملك، وقد أمرنا لك بكذا ...
قال: وجعل ابن شهرام، يقرأ عليه من فهرست «3» قد عمل، ثبتا للمجموع الذي أمر له به، من صنوف الثياب والفرش، وغير ذلك.
قال: فقلت للأمير سيف الدولة: يا مولانا، لا تورد على هذا الشيخ، هذه الجائزة، جملة، عقب اليأس العظيم الذي قد لحقه، فتنشقّ مرارته.(3/181)
قال: فلما استوفى الشيخ الكلام [151] ، بكى بكاء شديدا، وقال: أيّها الأمير قد والله زدت على أملي بطبقات، وأوفيت على غناي بدرجات، وقضيت حقّي، وما هو أعظم من حقّي، وما أحسن أن أشكرك، ولكن الله يتولى عنّي شكرك، ومجازاتك، فتمنّ عليّ بتقبيل يدك، فإنّه أفضل من كلّ عطيّة.
فأذن له في ذلك، فدنا الشيخ، فقبّل يده دفعات، فجذبه إليه سيف الدولة، وشاوره «1» بشيء، فضحك الشيخ وقال: إي والله، إي والله، أيّها الأمير.
قال: فاستدعى خادم حرمه، وسارّه بشيء.
وانصرف الشيخ إلى الدار التي أخليت له، وقال له: أقم فيها، إلى أن أنظر في أمرك، وتخرج إلى عيالك.
قال: فسألت عما سارّه خادم حرمه، فقال: أخرج إليه جارية من وصائف أخته، في نهاية الحسن، بثياب، وزيّ، تزيد قيمتها على عشرة آلاف درهم. فحملت إليه.
قال: فقمت قائما، وقلت: والله، أيّها الأمير، ما سمع بهذا الفعل، عن البرامكة ولا غيرها.
فقال: دعني من هذا، ما معنى [152] قولك لأبي إسحاق بن شهرام، لا تورد عليه هذا، عقيب اليأس، فتنشقّ مرارته؟
فقلت: كنت منذ ساعة، عند أبي محمد الصلحيّ، وأبي الحسن «2» المغربيّ، فجرى كذا وكذا، وقصصت عليه القصّة، وانصرف هذا الشيخ، أخزى منصرف، ثم جاء بنفسه، فعامله مولانا، بمثل هذا الفعل العظيم، فخفت [أن] يعرّفه فجأة، فتنشق مرارته.
فقال: هاتم الساعة، الصلحيّ، والمغربيّ، فجاء أحدهما قبل الآخر،(3/182)
فجلس، ولم يخاطبه حتى حضر الآخر، ثم أقبل عليهما، فقال: ويحكما، أخبراني، ألم أحسن إليكما، وأصطنعكما، وأنوّه بكما، وأسن أرزاقكما، وأعل مرتبتكما، وأخفّف الخدمة عليكما، وأتناه بجهدي، في قضاء حقوقكما؟
فأخذا يشكرانه.
فقال: ما أريد هذا، إمّا أن تقولا: نعم، أو لا.
فقالا: بلى، والله، وزيادة.
قال: فمن حقّي عليكما، ومكافاة هذا، وشكره، أن تقطعا عنّي رجاء الناس؛ وتصدّانهم عن أملي، وتؤيسانهم من [153] برّي، وتنسباني عندهم إلى الضجر برقاع المؤمّلين، والبخل على المستحقين؟. ما كان عليكما، لو أخذتما رقعة الرجل، فإن أجرى الله على يدي خيرا، كنتما فيه شريكين، وإن ضجرت، كان الضجر إليّ منسوبا، وأنتما منه بريئان، وقد قضيتما حقّ قصد الرجل لكما، فلا حقّه قضيتما، ولا حقّ الله عزّ وجلّ، فيما أخذه على عباده من بذل الجاه، ولا حقّ إنعامي.
قال: وأسرف في لومهما، وتوبيخهما، حتى كأنّهما قد جنيا أعظم جناية.
قال: فأقبلا يعتذران، ويحلفان أنّهما ما أرادا إلّا التخفيف عنه بقراءة شيء طويل، وأرادا أن يخفّف الرجل الرقعة، فتخف قراءتها، وتكون أنجع لحاجته، وإنّهما ما قدّرا أنّه قد أيس، وانصرف مغموما، ولو علما بذلك، لقصداه، حتى يرتجعا رقعته، ويوصلانها.
قال: فأقبلت الجماعة تدعو له، وتحلف، أنّ هذا التأديب، والتفضّل، والنيّة في الجود والكرم، أحسن من الفعل الذي عمله مع الرجل، على عظم حسنه، وأنّه ليس على [154] وجه الأرض من يعمله غيرك.(3/183)
122 الوزير حامد بن العباس يعذّب المحسّن بن الفرات
حدّثنا أبو الحسين الحارثيّ النهرسابسيّ «1» ، قال: حدّثني شيخ من شيوخنا:
إنّ أبا جعفر بن الشلمغانيّ «2» ، كان في نهاية الاختصاص بحامد بن العبّاس «3» ، فلما وزّر اجتذبه معه إلى بغداد، وكان يدخله في آرائه، ويشاوره في مهمّاته، ويوسّطه في كبار الأمور.
قال: فلما جرى من حامد على المحسّن بن الفرات «4» ، تلك القضيّة الشديدة «5» ، كتب إلى ابن الشلمغانيّ، يسأله، مسألة حامد الرفق به،(3/184)
والتقدّم إلى المستخرج «1» بالتوقّف عن ضربه، وإذلاله، ليؤدّي على مهل.
فتكفّل ابن الشلمغانيّ بأمره، وخاطب حامد بن العباس في ذلك، فردّه، فعاوده في مجلس حافل، ولجّ حامد، ولجّ ابن الشلمغانيّ، إلى أن قال حامد هاتم «2» المحسّن، ابن كذا وكذا، وهاتم الغلمان والمقارع.
قال: فقبّل ابن الشلمغانيّ يده، فلم يقنع، وحلف أنّه لا بدّ أن يصفعه، ويضربه في ذلك المجلس، وتوجّه الغلمان ليجيئوا به.
فلما عادوا، ومعهم المحسّن، قام ابن الشلمغانيّ، من قبل [155] أن يدخل المحسّن، وانصرف، فاستشاط حامد، وجنّ، وكاد أن يقبض على ابن الشلمغاني، ويوقع به، ثم استرجع، وأخرج غيظه على المحسّن، وصفعه الصفع المشهور، الذي كان سبب قتل المحسّن له «3» ، لما ولي أبوه الوزارة الثالثة.
قال: ونهض ابن الشلمغاني، فدخل إلى دار حجبة حامد، مغموما، وأخذ يشكو ما يجده إلى الحاجب، ويتشاكيان، ويقول: هذا الرجل يريد أن يقتلنا كلّنا بعده، وأن لا يبقي لنا باقية، يا قوم، أيّ شيء يعمل بنفسه؟
قال: فهو كذلك، إذ دعا حامد بحاجبه، وقد قام عن مجلسه، وردّ حامد المحسّن إلى محبسه بعد ما جرى، وقال للحاجب: ويحك، أين ابن الشلمغانيّ؟
فقال: عندي في الحجرة.
قال: فما قال؟
قال: لم يقل شيئا.(3/185)
فأمسك كالخجل، ثم قال: هاته.
فلما جاء، قال: يا أبا جعفر، من حقّ مودّتي لك، أن تتوافى لأعدائي، وتقوم عن مجلسي، إذا رأيتني أوقع بأعدائي؟
فقال: ننصف؟ أو نقول: صدق الأمير؟
قال: أسمع وأنصف.
قال: أيّها [156] الوزير، هذا رجل سألتك فيه، فاعمل «1» أنّه كان بقّالا، لابن وزير أنت تعلم حالته، وقديم رياسته، فما كان يحسن أن تردّني فيه، ولا إن رددتني، أن تسومني الجلوس، وحضور عذاب من شفعت فيه، ثم أنت تعلم، أنّ الأيّام دول، وأنّ لهذا الفعل عاقبة، يكفيك الله إيّاها، فأيّ شيء يضرّك من سلامة مهجتي، في حال العافية، وإفلات نعمتي من شرّ هؤلاء؟ وأن يقولوا غدا: داهننا، ولم يشفع لنا، ولو كان نصحنا ما خالفه الوزير، مع ما بينهما، وما قعد ليشاهد صفعنا، إلّا تشفّيا منا، وأيّ شيء أحسن بك من أن تنسب حاشيتك، ومن اخترته لمودتك وأنسك، إلى الخير، وبعدهم من الشرّ، فيقال: إنّه لو لم يكن خيّرا، لما استصحب الأخيار، وإنّما يحمله على ما فعله، الغضب، والحاجة إلى المال، وإلّا فالخير طبعه، والغالب عليه، ولا يقال: إنّه شرير جمع الأشرار حواليه، واعلم أنّي [157] ما قمت من مجلسك، إلّا وقد وضعت في نفسي، أنّك تنكبني، وعلمت أنّي قد أسأت أدبي، وأنّي غير آمن من عجلتك في نكبتي، ولكن قلت: أكون على حقّ، ومتمسّكا بحجّة وحزم، وإن جنى عليّ، وإن سلمت، فبفضل الله، وإن هلكت فالله يخلّصني.
قال: فخجل حامد، واعتذر إليه وقال: اخرج الآن، وخذ بيد المحسّن، وتوسّط أمره، وخفّف محنته.(3/186)
123 من شعر المهلبي الوزير
وجدت بخطّ المهلّبي الوزير «1» ، كتابا إلى أبي سلمة، أهداه إليّ، وقال:
هذا كتابه إليّ، وهو بالخطّ الذي أعرفه، وفيه لنفسه:
وصل الكتاب طليعة الوصل ... بغرائب الأفضال والفضل
فشكرته شكر الفقير إذا ... أغناه ربّ المال بالبذل
وحفظته حفظ الأسير إذا ... ورد الأمان له من القتل
ووجدت بخطّ أبي محمد، كتابا، إلى أبي القاسم بن بلبل، كتب إليه به، وهو صغير الحال جدّا، وفيه:
طلع الفجر من كتابك عندي ... فمتى باللقاء يبدو الصباح [158]
ذاك إن تمّ لي فقد عذب العيش ... ونيل المنى وريش الجناح
وله إلى غيره:
جاد لي بالعتاق «2» من صرف دهري ... بكتاب يسرّني أو رسول
فعلى قدر ما تكلّف من وصلي ... لعلمي بقطعه للوصول
أشكر البذل من جواد وأزداد ... إذا البذل جاءني من بخيل
وله أيضا:
أمثلي يا أخي وشقيق روحي ... يفارق عهده عند الفراق(3/187)
ويسلو سلوة من بعد بعد ... وينسبه الشقيق إلى الشقاق
وأقسم بالعناق، وتلك أوفى ... وأشفي من يميني بالعتاق
لقد ألصقت بي ظنّا ظنينا ... تجافى جانباه عن التصاق
وله أيضا:
فديت أخا يواصلني بكتب ... أسرّ من البشارة حين تاتي [159]
أخ لم يرض لي بالوصل حتى ... حباني بالبقيّة «1» من حياتي
وله أيضا:
ورد الكتاب فديته من وارد ... فيه لقلبي من حياتي مورد
فرأيته كالدرّ نضّد عقده ... في كلّ فصل منه، فصل مفرد(3/188)
124 قال الخليفة المقتدر
ما ظننت أنّ في الدنيا من يأكل طعاما بلا حلوى بعده حدّثنا أبو منصور القشوري، وكان من الجند المولّدين، قال:
كنت أخدم وأنا حدث، في دار نصر القشوري «1» ، المرسومة بالحجبة من دار المقتدر بالله «2» .
فركب المقتدر بالله يوما، على غفلة، وعبر إلى بستان الخلافة، المعروف بالزبيدية، وأنا مشاهد لذلك، في نفر من الخدم والغلمان، وتشاغل أصحاب الموائد، والطبّاخون، بحمل الآلات، والطعام، وتعبيتها في الجون «3» ، فانفلّت «4» ، وأعجل هو في طلب الطعام، فقيل له: لم يحمل بعد.
فقال: انظروا ما كان.
فخرج الخدم، محتارين، ليس يجسروا يعودوا، فيقولوا ما جا شي «5» [160] ، وهم يتشاورون فيما يفعلونه.(3/189)
فسمعهم جعفر، ملّاح طيّار المقتدر، الرئيس على الملاحين الذين برسم الخدمة، فنادى عليهم، وقال: معي طعام.
قال: فهاتم ما معه.
فأخرج من تحت الطيّار، جونة مليحة، خيازر «1» ، لطيفة، فيها جدي بارد «2» ، وسكباج مبرّد «3» ، وبزماورد «4» ، وإدام «5» ، وقطعة مالح ممقور «6» طيّبة، وأرغفة سميذ جيّدة «7» ، وكل ذلك نظيف، وإذا هي جونة تعمل له في منزله، في كلّ يوم، وتحمل إليه، فيأكلها في موضعه في الطيّار، ويلازم الخدمة.
فلمّا حملت إلى المقتدر، استنظفها، وأكل منها، واستطاب المالح، والإدام، فكان أكثر أكله منه.
ولحقته الأطعمة من مطبخه، فقال: ما آكل اليوم، إلّا من طعام جعفر الملّاح، فأتمّ أكله منه، وأمر بتفريق الطعام على من حضر.
ثم قال: قولوا له: هات الحلوى.
فقال: نحن لا نعرف الحلوى.
فقال المقتدر: ما ظننت أنّ في الدنيا من يأكل طعاما، بلا حلوى بعده.(3/190)
فقال الملّاح: حلوانا [161] التمر، والكسب «1» ، فإن تنشط له أحضرته.
قال: لا، هذا حلو صعب، لا أطيقه، فاحضروا من حلوانا.
فأحضرت عدّة جامات، فأكل، وجلس للشرب.
ثم قال لصاحب المائدة: اعمل في كلّ يوم جونة، تنفق عليها، ما بين عشرة دنانير، إلى مائتي درهم، وسلّمها إلى جعفر الملّاح، تكون برسم الطيّار أبدا، فإن ركبت يوما على غفلة، كما ركبت اليوم، كانت معدّة، وإن حان المغرب، ولم أركب، كانت لجعفر.
فعملت، إلى أن قتل المقتدر، وكان جعفر يأخذها، وربما حاسب عليها الأيّام، وأخذها دراهم.
وما ركب المقتدر بعدها، على غفلة، ولا احتاج إليها.(3/191)
125 الخليفة المعتضد يأمر بصنع جزورية
ويشبه هذا، ما بلغني عن المعتضد، أنّه طلب يوما لونا من طعام، فقيل له: ما عمل اليوم.
فأنكر ذلك، وقال: يجب أن لا يخلو المطبخ من كلّ شيء، حتى إذا طلب لم يتعذّر.
ووقّع إلى ديوان النفقات بإقامة ذلك اللون، إلى أن يرد التوقيع بقطعه، فكان يصلح، وينفق عليه دراهم [162] كثيرة، ولا يحضر المائدة، توقّعا أن يطلبه، فيقدّم عند الطلب، كما رسم.
فمضى على ذلك سنة، ولم يطلبه.
ثم رفعت إليه حسبة «1» ، وكان يقف بنفسه على حسباناته، فرأى ما أنفق على ذلك اللون في طول السنة، فاستهوله، وقال: أستغفر الله، ينفق لي من مال المسلمين، على لون لم آكله، هذا كلّه، إنّ هذا لعين السرف، اقطعوا عمله، ولا تقع معاودة لمثل هذا، في هذا ولا في غيره.
وقالوا: كان اللون جزوريّة، فكان يذبح له الطبّاخ في كل يوم قلوصا «2» ، فلذلك عظمت النفقة.
وقالوا: بقريّة، فكان يذبح في كل يوم عجلا.(3/192)
وقالوا: مضيرة»
بفراريج، كلّ ذلك سمعته «2» .(3/193)
126 اللهم أنقذنا من ذلّ الطمع
حدّثنا أبو إسحاق، إبراهيم بن [أحمد بن] محمد بن أحمد، الشاهد، المعروف بالطبريّ «1» ، قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن صالح الأبهري «2» ، الفقيه المالكي، وهو باق إلى الآن «3» ، ومحلّه مشهور في الورع والعلم، قال:
رأيت في المنام، رجلا من الزهّاد، ذكره لي، وكأنّي [163] أطلبه، فخرج عليّ، من بين نخل، وعليه فوطتان، متّزر بإحداهما، متّشح بالأخرى، كأنّه سنديّ «4» .
فقلت له: قل لي شيئا، أو عظني بشيء.
فقال: قل: اللهم قصّر أملي، وحسّن عملي، واستنقذني من ذلّ الطمع.(3/194)
127 آلى على نفسه أن لا يأكل لحم فيل أبدا
وحدّثنا «1» ، قال «2» : حدّثنا جعفر الخلدي «3» ، قال: حدثني الخوّاص الصوفيّ «4» ، قال:
ركبت في البحر، مع جماعة من الصوفيّة، فلمّا أوغلنا فيه كسر بنا، وركبنا خشبا من خشب المركب، ونجا منّا جماعة، فوقعنا إلى ساحل لا ندري أين هو، ولا ما هو، فأقمنا فيه أيّاما، لا نجد ما نقتاته، وأحسسنا بالهلاك.
فاجتمعنا، وقال بعضنا لبعض: تعالوا حتى نجعل لله عز وجل، على أنفسنا، إن هو خلّصنا من هذا المكان، وأحيانا، أن ندع له شيئا.
فقال بعضنا: لا أفطر الدهر.
وقال بعضنا: أصلّي كلّ يوم كذا وكذا ركعة.
وقال بعضنا: أدع الكذب.
إلى أن قال كلّ واحد من الجماعة شيئا، وقالوا لي: ما تقول أنت؟
فقلت: لا آكل لحم فيل أبدا [164] .(3/195)
فقالوا: ما هذا الهزل في مثل هذا الموضع؟
فقلت: والله، ما تعمّدت الهزل، ولكني منذ بدأتم، أعرض على نفسي شيئا، أدعه لله عزّ وجلّ، فلا تطاوعني نفسي، إلى غير هذا الذي لفظت به، وما قلت إلا ما اعتقدته.
فقالوا: لعلّ لهذا أمرا.
وتفرّقنا بعد ساعة، نطوف تلك الأرض، نطلب شيئا للأكل، فوقعنا على فرخ فيل، في نهاية السمن، فأخذه أصحابنا، واحتالوا فيه، حتى ذبحوه، وشووه.
وقالوا: تقدّم، فكل.
فقلت: منذ ساعة، تركته لله عزّ وجلّ، ولعلّ ذلك الذي جرى على لساني من ذكره، إنّما هو سبب موتي، لأنّي لم آكل منذ أيّام شيئا، ولا أطمع في شيء آخر آكله، وما يراني الله انقض عهده، فكلوا، واعتزلتهم.
فأكلوا، وشبعوا، وعاشوا «1» ، وأقبل الليل، فتفرّقوا في مواضعهم التي كانوا يبيتون فيها، وأويت إلى أصل شجرة، كنت أبيت عندها.
فلم يكن إلّا ساعة، وإذا بفيل، أقبل من الموضع الذي استخرجنا منه الفرخ [165] ، وهو ينعر، والصحراء قد امتلأت بنعيره، وشدّة وطأته، وهو يطلبنا.
فقال بعضنا لبعض: قد حضر الأجل، فاستسلموا، وطرحوا أنفسهم إلى الأرض، على وجوههم.
فجاء الفيل، وجعل يقصد واحدا واحدا، فيشمّه من أوّل جسده، إلى(3/196)
آخره، فإذا لم يبق منه موضع إلّا شمّه، شال إحدى قوائمه، فوضعها على الرجل، حتى يفسّخه، فإذا علم أنّه قد تلف، شال قائمته، وقصد الآخر، ففعل به، مثل فعله بالأوّل.
وظلّ على هذا، إلى أن لم يبق غيري، وأنا جالس منتصب، أشاهد ما يجري، وأدعو، وأستغفر، ما طرحت نفسي، ولا هربت، إلى أن قصدني، فحين قرب مني، طرحت نفسي على ظهري، فجاء حتى تشمّمني من سائر أعضائي، أو أكثرها، كما فعل بأصحابي، ثم أعاد تشمّمي مرتين، أو ثلاثا، ولم يكن فعل ذلك بهم، ثم لفّ خرطومه عليّ، وشالني في الهواء، فقلت: هذه قتلة أخرى، يريد أن يقتلني بها، فما نحّى خرطومه عنّي، حتى جعلني فوق ظهره، فانتصبت جالسا، وحفظت [166] نفسي، وحمدت الله سبحانه على تأخرّ القتل، وجعلت أعجب مرّة، وأتوقّع القتل أخرى، والفيل يهرول، ويسرع، إلى أن أضاء الفجر، فوقف، وأصعد خرطومه إليّ، فقلت: حضر الأجل، فلفّه عليّ، وأنزلني على رفق إلى الأرض، وتركني عليها، وجعل يسعى في الطريق التي جاء منها، وأنا لا أصدّق.
فلما بعد عني، حتى لم أره، أقبلت أدعو وأصلّي، وتأمّلت موضعي، وإذا أنا على محجّة، فمشيت عليها نحو فرسخين، فإذا بلد عظيم، قد لاح لي، فقصدته، ودخلته، فإذا هو بلد من بلدان الهند عظيم، وذكر اسمه.
قال: فعجب أهله منّي، وسألوني عن قصّتي، فأخبرتهم بها، فزعموا أنّ الفيل، قد سار في هذه اللّيلة الواحدة، مسيرة أيّام.
وتسبّبت إلى الخروج من عندهم، والنقلة من بلد إلى بلد، حتى حصلت في بلدي سالما.(3/197)
128 يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه
قال «1» : حدّثني جعفر «2» ، قال:
ودّعت في بعض حجاتي، المزيّن الكبير الصوفيّ «3» ، وقلت له: زوّدني شيئا.
فقال: إن ضاع [167] منك شيء، وأردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان، فقل:
«يا جامع النّاس ليوم لا ريب فيه، إنّ الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا» ، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء، أو ذلك الإنسان «4» .(3/198)
129 طلسم لإزالة الغم
قال «1» : فجئت إلى الكتّاني الكبير «2» الصوفيّ، فودّعته، وقلت له:
زوّدني شيئا، فأعطاني فصّا عليه نقش كأنّه طلسم، وقال: إذا اغتممت فانظر إلى هذا، فإنّ غمّك يزول.
قال: وانصرفت، فما دعوت الله بتلك الدعوة في شيء، إلّا استجيبت، ولا رأيت الفصّ، وقد اغتممت، إلّا وزال غمّي.
فأنا ذات يوم أعبر، قد توجّهت إلى الجانب الشرقيّ من بغداد، حتى هاجت ريح عظيمة، وأنا في السميريّة، والفصّ في جيبي، فأخرجته لأنظر إليه، فلا أدري كيف ذهب مني، في الماء، أو في السفينة، أو [في] ثيابي.
فاغتممت غمّا عظيما، فدعوت الله تعالى، وعبرت، وما زلت أدعو الله تعالى بها يومي وليلتي، ومن غد، وأيّاما.
فلما كان بعد ذلك، أخرجت [168] صندوقا فيه ثيابي، لألبس شيئا منها، ففرّغت الصندوق، فإذا أنا بالفصّ، في أسفل الصندوق.
فأخذته، وشكرت الله عزّ وجلّ «3» .(3/199)
130 رقية تنفع من لسعة العقرب
وحدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن البهلول التنوخيّ «1» ، قال:
حدّثني أحمد بن الطيّب «2» ، قال:
كنت بحضرة المعتضد «3» ، فجاء رجل يصيح بالباب: نصيحة، فأخبر بذلك، فقال: اخرجوا إليه، وقولوا له يذكرها.
فعادوا، وقالوا: قد قال: لا أذكرها إلّا لأمير المؤمنين.
فقال: قولوا له: إن لم تكن نصيحة، بالغت في عقوبتك، فخرجوا، وعادوا، فقالوا: قد قال: رضيت.
فأدخل، وأنا حاضر، فسلّم على الخليفة.
فقال: ما نصيحتك؟
فقال: رقية وقعت إليّ، تحبس السمّ عن الملسوع، في الحال.
فقال المعتضد: هاتوا عقربا.
قال: فكأنّها كانت معدّة، فأتي بها في أسرع وقت، فأومى إلى الخادم بحضرته، فطرحت عليه، فلسعته، فصاح.
فقال له الرجل: أرني موضع اللسعة، فأراه، فأخرج [169] حديدة، لا حدّ لها، وجعل يمسح بها من أعلى موضع اللسعة والسمّ، إلى أسفل، ويقول:(3/200)
«بسم الله، أوم سرا، ومربهل، بني تعبه، كرواري، أنهج أنهج، بهشتن، يهوذا، له مهر، أستروم، لوبه، قرقر، سعلهه» .
ويكرّر ذلك دفعات، إلى أن قال الخادم، قد سكن الوجع عن يدي كليّة، إلّا موضع اللسعة، فإنّي أحسّ منه ببقيّة.
قال: أعطوني إبرة.
فجاءوه بها، ففتح الموضع، فخرج منه شيء أصفر، وقام الخادم معافى.
فأمر المعتضد، فكتبت الرقية، وخلّدت [في] الخزانة.
وأمر للرجل بجائزة سنيّة «1» .(3/201)
131 والرقية تنفع أيضا في لسعة الزنبور
قال لي أبو الحسن «1» ؛ وقد جرّبت «2» ، على الزنبور، فصحّت، وسبيلها أن تجرّب على الحيّة، لأنّ قوله: تحبس السمّ، يدخل كلّ ذلك تحته.
وأنا «3» رأيت أحمد بن يوسف، يرقي بهذه الرقية، على هذا الموضع، فيقوم الملسوع من بين يديه، يمشي وهو معافى.
حدّثني أبو الفرج، المعافى بن زكريا «4» ، الفقيه على مذهب أبي جعفر الطبريّ، أحد خلفاء قاضي القضاة [170] على بعض السواد، قال:
حدّثني أبو طالب بن البهلول القاضي «5» ، عن رجل، عن ابن الطيّب «6» ، بهذه الحكاية، هذا وأنسي أبو الفرج اسم الرجل، ولا أشك- والله أعلم- أنّه أبو أحمد الرازيّ.
هذه الحكاية منتشرة جدا في آل البهلول، عن هذا الرجل، عن ابن الطيّب، وجميعهم يرقي بها، وينقلها قولا وعملا.(3/202)
132 لأبي الحسن بن المنجم، يعاتب صديقا له
أنشدني أبو الحسن، عليّ بن هارون بن يحيى بن المنجّم «1» لنفسه، وكتب بها إلى عليّ بن هارون بن خلف بن طناب «2» ، في غيبة كان غابها، وتأخرت عنه كتبه، وفيه صنعة لأبي الحسن بن طرخان «3» :
بيني وبين الدهر فيك عتاب ... سيطول إن لم يمحه الإعتاب
يا غائبا بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب
ما غاب من لم ينأ صفو وداده ... والحاضرون وإن دنوا غيّاب [171]
لولا التعلّل بالرجاء تقطّعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من روح الإله فإنّه ... يصل القطوع فيقدم الغيّاب
فإذا دنوت مواصلا فهو المنى ... سعد المحب وساعد الأحباب
وإذا نأيت فليس لي متعلّل ... إلّا رسول بالرضا وكتاب(3/203)
133 لأبي الفتح بن المنجم في الغزل
أنشدني أبو الفتح، أحمد بن عليّ بن يحيى بن المنجّم «1» ، لنفسه، والقافية في الأبيات كلّها لفظة واحدة، باختلاف المعنى:
سيّدي أنت ومن عادته ... باعتداء أو بجور جاريه
وهذه الأبيات قد مضت في غير هذا الجزء من الكتاب «2» .(3/204)
134 لأبي أحمد بن سليمان متغزلا
أنشدني الأستاذ أبو أحمد الحسين بن محمد بن سليمان «1» ، لنفسه:
أيا من قدّه ألف ... ويا من صدغه لام [172]
لقد أكثرت لوّامي ... ولو أنصفت ما لاموا(3/205)
135 أشهدوا العدول على الخليفة المطيع لمّا خلع نفسه
وأخبرني شاهد من الشهود المقبولين ببغداد، وسألني أن لا أذكر اسمه وهو حيّ، فلذلك لم أسمّه، قال:
كنت أحد الشهود الأربعة، الذين أدخلوا مع قاضي القضاة، أبي محمد «1» ، وهو إذ ذاك، غير متقلّد شيئا من الأعمال «2» ، ومعنا أبو بكر الأصبهاني، صاحب سبكتكين التركيّ «3» ، مولى معزّ الدولة، لما وثب على الأمر، وتسمى بالإمارة «4» .(3/206)
فأدخلونا، وليس معنا سابع، حتى شهدنا على المطيع لله «1» ، بأنّه قد خلع نفسه «2» ، وقرأنا عليه رقعة الخلع «3» ، وقرّرناه بما فيها، وخرجنا.
فأدخلنا إلى دار أخرى، من دور الخلافة، حتى حصلنا بحضرة الأمير أبي بكر عبد الكريم «4» بن المطيع، فبايعناه بالخلافة، وسلّمنا عليه بها، وخرجنا، فجلسنا في مجلس قريب من مجلسه، لنوقّع خطوطنا بالشهادة في كتاب الخلع «5» .
قال: واستسقى أمير المؤمنين الطائع، ماء، فجاء بعض الخدم، بكوز فيه [173] ماء، فشرب، وخرج، فرأيت الكوز، وكنت عطشانا، فقلت له: يا أستاذ، اسقني، فجاءني بماء في ذلك الكوز بعينه، فشربت منه.
وكتبنا خطوطنا، وخرجنا.(3/207)
136 الأمير الراسبي يأمر بقتل أحد المجرمين على مائدته
كان أبو محمد المهلّبي، يكثر الحديث على طعامه، ويكون أطيب الحديث، وأكثره مذاكرة بالأدب، وضروب الحديث، على المائدة، لكثرة من يجمعهم عليها من العلماء والكتاب والندماء، وكنت كثيرا ما أحضر.
فقدّم إليه في بعض الأيّام طيهوج «1» ، فقال: أذكرني هذا، حديثا طريفا.
فسئل: ما هو؟
فقال: أخبرني بعض من كان يعاشر الراسبيّ الأمير «2» ، قال:
كنت آكل معه يوما، وعلى المائدة خلق عظيم، فيهم رجل من رؤساء الأكراد المجاورين لعمله، وكان ممّن يقطع الطريق، فاستأمن إليه، فأمّنه، واختصّه، وطالت أيّامه معه.
فكان في ذلك اليوم على مائدته، إذ قدّم حجل، فألقى الراسبيّ منه(3/208)
واحدة إلى الكرديّ، كما يلاطف الرؤساء مواكليهم [174] ، فأخذها الكرديّ، وجعل يضحك.
فتعجّب الراسبيّ من ذلك، وقال: ما سبب هذا الضحك؟ وما نرى ما يوجبه.
فقال: خبر كان لي.
فقال: أخبرني به.
فقال: شيء طريف، ذكرته، لمّا رأيت هذه الحجلة.
قال: ما هو؟
فقال: كنت أيّام قطعي الطريق، وقد اجتزت في بعض المحجّة.
الفلانيّة، في الجبل الفلاني، وأنا وحدي، في طلب من آخذ ثيابه، حتى استقبلني رجل وحده، فاعترضته، وصحت عليه، فاستسلم إليّ، ووقف، فأخذت ما كان معه، وطالبته أن يتعرّى، ففعل، ومضى لينصرف.
فخفت أن يلقاه في الطريق، من يستنفره على طلبي، فأطلب، وأنا وحدي، فأؤخذ، فقبضت عليه، وعلوته بالسيف، لأقتله.
فقال: يا هذا، أيّ شيء بيني وبينك، قد أخذت ثيابي، وعرّيتني، ولا فائدة لك في قتلي.
فكتّفته، ولم ألتفت إلى قوله، وأقبلت أقنّعه «1» بالسيف.
فتلفّت، كأنّه يطلب شيئا، فرأى حجلة قائمة، وهي على الجبل، فقال: يا حجلة، اشهدي لي [175] عند الله تعالى أنّي أقتل مظلوما.
فما زلت أضربه، حتى قتلته، وسرت، فما ذكرت هذا الحديث، حتى رأيت هذه الحجلة، فذكرت حماقة ذلك الرجل، فضحكت.(3/209)
قال: فانقلبت عين الراسبي حردا «1» ، وقال: لا جرم إنّ شهادة الحجلة عليك لا تضيع اليوم، في الدنيا قبل الآخرة، وما أمنتك إلّا على ما كان منك من فساد السبيل، فأمّا الدماء، فما أسقطها الله عنك بالأمان، وقد أجرى الله على لسانك الإقرار عندي، يا غلام، اضرب عنقه.
قال: فبادر الغلام إليه، وغيره، بسيوفهم يخبطونه، وضرب كل واحد منهم قفاه، فكأنّ رأسه قثّاءة قطعت نصفين.
فتدحرج رأسه بين أيدينا، ونحن على المائدة، وجرّت جثته.
ومضى الراسبي في الأكل.(3/210)
137 رقعة إلى رجل تزوجت أمه
أملى عليّ أبو إسحاق، إبراهيم بن هلال الكاتب، الصابئ «1» ، نسخة رقعة إلى رجل زوّج أمّه، كتبها إليه:
قد جعلك الله، وله الحمد، من أهل التحصيل، والرأي الأصيل، وصحة الدين، وخلوص اليقين، كما أنّك لا [176] تتّبع الشهوة في محظور تحلّه، فكذلك لا تطيع الأنفة في مباح تحظره، وتأدّى إلينا من إيقاعك العقد، بين الوالدة- نفّس الله لها في مدّتك- وبين فلان، ما علمنا أنّك بين طاعة للديانة توخّيتها، ومشقّة فيها تجشّمتها، فإنّك جدعت أنف الغيرة لها، وأضرعت خدّ الحميّة فيها، وأسخطت نفسك لرضاها، وعصيت هواك لرأيها، فنحن نهنّئك بعزيمة صبرك، ونعزّيك عن فائت مرادك، ونسأل الله الخيرة لك، وأن يجعلها أبدا معك، فيما شئت وأبيت، وتجنّبت وأتيت، والسلام.(3/211)
138 رقعة الصابي إلى الوزير ابن بقية
وأنشدني «1» لنفسه، قال: وكتبت بها وأنفذتها إلى [الوزير ابن بقيّة وهو في] «2» حضرة الأمير «3» ، [وقد كان] وعدني بتخليصي «4» ، فأخّر ذلك «5» :
أيا ناصرا للدين والدولة التي ... رددت إليها العزّ إذ فات ردّه
أيعجزك استخلاص عبدك بعد ما ... تخلّصت مولاك الذي أنت عبده «6»(3/212)
139 تملّكت يا مهجتي مهجتي
أنشدني رجل مصريّ، قال: أنشدني أبو الفتح الكاتب «1» ابن [177] البكتمري، رجل باق بالشام، من أهلها، لنفسه:
تملّكت يا مهجتي مهجتي ... وأسهرت يا ناظري ناظري
وما كان ذا أملي يا ملول ... ولا خطر الهجر في خاطري
وفيك تعلّمت نظم الكلام ... فلقّبني الناس بالشاعر
140 لا فكك الله
أنشدني ابن غسّان المتطبّب البصريّ «2» :
أفدي من السوء مولى بات معتنقي ... وقد أمال إليّ طائعا فاه
وكلما قلت يا مولاي أوثقني ... لك الهوى قال لي: لا فكّك الله(3/213)
141 كيف كان الأبزاعجي صاحب شرطة بغداد يحقّق مع المتّهمين
حدّثني أبو القاسم بهلول بن أبي طالب القاضي وهو محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخيّ، قال: حدّثني صاحب الربع، بباب الشام «1» ، وأسماه لي، قال:
كنت أعمل في أصحاب الشرط، مع أبي الحسن الأبزاعجيّ، صاحب الشرطة ببغداد «2» ، فأخرج لصوصا من الحبس، واستأذن معزّ الدولة في صلبهم، وقتلهم عند الجسر، فأذن في صلبهم عشيّا، وكانوا [178] عشرين رجلا، ووكّل بهم جماعة كنت فيهم، والرئيس علينا فلان.
وقال: كونوا عند خشبهم بقيّة يومكم وليلتكم، حتى إذا كان من غد، ضربت أعناقهم هنا.
وقضينا الليل نوما، فثقل رئيسنا في نومه، وجماعتنا.
فاحتال بعض اللصوص، في أن قطع الحبل، ونزل من الخشبة، فما انتبهنا، إلّا بصوت وقعه، وعدوه.
فعدا رئيسنا خلفه، وأنا معه، فما لحقناه.(3/214)
وخفنا أن يتشوّش الرجّالة الباقون، فيفلت إنسان آخر، فرجعنا مسرعين، وجلسنا مغمومين، مفكّرين ماذا نعمل.
فقال رئيسنا: إنّ الأبزاعجيّ لا يقيل لي عثرة، ولا يقبل مني عذرا، ويقع له أنّني قد أخذت من أحد اللصوص مالا وأفلتّه، فيضربني للتقرير، فلا أقرّ، فيقع له، أنّني أتجلّد عليه، فيمرّ الضرب عليّ، إلى أن أتلف، فما الرأي؟
فقلت: تهرب.
قال: فمن أين أعيش؟
فقلت: هذا نصف اللّيل، ولم يعلم بما جرى أحد، فقم حتى نطوف، فلا يخلو أن يقع بأيدينا مشؤوم، قد حانت منيّته، فنوثقه، ونصلبه، ونقول له: سلّمت إلينا [179] عشرين رجلا، فإنّه ما أثبت حلاهم «1» .
فقال: هذا صواب.
فقمنا نطوف، وسلكنا طريق الجسر، لنعبر [إلى] الجانب الغربيّ، فرأينا في أسفل كرسيّ الجسر رجلا يبول، فعدلنا إليه، فقبضنا عليه.
فصاح: يا قوم ما لكم؟ أنا رجل ملّاح، صعدت من سميريّتي أبول، وهذه سميريّتي- وأومأ إليها- أيّ شيء بيني وبينكم؟
فضربناه، وقلنا: أنت اللّص الذي هرب من الخشبة، وجبناه «2» ، ورقيناه إلى الخشبة، وصلبناه مكان اللّص الهارب، وهو يصيح طول الليل، ويبكي.
فتقطّعت قلوبنا رحمة له، وقلنا: مظلوم، ولكن ما الحيلة؟(3/215)
فلما كان من الغد، ركب الأبزاعجي إلى الحبس، وجاء، وقد اجتمع الناس، ليضرب أعناق القوم.
فصاح به الملّاح: أيّها الأستاذ- وكذا كان يخاطب، وهو رسم لكلّ من يتقلّد رئاسة الشرطة ببغداد- بوقوفك بين يدي الله، أدعني، واسمع منّي كلامي، فلست من اللصوص الذين أخرجتهم، وأمرت بصلبهم، وأنا مظلوم، وقد وقعت بي حيلة.
فأنزله، وقال له: ما قصّتك؟
فشرح [180] له حديثه على حقيقته.
فدعا بنا، وقال: ما هذا الرجل؟
فقلنا: ما نعرف ما يقول، سلّمت إلينا عشرين رجلا، وهؤلاء عشرون رجلا.
فقال: قد أخذتم من أحد اللصوص دراهم، وأطلقتموه، واعترضتم هذا، من الطريق، رجلا، غريبا، بريئا، فأخذتموه.
فقلنا: ما فعلنا هذا، اللصّ الذي سلّمته إلينا، هو هذا.
فضرب أعناق الجماعة، وترك الملّاح، وقال: هاتم السجّانين، والبوّابين.
فجاءوا، فقال لهم: هذا من جملة العشرين الذين أخذناهم؟
فتأمّلوه، بأجمعهم، وقالوا: لا.
ففكّر ساعة، ثم أمر بإطلاقه.
ثم قال: هاتموه إليّ، فرددناه.
فقال: اشرح لي قصّتك، فأعاد عليه الحديث.
فقال له: في نصف الليل، أيّ شيء كنت تعمل هناك، في ذلك الموضع؟(3/216)
فقال: كنت قد بتّ في سماريّتي، فأخذتني بولة، فصعدت أبول.
قال: ففكّر ساعة، ثم قال له: اصدقني على الحقيقة، حتى أطلقك، أيّ شيء كنت تعمل هناك؟
فلم يخبره بغير ذلك.
قال: وكان من رسمه، إذا أراد أن يقرّر إنسانا، قرّره [181] وهو قائم بين نفسين، ووراءه جماعة بمقارع، فإذا حكّ رأسه، ضرب المقرّر، واحدة «1» جيّدة عظيمة، فيقول للذي ضربه: قطع الله يدك ورجلك، يا فاعل، يا صانع، من أمرك بضربه؟ ولم ضربته؟ تقدّم يا هذا، لا بأس عليك، أصدق، فقد نجوت.
فإن أقرّ، وإلا حكّ رأسه ثانية، وثالثة، أبدا على هذا، وكذا كانت عادته في جميع الجناة، وهو رسم له معروف، عند المتصرفين بحضرته.
قال: فلما أطال عليه الملّاح، حكّ رأسه، فضرب قفاه بعض القائمين، بمقرعة ضربة عظيمة.
فصاح الملّاح.
فقال الأبزاعجيّ: من أمرك بهذا، يا فاعل، يا صانع، قطع الله يديك.
ثم قال للملّاح: اصدق، وانج بنفسك.
فقال له الملّاح: أيّها الأستاذ، الله شاهد عليك، أنّي آمن على نفسي وأعضائي، حين أصدق؟
فقال له: نعم.
قال: أنا رجل ملّاح، أعمل في المشرعة الفلانية، يعرفني جيراني بالستر، وقد كنت سرّحت سماريّتي، إلى سوق الثلاثاء «2» ، البارحة بعد(3/217)
العتمة، أتفرّج [182] في القمر، فنزل خادم من دار لا أعرفها.
فصاح: يا ملّاح؟
فقدّمت «1» .
فسلّم إليّ امرأة، نظيفة، حسنة، ومعها صبيّتان، وأعطاني دراهم صحاحا، وقال: احمل هؤلاء إلى المشرعة الفلانية، بباب الشمّاسية.
فصعدت بهم قطعة من الطريق، فكشفت المرأة وجهها، فإذا هي من أحسن الناس وجها، كالقمر، فاشتهيتها، فعلّقت مجاذيفي في الكرك «2» ، وأخرجت السفينة إلى وسط دجلة، وتقدّمت إلى المرأة، فراودتها عن نفسها، فأخذت تصيح.
فقلت لها: والله، لئن صحت، لأغرقنّك الساعة.
فسكتت، وأخذت تمانعني عن نفسها، واجتهدت بأن أقدر عليها، فما قدرت.
فقلت لها: من هاتان الصبيتان منك؟
فقالت: بناتي.
فقلت لها: أيّما أحب إليك، تمكّنيني من نفسك، أو أغرق هذه؟
وقبضت على واحدة منهن.
فقالت: أمّا أنا، فلا أطيعك، اعمل ما شئت.
فرميت إحدى الصبيّتين في الماء، فصاحت، فضربت فاها، وصحت معها: والله لا أطلّقك ولو قتلتني، ليشتبه ذلك، على من عساه [183] يسمع الصياح في الليل.(3/218)
فسكتت، وأخذت تبكي، ثم تركتها ساعة، وقلت لها: دعيي أفعل بك وإلّا غرّقت الأخرى.
فقالت: والله، لا فعلت.
فأخذت الصّبية الأخرى، فرميت بها في الماء، فصاحت، وصحت معها، ثم قلت لها: ما بقي الآن إلا قتلك، فدعيني، وإلّا قتلتك، وأخذت بيدها، وشلتها لأرمي بها إلى الماء.
فقالت: أدعك.
فرددتها إلى السماريّة، فمكّنتني من نفسها، فوطئتها.
وسرت، لأمضي بها إلى المشرعة، فقلت في نفسي: هذه الساعة تصعد إلى دارها، أو إلى الموضع الذي تأوي إليه، فتنذر بي، فأؤخذ، وأقتل، وليس الوجه إلّا تغريقها، فجمعت يديها، ورجليها، ورميت بها إلى الماء.
فحين غرقت، فكّرت فيما ارتكبته، وعظم ما جنيته، فندمت، وكنت كرجل كان سكرانا، فأفاق.
فقلت: أيّ شيء أعمل؟ ليس إلّا أن أنحدر إلى البصرة، وأغوص في أنهارها، فلا أعرف.
فانحدرت، فلما صرت حذاء الجسر، أخذتني بطني، وقلت: أصعد، وأتفسّح [184] ، وأعود إلى سماريّتي.
فصعدت، فأنا جالس أتغوّط، فما أحسست حتى قبض هؤلاء عليّ.
قال: فقال له الأبزاعجي، مطايبا: يا هذا، أيّ معاملة بين مثلك وبيني، انصرف بسلام.
فظنّ لجهله، أنّ ذلك حقيقة، فولّى لينصرف.
فصاح به، وقال: يا فتى، هوذا تنصرف، وتدعنا من حقّا «1» ؟ فلا(3/219)
أقلّ من أن ترجع لنحلّفك، أنّك لا تعود إلى مثل هذا.
فرجع.
فقال: خذوه، فأخذوه.
فقال: اقطعوا يده.
فقال: يا سيّدي، أليس قد أمنتني؟
فقال: يا كلب، وأيّ أمان لمثلك؟ قد قتلت ثلاثة أنفس، وزنيت، وأخفت السبيل.
قال: فقطعت يداه، ورجلاه، ثم ضربت عنقه، وأحرق جسده بالنار في مكانه.
142 لماذا لقب بالأبزاعجي
أخبرني من أثق إليه من أهل بغداد، أنّ الأبزاعجيّ، إنّما لقّب بذلك، لأنّه كان يخدم قائدا من غلمان الموفق «1» ، تركيّا، وكان يسمى أبزاعج، فلقب بالأبزاعجيّ لذلك.(3/220)
143 وكيل دعاوى يحرم من أجره فيعرقل حسم الدعوى
حدّثني أبو بكر بن عثمان الصيرفيّ، الشاعر، قال: سمعت عمر ابن أكثم «1» ، يقول:
كان قوم يريدون تثبيت وفاة [185] ، وعدد ورثة، عند أبي عمر القاضي «2» ، وكانوا قد ضمنوا للوكيل خمسين دينارا على ذلك.
فلما ثبت عند القاضي، عدد الورثة، بشهادة شاهدين، ساموه أن يأخذ منهم البعض، ويدع عليهم البعض.
فأخذ ما عفوا به «3» ، وتقدّم إلى القاضي، وخصومهم في المجلس، وقال:
قد وكّلني هؤلاء- أعز الله القاضي- وقد أخرجت نفسي من الأولين.
فقال: تكلّم.
فقال: شهد الشاهدان، عند القاضي، أنّهما لا يعلمان وارثا، غير من ذكروه، وعندي شاهدان عدلان، يعلمان وارثا آخر.
فقال: أحضرهما.
فقاموا، ودافع بالحكم، ولم يزل يدفع بهم شهرا، إلى أن جاءه الورثة، فقالوا: قد أهلكتنا.(3/221)
فقال: بما كسبت أيديكم، والله لأدفعنّ بأمركم سنة، أو تعطوني خمسين دينارا مستأنفة، لأمسك.
وأعطوه ما طلب، وتقدّم، فقال: لا بيّنة لي.
فحكم القاضي لهم.
144 إذا صرف الأمين زائدا عن الحاجة ألزم بتعويضه من ماله
وحدّثنا أبو بكر «1» ، قال: حدّثنا عمر بن أكثم، قال:
تقدّم يتيم كان في حجر أمين من [186] أمناء القاضي أبي جعفر بن البهلول «2» ، إليه، وقد بلغ وفكّ حجره، فقال: أيها القاضي، إنّ فلانا الأمين، ضيّع من مالي هذا، كذا وكذا، وأنا أطالبه به.
فقال: هاه، هاه «3» ، أتقول [هذا] لأمين ثابت الأمانة عندي؟
فقال: أيّها القاضي، لم أقل خان فيه، ولكنّه أنفق عليّ أكثر مما كنت أحتاج إليه، بكذا وكذا، وهذا تضييع.
فدعا أبو جعفر الأمين، فسأله، فأقّر بذلك.
فألزمه المال في ذمّته.(3/222)
145 رؤيا عبد الملك بن مروان وتفسيرها
حدّثنا «1» أبو القاسم بن بشر الآمدي «2» ، قال: قال لي أبو أحمد طلحة ابن الحسن بن المثنى «3» ، يوما، وقد تجاذبنا على خلوة، الحديث فيما بينه وبين أبي القاسم البريديّ «4» ، وتدبير كلّ واحد منها على صاحبه في القبض عليه، وأنا أشير عليه أن يهرب عن البصرة، ولا يقيم، وأنّه لا يجب أن يغترّ «5» .
قال: لست أفكّر في هذا الرجل، لألوان كثيرة، منها رؤيا رأيتها منذ ليال كثيرة، فقلت: ما هي؟
قال: رأيت ثعبانا عظيما، قد خرج عليّ من هذا الحائط- وأومأ(3/223)
بيده إلى حائط في مجلسه- وهو [187] يريدني، فطلبته، وضربته، فأثبتّه في الحائط، فتأوّلت أنّ ذلك الثعبان، البريديّ، وأنّي أغلبه.
قال: فحين قال: فأثبتّه في الحائط، سبق إلى قلبي، أنّ البريديّ، هو الثابت، وأنّ الحائط، حائطه، دون أبي أحمد، فأردت أن أقول له:
إنّ الخبر مستفيض، بما كان عبد الملك رأى في منامه، كأنّه وابن الزبير، قد اصطرعا في صعيد من الأرض، فطرح ابن الزبير عبد الملك تحته على الأرض، وأوتده بأربعة أوتاد فيها، وإنّه أنفذ راكبا إلى البصرة، فلقي ابن سيرين، فقصّ عليه الرؤيا، كأنّها له، وكتم ذكر ابن الزبير.
فقال له ابن سيرين: هذه الرؤيا ليست رؤياك، ولا أفسّرها لك.
فألحّ عليه.
فقال: يجب أن تكون رؤيا عبد الملك، فإن صدقتني، فسّرتها لك.
فقال: هو كما وقع لك.
فقال: قل له: إن صحّت رؤياك هذه، فستغلب ابن الزبير على الأرض، ويملك الأرض من صلبك، أربعة ملوك.
فمضى الرجل إلى عبد الملك، فأخبره، فعجب من فطنة ابن سيرين، وقال: ارجع إليه، وقل له: من [188] أين قلت هذا؟
فرجع الرجل إليه.
فقال له: إنّ الغالب في النوم مغلوب، وتمكّنه على الأرض غلبة عليها، والأوتاد الأربعة، التي أوتدها في الأرض، هم ملوك يتمكّنون في الأرض، كما تمكّنت الأوتاد.
قال أبو القاسم الآمديّ: فأردت أن أقول لأبي أحمد، هذا، وما وقع(3/224)
لي من القياس عليه، في تعبير رؤياه، فكرهت ذلك، لأنّه كان يكون سوء أدب، وقباحة عشرة، ونعيا لنفسه.
فما مضت الأيّام، حتى قبض البريدي عليه، وكان من أمره ما كان «1» .
146 أبو أحمد بن المثنى ومناماته التي لا تخطئ
وكان ممّن حضر عندي، لمّا حدّثني أبو القاسم بهذا الخبر، أبو القاسم عمر بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحسن بن المثنى، فقال:
كانت لجدّي «2» ، منامات طريفة لا تخطئ، فمنها: إنّي كنت بحضرته، وأنا صبيّ، في تربة جدّي لأمي، وعم أبي، أبي الحسين «3» ، [فقال لنا:
إنّي رأيت البارحة مناما، فقد أبصرت ثلاثة قبور قد احتفرت، أوّلها لحسان، والثاني لابي الحسين أخي، والثالث لي من بعده، وقد أبصرت حسّان نائما في قبره، وأبصرت أبا الحسين قاعدا في القبر، أمّا أنا فقد كنت أقعد في القبر وأقوم في حركة دائبة، وكأنّ هاتفا يهتف بي، إنّ عمرك وعمر أخيك(3/225)
واحد، وقد توفّي أخي منذ سنة] «1» وما أظن بيني وبين أخي إلا سنة.
قال: فقال له من حوله: يبقي الله الشيخ، ويفعل به ويصنع.
قال: فانصرف من التربة، فلما كان في اليوم السابع من ذلك الحديث، [189] قبض عليه أبو القاسم البريديّ، في يوم الخميس، غرّة شعبان، سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فأقام في يده دون ثلاثة أشهر، ثم قتله في حبسه، في شوّال، بحيلة احتالها له، عبدان المتطبب، لعنه الله، في شيء سقاه.
فقال أبو القاسم الآمدي: كنت حاضرا ابتداء المجلس، ولما أخبر رؤياه، تأوّلها تأوّلا غير ما وقع، وهو: إنّ نوم حسّان في قبره سلامة متينة، وإنّ قعود أبي الحسين، لأنّ الحال التي مات بها، أشدّ من حال حسان، لأنّه فلج سنين، فعاش مبتلى، قد نقص من صحته، ورأى في نفسه ما لا يحبّه، وإنّ وفاة أبي أحمد تكون بحال هي أشدّ من ذلك كله، بحسب قعوده وقيامه في المشقّة، وفرق ما بين القعود والنوم والراحة.
فمات أبو أحمد، مقتولا، بعد الحبس والنكبة، والفقر والذلّة.(3/226)
147 قاضي شيراز يحكم بين صوفيّ وصوفية
حدّثني أبو القاسم عبد الرحيم بن جعفر السيرافي، الفقيه، المتكلم، المعروف بابن السماك رحمه الله، قال:
حضرت بشيراز، عند قاضيها أبي سعد بشر بن الحسن [190] الداودي، وقد ارتفع إليه صوفيّ وصوفيّة.
قال: وأمر الصوفيّة هناك مفرط جدّا، حتى يقال إنّ عددهم ألوف، رجال ونساء.
قال: فاستعدت المرأة على زوجها إلى القاضي، فلمّا حضرا، قالت له:
أيّها القاضي، هذا زوجي يريد أن يطلّقني، وليس له ذلك، فإن رأيت أن تمنعه.
قال: فأخذ أبو سعد، يعجّبني من هذا الكلام، وينبّهني على مذاهب الصوفيّة فيه.
ثم قال لها: كيف ليس له ذلك؟
قالت: لأنّه تزوّج بي، ومعناه قائم، والآن يذكر أنّ معناه قد انقضى منّي، وأنّ معناي قائم فيه ما انقضى، فيجب أن يصبر، إلى أن ينقضي معناي فيه، كما انقضى معناه منّي.
فقال لي أبو سعد: كيف ترى هذا الفقه؟
ثم أصلح بينهما، وخرجا من غير طلاق.(3/227)
148 ابن خفيف شيخ الصوفية بشيراز يتكلّم على الخطرات والوساوس
أخبرني جماعة من أهل العلم: أنّ بشيراز رجلا يعرف بابن خفيف البغداديّ، شيخ الصوفيّة هناك، يجتمعون إليه، فيتكلّم على الخطرات «1» والوساوس «2» ، ويحضر [191] حلقته ألوف من الناس، وأنّه فاره، فهم، حاذق، وأنّه قد استغوى الضعفى من الناس، إلى هذا المذهب.
قال: فمات رجل صوفي من أصحابه، وخلّف زوجة صوفيّة، فاجتمع النساء الصوفيات- وهنّ خلق كثير- ولم يختلط بمأتمها غير هنّ.
فلما فرغوا من دفنه، دخل ابن خفيف، وخواصّ أصحابه- وهم عدد كثير- إلى الدار، وأخذ يعزّي المرأة، بكلام من كلام الصوفيّة، إلى أن قالت: قد عزيت «3» .
فقال لها: هاهنا غير؟
فقالت: لا غير.
قال: فما معنى التزام النفوس، آفات الهموم، وتعذيبها بعذاب الغموم؟
ولأيّ معنى نترك الامتزاج، لتلتقي الأنوار، وتصفو الأرواح، وتقع الإخلافات، وتنزل البركات؟(3/228)
قال: فقالت النساء: إذا شئت.
قال: فاختلط جماعة الرجال، بجماعة النساء، طول ليلتهم، فلما كان سحرا خرجوا.
قوله: هاهنا غير؟، أي: هاهنا غير موافق في المذهب؟
فقالت: لا غير، أي ليس من مخالف.
قوله: نترك الامتزاج، كناية عن الوطء، من الممازجة.
وقوله: لتلتقي [192] الأنوار، على أصلهم إنّ في كل جسم نورا إلهيا.
وقوله: الإخلافات، أن يكون خلف لكل من مات أو غاب من أزواجكنّ.
وهذا عندي عظيم، ولولا أنّ جماعة أخبروني، يبعدون عندي عن الكذب، ما حكيته، لعظمه عندي، واستبعاد مثله أن يجري في دار الإسلام.
وبلغني أنّ هذا ومثله، شاع، حتى بلغ الأمير عضد الدولة، فقبض على جماعة منهم، وضربهم بالسياط، وشرّد جماعة منهم، وشتّت جموعهم، فكفّوا.(3/229)
149 من شعر أبي فراس الحمداني
لأبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان «1» ، لما أسر «2» :
ما للعبيد من الذي ... يقضي به الله امتناع
ذدت الأسود عن الفرائس ... ثم تفرسني الضباع «3»
وله إلى سيف الدولة، قصيدة اخترت منها قوله:
أيدرك ما أدركت إلا ابن همّة ... يمارس في كسب العلى ما أمارس
يضيق مكاني عن سواي لأنّني ... على قبّة المجد المؤثّل جالس «4» [193]
وقال، وقد حضر العيد، وهو ببلد الروم أسير:
يا عيد ما جئت «5» بمحبوب ... على معنّى القلب مكروب
يا عيد قد عدت على ناظر ... عن كل حسن فيك محجوب
يا وحشة الدار التي ربّها ... أصبح في أثواب مربوب
قد طلع العيد على أهلها ... بوجه لا حسن ولا طيب
ما لي وللدهر وأحداثه ... لقد رماني بالأعاجيب «6»(3/230)
وله في الأسر قصيدة أوّلها:
أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر «1»
ويقول فيها:
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معلّلتي بالوعد «2» والموت دونه ... إذا متّ عطشانا «3» فلا نزل القطر
وإنّي لنزّال بكلّ مخوفة ... كثير إلى نزّالها النظر الشزر [194]
وأصدى إلى «4» أن ترتوي الأرض والقنا ... وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر
ولا أصبح الحيّ الخلوف بغارة ... ولا الجيش ما لم يأته قبلي النذر
ويا ربّ دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى أنا والفجر
وحيّ رددت الجيش حتى ملكته ... هزيما ورّدتني البراقع والخمر
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى ... ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي بالمال أبغي وفوره ... إذا لم أفر عرضي فلا وفر الوفر
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربّه غمر
ولكن إذا حمّ القضاء على امرىء ... فليس له برّ يقيه ولا بحر [195]
ويقول فيها:
وقال أصيحابي الفرار أو الردى ... فقلت هما أمران أحلاهما مرّ
ولكنّني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
ولا خير في دفع الردى بمذلّة ... كما ردّها يوما بسوءته عمرو «5»(3/231)
150 أبو سعيد الشيباني يتغزل
أنشدني في ربيع الآخر من سنة ست وستين وثلاثمائة، أبو سعيد مساعد ابن الجهم الشيبانيّ، لنفسه:
قال: وقلتها منذ سبعين سنة، وذكر لي أنّ له في الوقت ستا وتسعين سنة.
يا مقلة لحظها عقاربها ... سماء عيني دمعي كواكبها
تجول في حلبة مشهّرة ... تكبو بركبانها ركائبها
كأنّها والدماء تتبعها ... شهب خيول شقر جنائبها
أنشدني من»
هذه الأبيات، شعرا جيدا، في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وقال: شهب جنائبها. وهذا أصحّ «2» ، لأنّه أراد [196] به، أنّه يبكي دمعا، ثم يتبعه دما، والدليل عليه قوله:
كأنّها والدماء تتبعها(3/232)
151 القاضي أبو الحسين ابن أبي عمر يحزن لموت يزيد المائي
حدّثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان، الشيرازيّ، الكاتب، قال: حدّثني أبو بكر الجعابي الحافظ، قال:
دخلت يوما على القاضي أبي الحسين بن أبي عمر «1» ، وهو مغموم حزين، فقلت له: لا يغمّ الله القاضي، فما الذي آذاه؟
فقال: مات يزيد المائيّ.
فقلت: يبقي الله قاضي القضاة أبدا، ومن يزيد، حتى إذا مات اغتمّ عليه قاضي القضاة، هذا الغمّ كلّه؟
فقال: ويحك، مثلك يقول هذا، في رجل أوحد في صناعته، قد مات ولا خلف له، ولا أحد يقاربه في حذقه؟ وهل فخر البلد، إلّا بكثرة كون رؤساء الصنّاع، وحذّاق أهل العلم فيه؟ فإذا مضى رجل، لا مثل له في صناعته، ولا بد للنّاس منها، فهل يدلّ هذا، إلّا على نقصان العالم، وانحطاط البلدان؟
ثم قال بعد ذلك: وأخذ يعدّد فضائله، والأشياء الطريفة التي عالج بها، والعلل [197] الصعبة التي زالت بتدبيره، وذكر من ذلك أشياء كثيرة، لم يعلق أكثرها بحفظي.
قال: وكان منها، أن قال: لقد أخبرني، منذ مدّة طويلة، رجل من جلّة أهل هذا البلد، أنّه كان قد حدث بابنة له علّة طريفة، فكتمتها عنه،(3/233)
ثم أطلعته عليها، فكتمها هو مدّة، ثم انتهى أمر البنت إلى حدّ الموت.
قال: فقلت: لا يسعني كتمان هذا أكثر من هذا.
قال: فكانت العلّة، أنّ فرج الصبيّة، يضرب عليها ضربا عظيما، لا تنام منه الليل، ولا تهدأ النهار، وتصرخ من ذلك أعظم صراخ، ويجري في خلال ذلك، منه دم يسير، كماء اللحم، وليس هناك جرح يظهر، ولا ورم كبير يزيد.
قال: فلما خفت المأثم، أحضرت يزيد، فشاورته.
فقال: تأذن لي في الكلام، وتبسط عذري فيه؟
قلت: نعم.
فقال: لا يمكنني أن أصف شيئا، دون أن أشاهد الموضع، وأفتّشه بيدي، وأسائل المرأة عن أسباب، لعلّها كانت الجالبة للعلّة.
قال: فلعظم الضرورة، وبلوغها التلف [198] ، مكّنته من ذلك.
فأطال مساءلتها، وحديثها، بما ليس من جنس العلّة، بعد أن جسّ الموضع من ظاهره، وعرف بقعة الألم، حتى كدت أن أثب به «1» . ثم تصبّرت ورجعت إلى ما أعرفه من ستره، فصبرت على مضض.
إلى أن قال: تأمر من يمسكها؟
ففعلت.
ثم أدخل يده إلى الموضع، دخولا شديدا، فصاحت الامرأة، وأغمي عليها، وانبثّ الدم، وأخرج في يده حيوانا، أقلّ من الخنفساء، فرمى به.
فجلست الجارية في الحال، واستترت، وقالت: يا أباه، استرني فقد عوفيت.(3/234)
قال: فأخذ الحيوان في يده، وخرج من الموضع.
فلحقته، وأجلسته، وقلت: أخبرني ما هذا؟
فقال: إنّ تلك المساءلة، التي لم أشكّ أنّك أنكرتها، إنّما كنت أطلب شيئا، أستدلّ به على سبب العلّة، إلى أن قالت لي: إنّها في يوم من الأيّام، جلست في بيت دولاب بقر في بستان لكم، ثم حدثت العلّة بها، من غير معرفة، من ذلك اليوم، فخلت، أنّه قد دبّ إلى فرجها من القراد الذي يكون على البقر، وفي بيوت البقر، قراد «1» قد تمكّن [199] من أوّل داخل الفرج، فكلّما امتصّ الدم من موضعه ولّد الضربان، وأنّه إذا شبع، نقط من الجرح الذي يمتصّ منه إلى خارج الفرج، هذه النقط اليسيرة من الدم.
فقلت: أدخل يدي وأفتّش.
فأدخلت يدي، فوجدت القراد، فأخرجته، وهو هذا الحيوان، قد كبر، وتغيّرت صورته، لكثرة ما يمتصّ من الدم، على طول الأيّام.
قال: وأراني الحيوان، وإذا هو قراد.
قال: وبرأت الصبيّة.
قال: فقال لي أبو الحسين القاضي: فهل ببغداد اليوم، من له من الصناعة مثل هذا، أو ما يقاربه؟، فكيف لا أغتمّ بموت من هذا بعض حذقه؟(3/235)
152 أبو المغيرة الشاعر يروي خبرا ملفقا
حدّثنا أبو المغيرة، محمد بن يعقوب بن يوسف، الشاعر، البغداديّ، الأسديّ، قال: حدّثني أبو موسى عيسى بن عبيد الله البغداديّ، قال:
حدّثني صديق لي، قال:
كنت قاصدا للرملة «1» وحدي، فانتهيت إليها، وقد نام الناس، ليلا، فعدلت إلى المقبرة، ودخلت بعض القباب التي على القبور، وطرحت درقة «2» كانت معي، فاتكأت [200] عليها، وعلّقت سيفي أريد النوم، لأدخل إلى البلد نهارا، فاستوحشت من الموضع، وأرقت.
فلما طال أرقي، أحسست بحركة، فقلت: لصوص يجتازون، فإن قصدت لهم، لم آمنهم، ولعلّهم أن يكونوا جماعة، فلا أطيقهم، فانخزلت مكاني، ولم أتحرّك، وأخرجت رأسي من بعض أبواب القبّة، على تخوّف شديد، فرأيت دابّة كالدبّ، يمشي، فأخفيت نفسي، فإذا به قد قصد قبّة حيالي، قريبة منّي، فما زال يتلفّت طويلا، ويدور حولها، ويتلفّت، ساعة، ثم دخلها.
فارتبت به، وأنكرت فعله، وتطلّعت نفسي إلى علم ما هو عليه.
فدخل القبّة، وخرج غير متثبّت، ثم دخل وخرج، بسرعة، دفعات، ثم دخل، وعيني عليه، فضرب بيده إلى قبر في القبة ليحفر.
فقلت: نباش، لا شك فيه.(3/236)
وتأمّلته يحفر بيديه، فعلمت أنّ فيها آلة حديد يحفر بها.
فتركته إلى أن اطمأنّ، وأطال، وحفر شيئا كثيرا، ثم أخذت سيفي ودرقتي، ومشيت على أطراف أناملي، حتى [201] دخلت القبة، فأحسّ بي، وقام إليّ بقامة إنسان، وأومأ إليّ ليلطمني بكفه، فضربت يده بالسيف، فأبنتها، وطارت.
فصاح: أواه، قتلتني، لعنك الله.
وعدا من بين يديّ، وعدوت وراءه، وكانت ليلة مقمرة، حتى دخل البلد، وأنا وراءه، ولست ألحقه، إلّا أنّه بحيث يقع بصري عليه، إلى أن اجتاز في طرق كثيرة، وأنا في خلال ذلك أعلّم الطرق، لئلا أضلّ، حتى إذا جاء إلى باب دار، فدفعه، ودخل، وغلقه، وأنا أتّبع.
فعلّمت الباب، ورجعت أقفو الأثر، والعلامات التي علّمتها في طريقي، حتى انتهيت إلى القبّة التي كان فيها النبّاش، فطلبت الكف، فوجدتها، وأخرجتها إلى القمر، فبعد جهد، انتزعت الكفّ المقطوع من الآلة الحديد، فإذا هي كفّ كالكفّ، وقد أدخل أصابعه في الأصابع، وإذا هي كفّ فيها نقش حناء، وخاتمان ذهب.
فحين علمت أنّها امرأة، اغتممت، وتأمّلت الكفّ، وإذا أحسن كفّ في الدنيا، نعومة، ورطوبة، وسمنا [202] وملاحة، فمسحت الدم منها، ونمت في القبّة التي كنت فيها.
ودخلت البلد، من غد، أطلب العلامات، حتى انتهيت إلى الباب.
فسألت: لمن الدار؟
فقالوا: لقاضي البلد.
واجتمع عليها خلق، وخرج منها رجل شيخ بهيّ، فصلّى الغداة بالناس، وجلس في المحراب.(3/237)
فازداد عجبي من الأمر، وقلت لبعض الحاضرين: بم يعرف هذا القاضي؟
فقال: بفلان.
فأطلت الحديث في معناه، حتى عرفت أنّ له ابنة عاتقا «1» ، وزوجة، فلم أشكّ، أنّ النبّاشة ابنته.
فتقدّمت إليه، وقلت له: بيني وبين القاضي- أعزّه الله- حديث، لا يصلح إلّا على خلوة.
فقام إلى داخل المسجد، وخلا بي، وقال: قل.
فأخرجت إليه الكفّ، وقلت: أتعرف هذه؟
فتأملها طويلا، وقال: أما الكفّ فلا، وأمّا الخواتيم، فخواتيم ابنة لي، عاتق، فما الخبر؟
فقصصت عليه الحديث بأسره.
فقال: قم معي، وأدخلني داره، وغلق الباب، واستدعى طبقا، وطعاما، واستدعى امرأته.
فقال له الخادم: تقول [203] لك: كيف أخرج ومعك رجل غريب؟
فقال: لا بدّ من خروجها تأكل معنا، فهنا من لا أحتشمه.
فأبت عليه، فحلف بالطلاق لتخرجين، فخرجت باكية، فجلست معنا.
فقال لها: أخرجي ابنتك.
فقالت: يا هذا، قد جننت، فما الذي حلّ بك؟ فقد فضحتني، وأنا امرأة كبيرة، فكيف تهتك صبيّة عاتقا؟
فحلف بالطلاق لتخرجنّها، فخرجت.(3/238)
فقال: كلي معنا.
فرأيت صبيّة كالدينار المنقوش، ما مقلت مقلتاي مثلها، ولا أحسن منها، إلّا أنّ لونها أصفر جدا، وهي مريضة، فعلمت أنّ الذي لحق يدها، قد فعل بها ذلك.
فأقبلت تأكل بيمينها، وشمالها مخبوءة.
فقال: اخرجي اليسرى.
فقالت: قد خرج فيها خراج عظيم، وهي مشدودة.
فحلف لتخرجنّها.
فقالت امرأته: يا رجل، استر على نفسك، وعلى ابنتك، فو الله- وحلفت بأيمان كثيرة- ما اطّلعت لهذه الصبيّة على سوء قط، إلّا البارحة، فإنّها جاءتني، بعد نصف الليل، فأيقظتني [204] ، وقالت: يا أمّي، الحقيني، وإلّا تلفت.
فقلت لها: ما لك؟
فقالت: قد قطعت يدي، وهوذا أنزف الدم، والساعة أموت، فعالجيني، وأخرجت يدها مقطوعة.
فلطمت، فقالت: لا تفضحيني ونفسك بالصياح، عند أبي والجيران، وعالجيني.
فقلت: لا أدري بما أعالجك.
فقالت: خذي زيتا، فاغليه، واكوي به يدي.
ففعلت ذلك، وكويتها، وشددتها، وقلت: الآن حدّثيني ما دهاك.
فامتنعت.
فقلت: والله، لئن لم تحدّثيني، لأكشفن أمرك إلى أبيك.
قالت: إنّه وقع في نفسي منذ سنتين، أن أنبش القبور، فتقدّمت(3/239)
إلى هذه الجارية، فاشترت لي جلد ماعز غير محلوق الشعر، واستعملت لي كفّين من حديد، وكنت إذا نمتم، أفتح الباب، وآمرها أن تنام في الدهليز ولا تغلق الباب، وألبس الجلد، والكفّين الحديد، وأمشي على أربع، فلا يشكّ من لعلّه يراني من سطح أو غيره، أنّي كلب.
ثم أخرج إلى المقبرة، وقد عرفت من النهار [205] ، خبر من يموت من الجلّة، وأين قد دفن، فأقصد قبره، فأنبشه، وآخذ الأكفان، فأدخلها في الجلد، وأمشي مشيتي، وأعود والباب غير مغلق، فأدخل، وأغلقه، وأنزع تلك الآلة، وأدفعها إلى الجارية، مع ما قد أخذته، فتخبئه في بيت لا تعلمون به، وقد اجتمع ثلاثمائة كفن، أو ما يقاربها، لا أدري ما أصنع بها، إلّا أنّي كنت أجد لذلك الخروج، والفعل، لذّة لا سبب لها، أكثر من أن أصابتني بهذه المحنة.
فلما كان الليلة، تسلّط عليّ رجل، أحسّ بي، وكان كأنّه جالس، أو حارس لذلك القبر، فحين بدأت أنبشه، جاءني، فقمت لأضرب وجهه بكفّي الحديد، فأشغله بها عنّي، وأعدو، وأنجو، فداخلني بالسيف، فضربني، فتلقّيت الضربة بشمالي، فأبان كفّي.
فقلت لها: أظهري أنّه قد خرجت على كفك خراج، وتعاللي، فإن الذي بك من صفار، يصدّق قولك، حتى إذا مضت أيّام، قلنا لأبيك، لا بد أن تقطع يدك، وإلّا خبث جميع [206] بدنك، فتلفت، فيأذن لنا في قطعها، فنوهم أنّا قطعناها [من] جديد، وينستر أمرك.
فعملنا على هذا، بعد أن استتبتها، فتابت، وحلفت بالله، لا عادت.
وكنت على بيع هذه الجارية، وأراعي فيما بعد مبيت هذه الصبيّة، وأبيّتها جانبي، ففضحتني أنت، وفضحت نفسك.
فقال لها القاضي: ما تقولين؟(3/240)
فقالت: صدقت أمّي، وو الله، لا عدت أبدا، وتابت.
فقال لها القاضي: هذا صاحبك الذي قطع يدك، فكادت أن تتلف جزعا.
ثم قال: يا فتى، من أين أنت؟
فقلت: رجل من أهل العراق.
قال: ففيم وردت؟
قلت: أطلب الرزق.
فقال: قد جاءك حلالا، هنيئا، نحن قوم مياسير، ولله علينا ستر، فلا تهتكه، والله، ما علمت هذا من حال ابنتي، فهل لك أن تتزوّجها، وأغنيك بمالي عن الناس، وتكون معنا، وفي دارنا؟
قلت: نعم فرفع الطعام، وخرجنا إلى المسجد والناس مجتمعون، ينتظرونه.
فخطب، وزوّجني، وقام رجع، فأدخلني إلى [207] الدار.
ووقع حبّ الصبيّة في نفسي، حتى كدت أموت عشقا لها، وافترعتها، وأقامت معي شهورا، وهي نافرة عنّي، وأنا أونّسها، وأبكي حسرة على يدها، وأعتذر إليها، وهي تظهر قبول عذري، وأنّ الذي بها غمّا على يدها.
إلى أن نمت ليلة، وانبسطت في نومي، على رسمي، فأحسست بثقل على صدري شديد، فانتبهت جزعا، فإذا بها باركة على صدري، وركبتها على يدي، مستوثقة، وفي يدها موسى، وقد أهوت لتذبحني، فاضطربت ورمت الخلاص فتعذّر، وخشيت أن تبادرني، فسكنت.
فقلت لها: كلّميني، واعملي ما شئت، ما الذي يدعوك إلى هذا؟
قالت: أتظنّ أنّك قطعت يدي، وهتكتني، وتزوّجت بي، وتنجو سالما؟ والله لا كان هذا.(3/241)
فقلت: الذبح قد فاتك، ولكنّك تتمكّنين من جراحات توقعينها بي، ولا تأمنين أن أفلت فأذبحك، أو أهرب وأكشف هذا عليك، ثم أسلمك إلى السلطان، فيكشف جنايتك الأولى [208] ، والثانية، ويتبرّأ منك أهلك، وتقتلين.
فقالت: افعل ما شئت، فلا بدّ من ذبحك، وقد استوحش كل منّا من صاحبه.
فنظرت، وإذا الخلاص منها يبعد عليّ، ولا آمن أن تجرح موضعا من بدني، فيكون فيه تلفي، فقلت: الحيلة أعمل فيها.
فقلت: أو غير هذا.
فقالت: قل.
فقلت: أطلّقك الساعة، وتفرجين عني، وأخرج من البلد، فلا تريني، ولا أراك أبدا، ولا ينكشف لك حديث في بلدك، ولا فضيحة، وتتزوّجين من شئت، فقد شاع عند الناس، أنّ يدك قطعت لخراج خبثها، وتربحين الستر.
فقالت: تحلف أنّك لا تقيم في البلد، ولا تفضحني فيه أبدا؟
قال: فحلفت بالأيمان المغلظة.
فقامت عن صدري، تعدو، خوفا من أن أقبض عليها، حتى رمت الموسى بحيث لا أدري، وعادت، فأخذت تظهر بأنّ الذي فعلته، مزاح، وتلاعبني.
فقلت: إليك عنّي، فقد حرمت عليّ، ولا تحلّ لي ملامستك، وفي غد، أخرج عنك.
فقالت: الآن علمت صدقك، وو الله، لو لم تفعل [209] ، لما نجوت من يدي.(3/242)
وقامت، فجاءتني بصرّة، وقالت: هذه مائة دينار، خذها نفقة، واكتب رقعة بطلاقي، ولا تفضحني، واخرج.
فخرجت في سحرة «1» ذلك اليوم، بعد أن كتبت إلى أبيها، أنّي قد طلّقتها، وأنّي خرجت حياء منه.
ولم ألتق بهم إلى الآن.
153 من شعر أبي المغيرة
أبو المغيرة، راوي هذا الخبر «2» ، شاعر طويل اللسان، مطبوع، هجّاء، وله مدائح كثيرة، وديوان واسع، وأنشدني لنفسه أشياء، منها:
عرّضني للردى هواه ... من معدن السحر مقلتاه
وقد لوى نحوه فؤادي ... صدغ على الخدّ قد لواه
كأنّه عقرب ولكن ... يلسع كل الورى سواه
يا عاذلي في هواه رفقا ... عذري من الحسن ما تراه(3/243)
154 أبو أحمد الدلجي يرى مناما صادقا
حدّثني الأستاذ أبو أحمد الحسين بن محمد بن سليمان، الكاتب المعروف بالدلجيّ «1» ، قال:
رأيت في المنام ذات ليلة- وأنا إذ ذاك أخلف سهل بن بشر «2» على أعمال الأهواز- كأنّي قد خرجت إلى بعض الصحارى، فصعدت [210] جبلا شاهقا، فلما بلغت ذروته، قربت من القمر، أو قرب القمر منّي، حتى لمسته بيدي، وكأنّ في يدي خشبة، قد أدخلتها فيه، وأنا أخضخضها فيه، حتى نقبته، وقطّعته قطعا، ثم أخذت بتلك الخشبة، غيما، كان قريبا من القمر، فما زلت ألطّخه، حتى طيّنته كلّه، وكأنّ صاحبا لي يقول: ما تصنع؟
فقلت له: قد قتلت القمر، وأنا أطيّنه بهذا الغيم.
وانتبهت، فاشتغل بذلك قلبي، فبكّرت إلى أبي الحسن أحمد بن عمر الطالقاني، الكاتب، فلما رآني، قال: رأيت لك البارحة مناما طريفا، وأردت أن أجيئك الساعة، فأفسّره لك.
فقلت: فإنّي رأيت البارحة مناما قد شغل قلبي، فجئت لأحدّثك به.(3/244)
فقال: ما رأيت؟
فقصصت عليه الرؤيا. فقال: لا تشغل قلبك بها، فستلي مكان سهل بن بشر، وتحتوي على منزله، عن قريب.
فقلت: من أين لك هذا؟ وما الذي رأيت أنت؟
فقال: رأيت البارحة في منامي، كأنّي مجتمع مع رجل صالح، قد هجس في نفسي أنّه بعض الصحابة، أسأله [211] أن يدعو الله عزّ وجلّ لي، فقال لي: الدلجيّ صديقك؟
فقلت: نعم فقال: قل له: الأهواز وقف عليك، فاتّق الله، ولا تؤذي زوجتك، ولا شكّ أنّ هذا المنام تفسير منامك.
فاستكتمته المنام، وافترقنا، وعدت.
وما كنت أرى أنّني أؤذي زوجتي في شيء، إلّا في تسرّي الجواري، وكانت عندي واحدة منهنّ، قد أقامت نحو سنة، وكادت أن تغلبها عليّ، فبعتها على مشتر في الحال، ووهبت ثمنها لزوجتي، وكان ألوف دراهم.
فلما كان بعد ذلك بسنة- أكثر أو أقل- ورد الوزير ابن بقيّة، الأهواز، مع عزّ الدولة، وقبض على القائد بختكين آزاذرويه «1» ، والأتراك، وسهل بن بشر، ثم أطلق القائد، وسمّي بالحاجب الأجل «2» ، وردّت الضمانات إليه، وقلّدني مكان سهل بن بشر.(3/245)
فما زال في حبس أبي أحمد، مدة، ثم أخذ من يده، وحمل إلى بغداد «1» ، وحدث من ملك الأمير عضد الدولة بغداد ما حدث، فأطلق «2» ، وقلّد عسكر مكرم، وتستر، وجنديسابور وأعمال ذلك «3» ، ونكب [212] أبا أحمد، وألزمه مالا، فلزم منزله بالأهواز، وكان يؤدّي المال، إلى أن خالف سهل بن بشر، ودخل الأهواز بالجيش داعيا إلى عضد الدولة «4» ، ومعهم أبو أحمد خوفا على مهجته من سهل بن بشر.
وأقام «5» بأرجان، سنة وشهرا، ثم واطأ الديلم بالأهواز، على أن يشغبوا، ويقولوا: إنهم لا يرضون بالوزير وزيرا «6» ، ولا يقنعون إلّا بصرفه، وتقليد غيره الوزارة، وإلّا لم يرضوا بإمارة الأمير عزّ الدولة «7» ، واستحلف القوّاد، وسائر الجيش بكور الأهواز، وبايعوه، وحلفوا له، وأظهر أنّه يريد المسير إلى بغداد، للمطالبة بذلك، وذلك في شعبان سنة خمس وستين وثلاثمائة «8» .
فأنكر ذلك، الأمير عزّ الدولة، وأنفذ إبراهيم بن إسماعيل، من أجلّ حجّابه، برسالة إلى الديلم، فندموا على ما فعلوا، وأذعنوا بالطاعة، فقبض(3/246)
على سهل بن بشر، وحمله إلى بغداد، إلى الأمير عزّ الدولة، فخلع عليه «1» ، وضمّنه الأهواز، واليا لها ولكورها.
فصارت [213] الأهواز، كالوقف عليه، لا يصلح لها غيره، ولا يعرف فيها عند الحاجة سواه.
155 أبو مسلم الأصبهاني الكاتب يرى مناما صادقا
حدّثنا أبو مسلم محمد بن أحمد بن مهديّ، الأصبهاني، الكاتب، قال:
رأيت في المنام- وقت استحلاف سهل بن بشر، القوّاد، والديلم، على الشغب، والمطالبة بصرف الوزير الناصح نصير الدولة «2» - كأنّي قد خرجت إلى صحراء عظيمة، فرأيت معسكرا هائلا، بالخيم «3» ، والشرع «4» ، والفازات «5» ، وفي وسطه نهر يسقيه، وعلى حافتي ذلك النهر غائط عظيم،(3/247)
وجميع أهل ذلك المعسكر، من القوّاد وغيرهم، قد اجتمعوا، يأكلون من تلك العذرة، فجاء الحاجب الأجلّ «1» من بينهم، وقد أكل من تلك العذرة، فغسل فاه، وما حواليه بالماء، وتمضمض، وركب، ولم يفعل الباقون ذلك.
وكأنّي أعجب من هذا، إذ وقعت عيني على شراع فوق سطح، فقلت: لمن هذا؟ للدلجيّ؟، قال: وأبو أحمد الدلجيّ إذ ذاك بأرجان.
فقالوا: هذا له، وقد قدم.
فقلت: أمضي، وأراه، وأسلّم عليه [214] .
فتوجّهت، إلى أن بلغت إلى أسفل الموضع الذي فيه الشراع، فهبّت ريح عظيمة، فقلعت تلك الخيم التي كانت في المعسكر، فما رأيت منها شيئا باقيا، فنظرت فإذا نساء، وصبيان، ورجال، وشيوخ، يمسكون الشراع.
فقلت: من هؤلاء؟
فقال لي قائل: هؤلاء الطالبيّون، يمسكون شراع الدلجيّ، حتى لا تقلعه الريح.
وانتبهت، فقصصت من غد، الرؤيا على سيما الدرعيّ، صاحب الشرط، وقلت: هذا الذي فيه هؤلاء، لا يجيء منه شيء، سيلي الدلجيّ، ويجيء من أرجان «2» .
فقال: ويحك ما تقول؟
فقصصت عليه الرؤيا.
فقال: إحسان الدلجيّ إلى الطالبيّين، هو الذي يأخذ بيده.
فما كانت إلّا أيّام، حتى ورد إبراهيم الحاجب، فقبض على سهل(3/248)
ابن بشر، وحمله مقيّدا، وسار بالجيش إلى بغداد.
فأمّا الحاجب الأجل بختكين، فقد كاتب الأمير والوزير بالخبر، وأشار بمعاجلة سهل بن بشر، والقبض عليه، وذكر أنّه وافقه، إشفاقا من وثوب الديلم عليه [215] ، فنجا من المحنة بذلك الفعل، وكان ذلك تأويل مضمضته، وغسله فاه من العذرة.
وأمّا الباقون، الذين غمرهم ذلك الأمر، فكانوا: الحسين بن أحمد ابن بختيار «1» ، القائد الديلمي، وتكيدار بن سليمان، القائد الجيلي، فلما حصلا بواسط، قبض عليهما، ونفيا، وأخذت نعمتهما «2» ، وورد أبو أحمد الدلجيّ، الحضرة، فتقلّد الأهواز وكورها.
فكان «3» يحدّثنا بهذا، بحضرة أبي أحمد، بعد دخوله الأهواز بمدّة.(3/249)
156 الوزير المهلبي يطالب أحد عماله بحمل الخراج
سمعت أبا محمّد المهلّبيّ، يملي كتابا، إلى سعد بن عبد الرحمن «1» - وهو إذ ذاك، ضامن عمالة البصرة منه، في شركة أبي الحسين أحمد بن محمّد بن عبد الله بن الحسين الأهوازي «2» ، وأبي عليّ الحسن بن عليّ بن مهديّ الأصبهانيّ «3» ، ابن أخت سعد بن عبد الرحمن- يخاطبه في معنى المال، وتأخّره، وحثّه بخطاب جميل بين الليّن والخشن.
وقال في آخره:
لو سكت عن مطالبتك بالمال، ما سكت الأمير [216] معزّ الدولة، فيجب أن تؤدّيه محمودا، خيرا من أن تؤدّيه مذموما، فاعمل على أنّي صديق أشرت بأدائه، [ومدافعته عنك، بهذا القدر، ما كنت أغلو عليه به] «4» ، فإنّ من أرضى أصدقاءه في أيّام النعم، أرضوه في أيّام المحن، واعلم أنّه ليس بين مخاطبتي [هذه] لك، وبين أن أخاطبك بضدّها، ممّا يخاطب به العمّال المطالبون، الملطّون «5» ، والمعاملة بما يقتضي ذلك، إلّا أن يرد جواب كتابي فارغا من ذكر حمل المال، وأعوذ بالله، فاختر لنفسك، أو فدع، والسلام.(3/250)
157 أبو محمد المهلبي الوزير يتحدّث عن الكرم
سمعت أبا محمّد المهلّبيّ، يقول يوما، في شيء جرى بحضرته، من ذكر الكرم والكرام، بين جماعة من الناس:
[كرم الكريم] يستر عليه، ما تكشفه النوائب من سوءاته.
158 إعظام من لا دين له ولا دنيا عنده، حمق
حدّثني أبو محمد بن داسة «1» ، قال: حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن إسحاق الآمدي، ويعرف بابن أبي صفوان، شيخ كان يخلف القاضي أبا القاسم التنوخيّ، على القضاء بواسط وأعمالها، وعلى أعمال كور الأهواز، في أوقات متفرقة، قال:
أخبرني من حضر مجلس [217] أبي عمر القاضي، وقد دخل إليه ابن غسان، صهره.
فقال له: من أين أقبلت؟
فقال: من عند فلان.
فقال أبو عمر: إعظام من لا دين له، ولا دنيا عنده، حمق.(3/251)
159 البخل خير من مسألة البخيل
حدّثنا أبو القاسم عمر بن حسان بن الحسين، الشاهد، البغداديّ- وقد تولّى القضاء بديار مضر من قبل قاضي القضاة، وهو مشهور المحلّ- قال:
كنت عند سلامة «1» ، أخي نجح الطولوني، وأنا شاب، وفي مجلسه جماعة يذمّون البخل، وكان سلامة ينسب إلى البخل، وما كان بخيلا، وإنّما كان محصّلا لحاله، مصلحا لماله.
فلما انصرفوا، قال: يا أبا القاسم، لا تسمع هذا الكلام، ولا تعوّل عليه، فتهلك، واعلم أنّ البخل خير من مسألة البخيل.(3/252)
160 سلامة الحاجب يلوم قوما طعنوا في العدول
قال «1» ، وكنت عنده «2» في آخر كونه ببغداد، وقبيل دخول الديلم [إليها] «3» ، وبحضرته قوم يطعنون على الشهود، ويعيبونهم.
فقال لهم سلامة: ما رأيت أعجب من أمركم، من فيكم يطمئن أن يشتري من ابنه، أو من أخيه، ضيعة بعشرة آلاف دينار، ولا يشهد عليه [218] العدول؟
فقالوا: ما فينا أحد بهذه الصورة.
قال: أفتستظهرون لأنفسكم، وأعقابكم، في هذا القدر الكثير من المال، وما هو أكثر منه، إلّا بالشهادة، وتعتاضون بخطوطهم في جلد يساوي دافق فضّة، من ذلك المال العظيم، حتى تأخذوا الصكّ، بدلا من المال، فتجعلونه تحت رؤوسكم، لشدّة حفظه.
قالوا: نعم.
قال: فمن كان هذا حكمه عندكم، لم تطعنون فيه؟.(3/253)
161 أبو علي بن مقلة الوزير يزيل أثر الحلوى بالحبر
حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحّاك، وكان يعرف بالديناريّ «1» ، لأن أمّه ديناريّة، تقرب إلى امرأة أبي عليّ بن مقلة، المعروفة بأم الفضل الديناريّة.
وسمعت أبا القاسم الحسن بن عليّ بن مقلة «2» ، يحدّث بهذا الحديث، واللفظ مقارب، قالا:
كان أبو عليّ بن مقلة «3» ، يوما، يأكل، فلما شيلت المائدة، وغسل يده، رأى على ثوبه نقطة صفراء من الحلوى الذي أكله، ففتح الدواة، واستمدّ منها بيده، ونقطها على الصفرة، حتى لم يبق لها [219] أثر، وقال: ذاك عيب، وهذا أثر صناعة، ثم أنشد:
إنّما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدويّ عطر الرجال(3/254)
162 من نظم ابن أبي الضحاك
أنشدني «1» لنفسه:
وأشجار نارنج كأنّ ثمارها ... حقاق عقيق قد ملئن من الدرّ
تطالعنا بين الغصون كأنّها ... خدود العذارى في ملاحفها الخضر
أتت كلّ مشتاق بريّا حبيبه ... فهاجت له الأحزان من حيث لا يدري
وأنشدني لنفسه أيضا في النارنج:
شجر كأيّام الشباب ... تعجّلت قبل المشيب
وكأنّما نارنجها ... وجه الحبيب على رقيب
تهدي إليك جميع ما ... أرضاك من حسن وطيب
لم لا تحنّ لها القلوب ... وقد غدت مثل القلوب(3/255)
163 للبديهي البغدادي في وصف النارنج
أنشدني أبو الحسن، أحمد بن عبيد الله البغداديّ، المعروف بالبديهيّ «1» ، لنفسه: [220]
أنظر إلى النارنج في أغصانه ... نزها لأعيننا وعطرا في اليد
ككباب نار في قباب زبرجد ... متوقّد بالطيب أيّ توقّد
ورق كآذان الجياد قدودها ... قد أثقلت بقلائد من عسجد(3/256)
164 أبو الحسن بن جميل يستخلف متخلفا
حدّثني أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين الأهوازي، الكاتب «1» ، قال:
كنّا خمسة كتّاب، قد نشأنا بين يدي أبي الحسن بن جميل، في الديوان بالأهواز، وتعلّمنا عليه، وكان فينا رجل متخلّف في صناعته، فأراد ابن جميل، أن يغيب عن صاحبه، واستخلف ذلك المتخلّف، فاغتممنا لتقديمه علينا.
وكان الرجل، يدخل إلى الصاحب، فإذا سأله عن شيء لم يفهمه، وإن فهمه لم يحسن أن يجيب عنه، وإن أجاب عنه، اضطرب ولم يقم بالحجّة.
فلما طال ذلك على الصاحب، قال: قد أضرّت بنا غيبة ابن جميل عنّا، [221] اكتبوا إليه، حتى يبادر.
قال: فعلمنا- حينئذ- أنّه استخلفه، ليكتب لصاحبه، إذا غاب، في موضعه، ولا يطمع في أن ينوب عنه «2» .(3/257)
165 أبو الفضل عامل أرجان يقدّم نوبة الحمّى
حدّثنا أبو عليّ محمد بن الحسن بن جمهور، العمّي «1» ، الكاتب، الصلحيّ، البصريّ، صاحب الستارة، المشهور بالأدب، والشعر، وتصنيف الكتب، قال:
كنت أكتب لأبي الفضل غيلان بن إسماعيل، وهو بأرجان يتقلّدها.
فقيل له: قد قدم أبو المنذر النعمان بن عبد الله «2» ، يريد فارس «3» ، والوجه أن تلقاه في غد.
وكان أبو الفضل يحمّ حمّى الربع «4» ، فقال: كيف أعمل، وغدا يوم حمّاي، ولا أتمكّن من لقاء الرجل، ولكن الوجه أن أحمّ اليوم، حتى أقدر أن ألقاه غدا، يا غلام، هات الدوّاج «5» حتى أحمّ الساعة.
وإذا عنده، أنّه إذا أراد أن يقدّم نوبة الحمّى، ويحمّ، تأخّرت عنه الحمّى في غد، وصحّ.(3/258)
166 ابن الجريح يقتل أسدا
حدّثني الأستاذ أبو أحمد الحسين بن محمد الدلجيّ «1» ، قال:
كنت بنواحي المذار «2» ، في جماعة، منهم رجل من الشاكرية، يعرف بابن الجريح [222] ، فخرج علينا أسد، فابتدر له هذا الرجل، بسيفه ودرقته، يحاربه، ودخل معه الأجمة، فلم نعرف له خبرا، حتى خرج علينا، وقد قتل الأسد، وحمله على ظهره، وكان بيننا وبين الأجمة مسافة صالحة، فلما انتهى إلينا، طرحه عن ظهره.
فما درينا من أيّ شيء نعجب، من رجل قتل سبعا وحده، أو من حمله إيّاه، على ظهره، طول تلك المسافة.(3/259)
167 الخليفة المعتضد يقتل أسدا
وحدّثنا «1» ، قال: بلغني عن خفيف السمرقنديّ «2» ، أنّه قال:
كنت مع مولاي المعتضد، في بعض متصيّداته، وقد انقطع عن العسكر، وليس معه غيري، فخرج علينا أسد، فقصدنا.
فقال لي المعتضد، يا خفيف، أفيك خير؟
فقلت: لا، يا مولاي.
فقال: ولا حتى تمسك فرسي، وأنزل أنا إلى الأسد؟
فقلت: بلى.
فنزل، وأعطاني فرسه، وشدّ أطراف منطقته، واستلّ سيفه، ورمى القراب إليّ، فأخذته، وأقبل يمشي إلى الأسد، واستقبله بضربة، وثنّاه المعتضد بأخرى، ففلق هامته، فخرّ صريعا، ودنا [223] منه وقد تلف، فمسح السيف في صوفه، حتى نظّفه، ورجع إليّ، فأغمد السيف، وركب.
ثم عدنا إلى المعسكر، وصحبته، فإلى أن مات، ما سمعته يتحدّث بحديث الأسد، ولا لفظ فيه بلفظة.
فلم أدر من أي شيء أعجب، من شجاعته وشدّته، أم من قلّة حفله بما صنعه، وكتمانه، أم من كرمه وعفوه عنّي، وما عاتبني على ضنّي بنفسي.(3/260)
168 لا جزاك الله من طارق خيرا
حدّثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن أمّ المكاتب البغداديّ، المعروف والده بأبي اللّيث الهمذاني، قال: حدّثني محمد بن بديع العقيليّ، أحد قوّادهم ووجوههم في الحيّ، وكان ورد إلى معزّ الدولة، فأكرمه وأحسن إليه، قال:
رأيت رجلا من بني عقيل، وفي ظهره كلّه شرط كشرطات الحجام، إلّا أنها أكبر، فسألته عن ذلك.
فقال: إنّي كنت هويت ابنة عمّ لي، فقالوا: لا نزوّجك إلّا أن تجعل في الصداق الشبكة، فرس سابقة كانت لبعض بني بكر بن كلاب، فتزوّجتها على ذلك.
وخرجت في أن أحتال في سلب الفرس [224] من صاحبها، لأتمكّن من الدخول بابنة عمّي.
فأتيت الحيّ الذي فيه الفرس، في صورة حدّار، وما زلت أداخلهم، ومرّة أجيء الخباء الذي هي فيه كأنّي سائل، إلى أن عرفت مبيت الفرس من الخباء.
واحتلت حتى دخلت البيت من خلفه، وحصلت خلف النضد، تحت عهن «1» كانوا نفشوه ليغزل.
فلما جاء الليل، وافى صاحب الخباء، وقد زاولت «2» له المرأة عشاء،(3/261)
وجلسا يأكلان، وقد استحكمت الظلمة، ولا مصباح لهم، وكنت ساغبا «1» ، فأخرجت يدي، وأهويت إلى القصعة، وأكلت معهم.
فاحسّ الرجل بيدي، فأنكرها، فقبض عليها، فقبضت على يد المرأة، فقالت له المرأة، ما لك ويدي؟، فظنّ أنّه قابض على يد امرأته، فخلّى يدي، فخلّيت يد المرأة.
وأكلنا، فأنكرت المرأة يدي، فقبضت عليها، فقبضت يد الرجل، فقال لها: ما لك؟ فخلّت عن يدي، فخلّيت عن يده.
وانقضى الطعام، واستلقى الرجل نائما، فلمّا استثقل، وأنا مراصدهم، والفرس مقيّدة في جانب البيت [225] ، فأثبتّها، والمفتاح تحت رأس المرأة.
فوافى عبد له أسود، فنبذ حصاة، فانتبهت المرأة، فقامت إليه، وتركت المفتاح في مكانه، وخرجت من الخباء إلى ظاهر البيت، ورمقتها بعيني، فإذا هو قد علاها.
فلمّا حصلا في شأنهما، دببت، وأخذت المفتاح، وفتحت القفل، وكان معي لجام شعر، فأوجرته الفرس، وركبتها، وخرجت عليها من الخباء.
فقامت المرأة من تحت العبد، ودخلت الخباء، وصاحت.
فذعر الحي، وأحسّوا بي، وركبوا في طلبي، وأنا أكدّ الفرس، وخلفي خلق منهم.
فأصبحت، وليس ورائي إلّا فارس واحد برمح، فلحقني وقد طلعت الشمس، وأخذ يطعنني، فلا تصل إليّ طعناته، ولا فرسي تنجيني، إلى حيث لا يمسّني من الرمح شيء.(3/262)
حتى وافينا إلى نهر عظيم، فصحت بالفرس، فوثبته، وصاح الفارس بالفرس التي تحته، فقصّرت، ولم تثب.
فلما رأيته عاجزا عن العبور، وقفت، لأريح الفرس وأستريح، فصاح بي، فأقبلت عليه بوجهي.
فقال: يا هذا، أنا صاحب [226] الفرس التي تحتك، وهذه ابنتها، فإذ ملكتها، فلا تخدع عنها، فإنّها تساوي عشر ديات، وعشر ديات، وعشر ديات، وما طلبت عليها شيئا قط، إلّا لحقته، ولا طلبني عليها أحد إلّا فتّه، وإنّما سمّيت الشبكة، لأنّها لم ترد قط شيئا إلّا أدركته، فكانت كالشبكة في صيده.
فقلت له: إذ نصحتني، فو الله لأنصحنّك، كان من صورتي البارحة، كيت وكيت، وقصصت عليه قصة امرأته، والعبد، وحيلتي في الفرس.
فأطرق، ثم رفع رأسه، وقال: ما لك، لا جزاك الله من طارق خيرا، طلّقت زوجتي، وأخذت قعدتي «1» ، وقتلت عبدي.(3/263)
169 دكين البدوي يسلّ فرس معز الدولة
وحدّثنا ابن أبي الليث الكاتب، قال: حدّثني رجل من بني النمر بن قاسط، يسمى دكين، بدويّ، شاهدته بالأنبار، قال:
كان معزّ الدولة، لما حصل بسنجار، يشدّ «1» فرسا له جليل القيمة، بين يديه، في أقرب المواضع إلى مبيته. فعيّنت عليه، وطمعت في سلّه، وأعملت الحيلة في ذلك [227] ، فلم أتمكّن.
إلى أن جئت ليلة من الليالي، فوجدت بعض السوّاس، وقد نزع جبّة صوف عليه، وهو نائم، وقد طرحها إلى جنبه، فلبستها، وجئت إلى الفرس، وأخذت المخلاة من رأسه، لأحلّه، وأركبه.
فلما طرحت المخلاة، استيقظ معزّ الدولة، وأحسست بحركته، فأخذت الغربال، وطرحت به باقي الشعير الذي كان في المخلاة، وسرّدته «2» ، وأعدته إلى المخلاة، وأوهمته أنّي أحد السوّاس، وقد فعلت ذلك متفقّدا للفرس.
فلما رآني أفعل ذلك، صاح بالفارسيّة، بكلام فهمت معناه: حسبه من الشعير، لا تردّه إلى رأسه.
فتركت المخلاة، ومرح الفرس يطلبها.
فقال معزّ الدولة بالفارسيّة: قصّر عليه.
فتمكّنت من الحيلة، وأهويت إلى الرسن، فحللته، موهما له أنّي أقصّره، واستويت على ظهره وصحت به، فخرجت من العسكر.(3/264)
وصاح الأمير معزّ الدولة، وركب سرعان العسكر في طلبي، فما زلت أركض، وخلفي جماعة [228] ، حتى حصلت في شعب طويل، وهم ورائي.
فاستقبلني قوم من العلّافة «1» ، رأيتهم على بعد، من ضوء مشاعلهم، ومعهم عسكر.
فقلت في نفسي: يا دكين، اليوم يومك، وراءك عسكر، وأمامك عسكر، فإن ملكوك، لم يوصلوك إلى معزّ الدولة، إلّا ميتا، وليس غير الإقدام على ما تقدّر فيه النجاة.
فقام في نفسي أن أحمل على من هو أمامي، وليس لهم علم بخبري، فسللت سيفا كان معي، فوق ثيابي، وتحت الجبة التي لبستها من ثياب سوّاس معزّ الدولة، وحرّكت وهم لا يروني، لأنّهم في الضوء، وأنا في الظلمة.
فلما قربت منهم، صحت بهم صياحا عظيما، فقدّروني ابتداء خيل قد كبستهم، تريدهم.
وأقبلت أحمل على واحد، واحد، وأنا أضرب، فيتوقّاني، وأحذره، إلى أن تخلّصت منهم، وجريت.
ولحقت بهم الخيل التي كانت خلفي، وتشاغلوا بمساءلتهم عنّي قليلا، ففت الفريقين.
وحملت الفرس إلى الشام، فبعته على سيف الدولة، بثلاثة آلاف درهم، [229] ودحت في البلاد، إلى أن صرت إلى بغداد، ومعزّ الدولة، يطلب قوما من العرب، ليفرض «2» لهم وينفذهم إلى بعث.
فحملني المسيّب بن رافع العقيليّ، في جماعة، إليه، عرضهم عليه، فأثبتني.(3/265)
فلما وقفت بين يديه، اقتحمتني عينه، لأنّي دميم. فقال: بيست دينار.
فعلمت أنّه أراد، عشرين دينارا.
فكلّمه المسيّب، والمهنّا، العقيليان، فزادهما ثلاثة دنانير.
فقالا له: رجل له فضل، ومنزلة، وهو من أصله، ومن شجاعته «1» .
فقال: لو كان هذا كله حقا، ما كان يقدر أن يصنع؟
فقلت لبعض النقباء: أيّ شيء قال؟
ففسّره لي.
قال: فقلت: أيها الأمير، أقدر أضع نفسي على فرس بين يدي ملك مثلك، فأحتال في أمره، حتى آخذه سائسا، ثم أركبه، وقصصت عليه قصّته مع فرسه بسنجار، وذكر بيعه وثمنه.
فقال: وأنت صاحب الفرس بسنجار؟
فقلت له: نعم.
فضحك، وقال: نزّلوه أربعين دينارا «2» .
ففعلوا.(3/266)
170 مختارات من الشعر
حدّثني [230] أبو الحسن «1» ، قال:
اجتزت بطريق سرّ من رأى، فدخلت القصر المعروف بالأحمديّ «2» ، لأشاهد آثاره، فلما توسّطته، رأيت مكتوبا على حائط فيه:
في الأحمديّ لمن يأتيه معتبر ... لم يبق من حسنه عين ولا أثر
غارت كواكبه وانهدّ جانبه ... ومات صاحبه واستفظع الخبر
وأنشدني لنفسه:
رفقا أقيك بمقلة ... كلّفتها طول السهاد
أصبحت منها في السواد ... وفي السواد من الفؤاد
وأنشدني أبو القاسم الصرويّ «3» ، قال: أنشدني أبو الحسن الموسويّ، العلويّ، لنفسه:
يا نازلا في السواد ... من مقلتي وفؤادي(3/267)
171 رجال الدولة يتآمر بعضهم على بعض
حدّثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله «1» ، قال: أخبرني جماعة من شيوخ الكتّاب ببغداد:
إنّ القاسم بن عبيد [231] الله «2» ، كان قد أوجس في نفسه من اختصاص الحسين بن عمرو النصرانيّ «3» ، كاتب المكتفي «4» ، فوضع عليه من يأتيه بأخباره، حتى أظهر لمغنّية كان ابن الحسين بن عمرو يتعشّقها، أنّه يعشقها، وملأ عينها، وكان يتسقّطها أحاديث الحسين بن عمرو وابنه، لكثرة ملازمتها له، حتى غلبه عليها، فاضطرّ ابن الحسين بن عمرو، أن يداخل القاسم من أجلها، واجتذبه، وصار كالنديم له، فملأ عينه بالإحسان، وضرّب بينه وبين أبيه، وكان يأتيه بأخباره.
فجاء يوما، فأعلمه، أنّه قد شرع مع المكتفي في الوزارة، وضمن القاسم وأسبابه، بمال عظيم، ذكر مبلغه، وأنّه تقرّر الأمر مع الخليفة أن(3/268)
يستوزر إبراهيم بن حمدان الشيرازي «1» ، كاتب الحسين بن عمرو- قال أبو الفضل، وهو جدّ أبي القاسم عليّ بن الحسين بن إبراهيم المعروف بالمشرف «2» - على ما كان ينظر فيه للمكتفي، ويلبسه السواد، ويخاطب بالوزارة، لأنّه لم يرغب هو في الإسلام، ولم يجز [232] استيزار ذمّي، وأن تكون الدواوين، والأمور، كلّها إليه، ويؤمر الوزير أن يصدر عن أمره، ولا يصل إلّا في أيّام المواكب، والمجالس الحافلة، للعرض فقط، وإقامة الرسم، ويلبس السواد، والسيف، والمنطقة، وأنّ فارس- داية المكتفي- هي التي قررت ذلك مع الخليفة، وأنّه قد وعدهم ليوم بعينه، قريب، ذكره، ليقبض على القاسم وأسبابه، ويسلمون إلى الحسين بن عمرو.
وشاور القاسم أبا العباس بن الفرات «3» ، كيف يصنع؟
فقال له: عندي ما يكفيك هذا الأمر.
قال: وما هو؟
قال: كتاب بخطّ الحسين بن عمرو، الذي يعرفه الخليفة، إلى أبيك «4» ، كتبه إليه من بعض الوجوه التي خرج إليها المكتفي، في أيّام المعتضد، وهو إذ ذاك كاتبه، يخبر أباك، عن بخل المكتفي، وسقوط نفسه، وعيوبه، وفواحشه، وضعفه، ونقصه، بكلّ عظيمة، ويشير على أبيك، أن ينهي ذلك إلى المعتضد، وأن يسرع في استدعائه إلى [233] الحضرة، لئلّا يفتضح الملك.
والوجه لك، أن تعمل ثبتا «5» بجميع أملاكك، وما تحويه يدك، ودارك،(3/269)
وملكك من جميع الأشياء، وتصير إلى الخليفة، وتستخليه، فإذا خلا، طرحت نفسك بين يديه على الأرض، وبكيت، وأخرجت الثبت، وسألته أن يقبل جميعه منك، عفوا حلالا، ويقرّك على خدمته، أو أن يؤمنك على جسمك، ونفسك، وأن لا يسلمك إلى الحسين بن عمرو، فإنّه غير مأمون عليك، فإذا سألك عن سبب ذاك، أعلمته أنّ الحسين بن عمرو، أظهر السرّ، فبلغك، وأخرجت الكتاب إليه، وقلت له: يا أمير المؤمنين، كيف تأمن على نفسك، ودولتك، من هذا اعتقاده فيك؟ فإنّه إذا قرأه، مع ما قد سمعه منك، انحلّ، ورجع لك، وانقلب على الحسين بن عمرو، وإذا سألك عن الكتاب، عرّفته أنّه كان في خزائن أبيك، يحفظه على الحسين بن عمرو لك، ويسلمه إليك، وكان المعتضد يخافه حتى هلك، وأنّك أنسيت أمره إلى الآن، فأظهرته، واضمن [234] الحسين بن عمرو، وإبراهيم الشيرازيّ، وأسبابهما، كذا وكذا ألوفا، تقدر على استخراجها منهم، فإنّ الخليفة يجيبك، وإذا وعدك، فعرّفه أنّ هذا أمر قد ظهر وفشا، وتحدّث به الناس، وكثرت معه الأراجيف، وأنّه إن أخّر تسليمهم إليك، وقفت الأمور على العمّال، وطمع فيها كلّ أحد، فأضرّ ذلك به، ووقفت أمور الوزارة، وسخفت من تأخر تسليمهم إليك، فإنّه يسلمهم.
قال: فركب القاسم في الحال، إلى المكتفي، وعمل جميع ما قاله له أبو العبّاس، فجرى الأمر على ما ظنّه.
وعاد القاسم، وقد أذن له الخليفة في القبض على الحسين بن عمرو وأسبابه، فقبض عليهم، واستصفى أموالهم، فلما أحسّ بنفادها، أنفذ الحسين بن عمرو، وإبراهيم الشيرازي، إلى الأهواز «1» ، على سبيل النفي، ووكّل بهما، فلما حصلا بالأهواز، قتلهما الموكلون، وقيل أنّهما جعلا في(3/270)
بيت، وسدّ، ومنع من دخول الماء إليهما، والغذاء، فلما علم بموتهما، فتح الباب، ونقلا إلى بيت آخر، وأظهر إنّ أجلهما أدركهما [235] .
قال: فلما خرج القاسم، وقد ظفر، وتمّ له التدبير، قبّل رأس أبي العبّاس بن الفرات، وعينيه، وشكره، وقال: أنت أبي، وعضدي، وما أشبه ذلك من القول.
فحسده ابن فراس «1» ، على ذلك، وقال للقاسم: أيّها الوزير، سل أبا العبّاس من أين له هذا الكتاب؟
فسأله.
فقال أبو العبّاس: كنت منذ دهر، مجتازا في بعض الطرقات، فرأيت في دكان نطّاف رفّا عليه ظهور معلقة «2» ، ليجعل فيها ما يبيعه من الناطف «3» على الناس، وما رأيت قطّ شيئا مكتوبا، إلا أحببت قراءته، وقد أفدت من ذلك، دفعات كثيرة، فوائد كبارا.
قال: فلحظت الظهور، فوقعت عيني منها، على عنوان هذا الكتاب، فعرفت خط الحسين بن عمرو، فتتبّعت نفسي قراءة الكتاب، فقلت لغلامي:
امض، فاشتر هذا الناطف، في ذلك الظهر، وأومأت إلى هذا الكتاب، ففعل، وجاءني به، فقرأته، فوجدت فيه العظائم، فقلت في نفسي: هذا(3/271)
أشر الناس، يكتب لرجل، ويتخلّفه بمثل هذا الكتاب، فلعلّه أن يلحقني [236] يوما، شرّ من هذا الرجل، فأدفعه بهذا الكتاب، أو أنعى عليه عيوبه، فمسحت آثار الناطف منه، واحتفظت بالكتاب، فهو عندي منذ كذا وكذا سنة، فلمّا حدّثني الوزير الآن بهذا الحديث، علمت أنّه موضع إظهار الكتاب، فأظهرته.
فلما انصرف ابن الفرات عن المجلس، قال ابن فراس، للقاسم- وكان يشنعه عنده دائما، فلا يلتفت إليه- قد بان لك مقدار شرّ ابن الفرات، هذا شرّ عليك من الحسين بن عمرو، لأنّه عدوّ مدغل، مندسّ بين ثيابك، والحسين، كان عدوّا مكاشفا، وأنت على اتّقائه أقدر، ما يؤمنك أن يكون ابن الفرات، قد تحفّظ عليك، في مدة استرسالك إليه، ما هو أكثر من هذا، أو قد حصل خطّك بألوان من الذمّ، وأنت ناس، كما فعل بالحسين ابن عمرو؟ ما يؤمنك أن يكون عنده من خطوطك، أو خطوط أبيك، ما يجري هذا المجرى؟ فإنّ الناس، ربما سخطوا على أصحابهم، واستأمنوا إلى بثّهم عند نصحائهم، وإنّما يترقّب منك ابن الفرات [237] ، إعراضا، أو أدنى خلاف عليه في شيء لا يؤثره، وتؤثره أنت، فيظهر للخليفة عنك، وعن أبيك، ما هو أعظم من هذا، فتهلك، وإن أمسكت عنه، فأنت ربيب في حجره، وعنده أنّه قد ردّك إلى الوزارة برأيه، ويقتطع الدنيا، ويفوز بها، وبفائدتها، وتكون التبعة عليك، وإن أوحشته، قتلك بمثل هذا الفعل، فاقبل رأيي، وعاجله، واحتل عليه، بسمّ تدسّه إليه، وتتخلّص منه.
قال: فوقع ذلك في نفس القاسم. وما زال ابن فراس يقوّي رأيه، إلى أن عمل له سمّا في تفّاحة، وأشمّه إيّاها، فأتلفته.
وكان هذا الكتاب، أشأم كتاب سمع به.(3/272)
172 أبو جعفر بن بسطام له قصة في رغيف
وحدّثني أبو محمد «1» ، قال: حدّثني بعض شيوخ الكتاب ببغداد، عمّن حدّثه:
إنّه سمع أبا الحسن بن الفرات «2» ، يقول لأبي جعفر بن بسطام- وكان سيّء الرأي فيه-: ويحك يا أبا جعفر، لك قصّة في رغيف، ما هي؟
فقال: ما لي قصّة في رغيف.
فلم يزل به أبو الحسن، إلى أن قال له: إن أخبرتني بذلك، كان [238] خيرا لك، قال: نعم، إنّ أمي، كانت عجوزا صالحة، وعوّدتني- منذ ولدت- أن تجعل تحت مخدّتي التي أنام عليها، في كلّ ليلة، رغيفا فيه رطل، فإذا كان من غد، تصدّقت به عنّي، وأنا أفعل هذا إلى الآن.
قال: فقال ابن الفرات، ما سمعت بأعجب من هذا، اعلم أنّني من أسوإ الناس رأيا فيك لأمور أوجبت ذلك، وعدّد بعضها، وأنا منذ أيام مفكّر في القبض عليك، ومطالبتك بمال، فأرى منذ ثلاث ليال، في منامي، كأنّي قد استدعيتك لأقبض عليك، فتحاربني، وتمتنع عليّ، فأتقدّم بمحاربتك، فتخرج إلى من يحاربك، وبيدك رغيف، كالترس، فتتّقي به السهام، فلا يصل إليك منها شيء، وأشهد الله عزّ وجلّ، أنّني قد وهبت لله تعالى، ما في نفسي عليك، وأنّ رأيي لك، أجمل رأي، من الآن، فانبسط.
قال: فأكبّ أبو جعفر، على يديه ورجليه، يقبّلها «3» .(3/273)
173 ما يرد في المرافق يذهب في المصادرة
حدّثني أبو طاهر المحسّن بن محمد بن الحسن، الجوهريّ «1» ، الشيرازيّ، المعروف بابن المقتفي، وهو أحد [239] الشهود بمدينة السلام، قال: قال لي أبو الفضل العباس بن فسانجس «2» :
كسبت في مدّة تصرّفي مع السلطان، بفارس، خمسين ألف ألف درهم، وصادرني عليّ بن بويه «3» ، في مدّة مقامي بشيراز، على ستمائة ألف دينار، متفرّقة، سوى ما استخرجه من خراج ضيعتي، ثم اقتطعها بالحقّين.
وأنا أقول: لو لم نعتبر في الزمان، إلّا بهذه الحكاية، لكفى، لأنّ أبا الفضل، ما تقلّد أكثر من كتابة فارس، وخلافة العمّال بها، عليها، أو على بعضها، في بعض الأوقات، فظفر بهذا المال.
وقد تقلّد أبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس «4» ، دواوين العراق(3/274)
مجموعة، ثماني وعشرين سنة، ثم الوزارة ثلاثة عشر شهرا، وبلغ المبالغ التي لم يبلغ إليها أبوه قط.
فلما أرهق بالمطالبات، في وقت النكبة، واستقصي عليه، بلغت مصادرته ألف ألف ومائتي ألف درهم، تكشّف «1» بإدائها.(3/275)
174 الخليفة المعتضد يتخبر على وزيره
حدثني أبو محمد، يحيى بن محمد بن فهد، قال: حدّثني [240] بعض المشايخ:
إنّ القاسم بن عبيد الله، كان يخاف المعتضد، ويخفي شربه، ولعبه، لئلّا يتصوّره بصورة حدث، متوفّر على لذّاته، يخلّ بالعمل، فيفسد رأيه فيه، وكان مع ذلك، بالشباب، والحداثة، يشتهي اللعب، فإذا أمكنه أن يخفيه جدّا، استرق الليلة، أو اليوم، من عمره، فشرب.
قال: فأراد الشراب ليلة من الليالي، على الورد، فاحتال في جمع شيء كثير منه، وحصله خفيّا، وجمع من المغنّيات جمعا كثيرا، وفيهن واحدة كان يشتهيها، ويتحظّاها.
وجلس وليس معه غيرهنّ، فشرب، وخلط بالورد الدراهم الخفاف «1» ، ونثر عليه، والناس يسمون ذلك «شاذكلى» «2» ، ولبس ثياب قصب مصبّغات، من ثياب النساء، وأدخل تلك المغنّية معه، لشدّة شغفه بها، ومضت ليلة طيّبة، فقطع الشرب في نصف الليل، خوفا من الخمار «3» ، ونام.
وركب إلى المعتضد من غد، وأقام في الخدمة، إلى حين وقت انصرافه.
فلمّا أراد الانصراف، دخل ليراه المعتضد، وينصرف، فاستدناه [241] المعتضد، إلى أن صار بحيث لا يسمع كلامه غيره، فقال له: يا قاسم(3/276)
لو دعوتنا البارحة، فكنا نلعب معك شاذكلى، ولكنّك احتشمت، لأجل المصبّغات التي لبستها أنت وعشيقتك.
قال: فكاد القاسم أن يموت جزعا.
فقال له: ما لك قد جزعت؟ وأيّ شيء في هذا؟ لو علمنا أنّه يلحقك هذا، ما أخبرناك بشيء، ولا آذيت قلبك، امض في ودائع الله.
قال: فعاد القاسم إلى داره كئيبا، وجمع نصحاءه، وأخبرهم الخبر، وقال: ما أراد المعتضد بهذا، إلّا ليعرّفني أنّ هذا القدر من أخباري ليس يخفى عليه، وإن كان على الحقيقة قد علم هذا القدر، فكيف تخفى عليه مرافقي «1» ، وما هو أظهر من هذا من أخباري؟ وكيف يكون عيشي؟
وانّه لا ينستر عليه مثل هذا؟ وما تروني أصنع «2» ؟
فأخذوا يطيّبون قلبه، ولا يزداد إلّا جزعا، إلى أن قال لهم: إن لم أعرف من رقى هذا الخبر، انشقّت مرارتي، وقتلت نفسي.
فقالوا له: نحن نبحث ونتعرّف.
فابتدر أحدهم، وقال [242] : أنا أكفيك، أيّها الأمير، هذا.
قال: وجعل ذلك الصاحب، يطوف حوالي دار الخليفة، ليجد من يشبه صاحب خبر، فيخمّن عليه، فما ظفر بشيء يومه ذلك.
فلما كان من الغد، طاف الدواوين، ومجالس أصحاب البريد والخبر، يومه أجمع، فما ظفر بشيء.
فلما كان اليوم الثالث، طاف دار الوزارة، ومقاصيرها، فلم يظفر بشيء.(3/277)
فلما كان في اليوم الرابع، وقف على دابّته في باب العامّة، متحيّرا، لا يدري، ينتظر أن يخرج الوزير راكبا، فيركب معه في الموكب، فيتفقّد الوجوه، إذ كان لم يبق له شيء يجده، وإذا هو برجل شاب يحبو على ركبتيه زمانة، كما يكون الزّمن الذي يتصدّق، وقد جاء قبل طلوع الشمس بشيء كثير، فزحف، ودخل على البوّابين، فلم يمنعوه.
قال الرجل: فحين بلغ العتبة، وقف مع البوّابين، يحدّثهم ساعة، وأنا أصغي إليه، ويسألهم عن أخبارهم، ويدعو لهم، وهم على بشاشة، إلى أن أخذ بهم في غير ذلك الحديث [243] .
إلى أن قال: من بكّر اليوم إلى الدواوين، ومن دخل؟ ومن حجب؟
فقالوا له: فلان وفلان.
فحين سمعت ذلك، علمت أنّه صاحب خبر «1» ، فأتبعته بصري، إلى أن جاز البوّابين، ودخلت وراءه، فبلغ إلى أصحاب الستور، فكانت صورته معهم كصورته مع أولئك، فأخبروه بما لم أكن أعلم، مع اختصاصي بخدمة الوزير، من وصول الناس إليه، وحجبهم عنه.
وتجاوز إلى دهليز العامّة، فنزلت عن دابّتي، وهو لا يفطن لي، فبلغ إلى موضع الحجّاب، فولع به الحجّاب، ولم يحدّثهم بشيء ولم يحدّثوه، ودعا لهم، وتصدّق منهم، فأعطوه.(3/278)
فتجاوزهم إلى الصحن، وأنا أراه، فلم يزل يحبو، ويطوف، على خزانة، خزانة، من خزائن الفرش، والشرب، والكسوة، وحجر الغلمان، والخدم، ويبحث عن الأخبار، ويحدّث بكل شيء، وأنا أسمع، حتى استفدت ما لم أكن أعرفه من تخبّر دار الوزير.
ثم جاء إلى باب الحرم، فدعا للخادم الموكّل بالباب، فتصدّق عليه، وأعطاه، وجلس هناك يتطايب، وكلّ من دخل [244] وخرج، من جارية، أو خادم، يسأله عن خبره، ويولع به، ويهب له شيئا، ويستخرجهم أخبار الدار، وينقل ما فيه، ويقول: قولوا لستّنا فلانة تهب لي ما وعدتني به، وقولوا لستي فلانة، تتصدّق عليّ، وسلوا ستّي القهرمانة الفلانية عن خبرها، وأقرؤوها سلامي، وأنا أشاهده، وأتعجّب منه، حتى استنفذ من أخبار جواري القاسم، ومبيته، وعند من بات منهم البارحة، وما بين الجواري من السرور والأنس، وأخبار كسوتهم، وأشياء من هذا الجنس، كلّ شيء طريف.
ثم زحف، ودخل دار الخلوة التي يخلو فيها الوزير، وكان يركب منها، فهشّ به فرّاشو الحجرة، والخاصة، والخدم، والغلمان الأصاغر، وضاحكوه، ودعا لهم، وأخذ من بعضهم برّا، وسألهم عن خبر الوزير في خلوته تلك، وشربه.
وقال له بعضهم: هو مغموم غمّا شديدا منذ يومين، لا نعرف سببه، فما يشرب، ولا يأكل، ولا نام، ولا خلا.
وكلّ ذلك، وهو يظهر في مسائلته التطايب [245] ، وأنّه كالمتغيّر المعتوه، ويحمل أولئك ألفاظه على هذا، فيخبره منهم الضعيف العقل، والمزّاح، والأخرق، وهو يحتمله، إلى أن فرغ من أهل حجرة الخلوة.
ثم خرج، فزحف أشدّ زحف، على هيأته، لا يعرّج على شيء، حتى(3/279)
جاء إلى مجلس الكاتب، فأقام هناك طويلا، ففعل كفعله.
ثم خرج من الباب، وقد ملأ زنبيلا كان معه، من الخبز والحلوى والطعام، وملأ جيبه من الدراهم.
فلما صار على باب الدار، قلت للبوّابين: تعرفون هذا؟
فقالوا: رجل زمن أبله، يجيء فيتصدّق، وخلقه طيب، فكلّ من في الدار، يستطيبه، ويبرّه.
قلت: قد رحمته، واشتهيت آخذ له شيئا، ففيكم من يعرف بيته؟
فقالوا: لا.
فركبت، واتّبعته، ولحقت به، ووقفت كأنّني أحدّث غلامي، وأسير خلفه على تؤدة، حتى جاء إلى الجسر، فعبره زحفا، وأنا وراءه، ودخل الخلد، ودخلت معه، وولج في خان، فقلت لغلامي: اتبعه، فاعرف بيته في الخان، ففعل، وعاد إليّ، فوصفه لي [246] .
فوقفت متحيرا، لا أدري ما أعمل، ولا من أسأل عنه، وأخاف أن أنفّره، فيهرب.
وطال وقوفي، وهممت بالانصراف، فإذا به قد خرج بريئا، نظيفا، بثياب مرويّة «1» ولحية بيضاء، وطيلسان، وعمامة قد جعلها فوق حاجبيه، فلولا قرب عهدي به، وبرؤيته، لما عرفته، وإذا هو يمشي لا قلبة «2» به.
فتأمّلت لحيته، وإذا هي ملبّسة فوق لحيته، وقد أخفاها بعمامته، وإنّما فطنت لذلك، لشدّة تأمّله، وصرف اهتمامي إلى ذلك، مع قرب عهدي برؤيته.(3/280)
ومشى، فدخلت إلى مسجد، وغيّرت عمامتي، وأمرت غلامي أن يأخذ دابّتي ويقف لي عند الجسر بها، ونزعت خفّي، ولبست تمشك «1» غلامي، ومشيت، فاتّبعته، بسرعة مشيته.
ومضى حتى أتى دار ابن طاهر «2» ، فخرج إليه الخادم، فما منهما من كلّم صاحبه، بأكثر من أنّه أخرج رقعة لطيفة، فسلّمها إلى الخادم، ودخل الخادم، ورجع هو، فلم أتبعه، وامتددت إلى درجة يعقوب، فركبت في سميرية، وصعدت [247] إلى دار الوزير.
فدخلت إليه، وهو يطلبني للأكل، فأكلت معه، وقام الناس، فجلست.
فقال لي: قل.
فقلت: فعلت البارحة كذا وكذا، وجرى في دار حرمك كذا، وقالت فلانة كذا، وقالت جاريتك الفلانية وخاطبتك بكذا، وفلان الخادم الصغير فعل كذا.
قال: وكنت قد سمعت في خلال ذلك، أخبار الحاشية، بعضهم من بعض، لا أظن صاحب الخبر عرفها، ولكن كما أنجرّت الأحاديث، فأخبرته بذلك كلّه.
فقال لي: ويحك، أيش تقول؟ من أين لك هذه الأحاديث؟
فقلت: من حيث خرج حديث الشاذكلى.
فقال: أخبرني.(3/281)
فقلت: الجائزة.
فقال: احتكم.
فأخبرته بخبر الزمن، على جهته.
فجذبني، وقبّل بين عينيّ، وأمر لي بمال جليل.
وقال: أريد أن تحصّله، من حيث لا يعرف خبره.
فقلت: أنا على ذلك، فتقدّم إلى بعض الغلمان الخاصّة، أن يطيعني، فجمع بيني وبين غلام منهم، وتقدّم إليه بذلك.
فلما كان من الغد، باكرت الدار، وجلست [248] أنتظر الرجل، فإذا به قد جاء على زيّ أمس، في البزّة والزمانة، ودخل، فلم أعرض له، حتى دخل حجرة الخلوة، فاتّبعته.
وقلت للغلام: خذ هذا، فأخذه، وقفلنا عليه بابا من الحجرة، فاضطرب، وبكى.
ونزل الوزير، فأسررت إليه الخبر، ففضّ شغله، ودخل الحجرة، واستدعى به، فجاء يزحف، فوكزت عنقه، وقلت له: قم يا عاضّ «1» ، فامش مشيا صحيحا، كما رأيتك تمشي بالأمس.
فقال: أنا رجل زمن.
فأحضرت له مقارع، فلما رأى المصدوقة «2» ، قام، فمشى.
فقال له القاسم: اصدقني عن خبرك، وإلّا قتلتك الساعة.
فقال: أنا صاحب خبر المعتضد عليك، منذ كذا وكذا شهرا، أفعل كذا، وأصنع كذا، وذكر مثل ما أخبرته به، وأنّه يجمع الأخبار، ويكتب بها في كلّ نصف نهار، من كلّ يوم، ويوصل رقعة لطيفة بذلك إلى الخادم(3/282)
الموكّل بدار ابن طاهر، فيمضي بها ذلك الخادم إلى المعتضد، فإنّ الخادم، هو الواسطة بينهما، وإنّه إذا كان في [249] رأس كل شهر، سلّم إليه الخادم ثلاثين دينارا عينا.
قال: فعرّفني، أيّ شيء أنهيت من أخباري، طول هذه المدة؟
فذكر له أشياء كثيرة، منها خبر الشاذكلى.
فحبسه القاسم في ذلك البيت، فلما كان في الليل قتل «1» ، ودفن، فانقطع خبره عن المعتضد.
فلما كان بعد شهر، وأكثر، قال لي القاسم: استرحت من ذلك الكلب، ما أرى عند المعتضد من خبري شيئا، ولا أرى عليه أثرا يدلّ على وقوفه على شيء من أمري.(3/283)
175 أبو بكر بن رائق وإعجابه بغناء ابن طرخان
حدّثني أبو الفتح أحمد بن عليّ بن هارون المنجّم، قال: حدّثني أبي «1» ، قال:
كان أبو بكر بن رائق، شديد الإعجاب، بغناء أبي القاسم بن طرخان «2» ، وكان أهلا لذلك، وكان أطيب الناس حلقا، وأحسنهم صنعة، وكان يجسّ الطنبور جسّا، أطيب من الضرب، تكاد القلوب إذا سمعته، أن تخرج من أضلاعها، استطابة له.
وكان إذا ابتدأ يجسّ، ابتدأ ابن رائق، يشرب أقداحا [250] ، إلى أن يجيء الغناء.
فقال لي يوما: يا أبا الحسن، ما ترى هذا الجسّ الذي ليس على وجه الأرض أطيب منه، أيّ شيء يشبه عندك؟
فقلت: أيّها الأمير، يشبه رسول الحبيب، يستأذن لزيارته.
فأعجبه ذلك.(3/284)
ثم حدّثت بهذا الحديث، عبيد الله بن محمد الصروي «1» ، فعمل بحضرتي، في ذلك شعرا، وأنشدنيه:
قامت تذود كرى المحبّ ... وقد غفا عن مقلتيه
وتجسّ قبل الصوت مثنى ... عودها شوقا إليه
فكأنّه في قلبه ... إذ نبّهته ومسمعيه
نغم الرسول مبشرا ... بقدوم من يهوي عليه
176 علي بن هارون المنجم يلقي على المغنّي درسا في الغناء
وحدّثني أبو الفتح، قال:
كنت بحضرة أبي «2» ، وبحضرته مغنّ يغنّي، فمرّ في بعض لحنه بميم فبيّنها.
فقال له أبي: إذا مررت في ألحانك، بميم، أو نون، فزمّها، واعصرها، وأنا ضامن لك طيبة ذلك، غارم لك كلّما يجني عليك.
قال: فأعاد الصوت، وزمّ الميم زمّا شديدا [251] ، فتضاعفت طيبته.(3/285)
177 من شعر الوزير المهلبي
سمعت الوزير أبا محمد المهلّبيّ «1» ، يتحدّث يوما في مجلس أنس حضرته، قال:
كنت قد خرجت من الأهواز، مع أبي جعفر الصيمري «2» ، نريد السوس «3» ، وهو إذ ذاك عاملها لمعزّ الدولة، وكانت والدة أبي الغنائم- إذ ذاك- بالسوس، وأنا في عنفوان استهتاري بها، وقد اشتدّ شوقي إليها، يعني تجنّي جاريته «4» .
فلما صرنا في الرمل الذي في الطريق، هاجت ريح عظيمة، فسفت علينا تلك الرمال، فذكرت بيتي الفرزدق، وهما:
وركب كأنّ الريح تطلب عندهم ... لها سلبا من جذبها بالعصائب
سروا يخبطون الريح وهي تلفّهم ... إلى شعب الأكوار من كل جانب «5»(3/286)
فعملت:
وريح تغيم الجو مما تثيره ... وتستلب الركبان ريط العصائب
نصبت لها نفسي وأنصبت صاحبي ... إلى أن نزلنا في ديار الحبائب [252]
قال: وأنشدني لنفسه:
أتحسب العين أنّها طرحت ... على فؤادي ثقلا من الشغف
ما أبله العين في توهّمها ... بأنّها عرّيت من التلف
178 بين القاضي الإيذجي والمفجع الشاعر
أخبرني أبو عليّ الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجيّ، وكان يخلف أبي على القضاء «1» بإيذج «2» ، وعلى رامهرمز «3» ، ثم لم يزل على الحكم، ونادم أبا محمد المهلّبي في وزارته «4» ، فغلب عليه، وعلا محله عنده، وتخالع،(3/287)
وتهتّك، بما لا يجوز للقضاة، وكان يدعى بالقضاء، ويخاطبه أبو محمد، في الوزارة، في كتبه، بسيّدي القاضي، وكان له محلّ مكين في الأدب، قال:
وردت البصرة، وأنا حديث السنّ، لأكتب العلم، وأتأدّب، فلزمني أبو عبد الله المفجّع «1» ، وكنت أقتصر عليه، فكتب إليّ يوما، وقد قرص «2» الهواء:
يا أيّهذا الفتى وأنت فتى الدهر ... إذا عزّ أن يقال فتى
طوبى لمن كان في الشتاء له ... كأس وكيس وكسرة «3» وكسا [253]
وكتب في الرقعة: قد بقيت كاف أخرى، لولا أنّي أحبّ تقليل المؤونة، عليك، لذكرتها، يعني الكس.
فبعثت إليه، بجميع ما التمسه.(3/288)
179 أبو خليفة يصطفي شعر عمران بن حطّان
وحدّثني [أبو عليّ الإيذجيّ، قال: كان أبو خليفة «1» ] ، صديقا لأبي وعمّي، منذ أيّام وفد إلى كور الأهواز، في فتنة الزنج «2» .
فلما قدمت البصرة، قدمتها مع أبي، فأنزلنا أبو خليفة داره، وأكرمنا، ومكّنني من كتبه، فكنت أقرأ عليه، كلّما أريد، وأسمع كيف شئت وأحبّ، وأكتب وأنسخ لنفسي أصوله.
فإذا كان الليل، جلسنا، وتحادثنا، فربما رمت القراءة عليه، فيجيبني، فإذا أضجرته بكثرة القراءة عليه، يقول: يا بنيّ، روّحني، فأقطع القراءة.
وإذا استراح، أخرج من كمّه دفترا، من ورق أصفر، من الورق العتيق، فيقول: إقرأ عليّ من هذا، فإنّه خطّي، وما تقرأه عليّ، فهو غير خطّي.
فكنت أقرأ عليه منه، وكان فيه ديوان عمران بن حطان «3» ، وكان يبكي، على مواضع منه.
فأنشدته ليلة، القصيدة التي منها: [254](3/289)
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها ... إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكره يوما فأحسبه ... أحظى البريّة عند الله ميزانا
فبكى عليهما، لمّا انتهيت إليهما، حتى كاد أن يغمى عليه، فاستطرفت ذلك، وعجبت منه.
فلما كان من الغد، اجتمعت مع المفجّع، فحدّثته بذلك، واغتررت به، للأدب، واستكتمته إيّاه، فأشاعه، وعمل:
أبو خليفة مطويّ على دخن «1» ... للهاشميّين في سرّ وإعلان
ما زلت أعرف ما يخفي وأنكره ... حتى اصطفى شعر عمران بن حطان
وأنشدنيها لنفسه، وأنشدها غيري، فكتبها عنه بعض أهل الأدب، في رقعة لطيفة، وجعلها في مقلمته.
وحضرنا عند أبي خليفة في مجلس عام، فنفض الرجل [255] مقلمته ليرى ما فيها، فسقطت الرقعة، وانصرف، فوجدها أبو خليفة، وقرأها، فاشتدّ ذلك عليه، وقال: إنّ الإيذجيّ، قبحه الله، وترحه، شاط بدمي، عليّ بأبي العباس الساعة- يعني والدي- فجاءه، فحدّثه الحديث، فوقعت في ورطة، وكادت الحال أن تنفرج، بيني وبين أبي، ومنعني أبو خليفة القراءة، واحتشمني «2» ، فحملت إليه ثيابا لها قدر، وأهديت إليه من مآكل الهند «3» ، واعتذرت إليه، فرجع، وقبل عذري، وعاود تدريسي، ومكّنني من القراءة عليه، فقرأت كتاب الطبقات، وغيره، ممّا كان عنده.(3/290)
وقال: فلا أظهر الرضى عنك، أو تكذّب نفسك. ففعلت ذلك، وأعطيت المفجّع ثوبا دبيقيّا، حتى كفّ عن إنشاد الأبيات، وجحدها، واعتذر إلى أبي خليفة.
وقال لي أبو عليّ عقيب هذا: أكثر رواة علم العرب، فيما بلغني عنهم، إمّا خوارج، أو شعوبيّة، كأبي حاتم السجستاني «1» ، وأبي عبيدة معمر بن المثنى «2» ، وفلان، وفلان، وعدّد جماعة «3» .(3/291)
محتويات الكتاب
5: مقدمة المحقق
7: مقدمة المؤلف
9: 1: الأمين لا يتّهم
10: 2: يرى مناما فيمزّق كتابا
11: 3: القاضي أبو خازم يتأنّى في أحكامه
13: 4: أبو جدي، كنية التيس
14: 5: لأبي عليّ الحاتميّ في الأمير سيف الدولة
15: 6: ما قاله أحد ملوك الهند
16: 7: من شعر أحد الكتاب في بيمارستان البصرة
17: 8: مدائح قيلت في أبي القاسم التنوخي والد المحسّن
18: 9: من نظم عضد الدولة
19: 10: من رسالة لأبي القاسم التنوخي
20: 11: كان قتل أبي يوسف البريدي أبرك الأشياء على سيف الدولة
26: 12: لأبي علي الحاتمي، يمدح
27: 13: يعطي ويمنع، لا بخلا ولا كرما
28: 14: بحث في معرفة السارق
29: 15: آيات لإعادة الآبق
30: 16: السرج واللجام في جهاز كل عروس
31: 17: الوزير عبيد الله بن سليمان والجهبذ اليهودي سهل بن نظير(3/293)
33: 18: عاقبة الظلم
35: 19: خراج الأهواز في سنة خمس وثلاثمائة
36: 20: خضاب يسوّد الشعر
37: 21: طلاء يمنع الحبل
38: 22: الخليفة المعتضد يشهد على نفسه العدول
39: 23: الحارثيّ يستهدي النبيذ
39: 24: صفة نبيذ لا يسكر
40: 25: الكاتب ابن جبير يفاضل بين الوزير ابن الفرات والوزير عليّ بن عيسى
41: 26: دناءة نديم ولؤم أمير
43: 27: ألوان من الحجاب
44: 28: جواب لأبي العيناء
44: 29: أبو العيناء لا ينسى ما حفظ
46: 30: أبو العيناء وأحمد بن الحسن بن المثنى
47: 31: أبو خازم القاضي يريد أن يولّي أحمد بن الحسن بن المثنى القضاء
48: 32: أبو العيناء في دار الواثقي أمير البصرة
49: 33: منافرة بين ضريرين
50: 34: المصالحة بين تاجر أفلس وبين دائنيه
52: 35: إنفاق بلا دخل، يذهب بالأموال
52: 36: بين الجبائيّ والكرخي
54: 37: الخصال المذمومة في الشيخ
55: 38: شيخ من أهل المذار يرى مناما(3/294)
56: 39: من أقوال معزّ الدولة
57: 40: القاضي أبو عمر، ينقذ بعمامته شخصا من الغرق
58: 41: الإكثار من الغالية يدفئ في الجوّ البارد
59: 42: الإكثار من الغالية يسبّب العمى
60: 43: مثل من الأمانة
61: 44: لا يعرّض القرآن للمسألة
62: 45: السورجيّ وزوجته
62: 46: يتمنّى أن يمرض ليعوده حبيبه
63: 47: المعتضد يكتب رقعة في رفع ظلامة
67: 48: ابن أبي دؤاد وكرمه وعلوّ همّته
69: 49: دعوة الأم لأولادها مستجابة
70: 50: أبو الهيجاء بن حمدان ومتانة أعصابه
72: 51: هجاه بالشعر فأجابه بأخذ الشعير
73: 52: خلف النار الرماد
74: 53: كما تدين تدان
76: 54: الصوفي المتوكل وجام فالوذج حار
78: 55: سائل بالابلّة، وسائل بالصين
79: 56: تاجر يتمدّح بتجسّسه على التجّار
83: 57: صائغ يتمدّح بأنّه اؤتمن فخان
85: 58: من مكارم أخلاق الأمير الموفّق
87: 59: بحث في الأمانة
88: 60: الخوارج يقطعون السارق من المرفق
91: 61: الأمير معز الدولة يطوف في قصور دار الخلافة(3/295)
94: 62: أجر الطبيب عن سقي دهن الخروع
95: 63: ابن الوزير عليّ بن عيسى، يمنع والديه من الاجتماع
96: 64: الوزير أبو عليّ بن مقلة يثني على القاضي أبي عمر
97: 65: الخليفة المعتضد يبحث عن حجّة لقتل وزيره
99: 66: عمرو بن الليث الصفار يعاقب واحدا من حرسه
100: 67: حميد الطوسي يأمر بقتل الطباخ لأنّه لم ينضج دجاجة
101: 68: إسحاق المصعبيّ تحرّكه رقاع أصحاب الأرباع في بغداد
104: 69: شغف المتوكل بالعود الهندي
114: 70: الكاتب بشر بن هارون النصراني يهجو وزيرا
115: 71: رأي الوزير ابن الفرات في سياسة المملكة
116: 72: الخليفة لا يخاتل
117: 73: علم الخرق وعلم الورق
118: 74: المواساة بخل إنّما هو الإيثار
119: 75: الجنيد والسائل
119: 76: جعفر الخلديّ يحجّ على التوكّل
120: 77: كتم رويم حبّ الدنيا أربعين سنة
121: 78: البريء جريء والخائن خائف
122: 79: الجاهل ميت والعاصي سكران
123: 80: كن صحيحا تكن فصيحا
123: 81: حسن الأدب بين يدي الله تعالى
124: 82: ابن نصرويه يشاور شابا
125: 83: الوزير المهلّبيّ ينعى علي أبي تمام الزينبيّ نقص مروءته
126: 84: الوزير المهلّبيّ يفاضل بين ابن عبد الواحد والزينبيّ(3/296)
127: 85: الغيبة فاكهة القرّاء
128: 86: سريّ السقطي يشتهي أكلة
129: 87: من مكارم أخلاق القاضي أبي عمر
130: 88: تعليق المهلّبيّ على كتاب القنائي الكاتب
131: 89: الوزير المهلّبيّ يستولي على غلّات بالبصرة دون رضى أصحابها
133: 90: وشديد عادة منتزعة
134: 91: صلاة التجّار
135: 92: من بزّ يوما بزّ به
136: 93: القاضي ابن البهلول يوصي القاضي التنوخي لمّا نصبه للقضاء
139: 94: ابن شاهويه القاضي، يبحث في قضيّة شرعيّة
141: 95: الدليل على تحليل نبيذ التمر
142: 96: دليل آخر على تحليل النبيذ
143: 97: الجبائي وتحليل النبيذ
144: 98: الوزير المهلّبي يناظر بعض دعاة الفتنة ببغداد
146: 99: لماذا كنى نفسه أبا البيان
147: 100: طريقة أبي البيان المؤدب في التدريس
148: 101: مؤدب يتشاتم مع التلاميذ
149: 102: رقية للمرأة كي لا تسقط حملها
150: 103: رقية لإعادة الآبق
151: 104: رقية لإمساك الرعاف
151: 105: رقية للخراج
152: 106: القطيعي الطبيب وذكاؤه ومكارم أخلاقه(3/297)
154: 107: مهاترة بين رجلين من الخاصة
156: 108: ابن سكرة الهاشمي يهجو القاضي ابن أبي الشوارب
157: 109: من مختار شعر أبي فراس
159: 110: للشاعر الببغاء يصف شرابا
160: 111: زمان الهوى الذّ زمان
161: 112: مريض بالاستسقاء تشفيه أكلة جراد
164: 113: مريض بالاستسقاء يبرأ بعد أن طعم لحم أفعى
166: 114: ابن نصرويه يجيز شاعرا مدحه بثلاثة دراهم
167: 115: بحث في شكوى الزمان
168: 116: توقيع للقاضي ابن معروف
169: 117: كتاب كتبه أبو إسحاق الصابي
171: 118: أبو العلاء صاعد يفتخر
172: 119: كظم الغيظ من مكارم الأخلاق
173: 120: الأمير سيف الدولة يصفح عن أحد أتباعه ويعيد إليه نعمته
178: 121: سخاء الأمير سيف الدولة
184: 122: الوزير حامد بن العباس يعذّب المحسّن بن الفرات
187: 123: من شعر المهلّبي الوزير
189: 124: قال الخليفة المقتدر: ما ظننت أن في الدنيا من يأكل طعاما بلا حلوى بعده
192: 125: الخليفة المعتضد يأمر بصنع جزوريّة
194: 126: اللهم أنقذنا من ذلّ الطمع
195: 127: آلى على نفسه أن لا يأكل لحم فيل أبدا(3/298)
198: 128: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه
199: 129: طلّسم لإزالة الغمّ
200: 130: رقية تنفع من لسعة العقرب
202: 131: والرقية تنفع أيضا في لسعة الزنبور
203: 132: لأبي الحسن بن المنجّم، يعاتب صديقا له
204: 133: لأبي الفتح بن المنجّم في الغزل
205: 134: لأبي أحمد بن سليمان متغزّلا
206: 135: أشهدوا العدول على الخليفة المطيع لمّا خلع نفسه
208: 136: الأمير الراسبي يأمر بقتل أحد المجرمين على مائدته
211: 137: رقعة إلى رجل تزوّجت أمّه
212: 138: رقعة الصابي إلى الوزير ابن بقيّة
213: 139: تملّكت يا مهجتي مهجتي
213: 140: لا فكّك الله
214: 141: كيف كان الأبزاعجي صاحب شرطة بغداد يحقّق مع المتّهمين
220: 142: لماذا لقّب بالأبزاعجي
221: 143: وكيل دعاوى يحرم من أجره فيعرقل حسم الدعوى
222: 144: إذا صرف الأمين زائدا عن الحاجة ألزم بتعويضه من ماله
223: 145: رؤيا عبد الملك بن مروان وتفسيرها
225: 146: أبو أحمد بن المثنّى ومناماته التي لا تخطئ
227: 147: قاضي شيراز يحكم بين صوفيّ وصوفيّة
228: 148: ابن خفيف شيخ الصوفية بشيراز يتكلّم على الخطرات والوساوس(3/299)
230: 149: من شعر أبي فراس الحمداني
232: 150: أبو سعيد الشيباني يتغزّل
233: 151: القاضي أبو الحسين بن أبي عمر يحزن لموت يزيد المائي
236: 152: أبو المغيرة الشاعر يروي خبرا ملفّقا
243: 153: من شعر أبي المغيرة
244: 154: أبو أحمد الدلجيّ يرى مناما صادقا
247: 155: أبو مسلم الأصبهاني الكاتب يرى مناما صادقا
250: 156: الوزير المهلّبي يطالب أحد عمّاله بحمل الخراج
251: 157: أبو محمد المهلّبيّ الوزير يتحدّث عن الكرم
251: 158: إعظام من لا دين له، ولا دنيا عنده، حمق
252: 159: البخل خير من مسألة البخيل
253: 160: سلامة الحاجب يلوم قوما طعنوا في العدول
254: 161: أبو عليّ بن مقلة الوزير يزيل أثر الحلوى بالحبر
255: 162: من نظم ابن أبي الضحّاك
256: 163: للبديهي البغدادي في وصف النارنج
257: 164: أبو الحسن بن جميل يستخلف متخلّفا
258: 165: أبو الفضل عامل أرجان يقدّم نوبة الحمّى
259: 166: ابن الجريح يقتل أسدا
260: 167: الخليفة المعتضد يقتل أسدا
261: 168: لا جزاك الله من طارق خيرا
264: 169: دكين البدوي يسلّ فرس معز الدولة
267: 170: مختارات من الشعر
268: 171: رجال الدولة يتآمر بعضهم على بعض(3/300)
273: 172: أبو جعفر بن بسطام، له قصّة في رغيف
274: 173: ما يرد في المرافق، يذهب في المصادرة
276: 174: الخليفة المعتضد يتخبّر على وزيره
284: 175: أبو بكر بن رائق وإعجابه بغناء ابن طرخان
285: 176: علي بن هارون المنجّم يلقي على المغني درسا في الغناء
286: 177: من شعر الوزير المهلّبي
287: 178: بين القاضي الإيذجيّ والمفجّع الشاعر
289: 179: أبو خليفة يصطفي شعر عمران بن حطّان(3/301)
فهرس أسماء الأشخاص
(أ)
ابن أبان- أبو موسى، عيسى بن أبان بن صدقة، قاضي البصرة 94
إبراهيم بن إسماعيل- من حجاب بختيار البويهي 246، 248
إبراهيم بن المهدي 156
الأبزاعجي- أبو الحسن، الأستاذ، صاحب الشرطة ببغداد 214، 215، 216، 217، 219، 220
الأبهري- أبو بكر محمد بن صالح، الفقيه المالكي 194
الآجري- أبو عبيد محمد بن علي 46
ابن أحمد- مكرم بن أحمد القاضي 9
الإخشيد- أبو بكر محمد بن طغج، صاحب مصر 20، 21، 25
الإخشيدي- كافور، أبو المسك 173، 174
الأرمني- أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبيد الله الفقيه الحنفي 52
الأزدي- أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد الأزدي القاضي 97، 120
الأزدي- أبو طلحة- صاحب بني المثنى بالبصرة 134
الأزدي- أبو الحسين عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف الأزدي- أبو الحسين القاضي
الأزدي- أبو عمر، القاضي محمد بن يوسف- أبو عمر
الأزدي- أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد 154، 273، 274
الأسدي- أبو بشر عمر بن أكثم بن أحمد بن حبان 221، 222
الأسدي- أبو المغيرة محمد بن يعقوب بن يوسف البغدادي 236، 243
ابن إسماعيل- أبو الفضل غيلان، عامل جرجان 258
إسماعيل بن بلبل- الوزير، أبو الصقر 97، 98(3/302)
الأسمر- محمد، من ندماء الأمير سيف الدولة 174، 175
الأشجعي- عمر بن محمد، صاحب ابن معدان الشاهد 9، 10
الأصبهاني- أبو بكر، صاحب سبكتكين التركي 206
الأصبهاني- أبو علي الحسن بن علي بن مهدي، ابن أخت سعد بن عبد الرحمن ضامن عمالة البصرة 250
الأصبهاني- أبو مسلم محمد بن أحمد بن مهدي الكاتب 247، 249
الأصمعي- أبو سعيد عبد الملك بن قريب الباهلي، راوية العرب 45
ابن الأعجمي الكاتب- من مشهوري كتاب مصر 176
الأعسر- فائق 225
ابن أكثم- أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن التميمي القاضي 94
الآمدي- أبو العباس أحمد بن إسحاق المعروف بابن أبي صفوان 251
الآمدي- أبو القاسم بن بشر 223، 224، 225، 226
الأموي- خالد بن أسيد 156
الأموي- عباد بن أسيد، صاحب النبي صلوات الله عليه 156
الأنباري- أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب 154
الأنصاري- أبو بكر موسى بن إسحاق بن موسى بن عبد الله القاضي- الخطمي
الأهوازي- أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين الكاتب، ضامن عمالة البصرة 250، 257
الأهوازي- عبيد الله بن محمد بن عبد الله 33
الإيذجي- القاضي أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله 287، 289، 290، 291
(ب)
ابن بابا- يونس، خازن الأمير سيف الدولة 180
الببغاء- أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن نصر المخزومي الشاعر 159، 160
بجكم- أمير الأمراء، القائد التركي 67، 203
البختري- أحمد بن عبد الله القاضي البغدادي 15(3/303)
بختكين آزاذرويه- القائد التركي 245، 248، 249
ابن بختيار- الحسن بن أحمد بن بختيار، القائد الديلمي 249
بختيار- أبو منصور عز الدولة البويهي بن معز الدولة 169، 193، 212، 245، 246، 247
البدوي- دكين، من بني النمر بن قاسط 264
البديهي- أبو الحسن أحمد بن عبيد الله البغدادي 256
البرامكة- 68
البريدي- أبو عبد الله أحمد بن محمد البريدي 23
البريدي- أبو القاسم عبد الله بن أبي عبد الله أحمد بن محمد 41، 223، 224، 225، 226
البريدي- أبو يعلى محمد بن أبي يوسف يعقوب بن محمد 20، 23
البريدي- أبو يوسف يعقوب بن محمد 20
البزاز- أبو القاسم إسماعيل بن هارون بن عيسى بن زياد بن مردانشاه 121، 122
ابن بسّام- محمد بن جعفر بن بسّام، قاضي البصرة 43، 45
ابن بسطام- أبو جعفر 273
بشر بن هارون النصراني- أبو نصر 114
البصري- أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، إمام أهل البصرة 53
البصري- أبو محمد يوسف بن يعقوب بن حماد، والد القاضي أبي عمر 97
البصير- أبو علي الفضل بن جعفر بن الفضل بن يونس النخعي الشاعر 49
بظر أم الدنيا- الحسين بن فلان النصراني الكاتب 115
البغدادي- أبو القاسم عمر بن حسان بن الحسين الشاهد، قاضي ديار مضر 252، 253
البغدادي- أبو موسى عيسى بن عبيد الله 236
ابن بقيّة- الوزير الناصح، نصير الدولة، أبو طاهر محمد بن محمد بن بقيّة، وزير بختيار 19، 85، 169، 212، 245، 246، 247
ابن البكتمري: أبو الفتح، الكاتب، الشامي 213
ابن بكر: أبو بشر مكرم بن بكر بن محمد بن مكرم 11 و 13.(3/304)
ابن بكير- عبيد الله بن أحمد بن بكير 87
ابن بلبل- أبو الصقر إسماعيل- إسماعيل
ابن بلبل- أبو القاسم، كتب إليه الوزير المهلّبي 187
البلخي- أبو الفضل، الفقيه 33
أبو البيان- المؤدب 146، 147، 148
ابن البيطار- ضياء الدين عبد الله بن أحمد الأندلسي المالقي، مؤلف كتاب الجامع لمفردات الأدوية والأغذية 38
(ت)
تجنّي- أم أولاد الوزير أبي محمد المهلّبي 286
التستري- أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس 122
التنوخي- أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول الأنباري القاضي 9، 136، 137، 222
التنوخي- أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب 200، 202
التنوخي- أبو القاسم بهلول بن أبي طالب محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول 214
التنوخي- أبو القاسم عليّ بن محمد التنوخي القاضي، والد صاحب النشوار 17، 19، 27، 87، 136
التنوخي- أبو عليّ المحسّن بن عليّ القاضي، صاحب النشوار 1، 5، 19، 52، 258
التنوخي- أبو طالب محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول 202
التوحيدي- أبو حيان عليّ بن محمد بن العباس 68، 205
تيمور- العلامة أحمد تيمور 5
(ث)
ابن ثابت- أبو إسحاق الصوفي 144
(ج)
الجاحظ- أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب 291(3/305)
جالينوس- الطبيب اليوناني، ذو الفتوح في عالم التشريح 10
الجبائي- الحسين بن محمد 74، 104، 113
الجبائي- أبو زهير، الفقيه الحنفي 52، 53
الجبائي- أبو علي محمد بن عبد الوهاب 143
ابن خبير- ابو منصور عبد الله بن جبير النصراني، كاتب الوزير أبي الحسن بن الفرات 40
ابن الجصاص- أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الجوهري 43
جرادة الكاتب- 31، 32
ابن الجريح- من الشاكرية في ناحية المذار 259
الجعابي- أبو بكر الحافظ 233
جعفر- ملاح طيار المقتدر، رئيس الملاحين الذين برسم الخدمة 190
أبو جعفر- مؤدب صاحب النشوار 146، 147، 148
ابن جمهور- أبو علي محمد بن الحسن بن جمهور العمي الكاتب الصلحي البصري 258
ابن جميل- أبو الحسن، الكاتب في ديوان الأهواز 257
الجنيد- أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز الصوفي 118، 119، 121، 123، 127، 128، 195
الجوهري- أبو طاهر المحسّن بن محمد بن الحسن بن عبد الله 274
(ح)
الحاتمي- أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر 14، 26
الحارثي- أبو أحمد عبد الله بن عمر بن الحارث السراج الواسطيّ 36، 37، 38، 39، 149، 150، 151
الحارثي- أبو الحسين الحارثي النهرسابسي 184
الحاكم الفاطمي- أبو علي منصور الحاكم بأمر الله بن نزار العزيز بالله بن معد المعز لدين الله بن إسماعيل بن محمد العبيدي الفاطمي (375- 411) 178
ابن حامد- أحمد الشاهد 207(3/306)
حامد بن العباس- أبو محمد، وزير المقتدر 43، 184، 185، 186، 193
ابن الحجاج- أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد 114
حدندل- لقب القاضي أبي العباس بن أبي الشوارب الأموي 156
ابن أبي الحسك- أبو أحمد الشاهد 67
ابن الحسن- أبو طاهر الحسين، عامل البصرة 74، 75
أبو الحسين القاضي- عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف الأزدي 96، 233، 235
الحصري- أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ القيرواني 49
ابن حطان- عمران بن حطان بن ظبيان، السدوسي، الشيباني، الوائلي 289، 290.
الحمداني- أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون التغلبي 157، 230
الحمداني- أبو البركات بن ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان 22
الحمداني- الأمير ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان 20، 21، 22، 23، 24، 25، 70، 178
الحمداني- أبو المظفر حمدان بن ناصر الدولة 169
الحمداني- سعد الدولة شريف بن سيف الدولة الأمير أبي الحسن عليّ 178
الحمداني- أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون، والد سيف الدولة وناصر الدولة 70، 71
الحمداني- الأمير سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان 14، 20، 25، 70، 160، 173، 174، 175، 177، 178، 179، 180، 181، 182، 230، 265
الحمداني- أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة 22، 245
الحمدانية- جميلة بنت ناصر الدولة 22
ابن حمدون النديم 104
الحميري- المطرّف الشاعر 166
ابن حوري- أبو بكر، من أهالي فامية، صاحب ابن أبي عوف 63(3/307)
(خ)
أبو خازم- القاضي عبد الحميد بن عبد العزيز، قاضي المعتضد 11، 12، 13، 43، 47، 140
خاقان المفلحي- القائد التركي 193
الخاقاني- محمد بن عبيد الله بن خاقان الوزير 178
الخراساني- علي بن أحمد، حاجب معز الدولة 16، 91
الخطمي- أبو بكر موسى بن إسحاق بن موسى بن عبد الله الأنصاري القاضي 46
ابن خفيف البغدادي- شيخ الصوفية بشيراز 228
الخلدي- أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير بن القاسم الخواص الصوفي 117، 118، 119، 120، 123، 127، 128، 194، 198
أبو خليفة- الفضل بن الحباب بن محمد الجمحي 44، 45، 289، 291
خواشاذه- أبو نصر، خازن عضد الدولة 91
الخوّاص- أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الصوفي 195
(د)
اين داسه- أبو محمد عبد الله بن أحمد بن بكر بن داسه البصري 41، 43، 44، 46 47، 48، 49، 52، 53، 54، 55، 58، 59، 61، 62، 67، 72، 87، 94، 95، 97، 99، 101، 251
داود- أبو الحسن، كاتب الوقف بالبصرة 15
الداودي- أبو سعد بشر بن الحسن، قاضي شيراز 227
الدباس- القاضي أبو طاهر 140
الدرعي- سيما، صاحب شرطة الأهواز 248
ابن دريد- أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي 288
الدلجي- أبو أحمد الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب 205، 244، 245، 246، 247، 248، 249، 259(3/308)
دلويه- أبو محمد عبد الله بن علي 154، 155
دنحا- مملوك الأمير سيف الدولة 24، 25
ابن أبي دؤاد- القاضي أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد بن جرير بن مالك الايادي، السيّد العربيّ النبيل 45، 67، 68، 99
ابن أبي دؤاد- أبو الوليد محمد بن أبي عبد الله أحمد بن أبي دؤاد الايادي 99
الدوري- أبو الفضل العباس بن محمد بن حاتم بن واقد 117
الدينارية- أم الفضل، زوجة الوزير ابن مقلة 254
(ذ)
الذهلي- أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي، قاضي مصر 67
(ر)
ابن رائق- الأمير أبو بكر 284
الراسبي- الأمير علي بن أحمد 208، 209، 210
الراضي- أبو العباس محمد بن أبي الفضل جعفر المقتدر 178، 184، 203
ابن رجاء- الحسن بن رجاء 27
الرشيد- أبو جعفر هارون الرشيد بن أبي عبد الله محمد المهدي 59
ركن الدولة- أبو علي الحسن بن بويه 212
رويم- أبو محمد رويم بن أحمد بن يزيد بن رويم بن يزيد 120
ريطة- ابنة أبي العباس السفّاح، وزوجة ابن عمها المهدي بن المنصور 156
(ز)
ابن الزبير- عبد الله، أبو بكر 224
ابن زحر- محمد بن عدي بن زحر البصري، جار القاضي التنوخي صاحب النشوار بالبصرة 73، 135
زنجي- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، كاتب الوزير أبي الحسن بن الفرات 41(3/309)
ابن زنجي- أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن إسماعيل 41
الزيات- أحمد بن عثمان بن الحارث 50، 51
الزيات- محمد بن أحمد بن عثمان بن الحارث 50، 51، 63
الزينبي- أبو تمام الحسن بن محمد الهاشمي 125، 126
زينة- ابنة الوزير أبي محمد المهلبي 286
(س)
أبو السائب- عتبة بن عبيد الله بن موسى، قاضي القضاة 144، 221
الساماني- أبو الحسن نصر بن أحمد بن إسماعيل، صاحب ما وراء النهر 33
سباشي الخوارزمي- القائد التركي 132
سبكتكين الحاجب- القائد التركي 130، 131، 132، 206، 245
السجستاني- الخليل بن أحمد، قاضي سجستان 33
السجستاني- أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان الجشمي 291
السرخسي- أبو العباس أحمد بن مروان بن الطيب 200
سعد بن عبد الرحمان- ضامن عمالة البصرة 250
ابن سعدان- أبو علي، تاجر بصري 134
السفاح- أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس 156
السقطي- أبو الحسن السريّ بن المغلس 121، 123، 127، 128
ابن سكرة- أبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي 156
سلامة الحاجب- الطولوني، المؤتمن 154، 252، 253
أبو سلمة- كتب إليه المهلّبي الوزير 187
أم سلمة- المخزومية، بنت يعقوب بن سلمة المخزومي، زوجة أبي العباس السفاح 156
ابن سليمان- تكيدار، القائد الجيلي 249
ابن السماك- أبو القاسم عبد الرحيم بن جعفر السيرافي الفقيه 139، 227
السمرقندي- خفيف، مولى المعتضد 260(3/310)
سهل بن بشر- أبو العباس، عامل الأهواز 205، 244، 245، 246، 247، 248، 249
السواق- أبو بكر بن جعفر، أحد تجار الكرخ 133
السورجي- شيخ بصري مستور من جيران أبي محمد بن داسه البصري 62
السوسي- إبراهيم بن عيسى بن نصر النصراني الكاتب 172
ابن سيار- أبو بكر أحمد، قاضي الأهواز 76، 78
ابن سيرين- أبو بكر محمد بن سيرين البصري 224
ابن سينا- أبو عليّ شرف الملك الحسين بن عبد الله، صاحب القانون في الطب 39
(ش)
الشالجي- عبود الشالجي، المحامي، محقق كتاب النشوار 1، 5
ابن شانده- أبو الحسين محمد بن محمد بن إسماعيل الواسطي 130، 131
شاهك- خادم الخليفة المطيع 91
ابن شاهويه- أبو بكر محمد بن أحمد بن علي بن شاهويه، القاضي بأرجان 139
الشرابي- أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان، المعروف بابن أبي عمرو حاجب الخليفة المطيع 91.
شرف الدولة- أبو الفوارس شيرويه بن عضد الدولة ابن بويه الديلمي 168
الشريف الرضيّ- أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الرضيّ العلوي الحسيني الموسويّ 168، 211
الشريف المرتضى- أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم الحسيني العلوي الموسوي 168
شكلة- أم إبراهيم بن المهدي 156
الشلمغاني- أبو جعفر محمد بن علي المعروف بابن أبي العزاقر 184، 185، 186
ابن شهرام- أبو إسحاق بن شهرام، المعروف بابن ظلوم المغنّية، كاتب سيف الدولة، ورسوله إلى ملك الروم 181
ابن أبي الشوارب- أبو العباس عبد الله بن الحسن الأموي 156، 221(3/311)
الشيباني- أبو سعيد مساعد بن الجهم 232
الشيباني- أبو عبد الله بن محمد بن الحسن بن فرقد 94
ابن شيخ- أحمد بن عيسى بن شيخ 64
الشيرازي- أبراهيم بن حمدان، كاتب الحسين بن عمرو النصراني 269، 270
الشيرازي- أبو الفضل العباس بن الحسين، وزير بختيار 74، 75، 114، 286
الشيرازي- أبو القاسم عمرو بن زيد البزاز 104، 113
شيرزاد- كاتب الفارسية، في عهد عز الدولة بختيار 130
(ص)
الصابي- أبو إسحاق إبراهيم بن زهرون الحراني الصابي الطبيب 85
الصابي- أبو إسحاق إبراهيم بن هلال 169، 211، 212
الصابي- أبو الحسن ثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني الصابي الطبيب 85
الصاحب بن عباد- أبو القاسم إسماعيل، كافي الكفاة 203، 284
صاعد بن ثابت النصراني- أبو العلاء 15، 19، 169، 170، 171
ابن صالحان- الوزير أبو منصور 114
الصروي- أبو القاسم عبيد الله بن محمد 267، 285
الصفار- عمرو بن الليث 99
الصفار- يعقوب بن الليث 99
الصفدي- صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله 49
الصلحي- أبو محمد الحسن بن محمد بن أبي محمد الصلحي الكاتب 178، 182
الصلحي- أبو الحسن علي بن محمد بن أبي محمد الصلحي 152
الصيرفي- أبو بكر بن عثمان، الشاعر 221، 222
الصيمري- أبو جعفر محمد بن أحمد، كاتب معز الدولة ووزيره 92، 93، 286
(ض)
الضبّي- أبو جعفر، الفقيه الحنفي 87(3/312)
ابن أبي الضحّاك- أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن رجاء 254، 255
(ط)
الطائع لله- عبد الكريم بن الفضل المطيع بن جعفر المقتدر 116، 168، 206، 207
الطالبيون- 248
الطالقاني- أبو الحسن أحمد بن عمر الكاتب 244
طاهر بن الحسين بن مصعب 281
ابن طاهر- عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب 281
الطبري- أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد 115، 116، 117، 118، 119، 120، 121، 123، 124، 127، 128، 129، 194، 198
الطبري- الإمام أبو جعفر محمد بن جرير، الفقيه، المفسّر، المحدّث، المؤرّخ 202
ابن طراز- أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني 202
ابن طرخان- أبو القاسم الحسن بن طرخان الطنبوري البغدادي 284
ابن طرخان- أبو الحسن علي بن أبي القاسم الحسن بن طرخان الطنبوري 203، 284
طلحة بن محمد بن جعفر- أبو القاسم الشاهد 207
ابن طناب- علي بن هارون بن خلف بن طناب 203
الطوسي- حميد الطوسي، القائد 100
ابن طوطو- أبو الحسين محمد بن أحمد بن طوطو الواسطي 164
(ع)
ابن العاص- عمرو 231
العباسة بنت المهدي- أخت هارون الرشيد، زوجة محمد بن سليمان العباسي، أمير البصرة 59
العباسي- عيسى بن عبد الله 57
ابن عبد الله- محمد بن هلال 76، 78، 83
ابن عبدان- الصيرفي، أحد صيارفة درب عون 133(3/313)
ابن عبدل- أبو محمد، الفقيه الحنفي، تلميذ أبي زهير الجبائي 53
عبيد الله بن سليمان بن وهب- الوزير، أبو القاسم 31، 38، 269
أبو عبيدة- معمر بن المثنى 291
أبو عبيدة- شيخ من جيران أبي يحيى بن مكرم القاضي البغدادي 101، 102
العزيز الفاطمي- أبو منصور نزار العزيز بالله بن معد المعز لدين الله بن المنصور العبيدي الفاطمي (344- 368) 67
عضد الدولة- أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه 18، 19، 85، 139، 142، 168، 169، 171، 212، 229، 245، 246
العقيلي- محمد بن بديع 261
العقيلي- المسيب بن رافع 265، 266
العقيلي- المهنّا 266
ابن أبي علان- أبو القاسم عبد الله بن محمد بن مهرويه، خال أبي القاسم والد صاحب النشوار 35
ابن أبي علان- محمد بن عبد الله بن محمد بن مهرويه 35
عليّ- أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام 56، 231
علي بن عيسى بن الجراح- أبو الحسن، وزير المقتدر 35، 40، 41، 72، 95، 96، 178
العلوي- أبو علي عمر بن يحيى الكوفي 164
العلوي- أبو الحسن الموسوي 267
عماد الدولة- أبو الحسن علي بن بويه 274
أبو عمر- القاضي محمد بن يوسف الأزدي 57، 96، 129، 221، 251
عمران بن حطان بن ظبيان السدوسي الشيباني الوائلي- ابن حطان بن أبي عمرو- أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان الشرابي، حاجب الخليفة المليع- الشرابي
ابن عمرو- الحسين بن عمرو النصراني- كاتب المكتفي 268، 269، 270، 271، 272(3/314)
ابن العميد- أبو الفضل محمد بن الحسين بن محمد 284
عميد الجيوش- أبو علي الحسين بن أبي جعفر أستاذ هرمز 160
عواد- كوركيس 258
ابن أبي عوف- أبو عبد الله أحمد بن عبد الله بن مرزوق بن عطية المروزي 63، 64، 65، 79
ابن عياش بن القاسم- صاحب الجسر ببغداد 100
أبو العيناء- محمد بن القاسم بن خلاد الضرير 44، 45، 46، 48، 49
عيسى بن علي بن عيسى- أبو القاسم عيسى بن أبي الحسن علي بن عيسى، وزير المقتدر 95
(غ)
ابن غسان- صهر القاضي أبي عمر 251
ابن غسان- أبو الحسن الطبيب البصري 213
(ف)
فارس- داية المكتفي 269
فاطمة الكردية- بنت أحمد، زوجة ناصر الدولة الحمداني، أم أبي تغلب وأبي البركات وجميلة 22
الفتح بن خاقان- وزير المتوكل 49
أبو الفتح بن البكتمري، الشامي، الكاتب- البكتمري ابن فراس- محمد، الكاتب 271، 272
ابن الفرات- أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات 269، 271، 272
ابن الفرات- أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات، وزير المقتدر 40، 41، 115، 178، 193، 273
ابن الفرات- أبو أحمد المحسّن بن أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات 184، 185، 186
الفرزدق- أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة 286(3/315)
ابن فسانجس- أبو الفضل العباس 274
ابن فسانجس- أبو الفرج محمد بن العباس، وزير بختيار 75، 193، 274
(ق)
القاهر- أبو منصور محمد بن أحمد بن طلحة، القاهر بن المعتضد بن الموفق 154
ابن قتيبة- أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري 291
ابن قرابة- أبو بكر 115
القشوري- أبو منصور، من الجند المولدين، خدم في دار نصر القشوري 189
القشوري- نصر الحاجب 189
القطان- أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد بن عباد، صاحب علي بن عيسى الوزير 72، 95
القطيعي- الطبيب المصري المشهور 152
القفطي- جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف 213
القنائي- أبو قرة الحسين بن محمد الكاتب 130
القنائي- أبو الفرج منصور بن القاسم الكاتب 96
(ك)
الكتاني الكبير- أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الصوفي، سراج الحرم 199
الكرخي- أبو عبد الله جعفر بن القاسم 9، 10
الكرخي- أبو جعفر محمد بن القاسم 154، 155
الكرخي- أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال، الفقيه الحنفي 52، 53، 141، 142
ابن كردي- أبو علي محمد بن منصور الشاهد 30
الكلابي- أبو مقاتل صالح بن مرداس، صاحب حلب 161
الكوسج- أبو علي كتاب بن العباس الديلمي، المعروف بالكوسج، ضامن واسط 130، 131، 132(3/316)
(ل)
ابن لبيب- أبو الخير صالح بن لبيب، الشاعر 17
ابن لطيف- أبو الحسين علي بن لطيف، المتكلم على مذهب أبي هاشم المعتزلي 88
لوطي- صاحب دواة زنجي، كاتب ابن الفرات 41
ابن أبي الليث الهمذاني- أبو الحسن محمد بن أحمد البغدادي 62، 261، 264، 267
(م)
المائي- يزيد 233
ابن مارية- أبو منصور، كاتب الأمير أبي مقاتل صالح بن مرداس الكلابي، صاحب حلب 161
مالك- ابن أنس- الإمام 194
المأمون- أبو العباس عبد الله المأمون بن أبي جعفر هارون الرشيد 94، 100، 101
المبرد- أبو العباس محمد بن يزيد الثمالي 291
المتوكل- أبو الفضل جعفر بن أبي إسحاق محمد المعتصم 45، 49، 99، 101، 104، 112
ابن المثنّى- أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنّى 43، 46، 47، 69، 94، 100، 223، 225، 226
ابن المثنّى- أبو أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى 223، 224، 225، 226
ابن المثنّى- أبو القاسم عمر بن عبد الرحمان بن طلحة بن الحسن بن المثنّى 225
محمد- أبو القاسم- رسول الله، صلوات الله عليه 56، 135، 143، 156
محمد بن أبي العباس السفاح 156
ابن محمد- أبو علي بن محمد، أستاذ الدار في بلاط عضد الدولة 18
ابن محمد- أبو أحمد الفضل بن محمد، ابن بنت المفضل بن سلامة البصري 166
مرجليوث- الأستاذ داود صموئيل، المستشرق المعروف 5
ابن المرزبان- أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان، الكاتب الشيرازي 31، 70، 233، 268(3/317)
المرزبان بن بختيار 245
ابن مروان- عبد الملك 223، 224
ابن مروان- أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن مروان القاضي 10، 11، 13
ابن مروان- هشام بن عبد الملك 156
المروزي- أبو الفتح عبد الله بن محمد الكاتب 40
المزين الكبير- أبو جعفر الصوفي 198
المشرف- أبو القاسم علي بن الحسين بن إبراهيم 75، 269
المصعبي- إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب، أمير بغداد 101، 103
المطيع لله- الفضل بن جعفر بن أحمد، المطيع بن المقتدر بن المعتضد 91، 116، 207، 221، 223، 247
ابن معاذ- عبد الله بن معاذ 55
معاوية بن أبي سفيان 231
المعتز- محمد بن جعفر المتوكل 49
ابن المعتز- عبد الله بن محمد بن جعفر 135
المعتصم- أبو إسحاق محمد بن أبي جعفر هارون الرشيد 49، 101
المعتضد- أبو العباس أحمد بن أبي أحمد طلحة الموفق 38، 64، 66، 97، 98، 140، 192، 200، 201، 260، 268، 269، 270، 276، 277، 282، 283
المعتمد- أحمد بن المتوكل 267
ابن معدان- أبو جعفر محمد بن جعفر بن معدان الشاهد بالأهواز 9، 137
ابن معروف- أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن معروف، أخو قاضي القضاة 173، 178
ابن معروف- أبو محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، قاضي القضاة 79، 116، 122، 168، 206
المعز الفاطمي- أبو تميم معد المعز لدين الله بن المنصور إسماعيل بن القائم بن المهدي عبيد الله الفاطمي (319- 365) 67(3/318)
معز الدولة- أبو الحسين أحمد بن بويه 27، 56، 74، 83، 84، 91، 92، 93، 125، 169، 206، 212، 214، 250، 261، 264، 265، 274، 286
المغربي- أبو الحسن علي بن الحسين المغربي الكاتب 178، 182
المغنّي- علي، صاحب خزانة معز الدولة 83، 84
المفجّع- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبيد الله البصري، الشاعر 287، 290، 291
المقتدر- أبو الفضل جعفر بن أبي العباس أحمد المعتضد 93، 184، 189، 190، 191، 193
ابن مقلة- الحسن 254
ابن مقلة- الوزير أبو علي محمد بن علي بن الحسين 96، 178، 254
المكتفي- أبو محمد علي بن المعتضد 193، 260، 268، 269
مكرم بن بكر- أبو بشر مكرم بن بكر بن محمد بن مكرم- ابن بكر
المنبري- أبو الحسن المنبري، الشامي، الطائي، الشاعر 27
ابن المنجم- أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون بن يحيى 204، 284، 285
المنجم- الحسن بن علي بن زيد، غلام أبي نافع، عامل الأهواز لمعز الدولة 27
ابن المنجم- أبو الحسن علي بن هارون بن يحيى 203، 284، 285
المنصور- أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس 156
المهتدي- أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر هارون الواثق 193
ابن مهرويه- أبو القاسم عبد الله بن محمد بن مهرويه- ابن أبي علان
ابن مهرويه- محمد بن عبد الله بن محمد بن مهرويه- ابن أبي علان
المهريّون- جيران أبي محمد بن داسة بالبصرة 58
المهدي- أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر المنصور 59، 156
آل المهلب- 68
المهلّبي- أبو محمد الحسن بن محمد، وزير معز الدولة 19، 125، 126، 130، 131، 144، 187، 203، 208، 250، 251، 286، 287، 288
المهلّبي- أبو الغنائم المفضل بن الوزير أبي محمد 286(3/319)
الموسوي- أبو أحمد الحسين بن موسى، نقيب العلويين 168
الموفق- أبو علي إسماعيل، خليفة الوزير أبي منصور بن صالحان 114
الموفق- الأمير أبو أحمد طلحة بن أبي الفضل جعفر المتوكل 31، 38، 85، 97، 220
مؤنس- المظفر، القائد التركي 20
مؤنس- الفحل، صاحب الشرطة ببغداد في عهد المعتضد 64، 65، 66
المؤنسي- يأنس القائد التركي- يأنس
(ن)
النابغ- من ندماء عضد الدولة 18
الناصر- الأمير أبو أحمد طلحة بن المتوكل- الموفق
الناظري- من تناء حلب 173، 176
ابن نبيل- أبو القاسم حسين بن محمد بن نبيل، من أولاد الجند ببغداد 16
النجار- أبو الحسن محمد بن إسحاق بن عباد، من وجوه التمارين بالبصرة 60، 61
ابن أبي نصر- أبو الحسن 99
ابن نصر- أبو العباس محمد بن نصر بن أحمد بن محمد بن مكرم الشاهد 9
ابن نصرويه- أبو الحسين محمد بن عبيد الله القاضي 73، 74، 97، 124، 125، 126، 166
ابن نظير- سهل، الجهبذ اليهودي 31، 32
النعمان- أبو المنذر النعمان بن عبد الله 258
النميري- نديم ابن المعتز 135
(هـ)
الهائم- أبو علي أحمد بن علي المدائني، من ندماء عضد الدولة 18
ابن هارون- محمد بن هارون، خال القاضي أبي بكر بن مروان 10
الهاشمي- أبو القاسم جعفر بن عبد الواحد القاضي البصريّ 125، 126، 134(3/320)
الهاشمي- أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد القاضي البصري 122
الهاشمي- محمد بن سليمان بن عليّ، أمير البصرة 59
الهاشمي- القاضي محمد بن صالح بن أم شيبان 206، 207
الهمذاني- الشاعر، أحد مادحي القاضي أبي القاسم التنوخي، والد صاحب النشوار 17
(و)
الواثق- أبو جعفر هارون بن أبي إسحاق محمد المعتصم 101
الواثقي- الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد بن يحيى 48
الواسطي- أبو العباس الحسين بن علي بن الفضل بن سليمان 167
ابن وهب- الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب 154، 155، 268، 269، 270، 271، 272، 276، 277، 282، 283
(ي)
ياسين- أبو إسحاق البصري 135
يأنس المؤنسي- القائد التركي 20
أبو يحيى القاضي- عبد الله بن إبراهيم بن مكرم 101
ابن يوسف- أبو أحمد عبيد الله بن الحسن (أو الحسين) بن يوسف، عامل كور الأهواز 35(3/321)
فهرس جغرافي
(أ)
267 170 الأحمديّ
72 51 إسكاف
43 27 الأهواز
(ب)
67 48 باب الشام
34 18 بخارى
33 18 بلخ
24 11 بلد
105 69 بلهوار
144 98 بيروذ
(ج)
136 93 جنديسابور
(خ)
33 18 خراسان
(د)
281 174 دار ابن طاهر
91 61 دار الخلافة
106 69 دبيق
133 90 درب عون
131 89 دستميسان
23 11 الدير الأعلى
(ر)
80 56 الرقّة
236 152 الرملة
(س)
88 60 سجستان
24 11 سنجار
194 126 السند
136 93 السوس
(ف)
181 121 فافان
(ق)
88 60 قزدار
105 69 قطربّل
159 110 القفص(3/322)
(م)
259 166 المذار
55 38 مذار ميسان
21 11 الموصل
(ن)
20 11 نصيبين
184 122 نهر سابس
57 40 نهر عيسى
79 56 نهر عيسى(3/323)
فهرس عمراني عام
(أ)
80 56 ابتدوا
76 54 ألأبعد
29 15 الآبق
105 29 إتّزر
59 42 الإجّانة
76 54 الآخر
190 124 الإدام
123 81 الأدب
163 112 الاستسقاء
49 33 أعمى الدابّة
49 33 أعمى العصا
49 33 أعمى الموكب
114 70 الألحى
134 91 الانبساط
59 42 إنجانه
162 112 انحلال الطبع
266 169 الأنزال
189 124 انفلّت
36 20 الإهليلج
118 74 الإيثار
65 47 أيش عندك
(ب)
155 107 الباكورة
110 69 البدّ
22 11 البرّاج
190 124 البزماورد
76 54 البعيد
39 24 البلاذر
127 85 البهتان
18 9 البهطّة
115 71 بهلوانيات
68 48 بوّاكة
(ت)
95 63 ترجّل
132 89 التسبيب
61 44 التصدّق
120 77 التصوّف
108 69 تقدّح(3/324)
106 69 التقطيع
275 173 تكشّف
106 69 التماثيل
281 174 التمشك
136 93 التنجّز
68 48 تنكة
105 69 توشّح
120 77 التوكّل
13 4 التيس
(ث)
269 171 الثبت
(ج)
136 93 الجاري
215 141 جبناه
13 4 الجدي
12 3 الجذر
35 19 الجماعة
108 69 الجمع
189 124 الجونة
(ح)
68 48 الحبّ
68 48 حبّانة
119 76 الحجّ على التوكّل
77 54 الحديد
43 27 الحرّاقة
77 54 حرد
192 125 الحسبة
58 41 الحشو
101 68 الحفيظة
247 155 الحلّة
215 141 حلية الإنسان
21 11 حمّى الرّبع
79 56 الحمير الحساويّة
161 112 الحمية
115 71 حنقبازيات
(خ)
40 25 ختم الكتاب
151 105 الخراج
41 25 الخرط
120 77 الخز
138 93 خضب
78 55 الخطف
84 57 الخفتان
87 59 الخلاف
276 174 الخمار
190 124 خيازر
247 155 الخيمة(3/325)
(د)
141 95 الداذي
134 91 دار البطّيخ
36 20 الدانق
120 77 الدبيقي
276 174 الدراهم الخفاف
236 152 الدّرقة
106 69 الدست
162 112 الدكان
108 69 الدن
94 62 دهن الخروع
258 165 الدواج
(ر)
144 98 الرباني
106 69 الرداء القصب
151 104 الرعاف
150 103 الرق
61 44 الرقائق
108 69 الروبة
107 69 الريف
(ز)
261 168 زاول
54 37 زفن
180 121 الزلالي
(س)
40 25 سحا الكتاب
243 152 السحر
243 152 السحرة
264 169 سرّد الشعير
71 50 السرير المخلّع
34 18 السفتجة
63 47 السقطي
190 124 سكباج
164 113 سل
190 124 السميذ
(ش)
77 54 شال
127 85 الشتم
68 48 الشارب
108 69 الشرّاب
247 155 الشراع
68 48 شربه
90 60 الشريجة
(ص)
278 174 صاحب البريد(3/326)
278 174 صاحب الخبر
247 155 الصريفة
138 93 صفّر
99 66 الصماخ
59 42 الصندل
99 66 صنصور الأذن
(ض)
72 51 ضويعة
(ط)
86 59 الطاجن
116 72 الطالبيون
107 69 طاولني
161 112 الطبّ
85 58 الطباهجة
58 41 الطيلسان
208 136 طيهوج
(ظ)
271 171 الظهور
(ع)
238 152 العاتق
196 127 عاشوا
54 37 عجن
170 117 العرض
228 148 عزي
265 169 العلّاف
117 73 علم الخرق
117 73 علم الورق
221 143 العفو
70 50 العمّاريّة
106 69 العنبر
261 168 العهن
104 69 العود
81 56 العين
(غ)
58 41 الغالية
113 69 الغرر
154 107 الغناء
127 85 الغيبة
(ف)
247 155 الفازة
77 54 الفالوذج
265 169 الفرض
181 121 الفهرست
80 56 الفيج(3/327)
(ق)
50 34 قام للناس
41 26 القحف
88 60 القراح
123 81 القرب
288 178 قرص الهواء
84 57 القرطق
54 37 قرن
107 69 القشف
106 59 القصب
70 50 القصر
102 68 القصص
164 113 القطار
263 168 القعدة
278 174 القلبة
192 125 القلوص
12 3 القيان
(ك)
59 42 الكافور
78 55 الكدية
55 38 الكر الأهوازي
55 38 الكر البغدادي
55 38 الكر الكوفي
55 38 الكر المعدل
55 38 الكر الهاروني
55 38 الكر الهاشمي
218 141 الكرك
115 71 كس أم الدنيا
191 124 الكسب
106 69 الكلبدون
111 69 الكم
68 48 الكوز
114 70 الكوسج
114 70 كوسج العقل
(ل)
108 69 لبلبي
69 49 ليلة القدر
(م)
178 121 المادة
163 112 مازريون
165 114 المحجّة
115 71 المخرقة
277 174 المرفق
120 77 المروي
86 58 المرّي
21 11 مزاح العلّة
135 91 المزود(3/328)
43 27 المزيّن
185 122 المستخرج
29 15 المسك
282 174 المصدوقة
193 125 المضيرة
85 58 مطبهجة
86 58 المطجّن
79 56 المعرقة
12 3 المقين
120 77 الملحم
190 124 الممقور
142 96 المنثور
219 141 من حقّا
83 57 المنطقة
118 74 المواساة
97 65 الموسم
83 57 الموكّدة
(ن)
73 52 النار تخلّف الرماد
36 20 النارجيل
271 171 الناطف
81 56 الناقد
39 24 النبيذ
141 95 النبيذ
106 69 الندّ
102 68 النشوة
132 89 نضّ الماء
83 57 النطاق
133 89 النقدة
36 20 النوشادر
(هـ)
185 123 هاتم
222 144 هاه هاه
85 58 هوذا
(و)
234 151 وثب به
132 89 الوجوه المعجلة
81 56 الورق
178 121 الوظائف
(ي)
91 61 يوم الموكب(3/329)
فهرس الكتب والمراجع
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسي المعروف بالبشاري- طبع ليدن- 1906.
إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب- معجم الأدباء
اصطلاحات الصوفية، الواردة في الفتوحات المكيّة: مذيل لكتاب التعريفات للجرجاني.
الأعلام: خير الدين الزركلي- الطبعة الثالثة.
الأغاني: أبو الفرج الأصبهاني- طبعة دار الكتب بالقاهرة.
الأغاني: أبو الفرج الأصبهاني- طبعة بولاق.
الألفاظ الفارسية المعربة: أدي شير- المطبعة الكاثوليكيّة- بيروت.
الأنساب: السمعاني، أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي- نشر المستشرق د. س. مرجليوث- طبع لندن 1913.
البصائر والذخائر: أبو حيان التوحيدي، تحقيق الدكتور إبراهيم الكيلاني، طبع دمشق.
تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت- بيروت.
تاريخ بغداد: ابن طيفور، أبو الفضل أحمد بن طاهر الكاتب، القاهرة 1968.
تاريخ الحكماء: جمال الدين أبو الحسن عليّ بن يوسف القفطي، طبع ليبزك.
تاريخ الرسل والملوك: الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، طبع دار المعارف بمصر.
تجارب الأمم: أبو علي أحمد بن محمد المعروف بمسكويه- تحقيق آمدروز- طبع مصر 1914.
تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء: أبو الحسن هلال بن المحسّن الصابي- تحقيق عبد الستار أحمد فراج- القاهرة 1958.
التعريفات: السيد الشريف الجرجاني- طبعة اصطنبول 1283.
تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية مع ذكر أصلها بحروفه: طوبيا العنيسي- دار العرب للبستاني بالقاهرة 1965.(3/330)
الجامع لمفردات الأدوية والأغذية: ابن البيطار، ضياء الدين عبد الله بن أحمد الأندلسي المالقي- طبعة بولاق 1291.
جمع الجواهر في الملح والنوادر: الحصري القيرواني، أبو إسحاق إبراهيم بن علي- طبعة الخانجي سنة 1353 بالقاهرة.
الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية: أبو محمد محيي الدين عبد القادر ابن أبي الوفاء القرشي، طبع حيدر آباد الدكن 1332.
حكاية أبي القاسم البغدادي: أبو المطهر الأزدي، تحقيق ونشر آدم متز- هيدلبرج 1909.
خلاصة الذهب المسبوك المختصر من سير الملوك: عبد الرحمن سنبط قنيتو الإربلي- تحقيق السيد مكي السيد جاسم 1964.
دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية: 15 مجلدا 1933.
الديارات: الشابشتي، أبو الحسن علي بن محمد- تحقيق كوركيس عوّاد- ط 2. بغداد 1966.
ديوان أبي فراس: رواية أبي عبد الله الحسين بن خالويه- طبع دار صادر 1955.
ديوان السريّ الرفاء: أبو الحسن السريّ بن أحمد الرفاء، القاهرة 1355.
شذرات الذهب، في أخبار من ذهب: عبد الحي بن العماد الحنبلي- 8 مجلدات طبعة القدسي.
شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل: الخفاجي، شهاب الدين أحمد، مطبعة السعادة بمصر 1325.
صلة الطبري: عريب بن سعيد القرطبي- المطبعة الحسينية بمصر.
الطبيخ: محمد بن عبد الكريم البغدادي- تحقيق الدكتور داود الجلبي- بيروت.
الفرج بعد الشدة: أبو عليّ المحسّن التنوخي- جزآن إثنان، طبعة دار الهلال بمصر 1914.
الفرج بعد الشدة: أبو عليّ المحسّن التنوخي- الجزء الأول- نسخة الظاهرية المخطوطة بدمشق.
الفرج بعد الشدة: أبو عليّ المحسّن التنوخي- نسخة مكتبة جون رايلند بمانجستر- مخطوطة.
الفهرست: ابن النديم، أبو الفرج محمد بن إسحاق بن محمد بن إسحاق، طبعة غوستاف فلوغل- ليبزك.
فقه اللغة: الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري- طبعة البابي بالقاهرة 1938.
فوات الوفيات: ابن شاكر الكتبي- طبع بولاق- مجلدان اثنان.(3/331)
قاموس سعادة: خليل سعادة- 2 ج القاهرة 1911.
القانون في الطب: ابن سينا، أبو علي شرف الملك الحسين بن عبد الله- طبعة بولاق بالقاهرة.
الكامل في التاريخ: ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري عن طبعة المستشرق تورنبرغ- طبع دار صادر 1966- 13 مجلدا مع الفهرس.
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: الحاج خليفة- طبعة اصطنبول 6 مجلدات.
لسان العرب (قاموس) : ابن منظور المصري- طبعة دار صادر.
لطائف المعارف: الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري- تحقيق إبراهيم الأبياري وحسن كامل الصيرفي- طبعة الحلبي بالقاهرة.
مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق للسنة 1932
مجلة المشرق- م 43.
مجمع البيان في تفسير القرآن: الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن- طبع بيروت- 10 ج 5 م.
المحيط (قاموس) : أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي.
محيط المحيط (قاموس) : - بطرس بن بولس بن عبد الله البستاني-، طبع بيروت.
مخطوطة برلين: الورقة.122 Wet.79
مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع: صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي، طبع مصر 1954.
مروج الذهب: المسعودي، أبو الحسن عليّ بن الحسن بن عليّ- تحقيق محيي الدين عبد الحميد- طبعة الشعب- القاهرة 1966.
المستجاد من فعلات الأجواد: أبو عليّ المحسّن التنوخي- تحقيق محمد كرد علي- دمشق.
المشترك وضعا والمفترق صقعا: ياقوت الحموي، أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي- طبع وستنفلد 1864.
مطالع البدور في منازل السرور: علاء الدين الغزولي- مطبعة الوطن بمصر 1299.
معجم الأدباء: إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب- ياقوت الحموي، أبو عبد الله ياقوت ابن عبد الله الحموي الرومي البغدادي- طبعة مرجليوث 1924، 7 مجلدات.
معجم البلدان: ياقوت الحموي، أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي، طبعة وستنفلد 6 مجلدات مع الفهارس.(3/332)
المعجم في أسماء الألبسة عند العرب: رينهارت دوزي، امستردام 1845.
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي- مطبعة دار الكتب بالقاهرة 1934.
مفاتيح العلوم: الخوارزمي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب- المطبعة المنيرية.
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، طبعة حيدر آباد الدكن 1357.
المنجد (قاموس) : الأب لويس معلوف- ط 19- بيروت.
نخب تاريخية وأدبية جامعة لأخبار الأمير سيف الدولة الحمداني: جمع المستشرق ماريوس كنار- الجزائر 1934.
نشوار المحاضرة: سبط ابن الجوزي- مخطوط.
نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة: أبو علي المحسّن التنوخي- الجزء الأول والجزء الثاني- تحقيق عبود الشالجي- مطابع دار صادر- بيروت.
نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة: أبو علي المحسّن التنوخي- الجزء الثاني- تحقيق المجمع العلمي العربي بدمشق.
نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة: أبو علي المحسّن التنوخي- الجزء الرابع والجزء السابع- تحقيق عبود الشالجي- معدّان للطبع.
نكت الهميان في نكت العميان: صلاح الدين الصفدي- تحقيق أحمد زكي باشا، القاهرة 1913.
الهفوات النادرة: غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال الصابي- تحقيق الدكتور صالح الأشتر- دمشق 1967.
الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي- الجزء السابع- طبع دار صادر بيروت.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: ابن خلكان، القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر- تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد- طبع القاهرة 1948.
الولاة والقضاة: الكندي، أبو عمر محمد بن يوسف- تحقيق المستشرق رفن كست- بيروت 1908.
يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر: الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري- تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد بالقاهرة 1956.(3/333)
(استدراكات على الجزء الأول من النشوار)
صفحة: 19: الحاشية رقم 4: اقرأ القصة 5/7 بدلا من 4/137
صفحة: 26: الحاشية رقم 1: اقرأ القصة 5/18 بدلا من 4/148
صفحة: 28: الحاشية رقم 4: اقرأ القصة 2/154 بدلا من 1/154
صفحة: 46: سطر 3: اقرأ يبلغنا (بضم اللام) بدلا من فتحها
صفحة: 64: السطر الثاني من الحاشية: اقرأ الحسن بن علي بن الحسين بدلا من الحسن بن علي بن الحسن
صفحة: 70: السطر الأول: اقرأ أبا الحسن بدلا من أبا الحسين
صفحة: 89: السطر 4 من الحاشية: اقرأ لأبي الحسين بدلا من لأبي الحسن
صفحة: 97: السطر الأول: اقرأ أحمد بن عامر بن بشر بدلا من أحمد بن بشر بن عامر
صفحة: 112: السطر الأول: اقرأ أبو القاسم سعد بدلا من أبو القاسم سعيد
صفحة: 144: السطر الثاني من الحاشية: اقرأ تسع سنين بدلا من سبع سنين
صفحة: 224: سطر 1: اقرأ يأن (بكسر النون) بدلا من فتحها
صفحة: 285: سطر 4: اقرأ الحارث بدلا من الحرث
صفحة: 296: السطر الأول من الحاشية: اقرأ إبراهيم بن أحمد بن محمد بدلا من إبراهيم بن محمد بن أحمد
(الجزء الثاني)
صفحة: 44: السطر الأول من الحاشية: اقرأ القصة 2/123 بدلا من 2/124
صفحة: 202: سطر 6: اقرأ أبو إسحاق إبراهيم بدلا من إسحاق بن إبراهيم
صفحة: 209: الحاشية رقم 3: اقرأ مقابر باب البستان بدلا من مقابر البستان
(الجزء الثالث)
صفحة: 73: سطر 2: اقرأ ابن زحر بدلا من ابن حر
صفحة: 202: السطر الخامس من الحاشية: اقرأ ابن طرار بدلا من ابن طراز(3/334)
الفهارس
محتويات الكتاب 293
فهرس أسماء الأشخاص 302
فهرس جغرافي 322
فهرس عمراني عام 324
فهرس الكتب والمراجع 330
رموز
-: راجع
الأرقام المطبوعة بحروف سوداء تشير إلى التراجم
الأرقام المثبتة في العمود الأيمن: للصفحات، والأرقام التالية لها: للقصص.(3/335)
بعونه تعالى تم طبع الجزء الثالث من كتاب نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر شباط 1972 على مطابع دار صادر في بيروت(3/337)
الجزء الرابع
مقدمة المحقق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ولا حول ولا قوة الا به هذا هو الجزء الرابع من كتاب «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة» للقاضي أبي عليّ المحسّن بن عليّ التنوخي، وهو أحد أجزاء أربعة اشتملت على ما أمكنني العثور عليه من فقرات النشوار الضائعة، تلقطتها من ثنايا الكتب، وبذلت في ذلك وقتا، وجهدا، وصبرا.
وقد فصّلت في مقدمة الجزء الأول، الطريقة التي توصلت بها إلى استخلاص هذه الفقرات، وختمت المقدمة بالعبارة التالية:
«ولعل بعض هذه القصص كانت من رواية أبي القاسم التنوخي، ابن المؤلف، ولعل بعض القصص، وإن كانت من رواية المؤلف، إلا أنه ليس ثمة دليل قاطع على أنها مما اشتمل عليه كتاب النشوار، وردّي على من اعترض على إيرادها، عين ما كتبه المؤلف في خاتمة مقدمة الجزء الأول من الكتاب، حيث قال: لو كان في إيراد هذه القصص وتسجيلها، خير من موضعها بياضا، لكانت فائدة» .
ومن الله أستمد المعونة والحول، وإيّاه أسأل التوفيق في العمل والقول، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.
عبود الشالجي المحامي بحمدون في 8/1/1972(4/5)
1 أبو العباس ثعلب يقول لما لا يدري، لا أدري
قال القاضي أبو علي المحسن التنوخي، في كتابه أخبار المذاكرة ونشوار المحاضرة: حدّثني علي بن محمد الفقيه المعروف بالمسرحيّ، أحد خلفاء القضاة ببغداد، قال: حدّثني أبو عبد الله الزعفراني «1» ، قال:
كنت بحضرة أبي العباس ثعلب «2» يوما، فسئل عن شيء، فقال: لا أدري.
فقيل له: أتقول لا أدري، وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد.
فقال للسائل: لو كان لأمّك بعدد ما لا أدري بعر لاستغنت.
قال القاضي أبو علي: ويشبه هذه الحكاية ما بلغنا عن الشعبي «3» ، أنّه سئل عن مسألة فقال: لا أدري «4» .
فقيل له: فبأيّ شيء تأخذون رزق السلطان.
فقال: لأقول فيما لا أدري، لا أدري «5» .
المزهر للسيوطي 2/163(4/7)
2 بين خالد الكاتب وإبراهيم بن المهدي
أخبرنا أبو منصور القزّاز «1» ، قال: أخبرنا أحمد بن عليّ «2» ، قال:
أخبرنا علي بن أبي علي «3» قال: حدّثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب «4» ، قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن السقاء «5» ، قال:
حدّثني جحظة «6» ، قال: قال لي خالد الكاتب «7» :
أضقت حتى عدمت القوت أيّاما، فلما كان في بعض الأيّام، بين المغرب وعشاء الآخرة، إذا بأبي يدقّ.(4/8)
فقلت: من ذا؟.
فقال: من إذا خرجت إليه عرفته.
فخرجت، فرأيت رجلا راكبا على حمار، عليه طيلسان أسود، وعلى رأسه قلنسوة طويلة، ومعه خادم.
فقال لي: أنت الذي تقول:
أقول للسقم عد إلى بدني ... حبّا لشيء يكون من سببك
قال: قلت: نعم.
قال: أحب أن تنزل عنه.
فقلت: وهل ينزل الرجل عن ولده؟
فتبسّم، وقال: يا غلام، أعطه ما معك، فرمى إليّ صرّة، في ديباجة سوداء مختومة.
فقلت: إنّي لا أقبل عطاء ممّن لا أعرفه، فمن أنت؟
قال: أنا إبراهيم بن المهدي «1» .
المنتظم 5/38(4/9)
3 أبو الفرج الأصبهاني يجمع شعره بين إتقان العلماء وإحسان الشعراء
قال التنوخي:
ومن المتشيّعين الذين شاهدناهم، أبو الفرج الأصبهاني «1» كان يحفظ من الشعر، والأغاني، والأخبار، والآثار، والأحاديث المسندة، والنسب، ما لم أر قطّ من يحفظ مثله.
ويحفظ دون ذلك من علوم أخر، منها اللغة، والنحو، والخرافات، والسير، والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا، مثل علم الجوارح، والبيطرة، ونتف من الطبّ، والنجوم، والأشربة، وغير ذلك.
وله شعر يجمع إتقان العلماء، وإحسان الظرفاء الشعراء.
وفيات الأعيان 2/468 تاريخ بغداد 11/398(4/10)
4 إجازة برواية قصيدة
قال أبو القاسم التنوخي:
حدّثني أبو إسحاق الطبري «1» ، غلام الزاهد «2» ، غلام ثعلب «3» ، وكان منقطعا إلى بني حمدون «4» ، وقرأت بخطّه قصيدة شبيل بن عزرة الضبعي «5» ، وقد قرأها على أبي عمر الزاهد، وتناولها من أبي محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه «6» .
قد دفعت إليك كتابي بخطّي من يدي إلى يدك، وقد أجزت لك القصيدة، فاروها عنّي، فإنّ هذا ينوب عن السماع والقراءة، فقبلت ذلك منه.
وكتب إبراهيم بن محمد الطبري الروياني «7» بخطّه.
معجم الأدباء 1/63(4/11)
5 أبو رياش القيسي وأبو محمد المافروخي وكثرة ما يحفظان
قال أبو عليّ المحسّن بن عليّ التنوخي:
ومن رواة الأدب الذين شاهدناهم، أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي «1» ، وكان يقال إنّه يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة، وعشرين ألف بيت شعر.
إلا أنّ أبا محمد المافروخي «2» أبرّ عليه، لأنهما اجتمعا أوّل ما تشاهدا بالبصرة، فتذاكرا أشعار الجاهليّة، وكان أبو محمد يذكر القصيدة، فيأتي أبو رياش على عيونها، فيقول أبو محمد: لا، إلّا أن تهذّها من أولها إلى آخرها، فينشد معه، ويتناشدانها إلى آخرها، ثم أتى أبو محمد، بعده، بقصائد لم يتمكّن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها، وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة.
حدّثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما.
معجم الأدباء 1/74(4/12)
6 أبو رياش القيسي يغضب من نسبة بيت شعر إليه
وجدت في موضع آخر من كتاب نشوار المحاضرة، للقاضي التنوخي:
كان أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي اليمامي «1» ، رجلا من حفّاظ اللغة، وكان جنديّا في أول أمره، مع المسمعيّ، برسم العرب، ثم انقطع إلى العلم والشعر، وروايته، لنا بالبصرة، وأنا حديث «2» مع عمّي، حتى صرت رجلا، وكتبت عنه، وأخذت منه علما صالحا، وكان يتعصّب على أبي تمام الطائيّ «3» .
وقال بعض الحاضرين لأبي: إنّ من عيون شعر أبي رياش قوله من أبيات، عند ذكر امرأة شبّب بها:
لها فخذا بختيّة تعلف النوى ... على شفة لمياء أحلى من التمر
فغضب أبو رياش، ونهض، فأمر أبي «4» بإجلاسه، وقال للحاضر القائل: ولا كلّ ذا، وترضّاه، ووهب له دراهم صالحة القدر.
معجم الأدباء 1/77(4/13)
7 أبو محمد المافروخي الفأفاء يفأفئ له ابن أحد خلفائه
حدّث التنوخي:
أنّ أبا محمد المافروخيّ «1» ، وكان فأفاءا، اعترض جملا فسيّر في صحن الدار بحضرته، ووقف ليخاطب عليه، فلم يرضه، فقال: أخرجوه عنّي، وكرر أخ أخ، لأجل عقلة لسانه، فبرك الجمل، لأنّه ظنّ أنّه يقال له ذلك، كما يقال إذا أريد منه البروك.
قال: وكان إذا أنشد الشعر، أو قرأ القرآن، قرأه، وأورده، على أحسن ما يكون من حسن الأداء وطيب الحنجرة.
فقيل له: لو كان كلامك كلّه شعرا، أو كقراءة القرآن، تخلّصت من هذه الشدّة، فقال: يكون ذلك طنزا.
قال: وكان أحد خلفائه، قد خرج الى بعض الأعمال، واستخلف بحضرته ابنا له، كان مثل المافروخيّ في الفأفأة.
فخاطبه المافروخيّ أوّل ما دخل إليه، في أمر شيء قال فيه (ووو) مرارا.
فأجابه ذلك الابن بمثل كلامه.
فقال: يا غلمان قفاه، كأنّه يحكيني.
فصفع صفعا محكما، حتى حضره أقوام، وحلفوا له أنّ ذلك عادته، فأخذ يعتذر إليه، وقال: الذنب ذنب أبيه، لمّا ترك في حضرتي مثله.
معجم الأدباء 1/77(4/14)
8 بين القاضي أبي عمر الأزدي والقاضي أبي جعفر بن البهلول
حدّث أبو نصر، يوسف بن عمر بن القاضي أبي عمر محمد بن يوسف «1» قال:
كنت أحضر دار المقتدر بالله، وأنا غلام حدث، بالسواد، مع أبي الحسين «2» ، وهو يومئذ، قاضي القضاة.
فكنت أرى في بعض المواكب، القاضي أبا جعفر «3» ، يحضر بالسواد، فإذا رآه أبي، عدل إلى موضعه، فجلس عنده، فيتذاكران الشعر والأدب والعلم، حتى يجتمع عليهما من الخدم عدد كثير لا يحصى، كما يجتمع على القصّاص، استحسانا لما يجري بينهما.
فسمعته يوما، وقد أنشد بيتا لا أذكره الآن، فقال له أبي: أيّها(4/15)
القاضي، إنّي أحفظ هذا البيت بخلاف هذه الرواية.
فصاح عليه صيحة عظيمة، وقال: اسكت، ألي تقول هذا؟ أنا أحفظ لنفسي، من شعري خمسة عشر ألف بيت، وأحفظ للناس أضعاف ذلك، وأضعافه، وأضعافه، يكررها مرارا.
وفي رواية ابن عبد الرحيم «1» عن التنوخي، قال:
قال له: هاه، ألي تقول هذا؟ وأنا أحفظ من شعري نيفا وعشرين ألف بيت، سوى ما أحفظه للناس.
قال: فاستحيا أبي منه، لسنّه ومحلّه، وسكت.
معجم الأدباء 1/83(4/16)
9 بين القاضي أبي جعفر بن البهلول وأبي جعفر الطبري
حدّثني القاضي أبو طالب محمد بن القاضي أبي جعفر البهلول «1» ، قال:
كنت مع أبي «2» في جنازة بعض أهل بغداد من الوجوه، وإلى جانبه في الحقّ «3» جالس، أبو جعفر الطبري «4» .
فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة، ويسليّه، وينشد أشعارا، ويروي له أخبارا، فداخله الطبريّ في ذلك، وذنّب معه، ثم اتّسع الأمر بينهما في المذاكرة، وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم، استحسنها الحاضرون، وعجبوا منها، وتعالى النهار، وافترقا.
فلما حصلت أسير خلفه، قال: يا بني، هذا الشيخ الذي داخلنا اليوم في المذاكرة، من هو؟ أتعرفه؟
قلت: يا سيدي كأنّك لم تعرفه؟(4/17)
فقال: لا.
فقلت: هذا أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ.
فقال: إنّا لله، ما أحسنت عشرتي يا بنيّ.
فقلت: كيف يا سيّدي؟
فقال: ألا قلت لي في الحال، فكنت أذاكره غير تلك المذاكرة؟ هذا رجل مشهور بالحفظ والاتساع في فنون من العلم، وما ذاكرته بحسبها.
قال: ومضت على هذا مدة.
فحضرنا في حقّ لآخر، وجلسنا، وإذا بالطبريّ يدخل إلى الحقّ.
فقلت له، قليلا، قليلا: أيّها القاضي، هذا أبو جعفر الطبريّ، قد جاء مقبلا.
قال: فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه، فأوسعت له، حتى جلس إلى جنبه، وأخذ أبي يجاريه، فكلّما جاء إلى قصيدة ذكر الطبريّ منها أبياتا، قال أبي: هاتها يا أبا جعفر، فربّما مرّ، وربّما تلعثم، فيمرّ أبي في جميعها حتى يسفّها.
قال: فما سكت أبي يومه ذاك إلى الظهر، وبان للحاضرين تقصير الطبري، ثم قمنا.
فقال لي أبي: الآن شفيت صدري.
معجم الأدبار 1/83(4/18)
10 القاضي أبو جعفر بن البهلول لا يخشى في القول الحق لوم لائم
حدّث أبو علي التنوخي، قال: حدّثني أبو الحسين عليّ بن هشام ابن عبد الله، المعروف بابن أبي قيراط «1» ، كاتب ابن الفرات، وأبو محمد عبد الله بن عليّ دلويه، كاتب نصر القشوري «2» ، وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني «3» ، كاتب ابن الفرات، قالوا:
كنّا مع أبي الحسن بن الفرات في دار المقتدر، في وزارته الثالثة «4» ، في يوم الخميس لخمس ليال بقين من جمادى الآخرة من سنة 311 هـ، وقد استحضر ابن قليجة، رسول عليّ بن عيسى «5» إلى القرامطة «6» في وزارته الأولى «7» ، فواجه عليّ بن عيسى في المجلس بحضرتنا، بأنّه وجّهه إلى(4/19)
القرامطة مبتدئا، فكاتبوه يلتمسون منه المساحي «1» والطلق «2» وعدّة حوائج، فأنفذ جميع ذلك إليهم.
وأحضر ابن الفرات «3» معه خطّه، أي خطّ عليّ بن عيسى، في نسخة أنشأها ابن ثوابة، إلى القرامطة، جوابا على كتابهم إليه، وقد أصلح عليّ ابن عيسى فيها بخطّه، ولم يقل إنّكم خارجون عن ملّة الإسلام بعصيناكم أمير المؤمنين، ومخالفتكم إجماع المسلمين، وشقّكم العصا، ولكنّكم خارجون عن جملة أهل الرشاد والسداد، وداخلون في جملة أهل العناد والفساد.
فهجّن ابن الفرات عليّا بذلك، وقال: ويحك، تقول: القرامطة مسلمون، والإجماع قد وقع على أنهم أهل ردّة لا يصلّون، ولا يصومون، وتوجّه إليهم الطلق، وهو الذي إذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار.
قال: أردت بهذا المصلحة، واستعادتهم إلى الطاعة بالرفق، وبغير حرب.
فقال ابن الفرات، لأبي عمر القاضي «4» : ما عندك في هذا يا أبا عمر؟
اكتب به.
فأفحم، وجعل مكان ذلك، أن أقبل على عليّ بن عيسى، فقال له:
يا هذا لقد أقررت بما لو أقرّ به إمام لما وسع الناس طاعته.
قال: فرأيت عليّ بن عيسى، وقد حدّق إليه تحديقا شديدا، لعلمه(4/20)
بأنّ المقتدر، في موضع يقرب منه، بحيث يسمع الكلام، ولا يراه الحاضرون.
فاجتهد ابن الفرات بأبي عمر، أن يكتب بخطّه شيئا، فلم يفعل، وقال:
قد غلط غلطا، وما عندي غير ذلك، فأخذ خطّه بالشهادة عليه، بأنّ هذا كتابه.
ثم أقبل على أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي، فقال: ما عندك يا أبا جعفر في هذا؟
فقال: إن أذن الوزير، أن أقول ما عندي فيه، على شرح، قلته.
قال: افعل.
قال: صحّ عندي عن هذا الرجل- وأومأ إلى عليّ بن عيسى- أنّه افتدى بكتابين كتبهما إلى القرامطة، في وزارته الأولى ابتداء، وجوابا، ثلاثة آلاف رجل من المسلمين، كانوا مستعبدين، وهم أهل نعم وأموال، فرجعوا إلى أوطانهم، ونعمهم.
فإذا فعل الإنسان مثل هذا الكتاب على جهة طلب الصلح، والمغالطة للعدوّ، لم يجب عليه شيء.
قال: فما عندك فيما أقرّ به، أنّ القرامطة مسلمون؟
قال: إذا لم يصحّ عنده كفرهم، وكاتبوه بالتسمية بالله. ثم الصلاة على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وانتسبوا إلى أنّهم مسلمون، وإنّما ينازعون في الإمامة فقط، لم يطلق عليهم الكفر.
قال: فما عندك في الطلق، ينفذ إلى أعداء الإمام، فإذا طلي به البدن أو غيره، لم تعمل فيه النار؟ وصاح بها كالمنكر على أبي جعفر.
فأقبل ابن البهلول على عليّ بن عيسى، فقال له: أنفذت الذي هذه صفته إلى القرامطة؟(4/21)
فقال عليّ بن عيسى: لا.
فقال ابن الفرات: هذا رسولك وثقتك ابن قليجة، قد أقرّ عليك بذلك.
فلحق عليّ بن عيسى دهشة، فلم يتكلّم.
فقال ابن الفرات، لأبي جعفر بن البهلول: احفظ إقراره، بأنّ ابن قليجة ثقته ورسوله، وقد أقرّ عليه بذلك.
فقال: أيّها الوزير، لا يسمى هذا مقرّا، هذا مدعي، وعليه البيّنة.
فقال ابن الفرات: فهو ثقته بإنفاذه إيّاه.
قال: إنّما وثّقه في حمل كتاب، فلا يقبل قوله عليه في غيره.
فقال ابن الفرات: يا أبا جعفر أنت وكيله، ومحتجّ عنه، لست حاكما.
فقال: لا، ولكنّي أقول الحقّ في هذا الرجل، كما قلته في حقّ الوزير، أيّده الله، لما أراد حامد بن العباس في وزارته، ومن ضامّه، الحيلة على الوزير أعزّه الله، بما هو أعظم في هذا الباب «1» ، فإن كنت لم أصب حينئذ، فلست مصيبا في هذا الوقت.
فسكت ابن الفرات، والتفت إلى عليّ بن عيسى، وقال: يا قرمطيّ.
فقال له عليّ بن عيسى: أيّها الوزير، أنا قرمطيّ؟ أنا قرمطيّ؟
يعرّض به «2» .
معجم الأدباء 1/85(4/22)
11 القاضي أبو جعفر بن البهلول يطلب بين الصدر والقبر فرجة
قال ابن عبد الرحيم، حدّثني القاضي أبو القاسم التنوخيّ «1» ، وله بأمره «2» الخبرة التامّة لما يجمعهما من النسب والصناعة، قال:
كان أبو جعفر من جلّة الناس وعظمائهم وعلمائهم، وتقلّد قضاء الأنبار «3» وهيت «4» والرحبة «5» وسقي الفرات «6» في أيّام المعتمد «7» ، بعد كتبة الموفق أبي أحمد «8» سنة 270 هـ، وأقام يليها إلى سنة 316 هـ.
وأضيف له إليها الأهواز «9» وكورها السبع «10» ، وخلفه عليها جدّي أبو(4/23)
القاسم عليّ بن محمد التنوخي «1» في سنة 311 هـ.
وقلّد ماه الكوفة «2» وماه البصرة «3» ، مضافات إلى ما تقدّم ذكره.
ثم ردّ عليه مدينة المنصور «4» وطسوج مسكن «5» وقطربّل «6» بعد فتنة ابن المعتز في سنة 296 «7» .
ولم يزل على هذه الولايات إلى سنة 316 هـ. وأسنّ وضعف.
فتوصّل أبو الحسين الأشناني «8» إلى أن ولي قضاء المدينة، فكانت له أحاديث قبيحة، وقيل إن الناس سلموا عليه بالقبا «9» إيماء إلى البغاء. وكان إليه الحسبة ببغداد «10» .(4/24)
فصرف في اليوم الثالث، وأعيد العمل إلى أبي جعفر، فامتنع من قبوله، ورفع يده عن النظر في جميع ما كان إليه، وقال: أحبّ أن يكون بين الصدر والقبر فرجة، ولا أنزل من القلنسوة «1» إلى الحفرة.
وقال في ذلك:
تركت القضاء لأهل القضاء ... وأقبلت أسمو إلى الآخرة
فإن يك فخرا جليل الثناء ... فقد نلت منه يدا فاخره
وإن كان وزرا فأبعد به ... فلا خير في إمرة وازره
فقيل له: فابذل شيئا، حتى يردّ العمل إلى ابنك أبي طالب «2» .
فقال: ما كنت لأتحمّلها حيا وميتا، وقد خدم ابني السلطان، وولّاه الأعمال، فإن استوثق خدمته، قلّده، وإن لم يرتض مذاهبه، صرفه، وهذا يفتضح ولا يخفى، وأنشدهم:
يقولون همّت بنت لقمان مرة ... بسوء، وقالت: يا أبي ما الذي يخفى
فقال لها: ما لا يكون، فأمسكت ... عليه ولم تمدد لمنكرة كفّا
وما كلّ مستور تغلّق دونه ... مصاريع أبواب ولو بلغت ألفا
بمستتر والصائن العرض سالم ... وربّتما لم يعدم الذم والقرفا
على أن أثواب البريء نقيّة ... ولا يلبث الزور المفكّك أن يطفا
قال: ولست أعلم هذا الشعر له، أو تمثّل به.
قال التنوخي، وكان أبو جعفر، يقول الشعر تأدبا، وتطرّبا، وما علمت أنّه مدح أحدا بشيء منه، وله قصيدة طرديّة مزدوجة طويلة،(4/25)
وحمل الناس عنه علما كثيرا، ومن شعره:
رأيت العيب يلصق بالمعالي ... لصوق الحبر في يقق الثياب
ويخفى في الدنيء فلا تراه ... كما يخفى السواد على الإهاب
وله في الوزير ابن الفرات:
قل لهذا الوزير قول محقّ ... بثّه النصح أيّما إبثاث
قد تقلّدتها مرارا ثلاثا ... وطلاق البتات عند الثلاث
وكان الأمر على ما قاله، فإنّ ابن الفرات قتل، بعد الوزارة الثالثة في محبسه «1» .
وله أيضا:
أقبلت الدنيا وقد ولّى العمر ... فما أذوق العيش إلا كالصبر
لله أيّام الصبا إذ تعتكر ... لاقت لدينا لو تؤوب ما تسرّ
وله أيضا:
ويجزع من تسليمنا فيردّنا ... مخافة أن نبغي نداه «2» فيبخلا
وما ضرّه أن يجتبينا ببشره ... فنقنع بالبشر الجميل ونرحلا
وله أيضا:
وحرقة أورثتها فرقة دنفا ... حيران لا يهتدي إلا إلى الحزن
في جسمه شغل عن قلبه وله ... في قلبه شغل عن سائر البدن(4/26)
وله أيضا:
أبعد الثمانين أفنيتها ... وخمسا وسادسها قد نما
ترجّي الحياة وتسعى لها ... لقد كاد دينك أن يكلما
وله أيضا:
إلى كم تخدم الدنيا ... وقد جزت الثمانينا
لئن لم تك مجنونا ... فقد فقت المجانينا
معجم الأدباء 1/91- 93(4/27)
12 القاضي أبو جعفر بن البهلول يكشف عن براءة الوزير ابن الفرات مما اتهم به
حدّث أبو الحسين علي بن هشام بن أبي قيراط «1» ، قال:
دخلت مع أبي «2» ، إلى أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول «3» ، عقيب عيد، لنهنّئه به.
وتطاول الحديث، فقال له أبي: قد كنت أكاتب الوزير، أيّده الله، إلى محبسه، يعني ابن الفرات «4» - لأنّه هو كان الوزير إذ ذاك، الوزارة الثالثة «5» - وأعرّفه ما عليه القاضي، من موالاته في كذا وكذا، والآن، هو على شكر القاضي، والاعتداد به.
قال: فلما سمع ذلك، فرّق الغلمان، ومن كان في مجلسه من أصحابه، حتى خلا، وقال: ليس يخفى عليّ التغيّر في عين الوزير، وإن كان لم ينقصني من رتبة ولا عمل، وبالله أحلف، لقد لقيت حامد بن العباس «6» ،(4/28)
بالمدائن «1» ، لما جيء به للوزارة، فقام لي في حرّاقته «2» قائما، وقال لي: هذا الأمر لك ولولدك، وسيبين لك ما أفعله من زيادتك في الأعمال والأرزاق، ثم لقيته يوم الخلع عليه، بعد لبسه إيّاها، فتطاول «3» ، فلما فعلت به، في أمر الوزير أيّده الله، ما فعلته، بحضرة أمير المؤمنين، عاداني، وصار لا يعير لي طرفه، وتعرّضت منه لكلّ بليّة، فكنت خائفا منه، حتى أراح الله منه، بتفرّد علي بن عيسى «4» بالأمور «5» ، واشتغاله هو بالضمان «6» ، وسقوط حاجتنا إلى لقائه، وما لي إلى هذا الوزير- أيده الله- ذنب يوجب انقباضه، إلا أنّي أدّيت الوديعة التي كانت له عندي، وبالله، لقد ورّيت عن ذكرها جهدي، ودافعت بما يدافع به مثلي، ممن لا يمكنه الكذب، فلما جاء ابن حمّاد، كاتب موسى بن خلف «7» ، فأقرّ بها، وأحضر الدليل بإحضار(4/29)
المرأة التي حملتها، لم أجد بدّا من أدائها، وقد فعل مثلي أبو عمر، في الوديعة التي كانت له عنده، إلا أنّ أبا عمر، فعل ما قد علمته من حيلة، بشراء فصّ بنصف درهم، نقش عليه عليّ بن محمد «1» ، ووضع مالا من عنده، في أكياس ختمها به، وقال للوزير: وديعتك عندي بحالها، وإنّما غرمت ما أدّيت عنك من مالي، وأراد التقرّب إليه، ففعل هذا «2» ، وأنت تعلم فرق ما بيني وبين أبي عمر، في كثرة المال، فأريد أن تسلّ سخيمته، وتستصلح لي نيّته، وتذكره بحقّي القديم عليه، ومقامي له بين يدي الخليفة إذ ذاك، وأنّ مثل ذلك، لا ينسى بتجنّ لا يلزم.
فقال له أبي: أنا أفعل ولا أقصّر، وقد اختلفت الأخبار علينا، فيما جرى ذلك اليوم، فإن رأى القاضي- أعزّه الله- أن يشرحه لي، فعل.
فقال أبو جعفر: كنت أنا، وأبو عمر، وعلي بن عيسى، وحامد بن العباس بحضرة الخليفة، مع جماعة من خواصه، وكلهم منحرف عن الوزير- أيّده الله- ومحب لمكروهه، إذ أحضر حامد، الرجل الجندي، الذي ادّعى أنّه وجده راجعا من أردبيل «3» ، إلى قزوين «4» ، ثم إلى أصبهان «5» ، ثم إلى البصرة «6» ، وأنّه أقرّ له عفوا «7» ، أنّه رسول ابن الفرات، إلى ابن(4/30)
أبي الساج «1» ، في عقد الإمامة لرجل من الطالبيين المقيمين بطبرستان «2» ، ليقوّيه ابن أبي الساج، ويسيّره إلى بغداد، ويعاونه ابن الفرات بها، وانّه مخبر أنّه تردّد في ذلك دفعات، وخاطبه بحضرة الخليفة في أن يصدق عمّا عنده من ذلك.
فذكر الرجل، مثل ما أخبر عنه حامد، ووصف أنّ موسى بن خلف، كان يتخبّر لابن الفرات، لأنّه من الدعاة الذين يدعون إلى الطالبيّين، وأنّه كان يمضي في [كل] وقت من الأوقات إلى ابن أبي الساج في شيء من هذا.
فلما استتم الخليفة سماع هذا الكلام، اغتاظ غيظا شديدا، وأقبل على أبي عمر «3» ، وقال: ما عندك فيما فعله هذا؟
فقال: لئن كان فعل ذلك، لقد أتى أمرا فظيعا، وأقدم على أمر يضرّ بالمسلمين جميعا، واستحقّ كذا، كلمة عظيمة لا أحفظها.
قال أبو جعفر: وتبيّنت في عليّ بن عيسى كراهية لما جرى، والإنكار للدعوى، والطنز «4» بما قيل فيها، فقويت نفسي بذلك.
وأقبل الخليفة عليّ، فقال: ما عندك يا أحمد، فيمن فعل هذا؟
فقلت: إن رأى أمير المؤمنين، أن يعفيني.
فقال: ولم؟.
فقلت: لأنّ الجواب ربما أغضبت به من أنا محتاج إلى رضاه، أو خالف ما يوافقه من ذلك ويهواه، ويضرّ بي.(4/31)
فقال: لا بدّ أن تجيب.
فقلت: الجواب، ما قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ
«1» ، ومثل هذا يا أمير المؤمنين لا يقبل فيه خبر واحد، والتمييز يمنع من قبول مثل هذا على ابن الفرات، أتراه يظنّ به أنّه رضي أن يكون تابعا لابن أبي الساج، ولعله ما كان يرضى، وهو وزير، أن يستحجبه «2» ؟
ثم أقبلت على الرجل، فقلت له: صف لي أردبيل، عليها سور أم لا؟
فإنّك على ما تدعيه من دخولها، لا بد أن تكون عرفا بها، واذكر لنا صفة باب دار الإمارة، هل هو حديد أم خشب؟
فتلجلج.
فقلت له: كاتب ابن أبي الساج، ابن محمود، ما اسمه؟ وما كنيته؟
فلم يعرف ذلك.
فقلت له: فأين الكتب التي معك؟
فقال: لما أحسست بأنّي قد وقعت في أيديهم، رميت بها خوفا من أن توجد معي، فأعاقب.
قال: فأقبلت على الخليفة، وقلت: يا أمير المؤمنين، هذا جاهل، متكسّب، مدسوس من قبل عدوّ غير محصّل.
فقال علي بن عيسى، مؤيدا لي: قد قلت هذا للوزير، فلم يقبل قولي، وليس يهدّد هذا، فضلا عن أن ينزل به مكروه، إلّا أقرّ بالصورة.(4/32)
فأقبل الخليفة على نذير الحرمي «1» ، وعدل عن أن يأمر نصرا الحاجب «2» بذلك، لما يعرفه بينه وبين ابن الفرات «3» ، وقال: بحقّنا عليك، لما ضربته مائة مقرعة، أشدّ الضرب، إلى أن يصدق عن الصورة.
فعدي بالرجل، عن حضرة الخليفة، ليبعد ويضرب.
فقال: لا، إلا هاهنا.
فضرب بالقرب منه، دون العشرة، فصاح: غررت، وضمنت لي الضمانات، وكذبت، والله، ما دخلت أردبيل قط.
فطلب نزار بن محمد الضبّي أبو معد «4» ، وكان صاحب الشرطة، وقد انصرف، فقال الخليفة، لعلي بن عيسى: وقّع إليه، بأن يضرب هذا، مائة سوط، ويثقله بالحديد، ويحبس في المطبق «5» .
فو الله، لقد رأيت حامدا، وقد كاد يسقط، انخذالا، وانكسارا، ووجدا، وإشفاقا.
وخرجنا، وجلسنا في دار نصر الحاجب، وانصرف حامد، وأخذ علي بن عيسى ينظر في الحوائج، وأخّر أمر الرجل.(4/33)
فقال له حاجبه ابن عبدوس «1» ، قد وجّه نزار، بالمضروب المتكذّب.
فقلت له: إنّه وإن كان قد جهل، فقد غمّني ما لحقه، خوفا من أن أكون سببه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه، أو بعضه، أجرت.
فقال: ما في هذا- لعنه الله- أجر، ولكنّي أقتصر على خمسين مقرعة «2» ، وأعفيه من السياط «3» .
ثم وقّع بذلك إلى نزار، وانصرفنا.
فصار حامد من أعدى الناس لي.
معجم الأدباء 1/87- 91(4/34)
13 من شعر أبي الفتح بن المنجم
قال التنوخي أبو عليّ:
أنشدني أبو الفتح أحمد بن عليّ بن هارون بن يحيى المنجم «1» في الوزير أبي الفرج محمد بن العباس بن فسانجس «2» في وزارته «3» ، وقد عمل على الانحدار إلى الأهواز «4» لنفسه:
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم
ومن يداه معا تجدي ندى وردى ... يجريهما عدل حكم السيف والقلم
ومن إذا همّ أن تمضي عزائمه ... رأيت ما تفعل الأقدار في الأمم
ومن عوارفه تهمى وعادته ... في ربّ بدأته تنمى على القدم
لأنت أشهر في رعي الذمام وفي ... حكم التكرّم من نار على علم
والعبد عبدك في قرب وفي بعد ... وأنت مولاه إن تظعن وإن تقم
فمره يتبعك أو لا فاعتمده بما ... تجري به عادة الملّاك في الخدم «5»
قال: وأنشدني لنفسه، وذكر أنّه لا يوجد لها قافية رابعة من جنسها في الحلاوة:
سيّدي أنت ومن عادته ... باعتداء وبجور جاريه(4/35)
أنصف المظلوم وارحم عبرة ... بدموع ودماء جاريه «1»
ربما أكني بقولي سيّدي ... عند شكواي الهوى من جاريه «2»
قال: وأنشدني لنفسه، والقافية كلها عود باختلاف المعنى:
العيش عافية والراح والعود ... فكل من حاز هذا فهو مسعود
هذا الذي لكم في مجلس أنق ... سجاره «3» العنبر الهنديّ والعود
وقينة وعدها بالخلف مقترن ... بما يؤمّله راج وموعود
وفتية كنجوم الليل دأبهم ... إعمال كأس حداها الناي والعود
فاغدوا عليّ بكأس الراح مترعة ... عودا وبدأ فإن أحمدتم عودوا
معجم الأدباء 1/232(4/36)
14 غلام يقتضي أن يكون أخا وصديقا
قال أبو علي: سمعت أبا محمد المهلبيّ «1» يتحدّث، وهو وزير، في مجلس أنس: أنّ رجلا كان ينادم بعض الكتّاب الظراف، وأحسبه قال ابن المدبّر «2» ، قال:
كنت عنده ذات يوم، فرجع غلام له أنفذه في شيء لا أدري ما هو، فقال له ربّ الدار: ما صنعت؟
فقال: ذهبت، ولم يكن، فقام يجيء، فجاء، فلم يجىء، فجئت، قال: فتبيّنت في رب الدار تغيّرا، وهمّا، ولم يقل للغلام شيئا، فعجبت من ذلك.
ثم أخذ بيدي، وقال: قد ضيّق صدري، ما جاء به هذا الغلام، فقم حتى ندور في البستان الذي في دارنا ونتفرّج، فلعلّه يخفّ ما بي.
فقلت: والله، لقد توهّمت أنّ صدرك قد ضاق بانغلاق كلام الغلام عليك، وقد فهمته، وهذا ظريف.
فقال: إنّ هذا الغلام، أحصف وأظرف غلام يكون، وذاك أنّني ممتحن بعشق غلام أمرد، وهو ابن نجار من جيراننا، والغلام يساعدني عليه، وأبوه يغار عليه، ويمنعه منّي.
فوجّهت هذا الغلام، وقلت: إن لم يكن أبوه هناك، فقل له يصير إلينا.(4/37)
فرجع، فلما رآك عندي، قدّر أنّي لا أريد أن تفطن للأمر، فردّ هذا الجواب الطريف الذي سمعته.
فقلت: أعده عليّ أنت لأفهمه.
فقال: إنّه يقول: ذهبت إلى الغلام ولم يكن أبوه هناك، فقام الغلام يجيء، فجاء أبوه، فلم يجىء الغلام، فجئت أنا.
فقلت له: هذا الغلام يجب أن يكون أخا وصديقا، لا غلاما.
معجم الأدباء 1/293(4/38)
15 جحظة البرمكي يفت لبنات وردان
قال أبو عليّ: حدّثني أبو القاسم الحسين بن عليّ البغداديّ «1» ، وكان أبوه ينادم ابن الحواريّ «2» ، ثم نادم البريديين «3» بالبصرة، وأقام بها سنين، قال:
كان جحظة «4» خسيف الدين، وكان لا يصوم شهر رمضان، وكان يأكل سرّا.
فكان عند أبي يوما في شهر رمضان، مسلّما، فأجلسته.
فلما كان نصف النهار، سرق من الدار رغيفا، ودخل المستراح، وجلس على المقعدة.
واتّفق أن دخل أبي فرآه، فاستعظم ذلك، وقال: ما هذا يا أبا الحسن؟
فقال: أفتّ لبنات وردان «5» ما يأكلون، فقد رحمتهم من الجوع.
معجم الأدباء 1/395(4/39)
16 أبو بكر بن الجراح عالم فارس
أخبرنا أبو منصور القزّاز «1» ، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب «2» ، قال: حدّثنا التنوخيّ، قال:
كان أبو بكر بن الجرّاح «3» يقول: كتبي بعشرة آلاف درهم، وجاريتي بعشرة آلاف درهم، وسلاحي بعشرة آلاف درهم، ودوابّي بعشرة آلاف درهم.
قال التنوخيّ: وكان أحد الفرسان، يلبس أداته، ويركب فرسه، ويخرج إلى الميدان، ويطارد الفرسان فيه.
المنتظم 7/165 معجم الأدباء 2/79(4/40)
17 أبو عبد الله بن ثوابة نهاية في الكتبة وحسن الكلام
قال أبو علي المحسّن التنوخي:
رأيت أنا، أبا عبد الله هذا «1» في سنة 409 «2» وإليه ديوان الرسائل، وكان نهاية في حسن الكلام، والكتبة.
معجم الأدباء 2/80(4/41)
18 فرات غاض من آل الفرات
قال القاضي أبو علي التنوخيّ:
أنشدني أبو الحسين، عليّ بن هشام «1» ، لنفسه، لما قتل أبو الحسن بن الفرات «2» :
فرات غاض من آل الفرات ... ففاض عليه دمع المكرمات
سماء غودرت في بطن أرض ... وبحر غاض في بعض الفلاة
عسى الأيّام آخذة بثار ... فتأخذ لي بثار المأثرات
الوزراء للصابي 162(4/42)
19 عضد الدولة غلام أبي عليّ الفارسيّ في النحو
أخبرنا أبو منصور القزّاز «1» ، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن عليّ «2» ، قال: قال التنوخيّ:
ولد أبو علي الحسن بن أحمد النحويّ الفارسي «3» ، بفسا، وقدم بغداد، فاستوطنها، وسمعنا منه في رجب سنة خمس وسبعين وثلاثمائة.
وعلت منزلته في النحو، حتى قال قوم من تلامذته، هو فوق المبرّد «4» ، وأعلم منه.
وصنّف كتبا عجيبة حسنة، لم يسبق إلى مثلها، واشتهر ذكره في الآفاق.
وبرع له غلمان حذّاق، مثل عثمان بن جني «5» ، وعليّ بن عيسى(4/43)
الشيرازي «1» ، وغيرهما.
وخدم الملوك، ونفق عليهم، وتقدّم عند عضد الدولة «2» ، فسمعت أبي يقول: سمعت عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي النحوي في النحو «3» .
المنتظم 7/138 معجم الأدباء 3/10(4/44)
20 زورق ابن الخواستيني يحمل ثلاثمائة ألف رطل
وحدّث ابن نصر «1» ، قال: حدّثني يوما أبو الفرج الببغاء الشاعر «2» :
أنّ أبا الفرج منصور بن بشر النصرانيّ الكاتب، كان منقطعا إلى أبي لعباس بن ماسرجس، فأنفذه مرّة إلى أبي عمر إسماعيل بن أحمد، عامل البصرة، في بعض حاجاته، فعاد من عنده مغضبا، لأنّه لم يستوف له القيام عند دخوله.
وأراد أبو العباس إنفاذه بعد أيّام، فأبى، وقال: لو أعطيتني زورق ابن الخواستيني، مملوءا كيمياء، كلّ مثقال منه إذا وضع على ألف مثقال صفرا، صار ذهبا ابريزا، ما مضيت إليه.
فأمسك عنه مغيظا.
وهذا زورق معروف بالبصرة، وحمله ثلاثمائة ألف رطل «3» .
معجم الأدباء 3/57(4/45)
21 ابن أبي علان ومبالغاته
وقد رأيت «1» دواتي أبي العبّاس سهل بن بشر «2» ، وقد حكي له، أن ابن أبي علان قاضي القضاة بالأهواز «3» ، ذكر أنّه رأى قبجة «4» وزنها عشرة أرطال «5» .
فقال: هذا محال.
فقيل له: ترد قول ابن أبي علّان؟
قال: فإن قال ابن أبي علان، أنّ على شاطىء جيحون نخلا يحمل غضار صيني مجزّع بسواد، أقبل «6» ؟
معجم الأدباء 3/57(4/46)
22 التنوخي يتحدث عن الحسن بن بشر الآمدي
أخبرني القاضي أبو القاسم التنوخيّ، عن أبيه، أبي علي المحسّن:
أنّ مولد أبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي «1» بالبصرة، وأنّه قدم بغداد فحمل عن الأخفش «2» ، والحامض «3» ، والزجاج «4» وابن دريد «5» ، وابن(4/47)
السراج «1» ، وغيرهم، اللغة، وروى الأخبار في آخر عمره بالبصرة.
وكان يكتب بمدينة السلام لأبي جعفر هارون بن محمد الضبّي «2» خليفة أحمد ابن هلال صاحب عمان «3» ، بحضرة المقتدر، ووزرائه، ولغيره من بعده.
وكتب بالبصرة لأبي الحسين أحمد «4» ، وأبي أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى «5» ، وبعدهما لقاضي البلد أبي [القاسم] «6» جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ على الوقوف التي تليها القضاة، ويحضر به في مجلس حكمه، ثم لأخيه أبي الحسن محمد بن عبد الواحد «7» ، لما ولي قضاء البصرة، ثم لزم بيته إلى أن مات.
وكان كثير الشعر، حسن الطبع، جيّد الصنعة، مشتهرا بالتشبيهات.
معجم الأدباء 3/58(4/48)
23 لعن الله الدنيا
قال أبو عليّ:
كنت في سنة 352 ببغداد، فحضر أوّل يوم شهر رمضان فاصطحبنا أنا وأبو الفتح عبد الواحد بن أبي علي الحسين بن هارون، الكاتب في دار أبي الغنائم، الفضل بن الوزير أبي محمد المهلّبيّ «1» ، لتهنئته بالشهر، عند توجّه أبيه «2» إلى عمان «3» .
وبلغ أبو محمد إلى موضع من أنهار البصرة يعرف بعلياباذ «4» ، ففترت نيّته عن الخروج إلى عمان.
واستوحش معزّ الدولة «5» منه، وفسد رأيه فيه.
واعتلّ المهلّبيّ هناك، ثم أمره معزّ الدولة، بالرجوع من علياباذ، وأن لا يتجاوزه، وقد اشتدّت علّته، والناس بين مرجف بأنّه يقبض عليه إذا حصل بواسط «6» ، أو عند دخوله إلى بغداد، وقوم يرجفون بوفاته.
وخليفته إذ ذاك على الوزارة ببغداد، أبو الفضل العباس بن الحسين(4/49)
ابن عبد الله «1» ، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس «2» .
فجئنا إلى أبي الغنائم، ودخلنا إليه وهو جالس في عرضيّ «3» في داره التي كانت لأبيه على دجلة، على الصراة «4» ، عند شبّاك في دجلة، وهو في دست كبير عال، جالس، وبين يديه الناس على طبقاتهم، فهنأناه بالشهر وجلسنا، وهو إذ ذاك صبيّ [غير] بالغ، إلّا أنّه محصّل.
فلم يلبث أن جاء أبو الفضل وأبو الفرج، فدخلا اليه وهنآه بالشهر، فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، على طرف دسته، في الموضع الذي فيه فضلة المخاد إلى الدست، ما تحرّك لأحدهما، ولا انزعج، ولا شاركاه في الدست.
وأخذا معه في الحديث، وزادت مطاولتهما، وأبو الفضل يستدعي خادم الحرم، فيسارّه، فيمضي ويعود، ويخاطبه سرّا.
إلى أن جاءه بعد ساعة، فسارّه، فنهض.
فقال له أبو الفرج: إلى أين يا سيدي؟
فقال: أهنّئ من يجب تهنئته وأعود إليك، وكان أبو الفضل زوج زينة «5» ، أخت أبي الغنائم، من أبيه وأمّه تجنّي «6» .
فحين دخل واطمأنّ قليلا، وقع الصراخ، وتبادر الخدم والغلمان، ودعي(4/50)
الصبيّ، وكان يتوقّع أن يرد عليه خبر موت أبيه، لأنّه كان عالما بشدة علّته، فقام، فمسكه أبو الفرج، وقال: اجلس، اجلس، وقبض عليه.
وخرج أبو الفضل وقد قبض على تجنّي، أم الصبيّ، ووكّل بها خدما، وختم الأبواب، ثم قال للصبيّ: قم يا أبا الغنائم إلى مولانا- يعني معزّ الدولة- فقد طلبك، وقد مات أبوك.
فبكى الصبي، وسعى إليه، وعلق بدرّاعته، وقال: يا عمّ، الله، الله، فيّ، يكررها.
فضمه أبو الفضل إليه، واستعبر، وقال: ليس عليك بأس ولا خوف، وانحدروا إلى زبازبهم «1» ، فجلس أبو الفرج في زبزبه، وجلس أبو الفضل في زبزبه، وأجلس الغلام بين يديه، وأصعدت الزبازب، تريد معزّ الدولة بباب الشمّاسية.
فقال أبو الفتح بن الحسين: ما رأيت مثل هذا قط، ولا سمعت، لعن الله الدنيا، أليس الساعة، كان هذا الغلام في الصدر معظّما، وخليفتا أبيه، بين يديه، وما افترقا حتى صار بين أيديهما ذليلا حقيرا.
ثم جرى من المصادرات على أهله وحاشيته، ما لم يجر على أحد «2» .
معجم الأدباء 3/197(4/51)
24 نعوذ بالله من الخيبة والخذلان
حدّث أبو القاسم التنوخي:
أنّ نقفور «1» لما فتح طرسوس «2» ، نصب في ظاهرها علمين، ونادى مناديه، من أراد بلاد الملك الرحيم، وأحبّ العدل والنصفة، والأمن على المال، والأهل، والنفس، والولد، وأمن السبل، وصحة الأحكام، والإحسان في المعاملة، وحفظ الفروج، وكذا وكذا، وعدّ أشياء جميلة، فليصر تحت هذا العلم، ليقفل مع الملك إلى بلاد الروم.
ومن أراد الزنا، واللواط، والجور في الأحكام والأعمال، وأخذ الضرائب، وتملك الضياع عليه، وغصب الأموال، وعدّ أشياء من هذا النوع غير جميلة، فليحصل تحت هذا العلم إلى بلاد الإسلام.
فصار تحت علم الروم خلق من المسلمين، ممّن تنصر، وممّن صبر على الجزية.
ودخل الروم إلى طرسوس، فأخذ كلّ واحد من الروم، دار رجل من المسلمين، بما فيها، ثم يتوكّل ببابها، ولا يطلق لصاحبها إلّا حمل الخفّ، فإن رآه قد تجاوز، منعه، حتى إذا خرج منها صاحبها، دخلها النصرانيّ، فاحتوى على ما فيها.
وتقاعد بالمسلمين أمّهات أولادهم، لمّا رأين أهاليهن، وقالت أنا الآن حرّة، لا حاجة لي في صحبتك، فمنهنّ من رمت بولدها على أبيه، ومنهنّ(4/52)
من منعت الأب من ولده، فنشأ نصرانيّا، فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم، فيودّع ولده، ويبكي، ويصرخ، وينصرف على أقبح صورة، حتى بكى الروم رقّة لهم.
وطلبوا من يحملهم، فلم يجدوا غير الروم، فلم يكروهم إلّا بثلث ما أخذوه على أكتافهم أجرة، حتى سيّروهم إلى أنطاكية «1» .
هذا وسيف الدولة «2» حيّ يرزق بميافارقين، والملوك كلّ واحد مشغول بمحاربة جاره من المسلمين «3» ، وعطّلوا هذا الفرض، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان، ونسأله الكفاية من عنده.
معجم البلدان 3/527(4/53)
25 ابن الماشطة صاحب كتاب جواب المعنت
قال أبو علي التنوخي، حدّثنا أبو الحسين علي بن هشام «1» ، قال:
سمعت علي بن الحسن الكاتب المعروف بابن الماشطة «2» ، وهو صاحب الكتاب المعروف: بجواب المعنت، في الكتابة، وعاش حتى بلغ المائة سنة، وكان قد تقلّد مكان أبي «3» ، في أيام حامد «4» لما غلب عليّ بن عيسى «5» على الأمور، قال:(4/54)
سمعت الفضل بن مروان «1» وزير المنتصر بالله «2» ابن المتوكل «3» ، وذكر خبرا ... «4» .
معجم الأدباء 5/114(4/55)
26 من طريف أخبار العادات
حدّث القاضي أبو عليّ المحسّن بن عليّ التنوخيّ في كتاب نشوار المحاضرة، قال:
ومن طريف أخبار العادات، أنّي كنت أرى أبا الفرج عليّ بن الحسين الأصبهانيّ الكاتب «1» نديم أبي محمد المهلّبيّ»
، صاحب الكتب المصنّفة في الأغاني والقيان، وغير ذلك، دائما إذا ثقل الطعام في معدته- وكان أكولا نهما-، يتناول خمسة دراهم، فلفلا مدقوقا، فلا تؤذيه، ولا تدمعه.
وأراه يأكل حمّصة واحدة، أو يصطبغ بمرقة قدر فيها حمّص، فيتشرى «3» بدنه كلّه من بعد ذلك، وبعد ساعة أو ساعتين يفصد، وربما فصد دفعتين، وأسأله عن سبب ذلك، فلا يكون عنده علم منه.
وقال لي غير مرّة: إنّه لم يدع طبيبا حاذقا على مرّ السنين إلّا سأله عن سببه، فلا يجد عنده علما ولا دواء.
فلمّا كان قبل فالجه بسنوات، ذهبت عنده العادة في الحمّص، فصار يأكله فلا يضرّه، وبقيت عليه عادة الفلفل.
معجم الأدباء 5/156(4/56)
27 خطيب يموت على المنبر
ذكر صاحب كتاب النشوار أبو عليّ المحسّن بن عليّ القاضي:
أنّه حضر مجلس أبي الفرج الأصبهانيّ، صاحب كتاب الأغاني، فتذاكروا موت الفجاءة.
فقال أبو الفرج: أخبرني شيوخنا أنّ جميع أحوال العالم قد اعترت من مات فجأة، إلّا أنّني لم أسمع من مات على منبر.
قال أبو علي المحسّن: وكان معنا في مجلس أبي الفرج، شيخ أندلسي، قدم من هناك لطلب العلم، ولزم أبا الفرج، يقال له: أبو زكريّا يحيى ابن مالك بن عائذ، وكنت أرى أبا الفرج يعظّمه ويكرمه ويذكر ثقته.
فأخبرنا أبو زكريّا: أنّه شاهد في مسجد الجامع ببلدة من الأندلس، خطيب البلد، وقد صعد يوم الجمعة ليخطب، فلمّا بلغ يسيرا من خطبته، خرّ ميتا فوق المنبر «1» ، حتى أنزل منه، وطلب في الحال من رقي المنبر، فخطب وصلّى الجمعة بنا «2» .
معجم الأدباء 5/166(4/57)
28 أبو الفرج بن هندو كاتب الإنشاء في ديوان عضد الدولة
قال أبو عليّ التنوخي:
كان أبو الفرج عليّ بن الحسين بن هندو «1» ، أحد كتّاب الإنشاء في ديوان عضد الدولة «2» ، وقد شاهدت عدّة كتب كتبها بخطّه.
معجم الأدباء 5/168(4/58)
29 أبو الحسن الصائغ النحوي أستاذ الجبائي
قال القاضي أبو عليّ التنوخيّ، حدّثني أبو عمر أحمد بن محمد بن حفص الخلال، قال:
كان أبو الحسن الصائغ النحويّ الرامهرمزيّ «1» واسع العلم والأدب، مليح الشعر وهو صاحب القصيدة التي أوّلها: [بياض في الأصل] ، وفيها تجوّز كثير وأمر بخلاف الجميل، قالها على طريق التخالع، والتطايب.
وكان صالحا معتقدا للحق، لا عن اتّساع في العلم، يعني علم الكلام، ولكنّه كان واسع المعرفة بالنحو واللغة والأدب.
وأبو الحسن الصائغ هذا، هو أستاذ أبي هاشم بن أبي عليّ الجبائي «2» ، بعد أبي بكر المبرمان «3» في النحو، قرأ عليه لما ورد البصرة، واستفاد منه حتى بلغ أعلى مراتب النحو «4» .
معجم الأدباء 5/276(4/59)
30 هذا بلاغ للناس ولينذروا به
قال التنوخيّ: إن أبا الحسن الوراق يعرف بالإخشيذي «1» .
وقال أيضا: وممن ذهب في زماننا إلى أنّ عليّا عليه السلام، أفضل الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من المعتزلة، أبو الحسن عليّ بن عيسى النحوي، المعروف بابن الرمّاني الإخشيذي.
وقرأت بخطّ أبي سعد، سمعت أبا طاهر السبخي، قال: سمعت أبا الكرم بن الفاخر النحوي، قال: سمعت القاضي أبا القاسم عليّ بن المحسّن التنوخيّ، قال:
سمعت شيخنا أبا الحسن عليّ بن عيسى الرمّاني النحويّ، يقول، وقد سئل، فقيل له: لكل كتاب ترجمة، فما ترجمة كتاب الله عزّ وجلّ.
فقال: هذا بلاغ للناس ولينذروا به.
معجم الأدباء 5/280- 282(4/60)
31 بين الوزير ابن مقلة والشاعر ابن بسّام
قال التنوخيّ: حدّثني ابن أبي قيراط، عليّ بن هشام «1» ، قال: حدّثني أبو عليّ بن مقلة «2» ، قال:
كنت أقصد ابن بسّام «3» لهجائه إيّاي، فخوطب ابن الفرات في وزارته الأولى، في تصريفه، فاعترضت، وقلت: إذا صرّف، فلا يحتبس الناس على مجالسنا وقد افترقت، فإذا لم يضرّه الوزير فلا أقلّ من أن لا ينفعه.
فامتنع من تصريفه، قضاء لحقّي.
فبلغ ذلك ابن بسّام، فجاءني، وخضع لي، ثم لازمني نحو سنة، حتى صار يختصّ بي، ويعاشرني على النبيذ، ومدحني فقال:
يا زينة الدين والدنيا وما جمعا ... والأمر والنهي والقرطاس والقلم
إن ينسئ الله في عمري فسوف ترى ... من خدمتي لك ما يغني عن الخدم
أبا عليّ لقد طوّقتني مننا ... طوق الحمامة لا تبلى على القدم
فاسلم فليس يزيل الله نعمته ... عمّن يبثّ الأيادي في ذوي النعم
معجم الأدباء 5/323(4/61)
32 بين ابن الفرات وخالد الكاتب
حدّث القاضي أبو عليّ، قال: حدّثني أبو الحسين عليّ بن هشام «1» ، قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات «2» ، يتحدّث في مجلسه، قال:
كنّا بعد وفاة أبينا، وقبل تصرّفنا مع السلطان نقدم إلى بغداد، من سرّ من رأى، فنقيم بها المدّة بعد المدّة، ونتفرّج، ثم نعود، وننزل، إذا وردنا، شارع عمرو بن مسعدة، بالجانب الغربيّ.
فبكّرنا يوما، نريد بستانا، فإذا بخالد الكاتب «3» ، والصبيان يولعون به، وقد اختلط، وهو يرجم، ويشتم.
ففرّقناهم عنه، ومنعناه منهم، ورفقنا به، وسألناه أن يصحبنا، وأنزلنا أحد غلماننا من مركوبه، وأركبناه، وحملناه إلى البستان.
فلما أكل، وسكن، وجدناه متماسك العقل، بخلاف ما رأيناه عليه، وظنناه به، وسمعناه عنه.
فقلنا له: ما الذي يلحقك؟
فقال: أكثر آفتي هؤلاء الصبيان، فإنّهم يشدّون «4» عليّ، حتى أعدم بقيّة عقلي، وأصير إلى ما شاهدتموه منّي، وأخذ ينشدنا لنفسه، ويورد من شعره، وطاب لنا يومنا معه.
وأحبّ أخي أن يمتحنه في قول الشعر، وهل هو على ما كان، أم قد(4/62)
اختلّ، فقال له: أريد أن تعمل شيئا في الفراق الساعة.
فأخذ الدواة، وفكّر، وقال:
عيني، أكنت عليك مدّعيا ... أم حين أزمع بينهم خنت
إن كنت فيما قلت صادقة ... فعلى فراقهم ألا بنت
الوزراء للصابي 162(4/63)
33 رسالة كتبها والد المؤلف
قال أبو عليّ التنوخي في النشوار: حدّثني أبو العلاء صاعد بن ثابت «1» ، قال:
كتب إليّ القاضي التنوخيّ أبو القاسم عليّ بن محمّد «2» جواب كتاب كتبته إليه:
وصل إليّ كتابك:
فما شككت، وقد جاء البشير به، ... أنّ الشباب أتاني بعدما ذهبا
وقلت نفسي تفدي نفس مرسله ... من كل سوء ومن أملى ومن كتبا
وكاد قلبي، وقد قلّبته، قرما ... إلى قراءته أن يخرق الحجبا
قال: والشعر له، وأنشدنيه بعد ذلك لنفسه.
قال أبو عليّ: ولست أعرف له ذلك، ولا وجدته في كتبه منسوبا إليه، ويجوز أن يكون ممّا قاله ولم يثبته، أو ضاع فيما ضاع من شعره، فإنّه أكثر ممّا حفظ «3» .
معجم الأدباء 5/340(4/64)
34 من شعر أبي الفتح بن المنجم
كان لعليّ بن هارون بن المنجّم «1» ، ولد يقال له أبو الفتح أحمد بن عليّ ابن هارون المنجم «2» ، كان أديبا فاضلا، إلّا أنّي لم أقف له على تصنيف، فلم أفرده بترجمة، والمقصود ذكره، وقد ذكر هاهنا، روى عنه أبو عليّ التنوخيّ في نشواره، فأكثر، وقال: أنشدني أبو الفتح أحمد بن عليّ بن هارون لنفسه:
ما أنس منها لا أنس موقفها ... وقلبها للفراق ينصدع
وقولها إذ بدا الصباح لها ... قول فزوع أظلّه الجزع
ما أطول الليل عند فرقتنا ... وأقصر الليل حين نجتمع
قال التنوخيّ: وأنشدني أبو الفتح لنفسه، وكتب بها إلى أبي الفرج محمد ابن العباس بن فسانجس «3» في وزارته، وقد عمل على الانحدار إلى الأهواز:
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم «4»
معجم الأدباء 5/445(4/65)
35 أبو معشر وعلم التنجيم
وحدّث أبو عليّ التنوخيّ في نشواره، قال: حدّثني أبو الحسن ابن أبي بكر الأزرق «1» قال: حدّثني أبي «2» ، قال:
كان بكركر «3» من نواحي القفص «4» ، ضيعة نفيسة، لعليّ بن يحيى بن المنجم «5» ، وقصر جليل فيه خزانة كتب عظيمة، يسميها: خزانة الحكمة، يقصدها الناس من كلّ بلد، فيقيمون فيها، ويتعلّمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال عليّ بن يحيى.
فقدم أبو معشر المنجّم «6» من خراسان «7» ، يريد الحجّ، وهو إذ ذاك لا(4/66)
يحسن كبير شيء من النجوم، فوصفت له الخزانة، فحضر وراها، فهاله أمرها، فأقام بها، وأضرب عن الحجّ، وتعلّم فيها علم النجوم، وأغرق فيه حتى ألحد.
وكان ذلك آخر عهده بالحجّ، وبالدين، والإسلام أيضا.
معجم الأدباء 5/467 فرج المهموم 157(4/67)
36 من إخوانيات الجاحظ
قال أبو علي التنوخيّ، حدّثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأخباري «1» ، قال: حدّثني أبو الفرج الأصبهانيّ «2» ، قال: أخبرني الحسن بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عبد الله بن جعفر الوكيل، قال:
كنت يوما عند إبراهيم بن المدبّر «3» ، فرأيت بين يديه رقعة يردّد النظر إليها.
فقلت له: ما شأن هذه الرقعة، كأنّه استعجم عليك شيء منها؟
فقال: هذه رقعة أبي عثمان الجاحظ «4» ، وكلامه يعجبني، وأنا أردّده على نفسي، لشدّة إعجابي.
فقلت: هل يجوز أن أقرأها؟
قال: نعم، وألقاها إليّ، فإذا فيها:
ما ضاء لي نهار، ولا دجا ليل، مذ فارقتك، إلّا وجدت الشوق إليك قد حزّ في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي، فأنا بين حشى خافقة، ودمعة مهراقة، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد بليت بما تكابد، وذكرت وأنا على فراش الارتماض،(4/68)
ممنوع من لذة الإغماض، قول الشاعر:
إذا هتف القمريّ نازعني الهوى ... بشوق فلم أملك دموعي من الوجد
أبى الله إلّا أن يفرّق بيننا ... وكنّا كماء المزن شيب مع الشهد
لقد كان ما بيني زمانا وبينها ... كما كان بين المسك والعنبر الورد
فانتظم وصف ما كنا نتعاشر عليه، ونجري في مودتنا إليه، في شعره هذا، وذكرت أيضا، ما رماني به الدهر، من فرقة أعزّائي من أخواني الذين أنت أعزّهم، ويمتحنني بمن نأى من أحبائي وخلصائي الذين أنت أحبّهم وأخلصهم، ويجرّعنيه من مرارة نأيهم، وبعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أوبتك، وقلت أبياتا تقصر عن صفة وجدي، وكنه ما يتضمّنه قلبي، وهي:
بخدّي من قطر الدموع ندوب ... وبالقلب مني مذ نأيت وجيب
ولي نفس تحت الدجى يصدع الحشا ... ورجع حنين للفؤاد مذيب
ولي شاهد من ضرّ نفسي وسقمه ... يخبّر عنّي أنّني لكئيب
كأنّي لم أفجع بفرقة صاحب ... ولا غاب عن عيني سواك حبيب
فقلت لابن المدبّر: هذه رقعة عاشق، لا رقعة خادم، ورقعة غائب، لا رقعة حاضر.
فضحك، وقال: نحن ننبسط مع أبي عثمان إلى ما هو أرقّ من هذا وألطف، فأمّا الغيبة، فإنّنا نجتمع في كل ثلاثة أيّام، وتأخّر ذلك لشغل عرض لي، فخاطبني مخاطبة الغائب، وأقام انقطاع العادة، مقام الغيبة.
معجم الأدباء 6/67(4/69)
37 الوزير علي بن عيسى يقر بأن صنيعة الوزير ابن الفرات
حدّث القاضي أبو عليّ قال: حدّثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق «1» ، قال:
لما حمل عليّ بن عيسى «2» إلى ابن الفرات في وزارته الثالثة «3» ، رآه ابن الفرات، وهو مقبل إليه، فبدأ يكتب كتابا.
وجاء عليّ بن عيسى، وهو كالميت، خوفا وجزعا، فوقف قائما، وابن الفرات يكتب، وعند عليّ بن عيسى، والحاضرين، أنّه لم يره.
وبقي واقفا، نحو ساعة، إلى أن فرغ ابن الفرات من كتابته، ثم رفع رأسه، وقال: اقعد، بارك الله عليك.
فأكبّ عليّ بن عيسى عليه، يقبّل يده، وهو يقول: أنا عبد الوزير، وخادمه، وصنيعته القديم، وصنيعة أبي العباس «4» أخيه، رحمه الله تعالى، ومن لا يعرف صاحبا، ولا أستاذا غيره.
فقال: هو كذلك، وأنت فيه صادق، وإنّي لأرعى لك حق خدمتك القديمة، لي، ولأخي رحمه الله، وما عليك بأس في نفسك، ولولا طاعة(4/70)
السلطان، ما أفسدنا صنيعتنا عندك.
وقرّر عليه من المصادرة، ما قرّره.
وعمل المحسّن بن عليّ بن الفرات «1» ، على قتل عليّ بن عيسى، فلم يدعه أبوه، واستقرّ الأمر على نفيه، وإبعاده عن الحضرة.
واختار هو الخروج إلى مكّة، وأظهر أنّه يريد الحجّ والمجاورة.
وخرج بعد أن ضمّ إليه موكّلون «2» ، ووصّاهم المحسّن بسمّه في الطريق، إن تمكنوا، أو قتله بمكّة.
وعرف عليّ بن عيسى ذلك، فتحرّز، في مأكله ومشربه.
ووصل إلى مكّة [وفيها] رجل يعرف بأحمد بن موسى الرازي، وكان داهية ذا مكر وخبث، وقد اصطنعه عليّ بن عيسى في وزارته، وقلّده القضاء هناك.
فلما اجتمع عليّ بن عيسى معه، حدّثه بحديثه، وسأله إعمال الحيلة في تخليصه، وحراسة نفسه.
فتلطّف في ذلك، بأن واضع أهل البلد، وقد كانوا قدّموه، وأطاعوه، على أن اجتمعوا، وثاروا بالموكّلين.
وخاف أن يجري ما يلحقه فيه إثم، أو إنكار من السلطان، فطرح نفسه عليهم، حتى خلّصهم، وأخرجهم ليلا إلى بغداد، بعد أن أعطاهم نفقة.
وأقام بمكّة.
وقد كان أبو العبّاس، أحمد بن محمد بن الفرات، في خلافة عبيد الله ابن سليمان، على الأمور، عمل ديوانا سماه: ديوان الدار، وجمع إليه(4/71)
سائر الأعمال، ودبّره بنفسه، وكتّابه، واستناب أخاه أبا الحسن عليّ ابن محمد بن الفرات فيه، واصطنع كتّابا، قلّدهم مجالسه، منهم أبو الحسن عليّ بن عيسى، وأبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح، عمّه، فكانا يجلسان بحضرة أبي الحسن، ويأمرهما وينهاهما، ويسمّيانه أستاذنا، على رسم أصحاب الدواوين إذ ذاك.
وجرى الأمر على هذا الترتيب، إلى أن عزم المعتضد بالله، على إخراج المكتفي بالله، إلى الجبل، ومعه عبيد الله بن سليمان، والخروج بنفسه إلى آمد والثغور، ومعه القاسم بن عبيد الله.
فقال عبيد الله، لأبي العباس بن الفرات: أريد كاتبا يصحبني، ويتصفّح أعمال كلّ بلد نفتحه، ويقرّر معاملاته، على ما يدلّ عليه الديوان القديم من رسومه.
فقال: ذاك محمّد بن داود، وإليه في ديوان الدار، مجلس ما فتح من أعمال المشرق، وفيه الحسبانات العتيقة.
وقال القاسم: وأنا أريد آخر يكون معي إلى المغرب.
فقال: يكون عليّ بن عيسى.
وخرج محمد بن داود، وعليّ بن عيسى، في جملة عبيد الله، والقاسم، فنفق محمد على عبيد الله، وقرب منه، واختصّ به، ورأى من فضله، وصناعته، ما أعجبه، وانتهى أمره معه إلى أن زوّجه عبيد الله بنته، وانتزع مجلس المشرق، من ديوان الدار، وجعله ديوانا مفردا، وقلّده محمد بن داود، رئاسة.
وحصلت لعليّ بن عيسى حرمة بالقاسم، وشاهد من كفايته، وسداده، وكتابته، ونفاذه، ما عظم به في عينه، فقدّمه، وتوفّر عليه، وفعل مثل فعل أبيه مع محمد بن داود، في انتزاع مجلس المغرب من ديوان الدار،(4/72)
وتقليده عليّ بن عيسى رئاسة، ولم يجعلا لأبي العباس بن الفرات، بعد ذلك، عليهما يدا.
وكان قول عليّ بن عيسى، لابن الفرات، ما قاله: من أنّني عبدك، وصنيعتك، وعبد وصنيعة أبي العباس أخيك، وقبول ابن الفرات ذلك منه، وتصديقه إيّاه فيه، على هذا الأصل.
الوزراء للصابي 147(4/73)
38 ابن دريد يكتب دروسه لتلامذته
ومن خطّ أبي عليّ المحسّن، قال:
سألت القاضي أبا سعيد السيرافيّ «1» رحمه الله، عن الأخبار التي يرويها عن أبي بكر بن دريد «2» ، وكنت أقرأها عليه، أكان يمليها من حفظه؟
فقال: لا، كانت تجمع من كتبه وغيرها، ثم تقرأ عليه.
وسألت أبا عبيد الله محمد بن عمران المرزباني «3» رحمه الله، عن ذلك، فقال: لم يكن يمليها من كتاب ولا حفظ، ولكن كان يكتبها، ثم يخرجها الينا بخطّه، فاذا كتبناها خرّق ما كانت فيه.
معجم الأدباء 6/248(4/74)
39 القاضي التنوخي وقاطع الطرق
قال المحسّن، وحدّثني أبي «1» ، قال:
لمّا كنت أتقلّد القضاء بالكرخ، كان بوّابي بها رجل من أهل الكرخ، وله ابن عمره حينئذ عشر سنين أو نحوها، وكان يدخل داري بلا إذن، ويمتزج مع غلماني، وأهب له في الأوقات الدراهم والثياب، كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم.
ثم خرجت عن الكرخ، ورحلت عنها، ولم أعرف للبوّاب ولا لابنه خبرا.
ومضت السنون، وأنفذني أبو عبد الله البريدي «2» من واسط «3» ، برسالة إلى ابن رائق «4» ، فلقيته بدير العاقول «5» ، ثم انحدرت أريد واسطا «6» ، فقيل لي إنّ في الطريق لصّا يعرف بالكرخي، مستفحل الأمر.
وكنت خرجت بطالع اخترته على موجب تحويل مولدي لتلك السنة «7» .(4/75)
فلمّا عدت من دير العاقول خرج علينا اللصوص في سفن عدّة بسلاح شاك «1» في نحو مائة رجل، وهو كالعسكر العظيم.
وكان معي غلمان يرمون بالنشّاب، فحلفت أنّ من رمى منهم سهما ضربته إذا رجعت إلى المدينة، مائتي مقرعة «2» ، وذلك إنّني خفت أن يقتل أحد منهم، فلا يرضون إلّا بقتلي.
وبادرت فرميت بجميع ما كان معي، ومع الغلمان، من السلاح، في دجلة، واستسلمت طلبا لسلامة النفس.
وجعلت أفكّر في الطالع الذي خرجت به، فإذا ليس مثله ممّا يوجب عندهم قطعا، والناس قد أديروا إلى الشاطئ، وأنا في جملتهم، وهم يضربون، ويقطّعون بالسيوف.
فلمّا انتهى الأمر إليّ، جعلت أعجب من حصولي في مثل ذلك، والطالع لا يوجبه.
فبينا أنا كذلك، وإذا بسفينة رئيسهم قد دنت، وطرح عليّ «3» كما صنع بسائر السفن، ليشرف على ما يؤخذ.
فحين رآني زجر أصحابه عنّي، ومنعهم من أخذ شيء من سفينتي، وصعد بمفرده إليّ، وجعل يتأمّلني، ثم أكبّ علي يديّ يقبّلهما، وهو متلثّم.
فارتعت، وقلت: يا هذا، ما شأنك؟
فأسفر عن لثامه، وقال: أما تعرفني يا سيّدي؟(4/76)
فتأمّلته، فلجزعي لم أعرفه، فقلت: لا والله.
فقال: بلى، أنا عبدك ابن فلان الكرخيّ، بوّابك هناك، وأنا الصبيّ الذي تربيت في دارك.
قال: فتأمّلته، فعرفته، إلّا أنّ اللحية قد غيّرته في عيني.
فسكن روعي قليلا، وقلت: يا هذا، كيف بلغت إلى هذه الحال؟
فقال: يا سيّدي، نشأت، فلم أتعلّم غير معالجة السلاح، وجئت إلى بغداد أطلب الديوان «1» فما قبلني أحد، وانضاف إليّ هؤلاء الرجال، فطلبت قطع الطريق، ولو كان أنصفني السلطان، وأنزلني بحيث أستحقّ من الشجاعة، وانتفع بخدمتي، ما فعلت بنفسي هذا.
قال: فأقبلت عليه، أعظه، وأخوّفه الله، ثم خشيت أن يشقّ ذلك عليه فيفسد رعايته لي، فأقصرت.
فقال لي: يا سيّدي لا يكون بعض هؤلاء أخذ منك شيئا.
قلت: لا، ما ذهب مني إلا سلاح رميته أنا في الماء، وشرحت له الصورة.
فضحك، وقال: قد والله أصاب القاضي، فمن في الكار «2» ممن تعتني به؟
فقلت: كلهم عندي بمنزلة واحدة في الغمّ بهم، فلو أفرجت عن الجميع.
فقال: والله، لولا أنّ أصحابي قد تفرّقوا ما أخذوه، لفعلت ذلك، ولكنّهم لا يطيعونني إلى ردّه، ولكني أمنعهم عن أخذ شيء آخر ممّا في السفن، ممّا لم يؤخذ بعد.
فجزيته الخير، فصعد إلى الشاطئ، وأصعد جميع أصحابه، ومنعهم عن أخذ شيء آخر ممّا في السفن، ممّا لم يؤخذ، وردّ على قوم أشياء(4/77)
كثيرة، كانت أخذت منهم، وأطلق الناس.
وسار معي إلى حيث أمن عليّ، وودّعني، وانصرف راجعا.
معجم الأدباء 5/347
40 ابن سكرة الهاشمي يهجو غلاما
قال أبو عليّ: وكنت مع أبي الحسن بن سكّرة «1» على المائدة، فحمل بعض الغلمان غضارة «2» فيها مضيرة «3» ، فاضطربت يده، وانقلب منها شيء على ثياب أبي الحسن، فادّعى عليه أنّه ضراط، وهجاه بأبيات، لم يبق من حفظي منها غير بيتين، وهما:
قليل الصواب كثير الغلط ... شديد العثار قبيح السقط
جنى بالمضيرة ما قد جنى ... ولم يكفه ذاك حتى ضرط
معجم الأدباء 6/348(4/78)
41 عناية الوزير أبي محمد المهلبي بالتنوخي المؤلف
قرأت في كتاب الوزراء لهلال بن المحسّن «1» : حدّث القاضي أبو عليّ قال:
نزل الوزير أبو محمد المهلبي «2» السوس «3» ، فقصدته للسلام عليه، وتجديد العهد بخدمته.
فقال لي: بلغني أنّك شهدت عند ابن سيّار «4» قاضي الأهواز «5» .
قلت: نعم.
قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده، وأنت ولدي، وابن أبي القاسم التنوخي «6» أستاذ ابن سيّار؟
قلت: إلّا أنّ في الشهادة عنده، مع الحداثة، جمالا، وكانت سني يومئذ عشرين سنة.
قال: وجب أن تجيء إلى الحضرة، لأتقدّم إلى أبي السائب، قاضي(4/79)
القضاة، بتقليدك عملا، تقبل أنت فيه شهودا «1» .
قلت: ما فات ذاك إذا أنعم سيّدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب.
فضحك، وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه، كيف اغتنمها؟
ثم قال لي: اخرج معي إلى بغداد.
فقبّلت يده، ودعوت له، وسار من السوس إلى بغداد.
ووردت إلى بغداد في سنة 349 هـ، فتقدّم إلى أبي السائب في أمري بما دعاه إلى أن قلّدني عملا بسقي الفرات «2» .
وكنت ألازم الوزير أبا محمد، وأحضر طعامه، ومجالس أنسه.
واتفق أن جلس يوما مجلسا عامّا، وأنا بحضرته، وقيل له: أبو السائب في الدار.
قال: يدخل، ثم أومأ إليّ بأن أتقدم إليه، فتقدّمت ومد يده ليسارّني، فقبّلتها.
فمدّ يدي، وقال: ليس بيننا سرّ، وإنّما أردت أن يدخل أبو السائب، فيراك تسارّني في مثل هذا المجلس الحافل، فلا يشكّ أنّك معي في أمر من أمور الدولة، فيرهبك، ويحشمك، ويتوفّر عليك، ويكرمك، فإنّه لا يجيء إلّا بالرهبة، وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك.
وأخذ يواصل معي في مثل هذا الفنّ من الحديث، إلى أن دخل أبو السائب.(4/80)
فلما رآه في سرار، وقف، ولم يحب أن يجلس إلّا بعد مشاهدة الوزير له، تقرّبا إليه، وتلطّفا في استمالة قلبه، فإنّه كان إذ ذاك فاسد الرأي فيه.
فقال الحاجب لأبي السائب: يجلس قاضي القضاة.
وسمعه الوزير، فرفع رأسه، وقال له: اجلس يا سيّدي.
وعاد إلى سراري، وقال لي: هذه أشدّ من تلك، فامض إليه في غد، فسترى ما يعاملك به.
وقطع السرار، وقال لي ظاهرا: قم فامض فيما أنفذتك فيه، وعد إليّ الساعة بما تعمله.
فوهم أبو السائب بذاك أنّنا في مهمّ.
فقمت، ومضيت إلى بعض الحجر، وجلست إلى أن عرفت انصراف أبي السائب، ثم عدت إليه، وقد قام عن ذلك المجلس.
وجئت من غد إلى أبي السائب، فكاد يحملني على رأسه «1» ، وأخذ يجاذبني بضروب من المحادثة والمباسطة.
وكان على ذلك دهرا طويلا «2» .
معجم الأدباء 6/253(4/81)
42 التنوخي المؤلف في مجلس أنس عضد الدولة
حدّث أبو عليّ، قال:
كنت جالسا بحضرة عضد الدولة «1» في مجلس أنسه، بنهاوند «2» ، فغنّاه محمد بن كاله الطنبوري «3» ، شيخ كان يخدمه في جملة المغنّين، باق إلى الآن:
ذد بماء المزن والعنب ... طارقات الهمّ والكرب
قهوة لو أنّها نطقت ... ذكرت قحطان في العرب
وهي تكسو كفّ شاربها ... دستبانات من الذهب
فاستحسن الشعر والصنعة، وسأل عنها، فقال له ابن كاله: هذا شعر غنّت به مولانا، سلمة بنت حسينة، فاستعاده منها استحسانا له، فسرقته منها.
قال التنوخي: فقلت له: أمّا الشعر، فللخبّاز البلديّ «4» ، وأظن أبا الحسن بن طرخان «5» قال لي: إنّ الصنعة فيه لأبيه «6» ، والمعنى حسن، ولكنّه مسروق.(4/82)
فقال: من أين؟
فقلت: أمّا البيت الثاني، فمن قول أبي نؤاس «1» :
عتّقت حتى لو اتّصلت ... بلسان صادق «2» وفم
لاحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصّت قصّة الأمم
ووصفها بالعتق والقدم، كثير في القوم، وأبلغ من هذا البيت، ولكنّ التشبيه في البيت الثالث، هو الحسن، وقد سرقه ممّا أنشدناه أبو سهل بن زياد القطان «3» ، قال أنشدنا يعقوب بن السكيت «4» ، ولم يسمّ قائلا:
أقري الهموم إذا ضافت معتّقة ... حمراء يحدث فيها الماء تفويفا
تكسو أصابع ساقيها إذا مزجت ... من الشعاع الذي فيها تطاريفا
وقد كشف- أطال الله بقاء مولاي- هذا المعنى من قال:
كأنّ المدير لها باليمين ... إذا قام للسقي أو باليسار
تدرّع ثوبا من الياسمين ... له فرد كمّ من الجلّنار(4/83)
وكان أبو عليّ، أحمد بن عليّ المدائني، المعروف بالهائم الراوية «1» ، قائما في المجلس، فقال: قد كشف معنى الأبيات الفائية، السريّ الرفاء، حيث يقول في صفة الدنان:
ومستسلمات هززنا لها ... مداري القيان لسفك الدماء
وقد نظم الصبح أجسامها ... مع الجدر نظم صفوف اللقاء
تمدّ إليها أكفّ الرجال ... فترجع مثل أكفّ النساء «2»
وكشف المعنى الثاني في الأبيات بقوله:
إزدد من الراح وزد ... فالغيّ في الراح رشد
يديرها ذا غنّة ... أغيد يثنيه الغيد
مدّ إليها يده ... فالتهبت إلى العضد «3»
قال القاضيّ التنوخي: فقلت له: فأين أنت عمّا هو خير من هذا؟
وهو قول ابن المعتز:
تحسب الظبي إذا طاف بها ... قبل أن يسقيكها مختضبا(4/84)
قال الهائم: فقد قال بكارة الرسعنيّ «1» :
وبكر شربناها على الورد بكرة ... فكانت لنا وردا إلى ضحوة الغد
إذا قام مبيضّ اللباس يديرها ... توهّمته يسعى بكمّ مورّد
وقول أبي النضر النحويّ «2» :
فلو رآني إذا اتّكأت وقد ... مددت كفّي للهو والطرب
لخالني لابسا مشهّرة ... من لا زورد يشف عن ذهب
فبدأت أذكر شيئا، فقال الهائم: اصبر، اصبر، فهاهنا ما لا يلحقه شعر أحد كان في الدنيا قطّ، حسنا وجودة، وهو قول مولانا الملك من أبيات:
وشرب الكأس من صهباء صرف ... تفيض على الشروب يد النضار
فقطعت المذاكرة، وأقبلت أعظّم البيت، وأفخّم أمره، وأفرط في استحسانه، والاعتراف بأنّي لا أحفظ ما يقاربه في الحسن والجودة فأذاكر به.
معجم الأدباء 6/254(4/85)
43 أبيات من نظم عضد الدولة
قال التنوخيّ:
كنت بحضرة الملك عضد الدولة «1» في عشية من العشايا في مجلس الأنس، وكان هذا بعد خدمتي له في المؤانسة «2» بشهور يسيرة، فغنّي له من وراء ستارته الخاصّة، صوت، وهو:
نحن قوم من قريش ... ما هممنا بالفرار
وبعده أبيات، بعضها ملحون، وبعضها جيّد.
فاستملح اللحن، وقال: هو شعر ركيك جدّا، فتعلمون لمن هو، ولمن اللحن؟.
فقال له أبو عبد الله المنجم «3» : بلغني أنّ الشعر للمطيع لله «4» ، وأنّ اللحن له أيضا.
فقال لي: اعمل أبياتا تنقل هذا اللحن إليها، في وزنها وقافيتها.
فجلست ناحية، وعملت:
أيّهذا القمر الطالع ... من دار القمار(4/86)
رائحا من خيلاء الحسن ... في أبهى إزار
والذي يجني ولا يتبع ... ذنبا باعتذار
أنا من هجرك في بعد ... على قرب المزار
أوضح العذر عذاراك ... على خلع العذار
وعدت فأنشدته إيّاها في الحال، فارتضاها، وقال: لولا أنّه قد هجس في نفسي أن أعمل في معناها، لأمرت بنقل اللحن إليها.
ثم أنشدنا بعد أيّام لنفسه:
نحن قوم نحفظ العهد ... على بعد المزار
ونمرّ السحب سحبا ... من أكفّ كالبحار
أبدا ننجز للضيف ... قدورا من نضار
وأمر جواريه بالغناء فيه.
وأمّا أبياتي [فقد] تمّمتها قصيدة، ومدحته بها وهي مثبتة في ديوان شعري «1» .
معجم الأدباء 6/257(4/87)
44 عضد الدولة يحتفل بتحوّل سنة شمسية من يوم مولده
قال [التنوخيّ] :
وجلس عضد الدولة «1» ، وقد تحوّلت له سنة شمسية «2» ، من يوم مولده، على عادة له في ذلك.
وكانت عادته، أنّه إذا علم أنّه قد بقي بينه وبين دخول السنة الجديدة ساعة أو أقلّ أو أكثر، أن يأكل، ويتبخّر، ويخرج في حال التحويل، إلى مجلس عظيم، قد عبّى فيه آلات الذهب والفضّة، وليس فيه غيرهما، وفيها أنواع الفاكهة والرياحين، ويجلس في دست «3» عظيم القيمة.
ويجيء المنجّم، فيقبّل الأرض بين يديه، ويهنّئه بتحويل السنة، وقد حضر المغنّون، وأخذوا مواضعهم، وجلسوا، وحضر الندماء، وأخذوا مواقفهم قياما.
ولم يكن أحد منهم يجلس بحضرته، غيري «4» ، وغير أبي عليّ الفسويّ «5» ،(4/88)
وأبي الحسين الصوفيّ المنجّم»
، وأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف «2» ، صاحب ديوان الرسائل، فإنّه كان يجلس ليوقّع بين يديه.
ويستدعى له إذا نشط، نبيذ، فيجعل بين يديه، ويشرب منه، ومن قبل أن يشرب، يوقّع بمال، ثم يجيء المهنّون من أهل المجلس، مثل رؤساء دولته، ووجوه الكتّاب، والعمّال، وكبار أهل البلد من الأشراف وغيرهم، فيدخلون إليه، فيهنّونه، والشعراء، فيمدحونه.
فلما جلس ذلك اليوم، على هذه الصفة، قيل له: إنّ الناس قد اجتمعوا للخدمة، وفيهم أبو الحسن بن أمّ شيبان «3» قد حضر.
فعجب من هذا، ثم قال: أبو الحسن رجل فاضل، وليس هذا من أيّامه، وما حضر إلّا لفرط موالاته، وأنّه ظنّ أنّه يوم لا شرب فيه، وإن حجبناه غضضنا منه، وإن أوصلناه فلعلّه لا يحب ذلك لأجل الغناء والنبيذ، ولكن اخرج إليه يا فلان- لبعض من كان قائما من الندماء- واشرح له صفة المجلس، وما قلته في أمره، وأدّ الرسالة إليه ظاهرا، ليسمعها الناس، فإن أحبّ الدخول فأدخله قبلهم، وإن أراد الانصراف، فلينصرف، والناس يسمعون، وقد علموا منزلته منّا.
فخرج الحاجب، وأبلغ ذلك.
فدعا، وشكر، وآثر الانصراف، فانصرف، وهم جلوس يسمعون.(4/89)
ثم قال لحاجب النوبة: اخرج، وأدخل الناس، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس، وأخوه أبو محمد عليّ بن العباس، يتقدّمان الناس جميعهم، لرئاستهم القديمة «1» ، حتى دخلوا، وقبّلوا الأرض على الرسم في ذلك، وأعطوه الدينار والدرهم «2» ، ووقفوا.
وابتدأ الشعراء، فكان أوّل من ينشد من الشعراء السلاميّ، أبو الحسن محمد بن عبد الله «3» ، إلّا أنّه يريد مني أن أنشده في الملأ شيئا، فإنّه كان يأمرني بذلك في الليل، فأحضر، وأبتدئ، فأنشده، أو يحضر رجل علويّ ينشد شعرا لنفسه، فيجعل عقيبي، ثم ينشد السلاميّ أبو الحسن، ثم أبو القاسم عليّ بن الحسن التنوخي الشامي، من أهل معرّة النعمان «4» ، يعرف بابن جلباب، ثم يتتابع الشعراء.
فلما انصرف الناس، وتوسّط الشرب، جاءه الحاجب، فقال: قد حضر أبو بكر بن عبد الرحيم الفسويّ، وكان هذا شيخا، قد أقام بالبصرة،(4/90)
وشهد عند القاضي بها، وقد وفد إلى باب عضد الدولة، قبل ذلك، وأقام، وكان خادما له، فيما يخدم فيه التجار، يختصّه بعض الاختصاص.
فأقبل، وكان بين يدي، الدست التمريّ، الذي يوضع بين يديّ في كل يوم، وفيه من الأشربة المحلّلة، ما جرت عادتي بشرب اليسير منه بين يدي عضد الدولة، على سبيل المنادمة والمؤانسة والمباسطة، وكان قد سامني وألزمني ذلك، بعد امتناعي منه شهورا، حتى تهدّدني وأخافني.
فقال لي: يا قاضي، إنّ هذا الرجل الذي استؤذن له، عامّي، جاهل بالعلم، وإنّما استخدمته رعاية لحرمات له عليّ، ولأنّه كان يخدم أمّي في البزّ، ويدخل إليها بإذن ركن الدولة، لتقاه وأمانته، فلا تستتر عنه، وهذا قبل أن أولد، فلما ولدت كان يحملني على كتفه، إلى أن ترجّلت، ثم صار يشتري البزّ، ويبيعه عليّ، واستمرّت خدمته لحرمته، وهو قاطن بالبصرة، ولعلّه يدخل فيرى ما بين يديك، فيظنّه خمرا، فيرجع إلى البصرة، فيخبر قاضيها وشهودها بذلك، فيقدح فيك، ومحلّه يوجب أن يكشف لك عذرك، ولكن أزح الدست الذي بين يديك حتى يصير بين يدي أبي عبد الله بن المنجّم- وكان أبو عبد الله بن إسحاق بن المنجم، يجلس دوني بفسحة في المجلس- فإذا دخل رأى الدست بين يديه دونك، فلم يقدر على حكاية يطعن بها عليك.
فقبّلت الأرض شكرا لهذا التطوّل في الإنعام، وباعدت الدست إلى أبي عبد الله.
ثم قال: أدخلوه، فأدخلوه، وشاهد المجلس، وهنّأ، ودعا، وأعطى دينارا ودرهما كبيرين، فيهما عدّة مثاقيل، وانصرف.
قال أبو عليّ، ويقرب من هذا ما عاملني به الوزير أبو محمد المهلّبي،(4/91)
وذكر الحكاية التي سبق ذكرها آنفا مع قاضي القضاة أبي السائب «1» ، وحديث تقريبه منه، ومسارّته إيّاه في المحفل ليعظم بذلك قدره، وتكبر منزلته، في عين قاضي القضاة أبي السائب.
ولله در القائل:
لولا ملاحظة الكبير صغيره ... ما كان يعرف في الأنام كبير
معجم الأدباء 6/258(4/92)
45 لماذا سخط عضد الدولة على التنوخي المؤلف
قال الرئيس أبو الحسين هلال «1» :
في شهر ربيع الأوّل «2» سخط عضد الدولة «3» على القاضي أبي عليّ المحسّن ابن عليّ التنوخيّ «4» ، وألزم منزله، وصرف عمّا كان يتقلّده، وقسم ذلك على أبي بكر بن أبي موسى «5» ، وأبي بكر بن المحامليّ «6» ، وأبي محمد بن عقبة، وأبي تمام بن أبي حصين، وأبي بكر الأزرق «7» ، وأبي محمّد بن الجهرميّ.
وكان السبب في ذلك، ما حدّثني به أبو القاسم عليّ بن المحسّن التنوخي، قال: حدّثني القاضي أبو عليّ، والدي، قال:
كنت بهمذان «8» مع الملك عضد الدولة، فاتّفق أن مضيت يوما إلى أبي(4/93)
بكر بن شاهويه «1» رسول القرامطة «2» والمتوسّط بين عضد الدولة، وبينهم، وكان لي صديقا، ومعي أبو عليّ الهائم «3» ، وجلسنا نتحدّث، وقعد أبو عليّ بباب خركاه «4» كنّا فيه، وقدّم إليه ما يأكله.
فقال: اجعل أيها القاضي في نفسك المقام في هذه الشتوة في هذا البلد.
فقلت: لم؟
فقال: إنّ الملك مدبّر في القبض على الصاحب أبي القاسم بن عبّاد «5» ،- وكان قد ورد إلى حضرته بهمذان- وإذا كان كذلك، تشاغل بما تتطاول معه الأيّام، وانصرفت من عنده.
فقال أبو علي الهائم: قد سمعت ما كنتما فيه، وهذا أمر ينبغي أن تطويه، ولا تخرج به إلى أحد، ولا سيّما إلى أبي الفضل بن أبي أحمد الشيرازي «6» .(4/94)
فقلت: أفعل.
ونزلت إلى خيمتي، وجاءني من كانت له عادة جارية بملازمتي، ومواصلتي، ومؤاكلتي، ومشاربتي، وفيهم أبو الفضل بن أبي أحمد الشيرازي.
فقال لي: أيّها القاضي، أنت مشغول القلب، فما الذي حدث؟
فاسترسلت على أنس كان بيننا، وقلت: أما علمت أنّ الملك مقيم، وقد عمل على كذا في أمر الصاحب، وهذا دليل على تطاول السنة.
فلم يتمالك أن انصرف، وأستدعى ركابيّا «1» من ركابيّتي، وقال له: أين كنتم اليوم؟
فقال: عند أبي بكر بن شاهويه.
قال: وما صنعتم؟
قال: لا أدري، إلا أنّ القاضي أطال عنده الجلوس، وانصرف إلى خيمته، ولم يمض إلى غيره.
فكتب إلى عضد الدولة، رقعة، يقول فيها: كنت عند القاضي أبي عليّ التنوخيّ، فقال كذا وكذا، وذكر أنّه قد عرفه من حيث لا يشكّ فيه، وعرفت أنّه كان عند أبي بكر بن شاهويه، وربّما كان لهذا الحديث أصل، وإذا شاع الخبر به، وأظهر السرّ، فسد ما دبّر في معناه.
فلمّا وقف عضد الدولة على الرقعة، وجم وجوما شديدا «2» ، وقام من سماط كان قد عمله في ذلك اليوم على منابت الزعفران للديلم، مغيظا.
واستدعاني، وقال لي: بلغني أنّك قلت كذا وكذا، حاكيا عن أبي بكر ابن شاهويه، فما الذي جرى بينكما في ذلك؟(4/95)