فصل في شرائط حسن الاستعارة:
لا تقع الاستعارة موقعها من الحسن, والقبول إلا إذا توافرت الأمور الآتية بعد:
1- رعاية جهات حسن التشبيه, أي: مراعاة أسباب حسنه؛ لأنها مبنية عليه فهي تابعة له في الحسن والقبح، فإن حسن حسنت، وإن قبح قبحت.
فمن جهات حسن التشبيه أن يكون وافيا بإفادة الغرض منه. فإن كان الغرض منه مثلا تزيين المشبه "كوجه أسود"، فشبه بمقلة الظبي، ذات السواد الجميل، ثم استعير له لفظها، فقيل: رأيت مقلة ظبي، وأريد وجه أسود؛ حسنت الاستعارة لوفاء التشبيه بالغرض. فإذا شبه الوجه الأسود المذكور بالفحم لإفادة هذا الغرض، ثم استعير له لفظه, فقيل: "رأيت فحما"، وأريد الوجه الأسود؛ لم تحسن الاستعارة لعدم حسن التشبيه, إذ لم يف بالغرض المطلوب.(3/320)
وإن كان الغرض منه تشويه وجه أسود عليه آثار الجدري، فشبه بحمأة جامدة قد نقرتها الديكة، ثم استعير له لفظها، فقيل: رأيت حمأة منقورة، وأريد الوجه الأسود المجدور؛ حسنت الاستعارة لحسن التشبيه لوفائه بالغرض. ولو شبه الوجه المذكور لإفادة هذا الغرض بقطعة منقبة من معدن كريم أسود اللون، ثم استعير له لفظها؛ فات الحسن, وهكذا.
ومن جهات حسن التشبيه أن يكون وجه الشبه غير مبتذل، بأن يكون غريبا لطيفا؛ إما بكثرة ما فيه من التفصيل, أو لكونه نادر الحضور في الذهن، كما سبق في تشبيه "الشمس بالمرآة في كف الأشل"، وتشبيه "زهر البنفسج على سيقانه بأوائل النار في أطراف الكبريت". فإذا استعير لفظ المرآة في كف الأشل للشمس، فقيل: "رأيت مرآة في كف أشل" مرادا به الشمس لقرينة حال، أو استعير لفظ النار مشبوبة في أطراف كبريت لزهر البنفسج فقيل: "رأيت نارا مشبوبة في أطراف كبريت"، وأريد به البنفسج لقرينة حال أيضا؛ حسنت الاستعارة فيهما لحسن التشبيه؛ لما فيه من الدقة بكثرة الاعتبارات في الأول، ولندور حضور المشبه به في الثاني. أما استعارة لفظ "الشمس" للإنسان ذي الوجه المشرق، أو لفظ الأسد للرجل الجريء, فليست بذات حسن؛ لفوات الحسن في التشبيه بسبب ابتذاله لوضوح الوجه فيه.
ويستثنى من جهات حسن التشبيه شيء واحد تحسن فيه الاستعارة، وإن لم يحسن التشبيه, وهو أن يقوى الشبه بين الطرفين جدا حتى ليخيل لك أنهما متحدان كالشبه بين العلم والنور، أو بين الشبهة والظلمة. ففي مثل هذين المثالين تحسن الاستعارة، فتقول: في قلبي نور أي: علم، ولا يحسن التشبيه، فلا تقول: في قلبي علم كالنور، وتقول: في قلبي ظلمة أي: شبهة، ولا يحسن أن تقول: في قلبي شبهة كالظلمة.(3/321)
وإنما قبح التشبيه في مثل ما ذكرنا؛ لقوة الشبه بين الطرفين حتى كأنهما شيء واحد, فإجراء التشبيه بينهما بمثابة تشبيه الشيء بنفسه، وحسنت فيه الاستعارة؛ لاختفاء شبح التشبيه لفظا.
2- أن يزداد بعدها عن الحقيقة بالترشيح؛ ولذلك كانت الاستعارة المرشحة أكثر قبولا في ذوق البلغاء من أختيها: المجردة، والمطلقة.
3- ألا يشم فيها رائحة التشبيه لفظا1, بألا يذكر في الكلام لفظ يدل على المشبه كما في قولنا: "زارني بدر في منزلي" فليس في العبارة لفظ دال على المشبه. أما قول الشاعر المتقدم:
لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر
فاستعارة -كما يقولون- قليلة الحسن2؛ لما فيها من إشمام رائحة التشبيه بسبب ذكر لفظ دال على المشبه، وهو "الضمير" في قوله: "غلالته", أو في: "أزراره". وهذا يتنافى مع ما ترمي إليه الاستعارة؛ ذلك أن الغرض منها -كما تقدم- إظهار المبالغة في التشبيه بادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، ومقتضى هذا أن يستويا في وجه الشبه, وإشمام رائحة التشبيه بما ذكرنا يلفت الذهن إلى ما هو معلوم في أصل التشبيه من أن المشبه به أقوى في وجه الشبه من المشبه، وهذا يتعارض مع ما تقتضيه الاستعارة من تناسي التشبيه، ودعوى اتحاد الطرفين.
ومما ينبغي أن يعلم هنا أن المراد بإشمام رائحة التشبيه المشروط
__________
1 إنما شرطوا ذلك في اللفظ؛ لأن شم التشبيه معنى لا بد منه في كل استعارة بواسطة القرينة؛ لأن الاستعارة لفظ أطلق على المشبه بمعونة القرينة, فلا يمكن نفي إشمام التشبيه لفظا ومعنى؛ لأن المعنى على التشبيه قطعا.
2 في نفسي مما يقولون شيء, فإني لأشعر بروعة الاستعارة تملأ جوانب نفسي كلما قرأت هذا البيت أو سمعته.(3/322)
نفيه في حسن الاستعارة ما لا يخرج به الكلام عن الاستعارة كما في البيت المذكور، ونحوه مما ذكر فيه المشبه على وجه لا ينبئ عن التشبيه, بخلاف ما لو ذكر فيه المشبه على وجه ينبئ عن التشبيه نحو: "محمد أسد"، أو صرح فيه بوجه الشبه نحو: "رأيت أسدا في الجرأة"، أو بالأداة نحو: "رأيت مثل الشمس", فإن مثل هذا الإشمام في الأمثلة المذكورة مبطل للاستعارة, فنفيه شرط لصحتها، لا لحسنها.
4- ألا يكون وجه الشبه خفيا جدا بحيث لا يدرك بغير تأمل ونظر، فلا تحسن استعارة لفظ "أسد" للرجل الأبخر، وهو ذو الفم المنتن لخفاء وجه الشبه, إذ إن انتقال الذهن من معنى الأسد إلى الرجل إنما يكون باعتبار المعنى المشهور في الأسد، وهو الجرأة، لا البخر. فاستعارة لفظ الأسد للأبخر حينئذ يعد إلغازا وتعمية في المراد؛ ذلك أن من شروط حسن الاستعارة -كما علمت- عدم إشمامها رائحة التشبيه، وذلك مما يبعدها عن الحقيقة فإذا انضم إلى ذلك خفاء وجه الشبه ازدادت بعدا، فخفيت على الفهم، وصارت إلغازا. ومن هذا القبيل قولهم في الاستعارة التمثيلية: "رأيت يوم الجمعة في المسجد إبلا مائة, لا تجد فيها راحلة"1 من قوله, صلى الله عليه وسلم: "الناس كإبل مائة، لا تجد فيها راحلة" يريد: أن المختار المنتخب من الناس في عزة وجوده، مع كثرة أفراد جنسه كالنجيبة المنتخبة التي لا توجد في كثير من أفراد جنسها, فوجه الشبه بين الطرفين هو "عزة وجود الكامل، مع كثرة أفراد جنسه"، وهذا المعنى خفي؛
__________
1 في الفائق: أن الراحلة: البعير الذي يرتحله الرجل، جملا كان أو ناقة، ثم إنه يحتمل أن تكون جملة "مائة لا تجد فيها راحلة" استئنافية أي: مائة منها لا تجد فيها راحلة, فهي جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: على أي حال رأيتهم؟ فقيل: مائة منها لا تجد فيها راحلة. ويحتمل أن تكون مائة نعتا للإبل, وأن ما بعده وصف للمائة أي: إبلا معدودة بهذا القدر الكثير الموصوف بأنك لا تجد فيه راحلة.(3/323)
لأن انتقال الذهن من معنى الإبل إلى الناس إنما يكون باعتبار المعنى المشهور في الإبل، وهو كثرة الأكل، وقلة الفهم، مع كبر الأعضاء وطولها، أو هو الصبر والجلد على العمل, أما عزة وجود الكامل، مع كثرة أفراد جنسه فهو معنى بعيد عن الخاطر؛ لهذا كانت الاستعارة في المثال المذكور تعمية في المراد وإلغازا.
ومن هنا يعلم أن التشبيه أعم محلا1, إذ كل ما يتأتى فيه الاستعارة يتأتى فيه التشبيه من غير عكس؛ لجواز أن يكون وجه الشبه غير جلي، فتصير الاستعارة إلغازا كما في المثالين المذكورين.
هذا, والاستعارة التمثيلية كالتحقيقية في أن حسنها يكون بما ذكرنا من الأمور السابقة, إذ لا فرق بينهما إلا من حيث الإفراد والتركيب، أما الاستعارة المكنية فلا يشترط في حسنها عدم إشمامها رائحة التشبيه؛ لعدم تأتّيه فيها, إذ من لوازم المكنية أن يذكر معها شيء من خواص المشبه به، وذلك دليل التشبيه وحينئذ لا ضير في خفاء وجه الشبه فيها.
والاستعارة التخييلية قرينة المكنية -كما علمت- فحسنها حينئذ تابع لحسن المكنية.
اختبار:
1- اذكر بالإجمال الأسباب الموجبة لحسن الاستعارة, مع التوضيح بالمثال لكل ما تذكر.
2- ما السر في قبح التشبيه في مثل: في قلبي علم كالنور؟ وما وجه حسن الاستعارة فيه؟ وما علة كون الاستعارة في قول الشاعر:
"قد زر أزراره على القمر", وفي نحو قولك: "رأيت أسدا" أي: أبخر, قليلة الحسن؟ اشرح ذلك بوضوح تام.
3- من أي قبيل تشبيهك وجها أبيض بالجير, تريد تحسينه؟ علل لما تقول.
__________
1 المراد به أن يكون العموم من حيث التحقق، لا من حيث الصدق؛ إذ لا يصدق التشبيه على الاستعارة، أو العكس.(3/324)
فصل آخر في المجاز بالحذف, والزيادة:
اعلم أن لفظ "مجاز" كما يطلق على الكلمة المنقولة عن معناها الأصلي إلى غيره -كما سبق- يطلق أيضا1 على الكلمة المنقولة عن حكم إعرابها الأصلي إلى غيره بسبب حذف لفظ، أو زيادة لفظ.
فالأول كما في نحو قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} , {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فكل من لفظي {رَبُّكَ} و {الْقَرْيَةَ} مجاز بالحذف2؛ إذ ليس الكلام محمولا على ظاهره لاستحالة مجيء الرب سبحانه في الآية الأولى، وللقطع بأن المراد سؤال أهل القرية، لا سؤال الأبنية في الثانية. وأصل الكلام: وجاء أمر ربك، واسأل أهل القرية، فهما -في الأصل- مجروران بالإضافة، ثم نقلا من هذا الحكم الإعرابي بسبب حذف المضاف، وجعل الأول مرفوعا على الفاعلية، والثاني منصوبا على المفعولية.
والثاني كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، فقوله: {كَمِثْلِهِ}
__________
1 إما على سبيل الاشتراك اللفظي أي: إن لفظ "مجاز" موضوع بوضعين؛ أحدهما للكلمة المستعملة في غير معناها الوضعي، والثاني للكلمة التي تغير حكم إعرابها الأصلي، فيكون إطلاق المجاز عليها حينئذ حقيقة، وإما على سبيل التشابه أي: مشابهة الكلمة المنقولة عن إعرابها الأصلي للكلمة المنقولة عن معناها الأصلي, بجامع الانتقال عن الأصل في كل, واستعير اسم المشبه به وهو لفظ "مجاز" للمشبه, فيكون إطلاق لفظ "مجاز" على الكلمة التي تغير حكم إعرابها مجازا بالاستعارة.
2 ويحتمل أن يكونا من قبيل المجاز المرسل, من إطلاق اسم السبب على المسبب في الأول، وإطلاق اسم المحل على الحال في الثاني.(3/325)
مجاز بالزيادة, والأصل: ليس مثله شيء؛ لأن المراد نفي مثل الله، لا نفي مثل مثله؛ إذ لا مثل له تعالى حتى ينفى عن ذلك المثل من يكون مثله، فالحكم الإعرابي "لمثل" حينئذ هو النصب خير ليس، ثم نقل من هذا الحكم، وجعل مجرورا بسبب زيادة الكاف.
ومن هذا البيان يعلم أن الموصوف المجاز في هذا النوع هو الكلمة التي تغير إعرابها -كما في المثالين المذكورين- وهذا أقرب مما ذكره السكاكي من أن الموصوف بالمجاز هنا هو حركة الإعراب.
وجه ذلك أن مدلول المجاز على الرأي الأول واحد في الموضعين، إذ مدلوله هنا، وفيما تقدم: "الكلمة المنقولة"1، بخلاف الحال على رأي السكاكي, فإن في مدلوله تخالفا في الموضعين، فمدلوله فيما تقدم: "الكلمة" نفسها، وفي هذا الموضع "حال الكلمة"، وهو الإعراب، وما ليس في مدلوله تخالف أولى بالاعتبار مما في مدلوله تخالف.
__________
1 أما هناك فمنقولة عن المعنى الأصلي، وأما هنا فمنقولة عن إعرابها الأصلي.(3/326)
المبحث الخامس في الكناية
مدخل
...
المبحث الخامس: في الكناية
تعريفها: هي -في اللغة- أن تتكلم بالشيء وتريد غيره، وهي مصدر كنيت بكذا عن كذا, إذا تركت التصريح به، وبابه رمى يرمي. وورد كنوت بكذا عن كذا من باب دعا يدعو، وقد أنشد الجوهري:
وإني لأكنو عن قدور1 بغيرها ... وأعرب أحيانا بها وأصارح
والأول أفصح بدليل قولهم في المصدر: "كناية" ولم يسمع كناوة.
وهي -في الاصطلاح- لفظ أطلق، وأريد لازم معناه الحقيقي لقرينة لا تمنع من إرادة هذا المعنى، مع المعنى المراد.
قيود التعريف: خرج بقيد "اللفظ" نحو الإشارة، والكتابة من كل ما ليس بلفظ، وخرج بإرادة لازم المعنى الحقيقي اللفظ المراد به المعنى الحقيقي نفسه، وخرج بقوله: لقرينة لا تمنع ... إلخ المجاز, إذ لا بد فيه من قرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي، مع المعنى المجازي، عند من يمنع الجمع بين الحقيقة، والمجاز كالخطيب القزويني كما تقول: "كلمني أسد"؛ فلا يجوز أن يراد منه الحيوان المفترس؛ لأن فيه قرينة تمنع من ذلك، وهي "كلمني", إذ إن الكلام من شأن الإنسان، لا من شأن الأسود.
ومن هنا يعلم أن الكناية واسطة بين الحقيقة والمجاز، فهي ليست بحقيقة؛ لأن اللفظ لم يرد به معناه الحقيقي، بل أريد به لازمه، وليست بمجاز؛ لأن المجاز لا بد له -كما قلنا- من قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي2.
ولا يرد على الخطيب أنه لا يجيز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن محل عدم الجواز عنده إذا استعمل اللفظ فيهما على أن كلا مقصود لذاته، وما هنا ليس كذلك؛ لأن المقصود بالذات هو المعنى اللازمي لا غير.
مثال الكناية قولك: "محمد طويل النجاد" كناية عن طول قامته. قال الشاعر:
__________
1 بفتح القاف وضم الدال: اسم امرأة.
2 وقيل: هي من قبيل الحقيقة؛ لأنها لفظ مستعمل في المعنى الحقيقي لينتقل منه إلى المعنى اللازمي، والحقيقة أعم من أن يكون المراد باللفظ فيها المعنى الحقيقي وحده كما في الصريح، أو مع إرادة المعنى الكنائي كما في الكناية.(3/327)
"طويل نجاد السيف" شهم كأنما ... تصول إذا استخدمته بقبيل1
فالمعنى الحقيقي لهذا اللفظ هو أن نجاد محمد طويلة، وليس هذا مرادا, إنما المراد لازم هذا المعنى وهو: أن محمدا طويل القامة, إذ يلزم عادة من طول النجاد أن تكون القامة طويلة. ويصح مع هذا إرادة المعنى الحقيقي أيضا بأن يراد المعنيان جميعا -طول النجاد، وطول القامة- وهذا هو موضع الفرق بينها وبين المجاز -كما عرفت- ومثله قولك: "محمد نظيف اليد" كناية عن نزاهته, فالمعنى الحقيقي هو أن يده نظيفة, ولكنه ليس مرادا بل المراد لازم هذا المعنى، وهو أنه نزيه، لا يفعل ما يلوث شرفه، وتجوز إرادة المعنيين. وكقولهم: "فلانة نئوم الضحا" كناية عن أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها، ويقوم بشئونها. فالمعنى الحقيقي للفظ: أن المرأة المذكورة تنام إلى الضحا، وليس هذا مرادا وإنما المقصود ما يلزم هذا المعنى, وهو أنها من ذوات الترف والنعمة, لها من يقوم بتدبير أمرها، وإصلاح حالها, وتجوز إرادة المعنيين معها -كما علمت- وهكذا.
تنبيهان:
الأول: ليس بلازم في الكناية أن يكون المعنى الحقيقي للفظ المكنى به متحققا في الواقع, إذ يصح أن تقول: "فلان طويل النجاد" كناية عن طول القامة، وإن لم يكن له نجاد، بل تصح الكناية حتى مع استحالة المعنى الحقيقي كما في قولهم: المجد بين برديه، والكرم
__________
1 النجاد: ما وقع على العاتق من حمائل السيف, وفيه إشعار بأن الممدوح من أرباب السيف والإقدام، والقبيل: الجماعة؛ شبه الممدوح وهو مفرد بالجمع في القوة والمنعة، وفي هذا المعنى يقول حافظ في رثاء مصطفى باشا كامل:
سنشهد في التاريخ أنك لم تكن ... فتى مفردا بل كنت جيشا مغازيا(3/328)
تحت ردائه كناية عن إثبات المجد والكرم للممدوح, فإن المعنى الحقيقي لكل من العبارتين وهو حلول المجد بين البردين، وحلول الكرم تحت الرداء مستحيل الحصول؛ إذ إن الحلول الحسي بين الأشياء أو تحتها من شأن الأجسام، لا المعاني. وكما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كناية عن الاستيلاء والسيطرة, فالمعنى الحقيقي للاستواء هو "الجلوس" وهذا المعنى مستحيل على الله سبحانه1, ومن هذا يعلم أن الشرط في الكناية جواز إرادة المعنى الحقيقي، لا إرادته بالفعل؛ لامتناع إرادته فيما ذكرنا. ا. هـ.
الثاني: علمت مما تقدم أن مناط الفرق بين المجاز والحقيقة وجوب وجود القرينة المانعة في الأول, دون الثانية.
وقد فرق "السكاكي" بينهما أيضا بأن الانتقال "في الكناية" من اللازم إلى الملزوم, كالانتقال من طول النجاد إلى طول القامة في المثال المتقدم, فطول القامة ملزوم لطول النجاد، وطول النجاد لازم لطول القامة. أما المجاز, فالانتقال فيه من الملزوم إلى اللازم "عكس الأول" كالانتقال من الغيث إلى النبات في نحو قولك: رعى جوادي الغيث، وكالانتقال من الأسد إلى الجريء في نحو قولك: على الفرس أسد، فإن النبات لازم للغيث عادة، والغيث ملزوم له, كما أن الجريء لازم للأسد، والأسد ملزوم له.
ورد هذا الفرق بأن اللازم إذا لم يكن ملزوما2 لا ينتقل منه
__________
1 ومثل الآية المذكورة قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} كناية عن نفي المماثلة عن ذاته تعالى؛ إذ إن سلب الشيئية عن مثل مثله يستلزم سلبها عن مثله, وإلا لزم التحكم في نفي الشيئية عن أحد المثلين دون الآخر, ولا يخفى امتناع إرادة المعنى الحقيقي لهذه العبارة؛ لاستحالة ثبوت مماثله تعالى.
1 أي: بنفسه أو بانضمام قرينة إليه؛ فالأول كالناطق بالنسبة للإنسان, فإنه -وإن تبادر منه أنه لازم للإنسان- ملزوم له أيضا؛ لمساواته له إذ يلزم من وجوده وجود الإنسان، والثاني كقولنا: رأيت إنسانا لا يفارق المنارة, كناية عن المؤذن, فإن الإنسان الموصوف بهذا الوصف فيما يتبادر لازم للمؤذن، ويصح أن يكون أعم منه؛ لجواز أن تكون ملازمته للمنارة لا للأذان, لكن قرينة العرف دالة على أنه المؤذن؛ لأن ذلك هو المتبادر الغالب, فهذا اللازم الأعم صار ملزوما بالقرينة.(3/329)
إلى الملزوم؛ لأن اللازم من حيث إنه لازم يجوز أن يكون أعم من ملزومه, ولا دلالة للعام على الخاص كما في الضوء للشمس؛ إذ لا دلالة للضوء عليها لاحتمال أن يكون ضوء مصباح، أو قمر, والسكاكي نفسه معترف بهذه القضية, وإذ لا بد -في الانتقال من اللازم إلى الملزوم- أن يكون المنتقل منه ملزوما أيضا, كان الانتقال حينئذ من الملزوم إلى اللازم، وإذًا لا يتحقق الفرق بينهما من هذه الناحية؛ لأن الانتقال في كل منهما من الملزوم إلى اللازم، فثبت أن الفرق الذي أتى به السكاكي ليس بشيء.
وما يقال من أن المراد باللازم في الكناية ما كان تابعا, كطول النجاد التابع لطول القامة, فمردود بأن المجاز أيضا قد ينتقل فيه من التابع في الوجود الخارجي إلى المتبوع, كإطلاق النبات على الغيث في نحو: أمطرت السماء نباتا، فلو اختصت الكناية بما يكون الانتقال فيه من التابع كان مثل هذا المثال من قبيل الكناية مع أنه مجاز بالإجماع, فثبت أن لا فرق بين الكناية والمجاز إلا من حيث القرينة, كما سبق.(3/330)
أقسام الكناية:
تنقسم الكناية باعتبار المكنى عنه إلى ثلاثة أقسام:
1- كناية يطلب بها صفة1.
2- كناية يطلب بها موصوف.
3- كناية يطلب بها نسبة صفة إلى موصوف.
فالأولى -وهي المطلوب بها صفة- ضابطها: أن يصرح بالموصوف، وبالنسبة إليه، ولا يصرح بالصفة المطلوب نسبتها وإثباتها، ولكن يذكر مكانها صفة تستلزمها كما في المثال السابق: "محمد طويل النجاد" كناية عن طول قامته، فقد صرح بالموصوف، وهو "محمد" وصرح بالنسبة، وهي إسناد طول النجاد إليه، ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي "طول القامة"، ولكن ذكر مكانها صفة أخرى تستلزمها هي "طول النجاد". وكما في قولهم: "فلانة نئوم الضحا" كناية عن أنها مترفة مخدومة, فقد صرح بالموصوف، وهو "فلانة" وصرح بالنسبة، وهي إسناد النوم في الضحا إليها، ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي "الترف والنعمة" ولكن ذكر مكانها صفة تستلزمها هي "النوم إلى الضحا"، وهكذا.
وهذه الكناية ضربان: قريبة وبعيدة:
فالكناية القريبة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المقصود بلا واسطة بين المنتقل عنه, والمنتقل إليه كما في القول السابق: فلان طويل النجاد، فإن المطلوب بقولنا: "طويل النجاد" صفة هي "طول القامة" كما بينا, وليس بين طول النجاد وطول القامة واسطة، وإنما ينتقل الذهن من طول النجاد إلى طول القامة مباشرة، وسميت قريبة لقصر زمن إدراك المقصود منها بسبب انتفاء الواسطة.
والقريبة نوعان: واضحة وخفية:
فالواضحة: ما يفهم منها المقصود لأول وهلة؛ لوضوح اللزوم بين المكنى به والمكنى عنه كما تقدم في قولنا: فلان طويل نجاده، أو فلان طويل النجاد2, فإن طول القامة يفهم من طول النجاد بلا حاجة إلى
__________
1 المراد بالصفة المعنى القائم بالغير كطول القامة, وكالجود، لا خصوص النعت النحوي.
2 الفرق بين المثالين أن الأول من قبيل الكناية الساذجة, لا يشوبها شيء من التصريح بالمعنى المقصود؛ لأن فاعل الوصف هو النجاد لينتقل منه إلى طول قامة فلان, والثاني من قبيل الكناية المشوبة بشيء من التصريح بالمعنى المراد؛ لتضمن الوصف للضمير العائد على الموصوف, فكأنه قيل: فلان طويل، وهو كلام صريح لا كناية فيه. ولما أضيف إلى النجاد صار كناية عن طوله, لكن مع شيء من التصريح لتحمل الوصف لضمير الموصوف بدليل أنك تقول: فلانة طويلة النجاد, وأنتما طويلا النجاد, وأنتم طوال النجاد, فتؤنث وتثني وتجمع.(3/331)
تأمل لوضوح اللزوم بينهما كما عرفت. ومثله قول الشاعر:
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا1
كنى عن كبر عجيزة المرأة، ونهود ثديها بارتفاع قميصها عن أن يمس منها بطنا أو ظهرا، وهي كناية واضحة اللزوم كما ترى.
والخفية: ما لا يفهم منها المقصود إلا مع شيء من التأمل والتفكير؛ لخفاء اللزوم بين المكنى عنه، والمكنى به كما في قولهم: فلان عريض القفا؛ كناية عن أنه أبله بليد, فإن عرض القفا بإفراط مما يستدل به على البلاهة والبلادة إلا أن فهم ذلك منه يتوقف على إعمال فكر وروية؛ لأن في اللزوم بين المعنيين نوع خفاء، لا يدركه كل أحد.
والكناية البعيدة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المقصود بواسطة كما في قولنا: "عباس كثير الرماد" كناية عن أنه جواد مسماح. فالمطلوب بهذه الكناية صفة هي "الجود"، وبين كثرة الرماد وصفة الجود وسائط عدة لا بد من مراعاتها للوصول إلى هذه الصفة؛ فينتقل أولا من كثرة الرماد إلى كثرة الإحراق، ومنها إلى كثرة الطبخ، ثم إلى كثرة الأكلة، ومنها إلى كثرة الضيفان، ومنها إلى الجود. ومثله قول الشاعر:
وما يك من عيب فإني ... جبان الكلب، مهزول الفصيل2
__________
1 الروادف: جمع ردف -بكسر فسكون- وهو عجيزة المرأة، والثدي -بضم الثاء مع التشديد وكسر الدال وتشديد الياء- جمع ثدي -بفتح فسكون- والقمص -بضم القاف والميم وسكن للضرورة- جمع قميص, وقد جمعت هذه الأشياء للمبالغة.
2 الفصيل: ولد الناقة.(3/332)
فقد كنى عن جوده، وكثرة قِراه للأضياف بجبن الكلب، وهزال الفصيل, إذ ينتقل الذهن من جبن الكلب إلى تأديبه ومنه إلى استمرار ما يوجب نباحه، وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه، ثم ينتقل من هذا إلى كون صاحبه مقصدا للداني والقاصي، ومن هذا إلى أنه يقري الأضياف، ومن قرى الأضياف إلى وصف الجود. كذلك ينتقل الذهن من هزال الفصيل إلى فقد1 أمه بنحرها، ومنه إلى قوة الداعي لنحرها؛ لكمال عناية العرب بالنوق لا سيما المتليات2، ومنه ينتقل الذهن إلى إعدادها للطبخ، ومنه إلى أنه مضياف كريم. وسميت هذه الكناية بعيدة؛ لبعد زمن إدراك المقصود منها.
والثانية -وهي المطلوب بها موصوف- ضابطها: أن يصرح بالصفة وبالنسبة، ولا يصرح بالموصوف المطلوب النسبة إليه، ولكن يذكر مكانه صفة، أو أوصاف تختص به كما في قولك: "فلان صفا لي مجمع لبه" كناية عن قلبه؛ فقد صرح في هذه الكناية بالصفة، وهي "مجمع اللب"، وصرح بالنسبة، وهي إسناد الصفا إليها، ولم يصرح بالموصوف المطلوب نسبة الصفاء إليه، وهو "القلب"، ولكن ذكر مكانه وصف خاص به وهو "كونه مجمع اللب"، فإن القلب -كما يقولون- موضع العقل والتفكير.
وهذه الكناية أيضا نوعان:
الأول: ما يكون الكناية فيه معنى واحدا كما في المثال السابق: فلان صفا لي مجمع لبه؛ فمجمع اللب المكنى به عن القلب معنى واحد -كما ترى3- وكما في قول الشاعر:
__________
1 أو إلى أخذ اللبن منها, وتقديمه للضيفان.
2 هي التي تلاها ولدها أي: تبعها.
3 ويسمى هذا النوع من الكناية عند أصحاب العلوم العقلية "خاصة بسيطة" لعدم تركبها، ويسميه السكاكي "كناية قريبة" لا بالمعنى السابق, بل بمعنى سهولة المأخذ, وسرعة الانتقال فيها لبساطتها.(3/333)
الضاربين بكل أبيض مخذم ... والطاعنين مجامع الأضغان1
يصف الشاعر قومه بالبسالة، وحسن البلاء في الحروب، وأن سيوفهم لا تعرف غير المقاتل جفونا، كنى بمجامع الأضغان، وهو معنى واحد عن القلوب. والمراد بوحدة المعنى ألا يكون من أجناس مختلفة، وإن كان مثنى أو جمعا فمجامع الأضغان في قول الشاعر السابق -وإن كان جمعا- هو معنى واحد من حيث إن مدلوله جنس واحد هو "القلوب" لا أجناس مختلفة، وكون القلب مجمع الضغن وصف خاص به، فلا يحل الضغن في غيره.
الثاني: ما يكون الكناية فيه مجموع معانٍ مختلفة ضم بعضها إلى بعض؛ لتكون جملتها مختصة بالموصوف، فيتوصل بذكرها إليه كما يقال في الكناية عن الإنسان: زارني حي، مستوي القامة، عريض الأظفار، فالكناية مجموع هذه المعاني من الحياة، واستواء القامة، وعرض الأظفار، لا كل واحد منها، وهذه المعاني مجتمعة وصف خاص بالإنسان، لا يوجد في سواه2.
والثالثة -وهي المطلوب بها نسبة3- ضابطها: أن يصرح بالموصوف والصفة، ولا يصرح بالنسبة بينهما، ولكن يذكر مكانها نسبة أخرى تستلزمها. وهذه النسبة إما أن تكون إثباتا أو نفيا؛ فمثالها في الإثبات قولهم: "المجد بين بردي محمد" كناية عن إثبات المجد له, فقد صرح في هذه الكناية بالموصوف، وهو "محمد".
__________
1 الأبيض: السيف, والمخذم كمنبر: القاطع, والأضغان: جمع ضغن وهو الحقد، وكل من الضاربين والطاعنين منصوب على المدح بقدرتهم على النكاية, والفتك بالأعداء.
2 ويسمى هذا النوع عند ذوي العلوم العقلية "خاصة مركبة"؛ لتركبها من جملة معانٍ مختلفة، ويسميه السكاكي كناية بمعنى صعوبة المأخذ, والانتقال فيها لتركبها من عدة أمور.
3 أي: إثبات أمر لأمر, أو نفيه عنه.(3/334)
وصرح بالصفة، وهي "المجد"، ولكن لم يصرح بنسبة المجد إليه، وإنما ذكر مكانها نسبة المجد إلى برديه إثباتا، وهي تستلزم نسبة المجد إليه من حيث وجوده بين برديه الخاصين به، واستحالة قيام المجد بنفسه، ووجوب قيامه بمحل صالح. ومنه قول زياد بن الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج1
فقد كنى عن إثبات هذه الثلاثة للممدوح بإثباتها لقبة ضربت عليه؛ لأنه إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبت له لما قلنا من استحالة قيام الأمر بنفسه, ووجوب قيامه بمحل صالح له. ومثالها في النفي قول الشنفرى يصف امرأة بالعفة والنزاهة:
يبيت بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت
فقد صرح بالموصوف، وهو الضمير في "بيتها" العائد على المرأة، وصرح بالصفة، وهي اللوم المنفي في قوله: "بمنجاة من اللوم" ولم يصرح بنسبة اللوم عنها، ولكن ذكر مكانها نسبة أخرى هي نفي اللوم عن بيت يحتويها، وهذا اللوم يستلزم نفي اللوم عنها2.
__________
1 هو عبد الله بن الحشرج كان أميرا على نيسابور, يدل على ذلك قوله: "في قبة" إذ يفهم منه أن الممدوح ممن تضرب له القباب, وذلك عنوان السيادة والإمارة.
2 قيل: قد يطلب بالكناية صفة، ونسبة معا كقولك: كثر الرماد في ساحة محمد, كناية عن صفة المضيافية وإثباتها لمحمد, وقد يطلب بها الصفة والنسبة والموصوف جميعا كما في قولك: كثر الرماد في ساحة حي مستوي القامة عريض الأظفار. ويحاب بأن ما ذكر ليس كناية واحدة, بل هو في المثال الأول كنايتان؛ إحداهما مطلوب بها صفة وهي كثرة الرماد كناية عن المضيافية، والثانية مطلوب بها نسبة المضيافية إلى محمد بواسطة نسبتها إلى ساحته, وفي المثال الثاني ثلاث كنايات، مطلوب بها صفة في كثرة الرماد، ومطلوب بها نسبة في إثباتها للساحة، ومطلوب بها موصوف في حي مستوي القامة عريض الأظفار.(3/335)
تنبيه:
قد يكون الموصوف بالكناية غير مذكور في الكلام, وذلك إذا كان المطلوب بالكناية صفة، أو نسبة صفة إلى موصوف.
فمثال المطلوب بها صفة قولهم: "كثر الرماد في هذه الساحة", فإن كثرة الرماد كناية عن صفة المضيافية، وإيقاع الكثرة في الساحة كناية عن ثبوت هذه الصفة لصاحب الساحة، وهو لم يذكر في الكلام.
ومثال المطلوب بها نسبة: قوله -صلى الله عليه وسلم- في شأن من يؤذي المسلمين: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" فهو كناية عن نسبة هي نفي1 صفة الإسلام عن المؤذي، وهو غير مذكور في الكلام. ووجه الكناية فيه أن مدلول الجملة في الحديث الشريف حصر الإسلام فيمن لا يؤذي المسلمين، ولا ينحصر فيه إلا بانتفائه عن المؤذي، فقد أطلق الملزوم، وهو حصر الإسلام فيمن لا يؤذي, وأريد اللازم، وهو انتفاء الإسلام عن المؤذي.
أما الكناية المطلوبة بها موصوف, فلا يتصور إلا كونه غير مذكور؛ لأنه هو المطلوب بالكناية, وإلا فكيف يطلب حصول ما هو حاصل؟
__________
1 النسبة المكنى عنها هنا نفي الصفة, لا ثبوتها؛ لأن نسبة الصفة يكنى عنها مطلقا، ثبوتية كانت أو سلبية كما تقدم مثاله, وهي هنا سلبية؛ إذ هي سلب الإسلام عن المؤذي.(3/336)
بحث للسكاكي في بعض أنواع الكناية:
رأى السكاكي أن يسمي بعض أنواع الكناية بأسماء تختلف باختلاف الاعتبارات، فهي تتنوع عنده إلى أربعة أنواع: تعريض، وتلويح، ورمز، وإيماء أو إشارة.
فالتعريض -لغة- خلاف التصريح، واصطلاحا: إمالة الكلام إلى عرض1 يدل على المقصود, أي: توجيه الكلام إلى جانب يفهم منه المعنى المراد. فلفظ الحديث السابق من قبيل التعريض إذا قصد منه شخص معين, إذ إن معناه الصريح حصر الإسلام في غير المؤذي، ويلزمه نفي الإسلام عن كل مؤذٍ، وهو المعنى الكنائي, فإذًا قصد به نفي الإسلام عن ذلك الشخص المعين المفهوم من سياق الكلام2. ومثله قولك لآخر: "لست بخائن, ولا مراءٍ" فهو كناية من قبيل التعريض بخيانة, ومراءاة من تخاطبه لقرينة أنه ممن اتسم بهاتين الرذيلتين.
ومن مزايا التعريض أن تستطيع النيل من خصمك، والتنديد به بما لا يخرج عن دائرة الأدب، ولا يجعل له عليك سبيلا.
ومما تقدم يعلم أن التعريض ليس من قبيل الحقيقة، ولا من المجاز, ولا من الكناية؛ لأن الحقيقة هي اللفظ المستعمل في معناه الأصلي، والمجاز هو اللفظ المستعمل في لازم معناه فقط، والكناية هي اللفظ المستعمل في اللازم, مع جواز إرادة الأصل. أما التعريض فهو أن يفهم من اللفظ معنى بالسياق أو القرائن، من غير أن يقصد استعمال اللفظ فيه3.
__________
1 العرض -بضم العين- الجانب والناحية, تقول: عرضت بفلان, إذا قلت قولا لغيره وأنت تعنيه, فقد أشرت بالكلام إلى جانب وأردت به جانبا آخر.
2 معنى هذا: أن اللفظ قد يستعمل في معنى مكنى عنه ليلوح به إلى معنى آخر بالقرائن, أو السياق كما في الحديث, فإن حصر الإسلام فيمن لا يؤذي يلزمه انتفاء الإسلام عن مطلق مؤذٍ, فإذا استعمل هذا اللفظ في هذا اللازم ولم يرد به شخص معين بالذات كان كناية, وإن كان ثم شخص معين موصوف بالإيذاء وقد قصد إليه بالكناية, كان الكلام تعريضا.
3 ذكر السكاكي أن التعريض قد يكون مجازا تارة، وكناية أخرى, كما تقول لآخر: آذيتني فستعرف, فإن مدلول هذا التركيب والمقصود منه تهديد المخاطب بسبب إيذائه إياه, وهذا المعنى يلزمه عرفا تهديد من كان مثل المخاطب في الإيذاء والضرر, فإن استعمل هذا التركيب في اللازم فقط وهو تهديد غير المخاطب لقرينة كون المخاطب صديقا مثلا ولعلاقة الاشتراك في الإيذاء ولو فرضا, كان هذا الكلام مجازا, وإن استعمل في اللازم والملزوم معا لقرينة عداوة تنتظم المخاطب وغيره, كان الكلام كناية, وفي هذا الكلام نظر يطول البحث فيه.(3/337)
والتلويح: كناية كثرت فيها الوسائط بين اللازم, والملزوم كما سبق في نحو: فلان كثير الرماد, وفلان جبان الكلب، مهزول الفصيل، وكقولهم: "فلان كثير الإخوان" كناية عن حسن أخلاقه, فإن الذهن ينتقل أولا من كثرة الإخوان إلى سهولة خلقه، ومنها إلى أنسهم به، وارتياحهم إليه، ثم ينتقل من هذا إلى حسن معاشرته ومعاملته، ثم إلى حسن أخلاقه وطيب أعراقه. وسميت الكناية تلويحا؛ لأن التلويح -في الأصل- أن تشير إلى غيرك من بعد, وكثيرة الوسائط بعيدة الإدراك غالبا.
والرمز: كناية عدمت فيها الوسائط, أو قلت مع خفاء اللزوم. فمثال ما عدمت فيه الواسطة قولهم: فلان عريض القفا, إذ إنهم يكنون بعرض القفا عن البله والبلادة, ومثله قولهم: فلان مكتنز اللحم، أو مفتول الذراعين كناية عن القوة. ومثال ما قلت فيه الواسطة قولهم: فلان عريض الوسادة, فهم يكنون بعرض الوسادة عن عرض القفا، ثم يكنون به عن البله والغباء. واللزوم فيما مثلنا خفي -كما ترى- يحتاج إلى نوع من التأمل، وسميت هذه الكناية "رمزا"؛ لأن الرمز -في الأصل- أن تشير إلى قريب منك خفية بنحو شفة أو حاجب, قال الشاعر:
رمزت إلي مخافة من بعلها ... من غير أن تبدي هناك كلامها
والإيماء أو الإشارة: كناية عدمت وسائطها أو قلت، مع وضوح اللزوم. فمثال ما عدمت فيه الواسطة قولك لآخر: "الحظ حليف الوفي" فتكني بمحالفة الحظ للوفي عن اتصافه بالوفاء. ومثال ما قلت فيه الواسطة قول البحتري:(3/338)
أوما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول؟ 1
يقول: قد علمت أن المجد أقام بخيام آل طلحة، ولم يرحل عنها فقد أثبت المجد لخيام آل طلحة, إذ جعله مقيما بها وهو كناية عن إثبات المجد لهم من حيث إن المجد صفة لا بد من قيامها بمحل, والخيام لا تصلح محلا لها، واللزوم واضح في المثالين -كما ترى- وسميت هذه الكناية إشارة أو إيماء؛ لأن الإشارة -في الأصل- موضوعة للدلالة على محسوس وهو أمر ظاهر، ومثلها الإيماء.
اختبار:
1- عرف الكناية لغة واصطلاحا، ثم بين محترزات التعريف، وهل هي من قبيل الحقيقة أو المجاز؟ بين ذلك بوضوح, مع التمثيل.
2- كيف صح جواز إرادة المعنى الأصلي في الكناية، مع استحالته في قولهم: المجد بين برديه؟
3- هل بين المجاز والكناية فارق؟ وإذا كان, فما هو؟ وما رأي السكاكي في الفرق بينهما؟ وبم رد عليه فيما رأى؟
4- اذكر أقسام الكناية باعتبار المكنى عنه، وضابط كل منها، مع التمثيل لكل ما تذكر.
5- قسم الكناية المطلوب بها صفة، وعرف كل قسم، ومثل له.
6- قسم الكناية المطلوب بها موصوف، مع التمثيل لكل قسم، ثم بين نوع الكناية في قول الشاعر:
ودبت له في موطن الحلم علة ... لها كالصلال الرقش شر دبيب2
__________
1 إلقاء الرحل كناية عن الإقامة، والتحول: والارتحال، وقوله: "في آل طلحة" على تقدير مضاف أي: في خيام آل طلحة.
2 الصلال: جمع صل -بكسر الصاد- ضرب من الحيات لا نجاة من لدغه, والرقش: جمع رقشاء, وهي حية ذات نقط سود في بياض.(3/339)
7- ما نوع الكناية في قولك لآخر عديم النفع: خير الناس من ينفعهم.
8- عرف التعريض، وهل هو من قبيل الحقيقة، أو من قبيل المجاز؟ مثل له من إنشائك، مع بيان المعنى الكنائي فيما تمثل به.
9- عرف التلويح، والإيماء، ومثل لكل بمثال، مع بيان المعنى الكنائي فيهما.
10- اذكر الفرق بين الرمز، والإيماء، ثم بين الرمز والتلويح، مع التمثيل.
تمرين, وجوابه:
وضح نوع الكناية فيما يأتي:
1-
وكلبك آنس بالزائرين ... من الأم بابنتها الزائرة
2-
لا يرفع الضيف عينا في منازلنا ... إلا إلى ضاحك منا ومبتسم
3-
أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
4-
لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل1
5-
فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
__________
1 المقل: جمع مقلة, وهي العين جملة.(3/340)
6-
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها1 ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد
7-
وإذا الكريم أضاع مطلب أنفه ... أو عرسه لكريهة لم يغضب
8-
لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل2
9-
أبين فما يزرن سوى كريم ... وحسبك أن يزرن أبا سعيد3
10-
ولما شربناها4 ودب دبيبها ... إلى موطن الأسرار قلت لها قفي
11-
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من حبه وهو أعجم
12-
لست براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم5
13-
خلق اللسان لنطقه وبيانه ... لا للسكوت وذاك حظ الأخرس
14- هو سمين رخو.
15- فلان يفترش الثرى, ويتوسد الجنادل.
16- فلان ملء إهابه الكرم.
17- {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} .
__________
1 النضل: حديدة السيف، يقول: أتبعت طعنة بطعنة, أخفيت بها حديدة السيف في القلب الذي هو موضع هذه الأشياء الثلاثة.
2 العوذ -بالضم- الإبل الحديثات النتاج, جمع: عائذ, كحائل وحول, والفصال جمع: فصيل, وهو ولد الناقة.
3 الضمير في أبين للإبل يقول: يكفيك من كل كريم أن تزور إبلك أبا سعيد أي: كل الصيد في جوف الفرا.
4 الضمير للخمر.
5 الوضم: كل ما قطع عليه اللحم.(3/341)
جواب التمرين:
1- في البيت كناية يراد بها صفة الكرم، بيانه أن استئناس الكلب بالزائرين عنوان معرفته بهم؛ لأن الكلب لا يأنس إلا بمن يعرف، ومعرفته بهم دليل اتصال مشاهدته إياهم ليل نهار, وهذا دليل على أن دار الممدوح محطّ الرحال، وملتقى الآمال، وهذا يدل على ما أراده الشاعر من وفور إحسان الممدوح، وسعة جوده، وعموم أياديه, فقد بعدت المسافة بين أنس الكلب بالزائرين وإحسان الممدوح, فهي من الكنايات البعيدة المسماة "بالتلويح"، وكون الكلب آنس من الأم مبالغة في استئناسه بالزوار, وهو يقتضي المبالغة في وصف الممدوح بالإحسان.
2- في البيت كناية أريد بها نسبة الكرم إلى قومه وعشيرته, إذ يلزم من الضحك والابتسام في وجه الضيف الحفاوة به, وهذا يستلزم الكرم "إيماء" لقلة الوسائط، ووضوح اللزوم بين الابتسام والكرم.
3- في الشطر الثاني من البيت كناية يراد بها صفة هي طول الرقبة "إيماء"، بيانه أن بعد مهوى القرط يستلزم أن يكون العنق طويلا، وهي قريبة لعدم وجود الواسطة بين بعد المهوى وطول العنق, وواضحة لوضوح اللزوم بين المعنيين.
4- في الشطر الأول من البيت كناية يراد بها نسبة، هي إثبات المجد لهم "إيماء"، ذلك أن نزول المجد في منازلهم الخاصة بهم, مقصورا عليها لا يتعداها إلى غيرها, يستلزم ثبوت المجد لهم، وقصره عليهم, إذ إن المجد صفة لا يصلح قيامها بالجدران والحوائط، وليس في المنازل سواهم، فلزم أن تقوم الصفة بهم، وهي قريبة، وبينة اللزوم.
5- في الشطر الثاني من البيت كناية يراد بها نسبة، هي ثبوت المجد للممدوح "إيماء"، ذلك أن حلول المجد بكل مكان يستلزم(3/342)
ثبوت المجد له؛ لأن المجد -كما قلنا- وصف لا يصلح قيامه بالأماكن، فلزم ثبوته له, وقيامه به, وهي قريبة واضحة.
6- في الشطر الثاني من البيت كناية يراد بها موصوف هو "القلب"؛ لأن القلب موطن للأشياء الثلاثة المذكورة، وكونه موطنا لها وصف خاص به، فصح أن يكون كناية عنه.
7- في الشطر الأول كناية يراد بها موصوف هو "الفرج", بيانه أن الجنين -على ما يقال- إذا أتمّ أيامه في الرحم، وأراد الخروج منه طلب بأنفه الموضع الذي يخرج منه؛ فقد كنى الشاعر بمطلب أنفه عن فرج الأم؛ لأنه وصف خاص به. يريد أن يقول: إن الرجل الذي لا يحمي عرض أمه، ولا امرأته لا يغضب بعد ذلك من شيء؛ لأنهما محكّ الغيرة ومثارها.
8- في البيت كنايتان بعيدتان يراد بهما صفة هي "الجود", ذلك أن حرمانه العوذ من أن ترى فصالها، وتمتع بها يدل على أنه ينحرها ولا يبقيها، وهذا يدل على كثرة القرى الدال على وفرة الجود، وأن ابتياعه لما قرب أجلها يدل على أنها لا تبيت عنده حية، ومعنى هذا أنه ينحرها، وهذا يدل على كثرة القرى الدالة على أنه مضياف كريم.
9- في الشطر الثاني من البيت كناية يراد بها صفة, هي كرم أبي سعيد "إيماء", والكناية واضحة من قوله: "وحسبك أن يزرن أبا سعيد" مع ما يفيده صدر البيت من أن الإبل أبت إلا أن تولي وجهها شطر الكريم.
10- في البيت كناية يراد بها موصوف هو "القلوب", إذ هي من الناس مواضع أسرارهم, وهي معنى واحد وإن تعددت؛ لأن مدلولها متحدّ الجنس.
11- في البيت كناية يراد بها صفة الكرم, على نحو ما قيل في البيت الأول من هذا التمرين, فإن حب الكلب للضيف حتى إنه ليكاد(3/343)
يكلمه دليل شدة معرفته به, وهذا يدل على كثرة مشاهدته إياه لكثرة الوسائط فيها.
12- في البيت كناية, يعرض فيها الحجاج بأن من يخاطبهم من رعاة الإبل والغنم، أو من الجزارين, فهي كناية يراد بها نسبة الحقارة لهؤلاء.
13- في البيت تعريض أيضا بأن المخاطب عيي غبي, فهو كناية يراد بها نسبة العي للمخاطب.
14- فيه كناية عن صفة الكسل، وفقدان النشاط "إيماء", ذلك أن بدانة الجسم، ورخاوته تستدعيان "عادة" الرغبة عن العمل، والزهادة فيه، وهذا هو عين الكسل, والكناية فيه قريبة واضحة؛ لوضوح اللزوم بين البدانة والكسل.
15- فيه كناية يراد بها صفة هي الفقر "إيماء"؛ لأن افتراش الثرى، وتوسد الجنادل دليل فقدان ما يفترش ويتوسد، وهذا عنوان ضيق ذات اليد, فهي كناية قريبة، واضحة اللزوم.
16- فيه كناية يراد بها نسبة الكرم إلى الممدوح؛ لأن الكرم صفة لا يصلح إهاب الممدوح وعاء لها، فلزم ثبوت الكرم لذي الإهاب.
17- فيه كناية يراد بها موصوف هو "السفينة"؛ لأن مجموع الأمرين المذكورين -وهما الألواح والدسر مشدودا أحدهما بالآخر- وصف خاص بالسفينة.
تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق:
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو ... ق إليها والشوق حيث النحول
بنى المجد بيتا فاستقرت عماده ... علينا فأعيا الناس أن يتحولا(3/344)
ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجاب الناس أصبعا
أحن إلى ما يضمن الخمر والحلي ... وأصدف عما في ضمان المآزر1
نصبوا بقارعة الطريق خيامهم ... يتسابقون على قِرى الضيفان
ويكاد موقدهم يجود بنفسه ... حب2 القِرى حطبا على النيران
رميتهم ببحر من حديد ... له في البر خلفهم عباب
فمساهم وبسطهم3 حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب
فلان لا يضع العصا عن عاتقه. لبس الدهر لهم جلد النمر. {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} . فلان رحب الصدر، قوي الظهر. فلان طاهر الذيل. روي أن امرأة وقفت على قيس بن سعد4، فقالت: أشكو إليك قلة الفأر في بيتي، فقال: ما أحسن ما روت عن حاجتها! املئوا بيتها خبزا ولحما وسمنا، ويروى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك، فقالت: يا أمير المؤمنين, مشت جرذان بيتي على العصا، فقال لها: ألطفت في السؤال, لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود، وملأ بيتها حبا, إلى غير ذلك من لطائف الكنايات، وطرائف العبارات، ذات المعاني الخفية الرائعة.
__________
1 الخمر -بضم الخاء وسكون الميم, أو ضمها- جمع خمار -بالكسر- وهو ما تستر به المرأة وجهها، وأصدف على زنة أضرب بمعنى: أعرض، والمآزر: جمع مئزر, وهو الملحفة.
2 مفعول لأجله أي: لأجل الحب.
3 جمع بساط, وسكنت سينه للضرورة.
4 من سادات العرب, وأجاويدهم.(3/345)
خاتمة:
أطبق علماء هذا الفن على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وأن الكناية أبلغ من التصريح1، وأن الاستعارة أبلغ من التشبيه، ومن المجاز المرسل، والكناية.
أما وجه الأبلغية في المجاز والكناية؛ فلأن الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم2, فهما كدعوى الشيء ببينة3، ذلك أنك حين تقول متجوزا: "رأيت أسدا على المنبر" إنما تريد أن تقول: رأيت رجلا مقداما على المنبر, وهذه دعوى قام عليها دليلها هو إثبات معنى الأسد له, إذ يلزم من كونه أسدا أن يكون مقداما جريئا للزوم الإقدام والجرأة للأسد، وأنك حين تقول مكنيا: محمد طويل, النجاد إنما تريد أن تقول: محمد طويل القامة، وهي أيضا دعوى قام عليها دليلها هو اتصافه بطول النجاد, إذ يلزم من كونه طويل النجاد أن يكون طويل القامة، وكأنك قلت في الأول: رأيت مقداما على المنبر لأنه أسد، وقلت في الثاني: محمد طويل القامة لأنه طويل النجاد.
أما الحقيقة في نحو: "رأيت رجلا مقداما على المنبر"، والتصريح في نحو: "محمد طويل القامة" فدعويان لم يقم عليهما
__________
1 المراد بالأبلغية هنا الأفضلية في الحسن والقبول, وإنما قلنا ذلك؛ لأن الكناية كلمة مفردة، وأن المجاز قد يكون مفردا, وقد سبق أن البلاغة لا يوصف بها المفرد.
2 أي: فلا يفهم المعنى المراد منهما من اللفظ نفسه، بل بواسطة الانتقال من الملزوم إلى اللازم, فلا يفهم معنى الشجاع من ذات قولك: رأيت أسدا على فرس، بل بواسطة الانتقال من معنى الحيوان المفترس إلى لازمه وهو الشجاع. كذلك لا يفهم معنى طول القامة من ذات قولك: فلان طويل النجاد، بل بواسطة الانتقال من طول النجاد إلى لازمه الذي هو طول القامة.
3 وجه كونهما كالدعوى بالبينة: أن تقرر الملزوم يستلزم تقرر اللازم؛ لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم, فصار تقرر الملزوم مشعرا باللازم.(3/346)
دليل, وما كان مؤيدا بدليل أبلغ وآكد مما لم يدعم بدليل، فثبت أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة التصريح.
ووجه أبلغية الاستعارة على التشبيه هو أن الاستعارة نوع من المجاز، مبني على دعوى اتحاد المشبه والمشبه به، والتشبيه نوع من الحقيقة بناء على القول الراجح, وقد ثبت أن المجاز أبلغ من الحقيقة، على ما بينا.
ووجه أبلغيتها على المجاز المرسل ما فيها من دعوى الاتحاد لفظا ومعنى؛ أما لفظا فلإطلاق لفظ المشبه به على المشبه، وأما معنى فلإدخال المشبه في جنس المشبه به، واعتباره فردا من أفراده، بخلاف المجاز المرسل نحو: أمطرت السماء نباتا، فإن فيه دعوى الاتحاد لفظا فقط من حيث إطلاق اللفظ على المعنى الثاني. أما الاتحاد في المعنى فغير موجود فيه, إذ ليس بين المعنيين "كالماء والنبات" في المثال المذكور تشابه ما حتى يدعى اتحادهما.
ووجه أبلغيتها على الكناية من جهتين:
"الأولى": أن في الاستعارة جمعا بين كناية واستعارة من حيث إن فيها انتقالا من الملزوم "كالأسد" إلى اللازم "كالشجاع"، كما ينتقل في الكناية من "طول النجاد" مثلا إلى طول القامة، ومن حيث إن فيها استعمال اللفظ في غير المعنى الموضوع له لعلاقة المشابهة.
"الثانية": أنها مجاز قطعا بخلاف الكناية, ففي مجازيتها خلاف بين علماء البلاغة مبسوط في محله، فارجع إليه إن شئت.
تنبيه:
ليس معنى الأبلغية في هذه الثلاثة أنها تفيد زيادة في أصل المعنى، لا يفيدها غيرها, إنما المراد أنها تفيد تأكيدا لإثبات المعنى لا يوجد في سواها.(3/347)
فليست فضيلة قولنا: "رأيت قمرا" على قولنا: رأيت وجها لا يتميز عن القمر في إشراقه, وبهائه من حيث إن الأول أفاد زيادة في مساواة الوجه للقمر في إشراقه لم يفدها الثاني, إذ إن التركيبين في إفادة هذا المعنى سواء. إنما مزية الأول على الثاني من حيث إن الأول أفاد تأكيدا وتقريرا لإثبات معنى المساواة، دون الثاني؛ لما في التركيب الأول من دعوى الاتحاد، والتعبير عن المشبه بلفظ المشبه به، ودلالة دعوى الاتحاد على معنى المساواة كما في التركيب الأول أبلغ من التنصيص على المساواة كما في التركيب الثاني.
كذلك ليست فضيلة قولنا: "محمد طويل النجاد" على قولنا: محمد طويل القامة, من جهة أن التركيب الأول أفاد زيادة في معنى الطول لم يفدها الثاني, فالتركيبان في ذلك سواء, إنما ميزة الأول على الثاني من ناحية أن الأول أفاد تأكيدا, وتقريرا لإثبات معنى الطول دون الثاني؛ لما في التركيب الأول من الدعوى المستندة إلى دليل -كما بينا سابقا- ودلالة دعوى "الشيء" مؤيدة بدليل كما في التركيب الأول أبلغ من التنصيص عليه, غفلا عن الدليل كما في التركيب الثاني, يدرك ذلك صاحب الذوق السليم ا. هـ.
هذا, والاستعارة التمثيلية أبلغ أنواع الاستعارة؛ لأنها إنما تكون في الهيئات المنتزعة من أمور متعددة, فهي كثيرة الاعتبارات والملاحظات، لا يوفق فيها إلا من أوتي حسن روية، وبعد نظر. ويليها في الأبلغية الاستعارة المكنية؛ لاشتمالها على المجاز العقلي في قرينتها, أما التصريحية ففي المرتبة الثالثة.
نموذج في التطبيق على جميع ما مر من قواعد علم البيان:
وفي يده الصمصام تحكي شباته ... نواجذ أفواه المنايا القواضب1
__________
1 الصمصام والصمصامة: السيف لا ينثني, وشباته: حده، والنواجذ: الأضراس والأنياب مفرده ناجذة، والقواضب: القواطع.(3/348)
الجواب: شبه الشاعر حد الحسام المرهف بنواجذ المنايا, ووجه الشبه المضاء والنفاذ، وهو أمر عقلي، والطرفان حسيان، وأداة التشبيه قوله: "تحكي"، وهي من الأدوات التي يليها المشبه، والتشبيه تحقيقي؛ لأن الوجه محقق في الطرفين وهو غير تشبيه تمثيل؛ لأن الوجه شيء واحد، لا مركب، وهو مفصل لحذف وجه التشبيه، ومرسل لذكر الأداة، والغرض بيان مقدار حال المشبه، وأنه بلغ من قوة مضائه ونفاذه بحيث لا يرد له حكم. وفي "المنايا" استعارة بالكناية؛ شبهت المنايا بالسبع بجامع الاغتيال، واستعير لفظ المشبه به للمشبه، ثم حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو "نواجذ" على سبيل الاستعارة المكنية، ولفظ "أفواه" ترشيح لملاءمته للمشبه به الذي هو المستعار منه، وهي أصلية؛ لأن اللفظ المستعار اسم جنس، وقرينتها إثبات النواجذ للمنايا، وهذا الاثبات استعارة تخييلية. ودونك القياس على ذلك فيما يأتي من الأبيات:
كأن عيون النرجس الغض حولنا ... مداهن در حشوهن عقيق
هرب النوم عن جفوني فيها ... هرب الأمن عن فؤاد الجبان
سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير
والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا
ازرع جميلا ولو في غير موضعه ... فلا يضيع جميل أينما زرعا
إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا
ونار لو نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد(3/349)
والبدر في أفق السماء كغادة ... بيضاء لاحت في ثياب حداد
حتى بدا وجه الصباح كأنه ... وجه الحبيب أتى بلا ميعاد
تمرينات:
بين أنواع التشبيه، والمجاز المرسل والاستعارة والكناية فيما يأتي:
قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} ، {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . ألفاظ كغمزات الألحاظ، ومعانٍ كما تنفست الأسحار. ذم إنسان آخر فقال: كأن وجهه أيام المصائب، وليالي النوائب، يا عجبا من جسم كالخيال، وروح كالجبال. القضاة دعائم العدل، وبأيديهم أزمة الفصل والفضل. قال الحريري: لبثنا في الانتظار إلى أن هرم النهار، وكاد جرف الليل ينهار. زارنا فكأنه مطر الربيع، ونزل بساحة الوغى فكان كأسد خفان، وفاه بلفظ كالدر المنظوم، وبدا بوجه كفلق الصبح، أو كصفحة القمر.
والظل في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فيسقط
له راحة ينهل جودا بنانها ... ووجه إذا قابلته يتهلل
إذا أنشب الدهر ظفرا ونابا ... وصال على الحر منا ونابا
صبرنا ولم نشك أحداثه ... لأنا نعاف التشكي ونابى1
__________
1 أصله نأبى, سهلت همزته.(3/350)
وقفت وما بالموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
المرء مثل هلال حين تبصره ... يبدو ضئيلا ضعيفا ثم يتسق
يزداد حتى إذا ما تم أعقبه ... كر الجديدين نقصا ثم ينمحق
أنا نار في مرتقى نظر الحا ... سد ماء جار مع الأخواز
بنفسج جمعت أوراقه فحكى ... كحلا تشرب دمعا يوم تشتيت
كأنه وضعاف القضب تحمله ... أوائل النار في أطراف كبريت
وقيل في وصف السماء:
بساط زمرد بسطت عليه ... دنانير تخالطها دراهم
ونهر المجرة يجري في سندسها، ويسري ليسقي ذوابل نرجسها, فبينما أسرح في درر الدراري نظري، وأروض في رياضها جواد فكري, إذ هبّ نسيم السحر يروي عن أهل نجد أطيب الخبر، ثم تبسم الفجر ضاحكا، واقتنص بازي الضوء غراب الظلام، وفضّ كافور النور مسك الختام.
تم وضع هذا الكتاب عصر يوم السبت 28 شوال سنة 1366هـ, الموافق 13 سبتمبر سنة 1947م, فنرجو أن يكون قد رافقه بعض التوفيق في تأليفه وتنسيقه، وفي أسئلته وتطبيقه, ونحمده -جل شأنه- ونسأله أن ينفع به سؤال معترف بالعجز لقادر, بعونه وتوفيقه تتم الصالحات.(3/351)
أسئلة وامتحانات رسمية:
نصوص امتحانات سابقة:
امتحان النقل من السنة الثالثة الثانوية، الدور الأول لسنة 1360 الدراسية:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
1- اشرح المراد من كون التشبيه تمثيلا أو غير تمثيل, واذكر خلاف السكاكي في ذلك, ثم بين متى يكون التشبيه مفصلا، ومتى يكون مجملا, مع بيان أنواع المجمل، ومثل لكل ما تقول.
2- عرف الاستعارة، وقسمها باعتبار اللفظ المستعار، وبين المراد بكونها تحقيقية مع التمثيل لكل ذلك، ثم اشرح وجه مفارقتها للكذب، وبين متى يصح جريانها في علم الشخص, ومتى يمتنع جريانها فيه مع التمثيل.
3- افرق بين المجاز المفرد والمركب، ثم بين هل انقسام المفرد إلى مرسل، واستعارة خاص به, أو جارٍ في المركب كذلك، ووجه ما تقول مع التمثيل.
التطبيق:
أ- بين وجه الشبه, والغرض من التشبيه فيما يأتي:
1- {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} .
2- الحسد يأكل الحسنات, كما تأكل النار الحطب.
3-
والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا
ب- هات مثالا لكل واحد مما يأتي:
تشبيه وجهه من بديع المركب الحسي, تشبيه مبتذل تصرف فيه بما أخرجه إلى الغرابة, مجار مرسل علاقته المسببية، استعارة اجتمع فيها الترشيح والتجريد، استعارة تبعية مدار قرينتها على المفعول.(3/352)
جـ- بين نوع الاستعارة فيما يأتي:
1- أنفقت عمري في رضاك.
2- "وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر"
3- قصر تعانق شرفاته السحاب.
د- بين نوع الكناية في كل مما يأتي:
1- قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} .
2- قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} .
3- قولهم في المديح: "فلان ساكن الريح".
4-
ولما شربناها ودبّ دبيبها ... إلى موطن الأسرار قلت لها قفي
5-
إذا كنت مرتاد السماحة والندى ... فسائل تخبر عن ديار الأشاهب
امتحان النقل من السنة الثالثة الثانوية، الدور الثاني، لسنة 1360 الدراسية:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
1- افرق بين التشبيه المبتذل والغريب، وفصل القول في أسباب الابتذال والغرابة، وما معنى التفصيل في وجه الشبه، وما أحسن وجوهه، مع التمثيل لكل ما تذكر؟
2- اختلف علماء البيان في أن الاستعارة مجاز عقلي أو لغوي، فاشرح هذا الخلاف، واذكر أدلة كل من الطرفين، مع توجيه اختيار المصنف.
3- عرف كلا مما يأتي، مع التمثيل:
الاعتبار المناسب، الحال، الكناية، المجاز بالحذف، الترشيح، التجريد.
التطبيق:
أ- بين الغرض من التشبيه، ووجهه، وأداته فيما يأتي:
1- {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} .
2- الإمام العادل ظل الله في أرضه.
3-
كأن سهيلا والنجوم وراءه ... صفوف صلاة قام فيها إمامها(3/353)
4- قولهم في ذم الشخص: إنه مثل السراب، يغر من رآه، ويخلف من رجاه.
ب- مثل لكل واحد مما يأتي:
تشبيه مجمل فيه وصف المشبه به فقط، تشبيه الغرض منه إظهار المطلوب، استعارة تمثيلية، استعارة تبعية ثم يحول مثالها إلى استعارة أصلية، مجاز مرسل علاقته الجزئية.
جـ- بين نوع المجاز، والاستعارة، والكناية فيما يأتي:
1- {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} .
2- قال أعرابي: دخلت البصرة, فإذا ثياب أحرار على أجسام عبيد.
3-
وقد أغتدى والليل يبكي تأسفا ... على نفسه والنجم للغرب ماثل
4-
يا كوكبا ما كان أقصر عمره ... وكذاك عمر كواكب الأسحار
5-
أتتني لسان فكذبتها ... وما كنت أرهبها أن تقالا
امتحان النقل من السنة الثالثة الثانوية، الدور الأول، لسنة 1361 الدراسية:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
1- اذكر أقسام الاستعارة باعتبار الجامع, ومثل لكل قسم، ولأي قسم منها مثل المصنف بالحديث الشريف: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه, كلما سمع هيعة طار إليها"؟ وما الذي أورده الشارح عليه؟ ثم أجر الاستعارة في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} .
2- تكلم عن أربعة أغراض من أغراض التشبيه تعود إلى المشبه, مبينا في كل غرض منها حال وجه الشبه في الطرفين, مع توضيح ذلك بالمثال.
3- اشرح معنى الاستعارة المكنية على رأي الجمهور من البلاغيين، وهل يشملها معنى المجاز اللغوي على هذا الرأي؟ وضح ذلك في قول(3/354)
زهير:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله
التطبيق:
أ- مثل لما يأتي: تشبيه مقيد الطرفين، تشبيه قريب أخرجه شرط فيه إلى الغرابة, تشبيه قيد أحد طرفيه، تشبيه تمثيل على مذهب السكاكي فيه، مجاز مرسل علاقته ما يئول إليه، استعارة مكنية مرشحة.
ب- ما الذي أخلّ بفصاحة الأمثلة الآتية:
1- قول المتنبي:
جفخت وهم لا يجفخون بهابهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
2- قول حسان:
ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
3- قول أبي تمام:
جذبت نواه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعا بين أيدي القصائد
جـ- بين نوع الكناية في قول أبي نواس:
يشير إليك الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين ينظر
امتحان النقل من السنة الثالثة الثانوية لسنة 1362هـ الدراسية:
البلاغة الدور الأول "الزمن: ساعتان"
1- اذكر الفرق بين التعقيد اللفظي والمعنوي, ومثل لهما وبين وجه إخلالهما بالفصاحة, وكيف ترد على من زعم أن ذكر ضعف التأليف يغني عن التعقيد اللفظي؟
2- علام استشهد المصنف بقول الشاعر:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت
ثم بين المشبه والمشبه به ووجه الشبه في المثال.
3- اذكر أقسام التشبيه باعتبار طرفيه إفرادا وتركيبا, ومثل لكل قسم.(3/355)
4- التطبيق:
أ- مثل للآتي: تشبيه ملفوف. مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان. استعارة تمثيلية.
ب- بين ما الذي أخلّ بالفصاحة في الآتي, مع التوجيه:
قال الشاعر:
إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... بنشر وتكثير الوشاة قمين
وقال آخر:
وشوه ترقيش المرقش رقشة ... فأشياعه يشكونه ومعاشره
امتحان النقل من السنة الثالثة الثانوية "الدور الثاني" لسنة 1362-1363هـ الدراسية:
البلاغة "الزمن: ساعتان"
1- يقول المصنف: "وارتفاع شأن الكلام في الحسن, والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب وانحطاطه بعدمها, فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب". اشرح هذه العبارة شرحا وافيا, وبين المراد من الاعتبار المناسب والمراد من الكلام والمراد من الحسن.
2- عرف تشبيه التمثيل, ومثل له, وبماذا قيده السكاكي؟ وافرق بين مذهبه وبين مذهب الجمهور, مع التمثيل.
3- اشرح معنى الاستعارة الوفاقية والعنادية, ومثل لهما, ثم بين تحت أيهما تدخل الاستعارة التهكمية, ووجه ما تقول مع التمثيل.
التطبيق:
أ- هات أمثلة لما يأتي: كناية أريد بها صفة. مجاز مرسل علاقته الحالية. استعارة تبعية، تشبيه ضمني، مجاز مركب، تكرار أخل بالفصاحة.
ب- في الحديث والبيت الآتيين مجاز وكناية, فبين نوع المجاز واذكر علاقته, ووضح الكناية وبين نوعها:(3/356)
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لزوجاته الطاهرات: $"أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا".
وقال الشاعر:
ولما شربناها ودبّ دبيبها ... إلى موطن الأسرار قلت لها قفي
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول، لسنة 1363 الدراسية:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- اشرح المعاني الاصطلاحية للألفاظ الآتية, مع التمثيل:
التعقيد المعنوي، ضعف التأليف، تنافر الحروف, مقتضى الحال، المقام.
وهل يغني ضعف التأليف عن التعقيد اللفظي في تحقيق معنى فصاحة الكلام؟ ولماذا؟
2- قد يكون وجه الشبه مركبا حسيا, فما أنواع طرفي التشبيه حينئذ؟ اشرح ذلك مع التمثيل لكل نوع، ثم بين في مثال معنى التركيب في الوجه والطرفين، ولهذا الوجه أنواع بديعة، فصل القول في تلك الأنواع مع التمثيل.
3- قيل: إن الاستعارة من قبيل المجاز اللغوي, فما وجه ذلك؟ ثم بين بأي شيء تفارق الاستعارة الكذب، وهل تجري الاستعارة في علم الشخص؟ ولماذا؟ مثل لما تذكر.
التطبيق:
1- مثل لما يأتي:
تشبيه ملفوف، استعارة مكنية مرشحة, تشبيه مبتذل خرج إلى الغرابة، مجاز مرسل علاقته الإطلاق والتقييد.
2- بين أركان التشبيه، ونوع وجهه، وطرفيه, باعتبار التركيب والإفراد فيما يأتي:(3/357)
قال عدي بن الرقاع يصف ظبية:
تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
وقال آخر:
تبني سنابكها من فوق أرؤسهم ... سقفا كواكبه البيض المباشير
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الثاني لسنة 1363 الدراسية:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- افرق بين التعقيد المعنوي واللفظي مع التمثيل، وبماذا ترد على من اشترط في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار وتتابع الإضافات؟ وما ضابط التنافر المخل بفصاحة الكلمة؟ وما وجه الغرابة في كلمة "مسرج" في قول العجاج:
وفاحما ومرسنا مسرجا؟
وما معنى مطابقة الكلام لمقتضى الحال؟ مثل لما تقول.
2- اذكر معنى التشبيه القريب المبتذل، والتشبيه البعيد الغريب، وبين الأسباب التي يكون بها التشبيه قريبا، والأسباب التي يكون بها بعيدا، ومن أي النوعين التشبيه البليغ؟ وما وجه ذلك؟ ومتى يكون البعيد الغريب حسنا؟ وضح ما تذكر بالمثال.
3- بين معنى الاستعارة الوفاقية، والعنادية، ومن أي النوعين الاستعارة التهكمية، ثم اذكر معنى الاستعارة الغريبة، مع التمثيل, وعلى أي شيء استشهد المصنف بقول الشاعر:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
مع بيان وجه الاستشهاد في البيت.
التطبيق:
1- مثل لما يأتي:
تشبيه تمثيل، مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان، كلام أخلّ(3/358)
بفصاحته التعقيد اللفظي، كلام مطابق لمقتضى ظاهر الحال.
2- بين نوع التشبيه باعتبار حسية الطرفين أو عقليتهما، والغرض منه، وأجر الاستعارة في قول معن بن أوس يعاتب ابن عمه:
فما زلت في ليني له وتعطفي ... عليه كما تحنو على الولد الأم
وخفض له مني الجناح تآلفا ... لتدنيه مني القرابة والرحم
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1364 الدراسية:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- تكلم على أربعة أغراض من أغراض التشبيه تعود إلى المشبه, مبينا في كل غرض منها حال وجه الشبه في الطرفين، مع توضيح ذلك بالمثال.
2- اذكر أقسام التشبيه باعتبار الطرفين إفرادا وتركيبا, ممثلا لكل قسم منها، وافرق بين التشبيه المركب والمتعدد.
3- اذكر المراد من دخول الجامع في طرفي الاستعارة وعدم دخوله فيهما، مع التمثيل لكل منهما، وبين لأي قسم منهما مثل المصنف بالحديث الشريف: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه, كلما سمع هيعة طار إليها" وما الذي أورده الشارح عليه؟ ثم أجر الاستعارة في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} .
التطبيق:
1- ما الذي أخل بفصاحة الأمثلة الآتية:
قال الشاعر:
جفخت وهم لا يجفخون بهابهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل(3/359)
وقال الآخر:
جذبت نداه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعا بين أيدي القصائد
وقال الآخر:
ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
2- مثل لما يأتي:
تشبيه قريب أخرجه شرط فيه إلى الغرابة، تشبيه تمثيل على مذهب السكاكي، استعارة مكنية مرشحة، مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يئول إليه.
3- بين نوع الكناية في البيت الآتي:
يشير إليك الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين تنظر
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الثاني لسنة 1364 الدراسية:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- عرف البلاغة في الكلام، واشرح التعريف, مبينا معنى المطابقة، والحال، وبين الخلاف في مقتضى الحال، وهل يختلف معنى الحال باختلاف معنى المقتضى والمطابقة؟ وضح لما تقول بالمثال.
2- اشرح معنى اشتراك الطرفين في وجه الشبه تحقيقا, أو تخييلا مع التمثيل لما تقول، ثم بين وجه الشبه في قولهم: "النحو في الكلام كالملح في الطعام".
3- اشرح تعريف المجاز المركب، وبين هل يقع في غير الاستعارة؟ وبأي شيء يمتاز عن التشبيه التمثيلي؟ مع توضيح ما تقول بالمثال.
التطبيق:
1- بين نوع الاستعارة في المثالين الآتيين, وأجرها فيهما:
رأيت اليوم عمرو بن العاص يستعرض جيش مصر.
قولهم في المثل: "بيدي لا بيد عمرو".(3/360)
2- بين وجه الشبه, والغرض من التشبيه في الأمثلة الآتية:
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} .
وقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".
وقال الشاعر:
والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا
3- هات أمثلة لما يأتي:
تشبيه مفروق، تشبيه تعدد فيه وجه الشبه، استعارة تمثيلية، تعقيد معنوي، كناية أريد بها صفة، مجاز مرسل مركب.
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1365 الدراسية:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- فصل القول في بيان الأمور التي إذا خلص منها الكلام كان فصيحا مع التمثيل.
2- بين معنى التشبيه المشروط، ومثل له، ولماذا سمي بذلك؟ وتحت أي أنواع التشبيه يندرج؟ ولماذا ومتى يكون التشبيه الغريب بليغا؟ وما أعلى مراتب التشبيه في المبالغة؟ ولماذا؟
3- اشرح مذهب الجمهور في الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية, وهل بينهما تلازم على هذا المذهب؟ ولماذا؟ وما وجه تسمية التخييلية استعارة عندهم؟ ثم بين طريقة إجراء الاستعارة على مذهبهم في مثال.(3/361)
التطبيق:
1- مثل لما يأتي:
تشبيه تمثيل، استعارة تبعية في اللام، كناية أريد بها صفة، مجاز مرسل علاقته الجزئية.
2- بين نوع المجاز, وقرينته فيما يلي:
خير الناس من يبني دينه, ولا يهدم دنياه.
شراء النفوس بالإحسان خير من بيعها بالعدوان.
3- بين نوع التشبيه, والغرض منه في قول الشاعر:
تحسنت الدنيا بوجه خليفة ... هو الصبح إلى أنه الدهر مسفر
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1366 الدراسية:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- فصل القول في بلاغة الكلام، وبين تفاوت مراتبه, ووضح منشأ هذا التفاوت، وعرف الاعتبار المناسب, وهل هو غير مقتضى الحال؟ وجه ما تقول.
2- وضح التشبيه الذي يكون وجه الشبه فيه مركبا حسيا، واذكر أقسامه مع التمثيل, وبين البديع الغريب منه بمثال تشرح فيه وجه الغرابة, وما المراد بالتركيب؟
3- اذكر أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين, وبين وجه ذلك التقسيم ووضحه بالتمثيل, واشرح ما تكون به الاستعارة خاصية مع التمثيل.
التطبيق:
1- أ- بين التشبيه, والغرض منه في قول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
ب- من أي أقسام الاستعارة قوله تعالى:
{وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ؟ وضح طريقة إجراء تلك الاستعارة.(3/362)
2- مثل لما يأتي:
مجاز علاقته السببية، استعارة مطلقة، كناية عن نسبة، استعارة تمثيلية.
3- تكلم من علم البيان على ما يأتي:
{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} .
وذي رحم قلمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الثاني لسنة 1366 الدراسية:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- بين التنافر في الكلمة, واذكر ضابطه, واشرح الغرابة المخلة بفصاحة الكلمة مع التمثيل.
2- اذكر أغراض التشبيه, موضحا كلا منها بمثال.
3- قسم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار, باسطا القول في دليل التبعية, وأجرها في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} , وبين العلم الذي تجري فيه الاستعارة, ونوعها.
التطبيق:
1- مثل لما يأتي:
تشبيه مشروط، مجاز مرسل علاقته الكلية، استعارة بالكناية، كناية عن موصوف.
2- تكلم عن علم البيان, عما يأتي:
بيض صنائعنا سود وقائعنا ... ناسو بأموالنا آثار أيدينا
وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري
3- بين نوع التشبيه, ووجه الشبه فيما يأتي:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا ظهرت لم يبد فيهن كوكب(3/363)
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1368هـ "1949م"
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- اشرح التعقيد، واذكر سببه مع التمثيل، وبماذا ترد على من اشترط في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار وتتابع الإضافات؟ ولم كان كل بليغ فصيحا دون العكس؟
2- عرف وجه الشبه, وبين التحقيقي منه والتخييلي مع التمثيل، واذكر الفرق بين وجه الشبه المركب ووجه الشبه المتعدد، وبين لم وجب أن يكون الطرفان حسيين إذا كان الوجه حسيا؟ ولم كان وجه الشبه العقلي أعم؟ ولم لا يجوز أن يكون وجه الشبه في قولهم: "النحو في الكلام كالملح في الطعام" كون القليل مصلحا والكثير مفسدا؟ وما وجه الشبه إذًا في قولهم هذا؟
3- بين الفرق بين الاستعارة والمجاز المرسل، واذكر مثالا فيه لفظ يصح أن يكون استعارة, وأن يكون مجازا مرسلا بحسب القصد مع بيان العلاقة إذا جعلته استعارة والعلاقة إذا جعلته مجازا مرسلا، ومثل للاستعارة التي معناها متحقق حسا والاستعارة التي معناها متحقق عقلا، وبين الاستعارة في قول الشاعر: "وسالت بأعناق المطي الأباطح" واذكر ما أفادها اللطف والغرابة.
التطبيق:
1- بين ما في هذه الأبيات من البيان:
قال بشار:
وكأن رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا
حوراء إن نظرت إليـ ... ـك سقتك بالعينين خمرا
وتخال ما جمعت عليـ ... ـه ثيابها ذهابا وعطرا
2- مثل لما يأتي من إنشائك:
كناية عن نسبة، مجاز مرسل علاقته الجزئية، استعارة مرشحة.(3/364)
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الثاني لسنة 1368هـ، 1949م:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- بين مخالفة القياس وضعف التأليف, ومثل لهما, واشرح تنافر الكلمات, ومثل له بمثالين أحدهما أشد تنافرا من الآخر.
2- قسم التشبيه باعتبار الطرفين من حيث الإفراد والتركيب مع التمثيل لكل قسم، وبين التشبيه المجمل والمفصل مع التمثيل.
3- اشرح رأي الخطيب والجمهور في الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية, وأجر الاستعارة بالكناية على رأيهما, مبينا قرينتها في قول زهير:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله
التطبيق:
1- بين ما في الأبيات من البيان:
قال أبو تمام يعاتب أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي:
إذا ما الحاجة انبعثت يداها ... جعلت المنع منك لها عقالا
فأين قصائد لي فيك تأبى ... وتأنف أن أهان وأن أذالا
هي السحر الجلال لمجتليه ... ولم أر قبلها سحرا حلالا
2- بين المجاز المرسل, وعلاقته فيما يأتي:
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، وقال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} .
وقال الشاعر:
إلا من رأى الطفل المفارق أمه ... بعيد الكرى عيناه تنسكبان(3/365)
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1369هـ، 1950م:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- عرف البلاغة في الكلام, واشرح التعريف، مبينا معنى المطابقة والحال، وبين الخلاف في مقتضى الحال، وهل يختلف معنى الحال باختلاف معنى المقتضى والمطابقة؟ وضح ما تقول بالمثال.
2- اشرح معنى اشتراك الطرفين في وجه الشبه تحقيقا, أو تخييلا مع التمثيل لما تقول، ثم بين وجه الشبه في قولهم: "العلم كالنور".
3- وضح تعريف المجاز المركب، وبين هل يكون المجاز المركب غير استعارة؟ وبأي شيء يمتاز عن التشبيه التمثيلي؟ وضح ما تقول بالمثال.
التطبيق:
1- بين نوع الاستعارة في المثالين الآتيين, وأجرها فيهما:
"رأيت اليوم حاتما" "بيدي لا بيد عمرو".
2- بين وجه الشبه, والغرض من التشبيه في الأمثلة الآتية:
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} ، وقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".
وقال الشاعر:
والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا
2- هات أمثلة لما يأتي:
تشبيه مفروق، تشبيه تعدد فيه وجه الشبه، استعارة بالكناية، تعقيد معنوي، استعارة تبعية، كناية أريد بها صفة.(3/366)
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الثاني لسنة 1369هـ، 1950م:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- عرف الغرابة، وتنافر الحروف ومثل لهما، وبين ما يعرف به كل منهما، ولم اشترط في الفصاحة الخلو منهما؟
2- اذكر أربعة من أغراض التشبيه ممثلا لكل منها، وافرق بين التشبيه المركب والمتعدد، والمفصل والمجمل، مع التمثيل.
3- اذكر المراد من دخول الجامع في طرفي الاستعارة، وعدم دخوله فيهما، مع التمثيل لكل منهما، وبين لأي قسم منهما مثل المصنف بالحديث الشريف: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه, كلما سمع هيعة طار إليها" وما الذي أورده الشارح عليه؟ ثم أجر الاستعارة في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} .
التطبيق:
1- ما الذي أخل بفصاحة الأمثلة الآتية:
قال الشاعر:
جفخت وهم لا يجفخون بهابهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
وقال آخر:
جذبت نداه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعا بين أيدي القصائد
وقال آخر:
ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
2- مثل لما يأتي:
تشبيه قريب تصرف فيه بما يجعله غريبا، تشبيه تمثيلي على مذهب السكاكي، استعارة مكنية مرشحة، مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يئول إليه.(3/367)
3- بين نوع الكناية في البيت الآتي:
يشير إليك الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين تنظر
امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1370هـ، 1951م:
البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان
القواعد:
1- أ- اذكر الفرق بين التعقيد اللفظي والمعنوي، وبين نوع التعقيد, ووجه قول العباس بن الأحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتكسب عيناي الدموع لتجمدا
ب- ما المراد من الحال، والمطابقة، والمقتضى؟ وضح ذلك بمثال من إنشائك.
2- بين المراد من التركيب في وجه الشبه, ثم قسم المركب الحسي باعتبار الطرفين مع التمثيل لكل قسم, وبيان المشبه والمشبه به ووجه الشبه في مثالين مما تذكر.
3- أ- وضح الفرق بين الاستعارة المرشحة والمجردة والمطلقة، ولم كانت المرشحة أبلغ منهما؟ مع التمثيل لما تذكر.
ب- اشرح كلا من الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية عند الخطيب, ثم أجر الاستعارة في قول الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
التطبيق:
1- بين المشبه, والمشبه به في قول حافظ يصف إشراق الشمس في مصر واحتجابها في إيطاليا:
شمسهم غادة عليها حجاب ... فهي شرقية حوتها الخدور
شمسنا غادة أبت أن توارى ... فهي غربية جلاها السفور(3/368)
2- أجر الاستعارة في قول صفي الدين الحلي:
خلع الربيع على غصون البان ... حللا فواضلها على الكثبان
3- مثل لما يأتي:
مجاز مرسل علاقته المحلية، تشبيه مبتذل تصرف فيه بما يجعله غريبا، استعارة تبعية مرشحة.
4- بين نوع الكناية في قول الشاعر:
قوم ترى أرماحهم يوم الوغى ... مشغوفة بمواطن الكتمان
تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله(3/369)
موضوعات الكتاب:
صفحة الموضوع
5 تمهيد بنشأة العلوم البلاغية
15 وجه الحاجة إلى دراستها
18 الفصاحة والبلاغة
21 فصاحة الكلمة
32 فصاحة الكلام
49 فصاحة المتكلم
58 البلاغة
59 بلاغة الكلام
65 اختلاف مقتضيات الأحوال
68 مراتب البلاغة
69 بلاغة المتكلم
77 علم البيان: واضعه، موضوعه، فائدته
78 المبحث الأول في تعريفه
82 المبحث الثاني في الدلالة
90 المبحث الثالث في التشبيه
97 التقسيم الأول باعتبار طرفيه
101 التقسيم الثاني باعتبار طرفيه
108 التقسيم الثالث باعتبار طرفيه
116 مبحث وجه الشبه
119 التقسيم الأول باعتباره
126 التقسيم الثاني
131 التقسيم الثالث
137 فصل في الوجه المركب الحسي
142 التقسيم الرابع
146 التقسيم الخامس
150 التقسيم السادس
162 مبحث أداة التشبيه
167 تقسيم التشبيه باعتبار الأداة
170 مبحث أغراض التشبيه
183 تقسيم التشبيه باعتبار الغرض
191 التشبيه والتشابه
194 مراتب التشبيه
197 الاختلاف في صيغة التشبيه
208 المبحث الرابع في الحقيقة والمجاز
208 الحقيقة
211 المجاز، المفرد
214 الوضع
215 القول بدلالة اللفظ لذاته
219 الاستعارة
220 ما لا بد منه لتحقيقها
224 الاستعارة لا تصح في علم الشخص
224 فصل في نحو خالد أسد
228 الاستعارة مجاز لغوي لا عقلي
232 الاستعارة تفارق الكذب
232 قرينة الاستعارة
237 تقسيم الاستعارة باعتبار الطرفين
239 تقسيمها باعتبار الجامع
245 تقسيمها باعتبار الطرفين والجامع
250 تقسيمها باعتبار ذكر أحد طرفيها، الاستعارة التصريحية
250 الاستعارة الأصلية
253 الاستعارة التبعية، الاستعارة في الفعل
255 الاستعارة في المشتقات
256 دليل التبعية
258 الاستعارة في الحرف(3/370)
صفحة الموضوع
263 قرينة التبعية
266 تقسيم الاستعارة إلى مرشحة ومجردة ومطلقة
272 موازنة بين هذه الثلاثة
275 الاستعارة المكنية
279 قرينة المكنية
294 المجاز المرسل
294 علاقات المجاز المرسل
309 المجاز المركب
320 فصل في شرائط حسن الاستعارة
325 فصل آخر في المجاز بالحذف والزيادة
326 المبحث الخامس في الكناية
330 أقسام الكناية
336 بحث للسكاكي في بعض أنواع الكناية
346 خاتمة في أبلغية المجاز والكناية والاستعارة
352 أسئلة وامتحانات رسمية(3/371)
المجلد الرابع
علم المعاني
مدخل
...
علم المعاني:
قدم الخطيب القزويني في تلخيصه: علم المعاني على علم البيان معللا ذلك بأن علم المعاني من البيان بمنزلة المفرد من المركب.
بيان ذلك: أن مرجع علم البيان أمران: أحدهما: إيراد المعنى الواحد في تراكيب مختلفة في وضوح الدلالة. ثانيهما: رعاية مطابقة هذه التراكيب لمقتضى الحال.
ولهذا عرفوه بأنه: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد في تراكيب مختلفة في وضوح الدلالة، مع رعاية المطابقة لمقتضى الحال, فصار كأنه مركب من هذين الأمرين.
أما علم المعاني فمرجعه رعاية مطابقة الكلام لمقتضى الحال فحسب، وهي أحد الأمرين اللذين هما مرجع علم البيان, والمفرد مقدم في الوجود طبعا، فقدم في التأليف وضعا.
وإنما كان علم المعاني شبيها بالمفرد، لا مفردا حقيقة؛ لأن علم البيان لم يكن مركبا من الأمرين السالفين على التحقيق إذ حقيقة المركب ما توقف تحققه على تحقق أجزائه، وعلم البيان لا يتوقف تحققه على ثاني الأمرين السابقين، وإنما المدار في تحققه على الأول منهما وهو الإيراد المذكور الناشئ عن ملكة في النفس -وجدت رعاية المطابقة أو لم توجد- فإذا قلت لخالي الذهن مثلا: "إن محمدا لهزيل الفصيل, وإنه لجبان الكلب، كثير الرماد، معبرا بذلك عن كرمه كنت بيانيا متى كان ذلك وليد ملكة فيك مع أنك لم تراع في قولك مطابقته لمقتضى حال المخاطب إذ إن حاله يقتضي خلو الكلام من التأكيد.
فعلم البيان حينئذ لا يتوقف تحققه على الأمر الثاني, ولكن لما كان إيراد المعنى الواحد في التراكيب المختلفة لا يعتبر ولا يعتد به عند البلغاء إلا بعد رعاية تلك المطابقة لمقتضى الحال كان علم البيان بمثابة المركب منهما،(4/4)
وكأن تحققه متوقف عليهما لهذا كان علم البيان بمنزلة المركب، وعلم المعاني منه بمثابة المفرد، وذلك هو وجه تقديمه عليه.
تعريفه: هو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال1.
__________
1 قيل: إن أحوال اللفظ العربي أخذت في تعريف علم المعاني فهو إذًا متوقف عليها، وهي لا تعرف إلا منه؛ لأنه الباحث عن أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال, فهي إذًا متوقفة عليه, ففي التعريف حينئذ دور, وأجيب بأن الجهة منفكة؛ لأن العلم متوقف عليها من حيث تصور ماهيته، وهي متوقفة عليه من حيث حصولها، وتحققها خارجا.(4/5)
تحليل لهذا التعريف:
المراد بالعلم الملكة التي يقتدر بها على معرفة المسائل الجزئية التي تندرج تحت قواعد هذا الفن.
بيان ذلك: أن واضع هذا الفن تتبع كلام العرب فوجدهم يؤكدون القول لمنكر الحكم، فيقولون: "إن حسانا لشاعر، وإن زيادا لخطيب، وإن عليا لشجاع"، فاستنبط من تتبع هذه الجزئيات قاعدة عامة هي: كل كلام يلقى للمنكر يجب توكيده، ووجدهم يرسلون القول خلوا من التأكيد إذا خاطبوا خالي الذهن، فيقولون: "حسان شاعر، وزياد خطيب, وعلي شجاع" فاستخلص من ذلك أصلا عاما هو: "كل كلام يلقى لخالي الذهن يجب خلوه من التأكيد, وهكذا استقصى أساليبهم، فاستخرج منها قواعد الفن وأصوله، وفيها تندرج مسائله وقضاياه الجزئية.
وبممارسة هذه القواعد والأصول ومزاولتها تتربى في النفس ملكة, وهي قوة راسخة في النفس يتمكن بها الإنسان متى شاء من استحضار جزئيات هذا الفن, فإذا خاطبت منكرا لحكم من الأحكام كشاعرية حافظ مثلا استطعت بهذه الملكة الناشئة من ممارسة تلك القواعد أن تستخرج الجزئي المندرج تحت القاعدة القائلة: كل كلام يراد إلقاؤه إلى منكر يجب(4/5)
توكيده، وذلك الجزئي هو: أن هذا الكلام الخاص المراد إلقاؤه إلى منكر معين يجب توكيده1، فيقال: "إن حافظا لشاعر"، وتلك الملكة هي "العلم" على هذا الرأي.
ويجوز أن يراد بالعلم القواعد والأصول، فيكون العلم حينئذ بمعنى المعلوم2, قال بعضهم: وهو أولى؛ لأن الكثير الشائع في استعمالاتهم إطلاق العلم على الأصول والقواعد؛ ولأنه لا يحوج إلى ارتكاب استخدام3 في قولهم: "وينحصر في ثمانية أبواب" إذ المنحصر في الأبواب الثمانية هو القواعد والأصول ولا معنى لانحصار الملكة فيها؛ لأنها -كما سبق- قوة قائمة بالنفس، والاستخدام خلاف الأصل, غير أن المشهور في العرف استعمال العلم في الملكة القائمة بالنفس، ولذلك رجحوه على استعماله بمعنى القواعد، وقد صرح بذلك العلامة عبد الحكيم.
ومعنى "يعرف به": يستخرج به إن جرينا على أن المراد بالعلم الملكة، والباء حينئذ للسببية أي: يستخرج بسبب الملكة المسائل الجزئية، وإن جرينا على أن المراد بالعلم: القواعد والأصول كان المعنى يستخرج منه؛ لأن القواعد هي التي تستخرج منها تلك المسائل الجزئية.
والمراد بأحوال اللفظ الأمور العارضة له من التأكيد، والتعريف، والتنكير والتقديم، والتأخير، والذكر، والحذف، وغير ذلك فهي إذًا أوصاف فقط.
__________
1 يعلم من هذا أن الجزئيات المستخرجة من القواعد بالملكة هي القضايا ذات الموضوعات الجزئية كقولهم: هذا الكلام المراد القاؤه لهذا المنكر يجب توكيده، وهذا الكلام المراد إلقاؤه لهذا المنكر يجب توكيده, وهذا الكلام المراد إلقاؤه لهذا المريض
يجب إيجازه، وهذا الكلام المراد إلقاؤه لهذا الممدوح يجب إطنابه. وهذه القضايا الجزئية غير أحوال
اللفظ المراد معرفتها بالعلم المفسر بالملكة كالتأكيد، أو الإيجاز، أو الإطناب الواقع في الكلام الموجه للمخاطب- ويجاب بأن معرفة جزئيات القواعد وسيلة لمعرفة أحوال اللفظ, فمعرفة أن هذا الكلام الملقى إلى هذا المنكر يجب توكيده مؤدية إلى معرفة أن هذا التأكيد مناسب لهذا الإنكار وهكذا.
2 ولا يضر حينئذ استعمال المشترك في التعريف لصحة إرادة كل من معنييه، ومحل المنع إذا لم تصح إرادة ذلك، ولا يصح إطلاق العلم على الإدراك لفساد المعنى حينئذ إذ إن الإدراك لا يدرك به.
3 هو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر.(4/6)
أما الحال في قولنا: "مقتضى الحال" فالمراد بها: الأمر الداعي؛ لأن يعتبر المتكلم في كلامه خصوصية ما "كالإنكار" مثلا فإنه حال للمخاطب تدعو المتكلم إلى أن يسم كلامه بسمة خاصة هي التأكيد محوا لهذا الإنكار, و"كالذكاء" فإنه حال للمخاطب تدعو المتكلم إلى أن يحذف في كلامه اعتمادا على هذا الذكاء وهكذا.. فالحال هنا حينئذ وصف للمخاطب بخلاف الحال هناك.
ومقتضى الحال على التحقيق: هو الكلام الكلي الموسوم بطابع خاص كالكلام المطلق المؤكد، أو المحذوف منه، أو المطنب، أو نحو ذلك فالإنكار مثلا حال للمخاطب، وهذه الحال إنما تقتضي مطلق كلام مؤكد بأي طريق من طرق التأكيد, والذكاء حال له تقتضي مطلق كلام محذوف منه, والغباوة حال تقتضي مطلق كلام لا حذف فيه وهكذا ... فمقتضى الحال إذًا هو الكلام المكيف بكيفية خاصة غير منظور فيه إلى تعبير خاص.
واللفظ المطابق له: هو تلك العبارة الخاصة الصادرة من المتكلم إلى المخاطب مشتملة على تأكيد، أو حذف، أو غيرهما من سائر الأحوال.
ومعنى مطابقة هذا اللفظ لمقتضى الحال: اندراجه فيه، وصيرورته فردا من أفراده أي: إن هذا اللفظ الخاص الصادر من المتكلم بسبب اشتماله على حال خاصة طابق الكلام الكلي, الذي هو مقتضى الحال بمعنى: أنه اندرج تحته، وصار أحد أفراده, فقولك للمنكر مثلا: "إن زيادا لخطيب" لفظ مشتمل على حال هي التأكيد، وبسبب اشتماله على هذا التأكيد طابق مقتضى الحال الذي هو مطلق كلام مؤكد بمعنى: أنه اندرج في هذا المطلق، وصار جزئيا من جزئياته.
أما ما قيل من أن مقتضى الحال هو تلك الصفات من التأكيد, والتقديم، والتأخير، وغيرها فغير صحيح إذ لا يستقيم حينئذ أنها أحوال بها يطابق اللفظ مقتضى الحال؛ لأنها هي بعينها مقتضى الحال، فيلزم عليه اتحاد المطابق -بفتح الباء- الذي هو مقتضى الحال، والمطابق بسببه الذي هو حال اللفظ, فحال اللفظ في نحو: "إن محمدا قائم" للمنكر هو التأكيد، وقد طابق(4/7)
بسببه مقتضى الحال الذي هو التأكيد على هذا الرأي، واتحادهما باطل1 كما ترى.
وليس المراد بمعرفة أحوال اللفظ مجرد تصور معانيها, على ما هو المتبادر من إسناد المعرفة للأحوال في قولهم: "يعرف بها أحوال اللفظ" بل المراد: معرفتها من حيث إن اللفظ يطابق بها مقتضى الحال -على ما سبق بيانه- واحترز بهذا القيد عما سوى هذا الفن من سائر العلوم اللسانية فليس البحث فيها عن أحوال اللفظ من هذه الناحية2.
قيل: إن التأكيد وعدمه، والحقيقة والمجاز العقليين على ما سيأتي ليست أحوالا للفظ، بل هي أحوال للإسناد، وهو غير لفظ، وإذًا لا تكون من مباحث هذا الفن، مع أنها منه, أجيب أن الإسناد أحد أجزاء الجملة، وهي ملفوظ بها، فأحواله إذًا أحوال للفظ.
وتخصيص اللفظ "بالعربي" مجرد اصطلاح، وليس للاحتراز وإلا فإن هذا البحث يوجد في غير اللفظ العربي أيضا.
__________
1 قد يقال: إن المراد بأحوال اللفظ الخصوصيات الجزئية كالتأكيد الخاص في نحو قولك: إن محمدا كاتب، وإن المراد بمقتضى الحال الخصوصية الكلية كالتأكيد المطلق، وحينئذ لا مانع من أن يقال: "إن محمدا كاتب" قد طابق بالتأكيد الخاص مطلق تأكيد بمعنى أنه اشتمل على أحد أفراده إذ لا اتحاد بين المطابق بالفتح والمطابق به حينئذ.
2 من هذه العلوم علم البديع على ما هو المشهور من أن المحسنات البديعية لا يقتضيها الحال أصلا، وأما على ما حققوه من أن الحال قد تقتضيها فلا تخرج عن التعريف بالقيد المذكور.(4/8)
اختبار:
1- اذكر المراد بلفظ العلم الواقع في التعريف, أهو الملكة أم الأصول والقواعد؟ وأي المعنيين أولى بأن يكون مرادا وجه ما تقول، مع بيان المقصود من قوله: "يعرف به" الواقع في التعريف.
2- ما المراد بأحوال اللفظ، وما هو الحال ومقتضاه، وما معنى مطابقة اللفظ لهذا المقتضي.(4/8)
3- بين الحال ومقتضاه، وكيف طابق اللفظ مقتضى الحال في قول المتكلم "إن عباسا لكاتب" خطابا لمن ينكر ذلك.
4- بين وجه عدم صحة أن يراد بمقتضى الحال تلك الصفات من التأكيد والتقديم، والتأخير وغيرها مما يعرض للفظ.
5- بين المراد بمعرفة أحوال اللفظ، وهل لهذا المراد محترز؟(4/9)
ما ينحصر فيه علم المعاني:
ينحصر هذا العلم في ثمانية أبواب: أحوال الإسناد الخبري, أحوال المسند إليه, أحوال السند, أحوال متعلقات الفعل, القصر, الإنشاء, الفصل والوصل, الإيجاز والإطناب والمساواة, غير أن البحث في هذا الكتاب خاص بالخمسة الأول:
ثم إن انحصار هذا العلم في الأبواب الثمانية من قبيل انحصار الكل في أجزائه، لا الكلي في جزئياته, وضابط الأمرين:
أن الأول: لا يصح فيه حمل الكل على كل جزء من أجزائه, كانحصار الجسم في الأعضاء، فلا يصح أن يحمل الجسم على كل عضو من أعضائه، فلا يقال: الرأس جسم، واليد جسم؛ لأن الجسم إنما يطلق على الأعضاء مجتمعة، لا على كل عضو.
وأن الثاني: يصح فيه حمل الكلي على كل جزئي من جزئياته كانحصار الكلمة في الاسم، والفعل، والحرف، فيصح أن تحمل الكلمة على كل واحد من هذه الثلاثة، فيقال: الاسم كلمة، والفعل كلمة، والحرف كلمة، فالكلي صادق على كل جزئي كما رأيت.
وما نحن فيه من القبيل الأول إذ لا يصدق على كل باب أنه علم المعاني، فلا يقال: أحوال الإسناد الخبري مثلا علم المعاني، أو القصر علم المعاني؛ ذلك لأن علم المعاني اسم لهذه الأبواب مجتمعة1.
__________
1 ينبغي إذًا أن يكون المراد بالعلم المنحصر في الأبواب الثمانية "القواعد والأصول" لأن الأبواب المنحصر فيها ألفاظ ضرورة أنها تراجم، والمنحصر في الألفاظ يجب أن يكون من قبيل الألفاظ, فإذا أريد بالعلم "الملكة" كما هو الراجح وجب أن يقدر مضاف، فيقال: وينحصر متعلق علم المعاني إذ إن متعلق العلم بمعنى الملكة هو القواعد والأصول, أو لا يقدر هذا المضاف، ويتركب الاستخدام بأن يجعل الضمير في "ينحصر" راجعا للعلم بمعنى القواعد ويستقيم الكلام.(4/9)
وجه انحصاره في هذه الأبواب:
إن الكلام إما خبر، أو إنشاء، وإذا لا بد من باب ينعقد لبيان ما يعرض للإنشاء من أحوال ستوافيك فيما بعد.
والخبر لا بد له من مسند إليه، ومسند، وإسناد, ولا بد لهذه الثلاثة من بيان أحوالها، فتحصل لنا ثلاثة أبواب, باب أحوال الإسناد الخبري، وباب أحوال المسند إليه، وباب أحوال المسند.
والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا، أو ما في معناه كالمصدر، واسم المفعول، والظرف، ونحو ذلك، فلا بد إذا من باب خامس يبين فيه أحوال متعلقات الفعل.
والإسناد: أما بقصر، أو بغير قصر، فلا بد إذًا من باب سادس يبحث فيه عن أحواله يسمى "باب القصر".
وكل جملة قرنت بأخرى, أما معطوف عليها، أو لا، فلا بد إذا من باب سابع يسمى "باب الفصل والوصل".
والكلام إما أن يكون أقل مما يتضمن من معنى، أو يكون أكثر منه لفائدة، أو مساويا له، فلا بد حينئذ من باب ثامن يسمى: "باب الإيجاز والإطناب والمساواة".(4/10)
تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء:
لكل كلام تام طرفان هما: المسند، والمسند إليه, فالطرفان في(4/10)
قولك: "علي كاتب" هما: الكتابة وعلي، وفي قولك: "اكتب يا علي" هما: الكتابة والفاعل المستتر، والإيجاب والسلب في ذلك سواء.
ولا بد للطرفين من رابط يربط بينهما يسمى "نسبة" فالنسبة هي تعلق أحد الطرفين بالآخر, إما على سبيل الحكم بأحدهما على الآخر -إيجابا أو سلبا- كما في الخبر، وإما على وجه الطلب كما في الإنشاء.
فالنسبة في قولك: "علي شاعر" هي تعلق الشعر بعلي من حيث ثبوته له، وفي قولك: "علي ليس بشاعر" هي تعلق الشعر بعلي من حيث سلبه عنه1، وفي نحو قولك: "اقرأ يا محمد" تعلق القراءة بمحمد من حيث طلب إيجادها منه، وفي نحو قولك: "هل قرأ محمد؟ " تعلق القراءة بمحمد من حيث طلب فهم حصولها منه وهكذا ...
أما ما قيل من أن النسبة هي: "الإيقاع والانتزاع" أي: إدراك أنها واقعة أو ليست بواقعة فتفسير بعيد عن الصواب لعدم شموله للنسب الإنشائية إذ لا يتأتى فيها ذلك كما سيأتي بيانه، وحينئذ فلا يصح تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء.
وهذه النسبة أنواع ثلاثة: كلامية، وذهنية، وخارجية, فالكلامية: تعلق أحد الطرفين بالآخر المفهوم من الكلام، والذهنية: تعلق أحد الطرفين بالآخر القائم بذهن المتكلم، والخارجية: تعلق أحد الطرفين بالآخر المفهوم من الخارج والواقع. فقولك: "علي بطل" يشتمل على النسب الثلاث، فثبوت البطولة لعلي باعتبار فهمه من الكلام يسمى "نسبة كلامية"، وثبوت البطولة له باعتبار قيامه بذهن المتكلم يسمى "نسبة ذهنية"، وثبوت البطولة له باعتبار حصوله في الخارج يسمى "نسبة خارجية"- ومثل النسبة الإيجابية في ذلك النسبة السلبية, كذلك قولك: "أقدم يا علي" فإن طلب الإقدام منه باعتبار فهمه من الكلام يسمى
__________
1 الإيجاب والسلب إنما يكونان في الخبر كما رأيت، ولا يتصف بهما الإنشاء؛ لأنهما من أنواع الحكم، والإنشاء ليس بحكم، بل هو إيجاد معنى بلفظ يقارنه في الوجود.(4/11)
نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بذهن المتكلم يسمى نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بالنفس، واتصافها به يسمى نسبة خارجية1.
وإذ علمت ذلك فالكلام باعتبار هذه النسبة نوعان- خبر وإنشاء، وقد وضح لك ذلك من الأمثلة المذكورة, وتحقيق الفرق بينهما من وجوه:
الأول: أن الخبر قول يحتمل الصدق والكذب لذاته أي: هو ما يصح أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب, فقولك: "علي شاعر" خبر إذ يحتمل في الواقع أن يكون شاعرا، فيكون الخبر صادقا، وألا يكون شاعرا فيكون الخبر كاذبا, وأما الإنشاء فقول لا يحتمل صدقا ولا كذبا لذاته أي: لا يجوز أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب, فقولك: "اكتب يا علي" إنشاء معناه: طلب الكتابة منه، ولا يتعلق بهذا الطلب صدق ولا كذب؛ لأنهما من خواص الصيغ الحاكية لنسب حاصلة.
الثاني: أن الخبر لا يتوقف حصول مدلوله على النطق به, فقولك: "محمود جواد" خبر لأن مدلوله، وهو ثبوت الجود له حاصل -سواء نطقت بهذا الخبر أو لا- أما الإنشاء: فمدلوله متوقف على حصوله على النطق بصيغة الطلب، فقولك: "أقبل يا سعيد" إنشاء لأن مدلوله وهو حصول الإقبال منه متوقف على النطق بهذا الطلب.
الثالث: أن مدلول الخبر -وهو ما يسمى بالنسبة الكلامية- يراد به أن يكون حكاية عن أمر حاصل في الواقع، وهو ما يسمى بالنسبة الخارجية، فقولك: "سعيد كريم" أو سعيد ليس بكريم" خبر لأنه قصد به أن يكون حكاية عن ثبوت الكرم لسعيد، أو عن عدم ثبوته له في الخارج بمعنى: أن في الواقع شيئا هو ثبوت الكرم لسعيد أو عدم ثبوته له، وقد قصد بهذا القول حكايته, أما الإنشاء فلا يقصد به أن يكون
__________
1 من هذا يعلم أن النسبة الخارجية في الإنشاء ما كان خارجا عن اللفظ كتعلق الإقدام بعلي القائم بالنفس على وجه الطلب بخلاف النسبة الخارجية في الخبر فإن المراد بها ما كان خارج الأعيان.(4/12)
حكاية عن أمر حاصل، وإنما يقصد به إيجاد أمر لم يحصل، فلفظ "اقرأ" مثلا لم يقصد به أن يكون حكاية عن قراءة حاصلة في الخارج، بل المقصود به طلب إحداث مدلوله، وهو إيجاد القراءة بهذا اللفظ بحيث لا يحصل هذا المعنى بدون النطق به.
على أنه إذا قصد بصيغة الإنشاء أن تكون حكاية للنسبة الخارجية التي هي الطلب القائم بالنفس كان الإنشاء خبرا مجازا، وصار معنى "اقرأ": أنا طالب القراءة، ولكن هذا القصد غير ملاحظ في النسب الإنشائية بخلاف النسب الخبرية لأنها -كما قلنا- حاكية للنسب الخارجية، فالمطابقة بين النسبتين في الخبرية مقصودة البتة.
ومن هنا يتبين أن للإنشاء كما للخبر نسبة خارجية تطابق الكلامية، أو لا تطابقها, أما في الخبر فظاهر، وأما في الإنشاء فبيانه أنك إذا قلت لآخر: "قم" فإن كان في نفسك أن تطلب قيامه، بأن كنت مريدا له حقيقة فقد تطابق النسبتان، وإن لم يكن في نفسك هذا الطلب بأن طلبته على غير إرادة لم تحصل المطابقة, غير أن المطابقة وعدمها في الخبر مقصودة له.
قال بعضهم: والتحقيق أن الإنشاء, وإن كانت له نسبة لكن لا خارج لها؛ لأن النسبة التي لها خارج هي التي تكون حاكية لهذا الخارج، ونسب الإنشاء ليست حاكية، بل موجدة، ولو كان لها خارج لزم أن يتصور فيه الصدق والكذب، واللازم باطل.
وقد عرفت من قريب أن لنسب الإنشاء خارجا هو الطلب النفسي، وأنها حاكية قطعا لهذا الطلب القائم بالنفس غير أن ذلك غير مقصود فيها، وهو محط الفرق بينها وبين النسب الخبرية.
تنبيه:
اعلم أن احتمال الخبر للصدق والكذب منظور فيه إلى ذات الجملة الخبرية بقطع النظر عن المخبر، أو الواقع: إذ لو نظرنا إلى ذلك لوجدنا بعض الأخبار مقطوعا بصدقه، لا يحتمل كذبا، وبعضها مقطوعا بكذبه،(4/13)
لا يحتمل صدقا، فالأول. كأخبار الله تعالى، وأقوال أنبيائه، وكالبديهيات مثل الكلم أعظم من الجزء، والواحد نصف الاثنين، ونحو: السماء فوقنا، والأرض تحتنا، إلى غير ذلك مما لا يحتمل الكذب, والثاني: كأقوال مسيلمة، وكنحو قولك الجهل نافع، والعلم ليس بنافع، وما أشبه ذلك مما لا يحتمل الصدق, فلأجل عد هذه الأقوال من أفراد الخبر المحتمل للصدق والكذب ينبغي أن ينظر فيها إلى ذات الجملة الخبرية، وأن يقطع النظر عن المخبر، أو عن الواقع.
كذلك: عدم احتمال الإنشاء للصدق والكذب منظور فيه إلى ذات الجملة الإنشائية، بغض النظر عما يستلزمها، وإلا فإن الجمل الإنشائية تستلزم جملا خبرية تحتمل الصدق والكذب، فقولك: "اقرأ يا محمد" يستلزم خبرا هو: أنا طالب منك القراءة، وقولك: "هل كتبت يا علي" يستتبع خبرا هو: أنا طالب فهم حصول الكتابة منك، وقولك: "ليت الشباب يدوم" يستدعي خبرا هو: أنا أتمنى دوام الشباب وهكذا ... فكل هذه الأقوال جمل خبرية محتملة للصدق والكذب هي وليدة الجمل الإنشائيةو فعدم احتمال الصيغ الإنشائية للصدق والكذب إذًا منظور فيه إلى ذات الصيغة، لا إلى ما تستلزمه من هذه الأخبار ولهذا زيد قوله: "لذاته".(4/14)
صدق الخبر وكذبه:
قدمنا لك أن لصيغة الخبر نسبة كلامية، وهي المفهومة من الكلام، ونسبة خارجية، وهي المفهومة من الخارج والواقع, فإذا قلت مثلا: "محمود مسافر، أو محمود ليس مسافرا" فإن ثبوت السفر له، أو عدم ثبوته المفهوم من هذه الصيغة نسبة كلامية، وهذا الثبوت، أو عدمه المفهوم من الواقع والخارج نسبة خارجية.
إذا علمت هذا فاعلم: أن صدق الخبر وكذبه يدوران حول هاتين النسبتين، فإن توافق النسبتان ثبوتا بأن قلت: "محمود مسافر" وهو(4/14)
في الواقع مسافر، أو توافقتا سلبا بأن قلت: "محمود ليس مسافرا" وهو في الواقع كذلك كان الخبر صادقا، وإن لم تتوافق النسبتان بأن قلت: "محمود مسافر" وهو في الواقع غير مسافر، أو العكس كان الخبر كاذبا -فالخبر إذًا محصور في الصدق والكذب ولا ثالث لهما- وهذا هو رأي الجمهور، وهو الراجح المعول عليه، وفي المسألة آراء أخرى، لا يتسع لها المقام، وليست من صميم الموضوع.(4/15)
اختبار:
1- فيم ينحصر علم المعاني، وما نوع انحصاره فيه, وما الفرق بين انحصار الكل في أجزائه, وانحصار الكلي في جزئياته؟
2- اذكر أنواع النسبة، وبين ذلك في مثال تختاره.
3- قسم الكلام باعتبار نسبته، واذكر ما تعرف من الفروق بين الخبر والإنشاء، مع التمثيل.
4- بين كيف كان كلام الله تعالى، أو كلام رسله عليهم السلام من قبيل الأخبار، مع أنه لا يحتمل كذبا.
5- بين السر في زيادة كلمة: "لذاته" في قولهم في بيان معنى الإنشاء: هو ما لا يحتمل الصدق والكذب لذاته.
6- ما معنى صدق الخبر وكذبه؟ وضح ذلك في مثال من عندك.
تمرين:
بين الطرفين, والنسبة بينهما بأنواعها الثلاثة في العبارات الآتية:
1- محمد علي مؤسس الدولة المصرية.
2- ما كان شوقي خطيبا.
3- تكلم يا غلام.
4- لا تنه عن خلق وتأتي مثله.(4/15)
5- هل أتاك حديث الغاشية؟
6- ليت الشباب يعود.
الجواب:
1- الطرفان هما: محمد علي ومؤسس الدولة، فتعلق التأسيس بمحمد علي هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من الكلام نسبة كلامية، وباعتبار قيامه بذهن المتكلم نسبة ذهنية، وباعتبار حصوله في الخارج نسبة خارجية.
2- الطرفان هما: شوقي والخطابة، وتعلق الخطابة به من حيث سلبها عنه هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من الكلام نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بالذهن نسبة ذهنية، وباعتبار حصوله في الخارج نسبة خارجية.
3- الطرفان هما: التكلم والفاعل المستتر وتعلق التكلم بالفاعل من حيث طلبه منه هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من الكلام نسبة كلامية، وباعتبار قيامه بذهن المتكلم نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بنفس المتكلم نسبة خارجية.
4- الطرفان هما: لا تنه، والفاعل المستتر، وتعلق النهي بالفاعل من حيث طلب عدم حصوله منه هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من الكلام نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بذهن المتكلم نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بنفس المتكلم، واتصافها به نسبة خارجية.
5- الطرفان هما: أتاك، وحديث الغاشية، وتعلق الإتيان بحديث الغاشية من حيث طلب فهم حصوله هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من الكلام نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بذهن المتكلم نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بنفس المتكلم نسبة خارجية.
6- الطرفان هما: "الشباب" و"يعود"، وتعلق العود بالشباب من حيث طلب حصوله على جهة التمني هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من(4/16)
الكلام نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بذهن المتكلم نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بنفس المتكلم نسبة خارجية.
تمرين على هذا السؤال يطلب الجواب عليه:
عنترة فارس عربي. زهير ليس بفارس. اقرأ باسم ربك الذي خلق. لا تقل أصلي وفصلي أبدا. أفاهم أنت؟ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. علي يقوم الليل. خالد لا يرهب العدا. أفق من غفلتك. لا تيئسوا من روح الله.(4/17)
الإسناد الخبري:
هو ضم1 كلمة، أو ما يجري مجراها إلى أخرى، أو ما يجري مجراها على وجه يفيد أن مفهوم2 إحداهما -وهو المحكوم به- ثابت، أو منفي عن مفهوم الآخرى -وهو المحكوم عليه- ويسمى المحكوم به مسندا، والمحكوم عليه مسندا إليه، وتسمى النسبة بينهما إسنادا.
فقولك: "حسان شاعر، أو حسان ليس بفارس" إسناد خبري إذ قد ضم فيه كلمة هي "شاعر" في المثال الأول" و"فارس" في الثاني إلى أخرى هي "حسان" فيهما على وجه أن مفهوم الشاعرية في الأول، والفروسية في الثاني ثابت لمفهوم "حسان" كما في المثال الأول، ومنفي عنه كما في المثال الثاني.
والمراد بما يجري مجرى الكلمة الجملة الواقعة موقع المفرد -مبتدأ كان، أو خبرا، أو فاعلا، أو نائب فاعل- وبهذا تكون صور طرفي الإسناد أربعا.
__________
1 أي: انضمام كلمة, أطلق المصدر وأريد الأثر الناشئ عنه وهو الانضمام؛ لأنه الذي يتصف به اللفظ.
2 المراد: المفهوم المطابقي أو التضمني للقطع بأن الثابت في نحو كتب محمد، أو محمد كاتب إنما هو الحدث الذي هو جزء مفهوم الفعل، أو اسم الفعل، وأن الثابت في نحو: الإنسان حيوان ناطق هو المفهوم المطابقي.(4/17)
الأولى: أن يكون الطرفان مفردين حقيقة مثل: "علي شجاع"، وانتصر خالد، وقضي الأمر".
الثانية: أن يكونا جملتين مثل: "لا إله إلا الله ينجو صاحبها من النار".
الثالثة: أن يكون المسند إليه مفردا حقيقة، والمسند جملة نحو: "حسان سلق الأعداء بحاد لسانه"، "وخالد هزم الجيش بقوة جنانه".
الرابعة: أن يكون المسند إليه جملة، والمسند مفردا حقيقة نحو: "لا إله إلا الله كنز من كنوز الجنة".(4/18)
بيان مواضع إليه والمسند
...
بيان مواضع المسند إليه والمسند:
لكل من المسند إليه، والمسند مواضع يعرف بها، وهاك بيانها:
مواضع المسند إليه هي:
1- فاعل الفعل التام، أو شبهة نحو قولك: "حضر محمد الكريم خلقه" فكل من "محمد" و"خلقه" مسند إليه؛ لأن الأول فاعل للفعل التام: وهو "حضر"، والثاني فاعل للشبيه بالفعل، وهو "الكريم".
2- نائب الفاعل كلفظ "زيد" من قولك: "ظلم زيد" بالبناء للمجهول.
3- المبتدأ الذي له خبر كلفظ "الحلم" من قولك: "الحلم محمود".
4- ما أصله المبتدأ كأسماء الأدوات الناسخة كلفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ، وكلفظ "العلم" في قولك: إن العلم لمفيد، وكالمفعول الأول لظن وأخواتها، والمفعول الثاني لأرى وأخواتها "كمحمد" من قولك: "ظننت محمدا قادما"، و"كالصبر" من قولك: "أريتك الصبر جميلا".(4/18)
ومواضع المسند هي:
1- الفعل التام مثل: قولك: حضر الأمير، فحفلت به البلاد. فكل من "حضر وحفلت" فعل تام.
2- اسم الفعل مثل "هيهات الشباب"، و"شتان ما بين الثرى والثريا".
3- المبتدأ المكتفي بمرفوعه عن الخبر مثل: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} .
4- خبر المبتدأ كلفظ "ناجح" من قولك لآخر: أخوك ناجح.
5- ما أصله خبر المبتدأ كأخبار الأدوات الناسخة كالخبر في قولك: "كان معاوية حليما"، وفي قولك: "إن الإسلام لحق"، وكالمفعول الثاني لظن وأخواتها، والمفعول الثالث لأرى وأخواتها كلفظ: "ذكيا" من قولك: "ظننت عليا ذكيا" وكلفظ "جميلا" من قولك: "أريتك الصبر جميلا".
6- المصدر النائب عن فعل الأمر كلفظ "سعيا" من قولك: "سعيا في الخير"، ومثله قولك: رفقا بالضعفاء، وصبرا على البأساء.(4/19)
اختبار:
1- عرف الإسناد الخبري ثم وضح التعريف في مثال تختاره، وبين المراد بقوله: أوما يجري مجراها.
2- اذكر صور طرفي الإسناد الخبري، ومثل لكل بمثال من عندك.
3- بين مواضع المسند إليه، والمسند, مع التمثيل لهما من إنشائك.
4- بين في العبارات الآتية الجمل الخبرية والإنشائية، مع بيان المسند والمسند إليه في كل منها:
لا تكن عجلا فيما تؤمله. إن للشباب أملا، إن الشباب جنون برؤه الكبر، لا يغلب من نصره الله. أمسيء أنت أباك؟. أتظن الله غافلا عنك؟. قد يلام البريء من غير ذنب. لا تسع فيما يضرك. صبرا جميلا. شتان ما بينهما. وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.(4/19)
تؤخذ اسكنر
تمرين يطلب جوابه:
عين فيما يأتي الجمل الخبرية والإنشائية, وميز ركني كل جملة:
قد يدرك المرأ ما يتمنى, ستار البغي مهتوك, لا تظن الناس طبعا واحدا,(4/20)
لا تنه عن خلق أنت آتيه. إنما يعرف الفضل من الناس ذووه. إنما يجزي المرء على قدر عمله. وكان الله قويا عزيزا. برا بالوالدين. أحسن إلى الفقراء. أراغب أنت عن الخير؟ هيهات أن يعود الشباب. على قدر المغارس يكون اجتناء الغارس. زر غبا تزدد حبا. في كل شيء عبرة لمن عقل. لا تغرنكم الحياة الدنيا.(4/21)
ما يقصده المخبر بخبره:
إذا قصدت أن تخبر إنسانا بخبر ما، وتعلمه إياه فلا يخلو حالك من أمرين:
الأول: أن تقصد إفادة المخاطب الحكم1 الذي تضمنته الجملة الخبرية، كما إذا قلت مخاطبا إنسانا يجهل قدوم أبيه: "قدم أبوك اليوم" فأنت بهذا الخبر تريد أن تفيد مخاطبك الحكم الذي تضمنته هذه العبارة، وهو قدوم أبيه، ويسمى هذا الحكم "فائدة الخبر" لأنه مستفاد من الخبر.
الثاني: أن تقصد إفادة المخاطب أنك عالم2 بالحكم الذي دلت عليه العبارة كالمثال المتقدم إذا كان المخاطب يعلم قدوم أبيه، وأنت تعلم منه ذلك، فأنت لا تريد بإخباره في هذه الحال إفادة الحكم الذي تضمنه الخبر وهو قدوم أبيه؛ لأنه عالم به، إنما تريد أن تفيده: أنك عالم بقدوم أبيه.
ويسمى علمك بهذا الحكم "لازم الفائدة" أي: الأمر الذي تستلزمه
__________
1 المراد بالحكم المقصود إفادته وقوع النسبة في الخارج كما في القضية الموجبة، أو عدم وقوعها كما في القضية السالبة, فإذا قال لك شخص: قام محمد، أو قال لك: لم يقم محمد كان قصده إفادتك أن ثبوت القيام لمحمد أو نفيه عنه قد تحقق في الخارج, وليس المراد بالحكم الإيقاع، والانتزاع إذ إن معناهما -على ما سبق- إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة، ولا ريب أن ليس قصد المتكلم إفادة المخاطب أنه أدرك أن القيام ثابت لمحمد في الواقع أو غير ثابت.
2 المراد بالعلم هنا التصديق بالنسبة جزما أو ظنا، لا مجرد التصور.(4/21)
الفائدة وهي ذلك الحكم الذي تضمنه الخبر -على ما سبق- وإنما سمي بهذا؛ لأن كل من أفدته حكما لزم أن تفيده أيضا أنك عالم به1، من غير عكس أي: ليس كل من أفدته أنك عالم بالحكم الذي تضمنه الخبر أفدته هذا الحكم نفسه لجواز أن يكون عالما به قبل الإخبار, لهذا كان الحكم الذي تضمنه الخبر هو الملزوم، وعلمك بهذا الحكم هو اللازم.
قيل: إن فائدة الخبر هي الحكم المستفاد منه -على ما سبق- وهذا الحكم قد يكون معلوما للمخاطب قبل الإخبار -كما علمت- فما وجه تسميته فائدة الخبر حينئذ؟ أجيب: أن ليس المراد بالفائدة ما يستفاد من الخبر فعلا، بل ما من شأنه أن يقصد بالخبر، ويستفاد منه وإن لم يستفد بالفعل.
ملحوظة: إن قصد المخبر إفادة وقوع النسبة لا يستلزم تحققها في الخارج. فإذا قلت لآخر: "محمد كريم"، أو قلت: "محمد ليس كريما" دل على ذلك ثبوت الكرم لمحمد في الواقع، أو عدم ثبوته له في الواقع، غير أن دلالته على ذلك لا تستلزم أن يكون الكرم أو عدمه متحققا في الواقع حقيقة لجواز أن يكون الخبر كاذبا، وإذًا فعدم تحقق النسبة في الواقع في القضية الموجبة، أو تحققها في الواقع في القضية السالبة احتمال عقلي نشأ عن كون دلالة الخبر على معناه وضعية، يجوز فيها تخلف الدال عن المدلول.
تنبيه:
علم مما تقدم أن القصد من إلقاء الخبر بمعنى الإعلام به, إما إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة الخبرية، أو إفادة أن المتكلم عالم بهذا الحكم، وهذا هو الغالب في استعمال الخبر.
__________
1 أي: فليس التلازم بين ذات الحكم وذات العلم إذ لا تلازم بينهما فقد يتحقق الحكم ولا يعتقده المتكلم، وإنما التلازم بينهما باعتبار الإفادة. بمعنى أن إفادة الأول ملزومة لإفادة الثاني, ومن هنا يعلم أن ليس المراد بالعلم في هذه الملازمة خصوص التصديق بالحكم تصديقا جازما، بل المراد به مجرد حصول صورة الحكم في ذهن المخبر, سواء كان معتقدا له اعتقادا جازما أو غير جازم، أو غير معتقد له أصلا.(4/22)
وقد يكون الحامل في الأخبار بواعث أخرى نذكر منها ما يلي:
1- إظهار التحسر والتحزن كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فغير معقول أن تريد أم مريم الإعلام بمضمون هذا الخبر، أو بلازمه لأن المخاطب هو المولى سبحانه، وهو العالم بخفايا الأمور، وإنما تريد أن تظهر تحزنها وتحسرها على خيبة رجائها، وفوات ما كانت تأمل، وهو أن تلد ذكرا لتهبه لخدمة بيت المقدس, ومن هذا يعلم أن استفادة معنى التحسر من الآية إنما جاء من طريق الإشارة والتلويح، وليس اللفظ مستعملا فيه كما فهم بعضهم1، والإلزام أن تكون الآية إنشاء في المعنى، فلا تصلح شاهدا لما نحن بصدده من التمثيل بها لما هو خبر لم يرد به إفادة المخاطب الحكم، ولا لازمه.
2- إظهار الضعف كما في قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} فزكريا عليه السلام لا يريد بهذا القول أن يخبر الله بحاله إذ يعلم أن الله لا يخفى عليه شيء، ولكنه قصد إظهار ضعفه، وأنه بلغ من الوهن والكبر غاية لا أمل له بعدها في الحياة.
3- التوبيخ كما في قولك لمسلم تارك الصلاة: "الصلاة ركن من أركان الإسلام" فغير معقول أنك تريد إفادته مضمون هذا الخبر، أو إفادته أنك عالم به، فإن ذلك مما لا يخفى على أحد من المسلمين، فلا بد إذًا أن يكون الحامل على هذا الإخبار غرضا آخر هو توبيخه على تركه الصلاة، مع قيام الدلائل القاطعة على فرضيتها, إلى غير ذلك من الأخبار المستعملة في معانيها، ولم يقصد بها الإفادة كما هو الأصل فيها.
__________
1 فهم هذا القائل أن الكلام مستعمل في معنى التحسر والتحزن مجازا مرسلا من استعمال المركب في غير ما وضع له لعلاقة اللزوم, إذ يلزم من الإخبار بوقوع ضد ما يرجى إظهار التحسر والتحزن على فواته, وقد عرفت الرد عليه.(4/23)
اختبار:
1- ما هو الغرض الأصلي من إلقاء الخبر؟ وما المراد بالحكم المقصود إفادته المخاطب، مثل لما تقول.
2- ما وجه تسمية علم المتكلم بالحكم لازم الفائدة، أو لازم الحكم؟، وهلا صح العكس، فيجعل الحكم المراد إفادته هو اللازم، ويجعل العلم به هو الملزوم؟ وما المراد بالعلم المقصود إفادته المخاطب, التصديق، أم مجرد التصور؟ بين ذلك بالمثال.
3- اذكر أربعة من الأغراض التي يخرج فيها الخبر عن وضعه، مع التمثيل.
4- بين الغرض من الخبر فيما يأتي:
هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثق1
أنت ربحت كذا من المال "لمن يعلم ذلك". احترام الأم واجب. أخوك نجح في مسعاه لمن لا يعلم ذلك. كل امرئ بما كسب رهين. من غربل الناس نخلوه. {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} .
إلهي عبدك العاصي أتاكا ... مقرا بالذنوب وقد دعاكا
جاء الهناء وولى الشقاء. فاز المجد. وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون. الشمس طالعة, للعاثر. قال الشاعر:
قومي همو قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي2
__________
1 قاله جعفر بن علبة الحارثي وهو سجين بمكة, وكان قد قتل رجلا من بني عقيل فسجن فيه, وكان يومئذ بمكة ركب من اليمن فيه محبوبته, وقد عزم هذا الركب على الرحيل فأنشأ هذا البيت يتحسر وهو من قصيدة أنشأها في هذا المعنى.
2 قاله الحرث بن وعلة الجرمي وهو شاعر جاهلي: يقول: قومي يا أميمة هم الذين فجعوني بقتل أخي, فإن حاولت الانتقام منهم عاد ذلك علي بالضرر؛ لأن عز الرجل بعشيرته.(4/24)
اسكنر(4/25)
تمرين على هذا السؤال يطلب جوابه:
ظهرت نتيجة الامتحان "لمن لا يعلم ذلك". {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . جاء الظريف وذهب الثقيل. نجح ابنك في الامتحان "لمن يعلم هذا النبأ".
رب إني لا أستطيع اصطبارا ... فاعف عني يا من يقبل العثارا
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} . {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . رب إني
قد تخطاني التوفيق. لفاعل الخير الجزاء الأوفى. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} . ذهب الشباب فما له من عودة.(4/26)
أحوال الإسناد الخبري:
للإسناد الخبري أحوال تعرض له، وهي أربعة: التوكيد، وتركه، والحقيقة العقلية، والمجاز العقلي.
الأول والثاني: التوكيد، وتركه. تقدم أن المقصود الأصلي من الإخبار إفادة المخاطب مضمون الخبر، أو لازمه، فينبغي للمتكلم إذًا أن يكون كلامه على قدر الحاجة، فلا يزيد ولا ينقص في عبارته حذرا عن اللغو، فيضع نفسه من المخاطب موضع الطبيب الماهر من المريض، يشخص حاله، ويعطيها ما يناسبها, والمخاطب إزاء هذه الحال أحد ثلاثة:
1- أن يكون خالي الذهن من الحكم1 ومن التردد فيه، بمعنى أنه لم يسبق له علم بمضمون الخبر على جهة التصديق به أو التردد فيه.
__________
1 فهم بعضهم: أن معنى خلو الذهن عن الحكم عدم التصديق به, أو عدم التصور له ومن المعلوم أن خلو الذهن عن تصور الحكم لا يتأتى معه التردد فيه؛ لأن التردد في الشيء فرع عن تصوره وإذًا فلا حاجة إلى قوله: ومن التردد فيه, وأجيب بأن المراد بخلو الذهن عن الحكم عدم الإذعان والتصديق به؛ لأن معنى خلو الذهن عنه عدم حصوله فيه، وحصوله فيه إنما هو الإذعان به فيكون المعنى: خلو الذهن عن الإذعان به، وخلو الذهن عما ذكر لا يستلزم خلوه عن التردد فيه فقد يوجد التردد في الشيء مع خلو الذهن عن التصديق به.(4/26)
ومثل هذا المخاطب يلقى إليه الخبر ساذجا غفلا من أدوات التأكيد لعدم الحاجة إليه لتمكن معنى الخبر في ذهنه إذ وجده خاليا، وخلو الذهن عن الشيء يوجب استقراره فيه، قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فإن كان لإنسان أخ تقدم إلى الامتحان فنجح فيه، ولم يصل إلى علمه نبأ نجاحه، فأردت إخباره بذلك قلت هكذا, "نجح أخوك في الامتحان" مجردا من أي أداة من أدوات التأكيد1,ويسمى هذا الضرب من الخطاب "ابتدائيا" لأنه لم يسبق بطلب أو إنكار.
2- أن يكون مترددا في الحكم المراد إفادته إياه، طالبا له2 أي: طالبا بلسان حاله وقوفه على جلية الأمر إذ إن المتردد في الشيء عادة يكون متشوقا إليه، طالبا في نفسه معرفته ليزول تردده، ويستقر على أحد الأمرين المتردد فيهما, ومثل هذا المخاطب يستحسن أن يؤكد له الخبر بأداة توكيد واحدة محوا لهذا التردد وتمكينا للحكم في ذهنه -سواء استوى لديه طرفا الإثبات والنفي، أو كان لأحدهما راجحية إلى حد ما- وهذا هو مذهب الجمهور.
أما رأي الإمام عبد القاهر فإن المستحسن له التأكيد عنده إنما هو المتردد الذي يرجح أحد الطرفين المخالف لرأيك فكأنه ينكر الطرف الآخر، ولتحويله عن هذا الطرف الغالب عنده كان إلى التأكيد في حاجة هي أشبه بحاجة المنكر إليه, وليس كذلك شأن الشاك الذي استوى عنده الطرفان، فإن أدنى إخبار يمحو شكه، ويزيل تردده إذ لم يكن له ميل
__________
1 التأكيد المحظور هنا هو المنصب على النسبة، أما التأكيد الموجه إلى الطرفين كالتأكيد اللفظي: أو المعنوي فلا مانع منه نحو: على علي قائم، أو على نفسه قائم.
2 المراد بالحكم المقصود إفادته وقوع النسبة أو عدم وقوعها, والضمير في "له" عائد إليه بمعنى العلم بوقوع النسبة أو عدم وقوعها أي: التصديق بذلك ففي الضمير شبه استخدام.(4/27)
خاص لأحد الجانبين، فلا داعي لتأكيد الحكم له، وشأنه في ذلك شأن خالي الذهن -تلك هي- على ما أعلم وجهة نظر الإمام عبد القاهر1.
فإن كان المخاطب في المثال السابق مترددا في الحكم أي: بين فوز أخيه، وعدم فوزه، بأن بلغه نبأ فوزه، أو إخفاقه ممن لا يثق بخبره حسن منك أن تؤكد له الخبر ليطمئن إلى أحد الأمرين، فتقول له: "إن أخاك فائز في الامتحان" سواء كان المخاطب شاكا أو ظانا على مذهب الجمهور.
وعند الإمام لا يقال ذلك إلا لمن له ميل أكثر إلى أحد الجانبين، وهو عدم الفوز كما سبق بيانه، ويتضح هذا الرأي في قول أبي نواس:
عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في اليأس
فإن مثل هذا الخبر مما يبعد في الظن مثله لجزيان العادة على خلافه, إذ إن مجرى العرف والعادة ألا يدع الناس الرجاء والطمع، ويحملوا أنفسهم على اليأس ويجعلوا فيه الغنى كما ادعى. فالرأي الغالب إذا على خلاف هذا، ولذلك قالوا: يحسن موقع "إن" المؤكدة في مثل هذا الخبر ويسمى هذا الضرب: "طلبيا" لأن المخاطب -كما قلنا- طالب وقوفه على حقيقة الأمر.
3- أن يكون منكرا للحكم المراد إخباره به معتقدا غيره, ومثل هذا المخاطب يجب2 تأكيد الخبر له تأكيدا يتناسب مع إنكاره قوة وضعفا3.
__________
1انظر على أي الرأيين يمكن أن يحمل قوله تعالى مخاطبا نوحا عليه السلام: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} مع ما نعلمه من أن نوحا لم يكن ظانا لعدم غرقهم بل كان مترددا.
2 التأكيد الواجب والمستحسن في نظر البلغاء سواء؛ لأن المستحسن عندهم واجب, غير أن الفرق بينهما من جهة أن اللوم على ترك المستحسن أخف نوعا من اللوم على ترك الواجب.
3 أي: لا عددا فقد يطلب للإنكار الواحد تأكيدان مثلا لقوته وللإنكارين ثلاثة تأكيدات لقوتهما، وللثلاثة أربعة تأكيدات كما سيأتي في الآية.(4/28)
فإن كان المخاطب في المثال السابق منكرا لنجاح أخيه، معتقدا إخفاقه لسبب ما وجب عليك أن تؤكد له الخبر محوا لهذا الإنكار، فتقول: "إن أخاك لناجح" فإن لم يقتنع المخاطب، وأصر على إنكاره زدته تأكيدا1. حتى يمحي هذا الإنكار, ومنه قوله تعالى حكاية عن رسل عيسى عليه السلام إذ كذبوا2 في المرة الأولى: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} مؤكدا بإن، واسمية الجملة3، وإذ كذبوا في المرة الثانية قال: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} مؤكدا بالقسم4، وإن، واللام، واسمية الجملة لإمعان المخاطبين في الإنكار إذ قالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} وسمي هذا الضرب إنكاريا؛ لأنه مسبوق بإنكار, وهكذا تختلف الأساليب باختلاف المقاصد، ويتنوع الكلام حسبما يقتضيه المقام.
وقد يخفى على بعض ذوي البصر ما في اللغة العربية من خواص ودقائق، فيقع في حيرة وارتباك حتى يقيض الله له بعض من سبروا غورها، ووقفوا على أسرارها، فيحسر اللثام عن وجه الحقيقة، ويداوي
__________
1 مؤكدات الحكم كثيرة منها: إن المكسورة، والقسم، ونونا التوكيد، ولام الابتداء، واسمية الجملة، وتكريرها، وحروف التنبيه، وضمير الفصل، وقد التي للتحقيق، وأداة الحصر، وغير ذلك.
2 عبر بصيغة الجمع مع أن المكذب في المرة الأولى اثنان بدليل قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} ؛ لأن تكذيب الاثنين تكذيب للثلاثة, إذ إن ما جاء به الثالث عين ما جاء به الاثنان.
3 أي: كونها اسمية وليس المعنى صيرورتها وجعلها اسمية, إذ لا يشترط في التأكيد بها كونها معدولا بها إلى الاسمية وكما فهم, ثم إن الجملة الاسمية لا تفيد التأكيد إلا إذا اعتبرت مؤكدة بأن قصد التأكيد بها، وقيل لا تفيد التأكيد وحدها، بل تفيده مع مؤكد آخر.
4 وهو قوله {رَبُّنَا يَعْلَمُ} فقد ذكروا أنه جار مجرى القسم في التأكيد كشهد الله وعلم الله.(4/29)
حيرته بما يثير إعجابه1.
ثم إن الجري على هذا النحو في الخطاب من خلو الكلام من التأكيد لخالي الذهن، واستحسان التأكيد للمتردد، ووجوبه للمنكر هو ما يتطلبه ظاهر حال المخاطب -وحينئذ ينبغي للمتكلم أن يراعي في خطابه ما يبدو من حال مخاطبه ليكون كلامه مطابقا- ويسمى الجري على هذا النحو إخراجا للكلام على مقتضى ظاهر الحال.
إذا علمت هذا فاعلم أن المتكلم قد يغض النظر عن ظاهر حال المخاطب، ويعتبر فيه أمرا آخر غير ما يبدو له من حاله لسبب ما، ويخاطبه على هذا الاعتبار، والجري على هذا النحو يسمى:
__________
1 من ذلك ما روي أن أبا إسحاق الكندي ركب إلى أبي العباس المبرد يسأله: إني لأجد في كلام العرب حشوا. فقال أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجدهم يقولون: عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله لقائم، فالألفاظ مختلفة والمعنى واحد. فأجاب أبو العباس: بل المعاني مختلفة، فالأول إخبار عن قيامه، والثاني جواب عن سؤال سائل، والثالث جواب عن إنكار منكر، فقد اختلفت الألفاظ لاختلاف المعاني فما أحار الكندي جوابا.(4/30)
إخراج الكلام على غير مقتضى الظاهر:
وذلك إنما يكون حيث ينزل الشيء منزلة غيره, فمن ذلك:
1- تنزيل العالم بالحكم، أو بلازمه منزلة الجاهل بهما لعدم جريه على مقتضى علمه، فإن من لا يعمل بمقتضى علمه هو والجاهل سواء.
مثال العالم بالحكم المنزل منزلة الجاهل به قولك للمسلم التارك للصلاة "الصلاة واجبة" فهو قطعا يعلم وجوبها بحكم إسلامه، فالإخبار حينئذ خروج بالكلام عن مقتضى الظاهر, إذ مقتضى الظاهر الكف عن إخباره لعلمه بالحكم لكن نزل علمه به منزلة الجهل به لعدم جريه على موجب علمه, إذ لو كان عالما حقا بوجوب الصلاة ما تركها.
ومثال العالم بلازم الحكم المنزل منزلة الجاهل به قولك: "ضربت(4/30)
ابنى" بتاء الخطاب لمخاطب يعلم أنك تعرف أنه اعتدى على ابنك بالضرب، لكنه يناجي غيره بضربه إياه. فالمخاطب إذًا يعلم بلازم الحكم، فالإخبار حينئذ خروج بالكلام عن مقتضى الظاهر إذ مقتضاه ألا يخبر بما هو عالم به, لكن نزل علمه هذا منزلة الجهل لعدم جريه على مقتضى علمه إذ لو كان عالما حقا بأنك تعلم ما صنعه في ابنك ما ناجى غيره بما فعله, فهو لما أسر إلى غيره بضرب ابنك صار كأنه يخفي عنك ذلك، وكأنه يجهل أنك عالم بما كان منه1.
ونظير ما ذكرنا في تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به قوله تعالى يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: {وَلَقَدْ 2 عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بيان ذلك أن عجز الآية في بادئ الرأي يتنافى مع صدرها ذلك: أن معنى الآية: والله لقد علم اليهود أن من آثر كتاب السحر على كتاب الله ما له في ثواب الله من نصيب، ووالله لبئس ما باعوا به سعادتهم وحظوظهم لو كانوا يعلمون سوء مغبة ما فعلوا، فأنت ترى أن العلم الواقع بعد "لو"
__________
1 إنما جاز تنزيل العالم منزلة الجاهل عند عدم القيام بموجب العلم تنديدا به، وتقبيحا لحاله لأنه إذا كان عالما بالشيء ولم يعمل بموجب علمه، ثم أخبر به كان في إلقاء الخبر إليه إشارة إلى أنه هو والجاهل سواء وفي هذا من التوبيخ ما لا يخفى.
2 اللام موطئة للقسم، والضمير في {عَلِمُوا} لليهود واللام في {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} ابتدائية، وضمير {اشْتَرَاهُ} عائد على كتاب السحر والشعوذة، والمراد بالاشتراء: الاختيار والاستبدال، و {مَنِ} مبتدأ، وجملة {اشْتَرَاهُ} صلة، وقوله: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} جملة مركبة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبر {مَنِ} ، وجملة "من اشتراه إلخ" سادة مسد مفعولي "علم" لتعليقه بلام الابتداء، وجملة "ولبئس إلخ" معطوفة أما على جملتي القسم والجواب فيقدر فيها قسم, وتكون اللام في لبئس موطئة له، وأما معطوفة على جملة الجواب وحدها فلا يقدر فيها قسم وتكون اللام في لبئس موطئة للقسم الأول كاللام الأولى و"لو" شرطية ومفعول "يعلمون" محذوف أي: لو كانوا يعلمون مذمومية الشراء، أو ينزل الفعل منزلة اللازم أي: لو كانوا من أهل العلم وجواب "لو" محذوف تقديره "لامتنعوا".(4/31)
منفي بها؛ لأنها حرف امتناع، وقد أثبت ذلك العلم لهم في صدر الآية، وهذا بحسب ظاهره تناف، ولأجل التحلل من هذا التنافي، والتوفيق بين ثبوت العلم لهم أولا، ونفيه عنهم ثانيا نزل العلم المثبت لهم منزلة عدمه لعدم جريهم على موجبه إذ لو علموا حقا سوء عاقبة ما فعلوا من إيثارهم كتاب السحر على كتاب الله لأقلعوا عنه.
وإنما كانت الآية نظيرا لما نحن بصدده، وليست مثالا له؛ لأنها ليست من قبيل تنزيل العالم بالفائدة، أو لازمها منزلة الجاهل بهما؛ لأن اليهود ليسوا مخاطبين بالآية، ولم يقصد إعلامهم بها، منزلين منزلة الجاهلين وإنما المخاطب بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كما قدمنا، وهم ليسوا عالمين بفائدة الخبر1.
2- تنزيل خالي الذهن منزلة المتردد, وذلك إنما يكون حيث يقدم له كلام يلوح بجنس الخبر، ويشير إليه كأن يأتي إليك رجل يتشفع إليك في ابن لك غضبت عليه لسبب ما، فتقول له: "لا تحدثني في شأن هذا الولد العاق إنه مطرود من منزلي"، فقولك: "إنه مطرود" هو الخبر، وقد ألقي لخالي الذهن مؤكدا تنزيلا له منزلة المتردد في الحكم، الطالب لمعرفته.
ذلك لأنه قدم له كلام يشعر بجنس هذا الحكم، وهو قولك أولا: "لا تحدثني في شأن هذا العاق" فإن هذا القول يشعر المخاطب أن المتشفع فيه قد استحق العقاب، وصار في مقام المتردد في نوع هذا العقاب أهو ضرب، أم طرد، أم حرمان من كذا، أم نحو ذلك من أنواع العقاب؟ وكأنه يطلب معرفته لهذا نزل منزلة المتردد، وخوطب خطابه, فخلوا الذهن هو ظاهر حال المخاطب، وهو أمر ثابت فيه متحقق يقتضي
__________
1 قد ينزل وجود الشيء منزلة عدمه كما في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فقد نزل الرمي منه -صلى الله عليه وسلم- منزلة العدم باعتبار ما ترتب عليه من الآثار العجيبة التي لا تترتب على فعل غيره من سائر البشر عادة، وهي إصابة جميع الكفار بالتراب في أعينهم، ولهذا نفي عنه بقوله: وما رميت، ثم أثبت له ثانيا بالنظر إلى الظاهر.(4/32)
أن يلقى إليه الخبر خلوا من التأكيد, لكن المتكلم صرف النظر عن هذا الظاهر المتحقق، واعتبر في المخاطب أمرا آخر غير متحقق فيه، وذلك هو التردد لما قدم له من الكلام الملوح للخبر، وعامله في الخطاب معاملة المتردد, ومثله قوله تعالى خطابا لنوح عليه السلام: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} فقوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} مشعر بأن سيحل بقومه العقاب1، فصار نوح عليه السلام في مقام المتردد في نوع هذا العقاب لهذا نزل منزلة المتردد، وخوطب خطابه.
3- تنزيل العالم بالحكم منزلة المنكر إذا ظهر2 عليه شيء من أمارات الإنكار3 وحينئذ يؤكد له الكلام كما يؤكد للمنكر حقيقة كما إذا كان المخاطب مسلما تاركا للصلاة، أو معاقرا للخمر، فتقول له مؤكدا: "إن الصلاة لواجبة، أو إن الخمر لحرام"، فالمخاطب بحكم إسلامه يعلم قطعا بوجوب الصلاة، كما يعلم بحرمة الخمر، ولا ينكر ذلك، لكن تركه للصلاة، أو معاقرته للخمر جعله في منزلة المنكر ذلك إذ لو كان يؤمن حقا بوجوب الصلاة، أو بحرمة الخمر لما خالف أمر الله فيهما، لهذا خوطب خطاب المنكر خروجا بالكلام عن مقتضى ظاهر حاله -ومنه قول حجل4 بن نضلة القيسي.
__________
1 أي: مشعر بجنس الخبر وهو مطلق عقاب، ولا إشعار فيه بخصوص الخبر الذي هو الإغراق نعم إذا لاحظنا ضميمة قوله قبل ذلك: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا, كان فيه إشعار بخصوص هذا العقاب.
2 أو كان الحكم بعيدا والمخاطب سيئ الظن بالمتكلم، أو أن المتكلم يعرف من المخاطب أنه لا يقبله، أو غير ذلك من الأسباب التي تستدعي التأكيد.
3 أي: في زعم المتكلم لا الأمارات الموجبة لظن الإنكار وإلا كان التأكيد حقيقيا لا تنزيليا.
4 بفتح الحاء والجيم وهذا لقبه واسمه أحمد بن عمرو بن عبد القيس: نضلة: بفتح فسكون اسم أمه.(4/33)
جاء شقيق عارضا رمحه ... إن بني عمك فيم رماح1
فشقيق هذا لا ينكر أن في بني عمه رماحا، بل إنه ليعلم ذلك بحكم الجوار، أو بحكم الخصومة القائمة بين الطرفين، لكن مجيئوه على هذه الصورة، واضعا رمحه عرضا من غير تهيؤ واستعداد، شأن الصلف، المزهو بنفسه، المدل بقوته جعله في منزلة المنكر أن في عمه من يستطيع نزاله في ميدان القتال، إذ لو كان معترفا بذلك لجاء على هيئة المستعد للقائهم، المتهيئ لقتالهم2.
فعدم الإنكار فيما مثلنا "أولا وثانيا" ظاهر حال المخاطب، وهو أمر ثابت فيه ووصف له في الواقع يقتضي أن يلقي إليه الكلام خلوا من التأكيد، بل يقتضي ألا يلقي إليه الخبر أصلا لعلمه بالحكم الذي تضمنه، لكن المتكلم غض النظر عن هذا الظاهر، واعتبر في المخاطب أمرا آخر ليس متحققا فيه، ولا وصفا له هو "الإنكار" لما بدا عليه من أماراته، وخوطب خطاب المنكر حقيقة على غير ما يقتضيه ظاهر حاله كما تراه في البيت، وفي المثال قبله.
4- تنزيل المتردد في الحكم منزلة المنكر كما في قولك: "إن أخاك لناجح" لمن يتردد في نجاح أخيه، ولكنه يرجح عدم نجاحه، فهذا القول خبر وقد ألقي للمتردد مؤكدا تأكيدا يناسب المنكر للحكم تنزيلا له منزلته -ذلك أنه لما غلب على رأيه عدم نجاح أخيه صار بمثابة المنكر لنجاحه، واستحق أن ينزل منزلة المنكر في الخطاب- فالتردد حال ظاهرة
__________
1 عارضا رمحه أي: واضعا رمحه وهو راكب على فخذيه يكون عرضه جهة العدو, وإنما سماهم بني عم باعتبار أنهم جميعا من فصيلة العرب وإن تعددت قبائلهم، ولا يبعد أن يكون بين شقيق وهؤلاء القوم وشائج قربى.
2 في الشطر الثاني من البيت التفات من الغيبة إلى الخطاب وفي هذا تهكم وسخرية بشقيق ورمي له بالنزق وخرق الرأي إذ لو علم بعدة بني عمه ما اتجه إليهم بل لم تقو يده على حمل السلاح لضعف بنائه؛ ولأنه لم يألف هذه المواقف وكأنه يخاف عليه أن يداس بالقوائم كما يخاف على الصبيان.(4/34)
للمخاطب، وهي وصف ثابت له حقيقة، يقتضي أن يلقى إليه الخبر مؤكدا تأكيدا يناسبه، ولكن غض النظر عن هذه الحال الظاهرة، واعتبر فيه أمر آخر ليس وصفا له في الواقع هو "الإنكار" وخوطب خطاب المنكر.
5- تنزيل المنكر منزلة المتردد كما في قولك: "إن الأدب نافع" لمن ينكر نفع الأدب، ولكن إنكاره ضعيف يزول بأدنى تأكيد فهذا القول خبر، وقد ألقى للمنكر مؤكدا تأكيدا يلائم المتردد في الحكم تنزيلا له منزلته بسبب ضعف إنكاره حتى كاد يكون مترددا لا منكرا, فالإنكار حال ظاهرة في المخاطب، وهي أمر ثابت فيه حقيقة, يقتضي أن يخاطب خطاب المنكر، فيؤكد له الخبر تأكيدا يتناسب مع إنكاره، لكن صرف النظر عن هذه الحال الظاهرة، وفرض فيه أمر آخر غير متحقق فيه هو "التردد" وخوطب خطابه1.
6- تنزيل المنكر منزلة خالي الذهن إذا كان الدليل على غير ما يعتقد واضحا، بحيث لو استطاع التأمل فيه لارتدع عن إنكاره كما في قوله تعالى خطابا لمنكر الوحدانية: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فهذا القول خبر، وقد ألقي للمنكر خلوا من التأكيد تنزيلا له منزلة من لم يكن منكرا ولا مترددا, ذلك أن الدليل على الوحدانية قائم بين يديه، لو نظر فيه نظرة عادلة، وأزال تلك الغشاوة من عينيه، والتفت إلى ما يحيط به من الآثار لأذعن عن جحوده, فالإنكار ظاهر حاله، وهو وصف له في الواقع يقتضي أن يلقى إليه الخبر مؤكدا وجوبا، لكن قطع النظر عن هذا الأمر الثابت، وفرض فيه أمر آخر غير متصف به في الواقع، وهو خلو الذهن من الحكم لنكتة وضوح الدليل القائم، بحيث يعتبر الإنكار معه كلا إنكار، وخوطب خطاب غير المنكر, ومثله قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} ، ومعناه:
__________
1 قد يقال: أي: ثمرة لتنزيل المنكر منزلة المتردد أو العكس مع أن كليهما يؤكد به القول من غير تنزيل، ويجاب بأن فائدة التنزيل نقص التوكيد في الأول، وزيادته في الثاني فإن المتردد يؤتى معه بتأكيد واحد، ويؤتى مع المنكر بأكثر من ذلك, وهذا الجواب أحسن مما أجاب به بعضهم من أن فائدة التنزيل صيرورة التأكيد مع المنكر واجبا، ومع المتردد مستحسنا إذ الوجوب والاستحسان لا يفهمان من اللفظ.(4/35)
أن القرآن ليس مظنة للريب، ولا موضعا للشك، ولا ينبغي أن يرتاب فيه، وهذا الحكم مما ينكره الكثير من الكفار وكان مقتضى الظاهر أن يؤكد، فيقال: إنه لا ريب فيه، لكن نزل إنكارهم منزلة عدمه لما بين أيديهم من الدليل الواضح1 الدال على أنه لا ينبغي أن يكون موضع ريب.
وإنما كان معنى الآية ما ذكرنا من كون القرآن ليس بمظنة للشك؛ لأننا لو أبقيناها على ظاهرها من نفي الريب على الاستغراق بمعنى: لم يقع فيه ريب من أحد لم يكن مطابقا للواقع لكثرة المرتابين فيه، فلا تكون الآية من قبيل جعل المنكر كغير المنكر؛ لأن الحكم الذي يجعل فيه المنكر كغيره يجب أن يكون مطابقا للواقع، عليه من الدلائل ما لو تأملها المنكر لأذعن، وأقلع عن إنكاره, وهذا الحكم -وهو نفي الريب على سبيل الاستغراق- ليس كذلك لثبوت الريب في الواقع2- إلى غير ذلك من المواضع التي يخرج فيها الكلام على غير مقتضى الظاهر لتنزيل الشيء منزلة غيره.
تنبيهان:
الأول: يعلم مما تقدم أن الحال وظاهر الحال -مع اتفاقهما في أن كلا منهما يدعو المتكلم إلى اعتبار أمر زائد في الكلام- يفترقان من حيث إن ظاهر الحال أخص مطلقا من الحال؛ لأن ظاهر الحال هو الوصف الثابت للمخاطب في الواقع كخلو الذهن أو التردد، أو الإنكار, بخلاف الحال فهو أعم من أن يكون وصفا ثابتا للمخاطب في الواقع، أو كان أمرا مفروضا فيه
__________
1 هو كونه معجزا تحدي العرب في أبين صفاتهم فعجزوا عن مباراته.
2 الأولى أن تكون الآية المذكورة من قبيل التنظير لتنزيل وجود الشيء منزلة عدمه, بناء على وجود ما يزيله، فينزل ريب المرتابين منزلة عدمه اعتمادا على ما يزيله من الأدلة والأمارات كما ينزل الإنكار منزلة عدمه, أما جعل الآية من قبيل المثال لما نحن بصدده فيحتاج إلى تأويل الآية بما ذكرنا من أن المعنى: ليس القرآن بمظنة للريب، وما لا يحتاج إلى تأويل أولى مما يحتاج.(4/36)
فرضا, فالحال في نحو قولك لمنكر حقية الإسلام: "إن الإسلام لحق" هو الإنكار؛ لأنه أمر دعا المتكلم إلى أن يعتبر في كلامه خصوصية هي "التأكيد" وهو ظاهر حال أيضا؛ لأنه أمر ثابت للمخاطب في الواقع فقد اتحد الحال وظاهر الحال في مثل هذا المثال, أما في نحو قولك للمسلم التارك للزكاة: "إن الزكاة لواجبة" فإن الحال فيه "الإنكار" لأنه أمر دعا المتكلم إلى أن يعتبر التأكيد في خطابه، وليس ظاهر حال له إذ ليس وصفا ثابتا له في الواقع، وإنما الثابت له "عدم الإنكار", غير أن المتكلم لم يعتبر هذا الوصف، وفرض فيه أمرا ليس وصفا له في الواقع هو "الإنكار" وخاطبه على هذا الاعتبار, فظهر أن ظاهر الحال أخص مطلقا من الحال.
الثاني: أن ما تقدم من الاعتبارات السابقة من ترك التأكيد لخالي الذهن، واستحسانه للمتردد، ووجوبه للمنكر على حسب إنكاره كما يجري في الإسناد المثبت -كما سبق- يجري مثله في الإسناد المنفي, فيقال لخالي الذهن في النفي: "ما محمد شاعرا" بلا تأكيد، ويسمى ابتدائيا, ويقال للمتردد: "ما محمد بشاعر" بالتأكيد المستحسن، ويسمى طلبيا، ويقال للمنكر: "والله ما محمد بشاعر" بالتأكيد الواجب، ويسمى إانكاريا. كذلك قد يخرج الكلام في النفي على غير مقتضى الظاهر كما في الإثبات، فينزل غير المنكر مثلا منزلة المنكر إذا ظهرت عليه أمارات الإنكار، فيؤكد له القول كما يؤكد للمنكر حقيقة، فيقال: "والله ما خلا هذا البلد من بني فلان" لمن بدت عليه أمارة إنكار أن هذا البلد لم يخل من هؤلاء الأعداء لذهابه إليهم على هيئة الآمن المطمئن, كما يجعل المنكر كغير المنكر إذا كان الدليل على غير ما يعتقد قائما بين يديه، لو تأمل فيه ارتدع، وحينئذ لا يؤكد له القول كما هو الشأن مع خالي الذهن، فيقال: "ما دين المجوسية حقا" لمنكر أن دين المجوسية ليس حقا, وعلى هذا يكون القياس.(4/37)
اختبار:
1- اذكر أحوال الإسناد الخبري، ثم بين أحوال المخاطب بالنظر إلى تأكيد الخبر، وعدم تأكيده، مع بيان نوع الخبر المناسب لكل حال، مع التمثيل.
2- بين الخلاف الواقع بين الإمام والجمهور في خطاب المتردد، وأي الرأيين أقرب إلى الصواب حسب رأيك؟
3- لم كان العلم بالحكم لازما له. وهلا صح العكس؟ وضح ما تقول بالمثال، وائت بمثالين من عندك نزل في أحدهما العالم بالحكم منزلة الجاهل به، وفي الآخر بالعكس.
4- ائت بمثال نزل فيه خالي الذهن منزلة المتردد، مع بيان الفرق بين الحال وظاهر الحال، ومع توضيح ذلك بالمثال.
5- عين فيما يأتي من الجمل نوع الخبر، وبين ما جرى منها على مقتضى ظاهر الحال، وما جرى منها على خلافه.
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، إني لوفي لأصدقائي. قولك في غير القرآن: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء. على رسلك يا علي، واقصد في القول إن في الحاضرين للسنا مقاويل. إن الميسر لرجس، "والخطاب لمسلم". لا تراوغ في الحق إن المبطل مخذول. إن شفاءك لقريب. "لمريض تردد في شفائه لخطورة مرضه". العالم حادث "لمنكر حدوثه". إن فرج الله قريب "لمنكر ذلك ولكن إنكاره ضعيف".(4/38)
تؤخذ اسنكر
تمرين يطلب جوابه قياسا على ما سبق:
للحق الغلبة ولو بعد حين, إن ربك لبالمرصاد, إن الحق واضح أبلج, لم ترع الله في عملك، إن الله يعلم ما تصنعون، لكم من زكاة أموالكم ثراء، دعني وشأن هذا الأثيم قد حولت قلبي عنه، وصرمت حبال(4/39)
وده. إن الصلاة لإحدى دعائم الإسلام "لمسلم" القرآن شفاء القلوب "لمنكر ذلك". لقد وافق الرئيس على تعيينك "لمتردد". لا يغرنك ما كتب، إن بين السامعين كتابا. محمد رسول الله "لمنكر الرسالة". إن الله لعزيز ذو انتقام، لمنكر الحكم.(4/40)
الثالث والرابع من أحوال الإسناد الخبري, الحقيقة العقلية, والمجاز العقلي 1:
وإنما ذكرا في علم المعاني، مع أنهما من مباحث علم البيان تتميما لذكر الأحوال التي تعرض للإسناد.
الحقيقة العقلية, هي إسناد الفعل، أو ما يدل على معنى الفعل2 إلى شيء3 بني الفعل، أو ما يدل على معناه له4 عند المتكلم فيما يؤخذ من ظاهر حاله5.
__________
1 شرط الخطيب القزويني -على ما سيأتي في تعريفي الحقيقة والمجاز العقليين- أن يكون المسند فيهما هو الفعل، أو ما في معناه من سائر المشتقات، وأن يكون المسند إليه الفاعل، أو نائبه لا غير، وبغير ما ذكرنا لا يكون حقيقة ولا مجازا عنده كإسناد الخبر إلى المبتدأ سواء كان الخبر مشتقا كما في إسناد كاتب إلى محمد في قولك: "محمد كاتب"، أو كان الخبر جامدا كما في إسناد "جسم" إلى حيوان في نحو: "الحيوان جسم", فالإسنادان المذكوران ليسا حقيقة ولا مجازا عنده, أما عند السكاكي فالإسناد منحصر فيهما حيث عرف كلا منهما بأنه إسناد الشيء إلخ. والشيء أعم من أن يكون فعلا أو ما في معناه، أو أن يكون خبرا, مشتقا أو جامدا كما رأيت.
2 المراد بالفعل المعنى المصطلح عليه، والمراد بما يدل على معناه ما يدل تضمنا كالمصدر واسم الفاعل واسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم التفضيل، والظرف المستقر فإن هذه الأشياء إنما تدل على جزء معنى الفعل وهو الحدث لا على تمام معناه وإلا كانت أفعالا.
3 المراد بالشيء الفاعل فيما بني للفاعل ونائب الفاعل فيما بني له ولا ثالث لهما عند الخطيب.
4 معنى كونه "له": أن معناه قائم به مطلق قيام, سواء صدر عنه باختياره كنحو كتب وشعر أو بغيره كمرض وشفي.
5 فالتعريف المذكور شامل لما فيه سلب، فيقدر فيه أن الإثبات كان قبل النفي, ففي قولنا: ما محمد شاعرا، يقدر فيه أن الشعر كان مسندا إلى محمد، ثم نفي عنه.(4/40)
مثال إسناد الفعل إلى ما بني له قولك: "هزم خالد الجيش"، "وهزم الجيش", ففي المثال الأول أسند الفعل، وهو "هزم" مبنيا للمعلوم شيء هو "خالد"، والفعل على هذه الصورة مبني وموضوع؛ لأن يسند إلى "خالد" لأنه الفاعل للهزيمة, وفي لمثال الثاني أسند الفعل، وهو "هزم" مبنيا للمجهول إلى شيء هو "الجيش"، والفعل على هذه الصورة مبني وموضوع لأن يسند إلى "الجيش" لأنه المفعول الواقع عليه الهزيمة.
ومثال إسناد ما يدل على معنى الفعل قولك: جاء الصادق قوله، المحمود فعله، الكريم خلقه "فالصادق" اسم فاعل مسند إلى "قوله"، و"المحمود" اسم مفعول مسند إلى "فعله" و"الكريم" صفة مشبهة مسندة إلى "خلقه"، وكلها شبيهات بالفعل دالة على معناه.
أما نحو "صام نهاره" فليس من الحقيقة العقلية في شيء إذ لم يبن الفعل المذكور؛ لأن يسند إلى النهار؛ لأن الصوم لا يصدر عن النهار. وإنما يكون من الشخص، والنهار ظرف له.
وقوله: عند المتكلم في ظاهر حاله قيدان أتيا بهما للإدخال.
وتوضيح المقام: أن قوله: "بني الفعل، أو ما يدل على معنى الفعل لذلك الشيء" يتبادر منه أن البناء له بحسب الواقع ونفس الأمر، فيتناول ما طابق الواقع فقط، وما طابق الواقع والاعتقاد معا, فالأول كقول الكافر: أبرأ الله المريض، فإن فعل الإبراء بني؛ لأن يسند إلى الله تعالى، لكن لا في اعتقاده هو، بل في الواقع فقط, والثاني كأن يقول هذا القول مؤمن، فالإبراء هنا بني؛ لأن يسند إلى الفاعل المختار في الواقع، وفي اعتقاده أيضا.
ولا يتناول ما طابق الاعتقاد فقط، وما لم يطابق واحدا منهما, فالأول كقول الكافر: أبرأ الطبيب المريض, فإن إسناد الإبراء إلى الطبيب في اعتقاده فقط، لا في الواقع لأن المبرئ في الواقع هو الله تعالى, والثاني كأن تقول كذبا: قدم أبوك.(4/41)
فهاتان الصورتان خارجتان؛ لأنهما على خلاف المتبادر من قوله. بني الفعل أو ما في معناه له، وهو أن يكون البناء له، بحسب الواقع. فإذا زيد قوله: "عند المتكلم" دخل ما طابق الاعتقاد فقط، وهو إحدى الصورتين الخارجتين كقول الكافر المتقدم: أبرأ الطبيب المريض، وبقي ما طابق الاعتقاد والواقع داخلا في التعريف كقول المؤمن: "أبرأ الله المريض" وإنما تناول هذا القيد هاتين الصورتين؛ لأن الفعل فيهما مبني لما هو له -عند المتكلم- أي: في اعتقاده.
وخرج به ما طابق الواقع فقط، وهو إحدى الصورتين الداخلتين كقول الكافر: "أبرأ الله المريض"، وما لم يطابق واحدا منهما كالخبر الكاذب المتقدم, وإنما خرجت هاتان الصورتان -بهذا القيد- لأن الفعل فيهما لم يبن لما هو له -عند المتكلم- أي: في اعتقاده.
فإذا زيد قوله: "في ظاهر حال المتكلم" دخلت هاتان الصورتان؛ لأن الفعل فيهما بني لما هو له عند المتكلم في ظاهر حاله؛ لأن الظاهر من حاله أنه يسند الفعل إلى فاعله ما لم ينصب1 قرينة دالة على حاله, وحينئذ يتناول تعريف الحقيقة العقلية أقساما أربعة.
1- ما طابق الواقع والاعتقاد كقول المؤمن: "أنبت الله الزرع" فإن إخراج النبات في الواقع لله، وفي اعتقاد الكافر للغيث، ومحل ذلك إذا كان المخاطب يعلم أن المتكلم مؤمن، ينسب الآثار كلها لله، وعلم المتكلم منه ذلك إذ المفهوم من ظاهر حال المتكلم حينئذ أن الإسناد إلى ما هو له، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المخاطب مؤمنا أو كافرا2 إذ المدار على اعتقاده بأن المتكلم مؤمن, فإذا اعتقد أن المتكلم كافر، يضيف الإنبات
__________
1 المراد بنصبها ملاحظتها لتشمل قرائن الأحوال، وهذا يفيد أن المجاز لا يتحقق بمجرد وجود القرينة من غير ملاحظة دلالتها على المراد، ويكون الإسناد في هذه الحالة حقيقة فمدار الحقيقة والمجاز على ملاحظة القرينة, غير أنه لما كانت الملاحظة أمرا خفيا أدير الأمر على وجودها إن كانت مقالية وعلى ملاحظتها إن كانت حالية.
2 المراد بالكافر من يعتقد نسبة التأثير لغير الله تعالى.(4/42)
إلى الربيع، كان الإسناد مجازا؛ لأن المخاطب يفهم حينئذ من ظاهر حال المتكلم أن الإسناد لغير ما هو له، ويكون اعتقاده هذا قرينة المجاز.
لكن هل يشترط أن يكون المتكلم عالما بأن المخاطب يعتقد فيه ما ذكر ليكون علمه باعتقاده ذلك نصبا للقرينة الصارفة، أو لا يشترط ذلك؟
قيل بالأول لأن الشرط نصب القرينة، لا مجرد وجودها؛ وقيل بالثاني لأن الشرط وجود القرينة الصارفة، والراجح الأول.
لكن قد يقال: إذا كان المخاطب غير جازم بحال المتكلم: فلا يدرى أهو مؤمن يضيف الإنبات إلى الله، أم كافر يضيف الإنبات إلى الربيع، فمن أي قبيل يكون الإسناد، أمن الحقيقة هو، أم من المجاز؟
وقد يجاب بأنه حقيقة إذ لا قرينة صارفة فظاهر حال المتكلم حينئذ أنه يسند الفعل إلى ما هو له.
2- ما طابق الواقع فقط كقول المعتزلي، وهو يخفي حاله عن المخاطب: "خلق الله الأفعال كلها" فقد طابق هذا الإسناد الواقع؛ لأن الأفعال كلها لله تعالى حقيقة، ولم يطابق اعتقاد المعتزلي لاعتقاده أن خالق الأفعال الاختيارية هو العبد, ولا فرق في ذلك بين أن يكون المخاطب يعرف حال المتكلم أو لا, فالمدار في كون الإسناد حقيقة على قصد الإخفاء؛ لأن المتكلم حينئذ لا ينصب قرينة على عدم إرادة ظاهر اللفظ، فالمفهوم من ظاهر حاله حينئذ أن الإسناد لما هو له.
فإن قال المعتزلي ذلك وهو يظهر حاله للمخاطب كان الإسناد مجازا؛ لأن الإظهار حينئذ يكون بمثابة قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له، بل إلى السبب، وهو الله تعالى في زعمه.
3- ما طابق الاعتقاد فقط كقول الكافر "أخرج الغيث النبات" فإن إخراج النبات في الواقع لله، وفي اعتقاد الكافر للغيث، ومحل ذلك إذا كان المخاطب يعلم أن المتكلم كافر ينسب الآثار لغير الله، والمتكلم يعلم منه ذلك إذ المفهوم من ظاهر حال المتكلم حينئذ أن الإسناد إلى ما هو له، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المخاطب مؤمنا أو كافرا إذ المدار على اعتقاده بأن المتكلم كافر.(4/43)
فإن كان يعتقد أنه مؤمن يضيف إخراج النبات إلى الله تعالى، وقد علم المتكلم منه ذلك الاعتقاد كان الإسناد مجازا؛ لأنه المفهوم من ظاهر حاله, ويكون هذا الاعتقاد من المخاطب قرينة على المجاز، وعلم المتكلم به نصبا للقرينة.
وإذا تردد المخاطب في حال المتكلم أمؤمن هو أم كافر؟ ففيه ما تقدم من أن الإسناد يكون حقيقة لعدم وجود القرينة الصارفة فضلا عن نصبها.
4- ما لا يطابق الواقع ولا الاعتقاد كقولك: "جاء محمد" وأنت خاصة تعلم أنه لم يجئ، دون المخاطب إذ لو علمه المخاطب أيضا، وكان المتكلم يعلم منه ذلك ما تعين كونه حقيقة لجواز أن يكون المتكلم جعل علم المخاطب بأن محمدا لم يجئ قرينة على أنه لم يرد ظاهره.
فالتركيب المذكور إذا من قبيل الحقيقة ولو لم يطابق واحدًا منهما؛ لأن الفعل فيه مسند إلى ما هو له فيما يظهر من حال المتكلم، ولا ينافي ذلك كذبه إذ الكذب لا ينافي الحقيقة.
المجاز العقلي: سمي مجازًا عقليا نسبة إلى العقل؛ لأنه المتصرف في الإسناد، أو لأن التصرف والتجوز في أمر معقول هو الإسناد, بخلاف المجاز اللغوي فقد سمي بذلك لتوقفه على اللغة أي: معرفة أن هذا اللفظ مثلا موضوع لكذا لا لكذا، أو لأن التصرف فيه في أمر نقلي، وهو أن هذا اللفظ لم يوضع لكذا بل لكذا وسمي أيضا مجازًا حكميا1، ومجازا في الإثبات2، وإسنادا مجازيا3.
__________
1 نسبة إلى الحكم بمعنى النسبة لتعلقه بها.
2 قيل إن التقيد بالإثبات يفيد عدم جريان المجاز في النفي وليس كذلك قال تعالى: فما ربحت تجارتهم, وأجيب بأن التقيد بالإثبات مراعاة للأصل وأن النفي فرع عنه, وقد يجاب بأن المراد بالإثبات الانتساب والاتصاف فيشمل الإيجاب والسلب إذ في كل منهما انتساب واتصاف.
3 أي: إسنادا منسوبا إلى المجاز.(4/44)
تعريفه: هو إسناد الفعل، أو ما في معناه إلى غير ما هو له للملابسة بتأول1.
وذلك "الغير" المسند إليه الفعل، أو ما في معناه أعم من أن يكون غيرا في الواقع، أو عند المتكلم في ظاهر حاله, وبهذا التعميم شمل التعريف الأقسام الأربعة المتقدمة في الحقيقة العقلية، فإنها تجري أيضا في المجاز العقلي باعتبار حال المخاطب أو المتكلم.
فمثال ما طابق الواقع والاعتقاد قول المؤمن: "شفى الله المريض" لمن يعتقد أن المتكلم كافر يضيف الشفاء إلى الطبيب، وعلم المتكلم بهذا الاعتقاد, فهذا القول مجاز عقلي؛ لأنه إسناد الفعل إلى غير ما هو له بالنظر لما يعتقده المخاطب فيه، ويكون اعتقاد المخاطب قرينة المجاز، وعلم المتكلم بهذا الاعتقاد نصبا لهذه القرينة.
ومثال ما طابق الواقع فقط قول المعتزلي السابق: "خلق الله الأفعال كلها" لمن يعلم حاله، والمتكلم يعرف منه ذلك, فهذا مجاز عقلي؛ لأنه إسناد الفعل إلى غير ما هو له بالنظر إلى حال المتكلم والمخاطب معا، ويكون علم المخاطب بحاله قرينة هذا المجاز، وعلم المتكلم باعتقاد المخاطب نصبا لهذه القرينة كما تقدم.
ومثال ما طابق الاعتقاد فقط قول الكافر "شفى الطبيب المريض" لمن يعتقد أن ذلك القائل ممن يضيف الشفاء إلى الله، وعلم المتكلم منه ذلك فهذا القول مجاز عقلي؛ لأنه إسناد الفعل إلى غير ما هو له بالنظر لحال المخاطب.
ومثال ما لم يطابق واحدا منهما قولك: نجح أخوك في الامتحان لمخاطب يعلم أنه لم ينجح، وأنت أيضا تعلم بإخفاقه فيه، وتعلم كذلك أن المخاطب عالم به, فهذا القول مجاز عقلي؛ لأن إسناد الفعل إلى غير
__________
1 "التأول" من آل إلى كذا رجع إليه ومعناه: تطلب المآل الذي هو حقيقة الكلام التي يئول إليها المجاز بتطلبها الالتفات إليها وملاحظتها وذلك إنما بنصب قرينة على إرادة خلاف المراد.(4/45)
ما هو له بالنظر لحال المتكلم والمخاطب معا، وقرينة المجاز، ونصبها على ما تقدم في الأمثلة السابقة1.
ولا بد لهذا المجاز من علاقة بين المسند إليه المجازي، والمسند إليه الحقيقي تسوغ إسناد الفعل، أو ما في معناه إلى المسند إليه المجازي, وتلك العلاقة هي التي عبر عنها في التعريف بقوله "للملابسة"، وهي أن يشابه المسند إليه المجازي المسند إليه الحقيقي في مطلق ملابسة الفعل لهما، وتعلقه بكل منهما. فقولك مثلا: "قام الليل" إسناد مجازي أسند فيه الفعل وهو "قام" إلى غير ما هو له، وهو "الليل"، فالليل ليس فاعلا حقيقيا للقيام، وإنما الفاعل الحقيقي هو الشخص، والليل ظرف للقيام، ففاعليته إذًا مجازية, والذي سوغ إسناد الفعل إليه مشابهته للفاعل الحقيقي الذي هو الشخص في تعلق الفعل به، وذلك أن الفعل الذي هو القيام تعلق بالشخص من حيث صدوره منه، وتعلق بالليل من حيث وقوعه فيه, فالعلاقة بين الفاعلين -الحقيقي والمجازي- هي المشابهة في أن الفعل لابس كلا منهما، وتعلق به، وإن اختلفت جهة التعلق.
وللفعل وما في معناه ملابسات شتى، فهو يلابس الفاعل الحقيقي لصدوره منه، أو قيامه به، ويلابس المفعول به الحقيقي2 لوقوعه عليه، ويلابس المصدر لكونه جزء مفهومه، ويلابس الزمان لكونه جزء مفهومه
__________
1 وبذلك التعميم أيضا سقط اعتراض وارد على قولح: "غير ما هو له" وهو أنه: إن أريد غير ما هو له عند المتكلم في الظاهر فلا حاجة إلى قوله: "بتأول" لأنه لا يسند الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له عند المتكلم إلا إذا كان ثم قرينة تدل على أن ذلك المسند إليه غير فقوله: "إلى غير ما هو له" يتضمن اعتبارها, وإن أريد: غير ما هو له في الواقع خرج عن التعريف ما طابق الواقع دون الاعتقاد نحو قول الجاهل: شفى الله المريض مجازا باعتبار الإسناد إلى السبب, وهو الله تعالى في زعمه, إذ يعتقد أن الفاعل الحقيقي هو الطبيب, وأن الله سبب وحينئذ فلا يكون التعريف جامعا. من أجل هذا أراد المعنى الأعم من الغير في الواقع والغير عند المتكلم، ويكون قوله: "بتأول" محتاجا إليه بالنسبة لما هو غير الواقع, ودخل في التعريف قول الجاهل المذكور.
2 المراد به نائب الفاعل؛ لأنه المسند إليه.(4/46)
كذلك، أو لكونه لازما لوجوده إذ لا بد للفعل من زمان يقع فيه، ويلابس المكان لكونه لازما لوجوده إذ لا بد للفعل أيضا من مكان يقع فيه، ويلابس السبب لحصوله به1.
فإسناد الفعل المصوغ للفاعل إلى الفاعل نحو: "قدم محمد"، وإسناد الفعل المصوغ للمفعول إلى المفعول نحو: "أكرم علي" حقيقة عقلية كما تقدم؛ لأن الفعل فيهما أسند إلى ما صيغ لأجله، وبني له, فالفعل المبني للفاعل صيغ؛ لأن يسند إلى الفاعل، والفعل المبني للمفعول صيغ؛ لأن يسند إلى المفعول كما رأيت.
أما إسناد الفعل المبني للفاعل إلى غير الفاعل، وإسناد الفعل المبني للمفعول إلى غير المفعول فمجاز عقلي؛ لأن الفعل فيهما أسند إلى غير ما صيغ لأجله، وبني له، وإليك الأمثلة:
فمثال إسناد الفعل المبني للفاعل إلى المفعول قولك محدثا عن إنسان: "رضيت عيشته" فلفظ "رضي" فعل مبني للفاعل، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو صاحب العيشة، فيقال: "رضي محمد عيشته" لكنه أسند إلى المفعول الذي هو العيشة إسنادا مجازيا للمشابهة بين محمد والعيشة في تعلق الفعل المذكور بكل منهما، فتعلقه بمحمد من حيث صدوره منه، وتعلقه بالعيشة من حيث وقوعه عليها، فالعيشة إذًا مسند إليه مجازي, ومنه قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} فقد أسند فيه اسم الفاعل من "رضي" المبني للفاعل إلى ضمير المفعول الذي هو "العيشة" إسنادا مجازيا من إسناد ما هو في معنى الفعل إلى غير ما هو له.
وأصل التركيب: رضي محمد عيشته فأقيم المفعول مقام الفاعل للمشابهة بينهما على ما تقدم، ثم أسند الفعل إليه، فصار رضيت عيشته،
__________
1 لم يتعرض للمفعول معه نحو: جاء الأمير والجيش، أو الحال نحو: قدم الأمير راكبا، أو التمييز نحو: طاب محمد نفسا، أو المستثنى نحو: قدم القوم إلا محمدا؛ لأن الفعل لا يسند إليها مع بقائها على معانيها.(4/47)
ثم اشتق من الفعل المذكور اسم فاعل، وأسند إلى ضمير العيشة بعد جعله مبتدأ، فصار عيشة راضية.
ومثال إسناد الفعل المبني للمفعول إلى الفاعل قولك: أفعم السيل فلفظ "أفعم" فعل مبني للمجهول، وكان حقه أن يسند إلى المفعول الحقيقي الذي هو "الوادي" فيقال: أفعم الوادي أي: امتلأ، لكنه أسند إلى الفاعل الذي هو "السيل" إسنادا مجازيا للمشابهة بين "السيل والوادي" في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالسيل من حيث صدوره عنه، وتعلقه بالوادي من حيث وقوعه فيه فالسيل حينئذ مسند إليه مجازي, ومنه قولهم: "سيل مفعم" بفتح العين فقد أسند فيه اسم المفعول إلى ضمير السيل إسنادا مجازيا من إسناد ما هو في معنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه, وأصل التركيب هكذا: "أفعم السيل الوادي" فبني الفعل للمجهول، وأقيم الفاعل مقام المفعول للمشابهة بينهما على ما سبق بيانه، ثم أسند الفعل إليه، فصار: أفعم السيل، ثم اشتق من "أفعم" المبني للمجهول اسم مفعول، وأسند إلى ضمير السيل بعد جعله مبتدأ، فصار: "سيل مفعم".
ومثال إسناد الفعل إلى المصدر قولهم: "جد جده" وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو الإنسان، فيقال: جد الإنسان جدا، لكنه أسند إلى المصدر إسنادا مجازيا للمشابهة بين المصدر والفاعل الحقيقي, في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالمصدر من حيث إنه جزء مفهومه، وتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه فالمصدر إذًا مسند إليه مجازي, ومنه قولهم: "شعر شاعر" فقد أسند فيه اسم الفاعل إلى ضمير المصدر إسنادا مجازيا من إسناد ما هو بمعنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه1.
ومثال إسناد الفعل إلى ظرف الزمان قولهم: "صام نهاره" برفع نهاره على الفاعلية، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي، فيقال: صام محمد في نهاره لكنه أسند إلى الظرف الذي هو "النهار" إسنادا مجازيا
__________
1 يحتمل أن يكون المراد بالشعر الكلام المؤلف المنظوم فيكون المثال من قبيل اسم الفاعل المسند إلى ضمير المفعول كما في عيشة راضية.(4/48)
للمشابهة بين المسند إليه الحقيقي والمجازي في تعلق الفعل بهما، فتعلقه "بمحمد" من حيث صدوره منه، وتعلقه "بالنهار" من حيث وقوعه فيه. فالظرف حينئذ مسند إليه مجازي, ومنه قولهم: "نهاره صائم، وليله قائم فقد أسند فيهما اسم الفاعل إلى ضمير الظرف، وهو "النهار" في المثال الأول، و"الليل" في المثال الثاني إسنادا مجازيا من إسناد ما هو بمعنى الفعل إلى غير ما هو له.
ومثال إسناد الفعل إلى ظرف المكان قولك: "جرى النهر" برفع النهر على الفاعلية، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو "الماء" فيقال: جرى الماء في النهر، لكنه أسند إلى الظرف الذي هو "النهر" أي: مجرى الماء للمشباهة بين "النهر والماء" في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالماء من حيث صدوره منه، وتعلقه بالنهر من حيث وقوعه فيه، فالظرف إذا مسند إليه مجازي, ومنه قولهم: "نهر جار" فقد أسند فيه اسم الفاعل إلى ضمير الظرف الذي هو "النهر" إسنادا مجازيا من إسناد ما هو بمعنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه.
ومثال إسناد الفعل إلى السبب قولهم: "بنى هامان الصرح"، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو "العملة" إذ هم البانون حقيقة، فيقال: بنى العملة الصرح بأمر هامان، لكنه أسند إلى السبب الباعث الذي هو "هامان" إسنادا مجازيا للمشابهة بين هامان والعملة في تعلق الفعل بهما فتعلقه بالعملة من جهة صدوره عنهم، وتعلقه بهامان من حيث إنه السبب الآمر فهامان حينئذ مسند إليه مجازي, ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون موسى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} فقد أسند فيه الفعل إلى ضمير هامان مجازا من إسناد الفعل إلى السبب, فمما تقدم لك من الأمثلة تعلم أن:
علامة المجاز العقلي: هي مشابهة المسند إليه المجازي للمسند إليه الحقيقي في تعلق الفعل، أو ما في معناه بكل منهما، وإن اختلفت جهة التعلق كما عرفت.
كذلك لا بد للمجاز العقلي من قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد(4/49)
على حقيقته؛ لأن المتبادر إلى الفهم عند انتفاء القرينة هو الحقيقة بمعنى أن ظاهر الكلام بغض النظر عن القرينة يفيد أن الإسناد إلى ما هو له, وهذا هو المراد بقوله في تعريف المجاز: "بتأول" أي: بأن تنصب قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له, وبهذا القيد خرج ما لا تأول فيه، وهو أمران:
الأول: ما طابق الاعتقاد دون الواقع كما في إسناد الفعل للأسباب العادية كقول الجاهل: "شفى الطبيب المريض1" فهذا القول -وإن أسند فيه الفعل إلى غير ما هو له في الواقع- لا تأول فيه لأن الجاهل لا ينصب قرينة صارفة عن إرادة الظاهر من قوله؛ لأن هذا الظاهر هو مراده ومعتقده، فهو يعتقد أن الشفاء من الطبيب، وأن الله سبب، وإذ كان هذا القول لا تأول فيه فهو حقيقة عقلية, ومنه قول الصلتان العبدي2 من قصيدة:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
والشاهد في البيت الأول حيث أسند "أشاب وأفنى" إلى كر الغداة ومر العشي وهو إسناد في ظاهره حقيقي لعدم التأول فيه, إذا قطعنا النظر عما ورد في هذه القصيدة مما يدل على أن الشاعر لم يكن دهريا، يعتقد تأثير الزمان، بل كان موحدا يضيف الإشابة والإفناء إلى الله تعالى3.
__________
1 ومثله قولهم: أنبت الربيع البقل، وأحرقت النار الحطب وقطع السكين اللحم، فالإسناد فيما ذكر وأشباهه إذا صدر من الجاهل حقيقة عقلية لانتفاء التأول فيها, أي: لانتفاء نصب القرينة الصارفة.
2 الصلتان لقبه واسمه قثم بن خبية بن عبد القيس وإليه ينسب فيقال: العبدي وهو -كما قيل- شاعر إسلامي سليط اللسان.
3 فهو الذي يقول بعد:
الم تر لقمان أوصى ابنه ... وأوصيت عمرا ونعم الوصي
ومراده بوصاية لقمان قوله: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} ، بل يقول ما هو أصرح من هذا:
فملتنا أننا المسلمون ... على دين صديقنا والنبي(4/50)
الثاني: الأقوال الكاذبة كقولك: "أمطرتنا السماء" وأنت تعلم أنها لم تمطر فإن إسناد الفعل في مثل هذا -وإن كان إلى غير ما هو له- لا تأول فيه لأن الكاذب لا ينصب قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له إذ هو جد حريص على ترويج ظاهره، وما لا تأول فيه فهو حقيقة.
والقرينة نوعان: لفظية ومعنوية
فاللفظية: أن يكون في الكلام لفظ يصرفه عن ظاهره أي: عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له كما في قول الصلتان العبدي السابق إذا لاحظنا قوله فيما بعد:
الم تر لقمان أوصى ابنه ... وأوصيت عمرا ونعم الوصي
وقوله:
فملتنا أننا المسلمون ... على دين صديقنا والنبي
فإن هذا القول منه يعتبر قرينة صارفة عن أن يكون إسناد الإشابة والإفناء إلى تعاقب الأيام والليالي إسنادا حقيقيا, ومثله قول أبي النجم:
ميز عنه قنزعا عن قنزع ... جذب الليالي أبطئي أو أسرعي
أفناه قيل الله للشمس اطلعي ... حتى إذا واراك أفق فارجعي1
__________
1 "ميز عنه" بمعنى أزال عنه والضمير في عنه راجع إلى "الرأس" في البيت قبله وهو.
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
لما رأت رأسي كرأس الأصلع
"والقنزع" بضم القاف وسكون النون وضم الزاي أو فتحها الشعر المتجمع في نواحي الرأس "وجذب الليالي" مضيها وتعاقبها، وقوله "أبطئي أو أسرعي" حالان من الليالي على تقدير القول؛ لأن الجملة الطلبية إذا وقعت حالا لا بد فيها من تقدير القول أي: مقولا في شأنها من الشاعر:
أبطئي أو أسرعي" إذ لا يبالي وقد تقدمت به السن، وضعف أمله في الحياة أأبطأت أم أسرعت، وقيل الله أمره وإرادته.(4/51)
يقول: إن الذي أفنى شعره1 وأزاله خصلة بعد خصلة اختلاف الليالي، وتعاقب الأيام، فقد أسند "ميز" إلى "جذب الليالي" وهو -كما ترى- إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه بناء على أنه زمان، له أو سبب فيه, وقرينة المجاز قوله بعد: "أفناه قيل الله للشمس اطلعي" إذ دل ذلك على أن القائل موحد يسند الأمور إلى بارئها, وكقولك: هزم الأمير الجيش وهو في قصره فهو كذلك إسناد مجازي أسند فيه الفعل إلى غير ما هو له؛ لأن الأمير لم يفعل شيئا، والذي سوغ الإسناد إليه أنه سبب في الهزيمة، والقرينة الدالة على هذا التجوز قولك: "وهو في قصره".
والمعنوية: ألا يكون في الكلام لفظ صارف عن إرادة الظاهر، بل هو أمر خارج عن اللفظ، وذلك أحد أمرين:
الأول: أن يكون قيام المسند بالمسند إليه مستحيلا عقلا، أو عادة فمثال المستحيل عقلا قولك: "محبتك جاءت بي إليك"، فإسناد المجيء إلى المحبة مجاز عقلي أسند فيه الفعل إلى غير ما هو له بناء على أن المحبة سبب في المجيء، وقرينة المجاز استحالة قيام المجيء بالمحبة عقلا2 والمراد بالمستحيل عقلا ما كان مستحيلا بالضرورة، وهو ما لو خلى العقل ونفسه لعده محالا على البديهة، ولا يسع أحدا من الناس أن يجيزه.
ومثال المستحيل عادة قولهم: "هزم القائد الجيش" فإسناد الهزيمة إلى القائد مجاز عقلي قرينته استحالة أن يهزم القائد الجيش وحده عادة وإن أمكن عقلا.
__________
1 يحتمل أن يكون ضمير المفعول في "أفناه" عائد إلى شبابه أو إلى نفسه فالمعنى على الأول: أفنى شبابه أي: أطفأ زهرته. وأزال نضرته وعلى الثاني: أفنى ذاته أي: جعله مشرفا على الفناء والعدم.
2 بناء على ما ذهب إليه المبرد من أن باء التعدية تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في حصول الفعل فمعنى ذهبت بعلي: صاحبت عليا في الذهاب، وعلى هذا فمعنى قولك: محبتك جاءت بي إليك: أن محبتك صاحبتني في المجيء إليك ولا شك أن مجيء المحبة محال.(4/52)
الثاني: أن يكون الكلام صادرا عن الموحد كأن يقول المؤمن: قوست ظهري أحداث الزمان، فهذا الإسناد مجاز عقلي أسند فيه الفعل إلى غير ما هو له بناء على أن أحداث الزمان سبب في التقويس، وقرينة المجاز صدور هذا القول من مؤمن، يرى أن الله تعالى مصدر الأفعال كلها, وليس هذا وأمثاله مما استحالته عقلية حتى يكون داخلا في الأمر, إذ لم يجمع العقلاء على استحالة مثل هذا بدليل أن كثيرا من ذوي العقول ذهبوا إليه، وقالوا به واحتجنا في الرد عليهم إلى الدليل, فالقرينة في هذين الأمرين معنوية إذ ليس في الكلام لفظ صريح يدل على التجوز في الإسناد، وإنما الدال عليه أمر معنوي كما رأيت.
وجوب أن يكون للمجاز العقلي حقيقة:
اختلف الرأي في هذه المسألة، فقال الخطيب: إن المسند في المجاز العقلي يجب أن يكون له مسند إليه حقيقي، يكون الإسناد إليه حقيقة, غير أن هذا المسند إليه.
"تارة": يكون ظاهرا يدرك بأدنى تأمل كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} فإن الفاعل الحقيقي للربح هو التجار، وإنما كان الفاعل ظاهرا بسبب عرف الاستعمال، فقد تعارف أهل اللغة: أنهم إذا قصدوا الاستعمال الحقيقي أضافوا الربح للتجار لا للتجارة: فقالوا: فما ربح التجار في تجارتهم, ومثله قولهم: "أنبت الربيع البقل"، "وشفى الطبيب المريض" فإن الفاعل الحقيقي فيهما هو الله تعالى، ولا خفاء فيه لما تعارفوا عليه في الاستعمال.
وتارة: يكون المسند إليه الحقيقي خفيا، لا يدرك إلا بشيء من التأمل كما في قولهم: "سرتني رؤيتك"، وقولهم: أقدمني بلدك حق لي عليك، وكقول الشاعر:
يزيد وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا1
__________
1 وقبل هذا البيت:
يرينا صفحتي قمر ... يفوق سناهما القمرا(4/53)
فليس الفاعل الحقيقي للسرور، والإقدام، والزيادة هو ما ذكر من الرؤية، والحق، والوجه، وإنما الفاعل الحقيقي لهذه الأمور هو الله تعالى, وأصل الكلام: سرني الله عند رؤيتك، وأقدمني الله بلدك لأجل حق لي عليك، ويزيدك الله حسنا في وجهه, لكن لما كثر في استعمالهم إسناد هذه الأفعال إلى الفاعل المجازي، وإهمال إسنادها إلى الفاعل الحقيقي خفي حينئذ الفاعل الحقيقي، بحيث لا يخطر بالبال، ولا يدرك إلا مع شيء من النظر.
وقال الإمام عبد القاهر: ليس بواجب في المجاز العقلي أن يكون للمسند فاعل حقيقي أسند إليه أو لا إسنادا معتدا به في العرف والاستعمال قبل إسناده إلى الفاعل المجازي، بل:
تارة: يكون له مسند إليه حقيقي أسند إليه أولا إسنادا معتدا به عرفا واستعمالا، ثم نقل إلى المسند إليه المجازي كما في قولهم: شفى الطبيب المريض فإن المسند هنا فاعلا حقيقيا هو "الله تعالى"، وقد أسند إلي الفعل إسنادا جرى به العرف والاستعمال قبل إسناده إلى الفاعل المجازي الذي هو الطبيب, فقيل: "شفى الله المريض بسبب الطبيب". ومنه قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} فإن للمسند فاعلا حقيقيا هو "التجار" وقد أسند إليه الفعل أولا إسنادا جرى به عرف أهل اللغة، فقالوا: فما ربح التجار في تجارتهم، ثم نقل وأسند إلى الفاعل المجازي وهو "التجارة".
وتارة: لا يكون للمسند فاعل حقيقي جرى العرف والاستعمال بإسناده إليه، فيسند من أول الأمر إلى الفاعل المجازي كقولهم: سرتني رؤيتك، ويزيدك وجهه حسنا، وأقدمني بلدك حق لي عليك، فليس لهذه الأفعال فاعل حقيقي جرى الاستعمال العربي بإسنادها إليه إذ هي أمور اعتبارية لا وجود لها في الخارج، فلا يكون لها فاعل حقيقي، بل فاعلها متوهم مفروض، ولا يعتبر الإسناد إليه؛ لأنه بمنزلة العدم، ولم يجر الاستعمال أن يقال: سرني الله عند رؤيتك، ويزيدك الله حسنا في وجهه،(4/54)
وأقدمني الله بلدك لحق لي عليك, كما جرى الاستعمال العربي بإسناد الشفاء إلى الله فقيل: شفى الله المريض, وبإسناد الربح للتجار فقيل: فما ربح التجار في تجارتهم، لهذا كانت هذه الأسانيد بمثابة المجاز الذي لا حقيقة له.
فتصدى للشيخ عبد القاهر الإمام الرازي معترضا عليه بأنا لا نسلم أن هناك أفعالا لا فواعل لها, إذ يمتنع أن يوجد بدون فاعل, وقد آزره في ذلك السكاكي قائلا: إن فاعل هذه الأفعال في الأمثلة السابقة إنما هو الله تعالى، ولعل أمره خفي على الشيخ نظرا لكثرة إسناد الفعل إلى الفاعل المجازي.
والحق ما قال الشيخ إذ ليس مراده نفي الفاعل رأسا، فإن ذلك لا يسع عاقلا أن يقول به، وإنما مراده نفي وجوب أن يكون هناك فاعل حقيقي يسند إليه الفعل إسنادا معتدا به قبل إسناده إلى الفاعل المجازي، فهو لا يشترط في المجاز العقلي أن يكون المسند قد أسند قبل إلى الفاعل الحقيقي, بل يجوز أن يسند من أول الأمر إلى الفاعل المجازي لعدم تحقق الفاعل الحقيقي خارجا كما في الأمور الاعتبارية في الأمثلة السابقة.
أما تقدير الفاعل الموجد وهو الله تعالى في مثل هذه الأفعال المتقدمة فهو مما لا يقصد في الاستعمال العربي، ولا يتعلق به الغرض في التراكيب ا. هـ.
تقسيم المجاز العقلي باعتبار طرفيه:
ينقسم المجاز العقلي باعتبار حقيقة الطرفين ومجازيتيهما أربعة أقسام1:
الأول: أن يكون الطرفان -وهما المسند والمسند إليه- حقيقتين
__________
1 لا يختص المجاز العقلي بهذه الأقسام الأربعة بل الحقيقة العقلية أيضا تنقسم إلى هذه الأقسام الأربعة, وأمثلتها هي بعينها أمثلة المجاز العقلي غير أن الحال تختلف بينهما بالنظر لمن صدرت عنه من كونه مؤمنا أو كافرا ولم تذكر أقسام الحقيقة لعلمها بالمقايسة أو لقلة الاهتمام بها.(4/55)
لغويتين، أي: كلمتين مستعملتين فيما وضعتا له في اصطلاح التخاطب نحو "شفى الدواء المريض" فإن كلا الطرفين -الشفاء والدواء- مستعمل في المعنى الذي وضع له، والمجاز إنما هو في الإسناد إذا صدر هذا القول من المؤمن, ومثله قول الشاعر "وشيب أيام الفراق مفارقي"، ومنه إسناد اسم الفاعل إلى ضمير الليل في قول الشاعر: ونمت وما ليل المطي بنائم. فالإسناد في هذين المثالين مجاز عقلي، مع حقيقة الطرفين.
الثاني: أن يكون الطرفان مجازيين لغويين، أي: كلمتين مستعملتين في غير ما وضعتا له كقولهم: "أحيا الأرض شباب الزمان" فكل من الطرفين -أحيا وشباب الزمان- مستعمل في غير المعنى الموضوع له, ذلك أن "الإحياء" معناه في الأصل: إيجاد الحياة في الحيوان، وهي صفة تقتضي الحس والحركة الإرادية، لكن هذا المعنى لا يتأتى هنا، فهو إذًا غير مراد، وإنما المراد معنى آخر مناسب، وإن لم يوضع له اللفظ، وهو: إحداث النضارة والخضرة في الأرض بسبب تهييج قواها المنمية للنبات، وهذا المعنى مجازي نقل إليه اللفظ على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية1.
كذلك "الشباب" معناه في الأصل: كون الحيوان في ريعانه أي: في زمن ازدياد قوته، واشتعال الحرارة فيه، وهذا المعنى أيضا غير مراد هنا, وإنما المراد معنى آخر مناسب لم يوضع له اللفظ، وهو كون الزمان في بدء ازدياد قواه المنمية للنبات بسبب اعتدال الهواء، وهطول الأمطار من السماء، وهذا المعنى أيضا مجازي نقل إليه اللفظ على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية2, ومثله إسناد "الإشعال إلى حنادس" في نحو
__________
1 وتقريرها أن يقال: شبه المعنى المنقول إليه وهو إحداث النضارة والخضرة بالمعنى المنقول عنه وهو إيجاد الحياة بجامع أن كلا منهما إحداث لأمر هو منشأ المنافع والمحاسن، ثم استعير اسم الشبه به وهو "الإحياء" للمشبه، فصار معنى الإحياء إحداث النضارة والخضرة، ثم اشتق من الإحياء بهذا المعنى "أحيا" بمعنى: أحدث الخضرة والنضارة.
2 وتقريرها أن يقال: شبه المعنى المنقول إليه. وهو كون الزمان في بدء ازدياد قوته بالمعنى المنقول عنه وهو كون الحيوان في زمن اشتعال حرارته بجامع الحسن في كل ثم استعير لفظ المشبه به وهو الشباب للمشبه فصار معنى الشباب كون الزمان في بدء ازدياد قوته.(4/56)
قولك: "أشعلت رأسي حنادس الدهر" فكل من الطرفين مستعمل في غير ما وضع له فأستعير "الإشعال" وهو إيقاد النار لانتشار الشيب في نواحي الرأس كما استعير "الحنادس" بمعنى الليالي المظلمة لما يقع في الدهر من أحداث جسام.
الثالث: أن يكون المسند حقيقة، والمسند إليه مجازا نحو: أنضج الثمر شباب الزمان، فالإنضاج مستعمل في حقيقته، وشباب الزمان في مجازه, ومثله قولك: قوست ظهري حنادس الأيام.
الرابع: أن يكون المسند مجازا، والمسند إليه حقيقة نحو: "أحيا الأرض الربيع" فالإحياء مستعمل في مجازه، والربيع في حقيقته, ومثله قولك: أشعلت رأسي الخطوب.
وجه الانحصار في هذه الأربعة ما تقدم في تعريف المجاز العقلي من أنه إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له من فاعل أو مفعول، وكلاهما يكون مفردا، وكل مفرد إما مستعمل في حقيقته، أو في مجازه.
يجري المجاز العقلي في النسب بأنواعها:
كما يجري المجز العقلي في النسب الإسنادية الخبرية, كما تقدم يجري أيضا في النسب الإضافية، والإيقاعية، والإنشائية.
فالإضافية: هي النسب الواقعة بين المضاف والمضاف إليه نحو: "سرني شفاء الطبيب المريض"، و"راعني إنبات الربيع البقل"، ونحو: "أدهشني جري النهر" و"هالني صوم النهار1" ... وهكذا، والأصل: شفاء الله المريض بسبب الطبيب، وإنبات الله البقل في وقت الربيع، وجري الماء في النهر، وصومي في النهار, ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاق
__________
1 إنما يقع المجاز في النسبة الإضافية إذا كانت الإضافة على معنى اللام إما إذا جعلت بمعنى "في" كانت حقيقة والمدار في هذا على قصد المتكلم.(4/57)
بَيْنِهِمَا} فهو من إضافة المصدر إلى المكان، وأصل الكلام: وإن خفتم شقاق الزوجين في الحالة الواقعة بينهما, وقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} من إضافة المصدر إلى الزمان، والأصل: بل مكر الناس في الليل والنهار.
والإيقاعية هي النسب الواقعة بين الفعل والمفعول، وسميت إيقاعية؛ لأن الفعل المتعدي واقع على مفعوله نحو: "نومت الليل" أي: أوقعت التنويم على الليل، وحقه أن يقع على الشخص؛ لأنه هو المفعول الحقيقي، والأصل: نومت الشخص في الليل, ومثله: "أجريت النهر" أي: أوقعت الإجراء على النهر، وحقه أن يقع على الماء؛ لأنه المفعول الحقيقي، والأصل: أجريت الماء في النهر, ومنه قوله تعالى: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} فقد أوقع الإطاعة على الأمر، وحقها أن تقع على ذي الأمر؛ لأنه المفعول به حقيقة، والأصل: ولا تطيعوا المسرفين في أمرهم.
قيل: هاتان النسبتان لم يشملهما تعريف المجاز العقلي إذ قد عرفوه بأنه إسناد الفعل أو ما في معناه إلخ. والمراد بالإسناد النسبة التامة، والنسبتان -الإضافية والإيقاعية- ليستا من النسب التامة فالتعريف إذًا غير جامع، وأجيب بأحد جوابين:
الأول: أن المراد بالإسناد في التعريف مطلق النسبة فهو مجاز مرسل من إطلاق المقيد على المطلق.
الثاني: أن المراد بالإسناد ما هو أعم من أن يكون صريحا، أو مستلزما للصريح فالمجازات المتقدمة في النسبتي. الإضافية، والإيقاعية, وإن لم تكن إسنادات صريحة, هي مستلزمة لها، فقولك مثلا: "بل مكر الليل والنهار" يستلزم: بل الليل والنهار ماكران، وقولك: "جري النهر" و"صوم النهار" يستلزم: النهر جار، والنهار
صائم، وقوله تعالى: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} يستلزم: الأمر مطاع
... وهكذا.
والنسبة الإنشائية كقوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} فإن فيه إسناد الأمر بالبناء إلى هامان، مع أن البناء للعملة، وأما هامان فسبب(4/58)
آمر1, ومثله: "لينبت الربيع ما شاء" وأصل المثال: لينبت الله بالربيع ما شاء، ونحو: "ولتصم نهارك"، و"ليجد جدك"، والأصل: ولتصم في نهارك، ولتجد جدا، أي: ولتجتهد اجتهادا، وكقولك: "ليت النهر جار"، فقد أسند الجري إلى ضمير النهر مجازا، والأصل: ليت الماء جار في النهر، وكقوله تعالى: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} أسند الفعل إلى ضمير الصلاة مجازا على طريق الاستفهام، والأصل: أيأمرك ربك في صلاتك كيت وكيت؟ ... وهكذا.
هذا, وقد ورد المجاز العقلي في القرآن كثير2.
قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} أسندت الزيادة وهي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا في زيادة الإيمان.
وقال تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} أسند التذبيح والاستحياء اللذان هما فعل الجيش إلى فرعون لأنه سبب آمر, والأصل: يذبح ويستحيي قوم فرعون بأمره وإرادته.
وقال تعالى: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} أسند نزع اللباس عن آدم وحواء، وهو فعل الله تعالى إلى إبليس؛ لأن سببه الأكل من الشجرة، وقد نهيا عنه، وسبب الأكل وسوسة إبليس لعنة الله عليه، فهو سبب السبب.
وقال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا 3 يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} أسند الفعل وهو "يجعل" إلى الزمان لوقوعه فيه، وهو كناية عن شدته،
__________
1 قالوا ولا يتعين أن يكون المثال المذكور مجازا عقليا بل يجوز أن يكون من قبيل المجاز اللغوي وأن يكون "ابن" بمعنى: مر بالبناء.
2 قد رد بهذا على الظاهرية الزاعمين عدم وقوع المجاز العقلي أو اللغوي في القرآن لإيهام المجاز الكذب والقرآن منزه عنه ووجه الرد أن لا إيهام مع القرينة.
3 يريد يوم القيامة وهو منصوب على أنه مفعول به؛ لأن الوقاية منه لا فيه, ثم إن "تتقون" يتعدى إلى مفعولين الأول محذوف والثاني "يوما" على حذف مضاف والمعنى: فكيف تتقون أنفسكم عذاب يوم أي: تصونونها من عذاب يوم، ويتعدى إلى واحد ويكون بمعنى الحذر والمعنى: فكيف تحذرون من عذاب يوم.(4/59)
وكثرة ما فيه من هموم وأحزان؛ لأن الشيب مما يتسارع عند تفاقم الشدائد والمحن، أو كناية عن طوله، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة، فيشيبون.
وقال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} 1 أي: ما فيها من الدقائق والخزائن أسند الفعل وهو الإخراج إلى الأرض التي هي مكان متعلق الإخراج، وهو الشيء المخرج، وحقه أن يسند إلى الله تعالى. والأصل: وأخرج الله من الأرض أثقالها.
فكل ما تقدم من الأمثلة مجازات عقلية، أسند فيها الفعل إلى غير ما هو له، وهو غيض من فيض مما ورد في الذكر الحكيم.
غير أن السكاكي مع هذا أنكر2 المجاز العقلي, ورده إلى الاستعارة بالكناية، وجعل كل ما ذكر من أمثلة المجاز العقلي من قبيل الاستعارة بالكناية, فالاستعارة عنده في نحو قولهم: "شفى الطبيب المريض" في لفظ "الطبيب" الذي هو الفاعل المجازي، لا في الإسناد.
بيان ذلك أنه يريد "بالطبيب" الفاعل الحقيقي مبالغة بقرينة نسبة الشفاء إليه, وتقرير الاستعارة عنده -على ما فهم من مذهبه- أن يشبه الفاعل المجازي "كالطبيب" في المثال المذكور بالفاعل الحقيقي، وهو "الفاعل المختار" في تعلق الفعل بكل منهما -على ما سبق- ثم يذكر المشبه، ويراد به حقيقة المشبه به بواسطة قرينة هي أن ينسب إليه شيء من لوازم المشبه به "كالشفاء" في هذا المثال، وكالأنشاب في "أنشبت المنية أظفارها".
__________
1 أثقال جمع ثقل بفتح التاء والقاف وهو في الأصل متاع البيت، فالتفسير المذكور تفسير مراد والإسناد في هذه الآية إلى المفعول به بواسطة حرف البحر وهو "من" وليس الإسناد إلى الظرف المكاني؛ لأن الأرض ليست مكانا للفعل, إذ لا يقال أخرج فيها بل أخرج منها؛ لأن الأثقال مخرجة منها لا فيها، والمكان الملابس للفعل هو مكان الفعل وملابسته له لوقوعه فيه.
2 الحامل له على هذا الإنكار تقليل الانتشار وتقريب الضبط لاعتبارات البلغاء بإرجاع أمثلة المجاز العقلي إلى الاستعارة بالكناية, ويرد عليه بأن ذلك ليس بأولى من العكس.(4/60)
ودليله على هذا: أن كل مجاز عقلي يمكن أن يقال فيه: هو ذكر المشبه، وإرادة المشبه به بواسطة قرينة، وكل ما هذا شأنه فهو استعارة بالكناية.
وما ذهب إليه السكاكي مردود إذ يترتب عليه أمران محظوران:
الأول: تجويز أمور تضافروا على منعها وهي:
1- ظرفية الشيء في نفسه في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ذلك أن الفاعل المجازي عنده يراد به الفاعل الحقيقي بقرينة إثبات ما هو من لوازم الفاعل الحقيقي له، وحينئذ يكون المراد "بعيشة" في الآية صاحبها؛ لأنه الفاعل الحقيقي، ويصير الكلام: فهو في صاحب عيشة، وظرفية الشيء في نفسه باطل وإذًا يلزم ألا تصح الآية، واللازم باطل إذ لا شك في صحتها.
2- إضافة الشيء إلى نفسه في نحو قولهم: "نهاره صائم" من كل ما أضيف في الفاعل المجازي إلى الفاعل الحقيقي بناء على مذهبه من أن المراد بالفاعل المجازي الذي هو "النهار" الفاعل الحقيقي الذي هو "الشخص" وإضافة الشيء إلى نفسه باطل وإذا لزم ألا تصح هذه الإضافة، واللازم باطل إذ لا شك في صحتها لوقوعها في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} .
3- ألا يكون الأمر بالبناء لهامان في قوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} لأن المراد بضمير "ابن" حينئذ هم "العملة" بناء على مذهبه من أن المراد بالفاعل المجازي وهو "هامان" الفاعل الحقيقي الذي هو "العملة" فيلزم أن يصير الكلام: يا هامان ابن يا عملة"، فالنداء لشخص، والخطاب مع غيره واللازم باطل؛ لأن النداء لهامان، فيكون الأمر له أيضا إذ لا يجوز تعدد الخطاب في كلام واحد.
4- أن يتوقف على السماع من الشارع قولهم: "شفى الطبيب المريض" و"سرتني رؤيتك" ونحو ذلك من كل ما كان فيه الفاعل الحقيقي هو الله تعالى؛ ذلك لأن أسماء الله توقيفية، فلا يصح أن يطلق عليه(4/61)
تعالى اسم "ما لم يرد إذن من الشارع" ولم يرد إطلاق لفظ "الطبيب أو الرؤية" على الله تعالى فلزم ألا يصح مثل هذه التراكيب واللازم باطل؛ لأنه صحيح شائع عند القائلين بالتوقيف, وعند غيرهم سمع من الشارع أو لم يسمع، وشيوعه يدل على أن المراد بهذه الأسماء غير الله.
الثاني: انتقاض ما ذهب إليه السكاكي من رد المجاز العقلي إلى الاستعارة بنحو: "نهاره صائم، وليله قائم" من كل ما اشتمل على الفاعل الحقيقي كالضميرين في "نهاره وليله" وذلك لاشتماله على ذكر طرفي التشبيه, وهما المشبه والمشبه به, أما المشبه فهو الضمير في "صائم وقائم" لأنه الفاعل المجازي، وأما المشبه به فهو الضمير في "نهاره وليله" لأنه الفاعل الحقيقي إذ المراد به الشخص, واجتماع طرفي التشبيه في تركيب واحد مانع من حمل الكلام على الاستعارة، وقد صرح السكاكي نفسه بذلك إذا اشترط في الاستعارة بالكناية ألا يذكر فيها المشبه به1 ا. هـ.
وأجيب عن السكاكي فيما اتجه إليه من المآخذ الأربعة السابقة بأن ذلك إنما يتم لو أن مذهبه في الاستعارة بالكناية أن يذكر المشبه، ويراد المشبه به حقيقة كما فهم المعترض، وليس كذلك، بل المراد المشبه به ادعاء إذ لا يقول عاقل إن المراد "بالنية" في قولنا: "مخالب المنية نشبت بفلان" هو الأسد الحقيقي, فهو إنما يشبه المنية بالسبع، ثم يبالغ في التشبيه, فيدعي أن المنية فرد من أفراد السبع بحيث يصير للسبع فردان: فرد حقيقي، وهو "ذلك الحيوان المفترس" وفرد ادعائي، وهو "المنية" ثم يذكر المشبه، ويريد به المشبه به ادعاء وحينئذ فلا يتجه عليه ما ذكر.
ورد هذا الجواب بأنه اعتراف بما أنكره، ووقوع فيما فر منه, ذلك
__________
1 هذا التوجيه يفيد أن الضمير في كل من "صائم وقائم" راجع للنهار والليل بمعنى الفاعل المجازي وهو الزمان، فالمضاف والمضاف إليه في "نهاره وليله" حينئذ شيآن إذ إن المضاف بمعنى الزمان والمضاف إليه بمعنى الشخص, وهذا يخالف ما تقدم من أن المراد بالنهار والضمير المضاف إليه شيء واحد، وأن المراد بالليل وضميره المضاف إليه شيء واحد كذلك, وأجيب بأن لا مانع من أن يراد هذا أو ذاك فكلاهما ممنوع ولا مفر للسكاكي من لزوم واحد من الأمرين.(4/62)
أن المشبه به ادعاء في نحو قولك: "أنشبت المنية أظفارها" مثلا إنما هو المشبه، وقد أسند إليه ما هو من لوازم المشبه به حقيقة، وهو "الإنشاب"، وكان حقه أن يسند إلى المشبه به الحقيقي، وهو "السبع"، فيكون حينئذ إسنادا للشيء إلى غير ما هو له، وذلك هو المجاز العقلي بعينه فالسكاكي في كلتا الحالين مؤاخذ, سواء أراد بالمشبه المشبه به حقيقة، أو ادعاء.
وأجيب عنه في الاعتراض الأخير بأنا لا نسلم أن ذكر طرفي التشبيه مطلقا مانع من الحمل على الاستعارة، وإنما يمنع من الحمل عليها ذكرهما على وجه ينبئ عن التشبيه، ويدل عليه بألا يصح المعنى إلا بمراعاة التشبيه، وذلك إذا وقع المشبه به خبرا عن المشبه نحو: "عنترة بني عبس أسد"، أو وقع حالا منه، أو صفة له نحو: حمل عنترة على الأعداء أسدا، ومررت برجل أسد، فإن حمل الأسد على عنترة، أو وقوعه حالا منه، أو وصف الرجل به ممنوع لتباين المفهومين، فيتعين إذًا الحمل على التشبيه بتقدير أداته.
أما إذا كان الجمع بين الطرفين على وجه لا ينبئ عن التشبيه، ولا يدل عليه فذلك لا يمنع من أن يكون استعارة كما في قولك: "سيف عمرو بن معديكرب في يد أسد"، ولقيت من خالد بن الوليد أسدا, ومنه قولهم: نهاره صائم" "وليله قائم"1 بدليل أن السكاكي نفسه جعل قول الشاعر:
لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر2
من باب الاستعارة استعير فيه لفظ "القمر" لذات المحبوب، مع ذكر
__________
1 على اعتبار أن الإضافة فيهما على معنى اللام فإن كانت الإضافة بيانية وهي ما يكون المضاف فيها عين المضاف إليه ولو على سبيل المبالغة كان المثالان المذكوران من قبيل ما ذكر فيه الطرفان على وجه ينبئ عن التشبيه؛ لأن الإضافة حينئذ في معنى حمل أحد الطرفين على الآخر مبالغة في معنى الإلحاق كما في لجين الماء.
2 "البلى" بكسر الباء والقصر مصدر بلي الثوب يبلى صار خلقا و"الغلالة" شعار يلبس تحت الثوب "والأزرار"" جمع زر بكسر الزاي وهو ما يوضع على القميص يقال زر القميص إذا شد أزراره عليه.(4/63)
الطرفين، وهما "القمر"، و"ضمير" أزراره باعتباره راجعا إلى المحبوب المشبه بالقمر، أو "ضمير" غلالته الراجع إليه.
تنبيهان:
الأول: اعلم أن الحقيقة والمجاز من مباحث علم البيان, وإنما أوردوهما في علم المعاني استطرادا لأدنى مناسبة, وليس بسديد ما علل به بعضهم من أنهما من أحوال اللفظ إذ ليس كل ما كان من أحوال اللفظ يذكر في علم المعاني؛ لأنه لا يبحث فيه عن جميع أحوال اللفظ، بل عن الأحوال التي بها المطابقة لمقتضى الحال, ولا يقال: "إن الإضافة للعهد، أي: أحوال اللفظ المعهودة، وهي الأحوال التي بها المطابقة؛ لأنهم لم يذكروا للحقيقة والمجاز العقليين أحوالا تقتضيهما كما ذكروا لغيرهما.
الثاني: هذه الأحوال الأربعة المتقدمة: وهي التأكيد وعدمه، والحقيقة والمجاز العقليان, كما تكون في الإسناد الخبري تكون أيضا في الإنشاء فإذا قلت لشخص: "ابن لي قصرا" فإن كان ذلك الشخص أهلا للبناء بنفسه فالإسناد حقيقة عقلية، وإلا فمجاز عقلي، وإذا كان المخاطب قريب الامتثال قيل له: "أقبل" من غير تأكيد، وإن كان شديد البعد عن الامتثال قيل له: "أقبلن" بالنون المشددة، وإن كان غير شديد البعد عن الامتثال قيل له "أقبلن" بالنون الخفيفة وإنما اختص الحديث في ذلك بالخبر؛ لأنه المقصود الأعظم في نظر البلغاء لكثرة مباحثه.(4/64)
اختبار:
1- عرف الحقيقة العقلية، وبين المراد "بالفعل"، وما في معناه، و"بالشيء" الذي يسند إليه الفعل، أو ما في معناه، مع بيان ذلك بمثالين أحدهما للفعل، والثاني لما في معناه.
2- بين المراد بقوله: "عند المتكلم في ظاهر حاله" وهل هو للإخراج أو للإدخال؟ وضح ذلك وضوحا تاما.(4/64)
3- اذكر أقسام الحقيقة العقلية، ووجه هذا التقسيم، ومثل لكل بمثال.
4- عرف المجاز العقلي، وبين لم كان عقليا، وما الفرق بين العقلي واللغوي من حيث النسبة؟
5- بين المراد بلفظ "غير" الواقع في تعريف المجاز العقلي، وهل المراعى فيه حال المتكلم أو الواقع؟ وهل يترتب على ذلك شيء؟ فصل القول في ذلك.
6- اذكر أقسام المجاز العقلي، ومثل لكل بمثال، مع بيان قرينة المجاز في كل منها، وبين هل يكتفى بوجود القرينة، أم لا بد من نصبها، وبم يكون نصب القرينة، وما منشأ هذا التقسيم؟
7- بين معنى قوله: "للملابسة" في تعريف المجاز، ووضح ذلك بمثال، ثم اذكر ثلاثة أنواع من ملابسات الفعل، مع التمثيل لكل نوع.
8- بين معنى قوله "بتأول"، وبسبب وجوب التقييد به، وما الذي يخرج بهذا القيد؟ وما الفرق بين قول الجاهل: "أنبت الربيع البقل" والأقوال الكاذبة، مع أن كليهما غير مطابق للواقع، وما رأي السكاكي في هذا القيد؟
9- قسم القرينة، وعرف كل قسم، مع التمثيل، واذكر من أي نوعي القرينة المعنوية قول المؤمن: "أشاب رأسي الزمان"، وهلا كان من نوع المستحيل عقلا؟
10- اذكر باختصار ما وقع من النزاع بين الخطيب ومناصريه، وبين الإمام عبد القاهر في وجوب أن يكون للمجاز العقلي حقيقة، أو عدم وجوبه، مع بيان ما يتحصن به كل من الطرفين من دليل.
11- قسم المجاز العقلي باعتبار طرفيه، مع التمثيل لكل قسم، ومن أي الأقسام قولهم: أحيت الجاهل آيات الكتاب الحكيم؟(4/65)
12- مقتضى تعريفهم المجاز العقلي: بأنه إسناد الفعل إلخ، وجعله من أحوال الإسناد الخبري أنه خاص بالنسب التامة الخبرية، مع أنه يجيء في النسب غير التامة كالإضافية والإيقاعية كما يأتي أيضا في النسب الإنشائية فما الجواب على هذا؟
13- أنكر السكاكي المجاز العقلي، ورده إلى الاستعارة بالكناية، فما دليله؟ وما الذي ردوا به عليه، وبماذا أجيب عنه تأييدا لدعواه؟ فصل القول في هذه المسألة.
14- بين ما طابق الواقع، والاعتقاد، وما طابق أحدهما، وما لم يطابق واحدا منهما، مع بيان كونه حقيقة أو مجازا، ومع تعيين قرينة المجاز فيما يأتي:
1- قال الجاهل: شيبتني الهموم والأحزان لمن يعلم أنه مؤمن يضيف الإشابة إلى الله، والمتكلم يعلم ذلك.
2- قال المؤمن: أخرج الله النبات لمن يعتقد إيمانه.
3- قال الجاهل: أنضر الله الأرض لمن يعلم حاله، والمتكلم يعلم منه ذلك.
4- قال الجاهل: قوس ظهري الدهر، وألانت قناتي الأيام "لمن يعلم حاله".
5- قال الجاهل: أدر الله الضرع، وأنضج الزرع لمن يخفى حاله عنه.
6- قال المؤمن: شفى الله المريض "لمن يعتقد أنه جاهل يضيف الشفاء إلى الطبيب" وعلم المتكلم منه ذلك.
7- ما الحكم فيما لو قال رجل كذبا: "حضر الأمير" لمن لا يعلم أنه كاذب، وما الحكم إذا قال ذلك لمن يعلم كذبه، وهو يعلم منه ذلك؟(4/66)
الجواب على السؤال الأخير:
1- مجاز عقلي بالنظر لحال المخاطب وهو مطابق للاعتقاد دون الواقع وعلم المخاطب بأنه مؤمن قرينة المجاز، وعلم المتكلم باعتقاد المخاطب نصب لهذه القرينة.
2- حقيقة عقلية وهو مطابق للاعتقاد والواقع.
3- مجاز عقلي بالنظر لحالهما معا وهو مطابق للواقع دون الاعتقاد، وعلم المخاطب بحال المتكلم قرينة المجاز، وعلم المتكلم باعتقاد المخاطب نصب لهذه القرينة.
4- حقيقة عقلية وهو مطابق للاعتقاد والواقع.
5- حقيقة عقلية بالنظر إلى ظاهر حال المتكلم وهو مطابق للواقع دون الاعتقاد، واعتقاد المخاطب بأنه جاهل قرينة المجاز، وعلم المتكلم باعتقاده نصب للقرينة.
6- مجاز عقلي بالنظر إلى حال المخاطب وهو مطابق للاعتقاد والواقع، واعتقاد المخاطب بجهل المتكلم قرينة المجاز، وعلم المتكلم باعتقاده نصب لهذه القرينة.
7- حقيقة عقلية في الأول بالنظر لظاهر حال المتكلم، وهي لم تطابق الواقع ولا الاعتقاد, ومجاز عقلي في الثاني بالنظر لحالهما معا، ولم يطابق واحدا منهما.
تمرين على هذا السؤال يطلب جوابه:
قال الجاهل: أبرأ الدواء الجرح لمن يعلم أنه مؤمن يضيف الإبراء إلى الله، قال رجل كذبا: "غمرت أراضينا المياه" لمن يعلم كذبه، وهو يعلم ذلك منه. قال مؤمن: "هدى الله العاصي" لمن يعتقد إيمانه وأنه يضيف الهداية إلى الله تعالى. قال مؤمن: "أزال الله كربي" لمن يعتقد أنه جاهل يضيف الإزالة إلى غير الله من المؤثرات. قال جاهل: "أفنى(4/67)
الله الإنسان" لمن يعلم أنه جاهل يضيف الإفناء إلى الزمن. قال رجل هو كاذب: "أخصبت أراضينا" لمن لا يعلم كذبه. قال جاهل: "أزهر الله النبات" لمن يخفى حاله. قال جاهل: "أذبل الشتاء الزهر لمن يعلم حاله".(4/68)
أحوال المسند
ذكر المسند إليه
...
أحوال المسند إليه:
أحوال المسند إليه هي ما يعرض له من حيث1 إنه مسند إليه من ذكر وحذف، وتعريف، وتنكير, وتقديم، وتأخير، وغير ذلك مما سيأتي.
ذكر المسند إليه:
المسند إليه هو المحكوم عليه, فاعلا كان، أو نائب فاعل، أو مبتدأ أصلا أو حالا, وأحواله هي ما يعرض له من ذكر، وحذف، وتعريف، وتنكير، وتقديم، وتأخير، وغير ذلك مما سيأتي في أبوابه مفصلا.
واعلم أن المسند إليه واجب الذكر إذا لم تقم عليه قرينة، ولا بحث لنا فيه فإذا دلت عليه قرينة من ذكر أو حال جاز ذكره وحذفه، وهذا ما نحن بصدد البحث فيه, ذلك أن البحث إنما هو في مرجحات الذكر على الحذف، أو العكس، وذلك إنما يكون حيث يجوز ذكره وحذفه لقيام قرينة عليه، ومرجحات الذكر كثيرة نذكر منها ما يلي:
__________
1 هذه حيثية تقييد احترز بها عن الأمور العارضة للمسند إليه لا من هذه الحيثية, ككونه حقيقة أو مجازا فإنهما عارضان له لا من حيث إنه مسند إليه من حيث الوضع، وككونه كليا أو جزيئا فإنهما عارضان له لا من حيث لفظه، وككونه ثلاثيا أو رباعيا فإن ذلك عارض له من حيث عدد حروفه. وليست حيثية تعليل إذ يفيد ذلك أن الحذف والذكر وغيرهما من سائر الأحوال المذكورة في أبوابها بعد عارضة له من أجل كونه مسندا إليه مع أنه ليس كذلك بل هذه الأحوال إنما تعرض له من أجل الدواعي التي ستذكر في أبوابها, ولا يقال: إن "الرفع" من الأحوال التي تعرض له من حيث إنه مسند إليه فكان حقه أن يذكر في هذا الفن؛ لأن إضافة أحوال للمسند إليه للعهد وهي التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال, فخرج الرفع فإنه وإن كان عارضا من هذه الحيثية لكن لا يطابق به اللفظ مقتضى الحال.(4/68)
1- كون ذكر المسند إليه هو الأصل أي: الكثير، وليس هناك ما يقتضي حذفه في قصد المتكلم1 أي: محل كون الأصالة علة تقتضي الذكر حيث لم تعارضها علة أخرى تقتضي الحذف، قصد إليها المتكلم، وإلا روعيت وأهملت علة الأصالة لضعفها, بخلاف سائر نكات الذكر فإن كلا منها يصلح بمجرده نكتة حتى إذا وجدت معها نكتة للحذف فلا بد من مرجح لإحداهما.
2- قلة الثقة بالقرينة لضعفها, إما لخفائها في نفسها وإما للاشتباه فيها, فالأول أن يذكر المسند إليه في حديث، ثم تمضي فترة حتى يطول عهد السامع به، فيذكر ثانيا لاحتمال غفلة السامع عنه لطول العهد به, والثاني أن يذكر المسند إليه في حديث, ثم يحول مجرى الحديث في شأن غيره، فيذكر ثانيا لئلا يشتبه السامع في المحدث عنه, أهو الأول أم الثاني؟ فقد ضعف التعويل على القرينة في الموضعين لما ذكرنا, مثال ذلك أن تقول: "شوقي نعم الشاعر" فتذكر المسند إليه إذا سبق لك ذكر "شوقي" في حديث سابق وطال عهد السامع به، أو ذكر معه كلام في شأن غيره.
3- التنبيه على غباوة السامع، وأنه لا يفهم إلا بالتصريح, نقصد إفادة أن الغباوة وصفه، أو لقصد إهانته وتحقيره كما تقول لسامع القرآن: "القرآن كلام الله" فتذكر المسند إليه تنبيها على أن المخاطب موسوم بميسم الغباوة، لا ينبغي أن يكون الخطاب معه إلا هكذا.
4- زيادة الإيضاح والتقرير2 أي: إيضاح المسند إليه، وانكشافه لذهن السامع، وتثبيته في نفسه كما تقول: "هؤلاء جدوا وهؤلاء بلغوا الذروة" ذكر المسند إليه وهو اسم الإشارة الثاني لقصد زيادة الإيضاح
__________
1 إنما شرطنا قصد المتكلم؛ لأن المقتضي للحذف موجود دائما كالاحتراز عن العبث في ذكره مثلا فالمدار إذًا على قصد المتكلم.
2 المراد بالتقرير مطلق الإثبات وحينئذ فبيان الزيادة في الإيضاح والتقرير أن في القرينة إيضاحا وتقريرا للمسند إليه حيث دلالتها عليه, وأن المحذوف لدليل كالمذكور وفي التصريح بالمسند إليه مع قيام القرينة عليه زيادة في إيضاحه وتقريره.(4/69)
والتقرير، وأن هؤلاء الذين ثبت لهم الاجتهاد هم أنفسهم الذين ثبت لهم بلوغ الذروة، فتكرار "هؤلاء" أفاد اختصاصهم بكل واحد من الاجتهاد وبلوغ الذروة مميزا لهم عمن عداهم، وفي هذا الإيضاح والتقرير ما لا يخفى, ومنه قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فذكر المسند إليه لزيادة الإيضاح والتقرير على نحو ما بينا في المثال قبله, غير أن في التمثيل بالآية نظرا إذ ليست من قبيل ما لو لم يذكر فيه المسند إليه لكان محذوفا كما هو فرض المسألة؛ لأننا لو حذفنا اسم الإشارة الثاني لم يكن المسند إليه محذوفا إذ إن جملة {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} مركبة من مسند ومسند إليه، وهي إما معطوفة على خبر اسم الإشارة الأول، أو معطوفة على جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} وعلى كلا الاحتمالين لا حذف للمسند إليه.
5- إظهار1 تعظيمه، أو تحقيره إذا كان اسمه مما يفيد معنى التعظيم أو الحقارة كأن يسألك شخص: "هل رجع خالد؟ " فتقول: "رجع الشجاع المقدام"، أو "رجع الجبان الرعديد"، فتذكر المسند إليه في الأول تعظيما له، وفي الثاني إهانة وتحقيرا, وكما تقول: "نعم: أمير البلاد يخاطبك"، في جواب من سأل: هل الذي يخاطبني فلان؟ أو تقول: "قدم السفيه" جوابا لمن سأل: هل قدم زيد؟
6- التيمن والتبرك بذكره؛ لأنه مجمع اليمن والبركات كما تقول: نبينا عليه الصلاة والسلام قائل هذا القول جوابا لمن قال: هل قال هذا القول رسول الله؟ فتذكره تيمنا بذكره وتبركا به.
7- التلذذ بذكره كقولك: الله حسبي، ومحمد شفيعي، وكقولك: "حضر الحبيب" جوابا لمن قال: هل حضر فلان؟ يريد هذا الحبيب، فتجري ذلك على لسانك لقصد التلذذ بسماع هذه الألفاظ.
__________
1 إنما زيد لفظ إظهار لأن المسند إليه يفيد التعظيم في حال الحذف من حيث دلالة القرينة عليه فيكون ذكره لإظهار التعظيم.(4/70)
8- بسط الكلام وإطالته، وذلك حيث يكون إصغاء1 السامع مطلوبا للمتكلم لخطر مقامه، أو لقربه من قلبه، ولهذا يطال الكلام مع الأجباء مثاله، قوله تعالى حكاية لقول موسى عليه السلام: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} الآية، قال ذلك حين سأله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ؟، وكان يكفي في الجواب أن يقول: "عصا" لأن "ما" للسؤال عن الجنس لكنه ذكر المسند إليه، وهو "الضمير" حبا في إطالة الكلام في حضرة الذات العلية، وأي مقام يستدعي بسط الكلام فيه كهذا المقام؟ ولهذا لم يكتف موسى عليه السلام بذكر المسند إليه، بل أعقب ذلك بذكر أوصاف لم يسأل عنها، فقال: أتوكأ عليها إلى آخر الآية2, ومثله أن يسألك إنسان تحبه وتجله: ماذا بيدك؟ فتقول له: "هذا كتابي رفيقي في غربتي، وسميري في وحدتي" وكان يكفي أن تقول: "كتاب" لأن السؤال عن جنس ما بيدك لكنك ذكرت المسند إليه حبا في إطالة الكلام في حضرة من تحبه, ولذلك أضفت إليه وصفين لم تسأل عنهما.
9- قصد التهويل والإرهاب كقولك: أمير البلاد يأمرك بكذا، فتذكر المسند إليه باسم الأمارة تهويلا للمخاطب، وإرهابا ليكون ذلك أدعى إلى الامتثال والطاعة.
__________
1 المراد بإصغاء في الآية لازمه وهو السماع, فيكون مجازا مرسلا وإنما كان المراد ذلك هنا؛ لأن الإصغاء بالمعنى المعروف الذي هو إمالة الأذن لسماع الكلام محال في حقه تعالى.
2 الإجمال في آخر الآية في قوله: ولي فيها مآرب أخرى، ينافي حمل الآية على البسط والمناسب لذلك تفصيل تلك المآرب, والجواب أحد احتمالين الأول أن يكون موسى كان يترقب السؤال منه تعالى عن تفصيل ما أجمل فيتلذذ بخطاب الله له -الثاني- أن يكون الحياء قد غلب عليه لمزيد المهابة والإجلال فلم يستطع الاسترسال في القول, ثم إن في جواب موسى عليه السلام إشكالا وهو أن السؤال "بما" عن الجنس فكيف أجاب بالشخص، بل ولم ذكر هذه الصفات وهي غير مسئول عنها وإنما المسئول عنه الجنس؟ ويجاب بأنه أجاب عن الجنس في ضمن هذا الفرد فكأنه قال: هي جنس هذا الفرد, وأن "ما" كما تكون للسؤال عن الجنس قد تكون للسؤال عن الصفة فموسى عليه السلام احتاط فجمع في جوابه بين الأمرين لاحتمال أن يكون السؤال عن هذا أو ذاك أو عنهما معا.(4/71)
10- إظهار التعجب من المسند إليه إذا كان الحكم غريبا يندر وقوعه كما في قولك: "علي يصرع الأسد"، أو "يحمل كذا طنا من حديد" إذا دلت عليه قرينة، فتذكر المسند إليه لقصد إظهار التعجب من شدة بأسه.
11- قصد التسجيل على السامع بين يدي القاضي حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار والتنصل كأن يقول القاضي لشاهد واقعة: هل أقر هذا بأن عليه لعلي كذا، فيقول الشاهد: نعم محمد هذا أقر بأن عليه لعلي كذا، فيذكر المسند إليه لئلا يجد المشهود عليه سبيلا إلى الإنكار فيما لو لم يذكر اسمه بأن يقول للقاضي مثلا عند التسجيل عليه كتابة: إنما فهم الشاهد أنك أشرت إلى غيري، فأجاب بما أجاب به، ولذلك لم أنكر، ولم أطلب الإعذار فيه1.
إلى غير ذلك من نكات الذكر إذ ليست سماعية حتى يمكن استيعابها بل المدار في ذلك على الذوق السليم، فما عده الذوق داعيا من دواعي الذكر أو الحذف، أو غيرهما عمل به، وإن لم يذكره أهل الفن.
__________
1 الإعذار إبداء العذر.(4/72)
حذف 2 المسند إليه:
يحذف المسند إليه لأغراض نذكر منها ما يلي:
1- الاحتراز عن العبث في ظاهر الأمر لدلالة القرينة عليه، وذلك أن ما قامت عليه قرينة، ووضح أمره يكون ذكره عبثا في ظاهر الأمر؛ لأنه معلوم من القرينة، فلا معنى لذكره، وينبغي أن يصان كلام البليغ عن العبث, مثال ذلك أن تقول: "حضر" تريد "الأمير" إذا كان هناك قرينة من لفظ أو حال تدل على أن الذي حضر هو الأمير، فتحذف المسند
__________
1 إنما عبر هنا في جانب المسند إليه بالحذف وفي جانب المسند بالترك على ما سيأتي؛ لأن المسند إليه هو الركن الأعظم الشديد الحاجة إليه, حتى إنه إذا لم يذكر تخيل أنه أتى به ثم حذف بخلاف المسند فليس بهذه المثابة؛ لأنه وصف المسند إليه والوصف متوقف على الموصوف من غير عكس, فهو إذًا أدنى مرتبة منه.(4/72)
إليه قصدا إلى التحرز عن العبث في ذكره لقيام القرينة الدالة, وإنما كان العبث ظاهريا؛ لأن الحقيقة أن لا عبث في ذكره، وإن قامت عليه قرائن؛ لأن المسند إليه أعظم ركني الإسناد إذ هو المحكوم عليه، فلا يكتفى فيه بالقرينة، بل ينبغي مع ذلك أن ينص عليه اهتماما بأمره.
2- تخييل العدول إلى أقوى الدليلين1: اللفظ والعقل أي: أن يقصد المتكلم أن يخيل للسامع أنه عدل إلى أقوى الدليلين، وهو العقل.
بيان ذلك: أن الدال على المسند إليه عند حذفه هو "العقل"، وأن الدال عليه عند ذكره هو "اللفظ" غير أن العقل أقوى دلالة من اللفظ؛ لأن العقل ليس بحاجة دائما إلى اللفظ في الدلالة، بل كثيرا ما يستقل بها كما في المعقولات الصرفة، وكما في دلالة الأثر على المؤثر, بخلاف اللفظ فإنه دائما مفتقر إلى العقل في الدلالة، إذ لا يمكن أن يفهم منه شيء بدون معونة العقل، فالعقل آلة الإدراك، ولكن الحقيقة أن العقل أيضا غير مستقل في الدلالة عند الحذف، وإنما يدل بمعونة اللفظ المقدر المدلول عليه بالقرائن، فكلاهما ردء للآخر، وحينئذ لم يتحقق العدول إلى أقوى الدليلين، من أجل هذا جعلوا النكتة في الحذف قصد العدول المتخيل لا المتحقق, مثال ذلك قولك في المثال السابق: "حضر" تريد الأمير فقد حذف المسند إليه؛ لأن المتكلم يريد أن يدخل في روع السامع، وفي خياله أنه عدل عن أضعف الدليلين إلى أقواهما وهو "العقل" كما بين.
3- ضيق المقام عن إطالة الكلام بسبب ما قد يعتري المتكلم من توجع أو ضجر ناشئين من أحداث الزمان، أو تباريح الهوى، بحيث لا يستطيع التكلم بأكثر مما يفيد الغرض كما في قول الشاعر:
قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل
سهر دائم وحزن طويل
لم يقل: "أنا عليل" لضيق صدره عن الإطالة بسبب ما ينوء به
__________
1 أي: على المسند إليه.(4/73)
من أعباء الهموم، أو ما يعانيه من آلام الهوى، ومنه قوله تعالى1: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} لم تقل "أنا عجوز" لما تحسه من ضيق الصدر عن الإطالة في القول بسبب ما انتابها من عقم، وما لحقها من كبر.
4- الحذر من فوات الفرصة كأن يقول رجل لصائد: "غزال" يريد: "هذا غزال" فيحذف المسند إليه وهو "هذا" مخافة أن تفوت الفرصة بإطالة الكلام، فيفلت الصيد من يد الصائد, ومثله قولك: "قطار" لواقف في طريقه غافلا عنه أي هذا قطار فتحذف المسند إليه انتهازا للفرصة حتى لا يدهمه القطار.
5- اختبار تنبه السامع عند قيام القرينة على المسند إليه أيتنبه إليه لهذه القرينة القائمة، أم لا يتنبه إلا بالتصريح؟ مثال ذلك أن يحضر إليك رجلان تربطك بأحدهما صداقة، فتقول لآخر يعلم بهذه الصلة: "غادر" تريد أن تقول: الصديق غادر، فتحذف المسند إليه اختبارا للسامع أيتنبه إلى أن المسند إليه المحذوف هو "الصديق" بقرينة ذكر "الغدر" إذ لا يناسب إلا الصديق أم لا يتنبه؟ ومثله قولك: "مستفاد نوره من الشمس" تريد "القمر" فتحذفه اختبارا لذكاء السامع.
6- اختبار مقدار تنبه السامع ومبلغ ذكائه عند قيام قرينة خفية على المسند إليه أيتنبه بالقرائن الخفية أم لا؟ مثال ذلك أن يحضرك شخصان تجمعك بهما صداقة غير أن أحدهما أقدم من الآخر فيها، فتقول لآخر يعلم بهذه الصحبة: "جدير بالإحسان" تريد أقدمهما صحبة، وهو "محمد" مثل، فتحذف المسند إليه اختبارا لمبلغ ذكاء المخاطب أيتنبه إلى هذا المحذوف لهذه القرينة الخفية، وهي أن أهل الإحسان ذو الصداقة القديمة, دون حادثها أم لا يتنبه2؟
__________
1 حكاية عن قول السيدة سارة عندما دخل الملائكة المكرمون على زوجها إبراهيم عليه السلام, وبشروه بأنه سيولد له ولد كثير العلم هو إسحاق عليه السلام, فلما بلغها ذلك صاحت ولطمت وجهها وقالت يا ويلتا: أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا؟ إن هذا لشيء عجيب.
2 حكي عن بعض خلفاء بني العباس أنه ركب سفينة مع أحد ندمائه فسأله الخليفة: أي طعام أشهى عندك؟ فقال: مخ البيض المسلوق فاتفق عودهما هنالك في المقابل فقال له الخليفة: مع أي شيء؟ فأجاب النديم مع الملح فتعجب الخليفة من قوة استحضاره وكمال تنبهه ويقظته.(4/74)
7- إيهام1 صون المسند إليه عن لسانك من أن يتلوث بنجاسة بمروره عليه لكونه عظيما خطيرا, أو إيهام صون لسانك عنه لحقارته وامتهانه, فالأول نحو: "رافع راية التوحيد، هادم دعائم الشرك" تريد النبي -صلى الله عليه وسلم- فتحذفه مخافة أن يتلوث من لسانك. والثاني نحو قولك: "مخذول مطرود" تريد إبليس اللعين، فتحذفه لئلا يتلوث اللسان بذكره, وكما يكون الحذف لإيهام صونه عن اللسان أو عكسه يكون أيضا لإيهام صونه عن سماع المخاطب، أو عكسه.
8- تأتي الإنكار وتيسره عند الحاجة إليه, مثال ذلك أن يحضر إليك جماعة من بينهم خصم لك، فتقول لآخر: "وغد لئيم" تريد هذا الخصم، فتترك ذكر اسمه ليتأتى لك الإنكار عند لومه لك على سبه، فتقول له: ما عنيتك وإنما أردت غيرك.
9- تعين المسند إليه2, إما لأن المسند لا يصلح إلا للمسند إليه، أو لأن المسند كامل فيه, وإما لأن المسند إليه معهود بين المتكلم والمخاطب, فمثال الأول قولك: "عالم الغيب والشهادة" تريد الله سبحانه، فتحذفه لتعينه إذ إن علم الغيب والشهادة وصف خاص به تعالى، لا يكون لسواه, ومثال الثاني: قولك: "عادل في حكومته" تريد عمر الفاروق، فتحذفه لتعينه؛ لأن صفة العدالة بلغت فيه الكمال, ومثله قولهم: "أمير الشعراء يريدون "شوقي"، فيحذفونه لتعينه لأن صفة الشاعر بلغت فيه الذروة, ومثال الثالث قولك: "حضر اليوم" تريد إنسانا معينا بينك وبين مخاطبك.
10- ادعاء تعين المسند إليه كقولك، "وهاب الألوف" تريد
__________
1 إنما عبر بالإيهام؛ لأن التلوث المراد صون الذكر أو اللسان عنه أمر اعتباري محض.
2 قيل إن ذكر الاحتراز عن العبث يغني عن ذكر التعيين؛ لأنه متى نعين المسند إليه كان حذفه احترازا عن العبث, وأجيب بأن القصد إلى التعين مغاير للقصد للاحتراز عن العبث، فقد يجوز أن يقصد أحدهما مع الذهول عن الآخر فتكون نكتة الحذف للبليغ قصد التعين دون الاحتراز وإن كان حاصلا, ويمكن أن يقال ذلك في سائر النكات التي يمكن اجتماعها.(4/75)
"الأمير" فتحذفه لتعينه ادعاء، وأنه لا يتصف بذلك أحد من رعاياه, وإنما كان تعينه ادعائيا؛ لأنه يمكن غيره من أفراد شعبه أن يبذل ذلك.
11- المحافظة على وزن، أو سجع، أو قافية, مثال الأول قول الشاعر:
على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا علي ولا ليا
أي لا علي شيء، ولا لي شيء. حذف المسند إليه فيهما، وهو لفظ "شيء" لأن في ذكره إفسادا لوزن البيت, ومثله قول الشاعر المتقدم: قال لي كيف أنت قلت عليل ... لم يقل أنا عليل محافظة على الوزن, ومثال الثاني قولهم: "من طابت سريرته حمدت سيرته" أي: حمد الناس سيرته، فحذف المسند إليه1، وهو "الناس"، محافظة على السجع المستلزم رفع الفاصلة2 من الفقرة الثانية، وهي قوله: "سيرته" إذ لو ذكر المسند إليه لكانت الأولى مرفوعة، والثانية منصوبة, ومثله قولهم: "من كرم أصله وصل حبله" أي: وصل الناس حبله، فحذف المسند إليه محافظة على السجع على نحو ما سبق, ومثال الثالث قول لبيد:
وما المرء والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع
أي: أن يرد الناس الودائع، فحذف المسند إليه وهو لفظ "الناس" للمحافظة على القافية، ولولاه لاختلفت لصيرورتها مرفوعة في الشطر الأول، منصوبة في الثاني, ومثله قول الشاعر:
قد قال عذول مناك أتى ... فأجبت وقلت كذبت متى
فقال حبيبك ذو خفر ... وكبير السن فقلت فتى
فالمسند إليه في البيتين محذوف محافظة على القافية تقديره متى الإتيان وهو فتى3.
__________
1 المراد بالمسند إليه الأصلي الذي هو الفاعل, وهذا لا ينافي أن نائب الفاعل مسند إليه أيضا.
2 هي الكلمة الأخيرة من جملة مقارنة لأخرى.
3 وفي مثل هذا محافظة على الوزن إلا أنه غير مقصود، وفرق بين الحاصل قصدا والحاصل من غير قصد.(4/76)
12- اتباع الاستعمال الوارد على ترك المسند إليه كقولهم في المثل: "رمية من غير رام"1 أي: هي رمية موفقة ممن لا يحسن الرمي حذف المسند إليه وهو "الضمير" اتباعا لما ورد في استعمالاتهم من ترك المسند إليه في مثل هذه المواضع, ومثله قولهم: "شنشنة أعرفها من أخزم"2. أي: هي شنشنة، فحذف المسند إليه اتباعا للاستعمال الوارد, ومنه قولهم في النعت المقطوع إلى الرفع لقصد إنشاء المدح، أو الذم، أو الترحم، "الحمد لله أهل الحمد" برفع أهل، وقولهم: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" برفع الرجيم، وقولهم: "اللهم ارحم عبدك المسكين" برفع المسكين على تقدير: هو أهل الحمد، وهو الرجيم، وهو المسكين، فقد حذف المسند إليه في هذه المثل اتباعا للاستعمال الوارد على تركه في نظائرها كقول العرب: "الحمد لله الكريم" برفع الكريم على المدح، وقولهم: "مررت بزيد الخبيث" برفع الخبيث على الذم، وقولهم: "اللهم ارحم عبدك الفقير" برفع الفقير, ومن هذا القبيل قول ابن عنقاء الفزاري يمدح عميلة وقد شاطره ماله لفقره3:
__________
1 مثل يضرب لمن صدر منه فعل ليس أهلا له قاله الحكم بن يغوث حين نذر أن يذبح مهاة على الغبغب وهو جبل بمنى, وكان من أرمى الناس فصار كلما رمى مهاة لا يصيبها, ومكث على ذلك أياما حتى كاد يقتل نفسه فخرج معه ابنه "مطعم" إلى الصيد فرمى الحكم مهاتين فأخطأهما فلما عرضت الثالثة رماها مطعم فأصابها, وكان لا يحسن الرمي فقال الحكم عندئذ: رمية من غير رام فصار مثلا.
2 هذا المثل عجز بيت قاله أبو أخزم الطائي, كان ابنه أخزم يؤذيه كثيرا، ثم مات في حياة أبيه، وترك أولادا له فوثبوا على جدهم يوما وأوسعوه ضربا حتى أدموه فأنشد:
إن بني ضرجوني بالدم ... من يلق آساد الرجال يكلم
ومن يكن ردءا له يقدم ... شنشنة أعرفها من أخزم
يقول إن ضربهم إياهه خصلة يعرفها من أبيهم أخزم, فذهب الشطر الأخير مثلا سائرا.
3 قال التبريزي في خبر هذه الأبيات: إن قوما من العرب أغاروا على نعم له فاستاقوها حتى لم يبق له منها شيء, فأتى ابن أخيه عميلة وقال له: يابن أخي إنه نزل بعمك ما ترى فهل من حلوبة؟ قال: نعم يا عم حين إذ يروح المال فأبلغ مرادك منه فلما راح المال قاسمه إياه وأعطاه شطره, فقال ابن عنقاء هذه الأبيات.(4/77)
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلي ما له حالي, أسركما جهر
دعاني فآساني ولو ضن لم ألم ... على حين لا بدو يرجى ولا حضر
غلام رماه الله بالخير يافعا ... له سيمياء لا تشق على البصر1
أي: هو غلام ومنه قول الشاعر2.
سأشكر عمرا ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت3
أي: هو فتى, وهكذا يذكرون الممدوح، ثم يعقبون بعد ذلك بقولهم: غلام من شأنه كذا وكذا، أو فتى من شأنه كيت وكيت، ولا تكاد
__________
1 "اشتكى حاله إلى ماله" كناية عن أنه رق له وعطف وهو من أروع الكنايات وألطفها، وقوله: "أسركما جهر" يريد: أن باطنه كظاهره فلم يعطه رياء بل كان عطفه عليه وليد رغبة صادقة فيه، ورماه الله بالخير غمره به، واليافع الشاب من أيفع الغلام إذا ناهز العشرين، والسيمياء الحسن والبهجة يرد أن سيماءه في وجهه وأن ما ينطوي عليه من خير يدرك بمجرد النظر إليه.
2 هو عمرو بن كميل. نظر إليه عمرو بن ذكوان وعليه جبة بلا قميص فجعل يسعى له ويتشفع حتى ولي البصرة فقال هذه الأبيات، وقيل إن قائل هذه الأبيات أبو الأسود يمدح بها عمرو بن سعيد العاصي.
3 ما تراخت منيتي يريد: ما امتد بي الأجل أي: ما حييت، والأيادي جمع يد بمعنى العطية، ولم تمنن أي: متصلة لم تنقطع، وقوله غير محجوب الغنى عن صديقه يريد أن أمواله في متناول أيدي قاصديه، وقوله. "ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت" يريد أنه جلد على قضاء الله لا يجزع لمكروه.(4/78)
تجد المسند إليه يذكر في مثل هذه المواضع لهذا ترك ذكره فيها، وفي نظائرها اتباعا لاستعمالاتهم الواردة, إلى غير ذلك من دواعي الحذف كإخفاء المسند إليه عن غير المخاطب كالخوف منه، أو عليه، أو نحو ذلك.
تنبيه:
اعلم: أن ما تقدم لك من أسباب ترجيح الذكر على الحذف، أو العكس هو ما يسمى عندهم "أحوال الخطاب"1 وهي الأمور الداعية لأن يعتبر المتكلم خصوصية في كلامه -على ما سبق- والكلام الكلي المتكيف بهذه الخصوصية هو مقتضى الحال، واندراج الكلام الجزئي المنطوق به مكيفا بهذه الخصوصية تحت هذا الكلام الكلي هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال -على ما تقدم- فإذا قلت مثلا: "محمد قادم" فذكرت المسند إليه مراعيا أن ذكره الأصل فالحال حينئذ هو كون الأصل فيه الذكر، ومقتضى الحال هو الكلام الكلي المذكور فيه المسند إليه، ومطابقة القول المنطوق به لمقتضى الحال هو اندراجه مشتملا على هذا الذكر تحت الكلام الكلي, وإذا قلت: "قادم" تريد "محمد قادم" فحذفت المسند إليه قاصدا اختبار تنبه السامع إلى هذا المحذوف فإن الحال حينئذ هي قصدك اختبار ذكاء السامع، ومقتضى الحال هو الكلام الكلي المحذوف منه المسند إليه، ومطابقة الكلام الجزئي المنوق به لمقضتى الحال هو اندراجه مشتملا على هذا الحذف تحت الكلام الكلي, وهكذا يقال في سائر ما سيمر بك من دواعي التعريف، أو التنكير، أو التقديم، أو التأخير، أو غير ذلك مما يعرض لطرفي الإسناد.
__________
1 أما الذكر والحذف وما إليهما من التعريف والتنكير وغيرهما فهي أحوال لطرفي الإسناد فهذه غير تلك.(4/79)
تمرين وجوابه:
بين أسباب ذكر وحذف المسند إليه في العبارات الآتية:
والله قدير والله غفور رحيم. {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} . قضية ولا أبا حسن لها. علي يصيد(4/79)
الأفاعي بيده. من ساء طبعه هجر ربعه. قيل لمريض: كيف حالك؟ قال: لا تسر, قيل لرجل: ماذا أرى فوق رأسك؟ قال: هذه مظلتي: أتحصن بها في اليوم المطير، وأرد بها وهج الشمس عند الهجير. هاد إلى الطريق القويم تريد النبي -صلى الله عليه وسلم. أمير البلاد يكلمك بعد سابق ذكره. لئيم منافق بعد ذكر شخص معين. لا تخاطب اللئيم السفيه "بضم السفيه". الحبيب قادم "بعد ذكر اسمه". خالد هذا تسور على بكر الحائط. حضرك شخصان وأحدهما صديق فقلت: خائن تريد: الصديق. مهزام الكماة1 تريد شجاعا معينا. شاعر مفلق تريد شوقي:
اعتاد قلبك من ليلى عوائده ... وهاج أهواءك المكنونة الطلل
ربع قواء أذاع المعصرات به ... وكل حيران سار ماؤه خضل
الجواب:
جدول اسكنر
__________
1 الكماة جمع كمي وهو الشجاع المتكمى بسلاحه أي: الغاص به.(4/80)
جدول اسكنر
تمرين يطلب جوابه على نحو ما سبق:
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . أقبل السارق. محتال مراوغ. الأمير نشر المعارف وأمن المخاوف. على هذا سطا على بيت خالد وسلب متاعه، أبو بكر حارب المرتدين.
فعباس يصد الخطب عنا ... وعباس يجير من استجارا
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
نجوم سماء كلما غار كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور
مزلزل إيوان كسرى. غارة "لواقف في مظان الخطر". فاجر لا يتقى الله. قادم تريد رجلا بعينه. علي يناطح الصخر، ويلين الحديد.(4/81)
حاتم يقري الضيف وحاتم يفك العاني1. من صدق وده حفظ عهده. مرعى ولا كالسعدان.
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
خليلي إما أن تعينا وتسعدا ... وإما كفافا لا علي ولا ليا
__________
1 الأسير.(4/82)
تعريف المسند إليه:
اعلم أن الأصل في المسند إليه أن يكون معرفة1؛ لأن المقصود الحكم على شيء معلوم لدى المخاطب؛ ولأنه المحكوم عليه، والحكم على المجهول لا يفيد، لا معنى إذًا لالتماس نكتة لمطلق تعريفه كما فعلوا في الإيضاح، والنكرة وإن أمكن أن تخصص بالوصف، بحيث لا يشاركها فيه غيرها كما تقول مثلا: "لقيني رجل حياك أمس، وهو يحمل حقيبة سوداء" لكن ليس ذلك في قوة تخصيص المعرفة؛ لأن تخصيصها وضعي، وتخصيص النكرة ليس كذلك.
ثم إن التعريف على وجوه كثيرة يكون بالإضمار، وبالعلمية، وبالموصولية وبالإشارة، وبأل المعرفة، وبالإضافة, ولا يخلو وجه من هذه الوجوه من أن يتعلق به غرض للبليغ.
__________
1 بخلاف المسند فإن الأصل فيه أن يكون نكرة؛ لأن المقصود فيه إثبات مفهومه لشيء فتعريفه حينئذ أمر زائد على المقصود يحتاج إلى داع.(4/82)
إيراد المسند إليه ضميرا:
الضمير -كما هو معلوم- أنواع ثلاثة: ضمير تكلم "كأنا"، وضمير خطاب "كأنت"، وضمير غيبة "كهو", ولا بد لهذا الأخير من أن يتقدمه مرجع يعود هو إليه، وإلا لم يفهم منه معنى, غير أن تقدم المرجع يكون على وجوه ثلاثة:
1- أن يتقدم لفظا -تحقيقا أو تقديرا- فالمتقدم في اللفظ تحقيقا هو ما ينطق به أولا، وبالضمير ثانيا كما في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ حَتَّى(4/82)
يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} فمرجع الضمير لفظ الجلالة، وقد تقدم على الضمير لفظا تحقيقا إذ قد نطق به أولا, وكقول أبي تمام:
بيمن أبي إسحاق طالت يد العلا ... وقامت قناة الدين واشتد كاهله
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والبحر ساحله
والمتقدم لفظا في التقدير هو ما نطق به بعد الضمير كقولهم: "نعم فارسا علي" على رأي من يجعل المخصوص مبتدأ مؤخرا، والجملة قبله خبرا مقدما، فمرجع الضمير حينئذ هو المخصوص، وقد تأخر عن الضمير في اللفظ، ولكنه في التقدير متقدم عليه؛ لأنه مبتدأ والمبتدأ مرتبته التقدم على الخبر، فكأن قد لفظ به أولا, وأما تمثيلهم بنحو قولهم: "في داره صديقك" فليس مما نحن فيه، وهو أن يكون الضمير مسندا إليه.
2- أن يتقدم المرجع معنى، وذلك بأن يدل عليه لفظ سابق من جنسه، أو ترشد إليه قرينة حال, فمثال ما دل عليه لفظ قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فمرجع الضمير هو "العدل" المدلول عليه بلفظ "اعدلوا"، فهو لم يتقدم لفظا، وإنما تقدم معناه في الفعل, ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} فمرجع الضمير هو معنى الرجوع المفهوم من قوله "ارجعوا"، ومثال ما دلت عليه قرينة حال قوله تعال: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ، فمرجع الضمير المستتر في "ترك" هو "الميت"، ولم يدل عليه لفظ سابق، بل دلت عليه قرينة حال هي أن الكلام مسوق لبيان الإرث, ومثله قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} فالمرجع وهو "الشمس" لم يدل عليه لفظ سابق كما في "عدلوا"، ولكن ذكر العشى والتواري بالحجاب، وسياق الكلام كل ذلك قرائن تدل على أن المراد هو "الشمس".
3- أن يتقدم المرجع حكما كضميري رب والشأن نحو "ربه فتى"،(4/83)
ونحو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فالمرجع في هذين لم يتقدم لفظا، ولا معنى، وكان حقه أن يتقدم؛ لأن وضع الضمير على أن يعود على متقدم، وإنما أخر لنكتة هي البيان بعد الإبهام لهذا كان المرجع في حكم المتقدم.
إذا علمت هذا فاعلم أن نكتة إيراد المسند إليه ضميرا هي أن يكون الحديث في أحد المقامات الثلاثة الآتية: مقام التكلم، مقام الخطاب، مقام الغيبة.
فإذا كان المتكلم هو المحدث عن نفسه كان المقام للتكلم، فينبغي أن يقول "أنا"، وإذا كان يخاطب إنسانا أمامه كان المقام للخطاب، فينبغي أن يقول "أنت"، وإذا كان يخبر عن غائب كان المقام للغيبة، فينبغي أن يقول "هو", فمثالي الأول قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" وكقول بشار بن برد:
أنا المرعث لا أخفى على أحد ... ذرت بي الشمس للقاصي وللداني1
يصف نفسه بأنه ذائع الصيت، واضح الأمر، يعرفه كل من يراه لشهرته.
ومثال الثاني قول الشاعر:
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم
ومثال الثالث قول الشاعر:
من البيض الوجوه بنو سنان ... لو أنك تستضيء بهم أضاءوا
__________
1 الرعثة بضم الراء القرط يعلق بشحمة الأذن, ولقب بشار بالمرعث لرعثة كانت له في صغره به، وذرت الشمس طلعت.(4/84)
هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا
وهذه الضمائر الثلاثة إنما تدل على مقاماتها دلالة قاطعة، لا احتمال فيها، فلا ينافي ذلك أن الاسم الظاهر قد يؤتى به في مقام التكلم، كما يقال مثلا: "فاروق يأمرك بكذا" فإنه وإن جاز أن يقال هذا في مقام التكلم، على معنى: أنا آمرك بكذا بأن كان المتكلم هو فاروقا نفسه, لكن دلالته على هذا المقام ليست قاطعة لاحتمال أن يكون هذا الكلام إخبارا عن الملك فاروق بأنه يأمر بكذا، فيكون المقام للغيبة لا للتكلم, بخلاف نحو: أنا آمرك بكذا، أو هو يأمر بكذا فإنه نص في التكلم، أو الغيبة, على أننا لو راعينا أن في مدلول الضمير اختصارا ليس في الاسم الظاهر لخرج مثل القول المتقدم إذ صدر من فاروق نفسه، فإن الحديث هنا -وإن كان في مقام التكلم- لا اختصار فيه.
تنبيه:
وضعت المعارف على أن تستعمل في معين بالذات فالضمير، والعلم، والإشارة، والموصول، والمحلى بأل، والإضافة كل واحد من هؤلاء موضوع لأن يستعمل في شخص بعينه1، ومن جملة هذه المعارف ضمير الخطاب, فهو إذًا موضوع لأن يستعمل في معين خصوصا إذا علمنا أن معنى الخطاب توجيه الكلام إلى حاضر مشاهد -واحدًا كان أو أكثر2- وهو لا يكون إلا معينا كقولك تخاطب شخصا أمامك: أنت استرققتني بمعروفك, وقد يخرج الخطاب عن وضعه، فيخاطب:
__________
1 قيل إن المعرف بلام العهد الذهني من جملة المعارف مع أنه لا يستعمل في معين, وأجيب أنه في حكم النكرة والكلام في معرفة ليست كذلك, وقد يجاب أن المعرف بلام العهد الذهني مستعمل في الجنس, وهو في نفسه معين وإن كان باعتبار وجوده في ضمن فرد ما غير معين, ولا يرد على الجواب الثاني النكرة بناء على أنها موضوعة للجنس لا للفرد الشائع؛ لأن تعين الجنس معتبر في المعرف بلام العهد الذهني غير معتبر في النكرة.
2 فضمير المخاطب بصيغة التثنية لاثنين معينين وبصيغة الجمع لجماعة معينة أو للجميع على سبيل الشمول كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" , فإن الشمول الاستغراقي من قبيل التعيين.(4/85)
1- غير المشاهد إذا كان مستحضرا في القلب كأنه نصب العين كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ونحو: لا إله إلا أنت، وما أشبه ذلك.
2- غير المعين بأن يراد به مطلق مخاطب على طريق المجاز المرسل علاقته الإطلاق1, وذلك حيث أريد تعميم الخطاب أي: توجيهه إلى كل من يتأتى خطابه، لكن لا على سبيل التناول دفعة واحدة، بل على سبيل البدل أي: كل فرد من أفراد المخاطبين2 كما في قولك: "فلان لئيم إن أحسنت إليه أساء إليك"، فليس المراد بالضمير في قولك: "إن أحسنت" مخاطبا معينا كما في الأصل في الخطاب، وإنما أريد مطلق مخاطب على سبيل البدل أي: فرد من أفراد هذا المطلق إشارة إلى أن سوء معاملة اللئيم لا يختص به واحد دون آخر ومنه قول المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، فليس المراد بقوله: {وَلَوْ تَرَى} مخاطبا معينا، وإنما أريد مطلق مخاطب على سبيل البدل إشارة إلى أن حالة المجرمين في ذلك اليوم من تنكيس الرءوس خوفا وخجلا، ومن رثاثة الهيئة، واسوداد الوجه، وغير ذلك من سمات الخزي والخذلان, قد تناهت في الظهور والافتضاح لأهل المحشر إلى حيث يمتنع خفاؤها فلا يختص بها راء دون راء، وإذ كان كذلك فلا يختص بهذا الخطاب مخاطب دون مخاطب، بل كل من تتأتى منه الرؤية فله مدخل في هذا الخطاب, تلك هي نكتة العدول بالخطاب عن أصل وضعه.
__________
1 ذلك لأن ضمير المخاطب موضوع بالوضع العام لكل معين فإذا لم يقصد به معين كان مجازا لاستعماله في غير ما وضع له.
2 وإنما كان عمومه بدليا لا شموليا للإشارة إلى أن الخطاب لم يخرج عن أصل وضعه من كل وجه حتى يكون كالنكرات في العموم بل يصاحبه الإفراد المناسب للتعيين.(4/86)
قيل: إن توجيه الخطاب إلى غير معين من قبيل إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وإذًا فكان ينبغي ذكره في باب إخراج الكلام على خلاف المقتضى.
وأجيب بأنا لا نسلم أن توجيه الخطاب لغير معين من إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ ليس هنا داع اقتضى إيراد الخطاب لمعين، فأجرى الكلام على خلاف ما يقتضيه، بل ليس هنا إلا مجرد استعمال اللفظ في غير ما وضع له لداع هو قصد تعميم الخطاب وهو مقتضى الظاهر، ولو أن هذا القدر كاف في جعله من خلاف مقتضى الظاهر لزم أن يكون جميع المجازات اللغوية من قبيل إخراج الكلام على خلاف المقتضى، ولا قائل بذلك.(4/87)
إيراد المسند إليه علما:
العلم1 هو ما وضع لشيء معين، مع ما يلازمه من مشخصات تميزه عما عداه، بحيث لا يشاركه فيها سواه2.
فلا يرد على التعريف صفات الطفولة كصغر الأعضاء، وعدم التمييز وفقدان النطق، وغيرها مما يزول بزوال الطفولة فليست معتبرة في وضع العلم، إنما المعتبر الصفات اللازمة التي لا تزول كاللون الخاص، وكالأوضاع الخاصة في تقاسيم الوجه، ونحو ذلك مما لا يختلف كثيرا باختلاف أطوار الحياة.
__________
1 المراد علم الشخص إذ هو الذي يتأتى فيه التعين بالمشخصات بخلاف علم الجنس فإنه لا تعين فيه ولا تشخص.
2 المعتبر في المشخصات أن تكون جزء الموضوع له لا أنها أمر زائد، ويكفي في وضع العلم ملاحظة هذه المشخصات ولو بوجه عام، ويظهر ذلك فيمن سمى ولده الذي لم يره ولم يطلع على مشخصاته, إذ لا يتعين عند وضع الاسم ملاحظة هذه المشخصات على جهة الخصوص, وقد قيل إن هذا التعريف غير شامل لعلم الجنس؛ لأنه موضوع للماهية ولا وجود لها في الخارج حتى يكون لها مشخصات, وأجيب بأن هذا التعريف خاص بما علميته حقيقية وهو علم الشخص أما علم الجنس فعلميته حكمية, وقد يجاب بأن المراد بالمشخصات ما يشمل الخارجية والذهنية وإذًا يكون التعريف شاملا لعلم الجنس.(4/87)
ودواعي إيراد المسند إليه علما كثيرة أهمها ما يلي:
1- إحضار المسند إليه1 بعينه وشخصه2 في ذهن السامع3 ابتداء4 باسمه الخاص به5 بحيث6 لا يطلق على غيره باعتبار وضعه لهذه الذات المعينة، وإن أطلق باعتبار وضع آخر على ذات آخرى كما في الأعلام المشتركة "كمحمد" المسمى به جماعة- مثاله قولك: "وفد محمد علينا" فالمسند إليه هو "محمد" وقد جيء به علما لقصد إحضار
__________
1 هو على حذف مضاف أي: إحضار معنى المسند إليه, وإنما قلنا ذلك؛ لأن كونه مسندا إليه وصف للفظ والمحضر في ذهن السامع إنما هو المعنى؛ لأنه المحكوم عليه.
2 قيل: احترز بهذا القيد عن إحضار المسند إليه باسم جنسه كما تقول: "زارني اليوم رجل" ولم يكن يزورك في هذا اليوم سواه غير أن هذا القول لا يرد؛ لأن المراد بإحضار المسند إليه بعينه وشخصه إحضاره من جهة الوضع كما في علم الشخص، أما الإحضار في المثال المذكور فليس من طريق الوضع، بل آت من طريق انحصار الوصف المذكور في المسند إليه، ثم إن المراد بالإحضار بالعين والشخص ما يشمل الإحضار بوجه جزئي كما في نحو: "محمد" من أسماء الأشخاص أو بوجه كلي ينحصر فيه المعنى كما في لفظ الجلالة فإن مدلوله يستحضر بوجه عام ينحصر فيه ككونه واجب الوجود خالقا للعالم.
3 المراد بإحضاره في ذهن السامع لفت نفسه وتوجيهها إليه ولو كان حاضرا من قبل كما إذا قيل "أقبل محمد" حال حضور مدلوله في ذهن السامع فليس الغرض إحضار معناه في ذهنه؛ لأنه حاضر فيه وإنما الغرض لفت نفسه إليه وإشعارها به.
4 احترز به عن الإحضار الذي يجيء ثانيا كما في ضمير الغائب نحو جاءني محمد وهو راكب فإنه وإن أحضر شخصه في ذهن السامع لكنه إحضار جاء ثانيا بعد إحضاره بالمرجع أولا, وقيل احترز بقيد "ابتداء" عن الإحضار بشرط كما في ضمير الغائب والمعروف بلام العهد, إذ يشترط فيهما تقدم ذكره وكالموصول إذ يشترط فيه تقدم العلم بالصلة، وهذا مردود؛ لأن جميع طرق التعريف كذلك مشروطة بتقدم شيء حتى "العلم" نفسه يشترط فيه تقدم العلم بالوضع.
5 احترز به عن الإحضار بالضمير مثلا نحو: "أنا كتبت" فإنه وإن أحضر به معنى المسند إليه بعينه في ذهن السامع ابتداء لكنه ليس اسما خاصا به؛ لأن "أنا" موضوع بوضع عام لكل متكلم, وهكذا يقال في سائر المعارف كاسم الإشارة والموصول وغيرهما.
6 بهذه الحيثية اندفع ما قيل من أن الأعلام المشتركة من قبيل علم الشخص في حين أنها لا تعين أشخاص مدلولاتها, والجواب على هذا ما ذكرنا من أنها تعين شخص مدلولها باعتبار كل وضع بخصوصه.(4/88)
مسماه بعينه وشخصه في ذهن السامع ابتداء باسمه الخاص باعتبار وضعه لهذا المسمى, فلفظ "محمد" باعتبار وضعه لذات خاصة يعين شخصها، ولا يتناول باعتبار هذا الوضع غيرها ممن اشترك في هذا الاسم, وكقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ 1 أَحَدٌ} على أن يجعل ضمير الشأن مبتدأ أولا، ولفظ الجلالة مبتدأ ثانيا، والجملة خبر الأول ليكون فيه الشاهد2 وهو إيراد المسند إليه علما لأجل إحضاره بشخصه3 في ذهن السامع ابتداء باسمه الخاص به.
غير أن القيد الأخير وهو قولنا: "باسمه الخاص به" يغني عن القيدين قبله، وهما: إحضار المعنى بعينه وشخصه، وكون هذا الإحضار ابتداء إذ إن إحضار الشيء باسمه المختص به إحضار له بعينه أول مرة, وهذا إنما يكون بالعلم, وإنما ذكر القيدان المذكوران مع إغناء الأخير عنهما بيانا للواقع، أو تحقيقا لمقام العلمية.
2- تعظيم المسند إليه، أو إهانته4 كما في الألقاب نحو "قدم حسام الدين وأقبلت نور الهدى"، ونحو: "رحل عنا أنف الناقة، وفارقنا صخر" أتى بالمسند إليه في هذه المثل علما لقصد تعظيمه في الأولين، وإهانته في الآخرين, وكما في الأسماء الصالحة لذلك نحو
__________
1 أصل "الله" الآلهه حذفت همزته وعوض عنها حرف التعريف ثم جعل علما للذات الواجب الوجود الخالق للعالم، والمراد بتعويض حرف التعريف اعتباره عوضا عن الهمزة, لا تعويضه عنها بالفعل والإلزام عليه تحصيل الحاصل؛ لأن حرف التعريف موجود في الكلمة قبل التعويض كما يلزم عليه الجمع بين العوض والمعوض عنه قبل حذف الهمزة من لفظ الإله, ووجه جعله علما للذات العلية أنه وضع من أول الأمر لها من غير سبق تصرف فيه, وهو ما عليه الأئمة الأربعة.
2 أما عند من يجعل لفظ الجلالة خبرا أولا لضمير الشأن ويجعل "أحد" خبرا ثانيا فلا شاهد فيه؛ لأن لفظ الجلالة حينئذ لم يقع مسندا إليه بل مسندا.
3 أي: بمشخصاته التي قام عليها الدليل ككونه واجب الوجود خالقا للعالم قادرا على كل شيء.
4 أي: أو تعظيم غيره أو إهانته كما تقول: أبو الفضل صديقك: وأبو لهب رفيقك فالتعظيم في الأول والتحقير في الثاني للمخاطب وهو غير مسند ولا مسند إليه.(4/89)
قولهم: "كر علي على الأعداء فهرب معاوية"1 ففي الأول معنى العلو، وهو مفيد للتعظيم، وفي الثاني معنى "العواء" لصراخ الذئب، وهو مفيد للإهانة, وكما في الكنى الصالحة لذلك أيضا نحو قولهم: "أقبل علينا أبو الفضل"، و"ذهب عنا أبو الجهل" ففي الأول تعظيم للمسند إليه، وفي الثاني إهانة له وتحقير.
3- التفاؤل به، أو التطير منه نحو: "وافانا سرور، ونزح عنا حرب. فالغرض من إتيان المسند إليه علما التفاؤل في الأول، والتشاؤم في الثاني.
4- قصد التبرك به إن كان مما يتبرك بذكر اسمه، أو قصد الإعلام بالتلذذ بذكره, فالأول نحو: الله حسبي، ومحمد شفيعي، إذ تقدم لهما ذكر في كلام سابق، فيعاد ذكرهما تيمنا به, والثاني كما في ذكر أسماء الأحبة، ومن ثم يقول أبو الطيب المتنبي من قصيدة يمدح بها عضد الدولة:
أساميا لم تزده معرفة ... وإنما لذة ذكرناها
وعليه قول قيس مجنون ليلى العامرية:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر؟
والشاهد في قوله: "أم ليلى" فإن مقتضى سياق الحديث أن يقول: "أم هي" إذ المقام للضمير لتقدم المرجع، لكنه أورده علما لقصد الإعلام بالتلذذ بذكر اسم محبوبته.
5- التسجيل على السامع حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار كأن يقول القاضي لرجل: هل أقر عمرو بكذا لخالد؟، فيقول الرجل: نعم عمرو أقر بكذا، فيؤتى بالمسند إليه علما لقصد التسجيل على السامع فلا يسعه أن ينكر.
__________
1 هما اسمان صالحان لما يراد منهما من معنى التعظيم والإهانة, ويصح اعتبارهما لقبين لإشعار أولهما بمدح وثانيهما بذم.(4/90)
6- التنبيه على غباوة السامع، وأنه لا يفهم إلا بالتصريح كأن يقول لك إنسان: هل محمد صنع هذا، فتجيبه: محمد صنعه، فتأتي به علما لقصد التنبيه على بلادة المخاطب.
7- أن يكون العلم كناية عن معنى يصلح العلم له باعتبار معناه الأصلي قبل أن يكون علما كما تقول: "أبو لهب فعل كذا" كناية عن معنى هو: كونه جهنميا, أي: من أهل جهنم، وكأنك قلت: جهنمي فعل كذا، وهذا المعنى يصلح العلم له بالنظر إلى معناه الوضعي قبل أن يجعل علما على الذات.
وتوجيه الكناية فيه: أن "أبو لهب" بحسب معناه الأصلي قبل جعله علما على الذات كان مركبا إضافيا معناه كما قال العصام1: من تتولد منه النار بمعنى: أنه وقودها كما تتولد النار من الخشب، فكأن الخشب أب لها، ويلزم من كون الإنسان وقودا للنار أن يكون جهنميا أي: من أهل جهنم إذ المراد بالنار نار جهنم قال تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فلفظ "أبو لهب" بهذا المعنى المذكور ملزوم، وقد أطلق لينتقل منه إلى لازمه وهو كونه جهنميا، والانتقال من الملزوم إلى اللازم هو معنى الكناية, وهذا الانتقال -كما ترى- من المعنى الإضافي، لا من المعنى العلمي2 فإذا قلت في شأن
__________
1 وهذا المعنى أسلم مما ذهب إليه غيره من أن معنى "أبو لهب": ملازم
للنار وملابسها، ويلزم ذلك أن يكون جهنميا إذ ورد عليه أن الملازمة ممنوعة, فإن الفران ملازم للنار وملابس لها, وهو مع ذلك ليس
جهنميا، وهاهم أولاء الملائكة الزبانية ملازمون للنار الحقيقية وهم كذلك ليسوا جهنميين, فاحتيج إلى الرد "بالنسبة إلى الفران" بأن المراد باللهب اللهب الحقيقي, وهو نار جهنم لا مطلق لهب, وبأن المراد باللزوم بالنسبة إلى الزبانية اللزوم العرفي, وهو أن يكون أحد الأمرين بحيث يصلح للانتقال منه إلى الآخر, وإن لم يكن هناك لزوم عقلي, وهذا اللزوم كاف عند علماء المعاني, ومثل هذا لا يرد على تفسير العصام لمعنى المركب المذكور, إذ ليس من شك في لزوم كونه جهنميا لذلك المعنى وهو كونه وقودا للنار.
2 لأن المعنى العلمي هو الذات المسماة بأبي لهب, والذات من حيث هي لا يلزمها أن تكون جهنمية لاحتمال أن تكون ذاتا صالحة. بخلاف المعنى الإضافي وهوكونه أبا للهب بمعنى أنه وقودها, فإن هذا هو الذي يلزمه أن يكون جهنميا.(4/91)
كافر مسمى بأبي لهب: "أبو لهب فعل كذا" فالنكتة في إيراد المسند إليه علما هي أنه كناية عن كونه جهنميا باعتبار المعنى الإضافي الأصلي من إطلاق الملزوم وهو الذات المتولدة عنه النار والانتقال منه إلى لازمه. وهو كونه جهنميا أي: من أهل جهنم خالدا فيها.
غير أنه قيل: إن شأن الكناية أن ينتقل فيها من المعنى المستعمل فيه اللفظ إلى لازمه كما في "كثير الرماد" المستعمل في معناه مرادا به لازمه وهو الكرم, وهنا ليس كذلك؛ لأن المعنى الذي استعمل فيه لفظ "أبو لهب" هو الذات وليس من لوازمها أن تكون جهنمية.
ويجاب بأن الكناية لا يتوقف الأمر فيها على الانتقال من المعنى الذي استعمل فيه اللفظ إلى لازمه، بل تارة يكون الانتقال فيها من معنى قد استعمل فيه اللفظ إذا كانت الكناية باعتبار المسمى بهذا الاسم كما في كثير الرماد, وتارة يكون الانتقال من معنى لم يستعمل اللفظ فيه إذا كانت الكناية باعتبار المعنى الأصلي كما هنا.
وفي هذه الكناية رأي آخر: وهو أن يستعمل اللفظ في اللازم ابتداء بيان ذلك أن "أبو لهب" من قولك: أبو لهب فعل كذا معناه بالنظر للوضع الثانوي وهو المعنى العلمي: الذات الكافرة المعروفة، ويلزمها أن تكون جهنمية, فإذا قلت في شأن كافر غير أبي لهب: "جاء أبو لهب" فقد أردت أن تقول: جاء جهنمي، وحينئذ تكون قد استعملت اللفظ ابتداء في لازم المعنى الموضوع له, كما تقول في شأن أي كريم: "جاء حاتم"، فأنت من غير شك تريد أن تقول: جاء جواد، وهو لازم للمعنى الموضوع له الذي هو الذات الكريمة المعروفة، فقد استعملت اللفظ ابتداء في لازم المعنى المذكور.
فالفرق بين الرأيين واضح, وهو أن اللفظ على الرأي الأول مستعمل في معناه العلمي ملتفتا معه إلى المعنى الإضافي لينتقل منه إلى لازمه(4/92)
-كما بين سابقا- وأن اللفظ على الرأي الثاني لم يستعمل لا في المعنى الأصلي الإضافي ولا في المعنى العلمي، وإنما استعمل بادئ ذي بدء في لازم المعنى العلمي، فأبو لهب مستعمل ابتداء في "الجهنمي" اللازم للذات الكافرة المسماة بأبي لهب, ولم يستعمل في الشخص المعروف وهو "عبد العزى" لينتقل منه إلى كونه جهنميا, كما أن حاتما مستعمل ابتداء في الجواد اللازم للذات الكريمة، لا في الذات المعروفة وهي "عبد الله بن سعد الطائي" لينتقل منه إلى معنى الجواد.
وقد رد هذا الرأي من وجوه:
الأول: أنه يلزم على هذا التوجيه أن يكون قولنا: "جاء أبو لهب" أو قولنا: "جاء حاتم" استعارة1، لا كناية2 لأن استعمال لفظ "أبو لهب" في لازم معناه وهو "الجهنمي" استعمال للفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة في الكفر, كما أن إطلاق لفظ "حاتم" على لازم معناه وهو "الجواد" استعمال للفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة في الجود, والقرينة في الموضعين مانعة من إرادة المعنى الأصلي، وهي استحالة مجيء حاتم الطائي، أو عبد العزى للعلم القاطع بموتهما، وهذا معنى الاستعارة بعينه.
الثاني: أنه يلزم عليه أنك إذا قلت: "رحل عنا أبو جهل" في شأن كافر لا يسمى بهذا الاسم، أو قلت: "هذا الرجل فعل كذا"، مشيرا إلى كافر كان هذا القول كناية عن الجهنمي, إذ إن منشأ الانتقال إلى
__________
1 أي: إن اعتبرنا العلاقة المشابهة وإن اعتبرنا العلاقة الإطلاق والتقييد كان مجازا مرسلا من إطلاق المقيد وهو أبو لهب الذي نزلت فيه الآية على المطلق كافر ثم أريد به الكافر المخصوص المسمى بزيد مثلا ليكون مجازا مرسلا بمرتبتين.
2 لأنها استعمال اللفظ في معناه ابتداء لينتقل منه إلى لازمه وهنا قد استعمل اللفظ ابتداء في اللازم على مذهب هذا القائل.(4/93)
اللازم عند صاحب هذا الرأي كون الذات الكافرة مستلزمة له, ولم يقل بأن مثل هذا القول كناية أحد1.
الثالث: أن صاحب المفتاح وغيره مثلوا لهذه الكناية بقول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ، وليس من شك أن المراد "بأبي لهب" في الآية الشخص المعروف المسمى أبا لهب، وهو "عبد العزى" لا كافر آخر وإلا كان استعارة، لا كناية, كما بينا، وإذا كان المراد به عبد العزى، لا كافرا آخر لم يكن كناية عن الجهنمي إلا على الرأي الأول القائل بأن اللفظ مستعمل في معناه العلمي ملاحظا فيه المعنى الإضافي لينتقل منه إلى لازمه، أما على الرأي الثاني فلا يكون كناية إلا إذا أريد به شخص آخر غير "عبد العزى" إذ اللفظ عنده غير مستعمل في معناه الأصلي.
فاستشهاد السكاكي بالآية في بيان معنى الكناية دليل على فساد الرأي الثاني، وصحة الرأي الأول.
__________
1 قد يجاب عن هذا بأنه لا يلزم من فهم الجهنمي من "أبي لهب" فهمه "من أبي جهل" مرادا به كافر، أو من لفظ "هذا" مشارا به إلى كافر لعدم اشتهار المعنى الذي وضع له اللفظ بذلك اللازم بخلاف أبي لهب فإنه اشتهر بكونه جهنميا نظرا إلى معناه الأصلي وهو كونه أبا للنار بمعنى أنه وقودها فقياس أبي جهل على أبي لهب قياس مع الفارق.(4/94)
إيراد المسند إليه اسم إشارة:
يؤتى بالمسند إليه1 اسم إشارة لدواع يقصدها البلغاء أهمها ما يلي:
1- أن يقصد تمييز المسند إليه2 أكمل تمييز3 لاقتضاء الحال ذلك كأن يكون المقام مقام مدح بإجراء أوصاف الرفعة، ونعوت المحمدة
__________
1 يعني لفظه لأنه الذي يعرف.
2 أي: معناه لأنه المراد تمييزه.
3 هذا مقتضى أن اسم الإشارة أعرف المعارف وهو مخالف لما هو مقرر عندهم من أن أعرف المعارف الضمائر ثم الأعلام ثم المبهمات, والجواب أن دلالته على أكملية التمييز لا تقتضي أعرفيته؛ لأن دلاته على الأكملية إنما هي بواسطة الإشارة الحسية لا من أصل الوضع كما في الضمير والعلم.(4/94)
عليه، أو كأن يكون المسند إليه مختصا بحكم بديع, فإن تمييزه بالإشارة حينئذ أعون على كمال المدح، أو على كمال التنويه بمن اختص بذلك الحكم الغريب, مثال الأول قول ابن الرومي الشاعر العباسي:
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسلم1
يمدح الشاعر هذا الرجل بأنه فذ في خلقه وخلقه، لا يدانيه فيهما أحد، وأنه سليل قوم ذوي شمم وإباء، إذ يسكنون البوادي2، وهي لا تخضع لسلطان حاكم، ولا تدين لسلطة قانون, والشاهد فيه قوله: "هذا أبو الصقر" حيث عبر عن المسند إليه باسم إشارة لقصد تمييزه كاملا اقتضاه مقام المدح إذ وصفه بالانفراد في الحسن، وبالعزة والمنعة, ومثله قول الحطيئة:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
__________
1 "أبو الصقر" خبر عن اسم الإشارة أو بدل منه أو عطف بيان، "وفردا" منصوب على المدح أو على الحال من الخبر وسوغ مجيء الحال منه كونه مفعولا في المعنى لمعنى اسم الإشارة أو لمعنى ها التنبيه لتضمن كل منهما معنى الفعل, وهو أشير أو أنبه أي: أشير إليه أو أنبه عليه حال كونه منفردا بالمحاسن على حد قوله تعال {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} و"من نسل شيبان" حال ثانية من صاحب الحال الأول، أو خبر ثان ذكر بيانا لنسبه بعد ذكر حسبه "وشيبان" اسم قبيلة، وبين الضال والسلم حال من نسل شيبان وهو الأوجه "والضال" بتخفيف اللام جمع ضالة, وهو شجر السدر "والسلم" جمع سلمة بالتحريك وهو شجر ذو شوك عظيم يسمى شجر العضاة.
2 يحتمل أن يكون المراد بالوصف بسكنى البادية الإشارة إلى وصفهم بكمال البلاغة والفصاحة, من حيث إنهم لا يخالطون طوائف العجم؛ فلغاتهم سليمة نقية لا تشوبها عجمة, غير أن المعنى الأول أولى أن يكون مرادا تصديقا لقول المعري....
لا يحضرون وفقد العز في الحضر(4/95)
ومثال الثاني قول الراوندي:
كم عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
يقول: كثير من ذوي الرأي والحجا ضاقت بهم سبل العيش الرغيد، وسدت في وجوههم مسالك الحياة الهنيئة, بينما نرى الكثير من ذوي الجهل في بسطة من العيش، وسعة في الرزق، وهذا الأمر لبعده في بادئ الرأي عن مظان الحكمة والصواب، وخروجه عن العرف المألوف, خليق أن يترك العقول حائرة، ويجعل العالم الراسخ في العلم زائع العقيدة، مسلوب الرشاد, والشاهد قوله: "هذا الذي" حيث أتى بالمسند إليه اسم إشارة لقصد تمييزه تمييزا كاملا لما اختص به من هذا الحكم البديع، وهو ترك العقول حائرة, والعالم النحرير زنديقا.
2- أن يقصد التعريض بغباوة السامع، وأن الأشياء لا تتميز عنده إلا بالإشارة الحسية كقول الفرزدق يهجو جريرا ويفتخر عليه:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يريد: أن جريرا لا يستطيع أن يأتي بمثلهم آباء ذوي مجد وحسب إذا جمعتهما مجامع الفخر والمساجلة, والشاهد قوله: "أولئك آبائي" حيث أورد المسند إليه اسم إشارة قصدا إلى أن يصمه بوصمة الغباوة, وأنه لا يدرك إلا المحس بحاسة البصر, ولو أنه ذكر آباءه بأسمائهم، فقال: فلان، وفلان وفلان آبائي لم يكن فيه ما أراده من التعريض عند من له ذوق سليم, والأمر في قوله: "فجئني" أمر تعجيز على حد قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} أي: إنك لن تستطيع يا جرير أن تأتي بمثلهم في مناقبهم إذا جمعتنا مجامع المساجلة يوما ما1.
__________
1 لا يبعد أن تكون نكتة التعبير باسم الإشارة في بيت الفرزدق تمييزهم أكمل تمييز أو تعظيم شأنهم على ما سيأتي، بل قد يبدو ذلك واضحا.(4/96)
3- أن يقصد بيان حال المسند إليه من القرب، أو البعد، أو التوسط فيقال: "هذا" لمشار إليه قريب، ويقال: "ذلك" لمشار إليه بعيد، ويقال "ذاك" لمشار إليه في مكان وسط، لا هو بالقريب ولا بالبعيد.
غير أنه قيل: إن كون "هذا" للقريب، وذلك للبعيد، وذاك للمتوسط بحث خاص بعلماء اللغة؛ لأنهم إنما يبحثون في المعاني اللغوية، فلا ينبغي أن يتناوله بحث علماء المعاني؛ لأنهم إنما يبحثون في المعاني الزوائد على أصل المعنى الذي هو ثبوت الحكم للمسند إليه أيا كان حاله.
والجواب: أن لأسماء الإشارة جهتين, فاللغة تبحث فيها من جهة معانيها الوضعية أي: من حيث إن "هذا" موضوع للقريب، و"ذلك" موضوع للبعيد، "وذاك" موضوع للمتوسط, وعلم المعاني يبحث فيها من جهة المعاني الثانوية أي: من جهة أنه يؤتى "بهذا" إذا قصد بيان قرب المشار إليه بأن كان المقام يقتضي ذلك، ويؤتى "بذلك" إذا أريد بيان بعد المشار إليه لاقتضاء الحال إياه وهكذا, فالبحث فيها عند علماء اللغة من حيث الوضع، وعند علماء المعاني من جهة اقتضاء الحال لها، فوضح الفرق بينهما.
4- أن يقصد تعظيم المسند إليه بالقرب تنزيلا لقربه من النفس، ومخالطته للروح منزلة قرب المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للقريب تحقيقا لهذا الغرض كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
ووجه دلالته على التعظيم هو أن المحبوب يكون عادة مخالطا للنفس، حاضرا في الذهن، لا يغيب عن الخاطر، فتعظيمه حينئذ يناسبه القرب المكاني على هذا الاعتبار.
5- أن يقصد تحقير المسند إليه بالقرب تنزيلا لدنو منزلته، وانحطاط مرتبته منزلة قرب المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للقريب تحقيقا لهذا الغرض كما في قوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي(4/97)
يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} قاله أبو جهل قبحه الله مشيرا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لقصد إهانته "في زعمه" لعنة الله عليه, ومثله قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} .
ووجه دلالته على التحقير هو أن الحقير عادة لا يمتنع على الناس، بل يكون قريب الوصول إليه، سهل التناول، مبتذلا، واقعا بين أيديهم وأرجلهم، فتحقيره حينئذ يناسبه القرب المكاني على هذا التقدير.
6- أن يقصد تعظيم المسند إليه بالبعد تنزيلا لبعد درجته، وعلو مرتبته منزلة بعد المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للبعيد للدلالة على قصد التعظيم كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} لم تقل "هذا" مع أنه كان حاضرا في المجلس رفعا لمنزلته في الحسن, ومثله في قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} فالإشارة فيه "بذلك" لقصد تعظيمه وأنه بعيد المنزلة.
ووجه دلالته على ذلك أن العظيم عادة يتأبى على الناس، ويبعد عنهم لعزته ورفعة شأنه، فتعظيمه حينئذ يناسبه البعد المكاني على هذا الاعتبار.
7- أن يقصد تحقير المسند إليه بالبعد تنزيلا لبعده عن ساحة عز الحضور والخطاب منزلة بعد المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للبعيد للدلالة على التحقير، كما تقول لحاضر مجلسك: "ذلك الرجل وشى بي عند الأمير". ومنه قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} .
ووجه دلالته على ذلك هو أن الحقير عادة شأنه ألا يلتفت إليه، ولا يعرض للخاطر لنفرة النفس منه. فتحقيره حينئذ يناسبه البعد المكاني على هذا التقدير.
فائدة: علمت أن "ذلك" موضوع للبعد المحس بحاسة البصر, وقد يشار به للغائب عن حاسة البصر, سواء كان ذاتا أو معنى تنزيلا(4/98)
للبعد عن العيان منزلة البعد عن المكان, فمثال الأول قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ، ومثله قولك: "جاءني رجل فقال لي ذلك الرجل كذا"، تحكي أمره بعد غيبته, فالمشار إليه في كلا المثالين ذات غائبة عن حاسة البصر, غير أنه في الأول مما لا يمكن إدراكه بحاسة الإبصار، وفي الثاني مما يمكن إدراكه ومثال الثاني قولك: "وفى محمد بوعده فسرني منه ذلك الوفاء" فإن الوفاء معنى غائب عن حاسة الإبصار, ومنه ما حكي عن سيدنا الخضر مخاطبا نبينا موسى عليه السلام إذ قال له: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} ، يشير بذلك إلى الأمور التي حملته على ما فعل من قتل الغلام، وخرق السفينة، وإقامة الجدار, والاستعمال المذكور من قبيل المجاز بالاستعارة1.
8- أن يقصد التنبيه على أن المشار إليه المعقب بأوصاف جدير من أجل تلك الأوصاف بما يذكر بعد اسم الإشارة كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} بعد قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . فالمشار إليه في الآية بأولئك هم "المتقون" وقد ذكر عقيبه أوصاف هي: الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق من الرزق، والإيمان بما أنزل، والإيقان بالآخرة، وإنما أشار إليهم، "بأولئك" مع أن المقام للضمير لتقدم المرجع تنبيها على أن المشار إليهم أحقاء, من أجل هذه الأوصاف المذكورة, بما يرد بعد اسم الإشارة من الفوز بالهداية في العاجلة، وبالفلاح في الآجلة, ومن هذا القبيل قول حاتم الطائي:
ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما
ويغشى إذا كان يوم كريهة ... صدور العوالي وهو مختضب دما
__________
1 فقد شبه غير المدرك بالبعيد بجامع عدم إدراك كل بحاسة البصر ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه.(4/99)
إذا الحرب أبدت ناجذيها وشمرت ... وولي هدان القوم أقبل معلما
فذلك أن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما1
فالمشار إليه "بذلك" هو "صعلوك" ثم عدد له خصالا فاضلة من المضاء على الأحداث مقدما، وتيمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها, إلى غير ذلك مما ذكره بعد، ثم عقب ذلك بقوله: فذلك أن يهلك إلخ فكان في ذلك تنبيه على أن المشار إليه جدير من أجل هذه الخصال بما ذكر بعد اسم الإشارة.
ووجه التنبيه على ما ذكر أن اسم الإشارة موضوع للدلالة على المشار إليه، والمشار إليهم في الآية هم الذوات، مع ملاحظة الأوصاف السابقة؛ لأن كمال التمييز الدال عليه اسم الإشارة إنما يكون بمراعاة هذه الأوصاف، وتعليق الحكم على موصوف يؤذن بعلية الوصف أي: إن الأوصاف السابقة هي العلة في الاستحقاق, أما الضمير فإنه لا يفيد مراعاة هذه الأوصاف في العلية, وإن كانت موجودة؛ لأنه موضوع للذات المجردة لهذا كان المقام للإشارة، لا للضمير.
تنبيه:
ينبغي أن يعلم أنه ليس بشرط في هذه النكتة أن تتعدد أوصاف المشار إليه، ولا أن تأتي عقيبه, كما لا يشترط أن يكون ما هو جدير به من الجزاء واردا بعد اسم الإشارة، بل يصح أن يكون المشار إليه موصوفا بوصف واحد، وأن يكون سابقا عليه, كما يجوز أن يكون ما هو خليق به من الجزاء سابقا على اسم الإشارة، فيقال مثلا: "جاءني الكامل محمد ويستحق الإكرام هذا" فالوصف واحد لا تعدد فيه وهو لفظ "الكامل"، وقد تقدم على موصوفه الذي هو "محمد", وما هو جدير به من استحقاق الإكرام ذكر قبل اسم الإشارة, فدل ذلك على أن ما ذكر من هذه الأمور
__________
1 صعاليك العرب فقراؤهم ومتلصصوهم، ويساور همه يواثبه، والهم العزيمة، وأعرضت ظهرت. والعوالي الرماح والهدان الأحمق والمعلم بفتح اللام المخففة الموسوم بسيما الحرب.(4/100)
ليست شروطا يجب مراعاتها، وإنما ذكرت وفقا لما ورد في النص الكريم, والعبارة الواضحة في تقرير هذه النكتة أن يقال: يؤتى بالمسند إليه اسم إشارة للتنبيه -عند الإشارة إلى موصوف- على أن المشار إليه جدير بما أسند لاسم الإشارة من أجل كونه موصوفا ا. هـ.(4/101)
إيراد المسند إليه اسم موصول:
يؤتى بالمسند إليه اسم موصول لأسباب أهمها ما يأتي:
1- ألا يكون المخاطب عالما بالأمور المختصة1 بالمسند إليه سوى الصلة.
كأن ترى عند أحد أصدقائك رجلا ينشده شعرا، ولا عهد له به من قبل، فتقول له من الغد: "أين الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر؟ " فالمخاطب لم يكن يعلم شيئا يتعلق بالمسند إليه سوى أنه كان عنده بالأمس ينشده شعرا, فأنت في هذه الحالة لا طريق لك إلى تعريف الرجل للمخاطب سوى هذه الصلة؛ لأنها هي المعلومة له.
وإنما خص المخاطب بعدم العلم بسوى الصلة، ولم يتعرضوا لصلة لم يكن للمتكلم وحده، أو مع المخاطب علم بغيرها؛ لأن الكلام حينئذ لا يكون فيه كبير فائدة غالبا2 إذ لا يمكن الحكم من المتكلم إلا بالأحوال العامة، والحكم بها قليل الجدوى؛ لأن أغلب الناس لا يجهلونها, فمثال ما إذا كان المتكلم وحده لا يعلم شيئا غير الصلة قولك: "الذين زاروك أمس لا أعرفهم" فمقتضى كون المتكلم لا يعلم شيئا من أحوال المسند إليه سوى هذه الصلة ألا يكون له به سابق معرفة، فإذا أراد أن يحكم عليه بشيء، فلا يعدو حكمه ما سبق في المثال من أنه لا يعرفهم وهو -كما ترى-
__________
1 المراد باختصاصها به عدم عمومها لغالب الناس لا عدم وجودها في غيره.
2 وقد يكون فيه كبير فائدة كما في قولك: الذي ملك مصر يعظم أهل الدين, وكقولك: الذين في بلاد المغرب مخترعون، فليس من شك أن في مثل هذه الأخبار فائدة يعتد بها.(4/101)
حكم عام ليس فيه كبير جدوى إذ من المعلوم لغالب الناس أن من لا صلة لك به لا تعرفه, ومثال ما إذا لم يكن للمخاطب ولا للمتكلم علم بغير الصلة قولك: "الذين في بلاد اليابان لا نعرفهم" إذ لا يمكن الحكم عليهم إلا بما هو معلوم لغالب الناس.
أما إذا كان المخاطب وحده هو الذي لا يعلم شيئا يتعلق بالمسند إليه سوى الصلة كالمثال السابق فإن الكلام غالبا يكون كثير الفائدة؛ لأن المتكلم يكون في الغالب عالما بالأحوال المختصة به، فيحكم بها عليه.
غير أنه قيل: إن عدم العلم بغير الصلة لا يستدعي إتيان المسند إليه موصولا إذ يمكن التعبير عن المسند إليه بغير الموصول كالإضافة مثلا كقولنا في المثال السابق: "أين منشدك الشعر بالأمس" وإذًا فلا بد من انضمام شيء يترجح به اختيار الموصول على ما سواها من الطرق, وأجيب بأن النكتة لا يشترط فيها أن تكون مختصة بهذه الطريق، ولا أن تكون أولى بها، بل يكفي إمكان حصولها بها، وإن أمكن حصولها بغيرها, وليس معنى اقتضاء النكتة للموصول أنها مستلزمة له، بحيث لا يجزئ سواه، بل إن معنى اقتضائها للموصول مجرد مناسبته لها, وبهذا يجاب على كل سؤال من هذا النوع في آية نكتة.
2- استهجان التصريح بالاسم الدال على ذات المسند إليه بأن كان مشعرا في العرف بما تقع النفرة منه في معناه أو لفظه, مثال الأول قولك: "الذي يخرج من أحد السبيلين ناقض للوضوء"، ومثال الثاني قولك: "الذي نشأت على يديه جدي" إذا كان اسمه قبيحا لا يستحسن ذكره كلفظ جحش أو خنشور, ففي الأول قبح التصريح بذكر الخارج من أحد السبيلين لفحش معناه، وقبح في الثاني لنفرة النفس من سماع اللفظ لهذا أتى بالموصول توقيا من تصريح تمجه النفس، ويعافه الطبع.
3- زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام كما في قوله تعالى:(4/102)
{وَرَاوَدَتْهُ 1 الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} فالغرض المسوق له الكلام نزاهة يوسف، وطهارة ذيله، وبعده عن مظان الريبة, والتعبير بالصلة أدل2 على هذا الغرض مما لو قال: وراودته امرأة العزيز أو زليخاء؛ لأنه إذا كان في بيتها، وتمكن3 من نيل ما طلبت منه، ومع ذلك عف وامتنع كان ذلك غاية في نزاهته وعفته عليه السلام.
وقيل: إن المراد تقرير المسند الذي هو "المراودة": بمعنى أنها وقعت منها لا محالة؛ لأن وجوده في بيتها، مع ما لها من سعة السلطان، وقوة النفوذ، ومع فرط الاختلاط والألفة, أدل على وقوع المراودة، وصدور الاحتيال منها.
وقيل: إن المراد تقرير المسند إليه الذي هو "امرأة العزيز، أو زليخاء" وذلك لإمكان وقوع الإبهام، أو الاشتراك فيهما.
بيان ذلك: أنه لو قال: وراودته "زليخاء" مثلا لم يعلم يقينا أنها المرأة التي هو في بيتها لاحتمال أن يكون هناك امرأة أخرى مسماة بهذا الاسم غير التي هو في بيتها, ولو قيل: وراودته "امرأة العزيز" لوقع مثل هذا الاحتمال أيضا, وإن كان بعيدا, بخلاف التعبير بالموصول فإنه لا احتمال فيه مطلقا؛ لأنه معلوم من الخارج أن التي هو في بيتها إنما هي
__________
1 مصدر المراودة وهي في الأصل بمعنى المجيء والذهاب من راد برود جاء وذهب ثم أريد منها المخادعة على سبيل الاستعارة التبعية بأن شبهت المخادعة, وهي الاحتيال لأخذ ما بيد الغير بالمراودة الموضوعة للمجيء والذهاب بجامع التردد في كل, ثم استعيرت المراودة للمخادعة, ثم اشتق من المراودة بمعنى المخادعة راودت بمعنى خادعت، ثم هي بعد ذلك ليست على إطلاقها بل على خصوص الجماع, غير أن تفسير المراودة بما سبق يقتضي وقوع الطلب من الطرفين؛ لأنها مفاعلة من الجانبين ويوسف عليه السلام نبي معصوم لا يقع منه طلب من هذا النوع, ولعل الجواب على هذا أن المراودة ليست على بابها بل المراد بها أصل الفعل، أو هي على بابها ولك الطلب اختلفت جهته فطلبها للوقاع, وطلبه للدفاع وبهذا فسر قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ، أي: همت به فعلا وهم بها تركا.
2 أي: إن الغرض يدل عليه كل من الموصول وامرأة العزيز وزليخاء إلا أن الموصول أدل عليه لاقتضائه أنه تمكن منها ولم يفعل بخلاف غيره.
3 أي: ولو بحسب الصورة وإلا فهو نبي معصوم.(4/103)
زليخاء امرأة العزيز لا غير, لهذا كان هذا الوجه هو الأولى بالاعتبار، والأحق بالتقدير1, ومثل الآية المذكورة قول أبي العلاء المعري:
أعباد المسيح يخاف صحبي ... ونحن عبيد من خلق المسيحا؟
فقوله: "عبيد من خلق المسيح" أدل على تقرير غرضه وهو نفي خوف أصحابه من قوله: عبيد الله.
غير أنه ينبغي أن يعلم الذي أفاد زيادة التقرير إنما هو الوصول من حيث اشتماله على الصلة، فالصلة هي مبعث هذه الفائدة, وكذلك يقال فيما يأتي بعد من النكات.
4- قصد التفخيم والتهويل في المسند إليه كما في قوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} يريد غشيهم ماء غزير لا يقدر كنهه, لهذا عبر عن المسند إليه "بما" الموصولية إذ إن في هذا الإبهام من التفخيم ما لا يفي به التصريح فيما لو قال: فغشيهم من اليم ثلاثون قامة مثلا ففي الموصول إذًا إشارة إلى أن تفصيل المسند إليه، وبيانه مما لا تفي به عبارة, ولا يحيط به علم2 ومثله قول الشاعر يصف الخمر:
مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باق يطلب الباقي3
يريد تفخيم ما ذهب من عقول المعاقرين لها.
5- تنبيه المخاطب على خطأ وقع منه، أو من غيره: مثال الأول قول عبدة بن الطيب من قصيدة يعظ بها بنيه:
__________
1 ما ذكرناه من أن الآية مثال لزيادة التقرير هو الظاهر, ولا يبعد أن تكون أيضا لاستهجان التصريح بالاسم, إما لأن العادة جرت باستقباح التصريح بأسماء النساء, أو لأن السمع يمج لفظ زليخاء لكونه مركبا من حروف يستقبح في السمع اجتماعها.
2 لا يقال إن صلة الموصول يشترط فيها أن تكون معهودة للمخاطب ليتعرف المسند إليه باعتبارها والإبهام في الصلة ينافي مقام التعريف، لا يقال ذلك لأن اشتراطهم عهدية الصلة إنما هو في غير مقام التعظيم والتفخيم.
3 ومنه في غير المسند إليه قول دريد بن الصمة:
صبا ما صبا حتى علا الشبب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد(4/104)
إن الذين ترونهم إخونكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا1
يقول: إن الذين تظنونهم أصدقاءكم، يتمنون الخير لكم, هم على غير ما تظنون، يودون دماركم، وإيقاع الشر بكم، فأنتم إذًا مخطئون في هذا الظن, والشاهد فيه قوله: "إن الذين ترونهم إخوانكم" حيث أتى بالمسند إليه موصولا لقصد تنبيه المخاطبين2 على خطئهم في ظنهم أن أمثال هؤلاء أصدقاء لهم إذ قد تحقق منهم ما لا يتفق مع هذه الصداقة من تربص الدوائر بهم, بخلاف ما لو صرح بأسمائهم مثلا فقيل: فلان وفلان وفلان يشفي غليل إلخ, فليس في ذلك ما يفيد تنبيههم إلى هذا الخطأ, ومثال ما فيه تنبيه على خطأ غير المخاطب قولك: إن الذي يحسبه محمد صديقه الحميم يغتم لسروره، ويبتهج لحزنه، ويود له ما لا يجب. ففيه من التنبيه على خطأ "محمد" في هذا الحسبان ما ليس في التصريح بالاسم, ومنه قول عروة بن أذينة3:
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
ففي التعبير بالموصول تنبيه على خطئها في زعمها.
6- تشويق المخاطب إلى الخبر ليتمكن في ذهنه, وذلك حيث يكون مضمون الصلة حكما غريبا كما في قول أبي العلاء المعري:
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد4
__________
1 "ترونهم" بضم التاء على صورة المبني للمجهول, ولكن على معنى البناء للفاعل وعلى هذا تكون الواو فاعلا وهم مفعولا أولا وإخوانكم مفعولا ثانيا, وأما فتح التاء على أن تكون "ترى" بمعنى تبصر فلا يصح؛ لأنه غير مراد نعم يصح على جعل الرؤية قلبية بمعنى الاعتقاد لكن الرواية تخالفه، والغليل هنا بمعنى الحقد، وتصرعوا من الصرع وهو الإلقاء على الأرض, وهو إما كناية عن الهلاك أو عن الإصابة بالحوادث.
2 منشأ التنبيه كما علمت هو الصلة.
3 هو أحد بني ليث بن بكر وهو شاعر غزل مقدم من شعراء المدينة ومعدود من الفقهاء والمحدثين روى عنه مالك بن أنس.
4 المراد بحيرة الناس فيه اختلافهم في أمر بعثه فقد أطلقت الحيرة وأريد لازمها وهو الاختلاف, إذ يلزم من الحيرة في الشيء الاختلاف فيه=(4/105)
يقول: إن الذي تحيرت الخلائق فيه أي: اختلف الناس في أمر بعثه، وهل يعاد ثانيا بعد موته أو لا يعاد؟ هو ذلك الحيوان الآدمي المتولد من النطفة، أو طينة آدم -على الخلاف في المراد بالجماد- والشاهد قوله: "والذي حارت البرية فيه" إذ عبر المسند إليه باسم الموصول لتضمن الصلة أمرًا غريبا هو إيقاع البرية كلها في حيرة وارتباك، ومثل هذا الأمر العجيب يشوق النفس إلى أن تعرف ذلك الذي أوقع البرية كلها في هذه الحيرة, ومثله قولك: الذي يقاوم الأسود في مرابضها فلا، والذي يصيد الأفاعي من أعشاشها فلان، وأشباه ذلك مما تضمن أمرا لا يقره الألف والعادة.
7- الإشارة إلى نوع الخبر المحكوم به على المسند إليه المعبر عنه بالموصول كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} فإن مدلول الصلة -وهو الإيمان والعمل الصالح- ما يشير إلى أن الخبر المحكوم به من نوع الإثابة والإمتاع, وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي: صاغرين ففي مضمون الصلة وهو الاستكبار عن العبادة تلميح وإشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من جنس الإذلال والعقوبة, من ذلك قولهم: من صبر وتأنى نال ما تمنى، وقولهم: من استمرأ مرعى الكسل جانبه الأمل, ففي الأول إشارة إلى أن الخبر من نوع الفوز والفلاح، وفي الثاني إشارة إلى أنه من نوع الإخفاق والحرمان, وهكذا يؤتى بالمسند إليه اسم موصول للإشارة به إلى أن الخبر المحكوم به عليه من أي نوع هو؟ أمن
__________
= فلا يقال حينئذ أن كل فريق جازم بما يراه في أمر بعثه فأين الحيرة إذًا؟ ولفظ "حيوان" على حذف مضاف أي: معاده؛ لأن الاختلاف إنما وقع في أمر بعثه لا في ذاته، والمراد بالحيوان المستحدث بنو آدم بدليل سياق الحديث؛ لأن البيت من قصيدة يرثي بها فقيها حنفيا إذ يقول فيها:
وفقيها أفكاره شدن للنعـ ... ـمان ما لم يشده شعر زياد
فيبعد إذًا أن يكون المراد بالحيوان غير الآدميين كناقة صالح، أو ثعبان موسى عليه السلام كما قيل، ويتعين أن الذي وقعت من أجله الحيرة هو معاده وبعثه من جديد.(4/106)
نوع الثواب، أو العقاب، أو الفوز، أو الإخفاق، أو نحو ذلك، فيفطن المخاطب من فاتحة الكلام إلى ما تدل عليه خاتمته.
غير أن الإيماء إلى نوع الخبر قد يكون غير ما يهدف إليه المتكلم، وإنما يكون هدفه شيئا آخر يتوسل إليه بهذا الإيماء أي: يجعله وسيلة إليه، وهذا الغرض هو التعريض بتعظيم شأن الخبر، أو التعريض بإهانته1.
فمثال ما فيه تعريض بتعظيم شأن الخبر قول الفرزدق يفتخر على جرير بن عطية.
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا2 دعائمه أعز وأطول
يقول: إن الذي رفع السماء "ذلك البناء العظيم" بنى لنا مجدا وشرفا لا يطاولهما شيء، وجعل قبيلتنا سيدة القبائل، ورمز فخارها، أما أنت يا جرير فلا مجد فيك ولا شرف, والشاهد فيه قوله: "إن الذي سمك السماء" فإن في الموصول تلميحا إلى أن الخبر المحكوم به عليه أمر من جنس البناء والرفعة عند من له ذوق سليم3 لكن ليس هذا هو المقصود بالذات إنما الغرض الذي يهدف إليه الشاعر متوسلا بهذا الإيماء هو التعريض بتفخيم بيته من حيث إن بانيه هو ذلك الذي رفع السماء،
__________
1 قد يقال: ليس في بيت الفرزدق الآتي تعريض بتعظيم شأن الخبر وإنما فيه تعريض بتعظيم شأن البيت وهو واقع مفعولا لا خبرا, ويجاب بأن تعظيم البيت إنما جاء من كونه بناء من سمك السماء, وإذًا فلا محيد من اعتبار البناء في التعظيم، أو يجاب بأن المراد بالخبر ما وقع في سياق الجملة الخبرية, ولو مفعولا كما في بيت الفرزدق ونحوه في الأمثلة ولا شك أن لفظ "بيتا" في كلام الفرزدق واقع في جملة الخبر وفي سياقه.
2 المراد بيت المجد والشرف وللفرزدق الحق في هذا الفخر؛ لأن قبيلته من قريش فآباؤه أماجد وأشراف بخلاف جرير فإن آباءه من أرذال بني تميم.
3 أي: إن الذوق شاهد على هذا التلميح فإنه إذا قيل "الذي اخترع هذا البناء البديع" فهم منه عرفا أن ما يترتب عليه أمر من جنس الأبنية المتقنة فإذا قيل "ابتدع لي هذا البناء" كان كالتأكيد لما أشير إليه في أول الكلام.(4/107)
وأي بناء أرفع وأعظم من سماء هي صنع يد ذلك المبدع القادر؟ وإنا لنعلم أن آثار المؤثر الواحد متشابهة لا تختلف, ومثل بيت الفرزدق قولك: "الذي بنى سراي القبة بنى لنا هذه الفلة"1، ففيه من غير شك إشارة إلى التعريض بتعظيم شأن "الفلة" وأنها فخمة البناء دقيقة الصنع, ولو أنه عبر عن هذا التعبير فقيل مثلا: إن الله بنى لنا بيتا2، أو قيل: إن الذي بنى بيت3 فلان بنى لنا فلة، لتعطل جيد العبارتين من تلك الحلية البلاغية لخلو الأولى من الإشارة إلى نوع الخبر, وخلو الثانية من التعريض بتعظيم شأنه، وإن أشير فيه إلى جنسه.
ومثال ما فيه تعرض بإهانته قولك: "إن الذي لا يحسن قرض الشعر أنشأ قصيدة" ففي الموصول إشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من نوع التأليف والإنشاء لكن ليس هذا هو الغرض، وإنما المقصود التوسل بهذه الإشارة إلى التعريض بتحقير هذه القصيدة، وأنها من النوع المبتذل الساقط؛ لأنها صنع من لا يحسن التأليف في الشعر.
وقد يكون التعريض بتعظيم شأن غير الخبر، أو التعريض بإهانته, مثال الأول قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} ففي
صلة الموصول إشارة إلى أن الخبر من نوع الخيبة والخسران، وذلك أن شعيبا نبي فتكذيبه يفضي إلى هذه الصفة الخاسرة, لكن المقصود من هذا إنما هو الإيماء إلى التعريض بتعظيم شأن شعيب عليه السلام إذ إن تكذيبه أوجب هذا الخسران المبين, ولفظ "شعيب" واقع في جملة الصلة، لا في جملة الخبر فالتعريض هنا بتعظيم شأن غير الخبر, ومثال الثاني قولهم: "إن من يتبع الشيطان خاسر" ففي الصلة إيماء إلى أن الخبر من نوع الخزي والخذلان؛ لأن الشيطان ضال مضل فاتباعه ضرب من التخاذل والاندحار, غير أن الغرض هو التعريض بتحقير شأن الشيطان من حيث إن اتباعه يفضي
__________
1 اسم لبناء على صورة شاعت في هذا العصر.
2 قد يقال إن تعظيم البيت يفهم من لفظ الجلالة, وإن لم يكن فيه إيماء إلى نوع الخبر, إلا أن يقال إن التعظيم بواسطة الإيماء أتم منه بدونه.
3 أي: على فرض أن بيت فلان ليس على طراز ممتاز حتى لا يكون فيه تعريض بتعظيم الخبر.(4/108)
إلى هذا المصير البغيض1 ولفظ "الشيطان" واقع في جملة الصلة، لا في جملة الخبر, فالتعريض إذًا بالتهوين من شأن غير الخبر, ومثله قولك: "إن من لا يحسن معرفة فن الأدب قد صنف فيه" ففي الموصول مع صلته إيماء إلى أن الخبر من نوع ما يتعلق بالأدب، وفي ذلك الإيماء تعريض بأن مصنفه من النوع المبتذل؛ لأنه عمل من لا يحسن تعاطي الأدب.
غير أنه قيل: إن منشأ تعظيم شأن الخبر أو إهانته إنما هو الموصول مع صلته, وإذًا فلا مدخل للإيماء إلى نوع الخبر في التعريض بتعظيم الخبر أو إهانته بدليل وجود التعريض بتعظيم الخبر أو إهانته بدون ذلك الإيماء في قولنا: "بنى لنا بيتا الذي سمك السماء"، وقولنا "أنشأ قصيدة من لا يحسن قرض الشعر" بتقديم المسند فيهما، فإن التركيبين بلا شك مفيدان للتعريض بتعظيم شأن الخبر في الأول, وإهانته في الثاني في حين أن لا إشارة فيهما لنوع الخبر؛ لأن الإشارة إنما تكون حيث يجعل الموصول مقدما, وإذ ثبت أن ليس للإيماء دخل في التعريض بالتعظيم كما وضح لك من المثالين المذكورين. فكيف يتوسل به ويجعل ذريعة إليه؟
وأجيب بأن التعريض بالتعظيم أو الإهانة المستفاد من المثالين المذكورين إنما أفاده مجموع الكلام، ومثل هذا لا يحتاج لإيماء إلى نوع الخبر، وكلامنا في التعظيم أو التحقير المستفادين من الوصول وصلته فقط، ولا شك أن ذلك يحتاج إلى التوسل إليهما بالإيماء المذكور، فإن تعظيم شعيب عليه السلام في الآية السابقة إنما استفيد من الصلة لما فيها من الإيماء إلى نوع من الخبر بدليل أنه لو بني على الصلة شيء غير المومئ إليه، بأن رتب عليها غير الخسران، فقيل مثلا: الذين كذبوا شعيبا أبناء قبيلة كذا لم يستفد منه تعظيمه, على أن استفادة التعظيم أو الإهانة من الصلة بواسطة الإيماء كما في بيت الفرزدق، أو آية شعيب لا تنافي استفادتهما من مجموع الكلام كما في المثالين المذكورين.
__________
1 قد يقال إن إهانته تفهم من العلم بقبح اتباعه بلا حاجة إلى إيماء, ويجاب بأن حصول الإهانة مع الإيماء أتم منه بدونه.(4/109)
تنبيه:
قد يكون في الموصول إيماء إلى نوع الخبر على نحو ما تقدم، وهو -مع ذلك- بمثابة الدليل على تحقيق الخبر وتثبيته في ذهن السامع، وذلك إنما يكون حيث تصلح الصلة دليلا على وجود الخبر كما في قول الشاعر يشكو ويتوجع من جفاء حبيبه وهجره:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول1
يقول: إن التي نزعت إلى الكوفة، واتخذت بها موطن إقامة دائمة تصرمت حبال ودها، وانحلت عرا العلاقة بيني وبينها, والشاهد فيه تعبيره بالموصول وصلته إذ قال: "إن التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند" فإن فيه إشارة إلى أن الخبر الآتي بعد من نوع زوال المحبة، وانقطاع المودة حيث قال: غالت ودها غول؛ لأن الإنسان لا يهجر وطنه إلى غيره -في العادة- إلا إذا كان كارها لأهله, راغبا عنهم, ومع ما في الصلة من هذه الإشارة هي كالدليل على ثبوت هذا الجفاء، وانصراف قلب محبوبه عنه، وإلا فكيف استساغ لنفسه فراق محبه، واتخذ ذلك البلد النائي موطن إقامة؟ وهذا المعنى مفقود في مثل قول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا إلخ" فهو -وإن كان فيه إشارة إلى أن الخبر من نوع البناء- لا دليل فيه على ثبوت هذا البناء وتحققه إذ لا يلزم عقلا، ولا عرفا من سمك السماء بناء البيت المذكور؛ لأن رفع السماء ليس علة لبناء البيت, بخلاف ما نحن فيه فإنه يلزم عادة من المهاجرة إلى الكوفة، وضرب البيت بها للإقامة فيه زوال المحبة وانصرام حبل المودة, ومثل البيت المذكور قولهم:
__________
1 ضرب البيت في الأصل أن تشد حباله بالأوتاد, وهو كناية عن الإقامة من باب الانتقال من الملزوم إلى اللازم "ومهاجرة" حال من فاعل "ضربت" أفادت أن الكوفة ليست بلدها الأصلي, والكوفة إحدى المصرين بالعراق وإضافتها إلى الجند لإقامة جند كسرى بها فالإضافة لأدنى ملابسة "وغالت" أهلكت والغول بمعنى المهلك أي: اغتالت ودها الغوائل, وقد أنث الفعل؛ لأن الغول مؤنث سماعا ولفظ البيت خبر والمعنى على إنشاء التحسر.(4/110)
إن الذي حسنت سيرته طابت سريرته، والذي صفا قلبه صدق حبه, فالموصول في المثالين مشير إلى نوع الخبر، وهو كالدليل على ثبوته وتقرره.(4/111)
إيراد المسند إليه معرفا بأل:
يؤتى بالمسند إليه محلى بأل للغرضين الآتيين بعد:
1- الإشارة بها إلى معهود خارجا, وهي التي يكون مدخولها معينا في الخارج, واحدا كان ذلك المعين، أو اثنين، أو جماعة، وتسمى اللام حينئذ لام العهد الخارجي -وهي باعتبار مدخولها ثلاثة أقسام- لام العهد الخارجي، ولام العهد الكنائي ولام العهد العلمي، والأخيرة قسمان: علمي حضوري، وعلمي فقط على ما سيأتي.
فالأولى: أن يتقدم لمدخولها ذكر صريح, وتسمى حينئذ لام العهد الخارجي الصريحي كما في قولك: "صنعت في رجل جميلا فلم يرع الرجل هذا الجميل" فإتيان المسند إليه وهو "الرجل" محلى بأل للإشارة بها إلى معهود خارجا عهدا صريحا لتقدم ذكره صراحة في قوله: "صنعت في رجل جميلا" وكقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ، فقد ذكر المصباح والزجاجة منكرين، ثم أعيدا معرفين باللام للغرض السابق, ومنه قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} غير أن مدخول اللام هنا ليس مسندا إليه، والكلام في أحوال المسند إليه.
والثانية: أن يتقدم لمدخولها ذكر كنائي أي: غير مصرح به، وتسمى حينئذ لام العهد الخارجي الكنائي كما في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى 1} ،
__________
1 للمفسرين في هذه الجملة رأيان: فقيل إنها من كلام امرأة عمران وفيه قلب أي: ليس الأنثى كالذكر في التحرير, وهو من تتمة تحسرها على وضعها أنثى وعدم مساواتها الذكر في التحرير. وعلى هذا تكون اللام فيه للجنس فلا تصلحان مثالين للام العهد, وقيل إنه كلام الله تسلية لها، والمعنى ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت بل الأنثى التي وهبتها أرفع مرتبة من الذكر الذي طلبته, وعلى هذا تكون اللام فيها للعهد.(4/111)
فإتيان المسند إليه1 وهو لفظ "الذكر" محلى بأل للإشارة بها إلى معهود خارجا عهدا كنائيا لتقدم ذكره كناية في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} . فإن لفظ" ما" مبهم يعم بحسب وضعه الذكور والإناث لكن التحرير، وهو أن يعتق الولد ليكون وقفا على خدمة بيت المقدس إنما كان للذكور دون الإناث، فلفظ "ما" حينئذ كناية2 عن الذكر باعتبار اختصاص التحرير بالذكور, وأما لفظ "الأنثى" فاللام فيه للإشارة إلى ما سبق ذكره صريحا في قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فهي من القسم الأول من أقسام اللام غير أنه ليس مسندا إليه؛ لأنه مجرور بالكاف خبر "ليس" فلا شاهد فيه.
والثالثة: ألا يتقدم لمدخولها ذكر مطلقا، لا صريحا ولا كناية ولكن للمخاطب علم به, وهذه اللام على قسمين كما ذكرنا سابقا.
الأول: أن يكون مدخولها حاضرا في المجلس، وتسمى اللام حينئذ "لام العهد العلمي الحضوري" كما تقول في شأن رجل حاضر في المجلس: "أبدع الرجل في كلامه" لمخاطب سبق له علم به.
والثاني: أن يكون مدخولها غائبا عن المجلس, وتسمى اللام حينئذ "لام العهد العلمي فقط" كأن يقال في شأن رجل غائب عن المجلس: "خطب الرجل فجود في خطابه" لمن سبق له به علم, فإتيان المسند إليه في القسمين محلى بأل للإشارة بها إلى معهود خارجا عهدا علميا لتقدم علم المخاطب به.
__________
1 إنما كان مسندا إليه؛ لأنه اسم "ليس" فهو في الأصل مبتدأ.
2 يحتمل أن يكون المراد الكناية بالمعنى اللغوي, وهو الخلفاء؛ لأن فهم الذكر من لفظ ما الصادق بالذكر والأنثى فيه خفاء لعدم التصريح وإن كان قوله محررا مبينا للمراد، ويحتمل أن المراد بالكناية المصطلح عليها, وإن المطلوب بها موصوف وهي أن تختص صفة بموصوف معين فتذكر تلك الصفة ويراد بها الموصوف, فالتحرير من الصفات المختصة بالذكور فهو إذًا ملزوم والذكر لازم له, وقد أطلق اسم الملزوم وهو لفظ "ما في بطني" الموصوف بالتحرير وأريد اللازم وهو الذكر.(4/112)
2- الإشارة بها إلى الحقيقة وهي التي يكون مدخولها موضوعا
للحقيقة والماهية وهي باعتباره أقسام ثلاثة أيضا: لام الحقيقة1 ولام العهد الذهني ولام الاستغراق, والأخيرة قسمان على ما سيأتي بعد.
فالأولى: ما يكون مدخولها مرادا به الحقيقة نفسها, أي: الماهية من حيث هي بغض النظر عما ينطوي تحتها من أفراد كما في قولهم: "الرجل خير من المرأة"، وقولهم: الحرير يفضل القطن، وقولهم: الدينار خير من الدرهم، وما أشبه ذلك مما يكون المقصود فيه الحكم على الحقيقة نفسها بمعنى أن حقيقة الرجل خير من حقيقة المرأة، وحقيقة الحرير تفضل حقيقة القطن. وحقيقة الدينار خير من حقيقة الدرهم. وهذا لا ينافي أن بعض أفراد حقيقة المرأة يفضل بعض أفراد حقيقة الرج كالسيدة عائشة أم المؤمنين، وأن بعض أفراد حقيقة القطن يفضل بعض أفراد حقيقة الحرير كأن يكون الحرير من النوع الرديء, وأن بعض أفراد حقيقة الدرهم أفضل من بعض أفراد حقيقة الدينار كأن يكون في معدن أحد الدنانير غش, وهكذا ... فالمنظور إليه في المفاضلة إنما هو الحقيقة لا الفرد, وليس من شك أن حقيقة الرجل إذا قطعنا النظر عن الأفراد تفضل المرأة، وحقيقة الحرير تفضل حقيقة القطن، وحقيقة الدينار تفضل حقيقة الدرهم, ومن ذلك قولهم: "أهلك الناس الدرهم والدينار" فأل فيهما للإشارة إلى حقيقتي الدرهم والدينار؛ لأن الحكم المذكور إنما هو على جنس هذين النقدين، لا على نقد بعينه كما هو ظاهر, ومنه قول أبي العلاء:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
أي: حقيقة الخل تشبه حقيقة الماء فيما ذكر. وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} ، يريد حقيقة الماء.
والثانية: ما يكون مدخولها مرادا به فرد مبهم من أفراد الحقيقة
__________
1 وتسمى أيضا لام الجنس ولا الطبيعة.(4/113)
لقرينة دالة على ذلك1 مثل ذلك قوله تعالى: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أتى بالمسند إليه معرفا بأل؛ لأن القصد إلى فرد ما من أفراد حقيقة الذئب، والقرينة على ذلك قوله: {أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} فليس المراد الحقيقة نفسها؛ لأن الحقيقة من حيث هي أمر لا وجود له في الخارج حتى يتحقق منه أكل أو شرب، وإنما يتحقق ذلك من الأفراد, ولا الحقيقة من حيث وجودها في جميع الأفراد لاستحالة أن تجتمع الذئاب جميعها على أكله, ولا الحقيقة من حيث وجودها في فرد معين إذ لا عهد في الخارج بذئب معين، فتعين أن يكون المراد فردا ما من أفراد الحقيقة2 ومنه قول الشاعر:
ومن طلب العلوم بغير كد ... سيدركها متى شاب الغراب
فالقصد هنا إلى فرد ما من أفراد حقيقة الغراب بقرينة قوله: "شاب" إذ وصف الشيب من شئون الأفراد، وليس المراد الحقيقة نفسها، ولا هي في ضمن جميع أفرادها، ولا هي من حيث وجودها في فرد معين كما وضح ذلك في المثال قبله, ومن هذا القبيل في غير المسند إليه قولهم: "ادخل السوق" حيث يراد فرد ما من أفراد حقيقة السوق بقرينة قوله: "ادخل" فليس المراد الحقيقة نفسها لاستحالة الدخول في الحقيقة، ولا الحقيقة في ضمن جميع الأفراد لاستحالة دخول الشخص الواحد جميع أفراد السوق- ولا الحقيقة من حيث وجودها في فرد معين إذ لا عهد بسوق معينة.
والثالثة: ما يكون مدخولها مرادا به جميع الأفراد المندرجة تحت
__________
1 أي: إن الفرد المبهم مستفاد من القرينة الخارجية لا من المعرف باللام إذ هو موضوع للحقيقة نفسها كما قلنا.
2 قيل: كيف سميت هذه اللام لام العهد الذهني مع أن مدخولها فرد غير معين فلا عهد فيه لا ذهنا ولا خارجا بل هو مبهم, ويجاب بأنه معهود في الذهن باعتباره أحد أفراد الحقيقة والحقيقة معهودة في الذهن بمعنى أنها معلومة متميزة عما عداها من الحقائق فعهديته تبع لعهدية الماهية فصح بهذا الاعتبار اعتباره معهودا ذهنيا وصحت تسمية أل الداخلة عليه لام العهد الذهني.(4/114)
الحقيقة عند قيام القرينة على ذلك1 ولهذا سميت: لام الاستغراق إذ إن المفاد بها استغراق جميع أفراد الحقيقة -وهذه اللام قسمان- لام الاستغراق الحقيقي، ولام الاستغراق العرفي.
فالأولى: ما يكون مدخولها مرادا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب الوضع كما في قولنا: "الغيب يعلمه الله" فإن القصد فيه إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الغيب" وضعا والمعنى: كل أفراد الغيب لا تخفى على الله, وكما في قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فإن القصد فيه إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الإنسان" وضعا أي: كل إنسان, ومنه في غير المسند إليه قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: محيط علما بكل مغيب وكل مشاهد.
والثانية: ما يكون مدخولها مرادا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف2 والعادة كما في قولك: "امتثل الجند أمر الأمير" فإن المراد جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الجند" عرفا أي: جنود مملكته؛ لأن هذا هو المفهوم بحسب العرف، لا جنود الدنيا، إذ ليس في وسع الأمير أن يبسط نفوذه على جنود العالم أجمع عادة, ومنه في غير المسند إليه قولهم: "جمع الأمير الصاغة"3، أي: صاغة مملكته، لا صاغة الدنيا بأسرها.
والقرينة على إرادة الشمول في لام الاستغراق نوعان: حالية،، ومقالية.
فالحالية: كما في نحو ما سبق من قولنا: "الغيب يعلمه الله" فالقرينة
__________
1 أي: على أن ليس القصد إلى الحقيقة من حيث هي ولا من حيث وجودها في فرد مبهم فيكفي في الحمل على الاستغراق وجود القرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة من حيث هي, ومن حيث وجودها في بعض الأفراد.
2 المراد العرف العام أما ما كان بحسب العرف الخاص فهو داخل في الاستغراق الحقيقي.
3 أصله صوغه تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا وهو جمع صائغ, وهذا المثال مبني على القول بأن أل الداخلة على اسم الفاعل الدال على الثبوت والدوام كما في المثال المذكور معرفة لا موصولة.(4/115)
هنا على إرادة الاستغراق حالية لظهور أن ليس المراد حقيقة الغيب وماهيته إذ ليس ذلك مما استأثر الله بعلمه، ولا أن يكون المراد فردا مبهما أو معينا من أفراد الغيب، فحاشا لله العليم بخفايا الأمور أن يقتصر علمه على بعض الغيوب فتعين إذًا أن يكون المراد جميع الأفراد التي يتناولها لفظ الغيب وضعا.
والمقالية: كما في قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فالقرينة هنا على أن المراد عموم الأفراد، لا الحقيقة نفسها، ولا فرد مبهم أو معهود من أفرادها صحة الاستثناء الآتي بعد في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} " الآية"، فهي أمارة العموم1 إذ إن شرط الاستثناء دخول المستثنى في المستثنى منه لو سكت عن ذكر المستثنى، ودخوله فيه فرع عن عمومه الدال على الاستغراق, ولو أريد بالإنسان الحقيقة نفسها لما صح استثناء الأفراد منه لعدم تناول اللفظ هنا، وإن أريد بعض مبهم أو معين لم يصح الاستثناء كذلك لعدم تحقق دخول المستثنى في المستثنى منه، وهذا الدخول -كما قلنا- شرط في صحة الاستثناء فتعين أن يكون المراد جميع الأفراد التي يتناولها الإنسان وضعا.
ومثل الآية ما مثلنا به للاستغراق العرفي من نحو قولنا: "امتثل الجند أمر الأمير"، فالقرينة فيه على أن المراد عموم الأفراد عرفا، لا الحقيقة نفسها ولا فرد مبهم من أفرادها قوله: "امتثل" فإن الحقيقة من حيث هي لا توصف بالامتثال أو عدمه، وإنما ذلك من صفات الأفراد, كما لا معنى أن يقال: امتثل الجند أمر الأمير ويراد فرد مبهم من أفرادهم فتعين أن يكون المراد جميع الأفراد التي يتناولها لفظ الغيب عرفا.
تنبيهان:
الأول: علم مما سبق أن حمل "أل" التي للعهد الذهني على
__________
1 دلالة الاستثناء على الاستغراق بناء على القول بوجوب دخول المستثنى في المستثنى منه, أما على القول بأنه يكفي في صحة الاستثناء جواز الدخول فلا دلالة للاستثناء على الاستغراق حينئذ.(4/116)
الفرد المبهم، والتي للاستغراق على جميع الأفراد مشروط بالقرينة الدالة على ما حملتنا عليه أما بدونها فكلتا اللامين محمولة على الحقيقة؛ لأن مدخولها موضوع للحقيقة -كما أسلفنا- وإذًا فالنظر إلى الفرد المبهم "في لام العهد الذهني"، أو إلى جميع الأفراد "في لام الاستغراق" إنما هو بالقرينة لا بالوضع.
الثاني: قلنا إن المعرف بلام العهد الذهني موضوع للحقيقة، وإنما يحمل على الفرد المبهم عند قيام القرينة الدالة عليه, فهو إذًا ذو شبهين من جهتين, يشبه النكرة من جهة المعنى، ويشبه المعرفة من جهة اللفظ.
أما شبهة بالنكرة؛ فلأن مفاد كل منهما غير معين1 ولهذا يعامل معاملة النكرة، فيوصف بالجملة كما توصف النكرة قال الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني2
يريد أنه كريم الخلق، بعيد الأناة، لا تنال منه سقطة اللئيم، ولا تستفزه سفاهة الجاهل فهو إذ يسمع من اللئيم ما يسيئه يصدف عنه، محدثا نفسه بأن اللئيم لا يعنيه ولا يقصده، بل يريد غيره3, ويحتمل أن يكون المراد: أنه يصدف عنه غير عابئ به، فلا يعيره أذنا، ولا يقيم له وزنا4 حفظا لكرامته, والشاهد قوله: "يسبني" فإن الجملة هنا صفو "للئيم" لأنه في معنى النكرة إذ إن الشاعر لم يرد لئيما بعينه؛ لأن ذلك يتنافى مع ما يريده من التمدح بفضيلة الحلم فقد يحلم الإنسان مع شخص،
__________
1 غير أن النكرة تدل على هذا البعض وضعا والمعرف بلام العهد الذهني يدل عليه بالقرينة, وإلا فهو موضوع للحقيقة نفسها فبينهما فرق؛ ولهذا أشبه النكرة ولم يكن عينها, وهذا الفرق بناء على أن النكرة موضوعة للفرد المنتشر فإن قلنا إنها موضوعة للماهية فالفرق أن تعين الماهية معتبر في مدلول المعرف بلام العهد الذهني غير معتبر في مدلول النكرة وإن كان حاصلا.
2 عدل إلى المضارع في -أمر- قصدا إلى الاستمرار وعدل إلى الماضي في قوله: فحضيت وقلت, دلالة على التحقق وثم حرف عطف وإذا لحقتها علامة التأنيث كما هنا اختصت بعطف الجمل.
3 من عناه إذا قصده وأراده.
4 من عناه الأمر إذا أهمه.(4/117)
ولا يحلم مع غيره، والحليم من يكون الحلم سجية فيه, كما أنه لم يرد الماهية من حيث هي بقرينة المرور، ولا من حيث وجودها في جميع أفرادها لعدم تأتي المرور بكل لئيم، بل المراد الجنس في ضمن فرد مبهم فهو كالنكرة لهذا جعلت صفة لا حالا.
أما من قال: إن الجملة حال من اللئيم فلا شاهد فيه فليس بشيء إذ يفيد الكلام حينئذ: أن السبب مقيد بوقت المرور فقط كما هو شأن الحال, وهذا يتنافى مع ما أراده الشاعر من أن اللئيم دأبه وشأنه السب، وهو مع ذلك يفسح له صدرا، ولا يعيره اهتماما1.
وأما شبهه بالمعرفة فلجريان أحكام المعارف عليه غالبا, فهو يقع مبتدأ كما تقول: "الذئب في حقلك يرتقب فريسته" ويكون ذا حال كما في قولك: "رأيت ذئبا خارجا من حقلك يطارده كلب" ويأتي موصوفا بها كما في قولك: "السوق ذات السلع الجيدة يؤمها الناس" إلى غير ذلك.
هذا, ولما ذكر فيما سبق أن من أفراد اللام المشار بها إلى الحقيقة "لام الاستغراق" أرادوا لهذه المناسبة أن يذكروا إحدى قضاياهم المشهورة هي قولهم:
واستغراق2 المفرد أشمل من استغراق المثنى والجمع.
ومعنى هذا: أن اسم الجنس المفرد إذا دخلت عليه أداة الاستغراق كان شموله للأفراد أكثر مما لو كان اسم الجنس مثنى أو جمعا, بمعنى أن اسم الجنس المفرد يتناول كل واحد من الأفراد، والمثنى إنما يتناول كل اثنين اثنين، والجمع إنما يتناول كل جماعة جماعة.
__________
1 لكن قيل إن المناسب جعله حالا؛ لأن المتبادر من قوله: قلت لا يعنيني أنه قال ذلك حال سماع السب في حال المرور لا أنه قاله فيمن دأبه السب ولو في غير حال المرور.
2 سواء كان الاستغراق بحرف التعريف كما في مسألتنا أو بغير كحرف النفي في النكرة كما ستأتي أمثلته.(4/118)
بيان ذلك: أنك إذا قلت مثلا: "لا طالبين في الفصل" وكان فيه طالب واحد لم تكن كاذبا في قولك؛ لأنك إنما نفيت الكينونة في الفصل عن جنس المثنى أي: نفيت أن يكون فيه طالبان، ولم تنف أن يكون فيه طالب واحد, وإذا قلت: "لا طلبة في الفصل"، وكان فيه طالبان كنت صادقا أيضا؛ لأنك إنما نفيت الكينونة في الفصل عن جنس الجمع أي: نفيت أن يكون في الفصل طلبة، وأقل الجمع ثلاثة، فلم تنف إذًا أن يكون فيه طالب أو طالبان.
أما إذا قلت: "لا طالب في الفصل"، وكان فيه طالب واحد، أو اثنان أو ثلاثة، أو أكثر كنت كاذبا في قولك؛ لأنك نفيت الكينونة في الفصل عن هذا الجنس وهو يتناول جميع أفراده, فدل ذلك على أن استغراق المفرد أشمل من استغراق المثنى والجمع1.
وجملة القول في هذا: أن معنى الاستغراق شمول أفراد مدلول اللفظ، ومدلول صيغة المثنى "اثنان"، ومدلول صيغة الجمع "ثلاثة فأكثر"، ومدلول صيغة المفرد "الجنس"، والنفي منصب على مدلول كل من هذه الصيغ الثلاث لا يتعداه إلى غيره, غير أنه ورد على هذه القضية اعتراضان:
__________
1 قيل: هذا منقوض بقولنا: لا يرفع هذا الحجر العظيم كل رجال، وبقولك: هذا الخبز يشبع كل رجال فإن ذلك أشمل من قولك: لا يرفع الحجر المذكور كل رجل، ومن قولك: هذا الخبز يشبع كل رجل إذ يلزم من عدم استطاعة الجمع عدم استطاعة الفرد كما يلزم من إشباع الجمع إشباع الفرد بخلاف العكس في المثالين, فلا ينبغي إذًا أن يطلق القول بأن استغراق المفرد أشمل بل تارة يكون اسغراقه أشمل وأخرى يكون استغراق غيره أشمل كما في المثالين المذكورين, وأجيب: بأن المراد الأشملية بحسب الوضع, وبالنظر إلى المدلول المطابقي والأشملية في المثالين بالالتزام؛ لأن الحكم على الكل يستلزم الحكم على كل واحد, على أن الكلام في الاستغراق المفاد أو بالجمع والمفيد للاستغراق في المثالين المذكورين لفظ "كل" بل قد يندفع هذا القيل من أساسه إذا اعتبرنا القضية جزئية بأن يكون المراد: واستغراق المفرد قد يكون أشمل.(4/119)
الأول هو: أن الحكم بأشملية استغراق المفرد ليس على عمومه كما هو ظاهر العبارة، وإنما هو خاص بالنكرة المنفية -كما مثلنا- أما في المعرف باللام فالجمع والمفرد سواء في الاستغراق الشامل بحيث يتناول كل واحد من الأفراد، وليس أحدهما بأوسع استغراقا من الآخر.
مثال الجمع المحلى بأل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، فالاستغراق في هذه الجموع شامل كل فرد، ونحو قولك: "أحب المسلمين إلا زيدا" فإن المراد كل فرد من أفراد المسلمين لا كل جمع، وإلا قيل في الاستثناء إلا الجمع الفلاني.
ومثال المفرد المعرف بأل قولك: "المؤمن جدير بالاحترام، أي: كل مؤمن, وقد اجتمعا في قوله عليه الصلاة والسلام: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، أي: كل فرد ممن يصدق عليه "مسلم" هو من يسلم من شره جميع أفراد المسلمين.
وأجيب بأن الحكم المذكور عام البتة أي: إن المفرد أشمل استغراقا من الجمع مطلقا1 وكون الجمع المحلى بأل مساويا للمفرد في الشمول فذلك لأن "أل" الجنسية حينما تدخل عليه تبطل منه معنى الجمعية، ويصير معناه مفردا فإفادته للشمول حينئذ إنما جاءت من ناحية إفراد معناه, أما على تقدير بقاء الجمع على معناه الأصلي, وهو ما مشى عليه الخطيب تبعا لعلماء المعاني, فإن استغراق المفرد حينئذ يكون أشمل.
وقيل في الجواب: إن القضية المذكورة خاصة بالنكرة المنفية بدليل اقتصارهم على التمثيل بها في معرض البيان, فالاعتراض مدفوع من أصله.
الاعتراض الثاني هو: أن المفرد ما قابل المثنى والجمع، فمعناه حينئذ واحد لا تعدد فيه، وأن أداة الاستغراق الداخلية عليه تفيد تعدده، ومحال أن يكون الشيء الواحد متعددا غير متعدد في آن واحد لتنافيهما
__________
1 أي: سواء كان نكرة منفية أو محلى بأل.(4/120)
فكيف ساغ إذًا دخول أداة الاستغراق على المفرد؟ وإليك جوابين: أحدهما بالمنع، والآخر بالتسليم.
حاصل الأول: أننا نمنع أن هناك تنافيا بين الوحدة والتعدد ذلك أن الوحدة في المفرد معناها عدم اعتبار شيء آخر معه، وأن التعدد في المفرد الداخلة عليه أداة الاستغراق معناه: كل فرد فرد على حدة أي: من غير اعتبار ضم شيء آخر إليه، ولذلك امتنع وصفه بنعت الجمع عند الجمهور1، فيكون كل فرد -على هذا الاعتبار- متصفا بالوحدة إذ لم يجتمع معه شيء آخر, فإذا قلت مثلا: "لا طالب في الفصل" فقد سلبت الكينونة في الفصل عن كل طالب طالب على حدة، بحيث لا يخرج فرد من الأفراد عن هذا الحكم، وهذا هو معنى التعدد، وكون هذا الحكم واقعا على كل فرد على حدة، من غير اعتبار اجتماعه بفرد آخر هو معنى الوحدة، فلا تنافي حينئذ بين الوحدة والتعدد على هذا الاعتبار, وإنما يحصل التنافي لو أن المفرد الداخلة عليه أداة الاستغراق معناه: الأفراد مجتمعة لا كل فرد على حدة.
وحاصل الثاني: سلما أن هناك تنافيا بين الوحدة والتعدد, غير أن المفرد حينما دخلت عليه أداة الاستغراق كان مجردا عن اعتبار الدلالة على معنى الوحدة، وصار محتملا لها وللتعدد؛ لأنه قصد به الجنس، وبدخول أداة الاستغراق عليه تعين للتعدد، وإنما لم يطرد2 وصفه بنعت الجمع، فيقال مثلا: "إن المسلم القائمين الليل لهم أجر عظيم" لأجل المحافظة على التشاكل اللفظي ا. هـ.
__________
1 حكاه الأخفش عن بعضهم في قوله: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض؛ نظرا لأن أل للجنس ومدخولها يصدق بالجمع لتحقيق الجنس فيه.
2 هو جواب عما يقال. حيث جرد المفرد المذكور عن معنى الوحدة وصحبته أداة الاستغراق كان معناه متعددا, ومقتضى ذلك جواز وصفه بنعت الجمع مع أنه ممنوع، والجواب ما ذكرنا, وإنما لم يمتنع بتاتا وصفه بنعت الجمع لوقوع الوصف به مراعاة لمعناه في قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} لهذا قلنا لم يطرد وصفه بنعت الجمع.(4/121)
إيراد المسند إليه مضافا:
يؤتى بالمسند إليه معرفا بالإضافة إلى أحد المعارف السابقة لأغراض كثيرة أهمها ما سنذكره لك فيما بعد:
1- أنها أخصر1 طريق إلى إحضار المسند إليه في ذهن السامع كما في قول جعفر بن علبة الحارثي2.
هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثق3
يقول وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت: إن حبيبه راحل, وإن السجن حال دون أن يراه وقت رحيله، وكان يود لو يحظى منه بالنظرة الأخيرة والشاهد فيه قوله: "هواي" حيث أتى بالمسند إليه مضافا لقصد الاختصار في العبارة، وهو مطلوب هنا لضيق صدره، وفرط سآمته وتوجعه
__________
1 ظاهره أنها أخصر طرق التعريف, وليس كذلك إذ لا تظهر الأخصرية إلا بالنسبة للموصول، أما العلم والضمير واسم الإشارة والمعرف باللام فالأمر فيها بالعكس, ويجاب بأن المراد أنها أخصر الطرق في إحضار المسند إليه متلبسا بالوصف الذي قصد إليه المتكلم لا إحضاره في ذهن السامع من حيث ذاته, فالذي قصده الشاعر في البيت المذكور إحضار المسند إليه بوصف كونه مهويا لأجل إفادة زيادة التحسر ولو قال: الذي أهواه أو المحبوب لي مع الركب اليمانين إلخ لكان مفيدا لقصد المتكلم, ولكنه ليس أخصر من الإضافة, ولو أتى به اسم إشارة أو ضميرا أو علما فقيل: هذه أو هي أو فلانة مع الركب اليمانين إلخ لم يفد غرض المتكلم من كونها محبوبة فثبت من هذا أن الإضافة أخصر الطرق.
2 قاله وهو سجين بمكة, وكان قد قتل واحدا من بني عقيل فسجن فيه, وكان يومئذ بمكة ركب من اليمن فيه محبوبته وقد عزم هذا الركب على الرحيل فأنشد يتحسر وبعد هذا البيت:
عجبت لمسراها وأنى تخلصت ... إلي وباب السجن دوني مغلق
ألمت فحيت ثم قامت فودعت ... فلما تولت كادت النفس تزهق
3 هواي مصدر أريد به اسم المفعول أي: مهوى "والركب" اسم جمع لراكب كصحب وصاحب "واليمانين" جمع يمان وأصل "يمان" يمني حذفت منه ياء النسب وعوض عنها الألف على خلاف القياس لكثرة الاستعمال ثم أعل إعلال قاض، "ومصعد" من أصعد في الأرض إذا سار فيها، "والجنيب" المستتبع وهو الذي يتبعه قومه ويقدمونه أمامهم مخافة سبيه.(4/122)
لكون سجينا والحبيب راحل، ولفظ البيت خبر، ومعناه إنشاء التحسر على بعد حبيبه.
2- تضمن1 الإضافة تعظيما لشأن المضاف، أو المضاف إليه، أو غيرهما, فمثال ما فيه تعظيم المضاف قولك: "حاجب رئيس الوزراء قادم" ففي الإضافة تعظيم للحاجب بأنه حاجب رئيس الوزراء, ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ففيه تعظيم لشأن العباد بأنهم عباد الله سبحانه, ومنه في غير المسند إليه قول الشاعر:
لا تدعني إلا "بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي
ومثال ما فيه تعظيم المضاف إليه قولك: "سيارتي في انتظاري" ففي الإضافة تعظيم للمتكلم المضاف إليه بأن له سيارة, ومثال ما فيه تعظيم غير المضاف والمضاف إليه قولك: "سكرتير رئيس مجلس الوزراء زارني" ففي الإضافة تعظيم للمتكلم, وهو غير المسند إليه المضاف، وغير ما أضيف إليه المسند إليه, وفيه أيضا تعظيم للمضاف ولكنه غير مقصود.
3- تضمن الإضافة تحقيرا لشأن المضاف، أو المضاف إليه، أو غيرهما, فمثال الأول قولك: "أخو اللص قادم"، ففي الإضافة تحقير للمسند إليه المضاف بأنه أخو اللص, ومثال الثاني قولك: "رفيق عمرو لص" ففيه تحقير المضاف إليه بأن رفيقه لص, ومثال الثالث قولك: "ولد اللص يجالس عمرا" ففيه إهانة وتحقير لشأن عمرو بأن ولد اللص من جلسائه، وعمرو غير المسند إليه المضاف، وغير ما أضيف إليه المسند إليه، وفيه أيضا تحقير للمضاف ولكنه غير مراد للمتكلم.
4- إغناؤها عن تفصيل متعذر أو متعسر, فمثال المتعذر تفصيله
__________
1 قيل إن هذا التضمن قد يوجد في غير صورة الإضافة كما في قولك: السيارة التي لي في انتظاري، وكما في نحو: الذي يرافقه عمرو لص، فالإضافة إذًا لا تترجح على غيرها من الطرق بإفادة التضمن المذكور إلا بمراعاة الاختصار, والرد على هذا ما سبق من أنه لا يشترط في النكتة أن تكون مختصة بالطريق المؤدية إليها ولا أن تكون بها أولى بل يكفي مجرد المناسبة بينهما وإن أمكن تأدية النكتة من طريق آخر.(4/123)
قولهم: "اتفق أهل الحق على كذا" فقد أتى بالمسند إليه مضافا لتعذر تعداد كل من كان على حق, ومثال المتعسر تفصيله قولك: "أهل مصر كرام" فقد أضيف المسند إليه لتعسر تعداد أهل مصر, ومنه قول حسان بن ثابت:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن ماوية الكريم المفضل1
وقول مروان بن أبي حفصة:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل2
أضيف المسند إليه في البيتين المذكورين لتعسر تعداد أولاد جفنة، وبني مطر.
5- إغناؤها عن تفصيل حال دونه مانع، مع تيسره كما تقول: "حضر أمراء الجيش" فيضاف المسند إليه منعا لوقوع التنافس بينهم فيما لو ذكرت أسماؤهم, وقدم اسم أحدهم على غيره, وكما في قول الشاعر:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
يقول يا أميمة: قومي هم الذين فجعوني بقتل أخي فإذا هممت بالانتقام منهم عاد ذلك علي بالنكاية في نفسي والإضرار بها, والشاهد قوله: "قومي" حيث أتى به مضافا؛ لأن في تفصيله تصريحا بذمهم، وهو يستتبع الحقد عليه والنفور منه، في حين أنه في حاجة إليهم، فهم قومه، وعز الرجل بعشيرته.
6- تضمن الإضافة اعتبارا لطيفا كما في قول الشاعر:
__________
1 أولاد جفنة من الغساسنة الذين كان يمدحهم الشاعر بالشام.
2 "الغيل" الأجمة و"خفان" مأسدة مشهورة بقوة أسودها.(4/124)
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ... سهيل أذاعت غزلها في القرائب1
يقول: إن المرأة الحمقاء لا تتهيأ في الصيف للشتاء بإعداد الغزل حتى إذا ما طلع الكوكب المذكور في بدء الشتاء سحرا وزعت غزلها على قريباتها ليغزلنه, والشاهد قوله: "إذا كوكب الخرقاء" إذ قد أضيف المسند إليه إلى "الخرقاء" لاعتبار لطيف طريف, وهو الإشارة إلى أن الإهمال والتكاسل ديدنها وعادتها، وأنها غافلة عن القيام بشئونها، ولا تفيق إلا على ضوء هذا النجم، وكأنما خلق لأجلها, إلى غير ذلك من دواعي الإضافة كالاستهزاء في قوله تعالى: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} . وكغير ذلك.
__________
1 "الخرقاء" الحمقاء "وسهيل" بدل من كوكب، وهو نجم يطلع في بدء الشتاء وقت السحر "وأذاعت" وزعت وفرقت.(4/125)
إيراد المسند إليه منكرا:
يؤتى بالمسند إليه نكرة لدواع أهمها ما يأتي:
1- أن يكون القصد بالحكم إلى فرد غير معين من الأفراد التي يصدق عليها مفهوم اللفظ1, إما لأن الغرض لم يتعلق بتعيينه وإن كان معينا بل المقصود أن الحكم لم يثبت لغير فرد واحد من هذا الجنس، وأما لأن المتكلم لم يعلم جهة من جهات التعريف من علمية أو صلة، أو نحو ذلك, فمثال الأول قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى 2} أي: رجل واحد، لا رجلان، ولا رجال فقد أتى بالمسند إليه منكرا للقصد فيه إلى فرد ما من أفراد مفهوم لفظ "رجل" لأن حكم المجيء لم يثبت لغير فرد واحد من هذا الجنس, ومثال الثاني قولك: "جاء هنا رجل
__________
1 اعلم أن دلالة النكرة على الفرد ظاهرة إن قلنا أن النكرة موضوعة للفرد المنتشر, وأما إن مشينا على رأي من قال إنها موضوعة
للحقيقة فدلالتها على الفرد باعتبار الاستعمال الغالب؛ لأن الغالب
استعمالها في الفرد بقرينة المقام.
2 هذا الرجل هو مؤمن آل فرعون وأراد بالمدينة مدينة فرعون وكانت تسمى "منف" وليست منف المشهورة الآن بل هي بلدة كانت بإقليم الجيزة فخربت بدعوة من موسى عليه السلام.(4/125)
يسأل عنك" تقول ذلك إذا لم تعرف اسمه ولا شيئا يتعلق به فالقصد فيه حينئذ إلى فرد ما من أفراد مفهوم اللفظ وهو مطلق رجل, ومثله قولك1: "لقيني رجلان، وتبعني رجال"، فإن القصد في الأول إلى فرد غير معين من أفراد مفهوم لفظ "المثنى" وهو مطلق اثنين, والقصد في الثاني إلى فرد غير معين من أفراد مفهوم لفظ "الجمع" وهو مطلق جماعة.
2- أن يكون القصد بالحكم إلى نوع خاص من أنواع الجنس المنكر كما في قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فقد نكر المسند إليه؛ لأن القصد فيه إلى نوع خاص من أنواع الأغشية غير ما يتعارفه الناس ذلك هو غطاء التعامي عن الحق أي: الإعراض عن آيات الله, وليس المراد فردا واحدا من أفراد الغشاوة بأن يكون المعنى: وعلى أبصارهم غشاوة واحدة لا غشاوتان مثلا؛ لأن الفرد الواحد لا يقوم بالأبصار المتعددة, ومنه قول الشاعر:
لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها
أي: لكل داء نوع خاص من أنواع الأدوية.
ويرى السكاكي أن التنكير في الآية للتعظيم بمعنى: وعلى أبصارهم غشاوة عظيمة ذلك؛ لأنها تحجب أبصارهم حجبا تاما، وتحول دون إدراكها الأدلة إلى معرفة الله تعالى, قالوا: وهذا الرأي أولى بالرعاية؛ لأن المقصود بيان أنهم بعيدون عن الإدراك أشد البعد، والتعظيم أدل على ذلك، وأوفى بتأديته, غير أن هذا المعنى لا يتنافى مع قصد النوعية؛ لأن الغشاوة العظيمة التي هي غطاء التعامي عن آيات الله نوع خاص من مطلق غشاوة.
3- قصد إفادة تعظيم المسند إليه أو تحقيره، وأنه بلغ في رفعة الشأن حدا فوق متناول الإدراك، أو انحط إلى درجة لا يعتد بها، ولا يلتفت إليها, فمثال التعظيم قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي: حياة عظيمة إذ إن في القصاص منعا لهم عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد,
__________
1 أي: لا فرق في ذلك بين المفرد والمثنى والجمع.(4/126)
ومثال التحقير قولهم: "شعور بالكرامة منجاة من مواقف الذل", وقد اجتمعا في قول مروان بن أبي حفصة:
له حاجب في كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب1
يقول: إنه من النزاهة والطهر بحيث يحول دون ما يشينه حجاب عظيم2 وهو -إلى جانب هذا- في متناول أيدي العفاة: ما استقصاه ذو لبانة إلا قضى حاجته وسد خلته, والشاهد في لفظي "حاجب" في شطري البيت حيث أتى بهما منكرين, أما في الشطر الأول فلقصد تعظيم الحائل دون ما يشينه، وأنه في حصن حصين من كل ما يزري به، وأما في الشطر الثاني فلقصد تحقير ما يحول بينه وبين قاصديه كناية عن أن بابه مفتوح على مصراعيه لمن يريد الولوج، فليس هناك أدنى مانع يحجبهم عن فضله ومعروفه3, ومثله قول الشاعر:
__________
1 "يشينه" من الشين هو القبح، "والعرف" المعروف والإحسان غير أن الحجب يتعدى إلى المفعول الثاني بعن, وأما المفعول الأول فيتعدى إليه بنفسه يقال: حجبت فلانا عن الأمر, وإذا "فحاجب" الأول جاء على أصله؛ لأن صلته محذوفة "وفي كل أمر" ظرف مستقر صفة لحاجب أي: له حاجب عن ارتكاب ما لا يليق في كل أمر يشينه, أو تجعل "في" بمعنى "من" وأما "حاجب" الثاني فعلى خلاف الأصل؛ لأن العرف مفعوله الثاني والطالب له مفعوله الأول, والحاجب إنما يحجب الطالب عن العرف لا الممدوح عن الطالب كما هو ظاهر الشطر الثاني من البيت ففي العبارة قلب قضت به الضرورة, وقبل هذا البيت:
فتى لا يبالي المدلجون بناره ... إلى بابه ألا تضيء الكوكب
يصم عن الفحشاء حتى كأنه ... إذا ذكرت في مجلس القوم غائب
2 أخذ معنى التعظيم من كون المقام مقام مدح, وأنه إذا هم بفعل ما لا ينبغي حال دونه مانع, وإذا طلب منه معروف لم يحل دون بذله مانع ضئيل فضلا عن التعظيم فهو في غاية الكمال.
3 قيل يحتمل أن يكون التنكير في الشطر الثاني لقصد الفردية كما في نحو {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} بل هذا الاحتمال أولى لدلالة التركيب على نفي جميع الأفراد مطابقة, ورد هذا بأن حمل التنكير فيه على التحقير أولى لما فيه من سلوك طريق البرهان, وهي إثبات الشيء بدليل لاستفادة انتفاء الحاجب العظيم من انتفاء الحقير بالطريق الأولى مع حسن مقابلة تنوين التعظيم في الشطر الأول بتنوين التحقير في الثاني وهو محسن بديعي.(4/127)
ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب
فقد نكر "جانب" في الشطرين وأريد بالتنكير في الأول التعظيم، وفي الثاني التحقير.
4- قصد إفادة التكثير أو التقليل, فمثال التكثير قولهم: "إن له لإبلا وإن له لغنما" أتى بالمسند إليه في الجملتين نكرة لقصد إفادة أن لديه عددا كبيرا من الإبل والغنم، وإنها من الكثرة بحيث لا يمكن الإحاطة بها والوقوف على مقدارها1, ومثاله في التقليل قولهم: "كلمات تتضمن حكما خير من سفر ينضح هراء" فالمسند إليه "كلمات" وقد نكر لقصد إفادة أنه قليل, وعليه قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي: شيء قليل من رضوان الله خير مما ذكر في صدر هذه الآية2 من الجنة ونعيمها, غير أن وصف الرضوان بالقلة مجازا تنزيلا للرضا منزلة المعدود باعتبار تعدد ما يتعلق من مظاهره كعدم الفضيحة يوم العرض، والأمن من العذاب، والخلود في دار السلام، وغير ذلك وإلا فإن الرضى معنى من المعاني، لا يقبل القلة والكثرة، والتفاوت فيه إنما هو بحسب الضعف والقوة ليس غير3.
ولا يخطر بالبال أن التعظيم والتكثير شيء واحد، وأن التحقير والتقليل كذلك فبين هذه المعاني من الفرق ما لا يخفى, ذلك أن التعظيم يراعى فيه الحال والشأن كعلو المرتبة، وسمو القدر، وبعد الدرجة أما
__________
1 استفيد التكثير من أن المقام للمدح وإنما أفاد التنكير التكثير مع أن الأصل في النكرة الإفراد وهو يتنافى مع التكثير؛ لأن التنكير يشعر بعدم الإحاطة بالمنكر, وهذا يدل على أنه كثير بالغ الكثرة.
2 هو قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} .
3 وإنما كان الرضوان وإن قل أعظم من كل ما في الجنة من نعيم؛ لأن المراد بالرضوان إعلامهم به ولا شك أن مجرد إعلامهم به أكبر من كل نعيم يأتي بلا إعلام؛ لأن لذة النفس بشرف كونها مرضية عند ملك الملوك تفوق كل لذة, وقد تعلل أكبرية الرضوان بأن ما سواه من صنوف النعيم إنما هو من ثمراته ونتائجه.(4/128)
التكثير فالمراعى فيه الكميات والمقادير كالمعدودات، والمكيلات، والموزونات، وكذلك يقال في الفارق بين التحقير والتقليل.
وقد اجتمع التعظيم والتكثير في قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} نكر المسند إليه وهو "رسل" لقصد إفادة التعظيم أو التكثير باعتبارين مختلفين, فعلى اعتبار أنهم ذوو شأن عظيم، يحملون آيات عظاما لمن أرسلوا إليهم كان التنكير للتعظيم، وعلى اعتبار أن عددهم كبير كان التنكير للتكثير, وقد اجتمع التحقير والتقليل أيضا في قولهم: "لي في هذا المال نصيب" أي: حقير قليل فالتنكير للتحقير إن روعي من حيث الشأن، وهو للتقليل إن روعي من حيث العدد, ومنه قولهم: عطاء كريم خير من عطايا تتبعها أذى أي: عطاء قليل أو ضئيل.
5- أن يمنع من التعريف مانع كما في قول الشاعر:
إذا سئمت مهندده يمين ... لطول العهد بدله شمالا
نكر المسند إليه وهو لفظ "يمين" تحاشيا من أن ينسب السآمة بصريح اللفظ إلى يمين الممدوح فيما لو قال "يمينه" وهو اعتبار لطيف.
6- أن يراد إخفاؤه عن المخاطب خوفا عليه كما تقول لآخر: "قال لي رجل إنك تنكبت محجة الصواب" فتخفي اسمه لئلا يلحقه أذى من المخاطب إذ نسب إليه ما لا يحب, إلى غير ذلك من دواعي التنكير1.
__________
1 إن ما تقدم من معاني الإفراد, وهي: النوعية، والتعظيم، وبالتحقير وغيرها ليست خاصة بتنكير المسند إليه، بل تأتي فيه، وفي غيره، وهاك أمثلة منها, فمن تنكير غير المسند إليه للإفراد أو النوعية قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} فقد نكر كل من "دابة وماء" وهما غير مسند إليهما لقصد الإفراد أو النوعية, فالمعنى على الإفراد: والله خلق كل فرد من أفراد الدواب من فرد خاص من أفراد المياه, وهو الماء الخاص بأبيه، فالتنكير في "دابة وماء" للوحدة الفردية, والمعنى على النوعية: والله خلق كل نوع من أنواع الدواب من نوع خاص من أنواع المياه, وهو نوع النطفة المختصة بذلك النوع من الدواب فالتنكير في "دابة وماء" للوحدة النوعية, ومن تنكيره للتعظيم قوله تعالى: {فَأْذَنُوا =(4/129)
تمرين وجوابه:
بين الأغراض التي اقتضت تعريف أو تنكير المسند إليه فيما يأتي:
1-
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
2-
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
3-
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
4-
إذا جاء موسى وألقى العصا ... فقد بطل السحر والساحر
__________
= بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: حرب عظيم, وجعل التنكير هنا للتعظيم؛ لأن الحرب الهينة تؤذن بالتساهل في النهي عن موجب الحرب وهو الربا, وهذا غير مناسب لمقام التنفير عن هذا الجرم الشنيع، ويحتمل أن يكون التنكير للنوعية أي: فأذنوا بنوع من الحرب غير متعارف لكم، ومن تنكيره للتحقير قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} أي: إن نظن بالساعة إلا ظنا حقيرا ضعيفا, فتنكير المفعول المطلق هنا للإشارة إلى تحقيره, وأنه ظن ضعيف إذ هو مما يقبل الشدة والضعف, وإنما لم يكن المصدر للتوكيد المجرد عن إفادة معنى التحقير لئلا يلزم عليه محظوران, استثناء الشيء من نفسه والتناقض. أما الأول فلأن المستثنى المفرغ يجب أن يستثنى من متعدد مستغرق حتى يدخل فيه المستثنى فيخرج بالاستثناء وليس مصدر "نظن" محتملا شيئا آخر غير الظن حتى يخرج الظن بالاستثناء دونه, وحينئذ يلزم استثناء الشيء من نفسه, وأما الثاني فلأن الظن الذي نفي أولا هو الذي أثبت ثانيا, ولأجل الخروج من هذين المحظورين في مثل هذا التركيب يجعل التنكير في المصدر مفيدا للنوعية, وأن يراد نوع خاص هو الظن الحقير الضعيف فيكون المستثنى منه مطلق الظن فيشمل الضعيف وغير الضعيف فيستثنى حينئذ الضعيف الحقير كما هنا, ويرتفع التناقض تبعا لأن الظن الذي نفي أولا هو الظن المطلق وهو غير ما أثبت ثانيا؛ لأن المراد به نوع خاص كما ذكرنا ولا حاجة لما ذكره بعض النحاة من حمل الكلام على التقديم والتأخير وأن التقدير: إن نحن إلا نظن ظنا, ومن تنكيره للتقليل قول المتنبي مادحا:
فيوما بخيل تطرد الروم عنهمو ... ويوما بجود يطرد الفقر والجدبا
يريد: بعدد قليل من خيولك، وبيسير من فيض جودك.(4/130)
5-
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
6-
عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
7-
وربما بخل الكريم وما به ... بخل ولكن سوء حظ الطالب
8-
كل من في الوجود يطلب صيدا ... غير أن الشباك مختلفات
9-
حكم حارت البرية فيها ... وجدير بأنها تحتار
10-
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
11-
إن الذي الوحشة في داره ... تؤنسه الرحمة في لحده
12-
فلا تحسبا هندا لها الغدر وحدها ... سجية نفس, كل غانية هند
13-
طلبت الجميع فغاب الجميع ... فمن سوء حظك لاذا ولاذا
14- لكل مقام مقال 15- أبو الحرب راكب إليك 16- ابتهاج ابنة أخيك نجحت 17- سرق متاعك الذي وفد عليك فأكرمت وفادته 18- ما كان محمد أبا أحد من رجالكم 19- أهذا الذي بعث الله رسولا؟ 20- على هذا سلب خالدا متاعه 21- الذي أخذ الكتاب مني أمس سافر اليوم 22- صالح تحن الطيور إلى سماع صوته 23- الذي يخرج من الفم لا ينقض الوضوء إلا بشروط 24- أخو الأمير كتب إلي 25- علماء الدين أجمعوا على كذا 26- إن الذي تظنه عدوك يود لك الخير 27- ذلك(4/131)
الصديق لا شك فيه 28- إن الذي يعق أباه مطرود من رحمة الله 29- نعم باسلا خالد 30- الماء حياة النفوس 31- إن الذي بنى الأهرام أقام هذا البناء.
الجواب:
1- عرف المسند إليه بالإضمار في "أكرمت وملكت" لأن المقام للخطاب وعرف في "تمرد" بالضمير أيضا؛ لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع لفظا تحقيقا.
2- عرف المسند إليه باسم الإشارة في الشطرين لقصد تمييزه أكمل تمييز.
3- عرف المسند إليه بالموصول لقصد زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، وهو بيان صدقه فيما يدعيه من ألم الشوق والهوى.
4- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد إظهار التعجب من موسى عند إلقائه العصا، وعرف "بأل" في "السحر والساحر" للعهد العلمي.
5- عرف المسند إليه بالإضمار في "يدعي" لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع لفظا تحقيقا، وعرف بالإضمار في "حفظت" لأن المقام للخطاب، ونكر في "أشياء" لقصد إفادة التكثير.
6- عرف المسند إليه بالعلمية في "عباس" والفضل، والربيع، لقصد تعظيمه، وعرف "بأل" في "الوغى" للإشارة إلى فرد مبهم من أفراد الحقيقة فاللام فيه للعهد الذهني.
7- عرف المسند إليه بأل في "الكريم" للعهد الذهني إذ إن القصد إلى فرد ما من أفراد الحقيقة، ونكر في "بخل" لإفادة التقليل.
8- عرف المسند إليه بالإضمار في "يطلب" لأن المقام للغيبة، وعرف بأل في "الشباك" لقصد الاستغراق الحقيقي.
9- نكر المسند إليه في "حكم" لقصد إفادة تعظيمه باعتبار علو شأن(4/132)
الحكم، أو لإفادة التكثير باعتبار كثرة عددها, وعرف بأل في "البرية"، للإشارة إلى العهد العلمي, وعرف بالضمير في "بأنها وتحتار" لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع لفظا تحقيقا.
10- نكر المسند إليه في "شيء" لقصد إفادة التحقير باعتبار انحطاط الشأن أو إفادة التقليل باعتبار قلة العدد، وعرف بأل في "النهار" للإشارة بها إلى الحقيقة.
11- عرف المسند إليه بالموصولية للإشارة بها إلى نوع الخبر، وعرف بأل في "الرحمة" للإشارة بها إلى العهد العلمي.
12- عرف المسند إليه بالضمير في "لا تحسبا" لأن المقام للخطاب, وعرف بأل في "الغدر" للإشارة بها إلى الحقيقة, وعرف بالإضافة في "كل غانية" لإغنائها عن تفصيل متعذر.
13- عرف المسند إليه بالإضمار في "طلبت" لأن المقام للخطاب, وعرف بأل في "الجميع" الثاني للإشارة إلى العهد الخارجي الصريحي.
14- نكر المسند إليه في "مقام" لإفادة معنى النوعية أي: لكل مقام نوع خاص من أنواع الكلام يناسب المقام الذي قيل فيه.
15- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد تعظيمه، أو لكونه كناية عن معنى يصلح له العلم.
16- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد التفاؤل بلفظ الابتهاج.
17- عرف المسند إليه بالموصولية لقصد تقرير الغرض المسوق له الكلام وهو خيانة الضيف، أو لقصد تقرير المسند، أو المسند إليه, على ما سبق في مبحث تعريف المسند إليه بالموصولية.
18- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد التبرك والتيمن بذكره.
19- عرف المسند إليه بالإشارة التي للتقريب لقصد التحقير, وعرف(4/133)
بالعملية في "بعث الله" لقصد التعريض بغباوة السامع، وأنه لا يفهم إلا بالتصريح أو لإحضاره بعينه في ذهن السامع باسمه الخاص به.
20- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد التسجيل على السامع أمام القضاء.
21- عرف المسند إليه بالموصولية لعدم علم المخاطب شيئا عن أحواله سوى الصلة.
22- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد إظهار التعجب من أمره.
23- عرف المسند إليه بالموصولية لاستهجان التصريح بذكره.
24- عرف المسند إليه بالإضافة لقصد تعظيم المتكلم وهو غير المسند إليه المضاف، وغير ما أضيف إليه المسند إليه.
25- عرف المسند إليه بالإضافة لإغنائها عن تفصيل متعذر.
26- عرف المسند إليه بالموصولية لقصد التنبيه على خطأ المخاطب في رأيه.
27- عرف المسند إليه بإشارة البعيد لقصد تعظيمه تنزيلا لبعد منزلته منزلة بعد المسافة.
28- عرف المسند إليه بالموصولية للإشارة إلى نوع الخبر.
29- عرف المسند إليه بالضمير؛ لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع حكما.
30- عرف المسند إليه "بأل" للإشارة بها إلى الحقيقة.
31- عرف المسند إليه بالموصولية للإشارة بها إلى التعريض بتعظيم شأن الخبر.
تمرين يطلب جوابه:
بين الأغراض التي اقتضت تعريف أو تنكير المسند إليه في الأمثلة الآتية:(4/134)
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
أنت تبقى ونحن طرا فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا
ولربما جاد البخيل وما به ... جود ولكن حسن الحظ الطالب
تقول وصكت صدرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس1
صلاح الدين يود لقاءك، وصخر يخون ودك. غمره من السرور ما غمره. أحمد يصيد السباع في مرابضها. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . محمد صنعه لمن سأل: هل محمد صنع هذا؟ أسعاد ابنة جارنا, أم سعاد صديقة ابنته؟. جاء الذي طلب يد ابنتك بالأمس فرفضته. إن الذي تخلص إليه، وتفنى في حبه لا يرغب فيك. أذاع سرك من أوصيته بكتمانه. إن الذي أنشد القصيدة العصماء أمس قال هذا الشعر. إن من يجالس السفهاء يمقته الناس. مر بي رجل وسأل عنك. إن لنا لضياعا، وإن لنا لخدما. إن الذين كرمت أخلاقهم وطهرت سرائرهم، وحسنت فعالهم أولئك لهم حسن الخاتمة والمتعة الدائمة. جاء ابن الحجام. على وجوههم من الخزي غبرة. شر أهر ذا ناب. ابن اللص يجالس زيدا وينادمه. طلبة المعهد يحيون عميدهم. خلق الإنسان ضعيفا. زرت نديم الأمير فاحتفى بي النديم. تلك هي أخلاقي الكريمة فدلني على شيمك. لله الأمر من قبل ومن بعد.
__________
1 من كلام ابن كعب العنبري "والمتقاعس" من القعس بالتحريك وهو خروج الصدر ودخول البطن ضد الحدب. قاله يخاطب زوجه وقد مرت به في نسوة فوجدته يطحن بالرحى لنزول أضياف ببابه فقالت لهن وقد كان لم يبتن بها بعد: أبعلي هذا؟ استهزاء به فأخبر بذلك فأنشد هذا البيت، وبعده:
فقلت لها لا تعجبي وتبيني ... بلائي إذا التفت على الفوارس(4/135)
تقييد المسند إليه بأحد التوابع:
إيراد المسند إليه متبوعا بوصف 1:
يتبع المسند إليه بوصف لأغراض أهمها ما يلي:
1- الكشف عن حقيقته وتوضيح معناه كما في قولهم: "الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله" فقد أتى بالمسند إليه موصوفا بهذا الوصف لقصد بيانه وإيضاحه2, ومثله في الكشف وإن لم يكن وصفا للمسند إليه قول أوس بن حجر3 من قصيدة يرثي بها فضالة بن كلدة4:
إن الذي جمع السماحة والنجدة والبر والتقى جمعا
الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا5
__________
1 يطلق الوصف ويراد به التابع المخصوص ويطلق بالمعنى المصدري أي: ذكر الصفة على أي وجه, وهذا المعنى أنسب بالتعليل؛ لأن الذي يعلل إنما هو الأحداث لا الألفاظ.
2 قيل إن كل واحد من الأوصاف الثلاثة المذكورة: الطول والعرض والعمق وصف كاف في الكشف والبيان إذ يكفي الكشف ولو بوجه عام -وقيل- وهو الظاهر أن الوصف الكاشف هو مجموع هذه الأمور لا كل واحد على حدة إذ يصدق على المجموع بحسب المعنى: أنه وصف واحد معناه: الممتد في الجهات الثلاث وإن تعدد بحسب اللفظ والإعراب ونظيره في ذلك قولهم: "حلو حامض" فقد جعل خبرا واحدا على معنى: مز, وقيل غير ذلك.
3 بضم فسكون.
4 بفتح فاء فضالة وكسر كاف كلدة وسكون لامه.
5 "النجدة" القوة والشجاعة وقوله: "جمعا" توكيد للأربعة قبله فهو بمعنى جميعا وقوله: "الذي يظن بك الظن" تفسير للألمعي باللازم؛ لأن الألمعي معناه: الذكي المتوقد فطنة ومن لوازمه أنه إذا ظن بك ظنا كان موافقا للواقع كأنه رأى وسمع فالوصف إذًا مبين للموصوف يلازمه، ثم إنه يحتمل أن مفعولي "يظن" محذوفان أي: الذي يظنك متصفا بصفة ويحتمل أنه نزل منزلة اللازم "وكأن" مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والجملة حال من فاعل يظن أي: حال كونه مشابها للرائي والسامع, ويصح أن تكون حالا من الظن أي: حال كونه مشابها لرؤية راء وسماع سامع، أو صفة له أي: ظنا مماثلا للرؤية والسمع, وإنما صح أن تكون صفة بعد المعرفة؛ لأن أل في الظن للعهد الذهني والمعرف بها كالمعرف بلام الجنس في جواز الحالية والوصفية.(4/136)
يقول: إن الذي جمع هذه الصفات الفاضلة هو المتوقد الذهن الذي لا تكذب فراسته، ولا يخطئ ظنه، فإذا ظن بك أمرا أصاب كبد الحقيقة، وكأنه رأى بعينه، وسمع بأذنه, والشاهد قوله في البيت الثاني: "الذي يظن بك الظن إلخ" فهو وصف كاشف عن حقيقة الألمعي، وموضح لمعناه أيما وضوح, غير أن الموصوف هنا ليس مسندا إليه إذ هو خبر "إن" في البيت قبله، أو منصوب صفة لاسم "إن"، أو بتقدير أعني, والخبر حينئذ هو قوله بعد:
أودى فلا تنفع الإشاحة من ... أمر لمرء يحاول البدعا
وأول هذه المرثية ذلك البيت المشهور وهو قوله:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
2- تخصيصه1 أي: تقليل الاشتراك الواقع فيه إذا كان نكرة، أو رفع الاحتمال الواقع فيه إن كان معرفة, مثال الأول قولك: "رجل منجم في منزلنا" فقد وصف المسند إليه بالتنجيم لقصد تخصيصه أي: تقليل الاشتراك فيه.
بيان ذلك: أن "رجل" في المثال المذكور موضوع للذكر البالغ العاقل من بني آدم، وقد اشترك في هذا المعنى الشاعر والمنجم والكاتب وغيرهما من سائر الناس، فإذا قيل: "رجل في منزلنا" لم يعلم من أي فئة هو؟ أمن فئة الشعراء، أم الكتاب، أم المنجمين؟ فإذا قيل: "رجل منجم" علم أنه من طائفة المنجمين، فقد قلل هذا الوصف الاشتراك، وجعل المشتركين معه في معناه الوضعي محصورين في دائرة التنجيم خاصة, ومثال الثاني قولك: "محمد الكاتب سيزورنا اليوم"، فقد وصف المسند إليه بالكتابة لقصد تخصيصه أي: رفع الاحتمال فيه.
__________
1 الفرق بين الوصف المخصص والوصف الكاشف السابق أن الغرض من المخصص تخصيص اللفظ بالمراد وأن الغرض من المبين كشف المعنى.(4/137)
بيان ذلك: أن "محمد" في المثال المذكور موضوع لعدة أشخاص يختلفون في صناعاتهم، فمنهم التاجر، والكاتب، والشاعر، والخطيب، فإذا قيل: "محمد سيزورنا" احتمل أن يكون الزائر محمدا التاجر، وأن يكون محمدا الخطيب أو الكاتب، فإذا قيل: "محمد الكاتب" ارتفع هذا الاحتمال، وصار الكلام نصا في واحد بعينه لا يحتمل غيره1.
هذا وإذا كان التخصيص عبارة عن تقليل الاشتراك، أو رفع الاحتمال كما بين فهو إذًا يدخل النكرات والمعارف، وهذا هو اصطلاح البيانيين، فكلا الأمرين عندهم تخصيص, بخلاف النحاة فإن التخصيص في عرفهم خاص بالنكرات؛ لأنه تقليل للاشتراك فيها، ولا يدخل المعارف عندهم، وأما رفع الاحتمال في المعارف فيسمى عندهم توضيحا لا تخصيصا.
3- المدح أو الذم كما تقول: "وفد علينا محمد العالم"، "وذهب عنا خالد الجاهل" فقد وصف المسند إليه في الأول "بالعلم"، وفي الثاني "بالجهل"، لقصد مدح الأول، وذم الثاني, وإنما يكون الوصف للمدح أو الذم إذا كان الموصوف متعينا قبل ذكر الوصف كأن لا يشاركه في اسمه غيره، أو كان المخاطب يعرفه من قبل، فإن كان لا يتعين إلا به فالظاهر حينئذ أن يكون الغرض منه التخصيص أي: رفع الاحتمال2.
4- التوكيد وليس المراد التأكيد الاصطلاحي بنوعيه، بل المراد التقرير, وذلك فيما إذا كان المسند إليه متضمنا لمعنى ذلك الوصف، فيكون الوصف حينئذ مؤكدا ومقررا للمسند إليه كما في قولك: "أمس الدابر كان يوما عظيما" فقد وصف المسند إليه بالدبور لقصد تأكيده
__________
1 اعلم أن اللفظ المشترك نوعان: معنوي ولفظي، فالمشترك المعنوي ما وضع لمعنى واحد مشترك بين أفراد "كرجل" وهذا هو المراد في تقليل الاشتراك أي: تقليل مقتضاه وهو الاحتمال, وإلا فإن اشتراك اللفظ بين أفراد مفهومه لا يندفع بشيء, والمشترك اللفظي ما وضع لمعنيين أو أكثر بأوضاع متعددة "كمحمد" فإنه وضع للتاجر بوضع. وللكاتب بوضع وللخطيب بوضع وهكذا, وهذا هو المراد به في رفع الاحتمال أي: الاحتمال الذي اقتضاه الاشتراك اللفظي.
2 أي: وإن صح أن يراد منه المدح أو الذم، والمدار في ذلك على قصد المتكلم.(4/138)
وتقريره لتضمن "أمس" معنى الدبور, وينبغي أن يكون هنالك غرض يتعلق بهذا التأكيد كالتأسف عن دبوره لما كان فيه من دواعي السرور، أو الشماتة بدبوره لما كان فيه من بواعث الحزن والألم وإلا لم يكن ذكر الوصف من البلاغة في شيء, ومنه في وصف غير المسند إليه قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فالوصف هنا لقصد التأكيد.
5- بيان المقصود من المسند إليه أي: إفرازه وتمييزه عن غيره، بأن يكون محتملا لمعنيين فيؤتى بالوصف لبيان المراد1 منهما. كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} وصف المسند إليه الأول وهو "دابة" بما يخص الجنس، وهو {فِي الْأَرْضِ} ووصف المسند إليه الثاني، وهو "طائر" بما يخص الجنس أيضا وهو "يطير بجناحيه" لبيان المقصود منهما، وهو أن المراد -كما قال صاحب الكشاف- زيادة2 التعميم والإحاطة، وكأنه قيل: وما من دابة قط في جميع الأرضين، وما من طائر في جو السماء من كل ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، تراعى شئونها، ولا يهمل أمرها.
بيان ذلك، كما في الكشاف: أن كلا من "دابة وطائر" نكرة وقعت في سياق النفي، والنكرة الواقعة في سياقه تفيد الاستغراق, غير أن
__________
1 إلى هنا تبين أن الوصف يتنوع إلى وصف كاشف، ومخصص، ومؤكد، ومبين للمقصود, ولم يبق إلا أن نفرق بين هذه الأنواع, أما بين الوصف المبين للمقصود والمؤكد فهو أن المؤكد لا يلاحظ فيه بيان المقصود الأصلي بل الملاحظ فيه مجرد التأكيد والتقوية وبيان المقصود به حاصل غير مراد, والفرق بين الوصف المبين للمقصود والوصف الكاشف هو أن الكاشف يقصد به مجرد إيضاح معنى اللفظ, أما المبين للمقصود فإن الغرض منه بيان أحد المحتملين أو المحتملات للفظ بأن يحتمل اللفظ معنيين فأكثر, فيؤتى بالوصف لبيان المراد كما في "دابة وطائر" في الآية المذكورة, والفرق بين المبين للمقصود والمخصص أن الغرض من المبين للمقصود بيان أحد محتملات اللفظ ورفع غيره من محتملاته, وأن الغرض من المخصص بيان أحد أفراد المعنى الكلي ورفع غيره من الأفراد كما في "رجل تاجر عندنا" فقد ارتفع بالوصف الفقيه مثلا وهو أحد أفراد معنى الرجل الموضوع لمعنى كلي تحته أفراد أحدها الفقيه.
2 وأما أصل التعميم فمستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي المقرون بمن الاستغراقية.(4/139)
الاستغراق, مع هذا يحتمل معنيين: أن يكون المعنى: جنس الدواب، وجنس الطيور، فيكون الاستغراق حقيقيا، يتناول كل دابة من دواب الأرضين، وكل طائر من طيور الآفاق, وأن يكون المعنى: طائفة من الدواب، وطائفة من الطيور، فيكون الاستغراق، عرفيا يتناول من الأفراد ما هو متعارف, فلإفادة الاستغراق الحقيقي، وأن المراد عامة الدواب، وعامة الطيور ذكر لكل منهما وصفا نسبته إلى جميع الدواب، وجميع الطيور على السواء لينبه على أن المراد دواب أي أرض من الأرضين وطيور أي جو من الأجواء, إذ الكينونة في الأرض لا يختص بها دابة دون أخرى, كما أن الطيران بالجناح لا ينفرد به طائر دون طائر, فالوصفان المذكوران إذًا لزيادة التعميم والشمول.(4/140)
اختبار:
1- اذكر غرضين من الأغراض المقتضية لوصف المسند إليه مع بيان الحال ومقتضاه في مثال تختاره، ومع بيان معنى الوصف.
- اذكر مثالين لتخصيص المسند إليه بالوصف أحدهما لتقليل الاشتراك والثاني لرفع الاحتمال، وبين الفرق بينهما، وهل يتلاقى رأي النحاة مع رأي البيانين في تخصيص المسند إليه؟
3- ما الغرض من وصف المسند إليه في نحو قولك: "زارنا إبراهيم الفيلسوف" في حين أن الرجل المذكور متعين عند المخاطب، وما القصد من وصفه في نحو "البدر المنير اختفى عنا"، مع بيان الحال ومقتضاه في المثالين.
4- بين المقصود من وصف المسند إليه في قولهم: "ما من إنسان يمشي على رجلين إلا يسبح بحمده، وضح ذلك توضيحا تاما.
إيراد المسند إليه مؤكدا:
يؤتى بالمسند إليه مؤكدا لأغراض أهمها ما يأتي:
1- تقرير المسند إليه، وتحقيق مفهومه في ذهن السامع، وذلك(4/140)
فهرس:
الموضوع الصفحة
علم المعاني
تحليل لهذا التعريف 5
اختبار 8
ما ينحصر فيه علم المعاني 9
تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء 10
صدق الخبر وكذبه 14
اختبار 15
الإسناد الخبري 17
بيان مواضع المسند إليه والمسند 18
اختبار 19
ما يقصده المخبر بخبره 21
اختبار 24
أحوال الإسناد الخبري 26
إخراج الكلام على غير مقتضى الظاهر 30
اختبار 38
الحقيقة العقلية والمجاز العقلي 40
اختبار وتمرين 64
أحوال المسند إليه:
ذكر المسند إليه 68
حذف المسند إليه 72(4/317)
الموضوع الصحفة
تمرين وجوابه 79
تعريف المسند إليه 82
إيراد المسند إليه ضميرا 82
إيراد المسند إليه علما 87
إيراد المسند إليه اسم إشارة 94
إيراد المسند إليه اسم موصول 101
إيراد المسند إليه معرفا بأل 111
إيراد المسند إليه مضافا 122
إيراد المسند إليه منكرا 125
تمرين وجوابه 130
تقييد المسند إليه بأحد التوابع 136
إيراد المسند إليه متبوعا 136
اختبار 140
إيراد المسند إليه مؤكدا 140
اختبار 144
إيراد المسند إليه مبدلا منه 144
إيراد المسند إليه متبوعا بعطف بيان 148
إيراد المسند إليه متبوعا بعطف نسق 150
اختبار 157
إيراد المسند إليه معقبا بضمير فصل 158
اختبار 159
إيراد المسند إليه مقدما 162
اختبار وتمرين 180
فصل "مثل وغير" 190
اختبار وتمرين 193
تأخير المسند إليه 195(4/318)
الموضوع الصفحة
الالتفات 204
أسلوب الحكيم 213
القلب 215
اختبار 221
أحوال المسند 224
ذكر المسند 234
إيراد المسند فعلا 235
إيراد المسند اسما 237
إيراد المسند ظرفا 238
إيراد المسند فعلا مقيدا بأحد المفاعيل ونحوها 239
إيراد المسند فعلا غير مقيد 240
إيراد المسند فعلا مقيدا بالشرط 241
إيراد المسند مفردا 243
إيراد المسند جملة 245
إيراد المسند جملة فعلية أو اسمية أو شرطية 247
إيراد المسند جملة ظرفية 248
إيراد المسند منكرا 255
إيراد المسند مخصصا بوصف أو إضافة 256
إيراد المسند غير مخصص بوصف أو إضافة 257
إيراد المسند مقدما 257
إيراد المسند مؤخرا 261
اختبار وتمرين 261
فصل في "إن, وإذا، ولو" 267
اختبار 290(4/319)
الموضوع الصفحة
أحوال متعلقات الفعل 291
المبحث الأول 292
المبحث الثاني 304
المبحث الثالث 311
اختبار 313(4/320)
المجلد الخامس
علم البيان
مدخل
...
علم البيان:
البيان -لغة- الكشف والإيضاح، وهو أيضا: المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير -يقال: فلان أبين من فلان، أي أفصح وأوضح كلاما.
وهو في الاصطلاح: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه.
ومعنى: إيراد المعنى الواحد بالطرق المختلفة في الوضوح: أن يعبر عنه بجعلة تراكيب، بعضها أوضح دلالة عليه من بعض -سواء أكانت هذه التراكيب من قبيل التشبيه، أم المجاز، أم الكتابة.
فالمعنى الواحد، كالجود" مثلا يمكن أن يؤدي بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه.
فتارة: من طريق التشبيه، فتقول: "محمد كالبحر في الامداد": وتقول: "محمد كالبحر" وتقول "محمد بحر" فهذه تراكيب ثلاثة دالة على معنى "الجود" وبعضها أوضح في الدلالة عليه من بعض، فأوضحها ما صرح فيه بوجه الشبه والأداة جميعا كما في المثال الأول، ويليه وضوحا ما صرح فيه بأحدهما كما في المثال الثاني، وأقلها وضوحا ما لم يصرح فيه بواحد منهما كما في المثال الأخير.
وتارة: من طريق المجاز، فتقول: "رأيت بحرا في منزلنا" تريد محمدا مثلا، فتشبيه بالبحر في الامداد، ثم تستعير له لفظ "البحر" كما ستعرفه بعد في الاستعارة التحقيقية، وتقول: "لجة محمد تتلاطم بالأمواج" فاللجة والتلاطم بالأمواج من أوصاف البحر، مما يدل على تشبيه محمد به -وتقول: عمر محمد بفضله الأنام، فالغمر من أوصاف البحر، مما يدل أيضا على أن محمدا مشبه بالحبر، والمثالان(5/5)
الأخيران من قبيل الاستعارة المكنية -على ما سيأتي- وأوضح هذه الطرق الأول، ويليه وضوحا الثاني، وأقلها وضوحا الثالث1.
وتارة أخرى: من طريق الكناية، فتقول "محمد كثير الرماد"، و"هو مهزول الفصيل"، "وهو جبان الكلب" فهذه تراكيب ثلاثة دالة على معنى "الجود" لأن كثرة الرماد، من كثرة إحراق الحطب للطبخ، من أجل الضيفان، وهزال الفصيل يكون بإعطاء لبن أمه للأضياف، أو بنحرها لهم -وجبن الكلب يكون لكثرة الواردين عليه من الضيوف، وأوضح هذه الطرق الأول، ويليه الثاني، ثم الثالث كما سنذكره بعد.
تنبيه: اعلم أن في التعريف تقييدين -تقييد المعنى "بالواحد" وتقييد الاختلاف "بوضوح الدلالة".
أما التقييد الأول: فالغرض منه: الاحتراز عن المعاني المتعددة المؤداة بطرق متفاوتة في وضوح الدلالة عليها: بأن يكون تركيب في معناه أوضح دلالة من تركيب آخر في معناه، كأن تعبر عن "الجود" بقولك: "محمد كالسحاب في الفيض" ثم تعبر عن معنى "الشجاعة فيه" بقولك: "مر بي أسد فحياني"، فمن الواضح: أن التركيب الأول في معناه أوضح دلالة من الثاني في معناه- ومثل هذا ليس من علم البيان في شيء، لأن المعنى في العبارتين مختلف -والشرط أن يكون المعنى فيهما واحدا- كما عرفت.
وأما التقييد الثاني: فالقصد منه الاحتراز عن الاختلاف في مجرد اللفظ لا في وضوح الدلالة- كما إذا أوردت معنى واحدًا في تركيبين مترادفين، وأنت عالم
__________
1 أما أوضحية الأول فلظهور التجوز فيه بسبب التصريح باسم المشبه به، وأما الثاني والثالث فلخفاء التجوز فيهما لعدم التصريح باسم الشبه به -غير أن الثاني أوضح دلالة من الثالث لاشتماله على وصفين للمشبه به واشتمال الثالث على وصف واحد.(5/6)
بمدلولات الألفاظ فيهما. كأن تقول مثلا: "نشر فم محمد كنفح الطيب" ثم تقول: "ريح ثغر محمد كأريح العطر، فمثل هذا أيضا ليس من مباحث علم البيان، لأن التركيبين متماثلان في وضوح الدلالة على المعنى، والاختلاف فيهما إنما هو في اللفظ والعبارة فقط -والشرط أن يكون الاختلاف في وضوح الدلالة على المعنى كما سبق.
الدلالة العقلية:
هي أن يدل اللفظ على جزء المعنى الموضوع له، أو على لازم معناه فالأول كدلالة لفظ "إنسان" على الحيوان، أو على الناطق، وتسمى هذه الدلالة: "تضمنية" لأن الحيوان أو الناطق جزء معنى الإنسان، وداخل في ضمنه والثاني كدلالة لفظ "إنسان على الضاحك، وكدلالة لفظ "أسد" على الجرى، ودلالة لفظ "حاتم" على الجود -وتسمى هذه الدلالة: "التزامية" لأن الضحك ليس معنى الإنسان، ولا جزء معناه، وإنما هو أمر خارج عن معناه لازم له، وكذلك الجرأة للأسد، والجود لحاتم، فكلاهما لازم للمعنى الموضوع له.
غير أن البيانيين اصطلحوا على تسمية كل من التضمنية والالتزامية "عقلية" لأن دلالة اللفظ على جزء معناه، أو على لازم هذا المعنى متوقفة على أمر عقلي هو أن وجود الكل، أو الملزوم يقتضي عقلا وجود الجزء أو اللازم.
هذا: والدلالة العقلية بنوعيها هي المقصود بالبحث في هذا لافن إذ هي التي يتأتى بها الاختلاف في الوضوح الذي هو موضوع هذا الفن.
ثم إن الغرض من معرفة هذا الإيراد: أن يحترز المتكلم عن الخطأ في تأدية الكلام، بحيث لا يورد من الكلام ما يدل على مقصوده دلالة خفية، عند اقتضاء المقام دلالة واضحة كأن يكون المخاطب غبيا، أو دلالة واضحة، عند اقتضاء المقام دلالة خفيةن كالخطاب مع الذكي.(5/7)
مبحث التشبيه
منزلة التشبيه من علم البيان
...
مبحث التشبيه:
منزلته من الاستعارة: اعلم أن اللفظ قد يستعمل في معنى لم يوضع له وهذا الاستعمال إن صحبته قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له كان اللفظ "مجازا" إذ قد تجوز به من المعنى الموضوع له إلى المعنى المراد -ولا بد- مع هذا- من وجود علاقة بين المعنى المنقول عنه اللفظ والمعنى المنقول إليه، فإذا كانت العلاقة المشابهة سمي اللفظ حينئذ استعارة" كما في نحو: "رأيت أسدا يخطب" فغن لفظ "أسد" مستعمل في الإنسان الجرئ، وهو معنى لم يوضع له لفظ "أسد"، والعلاقة بين المعنيين مشابهة الإنسان للأسد في وصف الجرأة.
فالتشبيه إذن سابق عن الاستعارةن ضرورة أنها مبنية على المبالغة في التشبيه، فهو إذن منها بمثابة الأساس من البناء، أو بمنزلة الأصل من الفرع -ومن هنا يعلم وجه تقديم بحثه على بحث المجاز.
منزلة التشبيه من علم البيان:
اعلم: أن التشبيه من فنون البلاغة، له شأنه وخطره، فهو يدني القصين ويذلل العصي، ويكشف الخفي، ويكسب المعاني رفعة وشرفا، ويكسوها روعة وفخامة، ويبرزها في معارض الحس والعيان -وهو- إلى ذلك- كثير المباحث، متشعب النواحي.
وإليك جملة من الشواهد في مزايا التشبيه، تريك إجمالا منزلته من علم البيان، قال البحتري1:
دان على أيد الغفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب
__________
1 هو أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي الشاعر المطبوع أشهر من استحق لقب شاعر بعد أبي نواس، ومن أحسن قوله:
دنوت تواضعا وعلوت مجدا ... فشأناك انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تبعد أن تسامي ... ويدنو الضوء منا والشعاع(5/8)
كالبدر أفرط في العلو وضوؤه ... العصبة السارين جد قريب1
فقد ادعى الشاعر في البيت الأول: الجمع بين معنيين متدافعين، عما قوله: دان وشاسع، وهو أمر -في بادئ الرأي- لا يكاد يقره العقل، أو تؤمن به النفس، ثم ما لبث أن أراكهما بهذا التمثيل الرائع في البيت الثاني إلفين متعانقينن فإن البدر -مع شاسع بعده، وفرط علوه -ماثل بين أيدينا بضوئه، فهو بعيد قريب، لهذا لم يسع العقل إلا أن يقر، ولا النفس إلا أن تؤمن -وقال ابن لنكك:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا ... رأيت صورته من أقبح الصور
وهبه كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر2
فأنت تراك في البيت الأول تقف موقف الحائر المتردد، وكيف ينقلب ذو الوسامة الصبيح مشوه الخلق، تتقزز لمرآه النفوس -حتى إذا ما جاوزته إلى البيت الثاني آمنت بالأمر إيمانا لا يرقى إليه شك -وقال ابن الرومي3:
__________
1 "العفاة" جمع عاف، وهو الطالب المعروف، و"الشاسع" البعيد. "والند" المثل والنظير، ومثله الضريب، وقد عطف على الند عطف تفسير. و"العصبة" "الطائفة من الناس، "السارين" جمع سار وهو السائر ليلا، و"جد قريب" على معنى. قريب جدا.
2 "السمج" على زنة كتف القبيح، "هبه" فعل أمر بمعنى: افرضه وقولهم: هب أنه كذا تعبير خاطئ، لعدم ورود السماع بذلك.
3 هو أبو الحسن على بن العباس مولى بني العباس الشاعر المكثر المطبوع صاحب النظام العجيب، والمعاني المخترعة، والأهاجي المقذعة -ومن معانيه البديعة قوله:
وإذا امرؤ مدح امرءا لنواله ... وأطال فيه فقط أطال هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المتقى ... عند الورود لما أطال رشاءه(5/9)
بذل الوعد للأخلاء سمحا ... وأبي بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء1
يحدثنا الشاعر عن إنسان يبذل لك الوعد في سخاء، بينما تراه يتخلف عن ركب الأوفياء، ثم مالبث أن أراكه عيانا في شجرة الصفصاف، يبهرك رواؤها -بينما تراها عقيما لا تلد، ولا تثمر -وقال أبو تمام2:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود3
يذكر لنا الشاعر: أن الفضيلة مثار حقد وحسد من فاقديها، فإذا قدر لفضيلة أن تنشر مطارفها على الناس، بعد أن طويت أجراها على لسان حسود حاقد، فهو كفيل أن يذيع أمرها، وينشر عبيرها، بما يبديه من غيظ وحنق، ثم وضع هذا المعنى في إطار بديع، فأرانا بالعين ذلك المعنى في كمين عرف الطيب، يثيره حر اللهيب -ثم انظر إلى قوله:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب يتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد4
__________
1 "السمح" الكريم. و"الخلاف" ككتاب شجر الصفصاف.
2 هو حبيب بن أوس الطائي أسبق الشعراء الثلاثة الذين سارت بذكرهم الركبان"، وخلد شعرهم الزمان: ثانيهم البحتري، وثالثهم المتنبي"، ومن أبياته السائرة قوله:
ولو صورت نفسك لم تردها ... على ما فيك من كرم الطباع
3 نشر الفضيلة إذاعتها بين الناس، أتاح لها هيا لها، وعرف العود رائحته.
4 مخلق من أخلق الشيء أبلاه، "والديباجتان" صفحتا الخدين، والمراد: عامة الوجه ولذا أعاد الضمير عليهما مفردا في "يتجدد" و"السرمد" الدائم.(5/10)
وقس حالك، وأنت في البيت الأول، ولم تنته إلى الثاني: بحالك، وقدانتهيت إليه، ووقفت ببصرك عليه، فإنك -لا ريب- مدرك مدى تمكن المعنى في نفسك.
كما تدرك الفرق بين أن يقول لك قائل: "الدنيا لا تدوم، ثم يسكت، وبين أن يذكر عقبيه قوله صلى الله عليه وسلم: من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة، أو أن ينشد قول لبيد1:
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولابد يوما أن ترد الودائع
كما ترى الفرق واضحا بين أن يقول قائل: أرى قوما لهم منظر، وليس لهم مخبر ويقطع الكلام، وبين أن يشفعه بنحو قول ابن لنكك:
في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر2
وهل تراك لو بالغ لك أحد في وصف أيام بالقصر فقال: أيام كأقصر ما يتصور، أكنت تجد لك من الأنس في نفسك ما تجده في نحو قولهم: "أيام كأباهيم القطا"، أو في نحو قول الشاعر:
ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب3
فأنت في كل ذلك ترى المعنى في الحالة الثانية أسمى شرفا، وأشد وقعا، وأرسخ قدما منه في الحالة الأولى- ذلك لما يحصل للنفس من الإنس بإخراجها من خفي إلى جلي، ومن معقول إلى محسوس، ومما لم تألفه إلى ما ألفته، ومما لم تعلمه إلى ما هي به أعلم.
__________
1 هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري أحد أشراف الشعراء المجيدين، والقواد البواسل المعمرين. نشأ جوادا شجاعا فاتكا وهو القائل:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
2 "السرو" نوع من الشجر ذو رونق ولكنه لا يثمر.
3 "سالفة الذباب" مقدم عنقه، يريد: أن اليوم يحكيها في القصر.(5/11)
إلى غير ذلك من روائع التشبيه وفضائله، حتى إنك لتجد فيه من قوة تأثيره في النفس، ومبلغ أسره للقلب مالا تقوى على دفعه، وهو فوق ذلك يكسب اللفظ حلاوة وطلاوة، ويضفي على المعنى من الروعة وإليهاء، ما يبهر القلب، ويأسر اللب.(5/12)
تعريف التشبيه:
هو -في اللغة: الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى -ومعناه- في الاصطلاح: الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى1 بإحدى أدوات التشبيه لفظا، أو تقديرا -فالأمر الأول هو "المشبه" والثاني هو "المشبه بـ" ويسميان الطرفين، والمعنى المشترك بينهما يسمى: "وجه الشبه" كما تقول: "القواد البواسل كأسود الشرى في الجرأة"، ففي هذه دلالة على مشاركة أمر هو "القواد البواسل"، لأمر هو "أسود الثرى" في معنى هو "الجرأة" بإحدى أدوات تشبيه وهي "الكاف".
ويجوز حذف الوجه مع بقاء الأداء فتقول: "القواد البواسل كأسود الشرى" ويجوز العكس، أي حذف الأداء، مع بقاء الوجه، فتقول: "القواد البواسل أسود الشرى في الجرأة" ويجوز حذفهما جميعا، فتقول: القواد البواسل أسود الشرى -ويكون المشبه به في الصورتين الأخيرتين أحد الأنواع الآتية:
أ- يكون خبرا للمشبه كما مثلنا من نحو "القواد البواسل أسود الشرى" "بدعوى الاتحاد بين الطرفين مبالغة في التشبيه -وكما في قولهم: "فلان بطانة فلان" مبالغة في تشبيهة ببطانة الثوب في قوة الملازمة، وقد يحذف المشتبه في هذه الحالة لقرينة كما في قول عمران بن حطان2:
__________
1 احترز به عن المشاركة في عين فلا يسمى تشبيها.
2 هو من شعراء الخوارج، ويؤثر عنه أنه لم يكذب في شعره قط قالت له امرأته يوما: ألم تزعم أنك لا تكذب في شعرك؟ قال بلى.. فقالت: أرأيت قولك:
وكذلك مجزأة بن ثو ... ر كان أشجع من أسامه
أيكون رجل أشجع من أسد؟ قال لعم: إن مجزأة بن ثور فتح مدينة كذا والأسد لا يقدر على ذلك.(5/12)
أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صغير الصافر1
يريدك هو أسد، وكقوله تعالى: "صم بكم عمي فهم لا يعقلون" على تقدير: هم صم..إلخ.
ب- يكون خبرا لما دخل على المشبه من النواسخ. أو مفعولا ثانيا له.
فالأول نحو قولك: "كان محمد شجي في حلوق أعدائه، وقذى في حيوان حساده"، فكل من "شجي" وقذى" مشبه به، وقد وقع خبرا "لكان" -ومنه قول البحتري:
بنت بالفضل والعلو فأصبحت سماء وأصبح الناس أرضا
فكل من "سماء وأرضا" مشبه به، وكلاهما واقع خبرا لأصبح.
والثاني نحو قول الشاعر:
حسبت جماله بدرا منيرا ... وأين البدر من ذاك الجمال؟
وكما تقول: حمل خالد على الأعداء، فخلته أسدا، فكل من "بدرا وأسدا" مشبه به، وقع وقع الأول مفعولا ثانيا "لحسب"، ووقع الثاني مفعولا ثانيا "لخال".
جـ- يكون حالا من المشبه، أو صفة له- فالأول كقولك: "كر عنترة على الأعداء أسدا" فلفظ أسدا" هو المشبه بهن وقد وقع حالا من عنترة -ومنه قول الشاعر:
بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا2
__________
1 "فتخاء" مؤنث أفتخ من الفتخ بالفتح، وهو استرخاء المفاصل ولينها يريد نعامة مسترخية الجناحين.
2 "الخوط" بضم الخاء الغصن، و"البان" نوع من الشجر، و"رنت" من الرلو وهو إرادة النظر.(5/13)
فالمشبه ضمير المرأة المستتر في الأفعال المذكورة، والمشبه به هو ما ذكر من تلك الأحوال -والثاني نحو "جلست إلى محمد فإذا هو رجل بحر"، تريد: في العلم "فبحر" مشبه به وهو وصف لرجل.
د- يكون مضافا للمشبه كما تقول: "لؤلؤ ثغره يبهر العين، وورد خده يتضوع أريجا" تريد: ثغيره الشبيه باللؤلؤ، وخده يبهر العين، وورد خده يتضوع أريجا" تريد: ثغيره الشبيه باللؤلؤ، وخده الشبيه بالوردن ويقول الشارع:
أقحران معانق لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود1
يريد: الخدود الشبيهة بالورد في الحمرة، ومنه قول الشاعر:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين لماء2
يريد: الماء الشبيه باللجين في البياض والصفاءن وقد أضيف المشبه به في هذا المثل كما ترى.
هـ- يكون مصدرا مبينا لنوع المشبه كما في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أي تمر مرًا كمر السحاب في سرعتها، فالمشبه هو المصدر المحذوف، وقد بين نوعه بالمشبه به الذي هو المصدر المذكور المضاف -ومثله قول أبي العلاء3.
هرب النوم عن جفوني فيها ... هرب الأمن عن فؤاد الجبان
يريد: هربا كهرب الأمن -وكأن تقول: فلان يهدر هدير الحمام، ويزأر زئير الأسود، ومثل هذا أكثر من أن يحصى.
__________
1 الأقحوان: بضم الهمزة والحاء نبت ذر رائحة طيبةن والشقيق نبت ذر زهر أحمر.
2 "الأصيل" هو الوقت ما بين العصر إلى الغروب، وهو وقت تعتدل فيه الريح واللجين الفضة.
3 هو أحمد بن عبد الله سليمان المعري الشاعر الفيلسوف، عربي النسب وبيته بيت علم وقضاء، قال الشعر وعمره إحدى عشرة سنة وقبل موته أوصى أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد(5/14)
و ويكون مبينا بالمشبه -كما في قول الشاعر:
فما زلت في ليلين شعر وظلمة ... وشمسين من خمر ووجه حبيب
فالمشبه به في الشطر الأول هو "الليل" وقد بين بالمشبه، وهو "الشعر" والمشبه به في الشطر الثاني هو "الشمس" وقد بين المشبهين: الخمر ووجه الحبيب- ومثله تماما الشطر الأول من قول الشاعر:
ودخلت في ليلين فرعك والدجى ... ولئمت كالصبح المنور فاك1
وعليه قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، فالمشبه به هوالخيط الأبيضن وقد بين بالمشبه، وهو "الفجر" يريد: حتى يبدو لكم الفجر كالخيط الأبيض- ولزم بطريق المقابلة: أن يشبه الليل بالخيط الأسود ليكون المعنى: حتى يتبين لكم بياض النهار من سواد الليل.
إلى هنا وضح لك من كل هذه الأمثلة والشواهد. أنه لا بد في التشبيه الاصطلاحي من ذكر الطرفين، ولن تقديرا2، على وجه ينبئ عن التشبيه: بألا يستقيم المعنى إلا بالحمل على التشبيه كما في الأمثلة المذكورة -وأنه لا بد فيه من أداة التشبيه ملفوظا بها، أو مقدرة في الكلام- على ما رأيت.
ولهذا لا يعتبر من التشبيه الاصطلاحي3: الاستعارة بأنواعها- عل ما سيأتي كما لا يعد منه: التشبيه على طريق التجريد، في بعض صوره، وهو ما كان المنتزع فيه غير المنتزع منه كما تقول: "لقيت بخالد أسدا، وغمرني منه بحر". فقد بولغ في تشبيه خالد بالأسد حتى جعل أصلا جرد منه أسد -كما بولغ في تشبيهه بالبحر، بحيث جعل
__________
1 قائله أحمد شوقي، "والفرع" الشعر وسمى بذلك لأنه متفرع من الإنسان والدجى" جمع دجية وهي القطعة من الليل.
2 كما سبق في بيت ابن حطان. أسد علي إلخ، وفي آية: صم بكم إلخ.
3 أما التشبيه بالمعنى اللغوي فلا تخرج الاستعارة عنه.(5/15)
أصلا انتزع منه بحر -ففي المثالين تشبيه ضمني مضمر في النفس والمنتزع فيهما غير المتنزع منه1.
أما عدم اعتبار الاستعارة من التشبيه الاصطلاحي فلخلوها من ذكر أحد الطرفين وهو المشبه "في الاستعارة التحقيقية" نحو: "أقبل الأسد شاكي السلاح"- والمشبه به "في الاستعارة المكنية" نحو: "عين العناية ترعاك" على ما سيأتي بيانه- ولخلوها أيضا من ذكر الأداة لفظا وتقديرا".
وأما عدم اعتبار التجريد المذكور تشبيها اصطلاحيا فلعدم ذكر الطرفين على وجه ينبئ عن التشبيه، ولخلوه أيضا من أداته في اللفظ والتقدير2.
فكلاهما ليس من التشبيه الاصطلاحي في شيء -ويمكن الاحتراز عنهما بقولنا في التعريف. بإحدى أدوات التشبيه لفظا أو تقديرا.
__________
1 أما بعضها الآخر، وهو ما كان المنتزع عين المنتزع منه فليس داخلا في التشبيه أصلا لعدم دلالته على المشاركة كما في قوله تعالى: "لهم فيها دار الخلد" فقد انتزعت دار الخلد من جهنم، وهي عين دار الخلد لأشبيهة بها.
ومثله: في قولهم لي من فلان صديق حميم، فقد جرد من فلان صديق حميم وكلاهما عين الآخر لا شبيه به.
2 قيل: هو تشبيه حقيقة لذكر الطرفين فيه إذ يمكن التحويل فيه إلى هيئة التشبيه أولا قصد التجريد وسيأتي أن التحقيق خلافه.(5/16)
أركان التشبيه:
1- ما أريد إثبات الصفة له، ويسمى "مشبها".
2- ما وضحت فيه الصفة، ويسمى: "مشبها به"، وكلاهما يسميان: "طرفي التشبيه، أي الشيئين اللذين قصدا بالتشبيه.
3- الصفة التي قصد إثباتها للمشبه، وتسمى: "وجه شبه" وهو المعنى الجامع بين الطرفينن أي المشترك بينهما.(5/16)
4- الكلمة التي أفادت معنى المماثلة. وتسمى: "أداة التشبيه".
وهذه الأربعة هي قوام التشبيه وعماده -فقولك: "يد فلان كالبحر في تدفقه" تشبيه. والمشبه هو "اليد" والمشبه به هو "البحر" ووجه الشبه هو "التدفق"، وأداة التشبيه هو الكاف- ومن هنا نعلم أن:
في التشبيه ثلاثة مباحث:
1- مبحث الطرفين.
2- مبحث وجه الشبه.
3- مبحث أداة التشبيه.
مبحث الطرفين:
الطرفان هما -على ما علمت- المشبه والمشبه به، والتشبيه -باعتبارهما- عدة تقسيمات: منها.
التقسيم الأول:
ينقسم التشبيه باعتبار حسية الطرفين، وعقليتهما أربعة أقسام:
1- أن يكون طرفاه حسيين، أي مدركين بإحدى الحواس الخمس.
فمثال ما يدرك بحاسة البصر قولك: وجه هند كالبدر، وقدها كالرمح، وشعرها كالليل.
ومثال ما يدرك بحاسة السمع قولك: "أسمع صوتا كأغاريد البلابل، أو كدوي الرعد، أو كأنين الثكلى- ومنه قول الشاعر يصف ساقية:
وساقية نزلت بها والفى ... أودعه كتوديع المروع
فصوت أنينها يحكى أنيني ... وفيض دموعها يحكى دموعي(5/17)
ومثال ما يدرك بحاسة الشم قولك: "شذا عرف ليلى كأريج المسك، وريح ثيابها كريح الخزامي"1.
ومثال ما يدرك بحاسة الذوق قولك: "رضاب سلمى كلعاب النحل، وعصير لحصرم كالخل".
ومثال ما يدرك بحاسة اللمس قول ذي الرمة2 يصف امرأة بنعومة البشرةن ورخامة الصوت:
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي -لا هراء ولا نزر3
وقولك: بشرة فلان كجلد القنفذ -فالطرفان في هذه المثل جميعها حسيان، وأوجه الشبه فيها واضحة، لا تحتاج إلى بيان.
2- أن يكون الطرفان عقليين، أي مدركين بالعقل كقولهم: "العلم كالحياة" "والجهل كالموت" و"الضلال كالعمى" -فالطرفان في هذه المثل لا يدركان بغير العقل- ووجه الشبه في الأول: "الأثر الجليل"، وفي الثاني: "فقدان النفع" وفي الثالث: "عدم الاهتداء".
3- أن يكون المشبه عقليا والمشبه به حسيا كقولهم في شبيه الخلق القويم والطبع الكريم: خلق كشذا العطر، وطبع كأنفاس الزهر، وكقولك في تشبيه الرأي الواضح والحظ العاثر "رأى كفلق الصبح"، و"حظ كسواد الليل"، ومنه قول الشاعر:
الرأي كالليل مسود جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بإصباح
4- أن يكون المشبه حسيا، والمشبه به عقليا كما في قول الشاعر:
__________
1 هو نبت له زهر طيب الرائحة.
2 هو غيلان بن عقبة شاعر أموي.
3 "رخيم الحواشي" في أطرافه لين وتكسر، "والهاء" بضم الهاء الكلم الكثير الفاسد و"النزر" الكلام القليل يريد أنه لا يكثر في الكلام إلى حد الهذيان، ولا يعقل منه إلى درجة العي.(5/18)
وأرض كأخلاق الكريم قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا1
يقول: رب أرض رحبة الجنبات قطعتها في ليل تألق نجمه -شبه الأرض بالخلق الكريم في الرحابة والسعة، بتقدير المعقول محسوسا، واعتباره أصلا في وجه الشبه، يقاس به مبالغة، وإلا فإن إلحاق المحسوس بالمعقول قلب للأوضاع2، وجعل للفرع أصلا، والأصل فرعا، وهو لا يجوز، ولا يستسيغه عقل لولا قصد المبالغة -ومن الطريف في ذلك قول الشاعر:
وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا ... فتك الصبابة بالمحب المغرم
فالفتك الأول حسي باعتبار متعلقه، والثاني عقلي، وهو من أحاسن التشبيهات وأبدعها، وأشدها في النفس وقعا -ومثله قول الصاحب:
أهديت عطرا مثل طيب ثنائه ... فكأنما أهدى له أخلاقه
تنبيه:
من الحسي: مالا تدركه الحواس بذاته، ولكن تدرك مادته، ويسمى: خياليا، وهو الشيء المعدوم خارج الأعيان الذي ركبته المتخيلة من أمور مدركة بالحس الظاهر كما في قول أبي الغنائم الحمصي:
خود كأن بنانها ... في خضرة النقش المزرد
سمك من البلور في ... شبك تكون من زبرجد3
__________
1 السماك نجم، وهو مفعول والليل فاعله، الضمير في "أبصرط عائد على "السماك" وتكحيل الليل له على معنى أن الليل إذا اشتدت ظلمته ازداد السماك تألقا كان الليل كحل بسواده.
2 ذلك أن الأمور العقلية مستفادة من طريق الحواس فالحواس إذن أصل لها كحدوث العالم مثلا فهو أمر عقلي أدركه العقل من تغيره المدرك بحاسة البصر ولولاها ما أدركه، ولذا قالوا من فقد حسا فقد علما فتشبيه المحسوس بالمعقول حينئذ قلب للأوضاع سوغه قصد المبالغة.
3 "الخود" بفتح الخاء الشابة الحسناء "والبنان" أطراف الأصابع، "والبلور" معدن شفاف، و"الزبرجد" جوهر نفيس.(5/19)
شبه الشاعر هيئة بنانها، مع ما عليها من نقش منسق أخضر: بهيئة سمك مصنوع من البلور: داخل شبك مصنوع من زبرجد -فليس من شك أن صورة المشبه به المذكورة شيء خيالي، لا يدرك بالحس الظار لعدم تحققه خارج الأعيان، وإنما المدرك مادته، وهي السم، والبلور، والشبك، والزبرجد، ومن هنا كانت حسية -ومنه قول الشاعر يصف الخمر في الكاس:
كأن الحباب المستدير برأسها ... كواكب در حشوهن عقيق1
شبه هيئة الفقاقيع الطافية على وجه الكأس: بهيئة كواكب من در، منثورة في سماء من عقيق -فالمشبه به خيالي-: لا يدرك بالحس لعدم وجوده خارج الأعيان، وقد فرض مجتمعا من أمور، كل منها مدرك بالحس، وهو: الكواكبن والدر، والعقيق.
فالمراد بالحسي حينئذ: ما يدرك بذاته، أو بمادته بإحدى الحواس الظاهرة ليشمل الخيالي الوارد في البيتين السابقين ونحوهما.
ومن العقلي: مالا يدرك هو ولا مادته بإحدى الحواس الظاهرة لعدم وجوده خارجا. ولكنه بحيث وجد لم يدرك إلا بها، ويسمى "وهميا"2 وهو ما اخترعه الوهم من عند نفسه، من غير أن يكون له، ولا لمادته وجود في الخارج، كما تراه في قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال3
__________
1 "الحباب" هو تلك الفقاقيع التي تطفو عادة على سطح الماء، والعقيق نوع من الأحجار الكريمة.
2 قيد الوهمي بهذا القيد لتيميز عن العقلي الصرف كالعلم والحياة، وهذا لا ينافي أن الوهمي من أفراد العقلي بالمعنى المذكور هنا.
3 الاستفهام هنا للإنكار، "والمشرقي" السيف المنسوب إلى مشارف اليمن، "ومضاجعي" ملازمي حال الاضطجاع وهو كناية عن أن السيف لا يفارقه وأن الاعتداء عليه بعيد المنال، "ومسنونة" حادة مصقولة، وصفت بالزرقة لفرط صفائها.(5/20)
ينكر أن يتمكن من قتله أحد، وهو محصن بسيفه ورمحه.
وكما تراه في قول تعالى في سجرة الزقوم: "طلعها كأنها رءوس الشياطين" -فأنياب الأغوال، ورءوس الشياطين لم توجد بعد لاهي ولا مادتها، فلم تدرك بالحواس، وإنما هي من اختراعات الوهم وافتراضاته ولكنها- على فرض وجودها- لا تدرك بغير الحس الظاهر.
فالمراد بالعقلي حينئذ: ما لا يدرك هو، ولا مادته بإحدى الحواس الظاهرة ليشمل التشبيه الوهمي المذكور -كما يدخل فيه أيضا ما يدرك بالوجدان، أبي بالقوة الباطنة كاللذة، والألم، والفرح، والغضبن والجوع، والعطش، والشبعن والرين وغير ذلك من الحالات الباطنة التي لا يدركها الحس الظاهر، ولا العقل الصرف، وإنما تدرك بإحساس باطني، وتكييف نفسي، كالحالة الخاصة التي يحسها الجائع، أو الظامئ أو التي يحسها من شبع بعد سغب، أو روى بعد ظما -مثال ذلك: أن يشبه الجائع ما يحسه من ألم الجوع بالموت، أو أن يشبه الظامئ ما يشعر به من وهج العطش بالنار.
التقسيم الثاني:
ينقسم التشبيه باعتبار تعدد الطرفين، أو تعدد أحدهما إلى أربعة أقسام:
1 ملفوف 2 مفروق 3 تسوية 4 جمع
فالملفوف: هو أن يتعدد طرفاه، ويجمع كل طرف مع مثله: بأن يؤتى بالمشبهات أولا، ثم بالمشبهات بها ثانيا أو العكس، بأن يؤتى بالمشبهات بها أولا، ثم بالمشبهات بعد ذلك.
فمثال الأول قول امرئ القيس1 يصف عقابا بكثرة اصطياد الطيور:
__________
1 هو أبو الحرث جندج بن حجر الكندي رأس شعراء الجاهلية وقائدهم إلى التفنن في أبواب الشعر وفنونه.(5/21)
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها -العناب والحشف البالي1
شبه الشاعر الرطب الطرى من قلوب الطير بالعناب في الشكل والمقدار، واللون- وشبه اليابس العتيق منها: بالحشف البالي في هذه الثلاثة أيضا- فالمشبه متعدد، وهو الرطب من قلوب الطيرن واليابس العتيق منها- والمشبه به متعدد كذلك وهو "العناب والحشف البالي"، وقد جمع بين المشبهين في المصراع الأول على طريق العطف -كما جمع المشبهين بهما في المصراع الثاني كذلك2.
ومثال الثاني قولك: "كالشمس والقمر هند ودعد" بتقديم المشبهين بهما على المشبهين -إلى غير ذلك مما جمع فيه كل صنف على حدة كما هو رأس المسألة.
وسمي هذا النوع "ملفوفا" لأنه من اللف، أي الضم، وهو لف المشبهين فيما مثلنا، أي ضم بعضهما إلى بعض -كما لف المشبهان بهما كذلك.
والمفروق: أن يتعدد طرفاه: ويجمع كل طرف مع صاحبه: بأن يجمع مشبه مع مشبه بهن كما تراه في قول الشاعر:
الخد ورد والصدغ غالية ... والريق خمر والثغر كالدرر3
__________
1 "رطبا ويابسا" حالان من القلوب، "ولدى وكرها" ظرف يحتمل أن يكون حالا من القلوب أو من الضمير المستتر في "رطبا ويابسا"، "والوكر" عش الطائر "والعناب" حب أحمر مائل إلى الكدرة في حجم قلوب الطير الرطبة و"الحشف" أردأ التمر في هيئة قلوب الطير اليابسة.
2 إنما جعل من قبيل المفرد المتعدد ولم يجعل من تشبيه المركب بالمركب لأنه ليس لانضمام الرطب من القلوب إلى الياس منها هيئة خاصة يقصد إليها، ولا لاجتماع العناب من الحشف البالي هيئة كذلك -ولهذا لو فرق التشبيه، فقيل: كأن الرطب من القلوب عتابا، وكأن اليابس منها حشف لصح ذلك دون توقف أحد التشبيهين على الآخر.
3 المراد "بالصدع" الشعر المتدلى على الخد، "والغالية" أخلاط من الطيب "والثغر" أراد به الأسنان.(5/22)
شبه الشاعر الخد بالورد، والصدغ بالغالية، والريق بالخمر، والثغر بالدر جاعلا كل مشبه مع مقابله -ومنه المرقش الأكبر1:
النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم2
يقول: إن رائحة هؤلاء النسوة كرائحة المسكن والوجوه منهن كالدنانير من الذهب في الاستدارة والصفرة، وهو لون كان يستحسن في النساء، وأن أصابعهن المخضبة كالعنم في الحمرة والليونة -وقد جمع في هذا البيت كل مشبه به مع مشبهه- كما في البيت السابق.
وسمي هذا النوع "مفروقا" لأنه لم يجمع فيه بين المشبهات على حدة، ولا بين المشبهات بها كذلك -كما في القسم الأول- بل فرق بينهما، فوضع كل مشبه به بجوار مشبههه- كما ترى.
وتشبيه التسوية: هو أن يتعدد المشبه، دون المشبه به كقول الشاعر:
صدغ الحبيب وحالي ... كلاهما كالليالي
وثغره في صفاء ... وأدمعي كاللآلي3
شبه الشاعر في البيت الأول -حاله، وصدغ حبيبه بالليالي في السواد، وشبه في البيت الثاني- أدمعه، وثغر حبيبه باللآلئ في الصفاء والتألق -فالمشبه فيهما متعدد، دون المشبه به -والمراد بالمتعدد هنا: أن يكون ذا معنيين مختلفي المفهوم، أو ذا معان كذلك، وعلى هذا لا يكون المشبه به -في البيتين- وهو الليالي، واللآلي، "متعدد بهذا المعنى، لأن آحاد كل متحدة المفهوم- كما ترى:
__________
1 هو عمرو بن سعد شاعر جاهلي.
2 "والنشر" الراحئة الطيبة، "والعنم" بالتحريك شجر لين الأغصان أحمر اللون تشبه به أصابع الجواري المخضبة، وأراد بأطراف الأكف: الأصابع.
3 الصدع تقدم شرحه والمراد بالثغر الأسنان، "واللآلي" جمع لؤلؤة سهلت همزته الروى.(5/23)
سمي هذا النوع: "تشبيه التسوية"، لأنه سوى فيه بين شيئين في إلحاقهما بشيء واحد- كما تراه واضحا في البيتين.
وتشبيه الجمع: هو أن يتعدد المشبه به، دون المشبه، عكس تشبيه التسوية كما تراه في قول البحتري، من قصيدة له يمدح بها عيسى بن إبراهيم:
بات نديما لي حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح
كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو برد، أو أقاح1
شبه البحتري في البيت الثاني ثغر محبوبته بثلاثة أشياء -اللؤلؤ- والبرد، والأقاحي- فالمشبه شيء واحد، وهو "الثغر" المفهوم من قوله: "يبسم" والمشبه به متعدد -كما ترى- "وأو" هنا بمعنى "الواو" أو هي على أصلها لقصد التنويع، ولما لم يعين واحد بخصوصه كان كأنه مشبه بالثلاثة -والتشبيه هنا ضمني، يدل عليه لفظ "كأن"، وكأنه يقول: كأنما يبسم عن ثغر كالؤلؤ، أو برد، أو أقاح- ومثله قول الشاعر:
ذات حسن لو استزادت ... من الحسن لما أصابت مزيدا
فهي الشمس بهجة والقضيب اللدن قدا والرئم طرفا وجيدا2.
__________
1 "النديم" في الأصل مؤنسك حال الشراب، والأغيد الناعم البدن مؤنثه غيداء، ويقال: غادة، "والمجدول" المدخل بعضه في بعض يريد: أن ضامر الخاصرتين والبطن، و"والوشاح" جلد عريض مرصع بالجواهر يشد في الوسط بقصد التزين، ويبسم" من باب "ضرب"، وقد ضمن معنى "يكشف" فعده "بعن"، و"المنضد" المنظم"، والبرد" بفتح الراء حب الغمام، "الأقاحي" بفتح الهمزة جمع "أقحوان" بضم فسكون فضم، وهو زهر زكى الرائحة كالورد وأوراقه أشبه بالأسنان.
2 "القضيب" الغصن، و"اللدن" الطري الغض، و"القد" القامة، و"الرئم الغزال "والطرف" العين. "والجيد" العنق.(5/24)
شبه الشاعر في البيت الثاني هذه المرة بثلاثة أشياء، فالمشبه شيء واحد، وهو ذات الحسن، والمشبه به متعدد.
وسمي هذا النوع: تشبيه الجمع" لاجتماع شيئين أو أشياء في مشابهة شيء واحد بها- غير أن التفرقة بين تشبيهي التسوية والجمع اصطلاح لهم، وإلا فيمكن أن يعتبر في كل منهما ما اعتبر في الآخر، ويسمى باسمه.(5/25)
اختبار:
1- عرف التشبيه واصطلاحا، وبين منزلته من الاستعارة، ولماذ لم تعد الاستعارة والتجريد من التشبيه الاصطلاحي؟ وبم احترز عنهما في التعريف؟ مثل لكل ما تقول.
2 قسم التشبيه باعتبار حسية الطرفين وعقليتهما، مع التمثيل، ثم بين من أي قبيل قول الشاعر:
كأن عيون النرجس الغض حولنا
مداهن در حشوهن عقيق
وقولهم: النساء حبائل الشيطان، وجه ما تقول في المثالين.
3 بين المراد بالحسي والعقلي في الطرفين، مع التمثيل، ومن أي قبيل قول الشاعر:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟
4- قسم التشبيه باعتبار تعدد الطرفين، ومثل لكل قسم مع بيان سبب تسمية كل قسم باسم خاص، ومن أي الأنواع قول الشاعر:
بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا(5/25)
تمرينات منوعة
مدخل
...
تمرينات منوعة:
1- إيت بتشبيهات أربعة من إنشائك.
أولها: يدرك طرفاه بحاسة البصر، ووجهه بحاسة الشم.
ثانيها: يدرك طرفاه بحاسة البصر، ووجهه بحاسة اللمس.
ثالثها: يدرك طرفاه ووجهه بحاسة السمع.
رابعها يدرك أحد الطرفين بإحدى الحواس، والآخر بالعقل.
2- بين فيم يأتي طرفي التشبيه، والحاسة التي يدرك بها كل منهما: صوت كمزمار داود. نكهة كريح العنبر. كأنهم أعجاز نخل خاوية. دواء كالعلقم، واسع كلمع الأرقم. رضاب كجنى النحل، وجبين كالقمر. شعر كالحرير، وقد كغصن البان. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. عبير كأنفاس الأزهار، ونغم كسجع الأطيار.
كأنما الماء في صفاء وقد ... جرى ذائب اللجين1
3- مثل لما يأتي: تشبيه كلا طرفيه عقلي: تشبيه مفروق، وآخر ملفوف. تشبيه جمع.
4- اجعل كلا من الأشياء الآتية مشبها به، ثم بين نوع الحاسبة فيه: الدر. العطر. الشوك- ثم بين من أي أنواع التشبيه قولهم: هو بدر حسنا وشمس علوا، وبحرا علما، وأسد إقداما.
5- كون تشبيهات من الأطراف الآتية: بحيث تأتي مع كل طرف بما يشاكله: الإرادة القوية، الغيث المنهمر، العافية في البدن، شذا المسك، الحديث الممتنع، السف القاطع، يد الجواد، الصديق الوفي.
6- اجعل كل واحد مما يأتي مشبهابه، مع بيان وجه الشبه في كل منها. بلابل
__________
1 "ذائب اللجين" من إضافة الصفة للموصوف أي اللجين الذائب واللجين الفضة.(5/26)
الأغصان. النهار المشرق. الأم الرءوم. الوابل الهاطل. المرآة الصافية: النسيم العليل. الرعد القاصف.
7- بين فيما يأتي طرفي التشبيه، وحاليهما من حيث الحسية، والعقلية مع بيان نوعه من حيث تعدد الطرفين.
علم لا ينفع كدواء لا ينجع. الصديق النافع. والأخل الجاهل، كلاهما كجمر الغضا1 الحق سيف على أهل الباطل. قال الشاعر:
فرحت وآمالي كحظى كواصف ... وعزمي يحاكي سعيه في المكارم
ألا إن الغضب جمرة توقد في جنب ابن آدم:
إنما الدنيا كبيت ... نصجه من عنكبوت
وضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه مطيب
ابن أزمعت أيهذا الهمام ... نحن نبت الربا وأنت الغمام
يكاد يحكيك صوت الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والبدر لم يغب والشمس لو نطقت ... والأسد ل لم تصد والبحر لو عذبا2
أنت بدر حسنا وشمس علوا ... وحسام حزما وبحر نوالا
__________
1 "الغضا" شجر سريع الالتهاب.
2 "صوب الغيث" انصبابه، و"المحيا" الوجه.(5/27)
ليل وبدر وغصن ... شعر ووجه وقد
خمر ودر وورد ... ريق وثغر وخد
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل
وجهه وجه الشيطان، وعمله عمل الملائكة، أنتم الشعار والناس الدثار1.
جواب التمرين الأخير:
علم لا ينفع إلخ -المشبه "علم لا ينفع" وهو عقلي- والمشبه به "دواء لا ينجع"/ وهو حسي يدرك بحاسة الذوق.
الصديق المنافق الخ: المشبه "الصديق المنافق، والأخ الجاهل"، وهو متعدد حسي يدرك بحاسة البصر، والمشبه به "جمر الغضا" وهو مفرد حسي يدرك بحاسة اللمس "وهو من تشبيه التسوية".
الحق سيف الخ: المشبه هو "الحق" وهو عقلي، والمشبه به "سيف" وهو حسي يدرك بحاسة البصر.
فرحت وآمالي الخ: المشبه: "آمالي"، وهو عقلين والمشبه "حظي" وهو عقلي كذلك".
ألا إن الغضب جمرة الخ: المشبه "الغضب" وهو عقلي، والمشبه به "جمهرة" وهو حسي يدرك بحاسة اللمس.
__________
1 "الشعار" الثوب الذي يلي البدن "والدثار" ما يلبس فوق الشعار- يريد: أنتم أقرب الناس مني كالشعار، أما الناس فبعيدون عني كالدثار.(5/28)
إنما الدنيا كبيت الخ: المشبه "الدنيا" وهو حسي يدرك بحاسة البصر، والمشبه به "بيت العنكبوت"، وهو حسي كسابقه.
وضاك شباب الخ: المشبه "رضاك"، وهو عقلي، والمشبه به "شباب" وهو حسي باعتبار متعلقه يدرك بحاسة البصر.
أين أزمعت أيهذا الخ: المشبه "نحن -أنت" وهو مفرد حسي، والمشبه به "نبت" الربا -الغمام" وهو حسي وكلاهما يدرك بحاسة البصر.
يكاد يحكيك صوب الخ: المشبه "صوب الغيث وما عطفت عليه"، وهو متعدد حسي، والمسبه به، الممدوح المدلول عليه بكاف الخطاب، وهو مفرد حسي وكلاهما يدرك بحاسة البصر، وهو من تشبيه التسوية.
أنت بدر حسنا الخ: المشبه "أنت" وهو مفرد حسي، والمشبه به "بدر وما عطف عليه" وهو متعدد حسي، من تشبيه الجمع.
ليل وبدر وغصن الخ: المشبه "ليل وما عطف عليه"، وهو متعدد حسي والمشبه به "شعر وما عطف عليه" وكلاهما يدرك بحاسة البصر، وهو تشبيه ملفوف، والبيت الثاني مثله.
لعاب الأفاعي الخ: المشبه "لعابه" وهو مفرد حسي، والمسبه به "لعبا الأفاعي وما عطف عليه"، وهو متعد حسين ومن قبيل تشبيه الجمع.
وجهه وجه الشيطان الخ: المشبه "وجهه" وهو حسي يدرك بحاسة ابصر والمشبه به "وجه الشيطان" وهو وهمي.
أنتم الشعار الخ: المشبه "أنتم -الناس"، وهو مفرد حسي، والمشبه به "الشعار -الدثار" وهو مفرد حسي كذلك وكلاهما يدرك بحاسة البصر.(5/29)
مبحث وجه الشبه:
الوجه هو المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه "كالجمال" في قولك: "سعدي كالبدر" و"كالسرعة" في قولك "الجواد كالريح" -فكل من "الجمال والسرعة" وجه الشبه لأنه المعنى الذي اشترك فيه الطرفان في قصد المتكلم، فليس كل معنى مشترك بين الطرفين وجه الشبه مالم يقصد جعله موضع اشتراك، وإلا فإن الطرفين قد يشتركان في كثير من المعاني كالحيوانية والجسدية، والوجود، والحدوث وغيرها، وهي -مع ذلك- لا يعد واحد منها وجه شبه- اللهم إلا إذا قصد إليه المتكلم واعتبره وجها للشبه بين الطرفين لغرض ما "كالتقريع" مثلا، كأن ترى إنسانا يقسو على حيوان ضعيف، ويحمله مالا يطيق، فتقول له: "هذا مثلك فارحمه" تريدك مثلك في الحيوانية، أو الجسدية، فيكون لهذا الوجه حينئذ مزيد اختصاص، من حيث أنه قصد إليه بالذات لهذا الغرض.
والتشبيه باعتبار الوجه تقسيمات عدة:
القسم الأول:
ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى قسمين -تحقيقي، وتخييلي:
فالتحقيقي: ما يكون وجه الشبه فيه قائما بالطرفين حقيقة كقول الشاعر يصف فرسا أدهم بسرعة الجرى:
وأدهم كالغراب سواد لون ... يطير مع الرياح ولا جناح
فوجه الشبه بين الطرفين "السواد" وهو قائم بالطرفين على وجه الحقيقة، والتخييلي: ما لا يكون الوجه فيه قائما بالطرفين، أو بأحدهما إلا تخيلا، بمعنى: أن يثبته الخيال، يجعله غير المحقق محققا- فمثال ما فيه الوجه(5/30)
متخيل في أحد الطرفين قولك: له سيرة كنفح الطيب"، و"أخلاق كأريج المسك" فقد شاع وصف كل من السيرة والأخلاق بالطيب مبالغة، حتى تخيل أنهما من ذوات الرائحة الطيبة -فوجه الشبه، وهو "الرائحة الطيبة" متخيل في المشبه في المثالين- من هذا القبيل قول القاضي التنوخي:
رب ليل قطعته بصدود ... وفراق ماكان فيه وداع
موحس كالثقيل تقذى به العين ... وتأبى حديثه الأسماع
وكأن النجوم بين دجاه ... سنن لاح بينهن ابتداع1
والشاهد في البيت الأخير. فإن وجه الشبه فيه بين النجوم والسنن هو: الهيئة الحاصلة من اجتماع أشياء بيض مشرقة، في جوانب شيء مظلم، وهذه الهيئة غير موجودة في المشبه به على وجه التحقيق- ضرورة أن "الإشراق" لكونه حسيا- لا تتصف به السنة لكونها أمرا عقليا- وأن الإظلام لكونه حسيا أيضا لا تتصف به البدعة لأنها أمر عقلي كذلك- فوجه الشبه إذن غير متحقق في المشبه به إلا على طريق التخيل والتوهم، بافتراض غير الحاصل حاصلا.
ومثل قول التنوخي قول الشاعر السابق:
وأرض كأخلاق الكريم قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا
__________
1 "الدجى" جمع دجية وهي القطعة من الليل، والضمير في "دجاه" الليل وروى: "بين دجاها" فيكون الضمير للنجوم، وإضافة لأدنى ملابسة، "والابتداع" البدعة، وهي الأمر الذي ادعى أنه مأمور شرعا، وهو ليس كذلك- غير أن في عبارة الشاعر قلبا لأنه جعل -في جانب المشبه- النجوم بين الدجى، فكان من الواجب أن يجعل -في جانب المشبه به- السنن بين الابتداع لتصح المقابلة، ولعل النكتة في هذا القلب: الإشارة إلى كثرة السنن في زمانه وأن البدع بالقياس إليها كانت قليلة.(5/31)
فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة، أو الضيقة، تخيل أنها شيء له سعة فشبهت الأرض الرحبة بها كما في البيت، ومن هذا القبيل قول أبي طارق الرقى:
ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق1
يصف الشاعر نفسه بالوفاء، وأنه لا ينسى حبيبه، حتى في أحلك الأوقات، وأشد الأزمات، ووجه الشبه بين الطرفين هو السواد -غير أنه متخيل المشبه به كالذي قبله وذلك لشيوع وصف أوقات المكاره بالسواد توسعا: فقالوا أسود النهار في عيني، وأظلمت الدنيا في وجهي- حتى تخيل أن يوم النوى من الأشياء ذوات اللون الأسود، فشبه الظلام به، كما شبه بفؤاد من لم يعشق تظرفا، فإن الغزل يدعى قسوة من لم يعشق- ولهذا يقولون: ويل للشجى من الخلى، والقلب القاسي يوصف بالسواد توسعا. ومنه أيضا قول الشاعر:
يا من له شعر كحظئ أسود ... جسمي نحيل من فراقك أصفر
فوجه الشبه بين الشعر والحظ هو السواد، وليس موجودا في المشبه به حقيقة بل تخيلا كما ترى- فإذا قيل في البيت المذكور: "يا من له حظ كحظي أسود" كان مثالا لما يكون فيه الوجه متخيلا في الطرفين.
هذا: وقد تقدم أن تشبيه المحسوس بالمعقول لا يجوز إلا إذا تخيلنا المعقول محسوسا، وافترضناه أصلا في وجه الشبه، يقاس به المشبه مبالغة، وإذن فلا بد هنا أن نتخيل غير المتلون أصلا للمتلون الحقيقي، فنتخيل "السنن" في بيت التنوخي أصلا في البياض، والبدع أصلا في السواد حتى يصح القياس- كما نتخيل في بيت أبي طارق كلا من "يوم النوى، وفؤاد من لم يعشق، أصلا في السواد كذلك.
__________
1 في هذا البيت تشبيه جمع لاتحاد المشبه، وتعدد المشبه به.(5/32)
أثر وجوب اشتراك الطرفين في وجه الشبه:
مما تقدم في تعريف وجه الشبه، وتقسيمه إلى تحقيقي، وتخييلي: يتبين أن لابد من وجوده في الطرفين -تحقيقا، أو تخيلا- فإذا لم يوجد في الطرفين على إحدى هاتين الصفتين لم يصح جعله وجه شبه- وإذن لا يصح أن يكون وجه الشبه في قولهم: "النحو في الكلام كالملح في الطعام": كون القليل مصلحا، والكثير مفسدا، لأن "المشبه، وهو "النحو، لا يشترك مع المشبه به المذكور في هذا المعنى أصلا إذ لا يحتمل النحو قلة ولا كثرة بل هو عبارة عن أن تراعي قواعده وأحكامه: مع رفع الفاعل ونصب المفعول، وغير ذلك فإن تحقق ذلك في الكلام كان صالحا، وإلا كان فاسدا بخلاف المشبه به فإنه يحتمل القلة والكثرة، والقليل منه مصلح، والكثير مفسد -وحينئذ لا يصح جعل المعنى المذكور وجه شبه، لعدم وجوده في كلا الطرفين- لا تحقيقا، ولا تخيلا.
أما ما يصلح وجه شبه بينهم فهو: الصلاح إذا استعملا، والفساد إذا أهملا وهذا المعنى -لا شك- موجود في الطرفين على السواء.
تنبيه:
قد يكون وجه الشبه في أحد الطرفين حقيقيا، وفي الآخر ادعائيا كما يقال في الجبان: "هو أسد" وفي البخيل: "هو حاتم" -فوجه الشبه، بين الطرفين في الأول "الشجاعة"، وفي الثاني "الجود"، وليس من شك، أن الشجاعة في الجبان والجود في البخيل كلاهما إدعائي لا حقيقي، فمثل هذا الكلام -في ظاهره- غير صحيح لأن وجه الشبه -كما قلنا- لابد أن يكون معنى مشتركا بين الطرفين. والطرفان في المثال الأول لم يشتركا في معنى "الشجاعة" لانعدامه في الجبان- كما لم يشتركا في معنى "الجود" في المثال الثاني لانعدامه في البخيل، فلا مندوحة إذا من توجيه يصح به مثل هذا التشبيه.(5/33)
وتوجيه ذلك: أن ينزل التضاد به الطرفين المتضادين منزلة التناسب بينهما، وأن يبرز الخسيس في صورة الشريف، فيجعل "الجبن" مثلا بمنزلة الشجاعة "والبخل" وبهذا التأويل صح أن يكون الوجه في الأول "الشجاعةط وفي الثاني "الجود" ووضح حينئذ اشتراك الطرفين في الوجه -ويسمى هذا النوع امن التشبيه: "تشبيه التضاد".
غير أنه: لابد -لتنزيل التضاد منزلة التناسب- من غرض صحيح يدعو إليه، وإلا كان الكلام ضربا من الهذيان، وذلك الغرض هو: التهكم والسخرية، أو التظرف والتمليح1 وبغير ذلك لا يتم التنزيل المذكور، ولا يعتبر.
أم ما قيل: من أن وجه الشبه في نحو هذين المثالين "هو التضاد" أي كون كل منهم مضادا للآخر، لأنه المعنى المشترك بين الطرفين، فهو قول لا يعدو صماخ الأذن، إذ من المعلوم بداهة: أن كلا من المتضادين مضاد للآخر ومقابل له -كما في قولنا: السواد كالبياض في التضاد، وكقولنا: العدم كالوجود في التقابل.. وهكذا، ومثل هذا التشبيه من لغو القول، ينبغي أن يبرأ منه كلام البليغ.
على أنه لو كان الأمر كذلك لم يكن للتهكم، أو للتظرف معنى إذ لا تهكم أو تظرف في أن يشبه أحد المتضادين بالآخر في معنى التضاد لأن هذا لا يعدو الواقع الملموس، وإنما يكون التهكم أو التظرف، حيث يدعى للجبان "شجاعة" والبخيل "جود" بعد تنزيل التضاد بين الطرفين منزلة التناسب -كما رأيت أهـ.
__________
1 يفرق بينهما بحسب القرائن فإن كان المتكلم يهدف إلى السخرية والاستهزاء فتهكم. وإن كان متظرفا فتملح.(5/34)
اختبار وتمرين
مدخل
...
اختبار وتمرين:
1- عرف وجه الشبه، وهل كل معنى قائم بالطرفين يصح جعله موضع اشتراك علل لما تقول، مع التمثيل.
2- افرق بين التشبيه التحقيقي، واتلتخييلي، ومثل لكل، وهل من قبيل التشبيه التخييلي قولهم: النحو في الكلام كالمحل في الطعام، في أن القليل مصلح، والكثير مفسد؟ ولماذ؟
3- بين وجه الشبه، ونوع قيامه بكل من الطرفين. من حيث تحققه، أو تخيله، أو إدعاؤه فيما يأتي بعد:
1 ثوب المخلص كقلبه
2 باقل كسحبان
3 الحياة كسحابة صيف
4 فانهض بنار إلى فحم كأنهما
في العين ظلم وانصاف قد اتفقا
جواب التمرين:
1- وجه الشبه البياض، وهو في المشبه حقيقي، وفي المشبه به تخييلي فإن القلوب ليست من ذوات الألوان، وجعل القلب مشبها به لاعتباره أصلا في البياض مبالغة.
2- وجه الشبه الفصاحة، وهو في المشبه إدعائي، وفي المشبه به حقيقي بتنزيل التضاد بين الطرفين منزلة التناسب، وجعل العي بمثابة الفصاحة تهكما أو تظرفا.
3- وجه الشبه عدم الثبات وهو قائم بالطرفين حقيقة، فالتشبيه إذا حقيقي.
4- وجه الشبه هيئة اجتماع بياض بسواد. إذ قد شبه الشاعر النار والفحم مجتمعين، بالعدل والظلم مجتمعين كذلك في الهيئة المذكورة. وهي قائمة بالمشبه حقيقة، وبالمشبه به تخيلا، بعد اعتباره أصلا في هذه الهيئة تقاس به مبالغة، فهو تشبيه تخييلي.(5/35)
التقسيم الثاني:
ينقسم التشبيه باعتبار وحدة الوجه، وتعدده ثلاثة أقسام:
الأول: ما يكون وجه الشبه فيه شيئا واحدا، أي ما يعد في العرف واحدا، وهو مالا تركب فيه، ولا تعدد "كالحمرة" في قولك: خده كالورد "وكالخشونة" في قولك: له بشرة كجلد القنفذ، وكالهداية، في قولك: العلماء العاملون كالنجوم، فوجه الشبه في هذه المثل شيء واحد -كما رأيت.
الثاني: ما يكون الوجه فيه منزلا الواحد، وهو ما يكون مركبا من متعدد تركيبا اعتباريا: بأن يقصد إلى عدة أمور لشيئين، فتنزع منها هيئة تعمهما، بحيث لا يصلح واحد منها على انفراده وجه شبه، بحيث لو سقط أحدها لم يتم التشبيه -كما في جميع الهيئات المتخيلة على نحو ما في بيت بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فإن وجه الشبه فيه -مجموع الهيئة المتنزعة من تساقط أجرام مشرقة، مستطيلة الأشكال، متناثرة في جوانب شيء مظلم -ولا يصح في الذوق البلاغي جعل واحد من هذه الأشياء وجه شبه على حدة، لأن القصد- كما قلنا- إلى تشبيه الطرفين في الهيئة المجتمعة -كما لا يصح إسقاط واحد منها- في اعتبار المتكلم. لصيرورة الهيئة وحدة متضامة الأجزاء- ومثل بيت بشار قول الآخر:
ولاحت الشمس تحكى عند م طلعها ... مرآة تبر بدت في كف مرتعش1
__________
1 يريد أن يشبه الشمس عند البزوغ بمرآة من تبر وفي يدر عشاء ووجه الشبههو الهيئة الحاصلة من الاستدارة والحركة السريعة المتصلة مع تموج الإشراق غير أن الطرفين هنا مفردان: الشمس والمرآة" مع مراعاة القيود المذكورة إذ أن الهيئة المذكورة لا تتحقق بدون هذه القيود وتقييد الطرفين لا يخرجهما عن أفرادهما، بخلاف بيت بشار فإن الطرفين فيه مركبان فالمشبه مركب من النقع مثارا فوق الرءوس ومن السيوف المتلاحمة اللامعة في أثنائه- والمشبه به مركب من الليل ومن النجوم المتهاوية في رواية المختلف.(5/36)
وإنما نزل هذا القسم منزلة الواحد، لأن الوجه فيه مركب من أشياء تضامت وتلاصقت حتى صارت كالشيءالواحد لا يقبل التجزئة، وإنما لم يكن واحدا حقيقة لتركبه من جملة أمور، ولا تركب في الواحد.
وإنما وصف يكون تركيبه اعتباريا ليخرج ما كان مركبا من متعدد تركيبا حقيقيا، كالحقيقة الإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية في مثل قولك: محمد كعلي في "الإنسانية" فإن هذا الوجه من قبيل الواحد، لا من قبيل المنزل منزلته، لأنه مركب من جزءين صارا بهذا التركيب شيئا واحدا في الخارج، قائما بذاته- بخلاف الوجه المركب تركيبا اعتباريا كما في نحو بيت "بشار" فإن الأشياء التي تكونت الوجه المركب تركيبا اعتباريا كما في نحو بيت "بشار" فإن الأشياء التي تكونت منها الهيئة السباقة لا يلتئم من مجموعها حقيقة واحدة قائمة بذاتها، وإنما هي امرأة اعتباري رعاه المتكلم من اجتماع أمور انتزعها العقل من الطرفين.
ولو أننا اعتبرن المركب الحقيقي في موضوع المسألة لكان أمثال قولك: "محمد كعلي" من كل تشبيه إنسان بآخر: من قبيل تشبيه مركب بمثله إذ أن كلا من الطرفين مركب من حيوانية، وناطقية، ولا قائل بذلك.
الثالث: ما يكون وجه الشبه فيه متعدد أي مكونا من عدة أمور، جعل كل منها وجه شبه على حدة، كما في قولك: هذه الفاكهة كالتي أكلناها أمس في الطعم، واللون والرائحة- وكما في قولك محمد كأخيه في الطول والرشاقة والوسامة- ومثله في الكرم والحلم والذكاء- فوجه الشبه في هذه المثل أمور متعددة، كل منها يصلح أن يكون وجه شبه على انفراده إذ ليس القصد إلى تشبيه الطرفين في الهيئة المركبة من هذه الأمور، فليس لهذه الأمور مجتمعة هيئة يقصد إليها، بل الغرض: التشبيه في كل واحد منها.
تنبيهان:
الأول: مما تقدم يعلم أن الفرق بين الوجه المركب من عدة أشياء، والمتعدد: هو أن المركب منظور فيه إلى مجموع الأشياء، والهيئة المركبة منها-(5/37)
بحيث صارت وحدة لا تتجزأ -وبحيث لو حذف أحد هذه الأشياء اختل التشبيه- كما في بيت "بشار" فإن وجه الشبه -كما علمت- مجموع الأمور السابقة، وهي سقوط أجرام مشرقة، مستطيلة الأشكال، متناثرة في جوانب شيء مظلم، فلو حذف من هذه المجموعة واحد منها "كالأشراق" أو "الاستطالة" لم يتم التشبيه بني الطرفين -ذلك: أنالغرض: تشبيه الطرفين في هذه الهيئة التركيبة المتضامة الأجزاء.
أما الوجه المتعدد فإن المنظور فيه إلى أمور متعددة، بقصد جعل كل منها على انفراده وجه شبه -عكس الأول- بحيث لو حذف أحدها، أو قهم، أو أخر لم يختل التشبيه، ولم يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيده قبل الحذف أو قبل التقديم والتأخير- كما في المثال السابق: في تشبيه فاكهة بأخرى في الطعم، والرائحة واللون فإنك لو حذفت "اللون" مثلا أو الرائحة أو الطعم وقدمت أحدها على الآخر لم يختل التبشبيه إذ ليس الغرض: أن يجعل وجه الشبه مجموع هذه الأمور فليس لمجموعها -كما قلنا- هيئة خاصة، يقصد إليها- بل المراد: جعل كل واحد منها وجه شبه، من غير أن يتقيد أحدهما بالآخر.
ويتبين لك الفرق بينهما جليا في قول الشاعر:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت1
شبه الشاعر حال من ظهر له شيء هو في غاية الحاجة إليه، وقد علق به رجاء÷ ثم ما لبث أن فوجئ بفقدانه، بذهابه غلى حيث لا عودة له، ولا رجاء منه -شبه ذلك بحال قوم عطاش. عرضت لهم غمامة، هم أشد ما يكونون حاجة إليها، وما أن رجوها أن تمطرهم حتى انقشعت عنهم، وذهبت، وتركتهم
__________
1 "كما أبرقت" الكاف للتشبيه "وما" مصدرية، "وأبرقت بمعنى ظهرت وعرضت -وفي الأساس: أبرقت لي فلانة إذا تحسنت وازينت، فهو من باب الحذف والاتصال، والأصل: أبرقت لقوم، "وأقشعت" بمعنى أقلعت، وذهبت.(5/38)
في حيرة اليائس- ووجه الشبه: الهيئة الحاصلة من الشيء يكون أوله مطمعا مغريا، متصلا بنهاية مخيبة مؤيسة.
فأنت ترى أن الوجه منتزع من أمرين متصلين: ابتداء مطمع، وانتهاء مؤيس والشطر الأول من البيت المذكور إنما تضمن الأمر الأول، إذ معناه: أن الغمامة ظهرت لقوم يرجون الماء لشدة حاجتهم إليه، فقد أطمعتهم أول الأمر حين عرضت لهم -أما الأمر الثاني، وهو الانتهاء المؤيس فقد تكفل به الشطر الثاني، إذ معناه: أن الغمامة خذلتهم، وتولت عنهم حين التمسوها، فكانت الحال نهاية مؤيسة.
إذا علمت هذا -علمت أنه لا يتأتى انتزاع وجه الشبه من الشطر الأول فقط لأن الوجه -كما عرفت- مركب من الأمرين معا، فلابد أن ينزع من الشطرين جميعا، ولو اقتصر فيه على الشطر الأول لاختل التشبيه لعدم وفاء هذا الشطر بالمعنى المراد.
وهذا بخلاف التشبيه المتعدد كما في المثال السابق في تشبيه فاكهة بأخرى فإن القصة فيه -كما عرفت- إلى الأشياء الثلاثة من الطعم، والرائحة، واللون، بحيث لو ترك أحدها لم يتغير حال الباقي في إفادة معناه.
الثاني: اعلم أنه إذا كان وجه الشبه مركبا وجب أن يكون الطرفان مركبين أو مقيدين، أو أحدهما مركبا، والآخر مقيدا، ولو تقريرا- ذلك أن وجه الشبه قائم بالطرفين، متنزع منهما. وليس معقولا أن تقوم هيئة مركبة من عدة أمور بشيء واحد، أو أن تنتزع منه، فوجه الشبه في بيت بشار مثلا هو الهيئة المركبة من الأمور السابق ذكرها. وتلك الهيئة لا يمكن أن تقوم بشيء واحد، ولا أن تنتزع منه -كذلك وجه الشبه في قول الشاعر:
إني وتزييني بمدحي معشرا ... كمعلق درا على خنزير
هو صورة من يضع الشيء في موضع لا يصلح له، وليس له أهل، وهذا المعنى التركيبي لا يمكن أن يقوم بأحد الطرفين مجردا عما لوحظ فيه من قيد- كذلك وجه(5/39)
الشبه في تشبيه الشمس بالمرآة في يد شلاء. هو الهيئة السابق ذكرها- وأحد الطرفين وهو "الشمس"- وإن أفرد لفظا- مقيد معنى بجملة قيود، هي الإشراق المتموج، والحركة السريعة المتصلة، والاستدارة- ولهذا صح أن يكون منزعا للهيئة المذكورة.
اختبار:
1- فرق بين الوجه المركب "والمتعدد" ووضح ذلك بالأمثلة توضيحا تاما، واذكر لم كان المركب منزلا منزلة الواحد، ولم يكن واحدا حقيقة.
2- قالوا: إذا كان وجه الشبه مركبا فالطرفان- إما مركبان: أو مقيدان أو مختلفان. ولا يصح أن يكون كلاهما، أو أحدهما مفردا صرفا- علل لهذه القاعدة موضحا بالمثال.
3- أيت بتشبيهات أربعة فيها الوجه مركب -إما من طرفين مركبين كذلك، أو مفردين مقيدين، أو أحدهما أو أحدهما مركب، والآخر مقيد.
4- علمت أن التشبيه في بيت بشار من قبيل المركب، فهل يصح تحويله إلى تشبيه متعدد، فيشبه النقع المثار بالليل، وتشبه السيوف اللامعة بالكواكب- علل لما تقول:
5- علام استشهدوا بقول الشاعر:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت(5/40)
التقسيم الثالث:
ينقسم التشبيه باعتبار حسية الوج، وعقليته إلى ثلاثة أقسام:
1- ما يكون وجه الشبه فيه حسيا، أي مدركا بالحس الظاهر- مفردا كان، أو مركبا، أو متعددا.
فالمفرد الحسي "كالأشراق" في قولك: له وجه كالقمر" و"كالملاسة"(5/40)
في قولك: "له خد كصفحة المرمر"، و"كالطيب" في قولك: "له عرف كريح العنبر"- إلىآخر ما تقدم من الأمثلة في الأمور الحسية.
والمركب الحسي: يكون طرفاه مركبين، أو مفردين مقيدين، أو مختلفين.
فالمركب الحسي ذو الطرفين المركبين: كما في بيت بشار: كأن مثار النقع الخ. فإن وجه الشبه فيه -على ما سبق- هو الهيئة الحاصلة من تساقط أجرام مشرقة، مستطيلة، مناسبة المقادير متناثرة في جوانب شيء مظلم؟ وهذه الهيئة حسية، تدرك أجزاؤها بحاسة البصر. والطرفان مركبان -كما ترى- إذ لم يقصد: تشبيه النقع بالليل، أو السيوف بالكواكب، بل المقصود: تشبيه الهيئة بالهيئة- كما سبق بيانه- وكما في بيت أبي طارق:
وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق
فإن وجه الشبه فيه: الهيئة الحاصلة من أجرام متأنقة، مستديرة صغار المقادير في مرأى العين متناثرة على سطح جسم أزرق. صافي الزرقة- وهذه الهيئة أيضا حسية، تدرك أجزاؤها بحاسة البصر- والطرفان مركبان إذ المقصود: تشبيه هيئة النجوم اللوامع في أديم السماء: بهيئة الدرر المنثورة على بساط أزرق- وليس الغرض كما علمت: تشبيه الدرر بالنجوم، أو السماء بالبساط الأزرق.
والمركب الحسي ذو الطرفين المقيدين كما في قول الشاعر:
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا1
__________
1 "الثريا" اسم المجموعة النجوم متقاربة على وضع خاص، "الملاحية" بضم الميم وتخفيف اللام وقد تشدد كما هنا. عنب أبيض في حبه طول، ومعنى "نور" تفتح نوره، والمراد: أدرك نضجه. وإضافة عنقود إلى ملاحية بيانية، وقوله كما ترى يريد به، أن التشبيه حسب مرأى العين، لا بحسب الواقع فالكاف فيه بمعنى "علي".(5/41)
فإن وجه الشبه فيه: هيئة اجتماع صور بيض، مستديرة، صغار المقادير -في مرأى العين، على وضع خاص1 وهذه الهيئة حسية- والطرفان هنا: "الثريا والعنقود" مفردان، روعى في كل منهما قيد خاص- ففي الأول روعي كونه في وقت الصبح، وروعي في الثاني كونه عنقود ملاحية، حين تفتح نوره، أي أدرك ونضج.
والمركب الحسي ذو الطرفين المختلفين -أفرادا وتركيبا- كما في قول الصنوبري:
وكأن محمر الشقيق إذ تصوب أو تصعد ... أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد
فإن وجه الشبه فيه هيئة الأجرام الحمر، المنشورة على رءوس أجرام مستطيلة خضر، وهيه الهيئة حسية، تدرك أجزاؤها بحاسة البصر -والمشبه- كما ترى- مفرد لأنه اسم لمسمى واحد هو "الشقيق" لكن روعي فيه قيوده، من الاحمرار، والتوصب، والتصعد- والمشبه به مركب لأنه مجموع أمرين- الأعلام الياقوتية والرماح الزبرجدية. فالقصد فيه هيئة اجتماع هذين الأمرين- وكما في عكسه من قول أبي تمام:
يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر
فوجه الشبه هنا: هيئة اختلاط شيء أسود بشيء أبيض مشرق، وهذا الوجه مما يدرك بحاسة البصر -والمشبه مركب من النهار المشمس، وزهر الربا إذ القصد
__________
1 أي لاهي منضمة شديدة الانضمام، ولاهي بعيدة شديدة البعد.(5/42)
فيه إلى هيئة اجتماعهما -والمشبه به مفرد، وهو "الليل" المقيد بالوصف المذكور، إذ التقدير، فكأنما هو ليل مقمر.
المتعدد الحسي: هو ما تقدم في تشبيه فاكهة بأخرى، في الطعم والرائحة، واللون، فوجه الشبه كل واحد من هذه الثلاثة، وجميعها حسي، يدرك الأول منها بحاسة الذوق، والثاني بحاسة الشم، والثالث بحاسة البصر.
لكن قد يقال: أن وجه الشبه هو المعنى الذي يشترك فيه الطرفان فينبغي إذا أن يكون كليا ليتأتى فيه معنى الاشتراك- والحسي هو المدرك بإحدى الحواس، فلابد من وجوده في جسم معين خارجا، حتى يتأنى إداركه بالحاسة، "كالحمرة" القائمة بالخد أو الورد، ومثل هذا لا يكون إلا جزئيا والجزئي لا يتأنى فيه الاشتراك إذ يمتنع أن يوجد بعينه في محلين، وإذا فلا يصح أن يكون وجه الشبه حسيا.
ويجاب: بأن لا نزاع في أن وجه الشبه لا يكون إلا كليا ضرورة اشتراك الطرفين فيه، فوجه الشبه في نوح قولك: "خده كالورد" مطلق الحمرة وهو معنى كلي لا يدركه إلا العقل، ولا مدخل للحواس فيه- غير أن الموصف بالحسية إنما هو جزئيات هذا الكلي، كحمرة خد معين، أو حمرة ورد معين. وحينئذ فاطلاق وصف الحسية على وجه الشبه فيه نوع تسامح، من اطلاق ما للجزئي على الكلي.
2- ما يكون وجه الشبه فيه عقليا، أي مدركا بالعقل- واحدا كان، أو مركبا أو متعددا- وهو أعم من التشبيه بالوجه الحسي- على ما سيأتي.
فالوجه الواحد العقلي طرفاه: إما عقليان، أو حسيان، أو مختلفان.
فالواحد العقلي طرفاه: إما عقليان، أو حسيان، أو مختلفان.
فالواحد العقلي ذو الطرفين العقليين "كالعراء عن الفائدة" في تشبيه وجود الشيء العديم النفع بعدمه "وكعظم الفائدة" في تشبيه العلم بالحياة.(5/43)
والواحد العقلي ذو الطرفين الحسيين، "كالهداية" في قول النبي صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم: بأيهم اقتديتم اهتديتم" و"كالإقدام" في تشبيه الرجل كالأسد، فالطرفان في المثالين حسيان.
والواحد العقلي ذو الطرفين المختلفين حسا وعقلا "كالهداية" في تشبيه العلم بالنور، فالمشبه عقلي، والمشبه به حسي -وكاستطابة النفس" في تشبيه العطر بالخلق الكريم، فالمشبه حسي يدرك بحاسة الشم، والمشبه به عقلي- والوجه في جميع ما ذكر عقلي- كما ترى.
والمركب العقلي كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} شبه حال اليهود المتنزعة من حملهم التوراة، بمعنى تكليفهم العمل بها، وكون المحمول مستودع العلم النافع لهم، وعدم حملهم لها، بمعنىعدم العمل بموجبها، والانتفاع بما فيها، مع تحملهم ما طلب إليهم، مما يثقل عليهم، ويشق على نفوسهم -شبه هذه الحال: بحال الحمار المتنزعة من حمله أوعية العلوم، ويشق على نفوسهم -شبه هذه الحال: بحال الحمار المتنزعة من حمله أوعية العلوم، وعدم انتفاعه بما يحمل، مع معاناته مشاق الحمل- ووجه الشبه بين الحالين "صورة الحرمان من الانتفاع بأبلغ نافع، مع معاناة الكد في استصحابه"- وهذه الهيئة عقلية، انتزعت من عدة أمور عقلية كذلك- غير أن الحمل في جانب "الحمار" حسي لأن المراد به: الحمل علىالظهر -بخلافه- في جانب "اليهود" فغن المراد به التكليف والطلب وكون بعض الأمور المتنزع منها حسيا لا يؤثر في عقلية الوجه- ومنه قول الشاعر:
والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار1
شبه حال من أصابته شدة، فالتجأ إلى عمرو، طمعا في الاحتماء به، فإذا عمرو أشد خطرا مما وقع فيه -شبه هذه الحال بحال من لدغته الرمضاء، ففزع
__________
1 "الرمضاء" الأرض ذات الحرارة الشديدة من الرمض بالتحريك وهو شدة وقع أشعة الشمس على الرمل.(5/44)
إلى ما هو أشد لذعة، وأنكى ألما، وهو النار -ووجه الشبه: الصورة المتزعة من الفرار من الضار والالتجاء إلى ما هو أضر عنه، طمعا في الانتفاع به، وهما -كذلك -أمران- عقليان.
والمتعدد العقلي: كما في تشبيه طائر بالغراب في حدة النظر، وكمال الحذر، واخفاء السفاد1، فوجه الشبه كل واحد من هذه الثلاثة، وجميعها مما لا يدرك بغير العقل- وكما في تشبيه إنسان بآخر في شجاعته وحلمه، وإيمانه.
3- ما يكون وجه الشبه فيه مختلفا، بعضه حسي، وبعضه عقلي- كما في وجه الشبه المتعدد، كأن تشبه رجلا بآخر في طوله وجسامته، وحلمه، وشهامته، فوجه الشبه كل واحد من هذه الأربعة -غير أن الأولين منها حسيان، والآخرين عقليان- ومثله ما تراه في تشبيه إنسان مشرق الوجه بالشمس في حسن الطلعة، ونباهة الشأن، فالأول منهما حين والآخر عقلي.
تنبيهان:
الأول: اعلم: أن الوجه المختلف -حسا وعقلا- كما يكون في المتعدد كما مثلنا- يكون في المركب المنزل منزلة الواحد، باعتبار الأجزاء التي تركب منها كما في تشبيه الحسناء الوضيعة الأصل: بخضراء الدمن2 في حسن المنظر، مع سوء المخبر، فإن وجه الشبه مجموع الأمرين المذكورين وأحدهما حسي، والآخر عقلي- غير أن علماء البيان يعتبرون المركب من حسي وعقلي من قبيل العقلي، بتغليب العقل على الحس لاتساع أفقه، إذ يدرك المحسوسات والمعقولات- بخلاف الحواس فلا تدرك غير ما يقع تحت الحس- فالمركب حينئذ إما حسي فقط، أو عقلي فقط كما هو
__________
1 "السفاد" بكسر العين نزو الطائر الذكر على أنثاه.
2 هي شجرة تنبت في معاطن الإبل والدواب تكون ناضرة بهيجة ولكن لا ثمر فيها.(5/45)
الشأن في الوجه المفرد -أما الوجه المتعدد ففيه الأنواع الثلاثة كما عرفت.
اتلثاني: مما تقدم من الأمثلة تعلم: أن الوجه متى كان حسيا- مفردا كان أو مركبا، أو متعددا، أو كان بعضه حسيا كما في المتعدد- وجب أن يكون الطرفان حسيين أيضا- وذلك لسببين:
أحدهما: أنه لابد من قيام وجه الشبه بالطرفين تحقيقا لمعنى التشارك بينهما والحسي لا يقوم بغير حسي: "فالبياضط مثلا مما يدرك بحاسة البصر فلو جعل مشتركا بين شيئين وجب أن يكونا من المبصريات، حتى يتأتى قيام البياض بهما- كذلك "الملاسة" مما يدرك بحاسة اللمس، فلو جعلت موضع اشتراك بين شيئين. وجب أن يكون من الملموسات، حتى يتأتى قيام الملاسة بهما -وهكذا يقال في سائر المحسات.
ثانيهما: أنه لابد من إدراك الوجه في الطرفين ليتحقق لنا التشارك فيه، والحواس لا تدرك غير المحسات- فحاسة البصر لا تدرك إلا ما كان مبصرا، وحاسة اللمس لا تدرك إلا ما كان ملموسا ... فحاسة البصر لا تدرك إلا ما كان مبصرا، وحاسة اللمس لا تدرك إلا ما كان ملموسا ... وهكذا، ومحال أن تدرك هذه الحواس شيئا من المعقولات، فلا تبصر العين معنى "الكرم"، ولا تلمس اليد معنى الشجاعة، ولا تشم الأنف معنى الحلم، وما إلى ذلك من الأمور العقلية.
كذلك الحال إذا كان بعض الوجه حسيا، وبعضه عقليا كما في الوجه المتعدد -فلابد من قيام كل واحد من ذلك المتعدد بالطرفين، وإدراكه فيهما -كما قلنا- ليتحقق معنى التشارك، ويمتنع بداهة قيام الحسي بالعقلي، أو إدراكه فيه- كما بينا.
أما الوجه العقلي، فيصح على ما تقدم- أن يكون طرفاه عقليين، أو حسيين أومختلفين- فالعقليان كأن تشبه وجود الجاهل بعدمه في الخلو من الفائدة- والحسيان كأن تشبه قوي البأس بالجبل في الثبات- والمختلفان كأن تشبه السيرة(5/46)
الحميدة بأريج المسك في ارتياح النفس لهما -أو العكس كأن تشبه أريج المسك بالسيرة الحميدة في المعنى المذكور- فارطفان في هذه المثل ما بين عقليين أو حسيين أو مختلفين، ووجه الشبه في الجميع عقلي- كما رأيت.
وإنما صح هذا التعميم في الوجه العقلي لجواز قيام المعقول بالمحسوس، كقيام معنى الفصاحة، "بسحبان"، وكقيام معنى الشاعرية "بحسان" -ولجواز أن يدرك العقل أمرا معقولا في شيء محسوس لادراك معنى "الشجاعة" في عنترة، وكادراك معنى "البخل" في مادر ومعنى "العي" في باقل- ومن هنا قالوا: أن التشبيه بالوجه العقلي أعم من التشبيه بالوجه الحسي- وقد عرفت وجهه.
صورة من بديع الوجه المركب الحسي:
الوجه المركب الحسي صور بديعة -وذلك: أنه قد ينتزع الوجه المذكور من هيئة حركة الجسم، أو من هيئة سكونه- والأول ضربان:
1- أن يراعي مع الحركة شيء من أوصاف الجسم كالشكل واللون بحيث ينتزع الوجه من الأمرين جميعا: حركة الجسم، وشيء من أوصافه كما في قول الشاعر:
"والشمس كالمرآة في كف الأشل".
فإن وجه الشبه -على ما سبق- هو الهيئة المنتزعة من الحركة المتصلة مع الاستدارة، والإشراق المتموج المضطرب، بسبب حركة الجسم المذكورة فأنت تراه قد اعتبر مع حركة الجسم شيئا من أوصافه كاستدراته، وأنه ذو شعاع براق متموج، حتى أحدث هذا المنظر العجيب في مرأى العين: من انبساط تارة، وانقبضا أخرى- وأنك لو أنعمت النظر في الشمس لتبينت جرمه مؤديا هذه الهيئة، كما(5/47)
تؤديها المرآة في كف الأشل1- ومثله قول الوزير المهلبي:
والشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب
كأنها بوتقه أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب2
فإن البوتقة إذا أحميت، وذاب فيها الذهب تشكل بشكلها في الاستدارة، وأخذ يتحرك بجملته تلك الحركة العجيبة، فيخيل إليك: أنه ينبسط حتى يوشك أن يفيض من جوانبها لما في طبعه من النعومة، ثم تراه كأنه يعود إلى الانقباض لما بين أجزائه من التماسك والاتصال، ولو نظرت إلى الشمس عند مطلعها لرأيت جرمها على هيئة ما يشاهد في البوتقة المذاب فيها لاذهب- فقد اعتبر هنا كذلك مع حركة الجسم المذكورة وصفه من حيث استدارته، وإشراقه، وقد انتزع الوجه من مجموع الأمرين كالذي قبله.
2- ألايراعي مع الحركة شيء من أوصاف الجسم، فيكون الوجه متتزعا من حركة الجسم وحدها، وولابد لهذاالضرب من وجود حركات كثيرة للجسم غلى جهات مختلفة3 ليتحقق معنى التركيب في الوجه كما في قول ابن المعتز يصف البرق:
__________
1 غير أننا نعلم أن الحركة السريعة في الشمس أمر خيالي لأنا نقطع بأن حركة الشمس ليست على ما نتخيل، وأولا هذا التخيل لرؤيت كالثابتة -بخلاف الحال في المرآة في كفي الأشل فإن الحركة المتصلة فيها أمر حقيقي.
2 "البوتقة" وعاء خاص يذاب فيه الذهب أو الفضة.
3 خرج بذلك حركة الرحى والسهم فلا تركيب فيها لأنها في اتجاه واحد -على أن إذا روعي مع هذه الحركة وصف الجسم من حيث استدارته واستقامته، وانتزع الوجه من المجموع كان مركبا.(5/48)
وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا1
فالمشبه "البرق"، والمشبه به "المصحف"، ووجه الشبه: هيئة مجموع الحركات المختلفة باختلاف الجهات- غير أن هذه الهيئة تحقيقية في المصحف، تخييلية في البرق، إذ لا انفتاح ولا انطباق فيه حقيقة، وإنما هو ظهور يعقبه خفاء، والعكس- إلا أنه يحكي في هذه الحالة: المصحف يفتحه القارئ تارة، ويطبقه أخرى، فهو -كما ترى- لم يعتبر في هذه الهيئة المنتزعة شيئا من أوصاف الجسم. وإنما راعى فقط تلك الحركات المختلفة النواحي عند انفتاح المصحف وانطباقه، وعند ظهور البرق واختفائه- ومثله تمام قول الشاعر:
والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا
هذا -وكلما كان التفاوت في الجهات التي تتحرك أبعاض الجسم إليها أشد كان التركيب في هيئة المتحرك أكثر.
ومن لطيف ذلك قول الأعشى يصف السفين في البحر، تتقاذفها الأمواج، فتضطرب وتتحرك إلى جهات مختلفة:
تقص السفين بجانبيه كما ... يثب الرباح خلاله كرع2
شبه الشاعر: هيئة حركات السفينة حين تتقاذفها الأمواج، فترتفع بها تارة، وتنخفض أخرى، وتضطرب في جهات مختلفة -بهيئة حركات الفصيل في وثباته، فإن له حينئذ حركات متفاوتة، تصير لها أعضاؤه في جهات مختلفة من تسفل وتصعد، على غير نظام وترتيب، وفي سرعة خاطفة، بحيث لا يتبينه الطرف مرتفعا حتى يراه
__________
1 "قار" بحذف الهمزة "والفاء" في قوله "فانطباقا" لتعليل التشبيه المستفاد من "كأن" ولبيان وجه الشبه بين البرق والمصحف.
2 "تقص" أي تثب في وزنه ومعناه و"الرباح" بضم الراء وتخفيف الباء الموحدة وفيها تشديد كرمان ومعناه الناقة، و"الكرع" بالفتح ماء السماء.(5/49)
متسفلا -ووجه الشبه مجموع تلك الحركات المختلفة، والشاعر -كما تراه- لم يراع في هذه الهيئة شيئا من أوصاف الجسم، وإنما نظر فقط إلى هيئة تلك الحركات في اختلافها وتفاوتها.
ومن اللطيف في هذا المعنى أيضا قول الشاعر يصف روضة:
حفت بسرو كالقيان تلحفت ... خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنهما والريح تخطر بينها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل1
تخيل الشاعر هذا النبات، والريح تعبث به، فتميل بعضه إلى بعض، ثم لا يلبث أن يعود إلى طبيعته من الاعتدال -تخيله كأنه جماعة الأحبة تريد أن تتعانق ثم لا تلبث أن يدركها الحياء، فيحول دون هذا العناق، وهو تخيل غاية في البداعة
- والشاهد فيه: أن وجه الشبه في البيت الثاني منتزع من هيئة حركة التهيؤ للدنو بغية العناق. وحركة الرجوع سريعا إلى أصل الافتراق، وتكررها مرة بعد أخرى دون ماعاة شيء آخر من أوصاف الجسم:
ومن هذا الضرب قول امرئ القيس:
مر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل2
يقول: إن هذا الفرس لفرط ما فيه من قوة الدفع، وسرعة الانعطاف
__________
1 "السرو" شجر له رواء ليس له ثمر، "القيان" جمع قينة وهي الجارية -مغنية كانت أو غير مغنية، و"التحلف" اتخاذ الشيء لحافا، و"القوام" القامة.
2 "مكر مفر" صيغتا مبالغة من السكر والفرو "الجلمو هو الصخر فالإضافة بيانية "حطه السيل" قذف به، و"من عل" أي من فوق(5/50)
في إقباله وإدباره -أشبه الأشياء بجلمود صخر دفعه السيل من مكان عال. والحجر بطبعه يطلب جهة السفل، فإذا ما قذفته قوة دافعة، كان له عند سقوطه حركات سريعة، مختلفة الجهات.
والثاني: وهو ن ينتزع الوجه المركب الحسي من هيئة سكون الجسم -ضربان كذلك.
1- أن يراعي مع هيئة السكون شيء من أوصاف الجسم، فيكون الوجه منزعا من مجموع الأمري: سكون الجسم، وشيء من أوصافه كما في قول الشاعر يصف مصلوبا:
كأنه عاشق قد مد صفحته ... يود الوداع إلى توديع مرتحل
أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتمطيه من الكامل1
فوجه الشبه -في البيت الأول- متنزع من هيئة سكون عنق المطلوب وصفحته ويديه حالا امتدادها، مع اصفرار الوجه- فقد روعي مع هيئة السكون المذكورة: اصفرار اللون بالموت، وهو من أوصاف الجسم، وتلك هي حال العاشق الماد عنقه، وصفحته، ويديه مفتوحتين عند توديع معشوقه -ووجه الشبه- في البيت الثاني- منتزع من هيئة السكون السابقة، مع اصفرار الوجه أيضا واسترخاء الجسم- فقد اعتبر مع هيئة السكون المذكورة وصفان من أوصاف الجسم: اصفرار اللون، والاسترخاء، وتلك هي حال القائم من النعاس متمطيا، مواصلا تمطيه، لما به من لوثة الكسل.
__________
1 "الصفحة" باطن الكف أو جانب الوجه، والمراد أحد الأمرين، و"اللوثة" بضم اللام: الاسترخاء والتمطي، وهو ما يحدث عادة عقب الانتباه من النوم: مد الجسم وإطالته.(5/51)
2- ألا يراعي مع هيئة السكون شيء من أوصاف الجسم، فيكون الوجه منتزعا من هيئة السكون وحده -ولا بد في الضرب أيضا من تعدد أفراد هيئة السكون ليتحقق معنى التركيب في الوجه كما في قول المتنبي يصف كلب صيد حال جلوسه
يقعي جلوس البدوى المصطلى ... بأربع مجدولة لم تجدل1
فوجه الشبه منتزع من هيئة مواقع الأعضاء في إقعاء الكلب، وفي جلسة البدوى المصطلى إذ يكون لكل عضو في الإقعاء، وفي الجلوس للاصطلاء موقع خاص، وللمجموع هيئة خاصة مؤلفة من تلك المواقع، ولم يراع في انتزاع الوجه شيء وراء ذلك من أوصاف الجسم- كما ترى- ومنه قول ابن الرومي يصف مصلوبا:
كأن له في الجو حبلا يبوعه ... إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل2
فإن وجه الشبه أيضا منتزع من هيئة مواقع الأعضاء في المصلوب، وفيمن صعد إلى مكان، يقيس بباعه حبلا أثر حبل، دون أن يراعي شيء من أوصاف الجسم.
اختبار:
1- مثل لتشبيهين يكون وجه الشبه في أحدهما مفردا حسيا وفي الآخر مفردا عقليا.
__________
1 "يقعي" من الإقعاء وهو الجلوس على الإليتين، "والمصطلي" المستدفئ بالنار، وقوله: "بأربع" يريد يديه ورجليه ومجدولة" محكمة الخلق، "ولم تجدل" أي لم يجدلها إنسان، والغرض: مدح الكاتب بشدة الحرص.
2 "يبوعه" يقيسه بالباع، وقوله: "إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل" نظير قول الشاعر السابق: "مواصل لنمطيه من الكسل" في الدلالة على استدامه المشبه بالمصلوب لأنه إذا كان يبوع حبلا بعد حبل من غير توقف لم يقبض باعه ولم يرسل يده، وفي ذلك بقاء للمشبه بالمصلوب.(5/52)
2- قد يكون وجه الشبه مركبا حسيا، فما أنواع طرفي التشبيه حينئذ؟ مثل لما تقول، ثم مثل لتشبهين يكون وجه الشبه فيهما عقليا- مركبا ومتعددا أخرى.
3- كيف صح جعل "الحمرة" مثلا وجه شبه في نحو قولك: كالورد مع أن الحمرة هنا معنى جزئي، ووجه الشبه ينبغي أن يكون كليا ليتأنى الاشتراك فيه. وضح ما تقول ومثل.
4- من أي قبيل يكون الوجه المركب من حسي وعقلي كما في تشبيه الحسناء الوضيعة الأصل بخضراء الدمن- أمن قبيل العقل أم الحسي؟ علل ملا تقول:
5- لم أوجبوا في الوجه الحسي أن يكون الطرفان فإن حسيين، ولماذا عمموا في الوجه العقلي، مثل في توجيهك بما يوضح المقام.
6- للوجه المركب الحسي أنواع طريقة، أيت من كل نوع بمثال، مع بيان الوجه والطرفين.(5/53)
التقسيم الرابع:
ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى قسمين- تمثيل، وغير تمثيل.
فالتمثيل -عند جمهور البيانيين ما كان وجه الشبه فيه هيئة مننتزعة من عدة أمور اثنين فما فوق- حسيا كان ذلك الوجه، أو غير حسي.
فالحسي: ما مر من تشبيه مثار النقع، مع الأسياف، بليل تتهاوى كواكبه- وتشبيه الثريا، بعنقود الملاحية حين نور- وتشبيه الشمس، بالمرآة في كف الأشل- وتشبيه البدر في كبد السماء، بدرهم ملقى على ديباجته زرقاء- وغير ذلك من كل ما فيه الوجه صورة منتزعة من أمور حسية.(5/53)
وغير الحسي: ما سبق في تشبيه حال اليهود بحال الحمار. فإن وجه الشبه -كما سبق- هيئة الحرمان من الانتفاع بأبلغ نافع، مع معاناة المشاق في تحمله، وهي صورة مركبة من أمور عقلية -كما ترى- ومثله ما تقدم من تشبيه المستجير بعمرو بالمستجير بالنار، فإن وجه الشبه -كما سلف- هيئة مركبة من أمرين لا يقعان تحت حس: هما الفرار من الضار، والالتجاء إلى ما أشد ضررا، طمعا في الانتفاع به- من ذلك قول المعتز الخليفة العباسي:
اصبر على مضض الحسو ... د فغن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
فقد شبه الشاعر حال الحسودن وقد قتله كمدا صبر الممدوح عليه, وعدم جزعه لما يناله من أذى: بحال النار، يأكل بعضها بعضا إذا لم تجد وقودا- ووجه الشبه: إسراع الفناء لانقطاع ما فيه مدد البقاء، وهو -كما ترى- أمر عقلين منتزع من أمور عقلية، لا تدخل تحت حس:
ومنه قول صالح بن عبد القدوس:
وإن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه
حتى تراه مونقا ناضرا ... بعد الذي أبصرت من يبسه
شبه حال من تؤدبه وقت الصبا، فيثمر فيه التأديب- بحال العود يسقى في غرسه، في إبان سقيه، فيورق، وينضر- ووجه الشبه: الوصول إلى الغاية المرجوة، باستصلاح الشيء وتعهده بالرعاية في الوقت المناسب، وهو- كذلك أمر عقلي منتزع من أمور عقلية1.
__________
1 كون وجه الشبه حسيا أو عقليا إنما هو باعتبار مادته المنتزع هو منها وإلا فإن الهيئة المنتزعة أمر اعتباري دائما إذ لا وجود له خارجا.(5/54)
وغير التمثيل: ما لم يكن وجه الشبه فيه هيئة منتزعة من متعدد: بأن كان أمرا واحدا، أو أمور متعددة، كل منها قائم بذاته.
فالأول: كما تقول: "زلة القلم كزلة القدم في الضرر"، و"العلماء الأتقياء كنجوم السماء في الهداية" وعزيمة الحازم كالسيف الصارم في المضاء، ونحو ذلك: مما يكون وجه الشبه فيه شيئا واحدا، لا تركيب فيه ولا تعدد.
والثاني: كما في تشبيه فاكهة بأخرى في الطعم، والرائحة، واللون، فإن وجه الشبه كل واحد من هذه الثلاثة، لا هيئة مركبة منها.
هذا هو مذهب جمهور البيانيين، فهم -كما عرفت- لا يفرقون في تشبيه التمثيل بين الحسي، وغير الحسي- فالمدار عندهم على أن يكون الوجه هيئة منتزعة من عدة أمور، أيا كان نوعها.(5/55)
التقسيم الخامس:
ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى قسمين: مفصل ومجمل:
فالمفصل: ما صرح فيه بوجه الشبه على صورته الخاصة1، وهي أن يذكر مجرورا بفي، أو منصوبا على التمييز على معنى "في".
فالأول كما في قول ابن الرومي:
يا شبيه البدر في الحسن وفي بعد المنال ... جد فقد تنفجر الصخرة بالماء الزلال
__________
1 بهذا يخرج نحو قولهم: فلان كسحبان يفصح في كلامه، ويده كالبحر تفيض، وألفاظه كالدر فيها حسن فليس ذلك من قبيل المفصل لعدم ذكر الوجه على طريقته من كونه مجرورا بفي أو منصوبا على التمييز -كما مثلنا.(5/55)
والثاني كما في قول أبي بكر الخالدي:
يا شبيه البدر حسنا ... وضياء ومنالا
وشبيه الغصن لينا ... وقواما واعتدالا
أنت مثل الورد لونا ... ونسيما وملالا
فكل هذه المثل من التشبيه المفصل للتصريح فيها بالوجه على نحو ما رأيت: من كونه مجرورا بفي، أو منصوبا على التمييز.
ومن قبيل: التشبيه المفصل ما ذكر فيه ما يستتبع الوجه ويستلزمه كقولهم في تشبيه الكلام السهل، الخفيف على السمع: ألفاظه كالعسل في الحلاوة، أو كالماء في السلاسة، أو كالنسيم في الرقة، فوجه الشبه في الحقيقة لازم الحلاوة، وهو "ميل الطبع، ولازم السلاسة والرقة، وهو "إفادة النفس نشاطا وروحا"- ذلك لأنه المعنى المشترك بين الطرفين- وكقولهم في تشبيه الحجة الواضحة: حجة كالشمس في الإشراق، أو كالصبح في الإسفار، فوجه الشبه في الواقع لازم الإشراق أو الأسفار، وهو "إزالة الحجاب" لأنه المعنى المشترك.
على أنه يجوز أن كيون ما ذكرنا من قبيل ما ذكر فيه الوجه بذاته، لا بما يستلزمه -غاية الأمر أنه متحقق في أحد الطرفين، متخيل في الآخر "فالحلاوة" مثلا هي وجه الشبه بين الكلم العذب والعسل. إلا أنها متحققة في العسل، متخيلة في الألفاظ ... وهكذا يقال في باقي الأمثلة- وقد سبق تقسيم التشبيه باعتبار الوجه إلى تحقيقي وتخييلي، وهذا الرأي عندي أوجه، تقليلا للأقسام بالقدر المستطاع.
والمجمل: ما لم يصرح فيه بوجه الشبه على صورته السابقة- وهو- باعتبار ذلك قسمان:
الأول: ما يكون وجهه ظاهرا، يستوي في إدراكه العامة، والخاصة كما في قولك: شعر عند كالفحم، وقدها كالغصن، ووجهها كالبدر. فأوجه الشبه(5/56)
في هذه المثل غير مصرح بها، ولكنها -مع ذلك- من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى إعمال فكر.
الثاني: ما يكون وجهه خفيا، ولا يدرك ببديهة النظر، بل يحتاج إلى تأمل وتعمل- مثاله: ما روى أن فاطمة بنت لخرشب1 الأنمارية سئلت عن بنيها الأربعة2: أيهم أفضل، فقالت: "هم كالحلقة المفرغة، لا يدري أين طرفاها" تريد: هم في تناسبهم في الشرف والشجاعة، وعدم تفاوتهم فيهما، بحيث يمتنع تعيين أحدهم فاضلا. وأحدهم مفضولا، كالحلقة المتصلة الجوانب، فإن أجزاء متناسبة، يمتنتع تعيين بعضها طرفا، وبعضها وسطا -فوجه الشبه بين الطرفينن هوالتناسب الكلي الخالي عن التفاوت، وهو غير مصرح به في الكلام ولكن أشعر به قولها: "لايدري أين طرفاها" -غير أنه في "المشبه" تناسب في الشرف، وفي "المشبه به" تناسب في صورة الأجزاء، وهو -كما ترى- خفي دقيق، فوق متناول مدارك العامةن ولا يدركه بسهولة إلا من ارتفع منهم إلى طبقة الخاصة.
تنبيه:
من قول فاطمة السابق يتضح: أن التشبيه المجمل لا يخرجه عن إجماله: أن يذكر لأحد الطرفين وصف مشعر بوجه الشبه، فإن قولها: "لا يدري أين طرفاها" وصف للحلقة المفرغة التي هي المشبه به، ولا يصلح أن يكون وجه شبه، لأنه وصف خاص بالحلقة، والوجه إنما يكون وصفا مشتركا بين الطرفين على صورته الخاصة كما عرفت، ولكنه -مع ذلك- مشعر بوجه الشبه الذي هو
__________
1 بضم الخاء والشين.
2 هم ربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظن وأنس الفوارس: سئلت أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة، ثم بدا لها غير هذا فقالت: لا بل فلان، ثم بدا لا غير هذا فقالت: لا بل فلان، ثم قالت في حيرة: ثكلتهم إنعلمت أيهم أفضل هم كالحلقة.. إلخ.(5/57)
"التناسب الكلي" إذ يفهم من عدم دراية الطرفين: معنى التناسب الخالي عن التفاوت ومثله قول النابغة:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فإن وجه الشبه بين الطرفين: هيئة الشيء العظيم، يتلاشى أمامه الشيء الحقيرن وقوله: "إذا طلعت لم يبد منهن كوكب"، وصف خاص بالمشبه به، مشعر بالمعنى المذكور ومثله كذلك قول زياد الأعجم:
فإنا وما تلقى لنا أن هجوتنا1 ... كالبحر مهما تلق في البحر يغرق
يشبه زياد حال قومه، إذ يرميهم المخاطب بالنقيصة، فلا يضرهم ذلك، ولا يظهر فيهم أثر نقص لخطورة شأنهم- يشبه حالهم هذه: بحال البحر العظيم، لا يتأثر بما يلقى فيه من أقذاء ووجه الشبه: هيئة الأمر الخطير، لا ينال منه الحقير، وقوله: "مهما تلقى في البحر يغرق" وصف للمشبه به مشعر بهذا الوجه.
وقد يكون الوصف المشعر بالوجه خاصا بالمشبه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم، بأيهم أقتديتم أهتديتم"، فوجه الشبه في الحديث: "الهداية"، وقد أشعر به قوله: "بأيهم أقتديتم أهتديتم" وهو وصف خاص بالمشبه.
وقد يوصف كل من الطرفين بوصف مشعر بالوجه كما في قول أبي تمام:
صدفت عنه ولم تصدف مواهبه ... عني وعاوده فلم يخب
__________
1 "أن هجرتنا" بفتح همزة "أن" على تقدير بأن هجوتنا أي بسبب هجائك لنا.(5/58)
كالغيث إن جئته وأفاك ريقه ... وإن ترحلت عنه لج في الطلب1
وصف الشاعر الممدوح الذي هو المتشبه بأن عطاياه مغدقة سابغة عليه -أعرض عنه، أو أقبل عليه، ثم وصف الغيث الذي هو المشبه به بأنه يصيب الإنسان- طلبه أو تجنبه- ووجه الشبه: "مطلق الإفاضة في الحالين"2، والوصفان المذكوران مشعران به.
وصفوة القول: أن التشبيه المجمل: هو مالم يذكر فيه وجه الشبه- ظاهرا كان ذلك الوجه أو خفيا- كما بينا- وأن وصف أحد الطرفين، أو كليهما بما يشعر بالوجه -كما رأيت- لا يتنافى مع الإجمال لأن المدار في كون التشبيه مجملا على ألا يذكر وجه الشبه ذاته، ولا ما يستلزمه اهـ.
اختبار:
1- افرق بين التشبيه المفصل والمجمل، ثم اذكر نوعي المجمل، ومثل لكل نوع.
2- من أي قبيل قولهم في تشبيه الكلام الغث: هو كالمعلقم في مرارته، وجه ما تقول.
3- من أي قسمي التشبيه قولك: هو كالغيث، ينتظم خيره البلاد، وكالبدر يهدي ضوؤه المدلجين3 علل لما تقول.
4- أيت بتشبيهين من عندك، تذكر في أحدهما وصفا للمشبه مشعرا بالوجه،
__________
1 "صدفت عنه" أعرضت، وبابه ضرب، ومعنى "لم تصدف مواهبه": لم تنقطع عطاياه، ومعنى "عاوده ظني فلم يخب": عاودته بعد إعراضي عنه طلبا لمعروفه وطمعا في أن يصلني رغم إعراضي عنه فكان عند ظني به -وإذن فنسية المعاودة إلى الظن فيها تجوز، والريق بتشديد الياء المكسورة هو من كل شيء أفضله، "ولج في الطب" ألخ فيه وألحف.
2 أي حالتي الإعراض والإقبال.
3 المدلجون هم السائرون ليلا.(5/59)
وفي الثاني وصفا المشبه به كذلك، مع بيان نوع التشبيه فيهما من حيث الإجمال والتفصيل.(5/60)
التقسيم السادس:
ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى قسمين -قريب مبتذل، وبعيد غريب- ومعنى "قريب": أنه في متناول العامة وغيرهم، ومعنى "مبتذل". أنه متداول بين الناس، ومن هذا التفسير يعلم معنى البعيد الغريب الآتي.
فالقريب المبتذل: ما ينتقل فيه الدهن من المشبه إلى المشبه به، من غير تأمل ونظر، بسبب وضوح وجه الشبه فيهماكتشبيه حسناء الوجه بالقمر، وكتشبيه حسالصوت بالبلبل، وتشبيه الجرئ بالأسد، والكريم بالغيث -فكل واحد من هذه التشبيهات قريب: في متناول العامة، مبتدل: يكثر تداوله لسهولة انتقال الذهن فيه من المشبه إلى به، بسبب وضوح الوجه بين الطرفين: ذلك: أن المشبه به في كل ما ذكرنا أعرف الأشياء بالمعنى الذي عقد له التشبيه.
أسباب وضوح وجه الشبه ثلاثة:
أ- أن يكون الوجه شيئا واحدا، لا تعدد فيه، ولا تفصيل كالأمثلة السابقة، فإن وجه الشبه في كل منها واحد، وإدراك الشيء الواحد لا يحتاج لغير ملاحظة واحدة، لهذا كان التشبيه قريبا مبتذلا لانتقال الذهن فيه إلى المشبه به، دون تأمل.
ب- أن يكون في وجه الشبه شيء من التفصيلن يحتاج إلى تعدد الملاحظة -غير أنه يكثر حضور صورة المشبه به في الذهن عند استحضار صورة المشبه لما بين الصورتين من شدة التناسب- كأن تشبه العنب بالبرقوق في حجمه، وشكله، ولونه ففي الوجه تفصيل ما، إذ لوحظ فيه هذه الأمور الثلاثة: الحجم. والشكل. واللون. وهذا يقتضي شيئا من غرابة(5/60)
التشبيه وبعده -لكن عارض ذلك ما يقتضي قربه وابتذاله، وهو سرعة حضور صورة "البرقوق" في الذهن عند استحضار صورة "العنب" لما بينهما من شدة التجانس المقتضى لسرعة الانتقال، فلا أثر للتفصيل في وجه الشبه مع قوة هذا التجاس.
جـ- أن يكون في الوجه شيء من التفصيل كسابقه، يحتاج إلى تعدد الملاحظة- غير أنه يكثر حضور صورة المشبه به في الذهن مطلقا، أي لا يقيد استحضار صورة المشبه، وذلك لكثرة مشاهدة صورة المشبه به، وتكررها على الحس- فإن المشاهد كثيرا ما يكثر خطورة بالبال عادة. وبذلك يسهل الانتقال إليه عند إرادة التشبيه- ومن هنا كان التشبيه قريبا مبتدلا، كما في تشبيه إنسان جميل: بالقمر في الرفعة والهداية- وكتشبيه المرآة المجلوة: بالشمس في "الاستدارة والاستنارة-" ففي وجه الشبه- في المثالين- شيء من التفصيل، إذ لوحظ في كل منهما أمران- "الرفعة والهداية" في الأول، والاستدارة والاستنارة "في الثاني- وهذا يقتضي شيئا من غرابة التشبيه وبعده- لكن عارض ذلك ما جعله قريبا مبتذلا. وهو سرعة حضور صورة المشبه به في الذهن لكثرة النظر إليها ومشاهدتها وليس من شك: أن صورتي الشمس والقمر مما يتوارد على النظر كثيرا.
والبعيد الغريب: ما لا ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به إلا بعد إعمال فكر وطول تأمل، بسبب خفاء وجه الشبه فيهما.
وأسباب خفاء وجه الشبه ثلاثة أيضا:
أ- أن يكون في وجه الشبه تفصيل يحتاج إلى كثرة الملاحظات والاعتبارات كما في شبيه الهيئات بعضها ببعض.. كتشبيه هيئة الخال على الخد بالشقيق في قول الشاعر:
لا تعجبوا من خاله في خده ... كل الشقيق بنقطة سوداء1
__________
1 "الخال" شامة في البدن يضرب لونها إلى السواد، وقد توجد على صفحة الخد، والشقيق زهر معروف.(5/61)
فوجه الشبه بين الطرفين هو الهيئة الحاصلة من وجود نقطة مستديرة سوداء، في وسط رقعة مبسوطة حمراء، وفيه من كثرة التفصيل والاعتبارات ما لا يقع في نفس مريد التشبيه إلا بعد روية ونظر -وكغير ذلك مما تقدم في تشبيه هيئة بأخرى، مما لا يقوم بنفس المتكلم إلا بعد أن يتأمل ويتعمل.
ب- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن عند استحضار صورة المشبه لبعد التناسب بين الصورتين كما في تشبيه القمر بالعرجون في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ 1 الْقَدِيمِ} فصورة العرجون في ذتها غير نادرة الحضور في الذهن- ولكنها تندر عند استحضار صورة القمر للبون الشاسع بين الصورتين- فإن القمر مسكنه في السماءن والعرجون في الأرض، والقمر مثال العلو والهداية، والعرجون شيء تافه لا يؤبه له، والقمر من قبيل الكواكب، والعرجون من فصيلة النبات، فشتان ما بين الصورتين، وناء ما بين الطرفين.
من ذلك تشبيه صورة أزهار البنفسج، وهي على سيقانها، بصورة النار في أطراف الكبريت أول شبوبها في قول الشاعر:
ولا زوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت2
__________
1 هو سباطة البلح إذا يبست انحنت وتقوست أشبه شيء بتقوس الهلال.
2 "اللازوردية" بكسر الزاي وفتح الواو وسكون الراء وصف لأزهار النبفسج وهي نسبة إلى الحجر المسمى باللازورد لكونها على لونه فهي نسبة تشبيهية. "وتزهر" من الزهو وهو الكبر، وفي نسبة الكبر إلى البنفسج تجوز "وحمر اليواقيت" من إضافة الصفة للموصوف أي اليواقيت الحمر "وفوق قامات" حال من اسم كأن، "وضعفن بها" انحنين بها لأن ساق البنفسج إذا طالت انحنت لدقتها فكأنها ضعفت عن حمل هذا الزهر، وأوائل النار أي بدء اشتعالها، وإنما قيدت بذلك لأن النار في هذه الحال يضرب لونها إلى الزرقة الشبيهة بلون البنفسج.(5/62)
فكان المناسب للشاعر أن يشبه صورة أزهار البنفسج وهي على سيقانها، بما ينسابها من الأزهار، إذ هو الذي يتبارد إلى الذهن، عند استحضار صورة البنفسج، ولكنه شبهها بصورة النار المذكورة، وهي -في ذاتها- غير نادرة الحضور في الذهن، إذا أنها في متناول عامة الناس، واقعة بين أيديهم وأرجلهم- ولكنها تندر عند استحضار صورة النفسج المذكور، لما بين الصورتين من عدم التجاس، وبعد الموطن- فهذا زهر ندى لطيف، وذاك لهب حار عنيف. وهذا يسكن الخمائل، وذاك يستوطن المنازل، فبعد ما بين الطرفين.
جـ- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن مطلقا، أي لا يقيد حضور صورة المشبه فيه -وذلك لأمور منها:
1- أن يكون المشبه به وهميا، أي من اختراع الوهم، كما في اتشبيه النصال الزرق المسنونة، بأنياب الأعوال في قول الشاعر: "ومسنونو زرق كأنياب اإوال" فإن أنياب الغوال مما لاو وجود له في غغير الوهم.
2- أن يكون المشبه به مركبا خياليان أي من نسج الخيال، كصورةأعلام من ياقوت، منشورة على رماح من زبرجد، في قو لاشاعر السابق، وماشاكله من الهيئات المركبة.
3- أن يندر تكرار المشبة به على الحس، كصورة المرآة في كف الأشل، فقد ينقضي عمر الإنسا، ولا يتفق له أن يرى مرآة في سد شلاهن وفي هذا سبب آخر لغرابة الوجه، هو كثرة التفصي فيه.
معتى التفصيل في الوجه:
اعلم: أن المراد بالتفصيل في وجه الشبه: ما فيه من كثرة الاعتبارات والملاحظات: بأن ينظر فيه إلى أكثر من وصف لشيء واحد، أو لأكثر(5/63)
متعددا كان ذلك الوجه، أو مركبا اعتباريا- وكملا كثر التفصيل في الوالمج كان التشبيه أدخل في باب الغراب، وأبعد عن الابتذال، وكان أدق نسجا وأجمل وقعا، كما تراه في قوله تعالى: "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلنا" الآية. فقد حوت من كمال الدقة، وكثرة التفصيل ما يبهر العقول.
أوجه التفصيل:
يقع التفصيل في وجه الشبه علىوجوه كثيرة، أحراها بالقبول وأولداها بالعتبار. صورتان.
الأولى: أني ؤخذ بعض الأوصافن ويترك بعضها: من كل تشبيه فيه دقة تحتاجغلى مزيد نظر، وفضل ملاحظة- كما في قول امرئ القيس:
حمتل درينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان1
شبه الشاعر سنان الرمح بهلهب ذي سنا، فاعتبر في كل منهماشكله المرخويط الدقيق الطرف، وزرقته السافية، وبريقه، ثم قصد أن ينفي الدخان عن السنا تحقيقا للتشبيه إذ ليس في رأس السنان ما يشبه الدخان- وتحقيق التشبيه على هذه الصورة لا يواتيك ببديهة النظر، بل تراك تحتال له، وتدبر أمره- ومثله قول الشاعر:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب2
__________
1 "الرديني" الرمح منسوبا إلى "ردينة" وهي امرأة اشتهرت بتقويم الرماح "وسنا اللهبط ضوؤه- يشبه سنانه بضوء الهلب.
2 قال الأصمعي- الظبي والبقرة الوحشية إذا كانا حيين فعيونها كلها سوداء فإذا ماتا بدا بياضها فأشبهت الجزع، وهو خرز يماني فيه سواد وبياض تشبه به الأعين، والأرحل جمع رحل وهو مركب للبعير.(5/64)
والشاهد فيه أن الشاعر: نفى التثقيب عن الجزع تحقيقا للتشبيه، وبيانا لتساوي الطرفين في وجه الشبه، لأن الجزع إذا كان مثقبا خالف العيون في الشكل بعض المخالفة، إذ لا ثقوب فيها.
والثانية: أن تؤخذ جميع الأطراف: بأن يعتبر وجودها جميعها في وجه الشبه كما مر نحو قول الشاعر:
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا
فقد اعتبر في كل من الطرفين: الشكل، والمقدار، واللون، والوضع الخاص- ومثله سائر التشبيهات السابقة.
ومن ابلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه قوول ابن المعتز:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جون1
شبه هيئة ظلام الليل، يبدو في ثناياه ضوء الصبح: بهيئة غراب أسود اللون، ذي قوادمن بيض، وإنما روعي أن تكون قوادمه بيضاء لأن تلك القطع م الظلام تقع في حواشيها أطياف من نور، يتخيل منها في مرأى العين شكل قوادم بيض لطائر أسود قائتم السواد، وسر الروعة والجمال في هذه التشبيه: أنهجعل ضوء الصبح -لقوة ظهوره، ودفعه للظلام- كأنه يحفز الدجى، ويستعجلها، ولا يرضى منها أن تتمهل في حركتها، ولما راعى ذلك في التشبيه ابتداء راعاه آخر؟، حيث قال: "نطير غرابا" ليفيد معنى لاسرعة- لأن الطائر إذا كان حاطا في مكان، فأزعج وأطير منه كان ذلك -لا محالة- أسرع لطيرانه، وأدعى لأن يمعن في الطيران، إلى حيث لاتراه العيون- بخلاف ما إذا طار عن اختيار، فقد يجوز أن يبطئ في طيرانه، وليس هذا المعنى مرادا.
__________
1 "القودام" أوائل ريش الطائر، "والجون" بالضم جمع جون بالفتح يطلق على الأبيض والأسود، والمراد هنا الأبيض.(5/65)
تنبيهان:
الأول: اعلم أن التشبيه البليغ1 هو ما كان بعيدا غريبا2 كما في تشبيهات الهيئات المنتزعة من أمور متعددة على ما عرفت- سواء كان الوجه مركبا من أمور كثيرة أو لا، وسواء ذكرت الأداء أو لا. لما هو مركوز في الطباع: من أن الشيء إذا نيل بعد احتيال له ومعاناة التوسل إليه. كان نيله أحلى، وموقعه في النفس ألذ وأشهى- ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف موقعه، ودق موضعه ببرد الماء على الظمأ. قال القطامي:
وهن ينبذن من قول يصبن به ... وقع الماء من ذي الغلة الصادي3
قالوا: وما أشبه هذا الضرب بالجوهر في الصدق، لا يبرز إليك إلا أن تشقه عنه، أو بالجيب المتحجب، لا يريك وجهه حتى تستأذن، وقديما قالوا:
وزاده كلفا4 في الحب أن منعت ... رحب شيء غلى الإنسان ما منعا
أما إطلاق البليغ على التشبيه المحذوف منه الأداة إطلاقا شائعا، فهو اصطلاح لبعضهم، وإلا فهو يسمى "تشبيها مؤكدا" لما فيه من دعوى اتحاد الطرفين، مجمل أحدهما على الآخر. على ما سيأتي:
__________
1 المراد بالبليغ هنا: ما يتخاطب به الخواص من البلغاء لما فيه من دقة التركيب ولطف المعنى.
2 قد يقال أن الغرابة منشؤها خفاء الوجه -كما علمت فكيف يكون خفاؤه سببا في بلاغة التشبيه مع أنهه تقدم أن عدم ظهور المعنى ضرب من التعقيد، وهو ينافي البلاغة،- ويجاب بأن الخفاء الموجب للتعقيد ما كان منشؤه سوء التركيب، أما هنا فمنشؤه لطف المعنى ودقته.
3 "ينبذن" يرمين" والغلة" حرارة العطش "والصادي" العطشانز
4 هو بالتحريك شدة الولع بالشيء.(5/66)
الثاني: قد يتصرف الحاذق بصنعة الكلام في التشبيه المبتذل، بما يجعله غريبا ممتنعا، لا ترتقي إليه مدارك العامة- كما في قو لاملتنبي، من قصيدة يمدح بهاهارون ابن عبد العزيز الأدراجي:
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء
يريد الشاعر: أن يشبه وجه الممدوح بالشمس في الإشراق. ومثل هذا التشبيه مطروق مبتذل، يستوي فيه العامة الخاصة لوضوح وجه الشبه، وعدم توقفه على نظر- غير أن حديث "الحياء"، وما فيه من الدقة والحسن: من حيث إفادته: المبالغة في وصف الممدوح بوضاءة الوجه، وأنه أعظم إشراقا من الشمس أخرج التشبيه عن ابتذاله، وكساه صورة رائعة، تستوقف النظر، وتستثير الإعجاب- ذلك: أنه نزل الشمس منزلة من يرى ويستحي، فادعى أنها حين تلقى وجه الممدوح لا تلقاه إلا بوجه منزوع منه الحياء، أي وكان ينبغي حين إذ تلقاه أن تتوارى منه خجلا، ومثل هذا التصرف يقتضي أن يكون وجه الممدوح أكمل وأتم إشراقا من الشمس- وشبيه بقول المتنبي قول الآخر:
إن السحاب إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها1
لا شك أن تشبيه الندى بالسحاب في الفيض مبتذل، في متناول العامة، لكن حديث الاستحياء، وتنزيل السحاب منزلة من ينظر ويستحي خرج بهذا التشبيه عن ابتذاله إلى مستوى رفيع، على نحو ما قلنا في البيت السابق.
ومن ذلك قول رشيد الدين:
عزماته مثل النجوم ثواقبا ... لو لم يكن للثاقبات أقول2
__________
1 "قاسته بما فيها" أي شبهته، ويريد بما فيها: المطر.
2 "عزماته" جمع عزمة، وهي التصميم في الغرادةن و"ثواقبا" حال من النجوم وهي النوافذ في الظلمات بإشراقها، وسمي لمعان النجوم ثقوبا لظهورها من وراء الظلمة وكأنها ثقبتا "والأفول" الغروب: وجواب الشرط محذوف تقديره لكانت عزماته مثلها(5/67)
ذلك: أن تشبيه العزم بالنجم في الثقوبن وهو النفوذ: قريب مبتذل لوضوح وجه الشبه، وعدم حاجته إلى توقف- لكن وصف الأفول، وعروضه للثاقبات، دون العزمات، وما في ذلك من الدلالة على أن المشبه أتم من المشبه بهن في وجه الشبه، أبرز التشبيه في صورة ممتنعة، وكساه خيالا رائعا- ويسمى هذا النوع:
التشبيه المشروط: أي المقيد بشرط. كأن تقول هذا الشيء كهذا الشيء لو كان على صفة كذا، أو لولا أنه على صفه كذا.
والتقييد: بالشرط إما أن يكون في المشبه به، أو في المشبه، أو في كليها- والشرط إما أن يكون وجوديا أو عدميا1.
فمثال تقييد المشبه به. ما سبق في تشبيه العزمات بالنجوم في قول الشاعر السابق، فقد قيد المشبه به بعدم الأقول، إذ لا يتم التشبيه بدونه، وكأنه يقول: عزماته مثل النجوم لولا ما يعرض لها من أفول -وكقولك: وجه فلان كالمش لولا ما يعتريها من كسوف، أوم ثل مالقمر لولا ما يعرض له من خسوف.
ومثال تقييد المشبه قول البديع السابق:
يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والبدر لو لم يغب والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد2 والبحر لو عذبا
فالمشبه به هو الممدوح، وقد شبه به كل من صوب الغيث، والبرد والشمس والبحر مقرونا كل مها بقيد أولاه لتم التشبيه.
ومثال تقييد الطرفين معا قولك: عباس في علمه بالأمور- إذا كان يقظا كعلى في علمه بها- إذا كان غافلا.
__________
1 المراد بالعدمي: ما دخل عليه حرف النفي.
2 بالبناء للمفعول.(5/68)
ومن هذا النوع: ما يسمى: تشبيه التفضيل، وهو أن يشبه المتكلم شيئا بشيء ثم يرجع فيفضل المشبه على المشبه به كما في قول اشاعر:
حسبت جماله بدرا منيرا ... وأين البدر من ذاك الجمال؟
وكقول الآخر:
من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شكلين1
أنت إذ جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين
ومنه نوع: يطلقون عليه: تشبيه التشكيك كما في قول الشاعر:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكن أم ليلى من البشر2
فقد وضع الشاعر نفسه موضع من أشكل عليه الأمر، فلم يدر من أي الجنسين ليلاهن مبالغة في دعوى المساواة- إلى غير ذلبك من أنواع التصرف في التشبيه المبتذل بما يخرجه عن ابتذاله، ويكسوه ثوبا من الجمال، ويبرزه في حالة رائعة من الحسن تستثير إعجابك.
ومن روائع التشبيه قول البحتري يصف امرأة:
في طلعة البدر شيء من محاسنها ... وللقضيب نصيب من تثنيها2
يقول: إن ما نراه في طلعة البدر من روعة وجمال، وما نشاهده في الغصن من تكسر وانثناه- كلاهما بعض ما وهبته هذه المرأة، من آيات الحسن والبهاء ومنه قول ابن بابك.
__________
1 "الجدوى" العطاء. "2 القاع" الأرض المستوية.
3 "القضيب" الغصن، "والتثمي"التميل.(5/69)
ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى ... نسيمك مسروق وصفك منتحل
حكيت أبا سعد فنشرك نشره ... ولكن له صدق الهوى ولك الملل1
ومن أبدع ما قيل في هذا الباب، قول ابن نبانة في وصف فرس أبلق أغر:
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
شبه أولا جبين الفرس بالصبح في البيضا والإشراق، ثم شبه ثانيا قوائم الفرس بالصبح في هذا المعنى، وهما تشبيهان -كما ترى- من النوع الساذج المبتذل- غير أن حيث لطم الصبح للجبين اعتداء. ثم خوض الفرس في أحشاء الصبح انتقاما جعلهما من الممتنع، البعيد المنال -والتشبيه في كلهيما ضمني- ذلك: أن لطمة الصبح لجبين الفرس تركت فيه أثر البياض- كما علق هذا الأثر بقوائم الفرس، حينما خاض في أحشاء الصبح- وهذا يفيد تشبيه كل من جبين الفرس وقوائمه بالصبح في بياضه وإشراقه، ولكن في معرض ساحر خلاب.
اختبار:
1- من أي أنواع التشبيه قول الشاعر:
وكأن النجوم بين دجاه ... سنن لاح بينهن ابتداع
ثم بين وجه الشبه فيه، وكيف صح تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين
__________
1 "الحزن" بفتح الحاء وسكون الزاء ما غلظ من الأرضن "والأبرق" مثله، مع مايقع فيه من حجارة، ورمل وطين، "منتحل" اسم مفعول من انتحل كذا، ادعاه لنفسه، وهو لغيره، و"النشر" الرائحة الطيبة، "والملل" السأم- يريد: أنه سريع الزوال.(5/70)
الابتداع، مع أن تشبيه المحسوس بالمعقول قلب للأوضاع، وهل لذلك من نكتة؟
2- شاع قولهم في الجبان: هو أسد، وفي العي هو سحبان، فما وجه الشبه بين الطرفين وجه ما تقول واشرحه شرحا وافيا- وهلا كان وجه الشبه هو "التضاد- علل لما تقول تعليلا واضحا:
3- من أي أنواع التشبيه قول الشاعر:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوه أقشعت وتجلت
وهلا صح انتزاع الوجه من الشطر الأول من البيت؟ وجه ما تقول.
4- بين الفرق بين التشبيه القريب المبتذل، والبعيد الغريب، مع بيان سبب قرب الأول، وابتذاله÷ وسبب بعد الثاني وغرابته، مع التمثيل، ثم بين من أي الأنواع التشبيه البليغ وجه ما تقول.
5- بين معنى التفصيل في الوجه، وأشهر أنواع التفصيل فيه، مع التمثيل، ومع بيان وجه التصرف البلاغي في قول الشاعر:
لم تلق هذا الوجه شمس نهارها ... إلا بوجه ليس فيه حياء
تمرينات منوعة:
1- بين وجه الشبه: ونوع قيامه بكل من الطرفين من حيث تحققه، أو تخيله، أو ادعاؤهه فيمايأتي: قلب التقى كثوبه الناصع. باقل كسحبان. الحياة كسحابة صيف
- قال الشاعر:
فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا(5/71)
2- أيت بتشبيهات أربعة فيها الوجه مركب -إما مع طرفين مركبين كذلك، أو مفردين مقيدين، أو مختلفين.
3- مثل لتشبيهين مبتذلين، تصرف فيهما بما أخرجهما إلى الغرابة، ثم بين نوع هذين التشبيهين من حيث التركيب والإفراد.
4- مثل لما يأتي: تشبيه مركب الوجه انتزعت أجزاؤه من حركة الجسم دون وصفه. تشبيه تمثيل على رأي الجمهور، تشبيه بعيد، وآخر مبتذل، تشبيه مركب الوجه، انتزعت أجزاؤه من سكون الجسم وحده، تشبيه وجهه مركب خيالي في أحد طرفيه، تشبيه مشروط.
5- بين نوع التشبيه في البيت الآتي من حيث تفصيله وإجماله:
كشفي مقص تجمعتما ... على غير شيء سوى التفرقة
6- كون من الألفاظ الآتية تشبيهات مفصلة، وأخرى مجملة: الماء الزلال نسيم الرياضن ضوء القمر. شباة الحسام. الزهرة الباسمة. السيل الدافق.
7- بين طرفي التشبيه ووجه الشبه فيما يأتي من الأبيات:
وكأن الهلال نون لجين ... رسمت في صحيفة زرقاء
وما الموت إلا سارق دق شخصه ... يصول بلا كف ويسعى بلا رجل
كأن سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفى أسود يتبسم
فسواد رأسك والبياض كأنه ... ليل تدب نجومه وتسير(5/72)
مبحث أدوات التشبيه
مدخل
...
مبحث أداة التشبيه:
الأداة لفظ يدل على معنى التشبيه كالكاف1 قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} ونحو: "عزمة محمد كالسيف مضاء، وطبعه كالنسيم لطفا".
ومثل الكاف: كل ما يفيد معنى المماثلة -حرفا كان، أو اسما، أو فعلا كلفظ "كأن" حرفا، نحو قوله: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة} و"كمثل وشبه" اسمين نحو قول الشاعر:
والوجه مثل الصبح مبيض ... والفرع شبه الليل مسود
صنوان لما استجمعا حسنا ... والضد يظهر حسنه الضد
وكالفعل الدال على معنى التشبيه -ماضيا كان أو مضارعا، كماثل يماثل، وشابه يشابه، وحاكى يحاكي- وكالوصف المشتق المفيد لهذا المعنى، كمماثل ومشابه، ومحاك. تقول: سعدي ما ثلت البدر إشراقا، وبشرتها تماثل الحرير نعومة، ومحمد حاكي السحاب فيضا، وهو يحاكي النجم علوا- وتقول: ليلى مماثلة البدر في بهائه، ومشاهبة الغصن في تثنيه، ومحاكية الحرير في ملاسته2- ومن أدوات التشبيه "سيان وسوءا"- تقول: خالد والأسد سيان، ووجهه والبدر سواء.
والأصل في الكاف: ونحوها من كل ما يدخل على المفرد كمثل، وشبه ونحو: أن يليها المشبه به كما مثلنا- وقد يليها غير المشبه به بشرطين:
__________
1 هي الأصل في الدلالة على التشبيه.
2 قال بعضهم إن المتبادر أن هذه المشتقات تفيد الإخبار بمعناها، فقولك محمد يشابه عمرا أو مشابه عمرا أو محاكيه إخبار بالمشابهة كما تقول: محمد يقوم أو قائم وليس هناك أداة داخلة على المشبه به. فعدما من أدوات التشبيه لا يخلو عن مسامحة.(5/73)
1- أن يكون المشبه به هيئة منتزعة من أمور، لم يعبر عنه بمفرد دال عليها كلفظ "مثل" أو لفظ "حال"1.
2 أن يذكر بعد الكاف ونحوها بعض هذه الأمور التي انتزعت منها تلك الهيئة- مثال ذلك قول الله سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} - فليس الغرض: تشبيه حال الدنيا "بالماء" حتى تكون الآية مما ولي فيه المشبه به كاف التشبيه. بل المراد. تشبيه حال الدنيا في نضارتها وغضارتها، وما يعقب ذلك من زوال متاعها، وامحاء ما أضفى عليها من بهجة وبهاء- بحال النبات يغذيه الماء فيخضر وينضر، ثم يورق ويزهر، ثم لا يلبث أن تنطفئ نضرته، وتذبل زهتره، ويتحول النبات النضر البيه إلى هشيم تذروه الرياح كأن لم تكن- ووجه الشبه: مجموع الهيئة الحاصلة من حسن، وبهجة وبهاء، يتلوها تلف، واضمحلال، وفناء -فأنت ترى أن المشبه به لم يل الكاف كما هو الأصل فيها، إذا لا يتأتى فيه ذلك، لأن المعتبر فيه الهيئة الحاصلة من مجموع اكلام المذكور بعد الكاف، دون أن يعبر عنها بمفرد داله عليها- لكن وليها شيء له تعلق بهذه الهيئة، وهو "الماء" إذ هو أحد أجزائها كما هو الشرط.
والأصل في "كأن" الدالة على التشبيه: أن يليها المشبه -عكس الكاف وأخوانها- يقول الله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فضمير النسوة هو المشبه، وما بعده هو المشبه به، ويقول الشاعر:
وكأن الهلال نون لجين ... رسمت في صحيفة زرقاء
ومثل كأن في هذا الحكم كل ماله معمولان من الأفعال، أو الأسماء المشقة المفيدة لمعنى المماثلة.
وتقول: "مائل، أو يمائل خالدا أسدا، وحاكى، أو يحاكي شوقي
__________
1 كما في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} الآية فقد دخلت الكاف على المشبه به وهو لفظ "مثل" الدال على المشبه به المذكور.(5/74)
أبا الطيب وشابه أو يشابه محمد حاتما -فالذي ولي الأفعال في هذه المثل هو المشبه.
وتقول خالد مائل، أو يمائل الأسد، وشوقي حاكي، أو يحاكي أبا الطيب، ومحمد شابه أو يشابه حاتما- وتقول خالد مماثل الأسد، وشوقي محاك أبا الطيب وعلى مشابه حاتما- فالضمائر المستكنة في هذه الأفعال، أو الصفات هي المشبهات، وقد وليتها لأنها فواعل، والفاعل مرتبته التقدم على المفعول- وقد يجري الكلام على خلاف الأصل لقيام قرينة نحو: شابه أسدا على" فيقدم المشبه به لفظا لا معنى.
تنبيهان:
الأول: ما تقدم من كون "كأن" أداة دالة على التشبيه هو الأكثر استعمالا، وقد تستعمل "كأن" عند الظن بثبوت الخبر، من غير قصد إلى التشبيه- سواء كان جامدا، أو مشقا، نحو كأن محمدًا أخوك، وكأنه شجاع.
الثان: قال بعض البيانيين: قد يقوم مقام الأداء في الدلالة على التشبيه فعل غير ما تقدم من الأفعال المشتقة من الممائلة والمشابهة، كما تقول: "أقدم القائد، فوجدته أسدا، وسمعت واعظا، فحسبته سحبان وائل"- غير أن الفعل في المثال الأول يستعمل، حيث يدعى، كمال المماثلة بين الطرفين لأن "وجد" من أفعال اليقين: وأن الفعل في المثال الثاني يستعمل، حين يدعى: ضعف المشابهة بين الطرفين لأن "حسب" ليس فيها أكثر من الإدراك على وجه الظن والرجحان، دون التحقق والتيقن.
ولكن الحق: أن لا دلالة الفعل بنوعيه على التشبيه: بل إن الدال عليه هو عدم صحة الحمل، فنحن نجزم: أن "الأسد" مثلا لا يصح حمله على القائد لتباين الحقيقتين، وأن المعنى لا يستقيم إلا على تقدير أداة التشبيه -سواء(5/75)
ذكر الفعل أولا -غير أن معنى التشبيه مع "وجد" أقوى منه مع "حسب" لدلالة الأول التيقن، دون الثاني- وإذا فالمثالان المذكوران من التشبيه المؤكد وهو ما حذفت منه الأداة على ما سيأتي:(5/76)
تقسيم التشبيه باعتباره الأداة
...
تقسيم التشبيه باعتبار الأداة:
ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى قسمين- مرسل، ومؤكد:
فالمرسل: ذكرت فيه أداة التشبيه لفظا أو تقديرا- فمثال الأول قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} وقولك: ناقضو العهود كالأفاعي، وقولك: الساعي بلا طائل كالناقش على الماء- وقول المعري:
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعادله سبك
ومثال ما قدرت فيه الأداة قولك: سجعه سجع الحمام، ووشيه وشى الطاووس إذا قدرت في نفسك: أنه على معنى "الكاف" وأن المشبه مثل المشبه به. لاعينه- وسمى مرسلا لإرساله عن التأكيد، أي خلوه منه.
والمؤكد: ما تركت فيه الأداة لفظا وتقديرا، أي ترك التصريح بها، وتنوسيت في نظم الكلام أيضا إشعارا -من حيث الظاهر- بأن المشبه هو المشبه به عينه مبالغة، كما تقول: وجهه النهار، وطبعه النسيم، وألفاظه الدر، وعزمه السيف قال المتنبي:
أين أزمعت أيهذا الهمام ... نحن نبت الربا وأنت الغمام
فتترك ذكر الأداء، ولا تقدرها في نفسك، ادعاء منك: أن المشبه هو المشبه به نفسه، لا شيء سواه -ومنه قوله تعالى: "وهي تمر مر السحاب"، يريد -والله أعلم- أن الجبال يوم القيامة، بعد النفخة الأولى تسير في الهواء كالسحاب، تسوقه الرياح، فهو تشبيه مؤكد، تركت فيه الأداة، وتنوسي تقديرها. ليكون المعنى: أن مرور الجبال يوم القيامة هو(5/76)
مرور السحاب بعينه، وهذا المعنى هو ما ينبغي أن يفهم تصويرا للحالة التي ستكون -وإليك قول الحماسي، يصف قوما بالكرم والشجاعة:
هم البحور عطاء حين تسألم ... وفي اللقاء إذا تلقى بهم يهم1
ولو فرض تقدير الأداة فيما ذكرنا من أمثلة التشبيه المؤكد لكان من قبيل التشبيه المرسل، وإذا فكل مثال تركت فيه الأداة يحتمل أن يكون من قبيل التشبيه المؤكد إذا لم تقدر فيه الأداة- وأن يكون من التشبيه المرسل إن قدرت الأداة، مالم تقم قرينة على المراد.
ومن التشبيه المؤكد: ما أضيف فيه المشبه به إلى المشبه2 بعد حذف الأداة، وتقديم المشبه به على المشبه ك ما تقول: "فلان يسترشد بسراج رأيك"، وليس فلان رداء العافية"3- ومنه قول الشاعر: يصف اعتدال الريح وقت الأصيل:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء4
شبه الشاعر الماء بالفضة في بياضها وصفائها، ثم أضاف المشبه به غلى المشبه بعد حذف الأداء، وتناسبها- كما ذكرنا- ومنه كذلك قول الشريف الرضي، يستمطر الرحمة على قبور الموتى:
__________
1 "البهم" بضم الباء واحده بهمة، وهو الشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى لخطورته وقوة بأسه.
2 والإضافة حينئذ بيانية تقتضي الاتحاد في المفهوم.
3 شبه الرأي بالسراج في الاهتداء به كما شبه العافية باللباس في الاشتمال، ثم قدم المشبه به وأضيف إلى المشبه.
4 "تعبث بالغضون" تحركها وتميلها، و"قد جرى" بمعنى ظهر، و"الأصيل" هو الوقت ما بين العصر والغروب، ويعد من أطيب الأوقات، "وذهبه" صفرته بسبب شعاع الشمس وإطلاق الذهب عليه استعارة، و"اللجين الفضة.(5/77)
أرسى النسيم بواديكم ولا برحت ... حوامل المزن في أجدائكم تضع1
شبه الشاعر المزن الممتلئة بالماء: بالحوامل من الحيوان، ثم أضاف المشبه به إلى المشبه كسابقه، وفي التعبير بقوله: "تضع" مع قوله: حوامل "المزن" براعة بارعة في مراعاة التناسب- ومنه قول الشاعر السابق:
أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود
شبه الشاعر الورد بالخدود في حمرته، ثم أضاف المشبه به للمشبه- وسمي التشبيه المتروك فيه الأداء، مؤكدا" لأنه أكد وقرر بدعوى اتحاد الطرفين بحيث، لا يتميز أحدهما عن الآخر في شيء.
اختبار:
1- عرف أداة التشبيه، ومثل من عندك بأداتين من أدواته، يكون وجه الشبه في أحد المثالين حسيا، وفي الآخر عقليا.
2- بين أي الطرفين يلي التشبيه، وما حكم "كأن" التشبيهية في هذا الحكم مثل لما تقول، وهل مما يلي فيه المشبه به كاف التشبيه قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ} الآية؟ وأين المشبه في نحو قولك، خالد مائل الأسد "وخالد مماثل الأسد" بالإضافة.
3- بين الخلاف فيما تستعمل فيه "كأن" مع التمثيل، وهل من قبيل أداة التشبيه، فعلا الوجدان والحسبان، في نحو قولهم، زرت عليا فوجدته بحرا، وسمعته فحسبته قسا؟ ما الفرق بين الفعلين.
__________
1 "أرسى النسيم بواديكم"، بمعنى استقر بها، يصفه بلطف الجو واعتداله، و"المزن" أراد بها السحاب، "والأجداث" جمع بالتحريك القبر، و"تضع بمعنى تهمي وتهطل، وعبر بالوضع مراعاة التناسب وهو محسن بديعي.(5/78)
4- قسم التشبيه باعتبار "الأداء" وعرف كل قسم مع التمثيل، واذكر من أي القسمين قول الشاعر:
ورد الخدود ورمان النهود وأغصان القدود وتصيد السادة الصيدا
5- من أي قسمي التشبيه -المرسل والمؤكد- قولهم: صوته مزمار دواد، وما علة التسمية في كل من القسمين؟(5/79)
تمرينات منوعة:
1- بين أركان التشبيه في الأبيات الآتية، مع بيان نوعه، من حيث التأكيد والإرسال:
1-
وجيش كمثل الليل هولا وهيبة ... وإن زانة ما فيه من أنجم زهر
2-
فوجهك كالنار في ضوئها ... وقلبي كالنار في حرها
3-
إذا ما الرعد زمجر خلت أسدا ... غضابا في السحاب لها زئير
4-
فعلت بنا فعل السماء بأرضه ... خلع الأمير وحقه لم نقضه1
5-
إذا الدولة استكفت به في ملمة ... كفاها فكان السيف والكف والقلبا2
2- انثر الأبيات الآتية، مستعملا أداة تشبيه، غير التي استعملها الشاعر،
__________
1 يقول زانتنا خلع الأمير بوشيها وحسنها كما زينت السماء أرضه بمختلف النبات، ولم نقض حق الثناء عليه.
2 "استكفت" اسنعانت، "والملمة" النازلة يريد. إذا استعانت الدولة به كان سيفا على أعدائها وكان الكف التي تبطش بها، والقلب الذي تجترئ به على اقتحام الأهوال.(5/79)
مع بيان نوع التشبيه، من حيث الإرسال والتأكيد، ومع بيان وجه الشبه.
قال ابن المعتز:
انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الخدسا
كمنجل قد صبغ من فضة ... يحصد من زهر الدجى نرجسا
وقال:
والنجم في الليل البهيم تخاله ... عينا تخالس غفلة الرقباء
والصبح من تحت الظلام كأنه ... شيب بدا في لمة سوداء
3- اجعل كل كلمة مما يأتي مشبهات، في تشبيه تأتي به، وبين الوجه فيها، مع التنويع في الأداء: اللحظة، الشيب. الكملة النافذة. الحق. القلب. الطرف الناعس. الرئم الأغن.
4- اجعل من الكلمات الآتية مشبهات بها، وخالف بين الأداء في كل منها مع بيان الوجه: السيف القاطع. الصبح الأبلج. النار اللاقحة. الجبل الأشم. الماء الزلال. البحر الخضم.
5- اجعل كل صفة من الصفات الآتية وجه شبه، في تشبيه تأتي به، مع بيان الطرفين: البهاء. الدمامة. السرعة. الصفاء. الصمود. الكدر. القسوة الهداية.
6- اجعل كل كلمتين مناسبتين طرفي تشبيه، تكونه. مع بيان وجه الشبه في كل تشبيه: الدرع. النسر. الماء. الثغر. الطائرة. اللؤلؤ. الحجة. الليل. الشمس القمر.(5/80)
جواب التمرين الأول:
تمرينات منوعة:
1- بين طرف التشبيه ونوعه باعتبار الأداة - فيما يأتي:
1-
الخل كمالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء يخفيها مع الكدر
2-
وصبغ شقائق النعمان يحكي ... يواقيتًا نظمن على اقتران1
3-
كأن سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفي أسود يبتسم
4-
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
5-
له خال على صفحات خد ... كنقطة عنبر في صحن مرمر
6-
كم نعمة مرت بنا وكأنها ... فرس يهرول أو نسيم سار
__________
1 "الصبغ" اللون: "وشقائق النعمان" زهر أحمر يشوبه نقط سود، واليواقيت مفرده ياقوته وهي جوهر نفيس صلب شفاف و"نظمن على اقتران" أي اجتمعن في سلك واحد على مقارنة ومماثلة.(5/81)
2- بين طرفي التشبيه ونوعه باعتبار الأداء فيما يأتي من الأبيات:
داوت تواضعا وعلوت مجدا ... فشأناك انخفاض وارتفاع
كذاك الشمس يبعد أن تسامي ... ويدنو للضوء منا والشعاع
لي جار كلانه أليوم في الشكل ... وأما في عجبه فقرات
هو كالماء إن أردت له قبضان ... وإن رمت موردا فسراب(5/82)
مراتب التشبيه:
للتشبيه باعتبار الوجه والأداة -ذكرا، أو تركا- مراتب ثلاث، تتفاوت قوة وضعفا.
فالأولى -وهي عليا المراتب- ما ترك فيها الوجه والأداة جميعا كما يقول الشاعر:
عزماتهم قضب وفيض أكفهم ... سحب وبيض وجوههم أقمار(5/82)
فكل من هذه الشبيهات الثلاثة في البيت، يفيد من قوة المبالغة مالا يفيده غيره مما سنذكره بعد.
وجه ذلك: أنه مشتمل على معنى الاتحاد من الطرفين، من وجهين:
الأول: أن ترك الوجه يفيد، بحسب الظاهر. عموم جهة الإلحاق1 أي أن المشبه في التشبيهات المذكورة، يماثل المشبه به في كافة صفاته إذ لا ترجيح لبعض الأوصاف على بعض، عند ترك التصريح بالوجه- فالتشبيه الأخير مثلا من البيت، يفيد مماثلة الوجوه البيض، للأقمار في كافة صفاتها من البياض والإشراق، والاستدارة ما إلى ذلك من أوصاف القمر، من غير ترجيح لبعض الأوصاف، وهذا من غير شك يقوى معنى الاتحاد بين الطرفين، وهو مناط المبالغة- بخلاف ما لو ذكر الوجه لفظ، أو تقديرا: فقيل: "وجوهم أقمار في الإشراق" مثلا، فإنه يفيد: أن الوجوه تماثل الأقمار في وصف "الأشراق فقط، دون سائر الصفات فتضعف بذلك دعوى الاتحاد.
الثاني: أن ترك الأداة يفيد -بحسب الظاهر أيضا: أن المشبه به في المثال المذكور محمودل على المشبه2، والحمل يقتضي اتحادهما معنى، أي أن يكون المشبه هو المشبه به عينه، وليس شيئا سواه، وإلا ما صح الحمل فيهما لامتناع حمل أحد المتباينين على الآخر- بخلاف ما لو ذكرت الأداة لفظا، أو تقديرا، فقيل مثلا: وجوههم كالأقمار، فإنه يفيد أن "الوجوه" غير "الأقمار" وهذا يضعف دعوى الاتحاد بين الطرفين.
فترك الوجه والأداة إذن، يفيد معنى الاتحاد بين الطرفين من جهتين -كما بينا-
__________
1 إنما كانت إفادته العموم بحسب لأن الوجه في الحقيقة وصف خاص قصد اشتراك الطرفين فيه "كالمضاء" مثلا في التشبيه الأول من البيت "بين العزمات والقضب" التي هي السيوف.
2 إنما كان بحسب الظاهر أيضا لأنه في الحقيقة لا حمل بين حقيقتين مختلفتين، وإنما هو تشبيه أحدهما بالآخر.(5/83)
لهذا كان التشبيه عند تركهما في المرتبة الأولى1.
والمرتبة الثانية -وهي الوسطى- ما ترك فيها ذكر أحدهما- الوجه أو الأداة- كما تقول في المثال المذكور: "وجوههم كالأقمار" أو "وجوههم أقمار في الإشراق" فقد ترك "الوجه" في الأول، "والأداء" في الثاني- وإنما كان التشبيه في هاتين الصورتين في المرتبة الوسطى لاشتماله على معنى الاتحاد بين الطرفين من جهة واحدة، أي من جهة عموم الإلحاق كما في صورة ترك الوجه، أو من جهة حمل أحد الطرفين على الآخر -كما في صورة ترك الأداة.
غير أنه قيل: إن الصورة الثانية، وهي ما ترك فيها الأداة، دون الوجه أقوى مبالغة من الصورة التي ترك وجه الشبه، دون الأداة لظهور حمل أحد الطرفين على الآخر، المقتضى للتماثل التام بينهما -بخلاف الصورة الأولى التي ترك فيها الوجه، فإن عموم جهة التمثيل، مع وجود ما يقتضي التباين، وهو "الأداء"ن يضعف دعوى الاتحاد- فضلا عن أن المتروك يحتمل الخصوص.
والمرتبة- وهي المرتبة الدنيا: ما ذكر فيها الوجه والأداة جميعا، عكس الأولى كما تقول: "وجوهم كالأقمار في الإشراق"- وإنما كانت هذه المرتبة دنيا المراتب الثلاث، لخلو التشبيه فيها عن دعوى الاتحاد التي هي مناط المبالغة فيه.
تنبيه:
اعلم: أن وصف التشبه بالعلو، أو التوسط، أو الانحطاط فرع عن تحققه، وهو إنما يتحقق بالطرفين، فلا بد إذن من ذكرهما -أما المشبه به فلأنه الأصل المقيس به -وأما المشبه فلأنه الفرع المقيس- غير أنه يجوز ترك المشبه لفظا
__________
1 إنما عبر بالترك في جانب حذف الوجه والأداة لأن معناه: عدم الذكر لفظا وتقديرا وهذا هو المراد لأن مدار المبالغة على دعوى الاتحاد، وهي لا تجامع التقدير في نظم الكلام.(5/84)
فقط إذا دلت عليه قرينة -كأن يكون بينك وبين مخاطبك مذاكرة في شأن إنسان معين، فتقول له: وما شأنه؟ فيقول: "بحر" على تقدير: "هو بحر" فلا يذكر المشبه لدلالة الكلام السابق عليه -لكن لابد من تقديره في نظم الكلام، وإلا كان استعارة لا تشبيها -على ما سيأتي اهـ.
اختبار:
تمرينات منوعة:
1- بين أركان التشبيه، في البيتين الآتيين:
كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل1
إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع
2- تكلم عن كل ما يتعلق بالتشبيه في البيت الآتي:
العلم في الصدر مثل الشمس في الفلك ... والعقل للمرء مثل التاج للملك
3- بين وجه الشبه، ونوع التشبيه باعتباره في البيتين الآتيين:
ما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يوافي تمام الشهر ثم يغيب
طلق شديد البأس راحته ... كالبحر فيه النفع والضرر
4- بين ما في هذه الأبيات "من تشبيه" مع بيان نوعه:
1-
نشرت إلى غدائرا من شعرها ... حذر الكواشح والعدو الموبق
__________
1 كفة الحابل، بضم الكاف شبكة الصياد.(5/85)
فكأنني وكأنها وكأنه ... صبحان باتا تحت ليل مطبق1
2-
لدى نرجس غضن القطاف كأنه ... إذا ما منحناه العيون عيون
3-
أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود
4-
لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا ... فالطير يرقص مذبوحا من الألم
5-
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
جواب التمرين الرابع:
1- شبه هيئة اجتماعه بها وقد انسدل الشعر عليهما: بهيئة اجتماع صبحين انضويا تحت ليل حالك. ووجه الشبه: هيئة الشيء الأسود ينطي على شيئين يخالفانه لونا، وهو تشبيه تمثيل لجريانه في الهيئات، ومجمل لعدم التصريح بالوجه، وغريب لخفاء الوجه، لما فيه من الدقة التركيبية.
2- شبه النرجس، وهو مفرد حسي بالعيون، وهو مفرد حسي كذلك ووجه الشبه ما في كل من بياض يتوسطه سواد، وهو مجمل لعدم ذكر الوجه.
3- شبه هيئة الأقحوان، وهو يعانق الشقيق: بهيئة الثغور تعض الخدود، ووجه الشبه هيئة شيء ذي بياض يخالط شيئا يضرب لونه إلى الحمرة، وهو تشبيه تمثيل لجريانه في الهيئات، ومجمل لعدم التصريح بالوجه، وغريب
__________
1 "الكواشح" جمع كاشح، هو الذي يضمر لك العداوة، وقد جمع على كواشح كفارس وفوارس، و"الموبق" الملك و"الليل المطبق" شديد الظلام.(5/86)
لخفاء الوجه -وفي "ورد الخدود" تشبيه مؤكد من إضافة المشبه به المشبه.
4- شبه هيئة المتألم يضطرب من شدة الألم. بهيئة الحيوان الذبيح يضطرب كالراقص لشدة ما يعانيه من آلام الذبح، ووجه الشبه هيئة المتألم المضطرب، وهو تشبيه تمثيل، ومجمل غريبن والتشبيه فيه ضمني لا صريح.
5- شبه حال من بغداد الهوان فيقبله، ولا يتألم له: بحال ميت يوخز بالأسنة فلا يحس ألما، ولا يشكو وجعا ووجه الشبه عدم التأثر مما ينبغي التأثر منه. وهو تشبيه تمثيل. ومجمل غريب، والتشبيه أيضا ضمني، أخذ مضمون الكلام.(5/87)
مبحث الحقيقة والمجاز
مدخل
...
مبحث الحقيقة والمجاز 1:
اعلم: أن المقصود الأصلي من علم البيان هو "المجاز" إذ هو الذي يتأتى فيه اختلاف الطرق في وضوح الدلالة على المعنى المراد -أما الحقيقة فلا يتأتى فيها ذلك لأنها إنما وضعت لشيء بعينه لتستعمل فيه، فإن كان السامع عالما بالوضع فلا تفاوت، وإلا لم يفهم شيئا أصلا لتوقف الفهم على العلم بالوضع.
غير أنه لماكانت الحقيقة بمثابة الأصل2 للمجاز: من حيث إن الاستعمال في غير ما وضع له اللفظ فرع الاستعمال فيما وضع له: جرت العادة بالبحث عن الحقيقة أولا. وإليك بيان:
__________
1 قد يقيدان باللغويين لإخراج الحقيقة والمجاز العقليين، والأكثر عدم التقييد لأنهما عند الإطلاق لا ينصرفان لغير اللغويين- بخلاف الحقيقة والمجاز العقليين فقد اصطلحوا على وجوب تقيدهما بهذا القيد.
2 إنما قتلنا ذلك إشارة إلى أنها ليست أصلا للمجاز حقيقةن وإلا كان لكل مجاز حقيقة وليس كذلك فإن لفظ "الرحمن" قد استعمل من أول الأمر في "المنعم" مجازا، ولم يسبق له استعمال في المعنى الحقيقي الذي هو رقيق القلب فهو إذا مجاز لم يتفرع عن حقيقة.(5/87)
الحقيقة:
تعريفها: هي -في إصطلاح البيانيين1- الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب، أي في الاصطلاح الذي جرى به التخاطب "كالأسد" إذا استعمل في الحيوان المفترس، فهو حقيقة لاستعماله فيما وضع له في كافة الاصطلاحات، "وكالصلاة" إذا استعملها المتكلم بعرف الشرع في "الأركان الخاصة"،- فهي أيضا حيقيقة لاستعمالها فيما وضعت له في اصطلاح أهل الشرع -و"كالصلاة" أيضا إذا استعملها المتكلم بعرف اللغة في "الدعاء" فهي كذلك حقيقة لاستعمالها فيما وضعت له في اصطلاح أرباب اللغة وهكذا.
واعلم: أن بالتعريف قيودا ثلاثة:
1- المستعملة.
2- فيما وضعت له.
3 في اصطلاح التخاطب -وقد جئ بهذه القيود للاحتراز.
أما القيد الأول: قد احترز به عن الكملة قبل الاستعمال، فلا تسمى حقيقة ولا مجازا- لأن الاستعمال هو الذي يعين المعنى المراد من اللفظ.
وأما القيد الثاني: فقد احترز به عن شيئين:
1- الغلط اللساني1، وهو ما استعمل في غير ما وضع له غلطا، كأن تقول
__________
1 وهي في اللغة وصف على زنة "فعيل" إما بمعنى فاعل من حق الشيء إذا ثبت فهو حقيق أي ثابت قال تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون" أي لقد ثبت القول- وإما بمعنى مفعول من حققت الشيء إذا أثبته، فهو حقيق أي مثبت، ثم نقل هذا اللفظ في اصطلاحهم من الوصفية بمعنييها إلى الكلمة المستعملة فيما وضعت له، والتاء فيه للدلالة على نقل الكلمة من الوصفية إلى الإسمية، وليست التاء للتأنيث بدليل صحة أن يقال: هذا اللفظ حقيقة ولو كانت للتأنيث ما صح أن يقال ذلك.
2 أما لاغظ القلبي فهو حقيقة أن كان الاستعمال فيما وضع له بحسب زعم المتكلم ولو أخطأ في قصده كمن قال في شأن حجر رآه عن بعد، هذا طائر معتقدا أنه حيوان ذو جناح(5/88)
لآخر: ناولني هذا الحجب مشيرا إلى كتاب -فمثل هذا لا يسمى "حقيقة" لاستعماله في غير وضع له. ولا يسمى "مجازًا" لعدم وجود علاقة بين معنين الحجر والكتاب.
2- المجاز، وهو ما استعمل في غير ما وضع له في سائر الاصطلاحات "كالأسد" المستعمل في الرجل الجرئ، من قولك: "على الفرس أسد".
وأما القيد الثالث: فقد احترز به عن الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح آخر. غير الاصطلاح الذي جرى به التخاطب "كالصلاة" إذا استعملها المتكلم بعرف الشرع في "الدعاء"- فليست حقيقة لعدم استعمالها فيما وضعت له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب، وهو الشرع، وإن استعملت فيما وضعت له في اصطلاح أهل اللغة -و"كالصلاة" أيضا إذا استعملها المتكلم بعرف اللغة في الأركان الخاصة -فليست حقيقة لعدم استعمالها فيما وضعت له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب، وهو "اللغة" وإن استعملت فيما وضعت له في اصطلاح أهل الشرع.
وإذن فالمدار في الحقيقة على أن تكون الكلمة مستعملة فيما وضعت له عند أهل الاصطلاح الذي جرى به التخاطب بالكلمة المذكورة- وإذا فرغنا من بيان معنى الحقيقة فإليك بيان:
المجاز:
تعريفه -هو- في الاصطلاح1- يختلف معناه باختلافه- إفرادا وتركيبا.
__________
1 وهو في اللغة مصدر ميمي على زنة مفعل بمعنى الجواز والتعدية نقل إلى الكلمة المستعملة في غير ما وضعت به باعتبار أنا جائزة مكانها الأصلي، فيكون المصدر بمعنى اسم الفاعل- أو باعتبار أنها مجوز بها مكانها الأصلي فيكون المصدر بمعنى اسم المفعول- وقيل: هو في اللغة مصدر ميمي بمعنى مكان الجوز والتعدية فهو من جاز المكان سلكه إلى كذا ثم نقل إلى الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له.(5/89)
فالمجاز المفرد: هو الكلمة المستعملة، في غير ما وضعت له، في اصطلاح التخاطب، لعلاقة بين المعنى الموضوعة له، والمعنى المستعملة فيه، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له اللفظ.
والعلاقة: هي المناسبة الخاصة بين المعنى الأصلي، الموضوع له اللفظ، والمعنى المقصود منه- ولابد منها لصحة النقل من المعنى الأصلي إلى المعنى المراد.
والقرينة: هي الأمر الذي يجعله المتكلم دليلا على أنه أراد باللفظ غير المعنى الموضوع له -مثال ذلك لفظ "أسد" المستعمل في الجرئ، في نحو قولك: "على الفرس أسد"، ولفظ "الغيث" المستعمل في "النبات" في نحو قولك: "رعت الماشية الغيث"، ولفظ "الصلاة" المستعمل عند أهل الشرع في الدعاء- فكل من هذه الألفاظ "مجاز مفرد". لأنه كلمة مستعملة في غير المعنى الموضوعة له في اصطلاح التخاطب- والعلاقة بين المعنيين في الأول: مشابهة الرجل للأسد في الجرأة، وفي الثاني: سببية الغيث للنبات، وفي الثالث: الكلية والجزيئة، إذا أن الصلاة كل للدعاء، وهو جزء منها- والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي قولك في المثال الأول: "على الفرس" إذ الحلول فوق الفرس ليس من شأن الحيوان المفترس والقرينة في الثاني قولك: "رعت" إذ أن الغيث لا يرعى- والقرينة في الثالث حالية، وهي كون المستعمل اللفظ "الصلاة" من أرباب الشرع.
وفي هذا التعريف قيود خمسة: 1- المستعملة
2- في غير ما وضعت له
3- في اصطلاح التخاطب
4- لعلاقة
5- مع قرينة مانعة.
أما القيد الأول: فقد احترز به عن الكلمة قبل الاستعمال، "فلا تسمى حقيقة" "كما لا تسمى مجازا"- على ما ذكرنا في تعريف الحقيقة.(5/90)
وأما القيد الثاني: "فقد احترز به عن الحقيقة، وهي الكلمة المستعملة فيما وضعت له "كالأسد" المستعمل في الحيوان المعروف.
وأما القيد الثالث: فقد احترز به عن الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح آخر، غير الاصطلاح الذي وقع به التخاطب "كالصلاة" التي استعملها المتكلم بعرف الشرع في الأركان الخاصة. فليست بمجاز لعدم استعمالها في غير ما وضعت له في اصطلاح أهل الشرع، وإن استعملت في غير ما وضعت له-في اصطلاح أهل اللغة- "وكالصلاة" أيضا إذا استعملها المتكلم بعرف اللغة في "الدعاء"، فليست مجازا كذلك لعدم استعمالها في غير ما وضعت له في اصطلاح أهل الفقة، وإن استعملت في غير ما وضعت في اصطلاح الشرع.
فالمدار: في المجاز حينئذ على أن تكون الكلمة مستعملة في غير ما وضعت له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب بالكلمة المنطوق بها.
وأما القيد الرابع: فقد احترز به عن الغلط اللساني1. وهو ما استعمل في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنيين، من غير تعمد لهذا الاستعمال- كما إذا أشار متكلم إلى حجر، وأراد أن يقول لآخر: خذ هذا الحجر، فسبقه لسانه، فقال: خذ هذا الكتاب- فمثل هذا لا يسمى "مجازا" لأنه- وإن استعمل فيه اللفظ في غير ما وضع له- لا علاقة فيه بين المعنيين.
__________
1 أما الغلط في الاعتقاد -فإن استعمل اللفظ في معناه بحسب اعتقاد المتكلم كأن يقول: انظر إلى هذا الأسد معتقدا أنه الحيوان المعروف فإذا هو فرس- فهو حقيقة لاستعماله في معناه الأصلي حسب اعتقاده وإن لم يصب- وإن استعمل اللفظ في غير معناه الأصلي بحسب اعتقاده كأن يقول: انظر إلى هذا "الأسد" مشيرا إلى حجرا معتقدا أنه رجل شجاع كان مجازا لأنه، مستعمل في غير الحقيقي لعلاقة وإن لم يصب في إثبات العلاقة في المشار إليه- وهذا صح الأقوال، إذا المعول عليه الاعتقاد.(5/91)
ومن هنا يعلم: أن لابد للمجاز من علاقة1، وهي -كما قلنا- مناسبة خاصة بين المعنى الحقيقي، والمعنى المجازي كالمشابهة "أو السببية"، أو الكلية والجزئية- على ما سبق بيانه- غير أنه لا يكفي في المجاز مجرد وجود العلاقة بين المعنيين، بل لابد من اعتبارها وملاحظتها2.
وأما القيد الخامس: فقد احترز به عن الكناية، بناء على القول بأنها واسطة، لا هي حقيقة، ولا مجاز3 فهي اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، مع قرينة غير مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، بحيث تجوز إرادته، مع المعنى الكنائي4.
اختبار:
1- عرف الحقيقة في الاصطلاح، وهل التاء فيها لإفادة معنى التأنيث بين ذلك مع بيان القيود الواردة في التعريف ومحترز كل قيد، مع التمثيل لكل ما تذكرز
2- عرف المجاز في الاصطلاح، وبين القيود الواردة في تعريفه، ومحترز كل قيد، مع التمثيل.
3- بين في مثال من عندك معنى العلاقة والقرينة- وهل يكفي مجرد وجود
__________
1 سميت علاقة لأنه بسببها يتعلق المعنى الثاني بالأول، ويرتبط به فينتقل الذهن حينئذ من المعنى الأول إلى الثاني.
2 المعتبر في العلاقة: نوعها لاشخصها، ولهذا جاز إنشاء المجاز في كلم المولدين فإذا استعمل العرب علاقة خاصة بين معنيين جاز لنا أن نستعمل الربط بينها شيئا آخر غير الذي استعملوه، ولو كان المعتبر شخص العلاقة لتوقف استعمال اللفظ في معناه المجازي على النقل عن العرب، وليس كذلك.
3 أما أنها ليست حقيقة فلأن الحقيقة -كما سبق- اللفظ المستعمل فيما وضع له والكناية ليست كذلك وأما أنها ليست مجازا، فلأنه اشترط فيه القرينة المانعة من إرادة الحقيقة والكناية أيضا ليست كذلك.
4 المراد بجواز إرادة المعنى الحقيقي ألا ينصب المتكلم قرينة على انتقائه- وليس المراد: أن يوجد الحقيقي معها دائما فإنك إذا قلت مثلا: فلان طويل النجاد كناية عن طول قامته صح ذلك وإن لم يكن له نجاد- اللهم إلا إذا قصد المتكلم جعل علم المخاطب بأن لا نجاد له قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي فإنه حينئذ يكون مجازا لا كناية.(5/92)
93- العلاقة، وهل المعتبر فيها نوعها وشخصها، وجه لكل ما تقول، مع التمثيل.(5/93)
تقسيم المجاز المفرد:
قلنا فيما سبق- أن المجاز لا بد له من علاقة تصحح التجوز، وهي- كماسبق: المناسبة الخاصة بين المعنيين- الحقيقي، والمجازي.
وهو ينقسم -باعتبار هذه العلاقة- إلى مجاز مرسل، واستعارة.
فإن كان العلاقة بين المعنيين غير المشابهة- سمي اللفظ مجازا مرسلا، كلفظ "النبات" المستعمل في "الغيث" في نحو قولك: "أمطرت السماء نباتا" فإن العلاقة بين النبات والغيث السببية، إذ أن النبات مسبب عن الغيث.
وإن كانت العلاقة بين المعنيين "المشابهة" سمي اللفظ، "استعارة" كلفظ "القمر" المستعمل في الإنسان الجميل، في نحو قولك "بين بردية القمر" فإن العلاقة بين معنى القمر، والإنسان الجميل، الإنسان المذكور للقمر في الوضاءة والإشراق -وإليك بيان:(5/93)
المجاز المرسل:
وهو ما كانت العلاقة فيه بين المعنيين غير المشابهة -والعلاقة فيه على أنواع شتى- وهاك أشهرها، وأكثرها استعمالا:
1- السببية كما تقول: "رعت الماشية الغيث"، فليس المراد "بالغيث" معناه الحقيقي بقرينة: قولك: رعت" إذ أن الغيث لا يرعى. فالمراد به إذن: "النبات" فلفظ "الغيث" حيئذ مجاز مرسل، علاقته السببية، لأن الغيث سبب في النبات- ومثله قولك: "جلت يدك عندي" "وعمت أياديك الوردى"- فليس المراد: "باليد" في المثالين: معناها الحقيقي الذي هو "الجارحة" بقرينة قوله: "جلت" في المثال الأول، "وعمت" في الثاني، إذ لا معنى لعظم اليد، بمعنى الجارحة، كما أن لا معنى لعمومها -وإنما المراد بها: "النعمة" فاليد في المثالين مجاز مرسل، علاقته السببيه، لأن اليد سبب في وصول النعمة إلى مستحقيها- ومنه قول أبي الطيب المتنبي:(5/93)
له أياد على سابغة ... أعد منها ولا أعددها
يقول: إن الممدوح على نعما شاملة، يعد وجودي منها، ولا أستطيع حصرها ومثال ذلك أيضان قوله تعالى: "يد الله فوق أيديهم" فليس المراد "باليد":معناها الحقيقي، بقرينة استحالة أن لله يدا، ولأنه لا معنى لكون اليد بمعنى "الجارحة، فوقديد أخرى، بل المراد بها: القدرة على معنى: قدرة الله لا تدانيها قدرة-فلفظ اليد في الآية إذن مجاز مرسل، علاقته السببية، لأن أكثر ما يظهر سلطان القدرة في اليد، إذ بها البطش، والضرب، والقطع والدفع، وغير ذلك مما يعتبر أثرا من آثار القدرة.
2- المسببية: كما في قولك: "أمطرت السماء نباتا"، فليس المراد "بالنبات" معناه الحقيقي، بقرينة قوله: "أمطرت"، إذ أن النبات لا يمطر، وإنما المراد به "الغيث"، فالنبات إذن مجاز مرسل، علاقته المسببية، إذ أن النبات مسبب عن الغيث- ومثله قوله تعالى: {يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} أي ماء، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} يريد: مالاحراما فقد عبر في الآية الأولى عن الماء بالرزق، وعبر في الثانية عن المال الحرام، "بالنار مجازا مرسلا، علاقته المسببية، إذا أن الرزق في الأولى مسبب عن الماء، والنار في الثانية مسببة عن أكل المال الحرام، والقرينة في الأولى قوله: "ينزل من السماء لأن أرزاق الناس لا تنزل بذاتها من السماء، والقرينة في الثانية قوله: "يأكلون في بطونهم" لأن النار لا تؤكل في البطون.
3- اللازمية1 كما تقول: "بزغ الضوء" فليس المراد: المعنى الحقيقي للضوء بقرينة لفظ "البزوغ" لأنه وصف لجرم الشمس لا للضوء، "فالضوء" إذن مجاز مرسل يراد به "الشمس" علاقته اللازمية، لأن الضوء لازم للشمس يلزم من وجود الشمس وجود الضوء- ومثله: قولك "نظرت إلى الحرارة فليس المراد بالحرارة: معناه الحقيقي، بقرينة "نظرت" لأن الحرارة لا ترى
__________
1 ليس المراد باللزوم عدم الاحتكاك بل المراد به مطلق ارتباط.(5/94)
بالباصرة، وإنما المراد: النار، ففي "الحرارة" مجاز مرسل علاقته اللازمية، لأن الحرارة توجد حتما عند وجود النار.
4- الملزومية كما تقول: "دخلت الشمس من الكوة"1، فليس المراد من الشمس: المعنى الحقيقي الذي هو الجرم المعروف، بقرينة قوله: "دخلت"، إذ ليس الدخول من صفات الجرم المذكور، وإنما المعنى الحقيقي للشمس ملزوم للضوء، يوجد حتما عند وجودها- ومثله قولك: "ملأت الشمس الغرفة" تريد ملأ الضوء، بقرينة "ملأت".
5- الكلية كما في قوله تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} فليس المراد بالأصابع: معناها الحقيقي، بقرينة استحالة إدخال الأصبع كلها في الأذن عادة، وإذن فالمراد بها "الأنامل" التي هي أطراف الأصابع، "فالأصابع" حينئذ مجاز مرسل، علاقته الكلية، إذ أن الأصابع كل للأنامل- ومثله قولك: "أكلت نبات الأرض، وشربت ماء النيل". فقد أطلق اسم الكل، وهو "النبات أو الماء"، وأريد الجزء، بقرينة "أكلت" في الأول "وشربت" في الثاني لاستحالة أكل الكل، أو شربه.
6- الجزئية كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فليس المراد بالرقبة: الجزء الخاص بها فقط، بدليل "التحرير"، لأنه إنما يكون للذات كلها، لا لجزء منها، إذ أن العنق لا يتجزأ- وإنما المراد بها: الذات كلها، فالرقبة إذن مجاز مرسل، علاقته الجزئية، لأن الرقبة جزء من العبد- ومثله قول الشاعر:
كما بعثنا الجيش حرا ... را وأرسلنا العيونا
فليس المراد بالعيون: حقيقتها بقرينة "أرسلنا" لاستحالة إرسال العيون
__________
1 "الكوة" بفتح الكاف وقد تضم، الفتحة في الحائط.(5/95)
وحدها، وإذن فقد عبر بالعيون عن الجواسيس مجازا مرسلا، علاقته الجزئية، لأن العين جزء من الجاسوس-ومثله كذلك إطلاق القافية على القصيدة، في قول معن بن أوس المزني1 في ابن أخته:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد2 ساعده رماني
وكم علمته نظم القواقي ... فلما قال قافية هجاني
الشاهد في البيت الثاني حيث عبر بالقافية، وأراد: القصدية، بقرينة لفظ "قال" لأن معناه: "نظم"، والنظم إنما يكون للقصائد كما لا يخفى- فلفظ قافية" إذن مجاز مرسل، علاقته الجزئية، إذا أن القافية جزء من القصيدة.
غير أنه يشترط لعلاقة الجزئية- غالبا- أحد أمور ثلاثة:
الأول: أن يكون انتفاء الجزء مستلزما لانتفاء الكل كما في إطلاق الرقبة على الذات، في المثال الأول، إذ ليس من شك: أن إتلاف الرقبة إعدام الذات، فلا يصح حينئذ: إطلاق اليد، أو الرجل، أو الأنف على الذات، مجازا مرسلا علاقته الجزئية، لأنها أجزاء لا يستلزم انتفاؤها انتفاء الذات عادة، ولا نتوقف عليها حياتها.
الثاني: أن يكون للجزء مزيد اختصاص بالمعنى المقصود من الكل، كما في إطلاق العين على الرقيب "في المثال الثاني" فإن المعنى المقصود من الرقيب: هو الاطلاع والتجسس، ولا شك أن للعين مزيد اختصاص في تحقيق هذا الغرض، إذ بانعدامها لا يتحقق معنى الرقابة -فإطلاق "اليد" مثلا على الرقيب مجازا مرسلا لا يجوز، إذ ليس لها مزيد اختصاص بالمعنى المراد من الرقيب.
__________
1 هو شاعر مخضرم يجيد القول في باب الحكم، وفي الشعر الخلقي.
2 يروى بالسين المهملة من التسديد في الرأي الإصابة فيه.(5/96)
الثالث: أن يكون الجزء أشرف بقية الأجزاء كما في إطلاق القافية على القصيدة في "المثال الثالث" إذ لا ريب أن القافية هي الأساس الذي تبنى عليه القصيدة، فهي إذن أشرف التفاعيل، وأولاها بالاعتبار فلا يجوز إطلاق أي جزء آخر من أجزاء البيت على القصيدة مجازا مرسلا. إذ ليس له من الاعتبار ما للقافية، وقد علمت أن هذه الشروط في الحالة الغالبة.
7- الحالية: كما في قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} فليس المراد بالنعيم: معناه الحقيقي الذي هو "معنى المتعة" بقرينة الظرفية، إذ لا معنى لا يحل الإنسان في معنى من المعاني، وإنما المراد به: مكان النعيم أي "الجنة "وإذن فإطلاق النعيم على مكانه مجاز مرسل علاقته الحالية، إذ النعيم حال في الجنة -ومثله قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، أي خذوا لباسكم، فعبر عن اللباس بالزينة مجازا مرسلا" علاقته الحالية، لحلول الزينة في اللباس- والقرينة قوله: "خذوا، لأن الزينة لا تؤخذ- ومنه قوله الشاعر:
ألما على معنى وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا بعد مربع1
يريد: ألما على فبر معن، أي أنزلا به- أطلق اللفظ وأراد المكان، إذ لا معنى لأن يحل إنسان بآخر، خصوصا إذا كان معدوما كما هنا.
8- المحلية: كما في قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} 2 فليس المراد من النادي: معناه الحقيقي الذي هو مكان الاجتماع لقرينة قوله: "فليدع" لاستحالة دعاء الأمكنة وإنما المراد: أهل النادي، وهم نصراؤه وعشيرته- ففي "ناديه" مجاز مرسل علاقته المحلية، إذ أن النادي محل لأهله يجتمعون فيه- ومثله قوله سبحانه: "واسأل أهل القرية" أي أهلها، ففيه كسابقه مجاز مرسل، علاقته المحلية، إذا أن القرية محل ساكنيها وقرينته استحالة سؤال الأماكن والأبنية- ومنه قولهم: أمليت القلم من الدواة، أي
__________
1 "الغوادي" جمع غادية وهي السحابة تمر غدوة، والمربع المنزل والأحسن أن تكون اسما مأخوذا من أربعة والمعنى: سقتك الغوادي أربعة أيام متوالية أثر أربعة أخرى والغرض الدعاء بكثرة السقيا للقبر.
2 نادى القوم مجتمعهم كالمنتدى.(5/97)
من المداد، أطلق اسم المحل وأريد الحال، بقرينة "أمليت"،- ومنه "الصرف المعهد" تريد: طلابه ... وهكذا وكل هذه الأمثلة، وما يماثلها مبني على أحد احتمالين1.
9- الآلية كما في قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} فليس المراد باللسان: معناه الحقيقي الذي هو الجارحة.. بقرينة استحالة بقاء هذه الجارحة فمن يأتي من الأمم بعد، وإنما المراد به: الذكر الصادق، والثناء العاطر، ففي اللسان مجاز مرسل، علاقته الآلية، لأن اللسان بمعنا الحقيقي آلة وواسطة الذكر الحسن- ومثل الآية قول الشاعر: "أتاني لسان منك لا أستسيغه، أي ذكر لا يسر، أطلق عليه اللسان لأنه آلته- ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ، وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِك} - عبر باللسان في الآيتين عن اللغة لأنه آلتها.
10- اعتبار ما كان كما في قوله تعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى 2 أَمْوَالَهُمْ} فليس المراد باليتامى: المعنى الحقيقي، بدليل الأمر بدفع الأموال إليهم، بتمكينهم منها بالتصرف فيها: إذ أن ذلك لا يكون إلا بعد البلوغ، حتى يحسنوا التصرف فيما يدفع إليهم من مال مورثيهم، وإذن فالمراد باليتامى: البالغون منهم، وحينئذ فإطلاق اليتامى على البالغين الراشدين مجاز مرسل، علاقته اعتبار ما كان- ومنه قولهم: أكلنا قمحا وشربنا بناء ولبسنا قطنا" ونحو ذلك مما يكون التعبير فيه باعتبار ما كان.
11- اعتبار ما يكون كما في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} - فليس المراد من الخمر: معناها الحقيقي- بدليل ذكر "العصر" لأن الخمر عصير، والعصير لا يعصر، وإنما يريد: عنبا يئول عصيره إلى خمر- وإذن ففي لفظ "خمر" مجاز مرسل، علاقته "اعتبار ما يكون"، أي ما يئول إليه العنب من الاختمار- ومثله قوله
__________
1 والاحتمال الآخر أن يكون من قبيل المجاز بالحذف على تقدير مضاف، وحينئذ لا يكون في الكلام تجوز في المعنى.
2 جميع يتيم، وهو من الإنسان صغير فقد أباه، ومن الحيوان رضيع فقد أمه.(5/98)
تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} أي وليدا، يئول أمره إلى هذه الحالة- بقرينة قوله: "ولا يلدوا" إذ لا يمكن أن يكون فاجرا في فجر ولادته.
12- المجاوزة كما في إطلاق لفظ "الرواية" على القربة في قولهم: "خلت الرواية من الماء" يريدون: خلت القربة- ومعنى الرواية في الصل: الدابة يستقى عليها، فليس المراد من الراوية حينئذ: المعنى الحقيقي الذي هو الدابة، بدليل قوله: "خلت" لأن الذي يخلو من الماء إنما هو الوعاء لا الحيوان، وإذن فالمراد به: القربة مجازا مرسلا، علاقته المجاورة الدابة للقربة عند الحمل.
ومنه قول الشاعر:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
يريد: شككت بالرمح جسمه أي طعنته -فليس المراد من "الثياب" معناها الحقيقي، بقرينة قوله: "شككت"، إذ المراد بالشك: الطعن، وهو إنما يكون في الأجسام، لا في الثياب، فهو إذن مجاز مرسل علاقته المجاورة التامة وأي مجاورة أتم من الثياب للجسم؟ - ومما علاقته المجاورة: إطلاق اللفظ على المعنى، أو العكس، في نحو قولك: "فهمت اللفظ" وتريد: معناه، أو "قرأت المعنى" وتريد: اللفظ، وذلك لشدة الربط بين الدال والمدلول- ومنه إطلاق الظن على العلم، أو العكس لتقاربهما في المعنى. فهما متجاوران.
13- التقييد والإطلاق: هو أن يكون الشيء مقيدا فيطلق عن قيده كما في إطلاق "المشفر" على شفة الإنسان، في نحو قولك: "مشفر زيد يسيل دما" تريد: شفته- "فالمشفر" في الأصل للبعير خاصة، ثم أطلق عن هذا القيد، وأريد منه: مطلق شفة، فصح إطلاقه على شفة زيد، باعتبارها أحد أفراد هذا المطلق، فيكون مجازا مرسلا علاقته التقييد والإطلاق -ومثله إطلاق "المرسن" على أنف الإنسان- فالمرسن- في(5/99)
الأصل: أنف الحيوان، إذ هو موضع الرسن منه/ ثم أطلق عن قيده، وأريد منه: مطلق أنف، فصح أطلاقه على أنف الإنسان، باعتباره أحد أفراد هذا المطلق، فهو -كذلك- مجاز مرسل علاقته التقييد والإطلاق.
هذا: ويصح في مثل هذين المثالين: أن تكون العلاقة المشابهة، وحيئنذ يكون اللفظ "استعارة" بأن شبه شفة فلان مثلا بمشفر البعير في الغلظ والتدلي، ثم يستعار لها لفظ "المشفر"- ومثل هذا يقال في "المرسن" فاللفظ الواحد قد يكون مجزا مرسلا واستعارة باعتبارين فغن اعتبرت العلاقة غير المشاهبة كان اللفظ مجازا مرسلا، وإن اعتبرت العلاقة المشاهبة كان اللفظ استعارة- والعبرة بقصد المتكلم وإرادته، فإن لم يعلم قصده: بأن لم تقم قرينة عليه احتمل اللفظ الأمرين.
إلى غير ذلك من علاقات المجاز المرسل، فهي لا تقف عند هذا العدد، وإنما أحصينا لك أشهرها، وأكثرها استعمالا.
وسمي مجازا مرسلا لأنه أرسل، أي أطلق عن التقيد بعلاقة واحدة، بل له علاقات عدة- كما رأيت- أو لأنه أرسل عن دعوى الاتحاد المعتبرة في الاستعارة إذ ليست العلاقة فيه بين المعنين المشابهة حتى يدعى اتحددهما- وإنما لم يسم "استعارة" مع أن اللفظ فيه منقول ومستعار من معناه الأصلي إلى المعنى المراد كما في الاستعارة- لأن هذه التسمية مجرد اصطلاح، قصد به: التفرقة بين نوعين من المجاز مختلفي العلاقة.
تشبيهان:
الأول: اعلم أن القصد من العلاقة في المجازر المرسل: أن يتحقق ارتباط بين الشيئين على أي وجه- فإطلاق الدال على لمدلول مثلا في قولك: "فمهت اللفظ" تريد: معناه هو مجاز مرسل، علاقه يصح أن تكون "المجاورة" على ما سبق- باعتبار أن الدال مجاور للمدلول- ويجوز أن تكون العلاقة المحلية، على اعتبار أن الدال محل للمدلول إذ الألفاظ -كما يقولون- قوالب للمعاني- وإطلاق الثياب على الجسم في قول الشاعر المتقدم: "فشككت" بالرمح الأصم ثيابه" ... مجاز مرسل،(5/100)
يصح أن تكون علاقته "المجاورة" على اعتبار أن الثياب لاصقة بلابسها، فهي مجاورة له مجاورة تامة- ويجوز أن تكون العلاقة "المحلية" باعتبار أن الثياب محل للابسها- وإذن فنوع العلاقة ليس وقفا على ما ذكرنا، وإنما يرشد إليها الذوق، ويدلك عليها فهم الكلام.
الثاني: مما تقدم يعلم أن المراعي في علاقات المجاز المرسل: جانب المعنى المنقول عنه اللفظ، فإن كان المنقول عنه سببا في المنقول إليه كانت العلاقة السببية، وإن كان مسببا كانت العلاقة المسببي.. وهكذا. فالعلاقة في نحو: "رعينا الغيث" "السببية" لأن المعنى المنقول عنه لفظ "الغيث" سبب في المعنى المنقول إليه الذي هو "النبات" والعلاقة في نحو "أمطرت السماء نباتا" المسببية لأن المعنى المنقول عنه لفظ "النبات" مسبب عن المعنى المنقول إليه، وهو "الغيث".
وإنما روعي في العلاقة: جانب المعنى المنقول عنه اللفظ، لأنه الأصل، فهو أولى بالمراعاة، وهذا الرأي أرجح الآراء.
اختبار:
1- بأي اعتبار ينقسم المجاز المفرد إلى مجاز مرسل واستعارة؟ وضح ذلك بالمثال.
2- عرف المجازر المرسل ومثل له من إنشائك بثلاثة أمثلة مختلفة العلاقات، مع بيان علاقة كل، وقرينته -وما علاقة المجاز في قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ؟
3- بين علة تسميته مرسلا، ولم لم يسم استعارة، مع أن اللفظ فيه مستعار- كما في الاستعارة- من معناه الأصلي إلى معنى آخر؟
تمرينات منوعة:
1- بين المجاز المرسل ووضح علاقته وقرينته في الآبيات الآتية:
1- وكنت إذا كلفت أتتك عديمة
ترجى نوالا من سحابك بلت(5/101)
2-
بلادي وإن جارت على عزيزة ... وقومي وإن ضنوا على كرام
3-
فهمت الكتاب أبر الكتب ... فسمعا لأمر أمير العرب
4-
وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سبيلي بظالم
5-
رأيتك محض الحلم في محض قدرة ... ولو شئت كان الحلم منك الهمند1
2- بين علاقات المجاز المرسل في الأمثلة الآتية:
بثت الحكومة الأمن في ربوع البلاد من الناس من يأكل القمح، ومنهم من يأكل اذرة والشعير. قرر المجلس الأعلى كذا. أقمنا في هناءة ورفاية. {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} ، أرانا الله وجوهكم في خير.
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ... بأنني خير من تسعى له قدم
3- حول ما يأتي إلى مجاز مرسل، مع بيان العلاقة والقرينة:
غرست بذور الورد في البستان، كذاك يعادي أهل العلم من هو جاهل. قام سكان البلاد وقعدوا لهذا النبأ. تجري الرياح بما لا تشتهي وبابين السفن. حكم قاض المحكمة بكذا. شربنا عصير العنب.
4- رد المجاز المرسل إلى حقيقته فيما يأتي من أمثلة:
"وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه"، ومن قتل قتيلا فله سلبه. ألقى القائد كلمة في الجنود. طحنت خبزا. أكلت دم القتيل.
__________
1 "المحض" الخالص، و"الهند" السيف الهندي والمراد به الحرب، يقول: رأيتك خالص الحلم في قدرة لايشوبها عجز ولو شئت أن تجعل الحرب مكان الحلم لفعلت.(5/102)
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
تسيل إلى حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل
جواب التمرين الأول:
1- في "كف" مجاز مرسل علاقته الجزئية "إذ أن المراد بالكف الشخص نفسه، وهي جزء منه، والقرينة قوله: "أتتك" لاستحالة الإتيان من الكف وحدها.
2- في "بلادي" مجاز مرسل علاقته "المحلية" إذ أن المراد: سكان البلاد التي هي محل لهم- والقرينة قوله: "وإن جارت على" لاستحالة صدور الجور من الأماكن والأبنية.
3- في "الكتاب" بمعنى المكتوب "مجاز مرسل" علاقته المحلية إذ أن المراد: المعاني، والمكتوب محل لها والقرينة قوله: "فهمت" لأن الفهم إنما يكون للمعاني لا للنقوش- ويصح أن تكون العلاقة "المجاورة" لأن المكتوب دال على معناه، والدال والمدلول متجاوران.
4- في "يد" مجاز مرسل علاقته السببية إذ أن المراد بها القوة: بقرينة قوله: ألا يد الله فوقها، إذ لا معنى لوضع "يد" بمعنى الجارحة، فوق أخرى -فضلا عن أن الله سبحانه لا يد له.
5- في "المهند" مجاز مرسل علاقته الآلية إذ أن المراد: الحرب، والمهند آلتها التي تدور بها رحاها، وتشتعل نارها.(5/103)
الاستعارة
مدخل
...
الاستعارة:
تعريفها: هي اللفظ المستعمل في غير المعنى الذي وضع له، لعلاقة المشابهة، مع
قرينة مانعة من أن يكون المراد: المعنى الأصلي1 كماتراه في قول زهير بن أبي سلمى:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم2
يريد: أنا عند أسد، أي رجل جرئ مقدام شبهة بالأسد في الجرأة، ثم استعار له اللفظ- ومثله قول المتنبي، وقد قابله الممدوح وعاتقه:
ولم أر قبلي من مشى البحر نحوه ... ولا رجلا قامت تعانقه الأسد
يشبه ممدوحه بالبحر في الكرم، وبالأسد في الجرأة، ثم استعار له لفظيهما.
طريقة إجرائها: أن يقال في نحو هذين المثالين: شبه الرجل الكريم بالبحر في الفيض، ثم تنوسى التشبيه، وادعى أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، وداخل في جنسه مبالغة، ثم استعير لفظ المشبه به، وهو "البحر" للمشبه. وأطلق عليه باعتباره أحد أفراد "البحر"- ويقال له في المثال الثاني: شبه الرجل الجرئ بالأسد في الجرأة والإقدام، ثم تنوسى التشبيه، إلى آخر ما ذكرنا في المثال الأول- وهكذا يقال في كل استعارة.
أركان الاستعارة: هي- كما يؤخذ من التعريف بالمعنى المصدري- ثلاثة:
__________
1 هذا التعريف بالمعنى الاسمي، وهو المشهور، وقد تطلق بالمعنى المصدري، وهو فعل المتكلم، فيقال هي استعمال اللفظ في غير المعنى الخ- ومن هنا صح الاشتقاق فيقال المشبه به مستعار منه، والمشبه مستعار له واللفظ مستعار والمتكلم مستعير.
2 شاكي السلاح تامه "ومقذف" بصيغة اسم المفعول أي المقذوف باللحم، أو المقذوف به في المعارك، و"اللبد" على زنة عنب: الشعر المتكاثف على نصف الأسد الأعلى.(5/103)
1- المستعار منه، وهو ذات المشبه به "كالحيوان المفترس" في المثال المتقدم؛ لأن اللفظ الموضوع له، وهو "أسد" أخذ منه، وأعطي لغيره, فهو كالإنسان يستعار ثوبه لآخر.
2- المستعار له, وهو ذات المشبه، "كالرجل الجريء" لأن اللفظ الذي لغيره أعطي له, فهو كالإنسان، يستعار له الثوب من صاحبه.
3- المستعار كلفظ "أسد" لأنه أتى به من صاحبه، واستعير لغيره، كاللباس المستعار من صاحبه للابسه - وثلاثتها هي أركان الاستعارة1.
وهي: إما تحقيقية، أو تخييلية، أو مكنية، وسيأتي البحث في الأخيرتين.
والتحقيقية: ما يكون المعنى المنقول إليه اللفظ محققا حسا، أو عقلا. أي: مما يدرك بالحس، أو مما يقره العقل، ويثبته. "فالأول" كما في بيت زهير، أو المتنبي، فإن المعنى المنقول إليه لفظ "أسد" أو لفظ "بحر" وهو الرجل الجريء أو الكريم محقق حسا. أي: مدرك بإحدى الحواس، "والثاني" كما في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يريد: من الضلال إلى الهدى، فقد استعير الظلمات "للضلال"، والنور "للهدى"، وكلاهما أمر محقق عقلا، أي: يقره العقل، ولا يسعه أن ينفيه.
الاستعارة مجاز لغوي:
اعلم أن جمهور البيانيين على أنها مجاز لغوي، أي: لفظ مستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة. فالتصرف فيها إنما هو في نقل اللفظ من معناه الموضوع له في اللغة، إلى معنى آخر, والدليل على ذلك:
__________
1 من هذا البيان يعلم أن التشبيه إنما يكون في المعاني، وأما الاستعارة ففي الألفاظ. ثم إن بيان الأركان بما ذكر مبني على أن المراد بالاستعارة: المعنى المصدري ليصح الاشتقاق حينئذ أما الاستعارة بالمعنى الاسمي، وهو اللفظ المستعار فلا يتأتى فيه ذلك، إذ لا يشتق من اسم المفعول.(5/105)
إن اللفظ المستعار موضوع -في اللغة- للمشبه به لا للمشبه، ولمعنى أعم من المشبه والمشبه به. فلفظ "أسد" مثلا من قولنا: "رأيت أسدا على فرس" موضوع -في اللغة- للحيوان المعروف، لا للرجل الجريء وهو ظاهر. ولا لمعنى أعم منه، ومن ذلك الحيوان "كالحيوان الجريء" رجلا كان أو أسدا، إذ لو كان موضوعا لمطلق حيوان جريء لكان إطلاقه على كل منهما: "حقيقة" باعتبارهما من أفراد هذا المطلق، وليس الواقع كذلك, وإذا ثبت أنه لم يوضع لواحد منهما، نقال عن أئمة اللغة -كان استعماله في المشبه إطلاقا للفظ على غير ما وضع له- وهذا هو معنى المجاز اللغوي.
الاستعارة تفارق الكذب:
تفارق الاستعارة الكذب من جهتين:
الأولى: أن الاستعارة مبنية على التأويل، وهو دعوى دخول المشبه في جنس المشبه به, وجعله أحد أفراده مبالغة, فيقدر: أن الأسد، مثلا في نحو قولنا "على الفرس أسد" موضوع لفردين: متعارف، وهو الحيوان المعروف، وغير متعارف، وهو الرج الجريء. أما الكذب فلا تأويل فيه؛ لأن الكاذب يتعمد الكذب. ومثل هذا لا يتأول في كلامه.
الثانية: الاستعارة لا بد فيها من نصب قرينة دالة على إرادة خلاف الظاهر من اللفظ، مانعة من إرادة المعنى الحقيقي له. أما الكذب فلا تنصب فيه قرينة على إرادة غير الظاهر، بل إن قائله ليبذل كل جهده لترويج ظاهره، وإظهار صحة باطله1.
__________
1 محل ذلك إذا كان الكاذب يعرف أن كلامه لا يطابق الواقع وقد قصد إظهار صحته، وأنه مطابق، لا أنه لم يقصد ذلك، واعتقد صحته.(5/106)
الاستعارة في علم الشخص:
اعلم: أن الاستعارة لا تصح في علم الشخص -ذلك: أن معناه جزئي لتشخصه وتعينه خارجا، فتصوره يمنع من وقوع الاشتراك فيه- فلفظ "محمد" مثلا لا يصح جعله "استعارة" لشخص آخر بينه وبين "محمد" مشابهة في شيء، إذ هي تقتضي: ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، باعتباره أحد أفراده -كما عرفت، وهذا يقتضي: عموم المشبه به، و"محمد" المذكور لا عموم فيه، إذ لا يحتمل غير مسماه الذي وضع له- اللهم إلا إذا عرف بوصف، واشهر به "كحاتم" مثلا، فإنه علم على الطائي المعروف1, ولكنه اشتهر بالجود، وذاع صيته فيه، حتى صار بحيث إذا أطلق لفظ "حاتم" فهم منه معنى الجود، وحينئذ يصح جعله كليا باعتبار هذا الوصف. فإذا شبه إنسان بحاتم في الجود وجب أن يتأول في "حاتم" فيجعل كأنه موضوع للجواد مطلقا، وهو -كما ترى- معنى كلي يشمل حاتما الطائي وغيره من أجاويد الناس، ويكون شأنه في ذلك شأن "أسد": من حيث دلالته على العموم، فيصح حينئذ: أن تشبه آية ذات كريمة "بحاتم" ثم يستعار لها لفظه، باعتبارها أحد أفراده ادعاء، فيقال: "رأيت اليوم حاتما يعطف على البائسين"، ويراد محمد الكريم مثلا، والقرينة حالية, هي العلم بعدم وجود شخص حاتم الطائي لانقراضه.
وهكذا يتأول في كل عام شخص اشتهر بنوع من الوصف، وبهذا التأويل يصح جعله استعارة "كمادر"2 المشتهر بالبخل "وقس"3 المشتهر بالفصاحة
__________
1 هو ابن عبد الله بن سعد المضروب به المثل في الجود.
2 هو رجل من بني هلال وهو المضروب به المثل في البخل. قيل: سمي "مادرا" لأنه سقى إبلا له من حوض ولما رويت الإبل بقي في أسفل الحوض بقية ماء فسلح فيها ومدر الماء أي: خلط بعضه ببعض مخافة أن يستقي من حوضه أحد.
3 هو قس بن ساعدة الأيادي أحد خطباء العرب الأعلام في العصر الجاهلي، وقد ضرب به المثل في الفصاحة.(5/107)
"وباقل"1 المشتهر بالعي، وغيرهم.
اختبار:
1- عرف الاستعارة، وبين معنى كونها تحقيقية حسا أو عقلا، مع التمثيل، ومن أي نوع قولنا: اللهم جنبنا الطريق المعوج؟ علل لما تقول.
2- بين وجه كون الاستعارة مجازا لغويا، اشرح ذلك شرحا تاما، مع التمثيل.
3- كيف صح إجراء الاستعارة في علم الشخص، مع أن مدلوله جزئي, والاستعارة إنما تعتمد التشبيه والادعاء، وذلك يقتضي عموم المشبه به، بين ذلك بوضوح مع التمثيل.
4- بم تفارق الاستعارة الكذب، مع أن كلا منهما لا يطابق الواقع.
تمرينات منوعة:
1- مثل لما يأتي: استعارة معناها متحقق عقلا. استعارة مدلولها الوضعي شخصي، مع إجراء الاستعارة فيه.
2- قال الشاعر:
لا تعجبوا من بلي غلالته ... قد زر أزراره على القمر
وضح الاستعارة فيه بإجرائها إجراء تفصيليا.
3- أي التعبير أبلغ: خالد أسد، أم أقبل الأسد، والمراد خالد، بين وجه الأبلغية فيما تختار.
__________
1 هو رجل من إياد كان شديد العي في النطق حتى كان مضرب المثل فيه, اتفق له أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما، فقيل له: بكم اشتريته؟ ففتح كفيه, وفرق بين أصابعه وأخرج لسانه ليشير بذلك إلى العدد المذكور فانفلت الظبي منه، فضرب به المثل في الفهامة والعي.(5/108)
تقسيم الاستعارة:
للاستعارة تقسيمات شتى تختلف باختلاف الاعتبارات.
تقسيمها باعتبار الطرفين:
تنقسم الاستعارة باعتبار اجتماع طرفيها، وعدم اجتماعهما إلى وفاقية وعنادية.
فالوفاقية: ما يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد لما بين الطرفين من الوفاق كما في قولك: "فلان أحيته الموعظة" أي: هدته -شبهت الهداية بمعنى الدلالة على الطريق القويم "بالإحياء" بمعنى جعل الشيء حيا، بجامع ما يترتب على كل من الفوائد، ثم استعير- بعد تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به, لفظ "الإحياء" للهداية، ثم اشتق من الإحياء: "أحيا" بمعنى "هدى" على ما سيأتي بيانه في الاستعارة التبعية. "والحياة والهداية" مما يتأتى اجتماعهما في شيء, وإذن فاستعارة "الإحياء للهداية" وفاقية.
والعنادية: ما لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد، لما بين الطرفين من التعاند كاستعارة اسم المعدوم للموجود عديم الفائدة، في نحو قولك: "رأيت ميتا يتحدث" تريد: جاهلا1؛ استعير لفظ "الميت" للجاهل، بعد التشبيه والادعاء, على ما ذكرنا في المثال قبله. "والجهل والموت" مما لا يجتمعان في شيء واحد إذ إن الميت لا يوصف بالجهل، فهي إذن استعارة عنادية, ومنه قول الشاعر:
فلم أر وجها ضاحكا قبل وجهها ... ولم أر قبلي ميتا يتكلم
ومثله استعارة اسم الموجود للمعدوم ذي الآثار الخالدة2 إذ يمتنع بداهة اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد.
__________
1 فهو مشارك للمعدوم في عدم الجدوى منه, ومثل الجاهل العاجز فالعجز والجهل يحط كلاهما من قدر الإنسان الحي.
2 فيكون مشاركا للموجود في ذلك.(5/109)
وقد اجتمعت الوفاقية، والعنادية في قول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} ، على معنى: أو من كان ضالا فهديناه، فقد استعير في الأول: "الميت الضال"، وهما لا يجتمعان، إذ لا يوصف الميت بالضلال فالاستعارة عنادية, واستعير ثانيا "الإحياء للهداية" -كما سبق- "والحياة والهداية" مما يجتمعان، فالاستعارة وفائية, ومن العنادية تتفرع الاستعارتان:
التهكمية والتمليحية:
وهما ما نزل فيهما التضاد، أو التناقض منزلة التناسب، واستعمل اللفظ في ضد معناه، أو في نقيضه، إبرازا للخسيس في صورة الشريف، قصدا إلى الهزء والسخرية، أو التمليح والتظرف -على سبق بيانه في باب التشبيه- وذلك كأن يطلق لفظ "الكريم" على البخيل، وكإطلاق لفظ "أسد" على الجبان في نحو قولك: "زارني اليوم كريم" تريد رجلا بخيلا، ونحو قولك: "رأيت أسدا على فرس" تريد رجلا جبانا, فقد نزل أولا "البخل" منزلة الكرم، ونزل ثانيا "الجبن" منزلة الشجاعة -على ما سبق- في بحث التشبيه، ثم شبه البخيل بالكريم، والجبان بالأسد، ووجه الشبه في الأول: "الجود" وفي الثاني "الشجاعة" وإن كان الجود في البخيل، والشجاعة في الجبان تنزيليين ثم استعير لفظ الكريم للبخيل, واسم الأسد للجبان.
ثم إن كان الغرض الحامل على استعمال اللفظ في ضد معناه: التهكم والهزء بالمقول فيه كانت الاستعارة "تهكمية"، وإن كان القصد الحامل: بسط السامعين، وإزالة السآمة عنهم، بتصوير القبيح في صورة الحسن، كانت الاستعارة "تمليحية"، ولا يخفى عدم تأتي اجتماع "البخل والكرم" أو "الجبن والشجاعة" في شيء واحد، فكلتاهما إذن من قبل الاستعارة العنادية.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} نزل التضاد بين التبشير(5/110)
والإنذار منزلة التناسب بينهما، ثم شبه الإنذار بالتبشير في إدخال السرور إلى النفس، وإن كان تنزيليا في المشبه، ثم استعير اسم البشارة للإنذار بعد تناسي التشبيه والادعاء، ثم اشتق من البشارة بمعنى الإنذار "بشر" بمعنى "أنذر" على سبيل الاستعارة التهكمية؛ وهي عنادية لأن التبشير والإنذار مما لا يجتمعان في شيء واحد, ومثله كذلك قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} نزل التضاد بين "الهداية" التي هي الدلالة بلطف، وبين الأخذ بمجامع الشيء بقهر وعنف منزلة التناسب، ثم شبه الأخذ العنيف بالهداية، بجامع ما يترتب على كل من الخير، وإن كان تنزيليا في المشبه، ثم استعير لفظ "الهداية" للآخذ بالقسر والعنف، واشتق منه: "اهدوهم" بمعنى: جروهم بشدة وعنف على سبيل الاستعارة التهكمية، وهي عنادية لعدم تأتي اجتماع اللطف والعنف في شيء واحد، وهكذا.
تقسيم الاستعارة باعتبار الجامع:
الجامع: هو ما قصد اجتماع الطرفين فيه، وهو ما يسمى في التشبيه: وجه شبه، وإنما سمي جامعا لأنه جمع المشبه مع أفراد المشبه به تحت مفهومه، وأدخله في جنسه ادعاء. وهو لا بد أن يكون في المستعار منه أقوى؛ لأن الاستعارة مبنية على المبالغة في التشبيه، والمبالغة فيه تستوجب إلحاق المشبه بما هو أكمل منه في وجه المشبه -بخلاف الحال في التشبيه- كما علمت.
وللاستعارة باعتبار الجامع تقسيمان:
التقسيم الأول:
تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار قسمين: داخلة، وغير داخلة.
فالداخلة: ما يكون الجامع فيها داخلا في مفهوم الطرفين, المستعار له والمستعار منه: بأن يكون جزءًا من مفهوميهما كما في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا}(5/111)
أي: فرقناهم: شبه تفريق الجماعة: بالتقطيع، بجامع "إزالة الاجتماع في كل"، ثم استعير لفظ التقطيع للتفريق، ثم اشتق منه "قطع" بمعنى فرق, والجامع المذكور داخل في مفهوم التقطيع إذ إنه موضوع لإزالة الاجتماع في الأشياء المتماسكة، وداخل كذلك في مفهوم تفريق الجماعة؛ لأنه موضوع لإزالة الاجتماع في الأشياء غير المتماسكة. وبديهي أن إزالة الاجتماع في التقطيع أشد وأقوى كما هو الشرط في الجامع.
وغير الداخلة: ما يكون الجامع فيها غير داخل في مفهوم الطرفين، بأن كان خارجا عن مفهوم كل منهما، أو كان داخلا في مفهوم المستعار له دون المستعار منه، أو العكس.
فالأول: كما في قولك: "رأيت دررا في السماء"، و"أبصرت شمسا داخل غرفة، ووردت بحرا يعطي" فالجامع في الأول التألق واللمعان وفي الثاني الوضاءة والإشراق، وفي الثالث الإفاضة، وكلها عوارض غير داخلة في مفهومي الطرفين.
والثاني: كما في الحديث "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه: كلما سمع هيعة طار إليها" 1 شبه العدو الذي هو قطع المسافة بسرعة في الأرض. بالطيران الذي هو قطع المسافة في الهواء بالجناح، ثم استعير الطيران للعدو، ثم اشتق من الطيران "طار" بمعنى عدا -والجامع بينهما قطع المسافة بسرعة وهو داخل في مفهوم العدو، دون الطيران، فليست السرعة داخلة في مفهومه، إنما هي لازمة له في الأكثر. ومثله قول امرأة من بني الحرث ترثي قتيلا:
__________
1 "العنان" بكسر العين اللجام، و"الهيعة" الصيحة يفزع منها من هاع يهيع إذ جبن يقول: خير الناس رجل مستعد للجهاد في سبيل الله كلما سمع صيحة الحب والدعوة لها أسرع إليها وخاض غمارها.(5/112)
لو يشا طار بها ذو ميعة ... لاحق الآطال نهد ذو خصل1
تقول: لو أنه أراد النجاة لفاز بها، فقد كان تحته فرس قوي، جلد، ولكنه آثر أن يموت كريما على أن يحيا هزيلا بتحمله عار الهزيمة. والشاهد في استعارة الطيران للعدو على نحو ما تقدم.
والثالث: كاستعارة العدو للطيران عكس ما قبله.
التقسيم الثاني:
تنقسم الاستعارة باعتبار الجامع أيضا قسمين: عامية، خاصية.
فالعامية: وهي المبتذلة, ما وضح فيها الجامع، بحيث يدركه العامة كإطلاق "الأسد" على الرجل الجريء، فإن الجامع، وهو الجرأة، أمر واضح، في متناول مدارك عامة الناس لاشتهار الأسد بها. وسميت مبتذلة لكونها في طوق كل إنسان.
والخاصية: وهي الغريبة: ما لا يدرك الجامع فيها إلا من ارتفع عن طبقة العامة، كما في قول يزيد بن مسلمة يصف فرسا له، بأنه مؤدب إذا نزل عنه. وألقى عنانه في قربوس سرجه، لا يبرح مكانه حتى يعود:
وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك الشكيم إلى انصراف الزائر2
__________
1 الميعة نشاط الشباب، و"الآطال" جمع أطل بكسرة أو بكسرتين الخاصرة, ولاحق الآطال ضامرها وهو من دواعي النشاط وخفة الحركة، و"النهد" بفتح النون الفرس الجميل الجسم و"الخصل" جمع خصلة، وهي اللفيقة من الشعر، أي: ذوي شعر متدل.
2 "احتبى" من الاحتباء وهو أن يشد الرجل ركبتيه إلى بطنه بنحو ثوب يمتد من جانبيه إلى ظهره، و"القربوس" بفتح القاف والراء مقدم السرج، و"العنان" بكسر العين اللجام، و"الشكيم" الحديدة المعترضة في فم الفرس، و"علكها" لاكها ومضغها، وقد أراد بالزائر نفسه.(5/113)
فقد شبه هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج. بهيئة الثوب في موقعه من ركبتي المحتبي ثم استعار لفظ "الاحتباء" لهذه الهيئة1, فهذه الاستعارة غريبة لما في الجامع من كثرة الاعتبارات الموجبة لصعوبة إدراكه، وبعده عن الأذهان, فضلا عن كونها على نمط غير مألوف. لا يقع في كلامهم إلا نادرا, ذلك أن الانتقال إلى معنى "الاحتباء" وهو ألا يجمع الرجل ركبتيه منضمتين إلى بطنه بنحو ثوب ممتد من الركبتين إلى الظهر عند استحضار إلقاء العنان على القربوس، في غاية الندرة، لما بين المعنيين من البعد2.
وقد يكون منشأ الغرابة: ما فيها من طرافة، ولطف مأخذ كما في قول طفيل الغنوي:
وجعلت كوري فوق ناجبة ... يقتات شحم سنامها الرحل3
يقول: إن شحم سنام الناقة تضاءل وضمر لطول عهد الرحل به، وكأن الرحل كان يقتات منه. يصف نفسه بكسرة الأسفار. والشاهد فيه: أنه استعار "الاقتيات" لإذابة شحم السنام -ولا شك أن في التعبير بالاقتيات في جانب الشحم- وهو مما يقتات به نوع لطف وطرافة، يشعر به صاحب الذوق البلاغي، ومما زاده طرافة ولطفا إسناده إلى "الرحل" إسنادا مجازيا، من إسناد الفعل إلى سببه.
وقد يتصرف في الاستعارة العامية بما يخرجها من الابتذال إلى الغرابة: بأن يضم إليها تجوز لطيف، اقتضته الحال، كما في قول كثير عزة:
__________
1 لأن جمع القربوس مضموما إلى فم الفرس, بالعنان ممتدا من القربوس إلى جانبي الفم يشبه هيئة الاحتباء, وهو جمع ركبتي المحتبي منضمتين إلى بطنه بنحو ثوب ممتد من الركبتين إلى الظهر.
2 إذ إن أحدهما من وادي الركوب، والآخر من وادي العقود.
3 "الكور" بضم الكاف رحل البعير، والناجبة الناقة السريعة، والاقتيات اتخاذ القوت، والسنام الجزء المرتفع من ظهر الناقة.(5/114)
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على دهم المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح1
يقول: لما فرغنا من أداء النسك، وقضينا أيام منى، واستلمنا الأركان، وشددنا الرحال، ومضى الناس, لا ينظر الغادي منهم الرائح، شوقا للعودة إلى أوطانهم, ابتدأنا في الحديث آخذين بأطرافه وفنونه، شأن الرفاق في السفر، قد شملتهم الغبطة، لما وفقوا إليه من أداء الفريضة, بينما سارت المطي في الأباطح سيرا حثيثا، في لين وسلاسة، أشبه الأشياء بسيلان الماء.
وهذه الأبيات الثلاثة, مع ما فيها من روعة المطلع، وعذوبة الجرس, لا ترى فيها معنى دقيقا, ولا تصويرا أنيقا، سوى ما تراه في الشطر الثاني من البيت الأخير، حيث شبه سير المطي في الأباطح سيرا حثيثا، في لين وسلاسة: بسيلان الماء فيها، ثم استعير سيلان الماء للسير اللين السلس، واشتق منه: "سالت" بمعنى: سارت حثيثا في لين وسلاسة -والجامع بين الطرفين سرعة السير مع سلاسة فهذه الاستعارة- كما ترى, عامية يدركها الخاصة والعامة. غير أنه تصرف فيها بما جعلها غريبة، لا يدركها إلا الخواص.
ذلك أنه: بعد أن استعير فعل السيلان لسير الإبل الحثيث السلس، حتى أفاد كأن سيولا جرت في تلك الأباطح. أسند بعد ذلك الفعل المستعار، وهو "سالت"
__________
1 الشاهد في البيت الأخير "والأطراف" جمع طرف بكسر الطاء بمعى الكريم، والمراد كرائم الأحاديث أو جمع طرف بالتحريك بمعنى الناحية، والمراد فنون الأحاديث و"الأباطح" وهو مسيل الماء فبه دقائق الحصا.(5/115)
إلى الأباطح، دون المطي الذي كان حقه أن يسند الفعل إليه، فأفاد هذا الإسناد، أن الأباطح امتلأت بالإبل إلى حد يخيل للناظر. أن الأباطح هي التي تسيل, إذ إن نسبة فعل الحال إلى المحال، تشعر بشيوع الحال في المحل، وكأن كل مكان من هذه الأباطح سائر. ومما زاد الاستعارة دقة وغرابة: أنه أدخل الأعناق في السير، إذ جرها بباء الملابسة، المقتضية لملابسة الفعل لها؛ لأن السرعة والبطء يظهران -غالبا- في أعناق الإبل: وإذن فقد أضاف الشاعر إلى الاستعارة المذكورة مجازا عقليا آخر, فالأول مصرح به وهو إسناد الفعل إلى الأباطح, والثاني مقدر، وهو إسناده إلى الأعناق؛ لأن الواقع: أن الدابة تستعين في سيرها بهز الأعناق، فكأن الأعناق أيضا تسير. ومثل بيت كثير تماما، قول ابن المعتز:
سالت عليه شعاب1 الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير
يقول: تسارع إليه أنصاره ملبين بوجوه مشرقة متهللة, حين دعاهم إليه. يريد أنه مطاع في حبه، لا يدعوهم لخطب جلل إلا أتوا إليه مسرعين متزاحمين حتى كأنهم السيل ينحدر من كل جانب، فيطفح به الوادي. وقد تصرف في البيت على غرار ما قبله، مما جعل الاستعارة تمتنع بعد ابتذال، وتعتز بعد ضعة.
تقسيم الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع:
تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار ستة أقسام -ذلك: أن المستعار منه، والمستعار له، إما حسيان، أو عقليان. أو المستعار منه حسي. والمستعار له عقلي أو العكس. والجامع في الثلاثة الأخيرة عقلي لا غير, لما سبق في مبحث التشبيه:
__________
1 جمع شعب بكسر الشين، وهو الطريق في الجبل.(5/116)
من أن وجه الشبه وهو المسمى هنا بالجامع, لا بد أن يقوم بالطرفين, فإذا كان كلاهما، أو أحدهما عقليا, وجب أن يكون الجامع عقليا؛ لأن الحسي لا يقوم بغير حسي -كما علمت- أما القسم الأول, وهو ما كان الطرفان فيه حسيين فصوره ثلاث؛ لأن الجامع حينئذ- إما حسي أو عقلي، أو مختلف, وبذلك تكون الأقسام ستة, وهاكها:
1- استعارة محسوس لمحسوس، والجامع حسي كما في قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا 1 لَهُ خُوَارٌ} فالمستعار منه ولد البقرة, والمستعار له الحيوان المخلوق من حلي القبط التي سبكتها نار السامري2 عندما ألقى فيها التربة التي أخذها من موطئ فرس جبريل عليه السلام3, والطرفان حسيان -كما ترى- والجامع حسي كذلك، وهو الشكل والخوار، فإن ذلك الحيوان كان على شكل ولد البقرة، وله صوت كصوته.
ومثله قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} . فالمستعار منه حركة الماء على الوجه الخاص، والمستعار له الحركة والاختلاط الناشئان عن الحيرة والارتباك، والجامع بينهما ما يشاهد في كل: من الحركة الشديدة والاضطراب، والجميع حسي4, كما ترى.
__________
1 أي: بدنا ذا لحم ودم، وقد نصب بدلا من عجل، و"له خوار" أي: له صوت البقر, شبه الصورة التي سبكتها نار السامري بابن البقرة بجامع الشكل والصورة ثم استعير: لفظ المشبه به وهو العجل للمشبه الذي هو الصورة المسبوكة من النار، وقرينة الاستعارة قوله: {جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} إذ لا يقال للبقر الحقيقي. أنه جسد له صوت البقر.
2 هو موسى السامري وكان رجلا حدادا في زمن موسى عليه السلام.
3 لهذه المسألة قصة ليس هنا محلها.
4 شبه تزاحمهم وتدافعهم بتلاطم الأمواج بجامع ما يشاهد، في كل من الاضطراب ثم استعير لفظ المشبه به وهو تلاطم الأمواج للمشبه الذي هو التزاحم والتدافع، ثم اشتق منه "يموج"، بمعنى يتزاحم ويتدافع.(5/117)
من ذلك قول الشاعر:
بكت لؤلؤًا رطبا ففاضت مدامعي ... عقيقا فصار الكل في نحرها عقدا
فقد استعار اللؤلؤ للدمع، بجامع الصفاء والتألق، والجميع حسي كذلك.
2- استعارة محسوس لمحسوس والجامع عقلي كما في قوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} والشاهد في "نسلخ" فالمستعار منه كشط الجلد، وسلخه عن الشاة ونحوها, والمستعار له إزالة ضوء النهار وانتزاعه عن مكان الليل, كلاهما حسي1, والجامع بينهما عقلي وهو ترتب أمر على آخر, ففي المستعار منه ترتب ظهور اللحم على سلخ الجلد، وفي المستعار له ترتب على ظهور ظلمة الليل على محو ضوء النهار2, ولهذا صح قوله بعد: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} لأن الواقع عقيب إزالة الضوء هو الإظلام.
3- استعارة محسوس لمحسوس، والجامع مختلف, بعضه حسي، وبعضه عقلي كما في قولك: "رأيت بدرا يتحدث" تريد إنسانا كالبدر في حسن الطلعة، ونباهة الشأن. فالأول حسي، والآخر عقلي.
4- استعارة معقول لمعقول كما تقول: "أحيتني الموعظة" على معنى: هدتني, فالمستعار منه "الإحياء" والمستعار له الهداية، وكلاهما عقلي, والجامع بينهما: ما يترتب على كل من الفوائد، وهو عقلي كذلك.
5- استعارة محسوس لمعقول كما في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ
__________
1 أي: باعتبار متعلقيهما، "الجلد والضوء" وإلا فإن كلا من كشط الجلد, وإزالة الضوء أمر عقلي لأنهما معنيان مصدريان، والمعنى المصدر لا وجود له خارجا، فلا يكون محسوسا.
2 بيان ذلك أن الظلمة هي الأصل والنور طارئ عليها يسيرها بضوئه, فإذا غربت الشمس فقد سلخ النهار عن الليل, كما يسلخ الجلد عن الشاة، فظهور الظلمة بعد ذهاب ضوء النهار بمثابة ظهور المسلوخ بعد سلخ إهابه عنه.(5/118)
النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فالمستعار منه "الظلمات والنور، وهما حسيان، والمستعار له "الضلال والهدى" وهما عقليان، والجامع في الأول عدم الاهتداء، وفي الثاني الاهتداء، وهما عقليان أيضا، والاستعارة فيهما لا تحتاج إلى بيان.
6- استعارة معقول لمحسوس كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي: لما كثر الماء, فالمستعار منه التكبر والتعالي، وهو عقلي، والمستعار له كثرة الماء، وهو حسي والجامع بينهما الخروج عن حد الاعتدال1، وهو عقلي, ومثله قوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} أي: شديدة، حتى جاوزت الحد, استعار "العتو" وهو عقلي لشدة الريح المفسدة، وهي حسية باعتبار متعلقها2, والجامع عقلي، وهو مجاوزة الحد.
تقسيم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار:
تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار إلى قسمين: أصلية وتبعية.
فالأصلية: ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس غير مشتق والمراد به: ما يصدق على كثيرين, سواء كان صدقه على الكثيرين حقيقة, أو تأويلا, وسواء كان اسم عين, أو ذات كالأسد، أو اسم معنى كالضرب والقتل.
فمثال اسم الجنس الحقيقي، وهو اسم عين لفظ "بحر" من نحو قولك: "رأيت بحرا يتحدث" تريد: رجلا عالما فحلا, فقد استعير لفظ "بحر" للرجل
__________
1 شبه كثرة الماء كثرة جاوزت الحد بالتكبر المعبر عنه بالطغيان، ثم استعير اسم المشبه به وهو الطغيان للمشبه الذي هو كثرة الماء، ثم اشتق من الطغيان "طغى" بمعنى كثر كثرة جاوزت الحد وهكذا يقال في أشباه ذلك من كل ما كان فيه لفظ المشبه به مشتقا كما سيأتي بيانه بعد.
2 أي: لا باعتبار ذاتها إذ هي معنى مصدري والمعاني المصدرية كما قلنا لا وجود لها خارجا, وإجراء الاستعارة فيها أن يقال: شبه الريح في هبوبها بالعتو والقسوة، ثم استعيد "العتو" لشدة هبوب الريح، ثم اشتق منه "عاتية" بمعنى شديدة(5/119)
العالم استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار اسم جنس حقيقة.
ومثال اسم الجنس التأويلي, وهو اسم عين أيضا لفظ "سحبان" ونحوه: من كل علم اشتهر مدلوله بنوع من الوصف، كما تقول: "رأيت سحبان يخطب" تريد رجلا فصيحا مفوها، استعير فيه كذلك لفظ "سحبان للرجل الفصيح استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار اسم جنس تأويلا1.
ومثال اسم الجنس: وهو اسم معنى قولك: "آلمني قتل علي أخاه"، تريد: إذلاله. فقد استعير فيه "القتل" للإذلال استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار، وهو "القتل" اسم جنس معنى, وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه الإذلال بالقتل بجامع شدة الألم، ثم استعير لفظ "القتل" لمعنى الإذلال. وهكذا يقال في أمثال ذلك.
وسمي هذا القسم: استعارة أصلية، نسبة إلى الأصل, بمعنى الكثير الغالب -ولا شك أنها أكثر وجودا في الكلام من التبعية الآتية بعد- أو نسبة إلى الأصل بمعنى ما أنبني عليه غيره، ولا ريب أنها أصل للتبعية لبنائها عليه, على ما سيأتي بيانه قريبا.
والتبعية: ما كان اللفظ المستعار فيها فعلا، أو اسما مشتقا، أو حرفا.
وإليك بيان كل.
الاستعارة في الفعل:
الفعل له "مادة" هي حروفه الدالة على الحدث, وله "صيغة" وهي الهيئة الدالة على الزمان، كما في صيغتي الماضي والمضارع, والاستعارة في الفعل، باعتبار مادته: غيرها باعتبار صيغته.
__________
1 تقدم معنى التأويل فيه.(5/120)
فمثالها في الفعل، باعتبار مادته قولك: "نطقت حالك بكذا"، أي: دلت- فالنطق- كما هو معلوم- وصف للإنسان لا للحال، وإنما توصف الحال بالدلالة.
وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الدلالة الواضحة بالنطق في إيضاح المعنى، ثم ادعى "مبالغة" أن الدلالة داخلة في نطاق النطق. وفرد من أفراده، ثم استعير النطق للدلالة الواضحة، فصار النطق بمعنى الدلالة الواضحة1، ثم اشتق من النطق بهذا المعنى: "نطقت" بمعنى "دلت" على سبيل الاستعارة التبعية.. وقس على هذا.
ومثالها في الفعل، باعتبار صيغته قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فمن المعلوم أن أمر الله لم يأت بعد، وإنما سيأتي بدليل قوله: "فلا تستعجلوه, فكان سياق الكلام أن يقال: "يأتي أمر الله" بصيغة المضارع، لكنه عبر بصيغة الماضي تجوزا.
وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه الإتيان في المستقبل بالإتيان في الماضي في تحقق الوقوع، ثم ادعى أن الإتيان في المستقبل داخل في جنس الإتيان في الماضي، ثم استعير لفظ "الإتيان في الماضي" للإتيان في المستقبل، فصار الإتيان في الماضي، بمعنى الإتيان في المستقبل، ثم اشتق من الإتيان بهذا المعنى، "أتى" بمعنى "يأتي" على سبيل الاستعارة التبعية, وهكذا يقال في أمثال ما ذكر.
وكما تستعمل: صيغة الماضي في المستقبل -كما مثلنا- تستعمل صيغة المضارع في الماضي كما في قوله تعالى حكاية لقول إبراهيم عليه السلام لولده إسماعيل: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} . فالرؤيا المذكورة وقعت -لا محالة- فكان سياق الكلام أن يقال: إني رأيت في المنام.
__________
1 وإن أطلق النطق على الدلالة لا باعتبار التشبيه بل باعتبار أن الدلالة لازمة له كان مجازا مرسلا وقد عرفت فيما سبق: أنه لا امتناع في أن يكون اللفظ الواحد بالنسبة للمعنى الواحد استعارة ومجازا مرسلا باعتبار العلاقتين كما تقدم في المشفر والمرسن.(5/121)
لكنه عبر بصيغة المضارع تجوزا، قصدا إلى استحضار تلك الصورة العجيبة، هي صورة أب، يهم بذبح ابنه، دون ذنب جناه.
الاستعارة في المشتقات:
مثالها في اسم الفاعل قولك: "جليل أعمالك ناطق بكمالك" أي: دال عليه ففي "ناطق" استعارة تبعية. وإجراؤها أن يقال فيها على غرار ما قيل في نطقت الحال بكذا، غير أن المشتق من النطق هنا: "ناطق" بمعنى دال, ومثله قولك: "حكم على قاتلك بالسجن" أي: ضاربك ضربا أليما، وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شب الضرب الأليم، بالقتل: بجامع الألم الأليم، ثم استعير بعد التشبيه والادعاء لفظ "القتل" للضرب الأليم، فصار "القتل" بمعنى الضرب الأليم، ثم اشتق من القتل بهذا المعنى، "قاتل" بمعنى ضارب ضربا مبرحا، على سبيل الاستعارة التبعية.
ومثالها في اسم المفعول قولك: "رفع مقتولك أمره إلى الحاكم": تريد مضروبك ضربا أليما, وإجراء الاستعارة فيه على نحو ما تقدم, غير أن المشتق هنا اسم مفعول.
ومثالها في أفعل التفضيل قول الشاعر العربي:
ولئن نطقت بشكر برك مفصحا ... فلسان حالي بالشكاية أنطق
شبهت الدلالة بالنطق، على نحو ما سبق ثم اشتق من النطق بمعنى الدلالة "أنطق" اسم تفضيل بمعنى "أدل" على سبيل الاستعارة التبعية، وهكذا يقال في سائر المشتقات، فليس يعوزك القياس.
وإنما كانت الاستعارة في الفعل وفي سائر المشتقات "تبعية" لجريانها فيها تبعا لجريانها في مصادرها كما رأيت, فتشبيه الدلالة بالنطق مثلا يتبعه تشبيه "دل" "بنطق" واستعارة النطق للدلالة، يتبعه استعارة "نطق لدل", ذلك أن الفعل(5/122)
مشتق من المصدر، فكل تصرف يجري في المصدر يجري نظيره في الفعل، وفي سائر المشتقات.
وإنما اعتبر التشبيه والاستعارة في المصدر قبل اعتبارهما في الفعل، وفي سائر المشتقات؛ لأن المصدر هو المعنى القائم بالذات، فهو المقصود الجدير بأن يعتبر فيه التشبيه والاستعارة أولا هذا هو التحقيق.
الاستعارة في الحرف:
مثالها قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} .
اعلم أن لام العلة موضوعة لترتيب ما بعدها على ما قبلها: ترتب العلة على المعلول كما تقول "جئت إلى مصر لأرتشف العلم من مناهلها" فإن ارتشاف العلم مترتب على المجيء، وعلة باعثة عليه.
إذا علمت هذا علمت أن "اللام" في الآية المذكورة مستعملة في غير ما وضعت له؛ لأن ما بعدها -وإن كان مترتبا على ما قبلها- ليس علة باعثة, ذلك أن آل فرعون لم يلتقطوا موسى ليكون لهم عدوا وحزنا، وإنما التقطوه ليكون لهم حبيبا، يملأ رحباهم بهجة وسرورا.
ومذهب الجمهور في إجراء الاستعارة في مثل هذا: أنهم يعقدون التشبيه في متعلق معنى الحرف1، فيقولون في الآية المذكورة: شبه مطلق ترتب علة واقعية "كالعداوة والحزن" على الالتقاط, بمطلق ترتب علة حقيقية عليه "كالمحبة والسرور" بجامع مطلق ترتب شيء على شيء، فسرى التشبيه من الكليين إلى جزئياتهما، ثم استعيرت
__________
1 المراد بمتعلق معنى الحرف: المعنى الكلي الذي يستلزمه المعنى الجزئي للحرف فلفظ "في" مثلا موضوع لمعنى جزئي هو الظرفية الخاصة في قولك الماء في الكوز، وهذا المعنى الجزئي يتعلق بمعنى كلي هو مطلق ظرفية شيء في شيء، ومعنى تعلقه به: استلزامه له إذ الخاص يستلزم العام, ولام العلة كذلك موضوعة لمعنى جزئي هو ترتيب علة خاصة على معلول خاص كما في نحو جئت لأتلقى العلم. وهذا المعنى الجزئي يتعلق بمعنى كلي هو مطلق ترتيب شيء على شيء وهكذا.(5/123)
-بناء على التشبيه الحاصل بالسراية- "اللام" الموضوعة لجزئي من جزئيات المشبه به1 لجزئي من جزئيات المشبه2 على سبيل الاستعارة التبعية.
ومثل الآية المذكورة قولهم: "محمود في غبطة" فإن لفظ "في" موضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين كما تقول: "الماء في الجرة" فالحرف المذكور إذن مستعمل في غير ما وضع له؛ لأن مجروره لا يصلح للظرفية الحقيقية وإجراء الاستعارة فيه على مذهبهم أن يقال: شبه مطلق تلبس شيء لا يصلح للظرفية "كالغبطة" في المثال المذكور بشيء آخر, فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، ثم استعير لفظ "في" من أحد جزئيات المشبه به لأحد جزئيات المشبه، على سبيل الاستعارة التبعية ... وهكذا.
وصفوة القول: في الاستعارة التبعية: أن يقال: إن كانت الاستعارة في الفعل أو شبهه، بقدر التشبيه أولا في معنى المصدر. ثم ينقل المصدر إلى غير معناه الأصلي، ثم يشتق منه ما وقعت الاستعارة فيه: من فعل أو وصف، فتكون الاستعارة فيهما حينئذ تابعة للاستعارة في المصدر بلا خلاف.
وإن كانت الاستعارة في الحرف، فعلى مذهب الجمهور، في الرأي الراجح منه، يقدر التشبيه، "أولا" في متعلق معنى الحرف, ثم يقدر "ثانيا" من طريق السراية, في جزئية, ثم يستعار الحرف للمعنى المراد، فتكون الاستعارة في الحرف حينئذ تابعة لتشبيهين: أحدهما في متعلق معنى الحرف، والثاني في جزئيه, ولا يعوزك بعد هذا تطبيق الاستعارة على ما يعرض عليك من أمثلة في المشتقات أو الحروف.
__________
1 هو ترتب المحبة والسرور المتعلقين بموسى عليه السلام على الالتقاط.
2 هو ترتب العداوة والحزن المتعلقين أيضا بموسى عليه السلام على الالتقاط.(5/124)
قرينة التبعية:
هي: في الفعل وسائر المشتقات مرجعها -غالبا- إلى:
1- الفاعل: بأن يكون إسناد الفعل إليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد بالفعل: معنى يناسب الفاعل كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ونحو: "نطقت الحال بكذا" فالطغيان بمعناه الحقيقي يستحيل صدوره من الماء, كما أن النطق بمعناه الأصلي لا يتأتى صدوره من "الحال" إذ هما من شئون الإنسان، فدل ذلك على أن المراد "بالطغيان". معنى يصح إسناده إلى الماء، وهو الكثرة التي جاوزت الحد, وأن المراد: "بالنطق": ما يصح نسبته إلى "الحال"، وهو الدلالة الواضحة, ففي كل من "طغى ونطق" استعارة تبعية، قرينتها "الماء" في الأول و"الحال" في الثاني، وكلاهما فاعل:
2- نائب الفاعل: بأن يكون إسناد الفعل إليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد بالفعل معنى يناسب نائب الفاعل كما في قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} فالضرب وهو نصب الشيء من شأن الخيام، لا من شأن الذلة والمسكنة: إذ هما أمران معنويان، فدل ذلك على أن المراد "بالضرب" معنى يناسبهما، وهو "الحكم" ويكون المعنى حينئذ: حكم عليهم بالذلة والمسكنة, ففي "ضرب" حينئذ استعارة تبعية، قرينتها لفظا "الذلة"، "والمسكنة", وكلاهما نائب فاعل1.
3- المفعول بأن يكون تسلط العامل عليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد منه: معنى يناسب المفعول. من ذلك قول ابن المعتز يمدح والده:
جمع الحق لنا في إمام ... قتل البخل وأحيا السماحا
__________
1 شبه الحكم على الشيء بنصب الخيام عليه بجامع الاشتمال في كل، ثم استعير ضرب الخيام للحكم، واشتق منه، "ضرب" بمعنى حكم على سبيل الاستعارة التبعية.(5/125)
"فالقتل والإحياء" بمعناهما الحقيقي لا يقعان إلا على ذي روح، "والبخل والسماح" ليسا من ذوات الروح، فدل ذلك على أن المراد "بالقتل": معنى يناسب البخل، وهو الإزالة، وأن المراد "بالإحياء": معنى يناسب الجود، وهو "الإكثار"، وكأنه يقول: أزال البخل، وأكثر السماح1 ففي كل من "قتل" وأحيا" استعارة تبعية. قرينتها "البخل" في الأول و"السماح" في الثاني وكلاهما مفعول. وقد تكون القرينة المفعول الثاني، كما في قول القطامي من قصيدة:
نقريهمو لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كان زراد2
يقول: "نطعنهم طعنات نافذات، تقد الدروع، وتشق الضلوع, والشاهد: قوله: "نقريهمو" فهو استعارة تبعية تهكمية، قرينتها قوله: "لهذميات" وهو المفعول الثاني "لنقري", ذلك أن "القرى" في الأصل: تقديم الطعام للضيف, فلا يصح إيقاعه بهذا المعنى على "اللهذميات" التي هي الطعنات النافذات، أو الأسنة الماضيات, فعلم: أن المراد "بالقرى" معنى يناسب هذه الطعنات أو الأسنة، وهذا المعنى هو تقديمها إلى الأعداء عند اللقا وكأنه يقول: نقدم إليهم لهذميات نقد بها ... إلخ.
وقد تكون القرينة المفعولين معا، كما في قول الحريري:
__________
1 شبه أولا إزالة البخل بالقتل بجامع ما يترتب على كل من العدم، ثم استعير القتل للإزالة واشتق منه قتل بمعنى أزال وشبه ثانيا الإكثار من الشيء بإحيائه بجامع شيوع المنفعة، ثم استعير "الإحياء" للإكثار، واشتق من "الإحياء" بمعنى الإكثار "أحيا" بمعنى أكثر على سبيل الاستعارة في الموضوعين.
2 "نقريهمو" من القرى على زنة "إلى"، وهو تقديم الطعام إلى الضيف، و"اللهذميات" جمع لهذمية وهي الطعنة الواسعة نسبة إلى لهذم وهو السنان القاطع. و"القد" القطع و"خاط" بمعنى قدر على التضمين ولهذا عدى "بعلي"، و"الزراد" صانع الزرد بفتح الراء وهو الدرع, شبه تقديم الطعنات أو الأسنة عند اللقاء بالقرى بجامع أن كلا تقديم ما يصل من خارج إلى داخل، ثم استعير القرى لتقديم الطعنات أو الأسنة على سبيل الاستعارة التبعية.(5/126)
وأقرى المسامع أما نطقت ... بيانا يقود الحرون الشموسا1
يصف نفسه بسحر البيان وعذوبة المنطق، فيقول: وأقدم إلى المسامع بيانا يكبح بسحره وعذوبته جماح النفوس الصوادف, والشاهد قوله: "وأقرى المسامع بيانا" فإن في "أقرى" استعارة تبعية، قرينتها تعلق القرى بكل من "المسامع والبيان" ذلك أن "القرى" كما قدمنا -تقديم الطعام إلى الضيف، فلا يصح إيقاعه بهذا المعنى على المسامع والبيان، فعلم من هذا: أن المراد به: معنى يناسبهما، وهو التقديم والإلقاء.
4- المجرور بأن يكون تعلق الفعل بالمجرور غير مناسب، فيدل ذلك على أن المراد به: معنى يناسب ذلك المجرور- كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} فالتبشير إخبار بما يسر, فلا يناسب تعلقه "بالعذاب" فيعلم من هذا أن المراد بالتبشير: معنى يناسب العذاب، وهو الإنذار، أي: الإخبار بما يسيء, وإذن ففي قوله: "بشرهم" استعار تبعية تهكمية، قرينتها مجرور الحرف2, ومثهل قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} فإن الهداية هي الدلالة بلطف، وهذا المعنى لا يناسب تعلقه "بالجحيم" فالمراد إذن معنى يناسبه: وهو الجر بعنف لا هوادة فيه، وإذن ففي قوله: "فاهدوهم" استعارة تبعية تهكمية كذلك, قرينتها مجرور الحرف كسابقتها.
وقد تكون القرينة غير ما ذكرنا كما في قوله تعالى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} على أن يكون "مرقد" اسم مكان، بمعنى القبر، ليكون استعارة تبعية, شبه الموت بالرقود: بجامع فقد الإحساس، ثم استعير لفظ "الرقود" لمعنى "الموت"، ثم اشتق منه "مرقد" اسم مكان، بمعنى مكان الموت أي: القبر، على سبيل الاستعارة
__________
1 "أقرى" مضارع قرى, و"الحرون" من الخيل ما لا ينقاد لصاحبه والشموس مثله يقال: حرن الفرس وشمس إذ منع ظهره.
2 نزل التضاد بين التبشير والإنذار منزلة التناسب بينهما, على ما سبق في باب التشبيه، ثم شبه الإنذار بالتبشير في أن كلا إخبار بما يسر، ثم استعير التبشير للإنذار، واشتق منه "بشر" بمعنى أنذر على سبيل الاستعارة التبعية التهكمية.(5/127)
التبعية, والقرينة كون هذا الكلام صادرا من الموتى يوم البعث، مع ضميمة قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} وكما تقولون: قتلت عمرا "إذا ضربته ضربا موجعا" فإن القرينة فيه على أن المراد بالقتل: الضرب الأليم حالية.
تقسيم الاستعارة باعتبار الملائم:
تنقسم الاستعارة باعتبار ذكر الملائم لأحد الطرفين، وعدم ذكره إلى مرشحة، ومجردة، ومطلقة.
فالمرشحة: ما قرنت بما يلائم المستعار منه، وهو المشبه به, سواء كان ذلك الملائم صفة نحوية، أو معنوية، أو كان تفريعا1.
فمثال الترشيح بالصفة النحوية، قولك: "رأيت أسدا حاد الأظفار، متنقش اللبدة، رهب الزئير", وقولك: "رأيت بحرا بعيد الغور، لا ساحل له", فقد استعير في الأول "الأسد" للرجل الجريء، ثم وصف المستعار منه بما يلائمه: من حدة الأظفار، وانتفاش اللبدة، ورهبة الزئير ترشيحا للاستعارة, واستعير في الثاني "البحر" للعالم الجليل، ثم وصف المستعار منه بما يلائمه: من بعد الغور، وانتفاء الساحل ترشيحا للاستعارة كذلك- وكلا الترشيحين وصف نحوي- والقرينة في المثالين حالية.
ومثال الترشيح بالصفة المعنوية قول الشاعر:
ينازعني "ردائي" عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمر بن بكر
__________
1 الفارق بين الصفة والتفريع أن: الملائم إن كان من بقية الكلام الذي فيه الاستعارة فهو صفة، وإن كان كلاما مستقلا جيء به بعد الكلام الذي فيه الاستعارة مبنيا عليه كان تفريعا, والعبرة بالاعتبار والقصد، فنحو قولك: "رأيت أسدا يرمي" يصح أن يكون صفة وأن يكون تفريعا.(5/128)
لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر1
يقول: ينازعني عبد عمرو سيفي الذي أقي به نفسي وعرضي، ثم التفت قائلا: تمهل فسأقسم بيني وبينك، فأحتفظ لنفسي بقائمه الذي بيدي، وأعطيك أنت صدره، فهو يهدده بالقتل, والشاهد فيه: أنه استعار الرداء للسيف, تشبيه السيف به، في أن كلا وقاية حفظ. فالرداء يحفظ السوأة، والسيف يحفظ الحمى، ثم وصف الرداء الذي هو المستعار منه بما يلائمه من الاعتبار، إذ هو لف الرأس بنحو ثوب ترشيحا للاستعارة -والقرينة حالية كذلك.
ومثال الترشيح بالتفريع قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 2, استعير الاشتراء للاختيار والإيثار، ثم فرع عليه ما يلائم المستعار منه، وهو "نفي الربح في التجارة" ترشيحا للاستعارة, وقرينتها ثبوت الاشتراء بمعناه الحقيقي.
ويسمى هذا القسم "استعارة مرشحة" لأن الترشيح معناه: التقوية، وذكر ملائم المشبه به يبعدها عن الحقيقة، ويقوي فيها دعوى الاتحاد التي هي مبنى الاستعارة.
والمجردة: ما قرنت بما يلائم المستعار له، وهو المشبه, سواء كان الملائم صفة نحوية، أو معنوية، أو تفريعا.
فمثال التجريد بالصفة النحوية، قول أبي عبادة البحتري:
__________
1 "رويدك" اسم فعل بمعنى أمهل، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، "ودونك" اسم فعل بمعنى خذ، والاعتجار لف الرأس بنحو ثوب، وأراد بالشطر الذي ملكت يمينه: قاتم سيفه، وبالشطر الآخر: صدر السيف.
2 شبه إيثار الباطل على الحق بالاشتراء بجامع استبدال شيء مرغوب عنه بشيء مرغوب فيه، ثم استعير الاشتراء للإيثار، ثم اشتق من الاشتراء بمعنى الإيثار اشتروا بمعنى "آثروه" واختاروا استعارة تبعية.(5/129)
يؤدون التحية من بعيد ... إلى قمر من الإيوان باد1
استعار القمر للإنسان الجميل، ثم وصف المستعار له بما يلائمه: من كونه مطلا من الإيوان تجريدا للاستعارة, وقرينتها قوله: يؤدون التحية من بعيد "والتجريد وصف نحوي, كما ترى.
ومثال التجريد بالصفة المعنوية قول كثير عزة:
غمر الرداء ذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال2
يقول: إنه كثير العطاء واسع البذل، إذا ابتسم لطالبي معروفه تمكنت رقاب المال من أيديهم، وتعذر انفكاكها، كالرهن الحبيس في يد المرتهن، وقد عجز الراهن عن استرداده, والشاهد فيه: استعارة الرداء للعطاء بعد تشبيه العطاء به في أن كلا وقاية حفظ وصيانة, فالمال يصون العرض، والرداء يصون السوأة، ثم وصف المستعار له الذي هو "العطاء" بما يلائمه "وهو الغمر"3 تجريدا للاستعارة، وهو -كما ترى- وصف معنوي وقرينتها تتمة الكلام: من تبسم الممدوح، وحبس رقاب أمواله في أيدي العفاة.
ومثال التجريد بالتفريع قولهم: "رأيت غضنفرا في حومة الوغى، فلجأت إلى ظل رمحه" استعير الغضنفر للرجل المقدام بقرينة قوله: "في حومة الوغى" ثم فرع عليه بما يلائم المستعار له: من اللجوء إلى ظل رمحه تجريدا للاستعارة.
..
__________
1 "الإيوان" اسم لبناء ضخم ومنه إيوان كسرى.
2 "الغمر" في الأصل الماء الكثير, واستعمل هنا بمعنى كثير العطاء مجازا، ومن هنا يعلم أن لا مائع من أن يكون الملائم متجوزا فيه. وفي قوله "تبسم ضاحكا" وصف للممدوح بالبشر والطلاقة وذلك
أمارة الارتياح للبذل، وقوله: "غلقت" من غلق الرهن في يد المرتهن إذا لم يقدر الراهن على فكه لعجزه عن أداء الدين. و"الضحكة" بفتح الضاد وسكون الحاء المرة من الضحك، ويريد برقاق المال: أصوله.
3 هذا إذا كان من غمر الماء إذا كثر, أما إذا كان من قولهم: ثوب غامر أي: واسع فضفاض فهو ترشيح.(5/130)
وسمي هذ القسم: "استعارة مجردة" لتجردها عما يقوي فيها دعوى الاتحاد، ولا شك أن ذكر ما يلائم المستعار له يقربها من المعنى الحقيقي، ويضعف فيها دعوى الاتحاد بين الطرفين. وقد اجتمع الترشيح والتجريد في قول الشاعر:
رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلدي وهو القلب جارح
استعار السهم للنظر بجامع شدة التأثير، وريشه، ترشيح لأنه من ملائمات المستعار منه ومن قولهم: راش السهم إذا ألصق عليه الريش، ليكون أحكم في الرماية "والكحل" تجريد لأنه من ملائمات المستعار له, وبهذا الاعتبار تكون قرينة الاستعارة حالية, فإذا اعتبر "الكحل" قرينة كان "ريشه" ترشيحا، واعتبرت الاستعارة حينئذ مرشحة.
ومما ينبغي أن يعلم: أن اعتبار الترشيح والتجريد، إنما يكون بعد تمام الاستعارة وهي إنما تتم باستيفاء قرينتها, فقولك مثلا: "رأيت سحابا يعطي" استعارة، لا ترشيح فيها ولا تجريد لعدم اقترانها بما يلائم أحد الطرفين, وأما قولك: "يعطي" فهو قرينة الاستعارة، فلا يعتبر تجريدا وإن كان من ملائمات المستعار له، ولو أن القرينة في هذا المثال حالية، لكان قولك: "يعطي" تجريدا للاستعارة لملاءمته للمستعار له.
والمطلقة: ما لم تقترن بشيء من ملائمات أحد الطرفين، كما تقول: "ظمئي إلى لقائك شديد"، استعير الظمأ للشوق، بقرينة قولك: إلى لقائك، فالاستعارة مطلقة لعدم اقترانها بشيء يلائم أحد الطرفين.
وسمي هذا القسم: "استعارة مطلقة" لإطلاقها عن التقييد بما يلائم أحد طرفي الاستعارة, كما رأيت.
قالوا: ومن قبيل المطلقة: ما اجتمع فيه ترشيح وتجريد وتساويا؛ لأنهما باجتماعهما يتعارضان فيتساقطان، وكأن لا ترشيح ولا تجريد، كما في قول الشاعر السابق: "رمتني بسهم ريشه" إلخ، على اعتبار أن القرينة فيه حالية, فإذا زاد أحدهما على الآخر رجح جانبه.(5/131)
موازنة بين الاستعارات الثلاث:
الاستعارة المرشحة كما قلنا: ما ذكر فيها ما يلائم المستعار منه "أي: المشبه به", وهذا مما يزيد الاستعارة قوة مبالغة, ذلك أن مبنى الاستعارة كما علمت على تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه هو المشبه به عينه، لا شيء سواه, والترشيح الذي هو ذكر ملائم المشبه به: إمعان في هذا التناسي وغلو في دعوى الاتحاد، وكأن ليس هناك استعارة، بل ولا تشبيه، حتى إنك لتجد الشاعر أو الناثر, يمعن في إنكارهما، ويخيل للسامع: أن الأمر محمول على حقيقته، لا تجوز فيه. ألا ترى إلى قول أبي تمام:
ويصعد حتى يظن الجهول1 ... بأن له حاجة في السماء
استعار لفظ "الصعود" الذي هو العلو الحسي المكاني: لعلو المرتبة، ثم بنى كلامه على أنه صعود حسي حقيقة، إمعانا منه في تناسي التشبيه، وفي إنكار أن هناك استعارة فذكر ما يلائم الصعود الحسي: من ظن الجهول بحقائق الأشياء: أن له حاجة ينشدها في السماء, ولولا أنه قصد أن يتناسى الاستعارة, ويصر على إنكارها إصرارا، وأنه جعل الممدوح صاعدا في السماء صعودا حسيا مشاهدا -ما كان لهذا الكلام وجه- ومثله قول أبي الطيب السابق:
ولم أر قبلي من مشى البحر نحوه ... ولا رجلا قامت تعانقه الأسد
فنفيه أن يرى "البحر" يمشي إلى إنسان "وأن يرى الأسود تعانق رجلا مبني على أنه أراد: المعنى الحقيقي لهما مبالغة, إذ لم يعهد أن يسعى البحر نحو إنسان، أو أن تعانقه الأسود, فكل ذلك بمني على الإمعان في تناسي التشبيه، والغلو في إنكار الاستعارة, يؤيد ذلك قول ابن العميد يصف غلاما قام يظلله من حر الشمس.
__________
1 إن في التعبير "بالجهول" فضل مبالغة في المدح لما فيه من الإشارة إلى أن هذا الوصف إنما هو في ظن الجهول لنقصان عقله, أما العاقل فيعرف أن لا حاجة له في السماء لاتصافه بسائر الكمالات, فإفراطه في العلو إنما هو لمجرد التعالي على الأنداد.(5/132)
قامت تظللني من الشمس ... نفس أعز علي من نفسي
قامت تظللني ومن عجب ... شمس تظللني من الشمس1
وقول الشاعر السابق2:
لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر3
ففي الأول: استعار "الشمس" للإنسان ذي الوجه المشرق, وفي الثاني استعار "القمر" لهذا الإنسان, ثم تناسى التشبيه، وتناسى الاستعارة، وبنى الكلام على أن الشمس والقمر حقيقيان, ولولا أن ابن العميد ادعى لغلامه معنى الشمس الحقيقية: لما كان للتعجب معنى، إذ ليس بدعا أن يظل إنسان حسن الوجه إنسانا آخر، ويقيه بشخصه وهج الشمس, كذلك لولا أن أبا الحسن جعل صاحبه قمرا حقيقيا: لما كان ثم وجه للنهي عن التعجب من الكتان إنما يسرع إليه البلى حين يلابس القمر الحقيقي -كما يقولون- لا حين يلابس إنسانا بلغ الغاية في الحسن.
وإذا كان هذا شأن المرشحة كانت جديرة أن تحتل المكان الأول بين أختيها.
ويلي المرشحة في القوة: الاستعارة "المطلقة": إذ هي التي لا يذكر فيها شيء يلائم أحد الطرفين -كما عرفت، فهي- وإن خلت مما يقوي تناسي التشبيه، ويدعم دعوى الاتحاد: من ذكر ما يلائم المشبه به ليس فيها ما ينافيهما: من
__________
1 ضمن التظليل معنى المنع فعداه "بمن" أي: تمنعني من حر الشمس، وأنث الفعل مراعاة لتأنيث اللفظ.
2 هو الشريف أبو الحسن يتصل نسبه بعلي بن أبي طالب وهو شاعر مفلق.
3 البلى "الفناء" والغلالة بكسر الغين شعار يلبس تحت الثوب، و"زر" بمعنى شد.(5/133)
ذكر ما يلائم المشبه -وإذا كان هذا حالها- كانت خليفة أن تحتل مكانا وسطا بين أختيها.
ومن هنا يبدو واضحا: أن الاستعارة المجردة في المرتبة الدنيا لاشتمالها على ما يلائم المشبه، إذ هو يتعارض مع ما تقتضيه الاستعارة: من تناسي التشبيه، ودعوى الاتحاد، قضاء لحق المبالغة.
اختبار:
1- عرف كلا من الاستعارة الوفاقية والعنادية ومثل لكل، مع إجراء الاستعارة فيما تمثل به. ومن أي قبيل قولهم: كان ميتا فأحييناه.
2- أجر الاستعارة في قولهم: قابلني اليوم قس بن ساعدة، يريدون: "رجلا عييا" وبم تسمي هذا النوع من الاستعارة؟
3- عرف الجامع وافرق بينه وبين وجه الشبه في التشبيه. ثم قسم الاستعارة باعتباره، وعرف كل قسم، ثم أجر الاستعارة في الحديث الشريف: "خير الناس ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها" ومن أي القسمين هذه الاستعارة.
4- عرف الاستعارة الخاصة، ومثل لها, مع بيان موضع الغرابة فيهما.
5- ما وجه غرابة استعارة "سيلان الماء لسير الإبل" في قول الشاعر: "وسالت بأعناق المطي الأباطح"، مع ما نراه من سذاجتها؟
6- قسم الاستعارة باعتبار حسية الطرفين وعقليتهما، ومثل لكل بمثال، ومن أي قبيل قوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ؟
7- قسم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار، وعرف كل قسم، ومثل له، وكيف صحت الاستعارة في نحو: زارني اليوم بأقل، تريد رجلا عييا، مع اشتراط أن يكون المستعار منه كليا، ثم أجر الاستعارة في نحو: "قتل على خصمه". أي: أذله، مع بيان نوع الاستعارة في المثال.(5/134)
8- بين وجه كون الاستعارة في المشتقات تبعية، ووضح ذلك في مثال، ثم بين نوع الاستعارة، مع إجرائها في قولهم: فلان في بسطة من العيش, مع بيان علة تسميتها تبعية في الحرف.
9- بين مناط قرينة التبعية، مع التمثيل، ومع بيان قرينة الاستعارة في قوله: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} .
10- قسم الاستعارة باعتبار ذكر الملائم، وعرف كل قسم، ومثل له مع بيان علة التسمية في كل منها، وهل من التجريد لفظ "يتصدق" من نحو: رأيت بحرا يتصدق؟
11- كيف كانت المرشحة أبلغ من أختيها، وأي الأختين أبلغ من الأخرى، وجه ما تقول مع التمثيل.
تمرينات منوعة:
1- أجر الاستعارة وبين نوعها وقرينتها فيما يأتي: نزلت على حاتم، تريد: رجلا بخيلا، فبشرهم بعذاب أليم. اشتعل الرأس شيبا، يقول الشاعر يصف تشتيت المهزومين:
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة ... كما نثرت فوق العروس الدراهم
2- بين في الاستعارات الآتية: الطرفين والجامع بينهما:
تلك آية بينة تخرج متدبرها من العمى إلى الإبصار، دخلنا حديقة فرشقتنا ألحاظها، وابتسمت لقدومنا ثغورها، يابن القمرين أقبل: تعلمت الكرم من سحاب لا يكف، ومعين لا ينضب.
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد
3- بين في التشبيهات الآتية وجه الشبه، ثم حولها إلى استعارات مبينا نوع كل استعارة وقرينتها: في هذه الخميلة أزهار كأنها الكواكب، وفوق الأغصان كروان(5/135)
تحاكي القيان. سكبت دمعا كحبات الجمان:
قوم إذا نهضوا لنجدة صارخ ... ركبوا الجياد كأنهم رياح
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق
له خال على صفحات خد ... كنقطة عنبر في صحن مرمر
4- مثل لما يأتي استعارة عنادية تهكمية، استعارة داخلية طرفاها عقليان. استعارة خاصية، مع بيان وجه الغرابة فيها, استعارة أحد طرفيها حسي والآخر عقلي، استعارة تبعية قرينتها المفعول. استعارة مجردة، وأخرى مرشحة بوصف معنوي.
5- علام استشهد بما يأتي؟ فبشرهم بعذاب أليم.
نقريهم لهذميات نقد بها
ما كان خاط عليهم كل زراد
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} .
جمع الحق لنا في إمام ... قتل البخل وأحيا السماحا
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... علقت لضحكته رقاب المال(5/136)
المجاز المركب:
قلنا -فيما سبق- أن المجاز على نوعين: مفرد ومركب، وقد فرغنا من الكلام في المفرد، وهاك بيان المجاز المركب.
تعريفه: هو ما ذهب إليه أعلام البيان, اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصل، تشبيه تمثيل مبالغة.
ومقتضى هذا التعريف: أن المجاز المركب عندهم لا يجري في غير الاستعارة, غير أن القياس لا يمنع أن يجري في غيرها، كالجمل الخبرية المقصود بها: معنى إنشائي كما في قول الشاعر:
مضت الليالي البيض في زمن الصبا ... وأتى المشيب بكل يوم أسود
وإذن فمقتضى القياس: أن يعرف المجاز المركب: بأنه اللفظ المركب المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي. مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي -وهو- باعتبار هذه العلاقة نوعان:
1- مجاز مركب علاقته المشابهة, ويسمى: "تمثيلا"1، واستعارة تمثيلية.
2- مجاز مركب علاقته غير المشابهة, ويسمى مجازا مركبا مرسلا.
__________
1 إذا أطلق لفظ التمثيل انصرف إلى الاستعارة التمثيلية، فإذا أريد التشبيه ذو الوجه المركب قيل تشبيه التمثيل، أو تشبيه تمثيلي.(5/137)
الاستعارة التمثيلية:
هي اللفظ المركب المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. كما تقدم في التشبيهات المركبة، أي: في الهيئات المنتزعة من أمور متعددة، إذا استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه.(5/137)
كما تقول وأنت تنظر إلى الشمس. أرى مرآة في يد شلاء، تريد هذا الجرم الخاص, فقد شبهت هيئة الشمس السابق ذكرها: بهيئة المرآة في كف أشل، بجامع الهيئة الحاصلة في كل، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه، على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة الحالية.
وكما تخبر عن إنسان يحاول أمرا لا يحصل منه على غاية: "رأيت من يرقم على الماء"، فهذا المركب غير مستعمل في معناه الوضعي، إذ إن المحدث عنه لا يرقم على الماء ولكن حاله وهو يعالج أمرا لا نتيجة له: تشبه حال من يرقم على الماء فصح استعمال هذا المركب في الرجل المذكور لتشابه الحالين.
من ذلك ما كتبه الوليد بن يزيد، حين بويع بالخلافة إلى مروان بن محمد وقد بلغه توقفه عن البيعة له: "أما بعد: فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى1" وحقيقة الكلام: إني أراك متحيرا في أمرك، مترددا فيه, وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة تردده في قبول البيعة بين الإقدام والإحجام بهيئة رجل قام ليذهب إلى جهة, فتارة يعقد النية على الذهاب فيقدم رجلا، وتارة يعدل، فيؤخرها ثانيا. والجامع: الهيئة الحاصلة بين إقدام تارة، وإحجام أخرى, ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية, والقرينة حالية، إذ إن المتردد المذكور لا يقدم رجلا ولا يؤخرها فحاله على غير ما يدل عليه التركيب وضعا.
وكما نقول فيمن يعمل الحيلة، فيرفق بصاحبه، ويلاطفه حتى يميله إلى ما يريد: "ما زال يفتل له في الذروة والغراب، حتى بلغ منه ما أراد", فقد شبه حاله معه: بحال من يأتي للبعير الحرون، فيحكه، ويفتل له الشعر في ذروته وغاربه،
__________
1 قوله: "تقدم رجلا" أي: تارة، ومفعول، ومفعول، "تؤخر" محذوف أي: تلك الرجل المقدمة وقوله: "أخرى صفة لتارة" المحذوفة أي: تارة أخرى, وأصل الكلام إني أراك تقدم رجلا تارة، وتؤخرها تارة أخرى, وتتمة الكلام. فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام.(5/138)
حتى يسكن ويستأنس, فكل هذا وأشباهه يسمى. تمثيلا، أو استعارة تمثيلية.
وإنما سميت الاستعارة في المركب "تمثيلا"لجريان التشبيه فيه بين الهيئات المنتزعة من متعدد، كما في الأمثلة المذكورة، فمعنى التمثيل فيه واضح لكثرة ما اعتبر فيه مما أوجب غرابته, وإذا فشت الاستعارة التمثيلية، وشاع استعمالها باقية على هيئتها. أطلقوا عليها لفظ:
المثل:
وهو استعارة تمثيلية شاع استعمالها, ويراعى فيه المعنى الذي ورد فيه أولا، فيخاطب به المفرد، والمثنى، والجمع, مذكرا أو مؤنثا، من غير تغيير في العبارة الواردة؛ لأنه -كما قلنا- استعارة تمثيلية، والاستعارة يجب أن تكون لفظ المشبه به المستعمل في المشبه كما في مثال "المتردد" فقد ورد في شخص معين، ثم شاع استعماله حتى صار مثلا يضرب لكل متحير في أمره -مفردا كان أو غير مفرد- مذكرا أو مؤنثا. فيقال لكل واحد مما ذكر: أراك تقدم رجلا إلخ. فينطق به كما ورد.
ومثل المثل المذكور قولهم: "الصيف ضيعت اللبن" بكسر تاء الفاعل إذ قد ورد في امرأة فرطت في أمر، ثم طلبته بعد فوات فرصته، ثم شاع استعماله وذاع، حتى صار مثلا يضرب لكل من طلب أمرا، بعد التفريط فيه، وبعد فوات وقته. ومثله قولهم: "اليد لا تصفق وحدها" وهو مثل يضرب لمن يحاول أمرا وحده، فيعجز عنه، تشبيها له بمن يحاول أن يصفق بيد واحدة, وكقولهم: "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن" لمن يعرض له أمر لا يشتهيه، تشبيها له بربان السفينة، تزجيها الرياح إلى غير الوجهة التي يريدها, وهكذا يقال في جميع الأمثال السائرة نثرا ونظما.
المجاز المركب المرسل1:
هذا هو القسم الثاني من قسمي المجاز المركب.
__________
1 أطلق عليه هذا الاسم قياسا على المجاز المفرد.(5/139)
وهو اللفظ المركب في غير ما وضع له لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة, كما في الجمل المستعملة في معان لم توضع لها، كالتحسر في قول الشاعر:
ذهب الصبا وتولت الأيام ... فعلى الصبا وعلى الزمان سلام
فالبيت مستعمل في معنى التحسر على ذهاب الشباب، وتصرم أيامه العذاب، والعلاقة فيه اللزوم، إذ يلزم من الإخبار بفوات الشباب، وانقضاء أيامه النضرات: التحسر والأسى على فواته، بقرينة قوله فعلى الصبا ... إلخ -هكذا قيل- وقيل: إن المعاني المقصودة مستفادة من طريق التلويح والإشارة، واللفظ مستعملا فيها، وهذا الرأي هو ما ارتاح له, وإذا فرغنا من بحث الاستعارة التحقيقية، فهاك:(5/140)
الاستعارة المكنية 1:
تعريفها: اختلف فيه -فذهب الخطيب إلى أنها التشبيه المضمر في النفس، المدلول عليه بإثبات لازم المشبه به للمشبه, فالتشبيه فيها غير مصرح بشيء من أركانه سوى المشبه- والدليل على التشبيه حينئذ إثبات ذلك اللازم المختص بالمشبه به للمشبه2 كما في قول الشاعر:
وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
يقول: إذا قدر لك أن تكون ملحوظا بعناية الله، فلن يمسك ضر، وكنت بمأمن من كل سوء, والشاهد في لفظ "العناية" فإن فيه استعارةبالكناية, يقال في إجرائها على هذا المذهب: شبهت العناية بإنسان تشبيها مضمرا في النفس، ثم تنوسي التشبيه، وادعي أن المشبه من أفراد المشبه به، ثم أثبت لازم المشبه به وهو "العيون" للمشبه الذي هو "العناية" قصدا إلى المبالغة.
__________
1 وتسمى الاستعارة بالكناية.
2 لأن إثبات لازم الشيء لغيره يدل على أن ذلك الغير مشبه بذلك الشيء ومنزل منزلته، وإلا ما صح أن يثبت له لازمه.(5/140)
ومثله قول الحجاج في خطبته المشهورة: إني لأرى رءوسا قد أينعت. وحان قطافها إلخ, ففي "رءوسا" استعارة بالكنابة, شبه فيها الرءوس بالثمرات تشبيها مضمرا في النفس، ثم تنوسي التشبيه -على ما سبق- في البيت قبله، ثم ثبت لازم المشبه به، وهو قوله: "أينعت" للمشبه مبالغة، وقوله: "حان قطافها" ترشيح للاستعارة, وعلى هذا القياس.
وعلى هذا المذهب خرجت الاستعارة عن أن تكون من أفراد المجاز اللغوي؛ لأنه: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، فهو من عوارض الألفاظ, والاستعارة المكنية على هذا المذهب: هي التشبيه المضمر في النفس، وهو فعل من أفعال المتكلم، وإذن فإطلاق الاستعارة عليها -في رأي الخطيب- مجرد تسمية خالية عن المناسبة1, وأما إطلاق لفظ المكنية عليها فواضح، إذ لم يصرح فيها بالتشبيه، وإنما كنى عنه بذكر لازم المشبه به، وإثباته للمشبه.
أما تعريفها -عند الجمهور- فهي لفظ المشبه به، المستعار في النفس للمشبه، والمحذوف المدلول عليه بشيء من لوازمه كما في قول الشاعر السابق، فقد استعير فيه بعد التشبيه لفظ "الإنسان" للعناية. ثم قدر في النفس حذف الشبه به، ودل عليه بذكر بعض خواصه، وهو "العيون" على سبيل الاستعارة بالكناية، ثم أثبت ذلك اللازم للمشبه.
وسميت مكنية -على هذا المذهب- لعدم التصريح فيها بالمشبه به، والكناية عنه بذكر بعض خواصه, أما تسميتها "استعارة", على هذا الرأي فأمرها واضح؛ لأنها عندهم: اللفظ المستعار، فهي من أفراد المجاز اللغوي, بخلافها على رأي الخطيب على ما سبق.
__________
1 التمس بعضهم وجها لهذه التسمية هو: أن هذا التشبيه المضمر أشبه الاستعارة من حيث إن فيه ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به. ذلك أنه لما أثبت اللازم للمشبه دل ذلك على أن مريد التشبيه ادعي دخوله في جنس المشبه به حتى استحق خواصه والادعاء المذكور من شأن الاستعارة.(5/141)
قرينة المكنية: هي عند الخطيب والجمهور: إثبات لازم المشبه به للمشبه كإثبات العيون للعناية في قول الشاعر السابق، وكإثبات الأظفار "للمنية" في قولهم: "أنشبت المنية أظفارها بفلان"، وهذا الإثبات يسمى عند الطرفين: استعارة تخييلية. أما أنه استعارة فلأن اللازم المذكور استعير للمشبه، وأثبت له، بمعنى أنه نقل عما يناسبه، واستعمل مع ما شبه بما يناسبه, وأما أنه "تخييلي" فلأن ذلك اللازم، لما نقل وأثبت: خيل للسامع أن المشبه من جنس المشبه به.
ومن هنا يعلم: أن الخطيب يخالف الجمهور في المكنية على ما سبق، ويتفق معهم في قرينتها، إذ هي -عند الطرفين- إثبات لازم المشبه به للمشبه.
ومما ذكرنا يتبين لك أمور ثلاثة:
الأول: أن قرينة المكنية استعارة تخييلية دائما، إذ هي -كما علمت- إثبات لازم المشبه به للمشبه، وهذا الإثبات يسمى عند الفريقين "تخييلا" وقد علمت وجهه.
الثاني: أن المكنية لا تنفك عن التخييلية؛ لأن التخييلية قرينتها، ولا بد للاستعارة من قرينة فهما إذن متلازمتان، لا توجد إحداهما بدون الأخرى.
الثالث: أن طرفي الاستعارة التخييلية مستعملان في معنييهما الحقيقيين "فالعيون والعناية" في البيت السابق، كلاهما مستعمل في المعنى الذي وضع له, والتجوز إنما هو في إثبات العيون للعناية، إذ إن العناية لا عيون لها، فهو إذن إثبات الشيء لغير ما هو له، كما في المجاز العقلي في نحو: أنبت الربيع الزرع، فإن كلا من "الإنبات والربيع" مستعمل في المعنى الذي وضع له، والتجوز إنما هو في إسناد الإنبات إلى الربيع، وإنباته له.
ثم إن اللازم المراد إثباته للمشبه -منه ما يكون به كما وجه المشبه في المشبه به- ومنه ما يكون به قوامه ووجوده فالأول كما في بيت الهذلي:(5/142)
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع1
يقول: إذا حان الأجل عجزت عنده الحيل، إذ لا مرد لقضاء الله, شبه الشاعر في نفسه المنية بالسبع في "الاغتيال" ثم تناسى التشبيه -على ما سبق- ثم أثبت لازم المشبه به للمشبه -ويقال- على رأي القوم بعد إجراء التشبيه: ثم استعير لفظ المشبه به، ثم حذف ورمز له بشيء من لوازمه، وأثبت للمشبه, والشاهد فيه: أن "الاغتيال" الذي هو وجه الشبه، يمكن حصوله بغير "الأظفار" "كالأنياب" مثلا غير أنه بالأظفار يكمل ويتم, والثاني كما في قول الشاعر السابق:
ولئن نطقت بشكر برك مفصحا ... فلسان حالي بالشكاية أنطق
يقول: إن نطقت بشكرك ليد لك علي، فإنني لأنطق بالشكاية منك؛ لأن ضرك أكثر من نفعك, والشاهد: أن وجه الشبه بين الحال، والإنسان المتكلم هو "الدلالة الواضحة"، وهي لا تتحقق بدون اللسان.
__________
1 "التميمة" خرزة تجعل معاذة وتعلق بأعناق الصبيان صونا لهم عن العين أو الجن في زعمهم.(5/143)
فصل في شرائط حسن الاستعارة:
لا تقع الاستعارة موقعها من الحسن والقبول، إلا إذا توفرت الأمور الآتية بعد:
1- رعاية جهات حسن التشبيه، أي: مراعاة أسباب حسنه؛ لأنها مبنية عليه فهي تابعة له في الحسن والقبح, فإن حسن حسنت، وإن قبح قبحت.
فمن جهات حسن التشبيه: أن يكون التشبيه وافيا بالغرض منه, فإن كان الغرض مثلا: تزيين المشبه كوجه أسود، فشبه بمقلة الظبي ذات السواد الجميل، ثم(5/143)
استعير له لفظها حسنت الاستعارة لوفاء التشبيه بالغرض فإذا شبه الوجه الأسود بالفحم لإفادة معنى التزيين، ثم استعير له لفظه لم تحسن الاستعارة لعدم حسن التشبيه، إذ لم يف بالغرض المقصود.
ومن جهات حسن التشبيه: أن يكون وجه الشبه غير مبتذل: بأن يكون غريبا لطيفا, إما لكثرة ما فيه من التفصيل، أو لكونه نادر الحضور في الذهن لعزة وجوده, كما في تشبيه الشمس بمرآة في كف الأشل، أو تشبيه فحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجه الذهب- فإذا استعير لفظ المشبه به للمشبه في المثالين حسنت الاستعارة فيهما، لحسن التشبيه، لما فيه من الدقة بكثرة الاعتبارات في الأول، ولندور حضور صورة المشبه به في الذهن في الثاني, أما استعارة لفظ "الشمس"، للإنسان ذي الوجه المشرق، أو استعارة الورد للخد ذي اللون الأحمر، فليست بذات حسن، لفوات الحسن في التشبيه، بسبب ابتذاله، لوضوح الوجه فيه.
ويستثنى من جهات حسن التشبيه شيء واحد، تحسن فيه الاستعارة، وإن لم يحسن التشبيه, وهو أن يقوى الشبه بين الطرفين جدا، حتى إنه ليخيل لك أنهما متحدان, كالشبه بين العلم والنور, أو بين الشبهة والظلمة, ففي هذين المثالين تحسن الاستعارة فتقول: "في قلبي نور" أي: علم, ولا يحسن التشبيه، فلا تقول: "في قلبي علم كالنور"، وتقول: "في قلبي ظلمة" أي: شبهة, ولا يحسن أن تقول: في قلبي شبهة كالظلمة.
وإنما قبح التشبيه فيما ذكرنا لقوة الشبه بين الطرفين، حتى كأنهما شيء واحد، فإجراء التشبيه بينهما بمثابة تشبيه الشيء بنفسه، وحسنت فيه الاستعارة لاختفاء شبح التشبيه لفظا.
2- أن يزداد بعدها عن الحقيقة بالترشيح، ولذلك كانت الاستعارة المرشحة أكثر قبولا، وألذ طعما في ذوق البلغاء من أختيها: المجردة، والمطلقة.(5/144)
3- ألا يشتم فيها رائحة التشبيه لفظا1. بألا يذكر في الكلام لفظ يدل على المشبه كما تقول: "زارنا قمر في منزلنا" فليس في العبارة لفظ صريح يفصح عن المشبه, بخلاف قول الشاعر السابق:
لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر
فإن استعارة "القمر" للإنسان الجميل قليلة الحسن, كما يقولون2 لما فيها من إشمام رائحة التشبيه، بسبب ذكر لفظ دال على المشبه، وهو الضمير في "غلالته"، أو في "أزراره"، وهذا يتنافى مع ما ترمي إليه الاستعارة من تناسي التشبيه، ودعوى اتحاد الطرفين.
ومما ينبغي أن يعلم هنا: أن المراد بإشمام التشبيه المشروط نفيه في حسن الاستعارة: ما لا يخرج به الكلام عن نطاق الاستعارة، كما في البيت المذكور ونحوه: مما يذكر فيه المشبه على وجه لا ينبئ عن التشبيه, بخلاف ما لو ذكر فيه المشبه على وجه ينبئ عن التشبيه نحو: "خالد أسد" من كل ما لا يصح فيه الحمل إلا على تقدير التشبيه، أو صرح فيه بوجه الشبه، أو الأداة، فإن مثل هذا الإشمام مبطل للاستعارة، فنفيه شرط لصحتها، لا لحسنها.
4- ألا يكون وجه الشبه خفيا جدا، بحيث لا يدرك بغير تأمل. وإذن فلا يحسن استعارة لفظ "أسد" للرجل الأبخر، وهو ذو الفم المنتن، لخفاء وجه الشبه، إذ إن انتقال الذهن من معنى "الأسد" إلى الرجل: إنما يكون باعتبار المعنى المشهور في الأسد، وهو الجرأة، لا البخر، فاستعار لفظ "الأسد" للأبخر، حينئذ يعد إلغازا وتعمية في المراد, ذلك: أن من شروط حسن الاستعارة- كما عرفت-
__________
1 إنما شرطوا ذلك في اللفظ؛ لأن التشبيه معنى لا بد منه في كل استعارة بواسطة القرينة؛ لأن الاستعارة لفظ أطلق على المشبه بمعونة القرينة، فلا يمكن نفي إشمام التشبيه لفظا ومعنى؛ لأن المعنى على التشبيه قطعا.
2 في نفسي مما يقولون شيء، فإني لأشعر بروعة هذه الاستعارة تملأ جوانب نفسي كلما قرأت هذا البيت أو سمعته.(5/145)
عدم إشمامها رائحة التشبيه، وذلك مما يبعدها عن الحقيقة، فإذا انضم إلى ذلك خفاء وجه الشبه ازدادت بعدا، فخفيت على الفهم، وصارت إلغازا, ومن هنا يعلم: أن التشبيه أعم محلا، إذ كل ما يتأتى فيه الاستعارة يتأتى فيه التشبيه، من غير عكس لجواز أن يكون وجه الشبه غير جلي، فتصير الاستعارة إلغازا كما في المثال المذكور.
هذا: والاستعارة التمثيلية كالتحقيقية في أن حسنها يكون بما ذكرنا من الأمور السابقة، إذ لا فارق بينهما إلا من حيث الإفراد والتركيب, والمكنية كذلك حسنها برعاية جهات حسن التشبيه, والتخييلية قرينة المكنية -كما علمت- فحسنها حينئذ تابع لحسن المكنية.(5/146)
فصل في المجاز بالحذف والزيادة:
اعلم أن لفظ "مجاز" كما يطلق على الكلمة المنقولة من معناها الأصلي إلى غيره ما سبق، يطلق أيضا على الكلمة المنقولة من حكم إعرابها الأصلي إلى غيره بسبب حذف لفظ أو زيادة.
فالأول كما في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، فكل من لفظي "ربك والقرية" مجاز بالحذف1 إذ ليس الكلام محمولا على ظاهره، لاستحالة مجيء الرب سبحانه في الآية الأولى، وللقطع بأن المراد: سؤال أهل القرية، لا سؤال الأبنية في الثانية, وأصل الكلام: وجاء أمر ربك، واسأل أهل القرية، فهما في الأصل مجروران بالإضافة ثم نقلا عن هذا الحكم الإعرابي، بسبب حذف المضاف، وجعل الأول مرفوعا على الفاعلية، والثاني منصوبا على المفعولية.
والثاني كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على القول بزيادة الكاف، فقوله: {كَمِثْلِهِ} مجاز بالزيادة، أي: زيادة الكاف؛ لأن المقصود نفي أن يكون شيء مثل الله
__________
1 ويحتمل أن يكون من قبيل المجاز المرسل من إطلاق اسم السبب على المسبب في الأولى، وإطلاق اسم الحال على المحل في الثانية.(5/146)
سبحانه، لا نفي أن يكون مثل مثله، إذ لا مثل له، حتى ينفي عن ذلك المثل من يكون مثله, فالحكم الإعرابي "لمثل" حينئذ هو النصب؛ لأنه خبر "ليس" ثم نقل عن هذا الحكم، وجعل مجرورا بسبب زيادة الكاف.
من هذا البيان يتضح: أن الموصوف بالمجاز في هذا النوع, هو الكلمة التي تغير إعرابها، كما في الأمثلة المذكورة، خلافا لما ذهب إليه السكاكي.
فإن كان الحذف أو الزيادة لا يوجب تغييرا في الإعراب، فلا توصف الكلمة بالمجاز, مثال ذلك في الحذف قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} ، فإن أصله: أو كمثل ذوي صيب، فحذف "ذوي" لدلالة قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} عليه، ضرورة أن هذه الضمائر لا بد لها من مرجع, وحذف "مثل" لما دل عليه عطفه على قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} .
ومثال الزيادة قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ففي مثل هذين المثالين لا توصف الكلمة، "بالمجاز" لعدم تغيير إعرابها, كما رأيت.(5/147)
أسئلة وتطبيق على المجاز المركب بقسميه
1- عرف المجاز المركب، وقسمه، ومثل لكل قسم.
2- عرف الاستعارة التمثيلية، وبين وجه تسميتها بهذا الاسم، ومتى تسمى "مثلا", مثل لما تقول.
3- بين أنواع المجاز فيما يأتي: مع السبط في الإجابة:
1-
تصرمت منا أويقات الصبا ... ولم نجد من الشيب مهربا(5/147)
2-
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها ... عند التقلب في أنيابها العطب
3-
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب
4-
وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قل المساعد
5-
من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
6-
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
7-
وليس يصح في الأدهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
4- أجر الاستعارة التمثيلية فيما يأتي:
1- أتطلب أثرا بعد عين؟ فيمن ترك الشيء ثم طلبه بعد ذهابه.
2- أسمع جعجعة ولا أرى طحنا, فيمن يعد ولا يفي.
3- أرى خالا1، ولا أرى مطرا, لكثير المال، لا يصاب منه خير.
4- تجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها, لمن يصرف نفسه عن خسيس المكاسب.
5- يقول الشاعر:
ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخل؟
يضرب لذي المنظر الحسن، ولا خير فيه.
6- رجع بخفي حنين, لمن يعمل عملا، فيخيب فيه.
__________
1 المراد به السحاب.(5/148)
7- رمية من غير رام, لمن يصدر منه فعل حسن ليس له أهلا.
8- عند الصباح يحمد القوم السرى, لمن تحمل المشقة رجاء الراحة.
9-
بالملح نصلح ما نخشى تغيره ... فكيف بالملح إن حلت به الغير
يضرب لمن فسدت حاله، ممن هو قدوة لغيره كرجال العلم والدين.
10- وعند جهينة الخبر اليقين, لمن يعرف الشيء على وجهه, ومثله: على الخبير وقعت.
جواب السؤال الثالث:
1- في البيت مجاز مرسل مركب من استعمال الخبر في معنى التحسر، علاقته اللزوم، إذ إن الأخبار بتصرم أوقات الصبا يستلزم التحسر على ذهابها، والقرينة حالية, أو أن معنى التحسر مستفاد من طريق التلويح والإشارة.
2- في البيت استعارة تمثيلية: شبه هيئة من يغر الناس ويخدعهم بلينه الظاهري، ثم يعود، فيؤذيهم, بهيئة الأفاعي اللينة الملمس، الشديدة الأذى بجامع هيئة شيء لين المجس، ناعم الملمس، ينطوي على شيء ضار، شديد الضرر، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه.
3- في البيت استعارة تمثيلية, شبه هيئة من علا قومه: بحيث لا يباريه أحد مهما أجهد نفسه: بهيئة الشمس، لا ضريب لها من الكواكب، وإن أجهدت نفسك في البحث عنه، بجامع هيئة الشيء يعلو فيفوق غيره, بحيث لا يطمع في محاكاته، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه.
4- في البيت مجاز مرسل مركب علاقته اللزوم: من استعمال الخبر في معنى(5/149)
التحسر على فقدان الخلان, أو أن معنى التحسر مستفاد من طريق التلويح والإشارة على ما يبدو لي.
5- في البيت استعارة تمثيلية: شبهت هيئة من علت منزلته إلى حيث لا يتأثر بشيء بهيئة من سكن فوق الشمس: بجامع هيئة الشيء يسمو حتى لا يؤثر فيه، ولا يصل إليه شيء، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه.
6- في البيت مجاز مرسل مركب علاقته الملزومية، إذ إن الاستفهام عن مضمون مثل هذا الكلام يستلزم إنكاره -والقرينة حالية- ويصح أن يكون استعارة تمثيلية، يقال في إجرائها: شبه هيئة من لا يفرق بين الخير والشر، والضار والنافع، ولم يهتد إلى الصواب بعقله: بهيئة من لا يفرق بين النور والظلمة لخلل في بصره.
7- في البيت استعارة تمثيلية: شبه حال من لا يعترف بالفضل لذويه، رغم وضوحه وشهرته, بحال من يحتاج إلى دليل على وجود النهار، بجامع هيئة من يجهل جهلا مطبقا، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه والقرينة حالية.
اختبار:
5- عرف الاستعارة المكنية على المذهبين، ومثل لها، مع إجرائها فيما تمثل به على الرأيين، ثم بين علة تسميتها مكنية على كلا المذهبين:
6- يقولون إن قرينة المكنية استعارة تخييلية، وأنهما متلازمتان، بين علة هذه التسمية، ووجه هذا التلازم.
7- بين نوع طرفي الاستعارة التخييلية، في مثال من عندك.
8- اذكر بالإجمال الأسباب الموجبة لحسن الاستعارة مع التمثيل.
9- ما السر في قبح التشبيه في نحو: في قلبي علم كالنور، وما السر في حسن الاستعارة فيه، وما علة كون الاستعارة في قول الشاعر: قد زر أزراره على القمر، وفي نحو رأيت أسدا، أي: أبحر، قليلة الحسن, اشرح ذلك شرحا وافيا.(5/150)
مبحث الكناية
مدخل
...
مبحث الكناية:
تعريفها: هي -في اللغة- أن تتكلم بالشيء، وتريد غيره, وهي مصدر كنيت عن كذا بكذا، إذا تركت التصريح به, وبابه رمى يرمي، وورد كنوت بكذا عن كذا، من باب دعا يدعو، وقد أنشد الجوهري:
وإني لأكنو عن قدور1 بغيرها ... وأعرب أحيانا بها وأصارح
والأول أفصح، بدليل قولهم في المصدر: "كناية" ولم يسمع كناوة.
وهي -في الاصطلاح- لفظ أطلق، وأريد به: لازم معناه الحقيقي, مع جواز إرادة هذا المعنى، مع المعنى المراد.
ففي التعريف قيدان:
1- إرادة لازم2 المعنى الحقيقي.
2- جواز إرادة هذا المعنى، مع المعنى الكنائي.
وبالقيد الأول: يخرج اللفظ الذي أريد به معناه الحقيقي، وهو الحقيقة الصرفة كالأسد، مرادا به, الحيوان المفترس.
وبالقيد الثاني يخرج المجاز، إذ لا يجوز فيه إرادة المعنى الحقيقي، مع المعنى المجازي لاشتراطنا في قرينته: أن تكون مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. كما تقول: "كلمني أسد" فلا يجوز هنا أن يراد: الحيوان المفترس؛ لأن فيه قرينة تمنع من ذلك، هي قوله: "كلمني" إذ إن الكلام من شأن الإنسان، لا من شأن الأسود, وهذا هو مدار الفرق بين الكناية والمجاز.
ومن هنا يعلم: أن الكناية واسطة بين الحقيقة والمجاز، فهي ليست حقيقة.
__________
1 بفتح القاف اسم امرأة.
2 المراد باللزوم: مطلق ارتباط ولو بعرف لا الزوم العقلي.(5/151)
اللفظ لم يرد به معناه الحقيقي، بل أريد به لازمه, وليست مجازا؛ لأن المجاز لا بد له -كما قلنا- من قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي -بخلاف الكناية- مثالها قول الشاعر:
طويل نجاد السيف شهم كأنما ... يصول -إذا استخدمته بقبيل1
ففي قوله: "طويل نجاد السيف" كناية عن طول القامة, فالمعنى الحقيقي لهذا اللفظ هو أن نجاده طويلة، وليس هذا مرادا، إنما المراد: لازم هذا المعنى، وهو أنه طويل القامة، إذ يلزم -عادة- من طول النجاد: أن تكون القامة طويلة, ويصح مع هذا إرادة المعنى الحقيقي أيضا: بأن يراد المعنيان جميعا, طول النجاد وطول القمة، وإن كان المقصود بالذات: المعنى الكنائي, ومثله قوله: "فلان نظيف اليد" كناية عن نزاهته فالمعنى الحقيقي للفظ: هو أن يده نقية من الأقذار، ولكنه ليس مردا، بل المقصود لازم هذا المعنى، وهو أنه نزيه، لا يفعل ما يلوث شرفه، وتجوز إرادة المعنيين -كما عرفت- ومثله أيضا قولهم: "فلانة نئوم الضحى" كناية عن أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها، ويقوم بشئونها، فالمعنى الحقيقي للفظ: أن المرأة كثيرة النوم إلى الضحى. وليس هذا مرادا، إنما المقصود: ما يلزم هذا المعنى، وهو أنها من ذوات الترف والنعمة، عندها من يقوم بتدبير أمرها، وإصلاح شأنها, وتجوز إرادة المعنيين معا....وهكذا.
تنبيه:
ليس بلازم في الكناية: أن يكون المعنى الحقيقي للفظ المكني به متحققا في الواقع، إذ يصح أن تقول: "فلان طويل النجاد" كناية عن طول قامته، وإن لم يكن له نجاد، بل تصح الكناية، حتى مع استحالة المعنى الحقيقي كما في قولهم:
__________
1 "النجاد" ما يقع على العاتق من حمائل السيف، وفيه إشعار بأن الممدوح من أرباب السيف و"القبيل" الجماعة, شبه الممدوح، وهو مفرد بالجمع في القوة والمنعة.(5/152)
"المجد بين برديه" و"الكرم تحت ردائه" كناية عن إثبات المجد والكرم للممدوح، فإن المعنى الحقيقي لكل من العبارتين، وهو: حلول المجد بين البردين، وحلول الكرم تحت الرداء مستحيل الحصول، إذ إن الحلول الحسي بين الأشياء أو تحتها من شأن الأجسام، لا المعاني, وكما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كناية عن الاستيلاء والسيطرة، فالمعنى الحقيقي للاستواء هو الجلوس. وهذا المعنى مستحيل على الله سبحانه.
ومن هذا البيان يتبين: أن الشرط في الكناية جواز إرادة المعنى الحقيقي، لا إرادته، لامتناع إرادته فيما ذكرنا.(5/153)
أقسام الكناية:
تنقسم الكناية باعتبار المعنى المكني عنه إلى ثلاثة أقسام:
1- كناية يطلب بها صفة1.
2- كناية يطلب بها موصوف.
3- كناية يطلب بها نسبة صفة إلى موصوف.
فالأولى: وهي المطلوب بها صفة, ضابطها: أن يصرح بالموصوف وبالنسبة إليه، ولا يصرح بالصفة المطلوب نسبتها وإثباتها، ولكن يذكر مكانها صفة تستلزمها كما في المثال السابق: "فلان طويل النجاد" كناية عن طول قامته، فقد صرح فيه بالموصوف، وهو "فلان" وصرح بالنسبة إليه، وهي "إسناد طويل النجاد إليه" ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي طول القامة، ولكن ذكر مكانها صفة أخرى تستلزمها، هي طول النجاد, ومثله قولنا السابق: "فلانة نئوم الضحى" كناية عن أنها مترفة من ذوات اليسار. فقد صرح بالموصوف، وهو "فلانة"، وصرح بالنسبة إليها وهي إسناد نوم الضحى إليها، ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي كونها مترفة منعمة, لكن ذكر مكانها صفة تستلزمها، هي النوم إلى الضحى
__________
1 المراد بالصفة: المعنى القائم بالغير كطول القامة، والكرم، لا خصوص النعت النحوي.(5/153)
إذ يلزم من النوم إلى ضحوة النهار: أن يكون هناك من يتولى شئونها، فهي إذن من ذوات النعمة والترف. وهكذا.
وهذه الكناية ضربان: قريبة، وبعيدة.
فالقريبة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المعنى المقصود بلا واسطة بين المعنى المنتقل عنه، والمنتقل إليه كما في المثال السابق: "فلان طويل النجاد" فإن المطلوب بهذا القول، صفة هي طول القامة -كما بينا- وليس بين طول النجاد، وطول القامة واسطة- وسميت "قريبة" لقصر زمن إدراك المقصود منها، بسبب انتفاء الواسطة.
وهي نوعان: واضحة، وخفية.
فالواضحة: ما يفهم منها المقصود لأول وهلة لوضوح اللزوم بين المعنى المكني به والمكني عنه كما تقدم في نحو: "فلان طويل النجاد" فإن طول القامة يفهم من طول النجاد، بلا حاجة إلى تأمل، لوضوح اللزوم بين المعنيين ومثله قول العرب: "فلانة بعيدة مهوى القرط" فمهوى القرط هو المسافة بين شحمة الأذن إلى الكتف، وطول هذه المسافة يفهم منه: أن العنق طويل، بلا حاجة إلى تأمل. لوضوح اللزوم بين طول المسافة المذكورة، وطول العنق يقول الشاعر:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر1
يريد، طويلة الجيد، وهو من محاسن الصفات في المرأة, يدعو على نفسه بالتقاعس والعجز عن الأخذ بالثأر من المعتدين، وبأخذ الدية بدل الدم, إن لم يتزوج على امرأته بأخرى، موصوفة بهذه الصفات.
__________
1 "راعه" أخافه وأفزعه و"الضرة" بفتح الضاد إحدى الزوجين أو الزوجات و"القرط" بضم القاف- ما يعلق في شحمتي الأذن، وقوله: "بعيدة مهوى القرط" كناية عن طول عنقها، و"النشر" الرائحة.(5/154)
والخفية: ما لا يفهم منها المقصود إلا بعد شيء من التأمل والتفكير لخفاء اللزوم بين المعنى المكني به والمكني عنه, كما تراه في قولهم: "فلان عريض القفا، أو كبير الرأس" كناية عن أنه بليد أبله، فإن عرض القفا بإفراط، أو كبر الرأس كذلك مما يستدل به -في العادة- على البلادة والبلاهة, كما يقولون، وفي العكس دليل الذكاء والنباهة, ألا ترى إلى قول طرفة بن العبد:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد1
فالخشاش صغير الرأس، وقد جعله دليلا على توقد الذهن، إلا أن فهم ذلك منه، أو من عكسه، يتوقف على إعمال فكر وروية؛ لأن اللزوم بين المعنيين، فيه نوع خفاء لا يدركه كل أحد.
والبعيدة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المقصود بواسطة, كما تراه في قولهم: "فلان كثير الرماد" كناية عن أنه سمح جواد: فالمطلوب بهذه الكناية صفة هي "الجود" وبين كثرة الرماد، وصفة الجود وسائط عدة، لا بد من مراعاتها للوصول إلى هذه الصفة، فينتقل الذهن أولا من كثرة الرماد إلى كثرة الإحراق، إلى كثرة الطبخ، ثم إلى كثرة الأكلة، ومنها إلى كثرة الأضياف، ومنها إلى صفة الجود, ومثله قول الشاعر:
وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل2
فقد كنى عن جوده، وكثرة قراه للأضياف، بجبن الكلب، وهزال الفصيل, إذ ينتقل للذهن من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يدنو من دار صاحبه إلى استمرار ما يوجب نباحه, وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه، ثم ينتقل من
__________
1 "الرجل الضرب" الخفيف اللحم.
2 "الفصيل" ولد الناقة.(5/155)
هذا إلى كون صاحبه مقصد الداني والقاصي، ومن هذا إلى أنه يقري الأضياف، ومنه إلى صفة الجود, كذلك ينتقل الذهن من هزال الفصيل إلى فقد أمه بنحرها1 ومنه إلى قوة الداعي إلى نحرها لكمال عناية العرب بالنوق، لا سيما المتليات2 منها، ومنه ينتقل الذهن إلى إعدادها للطبخ، ومنه إلى أنه مضياف كريم, ومن هذا النوع قول نصيب:
وكلبك آنس بالزائرين ... من الأم بابنتها الزائرة3
وبيان الكناية فيه: أن استئناس الكلب بالزائرين عنوان معرفته بهم؛ لأن الكلب إنما يأنس بمن يعرف، ومعرفته بهم دليل اتصال مشاهدته إياهم ليل نهار، وهذا دليل على أن دار الممدوح محط الرحال، وملتقى الآمال، وهذا يدل على ما أراده الشاعر، من وفور إحسان الممدوح، وسعة جوده. وقد بعدت المسافة بين أنس الكلب بالزائرين، وكرم الممدوح -على ما رأيت- وكون الكلب آنس من الأم مبالغة في استثنائه بالزوار, وهو يستتبع المبالغة في وصف الممدوح بالكرم, ونظير ذلك مع زيادة لطف قول الآخر:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من حبه وهو أعجم4
فإن حب الكلب للضيف حتى إنه ليكاد يكلمه دليل شدة معرفته به، وهذا دليل كثرة مشاهداته إياه لكثرة تردده على الدار، وذلك دليل وفرة الجود في المزور, ومثله قوله الشاعر:
لا أمتع العوذ بالفصال ... ولا أبتاع إلا قريبة الأجل5
__________
1 أو إلى أخذ اللبن منها، إلى تقديمه للضيفان.
2 "المتليات" هي التي تلاها ولدها أي: تبعها.
3 "آنس" اسم تفضيل سهلت همزته.
4 الضمير في "يكاد" عائد على الكلب.
5 "العوذ" بضم العين جمع عائذة، وهي الناقة الحديثة النتاج و"الفصال" جمع فصيل ولد الناقة.(5/156)
ذلك: أن حرمان العوذ من أن ترى فصالها، وتمتع بها، دليل على أنه ينحر فصالها، ولا يبقيها، وهذا دليل كثرة القرى الدالة على وفرة الجود ابتياعه لما قرب أجلها، دليل أنها لا تبيت عنده حية، ومعنى هذا: أنه ينحرها, وهذا دليل كثرة القرى الدالة على الجود.
فكل هذه الأمثلة من الكنايات البعيدة، لوجود الواسطة بين المعنى المكني به والمكني عنه، المقتضي لبعد زمن إدراك المقصور منها.
والثانية: وهي الكناية المطلوب بها موصوف ضابطها: أن يصرح بالصفة وبالنسبة، ولا يصرح بالموصوف المطلوب النسبة إليه، ولكن بذكر مكانه أو صفته أو أوصاف تختص به، وتدل عليه، كما في قولك "فلان صفا لي مجمع لبه" كناية عن قلبه، فقد صرح في هذه الكناية بالصفة وهي "مجمع اللب"، وبالنسبة وهي إسناد الصفاء إليها, ولم يصرح بالموصوف المطلوب نسبة الصفاء إليه، وهو القلب، لكن ذكر مكانه وصف خاص به، وهو كونه "مجمع اللب"، فإن القلب -كم يقولون- موضع العقل والتفكير.
وهذه الكناية أيضا نوعان:
الأول: ما تكون الكناية فيه معنى واحدا, كما في المثال السابق "صفا لي مجمع ليه"، فإن مجمع اللب المكني به عن القلب معنى واحد -كما ترى- وكما في قول الشاعر:
الضاربين بكل أبيض مخذم ... والطاعنين مجامع الأضغان1
يصف الشاعر قومه بالبسالة, وحسن البلاء في الحروب، وأن سيوفهم لا تعرف
__________
1 "الأبيض" السيف، و"المخذم" على زنة منبر القاطع، "والأضغان" جمع ضغن وهو الحقد وكل من الضاربين، والطاعنين منصوب على المدح بقدرتهم على النكاية والفتك بأعدائهم.(5/157)
غير المقاتل جفا, كنى بمجامع الأضغان عن القلوب، وهي معنى واحد: إذ المراد بوحدة المعنى هنا: ألا يكون من أجناس مختلفة وإن كان مثنى أو جمعا, وكون القلب مجمع الضغن وصف خاص به، فلا يحل الضغن في غيره, وقد صرح في هذه الكناية بالصفة، وهي كون القلوب مجامع الأضغان، وبالنسبة الإيقاعية، وهي إيقاع الطعن على هذه المجامع، ولم يصرح بالموصوف المطلوب نسبة إيقاع الطعن عليه، وهو القلوب، ولكن ذكر مكانها وصف خاص بها هو كونها مجامع الأضغان. ومثله قول البحتري من قصيدة يذكر فيها فتكه بذئب:
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد1
يقول: أتبعت طعنة بطعنة، أخفيت بها شباة السيف في القلب الذي هو موطن لكل من هذه الأمور الثلاثة, وذلك وصف خاص به، فصح أن تكون كناية, وإنما لم يكن هنا مجموع معان مختلفة؛ لأنها ثلاث كنايات، لا كناية واحدة لاستقلال كل واحد منها بإفادة المقصود.
والثاني: ما تكون الكناية فيه مجموع معان مختلفة، ضم بعضها إلى بعض، فتكون جملتها مختصة بالموصوف، فيتوصل بذكرها إليه, كما يقال في الكناية عن الأسد: روعنا حي، منتفش اللبدة، رهيب الزئير، وكما يقال في الكناية عن الغراب: راعنا مخلوق حديد البصر، شديد الحذر، خفي السفاد، فالكناية في كل من هذين المثالين مجموع هذه الأوصاف، وهو في الأول وصف خاص بالأسد، لا يوجد في سواه، وفي الثاني وصف خاص بالغراب, ومنه قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر} 2 فهو كناية يراد بها موصوف، هو "السفينة" لأن مجموع الأمرين, الألواح والدسر، مشدودا أحدهما إلى الآخر: وصف خاص بالسفينة.
__________
1 "النصل" حديدة السيف.
2 جمع دسار بكسر الدال وهو خيط من ليف تشد به ألواح السفن.(5/158)
الثالثة: وهي المطلوب بها نسبة -إثباتا أو نفيا- ضابطها أن يصرح بالموصوف وبالصفة ولا يصرح بالنسبة بينهما، ولكن يذكر مكانها نسبة أخرى تستلزمها- مثالها- في الإثبات- قولهم: "المجد بين ثوبيه، والكرم ملء ردائه" كناية عن إثبات المجد والكرم له، فقد صرح في هاتين الكنايتين بالموصوف وهو مدلول الضمير وصرح بالصفة، وهي المجد أو الكرم، ولكن لم يصرح بنسبة المجد أو الكرم إليه، وإنما ذكر مكانها نسبة أخرى، هي نسبة المجد إلى ثوبيه، أو نسبة الكرم إلى ردائه إثباتا. وهي تستلزم نسبة المجد أو الكرم إلى الممدوح: من حيث وجود المجد بين ثوبيه المحيطين به. أو كون الكرم ملء ردائه الخاص به، مع استحالة قيام المجد أو الكرم بنفسه، ووجوب قيامه بمحل صالح له, ومنه قول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج1
كنى عن إثبات هذه الثلاثة للممدوح، بإثباتها لقبة ضربت عليه، فقد صرح بالموصوف وهو "ابن الحشرج" وصرح بالصفة وهي مجموع هذه الأمور المذكورة: من السماحة والمروءة والندى، ولكن لم يصرح بنسبتها إلى الممدوح، وإنما ذكر مكانها نسبة أخرى تستلزمها، هي نسبتها إلى قبة ضربت عليه؛ لأنه إذا أثبت الشيء في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبت له، لما قلنا من استحالة قيام الوصف بنفسه، ووجوب قيامه بمحل صالح له, ومثال الكناية المذكورة في النفي قول الشنفرى الأزدى، يصف امرأة بالعفة والنزاهة:
يبيت بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت
كنى بالمصراع الأول عن نفي اللوم عنها, فقد صرح بالموصوف، وهو مدلول
__________
1 ابن الحشرج هو عبد الله بن الحشرج كان أميرا على نيسابور يدل على ذلك قوله: في قبة إذ يفهم منه أن الممدوح ممن تضرب لهم القباب وذلك عنوان السيادة.(5/159)
الضمير في "بيتها" أي: المرأة، وصرح بالصفة، وهي اللوم المنفي في قوله: بمنجاة من اللوم، ولم يصرح بنسبة نفي اللوم عنها، ولكن ذكر مكانها نسبة أخرى، هي نفي اللوم عن بيت يحتويها. وهذا يستلزم نفي اللوم عنها، وعبر بلفظ "يبيت" دون "يظل" لمزيد اختصاص الليل بأفعال الفحش، وارتكاب المآثم. ومثله قولهم: "مثلك لا يبخل" كناية عن نفي البخل عن المخاطب على أبلغ وجه؛ لأنه إذا نفى البخل عمن هو على أخص صفاته، فقد نفى عنه بالطريق الأولى, وهو أبلغ من قولهم: "أنت لا تبخل" "لأنها دعوى غير مدللة -بخلاف الأول- ونظيره قولهم: "العرب لا تخفر الذمم" فهو أبلغ من قولك" أنت لا تخفر الذمم".
خاتمة:
أطبق علماء هذا الفن على المجاز أبلغ1 من الحقيقة وأن الكناية أبلغ من التصريح وأن الاستعارة أبلغ من التشبيه، والمجاز المرسل والكناية.
أما وجه الأبلغية في المجاز والكناية؛ فلأن الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم2 فهو كدعوى الشيء ببينة3، ذلك أنك حين تقول متجوزا: "رأيت أسدا على المنبر" إنما تريد أن تقول: رأيت رجلا مقداما على المنبر، وهذه دعوى قام عليها دليلها، هو
__________
1 المراد بالأبلغية هنا: الأفضلية في الحسن والقبول.
2 أي: فلا يفهم المعنى المراد منهما من اللفظ نفسه بل بواسطة الانتقال من الملزوم إلى اللازم، فلا يفهم معنى "الشجاع" من ذات قولك: رأيت أسدا على فرس، بل بواسطة الانتقال من معنى الحيوان المفترس إلى لازمه، وهو الجرأة, كذلك لا يفهم معنى "طول القامة" من ذات قولك: فلان طويل النجاد، بل بواسطة الانتقال من طول النجاد إلى لازمة الذي هو طول القامة.
3 وجه كونها كالدعوى المشفوعة ببينة. أن تقرر الملزوم يستلزم تقرر اللازم لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم فصار تقرر الملزوم مشعرا باللازم.(5/160)
إثبات معنى الأسدية له، إذ يلزم من كونه أسدا: أن يكون مقداما جريئا، للزوم الإقدام والجرأة للأسد, وأنك حين تقول مكنيا: "محمد طويل النجاد" إنما تريد أن تقول: محمد طويل القامة، وهي أيضا دعوى قام عليها دليلها هو اتصافه بطول النجاد، إذ يلزم من كونه طويل النجاد: أن تكون قامته طويلة, وكأنك قلت في الأولى: رأيت مقداما على المنبر لأنه أسد، وقلت في الثاني: محمد طويل القامة؛ لأنه طويل النجاد.
أما الحقيقة في نحو: "رأيت رجلا مقداما على المنبر" والتصريح في نحو: "محمد طويل القامة" فدعويان لم يقم عليهما دليل، وما كان مؤيدا بدليل أبلغ وآكد مما لم يدعم بدليل، يثبت أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح.
ووجه أبلغية الاستعارة على التشبيه: هو أن الاستعارة نوع من المجاز، مبني على دعوى اتحاد المشبه والمشبه به، والتشبيه نوع من الحقيقة، وقد أثبتنا أن المجاز أبلغ من الحقيقة.
ووجه أبلغية الاستعارة على المجاز المرسل: ما فيها من دعوى الاتحاد لفظا ومعنى, أما لفظا فلإطلاق لفظ المشبه به على المشبه, وأما معنى فلإدخال المشبه في جنس المشبه به، واعتباره أحد أفراده, بخلاف المجاز المرسل نحو: "امطرت السماء نباتا" فإن فيه دعوى الاتحاد لفظا فقط: من حيث إطلاق اللفظ على المعنى, وأما الاتحاد في المعنى فغير موجود فيه. إذ ليس بين المعنيين "كالماء والنبات" في المثال المذكور تشابه ما، حتى يدعى اتحادهما.
ووجه أبلغية الاستعارة على الكناية من وجهين:
الأول: أن في الاستعارة جمعا بين كناية واستعارة: من حيث إن فيها انتقالا من الملزوم "كالأسد" إلى اللازم "كالشجاع", كما ينتقل في الكناية من "طول(5/161)
النجاد" مثلا إلى "طول القامة"، ومن حيث إن فيها استعمال اللفظ. في غير المعنى الموضوع له لعلاقة المشابهة.
الثاني: أن الاستعارة مجاز قطعا, بخلاف الكناية ففي مجازيتها خلاف بين علماء البلاغة مبسوط في محله.
تنبيه:
ليس معنى الأبلغية في هذه الثلاثة: أنها تفيد زيادة في أصل المعنى، لا يفيدها غيرها, إنما المراد: أنها تفيد تأكيدا لإثبات المعنى، لا يوجد في سواها، فليست فضيلة قولنا: "رأيت قمرا" على قولنا: "رأيت وجها لا يقل عن القمر في إشراقه وبهائه": من حيث إن الأول أفاد زيادة في مساواة الوجه المقمر في إشراقه لم يفدها الثاني، إذ إن التركيبين في إفادة هذا المعنى سواء, إنما ميزة الأول على الثاني: من حيث إن الأول أفاد تأكيدا وتقديرا لإثبات معنى المساواة، دون الثاني, لما في التركيب الأول من دعوى الاتحاد، والتعبير عن المشبه بلفظ المشبه به, ودلالة دعوى الاتحاد على معنى المساواة -كما في التركيب الأول- أبلغ من التنصيص على المساواة, كما في التركيب الثاني.
كذلك: ليست فضيلة قولنا: "محمد طويل النجاد" على قولنا: محمد طويل القامة: من حيث إن التركيب الأول أفاد زيادة في معنى الطول لم يفدها الثاني، فإن التركيبين في ذلك سواء, إنما فضل الأول على الثاني من ناحية أن الأول أفاد تأكيدا وتقريرا لإثبات معنى الطول، دون الثاني، لما في التركيب الأول من الدعوى المستندة إلى الدليل كما بينا سابقا, ودلالة دعوى الشيء مؤيدة بدليل, كما في التركيب الأول: أبلغ من التنصيص عليه غفلا عن الدليل كما في التركيب الثاني, يدرك ذلك ذو الذوق السليم.
هذا. والاستعارة التمثيلية أبلغ أنواع الاستعارة؛ لأنها إنما تكون في الهيئات(5/162)
المنتزعة من أمور متعددة، فهي كثيرة الاعتبارات والملاحظات، لا يوفق فيها إلا من أوتي حسن روية، وبعد نظر, ويليها في الأبلغية، الاستعارة المكنية لاشتمالها على المجاز العقلي في قرينتها, أما التصريحية ففي المرتبة الثالثة.
اختبار:
1- عرف الكناية لغة واصطلاحا، وبين ما احترز عنه في التعريف وهل هي من قبيل الحقيقة، أو من قبيل المجاز، بين ذلك بوضوح مع التمثيل.
2- بين مناط الفرق بينها وبين المجاز وكيف صحت الكناية في قولهم: المجد بين برديه، والكرم تحت ردائه، مع استحالة حصول المعنى الحقيقي.
3- اذكر أقسام الكناية باعتبار المكني عنه، وضابط كل منها، مع التمثيل لكل ما تذكر، ومع تقسيم الكناية المطلوب بها صفة, وتصريف كل قسم, والتمثيل له.
4- إلام تنوع الكناية المطلوب بها موصوف؟ مثل لكل نوع، ثم بين نوع الكناية في البيت الآتي:
ودبت له في موضع الحلم علة ... لها كالصلال الرقش شر دبيب1
تمرينات منوعة:
1- ائت من مأثور الكلام بكنايات ثلاث مختلفة الأغراض، مع بيان المعنى الكنائي في كل منها.
__________
1 "الصلال" جمع صل بكسر الصاد ضرب من الحيات لا نجاة من لدغه، و"الرقش" جمع رقشاء، وهي حية ذات نقط سود في بياض.(5/163)
2- روي أن امرأة وقفت على قيس بن سعد، فقالت: أشكو إليك قلة الفأر في بيتي، فقال: ما أحسن ما روت عن حاجتها، املئوا بيتها خبزا، وسمنا.
ويروى: أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك، فقالت: يا أمير المؤمنين: مشت جرذان بيتي على العصى، فقال لها: ألطفت في السؤال، لا جرم. لأردنها تثب وثب الفهود, وملأ بيتها حبا.
بين ما في هذين الخبرين: من المعنى الكنائي، مع بيان نوع الكناية فيهما، وهل هما من نوع واحد أو مختلفان.
قال الشاعر:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
يريد أخذت دية: في هذا البيت مجاز وكناية، وضح كلا منهما وبين نوعه.
4- ضع يدك على موضع الكناية، وبين نوعها، واشرحه شرحا وافيا فيما يأتي:
1-
لا يرفع الضيف عينا في منازلنا ... إلا إلى ضاحك منا ومبتسم
2-
لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل1
3-
وإذا الكريم أضاع مطلب أنفه2 ... أو عرسه لكريهة لم يغضب
__________
1 "المقل" جمع مقلة، وهي حدقة العين.
2 "مطلب أنفه" يريد الفرج, ومعنى البيت أن الرجل الذي لا يغار على عرض أمه أو امرأته ولا يحمي حماه لا يغضب بعد ذلك من شيء؛ لأنهما محك الغيرة ومثارها.(5/164)
4-
ولما شربناها ودب دبيبها ... إلى مواطن الأسرار قلت لها قفي1
5-
فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير
6- فلان يفترش الثرى، ويتوسد الجنادل.
7- فلان ملء إهابه الكرم، وحشر ردائه الفضيلة.
__________
1 الضمير في شربناها للخمر.(5/165)
الفهرس:
الموضوع الصفحة
مقدمة 3
علم البيان 5
مبحث التشبيه 7
منزلة التشبيه من علم البيان 8
تعريف التشبيه 12
أركان التشبيه 16
مباحث التشبيه 17
اختبار 25
تمرينات منوعة 26
مبحث وجه الشبه 30
اختبار وتمرين 34
التقسيم الثاني 36
التقسيم الثالث 37
اختبار 40
المركب الحسي 41
المتعدد الحسي 43
المتعدد العقلي 45
اختبار 52(5/166)
الموضوع الصفحة
التقسيم الرابع 53
التقسيم الخامس 55
اختبار 59
التقسيم السادس
وأسباب وضوح وجه الشبه 60
معنى التفصيل في الوجه 63
أوجه التفصيل 64
التشبيه المشروط 68
اختبار 70
تمرينات منوعة 71
أدوات التشبيه 73
تقسيم التشبيه باعتبار الأداة 76
اختبار 78
تمرينات منوعة 79
تمرينات منوعة 81
مراتب التشبيه 82
اختبار 85
مبحث الحقيقة والمجاز 78
اختبار 92
تقسيم المجاز المفرد 93
المجاز المرسل 93
اختبار 101
الاستعارة 103
اختبار 108(5/167)
الموضوع الصفحة
تقسيم الاستعارة 109
قرينة التبعية 125
اختبار 134
المجاز المركب 137
الاستعارة التمثيلية 137
المثل 139
المجاز المركب 139
الاستعارة المكنية 140
فصل في شرائط حسن الاستعارة 143
فصل في المجاز بالحذف 146
أسئلة وتطبيقات 147
مبحث الكناية 151
أقسام الكناية 153
اختبار 163(5/168)