بعضها، وإما بصبر أحدهما على صاحبه إذا عدم الاشتراك، ولما علم الشارع أن بني آدم على هذا الوضع شرع لهم الطلاق ليستريح إليه من عيل صبره على صاحبه، توسعة عليهم، وإحساناً منه إليهم، فلأجل العمل على هذا طلق كاتب هذا عبد الله محمد المذكور زوجه الحرة العربية المصونة عائشة ابنة الشيخ الوزير الحسيب النزيه الأصيل الصالح الفاضل الطاهر المقدس المرحوم أبي عبد الله محمد المغيلي، طلقة واحدة، ملكت بها أمر نفسها دونه، عارفاً قدره قصد بذلك إراحتها من عشرته، طالباً من الله أن يغني كلاً من سعته، مشهداً بذلك على نفسه في صحته وجواز أمره يوم الثلاثاء أول يوم من شهر ربيع الثاني عام أحد وخمسين وسبعمائة؛ انتهى.
ومن نوادره رحمه الله تعالى أنه لما استناب بعض قضاة المرية الفقيه أبا جعفر المعروف بالقرعة في القضاء بخارج المرية من عمله فاتفق أن جاء بعض الجنانين بفحص المرية يشتكي من جائحة أو أذاية أصابت جنانه، ففسدت غلته لذلك، فأخذ ذلك الجنان قرعة وأشار إليها مشتكياً، وقال: هذه القرعة تشهد بما أصاب جناني، فقال الشيخ أبو البركات عند ذلك: غريبتان في عام واحد: القرعة تقضي، والقرعة تشهد.
وكان له رحمه الله تعالى من هذا النمط كثير.
وقال رحمه الله تعالى: نظمت صبيحة يوم السبت السابع والعشرين لرجب عام خمسة وأربعين وسبعمائة، وقد رأيت في النوم كأني أريد إتيان امرأة لا تحل لي، فيأتي رقيب فيحول بيني وبين ذلك المرة بعد المرة، قولي:
ألا كرم الله الرقيب فإنه ... كفاني أموراً لا يحل ارتكابها
وبالغ في سد الذريعة فاغتدى ... يلاحظني نوماً ليغلق بابها وقال رحمه الله: أنشدني شيخي أبو عبد الله ابن رشيد عند قراءتي عليه(5/480)
شرحه لقوافي أبي الحسن حازم، وقد باحثته يوماً مناقشة في بعض ألفاظ من الشرح المذكور:
تسامح ولا تستوف حقك كله ... وأغض فلم يستوف قط كريم ومن نظم الشيخ أبي البركات قوله:
ألا خل دمع العين يهمي بمقلتي ... لفرقة عين الدمع وقف على الدم
فللماء فيه رنة شجنية ... كرنة مسلوب الفؤاد متيم
وللطير فيه نغمة موصلية ... تذكرني عهد الصبا المتقدم
وللحسن أقمار به يوسفية ... ترد إلى دين الهوى كل مسلم وله رحمه الله تعالى:
ما كل من شد على رأسه ... عمامة يحظى بسمت الوقار
ما قيمة المرء بأثوابه ... السر في السكان لا في الديار وله سامحه الله تعالى:
إذا ما كتمت السر عمن أوده ... توهم أن الود غير حقيقي
ولم أخف عنه السر من ضنة به ... ولكنني أخشى صديق صديقي وله وقد جلس في حلقة بعض المشايخ واستدبر بعض الفضلاء ولم يره، بسبتة:
إن كنت أبصرتك لا أبصرت ... بصيرتي في الحق برهانها
لا غرو أني لم أشاهدكم ... فالعين لا تبصر إنسانها ومما يعجبه رحمه الله من قوله، قال في الإحاطة ويحق أن يعجبه:
تطالبني نفسي بما ليس لي به ... يدان فأعطيها الأمان فتقبل(5/481)
عجبت لخصم لج في طلباته ... يصالح عنها بالمحال فيفصل ومما أورد له في الإحاطة وذكر نه لو رحل راحل إلى خراسان لما أتى إلا بهما:
رعى الله إخوان الخيانة إنهم ... كفونا مؤونات البقاء على العهد
فلو قد وفوا كنا أسارى حقوقهم ... نراوح ما بين النسيئة والنقد وقد تمثل القاضي أبو البركات في مخاطبة له للسان الدين بقول القائل:
أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي
أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب وحكى غير واحد منهم ابن داود البلوي أن القاضي أبا البركات لما عزم على الرحلة إلى المشرق كتب إليه ابن خاتمة بما صورته:
أشمس الغرب حقاً ما سمعنا ... بأنك قد سئمة من الإقامه
وأنك قد عزمت على طلوعٍ ... إلى شرق سموت به علامه
لقد زلزلت منا كل قلب ... بحق الله لا تقم القيامه قال الحاكي: فحلف أبو البركات أن لا يرحل من إقليم فيه من يقول مثل هذا؛ انتهى. يشير بقوله " لقد زلزلت - إلخ " إلى طلوع الشمس من مغربها.
قلت: ولما عزمت على هذه الرحلة كتب إلي بعض أصحابنا المغاربة بالآبيات المذكورة متمثلاً، ولم أرجع عن العزم، والله غالب على أمره.
قال الوزير لسان الدين رحمه الله تعالى: وما أحسن قول شيخنا أبي البركات معتذراً عن زرقة عينيه:
حزنت عليك العين يا مغنى الهوى ... فالدمع منها بعد بعدك ما رقى(5/482)
ولذاك ما ظهرت بلون أزرق ... أوما ترى ثوب المآتم أزرقا قال رحمه الله تعالى: وهو من الغريب.
وقال بعض الشيوخ: كنت أقرأ على الشيخ أبي البركات التفسير، فنسيت ذات ليلة السفر الذي كنت أقرأ فيه بمنزلي، فاتفق أن حضر الجامع الصحيح للبخاري، فقال الشيخ بعد أن أردت القراءة عليه من أوله: افتح في أثناء الأوراق ولا تعين، وما خرج لك من ترجمة لجهة اليمين فاقرأها، فعلت، فإذا غزوة أحد، فقرأت الحديث الأول من الباب، وهو عن عقبة بن عامر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكنني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الشيخ قوله " صلى على قتلى أحد " لفظ الصلاة يطلق لغة على الدعاء، وشرعاً على الأفعال المخصوصة المعلومة، وإذا دار اللفظ بين الشرعي واللغوي فحمله على الشرعي أولى حتى يدل الدليل على خلافه، فقوله " صلى على قتلى أحد " يحتمل الصلاة الشرعية، ويكون ذلك منسوخاً إذا قد تقرر أنه لا يصلى على شهيد المعترك ولا على من قد صلى عليه، ولمن يعارضه أن يقول: إن قتلى أحد متفرقون في أماكن، فلا تتأتى الصلاة الشرعية عليهم، إذ الصلاة الشرعية إنما تتأتى لو كانوا مجتمعين، والجواب أنهم وإن كانوا متفرقين تجمعهم جهة واحدة، وليس بعد ما بينهم بحيث لا تتأتى معه الصلاة عليهم، هذا، وإن احتمل حمله على الصلاة اللغوية، وقوله " كالمودع للأحياء والأموات " أما وداعه للأحياء فلا إشكال فيه، وأما الأموات فمعنى وداعه لهم وداع الدعاء لهم، لأنه إذا مات فقد حيل بينه وبين(5/483)
الدعاء لهم، فلا جرم يودعهم بالدعاء لهم قبل أن يحال بينه وبين ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم " إني بين أيديكم " أي أتقدم قبلكم، وقوله صلى الله عليه وسلم " بين أيديكم فرط " أي متقدم، وبين إذا أضيفت إلى الأيدي تستعمل فيما قبل زمانك وفيما بعده، والمعنى هنا في قوله " بين أيديكم " أي أتقدم قبلكم، وقوله صلى الله عليه وسلم " وأنا شهيد عليكم " فيه وجهان، أحدهما: أن يخلق الله في قلبه علماً ضرورياً يميز به بين البر والفاجر، فيشهد بما خلق الله في قلبه من ذلك، إذ لا تكون الشهادة إلا على أمر مشاهد، ومعلوم أنه لم يشاهد ما فعل بعده من أمته فيخلق الله له علماً بذلك، الوجه الثاني: أن يخبره الله تعالى بذلك كما في حديث الحوض: ليذدان عنه أقوام كما يذاد البعير الضال فأقول: ألا هلم، ألا هلم، فيقال: إنهم قد غيروا بعدك، فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً، فشهد بما أخبره الله تعالى به، وهو نظير ما روي في تفسير قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " من أن قوم نوح يقولون: كيف تشهدون علينا وزمانكم متأخر عن زماننا فيقولون: لأن الله تعالى قص علينا أخباركم في كتابه، فقال " إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه - إلى آخره ".
وقوله صلى الله عليه وسلم " وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا " نظره صلى الله عليه وسلم إلى الحوض فيه وجهان، أحدهما: أن يكون نظره إليه بقلبه، إذا كان قد أطلعه الله عليه ليلة الإسراء، فصار مرتسماً في قلبه، فيكون نظره إليه بعين قلبه، كما يرتسم في قلب أحدنا شكل بيته وما فيه من المتاع والثياب وغير ذلك؛ الثاني: أن يكون الله تعالى قد كشف له عنه، فيكون نظره إليه بعينه مشاهدة، وقوله صلى الله عليه وسلم " وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا " إن قيل: كيف قال ذلك وقد ارتد عن الإسلام من ارتد من العرب بعده فالجواب أنه إنما خاطب بذلك من لم يشرك من أصحابه ومن بعدهم من التابعين وغيرهم من أمته، ولم يراع رعاع العرب(5/484)
وجهالهم، إذ لا اعتبار بهم لاحتقارهم. وقوله عليه الصلاة والسلام " ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها " قد وقع ما خشي منه عليه الصلاة والسلام من المنافسة في الدنيا، فكان كما ذكر صلى الله عليه وسلم؛ انتهى.
وحدث الشيخ أبو البركات قال: كنت ببجاية بمجلس الإمام ناصر الدين المشدالي أيام قراءتي عليه، وقد أفاض طلبة مجلسه بين يديه: هل الملائكة أفضل أم الأنبياء فقلت: الدليل لأن الملائكة أفضل أن الله أمرهم بالسجود لآدم، قال: فجعل الطلبة ينظر بعضهم إلى بعض، حتى قال لي بعضهم: استند يا سيدنا، كأنه يقول: استند إلى حائط ليزول هوس رأسك، وكانت عبارتهم في ذلك، وكل منهم يقول لي نحو ذلك إزراء، وقال لي الإمام ناصر الدين: أبصر فإنهم يقولون الحق، وكانت لغته أن يقول: أبصر، قال: فقلت: أتقولون إن أمر الله للملائكة بالسجود لآدم أمر ابتلاء واختبار قالوا: نعم، قلت: أفيختبر العبد بتقبيل يد سيده ليرى تواضعه قالوا: لا، فإن ذلك من شأن العبد دون أن يؤمر، بل السيد يختبر تواضعه بأن يأمر بالسجود للعبد، قلت: فكذا الملائكة، لو أمرت بالسجود لأفضل منها لكان بمنزلة أمر العبد بالسجود لسيده، قال: فكأنما ألقمتهم حجراً.
قال الشيخ أبو البركات: وهذه كحكاية أبي بكر ابن الطيب مع بعض رؤساء المعتزلة، وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفة، فناظره في مسألة رؤية الباري، فقال له رئيسهم: ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى قال: قوله تعالى " لا تدركه الأبصار " فنظر بعض المعتزلة إلى بعض وقالوا: جن القاضي وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا به على مذهبهم، وهو ساكت، ثم قال لهم: أتقولون إن من لسان العرب قولك الحائط لا يبصر قالوا: لا، قال: أتقولون أن من لسان العرب الحجر لا يأكل قولوا: لا، قال: فلا يصح إذاً نفي الصفة إلا عما من شأنه صحة إثباتها له، قالوا: نعم، قال: فكذلك قوله تعالى " لا تدركه الأبصار " لولا جواز إدراك الأبصار له لم يصح نفيه عنه(5/485)
فأذعنوا لما قال، واستحسنوه.
وقال الشيخ أبو البركات: كنت ببجاية، وقدم علينا رجل من فاس برسم الحج يعرف بابن الحداد، فركب الناس في الأخذ عنه والرواية لما يحمله كل صعب وذلول، مع أنه لم تكن منزلته هناك في العلم، فعجبت لذلك، حتى قلت لبعض الطلبة: لقد أخذتموه بكلتا اليدين، ولم أركم مع من هو أعلى قدراً منه كذلك، فقالوا لي: لأنه قدم علينا ونحن لا نعرفه، وهو في زي حسن، بخادم يخدمه، يظن من يراه أن أباه من أعيان أهل بلده، فسألناه أحي أبوه أم لا قال: بل حي، قلنا: أهو من أهل العلم قال: لا، هو دلال في سوق الخدم، فلذلك آثرناه على من هو فوقه في العلم، قال: فقلت لهم: حق له أن ترتفع منزلته ويعلا صيته لتخلقه وفضله.
وفوائد أبي البركات كثير. ومن تواليفه المؤتمن على أنباء أبناء الزمن كتاب مفيد جداً. وهو رضي الله عنه من ذرية العباس بن المراد السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحساب إلى يوم الدين.
وقال الشيخ أبو البركات: ذكر لي أن الفقيه الكاتب أبا الحسن ابن الجياب يحدث عني، ولا أذكر الآن أني قلت ذلك، ولكنني لما سمعته علمت أنه مما من شأني أن أقوله وهو أني قلت: مثل العالم مثل رجل يصب ماء في قفة، إن واظب على صب الماء بقيت القفة ملأى، وإن ترك صب الماء بقيت القفة لا شيء فيها من الماء، فكذلك العالم: إن واظب على طلب العلم بقي العلم لم ينقص منه شيء، وإن ترك الطلب ذهب علمه؛ انتهى.
ونقلت ممن رأى كلام ابن الصباغ في ترجمة أبي البركات ما نصه: لما ورد مدينة فاس في غرض الهناء والعزاء على أمير المسلمين أبي بكر السعيد ابن أمير المؤمنين أبي عنان، وأبصر الدار غاصة بأرباب الدولة الفاسية ولم يعدم منها عدا شخصه، والولد على أريكة أبيه أنشد:(5/486)
لما تبدلت المجالس أوجهاً ... غير الذين عهدت من جلسائها
ورأيتها محفوفة بسوى الألى ... كانوا حماة صدورها وبنائها
أنشدت بيتاً سائراً متقدماً ... والعين قد شرقت بجاري مائها
أما القباب فهي كقبابهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها وأظن أنه (1) تمثل بالأبيات بسره، وإلا يبعد أن يقولها في ذلك الحفل لما في ذلك من التعرض للهلك، والله سبحانه أعلم.
وحكى بعضهم أنه كان جالساً في دهليز بيته مع بعض الأصحاب، فدخلت زوجته من الحمام وهي بغير سراويل لقرب الحمام من البيت، فانكشف ساقها، فدخل خلفها مسرعاً، وغاب ساعة ثم خرج وأنشد:
كشفت على ساق لها فرأيته ... متلألئاً كالجواهر البراق
لا تعجبوا إن قام منه قيامتي ... إن القيامة يوم كشف الساق وله في خديم اسمه يحيى احتجم محجمة واحدة:
أراني يحيى صنعة في قفائه ... مهذبة لما تبادر للباب
أرى (2) الخمس فيها لا تفارق ساعة ... فصور بالموسى بها شكل محراب وتوفي الشيخ القاضي أبو البركات المذكور بشوال سنة 771 رحمه الله تعالى.
22 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الشيخ الحكيم العلامة التعاليمي، الشاعر البليغ، أعجوبة زمانه في الاطلاع على علوم الأوائل، أبو زكريا يحيى بن هذيل (3) وقد قال في الإحاطة في حقه (4) ما ملخصه: يحيى
__________
(1) ق: وأظنه.
(2) ص ق: رأى.
(3) ترجمة ابن هذيل في الإحاطة، الورقة: 381 ونثير فرائد الجمان: 320 (رقم: 13) والكتيبة الكامنة: 73 (ووردت ترجمته خطأ تحت اسم ابن شقرال) والدرر الكامنة 4: 412.
(4) في حقه: سقطت من ق.(5/487)
ابن أحمد بن هديل التجيبي، أبو زكريا، شيخنا؛ جرى ذكره في التاج المحلى بما نصه: درة بين الناس مغفلة، وخزانة على كل فائدة مقفلة، وهدية من الدهر الضنين لبنيه محتفلة، أبدع من رتب التعاليم وعلمها، وركض في الألواح قلمها، وأتقن من صور الهيئة ومثلها، وأسس قواعد البراهين وأثلها، وأعرف من زوال شكاية، ودفع عن جسم نكاية، إلى غير ذلك من المشاركة في العلوم، والوصول من المجهول إلى المعلوم، والمحاضرة المستفزة للحلوم، والدعابة التي ما خالع العذار فيها بالملوم، فما شئت من نفس عذبة الشيم، وأخلاق كالزهر من بعد الديم، ومحاضرة تتحف المجالس والمحاضر، ومذاكرة يروق النواظر زهرها الناضر، وله أدب ذهب في الإجادة كل مذهب، وارتدى من البلاغة بكل رداء مذهب، والأدب نقطة من حوضه، وزهرة من زهرات روضه، وسيمر له في هذا الديوان ما يبهر العقول، ويحاسن بروائه ورائق بهائه الفرند المصقول، فمن ذلك ما خرجته من ديوانه المسمى بالسليمانيات والعزفيات (1) قوله:
ألا استودع الرحمن بدراً مكملاً ... بفاس من الدرب الطويل مطالعه
ففي فلك الأزرار يطلع سعده ... وفي أفق الأكباد تلفى مواقعه
يصير مرآه منجم مقلتي ... فتصدق في قطع الرجاء قواطعه (2)
تجسم من ماء الملاحة (3) خده ... وماء الحيا فيه ترجرج مائعه
تلون كالحرباء في خجلاته ... فيحمر قانيه ويبيض ناصعه
إذا اهتز غنى حليه فوق نحره ... كغصن النقا غنت عليه سواجعه
يؤكد (4) حتف الصب عامل قدره ... وتعطف من واو العذار توابعه
__________
(1) ص: بالسليمانية؛ الكتيبة: السليمانيات والعربيات، والقصيدة في الكتيبة: 77.
(2) القطع: من اصطلاحات المنجمين بمعنى النقص أو سوء الطالع.
(3) الكتيبة: نور الملاحة.
(4) في ق ص: يذكر؛ ويؤكد: مناسبة للتلاعب النحوي في البيت.(5/488)
أعد الورى سيفاً كسيف لحاظه ... فهذا هو الماضي وذاك مضارعه (1) وقال:
وصالك هذا أم تحية بارق ... وهجرتك أم ليل السليم لتائق
أناديك والأشواق تركض جمرها (2) ... بصفحة خدي من دموع سوابق
أبارق ثغر من عذيب رضابه ... قضت مهجتي بين العذيب وبارق ومنها:
فلا تتعبن ريح الصبا في رسالة ... ولا تخجل الطيف الذي كان طارقي
متى طعمت عيني الكرى بعد بعدكم ... فإني في دعوى الهوى غير صادق وقال:
بدا بدر فوقه الليل عسعسا ... وجنة أنس في صباح تنفسا
حوى النجم قرطاً والدراري مقلداً ... وأسبل من الذوائب حندسا
كأن سنا الإصباح رام يزورنا ... وخاف العيون الرامقات فغلسا
أتى يحمل التوراة طبياً مزنراً ... لطيف التثني أشنب الثغر ألعسا
وقابل أحبار اليهود بوجهه ... فبارك عليه ربي (3) وقدسا
فصير دمعي أعيناً شرب سبطه ... وعمري تيهاً والجوانح مقدساً ومنها:
رويت ولوعي عن ضلوعي مسلسلاً ... فأصبحت في علم الغرام مدرسا
نفى النوم عني كي أكون مسهداً ... فأصبحت في صيد الخيال مهندسا
__________
(1) ق ص: يضارعه.
(2) الكتيبة: حمرها.
(3) الربي: الحبر من أحبار اليهود (Rabbi) .(5/489)
غزال من الفردوس تسقيه أدمعي ... ويأوي إلى قلبي مقيلاً ومكنسا
طغى ورد خديه بجنات (1) صدغه ... فأضعفه بالآس نبتاً وما أسا وهذا البيت محال على معنى فلاحي، قال أهل الفلاحة: إن الآس إذا اغترس بين شجر الورد أضعفه بالخاصية.
وقال رحمه الله تعالى ورضي عنه (2) :
نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى
وسما (3) الوسيمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفوا الندامى
كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما
تحسب البدر محيا ثمل ... قد سقته راحة الصبح مداما
حوله الزهر (4) كؤوس قد غدت ... مسكة الليل عليهم ختاما
يا عليل الريح رفقاً علني ... أشف بالسقم الذي حزت سقاما
أبلغن شوقي عريباً باللوى ... همت في أرض بها حلوا غراما
فرشوا فيها من الدر حصى ... ضربوا فيها من المسك خياما
كنت أشفي غلة من صدكم ... لو أذنتم لجفوني أن تنام
واستفدت الروح من ريح الصبا ... لو أتت تحمل من سلمى سلاما وقال منها أيضاً:
نشأت للصب منها زفرة ... تسكب الدمع على الربع سجاما
طرب البرق مع القلب بها ... وبها الأنات طارحن الحماما
__________
(1) ق ص: لجنان.
(2) الكتيبة: 74 والنثير: 322 وقد سبقت أبيات منها في المجلد: 3 ص: 357.
(3) الكتيبة والنثير: وسقى؛ والمقابلة بين " سما " و " هوت ".
(4) الكتيبة والنثير: الشهب.(5/490)
طلل لا تشتفي الأذن به ... وهو للعينين قد ألقى كلاما
ترك الساكن لي من وصله ... ضمة الجدران لئماً والتزاما
نزعات من سليمان بها ... فهم القلب معانيها فهاما
شادن يرعى حشاشات الحشا ... حسب حظي منه أن أرعى الذماما وقال (1) :
أأرجو أماناً منك واللحظ غادر ... ويثبت عقلي (2) فيك والطرف ساحر ومنها:
أعد سليمان أليم عذابه ... لطائر قلبي فهو للبين صائر (3)
أشاهد منه الحسن في كل نظرة ... وناظر أفكاري بمغناه (4) ناظر
دعت للهوى أنصار سحر جفونه ... فقلبي له عن طيب نفس مهاجر
إذا شق عن بدر الدجى أفق زره ... فإني بتمويه العواذل كافر
وفي حرم السلوان طابت خواطري ... وقلبي لما في وجنته مجاور
وقد ينزع القلب المبلى (5) لسلوة ... كما اهتز من قطر الغمامة طائر
يقابل أغراضي بضد مرادها ... ولم يدر أن الضد للضد قاهر
ونار اشتياقي صعدت مزن أدمعي ... فمضر سري فوق خدي ظاهر
وقد كنت باكي العين والبين غائب ... فقل لي كيف الدمع (6) والبين حاضر
__________
(1) الكتيبة: 75.
(2) الكتيبة: قلبي.
(3) الكتيبة: صابر.
(4) الكتيبة: لمعناه.
(5) الكتيبة: الشجي.
(6) الكتيبة: فقل كيف حال الدمع.(5/491)
وليس النوى بالطبع مراً، وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر (1) وقال:
يا بارقاً قاد الخيال فأومضا ... اقصد بطيفك مدنفاً قد غمضا
ذاك الذي قد كنت تعهد نائماً ... بالسهد من بعد الأحبة عوضا
لا تحسبني معرضاً عن طيفه ... لكن منامي عن جفوني أعرضا ومنها:
عجب الوشاة لمهجتي أن لم تذب ... يوم النوى وتشككت فيما مضى
خفيت لهم من سر صبري آية ... ما فهمت إلا سليمان الرضى
لله درك ناهجاً سبل الهوى ... فلمثله أمر الهوى قد فوضا
أمنت نملاً فوق خدك سارحاً ... وسللت سيفاً من جفونك منتضى وقال في المدح:
حريص على جر الذوائب والقنا ... إذا كعت الأبطال والجو عابس
ويعتنق الأبطال، لولا سقوطها ... لقلت: لتوديع أتته الفوارس
إذا اختطفتهم كفه فسروجهم ... مجال، وهم في راحتيه فرائس وقال يمدح السلطان أبا الوليد ابن نصر عند قدومه من فتح أشكر (2) :
بحيث البنود الحمر والأسد الورد ... كتائب سكان السماء لها جند (3)
وتحت لواء النصر ملك هو الورى (4) ... تضيق به الدنيا إذا راح أو يغدو
__________
(1) أخذه من قول الشاعر:
وما اخضر ذاك الخال نبتا وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر (2) يريد السلطان إسماعيل بن فرج، هاجم حصن أشكر سنة 724، وأشكر من عمل بسطة، وفي ق ص: أشكو؛ وانظر الكتيبة: 77 - 79.
(3) حذف بعد هذا البيت أبياتا مثبتة في الكتيبة.
(4) الكتيبة: الشرع ... الهدى.(5/492)
تأمنت الأرواح في ظل بنده ... كأن جناح الروح من فوق بند
فلو رام إدراك النجوم لنالها ... ولو هم لانقادت له الهند والسند ومنها:
بعيني بحر النقع تحت أسنة ... تنمنمه وهناً كما نمنم البرد
سماء عجاج والأسنة شهبها ... ووقع القنا رعد إذا وقع الهند
وظنوا أن الرعد والصعق في السما ... محاق به من أيده الصعق والرعد
عجائب أشكال سما هرمس بها ... مهندسة تأتي الجبال فتنهد
ألا إنها الدنيا تريك عجائباً ... وما في القوى منها فلا بد أن (1) يبدو وقال وهو معتقل:
تباعد عني منزل وحبيب ... وهاج اشتياقي والمزار قريب
وإني على قرب الحبيب مع النوى ... يكاد إذا اشتد الأنين يجيب
لقد بعدت عني ديار قريبة ... عجبت لجار الجنب وهو قريب
أعاشر أقواماً تقر نفوسهم ... فللهم فيها عند ذاك ضروب
إذا شعروا من جارهم بتأوه ... أجابته منهم زفرة ونحيب
فلا ذاك يشكوهم هذا تأسفاً ... لكل امرئ مما دهاه نصيب
كأني في غاب الليوث مسالم ... يروعني منه الغداة وثوب
تحكم فيها الدهر والعقل حاضر ... بكل قياس والأديب أديب
ولو مال بالجهال ميلته بنا ... لجاء بعذر: إن ذا لعجيب
رفيق بما لا ينثني عن جريمة ... بطوش بمن ما أوبقته ذنوب
ويطعمنا منه بوارق خلب ... نقول عساه يرعوي فيؤوب (2)
__________
(1) ص: لإبانه.
(2) ق: فيتوب.(5/493)
إذا ما تشبثنا بأذيال برده ... دهتنا إذا جر الخطوب خطوب
أدار علينا صولجاناً، ولم يكن ... سوى أنه بالحادثات لعوب ومنها:
أيا دهر إني قد سئمت تهدفي ... أجرني فإن السهم منك مصيب
إذا خفق البرق الطروق أجابه ... فؤادي ودمع المقلتين سكوب
وإن طلع الكف الخضيب بسحرة ... فدمعي بحناء الدماء خضيب
تذكرني الأسحار (1) دارا ألفتها ... فيشتد حزني والحمام دروب
إذا علقت نفسي بليت وربما ... تكاد تفيض أو تكاد تذوب
دعوتك ربي والدعاء ضراعة ... وأنت تناجى بالدعا فتجيب
لئن كان عقبى الصبر فوزاً وغبطة ... فإني على الصبر الجميل دروب قال: وبعثت إليه هدية من البادية، فقال يصف منها ديكاً:
أيا صديقاً جعلته سندا ... فراح فيما أحبه وغدا
طلبت منكم سريدكاً (2) خنثاً ... وجئتم لي مكانه لبدا
صير مني مؤرخاً ولكم ... ظللت من علمه من البلدا
قلت له: آدم أتعرفه ... قال: حفيدي بعصرنا ولدا
نوح وطوفانه رأيتهما ... قال: علونا بفيضه أحدا
فقلت: هل لي بجرهم خبر ... فقال: قومي وجيرتي السعدا
فقلت: قحطان هل مررت به ... قال: نفثنا ببرده العقدا
فقلت: صف لي سبا وساكنها ... فعند هذا تنفس الصعدا
__________
(1) ق: الأشجار.
(2) السريدك: يصغير سردوك وهو الديك.(5/494)
فقال: كم لي بدجنهم سحراً ... من صرخة لي وللنوم هدا
فقلت: هاروت هل سمعت به ... فقال: ريشي لسهمه نفدا
فقلت: كسرى وآل شرعته ... فقال: كنا بجيشه وفدا
ولوا وصاروا وها أنا لبد ... فهل رأيتم من فوقهم أحدا
ديك إذا ما انثنى لفكرته ... رأى وجوداً طرائقاً قددا
يرفل في طيلسانه ولهاً ... قد صير الدهر لونه كمدا
إذا دجا الليل غاب هيكله ... كأن حبراً عليه قد جمدا
كأنما جلنار لحيته ... برجان جازا من الهواء مدى
كأن حصناً علا بهامته ... أعده للقتال فيه عدا
يرنو بياقوتتي لواحظه ... كأنما اللحظ منه قد رمدا
كأن منجالتي ذوائبه ... قوس سماء من أصله بعدا
وعوسج مد من مخالبه ... طغى بها في نقاده وعدا
فذاك ديك جلت محاسنه ... له صراخ بين الديوك بدا
يطلبني بالذي فعلت به ... فكم فللنا بلبتيه مدا
وجهته محنة لآكله ... والله ما كان ذاك منك سدى ولم نزل بعد نستعدي عليه بإقراره بقتله، ونطلبه بالقود عند تصرفه بالعمل، فيوجه الدية لنا في ذلك رسائل.
وقال في غرض أبي نواس (1) :
طرقنا ديور القوم وهناً وتغليسا ... وقد شرفوا الناسوت إذ عبدوا عيسى
وقد رفعوا الإنجيل فوق رؤوسهم ... وقد قدسوا الروح المقدس تقديسا
فما استيقظوا إلا لصكة بابهم ... فأدهش رهباناً وروع قسيسا
__________
(1) الكتيبة: 79.(5/495)
وقام بها البطريق يسعى ملبياً ... وقد لين الناقوس رفعاً وتأنيسا
فقلنا له أمناً فإنا عصابة ... أتينا لتثليث وإن شئت تسديسا
وما قصدنا إلا الكؤوس وإنما ... لحنا له في القول خبثاً وتدليسا
ففتحت الأبواب بالرحب منهم ... وعرس طلاب المدامة تعريسا
فلما رأى رقي (1) أمامي ومزهري ... دعاني أتأنيساً لحنت وتلبيسا
وقام إلى دن بفض ختامه ... فكبس أجرام الغياهب تكبيسا
وطاف بها رطب البنان مزنر ... فأبصرت عبداً صير الحر مرؤوسا
سلافاً حواها القار لبساً فخلتها ... مثالاً من الياقوت في الحبر مغموسا ومنها:
إلى أن سطا بالقوم سلطان نومهم ... ورأس فتيل (2) الشمع نكس تنكيسا
وثبت إليه بالعناق فقال لي: ... بحق الهوى هب لي من الضم تنفيسا
كتبت بدمع العين صفحة خده ... فطلس حبر الشعر كتبي تطليسا
فبئس الذي احتلنا وكدنا عليهم ... وبئس الذي قد أضمروا قبل ذا بيسا
فبتنا يرانا الله شر عصابة ... نطيع بعصيان الشريعة إبليسا وقال بديهة في غزالة من النحاس ترمي الماء على بركة:
عنت لنا من وحشة ... جاءت لورد الماء ملء عنانها
وأظنها إذا حددت آذانها ... ريعت بنا فتوقفت بمكانها
حيت بقرني رأسها إذ لم تجد ... يوم اللقاء تحية ببنانها
حنت على الندمان من إفلاسهم ... فرمت قضيب لجينها لحنانها (3)
لله در غزالة أبدت لنا ... در الحباب تصوغه بلسانها
__________
(1) ق ص والكتيبة: زقي؛ ولعله الرق - بالراء المهملة - ليطابق المزهر.
(2) ق ص: قبيل السمع؛ والتصويب من الكتيبة.
(3) سقط البيت من ق.(5/496)
لسان الدين: وفلج المذكور، فلزم منزلي لمكان فضله ووجوب حقه، وقد كانت زوجته توفيت، وصحبه عليها وجد، فلما ثقل وقربت وفاته استدعاني وكاد لسانه لا يبين، فأوصاني وقال:
إذا مت فادفني حذاء حليلتي ... يخالط عظمي في التراب عظامها
ولا تدفنني في البقيع فإنني ... أريد إلى (1) يوم الحساب التزامها
ورتب ضريحي كيفما شاءه الهوى ... تكون أمامي أو أكون أمامها
لعل إله العرش يجبر صدعتي ... فيعلي مقامي عنده ومقامها ومات رحمه الله تعالى في الخامس والعشرين لذي قعدة لعام ثلاثة وخمسين وسبعمائة ودفن بحذاء زوجته كما عهد رحمه الله تعالى؛ انتهى.
ومن نظم ابن هذيل:
وظبي زارني والليل طفل ... إلى أن لاح لي منه اكتهال
وألغى الشك من وصل فقلنا ... بليل الشك يرتقب الهلال 23 - ومن أشياخ لسان الدين: الشيخ أبو بكر ابن ذي الوزارتين، وهو - أعني أبا بكر - الوزير
الكاتب الأديب الفاضل المشارك المتفنن المتبحر في الفنون أبو بكر محمد ابن الشيخ الشهير ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم الرندي (2) ، ومن نظمه قوله (3) :
تصبر إذا ما أدركتك ملمة ... فصنع إله العالمين عجيب
وما يلحق (4) الإنسان عار بنكبة ... ينكب فيها صاحب وحبيب
__________
(1) ق ص: أفي.
(2) ترجمة أبي بكر الحكيم في الإحاطة 2: 199 والكتيبة الكامنة: 195.
(3) الإحاطة: 206 والكتيبة: 195.
(4) الإحاطة والكتيبة: يدرك.(5/497)
ففي من مضى للمرء ذي العقل أسوة ... وعيش كرام الناس ليس يطيب
ويوشك أن تهمي سحائب نعمة ... فيخضب ربع للسرور جديب
إلهك يا هذا قريب لمن دعا ... وكل الذي عند القريب قريب قال ابن خاتمة: وأنشدني الوزير أبو بكر مقدمه على المرية غازياً مع الجيش المنصور، قال: أنشدني أبي:
ولما رأيت الشيب حل بمفرقي ... نذيراً بترحال الشباب المفارق
رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري ... إلى ما أرى، هذا ابتداء الحقائق [ترجمة أبي عبد الله ابن الحكيم]
وبيتهم بيت كبير، وأخذ عن غير واحد وعن والده، وهو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد (2) بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى، اللخمي، الرندي، الكاتب البليغ الأديب الشهير الذكر بالأندلس، وأصل سلفه من إشبيلية من أعيانها، ثم انتقلوا إلى رندة في دولة بني عباد، ويحيى جد والده هو المعروف بالحكيم (2) لطبه، وقدم ذو الوزارتين على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمد بن محمد بن نصر إثر قفوله من الحج في رحلته التي رافق بها العلامة أبا عبد الله ابن رشيد الفهري، فألحقه السلطان بكتابه، وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء إلى أن توفي هذا السلطان وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله المخلوع فقلده الوزارة والكتابة، وأشرك معه في الوزارة أبا سلطان عبد العزيز بن سلطان الداني، فلما توفي أبو سلطان أفرده السلطان بالوزارة، ولقبه ذا الوزارتين،
__________
(2) هذه ترجمة والد أبي بكر ابن الحكيبم عن الإحاطة 2: 279.
(2) هذه ترجمة والد أبي بكر ابن الحكيبم عن الإحاطة 2: 279.(5/498)
وصار صاحب أمره إلى أن توفي بحضرة غرناطة قتيلاً نفعه الله تعالى غدوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه وخلافة أخيه أمير المسلمين أبي الجيوش مكانه، ومولده برندة سنة ستين وستمائة.
وكان رحمه الله تعالى علماً في الفضيلة والسراوة ومكارم الأخلاق، كريم لنفس واسع الإيثار، متين الحرمة عالي الهمة، كاتباً بليغاً أديباً شاعراً، حسن الخط يكتب خطوطاً على أنواع كلها جميلة الانطباع، خطيباً فصيح القلم زاكي الشيم، مؤثراً لأهل العم والأدب براً بأهل الفضل والحسب، نفقت بمدته للفضائل أسواق، وأشرقت بإمداده للأفاضل آفاق. ورحل للمشرق كما سبق، فكانت إجازته البحر من المرية، فقضى فريضة الحج، وأخذ عمن لقي هنالك من الشيوخ، فمشيخته متوافرة، وكان رفيقه كما مر الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد الفهري، فتعاونا على هذا الغرض، وقضيا منه كل نفل ومفترض، واشتركا فيمن أخذا عنه من الأعلام، في كل مقام، وكانت له عناية بالرواية وولوع بالأدب، وصبابة باقتناء الكتب، جمع من أمهاتها العتيقة، وأصولها الرائقة الأنيقة، ما لم يجمعه في تلك الأعصر أحد سواه، ولا ظفرت به يداه، أخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحاق ابن أبي العاصي، وتدبج معه رفيقه أبو عبد الله ابن رشيد وغير واحد، وكان ممدحاً، وممن مدحه الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي والرئيس أبو الحسن ابن الجياب، وناهيك بهما.
ومن بديع مدح ابن الجياب له قصيدة رائقة يهنيه فيها بعيد الفطر منها في أولها (1) :
يا قادماً عمت الدنيا بشائره ... أهلا بمقدمك الميمون طائره
ومرحباً بك من عيد تحف به ... من السعادة أجناد تظافره
__________
(1) الإحاطة 2: 285.(5/499)
قدمت فالخلق في نعمى وفي جذل ... أبدى بك البشر باديه وحاضره
والارض قد لبست أثواب سندسها ... والروض قد بسمت منه أزاهره
حاكت يد الغيث في ساحاته حللاً ... لما سقاها دراكاً منه باكره
فلاح فيها من الأنوار باهرها ... وفاح فيها من النوار عاطره
وقام فيها خطيب الطير مرتجلاً ... والزهر قد رصعت منه منابره
موشي ثوب طواه الدهر آونة ... فها هو اليوم للأبصار ناشره
فالغصن من نشوة يثني معاطفه ... والطير من طرب تشدو مزاهره
وللكمام انشقاق عن أزاهرها ... كما بدت لك من خل ضمائره
لله يومك ما أزكى فضائله ... قامت لدين الهدى فيه شعائره
فكم سريرة فضل فيك قد خبئت ... وكم جمال بدا للناس ظاهره
فافخر بحق على الأيام قاطبة ... فما لفضلك من ند يظاهره
فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا ... قيست بفخر أولي العليا مفاخره
يلتاح منه بأفق الملك نور هدى ... تضاءل الشمس مهما لاح زاهره
مجد صميم على عرش السماك سما ... طالت مبانيه واستعلت مظاهره
وزارة الدين والعلم التي رفعت ... أعلامه والندى الفياض زاخره
وليس هذا ببدع من مكارمه ... ساوت أوائله فيه أواخره
يلقى الأمور بصدر منه منشرح ... بحر وآراؤه العظمى جواهره
راعى أمور الرعايا معملاً نظراً ... كمثل علياه معدوماً نظائره
والملك سير في تدبيره حكماً ... تنال ما عجزت عنه عساكره
سياسة الحلم لا بطش يكدرها ... فهو المهيب وما تخشى بوادره
لا يصدر الملك إلا عن إشارته ... فالرشد لا تتعداه مصايره
تجري الأمور على أقصى إرادته ... كأنما دهره فيه يشاوره
وكم مقام له في كل مكرمة ... أنست موارده فيها مصادره(5/500)
ففضلها طبق الآفاق أجمعها ... كأنه مثل قد سار سائره
فليس يجحده إلا أخو حسد ... يرى الصباح فيعشى منه ناظره
لا ملك أكبر من ملك يدبره ... لا ملك أسعد من ملك يوازره
يا عز أمر به اشتدت مضاربه ... يا حسن ملك به ازدانت محاضره
تثني البلاد وأهلوها بما عرفوا ... ويشهد الدهر آتيه وغابره
بشرى لآمله الموصول مأمله ... تعساً لحاضره المقطوع دابره
فالعلم أشرقت نور مطالعه ... والجود قد أسبلت سحاً مواطره
والناس في بشر، والملك في ظفر ... عال على كل عالي القدر قاهره
والأرض قد ملئت أمناً جوانبها ... بيمن من خلصت فيها سرائره
وإلى أياديه من مثنى وموحدة ... تساجل البحر إن فاضت زواخره
فكل يوم تلقانا عوارفه ... كساه أمواله الطولى دفاتره
فمن يؤدي لمن أولاه من نعم ... شكراً ولو أن سحباناً يظاهره
يا أيها العيد بادر لثم راحته ... فلثمها خير مأمول تبادره
وافخر بأن قد لقيت ابن الحكيم على ... عصر يباريك أو دهر تفاخره
ولى الصيام وقد عظمت حرمته ... فأجره لك وافيه ووافره
وأقبل العيد فاستقبل به جذلاً ... واهنأ به قادماً عمت بشائره ومن نثر ذي الوزارتين آخر إجازة ما صورته: وها أنا أجري معه على حسن معتقده، إلى ما رآه بمقتضى تودده، وأجيز له ولولديه أقر الله بهما عينه، وجمع بينهما وبينه، رواية جميع ما نقلته وحملته، وحسن اطلاعه يفصل من ذلك ما أجملته، فقد أطلقت لهم الإذن في جميعه، وأبحت لهم الحمل عني ولهم الاختيار في تنويعه، والله سبحانه يخلص أعمالنا لذاته، ويجعلها في ابتغاء مرضاته، قال هذا محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم حامداً لله عز وجل، ومصلياً.(5/501)
ومن شعر ذي الوزارتين ابن الحكيم قوله (1) :
ما أحسن العقل وآثاره ... لو كان لازم الإنسان إيثاره
يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحر أسراره
لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره وقوله رحمه الله (2) :
إني لأعسر أحياناً فيلحقني ... يسر من الله إن العسر قد زالا
يقول خير الورى في سنة ثبتت ... " أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا " وهو من أحسن ما قال رحمه الله.
ومن شعر ذي الوزارتين المذكور قوله (3) :
فقدت حياتي بالعراق ومن غدا ... بحال نوى عمن يحب فقد فقد
ومن أجل بعدي عن ديار ألفتها ... جحيم فؤادي قد تلظى وقد وقد وقد سبقه إلى هذا القائل:
أواري أواري بالدموع تجلداً ... وكم رمت إطفاء اللهيب وقد وقد
فلا تعذلوا من غاب عنه حبيبه ... فمن فقد المحبوب فقد فقد كذا رواه ابن خاتمة، ورواه غيره هكذا:
أواري أواري والدموع تبينه ... وهو الصواب، قال ابن خاتمة: وأنشدني رئيس الكتاب الصدر البليغ
__________
(1) الإحاطة: 194. قلت: وورد في المجلد 3: 347 منسوبا لصالح بن شريف الرندي.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(5/502)
الفاضل أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري، قال: أنشدني رئيس الكتاب الجليل أبو محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي، قال: أنشدني رئيس الكتاب ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم رحمه الله:
صح الكتاب وعنه ... واختم على مكنته
واحذر عليه من مخا ... لسة الرقيب بجفنه
واجعل لسانك سجنه ... كيلا ترى في سجنه قال ابن خاتمة: وفي سند هذه القطعة نوع غريب من التسلسل. وحكى أن ذا الوزارتين المذكور لما اجتمع مع الجليل الفقيه الكاتب ابن أبي مدين أنشده ابن أبي مدين (1) :
عشقتكم بالسمع قبل لقاكم ... وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه
وحببني ذكر الجليس إليكم ... فلما التقينا كنتم فوق وصفه فأنشد ذو الوزارتين ابن الحكيم:
ما زلت أسمع عن عيناك كل سناً ... أبهى من الشمس أو أجلى من القمر
حتى رأى بصري فوق الذي سمعت ... أذني فوفق بين السمع والبصر ويعجبني في قريب من هذا المعنى قول الحاج الكاتب أبي إسحاق الحسناوي (2) رحمه الله:
سحر البيان بناني صار يعقده ... والنفث في عقده من منطقي الحسن
لا أنشد المرء يلقاني ويبصرني ... أنا المعيدي فاسمع بي ولا ترني رجع - وقال لسان الدين في عائد الصلة في حق ذي الوزارتين ابن الحكيم
__________
(1) الإحاطة: 294.
(2) ص: الخساوي.(5/503)
ما صورته (1) : كان رحمه الله فريد دهره سماحة وبشاشة ولوذعية وانطباعاً، رقيق الحاشية، نافذ العزمة، مهتزاً للمديح، طلقاً للآمل، كهفاً للغريب، برمكي المائدة مهلبي الحلوى (2) ، ريان من الأدب، مضطلعاً بالرواية، مستكثراً من الفائدة، يقوم على المسائل الفقهية، ويتقدم الناس في باب التحسين والتقبيح، ورفع راية الحديث والتحديث، نفق بضاعة الطلب، وأحيا معالم الأدب، وأكرم العلم والعلماء، ولم تشغله السياسة عن النظر، ولا عاقة تدبير الملك عن المطالعة والسماع، وأفرط في اقتناء الكتب حتى ضاقت تصوره عن خزائنها، وأثرت أنديته من ذخائرها، قام له الدهر على رجل، وأخدمه صدور البيوتات وأعلام الرياسات، وخوطب من البلاد النازحة، وأمل في الآفاق النائبة؛ انتهى المقصود منه.
ومن أحسن ما رثي به الوزير ابن الحكيم رحمه الله قول بعضهم:
قتلوك ظلماً واعتدوا ... في فعلهم حد الوجوب
ورموك أشلاء، وذا ... أمر قضته لك الغيوب
إن لم يكن لك سيدي ... قبر فقبرك في القلوب وقال لسان الدين في الإحاطة في حق رحلة ذي الوزارتين ابن الحكيم ما صورته (3) : رحل إلى الحجاز الشريف من بلده على فتاء سنه أول عام ثلاثة وثمانين وستمائة، فحج وزار، وتجول في بلاد المشرق منتجعاً عوالي الرواية في مظانها، ومنقراً عنها عند مسني شيوخها، وقيد الأناشيد الغربية والأبيات المرقصة، وأقام بمكة شرفها الله من شهر رمضان إلى انقضاء المسم، فأخذ بها
__________
(1) الإحاطة: 279.
(2) كذا في الإحاطة؛ وفي ق ص: الخلوة.
(3) الإحاطة: 279.(5/504)
عن جماعة، وانصرف إلى المدينة المشرفة، ثم قفل مع الركب الشامي إلى دمشق، ثم كر إلى المغرب، لا يمر بمجلس علم أو نعلم إلا روى أو روى، واحتل رندة حرسها الله أواخر عام خمسة وثمانين وستمائة، فأقام بها عيناً في فرابته، وعلماً في أهله، معظماً لديهم، إلى أن أوقع السلطان بالوزراء من بني حبيب الوقيعة البرمكية وورد رندة في أثر ذلك، فتعرض إليه وهنأه بقصيدة طويلة من أوليات شعره أولها (1) :
هل إلى رد عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المجال فلما أنشدها إياه أعجب به وبحسن خطه ونصاعة ظرفه، فأثنى عليه، واستدعاه إلى الوفادة على حضرته، فوفد آخر عام ستة وثمانين، فأثبته في خواص دولته، وأحظاه لديه، إلى أن رقاه إلى كتابة الإنشاء ببابه، واستمرت حاله معظم القدر مخصوصاً بالمزية، إلى أن توفي السلطان ثاني الملوك من بني نصر، وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله، فزاد في إحظائه وتقريبه، وجمع له بين الكتابة والوزارة، ولقبه بذي الوزارتين، وأعطاه العلامة، وقلده الأمر فبعد الصيت وطاب الذكر، إلى أن كان من أمره ما كان؛ انتهى ملخصاً.
وقال في الإحاطة بعد كلام طويل في ترجمته: قال شيخنا الوزير أبو بكر ابن الحكيم ولده: وجدت بخطه رحمه الله تعالى رسالة خاطب بها أخاه الأكبر أبا إسحاق إبراهيم افتتحها بقصيدة أولها (2) :
ذكر اللوى شوقاً إلى أقماره ... فقضى أسى أو كاد من تذكاره
وعلا زفير حريق نار ضلوعه ... فرمى على وجناته بشراره (3)
__________
(1) أورد في الإحاطة: 289 - 291 جملة من أبياتها.
(2) الإحاطة: 292.
(3) سقط الشطر الثاني من ق.(5/505)
وقد ذكرناها في غير هذا المحل.
وقال مما يكتب على قوس (1) :
أنا عدة للدين في يد من غدا ... لله منتصراً على أعدائه
أحكي الهلال وأسهمي في رجمها ... لمن اعتدى تحكي رجوم (2) سمائه
قد جاء في القرآن أني عدة ... إذ نص خير الخلق محكم آيه
وإذا العدو أصابه سهمي فقد ... سبق القضاء بهلكه وفنائه قال لسان الدين (3) : ومن توقيعه ما نقلته من خط ولده،يعني أبا بكر، في كتابه المسمى بالموارد المستعذبة وكان بوادي آش الفقيه الطرائفي (4) ، فكتب إلى خاصة والدي أبي جعفر ابن داود، قصيدة على روي السين، يتشكى فيها من مشرف بلدهم إذ ذاك أبي القاسم ابن حسان منها:
فيا صفي أبي العباس كيف ترى ... وأنت أكيس من فيها من أكياس
ولوه إن كان ممن ترتضون به ... فقد دنا الفتح للأشراف في فاس ومنها يستطرد ذكر ذي الوزارتين:
للشرق فضل فمنه أشرقت شهب ... من نورهم أقبسونا كل مقباس فوقع عليها رحمه الله تعالى:
إن أفرطت بابن حسان غوائله ... فالأمر يكوه ثوب الذكر والباس
وإن تزل به في جورة قدم ... كان الجزاء له ضرب على الراس
__________
(1) الإحاطة: 295.
(2) الإحاطة: نجوم.
(3) الإحاطة: 295.
(4) كذا في ق ص؛ وفي الإحاطة: الطريفي.(5/506)
فقد أقامني المولى بنعمته ... لبث أحكامه بالعدل في الناس ثم أطال في أمره، إلى أن قال في ترجمه قتله ما صورته (1) : واستولت يد الغوغاء على منازله، شغلهم بها مدبر الفتنة خيفة من أن يعاجلوه قبل تمام أمره، فضاع بها مال لا يكتب، وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب والذخيرة والفرش والآنية والسلاح والمتاع والخرثي، وأخفرت ذمته، وتعدى به عدوه القتل إلى المثلة، وقانا الله مصارع السوء، فطيف بشلوه، وانتهب، فضاع ولم يقبر، وجرت فيه شناعة كبيرة، رحمه الله تعالى؛ انتهى المقصود منه.
رجع:
24 - ومن مشايخ لسان الدين الأستاذ أبو الحسن علي القيجاطي (2) .
وقال في حقه في الإحاطة ما محصله: علي بن عمر بن إبراهيم بن عبد الله الكناني، القيجاطي، أبو الحسن، أوحد زمانه علماً وتخلقاً وتواضعاً وتفنناً، ورد على غرناطة مستدعى عام اثني عشر وسبعمائة، وقعد بمسجدها الأعظم يقرأ فنوناً من العلم من قراءات وفقه وعربية وأدب، وولي الخطابة، وناب عن بعض القضاة بالحضرة، مشكور المأخذ حسن السيرة عظيم النفع، وقصده الناس وأخذوا عنه، وكان أديباً لوذعياً فكهاً حلواً، وهو أول أستاذ قرأت عليه القرآن والعربية والأدب إثر قراءة المكتب، وله تآليف في فنون وشعر ونثر، فمن شعره قوله (3) :
روض المشيب تفتح أزهاره ... حتى استبان ثغامه وبهاره
__________
(1) انظر الإحاطة: 301.
(2) ترجمة أبي الحسن القيجاطي في الكتيبة: 37 والديباج: 207 ونيل الابتهاج: 292 وبغية الوعاة: 344 والإحاطة، الورقة: 323، وقد أوجز الترجمة في النسخة التي اعتمدت عليها وحذف أشعاره.
(3) الكتيبة: 38.(5/507)
ودجى الشباب قد استبان صباحه ... وظلامه قد لاح في نهاره
فاتى حمام لا يعاف وقوعه ... ومضى غراب لا يخاف مطاره
والعمر مثل البدر يبدو حسنه ... حيناً ويعقب بعد ذاك سراره
ما للإخاء تقلصت أفياؤه ... ما للصفاء تكدرت آثاره
والحر يصفح إن أخل خليله ... والبر يسمح إن تجرأ جاره
فتراه يدفع إن تمكن جاهه ... وتراه ينفع إن علا مقداره
ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ... ما زلت زنداً والحياء سواره
ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ... ما زلت ممن عف فيه إزاره
والهجر ما بين الأحبة لم يزل ... ترك الكلام أو السلام مثاره
ولكم تجافى عن جفاء خليله ... فطن، وقد ظفرت به أظفاره
ولكم أصر على التدابر مدبر ... أفضى إلى ندم به إصراره
فأقام كالكسعي بان نهاره ... أو كالفرزدق فارقته نواره
أنكرتم من حق معترف لكم ... بالحق ما لا ينبغي إنكاره
والشرع قد منع التقاطع نصه ... قطعاً، ونقد وردت به أخباره
والسن سن تورع وتبرع ... وتسرع لتشرع تختاره
ما يومنا من أمسنا قدك اتئد ... ذهب الشباب فكيف ينفى عاره
هلا حظرتم أو حذرتم منه ما ... حق عليكم حظره وحذاره
عجباً لمن يجري هواه لغاية ... محدودة إضماره مضماره
يأتي ضحاً ما كان يأتيه دجى ... فكأنه ما شاب منه عذاره
فيعد ما تفنى به حسناته ... ويعيد ما تبقى به أوزاره
فالنفس قد أجرته ملء عنانها ... يشتد في مضمارها إحضاره
والمرء من إخوانه في جنة ... بل جنة تجري بها أنهاره
واليمن قد مدت إليه يمينه ... واليسر قد شدت عليه يساره(5/508)
شعر به أشعرت بالنصح الذي ... يهديه من أشعاره إشعاره
ولو اختبرتم نقده بمحكة ... لامتاز بهرجه ولاح نضاله
هذا هدى فبه اقتده تنل المنى ... أو أنت في هذا وما تختاره
وعليكم مني سلام مثلما ... أرجت بروض يانع أزهاره وقال من قصيدة رثائية (1) :
حمام حمام فوق أيك الأسى تشدو ... تهيج من الأشجان ما أوجد الوجد
وذلك شجو في حناجرنا شجاً ... وذلك هزل في ضمائرنا جد
أرى أرجل الأرزاء تشتد نحونا ... وأيديها تسعى إلينا فتمتد
ونحن أولو سهو عن الأمر ما لنا ... سوى أمل إيجابنا عنده جحد
فإن خطرت للمرء ذكرى بخاطر ... فتسبيحة الساهي إذا سمع الرعد
مصاب به قدت قلوب وأنفس ... لدينا إذا في غيره قطعت برد
تلين له الصم الصلاب وتنهمي ... عيون ويبكي عنده الحجر الصلد
فلا مقلة ترنو، ولا أذن تعي ... ولا رائحة تعطو، ولا قدم تعدو
وقد كان يبدو الصبر منا تجلداً ... وهذا مصاب صبرنا فيه ما يبدو مولده عام خمسين وستمائة، وتوفي بغرناطة ضحى السبت في السابع والعشرين لذي الحجة عام ثلاثين وسبعمائة، وحضره السلطان فمن دونه، رحمه الله تعالى؛ وانتهى.
25 - ومنهم العلامة شيخ الشيوخ أبو سعيد فرج بن لب (2) .
قال في " الإحاطة " في حقه ما محصله: فرج من قاسم بن أحمد بن لب،
__________
(1) الكتيبة: 38.
(2) ترجمة فرج بن لب في الكتيبة: 67 ونيل الابتهاج: 211 وبغية الوعاة: 372 والإحاطة، الورقة: 356، وقد غمز منه لسان الدين في الكتيبة بعد أن أثنى عليه في الإحاطة.(5/509)
قال ابن الصباغ: من شعر ابن لب يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا القلب ثار أثار ادكارا ... لقلبي فأذكى عليه أوارا
تروم جفوني لنار الهوى ... خموداً فتهمي دموعاً غزارا
فماء جفوني يسح انهمالا ... ونار فؤادي تهيج استعارا
أطيل العويل صباحاً مساء ... كئيبا ولست أطيق اصطبارا
رقيت مراقي للحب شتى ... فأفنى مراراً وأحيا مرارا
أحن اشتياقاً لريح سرت ... وأبدي هياماً لبرق أنارا
حنيناً وشوقاً إلى معلم ... حوى شرفاً خالداً لا يجارى
به أسكن الله أسمى الورى ... نبياً كريماً وصحباً خيارا
هو المصطفى المنتقى المجتبى ... أرى معجزات وآياً كبارا
يحق علينا ركوب البحار ... وجوب القفار إليه ابتدارا ومنها:
فيا فوز من فاز في طيبة ... بلثم المغاني جداراً جدارا
وألصق خداً على تربها ... وأكمل حجاً بها واعتمارا
وأهدى السلام لخير الأنام ... على حين وافى عليه مزارا
فيا هادي الخلق دار نعيم ... تناهت جمالاً وطابت قرارا
لأنت الوسيلة والمرتجى ... ليوم يرى الناس فيه سكارى
وما هم سكارى، ولكنهم ... دهتهم دواه فهاموا حيارى
ترى المرء للهول من أمه ... ومن أقربيه يطيل الفرارا
وكل يخاف على نفسه ... فيكسوه خوف الإله انكسارا
فصلى الإله، رسول الهدى، ... عليك، وأبقى هداك منارا
وقدس ربي ثرى روضة ... يعم الجهات سناها انتشارا(5/510)
أعبر شذا المسك منها الثرى ... بل المسك منه شذاه استعارا
هنيئاً لمن بهداك اهتدى ... ومغناك وافى، وإياك زارا وقصد رحمه الله تعالى بهذه القصيدة معارضة قصيدة الشبهاب محمود التي نظمها بالحجاز في طريق المدينة الشرفة على ساكنها الصلاة والسلام، وهي طويلة، ومطلعها:
وصلنا السرى وهجرنا الديارا ... وجئناك نطوي إليك القفارا وقد تبارى الشعراء في هذا الوزن وهذا الروي، ومنه القصيدة المشهورة:
أقول وآنست بالحي نارا ... ولابن لب رحمه الله تعالى الفتاوى المشهورة:
وقال في الإحاطة في حقه ما محصله: فرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي غرناطي أبو سعيد، من أهل الخير والطهارة والذكاء والديانة وحسن الخلق، رأس بنفسه وبرز بمزية إدراكه وحفظه، فأصبح حامل لواء التحصيل وعليه مدار الشورى وإليه مرجع الفتوى، لقيامه على الفقه وغزارة علمه وحفظه، إلى المعرفة بالعربية واللغة، ومعرفة التوثيق والقيام على القرارات والتبريز في التفسير، والمشاركة في الأصلين والفرائض والأدب، وجودة الحفظ؛ وأقرأ بالمدرسة النصرية في الثامن والعشرين لرحب عام أربعة وخمسين وسبعمائة، معظماً عند الخاصة والعامة، مقروناً اسمه بالتسويد، قعد للتدريس ببلده على وفور الشيوخ، وولي الخطابة بالجامع. قرأ على القيجاطي، والعربية على ابن الفخار، وأخذ عن ابن جابر الوادي آشي، فمن شعره في النسيب (1) :
خذوا للهوى من قلبي اليوم ما أبقى ... فما زال قلبي كله للهوى رقا
__________
(1) الكتيبة: 68.(5/511)
دعوا القلب يصلى في لظى الوجد ناره ... فنار الهوى الكبرى وقلبي هو الأشقى
سلوا اليوم أهل الوجد ماذا به لقوا ... فكل الذي يلقون بعض الذي ألقى
فإن كان عبد يسأل العتق سيداً ... فلا أبتغي من مالكي في الهوى عتقا
بدعوى الهوى يدعو أناس وكلهم ... إذا سئلوا طرق الهوى جهلوا الطرقا
فطرق الهوى شتى ولكن أهله ... يحوزون في يوم السباق بها السبقا
وكم جمعت طرق الهوى بين أهلها ... وكم أظهرت عند السوى بينهم فرقا
بسيما الهوى تسمو معارف أهله ... فحيث ترى سيما الهوى فاعرف الصدقا
فمن زفرة تزجي سحائب عبرة ... إذا زفرة ترقى فلا عبرة ترقا (1)
إذا سكتوا عن وجدهم أعربت به ... بواطن أحوال وما عرفت نطقا وقال في وداع شهر رمضان:
أأزمعت يا شهر الصيام رحيلا ... وقاربت يا بدر الزمان أفولا
جدك قد جدت بك الآن رحلة ... رويدك أمسك للوداع قليلا
نزلت فأزمعت الرحيل كأنما ... نويت رحيلاً إذ نويت نزولا
وما ذاك إلا أن أهلك قد مضوا ... تفانوا فأبصرت الديار طلولا
تفكرت في الأوقات (2) ناشئة التقى ... أشد به وطأ وأقوم قيلا وهي طويلة.
وكان موجوداً عند تأليف الإحاطة رحمه الله تعالى؛ انتهى بالمعنى.
وقال الحافظ ابن حجر: إنه صنف كتاباً في الباء الموحدة، وأخذ عن شيخنا بالإجازة قاسم بن علي المالقي، ومات سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة؛ انتهى.
وقال تلميذه المنتوري ما نصه: من شيوخي الشيخ الأستاذ الخطيب المقرئ
__________
(1) ترقى: تصعد، وترقأ: تسكن وتكف عن البكاء.
(2) ق: الأوفاق.(5/512)
المتفنن المفتي أبو سعيد ابن لب، مولده سنة إحدى وسبعمائة، وتوفي ليلة السبت لسبع عشرة ليلة مضت من ذي الحجة عام اثنين وثمانين؛ انتهى.
وهو مخالف لما سبق عن ابن حجر، لكن صاحب البيت أدرى، إذ قال: شيخنا الفقيه الخطيب الأستاذ المقرئ العالم العلم الصدر الأوحد الشهير، كان شيخ الشيوخ وأستاذ الأستاذين بالأندلس، إليه انتهت فيها رياسة الفتوى في العلوم، كان أهل زمانه يقفون عندما يشير إليه، قرأ على أبي علي القيجاطي بالسبع، وتفقه عليه كثيراً في أنواع العلوم، ولازمه إلى أن مات، وأجازه عامة، وعليه اعتمد، وأخذ عن أبي جعفر ابن الزيات، وأبي إسحاق ابن أبي العاصي، وابن جابر الوادي آشي، وقاضي الجماعة أبي بكر، سمع عليه البخاري، وتفقه عليه، وقرأ عليه أكثر عقيدة المقترح تفهماً، وبعض الإرشاد وبعض التهذيب، وعن أبي محمد ابن سلمون، والبركة أبي عبد الله الطنجالي الهاشمي، وأجازه؛ انتهى بمعناه.
وبالجملة فهو من أكابر علماء المالكية بالمغرب حتى قال المواق فيه: شيخ الشيوخ أبو سعيد ابن لب، الذي نحن على فتاويه في الحلال والحرام؛ انتهى.
وقل من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته، فممن أخذ عنه الشاطبي، وابن علاق، وأبو محمد ابن جزي، والأستاذ ابن زمرك، في خلق كثير من طبقتهم، ثم من الطبقة الثانية أبو يحيى ابن عاصم، وأخوه القاضي (1) أبو بكر ابن عاصم، والشيخ أبو القاسم ابن سراج، والمنتوري، في خلق لا يحصون.
وله تواليف، فمنها شرح جمل الزجاجي، وشرح تصريف التسهيل،
__________
(1) ق ص: والقاضي.(5/513)
وكتاب " ينبوع عين الثرة (1) في تفريع مسألة الإمامة بالأجرة "، وله فتاوى مدونة بأيدي الناس، وممن جمعها الشيخ ابن طركاط الأندلسي، وله كتابة في مسألة الأدعية إثر الصلوات على الهيئة المعروفة، وقد رد عليه في هذا التأليف تلميذه أبو يحيى ابن عاصم الشهيد في تأليف نبيل انتصاراً لشيخه أبي إسحاق الشاطبي، رحم الله تعالى الجميع.
26 - ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب أبو القاسم ابن جزي، ففي " الإحاطة " (2) ما ملخصه: محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي، الكلبي، أبو القاسم، من أهل غرناطة، وذوي الأصالة والنباهة فيها، شيخنا، وأصل سلفه من ولبة من حصن البراجلة، نزل بها أولهم عند الفتح صحبة قريبهم أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي، وعند خلع دولة المرابطين كان لجدهم يحيى رياسة وإفراد بالتدبير، وكان رحمه الله تعالى على طريقة مثلى من العكوف على العلم، والاقتصار على الاقتيات من حر النشب، والاشتغال بالنظر والتقييد والتدوين، فقيهاً حافظاً قائماً على التدريس، مشاركاً في فنون من عربية وفقه وأصول وقراءات وأدب وحديث، حفظة للتفسير، مستوعباً للأقوال، جماعة للكتب، ملوكي الخزانة، حسن المجلس، ممتع المحاضرة، قريب الغور، صحيح الباطن، تقدم خطيباً بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنه، فاتفق على فضله، وجرى على سنن أصالته، قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير العربية والفقه والحديث والقرآن، وعلى ابن الكماد، ولازم الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد وطبقتهم كالحضرمي وابن أبي الأحوص وابن برطال وأبي عامر ابن ربيع الأشعري والولي أبي عبد الله
__________
(1) نيل الابتهاج: الشره.
(2) ترجمة أبي القاسم ابن جزي في الكتيبة: 46 وأزهار الرياض 3: 184 والديباج: 295 ونيل الابتهاج: 235 والمقري ينقل هنا وفي الأزهار عن الإحاطة.(5/514)
الطنجالي وابن الشاط.
وله تواليف منها وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم والأنوار السنية في الكلمات السنية والدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار، والقوانين الفقهية وتلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية وكتاب تقريب الوصول إلى علم الأصول وكتاب النور المبين في قواعد عقائد الدين، وكتاب المختصر البارع في قراءة نافع وكتاب أصول القراء الستة غير نافع وكتاب الفوائد العامة في لجن العامة إلى غير ذلك مما قيده في التفسير والقراءات وغير ذلك، وله فهرسة كبيرة اشتملت على جملة كبيرة من علماء المشرق والمغرب.
ومن شعره قوله في الأبيات الغينية ذاهباً مذهب المعري وابن المظفر والسلفي وأبي الحجاج ابن الشيخ وأبي الربيع ابن سالم وابن أبي الأحوص وغيرهم من علماء المشرق والمغرب:
لكل بني الدنيا مراد ومقصد ... وإن مرادي صحة وفراغ
لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً ... يكون به لي للجنان بلاغ
ففي مثل هذا فلينافس أولو النهى ... وحسبي من دار الغرور بلاغ
فما الفوز إلا في نعيم مؤبد ... به العيش رغد والشراب يساغ وقال:
أروم امتداح المصطفى فيردني ... قصوري عن إدراك تلك المناقب
ومن لي بحصر البحر والبحر زاخر ... ومن لي بإحصاء الحصى والكواكب
ولو أن أعضائي غدت ألسناً إذاً ... لما بلغت في المدح بعض مآربي
ولو أن كل العالمين تألفوا ... على مدحه لم يبلغوا بعض واجب
فأمسكت عنه هيبة وتأدباً ... وعجزاً وإعظاماً لأرفع جانب(5/515)
ورب سكوت كان فيه بلاغة ... ورب كلام فيه عتب لعاتب وقال:
يا رب إن ذنوبي اليوم قد كثرت ... فما أطيق لها حصراً ولا عددا
وليس لي بعذاب النار من قبل ... ولا أطيق لها صبراً ولا جلدا
فانظر إلهي إلى ضعفي ومسكنتي ... ولا تذيقنني حر الجحيم غدا
شطر أول ... شطر ثاني وقال:
وكم من صفحة في الشمس تبدو ... فيسلي حسنها قلب الحزين
غضضت الطرف عن نظري إليها ... محافظة على عرضي وديني مولده يوم الخميس تاسع ربيع الثاني عام ثلاثة وتسعين وستمائة، وفقد وهو يحرض الناس يوم الكائنة بطريف ضحوة يوم الاثنين تاسع جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة، وعقبه ظاهر بين القضاء والكتابة؛ انتهى.
[شعر لابن لؤلؤة]
وأذكرني روي الغين الصعب قول الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف السكوني الأندلسي المعروف بابن لؤلؤة رحمه الله تعالى ورضي عنه:
أمن بعد ما لاح المشيب بمفرقي ... أميل لزور بالغرور يصاب
وأرتاح للذات والشيب منذر ... بما ليس عنه للأنام مراغ
ومن لم يمت قبل الممات فإنه ... يراع بهول بعده ويراغ
فيا رب وفقني إلى ما يكون لي ... به للذي أرجوك منه بلاغ توفي المذكور بالطاعون سنة 750، وكان خطيباً بحسن قمارش رحمه الله تعالى.(5/516)
[من نظم ابن جزي]
ومن نظم ابن جزي المذكور قوله:
أيا من كففت النفس عنه تعففاً ... وفي النفس من شوقي إليه لهيب غرام
ألا إنما صبري كصبر، وإنما ... على النفس من تقوى الإله رقيب لجان وهما من التخيير المعلوم في فن البديع.
وقول لسان الدين رحمه الله تعالى وله عقب ظاهر بين القضاء والكتابة يريد به بنيه البارع أبو بكر والعلامة أبا عبد الله والقاضي أبا محمد عبد الله.
[تراجم أولاد ابن جزي]
ولنذكرهم فنقول: أما أبو بكر أحمد (1) فهو الذي ألف أو أبوه الأنوار السنية وهو من أهل الفضل والنزاهة وحسن السمت والهمة واستقامة الطريقة، غرب في الوقار، ومال إلى الانقباض، وله مشاركة حسنة في فنون من فقه وعربية وأدب وخط ورواية وشعر تسمو ببعضه الإجادة إلى غاية بعيدة، وقرأ على والده ولازمه، واستظهر ببعض تآليفه، وتفقه وتأدب به، وقرأ على بعض معاصري أبيه، ثم ارتسم في الكتابة السلطانية لأول دولة السلطان أبي الحجاج ابن نصر، وولي القضاء ببرجة وبأندرش ثم بوادي آش، مشكور السيرة معروف النزاهة ومن شعره:
أرى الناس يولون الغني كرامة ... وإن لم يكن أهلاً لرفعة مقدار
ويلوون عن وجه الفقير وجوههم ... وإن كان أهلاً أن يلاقى بإكبار
بنو الدهر جاءتهم أحاديث جمة ... فما صححوا إلا حديث ابن دينار
__________
(1) ترجمة أبي بكر بن جزي في الإحاطة 1: 48 والكتيبة: 138 وأزهار الرياض 3: 187.(5/517)
ومن بديع نظمه الصادر عنه تصديره أعجاز قصيدة امرئ القيس بن حجر الكندي بقوله (1) :
أقول لعزمي أو لصالح أعمالي ... (ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي)
أما واعظي شيب سما فوق لمتي ... (سمو حباب الماء حالاً على حال)
أنار به ليل الشباب كأنه ... (مصابيح رهبان تشب لقفال)
نهاني عن غي وقال منبهاً ... (ألست ترى السمار والناس أحوالي)
يقولون غيره لتنعم برهة ... (وهل يعمن من كان في العصر الخالي)
أغالط دهري وهو يعلم أنني ... (كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي)
ومؤنس نار الشيب يقبح لهوه ... (بآنسة كأنها خط تمثال)
أشيخاً وتأتي فعل من كان عمره ... (ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال)
وتشغفك الدنيا وما إن شغفتها ... (كما شغف المهنوءة الرجل الطالي)
ألا إنها الدنيا إذا ما اعتبرتها ... (ديار لسلمى عافيات بذي خال)
فأين الذين استأثروا قبلنا بها ... (لناموا فما إن من حديث ولا صال)
ذهلت بها غياً فكيف الخلاص من ... (لعوب تنسيني إذا قمت سربالي)
وقد علمت مني مواعد توبتي ... (بأن الفتى يهذي وليس بفعال)
ومذ وثقت نفسي بحب محمد ... (هصرت بغصن ذي شماريخ ميال)
وأصبح شيطان الغواية خاسئاً ... (عليه قتام شيء الظن والبال)
ألا ليت شعري هل تقول عزائمي ... (لخيلي كري كرة بعد إجفال)
فأنزل داراً للرسول نزيلها ... (قليل هموم ما يبيت بأوجال)
فطوبى لنفس جاورت خير مرسل ... (بيثرب أدنى دارها نظر عالي)
ومن ذكره عند القبول تعطرت ... (صباً وشمال في منازل قفال)
جوار رسول الله مجد مؤثل ... (وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي)
__________
(1) القصيدة في المصادر السابقة جميعا.(5/518)
ومن ذا الذي يثني عنان الثرى وقد ... (كفاني، ولم أطلب، قليل من المال)
ألم تر أن الظبية استشفعت به ... (تميل عليه هولة غير مجفال)
وقال لها عودي فقالت له نعم ... (ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي)
فعادت إليه والهوى قائل لها ... (وكان عداء الوحش مني على بال)
رثى لبعير قال أزمع مالكي ... (لقتلني والمرء ليس بفعال)
وثور ذبيح بالرسالة شاهد ... (طويل القرا والروق أخنس ذيال)
وحن إليه الجذع حنة عاطش ... (لغيث من الوسمي رائده خال)
وأصلين من نخل قد التأما له ... (فما احتسبا من لين مس وتسهال)
وقبضة رتب منه ذلت لها الظبى ... (ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
وأضحى ابن جحش بالعسيب مقاتلاً ... (وليس بذي رمج وليس بنبال)
وحسبك من سوط الطفيل إضاءة ... (مصباح زيت في قناديل ذبال)
وبذت به العجفاء كل مطهم ... (له حجبات مشرفات على الفال)
ويا خسف أرض تحت باغيه إذ علا ... (على هيكل نهد الجزارة جوال)
وقد أخمدت نار لفارس طالما ... (أصابت غضاً جزلاً وكفت بأجزال)
أبان سبيل الرشد إذ سبل الهدى ... (يقلن لأهل الحلم ضلاً بتضلال)
لأحمد خير العالمين التقيتها ... (ورضت فذلت صعبة أي إذلال)
وإن رجائي أن ألاقيه غداً ... (ولست بمقلي الخلال ولا قالي)
فأدرك آمالي وما كل آمل ... (بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي) ولا خفاء ببراعة هذا النظم، وإحكام هذا النسج، وشدة هذه العارضة.
[قصيدتان لحازم]
قلت: وقد أذكرني هذا التصدير قصيدة الأديب حازم صاحب المقصورة(5/519)
إذ صدر قصيدة امرئ القيس قفا نبك ولنذكرها هنا، قال رحمه الله تعالى (1) :
لعينيك قل إن زرت أفضل مرسل ... (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)
وفي طيبة فانزل ولا تغش منزلاً ... (بسقط اللوى بين الدخول فحومل)
وزر روضة قد طالما طاب نشرها ... (لما نسجتها من جنوب وشمأل)
وأثوابك اخلع محرماً ومصدقاً ... (لدى الستر إلا لبسة المتفضل)
لدى كعبة قد فاض دمعي لبعدها ... (على النحر حتى بل دمعي محملي)
فيا حادي الآبال سر بي ولا تقل ... (عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل)
فقد حلفت نفسي بذلك وأقسمت ... (علي آلت حلفة ولم تحلل)
فقلت لها لا شك أني طائع ... (وأنك مهما تأمري القلب يفعل)
وكم حملت في أظهر العزم رحلها ... (فيا عجباً من رحلها المتحمل)
وعاتبت العجز الذي عاق عزمها ... (فقلت لك الويلات إنك مرجلي)
نبي للهدى قد قال للكفر نوره ... (ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي)
تلا سوراً ما قولها بمعارض ... (إذا هي نصته ولا بمعطل)
لقد نزلت في الأرض ملة هديه ... (نزول اليمان ذي العياب المحمل)
أتت مغرباً من مشرق وتعرضت ... (تعرض أثناء الوشاح المفصل)
ففازت بلاد الشرق من زينة بها ... (بشق وشق عندنا لم يحول)
فصلى عليه الله ما لاح بارق ... (كلمع اليدين في حبي مكلل)
نبي غزا الأعداء بين تلائع ... (وبين إكام، بعد ما متأمل)
فكم ملك وافاه في زي منجد ... (بمنجرد قيد الأوابد هيكل)
وكم من يمان واضح جاءه اكتسى ... (بضاف فويق الأرض ليس بأعزل)
__________
(1) ديوان حازم: 89 وأزهار الرياض 3: 178 وتسمى هذه القصيدة " حديقة الأزهار وحقيقة الافتخار في مدح النبي المختار ".(5/520)
ومن أبطحي نيط منه نجاده ... (بجيد معم في العشيرة مخول)
أزالوا ببدر عن بروجهم العدا ... (كما زلت الصفواء بالمتنزل)
وفادوا ظباهم ولا بفتك فتى ولا ... (كبير أناس في بجاد مزمل)
وفضي جموعاً فدفداً جامعاً بها ... (لنا بطن حقف ذي ركام عقنقل)
وأحموا وطيساً في حنين كأنه ... (إذا جاش فيه جميه غلي مرجل)
ونادوا بنات النبع بالنصر أثمري ... (ولا تبعدينا من جناك المعلل)
وممن له سددت سهمين فاضربي ... (بسهمين في أعشار قلب مقتل)
فما أغنت الأبدان درع بها اكتست ... (ترائبها مصقولة كالسجنجل)
وأضحت لواليها ومالكها العدا ... (يقولون لا تهلك أسى وتجمل)
وقد فر منصاع كما فر خاضب ... (لدى سمرات الحي ناقف حنظل)
وكم قال يا ليل الوغى طلت فانبلج ... (بصبح وما الإصباح منك بأمثل)
فليت جوادي لم يسر بي إلى الوغى ... (وبات بعيني قائماً غير مرسل)
وكم مرتق أوطاس منهم بمسرج ... (متى ما ترق العين فيه تسهل)
وقرطه خرصاً كمصباح مسرج ... (أمال السليط بالذبال المفتل)
فيرنو لهاد فوق هاديه طرفه ... (بناظرة وحش وجرة مطفل)
ويسمع من كافورتين بجانبي ... (أثيث كقنو النخلة المتعثكل)
ترفع أن يعزى له شد شادن ... (وأرخاء سرحان وتقريب تتفل)
ولكنه يمضي كما مر مزبد ... (يكب على الأذقان دوح الكنهبل)
ويغشى العدا كالسهم أو كالشهاب أو ... (كجلمود صخر حط من عل)
جياد أعادت رسم رستم دارساً ... (وهل عند رسم دارس من معول)
وريعت بها خيل القياصر فاختفت ... (جواحرها في صرة لم تزيل)
سبت عرباً من نسوة العرب تستبي ... (إذا ما اسبكرت بين درع ومجول)
وكم من سبايا الفرس والصفر أسهرت ... (نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل)(5/521)
وحزن بدوراً من ليالي شعورها ... (تضل العقاس في مثنى ومرسل)
وأبقت بأرض الشام كأنها ... (بأرجائها القصوى أنابيش عنصل)
وما جف من حب القلوب بغورها ... (وقيعانها كأنه حب فلفل)
لخضراء ما دبت ولا نبتت بها ... (أساريع ظبي أو مساويك إسحل)
شدا طيرها في مثمر ذي أرومة ... (وساق كأنبوب السقي المذلل)
فشدت بروض ليس يذبل بعدها ... (بكل مغار الفتل شدت بيذبل)
وكم هجرت في القيظ تحكي ذوارعاً ... (عذارى دوار في ملاء مذيل)
وكم أدلجت والقتر يهفو هزيزه ... (ويلوي بأثواب العنيف المثقل)
وخضن سيولاً فضن باليد بعدما ... (أثرن غباراً بالكديد المركل)
وكم ركزوا رمحاً بدعص كأنه ... (من السيل والغثاء فلكة مغزل)
فلم تبن حصناً خوف حصنهم العدا ... (ولا أطماً إلا مشيداً بجندل)
فهدت بعضب بعد صقاله ... (بأمراس كتان إلى صم جندل)
وجيش بأقصى الأرض ألقى جرانه ... (وأردف أعجازاً وناء بكلكل)
يدك الصفا دكاً ولو مر بعضه ... (وأيسره عالي الستار ويذبل)
دعا النصر والتأييد راياته اسحبي ... (على أثرينا ذيل مرط مرحل)
لواء منير النصل طاو كأنه ... (منارة ممسى راهب متبتل)
كأن دم الأعداء في عذباته ... (عصارة حناء بشيب مرجل)
صحاب بروا هام العداة وكم قروا ... (صفيف شواء أو قدير معجل)
وكم أكثروا ما طاب من لحم جفرة ... (وشحم كهداب الدمقس المفتل)
وكم جبن من غبراء لم يسق نبتها ... (دراكاً ولم ينضج بماء فيغسل)
حكى طيب ذكراهم ومر كفاحهم ... (مداك عروس أو صلابة حنظل)
لأمداح خير الخلق قلبي قد صبا ... (وليس فؤادي عن هواها بمنسل)
فدع من لأيام صلحن له صبا ... (ولا سيما يوم بدارة جلجل)(5/522)
وأصبح عن أم الحويرث ما سلا ... (وجارتها أم الرباب بمأسل)
وكن في مديح المصطفى كمدبج ... (يقلب كفيه بخيط موصل)
وأمل به الأخرى ودنياك دع فقد ... (تمتعت من لهو بها غير معجل)
وكن كنبيث للفؤاد منابث ... (نصيح على تعذاله غير مؤتل)
ينادي إلهي إن ذنبي قد عدا ... (علي بأنواع الهموم ليبتلي)
فكن لي مجيراً من شياطين شهوة ... (علي حراص لو يسرون مقتلي)
وينشد دنياه إذا ما تدللت ... (أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل)
فإن تصلي حبلي بخير وصلته ... (وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي)
وأحسن بقطع الحبل منك وبته ... (فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي)
أيا سامعي مدح الرسول تنشقوا ... (نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل)
وروضة حمد للنبي محمد ... (غذاها نمير الماء غير المحلل)
ويا من أبى الإصغاء ما أنت مهتد ... (وما إن أرى عنك الغواية تنجلي)
فلو مطفلاً أنشدتها لفظها ارعوت ... (فألهيتها عن ذي تمائم محول)
ولو سمعته عصم طود أمالها ... (فأنزل منها العصم من كل منزل) وقد عرف بحازم هذا في أزهار الرياض وذكرت جملة من نظمه ومن بارع ما وقع له قوله (1) :
أدر المدامة فالنسيم مؤرج ... والروض مرقوم الرود مدبج
والأرض قد لبست برود جمالها ... فكأنما هي كاعب تتبرج
والنهر مما ارتاح معطفه إلى ... لقيا النسيم عبابه متموج
يمسي الأصيل بعسجدي شعاعه ... أبداً يوشى صفحه ويدبج
وتروم أيدي الريح تسلب ما اكتسى ... فتزيده حسناً بما هي تنسج
فارتح لشرب كؤوس راح نورها ... بل نارها في مائها تتوهج
__________
(1) ديوان حازم: 28 وأزهار الرياض 3: 174.(5/523)
واسكر بنشوة لحظ من أحببته ... أو كأس خمر من لماه تمزج
واسمع إلى نغمات عود تطبي ... قلب الخلي إلى الهوى وتهيج
بم وزير يسعدان مثانياً ... ومثالثاً طبقاتها تتدرج
من لم يهيج قلبه هذا فما ... للقلب منه محرك ومهيج
فأجب فقد نادى بألسن حاله ... للأنس دهر للهموم مفرج
طربت جمادات وأفصح أعجم ... فرحاً وأصبح من سرور يهزج
أفيفضل الحي الجماد مسرة ... والحي للسراء منه أحوج
ما العيش إلا ما نعمت به وما ... عاطاك فيه الكأس ظبي أدعج
ممن يروقك منه ردف مردف ... عبل وخصر ذو اختصار مدمج
فإذا نظرت لطرة ولغرة ... ولصفحة منه بدت تتأجج
أيقنت أن ثلاثهن وما غدا ... من تحتها ينآد أو يتموج
ليل على صبح على بدر على ... غصن تحمله كثيب رجرج
كأس ومحبوب يظل بلحظه ... قلب الخلي إلى الهوى يستدرج
يا صاح ما قلبي بصاح عن هوى ... شيئان بينهما المنى تستنتج
وبمهجتي الظبي الذي في أضلعي ... قد حل وهو يشبها ويؤجج
ناديت حادي عيسه يوم النوى ... والعيس تحدى والمطايا تحدج
قف أيها الحادي أودع مهجة ... قد حازها دون الجوانح هودج
لما تواقفنا وفي أحداجها ... قمر منير بالهلال متوج
ناديتهم قولوا لبدركم الذي ... بضيائه تسري الركاب وتدلج
يحيي العليل بلفظة أو لحظة ... تطفي غليلاً في الحشا يتأجج
قالوا نخاف يزيد قلبك لاعجاً ... فأجبتهم خلوا اللواعج تلعج
وبكيت واستبكيت حتى ظل من ... عبراتنا بحر ببحر يمرج
وبقيت أفتح بعدهم باب المنى ... ما بيننا طوراً، وطوراً يرتج(5/524)
وأقول يا نفس اصبري فعسى النوى ... بصباح قرب ليلها يتبلج
فترقب السراء من دهر شجا ... والدهر من ضد لضد يخرج
وترج فرجة كل هم طارق ... فلكل هم في الزمان تفرج وتذكرت هنا جيمية ابن قلاقس، وهي (1) :
عرضت لمعترض الصباح الأبلج ... حوراء في طرف الظلام الأدعج
فتمزقت شيم الدجى عن غرتي ... شمسين في أفق وكلة هودج
ووراء أستار الحمول لواحظ ... غازلن معتدل الوشيج الأعوج
من كل مبتسم السنان إذا جرى ... دمع النجيع من الكمي الأهوج
ولقد صحبت الليل قلص برده ... لعباب بحر صباحه المتموج
وكأن منتثر النجوم لالئ ... نظمت على صرح من الفيروزج
وسهرت أرقب من سهيل خافقاً ... متفرداً، وكأنه قلب الشجي
واستعبرت مقل السحاب فأضحكت ... منها ثغور مفوف ومدبج ولنعد إلى ذكر أبي بكر ابن جزي فنقول:
وله تقييد في الفقه على كتاب والده المسمى بالقوانين الفقهية، ورجز في الفرائض، وإحسانه كثير، وتقدم قاضياً للجماعة بحضرة غرناطة ثامن شوال عام ستين وسبعمائة، ثم صرف عنها، لما توفي الأستاذ الخطيب العالم الشهير أبو سعيد فرج بن لب - رحمه الله تعالى - وكان خطيب الجامع الأعظم بغرناطة، ولي عوضاً عنه أستاذاً وخطيباً عام اثنين وثمانين وسبعمائة، فبقي في الخطابة ثلاثة أعوام، ثم توفي، وأظن وفاته آخر عام خمسة وثمانين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
__________
(1) أزهار الرياض 3: 176.(5/525)
وأما أخوه أبو عبد الله محمد (1) فهو الكاتب المجيد، أعجوبة الزمان، وتوفي بفاس رحمه الله تعالى عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، وقيل - وهو الصواب -: إن وفاته آخر شوال من السنة قبلها حسبما ألفيته بخط بعض أكابر الثقات بداره من البيضاء، وهي فاس الجديدة، قرب مغرب يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شوال من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، وكان دفنه يوم الأربعاء بعد صلاة العصر وراء الحائط الشرقي الذي بالجامع الأعظم من المدينة البيضاء، وكان مولده في شوال من عام واحد وعشرين وسبعمائة؛ انتهى.
قال الأمير ابن الأحمر في نثير الجمان: أدركته ورأيته، وهو من أهل بلدنا غرناطة، وكان أبوه أبو القاسم محمد أحد المفتين بها عالم الأندلس الطائرة فتياه منها إلى طرابلس، وقتل شهيداً بطريف بعد أن أبلى بلاء حسناً، وأبو عبد الله ابنه هذا كتب بالأندلس في حضرة ابن عم أبينا أمير المسلمين أبي الحجاج يوسف، وله فيه أمداح عجيبة، ولم يزل كاتباً في الحضرة الأحمرية النصرية إلى أن امتحنه أمير المسلمين أبو الحجاج؛ انتهى.
ويعني ابن الأحمر بهذا الامتحان أنه ضربه بالسياط، من غير ذنب اقترفه بل ظلمه ظلماً مبيناً، هكذا ألفيته في بعض المقيدات.
ثم قال ابن الأحمر: فقوض الرحال عن الأندلس، واستقر بالعدوة، فكتب بالحضرة المرينية لأمير المسلمين أبي عنان، إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى. وكان رحمه الله تعالى طلع في سماء العلوم بدراً مشرقاً، وسارت براعته مشرقاً ومغرباً، وسما بشعره فوق الفرقدين، كما أربى بنثره على الشعرى والبطين، له باع مديد في التاريخ واللغة والحساب، والنحو والبيان والآداب، بصير بالفروع والأصول والحديث، عارف بالماضي من الشعر والحديث،
__________
(1) ترجمة أبي عبد الله ابن جزي في الإحاطة 2: 186 وأزهار الرياض 3: 189 ونثير الفرائد: 292 (رقم: 8) والكتيبة الكمامنة: 223 ونثير الجمان، الورقة: 78.(5/526)
إن نظم أنساك أبا ذؤيب برقته، ونصيباً بمنصبه ونخوته، وإن كتب أربى على ابن مقلة بخطه، وإن أنشأ رسالة أنساك العماد بحسن مساقها وضبطه، وهو رب هذا الشان، وفارس هذا الميدان، ومع تفننه في الشعر فهو في العلوم قد نبغ، وما بلغ أحد من شعراء عصره منه ما بلغ، بل سلموا التقدم فيه إليه، وألقوا زمام الاعتراف بذلك في يديه، ودخلوا تحت راية الأدب التي حمل، إذ ظهر ساطع براعته ظهور الشمس في الحمل، أنشدني لنفسه يمدح أمير المسلمين أبا الحجاج يوسف ابن أمير المسلمين أبا الوليد إسماعيل عم أبينا ابن جدنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج هذه القصيدة البارعة، وحذف منها الراء المهملة (1) :
قسماً بوضاح السنا الوهاج ... من تحت مسدول الذوائب داج
وبأبلج بالمسك خطت نونه ... من فوق وسنان اللاحظ ساجي
وبحسن خد دبجت صفحاته ... فغدت تحاكي مذهب الديباج
وبمبسم كالعقد نظم سلكه ... ولمى حكى الصهباء دون مزاج
وبمنطق تصبو القلوب لحسنه ... أنسى المسامع نغمة الأهزاج
وبمائس الأعطاف تثنيه الصبا ... فيميس كالخطي يوم هياج
ومنعم مثل الكثيب يقله ... مستضعف يشكو من الإدماج
وبموعد للوصل أنجز فجأة ... من بعد طول تمنع ولجاج
وبأكؤس أطلعن في جنح الدجى ... شمس السلافة في سماء زجاج
وحدائق سحب السحاب ذيوله ... فيها وبات لها النسيم يناجي
وجداول سلت سيوفاً عندما ... فجئت بجيش للصبا عجاج
وبأقحوان قد تضاحك إذ بكت ... عين الغمام بمدمع ثجاج
وقدود أغصان يملن كأنها ... تخفي حديثاً بينها وتناجي
وحمائم يهتفن شجواً بالضحى ... فهديلهن لذي الصبابة شاجي
__________
(1) الأزهار: 191.(5/527)
إن المعالي والعوالي والندى ... والبأس طوع يدي أبي الحجاج
ملك تتوج بالمهابة عندما ... لم يستجز بالدين لبس التاج
وأفاض حكم العدل في أيامه ... فالحق أبلج واضح المنهاج
هو منقذ العني، ومغني المعتفي ... ومذلل العاتي، وغوث اللاجي
ماضي العزيمة، والسيوف كليلة ... طلق المحيا، والخطوب دواجي
علم الهدى، والناس في علياء قد ... ضلوا لوقع الحادث المهتاج
غيث الندى، والسحب تبخل بالحيا ... والمحل يبدي فاقة المحتاج
ليث الوغى، والخيل تزجي بالقنا ... والبيض تنهل في دم الأوداج
يتقشع الإظلام إذ يبدو له ... وجه كمثل الكوكب الوهاج
من آل قيلة من ذؤابة سعدها ... أعلى بني قحطان دون خلاج
حيث العلا ممدودة الأطناب لم ... تخلق معالمها يد الإنهاج
والأعوجيات السوابق تمتطى ... فتظلل الآفاق سحب عجاج
والبيض والأسل العوامل تقتضي ... مهج الكماة بأبلغ الإزعاج
مجد ليوسف جمعت أشتاته ... أعيا سواه بعد طول علاج
مولاي هاك عقيلة تزهو على ... أخواتها كالغادة المغناج
إنشاء عبد خالص لك حبه ... ومن العبيد مداهن ومداجي
آوى إلى أكناف نعماك التي ... ليست إليه صلاتها بخداج
سباق ميدان البلاغة والوغى ... لشعاب كل منهما ولاج
جانبت أخت الزاي منها عامداً ... فأتت من الإحسان في أفواج
فافتح لها باب القبول وأول من ... أهداكها ما يبتغي من حاج ثم قال بان الأحمر: وأنشدني أيضاً لنفسه يمدح أمير المؤمنين المتوكل على الله أبا عنان فارس ملك المغرب (1) :
__________
(1) الأزهار: 192.(5/528)
إن قلبي لعهدة الصبر ناكث ... عن غزال في عقدة السحر نافث
أضرم النار في فؤادي وولى ... قائلاً لا تخف فإني عابث
ورماني من مقلتيه بسهم ... ثم قال: اصطبر لثان وثالث
كم عذول أتى يناظر فيه ... كان تعذاله على الحب باعث
ويمين آليتها بالتسلي ... فقضى حسنه بأني حانث
جبر الله صدع قلب عميد ... صدعت شمله صروف الحوادث
فهو يهفو إلى البروك ويروي ... عن نسيم الصبا ضعاف الآحاد
سلبته الأشجان إلا بقايا ... من أماني حبالهن رثائث
وبكاء على عهود مواض ... ملأت صدره هموماً حدائث
لست وحدي أشكو بليلة وجد ... إن داء الغرام ليس بحادث
يا مضيع العهود والله يعفو ... عنك أنى ارتضيت خطة ناكث
غرني منك والجمال غرور ... وظبى اللحظ في القلوب عوابث
مقل يقتسمن أعشار قلبي ... بالرضى مني، اقتسام الموارث
كيف غيرت بانتزاحك حالي ... وتغيرت لي، ولست بحارث (1)
فرط حبي وفرط بخلك آلى ... أن عينيك بالفتور نوافث
وندى فارس وحسبك رداً ... قول من قال سد باب البواعث
ملك البأس والندى، فهو بالسي ... ف وبالسيب عائث أوغائث
محرز المجد والثناء، فهذا ... سائر في الورى، وذاك لابث
أوطأ الشهب رجله وترقى ... صاعداً في سموه غير ماكث
فدرار تسري وما لحقته ... ونجوم خلف القصور لوابث
وله المقربات لا بل هي العق ... بان من فوقها الليوث الدلاهث (2)
__________
(1) يشير إلى قول الشاعر: " تغير لي في من تغير حارث " انظر المجلد الأول: 26.
(2) الدلاهث: جمع دلهاث وهو المقدام.(5/529)
مطلعات من كل نعل هلالاً ... فلهذا تجلو دجى كل حادث
إن ترافقن فالجبال الرواسي ... أو تسابقن فالغيوث الحثائث
والمواضي كأنها قد أعيرت ... حدة الذهن منه عند المباحث
هي نار محرقات الأعادي ... وهي ماء مطهرات الخبائث
فيردن الوغى ذكوراً عطاشاً ... ثم يصدرن ناهلات طوامث
من معانيه قد رأينا عياناً ... كل فضل ينصه من يحادث
خلق كالنسيم مر سحيراً ... بالأزاهير في البطاح الدمائث
في سبيل الإله يقصي ويدني ... ويوالي في ذاته ويناكث
شرف الملك منه سام وحام ... ففدته سام وحام ويافث
هاكها من بنات فكري بكراً ... ليس يسمو لها من الناس طامث
ذات لفظ لا يغتريه اختلال ... ومعان لا تنتحيها المباحث
زعماء القريض أبقوا بقايا ... كنت دون الورى لهن الوارث
من أراد انتقادها فهي هذي ... عرضه البحث فليكن جد باحث ورأيت بخط ابن الصباغ العقيلي (1) على هامش قوله وندى فارس حسبك رداً ... البيت ما نصه: ما أبدع تخلصه للمدح وأطبعه؛ فإنه أشار إلى قول الشاعر راداً عليه بالتبكيت، ومعقباً له بالتعنيت (2) :
قالوا: تركت الشعر قلت: ضرورة ... باب السماحة والملاحة مغلق
مات الكرام فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق وقيل: إن السلطان أبا عنان أطل من برج يشاهد الحرب بين الثور والأسد على ما جرت بع عادة الملوك، فقال ابن جزي المذكور في وصف الحال:
__________
(1) انظر الأزهار: 194.
(2) الشعر للغزي (ابن خلكان 1: 41 والخريدة 1: 6، قسم الشام) .(5/530)
لله يوم بدار الملك مر به ... من العجائب ما لم يجر في خلدي
لاح الخليفة في برج العلا قمراً ... يشاهد الحرب بين الثور والأسد ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى قوله:
أبا حسن إن شتت الدهر شملنا ... فليس لود في الفؤاد شتات
وإن حلت عن عهد الإخاء فلم يزل ... لقلبي على حفظ العهود ثبات
وهبني سرت مني إليك إساءة ... ألم تتقدم قبلها حسنات وقوله وهو بحال مرض:
إن يأخذ السقم من جسمي مآخذه ... وأصبح القوم من أمري على خطر
فإن قلبي بحمد الله مرتبط ... بالصبر والشكر والتسليم للقدر
فالمرء في قبضة الأقدار مصرفه ... للبرء والسقم أو للنفع والضرر وحكي أن الفقيه الرحال أبا إسحاق إبراهيم الحاج النميري بقي في خلوته جميع شهر رمضان المعظم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، فلما خرج في يوم عيد الفطر أنشده صهره أبو عبد الله ابن جزي المذكور لنفسه:
ما سرار البدور إلا ثلاث ... فلماذا أرى أسرارك شهرا
تعجلته سراراً لعام ... ثم تبقى في سائر العام بدرا وحكي أنه كتب للرئيس صاحب القلم الأعلى والعلامة بفاس أبي القاسم ابن رضوان يطلب منه شراب سكنجبين، وقصد التحيف بقوله: أحسن زان بيتك نجيب تسر به بر مرضي تصحيفه: أحب شراب سكنجبين شربه برء مرضي، قال: فجاوبني ابن رضوان بقوله: إن برك نفيس، تصحيفه مقلوباً: يشفيك ربنا.
ومن نظم ابن جزي المذكور قوله:(5/531)
رعى الله عهداً بالمرية ما أرى ... به أبداً ما عشت في الناس بالناسي
وكيف ترى بالله صحبة معشر ... مجاهد بعض منهم وابن عباس وقوله في الزاوية التي أنشأها السلطان أبو عنان:
هذا محل الفضل والإيثار ... والرفق بالسكان والزوار
دار على الإحسان شيدت والتقى ... فجزاؤها الحسنى وعقبى الدار
هي ملجأ للواردين ومورد ... لابن السبيل وكل ركب ساري
آثار مولانا الخليفة فارس ... أكرم بها في المجد آثار
لا زال منصور اللواء مظفراً ... ماضي العزائم سامي المقدار
بنيت على يد عبدهم وخديم با ... بهم العلي محمد بن جدار
في عام أربعة وخمسين انقضت ... من بعد سبع مئين في الإعصار ومن نظمه قوله مورياً:
وما أنسى الأحبة يوم (1) بانوا ... تخوض مطيهم بحر الدموع
وقالوا: اليوم منزلنا الحنايا ... فقلت: نعم، ولكن من ضلوعي وقوله مورياً أيضاً:
ورب يهودي أتى متطبباً ... ليأخذ ثارات اليهود من الناس
إذا جس نبض المرء أودى بنفسه ... سريعاً، ألم تسمع بفتكة جساس وقوله:
من أي أشجاني التي جنت النوى ... أشكو العذاب وهن في تنويع
من وصلي الموقوف أو من هجري ال ... موصول أو من نومي المقطوع
__________
(1) الأزهار: حين.(5/532)
أو من حديث تولهي وتولعي ... خبراً صحيحاً ليس بالموضوع
يرويه خدي مسنداً عن أدمعي ... عن مقلتي عن قلبي المفجوع وأول هذه (1) القصيدة:
ذهبي حشاشة قلبي المصدوع ... بين السلام ووقفة التوديع وقد ضمن شطرها الفقيه عبيد شارح الحلبة (2) ، إذ قال من قصيدة مطلعها:
اهمي دموعك ساعة التوديع ... يا مقلتي ممزوجة بفجيع بقوله:
يوم استقلت عيسهم وترحلوا ... ذهبت حشاشة قلبي المصدوع وقوله:
بخدي وجسمي والفؤاد وأدمعي ... شهود بهم دعوى الغرائم تصحح
ومن عجب أن رجع الناي نقلهم ... وكلهم ذو جرحة فيه تقدح
فجسمي ضعيف، والفؤاد مخلط ... ودمعي مطروح، وخدي مجرح وقوله:
يا محياً كتب الحسن به ... أحرفاً أبدع فيها وبرع
ميم ثغر، ثم نون حاجب ... ثم عين هي تتميم البدع
أنا لا أطمع في وصلك لي ... وعلى وجهك مكتوب منع ثم قال ابن الأحمر: ومن إنشائه البارع مورياً بالكتب، ورفعها لأمير المؤمنين
__________
(1) هذه: سقطت من ص.
(2) ق: الحلية.(5/533)
المتوكل على الله أبي عنان فارس رحمه الله تعالى يهنيه بإبلال ولده ولي عهده الأمير أبي زيان محمد من مرض (1) :
ماذا عسى أدب الكتاب يوضح من ... خصال مجدك وهو الزاهر الزاهي
وما الفصيح بكليات موعبها ... كاف فيأتي بأنباء وإنباه أبقى الله تعالى مولانا الخليفة ولسعادته القدح المعلى، ولزاهر كماله التاج المحلى، تجلى من حلاه نزهة الناظر، ويسير بعلاه المثل السائر، ويتسق من سناه العقد المنظم، ويتضح بهداه القصد الأمم، ولا زالت مقدمات النصر له مبسوطة، ومعونة السعد بإشارته منوطة، وهدايته متكفلة بإحياء علوم الدين، وإيضاح منهاج العابدين، وإرشاده يتولى تنبيهى الغافلين، ويأتي من شفاء الصدور بالنور المبين، وميقات الخدمة ببابه مطمح الأنفس، وملخص الجود من كفه بغية الملتمس، قد حكم أدب الدين والدنيا بأنك سراج الملوك، لما أتت عوارفك بالمشرع السلسل ومعارفك بنظم السلوك، ووضحت معالم مجدك وضوح أنوار الفجر، وزهت بعدلك المسالك والممالك زهو خريدة القصر، فلك في جمهرة الشرف النسب الوسيط، ومن جمل المآثر الخلاصة والبسيط، وسبل الخيرات لها برعايتك تيسير، ومحاسن الشريعة بتحصيلك تحبير، وأنت حجة العلماء، الذي تقصر عن تقصي مآثره فطن الأذكياء، إن انبهم التفسير ففي يديك ملاك التأويل، أو اعتاص تفريع الفقه فعندك فصل البيان له والتحصيل، ولإن تشعب التاريخ فلديك استيعابه، أو تطاول الأدب ففي إيجاز بيانك اقتضابه، وإن ذكر الكلام ففي انتقائك من برهانه المحصول، أو المنطق ففي موجز آمالك لبابه المنخول، وليس أساس البلاغة إلا ما تأتي به من فصل المقال، ولا جامع
__________
(1) ليس من السهل التعريف بكل هذه الكتب التي ورى بها في هذه الرسالة، لأن ذلك يتطلب تطويلا لا تتحمله هذه الحواشي، فليراجعها القارئ في فهرست الكتب حيث نورد كل كتاب مقترنا باسم مؤلفه.(5/534)
الخير إلا ما حزته من تهذيب الكمال، ولذلك صارت خدمتك غاية المطلوب، وحبك قوت القلوب، ولا غر إن كنت من العلياء درتها المكنونة، فأسلافك الكرام هم جواهرها الثمينة، بحماستهم أصيبت مقاتل الفرسان، وبجود (1) جهودهم تنسى ري الظمآن، وبتسهيل عدلهم وضحت شعب الإيمان، وأنت المنتقى من سمط جمانهم، والواسط في قلائد عقبانهم، عنك تؤثر سيرة الاكتفاء، وعن فروعك السعداء تروي أخبار نجباء الأبناء، فهم لمملكتك العليا بهجة مجالسها، وأنس مجالسها، وقطب سرورها، ومطالع نورها، وولي عهدك درتهم الخطيرة، وذخيرتهم الأثيرة، لا زال كامل سعادته بطول مقامك محكماً، وحرز أمانيه بالجمع بين الصحيحين حبك ورضاك معلماً، وقد وجبت التهنئة بما كان في حيلة برئه من التيسير، وما تهيأ في استقامة قانون صحته من نجح التدبير، ولم يكن إلا بعدت به عنك المسالك، وأعوز نور طرفه تقريب المدارك، وتذكر ما عهده من الإيناس الموطأ جنابه عند فضل مالك، فوري من شوقه سقط الزند، والتهب في جوانحه قبس الوجد، فأمددته من دعائك لصالح بحلية الأولياء، فظفر لما شارف مشارق الأنوار من حضرتك بالشفاء، وقد حاز إكمال الأجر بذلك العارض الوجيز، وكان له كتشبيب الإبريز، وها هو قادم بالطالع السعيد، آيب بالمقصد الأسنى من الفتح والتمهيد، يطلع بين يديك طلوع الشهاب، ويبسم عن مفصل الثناء في الهناء بذلك زهر الآداب، فأعد له تحفة القادم من إحسانك الكامل، واخصصه بالتكملة من إيناسك الشامل، فهو الكوكب الدري المستمد من أنوارك السنية، وفي تهذيب شمائله إيضاح للخلق الكريمة الفارسية، لا زالت تزدان بصحاح مآثرك عيون الأخيار، وتتعطر بنفحة الزهر من ثنائك روضة الأزهار، وتتلى من محامدك الآيات البينات، وتتوالى عليك الألطاف الإلهيات، بمن الله سبحانه وفضله، والسلام الكريم
__________
(1) ق: وبحور.(5/535)
يعتمد المقام العلي، ورحمه الله تعالى وبركاته؛ انتهى.
وللمذكور (1) عدة مقطعات يوري فيها أسماء الكتب فمنها قوله:
ظبي هو الكامل في حسنه ... وثغره أبهى من العقد
جماله المدهش لكنما ... أخلاقه تحكي صبا نجد وقوله أيضاً:
لك الله من خل حباني برقعة ... حبتني من آياته بالنوادر
رسالة رمز في الجمال نهاية ... ذخيرة نظم أتحفت بالجواهر وقوله:
قصتي في الهوى المدونة ال ... كبرى وأخبار عشقي المبسوطه
حجتي في الغارم واضحة إذ ... لم تزل مهجتي بوجد منوطه [نماذج من التورية بأسماء الكتب]
وتذكرت بالتورية بأسماء الكتب قول الأرجاني:
لما تألق بارق من ثغره ... جادت دموعي بالسحاب الممطر
فكأن عقد الدر حل قلائد ال ... عقيان منه على صحاح الجوهري وقول لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى:
وظبي لأوضاع الجمال مدرس ... عليم بأسرار المحاسن ماهر
أرى جيده نص المحلى، وقررت ... ثناياه ما ضمت صحاح الجواهر
__________
(1) ق: وله.(5/536)
وقول ابن خاتمة:
ومعطر الأنفاس يبسم دائماً ... عن در ثغر زانه ترتيب
من لم يشاهد منه عقد جواهر ... لم يدر ما النتقيح والتهذيب وقوله أيضاً:
سفهني عاذلي عليه ... وقال لي وده عليل
فقلت معتل أو صحيح ... يودعه عينه الخليل وقوله أيضاً:
حاز الجمال بصورة قمرية ... تجلو عليك مشارق الأنوار
وحوى الكمال بصورة عمرية ... تتلو عليك مناقب الأبرار وقول الرئيس أبي محمد (1) عبد المهيمن الحضرمي (2) :
من اغتدى موطأ أسلافه ... صح له التمهيد في أحواله
وقابل استذكاره بالمنتقى ... من رأيه المختار من أعماله
وأضحت المسالك الحسنى له ... تدني تقصياً قصى آماله
وسار من مشارق الأنوار في ... أدنى المدارك إلى إكماله ولما وقف على هذه القطيعة الفاضل أبو علي حسين بن صالح بن أبي دلامة عارضها وزاد ذكر القبس والمعلم (3) :
__________
(1) أبي محمد: سقطت من ق.
(2) انظر أزهار الرياض 3: 201.
(3) الأزهار: 202 وابن أبي دلامة هذا هو والد يحيى كاتب العلامة للسلطان أبي العباس المريني (مستودع العلامة: 75) .(5/537)
قل للموطإ للورى أكنافه ... بشراه بالتمهيد في الأحوال
وإذا اكتفى بالمنتقى استذكاره ... وفى له المختار في الأعمال
ومسالك الحسنى تؤديه إلى ... أقصى التقصي من قصى الآمال
ويلوح من قبس الهداية رشده ... من معلم التفصيل والإجمال رجع إلى ابن جزي، ومن نظمه:
يا دوحة الأنس من بطحاء واسجة ... هل من سبيل إلى أيامك الأول
إذ نجتلي أواجه الإيناس مسفرة ... ونجتني ثمر اللذات والغزل ومن نظمه رحمه الله تعالى عند خروجه إلى بلاد المغرب، وروى بكتابي " تحفة القادم " و " زاد المسافر " فقال:
وإني لمن قوم يهون عليهم ... ورود المنايا في سبيل المكارم
يطيرون مهما ازور للدهر جانب ... بأجنحة من ماضيات العزائم
وما كل نفس تحمل الذل، إنني ... رأيت احتمال الذل من شأن البهائم
إذا أنا لم أظفر بزاد مسافر ... لديكم فعند الناس تحفة القادم وزاد المسافر لصفوان، والتحفة لابن الأبار.
ومن نظمه قوله:
نصب الحبائل للورى بالحسن إذ ... رفع اللثام وذيله مجرور
وأماله عني العواذل غيلة ... فهو الممال وقلبي المكسور وقوله أيضاً:
تلك الذؤابة ذبت من شوقي لها ... واللحظ يحميها بأي سلاح
يا قلب فانج وما إخالك ناجياً ... من فتنة الجعدي والسفاح(5/538)
وقوله أيضاً:
وعاشق صلى ومحرابه ... وجه غزال ظل يهواه
قالوا تعبدت فقلت نعم (1) ... تعبداً يفهم معناه وقوله رحمه الله تعالى:
أيتها النفس قفي عندما ... ألزمت، فعلاً كان أو قولا
فمن يكن يرضى بما ساءه ... أو سره فهو له الأولى
لا يترك العبد وما شاءه ... إلا إذا أهمله المولى وقوله أيضاً:
لولا ثلاث قد شغفت بحبها ... ما عفت في حوض المنية موردي
وهي الراوية للحديث، وكتبه، ... والفقه فيه، وذاك حسب المهتدي وأما أخوهما القاضي أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم بن جزي فهو الإمام العالم العلامة المعمر، رئيس العلوم اللسانية، قال في " الإحاطة " (2) : هذا الفاضل قريع بيت نبيه، وسلف شهير، وأبوة خير، وأخوة بلغية وخؤولة، أديب حافظ قائم على فن العربية، مشارك في فنون لسانية، ظرف في الإدراك، جيد النظم، مطوتع القريحة، باطنه نبل وظاهره غفلة، قعد للإقراء ببلده غرناطة معيداً ومستقلاً، ثم تقدم للقضاء بجهات نبيهة على زمن الحداثة، أخذ عن والده
__________
(1) ص ق: لهم نعم.
(2) ترجمة عبد الله بن جزي في الإحاطة، الورقة: 204 والكتيبة: 96 ونيل الابتهاج: 129.(5/539)
الأستاذ الشهير الشهيد أبي القاسم أشياء كثيرة، وعن القاضي أبي البركات ابن الحاج، وقاضي الجماعة الشريف السبتي، والأستاذ البياني، والأستاذ الأعرف أبي سعيد ابن لب، والشيخ المقرئ أبي عبد الله ابن بيبش، وأجازه رئيس الكتاب أبو الحسن ابن الجياب، وقاضي الجماعة أبو عبد الله [ابن بكر، وأبو محمد ابن سلمون، والقاضي ابن شبرين، والشيخ أبو حيان، وقاضي الجماعة أبو عبد الله] (1) المقري، وأبو محمد الحضرمي، وجماعة آخرون، وشعره نبيل الأغراض، حسن المقاصد؛ انتهى المقصود منه.
وممن أخذ عنه العباس البقني شارح البردة، والقاضي أبو بكر ابن عاصم، وبالإجازة الإمام ابن مرزوق الحفيد، وغيرهم.
وقد عرف ابن فرحون في الديباج المذهب بأبيه الشهيد أبي القاسم وأخيه القاضي أبي بكر دونه، وعرف ابن الخطيب في الإحاطة بأبيه وأخويه أبي بكر وأبي عبد الله، وفيما ذكرنا من أمرهم كفاية.
ومما نسبه الوادي آشي لأبي محمد عبد الله جزي قوله:
يا من أتاني بعده بعدما ... عاملته بالبر واللطف
إني تأملت وقد سرني ... بجملة من سورة الكهف وله أيضاً (2) :
لقد قطعت قلبي يا خليلي ... بهجر طال منك على العليل
لكن ما عجيب منك هذا ... إذ التقطيع من شأن الخليل رجع إلى مشايخ لسان الدين رحمه الله تعالى.
__________
(1) أبن بكر ... أبو عبد الله: سقط من ق ص وأكملناه من الإحاطة ونيل الابتهاج.
(2) يا من ... وله أيضا: سقط كله من ق.(5/540)
27 - ومنهم القاضي الأديب جملة الظرف أبو بكر ابن شبرين (1) :
وقد استوفى ترجمته في الإحاطة وذكره أيضاً في ترجمة ذي الوزارتين ابن الحكيم بأن قال بعد حكايته قتل ابن الحكيم ما صورته (2) : وممن رثاه شيخنا أبو بكر ابن شبرين رحمه الله تعالى بقوله:
سقى الله أشلاء كرمن على البلى ... وما غض من مقدارها حادث البلا
ومما شجاني أن أهين مكانها ... وأهمل قدراً ما عهدناه مهملا
ألا اصنع بها يا دهر ما أنت صانع ... فما كنت إلا عبدها المتذللا
سفكت دماً كان الرقوء نواله ... لقد جئتما شنعاء فاضحة الملا
بكفي سبنتى (3) أزرق العين مطرق ... عدا فغدا في غيه متوغلا
لنعم قتيل القوم في يوم عيده ... قتيل تبكيه المكارم والعلا
ألا إن يوم ابن الحكيم مثكل ... فؤادي، فما ينفك ما عشت مثكلا
فقدناه في يوم أغر محجل ... ففي الحشر نلقاه أغر محجلا
سمت نحوه الأيام وهو عميدها ... فلم تشكر النعمى ولم تحفظ الولا
تعاورت الأسياف منه ممدحاً ... كريماً سما فوق السماكين مزحلا
وخانته رجل في الطواف به سعت ... فناء بصدر للعلوم تحملا
وجدل (4) لم يحضره في الحي ناصر ... فمن مبلغ الأحياء أن مهلهلا
__________
(1) ترجمة ابن شبرين في الإحاطة 2: 176 والمرقبة العليا: 153 والكتيبة: 166.
(2) انظر الإحاطة 2: 302.
(3) ق ص: سبت؛ السبنتي: النمر، والشطر من قصيدة تنسب للشماخ في رثاء سيدنا عمر (رض) والبيت:
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق (انظر طبقات ابن سلام: 111) .
(4) ص: وجندل؛ والإشارة إلى قول الشاعر:
من مبلغ الأحياء أم مهلهلا ... أضحى قتيلا في الفلاة مجندلا(5/541)
يد الله في ذاك الأديم ممزقاً ... تبارك ما هبت جنوباً وشمألا (1)
ومن حزني أن لست أعرف ملحداً ... له فأرى للترب منه مقبلا
رويدك يا من قد غدا شامتاً به ... فبالأمس ما كان العماد المؤملا
وكنا نغادي أو نراوح بابه ... وقد ظل في أوج العلا متوقلا
ذكرناه يوماً فاستهلت جفوننا ... بدمع إذا ما أحل العم أخضلا
ومازج منا الحزن طول اعتبارنا ... ولم ندر ماذا منهما كان أطولا
وهاج لنا شجواً تذكر مجلس ... له كان يهدي الحي والملأ الألى
به كانت الدنيا تؤخر مدبراً ... من الناس حتماً أو تقدم مقبلا
لتبك عيون الباكيات على فتى ... كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا
على خادم الآثار تتلى صحائحاً ... على حامل القرآن يتلى مفصلا
على عضد الملك الذي قد تضوعت ... مكارمه في الأرض مسكاً ومندلا
على قاسم الأموال فينا على الذي ... وضعنا لديه كل إصر على علا
وأنى لنا من بعده متعلل ... وما كان في حياتنا متعللا
ألا يا قصير العمر يا كامل العلا ... يميناً لقد غادرت حزناً مؤثلا
يسوء المصلى أن هلكت ولم تقم ... عليك صلاة فيه يشهدنا الملا
وذاك لأن الأمر فيه شهادة ... وسنتها محفوظة لن تبدلا
فيا أيها الكريم الذي قضى ... سعيداً حميداً فاضلاً ومفضلا
لتهنك من رب السماء شهادة ... تلاقي ببشرى وجهك المتهللا
رثيتك عن حب في جوانحي ... فما ودع القلب العميد وما قلى (2)
ويا رب من أوليته منك نعمة ... وكنت له ذخراً عتيداً وموئلا
تناساك حتى ما تمر بباله ... ولم يدكر ذاك الندى والتفضلا
__________
(1) من قول الشماخ أيضا:
جزى الله خيرا من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق (2) من الآية القرآنية " ما ودعك ربك وما قلى ".(5/542)
يرابض في مثواك كل عشية ... صفيف شواء أو قديراً معجلا (1)
لحى الله من ينسى الأذمة رافضاً ... ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا
حنانيك يا بدر الهدى فلشد ما ... تركت بدور الأفق بعدك أفلا
وكنت لآمالي حياة هنيئة ... فغادرت مني اليوم قلباً مقتلاً
فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي ... على البعد ينسى من ذمامك ما خلا
فأنت الذي آويتني متغرباً ... وأنت الذي أكرمتني متطفلا
فآليت لا ينفك قلبي مكمداً ... عليك ولا ينفك دمعي مسبلاً وكتب ابن لسان الدين على هامش هذه القطعة ما صورته: شكر الله وفاءك يا ابن شربين وقدس لحدك، وأين مثلك في الدنيا حسناً ووفاء وعلماً لا كما فعل ابن زمرك في ابن الخطيب مخدومه، قاله علي بن الخطيب؛ انتهى.
28 - ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الشيخ الأستاذ العلامة العلم الأوحد
الصدر المصنف المحدث الأفضل الأصلح الأروع الأتقى الأكمل أبو عثمان سعد ابن الشيخ الصالح التق الفاضل المبرور المرحوم أبي جعفر أحمد بن ليون، التجيبي (2) ، رضي الله عنه تعالى، وهو من أكابر الأئمة الذين أفرغوا جهدهم في الزهد والعلم والنصح، وله تواليف مشهورة، منها اختصار بهجة المجالس لابن عبد البر، واختصار المرتبة العليا لابن راشد لقفصي، وكتاب في الهندسة، وكتاب في الفلاحة، وكتاب كمال الحافظ وجمال اللافظ في الحكم والوصايا والمواعظ، وكان مولعاً باختصار الكتب، وتواليف تذيد عن المائة فيما يذكر، وقد وقفت منها بالمغرب على أكثر من عشرين.
ومما (3) حكي عن بعض كبراء المغرب أنه رأى رجلاً طوالاً فقال لمن
__________
(1) من قول امرئ القيس " صفيف شواء أو قدير معجل ".
(2) ترجمة ابن ليون في التكملة: 86 (باسم سعيد) ونيل الابتهاج: 105 والإحاطة، الورقة: 365.
(3) ق: وقد.(5/543)
حضره: لو رآه ابن ليون لاختصره، إشارة إلى كثرة اختصاره للكتب.
ومن تواليفه كتاب نفح السحر في اختصار روح الشحر (1) وروح الشعر لابن الجلاب الفهري، رحمه الله، ومنها كتاب أنداء الديم في الوصايا والمواعظ والحكم وكتاب الأبيات المهذبة في المعاني المقربة وكتاب نصائح الأحباب وصحائح الآداب أورد فيه مائتي قطعة من شعره تتضمن نصائح متنوعة، ولننقح منها نبذة فنقول: منها في التحريض على العلم قوله رحمه الله تعالى:
زاحم أولي العلم حتى ... تعتد منهم حقيقه
ولا يردك عجز ... عن أخذ أعلى طريقه
فإن من جد يعطى ... فيما يحب لحوقه وقوله:
شفاء داء العي حسن السؤال ... فاسأل تنل علماً، وقل لا تبال
واطلب فالاستحياء والكبر من ... موانع العلم فما إن ينال وقوله:
" علمت شيئاً وغابت عنك أشياء " (2) ... فانظر وحقق فما للعلم إحصاء
للعلم (3) قسمان: ما تدري، وقولك لا ... أدري، ومن يدعي الإحصاء هذاء وقوله:
من لم يكن علمه في صدره نشبت ... يداه عند السؤالات التي ترد
العلم ما أنت في الحمام تحضره ... وما سوى ذلك التكليف والكمد
__________
(1) ق: دوح الشجر؛ ص: روح السحر.
(2) عجز بيت لأبي نواس، وصدره: " فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ".
(3) ق: العلم.(5/544)
وقوله:
الدرس رأس العلم فاحرص عليه ... فكل ذي علم فقير إليه
من ضيع الدرس يرى هاذياً ... عند اعتبار الناس ما في يديه
فعزة العالم من حفظه ... كعزة المنفق فيما عليه وقال (1) رحمه الله تعالى في غير ما سبق:
ثلاث مهلكات لا محاله ... هوى نفس يقود إلى البطاله
وشح لا يزال يطاع دأباً ... وعجب ظاهر في كل حاله وقال:
اللهو منقصة بصاحبه ... فاحذر مذلة مؤثر اللهو
واللغو نزه عنه سمعك لا ... تجنح له، لا خير في اللغو وقال:
لا تمالىء على صديقك وادرأ ... عنه ما اسطعت من أذى واهتضام
ما تناسى الذمام قط كريم ... كيف ينسى الكريم رعي الذمام
تطعم الكلب مرة فيحامي ... عنك، والكلب في عداد اللئام وقال:
احذر مؤاخاة الدنيء فإنها ... عار يشين ويورث التضريرا
فالماء يخبث طعمه لنجاسة ... إن خالطته ويسلب التطهيرا وقال:
__________
(1) ق: وقوله، وكذلك جرى في كثير من المواضع.(5/545)
تحفظ من الناس تسلم ولا ... تكن في تقربهم ترغب
ولا تترك الحزم في كل ما ... تريد، ولا تبغ ما يصعب وقال:
إخوانك اليوم إخوان الضرورة لا ... تثق بهم يا أخي في قول أو فعل
لا خير في الأخ إلا أن يكون إذا ... عرتك نائبة يقيك أو يسلي وقال:
طلب الإنصاف من قل ... ة إنصاف فساهل
لا تناقش وتغافل ... فاللبيب المتغافل
قلما يحظى أخو الإن ... صاف في وقت بطائل وقال:
من خافه الناس عظموه ... وأظهروا بره وشكره
ومن يكن فاضلاً حليماً ... فإنما حظه المضره
فامرر وكن صارماً مبيراً ... يهبك من قد تخاف شره وقال:
إن تبغ عدلاً فما ترضى لنفسك من ... قول وفعل به أعمل في الورى تسد
وكل ما ليس ترضاه لنفسك لا ... تفعله مع أحد تكن أخا رشد وقال:
حسبي الله لقد ضلت بنا ... عن سبيل الرشد أهواء النفوس
عجباً أن الهوى هون وأن ... نؤثر الهون وإذلال الرؤوس(5/546)
وقال:
من يخف شره يوف الكرامه ... ويوالى الرعاية المستدامه
وأخو الفضل والعفاف غريب ... يحمل الذل والجف والملامه وقال:
دع من يسيء بك الظنون ولا ... تحفل به إن كنت ذا همه
من لم (1) يحسن ظنه أبداً ... بك فاطرحه تكتفي همه وقال:
نزه لسانك عن قول تعاب به ... وارغب بسمعك عن قيل وعن قال
لا تبغ غير الذي يعنيك واطرح ال ... فضول تحيا قرير العين والبال وقال:
كثرة الأصدقاء كثرة غرم ... وعتاب يعيي وإدخال هم
فاغن بالبغض قانعاً وتغافل ... عنهم في قبيح فعل وذم وقال:
ذل المعاصي ميتة يا لها ... من ميتة لا ينقضي عارها
عز التقى هو الحياة التي ... ذو العقل والهمة يختارها وقال:
لا تسمع يوماً صديقك قولاً ... فيه غض ممن يحب الصديق
إن بر الصديق لا شك منه ... لصديق الصديق أيضاً فريق
__________
(1) ص: من لا.(5/547)
وقال:
للجار حق فاعتمد بره ... واحمل أذاه مغضياً ساترا
فالله قد وصى به فاغتفر ... زله الباطن والظاهرا وقال:
سالم الناس ما استطعت وداري ... أخسر الناس أحمق لا يداري
ضرك الناس ضر نفسك يجني ... لا يقوم الدخان إلا لنار وقال:
النصح عند الناس ذنب فدع ... نصح الذي تخاف أن يهجرك
الناس أعداء لنصاحهم ... فاترك هديت النصح فيمن ترك وقال:
تجري الأمور على الذي قد قدرا ... ما حيلة أبداً ترد مقدرا
فارض الذي يجري القضاء به ولا ... تضجر فمن عدم الرضى أن تضجرا وقال:
أخوك الذي يحميك من الغيب جاهداً ... ويستر ما تأتي من السوء والقبح
وينشر ما يرضيك في الناس معلناً ... ويغضي ولا يألو من البر والنصح وقال:
لا تصحب الأردى فتردى معه ... وربما قد تقتفي منزعه
فالحبل إن يجرر على صخرة ... أبدى بها طريقة مشرعه(5/548)
وقال:
ما فات أو كان لا تندم عليه فما ... يفيد بعد انقضاء الحادث الندم
ارجع إلى الصبر تغنم أجره وعسى ... تسلو به فهو مسلاة ومغتنم وقال:
السخط عند النائبات زيادة ... في الكرب تنسي ما يكون من الفرج
من لم يكن يرضى بما يقضى فيا ... لله ما أشقى وأصعب ما انتهج وقال:
إن تبتغ الإخوان ما إن تجد ... أخاً سوى الدينار والدرهم
فلا تهنهما وعززهما ... تعش عزيزاً غير مستهضم وقال:
من يستهن بصديقه ... يعن العدو على أذاته
بر الصديق مهابة ... للمرء تخمل من عدائه
فاحفظ صديقك ولتكن ... تبدي المحاسن من صفاته وقال:
نعوذ بالله من شر اللسان كما ... نعوذ بالله من شر البريات
يجني اللسان على الإنسان ميتته ... كم للسان من آفات وزلات وقال:
من لم يكن مقصده مدحة ... فقد أتى بحبوحة العافيه
محبة المدحة رق بلا ... عتق، وذل يا له داهيه
من لا يبالي الناس مدحاً ولا ... ذماً أصاب العيشة الراضيه(5/549)
وقال:
شر إخوانك من لا ... تهتدي فيه سبيلا
يظهر الود ويخفي ... مكره داء دخيلا
يتقي منك اتقاء ... وهو يوليك الجميلا وقال:
قوام العيش بالتدبير فاجعل ... لعيشك منه في الأيام قسطا
وخذ بالصبر نفسك فهو عز ... تلوذ به إذا ما الخطب شطا وقال:
العيش ثلث فطنة ... والغير منه تغافل
فتغافل إن كنت امرأ ... إيثار عيشك تامل وقال:
ينفذ المقدور حتماً لا يرد ... فعلاء الحرص دأباً والكمد
أرح النفس تعش في غبطة ... وكل الأمر إلى الله فقد وقال:
زر من تحب ثم زره ولا ... تمل واجعله دأباً موضع النظر
لولا متابعة الأنفاس ما بقيت ... روح الحياة ولا دامت مدى العمر وقال:
لا تترك الحزم في شيء فإن به ... تمام أمرك في الدنيا وفي الدين
من ضيع الحزم تصحبه الندامة في ... أيامه ويرى ذل المهاوين(5/550)
وقال:
كن إذا زرت حاضر القلب واحذر ... أن تمل المزور أو أن تطيلا
لا تثقل على جليس وخفف ... إن من خف عد شخصاً نبيلا وقال:
من خلا عن حاسد قد ... مات في الأحياء ذكره
إنما الحاسد كالنا ... ر لعود طاب نشره
لا عدمنا حاسداً في ... نعمة ليست تسره وقال:
حبيبك من يغار إذا زللتا ... ويغلظ في الكلام متى أسأتا
يسر إن اتصفت بكل فضل ... ويحزن إن نقصت أو انتقصتا
ومن لا يكترث بك لا يبالي ... أحدت عن الصواب أم اعتدلتا وقال:
لن لمن تخشى أذاه ... والقه في باب داره
إنما الدنيا مدارا ... ة فمن تخشاه داره وقال:
حسد الحاسد رحمه ... لا يرى إلا لنعمه
إنما الحاسد يشكو ... حر أكباد وغمه
لا عدمنا حاسداً في ... نعمة تكثر همه وقال:
تبديل شخص بشخص ... خسران الاثنين جمله(5/551)
فاشدد يديك على من ... عرفت، وارفع (1) محله
فإن قطع خليل ... بعد التواصل زله وقال:
أنت بخير ما تركت الظهور ... والقال والقيل وطرق الشرور
من خاض بحراً فهو لا بد يب ... تل ومن يجر يصبه العثور
سلامة المرء اشتغال بما ... يهمه لنفسه من أمور وقال:
أنت حر ما تركت الطمعا ... وعزيز ما تبعت الورعا
وكفى بالعز مع حرية ... شرفاً يختاره من قنعا وقال:
خل بنيات الطرق ... ووافق الناس تفق
من خالف الناس أتى ... أعظم أبواب الحمق
فكن مع الناس فتر ... ك جملة الناس خرق وقال:
لا تضق صدراً بحاسد ... فهو في نار يكابد
من يرى أنك خير ... منه تعروه شدائد
إنما الحاسد يشقى ... وهو لا يحظى بعائد (2)
__________
(1) ق: واعرف.
(2) ق ص: بفائد.(5/552)
وقال (1) :
من يستمع في صديق قول ذي حسد ... لا شك يقصيه فاحذر غيلة الحسد
يهابك الناس ما تدني الصديق فإن ... أقصيته زدت للأعداء في العدد وقال:
كم من أخ صحبته ... والنفس عنه راغبه
خشيت، إن فارقته ... بالهجر، سوء العاقبه وقال:
إذا كانت عيوبك عند نقد ... تعد فأنت أجدر بالكمال
متى سلمت من النقد البرايا ... وحسبك ما تشاهد في الهلال وقال:
إذا انطوت القلوب على فساد ... فإن الصمت ستر أي ستر
فلا تنطق وقلبك فيه شيء ... بغير الحق واحذر قول شر وقال:
إن كنت لا تنصر الصديق فدع ... سماعك القول فيه واجتنب
سماع عرض الصديق منقصة ... لا يرتضيها الكريم ذو الحسب وقال:
أنت في الناس تقاس ... بالذي اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلو ... وتنل ذكراً جميلا
__________
(1) وقعت القطعة بعد التي تليها في ق.(5/553)
صحبة الخامل تكسو ... من يواخيه خمولا وقال:
اسمح يزنك السماح ... إن السماح رباح
لا تلق إلا ببشر ... فالبشر فيه النجاح
تقطيبك الوجه جد ... أجل منه المزاح وقال:
من كنت تعرفه كن فيه متئداً ... يكفيك من خلقه ما أنت تعرفه
لا تبغ من أحد عرفته أبداً ... غير الذي كنت منه قبل تألفه وقال:
حاسب حبيبك كالعدو تدم له ... ولك المحبة، فالتناصف روحها
من كان يغمض في حقوق صديقه ... نقصت مودته وشيب صريحها وقال:
تغافل في الأمور ولا تناقش ... فيقطعك القريب وذو الموده
مناقشة الفتى تجني عليه ... وتبدله من الراحات شده وقال:
إن شئت تعرف نعمة الله التي ... أولاك فانظر كل من هو دونكا
لا تنظر الأعلى فتنسى ما لدي ... ك ومن من الضعفاء يستجدونكا وقال:
عجباً أن ترى قبيح سواكا ... وتعادي الذي يرى منك ذاكا(5/554)
لو تناصفت كنت تنكر ما في ... ك وترضى الوصاة ممن نهاكا وقال:
جرب الناس ما استطعت تجدهم ... لا يرى الشخص منهم غير نفسه
فالسعيد السعيد من أخذ العف ... وودارى جميع أبناء جنسه وقال:
فرط حب الشيء يعمي ويصم ... فليكن حبك قصداً لا يصم
نقص عقل أن يغطي حسك الح ... ب أو يلهيك عن أمر مهم وقال:
سلم وغض (1) احتسابا ... فذا هو اليوم أسلم
النقد نار تخلي ... في القلب جمراً (2) تضرم
فاطو اعتراضك واغفل ... عن عيب غيرك تسلم وقال:
عدة الكريم عطية ... لا مطل في عدة الكريم
المطل تحريض العدا ... ة، وذاك من فعل اللئيم
فدع المطال إذا وعد ... ت فإنه عمل ذميم وقال:
من تناسى ذنوبه قتلته ... وأبانت عنه الولي الحميما
__________
(1) ص: وأغض.
(2) ق ص: تحلى، جمر.(5/555)
ذكرك الذنب نفرة عنه تبقي ... لك إنكار فعله مستديما وقال:
عجباً لمادح نفسه لا يهتدي ... لتنقص يبديه فيه مدحها
مدح الفتى عند التحدث نفسه ... ذكرى معايبه فيدرى قبحها وقال:
من حسنت أخلاقه عاش في ... نعمى وفي عز هنيء وود (1)
ومن تسؤ للخلق أخلاقه ... يعش حقيراً في هموم وكد وقال:
من كان يحمي ناسه [صار ذا ... عز و] (2) هابته نفوس البشر
ومن يكن يخذل أحبابه ... هان، ومن هان فلا (3) يعتبر وقال:
قارب وسدد إذا ما كنت في عمل ... إن الزيادة في الأعمال نقصان
ما حالف القصد في كل الأمور هوى ... نفس، وكل هوى شؤم وحرمان وقال:
بقدر همته يعلو الفتى أبداً ... لا خير في خامل الهمات ممتهن
هيهات يعلو فتى خمول همته ... يقوده لابتذال النفس والمهن
__________
(1) ص: هنيئا يود.
(2) سقط من ق ص، وأكملناه من المطبوع.
(3) ص: فما.(5/556)
وقال:
اصحب ذوي الحدة وارغب عن ال ... خبيث فالصحبة ذاك داؤها
وانظر إلى قول نبي الهدى ... خيار أمتي أحداؤها قال:
ما صديق الإنسان في كل حال ... يا أخي غير درهم يقتنيه
لا تعول عن سواه فتغدو ... خائب القصد دون ما تبتغيه وقال:
يستفز الهوى للإنسان حتى ... لا يرى غير محنة أو ضلال
ويرى الرشد غير الرشد، ويغدو ... يحسب الحق من ضروب المحال وقال:
لا تبالغ في الشر مهما استطعتا ... وتغافل واحلم إذا ما قدرتا
فانقلاب الأمور أسرع شيء ... وتجازى بضعف ما قدرتا (1) وقال:
مثل عواقب ما تأتي وما تذر ... واحذر فقد ترتجي أن ينفع الحذر
لا تقدمن على أمر بلا نظر ... فإن ذلك فعله كله خطر
وانظر وفكر لما ترجو توقعه ... فعمدة العاقل التفكير والنظر وقال:
حافظ على نفسك من كل ما ... يشينها من خلل أو زلل
__________
(1) هكذا في ص؛ وفي ق: ما فعلنا.(5/557)
واحرص على تخليصها بالذي ... تنجو به من قول أو من عمل وقال:
سكر الولاية ما له صحو ... وكلامها وحراكها زهو
يهذي الفتى أيام عزتها ... فإذا تقضت نابه شجو
فحذار لا تغررك صولتها ... وزمانها فثبوتها محو وقال:
دع الجدال ولا تحفل به أبدا ... فإنه سبب للبغض ما وجدا
سلم تعش سالماً من غير متعبة (1) ... قرير عين إذا لم تعترض أحدا وقال:
إذا ترى المبتلى اشكر أن نجوت ولا ... تشمت به ولتسل من ربك العافيه
وخف من أن تبتلى كما ابتلي فترى ... كما تراه وما تقيك من واقيه وقال:
العمر ساعات تقضى فلا ... تقضها في السهو والغفله
واعمل لما أنت له صائر ... ما دمت من عمرك في مهله
ولا تكن تأوي لدينا وقل ... لا بد لا بد من النقله وقال:
كن رفيقاً إذا قدرت حليما ... وتغافل تسلك طريقاً قويما
لا تظن الزمان يبقي على من ... سره أو ينيل عزاً سليما
__________
(1) ص: متبعة.(5/558)
إن للدهر صولة وانقلاباً ... ولهذا نعيمه لن يدوما وقال:
من لم يكن ينفع في الشده ... فلا تكن معتمداً وده
لا تعتمد إلا أخا حرمة ... إن ناب خطب تلفه عده
وخل من يهزأ في وده ... ولا ترى في معضل جده وقال:
أخوك الذي تلفيه في كل معضل ... يدافع عنك السوء بالمال والعرض
ويستر ما تأتي من القبح دائماً ... وينشر ما يرضي وإن سؤته يغضي وقال:
لا تنه عما أنت فاعله ... وانظر لما تأتيه من ذنب
وابدأ بنفسك فانهها فإذا ... تقفو الصواب فأنت ذو لب وقال:
ليس الصديق الذي يلقاك مبتسماً ... ولا الذي في التهاني بالسرور يرى
إن الصديق الذي يولي نصيحته ... وإن عرت شدة أغنى بما قدرا وقال:
عجباً لمستوف منافع نفسه ... ويرى منافع من سواه تصعب
ما ذاك إلا عدم إنصاف ومن ... عدم التناصف كيف يرجو يصحب وقال:
من عدم الهمة في راحة ... من أمره يكرم أو يهتضم(5/559)
وإنما يشقى أخو همة ... فإن الانكاد بقدر الهمم وقال:
قلما تنفع المداراة إلا ... عند أهل الحفاظ والأحساب
من يداري اللئيم فهو كمن يس ... تعمل الدر في نحور الكلاب وقال:
دنياك هذي عرض زائل ... تفتن ذا الغرة والغفله
فاعمل لأخراك وقدم لها ... ما دمت من عمرك في مهله وقال:
نصيحة الصديق كنز فلا ... ترد ما حييت نصح الصديق
وخذ من الأمور ما ينبغي ... ودع من الأمور ما لا يليق وقال:
أنت حر ما لم يقيدك حب ... أو تكن في الورى يرى لك ذنب
الهوى كله هوان وشغل ... والمعاصي ذل يعانى وكرب وقال:
هون عليك الأمورا ... تعش هنيئاً قريرا
واعلم بأن الليالي ... تبلي جديداً خطيرا
وتستبيح عظيماً ... ولا تجير حقيرا وقال:
ألف صديق قليل ... والود منهم جميل(5/560)
كما عدو كثير ... إذ ضره لا يزول
فلا تضيع صديقاً ... فالنفع فيه جليل وقال (1) :
دع الحسود تعاتبه لظى حسده ... حتى تراه لقى يموت من كمده
ما للحسود سوى الإعراض عنه وأن ... يبقى إلى كربه في يومه وغده وقال:
الناس حيث يكون الجاه والمال ... فخل عنك ولا تحفل بما قالوا
وعد عمن يقول العلم قصدهم ... أو الصلاح أما تبدو له الحال
انظر لماذا هم يسعون جهدهم ... يبن لك الحق ولا يعروه إشكال وقال:
توسط في الأمور ولا تجاوز ... إلى الغايات فالغايات غي
كلا الطرفين مذموم إذا ما ... نظرت وأخذك المذموم عي وقال:
عامل جميع الناس بالحسنى ... إن شئت أن تحظى وأن تهنا
ولا تسئ يوماً إلى واحد ... فتجمع الراحة والأمنا وقال:
لا تفكر فللأمور مدبر ... وارض ما يفعل المهيمن واصبر
أنت عبد وحكم مولاك يجري ... بالذي قد قضى عليك وقدر
__________
(1) سقط البيتان من ق.(5/561)
وقال:
إذا رأيت القبيحا ... فقل كلاماً مليحا
وأغض واستر وسلم ... وكن حليماً صفوحا
تعش هنيئاً وتلقى ... براً وشكراً صريحا وقال:
من ينكر الإحسان لا توله ... ما عشت إحساناً فلا خير فيه
البذر في السباخ ما إن له ... نفع فذره فهو فعل السفيه وقال:
من لم يكن بنفع في وده ... دعه ولا تقم على عهده
ود بلا نفع عناء فلا ... تعن بشيء حاد عن حده وقال:
در مع الدهر كيفما ... دار إن شئت تصحبه
ودع الحذق جانباً ... ليس بالحذق تغلبه
وحذار انقلابه ... فكثير تقلبه وقال:
من ليس يغني في مغيب عنك لا ... تحفل به فوداده مدخول
يثني عليك وأنت معه حاضر ... فإذا تغيب يكون عنك يميل وقال:
دع نصح من يعجبه رأيه ... ومن يرى ينجحه سعيه(5/562)
النصح إرشاد فلا توله ... إلا فتى يحزنه غيه
لا يقبل النصح سوى مهتد ... يقوده لرشده هديه وقال:
البخت أفضل ما يؤتى الفتى فإذا ... يفوته البخت لا ينفك يتضع
يكفيك في البخت تيسير المور وأن ... يكون ما ليس ترضى عنك يندفع وقال:
افعل الخير ما استطعت ففعل ال ... خير ذكر لفاعليه وذخر
وتواضع تنل علاء وعزاً ... فاتضاع النفوس عز وفخر وقال:
صديق المرء درهمه ... به ما دام يعظمه
فصنه ما استطعت ولا ... تكن في اللهو تعدمه
ففقر المرء ميتته ... لذا تغدو فترحمه وقال:
لا تقرب ما اسطعت خل عدو ... فخليل العدو حلف عداوه
وتحفظ منه وداره وانظر ... هل ترى من سيماه إلا القساوة وقال:
لا تعد ذكر ما مضى فهو أمر ... قد تقضى وقد مضى لسبيله
وتكلم فيما تريد من الآ ... تي ودبر للشيء قبل حلوله وقال:
قساوة المرء من شقائه فإذا ... يلين ساد بلا أين ولا نصب(5/563)
لا يرحم الله إلا الراحمين، فمن ... يرحم ينل رحمة في كل منقلب وقال:
جئ بالسماح إذا ما جئت في غرض ... ففي العبوس لدى الحاجات تصعيب
سماحة المرء تنبي عن فضيلته ... فلا يكن منك مهما اسطعت تقطيب وقال:
لا تسامح يوماً دنياً إذا ما ... قال في فاضل كلاماً رديا
إن قصد الدني إنزال أهل ال ... فضل حتى يرى عليهم عليا وقال:
خذ من القول بعضه فهو أولى ... وتحفظ مما يقول العداة
ربما تأخذ الكلام بجد ... وهو هزل قد نمقته عدات
فاحترز من غرور الاقوال واعلم ... أن الاقوال بعضها كذبات وقال:
نافس الأخيار كيما ... تحرز المجد الأثيلا
لا تكن مثل سراب ... ريء لم يشف غليلا
إنما أنت حديث ... فلتكن ذكراً جميلا وقال:
الصمت عز حاضر ... وسلامة من كل شر
فإذا نطقت فلا تك ... ثر واجتنب قول الهذر
وحذار مما يتقى ... وحذار من طرق الغرر(5/564)
وقال:
سلامة الإنسان في وحدته ... وأنسه فيها وفي حرفته
ما بقي اليوم صديق ولا ... من ترتجي النصرة في صحبته
فقر في بيتك تسلم ودع ... من ابتلي بالناس في محنته وقال:
مطاوعة النساء إلى الندامه ... وتوقع في المهانة والغرامه
فلا تطع الهوى فيهن واعدل ... ففي العدل الترضي والسلامه وقال:
كانت مشاورة الإخوان في زمن ... قول المشاور فيهم غير متهم
والآن قد يخدع الذي تشاوره ... إشماتاً أو حسداً يلقيك في الندم
فاضرع إلى الله فيما أنت تقصده ... يهديك للرشد في الأفعال والكلم وقال:
عد عمن يراك تصغر عنه ... وتحفظ من قربه وأبنه
إن من لا يراك في الناس خيراً ... منه فالخير في التحفظ منه وقال:
رزانة المرء تعلي قدره أبداً ... وطيشه مسقط له وإن شرفا
فاربأ بنفسك من طيش تعاب به ... وإن تكن حزت معه (1) العلم والشرفا وقال:
الصدق عز فلا تعدل عن الصدق ... واحذر من الكذب المذموم في الخلق
__________
(1) ق: منه.(5/565)
من لازم الصدق هابته الورى وعلا ... فالزمه دأباً تفز بالعز والسبق وقال:
ليس التفضل يا أخي أن تحسنا ... لأخ يجازي بالجميل من الثنا
إن التفضل أن تجازي من أسا ... لك بالجميل وأنت عنه في غنى وقال:
من واصل اللذات لا بد أن ... تعقبه منها الندامات
فخذ من اللذات واترك ولا ... تسرف ففي الإسراف آفات وقال:
دع معجباً بنفسه ... في غيه ولبسه
لا يقبل النصح لها ... من نخوة برأسه
فخله لكيده ... وعجبه بنفسه وقال:
عتب الصديق دلالة ... منه على صدق المودة
فإذا يقول فقصده ال ... تنزيه عما قام عنده
فاحلم إذا عتب الصديق ... ولا تخيب فيك قصده وقال:
ترتجى (1) في النوائب الإخوان ... هم لدى كل شدة أعوان
فإذا لم يشاركوا فسواء ... هم والأعداء كيفما قد كانوا
__________
(1) ص: يرتجى.(5/566)
وقال:
انصر أخاك على علاته أبداً ... تهب وتسلك سبيل العز والظفر
ولا تدعه إلى الإشمات مطرحاً ... فإن ذلك عين الذل والصغر وقال:
من عز كانت له الأيام خادمة ... تريه آماله في كل ما حين
ومن يهن أولغت فيه المدى وأرت ... له النوائب في أثوابها الجون وقال:
خل المنجم يهذي في غوايته ... واقصد إلى الله رب النجم والفلك
لو كان للنجم حكم لم تجد أحداً ... يخالف النجم إلا انهد في درك وقال:
حماية المرء لمن يصحب ... تدل أن أصله طيب
لا خير فيمن لا يرى ناصراً ... صديقه وهو له ينسب وقال:
يا عاتباً من لا له همة ... ألا اتئد إلى متى تعتب
هل يسمع الميت أو يبصر ال ... أعمى محال كل ما تطلب وقال:
لا يعرف الفضل لأهل الفضل ... إلا أولو الفضل من أهل العقل
هيهات يدري الفضل من ليس له ... فضل، ولو كان من أهل النبل(5/567)
وقال:
لا تطلب المرء بما اعتدت من ... أخلاقه والمرء في وهن
تنتقل الأخلاق لا شك مع ... تنقل الحالات والسن وقال:
لا تعامل ما عشت غيرك إلا بالذي أنت ترتضيه لنفسك
ذاك عين الصواب فالزمه فيما تبتغيه من كل أبناء جنسك
وقال:
باعد الناس يوالوكا واعتزل عنهم يهابوكا
فإذا ما تصطفيهم وقعوا فيك وعابوكا
وقال:
إياك لا تخذل الصديقا وارع له العهد والحقوقا
نصرته ما قدرت عز تمهده للعلا طريقا
فلا تسامح به عدواً وكن له ناصراً حقيقا
وقال:
حدث جليسك ما أصغى إليك، فإن تراه يعرض فاقطع عنه وانصرف
خفف فقد يضجر الذي تجالسه طول المقام أو التحديث في سرف
وقال:
جماع الخير في ترك الظهور ... وإظهار التواضع والبرور
وفي أضدادها من غير شك ... جميع وجوه أنواع الشرور(5/568)
وقال:
محبة الدرهم طبع البشر ... فاقنع من المرء بما قد حضر
وقس على نفسك في بذله ... تقف على تحقيق عين الخبر وقال (1) :
لا يلم غير نفسه كل من قد ... عرض النفس أن تهان فذلا
ينظر العاقل الأمور فيأبى ... أن يرى منه غير ما هو أولى وقال:
أعذر الناس من أتته المضره ... من أخ كان يرتجي منه نصره
مثل من (2) غص بالشراب ف ... كان الهلك فيما رجاه يدفع ضره وقال:
سلم تعش سالماً مما يقال ... من يعترض يعترض في كل حال
نقد الفتى غافلاً عن عيبه ... لا يرتضى عند (3) أرباب الكمال وقال:
تواضع المرء ترفيع لرتبته ... وكبره ضعة من غير ترفيع
في نخوة الكبر ذل لا اعتزاز له ... وفي التواضع عز غير مدفوع (4) وقال:
__________
(1) سقط البيتان من ق.
(2) ق ص: كصدر.
(3) ق: عنه.
(4) ق: مرفوع.(5/569)
إياك لا تنكر فضيلة كل من ... تدري فضيلته فترمى بالحسد
إنكارها يجني عليك تنقصاً ... ويزيده شرفاً يديم لك الكمد وقال:
انصر أخاك ما استطعت فإنما ... تعتز بالإخوان ما عزوا
من يخذل الإخوان يخذل نفسه ... ويهن وما لهوانه عز وقال:
إذا جزاك بسوء من أسأت له ... فذاك عدل وما في العدل من زلل
جزاء سيئة بالنص سيئة ... لا حيف في ذاك في قول ولا عمل وقال:
نفس وشيطان ودنيا والهوى ... يا رب سلم من شرور الأربعه
أنت المخلص من رجاك وإنني ... أرجوك فيما أتقي أن تدفعه وقال:
لا تعظم يا أخي نف ... سك إن شئت السلامه
من يعظم نفسه يج ... ن امتهاناً وملامه
فتواضع تلق عزاً ... واحتفاء وكرامه وقال:
دع لذة الدنيا فمن يبتلى ... بحبها ذاق عذاب السموم
لذاتها حلم، وأيامها ... لمح، ولكن كم لها من هموم
محبة الدنيا هلاك، فمن ... يرومها أهلكه ما يروم(5/570)
وقال:
كل خل يعد ما أنت تخطي ... لا تعول على صفاء وداده
إنما الخل من تناسى خطايا ... ك ويبقى له جميل اعتقاده وقال:
من عامل الناس بالإنصاف شاركهم ... في مالهم وأحبوه بلا سبب
إنصافك الناس عدل لا تزال به ... تعلو إلى أن ترى في أرفع الرتب وقال:
قل جميلاً إن تكلمت ولا ... تقل الشر فعقبى الشر شر
من يقل خيراً ينل خيراً، ومن ... يقل الشر إذاً يخشى الضرر وقال:
إذا التأمت أمورك بعض شيء ... بأرضك فاستقم فيها ولازم
فما في غربة الإنسان خير ... وما بالغربة الدنيا تلايم وقال:
إلى متى تسرح مرخى العنان ... قل يا أخي حتى متى ذا الحران
ارجع إلى الله وخل الهوى ... فما الهوى يا صاح إلا هوان
قد انذر الشيب فهل سامع ... أنت فمصغ للذي قد أبان وقال:
من يكفر النعمة لا بد أن ... يسلبها من حيث لا يشعر
ومن يكن يشكرها معلناً ... دامت له نامية تكثر(5/571)
وقال:
اعذر أخا الفقر في أن ... يضيق ذرعاً بنفسه
الفقر موت، ولكن ... من للفقير برمسه
إن الفقير لميت ... ما بين أبناء جنسه وقال:
كما تدين أنت يا صاحبي ... تدان فاعمل عمل الفاضل
أنت كما أنت فخل الذي ... تزين النفس من الباطل
وأين أنت ثم أنت أدر ذا ... حسبك فاحذر زلل العاقل وقال:
مالك ما أنفقته قربة ... لله، والباقي حساب عليك
فقدم المال ترد آمناً ... من بعده وهو ثواب لديك وقال:
دع مدح نفسك إن أردت زكاءها ... فبمدح نفسك من مقامك تسقط
ما أنت تخفضها يزيد علاؤها ... والعكس، فانظر أيما لك أحوط وقال:
ذو النقص يصحب مثله ... فالشكل يألف شكله
فاصحب أخا الفضل كيما ... تقفو بفعلك فعله
أما ترى المسك دأباً ... يكسب طيباً محله وقال:
من عيني المرء يبدو ما يكتمه ... حتى يكون الذي يرعاه يفهمه(5/572)
ما يضمر المرء يبدو من شمائله ... لناظر فيه يهديه توسمه وقال:
إنما الدنيا خيال ... وأمانيها خبال
حبها سكر، ولكن ... وصلها ما أن ينال
فتنزه عن هواها ... فهوى الدنيا ضلال وقال:
قلما يؤذيك من لا يعرفك ... فتحفظ من صديق يألفك
لا تثق بالود ممن تصطفي ... كم صديق تصطفيه يتلفك وقال:
لا تضجرن بالأمور وارض بما ... يقضي به الله فهو مكتتب
ما قدر الله لا مرد له ... فما يفيد العناء والتعب وقال:
تنزه عن دنيات الأمور ... وخذ بالحزم في الأمر الخطير
فأشراف الأمر لها جمال ... وخطر في البهاء وفي الظهور
وفي سفسافها لا شك وهن ... وتمهين يشين مدى الدهور وقال:
من يبتلى من أهله بمنغص ... يصبر، فما أحد بغير منغص
من أزمنت بالوجه منه قرحة ... يعزم على ضرر يشين مخصص وقال:
من كان في عزته داره ... وكرر المشي إلى داره(5/573)
قبل يدا ًتعجز عن قطعها ... ولن لمن تخشى من أضراره وقال:
لا تبتغ النعمة من جائع ... لم يرها قبل لآبائه
لا يرشح الإناء ما لم يكن ... ملآن قد أفعم من مائه وقال:
مروءة المرء رأس ماله ... وصونه أشرف اعتماله
من لم يصن نفسه تردى ... وزال عن رتبة اكتماله وقال:
ترك المطامع عزه ... واليأس أهنا وأنزه
هيهات يعتز مثر ... أضحى للأطماع نهزه
نزاهة النفس عز ... ما ذل من يتنزه وقال:
تعظيمك الناس تعظيم لنفسك في ... قلوب الأعداء طراً والأوداء
من يعظم الناس يعظم في النفوس بلا ... مؤونة وينل عز الأعزاء وقال:
اقنع من الناس بمقدار ما ... يعطون لا تبتغ منهم مزيد
حسبك من كل امرئ قدر ما ... يعطيك فالأطماع ما إن تفيد وقال:
لن إذا كانت الأمور صعابا ... وتواضع لها تجدها قرابا(5/574)
دار من شئت تنتفع منه واترك ... صولة الكبر فهي تجني عذابا
لا تكن تأخذ الأمور بعنف ... من يعاني الأمور بالعنف خابا وقال:
سامح الناس إن أساؤوا إليكا ... وتغافل إذا تجنوا عليكا
ما ترى كيف أنت تعصي ومولا ... ك يزيد الإنعام دأباً لديكا وقال:
اغتنم ساعة الأنس ... وانس ما كان بالأمس
ليس للمرء من الدن ... يا سوى راحة نفس
من يكن حلف هموم ... باع دنياه ببخس وقال:
حبك الشيء يغطي قبحه ... فتراه حسناً في كل حال
لا يرى المحبوب إلا حسناً ... كان قبح فيه مع ذا أو جمال
حتم (1) الحب على ذي الحب أن ... لا يرى المحبوب إلا في كمال وقال:
يحسب الناقص أن الناس قد ... غفلوا عن حاله في ضعته
لا يرى الناقص إلا أنه ... كامل من نعته في صفته
غلط المرء يغطي عقله ... أن يرى النقص الذي في جهته (2) وقال:
__________
(1) ق: ختم.
(2) ق: وجهته.(5/575)
أيام عمرك هذي ... ساعاتها رأس مالك
فاحرص على الخير فيها ... قبل أوان ارتحالك
فإنما أنت طيف ... تجتاب سبل المهالك وقال:
تجد الناس على النقص ولا ... تجد الكامل إلا من ومن
زمن الباطل وافى أهله ... وكذاك الناس أشباه الزمن وقال:
قل جميلاً إذا أردت الكلاما ... تجن عزاً مهنأ مستداما
إن قول القبيح يورث بغضاً ... وصغاراً عند الورى وملاما وقال:
حسن الظن تعش في غبطة ... إن حسن الظن من أوقى الجنن (1)
من يظن السوء يجزى مثله ... قلما يجزى قبيح بحسن وقال:
إن تبغ إخوان الصفاء فهم ... تحت التراب انتقلوا للقبور
إخوانك اليوم كأزمانهم ... مشتبهون في جميع الأمور وقال:
ومستقبح من أخ خلة ... وفيه معايب تسترذل
كأعمى يخاف على أعور ... عثاراً وعن نفسه يغفل
__________
(1) في المطبوعة: أقوى الفطن.(5/576)
وقال:
من يبتغ الود من الناس ... يكن لما قالوه بالناسي
أغض عن الناس تنل ودهم ... إنك لا تغنى عن الناس وقال:
أعيت مع الناس الحيل ... وبار فيهم العمل
في أي وجه أملوا ... يخيب منهم الأمل
فآثر العزلة عن ... هم تنج من كل خلل وقال:
لا ترج غير الله في شيء تنل ... ما تبتغيه وتكف كل تخوف
الله أعظم من رجوت فثق به ... فهو الذي أعطى وأنجى من كفي وقال:
توسل إلى الله في كل ما ... تحب بمحبوبه المصطفى
تنل ما تحب كما تبتغي ... وحسبك جاهاً به وكفى انتهى ما لخصت واخترت من الكتاب المذكور.
وهذه نبذة من كتابه (1) " الأبيات المهذبة في المعاني المقربة " فمن ذلك قوله:
اكتم السر واجعل الصدر قبره ... لا تبح ما حييت منه بذره
أنت ما لم تبح بسرك حر ... فإذا بحت صرت عبداً بمره
من يرد أن يعيش عيشاً هنيئاً ... يتحفظ مما عسى أن يضره
__________
(1) ق: كتاب.(5/577)
وقال:
عداوة العاقل مع عسرها ... آمن من صداقة الأحمق
يمكن الأحمق من نفسه ... عمداً ومن أحبابه يتقي
لا يحفظ الأحمق خلاً ولا ... يرضاه للصحبة إلا شقي وقال:
إذا أمعنت في الدنيا اعبتاراً ... رأيت سرورها رهن انتحاب
بعاد عن تدان، وافتقار ... عن استغنا، وشيب عن شباب
حياة كلها أضغاث حلم ... وعيش ظله مثل السراب وقال:
من تره يسرف ماله ... يتلفه في لذة وانهماك
فذلك المغبون في رأيه ... يسلك بالنفس سبيل الهلاك وقال:
من لا يرى في الناس قاصرة ... عن الكمالات لم يكمل له أدب
ومن يكن راضياً عن نفسه أبداً ... فذاك غر عن الآداب محتجب
آداب الإنسان تحقيقاً تواضعه ... وجريه دائماً على الذي يجب وقال:
يحق الحق حتماً دون شك ... وإن كره المشكك والملد
صريح الحق قد يخفى ولكن ... بعيد خفائه لا شك يبدو وقال:
كل ما قد فات لا رد له ... فلتكن عن ذاك مصروف الطمع(5/578)
أيعود الحسن من بعد الصبا ... قلما أدبر شيء فرجع وقال:
اغتنم غفلة الزمان وبادر ... لذة العيش ما بقيت سليما
أمر هذي الحية أيسر من أن ... تغتدي فيه لائماً أو ملوما وقال:
لا تغرنك صولة الجاه يوماً ... أو تظنن أنها تتمادى
صولة الجاه لفح نار ولكن ... كل نار لا بد تلفى رمادا وقال:
تنح عن الناس مهما استطعت ... ولا تك في الناس راغب
من اعتمد الناس يشقى ولا ... يرى غير منتقد عائب وقال:
لا تقل يوماً أنا ... فتقاسي محنا
من يعظم نفسه ... يلق هونا وعنا
شر ما يأتي الفتى ... مدحه لو فطنا وقال:
الناس إخوان ذي الدنيا وإن قبحت ... أفعاله، وغدا لا يعرف الدنيا
يعظمون أخا الدنيا وإن عثرت ... يوماً به أولغوا فيه السكاكينا وقال:
العدل روح بها تحيا البلاد كما ... هلاكها أبداً بالجور ينحتم(5/579)
الجور شين به التعمير منقطع ... والعدل زين به التمهيد ينتظم
يا قاتل الله أهل الجور كم خربت ... بهم بلاد وكم بادت بهم أمم وقال:
اليأس أسلى وأغنى ... من نيل ما يتمنى
يسلو أخو اليأس حتى ... يهنا ولا يعنى
لليأس برد فمن لم ... يذقه لم يتهنا وقال:
إذا عظمت نفس امرئ صار قدره ... حقيراً، وحيث احتل فالذل صاحبه
يسود ويعلو ذو التواضع دائماً ... ويحظى كما يرضى وتقضى مآربه وقال:
ود من يصطفيك للنفع زور ... والجميل الذي يريك غرور
إنما الود ود من ليس يخشى ... فيك ممن يلوم أو من يضير وقال:
اشكر لمن والاك معروفا ... تكن بفضل النفس معروفا
شكر أخي المنة عدل فكن ... بالعدل مهما اسطعت موصوفا
من يكفر الإحسان لا بد أن ... يلفى عن الإحسان مصروفا وقال:
حسب الإنسان ماله ... وهو في الدنيا كماله
يضجر الفقر أخا الح ... لم وإن طال احتماله
عزة المرء غناه ... وبه تحسن حاله(5/580)
وقال:
لا تصاحب أبداً من ... عقله غير متين
إن نقص العقل داء ... يتقى مثل الجنون
صحبة الأحمق عار ... لاحق في كل حين وقال (1) :
وافق الناس إن أردت السلامه ... إن روح الوفاق روح كرامه
من يوافق يعش هنيئاً قريراً ... آمناً من أذية وملامه
فتوق الخلاف واحذر أذاه ... فركوب الخلاف عمداً ندامه وقال:
ظلمات الخطوب مهما ادلهمت ... يجلها كالصباح فجر انفراج
أرح النفس لا تبت حلف هم ... كم هموم فيها السرور يفاجي وقال:
من لم يكن يقصد أن يحمدا ... يعش هنيئاً وينل أسعدا
من يبتغي المدحة لا بد أن ... يلحقه الذل وأن يجهدا
عيش الفتى في ترك تقييده ... وموته البحت إذا قيدا وقال:
قل لأهل الحاجات مهما ابتغوها ... حسبكم ما أتى من التنبيه
إن تريدوا الحاجات من غير بطء ... فاطلبوها عند الحسان الوجوه
__________
(1) سقطت هذه القطعة من ق.(5/581)
وقال:
خذ الأمور برفق واتئد أبداً ... إياك من عجل يدعو إلى وصب
الرفق أحسن ما تؤتى الأمور به ... يصيب ذو الرفق أو ينجو من العطب
من يصحب الرفق يستكمل مطالبه ... كما يشاء بلا أين ولاتعب وقال:
من يبتغي السؤدد لا بد أن ... يرهقه الجهد فلا يضجر
يصعب إدراك المعالي فمن ... يرم لحاق بعضها يصبر
لا يحصل السؤدد هيناً ولا ... يظفر بالبغية إلا جري وقال:
عاش في الناس من درى قدر نفسه ... ثم دارى جميع أبناء جنسه
علم الإنسان قدره نبل عقل ... وذكاء يبين عن فضل حدسه وقال:
عظم الناس تنل تعظيمهم ... واجتنب تحقيرهم فهو الردى
من ير الناس بتحقير يكن ... عندهم مؤذى حقيراً أبدا
لا يغرنك إهمال امرئ ... ربما يؤذي الذباب الأسدا وقال:
حب الرياسة يا له من داء ... كم فيه من محن وطول عناء
طلب الرياسة فت أعضاد الورى ... وأذاق طعم الذل للكبراء
إن الرياسة دون مرتبة التقى ... فإذا اتقيت علوت كل علاء(5/582)
وقال:
لا تركنن إلى بشر ... إن شئت تأمن كل شر
ذهب الذين إذا ركن ... ت لهم أمنت من الضرر
لم يبق إلا شامت ... أو من يضر إذا قدر وقال:
خل رأي الجهال ما اسطعت واتبع ... رأي أهل الحلوم والتجريب
لا تحد عن مشورة في مهم ... فهي مما تنمي حياة القلوب
رأي أهل الصلاح نور يجلي ... ظلمة الكرب في ليالي الخطوب وقال:
لا يرتضي بالدون إلا امرؤ ... مقصر ذو همة خامله
الموت خير من حياة الفتى ... مهتضماً ذا رتبة سافله
روح حياة المرء من عزه ... من ذل مات الميتة العاجله وقال:
استغن عمن تشاء ... فالله يغنيك عنه
من أمل الناس يشقى ... وليس يقنع منه
فإن ظفرت بحر ... فاحفظ عليه وصنه وقال:
خذ من صديقك قدر ما يعطيكا ... لا تبغ أزيد واحذر أن يجفوكا
من يبغ مقدار الذي يحتاجه ... من أخيه يبق مخيباً متروكا
شأن الألى رزقوا الحجى أن يقنعوا ... فابغ القناعة إنها تغنيكا(5/583)
وقال:
هن إذا عز أخوكا ... واخش أن يقرض فيكا
إن من عاند أقوى ... منه قد ضل سلوكا
نقص عقل أن تعادي ... بشراً لا يتقيكا وقال:
تنزه ما حييت عن القبيح ... وخالف من يرى رد النصيح
وخذ بالحزم مهما اسطعت واحذر ... من أن يلقيك حزمك في فضوح
فلا تعدل عن الحق التفاتاً ... لغير الحق من بعد الوضوح وقال:
لا تخف في الحق لوما ... صدقه ينجيك حتما
ينجلي الحق ويبدو ... نوره لا يتعمى
شأن ذي الحق اهتداء ... وأخو الباطل أعمى وقال:
عامل بجد جميع الناس تحظ به ... وجنب الهزل إن الهزل يرديكا
الجد أحسن ما تبديه من خلق ... والجد أشرف ما في الناس يعليكا
من لازم الجد هابته النفوس ومن ... يهزل يكن أبداً في الناس مهتوكا وقال:
كفاك الله شر من اصطفيتا ... وضر من اعتمدت ومن عرفتا
جميع الناس موتى عنك إلا ... معارفك الذين لهم ركنتا
تحفظ من قريب أو صديق ... وكن في الغير دهرك كيف شئتا(5/584)
وقال:
من كان يرغب عن أحبابه ويرى ... تقريب أعدائه لا شك يهتضم
يدنى العدو فلا تدنو مودته ... هيهات كل معاد قربه ندم
فاحفظ صديقك واحذر أن تعاديه ... إن الصديق إذا عاديته يصم وقال:
جامل عدوك كي يلين حقده ... فكيف بعض البعض من إيذائكما
واحفظ صديقك ما استطعت فإنه ... أدرى بطرق الضر من أعدائكا وقال:
إذا ظفرت بمن أنحى عليك فخذ ... بالحلم فيه ودع ما منه قد فرطا
إن المسيء إذا جازيته أبداً ... بفعله زدته في غيه شططا
العفو أحسن ما يجزى المسيء به ... يهينه أو يريه أنه سقطا وقال:
قاتل عدوك بالفضائل إنها ... أعدى عليه من السهام النفذ
كسب الفضائل عدة تعليك في ... رتب بها سبل السعادة تحتذي
فاحرص على نيل الفضائل جاهداً ... إن الفضيلة صعبة في المأخذ وقال:
وعد الكريم وفاء ... تجنيه كيف تشاء
ما حال قط كريم ... ولا ثناه التواء
فأنجز الوعد مهما ... وعدت فهو الزكاء(5/585)
وقال:
ليس الغنى عن كثرة الغرض ... إن الغنى في النفس إن ترض
رأس الغنى ترك المطامع عن ... زهد بلا ميل ولا غرض
فازهد تعش أغنى البرية في ... عز بلا هم ولا مضض وقال:
زمن الفضائل قد مضى لسبيله ... ولوى بطيب العيش وشك رحيله
ركدت رياح الجد بعد هبوبها ... وعلا فريق الهزل بعد خموله
هيهات ما زمن الكرام وما هم ... ذهبوا وجد الدهر في تحويله وقال:
مروءة المرء ثوبه ... والعري في الناس عيبه
بثوبه المرء يعلو ... قدراً ويحفظ قربه
من لم يصن ثوبه لم ... يصن وإن لاح شيبه وقال:
لا تصخ ما بقيت حياً لقول ... ليس يجني عليك إلا المضره
واطرح ما أتاك منه وجنب ... من يرى بالفضول واتق ضره وقال:
ثقيل تراه النفس في العين كالقذى ... وكالجبل الراسي على الصدر والقلب
تثير غموم المرء رؤية وجهه ... وتشكو جفاه الأرض شكوى ذوي الكرب وقال:
أما ترى الأشجار مصفرة ... أوراقها كالشمس عند المغيب(5/586)
ما هي إلا صفرة آذنت ... بأنها ترحل عما قريب وقال:
كل ما تحب وتشتهي ... ودع الطبيب وما يرى
حفظ الغذاء مشقة ... ليست ترد مقدرا
كم عد من متحفظ ... كم صح ممن قصرا
كل التحفظ زائد ... لا بد مما قدرا وقال:
من كان يأكل ما اشتهى ... ويرى مخالفة الطبيب
سيرى مضرة ما أتى ... بطراً ويندم عن قريب
إن التحفظ في الأمو ... ر لشيمة الفطن اللبيب
من لم يكن متحفظاً ... يخطي ويبعد أن يصيب وقال:
وللحمام حاءات إذا ما ... ظفرت بها عثرت على النعيم
فحناء وحكاك مجيد ... وقل حجر يمر على الأديم
وحوض مفعم ماء لذيذاً ... وحجام على النهج القويم
وللحلق الحديدة حين تنمى ... وأطيبها حديث أخ كريم وقال في الغزل، وهي آخر كتابه المذكور:
الله أكبر جلت فتنة البشر ... بنور غرتك المغني عن البصر
شمس تطلع في أفق الجمال لها ... نور تألق في داج من الشعر
ووردة الخد في أبراد سوسنها ... شقائق زانها التغليف بالدرر(5/587)
ومسكة الخال فوق الخد شاهدة ... بأن إبداعها إحكام مقتدر وهذه نبذة من كتابه " أنداء الديم في المواعظ والوصايا والحكم " وكل ما فيه كالذي قبله من نظمه رحمه الله تعالى، فمن ذلك قوله رحمه الله:
العلم نور وهدى ... فكن بجد طالبه
واحرص عليه واعتمد ... فيه الأمور الواجبه
من لازم العلم علا ... على الأنام قاطبه وقال:
خالف النفس عند قصد هواها ... تبق ما عشت سالماً من أذاها
فاتباع الهوى هوان ولكن ... هان للنفس وكي تنال مناها وقال:
من يخالف في شيء الناس يرجع ... هدفاً للسهام من كل راشق
كن مع الناس كيف كانوا، ووافق ... إن من لا يوافق الناس مائق وقال:
أرح النفس تنتفع بحياتك ... واغنم العيش قبل يوم وفاتك
واطرح عيب من سواك، وسالم ... جملة الناس يغفلوا عن أذاتك
واعتبر بالذين بادوا، وبادر ... ما يدانيك من سبيل نجاتك وقال:
سالم الناس ما استطعت، وجامل ... من يعاديك إن أردت السلامه
وتنزه عن القبيح وجنب ... من يرى بالفضول واحذر كلامه(5/588)
وقال:
صديقي أنت ما أبقى بخير ... وموتي وغير محتاج إليكا
فإن أحتج إليك فأنت مني ... بريء لا صداقة لي عليكا وقال:
من أنت عنه غني ... كن فيه مثل اعتقاده
فإن يكن منه ود ... فجازه بوداده
وإن يكن منه بعد ... فخله لبعاده وقال:
عليك بنفسك لا تشتغل ... بشيء سواها وخل الفضول
تعش رائح القلب في غبطة ... فلا من يضر ولا من يقول وقال:
اترك الفكر في الأمور ودعها ... فكما قدرت تكون الأمور
كل فكر وكل رأي وحزم ... غير مجد إذا جرى المقدور وقال:
هون عليك خطوب الدهر إن لها ... نهاية والتناهي عنده الفرج
واصبر فإن لحسن الصبر عاقبة ... بصبحها ظلمة المكروب تنبلج وقال:
احذر البخل إنه شر خلق ... يتحلى به وشر طريقه
من يجد غير مسرف فهو في النا ... س موقى تثني عليه الخليقه(5/589)
وقال:
الذل في طلب الإفادة عزة ... فاحرص على نيل الإفادة ترشد
إن التعزز في الذي تحتاجه ... كبر، وكبر المرء أقبح مقصد وقال:
دع من عرفت ولا تشدد عليه يداً ... وداره وتحفظ منه ما بقيا
أما ترى البلد الذي نشأت به ... محقراً كلما أصبحت معتليا
وغيره من بلاد الله قاطبة ... يعليك، لا سيما إن كنت متقيا وقال:
ينبغي للذي تحلى بعقل ... أن يرى كالبازي مدة عمره
بين أيدي الملوك أو في فلاة ... خيفة من شرور أبناء دهره وقال:
العزل يضحك ذله ... من تيه سلطان الولايه
فإذا وليت فسر على ... نهج الدماثة والرعايه
واقصد مداراة الورى ... واحذر كيود ذوي السعايه وقال:
لا تقبل الحكم على بلدة ... نشأت فيها، إنه يحقد
رياسة المرء على الأهل وال ... جيران والخلان لا تحمد وقال:
هي الدنيا إذا فكرت فيها ... رأيت نعيمها سماً نقيعا(5/590)
فلا تحفل بها واحذر أذاها ... فإن لسمها قتلاً ذريعا
ولا تأسف على ما فات منها ... وبادر في حياتك أن تطيعا وقال:
كن وحيداً ما عشت تحيا بخير ... سالماً من شرور كل البريه
إن من لا يخالط الناس يبقى ... دهره لا تعروه منهم أذيه وقال:
لا تبح ما حييت يوماً بسر ... لصديق ولا لغير صديق
إن سراً يجاوز الصدر فاش ... يدريه العدا ومن في الطريق وقال:
لا تصاحب ما عشت إلا الكبارا ... تنم ذكراً وتعتلي مقدارا
إن من ماشى في طريق حقيراً ... يكتسي منه مهنة واحتقارا
فتحفظ من أن تؤاخي دنياً ... فهو يعديك ذلة وصغارا وقال:
محدثات الأمور أردى الشرور ... فتحفظ من محدثات الأمور
إنما المحدثات غي فدعها ... واجتهد أن ترى مع الجمهور
كل من يتبع الحوادث يشقى ... ويرى نفسه بغير نظير وقال:
من تفضلت عليه ... أنت لا شك أميره
ومن احتجت إليه ... أنت بالرغم أسيره
ومن استغنيت عنه ... أنت في الدنيا نظيره(5/591)
وقال:
لم يبق من يطمع في وده ... كلا ولا من ترتضى صحبته
الناس أشباه ذئاب فهل ... يعلم ذئب حسنت عشرته
من يبتغي اليوم صديقاً كما ... يرضى فقد زلت به بغيته وقال:
فاعل الخير موقى كل ما ... يتقي من ضر أو من فتنة
ليس يخشى فاعل الخير أذى ... إن فعل الخير أوقى جنة وقال:
تحفظ من صديقك في أمور ... فربتما يضر بك الصديق
من اعتمد الصديق ولم يبال ... يصبه الضر وهو به خليق وقال:
لا تركنن لمخلوق وكن أبداً ... ممن توكل في الدنيا على الله
ولا تمل لسواه ما حييت فمن ... يرجو سوى الله هاو حبله واهي وقال:
طلب الغاية اتباع غوايه ... فاعتمد في الأمور ترك النهايه
من يكن راضياً بما يتسنى ... عاش عيش الملوك دون أذايه وقال:
لا تعتمد أبداً على مخلوق أن ... تبغ النجاح (1) وتقصد الرشدا
__________
(1) ق: النجاة.(5/592)
من يرج غير الله يحرم رشده ... ويذل وهو مخيب قصدا وقال:
سفر المرء قطعة من عذابه ... فيه تخليق جسمه وثيابه
إنما العيش للفتى بين أهل ... هـ وخلانه وفي أحبابه
من يرده بخير الله يكفى (1) ... كرب تجواله وذل اغترابه وقال:
سلم ولا تعترض يوماً على أحد ... إن شئت تسلم من حقد وأضرار
من يعترض يعترض لا شك وهو حر ... بذاك فالشر مقدار بمقدار وقال:
إن الصديق لعون ... في كل ما تبتغيه
فلا تسئ لصديق ... واحذر وقوعك فيه
فالمرء قيل كثير ... بنفسه وأخيه وقال:
افعل الخير ما استطعت تنل ما ... تبتغيه من الثناء الجميل
فاعل الخير آمن ليس يخشى ... صرف دهر ولا حلول جليل وقال (2) :
بحق الحق حتماً دون شك ... وإن كره المشكك والملد
__________
(1) هذه رواية ص؛ وفي ق: يكفيه.
(2) سقط البيتان من ق، لأنهما وردا ص: 578.(5/593)
صريح الحق قد يخفى، ولكن ... بعيد خفائه لا شك يبدو وقال:
إن شئت عزاً دائماً ... فاسلك سبيل من اقتنع
إن القناعة عزة ... والذل عاقبة الطمع
المرء إن قنع اعتلى ... قدراً وإن طمع اتضع وقال:
استعن في الأمور بالكتمان ... وتحفظ من شر كل لسان
كل ما لا يدرى من أمرك فضل ... ليس فيه شيء من الخسران وقال:
من مال عنك بشبر ... مل أنت عنه بميل
فالله يغنيك عنه ... فمنه كل جميل
فليس في الود خير ... مع ترك حسن القبول وقال:
لا تقطعن صديقاً ... وإن يضق بك صدرا
واحرص عليه وزده ... إن يجف براً وشكرا
فإن قطع صديق ... لا شك يعقب ضرا وقال:
خل التأنق في اللباس وسر على ... نهج الأفاضل في اختصار الملبس
إن التأنق في اللباس يكثر ال ... حساد والأعداء للمتلبس
فالبس كمثل الناس لا تخرج عن ال ... معتاد في شيء فتخطي أو تسي(5/594)
وقال:
لا تحقرن عدواً ... ولو يكون كذره
واحذره ما اسطعت واجهد ... أن لا تحرك شره
إن البعوضة تؤذي ال ... ملوك فوق الأسره وقال:
ما أهنأ الإنسان في عيشه ... ما بين أهليه وفي منزله
الذل في الغربة يا كربها ... وكرب من قوض عن معقله
وفي اقتلوا أو اخرجوا شاهد ... ساوى خروج المرء مع مقتله وقال:
المال يستر عيب النرء فاقتنه ... واحفظه تبق موقى مدة الزمن
من ضيع المال أبدى عيبه وجنى ... تمهينه أبداً من كل ممتهن وقال:
سريرة المرء تبديها شمائله ... حتى يرى الناس ما يخفيه إعلانا
فاجعل سريرتك التقوى ترى أملاً ... في كل ما أنت تبغيه وبرهانا وقال:
ما تمت الدنيا لشخص ولا ... أمل ذا فيها سوى من فتن
عادتها الفتك بمن رامها ... وكل من أعرض عنها أمن
فلا تغرنك بلذاتها ... فإن من غر بها قد غبن وقال:
لا يكن عندك الخديم نديماً ... إن قدر الخديم دون النديم(5/595)
من ينادم خديمه يتأذى ... ويصير الخديم غير خديم
إنما يصلح الخديم ابتعاد ... واشتغال بشأنه المعلوم وقال:
تثبت في الأمور ولا تبادر ... لشيء دون ما نظر وفكر
قبيح أن تبادر ثم تخطي ... وترجع للتثبت دون عذر وقال:
كن في زمانك كيف يرضى أهله ... لاتعد طورهم ولا تتبدل
فإذا ترى الحمقى تحامق معهم ... وإذا ترى العقلاء فلتتعقل
من لم يكن أبداً كأهل زمانه ... يشقى، ولا يحظى بنيل مؤمل وقال:
الفاضل اليوم غريب بلا ... عون على شيء من الحق
إن غاب لم يحضر وإن قال لم ... يسمع يؤبه بما يلقي
ما أضيع الفاضل يا ويحه ... كأنه ليس من الخلق وقال وهو آخر أنداء الديم:
العز عاقبة التقى ... والذل عاقبة الرياسه
فإذا اتقيت علوت في ... أهل المجادة والنفاسه
وإذا رأست نزلت في ... طرق التخلق والسياسه
فلتختر التقوى ولا ... ترأس فتخطيك الكياسه وكان تاريخ فراغه من كتاب أنداء الديم نصف شعبان عام واحد وثلاثين وسبعمائة.
ولنذكر يعض أناشيده التي كان ينشدها أهل مجلسه ببلد قصبة المرية أعادها(5/596)
الله تعالى، فمما أنشده رحمه الله تعالى لأبي العباس أحمد بن العريف صاحب " محاسن المجالس " (1) :
من لم يشاور عالماً بأصوله ... فيقينه في المشكلات ظنون
من أنكر الأشياء دون تيقن ... وتثبت فمعاند مفتون
الكل تذكار لمن هو عالم ... وصوابها بمحالها معجون
والفكر غواص عليها مخرج ... والحق فيها لؤلؤ مكنون وأنشد رحمه الله تعالى من وجادة:
أعوذ بالله من أناس ... تشيخوا قبل أن يشيخوا
احدودبوا وانحنوا رياء ... فاحذرهم إنهم فخوخ وأنشد لنفسه رحمه الله تعالى:
أقلل العشرة تغبط ... إن من أكثر ينحط
وعليك الصدق واحذر ... أن ترى في القول تشتط
والزم الصمت إذا ما ... خفت أن تلحى فتغلط
فعلى الفاضل يلفى ... كل مفضول مسلط وأنشد لنفسه أيضاً:
جنة العالم لا أد ... ري إذا ما احتاج حنه
فإذا ما ترك الجن ... ة بانت فيه جنه
فالزم الجنة تسلم ... إنما الجنة جنه وأنشد للحلاج رحمه الله تعالى (2) :
__________
(1) لم ترد في محاسن المجالس (ط. باريس 1933) .
(2) ديوان الحلاج: 62.(5/597)
يا بدر يا شمس يا نهار ... أنت لنا جنة ونار
تجنب الإثم فيك إثم ... وخشية العار فيك عار
يخلع فيك العذار قوم ... فكيف من لا له عذار وأنشد مما ينسب للحلاج أيضاً:
سقمي في الحب عافيتي ... ووجودي في الهوى عدمي
وعذاب ترتضون به ... في فمي أحلى من النعم
ما لضر في محبتكم ... عندنا والله من ألم وأنشد لسيدي أبي العباس ابن العريف في محاسن المجالس وهي أحسن ما قيل في طول الليل (1) :
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلا
إن العاشقين عن قصر اللي ... ل وعن طوله من الفكر شغلا وأنشد رحمه الله تعالى مما أنشده بعض الوعاظ الغرباء:
عانقت لام صدغها صاد لثمي ... فأرتها المرآة في الخد لصا
فاسترابت لما رأت ثم قالت ... أكتاباً أرى ولم أر شخصا
قلت بالكشط ينمحي، قالت اكشط ... بالثنايا وتابع الكشط مصا
ثم لما ذهبت أكشط قالت ... كان لصاً فصار والله فصا
قلت إن الفصوص تطبع باللث ... م على خد كل من كان رخصا وأنشد لابن خفاجة:
__________
(1) انظر محاسن المجالس: 89 وليست الأبيات لابن العريف.(5/598)
وأغر كاد لطافة وطلاقة ... ينساب ماء بيننا مسكوبا
قد قام في سطر الندامى فاستوى ... فحسبته ألفاً به مكتوبا
وأكب يشربها وتشرب ذهنه ... فرأيت منه شارباً مشروبا
مشمولة بينا ترى في كفه ... ماء ترى في خده ألهوبا وأنشد لابن عبد ربه صاحب العقد مما نسبه له الفتح في " مطمح الأنفس ومسرح التأنس " (1) :
يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا ... ورشاً بتقطيع القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... دراً يعود من الحياء عقيقا
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... ألفيت وجهك في سناه عريقا
يا من تقطع خصره من رقة ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا وأنشد لابن عبد ربه أيضاً:
ودعتني بزفرة واعتناق ... ثم قالت: متى يكون التلاقي
وتصدت فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشاق
إن يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني مت قبل يوم الفراق وأنشد له أيضاً:
هيج البين دواعي سقمي ... وكسا جسمي ثوب الألم
أيها البين أقلني مرة ... فإذا عدت فقد حل دمي
يا خلي الذرع نم في غبطة ... إن من فارقته لم ينم
ولقد هاج لقلبي سقماً ... حب من لو شاء داوى سقمي
__________
(1) أكثر هذه القطع أورده المقري في الأجزاء السابقة، انظر 3: 564.(5/599)
وأنشد للمصحفي (1) :
صفراء تطرق في الزجاج، فإن سرت ... في الجسم دبت مثل صل لادغ
عبث الزمان بجسمها فتسترت ... عن عينه برداء نور سابغ
خفيت على شرابها فكأنما ... يجدون رياً في إناء فارغ وأنشد لابن شهيد (2) :
هب من رقدته منكسراً ... مسبل للكم مرخ للردا
يمسح النعسة عن عيني رشاً ... صائد في كل يوم أسدا
شربت أعطافه خمر الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا
رشأ بل غادة ممكورة ... عممت صبحاً بليل أسودا
أححت (3) من عضتي في نهدها ... ثم عضت حر وجهي (4) عمدا
فأنا المجروح من عضتها ... لا شفاني الله منها أبدا وأنشد لصفوان بن إدريس:
حمى الهوى قلبه وأوقد ... فهو على أن يموت أو قد
وقال عنه العذول سال ... قلده الله ما تقلد
وباللوى شادن عليه ... جيد غزال ولحظ فرقد
علله ريقه بخمر ... حتى انتشى طرفه فعربد
لا تعجبوا لانهزام طرفي ... فجيش أجفانه مؤيد
أنا له كالذي تمنى ... عبد، نعم، عبده وأزيد
إن بسملت عينه لقتلي ... صلى فؤادي على محمد
__________
(1) انظر ج 1: 594، 604.
(2) انظر ج 3: 358، 443.
(3) في ق ص: أحجمت؛ وآثرنا رواية الذخيرة، وقد صوبناه في موضعه من قبل.
(4) ق ص: خدي.(5/600)
وأنشد لأبي علي إدريس بن اليماني:
علقته شادناً صغيراً ... وكنت لا أعشق الصغارا
يسفر عن مستنير وجه ... صير جنح الدجى نهارا
لم أر من قبل ذاك ماء ... أضرم فيه الحياء نارا وأنشد للرمادي، أو لابن برد القرطبي (1) :
لما بدا في لازور ... دي الحرير وقد بهر
كبرت من فرط الجما ... ل وقلت: ما هذا بشر
فأجابني: لا تنكروا ... ثوب السماء على القمر وأنشده من وجادة:
يا ذا الذي عذب محبوبه ... أنخت عيس العز مغنى الهوان
لم ينبت الشعر على خده ... بل دب في أصداغه عقربان
رفقاً على نفسك لا تفنها ... فجوهر الأنفس در يصان وأنشد من حديقة ابن يربوع:
غزا القلوب غزال ... حجت إليه العيون
خطت بخديه نون ... وآخر الحسن نون وأنشد من وجادة:
أودع فؤادي حرفاً أو دع ... ذاتك تؤذى، أنت في أضلعي
وارم سهام اللحظ أو كفها ... أنت بما ترمي مصاب معي
موقعها قلبي، وأنت الذي ... مسكنه في ذلك الموضع
__________
(1) انظر ما تقدم ج 3 ص: 546.(5/601)
وأنشد من حديقة ابن يربوع:
يخط الشوق شخصك في ضميري ... على بعد التزاور خط زور
وتدنيك الأماني من فؤادي ... دنو البرق من لمح البصير
فلا تذهب فإنك نور عيني ... إذا ما غبت لم تطرف بنور وأنشد للوزير المصحفي:
لعينيك في قلبي على عيون ... وبين ضلوعي للشجون فنون
لئن كنت صباً مخلقاً في يد الهوى ... فحبك غض في الفؤاد مصون
نصيبي من الدنيا هواك، وإنه ... عذابي، ولكني عليه ضنين وأنشد لصالح بن شريف:
أيها العاذل بالله اتئد ... لك قلب في ضلوعي أو كبد
هي أجفاني فذرها تنهمي ... هي أحشائي فدعها تتقد
لا تظن الحب شيئاً هيناً ... ليس في الحب قياس يطرد
أنت خلو وأنا صب شج ... فإذا حدثت عني قل وزد
فاترك اليوم ملامي إنه ... يترك الشيء إذا ما لم يفد
أنا أسلو عن حبيبي ساعة ... يا عذولي، قل هو الله أحد وأنشد له أيضاً:
وافى وقد زانه جمال ... فيه لعشاقه اعتذار
ثلاثة ما لها شبيه: ... الوجه والخد والعذار
فمن رآه رأى رياضاً ... الورد والآس والبهار وأنشد من " حديقة " ابن يربوع:
عليك بإكرام وبر لستة ... من الناس واحذر شرهم وتوقه(5/602)
طبيب وحجام وشيخ وشاعر ... وصاحب ديوان ومن يتفقه وأنشد لبعض الصوفية:
ما ترى عند أحمق ... في أمور توسطا
بل تراه في أمره ... مفرطاً أو مفرطا وأنشد لبعض الأدباء (1) :
الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار
من لازم الصبر على حالة ... كان على أيامه بالخيار ولنقتصر من ترجمة ابن ليون على هذا القدر، فقد حصلت الإطالة، بل ونكتفي من مشايخ لسان الدين بمن ذكرنا، ولنورد ما في الإحاطة في ترجمة مشيخته وإن تكرر مع ما تقدم، ونصه:
[ثبت عام بشيوخ لسان الدين]
المشيخة (2) - قرأت كتاب الله عز وجل على المكتب نسيج وحده في تحمل المنزل حق حمله تقوى وصلاحاً وخصوصية وإتقاناً ونغمة وعناية وحفظاً وتبحراً في هذا الفن واطلاعاً لغرائبه، واستيعاباً لسقطات الأعلام الاستاذ الصالح أبي عبد الله ابن عبد الولي العواد تكتيباً ثم حفظاً ثم تجويداً إلى مقرءات أبي عمرو رحمة الله عليهما، ثم نقلني إلى أستاذ الجماعة ومطية الفنون، ومفيد الطلبة الشيخ الخطيب
__________
(1) هما لغانم المالقي، انظر 3: 398، 4: 28.
(2) الإحاطة، الورقة: 403.(5/603)
المتفنن أبي الحسن علي القيجاطي فقرأت عليه القرآن والعربية، وهو أول من انتفعت به، وقرأت على الخطيب الحسيب الصدر أبي القاسم ابن جزي رحمه الله تعالى، ولازمت قراءة العربية والفقه والتفسير، والمعتمد عليه العربية، على الشيخ الأستاذ الخطيب أبي عبد الله ابن الفخار البيري الإمام المجمع على إمامته في فن العربية المفتوح عليه من الله فيها حفظاً واطلاعاً ونقلاً وتوجيهاً بما لا مطمع فيه لسواه، وقرأت على قاضي الجماعة الصدر المتفنن أبي عبد الله ابن بكر رحمه الله، وتأدبت بالشيخ (1) الرئيس صاحب القلم الأعلى الصالح الفاضل أبي الحسن ابن الجياب، ورويت عن الكثير ممن جمعهم الزمان بهذا القطر من أهل الرواية، كالمحدث أبي عبد الله ابن جابر، وأخيه أبي جعفر، والقاضي الشهير (2) الشيخ بقية السلف شيخنا أبي البركات ابن الحاج، والشيخ المحدث الصالح أبي محمد ابن سلمون، وأخيه القاضي أبي القاسم ابن سلمون، وأبي عمرو ابن الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير، وله رواية عالية، والأستاذ اللغوي أبي عبد الله ابن بيبش، والمحدث الكاتب أبي الحسن التلمساني المسن، والحاج أبي القاسم ابن المهني المالقي (3) ، والعدل أبي محمد السعدي (4) ، يحمل عن الإمام ابن دقيق العيد، والقائد الكاتب ابن ذي الوزارتين أبي بكر ابن الحكيم والقاضي المحدث الأديب جملة الظرف أبي بكر ابن شبرين، والشيخ أبي عبد الله ابن عبد الملك، والخطيب أبي جعفر الطنجالي، والقاضي أبي بكر ابن منظور، والراوية أبي عبد الله ابن حزب الله، كلهم من مالقة، والقاضي أبي عبد الله المقري التلمساني، والشريف أبي علي حسن بن يوسف، والخطيب الرئيس أبي عبد الله ابن مرزوق، كلهم من تلمسان، والمحدث الفاضل الحسيب أبي العباس ابن يربوع والرئيس أبي محمد الحضرمي
__________
(1) ق: على الشيخ.
(2) ق: الشهيد.
(3) الإحاطة: والشيخ الحاج أبي القاسم ابن البناني.
(4) الإحاطة: والعدل أبي محمد ابن النقري؛ ص: التبعدي، وغير واضحة في ق.(5/604)
السبتيين، والشيخ المقرئ أبي محمد ابن أيوب المالقي آخر الرواة عن ابن أبي الأحوص، وأبي عثمان ابن ليون من أهل المرية، والقاضي أبي الحجاج المنتشافري من أهل رندة، وطائفة كبيرة (1) من المعاصرين تحملاً وتدبجاً ومن أهل العدوة الغربية والمشرق وإفريقية الكثير بالإجازة، وأخذت الطب والتعاليم والمنطق.
وصناعة التعديل عن الإمام أبي زكريا ابن هذيل، ولازمته، هذا على سبيل الإلماع، ولو تفرغت لذكر أفذاذهم (2) لخرج هذا التأليف (3) عما وضع له، انتهى كلامه في " الإحاطة ".
وقد ذكرت في هذا الباب زيادة في بعض التراجم على ما في الإحاطة على ما اقتضاه الحال، إذ ذلك لا يخلو من فائدة زائدة، وحكمة بالخير عائدة.
ولو لم يكن في هذا الكتاب غير هذا الباب لكان كافياً، لاشتماله على تصوف وحكم وكرامات وآداب ووصايا وإنشادات وغيرها، مما يغني عن خبره العيان، ويشتاق إلى الوقوف عليه ذوو الملكة في البيان، ولو لم يشتمل إلا على المدائح النبوية التي فيه لتمت محاسنه، والله سبحانه وتعالى ينفع به، بجاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وتابعيه وحزبه.
انتهى المجلد الخامس
__________
(1) ق: كثيرة.
(2) الإحاطة: لذكرهم.
(3) الإحاطة: التقييد.(5/605)
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الرابع
في مخاطبات الملوك والأكابرالموجهة إلى حضرته العلية، وثناء غير واحد من
أعلام أهل عصره عليه، وصرف القاصدين وجوه التأميل إليه، واجتلائهم
أنوار رياسته الجلية، وكتبهم بعض المؤلفات باسمه، ووقوفهم عند إشارته
ورسمه، وما يضاهي ذلك في حظه وقسمه، وسعيهم بين يديه
اعلم - سلك الله بي وبك الطريق الأقوم الأقوى، وحلى صدور جميعنا بزينة التقوى - أن لسان الدين ذكر في كتبه كالإحاطة ونفاضة الجراب وغيرهما جملة مما خاطبه به الملوك وغيرهم، من تبجيل وتنويه، ولنذكر بعض ذلك من كتبه ومن غيرهما تتميماً للمقصود وتبليغاً لنفوس الناظرين في هذه العجالة ما تؤمله وتنويه.
[1 - ظهير من أبي زيان المريني للسان الدين]
فمن ذلك ما ذكره في " الإحاطة " من إكرام السلطان أبي زيان المريني ابن الأمير أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن له، وسرد ما كتب له به من قوله: هذا ظهير إلى قوله: أيده الله ونصره، وسنى له الفتح المبين ويسره(6/5)
وبعده ما صورته (1) : " للشيخ الفقيه الأجل الأسنى، الأعز الأحظى الأرفع الأمجد الأسمى الأوحد الأنوه الأرقى، والعالم العلم الرئيس الأعرف المتفنن الأبرع المصنف المفيد الصدر الأحفل الأفضل الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجل الأسنى الأعز الأرفع الأمجد الوجيه الأنوه الأحفل الأفضل الحسيب الأصيل الأكمل المبرور المرحوم أبي محمد ابن الخطيب، قابله أيده الله بوجه القبول والإقبال، وأضفى عليه ملابس الإنعام والإفضال، ورعى له خدمة السلف الرفيع الجلال، وما تقرر من مقاصده الحسنة في خدمة أمرنا العال، وأمر في جملة ما نسوغه من الآلاء الوارفة الظلال، الفسيحة المجال، بأن يجدد له حكم ما بيده من الأوامر المتقدم تاريخها المتضمنة تمشية خمسمائة دينار من الفضة العشرية (2) في كل شهر عن مرتب له ولولده الذي لنظره من مجبى مدينة سلا حرسها الله في كل شهر، ومن حيث جرت العادة أن يتمشى له، ورفع الاعتراض ببابها فيما يجلب من الأدم والأقوات على اختلافها من حيوان وسواه، وفيما يستفيده خدامه (3) بخارجها وأحوازها من أعناب وقطن وكتان وفاكهة وخضر وغير ذلك، فلا يطلب في شيء من ذلك بمغرم ولا وظيف (4) ، ولا يتوجه فيه إليه بتكليف، يتصل له حكم جميع ما ذكر في كل عام تجديداً تاماً، واحتراماً عاماً، أعلن بتجديد الحظوة واتصالها، وإتمام النعمة وإكمالها، من تواريخ الأوامر المذكورة إلى الآن، ومن الآن إلى ما يأتي على الدوام، واتصال الأيام، وأن يحمل جانبه فيمن يشركه أو يخدمه محمل الرعي والمحاشاة في السخر مهما عرضت، والوظائف إذا افترضت، حتى يتصل له تالد العناية بالطارف،
__________
(1) ورد هذا الظهير في الاستقصا 4: 48.
(2) العشرية: لعلها العاشرية وهي ما كان في كل دينار منها عشرة دراهم (انظر " عاشر " في ملحق المعاجم لدوزي) .
(3) ق: خدمه.
(4) الوظيف أو الوظيفة: الضريبة المقررة.(6/6)
وتتضاعف أسباب المنن والعوارف، بفضل الله، وتحرر له الأزواج (1) التي يحرثها بتالمغت من كل وجيبة (2) وتحاشى من كل مغرم أو ضريبة، بالتحرير التام بحول الله وعونه، ومن وقف على هذا الظهير الكريم فليعمل بمقتضاه، وليمض ما أمضاه، إن شاء الله، وكتب في العاشر من شهر ربيع الآخر من عام ثلاثة وستين وسبعمائة، وكتب في التاريخ " (3) ؛ انتهى.
وقوله " وكتب في التاريخ " هو العلامة السلطانية في ذلك الزمان، يكتب بقلم غليظ، وبعض ملوك المغرب يكتب عند العلامة " صح في التاريخ "
[ترجمة أبي زيان المريني]
وقد عرف لسان الدين في " الإحاطة " بهذا السلطان بما نصه: محمد بن يعقوب أبي عبد الرحمن بن علي أمير المسلمين بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق أمير المسلمين بالمغرب إلى هذا العهد، يكنى أبا زيان (4) ، وصل الله نصره على عدوه الدين، وأرشده إلى سنن الخلفاء المهتدين.
حاله - فاضل سكون منقاد، مشتغل بخاصة نفسه، قليل الكلام، حسن الشكل، درب بركض الخيل، مفوض للوزراء عظيم التأتي لأغراضهم، ووكل الأمور لمن استكفاه منهم، استقدم من أرض النصارى بالأندلس وقد فر
__________
(1) الأزواج: هي ما يسمى في المشرق " الأفدنة "، أخذت من زوج البقر للحرث أي (الفدان) .
(2) الوجيبة: الضريبة.
(3) قال ابن الأحمر عند تعريفه العلامة: " فإذا رأيت الصك المريني وعلامته: كتب في التاريخ المؤرخ به، فهي بخط يد السلطان، وإذا كانت: وكتب في التاريخ، فهي بخط يد صاحب العلامة (مستودع العلامة: 21) .
(4) بويع أبو زيان الملقب بالمتوكل 11 صفر سنة 763 وقتل غرقاً في السانية التي بروض الغزلان 22 ذي الحجة سنة 767 وسنه 28 سنة ودفن بجامع قصره (روضة النسرين: 32 وانظر الاستقصا 4: 51) .(6/7)
إليهم خوفاً على نفسه، فسمح به ملك الروم بعد اشتراط واشتطاط، فكان وصوله إلى مدينة الملك بفاس يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر عام ثلاثة وستين وسبعمائة، ودخوله داره مغرب ليلة الجمعة بطالع الثامن من السرطان وبه السعد الأعظم كوكب المشتري من الكواكب السيارة، وقد كان الوزير قيم الأمر والمثل في الكفاية والاضطلاع بالعظيمة عمر بن عبد الله بن علي الياباني (1) لما ثار بعمه السلطان أبي سالم رحمه الله تعالى وأقام الرسم بأخيه المعتوه المدعو بأبي عمر استدعى هذا المترجم به، وقد نازله الأمير عبد الحليم ابن عمهم، وتوجه عنه رسوله أثناء الحصار لما رأى الأمر لا يستقيم بمن نصبه، فتلطف فيه إلى طاغية النصارى، استعان بالسلطان أبي عبد الله ابن نصر، وقد جمعتهما إيالته، فتم له اللحاق بالمغرب، وانصرف الأمير عبد الحليم إلى سجلماسة فتملكها، وتم الأمر للأمير أبي زيان يقوم به عنه وزيره ومستدعيه المذكور مصنوعاً له في خدمته أعانه الله تعالى وأصلح حاله وأحوال الخلق على يديه، ووفدت عليه من محل الانقطاع بسلا وأنشدته قولي (2) :
لمن علم في هضبة الملك خفاق ... أفاقت به من غشية الهرج آفاق
تقل رياح النصر منه غمامة ... تمد لها أيد وتخضع أعناق
وبيعة شورى أحكم السعد عقدها ... وأعمل إجماع عليها وإصفاق
قضى عمر فيها بحق محمد ... فسجل عهد للوفاء وميثاق
أحلماً ترى عيناي أم هي فترة ... أعندكما في مشكل الأمر مصداق
وفاض (3) لفضل الله في الأرض تبتغى ... ومجتمعات لا تريب وأسواق
وسرح تهنيه الكلاءة بالكلا ... وفلح لسقي الغيث قام له ساق
__________
(1) راجع أخبار هذا الوزير في العبر 7: 319، 323.
(2) انظر القصيدة في الاستقصا 4: 46 - 48.
(3) الوفاض: جمع وفضة وهي المكان الذي يمسك الماء؛ وفي ص: رفاض.(6/8)
وقد كان طيف الحلم لا يعمل الخطا ... وللفتنة العمياء في الأرض إطباق
وللغيث إمساك وفي الأرض رجة ... وللدين والدنيا وجوم وإطراق
فكل فريق فيه للبغي راية ... وكل طريق فيه للعيث طراق (1)
أجل إنه من آل يعقوب وارث ... يحن له البيت العتيق ويشتاق
له من جناح الروح ظل مسجف ... ومن رفرف العز الإلهي رستاق (2)
أطل على الدنيا وقد عاد ضوءها ... دجى وعلى الأحداق للذعر إحداق
فأشرقت الأرجاء من نور ربها ... وساح بها لله لطف وإشفاق
فمن ألسن لله بالشكر أعلنت ... وكان لها من قبل همس وإطباق
وليس لأمر أبرم الله ناقض ... وليس لمسعى أنجح الله إخفاق
محمد قد أحييت دين محمد ... وللخلق أذماء تفيض وأرماق
ولو لم تثب غطى على شفق الضحى ... دم لسيوف البغي في الأرض مهراق
فأيمن بمشحون من الفلك سابح ... له باختيار الله حط وإيساق (3)
أقلك والدأماء (4) تظهر طاعة ... إليك وصفح الماء أزرق رقراق
إلى هدف السعد آنبرى منه والدجى ... يضل الحجى سهم من السعد رشاق
فخطت لتقويم القوام جداول ... وصحت من التوفيق واليمن أوفاق (5)
تبارك من أهداك للخلق رحمة ... ومستبعد أن يهمل الخلق خلاق
هو الله يبلوالناس بالخير فتنة ... وبالشر والأيام سم وترياق
سمت منك أعناق الورى لخليفة ... له في مجال السعد وخد وإعناق
__________
(1) سقط البيت من ق.
(2) الرستاق: معربة عن الفارسية بمعنى الناحية أو الكورة.
(3) الحط: الرسو في الميناء، والإيساق: مصدر أوسق بمعنى ملأ بالأحمال.
(4) الدأماء: البحر.
(5) يعني بالجداول: الجداول الفلكية، والأوفاق: جمع وفق وهو المربع الذي يقسم إلى " خانات " ترتيب فيها الأرقام.(6/9)
وقالوا بنان ما استقل بكفه ... تفيض على العافين أم هي أرزاق
وأطنب فيك المادحون وأغرقوا ... فلم يجد إطناب ولم يغن إغراق
ألست من القوم الذين أكفهم ... غمام ندى إن أخلف الغيث غيداق
ألست من القوم الذين وجوههم ... بدور لها في ظلمة الروع إشراق
رياض إذا العافي استظل ظلالها ... ففيها جنى ملئ الأكف وإيراق
أبوك ولي العهد لوسالم الردى ... وجدك قد فاق الملوك وإن فاقوا
فمن ذا له جد كجدك أو أب ... لآلئ والمجد المؤثل نساق
وحسب العلا في آل يعقوب أنهم ... هم الأصل في العلياء والناس ألحاق
أسود سروحٍ أوبدور أسرة ... فإن حاربوا راعوا وإن سالموا راقوا
يطول لتحصيل الكمال سهادهم ... فهم للمعالي والمكارم عشاق ومنها:
لئن نسيت إحسان جدك فرقةٌ ... تزر على أعناقهم منه أطواق
أجازت خروج ابن ابنه عن تراثه ... ولم تدر ما ضمت من الذكر أوراق
ومن دون ما راموه لله قدرة ... ومن دون ما أموه للفتح أغلاق
خذ العفووابذل فيهم العرف ولتسع ... جريرة من أبدى لك الغدر أخلاق
فربتما تنبو مهندة الظبى ... وتهفو حلوم القوم والقوم حذاق
وما الناس إلا مذنبٌ وابن مذنبٍ ... ولله إرفاد عليهم وإرفاق
ولا ترج في كل الأمور سوى الذي ... خزائنه ما ضرها قط إنفاق
إذا هوأعطى لم يضر منع مانعٍ ... وإن حشدت طسم وعاد وعملاق
عرفت الردى واستأثرت بك للعدا ... تخوم بمختط الصليب وأعماق
فيسر لليسرى وأحيا بك الورى ... وللروع إرعاد عليك وإبراق
فجاز صنيع الله وازدد بشكره ... مواهب جود غيثها الدهر دفاق
وأوف لمن أوفى وكاف الذي كفى ... فأنت كريم طهرت منك أعراق(6/10)
وتهنيك يا مولى الملوك خلافة ... شجتها تباريح إليك وأشواق
فقد بلغت أقصى المنى بك نفسها ... وكم فاز بالوصل المهنإ مشتاق
فلا راع منها السرب للدهر رائع ... ولا نال منها جدة السعد إخلاق
أمولاي راع الدهر سربي وغالني ... فطرفي مذعورٌ وقلبي خفاق
وليس لكسري غيرك اليوم جابر ... ولا ليدي إلا بمجدك أعلاق
ولي فيك ودٌ (1) واعتدادٌ غرسته ... فراقت به من يانع الحمد أوراق
وقد عيل صبري في ارتقابي خليفةً ... تحل به للضر عني أوهاق (2)
وأنت حسام لله والله ناصر ... وأنت أمين الله والله رزاق
وأنت الأمان المستجار من الردى ... إذا راع خطبٌ أوتوقع إملاق
وأهون ما ترجى لديك شفاعةٌ ... إذا لم يكن عزمٌ حثيث وإرهاق
ودونكما من ذائع الحمد مخلصٍ ... له فيك تقييد يروق وإطلاق
إذا قال أما كل سمعٍ لقوله ... فمصغ وأما كل أنفٍ فنشاق
ودم خافق الأعلام بالنصر كلما ... ذهبت لمسعى لم يكن فيه إخفاق وعدت منه ببر كثير، واحترام شهير.
دخوله غرناطة - لحق بها مفلتاً عند القبض على قرابته وبني عمه وتقريبهم إلى مصارعهم، فكان وصوله في رمضان من عام خمسين وسبعمائة، ثم رابه رائب لحق لأجله بصاحب قشتالة، وأقام في جملته إلى حين استدعائه المتقرر آنفا، وهولهذا العهد أمير المسلمين بالمغرب، أعانه الله تعالى على الخير، وأطلق به يده، وألهمه لما يرضى منه بفضله وكرمه؛ انتهت الترجمة.
ورأيت على هامش هذا المحل من الإحاطة بخط الخطيب الشهير الإمام
__________
(1) ق: أصل.
(2) الأوهاق: جمع وهق وهو الأنشوطة.(6/11)
أبي عبد الله ابن مرزوق التلمساني رحمه الله ما صورته: توفي يعني السلطان أبا زيان مغتالاً عام ستة وستين على يد مظاهره الخائن عمر بن عبد الله ابن علي الوزير، رداه في بئر، وأشاع أنه أفرط في السكر، وألقى نفسه في البئر المعروفة برياض الغزلان، وبايع لعمه عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، فسلطه الله عليه، وأخذ حقوق الخلائق على يديه، فقتله غيلة بعد أن كان تغلب عليه فأعمل الحيلة في قتله، واستمر ملك عبد العزيز ظاهراً ظافراً قد جمع بين المغرب إلى أقصاه ويين ملك تلمسان وقد شرد أهلها كل مشرد، فعندما أقبلت الدنياعليه، واستقام ملكه، وكاد يلحق ملك أبيه أويزيد مات رحمه الله تعالى، قيل: مطعونا (1) ، وقيل غير ذلك، وذلك في حدود أربع سبعين، وولي ولده، ثم عزل بابن عمه العباس ابن السلطان أبي سالم، وحاز ملك المغرب إلى حين كتب هذا سنة سبع وسبعين وسبعمائة؛ انتهى ما ألفيته بخط سيدي أبي عبد الله ابن مرزوق.
ورأيت تحته بخط ابن لسان الدين أبي الحسن علي ما صورته: رحمة الله عليك يا عمر بن عبد الله بن علي، فلقد كنت غسلت ملك المغرب من درن كبير، وقمت على ملك لهو وضعف شهير، وشهرت سيف الحق، على الزواكرة الخرق، فابتهج منبر الدين؛ انتهى.
ومراده بهذا الكلام الرد على ابن مرزوق في ذمه للوزير عمر، وقوله " الزواكرة " لفظ يستعمله المغاربة، ومعناه عندهم المتلبس الذي يظهر النسك والعبادة، ويبطن الفسق والفساد، وعند الله تتجمع الخصوم.
__________
(1) ق ص: مطعوماً.(6/12)
[2 - رسالة من أبي سالم إلى لسان الدين]
ولنرجع إلى ما كنا بسبيله فنقول:
ومما خوطب به ابن الخطيب رحمه الله تعالى، من قبل سلطان المغرب المستعين بالله إبراهيم أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني ما صورته بعد الصلاة (1) :
" من عبد الله المستعين بالله إبراهيم أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب ابن عبد الحق أيد الله وأعز نصره، إلى الشيخ الفقيه الأجل الأسنى الأعز الأحظى الأوجه الأنور الصدر الأحفل المصنف البليغ الأعرف الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ الأجل الأعز الأسنى الوزير الأرفع الأنجد الأصيل الأكمل المرحوم المبرور أبي محمد ابن الخطيب، وصل الله عزته ووالى رفعته، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
" أما بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم المصطفى، والرضى عن آله وصحبه أعلام الإسلام وأئمة الرشد والهدى، وصلة الدعاء لهذا الأمر العلي العزيز المنصور المستعيني بالنصر الأعز والفتح الأسنى، فإذا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم بلوغ الأمل، ونجح القول والعمل من منزلنا الأسعد بضفة وادي ملوية يمنه الله، وصنع الله جميل، ومنه جزيل، والحمد لله، ولكم عندنا المكانة الواضحة الدلائل، والعناية المتكفلة برعي الوسائل، ذلكم لما تميزتم به من التمسك بالجناب العلي، المولوي العلوي، جدد الله تعالى عليه ملابس غفرانه، وسقاه غيوث رحمته وحنانه؛
__________
(1) وردت هذه الرسالة في الاستقصا 4: 29 - 30 وأزهار الرياض 1: 282.(6/13)
وما أهديتم إلينا من التقرب لدينا، بخدمة ثراه الطاهر، والاشتمال بمطارف حرمته السامية المظاهر.
" وإلى هذا وصل الله حظوتكم ووالى رفعتكم، فإنه ورد علينا خطابكم الحسن عندنا قصده، المقابل بالإسعاف المستعذب ورده، فوقفنا على ما نصه، واستوفينا ما شرحه وقصه، فآثرنا حسن تلطفكم في التوسل بأكبر الوسائل إلينا، ورعينا أكمل الرعاية حق ذلكم الجناب العزيز علينا، وفي الحين عينا لكمال مطلبكم، وتمام مأربكم، والتوجه بخطابنا في حقكم، والاعتماد بوفقكم، خد يمينا أبا البقاء ابن تاسكورت (1) وأبا زكريا ابن فرقاجة، أنجدهما الله وتولاهما؛ وأمسى تاريخه انفصلا مودعين إلى الغرض المعلوم، بعد التأكيد عليهما فيه، وشرح العمل الذي يوفيه، فكونوا على علم من ذلكم، وابسطوا له جملة آمالكم، وإنا لنرجوثواب الله في جبر أحوالكم، وبرء اعتلالكم، والله سبحانه وتعالى يصل مبرتكم، ويتولى تكرمتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ كتب في الرابع والعشرين لرجب عام واحد وستين وسبعمائة ".
[3 - جواب لسان الدين]
فراجعه ابن الخطيب بما نصه (2) : مولاي خليفة الله بحق، وكبير ملوك الأرض عن حجة، ومعدن الشفقة والحرمة ببرهان وحكمة، أبقاكم الله تعالى عالي الدرجة في المنعمين، وافر الحظ عند جزاء المحسنين وأراكم ثمرة بر أبيكم في البنين، وصنع لكم في عدوكم الصنع الذي لا يقف عند معتاد، وأذاق العذاب الأليم من أراد في مثابتكم بإلحاد، عبدكم الذي ملكتم رقه،
__________
(1) الاستقصا والأزهار: تاشكورت.
(2) انظر هذه الرسالة في الاستقصا 4: 30 - 31 والأزهار 1: 284.(6/14)
وآويتم غربته، وسترتم أهله وولده، وأسنيتم رزقه، وجبرتم قلبه، يقبل موطئ الأخمص الكريم من رجلكم الطاهرة، المستوجبة بفضل الله تعالى لموقف النصر، الفارعة هضبة العز، المعملة الخطوفي مجال السعد، وميسر (1) الحظ ابن الخطيب، من شالة (2) التي تأكد بملككم الرضي أحترامها، وتجدد برعيكم عهدها وأستبشر بملككم دفينها، وأشرق بحسناتكم نورها.
" وقد ورد على العبد الجواب المولوي البر الرحيم، المنعم المحسن بما يليق بالملك الأصيل والقدر الرفيع والهمة السامية والعزة القعساء، من رعي الدخيل والنصرة للذمام والاهتزاز لبر الأب الكريم، فثاب الرجاء وأنبعث الأمل وقوي العضد وزار اللطف، فالحمد لله الذي أجرى الخير على يدكم الكريمة، وأعانكم على رعي ذمام الصالحين، المتوسل إليكم أولاً بقبورهم ومتعبداتهم وتراب أجداثهم ثم بقبر مولاي ومولاكم ومولى الخلق أجمعين الذي تسبب (3) في وجودكم، واختصكم بحبه، وغمركم بلطفه وحنانه، وعلمكم آداب الشريعة، وأورثكم ملك الدنيا وهيأتكم دعواته بالاستقامة إلى ملك الآخرة بعد طول المدى وانفساح البقاء، وفي علومكم المقدسة ما تضمنت الحكايات عن العرب من النعرة (4) عن طائر داست أفراخه ناقة في جوار رئيس منهم، وما انتهى إليه الامتعاض لذلك مما أهينت فيه الأنفس وهلكت الأموال وقصارى من امتعض لذلك أن يكون كبعض خدامكم من عرب تامسنا فما الظن بكم وأنتم الكريم ابن الكريم ابن الكريم فيمن لجأ أولاً الى رحماكم بالأهل والولد عن حسنة تبرعتم بها وصدقة حملتكم الحرية
__________
(1) ق الاستقصا: ومسير.
(2) شالة: تعد اليوم من ضواحي الرباط، وفيها قبور المرينيين. وإليها لجأ لسان الدين عندما نبت به الأندلس.
(3) ق: الذي هو سبب.
(4) ق: النفرة؛ الاستقصا: النصرة.(6/15)
على بذلها ثم فيمن حط رحل الاستجارة بضريح أكرم الخلق عليكم دامع العين خافق القلب واهي الفزعة يتغطى بردائه ويستجير بعليائه كأنني تراميت عليهم في الحياة أمام الذعر الذي يذهل العقل ويحجب عن التمييز بقصر داره ومضجع رقاده مامن يوم إلا وأجهر بعد التلاوة: يا ليعقوب يا لمرين (1) نسأل الله تعالى أن لا يقطع عني معروفكم ولا يسلبني عنايتكم ويستعملني ما بقيت في خدمتكم ويتقبل دعائي فيكم.
" ولحين وصول الجواب الكريم نهضت إلى القبر المقدس ووضعته بازائه وقلت يا مولاي يا كبير الملوك وخليفة الله وبركة بني مرين صاحب الشهرة والذكر في المشرق والمغرب عبدك المنقطع إليك المترامي بين يدي قبرك المتوسل إلى الله ثم إلى ولدك بك ابن الخطيب وصله من مولاه ولدك ما يليق بمقامه من رعي وجهك والتقرب إلى الله تعالى برعيك والاشتهار في مشرق الدنيا وغربها ببرك وأنتم من أنتم من إذا صنع صنيعه كملها وإذا من منة تممها وإذا أبدى يداً أبرزها طاهرة بيضاء غير معيبة ولاممنونة ولا منتقضة وأنا بعد تحت ذيل حرمتك وظل دخيلك حتى يتم أملي ويخلص قصدي وتحف نعمتك بي ويطمئن إلي مأملك قلبي.
" ثم قلت للطلبة: أيها السادة بيني وبينكم تلاوة كتاب الله تعالى منذ أيام ومناسبة النحلة وأخوة التأليف بهذا الرباط المقدس والسكنى بين أظهركم فأمنوا على دعائي بإخلاص من قلوبكم واندفعت في الدعاء والتوسل الذي نرجوأن يتقبله الله تعالى ولا يضيعه وخاطب العبد مولاه شاكراً لنعمته مشيدا ًبصنيعته مسروراً بقبوله وشأنه من التعلق والتطارح شأنه حتى يكمل القصد ويتم الغرض معمور الوقت بخدمة يرفعها ودعاء يردده والله المستعان "؛ انتهى.
__________
(1) ص ق: يا آل يعقوب، يا آل مرين؛ ولا خلاف.(6/16)
[4 - رسالة من لسان الدين إلى أبي سالم]
وكان تقدم من لسان الدين كتاب للسلطان المذكور وكان ما سبق من كتاب السلطان جواباً له وذلك بعد رجوع لسان الدين من مراكش واستقراره في مدينة سلا برباط شالة مدفن السلاطين من بني مرين ومنهم السلطان أبوالحسن والد السلطان أبي سالم المذكور ونص الكتاب (1) :
" مولاي المرجولإتمام الصنيعة وصلة النعمة وإحراز الفخر أبقاكم الله تعالى تضرب بكم الأمثال في البر والرضى وعلوالهمة ورعي الوسيلة مقبل موطئ قدمكم المنقطع الى تربة المولى والدكم ابن الخطيب من الضريح المقدس بشالة وقد حط رحل الرجاء في القبة المقدسة وتذمم (2) بالتربة الزكية وقعد بإزاء لحد المولى أبيكم ساعة إيابه من الوجهة المباركة وزيارة الربط المقصودة والترب المعظمة وقد عزم ألا يبرح طوعاً من هذا الجوار الكريم والدخيل المرعي حتى يصله من مقامكم ما يناسب هذا التطارح على قبر هذا المولى العزيز على أهل الأرض ثم عليكم والتماس شفاعته في أمر سهل عليكم لا يجر إنفاد مال ولااقتحام خطر إنما هوإعمال لسان وخط بنان وصرف عزم وإحراز فخر وأجر وإطابة ذكر وذلك أن العبد عرفكم يوم وداعكم أنه ينقل عنكم الى المولى المقدس بلسان المقال ما يحضر مما يفتح الله تعالى فيه ثم ينقل عنه لكم بلسان الحال ما يتلقى عنه من الجواب وقال لي صدر دولتكم وخالصتكم وخالصة المولى والدكم سيدي الخطيب يعني ابن مرزوق سنى الله تعالى أمله من سعادة مقامكم وطول عمركم أنت يا فلان والحمد لله ممن لا ينكر عليه الوفاء بهذين الفرضين وصدر عنكم من البشر والقبول والإنعام ما صدر جزاكم الله تعالى جزاء المحسنين.
__________
(1) قارن بما ورد في الاستقصا 4: 24 وأزهار الرياض 1: 277.
(2) الاستقصا: وتيمم.(6/17)
" وقد تقدم تعريف مولاي بما كان من قيام العبد بما نقله إلى التربة الزكية عنكم حسبما أداه من حضر ذلك المشهد من خدامكم والعبد الآن يعرض عليكم الجواب وهوأني لما فرغت من مخاطبته بمرأى من الملأ الكبير والجم الغفير أكببت على اللحد الكريم داعياً ومخاطباً وأصغيت بأذني عند قبره وجعل فؤادي يتلقى ما يوحيه إليه لسان حاله فكأني به يقول لي: قل لمولاك يا ولدي وقرة عيني المخصوص برضاي وبري و [من] ستر حريمي ورد ملكي وصان أهلي وأكرم صنائعي ووصل عملي أسلم عليك وأسأل الله تعالى أن يرضى عنك ويقبل عليك الدنيا دار غرور والآخرة خير لمن اتقى:
وما الناس إلا هالك وابن هالك (1) ... " ولا تجد إلا ما قدمت من عمل يقتضي العفووالمغفرة أوثناء يجلب الدعاء بالرحمة ومثلك من ذكر فتذكر وعرف فما أنكر وهذا ابن الخطيب قد وقف على قبري وتهمم بي وسبق الناس الى رثائي وأنشدني ومجدني وبكاني ودعا لي وهنأني بمصير أمري إليك وعفر وجهه في تربي وأملني لما انقطعت مني آمال الناس فلو كنت يا ولدي حياً لما وسعني أن أعمل معه إلا مايليق بي وأن أستقل فيه الكثير واحتقر العظيم لكن لما عجزت عن جزائه وكلته إليك وأحلته يا حبيب قلبي عليك وقد أخبرني أنه سليب المال كثير العيال ضعيف الجسم قد ظهر في عدم نشاطه أثر السن وأمل أن ينقطع بجواري ويستتر بدخيلي وخدمتي ويرد عليه حقه بخدمتي ووجهي ووجوه من ضاجعني من سلفي ويعبد الله تعالى تحت حرمتك وحرمتي وقد كنت تشوفت الى استخدامه في الحياة حسبما يعلمه حبيبنا الخالص المحبة وخطيبنا العظيم المزية القديم القربة أبوعبد الله ابن مرزوق فاسأله يذكرك
__________
(1) صدر بيت لأبي نواس، وتمامه: " ذو نسب في الهالكين عريق ".(6/18)
واستخبره يخبرك فأنا اليوم أريد أن يكون هذا الرجل خديمي بعد الممات الى أن نلحق جميعاً برضوان الله تعالى ورحمته التي وسعت كل شيء وله يا ولدي ولد نجيب يخدم ببابك وينوب عنه في ملازمة بيت كتابك وقد استقر بدارك قراره وتعين بأمرك مرتبه ودشاره (1) ، فيكون الشيخ خديم الشيخ والشاب خديم الشاب، هذه رغبتي منك وحاجتي إليك واعلم أن هذا الحديث لابد له أن يذكر ويتحدث به في الدنيا وبين أيدي الملوك والكبار فاعمل مل يبقى لك فخره ويتخلد ذكره وقد أقام مجاوراً ضريحي تالياً كتاب الله تعالى علي منتظراً ما يصله منك ويقرؤه علي من السعي في خلاص ماله والاحتجاج بهذه الوسيلة في جبره وإجراء ما يليق بك من الحرمة والكرامة والنعمة فالله الله يا إبراهيم اعمل ما يسمع عني وعنك فيه ولسان الحال أبلغ من لسان المقال؛ انتهى.
" والعبد يا مولاي مقيم تحت حرمته وحرمة سلفه منتظر منكم قضاء حاجته ولتعلموا وتتحققوا أني لوارتكبت الجرائم ورزأت الأموال وسفكت الدماء وأخذت حسائف (2) الملوك الأعزة ممن وراء النهر من الططر وخلف البحر من الروم ووراء الصحراء من الحبشة وأمكنهم الله تعالى مني من غير عهد بعد أن بلغهم تذممي بهذا الدخيل ومقامي بين هذه القبور الكريمة ما وسع أحداً منهم من حيث الحياء والحشمة من الأحياء والأموات وإيجاب الحقوق التي لا يغفلها الكبار للكبار إلا الجود الذي لا يتعقبه البخل والعفوالذي لا تفسده المؤاخذة فضلاً عن سلطان الأندلس أسعده الله تعالى بموالاتكم فهوفاضل وابن ملوك أفاضل وحوله أكياس ما فيهم من يجهل قدركم وقدر سلفكم لاسيما مولاي والدكم الذي أتوسل به إليكم وإليهم فقد كان يتبنى مولاي أبا الحجاج ويشمله بكنفه وصارخه بنفسه وأمده بأمواله
__________
(1) الدشار: المزرعة أو الأرض المستأجرة، والجمع دشر.
(2) الحسائف: العداوات والضغائن.(6/19)
ثم صير الله تعالى ملكه إليكم وأنتم من أنتم ذاتاً و؛ وقبيلاً فقد قرت يا مولاي عين العبد بما رأت في هذا الوطن المراكشي من وفور حشودكم وكثرة جنودكم وترادف أموالكم وعددكم زادكم الله تعالى من فضله؛ ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم، وأعرضتم عن ذلك الوطن، استولت عليه يد عدوه.
" وقد علم تطارحي بين الملوك الكرام الذين خضعت لهم التيجان، وتعلقي بثوب الملك الصالح والد الملوك الكرام مولاي والدكم، وشهرة حرمة شالة معروفة، وحاش لله أن يضيعها أهل الأندلس، وما توسل إليهم قط بها إلا الآن، وما يجهلون اغتنام هذه الفضيلة الغريبة، وأملي منكم أن يتعين من بين أيديكم خديم بكتاب كريم، يتضمن الشفاعة في رد ما أخذ لي، ويخبر بمثواي متراميا " على قبر والدكم ويقرر ما ألزمكم بسبب هذا الترامي من الضرورة المهمة والوظيفة الكبيرة عليكم وعلى قبيلكم حيث كانوا، وتطلبون منه عادة المكارمة بحل هذه العقدة، ومن المعلوم أني لو طلبت بهذه الوسائل من صلب....ما وسعهم بالنظر العقلي إلا حفظ الوجه مع هذا القبيل وهذا الوطن، فالحياء والحشمة يأبيان العذر عن هذا في كل ملة ونحلة.
" وإذا تم هذا الغرض ولا شك في إتمامه بالله تعالى تقع صدقتكم على القبر الكريم بي وتعينوني لخدمة هذا المولى وزيارته وتفقده، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المولد في جواره وبين يديه وهوغريب (1) مناسب لبركم به إلى أن أحج بيت الله بعناية مقامكم، وأعود داعياً مثنياً مستدعياً للشكر والثناء من أهل المشرق والمغرب، وأتعوض من ذمتي بالأندلس ذمة بهذا الرباط المبارك يرثها ذريتي، وقد ساومت في شيء من ذلك منتظراً ثمنه مما يباع بالأندلس بشفاعتكم، ولوظننت أنهم يتوقفون لكم في مثل هذا أو يتوقع فيه وحشة أو جفاء والله ما طلبته، لكنهم أسرى وأفضل، وانقطاعي أيضاً لوالدكم مما لا يسمع مجدكم إلا عمل ما يليق بكم فيه، وها أنا أرتقب جوابكم بما لي عندكم
__________
(1) غريب: يعني أنه عمل بديع.(6/20)
من القبول، ويسعني مجدكم في الطلب وخروج الرسول لاقتضاء هذا الغرض، والله سبحانه يطلع من مولاي على ما يليق به، والسلام. وكتب في الحادي عشر من رجب عام أحد وستين وسبعمائة. وفي مدرج الكتاب بعد نثر هذه القصيدة (1) :
مولاي ها أنا في جوار أبيكا ... فابذل من البر المقدر فيكا
أسمعه ما يرضيه من تحت الثرى ... والله يسمعك الذي يرضيكا
واجعل رضاه إذا نهدت كتيبة ... تهدي إليك النصر أوتهديكا
واجبر بجبري قلبه تنل المنى ... وتطالع الفتح المبين وشيكا
فهو الذي سن البرور بأمه ... وأبيه فأشرع شرعه لبنيكا
وابعث رسولك منذراً ومحذراً ... وبما تؤمل نيله يأتيكا
قد هز عزمك كل قطر نازح ... وأخاف مملوكاً به ومليكا
فإذا سموت إلى مرام شاسع ... فغصونه ثمر المنى تجنيكا
ضمنت رجال الله منك مطالبي ... لما جعلتك في الثواب شريكا
فلئن كفيت وجوهها في مقصدي ... شطر ورعيتها بركاتها تكفيكا
وإذا قضيت حوائجي وأريتني ... أملاً فربك ما أردت يريكا
واشدد على قولي يداً فهو الذي ... أملاً فربك ما أردت يريكا
مولاي ما استأثرت عنك بمهجتي ... إني ومهجتي التي تفديكا
لكن رأيت جناب شالة مغنماً ... يفضي علي العز في ناديكا
وفروض حقك لا تفوت فوقتها ... باق إذا استجزيته يجزيكا
ووعدتني وتكرر الوعد الذي ... أبت المكارم أن يكون أفيكا
أضفى عليك ال ستر عناية ... من كل محذور الطريق يقيكا
__________
(1) أزهار الرياض 1: 281.(6/21)
ببقائك الدنيا تحاط وأهلها ... فالله جل جلاله يبقيكا فلما وصل الكاتب إلى السلطان أجابه بما مر آنفاً. ورأيت بخط الفقيه الأديب المؤرخ أبي عبد الله محمد بن الحداد الوادي آشي نزيل تلمسان على هامش قول ابن الخطيب في هذه الرسالة: " ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم - إلخ " ما صورته: كذلك وقع آخر الأمر وكان الإستيلاء على مدينة غرناطة آخر ما بقي من بلاد الأندلس للإسلام في محرم عام سبعة وتسعين وثمانمائة، فرحم الله تعالى ابن الخطيب، العاقل اللبيب، وغفر له برحمته؛ انتهى.
ومما خاطب به لسان الدين السلطان أبا سالم في الغرض المتقدم قوله:
عن باب والدك الرضى لا أبرح ... يأسو الزمان لأجل ذا أويجرح
ضربت خيامي في حماه فصبيتي ... تجني الجميم به وبهمي تسرح
حتى يراعى وجهه في وجهي ... بعناية تشفي الصدور وتشرح
أيسوغ عن مثواه سيري خائباً ... ومنابر الدنيا بذكرك تصدح
أنا في حماه وأنت أبصر بالذي ... يرضيه منك فوزن عقلك أرجح
في مثلها سيف الحمية ينتضى ... في مثلها زند الحفيظة يقدح
وعسى الذي بدأ الجميل يعيده ... وعسى الذي سد المذاهب يفتح [ترجمة أبي سالم المريني]
وقد عرف في الإحاطة بالسلطان أبي سالم فقال بعد كلام: أملاك المسلمين، وحماة الدين، وأمراء المغرب الأقصى من بني مرين، غيوث المواهب وليوث العرين، ومعتمد الصريخ وسهام الكافرين، حفظ الله تعالى على الإسلام والمسلمين ظلهم، وزين ببدور الدنيا والدين هالتهم، وأبقى الكلمة فيمن اختاره منهم أو من(6/22)
أقاربهم، فما عسى أن يطنب اللسان في مدحهم وأين تقع العبارة وماذا (1) يحصر الوصف إلى أن قال: وفاته وفي ليلة العشرين من ذي القعدة (2) من عام اثنين وستين وسبعمائة (3) ثار عليه بدار الملك وبلد الإمارة المعروف بالبلد الجديد من مدينة فاس الخائن الغادر مخلفه عليها عمر بن عبد الله بن علي نسمة السوء، وجملة الشؤم، والمثل البعيد في الجراءة على الله تعالى، وقد اهتبل غيرة انتقاله إلى القصر السلطاني بالبلد القديم متحولاً إليه حذراً من قاطع (4) فلكي كان يحذر منه، استعجله بضعف نفسه، وأعانه على فرض صحة الحكم به، وسد الباب في وجهه، ودعا الناس إلى بيعة أخيه المعتوه، وأصبح حائراً بنفسه، ويروم ارتجاع أمر ذهب من يده، ويطوف بالبلد يلتمس وجهاً إلى نجاح حيلة، فأعياه ذلك، ورشقت من معه السهام، وفرت عنه الأجناد والوجوه، وأسلمه الدهر وتبرأ منه الجد، وعندما جن عليه الليل فر لوجهه، وقد التف عليه الوزراء، فسفهت حلومهم، وفالت آراؤهم، ولوقصدوا به بعض الجبال المنيعة لولوا أوجههم شطر مظنة الخلاص، واتصفوا بإبلاغ الأعذار، ولكنهم نكلوا عنه، ورجعوا أدراجهم وتسللوا راجعين إلى يد غادر الجملة، قد سلبهم الله سبحانه لباس الحياء والرجولية وتأذن الله تعالى لهم بعد بسوء العاقبة، وقصد بعض بيوت البادية وقد فضحه نهار الغد، واقتفى المتبعة أثره حتى وقعوا عليه، فسيق إلى مصرعه، وقتل بظاهر البلد ثاني اليوم الذي غدر به فيه، جعلها الله تعالى له شهادة ونفعه؛ فلقد كان (5) بقية البيت وآخر القوم دماثةً وحياء، وبعداً عن
__________
(1) ق: وما.
(2) ص: قعدة.
(3) قال ابن الأحمر: وقتل رحمه الله تعالى وأنا، أنظر إليه وأتوجع وأبكي يوم الخميس 21 لذي القعدة سنة 762 وله سنة (روضة النسرين: 30) .
(4) القاطع والقطع في مصطلح المنجمين ما يدل على نحس وخسارة.
(5) انظر ازهار الرياض 1: 270.(6/23)
الشرور، وركوناً للعافية، وأنشدت على قبره الذي ووريت به جثته بالقلعة ظاهر المدينة قصيدة أديت فيها بعض حقه:
بني الدنيا بني لمع السراب ... " لدوا للموت وابنوا للخراب " انتهى المقصود من الترجمة. وكان يصف لسان الدين بمقربي وجليسي، كما سبقت الإشارة إليه من كلام لسان الدين فيما خاطب به ابن أبي رمانة والله يسبل على الجميع رداء عفوه سبحانه. وقد تقدم أنه شفع لابن الخطيب عند أهل الأندلس، ولذلك قال يخاطبهم:
سمي خليل الله أحييت مهجتي ... وعجالني منك الصريخ على بعد
فإن عشت أبلغ فيك نفسي عذرها ... وإن لم أعش فالله يجزيك من بعدي [ثناء المغاربة والمشارقة على لسان الدين]
وقال الرئيس الأمير الأديب أبوالوليد إسماعيل ابن الأحمر في حق ابن الخطيب ما صورته (1) : هو شاعر الدنيا، وعلم المفرد والثنيا، وكاتب الأرض، إلى يوم العرض، لا يدافع مدحه في الكتب، ولا يجنح إلى العتب، آخرمن تقدم في الماضي، وسيف مقوله ليس بالكهام إذ هوالماضي، وإلا فانظر كلام الكتاب الأول من العصبة، كيف كان فيهم بالإفادة صاحب القصبة، للبراعة، باليراعة، وبه أسكت صائلهم، وما حمدت بكرهم وأصائلهم، للجزالة المشربة بالحلاوة، الممكنة من مفاصل الطلاوة، وهونفيس العدوتين ورئيس الدولتين، وبالإطلاع على العلوم العقلية، والإمتاع الفهوم النقلية، لكن
__________
(1) هذا نص ما قاله في نثير فرائد الحمان 242 وانظر أزهار الرياض 1: 191.(6/24)
صل لسانه في الهجاء لسع، ونجاد نطاقه في ذلك اتسع، حتى صدمني، وعلى القول فيه أقدمني، بسبب هجوه في ابن عمي ملك الصقع الأندلسي، سلطان ذلك الوطن في النفر الجنسي، المعظم في الملوك بالقول الجني والإنسي، ثم صفحت عنه صفحة القادر، الوارد من مياه الظفر غير القاذر، لأن مثلي لا يليق به إظهار العورات، ولا يجمل له تتبع العثرات، اتباعاً للشرع في تحريم الغيبة، وضرباً عن الكريهة وإثباتاً لحظوظ النقيبة الرغيبة، فما ضره لواشتغل بذنوبه، وتأسف على ما شربه من ماء اللهو بذنوبه (1) ، وقد قال بعض الناس: من تعرض للأعراض، صار عرضه هدفاً لسهام الأغراض؛ انتهى.
ومثل هذا في لسان الدين لا يقدح، وما زالت الأشراف تهجى وتمدح (1) ، وعلى تقدير صدور ما يخدش وجه جنابه الرفيع، فالأولى أن ينشد:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع وممن أثنى على لسان الدين ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - بعض أكابر علماء تلمسان، ولم يحضرني الآن اسمه، في تأليف عرف فيه بالشيخ العلامة سيدي أبي عبد الله الشريف التلمساني وابنيه العالمين أبي يحيى وسيدي عبد الله، فقال بعد كلام في حق الشريف ما نصه: وكان علماء الأندلس أعرف الناس بقدره، وأكثرهم تعظيماً له حتى إن العالم الشهير لسان الدين ابن الخطيب صاحب الأنباء العجيبة، والتآليف البديعة، كلما ألف تأليفاً بعثه إليه، وعرضه عليه، وطلب أن يكتب عليه بخطه، وكان الشيخ الإمام الصدر المفتي أبوسعيد ابن لب شيخ علماء الأندلس وآخرهم كلما أشكلت عليه مسألة كاتبه بها، وطلب منه بيان ما أشكل عليه، مقراً له بالفضل؛ انتهى ما نقلته من الكتاب المذكور.
__________
(1) الذنوب: الدلو.
(1) الذنوب: الدلو.(6/25)
رجع:
وكتب لسان الدين ابن الخطيب متمثلاً بشيخه الأوحد قاضي الجماعة أبي البركات ابن الحاج البلفيقي رحمهما الله تعالى (1) :
أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي
أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب ويغلب على ظني أنه خاطبه بذلك عند قدومه، أعني لسان الدين، من المغرب إلى الأندلس، والله تعالى أعلم.
وكان قاضي القضاة برهان الدين الباعوني الشامي (2) ، كثير الثناء على لسان الدين رحمه الله تعالى، لأنه تلقى أخباره من قاضي القضاة ابن خلدون حسبما ذكرناه في غير هذا الموضع، ولقد رأيت بخطه على هامش بعض تآليف لسان الدين في الإنشاء ما نصه: هذا بليغ إلى الغاية؛ انتهى.
وكتب أثره بعض أكابر علماء المشرق ما نصه: هذا خط العلامة قاضي القضاة برهان الدين الباعوني، وهوشديد الاعتناء والمدح للمصنف ابن الخطيب الأندلسي، معظم له ولإنشائه، وهو خليق بالتعظيم، جدير بمزيد التمجيد والتكريم، وكيف لا وهوشاعر مفلق، وخطيب مصقع، وكاتب مترسل بليغ، لولا ما في إنشائه من الإكثار، الذي لا يكاد يخلومن عثار، والإطناب، الذي يفضي إلى الاجتناب والإسهاب، الذي يقد الإرهاب، ويورث الالتهاب؛ انتهى.
__________
(1) قد تقدم القول في البيتين ونسبتهما ج 4: 14؛ 5: 348، 482.
(2) هو إبراهيم بن أحمد الباعوني (- 870) الصفدي المولد الدمشقي الدار، كان ينعت بقاضي القضاة مع أنه رفض تولي القضاء، وله ديوان شعر ومؤلفات أخرى (الضوء اللامع 1: 26 والبدر الطالع 1: 8 ونظم العقيان: 13) .(6/26)
قلت: وهذا الانتقاد غير مسلم، فإن لسان الدين وإن أطنب وأسهب، فقد سلك من البلاغة أحسن مذهب، ويرحم الله تعالى العلامة البرهان الباعوني المذكور أعلاه، إذ كتب بخطه في آخر بعض تآليف لسان الدين في الإنشاء ما صورته: قال كاتبه إبراهيم بن أحمد الباعوني لطف الله تعالى به: الحمد لله على ما ألهم من البيان وعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، وقفت على هذا الكتاب من أوله إلى أخره، وعمت من بحر بلاغته في زاخره، وعددته من مناقب مؤلفه ومفاخره، فإنه برز في غاية التبريز، وأتى بما هوأحسن من الذهب الإبريز، لا بل هوأبهى من الجواهر، والنجوم الزواهر، وعجبت من تلك الألفاظ المشبهة لسحر الألحاظ ورقة المعاني، المحكمة المباني؛ انتهى.
فأنظر أيدك الله تعالى بعين الإنصاف إلى كلام هذا الفاضل، المنصف الكامل، وقسه مع كلام ذلك المنتقد المتعصب الناقص الحامل، مع أن الكلام الذي تعرض له ذاك بالقدح، هوالذي تصدى له الباعوني بالمدح، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهل الفضل، والأمر أجلى من أن، يقام عليه دليل وأوضح.
رجع إلى ما كان بصدده:
وقال الوزير ابن عاصم عندما أجرى ذكر سلطان ابن الخطيب أمير المسلمين الغني بالله بعد كلام كثير ما صورة محل الحاجة منه: وكان هذا السلطان من نيل الأغراض على أكمل ما يكون عليه مثله ممن نزع غرقاً في قوس الخلافة، حكى لي شيخنا القاضي أبوالعباس الحسني ان كبير ولده الأمير أبا الحجاج طلب من الشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب أن يطلب من أبيه الغني بالله أن يبادر بإعذاره، إذ كان قد جاوز سن الإثغار، دون إعذار، لمكان ما لحق والده من التمحيص وغير ذلك من الحوادث المهمة، فأسعده الشيخ بذلك، وقال(6/27)
للغني بالله: يا مولانا إن سيدي يوسف وكلني على طلب إعذاره من مولانا نصره الله على ما يليق بك وبه، فقال له الغني بالله: حسبي الله، وسكت سكتة لطيفة تشعر بفصل الكلام بعضه من بعض، ثم قال: ونعم الوكيل! فعدها الأكياس من مدارك نبله، ومحاسن قوله وفعله؛ انتهى.
قلت: هذا من السلطان في حق لسان الدين غاية التبجيل، أعني قوله " ونعم الوكيل " فأين هذا من سماع كلام أعدائه فيه بعد، حتى آل أمره إلى النحس بعد ذلك السعد وسقاه دهره بعد الحلاوة ما مر، ولم يكن قتله إلا بتسبب السلطان المذكور كما مر:
ثلاثة ليس لها أمان ... البحر والسلطان والزمان [5 - رسالة ابن خاتمة إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى (1) : ولما قضى الله عز وجل بالإدالة، ورجعنا إلى أوطاننا من العدوة واشتهر عني ما اشتهر من انقباض عن الخدمة والتيه على السلطان والدولة، والتكبر على أعلى رتب الخدمة، وتطارحت على السلطان في استنجاز وعد الرحلة، ورغبت في تبرئة الذمة، ونفرت عن الأندلس بالجملة، خاطبني يعني أبا جعفرابن خاتمة بعد صدر بلغ من حسن الإشارة وبراعة الاستهلال الغاية بقوله: وإلى هذا يا سيدي ومحل تعظيمي وإجلالي، أمتع الله تعالى الوجود بطول بقائكم، وضاعف في العز درجات ارتقائكم، فإنه من الأمر الذي لم يغب عن رأي العقول، ولا اختلف فيه أرباب المعقول، أنكم بهذه الجزيرة شمس أفقها، وتاج مفرقها، وواسطة سلكها، وطراز ملكها وقلادة نحرها، وفريدة دهرها، وعقد جيدها المنصوص، وتمام
__________
(1) انظر الإحاطة 1: 124 وأزهار الرياض 1: 265.(6/28)
زينتها على العموم والخصوص، ثم أنتم مدار أفلاكها، وسر سياسة أملاكها وترجمان بيانها ولسان إحسانها وطب مارستانها والذي عليه عقد إدارتها وبه قوام إمارتها فلديه يحل المشكل وإليه يلجأ في الأمر المعضل فلا غروأن تتقيد بكم الأسماع والأبصار وتحدق نحوكم الأذهان والأفكار ويزجر عنكم السانح والبارح ويستنبأ ما تطرف عنه العين وتختلج الجوارح استقراء لمرامكم واستطلاعاً لطالع اعتزامكم واستكشافاً عن مرام سهامكم لاسيما مع إقامتكم على جناح خفوق وظهوركم في ملتمع بروق واضطراب الظنون فيكم مع الغروب والشروق حتى تستقر بكم الديار ويلقي عصاه التسيار ولها العذر في ذلك إذ صدعها بفراقكم لم يندمل وسرورها بلقائكم لم يكتمل ولم يبرأ بعد جناحها المهيض ولا جم ماؤها المغيض ولا تميزت من داجيها لياليها البيض ولا استوى نهارها ولا تألفت أنهارها ولا اشتملت نعماؤها ولانسيت غماؤها بل هي كالناقه والحديث العهد بالمكاره يستشعر نفس العافية ويتمسح منكم باليد الشافية فبحنانكم عليها وعظيم حرمتكم على من لديها لا تشوبوا لها عذب المجاج بالأجاج وتفطموها عما عودت من طيب المزاج فما لدائها وحياة قربكم غير طبكم من علاج.
" وإني ليخطر بخاطري محبة فيكم وعناية بما يعنيكم ما نال جانبكم صانه الله تعالى بهذا الوطن من الجفاء ثم أذكر ما نالكم من حسن العهد وكرم الوفاء وأن الوطن إحدى المواطن الأظآر التي يحق لهن جميل الاحتفاء وما يتعلق بكم من حرمة أولياء القرابة وأوداء الصفاء فيغلب على ظني أنكم لحسن العهد أجنح وبحق نفسكم عن حق أوليائكم أسمح وللتي هي أعظم قيمةً من فضائلكم أوهب وأسجح وهب أن الدر لا يحتاج في الإثبات إلى شهادة النحور واللبات والياقوت غني في المكان عن مظاهرة القلائد والتيجان أليس أنه أعلى للعيان وأبعد عن مكابرة البرهان تألقها في تاج الملك أنوشروان فالشمس وإن كانت أم الأنوار وجلاء الأبصار مهما أغما مكانها من الأفق(6/29)
قيل: " أليل هو أم نهار وكما في علمكم ما فارق ذووالأرحام وأولوالأحلام مواطن استقرارهم وأماكن قرارهم إلا برغمهم واضطرارهم واستبدال دار خير من دارهم ومتى توازن الأندلس بالمغرب أويعوض عنها إلا بمكة أويثرب ما تحت أديمها أشلاء أولياء وعباد وما فوقه مرابط جهاد ومعاقد ألوية في سبيل الله ومضارب أوتاد ثم يبوأ ولده مبوأ أجداده ويجمع له بين طارفه وتلاده أعيذ أنظاركم المسددة من رأيٍ فائل وسعي طويل لم يحل منه بطائل فحسبكم من هذا الإياب السعيد والعود الحميد "؛ وهي طويلة.
[6 - من لسان الدين إلى ابن خاتمة]
قال لسان الدين رحمه الله تعالى: فأجبته بقولي (1) :
لم في الهوى العذري أو لا تلم ... فالعذل لا يدخل أسماعي
شأنك تعنيفي وشأني الهوى ... كل امرئ في شأنه ساعي أهلا بتحفة القادم وريحانة المنادم وذكر الهوى المتقادم لا يصغر الله مسراك فما أسراك لقد جبت إلي من همومي ليلاً وجست رجلا وخيلا ووفيت من صاع الوفاء كيلا وظننت بي الأسف على ما فات فأعملت الالتفات، لكيلا (2) ، فأقسم لو أن الأمر اليوم بيدي أوكانت اللمة السوداء من عددي ما أفلت ما أشراكي المنصوبة لأمثالك (3) حول المياه وبين السالك وما علمت هنالك لكنك طرقت حمىً كسعته الغارة العشواء وغيرت
__________
(1) الإحاطة 1: 126 والأزهار 1: 267.
(2) هذا من الاكتفاء، فهو يشير إلى الآية الكريمة " لكي لا تأسوا على ما فاتكم ... الآية ".
(3) نثر بيت الشريف الرضي:
لو كانت اللمة السوداء من عددي ... يوم الغميم لما افلت أشراكي(6/30)
ربعه الأنواء فخمد بعد ارتجاجه وسكت أذين دجاجه وتلاعبت الرياح الهوج فوق فجاجه وطال عهده بالزمن الأول وهل عند رسم دارس من معول وحيا الله ندباً إلى زيارتي ندبك وبآدابه الحكيمة أدبك:
فكان وقد أفاد بك الأماني ... كمن أهدى الشفاء إلى العليل وهي شيمة بوركت من شيمة وهبة الله تعالى قبله من لدن المشيمة ومن مثله في صلة رعي وفضل سعي وقول وعي (1) :
قسماً بالكواكب ال ... زهر والزهر عاتمه
إنما الفضل ملةٌ ... ختمت بابن خاتمه كساني حلة فضله وقد ذهب زمان التجمل وحملني شكره وكتدي واه عن التحمل ونظرني بالعين الكليلة عن العيب فهلا أجاد التأمل واستطلع طلع نثي (2) ووالى في مبرك المعجزة حثي {إنما أشكو بثي}
ولوترك القطا ليلاً لناما (3) ... وما حال شمل وتده مفروق وقاعدته فروق وصواع بني أبيه مسروق وقلب قرحه من عضة الدهر دامٍ وجمرة حسرته ذات احتدام هذا وقد صارت الصغرى التي كانت الكبرى لمشيب لم يدع أن هجم لما نجم ثم تهلل عارضه وانسجم:
لا تجمعي هجراً علي وغربةً ... فالهجر في تلف الغريب سريع
__________
(1) ق ص: ومرعى.
(2) النث: ما يذيعه المرء من سر.
(3) من أمثالهم؛ وصدره: " ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا " يريد أن وراء إثارة القطا في الليل أمرا رهيبا. انظر فصل المقال: 305 - 306.(6/31)
نظرت فإذا [الجنب ناب، و] (1) النفس فريسة ظفر وناب والمال أكيلة انتهاب والعمر رهن ذهاب واليد صفر من كل اكتساب وسوق المعاد مترامية والله سريع الحساب:
ولونعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لاخيار مع الزمان وهب أن العمر جديد وظل الأمن مديد ورأي الاغتباط بالوطن سديد فما الحجة لنفسي إذا مرت بمطارح جفوتها وملاعب هفوتها ومثاقف قناتها ومظاهر عزاها ومناتها والزمان ولود وزناد الكون غير صلود:
وإذا امرؤ لدغته أفعى مرةً ... تركته حين يجر حبلٌ يفرق (2) ثم إن المرغب قد ذهب والدهر قد استرجع ما وهب والعارض قد اشتهب وآراء الاكتساب مرجوحة مرفوضة وأسماؤه على الجوار مخفوضة والنية مع الله على الزهد فيما بأيدي الناس معقودة والتوبة بفضل الله عز وجل منقودة والمعاملة سامرية ودروع الصبر سابرية والاقتصاد قد قرت العين بصحبته والله قد عوض حب الدنيا بمحبته فإذا راجعها مثلي من بعد الفراق وقد رقى لدغتها ألف راق وجمعتني بها الحجرة ما الذي تكون الأجرة جل شاني وإن رضي الوامق وسخط الشاني إني إلى الله تعالى مهاجر وللعرض الأدنى هاجرولأظعان السرى زاجر لنجد إن شاء الله تعالى وحاجر لكن دعاني للهوى إلى هذا المولى المنعم هوى خلعت نعلي الوجود وما خلعته وشوقي أمرني فأطعته وغالب ٌ والله صبري فما استطعته والحال أغلب وعسى أن لا يخيب المطلب فإن يسر رضاه فأمر كمل وراحل احتمل وحادٍ أشجى الناقة والجمل وإن كان خلاف ذلك فالزمان جم العلائق والتسليم
__________
(1) انفردت بها ص، ووردت في المصدرين المذكورين.
(2) البيت لصالح بن عبد القدوس (تاريخ بغداد 9: 304) .(6/32)
بمقامي لائق:
ما بين غمضة عين وانتباهتها ... يصرف الأمر من حال إلى حال وأما تفضيله هذا الوطن ليمن طيره وعموم خيره وبركة جهاده وعمران رباه ووهاده بأشلاء عباده وزهاده حتى لايفضله إلا أحد الحرمين فحقٌ برئ من المين لكنني للحرمين جنحت وفي جوالشوق إليهما سنحت فقد أفضت إلى طريق قصدي محجته ونصرتني والمنة لله تعالى حجته وقصد سيدي أسنى قصد توخاه الحمد والشكر ومعروف عرف به النكر والآمال من فضل الله بعد تمتار والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ودعاؤه بظهر الغيب مدد وعدة وعدد وبره حالي الظعن والإقامة معتمل معتمد ومجال المعرفة بفضله لا يحصره أمد والسلام؛ انتهى.
ومن خط ابن الصباغ ما صورته يكفي ابن خاتمة الغاية التي سلمها له إمام الطريقة وواحدها الفذ على الحقيقة حيث قال:
إنما الفضل ملةٌ ... ختمت بابن خاتمه ومن نظمه وقد تخلى عن الكتابة وطلب منه أن يعود فأبى وأنشد:
تقضى في الكتابة لي زمانٌ ... كشأن العبد ينتظر الكتابه
فمن الله من عتقي بما لا ... يطيق الشكر أن يملا كتابه
وقالوا هل تعود فقلت كلا ... وهل حر يعود إلى الكتابه فانظر حسن هذه التورية العجيبة؛ انتهى.
[رسالة ابن خاتمة إلى ابن جزي]
ولابن خاتمة يخاطب ابن جزي: يا أخي الذي سما وده أن يجازى(6/33)
وسيدي الذي علا مجده عن أن يوازى وصل الله تعالى لك أسباب الاعتلاء والاعتزاز وكافأ ما لك من الاختصاص بالفضائل والامتياز أما إنه لووسع التخلف عن جواب أخ أعز ولم يجب التكلف عمن قد عجز لغطيت عجزي عن عين تعجيزك ولما تعاطيت المثول بين يدي مناهزك أومجيزك لكنه في حكم الود المكنون المكنوز مما لايحل ولا يجوز فلكم الفضل في الإغضاء عن عاجز دعاه حكم التكلف الى القيام مقام مناجز وإن لم يكن ذلك عند الإنصاف وحميد الأوصاف من السائغ الجائز فعن جهد ما بلغ وليك إلى هذه الأحواز ولم يحصل الحقيقة إلا على المجاز أما ما ذهبتم إليه من تخميس القصيدة التي أعجزت وبلغت من البلاغة الغاية التي عزت مناهضتها وأعوزت فلم أكن لأستهدف ثانية لمضاضة الإعجاز وأسجل على نفسي بالإفلاس والإعواز؛ انتهى.
وكتب قبلها قصيدة زائية أجابه بها عن قصيدة زائية التزم فيها ابن جزي ترك الراء لأنه كان ألثغ يبدلها غيناً رحم الله تعالى الجميع.
وقال لسان الدين فبترجمة ابن خاتمة المذكور (1) : " إنه الصدر المتفنن المشارك القوي الإدراك السديد النظر الثاقب الذهن الكثير الاجتهاد الموفور الأدوات المعين الطبع الجيد القريحة الذي هوحسنة من حسنات الأندلس أحمد بن علي خاتمة من أهل المرية.
[7 - رسالة من ابن خاتمة إلى لسان الدين]
إلى أن قال: ومما خاطبني به بعد إلمام الركب السلطاني ببلده وأنا صحبته، ولقائه إياي بما يلقى به مثله من تأنيس وبر، وتودد وتردد:
يا من حصلت على الكمال بما رأت ... عيناي منه من الجمال الرائع
__________
(1) انرظ الإحاطة 1: 114، 116.(6/34)
قمر يروق وفي عطافي برده ... ما شئت من كرم ومجد بارع
أشكو إليك من الزمان تحاملاً ... في فض شمل لي بقربك جامع
هجم البعاد عليه ضناً باللقا ... حتى تقلص مثل برق لامع
فلو أنني ذومذهب لشفاعة ... ناديته يا مالكي يا شافعي " شكواي إلى سيدي ومعظمي أقر الله تعالى بسنائه أعين المجد، وأدر بثنائه ألسن الحمد شكوى ظمآن صد عن القراح العذب لأول وروده، والهيمان رد عن استرواح القرب لمعضل صدوده، من زمان هجم علي بإبعاده، على حين إسعاده، ودهمني بفراقه، غب إنارة أفقي به وإشراقه، ثم لم يكفه ما اجترم في ترويع خياله الزاهر، حتى حرم عن تشييع كماله الباهر فقطع عن توفية حقه، ومنع من تأدية مستحقه، لا جرم أنه أنف لشعاع ذكائه، من هذه المطالع النائية (1) عن شريف الإنارة، وبخل بالإمتاع بذكائه، عن هذه المسامع النائية عن لطيف العبارة، فراجع أنظاره، واسترجع معاره، وإلا فعهدي بغروب الشمس إلى الطلوع، وأن البدر يتصرف بين الإقامة والرجوع، فما بال هذا النير الأسعد، غرب ثم لم يطلع من الغد، ما ذاك إلا لعدوى الأيام وعدوانها، وشأنها في تغطية إساءتها وجه إحسانها، وكما قيل: عادت هيف إلى أديانها، أستغفر الله ألا يعد ذلك من المغتفر، في جانب ما أولت من الأثر، التي أزرى العيان فيها بالأثر، وأربى الخبر على الخبر، فقد سرت متشوفات الخواطر، وأقرت مستشرفات النواظر، بما حوت من ذلكم الكمال الباهر، والجمال الناضر، الذي قيد خطا الأبصار، عن التشوف والاستبصار، وأخذ بأزمة القلوب، عن سبيل كل مأمول ومرغوب، وأنى للعين، بالتحول عن كمال الزين أوبالطرف، بالتنقل عن خلال الظرف أوللسمع من مراد، بعد
__________
(1) ق: النابية.(6/35)
ذلكم الإصدار الأدبي والإيراد، أوللقلب من مراد غير تلكم الشيم الرافلة من ملابس الكرم في حلل وأبراد، وهل هوإلا الحسن جمع في نظام، والبدر طالع لتمام، وأنواع الفضل ضمها جنس اتفاق والتئام، فما ترعى العين منه في غير مرعى ًخصيب، ولا تستهدف الأذن بغير سهم في حدق البلاغة مصيب، ولا تستطلع النفس سوى مطلع له في الحسن والإحسان أوفر نصيب، لقد أزرى بناظم حلاه فيما يتعاطاه التقصير، وانفسح مدى علاه بكل باع قصير، وسفه حلم القائل إن الإنسان عالم صغير، شكراً للدهر على يد أسداها بقرب مزاره، وتحفة أهداها بمطلع أنواره، على تغاليه في ادخار نفائسه وبخله بنفائس ادخاره، لا غروأن يضيق عنا نطاق الذكر، ولا يتسع لنا سوار الشكر، فقد عمت هذه الأقطار بما شاءت من تحف بين تحف وكرامة، واجتنت أهلها ثمار الرحلة في ظل الإقامة، وجرى لهم الأمر في ذلك مجرى الكرامة.
" ألا وإن مفاتحتي لسيدي ومعظمي حرس الله تعالى مجده، وضاعف سعده مفاتحة من ظفر من الدهر بمطلوبه، وجرى له القدر على وفق مرغوبه، فشرع له إلى أهله باباً، ورفع له من خجله جلباباً، فهويكلف بالاقتحام، ويأنف من الإحجام، غير أن الحصر عن درج قصده يقيده، والبصر يبهرج نقده فيقعده، فهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ويجدد عزماً ثم لا يتحرى، فإن أبطأ خطابي فلواضح الأعذار، ومثلكم من قبل جليات الأقدار، والله سبحانه يصل لكم عوائد الإسعاد والإسعاف، ويحفظ بكم ما للمجد من جوانب وأكناف، إن شاء الله تعالى. وكتب في عاشر ربيع الأول عام ثمانية وأربعين وسبعمائة "؛ انتهى.
ومن خاتمة رسالة من إنشاء ابن خاتمة المذكور: فلنصرف عنان البطالة عن الإطالة، ونسلم على السيادة الطاهرة الأصالة، بأطيب تسليم، ختامه مسك ومزاجه من تسنيم.(6/36)
ومن نظم ابن خاتمة المذكور (1) :
هو الدهر لا يبقي على عائذ به ... فمن شاء عيشاً يصطبر لنوائبه
فمن لم يصب في نفسه فمصابه ... بفوت أمانيه وفقد حبائبه ومنه قوله:
ملاك الأمر تقوى الله، فاجعل ... تقاه عدة لصلاح أمرك
وبادر نحو طاعته بعزم ... فما تدري متى يقضى بعمرك [8 - رسالة أخرى من ابن خاتمة إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين: وكتب إلي يعني ابن خاتمة المذكور عقب انصرافه من غرناطة في بعض قدماته عليها ما نصه (2) : مما قلته بديهة عند الإشراف على جنابكم السعيد ودخوله مع النفر الذين أتحفتهم سيادتكم بالإشراف عليه، والدخول إليه، وتنعيم الأبصار في المحاسن المجموعة لديه، وإن كان يوماً قد غابت شمسه، ولم يتفق أن كمل أنسه، وأنشدته حينئذ بعض من حضر ولعله لم يبلغكم، وإن كان قد بلغكم ففضلكم يحملني في إعادة الحديث:
أقول وعين الدمع نصب عيوننا ... ولاح لبستان الوزارة جانب
أهذي سماء أم بناء سما به (3) ... كواكب غضت عن سناها الكواكب
تناظرت الأشكال منه تقابلاً ... على السعد وسطى عقده والحبائب
وقد جرت الأمواه فيه مجرة ... مذانبها شهب لهن ذوائب
وأشرف من علياه بهو تحفه ... شماسي زجاج وشيها متناسب
__________
(1) القطعتان في الإحاطة: 122 - 123.
(2) المصدر لسابق: 123 والكتيبة: 244.
(3) الإحاطة: سماؤه.(6/37)
يطل على ماء به الآس دائراً (1) ... كما افتر ثغر أوكما اخضر شارب
هنالك ما شاء العلا من جلالة ... بها يزدهي بستانها والمراتب ولما أحضر الطعام هنالك دعي شيخنا القاضي أبو البركات فاعتذر أنه صائم قد بيته من الليل، فحضرني أن قلت:
دعونا الخطيب أبا البركات ... لأكل طعام الوزير الأجل
وقد ضمنا في نداه جنان ... به احتفل الحسن حتى كمل
فأعرض عنا لعذر الصيام ... وما كل عذر له مستقل
فإن الجنان محل الجزاء ... وليس الجنان محل العمل وعندما فرغت من الطعام أنشدت الأبيات شيخنا أبا البركات، فقال لي: لوأنشدتنيها وأنتم بعد لم تفرغوا منه لأكلت معكم، براً بهذه الأبيات، والحوالة في ذلك على الله تعالى؛ انتهى.
ومن نظم ابن خاتمة المذكور في فران:
رب فران جلا صفحته ... لهب الفرن جلاء العسجد
يضرم النار بأحشاء الورى ... مثلما يضرم في المستوقد
فكأن الوجه منه خبزة ... فوقها الشعر كقدر أسود [أحمد بن صفوان]
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى (2) : ولما قدمت مالقة آيباً من السفارة إلى ملك المغرب محفوفا ًبفضل الله تعالى وجميل صنعه، موفى المآرب، مصحباً
__________
(1) ق: دائر.
(2) انظر ترجمة ابن صفوان في الإحاطة 1: 100 والطتيبة: 216.(6/38)
بالإعانة، لقيني على عادته مهيناً، يعني أحمد بن صفوان أحد أعلام مالقة وبقية أدبائها وصدور كتابها، وأنشدني معيداً في الود مبدياً، وضمن غرضاً له تعجل قضاءه والحمد لله تعالى:
قدمت بما سر النفوس اجتلاؤه ... فهنيت ما عم الجميع هناؤه
قدوماً بخير وافر وعناية ... وعز مشيد بالمعالي بناؤه
ورفعة قدر لا يداني محلها ... رفيع وإن ضاهى السماك اعتلاؤه
بلغت الذي أملته من صلاحهم ... فأدركت مأمولاً عظيماً جزاؤه
فيا واحداً أغنت عن الجمع ذاته ... وقام بأعباء الأمور غناؤه
تشوقك الملك الذي بك فخره ... وأنت حقيقاً حسنه وبهاؤه
فلا زال مزداناً بحليك جوده ... ولا زال موفوراً عليك اصطفاؤه
وخصصت من رب العباد بنعمة ... ينيلكها تخصيصه واحتفاؤه
وعشت عزيزاً في النفوس محبباً ... يلبي بتبجيل وبر نداؤه
وقد جاءني داعي السرور مؤديا ... لحق هناء فرض عين أداؤه
ولي بعد هذا مأرب متوقف ... على فضلك الرحب الجناب قضاؤه
هززت له عطف البطرني راجياً ... له النجح فاستعصى وخاب رجاؤه
ولم يدر أني من علائك منتض ... حساماً كفيلاً بالنجاح انتضاؤه
يصمم إن هزته كفي لمعضل ... فيكفي العنا تصميمه ومضاؤه
فحقق له دامت سعودك حرمتي ... لديك يرحني مطلة والتواؤه
وشارك محباً خالصاً لك حبه ... قديماً كريماً عهده ووفاؤه
وصل بجزيل الرعي حبل ذمامه ... يصلك جزيلاً شكره وثناؤه
بقيت وصنع الله يدني لك المنى ... ويوليك من مصنوعه ما تشاؤه
بحرمة من حقت سيادته على ... بني آدم والخير منه ابتداؤه(6/39)
وجمعت (1) ديوان شعره أيام مقامي بمقالة عند توجهي صحبة الركاب السلطاني إلى إصراخ الخضراء عام أربعة وأربعين وسبعمائة، وقدمت صدره خطبة، وسميت الجزء " بالدررالفاخرة واللجج الزاخرة ".
[9 - إجازة ابن صفوان للسان الدين]
وطلبت منه أن يجزيني وولدي عبد الله رواية ذلك عنه، فكتب بخطه الرائق بظهر المجموع ما نصه: الحمد لله مستحق الحمد، أجبت سؤال الفقيه الأجل الأفضل السري الماجد الأوحد الأحفل الأديب البارع الطالع في أفق المعرفة والنباهة، والرفعة المكنية والوجاهة، بأبهى المطالع، المصنف الحافظ العلامة الحائز في فني النظم والنثر، وأسلوبي الكتابة والشعر، رتبة الرياسة والإمامة، محلي جيد العصر بتآليفه الباهرة الرواء، ومجلي محاسن بنيه الرائقة على منصة الإشادة والأنباء أبي عبد الله ابن الخطيب، وصل الله تعالى سعادته، وحرس مجادته، وسنى من الخير الأوفر، والصنع الأبهر، مقصده وإرادته، وبلغه في نجله الأسعد، وابنه الراقي بمحتده الفاضل ومنشئه الأطهر محل الفرقد، أفضل ما يؤمل نحلته إياه من المكرمات وإفادته، وأجزت له ولابنه عبد الله المذكور أبقاهما الله تعالى في عزة سنية الخلال، وعافية ممتدة الأفياء وارفة الظلال، رواية جميع ما تقيد في الأوراق المكتتب على ظهر أول ورقة منها من نظمي ونثري، ما توليت إنشاءه، واعتمدت بالارتجال والرواية اختياره وانتقاءه، أيام عمري، وجميع ما لي من تصنيف وتقييد، ومقطوعة وقصيد، وجميع ما أحمله عن أشياخي رضي الله تعالى عنهم من العلوم، وفنون المنثور والمنظوم، بأي وجه تأدى ذلك إلي، وصح حملي له وثبت إسناده لدي، إجازة تامة في ذلك كله عامة، على سنن الإجازات الشرعي، وشرطها
__________
(1) الإحاطة: 105.(6/40)
المأثور عند أهل الحديث المرعي، والله ينفعني وإياهما بالعلم وحمله، وينظمنا جميعاً في سلك حزبه المفلح وأهله، ويفيض علينا من أنوار بركته وفضله؛ قال ذلك وكتبه بخط يده الفانية العبد الفقير إلى الله الغني به أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوان، ختم الله تعالى له بخير، حامداً الله تعالى، ومصلياً ومسلماً على نبيه المصطفى الكريم، وعلى آله الطاهرين ذوي المنصب العظيم، وصحابته البررة أولي الأثرة والتقديم، في سادس ربيع الآخر عام أربعة وأربعين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ انتهى.
[10 - من العذري إلى لسان الدين]
وكتب الفقيه أبوجعفر ابن عبد الملك العذري من أهل سبتة إلى لسان الدين رحمه الله تعالى في بعض الأغراض:
إني بمجدك لم أزل مستيقنا ... أن لا يهدم بالتغير ما بنى
إذ أنت أعظم ماجد يعزى له ... صفح وأكرم من عفا عمن جنى وكتب أيضًا:
إن كان دهري قد أساء وجارا ... فذمام مجدك لا يضيع جارا
فلأنت أعظم ملجأ ينجي إذا ... ما الدهر أنجد موعداً وأغارا [11 - رسالة من لسان الدين إلى ابن نفيس]
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: خاطبت الشيخ الشريف الفاضل أبا عبد الله ابن نفيس صحبة ثمن مسكن اشتريته منه، وكان قد أهداني فرسًا عتيقاً:
جزيت يا ابن رسول الله أفضل ما ... جزى الإله شريف البيت يوم جزى(6/41)
إن أعجز الشكر مني منة ضعفت ... عن بعض حقك شكر الله ما عجزا سيدي، أبقى الله شرفك تشهد به الطباع، إذا بعدت المعاهد المقدسة والرباع، وتعترف به الأبصار والأسماع، وإن جحدت عارضها الإجماع، بأي لسان أثني أم أي الأفنان أهصر وأجني أم أي المقاصد الكريمة أعني أمطيت جوادك المبارك، وأسكنت دارك، وأوسعت مطلبي اصطبارك، وهضمت حقك وبوأت جوارك، ووصلت للغرباء إيثارك، أشهد أنك الكريم ابن الكريم، لا أقف في تعدادها عند حد (1) إلى خير جد، فإن أعان الدهر على مجازاة، وإن ترفع كرمك عن موازاة، فحاجة نفس قضيت، وأحكام آمال أمضيت، وإن اتصل العجز فعين على القذى أغضيت، ومناصل عزم ما انتضيت، وعلى كل حال فالثناء ذائع والحمد شائع، واللسان والحمد لله طائع، والله مشتر ما أنت بائع (2) ، وقد وجهت لمن يحاول لسيدي ثمن ما اكتسبه مجده، وسفر عنه حمده، والعقيدة بعد التراضي، وكمال التقاضي، وحميد الصبر وسعة التغاضي، وكونه الخصم والقاضي، أنه هبة سوغها إنعامه، وأكلة هناها مطعامه، نسأل الله تعالى أن يعلي ذكره، ويتولى شكره، وينمي ماله، ويرفع قدره، والولد جاره الغريب الذي برز إلى مقارعة الأيام عن خبرة قاصرة، وتجربة غير منجدة على الدهر وناصرة، قد جعلته وديعة في كرم جواره، ووضعته في حجر إيثاره، فإن زاغ فيده العليا في تبصيره، ومؤاخذته بتقصيره، ومن نبه مثله نام، ومن استنام إليه بمهمة أكرم بمن إليه استنام، وإن تشوف (3) سيدي لحال محبه فمطلق للدنيا من عقال، ورافض أثقال، ومؤمل اعتياض بخدمة الله تعالى وانتقال "، انتهى.
__________
(1) وهضمت ... عند حد: سقطت من ق.
(2) والحمد ... بائع: سقطت من ق.
(3) ق: تشوق.(6/42)
[12 - من لسان الدين إلى ابن رضوان]
وقال رحمه الله تعالى: مما خاطبت به صدر الفضلاء الفقيه المعظم أبا القاسم ابن رضوان بما يظهر داعيته من فحواه:
مرضت فأيامي لديك مريضة ... وبرؤك مقرون ببرء اعتلالها
فلا راع تلك الذات للضر رائع ... ولا وسمت بالسقم غر خلالها " وردت علي من فئتي التي إليها في معرك الدهر أتحيز، وبفضل فضلها في الأقدار المشتركة أتميز، سحاءة سرت وساءت، وبلغت من القصدين ما شاءت، أطلع بها سيدي صنيعة وده من شكواه على كل عابث في السويداء، موجب اقتحام البيداء، مضرم نار الشفقة في فؤاد لم يبق من صبره إلا القليل، ولا من إفصاح لسانه إلا الأنين والأليل، ونوى مدت الغير ضرورة يرضاها الخليل، فلا تسأل عن ضنين تطرقت اليد إلى رأس ماله، أوعابد نوزع متقبل أعماله، أوآمل ضويق في فذلكة آماله، لكنني رجحت دليل المفهوم على دليل المنطوق، وعارضت القواعد الموحشة بالفروق، ورأيت الخط يبهر والحمد لله تعالى ويروق، واللفظ الحسن تومض في حبره للمعنى الأصيل بروق، فقلت: ارتفع الوصب، ورد من صحة المغتصب، وآلة الحس والحركة هي العصب، وإذا أشرق سراج الإدراك دل على سلامة سليطه، والروح خليط البدن والمرء بخليطه، وعلى ذلك فلا يقنع بليد احتياطي إلا الشرح، ففيه يسكن الظمأ البرح، وعذراً عن التكليف فهومحل الاستقصاء والاستفسار، والإطناب والإكثار، وزند القلق في مثلها أورى، والشفيق بسوء الظن مغرى، وسيدي هوالعمدة التي سلمت لي الأيام فيها، وقالت: حسب آمالك ويكفيها، فكيف لا أشفق، ومن أنفق من عينه فأنا من عيني لا أنفق، والله لا يحبط سعيي في سؤال عصمتها ولا يخفق، ويرشد إلى شكره على ما وهب منها ويوفق، والسلام الكريم على سيدي البر الوصول(6/43)
الذي زكت منه الفروع لما طابت الأصول، وخلص من وده لابن الخطيب المحصول، ورحمة الله تعالى وبركاته ".
[13 - جواب ابن رضوان]
قال: فراجعني حفظ الله سيادته بما نصه:
متى شئت ألفي من علائك كل ما ... ينيل من الآمال خير منالها
كبرء اعتلال من دعائك زارني ... وعادات بر لم ترم عن وصالها " أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطولاً بتأكيد البر، متفضلاً بموجبات الحمد والشكر، وردتني سحاءته المشتملة على معهود تشريفه، وفضله الغني عن تعريفه، متحفياً في السؤال، عن شرح الحال، ومعلناً بما تحلى به من كرم الخلال، والشرف العال، والمعظم على ما يسر ذلك الجلال الوزاري الرياسي أجراه الله تعالى على أفضل ما عوده، كما أعلى في كل مكرمة يده، ذلك ببركة دعائه الصالح، وحبه المخيم بين الجوانح، والله سبحانه المحمود على نعمه، ومواهب لطفه وكرمه، وهوسبحانه المسؤول أن يهيىء لسيدي قرار الخاطر، على ما يسره في الباطن والظاهر، بمن الله تعالى وفضله، والسلام الكريم على جلاله الأعلى ورحمة الله وبركاته، كتبه المعظم الشاكر الداعي الذاكر المحب ابن رضوان، وفقه الله تعالى، في ذي الحجة ختام عام واحد وستين وسبعمائة؛ انتهى.
[14 - من لسان الدين إلى الجنان]
وقال رحمه الله تعالى: وفاتحته - يعني الشيخ الجنان - محركاً قريحته ومستثيراً ما عنده، بقولي:(6/44)
إن كانت الآداب أضحت جنة ... فلقد غدا جنانها الجنان
أقلامه القضب اللدان بدوحها ... والزهر ما رقمته منه بنان وذكر بعد البيتين سجعاً بليغاً.
[15 - جواب الجنان]
ثم قال: فراجعني الجنان بما نصه:
يا خاطب الآداب مهلاً فقد ... ردك عن خطبتها ابن الخطيب
هل غيره في الأرض كفء لها ... وشرطها الكفاة قول مصيب
أصبح للشرط بها معرساً ... فاستفت في الفسخ فهل من مجيب أيها السيد الذي يتنافس في لقائه ويتغالى، ويصادم بولائه صرف الزمان ويتعالى، وتستنتج نتائج الشرف بمقدمات عرفانه، وتقتنص شوارد العلوم بروايات كلامه فكيف بمداناة عيانه، جلوت علي من بنات فكرك عقائل نواهد، وأقمت بها على معارفك الجمة دلائل وشواهد، واقتنصت بشرك بديهتك من المعاني أوابد شوارد، وفجرت من بلاغتك وبراعتك حياضاً عذبة الموارد، ثم كلفتني من إجراء ظالعي (1) في ميدان ضليعها، مقابلة الشمس المنيرة بسراج عند طلوعها، فأخلدت (2) إخلاد مهيض الجناح، وفررت فرار الأعزل عن شاكي السلاح، وعلمت أني إن أخذت نفسي بالمقابلة، وأدليت دلوقريحتي للمساجلة كنت كمن كاف الأيام مراجعة أمسها، أو طلب ممن علته السماء محاولة لمسها وإن رضيت من القريحة بسجيتها، وأظهرت القدر الذي كنت امتحت من ركيتها، أصبحت مسخرة للراوين والسامعين، ونبت عن أسمى دواوينهم
__________
(1) ق ص: طالعي.
(2) ق ص: فأخذت.(6/45)
كما تنبوعن الأشيب عيون العين، ثم إن أمرك يا سيدي لا يحل وثيق مبرمه، ولا يحل نسخ محكمه، فامتثلته امتثال من لم يجد في نفسه حرجاً من قضائك، ورجوت حسن تجاوزك وإغضائك، أبقاك الله تعالى قطباً لفلك المكارم والمآثر، وفصاً لخاتم المحامد والمفاخر، والسلام "؛ انتهى.
[ترجمة ابن الجنان]
والجنان المذكور (1) مغربي من مكناسة الزيتون، وهوالشيخ الفقيه العدل الأديب الأخباري المشارك، أبوجعفر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأوسي، الجنان، من أهل الظرف والانطباع والفضيلة، كاتب عاقل ناظم ناثر مشارك في فنون العلم، له تصنيف حسن في ثلاث مجلدات سماه " المنهل المورود في شرح المقصد المحمود " شرح فيه وثائق أبي القاسم الجزيري المالكي، فأربى على غيره بياناً وإفادة، قال في " نفاضة الجراب ": وناولني إياه، وأذن لي في حملي عنه، وأنشدني كثيراً من شعره، فمن ذلك ما صدر به رسالة يهنىء بها ناقهاً من مرض (2) :
البس الصحة برداً قشيباً ... وارشف النعمة ثغراً شنيبا
واقطف الآمال زهراً نضيراً ... واعطف الإقبال غصناً رطيبا
إن يكن ساءك وعك تقضى ... تجد الأجر عظيماً رحيبا
فانتعش في دهرنا ذا سرور ... يصبح الحاسد منه كئيبا [مقطعات وقصائد تكتب على المباني]
وقال أيضاً لسان الدين في النفاضة: قرأت بالدور الخشبي في الدار التي
__________
(1) انظر ترجمته في نيل الابتهاج: 50.
(2) الأبيات في المصدر المذكور.(6/46)
نزلت بها بمكناسة الزيتون أبياتاً منقشة استحسنتها لسهولتها فأخبرني أنها من نظمه، وهي:
انظر إلى منزل متى نظرت ... عيناك يعجبك كل ما فيه
ينبىء عن رفعة لمالكه ... وعن ذكاء الحجى لبانيه
يناسب الوشي في أسافله ... ما يرقم النقش في أعاليه
كأنه روضة مدبجة ... جاد لها وابل بما فيه
فأظهرت للعيون زخرفها ... ووافقتها على تجليه
فهوعلى بهجة تلوح به ... ورونق للجمال يبديه
يشهد للساكنين أن لهم ... من جنة الخلد ما يحاكيه قلت: قد تذكرت هنا، والشيء بالشيء يذكر، ما رأيته مكتوباً على دائرة مجرى الماء بمدرسة تلمسان التي بناها أمير المسلمين ابن تاشفين الزياني، وهي من بدائع الدنيا، وهو:
انظر بعينك بهجتي وسنائي ... وبديع إتقاني، وحسن بنائي
وبديع شكلي، واعتبر فيما ترى ... من نشأتي بل من تدفق مائي
جسم لطيف ذائب سيلانه ... صاف كذوب الفضة البيضاء
قد حف بي أزهار وشي نمقت ... فغدت كمثل الروض غب سماء وما أنشده بعض أهل العصر في المغرب بقصد أن يرسم في الأستار المذهبة المحكمة الصنعة التي جعلها السلطان المنصور أبوالعباس الشريف الحسني رحمه الله تعالى لكي يستر بها النواحي الأربع من القبة الكبيرة بالبديع، وتسمى هذه الستور عند أهل المغرب بالحائطي، ففي الجهة الأولى:
متع جفونك من بديع لباسي ... وأدر على حسني حميا الكاس(6/47)
هذي الربى والروض من جرعائها ... مما اغتذى (1) بالعارض البجاس
أنى لروض أن يروق بهاؤه ... مثلي وأن يجري على مقياس
فالروض تغشاه السوام، وإنما ... تأوي إلى كنفي ظباء كناس وعلى الجهة الثانية:
من كل حسنا كالقضيب إذا انثنى ... تزري بغصن البانة المياس
ولقد نشرت على السماك ذوائبي ... ونظرت من شزر إلى الكناس
وجررت ذيلي بالمجرة عابثاً ... فخراً بمخترعي أبي العباس
ما نيط مثلي في القبا ولا ازدهت ... بفتى سواه مراتب وكراسي وعلى الجهة الثالثة:
ملك تقاصرت الملوك لعزه ... ورماهم بالذل والإتعاس
غيث المواهب بحر كل فضيلة ... ليث الحروب مسعر الأوطاس
فرد المحاسن والمفاخر كلها ... قطب الجمال أخوالندى والباس
ملك إذا وافى البلاد تأرجت ... منه الوهاد بعاطر الأنفاس وعلى الجهة الرابعة:
وإذا تطلع بدره من هالة ... يعشي سناه نواظر الجلاس
أيامه غرر تجلت كلها ... أبهى من الأعياد والأعراس
لا زال للمجد السني يشيده ... ويقيم مبناه على الآساس
ما مال بالغصن النسيم وحببت ... درر الندى في جيده المياس وما أنشدنيه بعض العصريين من المغاربة لصاحبنا المرحوم الفقيه الكاتب
__________
(1) في ص: علماً اغتذى؛ ق: على ما اغتدى.(6/48)
المحقق أبي محمد بن أحمد المسفيوي المراكشي (1) أحد مشاهير الكتاب بباب أمير المؤمنين المنصور بالله أبي العباس الشريف الحسني ملك المغرب، صب الله تعالى على الجميع أمطار الرضوان مما كتب في بعض مباني صاحبنا الوزير العلامة الأجل سيدي عبد العزيز الفشتالي رحمه الله تعالى، وهو:
أجل المعلى من قداح سروري ... وأدر كؤوس الأنس دون شرور
خلعت على عطف البهاء محاسني ... فكست به الآفاق ثوب حبور
وتناسق الوشي المفوف حلتي ... نسق الشذور على نحور الحور
شأو القصور قصورها عن رتبة ... لي بالسنا الممدود والمقصور (2)
في المبتنى المراكشي وأفقه ... أزرى على الزوراء والخابور
أعلى مقامي البارع الأسمى الذي ... قد حاز سبق النظم والمنثور
فإذا أقل بنانه أقلامه ... نفثت (3) عقود السحر بين سطور
عبد العزيز أخ الجلالة كاتب ... سر الخليفة أحمد المنصور
لا زال في يمن وأمن ما شدت ... ورق ورق بالندى ممطور وبعضه كتبته بالمعنى من حفظي لطول العهد، والغاية في هذا الباب ما أنشدنيه لنفسه الوزير أبو فارس عبد العزيز الفشتالي المذكور، وهي جملة من قصائد كتبت في المباني الملوكية، المنصورية بالحضرة المراكشية، حاطها الله تعالى، فمنها ما كتب خارج القبة الخمسينية أي التي فيها خمسون ذراعاً بالعمل، وذلك قوله رحمه الله تعالى على لسان القبة (4) :
__________
(1) ترجم له المقري في روضة الآس: 163 وأورد جملة من شعره، وانظر درة الحجال 1: 128 وله قصائد في مناهل الصفا.
(2) يريد: بالسنا (مقصوراً) وبالسناء (ممدوداً) .
(3) ق: نقشت.
(4) وردت القصيدة في روضة الآس: 138 - 139.(6/49)
سموت فخر البدر دوني وانحطا ... وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا
وصغت من الإكليل تاجاً لمفرقي ... ونيطت بي الجوزاء في عنقي سمطا
ولاحت بأطواقي الثريا كأنها ... نثير جمان قد تتبعته لقطا
وعديت عن زهر النجوم لأنني ... جعلت على كيوان رحلي منحطا
وأجريت من فيض السماحة والندى ... خليجاً على نهر المجرة قد غطى
عقدت عليه الجسر للفخر فارتمت ... إليه وفود البحر تغرف ما أنطى
تنضنض ما بين الغروس كأنه ... وقد رقرقت حصباؤه حية رقطا
حواليه من دوح الرياض خرائد ... وغيد تجر (1) من خمائلها مرطا
إذا أرسلت لدن الفروع وفتحت ... جنى الزهر لاح في ذوائبها وخطا
يرنحها مر النسيم إذا سرى ... كما مال نشوان تشرب إسفنطا
يشق رياضاً جادها الجود والندى ... سواء لديها الغيث أسكب أم أخطا
وسالت بسلسال اللجين حياضه ... بحاراً غدا عرض البسيط لها شطا
تطلع منها وسط وسطاه دمية ... هي الشمس لا تخشى كسوفاً ولا غمطا
حكت وحباب الماء في جنباتها ... سنا البدر حل من نجوم السما وسطا
إذا غازلتها الشمس ألقى شعاعها ... على جسمها الفضي نهراً بها لطا
توسمت فيها من صفاء أديمها ... نقوشاً كأن المسك ينقطها نقطا
إذا اتسقت بيض القباب قلادة ... فإني لها في الحسن درتها الوسطى
تكنفني بيض الدمى فكأنها ... عذارى نضت عنها القلائد والريطا
قدود ولكن زانها الحسن عريها ... وأجمل في تنعيمها النحت والخرطا
نمت صعداً تيجانها فتكسرت ... قوارير أفلاك السماح بها ضغطا
فيا لك شأواً بالسعادة آهلاً (2) ... بأكنافه رحل العلا والهدى حطا
__________
(1) ص ق: تجرر، ولا يصلح للوزن.
(2) ق ص: شأون ... آهل.(6/50)
وكعبة مجد شادها العز فانبرت ... تطوف بمغناها أماني الورى شوطا
ومسرح غزلان الصريم كناسها ... حنايا قباب لا الكثيب ولا السقطا
فلكن به ما طاب لا الأثل والخمطا ... ووسدن فيه الوشي لا السدر والأرطى
تراه من المسك الفتيت مدبراً ... إذا مازجته السحب عاد بها خلطا
وإن باكرته نسمة سحراً سرى (1) ... إلى كل أنف عرف عنبره قسطا
أقرت له الزهراء والخلد وانتقت ... أواوين كسرى الفرس تغبطه غبطا
جناب رواق المجد فيه مطنب ... على خير من يعزى لخير الورى سبطا
إمام يسير الدهر تحت لوائه ... وترسى سفان للعلا حيثما وطا
وفتاح أقطار البلاد بفيلق ... يفلق هامات العدا بالظبى خبطا
تطلع من خرصانه الشهب فانثنت ... ذوائب أرض الزنج من ضوئها شمطا
كتائب نصر إن جرت لملمة ... جرت قبلها الأقدار تسبقها فرطا
إذا ما عقدن راية علوية ... جعلن ضمان الفتح في عقدها شرطا
فما للسما تلك الأهلة إنما ... سنابكها أبقت مثالاً بها خطا
يطاوع أيدي المعلوات عنانها ... فيعتاض من قبض الزمان بها بسطا
يد لأمير المؤمنين بكفها ... زمام يقود الفرس والروم والقبطا
أدار جداراً للعلا وسرادقاً ... يحوط جهات الأرض من رعيه حوطا وقوله مما كتب ببهوها بمرمر أسود في أبيض (2) :
لله بهو عز منه نظير ... لما زها كالروض وهو نضير
رصفت نقوش حلاه رصف قلائد (3) ... قد نضدتها في النحور الحور
فكأنها والتبر سال خلالها ... وشي وفضة تربها كافور
__________
(1) روضة الآس: نسمة لسرى بها.
(2) روضة الآس: 136.
(3) ق: قلادة.(6/51)
وكأن أرض قراره ديباجة ... قد زاد حسن طرازها تشجير
وإذ تصعد نده نوءاً ففي ... أنماطه به نور به ممطور
شأو القصور قصورها عن وصفه ... سيان فيه خورنقٌ وسدير
فإذا أجلت اللحظ في جناباته ... يرتد وهو بحسنه محسور
وكأن موج البركتين أمامه ... حركات سجفٍ صافحته دبور
صفت بصفتها تماثل فضةٍ ... ملك النفوس بحسنها تصوير
فتدير من صفوالزلال معتقاً ... يسري إلى الأرواح منه سرور
ما بين آساد يهيج زئيرها ... وأساودٍ يسلي لهن صفير
ودحت من الأنهار أرض زجاجةٍ ... وأظلها فلكٌ يضيء منير
راقت فمن حصبائها وفواقعٍ ... تطفو (1) عليها اللؤلؤ المنثور
يا حسنه من مصنعٍ فبهاؤه ... باهى نجوم الأفق وهي تنور
وكأنما زهر الرياض بجنبه ... حيث التفت كواكبٌ وبدور
ولدسته الأسمى تخير رصفه ... فخر الورى وإمامها المنصور
ملكٌ أناف على الفراقد رتبةً ... وأقله فوق السماك سرير
قطب الخلافة تاج مفرق دولة ... رميت بجحفلها اللهام الكور
وجرى إلى أقصى العراق لرعيها (2) ... جيشٌ على جسر الفرات عبور
نجل النبي ابن الوصي سليل من ... حقن الدماء وعف وهو قدير
بحر الندى لكنه متموجٌ ... سيف العلا لكنه مطرور
طودٌ يخف لحلمه ووقاره ... ولجيشه يوم النزال ثبير
دامت معاليه ودام مجده ... طوقٌ على جيد العلا مزرور
وتعاهدته عن الفتوح بشائرٌ ... يغدو عليه بها المسا وبكور
__________
(1) ق والروضة: يطلفو.
(2) الروضة: لرعيها.(6/52)
ما دام منزل سعده يرقى به (1) ... نصرٌ يرف لواؤه المنشور
ومشت (2) به مرحاً جياد مسرةٍ ... وأدار كأس الأنس فيه سمير وقوله مما كتب بداخل القبة المذكورة (3) :
جمال بدائعي سحر العيونا ... ورونق منظري بهر الجفونا
وقد حسنت نقوشي واستطارت ... سناً يعشي عيون الناظرينا
وأطلع سمكي الأعلى نجوماً ... ثواقب لا تغور الدهر حينا
وجوي من دخان الند ألقى ... على أرضي الغياهب والدجونا
علوت دوائر الأفلاك سبعاً ... لذاك الدهر ما ألفت سكونا
فصغت من الأهلة والحنايا ... أساور الخلاخل والبرينا
تكنفني حياضٌ مائحاتٌ ... أمامي والشمال أو اليمينا
يقيد حسنها (4) الطرف انفساحاً ... ويجري (5) الفلك فيها والسفينا
تدافع نهرها نحوي فلما ... تلاقى البحر في جريٍ دفينا
ترى شهب السماء بهن غرقى ... فتحسبها بها الدر المصونا
وقد نشر (6) الحباب على سماها ... لآلىء تزدري العقد الثمينا
فخرت وحق لي لما اجتباني ... لمجلسه أمير المؤمنينا
هو المنصور حائز خصلٍ سبقٍ ... وباني المجد بنياناً مكينا
وليث وغى إذا زأر امتعاضاً ... يروع زئيره هنداً وصينا
إذا أمت كتائبه الأعادي ... بعثن برعبه جيشاً كمينا
__________
(1) الروضة: يرتاده.
(2) ق: وجرت.
(3) روضة الآس: 135.
(4) ص: جنحها.
(5) ص: ويكري.
(6) ق: نثر.(6/53)
يدير عنهم من كل حربٍ ... تدقهم رحىً أو منجنونا
إمام بالمغارب لاح شمساً ... بها الشرق اكتسى نوراً مبينا
بقيت بذي القصور الغرّ بدراً ... تلوح بأفقهن مدى السنينا
تحفّ بكم عواكف عند بابي ... ملائكة كرام كاتبونا
لك البشرى أمير المؤمنين اد ... خلوها بسلام (1) آمنينا وقوله في بعض المباني المنصورية (2) :
معاني الحسن تظهر في المغاني ... ظهور السحر في حدق الحسان
مشابه في صفات الحسن أضحت ... تمت بها المغاني للغواني
بكل عمود صبحٍ من لجينٍ ... تكون في استقامة خوط بان
مفصلة القدود مثلثاتٍ ... مواصلة العناق من التداني
تردت سابري الحسن يزري ... بحسن السابري الخسرواني
وتعطو الخيزرانة من دماها ... بسالفة القطيع البرهماني
لمجدك تنتمي لكن نماها ... إلى صنعاء ما صنع اليدان
يدين لك ابن ذي يزنٍ ويعنو ... لها غمدان في أرض اليمان
غدت حرماً ولكن حل فيها ... لوفدكم الأمان مع الأماني
مبانٍ (3) بالخلافة آهلاتٌ ... بها يتلوالهدى السبع المثاني
هي الدنيا وساكنها إمامٌ ... لأهل الأرض من قاصٍ وداني
قصورٌ ما لها في الأرض شبهٌ ... وما في المجد للمنصور ثاني وقوله رحمه الله تعالى مما كتب في المصرية (4) المطلة على الرياض المرتفعة
__________
(1) الروضة: مع سلامة.
(2) روضة الآس: 133.
(3) ق: منازل.
(4) المصرية: منزل يبنى شبه علية.(6/54)
على القبة الخضراء من بديع (1) المنصور وكان إنشاؤها في جمادى الأولى من عام خمسة وتسعين وتسعمائة (2) :
باكر لدي من السرور كؤوسا ... وأرض النديم أهلةً وشموسا
واعرج على (3) غر في المنيف سماؤها ... تلق الفراقد في حماي جلوسا
وإذا طلعت بأوجها قمر العلا ... لا ترتضي غير النجوم جليسا
شرق القصور بريقها لما اجتلت ... مني على بسط الرياض عروسا
واعتضت بالمنصور أحمد ضيغماً ... ورداً تحيز من بديعي خيسا
ملكٌ أرى كل الملوك ممالكاً ... لعلاه والدنيا عليه حبيسا
دامت وفود السعد وهي عواكفٌ ... تصل المقيل لدي والتعريسا
وهناك يا شرف الخلافة دولةٌ ... تلقى برايتها طلائع عيسى وقوله من جملة قصيدة من نمط ما تقدم لم أستحضر أولها (4) :
سلبت تماثلها الحجى لما اغتدت ... تزهو بحسن طرازها تذهيبا
ولقد تشامخ في العلو سماكها ... فجرى على الفلك المنير جنيبا
وسما إلى الشهب الزواهر فاغتدى ال ... إكليل منها تاجها المعصوبا
هذا البديع يعز شبه بدائعٍ ... أبدعتهن به فجاء غريبا
أضنى الغزالة حسنه حسداً لذا ... أبدى عليها للأصيل شحوبا
وانقضت الزهر المنيرة إذ رأت ... زهر الرياض به ينور عجيبا
شيدتهن مصانعاً وصنائعاً ... أنجزن وعدك للعلا المرقوبا
__________
(1) البديع: أحد المنشآت الثلاث التي بناها المنصور، والاثنتان الأخريان هما: المسرة والمشتهى.
(2) روضة الآس: 134.
(3) الروضة: إلى.
(4) هذا ما قاله أيضاً في الروضة: 135 وزاد هنالك: " ولعلي أجد أولها إن شاء الله فألحقه بها " وانظر القصيدة في مناهل الصفا 2: 281.(6/55)
وجريت في كل الفخار لغاية ... أدركتها أوما مسست لغوبا
فانعم بملكك فيه دام مؤبداً ... تجني به فنن النعيم رطيبا
وإليكها عذراء فكر أهديت ... وجعلت مدحك مهرها الموهوبا
ونظمت من درر البلاغة عقدها ... ففدا يروق بجيدها ترتيبا
ورفعتها لمقامكم تمشي على اس ... تحيا فيزعجها الولا ترغيبا
فأتت على شرف لكم فتوقفت ... لما رأت ذاك الجلال مهيبا
شفعت إليك بحب جدك أحمد ... لتنيلها منك الرضى المرغوبا
دامت بك الدنيايروق جمالها ... وإلى القيامة أمركم مرهوبا
وكلاكم الله العظيم كلاءةً ... يرعى بها خلفاً لكم وعقيبا [رسالة من الفشتالي إلى المؤلف]
ومحاسن صاحبنا المذكور في النظم والنثر يضيق عنها هذا التأليف، وكنت أثبت منها جملة في غير هذا الموضع. ولما أحس بعزمي على الرحلة إلى الحجاز، واقتضائي من سلطان المغرب في وعده لي بها النجاز، كتب إلي من حضرة مراكش وأنا حينئذ بفاس، ما صورته بعد سطر الافتتاح:
يا نسمة عطست بها أنف الصبا ... فتضمخت بعيرها قنن الربى
هبي على ساحات أحمد واشرحي ... شوقي إلى لقياه شرحاً مطنبا
وصفي له بالمنحنى من أضلعي ... قلباً على جمر الغضا متقلبا
بان الأحبة عنه، حي قد توى ... منهم، وآخر قد نأى وتغيبا
فعساك تسعد يا زمان بقربهم ... فأقول أهلاً باللقاء ومرحبا " السيادة التي سواها الله من طينة الشرف والحسب، وغرس دوحتها الطيبة بمعدن العلم الزاكي المحتد والنسب، سيادة العالم الذي تمشي تحت علم فتياه(6/56)
العلماء الأعلام، وتخضع لفصاحته وبلاغته صيارفة النثر والنظام، وحملة الأقلام، كلما خط أوكتب، وإذا استطار بفكره الوقاد سواجع السجع انثالت عليه من كل أوكارها ونسلت من كل حدب، وحكت بانسجامها السيل والقطر في صبب، الفقيه العالم العلم، والمحصل الذي ساجلت العلماء لتدرك في مجال الإدراك شأوه فلم، سيدنا الفقيه الحافظ حامل لواء الفتيا، ومالك المملكة في المنقول والمعقول من غير شرط ولا ثنيا، أبوالعباس سيدي أحمد بن محمد المقري أبقاه الله تعالى للعلم يفتض أبكاره، ويجني من روضه اليانع ثماره، سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، كتبه المحب الشاكر عن ود راسخ العماد، ثابت الأوتاد مزهر الأغوار والأنجاد، ولا جديد إلا الشوق الذي تحن إلى لقياكم ركائبه وترتاح، وتحوم على مورد الأنس بكم حوم ذات الجناح على العذب القراح، جمع الله تعالى الأرواح المؤتلفة على بساط السرور وأسرة الهنا، وأتاح للنفوس من حسن محاضرتكم قطف المشتهى وهوغض الجنى. وقد اتصل بالمحب الودود الرقيم الذي راقت من سواد النقش وبياض الطرس شياته، وأرانا معجز أحمد فبهرت آياته، وخبا سقط الزند لما أشرقت من سماء فكركم آياته، فأطربنا بتغريد طيور همزاته على أغصان ألفاته، وعوذنا بالسبع المثاني بناناً أجادت نثر زهراته على صفحاته، ثم مررنا بتضاعيفه بسوق الرقيق، فرمنا السلوك على منحاها فعمي علينا الطريق، وقلنا: واهاً على سوق ابن نباتة وكساد رقيقها، واستلاب البهجة عن نفيس دررها وأنيقها، لا كسوق نفق فيها سوق الغزل، وعلا كعب الرامح الأعزل، وتضافر على سحر النفوس والألباب هاروت الجد وماروت الهزل، وقد ألقينا السلاح وجنحنا للسلم، وتهيأنا للسباحة فوقفنا بساحل اليم، وسلمنا لمن استوت به سفينة البلاغة على الجودي، فأبنا والحمد لله على السلامة بالفهاهة والعي، وقلنا، ما لنا وللإنشاء فهوفضل الله يؤتيه من يشاء.
" وعذراً أيها الشيخ عن البيت الذي عطست به أنف الصبا فقذفت به البديهة(6/57)
من الفم، وشرقت به صدر قناة القلم، كما شرقت صدر القناة من الدم.
" وأما ما تحمل الرسول من كلام ن في صورة ملام، لا بل مدام، أترع به من سلاف المحبة كأس وجام، فلا وربك ما هي إلا نفحة نفحت، لا سموم لفحت ن هززنا بها جذع أدبكم كي يتساقط علينا رطباً جنياً ويهمي ودقه على الربع المحيل من أفكارنا وسمياً وولياً، فجاد وأروى، وأجاد فيما روى، وأحيا من القرائح ميتاً كان حديثاً يروى، وطرساً بين أنامل الأيام ينشر ويطوى، أحيا الله تعالى قلوبنا بمعرفته ونواسم رحمته، وعرج بأرواحنا عند الممات إلى المحل الأخص بالمؤمن من حضرته. وأهدي السلام، المزري بمسك الختام، إلى الفقيهين الأمجدين، الصدرين الأنجدين، الفذين التوأمين، الفاضلين المجيدين، فارسي البراعة واليراعة، ورئيسي الجماعة في هذه الصناعة، رضيعي لبان الأدب وواسطتي عقده، ومجيلي قدحه المعلى وموريي زنده، الممتعين بشميم عراره ورنده، الكارعين بالبحر الفياض من هزله وجده، الآتيين بالجنس والفصل من رسمه وجده، الكاتب البارع أبي الحسن سيدي علي ابن أحمد الشامي، والكاتب البليغ أبي عبد الله سيدي محمد بن علي الوجدي (1) ، وأقرر لهما الود المستحكم المعاقد، الصافي المناهل العذب الموارد، وأني قائم بورد الثناء عليكم ووعليهما لدى المقام العلي، الإمامي الناصري، دام سلطانه، وتمهدت أوطاره وأوطانه.
" وننهي إليكم أن الفقيه المحب الأستاذ سيدي محمد بن يوسف (2) طلق اللسان بالشكر، صادح على أيك الثناء عن تلكم السيادة بما واليتموه به من جزيل الإحسان، وقابلتموه به عند الورود والصدر من البشر والكرامة وجميل الامتنان، والسلام التام معاد عليكم، ورحمة الله تعالى وبركاته، وبه وجب الكتب إليكم،
__________
(1) ترجمة الوجدي في روضة الآس: 71 وانظر ص (لب) من المقدمة.
(2) راجع المجلد الثاني ص: 470.(6/58)
والله سبحانه يرعاكم، في يوم الخميس موفي عشرين من محرم الحرام فاتح سبعة وعشرين وألف، المحب الودود الشاكر عبد العزيز بن محمد الفشتالي لطف الله تعالى به، وخار له بمنه وكرمه "، انتهى.
ومن أراد شيئاً من أخباره فعليه بكتابي الموسوم ب " روضة الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام مراكش وفاس " وقد بلغتني وفاته رحمه الله تعالى؛ وأنا في مصر بعد عام ثلاثين وألف، رحمه الله تعالى؛ فلقد كان أوحد عصره، حتى إن سلطان المغرب كان يقول: إن الفشتالي نفتخر به على ملوك الأرض، ونباري به لسان الدين ابن الخطيب، رحم الله تعالى الجميع. الله تعالى؛ فلقد كان أوحد عصره، حتى إن سلطان المغرب كان يقول: إن الفشتالي نفتخر به على ملوك الأرض، ونباري به لسان الدين ابن الخطيب، رحم الله تعالى الجميع.
[تعريف بأبي الحسن الشامي]
والشامي الذي أشار إليه هومن أعيان أهل فاس وذوي البيوت بها، وجده قدم من الشام على حضرة فاس، فشهر بنوه بالنسبة إلى الشام وقد بلغني وفاته أيضاً بعد الثلاثين بعد الألف، وقد أجاب عن الأبيات البائية التي خاطبني بها الوزير سيدي عبد العزيز الفشتالي المذكور رحم الله تعالى الجميع بقوله:
نمت نوافح عرف أنفاس الصبا ... فنمى بها روض الوداد وأخصبا
نثرت جواهر سلكها فتتوج ال ... غصن النضير بدرها وتعصبا
ورمت محاجر منحنى ذاك الحمى ... فغدا بها خيف القلوب محصبا
وروت أحاديث الغرام صحيحة ... فشفت فؤادا ًمن بعادك موصبا
لا غروأن طارت حشاشة لبه ... طرباً فما خلوالغرام كمن صبا
لا زلتم والزهر ينشق عرفكم ... والزهر تحسد من كمالك منصبا ولنمسك عنان البنان، ونرجع إلى ما كنا بصدده من شأن لسان الدين ابن الخطيب المريع منه بمزن البلاغة والفصاحة جنان الجنان، فنقول والله سبحانه ولي التوفيق والإمداد، وليس إلا عليه الاعتماد:(6/59)
[16 - بين ابن الجياب ولسان الدين]
وقال ابن الصباغ العقيلي (1) : كان أبوالحسن ابن الجياب رئيس كتاب الأندلس وهم رؤساء غيرهم، واختص به ذوالوزارتين أبوعبد الله ابن الخطيب اختصاصاً تاماً، وأورثه رتبة من بعده، وعهد بها إليه، مشيراً بذلك على من استشاره من أعلام الحجاب عند حضور عمره، وتدرب بذكائه حتى استحق أزمته فأنسى بحسن سياسته شيخه المذكور، ونال التي لا فوقها من الحظوة، وبعد الصيت وسعادة البخت، اتفق له يوماً بعدما عزم النصراني على ورود البلد وضاقت به الصدور، فأنشد ابن الجياب بديهاً بمحضر الكتاب:
هذا العدو قد طغى ... وقد تعدى وبغى وقال لابن الخطيب: أجز أبا عبد الله، فأنشده بديهاً:
وأظهر السلم وقد ... أسر حسواً في ارتغا
فبلغ الرحمن سي ... ف النصر فيه ما ابتغى
ورده رد ثمو ... د والفصيل قد رغا
حتى يرى وليمة ... لكل مرهوب الثغا فقال ابن الجياب: هكذا وإلا فلا، وعجب الحاضرون من هذه البديهة؛ انتهى.
[17 - قصيدتان للبلوي يخاطب بهما لسان الدين]
ومما خوطب به لسان الدين قول الفقيه أبي يحيى البلوي المري (2) رحم الله الجميع:
__________
(1) أزهار الرياض 1: 192.
(2) ص: المريي.(6/60)
عللوني ولوبوعد محال ... وصلوني ولوبطيف خيال
واعلموا أنني أسير هواكم ... لست أنفك دائماً عن عقال
فدموعي من بينكم في انسكاب ... وفؤادي من هجركم في اشتعال
يا أُهيل الحمى كفاني غرامي ... لا تزيدوا حسبي بما قد جرى لي
من مجيري من لحظ ريم ظلوم ... حلل الهجر بعد طيب الوصال
ناعس الطرف أسهر الجفن مني ... طال منه الجفا بطول الليالي
بابلي اللحاظ أصمى فؤادي ... ورماه من غنجه بنبال
وكسا الجسم من هواه نحولاً ... قصده في النوى بذاك انتحالي
ما ابتدى في الوصال يوماً بعطف ... مذ روى في الغرام باب اشتغالي
ليس لي منه في الهوى من مجير ... غير تاج العلا وقطب الكمال
علم الدين عزه وسناه ... ذروة المجد، بدر أفق الجلال
هوغيث الندى، وبحر العطايا ... هو شمس الهدى، فريد المعالي
إن وشى في الرقاع بالنقش قلنا ... صفحة الطرس حليت باللآلي
أودجا الخطب فهوفيه شهاب ... زانه الصبح في ظلام الضلال
أو نبا الأمر فهوفيه عضب ... صادق العزم عند ضيق المجال
لست تلقى مثاله في زمان ... جل في الدهر يا أخي عن مثال
قد نأى بي حبي له عن دياري ... لا لجدوى ولا لنيل نوال
لكن اشتقت أن أرى منه وجهاً ... نوره فاضح لنور الهلال
وكما همت فيه ألثم كفاً ... جاد لي بالنوال قبل السؤال
هاكها ابن الخطيب عذراء جاءت ... تلثم الأرض قبل شسع النعال
وتوفي حق الوزارة عمن ... هو ملك لها على كل حال ومن نظمه قوله يخاطبه مهنئاً في إعذاره أولاده بعد نثر نصه: يعتذر عن خدمة الإعذار، ويصل المدح والثناء على بعد الدار، بتاريخ الوسط من شهر(6/61)
شعبان عام تسعة وأربعين وسبعمائة:
لا عذر لي عن خدمة الإعذار ... ولئن نأى وطني وشط مزاري
أو عاقني عنه الزمان وصرفه ... تقضي الأماني عادة الاعصار
قد كنت أرغب أن أفوز بخدمتي ... وأحط رحلي عند باب الدار
بادي المسرة بالصنيع وأهله ... متشمراً فيه بفضل إزاري
من شاء أن يلقى الزمان وأهله ... ويرى جلالاً شاع في الأقطار
فليأت حي ابن الخطيب ملبياً ... فيفوز بالإعظام والإكبار
كم ضم من صيد كرام قدرهم ... يسمو ويعلوفي ذوي (1) الأقدار
إن جئت ناديه فنب عني وقل ... نلت المنى بتلطف ووقار
يا من له الشرف القديم ومن له ال ... حسب الصميم العد يوم فخار
يهنيك ما قد نلت من أمل به ... في الفرقدين النيرين لساري
نجلاك قطبا كل مجد باذخ ... أملان مرجوان في الإعسار
عبد الإله وصنوه قمر العلا ... فرعان من أصل زكا ونجار
ناهيك من قمرين في أفق العلا ... ينميهما نور من الأنوار
زاكي الأرومة معرق في مجده ... جم الفضائل طيب الأخبار
رقت طبائعه وراق جماله ... فكأنما خلقا من الأزهار
وحلت شمائل حسنه فكأنما ... خلعت عليه رقة الأسحار
فإذا تكلم قلت طل ساقط ... أو وقع در من نحور جواري
أوفت حبر المسك في قرطاسه ... فالروض غب الواكف المدرار
تبتسم الأقلام بين بنانه ... فتريك نظم الدر في الأسطار
فتخال من تلك البنان كمائماً ... ظلت تفتح ناضر النوار
__________
(1) ق: ذرى.(6/62)
تلقاه فياض الندى متهللاً ... يلقاك بالبشرى والاستبشار
بحر البلاغة قسها وإيادها ... سبحانها حبر من الأحبار
إن ناظر العلماء فهو إمامهم ... شرف المعارف، واحد النظار
أربى على العلماء بالصيت الذي ... قد طار في الآفاق كل مطار
ما ضره أن لم يجئ متقدماً ... بالسبق يعرف آخر المضمار
إن كان أخره الزمان لحكمة ... ظهرت وما خفيت كضوء نهار
الشمس تحجب وهي أعظم نير ... وترى من الآفاق إثر دراري
يا ابن الخطيب خطبتها لعلاكم ... بكراً تزف لكم من الأفكار
جاءتك من خجل على قدم الحيا ... قد طيبت بثنائك المعطار
وأتت تؤدي بعض حق واجب ... عن نازح الأوطان والأوطار
مدت يد التطفيل نحوعلاكم ... فتوشحت من حليكم بنضار
فابذل لها في النقد صفحك إنها ... تشكو من التقصير في الأشعار
لا زلت في دعة وعز دائم ... ومسرة تترى مع الأعمار [ترجمة أبي يحيى البلوي]
قال لسان الدين في حق المذكور في الإحاطة هومحمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد البلوي، من أبناء النعم وذوي البيوتات، كثير السكون والحياء، آل به ذلك أخيراً إلى لوثة لم يستفق منها لطف الله به حسن الخط مطبوع الأدب سيال الطبع معينه وناب عن بعض القضاة وهوالآن رهين ماذكر يتمنى أهله موته والله ولي المعافاة.
وجرى ذكره في " الإكليل " بما نصه " من أولي الاتصال بأولى الخلال البارعة والخصال خطاً رائقاً ونظماً بمثله (1) لائقاً ودعابة يسترها تجهم،
__________
(1) ق: به.(6/63)
وسكوناً في طيه إدراك وتفهم، عني بالدراية والتقييد، ومال في النظم إلى بعض التوليد، وله أصالة نبتت في السرو عروقها، وتألقت في سماء المجادة بروقها، وتصرف بين النيابة في الأحكام الشرعية، وبين الشهادات العلمية المرعية؛ انتهى.
ورأيت بخط أبي الحسن علي بن لسان الدين على هامش هذا المحل من الإحاطة ما صورته: رحمة الله عليه ما أعذب حلاوته، وأعظم مروءته، وأكرم أصالته، وبنوالبلوى ذووحسب، وأهل نعيم، وتربية ملوكية، حياهم الله وبياهم! قال ذلك حبيبهم وأخوهم علي بن الخطيب؛ انتهى.
[18 - من ابن مرزوق إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى عند ذكر الخطيب الرئيس أبي عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني ما صورته: ولما قدمت على مدينة فاس في غرض الرسالة خاطبني بمنزل (1) الشاطبي على مرحلة منها بما نصه:
يا قادماً وافى بكل نجاح ... أبشر بما تلقاه من أفراح
هذي ذرى ملك الملوك فلذ بها ... تنل المنى وتفز بكل سماح
مغنى الإمام أبي عنان يممن ... تظفر ببحر في العلا طفاح
من قاس جود أبي عنان في الندى ... بسواه قاس البحر بالضحضاح
ملك يفيض على العفاة نواله ... قبل السؤال وقبل بسطة راح
فلجود كعب وابن سعدى (2) في الندى ... ذكر محاه عن نداه ماحي
ما إن سمعت ولا رأيت بمثله ... من أريحي للندى مرتاح
بسط الأمان على الأنام فأصبحوا ... قد ألحفوا منه بظل جناح
وهمى على العافين سيب نواله ... حتى حكى سح الغمام الساحي
__________
(1) ص: بمنزلة.
(2) ابن سعدي: أوس بن حارثة الطائي.(6/64)
فنواله وجلاله وفعاله ... فاقت وأعيت ألسن المداح
وبه الدنا أضحت تروق وأصبحت ... كل المنى تنقاد بعد جماح
من كان ذا ترح فرؤية وجهه ... متلافة الأحزان والأتراح
فانهض أبا عبد الإله تفز بما ... تبغيه من أمل ونيل نجاح
لا زلت ترتشف الأماني راحة ... من راحة المولى بكل صباح فالحمد لله يا سيدي وأخي على نعمه التي لا تحصى، حمداً يؤم به جميعنا المقصد الأسنى فيبلغ الأمد الأقصى، فطالما كان معظم سيدي للأسى في خبال، وللأسف بين اشتغال بال، واشتعال بلبال، ولقدومكم على هذا المقام المولوي في ارتقاب، ولمواعيدكم بذلك في تحقق (1) وقوعه من غير شك ولا ارتياب، فها أنت تجتلي من هذا المقام العلي بتشيعك وجوه المسرات صباحاً، وتتلقى أحاديث مكارمه ومواهبه مسندة صحاحاً، بحول الله تعالى، ولسيدي الفضل في قبول مركوبه الواصل إليه بسرجه ولجامه، فهومن بعض ما لدى المعظم من إحسان مولاه وإنعامه، ولعمري لقد كان وافداً على سيدي في مستقره مع غيره، فالحمد لله الذي يسر في إيصاله، على أفضل أحواله.
[19 - جواب لسان الدين]
فراجعته بما نصه:
راحت تذكرني كؤوس الراح ... والقرب يخفض للجنوح جناحي
وسرت تدل على القبول كأنما ... دل النسيم على انبلاج صباح
حسناء قد غنت بحسن صفاتها ... عن دملج وقلادة ووشاح
أمست تحض على اللياذ بمن جرت ... بسعوده الأقلام في الألواح
__________
(1) ص: ولمواعدكم.... محقق.(6/65)
بخليفة الله المؤيد فارس ... شمس المعالي الأزهر الوضاح
ما شئت من شيم ومن همم غدت ... كالزهر أوكالزهر في الأدواح
فضل الملوك فليس يدرك شأوه ... أنى يقاس الغمر بالضحضاح
أنسى بني عباسهم بلوائه ال ... منصور، أو بحسامه السفاح
وغدت مغاني الملك لما حلها ... تزهى ببدر هدى وبحر سماح
وحياة من أهداك تحفة قادم ... في العرف منها راحة الأرواح
ما زلت أجعل ذكره وثناءه ... روحي وريحاني الأريج وراحي
ولقد تمازج حبه بجوارحي ... كتمازج الأجسام بالأرواح
ولوأنني أبصرت يوماً في يدي ... أمري لطرت إليه دون جناح
فالآن ساعدني الزمان وأيقنت ... من قربه نفسي بفوز قداحي
إيه أبا عبد الإله، وإنه ... لنداء ود في علاك صراح
أما إذا استنجدتني من بعد ما ... ركدت لما جنت الخطوب رياحي
فإليكها مهزولة وأنا امرؤ ... قررت عجزي واطرحت سلاحي " سيدي أبقاك الله لعهد تحفظه، وولي بعين الوفاء تلحظه، وصلتني رقعتك التي أبدعت، وبالحق من مولى الخليقة صدعت، وألفتني وقد سطت بي الأوجال، حتى كادت تتلف الرحال، والحاجة إلى الغذاء قد شمرت كشح البطين، وثانية العجماوين قد توقع فوات وقتها وإن كانت صلاتها صلاة الطين، والفكر قد غاض معينه، وضعف وعلى الله جزاء المولى الذي يعينه، فغرتني بكتيبة بيان أسدها هصور، وعلمها منصور، وألفاظها ليس فيها قصور، ومعانيها عليها الحسن مقصور، واعتراف مثلي بالعجز في المضايق حول ومنة، " وقول لا أدري " للعالم فكيف لغيره جنة، لكنها بشرتني بما يقل لمؤديه بذل النفوس وإن جلت، وأطلعتني من السراء على وجه تحسده الشمس إذا تجلت، بما أعلمتني به من جميل اعتقاد مولانا أمير المؤمنين أيده الله في(6/66)
عبده، وصدق المخيلة في كرم مجده، وهذا هوالجود المحض، والفضل الذي شكره هوالفرض، وتلك الخلافة المولوية تتصف بصفات من يبدأ بالنوال، من قبل الضراعة والسؤال، من غير اعتبار للأسباب ولا مجازاة للأعمال، نسأل الله تعالى ان يبقي منها على الإسلام أوفى الظلال، ويبلغها من فضله أقصى الآمال، ووصل ما بعثه سيدي صحبتها من الهدية، والتحفة الودية، وقبلتها امتثالاً واستجليت (1) منها عتقاً وجمالاً وسيدي في الوقت أنسب لاتخاذ ذلك الجنس، وأقدر على الاستكثار من إناث البهم والإنس، وأنا ضعيف القدرة، غير مستطيع على ذلك إلا في الندرة، فلوراء سيدي ورأيه سداد، وقصده فضل ووداد، أن ينقل القضية إلى باب العارية من باب الهبة، مع وجود الحقوق المترتبة، لبسط خاطري وجمعه، وعمل في رفع المؤونة على شاكلة حالي معه، وقد استصحبت مركوباً يشق علي هجره، وسيدي في الإسعاف على الله أجره، وهذا أمر عرض، وفرض فرض، وعلى نظره المعول، واعتماد إغضائه هوالمعقول الأول، والسلام على سيدي من معظم قدره، وملتزم بره، ابن الخطيب، في ليلة الأحد السابع وال عشرين لذي قعدة خمس وخمسين وسبعمائة، والسماء قد جادت بمطر سهرت منه الأجفان، وظن أنه الطوفان، واللحاق في غدها بالباب المولوي مؤمل بحول الله " انتهى.
[20 - من البرجي إلى لسان الدين]
وكتب القاضي أبوالقاسم البرجي (2) للسان الدين في غرض الشفاعة لبعض قرابته قوله (3) :
__________
(1) ص ق: واستجلبت.
(2) ترجمة البرجي في الإحاطة 2: 215 والكتيبة: 250 ونيل الابتهاج: 172.
(3) الكتيبة: 251.(6/67)
أيا سابقاً في مجال البراعه ... وفارس ميدان أهل اليراعه
ومن بدره في سماء المعالي ... يزين بوصف الكمال ارتفاعه
بما لك في الفضل من حجة ... ومن إمرة في ذويه مطاعه
قضائك في معسر حل دين ... عليه فإرجاؤه قد أضاعه
وقد كان يبغي لديكم شفيعاً ... توسط عندكم في شفاعه
على أنه في اقتضاء الوداد ... يوفى موازينه أوصواعه
وما هوفي سوق تقريظكم ... ونشر حلالكم بمزجى البضاعه " كتبت يا سيدي أدام الله تعالى علاكم، وحرس مجدكم الطاهر وسناكم، وأنا بين خجل مفحم وعجل مقحم، أتذكر تسويقي بلقائكم، حين سمع الدهر بإقترابكم، فأحجم وأفكر في أن إحجامي عند ذلك بإرجائي، عسى أن يكون وفق رجائي، أفاتني المقصود فأرى الحزم في أن أقدم، وموقفها بين يديكم فلان، يطالبني مطالبة الغريم، وأروم مطاله فلا يبرح ولا يريم، والانقياد في زمام طاعته مما توجبه المروة بعدما أوجبه الشارع إذ جعل له حظاً في الأبوة، وقد أعلقته من ذمام علائكم بالحبل المتين، وأنزلته من حماكم بربوة ذات قرار ومعين، فإن أعرتموه من لحظكم الجميل طرف اهتبال، وأقبلتموه من اعتنائكم الجزيل وجه إقبال، فقد عاد دهره بعد النفار مواتياً ونزل على أهل المهلب شاتياً ومجدكم كفيل بتبليغ أمله، وتوسيع جذله، وذلكم يد على معظمكم شكرها، وعلى الله أجرها "؛ انتهى.
[ترجمة أبي القاسم البرجي]
والبرجي المذكور هومحمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن علي بن إبراهيم، الغساني البرجي، يكنى أبا القاسم، من أهل غرناطة، قال في " الإحاطة ": هوفاضل مجمع على فضله، صالح الأبوة ن طاهر النشأة، بادي الصيانة والعفة(6/68)
طرف في الخير والحشمة، صدر في الأدب جم المشاركة، ثاقب الفهم، جميل العشرة، ممتع المجالسة حسن الشعر والخط والكتابة، فذ في الانطباع، صناع اليد (1) ، محكم لعمل الكثير من الآلات العلمية، ويجيد تسفير الكتب، رحل إلى العدوة ولقي جلة، وتوسل إلى ملكها مجدد الرسم ومعتام أولي الشهرة وعامر دست الشعر والكتابة، أمير المسلمين أبي عنان، فاشتمل عليه، ونوه به وملأ بالخير يده، فاقتنى جدة وحظوة، وذكراً وشهرة، وانقبض مع استرسال الملك لفضل عقله، حتى تشكى إلي سلطانه بث ذلك عند قدومي عليه، وآثر الراحة، وجهد في التماس الرحلة الحجازية، ونبذ الكل، وقصر الخطوة (2) ، وسلا الحظوة، فأسعفه سلطانه بغرضه، وجعل حبل همه (3) على غاربه، وأصحبه إلى النبي الكريم صلوات الله عليه رسالة من إنشائه وقصيدة من نظمه، وكلاهما يعلن في الخلفاء ببعد شأوه، ورسوخ قدم علمه، وعراقة البلاغة في نسب خصله، ولما هلك وولي ابنه [قدمه] قاضياً بمدينة (4) ملكه وضاعف له التنويه، فأجرى الخطة على سبيل من السداد والنزاهة، ثم لما ولي السلطان أبوسالم عمه أجراه على الرسم المذكور، واستجلى المشكلات بصدقه، وهوالآن بحاله الموصوفة مفخر من مفاخر ذلك الباب السلطاني على تعدد مفاخره.
شعره - ثبت في كتاب " نفاضة الجراب " من تأليفنا عند ذكر المدعى الكبير بباب ملك المغرب ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر من أنشد ليلتئذ من الشعراء ما نصه: وتلاه الفقيه الكاتب الحاج القاضي جملة السذاجة (5) وكرم الخلق وطيب النفس وخدن العافية وابن الصلاح والعبادة ونشأة القرآن
__________
(1) الإحاطة: اليدين.
(2) ص: الخطو.
(3) ق والإحاطة: نعمه.
(4) قدمه ... بمدينة: سقطتا من ق، ولفظة " قدمه " سقطت من ص.
(5) ص: الشذاخة.(6/69)
المتحيز إلى حزب السلامة المنقبض عن الغمار العزوف عن فضول القول والعمل جامع المحاسن الأشتات (1) من عقل رصين وطلب ممتع وأدب نقاوة ويد صناع أبوالقاسم بن أبي زكريا البرجي، فأنشدت له على الرسم المذكور هذه القصيدة الفريدة (2) :
أصغى إلى الوجد لما جد عاتبه ... صب له شغل عمن يعاتبه
لم يعط للصبر من بعد الفراق يداً ... فضل من ظل إرشاداً يخاطبه
لولا النوى لم يبت حران مكتئباً ... يغالب الوجد كتما ًوهوغالبه
يستودع الليل أسرار الغرام وما ... تمليه أشجانه فالدمع كاتبه
لله عصر بشرقي الحمى سمحت ... بالوصل أوقاته لوعاد ذاهبه
يا جيرة أودعوا إذ ودعوا حرقاً ... يصلى بها من صميم القلب ذائبه
يا هل ترى تجمع (3) الأيام ألفتنا ... كعهدنا أويرد القلب سالبه
ويا أهيل ودادي، والنوى قذف ... والقرب قد أبهمت دوني مذاهبه
هل ناقض العهد بعد البعد حافظه ... وصادع الشمل يوم الشعب شاعبه
ويا ربوع الحمى لا زلت ناعمة ... يبكي عهودك مضنى الجسم شاحبه
يا من لقلب مع الأهواء منعطف ... في كل أوب له شوق يجاذبه
يسمو إلى طلب الباقي بهمته ... والنفس بالميل للفاني تطالبه
وفتنة المرء بالمألوف معضلة ... والأنس بالإلف نحوالإلف جاذبه
أبكي لعهد الصبا والشيب يضحك بي ... يا للرجال سبت جدي ملاعبه
ولن ترى كالهوى، أشجاه سالفه ... ولا كوعد المنى، أحلاه كاذبه
وهمة المرء تغليه وترخصه ... من عز نفساً لقد عزت مطالبه
__________
(1) الأشتات: ثبتت في ق ص وسقطت من الإحاطة.
(2) القصيدة في الإحاطة وبعضها في الكتيبة.
(3) الكتيبة: ترجع.(6/70)
ما هان كسب المعالي أوتناولها ... بل هان في ذاك ما يلقاه طالبه (1)
لولا سرى الفلك السامي لما ظهرت ... آثاره ولما لاحت كواكبه
في ذمة الله ركب للعلا ركبوا ... ظهر السرى فأجابتهم نجائبه
يرمون عرض الفلا بالسير عن عرض ... طي السجل إذا ما جد كاتبه
كأنهم في فؤاد الليل سر هوى ... لولا الضرام لما خفت جوانبه
شدوا على لهب الرمضاء وطأتهم ... فغاض في لجة الظلماء راسبه
وكلفوا الليل من طول السرى شططاً ... فخلفوه وقد شابت ذوائبه
حتى إذا أبصروا الأعلام مائلة ... بجانب الحرم المحمي جانبه
بحيث يأمن من مولاه خائفه ... من ذنبه وينال القصد راغبه
فيها وفي طيبة الغراء لي أمل ... يصاحب القلب منه ما يصاحبه
إن أنس (2) لا أنس أياماً بظلهما ... سقى ثراه عميم الغيث ساكبه
شوقي إليها وإن شط المزار بها ... شوق المقيم وقد سارت حبائبه
إن ردها الدهر يوماً بعدما عبثت ... في الشمل منا يداه لانعاتبه
معاهد شرفت بالمصطفى فلها ... من فضله شرف تعلو مراتبه (3)
محمد المجتبى الهادي الشفيع إلى ... رب العباد أمين الوحي عاقبه
أوفى الورى ذمماً، أسماهم همماً ... أعلاهم كرماً، جلت مناقبه
هو المكمل في خلق وفي خلق ... زكت حلاه كما طابت مناسبه
عناية قبل بدء الخلق سابقة ... من أجلها كان آتيه وذاهبه
جاءت تبشرنا الرسل الكرام به ... كالصبح تبدو تباشيراً كواكبه
أخباره سر علم الأولين وسل ... بدير تيماء ما أبداه راهبه
تطابق الكون في البشرى بمولده ... وطبق الأرض أعلاماً تجاوبه
__________
(1) سقط البيت من ص.
(2) ق ص: لا أنس؛ الإحاطة: لم أنس.
(3) ص: مراقبه.(6/71)
فالجن تهتف إعلاناً هواتفه ... والجن تقذف إحراقاً ثواقبه
ولم تزل عصمة التأييد تكنفه ... حتى انجلى الحق وانزاحت شوائبه
سرى وجنح ظلام الليل منسدل ... والنجم لا يهتدي في الأفق ساربه
يسمو لكل سماء منه منفرد ... عن الأنام وجبرائيل صاحبه
لمنتهى وقف الروح الأمين به ... وامتاز قرباً فلا خلق يقاربه
لقاب قوسين أوأدنى فما علمت ... نفس بمقدار ما أولاه واهبه
أراه أسرار ما قد كان أودعه ... في الخلق والأمر باديه وغائبه
وآب والبدر في بحر الدجى غرق ... والصبح لما يؤب للشرق آيبه
فأشرقت بسناه الأرض واتبعت ... سبل النجاة بما أبدت مذاهبه
وأقبل الرشد والتاحت زواهره ... وأدبر الغي فانجابت غياهبه
وجاء بالذكر آيات مفصلة ... يهدى بها من صراط الله لاحبه
نور من الحكم لا تخبو سواطعه ... بحر من العلم لا تفنى عجائبه
له مقام الرضى المحمود شاهده ... في موقف الحشر إذ نابت نوائبه
والرسل تحت لواء الحمد يقدمها ... محمد أحمد السامي مراتبه
له الشفاعات مقبولاً وسائلها ... إذا دهى الأمر واشتدت مصاعبه
والحوض يروي الصدى من عذب مورده ... لا يشتكي غلة الظمآن شاربه
محامد المصطفى لا ينتهي أبداً ... تعدادها، هل يعد القطر حاسبه
فضل تكفل بالدارين يوسعها ... نعمى ورحمى فلا فضل يناسبه
حسبي التوسل منها بالذي سمحت ... به القوافي وجلتها غرائبه
حياه من صلوات الله صوب حياً ... تحدى إلى قبره الزاكي نجائبه
وخلد الله ملك المستعين به ... مؤيد الأمر منصوراً كتائبه
إمام عدل بتقوى الله مشتمل ... في الأمر والنهي يرضيه يراقبه
مسدد الحكم، ميمون نقيبته ... مظفر العزم، صدق الرأي صائبه(6/72)
مشمرٌ للتقى أذيال مجتهدٍ ... جرار أذيال سحب الجود ساحبه
قد أوسعت أمل الراجي مكارمه ... وأحبست رغبة العافي رغائبه
وفاز بالأمن محبوراً مسالمه ... وباء بالخزي مقهوراً محاربه
كم وافدٍ آملٍ معهود نائله ... أثنى وأثنت بما أولى حقائبه
ومستجيرٍ بعز من مثابته ... عزت مراميه وانقادت مآربه
وجاء الدهر يسترضيه معتذراً ... مستغفراً من وقوع الذنب تائبه
لولا الخليفة إبراهيم لانبهمت ... طرق المعالي ونال الملك غاصبه
ينميه للعز والعليا أبو حسنٍ ... سمح الخلائق محمودٌ ضرائبه
من آل يعقوب حسب الملك مفتخراً ... بباب عزهم السامي تعاقبه
أطواد حلمٍ رسا بالأرض محتده ... وزاحمت منكب الجوزا مناكبه
تحفها من مرين أبحرٌ زخرت ... أمواجها وغمامٌ ثار صائبه
بكل نجمً لدى الهيجاء ملتهبٍ ... ينقض وسط سماء النقع ثاقبه
أكفهم في دياجيها مطالعه ... وفي نحور أعيادهم مغاربه
يا خير من خلصت لله نيته ... في الملك أوخطب العلياء خاطبه
جردت والفتنة الشعواء ملبسةٌ ... سيفاً من العزم لا تنبو مضاربه
وخضتها غير هياب ولا كلٍ (1) ... وقلما أدرك المطلوب هائبه
صبرت نفساً لعقبى الصبر حامدةً ... والصبر مذ كان محمودٌ عواقبه
فليهن دين الهدى إذ كنت ناصره ... أمنٌ يواليه أوخوفٌ يجانبه
لا زال ملكك والتأييد يخدمه ... تقضي بخفض مناوبه قواضبه
ودمت في نعمٍ تضفوملابسها ... في ظل عز علاً تصفو مشاربه
ثم الصلاة على خير البرية ما ... سارت إليه بمشتاقٍ ركائبه
__________
(1) ق: وهل.(6/73)
ومن شعره ما قيده لي بخطه صاحب قلم الإنشاء بالحضرة المرينية الفقيه الرئيس الصدر المتفن أبوزيد ابن خلدون (1) :
صحا القلب عما تعلمين فاقلعا ... وعطل من تلك المعاهد أربعا
وأصبح لا يلوي على حد منزلٍ ... ولا يتبع الطرف الخلي المودعا
وأضحى من السلوان في حرز معقلٍ ... بعيد عن الأيام أن يتضعضعا
يرد الجفون النجل عن شرفاته ... وإن لحظت عن كل أجيد أتلعا
عزيزٌ على داعي الغرام انقياده ... وكان إذا ناداه للوجد أهطعا
أهاب به للشيب أنصح واعظٍ ... أصاخ له قلباً منيباً ومسمعا
وساف في أفق التفكير والحجى ... زواهره لاتبرح الدهر طلعا
لعمري لقد أنضيت عزمي تطلباً ... وقضيت عمريرقبةً وتطلعا
وخضت عباب البحر أخضر مزبداً ... ودست أديم الأرض أغبر أسفعا وقال حسبما قيده المذكور (2) :
نهاه النهى بعد طول التجارب ... ولاح له منهج الرشد لاحب
وخاطبه دهره ناصحاً ... بألسنة الوعظ من كل جانب
فأضحى إلى نصحه واعياً ... وألغى حديث الأماني الكواذب
وأصبح لا تستبيه الغواني ... ولا تزدريه حظوظ المناصب ثم قال في الإحاطة ": وإحسانه كثير في النثر والنظم والقصار والمطولات واستعمل في السفارة إلى ملك مصر وملك قشتالة وهوالآن قاضي حضرة الملك
__________
(1) الإحاطة: 220.
(2) المصدر السابق: 221 والكتيبة: 251 وقد حولت في ق إلى وزن الطويل مثل " ولاح له نهج من الرشد لاحب " أو " وخاطبه دهر له كان ناصحاً " ... الخ.(6/74)
نسيج وحده في السلامة والتخصص واجتناب فضول القول والعمل كان الله له؛ انتهى.
وكتب ابن الصنف بهامش تذكرة المذكور من الإحاطة ما صورته: سيدي وشيخي علامة المغرب اليوم وحائز رتبة العلية من خطابة وقضاء وعلامة وهوأحق بها لخلاله الحميدة أبقاه الله تعالى قال محبه علي بن الخطيب؛ انتهى.
وكتب على القصيدة الميلادية المتقدمة ما نصه رويتها عنه وسمعتها من لفظه واجازني إياها بتلمسان؛ انتهى.
وكتب على حاشية قصيدته " صحا القلب - إلى آخره " ما صورته: سمعتها من لفظ سيدي وشقيق روحي الإمام العلامة الرائس أبي زيد ابن خلدون بالأندلس أمتع الله به تعالى قال ذلك أخوه علي بن الخطيب؛ انتهى.
[21 - مخاطبات ابن زمرك للسان الدين]
وقال في الإحاطة وفي ترجمة ابن زمرك ما صورته (1) : وشعره مترامٍ إلى هدف الإجادة خفاجي النزعة كلف بالمعاني البديعة والألفاظ الصقيلة غزير المادة فمن ذلك ماخاطبني به وهي من أول ما نظمه قصيدة مطلعها:
" أما وانصداع النور من مطلع الفجر " ... يقول فيها بعد أبيات:
لك الله من فذ الجلالة أوحدٍ ... تطاوعه الآمال في النهي والأمر
لك القلم الأعلى الذي طال فخره ... على المرهفات البيض والأسل السمر
يقلد أجياد الطروس تمائماً ... بصنفي لآل من نظامٍ ومن نثر
__________
(1) الإحاطة 2: 184 وانظر القصيدة في الكتيبة: 284 وأزهار الرياض 2: 164.(6/75)
تهيبك القرطاس فاحمر إذ غدا ... يقل بحوراً من أناملك العشر
كأن رياض الطرس خدٌ موردٌ ... يطرزه وشي العذار من الحبر
فشارة هذا الملك رائقة الحلى ... بألويةٍ حمرٍ وبالصحف الحمر
ومروضةٌ غناء عاهدتها الحيا ... تحوك بها وشي الربيع يد القطر
تغني قيان الطير في جنباتها ... فيرقص غصن البان في حللٍ خضر
تمد لأكواس العرار أناملً ... من السوسن الغض المختم بالتبر
ويحرس خد الورد صارم نهرها ... ويمنع ثغر النور بالذابل النضر
يفاخر مرآها السماء محاسناً ... وتزري نجوم الزهر منها على الزهر
إذا مسحت كف الصبا جفن نورها ... تنفس ثغر الزهر عن عنبر الشحر
بأعطر من ريا ثنائك في السرى ... وأبهر حسناً من شمائلك الغر
عجبت له يحكي خلال خميلةٍ ... وتفرق منه الأسد في موقف الذعر
إذا أضرمت من بأسها الحرب جاحماً ... تأجج منه العضب في لجة البحر
وغن كلح الأبطال في حومة الوغى ... ترقرق ماء البشر في صفحة البدر
لك الحسب الوضاح والسؤدد الذي ... يضيق نطاق الوصف فيه عن الحصر
تشرف افقٌ أنت بدر كماله ... فغرناطةٌ تختال تيهاً على مصر
تكلل تاج الملك منك محاسناً ... وفاخرت الأملاك منك بنو نصر
بعزمة مضمون السعادة أوحدٍ ... وغرة وضاح المكارم والنجر
طوى الحيف منشور اللواء مؤيداً ... فعز حمى الإسلام بالطي والنشر
ومد ظلال الأمن إذ قصر العدا ... فيتلى سناء الملك بالمد والقصر
إذا احتفل الإيوان يوم مشورة ... وتضطرب الآراء من كل ذي حجر
صدعت بفصل القول غير منازعٍ ... وأطلعت آراء قبسن من الفجر
فإن تظفر الخيل المغيرة بالضحى ... فعن رأيك الميمون تظفر بالنصر
فلا زلت للعلياء تحمي ذمارها ... وتسحب أذيال الفخار على النسر(6/76)
وللعلم فخر الدين والفتك بالعدا ... بأوت به يا ابن الخطيب على الفخر
فيهنيك عيد الفطر ... ويثني بما أوليت من نعمٍ غر
جبرت مهيضاً من جناحي ورشته ... وسهلت لي من جانب الزمن الوعر
وبوأتني من ذروة العز معتلى ... وشرفتني من حيث أدري ولا أدري
وسوغتني الآمال عذباً مسلسلاً ... وأسميت من ذكري ورفعت من قدري
فدهري عيدٌ بالسرور وبالمنى ... وكل ليالي العمر لي ليلة القدر
فأصبحت مغبوطاً على خير نعمةٍ ... يقل لأدناها الكثير من الشكر وهي طويلة؛ انتهى.
قلت هذا الرئيس ابن زمرك صرح هنا بأنه بجاه لسان الدين ابن الخطيب أدرك من العز ما أدرك ثم أنقلب عليه مع الدهر وكفر نعمته وبها أشرك وحرك من دواعي قتله ما حرك وكم من صديق لك ضرك وعقك بعدما برك وسائك إثر ما سرك ولذا رأيت بخط ابن لسان الدين على هامش قوله في هذه القصيدة " ومد ظلال الأمن - إلخ " ما صورته: هذا مدحه لحاه الله وعلى قوله " وبوأتني من ذروة العز - إلخ " ما مثاله هكذا شهادتك لحقه ثم تحولك عنه وكفر نعمته اغرب أغرب أخزاك الله؛ وانتهى
وكتب بهامش أول ترجمته من الإحاطة ما نصه: اتبعه الله خزياً وعامله بما يستحقه فبهذا ترجمه والدي مولاه الذي رفع من قدره فيه ولم يقتله أحد غيره كفانا الله تعالى شر من أحسنا إليه. وكتب أيضا تحت هذا ما مثاله: هذا الوغد ابن زمرك من شياطين الكتاب ابن حداد بالبيازين قتل أباه بيده أوجعه ضرباً فمات من ذلك وهوأخس عباد الله تربية وأحقرهم صورة وأخملهم شكلاً استعمله أبي في الكتابة السلطانية فجنينا أيام تحولنا عن الأندلس منه كل شر وهوكان السبب في قتل أبي مصنف هذا الكتاب الذي رباه وأدبه واستخدمه، حسبما هومعروف(6/77)
وكفانا الله شر من أحسنا إليه وأساء إلينا؛ انتهى
وقد ألممنا بترجمته في هذا الكتاب في باب تلامذة لسان الدين فلتراجع هنالك ومما كتب به ابن زمرك المذكور إلى لسان الدين ابن الخطيب جواباً عن رسالة قوله (1) :
حيت صباحاً فأحيت ساكني القصبه ... واسترجعت أنفساً بالشوق مغتصبه
قضى البيان لها أن لانظير لها ... فأحرزت من معاني خصله قصبه
ناجت طليح سرىً لا يستفيق لها ... هدت جوارحه واستوهنت عصبه
فحركته على فتك الكلال به ... وأذهبت بسرور الملتقى نصبه
وأذكرت عهد مهديها على شحطٍ ... فعاود القلب من تذكاره وصبه
ما كنت أسمح من دهري بجوهره ... لو كان يسمح لي بالقلب من غصبه
سل أدمع الصب من أعدى السحاب بها ... وقلبه بجمار الشوق من حصبه
فالله يحمد مهديها ويشكره ... فوجهها بعصاب الحسن قد عصبه
من كان وارث آداب يشعشعها ... بالفرض إني في إرثي لها عصبه
هوالملاذ ملاذ الناس قاطبةً ... سبحان من لغاث الخلق قد نصبه وخاطبه كذلك بقوله (2) :
يكلفني مولاي رجع جوابه ... وما لتعاطي المعجزات وما ليا
أجيبك للفضل الذي أنت أهله ... وأكتب مما قد أفدت الأماليا
فأنت الذي طوقتني كل منةٍ ... وأحسبت آمالي وأكسبت ماليا
وأنت الذي أعدى الزمان كماله ... وصيرت أحرار الزمان مواليا
فلازلت للفعل الجميل مواصلاً ... ولازلت للشكر الجزيل مواليا
__________
(1) الأزهار 2: 166.
(2) الكتيبة: 288 والأزهار 2: 167.(6/78)
وخاطبه كذلك بقوله (1) :
طالعتها دون الصباح صباحا ... لما جلت غرور البيات صباحا
ولقد رأيت وما رايت كحسنها ... وجهاً أغر ومبسماً وضاحا
عذراء أرضعتها البيان لبانه ... وأطال مغدى عندها ومراحا
فأتت كما شاءت وشاء نجيبها ... تذكي الحجى وتنعم الأرواحا
لا بل كمثل الروض باكره الحيا ... وسقى به زهر الكمام ففاحا
وطوت بساط الشوق مني بعدما ... نشرت علي من القبول جناحا وخاطبه كذلك بقوله (2) :
ذروني فإني بالعلاء خبير ... اسير فإن النيرات تسير
وكم بت أطوي الليل في طلب العلا ... كأني إلى نجم السماء سفير
بعزمٍ إذا ما الليل مد رواقه ... يكر على ظلمائه فينير
أخو كلفٍ بالمجد لا يستفزه ... مهادٌ إذا جن الظلام وثير
إذا ما طوى يوماً على السر كشحه ... فليس له حتى الممات نشور
وإني وإن كنت الممنع جاره ... لتسبي فؤادي أعين وثغور
وما تعتريني فترة ٌفي مدى العلا ... إلى أن أرى لحظاًعليه فتور
وفي السرب من نجدٍ تعلقت ظبيةً ... تصول على ألبابنا وتغير
وتمنع ميسور الكلام أخا الهدى ... وتبخل حتى بالخيال يزور
أسكان نجدٍ جادها واكف الحي ... هواكم بقلبي منجدٌ ومغير
ويا سكني بالأجرع الفرد من منىً ... وأيسر حظ من رضاك كثير
ذكرتك فوق البحر والبعد بيننا ... فمدته من فيض الدموع بحور
__________
(1) الأزهار 2: 167.
(2) الأزهار 2: 167.(6/79)
وأومض خفاق الذؤابة بارقٌ ... فطارت بقلبي أنهٌ وزفير
ويهفو فؤادي كلما هبت الصبا ... أما لفؤادي في هواك نصير
ووالله ما أدري أذكرك هزتي ... أم الكأس ما بين الخيام تدور
فمن مبلغٌ عني النوى ما يسوءها ... وللبين حكمٌ يتعدى ويجور
بأنا غداً أوبعده سوف نلتقي ... ونمسي ومنا زائرٌ ومزور
إلى كم أرى أكني ووجدي مصرحٌ ... وأخفي اسم من أهواه وهو شهير
أمنجد آمالي، ومغلي كاسدي ... ومصدر جاهي، والحديث كثير
أأنسى، ولا أنسى، مجالسك التي ... بها تلتقي نضرةٌ وسرور
نزورك في جنح الظلام وننثني ... وبين يدينا من حديثك نور
على أنني إن غبت عنك فلم تغب ... لطائف لم يحجب لهن سفور
نروح ونغدو كل يوم وعندها ... رواحٌ علينا دائمٌ وبكور
فظلك فوقي حيثما كنت وارفٌ ... ومورد آمالي لديك نمير
وعذراً فإني إن أطلت فإنما ... قصاراي من بعد البيان قصور وكتب إليه خاتمة رسالة كذلك:
وحقك ما استطعمت بعدك غمضةً ... من النوم حتى آذن النجم بالغروب
وعارضت مسرى الريح قلت لعلها ... تنم بريا منك عاطرة الهبوب
إلى أن بدا وجه الصباح كأنه ... محياك إذا يجلوبغرته الخطوب
فقلت لقلبي استشعر الأنس وابتهج ... فإن تبعد الأجسام لم تبعد القلوب
وسر في ضمان الله حيث توجهت ... ركابك لا تخشى الحوادث أن تنوب قلت هذه غاية في معناها، ولولا خروجها عن القواعد في ترتيب قافيتها ومبناها، فانظر إلى تحوله عن لسان الدين بعد هذه المدائح، ونسبته إليه بعده القبائح، والإنسان خوان، إلا النادر من الإخوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(6/80)
[22 - من ابن سلبطور إلى لسان الدين]
قال في " الإحاطة " في ترجمة ابن سلبطور ما نصه: ومما خاطبني به:
تالله ما أورى زناد القلق ... سوى بريق لاح لي بالأبرق
أيقنت بالحين فلولا نفحةٌ ... نجديةٌ منكم تلافت رمقي
لكنت أقضي بتلظي زفرةٍ ... وحسرةٍ بين القلوب موقف التفريق
فآه من هول النوى وما جنى ... على القلوب موقف التفرق
يا حاكي الغصن انثني متوجاً ... بالبدر تحت لمة من غسق
الله في نفس معنى أقصدت ... من لاعج الشوق بما لم تطق
أتى على أكثرها برح الأسى ... دع ما مضى منها وأدرك ما بقي
ولو بإلمام خيالٍ في الكرى ... إن ساعد الجفن رقيب الأرق
فرب زورٍ من خيالٍ زائر ... أقر عيني وإن لم يصدق
شقيت من برح الأسى لو أن من ... أصبح رقي في يديه معتقي
ففي معاناة الليالي عائقٌ ... عن التصابي وفنون العلق
وفي ضمان ما يعاني المرء من ... نوائب الدهر مشيب المفرق
هذا لعمري مع أني لم أبت ... منها بشكوى روعة أوفرق
فقد أخذت من الخطوب غدرها ... بابن الخطيب الأمن مما أتقى
فخر الوزارة الذي ما مثله ... بدرٌ علا في مغربٍ أومشرق
ومذ أرانيه زماني لم أبل ... من صرفه بمرعدٍ أومبرق
لاسيما منذ حططت في حمى ... مقامه (1) الأمنع رحل أينقى
أيقنت أني في رجائي لم أخب ... وأن مسعى بغيتي لم يخفق
ندبٌ له في كل حسنٍ آيةٌ ... تنساب في الخلق أوفي الخُلُقِ
__________
(1) سقطت هذه الكلمة من ص، وفي ق: مسعاه.(6/81)
في وجه مسحة بشر إن بدت ... تبهرجت أنوار شمس الأفق
تعتبر الأبصار في اللألاء ما ... عليه من نور السماح المشرق
كالدهر في استينائه وبطشه ... كالسيف في حد الظبى والرونق
إن بخل الغيث استهلت يده ... بوابلٍ من غيث جودٍ غدق
وإن وشت صفحة طرسٍ انجلى ... ليل دجاها عن سنا مؤتلق
بمثلها من حبراتٍ أخجلت ... حواشي الروض خدود المهرق
ما راق في الآذان أشنافٌ سوى ... ملتقطات لفظه المفترق
تود أجياد الغواني أن يرى ... حليها من در ذاك المنطق
فسل به هل آداه الأمر الذي ... حمل في شرخ الشباب المونق
إذا رأى الرأي فلا يخطئه ... يمن اختيار للطريق الأوفق
إيهٍ أبا عبد الإله هاكها ... عذراء تحثو في وجوه السبق
خذها إليك بكر فكرٍ يزدري ... لديك بالأعشى لدى المحلق
لازلت مرهوب الجناب مرتجىً ... موصول عز في سعود ترتقي
مبلغ الآمال فيما تبتغي ... مؤمن الأغراض مما تتقي [ترجمة ابن سلبطور]
وابن سلبطور هو: محمد بن محمد بن أحمد بن سلبطور الهاشمي.
قال في الإحاطة ": من أهل المرية يكنى أبا عبد الله من وجوه بلده وأعيانه نشأ نبيه البيت ساجباً بنفسه وبما له ذيل الحظوة متحلياً بخصل من خط وأدب وزيراً متجنداً ظريفاً درباً على ركوب البحر وقيادة الأساطيل ثم انحط في هواه انحطاطاً أضاع مروءته واستهلك عقاره وهد بيته وألجأه أخيراً إلى اللحاق بالعدوة فهلك بها.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه مجموع شعر وخط وذكاء عن(6/82)
درجة الظرفاء غير منحط إلى مجادة أثيلة البيت شهيرة الحي والميت نشأ في حجر الترف والنعمة محفوفاً بالمالية الجمة فلما عقل عن ذاته وترعرع بين لداته أجرى خيول لذاته فلم يدع منها ربعاً إلا أقفره، ولاعقاراً إلاعقره حتى حط بساحلها واستولى بسفر الإنفاق على جميع مراحلها إلا انه خلص بنفس طيبة وسراوة سماؤها صيبة وتمتع ما شاء من وزير وبم وتأنس لم يعط القياد لهم وفي عفوالله سعة وليس مع التوكل عليه ضعة.
شعره - من شعر قوله يمدح السلطان وأنشدها إياه بالمضارب من وادي الغيران عند قدومه المرية:
أثغرك أم سمطٌ من الدر ينظم ... وريقك أم مسكٌ به الراح تختم
ووجهك أم بادٍ من الصبح نيرٌ ... وفرعك أم داج ٍمن الليل مظلم
أعلل منك الوجد والليل ملتفي ... وهل ينفع التعليل والخطب مؤلم
وأقنع من طيف الخيال بزورةٍ ... لو أن جفوني بالمنام تنعم ثم سرد لسان الدين القصيدة وهي طويلة.
ثم قال ومن شعره مذيلاً على البيت الأخير حسبما نسب إليه ببلده:
نامت جفونك يا سؤلي ولم أنم ... وما ذاك إلا لفرط الوجد والسقم
أشكو إلى الله ما بي من محبتكم ... فهو العليم بما ألقى من الألم
إن كان سفك دمي أقصى مرادكم ... فما غلت نظرةٌ منكم بسفك دمي ومما ينسب إليه كذلك:
قف بي ونادِ بين تلك الطلول ... أين الألى كانوا عليها نزول
أين ليالينا بهم والمنى ... نجنيه غضا ًبالرضى والقبول(6/83)
لا حملوا بعض الذي حملوا ... يوم تولت بالقباب الحمول
إن غبتم يا أهل نجد ففي ... قلبي أنتم وضلوعي حلول (1) ثم قال: ناب في القيادة البحرية عن خاله القائد أبي علي الرنداحي، وولي أسطول المنكب (2) برهة، وتوفي بمراكش عام خمسة وخمسين وسبعمائة، رحمه الله تعالى؛ انتهى.
[23 - من ابن راجح إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين: كتب إلي أبوعبد الله ابن راجح التونسي بما يظهر من أبياته، وهي:
أما والذي لي في حلاك من الحمد ... ومالك ملاكي لدي من الرفد
لقد أشعرتني النفس أنك معرض ... عن المسرف الآتي لفضلك يستجدي
فإن زلة مني بدت لك جهرة ... فصفحاً فما والله أذنبت عن قصد [24 - جواب لسان الدين]
فراجعته بقولي:
أجلك عن عتب يغض من الود ... وأكرم وجه العذر منك عن الرد
ولكنني أهدي إليك نصيحتي ... وإن كنت قد أهديتها ثم لم تجد
إذا مقول الإنسان جاوز حده ... تحولت الغراض منه إلى الضد
فأصبح منه الجد هزلاً مذمماً ... وأصبح منه الهزل في معرض الجد
فما اسطعت قبضاً للعنان فإنه ... أحق السجايا بالعلاء وبالمجد
__________
(1) ق: نزول؛ ص: حمول.
(2) هذه رواية ص؛ وفي ق: المبكم.(6/84)
[ترجمة ابن راجح]
وقال في " الإحاطة " في حق ابن راجح المذكور ما محصله (1) : محمد بن علي بن الحسن بن راجح، باعترافه " ولا تزر وازرة وزر أخرى " (الزمر:7، الإسراء:15، والأنعام:164) تونسي، أبوعبد الله، يعرف بابن راجح، صاحب رواء وأبهة (2) ، نظيف البزة، فاره المركب، مطفف مكيال الإطراء، جموح في إيجاب الحقوق، مترام إلى أقصى أماد التوغل، سخي السان بالثناء ثرثاره، مرسل لعنانه في كل المحافل، متواضع متودد فكه مطبوع حسن الخلق عذب الفكاهة، مخصوص حيث حل من الملوك والأمراء بالإثرة، وممن دونهم بالمداخلة والصحبة، ينظم الشعر ويحاضر بالأبيات، ويقوم على تاريخ بلده، ويثابر على لقاء أهل المعرفة، والأخذ عن أولي الرواية، قدم الأندلس عام خمسين وسبعمائة مفلتاً من الوقيعة بالسلطان ابي الحسن، فمهد له سلطانها كنف بره، وآواه لإلى سعة رعيه، وتأكدت بيني وبينه صحبة.
[25 - من لسان الدين إلى ابن راجح]
كتبت إليه أول قدومه بما نصه أحذوحذوأبيات ذكر أن شيخنا أبا محمد الحضرمي خاطبه بها:
أمن الغربي نفحة بارح ... سرت منه أرواح الجوى في الجوارح
قدحت بها زند الغرام وإنما ... تجافيت في دين السلو لقادح
وما هي إلا نسمة حاجرية ... رمى الشوق منها كل قلب بقادح
رجحنا من غير شك كأنها ... شمائل أخلاق الشريف ابن راجح
__________
(1) ق: حاصله.
(2) ق: وبديهة.(6/85)
فتى هاشم سبقاً إلى كل غاية ... وصبراً، مغار الفتل في كل فادح
أصيل العلا جم السيادة، ذكره ... طراز ندار في برود المدائح
وفرقان مجد يصدع الشك نوره ... حبا الله منه كل صدر بشارح
وفارس ميدان البيان إذا انتضى ... صحائفه أنست مضاء الصفائح
رقيق كما راقتك نغمة ساجع ... وجزل كما راعتك صولة جارح
إذا ما أحتبى مستحضراً في بلاغة ... وخوض خضيم القول منه بسابح
وقد شرعت في مجمع الحفل (1) نحوه ... أسنة حرب للعيون اللوامح
فما ضعضعت منه لصولة صادع ... ولا ذهبت منه بحمة ناصح
تذكرت قساً قائماً في عكاظه ... وقد غص بالشم الأنوف الجحاجح
ليهنك شمس الدين ما حزت من علا ... خواتمه موصولة بالفواتح
رعى الله ركباً أطلع الصبح مسفراً ... لمرآك من فوق الربى والبطائح
ولله ما أهدته كوماء أوضعت ... برحلك في قفر عن الأندلس نازح
أقول لقومي عندما حط كورها ... وساعدها السعدان وسط الأباطح
ذروها وأرض الله لا تعرضوا لها ... بمعرض سوء فهي ناقة صالح
إذا ما أردنا القول فيه فمن لنا ... بطوع القوافي وانبعاث القرائح
بقيت مني نفس وتحفة قادم ... ومورد ظمآن وكعبة مادح
ولا زلت تلقى البر والرحب حيثما ... أرحت السرى من كل غاد ورائح [26 - جواب ابن راجح]
فأجابني بما نصه:
أمن مطلع الأنوار لمحة لامح ... تعاد لمفؤود عن الحي نازح
وهل بالمنى من مورد الوصل يرتوي ... غليل عليل للتواصل جانح
__________
(1) ق: الخصل.(6/86)
فيا فيض عين الدمع مالك والحمى ... ورند الحمى والشيح شيح الأشايح
مرابع آرامي ومورد ناقتي ... فسقياً لها سقياً لناقة صالح
سقى الله ذاك الحي ودقاً فإنه ... حمى لمحات العين عن لمح لامح
وأبدى لنا حر الخيام تزف في ... حلى الحسن والحسنى وحلي الملامح
ترى حي تلك الحور للحور مهيع ... يدل، وهل حسم لداء التبارح
ويا دوحة الريحان هل لي عودة ... لعفر عفار الأندلس بين الأباطح
وهل أنت إلا حلة حاتمية ... تغص نواديها بغاد ورائح
أقام بها الفخر الخطيب منابراً ... لترتيل آيات الندى والمنائح
وشفع بالإنجيل حمد مديحه ... وأوتر بالتوراة شفع المدائح
وفرق بالفرقان كل فريقة ... نأت عن رشاد فيه محض النصائح
وهل هو إلا للبرية مرشد ... لكل هدى هاد لأرجح راجح
فبشرى لسان الدين ساد بك الورى ... وأورى الهدى للرشد أوضح واضح
متى قلت لم تترك مقال لقائل (1) ... وإن لم تقل لم يغني مدح لمادح
فمن حام بالحي الذي أنت ربه ... وعام ببحر من عطاياك طافح
يحق له أن يشفع الحمد بالثنا ... ويغدو بذاك البحر أسبح سابح
ويا فوز ملك دمت صدر صدروه ... وبشرى له قد راح أربح رابح (2)
بآرائك اللاتي تدل على الهدى ... ويبدي لمن خصصت سبل المناجح
ملكت خصال السبق في كل غاية ... وملكت ما ملكت يا ابن الجحاجح
مطامح (3) آمال لأشرف همة ... أقل مراميها أجل المطامح
فدونكها يا مهدي المدح مدحة ... أجبت بها عن مدح أشرف مادح
__________
(1) من قول حسان في مدح ابن عباس:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا (2) سقط البيت من ص.
(3) ق: مطالب.(6/87)
تهنيك بالعام الذي عم مدحه ... مواهب هاتيك البحار الطوافح
فخذها سمي الفخر يا خير مسبل ... على الخلق إغضاء ستور التسامح
ودم خاطب العليا بها خير خاطب ... وأتوق تواق واطمح طامح [بقية ترجمة ابن راجح]
ثم قال لسان الدين: توفي يوم الخميس ثالث شعبان سنة خمس وستين وسبعمائة، وقد ناهز السبعين، ودفناه بروضتنا بباب إلبيرة، وأعفي شارب الشعر من ثاني (1) مقصه، عفا الله تعالى عنا وعنه؛ انتهى.
قلت: رأيت بخط البدر البشتكي في اختصاره لإحاطة لسان الدين وسماه بمركز الإحاطة في هذا المحل ما نصه: قال كاتبه: لو وفق الله تعالى هذا الرجل لم يجب عن مثل تلك الحائية بهذا الهذاء، ولعل ما في كتاب أبي البركات الذي اسمه شعر من لا شعر له أنزل من هذه الطبقة؛ انتهى.
ولقد أشار لسان الدين لهذا بقوله السابق: وأعفي شارب الشعر من ثاني مقصه، فلله دره من لوذعي زان خاتم البراعة بفصه، فلكم له من عبارة وجيزة يقضي بها ما لم يستطع غيره أن يعبر عنه بإطنابه، فعلى كل من يروم التعبير، عما في الضمير، أن يتمسك بأطنابه.
وقال ابن خاتمة: حدثني الشريف الأديب أبوعبد الله ابن راجح التونسي مقدمه علينا بالمرية قال: سجن القاضي أبوعبد الله ابن عبد السلام شاباً وسيماً لحق تعين عليه، فأنشدته مداعباً:
أقاضي المسلمين حكمت حكماً ... غدا (2) وجه الزمان له عبوسا
__________
(1) ص: نابي.
(2) ق: بدا.(6/88)
سجنت على الدراهم ذا الجمال ... ولم تسجنه إذ غصب النفوسا فأجابني بأن قال: إنما شكاه لي أرباب الدراهم، دون أرباب النفوس؛ انتهى.
رجع إلى ما خوطب به لسان الدين رحمه الله تعالى:
[27 - من العشاب إلى لسان الدين]
ومما خاطبه به أبوعبد الله العشاب (1) التونسي في بعض الأعياد قوله:
بيمن أبي عبد الإله محمد ... تيمّن هذا القطر وانسجم القطر
أفاض علينا من جزيل عطائه ... بحوراً تديم المدّ ليس له جزر
وآنسنا لمّا عدمنا مغانياً ... إذا ذكرت في القلب ليس لها (2) ذعر
هنيئاً بعيد الفطر يا خير ماجد ... كريم به تسموالسيادة والفخر
ودمت مدى الأيام في ظل نعمة ... تطيع لك الدّنيا ويعنولك الدهر [28 - من محمد بن محمد بن عبد الملك المراكشي إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين في ترجمة ابن عبد الملك المراكشي ماصورته: وخاطبني بقوله:
وليت ولايةً أحسنت فيها ... ليعلم أنها شرفت بقدرك
وكم والٍ أساء فقيل فيه ... دني القدر ليس لها بمدرك وقال أيضاً يخاطبني في المعنى:
__________
(1) ق: الفشتالي.
(2) ص: من ذكرها.(6/89)
وليت فقيل أحسن خير وال ... ففاق مدى مداركها بفضله
وكم وال أساء فقيل فيه ... دنا فمحا محاسنها بفعله [ترجمة ولد ابن عبد الملك]
وفي الإحاطة ما محصلّه أن المذكور محمد بن محمد بن عبد الملك بن سعيد الأنصاري الأوسي، كان شديد الإنقباض، محجوب المحاسن، تنبوالعين عنه جهامة ووحشة ظاهر وغرابة شكل، وفي طي ذلك أدب غضّ، ونفس حرّة، وحديث ممتع، وأبوّة كريمة، أحد لصابرين على الجهد، المستمسكين بأسباب الحشمة، الراضين بالخصاصة، وأبوه قاضي القضاة نسيج وحده الإمام العالم التاريخي المتبحر في الآداب، تقلبت به أيدي الليالي بعد وفاته لتبعة سلطت على نشبه، فاستقر بمالقة مقدوراً عليه، لا يهتدي لمكان فضله إلا من عثر عليه، ومن شعره قوله:
من لم يصن في أمل وجهه ... عنك فصن وجهك عن ردّه
واعرف له الفضل وعرّف له ... حيث أحل النفس من قصده ثم قال: توفي في ذي القعدة عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة؛ انتهى.
[29 - من المكودي إلى لسان الدين]
ومما مدح به لسان الدين قول أبي عبد الله محمد المكودي الفاسي رحمه الله تعالى:
رحماك بي فلقد خلدت في خلدي ... هوىً أكابد منه حرقة الكبد
حللت عقد سلوي عن فؤادي إذ ... حللت منه محل الروح من جسدي
مرآك بدري، التذاذ فمي ... ودين حبّك إضماري ومعتقدي(6/90)
ومن جمالك نور لاح في بصري ... ومن ودادك روح حل في خلدي
لا تحسبنّ فؤادي عنك مصطبراً ... فقبل حبك كان الصبر طوع يدي
وهاك جسمي قد أوحى النحول به ... فلوطلبت وجوداَ منه لم تجد
بما في طرفك من غنج ومن حور ... وما بثغرك من در ومن برد
كن بين طرفي وقلبي منصفاً فلقد ... حابيت بعضهما فلعدل ولا تحد
فقال لي: قد جعلت القلب لي وطناً ... وقد قضيت على الأجفان بالسهد
وكيف تطلب عدلً والهوى حكم ... وحكمه قط لم يعدل على أحد
من لي بأغيد لا يرثي لذي شجن ... وليس يعرف ما يلقاه ذو كمد
ما كنت من قبل إذعاني لسطوته ... إخال أن الرشا يسطوعلى الأسد
إن جاد بالوعد لم تصدق مواعده ... فإن قنعت بزور الوعد لم يعد
شكوته علتي منه فقال: ألا ... سر للطبيب فما برء الضنى بيدي
فقلت: إن شئت برئي أوشفى ألمي ... فبارتشاف لماك الكوثري جد
وإن بخلت فلي مولى يجود على ... ضعفي ويبرئ ما أضنيت من جسدي وخرج بعد هذا إلى مدح لسان الدين فأطال وأطاب، وكيف لا وقد ملأ من إحسانه الوطاب، رحم الله تعالى الجميع.
[30 - من اليتيم إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين: كتبت إلى عبد الله اليتيم (1) أسأل منه ما أثبت في كتاب " التاج " من شعره، فكتبت إلي بهذه الأبيات:
أما الغرام فلم أخلل بمذهبه ... فلم حرمت فؤادي نيل مطلبه
__________
(1) هو محمد بن علي بن محمد العبدري، وسينقل المقري ترجمته عن التاج فيما يلي، وبعضها مثبت أيضاً في الكتيبة: 59.(6/91)
يا معرضاً عن فؤاد لم يزل كلفاً ... بحبه، ذا حذار من تجنبه
قطعت عنه الذي عودته فغدا ... وحظه من رضاه برق خلبه
أيام وصلك مبذول، وبرك بي ... مجدد، قد صفا لي عذب مشربه
وسمع ودك عن إفك العواذل في ... شغل وبدر الدجى ناس لمغربه
لا أنت تمنعني نيل الرضا كرماً ... ولا فؤادي بوان في تطلبه
لله عرفك ما أذكى تنسمه ... لو كنت تمنحني استنشاق طيبه
أنت الحبيب الذي لم أتخذ بدلاً ... منه وحاشا لقلبي من تقلبه
يا ابن الخطيب الذي قد فقت كل سنا ... أزال عن ناظري إظلام غيهبه
محمد الحسن في خلق وفي خلق ... أكملت باسمك معنى الحسن فازه به
حضرت (1) أوغبت مالي عن هواك غنى ... لا ينقص البدر حسناً في تغيبه
سيان حال التداني والبعاد، وهل ... لمبصر البدر نيل في ترقبه
يا من أحسن ظني في رضاه وما ... ينفك يهدي قبيحاً من تغضبه
إن كان ذنبي الهوى فالقلب مني لا ... يصغي لسمع ملام من مؤنبه [31 - من لسان الدين إلى اليتيم]
فأجبته بهذه الرسالة، وهي ظريفة في معناه: يا سيدي الذي إذا رفعت راية ثنائه تلقيتها باليدين (2) ، وإذا قسمت سهام وداده على ذوي اعتقاده كنت صاحب الفريضة والدين (3) ، دام بقاؤك لطرفة تبديها، وغريبة تردفها بأخرى تليها، وعقيلة بيان تجليها، ونفس أخذ الحزن بكظمها، وكلف الدهر بشت نظمها، تؤنسها وتسليها، لم أزل أشد على بدائعك يد الضنين، وأقتني
__________
(1) ص: نأيت.
(2) فيه إشارة إلى قول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين (3) الفريضة: الإرث أو الحصة منه.(6/92)
درر كلامك، ونفثات أقلامك، اقتناء الدر الثمين، والأيام بلقائك تعد ولا تسعد، وفي هذه الأيام انثالت علي سماؤك بعد القحط، وتواترت لدي آلاؤك على شحط، وزارتني من عقائل بيانك كل فاتنة الطرف، عاطرة العرف، رافلة في حلل البيان والظرف، لوضربت بيوتها بالحجاز، لأقرت لها العرب العاربة بالإعجاز، ما شئت من رصف المبنى، ومطاوعة اللفظ لغرض المعنى، وطيب الأسلوب، والتشبث بالقلوب غير أن سيدي أفرط في التنزل وخلط المخاطبة بالتغزل وراجع الالتفاف ورام استدراك مافات ويرحم الله تعالى شاعر المعرة فلقد أجاد في قوله وانكر مناجاة الشوق بعد انصرام حوله (1) :
أبعد حول تناجي الشوق ناجيةٌ ... هلاة نحن على عشرٍ من العشر (2) " ولقد تجاوزت في الأمد وأنسيت أخبار صاحبك عبد الصمد فأقسم بألفات القدود وهمزات الجفون السود وحامل الأرواح مع الألواح بالغدووالرواح لولا بعد مزارك ما أمنت غائلة ما تحت إزارك ثم إني حققت الغرض وبحثت عن المشكل الذي عرض فقلت للخواطر (3) انتقال ولكل مقام مقال وتختلف الحوائج باختلاف الأوقات ثم رفع اللبس خبر الثقات ".
ومنها - " وتعرفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التكتيب والتعليم، والحنين إلى العهد القديم، فسررت باستقامة حاله، وفضل ماله، وإن لاحظ
__________
(1) من قصيدته التي مطلعها:
يا شاهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعواناً على السهر (شروح السقط: 114) .
(2) الناحية: الناقة السريعة؛ والعشر: شجر، واراد به هنا المكان الذي ينبت فيه.
(3) ق: للخاطر.(6/93)
اللاحظ ما قال الجاحظ (1) ، فاعتراض لا يرد وقياس لا يطرد حبذا والله عيش التأديب فلا بالضنك ولا بالجديب معاهدة الإحسان ومشاهدة الصور الحسان (2) . يميناً إن المعلمين لسادة المسلمين وإني لأنظر منهم كلما خطرت على المكاتب أمراء فوق المراتب من كل مسيطر الدرة متقطب الأسرة متنمر للوارد تنمر الهرة يغدوإلى مكتبه كالأمير في موكبه حتى إذا أستقل في فرشه (3) ، واستوى على عرشه وترنم بتلاوة قالونه وورشه (4) ، أظهر للخلق احتقار أوأزرى بالجبال وقاراً ورفعت إليه الخصوم ووقف بين يديه الظالم والمظلوم فتقول كسرى في إيوانه والرشيد في أوانه أوالحجاج بين أعوانه فإذا استولى على البدر السرار وتبين للشهر الغرار تحرك إلى الخرج تحرك العود إلى الفرج استغفر الله مما يشق على سيدي سماعه وتشمئز من ذكره طباعه شيم اللسان خلط الإساءة بالإحسان والغفلة من صفات الإنسان فأي عيش كهذا العيش وكيف حال أمير هذا الجيش طاعة معروفة ووجوه إليه مصروفة فإن أشار بالإنصات لتحقق القصات فكأنما طمس على الأفواه ولأم بين الشفاه وإن أمر بالإفصاح وتلاوة الألواح علا الضجيج والعجيج وحف به كما حف بالبيت الحجيج وكم من بين ذلك رشوة تدس وغمزة لا تحس ووعد يستنجز وحاجة تستعجل وتحفز هنأ الله سيدي ما خوله أنساه بطيب أخراه أوله وقد بعثت بدعابتي مع إجلال قدره والثقة وبسعة صدره فليتها بيمينه ويفسح لها في المرتبة بينه وبين خدينه ويفرغ لمراجعتها وقتاً من أوقاته عملاً بمقتضى دينه وفضل يقينه؛ والسلام ".
__________
(1) يومئ إلى أن الجاحظ قد ذم معلمي الصبيان، ويداعب ابن اليتيم في عودته إلى عودته إلى هذه الحرفة.
(2) ومشاهدة ... الحسان: سقطت من ق.
(3) ق: استقبل على فرشه.
(4) قالون وورش: مقرئان اختص كل منهما بقراءة من القراءات.(6/94)
[ترجمة أبي عبد الله اليتيم]
ثم قال ومن المداعبة التي وقعت إليها الإشارة ما كتب به إليه صديقه أبوعلي ابن عبد السلام:
أبا عبد الإله نداء خل ... وفي جاء يمنحك النصيحة
إلى كم تألف الشبان غياً ... وخذلاناً أما تخشى الفضيحة فأجبه بقوله:
فديتك صاحب السمة المليحه ... ومن طابت ارومته الصريحة
ومن قلبي وضعت له محلاً ... فما عنه يحل بأن أزيحه
نأيت فدمع عيني في انسكاب ... واكبادي لفرقتكم قريحة
وطرفي لا يتاح له رقادٌ ... وهل نومٌ لأجفانٍ جريحه
وزاد تشوقي أبيات شعرٍ ... أتت منكم بألفاظٍ فصيحه (1)
ولم تقصد بها جداً ولكن ... قصدت بها مداعبة وقيحه
فقلت أتألف الشبان غياً ... وخذلاناً أما تخشى الفضيحة
ففيهم حرفتي وقوام عيشي ... وأحوالي بخلطتهم نجيحه
وامري فيهم أمرٌ مطاعٌ ... وأوجههم مصابيحٌ صبيحة
وتعلم أنني رجلٌ حصور ... وتعرف ذاك معرفةً صحيحة ثم قال لسان الدين - بعد إيراده ما مر - ما صورته ولم اشتهر المشيب بعارضه ولمته وخفر الدهر بعهود صباه وأذمته أقلع استرجع وتألم لما فرط وتوجع وهوالآن من جلة (2) الخطباء طاهر العرض والثوب خالص
__________
(1) سقط هذان البيتان من ق.
(2) ق: جملة.(6/95)
من الثوب بادٍ عليه قبول قابل التوبة وتوفي في أخريات صفر سنة خمسين وسبعمائة في الطاعون رحمه الله تعالى وغفر له؛ انتهى.
واليتيم المذكور هوأبوعبد الله بن محمد بن علي العبدري المالقي وفي حقه يقول لسان الدين في التاج ما مثاله: هومجموع أدوات حسان من خط ونغمة (1) لسان أخلاقه روض تتضوع نسماته وبشره صبح تتألق قسماته ولاتخفى سماته يقرطس أغراض الدعابة ويصميها ويفوق سهام الفكاهة إلى مراميها فكلما صدرت في عصره هازلة أوأبيات منحطة عن الإجادة نازلة خمس أبياتها وذيلها وصرف معانيها وسيلها وتكها سمر الندمان وأضحوكة الأزمان وهوالآن خطيب المسجد الأعلى بمالقة متحل بوقار وسكينة حال من أهلها بمكانة مكينة لسهولة جانبه واتضاح مقاصده في الخير ومذاهبه واشتغل لأول أمره بالتكتيب وبلغ الغاية في التعليم والترتيب والشباب لم ينصل خضابه ولا سلت للمشيب عضابه ونفسه بالمحاسن كلفة صبة وشأنه كله هوى ومحبة ولذلك ماخاطبه بعض أودائه وكلاهما رمى أخاه بدائه حسبما يأتي خلال هذا المقول وفي أثنائه؛ انتهى.
وذكر نحوما تقدم ذكره سامح الله الجميع بفضله
[32 - مخاطبة الكرسوطي للسان الدين]
وقال لسان الدين في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الكرسوطي الفاسي (2) نزيل مالقة ما صورته: وأنشدني وأنا بمالقة أحاول لوث العمامة وأستعين بالغير على الإحكام لها:
__________
(1) ق: من خطط ونعمة.
(2) ترجمة الكرسوطي في الإحاطة، الورقة: 50 وفي البيتان.(6/96)
أمعممّاً قمراً تكامل حسنه ... أربى على الشمس المنيرة في البها
لا تلتمس ممّن لديك زيادةً ... فالبدر لا يمتار من نور السها [ترجمة ابي عبد الله الكرسوطي]
قال لسان الدين: وهوفقيه محدث متكلم، ألف كتباً منها الغرر في تكميل الطرر، طرر أبي إبراهيم الأعرج، ثم كتاب الدرر في إختصار الطّرر، المذكور، وتقييدان على الرسالة كبير وصغير، ولخص التهذيب لابن بشير، وحذف أسانيد المصنفات الثلاثة، والتزم إسقاط التكرار، واسترك الصحاح الواقعة في الترمذي على البخاري ومسلم، وقيد على مختصر الطليطلي، وشرع في تقييد على قواعد الإمام أبي الفضل عيّاض بن موسى برسم ولدي، ويصدر منه الشعر مصدراً لاتكنفه منه العناية، وكانت له اليد الطولى في عبارة الرؤيا، ومولده بفاس عام تسعين وستمائة، انتهى ملخصاً.
[33 - مخاطبة ابن الزبير للسان الدين]
وقال في ترجمة أبي عمروبن الزبير ما صورته: ومما خاطبني به عند إيابي من العدوة في غرض الرسالة قوله:
نوالي الشكر للرحمن فرضاً ... على نعم كست طولاً وعرضا
وكم لله من لطف خفي ... لنا منه الذي قد شا وأمضى
بمقدمك السعيد أتت سعود ... ننال بها نعيم الدهر محضا
فيا بشرى لأندلس بما قد ... به والاك بارينا وأمضى
ويا لله من سفر سعيد ... قد أقرضك المهيمن فيك قرضا
ورحت بنية أخلصت فيها ... فأبت بكل ما يبغى ويرضى
وثبت لنصرة الإسلام لمّا ... علمت بأن الأمر إليك أفضى(6/97)
لقد أحييت بالتقوى رسوماً ... كما أرضيت بالتمهيد أرضا
وقمت بسنة المختار فينا ... تمهد سنة وتقيم فرضا
ورضت من العلوم الصعب حتى ... جنيت ثمارها رطباً وغضاً
فرأيك راجح فيما تراه ... وعزمك من مواضي الهند أمضى
تدبر أمر مولانا فيلقى ال ... مسيء لديك إشفاقاً وإغضا
فأعقبنا شفاء وانبساطاً ... وقد كانت قلوب الناس مرضى
ومن أضحى على ظماء وأمسى ... يرد إن شاء من نعماك حوضا
أبا عبد الإله إليك أشكو ... زماني حين زاد الفقر عضا
ومن نعماك أستجدي لباساً ... تفيض به علي الجاه فيضا
بقيت مؤملاً ترجى وتخشى ... ومثلك من إذا جاد أرضى [ترجمة أبي عمرو ابن الزبير]
وأبوعمرو المذكور هومحمد بن أحمد بن إبراهيم بن الزبير، أبوه الأستاذ أبوجعفر ابن الزبير، أستاذ الزمان شيخ أبي حيان وغيره، وقال في الإحاطة في حقه: إنه فكه حسن الحديث، ركض طرف الشبيبة في ميدان الراحة منكباً عن سنن أبيه وقومه، مع شفوف وإدراك، وجودة وحفظ، كانا يطمعان والده في نجابته، فلم يعلم قادحاً، شرق فنال حظوة، وجرت عليه خطوب، ثم عاد إلى الأندلس فتطور بها، وهوالأن قد نال منه الكبر يزجي لوقته (1) بمالقة متعللاً برمق من بعض الخدم المخزنية (2) ، إستجاز له والده الطم والرم من أهل المغرب والمشرق، وبضاعته في الشعر مزجاة، ثم قال: مات تاسع المحرم عام خمسة وستين وسبعمائة؛ انتهى.
__________
(1) ق: الوقت.
(2) المخزنية: نسبة إلى المخزن وهو الدولة.(6/98)
[ترجمة أبي يحيى الأكحل]
وقال في ترجمة أبي يحيى محمد بن أحمد بن محمد بن الأكحل ما صورته:
شيخ هيدوري (1) الذقن، خدوع الظاهر، خلوب اللفظ، شديد اللفظ، شديد الهوى إلى الصوفية، والكلف بإطراء أهل الخير، من بيت صون وحشمة، متقدم في معرفة الأمور العلمية، خائض في غمار التصوف، وانتحال في كيمياء السعادة، راكب متن دعوى عريضة في مقام التوحيد، تكذبها أحوالها الراهنة، لمعاصاة خلقه على الرياضة واستيلاء الشره، وغلبة سلطان الشهوة، والمشاحة أيام الولاية، والسباب (2) الشاهد بالشدة، والحلف المتصل بياض اليوم في ثمن الخردلة باليمين التي فيها فساد الأنكحة، والغضب الذي يقلب العين.
[34 - مخاطبة الأكحل للسان الدين]
خاطبني بين يدي نكبته ولم أظن الشعر مما تلوكه جحفلته (3) ، ولكنه من أهل الكفاية:
رجوتك بعد الله يا خير منجد ... واكرم مأمول وأعظم مرفد
وأفضل من أملت للحادث الذي ... فقدت به صبري وما ملكت يدي
وحاشا وكلا أن يخيب مؤملي ... وقد علقت بابن الخطيب محمد
وما أنا إلا عبد نعمته التي ... عهدت بها يمني وإنجاح مقصدي
وأشرف من حض الملوك على التقى ... وأبدى لهم رشداُ نصيحة (4) مرشد
__________
(1) ق: هيدري؛ ولعلها هدوري من قولهم هدر النبت إذا كثر وطال.
(2) ص: والسيد ولعلها محرفة عن " والسب ".
(3) الجحفلة للدابة بمنزلة الشفة للإنسان.
(4) ق: رشد النصيحة.(6/99)
وساس الرعايا الآن خير سياسة ... مباركة في كل غيب ومشهد
وأعرض عن دنياه زهداً وإنها ... لمظهرة طوعاً له عن تودد
وما هو إلا الليث إن أتى ... له خائف أوجاء مغناه مجتدي
وبحر علوم دره كلماته ... إذا رددت في الحفل أي تردد
صقيل مراء الفكر رب لطائف ... محاسنها تجلى بحسن تعبد
بديع عروج النفس للملأ الذي ... تجلت له الأسرار في كل مصعد
شفيق رفيق دائم الحلم راحم ... ورأي جميل للجميل معود
صفوح عن الجاني على حين قدرة ... مواصل تقوى الله في اليوم والغد
أيا سيدي يا عمدتي عند شدتي ... ويا مشربي مهما ظمئت وموردي
حنانينك والطف بي وكن لي راحماً ... ورفقاً على شيخ ضعيف منكد
رجاك رجاء للذي أنت أهله ... ووافاك يهدي للثناء المجدد
وأمك مضطراً لرحماك شاكياً ... بحال كحر الشمس حر توقد
وعندي افتقار لا يزال مواصلاً ... لأكرم مولى حاز أجراً وسيد
ترفق بأولاد صغار بكائهم ... يزيد لوقع الحادث المتزيد
وليس لهم إلا إليك تطلع ... إذا مسهم ضر أليم التعهد
أنلهم أيا مولاي نظرة مشفق ... وجد بالرضى وانظر لشمل مبدد
وعامل أخا الكرب الشديد برحمة ... وأسعف بغفران الذنوب وأسعد
ولا تنظرن إلا لفضلك لا إلى ... جريمة شيخ عن محلك مبعد
وإن كنت قد أذنبت إني تائب ... فعود لي الفعل الجميل وجدد (1)
بقيت بخير لا يزال وعزة ... وعيش هنيْ كيف شئت وأسعد
وسخرك الرحمن للعبد؛ إنه ... لمثن وداع للمحل الممجدد ثم قال: وهوالآن من مسطري الأعمال على تهور واقتحام كبرة (2) ، من
__________
(1) سقط البيت من ص.
(2) ق: كبيرة.(6/100)
خط لا غاية وراءه في الركاكة، كما قال المعري (1) :
تمشت (2) فوقه حمر المنايا ... ولكن بعدما مسخت نمالا (3) [35 - مخاطبة ابن عياش للسان الدين]
وقال في ترجمة أبي عبد الله محمد بن علي بن عياش بن مشرف الأمي: إنه من أهل الأصالة والحسب، ظهرت منه على حداثة السن أبيات، ونسب إليه شعر توسل بهن وتصرف في الإشراف، فحمدت سيرته، وكتب إلي بقوله:
وسفرت شموس اليمن والإقبال ... وبدت بدور السعد ذات كمال
لقدوم سيدنا الوزير محمد ... أعزز به من سيد مفضال
قمر تجلى بين زهر تجتلي ... يهدي لفعل الخير لا الإضلال
سر آمناً لا تكترث، فلأنت في ... حفظ الإله الواحد المتعالي
براً وبحراً لا تخاف ململة ... وعدو ذاتك خلف ظهرك صالي
لا يستقر له قرار بعدكم ... مما يحل به من الأوجال
والآن ترجع سالماً ومبشراً ... ببلوغ كل مسرة ومنال وهي طويلة، نمطها متخلف عن الإجادة، وهي من مثله مما يستظرف؛ انتهى.
[36 - مخاطبة أبي عبد الله الوادي آشي للسان الدين]
وقال في ترجمة أبي عبد الله محمد العراقي الوادي آشي: فاضل
__________
(1) شروح السقط: 104.
(2) السقط: وديت.
(3) البيت في وصف السيف؛ أي أن إفرنده وكأنما دبت فوقه النمل.(6/101)
الأبوة، بادي الاستقامة، حسن الأخلاق، تولى أعمالاً، كتب إلي وقد أبى عملاً عرض عليه بقوله:
أأصمت ألفاً ثم أنطق بالخلف ... وأفقد إلفاً ثم آنس بالجلف
وأمسك دهري ثم أفطر علقماً ... ويمحق بدري ثم ألحق بالخسف
وعزكم لا كنت بالذل عاملاً ... ولو أن ضعفي ينتهي بي إلى الحتف
فإن تعلموني في تصرف عزة ... وعدل وإلا فاحسموا علة الصرف
بقيتم وسحب العفومنكم تظلني ... وحظ ثنائي دائماًثاني العطف [37 - مخاطبة أبي محمد الأزدي للسان الدين]
وقال في ترجمة أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الأزدي ما صورته: وخاطبني لما وليت خطة الإنشاء وغيرها في أواخر عام تسعة وأربعين وسبعمائة بما نصه:
حشاشة نفس أعلنت لمذيبها ... بتذكار أيام الوصال وطيبها
ونادته رحمى أحييها نفس مد نف ... تموت إذا لم تحيها بوجيبها
فداو بقرب منك لاعج وجدها ... وفيض أماقيها، وطول نحيبها
وقد بلغت حداً به صح في الهوى ... وأحكامه ثوب الضنى في نصيبها
وهل يتداوى داء نفس تعيسة ... إذا كان يوماً داؤها من طبيبها
لعل أوار الوجد تخمد ناره ... فيبرد عنها ما بها من لهيبها
إليك حداها الشوق يا بدرها الذي ... يعز عليها منه طول مغيبها
سلكت بها سبل الهوى فهي تبتغي ... لقاك وتبغي غفلة من رقيبها
اجبها بإبقاء عليها فإنها ... ستفنى إذا ما لم تكن بمجيبها
ومل نحوها بالود فهي قد أذعنت ... كما تذعن الأقلام لابن خطيبها
وحيد الزمان الماهر الباهر الحلى ... وجهبذ آداب العلا وأديبها
إمام معاليها، وبحر علومها ... وبدر دياجيها، وصدر شعوبها(6/102)
مصرفها كيف اثنت ومعيدها ... ومبدئها حيث انتهت ومصيبها
ورافع أعلام البلاغة والذي ... أتى ناثراً أوناظماً بعجيبها
وحامل رايات الرياسة رفعة ... قضى المجد تخصيصاً لها بوجوبها
من الغر لمن أوجبت لشبابها ... معاليهم الفضل العظيم وشيبها
من أبناء أرباب المنابر والألى ... سما فخرهم بين الورى بركوبها
خلال ابن عبد الله طود الحجى أبي ... محمد باد حسنها من ضروبها
أجاد وأجدى فأسل عن ذكر طيْ ... وحاتمها زهواً به وحبيبها
ففي كل ما يبدي محمد عبرة ... محاسنها تنبي بسر عيوبها
تجيب القوافي إن دعا ببعيدها ... وتنقاد طوعاً إن دعا بقريبها
تخير أخلاق الكرام فلم يكن ... نهى ولهى يرضى بغير رحيبها
تقدم في دار الخلافة حاجباً ... لينجدها في سلمها وحروبها
وقام لها في ساحة العز كاتباً ... بمحضرها أسرارها ومغيبها
فأبدى من أنواع الفضائل أوجها ... تقر لها بالحسن عين لبيبها
هنيئاً به يمناً بأسعد ماثل ... لغرناطة قاض بصرف خطوبها
فللسعد تأثير يجيْ إذا جرى ... به قدر كالريح عند هبوبها
أموقد نار الفكر يقدح زندها ... فيسبي به الألباب سحر نسيبها
حداني إليك الحب قدماً ومال بي ... حديث لآمال خلت عن غريبها
فقدمتها نظماً قوافي قصرت ... لديك بذاوي فكرتي ورطيبها
وكنت كمن وافى لدى الدار بالحصى ... يرفع منها ساهياً عن عيوبها
فصلها وخذ بالعفوفيها فلم أصل ... لأبلغ منها فأغتفر من ذنوبها [قطع من شعر الأزدي]
وصاحب هذا النظم من أهل بلش، وله اقتدار على النظم والنثر، قال في(6/103)
الإحاطة ما محصله: ومما وقع له أثناء مقامات وأغراض تشهد باقتداره مهملأً:
رعى الله عهداً حوى ما حوى ... لأهل الوداد وأهل الهوى
أراهم أموراً حلا وردها ... وأعطاهم السؤال كلاً سوا
ولما حلا الوصل صالوا له ... وراموه مأوى وماء روا
وأوردهم سر أسرارهم ... ورد إلى كل داء دوا
وما أمل طال إلا وهي ... وما آمل صال إلا هوى وقال معجمة:
بث بيني يبثني فيض جفني ... شغفي شفني فشبت ببيني
فتنتني بغنج ظبي تجنى ... تبتغي نقض نيتي بتجني
بزة زينت قضيب تثني ... قضيت بغيتي ففزت بفن
خفت تشتيت بنيتي فجفتني ... ثقة تثني فخيب ظني وقال كلمة وكلمة:
الهوى شفني وأهمل جفني ... أدمعاً تثني دماً بتثني
احور شب حر بثي لما ... نقض العهد بين طول تجني
حاكم يتقى ولا ذنب إلا ... شغف لم يخب لمسعاه ظني
ماله ينقض العهود فيشجي ... ولها يثني مسهد جفن
لم يجز وصله فبت محالاً ... يقتضي حل بغيتي كل فن وقال يرثي ديكاً فقده، ويصف الوجد الذي وجده، ويبكي عدم أذانه، إلى غير ذلك من مستظرف شانه:
أودى به الحتف لما جاءه الأجل ... ديكاً فلا عوض منه ولا بدل(6/104)
قد كان لي أمل في أن يعيش فلم ... يثبت مع الحتف في بقياه لي أمل
فقدته فلعمري إنها عظة ... وبالمواعظ تذري دمعها المقل
ما كان أبدع مرآه ومنظره ... وصفاً به كل حين يضرب المثل
كأن مطرف وشي فوق ملبسه ... عليه من كل حسن باه حلل
كأن إكليل كسرى فوق مفرقه ... وتاجه فهوعالي الشكل محتفل
موقت لم يكن يعزى له خطأ ... فيما يرتب من ورد ولا خلل
كأن زرقال (1) فيما مر علمه ... علم المواقيت مما رتب الأول
يرحل الليل، يحيي بالصراخ فما ... يصده كلل عنه ولا ملل
رأيته قد وهت منه القوى فهوى ... للأرض فعلأً يريه الشارب الثمل
لو يفتدى بديوك الأرض قل له ... ذاك الفداء ولكن فاجأ الأجل
قالوا الدواء فلم يغن الدواء ولم ... ينفعه من ذاك ما قالوا وما فعلوا
أملت فيه ثواباً أجر محتسب ... إن نلت ذلك صح القول والعمل وأمره السلطان أبوعبد الله سادس الملوك النصريين، وقد نظر إلى شلير وقد تردى بالثلج وتعمم، وكمل ما أراد من بزته وتمم، أن ينظم في وصفه، فقال بديهاً:
وشيخ جليل القدر قد طال عمره ... وما عنده علم بطول ولا قصر
عليه لباس أبيض باه السنا ... وليس بثوب أحكمته يد البشر
فطوراً تراه كله كاسياً به ... وكسوته فيها لأهل النهى عبر
وطوراً تراه عارياً ليس يكتسي ... بحر ولا برد من الشمس والقمر
وكم مرت الأيام وهوكما ترى ... على حاله لم يشك ضعفاً ولا كبر
وذاك شلير شيخ غرناطة التي ... لبهجتها في الأرض ذكر قد اشتهر
__________
(1) يريد إبراهيم بن يحيى النقاش المعروف بولد الزرقال وقد وضع صحيفة في الرصد اسمها الزرقلة (او الزرقالة) .(6/105)
بها ملك سامي المراقي، أطاعه ... كبار ملوك الأرض في حالة الصغر
تولاه رب العرش منه بعصمة ... تقيه مدى الأيام من كل ما ضرر وتوفي المذكور في بلده بلش في طاعون خمسين وسبعمائة؛ انتهى.
[38 - من لسان الدين إلى ابن رضوان]
وقال في " الإحاطة " في ترجمة صاحب القلم الأعلى بالمغرب أبي القاسم بن رضوان النجاري (1) ما صورته: ولما ولي الإنشاء بباب ملك المغرب ظهر لسلطاننا بعض قصور في المراجعات، فكتبت إليه (2) :
أبا القاسم (3) لا زلت للفضل قاسماً ... بميزان عدل ينصر الحق من نصر
مدادك وهوالمسك طيباً ومنظراً ... وإلا سواد القلب والفود والبصر
عهدناه في كل المعارف مطنباً ... فما باله في حرمة الود مختصر
أظنك من ليل الوصال انتخبته ... إلينا، وذاك الليل يوصف بالقصر
أردنا بك العذر الذي أنت أهله ... ومثلك لا يرمي بعي ولا حصر [39 - جواب ابن رضوان]
فراجعني، ولا أدري أهي من نظمه أم نظم غيره:
__________
(1) هو صاحب كتاب " الشهب اللامعة في السياسة النافعة " وترجمته في الإحاطة، الورقة: 244 والكتيبة: 254 ونبل الابتهاج 123 والتعريف 41 (وص: 20) وفهرسة السراج (ك: 1242 د: 2643) الورقة: 139، 148 ومستودع العلامة: 52 ونثير الجمان، الورقة: 65 (نسخة دار الكتب) وجذوة الاقتباس: 247 وقد كتبنا عنه دراسة مفصلة (نشرت في كتاب العيد الصادر ببيروت سنة 1967) .
(2) الأبيات وجابها في الكتيبة: 256.
(3) كناه في الإحاطة بأبي محمد.(6/106)
حقيق أبا عبد الإله بك الذي ... لمذهبه في البر يتضح الأثر
وإن الذي نبهت مني لم يكن ... نؤوماً وحاشا الود أن أغمط الأثر
ورب اختصار لم يشن نظم ناظم ... ورب اقتصار لم يعب نثر من نثر
وعذرك عني من محاسنك التي ... نظام حلاها في الممادح ما انتثر
ومن عرف الوصف المناسب منصفاً ... تأتى له نهج من العذر ما دثر [ترجمة ابن رضوان]
وهوعبد الله ابن يوسف بن لرضوان بن يوسف بن رضوان النجاري، من أهل مالقة، صاحب العلامة العلية والقلم الأعلى بالمغرب، قرأ على جماعة منهم بتونس قاضي الجماعة ابن عبد السلام، قال في التاج فيه أيام لم يفهق حوضه، ولا أزهر روضه، ما نصه: أديب أحسن ما شاء، ومتح قليبه فملأ الدلووبل الرشاء، وعانى على حداثته الشعر والإنشاء، وله ببلده بيت معمور بفضل وأمانة، ومجد وديانة، ونشأ هذا الفاضل على أتم العفاف والصون، فما مال إلى فساد بعد الكون، وله خط بارع، وفهم إلى الغوامض مسارع، وقد أثبت من كلامه، ونفثات أقلامه، كل محكم العقود، زار بابنة العنقود، فمن ذلك قوله (1) :
لعلكما أن ترعيا لي وسائلا ... فبالله عوجا بالركاب وسائلا ومنها:
لقد جار دهري إذ نأى بمطالبي ... وظل بما أبغى من القرب ماطلا
عتبت عليه فاغتدى لي عتباً ... وقال: أصخ لي لا تكن قط عاذلا
أتعبتني أن قد أفدتك موقفاً ... لدى أعظم الأملاك حلماً ونائلا
__________
(1) القصيدة في الإحاطة: 246 - 248.(6/107)
مليك حباه الله بالخلق الرضى ... وأعلى له في المكرمات المنازلا وهي طويلة.
ومن نظم ابن لرضوان المذكور (1) :
تبرأت من حولي إليك وأيقنت ... برحماك آمالي أصح يقين
فلا أرهب الأيام إذ كنت ملجأ ... وحسبي يقيني باليقين يقيني وكلفه أبوعنان وصف صيد من غدير فقال من أبيات (2) :
ولرب يوم في حماك شهدته ... والسرح ناشرة عليك ظلالها
حيث الغدير يريك من صفحاته ... درعاً تجيد به الرياح صقالها
والمنشآت به تدير حبائلأً ... للصيد في حيل تدير حبالها
وتريك إذ يلقي بها اليم الذي ... أخفت جوانحه وغاب خلالها
فحسبتها زرداً وأن (3) عوالياً ... تركت به عند الطعان نصالها وقال فيه أيضاً:
أبصرت في يوم الغدير عجائباً ... جاءت بآيات العجائب مبصره
سمكاً لدى شبك فقل ليل بدت ... فيه الزواهر للنواظر نيره
فكأن ذا (4) زرد تضاعف نسجه ... وكأن تلك أسنة متكسره ومما نظمه عن أمر الخلافة المستعينية ليكتب في طرة قبة رياض الغزلان
__________
(1) الإحاطة: 250 والكتيبة: 259.
(2) الكتيبة: 257.
(3) ق ص: لو أن.
(4) ق: فكأنه.(6/108)
من حضرته (1) :
هذا محل المنى بالأمن معمور ... من حله فهوبالآمال محبور
مأوى النعيم به ما شئت من ترف ... تهوى محاسنه الولدان والحور
ويطلع الروض منه مصنعاً عجباً ... يضاحك النور من لألائه النور
ويسطع الزهر من أرجائه أرجاً ... ينافح الند نشر منه منشور
مغنى السرور سقاه الله ما حملت ... غر الغمام وحلته الأزاهير
انظر إلى الروض تنظر كل معجبة ... مما ارتضاه لرأي العين تحبير
مر النسيم به يبغي القرى فقرى ... دراهم النور تبديد وتنثير
وهامت الشمس في حسن الظلال به ... ففرقت فوقها منه دنانير
والدوح ناعمة تهتز من طرب ... همساً، وصوت غناء الطير مجهور
كأنما الطير في أفنائها صدحت ... بشكر مالكها، والفضل مشكور
والنهر شق بساط الروض تحسبه ... سيفاً ولكنه في السلم مشهور
ينساب للجة الخضراء أزرقه ... كالأيم جد انسياباً وهو مذعور
هذي المصانع مولانا التي جمعت ... شمل السرور، وأمر السعد مأمور
وهذه القبة الغراء ما نظرت ... لشكلها العين إلا عز تنظير
ولا يصورها في الفهم ذو فكر ... إلا ومنه لكل الحسن تصوير
ولا يرام بحصر وصف ما جمعت ... من المحاسن إلا صد تقصير
فيها المقاصير تحميها مهابته ... لله ما جمعت تلك المقاصير
كأنها الأفق تبدوالنيرات به ... ويستقيم بها في السعد تسيير
وينشأ المزن في أرجائه وله ... من عنبر الشحر إنشاء وتسخير
وينهمي القطر منه وهو منسكب ... ماء من الورد يذكو منه تقطير
__________
(1) القصيدة في الاستقصا 4: 40.(6/109)
وتخفق الريح منه وهي ناسمة ... مما أهب به مسك وكافور
ويشرق الصبح منه وهو من غرر ... غر تلألأ منهن الأسارير
وتطلع الشمس فيه من سنا ملك ... تبسم الدهر منه وهو مسرور
لله منه إمام عادل بهرت ... أوصافه فهي للأمداح تحبير
غيث السماح وليث البأس فالق به ... محيي الهدى وهوللعادين تتبير
قل للمباري وإن لم تلقه أبداً ... ورب فرض محال وهو تقدير
فخر الأنام أحل الفخر منزله ... فكل مدح على علياه مقصور
إذا أبوسالم مولى الملوك بدا ... بدراً تضيْ بمرآه الدياجير
فأي خطب يخاف الدهر آمله ... وأي سؤل له في النيل تعذير
بشراك بشراك يا نجل الخلافة ما ... خولت من نيلها والضد مقهور
لك الخلود بعز الملك في نعم ... لا يعتري صفوها في الدهر تكدير
فانعم هنيئاً بلذات مواصلة ... لا يأتليهن إلمام وتكرير
لازلت تلقى المنى في غبطة أبداً ... ما دام لله تهليل وتكبير وقال وكتب به على قلم فضة:
إذا شهدت بالنصر خطية القنا ... فملكت أمر الفتح من دون ما شرط
كفى شاهداً مني بفضلك ناطقاً ... لساني مهما أفصحت ألسن الخطي وقال وكتب به على سكين:
أروح بأمر المستعين وأغتدي ... لإذهاب طغيان اليراع الرواقم
ويفل في الأقلام حدي مصلحاً ... كفعل ظبي أسيافه في الأقالم قال: ومما كتب به على قصيدة عيدية:
لما رأيت هدايا أعظمها ... هدية الطيب في حسن وتعجيب(6/110)
ولم أجد في دروب العاطرات شذا ... يحكي ثنائك في نشر وفي طيب
أهديت نحوك منه كل ذي أرج ... أنفاسه بين تشريق وتغريب
وفي القبول منال السعد فالق به ... تلق الأماني بتأهيل وترحيب وقال في رجل يلقب بالبعير:
وذي لقب عنت له عند صحبه ... مآرب لم يسعد عليهن مسعد
دعوه بعيراً فاستشاط فقال مه ... أبا أحمد، وارتد عنهم يهدهد
فقلت له عد نحوهم لتعود من ... مرامك بالمطلوب توفى وتحمد
فقال وقد غص الفضاء بصوته ... وقد هدرت منه الشقاشق تزبد
لئن عدت نادوني بعيراً كمثلها ... فقلت له لا تخشى فالعود (1) أحمد وقال (2) :
وبخيل لما دعوه لسكنى ... منزل بالجنان ضن بذلك
قال لي مخزن بداري فيه ... كل مالي فلست للدار تارك
قلت وفقت للصواب فحاذر ... قول خل مرغب في انتقالك
لا تعرج على الجنان بسكنى ... ولتكن ساكناً بمخزن مالك (3) وقال رحمه الله تعالى في مركب:
يا رب منشأة عجبت لشأنها ... وقد احتوت في البحر أعجب شان
سكنت بجنبيها عصابة شدة ... حلت محل الروح في الجثمان
فتحركت بإرادة مع أنها ... في جنسها ليست من الحيوان
__________
(1) يوري بكلمة " العود " وهو البعير أيضاً. وفي ص: لا تمش.
(2) الأبيات في الإحاطة: 254 وكذلك القطعتان التاليتان. والثانية منهما في الكتيبة: 258.
(3) يوري بمالك التي تعني المال، ومالك هو خازن النار.(6/111)
وجرت كما قد شاءه سكانها ... فعلمت أن السر في السكان (1) وقال رحمه الله تعالى:
وذي خدع دعوه لاشتغال ... وما عرفوه غثاً من سمين
فأظهر زهده وغنى بمال ... وجيش الحرص منه في كمين
وأقسم لا فعلت يمين خب ... فيما عجباً لحلاف مهين
يغر بيسره ويمين حنث ... ليأكل باليسار وباليمين وهوالآن بحالة الموصوفة؛ انتهى.
[40 - مخاطبة أبي بكر بن عبد الله للسان الدين]
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: خاطبني أبوبكر عبد الرحمن بن عبد الملك مستدعياً إلى إعذاره ولده بقوله:
أريد من سيدي الأعلى تكلفه ... إلى الوصول إلى داري صباح غد
يزيدني شرفاً منه ويبصر لي ... صناعة القاطع الحجام في ولدي فأجبته:
يا سيدي الأوحد الأسمى ومعتمدي ... وذا الوسيلة من أهلي ومن بلدي
دعوت في يوم الاثنين الصحاب ضحى ... وفيه ما ليس في سبت ولا أحد
يوم السلام على المولى وخدمته ... فاصفح وإن عثرت رجلي فخذ بيدي
والعذر أوضح من نار على علم ... فعد إن غبت عن لوم وعن فند
بقيت في ظل عيش لا نفاذ له ... مصاحباً غير محصور إلى أمد
__________
(1) التورية في السكان من المثل " الشأن في السكان لا في المكان " والسكان أيضاً " دفة السفينة ".(6/112)
[ترجمة أبي بكر بن عبد الملك]
وأبوبكر المذكور أصله من باغه، ونشأ بلوشة، وهومحسوب من الغرناطيين.
وفي " التاج " حقه ما صورته: فارض هاجي، مداهن مداجي، أخبث من نظر من طرف خفي، وأغدر من تلبس بشعار وفي، إلى مكيدة مبثوثة الحبائل، وإغراء يقطع بين الشعوب والقبائل، من شيوخ طريقة العمل، المتقلبين من أحوالها بين الصحو والثمل، المتعللين برسومها حين اختلط المرعي بالهمل، وهوناظم أرجاز، ومستعمل حقيقة ومجاز، نظم مختصر السيرة، في الألفاظ اليسيرة، ونظم رجزاً في الزجر والفال، نبه به تلك الطريقة بعد الإغفال؛ انتهى.
قال: ومن شعره:
إن الولاية رفعة لكنها ... أبداً إذا حققتها تتنقل
فانظر فضائل من مضى من أهلها ... تجد الفضائل كلها لا تعزل توفى بالطاعون بغرناطة عام خمسين وسبعمائة؛ انتهى.
[41 - مخاطبة أبي سلطان للسان الدين]
وقال في ترجمة أبي سلطان عبد العزيز بن علي الغرناطي بن يشت ما صورته (1) : ومما خاطبني به قوله:
أطلت عتب زمان فل من أملي ... وسمته الذم في حل ومرتحل
عاتبته ليلين العتب جانبه ... فما تراجع عن مطل ولا بخل
__________
(1) ترجمته في الإحاطة، الورقة: 315.(6/113)
فعدت أمنحه العتبى ليشفق لي ... فقال لي إن سمعي عنك في شغل
فالعتب عندي كالعتبى فلست أرى ... أصغي لمدحك إذ لم أصغ للعذل
فقلت للنفس كفي عن معاتبةٍ ... لا تنقضي وجوابٍ صيغ من وجل
من يتعلق في الدنا بابن الخطيب فقد ... سما عن الذل واستولى على الجذل
قالت فمن لي بتقريبي لخدمته ... فقد أجاب قريباً من جوابك لي
فقال للناس كفوا عن محادثتي ... فليس ينفعكم حولي ولا حيلي
قد أشتغلت عن الدنيا بآخرتي ... وكان ما كان من أيامي الأول
وقد رعيت وما أهملت من منح ... فكيف يختلط المرعي بالهمل
ولست أرجع للدنيا وزخرفها ... من بعد شيب غدا في الرأس مشتعل
ألست تبصر أطماري وبعدي عن ... نيل الحظوظ وإغذاذي إلى أجلي
فقلت ذلك قولٌ صح مجمله ... لكن من شأنه التفصيل للجمل
ما أنت جالب أمرٍ نستعين به ... على المظالم في حال ومقتبل
ولا تحل حراماً أو تحرم ما ... أحل ربك في قولٍ ولاعمل
ولا تبع آجل الدنيا بعاجلها ... كما الولاة تبيع اليم بالوشل
وأين عنك الرشا إن ظلت تطلبها ... هذا لعمري أمرٌ غير منفعل
هل أنت تطلب إلا أن تعود إلى ... كتب المقال الرفيع القدر في الدول
فما لأوحد هذا الكون قاطبةً ... وأسمح الخلق من حافٍ ومنتعل
لم يلتفت نحوما تبغيه من وطرٍ ... ولم يسد الذي قد بان من خلل
إن لم تقع نظرةٌ منه عليك فما ... يصفو لديك الذي أملت من أمل
فدونك السيد الأعلى فمطلبكم ... قد نيط منه بفضلٍ غير منفصل
قد خبرت بني الدنيا بأجمعهم ... من عالمٍ وحكيم عارفٍ وولي
فما رأيت له في الناس من شبهٍ ... قل النظير له عندي فلا تسل
وقد قصدتك يا أسمى الورى همماً ... وليس لي عن حمى علياك من حول
فما سواك لما أملت من أملٍ ... وليس لي عنك من زيغ ولا ميل(6/114)
فأنظر لحالتي فقد ترق الحسود لها ... واحسم زمانة ما قد ساء من علل
ودم لنا ولدين الله ترفعه ... ما أعقبت بكر الإصباح بالأصل
لازلت معاتباً عن كل حادثةٍ ... كما علت ملة الإسلام في الملل انتهى.
[ترجمة عبد العزيز أبي سلطان]
والمذكور هوعبد العزيز بن علي بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد العزيز بن يشت، من غرناطة، يكنى أبا سلطان قال في " الإحاطة " في حقه: فاضل حيي حسن الصورة بادي الحشمة فاضل البيت سريه كتب في ديوان الأعمال فأتقن وترقى إلى الكتابة السلطانية وسفر في بعض الأغراض الغربية ولازم الشيخ أبا بكر عتيق بن مقدم من مشيخة الصوفية بالحضرة فظهرت عليه آثار ذلك في نظمه ومقاصده فمن نظمه ومقاصده فمن نظمه ما أنشده ليلة الميلاد المعظم:
القلب يعشق والمدامع تنطق ... برح الخفاء فكل عضو منطق
إن كنت أكتم ما أكن من الجوى ... فشحوب لوني في الغرام مصدق
وتذللي عند اللقا وتملقي ... إن المحب إذا دنا يتملق
فلكم سرت عن الوجود محبتي ... والدمع يفضح ما يسر المنطق
ولكم أموه بالطلول وبالكنى ... وأخوض بحر الكتم وهو الأليق
ظهر الحبيب فلست لأبصر غيره ... فبكل مرئي أرى يتحقق
ما في الوجود تكثرٌ لمكثرٍ ... إنا لمكثر بالأباطل يعلق
فمتى نظرت فأنت موضع نظرتي ... ككل اللسان وكل عنه المنطق
فاسلك مقامات الرجال محققاً ... إن المحقق شأوه لا يلحق
مزق حجاب الوهم لا تحفل به ... فالوهم يستر ما العقول تحقق(6/115)
واخلص إذا شئت الوصول ولاتئل (1) ... فالعجز عن طلب المعارف موبق
إن التحلي في التخلي فاقتصد ... ذاك الجناب فبابه لا يغلق
ولتقتبس نار الكليم ولاتخف ... والغ السوى إن كنت منها تفرق
ومتى تجلى فيك سر جماله ... فصعقت خوفاً فالمكلم يصعق
دع رتبة (2) التقليد عنك ولاتته ... تلق الذي قيدت وهوالمطلق
واقطع حبال علائقٍ وعوائقٍ ... إن العوائق بالمكاره تطرق
جرد حسام النفس عن جفن الهوى ... إن العوائد بالتجرد تخرق
فإذا فهمت السر منك فلا تبح ... فالسيف من بث الحقائق أصدق
بالذوق لا بالعلم يدرك علمنا ... سر بمكنون الكتاب يصدق
رفعت له الحجب التي لم ترتفع ... إلا إليه فكل ستر يخرق
ورقي مقاماً قصرت عن كهنه ... رتب الوجود وكع عنه السبق
وطئ البساط تدللاً وجرى إلى ... أمد تناهى ما إليه مسبق
إنسان عين الكون مبلغ سره ... قطب الجمال وغيثه المتدفق
سر الوجود ونكتة الدهر الذي ... كل الوجود بجوده يتعلق
من جاء بالآيات يسطع نورها ... والذكر فهو عن الهوى لا ينطق
يا سيد الأرسال غير مدافعٍ ... وأجلهم سبقاً وإن هم أعنقوا
بالفقر جئتك مؤلي لا بالغنى ... فالذل والإذعان عندك ينفق
فاجبر كسير جرائرٍ وجرائمِ ... فالقلب من عظم الخطايا يقلق
__________
(1) لا تتل: لا تقصر.
(2) ق: ريبة.(6/116)
أرجوك يا غوث الأنام فلا تدع ... باب الرضى دوني يسد ويغلق
حاشاك تطرد من أتاك مؤملاً ... فلأنت لي مني أن وأرفق
ومحبتي تقتضي بأنك منقذي ... مما أخاف فما بغيرك أعلق
يا هل تساعدني الأماني والمنى ... وأحل حيث سنا الرسالة يشرق
فعليك يا أسنى الوجود تحيةٌ ... من طيب نفحتها البسيطة تعبق
وعلى صحابتك الذين تأنقوا ... رتب الكمال ومثلهم يتأنق
وعلى الألى آووك في أوطانهم ... نالوا بذلك رتبةً لا تلحق
أعظم بأنصار النبي وحزبه ... وبمن أتى بعباءة يتعلق
من مثل سعدٍ أو كقيسٍ نجله ... عرف السيادة من حماهم ينشق
أكرم بهم وبمن أتى من سرهم ... عز النظير فمجدهم لا يلحق
من مثل نصرٍ أوبنيه ملوكنا ... كل الأنام لعزهم يتملق
بمحمدٍ نجل الخليفة يوسفٍ ... عز الهدى فحماه ما إن يطرق
مولى الملوك وتاج مفرق عزهم ... وأجل من تحدى إليه الأنيق
ملكٌ يرى أن التقدم مغنمٌ ... مهما تعرض موكبٌ أو فيلق
تروى أحاديث الوغى عن بأسه ... فالسيف يسند والعوالي تطلق
ملك البسالة والمكارم والنهى ... فعداته منه تغص وتفرق
ملئت قلوب عداه منه مهابةً ... فمغربٌ من خوفه ومشرق
مولاي يا أسمى الملوك ومن غدت ... عين الزمان إلى سناه تحدق
لا تقطعوا عني الذي عودتم ... فالعبد من قطع العوائد يشفق
لا تحرموني مطلبي فمحبتي ... تقضي لسعيي أنه لا يخفق
فانعم بردي في بساطك كاتباً ... وأعد لما قد كنت فهوالأليق
فاسلم أمير المسلمين لأمةٍ ... أفواههم ما إن بغيرك تنطق(6/117)
وأهنأ بها من ليلةٍ نبويةٍ ... جاءت بأكرم من به يتعلق
صلى عليه الله ما هبت صباً ... واهتز غصنٌ في الحديقة مورق ثم قال وهوبحالته الموصوفة؛ انتهى.
[42 - رسالة من النباهي للسان الدين]
ومما خوطب به لسان الدين رحمه الله تعالى ما حكاه في الإحاطة في ترجمة القاضي أبي حسن النباهي إذ قال ما نصه وخاطبني بسبتة وأنا يومئذ بسلا بقوله يا أيتها الآية البالغة وقد طمست الأعلام والغرة الواضحة وقد تنكرت الأيام والبقية الصالحة وقد ذهب الكرام أبقاكم الله تعالى البقاء الجميل وأبلغكم غاية المراد ومنتهى التأميل أبي الله أن يتمكن المقام بالأندلس بعدكم وأن يكون سكون النفس إلا عندكم سرٌ من الكون غريب ومعنى في التشاكل عجيب أختصر لكم الكلام فأقول بعد التحية والسلام تفاقمت الحوداث وتعاظمت الخطوب والكوارث واستأسدت الذئاب الأخابث ونكث الأكثر من ولد سام وحام ويافث فلم يبق إلا كاشح باحث أومكافح عابث وياليت شعري من الثالث فحينئذ وجهت وجهي للفاطر البعث ونجوت بنفسي لكن منجى الحارث وقد عبرت البحر كسير الجناح دامي الجراح وإني لأرجوالله سبحانه بحسن نيتكم أن يكون الفرج قريباً والصنع عجيباً فعمادي أعان الله على القيام بواجبه هوالركن الذي مازلت أميل على جوانبه ولا تزيدني الأيام إلا بصيرة في الإقرار بفضله والاعتداد به وقد وصلني خطاب سيدي الذي جلى الشكوك بنور يقينه ونصح النصح اللائق بعلمه ودينه وكأنه نظر إلى الغيب من وراء حجاب فأشار بما أشار به على سارية عمر بن الخطاب ومن العجب أني علمت بمقتضى إشارته قبل بلوغ إضبارته فلله ما تضمنه مكتوبكم الكريم من الدر وحرره من الكلام(6/118)
الحر وايم الله لوتجسم لكان ملكاً ولوتنسم لكان مسكاً ولوقبس لكان شهاباً ولولبس لكان شباباً فحل مني علم الله تعالى محل البرء من المريض وأعاد الأنس من التعريض والكلم المزرية بقطع الروض الأريض فقبلته عن راحتكم وتخليت أنه مقيم بساحتكم ثم وردت معينه الأصفى وكلت من بركات مواعظه بالمكيال الأوفى وليست بأول أياديكم وإحالتكم على الله فهوالذي يجازيكم وبالجملة فالأمور بيد الأقدار لا إلى المراد والاختيار:
وما كل ما ترجوالنفوس بنافعٍ ... ولا كل ما تخشى النفوس بضرار انتهى.
قات أين هذا الكتاب من الذي قدمناه عنه في الباب الثاني حين أظلم بينه وبين لسان الدين الجووعطفه إلى مهاجا ته ثاني وسفر في أمره إلى العدوة واجتهد في ضرره بعد أن كان له به القدوة وقد قابله لسان الدين بما أذهب عن جفنه الوسن وألف فيه كما سبق " خلع الرسن ".
[ترجمة النباهي]
على أنه عرف به في " الإحاطة " أحسن تعريف وشرفه بحلاه أجمل تشريف إذ قال ما ملخصه (1) : علي بن عبد الله بن محمد بن محمد بن عبد الله ابن الحسن بن محمد بن الحسن الجذامي المالقي أبوالحسن، ويعرف بالنباهي، هذا الفاضل قريع بيت مجادة وجلالة، وبقية تعين وأصالة، عف النشأة، طاهر الثوب، مؤثر للوقار والحشمة، خاطب للشيخوخة، مستعجل للشيبة، ظاهر الحياء، متحرك مع السكون، بعيد الغور، مرهف الجوانب
__________
(1) قارن بما كتبه عنه في الكتيبة: 146 بعد أن تغيرة النفوس.(6/119)
مع الانكماش في والآلة متاظهر بالسذاجة بريء من النوك والغفلة يقظ للمعاريض مهتدٍ إلى الملاحن طرف في الجود (1) ، حافظ مقيد طلعة إخباري قائم على تاريخ بلده شرع في تكميل ما صنف فيه ملازم للتقييد والتطرير (2) ، منقر عن الإجادات والفوائد استفدت منه في هذا الغرض وغيره كثيراً حسن الخط ناظم ناثر نثره يشف على نظمه ذاكر للكثير استظهر محفوظات منها النوادر لقالي وناهيك به محفوظاً مهجوراً ومسكاً غفلاً فما ظنك بسواه نشا ببلده حر الطعمة فاضل الأبوة وقرأ به ثم ولى القضاء بملتماس (3) ثم ببلش وعملها فسيح الخطة مطلق الجراية بعيد المدى في باب النزاهة ماضياً غير هيوب حتى أربى في الزمن القريب على المحتنكين وغبر في وجوه أهل الدربة وجرت أحكامه مستندة إلى الفتيا جارية على المسائل المشهورة ثم نقل منها إلى النظر في أمور الحل والعقد بمالقة مضافة إليه الخطط النبيهة وصدر له منشور من إملائي إلى أن قال في ترجمة نظمه قال نظمت سمح الله تعالى لي قطعتين موطئاً فيهما على البيتين المشهورين إحداهما:
بنفسي من غزلان حزوى غزالةٌ ... جمال محياهاعن النسك زاجر
تصيد بلحظ الطرف من رام صيدها ... ولو أنه النسر الذي هو طائر
معطرة الأنفاس رائقة الحلى ... هواها بقلبي في المهامة سائر
" إذا رمت عنها سلوة قال شافعٌ ... من الحب ميعاد السلو المقابر " والأخرى:
وقائلةٍ لما رأت شيب لمتي ... لئن ملت عن سلمى فعذرك ظاهرُ
__________
(1) ق: المجون.
(2) التطرير: التقييد في طرر الكتب.
(3) ق: بملتمامو.(6/120)
زمان التصابي قد مضى لسبيله ... وهل لك بعد الشيب في الحب عاذ
فقلت لها كلا وإن تلف الفتى ... فما لهواها عند مثلي آخ
" سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر " وكتب على مثال النعل الكريم وأهداه لمزمع سفر:
فديتك لا يهدى إليك أجل من ... حديث نبي الله خاتم رسله
ومن ذلك الباب المثال الذي أتى ... به الأثر المأثور في شأن نعله
ومن فضله مهما يكن عند حاملٍ ... له نال ما يهواه ساعة حمله
ولا سيما إن كان ذا سفرٍ به ... فقد ظفرت يمناه بالأمن كله
فدونك منه أيها المعلم الرضى ... مثالاً كرماً لا نظير لمثله وقال مراجعاً عن أبيات يظهر منها غرضها:
إذا كنت بالقصد الصحيح لنا تهوى ... فسلم لنافي حكمنا ودع الشكوى
ولا تتبع أهواء نفسك والتفت ... لنا حيث كنا في الرخاء وفي اللأوا (1)
وكم من محب في رضانا وحبنا ... محا كل ما يبدو سوانا له محوا
رآنا عياناً عين معنى وجوده ... فعاج عن الشكوى وفوض في البلوى
وقال تحكم كيف شئت بما ترى ... رضيت بما تقضي وهمت بما تهوى
فحل لدينا بالخلوص وبالرضى ... محلٍ اختصاصٍ نال منه المنى صفوا
فإن كنت ترجوفي الصبابة والهوى ... لحاقاً بهم فاسلك طريقهم الأضوا
ومت في سبيل الحب إن كنت مخلصاً ... لنا في الهوى تحيا حياة أولي التقوى
هنالك تؤتى ما تريد وتقتضي ... ديونك منا دون مطلٍ ولا دعوى
وتشرب من عين اليقين وتغتذي ... بخمر الصفا الصرف الزلال لكي تروى
__________
(1) اللأواء: الشدة.(6/121)
وقال:
لا تلجأن لمخلوقٍ من الناس ... من يافثٍ كان أصلاً أومن الياس
وثق بربك لاتيأس تجد عجباَ ... فلا أضر على عبدٍ من اليأس وقال:
فديتك لا تصحب لئيماً ولا تكن ... معيناً له إن اللئيم خؤؤن
فلا عهد يرعى لا ولا نعمةً يرى ... ولا سر خلٍ عن عداه يصون وقال يخاطب أبا القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان:
لك الله قلبي في هواك رهين ... وروحي عني إن رحلت ظعين
ملكت بحكم الفضل كلي خالصاً ... وملكك للحر الصريح يزين
فهب لي من نطقي بمقدار ما به ... يترجم سرٌ في الفؤاد دفين
فقد شملتنا من رضاك ملابسٌ ... وسح لدينا من نداك معين
أعنت على الدهر الغشوم ولم تزل ... بدنياك في الأمر المهم تعين
وقصر من لم تعلم النفس أنه ... خذولٌ إذا خان الزمان يخون
وإني بحمد الله عنه لفي غنىً ... وحسبي صبرٌ عن سواك يصون
ابى لي مجدٌ عن كرام ورثته ... وقوفاً ببابٍ للكريم يهين
ونفسٌ سئمت فوق السماكين همةٌ ... وما كل نفسٍ بالهوان تدين
ولما رأت عيني محياك أقسمت ... بأنك للفعل الجميل ضمين
وعاد لها الأنس الذي كان قد مضى ... برية إذ شرخ الشباب خدين
بحيث نشئنا لابسين حلى التقى ... وكلٌ بكلٍ عند ذاك ضنين
أما وسنا تلك الليالي وطيبها ... ووجد غرامي والحديث شجون
وفتيان صدقٍ كالشموس وكالحيا ... حديثهم ما شئت عنه يكون
لئن نزحت تلك الديار فوجدنا ... عليها له بين الضلوع أنين(6/122)
إذ مر حينٌ زاده الشوق جدةً ... وليس بعابٍ للربوع حنين
وأنى بمسلاها وللبين لذعةٌ ... اقل أذاها للسليم جنون
لقد عبثت أيدي الزمان بجمعنا ... وحان أفتراقٌ لم نخله يحين
وبعد التقينا في محل تغرب ... وكل الذي دون الفراق يهون
فقابلت بالفضل الذي أنت أهله ... ومالك في حسن الصنيع قرين
وغبت وما غابت مكارمك التي ... على شكرها الرب العظيم يعين
يميناً لقد أوليتنا منك نعمةً ... تلذ بها عند العيان عيون
ويقصر عنها الوصف إذ هيا كلها ... لها وجه حرٍ بالحياء مصون
ولما قدمت الآن زاد سرورنا ... ومقدمك الأسى بذاك قمين
لأنك أنت الروح منا وكلنا ... جسومٌ فعند البعد كيف نكون
ولو كان قدر الحب فيك لقاؤنا ... إليك لكنا باللزوم ندين
ولكن قصدنا راحة المجد جهدنا ... فراحته شمل الجميع تصون
هنيئاً هنيئاً أيها العلم الرضى ... بما لك في طي القلوب كمين
لك الحسن والإحسان والعلم والتقى ... فحبك دنيا للمحب ودين
وكم لك في باب الخلافة من يد ... أقرت لها بالصدق منك مرين
وقامت عليها للملوك أدلةٌ ... فأنت لديها ما حييت مكين
فلا وجه إلا وهوبالبشر مشرقٌ ... ولا نطق إلا عن علاك مبين
بقيت لربع الفضل تحمي ذماره ... صحيحاً كما قد صح منك يقين
ودونك يا قطب المعالي بنيةً ... من الفكر عن حال المحب تبين
أتتك ابن رضوان تمت بودها ... وما لسوى الإغضاء منك ركون
فخل انتقاد البحث عن هفواتها ... ومهد لها بالسمح حيث تكون
وخذها على علاتها فحديثها ... حديث غريبٍ قد عراه سكون وهوبحاله الموصوفة؛ انتهى باختصار.(6/123)
[43 - مخاطبات بين لسان الدين وابن الجياب]
ولما كتب لسان الدين إلى شيخه الرئيس الكاتب أبي الحسن الجياب قصيدة أولها (1) :
أمستخرجا كنز العقيق بآماقي ... أناشدك الرحمن بالرمش الباقي
فقد ضعفت عن حمل صبري طاقتي ... عليك وضاقت عن زفيري أطواقي وهي طويلة أجابه عنها بقوله:
سقاني فأهلاً بالمدامة (2) والساقي ... سلافاً بها قام السرور على ساق
ولا نقل إلا من بدائع حكمةٍ ... ولا كاس إلا من سطورٍ وأوراق
فقد أنشأت لي نشوةً بعد نشوةٍ ... تمد بروحانيةٍ ذات أذواق
فمن خطها الفاني (3) متاع لناظري ... وسمعي وحظ الروح من خطها الباقي
أعادت شبابي بعد سبعين حجةً ... فأثوابه قد جددت بعد إخلاقي
ولا خالطن لحمي ولا مازجت دمي ... كفى شرها مولاي فالفضل للواقي
وهذا على عهد الشباب فكيف لي ... بها بعد ماءٍ للشبيبة مهراق
تبصر فحكما القهوتين تخالفا ... فكم بين إثبات لعقلٍ وإزهاق
وشتان بين المدامين فاعتبر ... فكم بين إنجاح لسعي وإخفاق
فتلك تهادى بين ظلمٍ وظلمةٍ ... وهذي تهادى بين عدلٍ وإشراق
أيا علم الإحسان غير منازعٍ ... شهادة إجماعٍ عليها وإصفاقٍ (4)
__________
(1) انظر الكتيبة: 186.
(2) الكتيبة: بالسقاية.
(3) الكتيبة: الباهي.
(4) الكتيبة: وإطباق.(6/124)
فضائلك الحسنى علي تواترت ... بمنهمرٍ من سحب فكرك غيداق
خزائن آداب بعثت بدرها ... إلي ولم تمنن بخشية إنفاق
ولا مثل بكرٍ حرة عربية ... زكية أخلاقٍ كريمة أعراق
فأقسم ما البيض الحسان تبرجت ... تناجيك سراً بين وحي وإطراق
بدورٌ بدت من أفق أطواقها على ... رياض شدت في قطبها ذات أطواق
فناظر منها الأقحوان ثغورها ... وقابل منها نرجس سحر (1) أحداق
وناسب منها الورد خداً مورداً ... سقاه الشباب النضر بورك من ساق
وألبسن من صنعاء وشياً منمنماً ... وحلين من درٍ نفائس أعلاق
بأحلى لأفواهٍ وأبهى لأعين ... وأحيى لألباب وأشهى لعشاق
رأيت بها شهب السماء تنزلت ... إلي تحييني تحية مشتاق
ألا إن هذا السحر لا سحر بابلٍ ... فقد سحرت قلبي المعنى فمن راق
لقد أعجزت شكري فضائل ماجدٍ ... أبر بأحباب وأوفى بميثاق
تقاضى ديون الشعر مني منبهاً ... رويدك لاتعجل علي يإرهاق
فلونشر الصادان من ملحديهم ... لإنصاف هذا الدين لاذا بإملاق (2)
فخذ بزمام الرفق شيخاً تقاصرت ... خطاه وعاهده بمعهود إشفاق
فلا زلت تحيي للمكارم رسمها ... وقدرك في أهل العلا والنهي راق قال وكتبت إليه في غرض العتاب قصيدة أولها:
أدرنا وضوء الأفق قد صدع الفضا ... مدامة عتب بيننا نقلها الرضى
فلله عينا من رآنا وللحيا ... حبي بآفاق البشاشة أومضا
__________
(1) الكتيبة: حسن.
(2) الصادان: الصابي أبو غسحاق والصاحب بن عباد.(6/125)
نفر إلى عدل الزمان الذي أتى ... ونبرأ من جور الزمان الذي مضى
ونأسو كلوم اللفظ باللفظ عاجلاً ... كذا قدح الصهباء داوى وأمرضا فراجعني عنها بهذه القصيدة:
ألا حبذا ذاك العتاب الذي مضى ... وإن جره واش بزور تمضمضا
أغارت له خيل فما ذعرت حمى ... ولكنها كانت طلائع للرضى
تألق منه بارق صاب مزنه ... على معهد الحب الصميم فروضا
تلألأ نوراً للصداقة حافظاً ... وإن ظن سيفاً للقطيعة منتدى
فإن سود الشيطان منه صحيفة ... أتى ملك الرحمى عليها فبيضى
وما حب أحكم الصدق عهده ... ليرمى بوسواس الوشاة فيرفضا
أعيذ وداداً زاكي القصد وافياً ... تخلص من أدرانه فتمحضا
ونية صدق في رضى الله أخلصت ... سناها بآفاق البسيطة قد أضا
من الآفك الساعي ليخفي نورها ... أيخفي شعاع الشمس قد ملأ الفضا
وكيف يحل المبطلون بإفكهم ... معاقد حب أحكمتها يد القضا
تعرض يبغي هدمها فكأنه ... لتشييد مبناها الوثيق تعرضا
وحرض في تنفيره فكأنما ... على البر والتسكين والحب حرضا
وأوقد ناراً فهو يصلى جحيمها ... يقلب منها القلب في موقد الغضى
أيا واحدي المعدود بالألف وحده ... ويا ولدي البر الزاكي إن ارتضى
بعثت من الدار النفيس قلائداً ... على ما ارتضى حكم المحبة واقتضى
نتيجة آداب وطبع مهذب ... أطال مداه في البيان وأعرضا
ولا مثل بكر باكرتني آنفا ... كزورة خل بعد ما كان أعرضا
هي الروضة الغناء أينع زهرها ... تناظر حسناً مذهباً ومفضضا
أو الغادة الحسناء راقت فينقضي ... مدى العمر في وصفي لها وهو ما انقضى
تطابق منها شعرها وجبنها ... فذا الليل مسوداً وذا الصبح أبيضا(6/126)
أو الشهب منها زينة وهداية ... ورجم لشيطان إذا هو قيضا
أتت بديع الشعر طوراً مصرحاً ... بآياتك الحسنى، وطوراً معرضا
ومهدت الأعذار دون جناية ... ولو أنك الجاني لكنك المغمضا
لك الله من بر وفي وصاحب ... محضت له صدق الضمير فأمحضا
لسانك في شكري مفيض تفضلاً ... فيا حسن ما أهدى وأسدى وأقرضا
وقبلك فاضت فيه أنوار خلتي ... فألقى يدي تسليمه لي مفوضا
وقصدك مشكور، وعهدك ثابت ... وفضلك منشور، وفعلك مرتضى
فهل مع هذا ريبة في مودة ... بحال وإن رابت فما أنا معرضا
فثق بولائي إنني لك مخلص ... هوى ثابتاً يبقى فليس له انقضا
عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وما بارق جنح الدجنة أومضا وقال لسان الدين: من غريب ما خاطبني به قوله (1) :
أقسم بالقيسين والنابغتين ... وشاعري طيْ المولدين
وبابن حجر وزهير وابنه ... والأعشيين بعد ثم الأعميين
ثم بعشاق الثريا والرق ... يات وعزة ومي وبثين
وبأبي الشيص ودعبل ومن ... كشاعري خزاعة المخضرمين
وولد المعتز والرضي وال ... سري ثم حسن وابن الحسين
واختم بقس وسبحان وإن ... أوجب حق أن يكونا أولين
وحلبتي نثرهم ونظمهم ... في مشرقي أقطارهم والمغربين
إن الخطيب ابن الخطيب سابق ... بنثره ونظمه للحلبتين
راقتني الصحيفة الحسنا التي ... شاهدت فيها المكرمات رأي العين
تجمع من براعة المعنى إلى ... براعة الألفاظ كلتا الحسنيين
__________
(1) الكتيبة: 188.(6/127)
أشهد أنك الذي سبقت في ... طريقي الآداب أقصى الأمدين
شعر حوى جزالة ورقة ... تصاغ منه حلة للشعريين
رسائل أزهارها منثورة ... سرور قلب ومتاع ناظرين
يا أحوذياً يا نسيج وحده ... شهادة تنزهت عن قول مين
بقيت في مواهب الله التي ... تقر عينيك وتملأ اليدين انتهى.
[44 - من سعيد الغرناطي إلى لسان الدين]
وحكى لسان الدين أن سعيد بن محمد الغرناطي الغساني استعار منه كتاباً، فأرسله إليه وعلى ظهره هذه الأبيات:
هذا كتاب كله معجم ... أفحمني معناه إفحاما
أعجمه منشئه أولاً ... وزاده الناسخ إعجاما
أسقط من إجماله جملة ... وزاد في التفصيل أقساما
وغير الألفاظ عن وضعها ... وصير الإيجاد إعداماً
فليس في إصلاحه حيلة ... ترجى، ولوقوبل أعواما ولم أقف على جواب لسان الدين له عنها، والله تعالى أعلم.
وولد سعيد المذكور سنة699.
[45 - مخاطبات بين ابن البناء ولسان الدين]
ومما خوطب به لسان الدين لما تقلد الكتابة العليا قول أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن البناء الوادي آشي رحمه الله تعالى:
هو العلاء جرى باليمين طائره ... فكان منك على الآمال ناصره(6/128)
ولو جرى بك ممتداً إلى أمد ... لأعجز الشمس ما آبت عساكره
لقد حباه منيع العز خالقه ... بفاضل منك لا تحصى مآثره
فليزه فخراً فما خلق يعارضه ... ولا علاء مدى الدنيا يفاخره
لله أوصافك الحسنى لقد عجزت ... من كل ذي لسن عنها خواطره
هيهات ليس عجيباً عجز ذي لسن ... عن وصف بحر رمى بالدار زاخره
هل أنت إلا الخطيب ابن الخطيب ومن ... زانت حلى الدين والدنيا مفاخره
فإن يقصر عن الوصاف ذو أدب ... فما بدا منك في التقصير عاذره
يا ابن الكرام الألى ما شب طفلهم ... إلا وللمجد قد شدت مآزره
مهلاً عليك فما العلياء قافية ... ولا العلاء بسجع أنت ناثره
ولا المكارم طرساً أنت راقمه ... ولا المناقب طباً أنت ماهره
ماذا على سابق يسري إلى سنن ... إن كان من رفقه خل يسايره
سر حيث شئت من العلياء متئداً ... فما أمامك سباق تحاذره
أنت الإمام لأهل الفخر إن فخروا ... أنت الجواد الذي عزت أوافره
ما بعد ما حزته من عزة وعلا ... شأو يطارد فيه المجد كابره
نادت بك الدولة النصري محتدها ... نداء مستنجد أزراً يوازره
حليتها برداء مرتدياً ... وصبح يمنك فجر السعد سافره
فالملك يرفل في أبراده مرحاً ... قد عمت الأرض إشراقاً بشائره
فاهنأ بها نعمة ما إن يقوم لها ... من اللسان ببعض الحق شاكره
وليهنها أنها نعمة ما إن يقوم مقالدها ... إلى زكي زكت منه عناصره
فإنه بدر تم في مطالعها ... قد طبق الأرض بالأنوار نائره وقال لسان الدين: وأهدي إلي قباقب خشب جوز وكتب معها:
هاكها ضمراً مطايا حسانا ... نشأت في الرياض قضباً لدانا
وثوت بين روضة وغدير ... مرضعات من النمير لبانا(6/129)
لابسات من الظلال بروداً ... دونها القضب رقة وليانا
ثم لما أراد إكرامها الله ... وسنى لها المنى والأمانا
قصدت بابك العلي ابتداراً ... ورجت في قبولك الإحسانا قال: فأجبته:
قد قبلنا جيادك الدهم لما ... أن بلونا منها العتاق الحسانا
أقبلت خلف كل حجر تبيع ... خلعت وصفها عليها عيانا
فعنينا برعيها وفسحنا ... في ربوع العلا لها ميدانا
وأردنا امتطائها فاتخذنا ... من شراك الأديم فيها عنانا
قدمت قبلها كتيبة سحرٍ ... من كتاب سبت به الأذهانا
مثلما تجنب الجيوش المذاكي ... عدةً للقاء مهما كانا
لم يرق مقلتي ولا راق قلبي ... كعلاها براعةً وبيانا
من يكن مهدياً فمثلك يهدي ... لم أجد للثنا عليك لسانا وقال لسان الدين: ومن أبدع ما هز به إلى إقامة سوقه، ورعي حقوقه قوله:
يا معدن الفضل مورثاً ومكتسباً ... وكل مجدٍ إلى عليائه انتسبا
بباب مجدكم الأسمى أخو أدبٍ ... مستصرخٌ بكم يستنجد الأدبا
ذل الزمان له طوراً فبلغه ... من بعض آماله فوق الذي طلبا
والآن اركبه من كل نائبةٍ ... صعب الأعنة لا يألوبه نصبا
فحملته دواعي حبكم وكفى ... بذاك شافع صدقٍ يبلغ الأربا
فهل سرى نسمة من جاهكم فبها ... خليفة الله فينا يمطر الذهبا(6/130)
[ترجمة ابن البناء]
وقال لسان الدين في " الإكليل " في حق المذكور ما صورته: فاضل يروقك وقاره وصقر بعد مطاره قدم من بلده يروم اللحاق بكتاب الإنشاء وتوسل بنظم أنيق ونسيب في نسب الإجادة عريق تعرب براعته عن لسان ذليق وطبع طليق وذكاء بالأثرة خليق وبينما هويلحم في ذلك الغرض ويسدي ويعيد ويبدي وقد كادت وسائله أن تنجح وليل رجائه أن يصبح اغتاله الحمام وخانته الأيام والبقاء لله تعالى والدوام توفي بالطاعون في عام واحد وخمسين وسبعمائة وسنه دون الثلاثين، رحمه الله تعالى؛ انتهى.
[46 - رسالة من لسان الدين إلى سلطان تونس]
ولما خوطب لسان الدين من سلطان تونس بما لم يحضرني الآن أجاب عنه بما نص " المقام الإمامي الإبراهيمي المولوي المستنصري الحفصي الذي كرم فرعاً وأصلاً وشرف جنساً وفصلاً وتملى في ظلل رعاية المجد من لدن المهد كرماً وخصلاً وصرفت متجردة الأقلام إلى مثابة خلافته المنصورة الأعلام وجوه عبارة الكلام فاتخذ من مقام إبراهيم مصلى مقام مولانا أمير المؤمنين الخليفة الإمام أبي إسحاق ابن مولانا أبي يحيى أبي بكر ابن الخلفاء الراشدين أبقاه الله تعالى تهوي إليه الأفئدة كلما انتشت بذكره وتتنافس الألسنة في إحراز غاية حمده وشكره وتتكفل الأقدار بإنفاذ نهيه وأمره وتغرى عوامل عوامله بحذف زيد عدوه وعمره ويتبرع أسمر الليل وأبيض النهار بإعمال بيضه وسمره ولازال حسامه الماضي يغني يومه في النصر عن شهره والروض يحييه بمباسم زهره ويرفع إليه رقع الحمد ببنان قبضه الناشئة من معصم نهره وولي الدنيا والآخرة يمتعنا بهما بعد الإعانة على مهره يقبل بساطه المعود الاستلام بصفحات الخدود، الرافع(6/131)
عماده ظل العدوالممدود عبد مقامه المحمود ووارد غمر إنعامه غير المنزور ولا المثمود المثني على نعمه العميمة ومنحه الجسيمه ثناء الروض المجود على العهود ابن الخطيب من باب المولى الموجب حقه المتأكد الفروض الثابت العهود المعتد منه بالود الجامع الرسوم والحدود والفضل المتوارث عن الآباء والجدود يسلم على مثابتها سلام متلوعلى مثلها إن وجد المثل في الثاني ويعوذ كمالها بالسبع المثاني ويدعوالله تعالى لسلطانها بتشييد المباني وتسيير الأماني وينهي إلى علوم تلك الخلافة الفاروقية المقدسة بمنايب التوحيد المستولية من مدارك الآمال إلى الأمد البعيد أن مخاطبتها المولوية تاهت على الملوك فارعة العلا مزعفرة الحلل والحلى ذهبية المجلى تفيد العز المكين والدنيا والدين وترعى في الآباء والبنين على مر السنين " صفراء فاقع لونها تسر الناظرين " (البقرة 69) وقد حملت من مدحها الكريم ما أخفى للملوك من قرة عين ودرة زين جبين الشرف الوضاح ومستوجب الحق على مثله من الخلق بالنسب الصراح والغرر والأوضاح والأرج الفواح فاقتنى درها النفيس ووجد المروع (1) في جانب الخلافة التنفيس وقراه لما قراه التعظيم والتقديس وقال {يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتابٌ كريم} (النمل 29) وإن لم يكن بلقيس أعلى الله تعالى تلك اليد مطوقة الأيادي ومخجلة الغمائم والغوادي وأبقاها عامرة النوادي غالبة الأعادي وجعل سيفها السفاح ورأيها الرشيد وعلمها الهادي ووصل ما ألطف به رعيها من أشتات بر بلغت وموارد فضل سوغت أمدتها سعادة المولى بمدد لم يضر معه البحر الهائل ولا العدوالغائل وأقام أودها عند الشدائد الفلك المائل لا بل الملك الذي له إلى الله الوسائل وحسب الجفن رسالتكم الكريمة لحظاً فصان وأكرم وعوذةً فتعوذ بها وتحرم وتولى الملوك تنفيق عروضها
__________
(1) ص: المروح.(6/132)
بانشراح صدره وعلى قدره فوقعت الموقع الذي لم يقع سواها فاما الخيل فأكرم مثواها وجعلت جنان (1) الصون مأواها ولوكسيت الربيع المزهر حللاً واوردت في نهر المجرة علاً ونهلاً وقلدت النجوم العواتم صحلاً ومسحت أعطافها بمنديل النسيم والحفت بأردية الصباح الوسيم وافترشت لمرابطها الحشايا وأقضمت حبات القلوب بالعشايا لكان بعض ما يجد لحقها الذي لا يجحد فضله ولا يحتجب وما عداها من الرقيق والفتيان رعاة ذلك الفريق تكفله الاستحسان وأطنب الاعتقاد وإن قصر اللسان تولى الله تعالى تلك الخلافة بالشكر الذي يحسب العطاء والحفظ الذي يسبل الغطاء والصنع الذي ييسر من مطا الأمل الامتطاء واما ما يختص بالملوك فقد خصه بقبوله تبركاً بتلك المقاصد التي سددها الدين وعددها الفضل المبين وأنشد الخلافة التي راق من مجدها الجبين:
قلدتني بفرائد أخرجتها ... من بحر جودك وهوملتطم الثبج
ورعيت نسبتها فإن سبيكة ... مما يلائم لونها قطع السبج والمملوك بهذا الباب النصري أعزه الله تعالى على قدم خدمة وقائم بشكر منة لكم ونعمة وحاضر في جملة الأولياء بدعائه وحبه ومتوسل في دوام بقاء أيامكم ونصر أعلامكم إلى ربه وإن بعد بجسمه فلم يبعد نقلبه والسلام الكريم الطيب البر العميم يخصها دائماً متصلاً ورحمة الله وبركاته " انتهى.
[47 - مخاطبة من ابن البربري المالقي إلى لسان الدين]
ومما خوطب به لسان الدين قول أبي الحسن علي بن يحيى الفزاري المالقي
__________
(1) ص: جنات.(6/133)
المعروف بابن البربري، وكان ممن يمدح الملوك والكبراء:
لبابك أم الآملون ويمموا ... وفي ساحتي رحماك حطوا وخيموا
ومن راحتي كفيك جدواك تنهمي ... فتروى عطاش من نداك وتنعم
وأنت لما راموه كعبة حجهم ... إذا شاهدوا مرآك لبوا وأحرموا
يطوفون سبعاً حول بابك عندما ... يلوح لهم ذاك المقام المعظم
فيمناك يمن للرعايا ومنة ... ويسراك يسر للعفاة ومغنم
ولقياك بشر للنفوس وجنة ... ترن بها ورق المنى وترنم
فيا واحد الأزمان علماً ومنصباً ... ويا من به الدنيا تروق وتبسم
ومن وجهه كالبدر يشرق نوره ... ومن جوده كالغيث بل هو أكرم
ومن ذكره كالمسك فض ختامه ... وكالشمس نوراً بشره المتوسم
لقد حزت فضل السبق غير منازع ... فأنت على أهل السباق مقدم
حويت من العلياء كل كريمة ... بها الروض يندى والربى تتبسم
وباهيت أقلام الأنام براعة ... فلا قلم إلا يراعك يخدم
إذا فاخر الأمجاد يوماً فإنما ... لمجدك في حال الفخار يسلم
وإن سكتوا كنت البليغ لديهم ... تعبر عن سر العلا وتترجم ومنها:
فيا صاحبي نجواي عوجا برامة ... على ربعه حيث الندى والتكرم
وقولا له عبد ببابك يرتجي ... قضاء لبانات لديك تتمم
فليس له إلا علاك وسيلة ... ولا شيْ أسمى من علاك وأعظم
فجد بالذي يرجوه منك فما له ... كعقد ثمين من ثنائك ينظم
بقيت ونجم السعد عندك طالع ... يضيء له بدر وتشرق أنجم توفي المذكور بالطاعون عام خمسين وسبعمائة؛ انتهى.(6/134)
[48 - مخاطبة من الحرالي إلى لسان الدين]
ومما خوطب به قول أبي القاسم اسم بن محمد الحرالي المالقي القاضي بانتقيرة (1) قبل وفاته:
عليك قصرت المدح يا خير ماجد ... وأفضل موصوف بكل المحامد
ويا كهف ملهوف، وملجأ خائف ... ومورد جود قد كفى كل وارد
لقد شهرت بالمجد منك شمائل ... محاسنها أزكى وأعدل شاهد
وكل الذي يبدو من الفضل بعض ما ... حبيت به، أعظم بها من محامد
إذا أملت منك المكارم ألفيت ... تنادي هلموا فزتم بالمساعد
عطاؤكم جزل فمن أمل الغنى ... فمثلكم يبغي فيا سعد قاصد
وراثة مجد كابراً بعد كابر ... وأصل زكي الفرع عذب الموارد [ترجمة أبي القاسم الحراني]
وتوفي المذكور بالطاعون عام خمسين وسبعمائة، وفي حقه يقول في الإكليل: مشمر في الطلب عن ساق، مثابر على اللحاق بدرجات الحذاق، منتحل للعربية، جاد في إحصاء خلافها، ومعاطاة سلافها، وربما شرست في المذاكرة أخلاقه، إذا بهرجت أعلاقه، ونوزع تمسكه بالحجة واعتلاقه.
وقال لسان الدين في ترجمة شعر المذكور: إنه ضعيف مهزول؛ انتهى.
[49 - رسالة من المنتشاقري إلى لسان الدين]
وما خوطب به قول أبي الحجاج يوسف بن موسى الجذامي المنتشاقري من أهل رندة، ونصه:
حباك فؤادي نيل بشرى وأحياكا ... وحيد بآداب نفائس حياكا
__________
(1) انتقيرة (Antequera) تبعد عن مالقة حوالي 60 كيلومتراً شمالاً.(6/135)
بدائع أبداها بديع زمانه ... فطاب بها يا عاطر الروض رياكا
أمهديها أودعت قلبي علاقة ... وإن لم يزل مغزى قديماً بعياكا
إذا ما أشار العصر نحو فريده ... فإياك يعني بالإشارة إياكا
لأتحفني لقياك أسنى مؤملي ... وهل تحفه في الدهر إلا بلقياكا
وأعقبت تحافي فرائدك التي ... وجوب ثناها يا لساني أعياكا ووصل هذا النظم بنثر صورته: " خصصتني أيها المخصوص بمآثر أعيا عدها وحصرها، ومكارم طيب أرواح الأزاهر عطرها، وسارت الركبان بثنائها، وشملت الخواطر محبة علائها، بفرائدك الأنيقة، وفوائدك المزرية جمالاً على أزهار الحديقة، ومعارفك التي زكت حقاً وحقيقة، وهدت الضال عن سبيل الأدب مهيعه وطريقه، وسبق تحفتك أعلى التحف عندي وهومأمول لقائك، والتمتع بالتماح سناك الباهر وسنانك، على حين امتدت لذلكم اللقاء أشواقي، وعظم من فوت استنارتي بنور محياك إشفاقي، وتردد لهجي بما يبلغني من معاليك ومعانيك، وما شاده فكرك الوقاد من مبانيك، وما أهلت به بلاغتك من دراسه، وما أضيفت (1) على الزمان من رائق ملابسه، وما جمعت من أشتاته، وأحييت من أمواته، وأيقظت من سناته، وما جاد به الزمان من حسناته، فلترداد هذه المحاسن نم أنبائك، وتصرف الألسنة بثنائك، علقت النفس من هواها بأشد علاقة، وجنحت إلى لقائك جنوح والهة مشتاقة، والحوادث الجارية تصرفها، والعوائق الحادثة كلما عطفت أملها إليه لا تتحفها به ولا تعطفها، إلى أن ساعد الوقت، وأسعد البخت، بلقائكم في هذه السفرة الجهادية، وجاد إسعاف الإسعاد من أمنيتي بأسنى هدية، فلقيتكم لقيا خجل، ولمحت أنواركم لمحة على وجل، ومحبتي في محاسنكم الرائقة، ومعاليكم الفائقة، على
__________
(1) ق ص: أضيفت.(6/136)
ما يعلمه ربنا عز وجل، وتذكرت عند لقائكم المأمول، إنشاء قائل يقول:
كنت مساءلة الركبان تخبر عن ... محمد بن الخطيب أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري قسم لعمري أقوله وأعتقده، وأعتده وأعتمده، فلقد بهرت منك المحاسن، وفقت من يحاسن، وقصر عن شأوك كل بليغ لسن، وسبقت فطنتك النارية النورية بلاغة كل فطن، وشهد لك الزمان أنك وحيده، ورئيس عصبته الأدبية وفريده، فبورك لك فيما أنلت من الفضائل، وأوتيت من آيات المعارف التي بها نور الغزالة ضائل، ولا زلت ترقى في مراتب المعالي، موقى صروف الأيام والليالي " انتهى.
[50 - رسالة لسان الدين إلى المنتشاقري]
وهذا الخطاب جواب من المذكور لكلام خاطبه به لسان الدين نصه:
حمدت على فرط المشقة رحلة ... أتاحت لعيني اجتلاء محياكا
وقد كنت بالتذكار في البعد قانعاً ... وبالريح إن هبت بعاطر رياكا
فحلت لي النعمى بما أنعمت به ... علي فحياها الإله وحياكا أيها الصدر الذي بمخاطبته يباهي ويتشرف، والعلم الذي بالإضافة إليه يتعرف، والروض الذي لم يزل على البعد بأزهاره الغضة يتحف، دمت تتزاحم على موارد ثنائك الألسن، ويروي الرواة من أنبائك ما يصح ويحسن، طالما مالت إليك النفوس منا وجنحت، وزجرت الطائر الميمون من رقاعك كلما سنحت، فالآن اتضح البيان، وصدق الأثر العيان، ولقد كنا للمقام بهذه الرحال نرتمض، ويجن الظلام فلا نغتمض، هذا يقلقه إصفار كيسه، وهذا يتوجع لبعد أنيسه، وهذا تروعه الأهوال، وتضجره بتقلباتها الأحوال(6/137)
فمن أنة لا تنفع، وشكوى إلى الله تعالى ترفع، فلما ورد بقدومك البشير، وأشار إلى ثنية طلوعك المشير، تشوفت النفوس الصدئة إلى جلائها وصقالها، والعقول إلى حل عقالها، والأنفس المفحمة إلى فصل مقالها، ثم إن الدهر راجع التفاته، واستدرك ما فاته، فلم يسمح من لقائك إلا بلمحة، ولا بعث من نسيم روضك بغير نفحة، فما زاد أن هيج الأشواق فالتهبت، وشن غاراتها على الجوانح فانتهبت، وأعل القلوب وأمرضها، ورمى ثغرة الصبر فأصاب غرضها، فإن رأيت أن تنفس عن نفس شد الشوق مخنقها، وكدر مشارب أنسها وأذهب رونقها، وتتحف من آدابك بدرر تقتنى، وروضة طيبة الجنى، فليست ببدع في شيمك، ولا شاذة في باب كرمك، ولولا شاغل لا يبرح، وعوائق أكثرها لا يشرح، لنافست هذه السحاءة في القدوم عليك، والمثول بين يديك، فتشوقي إلى اجتلاء أنوارك شديد، وتشيعي إلى إبلاء الزمان جديد انتهى.
[ترجمة أبي الحجاج المنتشاقري]
ووصف لسان الدين في " التاج المحلى " أبا الحجاج المذكور بما صورته (1) : حسنة الدهر الكثير العيوب، وتوبة الزمان الجم الذنوب، ماشئت من أدب يتألق، وفضل تتعطر به النسمات وتتخلق، ونفس كريمة الشمائل والضرائب، وقريحة يقذف بحرها بدرر الغرائب، إلى خشية لله تعالى تحول بين القلوب وقرارها، وتثني النفوس على اغترارها، ولسان يبوح بأشواقه، وجفن يسخوبدرر آماقه، وحرص على لقاء كل ذي علم وأدب، ومن يمت إلى أهل الديانة والعبادة بسبب، سبق بقطره الحلبة، وفرع من الأدب الهضبة، ورفع الراية،
__________
(1) انظر ترجمة أبي الحجاج المنتشاقري في الكتيبة: 119؛ وهذه النسبة إلى منتشاقر (Monte - Sacro) في مقاطعة أكشونية.(6/138)
وبلغ في الإحسان الغاية، فطارت قصائده كل المطار، وتغنى بها راكب الفلك وحادي القطار، وتقلد خطة القضاء ببلده، وانتهت إليه رياسة الأحكام بين أهله وولده، فوضحت المذاهب بفضل مذهبه وحسن مقصده، وله شيمة في الوفاء تعلم منها الآس، ومؤانسة عذبة لا تستطيعها الأكواس، وقد أثبت من كلامه ما تتحلى (1) به من مراتب المهارق، ويجعل طيبه فوق المفارق، وكنت أتشوق إلى لقائه، فلقيته بالمحلة من جبل الفتح لقيا لم تبل صدى، ولا شفت كمداً، وتعذر بعد ذلك لقاؤه، فخاطبته بهذه الرقعة:
حمدت على فرط المشقة رحلة ... فذكر لسان الدين ما قدمنا إلى آخره.
وقد أورد جملة من مطولاته وغيرها ومؤلفاته، ولنخلص بعض ذلك فنقول:
ومن شعر أبي الحجاج المذكور يمدح الجهة الكريمة النبوية، مصدراً بالنسيب لبسط الخواطر النفسانية، قوله:
لما تناهى الصب في تشويقه ... درر الدموع اعتاضها بعقيقه
متلهف وفؤاده متلهب ... كيف البقا بعد احتدام حريقه
متموج بحر الدموع بخده ... أنى خلاص يرتجى لغريقه
متجرع صاب النوى من هاجر ... ما إن يحن للاعجات مشوقه
يسبي الخواطر حسنه بديعه ... يصبي النفوس جماله بأنيقه
قيد النواظر إذ يلوح لرامق ... لا تنثني الاحداق عن تحديقه
لبدر لمحته كبشر ضيائه ... للمسك نفحته كنشر فتيقه
سكرت خواطر لامحيه كأنهم ... شربوا من الصهباء كأس رحيقه
عطشوا لثغر لا سبيل لريقه ... إلا كلمحهم للمع بريقه
__________
(1) ق: تتجلى.(6/139)
ما ضر مولى عاشقوه عبيده ... لورق إشفاقاً لحال رقيقه
عنه اصطباري ما أنا بمطيعه ... مثل السلو ولا أنا بمطيقه
سجع الحمام بشوق ترجيع الهوى ... فأثار شجومشوقه بمشوقه
وبكت هديلاً راعها تفريقه ... ويحق أن يبكي أخوت فريقه
وبكاء أمثالي أحق لأنني ... لم أقض للمولى أكيد حقوقه
وغفلت في زمن الشباب المنقضي ... أقبح بنسخ بروره بعقوقه
وبدا المشيب وفيه زجر ذوي النهى ... لو كنت مزدجراً لشيم بروقه
حسبي ندامة آسف مما جنى ... يصل النشيج لوزره بشهيقه
ويروم ما خرم الهوى زمن الصبا ... ويروم من مولاه رتق فتوقه
ويردد الشكوى لديه تذللاً ... عل الرضى يحييه درك لحوقه
فيصح من سكر التصابي سكره ... نسخاً لحكم صبوحه وغبوقه
لو كنت يممت التقى وصحبته ... وسلكت إيثاراً سواء طريقه
لأفدت منه فوائداً وفرائداً ... عرضت تسام لرابح في سوقه
له أرباب القلوب فإنهم ... من حزب من نال الرضى وفريقه
قاموا وقد نام الأنام فنورهم ... هتك الدجى بضيائه وشروقه
وتأنسوا بحبيبهم فلهم به ... بشر لصدق الفضل في تحقيقه
قصرت عنهم عندما سبقوا المدى ... ولسابق فضل على مسبوقه
لولا رجاء تلمح من نورهم ... يحيي الفؤاد بسيره وطروقه
وتأرج يستاف من أرواحهم ... سبب انتعاش الروح طيب خلوقه
لفنيت من جرا جرائري التي ... من خوفها قلبي حليف خفوقه
ومعي رجاء توسل أعددته ... ذخراً لصدمات الزمان وضيقه
حبي ومدحي أحمد الهادي الذي ... فوز الأنام يصع في تصديقه
أسمى الورى في منصب وبمنسب ... من هاشم زاكي النجار عريقه
الحق أظهره عقيب خفائه ... والدين نظمه لدى تفريقه(6/140)
ونفى هداه ضلالة من جائر ... مستوثق بيغوثه ويعوقه
سبحان مرسله إلينا رحمة ... يهدي ويهدى الفضل من توفيقه
والمعجزات بدت بصدق رسوله ... وحقيقة بالمأثرات خليقه
كالظبي في تكليمه، والجذع في ... تحنينه، والبدر في تشقيقه
والنار إذ خمدت بنور ولادة ... وأجاج ماء قد حلا من ريقه
والزاد قل فزاد من بركاته ... فكفى الجيوش بتمره وسويقه
ونبوع ماء الكف من آياته ... وسلام أحجار غدت بطريقه
والنخل لما أن دعاه مشى له ... ذا سرعة بعذوقه وعروقه
والأرض عاينها وقد زويت له ... فقريب ما فيها رأى كسحيقه
وكذا ذراع الشاة قد نطقت له ... نطق اللسان فصيحه وذليقه
ورمى عداه بكف حصبا فانثنت ... هرباً كمذعور الجنان فروقه
وعليه آيات الكتاب تنزلت ... تتلى بعلو جلاله وبسوقه
وأذيق من كأس المحية صرفها ... سبحان ساقيه بها ومذيقه
حاز السناء وناله بعروجه ... جاز السماء طباقها بخروقه
ولكم له من آية من ربه ... وعناية ورعاية بحقوقه
يا خيرة الأرسال عند إلهه ... يا محرز العليا على مخلوقه
علقت آمالي بجاهك عدة ... والقصد ليس يخيب في تعليقه
وعلقت من حبل اعتمادي عمدة ... لتمسكي بقويه ووثيقه
ولئن غدوت أخيذ ذنبي إنني ... أرجو بقصدك أن أرى لطليقه
وكساد سوقي مذ لجأت لبابكم ... يقضي حصول نفوذه ونفوقه
ويحن قلبي وهوفي تغريبه ... لمزاره لرباك في تشريقه
وتزيد لوعته متى حث السرى ... حاد حدا بجماله وبنوقه
وأرى قشيب العمر أمسى بالياً ... ومرور دهري جد في تمزيقه(6/141)
وأخاف أن أقضي ولم أقض المنى ... بنفوذ سهم منيتي ومروقه
فمتى أحط على اللوى رحلي وقد ... بلغت ركابي للحمى وعقيقه
وأمرغ الخدين في ترب غدا ... كالمسك في أرج شذا منشوقه
وأعيد إنشائي وإنشادي الثنا ... ببديع نظم قريحتي ورقيقه
حتى أميل العاشقين تطرباً ... كالغصن مر صباً على ممشوقه
وتحية التسليم أبلغ شافع ... وثنا المديح حديثه وعتيقه
ولذي الفخار وذي الحلى ووزيره ... صديقه وأخي الهدى فاروقه
مني السلام عليهم كالزهر في ... تأليفها والزهر في تأنيقه وقال (1) :
هواكم بقلبي ما لمحكمه نسخ ... ومن أجله جفني بمدمعه يسخو
ومن نشأتي ما إن صحت منه نشوتي ... سواء به عصر المشيب (2) أو الشرخ
عليه حياتي مذ تمادت وميتتي ... وبعثي إذا بالصور يتفق النفخ
ولي خلد أضحى قنيص (3) غرامه ... ولا شرك يدني إليه ولا فخ
قتلت سلوي حين أحييت لوعتي ... وما اجتيح بالإقرار في حالتي لطخ
وأغدو إلى سعدي بكرخ علاقتي ... وقصدي قصدي ليس سعدي ولا الكرخ
وناصح كتمي (4) إذ زكت بيناته (5) ... يجول عليه من دموع الأسى نضخ
وأرجو بتحقيقي هواكم بأن أفي ... فعهد ولا نقض، وعقد ولا فسخ
وما الحب إلا ما اتسقل ثبوته ... لمبناه رص في الجوانح أو رسخ (6)
__________
(1) القصيدة في الكتيبة: 121.
(2) ق والكتيبة: الشباب.
(3) ق ص: يبيض.
(4) الكتيبة: وما صح جسمي.
(5) ق ص: أدركت؛ ص: ببنانه.
(6) ق: رض ... أو رضخ.(6/142)
إذا مسلك لم يستقم بطريقه ... سلكت اعتدالاً مثلما يسلك الرخ
بدا لضميري من سناكم تلمح ... فبخ لعقل لم يطر عندها بخ
على عود ذاك اللمح ما زلت نادباً ... كما تندب الورقاء فارقها الفرخ
يدي بأيديكم وقلبي شاغل ... فمن فكرتي نسج ومن أنملي نسخ وقال:
إليك تحن النجب والنجباء ... فهم وهي في أشواقهم شركاء
تخب بركاب تحب وصولها ... لأرض بها باد سناً وسناء
فأنفاسها ما إن تني صعداؤها ... وأنفسهم من فوقها سعداء
هم عالجوا إذا عجل السير داءهم ... وأشباه مثلي مدنفون بطاء
فعدت ودوني للحبيب ترحلوا ... وما قاعد والراحلون سواء
له وعليه حب قلبي وأدمعي ... وقد صح لي حب وسح بكاء
بطيبة هل أرضى وتبدو سماؤها ... وإن تك أرضاً فالحبيب سماء
شذا نفحها واللمح منها كأنه ... ذكاء عبير والضياء ذكاء
فيا حادياً غنى وللركب حادياً ... عناني بعد البعد عنك عناء
بسلع فسل عما أقاسي من الهوى ... وسل بقباء إذ يلوح قباء
وفي عالج مني بقلبي لا عج ... فهل لي علاج عنده وشفاء
وللرقمتين أرقم الشوق لاذع ... ودرياقه أن لويباح لقاء
أماكن تمكين وأرض بها الرضى ... وأرجاء فيها للمشوق رجاء وقال (1) :
أدب الفتى في أن يرى متيقظاً ... لأوامر من ربه ونواه
فإذا تمسك بالهوى يهوي به ... والحبل منه لمن تيقن واه
__________
(1) هذه المقطوعة واثنتان تاليتان في الكتيبة: 122.(6/143)
وقال:
يا من بدنياه ظل في لجج ... حقق بأن النجاة في الشاطي
تطمع في إرثك الفلاح وقد ... أضعفت ما قبله من أشراط
كن حذراً في الذي طمعت به ... من حجب نقص وحجب إسقاط وقال:
ترى شعروا أني غبطت نسيمة ... ذكت بتلاقي الروض غب الغمائم
كما قابلت زهر الرياض وقبلت ... ثغور أقاحيه بلا لوم لائم وقال:
ورد المشيب مبيضاً بوروده ... ما كان في شعر الشبيبة حالكا
يا ليته لوكان بيض بالتقى ... ما سودته مآثم من حالكا
إن المشيب غدا رداءً للردى ... فإذا علاك أجد في ترحالكا وقال (1) :
لوعة الحب في فؤادي تعاصت ... أن تداوي ولوأتى ألف راق
كيف يبرا من علة وعليها ... زائد علة النوى والفراق
فانسكاب الدموع جار فجار ... والتهاب الضلوع راق فراق ومن غرائب الاتفاق أنه قال: كنت جالساً بين يدي الخطيب أبي القاسم التاكروني صبيحة يوم بمسجد مالفة، فقال لنا في أثناء حديثه: رأيت البارحة في عالم النوم كأن أبا عبد الله الجلياني يأتيني بيتي شعر في يده، وهما:
__________
(1) الكتيبة: 122.(6/144)
كل علم يكون لمرء شغلاً ... بسوى الحق قادح في رشاده
فإذا كان فيه لله حظ ... فهو مما يعده لمعاده قال: فلم ينفصل المجلس حتى دخل علينا الفقيه الأديب أبوعبد الله الجلياني، والبيتان معه، فعرضهما على الشيخ، فأخبره أنه صنعهما البارحة، فقال له كل من في المجلس: أخبرنا بهما الشيخ قبل مجيئك، فكان هذا من العجائب.
ولأبي الحجاج المكور تواليف، منها كتاب ملاذ المستعين في بعض خصائص سيد المرسلين أربعون حديثاً، وكتاب تخصيص القرب وتحصيل الأرب وقبول الرأي الرشيد في تخميس الوتريات النبوية لابن رشيد وانتشاق النسمات النجدية واتساق النزعات الجدية وغرر الأماني المسفرات في نظم المكفرات، والنفحات الرندية مجموع شعره، وحقائق بركات المنام في مرأى المصطفى خير الأنام والاستشفاء بالعدة والاستشفاع بالعمدة في تخميس البردة وتوجع الراثي في تنوع المراثي واعتلاق السائل بأفضل الوسائل ولمح البهيج ونفح الأريج في ترجيز كلام الشيخ مسائل البيان والتحصيل لتيسير البلوغ لمطالعتها والتوصيل وفهرسة روايته، ورجز ذكر مشايخ أبي عمر الطنجي، وكتاب أرج الأرجاء في مزج الخوف والرجاء، أربعون حديثاً في الرجاء والخوف.
وكان رحمه الله تعالى حياً حين ألف لسان الدين الإحاطة رحم الله تعالى الجميع.
ورأيت على ظهر أول ورقة من الريحانة بخط الإمام الكبير الشهير الشيخ إبراهيم الباعوني الدمشقي رحمه الله تعالى ما نصه: قال كاتبه إبراهيم بن أحمد الباعوني - غفر الله ذنوبه - وستر عيوبه، وبلغه من فضله مطلوبه - صاحب كتاب الريحانة، آية من آيات الله سبحانه، لوجه أدبه طلاقه، وللسانه ذلاقة(6/145)
وللقلوب به علاقة، وفي خطه غلاقة، يعرفها ن عرق اصطلاحه بمطالعته، وينفتح له باب فهمها بتكرير مراجعته، فليتأمل الناظر إليه، والمقبل عليه، ما فيه من الجواهر، والنجوم الزواهر، بل الآيات البواهر، وليسبح الله تعالى تعجباً من قدرته جل وعلا، ومواهبه التي عذب ماؤها النمير وحلا، وليقل عند تأمل دره النظيم " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم " الحديد:21؛ انتهى.
وقوله رحمه الله تعالى وفي خطه غلاقة ليس المراد به إلا صعوبة الخط المغربي على أهل المشرق حسبما يعلم مما بعده، وإلا فإن خط لسان الدين رحمه الله تعالى محمود عند المغاربة، ولنقتصر من هذا الغرض على ما ذكر، فإن تتبعه يطول؛ إذ هوبحر لا ساحل له.
[نقل من الروض الأريض لابن عاصم]
وكان لسان الدين رحمه الله تعالى مؤثراً حاجة من أمله، وقصد بابه وأم له، سواء كان من أودائه، أومن أعدائه، وقد ذكر الوزير الرئيس الكاتب أبويحيى ابن عاصم رحمه الله تعالى عنه في ذلك حكاية في أثناء كلام رأيت أن أذكر جملته لما اشتمل عليه من الفائدة، وهوأنه ذكر في ترجمة شموس العصر من ملوك بني نصر من كتابه المسمى بالروض الأريض في اسم السلطان الذي كان ابن الخطيب وزيره، وهوالغني بالله محمد بن يوسف ين إسماعيل بن فرج بن نصر الخزرجي، بعد كلام ما صورته (1) : كان قد جرى عليه التمحيص الذي أزعجه عن وطنه إلى الدار البيضاء بالمغرب من إيالة بني مرين، فأفادته الحنكة والتجربة هذه السيرة التي وقف شيوخنا على حقيقتها، وانتهجوا واضح طريقتها، وبلغتنا بألسنة صدقهم، معبراً عنها في عرف
__________
(1) أزهار الرياض 1: 58 - 60.(6/146)
التخاطب بالعادة، فلم يكن الوزير الكيس والرئيس الجهبذ يجريان من الاستقامة على قانون، ولا يطردان من الصواب على أسلوب، إلا بالمحافظة على ما رسم من القواعد، والمطابقة لما ثبت من العوائد، وكان ذووالنبل من هذه الطبقة وأولوالحذق من أرباب هذه المهن السياسية يتعجبون من صحة اختياره لما رسم، وجودة تمييزه لما قصد، ويرون المفسدة في الخروج عنها ضربة لازب، وأن الاستمرار على مراسمها آكد واجب، فيتحرونها بالالتزام كما تتحرى السنن، ويتوخونها بالإقامة كما تتوخى الفرائض، وسواء تبادر لهم معناها ففهموه، أوخفي عليهم وجه رسمها فجهلوه، حدثني شيخنا القاضي أبوالعباس أحمد بن أبي القاسم الحسني أن الرئيس (1) أبا عبد الله ابن زمرك دخل على الشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب يستأذنه في جملة مسائل مما يتوقف عادة على إذن الوزير، وكان معظمها فيما يرجع إلى مصلحة الرئيس أبي عبد الله ابن زمرك، قال الشريف: فأمضاها كلها له، ما عدا واحدة منها تضمنت نقض عادة مستمرة، فقال ذوالوزارتين ابن الخطيب: لا، واله يا رئيس أبا عبد الله لا آذن في هذا، لأنا ما استقمنا في هذه الدار إلا بحفظ العوائد.
ثم قال صاحب الروض: فلما تأذن الله تعالى للدولة بالاضطراب، واستحكم الوهن بتمكن الأسباب، عدل عن تلك القواعد الراسخة، واستخف بتلك القوانين الثابتة، فنشأ من المفاسد ما أعوز رفعه، وتعدد وتره وشفعه، واستحكم ضرره حتى لم يمكن دفعه، وتعذر فيه الدواء الذي يرجى نفعه، وكان قد صحبه من الجد ما نسى آماله، وأنجح بإذن الله تعالى أقواله وأعماله، فكان يجري الأمر على رسم من السياسة واضح، ونظر من الآراء السديدة راجح، ثم يحفه من الجد سياج لا يفارقه إلى تمام الغاية المطلوبة من حصوله، وتمكن مقتضى الإرادة السلطانية من فروعه وأصوله؛ انتهى كلام ابن عاصم.
__________
(1) ص: الرائس، حيثما وقعت.(6/147)
وإذ جرى ذكره فلا بأس أن نلمع بشيء من أحواله، لأن أهل الأندلس كانوا يسمونه ابن الخطيب الثاني، فنقول:
[ترجمة أبي يحيى ابن عاصم]
هوالإمام العلامة الوزير الرئيس الكاتب الجليل البليغ الخطيب الجامع الكامل الشاغر المفلق الناثر الحجة، خاتمة رؤساء الأندلس بالاستحقاق، ومالك خدم البراعة بالاسترقاق، أبويحيى محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عاصم، القيسي الأندلسي الغرناطي، قاضي الجماعة بها - كان - رحمه الله تعالى - من أكابر فقهائها وعلمائها ورؤسائها، أخذ عن الغمام المحقق أبي الحسن ابن سمعت، والإمام القاضي أبي القاسم ابن سراج، والشيخ الراوية أبي عبد الله المنتوري، والإمام أبي عبد الله البياني، وغيرهم، ومن تآليفه شرح تحفة والده، وذكر فيه أنه ولي القضاء سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة، ومنها كتاب جنة الرضى في التسليم لما قدر الله تعالى وقضى، وكتاب الروض الأيض في تراجم ذوي السيوف والأقلام والقريض كأنه ذيل به إحاطة لسان الدين ابن الخطيب، وله غير ذلك، وقد أطلت الكلام في ترجمته من كتابي " أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل للنفس به ارتياح وللعقل ارتياض " (1) .
ووصفه ابن فرج السبي بأنه الأستاذ العلم الصدر المفتي القاضي رئيس الكتاب، ومعدن السماحة، ومنبع الآداب؛ انتهى.
[نموذج من نثر ابن عاصم]
وقد تقدم بعض كلامه فيما مر، ومن بديع نثره الذي يسلك به نهج ابن
__________
(1) انظر ص: 145 وما بعدها من الجزء الأول من أزهار الرياض.(6/148)
الخطيب رحمه الله تعالى قوله من كلام جلبت جملته في أزهار الرياض، واقتصرا هنا على قوله بعد الحمدلة الطويلة ما صورته (1) : أما بعد فإن الله على كل شيء قدير، وإنه بعباده لخبير بصير، وهولمن أهل نيته، وأخلص طويته، نعم المولى ونعم المصير، بيده الرفع والخفض، والبسط والقبض، والرشد والغي، والنشر والطي، والمنح والمنع، والضر والنفع، والبطء والعجل، والرزق والأجل، والمسرة والسماءة، والإسحان والإساءة، والإدراك والفوت، والحياة والموت، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وهوالفاعل على الحقيقة وتعالى الله عما يقول الآفكون، وهوالكفيل بأن يظهر دينه على الدين كله ولوكره المشركون، وإن في أحوال الوقت الداهية لذكرى لمن كان له قلب أوألقى السمع وهوشهيد، وعبرة لمن يفهم قوله تعالى " إن الله يفعل ما يشاء " الحج: 18 و " إن الله يحكم ما يريد " المائدة:1 بينما الدسوت عامرة، والولاة آمرة، والفئة مجموعة، والدعوة مسموعة، والإمرة مطاعة، والأجوبة سمعاً وطاعة، وإذا بالنعمة قد كفرت، والذمة قد خفرت.
إلى أن قال: والسعيد من اتعظ بغيره، ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً جعلنا الله تعالى ممن قضى عمره بخيره، وبينما الفرقة حاصلة، والقطيعة فاصلة، والمضرة واصلة، وأحبل في انبتات والوطن في شتات، والخلاف يمنع رعي متات، والقلوب شتى من قوم أشتات، والطاغية يتمطى لقصم الوطن وقضمه، ويلحظه لحظ الخائف على هضمه، والآخذ بكظمه، ويتوقع الحسرة أن يأذن الله يجمع شمله ونظمه، على رغم الشيطان ورغمه، وإذا بالقلوب قد ائتلفت، والمتنافرة قد اجتمعت عدما اختلفت، والأفئدة بالألفة قد اقتربت إلى الله تعالى وازدلفت، والمتضرعة إلى الله تعالى قد ابتهلت، في إصلاح الحالة التي سلفت، فألقت الحرب أوزارها، وأدنت الفرقة النافرة مزارها، وجلت الألفة الدينية
__________
(1) أزهار الرياض 1: 160.(6/149)
أنوارها، وأوضحت العصمة الشرعية آثرها، ورفعت الوحشة الناشبة أظفارها أعذارها، وأرضت الخلافة الفلانية أنصارها، وغضت الفئة المتعرضة أبصارها، وأصلح الله تعالى أسرارها، فجمعت الأوطان بالطاعة، والتزمت نصيحة الدين بأقصى الاستطاعة، وتسابقت إلى لزوم السنة والجماعة، وألقت إلى الإمامة الفلانية يد التسليم والضراعة، فتقبلت فيأتهم، وأحمدت جيأتهم، وأسعدت آمالهم، وارتضيت أعمالهم، وكملت كطالبهم، وتممت مآربهم، وقضيت حاجاتهم، واستمعت مناجاتهم، وألسنتهم بالدعاء قد انطلقت، ووجهتهم في الخلوص قد صدقت، وقلوبهم على جمع الكلمة قد اتفقت، وأكفهم بهذه الإمامة الفلاينة قد اعتقلت، وكانت الإدالة في الوقت على عدوالدين قد ظهرت وبرقت، إلى أن قال: وكفت القدرة القاهرة، والعزة الباهرة، من عدوان الطاغية غوائل، بإعزاز دين الله الموعود بظهوره على الدين كله فواتح وأوائل، ومعلوم بالضرورة أن الله تعالى لطيف بعباده حسبما شهد بذلك برهان الوجود،: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " دليل على ما سوغ من الكرم والجود؛ انتهى المقصود منه، وهوكلام بليغ، ومن أراد جملته فعليه بأزهار الرياض.
[من نظم ابن عاصم]
ومن نظم ابن عاصم المذكور قوله مخاطباً شيخه قاضي الجماعة أبا القاسم ابن سراج، وقد طلب الاجتماع به زمن فتنة، فظن أنه يستخبره عن سر من أسرار السلطان، فأعده معتذراً، ولم يصدق الظن:
فديتك لا تسأل عن السر كاتباً ... فتلقاه في حال من الرشد عاطل
وتضطره إما لحالة خائن ... أمانته أوخائض في الأباطل
فلا فرق عندي بين قاض وكاتب ... وشى ذا بسر أو قضى ذا بباطل(6/150)
[قصيدة لابن الأزرق في مدحه]
ومن بديع ما نظم في مدح الرئيس ابن عاصم المذكور قول العلامة ابن الأزرق رحمه الله تعالى:
خضعت لمعطفه الغصون الميس ... ورنا فهام بملتيه النرجس
ذو مبسم زهر الربى في كسبه ... متنافس عن طيبه متنفس
ومورد من ورده أو ناره ... يتنعم القلب العميد وييأس
فالورد فيه من دموعي يرتوي ... والنار فيه من ضلوعي تقبس
كملت محاسنه فقد ناضر ... ولواحظ نجل وثغر ألعس
صعب التعطف بالغرام حبيبته ... فالحب يحبى والتعطف يحبس
غرس التشوق ثم أغرى بي ... فالوجد يغرى والتشوق يغرس
ما كنت أشقى لوحللت بجنة ... من وصله تحيا لديها الأنفس
ألحاظه ورضابه وعذاره ... حور بها أو كوثر أوسندس
وليال أنس قد أمنت بهن من ... واش ينم ومن رقيب يحرس
أطلعت شمس الراح فيها فاهتدى ... عاش إلينا في الدجى ومغلس
صفراء كالعقيان في الألوان لل ... ندمان كالشهبان منها اكؤس
صبت شقيقاً فاستحالت مرجساً ... في مزجها فمورد ومورس
وحبابها يغني بأسنى جوهر ... أنفى لغم المعدمين وأنفس
يجلى لها للغم منها حندساً ... قمر عليه من الذؤابة حندس
حتى إذا عمشت مراة البدر من ... صبح بدا تلقاه إذ يتنفس
ناديته وسنا الصباح محصحص ... ينجاب عنه من الظلام معسعس
يا مطلع الأنوار زهراً يجتنى ... ومشعشع الصهباء ناراً تلمس
بك مجلس الأمس اطمأن بابن عا ... صم اطمأن من الرياسة مجلس
بدر بأنوار الهدى متطلع ... غيث بأشتات الندى متبجس(6/151)
حامى فلم نرتع لخطب يعتري ... ووفى فلم نحفل بدهر يبخس
شيم مهذبة، وعلم راسخ ... ومكارم هتن، ومجد أقعس
لو كان شخصاً ذكره لبدا على ... أعطافه من كل حمد ملبس
ذاكم أبويحيى به تحمى العلا ... وبه خلال الفخر طراً تحرس
بيت على عمد الفخار مطنب ... مجد على متن السماك مؤسس
خيم وعرس في حماه فكم حوى ... فيه المراد مخيم ومعرس
إنا لنغدو هيماً فينيلنا ... رياً ويوحشنا النوى فيؤنس
حتى أقمنا والأماني منهضا ... ت وابتسمنا والزمان معبس
لم ندر قبل يراعه وبنانه ... أن الذوابل بالغمائم تبجس
هن اليراع بها يؤمن خائف ... ويحاط مذعور، ويغني مفلس
مهما انبرت فهي السهام يرى لها ... وقع لأغراض البيان مقرطس
يشفى بمأمله الشكي المعتري ... يحيا بمأمنه الحمام المؤيس
فتقص حين تشق منها ألسن ... وتسير حين تقط منها أرؤس
من كل وشاء بأسرار النهى ... درب بإظهار السرائر يهجس
قد جمع الأضداد في حركاته ... فلذا اطراد فخاره لا يعكس
عطشان ذو ري، يبيس مثمر ... غضبان ذو صفح، فصيح أخرس
لله من تلك البراع جواذب ... للسحر منك كأنها المغنطيس
رضنا شماس القول في أوصافها ... فهي التي راضت لنا ما يشمس
وإليكها حللاً تشابه نسجها ... مثلي يفصلها ومثلك يلبس
واهنأ بعيد باسم متهلل ... وافاك يجهر بالسرور ويهمس
واحبس لواء الفخر موقوفاً فإن ... الحمد موقوف عليك محبس قلت: وعندي الآن شك في صاحب هذه القصيدة، هل هوقاضي الجماعة بغرناطة محمد بن الأزرق أوابن الأزرق الثاني القائل فيما يكتب على السيف:(6/152)
إن عمت الأفق من نقع الوغى سحب ... فشيم بها بارقاً من لمع إيماضي
وإن نوت حركات النصر أرضص عداً ... فليس لفتح إلا فعلي الماضي والله سبحانه أعلم.
[رسالة ابن عاصم إلى ابن طركاط]
ومن إنشاء الرئيس ابن عاصم المذكور ما كتب به يخاطب الكاتب أبا القاسم ابن طركاط، وهو " القضاء - حفظ الله تعالى كمالك، وأنجح آمالك - إذا لم يحطه العدل من كلا جانبيه سبيل معوج، ومذهب لا يوافق عليه مناظر ولا ينصره محتج، كما أنه إذا حاطه العدل حادة لنجاة، وسبب في حصول رحمة الله تعالى المرتجاة، وسوق لنفاق بضاعة العبد المزجاة، وأجمل العدل ما تحلى به في نفسه الحكم، وجرى على مقتضى ما شهدت به الآراء المشهورة والحكم، حتى يكون عن البغي رادعاً، وبالقسط صادعاً، ولأنف الأنفة من الإذعان للحق جادعاً، وأنت أجلك الله تعالى على سعة إطلاعك، وشدة ساعد قيامك بالطريقة واضطلاعك، ممن لا ينبه على ما ينبغي، ولا يرد على طلبته من الإنصاف المبتغي، فلك في الطريقة القاضوية التبريز، وأنت إذا كان غيرك الشبه الذهب الإبريز، ولعلمية عدلك التوشية بالنزاهة والتطريز، وليتني كنت لمظهرك الحكمي حاضراً، ولإعلام القضاة بآرائك المرتضاة محاضراً، والوازع قد تمرس بالخصوم، وجعل المتصدي للإذن في محل المخصوم، وأنت حفظك الله تعالى قد قمت من غلط الحجاب بالمقام المعصوم، ومثلت من سعة المنزل في الفضل والطول كالشهر المصوم، والباب قد سد، وداعي الشفاعة قد رد، والميقات للإذن قد حد، ومطلب الأجرة المتعارفة قد بلغ الأشد، حتى إذا قضي الواجب، وأذن في دخول الخصمين الحاجب، وكبح السابقين إلى الحد الذي(6/153)
لا يعدونه، وحفز (1) إيماؤه من تعداه أووقف دونه، وقد حصل باللحظ واللفظ التساوي، وأنتج المطالب الأربعة هذا اللازم المساوي، ومجلسك قد رجح وقاره برضوى، ومجتلاك قد فضح نوره البدر الأضوا، وقد امتزت عن سواك نم القضاة بمراسم لا تليق بجملتهم معارفها، وتخصصت عنهم بملابس تعج عجيجاً من جذامهم مطارفها (2) ، بحيث تحد لخلع النعلين حداً لا يتجاوز طواه، وتسد في بعض الأوقات الباب سداً لا ترقع بالمحاجر كواه (3) ، وتفصل بين الخصمين أحياناً بالنية (4) دون الكلام ولكل امرئ ما نواه.
وهذه أعانك الله تعالى مكملات من العدل في الحكم وقف عياض دون تحقيق مناطها، وأعيت ابن رشد فلم يهتد بيانه ولا تحصيله لاستنباطها، فما بال النازحة (5) عنك حساً ومعنى، النازلة من تقاضي دينك بمنزلة الممطول المعنى، المعتقلة من ملكة رقك بحيث أقصاها لاعج الشوق، المعذبة من الصبابة فيك بما شب عمره عن الطوق، تتنفس الصعداء مما تشهده منك من مبتدعات الجور، وتردد البكاء على ضياع ما استعار الحسن لصفاتها من النجد والغور، وتقضي العجب مما تسمع من عدلك الذي لم تجتل لمحة من نوره، ومن حلمك الذي أشقاها (6) فلم تحضر لدكة طوره، وتستصوب أنظار النحاة في منع التهيئة والقطع في العامل، وتستجلب العروضيين في المديد والبسيط دون الطويل والكامل، فهلا راجعت فيها النظر، وأنجزت لها الوعد المنتظر، وكففت من
__________
(1) ص: وأحفز؛ ق: وأحقر.
(2) إشارة إلى قول الشاعرة:
شكا الخز من روح وأنكر ريحه ... وعجت عجيجاً من جذام المطارف (3) من قول الشاعر: " ورقعن الكوى بالمحاجز " وأصله قول المثقب العبدي " وثقبن الوصاوص للعبون ".
(4) ق ص: بالبينة.
(5) أخذ يتحدث هنا - بضمير المؤنث - عن رسالة لم يحفل القاضي يرد جوابها.
(6) ص: أشقاها المجد.(6/154)
عيونها دموعاً مستهلة، واجتليت من جبينها الوضاح ما أخجل بدوراً مشرقة وأهلة، ولم تحوجها إلى أن ينطق قرينها (1) الروحاني بالشعر على لسانها ولسانك، ولم تضطرها في هذه المعاملة إلى ما لا ترتضيه من كفر إحسانك، والعذر أظهر، والبرهان أبهر، وخلافك في العالم أشهر، وأنت إن لم يكن ما يعصم الله تعالى منه لمقتضى الطبيعة أقهر.
وقد أدرجت لك في طي هذا ما يصل إلى يدك، وتلهج به في يومك وغدك، منتظرة منك إطفاء الجوى بالجواب، ومحوما سبق من الخطأ بالخطاب، إن شاء الله تعالى، والله تعالى يصل سعادته، ويحفظ مجادته، ومعاد السلام من الشاكر الذاكر ابن عاصم وفقه الله تعالى في أوائل ذي الحجة عام خمسة وأربعين وثمانمائة انتهى، وهومما لم أذكره في أزهار الرياض ".
[ظهير بتقديم ابن عاصم للنظر في أمور الفقهاء]
ولنذكر هنا الظهير الذي جلبته فيها (2) بتقديم المذكور لنظر في أمور الفقهاء وغيرهم، ونصه: هذا ظهير كريم إليه انتهت الظهائر شرفاً علياً، وبه تقررت المآثر برهاناً جلياً، وراقت المفاخر قلائد وحلياً، وتميزت الأكابر الذين افتخرت بهم الأقلام والمحابر، اختصاصاً مولوياً. فهووإن تكاثرت المرسومات وتعددت، وتوالت المنشورات وتجددت، أكبر (3) مرسوم تمم في الاعتقاد نظراً خطيراً، وأحكم في التفويض أمراً كبيراً، وأبرم في الاستخلاص عزماً أبياً. اعتمد بمسطوره العزيز، واختص (4) بمنشوره الذي تلقاه اليمن بالتعزيز، من لم يزل
__________
(1) قرينها: سقطت من ق.
(2) فيها: يعني في أزهار الرياض؛ انظر ج: 1 ص: 172.
(3) ق: أكرم.
(4) ق: واختبر.(6/155)
بالتعظيم حقيقاً، وبالإكبار خليقاً، وبالإجلال حرياً. فهوشهير لم يزل في الشهرة سابقاً، هاد لم يزل بالهدى ناطقاً، بليغ لم يزل بالبلاغة درياً، عظيم لم يزل في النفوس معظماً، علم لم يزل في الأعلام مقدماً، كريم لم يزل في الكرام سنياً. اشتملت منه محافل الملك على العقد الثمين، وحلت به المشورة في الكنف المحوط والحرم الأمين، فكان في مشكاة الأمور هادياً، وفي ميدان المراشد جرياً. فإلى مقاماته تبلغ مقامات الإخلاص، وإلى مرتبته تنتهي مراتب الاختصاص، فيمن حاز خصلاً، وزين حفلاً، وشرف ندياً. واستكمل همماً، واستحمل قلماً، واستخدم مشرفياً. فلله ما أعلى قدر هذا الشرف، الجامع بين المتلد والمطرف (1) ، السابق في الفضل أمداً قصياً. الحال من الاصطفاء مظهراً، الفارع من العلاء منبراً، الصاعد من العز كرسياً. حاز الفضل إرثاً وتعصيباً، واستوفى الكمال حقاً ونصيباً، ثناء أرجه كالروض لولم يكن الروض ذابلاً وهدياً. نوره كالبدر لولم يكن البدر آفلاً، ومجد علوه كالسها لولم يكن السها خفياً. فما أشرف الملك الذي اصطفاه، وكمل له حق التقريب ووفاه، وأحله قرارة التمكين، ومن اختصاصه بالمكان المكين، فسبق في ميدان التفويض وشأى (2) ، ورأى من الأنظار الحميدة ما رأى، صاعداً بالحق إماماً علماً، موضحاً من الدين نهجاً أمماً، هادياً من الواجب صراطاً سوياً. بانياً لمجد صرحاً مشيداً، مشهراً للعدل قولاً مؤيداً، مبرماً للخير سبباً قوياً. فالله تعالى يصل لمقام هذا الملك الذي طلع في سمائه بدراً دونه البدور، وصدراً تلوذ به الصدور، سعداً لا تمطله الأيام في تقاضيه، ونصراً يمضي به نصل الجهاد فلا يزال ماضيه، على الفتح مبنياً. ويوالي له عزاً يذود عن حرم الدين ويمنحه تأييداً (3) يصبح في أعناق الكفر حديث سيفه قطعياً.
__________
(1) ق: والطارف.
(2) الأزهار: وسما؛ ق: وشاء.
(3) هكذا في الأزهار؛ وفي ص: وخيفة وتأييداً، واللفظتان على الرفع في ق.(6/156)
أمر به مرسوماً عزيزاً لا تبلغ المرسومات إلى مداه، ولا يبدي بآثار الاختصاص مثل ما أبداه عبد الله أمير المسلمين محمد الغالب بالله أيد الله تعالى مقامه، ونصر أعلامه، وشكر إنعامه، ويسر مرامه، لإمام الأئمة وعلم الأعلام، وعماد ذوي العقول والأحلام، وبركة حملة السيوف والأقلام، وقدوة رجال الدين وعلماء الإسلام، الشيخ الفقيه أبي يحيى ابن كبير العلماء، شهير العظماء، حجة الأكابر والأعيان، مصباح البلاغة والبيان، قاضي القضاة وإمامهم، أوحد الجلة وطود شمامهم، الشيخ الفقيه أبي بكر ابن عاصم أبقاه الله تعالى، ومناطق الشكر به فصيحة اللسا، ومواهب الملك به معهودة الإحسان، وقلائد الأيادي منه متقلدة بجيد كل إنسان، فقد تقرر والمفاخر لا تنسب إلا لبنيها، والفضائل لا تعتبر إلا بمن يشيد أركانها ويبنيها، والكمال لا يصفي شربه، إلا لمن يؤمن سربه، أن هذا العلم الكبير، الذي لا يفي بوصفه التعبير، لم بآثاره يقتدى، وبأنظاره يهتدي، وبإشارته يستشهد، وبإدارته يسترشد، إذ لا أمد علو (1) إلا وقد تخطاه، ولا مركب فضل إلا وقد تمطاه، ولا شراقة هدى إلا وقد جلاها، ولا لبة فخر إلا وقد حلاها، والنعمة إلا وقد أسداها، ولا حرمة إلا وقد أبداها، لما له في دار الملك من الخصوصية العظمى، والمانة التي تسوغ النعمى، والرتب التي تسموالعيون إلى مرتقاها، وتستقبها النفوس بالتعظيم وتتلقاها، حيث سر الملك مكتوم، وقرطاسه مختوم، وأمره محتوم، والأقلام قد روضت الطروس وهي ذاوية، وقسمت الأرزاق وهي طاوية، شقت ألسنتها فنطقت، وقطت (2) أرجلها فسبقت، ويبست أثمرت إنعاماً، ونكست فأظهرت قواماً، وخطت فأعطت، وكتبت فوهبت، ومشقت فرفقت، وأبرمت فأنعمت، فكم يسرت الجبر،
__________
(1) ص: على (علا) .
(2) ق: وقطعت.(6/157)
وعفرت الهزبر، وشنفت المسامع، وكيفت المطامع، وأقلت فيما ارتفع من المواضع، وأحلت لما امتنع من المراضع، فهي تنجز النعم، وتحجز النقم، وتبث المذاهب، وتحث المواهب، وتروض المراد، وتنهض المراد، وتحرس الأكناف، وتغرس الأشراف، مصيخة لنداء هذا العماد الأعلى، طامحة لمكانه الذي سما واستعلى، فيما يلي عليها من البيان الذي يقر له بالتفضيل، الملك الضليل، ويشهد له بالإحسان، لسان حسان، يحكم له ببري القوس (1) ، حبيب بن أوس، ويهيم بما من الأساليب عنده، شاعر كندة، ويستمطر سحبه الثرة، فصيح المعرة، إلى منثور تزيل الفقر فقره، وتدر الرزق درره، لوأنهي إلى قس إباد لشكر في الصنيعة أياديه، واستمطر سحبه وغواديه، أوبلغ إلى سحبان لسحره، وما فارقه عشية ولا سحره، ولورآه الصابي لأبدى إليه من صبوته ما أبدى، أوسمعه ابن عباد لكان له عبداً، أبوبلغ بديع الزمان لهجر بدائعه، واستنزر بضائعه، أوأتحف به البستي لا تخذه بستاناً، أوعرض على عبد الحميد لأحمد من صوبه هتاناً، فأعظم به ومن عال لا ترقى ثنيته، ولا تحاز مزيته، ولا يرجم أفقه، ولا يكتم حقه، ولا ينام له عن اكتساب الحمد ناظر، ولا ينقاس به في الفضل مناظر، وهل تقاس الأجادل بالبغاث، أوالحقائق بالأضغاث
ألا وإن بيته هوالبيت الذي طلع في افقه كل كوكب وقاد، ممن وشج به للعلوم اتقاء واتقاد، وترامى به للمدارك ذكاء وانتقاد، فاعظم بهم أعلاماً وصدوراً، وأهلة وبدوراً، خلدت ذكرهم الدواوين المسطرة، وسرت في محامدهم الأنفاس المعطرة، إلى أن نشأ في سمائهم هذا الأوحد، الذي شهرة فضله لا تجحد، فكان قمرهم الأزهر، ونيرهم الأظهر، ووسيطة عقدهم الأنفس، ونتيجة مجدهم الأقعس، فأبعد في المناقب آماده، ورفع الفخر وأقام عماده، وبنى على تلك الأساس المشيدة، وجرى لإدراك تلك الغايات البعيدة،
__________
(1) ق: ببرء النفوس.(6/158)
فسبق وجلى، وشنف بذكره المسامع وحلى، ورفع المشكل ببيانه، وحرر الملتبس ببرهانه، إلى أن أحله قضاء الجماعة ذروة أفقه الأصعد (1) ، وبوأه عزيز ذلك المقعد، فشرف الخطة، وأخذ على الأيدي المشتطة، لا يراقب إلا ربه، ولا يضمر إلا العدل وحبه، والمجلس السلطاني أسماه الله تعالى يختصه بنفسه، ويفرغ عليه من حلل الاصطفاء ولبسه، ويستمطر فزائده، ويجرب بأنظاره حقوق الملك وعوائده، فكان بين يديه حكماً مقسطاً، ومقسماً لحظوظ الإنعام مقسطاً، إلى أن خصه بالكتابة المولوية، ورأى له ذلك حق الأولوية، إذ كان والده المقدس نعم الله تعالى ثراه، ومنحه السعادة في أخراه، مشرف ذلك الديوان، ومعلي ذلك الإيوان، يحبر رقاع الملك فتروق، وتلوح كالشمس عند الشروق، فحل ابنه هذا (2) الكبير شرفاً، الشهير سلفاً، مرتبته التي سمت، وافترت به عن السعد وابتسمت، فسحبت به لشرف مطارف، وأحرزت به من الفخر التالد والطارف، فهواليوم في وجهها غرة، وفي عينها قرة، ولله هوفي ملاحظة الحقائق ورعيها، وسمع الحجج ووعيها، فلقد فضل بذلك أهل الاختصاص، وسبقهم في تبيين ما يشكل منها وما يعتاص، إذ المشكلة معه جلية الأغراض، والآراء لديه آمنة من مأخذ الاعتراض، فكم رتبة عمرها بذويها، فأكسبها تشريفاً وتنويهاً، وعلى ذلك فأعلام قضاة الوطن، ومن عبر منهم وقطن، مع أقدارهم السامية، ومعاليهم التي هي للزهر مسامية، إنما رقتهم وساطته التي أحسنت، وزينت بهم المجالس وحسنت، فيه (3) أمضوا أحكامهم، وأعلموا في الأباطيل احتكامهم، وكتبوا الرسوم، وكتبوا الخصوم، وحلوا دست القضاء، وسلوا سيف المضاء، وفي زمانه تخرجوا،
__________
(1) ق: الأسعد.
(2) ص: ذلك.
(3) كذا في ص ق؛ وفي الأزهار: فبه.(6/159)
وفي بستانه تأرجحوا، ومن خلفه اكتسبوا، وإلى طرقه انتسبوا، وعلى موارده حاموا، وحول فوائده قاموا، ويتعريفه عرفوا، وبتشريفه شرفوا، وبصفاته ملفوا، ويعرفاته وقفوا، فأمنوا مع انسكاب سحب إفادته من الجذب، وقاموا بذلك الفرض بسبب ذلك الندب، وهل العلماء وإن عمت فوائدهم، وانتظمن بجياد الأذهان فرائدهم، إلا من أنواره مستمدون، فبه اجتنيت من أفنان المنابر ثمراتهم، وتأرجت في روضات المعارف زهراتهم، وبه عمروا الحلق، وائتلق من أنوارهم ما أئتلق، إذ كل من اصطناعه محسوب، وإلى بركته منسوب، فهويدرهم الأهدى، وغيثهم الأجدى، وعقدهم المقتنى، وروضهم المجتنى، وبدر منازلهم، وصدر محافلهم.
وعلى ما أعلى المقام المولوي من مكانه، وقضى به من استمكانه، واعتمد من إبرامه، وأبرم من اعتماده، ومهد من إكرامه، وكرم من مهاده، واختص من علاه، وأعلى من اختصاصه، واستخلص من حلاه،، وحلا من استخلاصه، ووفى من تكرمه، وكرم من يراعته، وشقق من كتابته، وأنطق من خطابته، وسجل من أنظاره، وعجل من اختياره، فذكا ذكره، وسطا سطره، وأمعن معناه، وأغنى مغناه، أشار أيده الله تعالى باستئناف خصوصيته وتجديدها، وإثبات مقاماته وتحديدها، لتعرف تلك الحدود فلا تتخطى، وتكبر تلك المراتب فلا تستعطى، فأصدر له شكر الله تعالى إصداره، وعمر من مناقبه البديع فراق طيه ونشره، وغدا وفرائد المآثر لديه موجدة مكونه (1) ، وأصبح للمفاخر مالكاً لما أتى به مدونه، وخصه فيه بالنظر المطلق الشروط، الملازم للتفويض ملازمة
__________
(1) ق: مكنونه؛ ص: مكمونه.(6/160)
الشرط للمشروط، المستكمل الفروع والأصول، المستوفي الأجناس والفصول، في الأمور التي تختص بأعلام القضاة الأكابر، وكتاب القضاة ذوي الأقلام والمحابر، وشيوخ العلم وخطباء المنابر، وسائر أرباب الأقلام القاكن منهم والعابر، بالحضرة العلية، وجميع البلاد النصرية، تولى الله تعالى جميع ذلك بمعهود ستره، ووصل لديه ما تعود من شفع اللطف ووتره، يحوط مراتبهم التي قطفت من روضاتها ثمرات الحكم وجنيت، ويراعي أمورهم التي أقيمت على العوائد وبنيت، وحقوقهم التي حفظت لهم في المجالس السلطانية ورعيت، ويحل كل واحد منهم في منزلته التي تليق، ومرتبته التي هوبها خليق، على ما يقتضي ما يعلم من أدواتهم، ويخبر من تباين ذواتهم، ويرشح كل واحد إلى ما استحه، ويؤتي كل ذي حق حقه، اعتماداً على أغراضه التي عدلت، وصدحت على أفنانها من الأفواه طيور الشكر وهدلت، واستناداً في ذلك إلى آرائه، وتفويضاً له في هذا الشأن بين خلصاء الملك وظهرائه، وذلك على مقتضى ما كان عليه أعلام الرياسة الذين سبقوا، وانتهضوا بهممهم واستبقوا، كالشيخ الرئيس الصالح أبي الحسن ابن الجياب، والشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب، رحمهما الله تعالى.
فليقم أبقاه الله تعالى بهذه الأعمال التي سمت واعتزت، ومالت بها أعطاف العدل واهتزت، وسار بها الخبر حثيث السرى، وصار بها الحق مشدود العرى، وعلى جميع القضاة الامضايء، والعلماء الأرضياء، والخطباء الأولياء، والمقرئين الأزكياء، وحملة الأقلام الأحظياء، أن يعتمدوا هذا الولي العماد في كل ما يرجع إلى عوائدهم، ويختص في دار الملك من مرتباتهم وفوائدهم، وما يتعلق بولاياتهم وأمنياتهم، ويليق بمقاصدهم ونياتهم، فهوالذي يسوغهم المشارب، ويبلغهم المآرب، ويستقبل العلي بالعلي، والعاطل بالحلي، والمشكل بالجلي، والمفرق بالتاج، والمقدمة بالإنتاج، وعلى ذلك فهذا المنشور الكريم قد أقرهم على ولاياتهم وأبقاهم، ولقاهم من حفظ المراتب ما رقاهم، فليجروا(6/161)
على ماهم بسبيله، وليهتدوا بمرشد هذا الاتناء ودليله، وكتب في صفر عام سبعة وخمسين وثمانمائة؛ انتهى.
قلت: وإنما أتيت به لوجوه: أحدها ما يتعلق بلسان الدين إذ وقعت الإشارة إلى مرتبته في آخره، والثاني ما اشتمل عليه من الإنشاء الغريب، والثالث معرفة حال الرئيس أبي يحيى ابن عاصم وتمكنه من الرياسة، لأنا بنينا هذا الكتاب على ذكر ما يناسبه من أنباء أهل المغرب، لكون أهل هذه البلاد المشرقية ليس لهم بها عناية، والرابع أن بعض أكابر شيوخنا ممن ألف في طبقات الملكية لما عرف بأبي يحيى ذكره في نحوأسطر عشرة، وقال: هذا الذي حضرني من التعريف به، والخامس أن ابن عاصم المذكور كما قاله الوادي آشي وغيره كان يدعي في الأندلس بابن الخطيب الثاني، ويعنون بذلك البلاغة والبراعة والرياسة والسياسة.
رجع إلى أخبار لسان الدين فنقول:
وأما كتب التأليف باسم لسان الدين رحمه الله تعالى، فقد قال في الإحاطة لما أجرى ذكر ذلك ما صورته: وأما ما رفع إلي من الموضوعات العلمية، والوسائل الأدبية، والرسائل الإخوانية، لما أقامني الملك صنماً يعتمد، وخيالاً إليه يستند، صادرة عن الأعلام، وحملة الأقلام، ورؤساء النثار والنظام، فجم يضيق عنه الإحصاء، ويعجز عن ضم نشره الاستقصاء، وربما تضمن هذا الكتاب كتاب الإحاطة منه كثيراً، ومنظوماً أثيراً، ودراً نثيراً، جرى في أثناء الأسماء، وانتمى إلى الإجادة اكرم الانتماء، غفر الله تعالى لي ولقائله، فما كان أولاني وإياه بستر زوره، وإغراء الإضراب بغروره، فأهون بما لا ينفع، وإن ارتفع الكلم الطيب لا يرفع، اللهم تجاوز عنا بفضلك وكرمك؛ انتهى.
وقد تقدم في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الكرسوطي الفاسي نزيل مالقة وصاحب العديدة أنه ألف تقييداً على قواعد الإمام القاضي(6/162)
أبي الفضل عياض رحمه الله تعالى برسم ولد لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى، وكذلك غير واحد من أهل عصره، قصدوه بالنظم والنثر، وهي سنة الله سبحانه وتعالى في عباده، إذ السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق فيها، والله سبحانه وتعالى ولي المكافأة، لا رب غيره، ولا مأمول سواه (1) ؛ انتهى.
__________
(1) ص: ولا ... سواه: سقطت من ص؛ وإلى هنا انتهت نسخة ص، وفي آخرها " انتهى الجزء الثالث من نفح الطيب تاريخ الإمام العالم العلامة أحمد المقري الماكلي ".(6/163)
الباب الخامس
في إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته، ونظمه الذي
تألق نور البراعة من لمحاته وصفحاته، وما يتصل به من أزجاله وموشحاته،
ومناسبات رائقة فيفنون الأدب ومصطلحاته
اعلم - سلك الله تعالى بي وبك أوضح محجه، وجعلنا ممن انتحى صوب الصواب ونهجه - أن هذا الباب، هوالمقصود بتأليف هذا الكتاب، وغيره كالتبغ له، وها أنا أذكر ما حضرني الآن من بنات أفكار لسان الدين التي هي بالمحاسن متقنعة، ولبدائع منتعلة، فأقول:
أما نثره فهوالبحر الزخار، بل الدر الذي به الافتخار، وناهيك أن كتبه الآن في المغرب قبلة أرباب الإنشاء التي إليها يصلون، وسوق دررهم النفسيسة التي يزينون بها صدور طروسهم ويحلون، وخصوصاً كتابه ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب، فإنه، وإن تعددت مجلداته، على فن الإنشاء والكتابة مقصور، وقد اشتمل على السلطايات وغيرها ومخاطباته لأهل المشرق والمغرب على لسان ملوك الأندلس الذين علم بلاغتهم منصور، وقد تركت نسختي منه في المغرب، ولوحضرتني لكفتني عن هذه الفوائد التي أتعبت خاطري في جمعها من مقيداتي التي صبتها معي، وهي قليلة.
وقد مر في هذا الكتاب جملة من نثره ونظمه، والذي نجلبه هنا زيادة على ما سبق.
وقال رحمه الله تعالى في " الإحاطة " عند ترجمة نثره ما صورته: وأما النثر(6/164)
فبحر زاخر، ومدى طوله مستاخر، وإنك لميفخر عليك كفاخر، وقد مر منه في تضاعيف هذا الديوان كثير، ونحن نجلب منه ما يشير إليه مشير؛ انتهى.
1 - فمن ذلك قوله في غرض التحميد مما افتتح به الكتاب في التاريخ المتضمن دولة بني نصر (1) : الحمد لله الذي جعل الأزمنة كالأفلاك، ودول الأملاك كأنجم الأحلاك، تطلعها من المشارق نيرة، وتلعب بها مستقيمة أومتحيرة، ثم تذهب بها غائرة متغيرة، السائق (2) عجل، وطبع الوجود مرتجل، والحي من الموت وجل، والدهر لا معتذر ولا خجل، بينما ترى الدست عظيم الزحام، والموكب شديد الالتحام، والوزعة تشير، والأبواب يقرعها البشير، والسرور قد شمل الأهل والعشير، والأطراف تلثمها الأشراف، والطاعة يشهرها الاعتراف، والأموال يحوطها العدل أويبيحها الإسراف، والرايات تعقد، والاعطيات تنقد، إذ رأيت الأبواب مهجورة، والدسوت لا مؤملة ولا مزورة، والحركات قد سكنت، وأيدي الإدالة قد تمكنت، فكأنما لم يسمر سامر، ولا نهي ناه، ولا أمر آمر، ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح} (الكهف:45) .
2 - ومن نثره قوله في استدعاء إمداد وحض على الجهاد: " أيها الناس رحمكم اله تعالى، إخوانكم المسلمون بالأندلس قد دهم العدوقصمه الله تعالى ساحتهم، ورام الكفر خذله الله تعالى استباحتهم، وزحفت أحزاب الطواغيت إليهم، ومد الصليب ذراعيه عليهم، وأيديكم بعزة الله تعالى أقوى، وأنتم المؤمنون أهل البر والتقوى، وهودينكم فانصروه، وجواركم الغريب فلا تحفزوه، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه، الجهاد الجهاد فقد تعين،
__________
(1) يريد كتاب اللمحة البدرية، انظر مقدمته ص: 9.
(2) اللمحة: السابق.(6/165)
الجار الجار فقد قرر الشرع حقه وبين، الله الله في الإسلام، الله الله في أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الله الله في المساجد المعمورة بذكر الله، الله اله في وطن الجهاد في سبيل الله، قد استغاث بكم الدين فأغيثوه، قد تأكد عهد الله وحاشاكم أن تنكثوه، أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة أعانكم الله تعالى عند الشدائد، جددوا عوائد الخير يصل الله تعالى لكم جميل العوائد، صلوا رحم الكلمة، واسوا أنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة، كتاب الله بين أيديكم، وألسنة الآيات تناديكم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة فيكم، والله سبحانه يقول له " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم " الصف: 10.
ومما صح عنه قوله من اغبرت قدماه في سبيل الل حرمهما الله على النار لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، أدركوا رمق الدين قبل أ، يفوت، بادروا عليل الإسلام قبل أن يموت، احفظوا وجوهكم مع الله تعالى يوم يسألكم عن عباده، جاهدوا في الله بالألسن والأقوال حق جهاده:
ماذا يكون جوابكم لنبيكم ... وطريق هذا العذر غير ممهد
إن قال لم فرطتم في أمتي ... وتركتموهم للعدوالمعتدي
تالله لو أن العقوبة لم تخف ... لكفى الحيا من وجه ذاك السيد اللهم اعطف علينا قلوب العباد، اللهم بث لنا الحمية في البلاد، اللهم دافع عن الحريم والضعيف والأولاد، اللهم انصرنا على أعدائك، بأحبابك وأوليائك، يا خير الناصرين، اللهم أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. انتهى.
3 - ومن ذلك قوله في صداق أمره السلطان بإنشائه لكبير الشرفاء بفاس في فصل منه تضمن ذكر أوليتهم واستيطانهم لتلك المدينة ما صورته.
فضرب بفاس - عمرها الله تعالى - حلته، وأورث منها بالبقعة الزكية(6/166)
الرفيعة وجلته، فتبوأوا من ذلك الغور، المعشب الروض الأرج النور، هالة سعد، وأفق برق ورعد، ودست وعيد ووعد، يتناقلون رتب الشرف الصريح كابراً عن كابر، ويروي مسلسل المجد عن بيتهم الرفيع الجد كل حريص على عوالي المعالي مثابر:
فالكف عن صلة، والأذن عن حسن ... والعين عن قرة، والقلب عن جابر حيث الأنوف الشم والوجوه الغر، والعزة القعساء والنسب الحر، والفواطم في صدف الصون من لدن الكون كأنهن الدر، آل رسول الله ونعم الآل، والموارد الصادقة إذا كذب الآل، ون إذا لم يصل عليهم في الصلاة حبطت منها الأعمال، طلبة الراكب، ونشدة الطالب، وسراة لؤي بن غالب، وملتقى نور الله تعالى ما بين فاطمة الزهراء وعلي بن أبي طالب. انتهى، وهوطويل لم يحضرني منه الآن سوى ما ذكرته.
4 - ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى: كتبت إلى بعض السادة الفضلاء، وقد بلغني مرضه أيام كان الانزعاج عن الأندلس إلى الإيالة المرينية (1) :
وردت علي فئتي التي إليها في معركة الدهر أتحيز، وبفصل فضلها في الأقدار المشتركة اتميز، سحاءة سرت وساءت، وبلغت من القصدين (2) ما شاءت، أطلع بها سيدي صنيعة وده من شكواه على كل عابث في السويداء، موجب اقتحام البيداء، مضرم نار الشفقة في فؤاد لم يبق من صبره إلا القليل، ولا من إفصاح لسانه إلا الأنين والأليل، ونوى مدت لغير ضرورة يرضاها الخليل، فلا تسأل عن ضنين تطرقت اليد إلى رأس ماله، أوعابد نوزع في تقبل أعماله، أوآمل ضويق في فذلكة آماله، لكني رجحت دليل المفهوم على دليل المنطوق، وعارضت القواعد الموحشة بالفروق، ورأيت الخط يبهر والحمد لله تعالى ويروق،
__________
(1) مر في الباب الرابع ص: 43 أن هذا النص من رسالة خاطب بها أبا القاسم ابن رضوان.
(2) ق: القصد.(6/167)
واللفظ الحسن تومض في حبره للمعنى الأصيل بروق، فقلت: ارتفع الوصب، ورد من الصحة المغتصب، وآلة الحس والحركة هي العصب، وإذا أشرق سراج الإدراك دل على سلامة سليطه، والروح خليط البدن والمرء بخليطه، وعلى ذلك فبليد احتياطي لا يقنعه إلا الشرح، فيه يسكن الظمأ البرح، وعذراً عن التكليف فهومحل الاستقصاء والاستفسار، والإطناب والإكثار، وزند الفلق في مثلها أورى، والشفيق بسوء الظن مغري، والسلام.
5 - ومن نثر لسان الدين ما ذكره في " الإحاطة " في ترجمة أبي عبد الله الشديد وهومحمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم الأنصاري الجياني الأصل ثم المالقي إذ قال ما صورته (1) :
" جملة جمال (2) من خط حسن واضطلاع بحمل كتاب الله، بلبل دوح السبع المثاني، ومائطة عروس أبي الفرج ابن الجوزي، وآية صقعه ونسيج وحده في حسن الصوت وطيب النغمة، اقتحم لذلك دسوت الملوك، وجر أذيال الشهرة (3) ، عذب الفكاهة، ظريف المجالسة، قادراً على المحاكاة، متسوراً حمى الوقار، ملبياً داعي الانبساط، قلد شهادة الديوان بمالقة فكان مغار حيل الأمانة، شامخ مارن النزاهة، لوحاً للألقاب، وعززت ولايته ببعض الألقاب النبيهة، وهوالآن الناظر في أمور الحسبة ببلده، ولذلك خاطبته برقعة أداعبه بها وأشير إلى أضداده بما نصه:
يا أيها المحتسب الجزل ... ومن لديه الجد والهزل
يهنيك والشكر لمولى الورى ... ولاية ليس لها عزل كتبت أيها المحتسب، المنتمي إلى النزاهة المنتسب، أهنيك ببلوغ تمنيك، وأحذرك
__________
(1) الإحاطة، الورقة: 12.
(2) الإحاطة: مجموع خلال.
(3) الإحاطة: الصحبة.(6/168)
من طمع نفس بالغرور تمنيك، فكأنني بك وقد طافت بركابك الباعة، ولزم أمرك السمع والطاعة، وارتفعت في مصانعتك الطماعة، وأخذت أهل الريب بغتة كما تقوم الساعة، ونهضت تقعد وتقيم، وسطوتك الريح العقيم، وين يديك القسطاس المستقيم، ولا بد من شرك ينصب، وجماعة على ذي جاه تعصب (1) ، ودالة يمت بها الجناب الأخصب، فإن غضضت طرفك، أمنت على الولاية صرفك، وإن ملأت ظرفك (2) ، رحلت عنها حرفك، وإن كففت فيها كفك، حفك العز فيمن حفك، فكن لقالي المجبنة قالياً، ولحوت السلة سالياً، وأبد لدقيق الحواري زهد حواري، وازهد فيما بأيدي الناس من العواري، وسر في اجتناب الحلواء، على السبيل السواء، وارفض في الشواء، دواعي الأهواء (3) ، وكن على الهراس (4) وصاحب ثريد الراس شديد المراس، وثب على طبيخ الأعراس ليثاً مرهوب الافتراس، وأدب أطفال الفسوق في السوق، لا سيما من كان قبل البلوغ والبسوق، وصمم على استخراج الحقوق، والناس أصناف فمنهم خسيس يطمع منك في ألة، ومستعد عليك بوكزة أوركلة، وحاسد في مطية تركب وعطية تسكب، فاخفض للحاسد جناحك، وسدد إلى حربه رماحك، واشبع الخسيس منهم مرقة فإنه حنق، ودس له فيها عظماً لعله يختنق، واحفر لشريرهم حفرة عميقة، فإنه العدوحقيقة، حتى إذا حصل، وعلمت أن وقت الانتصار قد اتصل، فأوقع وأوجع ولا ترجع، وأولياءه من الشياطين (5) فافجع، والحق أقوى، وأن تعفوأقرب لتقوى، سددك اله تعالى إلى غرض التوفيق، وأعلقك
__________
(1) الإحاطة: تتصعب.
(2) ملأ ظرفه: كناية عن قبول الهدية والرشا.
(3) الإحاطة: وارفض في الشوا دواعي الهوى.
(4) الهراس: صانع الهريسة.
(5) الإحاطة: من حزب الشيطان.(6/169)
من الحق بالسبب الوثيق، وجعل قدومك مقروناً برخص اللحم والزيت والدقيق؛ انتهى.
6 - ومما كتب به لسان الدين إلى علي بن بدر الدين الطوسي بن موسى ابن رحوبن عبد الله بن عبد الحق من مدينة سلا ما نصه:
يا جملة الفضل والوفاء ... ما بمعاليك من خفاء
عندي بالود فيك عقد ... حفه الدهر باكتفاء
ما كنت أقضي حلاك حقاً ... لو جئت مدحاً بكل فاء
فأول وجه القبول عذري ... وحسبك (1) الشك في صفاء سيدي الذي هوفصل جنسه، ومزية يومه على أمسه، فإن افتخر الدين من أبيك بدره افتخر منك بشمسه، رحلت على المنشا والقرارة، ومحل الصبوة والفرارة، فلم تتعلق نفسي بذخيرة، ولا عهد جيرة خيرة (2) ، كتعلقها بتلك الذات التي لطفت لطافة الراح، واشتملت بالمجد الصراح، شفقة أن تصيبها معرة والله تعالى يقيها، ويحفظها ويبقيها، إذ الفضائل في الأزمان الرذلة غوائل، والضد عن ضده منحرف بالطبع ومائل، فلما تعرفت خلاص سيدي من ذلك الوطن، وإلقاءه وراء الفرضة (3) بالعطن، لم تبق لي تعلة، ولا أحرضتني له علة، ولا أوتي جمعي من قلة، فكتبت أهنئ نفسي الثانية بعد هناء نفسي الأولى، وأعترف للزمان باليد الطولى، فالحمد لله الذي جمع الشمل بعد شتاته، وأحيا الأنس بعد مماته، سبحانه لا مبدل لكلماته، وإياه أسأل أن يجعل العصمة حظ سيدي ونصيبه، فلا يستطيع حادث أن يصيبه، وأنا أخرج له عن بث كمين، ونصح أنا به قمين،
__________
(1) ق: وجنب.
(2) خيرة: سقطت من ق.
(3) ق: العرصة.(6/170)
بعد أن أسبر غوره، وأخبر طوره، وأرصد دوره، فإن كان له في التشريق أمل، وفي ركب الحجاز ناقة وجمل، والرأي فيه قد نجحت منه نية وعمل، فقد غني عن عرف البقرات، بأزكى الثمرات، وأطفأ هذه الجمرات، برمي الجمرات، وتأنس بوصل السرى ووصال السراة، وأنا به إن رضيتني أرضى مرافق، ولواء عزي به خافق، وإن كان على السكون بناؤه، وانصرف إلى الإقامة اعتناؤه، فأمر له ما بعده، والله يحفظ من الغير سعده، والحق أن تحذف الأبهة وتختصر، ويحفظ اللسان ويغض البصر، وينخرط في الغمار، ويخلي عن المضمار، ويجعل من المحظور مداخلة من لا خلاق له، ممن لا يقبل الله تعالى قوله ولا عمله، فلا يكتم سراً، ولا يتطوق من الرجولة زراً، ويرفض زمام السلامة (1) ، وترك العلامة على النجاة علامة، وأما حالي فكما علمتم ملازم كن، ومهبط تجربة وسن، أزجي الأيام، وأروم بعد التفرق الالتئام، خالي اليد، مليء القلب والخلد، بفضل الواحد الصمد، عامل على الرحلة الحجازية التي أختارها لكم ولنفسي، واصل في التماس الإعانة عليها يومي بأمسي، أوجب ما قررته لكم ما أنتم أعلم به من ود قررته الأيام والشهور، والخلوص المشهور، وما أطلت في شيء عند قدومي على هذا الباب الكريم إطالتي فيما يختص بكم من موالاته، وبذل مجهود القول والعمل في مرضاته، وأما ذكركم في هذه الأوضاع فهومما يقر عين المجادة، والوظيفة التي ينافس فيها أولوالسادة، والله يصل بقاءكم، وييسر لقاءكم، والسلام " انتهى.
7 - ومن نثر لسان الدين ما أثبته في الإحاطة في ترجمة ابن خلدون صاحب التاريخ الذي تكرر نقلنا منه في هذا التأليف:
ولنذكر الترجمة بجملتها فنقول: قال رحمه الله تعالى في " الإحاطة " ما نصه: " عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن
__________
(1) ق: الصحبة زمان السلامة.(6/171)
إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي، من ذرية عثمان أخي كريب المذكور في نبهاء ثوار الأندلس، وينسب سلفهم إلى وائل بن حجر، وحاله عند القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة، انتقل سلفه من مدينة إشبيلية عن نباهة وتعين وشهرة عند الحادثة بها أوقبل ذلك، فاستقر بتونس منهم ثاني المحمدين محمد بن الحسن، وتناسلوا على حشمة وسراوة ورسوم حسنة، وتصرف جد المترجم به في القيادة. وأما المترجم به فهورجل فاضل، حسن الخلق، جم الفضائل، باهر الخصل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصي الزي، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن الرياسة، خاطب للحظ، متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، بارع الخط، مغري بالتجلة، جواد حسن العشرة، مبذول المشاركة، مقيم لرسم التعيين، عاكف على رعي خلال الأصالة، مفخر من مفاخر التخوم المغربية. قرأ القرآن ببلده على المكتب ابن برال، والعربية على المقرئ الزواوي وغيره، وتأدب بأبيه، وأخذ عن المحدث أبي عبد الله ابن جابر الوادي آشي، وحضر مجلس القاضي أبي عبد الله ابن عبد السلام، وروى عن الحافظ أبي عبد الله السطي، والرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي، ولازم العالم الشهير أبا عبد الله الآبلي وانتفع به، انصرف من إفريقية منشئه بعد أ، تعلق بالخدمة السلطانية على الحداثة، وإقامته لرسم العلامة بحكم الاستنابة، عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، وعرف فضله، وخطبه السلطان منفق سوق العلم والأدب أبوعنان فارس بن علي بن عثمان، واستحضره (1) بمجلس المذاكرة فعرف حقه وأوجب فضله، واستعمله على الكتابة أوائل عام ستة وخمسين، ثم عظم عليه حمل الخاصة من طلبة الحضرة لبعده عن حسن التأتي، وشفوفه بثقوب الفهم وجودة الإدراك، فأغروا به
__________
(1) ق: واستقدمته واستحضره.(6/172)
السلطان إغراء عضده ما جبل عليه عهدئذ من إغفال التحفظ مما يريب ليده، فأصابته شدة تخلصه منها أجله (1) ، كانت مغربة في جفاء ذلك الملك وهناة جواره، وإحدى العوازل لأولي الهوى في القول بفضله وعدم الخشوع وإهمال التوسل وإبادة المكسوب في سبيل النفقة والإرضاخ على زمن المحنة وجار المنزل الخشن، إلى أ، أفضى الأمر إلى السعيد ولده، فأعتبه قيم الملك لحينه، وأعاده إلى رسمه، ودالت الدولة إلى السلطان أبي سالم، وكان له به الاتصال قبل تسوغ المحنة بما أكد حظوته، فقلده ديوان الإنشاء مطلق الجرايات محرر السهام نبيه الرتبة، إلى آخر أيامه. ولما ألقت الدولة مقادها بعده إلى الوزير عمر بن عبد الله مدبر الأمر، وله إليه وسيلة وفي حيله شركة وعنده حق، رابه تقصيره عما ارتمى إليه أمله، فساء ما بينهما بما آل انفصاله عن الباب المريني، وورد على الأندلس في أول ربيع الأول عام أربعة وستين وسبعمائة، واهتز له السلطان، وأركب خاصته لتقليه، وأكرم وفادته، وخلع عليه وأجلسه بمجلسه، ولم يدخر عنه براً ومؤاكلة ومطايبة وفكاهة.
8 - وخاطبني لما حل بظاهر الحضرة مخاطبة لم تحضرني الآن، فأجبته عنها بقولي (2) :
حللت حلول الغيث في البلد المحل ... على الطائر الميمون والرحب والسهل
يميناً بمن تعنو الوجوه لوجهه ... من الشيخ والطفل المهدإ والكهل
لقد نشأت عندي للقياك غبطة ... تنسي اغتباطي بالشبيبة والأهل أقسمت بمن حجت قريش لبيته، وقبر صرفت أزمة الأحياء لميته، ونور ضربت الأمثال بمشكاته وزيته، لوخيرت أيها الحبيب الذي زيارته الأمنية السنية، والعارفة
__________
(1) ق: الأجل.
(2) أوردها ابن خلدون في التعريف: 82.(6/173)
الوارفة، واللطيفة المطيفة، بين رجع الشباب يقطر ماء ويرف نماء، ويغاز عيون الكواكب فضلاً عن الكواعب إشارة وإيماء، بحيث لا الوخط يلم بسياج لكته، أويقدح ذبالة في ظلمته، أويقوم حواريه في ملته، من الأحابش وامته، وزمانه روح وراح، ومغدى في النعيم ومراح، وقصف صراح، ورقى وجراح، وانتحاب واقتراح، وصدور ما بها إلا انشراح، ومسرات تردفها أفراح، وبين قدومك خليع الرسن، ممتعاً والحمد لله باليقظة والوسن، محكماً في نسك الجنيد أوفتك الحسن، ممتعاً بظرف المعارف، مالئاً أكف الصيارف، ماحياً بأنوار البراهين شبه الزخارف، لما اخترت الشباب وإن راقني (1) زمنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سحائب دمعي دمنه، فالحمد لله الذي رقى جنون اغترابي، وملكني أزمة آرابي، وغبطني بمائي وترابي، ومألف أترابي، وقد أغصني بلذيذ شرابي، ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي، وعجلت هذه مغبطة بمناخ المطية، ومنتهى الطية، وملتقى السعود غير البطية، وتهني الآمال الوثيرة الوطية، فما شئت من نفوس عاطشة إلى ربك، متجملة بزيك، عاقلة خطى مهريك، ومولى مكارمه نشيدة أمثالك، ومظان مثالك، وسيصدق الخبر ما هنالك، ويسع فضل مجدك في التخلف عن الإصحار (2) ، لا بل اللقاء من وراء البحار، والسلام.
9 - ولما استقر بالحضرة جرت بيني وبينه مكاتبات أقطعها الظرف جانبه، وأوضح الأدب مذاهبه، فمن ذلك ما خاطبته به وقد تسري جارية رومية اسمها هند صبيحة الابتناء بها:
أوصيك بالشيخ أبي بكره ... لا تأمنن في حالة مكره
واجتنب الشك إذا جئته ... جنبك الرحمن ما تكره
__________
(1) ق والتعريف: شاقني.
(2) الإصحار: الخروج لتلقيه خارج البلد.(6/174)
سيدي لا زلت تتصف بالوالج، بين الخلاخل والدمالج، وتركض فوقها ركض الهمالج، أخبرني كيف كانت الحال، وهل حطت بالقاع من خير البقاع الرحال، واحكم بمرود المراودة الاكتحال، وارتفع بالسقيا الإمحال، وصح الانتحال، وحصحص الحق وذهب المحال، وقد طولعت بكل بشرى وبشر، وزفت هند منك إلى بشر، فلله من عشية، تمتعت من الربيع بفرش موشية، وأبدلت منها أي آساد حشية، وقد أقبل ظبي الكناس، من الديماس، ومطوق الحمام، من الحمام، وقد حسنت الوجه الجميل التطرية، وأزيلت عن الفرع الأثيث الأبرية، وصقلت الخدود فكأنها الأمرية (1) ، وسلط الدلك على الجلود، وأغريت النورة بالشعر المولود، وعادت الأعضاء يزلق عنها اللمس، ولا تنالها البنان (2) الخمس، والسحنة يجول في صفحتها الفضية ماء النعيم، والمسواك يلبي من ثنية التنعيم، والقلب يرمي من الكف الرقيم (3) بالمقعد المقيم، وينظر إلى نجوم الوشوم فيقول: إني سقيم، وقد تفتح ورد الخفر، وحكم لزنجي الضفيرة بالظفر، واتصف أمير الحسن بالصدود المغتفر، ورش بماء الطيب، ثم أعلق بباله دخان العود الرطيب، وأقبلت الغادة، يهديها اليمن وتزفها السعادة، فهي تمشي على استحيا، وقد ذاع طيب الريا وراق حسن المحيا، حتى إذا نزع الخف، وقبلت الأكف، وصخب المزمار وتجاوب الدف، وذاع الأرج، وارتفع الحرج، وتجوز اللوى والمنعرج، ونزل على بشر بزيارة هند الفرج، اهتزت الأرض وربت، وعوصيت الطباع البشرية فأبت، ولله در القائل (4) :
ومرت فقالت: متى نلتقي ... فهش اشتياقاً إليها الخبيث
وكاد يمزق سرباله ... فقلت: إليك يساق الحديث
__________
(1) لعل الأبرية جمع برى بمعنى التراب؛ والأمرية: المرايا جمع مرآة.
(2) البنان: سقطت من ق.
(3) الرقيم: المزين.
(4) ينسب البيتان لبشار (فصل المقال: 46) وفي الثاني منهما المثل " إليك يساق الحديث ".(6/175)
فلما انسدل جنح الظلام، وانتصفت من غريم العشاء الأخيرة فريضة السلام، وخاطب خيوط المنام عيون الأنام، تأتى دنوالجلسة، ومسارقة الخلسة، ثم عضة النهد، وقبلة الفم والخد، وإرسال اليد من النجد إلى الوهد، وكانت الإمالة القليلة قبل المد، ثم الإفاضة فيما يغبط ويرغب، ثم الإماطة لما يشوش ويشغب، ثم إعمال المسير، إلى السرير (1) :
وصرنا إلى الحسنى، ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال وهذا بعد منازعة للأطواق يسيرة، يراها الغيد من حسن السيرة، ثم شرع في التكة، ونرع الشكة (2) ، وتهيئة الأرض العزاز (3) عمل السكة، ثم كان الوحي والاستعجال، وحمي الوطيس والمجال، وعلا الجزء الخفيف، وتضافرت الخصور الهيف، وتشاطر الطبع العفيف، وتواتر التقبيل، وكان الأخذ الوبيل، وامتاز الانوك من النبيل، ومنها جاشر وعلى الله قصد السبيل، فيا لها من نعم متداركة، ونفوس في سبيل القحة متهالكة، ونفس يقطع حروف الحلق، وسبحان الذي يزيد في الخلق، وعظمت الممانعة، وكثرت باليد المصانعة، وطال التراوغ والتزاور، وشكي التحاور، وهناكل تختلف الأحوال، وتعظم الأهوال، وتخسر أوتربح الأموال، فمن عصاً تنقلب ثعباناً مبيناً، ونونة (4) تصير تنيناً، وبطل لم يهمله المعترك الهائل، والوهم الزائل، ولا حال بينه وبين قرنه الحائل، فتعدى فتكة السليك إلى فتكة البراض، وتقلد مذهب الأزارقة من الخوارج في الاعتراض (5) ، ثم شق الصف، وقد خضبت الكف، بعد أن كان يصيب البوسى
__________
(1) البيت لأمرئ القيس، ديوانه: 32.
(2) ونزع الشكة: سقطت من ق.
(3) العزاز: الصلبة.
(4) النونة: السمكة؛ وفي العبارات كنايات تنطوي على الغمز والسخرية.
(5) الاعتراض: عدم المبالاة بالقتل في حال الخروج أو الإقدام على القتل الجماعي.(6/176)
بطعنته، ويبوء بمقت الله ولعنته:
طعنت ابن عبد الله طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها (1) وهناك هدأ القتال، وسكن الخبال، ووقع المتوقع فاستراح البا، وتشوف إلى مذهب الثنوية من لم يكن للتوحيد بمبال، وكثر السؤال عن المبال، بما بال، وجعل الجريح يقول وقد نظر إلى دمه، يسيل على قدمه:
إني له عن دمي المسفوك معتذر ... أقول حملته في سفكه تعبا (2) ومن سنان (3) عاد عناناً، وشجاع صار جباناً، كلما شابته شائبة ريبه، أدخل يده في جيبه، فانجحرت الحية، وماتت الغريزة الحية، وهناك يزيغ البصر، ويخذل المنتصر، ويسلم الأشر، ويغلب الحصر، ويجف اللعاب، ويظهر العاب (4) ، ويخفق الفؤاد، ويكبوالجواد، ويسيل العرق، ويشتد الكرب والأرق، وينشأ في محل الأمن الفرق، ويدرك فرعون الغرق، ويقوي اللجاج ويعظم الخرق، فلا تزيد الحال إلا شدة، ولا تعرف تلك الحائجة المؤمنة إلا ردة:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول (5) ما يجني عليه اجتهاده فكم مغرى بطول البث، وهومن الخبث، يؤمل الكرة، ليزيل المعرة، ويستنصر الخيال، ويعمل باليد الاحتيال:
إنك لا تشكو إلى مصمت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت (6)
__________
(1) البيت لقيس بن الخطيم، ديوانه: 7.
(2) ق: التعبا.
(3) عطف على قوله فيما سبق: " فمن عصا تنقلب ... الخ ".
(4) ق: اللغاب؛ والعاب: العيب.
(5) ق: فأكثر.
(6) المصمت: الذي يهتم إذا شكوت إليه؛ وهذا من الأمثال، (انظر اللسان - الصمت -) .(6/177)
ومعتذر بمرض أصابه، جرعه أوصابه، ووجع طرقه، جلب أرقه، وخطيب أرتج عليه أحياناً، فقال: سيحدث الله بعد عسر يسراً وبعد عي بياناً؛ اللهم إنا تعوذ بك من فضائح الفروج إذا استغفلت أقفالها، ولم تتسم بالنجيع أغفالها، ومن معرات الأقذار، والنكول عن الأبكار، ومن النزول عن البطون والسرر، والجوارح الحسنة الغرر، قبل ثقب الدرر، ولا تجعلنا ممن يستحيي من البكر بالغداة، وتعلم منه كلال الأداة، وهو مجال فضحت فيه رجال، وفراش شكيت فيه أوجال، وأعملت رواية وارتجال، فمن قائل:
أرفعه طوراً على إصبعي ... ورأسه مضطرب أسفله
كالحنش المقتول يلقى على ... عود لكي يطرح في مزبله وقائل:
عدمت من أيري قوى حسه ... يا حسرة المرء على نفسه
تراه قد مال على أصله ... كحائط خر على أسه وقائل:
أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برجلي وراسي دملاً وزكاما
فليتهما كانا به وأزيده ... رخاوة أير لا يطيق قياما
إذا نهضت للنيك أزباب معشر ... توسد إحدى خصيتيه وناما وقائل:
أقول لأيري وهو يرقب فتكة ... به: خبت من أير وعالتك (1) داهية
إذا لم يكن للأير بخت تعذرت ... عليه وجوه النيك من كل ناحية وقائل:
تعقف فوق الخصيتين كأنه ... رشاء إلى جنب الركية ملتف
__________
(1) ق: ونالتك.(6/178)
كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضعف وقائل:
تكرش أيري بعدما كان املسا ... وكان غنياً من قواه فأفلسا
وصار جوابي للمها إن مررن بي ... مضى الوصل إلا منية تبعث الأسر وقائل:
بنفسي من حييته فاستخف بي ... ولم يخطر الهجران يوماً على بالي
وقابلني بالغور والنجد بعدما ... حططت به رحلي وجردت سربالي
وما أرتجي من موسر فوق تكة ... عرضت له شيئاً من الحشف البالي هموم لا تزال تبكى، وعلل الدهر تشكى، وأحاديث تقص وتحكى، فإن كنت أعزك الله سبحانه من النمط الأول، ولم تقل:
وهل عند رسم دارس من معول (1) ... فقد جنيت الثمر، واستطبت السمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة، واخرج على قومك في ثياب الزينة (2) واستبشر بالوفود، وعرف المسمع عازفة الجود، وتبجح بصلابة العود، وإنجاز الوعود، واجن رمان النهود، من أغصان القدود، واقطف ببنان اللثم أقاح الثغور وورد الخدود، وإن كانت الأخرى فأخف الكمد، وارض الثمد، وانتظر الأمد، وأكذب التوسم، واستعمل التبسم، واستكتم النسوة، وأفض فيهن الرشوة، وتقلد المغالطة وارتكب، وجئ على قميصه بدم كذب، واستنجد الرحمن، واستعن على أمرك بالكتمان:
__________
(1) صدر هذا البيت " وإن شفائي عبرة مهراقة " وهو من معلقة امرئ القيس.
(2) يشير إلى زهوه كأنه قارون.(6/179)
لا تظهرن لعاذل أوعاذر ... حاليك في الضراء والسراء (1)
فلرحمة المتفجعين حرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء وانتشق الأرج، وارتقب الفرج، فكم غمام طما " ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " الأنفال:17 واملك بعدها عنان نفسك حتى تمكنك الفرصة، وترفع إليك القصة، ولا تشره إلى عمل لا تفيء منه بتمام، وخذ عن إمام، ولله در الحارث بن هشام (2) :
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أني أقاتل دونهم ... أقتل، ولم يضرر عدوي مشهدي
ففررت منهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد واللبانات تلين وتجمح، والمآرب تدنو وتنزح، وتحرن ثم تسمح، وكم من شجاع خام (3) ، ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضل الفريق، والله عز وجل يجعلها خلة موصولة، وشملاً اكنافه بالخير مشمولة، وبنية أركانها لركائب اليمن مأمولة، حتى تكثر خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه، وتصفوعليه نعم باريه، ما طورد قنيص، واقتحم عيص، وأدرك مرام عويص، وأعطي زاهد وحرم حريص؛ والسلام.
[بقية ترجمة ابن خلدون عن الإحاطة]
تواليفه - شرح البردة شرحاً بديعاً دل به على انفساح ذرعه، وتفنن إدراكه
__________
(1) ق: السراء والضراء.
(2) قالها حين فر عن أصحابه يوم بدر وعيره حسان بالفرار بقوله:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام وانظر حماسة البحتري: 40.
(3) خام: حاد وجبن.(6/180)
وغزارة حفظه، ولخص كثيراً من كتب ابن رشد، وعلق للسلطان أيام نظره في العقليات تقييداً مفيداً في المنطق، ولخص محصل الإمام فخر الدين الرازي، وبه داعبته أول لقيه، فقلت له: لي عليك مطالبة فإنك لخصت محصلي، وألف كتاباً في الحساب، وشرع في هذه الأيام في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه بشيء لا غاية فوقه في الكمال.
وأما نثره وسلطانياته السجعية فخلج بلاغة، ورياض فنون، ومعادن إبداع، يفرغ عنها يراعه الجريء، شبيهة البداءات بالخواتم، في نداوة الحروف، وقرب العهد بجرية المداد، ونفوذ أمر القريحة، واسترسال الطبع.
وأما نظمه فنهض لهذا العهد قدماً في ميدان الشعر، ونقده باعتبار أساليبه فانثال عليه جوه، وهان عليه صعبه، فأتى منه بكل غريبة.
خاطب السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الكريم عام اثنين وستين وسبعمائة بقصيدة طويلة أولها (1) :
أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف عبرتي ونحيبي
وأبين يوم البين وقفة ساعة ... لوداع مشغوف الفؤاد كئيب
لله عهد الظاعنين وغادروا ... قلبي رهين صبابة ووجيب
غربت ركائبهم ودمعي سافح ... فشرقت بعدهم بماء غروبي (2)
يا ناقعاً بالعتب غلة شوقهم ... رحماك في عذلي وفي تأنيبي
يستعذب الصب الملام وإنني ... ماء الملام لدي غير شريب (3)
ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى ... لولا تذكر منزل وحبيب
أهفو إلى الأطلال كانت مطلعاً ... للبدر منهم أوكناس ربيب
__________
(1) القصيدة في التعريف: 70.
(2) الغروب: الشؤون، أي مجاري الدموع.
(3) الشريب: العذب؛ وفي التعريف: شروب.(6/181)
عبثت بها أيدي البلى وترددت ... في عطفهها للدهر آي خطوب
تبلى معاهدها وإن عهودها ... ليجدها وصفي وحسن نسيبي
وإذا الديار تعرضت لمتيم ... هزته ذكراها إلى التشبيب
إيه على الصبر الجميل فإنه ... ألوى بدين فؤادي المنهوب
لم أنسها والدهر يثني صرفه ... ويغض طرفي حاسد ورقيب
والدار مونقة محاسنها بما ... لبست من الأيام كل قشيب
يا سائق الأظعان تعتسف الفلا ... وتواصل الإساد بالتأويب (1)
متهافتاً عن رحل كل مذلل ... نشوان من أين ومس لغوب
تتجاذب النفحات فضل ردائه ... في ملتقاها من صباً وجنوب
إن هام من ظمإ الصبابة صحبه ... نهلوا بمورد دمعه المسكوب
أو تعترض مسراهم سدف الدجى ... صدعوا الدجى بغرامه المشبوب
في كل شعب منية من دونها ... هجر الأماني أولقاء شعوب
هلا عطفت صدورهن إلى التي ... فيها لبانة أعين وقلوب
فتؤم من أكناف يثرب مأمناً ... تتلو من الآثار كل غريب
سر غريب لم يحجبه الثرى ... ما كان سر الله بالمحجوب ومنها بعد تعديد معجزاته صلى الله عليه وسلم:
يا سيد الرسل الكرام ضراعة ... تقضي مني نفسي وتذهب حوبي (2)
عاقت ذنوبي عن جنابك والمنى ... فيها تعللني بكل كذوب
لا كالألى صرفوا العزائم للتقى ... فاستأثروا منها بخير نصيب
__________
(1) الإسآد: سير الليل، والتأويب: سير النهار.
(2) الحوب: الإثم.(6/182)
لم يخلصوا لله حتى فرقوا ... في الله بين مضاجع وجنوب
هب لي شفاعتك التي أرجو بها ... صفحاً جميلاً عن قبيح ذنوبي
إن النجاة وإن أتيحت لامرئ ... فبفضل جاهك ليس بالتسبيب
إني دعوتك واثقاً بإجابتي ... يا خير مدعووخير مجيب
قصرت في مدحي فإن يك طيباً ... فبما فذكرك من أريج الطيب
ماذا عسى يبغي المطيل وقد حوى ... في مدحك القرآن كل مطيب
يا هل تبلغني الليالي زورة ... تدني إلي الفوز بالمرغوب
أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها ... وأحط أوزاري وإصر ذنوبي
في فتية هجروا المنى وتعودوا ... إنضاء كل نجيبة ونجيب
يطوي صحائف ليلهم فوق الفلا ... ما شئت من خبب ومن تقريب
إن رنم الحادي بذكرك رددوا ... أنفاس مشتاق إليك طروب
أو غرد الركب الخلي بطيبة ... حنوا لمغناها حنين النيب
ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم ... إرث الخلافة في بني يعقوب
الطاعنون الخيل وهي عوابس ... يغشى مثار النقع كل سبيب (1)
والواهبون المقربات صوافناً ... من كل خوار العنان (2) لعوب
والمانعون الجار حتى عرضهم ... في منتدى الأعداء غير معيب
تخشى بوادرهم ويرجى حلمهم ... والعز شيمة مرتجى ومهيب ومنها:
سائل به طامي العباب وقد سرى ... تزجى بريح العزم ذات هبوب
تهديه شهب أسنة وعزائم ... يصد عن ليل الحادث المرهوب
__________
(1) خوار العنان: لين العطف.
(2) السبيب: شعر عرف الفرس.(6/183)
حتى انجلت ظلم الضلال بسعيه ... وسطا الهدى بفريقها المغلوب (1)
يا ابن الألى شادوا الخلافة بالتقى ... واستأثروك بتاجها المعصوب
جمعوا بحفظ الدين آي مناقب ... كرموا بها في مشهد ومغيب
لله مجدك طارفاً أو تالداً ... فلقد شهدنا منه كل عجيب
كم رهبة أورغبة لك والعلا ... تقتاد بالترغيب والترهيب
لا زلت مسروراً بأشرف دولة ... يبدو الهدى من أفقها المرقوب
تحيي المعالي غادياً اورائحاً ... وجديد سعدك ضامن المطلوب وقال من قصيدة خاطبه بها عند وصول هدية ملك السودان إليه وفيها الزرافة (2) :
قدحت يد الأشواق من زندي ... وهفت بقلبي زفرة الوجد
ونبذت سلواني على ثقة ... بالقرب فاستبدلت بالبعد
ولرب وصل كنت آمله ... فاغتصب منه مؤلم الصد
لا عهد عند الصبر أطلبه ... إن الغرام أضاع من عهدي
يلحى العذول فما أعنفه ... وأقول ضل فأبتغي رشدي
وأعارض النفحات أسألها ... برد الجوى فتزيد في الوقد
يهدي الغرام إلى مسالكها ... لتعللي بضعيف ما تهدي
يا سائق الوجناء معتسفاً ... طي الفلاة لطية الوجد
أرح الركاب ففي الصبا نبأ ... يغني عن المستنة الجرد
وسل الربوع برامة خبراً ... عن ساكني نجد وعن نجد
ما لي تلام على الهوى خلقي ... وهي التي تأبى سوى الحمد
لأبيت إلا الرشد مذ وضحت ... بالمستعين معالم الرشد
نعم الخليفة في هدى وتقىً ... وبناء عز شامخ الطود
__________
(1) ق: المطلوب.
(2) التعريف: 74، وانظر الاستقصا 4: 35.(6/184)
نجل السراة الغر شأنهم ... كسب العلا بمواهب الوجد ومنها:
لله مني إذ تأوبني ... ذكره وهوبشاهق فرد
شهم يفل بواتراً قضباً ... وجموع أقيال أولي أيد
أوريت زند العزم في طلبي ... وقضيت حق المجد من صدي
ووردت عن ظمإ مناهله ... فرويت من عز ومن رفد
هي جنة المأوى لمن كفلت ... آماله بمطالب المجد
لو لم أعل بورد كوثرها ... ما قلت هذي جنة الخلد
من مبلغ قومي ودونهم ... قذف النوى وتنوفة البعد
أني أنفت على رجائهم ... وملكت عز جميعهم وحدي ومنها (1) :
ورقيمة الأعطاف حالية ... موشية بوشائع البرد
وحشية الأنساب ما أنست ... في موحش البيداء بالقرد
تسمو بجيد بالغ صعداً ... شرف الصروح بغير ما جهد
طالت رؤوس الشامخات به ... ولربما قصرت عن الوهد
قطعت إليك تنائفاً وصلت ... إسآدها بالنص والوخد
تخدي على استصعابها ذللاً ... وتبيت طوع القن والقد
بسعودك اللائي ضمن لنا ... طول الحياة بعيشة رغد
جاءتك في وفد الأحابش لا ... يرجون غيرك مكرم الوفد
وافوك أنضاءً تقلبهم ... أيدي السرى بالغور والنجد
كالطيف يستقري مضاجعه ... أو كالحسام يسل من غمد
__________
(1) ومنها: سقطت من ق.(6/185)
يثنون بالحسنى التي سبقت ... من غير إنكار ولا جحد
ويرون لحظك من وفادتهم ... فخراً على الأتراك والهند
يا مستعيناً جل في شرف ... عن رتبة المنصور والمهدي
جازاك ربك عن خليقته ... خير الجزاء فنعم ما تسدي
وبقيت للدنيا وساكنها ... في عزة أبداً وفي سعد وقال يخاطب عمر بن عبد الله مدير ملك المغرب:
يا سيد الفضلاء دعوة مشفق ... نادى لشكوى البث خير سميع
ما لي وللإقصاء بعد تعلة ... بالقرب كنت لها أجل شفيع
وأرى الليالي رنقت لي صافياً ... منها فأصبح في الأجاج شروعي
ولقد خلصت إليك بالقرب التي ... ليس الزمان لشملها بصدوع
ووثقت منك بأي وعد صادق ... أني المصون وأنت غير مضيع
وسما بنفسي للخليفة طاعة ... دون الأنام هواك قبل نزوع
حتى انتحاني الكاشحون بسعيهم ... فصددتهم عني وكنت منيعي
رعمت أنوفهم بنجح وسائلي ... وتقطعت أنفاسهم بصنيعي
وبغوا بما نقموا علي خلائقي ... حسداً فراموني بكل شنيع
لا تطمعنهم ببذل في التي ... قد صنتها عنهم بفضل قنوعي
أني أضام وفي يدي القلم الذي ... ما كان طيعه لهم بمطيع
ولي الخصائص ليس تأبى رتبة ... حسبي بعلمي ذاك من تفريعي
قسماً بمجدك وهوخير ألية ... أعتدها لفؤادي المصدوع
إني لتصطحب الهموم بمضجعي ... فتحول ما بيني وبين هجوعي
عطفاً علي بوحدتي عن معشر ... نفث الإباء صدودهم في روعي
أغدو إذا باكرتهم متجلداً ... وأروح أعثر في فضول دموعي
حيران أوجس عند نفسي خيفة ... فتسر في الأوهام كل مروع(6/186)
أطوي على الزفرات قلباً آده ... جمل الهموم تجول بين ضلوعي
ولقد أقول لصرف دهر رابني ... بحوادث جاءت على تنويع
مهلاً عليك فليس خطبك ضائري ... فلقد لبست له اجن دروع
إني ظفرت بعصمة من أوحد ... بذ الجميع بفضله المجموع وقال يخاطب بعض الوزراء في حال وحشة (1) :
هنيئاً بصوم لا عداه قبول ... وبشرى بعيد أنت فيه منيل
وهنيتها من عزة وسعادة ... تتابع أعوام بها وفصول
سقى الله دهراً أنت إنسان عينه ... ولا مس ربعاً في حماك محول
فعصرك ما بين الليالي مواسم ... لها غرر وضاحة وحجول
وجانبك المأمول للجود مشرع ... يحوم عليه عالم وجهول
عساك وإن ضن الزمان منولي ... فرسم الأماني من سواك محيل
أجرني وليس الدهر لي بمسالم ... إذا لم يكن في ذراك مقيل
وأوليتني (2) الحسنى بما أنا آمل ... فمثلك يولي راجياً وينيل
ووالله ما رمت الترحل عن قلى ... ولا سخط للعيش فهو جزيل
ولا رغبة عن هذه الدار إنها ... لظل على هذا الأنام ظليل
ولكن نأى بالشعب عني حبائب ... دعاهن (3) خطب للفراق طويل
يهيج بهن الوجد أني نازح ... وأن فؤادي حيث هن حلول
عزيز عليهن الذي قد لقيته ... وأن اغترابي في البلاد يطول
توارت بأنبائي البقاع كأنني ... تخطفت أو غالت ركابي غول
__________
(1) هو الوزير عمر بن عبد الله، ويستجير بصديقه ورديفه مسعود بن رحو بن ماساي، والقصيدة في التعريف: 77.
(2) التعريف: وأولني.
(3) التعريف: شجاهن.(6/187)
ذكرتك يا معنى الأحبة والهوى ... فطارت بقلبي أنه وعويل
وحييت عن شوق رباك كأنما ... يمثل لي نؤي بها وطلول
أأحبابنا والعهد بيني وبينكم ... كريم، وما عهد الكريم يحول
إذا أنا لم ترض الحمول مدامعي ... فلا قربتني للقاء حمول
إلام مقامي حيث لم ترد العلا ... مرادي ولم تعط القياد ذلول
أجاذب فضل العمر يوماً وليلة ... وساء صباح بينها وأصيل
ويذهب فيما بين يأس ومطمع ... زمان بنيل المعلوات بخيل
تعللني منه أمان خوادع ... ويؤيسني ليان منه مطول
أما لليال لا ترد خطوبها ... ففي كبدي من وقعهن فلول
يروعني من صرفها كل حادث ... تكاد له صم الجبال تزول
أداري على رغم العدا لا لريبة ... يصانع واش خوفها وعذول
وأغدو بأشجاني عليلاً كأنما ... تجود بنفسي زفرة وغليل
وإني وإن أصبحت في دار غربة ... تحيل الليالي سلوتي وتزيل
وصدتني الأيام عن خير منزل ... عهدت به أن لا يضام نزيل
لأعلم أن الخير والشر ينتهي ... مداه وان الله سوف يديل
وأني عزيز بابن ماساي مكثر ... وإن هان أنصار وبان خليل وقال يمدح (1) :
هل غير بابك للغريب مؤمل ... أو عن جنابك للأماني معدل
هي همة بعثت إليك على النوى ... عزماً كما شحذ الحسام الصقيل
متبوأ الدنيا ومنتجع المنى ... والغيث حيث العارض المتهلل
حيث القصور الزاهرات منيفة ... تعنى بها زهر النجوم وتحفل
__________
(1) قالها يمدح أبا العباس سلطان تونس عندما قدم إليه نسخة من كتابه " العبر " انظر التعريف: 233.(6/188)
حيث الخيام البيض يرفع لعلا ... والمكرمات طرافها المتهدل
حيث الحمى للعز دون مجاله (1) ... ظل أفاءته الوشيج الذبل
حيث الكرام ينوب عن نار القرى ... عرف الكباء بحيهم والمندل
حيث الجياد أملهن بنو الوغى ... مما أطالوا في المغار وأوغلوا
حيث الوجوه الغر قنعها الحيا ... والبشر فوق جبينها يتهل
حيث الملوك الصيد والنفر الألى ... عز الجوار لديهم والمنزل وأنشد السلطان ابن عبد الله ابن الحجاج لأول قدومه ليلة الميلاد الكريم عام أربعة وستين وسبعمائة هذه القصيدة (2) :
حي المعاهد كانت قبل تحييني ... بواكف الدمع يرويها ويظميني
إن الألى نزحت داري ودارهم ... تحملوا القلب في آثارهم دوني
وقفت أنشد صبراً ضاع بعدهم ... فيهم وأسأل رسماً لا يناجيني
أمثل الربع من شوق وألثمه ... وكيف والفكر يدنيه ويقصيني
وينهب الوجد مني كل لؤلؤة ... ما زال جفني عليها غير مأمون
شقت جفوني مغاني الربع بعدهم ... فالدمع وقف على أطلاله الجون
قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل ... لو أن قلبي إلى السلوان يدعوني
أحبابنا هل لعهد الوصل مدكر ... منكم وهل نسمة منكم تحييني
ما لي وللطيف لا يعتاد زائره ... وللنسيم عليلاً لا يداويني
يا أهل نجد وما نجد وساكنها ... حسناً سوى جنة الفردوس والعين
أعندكم أنني ما مر ذكركم ... إلا انثنيت كأن الراح تثنيني
أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكم ... شوقاً، ولولاكم ما كان يصبيني
__________
(1) التعريف: في ساحاته.
(2) التعريف: 85.(6/189)
يا نازحاً والمنى تدنيه من خلدي ... حتى لأحسبه قرباً يناجيني
أسلي هواك فؤادي عن سواك وما ... سواك يوماً بحال عنك يسليني
ترى الليالي أنستك ادكاري يا ... من لم يكن ذكره الأيام تنسيني ومنها:
أبعد مر الثلاثين التي ذهبت ... أولى الشباب بإحساني وتحسيني
أضعت فيها نفيساً ما وردت به ... إلا سراب غرور لا يرويني
واحسرتي من أمان كلها خدع ... تريش غيي ومر الدهر يبريني ومنها في وصف المشور (1) المبني لهذا العهد:
يا مصنعاً شيدت منه السعود حمى ... لا يطرق الدهر مبناه بتوهين
صرح يحار لديه الطرف مفتتناً ... فيما يروقك من شكل وتكوين
بعداً لإيوان كسرى إن مشورك ال ... سامي لأعظم من تلك الأواوين
ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا ... " أشهى إلى القلب من أبواب جيرون " ومنها في التعريض بالوزير الذي كان انصرافه بسببه:
من مبلغ عني الصحب الألى جهلوا ... ودي وضاع حماهم إذ أضاعوني
أني أويت من العليا إلى حرم ... كادت مغانيه بالبشرى تحييني
وأنني ظاعناً لم ألق بعدهم ... دهراً أشاكي ولا خصماً يشاكيني
لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ ... أقلب الطرف بين الخوف والهون
سقياً ورعياً لأيامي التي ظفرت ... يداي منها بحظ غير مغبون
أرتاد منها ملياً لا يماطلني ... وعداً وأرجو كريماً لا يعنيني
__________
(1) المشور: المكان الذي يجلس فيه السلطان للحكم.(6/190)
ومنها:
وهاك منها قواف طيها حكم ... مثل الأزاهر في طي الرياحين
تلوح إن جليت دراً، وإن تليت ... تثني عليك بأنفاس البساتين
عانيت منها بجهدي كل شاردة ... لولا سعودك ما كانت تواتيني
يمانع الفكر عنها ما تقسمه ... من كل حزن بطي الصدر مكنون
لكن بسعدك ذلت لي شواردها ... فرضت منها بتحبير وتزيين
بقيت دهرك في أمن وفي دعة ... ودام ملكك في نصر وتمكين وهوالآن بحالته الموصوفة من الوجاهة والحظوة قد استعمل في السفارة إلى ملك قشتالة فراقه وعرف حقه.
مولده بونس في شهر رمضان عام اثنين وثلاثين وسبعمائة؛ انتهى كلام لسان الدين في حق ابن خلدون.
[تعليق للمقري والباعوني]
قلت: هذا كلام لسان الدين في حق المذكور في مبادئ أمره وأواسطه، فكيف لورأى تاريخه الكبير الذي نقلنا منه في مواضع وسماه ديوان العبر وكتاب المبتدأ والخير في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ورأيته بفاس وعليه خطه في ثماني مجلدات كبار جداً، وقد عرف في آخره بنفسه، وأطال، وذكر أنه لما كان بالأندلس وحظي عند السلطان أبي عبد الله شم من وزيره ابن الخطيب رائحة الانقباض، فقوض الرحال ولم يرض من الإقامة بحال، ولعب بكرته صوالجة الأقدار، حتى حل بالقاهرة المعزينة واتخذها خير دار، وتولى بها قضاء القضاة وحصلت له أمور، رحمه الله تعالى.(6/191)
وكان - أعني الولي ابن خلدون - كثير الثناء على لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى.
ولقد رأيت بخط العالم الشهير الشيخ إبراهيم الباعوني الشامي فيما يتعلق بابن خلدون ما نص محل الحاجة منه: تقلبت به الأحوال حتى قدم إلى الديار المصرية، وولي بها قضاء قضاة المالكية، في الدولة الشريفة الظاهرية، وصحبته - رحمه الله تعالى - في سنة 803 عند قدومه إلى الشام صحبة الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق في فتنة تمرلنك عليه من الله تعالى ما يستحقه، وأكرمه تمرلنك غاية الإكرام، وأعاده إلى الديار المصرية، وكنت أكثر الاجتماع به بالقاهرة المحروسة للمودة الحاصلة بيني وبينه، وكان يكثر من ذكر لسان الدين ابن الخطيب، ويورد من نظمه ونثره ما يشنف به الأسماع، وينعقد على استحسانه الإجماع، وتتقاصر عن إدراكه الأطماع، فرحمة الله تعالى عليهما، وأزكى تحياته تهدى إليهما. ولقد كان ابن خلدون هذا من عجائب الزمان، وله من النظم والنثر ما يزري بعقود الجمان، مع الهمة العلية، والتبحر في العلوم النقلية والعقلية، وكانت وفاته بالقاهرة المعزية807، سقى الله تعالى عهده، ووطأ في الفردوس مهده. قاله وكتبه الفقير إلى الله تعالى إبراهيم بن أحمد الباعوني الشافعي، غفر الله تعالى له زلله، وأصلح خلله؛ انتهى.
10 - ومن نثر لسان الدين ما ذكره في الإحاطة في ترجمة يحيى بن إبراهيم بن يحيىالبرغواطي من بني الترجمان، ولنذكر الترجمة بجملتها لاشتمالها على ما ذكر وغيره في حق المذكور بعد قوله إنه من بني الترجمان ما صورته:
" عزف عنهم وانقطع إلى لقاء الصالحين، وصحبة الفقراء المتجردين، وكان نسيج وحده في طلاقة اللسان، حافظاً لكل غريبة من غرائب الصوفية، يتكلم في مشكلاتهم، حفظ " منازل السائرين " للهروي، وتائية ابن الفارض؛ مليح الملبس، مترفع عن الكدية، حسن الحيدث، صاحب شهرة، ومع ذلك(6/192)
فمغضوض منه، محمول عليه، لما جبل عليه من رفض الاصطلاح، واطراح التغافل، مولع بالنقد، والمخالفة في كل ما يطرق سمعه، مرشحاً ذلك بالجدل المبرم، ذاهباً أقصى مذاهب القحة، كثير الفلتات، نالته بسبب هذه البلية محن، ووسم بالرهق في دينه مع صحة العقل، وهوالآن عامر الرباط المنسوب إلى اللجام على رسم الشياخة، عديم التابع، مهجور الفناء، قيد الكثير من الأجزاء منها في نسبة الذنب إلى الذاكر جزء نبيل غريب المأخذ، ومنها فيما أشكل من كتاب أبي محمد ابن الشيخ، وصنف كتاباً كبير الحجم في الاعتقادات جلب فيه كثيراً من الحكايات، رأيت عليه بخط شيخنا أبي عبد الله المقري ما يدل على استحسانه. ومن البرسام الذي يجري على لسانه، بين الجد والقحة والجهالة والمجانة، قوله لبعض خدام باب السلطان وقد ضويق في شيء أضجره منقولاً من خطه - بعد رد كثير منه للإعراب - ما نصه: الله نور السموات من غير نار ولا غيرها، والسلطان ظل له وسراجه في الأرض، ولكل منهما فراش مما يليق به ويتهافت عليه، فهوتعالى محرق فراشه بذاته، مغرقهم بصفاته وسراجه، وظله هوالسلطان محرق فراشه بناره، مغرقهم بزيته ونواله، ففراش الله تعالى ينقسم إلى حافين ومسبحين ومستغفرين وأمناء وشاخصين، وفراش السلطان ينقسمون إلى أقسام لا يشذ أحدهم عنها، وهم وزعة ابن وزغة، وكلب ابن كلب، وكلب مطلقاً، وعار ابن عار، وملعون ابن ملعون، وقط، فأما الوزغة فهوالمغرق في زيت نواله المشغول بذلك عما يليق بصاحب النعمة من النصح وبذل الجهد، والكلب ابن الكلب هوالكيس المتحرز في تهافته من إحراق وإغراق يعطي بعض الحق ويأخذ بعضه، وأما الكلب مطلقاً فهوالمواجه وهوالمشرد للسفهاء عن الباب المعظم القليل النعمة، وأما العار ابن العار فهوالمتعاطي في تهافته ما فوق الطوق، ولهذا امتاز هذا الاسم بالرياسة عند العامة إذا مر بهم جلف أومتعاظم يقولون: هذا العار ابن العار، يحسب نفسه رئيساً، وذلك لقرب المناسبة؛ فهوموضوع لبعض الرياسة، كما ا، الكلب ابن الكلب لبعض الكياسة، وأما الملعون(6/193)
ابن الملعون فهوالمغالط المعاند المشارك لربه المنعم عليه في كبريائه وسلطانه، وأما القط فهوالفقير مثلي المستغني عنه لكونه لا تختص به رتبة، فتارة في حجر الملك، وتارة في السنداس (1) ، وتارة في أعلى الرتب، وتارة محسن، وتارة مسيء، تغفر سيئاته الكثيرة بأدنى حسنة، إذ هومن الطواقين، متطير بقتله وإهانته، تياه في بعض الأحايين بعزة يجدها من حرمة أبقاها له الشارع، وكل ذلك لا يخفى. وأما الفراش المحرق فهوعند الدول نوعان: تارة يكون ظاهراً وحصته مسح المصباح وتصفية زيته وإصلاح فتيله وستر دخانه ومسايسة ما يكون من المطلوب منه، ووجود هذا شديد الملازمة ظاهراً، وأما المحرق الباطن فهوالمشار إليه في دولته بالصلاح والزهد والورع فيعظمه الخلق ويترك لما هوبسبيله، فيكون وسيلة بينهم وبين ربهم وخليفته الذي هومصباحهم، فإذا أراد الله تعالى إهلاك المروءة وإطفاء مصباحها تولى ذلك أهل البطالة والجهالة، وكان الأمر كما رأيتم، والكل فراش متهافت، وكل يعمل على شاكلته ".
11 - قال الوزير لسان الدين: وطلب مني الكتب عليه بمثل ذلك، فكتبت ببعض أوراقه إثارة لضجره، واستدعاء لفكاهة انزعاجه، ما نصه:
وقفت ن الكتاب المنسوب لصاحبنا أبي زكريا البرغواطي على برسام محموم، واختلاط مذموم، وانتساب زنج في روم، وكان حقه أن يتهيب طريقاً لم يسلكها، ويتجنب عقيلة لم يملكها، إذ المذكور لم يتلق شيئاً من علم الأصول، ولا نظر في الإعراب في فصل من الفصول، إنما هي قحة وخلاف، وتهاون بالمعارف واستخفاف، وغير أنه يحفظ في طريق القوم كل نادرة، وفيه رجولية ظاهرة، وعنده طلاقة لسان، وكفاية قلما تتأتى لإنسان، فإلى الله تضرع أن يعرفنا مقادير الأشياء، ويجعلنا بمعزل عن الأغبياء، وقد قلت مرتجلاً من أول نظرة، واجتزاء بقليل من كثرة:
__________
(1) السنداس: بيت الراحة.(6/194)
كل جار لغاية مرجوه ... فهوعندي لم يعد حق الفتوه
وأراك اقتحمت ليلاً بهيماً ... مولجاً منك ناقة في كوه
لا اتباعاً ولا اختراعاً أتتنا ... إذ نظرنا عروسك المجلوه
كل ما قلته فقد قاله النا ... س مقالاً آياته متلوه
لم تزد غير أن أبحت حمى الإع ... راب في كل لفظة مقروه
نسأل الله فكرة تلزم العق ... ل إلى حشمة تحوط المروه
وعزيز علي أن كنت يحيى ... ثم لم تأخذ الكتاب بقوه 12 - ومن بديع نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتبه لسلطان تلمسان إثر قصيدة سينية حازت قصب السبق، ولنثبت الكل ها فنقول: قال الإمام الحافظ عبد الله التنسي نزيل تلمسان رحمه الله تعالى، عندما جرى ذكر أمير المسلمين السلطان أبي حموموسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يغمراسن بن زيان رحمه الله تعالى، ما صورته: وكان الفقيه ذوالوزارتين أبوعبد الله ابن الخطيب كثيراً ما يوجه إليه بالامداح، ومن أحسن ما وجه له قصيدة سينية فائقة، وذلك عندما أحس بتغير سلطانه عليه، فجعلها مقدمة بين يدي نجواه، لتمهد له مثواه، وتحصل له المستقر، إذا ألجأه الأمر إلى المفر، فلم تساعده الأيام، كمما هوشأنها في أكثر الأعلام، وهي هذه (1) :
أطلعن في سدف الفروع شموساً ... ضحك الظلام لها وكان عبوسا
وعطفن قضباً للقدود نواعماً ... بوئن أدواح النعيم غروسا
وعدين عن جهر السلام مخافة ال ... واشي فجئن بلفظه مهموسا
وسفرن من دهش الوداع وقوم ... هن إلى الترحل قد أناخوا العيسا
وخلسن من خلل الحجال إشارة ... فتركن كل حجالها مخلوسا
لم أنسها من وحشة والحي قد ... زجر الحمول وآثر التغليسا
__________
(1) أزهار الرياض 1: 250 وبغية الرواد 2: 287.(6/195)
لا الملتقى من بعدها كشب ولا ... عوج الركائب تسأم التخييسا (1)
فوقفت وقفة هائم برحاؤه ... وقفت عليه وحبست تحبيسا
ودعوت عيني عاتباً وعيونها ... بعصا النوى قد بجست تبجيسا
نافست يا عيني در دموعهم ... فعرضت دراً للدموع نفيسا
ما للحمى بعد الأحبة موحشاً ... ولكم تراءى آهلاً مأنوسا
ولسربه حول الخميلة نافراً ... عمن يحس به وكان أنيسا
ولظله المورود غمر قلبيه ... لا يقتضي ورداً ولا تعريسا
حييته فأجابني رجع الصدى ... لا فرق بينهما إذا ما قيسا
ما إن يزيد على الإعادة صوته ... حرفاً فيشفي بالمزيد نسيسا (2)
نضب المعين وقلص الظل الذي ... ظلنا عكوفاً عنده وجلوسا
نتواعد الرجعى ونغتنم اللقا ... وندير من شكوى الغرام كؤوسا
فإذا سألت فلا تسائل مخبراً ... وإذا سمعت فلا تحس حسيسا
عهدي به والدهر يتحف بالمنى ... وقد اقتضت نعماه أن لا بوسا
والعيش غض الريع والدنيا قد اج ... تليت بمغناه علي عروسا
أترى يعيد الدهر عهداً للصبا ... درست مغاني الأنس فيه دروسا
أوطان أوطار تعوض أفقها ... من رونق البشر البهي عبوسا
هيهات لا تغني لعل ولا عسى ... في مثلها إلا لآية عيسى
والدهر في دست القضاء مدرس ... فإذا قضى يستأنف التدريسا
تفتن في جمل الورى أبحاثه ... لا سيما في باب نعم وبيسا
وسجية الإنسان ليس بناصل ... من صبغها حتى يرى مرموسا
يغتر مهما ساعدت آماله ... فإذا عراه الخطب كان يؤوسا
__________
(1) ق ص: التجنيسا، والتصويب عن الأزهار والبغية؛ التخييس: تذليل الدابة.
(2) النسيس: غاية الجهد؛ قلت ولعل الصواب " رسيسا ".(6/196)
فلو أن نفساً مكنت من رشدها ... يوماً وقدسها الهدى تقديسا
لم تستفز رسوخها النعمى ولا ... هلعت إذا كشرت (1) إليها البوسى
قل للزمان إليك عن متذمم ... بضمان عز لم يكن ليخيسا (2)
فإذا استحر جلاده فأنا الذي اس ... تغشيت من سرد اليقين لبوسا
وإذا طغى فرعونه فأنا الذي ... من ضره وأذاه عذت بموسى
أنا ذا مثواه (3) من يحمي الحمى ... ليثاً ويعلم بالزئير الخيسا
بحمى أبي حمو حططت ركائبي ... لما اختبرت الليث والعريسا
أسد الهياج إذا خطا قدماً سطا ... فتخلف الأسد الهزبر فريسا
بدر الهدى يأبى الضلال ضياؤه ... أبداً فيجلو الظلمة الحنديسا
جبل الوقار رسا وأشرف واعتلى ... وسما فطأطأت الجبال رؤوسا
غيث النوال إذا الغمام حلوبة ... مثلت بأيدي الحالبين بسوسا (4)
تلقاه يوم الأنس روضاً ناعماً ... وتراه بأساً في الهياج بئيسا
كم غمرة جلى وكم خطب كفى ... إن أوطأ الجرد العتاق وطيسا
كم حكمة أبدى وكم قصد هدى ... للسالكين أبان منه دريسا
أعلى بني زيان والفذ الذي ... لبس الكمال فزين الملبوسا
جمع الندى والبأس والشيم العلا ... والسؤود المتواتر القدموسا
والحلم ليس يباين الخلق الرضى ... والعلم ليس يعارض الناموسا
والسعد يغني حكمه عن نصبة ... تستخبر التربيع والتسديسا
كم راض صعباً لا يراض معاصياً ... كم خاض بحراً لا يخاض ضروسا
__________
(1) ق: كثرت.
(2) خاس: خفر العهد.
(3) البسوس: التي تتطلب إبساساً أي تسكيناً كي تدر.
(4) التدريس: الطريق.(6/197)
بلغ الذي لا فوقها متمهلاً ... وعلا السها واستسفل البرجيسا (1)
يا خير من خفقت عليه سحابة ... لنصر تمطره أجش بجيسا (2)
وأجل من حملته صهوة سابح ... إن كر ضعضع كره الكردوسا
قسماً بمن رفع السماء بغير ما ... عمد ورفع فوقها إدريسا
ودحا البسيطة فوق لج مزبد ... ما إن يزال على القرار حبيسا
حتى يهيب بأهله الوعد الذي ... حشر الرئيس إليه والمرؤوسا
ما أنت إلا ذخر دهرك دمت في ال ... صون الحريز ممتعاً محروسا
لوساومته الأرض فيك بما حوت ... لرآك مستاماً بها مبخوسا
حلف (3) البرور بها ألية صادق ... ويمين من عقد اليمين غموسا
من قاس ذاتك بالذوات فإنه ... جهل الوزان واخطأ التقييسا
لا تستوي الأعيان فضل مزية ... وطبيعة فطر الإله وسوسا (4)
لعناية التخصيص سر غامض ... من قبل ذرء الخلق خص نفوسا
من أنكر الفضل الذي أوتيته ... جحد العيان وأنكر المحسوسا
من دان بالإخلاص فيك فعقده ... لا يقبل التمويه والتلبيسا
والمنتمى العلوي عيصك لم تكن ... لترى دخيلاً في بنيه دسيسا
بيت البتول ومنبت الشرف الذي ... تحمي الملائك دوحه المغروسا
أما سياستك التي أحكمتها ... ورميت بالتقصير أسطاليسا
فلو أن كسرى الفرس أبصر بعضها ... ما كان يطمع أن يعدي سوسا (5)
لوسار عدلك في السنين لما اشتكت ... بخساً، ولم يك بعضهن كبيسا
__________
(1) البرجيس: المشتري.
(2) البجيس: المتدفق بغزارة.
(3) ق والبغية: كلف.
(4) السوس: الخليقة والسجية.
(5) يعدي سوسا: يتجاوز السوس، منطقة تستر؛ وفي الأزهار: يعد سؤوساً أي ذا سياسة.(6/198)
ولوالجواري الخنس انتسبت إلى ... أقدام عزمك ما خنسن خنوسا (1)
قدت الصعاب فكل صعب سامح ... لك بالقياد وكان قبل شموسا
تلقى الليوث ولقتام غمامة ... قدح الصفيح وميضها المقبوسا
وكأنها تحت الدروع أراقم ... ينظرن من خلل المغافر شوسا
ما لابن مامة في القديم وحاتم ... ضرب الزمان بجودهم ناقوسا
من جاء منهم مثل جودك كلما ... حسبوا المكارم كسوة أو كيسا
أنت الذي افتك السفين وأهله ... إذ أوسعت سبل الخلاص طموسا
أنت الذي أمددت ثغر الله بالص ... دمات تبلس كرة إبليسا
وأعنت أندلساً بكل سبيكة ... موسومة لا تعرف التدليسا
وشحينة البر في سبل الرضى ... والبر قارب قاعها القاموسا
إن لم تجر بها الخميس فطالما ... جهزت فيها للنوال خميسا
وملأت أيديها وقد كادت على ... حكم القضاء تشافه التفليسا
صدقت للآمال صنعة جابر ... وكفيتها التشميع والتشميسا (2)
والحل والتقطير والتصعيد وال ... تخمير والتصويل والتكليسا (3)
فسبكت من آمالها مالاً، ومن ... أوراقها ورقاً، وكن طروسا
بهتوا فلما استخبروا لم ينكروا ... وزناً ولا لوناً ولا ملموسا
وتدير من قبل السطور سبائكاً ... منها ومن طبع الحروف فلوسا
ونحوت نحوالفضل تعضد منه بال ... مسموع ما ألفيت منه مقيسا
وجبرت بعد الكسر قومك جاهداً ... تغني العديم وتطلق المحبوسا
__________
(1) هذا البيت والذي بعده سقطا من ق.
(2) ذكر جابر بن حيان وأردف ذلك بذكر بعض المصطلحات الكيميائية؛ فالتشميع: تليين الشمع، والتشميس: تعريض المواد للمشي
(3) الحل: التحليل الكيمائي؛ والتقطير والتصعيد متشابهان. والتصويل: جعل الرواسب طافية وهو تال للتكليس.(6/199)
ونشرت راية عزهم من بعد ما ... دال الزمان فسامها تنكيسا
أحكمت حيلة برئهم بلطافة ... قد اعجزت في الطب جالينوسا
وفللت من حد الزمان وإنه ... أوحى وأمضى من غرار الموسى
وشحذت حداً كان قبل مثلماً ... ونعشت جداً كان قبل تعيسا
لم ترج إلا الله جل جلاله ... في شدة تكفي وجرح يوسى
قدمت صبحاً فاستضأت بنوره ... ووجدت عند الشدة التنفيسا
ما أنت إلا فالح متيقن ... بالنجح تعمر ممرعاً ويبيسا
ومتاجر جعل الأريكة صهوة ... عربية والمتكا القربوسا
ما إن تبايع أو تشاري واثقاً ... بالربح إلا المالك القدوسا
والعزم يفترع النجوم بناؤه ... مهما أقام على التقى تأسيسا
ومقام صبرك واتكالك مذكر ... بحديثه الشبلي أو طاووسا
ومن ارتضاه الله وفق سعيه ... فرأى العظيم من الحظوظ (1) خسيسا
ما ازددت بالتمحيص إلا جدة ... ونضوت من خلع الزمان لبيسا
ولطالما طرق الخسوف أهلة ... ولطالما اعترض الكسوف شموسا
ثم انجلت قسماتها عن مشرق ... للسعد ليس بحاذر تتعيسا
خذها إليك على النوى سينية ... ترضى الطباق وتشكر التجنيسا
إن طوولت (2) بالدر من حول الطلى ... يوماً تشكت حظها الموكوسا
لولاك ما أصغت لخطبة خاطب ... ولعنست في بيتها تعنيسا
قصدت سليمان الزمان وقاربت ... في الخطو تحسب نفسها بلقيسا
لي فيك ود لم أكن من بعد ما ... أعطيت صفقة عهده لأخيسا
كم لي بصحة عقده من شاهد ... لا يحذر التجريح والتدليسا
__________
(1) البغية: الأمور.
(2) البغية: طوقت.(6/200)
يقفوالشهادة باليمين، وإنه ... لمؤمن من أن يعد فسيسا (1)
لا يستقر قرار أفكاري إلى ... أن أستقر لدى علاك جليسا
وأرى تجاهك مستقيم السير لل ... قصد الذي أعملته معكوسا
هي دين أيامي فإن سمحت به ... لم يبق من شيء عليه يوسى
لا زال صنع الله مجنوناً إلى ... مثواك يهدي البشر والتأنيسا
متتابعاً كتتابع الأيام لا ... يذر التعاقب جمعة وخميسا
فلو أنصفتك إيالة الملك التي ... رضت الزمان لها وكان شريسا
قرنت بذكرك والدعاء لك الذي ... تختاره التسبيح والتقديسا
القلب أنت لها رئيس حياتها ... لم تعتبر مهما صلحت رئيسا ثم قال الحافظ التنسي رحمه الله تعالى بعد سرد هذه القصيدة ما معناه: إن لسان الدين ابن الخطيب حذا في هذه القصيدة السينية حذوأبي تمام في قصيدته التي أولها (2) :
أفشيت ربعهم أراك دريسا ... تقري ضيوفك لوعة ورسيسا واحتلس كثيراً نم ألفاظها ومعانيها؛ انتهى.
ووصل لسان الدين هذه القصيدة بنثر بديع نصه:
" هذه القصيدة - أبقى الله تعالى المثابة المولوية الموسوية ممتعة بالشمل المجموع، والثناء المسموع، والملك المنصور الجموع - نفثة من باح بسر هواه (3) ، ولبى دعوة الشوق بلبه وقد ظفر بمن يهدي خبر جواه، إلى محل هواه، ويختلس بعث تحيته، إلى مثير أريحيته، وهي بالنسبة إلى ما يعتقد
__________
(1) الفسيس: الضعيف؛ وفي ق ص: قسيسا.
(2) ديوانه 2: 262.
(3) البغية: بسر حبه.(6/201)
من ذلك الكمال، الشاذ عن الآمال، عنوان من كتاب، وذوارق من أوقار ذات أقتاب، وإلا فمن يقوم بحق المثابة لسانه، أويكافئ إحسانها إحسانه، أويستقل بوصفها يراعه، أوتنهض بأيسر وظيفتها ذراعه ولا مكابرة بعد الاعتراف، والبحر لا ينفد بالاغتراف، لا سيما وذاتكم اليوم، والله تعالى يبقيها، ومن المكاره يقيها، وفي معارج القرب من حضرة القدس يرقيها، ياقوتة اختارها واعتبرها، ثم ابتلاها بالتمحيص واختبرها، وسبيكة أخلصها مسجرها، فخلصها بتسجيره من الشوب، وأبرزها من لباب الذوب (1) ، وقصرت عن هذه الأثمان، وسر بصدق دعواه البهرمان (2) ، ليفاضل بين الجهام والصيب و " ليميز الله الخبيث من الطيب " الأنفال:37 فأراكم أن لا جدوى للعديد ولا للعدة، وعرفكم بنفسه في حال الشدة، ثم فسح لكم بعد ذلك في المدة، لتعرفوه إذا دال الرخاء، وهبت بعد تلك الزعازع الريح الرخاء، وملأكم من التجارب، وأوردكم من ألطافه أعذب المشارب، ونقلكم بين إمرار الزمان وإحلائه، ولم يسلبكم إلا حقيراً عند أوليائه، وأعادكم المعاد المطهر، وألبسكم من أثواب اختصاصه المعلم المشهر، فأنتم اليوم بعين العناية، بالإفصاح والكتاية، قد وقف الدهر بين يديكم موقف الاعتراف بالجناية، فإن كان الملك اليوم علماً يدرس، وقوانين في قوة الحفظ تغرس، وبضاعة برصد التجارب تحرس، فأنتم مالك دار هجرته المحسوبة، وأصمعي شعوبه المنسوبة، إلى ما حزتم من أشتات الكمال، المربية على الآمال، فالبيت علوي المنتسب، والملك بين الموروث والمكتسب، والجود يعترف به الوجود، والدين يشهد به الركوع والسجود، والبأس تعرفه التهائم والنجود، والخلق يحسده الروض المجود، والشعر يغترف من عذب نمير، ويصدق ما قال: بدئ بأمير وختم بأمير، وإن مملوككم حوم
__________
(1) ق: أخلصها وشحرها فخلصتها الشحيرة من الشوب وأبرزتها من الباب الذوب؛ وكذلك هي في أصول الأزهار؛ وفي البغية: خلصها وشجرها فخلصتها السحيرة من الشوب ... الخ.
(2) البغية: يصدق دعوته البرهان؛ والبهرمان: العصفر.(6/202)
من بابكم على العذب البرود، فعاقه الدهر عن الورود، واستقبل أفقه ليحقق الرسد، ولكنه أخطأ القصد، ومن أخطأ الغرض أعاد، ورجا من الزمان الإسعاد، فربما خبئ نصيب، أوكان مع الخواطئ سهم مصيب (1) ، وكان يؤمل صحبة ركاب الحجاز، فانتقلت الحقيقة منه إلى المجاز، وقطعت القواطع التي لم ينلها الحساب، ومنعت الموانع التي خلص منها إلى الفتنة الانتساب، ومن طلب الأيام أن تجري على اقتراحه، وجب العمل على اطراحه، فإنما هي البحر الزاخر، الذي لا يدرك منه الآخر، والرياح متغايرة، والسفينة الحائرة، فتارة يتعذر من المرسى الصرف، وتارة تقطع المسافة البعيدة قبل أن يرتد الطرف، هذا إن سالمها عطبها، وأعفي من الوقود حطبها، ولقد علم الله جل جلاله أن لقاء ذلك المقام الكريم عند المملوك تمام المطلوب، ممن يجبر كسر القلوب، فإنه مما انعقد على كماله الإجماع، وصح في عوالي معاليه السماع، وارتفعت في وجود مثاله الأطماع، أخلاقاً هذبها الكرم الوضاح، وسجية كلف بها الكمال الفضاح، وحرصاً على الذكر الجميل وما يتنافس فيه إلا من سمت هممه، وكرمت ذممه، وألفت الخلد رممه، إذ الوجود سراب، وما فوق التراب تراب، ولا يبقى إلا عمل راق، أوذكر بالجميل يسطر في أوراق، حسبما قلت من قصيدة كتبتها على ظهر مكتوب موضوع أشار به من كانت له طاعة، فوفت بمقترحه استطاعة:
يمضي الزمان وكل فان ذاهب ... إلا جميل الذكر فهو الباقي
لم يبق من إيوان كسرى بعد ذا ... ك الحفل إلا الذكر في الأوراق
هل كان للسفاح والمنصور وال ... مهدي من ذكر على الإطلاق
أو للرشيد وللأمين وصنوه ... لولا شباة يراعة الوراق
رجع التراب إلى التراب بما اقتضت ... في كل خلق حكمة الخلاق
__________
(1) أصله من المثل " مع الخواطي سهم صائب ".(6/203)
إلا الثناء الخالد العطر الشذا ... يهدي حديث مكارم الاخلاق والرغبة من مقامكم الرفيع الجناب، أن يمكنها من حسن المناب، فتحظى بحلول ساحته، ثم بلثم راحته، ثم بالإصغاء، ولا مزيد للابتغاء، إلى أن ترتفع الوساطة وتغني عن التركيب البساطة، وينسى الأثر بالعين، ويحسن الدهر قضاء الدين، ونسأل الذي أغرى بها القريحة، ولم يجعل الباعث إلا المحبة الصريحة، أن يبقي تلك المثابة زيناً للزمان، وذخراً مكنوفاً باليمن والأمان، مظللاً برحمة الرحمن، بفضله وكرمه؛ انتهى.
13 - ومما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى إلى الشيخ الرئيس الخطيب شيخه أبي عبد الله مرزوق رحمه الله تعالى حين كانت أزمة أمر المغرب بيده أيام السلطان أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني رحم الله تعالى الجميع، ما صورته:
سيدي بل ما لكي بل شافعي، ومنتشلي (1) من الهفوة ورافعي، وعاصمي عند تجويد حروف الصنائع ونافعي، الذي بجاهه أجزلت المنازل قراي، وفضلت أولاي والمنة لله تعالى أخراي، وأصبحت وقول الحسن (2) هجيراي:
علقت بحبل من حبال محمد ... أمنت به من طارق الحدثان
تغطيت من دهري بظل جناحه ... فعيني أرى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن نكاني وصلت مكناسة حرسها الله تعالى حداني حدونداك، سحائب لولا الخصال المبرة قلت: يداك (3) ، وكان الوطن لاغتباطه بجواري، أوما رآه من انتياب زواري،
__________
(1) ق: ومنشلي.
(2) يعني أبا نواس، والأبيات في ديوانه: 97.
(3) ق: قبلت يداك؛ فاقتضى التصويب، والمبرة: الزائدة على خصال السحائب هنا.(6/204)
أوغر إلى بهت يقطع الطريق، وأطلع يده على التفريق، وأشرق القوافل مع كثرة الماء بالريق، فلم يسع إلا المقام أياماً قعوداً في البر وقياماً، واختياراً لضروب الأنس واعتياماً، ورأيت بلدة معارفها أعلام، وهواؤها برد وسلام، ومحاسنها تعمل فيها ألسنة وأقلام، فحيا الله تعالى سيدي فلكم من فضل أفاد، وأنس أحياه وقد باد، وحفظ منه على الأيام الذخر والعتاد، كما ملكه زمام الكمال فاقتاد، وأنا أتطارح عليه في صلات تفقده، وموالاة يده، بأن يسهمني في فرض مخاطبته مهما خاطب معتبراً بهذه الجهات، ويصحبني من مناصحته بكؤوس مسرة يعمل فيها هاك وهات، فالعز بعزه معقود، والسعد بوجوده موجود، ومنهل السرور بسروره مورود، والله عز وجل يبقيه بقاء الدهر، ويجعل حبه وظيفة السر وحمده وظيفة الجهر ويحفظ على الأيام من زمنه زمن الزهر، ويصل لنا تحت إيالته العام بالعام والشهر بالشهر، آمين آمين انتهى.
14 - ومما خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى صاحب الأشغال بالمغرب أبا عبد الله ابن أبي القاسم بن أبي مدين يهينه بتقلد النممصب من رسالة قوله:
تعود الأماني بعد انصراف ... ويعتدل الشيء بعد انحراف
فإن كان دهرك يوماً جنى ... فقد جاء ذا خجل واعتراف طلع البشير أبقاك الله تعالى بقبول الخلافة المرينية، والإمامة السنية، خصها الله تعالى ببلوغ الأمنية، على تلك الذات التي طابت أرومتها وزكت، وتأوهت العلياء لتذكر عهدها وبكت، وكاد السرور ينقطع لولا أنها تركت منك الوارث الذي تركت، فلولا العذر الذي تأكدت ضرورته، والمانع الذي ربما تقررت لديكم صورته، لكنت أول مشافه بالهناء، ومصارف لهذا الاعتناء، الوثيق البناء، بنقود الحمد لله والثناء، وهي طويلة.
15 - ومما خاطب به رحمه الله تعالى قاضي الجماعة وقد نالته مشقة(6/205)
جرها غلط الخدام السوء واشتراك الأسماء، أعتبه عندها السلطان وخلع عليه وأشاد بقدرة بما نصه:
تعرفت أمراً ساءني ثم سرني ... وفي صحة الأيام لا بد من مرض
تعمدك المحبوب بالذات بعدما ... جرى ضده، والله يكفيه بالعرض في مثلها سيدي يحمد الاختصار، وتقصر الأنصار، وتصرف (1) الأبصار، إذ لم يتعين ظالم، ولم يتبين يقظ ولا حالم، وإنما هي هدية أجر، وحقيقة وصل أعقبت مجاز هجر، وجرح جبار، وأمر ليس به اعتبار، ووقيعة لم يكن فيها إلا غبار، وعثرة القدم لا تنكر، والله سبحانه يحمد في كل حالة ويشكر، وإذا كان اعتقاد الخلافة لم يشبه شائب، وحسن الولاية لم يعبه عائب، والرعي دائب، والجاني تائب، فما هوإلا الدهر الحسود، لمن يسود، خمش بيد ثم سترها، ورمى عن قوس ما أصلحها - والحمد لله - ولا أوترها، إنما باء بشينه، وجنى من مزيد العناية محنة عينه، ولا اعتراض على قدر، أعقب بحظ معتذر، وورد نغص بكدر، ثم أنس بإكرام (2) صدر، وحسبنا أن نحمد الدفاع من الله تعالى والذب، ولا نقول مع الكظم إلا ما يرضي الرب، وإذا سابق أولياء سيدي في مضمار، وحماية ذمار، واستباق إلى بر وابتدار، بجهد اقتدار، فأنا ولا فخر متناول القصبة، وصاحب الدين من بين العصبة (3) ، لما بلوت من بر أوجبه الحسب، والفضل الموروث والمكتسب، ونصح وضح منه المذهب، وتنفيق راق منه الرداء المذهب، هذا مجمل وبيانه إلى وقت الحاجة مؤخر، ونبذة شره لتعجيلها يراع مسخر، والله سبحانه يعلم ما أنطوي عليه لسيدي من إيجاب الحق، والسير على أوضح الطرق، والسلام؛ انتهى.
__________
(1) ق: وتطرف.
(2) ق: بأكرم.
(3) العصبة: الأقرباء من جهة الأب.(6/206)
16 - وقال رحمه الله تعالى: خاطبت بعض الفضلاء بقولي مما يظهر من الجملة غرضة:
تعرضت قرب الدار ممن احبه ... فكنت أجد السير لولا ضروره
لأتلو من آي المحامد سورة ... وأبصر من شخص المحاسن صوره كنت أبقاك الله تعالى لاغتباطي بولائك، وسروري بلقائك، أود أن أطوي إليك هذه المرحلة، وأجدد العهد بلقياك المؤملة، فمنع مانع، وما ندري في الآتي ما الله صانع، وعلى كل حال فشأني قد وضح منه سبيل مسلوك، وعلمه مالك ومملوك، واعتقادي أكثر مما تسعه العبارة، والألفاظ المستعارة، وموصلها ينوب عني في شكر تلك الذات المستكملة شروط الوزارة، المتصفة بالعفاف والطهارة، والسلام.
17 - وقال سامحه اله تعالى يخاطب السلطان أبا عبد الله ابن نصر جبره اله تعالى عند وصول ولده من الأندلس:
الدهر فسحة من أن يرى ... بالحزن والكمد المضاعف يقطع
وإذا قطعت زمانه في كربة ... ضيعت في الأوهام ما لا يرجع
فاقنع بما أعطاك ربك واغتنم ... منه السرور وخل ما لا ينفع مولاي الذي له المنن، والخلق الجميل والخلق الحسن، والمجد الذي وضح منه السنن، كتبه عبدك مهنئاً بنعم الله تعالى التي أفاضها عليك، وجلبها إليك، من اجتماع شملك، بنجلك، وقضاء دينك، من قرة عينك، إلى ما تقدم من إفلاتك، وسلامة ذاتك، وتمزق أعدائك، وانفرادك بأودائك، والزمن ساعة في القصر، لا بل كلمح البصر، وكأني بالبساط قد طوي، والتراب على الكل قد سوي، فلا تبقى غبطة ولا حسرة، ولا كربة ولا يسرة، وإذا نظرت(6/207)
ما كنت فيه تجدك لا تنال منه إلا أكلة وفراشاً، وكناً ورياشاً، مع توقع الوقائع وارتقاب الفجائع، ودعاء المظلوم وصداع الجائع، فقد حصل ما كان عليه التعب، وأمن الرهب، ووضح الأجر المذهب، والقدرة باقية، والأدعية راقية (1) ، وما تدري ما تحكم به الأقدار، ويتمخض عنه الليل والنهار، وأنت اليوم على زمانك بالخيار، فإن اعتبرت الحال واجتنبت المحال، لم يخف عليك أنك اليوم خير منك أمس، من غير شك ولا لبس، وكان من أملي التوجه إلى رؤية ولدكم ولكن عارضتني موانع، ولا ندري في الآتي ما الله تعالى صانع، فاستنبت هذه في تقبيل قدمه، والهناء بمقدمه، والسلام.
18 - وقال رحمه الله تعالى: قلت أخاطب محمد بن نوار، وقد أعرس ببنت مزوار الدار السلطانية، وهومعروف بالوسامة وحسن الصورة:
إن كنت في العرس ذا قصور ... فلا حضور ولا دخاله (2)
ينوب نظمي مناب تيس ... والنثر عن قفة النخالة هناكم الله سبحانه دعاء وخبراً، وألبسكم من السرور حبراً، وعوذكم بالخمس، حتى من عين الشمس، فعمري لقد حصلت النسبة، ورضيت هذه المعيشة الحسبة، ومن يكن المزوار ذواقه (3) ، كيف لا يشق البدر أطواقه، وينشر القبول عليه رواقه، وأنتم أيضاً بركان جمال، وبقية رأس مال، ويمين في الانطباع وشمال، بمنزلكم اليوم بدر وهلال، ولعقد التوفيق بفضل الله تعالى استقلال، فأنا أهنيكم بتسني أمانيكم، والسلام.
19 - وقال رحمه اله تعالى مخاطباً عميد مراكش المتميز بالرأي والسياسة
__________
(1) كذا في ق، ولعلها أن نقرأ " واقية ".
(2) الدخالة: الهدية.
(3) لست مظمئناً إلى أن اللفظة صحيحة.(6/208)
والهمة وإفاضة العدل وكف اليد والتجافي عن مال الجباية عامر بن محمد بن علي الهنتاني (1) :
تقول لي الأظعان والشوق في الحشا ... له الحكم يمضي بين ناه وآمر
إذا جبل التوحيد أصبحت فارعاً ... فخيم قرار العين في دار عامر
وزر تربة المعلوم إن مزارها ... هو الحج يفضي نحوه كل ضامر
ستلقى بمثوى عامر بن محمد ... ثغور الأماني من ثنايا البشائر
ولله ما تبلوه من سعد وجهه ... ولله ما تلقاه من يمن طائر
وتستعمل الأمثال في الدهر منكما ... بخير مزور أو بأغبط زائر لم يكن همي أبقاك الله تعالى مع فراغ البال، وإسعاف الآمال، ومساعدة الأيام واليال، إذ الشمل جميع، والزمان كله ربيع، والدهر مطيع سميع، إلا زيارتك في جبلك الذي يعصم من الطوفان، ويواصل أمنه بين النوم والأجفان، وأن أرى الأفق الذي طلعت منه الهداية، وكانت إليه العودة ومنه البداية، فلما حم الواقع، وعجز عن خرق الدولة الأندلسية الراقع، وأصبحت ديار الأندلس وهي البلاقع، وحسنت من استدعائك إياي المواقع، وقوي العزم وإن لم يكن ضعيفاً، وعرضت على نفسي السفر بسببك فألفيته خفيفاً، والتمست الإذن حتى لا نرى في قبلة السداد تحريفاً، واستقبلتك بصدر مشروح، وزند للعزم مقدوح، والله سبحانه يحقق السول، ويسهل بمثوى الأماثل المثول، ويهيئ من قبل هنتاتة القبول، بفضله.
20 - وللسان الدين ابن الخطيب مقامة عظيمة بديعة وصف بها الأندلس
__________
(1) كان أبو ثابت عامر بن محمد الهنتاني كبير جبل درن والبلاد المراكشية، وقد وفد على أبي زيان ابن أبي عبد الرحمن فأكرمه سنة 763، فلما عاد غلى بلده كان كأنه حاكم مستقل فيها، وكان ذلك فاتحة انتفاضات كثيرة إلى أن هلك عامر على يد السلطان عبد العزيز، كما يذكره المقري في ما يلي (ص: 219) وهذه القصيدة والرسالة في الاستقصا 4: 17 ومشاهدات لسان الدين: 120.(6/209)
والعدوة، وأتى فيها من دلائل براعته بالعجب العجاب، وقد تركتها مع كتبي بالمغرب، ولم يحضرني منها الآن إلا قوله في وصف مدينة سبتة ما صورته:
" قلت: فمدينة سبتة، قال (1) : عروس المجلى، وثنية الصباح الأجلى، تبرجت تبرج العقلية، ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقيلة، واختص ميزان حسناتها بالأعمال الثقيلة، وإذا قامت بيض أسوارها، وكان جبل بنيونش (2) شمامة أزهارها، والمنارة مناة أنوارها (3) ، كيف لا ترغب النفوس في جوارها، وتهيم (4) الخواطر بين أنجادها وأغوارها إلى المينا الفلكية، والمراقي (5) الفلكية، والركية الزكية، غير المنزورة ولا البكية، ذات الوقود الجزل، المعد للأزل، والقصور المقصورة على الجد والهزل، والوجوه الزهر السحن، المضنون بها عن المحن، دار الناشبة، والحامية المضرمة للحرب المناشبة، والأسطول المرهوب، المحذور الألهوب، والسلاح المكتوب المحسوب، والأثر المعروف المنسوب، كرسي الأمراء والأشراف، والوسيطة، لخامس أقاليم (6) البسيطة، فلا حظ لها في الانحراف، بصرة علوم اللسان، وصنعاء الحلل الحسان، وثمرة امتثال قوله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " النحل:90 الأمينة على الاختزان، القويمة المكيال والميزان، محشر أنواع الحيتان، ومحط قوافل العصير والحرير والكتان، وكفاها السكنى ببنيونش في فصول الأزمان، ووجود المساكن النبيهة بأرخص الأثمان، والمدفن المرحوم، غير المزحوم، وخزانة كتب العلوم، والآثار المنبئة عن أصالة الحلوم، إلا أنها فاغرة أفواه الجنوب، لغيث المصبوب (7) ، عرضة للرياح ذات
__________
(1) انظر هذا النص في مشاهدات لسان الدين: 101.
(2) بنيونش (Baliunech) : قرية إلى الغرب من سبتة.
(3) المشاهدات: شوارها.
(4) المشاهدات: وتخيم.
(5) المشاهدات: والمراسي.
(6) ق: الأقاليم.
(7) ق: المصوب.(6/210)
الهبوب، عديمة الحرث فقيرة من الحبوب، ثغر تنبوفيه المضاجع بالجنوب، وناهيك بحسنة تعد من الذنوب، فأحوال أهلها رقيقة، وتلكفهم ظاهر مهما ظهرت وليمة أوعقيقة، واقتصادهم لا تلتبس منه طريقة، وأنساب نفقاتهم في تقدير الأرزاق عريقة، فهم يمصون البلالة مص المحاجم، ويجعلون الخبز في الوائم بعدد الجماجم، وفتنتهم ببلدهم فتنة الواجم بالبشير الهاجم، وراعي الجديب بالمطر الساجم، فلا يفضون على مدينتهم مدينة، الشك عندي في مكة والمدينة " انتهى.
وقد سلك في هذه المقامة وصف بلدان المغرب بالسجع والتفقيه، ووفاها من المدح وضده اكمل توفية، وعكس هذه الطريقة في نفاضة الجراب فوصف فيها الأماكن بكلام مرسل جزلغير مسجع، مع كونه أقطع من السيف إذا بان عنه القراب.
21 - فمن ذلك قوله حين أجرى ذكر مدينة مكناسة الزيتون: وأطلت مدينة مكناسة في مظهر النجد، رافلة في حلل الدوح، مبتسمة عن شنب المياه العذبة، سافرة عن اجمل المراد، قد احكم وضعها الذي أخرج المرعى، قيد النص وفذلكة الحسن، فنزلها بها منزلاً لا تستطيع العين أن تخلفه حسناً ووضعاً من بلد دارت به المداشر (1) المغلة، والتفت بسوره الزياتين المفيدة، وراق بخارجه للسلطان المستخلص الذي يسموإليه الطرف، ورحب ساحة والتفاف شجرة ونباهة بنية وإشراف ربوة، ومثلت بإزائها الزاوية القدمى المعدة للوارد (2) ، ذات البركة النامية، والمئذنة السامية، والمرافق المتيسرة، يصاقبها الخان البديع المنصب الحصين الغلق الخاص بالسابلة والجوابة في الألرض يبتغون من فضل الله
__________
(1) المداشر: القرى أو المزارع.
(2) ف: للوارد.(6/211)
تعالى، تقابلها غرباً الزاوية الحديثة المربية برونق الشبيبة ومزية الجدة والانفساح وتفنن الاحتفال، إلى أن قال: وبداخلها مدارس ثلاث لبث العم، كلفت بها الملوك الجلة الهمم، وأخذها التنجيد، فجاءت فائقة الحسن، ماشئت من أبواب نحاسية، وبرك فياضة تقذف فيها صافي الماء أعناق أسدية، وفيها جزائن الكتب والجراية الدارة على العلماء والمتعلمين، وتفضل هذه المدينة كثيراً من لداتها بصحة الهواء وتبحر أصناف الفواكه وتعمير الخزائن ومداومة البر لجوار ترابها سليماً من الفساد معافىً من العفن، إذ تقام ساحات منازلها غالباً على أطباق الآلاف من الأقوات تتناقلها المواريث ويصحبها التعمير وتتجافى عنها الأرض، ومحاسن هذه البلدة المباركة جمة، قال ابن عبون من أهلها ولله دره:
إن تفتخر فاس بما في طيها ... وبأنها في زيها حسناء
يكفيك من مكناسة أرجاؤها ... والأطيبان: هواؤها والماء ويسامتها شرقاً جبل زرهون، المنبجس العيون، الظاهر البركة، المتزاحم العمران، الكثير الزياتين والأشجار، قد جلله سكراً ورزقاً حسناً، فهوعنصر الخير، ومادة المجبى، وفي المدينة دور نبيهة، وبنى أصيلة، والله سبحانه ول من اشتملت عليه بقدرته، وفيها أقول:
بالحسن من مكناسة الزيتون ... قد صح عذر الناظر المفتون
فضل الهواء وصحة الماء الذي ... يجري بها وسلامة المخزون
سحت عليها كل عين ثرة ... للمزن هامية الغمام هتون
فاحمر خد الورد بين أباطح ... وافتر ثغر الزهر بين غصون
ولقد كفاها شاهداً مهما ادعت ... قصب السباق القرب من زرهون
جبل تضاحكت البروق بجوه ... فبكت عذاب عيونه بعيون(6/212)
وكأنما هو بربري فاقد (1) ... في لوحه والتين والزيتون
حييت من بلد خصيب أرضه ... مثوى أمان أو مناخ أمون
وضفت عليك من الإله عناية ... تكسوك ثوبي أمنة وسكون 22 - وقد وصفها في مقامة البلدان على منوال السجع فقال: مكناسة مدينة أصيلة، وشعب للمحاسن وفصيلة، فضلها الله تعالى ورعاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، فجانبها مريع، وخيرها سريع، ووضعها له في فقه الفضائل تفريع، اعتدل فيها الزمان، وانسدل الأمان، وفاقت الفواكه فواكهها ولا سيما الرمان، وحفظ أقواتها الاختزان، ولطفت فيها الأواني والكيزان، ودنا من الحضرة جوارها، فكثر قادها من الوزراء وزوارها، وبها المدارس والفقهاء، ولقصبتها الأبهة والمقاصير والأبهاء.
[تعليق للمقري]
ويعني بالحضرة مدينة فاس المحروسة لأنها إذ ذاك كرسي الخلافة، ومكناسة مقر الوزارة، وأهل المغرب يعبرون عن المدينة التي فيها كرسي الخلافة بالحضرة.
قلت: دخلت مكناسة هذه مراراً عديدة، وقد أبلى الدهر محاسنها التي كانت في زمان لسان الدين (2) ابن الخطيب جديدة، واستولى عليها الخراب، وتكدر منها بالفتن الشراب، وعاث في ظاهرها الأعراب، وفي باطنها سماسرة الفتنة العائقة عن كثر من الآراب، حتى صار أهلها حزبين، لبس كثير من أهلها ثياب البعد عنهاوالبين، والله تعالى يجبر حالها، ويعقب بالخصب إمحالها، ويرحم الله تعالى ابن جابر إذ قال:
لا تنكرن الحسن من مكناسة ... فالحسن لم يبرح بها معروفا
ولئن محت أيدي الزمان رسومها ... فلربما أبقت هناك حروفا
__________
(1) كذا في ق، ولعلها " ناقد ".
(2) انظر مشاهدات لسان الدين: 109.(6/213)
على أن ضواحيها كانت في زمان لسان الدين مأوى للمحاربين واللصوص، ومثوى للأعراب الذين أعضل داؤهم بأقطار المغرب على العموم والخصوص، ولذلك يقول لسان الدين رحمه الله تعالى:
مكناسة حشرت بها زمر العدا ... فمدى بريد فيه ألف مريد
من واصل للجوع لا لرياضة ... أو لابس للصوف غير مريد
فإذا سلكت طريقها متصوفاً ... فانو السلوك بها على التجريد وما أشار إليه رحمه الله تعالى فيما سبق من ذكر الزاوية القدمى والجديدة أشار به إلى زاويتين بناهما السلطان أبوالحسن المريني الكثير الآثار بالمغرب الأقصى والأوسط والأندلس، وكان بنى الزاوية القدمى في زمان أبيه السلطان أبي سعيد والجديدة حين تولى الخلافة، وله في هذه المدينة غير الزاويتين المذكورتين عدة آثار كثيرة جميلة من القناطر والسقايات وغيرها، ومن اجل مآثره بها المدرسة الجديدة، وكان قدم للنظر على بنائها قاضيه على المدينة المذكورة، ولما أخبر السلطان بتمام بنائها جاء إليها من فاس ليراها، فقعد على كرسي من كراسي الوضوء حول صهريجها، وجيء بالرسوم المتضمنة للتنفيذات الازمة فيها، فغرقها في الصهريج قبل أن يطالع ما فيها، وأنشد:
لا بأس بالغالي إذا قيل حسن ... ليس لما قرت به العين ثمن وهذا السلطان أبوالحسن اشهر ملوك بني مرين، وأبعدهم صيتاً، وكان قد ملك رحمه الله تعالى المغرب بأسره وبعض الأندلس، وامتد ملكه إلى طرابلس الغرب، ثم حصلت له الهزيمة الشنعاء قرب القيروان حين قاتل أعراب إفريقية، فغدره بنوعبد الواد الذين أخذ من يدهم ملك تلمسان، وانتهزوا الفرصة فيه، وهربوا إلى الأعراب عند المصافة، فاختل مصافه، وهزم أقبح هزيمة، ورجع إلى تونس مغلوباً، وركب البحر في أساطيله، وكانت نحوالستمائة من السفن، فقضى الله تعالى أ، غرقت جميعاً، ونجا على لوح، وهلك من كان معه من أعلام المغرب(6/214)
وهم نحو أربعمائة عالم (1) ، منهم السطي شارح الحوفي، وابن الصباغ الذي أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث " يا أبا عمير ما فعل النغير (2) " أربعمائة فائدة.
قال الأستاذ أبوعبد الله ابن غازي رحمه الله تعالى: حدثني بعض أعيان الأصحاب أنه بلغه أن الفقيه ابن الصباغ المذكور سمع بمنصورة تلمسان المحروسة ينشد كالمعاتب لنفسه (3) :
يا قلب كيف وقعت في أشراكهم ... ولقد عهدتك تحذر الأشراكا
أرضىً بذل في هوى وصبابة ... هذا لعمر الله قد (4) أشقاكا ومات رحمه الله تعالى غريقاً في أسطول السلطان أبي الحسن المريني على ساحل تدلس (5) هو والفقيه السطي والأستاذ الزواوي وغير واحد في نكبة السلطان أبي الحسن المعروفة.
ومن نظم ابن الصباغ المذكور في العلاقات المعتبرة في المجاز وفي المرجحات له قوله رحمه الله تعالى:
يا سائلاً حصر العلاقات التي ... وضع المجاز بها يسوغ ويجمل
خذها مرتبة وكل مقابل ... حكم المقابل فيه حقاً يحمل
عن ذكر ملزوم يعوض لازم ... وكذا بعلته بعاض معلل
وعن المعمم يستعاض مخصص ... وكذاك عن جزء ينوب المكمل
وعن المحل ينوب ما قد حله ... والحذف للتخفيف مما يسهل
وعن المضاف إليه ناب مضافه ... والضد عن أضداده مستعمل
__________
(1) عرف ابن خلدون في كتاب التعريف ببعض من كان في صحبة أبي الحسن من العلماء، وانظر كلامه عن ابن الصباغ ص: 45.
(2) النغير: تصغير نغر وهو طائر صغير أحمر المنقار.
(3) ورد البيتان دون نسبة في مشارق أنوار القلوب: 60.
(4) مشارق: أبداً تعالى الله ما.
(5) تدلس: مدسنة على ساحل الجزائر.(6/215)
والشبه في صفة تبين وصورة ... ومن المقيد مطلق قد يبدل
والشيء يسمى باسم ما قد كانه ... وكذاك يسمى بالبديل المبدل
وضع المجاور في مكانة جاره ... وبهذه حكم التعاكس يكمل
واجعل مكان آلته وجيء ... بمنكر قصد العموم فيحصل
ومعرف عن مطلق وبه انتهت ... ولجلها حكم التداخل يشمل
وبكثرة وبلاغة ولزومه ... لحقيقة رجحانه يتحصل انتهى كلام شيخ شيوخ شيوخنا الإمام أبي عبد اله محمد بن غازي رحمه الله تعالى.
وقد حكى ابن غازي المذكور عن شيخه القوري عن شيخه ابن جابر أن ابن الصباغ المذكور اعترض على القاضي ابن عبد السلام التونسي، قال: لما لقي ابن الصباغ بتونس اعترض عليه ابن الصباغ أربع عشرة مسألة لم ينفصل عن واحدة منا، بل اقر بالخطإ فيها، إذ ليس ينبغي اتصاف بالكمال، إلا لربي الكبير المتعال؛ انتهى.
وذكر الشيخ أبوعبد الله الأبي رحمه الله تعالى في شرح مسلم عند تكلمه على أحاديث العين ما معناه أن رجلاً كان بتلك الديار معروفاً بإصابة العين، فسأل منه بعض الموتورين للسلطان أبي الحسن أن يصيب أساطيله بالعين، وكانت كثيرة نحوالستمائة، فنظر إليها الرجل العائن، فكان غرقها بقدرة الله الذي يفعل ما يشاء، ونجا السلطان برأسه، وجرت عليه محن، واستولى ولده السلطان أبوعنان فارس على ملكه، وكان خلفه بتلمسان، ولم يزل في اضطراب حتى ذهب إلى سجلماسة، ومنها خلص إلى جبل هنتاتة قرب مراكش، فذهب إلى حربه ابنه السلطان أبوعنان فارس بجيوشه، وأناخ على الجبل بكلكله، ولم تحفز أهل هنتاتة جواره لديهم، ولا كبيراهم عامر بن محمد وأخوه، وصبروا على الحصار وخراب الديار، وحرق الأماكن، حتى مات هناك رحمه الله تعالى ونقل بعد إلى شالة سلا مدفن أسلافه، ومن أراد الوقوف على أخباره فعليه بكتاب الخطيب(6/216)
ابن مرزوق الذي ألفه فيه وسماه المسند الصحيح الحسن من أحاديث السلطان أبي الحسن ".
ولما ذهب لسان الدين ابن الخطيب إلى عامر بن محمد بجبله المشهور زار محل وفاة السلطان المذكور، وقد ألم بذكر ذلك في نفاضة الجراب، إذ قال: وشاهدت بجبل هنتاتة محل وفاة السلطان المقدس أمير المسلمين أبي الحسن رحمه الله تعالى، حيث أصابه طارق الأجل، الذي فصل الخطة، وأصمت الدعوة، ورفع المنازعة، وعاينته مرفعاً عن الابتذال بالسكنى مفترشاً بالحصباء، مقصوداً بالابتهال والدعاء، فلم أبرح يوم زيارة محل وفاته أن قلت (1) :
يا حسنها من أربع وديار ... أضحت لباغي الأمن دار قرار
وجبال عز لا تذل أنوفها ... إلا لعز الواحد القهار
ومقر توحيد وأس خلافة ... آثارها تنبي عن الأخبار
ما كنت أحسب أن أنهار الندى ... تجري بها في جملة الأنهار
ما كنت أحسب أن أنوار الحجى ... تلتاح في قنن وفي أحجار
محت جوانبها البرود، وإن تكن ... شبت بها الأعداء جذوة نار
هدت بناها في سبيل وفائها ... فكأنها صرعى بغير عقار
لما توعدها على المجد العدا ... رضيت بعيث النار لا بالعار
عمرت بجلة عامر واعزها ... عبد العزيز بمرهف بتار
فرسا رهان أحرزا قصب الندى ... والبأس في طلق وفي مضمار
ورثا عن الندب الكبير أبيهما ... محض الوفاء ورفعة المقدار
وكذا الفروع تطول وهي شبيهة ... بالأصل في ورق وفي أثمار
أزرت وجوه الصيد من هنتاتة ... في جوها بمطالع الأقمار
لله أي قبيلة تركت لها ال ... نظراء دعوى الفخر يوم فخار
__________
(1) القصيدة في المشاهدات: 128 وأزهار الرياض 1: 294.(6/217)
نصرت أمير المسلمين وملكه ... قد أسلمته عزائم الأنصار
وارت (1) علياً عندما ذهب الردى ... والروع بالأسماع والأبصار
وتخاذل الجيش اللهام واصبح ال ... أبطال بين تقاعد وفرار
كفرت صنائعه فيمم دارها ... مستظهراً منها بعز جوار
وأقام بين ظهورها لا يتقي ... وقع الردى وقد ارتمى بشرار
فكأنها الأنصار لما أنست (2) ... فيما تقدم غربة المختار
أما غدا لحظاً وهم أجفانه ... نابت شفارهم عن الأشفار
حتى دعاه الله بين بيوتهم ... فأجاب ممتثلاً لأمر الباري
لو كان يمنع من قضاء الله ما ... خلصت إليه نوافذ الأقدار
قد كان يأمل أن يكافئ بعض ما ... أولوه لولا قاطع الأعمار
ما كان يقنعه لوامتد المدى ... إلا القيام بحقها من دار
فيعيد ذاك الماء ذائب فضة ... ويعيد ذاك الترب ذوب نضار
حتى تفوز على النوى أوطانها ... من ملكه بجلائل الأوطار
حتى يلوح على وجوه وجوههم ... أثر العناية (3) ساطع الأنوار
ويسوغ الأمل القصي كرامها ... من غير ما ثنيا ولا استعصار
ما كان يرضى الشمس أو بدر الدجى ... عن درهم فيهم ولا دينار
أو أن يتوج أو يقلد هامها ... ونحورها بأهلة ودراري
حق على المولى ابنه إيثار ما ... بذلوه من نصر ومن إيثار
فلمثلها ذخر الجزاء، ومصله ... من لا يضيع صنائع الأحرار
وهو الذي يقضي الديون ويره ... يرضيه في علن وفي إسرار
حتى تحج محلة رفعوا بها ... علم الوفاء لأعين النظار
__________
(1) المشاهدات: آوت؛ ق: وأوت ... بعدما.
(2) ق: أن سبت.
(3) المشاهدات: الرعاية.(6/218)
فيصير منها البيت بيتاً ثانياً ... للطائفين إليه أي بدار
تغني قلوب القوم عن هدي به ... ودموعهم تكفي لرمي جمار
حييت من دار تكفل سعيها ال ... محمود بالزلفى وعقبى الدار
وضفت عليك من الإله عناية ... ما كر ليل فيك إثر نهار ويعني بالمولى ابنه السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن.
ومن العجائب أن الرئيس عامر بن محمد الذي جرى في هذه الأبيات ذكره كان يؤمل بإيوائه للسلطان أبي الحسن ونصرته له وعدم إخفار ذمته فيه أن ينال من أولاده الملوك بذلك عزاً مستطيلاً ورياسة زائدة على ما كان فيه، فقضى الله تعالى أن كان حتفه على يد السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، إذ نازله بجنوده، وحاصره بمعتقله، حتى استولى عليه وقتله، حسبما استوفى ذلك الشيخ الرئيس قاضي القضاة أبوزيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي المغربي نزيل مصر في تاريخه الكبير الذي سماه ب كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر فمن شاء فليراجعه ثمة.
وكان الرئيس أبوثابت عامر بن محمد الهنتاتي المذكور خرج على السلطان عبد العزيز بالسلطان المعتمد على الله أبي الفضل محمد ابن أخي السلطان عبد العزيز المذكور، فكان من قتله ما ذكر، والله غالب على أمره.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من نثر لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى عنه، فنقول:
23 - ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى في كتابه أعمال الأعلام ما صورته:
" وفي غرضي إذا من الله تعالى بانفراج الضيقة الوقتية، ومعاودة الأزمان الهنية، والنصبة النقية، أن نصنف في التايخ كتاباً مبنياً على التطويل، مستوعباً(6/219)
للكثير والقليل، نسميه بضاعة المهولين في أساطير الأولين، يكون هذا الكتاب بالنسبة إليه الحصاة من الرمال، والقطرة نم الغيث المنثال، بإعانة ذي القدرة والجلال؛ انتهى.
24 - ومن كلامه رحمه الله تعالى: فما استبعد المرام، من قصد الكرام، وما فقد الإيناس، من أمل الناس؛ انتهى.
وقد سلك لسان الدين رحمه الله تعالى ف كثير من كتبه ك الكتيبة الكامنة والتاج المحلي والإكليل الزاهر وغيرها تحلية الأعلام من حملة السيوف والأقلام، بالكلام السمجع الآخذ بحظه من الإتقان على طريقة صاحب القلائد والمطمح أبي نصر الفتح بن عبيد الله المدعوبابن خاقان بليغ الأندلس غير مدافع وعلى نهج مباريه ابن بسام صاحب " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة " وهو كتاب نيبغي أن يراجع، وقد رأيت أن آتي بشيء من كلام لسان الدين فيما ذكر، ونلم بعد تحليته بالتعريف بحال من حلاه من الأعلام، بحسب ما من به ويسيره لي الملك العلام، سبحانه وتعالى، فنقول:
25 - قال لسان الدين رحمه الله تعالى في بعض في وصف بعض من عرف به ما نصه: أني نفس صافية من الكدر، وصدر طيب الورد والصدر، ودوحة عهد تندى أرواقها، ومشكاة فضل يستطلع إشراقها، تمسك برضاع الكأس، يرى ذلك من حسن عهده، وقسم لحظاته بين آس الرياض وورده، فلما حوم حمامه للوقوع، وكاد يقوض رحله عن الربوع، وشعر بحبائل المنية تعتلقه، وسرعان خيل الأجل تزهقه، أقلع عن فنه، وأمر بسفك دنه، ولجأ إلى الله تعالى بأوبته، وضرع إلى الله تعالى في قبول توبته وغفران حوبته، فكان ذلك عنوان الرضى، وعلامة عفوالله تعالى عما مضى، دخلت عليه في مرضه، وأشرت باستعمال الدواء المسمى بلحية التيس عند الأطباء، فاستعمله، فوجد بعض خفة.(6/220)
26 - وقال في آخر: كثيف الحاشية، معدود في جنس السائمة والماشية، تليت على العمال به سورة الغاشية، تولى الأشغال السلطانية فذعرت الجباة لولايته، وقامت قيامتهم لطلوع آيته، وقنطوا كل القنوط، وقالوا: جاءت الدابة تكلمنا وهي إحدى الشروط، من رجل صائم الحشوة، بعيد من المصانعة والرشوة، يتجنب الناس، ويقول عند المخاطبة: لا مساس، وعلى مسافة نجه، وتجهم وجهه، فكان خالطاً إساءته بإحسانه، مشتغلاً بشانه، غاضاً من عنان لسانه، عهدي به في الأعمال يقدر فيها ويدبر، ويرجح ويعبر، ويحبط وينبر، وهومع ذلك يكبر، ويحسن من الأزمنة ويقبح، وهويسبح، ولما شرع في البحث والتنقير، والمحاسبة على القطمير والنقير، أتاه قاطع الأجل، فحن ركابه فأقضى العجل، وصدرت عنه أبيات خضم فيها وقضم، وحصل تحت القدر المشترك مع من نظم.
27 - وقال في آخر: كودن حلبة الآداب، وسنور عبد الله بيع بقيراط لما شاب (1) ، هام بوادي الشعر مع من هام، واستمطر منها الجهام، فجاء بأبيات أوهى من بيت العنكبوت نسجاً، ومقاصد لا تبين قصداً ولا نهجاً، وله بيت معمور بقضاة أكابر، فرسان أقلام ومحابر، وعمال قادوا الدهر بأزمة أزمتهم، وفرعوا الزهر بهمتهم، وتكاثرت عليه رحمه الله الإحن، وتعاورته المحن، وتصرف آخر عمره في بعض الأعمال المخزنية فتعلل بنزر القوت، إلى الأجل الموقوت.
28 - وقال في آخر: معدود في وقته من أدبائه، ومحسوب في أعيان بلده وحسبانه، كان رحمه الله تعالى من أهل العدالة والخير، سائراً على منهج الاستقامة
__________
(1) يشير إلى قول بعضهم:
كسنور عبد الله بيع بدرهم ... صغيراً فلما شب بيع بقيراط انظر الحيوان 5: 315 وتعليق الجاحظ على البيت، والحاشية رقم: 4.(6/221)
أحسن السير، وله أدب لا يقصر عن السداد، وإن لم يكن بطلاً فمن يكثر السواد، قد أثبت له ما عثرت عليه، مما ينسب الناس إليه.
29 - وقال في آخر: معتر غير قانع، ومنجع كل شهم وخانع، نشأ بلده مالقة أبرع من أورد اليراعة في نقس، وهز غصنها في روضة طرس، إلا ما كان سخافة عقله، وقعوده تحت المثل اخبر تقلة، لا يرتبط إلى رتبة، ولا ينتمي إلى عصبة، ولا يتلبس بسمت، ولا يستقيم من أمت (1) ، أخبرني من عني بخبره، وذكر عبره، من صباه إلى كبره، أنه رشح في بعض الدول، وعرض لاكتساب الخيل والخول، وخلعت عليه كسوة فاخرة، وشارة بزهر الرياض ساخرة، فانقاد طوع حومانه، ونبذ صفقة زمانه، وحمله فرط النهم، على ا، ابتاع في حجره طعاماً كثير الدسم، وأقبل وأذياله منه تقطر، كما اختلفت باللبن الأشطر، فطرد ونبذ، وطرح بعدما جبذ، لقيته بمالقة وقد قلب له زمانه عينيه، وسقط في يديه، فانتابني بأمداحه، وتعاورني بأجاجه وقراحه.
30 - وقال في آخر: أديب نار فكره تتوقد، وأري لا يعترض كلامه ولا ينقد، أما الهزل فهوطريقته المثلى، ركض في ميدانها وجلى، وطلع في أفقها وتجلى، فأصبح علم أعلامها، وعابر أحلامها، إن أخذ بها في وصف الكاس، وذكر الورد والآس، والم بالربيع وفصله، والحبيب ووصله؛ والروض وطيبه، والغمام وتقطيبه، شق الجيوب طرباً، وعلى النفوس شرباً وضرباً، وإن ابتغى لاعتلال العشية، في فرش الربيع الموشية، ثم تعداها إلى وصف الصبوح، وأجهز على الزق المجروح، وأشار إلى نغمات الورق، يرفلن في الحلل الزرق، وقد اشتعلت في عنبر الليل نار البرق، وطلعت بنود الصباح في
__________
(1) الأست: الاعوجاج.(6/222)
شرفات الشرق، سلب الحليم وقاره، وذكر الخليع وعقاره، وحرك الأشواق بعد سكونا، وأخرجها من وكونها، بلسان يتزاحم على موارد الخيال، ويتدفق من حافاته الأدب السيال، وبيان يقيم أود المعاني، ويشيد مصانع اللفظ محكمة المباني، ويكسوحلل الإحسان جسوم المثالث والمثاني، إلى ناردة لمثلها يشار، ومحاضرة يجنى بها الشهد ويشار، وقد أثبت من شعره المعرب وإن كان لا يتعاطاه إلا قليلاً، ولا يجاور إلا تعليلاً، أبياتاً لا تخلوعن مسحة جمال على صفحاتها، وهبة طيب ينم في نفحاتها.
31 - وقال أيضاً في آخر: ظريف السجية، كثير الأريحية، ارتحل من لورقة فتحها الله تعالى، واتخذ المرة داراً، وألف بها استقراراً، إلى أ، دعاه بها داعية، وقام فيها ناعيه.
32 - وقال في وصف آخر: شيخ أخلاقه لينة - ونفسه - كما قيل في نفس المؤمن - هينة، ينظم الشعر عذباً مساقه، محكما اتساقه، على فاقة، وحال ما لها من إفاقة، أنشد المقام الكيرم بظاهر بلده قصيدة استغرب منه منزعها، واستعذب من مثله مشرعها.
33 - وقال في آخر: من أئمة أهل الزمام، خليق برعي المتات والذمام، ذوخط كما تفتح زهر الكمام، وأخلاق أعذب من ماء الغمام، كان ببلده رحمه الله تعالى بدار إشرافه محاسباً، ودرة في لجة الإغفال راسباً، صحيح العمل، يلبس الطروس من براعته حسن الحلل، وله شعر لا باس به، ولا خفاء بفضل مذهبه.
34 - وقال في آخر: خير من استبق إلى داعي الفلاح استباقاً، وانتمى إلى القوم الذين هم في الآخرة أطول أعناقاً، وإن كانوا في الدنيا أضيق أرزاقاً، مردد أذكار، ومسبح أسحار، وعامر مئذنة ومنار، كان ببلده مؤذناً بجامعها(6/223)
ومؤقتاً بأم صوامعها، ومعتبراً فيمن كان بها بمن السدنة، ومن مثله قوله: فكأنما قرب بدنة، وله لسان مخيف، وشعر سخيف، توشح بحليته، وجعله وسيلة كديته.
35 - وقال في آخر: عظيم الهيئة حسن اللقاء، أغرب في حسن المداراة من النقاء، استمر عمره للحكم، وصبر على حجج الصم والبكم، وأفرط في هشته وهزته، وتنزل عن نخوة القضاء وعزته، وله سلف في القضاء عالي المراقب، مزاحم للنجم الثاقب، وقد أثبت من شعره ما تيسر إثباته، ونجح بوض هذا المجموع نباته.
36 - وقال في آخر: قاض توارث كل جلالة، عن كلالة، وجمع في العلم الحسب، بين الموروث والمكتسب، أشرق يجيد معم في العشيرة مخول، وألقت عليه مقاليدها من منقول ومتأول، إلى نزاهة لا تغرها البيضاء ولا الصفراء، وحلم لا تستهويه السعاية ولا يستفزه الإغراء، ووقار يستخف الجبال الراسية، ونظر ينظر الظلم الغاشية، تولى قضاء الحضرة فأنفذ الأحكام وأمضاها، وشام سيوف الجزالة وانتضاها، ولبس أثواب النزاهة والانقباض فما نضاها، وسلك الطريق التي اختارها وارتضاها، فاجتمعت الأهوال المفترقة علي، وصرف الثناء أعنة الألسن إليه، ثم كر إلى بلده، واستقر خطيباً بقرارة أهله وولده.
37 - وقال في آخر: منتم إلى معرفة، متصف من الذكاء بأحسن صفة، أقرأ ببلده علم اللسان، وما حاد عن الإحسان، وعانى الشعر فنظم قوافيه، وما تكلف فيه، وعلى غزارة مادته، ووضوح جادته، فشعره قليل البشاشة، ذاهب الحشاشة، وذوالإكثار، كمثل العثار، وله سلف يخوض في الحقائق، وينتحل بعض الكلام الرائق.
38 - وقال في آخر: منتم لدين وعفة، وإلى نفس بالعرض الأدنى(6/224)
مستخفة، ممن نزع إلى سلوك ورياضة، ويفيض في طريق القوم بعض إفاضة.
39 - وقال في آخر: ممن يتشوق إلى المعارف والمقالات، ويرتاح إلى الحقائق والمحالات، ويشتمل على نفس رقيقة، ويسير من تعليم القرآن على خير طريقة، ويعاني من الشعر ما يشهد بنبله، ويستظرف من مثله.
40 - وقال في آخر: مشمر في الطلب عن ساق، مثابر على اللحاق بدرجات الحذاق، منتحل للعربية جاد في إحصاء خلافها، ومعاطاة سلافها، وربما شرست في المذاكرة أخلاقه، إذا بهرجت أعلاقه، ونوزع تمسكه بالحجة واعتلاقه، ورحل إلى المغرب فاستجدى بالشعر سلطانه، ثم راجع أوطانه.
41 - وقال في آخر: منتم إلى زهد، باذل في التماس الخير الحهد، نظمه لا يخلومن حلاوة، ومعانيه في طريقه عليها بعض طلاوة.
42 - وقال في آخر: كاتب سجلات لا يساجل في صحة فصولها، وتوقيع فروعها على أصولها، وكلما طلب بالنظم القريحة، وأعمل الفكرة الصريحة، مع إقلاقه، وعدم استعماله، أجابت ولبت، وتنسمت رياحها وهبت.
43 - وقال رحمه الله تعالى وسامحه في بعض العدول الصوفية الأخيار، الذين وحدوا الله وفنوا عن سائر الأغيار: خير عدل، وممن له وقار وفضل، متسم بخير، معرض عن غير، مستمل بصفات مرضية، ملم بالنظم في الطريقة الصوفية.
ولسان الدين رحمه الله تعالى ركض في هذا الميدان لا يجاري فيه، وثبوت فضل لا يستند إلى دليل جاحده ونافيه.
44 - وقال رحمه الله تعالى في كتابه التاج المحلي في مساجلة القدح:(6/225)
المعلى في ترجمة محمد بن عبد اللهبن محمد بن لب الأمي المربي (1) ، ما صورته لج معرفة لا يغيض، وصاحب فنون يأخذ فيها ويفيض، نشأ ببلده مشمراً عن ساعد اجتهاده، وسائراً في قنن العلم ووهاده، حتى أينع روضه، وفهق حوضه، ثم أخذ في راحة ذاته، وشام بارق لذاته، ثم سار في البطالة سير الجموح، وواصل الغبوق بالصبوح، حتى قضى وطره، وسئم بطره، وركب الفلك، وخاض اللجج الحلك، واستقر بمصر على النعمة العريضة، على شك في قضاء حجة الفريضة، وهواليوم بمدرستها الصالحية نبيه المكانة، معدود في أهل العلم والديانة؛ انتهى.
وقال في " الإحاطة " في حق المذكور ما نصه: من خط شيخنا أبي البركات في الكتاب " المؤتمن على أنباء أبناء الزمن ": كان سهلاً سلس القياد، لذيذ العشرة، دمث الأخلاق، ميالاً إلى الدعة، نفوراً عن النصب، يركن إلى فضل نباهة وذكاء يحاسب بهما عند التحصيل والدراسة والدؤوب على الطلب؛ من رجل يجري من الألحان على مضمار لطيف، ولم يكن له صوت رخيم يساوق (2) انطباعه في التلحين، فجبر ذلك بالأوتار، وحاول من ذلك بيده مع أصحابهما لاذ به الظرفاء منهم، واستعمل بدار الأشراف بالمرية، فاحكم تلك الطريقة في أقرب زمان، وجاء زمامه يروق نم ذلك العمل من شأنه، ثم نهضت به همته إلى أرفع من ذلك، فسار إلى غرناطة، فقرأ بها العربية وغيرها، وانخرط في سلك نبهاء الطلبة لأدنى مدة، ثم رحل إلى بلاد المشرق في حدود العشرين وسبعمائة فلم يتجاوز القاهرة لموافقة هوائها علة كان يشكوها، وأخذ في إقراء العربية بها، وعرف بها إلى أن صار يدعى بأبي عبد الله النحوي. قال شيخنا المذكور: ورأى في صغره فارة أنثى فقال: هذه قرينة، فلقب بذلك، وصار هذا اللقب أغلب
__________
(1) انظر ترجمته في الكتيبة: 88 وبغية الوعاة: 60 والدرر 4: 103 (ط. القاهرة) .
(2) ق: يصادق.(6/226)
عليه من اسمه ومعرفته.
ثم قال لسان الدين في حق المذكور ما ملخصه: إنه قرأ بالحضرة على الخطيب أبي علي القيجاطي وطبقته، وأخذ بالقاهرة عن الأستاذ أبي حيان، وانتفع بجاهه، نقل إلينا الحاج الحافظ أبوجعفر ابن غصن من شعره حسبما قيده عنه بمصر (1) :
بعد المزار ولوعة الأشواق ... حكما بفيض مدامع الآماق
وخفوق نجدي النسيم إذا سرى ... أذكى لهيب فؤادي الخفاق
أمعللي أن التواصل في غد ... من ذا الذي لغد فديتك باقي
إن الليالي سبق إن أقبلت ... وإذا تولت لم تنل بلحاق
عج بالمطي على الحمى، سقي الحمى ... صوب الغمام الواكف الرقراق
فيه لذي القلب السليم ودادة ... قلب سليم ما له من واق
قلب غداة فراقهم فارقته ... لا كان في الأيام يوم فراق
يا سارياً واليل ساج عاكف ... يفري الفلا بنجائب ونياق
عرج على مثوى النبي محمد ... خير البرية ذي المقام الراق
ورسول رب العالمين ومن له ... حفظ العهود وصحة الميثاق
الظاهر الآيات قام دليلها ... والطاهر الأخلاق والأعراق
بدر الهدى وهو الذي آياته ... وجبينه كالشمس في الإشراق
الشافع المقبول من عم الورى ... بالجود والإرفاد والإرفاق
الصادق المأمون أكرم مرسل ... سارت رسالته إلى الآفاق
أعلى الكرام ندىً وأبسطهم يداً ... قبضت عنان المجد باستحقاق
وأشد خلق الله إقداماً إذا ... جمي الوطيس وشمرت عن ساق
أمضاهم والخيل تعثر في الوغى ... وتجول سبحاً في الدم المهراق
__________
(1) القصيدة في الكتيبة: 88 - 90.(6/227)
من صير الأديان ديناً واحداً ... من بعد إشراك مضى ونفاق
وأحلنا من حرمة الإسلام في ... ظل ظليل زارف الأوراق
لو أن لبدر المنير كماله ... ما ناله كسف ونكس محاق
لو أن للبحرين جود يمينه ... أمن السفين غوائل الإيساق
لو أن للآساد شدة بأسه ... لثنت عن الإنجاد والإعراق
لو أن للآباء رحمة قلبه ... ذابت نفوسهم من الإشفاق
ذو العلم والحلم الخفي المنجلي ... والجاه والشرف القديم الباقي
آياته شهب وغر بنانه ... سحب النوال تدر بالأرزاق
ماجت فتوح الأرض وهو غياثها ... وربت ربى الإيمان وهو الساقي
ذو رأفة بالمؤمنين ورحمة ... وهدىً وتأديب بحسن سياق
وخصال مجد أفردت بالخصل في ... مرمى الفخار وغاية السباق
ذو المعجزات الغر والآي التي ... كم آية فقدت وهن بواقي
ثنت المعارض حائراً لما حكت ... فلق الصباح وكان ذا إفلاق
يقظ الفؤاد سرى وقد هجع الورى ... لمقام صدق فوق ظهر براق
وسما وأملاك السماء تحفه ... حتى تجاوزهن سبع طباق ومنها:
يا ذا الذي اتصل الرجاء بحبله ... وانبت من هذا الورى بطلاق
حبي إليك وسيلتي وذخيرتي ... إني من الأعمال ذو إملاق
وإليك أعملت الرواحل ضمراً ... تختال بين الوخد والإعناق
نجباً إذا نشدت حلى تلك العلا ... تطوي الفلا ممتدة الأعناق
يحدو بهن من النجيب مردد ... وتقودهن أزمة الأشواق
غرض إليه فوقتنا أسهماً ... وهي القسي برين كالأفواق
فأنختها بفنائك الرحب الذي ... وسع الورى بالنائل الدفاق(6/228)
وقرى مؤملك الشفاعة في غد ... وكفى بها هبة من الرزاق
وعليك يا خير الأنام تحية ... تحيي النفوس بنشرها الفتاق
تتأرج الأرجاء من نفحاتها ... أرج الندي بمدحك المصداق ومنها:
قسماً بطيب تراب طيبة؛ إنه ... مسك الأنوف وإثمد الاحداق
وبشأن مسجدها الذي يرجى به ... لمعامل الرحمن أي نفاق
لأجود فيه بأدمع أسلاكها ... منظومة بترائب وتراق
أغدو بتقبيل على حصبائه ... وعلى كراثم جدره بعناق ومنها:
وعليك ذا النورين تسليم له ... نور يلوح بصفحة المهراق
كفؤ النبي وكفؤ أعلى جنة ... حيزت له بشهادة وصداق
وكفاه ما في الفتح جاء ومصحف ... في الفتح يحمده وفي الإطباق
وعلى أبي السبطين من سبق الألى ... سبقوا إلى الإسلام يوم سباق
الطاهر الطهر ابن عم المصطفى ... شرف على التخصيص والإطلاق
مبدي القضايا من وراء حجابها ... ومفتح الأكمام عن أعلاق
يغزو العداة بغلظة فيهدهم ... بصوارم تفري الفقار رقاق
راياته لا شيء من عقبانها ... بمطا يوم وغىً ولا بمطاق
وعلى كرام ستة عشرت بهم ... عند النظام لآلئ النساق
ما بين أروع ماجد نيرانه ... جنح الظلام تشب للطراق
وأخي حروب صده رشق القنا ... عما قدود مثلهن رقاق
ما غردت شجواً مطوقة وما ... شقت كمام الروض عن أطواق
وعلى القرابة والصحابة كلهم ... والتابعين لهم ليوم تلاق(6/229)
وذكر في الإحاطة غير هذه.
45 - وقال لسان الدين في التاج في ترجمة محمد بن عبد الرحيم الوادي آشي (1) ما صورته: ناظم أبيات، وموضح غرر وشيات، وصاحب توقيعات وقيعات، وإشارات ذوات شارات، وكان شاعراً مكثاراً، وجواداً لا يخاف عثاراً، دخل على أمير بلده المخلوع عن ملكه، بعد انتثار سلكه، وخروج الحضرة عن ملكه، واستقراره آش مروع البال، متعلااً بالآمال، وقد بلغه دخول طبرنش (2) في طاعته، فأنشده من ساعته:
خذها إليك طبرنشا ... شفع بها وادي الأشا
والأم تأتي بنتها ... والله يفعل ما يشا ومن نوادره العذبة، كا متبه غليه يطلب منه الحسبة:
أنلني أيا خير البرية خطة ... ترفعني قدراً وتكسبني عزا
فأغتر في أهلي كما اعتز بيدق ... على سفرة الشطرنج لما انثنى فرزا فوقع له بما ثبت في ترجمته؛ انتهى.
46 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله بن العطار المزني ما صورته: ممن نبغ ونجب، وحق له البر بذاته ووجب، تحلى بوقار، وشعشع للأدب كأس عقار، إلا أنه احرم في اقتباس، وأصيب للأجل بنبال، انتهى.
47 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله بن محمد بن علي بن محمد ابن علي بن يحيى بن خاتمة الأنصاري المزني (3) ، ما صورته: ممن ثكلته البراعة، وفقدته البراعة، تأدب بأخيه وتهذب، وأراه في النظم المذهب، وكساه من التفهم والتعليم الرداء المذهب، فاقتفى واقتدى، وراح في الحلبة واغتدى، حتى
__________
(1) ترجمته في الدرر 4: 133 (ط. القاهرة) .
(2) طبرنش (Tabernas) شرقي المرية.
(3) ترجمته في الدرر 4: 201.(6/230)
نبل وشا، ولوأمهله الدهر لبلغ المدى، وأما خطه فقيد الأبصار، وطرفة من طرف الأمصار، واعتبط يانع الشبيبة، مخضر الكتيبة، مات عام خمسين وسبعمائة.
وأورد له في " الإحاطة " قوله:
ومض البرق فثار القلق ... ومضى النوم وحل الأرق
مذ تذكرت لأيام خلت ... ضمنا فيها الحمى والأبرق
وعشيات تقضت باللوى ... في محيا الدهر منها رونق
إذ شبابي والتصابي جمعا ... ورياض الأنس غض مورق
شت يوم البين شملي ليت ما ... خلق البين لقلب يعشق
آه من يوم قضى لي فرقة ... شاب مني يوم حلت مفرق وقوله (1) :
الرفع نعتكم لا خانكم أمل ... والخفض شيمة مثلي والهوى دول
هل منكم لي عف بعد بعدكم ... إذ ليس لي منكم يا سادتي بدل قلت: البيت الثاني غاية في معناه، وأما الأول فسافل وإن أسس على الرفع مبناه، والله اعلم.
48 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم ابن عيسى بن داود الحميري المالقي (2) ما صورته: علم من أعلام هذا الفن، ومشعشع راح هذا الدن، مجموع أدوات، وفارس براعة ودواة، ظريف المنزع، أنيق المرأى والمسمع، اختص بالرياسة فأدار فلك إمارتها، واتسم
__________
(1) البيتان في الدرر الكامنة.
(2) انظر أيضاً ترجمته في الكتيبة: 158 والدرر 4: 271 (ط. القاهرة) .(6/231)
باسم كتابتها ووزاراتها، ناهضاً بالأعباء، صاعداً في درج التقريب والاجتباء، مصانعاً دهره في راح وراحة، آوياً إلى فضل وسماحة، وخضب ساحة، كلما فرغ من شأن خدمته، وانصرف عن رب نعمته، عقد شرباً، وأطفأ من الاهتمام بغير الأيام حرباً، وعكف على صوت يستعيده، وظرف يبديه ويعيده، فلما تقلبت بالرياسة الحال، وقوضت منها الرحال، استقر بالمغرب غريباً، يقلب طرفاً مستريباً، ويلحظ الدنيا تبعة عليه وتثريباً، وإن كان لم يعدم من أمرائه حظوة وتقريباً، وما يبوح بشجنه، ويرتاح إلى عهود وطنه، ومما أعرب به، عن براعة أدبه، قوله (1) :
يا نازحين ولم أفارق منهم ... شوقاً تأجج في الضلوع (2) ضرامه
غيبتم عن ناظري وشخصكم ... حيث استقر من الضلوع مقامه
رمت النوى شملي فشتت نظمه (3) ... والبين رام لا تطيش سهامه
وقد اعتدى فينا وجد مبالغاً ... وجرت بمحكم جوره أحكامه
أترى الزمان مؤخراً في مدتي ... حتى أراه قد انقضت أيامه تحملها يا نسيم نجدية النفحات، وجدية اللفحات، تؤدي عني إلى الأحبة نفحها سلاماً وتورد عليهم لفحها برداً وسلاماً، ولا تقل كيف تحملني ناراً، وترسل على الأحبة مني إعصاراً، كلا إذا أهديتهم تحية إيناسي، وآنسوا من جانب هبوبك نار ضرام أنفاسي، وارتاحوا إلى هبوبك، واهتزوا في كف مسرى جنوبك، وتعللوا بك تعليلاً، وأوسعوا آثار مهبك تقبيلاً، أرسلها عليهم بليلاً، وخاطبهم بلطافة تلطفك تعلياً، ألم تروني كيف جئتكم بما حملني عليلاً:
__________
(1) الكتيبة: 161؛ والبيتان الأولان في الدرر: 272.
(2) الكتيبة: في الفؤاد.
(3) ق: شمله.(6/232)
كذاك تركته (1) ملقىً بأرض ... له فيها التعلل بالرياح
إذا هبت إليه صبا إليها ... وإن جاءته من كل النواحي
تساعده الجمائم حين يبكي ... فما ينفك موصول النواح (2)
يخاطبهن مهما طرن شوقاً ... أما فيكن واهبة الجناح ولولا تعلله بالأماني، وتحدث نفسه بزمان التداني، لكان قد قضى نحبه، ولم أبلغكم إلا نعيه أوندبه، لكنه يتعلل من الآمال بالوعد الممطول، ويتطارح باقتراحاته على الزمن المجهول، ويحدث نفسه وقد قنعت من بروق الآمال بالخلب، ووثقت بمواعيد الدهر القلب، يناجيها بوحي ضميره، وإيماء تصويره: كيف أجدك يوم الالتقاء بالأحباب، والتخلص من ربقة الاغتراب، أبائنه الحضور أم بادية الاضطراب، كأني بك وقد استفزك وله السرور، فصرفك عن مشاهدة الحضور، وعاتك غشاوة الاستعبار للاستبشار، عن اجتلاء محيا ذلك النهار:
يوم يداوي زماناتي من أزماني ... أزال تنغيص أحياني فأحياني
جعلت لله نذراً صومه أبداً ... أفي به وأوفي شرط إيماني
إذا ارتفعنا وزال البعد وانقطعت ... أشطان دهر قد التفت بأشطاني
أعده خير أعياد الزمان إذا ... أوطاني السعد فيه ترب أوطاني أرأيت كيف ارتياحي إلى التذكار، وانقيادي إلى معللات توهمات الافكار كأن البعد باستغراقها قد طويت شقته، وذهبت عني مشقته، وكأني بالتخيل بين تلك الخمائل أتنسم صباها، وأتسم رباها، وأجتني أزهارها، وأجتلي أنوارها، وأجول في خمائلها، وأتنعم ببكرها وأصائلها، وأطوف بمعالمها، وأنتشق
__________
(1) الكتيبة: غريب بعدكم.
(2) الكتيبة: التياح.(6/233)
أزهار كمائمها، وأصيخ بأذن الشوق إلى سجع حمائمها، وقد داخلتني الأفراح ونالت مني نشوة الارتياح، ودنا السرور لوهم ذهاب الأتراح، فلما أفقت من غمرات سكري، ووثبت من هفوات فكري، وجدت مرارة ما شابه لي في استغراق دهري، وكأني من حينئذ علجت وقفة الفراق، وابتدأت منازعة الأشواق، وكأنما أغمضني النوم، وسمح لي بتلك الفكرة الحلم:
ذكر الديار فهاجه تذكاره ... وسرت به من حينه أفكاره
فاتل منها حيث كان حلوله ... بالوهم منها واستقر قراره
ما أقرب الآمال من غفواته ... لو أنها قضيت بها أوطاره فإذا جئتها أيها القادم والأصيل قد خلع برداً مورساً، والربيع قد مد على القيعان منها سندساً، فاتخها - فديتك - معرساً، واجرر ذيولك فيها متبختراً، وبث فيها من طيب نفحاتك عنبراً، وافتق عليها من نوافج أنفاسك مسكاً أذفراً، واعطف معاطف بأنها، وأرقص قضب ريحانها، وصافح صفحات نهرها، ونافح نفحات زهرها، هذه كلها إمارات، وعن أسرار مقاصدي عبارات، هنالك تنتعش بها صبابات، تعالج صابات، تتعلل بإقبالك، وتعكف على لثم أذيالك، وتبدولك في صفة الفاني امتهالك، لاطفها بلطافة اعتلالك، وترفق بها ترفق أمثالك، فإذا مالت بهم إلى هواك الأشواق، ولووا إليك الأرؤس والأعناق، وسألوك عن اضطرابي في الآفاق، وتقلبي بين الإشآم والإعراق، فقل لهم: عرض له في أسفاره، ما يعرض للبدر في سراره، من سرار السرار، ولحاق المحاق، وقد تركته وهويسامر الفرقدين، ويساير النيرين، وينشد إذا راعه البين:
وقد نكون وما يخشى تفرقنا ... فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا لم يفارق وعثاء الأسفار، ولا ألقى من يدع عصا التسيار، يتهاداه الغور والنجد(6/234)
ويتداوله الإرقال والوخد، وقد لفحته الرمضاء، وسئمه الإنضاء، فالجهات تلفظه، والآكام تبهظه، يحمل همومه الرواسم، وتحياته البواسم:
لا يستقر بأرض حين يبلغها ... ولا له غير حدو العيس إيناس ثم إذا استوفوا سؤالك عن حالي، وتقلبي بين حلي وترحالي، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وملأت الدموع المحاجر، وابتلت ذيولك بمائها، لا بل تضرجت بدمائها، فحيهم عني تحية منفصل، ووداع مرتحل، ثم اعطف عليك ركابك، ومهد لهم جنابك، وقل لهم إذا سألني عن المنازل بعد سكانها، والربوع بعد ظعن أظعانها، بماذا أجيبه وبماذا يسكن وجيبه، فسيقولون لك هي البلاقع المقفرات، والمعارف التي أصبحت نكرات:
صم صداها وعفا رسمها ... واستعجمت عن منطق السائل قل لهم: كيف الروض وآسه وعم تتأرجح أنفاسه عهدي به والحمام يردد به أسجاعه، والذباب يغني هـ هزجاً فيحك بذراعه ذراعه، وغصونه تعتنق، وأحشاء جداوله تصطفق، وأسحاره تنتسم، وآصاله تتوسم، كما كانت بقية نضرته، وكما عهدته أنيقة خضرته، وكيف التفاته عن أزرق نهره، وتأنقه في تكليل إكليله بيانع زهره، وهل رق نسيم أصائله، وصفت موارد جداوله وكيف انفساح ساحاته، والتفات دوحاته وهل تمتد كما كانت مع العشي فينانة سرحاته، وعهدي بها المديدة الظلال، المزعفرة السربال وهل تحدق الآن به عيون نرجسه، ويمد بساط سندسه وأنى منه مجالس لداتي، ومعاهد غدواتي وروحاتي، إذ أباري في المجون لمن أباري، وأسابق إلى اللذات كل من اجاري، فسيقولون لك: ذوت أفنانه، وانقصفت أغصانه، وتكدرت غدرانه، وتغير روحه وريحانه، وأقفرت معالمه، وأخرست حمائمه، واستحالت حلل خمائله، وتغيرت وجوه بكره وأصائله، فإن صلصل حنين رعد فعن قلبي(6/235)
لفراقه خفق، وإن تلألأ برق فعن حر حشاي ائتلق، وإن سحت السحب فمساعدة لجفني، وإن طال بكاؤها فغني، حياها الله تعالى منازل، لم تزل بمنظوم الشمل أواهل، وحين انتثرت نثرت أزهارها أسفاً، ولم تثن الريح من أغصانها معطفاً، أعاد الله تعالى الشمل فيها إلى محكم نظامه، وجعل الدهر الذي فرقه يتأنق في إحكامه، وهوسبحانه يجبر الصدع، ويعجل الجمع، إنه بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير.
إنه بني كيف حال من استودعتهم أمانتك، وألزمتهم صونك وصيانتك، وألبستهم نسبك، ومهدت لهم حسبك، الله في حفظهم فهواللائق لفعالك، المناسب لشرف خلالك، أرع لهم الاغتراب لديك، والانقطاع إليك، فهم أمانة الله تعالى في يديك، وهوسبحانه يحفظك بحفظهم، ويوالي بلحظك أساب حظهم، وإن ذهبتم إلى معرفة الأحوال، فنعم الله تعالى ممتدة الظلاك، وخيراته وارفة السربال، لولا الشوق الملازم، والوجد الذي سكن الحيازم.
49 - وقال في الإكليل في ترجمة أبي بكر محمد بن محمد بن عبد الله ابن مقاتل المالقي (1) ، ما نصه: نابغة مالقية، وخلف وبقية، ومغربي الوطن أخلاقه مشرقيه، أزمع الرحيل إلى المشرق، مع اخضرار العود وسواد المفرق، فلما توسطت السفينة اللجج، وقارعت الثبج، هال عليها البحر فسقاها كأس الحمام، وأولدها قبل التمام، وكان فيمن اشتملت عليه أعوادها، وانضم على نوره سوادها، من جملة الطلبة والأدباء، وأبناء السراة الحسباء، أصبح كل منهم مطيعاً، لداعي الردى وسميعاً، وأحيوا فرادى وماتوا جميعاً، فاجروا الدموع حزناً، وأرسلوا العبرات عليهم مزناً، وكأن البحر لما كمس سبيل خلاصهم وسدها، وأهال هضبة سفينتهم وهدها، غار على نفوسهم النفيسة فاستردها، والفقيه أبوبكر مع إكثاره، وانقياد نظامه ونثاره، لم أظفر من أدبه
__________
(1) ترمته في الدرر 4: 313 (ط. القاهرة) .(6/236)
إلا بالقليل التافه، بعد وداعه وانصرافه، فمن ذلك قوله وقد أبصر فتىً عائراً:
ومهفهف هافي المعاطف أحور ... فضحت أشعة نوره الأقمارا
زلت له قدم فأصبح عاثراً ... بين الأنام لعاً لذاك عثارا
لو كنت أعلم ما يكون فرشت في ... ذاك المكان الحد والأشفارا وقال:
أيا لبني الرفاء تنضي ظاؤهم ... جفون ظباهم فالفؤاد كليم
لقد قطع الأحشاء منهم مهفهف ... له التبر خد واللجين أديم
يسدد إذ يرمي قسي حواجب ... وأسهمها من مقلتيه تسوم
وتسقمني عيناه وهي سقيمة ... ومن عجب سقم جناه سقيم
ويذبل جسمي في هواه صبابة ... وفي وصله للعاشقين نعيم كان غرقه في أخريات عام تسعة وثلاثين وسبعمائة؛ انتهى.
50 - وقال في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد الشديد المالقي ما نصه: شاعر مجيد حوك الكلام، ولا يقصر فيه عن درجة الأعلام، رحل إلى الحجاز لأول أمره فطال بالبلاد المشرقية ثواؤه، وعميت أنباؤه، وعلى هذا العهد وقفت له على قصيدة بخطه غرضها نبيل، ومرعاها غير وبيل، تدل على نفس ونفس، وإضاءة قبس، وهي:
لنا في كل مكرمة مقام ... ومن فوق النجوم لنا مقام ومنها:
روينا من مياه المجد لما ... وردناها وقد كثر الزحام
فنحن هم، وقل لي من سوانا ... لنا التقديم قدماً والكلام
لنا الأيدي الطوال بكل صوب ... يهز به لدى الروع الحسام
ونحن اللابسون لكل درع ... يصيب السمر منهن انثلام(6/237)
بأندلس لنا أيام حرب ... مواقفهن في الدنيا عظام
ثوى منها قلوب الروم خوف ... يخوف منه في المهد الغلام
حمينا جانب الدين احتساباً ... فها هو لا يهان ولا يضام
وتحت الراية الحمراء منا ... كتائب لا تطاق ولا ترام
بنو نصر وما أدراك ما هم ... أسود الحرب والقوم الكرام
لهم في حربهم فتكات عمرو ... فلأعمار عندهم انصرام
يقول عداتهم مهما ألموا ... أتونا ما من الموت اعتصام
إذا شرعوا الأسنة يوم حرب ... فحقق أن ذاك هو الحمام
كأن رماحهم فيها نجوم ... إذا ما أشبه الليل القتام
أناس تخلف الأيام ميتاً ... بحي منهم فلهم دوام
رأينا من أبي الحجاج شخصاً ... على تلك الصفات له قيام
موقى العرض محمود السجايا ... كريم الكف مقدام همام
يجول بذهنه في كل شيء ... فيدركه وإن عز المرام
قويم الرأي في نوب الليالي ... إذا ما الرأي فارقه القوام
له في كل معضلة مضاء ... مضاء الكف ساعدها الحسام
رؤوف قادر يغضي ويعفو ... وإن عظم اجتناء واجترام
تطوف ببيت سؤده القوافي ... كما قد طاف بالبيت الأنام
وتسجد في مقام علاه شكراً ... ونعم الركن ذلك والمقام
أفارسها إذا ما الحرب أخنت ... على أبطالها ودنا الحمام
وممطرها إذا ما السحب كفت ... وكف أخي الندى أبداً غمام
لك الذكر الجميل بكل قطر ... لك الشرف الأصيل المستدام
لقد جبنا البلاد فحيث سرنا ... رأينا أن ملكك لا يرام
فضلت ملوكها شرقاً وغرباً ... وبت لملكها يقظاً وناموا
فأنت لكل معلوة مدار ... وأنت لكل مكرمة إمام(6/238)
جعلت بلاد أندلس إذا ما ... ذكرت تغار مصر والشآم
مكان أنت فيه مكان عز ... وأوطان حللت بها كرام
وهبتك من بنات الفكر بكراً ... لها من حسن لقياك ابتسام
فنزه طرف مجدك في حلاها ... فلمجد الأصيل بها اهتمام 51 - وقال في الإكليل في ترجمة الشريف محمد بن الحسن العمراني من أهل فاس (1) ما صورته: كريم الانتماء، متظلل بأغصان الشجرة الشماء، من رجل سليم الضمير، ذي باطن أصفى من الماء النمير، له في الشعر طبع يشهد بعروبية أصوله، ومضاء نصوله.
وذكر في " الإحاطة " أن الشريف المذكور توفي في حدود ثمانية وثلاثين وسبعمائة.
52 - وقال في " الإكليل " في ترجمة محمد بن أحمد بن إبراهيم المرادي العشاب، وهوقرطبي الأصل تونسي المولد والمنشأ، ما صورته: جواد لا يتعاطى طلقه، وصبح فضل لا يماثل فلقه، كانت لأبيه رحمه الله تعالى من الدول الحفصية منزلة لطيفة المحل، ومفاوضة في العقد والحل، ولم يزل تسموبه قدم النجابة، من العمل إلى الحجابة، ونشأ ابنه هذا مقضي الديون، مفدى بالأنفس والعيون، والدهر ذوألوان، ومارق حرب عوان، والأيام كات تتلقف وأحوال لا تتوقف، فألوى بهم الدهر وأنحى، وأغام جوهم بعقب ما أصحى، وفشملهم الاعتقال، وتعاورتهم النوب الثقال، واستقرت بالمشرق ركابه، وحطت به أقتابه، فحج واعتمر، واستوطن تلك المعاهد وعمر، وعكف على كتاب الله تعالى فجود الحروف، وقرأ المعروف، وقيد وأسند، وتكرر إلى دور الحديث وتردد، وقدم على هذا الوطن قدوم النسيم البليل، على كبد العليل، ولما استقر به قراره، واشتمل على جفنه غراره، بادرت إلى مؤانسته، وثابرت على مجالسته، فاجتليت لسر شخصاً، وطالعت ديوان الوفاء مستقصى،
__________
(1) ترجمته في الدرر 4: 46 (ط. القاهرة) .(6/239)
وشعره ليس بحائد عن الإحسان، ولا غفل عن النكت الحسان؛ انتهى.
53 - وقال في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عمر بن علي ابن إبراهيم المليكشي (1) ما صورته: كاتب الخلافة، ومشعشع الأدب الذي يزري بالسلافة، كان بطل مجال، ورب روية وارتجال، قدم على هذه البالد وقد نبا به وطنه، وضاق ببعض الحوادث عطنه، فتلوم تلوم النسيم بين الخمائل، وحل منها محل الطيف من الوشاح الجائل، ولبث مدة إقامته تحت جراية واسعة، وميرة (2) يانعة، ثم آثر قطره، فولى وجهه شطره، واستقبله دهره بالإنابة، وقلده خطة الكتابة، فاستقامت حاله، وحطت رحاله، وله شعر أنيق، وتصوف وتحقيق، ورحلة إلى الحجاز سعيها في الخير وثيق، ونسبها في الصالحات عريق، ومن شعره قوله:
رضىً نلت ما ترضين من كل ما يهوى ... فلا توقفيني موقف الذل والشكوى
وصفحاً عن الجاني المسيء لنفسه ... كفاه الذي يلقاه من شدة البلوى
بما بيننا من خلوة معنوية ... أرق من النجوى وأحلى نم السلوى
قفي أتشكى لوعة البين ساعة ... ولا يك هذا آخر العهد بالنجوى
قفي ساعة في عرصة الدار وانظري ... إلى عاشق ما يستفيق من البلوى
وكم قد سألت الريح شوقاً إليكم ... فما حن مسراها علي ولا ألوى
فيا ريح حتى أنت ممن يغار بي ... ويا نجد حتى أنت تهوى الذي أهوى
خلقت ولي قلب جليد على النوى ... ولكن على فقد الأحبة لا يقوى وحدث بعض من عني بأخباره، أيام مقامه بمالقة واستقراره، انه لقي بباب الملعب من أبوابها من ظبيات الإنس، وقينة من قينات هذا الجنس، فخطب وصالها، واتقى بفؤاده نصالها، حتى همت بالانقياد، وانعطفت الغصن
__________
(1) ترجمته في نيل الابتهاج: 237 ورحلة البلوي (الورقة: 22) والدرر 4: 226 (ط. القاهرة) .
(2) ق: ومبرة.(6/240)
المياد، فأبقى على نفسه وأمسك، وأنف من خلع العذار بعدما تنسك، وقال:
لم أنس وقفتنا بباب الملعب ... بين الرجا واليأس من متجنب
وعدت فكنت مراقباً لحديثها ... يا ذل وقفة خائف مترقب
وتدللت فذللت بعد تعزز ... يأتي الغرام ك أمر معجب
بدوية أبدى الجمال بوجهها ... ما شئت من خد شريق مذهب
تدنو وتبعد نفرة وتجنياً ... فتكاد تحسبها مهاة الربرب
ورنت بلحظ فاتن لك فاتر ... أنضى وأمضى من حسام المضرب
وأرتك بابل سحرها بجفونها ... فست، وحق لمثلها أن تستبي
وتضاحكت فحكت بنير ثغرها ... لمعان نور ضياء برق خلب
بمنظم في عقد سمطي جوهر ... عن شبه نور الأقحوان الأشنب
وتمايلت كالغصن أخضله الندى ... ريان من ماء الشبيبة مخصب
تثنيه أرواح الصبابة والصبا ... فتراه بين مشرق ومغرب
أبت الروادف أن تميل بميله ... فرست وجال كأنه في لولب
متتوجاً بهلال وجه لاح في ... خلل السحاب لحاجب ومحجب
يا من رأى فيها محباً مغرماً ... لم ينقلب إلا بقلب قلب
ما زال مذ ولى يحاول حيلة ... تدنيه من نيل المنى والمطلب
فأجال نار الفكر حتى أوقدت ... في القلب نار تشوق وتلهب
فتلاقت الأرواح قبل جسومها ... وكذا البسيط يكون قبل مركب وقال:
أرى لك يا قلبي بقلبي محبة ... بعثت بها سري إليك رسولا
فقابله بالبشرى، وأقبل عشية ... فقد هب مسكي النسيم عليلا
ولا تعتذر بالقطر أوبلل الندى ... فأحسن ما يأتي النسيم بليلا(6/241)
توفي عام أربعين وسبعمائة بتونس، رحمه الله تعالى؛ انتهى.
54 - وقال في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن علي بن عمر العبدري التونسي الشاطبي الأصل (1) ، ما نصه:
غذي نعمة هامية، وقريع رتبة سامية، صرفت إلى سلفه الوجوه، ولم يبق من إفريقية إلا من يخافه ويرجوه، وبلغ هومدة ذلك الشرف، الغاية من الترف، ثم قلب الدهر هـ ظهر المجن، واشتد به الخمار عند فراغ الدن، ولحق صاحبنا هذا بالمشرق بعد خطوب مبيرة، وشدة كبيرة، فامتزج بسكانه وقطانه، ونال من اللذات به ما لم ينله في أوطانه، واكتسب الشمائل العذاب، وكان كابن الجهم بعث إلى الرصافة ليرق فذاب، ثم حوم على وطنه تحويم الطائر، وألم بهذه البلاد إلمام الخيال الزائر، فاغتنمت صفقة وده لحين وروده، وخطبت موالاته على انقباضه وشروده، فحصلت منه على درة تقتنى، وحديقة طيبة الجنى، أنشدني في أصحاب له بمصر قاموا ببره:
لكل أناس مذهب وسجية ... ومذهب أولاد النظام المكارم
إذا كنت فيهم ثاوياً كنت سيداً ... وإن غبت عنهم لم تنلك المظالم
أولئك صحبي لا عدمت حياتهم، ... ولا عدموا السعد الذي هو دائم
أغني بذكراهم وطيب حديثهم ... كما غردت فوق الغصون الحمائم وقال:
أحبتنا بمصر لو رأيتم ... بكائي عند أطراف النهار
أكنتم تشفقون لفرط وجدي ... وما ألقاه من بعد الديار 55 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي القاسم محمد بن أبي زكريا يحيى ابن أبي طالب عبد الله بن محمد بن أحمد العزفي السبتي (2) ما صورته: فرع تأود من الرياسة في دوحة، وتردد بين غدوة في المجد وروحة، نشأ والرياسة العزفية
__________
(1) ترجمته في الدرر 4: 198 (ط. القاهرة) .
(2) الدرر: 52.(6/242)
تعله وتنهله، والدهر ييسر أمله الأقصى ويسهله، حتى اتسقت أسباب سعده، وانتهت إليه رياسة سلفه من بعده، فألقت إليه رحالها وحطت، ومتعته بقربها بعدما شطت، ثم كلح هـ الدهر بعدما تبسم، وعاد زعزعاً نسيمه الذي كان يتنسم، وعاق هلاله عن تمه، ما كان من تغلب ابن عمه، واستقر بهذه البلاد نازح الدار، بحكم الأقدار، وإن كان نبيه المكانة والمقدار، وجرت عليه جرارية واسعة، ورعاية متتابعة، وله أدب كالروض باكرته الغمائم، والزهر تفتحت عنه الكمائم، رفع منه راية خافقة، وأقام له سوقاً نافقة، وعلى تدفق أنهاره، وكثرة نظمه وشاتهاره، فلم أظفر منه إلا باليسير التافه، بد انصرافه؛ انتهى.
56 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المكودي الفاسي ما نصه: شاعر لا يتقاصى ميدانه، ومرعى بيان رف غضاه وأينع سعدانه، يدعوالكلام فيهطع لداعيه، ويسعى في اجتلاب المعاني فتنجح مساعيه، غير انه أفرط في الانهماك، وهوى إلى السمكة من أوج السماك، قدم على هذه البلاد مفلتاً من رهق تلمسان حين الحصار، صفر اليمين واليسار من اليسار، فل هوى أنحى على طريفه وتلاده، وأخرجه من بالده، ولما جد به البين، وحل هذه البلدة بحال تقتحمها العين، والسيف بهزته لا بحسن بزته، دعوناه إلى ملس أعاره البدر هالته، وخلع عليه الأصيل غلالته، وروض تفتح كمامه، وهمى عليه غمامه، وكاس أنس تدور، فتتلقى نجومها البدور، فلما ذهبت المؤانسة بخجله، وتذكر هواه ويوم نواه حتى خفنا حلول أجله، جذبنا للمؤانسة زمامه، واستسقينا منه غمامه، فامتع واحسب، ونظر ونسب، وتكلم في المسائل، وحاضر بطرف الأبيات وعيون الرسائل، حتى نشر الصباح رايته، وأطلع النهار آيته، فمما نسبه إلى نفسه وأنشدناه قوله:
غرامي جل عن القياس ... وقد سقيتينيه بكل كاس
ولا أنسى هواك ولو جفاني ... عليك أقاربي طراً وناسي(6/243)
ولا أدري لنفسي من كمال ... سوى أني لعهدك غير ناسي وقال:
بعثت بخمر فيه ماء وإنما ... بعثت بماء فيه رائحة الخمر
فقل عليه الشكر إذ قل سكرنا ... فنحن بلا سكر، وأنت بلا شكر 57 - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى في ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن بيبش العبدري الغرناطي (1) ما صورته: معلم مدرب، مسهل مقرب، له في صنعة العربية باع مديد، وفي هدفها سهم سديد، ومشاركة في الأدب لا يفارقها تسديد، خاصي المنازع مختصرها، مرتب الأحوال مقررها، تميز أول وقته بالتجارة في الكتب فسلطت منه عليها أرضة آكلة، وسهم أصاب من رميتها الشاكلة، أثرى بسببها وأترب، وأغنى جهة وأفقر أخرى، وانتقل لهذا العهد الأخير إلى سكنى مسقط رأسه، ومنبت غرسه، وجرت عليه جراية من أحباسها، ووقع قبول من ناسها، وبها تلاحق به الحمام، فكان من ترابها البداية وإليها التمام، وله شعر لم يقصر فيه عن المدى، وأدب توشح بالإجادة وارتدى، أنشدني بسبتة تاسع جمادى الأولى عام اثنين وخمسين وسبعمائة يجيب عن بيتي ابن العفيف التلمساني:
يا ساكناً قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثاني
لأي معنىً كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان فقال:
نحلتني طائعاً فؤاداً ... فصار إذ حزته مكاني
لا غروإذ كان لي مضافاً ... أني على الكسر فيه باني وقال يخاطب الشريف أبا العباس وأهدى أقلاماً:
__________
(1) انظر أيضاً ترجمته في الكتيبة: 90 وبغية الوعاة: 100 والدرر 4: 358 (ط. القاهرة) وراجع ما تقدم في النفح 5: 384.(6/244)
أناملك الغر التي سيب جودها ... يفيض كفيض المزن بالصيب القطر
أتتني منها تحفة مثل حدها ... إذا انتضيت كانت كمرهفة السمر
هي الصفر لكن تعلم البيض أنها ... محكمة فيها على النفع والضر
مهذبة الأوصال ممشوقة كما ... تصوغ سهام الرمي من خالص (1) التبر
فقبلتها عشراً ومثلت أنني ... ظفرت بلثم في أناملك العشر وقال في ترتيب حروف الصحاح:
أساجعة بالواديين تبوئي ... ثماراً جنتها حاليات خواضب
دعي ذكر روض زاره سقي شربه ... صباح ضحى طير ظماء عواصب
غرام فؤادي قاذف كل ليلة ... متى ما نأى وهناً هواه يراقب مولده في حدود ثمانين وستمائة، وتوفي بغرناطة في رجب عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة؛ انتهى.
قلت: رأيت بخط الجلال السيوطي على هامش جوابه عن بيتي ابن العفيف التلمساني ما صورته: قلت: في هذا البيت تصريح بأن المضاف إلى الياء مبني على الكسر، وهورأي مرجوح عند النحاة، ذهب إليه الجرجاني، والصحيح أنه معرب، على أن ذاك لا يحتاج إلى جواب كما يظهر بالتأمل، قاله عبد الرحمن السيوطي؛ انتهى، ويعني بذلك أن الساكنين إنما يكسر أحدهما، لا محلهما، والله سبحانه أعلم.
58 - وقال لسان الدين في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن هانئ اللخمي السبتي، وأصله من إشبيلية، ما صورته: علم تشير إليه الأكف، ويعمل (2) إلى لقائه الحافر والخف، رفع للعربية ببلده راية لا تتأخر، ومرج
__________
(1) الكتيبة: أو خالص.
(2) الإحاطة: وينتقل.(6/245)
منها لجة تزخر، فانفسح مجال درسه، وأثمرت أنواع غرسه، فركض ما شاء ومرح، ودون وشرح، إلى شمائل يملك الظرف زمامها، ودعابة راشت الحلاوة سهامها، ولما أخذ المسلمون في منازلة الجبل وحصاره، وأصابوا الكفر منه بجارحة إبصاره، ورموا بالثكل فيه نازح أمصاره، كان ممن انتدب وتطوع، ومسع النداء فأهطع، فلازمه إلى أن نفذ لأهله القوت، وبلغ من فسحة الأجل الموقوت، فأقام الصلاة بمحرابه، وحياه وقد غير محياه طول اغترابه، وبادره الطاغية قبل أن يستقر نصل الإسام في قرابه، أويعلق أصل الدين في ترابه، وانتدب إلى الحصار ربه وتدرع، ودعاه أجله فلبى وأسرع، ولما هدر عليه الفنيق، وركع إلى قبلة المنجنيق، أصيب بحجر دوم عليه كالجارح المحلق، وانقض إليه انقضاض البارق المتألق، فاقتنصه واختطفه، وعمد إلى زهره فاقتطفه، فمضى إلى الله تعالى طوع نيته، وصحبته غرابة المنازع حتى في أمنيته؛ انتهى.
وقد جود ترجمته في " الإحاطة " (1) وقال: إنه ألف كتباً منها شرح تسهيل الفوائد لابن مالك، مبدع تنافس الناس فيه، وكتاب الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة، وكتاب إنشاد الضوال وإرشاد السؤال في لحن العامة، وهومفيد، وكتاب " قوت المقيم " (2) ودون ترسيل أبي المطرف ابن عميرة وضمه في سفرين، وله جزء في الفرائض، وحدثني شيخنا الشريف القاضي أبوالقاسم قال: خاطبت ابن هانئ بقصيدة من نظمي أولها:
هات الحديث عن الركب الذي شخصا ... فأجابني بقصيدة على رويها، أولها:
لولا مشيب بفودي للفؤاد عصى ... أنضيت في مهمه التشبيب لي قلصا
__________
(1) ترجمته في الورقة: 60 وقد نقل فيها ما قاله في الإكليل.
(2) وكتاب.... المقيم: سقط هذا من الإحاطة.(6/246)
واستوقفت عبراتي وهي جارية ... وكفاء توهم ربعاً للحبيب قصا
مسائلاً عن لياليه التي انتهزت ... أيدي الأماني بها ما شئته فرصا
وكنت جاريت فيه من جرى طلقاً ... من الإجادة لم يجمع ولا نكصا
أصاب شاكلة المرمى حين رمى ... من الشوارد ما لولاه ما اقتنصا
ومن أعد مكان النبل نبل حجىً ... لم يرض إلا بأبكار النهى قنصا
ثم انثنى ثانياً عطف النسيب إلى ... مدح به قد غلا ما كان قد رخصا
فظلت أرفل فيها لبسة شرفت ... ذاتاً ومنتسباً أعزز بها قمصا
يقول فيها وقد خولت منحتها ... وجرع الكاشح المغرى بها عصصا
هذي عقائل وافت منك ذا شرف ... لولا أياديه بيع الحمد مرتخصا
فقلت هلا عكست القول منك له ... ولم يكن قابلاً في مدحه الرخصا
وقلت ذي بكر فكر من أخي شرف ... يردي ويرضي بها الحساد والخلصا
لها حلىً حسنيات على حلل ... حسنية تستبي من حل أو شخصا
خولتها وقد اعتزت ملابسها ... بالبخت ينقاد للإنسان ما عوصا
خذها أبا قاسم مني نتيجة ذي ... ود إذا شئت ودا للورى خلصا
جاءت تجاوب عما قد بعثت به ... إن كنت تأخذ من در النحور حصى وهي طويلة:
ومما ينسب إليه:
ما للنوى مدت لغير ضرورة ... ولقبل ما عهدي بها مقصوره
إن الخليل وإن دعته ضرورة ... لم يرض ذاك فكيف دون ضروره وقال مضمناً للثاني:
لا تلمني عاذلي (1) حين ترى ... وجه من أهوى فلومي مستحيل
__________
(1) الإحاطة: خلني يا عاذلي.(6/247)
لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل وأجاب الشريف المذكور عن قصيدة مهموزة بقوله:
يا أوحد الأدباء أويا أوحد ال ... فضلاء أو يا أوحد الشرفاء
من ذا تراه منك إذا التوت ... طرق الحجاج بأن يجيب ندائي
أدب أرق من الهواء وإن تشا ... فمن الهوا والماء والصهباء
وألذ من ظلم الحبيب وظلمه ... بالظاء مفتوحاً وضم الظاء
ما السحر إلا ما تصوغ بنانه ... ولسانه من حلية الإنشاء وهي طويلة يقول فيها بعد جملة أبيات:
لله نفثة سحر ما قد شدت لي ... من نفث سحرك في مشاد ثناء
عارضت صفواناً بها فأريت (1) ما ... يستعظم الراوي لها والراثي
لو راء لؤلؤك المنظم لم يفز ... من نظم لؤلؤه بغير عناء
بوأتني منها أجل مبوإ ... فلأخمصي مستوطئ الجوزاء
وسما بها اسمي سائراً فأنا بما ... أسديت ذو الأسماء في الأسماء
وأشدت ذكري في البلاد فلي بها ... طول الثناء وإن أطلت ثوائي
ولقومي الفخر المشيد بنيته ... يا حسن تشييد وحسن بناء
فليهن هانيهم (2) يد بيضاء ما ... إن مثلها لك من يد بيضاء
حليت أبياتاً له لخمية ... تجلى على مضرية غراء
فليشمخوا أنفاً بما أوليتهم ... يا محرز الآلاء بالإيلاء ووصلها بنثر نصه: هذا بني - وصل اله سبحانه لك ولي بك علوالمقدار،
__________
(1) ق: فأرتك.
(2) ق: فلتهنها بهم.(6/248)
وأجرى وفق إرادتك وإرادتي لك جاريات الأقدار - ما سنح به الذهن الكليل، واللسان الفليل، في مراجعة قصيدتك الغراء، الجالبة السراء، الآخذة بمجامع القلوب، الموفية بجوامع المطلوب، الحسنة المهيع والأسلوب، الكتحلية بالحلى السنية، العريقة المنتسب في العلا الحسنية، الجالية لصدإ القلوب ران عليها الكسل، وخانها المسعدان السؤل والأمل، فمتى حامت المعاني حولها، ولوأقامت حولها، شكت ويلها وعولها، وحرمت من فريضة الفضيلة عولها، وعهدي بها والزمان زمان، وأحكامها الماضية أماني مقضية وأمان، تتوارد ألافها، ويجمع إجماعها وخلافها، ويساعدها من الألفاظ كل سهل ممتنع، مفترق مجتمع، مستأنس غريب، بعيد الغور قريب، فاضح الحلى، واضح العلا، وضاح الغرة والجبين، رافع عمود الصبح المبين، أيد من الفصاحة بأياد، فلم يحفل بصاحبي طيئ وإياد، وكسي (1) نصاعة البلاغة، فلم يعبأ بهمام وابن المراغة، شفاء المحزون، وعلم سر المحزون، ما بين منثوره والموزون، والآن لا ملهج ولا مبهج، ولا مرشد ولا منهج، عكست القضايا فلم تنتج، فتبلد القلب الذكي، ولم يرشح القلم الزكي، وعم الإفحام وغم الإحجام، وتمكن الإكداء والجبال، وكورت الشمس وسيرت الجبال، وعلت سآمة، وغلبت ندامة، وارتفعت ملامة، وقامت لنوعي الأدرب قيامة، حتى إذا ورد ذلك المهرق، وفرع غصنه المورق، وتغنى به الحمام الأورق، وأحاط بعداد عداته الغصص والشرق، وأمن من ذلك الغصب والسرق، وأقبل الامن وذهب لإقباله الفرق، نفخ في صور أهل المنظوم والمنثور، وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وتراءت للأدب صور، وعمرت ببلاغة كور، وهممت لليراعة درر، ونظمت البراعة درر، وعندها تبين أنك واحد حلبة البيان، والسابق في ذلك الميدان يوم البرهان، فكان لك القدم، وأقر لك مع التأخر السابق الأقدم، فوحق نصاعة ألفاظ أجدتها حين أورتها، وأسلتها
__________
(1) ق: ونسي.(6/249)
حين أرسلتها، وأزنتها حين وزنتها، وبراعة معان سلكتها حين ملكتها، وأرويتها حين رويتها أو رويتها (1) ، وأصلتها حين فصلتها أووصلتها، ونظام جعلته بجسد البيان قلباً، ولمعصمه قلباً، وهصرت حدائقه غلباً، وارتكبت رويه صعباً (2) ، ونثار أتبعته له خديماً، وصيرته لمدير كأسه نديماً، ولحفظه ذمامه المدامي أومدامه الذمامي مديماً، لقد فتنتني حين أتتني، وسبتني حين اطبتني، فذهبت خفتها بوقاري، ولم يرعها بعد شيب عذاري، بل دعت للتصابي فقلت مرحبا، وحلت لفتنتها الحبا، ولم أحفل بشيب، وألفيت ما رد تصابي نصيب (3) ، وإن كنا فرسان رهان، وسابقي حلبة ميدان، غير أن الجلدة بيضاء، والمرجوالإغضاء بل الإرضاء، بني كيف رأيت لبيان هذا الطوع، والخروج فيه من نوع إلى نوع أين صفوان بن إدريس، ومحل دعواه بين رحلة وتعريس كم بين ثغاء بقر الفلاة وبين اليث ذي الفريس كما أني أعلم قطعاً علماً، وأحكم مضاء وأمضي حكماً، أنه لونظر إلى قصيدتك الرائقة، وفريدتك الحالية الفائقة، المعارضة بها قصيدته، المنتسخة بها فريدته، لذهب عرضاً وطولاً، ثم اعتقد لك اليد الطولى، وأقر فارتفع النزاع، وذهبت له تلك العلاقات والأطماع، ونسي كلمته اللؤلؤية، ورجع عن دعواه الأدبية، واستغفر ربه من تلك الألية. بني وهذا من ذلك الجري في تلك المسالك، والتبسط في تلك المآخذ والمتارك، أينزع غيري هذا المنزع أم المرء بنفسه وابنه مولع حيا الله الأدب وبنيه، وأعاد علينا من أيامه وسنيه، ما أعلى منازعه، وأكبى منازعه، وأجل مآخذه، وأجهل تاركه وأعلم آخذه، وأرق طباعه، وأحق أشياعه وأتباعه، وأبعد طريقه، وأسعد فريقه، وأقوم نهجه، وأوثق نسجه، وأسمج ألفاظه، وافصح عكاظه، وأصدق معانيه وألفاظه، وأحمد نظامه ونثاره،
__________
(1) حين.... رويتها: سقطت من ق.
(2) أشار إلى صعوبة القافية، وإن كانت همزية، وهي غير صعبة.
(3) يشير إلى قول نصيب (الأغاني 16: 109:
ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشء الصغار(6/250)
وأغنى شعاره ودثاره، فعائبه مطرود، وعاتبه مصفود، وجاهله محصود، وعالمه محسود، غير أن الإحسان فيه قليل، ولطريق الإصابة فيه علم ودليل، من ظفر بهما وصل، وعلى الغاية القصوى منه حصل، ومن نكب عن الطريق (1) ، لم يعد من ذلك الفريق، فليهنك أيها الابن الذكي، البر الذكي، الحبيب الحفي، الصفي الوفي، أنك حامل رايته، وواصل غايته، ليس أولوه وآخروه لذلك بمنكرين، ولا تجد اكثرهم شاكرين، ولولا أن يطول الكتاب، وينحرف الشعراء والكتاب، فاضت ينابيع هذا الفضل فيضاً، وخرجت إلى نوع آخر من البلاغة أيضاً، قرت عيون أودائك، وملئت غيظاً صدور أعدائك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربك الكبير المتعالي، والسلام الأتم الأنم الأكمل الأعم، يخصك به من طال في مدحه إرقالك وإغذاذك، وراد روض حمدك وابلك وطلك ورذاذك، وغدت مصالح سعيه في سعي مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته وفضله ومنته معاذك، ووسمت نفسك بتلميذه فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هانئ، ورحمة الله تعالى وبركاته. ً صدور أعدائك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربك الكبير المتعالي، والسلام الأتم الأنم الأكمل الأعم، يخصك به من طال في مدحه إرقالك وإغذاذك، وراد روض حمدك وابلك وطلك ورذاذك، وغدت مصالح سعيه في سعي مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته وفضله ومنته معاذك، ووسمت نفسك بتلميذه فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هانئ، ورحمة الله تعالى وبركاته.
وكانت وفاته شهادة في أواخر ذي القعدة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، ورثاه شيخنا أبوالقاسم الحسني بقصيدة أثبتت في اسمه منها:
سقى الله بالخضراء أشلاء سؤود ... تضمنهن الترب صوب الغمائم ورثاه شيخنا أبوبكر ابن شبرين فقال:
قد كان ما قال البريد ... فاصبر فحزنك لا يفيد
أودى ابن هانئ الرضى ... فاعتادني للثكل عيد
بحر العلوم وصدرها ... وعميدها إذ لا عميد
__________
(1) ق: طريق.(6/251)
قد كان زيناً للوجو ... د ففيه قد فجع الوجود
العلم والتحقيق والت ... وفيق والحسب التليد
تندى خلائقه فقل ... فيها هي الروض المجود
مغض عن الإخوان لا ... جهم اللقاء ولا كنود
أودى شهيداً باذلاً ... مجهوده، ونعم الشهيد
لم أنسه حين المعا ... رف باسمه فينا تشيد
وله صبوب في طلا ... ب العلم يتلوه صعود
لله وقت كان ين ... ظمنا كما نظم الفريد
أيام نغدو أو نرو ... ح وسعينا السعي الحميد
وإذا المشيخة جثم ... هضبات حلم لا تميد
ومرادنا جم النبا ... ت وعيشنا خضر برود
لهفي على الإخوان وال ... أتراب كلهم فقيد
لو جئت أوطاني لأن ... كرني التهائم النجود
ولراع نفسي شيب من ... غادرته وهو الوليد
ولطفت ما بين اللحو ... د وقد تكاثرت اللحود
سرعان ما عاث الحما ... م ونحن أيقاظ هجود
كم رمت إعمال المسي ... ر فقيدت عزمي قيود
والآن أخلفت العو ... د، واخلقت تلك البرود
ما لفتى ما يبتغي ... فالله يفعل ما يريد
أعلى القديم الملك يا ... ويلاه يعترض العبيد
يا بين قد طال أمدي ... أبرق وأرعد يا يزيد (1)
__________
(1) أخذه من قول الكميت:
أرعد وأبرق يا يزي ... د فما وعيدك لي بضائر(6/252)
ولكل شيء غاية ... ولربما لان الحديد
إيه أبا عبد الإل ... هـ ودوننا مرمى بعيد
أين الرسائل منك تأ ... تينا كما نسق العقود
أين الرسوم الصالحا ... ت تصرمت أين العهود (1)
أنعم مساء لا تخطي ... ك البشائر والسعود
واقدم على دار الرضى ... حيث الإقامة والخلود
والق الأحبة حيث دا ... ر الملك والقصر المشيد
حتى الشهادة لم تفت ... ك فنجمك النجم السعيد
لا تبعدن وعداً لو أن ... البدء في الدنيا يعود
فلئن بليت فإن ذك ... رك في الدنا غض جديد
تالله لا تنساك أن ... دية العلا ما اخضر عود
وإذا تسومح في الحقو ... ق فحقك الحق الأكيد
جادت صداك غمامة ... يرمي بها ذاك الصعيد
وتعهدتك من المهي ... من رحمة أبداً وجود وقوله أول هذه الرسالة عارضت صفوان بها، إلى آخره يعني بذلك همزية صفوان بن إدريس المشهورة بين أدباء المغرب، ولنذكرها إفادة للغرض، وهي:
جاد الربى من بانة الجرعاء ... نوءان من دمعي وغيم سماء
فالدمع يقضي عندها حق الهوى ... والغيم حق البانة الغناء
خلت الصدور من القلوب كما خلت ... تلك المقاصر من مهاً وظباء
ولقد أقول لصاحبي وإنما ... ذخر الصديق لآكد الأشياء
يا صاحبي ولا أقل إذا أنا ... ناديت من أن تصغيا لندائي
__________
(1) ق: العقود.(6/253)
عوجا نجاري الغيث في سقي الحمى ... حتى يرى كيف انسكاب الماء
ونسن في سقي المنازل سنة ... نمضي بها حكماً على الظرفاء
يا منزلاً نشطت إليه عبرتي ... حتى تبسم زهره لبكائي
ما كنت قبل مزار ربعك عالماً ... أن المدامع أصدق الأنواء
يا ليت شعري، والزمان تنقل ... والدهر ناسخ شدة برخاء
هل نلتقي في روضة موشية ... خفاقة الأغصان والأفياء
وننال فيها من تألفنا ولو ... ما فيه سخنة أعين الرقباء
في حيث أتلعت الغصون سوالفاً ... قد قلدت بلآلئ الأنداء
وبدت ثغور الياسمين فقبلت ... عني عذار الآسة الميساء
والورد في شط الخليج كأنه ... رمد ألم بمقلة زرقاء
وكأن غض الزهر في خضر الربى ... زهر النجوم تلوح بالخضراء
وكأنما جاء النسيم مبشراً ... للروض يخبره بطول بقاء
فكساه خلعة طيبه ورمى له ... بدراهم الأزهار رمي سخاء
وكأنما احتققر الصنيع فبادرت ... للعذر عنه نغمة الورقاء
والغصن يرقص في حلى أوراقه ... كالخود في موشية خضراء
وافتر ثغر الأقحوان بما رأى ... طرباً وقهقه منه جري الماء
أفديه من أنس تصرم فانقضى ... فكأنه قد كان في الإغفاء
لم يبق منه غير ذكرى أو منىً ... وكلاهما سبب لطول عناء
أو رقعة من صاحب هي تحفة ... إن الرقاع لتحفة النبهاء
كبطاقة الوشقي إذ حيا بها ... إن الكتاب تحية الخلطاء
ما كنت ادري قبل فض ختامها ... أن البطائق أكؤس الصهباء
حتى ثنيت معاطفي طرباً بها ... وجررت أذيالي من الخيلاء
فجعلت ذاك الطرس كأس مدامة ... وجعلت مهديه من الندماء
وعجبت من خل يعاطي خله ... كأساً وراء البحر والبيداء(6/254)
ورأيت رونق خطها في حسنها ... كالوشي نمق معصم الحسناء
فوحقها من تسع آيات لقد ... جاءت بتأييدي على أعدائي
فكأنني موسى بها، وكأنها ... تفسير ما في سورة الإسراء
لو جاء فكر ابن الحسين بمثلها ... صحت نبوته لدى الشعراء
سوداء إذ أبصرتها لكنها ... كم تحتها لك من يد بيضاء
ولقد رأيت وقد تأوبني الكرى ... في حيث شابت لمة الظلماء
أن السماء أتى إلي رسولها ... بهدية ضاءت بها أرجائي
بالفرقدين وبالثريا أدرجا ... في الطي من كافورة بيضاء
فكفى بذاك الطرس من كافورة ... وبنظم شعرك من نجوم سماء
قسماً بها وبنظمها وبنثرها ... لقد انتحتني ملء عين رجائي
وعلمت أنك أنت في إبداعها ... لفظاً وخطاً معجز النبلاء
لا ما تعاطت بابل من سحرها ... لا ما ادعاه الوشي من صنعاء
ولقد رميت لها القياد وإنها ... لقضية أعيت على البلغاء
وطلبت من فكري الجواب فعقني ... وكبا بكف الذهن زند ذكائي
فلذا تركت عروضها ورويها ... وهجرت فيها سنة الأدباء
ويعثتها ألفية همزية ... خدعاً لفكر جامع إيبائي
علمت بقدرك في المعارف فانبرت ... من خجلة تمشي على استحياء انتهت القصيدة، ومن خط ناظمها صفوان نقلتها.
رجع:
59 - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى في ترجمة أبي محمد عبد الله بن إبراهيم بن عبد اله الأزدي في التاج ما صورته: طويل القوادم والخوافي، كلف على كبر سنه بعقائل القوافي، شاب في الأدب وشب، ونشق ريح البيان لما هب، فحاول رقيقه وجزله، وأجاد جده وأحكم هزله، فإن مدح(6/255)
صدح، وإن وصف، أنصف، وإن عصف، قصف، وإن أنشأ ودون، وتقلب في أفانين البلاغة وتلون، أفسد ما شاء الله وكون، فهوشيخ الطريقة الأدبية وفتاها، وخطيب حفلها كلما أتاها، لا يتوقف عليه من أغراضها غرض، ولا يضيع لديه منها مفترض، ولم تزل بروقه تتألق، ومعانيه بأذيال الإحسان تتعلق، حتى برز في إبطال الكلام وفرسانه، وذعرت القلوب بسطوة لسانه، وألقت إليه الصناعة زمانها، ووقفت عليه أحكامها، وعبر البحر منتجعاً بشعره، ومنفقاً في سوق الكساد من سعره، فأبرق وأرعد، وحذر وأوعد، وبلغ جهد إمكانه، في التعريف بمكانه، فما حرك ولا هز، وذل في طلب الرفد وقد عز، وما برح أن رجع إلى وطنه الذي اعتاده، رجوع الحديث إلى قتادة، وقد أثبت من نزعاته، وبعض مختراعاته، ما يدل على سعة باعه، ونهضة ذراعه، فمن النسيب قوله:
ما للمحب دواء يذهب الألما ... عنه سوى لمم فيه ارتشاف لمى
ولا يرد عليه نوم مقلته ... إلا الدنوإلى من شفه سقما
يا حاكماً والهوى فينا يؤيده ... هواك في بما ترضاه قد حكما ثم سردها. وقال في المديح:
إليك جد بي التسيار تأميلا ... فلي على فضلك المأمول تعويلا
الحمد لله حمداً لا كفاء له ... بسعد أيامك المأمول قد نيلا
يا راغباً مرتجاه دفع معضلة ... فصبره بصروف الدهر قد عيلا
ألمم بحضرة ملك كل مفتخر ... بالملك يويه بالتعظيم ترسيلا
فرع من الدوحة النصرية اجتمعت ... فيه الفضائل تتميماً وتكميلا
لديه مما لدى الصديق تسمية ... وميسم وكفاه ذاك تفضيلا وهي طويلة؛ انتهى.(6/256)
60 - وقال لسان الدين في " الإكليل " في ترجمة أبي الحسن علي بن إبراهيم ابن علي بن خطاب السكاك من أهل غرناطة، ما صورته: متسور على بيوت القريض، في الطويل من الكلام والعريض، ممن أطاعته براعة الخط، وسلمت لأقلامه رماح الخط، عانى كتابة الشروط لأول أمره، ثم ألظت به محنته على توفر خصاله، ونبل خلاله، وهوالآن من كتاب ديوان الحساب، يتعلل من الأمور المخزنية ببعض الألقاب؛ انتهى.
61 - وقال في " التاج " في ترجمة أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الحق ابن الصباغ العقيلي الغرناطي (1) ما صورته: اللسن العارف، الناقد لجواهر المعاني كما يفعل بالسكة الصيارف، والأديب المجيد، الذي تحلى به للعصر النحروالجيد، إن أجال جياد براعته فضح فرسان المهارق، وأخجل بين بياض طرسه وسواد نقسه الطرر تحت المفارق، وإن جلا أبكار أفكاره، وأثار طير البيان من أوكاره، سلب الرحيق المقدم فضل إسكاره، إلى نفس لا يفارقها ظرف، وهمة لا يرتد إليها طرف، وإبانة لا يفل لها غرب ولا حرف، وله أدب غض، زهره على مجتنيه منقض، كتبت إليه أستنجز وعده في الإتحاف برائقه والإمتاع بزهر حدائقه، قولي:
عندي لموعدك افتقار محرج ... وعهودك افتقرت إلى إنجازها
والله يعلم فيك صدق مودتي ... وحقيقة الأشياء غير مجازها فأجابني بقوله:
يا مهدي الدر الثمين منظماً ... كلماً حلال السحر في إيجازها
أدركت حلبات الأوائل وانياً ... ورددت أولاها على أعجازها
__________
(1) انظر ترجمته أيضاً في الكتيبة: 228.(6/257)
أحرزت في المضماء خصل سباقها ... ولأنت أسبقهم إلى إحرازها
حليت بالسمطين مني عاطلاً ... وبعثت من فكري فتاة مفازها
فلأنجزن مواعدي مستعطفاً ... فاسمح، وبالإغضاء منك فجازها وقال في " الإحاطة " في حق المذكور: إنه من أهل الفضل والسراوة والرجولة والجزالة، فذ في الكفاية، ظاهر السذاجة والسلامة، مصعب لأضداده، شديد العصبية لأولي وداده، يشتمل على خلال من خط بارع وكتابة حسنة وشعر جيد ومشاركة في فقه وأدب ووثيقة ومحاضرة ممتعة، ناب عن بعض القضاة وكتب الشروط، وارتسم في ديوان الجند، وكتب عن شيخ الغزاة أبي زكريا يحيى بن عمر على عهده، ثم انصرف إلى العدوة سابع عشر جمادى الأولى من عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، فارتسم في الكتابة السلطانية منوهاً به مستعملاً في خدم مجدية بان غناؤه فيها وظفرت كفايته؛ انتهى.
وقد وصفه بصاحبنا، ثم قال: ومن شعر المذكور قوله:
ليت شعري، والهوى أمل ... وأماني الصب لا تقف
هل لذاك الوصل مرتجع ... أو لهذا الهجر منصرف وقال:
وظبي سبى بالطرف والعطف والجيد (1) ... وما حاز من غنج ولين ومن غيد
أشرت إليه بالدنو مداعباً ... فقال: أيدنو الظبي من غابة الأسد وقال في مبدإ قصيدة مطولة:
حديث المغاني شجون (2) ... وأوجه أيام التباعد جون
__________
(1) الكتيبة: زها بالطرف ... والطلا.
(2) ق: شؤون.(6/258)
لحا الله أيام الفراق فكم شجت ... وغادرت الجذلان وهو حزين
وحيا دياراً في ربي أغرناطة ... وإني بذاك القرب منك ضنين
لأرخصت فيها نم شبابي ما غلا ... وعزمي على مال العفاف أمين
خليلي لا أمر بأربعها قفا ... فعندي إلى تلك الربوع حنين
ألم ترياني كلما ذر شارق ... تضاعف عندي عبرة وانين
إذا لم يساعدني أخ منكما فلا ... حدت لخؤون بعد ذاك أمون
أليس عجيباً في البرية من له ... إلى عهد إخوان الزمان ركون
فلا تثقن من ذي وفاء بعهده ... فقد أجن السلسال وهومعين
لقلبي عذر في فراق ضلوعه ... وللدمع في ترك الشؤون شؤون
ومن ترك الحزم المعين فإنه ... لعان بأيدي الحادثات رهين
رعى الله أيامي الوثيق ذمامها ... فإن مكاني في الوفاء مكين
ولم أر مثل الدهر أما عدوه ... فحب (1) ، وأما خله فخؤون
ولولا أبو عمرو وجود بنانه ... لما كان في هذا الزمان معين وقال:
زار الخيال ويالها من لذة ... لكن لذات الخيال منام
ما زلت ألثم مبسماً منظومه ... در ومورده الشهي مدام
وأضم غصن البان من أعطافه ... وأشم مسكاً فض عنه ختام مولده عام ستة وسبعمائة، وتوفي بفاس، وقد تخلفه السلطان كاتب ولده عند توجهه لإفريقية في العشرين من رمضان عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
__________
(1) ق: فخب.(6/259)
وقد وهم لسان الدين في شهر وفاة المذكور، وإنما الصواب أنه توفي يوم الأحد ثامن شوال، فاعلم ذلك، والله سبحانه أعلم.
رجع:
62 - وقال في " التاج المحلي في مساجلة القدح المعلى " وفي الإكليل الزاهر فيمن فضل عند نظم التاج من الجواهر، وغيرهما مما ثبت في حلى رؤساء الكتاب، وحاملي ألوية الآداب، في ترجمة شيخه ابن الجياب (1) ، ما نصه: صدر الصدور الجلة، وعلم أعلام هذه الملة، وشيخ الكتابة وبانيها، وهاصر أفنان البدائع وجانيها، اعتمدته الرياسة فناء بها على حبل ذراعه، واستعانت به السياسة فدارت أفلاكها على قطب من شباة يراعه، فتفيأ للعناية ظلاً ظلليلاً، وتعاقبت الدول (2) فلم تر به بديلاً، من ندب على علوة متواضع، وحبر لثدي المعارف راضع، لا تمر مذاكرة (3) في فن إلا وله فيه التبريز، ولا تعرض جواهر الكلام على محكات الأفهام إلا وكلامه الإبريز، حتى أصبح الدهر راوياً لإحسانه وناطقاً بلسانه، وغرب ذكره وشرق، وأشأم وأعرق، وتجاوز البحر الأخضر والخليج الأزرق، إلى نفس هذبت الآداب شمائلها، وجادت الرياضة خمائلها، ومراقبة لربه، واستنشاق لروح الله من مهبه، ودين لا يعجم عوده، ولا تخلف وعوده، وكل ما ظهر علينا معشر بينه من شارة تجلى بها العين، أوإشارة كما سبك اللجين، فهي إليه منسوبة، وفي حسناته محسوبة، فإنما هي أنفس راضها بآدابه، وأعلقها بأهدابه، وهذب طباعها، كالشمس تلقي على النجوم شعاعها، والصور الجميلة، تترك في الأجسام الصقيلة انطباعها، وما عسى أن أقول
__________
(1) انظر المجلد 5: 434.
(2) الكتيبة: دول العدل.
(3) الكتيبة: لا يمر الكلام.(6/260)
في إمام الأئمة، ونور الدياجي المدلهمة، والمثل السائر في بعد الصيت، وعلو الهمة، وقد أثبت من عيون قصائده، وأدبه الذي علق الإحسان في مصايده، كل وثيق المعنى، كريم المجنى جامع بين حصافة اللفظ ولطافة المعنى؛ انتهى.
والمذكور له ترجمة في هذا الكتاب في باب مشيخة لسان الدين فلنتراجع.
63 - وقال في الإكليل في حق عمر بن علي بن غفرون الكلبي من أهل منتفريد (1) ما صورته: شيخ خدم، قام له الدهر فيها على قدم، وصاحب تعريض، ودهاء عريض، وفائز من الدول النصرية بأياد بيض، أصله من حصن منتفريد، خدم به الدولة النصرية عند انتزاء أهله، وكان ممن استنزلهم من حزنه إلى سهله، وحكم الأمر الغالبي في يافعه وكهله، فكسب حظوة أرضته، ووسيلة أرهفته وأمضته، حتى عظم جاهه وماله، وبسقت آماله، ثم دالت الدول، وتنكرت أيامه الأول، وتغلب من يجانسه، وشقي بمن كان ينافسه، فجف عوده، والتاثت سعوده، وهلك والخمول يظله، والدهر يقوته من صبابة حرث كان يستغله، وله شعر لم يتقنه النظر، ولا وضحت منه الغرر، توفي في ذي الحجة عام أربعة وأربعين وسبعمائة؛ انتهى.
64 - وقال في الإكليل في حق قاسم بن محمد بن الجد الفهري المري ما صورته: هومن أئمة أهل الزمام، خليق برعي الذمام، ذوحظ كما تفتح زهر الكمام، وأخلاق أعذب من ماء الغمام، كان ببلده حاسباً، ودراً في لجة الإغفال راسباً، صحيح العمل، يلبس الطروس من براعته أسنى الحلل، قال يمدح السلطان:
أرى أوجه الأيام قد أشرقت بشرا ... فقل لي رعاك الله ما هذه البشرى
وما بال أنفاس الخزامى تعطرت ... فأرجت الأرجاء من نفحها عطرا
__________
(1) ق: منقرير؛ ومنتفريد (Montefrio) تقع شمال مدينة لوشة واسمها القديم (Mons Frihidus) .(6/261)
ونقبت الشمس المنيرة وجهها ... قصوراً عن الوجه الذي أخجل البدرا وهي طويلة، توفي المذكور عام خمسين وسبعمائة بالطاعون.
65 - وقال في " الإكليل " في حق أبي عثمان سعيد الغساني ما صورته: هوممن يتشوق إلى المعرفة والمقالات، ويتسق إلى الحقائق والمحالات، ويشتمل على نفس رقيقة، ويسير من تعليم القرآن على خير طريقة، ويعاني من الشعر ما يشهد بنبله، ويستظرف من مثله؛ انتهى.
66 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي الحجاج يوسف بن علي الطرطوشي (1) ما صورته: روض أدب لا تعرف الذواء أزهاره، ومجموع فضل لا تخفى آثاره، كان في فنون الأدب مطلق الأعنة، وفي معاركه ماضي الظبى والأسنة، فإن هزل، وإلى تلك الطريقة اعتزل، أبرم من الغزل ما غزل، وبزل من دنان راحه ما بزل، وإن صرف إلى المغرب غرب لسانه، وأعاره لمحة من إحسانه، أطاعه عاصيه، واستجمعت لديه أقاصيه، ورد على الحضرة الأندلسية والدنيا شابة، وريح القبول هابة، فاجتلى محاسن أوطانها، وكتب عن سلطانها، ثم كر إلى أوطانه وعطف، وأسرع اللحاق كالبارق إذا خطف، وتوفي عن سن علية، وبرود من العمر غالية.
67 - وقال في ترجمة أبي عبد الله محمد بن أحمد بن المتأهل العذري من أهل وادي آش ما صورته (2) : رجل غليظ الحاشية، معدود في جنس السائمة والماشية، تليت على العمال به سورة الغاشية، ولي الأشغال السلطانية فذعرت الجباة لولايته، وأيقنوا بقيام قيامتهم لطلوع آيته، وقنطوا كل القنوط، وقالوا: جاءت الدابة تكلمنا وهي إحدى الشروط، من رجل صائم الحشوة، بعيد عن المصانعة والرشوة، يتجنب الناس، ويقول عند المخالطة لهم: لا مساس، عهدي
__________
(1) ترجمته في الدرر 5: 242 وفيه: مات بعد 740.
(2) قد مرت هذه الفقرة (رقم: 26) .(6/262)
به في الأعمال يحبط ويتبر، وهويهلل ويكبر، ويحسن ويقبح، وهويسبح، وقال يخاطب بعض أمراء الدولة:
عمادي، ملاذي، موئلي، ومؤملي ... ألا انعم بما ترضاه للمتأهل
وحقق بنيل القصد منك رجاءه ... على نحو ما يرضيك يا ذا التفضل
فأنت الذي في العلم يعرف قدره ... بخير زمان فيه لا زلت تعتلي
فهنيت يا معنى الكمال برتبة ... تقر لكم بالسبق في كل محفل توفي عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة؛ انتهى.
وتذكرت بقوله ويحسن ويقبح، وهويسبح قول الآخر:
قد بلينا بأمير ... ظلم الناس وسبح
فهو كالجزار فيهم ... يذكر الله ويذبح
رجع:
68 - وقال لسان الدين في ترجمة أبي عبد الله ابن باق (1) من " التاج " ما صورته: مدير أكؤس البيان المعتق، ولعوب بأطراف الكلام المشقق، انتحل لأول أمره الهزل من أصنافه، فأبرز در معانيه من أصدافه، وجنى ثمرة الإبداع لحين قطافه، ثم تجاوزه إلى المغرب وتخطاه، فأدار كأسه المترع وعاطاه، فأصبح لفنيه جامعاً، وفي فلكيه شهاباً لا معاً، وله ذكاء يطير شرره، وإدراك تتبلج غرره، وذهن يكشف الغوامض، ويسبق البارق الوامض، وعلى ذلاقة لسانه، وانفساح أمد إحسانه، فشديد الصبابة بشعره، مغل لسعره؛ انتهى.
والمذكور هومحمد بن إبراهيم بن علي باق الأموي، مرسي الأصل، غرناطي النشأة، مالقي الاستيطان.
وقال في عائد الصلة: كان رحمه الله تعالى كاتباً أدبياً ذكياً لوذعياً يجيد
__________
(1) ترجمته في الدرر 3: 376 (ط. القاهرة) .(6/263)
الخط ويرسل النادرة، ويقدم على العمل، ويشارك في الفريضة، وبذ السباق في الأدب الهزلي المستعمل بالأندلس، غبر زمانه من عمره محارفاً للفاقة يعالج بالأدب الكذبة، ثم استقام له الميسم، وأمكنه البخت من امتطاء غاربه، فأنشبت الحظوة وفيه أناملها بين كاتب وشاهد وحاسب ومدير تجر، فأثرى ونما ماله، وعظمت حاله، عهد عندما شارف الرحيل تناهز الألف من العين، لتصرف في وجوه من البر، فتوهم أنها كانت زكاة أمسك بها؛ انتهى.
وقال أيضاً: اخبرني الكاتب أبوعبد الله ابن سلمة أنه خاطبه بشعر أجابه عنه بقوله في رويه:
أحرز الخصل من بني سلمه ... كاتب تخدم الظبى قلمه
يحمل الطرس من أنامله ... أثر الحسن كلما رقمه
وتمد البيان فكرته ... مرسلاً حيث يممت ديمه
خصني متحفاً بخمس إذا ... بسم الروض فقن مبتسمه
قلت أهدى زهر الربى خضلاً ... فإذا كل زهرة كلمه
أقسم الحسن لا يفارقها ... فأبر انتقاؤها قسمه
خط أسطارها ونمقها ... فأتت كالعقود منتظمه
كاسياً من حلاه لي حللاً ... رسمها من بديع ما رسمه
طالباً عند عاطش نهلاً ... ولديه الغيوث منسجمه
يبتغي الشعر من أخي بله ... أخرس العي والقصور فمه
أيها الفاضل الذي حفظت ... ألسن المدح والثنا شيمه
لا تكلف أخاك مقترحاً ... نشر عار لديه قد كتمه
وابق في عزة وفي دعة ... ضافي العيش وارداً شبمه
ما ثنى الغصن عطفه طرباً ... وشدا الطير فوقه نغمه ورأيت على هامش هذه القصيدة بخط أبي الحسن علي بن لسان الدين ما صورته:(6/264)
نعم ما خاطب به شيخنا وبركة أهل الأندلس وصدر صدورهم أبا عبد اله ابن سلمة، ومن لفظه سمعتها بالقاهرة، وإنها لمن النظم العالي المتسق نسق الدر في العقود، رحمه الله تعالى، قاله ابن المؤلف؛ انتهى.
وقرأ ابن باق المذكور على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير والخطيب أبي عثمان ابن عيسى، وتوفي بمالقة في اليوم الثامن والعشرين لمحرم فاتح عام اثنين وخمسين وسبعمائة، وأوصى بعد أن يحفر قبره بين شيخيه الخطيبين أبي عبد الله الطنجالي وأبي عثمان ابن عيسى أن يدفن به، وأن يكتب على قبره هذه الأبيات:
ترحم على قبر ابن باق وحيه ... فمن حق ميت الحي تسليم حيه
وقل آمن الرحمن روعة خائف ... لتفريطه في الواجبات وغيه
قد اختار هذا القبر في الأرض راجياً ... من الله تخفيفاً بقدر وليه
فقد يشفع الار الكريم لجاره ... ويشمل بالمعروف أهل نديه
وإني بفضل الله أوثق واثق ... وحسبي وإن أذنبت حب نبيه انتهى.
69 - وقال لسان الدين في ترجمة أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن سالم ابن فضيلة المعافري المري (1) بالنتومن الإكليل ما نصه: شيخ أخلاقه لينة، ونفسه كما قيل هينة، ينظم الشعر سهلاً مساقه، محكماً اتساقه، على فاقة، ما لها من إفاقة، أنشد المقام السلطاني بظاهر بلده قوله:
سرت ريح نجد من ربى أرض بابل ... فهاجت إلى مسرى سراها بلابلي
وذكرني عرف النسيم الذي سرى ... معاهد أحباب سراة أفاضل
فأصبحت مشغوفاً بذكر منازل ... ألفت، فواشوقي لتلك المنازل
فيا ريح هبي بالبطاح وبالربى ... ومري على أغصان زهر الخمائل
وسيري بجسمي للتي الروح عندها ... فروحي لديها من أجل الوسائل
__________
(1) ترجمته في الدرر 3: 367 (ط. القاهرة) .(6/265)
وقولي لها عني معناك بالنوى ... له شوق معمود وعبرة ثاكل
فيا بأبي هيفاء كالغصن تنثني ... تقد بقد كاد ينقد مائل وهي طويلة.
ومن شعر المذكور قوله من قصيدة:
بهرت كشمس في غلالة عسجد ... وكبدر تم في قضيب زبرجد
ثم انثنت كالغصن هزته الصبا ... طرباً فتزري بالغصون الميد
حوراء بارعة الجمال غريرة ... تزهى فتزري بالقضيب الأملد
إن أدبرت لم تبق عقل مدبر ... أو أقبلت قتلت ولكن لا تدي قال القاضي أبوالبركات ابن الحاج: وابتلي المذكور باختصار كتب الناس، فمن ذلك مختصره المسمى الدرر الموسومة في اشتقاق الحروف المرسومة وكتاب حكايات يسمى دوحة الجنان وراحة الجنان وغير ذلك.
قال أبوالبركات: وسألته عن مولده، فقال: لي اليوم ستون سنة، وقال ذلك ليلة الخميس السابع والعشرين لذي قعدة عام أربعين وسبعمائة، وتوفي آخر رمضان من عام تسعة وأربعين، رحمه الله تعالى؛ انتهى.
رجع:
70 - قال لسان الدين في الإكليل في ترجمة الكاتب صاحب العلامة أبي العباس أحمد بن علي الملياني المراكشي ما نصه: الصارم الفاتك، والكاتب الباتك، أي اضطراب في وقار، وتجهم تحته أنس العقار! اتخذه ملك المغرب صاحب علامته، وتوجه تاج كرامته، وكان يطالب جملة من أشياخ مراكش بثار عمه، ويطوقهم دمه بزعمه، ويقصر على الاستنصار منهم بنات همه، إذ سعوا فيه حتى اعتقل، ثم جدوا في أمره حتى قتل، فترصد كتاباً إلى مراكش(6/266)
يتضمن أمراً جزماً، ويشمل من أمور الملك عزماً، جعل فيه الأمر بضرب رقابهم، وسبي أسبابهم، ولما أكد على حامله في العجل، وضايقه في تقدير الأجل، تأنى حتى علم أنه قد وصل، وأن غرضه قد حصل، فر إلى تلمسان وهي بحال حصارها، فاتصل بأنصارها، حالاً بين أنوفها وأبصارها، وتعجب من فراره، وسوء اغتراره، ورجمت الظنون في آثاره، ثم وصلت الأخبار بتمام الحيلة، واستيلاء القتل على أعلام تلك القبيلة، فتركها شنيعة على الأيام، وعاراً في الأقاليم على حملة الأقلام، وأقام بتلمسان إلى أن حل مخنق حصرها، وأزيل هميان الضيقة عن خصرها، فلحق بالأندلس ولم يعدم براً، ورعياً مستمراً، حتى أتاه حمامه، وانصرمت أيامه؛ انتهى.
والمذكور ترجمه في " الإحاطة " (1) بقوله: صاحب العلامة بالمغرب، الكاتب الشهير البعيد الشأوفي اقتضاء الترة، المثل المضروب في الهمة، وقوة الصريمة، ونفاذ العزيمة.
حاله - كان نبيه البيت، شهير الأصالة، رفيع المكانة، على سجية غريبة من الوقار والانقباض والصمت، آخذاً بحظ من الطب (2) ، حسن الخط، مليح الكتابة، قارضاً للشعر، تذهب نفسه فيه كل مذهب.
وصمته - فتك فتكة شهيرة أساءت الظن بجملة الأقلام على ممر الدهر، وانتقل إلى الأندلس بعد مشقة.
شعره - من شعره الذي يدل على بأوه، وانفساح خطاه في النفاسة وبعد شأوه، قوله:
العز ما ضربت عليه قبابي ... والفضل ما اشتملت عليه ثيابي
__________
(1) انظر ج 1: 149، والإعلام بمن حل مراكش 1: 373.
(2) ق: الطلب؛ وأثبتنا ما في الإحاطة.(6/267)
والزهر ما أهداه غصن براعتي ... والمسك ما أبداه نقس كتابي
فالمجد يمنع أن يزاحم موردي ... والعزم يأبى أن يضام جنابي
فإذا بلوت صنيعة جازيتها ... بجميل شكري أوجزيل ثوابي
وإذا عقدت مودة أجريتها ... مجرى طعامي من دمي وشرابي
وإذا طلبت من الفراقد والسها ... ثأراً فأوشك أن أنال طلابي وفاته - توفي بغرناطة يوم السبت تاسع ربيع الآخر عام خمسة عشر وسبعمائة ودفن بجبانة باب إلبيرة، تجاوز الله تعالى عنه؛ انتهى.
رجع إلى نثر ابن الخطيب رحمه الله تعالى:
71 - فمن ذلك قوله في الروضة في ترجمة ضخام الغصون من شجرة السر المصون ما صورته: وهي أفاءت الظل الظليل، وزانت المرأى الجميل، وتكلفت لمحاسن الشجرة الشماء بالتكفيل، وتتعدد إلى غصون المحبوبات، وأقسام موضوعاتها المكتوبات، وغصن المحبين، أصنافهم المرتبين، وغصن علامات المحبة، وشواهد النفوس الصبة، وغصن الأخبار المنقولة، عن ذوي النفوس المصقولة، وعند تعين هذه الأغصان المقسومة، كمل شكل الشجرة المرسومة، والسرحة الموصوفة الموسومة، ففاءت الظلال، وكرمت الخلال، فحيي من تفرد وتوحد، واستظل من استهدى واسترشد، ووقف الهائم فخطب وأنشد (1) :
يا سرحة الحي يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول
عندي مقال فهل مقام ... تصغين فيه لما أقول
ولي ديون عليك حلت ... لو أنه ينفع الحلول
__________
(1) أورد منها بيتين في النفح 3: 506 ونسبهما لابن براق.(6/268)
ماض من العيش كان فيه ... منزلنا ظلك الظليل
زال وماذا عليه ماذا ... يا سرح لو لم يكن يزول
حيا عن المذنب المعنى ... منبتك القطر والقبول وقال رحمه الله تعالى: فصول في المعرفة تغازل بها عيون الإشارة، إذا قصرت عن تمام المعنى ألسن العبارة، ولله در القائل:
وإذا العقول تقاصرت عن مدرك ... لم تتكل إلا على أذواقها المعرفة اختراق المراتب الحسية، والنفوس الجنسية، والعقول القدسية، والبروز إلى فضاء الأزل، إذا فني من لم يكن وبقي من لم يزل، مع عمران المراتب، ورؤية الجائز في الواجب:
ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهم معي
وتبكيهم عيني وهم في سوادها ... ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي المعرفة مقام يأتلف من جمع مفروق، وأفول وشروق، وسل عروق، ورد مسروق، حتى يذهب الكيف والأين، ويتعين العين، فيجمع العدد ويجمل، وينحى السوى ومع ذلك لا يهمل:
للعدا منك نصيب ... ولك السهم المصيب
إنما يومك يوما ... ن: خصيب وعصيب المعرفة مقام سامي المنعرج، عاطر الأرج، ينقل من السعة إلى الحرج، ومن الشدة إلى الفرج:
طريقك لا تخفى به إن تتبعت ... خطاك ولا يخفى مبيتك فيه
متاعك منشور على كل خيمة ... ورؤياك أمن من ترفع تيه(6/269)
المعرفة عين إن لم تبصر أجزاءها، أحسن الله عزاءها، وحقيقة إن لم يجعل الفراق إزاءها، كانت الغيرة (1) جزاءها، فهي دائرة مركزها يجمع؛ ومحيطها في التفريق يطمع، يستقل الملك أجمع، ويرى من يرى ويسمع من يسمع:
بعد المحيط من المحدد واحد ... والكل في حق الوجود سواء
والحق يعرف ذاته من ذاته ... صح الهوى فتلاشت الأهواء المعرفة صعود ونزول، ووقوف ووصول، فلا الوصول عن البداية يقطع، ولا البداية عن النهاية تمنع:
نم له الأمر أجمع ... كل ما شاء يصنع
حصل القصد واستق ... ر فلم يبق مطمع العارف في البداية يشكر الراكع والساجد، ثم يعذر الواجد المتواجد، ثم يرجع المنكر الجاحد، فإذا انتهى ورد العدد إلى الواحد، قال لسان حاله:
من رأى لي نشيدة ... أو على عينها أثر
فله الحكم قل له ... ذهب العين والأثر إلى أن قال: قال الرئيس: العارف هش بش بسام، فيجل الصغير من تواضعه مثلما يجل الكبير، ويبسط من الخامل مثلما يبسط من النبيه، ثم علل فقال: وكيف لا يهش وهوفرحان بالحق، وبكل شيء فإنه يرى فيه الحق، إني لأجد ريح يوسف (2) :
لمعت نارهم وقد عسعس اللي ... ل وضج الحادي وحار الدليل
فتأملتها وقلت لصحبي ... هذه النار نار ليلى فميلوا
__________
(1) ق: العزة.
(2) انظر مشارق أنوار القلوب: 72 وهما من قصيدة للسهروردي.(6/270)
العارف شجاع، وكيف لا وهوبمعزل عن هيبة الموت، وجواد، وكيف لا وهولمعزل عن صحبة الباخل، وصفاح، وكيف لا ونفسه أكبر من أن تحرجها زلة بشر، ونساء للأحقاد، وكيف لا وذكره مشغول بالحق، وقالوا: من عرف الله تعالى صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله رب العالمين.
الشبلي: ليس لعارف علاقة، ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، من عرف الله سبحانه انقطع، بل خرس وانقمع، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك؛ انتهى.
72 - قال رحمه الله تعالى في بعض تراجم الروضة: الفرع الصاعد إلى الهواء، على خط الاستواء، من رأس العمود القائم، إلى منتهى الوجود الدائم، ويشتمل على قشر لطيف، وجرم شريف، وأفنان ذوات قنوان وغير قنوان، وطلع نضيد، وجنىً سعيد، فالقشر الحدود والرسوم، وخواص العارف الذي هوبالمعروف بها والموسوم، والفنون التي يقوم عليها والعلوم، والجرم ظاهر الخلق المقسوم، وعلاجه كما تعالج الجسوم، وباطنه المجاهدات التي عليها يقوم، وقلبه الرياضة والغصون المقامات فيها المقام المعلوم، ومادتها السلوك الذي تدريج غذائه تبلغ الأفنان والورقات ما تروم، والزهرات اللوائح والطوالع والبواده التي لها الهجوم، والواردات التي تدوم أولا تدوم، ثم الجنى وهوالولاية التي كان الغارس عليها يحوم؛ انتهى.
ثم فصل الكل رحمه الله تعالى فليراجعه من أراده.
73 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتبه على لسان سلطانه للأمير يلبغا الخاصكي (1) ، وهو: إلى الأمير المؤتمن على أمر سلطان المسلمين،
__________
(1) كان مدبر الدولة أيام المنصور محمد والأشرف شعبان، قتله غلمانه لعسفه وظلمه سنة 768.(6/271)
المقلد بتدبيره السديد قلادة الدين، المثني على رسوم بره لمقامه لسان الحرم الأمين، الآوي من مرضاة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى الربوة ذات القرار والمعين، المستعين من اله تعالى على ما تحمله وأمله بالقوي المعين، سيف الدعوة، ركن الدولة، قوام الملة، مؤمل الأمة، تاج الخواص، أسد الجيوش، كافي الكفاة، زين الأمراء، علم الكبراء، عين الأعيان، حسنة الزمان، الأجل المرفع الأسنى الكبير الأشهر الأسمى الحافل الفاضل الكامل المعظم الموقر الأمير الأوحد يبلغا الخاصكي، وصل الله له سعادة تشرق غرتها، وصنائع تسح فلا تشح درتها، وأبقى تلك المثابة قلادة الله تعالى وهو درتها.
" سلام كريم، طيب بر عميم، يخص إمارتكم التي جعل الله تعالى الفضل على سعادتها أمارة، واليسر لها شارة، فيساعد الفلك الدوار مهما أعملت إدارة، وتمتثل الرسوم كلما أشارت إشارة.
" أما بعد حمد الله تعالى الذي هويعلمه في كل مكان، من قاص ودان، وإليه توجه الموجوه وإن اختلفت السير وتباعدت البلادان، ومنه يلتمس الإحسان، وبذكره ينشرح الصدر ويطمئن القلب ويمرح اللسان، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله العظيم الشان، ونبيه الصادق البيان الواضح البرهان، والرضى عن آل وأصحابه وأحزابه أحلاس الخيل، ورهبان الليل، وأسود الميدان، والدعا لإمارتكم السعيدة بالعز الرائق الخبر والعيان، والتوفيق الوثيق البنيان، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم حظاً من فضله وافراً، وصنعاً عن محيا السرور سافراً، وفي جوالإعلام بالنعم الجسام مسافراً - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى دار ملك الأندلس دافع الله سبحانه عن حوزتها كيد العداة، وأتحف نصلها ببواكر النصر المهداة، ولا رائد إلا الشوق إلى التعارف بتلك الأبواب الشريفة التي أنتم عنوان كتابها المرقوم، وبيت قصيدها المنظوم، والتماس بركتها الثابتة الرسوم، وتقرير المثول في سبيل زيارتها بالأرواح عند تعذره بالجسوم، وإلى هذا فإننا كانت بين سلفنا تقبل الله تعالى جهادهم، وقدس(6/272)
نفوسهم، وأمن معادهم، وبين تلك الأبواب كما عرفتم من عدلها وإفضالها، مراسلة ينم عرف الخلوص من خلالها، وتسطع أنوار السعادة من آفاق كمالها، وتلتمح من أسطار طروسها محاسن تلك المعاهد الزاكية المشاهد، وتعرب عن فضل المذاهب وكرم المقاصد، اشتقنا إلى أننجددها بحسن منابكم، ونواصلها بمواصلة جنابكم، ونغتنم في عودها الحميد مكانكم، ونؤمل لها زمانكم، فخاطبنا الأبواب الشريفة في هذا الغرض نخاطبة خجلة من التقصير، وجلة من الناقد البصير، ونؤمل الوصول في خفارة يدكم التي لها الأيادي البيض، والموارد التي لا تغيض، ومثلكم من لا تخيب المقاصد في شمائله، ولا تضحى المآمل في ظل خمائله، فقد اشتهر من حميد سيركم ما طبق الآفاق، وصحب الرفاق، واستلزم الإصفاق، وهذه البلاد مباركة، ما أسلف أحد فيها مشاركة، إلا وجدها في نفسه ودينه وماله وعياله، والله سبحانه أكرم من وفى لامرئ بمكياله، والله عز وجل يجمع القلوب على طاعته، وينفع بوسيلة النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعول على شفاعته، ويبقي تلك الأبواب ملجأ للإسلام والمسلمين، وظلاً لله تعالى على العالمين، وإقامة لشعائر الحرم الأمين، ويتولى إعانة إمارتكم على وظائف الدين، ويجعلكم ممن أنعم الله تعالى عليه من المجاهدين، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛ انتهى.
74 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى قوله في قضية امتناع بعض الموثقين من أكل طعامه بمدينة سلا، وقد صدر به كتابه المسمى ب مثلى الكريقة في ذم الوثيقة وهذا نصه: أما بعد حمد الله الذي قرر الحكم وأحكمه، وبين الحلال من الحرام بما أوضحه من الأحكام وعلمه، ونوع جنس المعاش وقسمه، وماز كل نوع منه ووسمه، فأثبته متفاوتاً في درجات التفضيل ورسمه، والصلاة والسلام على مولانا محمد رسوله الذي فضله على الأنبياء وقربه وطهر من دنس الشبهات شيمه، فما استعمله في غير طاعته ولا استخدمه، ولا أعمل في سوى(6/273)
البر والهدى بنانه ولا قدمه، والرضى عن آل وأصحابه الذين رعوا ذممه، واستمطروا ديمه، وتواصوا من أجله بالبر وتواصلوا بالمرحمة، فهذا كتاب مثل الطريقة في ذم الوثيقة دعا إلى جمعه قلة الإنصاف من المداهن والمعاصر، والمباهت في مدرك النور الباصر، ورضى مظنة النيل منهم بالباع القاصر، والمناضلة عن الحمى الذي لم يؤيده الحق بالولي ولا بالناصر، ولوضعه حكاية، ولنفثته شكاية، إذ معرفة الأشياء بعللها مما يتشوق إليه، ويحرص عليه، وهوأني لما قدمت على مدينة فاس حرسها الله تعالى، مستخلصاً بشفاعة الخلافة، ذات الإناقة، مستدعى برسالة الإيالة، ذات الجلالة، فانسحب والمنة لله الستر، وانفسح الفتر، وشفع من النعم الوتر، واقتدى المرؤوس بالرئيس، وتنافس الأعلام في التأنيس، واتصل الاحتفاء والاستدعاء، وانتخب الموعى والوعاء، وأخذ أعقاب الطيبات الوضوء والطيب والدعاء، تعرفت فيمن جمعته الأخونة، والمداعي المتعينة، برجل من نبهاء موثقيها غرني بمخيلة البشاشة التي يستفز بها الغريب، ويستخلص هوى من لم يعمل التجريب، فأنست بمكانه، واستظهرت على ما يعرض من مكتتب بدكانه، وشأني في الاغتباط بمن عرفت شأني، فلست للمقة بشأني، واسترسالي، حتى لمن أسا لي، طوع عناني:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... ضميري ويتلوه يدي ولساني ولم يك إلا أن حللت بمدينة سلا حرسها الله تعالى مقصود المحل وإن رغم الدهر الذي رمى فأقصد، معتمداً بفتوحات الله تعالى وإن أرتج الباب بزعمه وأوصد، مصحباً بمدد عنايته وإن كمن وأرصد، لا يمر فاضل إلا عرج على مثواي، وأتى من البر فوق هواي، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، وتعرفت عن صاحبي الفاسي أنه قدم علينا من سخر عملية فلا لها الدسر المنهوبة، وتخللها المسبعة المرهوبة، واغتذى الأطعمة التي مرقتها الدموع، ومطبختها الحمى المروع، واستقر بالمدينة بعد أن لان وضرع، وجدل وصرع، نافق البلقلة كاسد الورع(6/274)
ونزل بمثوى خمول، ومحط مجهول، وكنف ممقوت، وجوار لا يبخل بغيبة ولا يسمح بقوت، فبادرت استدعاءه بفاضل من الطلبة ممن يتلقى به الوارد، ويقتاد الشارد، وقد أغرب بقراءة الاحتفاء والاحتفال، وأجنب الإغفاء والإغفال، وجهزت السرايا إلى التماس نعم الله تعالى فحلت الأنفال، فلما عرض عليه الدعوة تعجرف ونفر، ولما مسح عطفه بالاستنزال نزا وطفر، حتى بهت الرسول كما بهت الذي كفر، وآب يحمل عذراً بارداً، واحتجاجاً شارداً، فأقطعته جانب شماسه، وخليت بينه وبين وسواسه، ومن الغد قصدني فاعتذر، وأكثر الهذر، ولم ينبت الله النبات الحسن شيئاً مما بذر، وكان جوابي إياه ما نصه:
أبيتم دعوتي إما لبأو ... وتأبى لومه مثلي الطريقه
وبالمختار للناس اقتداء ... وقد حضر الوليمة والعقيقه
وغير غريبة أن رق حر ... على من حاله مثلي رقيقه
وإما زاجر الورع اقتضاها ... ويأبى ذاك دكان الوثيقه
وغشيان المنازل لاختيار ... يطالب بالجليلة والدقيقه
شكرت مخيلة كانت مجازاً ... لكم وحصلت بعد على الحقيقة وذاع خبرها فقلبت عنها الجنوب، وكلف بها الطالب والمطلوب، وهش إلى المراجعة عنها أحد الموثقين بسلا ممن يحوم حول حمى الإدراك، ويروم درجة الاختصاص ببعض الفنون والاشتراك، وله في الأدب مساس، وجلب الباس، بما نصه:
رسولك لم يبن لي عن طريقه ... تقرب من حديقتك الأنيقه
فلا بأولدي ولا إباء ... ولكن ساء في الغرض الطريقه
وهب أني أسأت فكم صديق ... تدلل واعتدى فجفا صديقه(6/275)
فلا عجب فديت لرفق حر ... يسكن عند خجلته رفيقه
وإني فيك معتقد، ولكن ... أرى الأيام حاقدة حنيقه
على ذي الود فيمن ود حتى ... يفارقه وإن أضحى رفيقه فراجعته بما نصه لما أسفلته من جزاء مصاعه، وكلت له بصاعه:
من استغضب من هذي الخليقه ... بمغضبة بإنكار خليقه
ولم يغضب فتيس أو حمار ... مجازاً لا، لعمري، بل حقيقه
بعثت بمرسل لك مع عتيقي ... فلم تطع الرسول ولا عتيقه
وطوقت السفير الذنب لما ... عجلت به ولم تبلعه ريقه
إمام جماعة وقريع تقوى ... ومبلغ حجة، وحفيظ سيقه (1)
فبؤت بها علآ الأيام داءً ... عضالاً لا تفيق عليه فيقه
وقد عارضت عذرك باعتراف ... فزدت مذمة تسم الطريقه
وهل بعد اعتراف من نزاع ... وهل بعد افتضال من وثيقه
ومن جهل الحقوق أطاع نفساً ... ببحر الجهل راسبة غريقه
ومنجى نيقة أمر بعيد ... إذا نصب المهندس منجنيقه فأمسك حينئذ وأقصر، وروى الأمر يطول فاختصر، إلا أنه نمي لي عنه قوله: إن دكان الوثيقة إن نافى الورع فبغير بلده، وأذهلته لذة لدده، عما هوبصدده، فارتهنت له أن أنصر الدعوى بما يسلمه المنصف المساهل، وينكره الأرعن الجاهل، وتشد به المنازل والمناهل، والمعالم والمجاهل، مستنداً إلى الحكم الشرعي، والسنن المرعي، والمشاهدة والحس، وشهادة الجن والإنس.
__________
(1) السيقة: لعلها صورة اشتقاقية من السوق أو السياق بمعنى المهر الذي يساق لى المرأة في صداقتها؛ ومما يقرب هذا المعنى أن الرجل الذي وجهت إليه الأبيات من كتاب الوثائق.(6/276)
ولو ترك القطا ليلاً لناما ... والله يجعله موقظاً من السنات، وازعاً عن كثير من الهنات، وينفع فيه بالنية فإنما الأعمال بالنيات، وها أنا أبتدئ وعلى الله الإعانة، وبحوله وقوته الإفصاح والإبانة.
قلت: ينحصر الكلام فيه في سبعة أبواب، الباب الأول: في جواز الإجازة فيها عند العلماء، الباب الثاني: في الشركة المستعملة بين أربابها، الباب الثالث: في محلها من الورع إن سوغها الفقه، الباب الرابع: في منزلتها من الصنائع والمهن، الباب الخامس: في أحوال منحليها من حيث العلم غالباً، الباب السادس: في أحوالهم من جهة استقامة الرزق وانحرافه، الباب السابع: في رد بعض ما يحتج به فيها. انتهت الخطبة المقتطعة من تأليف لسان الدين رحمه الله تعالى.
وهذا التأليف في نحوكراسة، وقال في آخره ما صورته: فإن قيل: ترك الأجر، وقبول العوض في هذا الأمر يدعوإلى تعطيله، فيفقد الناس منفعة هذه الطريقة وغناءها، قلت: الإنصاف فيها اليوم أن لوكان متوليها يرتزق من بيت المال وأموال المصالح والأوقاف التي تسع ذلك، وحال الجماهير في فقدانها والاضطرار إليها ورفع أمورهم بها إلى السلطان، ورغبتهم في نصب من يتولى ذلك حالهم في فقدان أئمة الصلاة في الماسجد الراتبة في جريانه من بيت المال بعلة التزامهم وارتباطهم فقد، حسبما نقل الإجماع فيه القاضي أبوبكر ابن العربي رحمه الله تعالى ومنع الارتزاق من غيره إجماعاً، وقد كان بالمدن المعتبرة من بلاد الأندلس - جبرها الله تعالى - ناس من أولي التعفف والتعين، كبني الجد بإشبيلية وبني الخليل وغيرهم بغيرها، يتعيشون من فضول أملاكهم، ووجائب رباعهم، ويقعدون بدورهم عاكفين على بر، منتابين لرواية وفتيا، يقصدهم الناس في الشهادة فيجاملونهم، ويبركون على صفقاتهم، ويهدونهم إلى سبيل الحق فيها من غير اجر ولا كلفة، إلا الحفظ على المناصب، وما يجريه السلطان من الحرمة(6/277)
والتفقد (1) في الضرورة، وما يهديهم الناس من الإطراء والتجلة، والله سبحانه ينيلهم من الأجر والمثوبة، وبلغني اليوم ا، حالها بمدينة سجلماسة ينظر إلى هذا الحال من طرف خفي، ولم يفسد بها كل الفساد، وكذلك لم نزل نتعرف أن الأمر في شأنها بمدينة تونس أقرب، وبعض الشر أهون من بعض، ولوبقيت بحالها لوجب تقرير فضلها وتقريظ منتحلها، فالصدق أنجى، والحق عند الله أحجى، والله عز وجل يستعملنا فيما يرضيه، ويلطف بنا فيما يجريه علينا من أحكامه وما يقضيه، ويجعلنا ممن ختم له بالحسنى، ويقربنا إلى ما هوأقرب من رحمته وأدنى، وصلوات الله على سيدنا محمد وآل وصحبه؛ انتهى.
وكتب على ظهر الورقة الأولى من هذا التأليف شيخ شيوخ شيوخنا الغمام الكبير المؤلف الشهير سيدي أحمد الونشريسي رحمه الله تعالى ما صورته: الحمد لله، جامع هذا الكلام المقيد هذا بأول ورقة منه كد نفسه في شيء لا يعني الأفاضل، ولا يعود عليه في القيامة ولا ف يالدنيا بطائل، وأفنى طائفة من نفيس عمره في التماس مساوئ طائفة بهم تستباح الغروج، وتملك مشيدات الدور والبروج، وجعلهم أضوكة لذوي الفتك والمجانة، وانتزع جلبات الصدق والديانة، سامحه الله تعالى وغفر له، قال ذلك وخطه بيمنى يديه عبيد ربه أحمد بن يحيى بن محمد بن علي الونشريسي خار الله سبحانه له؛ انتهى ما ألفتيته.
وقد كان لسان الدين رحمه الله تعالى كثيراً ما يعرض ويصرح بهجوبعض أهل سلا أوكلهم حتى قال:
أهل سلا صاحت بهم صائحه ... غادية في دورهم رائحه
يكفيهم من عوز أنهم ... ريحانهم ليست له رائحه والله المرجوللعفوعن الزلات.
75 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى خطبة كتابه في المحبة الذي ما
__________
(1) ق: والنفقة.(6/278)
ألف في فنه أجمع منه، ولنوردها فإن فيها دلالة على فضله وعظم قدر الكتاب وهي: اللهم طيب بريحان ذكرك أنفاس أنفسنا الناشقة، وعلل بجريال حبك جوانح أرواحنا العاشقة، وسدد إلى أهداف معرفتك نبال نبلنا الراشقة، واستخدم في تدوين حمدك شبا أقلامنا الماشقة، ودل على حضرة قدسك خطرات خواطرنا الذائقة، وأبن لنا سبل السعادة التي جعلت فيها الكما الأخير لهذه الأنفس الناطقة، وأصرفنا عند سلوكها عن القواطع العائقة، حتى نأمن مخاوف أجبالها الشاهقة، وأحزابها المنافقة، وأوهامها الطارئة الطارقة، برازخها القاسية الغاسقة، فلا تسرق بضائعنا العوائد السارية السارقة، ولا تحجينا عنك العوارض الجسيمة اللاحقة، ولا الأنوار المغلظة البارقة، ولا العقول المفارقة، يا من له الحكمة البالغة والعناية السابقة، وصل على عبدك ورسولك محمد درة عقود أحبابك المتناسقة، وجالب بضائع توحيدك النافقة، المؤيد بالبراهين الساطعة والمعجزات الخارقة، ما أطلعت أفلاك الأدواح زهر أزهارها الرائقة، وحدت قطار السحائب حداة رعودها السائقة، وجمعت ريح الصبا بين قدود أغصانها المتعانقة.
أما بعد فإنه لما ورد على هذه البلاد الأندلسية المحروسة بحدود سيوف الله حدودها، الصادقة بنصر الله للفئة القليلة على الفئة الكثيرة وعودها - وصل الله تعالى عوائد صنعه الجميل لديها، وأبقاها دار إيمان إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها - " ديوان الصبابة (1) " وهوالموضوع الذي اشتمل من أبطال العشاق على الكثير، واستوعب من أقوالهم الحديثة والقديمة كل نظيم ونثير، وأسدى في غزل غزله وألحم، ودل على مصارع شهدائهم من وقف وترحم، فصدق الخبر المخبر، وطمت اللجة التي لا تعبر، وتأرج من مسراه المسك والعنبر، وقالت العشاق عند طلوع قمره: الله اكبر:
مررت بالعشاق قد كبروا ... وكان بالقرب صبي كريم
__________
(1) كتاب من تأليف شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة(6/279)
فقلت: ما بالهم قال لي: ... ألقي للحب كتاب كريم ولا غروأن أقام بهذه الآفاق، أسواق الأشواق، وزاحم الزفرات في مسالك الأطواق، وأسأل جواهر المدامع من بين أطباق تلك الحقاق (1) ، وفتك نسيمها الضعيف العهد والميثاق بالنفوس الرقاق:
جنى النسيم علينا ... وما تبينت عذره
إذ صير الخلق نجداً ... والأرض أبناء عذره فوقع للحجة المصرية التسليم (2) ، وقالت ألسنة الأقلام معربة عن ألسنة الأقاليم:
سلمت لمصر في الهوى من بلد ... يهديه هواؤه لدى استنشاقه
من ينكر دعواي فقل عني له ... تكفي امرأة العزيز من عشاقه فغمر المحافل والمجالس، واستجلس الراكب واستركب الجالس، يدعوالأدب إلى مأدبته فلا يتوقف، ويلقي عصا سحره المصري فتتلقف، ما شئت من ترتيب غريب، وتطريب وبنان أريب، يشير إلى الشعر فتنقاد إليه عيونه، ويصيح بالأدب الشريد فتلبيه فنونه، وأنهى خبره للعلوم المقدسة، ومدارك العز الموطدة المؤسسة، سما به الجد صعداً إلى المجلس السلطاني مقر الكمال، ومطمح الأبصار والآمال، حيث رفارف العز قد انسدلت، وموازين القسط قد عدلت، وفصول الفضل قد اعتدلت، وورق أوراق المحامد قد هدلت، مجلس السلطان المجاهد، الفاتح الماهد، المتحلي في ريعان العمر الجديد، والملك السعيد، بحلى القانت الزاهد، شمس أفق الملة، وفخر الخلفاء الجلة، بدر هالات السروج المجاهدة، أسد الأبطال البارزة إلى حومة الهياج الناهدة، معشي الأبصار المشاهدة، مظهر رضى الله تعالى عن هذه الأمة الغريبة عن الأنصار والأقطار، من وراء أمواج (3)
__________
(1) ق: الأطباق.
(2) كذا قال، ولكن ابن أبي حجلة مغربي المولد، استوطن القاهرة.
(3) أمواج: سقطت من ق.(6/280)
البحر الزخار، باختياره لها واعتيامه، وملبسها برود اليمن والأمان ببركة أيامه، ومن أطلع الله تعالى أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السماح من غمام يمينه، وأجرى في الأرض المثل السائر بحلمه وبسالته ودينه، أمين الله تعالى على عهدة الإسلام بعذا القطر وابن أمينه وابن أمينه، فخر الأقطار والأمصار، ومطمح الأيدي وملمح الأبصار، وسلالة سعد بن عبادة سيد الأنصار، ومن لونطق الدين الحنيفي لحياه وفداه، أوتمثل الكمال صورة ما تعداه، مولانا السلطان الإمام العالم العامل المجاهد أمير المسلمين أبوعبد الله ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد مبتسماً عن شنب نصره، والفتح المبين مذخوراً لعصره، كما قصر آداب الدين والدنيا على مقاصير قصره، وسوغه من أشتات مواهب الكمال ما تعجز الألسن عن حصره، ولا زالت أفنان الأقلام تتحف الأقاليم بجني فنون هصره، فخصته عين استحسانه أبقاه الله تعالى بلحظة لحظ، وما يلقاها إلا ذوحظ، وصدرت إلي منه الإشارة الكريمة بالإملاء في فنه، والمنادمة على بنت دنه، وحسب الشحم من ذي ورم والله سبحانه يجعلني عند ظنه، ومتى قورتن المثري بالمترب، أووزن المشرق بالمغرب شتان بين من تجلى الشمس منه فوق منصتها، وبين من يشره أفقه الغربي لابتلاع قرصتها، لكني امتثلت، ورشت ونثلت، ومكرهاً لا بطلاً مثلت، وكيف يتفرغ للتأليف، ويتبرع للوفاء بهذا التكليف، من حمل الدنيا في سن الكهولة على كاهله، وركض طرف الهوى بين معارفه ومجاهله، واشترى السهر بالنوم، واستنفد سواد الليل وبياض اليوم، في بعث يجهز، وفرصة تنهز، وثغر للدين يسد، وأزر للملك يشد، وقصة ترفع، ووساطة تنفع، وعدل يحرص على بذله، وهوى يجهد في عذله، وكريم قوم ينصف من نذله، ودين تزاح الشوائب عن سبله، وسياسة تشهد للسلطان بنبله وإصابة نبله، ما بين سيف وقلم، وراحة وألم، وحرب وسلم، ونشر علم أوعلم، وجيش يعرض، وعطاء(6/281)
يفرض، وقرض حسن لله تعالى يقرض، في وطن توافر العدوعلى حصره، ودار به دور السوار على خصره، وملك قصر الصبر والتوكل على قصره، وعدد نسبته من العدد العظيم الطاقة، الشديد الإضاقة، نسبة الشعرة من جلد الناقة، وبالله نستدفع المكروه، وإليه نمد الأيدي ونصرف الوجوه، وسألت منه - أيده الله تعالى - القنوع بما يسره الوقت، مما لا يناله المقت، والذهاب بهذا الغرض لما يليق بالترب والسن، ويؤمن من اعتراض الإنس والجن، وما كنت ممن آثر على الجد والهزل، واعتاض من الغزل الرقيق الغزل بشيمة الجزل، ولا آنف نم ذكر الهوى بعد أن خضت غماره، واجتنيت ثماره، وأقمتن مناسكه ورميت جماره، وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة، فالهوى أول تميمة قلدتني الداية، والترب التي عرفتها في البداية، وأنا الذي عن عروته نبت، وبعثت إلى الرصافة لأرق فدبت، إلى أن تبين الرشد من الغي، وصار النشر إلى الطي، وتصايح ولدان الحي، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم كما من علي:
جزى الله عني زاجر الشيب خير ما ... جزى ناصحاً فازت يداي بخيره
ألفت طريق الحب حتى إذا انتهى ... تعوضت حب الله عن حب غيره حال السواد بحال الفؤاد، وصوح المرعى فانقطعت الرواد، ونهاني ازورار خيال الزوراء، واتفات عاذل الشيب عن المقلة الحوراء، وكيف الأمان، وقد طلع منه النذير العريان، يدل على الخبر بخبره، وينذر بهاذم اللذات على أثره، ولله در القائل:
دعتني عيناك نحوالصبا ... دعاء يردد في كل ساعه
فلولا، وحقك عذر المشيب ... لقلت لعينيك: سمعاً وطاعه ولولا أن طيف هذا الكتاب الوارد طرق مضجعي وقد كاد يبدوالحاجب، ويضيع من الفرض الواجب، ويعجب من نوم الغفلة العاجب، لجريت معه في(6/282)
ميدانه، وعقدت بناني ببنانه، وتركت شاني وإن رغم الشاني لشانه، وقلت معتذراً عن التهويم في بعض أحيانه:
أهلاً بطيفك زائراً أو عائداً ... تفديك نفسي غائباً أوشاهدا
يا من على طيف الخيال أحالني ... أتظن جفني مثل جفنك راقدا
ما نمت، لكن الخيال يلم بي ... فيجله طرفي فيطرق ساجدا ومن العصمة أن لا تجد، هلا قبل المشيب، ومع الزمن القشيب، وقبل أن تمخض القربة، وتبنى الخانقاه والتربة، وتؤنس باله الغربة، وعلى ذلك فقد أثر، وباء قلبي المعثر، اللهم لا أكثر:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرا متمنع أركانه
فبدا لينظر كيف لاح، فلم يطق ... نظراً إليه ورددت أشجانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه وجعلت الإملاء على حمل مؤازرته أيده الله تعالى علاوة، وبعد الفراغ من ألوان ذلك الخوان حلاوة، وقلت أخاطب مؤلف كتاب الصبابة بما يعتمده جانب إنصافه، ويغطي على نقص إن وقع فيه كمال أوصافه:
يا من أدار من الصبابة بيننا ... قدحاً ينم المسك من رياه
وأتى بريحان الحديث فكلما ... سمح النديم براحه حياه
أنا لأهيم بذكر من قتل الهوى ... لكن أهيم بذكر من أحياه وعن لي أن أذهب بهذا الحب المذهب المتأدي إلى البقاء، الموصل إلى ذروة السعادة في معارج الارتقاء، الذي غايته نعيم لا نيقضي أمده، ولا ينفذ مدده، ولا يفصل وصله، ولا يفارق الفرع أصله، حب الله المبلغ إلى قربه، المستدعي لرضاه(6/283)
وحبه، المؤثر بالنظر إلى وجهه، ويا لها نم غاية، الملقي رحل المتصف به بعد قطع بحار الفناء على ساحل الولاية.
وكنت وقفت من الكتب المؤلفة في المحبة على جملة منها كتاب يشهده العوام ويستخفه الهوام، ورسالة ابن واصل رسالة مهذارة، تطفومن دارة إلى دارة، في مطاردة هر وفارة، وكتاب ابن الدباغ القيرواني (1) كتاب مفرقع، ووجه المقصود منه متبرقع، وكتاب ابن خلصون وهوأعدلها لولا بداوة تسم الخرطوم، وناسب الجمل المخطوم، فكنت بما ذكر لا أقنع، وأقول ما أصنع، فالله يعطي ويمنع:
قلت للساخر الذي ... رفع الأنف واعتلى
أنت لم تأمن الهوى ... لا تعير فتبتلى شعر:
وعذلت أهل العشق حتى ذقنه ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق (2) ومن المنقول: لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك.
بلاني الحب فيك بما بلاني ... فشأني أن تفيض غروب شاني أجل بلاني بالغرض الذي هومن القلوب سر أسرارها، ومن أفنان الأذهان بمنزلة أزهارها، ومن الموجودات وأطوارها قطب مدارها؛ ليكون كتابي هذا المقدم على المأزق المهلك، المتشبع بما لا يملك، وأن يقنع الاتصاف، فعسى أن يشفع الإنصاف، والاقتراف، يدرؤه الاعتراف، أنا عند المنكسرة قلوبهم، ولا تجود يد، إلا بما تجد، وكل ينفق مما آتاه الله:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس (3)
__________
(1) لعله يشير إلى كتاب " مشارق أنوار القلوب " لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري المعروف بابن الدباغ (- 696) . وقد نشره الأستاذ هـ. ريتر (دار صادر: 1959) .
(2) البيت للمتنبي من قصيدته التي مطلعها " رق على أرق ومثلي يأرق ".
(3) البيت لجرير، ديوانه: 250.(6/284)
وعسى الذي أنطق شوقاً، أن ينطق ذوقاً، والذي حرك سفلاً أن يحرك فوقاً، والذي يسره مقالاً، أن يكفيه حالاً.
فأول الغيث طل ثم ينسكب ... الحرب أول ما تكون لجاجة ... وإن الحرب أولها الكلام (1) ... نحمد الله سبحانه على الكلف بهذه الطريقة {وما يلقاها إلا ذوحظ عظيم} (فصلت: 35) وللأرض نصيب من كأس الكريم (2) :
أليس قليلاً نظرة إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل
فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي (3) وعلى ذلك فذهبت في تربيته أغرب المذاهب، وقرعت في التماس الإعانة باب الجواد الواهب، وأطلعت فصوله في ليل طلوع نجوم الغياهب، وعرضت كتائب العزيمة عرضاً، وأقرضت الله قرضاً، وجعلته شجرة وأرضاً، فالشجرة المحبة مناسبة وتشبيها، وإشارة لما ورد في الكتب المنزلة ونبيهاً، والأرض النفوس التي تغرس فيها، والأغصان أقسامها التي تستوفيها، والأوراق حكاياتها التي تحكيها، وأزهارها أشعارها التي تحييها، والوصول إلى الله تعالى ثمرتها التي ندخرها بفضل الله ونقتنيها، شجرة لعمر الله يانعة، وعلى الزعازع متمانعة، ظلها ظليل، والطرف عن مداها كليل، والفائز بجناها قليل، رست في التخوم، وسمت
__________
(1) صدره: فإن النار بالعودين تذكي؛ يرد في رسالة لنصر بن سيار يستنجد بها الخليفة الأموي عند ظهور المسودة.
(2) عكس قول الشاعر: وللأرض من كأس الكرام نصيب، وكذلك ثبت النص في ق.
(3) البيت للشريف، ديوانه 1: 658 وديوان الصبابة: 49.(6/285)
إلى النجوم، وتنزهت عن أعراض الجسوم، والرياح الحسوم، وسقيت بالعلوم، وغذيت بالفهوم، وحملت بالزهر المكتوم، ووفيت ثمرتها بالغرض المروم، فاز من استأثر بجناها، وتعنلاى من عني بلفظها دون معناها، فمن استصبح بدهنها استضاء بسناها، ما أبعدها وما أدناها، عيناً ملأت الأكف بغناها، كم بين أوراقها من قلب مقلب، وفي هوائها من هوى مغلب، وكم فوق أفنانها من صادح، وكمم في التماس سقيطها من كادح، وكم دونها من خطب فادح، ولأربابها من هاج ومادح، تنوعت أسماؤها، ولم تتنوع أرضها ولا سماؤها، فسميت نخلة تهز وتجنى، وزيتونة مباركة يستصبح بزيتها الأسنى، وسدرة إليها ينتهي المعنى، أصلها للوجود أصل، وليس لها كالشجر جنس ولا فصل، وتربتها روح ونفس عقل، وشرفها يعضده بديهة ونقل، يحط بفنائها، ويصعد السالكون حول بنائها، تخترق السبع الطباق ببراقها، وتمحى ظلم الحس بنور إشراقها، فسبحان الذي جعلها قطب الأفلاك، ومدافن الأضواء والاحلاك، ومغرد طيور الأملاك، وسبب انتظام هذه الأسلاك، لم يحل فيها طريد بعيد، ولا اتصف بصفاتها إلا سعيد، ولا اعتلق بأوجها هاوفي حضيض، ولا بمحض برهانها متخبط في شرك نقيض، ولا تعرض لشيم بوارقها متسم بسمة بغيض، الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ومنه نستزيد الاستغراق في بحارها، والاستنشاق لنواسم أسحارها، والاستدلال بذرى أفنانها عليه، والوصول بسبب ذلك إليه، إنه ولي ذلك سبحانه، فطاب لعمري المنبت والنابت، وسما الفرع الباسق ورسا الأصل الثابت، وفاءت الأفنان، وزخرفت الجنان، وتعددت الأوراق والزهرات والأغصان، ولم أترك فنناً إلا جمعت بينه وبين مناسبه، ولا فرعاً إلا ضممته إلى ما يليق به، واستكثرت من الشعر لكونه من الشجرة بمنزلة النسيم الذي يحرك عذبات أفنانها، ويؤدي إلى الأنوف روائح بستانها، وهوالمزمار الذي ينفخ الشوق في يراعته، والعزيمة التي تنطق مجنون الوجد من ساعته، وسعة ألسن العشاق، وترجمان ضمير الأشواق(6/286)
ومجتلى صور المعاني الرقاق، ومكامن قنائص الأذواق، به عبر الواجدون عن وجدهم، ومشى المحبون إلى قصدهم، وهورسول الاستلطاف، ومنزل الألطاف، اشتمل على الوزن المطرب، والجمال المعجب المغرب، وكان للأوطان مركباً، ولانفعال النفوس سبباً، فلا شيء أنسب منه للحديث في المحبة، ولا أقرب للنفوس الصبة، واجتلبت الكثير من الحكايات وهي نوافل فروض الحقائق، ووسائل مجالس الرقائق، ومراوح النفوس من كد الأفكار، وإحماض مسارح الأخبار، وحظ جارحة السمع من منح الاعتبار، وبعض الجواذب لنفوس المحبين، والبواعث لهمم السالكين، وحجتها واضحة بقوله تعالى: " وكلا نقص عليك " هود:120 في القرآن المبين، ونقلت شواهد من الحديث والخبر تجري صحاحها مجرى الزكاة من الأموال، والخواطر من الأحوال، ويجري ما سواها من غير الصحيح مجرى الأمثال، ليكون هذا الكتاب لعموم خيره، مسرحاً للفاره وغيره، ويجد كل ميداناً لسيره، وملتقطاً لطيره، ومحكاً لغيره، فمن فاق كلف بأصوله، ومن قصر قنع بفصوله، ومن وصل حمد الله تعالى على وصوله، وسميته روضة التعريف بالحب الشريف ويحتوي على أرض زكية، وشجرات فلكية، وثمرات ملكية، وعيون غير بكية.
والحب حياة النفوس الموات، وعلة امتزاج المركبات، وسبب ازدواج الحيوان والنبات، وسر قوله عز وجل {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به الناس كمن مثله في الظلمات} (الأنعام:122) ليس كالحب الذي دون المدونون، ولعبت بكرة أقباسه صوالج الجنون، وقاد الهوى أهله بحبل الهون، وساقت فيه المنى لمنون، حين نظرت النفوس من سفلى الجنبتين، ورضيت الأثر عن العين، وباعت الحق بالمين، ولم تحصل إلا على خفي حنين، وارحمنا لعشاق الصور، وسباق ملاعب الهوى والهور، لقد كلفوا بالزخارف الحائنة الحائلة، والمحاسن الزائفة الزائلة، وسلع الجبانة، وبضائع الإهانة، أزمان التمتع بهم قصيرة، والأنكاد عليهم مغيرة، فتراهم ما بين طعين بعامل(6/287)
قد، ومضرج بدم خد، وأسير ثغر قد أعوز فداؤه، وسقيم طرف قد أعضل داؤه، وما شئت من لل يسهر، ونداء به يجهر، وجيوب تشق، وبصائر تخطف أبصارها إذا لمع البرق، ونواسم تحمل التحيات، وخلع أيك تتلقى بخلع الأريحيات، وربما اشتد الختل، وأصابت النبل فكان الخبل، قلوب اشتغلت عن الله فشغلها الله بغيره، وهب الحب الجسماني لا تبعث عليه شهوة بهيمية، ولا تدعوإليه قوة وهمية، أليست الداعية مرتفعة، والباعثة منقطعة، وصورة الحسن دائرة، وأجزاؤه المتناظمة متناثرة أليس الجراب العنصري عائداً إلى أصله أليس الجنس مفارقاً لفصله ولله در علي رضي الله تعالى عنه، وقد نظر إلى قدح الماء وقد أراد أن يشرب، وعن الاعتبار أعرب، فقال: كم فيك من خد أسيل، وطرف كحيل! فأواه مكررة مرددة، ووالهفاه معادة مجددة، على قلب أصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها، ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً، وحسبنا مرارة الفراق ذلاً، وفقد النقد قلا، والغفلة عن الله شقاء محتوماً، والكآبة على الفائت شوماً:
صدني عن حلاوة التشييع ... اتقائي مرارة التودريع
لم يقم أنس ذا بوحشة هذا ... فرأيت الصواب ترك الجميع وإن كانت الشهوة فأخسس بها داعية، وإلى الفضيحة ساعية، حسبك من حمار يعلن بنداء المحبة نهاقه، ويقذفه على السباق اهتياجه إلى السفاد واشتياقه، أسير خبال، وصريع مبال، أولى له ثم أولى لوتأمل محاسن الجسوم، ما أكذب رائدها المطري، وأخبث زخرفها المغري، وأقصر مدة استمتاعها، وأكثر المساعي تحت قناعها:
على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب العار لوكان باديا (1) ما ثم إلا أنفاس تركد وتخبث، وعلل تنشأ وتحدث، وزخارف حسن تعاهد ثم
__________
(1) ينسب لذي الرمة (ديوانه: 675) وقيل بل وضع على لسانه.(6/288)
تنكث، وتركيب يطلبه التحليل بدينه، ويأخذ أثره بعد عينه، وأنس يفقد، واجتماع كأن لم يعقد، وفراق إن لم يكن فكأن قد:
ومن سره أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا
منغص العيش لا يأوي إلى دعة ... من كان ذا بلد أو كان ذا ولد
والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى مكان ولم يسكن إلى أحد وقلت وقد مات سكن عزيز علي أيام التغرب بسلا عظم جزعي عليه:
يا قلب كم هذا الجوى والخفوت ... ذماءك استبق لئلا يفوت
فقال لا حول ولا قول لي ... قد كان ما كان فحسبي السكوت
فارقني الرشد وفارقته ... لما تعشقت بشيء يموت والزمان لا يعتبر، وحاصله خبر، والحازم من نظر في العواقب، نظر المراقب، وعرف الإضاعة، ولم يجعل الحلم بضاعة، إنما الحب الحقيق حب يصعدك ويرقيك، ويخلدك ويبقيك، ويطعمك ويسقيك، ويخلصك إلى فئة السعادة مما يشقيك، ويجعل لك الكون روضاً، ومشرب الحق حوضاً، ويجنيك زهر المنى، ويغنيك عن أهل الفقر والغنى، ويخضع التيجان لنعلك، ويجعل الكون متصرف فعلك، ليس إلا الحب، ثم الوصل والقرب، ثم الشهود، ثم البقاء بعدما اضمحل الوجود، فشفيت الآلام، وسقط الملام، وذهبت الأضغاث والاحلام، واختصر الكلام، ومحيت الرسوم وخفيت الأعلام، ولمن الملك اليوم والسلام، فالحذر الحذر، أن يعجل النفس سيرها، ويفارق القفص طيرها، وهي بالعرض الفاني متثبطة، وبنائي الثقيل مرتبطة، وبصحبة الفاني مغتبطة {أن تقول نفس(6/289)
يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. أوتقول لوأن الله هداني لكنت من المتقين. أوتقول حين ترى العذاب لوأن لي كرة فأكون من المحسنين} (الزمر: 56 - 58) وفي ذلك قلت:
أعشاق غير الواحد الأحد الباقي ... جنونكم والله أعيا على الراقي
جننتم بما يفنى وتبقى مضاضة ... تعذب بين البين مهجة مشتاق
وتربط بالأجسام نفساً حياتها ... مباينة الأجسام بالجوهر الراقي
فلا هي فازت بالذي علقت به ... ولا رأس مال كان ينفعها باقي
فراق وقسر وانقطاع وظلمة ... قني ابعد من نيل السعادة يا واقي
كأني بها من بعد ما كشف الغطا ... صريعة أحزان لديغة أشواق
تقلب كفيها بخيط موصل ... رشيقة قد دون سبعة أطباق
فلا تطعموها السم في الشهد ضلة ... فذلك سم لا يداوى بدرياق
بما اكتسبت تسعى إلى مستقرها ... فإما بوفر محسب أو بإملاق
وليس لها بعد التفرق حيلة ... سوى ندم يذري مدامع آماق
ولو كان مرمى الحزن منها إلى مدى ... لهان الأسى ما بين وخد وإعناق
فجدوا فإن الأمر جد، وشمروا ... بفضل ارتياض أوبإصلاح أخلاق
ولا تطلقوا في الحس ثني عنانها ... وشيموا بها للحق لمحة إشراق
ودسوا لها المعنى وريداً وأيقظوا ... بصيرتها من بعد نوم وإغراق
ومهما أفاقت فافتحوا لاعتبارها ... مصاريع أبواب وأقفال أغلاق
وعاقبة الفاني اشرحوا وتلطفوا ... بأخلاقها المرضى تلطف إشفاق
فإن سكرت واستشرفت عند سكرها ... لماهية المسقى ومعرفة الساقي
أطيلوا على روض الجمال خطورها ... إلى أن يقوم الوجد فيها على ساق
وخلوا لهيب الشوق يطوي بها الفلا ... إلى الوجد في مسرى رموز وأذواق
فما هو إلا أن تحط رحالها ... بمثوى التجلي والشهود بإطلاق(6/290)
وتفنى إذا ما شاهدت عن شهودها ... وقد فني الفاني وقد بقي الباقي
هنالك تلقى العيش تصفو ظلاله ... وتنعم من عين الحياة برقراق
وما قسم الأرزاق إلا عجيبة ... فلا تطرد السؤال يا خير رزاق وقد أخذ الكلام في هذا الافتتاح حده، وبلغ النهر مده، فلآخذ أثر هذا الذي سردت، في تقرير ما أردت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب؛ فنقول: ينقسم هذا الموضوع إلى أرض، وشجر غض، وكل منها ميسور جدة، وفن على حدة، ما شئت من مرأى ومستمع، فمن شاء أفرد ومن شاء جمع، فلنبدأ بالأرض والفلاحة، والتكسير والمساحة، وتعيين حدود تلك الساحة، ثم نأتي بالشجرة التي نؤمل جناها، وننظر إناها، ونجعل الزاد المبلغ معناها، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هوخير مما يجمعون.
برنامج هذا الكتاب الذي يحصر الأجناس والفصول، ويرد الفروع إلى الأصول، ويسر الباحث عن مسائله بسبب الوصول، بحول الله وقوته:
خطبة الأعراس، وتوطئة الغراس، وتنحصر في جملتين:
الجملة الأولى: في صفة الأرض وأجزائها، وجعل الاختيار بإزائها، وفيها رتب:
الرتبة الأولى - رتبة الأطباق المفروضة، والاعتبارات المعروضة، وفيه مقدمة وأطباق:
المقدمة في تعيين الأرض المذكورة.
الطبق الأول: طيق القلب.
الطبق الثاني: طبق الروح.
الطبق الثالث: طبق النفس.
الطبق الرابع: طبق العقل.
الرتبة الثانية - رتبة العروق الباطنة، والشعب الكامنة، وفيها فصول:(6/291)
الفصل الأول: في العروق المعدنية.
الفصل الثاني: في المقررات العينية.
الفصل الثالث: في المدبرات البدنية.
الفصل الرابع: في البحوث البرهانية.
الجملة الثانية: في صفة الفلاحة والعمل، المتكفل فيها بنيل الأمل، وفيها اختيارات:
الاختيار الأول: فيما يصلح للاعتمار من هذه الأرض، وفيه فصول:
الفصل الأول: في أرض النفس المطمئنة.
الفصل الثاني: في أرض النفس الأمارة.
الفصل الثالث: في أرض النفس اللوامة.
الاختيار الثاني: في محركات العزيمة، لاعتمار هذه الأرض الكريمة، وفيه فصول:
الفصل الأول: في الجذب وما يتصل بذلك.
الفصل الثاني: في الوعظ المثمر لليقظة.
الفصل الثالث: في ذم الكسل.
الاختيار الثالث: يشتمل على جلب الماء ليسقي هذه الأرض من عين العلم في جدولي العقل المحرر والنقل المقرر، وفيه مقدمة في فضل العلم وتعدد أجناسه، وفصول:
الفصل الأول: في جدول العقل.
الفصل الثاني: في جدول النقل.
الفصل الثالث: في مقدار الماء المجلوب، للفلح المطلوب.
الفصل الرابع: في غبار التكوين، وسبب التلوين.(6/292)
الاختيار الرابع: في الحرث، وإخراج لبن هذه الفلاحة من بين الدم والفرث، وفيه أقسام:
أولها: القليب الأول.
ثانيها: القليب الثاني الذي عليه المعول.
ثالثها: في سكة الازدراع والتعمير، وهومظنة التثمير.
الاختيار الخامس: في تنظيف المعتمرة من الأرض الخبيثة، والجدر المعترضة والشعب المذمومة، وفيه فصول:
الفصل الأول: في إزالة شكوك تسبق إلى المعتقد غالباً.
الفصل الثاني: في قلع الشجر التي تضر بهذه الأرض وتعاديها بالطبع.
الاختيار السادس: في أمور ضرورية تلزم لهذه الفلاحة، وفيه فصول:
الفصل الأول: في أمراض يشرع في علاجها، مما يرجع لطبع الأرض ومزاجها.
الفصل الثاني: في اختيار أنواعها وأجزائها.
الفصل الثالث: في أقوال تليق بأفحاص الفلاح وإصحاره، عند ملاحظة عجائب الكون وآثاره.
الفصل الرابع: في الوقت المختار لغراسة الأسباب، في الحب اللباب، وتنحصر في مقدمة علمية، وجرثومة جرمية: المقدمة العلمية في ترتيب المحبة والمعرفة، الجرثومة الجرمية تنقسم إلى بيان يعطي الصورة، ويشرح الضرورة، وإلى بطن وظهر، وسر وجهر، وباسط، وبرزخ واسط، فالباطن الشرع والنقل، وينقسم إلى أصول:
الأصل الأول: الكلام في النبوة من حيث النقل.
الأصل الثاني: في الإيمان والاعتبار العامي.
الأصل الثالث: فيما يتبع ذلك من اليقظة والتوبة في حق غير المحتاج إلى ذلك.(6/293)
الأصل الرابع: في تقرير العناية والتوفيق في حق غير المحتاج إلى ذلك.
الأصل الخامس: في الموعظة والسماع من حيث تهذيب الجميع، والظاهر الطبع والعقل، وينقسم إلى أصول:
الأصل الأول: جزء الفلسفة العلمي والعملي.
الأصل الثاني: سلامة الفطرة في حق المستغني عن ذلك.
الأصل الثالث: في معرفة الجمال والكمال.
الأصل الرابع: في الاعتبار الخاصي.
الأصل الخامس: السلوك بالفكر.
الأصل السادس: في التشبيه بالمبدأ الأول، باسط الذكر الباسط، والبرزخ الواسط، الصاعد من التخوم، إلى النجوم، وهومن أخص الأشياء بباطن الشجرة، وأصولها المعتبرة، ويشتمل على مقدمة وثلاثة أصول:
الأصل الأول: الأدعية والذكار، وله عشر شعب.
الأصل الثاني: أصل الأسماء، وهي أصول الأرض والسماء، وله تسع وتسعون شعبة.
الأصل الثالث: أصل السيمياء، وهوالذي عفن بعضه وبقي الانتفاع ببعضه.
العمود المشتمل على القشر والعود، والجنى الموعود، ينقسم قسمين:
قشر وخشب، ودر مخشلب، والقشر ظاهر يكسر ويخذو، وباطن ينمي ويغذو، فظاهره الذي يكسر ويخذويتضمن الكلام في المحبة وأقسامها من حيث اللسان، لا من حيث نوع الإنسان، وباطنه الذي ينمي، ويغذويتضمن الثناء على المحبة طبعاً وعقلاً، وشرعاً ونقلاً.
الخشب الذي يتخذ منه النشب ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: في الحدود والمعرفات، والأسماء الدالة عليها والصفات.
القسم الثاني: معقول معناها، المتجلي فيه نور سناها.(6/294)
القسم الثالث: ارتباطها بالمقامات، واختصاصها فيها بالكرامات.
القسم الرابع: تبيين ضروريتها، وإيضاح مزيتها.
الفرع الصاعد في الهواء، على خط الاستواء، من رأس العمود القائم، إلى منتهى الوجود الدائم، ويشتمل على قشر لطيف، وجرم شريف.
القشر: الحدود للمعرفة والرسوم، وخواص العارف الذي هوالمعروف بها والموسوم، وينقسم إلى فصول:
الفصل الأول: في حدود المعرفة ورسومها وما قيل فيها.
الفصل الثاني: في أوصاف العارف.
الفصل الثالث: في تفضيل العارف.
الفصل الرابع: في علوم العارف.
والجرم الشريف، من الفرع المنيف، ينقسم إلى ظاهر، وباطن، وقلب.
فالظاهر ينقسم إلى أقسام: الكلام في الأخلاق ومنشئها وطباعها بحسب القوى النفسانية وإفراطها وتفريطها واعتدالها وعلاجها، وفيه المجاهدات.
والباطن يتضمن الكلام في أ، النظر إلى وجه الله تعالى هوالسعادة الكبرى بكل نظر واعتبار.
والقلب قلب الغصن يتضمن الرياضة والسلوك على المقامات كلها، ويتفرع منه عشرة غصون.
الغصن الأول: غصن فروع البدايات.
الغصن الثاني: غصن فروع الأبواب.
الغصن الثالث: غصن فروع المعاملات.
الغصن الرابع: غصن فروع الأخلاق.
الغصن الخامس: غصن فروع الأصول.
الغصن السادس: غصن فروع الأدوية.(6/295)
الغصن السابع: غصن فروع الأحوال.
الغصن الثامن: غصن فروع الولايات.
الغصن التاسع: غصن فروع الحقائق.
الغصن العاشر: غصن فروع النهايات، ولكل فروع أوراق، ويلحق به صورة السلوك بالذكر حتى يتأتى الوصول، وعلى المقصود الحصول، والكلام على زهرات الطوالع واللوائح والبواده والواردات، ونختم بالجنى، المقترن بنيل المنى، وهي الولاية.
تفرع ضخام الغصون، من شجرة السر المصون، وهي:
غصن المحبوبات وأقسامها، وتنقسم إلى أربعة أفنان:
الفن الأول: فن الرب المحبوب.
الفن الثاني: فن العبد المحبوب.
الفن الثالث: فن الدنيا المحبوبة.
الفن الرابع: فن الآخرة المحبوبة.
غصن المحبين، وأصنافهم المرتبين، ينقسم إلى مقدمة بيان، وستة أفنان:
الفن الأول: في رأي الفلاسفة الأقدمين.
الفن الثاني: في رأي أهل الأنوار والإشراقيين.
الفن الثالث: في رأي الحكماء الإسلاميين.
الفن الرابع: في رأي المكلمين بزعمهم المتممين.
الفن الخامس: في أهل الوحدة المطلقة من المتوغلين.
الفن السادس: في الصوفية سادة المسلمين.
غصن علامات المحبة، وشواهد النفوس الصبة، وينقسم إلى ثلاثة أفنان:
الفن الأول: فيما يرجع إلى حقوق المحبوب.
الفن الثاني: فيما يرجع إلى باطن المحب.(6/296)
الفن الثالث: فيما يرجع إلى ظاهره.
غصن اختيار المحبين في ميدان جهادهم، وتباين أحوال أفرادهم، وهوثلاثة أفنان: الفن الأول: فن المجاهد الصريح.
الفن الثاني: فن المنبت الجريح.
الفن الثالث: فن الصريع الطريح.
جوائح الشجرة، ومضار فلاحتها المعتبرة، وينقسم إلى جوائح من نسبتها، بالنظر إلى مائها وتربتها، وإلى ما هوراجع إلى الخواطر - وهي على عدد الرياح - وإلى ما سببه غفلة الفلاح، عذر الطائر الصادح، على فرض القادح، ووجود الهاجب والمادح.
صورة الشجرة ذات الحسن الباهر، والجنى والأزاهر، وآثارها للحسن الظاهر، بفضل المريد القاهر، لا إله إلا هوسبحانه له الحمد؛ انتهت الخطبة التي تدل على ما وراءها.
وقال رحمه الله تعالى في آخر هذا الكتاب ما نصه: ونختم الكلام في هذه الشجرة والاستدلال على شرف هذه الفلاحة الضمنية بهذه الأبيات:
فلاحتنا لها القدح المعلى ... وسرحتنا الضمنية للنجاح
ألست ترى منادي الخمس نادى ... بمختلف الجهات أو النواحي
يردد في الأضان لكل واع ... على الآذان حي على الفلاح وهذا طائر على الشجرة صادح، ولاحق كادح، ومعتذر إن قدح قادح، وتعارض هاج وما دح. قال المؤلف: ولا بد لنا من دري صادح على هذه الأفنان، وشاد يهيج أشجان الجنان، ويثير شجوالرأفة والحنان، ويبين مجال الضرورة لذوي الاتصاف، بكرم الأوصاف، والناظرين إلى الهنات بعيون الإنصاف، فيرحم من قد كان شره النقد، ويعذر من تشوف لاستضعاف هذا القصد(6/297)
والأعذار التي تقرر عنا هذا الطائر عديدة، ومبدئه في الصدق معيدة، وقريبة من الحق لا بعيدة، فمنها أن هذا الفرض اليوم بأكثر الأرض، ميدان عدم فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله من يجيل (1) كما يحب جواداً، ونفير لا يجيبه إلا من يكثر سواداً، قد طمست الأعلام، وسقط الحمد والملام، وما لجرح بميت إيلام، فمدلول هذا الفن بهذه التخوم عنقاء مغرب، وإكسير يحدث عنه غير واصل ولا مجرب، إنما يرجع فيه إلى كتب مقفلة، وأغراض مغفلة، وما عسى أ، يعول المسكين مثلي على قاصر إدراكه، مع اقتسام باله واشتراكه قصر العلم والعمل، فاختلط المرعي والهمل، وأخفق المسعى وخاب الأمل، ومنها شواغل الدنيا التي اختطفت من المكاتب، وموهت بالمراتب، ولقبت بالوزير والكاتب، وأقامت العبد الذي لا يملك شيئاً مقام العاتب، ومن كان بهذه المثابة وإن عد يقظاً حازماً، ونحريراً خالماً، فإنما هوغريق، وتائه لا يبدوله طريق، ولا ينساغ له ريق، ولا يطفأ ببرد اليقين منه حريق، ولا يربع عليه من قصاد الله تعالى فريق، ونستغفر الله، فالذي ألهم لهذه العيوب، يتكفل بإصلاح القلوب، ومكاشفة الغيوب، وإن كانت النفوس للحق جاحدة، فما أمري إلا واحدة:
لا تعجبن لطالب نال العلا ... كهلاً وأخفق في الزمان الأول
فالخمر تحكم في العقول مسنة ... وتداس أول عصرها بالأرجل ومنها الاشتغال بالهذر، عن اعلم والنظر، منذ أزمان عديدة، ومدد مديدة، فلم يبق مما حصل، وإليه مما في الزمان الديم توصل، إلا رسم بلقع، وسمل (2) ما له مرقع، ومنها أنني لم أنتدب إلى هذا الوظيف الذي قل من يتعاطاه، ويثير قطاه، ويقتعد مطاه، من تلقاء نفس جاهلة ببعد مداه، ومطل جداه، ومطالبة مدعيه بما كسبت منه يداه، فلا يتجاوز طوره ولا يتعداه، وإن طالب الحق من شرط وصوله، سلب فصوله، وحالة موته، وانقطاع حسنه فضلاً عن صوته،
__________
(1) ق: بخيل.
(2) ق: شمل.(6/298)
لكني خضت على عدم السباحة غمراً، وامتثلت مع سقوط الاستطاعة أمراً، وجئت بما في وسعي اقياداً وامتثالاً، ومثلت مثالاً، فضرورتي بفضل الله تعالى مشروحة، والدعوى عن كتفي مطروحة، وعلى ذلك فقد علم الذي يعلم الأسرار، ويقرب الأبرار، ويقيل العثار، ويقبل الأعذار، أن مدة الاشتغال به لم تجاوز شهرين اثنين، بين كتب وكتم، وابتداء وختم، مع ما يتخلل الزمان من حمل لورمي به رضوى لتدعدع، أوأنزل على ثبير لخشع من خشية الله تعالى وتصدع: مداراة عدوقد تكالب على الإسلام، وسياسة سواد صم عن الملام، وتعدى حدود النهي والأحلام، وارتقاب هجوم جيش الآجال وراية الشيب من الأعلام، وقد أنذر بالفجر انقشاع الظلام، وكاد يصعد الخطيب فينقطع الكلام، جعلت لنقله حصة من جنح الظلام الغاسق، والليل الواسق، وعاطيت حمياه نديم الغارق (1) ، وتعرضت لاقتناص خياله الطارق، وسرقته من أيدي الشواغل والليل معين السارق، ولم يعمل فيه عبد القيس (2) نظراً معاداً، ولا أنجز من تصحيحه علم الله تعالى ميعاداً، إنما هوكراس يفرغ من تسويده رجراج الحبر، مختلط الترب بالتبر، فيدفع ملوم الماسخ، إلى يد الناسخ، وكلفة المتثاقل، إلى كف الناقل، وتقذف صحيفته من الزبرة إلى لاصاقل، إذ كان الآمر - أيده الله تعالى ونفعه - حريصاً على تعجيل المعارضة، ومتحرياً سبيل الشرع في هذه المصارفة والمقارضة، والجفن المشرق يعلن بالتبريح، وينتظر مساعدة الريح، فمن وقف عليه من فاضل أنار الله بصيرته، وجبل على الإنصاف سيرته، أومن كان من أهل الله الذي يعلم أن ما سوى الله تعالى ظل وفيء، ويتحقق معنى قوله " ليس لك من الأمر شيء "، فقد أوجب الإنصاف أن يمحواقترافي باعترافي، ويغطي أوصافي بإنصافي، والرحماء يرحمهم الرحمن، وقد عذر القنبرة سليمان، ومع
__________
(1) كذا، ولعل صوابه " العاتق " أي الخمر القديمة أو الشراب الجيد.
(2) حقه أن يقول عبد قيس، لإشارته إلى قول الشاعر:
أعد نظراً يا عبد قيس فإنما ... أضاءت لك النار الحمار المقيدا(6/299)
الاستسلام الأمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولا بأس أن يعرض بتلك لاأخونة الخصيبة المثوى والمروج، والحمل والفروج، وفي السماء البروج، وفي الأرض الفروج، والأعرج يستندر منه العروج، ونمد الأيدي المستعملة في التقصير، إلى الولي النصير والناقد البصير. اللهم استر بسترك فضائحنا المخلفة، وقبائحنا المجمعة المؤلفة، فهوكله تحويم حول حماك، ودندنة يا كريم بباب رحماك، وزند أنت قدحته، وتألق بارق أنت ألحته، فصل السبب يا واصل الأسباب، واجعلنا ممن تذكر فنفعته الذكرى وما يتذكر إلا أولوالألباب، اللهم دل نفوسنا الحائرة على عين الخبر، واجذبها إلى المؤثر بزمام الأثر، اللهم اجبر الضالة المثقلة الظهر، وارفع عنها ملكة القهر، وحيطة الدهر، والسفر من بلد السر إلى بلد الجهر، اللهم أعلق بعروة الحق أيدينا الخابطة، وأظفر بعدوالهوى عزائمنا المرابطة، اللهم أوصل سببنا بسببك، واحملنا إليك بك، لا إله إلا أنت، وصل على عبدك ونبيك محمد خاتم النبيين والمرسلين وآل والصحابة أجمعين انتهى.
وقال - رحمه الله تعالى - آخر بعض تراجم هذا الكتاب ما صورته: خاتمة تشتمل على إشارات، وتختال من الحق في شارات، قال بعض من يطأ بمطية السلوك، حمى الملوك، وينقض زوايا الغيوب، عن المطلوب، ببصر بصائر القلوب: شهدت أصناف المحبين والعشاق، على اختلاف البلاد وتباين الآفاق، لا أدري أقال كشفاً وشهوداً أووجوداً أويقظة أوهجوداً، وقد ركضوا مطايا الأشواق، وضربوا آباطها بعصي المشارب والأذواق، وتزودوا أزواد الحقائق، وودعوا أحباب العوائد والعلائق، وتساهلوا في المحبوب اعتراض العوائق، وتفاضلوا في اختيار الجواد واقتحام المضايق، والطرق إلى اله تعالى عدد أنفاس الخلائق، فمن خابط عشواء، ومسقط أهواء، يقول:
يا ليت أني أوقد النارا ... فإن من يهواك قد حارا (1)
__________
(1) حور في قول عدي بن زيد:
يا لبيني أوقدي النارا ... إن من تهوين قد حارا(6/300)
فيجيبه الصدى:
ومن طلب الوصول لدار ليلى ... بغير طريقها وقع الضلال ومثبت بحيث لا يبدوعلم، ولا يقتص خف ولا قدم، في مفازة وجود من حلها عدم، وهويصيح:
بأبي وأمي والذي ملكت يدي ... أفدي الذي يهدي الطريق اللاحبا ثم يقول:
ولقد سريت إليك لكن حين لم ... يكن الدليل أجل قصد السالك ومن طاونفذ زاده، وفرغ مزاده، قد استسلم، وعجز أن يتلكم، ولسان حاله ينشد:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التفريط في زمن البذر وراكض يقطع الدو، ويعرف بالجو، يثبت الأعلام الخافية، ويقصد الموارد الصافية والظلال الضافية، حاديه أمله، ودليله علمه والراحلة عمله، ينشد بأعلى صوته:
قرب اللقاء فكيف لا ترتاح ... للقاء سكان الحمى الأرواح وفرانق يركض البريد، ويصحب التفريد، بلغ الطية، وأناخ المطية، قبل وصول الرفقة البطية:
سرى سلخ شهر في فواق حلوبة ... فلله ما أنأى سراه وما أدنى {لوطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولمئلئت منهم رعباً} (الكهف: 18) .
وقلت:
نهضوا وقد جن الدجى وتخالفت ... سبل الردى فمسددون وضلل(6/301)
سلني عن المنبت حين تقطعت ... أسبابه تيهاً ولا من يسأل
قوم سطت بهم السباع، وفرقة ... عطشوا، وأين من الظلماء المنهال
لفح الهجير وجوههم بسعيره ... فتهافتوا ببلالة وتعللوا
وجماعة ركبوا المفاوز دائماً ... عثروا على أثر فشط المنزل
وركائب جعلوا الدليل أمامهم ... وسروا ففازوا بالذي قد أملوا
والليل متلفة، ومدرجة الهوى ... لا يستقل بها المطي الذلل
والواصلون هم القليل وكيف تقحموا ... خطر النوى وعلى الشدائد عولوا
طارت بهم أشواقهم فعقولهم ... معقولة عن شأنها لا تعقل
عذراً لكم يا أهل عذرة شأنكم ... سلمت فيه لكم فقولوا وافعلوا حتى إذا خرجوا إلى قضاء القدر المشترك، وأفلت من أفلت من الشرك، وسلم من قتيل المعترك، وأشرفوا بركاب الآمال، على ثنية الجمال، زعقوا بإزاء الباب، ونادوا من وراء الحجاب:
كل كنى عن شوقه بلغاته ... ولربما أبكى الفصيح الأعجم وأوصلوا رقاع شكواهم، بسر هواهم، وبرزوا صفاً، واستظهروا بشفعائهم التي ظنوا أنها لا تخفى {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر:3) وقد تعينت الأوصاف وتميزت، وانتبذت الأصناف وتحيزت، والعشاق نجت وسلمت، مذ علمت، منهم الصفوة والمجان، والحرافيش والبهلوان، ممن يعول على ذراعه، وملء كمته وصواعه، وطول باعه، وصلابة طباعه، وسلاطة لسانه، وامتزاج إساءته بإحسانه، شأنه البحث عن المحبوب، مع الشروق والغروب، والتوصل إلى وصله المطلوب، بالحركة الرشيقة واللفظ الخلوب، ومن اتسم بإذاعة الأسرار، وصحبة الشرار(6/302)
واللسان المهذار، حسب من الأغيار، ونمهم بذاة، ليس لهم إلا المنادمة أدة، تعذر عليهم تميز المحبوب فغلظوا، وعكفوا على تنزيهه فأفرطوا:
ربما ضر عاشق معشوقا ... ومن البر ما يكون عقوقا وغلبت على سجيتهم السلامة، ولم تنلهم لعدم الموصل والمعرف الملامة، وليس لقبول عليهم علامة؛ ومنهم من شعاره الحشمة، ولزيمه العاف والعصمة، أولوالحياء والوقار، والكتم للأسرار، ومخالطة الأبراب، والتوسل إلى المحبوب بالافتقار، وصفاء الضمائر من الأكدار، لا تختلجهم الشواغل، ولا يطرق شرابهم الواغل (1) ، أغنتهم الشواهد عن الدعوى، وأصمتهم الرضى عن الشكوى، وتقسمت معاملاتهم الآداب، وصح منهم إلى مراتب المراقبة الانتداب، والناقد بصير، وكلام النيات قصير؛ ونمهم المغلوب الحال، المحمول من فوق الرحال، رقص وشطح، وسكر فافتضح، فهوبلخ الرفقة، وملوع الحرقة، دعني وعبدي بلخ، فإنه يضحكني سبع مرات في اليوم؛ ومنهم من لم يأخذه نعت، ولا تعين له فوق ولا تحت، ولا حمد ولا مقت، ولا حين ولا وقت، لونطق لقال: أنا المعدوم الموجود، والشاهد المشهود {ألا بعد لمدين كما بعدت ثمود} (هود:95) .
قضى وصلها لي، وابتلاكم بحبها ... وهل يأخذ الإنسان غير نصيبه ولم يكن إلا أن خرجت الرقاع، وفضلت البقاع {ووفيت كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون} (آل عمران: 25) .
فكان في رقعة طائفة: أعود بالله من الشيطان الرجيم {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً، أومن وراء حجاب، أويرسل رسولاً
__________
(1) الواغل: المتطفل على الشراب، يكنى به عن الدخيل في فريق أهل الحياء من السالكين.(6/303)
فيوحي بإذنه ما يشاء} (الشورى: 51) قلدتم العقل وله طور، ورأيتم الحركات لا يتناهى لها دور، وعالم الجزئيات لا يسبر له غور، وحور المعاد في بعض الفروض لا يكون له كور (1) ، ويا شر ما أصبحتم في المعاد الأول تعتقدونه، أن جعلتم التصرف في عالم الملك لمن دونه، قفوا مكانكم، ولوموا أنفسكم ودعوا شأنكم (2) .
وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً " الحديد:13 أساطين الحكمة المشرقية، وفراش الأنوار الحقيقية، دعونا من استكثار الأنوار، واحتشاد الأطوار، الحق نور إرشاد لا يطيق حسن ذاته، إلا من ركب ظهر شتاته، فارفعوا الكلف، واذكروا مجرى من تقدم وسلف.
وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " الأنعام: 91 لم تتركوا البراهين على أصلها، ولا ناسبتم جنس هذه الموضوعات بفصلها، وأثرتم شغباً طويلاً، وأوسعتم المتشابه تأويلاً، ولم تعتمدوا من العقل دليلاً، ولا وقفتم في مجازات العقول قليلاً، وهولتم باصطلاح غيركم تهويلاً، وادعيتم الشهود ولم يجعل اله تعالى في الاحتجاج به إلا لأنبياء سبيلاً، وبنيتم الحقائق على قياس ونظر، من غير عين للعقل والنقل ولا أثر:
رب خل أدار فيّ اعتقاداً ... لم أكن قبله عرفت بفنه
حكمت نفسه على علم غيبي ... جعل الله باطني عند ظنه وعسى أن تكونوا ممن أخطأ في اجتهاده فأثيب، واستغفر فسمع " لا
__________
(1) الحور: النقصان، والكور: التمام.
(2) ق: ولوموا مكانكم والزموا شانكم.(6/304)
تثريب "، فثمرتكم صحيحة، والمقاصد من التبعة مريحة، إذا كانت صريحة، ولولا الافتيات، لوضحت في ميدان السبق لكم الشيات، لكن شأنكم الهذيان، وقلبت منكم بضعفائكم من المتأخرين الأعيان، كابن قسي وابن برجان (1) ، فتبرأوا من أتباعكم المطيفة، وأحزابكم المخيفة، وأخلصوا فعل الأنصار يوم قتال بني حنيفة، وحبذا الحكم المقتدي، ومن يهد الله فهوالمهتدي، واكبحوا الألسن عن طلاقتها وذلاقتها، ولا تكلفوا العقول فوق طاقتها، فلا بد من توقيف وتسليم، وفوق كل ذي علم عليم، وإذا محيتم فاثبتوا، أونطق إنسان فاسكتوا، ولا ترضوا أن تكتبوا مع الذين كبتوا، ولكم الحظ السني، والوصل الهني.
وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق " الأنبياء:16 ذهب بوجودكم العدم، وابتلع حدوثكم القدم، ورضيتم بالإشراف، في الاستشراف، والتوغل لزيم الانحراف، ومن جعل الحس وهماً، فقد كابر العيان ظلماً، والعقل الذي غلطكم هوآلة حكمكم، وأداة علمكم، والعوالم أوثق من أنتكون تمويه راقش، والوجود المطلق أبسط من أن تصير أبا براقش (2) ، ثم ما لكم والتبجح والتشبع (3) ، والتعقب والتتبع، ولم يغن العراك، ووقع في ثمرتكم الاشتراك، فالفيلسوف يتحد بالعلة القريبة من الخلق، ثم يتلاشى في ذات الحق، والحكيم يجوز إلى عين الحق رتبة الفناء المطلق، والمتشرع قد
__________
(1) ابن قسي: ثار في أعقاب دولة المرابطين وتسمى تلك الثورة " ثورة المريدين " وكان شيخاً من مشايخ الصوفية وهو صاحب كتاب خلع النعلين، وقد انتشرت طريقته بشلب وكثر خوض أتباعه في الكتب التصوفية وموضوعات الغلاة من الباطنية؛ وأبو الحكم ابن برجان أيضاً من المتصوفة، وقد غربه علي بن يوسف اللمتوني وتوفي بمراكش سنة 537 (انظر أعمال الأعلام: 248 - 252) .
(2) أبو براقش: رمز للتلون، وهو اسم طائر يتنفس فيتغير لونه.
(3) التشبع: أن يدعي المرء ما لا يحسن.(6/305)
عضده ونصره، كنت سمعه وبصره، وإن كان معظم القول الهذر، ففيكم بعد نظر.
وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين " العنكبوت: 69 أنتم الأحباب، ولكم يفتح من الجنان (1) الأبواب، ركبتم ظهور الأعمال، وركب غيركم ظهور الآمال، وفزتم بسحب الأذيال، ومن دونكم يحوك عناكب الخيال، فبدايتكم الأساس الوثيق، الذي يبنى عليه التحقيق، ونهايتكم إليها ينتهي الطريق، وبها يحط فريق الله تعالى ونعم الفريق، أولكم المقرب المدرب، وأوسطكم الفرد المعرب، وآخركم الولي المقرب، حضرتم بذكر محبوبكم حتى غبتم، فهينئاً لكم طبتم، حواس مسدودة، وخيوط أفكار كلها ممدودة، ومشاهد مشهودة، ومغلطات تتجاوز حراسها، وقواطع معترضة بحل مراسها، إلى أن لا توجد تقية، ولا تبقى بقية، عند تجلي المعالم الخفية، لواشتمل العلم على عملكم، لكان الكل من هملكم، بحيث تتعين المراتب وتتميز، وتتقرر المشارب وتتحيز، لا يعترض قاطع إلا وقد علم شأنه، وتعين وقته ومكانه، ولا تمثل غاية إلا ودرجها محدودة، ومراحلها معدودة، ومشاهدها قبل دخول الطريق مشهودة، فهناك تطوى المراحل، ويلوح في اللمحة القريبة الساحل، ويأمن طول الطريق الواصل.
وكان في رقعة المحبين الذين قربوا قبل هذا اليوم وأدخلوا من بعد ما تخيروا للاصطفاء وانتخلوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض،
__________
(1) ق: الجناب.(6/306)
والله سميع عليم " آل عمران:33، 34 أنتم الأحباب، ولباب الألباب، وبوساطتكم اتصلت بين النفوس وبين الحق الأسباب، لولاكم لم يفتح الباب، فلا يصل إلا من أوصلتم، ولا يحجب إلا من قطعتم وفصلتم، أنتم الرعاة والخلق الهمل، وأنتم الدعاة لمن يريد نيل الأمل، مهدت لكم سرر القرب تمهيداً، وبعثتم إلى الناس ليوحدوا الله توحيداً " ولتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " البقرة: 143 فطوبى لمن أصاخ منكم إلى ندا، واستضاء بنور هدى، صلوات الله عليكم أبداً، أنتم أولوالألوية المعقودة، والعساكر المحشورة المحشودة، ورؤساء أهل المحبة، وأدلاء مبتغي الوسيلة والقربة، ومسالككم قد بينتها الصحف المنزلة، والملائكة المرسلة، ودخلت على العذارى خدورها، وعمت السماء وبدورها، وأغنت عن تقرير نحلها المكاتب المائجة بالصبيان، والسنن المعقودة لها حلق التبيان، والقواعد المفترضة على الأعيان، والخزائن المرصوصة بعلوم الأديان " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً " المائدة:3 وقيل لأتباعهم من الجمهور، وأقطاب فلكهم المشهور: على قدر أتباعكم، مناقل أبواعكم، وبحسب اقتدائكم، يكون سماع ندائكم، والمهاد لمن وثره " ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره " الزلزلة:7 وتأخيركم في التوقيع هوالتقديم، و " ساقي القوم آخرهم شربا " مثل قديم؛ قال المخبر: فرأيت وجوههم قد تهللت، ونواسم المسرات نحوهم قد أقبلت؛ ومن سواهم من خالص وزائف، بين راج وخائف. وسمعت أن طائفة استدعيت بحث حفي وأدخلت من باب خفي، قيل لهم: هم أصحاب الخبر المكتوم، وأرباب المقام غير المعلوم، جعلنا الله تعالى منهم برحمته:
ولولا الحب ما قطعوا الفيافي ... ولولا الحب ما قطعوا البحارا
فدعهم والذي ركبوا إليه ... وبحثاً عن خلاصك واختبارا(6/307)
فلا تشغل بحب ديار ليلى ... ولكن حب من سكن الديارا (1) وقال قبل هذه الخاتمة بعد كلام كثير ما نصه: وقد أتينا على ما شرطنا من تقرير ما أمكن من هذه الآراء، وهم ما بين سابق للخيرات ومقتصد وظالم لنفسه، ومع ذلك مخبون، وعلى آثار الحبيب مكبون، ما كل طريق توصل، ولا كل تجارة على الربح تحصل، ومن العشاق مهجور ومطرود، وموصل وموعود، ومغبوط ومحسود، ومحروم ومجدود، ومرحوم ومردود:
يا غايتي، ولكل شيء غاية، ... والحب فيه تأخر وتقدم
قل لي بأي وسيلة يحظى بما ... يرجوه غيري من رضاك وأحرم ورقة: ولكل دائرة مفروضة، وهالة حول قمر الحق معروضة، تعود الخطوط من محيطها المسدد، إلى مركزها المحدد: فالفيلسوف يروم التشبث بالعلة الأولى، ويعني بها ذات الحق، أوأن يتحد بالثانية، وهي مرآة وجه الحق؛ والإشراقي يروم التجوهر بنور الأنوار المعبر عنه بالحق، والاتصال به إما بواسطة من الحق أوبغير واسطة من الحق؛ والحكيم أن يؤديه فكره إلى الحق، ثم يفنى في الحق، ثم يبقى بالحق، والمتشرع أن يجن في جنة الحق، ويحصل على جوار الحق، وينظر إلى جوار الحق؛ وصاحب الوحدة المطلقة أن يكون المتفرق عين الحق، فسبحان الحق، المعبود بالحق، الموجد الجمع في الفرق، لا إله إلا هو. وزيد في هذا المحض الذي كثر في قربه الدعداع (2) ، وطال على الرؤوس منه الصداع، ما تفرد له المقالة المختصرة، والعناية الميسرة، بحول من لا حول ولا قوة إلا به. انتهى.
وقال رحمه الله تعالى في عد ما عدد من فرق الاعتزال ما نصه:
__________
(1) حور قول الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا (2) الدعداع: العدو فيه بطء والتواء.(6/308)
الحب حركهم لكل جدال ... والحب أقحمهم على الأهوال
والحب قاطع بينهم وأضلهم ... عن نيل ما راموه كل ضلال
والحب أنشأ فيهم عصبية ... بالقيل أضرم نارها والقال وإنما استكثرنا من ذكرهم عبرة لمن تأمل حركات هذا الفراش المختلف الآراء عن ذبال الحق، يبتغون إليه الوسيلة، قوم بالطاعة، وقوم بالمعصية، وما منهم إلا مدع في المحبة متهالك، حريص على السعادة بزعمه " وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة " الغاشية:2 ممن قصد الحق فأخطأه، وأراد الصواب فضل عنه، واشتهر بالحكمة بعد في الملة الإسلامية جماعة بالمشرق والأندلس، فمن المشارقة: أبوالفرج (1) ، ويعقوب الكندي، وحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، فكان عندهم مباشرتها من حيث الترجمة والمزاولة، إلى أ، قال: ومن أهل الأندلس: محمد بن مسعدة السرقسطي، وأحمد بن طاهر الطرطوشي، ويحيى بن عمران القرطبي، وطفيل بن عاصم، وكليب بن همام البياسي، والحسن بن حرب الداني، وابن مسرة، ومسلمة المجريطي، وأبوبكر ابن الصائغ، وأوبكر ابن طفيل، وأبوالوليد ابن رشد (2) ، وكل هؤلاء المتقدمين والمتأخرين محب عاشق مستهلك، قال الشاعر:
وعلي أن أسعى ولي ... س علي إدراك النجاح
حيارى يميد بهم شجوهم ... كأنهم ارتضعوا الخندريسا
__________
(1) أبو الفرج هو عبد الله بن الطيب وسنترجم له بعد صفحات.
(2) قد جمع لسان الدين هنا عدداً من المشتغلين بالحكمة من الأندلسيين وإذا استثنينا آخر خمسة ذكرهم وجدنا البقية ممن لم يعرفوا معرفة واضحة.(6/309)
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد (1) " ولوشاء شربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " هود:118 " فريقاً هدى، وفريقاً حق عليهم الضلالة " الأعراف:30 " قل سيروا الحجة البالغة، فلوشاء لهداكم أجمعين " الأنعام:149 والخلق قد مدوا أبصارهم وآمالهم، وتحركوا طوعاً وكرهاً يعشون إلى نور الله تعالى، فمن أعمى أصم لا يسمع ولا يبصر، وأعمى فقط يجتزئ عن العيان بالمخبر، وأحول يبصر الشيء شيئين، والواحد اثنين، كما قال الشاعر:
أحوى الجفون له رقيب أحول ... الشيء في إدراكه شيئان
فيلوح في عيني منه واحد ... ويلوح في عينيه منه اثنان
يا ليته ترك الذي أنا مبصر ... وهو المخير في الحبيب الثاني وضعيف لا يبصر من بعيد، وأجهر لا يبصر من قريب، وأعشى تكثر في عينيه الأشعة، وربما تندر، وزرقاء اليمامة:
سبحان من قسم الحظو ... ظ فلا عتاب ولا ملامه (2)
أعشى وأعمى، ثم ذو ... بصر، وزرقاء اليمامه
لولا استقامة من هدا ... هـ لما تبينت العلامه
ومجاور الغرر المخي ... ف له البشارة بالسالمة أقام سبحانه الحجة، وفرق بين الأمر والإرادة، وأعطى الكفاية من القدرة {فمنهم مهتد، وكثير منهم فاسقون} (الحديد:26) اقتصرنا من هذا البحر
__________
(1) البيت لأبي فراس الحمداني، ديوانه: 83 وفيه: " وإذا كان غير الله لمرة عدة ".
(2) قد أورد المقري هذه القصيدة في المجلد الأول: 7 وانظر مقدمة المحقق: 14.(6/310)
على نقطة، ومن هذا الودق على فطرة:
ومن يسد طريق العارض الهطل (1) ... عد الحصى والقطر ليس يرام ... وذكرنا الرسل والأنبياء والأتباع ذكراً من غير تبويب ولا تعيين، لشياع آرائهم، والعلم بمقاصد مللهم، وأغراض دعواتهم، من توحيد الله تعالى وتنزيه وصفاته وأسمائه، وكيف يحشر الناس ليوم لا ريب فيه " ولتجزى كل نفس بما كسبت " الجاثية:22 وتعليم طرق النجاة، وإيضاح سبيل الله تعالى، والتحذير من الغفلة عمن إليه الرجعى، وله الآخرة والأولى، والتخويف من كل ما يقطع عنه، والترغيب فيما يوصل إليه وشأن الرياضة والتدريج في أحوالها حتى تنتقل من الظواهر إلى البواطن، وتسري في الخلف من السلف، والندب إلى الاقتصار على الضرورة والقناعة بالبلاغ، وتبين الرسم فيها، والتعيين لحدودها، قد تضمنت ذلك كله آيات الله الاتي تكفل بحفظها، وسنة رسوله التي قيض مناخل الصدق لتصحيح نقلها، فالمكاتب - والمنة لله تعالى - مائجة، والمدارس حافلة، فما لنا والإطالة في الموجود الذائع، والمشهور الشائع:
والشمس تكبر عن حلي وعن حلل ... فهي الدراري في التقليد بالدرر ... ما أغنى الشمس عن مدح المادح، تحصيل الحاصل عناء {هوالذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولوكره المشركونؤ (التوبة:33) .
فلنذكر بعض أرباب الآراء من قريب وبعيد، وخلق جديد، على صورة
__________
(1) للمتنبي، وصدره: وما ثناك كلام الناس عن كرم.(6/311)
المثال المفروض وليكون كعرض الحبوب الذي تجزئ منه الفنة عن الجفنة، والقربة عن القرية (1) ، ونقتصر على اليسير لإقامة الترتيب، وإحكام التبويب، وليرى الواقف عليه أننا قد نفضنا الزوايا، ورشفنا الروايا، وامتككنا العظام (2) ، واستقصينا النظام، حرصاً على نشيدة الحق أن تعقل، وعلى الطباع أ، تنقل، وعلى المراثي الصدئة أن تصقل، وعلى صورة النجاة أن تمقل، ونسأل الله تعالى هذاية توصل إليه، لا إله إلا هوالرحمن الرحيم؛ انتهى.
وقال رحمه الله تعالى فيما قبل هذا الكلام بكلام ما صورته: غصن المحبين، وأصنافهم المرتبين، ويتمل على مقدمة بيان، وستة أفنان.
فالمقدمة ... فنقول: أصناف المحبين والعشاق كثير، وهباء نثير، وجراد أثارها مثير، بحيث يشق إحصاؤهم، ولا يتأتى استقصاؤهم:
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى: ... قتيلك، قالت: أيهم فهم كثر (1) ثم مد النفس بما لا يقتضي المقام الاختصاري ذكره في هذا الموضع.
وقال رحمه الله تعالى ف يبعض تراجم الروضة، وهي الخاتمة التي تنبه النفوس الصقبة، على حكم المحبة " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة " الأنفال:42 بعد كلام ما صورته: فقر في معنى هذه الخاتمة فيها حكم تنثال، وتجري مجرى الأمثال:
المحبة بحر بعيد الشط، وخط والفناء منتهى الخط " إنا عرضنا الأمانة - إلخ " الاحزاب:72.
المحبة مهوى بعيد، ومجال وعد ووعيد، مرجل يغلي، ثم خيال يولي، وليس له حد عليه يعول.
المحبة ظهر لا يركبه، من يرى الموت فيتنكبه، ولا يعلوه، من يأتي
__________
(1) يريد أن بائع الحبوب يعرض منها نموذجاً مثل ملء حفنة أو قربة.
(2) امتك العظم: امتص ما في داخله.
(1) يريد أن بائع الحبوب يعرض منها نموذجاً مثل ملء حفنة أو قربة.(6/312)
إلى وادي الفناء فيسلوه " إن الله مبتليكم بنهر " البقرة: 149 كم قمصت المحبة من ظهر، وكم سر صيرت إلى جهر، أولها العار المشهور، وآخرها الطي المنشور، ثم الموت ثم النشور {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب} (الزمر: 69) .
المحبة أنس يستدرج، ثم شوق يلجم ويسرج، ثم فناء يزعج، عن الوجود ويخرج:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... المحبة كاس، كم جردت من كاس، وآس، من شمه لم يجد من آس:
متى أرتجي يوماً شفائي من الضنى ... إذا كان من يجني علي طبيبي تزاحم أنفاس المحبين على خطرات الصبا، تزاحم الهباء على مطارح شعاع الدبا، فلولا بلهيلها لالتهبت، وتعليل عليها لتلك الأرماق لذهبت:
عليلة في حواشي مرطها بلل ... يهدى لكل عليل منه إبلال المحبة رقة، ثم فكرة مسترقة، ثم ذوق، يطير به شوق، ثم وجل لا يبقى معه طوق، ثم لا تحت ولا فوق:
أينما كنت لا أخلف رحلاً ... من رآني فقد رآني ورحلي الهوى هوان، وحمام له ألوان، دمع ساجم، ووجد هاجم، وهيام لا يبرح، ثم وراءه ما لا يشرح:
قال: بمن جن وهل في الورى ... ما يبعث الخبل سوى حبه من اقتحم بحر الهوى، هوى. لا تدخل في بحر الهوى حتى تشاور صبرك، وتجاور قبرك، فإن كنت منا أوفرح بسلام.
الهوى طريق، ولسلوكه فريق. الزاد مكتوم، ووفاء معلوم.(6/313)
وللميادين أبطال لها خلقوا ... وللداووين حساب وكتاب الحب حج ثان، لا يثني نفس المريد عنه ثان، طريقه التجريد، وزاده الذكر، وطوافه المعرفة، وإفاضته الفناء " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين. " البقرة:1987.
الغرام، صعب المرام، والدخول فيه حرام، ما لم يكن فيه شروط كرام.
من عرف ما أخذ، هان عليه ما ترك " وربك يخلق ما يشاء ويختار " القصص:68 ظهر الهوى طريقاً سهلاً، فكثر التائهون جهلاً:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد (1) والعكس:
قد يخبأ المحبوب في مكروهها ... من يخبا المكروه في المحبوب (2) وقال الشيخ (3) :
هو الحب بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضني به وله عقل
وعش خالياً فالحب راحته عناً ... وأوله سقم وآخره قتل
نصحتك علماً بالهوى والذي أرى ... مخالفتي، فاختر لنفسك ما يحلو
فمن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النحل ما جنت النحل طريق القوم مبنية على الموت، وإليه الإشارة بقوله " موتوا قبل أن تموتوا ". بيدي لا بيد عمرو، وقال بعضهم: رأيت رب العزة فقلت: يا رب بم أصل إليك قال: فارق نفسك وتعال:
__________
(1) انظر ما تقدم ص: 310.
(2) البيت للسان الدين بنفسه من بائية طويلة ستأتي عند ذكر شعره.
(3) هو ابن الفارض، انظر ديوانه: 134 وديوان الصبابة: 25.(6/314)
رفض السوى فرض على العين ... لا تخلصن الحق بالمين
والأين والكيف سوى ظاهر ... فاستغن عن كيف وعن أين الخشب، الذي يتخذ منه النشب، ينقسم إلى أقسام، وأجزاء جسام: القسم الأول: في الحدود والمعرفات، والأسماء الواقعة والصفات (1) .
وللسان الدين رحمه الله تعالى في المواعظ اليد الطولى؛ قال في الروضة في الفصل الثاني في محركات العزيمة - وهي اليقظة - ما نصه: قلت: والمحركات المشتركات في باعث اليقظة كثيرة: منها الوعظ السائق بمقود الشارد عن الله تعالى إلى مربط التوبة، ومحرك العزيمة يردد أذانه على نوام أهل الكهف، وقد ضرب نوم الغفلة على آذانهم، حتى يحول بينهم وبين أذانهم، ويركبهم ظهر الرياضة التي تلحقهم بالمجذوبين من إخوانهم، ولما كان حب الدنيا هوالمانع عن الشروع في إطلاق العمل، والقاطع به بعده لم يجد أساة خبل الهوى وجنون الكسل أنجع من رقي العذل والتأنيب، وتقبيح المحبوب، سيما إذا انزعجت نبال نبله عن حنيات ضلوع الصدق، وقال بعضهم: الكلام إذا خرج من القلب دخل القلب:
أوقد النار من رسالة ليلى ... واحذر السيل بعدها من دموعي ولا تعدل الوعظ البليغ باللسان الفصيح، والقلب القريح، فإذا رأيت الأرض قد اهتزت وربت، وهضاب القلوب القاسية قد تقلبت، فشمر للغراس والزراع عن الذراع، واغتنم السراع والإسراع:
إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل عاصفة سكونا
حفر لها ماء يريها بدأة ... واضمن لها حوضاً وإن لم تحفر
واربأ بنفسك عن تسامح بائع ... واغنم إذا سامتك شهوة مشتري قالوا: الوعظ يضرب وجه النفس عن الثبط في بساط اللذات، وينقل
__________
(1) الخشب ... والصفات: هذه العبارة مقحمة هنا وقد وردت ص: 294.(6/315)
خطواتها عن الخطوفي ملعب الخطيئات، ويمثل لها الصبر عياناً، ويبين العواقب المحجوبة بياناً، وينشئ سحاب الحزن في أجواف أجزائها، ويذكرها بمآلها وانتهائها، ويعرض عليها مصارع فنائها، وخراب بنائها، وفراق حبائبها وأبنائها، عند نزول هاذم اللذات بفنائها، فترجع إلى الله تعالى بحكم الاضطرار أفكارها، وتخشع من خيفة الله تعالى وجلاله أبصارها.
والوعظ يكون بلسانين، ويوجد فنين: لسان حال، ولسان مقال، وربما كان لسان الحال أبلغ، وهويسمع من القبور الموحشة، والقصور الخالية، والعظام البالية، وفيه حكايات وأخبار، ولسان المقال كقوله سبحانه وتعالى " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وتبين لكم كيف فعلنا بهم، وضربنا لكم الأمثال " إبراهيم " 45 وهوسبيل الله تعالى التي بعث بها النبيين، وضمن فصولها الكتاب المبين، والسوط الذي يحمل على الأوبة، ويسوق ذود المتطهرين إلى غدير التوبة، ونحن نجعله هيمنة بين يدي الفراسة، لتزكيه النفوس إن صدق حكم الفراسة، فمن ذلك ما صدر عني على لسان واعظ:
الحمد لله الولي الحميد، المبدئ المعيد، البعيد في قربه من العبيد، القريب في بعده فهوأقرب من حبل الوريد، كحيي ربوع العارفين بتحيات حياة التوحيد، ومغني نفوس الزاهدين بكنوز احتقار الافتقار إلى العرض الزهيد، ومخلص خواطر المحققين من سجون دجون التقييد، إلى فسح التجريد، نحمده وله الحمد المنتظمة درره في سلوك الدوام وسموط التأبيد، حمد من نزه أحكام وحدانيته، وأعلام فردانيته، عن مرابط التقليد، ومخابط الطبع البليد، ونشكره شكر من افتتح بشكره أبواب المزيد، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هوشهادة نتخطى بها معالم الخلق إلى حضرة الحق على كبد التفريد، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله قلادة الجيد المجيد، وهلال العيد، وفذلكة الحساب وبيت القصيد، المقصود بمنشور الإدلال(6/316)
وإقطاع الكمال، بين مقام المراد ومقام المريد، الذي جعله السبب الأوصل في نجاة الناجي، وسعادة السعيد، وخاطب الخلائق على لسانه الصادق بحجتي الوعد والوعيد، فكان مما أوحى به إليه، وأنزل الملك به عليه، من الذكر الحميد، ليأخذ بالحجز والأطواق من العذاب الشديد " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " ق:16.
إلى قوله حديد، صلى الله عليه وعلى آل صلاة تقوم ببعض حقه الأكيد، وتسري إلى تربته الزكية من ظهور المواجد الجائية على البريد (1) :
قعدت لتذكير ولوكنت منصفاً ... لذكرت نفسي فهي أحوج للذكرى
إذا لم يكن مني لنفسي واعظ ... فيا ليت شعري كيف أفعل في الأخرى آه! أي وعظ بعد وعظ الله تعالى يا أحبابنا يسمع وفي ماذا وقد تبين الرشد من الغي يطمع يا من يعطي ويمنع، إذا لم تقم الصنيعة فماذا نصنع اجمعنا بقلوبنا با من يفرق ويجمع، ولين حديدها بنار خشيتك فقد استعاذ نبيك صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، اعلموا - رحمكم الله - أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من الأقوال والأحوال، ومن الجماد والحيوان، وما أملاه الملوان (2) ، فغن الحق نور لا يضره أن يصدر من الخامل، ولا يقصر بمحموله احتقار الحامل، وأنتم تدرون أنكم في أطوار سفر لا تستقر لها دون الغاية رحلة، ولا تتأتى معها إقامة ولا مهلة، من الأصلاب إلى الأرحام، إلى الوجود، إلى القبور، إلى النشور، إلى إحدى داري البقاء، أفي الله شك فلو أبصرتم مسافراً في البرية يبني ويفرش، ويمهد ويعرش، ألم تكونوا تضحكون من جهله، وتعجبون من ركاكة عقله
__________
(1) يريد مواجد المشتاقين إلى زيارة قبره عليه السلام.
(2) الملوان: الليل والنهار.(6/317)
ووالله ما أموالكم ولا أولادكم وشواغلكم عن الله التي فيها اجتهاد إلا بقاء سفر في قفر، أوإعراس في ليلة نفر، كأنكم بها مطرحة تعبر فيها المواشي، وتنبوالعيون عن خبرها المتلاشي " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " الأنفال:28. ما بعد المقيل إلا الرحيل ولا بعد الرحيل إلا المنزل الكريم أوالمنزل الوبيل، وإنكم تستقبلون أهوالاً سكرات الموت بواكر حسابها، وعتب أبوابها، فلوكشف الغطاء عن ذرة منها لذهلت العقول وطاشت الألباب، وما كل حقيقة يشرحها الكلام " يا أيها الناس إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور " فاطر:5.
أفلا أعددتم لهذه الورطة حيلة، وأظهرتم للاهتمام بها مخيلة أتعويلاً على عفوه مع المقاطعة وهوالقائل في مقام التهديد " إن عذابي لشديد " إبراهيم " 7 أأمناً من مكره مع المنابذة " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " الأعراف:99 أطمعاً في رحمته مع المخالفة وهويقول " فسأكتبها للذين يتقون " الاعراف " 156 أمشاقة ومعاندة " ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب " الحشر:4 أشكاً في الله فتعالوا نعيد الحساب، ونقرر العقد ونتصف بدعوة الحق أوغيرها، من اليوم تفقد عقد العقائد عند التساهل بالوعيد، فالعامي يدمي الإصبع الوجعة، والعارف يضمد لها مبدأ العصب:
هكذا هكذا يكون التعامي ... هكذا هكذا يكون الغرور " يا حسرة على العباد، ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون " يس:30 وما عدا عما بدا ورسولكم الحريص عليكم الرؤوف الرحيم يقول لكم الكيس من نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني فعلام بعد هذا المعول وماذا يتأول اتقوا الله سبحانه في نفوسكم وانصحوها، واغتنموا فرص الحياة واربحوها " أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وإن كنت لمن الساخرين "(6/318)
الزمر:56 وتنادي أخرى " هل إلى مرد من سبيل " الشورى: 44 وتستغيث أخرى " يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل " الأعراف:53 وتقول أخرى " رب ارجعون " المؤمنون:99 فرحم الله من نظر لنفسه، قبل غروب شمسه، وقدم لغده من أمسه، وعلم أ، الحياة تجر إلى الموت، والغفلة تقود إلى الفوت، والصحة مركب الألم، والشبيبة سفينة تقطع إلى ساحل الهرم.
وإن شاء قال بعد الخطبة: إخواني، ما هذا التواني، والكلف بالوجود الفاني عن الدائم الباقي والدهر يقطع الأماني، وهاذم اللذات قد شرع في نقض المباني ألا معتبر في عالم هذه المعاني ألا مرتحل عن مغابن هذه المغاني
ألا أذن تصغي إلي سميعة ... أحدثها بالصدق ما صنع الموت
مددت لكم صورتي فأواه حسرة ... على ما بدا منكم فلم يسمع الصوت
هوالقدر الآتي على كل أمة ... فتوبوا سراعاً قبل أن يقع الفوت يا كلفاً بما لا يدوم، يا مفتوناً (1) بغرور الوجود المعدوم، يا صريع جدار الأجل المهدوم، يا مشتغلاً ببنيان الطرق قد ظهر المناخ وقرب القدوم، يا غريقاً في بحار الأمل ما عساك تعوم، يا معلل الطعام والشراب ولمع السراب، لا بد أن تهجر المشروب وتترك المطعوم. دخل سارق الأجل بيت عمرك فسلب النشاط وأنت تنظر، وطوى البساط وأنت تكرب، واقتلع جواهر الجوارح وقد وقع بك النهب، ولم يبق إلا أن يجعل الوسادة على أنفك ويقعد:
لو خفف الوجد عني ... دعوت طالب ثاري {كلا إنها كلمة هوقائلها} (المؤمنون: 100) كيف التراخي والفوت مع الأنفاس ينتظر كيف الأمان وهاجم الموت لا يبقي ولا يذر كيف الركون إلى الطمع الفاضح وقد صح الخبر من فكر في كرب الخمار تنغصت عنده
__________
(1) ق: مغبوناً.(6/319)
لذة النبيذ، من أحس بلغط الحريق فوق جداره لم يصغ بصوته لنغمة العود، من تيقن بذل العزلة هان عليه ترك الولاية:
ما قام خيرك يا زمان بشره ... أولى لنا ما قل منك وما كفى أوحى الله سبحانه إلى موسى صوات الله وسلامه عليه أن ضع يدك على متن ثور، فبعدد ما حاذته من شعره تعيش سنين، قال: يا رب وما بعد ذلك
قال: تموت، قال يا رب فالآن:
رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولا إذا شعرت نفسك بالميل إلى شيء فاعرض عليها غصة فراقه " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة " الانفال:42 فالمفروح به هوالمحزون عليه، أين الأحباب مروا، فيا ليت شعري أين استقروا؛ استكانوا والله واضطروا، واستغاثوا بأوليائهم فروا، وليتهم إذ لم ينفعوا ما ضروا، فالمنازل من بعدهم خالية خاوية، والعروش ذابلة ذاوية، والعظام من بعد التفاضل متشابهة متساوية، والمساكن تندب في أطلالها الذئاب العاوية:
صحت بالربع فلم يستجيبوا ... ليت شعري أين يمضي الغريب
وبجنب الدار قبر جديد ... منه يستسقي المكان الجديب
غاض قلبي فيه عند التماحي ... قلت هذا القبر فيه الحبيب
لا تسل عن رجعتي كيف كانت ... إن يوم البين يوم عصيب
باقتراب الموت عللت نفسي ... بعد إلفي كل آت قريب أين المعمر الخالد أين الولد أين الوالد أين الطارف أين التالد أين المجادل أين المجالد " هل تحس منهم من أحد أوتسمع لهم ركزاً " مريم:98 ودوه علاهن الثرى، وصحائف تفض، وأعمال على الله تعرض. بحث الزهاد(6/320)
والعباد، والعارفون والأوتاد، والأنبياء الذي يهدي بهم العباد، عن سبب الشقاء الذي لا سعادة بعده، فلم يجدوا إلا البعد عن الله تعالى، وسببه حب الدنيا لن تجتمع أمتي على ضلالة:
هجرت حبائبي من أجل (1) ليلى ... فما لي بعد ليلى من حبيب
وماذا أرتجي من وصل ليلى ... ستجزي بالقطيعة عن قريب وقالوا: ما أورد النفس الموارد وفتح عليها باب الحتف إلا الأمل، كلما قومتها مثاقف الحدود فتح لها أركان الرخص، كلما عقدت صوم العزيمة أهداها طرف الغرور في أطباق: حتى، وإذا، ولكن، وربما، فأفرط القلب في تقبيلها حتى أفطر:
ما أوبق الأنفس إلا الأمل ... وهو غرور ما عليه عمل
يفرض منه الشخص وهماً ما له ... حال ولا ماض ولا مستقبل
ما فوق وجه الأرض نفس حية ... إلا قد انقض عليها الأجل
لو أنهم من غيرها قد كونوا ... لامتلأ السهل بهم والجبل
ما ثم إلا لقم قد هيئت ... للموت، وهوالآكل المستعجل
والوعد حق والورى في غفلة ... قد خودعوا بعاجل وضللوا
أين الذين شيدوا واغترسوا ... ومهدوا وافترشوا وظللوا
أين ذوو الراحات زادت حسرة ... إذ جنبوا إلى الثرى وانتقلوا
لم تدفع الأحباب عنهم غير أن ... بكوا على فراقهم وأعولوا
الله في نفسك أولى من له ... ذخرت نصحاً وعتاباً يقبل
لا تتركنها في عمى وحيرة ... عن هول ما بين يديها تغفل
حقر لها الفاني وحاول زهدها ... وشوقها إلى الذي تستقبل
وفد إلى الله بها مضطرة ... حتى ترى السير عليها يسهل
__________
(1) ق: بعد.(6/321)
هو الفناء والبقاء بعده ... والله عن حكمته لا يسأل
يا قرة العين ويا حسرتها ... يوم يوفى الناس ما قد عملوا يا طرداء المخالفة، إنكم مدركون فاستبقوا باب التوبة، فإن رب تلك الدار يجير ولا يجار عليه، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما هداكم، يا طفيلية الهمة، دسوا أنفسكم بزمر التائبين وقد دعوا إلى دعوة الحبيب، فإن لم يكن أكل فلا أقل من طيب الوليمة، قال بعض العارفين: إذا عقد التائبون الصلح مع الله تعالى انتشرت رعايا الطاعة في عمالة الأعمال " وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب " الزمر:69. معاني هذا المجلس والله نسيم سحر، إذا استنشقه مخمور الغفلة أفاق، سعوط هذا الوعظ ينغص إن شاء الله زكمة البطالة، إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، إكسير هذا الكتاب يقلب بحكمة جابر القلوب المنكسرة عين من كان له قلب " إنما يستجيب الذين يسمعون، والموتى يبعثهم الله " الأنعام:36 إلهي دلنا من حيرة يضل فيها - إلا إن هديت - الدليل، وأجرنا من غمرة وكيف إلا بإعانتك السبيل نفوس صدئ على مر الأزمان منها الصقيل، ونبا بجنوبها عن الحق المقيل، وآذان أنهضها القول الثقيل، وعثرات لا يقيلها إلا أنت يا مقيل العثار يا مقيل، أنت حسبنا ونعم الوكيل؛ انتهى.
ومن مواعظ لسان الدين رحمه الله سبحانه ما أورده في الروضة إثر ما سبق، إذ قال: إخواني صمت الآذان والنداء جهير، وكذب العيان والمشار إليه شهير، أين الملك وأين الظهير أين الخاصة أين الجماهير أين القبيل والعشير أين كسرى بن أردشير صدق والله الناعي وكذب البشير، وغش المستشار واتهم المشير، وسئل عن أكل فأشار إلى التراب المشير:
خذ من حياتك للمما الآتي ... وبدار ما دام الزمان مواتي
لا تغترر فهوالسراب بقيعة ... قد خودع الماضي به والآتي(6/322)
يا من يؤمل واعظاً ومذكراً ... يوماً ليوقظه من الغفلات
هلا اعتبرت ويا لها من عبرة ... بمدافن الآباء والأمات
قف بالبقيع وناد في عرصاته ... فلكم بها من جيرة ولدات
درجوا ولست بخالد من بعدهم ... متميز عنهم بوصف حياة
والله ما استهللت حياً صارخاً ... إلا وأنت تعد في الأموات
لا فوت عن درك الحمام لهارب ... والناس صرعى معرك الآفات
كيف الحياة لدارج متكلف ... سنة الكرى بمدارج الحيات
أسفاً علينا معشر الأموات لا ... ننفك عن شغل بهاك وهات
ويغرنا لمع السراب فتغتذي ... في غفلة عن هاذم اللذات
والله ما نصح أمرءاً من غشه ... والحق ليس بخافت المشكاة يا من إذا وراح، وألف المراح، يا من شرب الراح، ممزوجة بالعذب القراح، وقعد لعيان صروف الزمان مقعد الأفراح، كأنك والله باختلاف الرياح، وسماع الصياح، وهجوم غارة الاجتياح، فأديل الخفوت من الارتياح، ونسيت أصوات الغناء برنات الرياح، وعوضت عرر النوب القباح، من غرر الوجوه الصباح، وتناولت الجسوم الناعمة أيدي الأطراح، وتنوسيت العهود الكريمة بمر المساء عليها والصباح، وأصبحت كماة النطاح، من تحت البطاح، وخملت المهندة والرماح، ذليلة من بعد الجماح:
ولو كان هول الموت لا شيء بعده ... لهان علينا الأمر واحتقر الهول
ولكنه حشر ونشر وجنة ... ونار، وما لا يستقل به القول يا مشتغلاً بداره ورم جداره، عن إسراعه إلى النجاة وبداره، يا من صاح بإنذاره شيب عذاره، يا من طرف (1) عين اعتذاره بأقذاره، يا من قطعه بعد مزاره وثقل أوزاره، يا معتلفاً (2) ينتظر هجوم جزاره، يا مختلساً للأمانة
__________
(1) ق: صرف.
(2) ق: معتلقاً.(6/323)
يرتقب مفتش ما تحت إزاره، يا من أمعن في خمر الهوى خف من إسكاره، يا من خالف مولى رقه توق من إنكاره، يا كلفاً بعارية ترد، يا مفتوناً بأنفاس تعد، يا معولاً على الإقامة والرحال تشد، كأني بك وقد أوثق الشد، وألصق بالوسادة الخد، والرجل تقبض والأخرى تمد، واللسان يقول {يا ليتنا نرد} (الأنعام: 27) :
إنا إلى الله وإنا له ... ما أشغل الإنسان عن شانه
يرتاح للأثواب يزهى بها ... والخيط مغزول لأكفانه
ويخزن الفلس لوارثه ... مستنفداً مبلغ أكوانه
قوض عن الفاني رحال امرئ ... مد إليه عين عرانه
ما ثم إلا موقف زاهد ... قد وكل العدل بميزانه
مفرط يشقى بتفريطه ... ومحسن يجزى بحسانه يا هذا خفي عليك مرض اعتقادك فالتبس الشحم بالورم، جهلت قيم (1) المعادن فبعت الشبه بالذهب، فسد حس (2) ذوقك فتفكهت بحنظله، أين حرصك من أجلك أين قولك من عملك يدركك الحياء من الطفل فتتحامى حمى الفاحشة في البيت بسببه، ثم تواقعها بعين خالق العين، ومقدر الكيف والأين، تالله ما فعل فعلك بمعبوده، من قطع بوجوده " ما يكون من نجوى ثلاثة - إلى عليم " المجادلة:7 تعود عليك مساعي الجوارح التي سخرها لك بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، فتبخل منها في سبيله بفلس، وأحد الأمرين لازم: إما التكذيب، وإما الحماقة، وجمعك بين الحالتين عجيب، يرزقك السنين العديدة من غير حق وجب لك، وتسيء الظن به في يوم؛ توجب الحق، وتعتذر بالغفلة، فما بال التمادي تعترف بالذنب فما
__________
(1) ق: فيه، ولعلها " قيمة ".
(2) ق: حسن.(6/324)
الحجة في الإصرار والبلد الطيب يخرج نياته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً " الأعراف " 58 يا مدعي النسيان ماذا فعلت بعد التذكير يا معتذراً بالغفلة أين ثمرة التنبيه يا من قطع بالرحيل أين الزاد يا ذبابة الحرص كم ذا تلجج في ورطة الشهد يا نائماً ملء عينيه حذار الأجل قد أنذر، يا ثمل الاغترار قرب خمار الندم، تدعي الحذق بالصنائع وتجهل هذا القدر، تبذل النصح لغيرك وتغش نفسك هذا الغش، اندمل جرح توبتك على عظم، قام بناء عزمتك على رمل، نبتت خضراء دعوتك على دمن، عقدت كفك من الحق على قبضة ماء " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " فاطر:8 إذا غام جوهذا المجلس، وابتدأ رش غمام الدموع، قالت النفس الأمارة: حوالينا لا علينا، فدالت رياح الغفلة، وسحاب الصيف هفاف، كلما شد طفل العزيمة على درة التوبة صانعته ظئر الشهوة عن ذلك بعصفور، إذا ضيق الخوف فسحة المهل سرق الأمل حدود الجار، قال بعض الفضلاء: كانوا إذ فقدوا قلوبهم، تفقدوا مطلوبهم، ولوصدق الواعظ الأثر، اللهم لا أكثر:
طبيب يداوي الناس وهوعليل ... والخطب جليل، والمتفكن قليل، فهل إلى الخلاص سبيل اللهم انظر إلينا بعين رحمتك التي وسعت الأشياء، وشملت الأموات والأحياء، يا دليل الحائرين دلنا، يا عزيز ارحم ذلنا، يا ولي من لا ولي له كن لنا كلنا، إن أعرضت عنا فمن لنا نحن المذنبون وأنت غفار الذنوب، فقلب قلوبنا با مقلب القلوب، واستر عيوبنا يا ستار العيوب، يا أمل الطالب ويا غاية المطلوب؛ انتهى.
ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى في المواعظ ما خاطب به بعض من استدعى منه الموعظة، ونصه:(6/325)
إذا لم أنح يوماً على نفسي التي ... بجرائها أحببت كل حبيب
وقد صح عندي أن عادية الردى ... تدب لها والله كل دبيب
فمنذا الذي يبكي عليها بأدمعي ... إذا كنت موصوفاً برأي لبيب كم قد نظررت إلى حبيب تغار من إرسال طرفك بكتاب الهوى إلى إنسانه، وقد ذبلت بالسقم نرجسة لحظه، وذوت وردة خده، واصفرت لمغيب الفراق شمس حسنه، وهويجود بنفسه التي كان يبخل منها بالنفس، يخاطب بلسان حاله مترجماً: وليت الفجل يهضم نفسه، وأنت على أثر مسحبه إلى دست الحكم " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " الأحقاف:9.
ومنها: تالله لولم يكن المخبر صادقاً لنشب بحلق العيش بعده شوكة الشك:
ولو أنا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيء فالحازم من بتر الآمال طوعاً، وقال: بيدي لا بيد عمرو {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (فاطر: 5) .
وقال أمير الوعاظ رحمه الله تعالى:
وبضدها تتبين الأشياء (1) ... يا مقتولاً ما له طالب ثار، بريد الموت مطلق الأعنة في طلبك، وما يحميك حصن، ثوب حياتك منسوج من طاقات أنفاسك، والأنفاس تستلب ذرات ذاتك، وحركات الزمان قوية في النسج الضعيف، فيا سرعة التمزق، يا رابطاً مناه بخيط الأمل، إنه ضعيف القتل، صياد التلف قد بث الصقور، وأرسل العقبان، ونصب الاشراك، وقطع المواد، فكيف السلامة تهيأ
__________
(1) عجز بيت للمتنبي، وصدره: " ونذيمهم وبهم عرفنا فضله ".(6/326)
لسرعة الموت وأشد منها قلب القلب، ليت شعري لما يؤول الأمر
فوالله لا أدري أيغلبني الهوى ... إذا جد جد البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه مركب الحياة يجري في بحر البدن برخاء الأنفاس، ولا بد من عاصف قاصف بفلكه ويغرق الركاب:
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما ... أعماركم سفر من الأسفار (1) وقال: كأنك بحرب التلف قد قامت على ساق، وانهزمت جنود الأمل، وإذا بملك الموت قد بارز الروح يجذبها بخطاطيف الشدائد من قنان العروق، وقد شد كتاف الذبيح، وحار البصر لشدة الهول، وملائكة الرحمة عن اليمين قد فتحوا أبواب الجنة، وملائكة العذاب عن اليسار قد فتحوا أبواب النار، وجميع المخلوقات تستوكف الخبر، والكون كله قد فاء على صيحة: سعد فلان، أوشقي فلان، فهنالك تنجلي أبصار الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري، ويحك! تهيأ لتلك الساعة، حصل زاداً قبل الفوت:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار مثل لعينيك سرعة الموت، وما قد عزمت أن تفعل حينئذ في وقت الأسر فافعله في وقت الإطلاق، وقال أبوالعتاهية (2) :
خانك الطرف اتئد (3) ... أيها القلب الجموح
فدواعي الخير والشر ... دنو ونزوح
كيف إصلاح قلوب ... إنما هن قروح
__________
(1) البيت لأبي الحسن التهامي، من قصيدته " حكم المنية في البرية جاري "، ديوانه: 28.
(2) ديوان أبي العتاهية: 97.
(3) الديوان: الطموح.(6/327)
أحسن الله بنا ... أن الخطايا لا تفوح
فإذا المشهور منا ... بين ثوبيه فضوح
كم رأينا من عزيز ... طويت عنه الكشوح
صاح منه برحيل ... طائر الدهر الصدوح
موت بعض الناس في الأر ... ض على بعض فتوح
سيصير المرء يوماً ... جسداً ما فيه روح
بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح
كلنا في غفلة وال ... دهر يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدن ... يا غبوق وصبوح
رحن في الوشي وأصبح ... ن عليهن المسوح
كل نطاح من الده ... ر له يوماً نطوح
نح على نفسك يا مس ... كين إن كنت تنوح
لتنوحن ولوعم ... رت ما عمر نوح وقال في المعنى (1) :
لمن طلل أسائله ... معطلة مناهله
غداة رأيته تنعى ... أعاليه أسافله
وكنت أراه مأهولاً ... ولكن باد أهله
وكل الاعتساف الده ... ر معرضة مقاتله
وما متملك (2) إلا ... وريب الدهر شامله
فيصرع من يصارعه ... وينضل من يناضله
ينازل من يهم به ... وأحياناً يخاتله
__________
(1) ديوانه: 327.
(2) الديوان: وما من مسلك.(6/328)
وأحياناً يؤخره ... وتارات يعاجله
كفاك به إذا نزلت ... على قوم كلاكله
وكم قد عز من ملك ... تحف به قبائله (1)
ويثني عطفه مرحاً ... وتعجبه شمائله
فلما أن أتاه الحق ... ولى عنه باطله
فخفض (2) عينه للمو ... ت واسترخت مفاصله
فما لبث السياق به ... إلى أن جاء غاسله
فجهزه إلى جدث ... سيكثر فيه خاذله
ويصبح شاحط المثوى ... مفجعة ثواكله
مخمشة نوادبه ... مسلبة حلائله
وكم قد طال من أمل ... فلم يدركه آمله
رأيت الحق لا يخفى ... ولا تخفى شواكله
لا فانظر لنفسك أيل ... زاد أنت حامله
لمنزل وحدة بين ال ... مقابر أنت نازله
قصير السمك قد رضمت (3) ... عليك به جنادله
بعيد تجاوز الجيرا ... ن ضيقة مداخله
أأيتها المقابر في ... ك من كنا ننازله
ومن كنا نتاجره ... ومن كنا نعامله
ومن كنا نعاشره ... ومن كنا نداخله
ومن كنا نشاربه ... ومن كنا نؤاكله
__________
(1) الديوان: قنابله.
(2) الديوان: فغمض.
(3) الديوان: رصت.(6/329)
ومن كنا نفاخره ... ومن كنا نطاوله
ومن كنا نراقبه ... ومن كنا نزايله
ومن كنا نكارمه ... ومن كنا نجامله
ومن كنا له إلفاً ... قليلاً ما نزايله (1)
ومن كنا له بالأم ... س إخواناً نواصله (2)
فحل محلة من حل ... ها صرمت حبائله
ألا أن المنية من ... هل والخلق ناهله
أواخر من ترى تفنى ... كما فنيت أوائله
لعمرك ما استوى في الأ ... رض عالمه وجاهله
ليعلم كل ذي عمل ... بأن الله سائله
فأسرع فائزاً بالخي ... ر قائله وفاعله ثم قال لسان الدين رحمه الله تعالى، بعد ما سبق، ما صورته: وهذا الغرض بحر، ويكفي من خزائنه عرض، ومن بيت ماله قرض، إن شاء الله تعالى.
ثم قال: تنبيه يشتمل على سؤالين: أحدهما أن يقال: الوعظ غير مناسب للمحبة، إذا لا يحصل إلا بعد الفراغ واليقظة، الثاني: أن يقال: عظمتم الحسرة لفراق عالم الحس، وأطلتم في قشور، فنجيب عن الأول: إنا لم نجلب الوعظ إلا بين يدي تأميل حضور المحبة، فكأنه يجري مجرى الأسباب، فإن الغرض به وجهة النفس من جوالسرور، واللعب بالزور، إلى جوالحزن والارتماض، ومن هنالك تأخذ بخطامها أيدي الاضطرار، فتحصل اليقظة ثم التوبة، ومنها يستقيم الطريق في منازل السائرين إلى الحق:
__________
(1) ق: نزاوله، والتصويب عن الديوان.
(2) الديوان: ومن كنا بلا مين أحابيناً..(6/330)
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع (1) وعند ذلك يطوى بساط الزجر والوعظ (2) ، ويمد بساط الاعتبار والحب، إن شاء الله تعالى، فإنها كالثكلى بطبعها لما فارقته من عنصر نور الله تعالى والعوالم الروحانية التي هي الشعار والدثار، والأمل والدار، والحياة والجمال، والوجود والكمال، وإن كانت لا تشعر بالسبب، ولا تستحضر ذكر العلة، فإذا ذكر الفراق أنت، أوتنوشدت الآثار حنت، ويطرقها الحزن عند الألحان الشجية، وتحس بعض الأحيان بالمواجد العشقية:
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك (3)
فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى ... دعوني فهذا كله قبر مالك وعن الثاني: إن كثيراً من النفوس لا تشعر بوجود عالم الحس، فضلاً عن النظر فيه، وإن شعرت بذلك عد منها نبلاً، ومن كان بهذه المثابة لا سبيل لندائه إلا من باب القشور " أولئك ينادون من مكان بعيد " فصلت:44 إلى أن يتأتى النداء من باب الله تعالى بفضل الله تعالى، فالنفوس الشخصية غير متساوية، وهي بهوى الهوى هاوية، فالقريب منها يجذب بالأنامل، والبعيد بالجزل الكوامل، وعلى قدر المحمول تكون قوة الحامل:
يضع الهناء مواضع النقب (4) ...
يكفي اللبيب إشارة مكتومة ... وسواه يدعى بالنداء العالي
وسواهما بالزجر من قبل العصا ... ثم العصا هي رابع الأحوال
__________
(1) لأبي ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين 1: 11.
(2) والوعظ: سقطت من ق.
(3) البيتان لمتمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك.
(4) من أمثالهم؛ وهو شطر بيت لدريد بن الصمة، وصدره: " متبذلاً تبدو محاسنه ".(6/331)
وقال رحمه الله تعالى في فصل ذم الكسل، ما صورته: ونحن نجلب بعض الأمثال في ذمه، مما يسهل حفظه، ويجب لحظه، فمن ذلك: الكسل مزلقة الربح، ومسخرة الصبح. إذا رقدت النفس في فراش الكسل استغرقها نوم الغفلة " لوكنا نسمع أونعقل ما كنا في أصحاب السعير " الملك:10. الندامة في الكسل كالسم في العسل، الكسل آفة الصنائع، وأرضة في البضائع. العجز والكسل، يفتحان الخمول ولا تسل. الفلاح إذا مل الحركة، عدم البركة:
ظهران لا يبلغان المرء إن ركبا ... باب السعادة: ظهر العجز، والكسل وفي اغتنام الأيام: من أضاع الفرصة، تجرع الغصة. إن كان لك من الزمان شيء فالحال، وما سواه فمحال. تارك أمره إلى غد، لا يفلح للأبد. الإنسان ابن ساعته، فليحطها من إضاعته. التسويف سم الأعمال، وعدوالكمال. لم يحرم المبادر، إلا في النادر. ما درجت أفراخ ذل إلا من وكر طماعة، ولا بسقت فروع ندم إلا من جرثومة إضاعة. العزم سوق، والتاجر الجسور مرزوق. من وثق بعهد الزمان، علقت يداه بحبل الحرمان. الريح في ضمن الجسارة، والمضيع أولى بالخسارة.
ومن أمثالهم - في نظر الإنسان لنفسه، قبل غروب شمسه - قولهم: اعلم أن كل حكيم صانع إذا فكر في أمره ونظر في العواقب علم أنه لا بد يوماً أن يخرب دكانه الذي هومحل بضاعته، وتنحل أنقاضه، وتكل أدواته، وتضعف قوته، وتذهب أيام شبابه، فمن بادر واجتهد قبل خراب الدكان، واستغنى عن السعي، فإنه لا يحتاج بعد ذلك إلى دكان آخر، ولا إلى أدوات مجددة، فليتجر بما اقتناه ويشتغل بالانتفاع والالتذاذ بما كسبت يداه، وهذه حالة النفس بعد خراب الجسد، فبادر واجتهد واحرص واستعجل، وتزود قبل(6/332)
خراب دكانك وهدم بنيته، فإن خير الزاد التقوى، قال حسان (1) :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... وأبصرت بعد اليوم من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... ولم تترصد مثل ما كان أرصدا قال أبوالفرج ابن الطيب البغدادي (2) في اغتنام الوقت في كتابه في السياسة والآراء الفاضلة: يجب أن تعيد وتمثل، فإن الفكر مضطرب متشوش بكثرة نوازع النفس واختلاف قواها، والعمى في بعض الأوقات، فإذا سنح لنفس وقت فاضل بصفاء جوهرها، وأبرمت قانوناً أوصورة متوسطة فاضلة، يجب أ، يقيد بذلك وقت سعد ربما لا يعاود أويعاود؛ انتهى.
76 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتب به على لسان سلطانه إلى شيخ الموحدين بتونس ابن تافراجين، يخبره بالتمحيص الجاري عليه، ونصه: من أمير المسلمين أيده الله ونصره، وأعلى أمره وأظهره، إلى ولينا في الله تعالى الذي له القدم الرفيع المناصب، والمجد السامي الذوائب، والسياسة التي أخبارها سمر الركبان وحد الركائب، الشيخ الجليل الكبير، الشهير الخطير، الهمام الأمضى، الرفيع الأعلى، الأمجد الأوحد، الأسعد الأصعد، الأوفى الظاهر الطاهر الفاضل الباسل الأرضى الأنقى المعظم الموقر المبرور، علم الأعلام، سلالة أكابر أصحاب الإمام، معيد دولة التوحيد إلى الانتظام، أبي محمد عبد الله ابن الشيخ الجليل الكبير الشهير الماجد الخطير الرفيع الأسعد
__________
(1) كذا والمشهور أن هذين البيتين من قصيدة الأعشى التي نظمها في مدح الرسول وحالت قريش بينه وبين الوفادة عليه، ومطلعها " ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ".
(2) أبو الفرج عبد الله بن الطيب عراقي فيلسوف اعتنى بشرح القديمة في المنطق والحكمة من تأليف أرسطو طاليس وكتب جالينوس الطبية (قيل توفي سنة 435) ومن تلامذته ابن بطلان (القفطي: 223، وابن أبي أصيبعة 1: 239) .(6/333)
الأمجد الحسيب الأصيل الأرضي الأفضل الأكمل المعظم المقدس (1) المرحوم أبي العباس تافراجين، وصل الله تعالى له عزة تناسب شهرة فضله؛ وسعادة تتكفل له في الدارين برفعة محله: سلام كريم يخص مجادتكم الفاضلة، ورتبتكم الحافلة، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الذي يمحص ليثيب، ويأمر بالساتقالة ليجيب، ويعقب ليل الشدة يصبح الفرج القريب، ويجني من شجر التوكل عليه، والتسليم إليه، ثمر الصنع العجيب، ويظهر العبر مهما كسر ثم جبر لكل ذي قلب منيب، والصلاة على يدنا ومولانا محمد رسوله الذي نلجأ إلى ظل شفاعته في اليوم العصيب، ونستظهر بجاههعلى جهاد عبدة الصليب، ونستكثر عدد بركاته في هذا الثغر الغريب، ونصول منه على العدوبالحبيب، والرضى عن آل وصحبه نجوم الهداية من بعد الأمنة من الأفول والمغيب، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله لكم عزة متصلة، وعصمة بالأمان من نوب الزمان متكلفة - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله تعالى الذي لطف وجبر، وأظهر في الإقالة وحسن الإدالة العبر، ممن كتب الله تعالى له العقبى لما صبر، إلا الخبر الذي كسا الأعطاف الحبر، والصنع الذي صدق خبره الخبر، والحمد لله تعالى كثيراً كما هوأهله فلا فضل إلا فضله، ولمكانتكم عندنا المحل الذي قررت شهرة فضلكم قواعده، وأعلت مصاعده، وأثبت التواتر شواهده، إذ لا نزال نتحف بسيركم اليت في التدبيرات تقتفى، وعلم يسترشد به إذا العلم اختفى، والسبيل عفا، وإن تلك الدولة بكم استقام أودها، وقامت والحمد لله عمدها، وإنكم رعيتم في البنين حقوق آبائها، وحفظتم عليها ميراث عليائها، ولولم تتصل بنا أنباؤكم الحميدة، وآراؤكم السديدة، بما يفيد العلم بفضل ذاتكم، ويغري قوى الاستحسان بصفاتكم، لغبطنا بمخاطبتكم
__________
(1) ق: القدوة.(6/334)
ومفاتحتكم، ما نجده من الميل لكم طبعاً وجبلة، من غير أن نعتبر سبباً أوعلة، فالتعارف بين الأرواح لا ينكر، والحديث الكريم يؤيد من ذلك ما ينقل ويذكر (1) .
وبحسب ذلك نطلعكم على غري ما جرى به في ملكنا القدر، وحيث بلغ الورد وكيف كان الصدر، وربما اتصلت بكم الحادثة التي أكفأها على دار ملكنا من لم يعرف غير نعمتها غاذياً، ولا برح في جوانب إحسانها رائحاً وغادياً، يتيم حجرها الكافل، ورضيع درها الحافل، الشقي الخاسر، الخائن الغادر، محمد بن إسماعيل بن محمد المستجير بنسبنا من لؤم غدره، الخفية عنا حيل مكره لخمول قدره، إذ دعاه محتوم الحين ليهلك إلى أن يهلك، وسولت له نفسه الأمارة بالسوء أن يملك أخانا الخاسر ثم يملك، وسبحان الذي يقول: يا نوح إنه ليس من أهلك " هود:46، وكيف تم له ما أبرمه من تسور الأسوار، واقتحام البوار، وتملك الدار، والاستيلاء على قطب المدار، وأننا كنفتنا عصمة الله تعالى بمتحولنا الذي كان به ليلتئذ محل ثوائنا، وكفت القدرة الإلهية أكف أعدائنا، وخلصنا غلاباً بحال انفراد إلا من عناية [الله] ونعم الرفيق، وصدق اللجإ إلى رحمة الله تعالى التي ساحتها عن مثلنا لا تضيق، مهما (2) تنكر الزمان أوتفرق الفريق، وشرذمة الغدر تأخذ علينا كل فج عميق، حتى أوينا من مدينة وادي آش إلى الجبل العاصم، والحجة المرغمة أنف المخاصم، ثم أجزنا البحر بعد معاناة خطوب، وتجهم من الدهر وقطوب، وبلا الله هذا الوطن بمن لا يرجوله وقاراً، ولا يألوشعائره المعظمة احتقاراً، فأضرمه ناراً، وجلل وجوه وجوهه خزياً وعاراً، حتى هتك الباطل حماه، وغير اسمه ومسماه، وبدد حاميته المتخيرة وشذبها، وسخم دواوينه التي محصها الترتيب والتجريب وهذبها، وأهلك نفوسها وأموالها، وأساء لولا
__________
(1) يشير إلى الحديث " الأرواح مجندة ما تعارف منها ائتلف ... الخ ".
(2) ق: فمهما.(6/335)
تدارك الله تعالى أحوالها.
ولما تأذن جل جلاله في إقالة العثار، ودرك الثار، وأنشأت نواسم رضاه إدامة الاستغفار، ورأينا قلادة الإسلام قد آن انتثارها، والملة الحنيفية كادت تذهب آثارها، ومسائل الخلاف يتعدد مثارها، وجعلت الملتان نحونا تشير، والملك يأمل أن يوافيه بقدومنا البشير، تحركنا حركة خفيفة تشعر أنها حركة الفتح، ونهضنا نبتدر ما كتب الله تعالى من المنح، وقد امتعض لنا الكون بما حمل، واستخدم الفلك نفسه بمشيئته تعالى واكتمل، وكاد يقرب لقرى ضيفنا الثور والحمل، وظاهرنا محل أخينا السلطان الكبير الرفيع المعظم المقدس أبي سالم الذي كان وطنه مأوى الجنوح، ومهب النصر الممنوح - رحمة الله تعالى عليه - مظاهرة مثله من الملوك الأعاظم، وختم الجميل بالجميل والأعمال بالخواتم، وأنف حتى عدوالدين لنعمتنا المكفورة، وحقوقنا المحجوبة المستورة، فأصبح بعد العدوحبيباً، وعاد بعد الإباية منيباً، وسخر أساطيله تحضيضاً على الغجازة وترغيباً، واستقبلنا البلاد وبحر البشر يزخر موجه، وملك الإسلام قد خر على الحضيض أوجه، والروم مستولية على الثغور، وقد ساءت ظنون المؤمنين بالعقبى ولله عاقبة الأمور، والخبيث الغادر الذي كان يموه بالإقدام قد ظهر كذب دعواه، وهان مثواه، وتورط في أشراك المندمة تورط مثله ممن اتبع هواه، وجحد نعمة مولاه، فلولا أن الله، عز وجل، تدارك جزيرة الأندلس بركابنا، وعاجل أوارها بانسكابنا، لكانت القاضية، ولم تر لها من بعد تلك الريح العقيم من باقية، لكنا والفضل لله تعالى رفعنا عنها وطأة العدو وقد ناء بكلكل، وابتززناه منها أي مشرب ومأكل، واعتززنا عليه بالله تعالى الذي يعز ويذل، ويهدي ويضل، فلم نسامحه في شرط يجر غضاضة، ولا يخلف في القلوب مضاضة، وخصنا بحر الهول، وبرئنا إلى الله تعالى ربنا عن القوة والحول، وظهرت للمسلمين ثمرة سريرتنا، وما بذلنا في مصانعة(6/336)
العدوعن الإجهاز عليهم من حسن سيرتنا، فقويت فينا أطماعهم، وانعقد على التحرم بنا إجماعهم.
وقصدنا مالقة بعد أن انثالت الجهة الغربية، وأذعنت المعاقل الأبية، فيسر الله تعالى فتحها، وهيأ منحها، ثم توالت البيعات، وصرخت بمآذن البلاد الدعاة، واضطرب أمر الخائن وقد دلفت المخاوف إليه، وحسب كل صيحة عليه، فاقتضت نعامته الشائلة، ودولة بغيه الزائلة، وآراؤه الفائلة، أن ضم ما أمكنه من ذخيرة مكنونة، وآلة للملك مصونة، واستركب أوباشه الذين استباح الحق دماءهم، وعرف الخلق اعتزاءهم للغدر وانتماءهم، وقصد سلطان قشنتالة من غير عهد ولا وثيقة، ولا مثلى طريقة، ولا شيمة بالرعي خليقة، لكن الله عز وجل، حمله على قدمه، لإراقة دمه، وزين الوجود بعدمه، فلحين قدومه عليه راجياً أن يستفزه بعرض، أويحيل صحة عقده المبرم إلى مرض، ومؤملاً هووشيعته الغادرة كرة على الإسلام مجهزة، ونصرة لمواعيد الشيطان منجزة، تقبض عليه وعلى شيعته، وصم عن سماع خديعته، وأفحش بهم المثلة، وأساء بحسن رأيه فيهم القتلة، فأراح الله تعالى بإبادتهم نفوس العباد، وأحيا بهلاكهم أرماق البلاد.
وحثثنا السير إلى دار ملكنا فدخلناها في اليوم الأغر المحجل، وحصلنا منها على الفتح الإلهي المعجل، وعدنا إلى الأريكة التي بنا عنها التمحيص فما حسبنا إلا سراراً أعقبه الكمال، ومرضاً عاجله الإبلال، فثابت للدين الآمال، ونجحت الأعمال، وبذلنا في الناس من العفوما غفر الذنوب، وجبر القلوب، وأشعنا العفوفي القريب والقصي، وألبسنا المريب ثوب البري، وتألفنا الشارد، وأعذبنا الموارد، وأجرينا العوائد، وأسنينا الفوائد، إلا ما كان من شرذمة عظمت جرائرهم، وخبثت في معاملة الله تعالى سرائرهم، وعرف شومهم، وصدق من يلومهم، فأقصيناهم وشردناهم، وأجليناهم(6/337)
عن هذا الوطن الجهادي وأبعدناهم.
ولما تعرف سلطان قشتالة باستقلالنا، واستقرارنا بحضرة الملك واحتلالنا، بادر يعرف بما كان من عمله فيمن لحق له من طائفة الغدر، وإخوان الخديعة والمكر، وبعث إلينا برؤوسهم، ما بين رئيسهم الشقي ومرؤوسهم، وقد طفا على جداول السيوف حبابها، وراق بحناء الدماء خضابها، وبرز الناس إلى مشاهدتها معتبرين، وفي قدرة الله تعالى مستبصرين، ولدفاع النفس بعضهم ببعض شاكرين، وأحق الله تعالى الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين، فأمرنا بنصب تلك الرؤوس بمسور الغدر الذي فرعته، وجعلناها علماً على عاتق العمل السيئ الذي اخترعته، وشرعنا في معالجة العلم، وأفضنا على العباد والبلاد حكم السلم، فاجتمع الشمل كأحسن أحواله، وسكن هذا الوطن بعد زلزاله، وأفاق من أهواله.
ولعلمنا بفضلكم الذي قضاياه شائعة، ومقدماته ذائعة، أخبرناكم به على اختصار، واجتزاء واقتصار، ليسر دينكم المتين بتماسك هذا الثغر الاقصى بعد استرساله، وإشرافه على سوء مآله، وكنا نخاطب محل أخينا السلطان الجليل المعظم الأسعد الأوحد الخليفة أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن الخليفة أمير المؤمنين المعظم المقدس أبي يحيى ابن أبي بكر ابن الأئمة المهتدين والخلفاء الراشدين - وصل الله تعالى أسباب سعده وحرس أكناف مجده - لولا أننا تعرفنا كونه في هذه المدة مقيماً بغير تلك الحضرة التونسية، فاجتزأنا بمخاطبة جهتكم السنية، وبين سلفنا وسلفكم من الود الراسخ البنيان، والكريم الأثر والعيان، ما يدعوإلى أ، يكون سبب المخالطة موصولاً، وآخره الود خيراً من الأولى، لكن الطريق جم العوائق، والبحر مفروق (1) البوائق، وقبول العذر بشواغل
__________
(1) ق: معروف.(6/338)
القطر بالفضل لائق، ومزادنا أن يتصل الود، ويتجدد العهد، والله عز وجل يتولى أمور المسلمين بمتوارد إحسانه، ويجمع قلوبهم حيث كانوا على طاعة الله تعالى ورضوانه، وهوسبحانه يطيل سعادتكم، ويحرس مجادتكم، وينجح إدارتكم، ويسني إرادتكم، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته.
77 - ومن نثره رحمه اله تعالى ما أنشأه عن سلطانه الغني بالله، وذلك قوله: يا أيها الناس، ضاعف الله تعالى بمزيد النعم سروركم؛ وتكفل بلطفه الخفي في مثل هذا القطر الغريب أموركم؛ أبشركم بما كتب به سلطانكم السعيد إليكم، المترادفة بيمنه وسعادته نعم الله تعالى عليكم، أمتع الله تعالى الإسلام ببقائه، وأيده على أعدائه، ونصره في أرضه بملائكة سمائه، وأن الله تعالى فتح له الفتح المبين، وأعز بحركة جهاده الدين، وبيض وجوه المؤمنين، وأظفره باطريرة البلد الذي فجع المسلمين بأسرهم فجيعة تثير الحمية، وتحرك الأنفس الأبية، فانتقم اله تعالى منهم على يده، وبلغه من استئصالهم غاية مقصده، فصدق من الله تعالى لأوليائه وعلى أعدائه الوعد والوعيد، وحكم بإبادتهم المبدئ المعيد " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة؛ إن أخذه أليم شديد " هود:102 وتحصل من سبيه بعدما رويت السيوف من دمائهم آلاف عديدة، لم يسمع بمثلها في المدد المديدة، والعهود البعيدة، ولم يصب من إخوانكم المسلمين عدد يذكر، ولا رجل يعتبر، فتح هني، وصنع سني، ولطف خفي، ووعد وفي، فاستبشروا بفضل اله تعالى ونعمته، وقفوا عند الافتقار والانقطاع لرحمته، وقابلوا نعمه بالشكر يزدكم، واستبصروا في الدفاع عن دينكم ينصركم ويؤيدكم، واغتبطوا بهذه الدولة المباركة التي لم تعدموا من الله تعالى معها عيشاً خصيباً، ولا رأياً مصيباً، ولا نصراً عزيزاً ولا فتحاً قريباً، وتضرعوا في بقائها، ونصر لوائها، إلى من لم يزل سميعاً لدعاء مجيباً، والله عز وجل(6/339)
يجعل البشائر الفاشية فيكم عادة، ولا يعدمكم ولا أولي الأمر منكم توفيقاً وسعادة، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته من مبلغ ذلك فلان انتهى.
78 - ومن نثر لسان الدين - رحمه الله تعالى - ما أنشأه عن سلطانه الغني بالله تعالى - حين وصله ابنه الذي كان بفاس - يخاطب سلطان فاس، ما نصه: المقام الذي تقلد نافلة الفضل شفعاً، وجود سورة الكمال إفراداً وجمعاً، واستولى وجمع ببره المنح، والتهنئة والفتح، فأحرز أصلاً وفرعاً، واستحق الشكر عقلاً وشرعاً، وأغرى أيدي جوده، بالقصد الذي هوحظ وليه من وجوده، فأثار من جيش إلقاء نقعاً، ووسط به جمعاً، مقام محل أخينا الذي أقلام مقاصده دربة بحسن التوقيع، وعيون فضله مذكاة لإحكام الصنيع، وعذبات فخره تهفوبذروة العلم المنيع، ومكارمه تتفنن فيها مذاهب التنويع، أبقاه الله تعالى وألسن فضله ناطقة، وأقيسة سعده صادقة، وألويته بالنصر العزيز خافقة، وبضائع مكارمه في أسواق البر نافقة، وعصائب التوفيق لركائب أغراضه موافقة؛ السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، وطريقتكم المثلى، وأخوتكم الفضلى، ورحمة الله تعالى وبركاته، مجل قدركم، وملتزم بركم، وموجب حمدكم وشكركم، فلان.
أما بعد حمد الله تعالى الذي الشكر على المكرمات وقفاً، ونهج منه بإزائها سبيلاً لا تلتبس ولا تخفى، وعقد بينه وبين المزيد سبباً وحلفاً، وجعل المودة في ذاته مما يقرب إليه زلفى، مربح تجارة من قصد وجهه بعمله حتى يرى الشيء ضعفاً، وناصر هذه الجزيرة من أوليائه الكرام السيرة بمن يوسعها فضلاً وعطفاً، ومدني ثمار الآمال فتتمتع بها اجتناء وقطفاً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي العربي الكريم، الرؤوف الرحيم(6/340)
الذي مد من الرحمة على الأمة سجفا، وملأ قلوبها تعاطفاً وتعارفاً ولطفاً، القائل من أيقن بالخلف جاد بالعطية ووعد من عامل الله تعالى بربح المقاصد السنية، وعداً لا يجد خلفاً، والرضى عن آل وأصحابه الذين كانوا من بعده للإسلام كهفاً، وعلى أهله في الهواجر ظلاً ملتفاً، غيوث الندى كلما شاموا سماحاً وليوث العدى كلما شهدوا زحفاً، والدعاء لمقام أخوتكم الأسعد بالنصر الذيي يكف من عدوان الكفر كفاً، والمجد الذي لا يغادر كتابه من المفاخر التي ترك الأول للآخر حرفاً، وإلى هذا - أيدكم الله بنصر من عنده، وحكم لملككم الأسمى باتصال سعده، وأنجز في ظهوره على من عاند أمره سابق وعده - فإننا نقرر لدى مقامكم وإن كان الغني بأصالة عقله، عن اجتلاء الشاهد ونقله، وجلاء البيان وصقله، أن الهدايا وإن لم تحل العين منها كما حلت، أوتناولها الاتنزار فما نبهت في لحظ الاعتبار ولا جلت، أوكانت زيفاً كلما أغري بها الاختبار قلت، لا بد أ، تترك في النفوس ميلاً، وأن تستدعي من حسن الجزاء كيلاً، وأن تنال من جانب التراحم والتعاطف نيلاً، وأي دليل أوضح محجة، وأبين حجة، من قوله صلى الله عليه وسلم تهادوا وتحابوا من غير تبيين مقدار، ولا إعمال اعتبار، ولا تفرقة بين لجين ولا نضار. فكيف إذا كانت الهدية فلذة الكبد التي لا يلذ العيش بعد فراقها، ولا تضيء ظلم الجوانح إلا بطلوع شمسها وإشراقها، وجمع الشمل الذي هوأقصى آمال النفوس الآلفة، والبواطن المصاحبة للحنين المحالفة، لا سيما إذا اقتعدت محل الهناء، بالفتح الرائق السناء، وحفت بها من خلفها وأمامها صنائع البر وقومة الاعتناء، فهنالك تفخر ألسن الثناء، وتتطابق أعلام الشكر السامية البناء.
وإننا ورد علينا كتبكم الذي سطره البر وأملاه، وكنفه اللحظ وتولاه، ووشحه البيان وحلاه، مهنئاً بما منح الله جل لجاله من رد الحق، وتعيين الجمع ورفع الفرق، وتطويق الأمان وأمان الطوق، وإسعاد السعد(6/341)
وبلوغ القصد، وقطع دابر من جحد نعمة الأب والجد، وسل سيف البغي دامي الحد، والحمد لله تعالى حمداً يلهمه ويتيحه، ونسأله إمداداً يسوغه ويبيحه، على أن أحسن العقبى وأعقب الحسنى، وأرى النعم بين فرادى ومثنى، وجمع الشمل الذي قد تبدد، وجدد رسم السعادة لهذا القطر فتجدد، واخذ الظالم فلم يجد من محيص، وجمع لنا الأجر والفخر بين تخصيص وتمحيص، وقلد برؤوس الفجرة الغدرة الفرضة التي فرعوها، وأطفأ بمراق دمائهم نار الضلالة التي شرعوها، وكتب لقبيلكم الفضل الذي يحمد ويشكر، والحق الذي لا يجحد ولا ينكر، فلقد أوى لما تبرأت الخلصان، وتحفى عندما تنكر الزمان، وسبب الإدالة وطاوع الأصالة والجلالة، حتى فرج الله تعالى الكرب، وآنس الغربة، وأقال العثرة وتقبل القربة، له الحمد على آلائه، وصلة نعمائه، ملء أرضه وسمائه.
ووصل صحبته الولد مكنوفاً بجناح الطف، ممهداً له ببركتكم مهاد العطف، فبرزنا إلى تلقية تنويهاً لهديتكم وإشادة، وإبداء في بركم وإعادة، وأركبنا الجيش الذي آثرنا لحين استقلالنا عرضه، وقررنا بموجب الاستحقاق فرضه، فبرز إلى الفضاء الأفيح حسن الترتيب، سافراً عن المرأى العجيب، ولولا الحنان الذي تجده النفوس للأبناء وتستشعره، والشوق إلى اللقاء الذي لا يجحده منصف ولا ينكره، لما شق علينا طول مقامه في حجركم، ولا ثواؤه لصق أريكة أمركم، فجواركم محل لاستفادة رسوم الإمارة، وتعلم السياسة والإدارة، حتى يرد علينا يقدم كتيبة جهادكم، ويقود إلينا طليعة نصركم إيانا وغمدادكم، فنحن الآن نشكر مقاصدكم التي اقتضى الكمال سياقها، وزين المجد آفاقها، وقدرها فأحكم طباقها، ونقرر لديكم أن حظنا من ودادكم، ومحلنا من جميل اعتقادكم، حظ بان رجحانه وفضله، ولم يتأت بين من سلف من السلف مثله، من الصحبة في المنزل الخشن وهي الوسيلة، وفي رعيها(6/342)
تظهر الفضيلة، والاشتراك في لازم الوصول إلى الحق، وضم أشتات الخلق، والمودة الواضحة الطرق، إلى ما بين السلف، من الود الى من بدره من الكلف، المذخورة أذمته للخلف، فإذا كانت المعاملة جارية على حسبه، وشعبها راجعة إلى مذهبه، جنى الإسلام ثمرة حافلة، واستكفى الدين إيالة كافلة، فالله، عز وجل، يمهد البلاد بيمن تدبيركم، ويجري على مهيع السداد جميع أموركم، ويجعلكم ممن زين الجهاد عواتق أعماله، وكان رضى الله تعالى عنه أقصى آماله، حتى تربي مآثركم على مآثر أسلافكم الذين عرف هذا الوطن الجهادي إمدادهم، وشكر جهادهم، وقبل الله تعالى فيه أموالهم وأولادهم، وحسن من أجله معادهم.
وقد حضر بين يدينا رسولكم الذي وجهتم الولد - أسعده الله تعالى - لنظره، وتخيرتموه لصحبة سفره، فلان، وهومن الأمانة والفضل، والرجاحة والعقل، بحيث طابق اختياركم، واستحق إيثاركم، فأطنب في تقرير ما لديكم من عناية بهذه الأوطان عنيت الرفد، وضربت الوعد، وأخلصت في سبيل الله تعالى القصد، وغير ذلك مما يؤكد المودة المستقرة الأركان، المؤسسة على التقوى والرضوان، فأجبناه بأضعاف ذلك مما لدينا لكم، وقابلنا بالثناء الجميل قولكم وعملكم، والله تعالى يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته.
79 - ومن ذلك ما كتبه - رحمة الله تعالى - على لسان الأمير سعد ابن سلطانه الغني بالله تعالى إليه وهو:
مولاي ومولى كبيري ومولى المسلمين، ورحمتي المتكفلة بالسعد الرائق الجبين، يقبل قدمكم التي جعل الله تعالى العز في تقبيلها، والسعد في أتباع سبيلها، عبدكم الصغير في سنه، الكبير في خدمتكم وخدمة كبيره في حياتكم بفضل الله تعالى ومنه، الهاش لتمريغ وجهه في كتابكم حسن الذراع، المنبئة طباعه(6/343)
عن العبودية الكامنة بالبدار إلى ذلك والإسراع، عبدكم وولدكم سعد، كتبه من بابكم، المحوط بعز أمركم، المتحف إن شاء الله تعالى بأنباء نصركم، وقد وصل إلى عبدكم تشريفكم السابغ الحل، وتنويهكم المبلغ غايات الأمل، وخط يدكم الكريمة وغمامة رحمتكم الهامية الديمة، فيا له نم عز أثبت لي الفخر في أبناء الملوك، وسار بي من الترشيح لرتب حظوتكم على المنهج المسلموك، قرر من عافية مولاي وسعادته، واقتران السعود حيث حل بوفادته، ما تكفل ببلوغ الآمال، وتمم لسان الحال في شكر الله تعالى لسان المقال، والله تعالى يديم أيام مولاي حتى يقوم بحق شكر النعم لسانه، وتؤدي بعده جوارحه من الدفاع بين يدي سلطانه ما يسر به سلطانه، وبعث جوابه منقولاً ليد حامله من يده ليهنئ تقبيل اليد الكريمة بحال تأكيد، ويقرر ما لعبده إلى وجهه الكريم من شوق شديد، ويعرف شمول نعمة الله تعالى ونعمته لمن ببابه من خدم وحرم وعبيد، ويمد يد الرغبة لمولاه في صلة الإنعام بتشريفه، وإعلامه بتزايدات حركته وتعريفه، ففي ضمن ذلك كل عز مشيد، وخير جديد، وينهي تحية أهل منزل مولاي على اختلافهم بحسب منازلهم من نعمة لحظه، التي يأخذ منها كل بحظه، والسلام الكريم ورحمة الله تعالى وبركاته.
80 - وقال رحمه الله تعالى: ومن نثري ما خاطبت به السلطان على لسان ولده من مالقة، وقد وصلت به إليه من المغرب:
مولاي الذي رضى الله تعالى مقرون برضاه، والنجح مسبب عن نيته ودعاه، وطاعته مرتبطة بطاعة الله، أبقى الله تعالى علي بكم ظل رحماه، وغمام نعماه، وزادني من مواهبه هداية في توفية حقه الكبير فإن الهدى هدى الله: يقبل مواطئ أقدامكم التي ثراها شرف الخدود وفخر الجباه، ويقرر من عبوديته ما يسجل الحق مقتضاه، ويسلم على مثابة رحمتكم السلام الذي يحبه الله تعالى ويرضاه، ولدكم وعبدكم يوسف، من منزل تأييدكم(6/344)
بظاهر مالقة، حرسها الله، والوجود ألسن بالعز بالله ناطقة، والأعلام والشجر ألوية بالسعد خافقة، وأواع التوفيق متوافقة، وصنائع اللطيف الخبير مصاحبة مرافقة.
وقد وصل يا مولاي لعبدكم المفتخر بالعبودية لكم ما بعث به علي مقامكم، وجادت به سحائب إنعامكم، ولمن تحت حجبة ستركم المسدول، وفي ظل اهتمامكم الموصول، ولمن ارتسم بخدمة أبوابكم الشريفة من الخدام، وأولي المراقبة والالتزام، ما يضيق عنه بيان العبارة، ويفتضح فيه لسان القول والإشارة، من عنايات سنية، ونعم باطنة وجلية، وملاحظة مولوية، ومقاصد ملكية، فما شئت من قباب مذهبة، وملابس منتخبة، وأسرة مرتبة، ومحاسن لا مستورة ولا محجبة، واللواء الذي نشرتم على عبدكم ظله الظليل، ومددتم عليه جناح العز الجليل، جعله الله تعالى أسعد لواء في خدمتكم، ومد علي وعليه لواء حرمتكم، حتى يكون لجهادي بين يديكم شاهداً، وبالنصر العزيز والفتح المبين عليكم عائداً، ولطائفة الخلوص لأمركم قائداً، ولأولياء بابكم هادياً ولأعدائكم كائداً.
واتفق يا مولاي أن كان عبدكم قد ركب مغتنماً برد اليوم، ومؤثراً للرياضة في عقب النوم، والتف عليه الخدام، والأولياء الكرام، فلما عدنا تعرضت لنا تلك العنايات المجلوة الصور، المتلوة السور، وقد حشر الناس، وحضرت منهم الأجناس، فعلا الدعا، وانتشر الثنا، وراقت الأبصار تلك الهمة العليا، فنسأل الله تعالى يا مولاي أن يكافئ مقامكم بالعز الذي لا يتبدل، والنصر الذي يستأنف ويستقبل، والسعد الذي محكمه لا يتأول، والعبد ومن له على حال اشتياق للورود على أبوابكم الرفيعة المقدار، وارتياح لقرب المزار:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار(6/345)
والعمل على تيسير الحركة متصل، والدهر لأوامر السعد محتفل، بفضل الله تعالى، والسلام على مقام مولاي مقام الشفقة والرحمة، والمنة والنعمة، ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى.
81 - ومن إنشاء لسان الدين في تولية الأمير يوسف المذكور مشيخة الغزاة على لسان السلطان والده ما نصه:
هذا ظهير كريم فاتح بنشر الألوية والبنود وقود العساكر والجنود، وأجال في ميدان الوجود، جياد الباس والجود، وأضفى ستر الحماية والوقاية بالتهائم والنجود، على الطائفتين والعاكفين والركع السجود، عقد للمعتمد به عقد التشريف، والقدر المنيف، زاكي الشهود، وأوجب المنافسة بين مجالس السروج ومضاجع المهود، وبشر السيوف في الغمود، وأنشأ ريح النصر آمنة من الخمود، أمضى أحكامه، وأنهد العز أمامه، وفتح من وهر السرور والحبور كمامه، أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر - أيد الله تعالى أمره وخلد ذكره - لكبير ولده، وسابق أمده، وريحانة خلده، وياقوتة الملك على يده، الأمير الكبير الطاهر الظاهر الأعلى، واسطة السلك، وهلال سماء الملك، ومصباح الظلم الحلك، ومظنة العناية الأزلية من مدير الفلك ومجري الفلك، عنوان سعده، وحسام نصره وعضده، وسمي جده، وسلالة فضله ومجده، السعيد المظفر الهمام الأعلى الأمضى، العالم العامل الأرضي، المجاهد المؤمل المعظم أبي الحجاج يوسف، ألبسه الله تعالى من رضاه عنه حللاً لا تخلق جدتها الأيام، ولا تبلغ كنهها الإفهام، وبلغه في خدمته المبالغ التي يسر بها الإسلام، وتسبح في بحار صنائعها الأقلام، وحرس معاليها الباهرة بعينه التي لا تنام، وكنفه بركنه الذي لا يضام، فهوالفرع الذي جرى بخصله على أصله، وارتسم نصره في نصله، واشتمل حده على فصله، وشهدت ألسن خلاله، برفعة(6/346)
جلاله، وظهرت دلائل سعادته، في بدء كل أمر وإعادته، لما صرف وجهه إلى ترشيحه، لافتراع هضاب المجد البعيد المدى وتوشيحه، بالصبر والحلم والباس والندى، وأرهف منه سيفاً من سيوف الله تعالى لضرب هام العدا، وأطلعه فس سماء الملك بدر هدى، لمن راح وغدا، وأخذه بالآداب التي تقيم من النفوس أوداً، وتبذر في اليوم فتجني غدا، ورقاه في رتب المعالي طوراً فطوراً، ترقي النبات ورقاً ونوراً، ليجده بحول الله تعالى يداً باطشة بأعدائه، ولساناً مجيباً عند ندائه، وطرازاً على حلة علائه، وغماماً من غمائم آلائه، وكوكباً وهاجاً بسمائه، وعقد له لواء الجهاد على الكتيبة الأندلسية من جنده، قبل أن ينتقل عن مهده، وظلله بجناح رايته، وهوعلى كتد دابته، واستركب جيش الإسلام ترحيباً بوفادته، وتنويهاً بمجادته، وأثبت في غرض الإمارة النصرية سهم سعادته، رأى (1) أن يزيده من عنايته ضروباً وأجناساً، ويتبع أثره ناساً فناساً، قد اختلفوا لساناً ولباساً، واتفقوا ابتغاء لمرضاة الله والتماساً، ممن كرم انتماؤه، وزينت بالحسب العد سماؤه، وعرف غناؤه، وتأسس على المجادة بناؤه، حتى لا يدع من العناية فناً إلا وجلبة إليه، ولا مقادة فخر إلا جعلها في يديه، ولا حلة عز إلا أضفى ملابسها عليه.
و [لما] كان جيش الإسلام في هذه البلاد الأندلسية - أمن الله سبحانه خلالها، وسكن زلزالها، وصدق في رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء آمالها - كلف همته، ومرعى ذمته، وميدان اجتهاده، ومعلق أمل جهاده، ومعرج إرادته، إلى تحصيل سعادته، وسبيل خلاله، إلى بلوغ كماله، فلم يدع له علة إلا أزاحها، ولا طلبة إلا أجال قداحها، ولا عزيمة إلا أورى اقتداحها، ولا رغبة إلا فسح ساحها، آخذاً مدونته بالتهذيب، ومصافه بالترتيب، وآماله بالتقريب، محسناً في تلقي الغريب،
__________
(1) هذا جواب " لما " في السطر الأول أعلاه.(6/347)
وتأنيس المريب، مستنجزاً له وبه وعد النصر العزيز والفتح القريب، ورفع عنه لهذا العهد نظر من حكم الإعراض في حماته، واستشعر عروق الحسائف لتشذيب كماته، واشتغل عن حسن الوساطة لهم بمصلحة ذاته، وجلب جباته، وتثمير ماله وتوفير أقواته، ذاهباً أقصى مذاهب التعمير بأمد حياته، فانفرج الضيق، وخلص إلى حسن نظره الطريق، وساغ الريق، ورضي الفريق، رأى - والله الكفيل لنجح رأيه، وشكر سعيه، وصلة حفظه ورعيه - أن يجهد لهم اختياره، ويحسن لديهم آثاره، ويستنيب فيما بينه وبين سيوف جهاده، وأبطال جلاده، وحماة أحوازه، وآلات اعتزازه، من يجري مجرى نفسه النفيسة في كل مبنى، ويكون له لفظ الولاية وله - أيده الله تعالى - المعنى، فقدمه على الجماعة الأولى كبرى الكتائب، ومقادة الجنائب، وأجمة الأبطال، ومزنة الودق الهطال، المشتملة من الغزاة على مشيخة آل يعقوب نسباء الملوك الكرام، وأعلام الإسلام، وسائر قبائل بني مرين، ليوث العرن، وغيرهم من أصناف القبائل، وأولي الوسائل، ليحوط جماعتهم، ويعرف بتفقده إطاعتهم، ويستخلص لله تعالى ولأبيه - أيده الله تعالى - طاعتهم، ويشرف بإمارته مواكبهم، ويزين بهلاله الناهض إلى الإبدار على فلك سعادة الأقدار كواكبهم، تقديماً أشرق له وجه الدين الحنيف وتهلل، وأحس باقتراب ما أمل، فللخيل اختيال ومراح، وللأسل السمر اهتزاز وارتياح، وللصدور انشراح، وللآمال مغدى في فضل الله تعالى ورواح.
فليتول ذلك - أسعده الله تعالى - تولي مثله ممن أسرة الملك أسرته، وأسوة الني صلوات الله تعالى عليه أسوته، والملك الكريم أصل لفرعه، والنسب العربي منجد لطيب طبعه، آخذاً أشرافهم بترفيع المجالس بنسبة أقدارهم، مغرياً حسن اللقاء بإيثارهم، شاكراً غناءهم، مستدعياً ثناءهم، مستدراً لأرزاقهم، موجباً المزية بحسب استحقاقهم، شافعاً في رغباتهم المؤملة، ووسائلهم المتحملة، مسهلاً الإذن لوفودهم المتلاحقة، منفقاً لضائعهم النافقة(6/348)
مؤنساً لغرمائهم، مستجلياً أحوال أهليهم وآبائهم، مميزاً بين إغفالهم ونبهائهم.
وعلى جماعتهم - رعى الله تعالى جهادهم، ووفر أعدادهم - أن يطيعوه في طاعة الله تعالى وطاعة أبيه، ويكونوا يداً واحدة على دفاع أعداء الله تعالى وأعاديه، ويشدوا في مواقف الكريهة أزره، ويمتثلوا نهيه وأمره، حتى يعظم الانتفاع، ويشهر الدفاع، ويخلص المصال له تعالى والمصاع، فلووجد - أيده الله تعالى - غاية في تشريفهم لبلغها، أوموهبة لسوغها، لكن ما بعد ولده العزيز عليه مذهب، ولا وراء مباشرتهم بنفسه معزب، والله تعالى منجح الأعمال، ومبلغ الآمال، والكفيل بسعادة المآل.
فمن وقف على هذا الظهير الكريم فليعلم مقدار ما تضمنه من أمر مطاع، وفخر مستند إلى إجماع، ووجوب أتباع، وليكن خير مرعي لخير راع بحول الله تعالى.
وأقطعه - أيده الله تعالى - ليكون بعض المواد لأزواد سفره، وسماط نفره، في جملة ما أولاه من نعمه، وسوغه من موارد كرمه، جميع القرية المنسوبة إلى عرب عنان، وهي المحلة الأثيرة، والمنزلة الشهيرة، تنطلق عليها أيدي خدامه ورجاله، جارية مجرى صريح ماله، محررة من كل وظيفة لاستغلاله، إن شاء الله تعالى، فهوالمستعان سبحانه، وكتب في كذا انتهى.
82 - وكتب لسان الدين - رحمه الله تعالى - في شأن تقليد الأمير سعد أخي المذكور الأصغر منه سناً ما صورته:
هذا ظهير جعل الله تعالى له الملائكة ظهيراً، وعقد منه في سبيل الله تعالى لواء منصوراً، وأعطى المعتمد به باليمن كتاباً منشوراً " وما كان عطاء ربك محظوراً " الإسراء:20 وأطلع صبح العناية المبصرة الآية يبهر سفوراً، ويسطع نوراً، وأقر عيوناً للمسلمين وشرح صدوراً، ووعد الأهلة أ، تصير بإمداد شمس الهدى إياها بدوراً، وبشر الإسلام بالنصر المنتظر، والفتح الرائق الغرر(6/349)
مواسط وثغوراً، وأبتع حماة الدين لواء الإمارة السعيدة النصرية فأسعد بها آمراً وأكرم بها مأموراً، أمر به، وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه، أمير المسلمين عبد الله محمد ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر، أعلى الله تعالى رايته وسدد رأيه، وشكر عن الإسلام والمسلمين سعيه، لقرة عينه، ومقتضى حقه من العدو ودينه، وغصن دوحه، وآية لوحه، ودرة قلادته، ودري أفلاك مجادته، وسيف نصره، وهلال قصره، وزينة عصره، ومتقبل هديه ورشده، ومظنة إشراق سعده، وإنجاز وعده، ولده الأسعد، وسليل ملكه المؤيد، الأمير الأجل الأعز الأسنى الأطهر الأظهر الأعلى، لابس أثواب رضاه ونعمته، ومنحة الله لنصره وخدمته، ومظهر عزة وبعد همته، التقي الرضي العالم العامل الماجد حامي الحمى تحت ظل طاعته، وكافي الإسلام الذي يأمن من إضاعته، المحرز مزايا الأعمار الطويلة حظ الشهر في يومه وحظ اليوم في ساعته، الموقر المهيب المؤمل المعظم أبي النصر سعد عرفه الله تعالى ببركة سعد بن عبادة جده، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعظم بمجده، ووزيره في حله وعقده، وأجناه ثمرة النصر الذي كناه به ووصل سببه بسببه فما النصر إلا من عنده، وأنتج له الفتح المبين من مقدمتي نصره وسعده، لما صرف وجه عنايته إليه في هذه البلاد الأندلسية التي خلص لله انفرادها وانقطاعها، وتمحض - لأن تكون كلمة الله هي العليا - قراعها، وصدق مصالها في سبيله جل وعلا ومصاعها، إلى ما يمهد أرجاءها، ويحقق رجاءها، من سلم يعقد، ولا يعدم الحزم معه ولا يفقد، وعطاء ينقد، ورأي لا يتعقب ولا ينقد، وحرب تضمر له الجياد، ومرمى فكره الذي عنه لا يبرح، فديوانه ديوان أمانيه الذي تسهب فيه وتشرح، أسهمه من سياسته أوفى الحظوظ(6/350)
وأسناها، وقصر عليه لفظ العناية ومعناها، ووقف عليه موحدها ومثناها، فأزاح علله، وأحيا أمله، وأنشأ جذله، ورفع عنه من لم يبذل الجد له، ولا أخلص لله فيه عمله.
واختار لقيادة مقانبه المنصورة، وإمارة غزواته المبروروة، أقرب الناس إلى نفسه نسباً، وأوصلهم به سبباً، وأحقهم بالرتب المنيفة والمظاهر الشريفة، ذاتاً وأباً، وحداً وشباً، وأمره على أشرافه، ودل له الأنفال على أعرافه، وصرف إليه آماله، واستعمل في أسنته يمينه وفي أعنته شماله، وعقد عليه ألويته الخافقة لعزة نصره، ورأى الظهور على أعداء الله تعالى جنى فهيأه لهصره، وأدار هالة قتام إجهاد عن قرب بالولادة على بدره، ونبه نفوس المسلمين على جلاله قدره، وقدمه على الكتيبة الثانية من عسكر الغزاة المشتملة على الأشياخ من أولاد يعقوب كبار بني مرين، وسائر قبائلهم المكرمين، وغيرهم من القبائل المحترمين، ينوب عن أمره في عرض مسائلهم، وقرى وافدهم، وإجراء عوائدهم، تقديماً تهلل له الإسلام واستبشر، وتيقن الظفر فاستبصر، لما علم بمن استنصر، فليخلصوا له في طاعته الكبرى الطاعة، وليعلقوا ببنان نداه بنان الطماعة، ويؤملوا على يديه نجح الوسيلة إلى مقامه والشفاعة، ويعلموا أن اختصاصهم به هوالعنوان على رفع محالهم لديه، وعزة شأنهم عليه، فلووجد هضبة أعلى لفرعها لهم وعلاها، أوعزة أعز لجلاها، أوقبلة أزكى لصرف وجوههم وولاها، حتى تجنى ثمرة هذا القصد، وتعود بالسعد حركة هذا الرصد، وتعلوذؤابة هذا المجد، وتشهد بنصر الدين على يده ألسنة الغور والنجد، بفضل الله سبحانه.
وعليه - أسعد الله الدولة باستعماله مكافحاً بأعلامها، وزيناً لأيامها، وسيفاً في طاعة إمامها - أن يقدم منهم في مجلسه أهل التقديم، ويقابل كرامهم بالتكريم، ويستدعي آراء مشايخهم في المشكلات في أمور الحرب، ويغضي جفون عزائمهم في موقف الصبر والضرب، ويتفقدهم بإحسانه عند الغناء، ويقابل حميد سعيهم(6/351)
بالثناء، على هذا يعتمد وبحسبه يعمل، وهوالواجب الذي لا يهمل، وقصده بالإعظام والإجلال، والانقياد الذي يعود بالآمال، وينجح الأعمال، بحول الله تعالى متقبل، وكتب في كذا انتهى.
83 - ومما اشتمل على نظم لسان الدين ونثره ما كتب به من سلا إلى سلطانه الغني بالله تعالى، وقد بلغه ما كان من صنع الله سبحانه له وعودته إلى سلطانه:
هنيئاً بما خولت من رفعة الشأن ... وإن كره الباغي وإن رغم الشاني
وأن خصك الرحمن جل جلاله ... بمعجزة منسوبة لسليمان
أغار على كرسيه بعض جنه ... فألقت له الدنيا مقالد إذعان
فلما رآها فتنة خر ساجداً ... وقال إلهي امنن علي بغفران
وهب لي ملكاً بعدها ليس ينبغي ... تقلده بعدي لإنس ولا جان
فآتاه لما أن أجاب دعاءه ... من العز ما لم يؤت يوماً لإنسان
وإن كان هذا الأمر في الدهر مفرداً ... فأنت له لما اقتديت به الثاني
فقابل صنيع الله بالشكر واستعن ... به وأجز إحسان الإله بإحسان
وحق الذي سماك باسم محمد ... لو أن الصبا قد عاد منه بريعان
لما بلغ النعمى عليك سروره ... ألية واف لا ألية خوان
فإني أنا العبد الصريح انتسابه ... كما أنت مولاي العزيز وسلطاني
إذا كنت في يعز وملك وغبطة ... فقد نلت أوطاري وراجعت أوطاني مولاي الذي شأنه عجب، والإيمان بعناية الله تعالى به قد وجب، وعزه أظهره من برداء العزة احتجت، إذا كانت الغاية لا تدرك، فأولى أن تسلم وتترك، ومنة الله تعالى عليك ليست مما يشرح، قد عقل العقل فما يبرح، وقيد اللسان فما يرتعي في مجال العبارة ولا يسرح، اللهم ألهمنا على هذه النعمة شكراً(6/352)
ترضاه، وإمداداً من لدنك نتقاضاه، يا الله يا الله. سعود أنارت بعد أفول شهابها، وحياة كرت بعد ذهابها، وأحباب اجتمعت بعد فراقها، وأوطان دنت بعد بعد شامها من عراقها، وأعداء أذهب الله تعالى رسم بغيهم ومحاه، وبغاة أدار عليهم الدهر رحاه، وعباد أعطوا من كشف الغم ما سألوه، ونازحون لوسئلوا في إتاحة القرب بما في أرقامهم لبذلوه، وسبحان الذي يقول " ولوأنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أواخرجوا من دياركم ما فعلوه " النساء:66 فليهن الإسلام بياض وجهه بعد اسوداده، وتغلب إيالة من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر على بلاده، وعودة الملك المظلوم إلى معتاده، واستواء الحق الثاني جنبه فوق مهاده، ورد الإرث المغضوب إلى مستحقه عن آبائه وأجداده. والحمد له الذي غسل عن وجه الأمة الحنيفية العار، وأنقذ عهدتها وقد ملكها الذعار، فرد المعار، وأعيد الشعار، نحمدك اللهم حمداً يليق بقدسك، لا بل لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
والعبد يا مولاي قد بهرت عقله آلاء الله تعالى قبلك، فالفكر جائل واللسان ساكت، والعقل ذاهل والطرف باهت، فغن أقام رسماً للمخاطبة فقلم مرح وركض، وطرس هز جناح الارتياح ونفض، ليس هذا المارم مما يرام، ولا هذه العناية التي تحار فيها الإفهام، مما تصمي غرضه السهام، فنسأل الله تعالى أن يجعل مولاي من الشاكرين، وبأحكام تقلبات الأيام من المعتبرين، حتى لا يغره السراب الخادع، والدهر المرغم للأنوف الجادع، ولا يرى في الوجود غير الله من صانع، ولا معط ولا مانع، ويمتعه بالعز الجديد، وويوقفه للنظر السديد، ويلهمه للشكر فهومفتاح المزيد، والسلام انتهى.
84 - ومما خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى أبا عبد الله ابن عمر التونسي قوله:
سيدي الذي عهده لا ينسى وذكره يصبح في ترديده بالجميل ويمسى(6/353)
أبقاكم الله تعالى تجلون من السعادة شمسا، وتصرفون في طاعته لساناً فرداً وبناناً خمساً: وصلني كتابكم الأشعث الأغبر، ومقتضبكم الذي أضغاثه لا تعبر، شاهدة بعدم الاعتناء أوضاعه، معدوماً إمتاعه، قصيراً في التعريف بالحال المتشوف إليها باعه، مضمناً الإحالة على خلي من معناها، غير ملتبس بموحدها ولا مثناها، سألته كما يسأل المريض عما عند الطبيب، ويحرص الحبيب على تعرف أحوال الحبيب، فذكر أنه لم يتحمل غير تلك السحاءة المغنية في الاختصار، المجحفة بحظي الأسماع والأبصار، فهمت بالعتب، على البخيل بالكتب، ثم عذرت سيدي بما يعتري مثله من شواغل تطرق، وخواطر تومض وتبرق، وإذا كان آمناً سربه، مهنا شربه، فهوالأمل، ويقنع هذا المجمل، وإن كان التفسير هوالأكمل، وما ثم ما يعمل، ووده في كل حال وده، والله سبحانه بالتوفيق يمده، والسلام.
وكانت للسان الدين رحمه الله تعالى مخاطبات كثيرة لسلطان الدولة وأعيانها، دلت على قوة عارضته في البلاغة، وقد أبلغنا بجملة منها في هذا الكتاب في مواضع ولم نكثر منها طلباً لاختصار أوالتوسط بحسب ما اقتضاه الباعث في الحال، والله سبحانه وتعالى يبلغ الآمال، ويزكي الأعمال.
85 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتبه عن السلطان أبي الحجاج يوسف بن نصر إلى سيد العالمين صلى الله عليه وسلم إثر نظم، ونص الكل هو:
إذا فاتني ظل الحمى ونعيمه ... فحسب فؤادي أن يهب نسيمه
ويقنعني أني به متكنف ... فزمزمه دمعي، وجسمي حطيمه
يعود فؤادي ذكر من سكن الغضا ... فيقعده فوق الغضا ويقيمه
ولم أر شيئاً كالنسيم إذا سرى ... شفى سقم القلب المشوق سقيمه
نعلل بالتذكار نفساً مشوقة ... ندير عليها كأسه ونديمه(6/354)
وما شفني بالغور قد مرنح ... ولا شافني من وحش وجرة ريمه
ولا سهرت عيني لبرق ثنية ... من الثغر يبدوموهناً فأشيمه
براني شوق للنبي محمد ... يوم فؤادي برحه ما يسومه
ألا يا رسول الله ناداك ضارع ... على النأي محفوظ الوداد سليمه
مشوق إذا ما الليل مد رواقه ... تهم به تحت الظلام همومه
إذا ما حديث عنك جاءت به الصبا ... شجاه من الشوق الحثيث قديمه
أيجهر بالنجوى وأنت سميعها ... ويشرح ما يخفي وأنت عليمه
وتعوزه السقيا، وأنت غياثه ... وتتلفه الشكوى، وأنت رحيمه
بنورك نور الله قد أشرق الهدى ... فأقماره وضاحة ونجومه
لك انهل فضل الله بالأرض ساكباً ... فأنواؤه ملتفة وغيومه
ومن فوق أطباق السماء بك اقتدى ... خليل الذي أوطاكها وكليمه
لك الخلق الأرضي الذي جل ذكره ... ومجدك في الذكر العظيم عظيمه
يجل مدى علياك عن مدح مادح ... فموسر در القول فيك عديمه
ولي يا رسول الله فيك وراثة ... ومجدك لا ينسى الذمام كريمه
وعندي إلى أنصار دينك نسبة ... هي الفخر لا يخشى انتقالاً مقيمه
وكان بودي أن أزور مبوأ ... بك افتخرت أطلاله ورسومه
وقد يجهد الإناسن طرف اعتزامه ... ويعوزه من بعد ذاك مرومه
وعذري في تسويف عزمي ظاهر ... إذا ضاق عذر العزم عمن يلومه
عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا ... جلالقة الثغر الغريب ورومه
أجاهد منهم في سبيلك أمة ... هي البحر يعيي أمرها من يرومه
فلولا اعتناء منك يا ملجأ الورى ... لريع حماه واستبيح حريمه
فلا تقطع الحبل الذي قد وصلته ... فمجدك موفور النوال عميمه(6/355)
وأنت لنا الغيث الذي نستدره ... وأنت لنا الظل الذي نستديمه
ولما نأت داري وأعوز مطمعي ... وأقلقني شوق يشب جحيمه
بعثت بها جهد المقل معولاً ... على مجدك الأعلى الذي جل خيمه
وكلت بها همي وصدق قريحتي ... فساعدني هاء الروي وميمه
فلا تنسني يا خير من وطئ الثرى ... فمثلك لا ينسى لديه خديمه
عليك صلاة الله ما ذر شارق ... وما راق من وجه الصباح وسيمه إلى رسول الحق إلى كافة الخلق، وغمام الرحمة الصادق البرق، الحائز في ميدان اصطفاء الرحمن قصب السبق، خاتم الأنبياء، وإمام ملائكة السماء، ومن وجبت له النبوة وآدم بين الطين والماء، شفيع أرباب الذنوب، وطبيب أدواء القلوب، والوسيلة إلى علام الغيوب، نبي الهدى الذي طهر قلبه، وغفر ذنبه، وختم به الرسالة ربه، وجرى في النفوس مجرى الأنفاس حبه، الشفيع المشفع يوم العرض، المحمود في ملإ السماء والأرض، صاحب اللواء المنشور يوم النشور، والمؤتمن على سر الكتاب المسطور، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور، المؤيد بكفاية الله وعصمته، الموفور حظه من عنايته ونعمته، الظل الخفاق على أمته، من لوحازت الشمس بعض كماله ما عدمت إشراقاً، أوكان للآباء رحمة قلبه ذابت نفوسهم إشفاقاً، فائدة الكون ومعناه، وسر الوجود الذي يبهر الوجود سناه، وصفي حضرة القدس الذي لا ينام قلبه إذا نامت عيناه، البشير الذي سبقت له البشرى، ورأى من آيات ربه الكبرى، ونزل فيه {بحان الذي أسرى} (الإسراء:1) من الأنوار من عنصر نوره مستمدة والآثار تخلق وآثاره مستجدة، من طوي بساط الوحي لفقده، وسد دون حده، الذي انتقل في الغرر الكريمة نوره، وأضاءت لميلاده مصانع الشام وقصوره، وطفقت الملائكة تجيئه وفودها وتزوره، وأخبرت الكتب(6/356)
المنزلة على الأنبياء بأسمائه وصفاته، وأخذ عهد الإيمان به على من اتصلت بمبعثه منهم أيام حياته، المفزع الأمنع الفزع الأكبر، والسند المعتمد عليه في أهوال المحشر، ذوالمعجزات التي أثبتتها المشاهدة والحس، وأقر بها الجن والإنس، من جماد يتكلم، وجذع لفراقه يتألم، وقمر له ينشق، وحجر يشهد أن ما جاء به هوالحق، وشمس بدعائه عن مسيرها تحبس، وماء من بين أصابعه يتبجس، وغمام باستسقائه يصوب، وطوي بصق في أجاجها فأصبح ماؤها وهوالعذب المشروب، المخصوص بمناقب الكمال وكمال المناقب، المسمى بالحاشر العاقب، ذوالمجد البعيد المرامي والمراقب، أكرم من رفعت إليه وسيلة المعترف المغترب، ونجحت لديه قربة البعيد المقترب، سيد الرسل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي فاز بطاعته المحسنون، واستنقذ بشفاعته المذنبون، وسعد باتباعه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، صلى الله عليه وسلم ما لمع برق، وهمع ودق، وطلعت شمس، ونسخ اليوم أمس:
من عتيق شفاعته، وعبد طاعته، المعتصم بسببه، المؤمن بالله ثم به، المستشفي بذمره كلما تألم، المفتتح بالصلاة عليه كلما تكلم، الذي إن ذكر تمثل طلوعه بين أصحابه وآله، وإن هب النسيم العاطر وجد فيه طيب خلاله، وإن سمع الأذان تذكر صوت بلاله، وإن ذكر القرآن استشعر تردد جبريل بين معاهده وخلاله، لاثم تربه، ومؤمل قربه، ورهين طاعته وحبه، المتوسل به إلى رضى ربه، يوسف بن إسماعيل بن نصر:
كتبه إليك يا رسول الله والدمع ماح، وخيل الوجد ذات جماح، عن شوق يزداد كلما نقص الصبر، وانكسار لا يتاح له إلا بدنومزارك الجبر، وكيف لا يعيي مشوقك الأمر، وتوطأ على كبده الجمر، وقد مطلت الأيام بالقدوم على تربك المقدسة اللحد، ووعدت الآمال ودانت بإخلاف الوعد، وانصرفت الرفاق والعين بنور ضريحك ما اكتحلت، والركائب إليك(6/357)
ما رحلت، والعزائم قالت وما فعلت، والنواظر في تلك المشاهد الكريمة لم تسرح، وطيور الآمال عن وكور العجز لم تبرح، فيا لها من معاهد فاز من حياها، ومشاهد ما أعطر رياها، بلاد نيطت بها عليك التمائم، وأشرقت بنورك منها النجود والتهائم (1) ، ونزل في حجراتها عليك الملك، وانجلى بضياء فرقانك فيها الحلك، مدارس الآيات والسور، ومطالع المعجزات السافرة الغرر، حيث قضيت الفروض وحتمت، وافتتحت سورة الرحمن وختمت، وابتدئت الملة الحنيفية وتممت، ونسخت الآيات وأحكمت:
أما والذي بعثك بالحق هادياً، وأطلعك للخلق نوراً بادياً، لا يطفئ غلتي إلا شربك، ولا يسكن لوعتي إلا قربك، فما أسعد من أفاض من حرم الله إلى حرمك، وأصبح بعد أداء ما فرضت عن الله ضيف كرمك، وعفر الخد في معاهدك ومعاهد أسرتك، وتردد ما بين داري بعثتك وهجرتك، وإني لما عاقتني عن زيارك العوائق، وإن كان شغلي عنك بك، وعدتني الأعداء فيك عن وصل سببي بسببك، وأصبحت بين بحر تتلاطم أمواجه، وعدوتتكاثف أفواجه، ويحجب الشمس عند الظهيرة عجاجه - في طائفة من المؤمنين بك وطنوا على الصبر نفوسهم، وجعلوا التوكل على الله وعليك لبوسهم، ورفعوا إلى مصارختك رؤوسهم، واستعذبوا في مرضاة الله تعالى ومرضاتك بوشهم، يطيرون من هيعة إلى أخرى، ويلتفتون والمخاوف عن يمنى ويسرى، ويقارعون وهم الفئة القليلة جموعاً كجموع قيصر وكسرى، لا يبلغون من عدوهوالذر عند انتشاره، عشر معشاره، قد باعوا من الله تعالى الحياة الدنيا، لأن تكون كلمة اله تعالى هي العليا، فيا له من سرب مروع، وصريخ إلا منك ممنوع، ودعاء إلى الله وإليك مرفوع، وصبية حمر
__________
(1) نثر فيه قول الأعرابي:
بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها(6/358)
الحواصل، تخفق فوق أوكارها أجنحة المناصل، والصليب قد تمطى فمد ذراعيه، ورفعت الأطماع بضبعيه، وقد حجبت بالقتام السماء، وتلاطمت أمواج الحديد، والبأس الشديد، فالتقى الماء، ولم يبق إلا الذماء، وعلى ذلك فما ضعفت البصائر ولا ساءت الظنون، وما وعد به الشهداء تعتقده القلوب حتى تكاد تشاهده العيون، إلى أن نلقاك غذاً إن شاء الله تعالى وقد أبلينا العذر، وأرغمنا الكفر، وأعملنا في سبيل الله تعالى سبيلك البيض والسمر - استنبت (1) رقعتي هذه لتطير إليك من شوقي بجناح خافق، وتسعد من نيتي التي تصحبها برفيق موافق، فتؤدي عن عبدك وتبلغ، وتعفر الخد في تربك وتمرغ، وتطيب بريا معاهدك الطاهرة وبيوتك، وتقف وقوف الخضوع والخشوع تجاه تابوتك، وتقول بلسان التملق، عند التشبث بأسبابك والتعلق، منكسرة الطرف، حذراً بهرجها من عدم الصرف: يا غياث الامة، وغمام الرحمة، ارحم غربتي وانقطاعي، وتغمد بطولك قصر باعي، وقوعلى هيبتك خور طباعي، فكم جزت من لج مهول، وجبت من حزون وسهول، وقابل بالقبول نيابتي، وعجل بالرضى إجابتي، ومعلوم من كمال تلك الشيم، وسجايا تيك الديم، أن لا يخيب قصد من حط بفنائها، ولا يظمأ وارد أكب على إنائها.
اللهم يا من جعلته أول الأنبياء بالمعنى، وآخرهم بالصورة، وأعطيته لواء الحمد يسير آدم فمن دونه تحت ظلاله المنشورة، وملكت أمته ما زوي له من زوايا البسيطة المعمورة، وجعلتني من أمته المجبولة على حبه المفطورة، وشوقتني إلى معاهده المبرورة، ومشاهده المزروة، ووكلت لساني بالصلاة عليه، وقلبي بالحنين إليه، ورغبتني بالتماس ما لديه، فلا تقطع منه أسبابي، ولا تحرمني من حبه ثوابي، وتداركني بشفاعته يوم أخذ كتابي.
هذه يا رسول الله وسيلة من بعدت داره، وشط مزاره، ولم يجعل بيده
__________
(1) استنبت: جواب " لما " التي وقعت قبل سطور عديدة.(6/359)
اختياره. فإن لم تكن (1) للقبول أهلاً فأنت للإغضاء والسماح أهل، وإن كانت ألفاظها وعرة فجنابك للقاصدين سهل، وإن كان الحب يتوارث كما أخبرت، والعروق تدس حسبما إليه أشرت، فلي بانتسابي إلى سعد عميد أنصارك مزية، ووسيلة أثيرة حفية، فإن لم يكن لي عمل ترتضيه فلي نية، فلا تنسني ومن بهذه الجزيرة المفتتحة بسيف كلمتك، على أيدي خيار أمتك، فإنما نحن بها وديعة تحت بعض أقفالك، نعوذ بوجه ربك من إغفالك، ونستنشق من ريح عنايتك نفحة، ونرتقب من محيا قبولك لمحة، ندافع بها عدواً طغى وبغى، وبلغ نم مضايقتنا ما ابتغى، فمواقف التمحيص قد أعيت من كتب وورخ، والبحر قد أصمت من استصرخ، والطاغية في العدوان مستبصر، والعدومحلق والولي مقصر، وبجاهك ندفع ما لا نطيق، وبعنايتك نعالج سقيم الدين فيفيق، فلا تفردنا ولا تهملنا، وناد ربك فينا " ربنا ولا تحملنا " البقرة:286، وطوائف أمتك حيث كانوا عناية منك تكفيهم، وربك يقول لك وقوله الحق " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " الانفال:33 والصلاة والسلام عليك يا خير من طاف وسعى، وأجاب داعياً إذا دعا، وصلى اله على جميع أحزابك وآلك، صلاة تليق بجلالك، وتحق لكمالك، وعلى ضجيعيك وصديقيك، وحبيبيك ورفيقيك، خليفتك في أمتك، وفاروقك المستخلف بعده على جلتك، وصهرك ذي النورين المخصوص برك ونحلتك، وابن عمك سيفك المسلول على حلتك، بدر سمائك ووالد أهلتك، والسلام الكريم عليك وعليهم كثيراً أثيراً ورحمة الله تعالى وبركاته، وكتب بحضرة جزيرة الأندلس غرناطة، صانها الله تعالى ووقاها، ودفع عنها ببركتك كيد عداها انتهت الرسالة.
86 - وكتب أيضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان مخدومه
__________
(1) الضمير يعود إلى " وسيلة " ويعني بها الرسالة.(6/360)
السلطان الغني بالله محمد ابن السلطان أبي الحجاج - رحم الله تعالى الجميع - ما صورته:
دعاك بأقصى المغربين غريب ... وأنت على بعد المزار قريب
مدل بأسباب الرجاء وطرفه ... غضيض على حكم الحياء مريب
يكلف قرص البدر حمل تحية ... إذا ما هوى والشمس حين تغيب
لترجع من تلك المعالم غدوة ... وقد ذاع من رد التحية طيب
ويستودع الريح الشمال شمائلاً ... من الحب لم يعلم بهن رقيب
ويطلب في جيب الجيوب جوابها ... إذا ما أطلت والصباح جنيب
ويستفهم الكف الخضيب ودمعه ... غراماً بحناء النجيع خضيب
ويتبع آثار المطي مشيعاً ... وقد زمزم الحادي وحن نجيب
إذا أثر الأخفاف لاحت محارباً ... يخر عليها راكعاً وينيب
ويلقي ركاب الحج وهي قوافل ... طلاح وقد لبى النداء لبيب
فلا قول إلا أنة وتوجع ... ولا حول إلا زفرة ونحيب
غليل ولكن من قبولك منهل ... عليل ولكن من رضاك طبيب
ألا ليت شعري والأماني ضلة ... وقد تخطئ الآمال ثم تصيب
أينجد نجد بعد شحط مزاره ... ويكثب بعد البعد منه كثيب
وتقضى ديوني بعدما مطل المدى ... وينفذ بيعي والمبيع معيب
وهل أقتضي دهري فيسمح طائعاً ... وأدعو بحظي مسمعاً فيجيب
ويا ليت شعري هل لحومي مورد ... لديك وهل لي في رضاك نصيب
ولكنك المولى الجواد وجاره ... على أي حال كان ليس يخيب
وكيف يضيق الذرع يوماً بقاصد ... وذاك الجناب المستجار رحيب
وما هاجني إلا تألق بارق ... يلوح بفود الليل منه مشيب(6/361)
ذكرت به ركب الحجاز وجيرة ... أهاب بها نحو الحبيب مهيب
فبت وجفني من لآلئ دمعه ... غني وصبري للشجون سليب
ترنحني الذكرى ويهفو بي الجوى ... كما مال غصن في الرياض رطيب
وأحضر تعليلاً لشوقي بالمنى ... ويطرق وجد غالب فأغيب
مرامي، لو أعطى الأماني، زورة ... يبث غرام عندها ووجيب
فقول حبيب إذا يقول تشوقاً ... عسى وطن يدنو إلي حبيب
تعجبت من سيفي وقد جاور الغضا ... بقلبي فلم يسكبه منه مذيب
وأعجب أن لا يورق الرمح في يدي ... ومن فوقه غيث المشوق سكيب
فيا سرح ذاك الحي لو أخلف الحيا ... لأغناك من صوب الدموع صبيب
ويا هاجر الجو الجديب تلبثاً ... فعهدي رطب الجانبين خصيب
ويا قادح الزند الشحاح ترفقاً ... عليك فشوقي الخارجي شبيب
أيا خاتم الرسل المكين مكانه ... حديث الغريب الدار فيك غريب
فؤادي على جمر البعاد مقلب ... يماح عليه للدموع قليب
فوالله ما يزداد إلا تلهباً ... أأبصرت ماءً ثار عنه لهيب
فليلته ليل السليم ويومها ... إذا شد للشوق العصاب عصيب
هواي هدى فيك اهتديت بنوره ... ومنتسبي للصحب منك نسيب
وحسبي على أني لصحبك منتم ... وللخزرجيين الكرام نسيب
عدت عن مغانيك المشوقة للعدا ... عقارب لا يخفى لهن دبيب
حراً على إطفاء نور قدحته ... فمستلب من دونه وسليب
فكم من شهيد في رضاك مجدل ... يظلله نسر ويندب ذيب
تمر الرياح الغفل فوق كلومهم ... فتعبق من أنفاسها وتطيب
بنصرك عنك الشغل من غير منة ... وهل يتساوى مشهد ومغيب(6/362)
فإن صح منك الحظ طاوعت المنى ... ويبعد مرمى السهم وهو مصيب
ولولاك لم يعجم من الروم عودها ... فعود الصليب الأعجمي صليب
وقد كانت الأحوال، لولا مراغب ... ضمنت ووعد بالظهور، تريب
فما شئت من نصر عزيز وأنعم ... أثاب بهن المؤمنين مثيب
منابر عز أذن الفتح فوقها ... وأفصح للعضب الطرير خطيب
نقود إلى هيجائها كل صائل ... كما ريع مكحول اللحاظ ربيب
ونجتاب من سرد اليقين مدارعاً ... يكفتها من يجتني ويثيب
إذا اضطربت الخطي حول غديرها ... يروقك منها لجة وقضيب
فعذراً وإغضاء ولا تنس صارخاً ... بعزك يرجوأن يجيب مجيب
وجاهك بعد الله نرجو، وإنه ... لحظ مليء بالوفاء رغيب
عليك صلاة الله ما طيب الفضا ... عليك مطيل بالثناء مطيب
وما اهتز قد للغصون مرنح ... وما افتر ثغر للبروق شنيب إلى حجة اله تعالى المؤيدة ببراهين أنواره، وفائدة الكون ونكتة أدواره، وصفوة نوع البشر ومنتهى أطواره، إلى المجتبى وموجود الوجود لم يغن بمطلق الوجود عديمه، المصطفى نم ذرية آدم قبل أن يكسوالعظام أديمه، المحتوم في القدم، وظلمات العدم، عند صدق القدم، تفضيله وتقديمه، إلى وديعة النور المنتقل في الجباه الكريمة والغرر، ودرة الأنبياء التي لها الفضل على الدرر، وغمام الرحمة الهامية الدرر، إلى مختار الله تعالى المخصوص باجتبائه، وحبيبه الذي له المزية على أحبائه، وذرية أنبياء الله تعالى آبائه، إلى الذي شرح صدره وغسله، ثم بعثه واسطة بينه وبين العباد وأرسله، وأتم عليه إنعامه الذي أجزله، وأنزل عليه من الهدى والنور ما أنزله، إلى بشرى المسيح والذبيح، ومن لهم التجر الربيح، المنصور بالرعب والريح، المخصوص(6/363)
بالنسب الصريح، إلى الذي جعله في المحول غماماً، وللأنبياء إماماً، وشق صدره لتلقي روح أمره غلاماً، وأعلم به في التوراة والإنجيل إعلاماً، وعلم المؤمنين صلاة عليه وسلاماً، إلى الشفيع الذي لا ترد في العصاة شفاعته، والوجيه الذي قرنت بطاعة الله تعالى طاعته، والرؤوف الرحيم الذي خلصت إلى الله تعالى في أهل الجرائم ضراعته، صاحب الآيات التي لا يسع ردها، والمعجزات التي أربى على الألف عدها، فمن قمر شق، وجذع حن له وحق، وبنان يتفجر بالماء، فيقوم بري الظماء، وطعام يشبع الجمع الكثير يسيره، وغمام يظلل به مقامه ومسيره، خطيب المقام المحمود إذا كان العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، ووسيلة الله تعالى التي لولاها ما أقرض القرض، ولا عرف النفل والفرض، محمد بن عبد اله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف المحمود الخلال من ذي الجلال، الشاهد بصدقه صحف الأنبياء وكتب الإرسال، وآياته التي أثلجت القلوب ببرد اليقين السلسال، صلى الله عليه وسلم ما ذر شارق، وأومض بارق، وفرق بين اليوم الشامس والليل الدامس فارق، صلاة تتأرج على شذا الزهر، وتتبلج عن سنا الكواكب الزهر، وتتردد بين السر والجهر، وتستغرق ساعات اليوم وأيام الشهر، وتدوم بدوام الدهر:
من عبد هداه، ومستقري مواقع نداه، ومزاحم أبناء أنصاره في منتداه، وبعض سهامه المفوقة إلى نحور عداه، مؤمل العتق من النار بشفاعته، ومحرز طاعة الجبار بطاعته، الآمن باتصال رعيه من إهمال الله تعالى وإضاعته، متخذ الصلاة عليه وسائل نجاة، وذخائر في الشدائد مرتجاة، متاجر بضائعها غير مزجاة، الذي ملأ بحبه جوانح صدره، وجعل فكره هالة لبدره، وأوجب حقه على قدر العبد لا على قدره، محمد بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي، نسيب سعد بن عبادة من أصحابه، وبوارق سحابه، وسيوف نصرته، وأقطاب دار هجرته، ظلله الله تعالى يوم الفزع الأكبر من رضاك عنه بظلال الأمان، كما أنار قلبه من هدايتك بأنوار الهدى والإيمان، وجعله(6/364)
من أهل السياحة في فضاء حبك والهيمان:
كتبه إليك يا رسول الله - واليراع تقتضي الهيبة صفرة ونه، والمداد يكاد أن يحول سواد جونه، وورقة الكتاب يخفق ؤادها حرصاً على حفظ اسمك الكريم وصونه، والدمع يقطر به الحروف وتفصل الأسطر، وتوهم المثول، بمثواك المقدس لا يمر بالخاطر سواه ولا يخطر، عن قلب بالبعد عنك قريح، وجفن بالبكاء جريح، وتأوه عن تبريح، كلما هب من أرضك نسيم ريح، وانكسار ليس له إلا جبرك، واغتراب لا يؤنس فيه إلا قربك، وإن يقض فقبرك، وكيف لا يسلم في مثلها الأسى، ويوحش الصباح والمسا، ويرجف جبل الصبر بعدما رسا، لولا لعل وعسى، فقد سارت الركبان إليك ولم يقض مسير، وحومت الأسراب عليك والجناح كسير، وعدت الآمال فاخلفت، وحلفت العزائم فلم تف بما حلفت، ولم تحصل النفس من تلك المعاهد ذات الشرف الأثيل، إلا على التمثيل، ولا من المعالم المتمسة التنوير، إلا على التصوير، مهبط وحي الله تعالى ومتنزل أسمائه، ومتردد ملائكة سمائه، ومدافن أوليائه، وملاحد أصحاب خيرة أنبيائه، رزقني الله تعالى الرضى بقضائه، والصبر على جاحم البعد ورمضائه - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى دار ملك الإسلام بالأندلس قاصية سيلك، ومسحبة رجلك يا رسول الله وخيلك، وأنأى مطارح دعوتك ومساحب ذيلك، حيث مصاف الجهاد في سبيل الله وسبيلك قد ظللها القتام، وشهبان الأسنة أطلعها منه الإعتام، وأسواق بيع النفوس من الله تعالى قد تعدد بها الأيامى والأيتام، حيث الجراح قد تحلت بعسجد نجيعها النحور، والشهداء نتحف بها الحور، والأمم الغريبة قد قطعها عن المدد البحور، حيث المباسم المفترة، تجلوها المصارع البرة، فتحييها بالعراء ثغور الأزاهر، وتندبها صوادح الأدواح برنات تلك المزاهر، وتحلي السحاب أشلاءها المعطلة من ظلها بالجواهر، وحيث الإسلام من عدوه المكايد بمنزلة(6/365)
قطرة من عارض غمام، وحصاة من ثبير أوشمام، وقد سدت الطريق، وأسلم الفراق الفريق، وأغص الريق، ويئس من الساحل الغريق، إلا أن الإسلام بهذه الجهة المتمسكة بحبل الله تعالى وحبلك، المهتدية بأدلة سبلك، سالم والحمد لله تعالى من الانصداع، محروس بفضل الله تعالى من الابتداع، مقدود من جديد الملة، معدوم فيه وجود الطوائف المضلة، إلا ما يخص الكفر من هذه العلة، والاستظهار على جمع الكثرة من جموعه بجمع القلة.
ولهذه الأيام يا رسول الله أقام الله تعالى أوده براً بوجهك الوجيه ورعياً، وإنجازاً لوعدك وهوالذي لا يخلف وعداً ولا يخيب سعياً، وفتح لنا فتوحاً أشعرتنا برضاه عن وطننا الغريب، وبشرتنا منه تعالى بغفر التقصير ورفع التثريب، ونصرنا وله المنة على عبدة الصليب، وجعل لألفنا الرديني ولامنا السردي حكم التغليب، وإذا كانت الموالي التي طوقت الأعناق مننها، وقررت العوائد الحسان سيرها وسننها، تبادر إلها نوابها الصرحاء وخدامها النصحاء بالبشائر، والمسرات التي تشاع في العشائر، وتجلولديها نتائج أيديها، وغايات مباديها، وتتاحفها وتهاديها، بمجاني جناتها وأزاهر غواديها، وتطرف محاضرها بطرف بواديها، فبابك يا رسول الله أولى بذلك وأحق، ولك الحق الحق، والحر منا عبدك المسترق، حسبما سجله الرق، وفي رضاك من كل من يلتمس رضاه المطمع، ومثواك المجمع، وملوك الإسلام في الحقيقة عبيد سدتك المؤملة، وخول مثابتك المحسنة بالحسنات المجملة، وشهب تعشوإلى بدورك المكملة، وبعض سيوفك المقلدة في سبيل الله تعالى المحملة، وحرسة مهادك، وسلاج جهادك، وبروق عهادك.
وإن مكفول احترامك الذي لا يخفر، وربي إنعامك الذي لا يكفر، وملتحف جاهك الذي يمحى ذنبه بشفاعتك إن شاء الله تعالى ويغفر، يطالع روضة الجنة المفتحة أبوابها بمثواك، ويفاتح صوان القدس الذي أجنك وحواك(6/366)
وينثر بضائع الصلاة عليك بين يدي الضريح الذي طواك، ويعرض جنى ما غرست وبذرت، ومصداق ما بشرت به لما بشرت وأنذرت، وما انتهى إليه طلق جهادك، ومصب عهادك، لتقر عين نصحك التي أنام العيون الساهرة هجوعها، وأشبع البطون، ورواها ظمؤها في الله تعالى وجوعها، وإن كانت الأمور بمرأى من عين عنايتك، وغيبها متعرف بين إفصاحك وكنايتك، ومجمله يا رسول الله صلى الله عليك، وبلغ وسيلتي إليك، هوا، الله سبحانه لما عرفني لطفه الخفي في التمحيص، المقتضي عدم المحيص، ثم في التخصيص، المغني بعيانه عن التنصيص، وفق ببركاتك السارية رحماتها في القلوب، ووسائل محبتك العائدة بنيل المطلوب، إلى استفادة عظة واعتبار، واغتنام إقبال بعد إدبار، ومزيد استبصار، واستعانة بالله تعالى وانتصار، فسكن هبوب الكفر بعد إعصار، وحل مخنق الإسلام بعد حصار، وجرت على سنن السنة بحسب الاستطاعة والمنة السيرة، وجبرت بجاهك القلوب الكسيرة، وسهلت المآرب العسيرة، ورفع بيد العزة الضيم، وكشف بنور البصيرة الغيم، وظهر القليل على الكثير، وباء الكفر بخطة التعثير، واستوى الدين الحنيف على المهاد الوثير، فاهتبلنا يا رسول الله غرة العدو وانتهزناها، وشمنا صوارم عزة الغدووهززناها، وأزحنا علل الجيوش وجهزناها.
فكان مما ساعد عليه القدر، والخطب المبتدر، والورد الذي حسن بعده الصدر، أننا عاجلنا مدينة برغه (1) ، وقد جرعت الأختين مالقة ورندة، من مدائن دينك، ومزابن ميادينك، أكواس الفراق، وأذكرت مثل من بالعراق، وسدت طرق التزاور عن الطراق، وأسألت المسيل بالنجيع المراق، في مراصد المراد والمراق، ومنعت المراسلة مع هدير الحمام، لا بل مع طيف المنام عند الإلمام، فيسر اله تعالى اقتحامها، وألحمت بيض الشفار
__________
(1) برغه (Burgo) بين مالقة ورندة.(6/367)
في زرق الكفار إلحامها، وأزال السيوف من بين تلك الحروف إقحامها، فانطلق المسرى، واستبشرت القواعد الحسرى، وعدمت بطريقها المخيف مصارع الصرعى ومثاقف الأسرى، والحمد لله على فتحه الأسنى، ومنحه الأسرى، ولا إله إلا هومنفل قيصر وكسرى، وفاتح مغلفاتهما المنيعة قسراً؛ واستولى الإسلام منها على قرار جنات، وأم بنات، وقاعدة حصون، وشجرة غصون، طهرت مساجدها المغتصبة المكرهة، وفجع بحفظها الفيل الافيل وأربرهة، وانطلقت بذكر الله الألسنة المدرهة، وفاز بسبق ميدانها جيادك الفرهة، هذا وطاغية الروم على توفر جموعه، وهول مرئيه ومسموعه، قريب جواره، بحيث يتصل خواره، وقد حرك إليها الحنين حواره.
" ثم نازل المسلمون بعدها شجا الإسلام الذي أعيا النطاسي علاجه، وكرك (1) هذا القطر الذي لا تطاول أعلامه ولا تصاول أعلاجه، وركاب الغارات التي تطوي المراحل إلى مكايدة المسلمين طي البرود، وحجر الحيات التي لا تخلع على اختلاف الفصول جلود الزرود، ومنغص الورود في العذب المورود، ومقض المضاجع، وحلم الهاجع، ومجهز الخطب الفاجئ الفاجع، ومستدرك فاتكة الراجع، قبل هبوب الطائر الساجع، حصن آشر (2) حماه الله تعالى دعاء لا خبراً، كما جعله للمتفكرين في قدرته معتبراً، فأحاطوا به إحاطة القلادة بالجيد، وأذلوا عزته بعزة ذي العرش المجيد، وحفت به الرايت يسمها وسمك، ويلوح في صفحاتها اسم الله تعالى واسمك، فلا ترى إلا نفوساً تتزاحم على مورد الشهادة أسرابها، وليوثاً يصدق في الله تعالى ضرابها، وأرسل الله عليها رجزاً إسرائيلياً من جراد السهام، تش آياته عن الإفهام،
__________
(1) شبهه بحصن الكرك، وكان ذا شأن ومنعة في الحروب الصليبية.
(2) حصن آشر (Iznajar) في الجنوب الشرقي لحصن روطة (Rute) على ضفة رافد من روافد شنيل؛ وقد صحف في ق فكتب " أشب ".(6/368)
وسدد إلى الجبل النفوس القابلة للإلهام، من بعد الاستغلاق والاستبهام، وقد عبثت جوارح صخوره في قنائص الهام، وأعيا صعبه على الجيش اللهام، فأخذ مسائغه النقض والنقب، ورغا فوق أهله السقب (1) ، ونصبت المعارج والمراقي، وقرعت المناكب والتراقي، واغتنم الصادقون مع الله تعالى الحظ الباقي، وقال الشيهد السابق: يا فوز استباقي، ودخل البلد فألحم السيف، واستلبت البحت والزيف، ثم استخلصت القصبة فعلت أعلامك في أبراجها المشيدة، وظفر ناشد دينك منها بالنشيدة (2) ، وشكر الله تعالى في قصدها مساعي النصائح الرشيدة، وعمل ما يرضيك يا رسول الله في سد ثلمها، وصون مستلمها، ومداواة ألمها، حرصاً على الاقتداء في مثلها بأعمالك، والاهتداء بمشكاة كمالك، ورتب فيها الحماة تشجي العدو، وتصل في مرضاة الله تعالى، ومرضاتك برواحها الغدو.
ثم كان الغزوإلى مدينة إطريرة (3) بنت حاضرة الكفر إشبيلية التي أظلتها بالجناح الساتر، وأنامتها في ضمان الأمان للحسام الباتر، وقد وتر الإسلام من هذه المومسة البائسة بوتر الواتر، وأحفظ منها بأذى الوقاح المهاتر، لما جرته على أسرة من عمل الخاتل الخاتر، حسب المنقول لا بل المتواتر، فطوى إليها المسلمون المدى النازح، ولم تشك المطي الروازح، وصدق الجد جدها المازح، وخففت فوق أوكارها أجنحة الأعلام، وغشيتها أفواج الملائكة الموسومة وظلال الغمام، وصابت من السهام ودق الرهام، وكاد يكفي السهام على الأرض ارتجاج أجوائها بكلمة الإسلام، وقد صم خاطب عروس الشهادة
__________
(1) السقب: ولد الناقة وفي العبارة إشارة إلى ما حل بقوم عندما عقروا الناقة، فيقال في المثل لتصوير الهلاك " رغا فوقهم السقب ".
(2) النشيدة: الضالة التي تنشد أي تطلب.
(3) إطريرة (Utrera) إلى الجنوب الشرقي في إشبيلة على بعد 39 كيلومتراً، وقد ضبطت بكسر الهمزة وسكون الطاء.(6/369)
عن الملام، وسمح بالعزيز المصون مبايع الملك العلام، وتكلم لسان الحديد الصامت وصمت إلا بذكر الله لسان الكلام، ووفت الأوتار بالأوتار، ووصل بالخطي ذرع الأبيض البتار، وسلطت النار على أربابها، وأذن الله تعالى في تبار تلك الأمة وتبابها، فنزلوا على حكم السيف آلافاً، بعد أن أتلفوا بالسلاح إتلافاً، واستوعب المقاتلة كتافاً، وقرنوا في الجدل أكتافاً أكتافاً، وحملت العقائل والخرائد، والولدان والولائد، إركاباً من فوق الظهور وإردافاً، وأقلت منها أأفلاك الحمول بدوراً تضيء من ليالي المحاق أسدافاً، وامتلأت الأيدي من المواهب والغنائم، بما لا يصوره حلم النائم، وتركت العوافي تتداعى إلى تلك الولائم، وتفنن من مطاعمها في الملائم، وشنت الغارات على حمص فجلت خارجها مغاراً، وكست كبار الروم بها صغاراً، وأجحرت أبطالها إجحاراً، واستاقت من النعم ما لا يقبل الحصر استبحاراً.
ولم يكن إلا أن عدل القسم، واستقل بالقفول العزيز الرسم، ووضح من التوفيق الوسم، فكانت الحركة إلى قاعدة جيان قيعة الظل الأبرد، ونسيجة المنوال المفرد، وكناس الغيد الخرد، وكرسي الإمارة، وبحر العمارة، ومهوى هوى الغيث الهتون، وحزب التين والزيتون، حيث خندق الجنة تدنولأهل النار مجانيه، وتشرق بشواطئ الأنهار إشراق الأزهار زهر مبانيه، والقلعة التي تختمت بنان شرفاتها بخواتيم النجوم، وهمت من دون سحابها البيض سحائب الغيث السجوم، والعقيلة التي أبدى الإسلام يوم طلاقها، وهجوم فراقها، سمة الوجوم لذلك الهجوم، فرمتها البلاد المسلمة بأفلاذ أكبادها الوادعة، وأجابت منادي دعوتك الصادقة الصادعة، وحبتها بالفادحة الفادعة، فغصت الربى والوهاد بالتكبير والتهليل، وتجاوبت الخيل بالصهيل، وانهالت الجموع المجاهدة في الله تعالى انهيال الكثيب المهيل، وفهمت نفوس العباد المجاهدة في الله تعالى حق الجهاد معاني التيسير من ربها والتسهيل، وسفرت الرايات عن المرأى الجميل، وأربت المحلات المسلمة على التأميل، ولما صبحتها(6/370)
النواصي المقبلة الغرر والأعلام المكتتبة الطرر، برز حاميتها مصحرين (1) ، وللحوزة المستباحة منتصرين، فكاثرهم من سرعان الأبطال رجل الدبا (2) ، ونبت الوهاد والربى، فأقحموهم من وراء السور، وأسرعت أقلام الرماح في بسط عددهم المكسور، وتركت صرعاهم ولائم للنسور، ثم اقتحموا ربض المدينة الأعظم ففرعوه، وجدلوا من دافع عن أسواره وصرعوه، وأكواس الحتوف جرعوه، ولم يتصل أولى الناس بأخراهم، ويحمد بمخيم النصر العزيز سراهم، حتى خذل (3) الكافر الصبر وأسلم الجلد، ونزل على المسلمين النصر فدخل البلد، وطاح في السيل الجارف الوالد منه والولد، وأتهم المطرف والمتلد، فكان هولاً بعيد الشناعة، وبعثاً كقيام الساعة، أعجل المجانيق عن الركوع والسجود، والسلالم عن مطاولة النجود، والأيدي عن ردم الخنادق والأغوار، والأكبش عن مناطحة الأسوار، والنفوط عن إصعاق الفجار، وعمد الحديد، ومعاول البأس الشديد، عن نقب الأبراج ونقض الأحجار، فهيلت الكثبان، وأبيد الشيب والشبان، وكسرت الصلبان، وفجع بهدم الكنائس الرهبان، وأهبطت النواقيس من مراقيها العالية وصروحها المتعالية، وخلعت ألسنتها الكاذبة، ونقل ما استطاعته الأيدي المجاذبة، وعجزت عن الأسلاب (4) ذوات الظهور، وجلل الإسلام شعار العز والظهور، بما خلت عن مثله سوالف الدهور والأعوام والشهور، وأعرست الشهداء ومن النفوس المبيعة من الله تعالى نحل الصدقات والمهور، ومن بعد ذلك هدم السور، ومحيت عن محيطه المحكم السطور، وكاد يسير ذلك الجبل الذي اقتعدته ويدك ذلك الطور، ومن بعد ما خرب الوجار، عقرت الأشجار، وعفر المنار، وسلطت على بنات
__________
(1) مصحرين: بارزين.
(2) الرجل: الجماعة، والدبا: الجراد.
(3) في ق: جذل، وصوبناه.
(4) ق: الأشلاء.(6/371)
التراب والماء والنار، وارتحل عنها المسلمون وقد عمتها المصائب، وأصمى لبتها السهم الصائب، وجللتها القشاعم العصائب، فالذئاب في الليل البهيم تعسل، والضباع من الحدب البعيد تنسل، وقد ضاقت الجدل عن المخانق، وبيع العرض الثمين بالدائق، وسبكت أسورة الأسوار، وسويت الهضاب بالأغوار، واكتسحت الاحواز القاصية سرايا الغوار، وحجبت بالدخان مطالع الأنوار، وتخلفت قاعتها عبرة للمعتبرين وعظة للناظرين، وآية للمستبصرين، ونادى لسان الحمية، يا لثارات الإسكندرية، فأسمع آذان المقيمين والمسافرين، وأحق الله الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين.
ثم كانت الحركة إلى أختها الكبرى، ولدتها الحزينة عليها العبرى، مدينة أبدة (1) ذات العمران المستبحر، والربض الخرق المصحر، والمباني الشم الأنوف، وعقائل المصانع الجمة الحلي والشنوف، والغاب الأنوف، بلدة التجر، والعسكر المجر، وأفق الضلال الفاجر الكذب على الله تعالى الكاذب الفجر، فخذل الله تعالى حاميتها التي يعيي الحسبان عدها، وسجر بحورها التي لا يرام مدها، وحقت عليها كلمة الله تعالى التي لا يستطاع ردها، فدخلت لأول وهلة، واستوعب جمها والمنة لله تعالى في نهلة، ولم يكف السيف من عليها ولا مهلة، فلا تناولها العفا والتخريب، واستباحها الفتح القريب، وأسند عن عواليها حديث النصر الحسن الغريب، وأقعدت أبراجها من بعد القيام والانتصاب، وأضرعت مسيفها (2) لهول المصاب، انصرف عنها المسلمون بالفتح الذي عظم صيته، والعز الذي سما طرفه واشرأب ليته، والعزم الذي حمد مسراه ومبينه، والحمد لله ناظم الأمر وقد راب شتيته، وجابر الكسر وقد أفات الجبر مفتيه.
__________
(1) أبدة (Ubeda) - بتشديد الباء - إلى الشمال الشرقي من جيان.
(2) المسايف: جمع مسيف، ويعني بها لسان الدين في الأرجح، المدماك (أي السطر من البناء) .(6/372)
ثم كان الغزوإلى أم البلاد، ومثوى الطارف والتلاد، قرطبة، وما قرطبة المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان اعمل، والكرسي الذي بعصاه رعي الهمل، والمصر الذي له في خطة المعمور الناقة والجمل، والأفق الذي لشمس الخلافة العبشمية (1) الحمل، فخيم الإسلام بعقوتها (2) المستباحة، وأجاز نهرها المعيي على السباحة، وعم دوحها الأشب بواراً، وأدار المحلات بسورها سواراً، وأخذ بمخنقها حصاراً، وأعمل النصر بشجر يصلها (3) اجتناءً ما شاء واهتصاراً، وجدل من أبطالها من لم يرض انحجاراً، فأعمل إلى المسلمين إصحاراً، حتى فرغ بعض جهاتها غلاباً جهاراً، ورفعت الأعلام إعلاماً بعز الإسلام وإظهاراً، فلولا استهلال الغوادي، وأن أتى الوادي، فأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي، ولقضى تفثه (4) العاكف والبادي، فاقتضى الرأي ولذنب الزمان في اغتصاب الكفر إياها متاب، تعمل ببشراه بفضل الله تعالى أقتاد وأقتاب، ولكل أجل كتاب أن يراض صعبها حتى يعود ذلولاً، وتعفى معاهدها الآهلة فتترك طلولاً، فإذا فجع الله تعالى بمارج النار طوائفها المارجة، وأباد بخارجها الطائرة والدارجة، خطب السيف منها أم خارجة (5) ، فعند ذلك أطلقنا بها ألسنة النار ومفارق الهضاب بالهشيم قد شابت، والغلات المستغلات قد دعا بها القصل فما ارتابت، وكأن صحيفة نهرها لما
__________
(1) العبشمية: نسبة إلى عبد شمس.
(2) العقوة: الساحة. وفي ق: بعقرتها.
(3) ق: فأعمل النصر ... نصها؛ والمراد أن النصر حطم رماحها.
(4) التفث في الحج: الحلق والتقصير وقص الأظفار ونحر البدن وغير ذلك مما يفعله الحاج إذا حل من إحرامه، والمراد أنه استوفى حجه، فكنى به لسان الدين عن بلوغ غاية الأرب.
(5) أم خارجة: كانت سريعة الخطبة ولذلك قيل في المثل " أسرع من نكاح أم خارجة " وقد شبه قرطبة بها لتداول الغلبة عليها دهراً بعد دهر، وألمح ابن شهيد إلى هذا حين تغزل بقرطبة فقال:
زنت بالرجال على سنها ... فيا حبذا هي من زانية(6/373)
أضرمت النار في (1) ظهرها ذابت، وحيته فرت أمام الحريق فانسابت، وتخلفت لغمائم الدخان عمائم تلويها برؤوس الجبال أيدي الرياح، وتنشرها بعد الركود أيدي الاجتياح، وأغريت بأقطارها الشاسعة، وجهاتها الواسعة، جنود الجوع، وتوعدت بالرجوع، فسلب لتوقع الهجوم منزور الهجوع، فأعلامها خاشعة خاضعة، وولدانها لثدي البؤس راضعة، والله سبحانه يوقد بخبر فتحها القريب ركاب البشرى، وينشر رحمته قبلنا نشراً.
ثم تنوعت يا رسول اله لهذا العهد أحوال العدوتنوعاً يوهم إفاقته من الغمرة، وكادت فتنته تؤذن بخمود الجمرة، وتوقع الواقع، وحذر ذلك السم الناقع، وخيف الخرق الذي يحار فيه الراقع، فتعرفنا عوائد الله سبحانه ببركة هدايتك، وموصول عنايتك، فأنزل النصر والسكينة، ومكن العقائد المكينة، فثابت العزائم وهبت، واطردت عوائد الإقدام واستتبت، وما راع العدوإلا خيل الله تعالى تجوس خلاله، وشم الحق توجب ظلاله، وهداك الذي هديت يدحض ضلاله، ونازلنا حصني قنبيل والحائر (2) ، وهما معقلان متجاوران يتناجى منهما الساكن سراراً، وقد اتخذا بين النجوم قراراً، وفصل بينهما حسام النهر يروق غراراً، والتف معصمه في حلة العصب وقد جعل الجسر سواراً، وفخذل الصليب بذلك الثغر من تولاه، وارتفعت أعلام الإسلام بأعلاه، وتبرجت عروس الفتح المبين بمجلاه، والحمد لله تعالى على ما أولاه.
ثم تحركنا على تفثة (3) تعدي ثغر المواسطة على عدوة المساور في المضاجع، ومصحبه بالفاجئ الفاجع، فنازلنا حصن روطة الآخذ بالكظم، المعترض بالشجا اعتراض العظم، وقد شحنه العدومدداً بئيساً، ولم يأل اختياره رأياً ولا تلبيساً، فأعيا داؤه، واستقلت بالمدافعة أعداؤه، ولما أتلع إليه جيد المنجنيق،
__________
(1) ق: حافي، ولعلها: حامي.
(2) ق: والحوائر.
(3) على نفثة: على أثر.(6/374)
وقد برك عليه بروك الفنيق، وشد عصام العزم الوثيق، لجأ أهله إلى التماس العهود والمواثيق، وقد غصوا بالريق، وكاد يذهب بأبصارهم لمعان البريق، فسكناه من حامية المجاهدين بمن يحمي ذماره، ويقرر اعتماره، واستولى أهل الثغور إلى هذا الحد على معاقل كانت مستغفلة ففتحوها؛ وشرعوا أرشية الرماح إلى قلب قلوبها فمتحوها.
ولم تكد الجيوش المجاهدة تنفض عن الأعراف متراكم الغبار، وترخي عن آباط خيلها شد حزم المغار، حتى عاودت النفوس شوقها، واستتبعت ذوقها، وخطبت التي لا فوقها، وذهبت بها الآمال إلى الغاية القاصية، والمدارك المتصاعبة على الأفكار المتعاصية، فقصدنا الجزيرة الخضراء باب هذا الوطن الذي منه طرق وادعه، ومطلع الحق الذي صدع الباطل صادعه، وثنيه الفتح التي برق منا لامعه، ومشرف الهجوم الذي لم تكن لتعثر على غيره مطامعه، وفرضة المجاز التي لا تنكر، ومجمع البحرين في بعض ما يذكر، حيث يتقارب الشطان، ويتوازى الخطان، وكاد أن تلتقي حلقتنا البطان، وقد كان الكفر قدر قدر هذه الفرضة التي طرق منها حماه، ورماه الفتح الأول بما رماه، وعلم أن لا تتصل أيدي المسلمين بإخوانهم إلا من تلقائها، وأنه لا يعدم المكروه مع بقائها، فأجلب عليها برجله وخيله، وسد أفق البحر بأساطيله، ومراكب أباطيله، بقطع ليله، وتداعى المسلمون بالعدوتين إلى استنقاذها من لهواته، أوإمساكها من دون مهواته، فعجز الحول، ووقع بملكه إياها القول، واحتازها قهراً، وقد صابرت الضيق ما يناهز ثلاثين شهراً، وأطرق الإسلام بعدها إطراق الواجم، واسودت الوجوه لخبرها الهاجم، وبكتها حتى دموع الغيث الساجم، وانقطع المدد إلا من رحمة من ينفس الكروب، ويغري بالإدالة الشروق والغروب، ولما شكنا بشبا الله تعالى نحرها، وأغصصنا بجيوش الماء وجيوش الأرض تكاثر نجم السماء برها وبحرها، ونازلناها نذيقها شديد النزال، ونحجها بصدق الوعيد في سبيل الاعتزال، رأينا بأواً لا يظاهر إلا بالله تعالى ولا يطال(6/375)
وممنعة يتحاماها الأبطال، وجناباً روضه الغيث الهطال، أسواقها فهي التي أخذت النجد والغور، واستعدت بجدال الجلاد عن البلاد فارتكبت الدور (1) ، تحوز بحراً من العمارة ثانياً، وتشكك أن يكون الإنس لها بانياً، وأما أبراجها فصفوف وصفوف، تزين صفحات المسايف منها أنوف، وآذان لها من دوامغ الصخر شنوف، وأما خندقها فصخر مجلوب، وسور مقلوب، فصدقها المسلمون القتال بحسب محلها من نفوسهم، واقتران اغتصابها ببوسهم، وأفول شموسهم، فرشقوها من النبال بظلالة تحجب الشمس فلا يشرق سناها، وعرجوا في المراقي البعيدة يفرعون مبناها، ونفوسها أنقاباً، وحصونها عقباً، ودخلوا مدينة إلبنة (2) بنتها غلاباً، وأحسبوا السيوف استلالاً والأيدي اكتساباً (3) ، واستوعب القتل مقاتليها السابغة الجنن، البالغة المتن، فأخذهم الهول المتفاقم، وجدلوا كأنهم الأراقم، لم تفلت منهم عين تطرف، ولا لسان يلبي من يستطلع الخبر أويستشرف.
ثم سمت الهمم الإيمانية إلى المدينة الكبرى فداروا سواراً على سورها، وتجاسروا على اقتحام أودية الفناء من فوق جسورها، وأدانوا إليها بالضروب من حيل الحروب، بروجاً مشيدة، ومجانيق توثق حبالها منها نشيدة، وخفقت بنصر الله تعالى عذبات الأعلام، وأهدت الملائكة مدد السلام، فخذل الله تعالى كفارها، وأكهم (4) شفارها، وقلم بيد قدرته أظفارها، فالتمسوا الأمان للخروج، ونزلوا على مراقي العروج، إلى الأباطح والمروج، من سمائها ذات البروج، فكان بروزهم إلى العراء من الأرض، تذكرة بيوم العرض، وقد
__________
(1) أي أنها وقعت في قضية دور (وهو من مصطلح المنطق) بسبب ما استعدت به من جدال المجالدة؛ ولا ريب أن التلاعب بمصطلح أهل المناظرة هنا واضح.
(2) في ق: البنية؛ والمقصود أن هذه المدينة " إلبنة " هي بنت الجزيرة الخضراء اي هي من توابعها.
(3) يقابل هنا بين الاحتساب - وهو ما كان لوجه الله تعالى - وبين الاكتساب.
(4) أكهم: أكل عن الضرب.(6/376)
جلل المقاتلة الصغار، وتعلق بالأمان النساء والصغار، وبودرت المدينة بالتطهير، ونطقت المآن العالية بالأذان الشهير، والذكر الجهير، وطرحت كفارها التماثيل عن المسجد الكبير، وأزرى بألسنة النواقيس لسان التهليل والتكبير، وأنزلت عن الصروح أجرامها يعيي الهندام (1) مرامها، وألفي منبر الإسلام بها مجفواً فأنست غربته، وأعيد إليه قربه وقربته، وتلا واعظ الجمع المشهود، قول منجز الوعود ومورق العود " وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب، وكذلك أخذ ربك إذا اخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة، ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " هود:102 فكان الدمع يغرق الآماق، والوجد يستأصل الأرماق، وارتفعت الرغبات، وعلت السيات، وجيء بأسرى المسلمين يرسفون في القيود الثقال، وينسلون من أحداب الاعتقال، ففكت عن سوقهم اساود الحديد، وعن أعناقهم فلكات الباس الشديد، وظلوا بجناح اللطف العريض المديد، وترتبت في المقاعد الحامية، وأزهرت بذكر الله تعالى المآذن السامية، وعادت المدينة لأحسن أحوالها، وسكنت من بعد أهوالها، وعادت الجالية إلى أموالها، ورجع إلى القطر شبابه، ورد على دار الإسلام بابه، واتصلت بأهل لا إله إلا الله أسبابه، فهي اليوم في بلاد الإسلام قلادة النحر، وحاضرة البر والبحر، أبقى الله تعالى عليها وعلى ما وراءها من بيوت أمتك، ودائع الله تعالى في ذمتك، بكلمة دينك الصالحة الباقية، وسدل عليه أستار عصمته الواقية؛ وعدنا والصلاة عليك شعار البروز والقفول، وهجيراً الشروق والأفول، والجهاد يا رسول الله الشأن المعتمد، ما امتد بالأجل الأمد، والسمتان الفرد الصمد.
ولهذا العهد يا رسول الله صلى الله عليك، وبلغ وسيلتي إليك، بلغ من هذا
__________
(1) الهندام: الآلات.(6/377)
القطر المرتدي بجاهك الذي لا يذل من ادرعه، ولا يضل من اهتدى بالسبيل الذي شرعه، إلى أن لاطفنا ملك الروم بأربعة من البلاد كان الكفر قد اغتصبها، ورفع التماثيل ببيوت الله تعالى ونصبها، فانجاب عنها بنورك الحلك، ودار بإدالتها إلى دعوتك الفلك، وعاد إلى مكاتبها القرآن الذي نزل به على قلبك الملك، فوجبت مطالعة مقرك النبوي بأحوال هذه الأمة المكفولة في حجرك، المفضلة بإدارة تجرك، المهتدية بأنوار فجرك، وهل هوإلا ثمرات سعيك، ونتائج رعيك، وبركة حبك، ورضاك الكفيل برضى ربك، وغمام رعدك، وإنجاز وعدك، وشعاع من نور سعدك، وبذر يجنى ريعه من بعدك، ونصر رايتك، وبرهان آيتك، وأثر حمايتك ورعايتك.
واستنبت هذه الرسالة مائحة بحر الندى الممنوح، ومفاتحة باب الهدى بفتح الفتوح، وفارعة المظاهر والصروح، وملقية الرجل بمنتزل الملائكة والروح، لمد إلى قبولك يد استمناح، وتطير إليك من الشوق الحثيث بجناح، ثم تقف موقف الانكسار، وإن كان تجرها آمناً من الخسار، وتقدم بأنس القربة، وتحجم بوحشة الغربة، وتتأخر بالهيبة، وتجهش لطول الغيبة، وتقول: ارحم بعد داري، وضعف اقتداري، وانتزاح أوطاني، وخلوأعطاني، وقلة زادي، وغراق مزادي، وتقبل وسيلة اعتراقي، وتغمد هفوة افتراقي، وعجل بالرضى انصراف متحملي لانصرافي، فكم جبت من بحر زاخر، وقفر بالركاب ساخر، وحاش لله تعالى أن يخيب قاصدك، أوتتخطاني مقاصدك، أوتطردني موائدك، أوتضيق عني عوائدك، ثم تمد مقتيضة مزيد رحمتك، مستدعية دعاء من حضر من أمتك، وأصحبتها يا رسول الله عرضاً من النواقيس التي كانت بهذه البلاد المفتتحة تعيق الإقامة والأذان، وتسمع الأسماع الضالة والآذان، مما قبل الحركة، وسالم المعركة، ومكن من نقله الأيدي المشتركة، واستحق بالقدوم عليك والإسلام بين يديك، السابقة في الأزل البركة، وما سواها فكانت جبالاً عجز عن نقلها الهندام، فنسخ وجودها الإعدام، وهي يا(6/378)
رسول الله جنى من جنانك، ورطب من أفنانك، وأثر ظهر علينا من مسحة حنانك.
هذه هي الحال والانتحال، والعائق أن تشد إليك الرحال، ويعمل الترحال، إلى أن نلقاك في عرصات القيامة شفيعاً، ونحل بجاهك إن شاء الله تعالى محلاً رفيعاً، ونقدم في زمرة الشهداء الدامية، كلومهم من أجلك، الناهلة غللهم في سجلك، ونبتهل إلى الله تعالى الذي أطلعك في سماء الهداية سراجاً، وأعلى لك في السبع الطباق معراجاً، وأم الأنبياء منك بالنبي الخاتم، وقفى على آثار نجومها المشرقة بقمرك العاتم، أن لا يقطع عن هذه الأمة الغريبة أسبابك، ولا يسد في وجوهها أبوابك، ويوقفها لاتباع هداك، ويثبت في أقدامها على جهاد عداك، وكيف تعدم ترفيها، أوتخشى بخساً وأنت موفيها، أويعذبها الله تعالى وأنت فيها وصلاة الله وسلامه تحط بفنانك رحال طيبها، وتهدر في ناديك شقاشق خطيبها، ما أذكر الصباح الطلق هذاك، والغمام السكب نداك، وما حن مشتاق إلى لثم ضريحك، وبليت نسمات الأسحار عما استرقت من ريحك، وكتب في كذا. انتهت الرسالة، وفيها ما لا خفاء به من براعة لسان الدين، رحمه الله تعالى وقدس روحه الطاهرة، آمين.
87 - ومما علق بحفظي من نثره رحمه الله تعالى أثناء رسالة في العزاء خاطب بها ملك المغرب قوله بعد كلام: أين مروان بن الحكم ودهاؤه، وعبد الملك بن مروان وبهاؤه، والوليد وبناؤه، وسليمان وغذاؤه، وعمر بن عبد العزيز وثناؤه، ويزيد ونساؤه، وهشام وخيلاؤه، والوليد وندماؤه، والجعدي وآراؤه، أم أين السفاح وحسامه، والمنصور واعتزامه، والمهدي وإعظامه، والهادي وإقدامه، والرشيد وأيامهم، والأمين وندامه، والمأمون وكلامه، والمعتصم وإسراجه، وإلجامه انتهى.(6/379)
وقد تقدم كلام أبي الخطاب ابن دحية في هذا المعنى بطوله في الباب الثاني من هذا القسم، فليراجع ثمة (1) .
[للمقري محاكياً لسان الدين]
قلت: وقد تقدم في الخطبة نظمي لمثل هذا، وقد كنت نسجت على منوال لسان الدين وأنا بالمغرب نثراً لم يحضرني منه الآن غير قولي: أين الإسكندر ويونانه، وشداد وبنيانه، والنمرود وعدوانه، وفرعون وهامانه، وقارون وطغيانه، وكسرى أنوشروان وإيوانه، وقيصر وبطارقته وأعوانه، وسيف ابن ذي يزن وغندانه، والمنذر ونعمانه إلى أن قلت: وأين أبوبكر رضي الله تعالى عنه وثباته، وعمر رضي الله تعالى عنه ووثباته، وعثمان رضي الله تعالى عنه ورهباته، أم أين علي رضي الله تعالى عنه وشجاعته وعلمه، وأين معاوية رضي الله تعالى عنه وحمله، واين يزيد وظلمه
ثم ذكرت ما تقدم للسان الدين، وقلت بعده: وأين الواثق وغناؤه، والمتوكل ومواليه وأولياؤه وأبناؤه، والمنتصر وآماله، والمعتز وجماله، والمستعين وعماله، والمهتدي وأعماله، والمعتضد وذكاؤه وإحاطته بالأخبار واشتماله، والمقتدر ونساؤه وإهماله إلى أن قلت: وأين بنوعبيد وضلالهم، وبنوبويه وجلالهم، وبنوسلجوق ونظامهم، وينوسامان وإعظامهم، وبنوأيوب وصلاحهم، والجراكسة ومبانيهم وسلاحهم
ثم قلت في ملوك المغرب: وأين عبد الرحمن الداخل وأمراؤه، والناصر وزهراؤه، والحكم ووزراؤه، والمؤيد وظهراؤه، أم أين المنصور بن أبي عامر وغزواته ومواليه، والمظفر وأدواته ومعاليه، أم أين بنوحمود
__________
(1) انظر المجلد 5: 115.(6/380)
وعلاهم، وأوصافهم وحلاهم، وينوجهور وحومهم، وبنوباديس وعزمهم، وأين معتضد بني عباد، ومعتمدهم الذي سنا كرمه للمعتفين باد، وبنوذي النون ومزيتهم، وبنوصمادح ومريتهم، وبنوالأفطس وبنوهود، وما كان لهم من المكارم في الحفل المشهود، وأين لمتونه، وصبرهم الذي ركبوا متونه، أم أين الموحدون وناصرهم ومنصورهم، ومصانعهم وقصورهم، أم أين بنوالأحمر وغرناطتهم، وإوالتهم عن حوزة الدين أدناس المعتدين وإماطتهم، وجعلهم الأمور لمثل ابن الحكيم ولسان الدين وإناطتهم، أم أين بنومرين وفارسهم، ومغانيهم ومدارسهم، وأين بنوزيان ومنازلهم الشاهقة، وأشجار عزهم الباسقة، وأين الحفصيون، ومستنصرهم الذي قضى للمعالي الديون، وأبوفارس، الذي شنفت بأخباره آذان الطروس والفهارس طحنت والله تعالى الجميع رحى المنون، وتأيمت الأزواج ويتم البنون، وطالت الأيام والسنون، وبقيت القصور العالية خالية، والرسوم المتكاثرة دائرة، والسلوك المنظومة متناثرة، وعن قريب يقف الكل بين يدي رب الأرباب، في يوم تذهل فيه الألباب، وتنقطع إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسباب، ويقتص لمظلوم من الظالم، وتنبهم للنجاة الطرق والمعالم، وتبلى السرائر لدى من هوبها عالم، " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لوأن بينها وبينه أمداً بعيداً " آل عمران:30 يوم يحكم الله تعالى في الخلق، بالحق، حسبما سبق في علمه إذا جعلهم قريباً وبعيداً، وشقياً وسعيداً، اللهم اجعلنا في ذلك اليوم الصعب ممن فاز بالنجاة، وحاز شفاعة نبيك ومصطفاك ذي الحرمة والجاه، صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم؛ انتهى.
رجع لنثر لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى:
88 - ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى ما خاطب به سلطان المغرب(6/381)
أبا زيان لما تم له الأمر، وهومشتمل على نظم ونثر، ونصه:
يا ابن الخلائف يا سميّ محمد ... يا من علاه ليس يحصر حاصر
أبشر فأنت مجدد الملك الذي ... لولاك أصبح وهو رسم دائر
من ذا يعاند منك وارثه الذي ... بسعوده فلك المشيئة دائر
ألقت إليك يد الخلافة أمرها ... إذ كنت أنت لها الولي الناصر
هذا وبينك لصريخ وبينها ... حرب مضرسة وبحر زاخر
من كان هذا الصنع أول أمره ... حسنت له العقبى وعز الآخر
مولاي عندي في علاك محبة ... والله يعلم ما تكن ضمائر
قلبي يحدثني بأنك جابر ... كسري، وحظي منك حظ وافر
بثرى جدودك قد حططت مثلما ... يلقي لملكك سيف أمرك عامر
فهو الولي لدى الذي اقتحم الردى ... وقضى العزيمة وهوسيف باتر
وولي جدك في الشدائد عندما ... خذلت علاه قبائل وعشائر
فاستهد منه النصح واعلم أنه ... في كل معضلة طبيب ماهر
إن كنت قد عجلت بعض مدائحي ... فهي الرياض، وللرياض بواكر مولانا، وعمدة ديننا ودنيانا، الذي سخر الله تعالى البر والبحر يأمره، وحكم فوق السموات السبع بعز نصره، وأغنى سعده عن سل السلاح وشهره، وفتق عن الصنع الجميل كمامة تسليمه وصبره، وقيض له في علم غيبه وزيراً مذخوراً لشد أزره، وقود الملك إليه على حال حصره، الخليفة الإمام، الذي استبشر به الإسلام، وخففت بعزه الأعلام، ولاح بدر محياه فاقتض الظلام، المقتدي بالنبي الكريم سميه في المراشد التي تألق منها الصبح، والمقاصد التي لازمها النجح، والتمحيص الذي نبع منه المنح، حتى(6/382)
في الهجرة التي جاءه بعدها الفتح، أبوزيان ابن مولانا السلطان ولي العهد ترشيحاً ومآلاً، ومؤمل الإسلام تقلداً لمذهب الصريح وانتحالاً، وأمير المسلمين لوأوسعه القدر إمهالاً، ووسطى عقد البنين خلائق متعددة وخلالاً، المتحف بالشهادة ولما يعرف بدره هلالاً، المعوض بما عند الله تعالى سعادة ألبسته سربالاً، وأبلغته نم رضوان الله تعالى آمالاً، أبي عبد الرحمن ابن مولانا أمير المسلمين عظيم الخلفاء، وعنصر الصبر والوفاء، وستر الله تعالى المسدول على الضعفاء، والمجاهد في سبيل الله تعالى بنفسه وماله، المنيف على مراكز النجوم يهممه وآماله، المقدس أبي الحسن ابن موالينا الخلفاء الطاهرين والأئمة المرضيين، من قبيل بني مرين، وصفوة اله تعالى في هذا المغرب الأقصى نم أوليائه المؤمنين، وزينة الدنيا وعمدة الدين، هنأه الله تعالى ما أورثه من سرير الملك الأصيل، وخوله من سعادة الدنيا والدين على الإجمال والتفصيل، وتوجه من تاج العزة القعساء عند اشتباه السبيل، وعوضه من قبيل الملائكة عند تشتت القبيل، وجعل قدمه الراسخة، وآياته الناسخة، وربوته السامية الباذخة، وغرة نصره الشادخة (1) ، وأوزعه شكر آلائه، في الخلاص من ملكة أعدائه، وخطر البحر وعدوان مائه، وغول السفر، وارتكاب الغرر، وثبات أقدام أوليائه الذين ما بدلوا تبديلاً، ولا ارتضوا لقبلة طاعته بعد أن ولوا وجوههم شطرها تحويلاً، بل صبروا صبراً جميلاً، وباعوا نفوسهم تتميماً لعقدة إيمانهم وتكميلاً.
يسلم على مقامكم الذي وسم السعد مشرق جبينه، وذخرت قبل الطاعة ليمينه، وأقسم الدهر بمظاهرة أمره السيعد قبر - والشكر لله تعالى - في يمينه، عبدكم الذي اعتلق منكم بالوسيلة الكبرى، وقر بملككم عيناً وشرح صدراً، وبذل الجهد وإن قل قدرة وقدراً، والتمس لكم الدعاء علناً وسراً، ابن الخطيب الذي حط رحل اقتصاده بتراب الملوك الكرام جدودكم، محاريب
__________
(1) شدخت الغرة: سالت فملأت الوجه دون أن تصل العينين.(6/383)
بركم وأسباب وجودكم، وآبائكم الذين في مظاهرتهم ورعيهم يظهر للناس نخايل هداكم وتدر سحائب جودكم، ملتحفاً منذ سنتين بأصونة قبورهم وثيابها، مستظلاً بأفنيتها المعظمة وقبابها، ممرغاً خذه بترابها، مواصلاً الصراخ با لمرين ويا ليعقوب متطارحاً على أبوابها، فلم يتح الله تعالى له نعرة ترعى الضيف وتحمي الدخيل، أوحمية تدفع الضيم وتشفي الغليل، إلا على يدكم يا أيها الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وبطل الميدان في موقف الهول العظيم، المذخور لنصر المظلوم وإنصاف الغريم، وإجالة أقلام الفتح بفتح الأقاليم.
كتبه مهنئاً بما سنى الله تعالى لملككم من الصنع الذي خرق حجاب العادة، وأرى إعجاز السعادة، معجلاً ذلك بين يدي المبادرة إلى لثم بساطكم الذي شرف وجوهها بلثمه الوجوه، وتخشاه الاملاك الجبابرة وترجوه، وأداء الواجب من القيام بمنظوم ثنائه في الحفل المشهود، وإبلاغ لسان الحمد وسع المجهود، وإلقاء ما عند العبد من خلوص وجنوح، وحب واضح أي وضوح، فولي دعوتكم الشيخ أبوثابت أعزه الله تعالى يقرره، ويبين مجمله ويفسره، والعبد واثق بفضل الله تعالى على يديكم، وملتمس النصر لديكم، وقاطع أن طلبته بكم تتسنى، وأنكم سبب عاقبته الحسنى، ما بالظهور على الوطن الذي تجرأ به المنقلب (1) على ملككم، ومد اليد إلى نثر سلككم، ونقص إرثكم المسلم المحرر، وزلزل وطنكم المؤسس على الطاعة المقرر، وأضرم النار في بسائطكم وجبالكم، وأطلق يد الفتنة على بيوت أموالكم متكثراً عليكم بالقلة، متعززاً بالذلة، جانياً على داركم بما لا تبيحه الملة، أوبالشفاعة الجازمة إن لم يتأذن الله تعالى في الانتصاف، والله يجعل الظهور بكم من الأوصاف، ويعينكم على جبر الكسير، وتيسير الأمر العسير، ويهنيكم منيحة الملك الكبير، ويبقي كلمته في عقبكم بعد تملؤ التعمير، والسلام.
__________
(1) ق: المتغلب.(6/384)
89 - وله رحمه الله تعالى في مخاطبة السلطان أبي زيان المذكور: المولى الذي طوق المنن، وأحيا السنن، وانبت الله تعالى حبه في القلوب النبات الحسن، ناظم كلمة الدين بعد انتشارها، ومقيل عثارها، والأخذ بثارها، والمخلد لآثارها، السلطان أبوزيان ... إلخ - أبقاكم الله تعالى عالي القدم، منصور العلم، ظاهراً على الأمم، مقصود الحمى كالركن الملتزم، عبد مقامكم الذي آويتموه غريباً، وانستموه دركاً وتثريباً، ولا عدم حظوة ووشفقة ونعمة وتقريباً، ابن الخطيب عن ثناء يعطر الآفاق، ويرقم الأوراق، ويخلق الجيوب والأطواق، وحب بهر نوراً وراق، وجاس اشتهاره الشام والعراق، ويطالع العبد محل مولاه الذي خلف ببابه قلبه وولده، وصبره وجلده، وصير وطنه داره الحقيقية وبلده، أنه لما قدم على محل أخيه، المعتد بما أودع الله تعالى من الخلال الشريفة فيه، مولاي ابن مولاي أبي عبد الله - كفل الله تعالى جميل رعيه وكرم عهده، وحكم بإعلاء جده ومضاء حده - رعى الوسيلة، وصدق المخيلة، وجلا عند اجتلاء مخاطبتكم أسارير الفضيلة، فلم يدع حقاً إلا صرفه، ولا نكرة إلا عرفه، ولا نعمة إلا سكبها، ولا مزية إلا أوجبها، ولا رتبة إلا أعلاها، ولا نعمة إلا أولاها، وما ذاك يا مولاي وإن تعددت الرسائل والأذمة، وادكرت القرب بعد أمة، إلا بوصاتكم التي لا تهمل، وحرمتكم التي لا تجهل، وعطف مقامكم الذي اشتهر، واعتنائكم بعبدكم الذي راق وبهر، فالعبد الرفيع المقدار، والأمل في مقامكم غير منقطع السبب، والأهل والولد تحت كنف مقامكم الأصيل الحسب، حتى يمن الله تعالى بحج بيته وزيارة رسوله على يديكم، ويكون قضاء هذا الوطر منسوباً إليكم، وبعد هذا يستقر القرار، حيث يختار من يخلق ما يشاء ويختار، بحول الله تعالى.(6/385)
والعبد يذكر مولاه بما بشره بين يدي وداعه، وبمرأى وزيره السعيد واستماعه، من انجلاء الحركة عن عزه وظهوره، ونجاح أحواله واستقامة أموره، ويهنيه بصدق الوعد، وأمطار الرعد، وظهور السعد، وهي وسيلة إذا عدت الوسائل، وروعيت الذمم الجلائل، ومثل مولاي من رعى وأبقى، وسلك التي هي أبر وأتقى، وما قصر عنه القلم من حق مولاي فالرسول أعزه الله تعالى يتممه، وما قصر عنه الرسول فالله تعالى يعلمه، وهوجل وعلا يديم أيام مولاي ويبقي مجده، ويصل سعده، والسلام انتهى.
90 - ومما خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى شيخ الدولة يحيى بن رحو (1) قوله: سيدي الذي له المزية العظمى، والمحل الأسمى، شيخ قبيل بني مرين، وقطب مدار الأحرار على الإجمال والتعيين، والمتميز بالدهاء والرجاحة، والمعرفة الفسيحة الساحة، ولاصدقة المباحة، وشروط الصوفية من ترك الأذى ووجود الراحة، أسلم على ذاتكم الطاهرة التي بخلت الأزمان والله أن تأتي بنظيرها، وتنافست الدول في تكبيرها، وسارت المواكب الملوكية بمسيرها، وأثنت الألسن بفضلها وخيرها، وأقرر لديها أني أعددت من معرفتها بالأندلس كنزاً لم أنفق منه إلى اليوم وزناً، إعداداً له وخزناً، إذا لا يخرج العتاد الكبير إلا عن حاجة وفاقة، ولا ترد اليد إلى الذخيرة إلا في إضاقة وعجز طاقة، وما كانت الوصلة بمثلها ليهملها مثلي جهلاً يقيمتها العالية، وإزراء بجهتها الكافلة الكافية، لكن نابت عن يدها أيد، وكفى عن ابتذالها ما كف الله تعالى من عمرووزيد، والآن أقرر أني قد كادت حاجتي إلى ذلك العتاد أن تتمحض، وزبدته أن المحض، إذ حظي من رعي ذلك القبيل الذي قصرت عليه رياسته، والوزير
__________
(1) هو يحيى بن عمر بن رحو، ولاه يوسف بن إسماعيل رياسة الجند المغربي بعد أبي ثابت عامر بن عثمان (سنة 741) ، وهذه هي وظيفة شيخ الغزاة بالأندلس، وقد بقي يحيى في هذه الوظيفة حتى سنة 764 حين قبض عليه السلطان النصري وسجنه واستلبه جاهه (اللمحة البدرية: 118) .(6/386)
الذي من رأيه تستمد سياسته، وإذا وفد خاصة هذه المدينة مهنين، وبشكر إيالته الكريمة مثنين، فخيمته ظل ظليل، ومساركته معتمدي في الكثير فكيف ولا غرض لي إلا في القليل، وعندي أن رعيه لمثلي لا يفتقر إلى وسيلة تجلب، ولا ذمام يحسب، فمثله من قدر قدر الهناء، وشد أعلام الحمد ولاثناء، سامية البناء، وعرف أن الدنيا على الله تعالى أحقر الأشياء، وقد رفعت أمري كله بعد الله تعالى إلى رأيك، وغنيت عن سعيي لنفسي بجميل سعيك، والسلام.
91 - ومما خاطب به لسان الدين شيخه سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق التلمساني رضي الله تعالى عنه شافعاً: يا سيدي أبقاكم الله تعالى محط الآمال وقبلة الوجوه، وبلغ سيادتكم ما تؤمله من فضل الله تعالى وترجوه، وكلأ بعين حفظه ذاتكم الفاخرة، وجعل عز الدنيا متصلاً لكم بعز الآخرة، بعد تقبيل يدكم التي يدها لا تزال تشكر، وحسنتها عند الله تعالى تذكر، أنهي إلى مقامكم أن الشيخ الكذا أبا فلان - مع كونه مستحق التجلة هجرة إلى أبوابكم الكريمة قدمت، ووسائل من أصالة وحشمة كرمت، وفضل ووقار، وتنويه لولاية أن كانت ذات احتقار، وسن اقتضى الفضل بره، وأدب شكر الاختبار عليه وسره - له معرفة سلفكم الأرضي وسيلة مرعية، وفي الاعتراف بنعمتكم مقامات مرضية، وتوجه إلى بابكم، والتمسك بأسبابكم، والمؤمل من سيدي ستره بجناح رعيه في حال الكبرة، ولحظه بطرف المبرة، غما في استعمال يليق بذوي الاحتشام، أوسكون تحت رعي واهتمام، وإعانة على عمل رسم مصله، على الله تعالى الذي يجزي المحسنين بفضله، ومنه نسأل أن يديم أيام المجلس العلي محروساً من النوائب، مبلغ الآمال والمآرب، والمملوك قد قرر شأنه في إسعاف المقاصد المأمولة من الشفاعة إليكم، والتحسب في هذه الأبواب عليكم، وتقليب القلوب بيد الله تعالى الذي يعطي(6/387)
ويمنع، ويملك الأمر أجمع، والسلام.
92 - وكتب إليه أيضاً في الشفاعة بما نصه: سيدي الأعظم، وملاذي الأعصم، وعروة عزي الوثقى التي لا تفصم، أبقاك الله تعالى آثارك آية للعز تأمر الدهر فيأتمر، ويلبي بفنائك الطائف والمعتمر، بأي لسان أثني على فواضلك وهي أمهات المنن، وطرف الشام واليمن، ومقامات بديع الزمن، والتحف المرتفعة عن الثمن فحسبي دعاء أردده وأواليه، وأرتقب مطلوب الإجابة من مقدمه وتاليه، وإن تشوف المنعم للحال الموقوف خيره بمشيئة الله تعالى على جميل سعيه، الموسد على وطاء لطفه المغشى بغطاء رعيه، قلب خافق، وقلب مؤمن يجول به وسواس منافق، وقد تجاوز موسى مجمع البحرين، وأصبح سري بابه سري العين، ولقد كانت مراحل الرمل قصيرة قبل أن يكسبها زجلي ثقل الحركة، ويخلط خاصتي في وظائفها المشتركة، وليت أمري برز إلى طرف، وأفضى إلى منصرف، وربما ظفر آيس بما يرجوه، وبرز المحبوب من المكروه، والله تعالى لا يفضح جاه الكتاب الذي أحيا وأنشر، وحياً وبشر، وأعطى صحيفته باليمين وقد جمعت مثابتكم المحشر، وموصل كتابي، ينوب في تقبيل اليد العليا منابي.
وليعلم سيدي أن هذا القطر على شهرته، وتألق مشتريه وزهرته، إذا انتحل كرامه، وعهد الفضل لم يبق إلا انصرامه، فهولبابه المتخير، وزلاله الذي لا يتغير، أصالة معروفة، وهمة إلى الإيثار مصروفة، ونبلاً على السن والكبرة، ورجولية خليقة بصلة الحرمة والمبرة، والوسيلة لا تطرح، والمعنى الذي لا يفسر لوضوحه ولا يشرح، وهوانتماؤه إلى جناب سيدي حديثاً وقديماً، واعترافه بنعمه مديراً لها ومديماً، والله تعالى يوفي إيثار سيدي حظه، ويجدد لديه رعيه ولحظه، حتى يعود علم إقباله، معلماً برد اهتباله، مسروراً(6/388)
ببلوغ آماله، فلعمري إن محل ولايته لكفي، وإن عهد أمانته لوفي، وإن عامل جده لظاهر وخفي، وما يفعله سيدي من رعيه، وإنجاح سعيه، محسوب من مناقبه، ومعدود في فضل مذاهبه، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته " انتهى.
وقد تكررت في كتابنا هذا مخاطبات لسان الدين رحمه الله تعالى للخطيب ابن مرزوق المذكور نظماص ونثراً؛ إذ كان - أعني ابن مرزوق - رئيس الدولة، ومعتمد الجلة، وسبق منا التعريف ببعض أحواله في باب مشايخ لسان الدين مما جرته المناسبة، فليرجع إليه من أراده، والله تعالى يجعل الجميع من أهل السعادة.
93 - ومما اشتمل على نثر لسان الدين ونظمه ما خاطب به الرئيس أبا زيد ابن خلدون لما ارتحل من بحر المرية واستقر ببلد بسكرة عند رئيسها أبي العابس ابن مزنى، صحبة رسالة خطبها أخوه أبوزكريا، وقد تقلد كتابة صاحب تلمسان، ووصل الكتاب عنه من إنشائه، وهذه صورة ما كتبه لسان الدين رحمه الله تعالى (1) :
بنفسي وما نفسي علي بهينة ... فينزلني عنها المكاس بأثمان (2)
حبيب نأى عني وصمم لا يني ... وراش سهام البين عمداً فأصماني
وقد كان هم الشيب، لا كان، كافياً ... فقد آدني لما ترحل همان
شرعت له من دمع عيني مورداً ... فكدر شربي بالفراق وأظمأني
وأرعيته من حسن عهدي جميمه ... فأجذب آمالي وأوحش أزماني
حلفت على ما عنده لي من رضىً ... قياساً بما عندي فأحنث أيماني
وإني على ما نالني منه من قلىً ... لأشتاق من لقياه نغبة ظمآن
__________
(1) وردت هذه الرسالة في التعريف: 104.
(2) المكاس: المشاحة في الثمن.(6/389)
سألت جنوني فيه تقريب عرشه ... فقست بجن الشوق جن سليمان
إذا ما دعا داع من القوم باسمه ... وثبت وما استثبت شيمة هيمان
وتالله ما أصغيت فيه لعاذل ... تحاميته حتى ارعوى وتحاماني
ولا استشعرت نفيس برحمة عابد ... تظلل يوماً مثله عبد رحمن
ولا شعرت من قبله بتشوق ... تخلل منها بين روح وجثمان أما الشوق فحدث عن البحر ولا حرج، وأما الصبر فسل به أية درج، بعد أن تجاوز اللوى والمنعرج، لكن الشدة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من روح الله تعالى الأرج، وأني بالصبر، على إبر الدبر، لا بل الضرب الهبر (1) ، ومطاولة اليوم والشهر، حتى حكم اقهر وهل لعين أن تسلو سلوالمقصر، عن إنسانها المبصر، أوتذهل ذهول الزاهد، عن سرها الراثي والمشاهد وفي الجسد بضعة يصلح إذا صلحت، فكيف حاله إن رحلت عنه ونزحت، وإذا كان الفراق هوالحمام الأول، فعلام المعول أعيت مراوضة الفراق، على الراق، وكادت لوعة الاشتياق، أن تفضي إلى السياق:
تركتموني بعد تشييعكم ... أوسع أمر الصبر عصيانا
أقرع سني ندماً تارةً ... وأستميح الدمع أحيانا وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية، ووجددت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية، أسأل نون النوى عن أهليه، وميم الموقد المهجور عن مصطليه، وثاء الأثافي المثلثة عن منازل الموحدين، وأحار بين تلك الأطلال حيرة الملحدين، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، كلفت لعمر الله يسأل عن جفوني المؤرقة، ونائم عن همومي المتجمعة المتفرقة، ظعن عن ملال، لا متبرماً مني بشر خلال، وكدر الوصل بعد صفائه، وضرج النصل بعد عهد وفائه:
__________
(1) الهبر: الذي يهبر أي يقطع.(6/390)
أقل اشتياقاً أيها القلب ربما ... رأيتك تصفي الود من ليس جازياً (1) فها أنا أبكي عليه بدم أسأله، وأنهل فيه أسى له (2) ، وأعلل بذكراه قلباً (3) صدعه، وأودعه من الوجد ما أودعه، لما خدعه، ثم قلاه وودعه، وأنشق رياه أنف ارتياح قد جدعه، وأستعدي به على ظلم ابتدعه:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي (4) فلولا عسى الرجاء ولعله، لا بل شفاعة المحل الذي حله، لمزجت الحنين بالعتب (5) ، وبثثت كتائبه كمناء في شعاب الكتب، تهز من الألفات رماحاً خزر الأسنة، وتوتر من النونات أمثال القسي المرنة، وتقود من بياض الطرس وسواد النفس بلقاً تردي (6) في الأعنة، ولكنه أوى إلى الحرم الأمين، وتفيأ ظلال الجوار المؤمن من معرة العوار عن الشمال واليمين، حرم الخلال المزنية، والظلال اليزنية، والهمم السنية، والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدنية، حيث الرفد الممنوح، والطير الميامن يزجر لها السنوح، والمثوى الذي إليه - مهما تقارع الكرام على الضيفان، حول جوابي الجفان - الميل والجنوح:
نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً، ومن فلق الصباح عمودا (7) ومن حل بتلك المثابة فقد اطمأن جنبه، وتغمد بالعفوذنبه، ولله در القائل حيث يقول:
__________
(1) البيت للمتنبي بعد فراقه لسيف الدولة وحلوله عند كافور.
(2) التعريف: وأندب في ربع الفراق، آسى له.
(3) التعريف: وأشكو إليه حول قلب.
(4) البيت لجميل بثينة، ديوانه: 176.
(5) التعريف: لنشرت ألوية العتب.
(6) تردي: وتمشي الرديان، وهو نوع من المشي دون العدو.
(7) البيت لأبي تمام (ديوانه: 81 ط. بيروت) .(6/391)
فوحقه لقد انتدبت لوصفه ... بالبخل لولا أن حمصاً داره
بلد متى أذكره تهتج لوعتي ... وإذا قدحت الزند طار شراره اللهم غفراً، ولا كفراً، وأين قرارة النخيل، من مثوى الأقلف البخيل، ومكذبة المخيل وأين ثانية هجر، من متبوإ من ألحد وفجر
من أنطر غيثاً منشؤه ... في الأرض وليس بمخلفها
فبنان بني مزنى مزن ... تنهل بلطف مصرفها
مزن مذ حل ببسكرة ... يوماً نطقت بمصحفها (1)
شكرت حتى بعبارتها ... وبمعناها وبأحرفها
ضحكت بأبي العباس من ال ... أيام ثنايا زخرفها
وتنكرت الدنيا حتى ... عرفت منه بمعرفها بل نقول: يا محل الولد {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} (البلد:2،3) لقد حل بينك عرى الجلد، وخلق الشوق بعدك يا ابن خلدون في الصميم من الخلد، فحيا الله تعالى زمناً شفيت برقى قربك (2) زمانته، واجتليت في صدف مجدك جمانته، ويا من لمشوق من طول خلتك لبانته (3) ، وأهلاً أظلت أشتات معارفك بانته، فحمائمه بعدك تندب، فيساعدها الجندب، ونواسمه ترق فتتغاشى، وعشياته تتخافت وتتلاشى، ومزنه باك، ودوحه في مأتم ذي اشتباك، كأن لم تكن قمر هالات قبابه، ولم يك أنسك شارع بابه، إلى صفوة الظرف ولبابه، ولم يسبح إنسان عينك في ماء شبابه، فلهفي عليك من درة اختلستها يد النوى، ومطل بردها الدهر ولوى، ونعق الغراب ببينها في ربوع الجوى، ونطق بالزجر فما نطق عن
__________
(1) مصحف بسكرة: بشكره أو تشكره.
(2) التعريف: في قربك.
(3) التعريف: وقضيت في مرعى خلتك لبانته.(6/392)
الهوى، وبأي شيء نعتاض منك أيتها الرياض، بعد أن طمى نهرك (1) الفياض، وفهقت الحياض ولا كان الشانئ المشنوء، والجرب المهنوء، من قطع ليل أغار على الصبح فاحتمل، وشارك في الذم الناقة والجمل، واستأثر جنحه ببدر النادي لما كمل، نشر الشراع فراع، وأعمل (2) الإسراع، كأنما هوتمساح النيل ضايق الأحباب في البرهة، واختطف لهم من الشط نزهة العين وعين النزهة، ولجج بها والعيون تنظر، والغمر عن الأتباع يحظر، فلم يقدر إلا على الأسف، والتماح الأثر المنشف، والرجوع بملء العيبة من الخيبة، ووقر الجسرة (3) من الحسرة، وإنما نشكوإلى الله البث والحزن، ونستمطر من عبارتنا المزن، وبسيف الرجاء نصول، إذا شرعت للياس النصول:
ما أقدر الله أن يدني على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول (4) فإن كان كلم الفراق رغيباً (5) ، لما نويت مغيباً، وجللت الوقت الهنئ تشغيباً، فلعل الملتقى يكون قريباً، وحديثه يروى صحيحاً غريباً.
إيه ثقة (6) النفس كيف حال تلك الشمائل، المزهرة الخمائل والشيم، الهامية الديم، هل يمر ببالها من راعت بالبعد باله، وأخمدت بعاص البين ذباله، أوترثي لشؤون شأنها سكب لا يفتر، وشوق يبت حبال الصبر ويبتر، وضنى تقصر عن حلله الفاقعة صنعاء وتستر، والأمر أعظم والله يستر، وما الذي يضيرك صين من لفح السموم نضيرك، بعد أ، أضرمت وأشعلت،
__________
(1) نهرك: سقطت من ق.
(2) التعريف: وواصل.
(3) الجسرة: الناقة؛ والوقر: الحمل.
(4) البيت لحندج بن حندج المري، (حماسة المرزوقي: 1831) .
(5) الجرح الرغيب: الواسع.
(6) التعريف: إيه سيدي.(6/393)
وأوقدت وجعلت، وفعلت فعلتك التي فعلت، أن تترفق بذماء، أوترد بنغبة ماء، أماق ظماء، وتتعاهد المعاهد بتحية يشم منها شذا أنفاسك، أوتنظر إلينا على البعد بمقلة حوراء من بياض قرطاسك وسواد أنفاسك، فربما قنعت الأنفس المحبة بخيال زور، وتعللت بنوال منزور، ورضيت لما لم تصد العنقاء بزرزور:
يا من ترحل والنسيم لأجله ... تشتاق إن هبت شذا رياها
تحيي النفوس إذا بعثت تحية ... فغذا عزمت اقرأ {ومن أحياها} (1) ولئن أحييت بها فيما سلف نفوساً تفديك - والله تعالى إلى الخير يهديك - فنحن نقول معشر مريديك: ثن ولا تجعلها بيضة الديك (2) ، وعذراً فإني لم أجتر على خطابك بالفقر الفقيرة، وأدللت لدى حجراتك برفع العقيرة، لا عن نشاط يعثت مرموسه، ولا غتباط بالأدب تغري بسياسته سوسه، وانبساط أوحى إلي على الفترة ناموسه، وإنما هواتفاق جرته نفثة المصدور، وهناء الجرب المجدور، وخارق لا مخارق (3) ، فثم قياس فارق، أولحن غنى به بعد الممات (4) مفارق، والذي سببه (5) ، وسوغ (6) منه المكروه وحببه، ما اقتضاه الصنويحيى - مد الله تعالى حياته، وحرس من الحوادث ذاته - من خطاب ارتشف به لهذه القريحة بلالتها، بعد أن رضي علالتها، ورشح إلى الصهر الحضرمي سلالتها، فلم يسع إلا إسعافه، بما اعافه، فأمليت مجيباً، ما لا
__________
(1) إشارة إلى الآية الكريمة: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً (المائدة: 32) .
(2) من قول بشار:
قد زرتنا مرة في العمر واحدة ... ثني ولا تجعليها بيضة الديك (3) التعريف: وإن تعلل به مخارق.
(4) التعريف: بعد البعد.
(5) التعريف: والذي هيأ هذا القدر وسببه.
(6) التعريف: وسهل.(6/394)
يعد في يوم البرهان نجيباً، وأسمعت وجيباً، لما ساجلت بهذه الترهات سحراً عجيباً، حتى إذا ألف القلم العريان سبحه، وجمح برذون الغرارة فلم أطق كبحه، لم أفق من غمرة غلوه، وموقف متلوه، إلا وقد تحيز إلى فئتك معتزاً بل معتراً، واستقبلها ضاحكاً مفتراً، وهش لها براً، وإن كان لونه من الوجل (1) مصفراً، وليس بأول من هجر، في التماس الوصل ممن هجر، أوبعث التمر إلى هجر، وأي نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في محاورة الأعلام بعد أن حال الجريض، دون القريض (2) ، وشغل المريض، عن التعريض، واستولى (3) الكسل، ونصلت الشعرات البيض كأنها الأسل، تروع برقط الحيات، سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر والشيات (4) ، عند البيات، والشيب الموت العاجل، وإذا ابيض زرع صبحته المناجل، والمعتبر الآجل، وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده، حكم في الظاهر بإبعاده، وأسره في ملكة عاده، فأغض أبقاك الله واسمح، لمن قصر عن المطمح، وبالعين الكليلة فالمح، واغتنم لباس ثوب الثواب، واشف بعض الجوى بالجواب، تولاك الله تعالى فيما استضفت وملكت، ولا بعدت ولا هلكت، وكان لك أية سلكت، ووسمك من السعادة بأوضح السمات، وأتاح لقاءك من قبل الممات، والسلام الكريم يعتمد جلال ولدي، وساكن خلدي بل أخي وإن عتبته (5) وسيدي، ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى.
قلت: هذه الرسالة الرافلة في حلل البلاغة لم أر مثلها ولم أقف عليه، فرحم الله تعالى لسان الدين ووجه سحائب الرحمة إليه، فلقد كان آية الله في النظم
__________
(1) التعريف: الخجل.
(2) هذا مثل؛ والجريض: ما يعترض في الحلق من غصص، أي حال العائق دون قول الشعر، ويتصل بقصة عبيد بن الأبرص ويوم البؤس عند النعمان.
(3) التعريف: وغلب حتى.
(4) ذوات الغرر والشيات هي الخيل.
(5) التعريف: وإن اتقيت عتبه.(6/395)
والنثر وجميع العلوم على اختلافها.
94 - وكما خاطب الولي ابن خلدون خاطب أخاه أبا زكريا يحيي حسبما قال في بعض كتبه: ومما خاطبت به الفقيه أبا زكريا ابن خلدون، لما ولي الكتابة عن السلطان أبي حموسلطان تلمسان نم بني زيان واقترن بذلك نصر وصنع غبطته به وأشدت به قصد تنفيقه وإنهاضه لديه: نخص الحبيب الذي هوفي الاستظهار به أخ وفي الشفقة عليه ولد، والولي الذي ما بعد قرب مثله أمل ولا على بعده جلد، والفاضل الذي لا يخالف في فضله ساكن ولا بلد، أبقاه الله تعالى وفاز فوزه وعصمته لها نم التوفيق الله سبحانه عمد، ومورد سعادته المسوغ لعادته لا غور ولا ثمد، ومدى إمداده من خزائن إلهام الله تعالى وسداده ليس له أمد، وحمى فرح قلبه بمواهب من ربه أن يطرقه كمد.
تحية محله، من صميم قلبه بمحله، المنشئ رواق الشفقة، مرفوعاً بعمد المحبة والمقة، فوق ظعنه وحله، مؤثره ومجله، المعتني بدق أمره وجله، ابن الخطيب، من الحضرة الجهادية غرناطة، صان الله تعالى خلالها، ووقى هجير هجر الغيوم ظلالها، وعمر بأسود الله تعالى أغيالها، كما أغرى بمن كفر بالله تعالى صيالها، ولا زائد إلا منن من الله تعالى تصوب، وقوة يسترد بها المغضوب، ويخفض الصليب المنصوب، والحمد لله تعالى الذي بحمده ينال المطلوب، وبذكره تطمئن القلوب، ومودتكم المودة التي غذتها ثدي الخلوص بلبانها، وأحلتها حلائل المحافظة بين أعينها وأجفانها، ومهدت موات أخواتها الكبرى أساس بنيانها، واستحقت ميراثها مع استصحاب حال الحياة إن شاء الله تعالى واتصال زمانها، واقتضاء عهود الأيام بيمنها وأمانها، ولله در القائل:
فإن لم يكنها أوتكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها (1)
__________
(1) البيت لأبي الأسود الدؤلي (ديوانه في نفائس المخطوطات 2: 37) وكان له غلام يتاجر إلى الأهواز ويشرب الخمر.(6/396)
وصل الله تعالى ذلك من أجله وفي ذاته، وجعله وسيلة إلى مرضاته، وقربة تنفع عند اعتبار ما روعي من سنن الجبار ومفترضاته.
وقد وصل كتابكم الذي فاتح بالريحان والروح، وحل من مرسوم الولاء محل البسملة من اللوح، وأذن لنوافح الثناء بالبوح، يشهد عدله بأن البيان يا آل خلدون سكن من مثواكم دار خلود، وقدح زنداً غير صلود، واستأثر من محابركم السيالة، وقضب أقلامكم الميادة الميالة، بأب منجب وأم ولود، يقفو شانيه غير المشنو، وفصيله غير الجرب ولا المهنو، من الخطاب السلطاني سفينة منوح (1) ، إن لم نقل سفينة نوح، ما شئت من آل أزواج، وزمر من الفضل وأفواج، وأمواج كرم تطفوفوق أمواج، وفنون بشائر، وإهطاع قبائل وعشائر، وضرب للمسرات أعيا الشائر، فلله هومن قلم راعى نسب القنا فوصل الرحم، وانجد الوشيج والملتحم، وساق بعصاه من البيان الذود المزدحم، وأخاف من شذ عن الطاعة مع الاستطاعة فقال " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " هود:43 ولولم يوجب الحق برقه ورعده، ووعيده ووعده، لأوجبه يمنه وسعده، فلقد ظهرت مخايل نجحه، علاوة على نصحه، ووضحت محاسن صبحه، في وحشة الموقف الصعب وقبحه، وصل الله تعالى له عوائد منحه، وجعله إقليداً كلما استقبل باب أمل وكله الله تعالى بفتحه.
أما ماقرره ولاؤكم من حب زكا على حبة القلب حبه، وأنبته النبات الحسن ربه، وساعده من الغمام سكبه، ومن النسيم اللدن مهبه، فرسم ثبت عند الولي نظيره، ومن غبر معارض يضيره، وربما أربى بتذييل مزيد، وشهادة ثابت ويزيد (2) ، ولم لا يكون ذلك، وللقلب على القلب شاهد وكونها
__________
(1) المنوح: العطايا.
(2) ثابت ويزيد: من أعلام التابعين الثقات كأن تقول: ثابت البناني ويزيد بن الأسود؛ ثم يلمح إلى قول جميل:
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الوجد ثابت ويزيد(6/397)
أجناداً مجندة لا يحتاج تقريره إلى ماهد وجهد جاهد، ومودة الأخوة سبيلها لاحب، ودليلها للدعوة الصادقة مصاحب، إلى ما سبق من فضل ولقاء، ونظافة سقاء، واعتقاد، لا يراع سربه بذئب انتقاد، واجتلاء شهاب وقاد، لا يحوج إلى إيقاد، إنما عاق عن مواصلة ذلك نوىً شط منها الشطن، وتشذيب لم يتعين معه الوطن، فلما تعين، وكاد الصبح أن يتبين، عاد الوميض ديجوراً، والثماد بحراً مسجوراً، إلى أن أعلق الله تعالى منكم اليد بالسبب الوثيق، وأحلكم منجى نيق (1) ، لا يخاف من منجنيق، وجعل يراعكم لسعادة موسى (2) معجزة تأتي على الخبر بالعيان، فتخر لثعبانها سحرة البيان:
أيحيى سقى حيث لحت الحيا ... فنعم الشعاب ونعم الوكون
وحياً يراعك من آية ... فقد حرك القوم بعد السكون
دعوت لخدمة موسى عصاه ... فجاءت تلقف ما يأفكون
فأذعن من يدعي السحر رغماً ... وأسلم من أجلها المشركون
وساعدك السعد فيما أردت ... فكان كما ينبغي أن يكون " فأنتم أولى الأصدقاء بصلة السبب، ورعي الوسائل والقرب، أبقاكم الله تعالى وأيدي الغبطة بكم عالية، وأحوال تلكم الجهات بدرككم المهمات حالية، وديم المسرات من إنعامكم المبرات على معهود المبرات متوالية.
وأما ما تشوفتم إليه من حال وليكم فأمل متقلص الظل، وارتقاب لهجوم جيش الأجل المطل، ومقام على مساورة الصل، وعمل يكذب الدعوى، وطمأنينة تنتظر الغارة الشعوا، ويد بالمذخور تفتح، وأخرى تجهد وتمنح، ومرض يزور فيثقل، وضعف عن الواجب يعقل، إلا أن اللطائف تستروح،
__________
(1) النيق: الطويل من الجبال.
(2) موسى: هو السلطان أبو حمو.(6/398)
والقلب من باب الرجاء لا يبرح، وربما ظفر البائس، ولم تطرد المقايس، تداركنا الله تعالى بعفوه، وأوردنا من منهل الرضى والقبول على صفوه، وأذن لهذا الخرق في رفوه.
" وأما ما طلبتم من انتساخ ديوان، وإعمال بنان في الإتحاف ببيان، فتلك عهود لدي مهجورة، ومعاهد لا متعهدة ولا مزورة، شغل عن ذلك حوض يعلو لجبه، وحرص يقضى من لغط المانح عجبه، وهول جهاد تساوى جمادياه ورجبه، فلولا التماس أجر، وتعلل بربح تجر، لقلت: أهلاً بذات النحيين (1) ، فلئن شكت، وبذلت المصون بسبب ما أمسكت، فلقد ضحكت في الباطن ضعف ما بكت، ونستغفر الله تعالى من سوء انتحال، وإيثار المزاح بكل حال، وما الذي ينتظر مثلي ممن عرف المآخذ والمتارك، وجرب لما بلا المبارك، وخبر مساءة الدنيا الفارك
هذا أيها الحبيب ما وسعه الوقت الضيق، وقد ذهب الشباب الريق، ليسمح فيه معهود كمالك، جعل الله تعالى مطاوعة آمالك، مطاوعة يمينك لشمالك، ووطأ لك موطأ العز بباب كل مالك، وقرن النجح بأعمالك، وحفظك في نفسك واهلك ومالك، والسلام انتهى.
95 - ومن مخاطبات لسان الدين لصاحب العلامة أبي القاسم ابن رضوان:
قد كنت أجهد في التماس صنيعة ... نفساً شهاب ذكائها وقاد
وأقول لو كان المخاطب غيركم ... عند الشدائد تذهب الأحقاد سيدي، أبقاكم الله تعالى علم فضل وإنصاف، ومجموع كمال أوصاف: كلام النية قصير، والله تعالى بحسنات الأقوال والأفعال بصير، وإليه هذا الخباط كل رجعي منا ومصير، وليس لنا إلا هومولى ونصير، وهذا الرجل سيدي الخطيب
__________
(1) يكني عن كثرة الشغل لقولهم في المثل: " اشغل من ذات النحيين " والنحي: ظرف السمن.(6/399)
أبوعبد الله ابن مرزوق - جبره الله تعالى - بالأمس كنا نقف ببابه، ونتمسك بأسبابه، ونتوسل إلى الدنيا به، فإن كنا قد عرفنا خيراً وجبت المشاركة، أوكفافاً تعينت المتاركة، أوشراً اهتبلت غرة الهدى الأنفس المباركة، واتصفت بصفة من يعصي فيسمح، ويسأل فيمنح، ويعود إلى قبيح بالفعل الجميل، ويحسب يد التأميل، ومع هذا فلم ندر إلا خيراً كرم منه المورد والمصرف، ومن عرف حجة على من لا يعرف، وأنتم في الوقت سراج علم لا يخبوسناه، ومجموع تخلق عرفنا منه ما عرفناه، وهذه هي الشهرة التي تغتنم إذا سفرت، والهنة التي تحبر عليها النفس إذا نفرت، حتى لا تجد بعون الله تعالى عارضاً يعوقها عن الخير، وسبيل الكمال الأخير، والأجر في استيفاء كتاب الشفاعة، وتحري المقاصد النفاعة، وتنفيق البضاعة، قد ضمنه نم وعد بقيام الساعة، والجزاء على الطاعة وغير الطاعة، وهذه المشاركة تسجيل لفضلكم قبلي، وهي في الحقيقة لي، فكيف والله تعالى يرى عملكم وعملي، والمتروك حقير، والوجود إلى رحمة من رحمات الله تعالى فقير، والسلام انتهى.
96 - ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى قوله في مخاطبة شيخ العرب مبارك بن إبراهيم رحمه الله تعالى (1) :
" ساحات دارك للضياف مبارك ... وبضوء نار قراك يهدي السالك
ونوالك المبذول قد شمل الورى ... طراً، وفضلك ليس فيه مشارك
قل للذي قال للوجود قد انطوى ... والبأس ليس له حسام فاتك
والجود ليس له غمام هاطل ... والمجد ليس له همام باتك (2)
جمع الشجاعة والرجاحة والندى ... والبأس والرأي الأصيل مبارك
__________
(1) وردت هذه الرسالة في الاستقصا 4: 13 - 15.
(2) الباتك: القاطع.(6/400)
للدين والدنيا وللشيم العلا ... والجود إن شح الغمام السافك
عند الهياج ربيعة بن مكدم ... في الفضل والتقوى الفضيل ومالك (1)
ورث الجلالة عن أبيه وجده ... فكأنهم ما غاب منهم هالك
فجياده للآملين مراكب ... وخيامه لقاصدين أرائك
فغذا المعالي أصبحت مملوكة ... أعناقها بالحق فهو المالك
يا فارس العرب الذي من بيته ... حرم لها حج به ومناسك
يا من يبشر باسمه قصاده ... فلهم إليه مسارب ومسالك
أنت الذي استأثرت فيك بغبطتي ... وسواك فيه مآخذ ومتارك
لا زلت نوراً يهتدي بضيائه ... من جنه للروع ليل حالك
ويخص مجدك من سلامي عاطر ... كالمسك صاك به الغوالي صائك (2) الحمد لله تعالى الذي جعل بيتك شهيراً، وجعلك للعرب أميراً، وجعل اسمك فالاً، ووجهك جمالاً، وقربك جاهاً ومآلاً، وآل رسول اله صلى الله عليه وسلم لك آلاً، أسلم عليك يا أمير العرب وابن أمرائها، وقطب سيادتها وكبرائها، وأهنيك ما منحك الله تعالى من شهرة تبقى، ومكرمة لا يضل المتصف بها ولا يشقى، إذ جعل خيمتك في هذا المغرب على اتساعه، واختلاف أشياعه، مأمناً للخائف، على قياس (3) المذاهب والطوائف، وصرف الألسنة إلى مدحك والقلوب إلى حبك، وما ذلك إلا لسريرة لك عند ربك، ولقد كنت أيام تجمعني وإياك المجالس السلطانية على معرفتك متهالكاً، وطوع الأمل سالكاً، لما يلوح لي على وجهك من سيما المجد والحياء، والشيم الدالة على العلياء، وزكاء الأصول وكرم الآباء، وكان والدي - رحمه الله تعالى - قد عين للقاء
__________
(1) الفضيل بن عياض ومالك بن دينار (وقد يكون: مالك بن أنس) .
(2) الغوالي: الطيوب، مفردها غالية؛ صاك: خلط ومزج.
(3) الاستقصا: على كثرة.(6/401)
خال السلطان قريبكم لما توجه في الرسالة إلى الأندلس في تأنيسه عن مخدومه، ومنوهاً حيث حل بقدومه، واتصلت بعد ذلك المهاداة والمعرفة، والوسائل المختلفة، فعظم لأجل هذه الوسائل شوقي إلى التشرف بزيارة ذلك الجناب الذي حلوله شرف وفخر، ومعرفته كنز وذخر، فلما ظهر الآن لمحل الأخ الكذا القائد فلان اللحاق بك، والتعلق بسببك، رأيت أنه قد اتصل بهذا الغرض المؤمل بعضي والله تعالى ييسر في البعض، عند تقرير الأمن وهدنة الأرض، وهذا الفاضل بركة حيث حل لكونه من بيت أصالة وجهاد، وماجداً وابن أمجاد، ومثلك لا يوصى بحسن جواره، ولا ينبه على إيثاره، وقبيلك في الحديث - من العرب - والقديم، وهوالذي أوجب لها مزية التقديم، لم يفتخر قط بذهب يجمع، ولا ذخر يرفع، ولاقصر يبنى، ولا غرس يجنى، إنما فخرها عدويغلب، وثناء يجلب، وجزور ينحر، وحديث يذكر، وجود على الفاقة، وسماحة بحسب الطاقة، فلقد ذهب الذهب، وفني النشب، وتمزقت الأثواب، وهلكت الخيل العراب، وكل الذي فوق التراب تراب، وبقيت المحاسن تروى وتنقل، والأعراض تجلى وتصقل، ولله در الشاعر إذ يقول:
وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن وعى (1) هذه مقدمة إن يسر الله تعالى بعدها لقاء الأمير، فيجلي اللسان عماً في الضمير:
ومدحي على الأملاك مدح، وإنما ... رأيتك منها فامتدحت على وسمي
وما كنت بالمهدي لغيرك مدحتي ... ولو أنه قد حل في مفرق النجم "
__________
(1) من مقصورة ابن دريد (ص: 115) .(6/402)
97 - ومن ذلك ما خاطب به شيخه الخطيب سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق وهو:
" راش زماني وبرى نبله ... فكنت لي من وقعها جنه
ولو قهرت الموت أمنتني ... منه وأدخلتني الجنه
فكيف لا أنشرها منة ... قد عرفتها لاإنس والجنه " بماذا أخاطب به تلك الجلالة، فيتيسر الخطاب وتحصل الدلالة، أبسيدي ويشركني فيه، من قال لا إله إلا الله بفيه أوبروح حياتي، ومقدم ماهية ذاتي، وذخري الكبير الكثير، لا بل فلكي الأثير، وهوتضييق على الولد والأهل، وتعدي المراتب المحدودة من الجهل، فلم يبق إلا الإشارة الخارجة عن وظائف اللسان، وهي بعض دلالات الإنسان، أفدت الإكسير، وجبرت الكسير، ورويت يا أبا العلا (1) التيسير، وغمرت بالكرم وأمن حمام الحرم الظعن والمسير، فمن رام شكر بعض (2) أياديك فلقد شد حقائب الرحال، إلى نيل المحال، والحق أن نكل جزاك، لمن جعل إلى المجد اعتزاك، ونولي شكرك وثناك، إلى من عمر بما يرضيه من الرفق بالخلق وإقامة الحق إناك، وندعومنك بالبقاء إلى الروض المجود، وغمام الجود، وإمام الركع السجود، لا بل لنور الله تعالى المشرق على التهائم والنجود، ورحمته المبثوثة أثناء هذا الوجود.
وليعلم سيدي أن النفس طماعة جماعة، وسراب آمالها بحاره لماعة، فلا تفيق من كد، ولا تقف عند حد، سيما إذا لم يهذبها السلوك والتجريد، ولم يسر منها في عالم الغيب البريد، ولا تجلت لها السعادة التي يجذب بها المراد ويشمر لها المريد، إلى أن يتأتى عما دون الحق المحيد، ويصح التوحيد،
__________
(1) ق: يا ابن العلاء.
(2) بعض: سقطت من ق.(6/403)
وقد مثلت الآن خصماً، توسع ظهر استظهاري بالتسليم قصماً، وتقول: المال عديلي عند القيمة، وطبيبي في الأحوال السقيمة، وهونتيجة كدي عند الأقيسة القيمة، ومن استخلصني على شرفي يقتعدها على رأي البراهمة النور الاصفهندي والنور القاهر، فخلاص المال طوع يديه، وهوكما قال الله تعالى أهون عليه، فألاطفها، حتى تلين معاطفها، وأخادعها، حتى تلوي أخادعها، وأقول: قد وقع الوعد، وأشرق السعد، ولان الجعد، وسكن الرعد، ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، فتجيبني: العمر المنام، وأيام الجاه والقدرة قد يحق لها الاغتنام، وهم العاقل إلى وقته الحاضر مصروف، وإذا لم يغير حائطه مثل معروف، وفي الوقت زبون يرجى به استخلاص الحقوق، ويستبعد وقوع العقوق، فإن رأى مولاي أن يشفع المنة، ويقرع باباً ثانياً من أبواب الجنة، قبل ا، يشغل شاغل، أويكدر الأكل والشرب وارش أو واغل (1) ، أويثوب للمتعدي نظر في اللجاج، أويدس له ما يحمله على الاحتجاج، - وأومتسع مناطها، فسيح استنباطها، كثير هاطها ومياطها - فهوتمام صنيعته التي لم ينسج على منوالها الأحرار، ولا اهتدت إلى حسنتها الأبرار، ولا عرف بدر مجدها السرار، فإليه كان الفرار، ولله تعالى ثم له خلص الاضطرار، ويستقر تحت دخيله القرار، وتطمئن الدار، فإن ما ابتدأ به من عز ضرب على الأيدي العادية منه حكم الحكام، وفارع الهضاب والآكام، على ملإ ومجمع، وبمرأى من الخلق ومسمع، يقتضي اطراد قياس العزة القعساء، وسعادة الإصباح والغماس، وظهور درجات الرجال على النساء، فهوجاه حارت فيه الأوهام وهذه أذياله، ومن ركب حقيقة أمرها هان عليه خياله، والمال ماله، والعيال عياله، والوجود سريع زياله، والجزاء عند الله تعالى مكياله،
__________
(1) الوارش: المتطفل على الآكلين؛ والواغل: المتطفل على الشاربين؛ وفي ق: واش.(6/404)
وعروض المغضوب باقية الأعيان (1) ، مستقلة الشجر قائمة البنيان، تمنع عن شرائها قاعدة الأديان وغيرها من مكيل وموزون، بين مأكول ومخزون، والكتب ملقاة بالقاع، مطرحة بأخبث البقاع، فإن تأتي الجبر، وإلا فالصبر، على أن وعد عمادي لا يفارق الإنجاز، ومكرمته التي طوقها قد بلغت الشام والحجاز، وحقيقة التزامه تباين المجاز، وآية مجده تستصحب الإعجاز، ولله در إبراهيم بن المهدي يخاطب المأمون، لما أكذب في العفوعنه الظنون:
وهبت مالي ولم تبخل علي به ... وقبل ذلك ما إن قد وهبت دمي (1) وقد كانت هذه المنقبة غريبة فغزرتها بأختها الكبرى، وفريدة فجئت بأخرى، وشفعت وترا، أبقاك الله تعالى لتخليد المناقب، وإعلاء المراتب، وجعل أخمص نعلك تاجاً للنجم الثاقب، وتكفل لك في النفس والولد بحسن العواقب:
آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آميناً (3) وأما تنبيه سيدي على إنشاء رزق، وتقرير رفد ورفق، فلا أنبه حاتماً وكعباً، أن يملأ قعباً، لمن خاض بحراً أوركب صعباً، هذا أمر كفانيه الكافي، وداء كوخز (4) الأشافي، أذهبه الشافي، والسلام " انتهى.
98 - ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى على لسان السلطان قوله: " هذا ظهير كريم، مضمنه استجلاء لأمور الرعية واستطلاع، ورعاية
__________
(1) يشير لسان الدين هنا إلى ما أخذ منه بالأندلس، من عروض ومكيلات وموزونات وكتب ... إلخ؛ ويقول إن أعيان العروض (من شجر ومبان) لا تزال شاهدة.
(1) يشير لسان الدين هنا إلى ما أخذ منه بالأندلس، من عروض ومكيلات وموزونات وكتب ... إلخ؛ ويقول إن أعيان العروض (من شجر ومبان) لا تزال شاهدة.
(3) انظر المجلد 1: 175.
(4) ق: لوخز؛ والأشافي: جمع إشفى وهو المخرز.(6/405)
كرمت منها أجناس وأنواع، وعدل بهر منه شعاع، ووصايا يجب لها إهطاع، أصدرناه للفقيه فلان لما تقرر لدينا دينه وعدله وفضله، رأينا أنه أحق من نقلده الهم الأكيد، ونرمي به من أغراض البر الغرض البعيد، ونستكشف به أحوال الرعايا التي لا يغيب عنا شيء من أحوالها، ولا يتطرق إليها طارق من أهوالها، وينهي إلينا الحوادث التي تنشأ إنهاء يتكفل بحياطة أبشارها وأموالها.
وأمرنا أن يتوجه إلى جهة كذا حاطها الله تعالى فيجمع الناس فيمساجدهم، وينديهم من مشاهدهم، ويبدأ بتقرير غرضنا في صلاح أحوالهم، وإحساب أموالهم (1) ، ومكابدتنا المشقة في مداراة عدوهم الذي نعلم من أحواله ما غاب عنهم دفعه الله تعالى بقدرته، ووقى نفوسهم وحريمهم من معرته، ولما رأينا من انبتات الأسباب التي تؤمل، وعجز الحيل التي كانت تعمل؛ ويستدعي إنجادهم بالدعاء، وإخلاصهم فيه إلى رب السماء، ويسأل عن سيرة القواد، وولاة الأحكام بالبلاد، فمن نالته نظلمة فليرفعها إليه، ويقصها عليه، ليبلغها إلينا، ويوفدها مقررة الموجبات لدينا، ويختبر ما افترض صدقة للجبل، وما فضل عن كريم ذلك العمل، ليعين إلى بناء الحصن بجبل فاره يسر الله تعالى لهم في إتمامه، وجعل صدقتهم تلك مسكة ختامه، وغيره مما افترض إعانة للمسافرين، وإنجاداً لجهاد الكافرين، فيعلم مقداره، ويتولى اختباره (2) ، حتى لا يجعل منه شيء على ضعيف، ولا يعدل به لمشروف عن شريف، ولا تقع فيه مضايقة ذي الجاه، ولا مخادعة غير المراقب لله، ومتى تحقق أن غنياً قصر به عن حقه، أوضعيفاً كلف منه فوق طوقه، فيجير (3) الفقير من الغني،
__________
(1) ق: آمالهم.
(2) ق: اختياره.
(3) ق: فيجير.(6/406)
ويجري من العدل على السنن السوي، ويعلم الناس أن هذه المعونة (1) وإن كانت بالنسبة إلى محل ضرورتها يسيرة، وأن الله تعالى يضاعفها لهم أضعافاً كثيرة، فليست مما يلزم، ولا من المعاون التي بتكررها يجزم؛ وينظر في عهود التوفيق فيصرفها في مصارفها المتبينة، وطرقها الواضحة البينة.
ويتفقد المساجد تفقداً يكسوعاريها، ويتمم منها المآرب تتميماً يرضي باريها، ويندب الناس إلى تعليم القرآن لصبيانهم، فذلك أصل أديانهم، ويحذرهم المغيب على كل شيء من أعشارهم، فالزكاة أخب الصلاة وهما من قواعد الإسلام، وقد اخترنا لهم بأقصى الجد والاعتزام، ورفعنا عنهم رسم التعريف نظراً إليهم بعين الاهتمام، وقدمنا الثقات لهذه الأحكام، وجعلنا الخرص (2) شرعياً في هذا العام، وفيما بعده إن شاء الله تعالى من الأعوام.
ومن أهم ما أسندناه إليه، وعولنا فيه عليه، البحث بتلك الأحواز عن أهل البدع والأهواء، والسائرين من السبيل على غير السواء، ومن ينبز بفساد العقد، وتحريف القصد، والتلبس بالصوفية وهوفي الباطن من أهل الفساد، والذاهبين إلى الإباحة وتأويل المعاد، والمؤلفين بين النساء والرجال، والمتبعين لمذاهب الضلال، فمهما عثر على مطوق بالتهمة، منبز بشيء من ذلك من هذه الأمة، فليشد ثقافه شداً، ويسد عنه سبيل الخلاص سداً، ويسترعي في شأنه الموجبات، ويستوعب الشهادات، حتى ينظر في حسم دائه، ويعاجل المرض بدوائه، فليتول ما ذكرنا نائباً بأحسن المناب، ويقصد وجه الله تعالى راجياً منه جزيل الثواب، ويعمل عمل من لا يخاف في الله لومة لاثم ليجد ذلك في موقف الحساب.
وعلى من يقف عليه من القواد والأشياخ والحكام أن يكونوا معه يداً واحدة
__________
(1) المعونة: الضريبة، والجمع معاون.
(2) الخرص: تخمين الكرم والنخيل خاصة؛ وفي ق: الحرص.(6/407)
على ما حررنا في هذه الفصول، من العمل المقبول، والعدل المبذول، ومن قصر عن غاية من غاياته، أوخالف مقتضى من مقتضياته، فعقابه عقاب من عصى أمر الله وأمرنا فلا يلم إلا نفسه التي غرته، وإلى مصرع النكير جرته، والله تعالى المستعان انتهى.
ومن ذلك ما خاطب به تربة السلطان الكبير أبي الحسن المريني لما قصدها عقب ما شرع في جواره وتوسل إلى أغراضه إلى وبده رحم الله تعالى الجميع:
السلام عليك ثم السلام، أيها المولى الهمام الذي عرف فضله الإسلام، وأوجبت حقه العلماء الأعلام، وخفقت بعز نصره الأعلام، وتنافست في إنفاذ أمره ونهيه السيوف والأقلام. السلام عليك أيها المولى الذي قسم زمانه بين حكم فصل، وإمضاء نصل، وإحراز خصل، وعبادة قامت من اليقين على أصل. السلام عليك يا مقرر الصدقات الجارية، ومشبع البطون الجائعة وكاسي الظهور العارية، وقادح زناد العزائم الوارية، ومكتب الكتائب الغازية في سبيل الله تعالى والسرايا السارية. السلام عليك يا حجة الصبر والتسليم، وملتقى أمر الله تعالى بالخلق المرضي والقلب السليم، ومفوض الأمر في الشدائد إلى السميع العليم، ومعمل البنان الطاهر في اكتتاب الذكر الحكيم. كرم الله تعالى تربتك وقدسها، وطيب روحك الزكية وآنسها، فلقد كنت للدهر جمالاً، وللإسلام ثمالاً، وللمستجير مجيراً، وللمظلوم ولياً ونصيراً؛ لقد كنت للمحارب صدراً، وفي المواكب بدراً، وللمواهب بحراً، وعلى العباد والبلاد ظلاً ظليلاً وستراً؛ لقد فرعت أعلام عزك الثنايا، وأجزلت همتك لملوك الأرض الهدايا.
كأنك لم تعرض الجنود، ولم تنشر البنود، ولم تبسط العدل المحدود، ولم توجد الجود، ولم تزين الركع السجود، فتوسدت الثرى، وأطلت الكرى، وش ربت الكأس التي يشربها الورى، وأصبحت ضارع الخد، كليل الحد(6/408)
سالكاً سنن الأب والجد، لم تجد بعد انصرام أجلك، إلا صالح عملك، ولا أصبحت لقبرك، إلا رابح تجرك، وما أسلفت من رضاك وصبرك، فنسأل الله تعالى أن يؤنس اغترابك، ويجود بسحاب الرحمة ترابك، وينفعك بصدق اليقين، ويجعلك من الأئمة المتقين، ويعلي درجتك في عليين، ويجعلك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.
وليهنك أن صير الله تعالى ملكك من بعدك، إلى نير سعدك، وبارق رعدك، ومنجز وعدك، أرضى ولدك، وريحانة خلدك، وشقة نفسك، والسرحة المباركة من غرسك، ونور شمسك، وموصل عملك البر إلى رمسك، فقد ظهر عليه أثر دعواتك، في خلواتك وأعقاب صلواتك، فكلمتك والمنة لله تعالى باقية، وحسنتك إلى محل القبول راقية، يرعى بك الوسيلة، ويتمم مقاصدك الجميلة، أعانه الله تعالى ببركة رضاك على ما قلده، وعمر بتقواه يومه وغده، وأبعد في السعد أمده، وأطلق بالخير يده، وجعل الملائكة أنصاره والأقدار عدده.
وإنني أيها المولى الكريم، البر الرحيم، لما اشتراني، وراشني وبراني، وتعبدني بإحسانه، واستعمل في استخلاصي خط بنانه، ووصية لسانه، لم أجد مكافأة إلا التقرب إليك وإليه برثائك، وإغراء لساني بتخليد عليائك، وتعفير الوجنة في حرمك، والإشادة بعد الممات بمجدك وكرمك، ففتحت الباب في هذا الغرض، إلى القيام بحقك المفترض، الذي لولاه لاتصلت الغفلة عن ادائه وتمادت، فما يبست الألسن ولا كادت، متحيزاً بالسبق، إلى أداء هذا الحق، بادئاً بزيارة قبرك الذي هورحلة الغرب ما نويته من رحلة الشرق، وما أعرضت عنه فاقطعه أثر مواقع الاستحسان، وقد جمع بين الشكر والتنويه والإحسان، والله سبحانه يجعله عملاً مقبولاً، ويبلغ فيه من القبول مأمولاً، ويتغمد من ضاجعته من سلفك الكرام بالمغفرة الصيبة، والتحيات الطيبة، فنعم الملوك الكبار(6/409)
والخلفاء الأبرار، والأئمة الأخيار، الذين كرمت منهم السير وحسنت الأخبار، وسعد بعزماتهم الجهادية المؤمنون وشقي الكفار، وصلوات الله تعالى عوداً وبدءاً على الرسول الذي اصطفاه واختاره فهوالمصطفى المختار، وعلى آل وأصحابه الذين هم السادة الأبرار، وسلم تسليماً انتهى.
100 - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: ومما خاطبت به الوزير المتغلب على الملك بالمغرب ما نصه:
لا ترج إلا الله في شدة ... وثق به فهو الذي أيدك
حاشاك أن ترجو إلا الذي ... في ظلمة الحشاء قد أوجدك
فاشكره بالرحمة في خلقه ... ووجهك ابسط بالرضى أو يدك
والله لا تهمل ألطافه ... قلادة الحق الذي قلدك
ما أسعد الملك الذي سسته ... يا عمر العدل، وما أسعدك نخص الوزير الذي بهر سعده، وحمد في المضاء قصده، وعول على الشيم التي اقتضاها مجده، وأورثه إياها أبووجده، الوزير عمر الكذا ابن الشيخ الكذا، أبقاه الله تعالى ثابت القدم، خافق العلم، شهيراً حديث سعده في الأمم، مثلاً خبر بسالته وجلالته في العرب والعجم.
تحية معظم مجده الكبير، المستند إلى عهده الوثيق وحسبه الشهير، المسرور بما سناه الله تعالى له من نجح التدبير، والنصر العديم النظير، وإنجاده إياه عند إسلام النصير، وفراق القبيل والعشير، ابن الخطيب، واليد ممدودة إلى الله تعالى في صلة سعد الوزير - أبقاه الله تعالى - ودوام عصمته، واللسان يطنب ويسهب في شكر نعمته، والأمل متعلق بأسبابه الكريمة وأذمته، وقد كان شيعه مع الشفقة التي أذابت الفؤاد، وألزمت الأرق والسهاد، على علم بأن عناية الله تعالى عليه عاكفة، وديم آلائه لديه واكفة، فإن الذي أقدره وأيده(6/410)
ونصره، وأنفذت مشيئته ما دبره، كفيل بإمداده، وملي بإسعاده، ومرجولإصلاح دنياه ومعاده، وفي أثناء هذه الأراجيف استولى على معظم وزاراته الجزع، وتعاورته الأفكار تأخذ وتدع، فإني كما يعلم الوزير أعزه الله تعالى منقطع الأسباب، مستوحش من الجهة الأندلسية على بعد الجناب، ومستعدى علي بكوني من المعدودين فيمن له من الخلصان والأحباب، فشرعت في نظر احصل منه على زوال اللبس، وأمان النفس، في أثنائه، وتمهيد أساس بنائه، ورد البشير بما سناه الله تعالى لسيدي وجابر وكسري، ومنصفي بفضل الله تعالى من دهري، من الصنع الذي ظهر، وراق نوره وبهر، فأمنت وإن لم أكن ممن جنى، وحفتني المسرات بين فرادى وثنى، وانشرح بفضل الله تعالى صدري، وزارتني النعم والتهاني من حيث أدري ولا أدري، ووجهت الولد الذي شملته نعمة الوزير وإحسانه، وسبق إليه امتنانه، نائباً عني في تقبيل يده وشكر يده، والوقوف ببابه، والتمسك بأسبابه، آثرته بذلك لأمور: منها المزاولة فيما كان يلزمني من إخوته الأصاغر، وتدريبه على خدمة الجلال الباهر، وإفرادي له بالبركة، ولعائق ضعف عن الحركة، وبعد ذلك أشرع بضل الله تعالى في العمل على تجديد العهد بباب الوزارة العلية، عارضاً من ثنائها ما يكون وفق الأمنية، ورب عمل أغنى عنه فضل نية، والسلاك كريم على سيدي ورحمة الله تعالى وبركاته.
101 - قال: وكتبت إليه أيضاً على أثر الفتح الذي تكيف له:
" سيدي الذي أسر بسعادته، وظهور عناية الله تعالى به في إبدائه وإعادته، وأعلم كرم مجادته، وأعترف بسيادته، الوزير الميمون الطائر، الجاري حديث سعده ومضائه مجرى المثل السائر، أبقاه الله تعالى عزيز الأنصار، جارية بيمن نقيبته حركة الفلك الدوار، معصوماً من المكاره بعصمة الواحد القهار؛(6/411)
معظم سيادته الرفيعة الجانب، وموقر وزارته الشهيرة المناسب، الداعي إلى الله تعالى بطول بقائه في عز واضح المذاهب، وصنع واكف السحائب، ابن الخطيب، عن الذي يعلم سيدي من لسان طلق بالثناء، ويدممدودة إلى الله تعالى بالدعاء، والتماس لما يعد من جزيل النعماء، والفتح الذي تفتح له أبواب السماء، وقد اتصل ما سناه الله تعالى له من النصر والظهور، والصنع البادي السفور، لما التقى الجمعان، وتهوديت اكواس الطعان، وتبين الشجاع من الجبان، وظهر من كرات سيدي وبسالته ما تحدث به ألسنة الركبان، حتى كانت الطائلة لحزبه، وظهرت عليه عناية ربه، فقلت: الحمد لله الذي جعل سعد عمادي متصل الآيات، واضح الغرر والشيات. وقد كنت بعثت أهنئه بما قدم من صنع جميل، وبلوغ تأميل، فقلت: اللهم أفد علينا التهاني تترى، واجعل الكبرى من نعمتك السالفة بنعمتك الرادفة الخالفة هي الصغرى، واجمع له بين نعم الدنيا والأخرى، والناس - أبقى الله تعالى سيدي - لهم مع الاستناد إليك جهات، وأمور مشتبهات، إلا المحب المتشيع فجهتك هي التي آنست الغربة، وفرجت الكربة، ووعدت بالخير، وضمنت عاقبة الضير، وأنا أرتقب ورود التعريف المولوي على عبيده بهذه المدينة واصل إن شاء الله تعالى لمباشرة الهناء، وقرة العين بمشاهدة الآلاء؛ والله عز وجل يديم سعادة سيدي ويطيل بقاءه، ويرادف قبلة وآلاءه، بفضله انتهى.
102 - وقال: ومما خاطبت به المذكور وأنا ساكن بسلا:
أيا عمر العدل الذي مطل المدى ... يوعد الهدى حتى وفيت بدينه
ويا صارم الملك الذي يستعده ... لدفع عداه أولمجلس زينه
هنت عينك اليقظى من الله عصمة ... كفت وجه دين الله موقع شينه
وهل أنت إلا الملك والدين والدنا ... ولا يلبس الحق المبين بمينه
إذا نال منك العين ضر فإنما ... أصيب به الإسلام في عين عينه(6/412)
الوزير الذي هوللدين الوزر الواقي، والعلم السامي المراقب والمراقي، والحلي المقلد فوق الترائب والتراقي، والكنز المؤمل والذخر الباقي، حجب الله تعالى العيون عن عين كمالك، وصير الفلك الدوار مطية آمالك، وجعل اتفاق اليمن مقروناً بيمينك، وانتظام الشمل معقوداً بشمالك.
" اعلم أن مطلق لسان الثناء على مجدك، والمستضيء على البعد بنور سعدك، ومعقود الرجاء بعروة وعدك، لا يزال في كل ساعة يسحب الفلك فيه ذيلها، ويعاقب يومها وليلها، مصغي الأذن إلى نبإ يهدي عنك لله تعالى دفاعاً، أويمد في ميدان سعدك باعاً، وأنت اليوم النصير على الدهر الظلوم، وآسي الكلوم، وذوالمقام المعلوم، فتعرفت أن بعض ما يتلاعب به بين أيدي السادة الخدام، وتتفكه به المثاقفة والأفدام (1) ، من كرة مرسلة الشهاب، أونارنجة ظهر عليها من اسمها صبغة الالتهاب، حومت حول عينك لا كدر صفاؤها، ولا هدم فوق مهاد الدعة والأمن إغفاؤها، فرعت حول حماها، ورامت أن تصيب فخيب الله تعالى مرماها:
نرى السوء مما نتقي فنها به ... وما لا نرى مما يقي الله أكثر (2) " فقلت: مكروه أخطأ سهمه، وتنبيه من الله تعالى لمن نبل عقله وفهمه، ودفاع قام دليله، وسعد أشرق جليله، وأيام أعربت عن إقبالها، وعصمة غطت بسربالها، وجوارح جعل الله تعالى الملائكة تحرسها، فلا تغتالها الحوادث ولا تفترسها، والفطن يشعر بالشيء وإن جهل أسبابه، والصوفي يسمع من الكون جوابه، فبادرت أهنئه تهنئة من يرى تلك الجوارح الكريمة أعز عليه من جوارحه، ويرسل طير الشكر له تعالى في مساقط اللطف الخفي ومسارحه،
__________
(1) المثاقفة: أهل الثقافة أي الذين يصارعون الحيوانات المتوحشة؛ والأفدام: الحمقى.
(2) مر هذا البيت وقصته بين الأمير عبد الرحمن ووزيره الزجالي في المجلد 3 ص: 539، 613.(6/413)
وسألته سبحانه أن يجعلك عن النوائب حجراً (1) لا يقرب، وربعك ربعاً لا يخرب، ما سبح الحوت ودب العقرب، ثم إنني شفعت الهناء ووترته، وأظهرت السرور فما سترته، بما سناه لتدبيرك من مسالمة تكذب الإرجاف، وتغني عن الإيجاف، وتخصب للإبل العجاف، وتريح من كيد، وتفرغ إلى مجادلة عمرووزيد، وكأني بسعدك قد سدل الأمان، وعدل الزمان، وأصلح الفاسد، ونفق الكاسد، وقهر الروع المستاسد، وسر الحبيب وساء الحاسد، والسلام انتهى.
103 - ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى ما خاطب به الرئيس عامر ابن محمد بن علي الهنتاني معزياً له عن أخيه عبد العزيز:
أبا ثابت كن في الشدائد ثابتاً ... أعيذك أن يلفى حسودك شامتا
عزاؤك عن عبد العزيز هو الذي ... يليق بعز منك أعجز ناعتا
فدوحتك الغناء طالت ذوائباً ... وسرحتك الشماء طابت منابتا
لقد هد أركان الوجود مصابه ... وأنطق منه الشجو من كان صامتا
فمن نفس حر أوثق الحزن كظمها ... ومن نفس بالوجد أصبح خافتا
هو الموت للإنسان فصل لحده ... وكيف ترجي أن تصاحب مائتا
وللصبر أولى أن يكون رجوعنا ... إذا لم نكن بالحزن نرجع فائتا اتصل بي أيها الهمام، وبدر المجد الذي لا يفارقه التمام، ما جنته على عليائك الأيام، واقتنصه محلق الردى بعد أن طال الحيام، وما استأثر به الجمام، فلم يغن الدفاع ولا نفع الذمام، من وفاة صنوك الكريم الصفات، وهلاك وسطى الأسلاك، وبدر الأحلاك، ومجير الأملاك، وذهاب السمح الوهاب، وأنا لديغ صل الفراق، الذي لا يفيق بألف راق، وجريح سهم
__________
(1) الحجر: الممنوع المحمي.(6/414)
البين، ومجاري العيون الجارية بدمع العين، لفقد أنيس سهل علي مضض النكبة، ونحى ليث الخطب عن فريستي بعد صدق الوثبة، وآنسني في الاغتراب، وصحبني إلى منقطع التراب، وكفل أصاغري خير الكفالة، وعاملني من حسن العشرة بما سجل عقد الوكالة، انتزعه الدهر من يدي حيث لا أهل ولا وطن، والاغتراب قد ألقى بعطن، وذات اليد يعلم حالها من يعلم ما ظهر وما بطن، ورأيت من تطارح الأصاغر على شلوالغريب، النازح عن النسيب والقريب، ما حملني على أ، جعلت البيت له ضريحاً، ومدفناً صريحاً، لاخدع من يرى أنه لم يزل مقيماً لديه، وأن ظل شفقته منسحب عليه، فأعيا مصابي عند ذلك القرح، وأعظم الظمأ البرح، ونكأ القرح القرح، إذ كان ركناً قد بنته لي يد معرفتك، ومتصفاً في البر بي والرعي لصاغيتي بكريم صفتك، فوالهفا عليه من حسام، وعز سام، وأياد جسام، وشهرة بين بني حام وسام، أي جمال خلق، ووجه للقاصد طلق، وشيم تطمح للمعالي بحق، وأي عضد لك يا سيدي الأعلى لا يهن إذا سطا، ولا يقهقر إذا خطا، يوجب لك على تحليه بالشيبة، ما توجبه البنوة من الهيبة، ويرد ضيفك آمناً من الخيبة، ويسد ثغرك عند الغيبة، ذهبت إلى الجزع فرأيت مصابه أكبر، ودعوت بالصبر فولى وأدبر، واستنجدت الدمع فنضب، واستصرخت الرجاء فأنكر ما روى واقتضب، وبأي حزن يلقى عبد العزيز وقد جل فقده، اويطفأ لاعجه وقد عظم وقده، اللهم لوبكى بندى أياديه، أوبغمائم غواديه، أوبعباب واديه، وهي الأيام أي شامخ لم تهده، أوجديد لم تبله وإن طالت المدة فرقت بين التيجان والمفارق، والخدود والنمارق، والطلى والعقود، والكأس وابنة العنقود، فما التعلل بالفان، وإنما هي إغفاءة أجفان، والتشبث بالحبائل، وغنما هوظل زائل والصبر على المصائب، ووقوع سهمها الصائب، أولى ما اعتمد طلاباً، ورجع إليه طوعاً أوغلاباً، فأنا يا سيدي أقيم رسم التعزية، وإن بؤت بمضاعف المرزية، ولا عتب على القدر، في الورد من الأمر والصدر، ولولا أن هذا الواقع مما لا(6/415)
يجدي فيه الخلصان، ولا يغني فيه اليراع ولا الخرصان، لأبلى جهده من أقرضتموه معروفاً، وكان بالتشيع إلى تلك الهضبة معروفاً، لكنها سوق لا ينفق فيها إلا سلعة التسليم، للحكيم العليم، وطي الجوانح على المضض الأليم، ولعمري لقد خلدت لهذا الفقيد وإن طمس الحمام محاسنه الوضاحة، لما كبس منه الساحة، صحفاً منشرة، وثغوراً بالحمد موشرة، يفخر بها بنوه، ويستكثر بها مكتسبوالحمد ومقتنوه، وأنتم عماد البازة، وعلم المفازة، وقطب المدار، وعامر الدار، وأسد الأجمة، وبطل الكتيبة الملجمة، وكافل البيت، والستر على الحي والميت، ومثلك لا يهدي إلى نهج لاحب، ولا ترشده نار الحباحب، ولا ينبه على سنن نبي كريم أوصاحب، قدرك أعلى، وفضلك أجلى، وأنت صدر الزمان بلا مدافع، وخير معل لأعلام أفضل ورافع، وأنا وإن أخرت فرض بيعتك لما خصتني من المصاب، ونالني من الأوصاب، ونزل بي من جور الزمان الغصاب، ممن يقبل عذره الكرم، ويسعه الحرم المحترم، والله سبحانه الكفيل لسيدي وعمادي بقاء يكفل به الأبناء وأبناء الأبناء، ويعلي لقومه رتب العز سامية البناء، حتى لا يوحش مكان فقيد مع وجوده، ولا يحس بعض زمان مع جوده، ويقر عينه في ولده وولد ولده، ويجعل أيدي مناويه تحت يده، ولاسلام.
104 - وخاطبه لسان الدين أيضاً بما نصه:
سيدي الذي هورجل المغرب كله، والمجمع على طهارة بيته وزكاء أصله، علم أهل المجد والدين، وبقية كبار الموحدين.
بعد السلام الذي يجب لتلك اجلالة الراسخة القواعد، السامية المصاعد، والدعاء له أن يفتح لك في مضيقات هذه الأحوال مسالك التوفيق، ويمسكك من عصمته بالسبب الوثيق، أعرفك أن جبلك اليوم وقد عظم الرجفان، وفاض التنور وطغى الطوفان، تؤمل النفوس الغرقى جودي جوده، وتغتبط غاية(6/416)
الاغتباط بوجوده. ووالله لولا العلائق التي يجب لها الالتزام، ما وقع على غير قصدك الاعتزام، والله تعالى يمدك بإعانته على تحمل القصاد، ويبقي محلك رفيع العماد كثير الرماد، ويجعل أبا يحيى خلفاً منك بعد عمر النهاية البعيد الآماد، ويبقي كلمة التوحيد فيكم إلى يوم التناد. وحامله القائد الكذا معروف النباهة والجهاد، ومحله لا ينكر في الفؤاد، لما اشتبهت السبل، والتبس القول والعمل، لم يجد أنجى من الركون إلى جنابك، والتمسك بأسبابك، والانتظام في جملة خواصك وأحبابك، حتى ينبلج الصبح، ويظهر النجح، ويعظم المنح، ويكون بعد هجرته الفتح، ومثلكم من قصد وأمل، وأنضي إليه المطي وأعمل، وأما الذي عندي من القيام بحق تلك الذات الشريفة، والقول بمناقبها المنيفة، فهوشيء لا تفي به العبارة، ولا تؤديه الألفاظ المستعارة، والله تعالى المسؤول في صلة عوسيدي ودوام سعده، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى.
105 - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: ومما خاطبت به شيخ الدولة - وقد استقل من رمض - ما نصه:
لا أعدم الله دار الملك منك سناً ... يجلي به الحالكان الظلم والظلم
وأنشدتك الليالي وهي صادقة ... " المجد عوفي إذ عوفيت والكرم " (1) من علم - أعلى الله تعالى قدرك - أن المجد جواد حلاك شياته، لا بل الملك بدر أنت آياته، لا بل الإسلام جسم أنت حياته، دعا منك بالبقاء لمجد يروق بك جبينه، وملك تنيره وتزينه، ولدين تعامل الله تعالى بإعزازه وتدينه، فلقد ألمت نفوس المؤمنين لآلامك، ووجم الإسلام لتوقع إسلامك، وخفقت الأعلام لتأخر إطرافك بمصالح الملك وإعلامك، فإنما أنامل الدين والدنيا متشبثة بأذيال أيامك، ورحال الأمل مخيمة بين حلالك وخيامك،
__________
(1) صدر بيت للمتنبي، وعجزه " وزال عنك إلى أعدائك الألم ".(6/417)
فإذا قابلت الأشراف نعم الله تعالى بشكر، ورمت الغفلة عن ذلك بنكر، فاشكره جل وعلا بملء لسانك وجنانك، واجر في ميدان حمده مطلقاً من عنانك، على ما طوقك من استرقاق حر، وإفاضة أياد غر، واقتناء عسجد من الحمد ودر، وإتاحة نفع ودفع ضر، وإدالة حلومن مر، وكن على ثقة من مدافعة الله تعالى عن حماك، وعز تبلغ ذوائبه السماك، ورزق يجره فأل منتماك، ودونك مجلس الإمامة فقد تدبيره بزمامك، وحظوة الخلافة فاستحقها بوسائلك القديمة وذمامك، ومحاسن الدولة فاجلها على منصة إمامك، ورسوم البر فأغر بها عين اهتمامك، وذروة المنبر فأمض بها ظبة حسامك، وأجن الآملين زهر الأيادي البيض من كمائم أكمامك، فيا عز دولة بك - يا جملة الكمال - قد استظهرت، وأذلت المعاند وقهرت، وبإعمال آرائك اشتهرت، فراقت فضائلها وبهرت: جوالة كما شق الجوجارح، ولطافة كما طارح نم التأليف مطارح، وفكر في الغيب سارح، ودين لغوامض الحلم والعدل شارح، ومكارم محت آثار الكرماء ونسخت، وحلت عقود أخبار الأجواد في الأعصار وفسخت، فلم تدع لفضل الفضل ذكراً، وتركت معروف يحيى بن خالد نكراً، لا بل لم يبق لكعب، من علوكعب، وأنست دعوة حاتم، بأي ماح وخاتم، قصاره شيء حوار، ومنع حوار، وعقر ناب، عند اقشعرار جناب، وأين يقع من كبر قدر ترفع عن الكبر، وجود خضب الأيدي بحناء التبر، وعز استخدم الأسل الطوال بيراع أقل من الشيبر، وحقن الدماء المراقة بإراقة نجيع الحبر، وفك العقال، ورفع النوب الثقال، وراع الذرة والمثقال، وعثر الزمان فأقال، ووجد لسان الصدق فقال.
أقسم ببارئ النسم، وهوأبر القسم، ما فازت بمثلك الدول، ولا ظفرت بمثلك الملوك الأواخر والأول، ولوتقدمت لم يضرب إلا بك المثل، ولم يقع إلا على سنتك وكتابك والإجماع المنعقد على آدابك العمل، والمملوك لما شام مالكه برق العافية، وتدرع بالألطاف الخافية، كتب مبشراً بالهناء، ومذيعاً(6/418)
ما يجب من الحمد والثناء، وشاكراً ما له بوجوده من الاعتناء، فقد بادر ركن الدين بالبناء، وأبقى الستر والمنة على الآباء والأبناء، فنسأل الله تعالى أن يمتع منك بأثير الملوك، ووسطى السلوك، وسلالة أرباب المقامات والسلوك، ويبقيك وحصة الصحة وافرة، وغرة العزة القعساء سافرة، وغادة عادة السعادة غير نافرة، وكتيبة الأمل في مقامك السعيد غانمة ظافرة، ما زحفت للصباح شهب المواكب، وتفتحت بشط نهر المجرة أزهار الكواكب، والسلام انتهى.
106 - ومن ذلك ما خاطب به سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق، جواباً عن كتابه، وقد استقر خطيب السلطان بتونس:
ولما أن نأت منكم ديار ... وحال البعد بينكم وبيني
بعثت لكم سواداً في بياض ... لأنظركم بشيء مثل عيني بم أفاتحك يا سيدي، وأجل عددي كيف أهدي سلاماً، فلا أحذر ملاماً أوأنتخب لك كلاماً، فلا أجد لتبعة التقصير في حقك الكبير إيلاماً إن قلت: تحية كسرى في الثناء وتبع، فكلمة في مرتع العجمة تربع، ولها المصيف فيه والمربع، والجميم والمنبع، فتروى متى شاءت وتشبع، وإن قلت: إذا العارض خطر، ومهما همى أو قطر، سلام الله يا مطر (1) ، فهوفي الشريعة بطر، وركبة خطر، ولا يرعى به وطن ولا يقضي به وطر، وإنما العرق الأوشج، ولا يستوي البان والبنفسج، والغوسج والعرفج:
سلام وتسليم وروح ورحمة ... عليك وممدود من الظل سجسج (2)
__________
(1) من قول الشاعر:
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام (2) البيت لابن الرومي من قصيدته في رثاء يحيى بن عمر العلوي ومطلعها:
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج ... طريقان شتى مستقيم وأعوج والسجسج: البرود.(6/419)
وما كان فضلك ليمنعني الكفران أن أشكره، ولا لينسيني الشيطان أن أذكره، فاتخذ في البحر سبباً (1) ، أوأسلك غير الوفاء مذهباً، تأبى ذلك - والمنة لله تعالى - طباع، لها في مجال الرعي باع، وتحقيق وإشباع، وسوائم من الإنصاف، ترعى في رياض الاعتراف، فلا يطرقها ارتياع، ولا تخيفها سباع، وكيف نجحد تلك الحقوق وهي شمس ظهيرة، وأذان عقيرة (2) جهيرة، فوق مئذنة شهيرة، آدت الاكتاد لها ديون تستغرق الذمم، وتسترق حتى الذمم، فإن قضيت في الحياة فهي الخطة التي نرتضيها، ولا نقنع من عامل الدهر المساعد إلا أن ينفذ مراسمها ويمضيها، وإن قطع الأجل فالغني الحميد - من خزائنه التي لا تبيد - يقضيها، ويرضي من يقتضيها. وحيا الله تعالى أيها العلم السامي الجلال، زمناً بمعرفتك المبرة على الآمال، بر وأتحف، وإن أساء بفراقك وأجحف، وأعرى بعدما ألحف، وأظفر بالتيمة المذخورة للشدائد والمزاين (3) ، ثم أوحش منها أصونة هذه الخزاين، فآب حنين الأمل بخفيه، وأصبح المغرب غريباً يقلب كفيه، ونستغفر الله تعالى من هذه الغفلات، ونستهديه دليلاً في مثل هذه الفلوات، وأي ذنب في الفراق للزمن، أولغراب الدمن، أوللرواحل المدلجة ما بين الشام إلى اليمن، وما منها إلاعبد مقهور، وفي رمة القدر مبهور، عقد والحمد لله مشهور، وحجة لها على النفس اللوامة ظهور، جعلنا الله تعالى ممن ذكر المسبب في الأسباب، وتذكر " وما يذكر إلا أولوالألباب " البقرة:269، آل عمران:7 قبل غلق الرهن وسد الباب، وبالجملة فالفراق ذاتي، ووعده مأتي، فإن لم يكن فكأن قد، ما أقرب اليوم من الغد، والمرء في الوجود غريب، وكل آت قريب، وما من مقام إلا لزيال، من غير احتيال، والأعمار مراحل والأيام أميال:
__________
(1) ناظر إلى الآية القرآنية: " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر ... ".
(2) العقيرة: الصوت.
(3) المزاين: يريد أن الدرة تتخذ لأمور الزينة.(6/420)
نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك في منامك من خيال (1) جعل الله تعالى الأدب مع الحق شانا، وأبعد عنا الفراق الذي شاننا، وإني لأسر لسيدي بأن رعى اله تعالى صالح سلفه، وتداركه بالتلافي في تلفه، وخلص سعادته من كلفه، وأحله من الأمن في كنفه، وعلى قدرها تصاب العلياء، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء.
" هذا والخير والشر في هذه الدار، المؤسسة على الأكدار، ظلان مضمحلان، فقد ارتفع، ما ضر أونفع، وفارق المكان، فكأنه ما كان، ومن كلمات الملوك، البعيدة عن السلوك، إلا أن يشاء ملك الملوك (2) :
خذ من زمانك ما تيسر ... وارتك بجهدك ما تعسر
ولرب مجمل حالة ... ترضى به ما لم يفسر
والدهر ليس بدائم ... لا بد أن سيسوء إن سر
واكتم حديثك جاهداً ... شمت المحدث أوتحسر
والناس آنية الزجا ... ج إذا عثرت به تكسر
لا تعدم التقوى فمن ... عدم التفقى في الناس أعسر
وإذا امرؤ خسر الإل ... هـ فليس خلق منه أخسر وإن لله تعالى في رعيك لسراً، ولطفاً مستمراً مستقراً، إذ ألقاك اليم إلى الساحل، فأخذ بيدك من ورطة الواحل، وحرك منك عزيمة الراحل، إلى الملك الحلاحل، فأدلك من إبراهيمك سمياً، وعرفك بعد الولي وسمياً، ونقلك من عناية إلى عناية، وهوالذي يقول وقوله الحق {ما ننسخ من آية - الآية} (البقرة: 106) .
__________
(1) من قصيدة المتنبي في رثاء أم سيف الدولة.
(2) الأبيات في مشاهدات لسان الدين: 115.(6/421)
" وقد وصل كتاب سيدي يحمد - والحمد لله - العواقب، ويصف المراقي التي حلها والمراقب، وينشر المفاخر الحفصية والمناقب، ويذكر ما هيأه الله تعالى لديها من إقبال، ورخاء بال، خصيصي اشتمال، ونشوة آمال، وأنه اغتبط وارتبط، وألقى العصا بعدما خبط، ومثل تلك الخلافة العلية من تزن الذوات المخصوصة من الله تعالى بتشريف الأدوات بميزان تمييزها، وتفرق بين شبه المعادن وإبريزها، و " شبه الشيء " مثل معروف (1) ، ولقد أخطأ من قال: الناس ظروف، إنما هم شجرات ريع في بقعة ماحلة، وإبل مائة لا تجد فيها راحلة (2) ، وما هوإلا اتفاق، ونجح للمسلك وإخفاق، وقلما كذب إجماع وإصفاق، والجليس الصالح لرب سياسة أمل مطلوب، وحظ إليه مجلوب، وإن سئل أطرف، وعمر الوقت ببضاعة أشرف، وسرق الطباع، ومد في الحسنات الباع، وسلى في الخطوب، وأضحك في اليوم القطوب، وهدى إلى أقوم الطرق، وأعان على نوائب الحق، وزرع له المودة في قلوب الخلق، زاد الله تعالى سيدي لديها قرباً أثيراً، وجعل فيه للجميع خيراً كثيراً، بفضله وكرمه.
ولعلمي بأنه - أبقاه الله تعالى - يقبل نصحي، ولا يرتاب في صدق صبحي، أغبطه بمثواه، وانشده ما حضر من البديهة في مسارة هداه ونجواه:
بمقام إبراهيم عذ واصرف به ... فكراً تؤرق عن بواعث تنبري
فجواره حرم وأنت حمامة ... ورقاء والأغصان هود المنبر
فلقد أمنت من الزمان وريبه ... وهو المروع للمسيء وللبري " وإن تشوف سيدي فلعمر وليه لوكان المطوب دنيا لوجب وقوع الاجتزاء،
__________
(1) من قول المتنبي:
وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام (2) من حديث للرسول (ص) : " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ".(6/422)
ولاغتبط بما تحصل في هذه الجزور، المبيعة في حانوت الزور، من السهام الوافرة الأجزاء، فالسلطان - رعاه الله تعالى - يوجب ما فوق مزية التعليم، والولد - هداهم الله تعالى - قد أخذوا بحظ قل أن ينالوه بغير هذا الإقليم، والخاصة والعامة تعامل بحسب ما بلته من نصح سليم، وترك لما بالأيدي وتسليم، وتدبير عاد على عدوها بالعذاب الأليم، إلا من أبدى السلامة وهومن إبطان الحسد بحال السليم، ولا ينكر ذلك في الحديث ولا في القديم، ولكن النفس منصرفة عن هذا الغرض، نافضة يدها من العرض، قد فوتت الحاصل، ووصلت في الله تعالى القاطع وقطعت الواصل، وصدقت لما نصح الفود الناصل، وتأهبت للقاء الحمام الواصل، وقلت:
انظر خضاب الشباب قد نصلا ... وزائر الأنس بعده انفصلا
ومطلبي والذي كلفت به ... حاولت تحصيله فما حصلا
لا أمل مسعف ولا عمل ... ونحن في ذا والموت قد وصلا والوقت إلى الإمداد منكم بالدعاء في الأصائل والأسحار، إلى مقيل العثار، شديد الافتقار، والله عز وجل يصل لسيدي رعي جوانبه، ويتولى تيسير آماله من فضله العميم ومآرب، وأقرأ عليه من التحيات، المحملة من فوق رحال الأريحيات، أزكاها، ما أوجع البرق الغمائم فأبكاها، وحسد الروض جمال النجوم الزواهر فقاسها بمباسم الأزهار وحكاها، واضطبن (1) هرم الليل عند الميل عصا الجوزاء وتوكاها، ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى.
107 - ومما خاطب به لسان الدين - رحمه الله تعالى - ابن مرزوق المذكور قوله:
__________
(1) اضطبن العصا: وضعها تحت ضبنه ليتوكأ عليها، والضبن: ما بين اخاصرة ورأس الورك.(6/423)
سيدي، وعمادي، كشف قناع النصيحة من وظائف صديق، أوخديم لصيق، وأنا بكلتا الجهتين حقيق، ويتلجلج في صدري كلام أنا إلى نفثه ذواحتياج، ولوفي سبيل هياج، وخرق سياج، وخوض دياج، وقد أصبحت سعادتي عن أصل سعادتك فرعاً، فوجب النصح طبعاً وشرعاً، فليعلم سيدي أن الجاه ورطة، والاستغراق في تيار الدول غلطة، وبمقدار العلو - إلا أن يقي الله تعالى - تكون السقطة، وأنه - والله تعالى يعصمه من الحوادث، ويقيه من الخطوب الكوارث - وإن تبعه الجم فهومفرد، وبسهام الحسدة مقصد، وأن الذي يقبل يده، يضمر حسده، وما من يوم إلا والعلل تستشري، والحيل تريش وتبري، وسموم المكايد تسري، والعين الساهرة تطرق العين النائمة من حيث تدري ولا تدري، وهذا الباب الكريم مخصوص بالزيادة والبركة، وخصوصاً في مثل هذه الحركة، فثم ظواهر تخالف السرائر، وحيل تصيب في الجوالطائر، وما عسى أن يتحفظ المحسود، وقد عوت الكلاب وزأرت الأسود، وإن ظن سيدي أن الخطة الدينية تذب عن نفسها، أوتنفع مع غير جنسها، فذلك قياس غير صحيح، وهبوب الريح، وإنما هي درجة فوق الوزارة والحجابة، ودهر يدعى فيبادر بالإجابة، وجاه يجر على القبيل الأذيال، ويفيد العز والمال، وبحر هال، وصدور تحمل الجبال، وإن قطع بالأمان، من جهة السلطان، لم يؤمن أن يقع فيه، والله سبحانه يقيه، ويمتع به ويبقيه، ما البشر بصدده، والحي يجري إلى أمده، فيستظهر الغير بقبيل، ويجري من التغلب على سبيل، ويبقى سيدي - والله تعالى يعصمه - طائراً بلا جناح، ومحارباً دون سلاح، ينادي من مكان يثق بوده في طلل، ويقرع سن النادم والأمر جلل، ومثله بين غير صنفه - ممن لا يتصف بظرف، ولا يلتفت إلى الإنسانية بطرف، ولا يعبد الله تعالى ولوعلى حرف - محمول عليه من حيث الصنفية، معتمد بالعداوة الخفية، وإن ظن غير هذا فهومخدوع مسحور، ومفتون مغرور، وبالفكر في الخلاص تفاضلت النفوس، واستدفع البوس، وله وجوه كلها متعذر(6/424)
الحصول، دونه بيض النصول، إلا ما كان من الغرض الذي بان فيه بعد الجد الفتور، وعدل عنه وقد أخذ الدستور، وتيسرت الأمور، وتقررت الإيمان والنذور، فإنه عرض قريب وسفر قاصد (1) ، ومسعى لا ينفق فيه سيدي من ماتله درهم واحد، ووطن لحركته راصد، لا يمنع عليه أهله، ولا يستصعب سهله، وأميره جبره الله تعالى يتطارح في تعيينكم لاقتضائه، وإحكام آرائه، وتأمين خائفه، واستقدام أصنافه وطوائفه، وتتحركون حركة العز والتنويه، والقدر النبيه، لا يعوزكم ممن وراءكم مطلب، ولا يلفى عن مخالفتكم مذهب، ولا يكدر لكم مشرب.
وتمر أيام وشهور، وتظهر بطون للدهر وظهور، وتفتح أبواب، وتسبب أسباب، من رجوع يتأتى بعد السكون والفتور، وقد سكنت الخواطر وتنوعت الأمور، أومقام تمهد به البلاد، ويعمل في ترتيب الصلة الحسنة الاجتهاد، وتستغرق في هذا الغرض الآماد، ويتأتى أن حدث وتراكم حادث الاستقلال والاستبداد، تتهنأ فيه الأعمار، ويكون لمن ينتقل به على الشرق والغرب الخيار، أوالتحكم في ذخيرة سما منها المقدار، وذهل عند مشاهدتها الاعتبار، وخزانة الكتب بجملتها وفيها الأمهات الكبار، قد تجافت عنها الحاجة وعدم إليها الاضطرار، والربع الذي يسوغ بالشرع والعقار، فهذا كله حاصل، وثم ضامن لا يتهم وكافل، وعهود صبغها غير ناصل.
وبالجملة فالوطن لأغراض الملك جامع، ولمقاصده من المقام أوالانتقال مطيع وسامع، وإن توقع إثارة فتنة، أوارتكاب إحنة، فالأمر أقرب، وحاله المتيسر أغرب، وهذه الحجة في تلمسان غير معتبرة، وأجوبتها مقررة، وقدوم رسول الطاغية وإعانته تحصل في الغالب، على هذه المطالب، وبالجملة فالدنيا
__________
(1) من الآية الكريمة (التوبة: 42) " لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ".(6/425)
قد اختلت، والأقدام قد زلت، والأموال قد قلت، وشبيبة الدهر ولت، وذلك القطر على علاته أحكم لمن يروم الجاه وامنع، وأجدى بكل اعتبار وأنفع، وقد حضرت لاستخلاصكم إياه الآلة التي لا تتأتى في كل زمان، وتهيأ إمكان أي إمكان، واقتضيت أيمان، وعرضت سلع تقل لها أثمان، وارتهنت الوفاء، ومروءات وأديان، وتحقق بذلك القطر الفساد الذي اشتهر به مأموره وأموره وأميره، والمنكر الذي يجب على كل مسلم تغييره، فإن شئت شرعاً فالحكم ظاهر، أوطبعاً فالطبع حاضر، وما ثم عاذل بل عاذر، والمؤونة التي تلزم أقل من أن تكون ثمن بعض الحصون، فضلاً عن الشجرة ذات الغصون، وما يستهلك في هذا الغرض شيء له خطر، ولا يستنقذ من الصحيفة سطر، واليد محكمة بكل أوشطر.
وما يخص المملوك من هذا الأمر إلا استنقاذ نشب، واستخلاص مؤمل بين موروث ومكتسب، وبعيد أ، لا ينعر له في زمن من الأزمان، فلا بد في كل وقت من أعيان، ومروءات وإحسان وأديان، والله سبحانه كل يوم هوفي شان، وأما خدمة دوله فهي علي حرام، لا ينجح لي فيها أن أعتمدها مرام، وكأني بالمشرق لاحق، ولأنفاسه الذكية ناشق، فما هي إلا أطماع، سرابها لماع، فإذا انقطعت، انفسحت الدنيا واتسعت، ومعاش في غمار، أوعكوف في كسر دار، لمداومة استقالة واستغفار، والله ما توهم أن من بتلك البلاد يستنسر بغاثه عليكم، أويحتقر ما لديكم، فقد ظهر الكائن، وتطابق المخبر والمعاين، فسبحان من يقوي الضعيف ويهين المخيف، ويجري يد المشروف والشريف، والهمم بيد الله تعالى ينجدها ويخذلها، والأرض في قبضته يرعاها ويهملها.
هذا بث لا يسع إفشاؤه، وسر إن لم يطوسقط به على السرحان شاؤه (1) ،
__________
(1) أصل المثل " سقط العشاء به على سرحان "، ولعل القراءة الصحيحة: " عشاؤه ".(6/426)
وفيه ما ينكره الآمر، وتتعلق به الظنون وتعمل الخواطر، فتدبروه واعتبروه، وبعقلكم فاسبروه، ثم غطوه بالإحراق واستروه، والله تعالى يرشدكم للتي هي أسد، ويحملكم على ما فيه لكم العز السرمد، والفخر الذي لا ينفذ والسلام " (1) انتهى.
108 - وقال رحمه الله تعالى: ومما صدر عني ما أجبت به عن كتاب بعث به إلي الفقيه الكاتب عن سلطان تلمسان أبي عبد الله محمد بن يوسف القيسي الثغري:
" حيا تلمسان الحيا فربوعها ... صدف يجود بدره المكنون
ما شئت من فضل عميم إن سقى ... أروى ومن ليس بالمنون (2)
أو شئت من دين إذا قدح الهدى ... أورى ودنيا لم تكن بالدون
ورد النسيم لها بنشر حديقة ... قد أزهرت أفنانها بفنون
وإذا حبيبة أم يحيى أنجبت ... فلها الشفوف على عيون العين ما هذا النشر، والصف والحشر، واللف والنشر، والفجر والليالي العشر، شذاً كما تنفست دارين، وسطور رقم حللها التزيين، وبيان قام على إبداعه البرهان المبين، ونقس، وشي به طرس، فجاء كأنه عيون العين، لا بل ما هذه الكتائب الكتيبة التي أطلعت علينا الأعنة، وأشرعت إلينا الأسنة، وراعت الإنس والجنة، فأقسم بالرحمن، لوأنها رفعت شعار الأمان، وحييت بتحية الإيمان، لراعت السرب، وعاقت الذود أن يرد الشرب، أظنها مدد الجهاد قدم، وشارد استعمل في سبيل الله واستخدم، والمتأخر على ما فاته ندم، والعزم وجد بعدما عدم، نستغفر الله، إنما هي رقاع الرفاع (3) ،
__________
(1) ورى لسان الدين في هذه الرسالة عن أمور وحاطها بالغموض ولذا طلب أن تحرق الرسالة.
(2) المن: الفضل؛ والممنون: المقطوع.
(3) ق: رقاقع رقاع؛ والرفاع: رفع الحب بعد الحصاد.(6/427)
وصلات صلاة ليس فيها سبق ولا إرباع (1) ، وبقاع لها بطل الطباع الكريمة انتفاع، وألحان بيان يعضدها إيقاع، ودر منسوق، ورطب لنخلها بسوق، ولله در القائل: الملك سوق (2) ، ومن نصير الشخ على كتيبة تعقبها كتيبة، واقتضاء وجبيبة نم ذي غلة غير نجيبة، بينا هويكابد من مراجعة الحي من حضر موت الموت، ولا يكاد يرجع الصوت، إذ صبحته قيس وهي التي شذت عن القياس، وأجحمت عن مبارزتها أسود الأخياس (3) ، فلولا امتثال أمر، وصبر على جمر، لأعاد ما حكي في مبارزة الوصي عن عمرو (4) ، فتحرج من الخطل، وبين عذر المكره عن مناجزة البطل، ألم يدر قائد رعيلها، وزائر غيلها، أني أمت بذمة من غميده لا تخفر، وأن ذنب إضافتي له لا يغفر، وحقه الحق الذي لا يجحد ولا يكفر:
لما رأت راية القيسي زاحفة ... إلي ريعت وقالت لي وما العمل
قلت الوغى ليس من رأيي ولا عملي ... لا ناقة لي في هذا ولا حمل
قد كان ذاك ورنات الصهيل ضحى ... تهز عطفي كأني شارب ثمل
والآن قد صوح المرعى وقوضت ال ... خيمات والركب بعد اللبث محتمل
قالت ألست شهاب الدين تضرمها ... حاشا العلا أن يقال: استنوق الجمل
وإن أحسن من هذا وذا وزر ... بمثله في الدواهي يبلغ الأمل
هو الحمى لأبي حمواستجره ففي ... هـ الأمن منسدل والفضل مكتمل
والله لوأهمل الراعي النقاد به ... ما خاف من أسد خفان به همل (5)
__________
(1) الإرباع: الإسراع. وفي ق: إرقاع.
(2) هو من المثل: " الملك يحمل إليها ما نفق فيها ".
(3) ق: الأجناس.
(4) الوصي: علي بن أبي طالب، ومبارزته لعمرو بن العاص - فيما روي - تدل على أن عمراً لم يكن من أرباب المبارزة وإنما من أهل الحيلة والدهاء.
(5) النقاد: الغنم؛ وخفان: اسم موضع.(6/428)
تكون من قوم موسى إن قضوا عدلوا ... وإن تقاعد دهر جائر حملوا
هم الجبال الرواسي كلما حلموا ... هم البحار الطوامي كلما حملوا
فقلت: كان لك الرحمن بعدي ما ... سواه معتمد والرأي معتمل
فها أنا تحت ظل منه يلحفني ... والشمل مني بستر العز يشتمل
فقل لقيس لقد خاب القياس فلا ... تذكروا المصاع وتحت الليل فاحتملوا
دامت له ديم النعمى مساجلة ... بمناه، تنهمل اليمنى فتنهمل
وآمنت شمس علياه الأفول إلى ... طي الوجود فلا شمس ولا حمل ولوخوى - والعوذ بالله - نجم هذا المتات، ولم يتصف السيب - وحاشاه - بالاتصال ولا بالانبتات (1) ، فمرعى العدل مكفول، وسبب الرفق موصول، وإن اشتجرت نصول، والهرم تأبى الأبطال التنزل إلى نزاله، والناسك التائب يدين ضرب الغارات باعتزاله، إلا من أعرق في مذهب الخارجي الأخرق، نافع بن الأزرق، وحسبي، وقد ساء كسبي، أن أترك الخطر لراكبه وأخلي الطريق لمن يبني المنار به، ونسير بسير أمثالي من الضعفاء، ونكف فهوزمان الانكفاء، ونسلم مخطولة هذا الفن إلى الأكفاء، ونقول: بالبنين والرفاء، فقد ذهب المذهب، وتبين المذهب، وشاخ البازي الأشهب، وعتاد العمر ينهب، ومرهب الفوت من فوق الفود يرهب، اللهم ألهم هذه الأنفس رشدها، وأذكرها السكرات وما بعدها.
إيه أخي والفضل رصفك ونعتك، والزيف يبهرجه بحتك، وسهام اليراعة انفرد بها بريك ونحتك، وصلتني رسالتك البرة، بل غمامتك الثرة، وحيتني ثغور فضلك المفترة، فعظمت بورودها المسرة، جددت العهد بمحبوب لقائك، وأنهلت ظامي الاستطلاع في سقائك، واقتضت تجديد الدعاء ببقائك، إلا أنها ربما ذهلت عند وداعك، وأبهر عقلها نور إبداعك،
__________
(1) ق: ولو جرى ... المتاب.... بالانتياب.(6/429)
فلم تلقن الوصية، وسلكت المسالك القصية، وأبعدت من التطوف، وجاءت تبتغي من أسرار التصوف، ومتى تقرن هيبة السبع الشداد، بحانوت الحداد، أوتنظر أحكام الاعتكاف، بدكان الإسكاف، أويتعلم طبع المثقال، بحانوت البقال والظن الغالب - وقد تلتبس المطالب - أنكم أمرتموها، لما أصدرتموها، بإعمال التشوف، فطردت حكم الإبدال، غائبة عما يلزم من الجدال، وسمت الشين صاداً، وعينت لزرع الوصية حصاداً، والله تعالى يجعل المحب عند ظن من نظر بمرآته، أووصفه ببعض صفاته، وهي تزلق عن صفاته، فالتصوف أشرف، وظلاله أورف، من أن يناله كلف بباطل، ومغرور بسراب ماطل، لا برباب هاطل، ومفتون بحال حال أوعاطل، ومن قال ولم يتصف بمقاله، فعقله لم يرم عن عقاله، وجبال أثقاله، مانعة له عن انتقاله.
وعلى ذلك، وبعد تقرير هذه المسالك، فقد عمرت يدها كيلا تعود بها صفراً بعد إعمال السفر، أوترى أنها قد طولبت بذنب الغلط المغتفر، وأصبحت المراجعة بمجلس وعظ فتحت به باب الحرج، إلى إنكار الإمام أبي الفرج (1) ، وفن الوعظ لما سأل الأخ هوالصديق المسعد، والمبرق قبل غمام رحته والمرعد، ولله در القائل: لست به وولم تبعد، والاعتراض بعد ملازم، لكن الإسعاف لقصده لازم، وعامله عند الاعتلال بالعذر جازم، وإغضاؤه ملتمس، وفضله لا يخبومنه قبس، وعذراً أيها الفاضل، وبعد الاعتذار، عن القلم المهذار، وإغفال الحذار، اقرأ عليهم من طيب السلام، ما يخجل أزهار الكمام عقب الغمام، ورحمة الله تعالى من ممليه على الكاتب، ولعلها تفتأ من عتب لالعاتب، ابن الخطيب: فإني كتبته والليل دامس، وبحر
__________
(1) يعني أبا الفرج ابن الجوزي لشهرته في الوعظ.(6/430)
الظلام طامس، وعادة الكسل طبع خامس، والنافخ بشكوى البرد هامس، والذبال المنادم خافت، لا يهتدي إليه الفراش المتهافت، يقوم ويقعد، ويفيق ثم يرعد، ويزفر ثم يخمد، وربما صار ورقة آس، أومبضع أس، وربما أشبه العاشق في البوح بما يخفيه، وظهوره من فيه، فتميله الآمال وتلويه، وتميته النواسم الهفافة بعدما تحييه، والمطر، قد تعذر معه الوطر، وساقه الخطر، وفعل في البيوت المتداعية ما لا يفعل الترك والططر، والنشاط، قد طوي منه البساط، والجوارح بالكلال تعتذر، ووظائف الغد تنتظر، والفكر في الأمور السلطانية جائل، وهي بحر هائل، ومثلي مقنوع منه باليسير، ومعذور في قصر الباع وضعف المسير، والسلام انتهى.
وهي من البلاغة في الذروة.
109 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى قوله: ومما صدر عني في السياسة: حدث من امتاز باعتبار الأخبار، وحاز درجة الاشتهار، بنقل حوادث الليل والنهار، وولج بين الكمائم والأزهار، وتلطف لخجل الورد من تبسم البهار، قال: سهر الرشيد ليله، وقد مال في هجر النبيذ ميله، وجهد ندماؤه في جلب راحته، وإلمام النوم بساحته، فشحت عهادهم، ولم يغن اجتهادهم، فقال: اذهبوا إلى طرق سماها ورسمها، وأمهات قسمها، فمن عثرتم عليه من طارق ليل، أوغثاء سيل، أوساحب ذيل، فبلغوه، والامنة سوغوه، واسدعوه، ولا تدعوه، فطاروا عجالى، وتفرقوا ركباناً ورجالاً، فلم يكن إلا ارتداد طرف، أوفواق حرف (1) ، وأتوا بالغنيمة التي اكتسحوها، والبضاعة التي ربحوها، يتوسطهم الأشعث الأغبر، واللج الذي لا يعبر: شيخ طويل القامة، ظاهر الاستقامة، سبلته مشمطة،
__________
(1) الفواق: فترة ما بين الحلبتين؛ والحرف: الناقة.(6/431)
وعلى أنفه من القبع (1) مطة، وعليه ثوب مرقوع، لطير الحرق عليه وقوع، يهينم بذكر مسموع، وينبئ عن وقت مجموع، فلما مثل سلم، وما نبس بعدها ولا تكلم، فأشار إليه الملك فقعد، بعد أ، انشمر وابتعد، وجلس، فما استرق النظر ولا اختلس، إنما حركة فكره، معقودة بزمام ذكره، ولحظات اعتباره، في تفاصيل أخباره، فابتدره الرشيد سائلاً، وانحرف إليه مائلاً، وقال: ممن الرجل فقال: فارسي الأصل، أعجمي الجنس عربي الفصل، قال: بلدك واهلك وولدك قال: أما الولد فولد الديوان، وأما البلد فمدينة الإيوان، قال: النحلة، وما أعملت إليه الرحلة قال: أما الرحلة فالاعتبار، وأما النحلة فالأمر الكبار، قال: فنك، الذي اشتمل عليه دنك فقال: الحكمة فني الذي جعلته أثيراً، واضجعت فيه فراشاً وثيراً، وسبحان الذي يقول " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " البقرة:269، وما سوى ذلك فتبع، ولي فيه مصطاف ومرتبع، قال: فتعاضد جذل الرشيد وتوفر، كأنما أغشى وجهه قطعة من الصبح إذا أسفر، وقال: وما رأيت كالليلة أجمع لأمل شارد، وأنعم بمؤانسة وارد، يا هذا إني سائلك، ولن تخيب بعد وسائلك، فاخبرني ما عندك في هذا الأمر الذي بلينا بحمل أعبائه، ومنينا بمراوضة إبائه، فقال: هذا الأمر قلادة ثقيلة، ومن خطة العجز مستقيلة، ومفتقرة لسعة الذرع، وربط السياسة المدنية بالشرع، يفسده الحكم في غير محله، ويكون ذريعة إلى حله، ويصلحه مقابلة الشكل بشكله، ومن لم يكن سبعاً آكلاً تداعت سباع إلى أكله.
فقال الملك: أجملت ففصل، وبريت فنصل، وكلت فأوصل، وانثر الحب لمن يحوصل، واقسم السياسة فنوناً، واجعل لكل لقب قانوناً، وابدأ بالرعية، وشروطها المرعية.
__________
(1) القبع: الصياح أو الإعياء والانبهار.(6/432)
فقال: رعيتك ودائع الله تعالى قبلك، ومرآة العدل الذي عليه جبلك، ولا تصل إلى ضبطها إلا بإعانة الله تعالى التي وهب لك، وأفضل ما استدعيت به عونه فيهم، وكفايته التي تكفيهم، تقويم نفسك عند قصر تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، وحراسة كهلهم ورضيعهم، والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة بما عليها وما لها، أخذاً يحوط مالها، ويحفظ عليها كمالها، ويقصر عن غير الواجبات آمالها، حتى تستشعر عليتها رأفتك وحنانك، وتعرف أوساطها في النصب امتنانك، وتحذر سفلتها سنانك، وحظر على كل طبقة منها أن تتعدى طورها، أوتخالف دورها، أوتجاوز بأمر طاعتك فورها، وسد فيها سبل الذريعة، وأقصر جميعها عن خدمة الملك بموجب الشريعة، وامنع أغنياءها من البطر والبطالة، والنظر في شبهات الدين بالتمشدق والإطالة، وليقل فيما شجر بين الناس كلامها، ويرفض منا تنبر به أعلامها، فإن ذلك يسقط الحقوق، ويرتب العقوق، وامنعهم من فحش الحرص والشره، وتعاهدهم بالمواعظ التي تجلوالبصائر من المره، واحملهم من الاجتهاد في العمارة على أحسن المذاهب، وانههم عن التحاسد على المواهب، ورضهم على الإنفاق بقدر الحال، والتعزي عن الفائت فرده من المحال، وحذر البخل على أهل اليسار، والسخاء على أولي الإعسار، وخذهم من الشريعة بالواضح الظاهر، وامنعهم من تأويلها منع القاهر، ولا تطلق لهم التجمع على نم أنكروا أمره في نواديهم، وكف عنهم أكف تعديهم، ولا تبح لهم تغيير ما كرهوه بأيديهم، ولتكن غايتهم، فيما توجهت إليه إبايتهم، ونكصت عن الموافقة عليه رايتهم، إنهاءه إلى من وكلته بمصالحهم من ثقاتك، المحافظين على أوقاتك، وقدم منهم من أمنت عليهم مكره، وحمدت على الإنصاف شكره، ومن كثر حياؤه من التأنيب، وقابل الهفوة باستتابة المنيب، ومن لا يتخطى عندك محله الذي حله، فربما عمد إلى المبرم فحله، وحسن النية لهم(6/433)
بجهد الاستطاعة، واغتفر المكاره في جنب حسن الطاعة، وإن ثار جرادهم، واختلف في طاعتك مرادهم، فتحصن لثورتهم، واثبت لفورتهم، فإذا سألوا وسلوا، وتفرقوا وانسلوا، فاحتقر كثرتهم، ولا تقل عثرتهم، واجعلهم لما بين أيديهم وما خلفهم نكالاً، ولا تترك لهم على حلمك اتكالاً.
ثم قال: والوزير الصالح أفضل عددك، وأوصل مددك، فهوالذي يصونك عن الابتذال، ومباشرة الأنذال، ويثب لك على الفرصة، وينوب في تجرع الغصة، واستجلاء القصة، ويستحضر ما نسيته من أمورك، ويغلب فيه الرأي بموافقة مأمورك، ولا يسعه ما تمكنك المسامحة فيه، حتى يستوفيه، واحذر مصادمة تياره، والتجوز في اختياره، وقدم استخارة الله تعالى في إيثاره، وأرسل عيون الملاحظة على آثاره، وليكن معروفاً بالإخلاص لدولتك، معقود الرضى والغضب برضاك وصولتك، زاهداً عما في يديك، مؤثراً لكل ما يزلف لديك، بعيد الهمة، راعياً للأذمة، كامل الآلة، محيطاً بالإيالة، رحيب الصدر، رفيع القدر، معروف البيت، نبيه الحي والميت، مؤثراً لعدل والإصلاح، درياً بحمل السلاح، ذا خبرة بدخل المملكة وخرجها، وظهرها وسرجها، صحيح العقد، متحرزاً من النقد، جاداً عند لهوك، متيقظاً في حال سهوك، يلين عند غضبك، ويصل الإسهاب بمقتضبك، قلقاً من شكره دونك وحمده، ناسباً لك الإصابة بعمده، وإن أعيا عليك وجود اكثر هذه الخلال، وسبق إلى نقضها شيء من الاختلال، فاطلب منه سكون النفس وهدوئها، وأ، لا يرى منك رتبة إلا رأى قدره دونها، وتقوى الله تعالى تفضل شرف الانتساب، وهي للفضائل فذلكة الحساب، وساوفي حفظ غيبه بين قربه ونأيه، واجعل حظه من نعمتك موازياً لحظك من حسن رأيه، واجتنب منهم من يرى في نفسه إلى الملك سبيلاً، أويقود من عيصه للاستظهار عليك قبيلاً، أومن كاثر ماله، أومن تقدم لعدوك استعماله، أومن سمت لسواك آماله، أومن يعظم عليه إعراض وجهك، ويهمه نادر نجهك(6/434)
أومن يداخل غير احبابك، أومن ينافس أحداً ببابك.
وأما الجند فاصرف التقديم منهم للمقاتلة، والمكايدة والمخاتلة، واستوف عليهم شرائط الخدمة، وخذهم بالثبات للصدمة، ووف ما أوجبت لهم من الجراية والنعمة، وتعاهدهم عند الغناء بالعلفة والطعمة، ولا تكرم منهم إلا من أكرمه غناؤه، وطاب في الذب عن ظنك ثناؤه، وول عليهم النبهاء من خيارهم، واجتهد في صرفهم عن الافتتان بأهليهم وديارهم، ولا توطئهم الدعة مهاداً، وقدمهم على حصصك وبعوثك مهما أردت جهاداً، ولا تلين لهم في الإغماض عن حسن طاعتك قياداً، وعودهم حسن المواساة بأنفسهم اعتياداً، ولا تسمح لأحد منهم في إغفال شيء من سلاح استظهاره، أوعدة اشتهاره، وليكن ما فضل من شبعهم وريهم، مصروفاً إلى سلاحهم وزيهم، والتزيد في مراكبهم وغلمانهم، من غير اعتبار لأثمانهم، وامنعهم من المستغلات والمتاجر، وما تكسب به غير المشاجر، وليكن من الغوار اكتسابهم، وعلى المغانم حسابهم، كالجوارح التي تفسد باعتيادها، أن تطعم من غير اصطيادها.
واعلم أنها لا تبذل نفوسها من عالم الإنسان، إلا لمن يملك قلوبها بالإحسان وفضل اللسان، ويملك حركاتها بالتقويم، ورتبها بالميزان القويم، ومن تثق بإشفاقه على أولادها، ويشتري رضى الله تعالى بصبره على طاعته وجلادها، فإذا استشعرت لها هذه الخلال تقدمتك إلى مواقف التلف، مطيعة دواعي الكلف، واثقة منك بحسن الخلف، واستبق إلى تمييزهم استباقاً، وطبقهم طباقاً، أعلاها من تأملت منه في المحاربة عنك أخطاراً، وأبعدهم في مرضاتك مطاراً، وأضبطهم لما تحت يده من رجالك حزماً ووقاراً، واستهانة بالعظائم واحتقاراً، وأحسنهم لمن تقلده أمرك من الرعية جواراً، إذا أجدت اختباراً، وأشدهم على مماطلة من مارسه من الخوارج عليك اصطبارً، ومن بلا في الذي عن لك إحلاء وإمراراً، ولحقه الضر في معارض الدفاع(6/435)
عنك مراراً، وبعده من كانت محبته لك أزيد من نجدته، وموقع رأيه أنفع من موقع صعدته، وبعدهما من حسن انقياده لأمرائك، وإحماده لآرائك، ومن جعل نفسه من الأمر حيث جعله، وكان صبره على ما عراه اكثر من اعتداده بما فعله، واحذر منهم من كان عند نفسه أكبر من موقعه في الانتفاع، ولم يستحي من التزيد بأضعاف ما بذله من الدفاع، وشكا البخس فيما تعذر عليه من فوائدك، وقاس بين عوائد عدوك وعوائدك، وتوعد بانتقاله عنك وارتحاله، وأظهر الكراهية لحاله.
وأما العمال فإنهم ينبئون عن مذهبك، وحالهم في الغالب شديدة الشبه بك، فعرفهم في أمانتك السعادة، وألزمهم في رعيتك العادة، وأنزلهم من كرامتك بحسب منازلهم في الاتصاف، بالعدل والإنصاف، وأحلهم من الحفاية، بنسبة مراتبهم من الامانة والكفاية، وقفهم عند تقليد الأرجاء، مواقف الخوف والرجاء، وقرر في نفوسهم أن أعظم ما به إليك تقربوا، وفيه تدربوا، وفي سبيله أعجموا وأعربوا، إقامة حق ودحض باطل، حتى لا يشكوغريم مطل ماطل، وهوآثر لديك من كل رباب هاطل، وكفهم من الرزق الموافق، عن التصدي لدنئ المرافق، واصطنع منهم من تيسرت كلفته، وقويت للرعايا ألفته، ومن زاد على تأميله صبره، وأربى على خبره خبره، وكانت رغبته في حسن الذكر، تشف على بنات الفكحر، واجتنب منهم من يغلب عليه التخرق في الإنفاق، وعدم الإشفاق، والتنافس في الاكتساب، وسهل عليه سوء الحساب، وكانت ريعته المصانعة بالنفاية، دون التقصي والكفاية، ومن كان منشؤه خاملاً، ولأعباء الدناءة حاملاً، وابغ من يكون الاعتذار في أعماله، أوضح من الاعتذار في أقواله، ولا يفتننك ممن قلدته اجتلاب الحظ المقناع، والتنفق بالسعي المسمع، ومخالفة السنن المرعية، واتباعه رضاك بسخط الرعية، فإنه قد غشك، من حيث بلك ورشك، وجعل من يمينك(6/436)
في شمالك، حاضر مالك، ولا تضمن عاملاً مال عمله، وحل بينه فيه وبين أمله، فإنك تميت رسومك بمحياه، وتخرجه من خدمتك فيه إلا أن تملكه إياه، ولا تجمع له بين الأعمال فيسقط استظهارك ببلد على بلد، والاحتجاج على والد بولد، واحرص على أ، يكون في الولاية غريباً، ومنتقله منك قريباً، ورهينة لا يزال معها مريباً، ولا تقبل مصالحته على شيء أختانه، ولوبرغيبة فتانه، فتقبل المصانعة في أمانتك، وتكون مشاركاً له في خيانتك، ولا تطل مدة العمل، وتعاهد كشف الأمور ممن يرعى الهمل، ويبلغ الأمل.
وأما الولد فأحسن آدابهم، واجعل الخير دابهم، وخف عليهم من إشفاقك وحنانك، اكثر من غلظة جنانك، واكتم عنهم ميلك، وأفض فيهم جودك ونيلك، ولا تستغرق بالكلف بهم يومك ولا ليلك، وأثبهم على حسن الجواب، وسبق لهم خوف الجزاء على رجاء الثواب، وعلمهم الصبر على الضرائر، والمهلة عند استخفاف الجرائر، وخذهم بحسن السرائر، وحبب إليهم مراس الأمور الصعبة المراس، وحسن الاصطناع والاحتراس، والاستكثار من أولي المراتب والعلوم، والسياسات والحلوم، والمقام المعلوم، وكره إليهم مجالسة الملهين، ومصاحبة الساهين، وجاهد أهواءهم عن عقولهم، وحذر الكذب على مقولهم، ورشحهم إذا آنست منهم راشداً أوهدياً، وأرضعهم من الموازرة والمشاورة ثدياً، لتمرنهم على الاعتياد، وتحملهم على الازدياد، ورضهم رياضة الجياد، واحذر عليهم الشهوات فهي داؤهم، وأعداؤك في الحقيقة وأعداؤهم، وتدارك الخلق الذميمة كلما نجمت، واقدعها إذا هجمت، قبل أن يظهر تضعيفها، ويقوى ضعيفها، فإن أعجزتك في الصغر الحيل، عظم الميل:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قومتها الخشب وإذا قدروا على التدبير، وتشوفوا للمحل الكبير، إياك أن توطنهم في(6/437)
مكانك، جهد إمكانك، وفرقهم في بلدانك، تفريق عبدانك، واستعملهم في بعوث جهادك، والنيابة عنك في سبيل اجتهادك، فإن حضرتك تشغلهم بالتحاسد، والتباري والتفاسد، وانظر إليهم بأعين الثقات فإن عين الثقة، تبصر ما لا تبصر عين المحبة والمقة.
وأما الخدم فإنهم بمنزلة الجوارح التي تفرق بها وتجمع، وتبصر وتسمع، فرضهم بالصدق والأمانة، وصنهم صون الجمانة، وخذهم بحسن الانقياد إلى ما آثرته، والتقليل مما استكثرته، واحذر منهم من قويت شهواته، وضاقت عن هواه لهواته، فغن الشهوات تنازعك في اتسرقاقه، وتشاركك في استحقاقه، وخيرهم من ذلك منه بلطف الحيلة، وآداب للفساد محيلة، وأشرب قلوبهم أن الحق في كل ما حاولته واستنزلته، وأن الباطل في كل ما جانبته واعتزلته، وأ، من تصفح منهم أمورك فقد أذنب، وباين الأدب وتجنب، وأعط من أكددته، واضقت منه ملكه وشددته، روحة يشتغل فيها بما يعينه، على حسب صعوبة ما يعانيه، تغبطهم فيها بمسارحهم، وتجم كليلة جوارحهم، ولتكن عطاياك فيهم بالمقدار الذي لا يبطر أعلامهم، ولا يؤسف الأصاغر فيفسد أحلامهم، ولا ترم محسنهم بالغاية من إحسانك، واترك لمزيدهم فضلة من رفدك ولسانك، وحذر عليهم مخالفتك ولوفي صلاحك، بحد سلاحك، وامنعهم من التواثب والتشاجر، ولا تحمد لهم شيم التقاطع والتهاجر، واستخلص منهم لسرك من قلت في الإفشاء ذنوبه، وكان أصبر على ما ينوبه، ولودائعك من كانت رغبته في وظيفة لسانك، اكثر من رغبته في إحسانك، وضبطه لما تقلد من وديعتك، أحب إليه من حسن صنيعتك، وللسفارة عنك من حلا الصدق في فمه، وآثره ولوباختطار دمه، واستوفى لك وعليك فهم ما تحمله، وعني بلفظه حتى لا يهمله، ولمن تودعه أعداء دولتك من كان مقصور الأمل، قليل القول صادق العمل، ومن كانت(6/438)
قسوته زائدة على رحمته، وعظمه في مرضاتك آثر من شحمته، ورأيه في الحذر سديد، وتحرزه من الحيل شديد؛ ولخدمتك في ليلك ونهارك من لانت طباعه، وامتد في حسن السجية باعه، وأمن كيده وغدره، وسلم من الحقد صدره، ورأى المطامع فما طمع، واستثقل إعادة ما سمع، وكان بريئاً من الملال، والبشر عليه أغلب الخلال، ولا تؤنسهم منك بقبيح فعل ولا قول، ولا تؤيسهم من طول، ومكن في نفوسهم أن أقوى شفعائهم، وأقرب إلى الإجابة من دعائهم، إصابة الغرض فيما به وكلوا، وعليه شكلوا، فإنك لاتعدم بهم انتفاعاً، ولا يعدمون لديك ارتفاعاً.
وأما الحرم فهن مغارس الولد، ورياحين الخلد، وراحة القلب الذي أجهدته الأفكار، والنفس التي تقسمها الإحماد إلى المساعي والإفكار، فاطلب منهن من غلب عليهن من حسن الشيم، المترفعة عن القيم، ما لا يسوءك في خلدك، أن يكون في ولدك، واحذر أن تجعل لفكر بشر دون بصر إليهن سبيلاً، وانصب دون ذلك عذاباً وبيلاً، وأعهن من النساء العجز من بانت في الديانة والأمانة سبله، وقويت غيرته ونبله، وخذهن بسلامة النيات، والشيم السنيات، وحسن الاسترسال، والخلق السلسال، وحذر عليهن التغامز والتغاير، والتنافس والتخاير، وآس بينهن في الأغراض، والتصامم عن الإعراض، والمحاباة بالأعراض، وأقلل من مخالطتهن هوأبقى لهمتك، وأسبل لحرمتك، ولتكن عشرتك لهن عند الكلال والملال، وضيق الاحتمال، بكثرة الأعمال، وعند الغضب والنوم، والفراغ من نصب اليوم، واجعل مبيتك بينهن تنم بركاتك، وتستتر حركاتك، وافصل من ولدت منهن إلى مسكن تختبر به استقلالها، وتعتبر بالتفرد خلالها، ولا تطلق لحرمة شفاعة ولا تدبيراً، ولا تنط بها من الأمر صغيراً ولا كبيراً، واحذر أن يظهر على خدمهن في خروجهن عن القصور، وبروزهن من اجمة الأسد الهصور، زي بارع، ولا طيب للأنوف مسارع، واخصص بذلك من طعن في السن، ويئس من الإنس(6/439)
والجن، ومن توفر النزوع إلى الخيرات قبله، وقصر عن جمال الصورة ورسم بالبله.
ثم لما بلغ إلى هذا الحد حمي وطيس اسحنفاره، وختم حزبه باستغفاره، ثم صمت ملياً، واستعاد كلاماً أولياً.
ثم قال: واعلم يا أمير المؤمنين - سدد الله تعالى سهمك لأغراض خلافته وعصمك من الزمان وآفته - أنك في مجلس الفصل، ومباشرة الفرع من ملكك والأصل، في طائفة من عز الله تعالى تذب عنك حماتها، وتدافع عن حوزتك كماتها، فاحذر أن يعدل بك غضبك عن عدل تزري منه بضاعة، أويهجم بك رضال على إضاعة، ولتكن قدرتك وقفاً على الاتصاف، بالعدل والإنصاف، واحكم بالسوية، واجنح بتدبيرك إلى حسن الروية، وخف أن تقعد بك أناتك عن حزم تعين، أوتستفزك العجلة في أمر لم يتبين، وأطع الحجة ما توجهت إليك، ولا تحفل بها إذا كانت عليك، فانقيادك إليها أحسن من ظفرك، والحق أجدى من نفرك، ولا تردن النصيحة في وجه، ولا تقابل عليها بنجه، فتمنعها إذا استدعيتها، وتحجب عنك إن استوعيتها، ولا تستدعها من غير أهلها، فيشغبك أولوالأغراض بجهلها، واحرص على أن لا ينقضي مجلس جلسته، أوزمن اختلسته، إلا وقد أحرزت زائدة، أووثقت منه في معادك بفائدة.
ولا يزهدنك في المال كثرته، فتقل في نفسك أثرته، وقس الشاهد بالغائب، واذكر وقوع ما لا يحتسب من النوائب، فالمال المصون، أمنع الحصون، ومن قل ماله، قصرت آماله، وتهاون بيمينه شماله، والملك إذا فقد خزينه، اخنى على أهل الجدة التي تزينه، وعاد على رعيته بالإجحاف، وعلى جبايته بالإلحاف، وساء معتاد عيشه، وصغر في عيون جيشه، ومنوا عليه بنصره، وأنفوا من الاقتصار على قصره، وفي المال قوة سماوية تصرف الناس لصاحبه، وتربط آمال أهل السلاح به، والمال نعمة الله تعالى فلا تجعله ذريعة إلى خلافه، فتجمع(6/440)
بالشهوات بين إتلافك وإتلافه، واستأنس بحسن جوارها، واصرف في حقوق الله تعالى بعض أطوارها، فإن فضل المال عن الأجل فأجل، ولم يضر ما خلف منه بين يدي الله عز وجل، وما ينفق في سبيل الشريعة، وسد الذريعة، مأمول خلفه، وما سواه فمتعين تلفه.
واستخلص لنواديك الغاصة، ومجالسك العامة والخاصة، من يليق بولوج عتبها، والعروج لرتبها، أما العامية فمن عظم عند الناس قدره، وانشرح بالعلم صدره، أوظهر يساره، وكان لله تعالى إخباته وانكساره، ومن كان للفتيا منتصباً، وبتاج المشورة معتصباً، وأما الخاصية فمن رقت طباعه، وامتد فيما يليق بتلك المجالس باعه، ومن تبحر في سير الحكماء، وأخلاق الكرماء، ومن له فضل سافر، وطبع للدينة منافر، ولديه من كل ما تستتر به الملوك عن العوام حظ وافر، وصف ألبابهم بمحصول خيرك، وسكن قلوبهم بيمن طيرك، وأغنهم ما قدرت عن غيرك. واعلم بأن مواقع العلماء من ملكك مواقع المشاعل المتألقة، والمصابيح المتعلقة، وعلى قدر تعاهدها تبذل من الضياء، وتجلوبنورها صور الأشياء، وفرغها ما يزين مدتك، ويحسن من بعد البلاء جدتك، وبعناية الأواخر ذكرت الأول، وإذا محيت المفاخر خربت الدول.
واعلم أن بقاء الذكر مشروط بعمارة البلدان، وتخليد الآثار الباقية في القاصي والدان، فاحرص على ما يوضح في الدهر سبلك، ويحرز المزية على من قبلك، وأن خير الملوك من ينطق بالحجة وهوقادر على القهر، ويبذل الإنصاف في السر والجهر، مع التمكن من المال والظهر، ويسار الرعية جمال للملك وشرف، وفاقتهم من ذلك طرف، فغلب أليق الحالين بمحلك، وأولاهما بظعنك وحلك.
واعلم أن كرامة الجور دائرة، وكرامة العدل متكاثرة، والغلبة بالخير(6/441)
سيادة، وبالشر هوادة، واعلم أن حسن القيام بالشريعة يحسم عنك نكاية الخوارج، ويسموبك إلى المعارج، فإنها تقصد أنواع الخدع، وتوري بتغيير البدع، وأطلق على عدوك أيدي الأقوياء من الأكفاء، وألسنة اللفيف من الضعفاء، واستشعر عند نكثه شعار الوفاء.
ولتكن ثقتك بالله تعالى أكثر من ثقتك بقوة تجدها، وكتيبة تنجدها، فإن الإخلاص يمنحك قوى لا تكتسب، ويمهد لك مع الأوقات نصراً لا يحتسب.
والتمس أبداً سلم من سالمك بنفيس ما في يدك، وفضل حاصل يومك على منتظر غدك، فإن أبى وضحت محجتك، وقامت عليه للناس بذلك حجتك، فللنوفوس على الباغين ميل، ولها من جانبه نيل، واستهد في كل يوم سيرة من يناويك، واجتهد أن لا يوازيك في خير ولا يساويك، وأكذب بالخير ما يشيعه من مساويك، ولا تقبل من الإطراء إلا ما كان فيك فضل عن غطالته، وجد يزري على بطالته، ولا تلق المذنب بحميتك وسبك، واذكر عند حركة الغضب ذنوبك إلى ربك، ولا تنس أن رب المذنب أجلسك مجلس الفصل، وجعل في قبضتك رياش النصل. وتشاغل في هدنة الأيام بالاستعداد، واعلم ا، التراخي منذر بالاشتداد، ولا تهمل عرض ديوانك، واختبار أعوانك، وتحصين معاقلك وقلاعك. وعم إيالتك بحسن اطلاعك، ولا تشغل زمن الهدنة بلذاتك، فتجني في الشدة على ذاتك، ولا تطلق في دولتك ألسنة الكهانة والإرجاف، ومطاردة الآمال العجاف، فإنه يبعث سوء القول، ويفتح باب العول، وخذ على المدرسين والمتعلمين، والعلماء والمتكلمين، حمل الأحداث على الشكوك الخالجة والمزلات الوالجة، فإنه يفسد طباعهم، ويغري سباعهم، ويمد في مخالفة الملة باعهم، وسد سبيل الشفاعات فإنها تفسد عليك حسن الاختيار، ونفوس الخيار، وابذل في الأسرى من حسن ملكتك ما يرضي من ملكك رقابها، وقلدك وعقابها، وتلق بدء نهارك بذكر الله تعالى في ترفعك وابتذالك، واختم اليوم بمثل ذلك.(6/442)
واعلم أنك مع كثرة حجابك، وكثافة حجابك، بمنزلة الظاهر للعيون، المطالب بالديون، لشدة البحث عن أمورك، وتعرف السر الخفي بين أمرك ومأمورك، فاعمل في سرك ما لا تستقبح أن يكون ظاهراً، ولا تأنف أن تكون به مجاهراً، وأحكم بريك في الله ونحتك، وخف من فوقك يخف من تحتك، واعلم أن عدوك من أتباعك من تناسيت حسن قرضه، أوزادت مؤونته على نصيبه منك وفرضه، فاصمت الحج، وتوق اللجج، واسترب بالأمل، ولا يحملنك انتظام الأمور على الاستهانة بالعمل، ولا تحقرن صغير الفساد، فيأخذ في الاستئساد، واحبس الألسنة عن التخالي باغتيابك، والتشبث بأذيال ثيابك، فغن سوء الطاعة ينتقل من الأعين الباصرة، إلى الألسن القاصرة، ثم إلى الأيدي المتناصرة، ولا تثق بنفسك في قتال عدوناواك، حتى تظفر بعدوغضبك وهواك، وليكن خوفك من سوء تدبيرك، اكثر من عدوك الساعي في تتبيرك (1) ، وإذا استنزلت ناجماً (2) ، أومنت ثائراً هاجماً، فلا تقلده البلد الذي فيه نجم، وهمى عارضه فيه وانسجم، يعظم عليك القدح في اختيارك، والغض نم إيثارك، واحترز من كيده في حورك ومأمك (3) ، فإنك أكبر همه وليس بأكبر همك، وجمل المملكة بتأمين الفلوات، وتسهيل الأقوات، وتجديد ما يتعامل من الصرف في البياعات، وإجراء العوائد مع الأيام والساعات، ولا تبخس عيار قيم البضاعات، ولتكن يدك عن أموال الناس محجورة، وفي احترامها إلا عن الثلاثة مأجورة: مال من عدا طوره طور أهله، وتخارق في الملابس والزينة، وفضول المدينة، يروم معارضتك بجهله؛ ومن باطن أعداك، وأمن اعتدال؛ ومن أساء جوار رعيتك بإخساره، وبذل الأذاية فيهم بيمينه ويساره.
__________
(1) التتبير: الهلاك.
(2) الناجم: الثائر.
(3) الحور: العودة؛ والمأم: القصد.(6/443)
وأضر ما منيت به التعادي بين عبدانك، أوفي بلد من بلدانك، فسد فيه الباب، واسأل عن الأسباب، وانقلهم بوساطة أولي الألباب، إلى حالة الأحباب، ولا تطوق الأعلام أطواق المنون، بهواجس الظنون، فهوامر لا يقف عند حد، ولا ينتهي إلى عد، واجعل ولدك في احتراسك، حتى لا يطمع في افتراسك.
ثم لما رأى الليل، قد كاد ينتصف، وعموده يريد أن ينقصف، ومجال الوصايا أكثر مما يصف؛ قال: يا أمير المؤمنين، بحر السياسة زاخر، وعمر المتمتع يناديك مستاخر، فإن أذنت في فن من فنون الأنس يجذب بالمقاد، إلى راحة الرقاد، ويعتق النفس بقدرة ذي الجلال، من ملكة الكلال.
فقال: أما وقد استحسنا ما سردت، فشانك وما أردت.
فاستدعى عوداً فأصلحه حتى حمده، وأبعد في اختباره أمده، ثم حرك بمه، وأطال الجس ثمه، ثم تغنى بصوت يستدعي الإنصات، ويصدع الحصاة، ويستفز الحليم عن وقاره، ويستوقف الطير ورزق بنيه في منقاره، وقال:
صاح ما أعطر القبول بنمه ... أتراها أطالت اللبث ثمه
هي دار الهوى منى النفس فيها ... أبد الدهر والأماني جمه
إن يكن ما تأرج الجو منها ... واستفاد الشذا وإلا فممه
من لطرفي بنظرة ولأنفي ... في رباها وفي ثراها بشمه
ذكر العهد فانتفضت كأني ... طرقتني من الملائك لمه
وطن قد نضيت فيه شباباً ... لم تدنس منه البرود مذمه
بنت عنه والنفس من أجل من قد ... خلفته خلاله مغتمه
كان حلماً فويح من أمل الده ... ر وأعماه جهله وأصمه
تأمل العيش بعد أن خلق الجس ... م وبنيانه عسير المرمه
وغدت وفرة الشبيبة بالشي ... ب على رغم أنفها معتمه(6/444)
فلقد فاز سالك جعل الل ... هـ إلى الله قصده ومأمه
من يبت من غرور دنيا بهم ... يلدغ القلب أكثر الله همه ثم أحال اللحن إلى لون التنويم، فأخذ كل في النعاس والتهويم، وأطال الجس في الثقيل، عاكفاً عكوف الضاحي في المقيل، فخاط عيون القوم، بخيوط النوم، وعمر بهم المراقد، كأنما أدار عليهم الفراقد، ثم انصرف، فما علم به أحد ولا عرف، ولما أفاق الرشيد جد في طلبه، فلم يعلم بمنقلبه، فأسف للفراق، وأمر بتخليد حكمه في بطون الأوراق، فهي إلى اليوم تتلى وتنقل، وتجلى القلوب بها وتصقل، والحمد لله رب العالمين انتهى.
قال فبالإحاطة بعد إيراد نبذة ما صورته: فهذا ما حضر من المنثور وحظه من الإجادة ضعيف، وغرضه كما شاء الله تعالى سخيف، لكن الله سبحانه بعبداه لطيف؛ انتهى.
110 - ومما علق بحفظي من نثره قوله في تحليته لبعض أهل زمانه: هو إمام الفئة، وعين أعيان هذه المائة.
111 - وقوله في وصف فاس (1) : نعم العرين، لأسود بني مرين، ذات المشاد التي منها مطرح الجنة ومسجد الصابرين:
بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه ريش جناحه الطاووس (2)
فكأنما الأنهار فيه مدامة ... وكأن ساحات الديار كؤوس جمعت ما ولد سام وحام، وكثر الالتئام والالتحام، واشتد الزحام، إلى
__________
(1) انظر مشاهدات لسان الدين: 110 - 111 والمقري ينقل من حفظه فلذلك اختلف ما أورده عن النص الأصلي في عدة مواضع، لا حاجة للإشارة إليها.
(2) مر البيتان والقول في نسبتهما في المجلد 1: 169.(6/445)
أن قال: يلقى الرجل أبا مثواه فلا يدعوه لبيته، ولا يطعمه من يقله وزيته؛ لا يطرق الضيف حماهم، ولا يعرف اسمهم ولا مسماهم {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} (ص: 24) .
112 - وقوله في وصف مراكش المحروسة ذات المقاصر والقصور، ومأوى الليث الهصور، ومسكن الناصر والمنصور، إلى أن قال: ومنارها في الفلاة، بمنزلة والي الولاة. ثم بعد كلام: إلا ان خرابها هائل، وزحامها حرب وائل، وعقاربها كثيرة الدبيب، منغصة لمضاجعة الحبيب؛ انتهى ما كتبته من حفظي لطول العهد.
113 - وقال رحمه الله تعالى في وصف مدينة بسطة (1) من كلام لم يحضرني جميعه الآن: محل خصيب، ومنزل رحيب، وكفاها مسجد الجنة دليلاً على البركة وباب المسك دليلاً على الطيب، ولها من اسمها نصيب، إذ هي بحر الطعام وينبوع العيون المتعددة بتعدد أيام العام؛ انتهى.
[في ذكر بسطة]
ولما أجرى ذكر بسطة الإمام أبوالحسن القلصادي (2) في رحلته قال: سقى الله تعالى أرجاءها المشرقة، وأغصانها المورقة، شآبيب الإحسان، ومهدها بالهدنة والأمان، دار تخجل منها الدور، وتتقاصر عنها القصور، وتقر لها بالقصور، مع ما حوته من المحاسن والفضائل، من صحة أجسام أهلها وما طبعوا
__________
(1) المشاهدات: 31.
(2) أبو الحسين القلصادي علي بن محمد بن محمد بن علي القرشي البسطي نزيل غرناطة، آخر من له التواليف الكثيرة من أئمة الأندلس (إذ توفي سنة 891) . وقد ترجم له المقري في الراحلين إلى المشرق (ج 2: 692) .(6/446)
عليه من كرم الشمائل، وحسبك فيها من عدم الحرج، أن داخلها باب الفرج؛ ثم قال: ولله در القائل:
دار مشى الإتقان في تنجيدها ... حتى تناسب روضها وبناؤها
مرقوقة الجنبات ذات قرارة ... يمتد قدام العيون فضاؤها
ما زال يضحك دائماً نوارها ... في وجه ساحته ويلعب ماؤها ولبعض أصحابنا فيها وهوالأديب الكاتب أبوعبد الله ابن الأزرق:
في بسطة حيث الأباطح مشرقه ... أضحت جفوني بالمحاسن مغلقه وله أيضاً في تورية:
قل لمن رام النوى عن وطن ... قولةً ليس بها من حرج
فرج الهم بسكنى بسطة ... إن في بسطة باب الفرج
رجع:
114 - ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما خاطب به السلطان على لسان جدته، وهو:
" إلى قرة أعيننا وأعين المؤمنين، وفلذة كبدنا الذي نصل للقائه الحنين بالحنين، وعزنا الذي حللنا من كنفه بالحرم الأمين، وسترنا الذي خلفنا برضاه من أفقده الدهر من كرم البنين، ووارثنا المستأثر بعدنا بطول السنين، أمير المسلمين الأسعد المؤيد الموفق الطاهر البر الرحيم الأرضى الكافل الفاضل حفيدنا محمد ابن ولدنا الرضى وواحدنا الكريم الحفي السلطان الكبير الجليل السعيد الطاهر الظاهر المقدس، جعل الله تعالى من عصمته لزيماً يرافقه، وأجرى القدر بما يوافقه، وحفظ عليه الكمال الذي تناسب فيه خلقه وخلائقه، والبر الذي حسنت فيه طرقه وطرائقه.(6/447)
من المستظلة بظلال رضاه وبره، المبتهلة إلى الله تعالى في عز نصره، وسعادة أمره، الداعية إلى الله تعالى أن يسترها في الحياة وما بعدها بستره، وما يفضل عمرها من عمره، جدته التائقة إليه، كتبته من كنفه العزيز بحمرائه العلية عن الخير الدائم بدوامه، واليسر الملازم ببركة أيامه، ولا زائد بضل الله تعالى إلا الشوق إليه، وتحويم الكبد الخافقة خفوق رايته عليه، وتجهيز مواكب الدعاء المقبول من خلفه ومن بين يديه.
" وقد وصل كتابه العزيز الوفادة والوصول، الكريم الجمل والفصول، مطلع وجه السرور والجذل، ومهدي قصي الأمل، ومجدد العهد بحديثه الذي في ضمنه شفاء الغلل، وبرء العلل، مهدياً تحفة عافيته وهي الهدية التي جلت عن المكافأة، وترفعت عن المجازاة، إنما يجازي عليها من يصل بفضله عادتها، ويوالي بعد الإبداء إعادتها. ووصفتم يا ولدي ما عرفتم من نعم الله تعالى التي انثالت عليكم سحابها، وعنايته التي يلقى ركابكم تسهالها وترحابها، واستبشار الجهات بقدومكم الميمون، واجتلاء وجهكم الذي فيه للإسلام قرة العيون، وكيف لا يكون ذلك وأنتم ذخرهم العزيز، وحرزهم الحريز، والندرة التي خلصها من معادن سلفكم الذهب الإبريز، في أيامكم والحمد لله نامت أجفانهم، وتكيف أمانهم، نسأل الله تعالى أن يديم لنا ولهم نعمة بقائكم، ويعلي الدين بعلوكم في معارج العز، وارتقائكم، فقابلنا ما قرره سلطانكم بالحمد والثناء، والشكر المتصل على الآناء، ومحضتكم من خالص الدعاء، ما يتكفل لكم بالحسنى وما وعد الله تعالى من نيل الرجاء، وتمهيد الأرجاء، وأصدرت هذا الجواب لكم مصدر الهناء، بنعم الله تعالى المغدقة والآلاء، ونسأل من فضلكم وبركم صلة التعريف بمثل هذه الأخبار السارة والأنباء، وإتحافنا بمثلها مع الصباح والماساء، وإن كان مجدكم غنياً عن الشبه لمثل هذه الأشياء، أدام الله تعالى لكم أسباب البقاء، وكان لكم في كل حال، من إقامة وارتحال، بعزة وجهه وقدرته " انتهى.(6/448)
ويرحم الله تعالى لسان الدين ابن الخطيب، فإنه يعبر في كل مقام بما يليق، فتارة في أدراج البراعة، وطوراً يهتك عنان اليراعة.
[شعر لسان الدين]
وأما شعر لسان الدين رحمه الله تعالى فهومن النهاية في الحسن، وقد قدمنا في هذا الكتاب منه نبذة في أثناء نثره وكلامه الذي جلبناه، وفي مواضع غيرهما، جملة مفيدة من شعره رحمه الله تعالى.
مطولات عن الإحاطة
وقال رحمه الله تعالى في " الإحاطة " ما نصه: الشعر - ولنثبت جملة من مطولاته، ونتله بشيء من مقطوعاته، ونقدم من المطولات أمداح رسول الله صلى الله عليه وسلم تبركاً بها، فمن ذلك قولي (1) :
هل كنت تعلم في هبوب الريح ... نفساً يؤجج لاعج التبريح
أهدتك من شيح الحجاز تحية ... فاحت لها عرض الفجاج الفيح
بالله قل لي كيف نيران الهوى ... ما بين ريح في الفلاة وسيح
وخضيبة المنقار تحسب أنها ... نهلت بمورد دمعي المسفوح
باحت بما تخفي وناحت في الدجى ... فرأيت في الآماق دعوة نوح
نطقت، بما يخفيه قلبي، أدمعي ... ولطالما صمتت عن التصريح
عجباً لأجفان حملن شهادة ... عن خافت بين الضلوع جريح
ولقلما كتبت رواة مدامعي ... في صفحتيها حلية التجريح
جاد الحمى بعدي وأجراع الحمى ... جود تكل به متون الريح
هن المنازل، ما فؤادي بعدها ... سالٍ، ولا وجدي بها بمريح
حسبي ولوعاً أن أزور بفكرتي ... زوارها والجسم رهن نزوح (2)
__________
(1) الإحاطة الورقة: 413.
(2) الإحاطة: رهن ضريح.(6/449)
فأبث فيها من حديث صبابتي ... وأحث فيها من جناح جنوحي
ودجنة كادت تضل بها السرى ... لولا وميضاً بارق وصفيح
رعشت كواكب جوها فكأنها ... ورق تقلبها بنان شحيح
صابرت منها لجة مهما ارتمت ... وطمت رميت عبابها بسبوح
حتى إذا الكف الخضيب بأفقها ... مسحت بوجه للصباح صبيح
شمت المنى وحمدت إدلاج السرى ... وزجرت للآمال كل سنيح
فكأنما ليلي نسيب قصيدتي ... والصبح فيه تخلصي لمديح
لما حططت لخير من وطئ الثرى ... بعنان كل مولد وصريح
رحمى إله العرش بين عباده ... وأمينه الأرضي على ما يوحي
والآية الكبرى التي أنوارها ... ضاءت أشعتها بصفحة يوح (1)
رب المقام الصدق والآي التي ... راقت بها أوراق كل صحيح
كهف الأنام إذا تفاقم معضل ... مثلوا بساحة بابه المفتوح
يردون منه على مثابة راحم ... جم الهبات عن الذنوب صفوح
لهفي على عمر مضى انضيته ... في ملعب للترهات فسيح
يا زاجر الوجناء يعتسف الفلا ... والليل يعثر في فضول مسوح
يصل السرى سبقاً إلى خير الورى ... والركب بين موسد وطريح
لي في حمى ذاك الضريح لبانة ... إن أصبحت لبنى أنا ابن ذريح
وبمهبط الروح الأمين أمانة ... اليمن فيها والأمان لروحي
يا صفوة الله المكين مكانه ... يا خير مؤتمن وخير نصيح
أقرضت فيك الله صدق محبتي ... أيكون تجري فيك غير ربيح
حاشا وكلا أن تخيب وسائلي ... أو أن أرى مسعاي غير نجيح
إن عاق عنك قبيح ما كسبت يدي ... يوماً فوجه العفوغير قبيح
__________
(1) يوح: اسم الشمس.(6/450)
واخجلتي من حلبة الفكر التي ... أغريتها بغرامي المشروح
قصرت خطاها بعدما ضمرتها ... من كل موفور الجمام جموح
مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثني على علياك نظم مديحي
وإذا كتاب الله أثنى مفصحاً (1) ... كان القصور قصار كل فصيح
صلى عليك الله ما هبت صباً ... فهفت بغصن في الرياض مروح
واستأثر الرحمن جل جلاله ... عن خلقه بخفي سر الروح وأنشدت السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الأعظم من عام ثلاثة وستين وسبعمائة هذه القصيدة:
تألق نجدياً فأذكرني نجداً ... وهاج بي الشوق المبرح والوجدا
وميض رأى برد الغمامة مغفلاً ... فمد يداً بالتبر أعلمت البردا
تبسم في بحرية (2) قد تجهمت ... فما بذلت وصلاً ولا ضربت وعدا
وراود منها فاركاً قد تنعمت ... فأهوى لها نصلاً وهددها رعدا
وأغرى بها كف الغلاب فأصبحت ... ذلولاً ولم تسطع لإمرته ردا
فحلتها الحمراء من شفق الضحى ... نضاها وحل المزن من جيدها عقدا
لك الله من برق كأن وميضه ... يد الساهر المقرور قد قدحت زندا
تعلم من سكانه شيم الندى ... فغادر أجراع الحمى روضة تندى
وتوج من نوارها قنن الربى ... وختم من أزهارها القضب الملدا
لسرعان ما كانت مناسف للصبا ... فقد ضحكت زهراً وقد خجلت وردا
بلاد عهدنا في قرارتها الصبا ... يقل لذاك العهد أن يألف العهدا
إذا ما النسيم اعتل في عرصاتها ... تناول فيها البان والشيح والرندا
__________
(1) الإحاطة: مفهماً.
(2) البحرية: صفة للسحابة.(6/451)
فكم في مجاني وردها من علاقة ... إذا ما استثيرت أرضها أنبتت وجدا
إذا استشعرتها النفس عاهدت الجوى ... إذا التمحتها العين عاقدت السهدا
ومن عاشق حر إذا ما استماله ... حديث الهوى العذري صيره عبدا
ومن ذابل يحكي المحبين رقة ... فيثني إذا ما هب عرف الصبا قدا
سقى اله نجداً ما نضحت بذكرها ... على كبدي إلا وجدت لها بردا
وآنس قلبي فهوللعهد حافظ ... وقل على الأيام من يحفظ العهدا
صبور وإن لم يبق إلا ذبالة ... إذا استقبلت مسرى الصبا اشتعلت وقدا
صبور إذا الشوق استجاد كتيبة ... تجوس خلال الصبر كان لها بندا
وقد كنت جلداً قبل أن يذهب النوى ... ذمائي وأن يستأصل العظم والجلدا
أأجحد حق الحب والدمع شاهد ... وقد وقع التسجيل من بعد ما أدى
تناثر إثر الحمول فريده ... فلله عينا من رأى الجوهر الفردا
جرى يققاً في ملعب الخد أشهباً ... وأجهده ركض الأسى فجرى وردا
ومرتحل أجريت دمعي خلفه ... ليرجعه فاستن في إثره قصدا
وقلت لقلبي طر (1) إليه برقعتي ... فكان حماماً في المسير بها هدى
سرقت صواع العزم يوم فراقه ... فلج ولم يرقب سواعاً ولا ودا
وكحلت عيني من غبار طريقه ... فأعقبها دمعاً وأورثها سهدا
لي الله كم أهذي بنجد وحاجر ... وأكني بدعد في غرامي أو سعدى
وما هو إلا الشوق ثار كمينه ... فأذهل نفساً لم تبن عنده قصدا
وما بي إلا أن سرى الركب موهناً ... وأعمل في رمل الحمى النص والوخدا
وجاشت جنود الصبر والبين والأسى ... لدي فكان الصبر أضعفها جندا
ورمت نهوضاً واعتزمت مودعاً ... فصدني المقدور عن وجهتي صدا
رقيق بدت لمشترين عيوبه ... ولم تلتفت دعواه فاستوجب الردا
__________
(1) ق: صر.(6/452)
تخلف مني ركب طيبة عانياً ... أما آن للعاني المعنى بأن يُفدى
مخلف سرب قد أصيب جناحه (1) ... وطرن فلم يسطع مراحاً ولا مغدى
نشدتك يا ركب الحجاز، تضائلت ... لك الأرض مهما استعرض السهب وامتدا
وجم لك المرعى وأذعنت الصوى ... ولم تفتقد ظلاً ظليلاً ولا وردا
إذا أنت شافهت الديار بطيبة ... وجئت بها القبر المقدس واللحدا
وآنست نوراً من جناب محمد ... يجلي القلوب الغلف والأعين الرمدا
فنب عن بعيد الدار في ذلك الحمى ... وأذر به دمعاً وعفر به خدا
وقل يا رسول الله عبد تقاصرت ... خطاه وأضحى من أحبته فردا
ولم يستطع من بعد ما بعد المدى ... سوى لوعة تعتاد أو مدحة تهدى
تداركه يا غوث العباد برحمة ... فجودك ما أجدى وكفك ما أندى
أجار بك الله العباد من الردى ... وبوأهم ظلاً من الأمن ممتدا
حمى دينك الدنيا وأقطعك الرضى ... وتوجك العليا وألبسك الحمدا
وطهر منك القلب لما استخضه ... فجلله نوراً وأوسعه رشدا
دعاه فما ولى، هداه فما غوى ... سقاه فما يظما، جلاه فما يصدا
تقدمت مختاراً، تأخرت مبعثاً ... فقد شملت علياؤك القبل والبعدا
وعلة هذا الكون أنت، وكل ما ... أعاد فأنت القصد فيه وما أبدا
وهل هوإلا مظهر أنت سره ... ليمتاز في الخلق المكب من الاهدى
ففي عالم الأسرار ذاتك تجتلي ... ملامح نور لاح للطور فانهدا
وفي عالم الحس اغتديت مبوأ ... لتشفي من استشفى وتهدي من استهدى
فما كنت لولا أن ثبت هداية ... من الله مثل الخلق رسماً ولا حدا
فماذا عسى يثني عليك مقصر ... ولم يأل فيك الذكر مدحاً ولا حمدا
بماذا عسى يجزيك هاو على شفاً ... من النار قد أوردته بعدها الخلدا
عليك صلاة الله يا كاشف العمى ... ومذهب ليل الروع وهو قد اربدا
__________
(1) ق: جنانه.(6/453)
إلى كم أراني في البطالة كانعاً ... وعمري قد ولى، ووزري قد عدا
تقضى زماني في لعل وفي عسى ... فلا عزمة تمضي ولا لوعة تهدا
حسام جبان كلما شيم نصله ... تراجع بعد العزم والتزم الغمدا
ألا ليت شعري هل أراني ناهداً ... أقود القلاص البدن والضامر النهدا
رضيع لبان الصدق فوق شملة ... مضمرة وسدت من كورها مهدا
فتهدى بأشواقي السراة إذا سرت ... وتحدى بأشعاري الركاب إذا تحدى
إلى أن أحط الرحل في تربك الذي ... تضوع نداً ما رأينا له ندا
وأطفئ في تلك الموارد غلتي ... واحسب قرباً مهجة شكت البعدا
لمولدك اهنز الوجود فأشرقت ... قصور ببصرى ضاءت الهضب والوهدا
ومن رعبه الأوثان خرت مهابة ... ومن هوله إيوان كسرى قد انهدا
وغاض له الوادي وصبح عزه ... بيوتاً لنار الفرس أعدمها الوقدا
رعى الله منها ليلة أطلع الهدى ... على الأرض من آفاقها القمر السعدا
وأقرض ملكاً قام فينا بحقها ... لقد أحرز الفخر الموثل والمجدا
وحيا على شط الخليج محلة ... يحالف من ينتابها العيشة الرغدا
وجاد الغمام العد فيها خلائفاً ... مآثرهم لا تعرف الحصر والعدا
علياً وعثماناً ويعقوب، لا عدا ... رضى الله ذاك النجل والأب والجدا
حموا وهم في حومة البأس والندى ... فكانوا الغيوث المستهلة والأسدا
ولله ما قد خلفوا من خليفة ... حوى الإرث عنهم والوصية والعهدا
إذا ما أراد الصعب أغرى بنيله ... صدور العوالي والمطهمة الجردا
وكم معتد أردى وكم تائه هدى ... وكم حكمة أخفى، وكم نعمة أبدى
أبا سالم دين الإله بك اعتلى ... أبا سالم ظل الإله بك امتدا
فدم من دفاع الله تحت وقاية ... كفاك بها أن تسحب الحلق السردا
ودونكها مني نتيجة فكرة ... إذا استرشحت للنظم كانت صفاً صلدا
ولو تركت مني الليالي صبابة ... لأجهدتها ركضاً وأرهقتها شدا(6/454)
ولكنه جهد المقل بلغته ... وقد أوضح الأعذار من بلغ الجهدا وقلت أخاطب السلطان الملك الكبير العالم أبا عنان على أثر انصرافه من بابه رحمه الله تعالى:
أبدى لداعي الفوز وجه منيب ... وأفاق من عذل ومن تأنيب
كلف الجنان إذا جرى ذكر الحمى ... والبان حن له حنين النيب
والنفس لا تنفك تكلف بالهوى ... والشيب يلحظها بعين رقيب
رحل الصبا فطرحت في أعقابه ... ما كان من غزل ومن تشبيب
أترى التغزل بعد أن ظعن الصبا ... شأني الغداة أوالنسيب نسيبي
أنى لمثلي بالهوى من بعد ما ... للوخط في الفودين أي دبيب
لبس البياض وحل ذروة منبر ... مني ووالى الوعظ فعل خطيب
قد كان يسترني ظلام شبيبتي ... والآن يفضحني صباح مشيبي
وإذا الجديدان استجدا أبليا ... من لبسة الأعمار كل قشيب
سلني عن الدهر الخؤون وأهله ... تسل المهلب عن حروب شبيب
متقلب الحالات فاخبر تقله ... مهما أعدت يداً إلى تقليب
فكل الأمور إذا اعترتك لربها ... ما ضاق لطف الرب عن مربوب
قد يخبأ المحبوب في مكروهها ... من يخبأ المكروه في المحبوب
واصبر على مضض الليالي إنها ... لحوامل سيلدن كل عجيب
واقتنع بحظ لم تنله بحيلة ... ما كل رام سهمه بمصيب
يقع الحريص على الردى ولكم غدا ... ترك التسبب أنفع التسبيب
من رام نيل الشيء قبل أوانه ... رام انتقال يلملم وعسيب
فإذا جعلت الصبر مفزع معضل ... عاجلت علته بطب طبيب
وإذا استعنت على الزمان بفارس (1) ... لبى نداءك منه خير مجيب
__________
(1) فارس هو السلطان أبو عنان.(6/455)
بخليفة الله الذي في كفه ... غيث يروض ساح كل جديب
المنتقى من طينة المجد الذي ... ما كان يوماً صرفه بمشوب
يرمي الصعاب بصعبه فيقودها ... ذللاً على حسب الهوى المرغوب
ويرى الحقائق من وراء حجابها ... لا فرق بين شهادة ومغيب
من آل عبد الحق حيث توشحت ... شعب العلا وربت بأي كثيب
أسد الشرى سرج الورى فمقامهم ... لله بين محارب وحروب
إما دعا الداعي وثوب صارخاً ... ثابوا واموا حومة التثويب
شهب ثواقب في سماء عجاجة ... مأثورها قد صح بالتجريب
ما شئت في آفاقها من رامح ... يبدو وكف بالنجيع خضيب
عجبت سيوفهم لشدة بأسهم ... فتبسمت والجو في تقطيب
نظموا بلبات العلا واستوسقوا ... كالرمح أنبوباً إلى أنبوب
تروي العوالي والمعالي عنهم ... أثر الندى المولود والمكسوب
من كل موثوق به إسناده ... بالقطع أو بالوضع غير معيب
فأبو عنان عن علي نصه ... للنقل عن عثمان عن يعقوب
جاءوا كما اتسق الحساب أصالة ... وغدا فذالك (1) ذلك المكتوب
متجسداً من جوهر النور الذي ... لم ترم يوماً شمسه بغروب
متألقاً من مطلع الحق الذي ... هو نور أبصار وسر قلوب
قل للزمان وقد تبسم ضاحكاً ... من بعد طول تجهم وقطوب
هي دعوة الحق التي أوضاعها ... جمعت من الآثار كل غريب
هي دعوة العدل الذي شمل الورى ... فالشاة لا تخشى اعتداء الذيب
لو أن كسرى الفرس أدرك فارساً ... ألقى إليه بتاجه المعصوب
لما حللت بأرضه مستملياً ... ما شئت من بر ومن ترحيب
__________
(1) فذالك: جمع فذلكة وهي محصل الحساب.(6/456)
شمل الرضى فكأن كل أقاحة ... تومي بثغر للسلام شنيب
وأتيت في بحر القرى أم القرى ... حتى حططت بمرفأ التقريب
فرأيت أمن الله في ظل التقى ... والعدل تحت سرادق مضروب
ورأيت سيف الله مطرور الشبا (1) ... يمضي القضاء بحده المرهوب
وشهدت نور الحق ليس بآفل ... والدين والدنيا على ترتيب
ووردت بحر العلم يقذف موجه ... للناس من درر الهدى بضروب
لله من شيم كأزهار الربى ... غب انثيال العارض المسكوب
وجمال مرأى في رداء مهابة ... كالسيف مصقول الفرند مهيب
يا جنة فارقت من غرفاتها ... دار القرار بما اقتضته ذنوبي
أسفي على ما ضاع من حظي بها ... لا تنقضي ترحاته ونحيبي
إن أشرقت شمس شرقت بعبرتي ... وتفيض في وقت الغروب غروبي
حتى لقد علمت ساجعة الضحى ... شجوي وجانحة الأصيل شحوبي
وشهادة الإخلاص توجب رجعتي ... لنعيمها من غير مس لغوب
يا ناصر الدين الحنيف وأهله ... أنضاء مسغبة وفل خطوب
حقق ظنون بنيه فيك فإنهم ... يتعللون بوعدك المرقوب
ضاقت مذاهب نصرهم فتعلقوا ... بجناب عز من علاك رحيب
ودجا ظلام الكفر في آفاقهم ... أوليس صبحك منهم بقريب
فانظر بعين العز من ثغر غدا ... حذر العدا يرنوبطرف مريب
نادتك أندلس ومجدك ضامن ... أن لا يخيب لديك ذو مطلوب
غصب العدو بلادها وحسامك ال ... ماضي الشبا مسترجع المغصوب
أرض السوابح في المجاز حقيقة ... من كل قعدة محرب وجنيب
يتأود الأسل المثقف فوقها ... وتجيب صاهلة رغاء نجيب
__________
(1) المطرور: المشحوذ؛ الشبا: الحد.(6/457)
والنصر يضحك كل مبسم غرة ... واليمن معقود بكل سبيب
والروم فارم بكل نجم ثاقب ... يذكي بأربعها شواظ لهيب
بذوابل السلب التي تركت بني ... زيان بين مجدل وسليب
وأضف إلى لام الوغى ألف القنا ... تظهر لديك علامة التغليب
إن كنت تعجم بالعزائم عودها ... عود الصليب اليوم غير صليب
ولك الكتاب كالخمائل أطلعت ... زهر الأسنة فوق كل قضيب
فمرنح العطفين لا من نشوة ... ومورد الخدين غير مريب
يبدو سداد الرأي في راياتها ... وأمورها تجري على تجريب
وترى الطيور عصائباً من فوقها ... لحلول يوم في الضلال عصيب
هذبتها بالعرض يذكر يومه ... عرض الورى للموعد المكتوب
وهي الكتائب إن تنوسي عرضها ... كانت مدونة بلا تهذيب (1)
حتى إذا فرض الجلاد جداله ... ورأيت ريح النصر ذات هبوب
قدمت سالبة العدو وبعدها ... أخرى بعز النصر ذات وجوب (2)
وإذا توسط وصل سيفك عندها ... جزأي قياسك فزت بالمطلوب
وتبرأ الشيطان لما أن علا ... حزب الهدى من حزبه المغلوب
الأرض إرث والمطامع جمة ... كل يهش إلى التماس نصيب
وخلائف التقوى هم وراثها ... فإليكها بالحظ والتعصيب
لكأنني بك قد تركت ربوعها ... قفراً بكر الغزووالتعقيب (3)
وأقمت فيها مأتماً لكنه ... عرس لنسر بالفلاة وذيب
وتركت مفلتها بقلب واجب ... رهباً وخد بالأسى مندوب
تبكي نوادبها وينقلن الخطا ... من شلو طاغية لشلو سليب
__________
(1) يومي إلى المدونة في الفقه المالكي، وتهذيب المدونة للبرادعي.
(2) في هذا البيت وما بعده إشارات إلى المصطلح المنطقي.
(3) التعقيب: العودة ثانية، وهو من قولهم " قدح معقب " أي يعاد إلى الخريطة مرة بعد مرة.(6/458)
جعل الإله البيت منك مثابة ... للعاكفين وأنت خير مثيب
فإذا ذكرت كأن هبات الصبا ... فضت بمدرجها لطيمة (1) طيب
لولا ارتباط الكون بالمعنى الذي ... قصر الحجى عن سره المحجوب
قلنا لعالمك الذي شرفته ... حسد البسيط مزية التركيب
ولأجل قطرك شمسها ونجومها ... عدلت من التشريق للتغريب
تبدو بمطلع أفقها فضية ... وتغيب عندك وهي في تذهيب
مولاي أشواقي إليك تهزني ... والنار تفضح عرف عود الطيب
بحلى علاك أطلتها وأطبتها ... ولكم مطيل وهوغير مطيب
طالبت أفكاري بفرض بديهها ... فوفت بشرط الفور والترتيب
متنبئ أنا في حلى تلك العلى ... لكن شعري فيك شعر حبيب
والطبع فحل، والقريحة حرة ... فاقبله بين نجيبة ونجيب
هابت مقامك فاطبيت (2) صعابها ... حتى غدت ذللاً على التدريب
لكنني سهلتها وأدلتها ... من كل حشي بكل ربيب (3)
إن كنت قد قاربت في تعديلها ... لا بد في التعديل من تقريب (4)
عذري لتقصيري وعجزي ناسخ ... ويجل منك العفوعن تثريب
من لم يدن لله فيك بقربة ... هو من جناب الله غير قريب ولما احتفل السلطان لإعذار ولده نظمت هذه القصيدة مساعدة لمن نظم من الأصحاب، وتشتمل على أوصاف من ذكر الحلبة التي أرسلها، والطلبة التي
__________
(1) اللطيمة: وعاء الطيب أو قافلة تحمل طيوباً.
(2) اطبيت: استملت.
(3) الوحشي: اللفظ الوحشي؛ والربيب: المربب المألوف في البيت يعني به القول؛ ولعل فيع غشارة بعيدة إلى وحشي قاتل حمزة وإلى الربيب مثل عمر بن أبي سلمة الذي كان ربيب النبي (ص) .
(4) التعديل والتقريب من مصطلحات الحساب والفلك.(6/459)
نصبها في الهواء للفرسان يرسلون العصي إليها، والثيران التي أرسل عليها الأكلب الرومية تمسكها في صورة القرط من آذانا، وهي آخر النظم في الأغراض السلطانية، قصر الله تعالى ألسنتنا على ذكره، وشغلها به عن غيره:
شحطت وفود الليل بان به الوخط ... وعسكره الزنجي هم به القبط
أتاه وليد الصبح من بعد كبرة ... أيولد أجنا (1) ناحل الجسم مشمط
كأن النجوم الزهر أعشار سورة ... ومن خطرات الرجم أثناءها مط
وقد وردت نهر المجرة سحرة ... غوائص فيه مثلما تفعل البط
وقد جعلت تفلي بأنملها الفلا ... ويرسل منها في غدائره مشط
يجف عباب الليل عنها جواهراً ... فيكثر فيها النهب للحين واللقط
فسارت خيالاً مثلها، غير أنه ... من البث والشكوى يبين له لغط
سرت سلخ شهر في تلفت مقلة ... على قتب الاحلام تسمو وتنحط
لي الله من نفس شعاع ومهجة ... إذا قدحت لم يخب من زندها سقط
ونقطة قلب أصبحت منشأ الهوى ... وعن نقطة مفروضة ينشأ الخط (2)
فأقسم لولا زاجر الشيب والنهى ... ونفس لغير الله ما خضعت قط
لريع لها الأحراس مني بطارق ... مفارقه شمط وأسيافه شمط
تناقله كوماء سامية الذرا ... ويقذفه شهم من النيق منحط
ولولا النهى لم تستهن سبل الهدى ... وكاد وزان الحق يدركه الغمط
ولولا عوادي الشيب لم يبرح الهوى ... يهيجه نوء على الرمل مختط
ولولا أمير المسلمين محمد ... لهالت بحار الروع واحتجب الشط
ينوب عن الإصباح إن مطل الدجى ... ويضمن سقي السرح إن عظم القحط
__________
(1) الأجنأ - وهو مهموز الآخر - الأحدب.
(2) قد مر بنا استخدام لسان الدين لمعارفه في الشعر، وهو هنا يظهر شيئاً من معرفته الهندسية.(6/460)
تقر له الأملاك بالشيم العلا ... إذا بذل المعروف أونصب القسط
أرادوه فارتدوا، وجاروه فانثنوا ... وساموه في مرقى الجلالة فانحطوا
تبر على المداح غر خلاله ... وما رسموا فوق الطروس وما خطوا
تعلم منه الدهر حاليه في الورى: ... فآونة يسخو، وآونة يسطو
ويجمع بين القبض والبسط كفه ... بحكمة من في كفه القبض والبسط
خلائق قد طابت مذاقاً ونفحةً ... كما مزجت بالبارد العذب إسفنط (1)
أسبط الإمام الغالبي محمد ... ويا فخر ملك كنت أنت له سبط
وقتك أواقي الله من كل غائل ... فأي سلاح ما المجن وما اللمط (2)
لقد زلزلت منك العزائم دولة ... أناخت على الإسلام تجني وتشتط
إيالة غدر ضيع الله ركنها ... ونادى بأهليها التبار فلم يبطوا
على قدر جلى بك الله بؤسها ... ولا يكمل البحران أوينضج الخلط
وكانوا نعيم الجنتين تفيأوا ... ولما يقع منها النزول ولا الهبط (3)
فقد عوضوا بالأثل والخمط بعدها ... وهيهات أين الأثل منها أو الخمط
فمن طائح فوق العراء مجدل ... ومن راسف في القيد أزهقه الضغط
واتحف منك الله أمة أحمد ... أماناً كما يضفوعلى الغادة المرط
أنمت على مهد الأمان عيونها ... فيسمع من بعد السهاد لها غط
وصم صدى الدنيا فلما رحمتها ... تزاحم مرتاد عليها ومختط
وأحكمت عقد السلم لم تأل بعده ... وجاء فصح العقد واستوثق الربط
وأيقن مرتاب، وأصحب نافر ... وأذعن معتاصٌ، وأقصر مشتط
__________
(1) الإسفنط: اسم للخمر.
(2) اللمط: الدرق اللمطية، منسوبة إلى لمطة من قبائل المغرب.
(3) استوحى في هذا البيت والذي يليه الآية الكريمة " لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان ... الآية ". (سبأ: 15) .(6/461)
ولله مبناك الذي معجزاته ... سمت أن توافيها الشفاه أو الخط
وأنست غريب الدار مسقط رأسه ... ومن دون فرخيه القتادة والخرط
تناسبت الأوضاع فيك وأحكمت ... على قدر حتى الأرائك والبسط
فجاء على وفق العلا رائق الحلى ... كما سمط المنظوم أونظم السمط
ولله إعذار دعوت له الورى ... فهبوا لداعيه المهيب وإن شطوا
تقودهم الزلفى، ويدعوهم الرضى ... ويحدوهم الخصب المضاعف والغبط
وأغريت بالبهم العلاج تحفياً ... فلم يذخر الشيء الغريب ولا السمط (1)
أتت صورةً معلولة عن مزاجها ... وأصل اختلاف الصورة المزج والخلط
قضيت بها دين الزمان، ولم يزل ... أكد كذوب الوعد يلوي ويشتط
وأرسلت يوم السبق كل طمرة ... كما قذف الملمومة النار والنفط
رنت عن كحيل كالغزال إذا رنا ... وأوفت بهادٍ كالظليم إذا يعطو
وقامت على منحوتة من زبرجد ... تخط على الصم الصلاب إذا تخطو
وكل عتيق من تماثل رومة ... تأنق في استخطاطه القس والقمط
وطاعنة نحر السكاك أعانها ... على الكون عرق واشج ولحى سبط
تلقف حيات العصي إذا هوت ... فثعبانها لا يستقيم له سرط
أزرت بها بحر الهواء سفينة ... على الجولا الجودي كان لها حط
وطاردت مقدام الصوار بجارح ... يصاب به منه الصماخ أو الإبط
متين الشوا في رأسه سمهرية ... مقصرة عنهن ما نيبت الخط
وقد كان ذا تاج فلما تعلقا ... بسامعتيه زانه منهما قرط
وجيء بشبل الملك ينجد عزمه ... عليه الحفاظ الجعد والخلق السبط
سمحت به لم ترع فرط ضنانة ... وفي مثلها من سنة يترك الفرط
فأقدم مختاراً، وحكم عاذراً ... ولم يشتمل مسك عليه ولا ضبط
__________
(1) السمط: الخفيف الجسم.(6/462)
ولو غير ذات الله رامته نصنصت ... قناً كالأفاعي الرقط أودونها الرقط
وأسد نزال من ذؤابة خزرج ... بها ليل لا روم القديم ولا قبط
جلادهم مثنى إذا اشتجر الوغى ... كأن رعاء بالعضاه لها خبط
كتائب أمثال الكتاب تتالياً ... فمن بيضها شكل، ومن سمرها نقط
دليلهم القرآن، يا حبذا الهدى ... ورهطهم الأنصار، يا حبذا الرهط
وبيض كأمثال البروق غمامها ... إذا وشحت سحب القتام دم عبط
ولكنه حكم يطاع وسنة ... وأعمال بر لا يليق بها الحبط
وربت نقص للكمال مآله ... ولا غرو فالأقلام يُصلحها القط
فهنيته صنعاً ودمت مملكاً ... عزيزاً تشيد المعلوات وتختط
ودون الذي يهدي ثناؤك في الورى ... من الطيب ما تهدي الالوة والقسط (1)
رضيت ومن لم يرض بالله حاكماً ... ضلالاً فلله الرضى وله السخط
حياتك للإسلام شرط حياته ... ولا يوجد المشروط إن عدم الشرط هذا كاف في المطولات لنجلب منها عرضاً يدل على حبوبها، ونتحف منها أنفس الظرفاء بمطلوبها، منقولة من الكتاب المسمى " بأبيات الأبيات " ومن الكتاب المسمى " بالصيب والجهام ".
فمن التورية على طريقة المشارقة قولي (2) :
مضجعي فيك عن قتادة يروي ... وروى عن أبي الزناد فؤادي
وكذا النوم شاعر فيك أمسى ... من دموعي يهيم في كل وادي ومن هذا الباب أيضاً:
__________
(1) الألوة: العودة يتبخر به؛ والقسط: عود هندي أيضاً يدخل في البخور والطيب.
(2) راجعت أكثر المقطعات على نسخة الإحاطة ولكنها لم ترد على الترتيب الذي جاءت فيه في النفح؛ ولست أرى حاجة إلى شرحها في الحواشي؛ وانظر أيضاً أزهار الرياض 1: 304 - 313 فقد ورد أكثرها هنالك؛ وكذلك نثير فرائد الجمان: 248 - 256.(6/463)
ولما رأت عزمي حثيثاً على السرى ... وقد رابها صبري على موقف البين
أنت بصحاح الجوهري دموعها ... فعارضت من دمعي بمختصر العين وفي هذا المعنى:
كتبت بدمع عيني صفح خدي ... وقد منع الكرى هجر الخليل
وراب الحاضرين، فقلت: هذا ... كتاب العين ينسب للخليل ومن الأغراض الظريفة فيها:
تعجلت وخط الشيب في زمن الصبا ... لخوضي غمار الهم في طلب المجد
فمهما رأيتم شيبة فوق مفرقي ... فلا تنكروها إنها شيبة الحمد ومن التورية بالنجوم، والكاتب بيته بيت شرفه:
بأوت على زمني همة ... فأعتبني الزمن العاتب
وشرفني الله في موطني ... وفي بيته بشرف الكاتب وأبدع منها قولي لمن يدعى بشمس الدين:
قل لشمس الدين وقيت الردى ... لم يدع سقمك عندي جلدا
رمدت عينك هذا عجب ... أو عين الشمس تشكو الرمدا وقلت في غرض التورية بما يظهر من الأبيات:
أفل الألى كانوا نجو ... ماً للورى فالكون مظلم
وتناكر الناس الحدي ... ث الحق وافتقد المعلم
أنا كاتب السلطان ما ... طالعت قط كتاب مسلم
إلا سخاماً قادحاً ... في الدين والله المسلم(6/464)
وفي معنى الدعابة مع بعض الطلبة:
قال لي عندما أتى بجدال ... وشكوك على أصول الدين
ولساني يبدل الدال تاءً ... عاجز في الأمور عن تبيين
التمس مخرجاً يوافق قولي ... قلت: أحسنت يا حلال التين وفي التورية:
اذمم ذوي التطفيل مهما أتى ... وإن تكن أجملتهم فاعنه
يمشي على رجليه مع انه ... من جنس من يمشي على بطنه وقلت:
أفقد جفني لذيذ الوسن ... من لم أزل فيه خليع الرسن
عذاره المسكي في خده ... أنبته الله النبات الحسن وقلت في رثاء من اسمه حسن:
أشكو إلى الله من بثي ومن شجني ... لم أجن من محنتي شيئاً سوى محن
أصابت الحسن العين التي رشقت ... وعادة العين لا تصمي سوى الحسن وفي الشيب:
تفر عن الشيب الغواني تعززاً ... كما يعتريها إن رأت سام أبرصا
بدا وضحاً في جدة العمر شانياً ... فمن سام شيخاً فهوقد سام أبرصا وقلت في السها من النجوم الجوفية:
قالوا: السها بادي النحول كأنه ... متستر تبدو مخايل خوفه
أتراه يشكو قلت: هذا ممكن ... والله يعلم داره من جوفه(6/465)
وقلت:
عابوا وقالوا: بساقه شعر ... لقد عداه الكمال من ساق
قلت: انظروا ورد روض وجنته ... وكل ورد مشوك الساق وقلت في التضمين:
رفعت قصة اشتياقي ليحيى ... فزوى الوجه رافضاً للفتوه
رمى بالكتاب ضعف اهتبال ... قلت يحيى خذ الكتاب بقوه وقلت:
وذي حيل يعيي التقية أمره ... مكايده في لجة اليل تسبح
يدب شبول الليث، والليث ساهر ... ويسرق ناب الكلب، والكلب ينبح وقلت:
لما رأوا كلفي به ودروا ... مقدار ما لي فيه من حب
قالوا الفتى حلو فقلت لهم ... طلعت حلاوته على قلبي وقلت، ولهما حكاية:
وذي زوجة تشكوفقلت له: اسقها ... دواءً من الحب الملين لبطن
فقال: أبت شرب الدواء بطبعها ... فقلت: اسقها إن عافت الشرب بالقرن وقلت:
لعنوا برياً من خبائث ظنهم ... فالله يلعن أهل سوق العنبر
والله لا أوطأت ساقي سوقهم ... أبد الزمان فتلك سوق العن بري ومن الفكاهات:(6/466)
ولما دعاني داعي الهوى ... واخلف ما كنت أملته
ولم يبق غير البكا حيلة ... بكيت بمقدار ما نلته وقلت: وقد رفع للسلطان باكورة بنفسج:
قدم البنفسج وهونعم الوارد ... قد نم منه إلي طيب زائد
فسألته: ما باله فأجابني ... والحق لا يبغى عليه شاهد
أقبلت أطلب من بنان محمد ... صلة فعاد علي منه عائد وقلت من التشبيه:
سهرنا وفي سير النجوم اعتبارنا ... إلى أن ضفا لليل من فوقنا ريط
فخلنا شهاب الرجم إبرة خائط ... مسوحاً وما يبقى من الذنب الخيط وقلت أودع صديقاً أنست به:
فلاحة مثلي ممقوتة ... وإن أعجب البدء منها وراق
زرعت اللقاء وعالجته ... فلم أستفد منه إلا الفراق ومن تضمين المثل:
لا تهج بالذكر في كبدي ... نار وجد شق محتمله
ويقول الناس في مثل ... لا تحرك من دنا أجله ومن المدح:
عجباً لراحتك الملثة بالندى ... أن لا تكون على الغمام غماما
يهمي ووجهك نوره متألق ... والقطر إن سحب السحاب أغاما ومن أبيات المدح:(6/467)
يا ناصر الدين لما قل ناصره ... ومطلع الجود في الدنيا وقد أفلا
لولا التشهد والترداد منك له ... لم يسمع يوماً من لسانك لا ومن أوصاف صنيع سلطاني:
ماذا أحدث في صنيع خلافة ... هشت إليه الشهب في آفاقها
فكأنما الجوزاء حين تعرضت ... شدت لتخدم فيه عقد نطاقها ومن قصيدة في وصف فرس:
فبوأته من مهجتي متبوأ ... خفياً على سر الفؤاد المكتم
ويا عجباً مني وفرط تشيعي ... أهيم بوجدي فيه وهوابن ملجم ومن الحماسة في التورية بالمنطق:
حتى إذا فرض الجلاد جداله ... ورأيت ريح النصر ذات هبوب
قدمت سالبة العدو وبعدها ... أخرى بعز النصر ذات وجوب
وإذا توسط حد سيفك عندها ... جزأي قياس فزت بالمطلوب وفي خاتمة قصيدة:
ما ضرني إن لم أجئ متقدماً ... السبق يعرف آخر المضمار
ولئن غدا ربع البلاغة بلقعاً ... فلرب كنز في أساس جدار ومن المدح:
إن أبهم الخطب جلى في دجنته ... رأياً يفرق بين الرأي والرشد
وإن عتا الدهر أبدى من أسرته ... وكفه هدي حيران وري صد(6/468)
وإن نظرت إلى لألاء غرته ... يوم الهياج رأيت الشمس في الأسد ومن الأوصاف في قصيدة:
كم ليال بت في ظلمائها ... أمتطي من نار شوقي فرشا
وكأن النجم شرب ثمل ... واصل الثملة حتى ارتعشا ومن النورية بالكفتين من الحيل العددية:
لا عدل في الملك إلا وهو قد نصبه ... وصير الخلق في ميزانه عصبه
والكفتان ترى من كفه درتا ... أن تخرج العدد المجهول للطلبه وفي رجل يحتال على الولاية (1) :
حلفت لهم بأنك ذو يسار ... وذو ثقة وبر في اليمين
ليستندوا إليك بحفظ مال ... فتأكل باليسار وباليمين وقلت، ولهما حكاية تظهر من الأبيات:
قلت لما استقل مولاي زرعي ... ورأى غلة الطعام قليله
دمنتي لانتجاعي الحرث كلت ... فهي اليوم دمنة وكليله ومما صدرت به كتاباً لأحد الفضلاء:
يا من تقلد للعلاء سلوكا ... والفضل صير نهجه مسلوكا
كاتبتني متفضلاً فملكتني ... لا زلت منك مكاتباً مملوكا وقلت في غرض يظهر منه:
__________
(1) يتفق لسان الدين وابن رضوان في هذه التورية، انظر ما تقدم ص: 112.(6/469)
جلس المولى لتسليم الورى ... ولفصل البرد في الجو احتكام
فإذا ما سألوا عن يومنا ... قلت: هذا اليوم برد وسلام وقلت من التورية:
يا مالكي بخلال ... تهدي إلى القلب حيره
أضرمت قلبي ناراً ... يا مالك بن نويره وقلت في التورية:
أضاف إلى الجفون السود شعراً ... كجنح الليل أوصبغ المداد
فقلت أمير هذا الحسن تزكو ال ... أجور له بتكثير السواد وقلت أيضاً:
بأبي بدر غزاني ... مستبيحاً شرح صدري
فأنا اليوم شهيد ال ... حب من غزوة بدر وقلت، ولهما (1) حكاية:
أبا ليلة بالخصب لم تأل شهرة ... كما اشتهرت في فضلها ليلة القدر
فآمن قلب اللوز من علة (2) النوى ... وأصبح فيها التين منشرح الصدر ومن النزعات المشرقية في التورية:
يا قائدي نحوالغرام بمقلة ... نفقت حلاوتها بكل فؤادي
ماذا جنيت علي من مضض الهوى ... الله ينصف منك يا قوادي
__________
(1) ق: ولها.
(2) ق: من غمة.(6/470)
ومن هذا النمط المشرقي:
وقالت حلقت الكس مني بنورة ... فقلت لها استنصرت من ليس ينصر
ألا فابلغي عني فديتك واصدقي ... محلق ذاك الكس أني مقصر ومنها:
قال لي والدموع تنهل سحاً (1) ... في عراض من الخدود محول
بك ما بي فقلت مولاي عافا ... ك المعافي من عبرتي ونحولي
أنا جفني القريح يروي عن الأع ... مش، والجفن منك عن مكحول ومن أبيات التورية أوما داخلته:
في مصر قلبي من خزائن يوسف ... حب وعير مدامعي تمتاره
حليت شعري باسمه فكأنه ... في كل قطر حله ديناره ومن المدح أيضاً ولا أستحضر لقبه:
رأيت بكفك اعتباراً ... بأساً وندى ما إن يبارى
فقلت وقد عجبت منها ... يا بحر متى تدعو نوارا وقلت مما يجري مجرى الحكم:
إن الهوى لشكاية معروفة ... صبر التصبر من أجل علاجها
والنفس إن ألفت مرارة طعمه ... ضمنت بذاك له صلاح مزاجها ومن الغرائب في الأوصاف:
كأنما الروض ملك ... باهى به جلساه
__________
(1) ق: سحباً.(6/471)
يرضى النديم فمهما ... سقى الرياض كساه وفي غرض النسيب:
أصبح الخد منك جنة عدن ... مجتلى أعين وشم أنوف
ظللته من الجفون سيوف ... جنة الخلد تحت ظل السيوف وقلت في النسيب:
أرسلت طرفي في حلاك بنظرة ... هي كانت السبب الغريب لما بي
وأراك بالعبرات قد عاقبتها ... ليس الرسول بموضع لعقاب ومن تحسين القبيح:
وأحول يعدي القلب سهم جفونه ... فتضحي صحيحات القلوب به مرضى
رأى الحسن أن اللحظ منه مهند ... فحرفه كيما يكون له أمضى ومن النزعات الحسنة:
من لي بذكرى كلما أوجزتها ... تمحو سلوي واشتياقي تثبت
وسحاب دمع كلما أمطرته ... غير القتاد بمضجعي لا ينبت ومن النسيب:
جاء العذار بظل غير ممدود ... فمنتهى الحسن منه غير محدود
ناديت قلبي إذ لاحت طلائعه ... يا صبر أيوب هذا درع داود وفي نقيضه:
ما ضر مني أن أخلفت موعودي ... وروض خدك أضحى ذاوي العود
وقال قوس عذار فوق صفحته ... سفينة الحسن قد حطت على الجودي(6/472)
ومن التضمين:
يا من بأكناف فؤادي ربع (1) ... قد ضاق بي عن حبك المتسع
ما فيك لي جدوى ولا أرعوي ... شح مطاع وهوى متبع ومن الأغراض المخترعة:
أنكر ت لما أطل عارضه ... فقال لي حين رابه نظري
ألم تقل لي بأنني قمر ... فانظر إلى وبر أرنب القمر ومن التضمين:
يا كوكب الحسن يا معناه يا قمره ... يا روضه المتناهي الريع يا ثمره
أمرتني بسلو عنك ممتنع ... مأمور حسنك لما يقض ما أمره وقلت:
لما رضيت بفرقتي وبعادي ... وصرمت آمالي وخنت ودادي
لاعنت أم الصبر فيك وبعده ... ورثت للأشجان كنز فؤادي
فالصبر مني أجنبي بعدها ... ولواعج الأشجان من أولادي ومن الأغراض المشرقية:
سار بي للأمير يشكواعتراضي ... يوسف والشهود أبناء جنسه
قال لي ما تقول قلت مجيباً ... لم نخف من نكاله أو لحبسه
حصحص الحق يا خوند فدعني ... أنا راودت يوسفاً عن نفسه ومن الأوصاف:
__________
(1) ق: رقع.(6/473)
بتنا نطارح هم القحط ليلتنا ... وأيد الهم والسهد البراغيثا
وكان يحمد ما كنا نكابده ... من المشقة لو أن البرا غيثا وفي قريب من المعنى:
وقالوا بدت منكم على الجسم حمرة ... فقلت براغيث لكم رقطونا
عدت نحونا ليلاً ومن بعدنا اغتدت ... كما رقصت في القلوبزر قطونا ومن التضمين:
قال جوادي عندما ... همزت همزاً أعجزه
إلى متى تهمزني ... " ويل لكل همزة " وفي رثاء السلطان أبي الحجاج رحمه الله تعالى:
غبت فلا عين ولا مخبر ... ولا انتظار منك مرقوب
يا يوسف أنت لنا يوسف ... وكلنا في الحزن يعقوب وقلت، ولهما حكاية:
طال حزني لنشاط ذاهب ... كنت أسقى دائماً من حانه
وشباب كان يندى نضرة (1) ... نزل الثلج على ريحانه وقلت، وقد اعجبني نشاط ولدي:
سرق الدهر شبابي من يدي ... ففؤادي مشعر بالكمد
وحمدت الأمر إذ أبصرته ... باع ما أفقدني من ولدي
__________
(1) ق: وشباب كان يندى من يدي.(6/474)
وقلت، ولهما حكاية:
قلت للشيب لا يربك جفائي ... في اختصاري لك البرور ومقتك
أنت بالعتب با مشيبي أولى ... جئتني غفلة وفي غير وقتك ومما خططته في رملة نزلتها:
أقمنا برهة ثم ارتحلنا ... كذاك الدهر حال بعد حال
وكل بداية فإلى انتهاء ... وكل إقامة فإلى ارتحال
ومن سام الزمان دوام أمر ... فقد وقف الرجاء على المحال وقلت أيام مقامي بسلا:
أيا أهل هذا القطر ساعده القطر ... بليت فدلوني لمن يرفع الأمر
تشاغلت بالدنيا ونمت مفرطاً ... وفي شغلي أو نومتني سرق العمر وقلت، والبقاء لله وحده، وبه نختم الهذر:
عد عن كيت وكيت ... ما عليها غير ميت
كيف ترجو حالة البق ... يا لمصباح وزيت انتهى ما نقلته من " الإحاطة " من ترجمة نظمه، وبعض ما ذكر هنا قد تقدم، وكررته لكونه بلفظه في الإحاطة، وقد ذكرت أثناء الأبواب غير هذا الباب من نظم لسان الدين - رحمه الله تعالى - كثيراً، ولنعزز ذلك هنا بذكر ما لم يتقدم ذكره، إذ نظمه بحر لا ساحل له، ولذا كتب ابنه أبوالحسن على هذا المحل من الإحاطة ما صورته: ولوالدي أيضاً المترجم به - رحمه الله تعالى - في سكين الأضاحي لسلطانه أبي الحجاج يوسف بن نصر فيما يكتب بالسكين المضحية:(6/475)
لي الفخر إن أبصرتني أوسمعت بي ... على كل مصقول الغرارين مرهف
كفاني فخراً أن تراني قائماً ... بسنة إبراهيم في كف يوسف ومقطوعاته كثيرة لم يتضمن هذا الديوان منها إلا القليل بسبب الاختصار، ومن أراد الوقوف على جملتها فعليه بكتاب الصيب والجهام في شعره، رحمه الله تعالى، قال ذلك ولده علي، لطف الله تعالى به آمين؛ انتهى.
فمن ذلك قوله رحمه الله تعالى (1) :
عسى خطرة بالركب يا حادي العيس ... على الهضبة الشماء من قصر باديس (2)
لنظفر من ذاك الزلال بعلة ... وننعم في تلك الظلال بتعريس
حبست بها ركبي فواقاً، وإنما ... عقدت على قلبي بها عقد تحبيس (3)
لقد رسخت آي الجوى في جوانحي ... كما رسخ الإنجيل في قلب قسيس
بميدان جفني للسهاد كتيبة ... تغير على سرح الكرى في كراديس
وما بي إلا نفحة حاجزية ... سرت والدجى ما بين وهن وتغليس
ألا نفس يا ريح من جانب الحمى ... تنفس من نار الجوى بعض تنفيس
ويا قلب لا تلق السلاح فربما ... تعذر في الدهر اطراد المقاييس
وقد تعتب الأيام بعد عتابها ... وقد يعقب الله النعيم من البوس
ولا تخش لج الدمع يا خطرة الكرى ... إلى الجفن بل قيسي على صرح بلقيس
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ... مقالة تأنيب يشاب بتأنيس
وقد كنت تعطوكلما هبت الصبا ... بريان في ماء الشبيبة مغموس
ومن رابح الأيام يا ابنة عامر ... بجوب الفلا راحت يداه بتفليس
__________
(1) الإحاطة: 421 وأزهار الرياض 1: 234.
(2) قصر باديس: فرضة بالمغرب تقابل مالقة من الديار الأندلسية.
(3) التحبيس: الوقف الدائم.(6/476)
فلا تحسبي والصدق خير سجية ... ظهور النوى إلا بطون النواميس (1)
وقفراء أما ركبها فمضلل ... ومربعها من آنس غير مأنوس
سحبنا بها من هضبة لقرارة ... ضلالاً وملنا من كناس إلى خيس
إذا ما نهضنا عن مقيل غزالة ... نزلنا فعرسنا بساحة عريس (2)
أدرنا بها كأساً دهاقاً من السرى ... أملنا بها عند الصباح من الروس
وحانة خمار هدانا لقصدها ... شميم الحميا واصطكاك النواقيس
تطلع ربانيها من جداره ... يهينم في جنح الظلام بتقديس
بكرنا وقلنا إذ نزلنا بساحه ... عن الصافنات الجرد والضمر العيس
أيا عابد الناسوت إنا عصابة ... أتينا لتثليث بلى ولتسديس
وما قصدنا إلا المقام بحانة ... وكم ألبس الحق المبين بتلبيس
فأنزلنا قوراء في جنباتها (3) ... محاريب شتى لاختلاف النواميس
بدرنا بها طين الختام بسجدة ... أردنا بها تجديد حسرة إبليس
ودار العذارى بالمدام كأنها ... قطيع تهادى (4) في رياش الطواويس
وصارفنا فيها نضاراً بمثله ... كأنا ملأنا الكاس ليلاً من الكيس
وقمنا نشاوى عندما متع الضحى ... كما نهضت غلب الأسود من الخيس
فقال لبئس المسلمون ضيوفنا ... أما وأبيك الحبر ما نحن بالبيس
وهل في بني مثواك إلا مبرز ... بحلبة شورى أوبحلقه تدريس
إذا هز عسال اليراعة فاتكاً ... أسال نجيع الحبر فوق القراطيس
يقلب تحت النقع مقلة ضاحك ... إذا التفت الأبطال عن مقل شوس
__________
(1) لعل صوابها: " النواويس ".
(2) العريس: عرين الأسد.
(3) ق: فوراً على جنباتها، والتصويب عن أزهار الرياض والإحاطة.
(4) الأزهار: قطا تتهادى؛ وسقط البيت من الإحاطة.(6/477)
سبينا عقار الروم في عقر دارها (1) ... بحلية تمويه وخدعة تدليس
لئن أنكرت شكلي ففضلي واضح ... وهل جائز في العقل إنكار محسوس
رسبت بأقصى الغرب ذخر مضنة ... وكم درة علياء في قاع قاموس
وأغريت سوسي بالعذيب وبارق ... على وطن داني الجوار من السوس ومن أبدع ما صدر (2) عن لسان الدين رحمه الله تعالى لاميته المشهورة التي خاطب بها السلطان حين عاد من المغرب إلى الأندلس، وأعاد الله تعالى عليه ملكه الذي كان خلع منه، ويقال: إن السلطان أمر بكتب هذه القصيدة على قصوره بالحمراء إعجاباً بها، وإنها إلى الآن لم تزل مكتوبة بتلك القصور التي استولى عليها العدوالكافر، أعادها الله تعالى للإسلام، وأول هذه القصيدة:
الحق يعلو والأباطل تسفل ... والله عن أحكامه لا يسأل قال لسان الدين رحمه الله تعالى: نظمتها للسلطان - أسعده الله تعالى - وأنا بمدينة سلا، لما انفصل طالباً حقه بالأندلس، كان صنع الله تعالى براعة استهلالها، ووجهت بها إليه إلى رندة قبل الفتح، ثم لما قدمت أنشدتها بعد الفتح وفاء بنذري وسميتها " المنح الغريب في الفتح القريب " ومنها:
وإذا استحالت حالة وتبدلت ... فالله عز وجل لا يتبدل
واليسر بعد العسر موعود به ... والصبر بالفرج القريب موكل
والمستعد لما يؤمل ظافر ... وكفاك شاهد قيدوا " وتوكلوا " (3)
أمحمد والحمد منك سجية ... بحليها دون الورى تتجمل
أما سعودك فهي دون منازع ... عقد بأحكام القضاء مسجل
__________
(1) الإحاطة والأزهار: خانها.
(2) انظر أزهار الرياض 1: 262.
(3) يشير إلى الحديث " اعلقها وتوكل ".(6/478)
ولك السجايا الغر والشيم التي ... بغريبها يتمثل المتمثل
ولك الوقار إذا تزلزلت الربى ... وهفت من الروع الهضاب المثل
عوذ كمالك ما استطعت فإنه ... قد تنقص الأشياء مما تكمل
تاب الزمان إليك مما قد جنى ... والله يأمر بالمتاب ويقبل
إن كان ماض من زمانك قد مضى ... بإساءة قد سرك المستقبل (1)
هذا بذاك فشفع الجاني الذي ... أرضاك فيما قد جناه الاول
والله قد ولاك أمر عباده ... لما ارتضى بك قيماً لا تعزل
وإذا تغمدك الإله بنصره ... وقضى لك الحسنى فمن ذا يخذل ومنها:
وظعنت عن أوطان ملكك راكباً ... متن العباب فأي صبر يجمل
والبحر قد حنيت عليك ضلوعه ... والريح تقطع للزفير وترسل
ولك الجواري المنشآت قد اغتدت ... تختال في برد الشباب وترفل
جوفاء يحملها ومن حملت به ... من يعلم الأنثى وماذا تحمل ومنها:
صبحتهم غرر الجياد كأنما ... سد الثنية عارض متهلل
من كل منجرد أغر محجل ... يرمي الجلاد به أغر محجل
زجل الجناح إذا أجد لغاية (2) ... وإذا تغنى للصهيل فبلبل
جيد كما التفت الظليم وفوقه ... أذن ممشقة وطرف أكحل
فكأنما هوصورة في هيكل ... من لطفه وكأنما هو هيكل
__________
(1) سقط هذا البيت من ق.
(2) الأزهار: لغارة.(6/479)
ومنها:
وخليج هند راق حسن صفائه ... حتى يكاد يعوم فيه الصيقل
غرقت بصفحته النمال وأوشكت ... تبغي النجاة فأوثقتها الأرجل
فالصرح منه ممرد، والصفح من ... هـ مورد، والشط منه مهدل (1)
وبكل أزرق إن شكت ألحاظه ... مره العيون فبالعجاجة تكحل
متأود أعطافه في نشوة ... مما يعل من الدماء وينهل
عجباً له أن النجيع بطرفه ... رمد، ولا يخفى عليه مقتل ومنها:
لله موقفك الذي وثباته ... وثباته مثل به يتمثل
والخيل خط، والمجال صحيفة ... والسمر تنقط، والصوارم تشكل
والبيض قد كسرت حروف جفونها ... وعوامل الأسل المثقف تعمل
لله قومك عند مشتجر القنا ... إذ ثوب الداعي المهيب وأقبلوا
قوم إذا لفح الهجير وجوههم ... حجبوا برايات الجهاد وظللوا وهي طويلة لم يحضرني الآن منها سوى ما كتبته.
ومن نظمه رحمه الله تعالى قوله (2) :
يا إمام الهدى وأي إمام ... أوضح الحق بعد إخفاء رسمه
أنت عبد الحليم، حلمك نرجو ... فالمسمى له نصيب من اسمه وقال يخاطب عبد الواحد بن زكريا بن أحمد اللحياني أبا مالك ابن سلطان إفريقية مودعاً (3) :
__________
(1) الأزهار: مصندل.
(2) أزهار الرياض 1: 261.
(3) المصدر نفسه.(6/480)
أبا مالك أنت نجل الملوك ... غيوث الندى وليوث النزال
ومثلك يرتاح للمكرمات ... وما لك بين الورى من مثال
عزيز بأنفسنا أن نرى ... ركابك مؤذنة بارتحال
وقد خبرت منك خلقاً كريماً ... أناف على درجات الكمال
وفازت لديك بساعات أنس ... كما زار في الليل طيف الخيال
ولولا تعللنا أننا ... نزورك فوق بساط الجلال
ونبلغ فيك الذي نبتغي ... وذاك على الله سهل المنال
لما فترت أنفس من أسى ... ولا برحت أدمع في انهمال
تلقتك حيث حللت (1) السعود ... وكان لك الله في كل حال وتوفي أبومالك المخاطب بهذا في بلاد الجريد سنة750.
ومن نظم ابن الخطيب قوله لما أشرف على الحضرة المراكشية حاطها الله تعالى (2) :
ماذا أحدث عن بحر سبحت به ... من البحار فلا إثم ولا حرج
دحاه مبتدع الأشياء مستوياً ... ما إن به درك كلا ولا درج
حتى إذا ما المنار الفرد لاح لنا ... صحت ابشري يا مطايا جاءك الفرج
قربت من عامر داراً ومنزلةً ... والشاهد العدل هذا الطيب والأرج وقال رحمه الله تعالى (3) :
كأنا بتامسنا نجوس خلالها ... وممدودها في سيرنا ليس يقصر
مراكب في البحر المحيط تخبطت ... ولا جهة تدري ولا البر تبصر
__________
(1) الأزهار: احتللت.
(2) أزهار الرياض: 265.
(3) المصدر نفسه.(6/481)
وقال سامحه الله تعالى، وهومكتوب بالمدرسة التي بناها السلطان أبوالحجاج ابن نصر رحمه الله تعالى (1) :
ألا هكذا تبنى المدارس للعلم ... وتبقى عهود المجد ثابتة الرسم
ويقصد وجه الله بالعمل الرضى ... وتجنى ثمار العز من شجر العزم
تفاخر مني حضرة الملك كلما ... تقدم خصم في الفخار إلى خصم
فأجدى إذا ضن الغمام من الحيا ... وأهدى إذا جن الظلام من النجم
فيا ظاعناً للعلم يطلب رحلة ... كفيت اعتراض البيد أو لجج اليم
ببابي حط الرحل لا تنو وجهة ... فقد فزت في حال الإقامة بالغنم
فكم من شهاب في سمائي ثاقب ... ومن هالة دارت على قمر تم
يفيضون من نور مبين إلى هدىً ... ومن حكمة تجلوالقلوب إلى حكم
جزى الله عيني يوسفاً خير ما جزى ... ملوك بني نصر عن الدين والعلم وقال رحمه الله تعالى (2) : مررت يوماً مع شيخنا أبي البركات ابن الحاج ببعض مسالك غرناطة حرسها الله تعالى فأنشدني من نظمه:
غرناطة ما مثلها حضره ... الماء والبهجة والخضره واستجارني رحمه الله تعالى، فقلت:
سكانها قد أسكنوا جنة ... فهم يلقون بها نضره وقال في تورية طبية (3) :
إني وإن كنت ذا اعتلال ... رث القوى بين الهزال
__________
(1) أزهار الرياض: 1: 272.
(2) المصدر نفسه.
(3) أزهار الرياض 1: 274.(6/482)
في عارض التيس لي شفاء ... فكيف في عارض الغزال وقال رحمه الله تعالى يخاطب شيخه سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق موطئاً على بيت المشارقة في العذار (1) :
أما والذي تبلى لديه السرائر ... لما كنت أرضى الخسف لولا الضرائر
غدوت لضيم ابن الربيب فريسة ... أما ثار من قومي لنصري ثائر
إذا التمست كفي لديه جرايتي ... كأني جان أوبقته الجرائر
وما كان ظني أن أنال جراية ... يحكم من جرائها في جائر
متى جاد بالدينار أخضر زائفاً ... ودارته دارت عليها الدوائر
وقد أخرج التعنيت كيس مرارتي ... ورقت لبلواي النفوس الأخاير (2)
تذكرت بيتاً في العذار لبعضهم ... له مثل بالحسن في الأرض ثائر
وما اخضر ذاك الخد نبتاً، وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر
وجاه ابن مرزوق لدي ذخيرة ... وللشدة العظمى تعد الذخائر
ولو كان يدري ما دهاني لساءه ... وأنكر ما صارت إليه المصائر وقال رحمه الله تعالى يخاطب أحد الشرفاء (3) :
أعيا اللقاء علي إلا لمحة ... في جملة لا تقبل التفصيلا
فجعلت بابك عن يمينك نائباً ... أهديه عند زيارتي تقبيلا
فإذا وجدتك نلت ما أملته ... أو لم أجدك فقد شفيت غليلا ولما دخل رحمه الله تعالى مدينة أنفا (4) ، ومر منها على دار عظيمة تنسب إلى والي
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) اضطربت هذه اللفظة في ق، وأثبتنا ما في أزهار الرياض.
(3) أزهار الرياض 1: 275.
(4) أنفاً: هي الدار البيضاء الحديثة في المغرب.(6/483)
جبايتها عبومن بني الترجمان قارون قومه وغني صنفه، قال (1) :
قد مررنا بدار عبو الوالي ... وهي ثكلى تشكوصروف الليالي
أقصدت بها الحوادث لما ... رشقته بصائبات نبال
كان بالأمس والياً مستطيلاً ... وهو اليوم ما له من وال وقال في الشيخ ابن بطان الصنهاجي (2) :
لله درك يا ابن بطان فما ... لشهير جودك في البسيطة جاحد
إن كان في الدنيا كريم واحد ... يزن الجميع فأنت ذاك الواحد
أجريت فضلك جعفراً يحيا به ... ما كان من مجد فذكرك خالد
فالقوم منك تجمعوا في مفرد ... ولد كما شاء العلاء ووالد
وهي الليالي لا تزال صروفها ... يشقى بموقعها الكريم الماجد
وبمستعين الله يصلح منك ما ... قد كان أفسده الزمان الفاسد وقال رحمه الله تعالى وقد انتابه البرغوث (3) :
زحفت (4) إلي ركائب البرغوث ... نم الظلام يركبها المحثوث
بالحبة السوداء قابل مقدمي ... لله أي قرىً، أعد، خبيث
كسحت بهن ذباب سرح تجلدي ... ليلاً فحبل الصبر جد رثيث
إن صابرت نفسي أذاه تعبدت ... أو صحت منه أنفت من تحنيث
جيشان من ليل وبرغوث فهل ... جيش الصباح لصرختي بمغيث
__________
(1) أزهار الرياض 1: 288.
(2) المصدر نفسه.
(3) أزهار ص: 289.
(4) ق: رجعت.(6/484)
وقال يخاطب الوالي محمد بن حسون بن أبي العلاء، وصدر بها رسالة (1) :
لم يبق لي جود الولاية حاجة ... في الأمن أو في الجاه أو في المال
بعد اللقاء أولو الفضائل بغيتي ... ورأيت هذا القصد شرط كمال
أجملته وتشوفت لبيانه ... همم فكنت مفسر الإجمال
وخصصت بالإلقاء غيرك غيرة ... وجعلت ذكرك شاهد الأعمال
للبست يا ابن أبي العلا قشب الملا ... وتركت أهل الأرض في أسمال
إن دون الفضلاء فضلاً معلماً ... فلقد أتيت عليه بالإكمال
تثني عليك رعية آمالها ... في أن تفوز يداك بالآمال
أرعيتها هملاً فلم يطرق لها ... بمنيع سورك طارق الإهمال
من كنت واليه تولته العلا ... ومن أطرحت فما له من والي وقال في عثمان بن يحيى بن عمر بن روح (2) :
أسمي ذي النورين رجهك في الوغى ... شمس الضحى حلت بليث عرين
إن تفتخر بمرين أرض العدوة ال ... قصوى فإنك أنت فخر مرين وقال رحمه الله تعالى عند وقوفه على مراكش واعتباره بما صار إليه أمرها (3) :
بلد قد غزاه صرف الليالي ... وأباح المصون منه مبيح
فالذي خر من بناه قتيل ... والذي خر منه بعض جريح
وكأن الذي يزور طبيب ... قد تأتى له بها التشريح
أعجمت منه أربع ورسوم ... كان قدماً بها اللسان الفصيح
__________
(1) أزهار: 289.
(2) المصدر نفسه.
(3) أزهار: 290.(6/485)
كم معان غابت بتلك المغاني ... وجمال أخفاه ذاك الضريح
وملوك تعبدوا الدهر لما ... أصبح الدهر وهوعبد صريح
دوخوا نازح البسيطة حتى ... قال ما شاء ذابل وصفيح
حين شبت لهم من البأس نار ... ثم هبت لهم من النصر ريح
أثر يندب المؤثر لما ... طال بعد الدنومنه النزوح
ساكن الدار روحها، كيف يبقى ... جسد بعدما تولى الروح وقال رحمه الله تعالى يخاطب أحمد بن يوسف حفيد الولي الصالح سيدي أبي محمد صالح النائم في ظل صيته رحمه الله تعالى (1) :
يا حفيد الولي يا وارث الفخ ... ر الذي نال في مقام وحال
لك يا أحمد بن يوسف جبنا ... كل قطر يعيي أكف الرحال وقال في " نفاضة الجراب ": لما خرجت من آسفي (2) سرت إلى منزل ينسب إلى أبي خدو، وفيه رجل من بني المنسوب إليه اسمه يعقوب، فألطف وأجزل، وآنس في الليل، وطلبني بتذكرة تثبت عندي معرفته فكتبت له (3) :
نزلنا على يعقوب نجل أبي خدو ... فعرفنا الفضل لاذي ما له حد
وقابلنا بالبشر واحتفل القرى ... فلم يبق لحم لم ننله ولا زبد
يحق علينا أن نقوم بحقه ... ويلقاه منا البر والشكر والحمد وقال:
أألقي إلى الأيام فضل مقادتي ... فتجنبني ما بين كد وإرهاق
__________
(1) أزهار: 298.
(2) آسفي: بالمغرب على ساحل الاطلنطلي؛ والسين منها مفتوحة أو ساكنة.
(3) المصدر نفسه.(6/486)
وأتلف بين الخلق والرزق فكرتي ... ولست بخلاق ولست برزاق
إذا كنت بالإثراء لي في تملق ... رضيت بعز النفس في عز إملاق وقال:
لك الملك ملك الحسن فاقض بنا الذي ... تشاء فما يعصى لأمرك واجبه
إذا ما كسرت اللحظ من تحت حاجب ... تحكم في الألباب كسرى وحاجبه وقال:
سألنا ربيع العام للعام رحمة ... فضن ولم يسمح بذرة إنعام
فقلنا وقد رد الوجوه ولم يبل ... قليل الحيا قبحت والله من عام وقال:
تخونه صرف الزمان وهل ترى ... بقاء لحي أودواماً على أمر
هو الدهر ذووجهين يوم وليلة ... ومن كان ذا وجهين يعتب في غدر وقال رحمه الله تعالى في شجر الجوز:
انظر إلى ينعي وحسن بسوقي ... يهفو النسيم بقدي الممشوق
يجلو اللواحظ منظري حسناً كما ... يجلو ثغور الغانيات عروقي وقال رحمه الله تعالى في ساق:
كيف آمنتما على الشرب ظبياً ... لحظه في القلوب غير أمين
راح يسقي فصب في الكاس نزراً ... ثقة منه بالذي في العيون وقال يخاطب السلطان (1) :
__________
(1) أزهار: 298.(6/487)
أنت للمسلمين خير عماد ... وملاذ وأي حرز حريز
لو رأى ما شرعت للخلق فيه ... عمر الفاضل ابن عبد العزيز
لجزى ملكك المبارك خيراً ... وقضى بالشفوف والتبريز
فاشكر الله ما استطعت بفعل ... وبقول مطول أو وجيز
كل ملك يرى بصحبة أهل ال ... علم قد باء بالمحل العزيز
فإذا ما ظفرت منهم بإكسي ... ر ملأت البلاد من إبريز
والبرايا تبيد والملك يفنى ... أين كسرى الملوك مع أبرويز وقال رحمه الله تعالى:
ما لي أهذب نفسي في مطامعها ... والنفس تأنف تهذيبي وتهذي بي
إذا استعنت على دهري بتجرية ... تأبى المقادير تجريبي وتجري بي وقال:
من لا نصيب لصحبه في خيره ... وإذا سعى لم يقض حاجة غيره
فاقصد أباه متى أردت وقل له ... الله يلهمه العزاء بأيره وقال رحمه الله تعالى:
أمستخرجاً كنز العقيق بآماقي ... أناشدك الرحمن في الرمق الباقي
فقد ضعفت عن حمل صبري طاقتي ... عليك وضاقت عن زفيري أطواقي وقال رحمه الله تعالى:
إذا لم أشاهد منك قبل منيتي ... نهاية آمالي وغاية غاياتي
فحسن عزائي حيل بيني وبينه ... وقرة عيني لم تحل بمرآتي
شهودك أمني من عداة خواطري ... وقربك حرزي من توقع آفات(6/488)
فإن لم يكن وصل فهبها إشارة ... فيا حسن شاراتي بها من إشارات وقال رحمه الله تعالى يخاطب الدنيا:
دنيا خدعت الذي سفرت له ... عن صفحة لم يحل بها كرم
سرقت حظ الإله من يده ... فهان ما كان منه يحترم
هذا الذي نال منك ليس له ... منقطع دائم ومنصرم
وهبه نال الذي أراد أما ... بين يديه المشيب والهرم ولما أورد رحمه الله تعالى قول القائل (1) في وصف الدنيا:
كلما أنبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا
وكأنا لم نرض فيها بري ... ب الدهر حتى أعانه من أعانا قال أثره ما نصه: والحق ما قلته من أبيات تناسب ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله:
والله إن لم يداركها وقد وحلت ... بلمحة أوبلطف من لدنه خفي
ولم يجد بتلافيها على عجل ... ما أمرها صائر إلا إلى التلف فحب الدنيا رأس كل بلية، ولولاه لم تزل النفس صافية عالية عن سجيتها الأولية.
ومن نظمه رحمه الله تعالى قوله:
إن رأى الحق فيك منه بقيه ... فاتق البعد فيه حق التقيه
وإذا لم يكن لذاتك رسم ... قائم تلك حالة حقيه وقوله رحمه الله تعالى:
__________
(1) هو المتنبي، من قصيدة مطلعها " صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ".(6/489)
فسامح إذا ما لم تفدك عبارة ... وإن أشكلت يوماً فخذها كما هيا
وتلخيص ما دندنت بالقول حوله ... إذا قمت بالباقي فما زلت باقيا وقال رحمه الله تعالى (1) :
ففي عالم الأسرار ذاتك تجتلي ... ملامح نور لاح للطور فانهدا
وفي عالم الحس اغتديت مبوأ ... لتشفي من استشفى وتهدي من استهدى
فما كنت لولا أن أتيت هداية ... من الله مثل الخلق رسماً ولا حدا وهذه الأبيات في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال رحمه الله تعالى:
حمامة البان ما هذا البكاء على ... مر الليالي وماذا البث والحزن
لا منزل بنت عنه أنت تندبه ... ولا حبيب ولا خل ولا سكن
لو كنت تنفث عن شوق منيت به ... إذاً لصار رماداً تحتك الغصن وقال رحمه الله تعالى مضمناً:
أمط عنك مهما اسطعت كل إرادة ... وإلا فمغنى القوم عنك بعيد
تكون مريداً ثم فيك إرادة ... إذا لم ترد شيئاً فأنت مريد وقال رحمه الله تعالى:
تعلقته من دوحة الجود والباس ... قضيباً لعوباً بالرجاء وبالياس
ضروباً بضرب لليراعة والقنا ... طروباً بحمل المشرفية والكأس
يذكرنيه الصبح عند انصداعه ... جمال رواء في تأرج أنفاس
ويبدو لعيني شعره وجبينه ... إذا ما سفحت الحبر في صفح قرطاس
__________
(1) انظر ص: 453.(6/490)
وقال رحمه الله تعالى:
أحب لحبها جملي ورحلي ... وعزمي والقتادة والطريقا
ومن أخشاه من سبع ولص ... فكيف فريقها سلموا فريقا!
وكيف أخص باسم الحب إن لم ... أحب لأجلها إلا صديقا وقال رحمه الله تعالى وقلت من قصيدة:
أنا نسخة الأكوان أدمج خطها ... فسر ذوي التحقيق في طي أوراقي
فمن عالم الأشباح ليلي وظلمتي ... ومن عالم الأرواح نوري وإشراقي وقال رحمه الله تعالى:
مولاي مولاي إن أرضاك بذل دمي ... فقد أتيت به أسعى على قدمي
وإن تعاظم ذنب قد جنته يدي ... وطال قرعي عليه السن من ندم
فهبه لي واغتفر ما كان من خطإ ... وزلة وارع لي حبي على القدم وقال رحمه الله تعالى من قصيدته العينية السلوية التي وجهها إلى سلا أيام خلف بها أهله وولده:
بولي الله فابدأ وابتدر ... واحد الآحاد في باب الورع [ترجمة الولي ابن عاشر]
قلت: هذا الولي هوالعارف بالله تعالى سيدي الحاج أحمد بن عاشر أحد الصلحاء أصحاب الكرامات المشهورة بالمغرب، وقد زرت قبره بسلا عام تسعة وألف، وهوأحمد بن عمر بن محمد بن عاشر (1) ، الأندلسي، نزيل سلا، الولي الزاهد المشهور بالمناقب والأحوال.
__________
(1) انظر ترجمة ابن عاشر في نيل الابتهاج: 43 والمقري ينقل عنه؛ وأنس الفقير: 90.(6/491)
قال ابن عرفة: ما أدركت مبرزاً في زماننا هذا إلا الشيخ أبا الحسن المنتصر وأحمد بن عاشر بسلا؛ انتهى.
وقال بلدينا أبوعبد الله ابن صعد التلمساني في كتابه " النجم الثاقب فيما لأولياء الله تعالى من المناقب ": كان أحد الأولياء الأبدال، معدوداً في كبار العلماء، مشهوراً بإجابة الدعاء، معروفاً بالكرامات، مقدماً في صدور الزهاد، منقطعاً عن الدنيا وأهلها، ولوكانوا من صالحي العباد، ملازماً للقبور في الخلاء المتصل ببحر مدينة سلا، منفرداً عن الخلق، لا يفكر في أمر الرزق، وله أخبار جليلة، وكرامات عجيبة مشهورة، ممن جمع له العلم والعمل، وألقي عليه القبول من الخلق، شديد الهيبة، عظيم الوقار، كثير الخشية، طويل التفكر والاعتبار، قصده أمير المؤمنين أبوعنان، وارتحل إليه عام سبعة وخمسين وسبعمائة، فوقف ببابه طويلاً، فلم يأذن له، وانصرف وقد امتلأ قلبه من حبه وإجلاله، ثم عاود الوقوف ببابه مراراً فما وصل إليه، فبعث له بعض أولاده بكتاب كتبه إليه يستعطفه لزيارته وورؤيته، فأجابه بما قطع رجاءه منه، وأيس من لقائه، واشتد حزنه، وقال: هذا ولي من أولياء الله تعالى حجبه الله عنا؛ انتهى.
ولما أجرى ذكره لسان الدين في " نفاضة الجراب " قال ما ملخصه: ولقيت من أولياء الله تعالى بسلا الولي الزاهد الكبير المنقطع القرين، فراراً عن زهرة الدنيا، وعزوفاً عنها، وإغفاء في الورع، وشهرة بالكشف، وإجابة الدعوة وظهور الكرامة، أبا العباس ابن عاشر، يسر الله تعالى لقاءه على تعذره لصعوبة تأتيه، وكثرة هيبته، قاعداً بين القبور في الخلاء، رث الهيئة، مطرق اللحظ، كثير الصمت، مفرط الانقباض والعزلة، قد فر من أهل الدنيا وتطارحهم، فهوشديد الاشمئزاز من قاصده، مجرمز للوثبة من طارقه، نفع الله تعالى به.
وقال ابن الخطيب القسمطيني الشهير بابن قنفذ: لقيته بسلا سنة 763، وهوعلى أتم حال في الورع، والفرار من الامراء، والتمسك بالسنة، وهوالشيخ(6/492)
الفقيه الولي، توفي في سنة خمس وستين وسبعمائة؛ انتهى.
وممن انتفع به ونال بركته الولي العارف بالله سيدي أبوعبد الله ابن عباد شارح الحكم، وقد ترجمناه في هذا الكتاب.
وقال ابن عباد المذكور في رسائله: وقد كنت قدماً خرجت في يوم مولده صلى الله عليه وسلم صائماً إلى ساحل البحر، فوجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله تعالى وجماعة من أصحابه معهم طعام يأكلونه، فأرادوا مني الأكل، فقلت: إني صائم، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي: هذا يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصوم كالعيد، فتأملت قوله فوجدته حقاً، وكأنه أيقظني من النوم؛ انتهى.
وقال ابن قنفذ السابق في رحلته ما صورته: وكان ابن عاشر رحمه الله تعالى فريداً في الورع، ميسراً عليه في ذاك أتم تيسير، محفوظاً من كل ما فيه شبهة، كثير النفور من الناس، وخصوصاً أصحاب الولاية في الأعمال، وخرجت على يده تلامذة نجباء أخيار، وطريقه أنه جعل " إحياء علوم الدين " بين عينيه، واتبع ما فيه بجد واجتهاد، وصدق وانقياد، وكان الحجة في ذلك الطريق، وأول اجتماعي به نفر مني، فحبسته بيدي وهززته، فتبسم ووقف معي، وسألني عن نسبي، ودعا لي، وطلبته بما يطمعني، فاعتذر لي بالإقلال، ثم قال: أمهل، فدخل وأخرج لي حبات تين يا بسة في يده اليمنى، وغطاها باليد اليسرى، ودفعها إلي، وضحك معي، وعجب الحاضرون من ليانته وانشراحه معي، لأنه لا ينبسط إلى أحد، وحصل لي بذلك فخر لا يدري قدره إلا من حاول بعضه معه، وقصدني كثير من الخواص فسألني عن مجلسي معه وما وقع من جوابه وسؤاله، وقد حاول ملك المغرب لما ارتحل إليه في عام سبعة وخمسين وسبعمائة على لقائه فلم يقدر عليه بوجه، وحجبه الله تعالى حتى تبعه يوم جمعة من الجامع الأعظم على قدمه، والناس ينظرونه، وهولم يره، فرجع، ولم يكن قوته إلا من نسخ العمدة في الحديث، وكيف يبيعها، ولمن يبيعها، ولا يأخذ إلا قيمتها(6/493)
ولم تزل حالته وبركته في زيادة إلى أن توفي سنة 765، وسأله بعض الأخيار بمحضري عن الفرق بين مكاشفة المسلم ومكاشفة النصراني، لوجود ذلك من بعضهم، فقال: المسلم الذي له هذه الدرجة يبرئ من العاهة، والنصراني لا يبرئ، ثم قال: وهل يبرئ الفقيه من العاهة فقال له: نعم، ثم نظر يميناً وشمالاً، ليجد صاحب عاهة فيأتي بالعيان، فلم يجد أحداً، وكأنه اغتاظ لهذا السؤال، ثم أخرج يده وقال: يأتي لمن يقعد عن الحركة، فيحبسه بيده، ويقيمه وقد ذهب ألمه بعد أن جثا إلى الأرض في الصفة، ثم قال: وسئل بعضهم عن هذا، وكان السائل نصرانياً في زي المسلم، فقال له: الفرق بينهما سقوط الزنار من وسطك، قال: فسقط، وفضحه الله تعالى، وأسلم بسبب ذلك؛ انتهى كلام ابن قنفذ القسمطيني، رحمه الله تعالى.
وترجمة ولي الله تعالى سيدي الحاج ابن عاشر - نفعنا الله تعالى ببركاته - متسعة جداً، وكراماته ومناقبه لا نبلغ لها حداً، ولا نطيق لها عداً، وإنما ألمعنا بذكره قصداً للتبرك به، والله ولي التوفيق، وهوالهادي إلى سواء الطريق.
رجع إلى نظم لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى، فنقول: ومن مداعباته رحمه الله تعالى قوله:
ومولع بالكتب يبتاعها ... بأرخص السوم وأغلاه
في نصف الاستذكار أعطيته ... مختصر العين فأرضاه ويعني بمختصر العين الزبيدي فافهم، وقال رحمه الله تعالى من قصيدة:
ووالله ما اعتل الأصيل، وإنما ... تعلم من شجوي فبان اعتلاله وهذا غاية في المنالغة وحسن التعليل.(6/494)
وقال رحمه الله تعالى (1) : وقفت على قبر المعتمد بالله في مدينة أغمات في حركة راحة أعملتها إلى الجهات المراكشية، باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار، عام واحد وستين وسبعمائة، وهوبمقبرة أغمات في نشز من الأرض، وقد حفت به سدرة، وإلى جنبه قبر " اعتماد " حظية مولاه رميك، وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتهما، فأنشدت في الحال:
قد زرت قبرك عن طوع بأغمات ... رأيت ذلك من أولى المهمات
لم لا أزورك يا أندى الملوك يداً ... ويا سراج الليلالي المدلهمات
وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه ... إلى حياتي لجادت فيه أبياتي
أناف قبرك في هضب يميزه ... فتنتحيه حفيات التحيات
كرمت حياً وميتاً واشتهرت علا ... فأنت سلطان أحياء وأموات
ما ريء مثلك في ماض ومعتقدي ... أن لا يرى الدهر في حال ولا آت وقد تقدم هذا في القسم الأول في الباب السابع منه، وكررته هنا، والله الموفق.
وقال رحمه اله تعالى مورياً حين أكل مشرف الدار القابض، أي أكل ماله (2) :
مشرف دار الملك ما باله ... منتفخ الجوف شكا نافضا (3)
فقيل لي ليس به علة ... لكنه قد أكل القابضا (4)
__________
(1) أزهار الرياض 1: 297، وانظر الأبيات في الجزء 4: 98.
(2) أزهار: 300.
(3) النافض: الحمى.
(4) القابض - في المصطلح الأندلسي - المال المقبوض.(6/495)
وقال (1) :
يا نفس لا تصغي إلى سلوة ... كم أخلف الموعد عرقوب
وأنت يا قلبي وصاك إب ... راهيم بالحزن ويعقوب وقال في السعيد أبي بكر ابن السلطان أبي عنان:
أمير كأن قمير الدجى ... أفاض الضياء على صفحتيه
تملأ قلبي من حبه ... غداة نظرت بعيني إليه
فلا بسط الدهر كف الردى ... لذاك الشخيص وذاك الوجيه وقال يخاطب الخطيب ابن مرزوق:
تعلم طيفوري خلال سميه ... وإن كان منسوباً إلى غير بسطام (2)
وجاء فقير الوقت لابس خرقة ... فليس براض غير صحبة صوام
فديتك لا تردده عنك مخيباً ... ودرسه يا مولاي قصة بلعام (3) وقال: مما كتبت به إلى ابن مرزوق المذكور، وقد وصل ولده إلى سلا ومنع ابن الخطيب عن لقائه عذر مرض، وكان نزوله بزاوية النساك:
صدني عن لقاء نجلك عذر ... يمنع الجسم عن تمام العباده
واختصرت القرى لأن حط رحلاً ... في محل الغنى ودار الزهاده
ولو أني احتفلت لم يعن الده ... ر ولا نلت بعض بعض أراده
وعلى كل حالة فقصوري ... عادة إذ قبولك العذر عاده
__________
(1) هذه المقطوعة والعشر التالية لها في أزهار الرياض 300 - 304.
(2) الطيفور: طبق عليه طعام أو مائدة صغيرة، وفي الإسبانية (Ataifor) ، وانظر الحاشية: 2 من ج 4: 510، وطيفور اسم أبي يزيد البسطامي.
(3) بلعام اسمه مشتق من البلع فهو يوري بذلك.(6/496)
لا عدمت الرضى من الله والحس ... نى كما نص وحيه والزياده وقال يخاطبه من ضريح السلطان أبي الحسن بشالة لاستنهاض عزيمته في قضاء غرضه:
برئت لله من حولي ومن حيلي ... إن نام عني وليي فهوخير ولي
أصبحت مالي من عطف أؤمله ... من غيره في مهمات ولا بدل
ما كنت أحسب أن أرمى بقاصية ... للهجر أقطع فيها جانب الأمل
من بعد ما خلصت نحوي الشفاعة ما ... بين العلا (1) والدجى والبيض والأسل
إن كنت لست بأهل للذي طمحت ... إليه نفسي وأهوى نحوه أملي
فكيف يلغى ولا ترعى وسيلته ... دخيل قبر أمير المسلمين علي
من بعد ما اشتهرت حالي به وسرت ... بها الركائب في سهل وفي جبل
والرسل تترى ولا تخفى نتائجها ... عند التأمل من قول ولا عمل
ولا لليلي من صبح أطالعه ... كأن همي قد مد الدجنة لي
لو أنني بابن مرزوق عقدت يدي ... وكان محتكماً في خيرة الدول
لكان كربي قد أفضى إلى فرج ... وكان حزني قد أوفى على جذلي
ألمحت بالعتب لم أحذر مواقعه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل
ولست أجحد ما خولت من نعم ... لكنها النفس لا تنفك عن أمل
ولست أيأس من وعد وعدت به ... " وإنما خلق الإنسان من عجل " وقال رحمه الله تعالى يخاطب السلطان أبا الحجاج:
أمولاي إن الشعر ديوان حكمة ... يفيد الغنى والعز والجاه من كانا
وقد وجد المختار في الحفل منصتاً ... له وحبا كعباً عليه وحسانا
__________
(1) الأزهار: الفلا.(6/497)
وفيما رواه الناقلون وأثبتوا ... بذلك ديواناً صحيحاً فديوانا
بأن أبا بكر خليفته الرضى ... وفاروقه الأدنى إليه وعثمانا
وأن علياً قدس الله جمعهم ... وكرمنا بالقرب منهم وحيانا
لهم في ضروب القول إذ هم فحوله ... خطاب وشعر يستقران تبيانا
وفاض على أهل القريض نوالهم ... فروض روض القول سحاً وتهتانا
وأنت أحق الناس أن تفعل الذي ... به فعل المختار ديناً وإيماناً
فما زلت تهدي في البرية هديه ... وتقضي بما يرضيه سراً وإعلاناً
وإن قيل قدر المرء ما هو محسن ... فصنعة نظم القول أرفعه شانا وقال مورياً:
بنفسي حبيب في ثناياه " بارق " ... ولكنها للواردين عذاب
إذا كان لي منه عن الوصل " حاجر " ... فدمعي " عقيق " بالجفون مذاب وقال:
عذبت قلبي بالهوى فقيامه ... في نار هجرك دائماً وقعوده
ولقد عهدت القلب وهو موحد ... فعلام يقضى في العذاب خلوده وقال في التجنيس:
دعوتك للود الذي جنباته ... تداعت مبانيها وهمت بأن تهي
وقلت لعهد الوصل والقرب بعدما ... تناءى وهل أسلوحياتي وأنت هي
ومن شام من جوالشبيبة بارقاً ... ولم تنهه عنه النهى كيف ينتهي وقال:
ناديت دمعي إذ جد الرحيل بهم ... والقلب من فرق التوديع قد وجبا
سقطت يا دمع من عيني غداة نأى ... عني الحبيب ولم تقض الذي وجبا(6/498)
وقال:
شلير لعمري أساء الجوار ... وسد علي رحيب الفضا
هو الشيخ أبرد شيء يرى ... إذا ليس البرنس الأبيضا وقال: قلت أخاطب بعض من أدل عليه وما أولاني بذلك:
إذا قمت قل بعقيب الكرى ... إلهي أنت إله الورى
تباركت أنشأتهم من تراب ... وأنشأتني بينهم من خرا قلت: ولا خفاء ببشاعة هذا، فحذفه أولى من إثباته.
وقال يداعب بعض أصحابه:
شيخ رباط إن أتى شادن ... خلوته عند انسدال الظلام
أدلى وقد أبصره دلوه ... وقال يا بشراي هذا غلام وقال في غرض يظهر:
لم أجد فيه لين بث لقلبي ... وقبولاً لحجتي واعتذاري
ثقل الله ظهره بعيال ... سود الله وجهه بعذار وقال من قصيدة:
أخذت وأمواج الردى متلاطمه ... بضبعي يا نجل الوصي وفاطمه وقال:
ووجه غرست الورد فيه بنظرة ... فيا ليت كفي متعت بجنى غرسي
كأن سواد الخال في وجناته ... علامة مولانا على أحمر الطرس
وبينهما في باطن الأمر نسبة ... لذلك أمضيت الغرام على نفسي(6/499)
وقال يشير إلى بعض طبقات الغناء:
ضرط الفقيه فقلت ذاك غريبة ... ما كان ذلك منه بالمعلوم
فدنا إلي وقال قد أصرفتكم ... من ضرطتي بغريبة المزموم وفي آخر سنة أربع وسبعين وجه إلى السلطان أبي حمو سلطان تلمسان أبياتاً لزومية في غرض الهناء، وهي:
وقفت الغرام على ثناك لساني ... رعياً لما أوليت من إحسان
فكأنما شكري لما أوليته ... شكر الرياض لعارض النيسان
أنا شيعة لك حيث كنت، قضية ... لم يختلف في حكمها نفسان
ولقد تشاجرت الرماح فكنت في ... ميدان نهرك فارس الفرسان
ورويت غر مآثر أسندتها ... لعلاك بين صحائح وحسان
ولأنت أولى بالتشيع شيمة ... لم تتفق لسواك من إنسان
الشمس أنت قد انفردت وهل يرى ... بين الورى في مطلع شمسان
جبرت بجبرك كل نفس حرة ... وشدا بشكر (1) الله كل لسان
وبدت سعودك مستقيماً سيرها ... وعلت ففر أمامها النحسان
فاستقبل السعد المعاود سافراً ... عن أي وجه للرضى حسان
وابغ المزيد بشكر ربك ولتثق ... بمضاعف الإنعام والإحسان
فالشكر يقتاد المزيد ركائباً ... تنتاب بابك منه في أرسان
ثم السلام عليك يزري عرفه ... طيباً بعرف العود والبلسان وقال (2) :
__________
(1) ق: بذكر.
(2) أزهار: 304.(6/500)
بحق ما بيننا يا ساكني القصبة ... ردوا علي حياتي فهي مغتصبه
ماذا جنيتم على قلبي ببينكم ... وانتم الأهل والأحباب والعصبه قلت: ولعل ابن زمرك قال أبياته التي على هذا الروي المذكورة في غير هذا الموضع من هذا الكتاب جواباً لهذه حين كان ابن زمرك من جملة أتباع لسان الدين رحم الله تعالى الجميع.
وقال لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى (1) :
حين ساروا عني وقد خنقتني ... عبرات قد أعربت عن ولوعي
صحت من ينصر الغريب فلما ... لم أجد ناصراً بلعت دموعي وقال:
قال لي والدموع تنهل سحباً ... في عراص (2) من الخدود محول
بك ما بي فقلت مولاي عافا ... ك المعافي من عرتي ونحولي
أنا جفني القريح يروي عن الأع ... مش والجفن منك عن مكحول وقال:
أشكو لمبسمه الحريق وقد حمى ... عني لماه المشتهى ورحيقه
يا ريقه حيرتني ومطلتني ... ما أنت إلا بارد يا ريقه وقال فيمن ركب البحر وماد (3) :
ركب السفينة واستقل بأفقها ... فكأنما ركب الهلال الفرقد
__________
(1) أزهار: 305 وكذلك القطعة التالية والتي بعدها.
(2) ق والأزهار: عراض.
(3) أزهار: 306 والقطعة التي تليها أيضاً.(6/501)
وشكوا إليه بميده فأجبتهم ... لا غرو إن ماد القضيب الأملد وقال عندما خرج السلطان ابن الأحمر من فاس متوجهاً إلى الأندلس لطلب حقه:
ولما حثثت السير والله حاكم ... لملكك في الدنيا بعز وفي الأخرى
حكى فرس الشطرنج طرفك لا يرى ... ينقل من بيضاء إلا إلى حمرا ويعني بالبيضاء فأساً الجديدة، وبالحمراء حمراء غرناطة.
وتذكرت هنا أن بعض علماء الأندلس، وأظنه أبا عبد الله ابن جزي، لما رمدت عين بعض أهل فاس سأله عنها، فقال:
يا سيدي عيني قد ... أودى قذاها بالأنس
فانظر إليها ترها ... دار مليك الأندلس يعني حمراء، فأجابه بقوله:
وقيت مما تشتكي ... من القذى والوصب
ما رمدت عيناك بل ... عين العلا والأدب
فلتحمدن أن لم تكن ... دار مليك المغرب يعني بيضاء، وهذا من غريب ما يحاضر به.
رجع - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى (1) :
أجاد يراع الحسن خط عذاره ... وأودعه السر المصون الذي يدري
ولم يفتقر فيه لختم وطابع ... فمبسمه أغناه عن طابع السر
__________
(1) هذه القطعة والقطع العشر التالية في أزهار الرياض 307 - 310.(6/502)
وقال في غرناطة:
أحييك يا معنى الكمال (1) بواجب ... وأقطع في أوصافك الغر أوقاتي
تقسم منك الترب قومي وجيرتي ... ففي الظهر أحيائي وفي البطن أمواتي وقال في غرض ينحو نحو المشارقة:
رموا بالسلو حليف الغرام ... وأدمعه كالحيا الهاطل
أعوذ بعزك يا سيدي ... لذلي من دعوة الباطل وقال:
يا ليل طلت ولم تجد بتبسم ... وأريتني خلق العبوس النادم
هلا رحمت تغربي وتفرقي ... لله ما أقساك يا ابن الخادم وقال في مروحة سلطانية:
كأني قوس الشمس عند طلوعها ... وقد قدمت من قبلها نسمة الفجر
وإلا كما هبت بمحتدم الوغى ... بنصر ولكن من بنود بني نصر وقال يخاطب شيخه ابن الجياب:
بين السهام وبين كتبك نسبة ... فبها يصاب من العدو المقتل
وإذا أردت لها زيادة نسبة ... هذي وهذي في الكنانة تجعل وقال يتغزل، وفيه معنى غريب:
إن اللحاظ هي السيوف حقيقة ... ومن استراب فحجتي تكفيه
لم يدع غمد السيف جفناً باطلاً ... إلا لشبه اللحظ يغمد فيه
__________
(1) أزهار: أحبك يا مغني الكمال.(6/503)
قيل: وأحسن منه قول غيره:
إن العيون النجل أمضى موقعاً ... من كل هندي وكل يماني
فضل العيون على السيوف بأنها ... قتلت ولم تخرج من الأجفان وأصل ما قال لسان الدين قول الأول:
بين السيوف (1) وعينيه مناسبة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان وقال لسان الدين رحمه الله تعالى في الساعة، وتسميها المغاربة المنجانة:
تأمل الرمل في المنجان منقطعاً ... يجري وقدره عمراً منك منتهبا
والله لوكان وادي الرمل (2) ينجده ... ما طال كامله إلا وقد ذهبا وقال:
أقول لعاذلي لما نهاني ... وقد وجد المقالة إذ جفاني
علمت بأنه مر التجني ... وفاتك أنه حلو اللسان وقال في غرض صوفي:
لا تنكروا إن كنت قد أحببتكم ... أو أنني استولى علي هواكم
طوعاً وكرهاً ما ترون فإنني ... طفت الوجود فما وجدت سواكم وقال يمدح، وفيه تورية:
وإن نظرت إلى لألاء غرته ... يوم الهياج رأيت الشمس في الأسد وقال مما يكتب على طاق الماء بباب القبة (3) :
__________
(1) ق: اللحاظ.
(2) ق: الأرض.
(3) هذه القطعة والقطع الثلاث بعدها في الأزهار 312 - 313.(6/504)
أنا طاق تزهو بي الأيام ... تعبت في بدائعي الأفهام
وتبديت للنواظر محرا ... باً كأن الإناء في إمام
واقف للصلاة حتى إذا ما ... جئت للشرب حان مني سلام وقال في ذلك أيضاً:
يا صانعي لله ما أحكمته ... فلأنت بين العالمين رئيس
أحكمت تاجي يوم صغت رقوشه ... فصبت إليه مفارق ورؤوس
وأقمت في محرابه فكأنه ... مجلى إناء فيه عروس وقال في المشيب (1) :
أنى لمثلي بالهوى من بعد ما ... للوخط في الفودين أي دبيب
لبس البياض وحل ذروة منبر ... مني ووالى الوعظ، فعل خطيب وقال رحمه الله تعالى:
والله ما جان على ماله ... أو جاهه من ذب عن عرضه
والناس في خير وفي ضده ... هم شهداء الله في أرضه وقال (2) :
إلهي بالبيت المقدس والمسعى ... وجمع إذا ما الخلق قد نزلوا جمعا
وبالموقف المشهود يا رب في منى ... إذا ما أسال الناس من خوفك الدمعا
وبالمصطفى والصحب عجل إقالتي ... وأنجح دعائي فيك يا خير من يدعى
صدعت وأنت المستغاث جنابه ... أقل عثرتي يا موئلي واجبر الصدعا
__________
(1) البيتان من بائيته التي تقدمت ص: 455.
(2) أزهار الرياض 1: 271.(6/505)
وقال رحمه الله تعالى في بنيونش سبتة (1) :
بنيونش (2) أسنى الأماكن رقعة ... وأجل أرض الله طرأ شانا
هي جنة الدنيا التي من حلها ... نال الرضى والروح والريحانا
قالوا القرود بها فقلت فضيلة ... حيوانها قد قارب الإنسانا (3) وفي بنيونش هذه يقول أبوعبد الله ابن مجبر (4) :
بنيونش جنة ولكن ... طريقها يقطع النياطا
وجنة الخلد لا يراها ... إلا فتىً يقطع الصراطا وقال ابن الخطيب رحمه الله تعالى (5) :
إن الهوى لشكاية معروفة ... صبر التصبر من أجل علاجها
والنفس إن ألفت مرارة طعمه ... يوماً ضمنت لها صلاح مزاجها وقال رحمه الله تعالى (6) :
ولما رأت عزمي حثيثاً على السرى ... وقد رابها صبري على موقف البين
أتت بصحاح الجوهري دموعها ... فقابلت من دمعي بمختصر العين وقال رحمه الله تعالى:
تذكرت عهداً كان أحلى من الكرى ... وأقصر من إلمام طيف خياله
__________
(1) أزهار الرياض 1: 34.
(2) الأزهار: بليونش، وهي لغة في بنيونش.
(3) ذكر في الاستبصار: 138 أن على قرية بليونش جبلاص عظيماً فيه القردة.
(4) وردا في أزهار الرياض (34) منسوبين للقاضي عياض.
(5) مر البيتان في ما تقدم ص: 471.
(6) مر البيتان في ما تقدم ص: 464.(6/506)
فيا ليت شعري من أتاح لي المنى ... وعذب بالي هل أمر بباله وقال رحمه الله تعالى:
عيني جنت فعلام تحرق أضلعي ... أبما جنى جار يعذب جار
يا قلب لا تدهشك نيران الهوى ... فكنار إبراهيم تلك النار
فاصبر على ما حملوا تنل المنى ... بالسبك أدرك نقشه الدينار وقال رحمه الله تعالى:
وما كان إلا أن جنى الطرف نظرة ... غدا القلب رهناً في عقوبة ذنبه
وما العدل أن يأتي امرؤ بجزيرة ... فيؤخذ في أوزارها جار جنبه وقال رحمه الله تعالى:
برى جسدي فيكم غرام ولوعة ... إذا سكن الليل البهيم تثور
فلولا أنيني ما اهتدى نحو مضجعي ... خيالكم بالليل حين يزور
ولو شئت في طي الكتاب لزرتكم ... ولم تدر عني أحرف وسطور وقال رحمه الله تعالى:
بلد تحف به الرياض كأنه ... وجه جميل والرياض عذاره
وكأنما واديه معصم غادة ... ومن الجسور المحكمات سواره وقال رحمه الله تعالى يخاطب السلطان أبا حموصاحب تلمسان ويشكره على ما كان أعان به أهل الأندلس (1) :
لقد زار الجزيرة منك بحر ... يمد فليس تعرف منه جزرا
__________
(1) هذه القطعة والتي تليها في أزهار الرياض: 261.(6/507)
أعدت لها بعهدك عهد موسى ... سميك فهي تتلومنه ذكرا
أقمت جدارها وافدت كنزاً ... ولو شئت اتخذت عليه أجرا وقال أيضاً:
وقالوا الجزيرة قد صوحت ... فقلت غمام الندى تنتظر
إذا وكفت كف موسى بها ... غماماً يعود الجناب الخضر وقال رحمه الله تعالى عقب الإياب من الرحلة المراكشية (1) :
أفادت وجهتي بنداك مالاً ... قضى ديني وأصلح بعض حالي
ومتعت الخواطر بانشراح ... وأطرفت النواظر باكتحال
وأبت خفيف ظهر، والمطايا ... بجاهك تشتكي ثقل الرحال
وشاني للمعالم غير شان ... وحالي بالمكارم جد حال
فحب علاك إيماني وعقدي ... وشكر نداك ديني وانتحالي
كما قد صح لله انقطاعي ... بتأميلي جنابك وارتحالي
وما يبقى سوى فعل جميل ... وحال الدهر لا تبقى بحال
وكل بداية فإلى انتهاء ... وكل إقامة فإلى ارتحال
ومن سام الزمان دوام أمر ... فقد وقف الرجاء على المحال وقال رحمه الله تعالى في الضراعة إلى ربه، والاعتراف بذنبه (2) :
مولاي إن أذنبت ينكر أن يرى ... منك الكمال ومني النقصان
والعفو عن سبب الذنوب مسبب ... لولا الجناية لم يكن غفران
__________
(1) أزهار: 271.
(2) أزهار: 211.(6/508)
وقال رحمه الله تعالى (1) :
سلام على تلك المرابع إنها ... معاهد ألا في وعهد صحابي
ويا آسة المغنى انعمي فلطالما ... سكبت على مثواك ماء شبابي وقال سامحه الله تعالى:
أموطني الذي أزعجت عنه ... ولم أرزأ به مالاً ولا دم
لئن أزعجت عنك بغير قصد ... فقبلي فارق الفردوس آدم ومن ميلادياته رحمه الله تعالى قوله (2) :
ما على القلب بعدكم من جناح ... أن يرى طائراً بغير جناح
وعلى الشوق أن يشب إذا هـ ... ب بأنفاسكم نسيم الصباح
جيرة الحي، والحديث شجون ... والليالي تلين بعد الجماح
أترون السلو خامر قلبي ... بعدكم لا وفالق الإصباح
ولو أني أعي اقتراحي على ال ... أيام ما كان بعدكم باقتراحي
ضايقتني فيكم صروف الليالي ... واستدارت علي دور الوشاح
وسقتني كأس الفراق دهاقاً ... في اغتباق مواصل واصطباح
واستباحت من جدتي وفتائي ... حرماً لم أخله بالمستباح ومنها:
يا ترى والنفوس أسرى أمان (3) ... ما لها من وثاقها من سراح
هل يباح الورود بعد ذياد ... أو يتاح اللقاء بعد انتزاح
__________
(1) أزهار: 6.
(2) أزهار: 237 والإحاطة: 315.
(3) الإحاطة: الأماني.(6/509)
وإذا أعوز الجسوم التلاقي ... ناب عنه تعارف الأرواح وهي طويلة لم يحضرني منها الآن سوى ما ذكرته.
وقد حذا حذوها الفقيه الكاتب أبوزكريا يحيى بن خلدون أخو قاضي القضاة ولي الدين بن خلدون صاحب التاريخ، فقال في مولد عام ثمانية وسبعين وسبعمائة، واستطرد لمدح السلطان أبي حموموسى صاحب تلماسن الذي تقدم ذكره قريباً (1) :
ما على الصب في الهوى من جناح ... أن يرى حلف عبرة وافتضاح
وإذا ما المحب عيل اصطباراً ... كيف يصغي إلى نصيحة لاح
يا رعى اله بالمحصب ربعاً ... آذنت عهده النوى بانتزاح
كم أدرنا كأس الهوى فيه مزحاً ... رب جد من الجوى في المزاح
هل إلى رسمه المحيل سبيل ... يا حداة المطي تلك الطلاح
نسأل الدار بالخليط ونسقي ... ذلك الربع بالدموع السفاح
أي شجو عاينت بعد نواها ... من أسى لازم وصبر مزاح
أهل ودي إن رابكم برح وجدي ... من صبا بارق وبرق لياح
فاسألوا البرق عن خفوق فؤادي ... والصبا عن سقام جسمي المتاح
يا أهيل الحمى نداء مشوق ... ما له عن هوى الدمى من براح
طالما استعذب المدامع ورداً ... في هواكم عن كل عذب قراح
عاده بالطلول للشوق عيد ... من حمام بدوحهن صداح
من لقلب من الجوى في ضرام ... ولجفن من البكا في جراح
ولصب يهيجه الذكر شوقاً ... فهو سكراً يرتاد من غير راح
وليال قضيت للهو فيها ... وطراً والشباب ضافي الجناح
__________
(1) أزهار: 239.(6/510)
راكباً في الهوى ذلول تصاب ... ساحباً في الغرام ذيل مراح
ونجوم المنى تنير إلى أن ... روع الشيب سربها بالصباح
أي مسرى حمدت لم أخل منه ... بسوى حسرة وطول افتضاح
واخساري يوم القيامة إن لم ... يغفر الله زلتي واجتراحي
لم أقدم وسيلة فيه إلا ... حب خير الورى الشفيع الماحي
سيد العالمين ديناً واخرى ... أشرف الخلق في العلا والسماح
سيد الكون من سماء وأرض ... سره بين غاية وافتتاح
زهرة الغيب مظهر الوحي معنى ال ... نور كنه المشكاة والمصباح
آية المكرمات قطب المعالي ... مصطفى الله من قريس البطاح
أول الأنبياء تخصيص زلفى ... آخر المرسلين بعث نجاح
صفوة الخلق أرفع الرسل قدراً ... وسراج الهدى وشمس الفلاح
من لميلاده بمكة ضاءت ... من قرى قيصر جميع الضواحي
وخبت نار فارس وتداعت ... من مشيد الإيوان كل النواحي
من رقى في السماء سبعاً طباقاً ... ورأى آي ربه في اتضاح
ودنا منه قاب قوسين قرباً ... ظافراً في العلا بكل اقتراح
من هدى الخلق بين حمر وسود ... وجلا ليل غيهم بالصباح
من يجير الورى غداً يوم يجزى ... كل عاص وطائع باجتراح
من إلى حوضه وظل لواه ... يلجأ الناس بين ظام وضاحي
أحمد المجتبى حبيباً، وأنى ... فوق عز الحبيب مرمى طماح
في أناجيله المسيح تلاه ... باسمه، والكيلم في الألواح
ولكم حجة وبرهان صدق ... في سماع أتى بها والتماح
إن في النجم والنبات لآياً ... بهرت والجماد والأرواح
معجزات فتن المدارك وصفاً ... وحساباً كالزهر أو كالصباح(6/511)
يا رواة القريض والشعر عجزاً ... ما عسى تدركون بالأمداح
إنما حسبنا الصلاة عليه ... وهي للفوز آية استفتاح
يا إلهي بحق أحمد عفواً ... عن ذنوب جنيتهن قباح
وأدم دولة الخليفة موسى ... ذي المعالي المبينة الأوضاح
مفخر الملك مستفر المزايا ... مظهر اللطف ذوالتقى والصلاح
ناصر الحق خاذل الجور عدلاً ... ملجأ الخائفين بحر السماح
يتلقى الندى بوجه حيي ... ويلاقي العدا ببأس صفاح
وله المكرمات إرثاً ولبساً ... حاز حمداً بها معلى القداح
من علا باذخ وفخر صميم ... وكمال بحت ومجد صراح
وأحاديث في المعالي حسان ... رويت عنه في العوالي الصحاح
عاقد صفقة العلا كل حين ... فائز فيه سعيه بالرباح
للندى والهدى يروح ويغدو ... أي مغدى إلى العلا ومراح
ملك تشرق الأسرة منه ... في سماء السرير نور صباح
وإذا ما علا بعالي العوالي ... صهوة الجرد فهو ليث الكفاح
لبس الدهر منه حلة حسن ... وثنى للسرور عطف مراح
وعلى عاتق الخلافة منه ... طرز فخر سبى النهى بالتماح
ورث الملك شامخاً عن سراة ... شيدوا ركنه بأيدي الصفاح
من بني القاسم الذين تحلوا ... بالمعالي واستأثروا بالفلاح
فرعوا هضبة الخلافة مجداً ... رفعوا سقفه على الأرماح
نشروا راية المفاخر حمداً ... خافق النور بالربى والبطاح
يا إماماً بذ الملوك جلالاً ... وجمالاً فديت بالأرواح
أنت شمس الكمال دمت عليها ... في اغتباق من المنى واصطباح
وبنوك الأعلون أنجم سعد ... زاهرات بنورك الوضاح
وأبو تاشفين بدر منير ... زانه الله بالخلال الصباح(6/512)
أكمل العالمين خلقاً وخلقاً ... أشرف الناس في الندى والكفاح
وبكم زينت سماء المعالي ... واهتدى الناس في الدجى والصباح وكان السلطان أبوحموالممدوح بهذه القصيدة يحتفل لليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية الاحتفال، كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله.
ومن احتفاله له ما حكاه شيخ شيوخ شيوخنا الحافظ سيدي أبوعبد الله التنسي ثم التلمساني في كتابه راح الأرواح فيما قاله المولى أبوحمومن الشعر وقيل فيه من الأمداح وما يوافق ذلك على حسب الاقتراح ونصه: أنه كان يقيم ليلة الميلاد النبوي - على صاحبه الصلاة والسلام - بمشورة من تلمسان المحروسة مدعاة حفيلة يحشر فيها الناس خاصة وعامة، فما شئت من نمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، وبسط موشاة، ووسائد بالذهب مغشاة، وشمع كالأسطوانات، وموائد كالهالات، ومباخر منصوبة كالقباب، يخالها المبصر تبراً مذاب، ويفاض على الجميع أنواع الأطعمة، كأنها أزهار الربيع المنمنمة، تشتهيها الأنفس وتستلذها النواظر، ويخالط حسن رياها الأرواح ويخامر، رتب الناس فيها على مراتبهم ترتيب احتفال، وقد علت الجميع أبهة الوقار والإجلال، وبعقب ذلك يحتفل المسمعون بأمداح المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومكفرات (1) ترغب في الإقلاع عن الآثام، يخرجون فيها من فن إلى فن ومن أسلوب إلى أسلوب، ويأتون من ذلك بما تطرب له النفوس وترتاح إلى سماعه القلوب، وبالقرب من السلطان رضوان الله تعالى عليه خزانة المنجانة قد زخرفت كأنها حلة يمانية، لها أبواب موجفة (2) على عدد ساعات الليل
__________
(1) المكفرات: أشعار تقال في التزهيد فتكفر ما كان من عبث، وهي تشبه " المحصات ".
(2) الأزهار: مرتجة.(6/513)
الزمانية، فمهما مضت ساعة وقع النقر بقدر حسابها، وفتح عند ذلك باب من أبوابها، وبرزت منه جارية صورت في احسن صورة، في يدها اليمنى رقعة مشتملة على نظم فيه تلك الساعة باسمها مسطورة، فتضعها بين يدي السلطان بلطافة، ويسراها على فمها كالمؤدية بالمبايعة حق الخلافة، هكذا حالهم إلى انبلاج عمود الصباح، ونداء المنادي حي على الفلاح؛ انتهى.
وقال التنسي المذكور في كتابه المسمى بنظم الدر والعقيان في شرف بني زيان وذكر ملوكهم الأعيان ما نصه: وكان السلطان أبو حمو يقوم بحق ليلة مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويحتفل لها بما هوفوق سائر المواسم، يقيم مدعاة (1) يحشر لها لأشراف والسوقة، فما شئت من نمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، وشمع كالأسطوانات، وأعيان الحضرة على مراتبهم تطوف عليهم ولدان قد لبسوا أقبية الخز الملون وبأيديهم مباخر ومرشات ينال كل منها بحظه، وخزانة ذات تماثيل لجين محكمة الصنعة، بأعلاها أيكة تحمل طائراً فرخاه تحت جناحيه، ويختله فيهما أرقم خارج من كوة بجذر الأيكة صاعدا (2) ، وبصدرها أبواب مرتجة بعدد ساعات الليل الزمانية، يصاقب طرفيها بابان كبيران، وفوق جميعها دوين رأس الخزانة قمر أكمل يسير على خط الاستواء سير نظيره في الفلك، ويسامت أول كل ساعة بابها المرتج، فينتقض من البابين الكبيرين عقابان، بفي كل واحد منهما صنجة صفر يلقيها إلى طست من الصفر بوسطه ثقب يفضي بها إلى داخل الخزانة فيرن، وينهش الأرقم أحد الفرخين، فيصفر له أبوه، فهناك يفتح باب الساعة الذاهبة، وتبرز منه جارية محتزمة كاظرف ما أنت راء، بيمناها إضبارة فيها اسم ساعتها منظوماً، ويسراها موضوعة على فيها كالميابعة بالخلافة، والمسمع قائم ينشد
__________
(1) المدعاة: الدعوة.
(2) الأزهار: صعداً.(6/514)
أمداح سيد المرسلين وخاتم النبيين ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يؤتى آخر الليل بموائد كالهالات دوراً، والرياض نوراً، وقد اشتملت من أنواع محاسن المطاعم (1) على ألوان تشتهيها الأنفس وتستحسنها الأعين، وتلذ بسماع أسمائها الآذان، وبشرة مبصرها للقرب منها والتناول وإن كان ليس بغرثان، والسلطان لم يفارق مجلسه الذي أبتدأ جلوسه فيه، وكل ذلك بمرأى منه ومسمع حتى يصلي هنالك صلاة الصبح. على هذا الأسلوب تمضي ليلة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جميع أيام دولته، أعلى الله تعالى مقامه في عليين، وشكر له في ذلك صنيعه الجميل آمين.
وما من ليلة مولد مرت في أيامه إلا ونظم فيها قصيداً في مديح مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، أول ما يبتدئ المسمع في ذلك الحفل العظيم بإنشاده، ثم يتلوه من رفع إلى مقامه العلي في تلك الليلة نظماً؛ انتهى وهوأتم مسافاً مما في " راح الأرواح ".
ولا باس أن نلم ببعض المقطوعات التي أنشأها الكاتب أبوزكريا يحيى ابن خلدون المذكور على لسان جارية المنجانة في مخاطبة السلطان أبي حمومعلمة بما مر من ليل، ففي مضي ساعين قوله (2) :
أخليفة الرحمن والملك الذي ... تعنو لعز علاه أملاك البشر
لله مجلسك الذي يحكي علاً ... بك مالكي أفق السماء لمن نظر
أوما ترى فيه النجوم زواهراً ... وجه الخليفة بينهن هو القمر
والليل منه ساعتان قد انقضت ... تثني عليك ثنا الرياض على المطر
لا زال هذا الملك منصوراً بكم ... وبلغت مما ترتجي أسنى الوطر وقوله في مضي ثلاث ساعات:
__________
(1) الأزهار: الطعام.
(2) وردت هذه المطعات في بغية الرواد 2: 219 - 222 وأزهار الرياض 1: 246 - 247.(6/515)
أمولاي يا ابن الملوك الألى ... لهم في المعالي سني الرتب
تولت ثلاث من الليل أبقت ... لك الفخر في عجمها والعرب
فدم حجة الله في أرضه ... تنال شئته من أرب وقوله في مضي ست ساعات:
يا ماجداً وهوفرد ... تخاله في عساكر (1)
ست من الليل ولت ... ما إن لها من نظائر
دامت لياليك حتى ... إلى المعاد نواضر وقوله في مضي ثماني ساعات:
يا أكرم الخلق ذاتاً ... وأشرف الناس أسره
مرت ثمان وأبقت ... في القلب مني حسره
فيهن كان شبابي ... أخا نعيم ونضره
ولى بها الدهر عني ... ترى لها بعد كره
فالله يبقيك مولى ... يطيل في السعد عمره وقوله في مضي عشر ساعات:
يا مالك الخير والخيل التي حكمت ... له بعز على الأيام مقتبل
هذا الصباح وقد لاحت بشائره ... والليل ودعنا توديع مرتحل
لله عشر من الساعات باهرة ... مضين لا عن قلىً منا ولا ملل
كذا تمر ليالي العمر راحلة ... عنا ونحن من الآمال في شغل
نمسي ونصبح في لهو نسر به ... جهلاً وذلك يدنينا من الأجل
__________
(1) البغية:
يا واحداً في علاه ... من نابه في عساكر(6/516)
والعمر يمضي ولا ندري فوا أسفاً ... عليه إذ مر في الآثام والزلل
يا ليت شعري غداً كيف الخلاص به ... ولم نقدم له شيئاً من العمل
يا رب عفوك عما قد جنته يدي ... فليس لي بجزاء الذنب من قبل
يا رب وانصر أمير المسلمين أبا ... حمو الرضى وانله غاية الأمل
وأبق في العز والتمكين مدته ... واعل دولته الغرا على (1) الدول انتهى المجلد السادس
__________
(1) البغية: الغراء في.(6/517)
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الخامس
(تتمة)
رجع إلى نظم لسان الدين رحمه الله تعالى، فنقول:
وأمّا موشّحاته وأزجاله فكثيرة، وقد انتهت إليه رياسة هذا الفن، كما صرح بذلك قاضي القضاة ابن خلدون في مقدمة تاريخه الكبير، ولنذكر بعض كلامه، إذ لا يخلو من فائدة زائدة، قال رحمه الله تعالى ما ملخصه (1) : وأما أهل الأندلس فلمّ كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخّرون منهم فنّاً منه سمّوه بالموشح، ينظمونه أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً، يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتاً واحداً، ويلتزمون عدد قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالياً فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب، وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد، وتجاوزوا (2) في ذلك إلى الغاية، واستظرفه الناس وحمده (3) الخاصّة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه، وكان المخترع
__________
(1) انظر مقدمة ابن خلدون: 1327 وأصل هذا النص نفسه ورد في " المقتطف من أزاهر الطرف " لابن سعيد، وراجع أزهار الرياض 2: 208.
(2) المقدمة: وتجاروا.
(3) المقدمة والأزهار: جملة.(7/5)
لها بجزيرة الأندلس مقدّم بن معافى القبري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ عنه ذلك ابن عبد ربّه صاحب العقد، ولم يذكر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشّحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المريّة، وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنّه سمع أبا بكر ابن زهر يقول: كل الوشّاحين عيال على عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله:
بدر تمّ شمس ضحى ... غصن نقا مسك شم
ما أتمّ ما أوضحا ... ما أورقا ما أنمّ
لا جرم من لما ... قد عشقا قد حرم وزعموا أنّه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمان ملوك الطوائف، وجاء مصلّياً خلفه منهم ابن أرفع رأسه شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، قالوا: وقد أحسن في ابتدائه في الموشحة التي طارت له حيث يقول:
العود قد ترنم بأبدع تلحين ... وشقّت المذانب رياض البساتين وفي انتهائه حيث يقول:
تخطر ولم تسلم عساك المأمون ... مروّع الكتائب يحيى بن ذي النون ثمّ جاءت الحلبة التي كانت في مدة الملثّمين فظهرت لهم البدائع، وفرسان حلبتهم (1) : الأعمى التطيلي، ثمّ يحيى بن بقي، وللتطيلي من الموشحات المذهبة قوله (2) :
__________
(1) المقتطف: فرنسا رهان حلبتهم.
(2) ديوان الأعمى: 272.(7/6)
كيف السّبيل إلى صبري ... وفي المعال أشجان
والركب وسط الفلا بالخرّد ... النواعم قد بانوا وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل (1) هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشّاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية، وكان كل واحد منهم قد صنع موشحة وتأنّق فيها، فتقدم الأعمى التطيلي للإنشاد، فلمّا افتتح موشحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري خرّق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون (2) .
وذكر الأعلم البطليوسي (3) أنّه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحاً على قول إلاّ ابن بقي حين وقع له (4) :
أما ترى أحمد ... في مجده العالي لا يلحق
أطلعه المغرب ... فأرنا مثله يا مشرق وكان في عصرهما من الوشّاحين المطبوعين أبو بكر الأبيض، وكان في عصرهم أيضاً الحكيم أبو بكر ابن باجة صاحب التلاحين المعروفة.
ومن الحكايات المشهورة أنّه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت (5) صاحب سرقسطة فألقى عليه بعض موشّحته:
__________
(1) المقتطف: وسمعت غير واحد من الأشياخ ... الخ.
(2) راجع هذه القصة في المجلد 3: 404.
(3) المقتطف: وسمعت الأعلم البطليوسي يقول ... الخ.
(4) انظر هذه الموشحة في ديوان التطيلي: 270 - 272 وهي دار الطراز: 63 منسوبة لابن بقي.
(5) المقتطف: أنه لما ألقى على بعض قينات ابن تيلفويت ... الخ.(7/7)
جرّر الذيل أيّما جرّ ... [وصل السكر منك بالسكر] (1) فطر الممدوح لذلك، وختمها بقوله:
عقد الله راية النصر ... لأمير العلا أبي بكر فلمّا طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح: واطرباه! وشقّ ثيابه، وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت، وحلف الأيمان المغلظة أن لا يمشي ابن باجة لداره إلا على الذهب فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه.
ثم قال ابن خلدون بعد كلام: واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبي الفضل بن شرف إلى أن قال: وابن هردوس (2) الذي له:
يا لَيلَةَ الوَصلِ وَالسُعودِ ... بِاللَهِ عودي وابن مؤهل (3) الذي له:
ما العيد في حلة وطاق ... وشم طيب
وإنما العيد في التلاقي ... مع الحبيب وأبو إسحاق الزويلي (4) .
__________
(1) زيادة من المقطتف.
(2) ترجم له في المغرب (2: 210) وسماه أحمد بن هردوس بتقديم الواو على الدال؛ وكنيته أبو الحكم؛ وفي التحفة (54) أنه إبراهيم بن علي بن هردوس؛ وقال إنه من أهل حصن مرشانة من عمل المرية وتوفي بمراكش سنة 572؛ وسماه في التكملة أيضاً إبراهيم (ص: 154) وأورد له صاحب المغرب موشحة (2: 215) هي التي أورد هنا مطلعها؛ وأغلب الظن أن الصواب في نسبه " هردوس " بتقديم الدال وهي لفظة بربرية ترمز إلى الفحولة. والأرجح أن اسمه " أحمد " لقوله يخاطب أحمد بن عبد الملك بن سعيد " يا سميي " (انظر النفح 4: 201) .
(3) ذكره في المغرب 2: 390 باسم " ابن موهد " وأورد له موشحة وقال إنه شاطبي سكن مرسية ومدح ابن مردنيش.
(4) في المقدمة والأزهار: الدويني، وما أثبتناه هو ما ورد في المقتطف.(7/8)
قال أبو سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: إنه دخل على ابن زهر وقد أسن وعليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة فلم يعرفه فجلس حيث انتهى به المجلس (1) ، وجرّت المحاضرة أن أنشد لنفسه موشحة وقع فيها:
كحل الدجى يجري ... من مقلة الفجر على الصباح
ومعصم النهر ... في حلل خضر من البطاح فتحرك ابن زهر، وقال: أنت تقول هذا قال: اختبر، قال: ومن تكون فأخبره، فقال: ارتفع، فوالله ما عرفتك.
قال ابن سعيد: وسابق الحلبة التي أدركت هو أبو بكر ابن زهر، وقد شرّقت موشّحاته وغرّبت، قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: قيل لابن زهر: لو قيل لك: ما أبدع ما وقع لك في التوشيح فقال: كنت أقول:
ما للمولّه ... من سكره لا يفيق يا له سكران
[من غير خمر ... ما للكثيب المشوق يندب الأوطان]
هل تستعاد ... أيامنا بالخليج وليالينا
إذ يستفاد ... من النسيم الأريج مسك دارينا
وإذ يكاد ... حسن المكان البهيج أن يحيينا
نهر أظلّه ... دوح عليه أنيق مؤنق فينان
والماء يجري ... وعائم وغريق من جنى الريحان واشتهر بعده ابن حيون؛ إلى أن قال: وبعد هؤلاء ابن حزمون بمرسية، ذكر ابن ارائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه، فأنشده موشّحة لنفسه، فقال له ابن حزمون: ما الموشّح بموشح حتى يكون عارياً من التكليف، فقال: على مثل ماذا فقال:
__________
(1) المقتطف: فجلس حيث وجد.(7/9)
على مثل قولي:
يا هاجري ... هل إلى الوصال منك سبيل
أو هل يرى ... عن هواك سال قلب العليل وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة، قال ابن سعيد: كان والدي يعجب بقوله:
إن سيل الصباح في الشرق ... عاد بحراً في أجمع الأفق
فتداعت نوادب الورق ... أتراها خافت من الغرق فبكت سحرةً على الورق ... واشتهر بإشبيلية لذلك العهد أبو الحسن ابن الفضل، قال ابن سعيد عن والده: سمعت سهل بن مالك يقول له: يا ابن الفضل، لك على الوشّاحين الفضل، بقولك:
واحسرتي لزمان مضى ... عشيّة بان الهوى وانقضى
وأفردت بالرغم لا بالرضى ... وبت على جمرات الغضا
أعانق بالفكر تلك الطلول ... وألثم بالوهم تلك الرسوم قال: وسمعت أبا بكر ابن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدبّاج موشّحاته غير ما مرّة فما سمعته يقول " لله درّك " إلا في قوله:
قسماً بالهوى لذي حجر ... ما لليل المشوق من فجر خمد الصبح ليس يطرد ... ما لليلي فيما أظن غد ... صحّ يا ليل أنك الأبد ...
أو تفضّت قوادم النسر ... فنجوم السماء لا تسري(7/10)
ومن موشّحات ابن الصابوني قوله:
ما حال صبٍّ ذي ضنىً واكتئاب ... أمرضه يا ويلتاه الطبيب
عامله محبوبه باجتناب ... ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب
جفا جفوني النوم لكنّني ... لم أبكه إلاّ لفقد الخيال
وذو الوصال اليوم قد غرّني ... منه كما شاء وشاء الوصال
فلست باللائم من صدّني ... بصورة الحق ولا بالمحال واشتهر بير العدوة ابن خلف الجزائري صاحب الموشّحة المشهورة:
يد الإصباح قد قدحت ... زناد الأنوار من مجامر الزهر وابن خزر البجائي، وله من موشحة:
ثغر الزمان موافق ... حيّاك منه بابتسام ومن محاسن الموشّحات موشحة ابن سهل شاعر إشبيلية وسبتة من بعدها (1) :
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صبٍّ حلّه عن مكنس
فهو في حر وخفق مثلما ... لعبت ريح الصبا بالقبس وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب لعصره فقال:
جادك الغيث إذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس
__________
(1) انظر ديوان ابن سهل: 283 وهي الموشحة التي شرحها الأفراني في كتاب سماه " المسلك السهل في شرح توشيح ابن سهل ". يقول الأفراني: وقد وقفت على أزيد من اثنتي عشرة موشحة مما عورض به توشيح ابن سهل.(7/11)
إذ يقود الدهر أشتات المنى ... ينقل الخطو على ما يرسم
زمراً بين فرادى وثنا ... مثلما يدعو الوفود المواسم
والحيا قد جلّل الروض سنا ... فثغور الزهر منه تبسم
وروى النعمان عن ماء السما ... كيف يروي مالك عن أنس
فكساه الحسن ثوباً معلما ... يزدهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سرّ الهوى ... بالدجى لولا شموس الغرر
مال نجم الكأس فيها وهوى ... مستقيم السير سعد الأثر
وطر ما فيه من عيب سوى ... أنّه مّر كلمح البصر
حين لّذ الأنس شيئا أو كما ... هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بنا أو ربما ... أثرت فينا عيون النرجس
أي شيءٍ لامرىء قد خلصا ... فيكون الروض قد مكّن فيه
تنهب الأزهار منه الفرصا ... أمنت من مكره ما تتقيه
فإذا الماء تناجى والحصى ... وخلا كّل خليل بأخيه
تبصر الورد غيوراً برما ... يكتسي من غيظه ما يكتسي
وترى الآس لبيباً فهما ... يسرق السّمع بأذني فرس
يا أهيل الحيّ من وادي الغضا ... وبقلبي سكن أنتم به
ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا ... لا أبالي شرقه من غربه
فأعيدوا عهد أنس قد مضى ... تعتقوا عانيكم من كربه
واتقوا الله وأحيوا مغرما ... يتلاشى نفساً في نفس
حبس القلب عليكم كرما ... أفترضون عفاء الحبس(7/12)
وبقلبي منكم مقترب ... بأحاديث المنى وهو بعيد
قمر أطلع منه المغرب ... شقوة المغرى به وهو سعيد
قد تساوى محسن أو مذنب ... في هواه بين وعد ووعيد
ساحر المقلة معسول اللمى ... جال في النفس مجال النفس
سدّد السهم وسمىّ ورمى ... ففؤادي نهبة المفترس
إن يكن جار وخاب الأمل ... وفؤاد الصبّ بالشوق يذوب
فهو للنفس حبيب أول ... ليس في الحبّ لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل ... في ضلوع قد براها وقلوب
حكّم اللّحظ بها فاحتكما ... لم يراقب في ضعاف الأنفس
منصف المظلوم ممّن ظلما ... ومجازي البّر منها والمسي
ما لقلبي كلمّا هبت صبا ... عاده عيد من الشوق جديد
كان في اللوح له مكتتبا ... قوله: " إن عذابي لشديد "
جلب الهمّ له والوصبا ... فهو للأشجان في جهد جهيد
لاعج في أضلعي قد أضرما ... فهي نار في هشيم اليبس
لم يدع في مهجتي إلا ذما ... كبقاء الصبح بعد الغلس
سلّمي يا نفس في حكم القضا ... واعمري الوقت برجعى ومتاب
دعك من ذكرى زمان قد مضى ... بين عتبى قد تقضّت وعتاب
واصرفي القول إلى المولى الرضى ... ملهم التوفيق في أمّ الكتاب
الكريم المنتهى والمنتمى ... أسد السرج وبدر المجلس
ينزل النصر عليه مثلما ... ينزل الوحي بروح القدس(7/13)
إلى هذا الحد انتهى ابن خلدون من موشحة لسان الدين، ولا أدري لِمَ لَمْ يكملها، وتمامها قوله:
مصطفى الله سمىّ المصطفى ... الغني بالله عن كلّ أحد
من إذا ما عقد العهد وفى ... وإذا مافتح الخطب عقد
من بني قيس بن سعدٍ وكفى ... حيث بيت النصر مرفوع العمد
حيث بيت النصر محمي الحمى ... وجنى الفضل زكي المغرس
والهوى ظل ظليل خيّما ... والندى هبّ إلى المغترس
هاكها يا سبط أنصار العلا ... والذي إن عثر الدهر أقال
غادة ألبسها الحسن ملا ... تبهر العين جلاء وصقال
عارضت لفظا ومعنى وحلى ... قول من أنطقه الحبّ فقال:
" هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صبّ حلّه عن مكنس "
" فهو في خفقٍ وحرٍ مثلما ... لعبت ريح الصّبا بالقبس " ثمّ قال ابن خلدون: وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات، ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك المصري التي اشتهرت شرقاً وغرباً، وأولها:
[يا] حبيبي ارفع حجاب النور ... عن العذار
تنظر المسك على كافور ... في جلّنار
كللي ياسحب تيجان الربى ... بالحلي
واجعلي سوارها منعطف ... الجداول ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق(7/14)
كلامه وتصريع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقتهم بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعراباً (1) ، واستحدثوا فناً سموه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناجيهم إلى هذا العهد فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال، بحسب لغتهم المستعجمة، وأوّل من أبدع في هذه الطريقه الزجلية أبو بكر ابن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس (2) ، لكن لم تظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها، واشتهرت رشاقتها، إلا في زمانه، وكان لعهد الملثّمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق، قال ابن سعيد: رأيت أزجاله مرويّة ببغداد أكثر ممّا رأيتها بحواضر المغرب، قال: وسمعت أبا الحسن ابن جحدر الإشبيلي (3) إمام الزجالين في عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمّة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش، وأمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء على صفائح من الحجر، فقال:
وعريش قد قام على دكان ... بحال رواق
وأسد قد ابتلع ثعبان ... من غلظ ساق
وفتح فمو بحال إنسان ... به الفواق
وانطلق من ثم على الصّفاح ... والقي الصياح
__________
(1) يؤخذ من هذا أن ابن خلدون يرى أسبقية الموشح على الزجل، وهو أمر يخالف طبيعة الأشياء، لأن الزجل في أصله أغنية شعبية، وإنما يعني ابن خلدون أن الزجل أحرز " مكانة أدبية " بعد شيوع الموشح.
(2) ظهر من الزجالين ابن نمارة وابن راشد قبل ابن قزمان ولكنه خالف طريقة القدامى - كما يسميهم - واختار العودة بالزجل إلى سهول الأغنية الشعبية ورقتها.
(3) هو علي بن جحدر (المغرب 1: 263 واختصار القدح: 172) قال ابن سعيد: أكثر اشتهاره بانطباع في الزجل، وجالسته كثيراً بإشبيلية، وطال عمره حتى جاوز التسعين ومات سنة 638.(7/15)
وكان ابن قزمان مع أنه قرطبي الدار كثيراً مايتردد إلى إشبيلية، وينتاب نهرها.
إلى أن قال ابن خلدون: وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس (1) ، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، فمن قوله في زجله المشهور:
ورذاذ دق ينزل ... وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض ... وترى الآخر يذهّب
والنبات يشرب ويسكر ... والغصون ترقص وتطرب
وتريد تجي إلينا ... ثمّ تستحي وترجع ومن محاسن أزجاله قوله:
لاح الضّيا والنجوم سكارى ... ثم قال: وظهر بعد هؤلاء في إشبيلية ابن جحدر الذى فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل المشهورالذي أوّله:
من يعاند التوحيد بالسيف يمحق ... أنا برى ممّن يعاند الحق قال ابن سعيد: لقيته ولقيت تلميذه البعبع (2) صاحب الزجل المشهور الذي أوله:
ليتني إن ريت حبيبي ... أقتل أدنو بالرسيلا
لشن أخذ عنق الغزيّل ... وسرق فم الحجيلا
__________
(1) اسمه أحمد بن الحاج، وكان في دولة بني عبد المؤمن، وهو شيخ الزجالين بعد ابن قزمان (المغرب 2: 214) وقد أورد له ابن سعيد (2: 220) زجلين وله في العاطل الحالي أزجال (18 - 25) وأخرى منقولة عن سفينة ابن مباركشاه (العاطل 204 - 214) وانظر النفح 3: 385.
(2) ق: اليعيع.(7/16)
ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك إمام الآداب، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة:
امزج الأكواس واملالي نجدّد ... ما خلق المال إلاّ أن يبدد ومن قوله على طريقتة الصوفية وينحو منحى الششتري منهم:
بين طلوع وبين نزول ... اختلطت الغزول
ومضى من لَمْ يكن ... وبقي من لم يزول ومن محاسنه أيضاً قوله في ذلك المعنى:
البعد عنك يا ابني أعظم مصايبي ... وحين حصل لي قربك سيّبت أقاربي انتهى المقصود جلبه من كلام ابن خلدون، وقد أطال رحمه الله تعالى في هذا المقصد، ولم أرد إيراد جميع كلامه لطوله وعدم تعلّق الغرض به، وفيما ذكرته منه كفاية لتعلّقه بأمر لسان الدين رحمه الله تعالى، وشهادته له أنّه شاعر الإسلام غير مدافع، وأنّه انتهت إليه رياسة الصناعة الزجلية والتوشيحية.
[ترجمة ابن باجة من القلائد]
وأبو بكر بن باجّة الذي أشار إليه ابن خلدون: هو أبو بكر ابن الصائغ التجيبي السّرقسطي، الذي قال في حقّه لسان الدين في الإحاطة: إنّه آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس، وكان بينه وبين الفتح بن خاقان صاحب القلائد معاداة فلذلك هجاه في القلائد، وجعله آخر ترجمة فيها إذ قال ما نصّه (1) : الأديب أبو بكر ابن الصائغ، هو رمد عين (2) الدين، وكمد نفوس
__________
(1) القلائد: 300 - 306.
(2) القلائد: جفن.(7/17)
المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، فما يتشرّع، ولا يأخذ في غير الأضاليل ولا يشرع، ناهيك من رجل ما تطهّر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا أشجى فؤاده بتوارٍ في جدث، ولا أقر بباريه ومصوّره، ولا قرّ عن تباريه في ميدان تهوّره، الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم، ونبذه وراء ظهره ثاني عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن تكون له إلى الله تعالى فيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترم على الله اللطيف الخبير، واجترأ عند سماع النهي والإيعاد، واستهزأ بقوله تعالى {إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} (القصص: 85) فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات أو نور، حمامه تمامه، واختطافه قطافه، قد محي الإيمان من قلبه فما له فيه رسم، ونسي الرحمن لسانه فما يمرّ له عليه اسم، وانتمت نفسه إلى الضلال وانتسبت، ونفت {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} (غافر: 17) ، فقصر عمره على طرب ولهو، واستشعر كلّ كبر وزهو، وأقام سوق المويسقى، وهام بحادي القطار وسقا، فهو يعكف على سماع التلاحين، ويقف عليه كل حين، ويعلن بذلك الاعتقاد، ولا يؤمن بشيء قادنا إلى الله تعالى في أسلس مقاد، مع منشإ وخيم، ولؤم أصل وخيم (1) ، وصورة شوّهها الله تعالى وقبحها، وطلعة إذا أبصرها الكلب نبحها، وقذارة يؤذي البلاد نفسها، ووضارة يحكي الحداد دنسها، وفند لا يعمر إلا كنفه، ولدد لا يقوّم إلا الصّعاد جنفه، وله نظم أجاد فيه بعض إجادة، وشارف الإحسان أو كاده،
__________
(1) الخيم: الطبيعة والأصل.(7/18)
فمن ذلك ما قاله في عبد حبشي كان يهواه، فاشتمل عليه أسرٌ سعّر حشاه (1) ، ونقله إلى حيث لم يعلم مثواه، فقال:
يا شائقي حيث لا أسطيع أدركه ... ولا أقول غداً أغدو فألقاه
أمّا النهار فليلي ضمّ شملته ... على الصّباح فأولاه كأخراه
أغرّ نفسي بآمالٍ مزورّة ... منها لقاؤك والأيّام تأباه وله فيه لمّا بلغه موته، وتحقّق عنده فوته:
ألا يا رزق والأقدار تجري ... بما شاءت نشا أو لا نشاء
هل أنت مطارحي شجوي فتدري ... وأدري كيف يحتمل القضاء
يقولون الأمور تكون دوراً ... وهذا فقده فمتى اللّقاء وله في الأمير أبي بكر ابن إبراهيم قدس الله تعالى تربته، وآنس غربته، مدائح انتظمت بلبّات الأوان، ونظمت على كل شتيت من الإحسان، فمن ذلك قوله:
توضّح في الدجى طرف ضرير ... سناً بلوى الصريمة يستطير
فيا بأبي ولم أبذل يسيراً ... وإن لم يكفهم ذاك الكثير
بريق لا تقل هو ثغر سلمى ... فتأثم، إنّه حوب وزور
فكيف وما أطلّ الليلُ منه ... ولا عبقت بساحته الخمور
تراءى بالسدير فزاد قلبي ... من البرحاء ما شاء السدير
فلولا أنّ يوم الحشر يقضي ... عليّ بحكم مولى لا يجور
دعوت على المشقّر أن يجازي ... بما تجزى به الدار الغرور
__________
(1) القلائد: جواه.(7/19)
ومنها:
لقد وسع الزمان عليه عدوى ... وضرّ بشبله الليث الهصور
وقلّبنا الزمان فلا بطون ... تضمنت الوفاء ولا ظهور
سوى ذكرٍ أطارحه فلولا ال ... أمير لقد عفا لولا الأمير
همام جوده يصف السّواري ... وسطوته يعيّرها الهجير
وقلنا نحن كيف وراحتاه ... بحور يلتظي فيها سعير
فهل فيما سمعت به خصام ... يكون الخصم فيه هو العذير وكان الأمير أبو بكر يعتقد له هذه الماتّة ويراها، ويجود أبداً ثراها، فلمّا ولي الثغر والشرق لم يغفله من رعي، ولم يكله (1) إلى شفاعة وسعي، وحمله على ما كان يعتقده فيه من المقت، واستعمله على ما كان يقتضيه خلق الوقت، من إقامة الوعد (2) ، وتسويغه كل نعيم رغد، وتغليب حجّة داحضة، وإنهاض عثرة غير ناهضة، فتقلد وزارته ودولته تزهى منه بأندى من الوسميّ المبتكر، وأهدى من النجم في الليل المعتكر، وألويته تميس زهواً ميس الفتاة، ورعيته تبتهج بملكه ابتهاج حيي بابن الموماة (3) ، ومذاهبه يبسطها الفضل وينشرها، وكتائبه لا يكاد العدو يعسرها، فجاش إليه وانبرى، وراش في تنكيلهم وبرى، وأقطعهم ما شاء من مقابحته، وأسمعهم ما يصم بين ختمه ومفاتحته، فوغرت
__________
(1) القلائد: لم يغفلها ... ولم يكلها؛ والضمير عائد على " الماتة ".
(2) القلائد: من إقامة كل وغد. ق: من إقامة وعد.
(3) كذا؛ وفي القلائد: ابتهاج جابر بعهد البوباة، وفي النصين خطأ في اسم العلم، أما البوباة والموماة فيدلان على شيء واحد هو الأرض المتسعة؛ وأرى أن الإشارة إلىمن اسمه " جرير " وهو المشهور باسم " المتلمس " إذ يقول في ذكر البوباة:
لن تسلكي سبل البوباة منجدة ... ما عاش عمرو وما عمرت قابوس والبوباة هنا ثنية في طريق نجد.(7/20)
صدورهم السليمة، واعتلت صحة ضمائرهم بنفوسهم الأليمة، ولم يزل يأخذ في الإضرار بهم ولا يدع، ويعلن به ويصدع، حتى تفرق ذلك الجمع، وألقاه بين بصر السباب والسمع، وأفرد الدولة من ولاتها، وجرّدها من حماتها، فاستعجل العدو بذلك واستشرى، وزأر منه على سرقسطة ليث شرى، ولما رأى الشر قد ثار قتامه، وبدا من ليله إعتامه، ارتحل واحتمل، وقال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وأقام ببلنسية يشفي نفسه، ويستوفي أنسه، ونجوم سعدها كل يوم غائرة، والعدو يتربص بها أسوأ دائرة، ويروم منازلتها ثم يدع الاقتحام، ويريد التقدم إليها فيؤثر الإحجام، تهيباً لذلك الملك السريّ، والليث الجريّ، وفي خلال هذه المحاولة، وأثناء تلك المطاولة، عاجل الأمير أبا بكر حمامُه، واستسرّ فيها تمامه (1) ، وأجنّة الثرى، وحاز منه بدر دجنّة وليث شرى، فعطلت الدنيا من علاء وجود، وأطلّت عليها بفقده حوادث أجدبت تهائمها والنجود، وفيه يقول يرثيه بما يسيل الفؤاد نجيعاً، ويبيت به الأسى لسامعه ضجيعاً:
أيّها الملك قد لعمري نعى المج ... د نواعيك يوم قمن فنحنا
كم تقارعت والخطوب إلى أن ... غادرتك الخطوب في الترب رهنا
غير أنّي إذا ذكرتك والده ... ر إخال اليقين في ذاك ظنّا
وسألنا متى اللّقاء فقيل ال ... حشر قلنا: صبراً إليه وحزنا وكثيراً ما يغير هذا الرجل على معاني الشعراء، وينبذ الاحتشام من ذلك بالعراء، ويأخذها من أربابها أخذ غاصب، ويعوضهم منها كل هم ناصب، فهذا ممّا أطال به كمد أبي العلاء وغمه، فإنّه أخذه من قوله يرثي أمه (2) :
__________
(1) يريد أنه كان بدراً كاملاً فاصابه السرار.
(2) شروح السقط: 1460، 1468.(7/21)
فيا ركب المنون ألا رسولٌ ... يبلّغ روحها أرج السلام
سألت متى اللّقاء فقيل حتى ... يقوم الهامدون من الرّجام ولما فاتت سرقسطة من يد الإسلام، وباتت نفوس المسلمين فرقاً منهم في يد الاستسلام، ارتاب بقبح أفعاله، وبرىء من احتذائه بتلك الآراء وانتعاله، وأخافه ذنبه، ونبا عن مضجع الأمن جنبه، فكرّ إلى الغرب ليتوارى في نواحيه، ولا يتراءى لعين لائمه ولاحيه، فلمّا وصل شاطبة حضرة الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين وجد باب نفاذه وهو مبهم، وعاقه عنه مدلول (1) عليه ملهم، فاعتقله اعتقالاً شفى الدين من آلامه، وشهد له بعقيدة إسلامه، وفي ذلك يقول، وهو معقول، ويصرح بمذهبه الفاسد، وغرضه المستاسد:
خفض عليك فما الزمان وريبه ... شيء يدوم ولا الحياة تدوم
واذهب بنفس لم تضع لتحلها ... حيث احتللت بها وأنت عليم
يا صاحبي لفظاً ومعنى خلته ... من قبل حتى بيّن التقسيم
دع عنك من معنى الإخاء ثقيله ... وانبذ بذاك العبء وهو ذميم
واسمح وطارحني الحديث فإنّه ... ليل كأحداث الزمان بهيم
خذني على أثر الزمان فقد مضى ... بؤس على أبنائه ونعيم
فعسى أرى ذاك النعيم وربّه ... مرح ورب البؤس وهو سقيم
هيهات ساوت بينهم أجداثهم ... وتشابه المحسود والمحروم ولمّا خلص من تلك الحبالة ونجا، وأنار من سلامته ما كان دجا، احتال في إخفاء ماله، واستيفاء آماله، فأظهر الوفاء للأمير أبي بكر بالرثاء له والتأبين، وتداهيه في ذلك واضح مستبين، فإنّه وصل بهذه النزعة من الحماية إلى حرم،
__________
(1) القلائد: شيحان مدلول.(7/22)
وحصل في ذمة ذلك الكرم، واشتمل بالرّعي، وأمن من كلّ سعي، فاقتنى قياناً، ولقنهن أعاريض من القريض وركّب عليها ألحاناً أشجى من النّوح، ولطف بها إلى إشادة الإعلان باللوعة والبوح، فسلك بها أبدع مسلك، وأطلعها نيرات ما لها غير القلوب من فلك، فمن ذلك قوله:
إنّ غراباً جرى ببينهم ... جاوبه بالثنيّة الصّرد
طاروا فها أنت بعدهم جسد ... قد فارق الروح ذلك الجسد
واكتتموا صبحةً بينهم ... فبئس والله ما الذي اعتمدوا وكقوله:
سلام وإلمام ووسميّ مزنة ... على الجدث النائي الذي لا أزوره
أحقاً أبو كبر تقضّى فلا يُرى ... ترد جماهير الوفود ستوره
لئن أنست تلك القبور بلحده ... لقد أوحشت أنصاره وقصوره ومن قلّة عقله ونزارته، أنّه في مدة وزارته، سفر بين الأمير أبي بكر رحمه الله تعالى وبين عماد الدولة بن هود رحمه الله تعالى بعد سعايات عليه أسلفها، وذخائر كانت له على يديه أتلفها، فوافاه أوغر ما كان عليه صدراً، وأصغر ما كان لديه قدراً، فآل به ذلك الانتقال، إلى الاعتقال، فأقام فيه شهوراً يغازله اعلحمام بمقلة شوهاء، وتنازله الأوهام بفطرته الورهاء، وفي ذلك يقول:
لعلّك يا يزيرد علمت حالي ... فتعلم أيّ خطب قد لقيت
وإنّي إن بقيت بمثل ما بي ... فمن عجب الليالي أن بقيت
يقول الشامتون شقاء بختٍ ... لعمر الشامتين لقد شقيت
أعندهم الأمان من اللّيالي ... وسالمهم بها الزمان المقيت
وما يدرون أنّهم سيسقوا ... على كره بكأس قد سقيتُ(7/23)
وعزم عماد الدولة يوماً على قتله، وألزم المرقبين به التحيّل على ختله، فنمي إليه الأمر الوعر، وارتمى به في لجج اليأس الذعر، فقال:
أقول لنفسي حين قابلها الردى ... فراغت فراراً منه يسرى إلى يمنى
قري تحمدي بعض الذي تكرهينه ... فقد طالما اعتدت الفرار إلى الأهنا ثم قضى له قدر قضى بإنظاره، وما أمضى من إباحته ما كان رهين انتظاره، ويمهل الفاجر حكمةً من الله تعالى وعلماً و {إنّما نملي لهم ليزدادوا إثماً} (آل عمران: 178) ؛ انتهى نص القلائد.
[ثناء الفتح على ابن باجة]
وأين هذا من تحليته له في بعض كتبه بقوله فيه ما صورته: نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوّجت بعصره الأعصار، وتأرّجت من طيب ذكره الأمصار، وقام أوان المعارف واعتدل، ومال للأفهام فنناً وتهدّل، وعطّل بالبرهان التقليد، وحقّق بعد عدمه الاختراع والتوليد، إذا قدح زند فهمه أورى بشرر للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره فهو لكل شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق، الذي هو للإيمان شقيق، والجد، الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يودّ عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى المشتري أن يعرفه، ونظم تعشقه اللبّات والنحور، وتدّعيه مع نفاسة جوهرها البحور، وقد أثبت منه ما تهوى الأعين النّجل أن يكون إثمدها، ويزيل من النفوس حزنها وكمدها، فمن ذلك قوله يتغزل:
أسكّان نعمان الأراك تيقّنوا ... بأنّكم في ربع قلبي سكّان(7/24)
ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا استحفظوا خانوا
سلوا الليل عنّي إذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت لي فيه بالنوم أجفان
وهل جرّدت أسياف برق سمائكم ... فكانت لها إلا جفوني أجفان وله:
أتأذن لي آتي العقيق اليمانيا ... أسائله ما للمعالي وما ليا
وهل داركم بالحزن قفراء إنّني ... تركت الهوى يقتاد فضل زماميا
فيا مكرع الوادي أما فيك شربة ... لقد سال فيك الماء أزرق صافيا
ويا شجرات الجزع هل فيك وقفة ... وقد فاء فيك الظلّ أخضر ضافيا وأورد له في " المطمح " أنّه استأذن على المستعين بالله، فوجده محجوباً، فقال:
من مبلغ خير إمام نشا ... ذا عزة وسامياً قدرا
قول امرىء لو قاله للصفا ... أنبت فيه ورقاً خضرا
عبدك بالباب له خجلة ... لو أنّها بالنرجس احمرّا وحكى غير واحد أنّه مات له سكن كان يهواه، فبات مع بعض أصحابه عند ضريحه ومثواه، وكان قد عرف وقت كسوف البدر بصناعة التعديل، فزوّر في نفسه بيتين في خطاب القمر أتقنهما ولحنهما، حتى إذا كان قبيل وقت الكسوف بقليل تغنى فيهما بذلك الصوت المشجي، واللحن يسوق الشوق ويزجي، وهما:
شقيقك غيّب في لحده ... وتشرق يا بدر من بعده
فهلاّ كسفت فكان الكسوف ... حداداً لبست على فقده فكسف القمر في الحال، وعدّت هذه من نوادره التي جيد الأخبار بفرائدها حال، سامحه الله تعالى.(7/25)
[ابن الحداد الوادي آشي]
ثم رأيت في " الإحاطة " (1) نسبة ذلك لغيره ونصه: محمد بن أحمد بن الحداد، الوادي آشي، يكنى أبا عبد الله.
حاله - شاعر مفلق، وأديب شهير، مشار إليه في التعاليم، منقطع القرين منها في الموسيقى، مضطلع بفك المعمّى، سكن المرية، واشتهر بمدح رؤسائها من بني صمادح، وقال ابن بسّام: كان أبو عبد الله هذا شمس ظهيرة، وبحر خبر وسيرة، وديوان تعاليم مشهورة، وضح في طريق المعارف وضوح الصبح المتهلّل، وضرب فيها بقدح ابن مقبل (2) ، إلى جلالة مقطع، وأصالة منزع، ترى العلم ينم على أشعاره، ويبين في منازعه وآثاره.
تأليفه - ديوان شعره كبير معروف، وله في العروض تصنيف مشهور مزج فيه بين الألحان المويسيقية والآراء الخليلية.
بعض أخباره - حدّث بعض المؤرخين ممّا يدل على ظرفه أنّه فقد سكناً عزيزاً عليه، وأحوجت الحاجة إلى تكلف سلوة، فلمّا حضر الندماء، وكان قد رصد الخسوف القمري، فلمّا حقق أنّه ابتدأ أخذ العود وغنى " شقيقك غيّب - إلى آخره " وجعل يرددها ويخاطب البدر، فلم يتم ذلك إلا واعترضه الخسوف، وعظم من الحاضرين التعجب.
ثم قال لسان الدين في ترجمة شعره: وقال (3) :
أقبلن في الحبرات يقصرن الخطا ... ويرين في حلل الوراشين القطا (4)
سرب الجوى لا الجوّ عوّد حسنه ... أن يرتعي حبّ القلوب ويلقطا
__________
(1) الإحاطة 2: 250.
(2) ينسب إلى الشاعر ابن مقبل لأنه أجاد وصفه (ديوانه: 28 - 29) .
(3) لم ترد هذه القصيدة في الإحاطة؛ وهي في الذخيرة 2/1: 219.
(4) الوراشين: جمع ورشان وهو من الطيور المغردة.(7/26)
مالت معاطفهنّ من سكر الصبّا ... ميلاً يخيف قدودها أن تسقطا
وبمسقط العلمين أوضح معلم ... لمهفهف سكن الحشا والمسقطا
ما أخجل البدر المنير إذا مشى ... يختال والغصن (1) النضير إذا خطا ومنها في المدح:
يا وافدي شرق البلاد وغربها ... أكرمتما خيل الوفادة فاربطا
ورأيتما ملك البرية فاهنآ (2) ... ووردتما أرض المريّة فاخططا
يدمي (3) نحور الدارعين إذا ارتأى ... ويذل عزّ العالمين إذا سطا انتهى المقصود منه، وأورد له في الإحاطة قصيدة ثانية أولها:
حديثك ما أحلى، فزيدي وحدثي ... وهي طويلة.
وكتب عليها ابن المؤلف ما صورته: سمعتها من لفظ شيخي أبي جعفر ابن خاتمة بالمرية في سنة خمس وستين وسبعمائة، قاله علي بن الخطيب؛ انتهى.
رجع إلى أخبار ابن الصائغ، ومن نظمه قوله:
ضربوا القباب على أقاحي روضةٍ ... خطر النسيم بها ففاح عبيرا
وتركت قلبي سار بين حمولهم ... دامي الكلوم يسوق تلك العيرا
هلاّ سألت أميرهم هل عندهم ... عانٍ يفكّ ولو سألت غيورا
لا والذي جعل الغصون معاطفاً ... لهم وصاغ الأقحوان ثغورا
ما مرّ بي ريح الصبّا من بعدهم ... إلا شهقت له فعاد سعيرا
__________
(1) الذخيرة: والخوط، ق: والخود.
(2) الذخيرة: قاطباً.
(3) الذخيرة: يرمي.(7/27)
وتوفّي ابن الصائغ في شهر رمضان سنة 523، وقيل: سنة خمس وعشرين، مسموماً في باذنجان بمدينة فاس، وهو تُجيبي بضم التاء وفتحها، وباجّة: بالباء الموحدة، وبعد الألف جيم مشددة، ثم هاء ساكنة، وهي القصة بلغة الفرنج، وسرقسطة بفتح السين والراء وضم القاف وسكون السين الثانية وبعدها طاء مهملة مدينة كبيرة بالأندلس، استولى عليها العدو سنة 512.
وقال الأمير ركن الدين بيبرس في تأليفه " زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة " (1) إن ابن الصائغ كان عالماً فاضلاً، له تصانيف في الرياضات والمنطق، وإنّه وزر لأبي بكر الصحراوي صاحب سرقسطة، ووزر أيضاً ليحيى بن يوسف ابن تاشفين عشرين سنة بالمغرب، وإن سيرته كانت حسنة، فصلحت به الأحوال، ونجحت على يديه الآمال، فحسده الأطباء والكتّاب وغيرهم، وكادوه، فقتلوه مسموماً؛ انتهى.
وأنشد له بعضهم:
هم رحلوا يوم الخميس عشيّةً ... فودّعتهم لمّا استقلّوا وودعوا
ولما تولّوا ولّت النفس معهم ... فقلت: ارجعي قالت: إلى أين أرجع
إلى جسد ما فيه لحمٌ ولا دمٌ ... وما هو إلا أعظمٌ تتقعقع
وعينين قد أعماهما كثرة البكا ... وأذن عصت عذّالها ليس تسمع وقد ذكر بعضهم في تعزيز بيتي الحريري: أنّه لابن الصائغ الأندلسي، وليس هو بهذا فيما أعلم:
انقدّ مهوى أزره فانثنى ... مه يا عذولي في الذي انقدّ مه
مندمة قتل المعنّى فلا ... ترسل سهام اللحظ تأمن دمَه
__________
(1) هو تاريخ كبير مرتب على حسب السنين انتهى فيه إلى سنة 724؛ وتوفي ركن الدين بيبرس المنصوري الدواداري سنة 725.(7/28)
[ترجمة الفتح عن الإحاطة]
رجع إلى ابن باجّة - وقد ذكر لسان الدين في الإحاطة سبب العداوة بينه وبين الفتح في ترجمة الفتح ولنذكرها بنصّه فنقول (1) : قال رحمه الله تعالى: الفتح بن محمد بن عبيد الله، الكاتب، من قرية تعرف بقلعة الواد (2) من قرى يحصب، يكنى أبا نصر، ويعرف بابن خاقان.
حاله - كان آية من آيات البلاغة لا يشق غباره، ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقها، لعوباً بأطراف الكلام، معجزاً في باب الحلي والصفات، إلا أنّه كان محارفاً مقدوراً عليه، لا يمل من المعاقرة والقصف، حتى هان قدره، وابتذلت نفسه وساء ذكره، ولم يدع بلداً من بلاد الأندلس إلا ودخله مسترفداً أميره واغلاً في عليته، قال الأستاذ في الصلة: وكان معاصراً للكاتب أبي عبد الله ابن أبي الخصال، إلاّ أن بطالته أخلدت به عن مرتبته. وقال ابن عبد الملك (3) : قصد يوماً إلى مجلس قضاء أبي الفضل عياض مخمراً، فتنسم بعض حاضري المجلس رائحة الخمر، فأعلم القاضي بذلك، فاستثبت (4) وحدّه حدّاً تامّاً، وبعث إليه بعد أن أقام عليه الحد بثمانية دنانير وعمامة، فقال الفتح حينئذ لبعض من أصحابه: عزمت على إسقاط القاضي أبي الفضل من كتابي الموسوم ب " قلائد العقيان "، قال: فقلت: لا تفعل، وهي نصيحة، فقال: وكيف ذلك فقلت له: قصتك معه من الجائز أن تُنسى، وأنت تريد أن تتركها مؤرخة، إذ كل من ينظر في كتابك يجدك قد ذكرت
__________
(1) الإحاطة، الورقة: 353.
(2) الإحاطة: بصخرة الولد، وبهامش إحدى نسخ الذيل والتكملة: من قرية شرقي قلعة يحصب تعرف بشجرة الولد. ق: بقرية الواد.
(3) قلت انظر الذيل والتكملة 5: 530.
(4) الذيل: فاستثبت في استنكاهه؛ وفي الإحاطة: فاستتابه.(7/29)
فيه من هو مثله ودونه في العلم والصيت، فيسأل عن ذلك، فيقال له، فيتوارث العلم عن الأكابر الأصاغر، قال: فتبين ذلك، وعلم صحته وأقر اسمه.
وحدثني بعض الشيوخ أن سبب حقده على ابن باجة أبي بكر آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس ما كان من إزرائه به وتكذيبه إيّاه في مجلس إقرائه، إذ جعل يكثر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس ووصف حلياً، وكان يبدو من أنفه فضله خضراء اللون - زعموا - فقال له: فمن تلك الجواهر إذن الزمردة التي على شاربك فثلبه في كتابه بما هو معروف، وعلى ذلك فأبو نصر نسيج وحده، غفر الله تعالى له.
مشيخته - روي عن أبوي بكر: ابن سليمان بن القصيرة وابن عيسى ابن اللبانة، وأبي جعفر ابن سعدون الكاتب، وأبي الحسن ابن سراج، وأبي خالد ابن بشتغير، وأبي الطيب ابن زرقون، وأبي عبد الله ابن خلصة الكاتب، وأبي عبد الرحمن ابن طاهر، وأبي عامر ابن سرور، وأبي محمد ابن عبدون، وأبي الوليد ابن حجاج، وابن دريد الكاتب.
تواليفه - ومصنفاته شهيرة: منها قلائد العقيان ومطمح الأنفس والمطمح أيضاً، وترسيله مدوّن، وشعره وسط، وكتابته فائقة.
شعره - من شعره قوله، وثبت في قلائده، يخاطب أبا يحيى ابن الحاج (1) :
أكعبة علياء وهضبة سؤدد ... وروضة مجد بالمفاخر تمطر
هنيئاً لملك زار أفقك نوره ... وفي صفحتيه من مضائك أسطر
وإنّي لخفّاق الجناحين كلّما ... سرى لك ذكر أو نسيم معطّر
وقد كان واش هاجنا لتهاجرٍ ... فبتُّ وأحشائي جوىً تتفطّر
__________
(1) انظر أيضاً القلائد: 180 والمطرب: 189.(7/30)
فهل لك في ودٍّ ذوى لك ظاهراً ... وباطنه يندى صفاء ويقطر
ولست بعلقٍ بيع بخساً وإنّني ... لأرفع أعلاق الزمان وأخطر فروجع عنه بما ثبت أيضاً في قلائده ممّا أوّله:
ثنيت أبا نصر عناني، وربما ... ثنت عزمة السهم المصمم أسطر نثره - ونثره شهير، ونثبت له من غير المتعارف من السلطانيات ظهيراً كتبه عن بعض الأمراء لصاحب الشُّرَط، ولا خفاء بإدلاله وبراعته: كتاب تأكيد اعتناء، وتقليد ذي منة وغناء، أمر بإنفاذه فلان، أيّده الله تعالى، لفلان ابنفلان، صانه الله تعالى، ليتقدم لولاية المدينة الفلانية وجهاتها، ويضرح (1) ما تكاثف من العدوان في جنباتها، تنويهاً أحظاه بعلائه، وكساه رائق ملائه، لما علمه من سنائه، وتوسّمه من غنائه، ورجاه من حسن منابه، وتحققه من طهارة ساحته وجنابه، وتيقن - أيده الله تعالى - أنّه مستحق لما ولاه، مستقل (2) بما تولاه، لا يعتريه الكسل (3) ، ولا تثنيه عن المضاء الصوارم والأسل، ولم يكل الأمر منه إلى وكل، ولا ناطه بمناط عجز ولا فشل، وأمره أن يراقب الله تعالى في أوامره ونواهيه، وليعلم أنّه زاجره عن الجور وناهيه، وسائله عمّا حكم به وقضاه، وأنفذه وأمضاه {يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذ لله} (الإنفطار: 19) فليتقدم إلى ذلك بحزم لا يخمد توقّده، وعزم لا ينفد تفقّده، ونفس مع الخير ذاهبة، وعلى متن البر والتقوى راكبة، ويقدّم للاحتراس من عرف اجتهاده، وعلم أرقه في البحث وسهاده، وحمدت أعماله، وأمن تفريطه وإهماله، ويضم إليهم من يحذو حذوهم، ويقفو شأوهم،
__________
(1) يضرح: يزيل ويغسل؛ وفي ق: ويصوح.
(2) مستقل: حامل للعبء؛ وفي الإحاطة: مشتغل.
(3) الإحاطة: الكلل.(7/31)
ممّن لا يستراب بمناحيه، ولا يصاب خلل في ناحية من نواحيه، وأن يذكي العيون على الجناة، وينفي عنها لذيذ السّنات، ويفحص عن مكامنهم، حتى يغص بالريق (1) نفس آمنهم، فلا يستقر بهم موضع، ولا يفر منهم خب ولا موضع، فإذا ظفر منهم بمن ظفر بحث عن باطنه، وبث السؤال في مواضع تصرفه ومواطنه، فإن لاحت شبهة أبداها الكشف والاستبراء، وتعدّاها البغي والافتراء، نكّله بالعقوبة أشدّ نكال، وأوضح له منها ما كان ذا إشكال، بعد أن يبلغ إناه، ويقف في طرفه مداه، وحدّ له أن لا يكشف بشرة إلا في حد يتعين، وإن جاءه فاسق أن يتبين، وأن لا يطمع في صاحب مال موفور، وأن لا يسمع من مكشوف في مستور، وأن يسلك السّنن المحمود، وينزه عقوبته من الإفراط وعفوه من تعطيل الحدود، وإذا انتهت إليه قصّة مشكلة أخّرها إلى غده، فهو على العقاب أقدر منه على رده، فقد يتبين في وقت ما لا يتبين في وقت، والمعاجلة (2) بالعقوبة من المقت، وأن يتغمد هفوات، ذوي (3) الهيئات، وأن يستشعر الإشفاق، ويخلع التكبر فإنّه ملابس أهل النفاق، وليحسن لعباد الله تعالى اعتقاده، ولا يرفض زمام العدلل ولا مقاده، وأن يعاقب المجرم قدر زلته، ولا يعتز عند ذلّته، وليعلم أن الشيطان أغواه، وزيّن له مثواه، فليشفق من عثاره، وسوء آثاره، وليشكر الله تعالى على ما وهبه من العافية، وألبسه من ملابسها الضافية، ويذكره جلّ وعلا في جميع أحواله، ويفكر في الحشر وأهواله، يوتذكر وعداً ينجز فيه ووعيداً " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً " آل عمران: 30 والأمير أيده الله تعالى ولي له ما عدل وأقسط، وبرىء منه إن جاء وقسط، فمن قرأه فليقف عند حدّه ورسمه، وليعرف له حق
__________
(1) الإحاطة: ينهض بالروع.
(2) الإحاطة: والعجل.
(3) الإحاطة: أولي.(7/32)
قطع الشرّ وحسمه، ومن وافقه من شريف أو مشروف، وخالفه في نهي عن منكر أو أمر بمعروف، فقد تعرض من العقاب لما يذيقه وبال خبله، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وكتب في كذا.
وفاته - بمراكش ليلة الأحد لثمان بقين من محرم من عام تسعة (1) وعشرين وخمسمائة، ألفي قتيلاً ببيت من بيوت فندق أحد فنادقها، وقد ذُبح وعُبث به، وما شُعر به إلا بعد ثلاث ليال من قتله؛ انتهى نص الإحاطة.
[ترجمة الفتح عن المغرب]
وقال في المغرب ما ملخصه (2) : فخر أدباء إشبيلية بل الأندلس: أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي الإشبيلي، صاحب القلائد والمطمح، ذكره الحجاري في المسهب، الدهر من رواة قلائده، وحملة فرائده، طلع من الأفق الإشبيلي شمساً طبّق الآفاق ضياؤها، وعمّ الشرق والغرب سناها وسناؤها، وكان في الأدب أرفع الأعلام، وحسنة الأيام، وله كتاب قلائد العقيان ومن وقف عليه لا يحتاج في التنبيه على قدره إلى زيادة بيان، وهو وأبو الحسن ابن بسّام الشنتمري مؤلف الذخيرة فارساً هذا الأوان، وكلاهما قسٌّ وسحبان، والتفضيل بينهما عسير، إلا أن ابن بسام أكثر تقييداً، وعلماً مفيداً، وإطناباً في الأخبار، وإمتاعاً للأسماع والأبصار، والفتح أقدر على البلاغة من غير تكلف، وكلامه أكثر تعلّقاً وتعشقاً بالأنفس، ولولا ما اتسم به ممّا عرف من أجله بابن خاقان، لكان أحد كتّاب الحضرة المرابطية بل مجليها المستولي على الرهان، وإنّما أخلّ به ما ذكرناه، مع كونه اشتهر بذم
__________
(1) الإحاطة: سبعة.
(2) ترجمته في المغرب 1: 254 وبين ما أورده المقري وما جاء في المغرب اختلاف كبير، هذا مع أن المقري يصرح بأنه يلخص.(7/33)
أولي الأحساب، والتمرين بالطعن على الأدباء والكتّاب، وقد رماه الله تعالى بما رمى به إمام علماء الأندلس أبا بكر ابن باجّة، فوجد في فندق بحضرة مراكش قد ذبحه عبد أسود خلا معه بما اشتهر عنه، وتركه مقتولاً وفي دبره وتد، والله سبحانه يتغمده برحمته.
ومن شعره قوله من أبيات في المدح:
إلى أين ترقى قد علوت على البدر ... وقد نلت غايات السيادة والقدر
وجدت إلى أن ليس يذكر حاتم ... وأغنيت أهل الجدب عن سبل القطر
وكم رام أهل اللوم باللوم وقفة ... وبحرك مد لا يؤول إلى جزر
ولو لم يكن فيك السماح جبلّةً ... لأثّر ذاك اللوم فيك مع الدهر وذكره ابن الإمام في سمط الجمان وأنشد له:
لله ظبيٌ من جنابك زارني ... يختال زهواً في ملاء مراح
ولي التماسك في هواه كأنّه ... مروان خاف كتائب السفّاح
فخلعت صبري بالعرا ونبذته ... وركبت وجدي في عنان جماح
أهدي لي الورد المضعف خده ... فقطفته باللحظ دون جناح
وأردت صبراً عن هواه فلم أطق ... وأريت جدّاً في خلال مزاح
وتركت قلبي للصبابة طائراً ... تهفو به الأشواق دون جناح وذكره ابن دحية في المطرب ونعته بابن خاقان، قال: والشيخ أبو الحجاج البياسي ينكر هذا، وقيل: إنّما قيل له ابن خاقان لما تقدم ذكره في كلام الحجاري، وقال ابن دحية: إنّه قتل ذبحاً بمسكنه في فندق ببيت من حضرة مراكش صدر سنة تسع وعشرين وخمسمائة، أشار بقتله علي بن يوسف بن تاشفين.(7/34)
وقال أبو الحسن ابن سعيد: رأيت فضلاء الأندلس ينتقدون على الفتح أول افتتاحه في خطبة قلائده " الحمد لله الذي راض لنا البيان حتى انقاد في أعنَّتنا، وشاد مثواه في أجنّتنا " لكون ما تضمنته الفقرة الأولى أصوب ممّا تضمنته الفقرة الثانية، والصواب ضد ذلك؛ انتهى.
وقال ابن الأبار في " معجم أصحاب الصدفي " (1) : إنّه لم يكن مرضياً، وحذفه أولى من إثباته؛ انتهى. ولذا لم يذكره في التكملة.
وقال ابن خاتمة: إنّه لم يُعرف من المعارف بغير الكتابة والشعر والآداب. وما حكاه في الإحاطة من تاريخ وفاته مخالف لما حكاه ابن الأبار أنّه ليلة عيد الفطر من سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، قال: وقرأت ذلك بخط من يوثق به.
وحكى ابن خلكان (2) قولاً آخر أنّه توفّي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، قيل: وهو خطأ، على أنّه حكى القول الآخر أيضاً.
ودفن بباب الدباغين، رحمه الله تعالى.
وقد قيل: إن قتله كان بإشارة أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين أخي إبراهيم الذي ألف برسمه قلائد العقيان.
وقد ذكر ابن خلكان أن المطمح ثلاث نسخ: صغرى، ووسطى، وكبرى، والذي قاله ابن الخطيب وابن خاتمة وغير واحد من المغاربة أنّه نسختان فقط: صغرى، وكبرى، ولعلّه الصواب، إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه.
ومن تأليف الفتح راية المحاسن وغاية المحاسن ومجموع في ترسيله، وتأليف صغير في ترجمة ابن السيّد البطليوسي نحو الثلاثة كراريس على منهاج القلائد (3) .
__________
(1) انظر المعجم: 300 (رقم: 285) .
(2) وفيات الأعيان 3: 194.
(3) هذا التأليف نقله المقري في أزهار الرياض 3: 103 - 149؛ وذكر ابن عبد الملك له مؤلفاً اسمه " حديقة المآثر " ولم أجده مذكوراً عند غيره.(7/35)
[رسائل للفتح]
1 - ومن بديع إنشاء الفتح المذكور سامحه الله تعالى قوله: أطال الله تعالى بقاء الوزير الأجلّ، عتادي الأسرى، وزنادي الأورى، وأيامه أعياد، وللسعد في زمانه انقياد، أمّا أنا - أدام الله تعالى عزّه - فجوّي عاتم، وأعيادي مآتم، وصبحي عشاء، وما لي إلاّ من الخطوب انتشاء، أبيت بين فؤاد خافق وطرف مسهّد، نائي المحلّة من مزار العوّد، حين لا أرى الروض المنوّر، ولا أحس سهيلاً إذا لاح ثم تهوّر (1) ، وقد بعدت دار إليّ حبيبة، ودنت مني حوادث بأدناها تؤذي الشبيبة، وأي عيش لمن لزم المفاوز لا يريمها، حتى ألفه ريمها، قد رمته النوائب فما اتّقى، وارتقت له الجوائح في وعور المرتقى، يواصل النوى ولا يهجر سيراً، ولا يزجر في الإراحة طيراً، قد هام بالوطن، هيام ابن طالب بالحوض والعطن، وحنّ إلى تلك البقاع، حنينه إلى أثلاث القاع (2) ، ولا سبيل أن يشعب صدر بينه شاعب، أو تكلّمه أحجار للدار وملاعب، وليس له إلى أين يجنح، ولا يرى أمله يسنح، قد طوى البلاد وبسطها، وتطرّف الأرض وتوسطها، ولم يلف مقيلاً، ولا وجد مقيلاً، إلى الله أشكو ما أقاسي وأقاصي، وبيده الأقدام والنواصي، ولقاؤه موعد كلّ موعد، وكل معمر سيدركه يوماً حمام الموعد، وأنفذته وقد صدرت عن فلانة بعد أهوال لقيتها، وأنكال سقيتها، وسفر لقيت منه نصباً، وكدر أعقبني وصباً، وإلى متى يعتزلني السعد ولله الأمر من قبل ومن بعد؛ انتهى.
__________
(1) ق: تنور، وصوابه " تغور ".
(2) يشير إلى يحيى بن طالب الحنفي حين اغترب عن وطنه اليمامة إلى العراق وافتقر، وهو يقول في الحنين إلى أثلاث القاع:
أيا أثلاث القاع من بطن توضح ... حنيني إلى أفيائكن طويل وقد شرح ياقوت قصته في معجم البلدان (قرقري) .(7/36)
2 - وكتب رحمه الله تعالى من رسالة: سيدي لا عدمت ارتفاقاً، ولا حرمت تكيفاً من السعد واتفاقاً، أنا الآن مشتغل البال، لا أفرّق بين الإعراض والإقبال، وعند تفرغي أوجّه لك ما حضر، ومثلك أرجأ الأمر وأنظر، وفي علم الله تعالى لو أمكنني لحملتك على كاهل، وأوردتك منه أعذب المناهل، وأبحت لك السعد ثغراً ترتشفه، وخلعته برداً عليك تلتحفه، لكن الزمان لا يجد، وصروفه لا تنجد، وعلى أي حال فلا بد أن تجد قراك، وتحمد سراك، إن شاء الله تعالى.
3 - وكتب إلى أبي بكر بن علي (1) عند ولايته إشبيلية: أطال الله تعالى بقاء الأمير الأجلّ أبي بكر للأرض يتملكها، ويستدير بسعده فلكها؛ استبشر الملك وحق له الاستبشار، وأومأ إليه السعد في ذلك وأشار، بما اتّفق له من توليتك، وخفق عليه من ألويتك، فلقد حبي منك بمكلك أمضى من السهم المسدّد:
طويل نجاد السيف رحب المقلّد ... يقدم حيث يتأخّر الذابل، ويكرم إذا بخل الوابل، ويحمي الحمى كربيعة ابن مكدّم، ويسقي الظبي نجيعاً كلون العندم، فهنيئاً للأندلس لقد استردت عهد خلفائها، واستمدّت تلك الإمامة بعد عفائها، حتى كأن لم تمر أعاصرها، ولم يمت حكمها ولا ناصرها، اللذان عمرا الرصافة والزّهرا، ونكحا عقائل الروم وما بذلا إلا المشرفية مهرا، والله تعالى أسأله انتصار أيامك، وبه أرجو انتشار أعلامك، حتى يكون عصرك أعجب من عصرهم، ونصرك أعزّ من
__________
(1) أبو بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين أكبر أبناء علي وكان يعرف ببكور (تصغير تحبب) ، نشأ في إشبيلية، وكان مؤدبه أبو مروان ابن زهر، وقد ولي أمر المدينة سنة 518 وعزل عنها سنة 522.(7/37)
نصرهم، والسلام؛ انتهى.
4 - وقال بعضهم: من أحسن ما رأيت له قوله: معاليك أشهر رسوماً، وأعطر نسيماً، من أن يغرب شهاب مسعاها، أو يجدب لرائد مرعاها، فإن نبهتك فإنّما نبهت عمراً (1) ، وإن استنرتك فإنّما أستنير قمراً، والأمير أيّده الله تعالى أجل من أعتصم في ملكه، وأنتظم في سلكه، فإنّه حسام بيد الملك، طلاقته فرنده، وشهامته حدّه، وقضيب، في دوحة الشرف رطيب، بشره زهره، وبره ثمره، وقد توسّمت نارك لعلّي أفوز منها بقبس، أو تكون كنار موسى بالواد المقدس، وعسى الأمل أن تعلو بكم قداحه، ويشف من أفقكم مصباحه، فجرّد - أيدك الله تعالى - صارم عزم لا تفلّ غروبه، واطلع كوكب سعد لا يخاف غروبه؛ انتهى.
ولنذكر بعض كلامه في المطمح لغرابته في هذه البلاد المشرقية بخلاف القلائد فإنّها موجودة بأيدي الناس فيه.
[نماذج من تراجم المطمح]
1 - قال رحمه الله تعالى في ترجمة أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي (2) : إمام اللغة والإعراب، وكعبة الآداب، أوضح منها كل إبهام، وفضح دون الجهل بها محل الأوهام، وكان أحد ذوي الإعجاز، وأسعد أهل الاختصار والإيجاز، نجم والأندلس في إقبالها، والأنفس أول تهممها بالعلم واهتبالها، فنفقت له عندهم البضاعة، واتفقت على تفضيله الجماعة، وأشاد الحكم بذكره، فأورى بذلك زناد فكره، وله اختصار العين للخليل، وهو معدوم
__________
(1) أخذه من قول بشار في مدح عمر بن العلاء:
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم (2) المطمح: 53 - 55.(7/38)
النظير والمثيل، ولحن العامة وطبقات النحويين وكتاب الواضح وسواها من كل تأليف مخجل لمن أتى بعده فاضح، وله شعر مصنوع ومطبوع، كأنّما يتفجر من خاطره ينبوع، وقد أثبت له منه ما يقترح، ولا يطرح، فمن ذلك قوله:
كيف بالدّين القديم ... لك من أم تميم
ولقد كان شفاءً ... من جوى القلب السقيم
يشرق الحسن عليها ... في دجى الليل البهيم وكتب مراجعاً:
أغرقتني في بحور فكر ... فكدت منها أموت لما (1)
كلّفتني غامضاً عويصاً ... أرجم فيه الظنون رجما
ما زلت أسرو السجوف عنه ... كأنّني كاشف لظلما
أقرب من ليله، وأنأى ... مستبصراً تارة وأعمى
حتى بدا مشرق المحيّا ... لمّا اعتلى طالعاً وتمّا
لله من منطق وجيز ... قد جلّ قدراً وجلَّ فهما
أخلصت لله فيه قولاً ... سلّمت لله فيه حكما
إذ قلت قول امرىء حكيمٍ ... مراقب للإله علما
الله ربّي وليُّ نفسي ... في كل بوسٍ وكلّ نعمى وكتب إلى أبي مسلم ابن فهد وكان كثير التكبر، عظيم التجبر، متغيراً (2) لسانه، مقفراً من المعالم جنانه:
__________
(1) المطمح: غما.
(2) المطمح: متعثراً.(7/39)
أبا مسلم، إنّ الفتى بفؤاده ... ومقوله لا بالمراكب واللّبس
وليس رواء المرء يغني قلامة ... إذا كان مقصوراً على قصر النفس
وليس يفيد الحلم والعلم والحجى ... أبا مسلم طول القعود على الكرسي واستدعاه الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين فعجل إليه وأسرع، فأمرع من آماله ما أمرع، فلمّا طالت نواه، واستطالت عليه لوعته وجواه، وحنّ إلى مستكنّه بإشبيلية ومثواه، استأذنه في اللحوق بها فلوّمه ولواه، فكتب إلى من كان يألفه ويهواه:
ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بد للبين من مساع
لا تحسبيني صبرت إلاّ ... كصبر ميت على النزاع
ما خلق الله من عذابٍ ... أشدّ من وقفة الوداع
ما بينها والحمام فرقٌ ... إلا المناحات في النواعي
إن يفترق شملنا وشيكاً ... من بعد ما كان في اجتماع
فكل شمل إلى افتراق ... وكل شعب إلى انصداع
وكلّ قربٍ إلى بعادٍ ... وكل وصل إلى انقطاع 2 - وقال - سامحه الله تعالى - بعد ترجمة السلطان بالمرية المعتصم بن صمادح ما نصّه: ابنه عز الدولة أبو مروان عبد الله (1) ، فتى الراح المعاقر لدنانها، المهتصر لأغصان الفتوة وأفنانها، المهجّر لفلاة الظّباء والآرام، المشهّر في باب الصّبابة والغرام، نشأ في حجر أبيه نديم قهوة، ومديم صبوة، وخديم شهوة، لا يريم كاساً، ولا يروم إلا اقتضاء وانتكاساً، ما شهد قتلاً ولا قتالاً، ولا تقلد صارماً إلا مختالاً، قد أمن منه جنانُ الجبان، وعدّت له غصون البان، ومازال مرتضعاً لأخلاف البطالة، مقتطعاً ما شاء من إطالة، متوغلاً
__________
(1) لم ترد هذه الترجمة في المطمح المطبوع.(7/40)
في شعاب الفتّاك، متغلغلاً في طريق الانتهاك، إلى أن وجهه أبوه إلى أمير المسلمين سفيراً عندما بدت له وجوه الفتنة تسفر، ومعاهد الهدنة تقفر، مع أكامل أصحبهم نقصانه، وذوي أديان جعلهم خلصانه، يسمعون بوادر بذاذته، وينظرون مناكر لذاذته، فآلت سفرته إلى الاعتقال، وقصرت نخوته ما بين قيد وعقال، فجاء كالمهر لا يعرف لجاماً، وصار حبيس قوم لا يألونه استعجاماً، وحين شالت نعامته، وسالت عليه ظلامته، كتب إلى أبيه:
أبعد السنا والمعالي خمول ... وبعد ركوب المذاكي كبول
ومن بعد ما كنت حرّاً عزيزاً ... أنا اليوم عبد أسير ذليل
حللت رسولاً بغرناطة ... فحلّ بها فيّ خطبٌ جليل
وثقّفت إذ جئتها مرسلاً ... وقبلي كان يعزّ الرسول
فقدت المرية أكرم بها ... فما للوصول إليها سبيل فراجعه أبوه بقطعة منها:
عزيزٌ عليّ ونوحي دليل ... على ما أقاسي ودمعي يسيل
وقطّعت البيض أغمادها ... وشقّت بنودٌ وناحت طبول
لئن كنت يعقوب في حزنه ... ويوسف أنت فصبرٌ جميل ولم يزل يتحيّل في تخلّصه، وأخذه من يد مقتنصه، فسرق وحراسه منه بمكان السلك من النحر، وطرق به على ثبج البحر، فوافى المريّة، وقد أخذ البحث عليه آفاق البرية، فهنىء المعتصم بخلاصه، وبقي مستقرّاً بعراصه، إلى أن أخلوها، ومضوا لطلبة ما نووها، فنجا أخوه إلى حيث ذكرنا من بلاد الناصر، ولجأ هو إلى أحد المرابطين لأذمّة كانت بينهما وأواصر، وأقام معه سمير لهوه، وأمير سهوه، إلى أن انقرض أمده، وطواه سروره لا كمده، فلم ير إلا(7/41)
خالعاً لعذاره، طالعاً في ثنيّات اغتراره، غير مكترث باتّضاعه، ولا منحرف عن ارتشاف الغيّ وارتضاعه، وبدا منه في هذه الحال ندى كاثر به السحاب، وظاهر بسببه الصّحاب، وتخدّم الأوطار، وتقدم لذوي الرتب فيها والأخطار، [تقدماً] حسّن من ذكره، وأولع الألسن بشكره، فارتفع عنه الكدح، وشفع له في الذم ذلك المدح، وكان نظمه بديع الوصف، رفيع الرّصف، وقد أثبت له ما يشهد بإجادته وإحسانه، شهادة الروض بجود نيسانه.
أخبرني ابن القطان أنّه ساير الأمير يحيى بن أبي بكر إلى طليطلة في جيوش فاضت سيلاً، وخاضت المطايا قتامها ليلاً، وكان ملكاً لم يعقد على مثله لواء، ولم يحتوٍ على شبهه حواء (1) ، جمال محياً، وكمال عليا، وحسن شيم، وبعد همم، أغنى العفاة، وأحيا الرفات، وألغى الأجواد، وأنسى كعب ابن مامة وابن أبي دواد، فلمّا شارف طليطلة وكشفها، واشتفّ بلالتها وارتشفها، وضرب بكنفها مضاربه، وأجال بساحتها زنجه وأعاربه، سقط أحد ألويته عن يد حامله، وانكسر عند عامله، فطائفة تفاءلت، وطائفة تطيرت، وفرقة ابتهجت، وأخرى تغيرت، فقال:
لم ينكسر عود اللّواء لطيرةٍ ... يُخشى عليك بها وأن تتأوّلا
لكن تحقّق أنّه يندقّ في ... نحر العدا ولدى الوغى فتعجّلا وأخبرني أخوه رفيع الدولة أن ابن اللبانة كتب إليه والخلع قد نضا لبوسه، وقصر بوسه، وكدر صفاءه، وغدر وفاءه، وطوى ميدان جوده، وأذوى أفنان وجوده، قوله (2) :
يا ذا الذي هزّ أمداحي بحليته ... وعزّه أن يهزّ المجد والكرما
__________
(1) الحواء: مضرب الأعراب.
(2) مر البيتان وجوابهما في النفح ج 3: 396.(7/42)
واديك لا زرع فيه اليوم تبذله ... فخذ عليه لأيام المنى سلما فدعته دواعي الندى، وأولعته بالجدا في ذلك المدى، فتحيل في برّ طبعه، وكتب معه:
المجد يخجل من نقديك في زمن ... ثناه عن واجب البرّ الذي علما
فدونك النزر من مصف مودّته ... حتى يوفّيك أيام المنى سلما 3 - ابنه الثاني: رفيع الدولة أبو يحيى ابن المعتصم:
من بيت (1) إماره، وإلى السعد طوافه (2) بها واعتماره، عمرت أنديته، ونشرت به رايات العزّ وألويته، إلى أن خوى كوكبهم، وهوى مرقبهم، فتفرقوا أيادي سبا، وفرقوا من وقع الأسنّة والظّبي، وفارقوا أرضاً كأرض غسّان، ووافقوا أياماً كيوم أهل اليمامة مع حسّان، بعدما خامرت النفوس مكارمهم مخامرة الرحيق، وأمّهم الناس من كل مكان سحيق، وانتجعوا انتجاع الأنواء، واستطعموا في المحل واللأواء، وصالوا بالدهر وسطوا، وبين النهي والأمر فيه خطوا، ورفيع الدولة هذا فجر ذاك الصباح، وضوء ذلك المصباح، وغصن تلك الدوّحة، ونسيم تلك النفخة، لم يمتهن والدهر قد بذله، ولا ترك الانتصار والأمر قد خذله، فالتحف بالصّون وارتدى، وراح على الانقباض واغتدى، فما تلقاه إلا سالكاً جددا، ولا تراه إلا لابساً سوددا، وله أدب كالروض المجود إذا أزهر، ونظم كزهرالتهائم والنجود بل كالصبح إذا أسفر واشتهر، أوقفه على النسيب، وصرفه إلى المحبوبة والحبيب، فمن ذلك قوله (3) :
__________
(1) المطمح: ثنية.
(2) المطمح: حجه.
(3) انظر أيضاً بعض هذه المقطعات في الحلة 1: 83 - 84.(7/43)
ما لي وللبدر لم يسمح بزورته ... لعلّه ترك الإجمال أو هجرا
إن كان ذاك لذنب ما شعرت به ... فأكرم الناس من يعفو إذا قدرا وله أيضاً:
يا عابد الرحمن كم ليلة ... أرّقتني وجداً ولم تشعر
إذ كنت كالغصن ثنته الصّبا ... وصحن ذاك الخدّ لم يشعر وله أيضاً:
وأهيف لا يلوي على عتب عاتب ... ويقضي علينا بالظنون الكواذب
يحكم فينا أمره فنطيعه ... ونحسب منه الحكم ضربة لازب وله أيضاً رحمه تعالى:
وعلقته حلو الشمائل ماجناً ... خنث الكلام مرنّح الأعطاف
ما زلت أنصفه وأوجب حقه ... لكنّه يأبى من الإنصاف وله أيضاً:
حبيبٌ متى ينأى عن العين شخصه ... يكاد فؤادي أن يطير من البين
ويسكن ما بين الضلوع إذا بدا ... كأنّ على قلبي تمائم من عين وله أيضاً:
أفدّي أبا عمرو وإن كان جانياً ... عليّ ذنوباً لا تعدّد بالعتب (1)
فما كان ذاك الود إلا كبارقٍ ... أضاء لعيني ثمّ أظلم للقلب (2)
__________
(1) المطمح: بالبهت.
(2) المطمح: في الوقت.(7/44)
وله وقد بلغه موتي، وتحقق عنده فوتي (1) :
مثنى الوزارة قد أودى فما فعلت ... تلك المحابر والأقلام والطرس
ما كنت أحسب يوماً قبل ميتته ... أن البلاغة والآداب تختلس واستأذن ليلة على أحد الأمراء وأنا عنده في أسنى موضع، وأبهى مطلع، وجوانب حفده بين يديّ محتلة، وسحائب رفده عليّ منهلّة، وكان أجمل من مقل، وأكمل مَنْ مِنَ المهد إلى سرير الملك قد نقل، وكتب إليّ يهنيني بقدوم من سفر:
قدمت أبا نصر على حال وحشة ... فجاءت بك الآمال واتصل الأنس
وقرت بك العينان واتصل المنى ... وفازت على يأس ببغيتها النفس
فأهلاً وسهلاً بالوزارة كلها ... ومن رأيه في كل مظلمة شمس 4 - وقال في المطمح في ترجمة الوزير أبي الوليد ابن حزم (2) : واحد دونه الجمع، وهو للجلالة بصر وسمع، روضة علاه رائقة السنا، ودوحة بهاه طيّبة الجنى، لم يتّزر بغير الصّون، ولم يشتهر بفسادٍ بعد الكون، مع نفس برئت من الكبر، وخلصت خلوص التبر، مع عفاف التحف به بروداً، وما ارتشف به ثغراً بروداً، فعفّت مواطنه، وما استرابت ظواهره ولا بواطنه، وأمّا شعره ففي قالب الإحسان أفرغ، وعلى وجه الاستحسان يلقى ويبلغ، وكتب إليه ابن زهر:
أأبا الوليد وأنت سيد مذحج ... هلاّ فككت أسير قبضة وعده
وحياة من أمد الحياة بوصله ... وذهابها حتماً بأيسر صدّه
__________
(1) لم ترد في المطمح.
(2) المطمح: 31 - 34.(7/45)
لأقاتلنّك إن قطعت بمرهف ... من جفنه وبصعدة من قدّه فراجعه أبو الوليد:
لبيّك يا أسد البرية كلّها ... من صادق عبث المطال بوعده
يمضي بأمرك ساء أو سر القضا ... ويفلّ حدّ النائبات بحده
إيه ووافقت الصبا في معرض ... ذهب المشيب بهزله وبجده 5 - وقال في المطمح في ترجمة أبو بكر الغساني، ما صورته (1) :
صليب العود، مهيب الوعود، لو دعي له الأسد الورد لأجاب، ولو رمي بذكره الليل البهيم لانجاب، ولو قعدت بين يديه الأطواد لتحرك سكونها، ولو عصته الطيور ما آوتها وكونها، مع وقار تخاله يذبلا، وفخار يفضح بلبلا، وشيم لو كانت بالروض ما ذوى، أو تقاسمت في الخلق ما رمد أحد بعدما شوى، وسجايا تنجلي عنها الظلماء، كأن مزاجها عسل وماء؛ انتهى.
وهذا الغساني هو صاحب تفسير القرآن وقد عرّف به في الإحاطة فليراجع ثمة.
6 - وقال أيضاً في المطمح ما صورته: أبو عامر ابن عقال (2) .
كان له ببني قاسم تعلق، وفي سماء دولتهم تألّق، فلمّا خوت نجومهم، وعفت رسومهم، انحط عن ذلك الخصوص، وسقط سقوط الطائر المقصوص، وتصرف بين وجود وعدم، وتحرف قاعداً حيناً وحيناً على قدم، وفي خلال حاله، وأثناء انتحاله، لم يدع حظّه (3) من الحبيب، ولا ثنى لحظه
__________
(1) لم ترد هذه الترجمة في المطمح المطبوع.
(2) المطمح: 86 - 87 وكتبه فيه " ابن عقال " وقد مر في غير موطن من هذا الكتاب " ابن عيال " ويتصحف كثيراً " ابن غتال " ... الخ.
(3) المطمح: حظاً.(7/46)
عن الغزال الربيب، ولم يزل يطير ويقع، والدهر يخرق حاله ويرقع (1) ، إلى أن أرقاه الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين رحمه الله تعالى أعلى ربوة (2) ، وأراه (3) أبهى حظوة، فأدرك عنده رتبة أعلام التحبير والإنشا، وترك الدهر فلق الحشا، وتسنم منزلة لا يتسنمها إلاّ من تطهر من درنه، وجمح إحسانه في ميدان حرنه، والحظوظ أقسام لا تسام، والدنيا إنارة وإعتام (4) :
ولو لم يعل إلا ذو محلٍّ ... تعالى الجيش وانحطّ القتام (5) وقد أثبت عنه بعض ما انتقيته، والذي أخذته مباين لما أبقيته، فمن ذلك قوله:
يا ويح أجسام الأنا ... م لما تطيق من الأذى
خلقت لتقوى بالغذا ... ء وسقمها ذاك الغذا
وتنال أيام السلا ... مة بالحياة تلذذا
فإذا انقضى زمن الصِّبا ... ورمى المشيب فأنفذا
وجد السقام إلى المفا ... صل والجوانح منفذا
ويقول مهما يعطَ شي ... ئاً ناولوني غير ذا وحذا في هذه القصيدة حذو الصابي في قوله (6) :
وجع المفاصل وهو أي ... سر ما لقيت من الأذى
ردّ الذي استحسنته ... والناس من حظّي كذا
والعمر مثل الكاس ير ... سب في أواخرها القذى
__________
(1) المطمح: يخفض ... ويرفع.
(2) المطمح: إلى أسمى ذروة.
(3) المطمح: ورداه.
(4) زاد في المطمح: وصفاه يتلوه قتام.
(5) البيت للمتنبي (شرح الواحدي: 162) .
(6) اليتيمة 2: 300.(7/47)
وله يعتذر عن زيارة اعتمدها، ومواصلة اعتقدها، فعاقّته عنها حوادث لوته، وعدته عن ذلك وثنته:
بينما كنت راجياً للقائه ... والتشفّي بالبشر من تلقائه
وترقبت من سماء نزاعي ... قمر الأنس طالعاً من سمائه
إذ دهاني اعتراض خطبٍ ثناني ... عن غمامٍ يشفي الغليل بمائه
فتدلّهت وانزويت حياء ... منه والعذر واضح لسنائه وله فصل كتب به عن الأمير إبراهيم يصف إجازة أمير المسلمين البحر سنة خمس عشرة وخمسمائة: وفي الساعة الثانية من يوم الجمعة كان جوازه - أيده الله تعالى - من مرسى جزيرة طريف على بحر ساكن قد ذل بعد استصعابه، وسهل بعد أن رأى الشامخ من هضابه، وصار حيّه ميتاً، وهذره صمتاً، وجباله لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وضعف تعاطيه، وعقد السلم بين موجه وشاطيه، فعبر آمناً من لهواته، متملّكاً لصهواته، على جواد يقطع الجوّ سبحاً، ويكاد يسبق البرق لمحاً، لم يحمل لجاماً ولا سرجاً، ولا عهد غير اللجّة الخضراء مرجاً، عنانه في رجله، وهدب العين يحكي بعض شكله، فلله هو من جواد، له جسم وليس له فؤاد، يخرق الهواء ولا يرهبه، ويركض الماء ولا يشربه.
7 - وقال في ترجمة الفقيه أبي مروان عبد الملك بن زيادة الله الطبني (1) ، ما نصّه:
من ثنيّة شرف وحسب، ومن أهل حديث وأدب، إمام في اللغة متقدم، فارع لرتب الشعر متسنّم، له رواية بالأندلس ورحلة إلى المشرق، ثم عاد
__________
(1) المطمح: 50.(7/48)
وقد توّج بالمعارف المفرق، وأقام بقرطبة علماً من أعلامها، ومتسنماً لترفعها وإعظامها، تؤثره الدول، وتصطفيه أملاكها الأول، مازال فيها مقيماً، ولا برح عن طريق أمانيها مستقيماً، إلى أن اغتيل في إحدى اللّيالي بقضية يطول شرحها فأصبح مقتولاً في فراشه، مذهولاً كل أحد من انبساط الضرب إليه على انكماشه، وقد أثبت من محاسنه ما يعجب السامع، وتصغي إليه المسامع، فمن ذلك قوله:
وضاعف ما بالقلب يوم رحيلهم ... على ما به منهم حنين الأباعر
وأصبر عن أحباب قلب ترحّلوا ... ألا إنّ قلبي سائر غير صابر ولمّا رجع إلى قرطبة وجلس ليرى ما احتقبه من العلوم، اجتمع إليه في المجلس خلق عظيم، فلمّا رأى تلك الكثرة، وما له عندهم من الأثرة، قال:
إنّي إذا حضرتني ألف محبرة ... يكتبن حدّثني طوراً وأخبرني
نادت بمفخري الأقلام معلنة ... هذي المفاخر لا قعبان من لبن وكتب إلى ذي الوزارتين أبي الوليد ابن زيدون:
أبا الوليد وما شطّت بنا الدار ... وقلّ منّا ومنك اليوم زوّار (1)
وبيننا كل ما تدريه من ذمم ... وللصِّبا ورقٌ خضرٌ وأنوار
وكل عتبٍ وإعتابٍ جرى فله ... بدائع حلوة عندي وآثار
فاذكر أخاك بخير كلّما لعبت ... به اللّيالي فإنّ الدهر دوّار 8 - وقال في ترجمة صاحب العقد الفقيه العالم أبي عمر أحمد بن عبد ربه (2) :
__________
(1) سقط هذا البيت من ق.
(2) المطمح: 51 - 53 وبعض مقطعات ابن عبد ربه وردت في الأجزاء السابقة.(7/49)
عالم ساد بالعلم ورأس، واقتبس به من الحظوة ما اقتبس، وشهر بالأندلس حتى سار إلى المشرق ذكره، واستطار شرر الذكاء فكره، وكانت له عناية بالعلم وثقة، ورواية له متّسقة، وأمّا الأدب فهو - كان - حجّته، وبه غمرت الأفهام لجته، مع صيانة وورع، وديانة ورد ماءها فكرع، وله التأليف المشهور الذي سمّاه ب " العقد "، وحماه عن عثرات النقد، لأنّه أبرزه مثقّف القناة، مرهف الشّباة، تقصر عنه ثواقب الألباب، وتبصر السحر منه في كل باب، وله شعر انتهى منتهاه، وتجاوز سماك الإحسان وسماه.
أخبرني ابن حزم أنّه مرّ بقصر من قصور قرطبة لبعض الرؤساء فسمع منه غناء أذهب لبّه، وألهب قلبه، فبينما هو واقف تحت القصر إذ رشّ بماء من أعاليه، فاستدعى رقعة، وكتب إلى صاحب القصر بهذه القطعة:
يا من يضنّ بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا الضنّ في أحد
لو أنّ أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد
فلا تضنّ على سمعي ومنّ به ... صوتاً يجول مجال الروح في الجسد
أمّا النّبيذ فإنّي لست أشربه ... ولا أجيئك إلاّ كسرتي بيدي وعزم فتى كان يتألّفه، وخامره كلفه، على الرحيل في غده، فأذهبت عزمته قوى جلده، فلمّا أصبح عاقته السماء بالأنواء، وساقته مكرهاً إلى الثّواء، فاستراح أبو عمر من كمده، وانفسح له من التواصل ضائق أمده، فكتب إلى المذكور، العازم على البكور:
هلاّ ابتكرت لبين أنت مبتكر ... هيهات يأبى عليك الله والقدر
ما زلت أبكي حذار البين ملتهباً ... حتى رثى لي فيك الريح والمطر
يا برده من حيا مزنٍ على كبدٍ ... نيرانها بغليل الشوق تستعر
آليت أن لا أرى شمساً ولا قمراً ... حتى أراك فأنت الشمس والقمر(7/50)
ومن شعره الذي صرّح به تصريح الصب، وبرّح فيه وقائع اسم الحب، قوله:
الجسم في بلدٍ والروح في بلد ... يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد
إن تبك عيناك لي يا من كلفت به ... من رحمةٍ فهما سهماك في كبدي ومنه قوله:
ودّعتني بزفرة (1) واعتناق ... ثمّ نادت متى يكون التلاقي
وبدت لي فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشاق
إنّ يوم الفراق أفظع يومٍ ... ليتني متّ قبل يوم الفراق وله أيضاً:
يا ذا الذي خطّ الجمال بخده ... خطّين هاجا لوعةً وبلابلا
ما صحّ عندي أنّ لحظك صارمٌ ... حتى لبست بعارضيك حمائلا وأخبرني بعضهم أن الخطيب أبا الوليد ابن عيال (2) حج، فلمّا انصرف، تطلّع إلى لقاء المتنبي واستشرف، ورأى أن لقياه فائدة يكتسبها، وحلّة فخر لا يحتسبها، فصار إليه فوجده في مسجد عمرو بن العاص، ففاوضه قليلاً، ثمّ قال: أنشدني لمليح الأندلس، يعني ابن عبد ربّه، فأنشده:
يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا ... ورشاً بتقطيع القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّاً يعود من الحياء عقيقا
__________
(1) المطمح: بزورة.
(2) كذا هنا وفي بعض أصول المطمح: ابن عقال.(7/51)
وإذا نظرتَ إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقا
يا من تقطّع خصره من رقّةٍ ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا فلمّا أكمل إنشادها استعادها منه، وقال: يا ابن عبد ربّه، لقد تأتيك العراق حبواً.
وله أيضاً:
ومعذر نقش الجمال بخطّه ... خدّاً له بدم القلوب مضرّجاً
لمّا تيقّن أنّ سيف جفونه ... من نرجس جعل النّجاد بنفسجا وله أيضاً:
وساحبة فضل الذيول كأنّها ... قضيبٌ من الريحان فوق كثيب
إذا ما بدت من ثغرها قال صاحبي ... أطعني وخذ من وصلها بنصيب وله أيضاً:
هيّج الشوق دواعي سقمي ... وكسا الجسم ثياب الألم
أيّها البين أقلني مرّة ... فإذا عدت فقد حلّ دمي
يا خليّ الذّرع نم في غبطة ... إنّ من فارقته لم ينم
ولقد هاج بجسمي سقماً ... حب من لو شاء داوى سقمي وبلغ سنّ عوف بن محلم (1) ، واعترف بذلك اعتراف متألم، عندما وهت شدته، وبليت جدّته، وهو آخر شعر قال، ثم عثر في أذيال الردى وما استقال:
__________
(1) هو القائل:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان(7/52)
كلاني لما بي عاذليّ كفاني ... طويت زماني برهةً وطواني
بليت وأبليت اللّيالي مكرهاً ... وصرفان للأيام معتوران
وما لي لا أبلى لسبعين حجّة ... وعشرٍ أتت من بعدها سنتان
فلا تسألاني عن تباريح علّتي ... ودونكما منّي الذي تريان
وإنّي بحول الله راجٍ لفضله ... ولي من ضمان الله خير ضمان
ولست أبالي من تباريح علّتي ... إذا كان عقلي باقياً ولساني وفي أيام إقلاعه عن صبوته، وارتجاعه عن تلك الغفلة وأوبته، وانشائه عن مجون المجون إلى صفاء توبته، محص أشعاره في الغزل بما ينافيها، ونصل من قوادمها وخوافيها، بأشعار في الزهد على أعاريضها وقوافيها، منها القطعة التي أوّلها:
هلاّ ابتكرت لبينٍ أنت مبتكر ... محصها بقوله:
يا راقداً ليس يعفو حين يقتدر ... ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر
عاين بقلبك إنّ العين غافلة ... عن الحقيقة واعلم أنّها سقر
سوداء تزفر من غيظ إذا سفرت ... للظالمين فلا تبقي ولا تذر
لو لم يكن لك غير الموت موعظةً ... لكان فيه عن اللّذات مزدجر
أنت المقول له ما قلت مبتدئاً: ... هلاّ ابتكرت لبينٍ أنت مبتكر 9 - وقال في ترجمة أبي القاسم المنيشي، ما صورته (1) :
أبو القاسم المنيشي، أحد أبناء (2) حضرة إشبيلية المقلّين، الناهضين بأعباء
__________
(1) المطمح: 88 والنص مختلف عما أورده المقري.
(2) المطمح: أنساء.(7/53)
الضرائر المستقلّين، لم يزل يعشو لكل ضوء، وينتجع مصاب كل نوء، فيوماً يخصب ويوماً يجدب، وآونة يفرح وأخرى ينتدب، إلى أن صدقت مخايله، فرمقت بخوته وتحايله، وأتى من العجب، بمنسدل الحجب، ومن الأشر، ما لم يأت من بشر، وما تصرف إلاّ في أنزل الأعمال، ولا تعرّف إلاّ بأخون العمال، لم يفرع ربوة ظهور، ولم يقرع باب رجل مشهور، وله أدب ولسن، ومذهب فيهما يستحسن، لكنّه نكب عن المقطع الجزل، وذهب مذهب الهزل، إلا في النادر فربما جدّ، ثم أخلق منه ما استجدّ، وعاد إلى ديدنه، عودة أبي عباد (1) إلى واواته ومدنه، وأخذ في ذلك الغرض، وليس شرط كتابي بذاءه، ولا أن يقف حذاءه، وقد أثبتّ له ما هو عندي نافق، ولغرض كتابي موافق، فمن ذلك قوله:
يا روضةً باتت الأنداء تخدمها ... أتى النسيم وهذا أوّل السّحر
إن كان قدك غصناً فالثراء به ... مثل الكمائم قد زرت على الزهر
اربأ بخديك عن ورد وعن زهر ... واغن بقرطيك عن شمس وعن قمر
يا قاتل الله لحظي كم شقيت به ... من حيث كان نعيم الناس بالنظر وله من رثاء في والدتي رحمة الله عليها:
يا ناصحي غير مفتات ولا شجن ... على النصائح والنصاح مفتات
لا أستجيب ولو ناديت من كثب ... قد وقذتني تعلاتٌ وعلاّت
إن كان رأيك في برّي وتكرمتي ... بحيث قد ظهرت منه علامات
لا ترض لي غير شجوٍ لا أفارقه ... فذاك أختاره والناس أشتات ومنها:
يا ذا الوزارة من مثنى وواحدة ... لله ما اصطنعت منك الوزارات
__________
(1) أبو عباد هو معبد المغني، ومدنه ألحان له تسمى حصون معبد.(7/54)
لله منك أبا نصرٍ أخو جلدٍ ... إذا ألمّت ملمّات مهمّات
أستودع الله نوراً ضمّه كفنٌ ... كما تواري بدور التمّ هالات
قضت وليت شبابي كان موضعها ... هيهات؛ لو قضيت تلك اللبّانات
مضت ولمّا يقم من دونها أحد ... هلاّ وقد أعذرت فيها المروءات وله يصف زرزوراً:
أمنبر ذاك أم قضيب ... يفرعه مصقع خطيب
يختال في بردتي شبابٍ ... لم يتوضح بها مشيب
كأنّما ضمّخت عليه ... أبراده مسكةٌ وطيب
أخرس لكنه فصيح ... أبله لكنّه لبيب
جهم على أنّه وسيم ... صعب على أنّه أريب 10 - أبو الحسن البرقي (1) :
بلنسي الدار، نفيسيّ المقدار، ما سمعت له بشرف، ولا علمت له بسلف، ولا اطلعت منه على غير سرف، ورد إشبيلية سنة تسع وتسعين وأربعمائة (2) ، واتصل بابن زهر، فناهيك من حظ في أكنافه جال، ومن لحظ فيما أراده أجال، ومن أمل استوفر، وحظ مسك أذفر، ومن وجه جاه له أسفر، سلك به ساحة الرغائب، وتملك بسببه إباحة الحاضر والغائب، وقال فما نبذت مقالته، وأقال فما قيّدت إقالته، وكان حلو المجالسة، مجلوّ المؤانسة، ذا نشب وافر، ومذهب في المساهمة سافر، إلاّ أنّه كان كلفاً بالفتيان، معنّىً بهم في كل الأحيان، ونيّف على السبعين وهو برداء الصبوة مرتد، وبعترتها معتد، مع أدب زهرته ترفُّ، وكأنّه بحر والألباب منه تغترف، وقد أثبتّ له بعض
__________
(1) المطمح: 89.
(2) المطمح: سنة خمس وسبعين وأربعمائة.(7/55)
ما وجدت له في الغلمان، وأنشدت له في تلك الأزمان، فمن ذلك قوله رحمه الله تعالى:
إن ذكرت العقيق هاجك شوق ... ربّ شوقٍ يهيجه الادّكار
يا خليليّ حدّثاني عن الرك ... ب سحيراً أأنجدوا أم أغاروا
شغلونا عن الوداع وولوا ... ما عليهم لو ودّعوا ثمّ ساروا
أنا أهواهم على كلّ حالٍ ... عدلوا في هواهم أم جاروا وعلق بإشبيلية فتى يعرف بابن المكر، وبات من حبّه طريحاً بين أيدي الوساوس والفكر، لا يمشي إلاّ صبّاً، ولا يفشي إلا غراماً وحبّاً، ومازال يقاسي لوعته، مقاساة يناجي بها صرعته، ويكابد جواه، ويلازم هواه، حتى اكتسى خدّه بالعذار، وانمحت عنه بهجة آذار، فسلا من كلفه، وتصدى ذلك لمواصلته بصلفه، فقال:
الآن لمّا صوّحت وجناته ... شوكاً وأضحت سلوة العشاق
واستوحشت منه المحاسن واكتست ... أنوار وجهك واهن الأخلاق
أمسيت تبذل لي الوصال تصنّعاً ... خلق اللئيم وشيمة المذَّاق
هلا وصلت إذ الشمائل قهوة ... وإذ المحيّا روضة الأحداق
يا كم أطلت غرام قلب موجع ... كم قد ألبّ إليك بالأشواق
ما كنت إلا البدر ليلة تمّه ... حتى قضت لك ليلة بمحاق
لاح العذار فقلت وجد نازح ... إنّ ابن داية (1) مؤذن بفراق وله فيه مناقضاً لذلك الغرض، معارضاً للوعة سلوه الذي كان عرض:
يلومون في ظبيٍ تزايد حسنه ... بخطّين خطّا لوعتي وغراميا
__________
(1) ابن دأية: الغراب.(7/56)
وقد كنت أهوى خدّه وهو عاطل ... فكيف وقد أضحى لعيني حاليا وله أيضاً في مثله:
أجيل الطرف في خدٍّ نضيرٍ ... يردد ناظري نظري إليه
إذا رمدت بحمرته جفوني ... شفاها منه إثمد عارضيه 11 - أبو الحسن علي بن جودي (1) :
برّز في الفهم، وأحرز منه أوفر سهم، وعانى العلوم بقريحة ذكيّة، وواخى بنفس في المعارف زكية، وله أدب واسع مداه، يانع كالروض بلّله نداهن، ونظمٌ أرقّ من دمع العاني، ولطيف المعاني، وأعبق من نفس الخمائل، في أكفّ الصّبا والشمائل، ونثر كالزهر المطلول، أو السلك المحلول، إلا أنّه سها فأسرف، وزها بما لا يعرف، وتصدى إلى الدين بالافتراء، ولم يراقب الله تعالى في ذلك الاجتراء، واشتهرت عنه في ذلك أقوال سدّد إلى الملّة نصالها، وأبدى بها ضلالها، فعظمت به المحنة، وكمنت له في كل نفس إحنة، ومازال يتدرّج فيها وينتقل، حتى عثر وما كاد يستقل، فمر لا يلوي على تلك النواحي، وفرّ لا ينثني إلى لوائم ولواحي، وما زال يركب الأهواء ويخوضها، ويذلل النفس بها ويروضها، حتى أسمحت ببعض الإسماح، وكفّت عن ذلك الجماح، واستقر عند أبي مالك فآواه، ومهّد له مثواه، وجعله في جملة من اختص من المبطلين، واستخلص من المعطلين، فكثيراً ما يصطفيهم، ولا يدري أيدّخرهم أم يقتنيهم، وقد أثبتُّ له ما يبهر سامعاً، ويظهر برقاً لامعاً، فمن ذلك قوله:
أحنّ إلى ريح الشمال فإنّها ... تذكرنا نجداً وما ذكرنا نجدا
تمرُّ على ربعٍ أقام به الهوى ... وبدَّل من أهليه جائمةً رُبدا
__________
(1) المطمح: 90 وبين النصين اختلاف.(7/57)
فيا ليت شعري هل تقضّى لبانة ... فأرتشف اللّميا وأعتنق القدّا
خليليّ لا والله ما أحمل الهوى ... وإن كنت في غير الهوى رجلاً جلدا وقوله أيضاً:
سل الركب عن نجد فإنّ تحيّةً ... لساكن نجد قد تحمّلها الركب
وإلا فما بال المطيّ على الوجى ... خفافاً وما للريح مرجعها رطب وقوله أيضاً:
إذا ارتحلت غربية فاعرضا لها ... فبالغرب من نهوى له البلد الغربا
لقد ساءنا أنّا بعيد وأنّنا ... بأرضين شتّى لا مزاراً ولا قربا
يفجّعنا إما بعاد مبرّحٌ ... وإمّا أمورٌ باعثاتُ لنا كربا
ظعنّا على حكم اللّيالي وخطبها ... فيا ليت لم ندر اللّيالي ولا الخطبا
وكنت أُرجّي الدهر بعد الذي مضى ... دياراً وقرباً والأصادق والصحبا
أحقّاً يسيرُ الركب لم ترتحل بنا ... إليك ولم تحد الحداة لنا ركبا وقوله أيضاً:
لقد هيّج النيران يا أمّ مالكٍ ... بتدمير ذكرى ساعدتها المدامع
عشيّة لا أرجو لقاءك عندها ... ولا أنا أن يدنو مع الليل طامع وقوله أيضاً:
حننت إلى البرق اليماني، وإنّما ... نعالج شوقاً ما هنالك هانيا
فيا راكباً يطوي البلاد تحمّلن ... تحيتنا إن كنت تلجأ لاقيا
ليالينا بالجزع جزع محجّر ... سقى الله يا فيحاء تلك اللياليا
وما ضرّ صحبي وقفة بمحجّرٍ ... أحيّي بها تلك الرسوم البواليا(7/58)
وله أيضاً:
خليليّ من نجد فإنّ بنجدهم ... مصيفاً لبيت العامريّ ومربعا
ألا رجّعا عنها الحديث فإنّني ... لأغبط من ليلي الحديث المرجّعا
عزيز علينا يا ابنة القوم أنّنا ... غريبان شتّى لا نطيق التجمّعا
فريق هوى منّا يمانٍ ومشئمٌ ... يحاول يأساً أو يحاول مطمعا
كأنّا خلقنا للنوى وكأنّما ... حرام على الأيام أن تتجمّعا ووجدت له في بعض نسخ " المطمح " قوله أيضاً (1) :
سقى دارك اللائي ببطن محصّبٍ ... مثاكيل من وفد الغمام المرنّح
ألم تعلمي يا فتنة القلب أنّني ... تطارحت من حبي لكم كلّ مطرح
إذا نعبت غربان دارٍ وجدتني ... وشوقي مقيمٌ بين ناء ونزّح وله أيضاً:
ألا خبر وللبلوى ضروب ... وفيك لكلّ مشتاق حبيب
حباك الله بالنعمى فنوناً ... وجرّ لكم مع النعمى خطوب
متى تقضي بخسفتك الليالي ... وتعصف فيكم ريح هبوب
فإنّكم تجرّون المنايا ... وتعمر من مجانيكم قلوب وقد ذكر في " المطمح " له تخميساً جارياً على ألسنة الناس إلى الآن، وهو:
أيا ساكنين بأرض اللوى ... وصالكم لسقامي دوا
وعافاكم الله من ذا الجوى ... ملكتم فؤادي فصار الهوى عليّ رقيبٌ رقيبٌ رقيبْ ...
__________
(1) وردت هذه القطعة في ق بعد القطعة التي أولها " إذا ارتحلت غربية ... ".(7/59)
ولمّا تبدّت لهم حالتي ... وما حرّك الهجر من زفرتي
بكوا رحمةً لي من ساعتي ... فقلت متى الوصل يا سادتي فقالوا قريبٌ قريبٌ قريبْ ... وهو وإن لم يكن في ذروة البلاغة فقد ذكرته لأنّه مطروق بالمغرب عند أهل التلاحين وغيرهم.
ولنذكر بعض نص خطبة المطمح، قال رحمه الله تعالى فيه: أمّا بعد حمد الله الذي أشعرنا إيماناً (1) وإلهاماً، وصير لنا أفهاماً، ويسّر لنا برود آداب، ونشرنا للانبعاث لإثباتها والانتداب، وصلّى الله على سيدنا محمد الذي بعثه رحمة، ونبّأه منة منه ونعمة، وسلّم تسليماً، فإنّه كان بالأندلس أعلام، فتنوا بسحر الكلام، ولقوا منه كل تحيّة وسلام، فشعشعوا البدائع وروّقوها، وقلدوها بمحاسنهم وطوقوها، ثم هووا في مهاوي المنايا، وانطووا بأيدي الرزايا، وبقيت مآثرهم الحسان، غير مثبتة في ديوان، ولا مجملة في تصنيف تجتلي فيه العيون، وتجتني منه زهر الفنون، إلى أن أراد الله تعالى إظهار إعجازها، واتصال صدورها بأعجازها، فحلللت من الوزير أبي العاصي حكم بن الوليد عند من رحّب وأهل، وأعلّ بمكارمه وأنهل، وندبني إلى أن أجمعها في كتاب، وأدركني من التنشط إلى إقبال ما ندب إليه، وكتابة ما حث عليه، فأجبت رغبته، وحليت بالإسعاف لبّته، وذهبت إلى إبدائها، وتخليد عليائها، وأمليت منها في بعض أيام، ثلاثة أقسام، القسم الأول: يشتمل على سرد غرر الوزراء، وتناسق درر الكتّاب والبلغاء. القسم الثاني: يشتمل على محاسن أعلام العلماء، وأعيان القضاة والحكماء. القسم الثالث: يشتمل على ذكر محاسن الأدباء، النوابغ النجباء؛ انتهى.
__________
(1) إيماناً: سقطت من ق والمطمح.(7/60)
وهذه خطبة " المطمح الصغير "، وأما الكبير والأوسط فضمنهما ذكر الملوك والسلاطين حسبما نقلنا بعضه فيما مر من هذا الكتاب، على أنّنا نقلنا بعضاً من الصغير أيضاً، فليعلم ذلك من يقف على هذا الكتاب، ومن له أدنى ممارسة، وليراجع من الترجمة الفرق بين كلامه في الصغير وغيره، وبالجملة فما رأيت ولا سمعت أحلى من عبارة الفتح رحمه الله تعالى في تحلية الناس، ووصف أيام الأنس، وليس الخبر كالعيان، وقد سردنا بعض كلامه في " القلائد " وفي " المطمح ".
[قطعة من الموشحات]
ولنرجع الآن إلى ما كنا بصدده من أمر التوشيح، فنقول: وتمام موشحة ابن سهل التي عارضها لسان الدين هو قوله:
هل درى ظبيُ الحمى أن قد حمى ... قلب صبٍّ حلّه عن مكنس
فهو في حرّ وخفقٍ مثلما ... لعبت ريح الصَّبا بالقبس
يا بدوراً أطلعت يوم النوى ... غرراً تسلك بي نهج الغرر
ما لقلبي في الهوى ذنبٌ سوى ... منكم الحسن ومن عيني النظر
أجتني اللذات مكلوم الجوى ... والتذاذي من حبيبي بالفكر
كلّما أشكوه وجداً بسما ... كالرُّبى بالعارض المنبجس
إذ يقيم القطر فيها مأتما ... وهي من بهجتها في عرس
غالب لي غالب بالتؤده ... بأبي أفديه من جاف رقيق
ما رأينا مثل ثغر نضّده ... أقحواناً عصرت منه رحيق
أخذت عيناه منه العربده ... وفؤادي سكره ما إن يفيق(7/61)
فاحم الجمّة معول اللمى ... أكحل اللحظ شهيُّ اللعس
وجهه يتلو الضحى مبتسما ... وهو من إعراضه في عبس
أيها السائل عن ذلّي لديه ... لي جزاء الذنب وهو المذنب
أخذت شمس الضحى من وجنتيه ... مشرقاً للصبّ فيه مغرب
ذهبت أدمع أجفاني عليه ... وله خدّ بلحظي مذهب
يطلع البدر عليه كلّما ... لاحظته مقلتي في الخلس
ليت شعري أيّ شيء حرّما ... ذلك الورد على المغترس
كلّما أشكو إليه حرقي ... غادرتني مقلتاه دفنا
تركت ألحاظه من رمقي ... أثر النمل على صمّ الصفا
وأنا أشكره فيما بقي ... لست ألحاه على ما أتلفا
فهو عندي عادل إن ظلما ... وعذولي نطقه كالخرس
ليس لي في الحبّ حكمٌ بعدما ... حلّ من نفسي محلّ النّفس
منه للنّار بأحشائي اضطرام ... يلتظي في كل حين ما يشا
وهي في خديه بردٌ وسلام ... وهي ضرٌّ وحريقٌ في الحشا
أتّقي منه على حكم الغرام ... أسد الغاب وأهواه رشا
قلت لمّا أن تبدّى معلما ... وهو من ألحاظه في حرس
أيها الآخذ قلبي مغنما ... اجعل الوصل مكان الخمس وقد عارض هذا الموضح أيضاً بعض متأخري المغاربة فقال:
يا عريب الحيّ من حيّ الحمى ... أنتم عيدي وأنتم عرسي
لم يحل عنكم ودادي بعدما ... حلتم لا وحياة الأنفس(7/62)
من عذيري في الذي أحببته ... مالك قلبي شديد البرحا
بدر تمّ أرسلت مقلته ... سهم لحظٍ لفؤادي جرحا
إن تبدّى أو تثنّى خلته ... غصن بانٍ فوقه شمس ضحى
تطلُعُ الشمس عشاء عندما ... تنجلي منه بأبهى ملبس
وترى الليل أضا منهزما ... وترى الصبح أضا في الغلس
يا حياة النفس صل بعد النوى ... وألهاً مضنىً شديد الشغف
قد براه السقم حتى ذا الهوى ... كاد أن يفضي به للتلف
آه من ذكر حبيب باللوى ... وزمان بالمنى لم يسعف
كنت أرجو الطيف يأتي حلما ... عائداً يا نفس من ذا فايأسي
هل يعود الطيف صبّاً مغرما ... ساهراً أجفانه لم تنعس (2)
همت في أطلال ليلى وأنا ... ليس في الأطلال لي من أرب
ما مرادي رامة والمنحنى ... لا ولا ليلى وسعدى مطلبي
إنّما سؤلي وقصدي والمُنى ... سيّد العجم وتاج العرب
أحمد المختار طه من سما ... الشريف ابن الشريف الكيّس (2)
خاتم الرسل الكريم المنتمى ... طاهر الأصل زكي النفس وقال في مباراة هذه الموشحات السابقة:
لا تلمني يا عذولي تأثما ... ما ترى جسمي بسقمٍ قد كسي
مثلما شرح غرامي علما ... حيث أشكو وحشة من مؤنس
__________
(2) ق: وحظي بالنور لما أن كسي.
(2) ق: وحظي بالنور لما أن كسي.(7/63)
ظبيُ أنسٍ عن فؤادي نفرا ... وفؤادي مكتوٍ من صدّه
وعذولي في هوى الحبّ فرى ... بملام مذ نهى عن ودّه
أنت أعمى يا عذولي ما ترى ... يانع الورد بدا من خدّه
وله ثغر إذا ما ابتسما ... كبروق أومضت في الغلس
وثناياه كدرّ نظما ... فضياها في الدّجى كالقبس
كم ترى سحراً بجفنيه بدا ... لفؤاد في الهوى أضحى كليم
ليس سحر مقلتي هذا سدى ... يا فؤادي إن شفي السحر السقيم
خيفةً أوجس قلبي، وغدا ... راحلاً صبري، وها شوقي مقيم
يا إله العرش يا رب السما ... يا عليماً بضمير الأنفس
قلبي الولهان يشكو ألما ... من جفا ظبي أغنّ أكيس
أغيد يسبي البرايا بالمقل ... أدعج الجفن بعينيه حور
لو رأته الشمس أضحت في خجل ... وهو للبدر بوجه قد قمر
من معاني حسنه رقّ الغزل ... في غزال قد غزاني بالنظر
آخذ بالروح مني كلّما ... رمق الصبّ بطرف أنعس
يقنص الأسد بلحظ قد رمى ... أسهماً تفتك من غير قسي
يا رعى الله زماناً سلفا ... بلويلاتٍ تقضّت بانشراح
مثل دينار وها قد صرفا ... في ألذّ العيش مع حب وراح
فاعذروا القلب الذي قد شغفا ... بحبيب ما له عنه براح
بدر تمّ أهيف حلو اللمى ... ريقه شهد شهيّ اللّعس
كسلاف عهدها قد قدما ... تنجلي في كأسها كالعرس(7/64)
قهوة بكر عجوز عتقت ... زمناً في دنها من قبل نوح
هي لمّا في زجاج أشرقت ... شمس راح غربت في كل روح
جددت بسطاً وكم قد مزّقت ... قلب صبّ في غبوق وصبوح
حلف الخمّار عنها قسماً ... أنها بالمكث كادت تنتسي
فاسقني صرفاً ولا تمزج بما ... راحه كم أذهبت من عبس
في رياض قد شدا شحروره ... عاطنيها بين أكناف الشجر
وانظم الشمل ودع منثوره ... حول ورد وأقاح وزهر
وإذا الطلّ بدا شبّوره ... كلّل الأوراق منه بالدرر
ما ترى الريحان عبداً خدما ... حيث أضحى واقفاً في المجلس
جلس النسرين لكن ربّما ... إستحت منه عيون النرجس
فتنزّه في رياضٍ خضر ... وغصون غرّدت فيها هزار
وانتشق عرف زهورٍ عطر ... ياسمين زينته الجلّنار
وشذا الزهر كمسك أذفر ... واقبل العذر لابن البزددار
طامع في رحمة الله وما ... خاب عبد طامع لم ييأس
يا إلهي جد علينا كرما ... يا كريماً قبل أخذ الإنفس رجع إلى موشّحات ابن الخطيب:
قال لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى: وممّا قلته من الموشّحات التي انفرد باختراعها الأندلسيون وطمس الآن رسمها (1) :
__________
(1) الموشحة في أزهار الرياض 1: 314 وهي في مدح السلطان يوسف أبي الحجاج.(7/65)
ربّ ليلٍ ظفرت بالبدر ... ونجوم السماء لم تدرِ حفظ الله ليلنا ورعى ... أيّ شملٍ من الهوى جمعا ... غفل الدهر والرقيب معا ...
ليت نهر النهار لم يجرِ ... حكم الله لي على الفجرِ علِّل النفس يا أخا العرب ... بحديث أحلى من الضّرَب ... في هوى من وصاله أربي ...
كلّما مرّ ذكر من تدري ... قلت يا برده على صدري صاح لا تهتمم بأمر غد ... وأجز صرفها يداً بيد ... بين نهرٍ وبلبلٍ غرد ...
وغصون تميل من سكر ... أعلنت يا غمام بالشكر يا مرادي ومنتهى أملي ... هاتها عسجدية الحلل ... حلّت الشمس منزل الحمل ...
وبرود الربيع في نشر ... والصّبا عنبرية النّشر غرة الصبح هذه وضحت ... وقيان الغصون قد صدحت ... وكأنّ الصّبا إذا نفحت ...(7/66)
وهفا طيبها عن الحصر ... مدحة في علا بني نصر هم ملوك الورى بلا ثنيا ... مهّدوا الدين زيّنوا الدنيا ... وحمى الله منهم العليا ...
بالإمام المرفّع الخطر ... والغمام المبارك القطر إنّما يوسف إمام هدى ... حاز في المعلوات كلّ مدى ... قل لدهرٍ بملكه سعدا ...
افتخر جملةً على الدهر ... كافتخار الربيع بالزهر يا عماد العلاء والمجدِ ... أطلع العيد طالع السعدِ ... ووفى الفتح فيه بالوعدِ ...
وتجلّت فيه على القصر ... غرر من طلائع النصر فتهنّأ من حسنه البهج ... بحياة النفوس والمهج ... واستمعها ودع مقال شجي ...
قسماً بالهوى لذي حجر ... ما لليل المشوق من فجر ومن بديع موشحات لسان الدين رحمه الله تعالى قوله (1) :
__________
(1) الموشحة في أزهار الرياض 1: 315 - 316.(7/67)
كم ليوم الفراق من غصّه ... في فؤاد العميد
نرفع الأمر فيه والقصّهْ ... للوليّ الحميد
رحل الرّكب يقطع البيدا ... بسفين النّياق
كلّ وجناء تتلع الجيدا ... وتبذّ الرفاق
حسبت ليلة اللّقا عيدا ... فهي ذات اشتياق
صائمات لا تقبل الرّخصه ... قبل فطر وعيد
فهي مذ أمّلته مختصه ... بجهاد جهيد ومنه في آخره:
يا إمام العلاء والفخر ... ذا السّنا المبهج
هاكها لا عدمت في الدهر ... آملاً يرتجي
عارضت قول بائع التمر ... بمقال شجي
غرّبوك الجمال يا حفصهْ ... شطر ثاني
شطر أول ... من مكان بعيد
من سجلماسة ومن قصهْ ... وبلاد الجريد (1) وقد ألف - رحمه الله تعالى - في هذا الفن كتابه المسمى " بجيش التوشيح " وأتى فيه بالغرائب، وذيّل عليه صاحبنا وزير القلم بالمغرب العلم الشهير المنفرد في عصره بحيازة قصب السبق في البلاغة سيدي عبد العزيز بن محمد الفشتالي - رحمه الله تعالى - بكتاب سمّاه " مدد الجيش " (2) واستهلّه بقوله: حمداً لمن أمدّ جيش محمد بعترته. وأتى فيه بكثير من موشحات أهل عصرنا من المغاربة،
__________
(1) هذه الخرجة قد تقرأ معربة وغير معربة.
(2) انظر روضة الآس: 162.(7/68)
وضمنه من كلام أمير المؤمنين مولانا المنصور أبي العباس أحمد الشريف الحسني - رحمة الله تعالى ورضوانه عليه - ما زاده زيناً، وأخبرني - رحمه الله تعالى - أنّه ذكر فيه لأهل العصر في أمير المؤمنين ولأمير المؤمنين المذكور أزيد من ثلاثمائة موشّح، ولا حرج في إيراد بعضها هنا، فمنها قول أحد الوافدين من أهل مكّة على عتبة السلطان مولانا المنصور (1) ، وهو رجل يقال له أبو الفضل ابن محمد العقاد وقد عارض بها موشّحتي لسان الدين وابن سهل السابقتين (2) :
ليت شعري هل أروّي ذا الظما ... من لمى ذاك الثّغير الألعس
وترى عيناي ربّات الحمى ... باهيات بقدود ميّس
يدخلون السّقم من دار اللوى ... كلم الهجر فؤادي وأسر
هدّ من ركن اصطباري والقوى ... مبدلاً أجفان نومي بالسّهر
حين عزّ الوصل عن وادي طوى ... هملت أعين دمعي كالمطر
فعساكم أن تجودوا كرما ... بلقاكم في سواد الحندس
وتداووا قلب صبّ مغرما ... من جراحات العيون النّعّس
كلّما جنّ ظلام الغسق ... هزّني الشوق إليكم شغفا
واعتراني من جفاكم قلقي ... مذ تذكرت جياداً (3) والصفا
وتناهت لوعتي من حرقي ... ثمّ زاد الوجد في التلفا
__________
(1) يعني السلطان أحمد المنصور الذهبي ابا العباس ابن محمد الشيخ المهدي السعدي، وهو من أعظم سلاطين السعيديين؛ انتصر على البرتغاليين في موقعة وادي المخازن سنة 986 وفتح السودان، واهتم ببناء المساجد والمستشفيات وشجع العلوم؛ توفي سنة 1012 (راجع مناهل الصفا للفشتالي، والجزء الخامس من الاستقصا والأعلام للشيخ العباس ابن إبراهيم) .
(2) وردت الموشحة في روضة الآس: 14.
(3) جياد: يعني جبل أجياد بمكة.(7/69)
فانعموا لي ثم جودوا لي بما ... يُطف (1) نيران الجوى ذي القبس
ساعة لي من رضاكم مغنما ... وتداوي جثّتي مع نفسي
كنت قبل اليوم في زهوٍ وتيه ... مع أحبابي بسلعٍ ألعب
ومعي ظبيٌ بإحدى وجنتيه ... مشرق الشمس وأخرى مغرب
فرماني بسهامٍ من يديه ... ضارب البين فقلبي متعب
لست أرجو للقاهم سلّما ... غير مدحي للإمام الأرأس
أحمد المحمود حقّاً من سما ... الشريف ابن الشريف (2) الكيّس ومنها قول بعض المراكشيين (3) :
واخجلتا للصّباح ... والشمس إذ لاح جؤذر
ساق يدير الكؤوسا ... تضيء خمراً وتزهر
تقادمت في الدنان ... من عهد نوح تروّق
في لونها البهرماني (4) ... تدار فينا وتعبق
قد أطلقت من عنان ... من عن صبوح يرقّق
يسعى بها من ملاح ... من كان باللحظ يسكر
بالحسن يصبي الجليسا ... ويستخفّ الموقّر
__________
(1) خرج عن الإعراب ضرورة.
(2) الروضة: الكريم ابن الكريم.
(3) انظر روضة الآس: 29
(4) ق والروضة: البرهماني.(7/70)
يثير كامن وجد ... في قلب كلّ سقيم
يسطو علينا بقدّ ... يزري بغصن قويم
أشقى بعشقي وودّي ... في جنّةٍ ونعيم
من ذي الوجوه الصّباح ... يا شادناً غنّ واذكر
وهات لحناً نفيسا ... نرويه عنك ونأثر
في مدح من ساد طفلاً ... هذي البرايا وفاقا
من حاز مجداً وفضلاً ... بين الأنام وفاقا
في عدله قال قولا ... يسري فيعدو العراقا
في أحمد ذي السماح ... في الشرق والغرب يُنصر
أحيا الهدى والنفوسا ... وذلّ ملّة قيصر
تراه سلماً وحربا ... من رأيه في جنوده (1)
يختال لم يبغ عجبا ... من عزّه في بروده
يهوى المعالي كسبا ... ويقتنيها بجوده
فخار أهل البطاح ... وعزّ من قد تمصّر
ثناه يملا الطروسا ... عن صورة المجد عبّر
ملك بنى في البديع ... منازلاً كالدراري
فيا له من صنيع ... الروض والماء جاري
فقل بصوت رفيع ... إذ بان فجر النّهار
__________
(1) قافية هذا الغصن دون هاء في الروضة.(7/71)
أهدى نسيم الصباح ... مسكاً شمسماً وعنبر
وجىء بها خندريسا ... من خدّ ساقيه تعصر ومن موشّحات السلطان المنصور المذكور (1) :
ريّان من ماء الصّبا ... أهيف وممتلي البرد
كالغصن هزته الصّبا ... فوق الرّبى الشهّب
قد قلت لمّا أن سبى ... بحسنه يسبي
من عينه سلّ ظبى ... وغمدها قلبي
أسرني ماضي الشّبا ... أوطف مرنّح القدّ
يا فاضح الروض سنا ... بل مخجل البدر
وقاطعي ظلماً عنا ... ومن مقرّه صدري
إن لم تكن شمس دنا ... فإنّها تجري
علّقته من الظّبا ... أسجف يسطو على الأسد
قلت له وقد نهد ... وجدّ في حربي
وغلب الظبي الأسد ... ففاز بالغلب
الشمس برجها الأسد ... فاسع إلى قلبي ولم يحضرني الآن تمامها.
ومنها قوله يعارض لسان الدين وابن الصابوني (2) :
__________
(1) روضة الآس: 56.
(2) روضة الآس: 57.(7/72)
وليالي الشعور إذ تسري ... ما لنهر النهار من فجر حبّذا الليل طال لي وحدي ... لو تراني جعلته بردي ... فاطميّاً في خلعة الجعدي ...
هي ليلى أخت بني بشر ... فأين أنت يا أبا بدر كم سقطنا ألطف من طلّ ... واجتمعنا وما درى ظلّي ... واسترحنا من كاشح نذل ...
رب ليل ظفرت بالبدر ... ونجوم السماء لم تدر (1) وبنفسي مهفهف ألمى ... ومطيع وغرّني لمّا ... سألته (2) وقانعي ممّا ...
في رباط قسمتني صدري ... لحنين وناظري بدر وهلال في حسنه اكتملا ... هو شمس وأضلعي الحملا ... قام يشدو وينثني في ملا (3) ...
قسماً بالهوى لذي حجر ... ما للليل المشوق من فجر (4)
__________
(1) هذا القفل للسان الدين.
(2) الروضة: يا عفافي، وسقطت اللفظة من ق.
(3) الروضة: في علا.
(4) هذا القفل لابن الصابوني.(7/73)
[من مقطعات المنصور]
ثم عنّ لنا أن نورد هنا جملةً من مقطوعات مولانا السلطان المنصور ممّا تلقيناه عنه أيام كوننا في إيالته الشريفة؛ فمن ذلك قوله رادّاً على من قال في ابن أبي الحديد (1) :
لقد أتى بارداً ثقيلاً ... ولم يرث ذاك من بعيد
فهو كما قد علمت شيء ... أشهر ما كان في الحديد ما صورته:
لقد أتى صارماً صقيلاً ... ولم يرث ذاك من بعيد
شديد بأس متى يعادي ... وشدة البأس في الحديد ومن نظمه قوله (2) :
لله تمرٌ طيّبٌ ... وافى على البشرى انطوى
يا حسنه مجتمعاً ... يحلو لنا بلا نوى وقوله معميّاً في قمر على طريقة الاكتفاء:
معذبي أعجزني نيله ... من لي بمن مسكنه في السما
لم أنس إذ قال ألا تكتفي ... قلت بمن بالطرف قلبي رمى وقوله:
تبدّى وزند الشوق تقدحه النوى ... فتوقد أنفاسي لظاه وتضرم
وهشّ لتوديعي فأعرضت مشفقا ... على كبدٍ حرّى وقلبٍ يقسم
__________
(1) قال المقري إنهما لمؤلف " طي الفلك الدائر على المثل السائر " ولكنه لا يتذكر اسمه (الروضة: 47) .
(2) أكثر هذه المقطعات وردت في روضة الآس: 36 - 52 وفي مناهل الصفا 2: 207 - 214.(7/74)
ولولا ثواه بالحشا لأهنتها ... ولكنّها تُعزى إليه فتكرم
فاعجب لآساد الشرى كيف أحجمت (1) ... على أنّه ظبي الكناس ويقدم وقال قدس الله تعالى روحه مورياً:
إنّ يوماً لناظري قد تبدّى ... فتملّى من حسنه تكحيلا
قال جفني لصنوه لا تلاقي ... إنّ بيني وبين لقياك ميلا وقد تبارى خدّام حضرة هذا السلطان في تخميس هذين البيتين، ومن أشهر ذلك قول الأستاذ الحافظ سيدي أحمد الزموري رحمه الله تعالى، وكان يصلي بالسلطان التراويح:
ورقيب يردّد اللحظ ردّا ... ليس يرضى سوى ازديادي بعدا
ساءه الطرف مذ جنى الخدّ وردا ... إنّ يوماً لناظري قد تبدّى فتملّى من حسنه تكحيلا ...
وتصدى من فحشه في استباق ... يمنع اللّحظ من جنىً واعتناق
أيأس العين من لحاظ ائتلاق ... قال جفني لصنوه لا تلاقي إنّ بيني وبين لقياك ميلا ... ومن نظم السلطان المذكور، وهو من أوّليات شعره، قوله في وردة مقلوبة بين يدي محبوبه:
ووردة شفعت لي عند مرتهني ... راقت وقد سجدت لفاتر الحدق
كأنّ خضرتها من فوق حمرتها ... خال على خده من عنبر عبق وقال أيضاً من أوّلياته:
__________
(1) الروضة: كيف تحجم.(7/75)
شادن نمّ عليه عرفه (1) ... ما خلاصي من سهام كامنه
أحلال فيه أنّي خائف ... وغزالي بعد خوفي آمنه وقال في وصف رقيب ملازم:
رقيبي كأنّ الأرض مرآة شخصه ... فأين تولّى الطرف مني (2) يراه
مقيم بوجه الوصل حتى كأنّما ... وصالي هلالٌ والسواد صداه وقال:
أيا روضةً ضنّت عليّ بزهرها ... ولم يتلقّ ناظراي سواك (3)
أبيحي لنفسي من شذاك بقاءها ... إذا فت طرفي علّ الآنف يراك وقال أيضاً:
على جدول غطّت عليه بشعرها ... لئلا يرى الشمس الرقيبة لي طرف
فبت أرى في جدول بدر وجهها ... غريقاً ونقطات العبير به كلف وقال:
طرقت حماه والأسود خوادر ... به فتولّى بالظُّبى وهو يبعد
فعلّمت آساد الشرى كيف تقدم ... وعلّم غزلان النقا كيف تشرد وقال:
لما نأى المحبوب رقّ لي الدّجى ... وأتى يعلّلني برعي كواكبه
أولى غراب البين ردك يا حشا ... والبين مزنيّ الصباح كواك به
__________
(1) الروضة: نفحه.
(2) أقرأ بخطف الياء وجعلها حركة كالكسرة على النون.
(3) الروضة: سناك.(7/76)
وقال معميّاً باسم حظيته الشهيرة الحسن والإحسان نسيم:
يا هلالاً طلوعه بين جفني ... وغزالاً كناسه بين جنبي
إنّ سهماً رميت غادر همّاً ... لو تناهى ما شكّ آخر قلبي ورأيت بخطّه على هذا المحل ما صورته: قولي إنّ سهماً تنصيص، و " غادر همّاً " إسقاط، وهخو إشارة لإسقاط " همّاً " من هذا الاسم، وقولي " لو تناهى " انتقاد، والانتقاد: الإشارة إلى بعض أجزاء الكلمة ليؤخذ جزء الاسم المطلوب، كأن يذكر الوجه أو الصدر أو التاج أو الرأس، ويعني به الحرف الأول من الكلمة، والقلب والجوف والحشا والخصر، ويراد به الوسط، والآخر والمنتهى والختام، ويقصد به آخر الكلمة، فقولي لو تناهى معناه أنّه أخذ لفظة هم غير متناه، فبقيت الميم من همّاً، وقولي ما شك آخر قلبي انتقاد أيضاً، وأردت بآخر قلبي الياء، ويسمى أيضاً التسمية، وهو: أن تذكر الاسم وتريد المسمى، أو تذكر المسمى وتريد الاسم، وقد تم الاسم.
واعلم أنهم لم يشترطوا في استخراج الاسم (1) بطريق التعمية حصولها بحركاتها وسكناتها، بل اكتفوا بحصول الكلمة من غير ملاحظة لهيئاتها الخاصة فإذا وقع ذلك فمن المحسنات، ويسمى العمل " التذييلي (2) ". انتهى كلامه على البيتين في اسم نسيم.
وقال في اسم " غزال " وقد جمع تعميتين ولغزاً:
وأملد مطويّ الحشا زال ردفه ... فلا خصر إلاّ إن تصورته وهما (3)
بنصف اسمه يرمي القلوب وعكس ما ... بقي أبداً أذن المحبّ به أصمى
__________
(1) الروصة: الكلمة.
(2) ق: التذييل.
(3) سقطت اللفظتان من ق، وأثبتناهما من الروضة.(7/77)
وكتب عليه ما صورته: قولي " أملد " أردت به بعمل الترادف غصن، ومطوي الحشا انتقاد، و " زال ردفه " قضيت به غرضين، أزلت به النون بعمل الإسقاط الباقي بعد طيّ الصاد التي بوسطه، وأثبته - أعني زال - في موضعها: أي النون من غصن، والحال أن الصاد محذوفة، وذلك بعمل الانتقاد، وأوضحت ذلك بقولي فلا خصر وإن كنت لا أحتاج إليه، لئلا يكون في البيت شيء خارج عن التعمية؛ انتهى تفسيره، رحمه الله تعالى.
ويعني بقوله " بنصف اسمه يرمي القلوب " غز؛ لأنّه نصف غزال، ويعني بقوله " وعكس ما بقي إلى آخره " لفظة " لا " لأنهّا مقلوب ما بقي وهو " ال ".
وقال في اسم " سلاف " على منهاج ما تقدم:
وأحور وسنان الجفون كأنّما ... سقى لحظه من ريق فيه بقرقف
نضا صارماً لا فلّ صارم لحظه ... تزايد فيه منذ سل تلاه في وفسره بقوله: قولي " تلاه في " من طريق التسمية، و " في " من العمل التذييلي وهو أن يأتي بالكلمة بحركاتها وسكناتها، وهي من المحسنات كما سبق.
وقال في اسم " آمنة " من التعمية أيضاً:
من شقائي قنصته وهو خشفٌ ... في رضاه عن الملوك ابتدلت (1)
أملد منه مذ تحلّل خصر ... وتثنّى عن حبه ما عدلت وكتب عليه ما صورته: قولي " أملد " أردت الألف بعمل التشبيه، وخصر منه انتقاد، وأردت بالخصر وسط لفظة " منه " وتحلله: أن ينحل السكون الذي على النون، وقولي و " تثنى " أي الألف من التثنية، لا التثني، فتم الاسم
__________
(1) الروضة: لم أقل ف أن قلت فات فهمت.(7/78)
بحركاته وعدده؛ انتهى تفسيره.
وقال وقد لبس منصورية من النوع الذي يقال له قلب حجر، والمنصورية: نوع لبس معروف بالمغرب استخرجه السلطان المذكور وأضافه إلى اسمه:
وصفوا اشتياقي للحبيب وسرّهم ... قول الحبيب أنا أنا فيه
قلبي له حجر، فقلت مغالطاً ... للعاذل المؤذي أنا فيه قال: وفي هذين البيتين عدة من المحسنات غير التعمية: منها جناس التركيب المسمى بالملفق، وحدّه: بأن يكون كل من الركنين مركباً من كلمتين، وهذا هو الفرق بين الملفق وبين المركب، وقلّ من فرق بينهما، ومنها الانسجام، ومنها الاستخدام. وعهدي بالفقيه علي بن منصور الشيظمي تعرض إلى شرحهما بكراسة. والتعمية في هذين البيتين بالعمل (1) الحسابي وهو كثير، إلاّ أن هذا العمل أحسبني أبا عذرته إذ لم أره لغيري، ومادة التعمية فيه أنا أنافيه، قلبي له حجر فقولي أنا أنافيه معناه أن تضرب أنا في هـ، وقولي في هـ نص في الضرب، ويخرج من هذا مائتان وستون عدد حروف هيماني وحقّك، وقولي قلبي له حجر بعمل القلب يصير رجح فصار المجموع " هيماني وحقّك يرجح "، وفيه التورية، وهيماني وحقك الخارج من هذا الضرب فيه تهكم بالواشي، فهو من المحسنات أيضاً، أعني قوله وحقّك، ويصلح أن تسمى هذه التعمية بالافتنان، لأن الافتنان عندهم: أن يفتن الشاعر فيأتي بفنّين متضادين من فنون الشعر في بيت واحد، وهذا وقع التضاد فيه في كلمة واحدة، فظاهر " أنا أنافيه " يضاد " هيماني " وحقّك يرجح الذي يخرج بطريق الحساب، فافهمه، ويمكن استخراج تعمية أخرى من قولي للعاذل المؤذي " أنا فيه "؛ انتهى.
__________
(1) الروضة: بالعد.(7/79)
والاستخدام الذي أشار إليه هو في قوله أنا فيه أي في هذا الثوب المسمى بقلب حجر، كما دلت عليه الحكاية، وأمّا المعنى الثاني لقوله أنا فيه فظاهر.
وقال وقد قطف وردة من روض المسرة في زمن النرجس:
وافى بها البستان صنوك وردة ... يقضي بها لمّا مطلت وعودا
أهدى البهار مخاجراً وأتى بها ... في وقته كيما تكون خدودا
فبعثتها مرتادة بنسيمها ... تثني من الروض النضير قدودا وقال:
لي حبيب يأتي بكلّ غريبٍ ... هو عندي منكّر ومعرّف
لست أشكو لصيرفيٍّ ونحوي ... أنّه بي نحا وفيّ تصرّف
فعله فيّ لازم متعدٍّ ... ومزيد مجرّد ومضعّف وقال:
لا وطيف علّم السيف فقد ... في قوامٍ كقنا الخط نهد
ووميض لاح لمّا بسمت ... فأرتنا منه درّاً أو برد
ما هلال الأفق إلاّ حاسد ... منه حسناً وعلاء وغيد
ولذا عاش قليلاً ناحلاً ... كيف لا يفنى نحولاً من حسد وقد ضمّن قوله " ما هلال الأفق " أديب زمانه الشيخ إمام الدين الخليلي الوافد على حضرته من بيت المقدس فقال:
قسماً بالبيت والركن الذي ... طاب حجّا واستلاماً للأبد
ما هلال الأفق إلا حاسد ... منه حسناً وعلاء وغيد وقد اتفق لإمام الدين هذا أنّه اجتمع بالحضرة المنصورية، هو والعقاد المكي(7/80)
السابق والشريف المدني، وهو رجل وافد من أهل المدينة انتمى إلى الشرف، فقال إمام الدين: يا أمير المؤمنين، إن المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرحال شدّ أهلها إليك الرحال: هذا مكيّ، وهذا مدنيّ، وأنا مقدسيّ، ثم أنشد (1) :
إنّ أمير المؤمنين أحمد ... بحر الندى وفضله لا يجحد
فطيبةٌ ومكةٌ أهلهما ... والمسجد الأقصى بذاك شهدوا رجع إلى نظم المنصرو، وقال:
وكيف بقلب في هواه مقلّب ... وأنّى له بين الضلوع مقام
فيا شادناً يرعى الحشا أنت بالحشا ... أما لمحلٍّ أنت فيه ذمام وقال يخاطب رئيس كتّابه صاحبنا سيدي عبد العزيز الفشتالي السابق الذكر:
يا كاتباً ألفاظه ... تغرس (2) روضاً ذا فنن إنّ جوابي للذي يشكو دناه اردد حزن
وقال مورياً بمصانعه الثلاثة: البديع، والمسرة، والمشتهى:
بستان حسنك أبدعت زهراته ... ولكم نهيت القلب عنه فما انتهى
وقوام غصنك بالمسرة ينثني ... يا حسنه رمانةً للمشتهى ولولا خوف الإطالة المملة لذكرت من محاسن مولانا أمير المؤمنين المنصور - رحمه الله تعالى - بعض ما أؤدي به حقّه، سقى الله تعالى عهاده، وقد بسطت الكلام على السلطان المذكور في كتابي روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام مراكش وفاس وأطال الكلام على ترجمته صاحبنا
__________
(1) الروضة: 14.
(2) الروضة: إذا كتب يغرس.(7/81)
الوزير الكبير الشهيد سيدي عبد العزيز بن محمد الفشتالي في كتابه المسمى بمناهل الصفا في فضائل الشّرفا وعهدي به أكمل منه ثماني مجلدات، وهو مقصور على دولة السلطان المذكور وذويه، وألف كاتب أسراره الرئيس أبو عبد الله محمد بن عيسى فيه كتاباً سمّاه الممدود والمقصور من سنا السلطان المنصور وهذه التسمية وحدها مطربة، رحم الله تعالى الجميع.
رجع إلى التوشيح:
كتب إليّ بعض أذكياء الأصحاب الأعيان موشّحاً يمدحني به في آخره عارض به موشّح لسان الدين السابق الذي أوله:
جادك الغيث إذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالأندلس ونصّه:
عطّر الأرجاء لمّا نسما ... شمألٌ للصبح عند الغلس
وأتت شمس الضحى تنسخ ما ... يقرأ الليل لنا من عبس
طاف بالكأس من الزهر فتى ... مولع بالصدّ عني مذ فتي
فتن الألباب لمّا التفتا ... واحتسى منه ببعض الشفة
وأنا ما بين حتّى ومتى ... صدّه تيه الهوى عن ألفتي
وكؤوس الراح بين النّدما ... أرّجت بالعرف أفق المجلس
خمرة صفراء في البلور ما ... أشبه الحان بروض النرجس
بادر اللّذة واجمع شملها ... بمدام وغلام مطرب
ذي عيون ناعسات كم لها ... من فنون السحر ما يلعب بي
وافر الأرداف عانى حملها ... ناحل الخصر، وذا من عجب(7/82)
كلّما أترع كأساً قال ما ... أنت بالشاري حياة الأنفس
فابذل الجهد وكن مغتنما ... لنفيس النفس طيب الأنفس
فرص الأيام كن منتهزاً ... مبتداها قبل حذف الخبر
ورحاب الأنس لج منتجزاً ... قبل أن تمضي كلمح البصر
واجن من زهر الهوى محترزاً ... من جنايات هجوم الكبر
لا تخف لوماً ويمم حيثما ... لاحت اللّذات كالمختلس
ما مضى أنس ووافى مثلما ... كان ذا الدهر لنا بالحرس
للرياض اذهب ترى بلبلها ... لاشتياق الورد مثل الثّكل
وخدود الورد قد كللها ... دمع طلٍّ لاشتياق البلبل
وقدود البان قد قام لها ... مانع الوصل بحدّ الأسل
والربى فاحت تحاكي خدما ... وعليهن ثياب السندس
جيبها زرّر بالزهر كما ... زرّ بالفضة ثوب الأطلس
وجلا الروض لنا أشجاره ... مائساتٍ في قباء أخضر
وترى في جيدها نوّاره ... يتلالا كعقود الجوهر
خلع الليل به أطماهره ... فغدا كالصبح باهي المنظر
وبقاياه زهت فيه أما ... في شفاه الغيد حسن اللّعس
كعذار في محيّا علّما ... فبدا للغير لا الملتمس
حبّذا الصبوة أيام الصّبا ... وعيون الشيب في سهو الوسن
فإذا أيقظها دهرٌ صبا ... لصروف حد شفريها وسن
جرّد الشيب لنا بيض الشّبا ... واقتفى شرخ شبابٍ وطعن(7/83)
وغدا الإنسان شيخاً هرماً ... واعتراه لاعجٌ من وجس
فات إذ مات فيقضي ندما ... واغتنام الوقت شغل الكيّس
لا تدع عمرك يمضي هدرا ... أنت إذ ذاك جبانٌ غافل
وارق بالجهد من السؤل الذرا ... واجتهد والضرع ضخم حافل
إنّما الأيام أمثال الشّرى ... والجريء الشهم ليثٌ باسل
ووحوش الإنس تسعى مغنما ... بارداً للأسد المفترس
ترك الوهم وخاض الظّلما ... وله العزم أضا كالقبس
ليس يحظى بالمنى إلاّ الذي ... كابد الأهوال حتى ظفرا
كان للراحة كالمنتبذ ... من وراء الظهر أنّى ظهرا
مثلما قد بات ذا طرف قذي ... يقطع الليل جميعاً سهرا
في طلاب العلم حتى علما ... أنّه يملا بروح القدس
أحمد الناصب فينا علما ... للتقى فاز به من يأتسي
حلّ في مصر وإن كان العلا ... قد عفت لما اعتراها في خلل
ورياض الفضل لمّا أن علا ... نقع جهل جفّ منهن البلل
ازدرت أغصانها حتى خلا ... قاعها من عذب ما يشفي العلل
نفرت إذ حلّ فيها كالسما ... وهو بدر بكمال مكتس
حوله الطلاب كالشهب سما ... قدرها من نوره المقتبس
أيّها الطالب للعلم اتئد ... ليس إلا بابه ينفعكا
إن ترم نيل المرجّى فاجتهد ... في اتّباع للذي يرفعكا
علم من يعمل إكسير فزد ... منه واترك حاسداً يدفعكا(7/84)
والزم الأعتاب وانزل بالحمى ... خالع الربقة من قول المسي
باعتقاد فاز من قد لثما ... نعله والكبر شأن المبلس (1)
مذ خبرت الناس طرّاً نظرا ... لمناط الأمر في هذا الزمان
لم أجد إلا مقالاً صدرا ... عن دعاوٍ أخلفت عند العيان
غير ما يمليه فانظر لترى ... درر الألفاظ في سمط البيان
ببديع النّطق لمّا نظما ... بهت المنطيق مثل الأخرس
وأتى يخضع جمع العلما ... نحو ذا المقرد في الملتمس
إنّما المجد الرفيع الممتطي ... أرؤس الآساد قسراً مثل ذا
يدع المرفوع كالمنهبط ... ثم للنازل يعلي منفذا
ناظراً في أمره بالأحوط ... خافض الطرف على حرّ القذى
كل من أمّ حماه قد حمى ... بحسام العزم هشّ الملمس
فإذا جرّد منه انفصما ... جلمد الصخر بذاك الميس
حبّذا المغرب قطراً بالسنا ... فضله يبهر بدر الأفق
قطره الشامخ قد أهدى لنا ... سيّداً قد فاق شمس المشرق
كلّ من فاتته أسباب المنى ... بعلاه للثريا يرتقي
قل لمن يرجو سوى المذكور ما ... ينبت الزهر بأرض البيس
لا، ولا النّاس سواء إنّما ... رأي من سوّاهم في هوس
لذ بشهمٍ فاز من أمّله ... بنوالٍ فاق سحّ الهامل
أثقل السؤدد إذ حمّله ... وقر فضل مستبين شامل
وحماه الأمن، من أمّ له ... بلغ القصد، فبشرى الآمل
__________
(1) ق: الملبس.(7/85)
بحره الوافر بالعلم طما ... كامل الأمداد لم يحتبس
نال منه الناس حتى عمما ... مشرقاً والغرب للأندلس موشّحات لسان الدين بن الخطيب
رجع إلى موشّحات لسان الدين ابن الخطيب، رحمه الله تعالى، فمن المنسوب إلى محاسنه قوله:
قد حرّك الجلجل بازي الصباح ... والفجر لاح فيا غراب الليل حثّ الجناح ... وهذا مطلع موشّح بديع له لم يحضرني الآن تمامه؛ لكوني تركته وجملة من كلام لسان الدين في كتبي بالمغرب جبرها الله تعالى عليّ، وهو معارض للموشّح الشهير الذي أوله:
بنفسج الليل تذكّى وفاح ... بين البطاح كأنه يسقى بمسك وراح ... وهذا المنحى هو الذي سلكه الجمال ابن نباتة (1) إذ قال مادحاً لجلال الدين الخطيب رحم الله تعالى الجميع:
ما سحّ محمرُّ دموعي وساح ... على الملاح إلاّ وفي قلبي المعنى جراح ...
بي من بني الأتراك حلو الشّباب ... مرّ السّطا
عشقته حين عدمت الصّواب ... من الخطا
تشكو حشا الغزلان منه التهاب ... إذا عطا
وربما تشكو الغصون اكتئاب ... إذا خطا
__________
(1) هو محمد بن محمد بن محمد ابن نباتة الفارقي وله ترجمة مسهبة في الوافي 1: 311 - 331 ولم ترد الموشحة هنالك أو في ديوانه.(7/86)
ما ماس ذاك الغصن بين الوشاح ... إلاّ وراح قول عذولي كلّه في الرياح ...
آهاً لصبٍّ دمعه حيث كان ... دمع أريق
هذا أسير في وجوه الحسان ... وذا طليق
أرّق جسمي بالضنّى يوم بان ... بدر الفريق
فها أنا اليوم له يا فلان ... عبد رقيق
يزيد أجفاني ندى وارتياح ... نهي اللّواح مثل جلال الدين يوم السّماح ...
حبر له في الخلق ذكر جميل (1) ... لا يفترى
ماح على غيظ الغمام البخيل ... محل الثرى
ما رأت العين له من مثيل ... ولا ترى
يوقد في أوطانه للنّزيل ... نار القرى
شرارها في الكيس حمر صحاح ... لها اقتداح لكنّها في القلب عذبٌ قراح ...
يا مالك العلم وفيض الندى ... جزت المدى
فابقَ وكلّ العالمين الفدا ... دع العدا
أنت الذي أصبح غيث الجدا ... صبح الهدى
كم يقتفى منك وكم يقتدى ... ويجتدى
علم جليّ ونوالٌ صراح ... صفو مباح يروي به راوي الرّجا عن رباح ...
__________
(1) ق: جليل.(7/87)
ومغرمٍ لا يختشي من رقيب ... ولا عذول
معلّق القلب بشجوٍ عجيب ... ولا وصول
يسكر لكن بصفات الحبيب ... لا بالشّمول
لمّا رنا الظبي وماس القضيب ... أضحى يقول
كم ينتضي جفنك وعطفك صفاح ... على رماح ما ذي محاسن ذي خزاين سلاح ... ومن الموشّحات الصادرة من المشارقة المعارضة للمغاربة قول عثمان البلطي (1) يمدح القاضي الفاضل:
ويلاه من روّاغ ... بجوره يقضي
ظبيٌ له إغذاذ ... منه الجفا حظّي ولم أقف على تمامها، وقد بارى بها التوشيح المشهور للمغاربة، وهو:
عقارب الأصداغ ... في السوسن الغضّ
تسبي تقى من لاذ ... بالنسك والوعظ
من قبل أن يعدو ... عليّ لم أحسب
أن تخضع الأسد ... لجؤذر الربرب
ظبيٌ له خدّ ... مفضّضٌ مذهب
وشادن يبدو ... في صدغه عقرب
__________
(1) في ق: الملطي والتصويب عن معجم الأدباء (12: 141) وقال نسبة إلى بلط التي تقارب الموصل وذكرها في معجم البلدان بالياء. وعثمان بن عيسى البلطي انتقل إلى دمشق وعلم في الزبداني ولما فتح صلاح الدين مصر انتقل إليها وفيها توفي سنة 599 بعد أن كان يدرس النحو ويقرئ القرآن؛ وقد أورد ياقوت موشحته ص: 147 كما أوردها ابن شاكر في الفوات 2: 67 في ترجمة البلطي.(7/88)
رقّة زهر الباغ (1) ... في جسمه الفضي
وقسوة الأفلاذ ... في قلبه الفظّ
مهفهف بدع ... أصبحت مغرّى به
قلبي له ربع ... لو كنت في قلبه
أصابني صدع ... مذ لجّ في عتبه
السّهد والدمع ... حظّي من قربه
والعين لا ينساغ ... لها جنى الغمض
والدمع ذو إغذاذ ... ناهيك من حظّ ومن أحسن ما للمشارقة من التوشيح قول الشهاب العزازي يعارض أحمد ابن حسن الموصلي (2) :
يا ليلة الوصل وكأس العقار ... دون استتار علّمتماني كيف خلع العذار ... اغتنم اللّذّات قبل الذّهاب ... [وجرّ أذيال الصّبا والشّباب] (3) ... واشرب فقد طابت كؤوس الشراب ...
على خدود تنبت الجلنار ... ذات احمرار طرّزها الحسن بآس العذار ...
__________
(1) الباغ: الحديقة.
(2) انظر المنهل الصافي 1: 344 وتوشيع التوشيح: 109.
(3) سقط هذا الشطر من ق.(7/89)
الرّاح لا شكّ حياة النفوس ... فحلّ منها عاطلات الكؤوس ... واستجلها بين الندامى عروس ...
تجلى على خطّابها في إزار ... من النّضار حبابها قام مقام النّثار ... أما ترى وجه الهنا قد بدا ... وطائر الأشجار قد غرّدا ... والروض قد وشّاه قطر الندى ...
فكمّل اللهو بكأس تدار ... على افترار مباسم النوّار غبّ القطار ... اجن من الوصل ثمار المنى ... وأوصل (1) الكأس بما أمكنا ... مع طيّب الريقة حلو الجنى ...
بمقلة أفتك من ذي الفقار ... ذات احورار منصورة الأجفان بالانكسار ... زار وقد حلّ عقود الجفا ... وافترّ عن ثغر الرضى والوفا ... فقلت والوقت لنا قد صفا ...
يا ليلة أنعم فيها وزار ... شمس النهار حيّيت من بين الليالي القصار ...
__________
(1) المنهل: وواصل.(7/90)
ويعجبني من موشحات العزازي المذكور قوله (1) :
ما على ... من هام وجداً بذوات الحلي
مبتلى ... بالحدق السّود وبيض الطّلى
باللّوى ... مليّ حسنٍ لديوني لوى
كم نوى ... فتلي وكم عذّبني بالنّوى
قد هوى ... في حبّه قلبي بحكم الهوى
واصطلى ... نار تجنّيه ونار القلى
كيف لا ... يذوب من هام بريم الفلا
هل ترى ... يجمعنا الدهر ولو في الكرى
أم ترى ... عيني محيّا من لجسمي برى
بالسّرى ... يا حاديي ركب بليلي سرى
علّلا ... قلبي بتذكار اللّقا علّلا
وانزلا ... دون الحمى، حيّ الحمى منزلا
بي رشا ... دمعي بسرّي في هواه فشا
لو يشا ... برّد مني جمرات الحشا
ما مشى ... إلاّ انثنى في سكره وانتشى
عطّلا ... من الحميّا يا مدير الطّلا
ما حلا ... إذا أدار الناظر الأكحلا
__________
(1) المنهل الصافي 1: 345.(7/91)
هل يلام ... من غلب الحب عليه فهام
مستهام ... بفاتر اللّحظ رشيق القوام
ذي ابتسام ... أحسن نظماً من حباب المدام
لو ملا ... من ريقه كأساً لأحيا الملا
أو جلا ... وجهاً رأيت القمر المجتلى
لو عفا ... قلبك عمّن زلّ أو من هفا
أو صفا ... ما كان كالجلمد أو كالصّفا
بالوفا ... سل عن فتى عذّبته بالجفا
هل خلا ... فؤاده من خطرات الولا
أو سلا ... أو خان ذاك الموثق الأوّلا وقوله أيضاً يعارض الموصلي (1) :
ما سلّت الأعين الفواتر ... من غمد أجفانها الصفاح
إلا أسالت دم المحاجر ... من غير حرب ولا كفاح
تالله ما حرّك السواكن ... غير الظّباء الجآذر
لمّا استجاشت بكلّ طاعن ... من القدود النواضر
وفوّقت أسهم الكنائن ... من كلّ جفنٍ وناظر
عربٌ إذا صحن يا لعامر ... بين سرايا من الملاح
طلّت علينا من المحاجر ... طلائع تحمل السّلاح
__________
(1) المنهل الصافي 1: 347.(7/92)
أحبب بما تطلع الجيوب ... منها وما تبرز الكلل
من أقمر ما لها مغيب ... وأغصنٍ زانها الميل
هيهات أن تعدل القلوب ... عنها ولو جارت المقل
لمّا توشحن بالغدائر ... سفرن عن أوجه صباح
فانهزم الليل وهو عاثر ... بذيله (1) واختفى الصباح
وأهيف ناعم الشمائل ... تهزّه نسمة الشّمال
فينثني كالقضيب مائل ... كما انثنى شارب ومال
له عذار كالنّدّ سائل ... لله كم من دم أسال
شقّت على نبته المراثر ... من داخل الأنفس الصحاح
تكل في وصفه الخواطر ... وتخرس الألسن الفصاح
ظبيٌ إلى الإنس لا يميل ... الشمس والبدر من حلاه
الحسن قالوا ولم يقولوا ... مبداه منه ومنتهاه
وطرفه الناعس الكحيل ... هيهات من سيفه النّجاه
أذلّ بالسحر كلّ ساحر ... فهو له خافض الجناح
يجول في باطن الضمائر ... كما يجول القضا المتاح
أما ترى الصبح قد تطلّع ... مذ غمضت أعين الغسق
والبدر نحو الغروب أسرع ... كهارب ناله فرق
والبررق بين السحاب يلمع ... كصارم حين يمتشق
وتحسب الأنجم الزواهر ... أسنّة ألقت الرماح
فانهزم النّهر وهو سائر ... فدرّعته يد الرياح
__________
(1) المنهل: في ذيله.(7/93)
وموشحة الموصلي التي عارضها العزازي هي قوله (1) :
رنا بأجفانه الفواتر ... لمّا انثنى واحد الملاح
فسل من طرفه بواتر ... وهزّ من عطفه رماح
ناظره جرّد المهنّد ... وغمده منّي الحشا
وعامل القدّ فهو أملد ... يطعن للقلب (2) إن مشى
والعارض القائم المزرد ... لفتنة الناس قد نشا
والحاجب القوس، بالفواتر ... لنبله في الحشا جراح
ومشرف الصدغ فهو جائر ... سلطانه للدما أباح
فجفنه الفاتك الكناني ... من ثعل (3) راش لي نبال
وهو الخافجي قد غزاني ... ووجهه من بني هلال
عبسيّ لحظٍ له سباني ... جسم زبيديّ بالدلال
والردف يدعى من آل عامر ... وواضح الصّلت من صباح
وخصره من هشيم (4) ضامر ... يدور من حوله وشاح
فوجهه جنّة وكوثر ... رضابه العذب لي حلا
والنار في وجنتيه تسعر ... حيالها خاله (5) اصطلى
عجبت من خاله المعنبر ... إذ يعبد النار كيف لا
__________
(1) المنهل الصافي 1: 350.
(2) المنهل: في القلب.
(3) المنهل: من مقل؛ وثعل: قبيلة مشهورة بالرماية.
(4) المنهل: هتيم.
(5) ق: والخال خيالها.(7/94)
يحرق بالنار وهو كافر ... وما سقى ريقه القراح
كامل حسنٍ معناه وافر ... بسيط وصف كالمسك فاح
ما اخضرّ نبت العذار إلاّ ... بآسه سيّج (1) الشقيق
وهو كنمل سعى وولّى ... ولم يجد للجنى طريق
من ريقة البدر إذ تجلّى ... في هالة العارض الأنيق
لمّا تبدّى بالوجه دائر ... وحيّر العقل حين لاح
شقّ على خدّه المرائر ... وقطّع الأنفس الصّحاح
وربّ يوم أتى وحيّا ... كالشمس والنجم والقمر
بالكأس والراح والمحيّا ... ثلاثة تفتن البشر
وقال قم يا نديم هيّا ... اقض بنا لذة الوطر
فالخمر تجلى على المزاهر ... من اغتباقٍ إلى اصطباح
وطافت الراح بالمجامر ... من عنبر الزهر في البطاح وممّا يطربني من الموشحات قول بعضهم (2) :
ما بي شمول ... إلاّ شجون مزاجها في الكاس دمع هتون
لله ما بذر ... من الدموع
صبّ قد استعبر ... من الولوع
أودى به جؤذر ... يوم الطّلوع (3)
__________
(1) المنهل: يبهج.
(2) هذه الموشحة لابن بقي (دار الطراز: 67) .
(3) دار الطراز: يوم البقيع.(7/95)
فهو قتيل ... لا بل طعينبين الرجا والياس له سنون (1)
جرحت للحين ... كفّي بكفّي
وحيل ما بيني ... وبين إلفي
لا شكّ بالبين ... يكون حتفي
حال الرحيل ... ولي ديونإن ردّها العباس فهو الأمين
أما ترى البدرا ... بدر السّعود
قد اكتسى خضرا ... من البرود
إذا انثنى نضرا ... من القدود
أضحى يقول ... مت يا حزينقد اكتسى بالآس الياسمين
قلت وقد شرّد ... النوم عنّي
وأيأس العوّد ... السّقم منّي
صدّ فلمّا صد ... قرعت سنّي
جسمي نحيل ... لا يستبينيطلبه الجلاّس حيث الأنين
تجاوز الحدّا ... قلبي اشتياقا
وكلف السّهدا ... من لا أطاقا
قلت وقد مدّا ... ليلي رواقا
ليلي طويل ... ولا معينيا قلب بعض الناس أما تلين
__________
(1) دار الراز: منون.(7/96)
الباب السادس
في مصنفاته في الفنون، ومؤلّفاته المحقّقة للواقف عليها الآمال والظنون،
وما كمل منها أو اخترمته دون إتمامه المنون
اعلم أن تصانيف لسان الدين التي علمت نحو الستين، وكلّها في غاية البراعة، بحيث إنّه لم يأت أحد من أهل عصره بمثل ما جاء به، بل وكثير من غير أهل عصره رحمه الله تعالى، وقد وقفت بالمغرب على كثير منها، وفيها أقول مضمناً ببعض تغيير:
تصانيف الوزير ابن الخطيب ... ألذ من الصّبا الغضّ الرّطيب
فأية راحةٍ ونعيم عيشٍ ... توازي كتبه أم أيّ طيب قال رحمه الله تعالى في تعريفه بنفسه آخر " الإحاطة " ما صورته (1) :
التواليف: " التاج المحلي في مساجلة القد المعلى، و [" الكتيبة الكامنة في أدباء المائة الثامنة "] (2) ، و " الإكليل الزاهر فيما فضل عند نظم التاج من الجواهر " ثم " النقاية بعد الكفاية " هذا في نحو القلائد والمطمحين لأبي نصر الفتح بن محمد، و " طرفة العصر في دولة بني نصر " في أسفار ثلاثة، و " بستان الدول " موضوع غريب ما سمع بمثله، قلّ أن شذّ عنه فن من الفنون، يشتمل على شجرات
__________
(1) الإحاطة، الورقة: 312.
(2) سقط ذكر الكتيبة الكامنة من ق، وهو الأصوب لأن المقري سيستدرك من بعد بين الكتب التي لم تذكر قبلا.(7/97)
عشر: أوّلها شجرة السلطان، ثم شجرة الوزارة، ثم شجرة الكتابة، ثم شجرة القضاء والصلاة، ثم شجرة الشرطة والحسبة، ثم شجرة العمل، ثمّ شجرة الجهاد، وهي فرعان: أسطول، وخيول، ثمّ شجرة ما يضطر باب الملك إليه من الأطباء والمنجّمين والبيازرة والبياطرة والفلاحين والندماء والشطرنجيين والشعراء والمغنين، ثمّ شجرة الرعايا، وتقسيم هذا كلّه غريب يرجع إلى شعب، وأصول، وجراثيم، وعمد، وقشر، ولحاء، وغصون، وأوراق، وزهرات مثمرة، وغير مثمرة، مكتوب على كل جزء من هذه الأجزاء بالصبغ اسم الفن المراد به، وبرنامجه صورة بستان، كمل منه نحو من ثلاثين سفراً، ثم قطّع عنه الحادث على الدولة، وديوان شعري في سفرين سميته الصيّب والجهام والماضي والكهام، والنثر في غرض السلطانيات كثير، والكتاب المسمى باليوسفي في صناعة الطب في سفرين كبيرين، كتاب ممتع، وعائد الصلة وصلت به صلة الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير، في سفرين، وكتاب الإحاطة بما تيسر من تاريخ غرناطة كتاب كبير في أسفار تسعة، هذا متصل بآخرها، وتخليص الذهب في اختيار عيون الكتب الدبيات الثلاثة، وجيش التوشيح في سفرين، ومن بعد الانتقال من الأندلس وما وقع من كياد الدولة نفاضة الجراب في علالة الاغتراب موضوع جليل في أربعة أسفار، وكتاب عمل من طبّ لمن حب ومنزلته في الصناعة الطبية بمنزلة كتاب أبي عمرو ابن الحاجب المختصر في الطريقة الفهقية، لا نظير له، ومن الأراجيز المسمّاة رقم الحلل في نظم الدول والأرجوزة المسمّاة بالحلل المرقومة في اللمع المنظومة ألفية من ألف بيت في أصول الفقه (1) ، والأرجوزة المسماة بالمعلومة معارضة للمقدمة المسماة بالمجهولة في العلاج من الرأس إلى القدم
__________
(1) ق: اللغة.(7/98)
إذا أضيفت إلى رجز الرئيس أبي علي كملت بها الصناعة كمالاً لا يشينه نقص، والأرجوزة المسمّاة ب " المعتمدة في الأغذية المفردة " والأرجوزة " في السياسة المدنية "، إلى ما يشذ عن الوصف كالرجز " في عمل الترياق الفاروقي "، و " الكلام على الطاعون المعاصر "، و " الإشارة "، و " قطع السلوك "، و " مثلى الطريقة في ذم الوثيقة " حتى في المويسقى والبيطرة والبيزرة، هذر كثف به الحجاب، ولعب بالنفس الإيجاب، وضاع الزمان ولا تسل بين الرد والقبول والنفي والإيجاب، ولله در القائل - وهو المؤلف (1) -:
والكون أشراك نفوس الورى ... طوبى لنفسٍ حرة فازت
إن لم تحز معرفة الله قد ... أورطها الشيء الذي حازت وكلٌّ ميسرٌ لما خلق له، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ انتهى ما له في آخر " الإحاطة " بحروفه.
قلت: ولنذكر ما تأخّر تأريخه عن الإحاطة أو أشير إليه فيها مجملاً فنقول:
من أشهر تواليفه رحمه الله تعالى كتاب " ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب " في عدة مجلدات، وهو داخل في قوله السابق في الإحاطة: والنثر في غرض السلطانيات كثير؛ وهذا الكتاب قد اشتمل من الإنشاء على كثير في أغراض شتى من مخاطبات الملوك على اختلاف أجناسهم وصدقاتهم وغير ذلك مناحوالهم وأحوال الكبراء ومخاطباتهم حتى ملوك النصارى، وذكر في صدره خطب بعض كتبه، وفي آخره بعض مقاماته وتحليته لأهل عصره، وغير ذلك، وبالجملة فهو كتاب مفرد في بابه.
وقال الأمير الشهير العلامة أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر رحمه الله تعالى في كتابه " نثير فرائد الجمان فيمن نظمني وإيّاه الزمان " ما صورته (2) : لابن الخطيب
__________
(1) وهو المؤلف: زيادة من ق، لم ترد في الإحاطة.
(2) نثير فرائد الجمان: 244 وأزهار الرياض: 189.(7/99)
الأوضاع المصنفات، التي آذان إحسانها هي المقرّطات المشنّفات، منها في التصوف، الذي أكثر أهل الحقائق إليه نظر التشوف روضة التعريف بالحب الشريف؛ انتهى، وسرد غير هذا الكتاب ممّا قدمنا ذكره وغيره.
وهذا الكتاب - أعني روضة التعريف - غريب المنزع، وعارض به ديوان الصبابة لابن أبي حجلة صاحب السكردان، وضمنه من التصوف وعبارات أهله العجب العجاب، وتكلم فيه على طريقة أهل الوحدة المطلقة، وبذلك سجل عليه أعداؤه في نكبته الآخرة التي ذهبت فيها نفسه، ونسبوه إلى مذهب الحلول وغيره، ممّا ذكره يطول حسبما ألمعنا بذلك فيما سبق، وقد جعل هذا الكتاب شجرة ذات أفنان وعمود، مشتمل على القشر والعود، وأوراق، وصورة طائر فوقها، ولم أر في فنّه مثله، جازاه الله تعالى عن نيته؛ فإنّه في الحب الشريف الرباني، مبلغ الناظر فيه غاية أمنيته.
اللمحة البدرية في الدولة النصرية
ومن تواليفه رحمه الله تعالى غير ما سبق اللمحة البدرية في الدولة النصرية
وكتاب السحر والشعر ومعيار الأخبار ومفاضلة مالقة وسلا وخطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف وقد ذكرهما في الرحيانة بنصهما، وجعلهما من جملة ما اشتملت عليه، والمسائل الطبية في مجلد، والكتيبة الكامنة في شعراء المائة الثامنة ورسالة تكوّن الجنين والوصول لحفظ الصحة في الفصول وكتاب الوزارة ومقامة السياسة والغيرة على أهل الحيرة وحمل الجمهور على السّنن المشهور والزبدة المخوضة والرد على أهل الإباحة وسد الذريعة في تفضيل الشريعة وتقرير الشبه وتحرير الشبه واستنزال اللطف الموجود في سر الوجود وأبيات الأبيات فيما اختاره رحمه الله تعالى من مطالع ما له من الشعر، وفتات الخوان ولقط الصوان في سفر يتضمن المقطوعات فقط، وكناسة الدكان بعد انتقال السكان، والدرر الفاخرة واللجج الزاخرة جمع فيه نظم ابن صفوان، وأعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام وما يجر ذلك(7/100)
من شجون الكلام والمباخر الطيبية في المفاخر الخطيبية وخلع الرسن في أمر القاضي ابن الحسن وتدوين شعر شيخه ابن الجياب، وجمع نثر المذكور وسمّاه تافه من جمّ ونقطة من يمّ وشرحه لكتاب نفسه رقم الحلل في نظم الدول؛ فهذا ما حضرني علمه من تواليف لسان الدين رحمه الله تعالى، فأما البيزرة ففي مجلد، وأما البيطرة فكذلك في مجلد جامع لما يرجع إليه من محاسن الخيل وغير ذلك، وأما رجز الأصول فقد شرحه قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون صاحب التاريخ المشهور، وأمّا رقم الحلل في نظم الدول فهو في غاية الحلاوة والعذوبة والجزالة، وقد كنت بالمغرب أحفظ أكثره، فنسيته الآن، وابتدأه بقوله:
الحمد لله الذي لا ينكره ... من سرحت في الكائنات فكره وعلق بحفظي الآن منه قوله في الوليد بن يزيد:
ثمّ الوليد بن يزيد العائث ... قد نقلت من فعله خبائث وفي آخر دولة بني أمية قوله:
وصار قصر الملك من أميّه ... أقفر ربعاً من ديار ميّه وفي الأمين:
باع العلا بشادن وكاس ... وصحبة الشيخ أبي نواس وفي المعتصم:
وهو الذي تألّف الأتراكا ... فنصبوا لقومه الأشراكا ومن أبيات هذا الكتاب قوله:(7/101)
ويفسد الملك بالاحتجاب ... كذاك بالزّهو وبالإعجاب وما أحسن قوله فيه عند ذكر موت بعض الملوك:
وأقفرت من ملكه أوطانه ... سبحان من لا ينقضي سلطانه [معلومات عن كتاب الإحاطة]
وأمّا كتاب الإحاطة فهو الطائر الصيت بالمشرق والمغرب، والمشارقة أشد إعجاباً به من المغاربة، وأكثر لهجاً بذكره، مع قلّته في هذه البلاد المشرقية، وقد اعتنى باختصاره الأديب الشهير البدر البشتكي (1) ، وسمّاه مركز الإحاطة في أدباء غررناطة وهو في مجلدين بخطّه، رأيت الأخير منهما بمصر، وقال في آخره ما نصّه: هذا آخر ما أردت إيراده، وفوّفت أبراده، من كل طرفة وتحفة وفائدة أدبية ونادرة تاريخية، في كتاب الإحاطة بتاريخ غرناطة، ولما كان المعول عليه، والباعث الداعي إليه، ذكر أدبائه، ومآثر علمائه، سميته مركز الإحاطة بأدباء غرناطة والحمد لله أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، علقه لنفسه ثم لمن شاء الله تعالى من بعده الفقير إلى عفو ربّه محمد بن إبراهيم بن محمد البدر البشتكي، لطف الله تعالى به بمنّه وكرمه، مستهل صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ انتهى.
وقد جعل كل أربعة أجزاء من الأصل في مجلّد، إذ هو في مجلدين كما سبق، ونسخة الأصل في ثمانية مجلّدات، فنقص من الأصل ثلاثة أرباع أو نحوها.
ولمّا وقف سلطان الأندلس من كتاب الإحاطة نسخة على بعض مدارس غرناطة كتب ابن عاصم حجة الوقفية بخطّه، ولنثبتها لما فيها من الفوائد، قال
__________
(1) هو محمد بن إبراهيم بن محمد أبو البقاء بدر الدين الأنصاري البشتكي الدمشقي الأصل المتوفي بالقاهرة سنة 830 (انظر الضوء اللامع 6: 277 ومطالع البدور 1: 80) .(7/102)
الأديب الفقيه أبو عبد الله محمد بن الحداد الشهير بالوادي آشي نزيل تلمسان المحروسة: كان على ظهر النسخة الرائقة الجمال، والفائقة الكمال، من الإحاطة بتاريخ غرناطة المحبّسة على المدرسة اليوسفية، من الحضرة العلية، بخط قاضي الجماعة، ومنفذ الأحكام الشرعية المطاعة، صدر البلغاء، وعلم العلماء، ووحيد الكبراء، وأصيل الحسباء، الوزير الرئيس المعظّم أبي يحيى ابن عاصم - رحمة الله تعالى عليه - ما نصّه: الحمد لله الجاعل الاستدلال بالأثر على المؤثر مما سلمه الأعلام، وشهدت به العقول الراجحة والأحلام، وهو الحجّة المعتمدة حين تتفاضل الألباب وتتقاصر الأفهام، وبه الاستمساك إن طرقت الشكوك أو عرضت الأوهام، وحسبك بما يسلم في هذا المقام العالي من الأدلة، وما يعتمد في هذا المجال المتضايق من البراهين المستقلّة، فحقيق أن يتلقى هذا النوع من الاستدلال فيما دون الفن المشار إليه بالقبول، ويستنبل المهتدي لاستنباطه لما فيه من التبادر للأفهام والتسابق للعقول، وإذا ثبت أن المستدل بهذه الأدلّة سالك على سواء سبيل، ومنتمٍ من صحة النظر إلى أكرم قبيل، فلا خفاء أن كتاب الإحاطة للشيخ الرئيس ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - من أثر هذه الدولة النّصرية أدامها الله تعالى بكل اعتبار، ومآثرها التي هي عبرة لأولي الألباب وذكرى لذوي الأبصار، أما الأول فلأن الأنباء التي أظهرت بهجتها، وأوضحت حجّتها، وشرفت مقصدها، وكرمت مصعدها، إنّما هي مناقب ملوكها الكرام، ومكارم خلفائها الأعلام، أو أخبار من اشتملت عليه دولتهم الشريفة من صدور حملة السيوف والأقلام، وأفذاذ حفظة الدّين والدنيا، والشرف والعليا، والملك والإسلام، أو ما يرجع إلى مفاخر حضرة الملك، وينتظم نظم الجمان في ذلك السلك، من حصانة قلعتها، وأصالة منعتها، وقديم اختطاطها، وكريم جهادها ورباطها، وحسن ترتيبها ووضعها، وما اشتمل عليه من مقاصد الأنس آهل ربعها، وما سوى هذه الأقسام الثلاثة فمن قبيل القليل، وممّا يرجع إلى شرف الحضرة ممّن انتابها(7/103)
من أهل الفضل الواضح والمجد الأثيل، وأما ثانياً فإن راسم آياتها المتلوة، ومبدع محاسنها المجلوة، وناقل صورتها من الفعل إلى القوّة، إنّما هو حسنة من حسنات هذه الدولة النّصرية الكريمة، ونشأة من نشآت جودها الشامل النعمة الهامل الدّيمة، فما ظهر عليه من كمالات الأوصاف، على الإنصاف، فأخلاف هذه المكارم النصرية أرضعته، وعناياتها الجميلة أسمته فوق الكواكب ورفعته، وإليها ينسب إحسانه إن انتسب، ومن كريم تشريفها اكتسب، والحضرة هي منشؤه الذي عظم فيه قدره، بل أفقه الذي أشرق فيه بدره، والتشريفات السلطانية التي فتقت اللها باللها، وأحلّت من مراقي العز فوق السها، وأمكنت الأيدي من الذخائر والأعلاق، وطوّقت المنن كالقلائد في الأعناق، وقلدت الرياسة والأقلام أقلام، وثنت الوزارة والأعلام أعلام، فبهرت أنواع المحاسن، وورد معين البلاغة غير المطروق (1) ولا الآسن، وبرعت التواليف في الفنون المتعدّدة، وشاترهت التصانيف ومنها هذا التصنيف المشار إليه لما له من الأذمة المتأكّدة، إذ أظهر هذا الاستدلال، وأوضح البيان ما كتمه الإجمال، فلنفصح الآن بما قصد، ولنحقق من أنجم السعادة ما رصد، وذلك أن لمولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، الغالب بالله المؤيد بنصره أبي عبد الله محمد ابن الخلفاء النصريين، أيده الله ونصره، وسنّى له الفتح المبين ويسره، مآثر لم يسبق إليهها، ومكارم لم يجر أحد ممّن وسم بالكرم عليها، لجلالة قدرها، وضخامة أمرها، من ذلك هذا المقصد الذي أثر لها كالكتاب المذكور وسواه، ممّا هو واحد في فنّه وفذ في معناه، عقد في جميعها التحبيس على أهل العلم والطلبة بحضرته العليا هنالك ليشمل به الإمتاع، ويعم به الانتفاع، والله تعالى ينفع بهذا القصد الكريم، ويتولى المثوبة على هذا العقد الجسيم، وهذه النسخة في اثني عشر سفراً متفقة الخط والعمل، اكتتب هذا
__________
(1) المطروق: الماء الذي بالت فيه الدواب.(7/104)
على ظهر الأول منها، وبتاريخ رجب الفرد من عام تسعة وعشرين وثمانمائة، عرف الله تعالى بركته بمنّه؛ انتهى.
وكان لسان الدين ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - أرسل في حياته نسخة من الإحاطة إلى مصر، ووقفها على أهل العلم، وجعل مقرها بخانقاه سعيد السعداء، وقد رأيت منها المجلّد الرابع، وهذا نص وقفيته: الحمد لله وحده، وقف الفقير إلى رحمة الله تعالى الشيخ أبو عمرو ابن عبد الله بن الحاج الأندلسي - نفع الله تعالى به - عن موكّله مصنّفه الشيخ الإمام العلامة بركة الأندلس لسان الدين أبي عبد الله محمد ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن الخطيب الأندلسي السّلماني - فسح الله تعالى في مدّته، وفتح لنا وله أبواب رحمته، ومنحنا وإيّاه من رفده وعطيته، وأسكننا وإيّاه أعالي جنّته - جميع هذا الكتاب تاريخ غرناطة، وهو ثمانية أجزاء، هذا رابعها، عن مصنّفه المذكور بمقتضى التفويض الذي أحضره، وهو أنّه فوّض إليه النيابة عنه في جميع أموره المالية كلّها، وشؤونه جميعها، والنظر في أ؛ واله على اختلافها وتباين أجناسها، تفويضاً تاماً على العموم والإطلاق، والشمول والاستغراق، لم يستثن شيئاً ممّا تجوز النيابة فيه إلاّ أسنده إليه، وهو ثابت على سيّدنا ومولانا قاضي القضاة يومئذ بثغر الإسكندرية المحروس أدام الله تعالى أيامه كمال الدين خالصة أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن الربعي المالكي ثبوته مؤرخ بثالث ذي الحجّة عام سبعة وستين وسبعمائة، وقفاً شرعيّاً على جميع المسلمين ينتفعون به قراءة ونسخاً ومطالعة، وجعل مقرّه بالخانقاه الصالحية (1) سعيد السعداء، رحم الله تعالى واقفها، وجعل النظر في ذلك للشيخ العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن حجلة، حرسه الله تعالى، ثم من بعده لناظر أوقاف الخانقاه المذكورة، فلا يحل لأحد، يؤمن بالله العظيم، ويعلم أنّه صائر إلى ربّه الكريم، أن يبطله ولا شيئاً منه،
__________
(1) ق: الصلاحية.(7/105)
ولا يبدله ولا شيئاً منه، فمن فعل ذلك أو أعان عليه فإنّما إثمه على الذين يبدلونه، إن الله سميع عليم، ومن أعان على إبقائه على حكم الوقف المذكور جعله الله تعالى من الفائزين المطمئنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأشهد الواقف الوكيل عليه في ذلك في الثاني والعشرين لشهر الله تعالى المحرم عام ثمانية وستين وسبعمائة؛ انتهى.
وقد رأيت بظهر أول ورقة من هذه النسخة خطوط جماعة من العلماء، فمن ذلك ما كتبه الحافظ المقريزي المؤرخ، ونصّه: انتقى منه داعياً لمؤلّفه أحمد ابن علي المقريزي في شهر ربيع سنة ثمان وثمانمائة:
وما رقمه الحافظ السيوطي ونصّه: الحمد لله وحده، طالعته على طبقات النحاة واللغويين، وكتبه عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي سنة ثمان وستين وثمانمائة؛ انتهى.
وبعد هذين ما صورته: انتقى منه داعياً لمؤلّفه محمد بن محمد القوصوني سنة أربع وخمسين وتسعمائة.
وبعده ما صورته: أنهاه نظراً وانتقاء علي الحموي الحنفي، لطف الله به.
وبخط مولانا العارف الرباني علامة الزمان وبركة الأوان سيدي الشيخ محمد البكري الصديقي ما نصّه: طالعته مبتهجاً برياضه المونقة، وأزهار معانيه المشرقة، مرتقياً في درج كلماته العذاب سماء الاقتباس، مقتنياً من لطائفه درراً وجواهر بل أحاشيها بذلك القياس، كتبه محمد الصديقي غفر الله له؛ انتهى.
ورأيت بهامش هذه النسخة كتابة جماعة من أهل المشرق والمغرب كابن دقماق والحافظ ابن حجر وغيرهما من أهل مصر، ومن المغاربة ابن المؤلف أبي الحسن علي ابن الخطيب، والخطيب الكبير سيدي أبي عبد الله ابن مرزوق، والعلامة أبي الفضل ابن الإمام التلمساني، والنحوي الراعي، والشيخ الفهامة الشهير يحيى العجيسي شارح الألفية وصاحب التآليف، وغير هؤلاء ممّن يطول(7/106)
تعدادهم، رحم الله تعالى جميعهم.
وقد أشار ابن الأحمر حفيد الغني بالله تعالى الذي كان ابن الخطيب وزيراً له ثم انفصل عنه حسبما تقدّم إلى ما يتعلّق بكتاب الإحاطة في جملة كلام نصّه: وتلقينا ممّن نثق به أن الكاتب المجيد الأصيل حسباً، البارع أدباً، أبا عبد الله ابن جزي وفد على السلطان أبي عنان صاحب المغرب في حدود عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، فأكرم جنابه، وكمل من تقريبه واصطناعه آرابه، فانتدب إلى ذكر وطنه الأندلسي، وصاح بمن عذله:
أيا ويح الشجيّ من الخلي ... وبرع غاية البراعة في التاريخ الذي جمعه، ورفع راية البلاغة لما كلف به ووضعه، فلم يكن شيء من الكلام إلاّ قال الإحسان وأنا معه، استوعب ما شاء، وأبدع في كل ما نقل سواء كان شعراً أو إنشاء، لكن سابق أجله منع من الإمتاع بمجمله ومفصّله، وجاءت الحادثة العظمى من وفاة مولانا والد جدّنا أمير المسلمين أبي الحجاج في غرّة شوّال من عام خمسة وخمسين وسبعمائة فعين لتعريف صاحب المغرب بالكائنة خاص الدولة ورئيس الجملة أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن الخطيب، فوقف من تاريخ ابن جزي على شاطىء نهر فياض، وانتشق من ورقاته أزاهر رياض، وحمله النظر في بدائعه على أن يأخذ في جمع كتابه المسمى بالإحاطة فيما تيسّر من تاريخ غرناطة ووجد لذلك موجباً أغراه بجمعه، وهو أن الشيخ الحجّة الشاعر المفلق أبا إسحاق ابن الحاج وفد على الأندلس بعد جوبه في الآفاق، وترحله إلى ما وراء الشام والعراق، وإعلامه أنّه يذهب في بدأة تاريخ مذهب ابن جزي وغيره، وكان وحيداً في فنون الآداب، والمساجلة لأعلام الكتّاب، وبحكم الاتفاق على أثر وصول ابن الخطيب من الرسالة للسلطان أبي عنان وجد الحاجب الخطير أبا(7/107)
النعيم رضوان قد استولى على وظيفة الحجابة والرياسة وأقنعه بالاسم من ذلك المسمى، وبأن وقفه دون طموحه إلى عادته من المرقب الأسمى، فأنتج الانتباذ من تلك الرياسة الخطيبية أن ألفى الخطبة على جلالة مقدارها، وتوضّح أنوارها، في مرتقى إجلالها وإكبارها، وأخذ في تأليف الإحاطة مستدعياً تصحيح الموالد والوفيات، والأسماء والمسميات، ومستكثراً من طرف المصنّفات، ليتم قصده من الإطناب، ونقله العيون الرائقة من كلّ كتاب، وألقى جميع مقاصده، والمعظم من تنظيم فرائده، بيد الشيخ العمدة معلم الجملة منا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم أبي عبد الله الشريشي، قدس الله تعالى ضريحه، وهذا الشيخ الذي لم يجاوز سنّ الكهولة في ذلك الوقت هو الذي تولى من المبيضات نقله، وأحكم جنسه وفصله، وانختم على مجلدات ستة. ولما عاد ابن الخطيب إلى الأندلس بعودة جدنا الغني بالله تعالى إلى ملكه عام ثلاثة وستين وسبعمائة تلاحقت الفروع من كتاب الإحاطة بالأصول، وأنجز من التبحر فيه الوعد الممطول، ووضعت بخانقاه سعيد السعداء نسخته المتمّمة من اثني عشر سفراً؛ انتهى كلامه.
وقد علمت أن المكتوب في الوقفيّة كما مر ثمانية مجلدات، لا اثنا عشر، فلعل ذلك الاختلاف بسبب الكبر والصغر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والكاتب أبو عبد الله ابن جزي الذي أشار إليه قد عرّفنا به فيما سبق فليراجع.
[ترجمة ابن الحاج النميري]
وأمّا العلامة ابن الحاج، فهو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم ابن محمد بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم بن عبد العزيز بن إسحاق بن أحمد بن أسد بن قاسم الكاتب القاضي النميري، ويعرف بابن الحاج الغرناطي، قال(7/108)
في الإحاطة (1) : نشأ على عفاف وطهارة، وبر وصيانة، وبلغ الغاية في جودة الخط، وارتسم في كتّاب الإنشاء عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، مع حسن سمت، وجودة أدب وخط، وظهور كفاية، يقيد ولا يفتر (2) ، ويروي الحديث مع الطهارة والنزاهة، مليح الدعابة، طيب الفكاهة، شرق وحج وتطوف وقيد واستكثر ودون رحلة سفره، وناهيك بها طرفة، وقفل لإفريقية، وخدم بعض ملوكها، وكتب ببجاية، ثم خدم سلطان المغرب أبا الحسن، ثم كتب عن صاحب بجاية، ثم تنزه عن الخدمة، وانقطع بتربة الشيخ أبي مدين مؤثر الخمول، ذاهباً مذهب العكوف بباب الله تعالى، حجّة على أهل الحرص والتهافت، ثم جبر على الخدمة عند أبي عنان، ثم أفلت عند موته فلحق بالأندلس، وتلقّيَ ببرّ وتنويه وعناية، وولي القضاء بقرب الحضرة، وهو الآن من صدور القطر وأعيانه، متوسط الاكتهال، روى عن مشيخة بلده واستكثر، وأخذ في رحلته عن ناس شتى، وألف تواليف منها إيقاظ الكرام بأخبار المنام وجزء في بيان الاسم الأعظم كثير الفائدة، ونزهة الحدق في ذكر الفرق وكتاب اللباس والصحبة في جمع طرق المتصوفة المدعي أنّه لم يجمع مثله، وجزء في الفرائض على الطريقة البديعة التي ظهرت بالمشرق، وجزء في الأحكام الشرعية سمّاه بالفصول المقتضبة في الأحكام المنتخبة ورجز في الجدل، ورجز صغير في الحجب والسلاح، ورجز صغير سمّاه بمثالث القوانين في التورية والاستخدام والتضمين، مولده بغرناطة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وامتحن بالأسر مع جماعة بعد قتال عام ثمانية وستين، ثمّ فكّه الله تعالى؛ انتهى ملخصاً.
وأخذ عنه جماعة كالقاضي أبي بكر ابن عاصم صاحب التحفة وغيره، وهو من الأدباء المكثرين، وكان عندي بالمغرب مجلد من رحلته التي بخطّه،
__________
(1) الإحاطة 1: 193 والمقري ينقل ملخصاً.
(2) الإحاطة: وهو في أثناء هذه الحال يقيد ولا يفتر.(7/109)
وقد أتى فيه بالعجب العجاب، وتمهر في الحديث على طريقة أهل المشرق، لأنّه لقي جماعة من الحفاظ كالذهبي والبرزالي والمزي، وناهيك بالثلاثة، وغيرهم ممّن يطول تعداده، وله النظم الرائق، العذب الجامع بين جزالة المغاربة ورقة المشارقة، كما ستراه، فمن نظمه يمدح الحافظ جمال الدين يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي، وقد أبصره على أسرّة دار الحديث الأشرفية بدمشق:
جمال الدين للإقراء يعلو ... أسرّته إذا اصطفّ الرجال
فمذ جليت محاسنه بدا لي ... محيّا في أسرّته الجمال ضمن قول المعرّي (1) :
أهلّ فبشّر الأهلين منه ... محيّا في أسرّته الجمال وقوله في الحافظ علم الدين أبي القاسم محمد بن يوسف البرزالي:
نوى النّوى علم الدين الرضى فأنا ... من بعد فرقته بالشام ذو ألم
فلا تلمني على حبي دمشق فقد ... أصبحت فيها زماناً صاحب العلم وقال فيه أيضاً:
نوى النوى علم الدين الرضى فذكت ... نار اشتياقي حتى اشتعظموا ألمي
فقلت: إنّي من قوم شعارهم ... جود، فلا تنكروا ناري على العلم وقال في الحافظ شمس الدين الذهبي:
رحلت نحو دمشق الشام مبتغياً ... رواية عن ذوي الأحلام والأدب
ففزت في كتب الآثار حين غدت ... تروى بسلسلة عظمى من الذهب
__________
(1) شروح السقط: 1717.(7/110)
وقال في الحافظ المزي أيضاً:
جمال الدين أضحى في دمشق ... إماماً نحوه طال الذميل
فلم أعدم بمنزله جميلاً ... فحيث هو الجمال هو الجميل وقال حين بدوره على الأمير الصالح المحدّث الجليل قطب الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن الملك المجاهد سيف الدين إسحاق ابن السلطان الملك الرحيم بدر الدين بن لؤلؤ بن عبد الله النوري صاحب الموصل ليروي عنه:
إلى قصد قطب الدين وافيت عندما ... أقمت على الترحال في الشرق والغرب
وأصبحت كالأفلاك في السير والسّرى ... فها أنا في مصر أدور على القطب وقال في قاضي القضاة العالم الشهير صاحب التفسير عماد الدين الكندي، وهو ممّن أخذ عنه بثغر الإسكندرية:
ولمّا اختبرت ذوات الورى ... تعجّبت من حسن ذات العماد
فتلك التي لم أكن مبصرا ... مدى عمري مثلها في البلاد وقال في القاضي وجيه الدين يحيى بن محمد الصنهاجي:
أضحى وجيه الدين أسبق سابق ... في العلم والعلياء والخلق النبيه
عجب الورى من سبقه وتعجبوا ... فأجبتهم لا تنكروا سبق الوجيه ومن بديع نظمه رحمه الله تعالى قوله:
قد قارب العشرين ظبي لم يكن ... ليرى الورى عن حبّه سلوانا
وبدا الربيع بخدّه فكأنّما ... وافى الربيع ينادم النّعمانا وقوله:
وعارض في خدّه نباته ... بحسنه بين الورى يسحرنا
أجرى دموعي إذ جرى شوقاً له ... فقلت {هذا عارضٌ ممطرنا}(7/111)
وقال وقد توفّي أبو يحيى أبو بكر صاحب تونس وولي ابنه أبو حفص عمر بعد قتله لإخوته:
وقالوا أبو حفصٍ حوى الملك غاصباً ... وإخوته أولى وقد جاء بالنّكر
فقلت لهم كفّوا فما رضي الورى ... سوى عمر من بعد موت أبي بكر وقال:
أتوني فعابوا من أحبّ جماله ... وذاك على سمع المحبّ خفيف
فما فيه عيب غير أنّ جفونه ... مراضٌ، وأنّ الخصر منه ضعيف وقال (1) :
أيا عجباً كيف تهوي الملوك ... محلّي وموطن أهلي وناسي
وتحسدني وهي مخدومة ... وما أنا إلاّ خديم بفاس وقال:
لي المدح يروى منذ كنت كأنّما ... تصوّرت مدحاً للورى وثناء
وما لي هجاء فاعجبنّ لشاعرٍ ... وكاتب سرٍّ لا يقيم هجاء وقال في حقّه القاضي أبو البقاء خالد البلوي (2) : نقلت من خط سيدي ورفيقي وصديقي إمام المسلمين، برهان الدين، أبي إسحاق ابن إبراهيم بن عبد الله بن الحاج وأكثره ممّا كان أنشدنيه قديماً من نظمه في التورية قوله:
ومهاةٍ تقول إن هي كلّت ... ودعا للمزاح خلٌّ ممازج
__________
(1) انظر أيضاً تاج المفرق، الورقة: 221.
(2) عندما عاد البلوي من رحلته ووصل قسنطينة (سنة 740) نزل عند صديقه ابن الحاج تاج المفرق، الورقة: 209) .(7/112)
وازر الردف إنّ في الأزر مني ... رمل يبرين يا طبيب وعالج وقوله:
وروض ممحل جدب المراعي ... سريع القيظ وقداً والتهابا
حكى ابن أبي ربيعة لا شجوناً ... ولكن كونه يهوى الرباب وقوله:
وظبي طرّ عارضه وأعفى ... عذاراً بعد يزهو باخضرار
رأى سقماً بمقلته فوافى ... بآسٍ عاد لكن من عذار وقوله:
أتوني بنمامٍ من الروض يانعٍ ... سقته الغوادي كلّ أسجم مدرار
فلا غرو إن أصليته نار زفرتي ... وحكم على النمام الإلقاء في النار وقوله:
هذه الشمس بالحجاب توارت ... بعد نورٍ لها ورحبٍ وبشر
وأتى اللّيل بالنسيم عليلاً ... فهو يمشي من أفقه لابن زهر يعني بذلك الوزير الكبير الشهير الطبيب ابن زهر الإشبيلي الأندلسي، فإنّه كان وحيد دهره في الطب، فجاءت التورية بسبب ذلك محكمة إلى الغاية.
وقال أبو إسحاق النميري المذكور:
أيا ضوء الصباح ارفق بصبٍ ... تسيل دموعه في الخدّ سيلا
وكنت بليلة ليلاء طالت ... فها أنا في الورى مجنون ليلا (1)
__________
(1) كتبناها هكذا لتناسب التورية في " ليلاء ".(7/113)
وقال يخاطب شيخه سيف الدين:
لمولاي سيف الدين في الفقه بيننا ... مقام اجتهاد ليس يلحقه الحيف
فتقليده فرض على أهل عصرنا ... ولا عجب عندي إذا قلّد السيف وقال:
رعى الله معطار النّسيم فإنّه ... رأى من غصون البان ما شاء من عطف
وأبدى حديث الغيث وهو مسلسلٌ ... لذاك لعمري ليس يخلو من الضعف وترشحت التورية بكون المحدثين يقولون الحديث المسلسل لا يخلو من الضعف، ولو في التزام التسلسل، مع كون متن الحديث صحيحاً كما قرر في محله.
وقال رحمه الله تعالى:
نظرت إلى روض الجمال بوجهه ... وسقيّته دمعاً به العين تكلف
فصحّ حديث الحسن عن ورد خدّها ... وإن كان أضحى وهو راوٍ مضعف وقال رحمه الله تعالى:
بدا عارض المحبوب فاحمرّ خجلةً ... وأهدى لنا ورداً به الحسن ناهض
فقلت له لا تنكر الورد ناضراً ... فقد سال في خدّيك من قبل عارض وقال:
النوم عن إنسان عيني نافرٌ ... كالوحش ليس يقاربُ الإنسانا
والدمع منها فاض طوفاناً فلا ... عجبٌ إذا ما غرّق الأجفانا وقال رحمه الله تعالى:(7/114)
بكت شجناً ففاض الدمع يحكي ... يتامى الدرّ إذ يهوي تؤاما
وسلّت من محاجرها سيوفاً ... فخفت على المحاجر واليتامى وقال القاضي خالد البلوي رحمه الله تعالى: من نظم صاحبنا أبي إسحاق ابن الحاج النميري يخاطب شيخه وشيخنا أيضاً صاحب ديوان الإنساء الإمام جمال الدين إبراهيم ابن الإمام العلامة صاحب ديوان الإنشاء ملك الكلام قس الفصاحة شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي، وقد تقرب إليه في قصد الرواية عنه:
إلى ابن شهاب الدين طال تغرّبي ... فلمّا سرت عيسي له وركابي
رويت حديث الفضل عنه فصحّ لي ... كما شئت مرويّاً عن ابن شهاب وقوله يخاطب كمال الدين بن جمال الدين المذكور:
أشبهت والدك الرضى في فضله ... وأخذته عنه بخير مناب
وملكتني فحديث فضلك في الورى ... عن مالكٍ يروى عن ابن شهاب وقال رحمه الله تعالى:
لعمرك ما ثغره باسمٌ ... ولكنّه حببٌ لاعب
ولو لم يكن ريقه مسكراً ... لما دار من حوله الشارب وقال رحمه الله تعالى ملغزاً في القلم:
سألتك ما واشٍ يراد حديثه ... ويهوى الغريب النازح الدار إفصاحه
تراه مدى الأيّام أصفر ناحلاً ... كمثل عليلٍ وهو قد لازم الراحه وقال وقد وقف حاجب السلطان على عين ماء ببعض الثغور وشرب منها:
تعجبت من ثغر هذي البلاد ... ومولاي من عينها شارب
فلله ثغر أرى شارباً ... وعين بدا فوقها حاجب(7/115)
وقال:
وحمراء في الكأس مشمولة ... تحثّ على العود في كلّ بيت
فلا غرو أن جاءني سابقاً ... إلى الأنس خلٌّ يحثّ الكميت وقال:
بروضتنا الظّمياء طال اكتئابنا ... فلله غيثٌ ميت آمالنا أحيا
وأشبه مهياراً فها تلك عينه ... تفيض إذا شام البروق على ظميا وقال:
اثنان عزّا فلم يظفر بنيلهما ... وأعوزا من هما في الدهر مطلبه
أخ مودته في الله صادقة ... ودرهمٌ من حلالٍ طاب مكسبه وقال مورياً بالقائد نافع على ما اختاره البخاري وجماعة أن أصح الأسانيد مالك عن نافع:
عن نافع أسند حديث أحبتي ... يا مالكاً رقّي بحسن صنائع
فأجلّ إسنادٍ وخير روايةٍ ... عندي رواية مالكٍ عن نافعِ وقال:
إنّي لأعجب من فعالك في الهوى ... لمّا حللت بحسن ذاتك ذاتي
ونفيت نومي ثم أثبتّ الأسى ... فجمعت بين النفي والإثبات وقال:
ألا معصمٌ للصبّ من وشي معصم ... أطلت إليه نظرة المتوسّم
فأبقت به عيني حُلىً من سوادها ... وبعض سوادٍ وسط قلبي المتيّم(7/116)
وليس خضاباً ما علاه، وإنّما ... جرى فيه بعد الدمع ما عزّ من دمي
ولم يعد منّي اللون لون سواده ... خلا أنّني أشقى وقيل له: انعم وقال وقد جاء الشاعر المفلق أبو العباس أحمد بن عبد المنّان بيت الكتاب وفي عينه خضرة:
أيا أحمد المرتضى للعلا ... ومن حاز في صنعه كلّ زين
تراءيت في العلم روضاً نضيراً ... فلا تنكرن خضرةً حول عين وله فيه:
لك الخير عدم السبك أبدل ناظري ... زمردةً مخضرةً من لجينه
فلا تنكروا ما راع من ذاك إنني ... لصائغ تبر القول ناقد شينه
ولا عجب إن أعوز السبك صائغاً ... فأوجب عدم السبك خضرة عينه وقال فيمن يعرف بالصهّال:
ألا ربّ فرسان توافوا فأدركوا ... مع الليل أوتاراً لهم دون إمهال
وأجروا بصهّالٍ كميتاً كما ابتغوا ... فلا تنكروا الإجراء منهم بصهّال ولما كتب الرئيس الكاتب الجليل أبو عبد الله العزفي مداعباً:
يا عصبةً كل فتى منهم علم ... فرغتم من كتبكم ردّوا القلم أجابه ابن الحاج المذكور بقوله:
ألا احتسبوا ما قد أعرتم لفتية ... تركّمكم بالصفح عن فعلهم قاضي
ولا تطمعوا في الردّ فالناس كلّهم ... رأوا أنّ مولانا له القلم الماضي وقال الوادي آشي: نقلت من خط الكاتب العلامة الصدر البارع الحاج(7/117)
القاضي الناظم الناثر الجامع للمحاسن والمفاخر أبي إسحاق إبراهيم بن الحاج النميري ما نصّه: كتب إليّ الفاضل النخبة أبو الفضل ابن رضوان متمثلاً بقول المأمون:
ملك الثلاثُ الآنساتُ عناني ... فكتبت إليه في التورية:
هنيئاً لك البشرى بهنّ فدم كما ... تريد بنعمى للسعادة جامعه
وإن كنت من أهل الصلاح فلا تكن ... بمائل قلب منك عن حبّ رابعه فأجابني بقوله:
يا سيدي ذكّرتني بالرابعه ... لعلّها لكلّ خيرٍ جامعه
إنّي أخاف أن تكون باقعه ... فتفرك المغازل المطاوعه ولابن الحاج المذكور من قصيدة طويلة:
لمن الخيام سطت ببيض صفاح ... وارت سواداً غال كلّ صباح
إن مزقت رقعت بنقع كتائب ... أو قوضت عمدت بسمر رماح وله في رثاء الطبيب ابن عمار، واقترح عليه ذلك ابن جزي:
ألا أسعدا عيني على السهد والبكا ... فقد واصل السهد المبرح تذكاري
وأبدى الردى فتك ابن عباد اذ سطا ... فلا غرو أن أبكي لفقد ابن عمّار وقال ممّا يكتب في الترس:
أنا الترس قد أنشأت بالأمر عدّة ... ليوم جهاد مطلع غرّة النصر(7/118)
فلاقوا بي الأعداء في زحفهم ولا ... تبالوا بقرع الزرق والبيض والسمر
ولا تنكروا ستري لمقتل حاملي ... ففي اسمي كما شاهدتم أحرف الستر وله يهني السلطان أبا عنان أمير المؤمنين المريني بالإبلال من المرض:
مطالب إلا أنّهنّ مواهب ... قضى الله أن تقضى، فنعم المطالب
شفاء أمير المؤمنين وإنّه ... لأكرم من تحدى إليه الركائب
وكم قلت غاب البدر والشمس ضلةً ... ورانت على قلبي الهموم النواصب
ولم يغبا لكن شكا الضرّ فارس ... وأوحش منه مجلس الملك غائب
لك الله يا خير الملوك وخير من ... تحن له حتى العتاق الشوازب
وقل لمن وافى بشيراً نفوسنا ... فما هي إلا بعض ما أنت واهب
أقول لجرد الخيل قبّاً بطونها ... معقدة منها لحرب سباسب
طوالع من تحت العجاج كأنّها ... نعامٌ بكثبان الصّريم خواضب
محجّلة غرّاً كأنّ رعالها ... بحارٌ جرت فيها الصّبا والجنائب
من الأعوجيّات الصّوافن ترتمي ... إذا رجفت يوم القراع مقانب
هنيئاً فقد صحّ الإمام الذي به ... تفلّ السيوف المرهفات القواضب
ومستأصل الفلّ المغذ جياده ... لضرب كما ترغو الفحول الضوارب
ومن حطّم السمر الطوال كعوبها ... بطعن كما امتاح الركيّة شارب
وكرّ على أرض العدا بفوارسٍ ... كأنّهم في الحرب أسد غوالب
كأنّ رماح الخطّ أحسابهم، وما ... حوت من نفوس المعتدين مناقب
هم ما هم، حدّث عن البحر أو بني ... مرين فنهج القول أبلج لاحب
من البيت شادت قيس عيلان فخره ... فطالت معاليه وطابت مناسب
وأحيا له ملك الخليفة فارس ... مآثر غالتها اللّيالي الذواهب(7/119)
كريم فلا الحادي النجائب مخفق ... لديه، ولا المنضي الركائب خائب
أرى بذله النعمى ففضّت مكاسب ... أرى بأسه الأنضى ففضّت كتائب
أنامله يروي الورى صوب جودها ... فلولا دوام الرأي قلت السحائب
وكم خلت برقاً في الدجى نور بشره ... تشيم سناه الناجيات النّجائب
فأخجلني أنّي أرى البرق خلّباً ... فلا الصوب هام لا ولا الجود ساكب
أعرني أيمر المؤمنين بلاغة ... فإنّي عن عجز لمدحك هائب
وأنطق لساني بالبيان معلّماً ... فإنّي في التعليم للجود راغب
وكيف ترى لي بعد في الجود رغبة ... وجودك لي فوق الذي أنا طالب
وقد شبّت الآمال إذا شبت ثم إذ ... تفقدتها لم يدر ما شبّ شائب
بلغت بك الآمال حتى كأنّها ... وقد صدقت ما شئت صدقاً كواذب
عجبت وما تولي، وأوليت معجباً ... فلا برحت تنمو لديك العجائب
وحسبي دعاء لو سكت كفيته ... كما قيل لكن في الدعاء مذاهب
وما أنا إلاّ عبدك المخلص الذي ... يراقب في إخلاصه ما يراقب
فخذها تبث العذر لا المدح؛ إنّه ... هو البحر قل هل يجمع البحر حاسب
بقيت بقاء الدهر ملكك قاهر ... وسيبك فيّاض، وسيفك غالب
وعوفيت من ضرّ وأعطيت أجره ... ولا روّعت إلا عداك النوائب وقال رحمه الله تعالى:
ولولا ثلاث جاء جبريل سائلاً ... لخير الورى عنها لآثرت فقداني
مقامات إسلام أزيد بفعله ... ثواباً وإيمانٌ أديم وإحساني وقال رحمه الله تعالى: أنشدني السلطان أمير المؤمنين أبو عنان فارس ابن أمير المسلمين أبي الحسن المريني رحمهما الله تعالى لنفسه:(7/120)
يا ملمّاً بأرض تلك البلاد ... حيّ فاساً وحيّ أهل الوداد
إن تناءت بشخصها عن عياني ... فحماها مصوّرٌ في فؤادي [قصائد في مدح تلمسان وفاس]
قلت: تذكرت بهذا البحر والروي والغرض قول الفقيه الكاتب العلامة الناظم الناثر أبي عبد الله محمد بن يوسف الثغري كاتب سلطان تلمسان أمير المسلمين أبي حمّو موسى بن يوسف الزياني يمدحه ويذكر تلمسان المحروسة:
أيّها الحافظون عهد الوداد ... جدّدوا أنسنا بباب الجياد
وصلوها أصلائلاً بليالٍ ... كلآل نظمن في الأجياد
في رياضٍ منضدات المجاني ... بين تلك الربى وتلك الوهاد
وبروج مشيدات المباني ... باديات السنا كشهب بواد
رقّ فيها النسيب مثل نسيبي ... وصفا النهر مثل صفو ودادي
وزها الزهر والغصون تثنّت ... وتغنّت عليه ورق شواد
وانبرى كل جدول كحسام ... عاري الغمد سندسيّ النّجاد
وظلال الغصون تكتب فيه ... أحرفاً سطّرت بغير مداد
تذكر الوشم في معاصم خودٍ ... نصبت فوقه ذوات امتداد
وكؤوس المنى تدار علينا ... بجنى عفّةٍ ونقل اعتقاد
واصفرار الأصيل فيها مدامٌ ... وصفير الطيور نغمة شاد
كم غدونا بها لأنس ورحنا ... جادها رائح من المزن غاد
رقّت الشمس في عشاياه حتى ... أحدثت منه رقةً في الجماد
جدّدت بالغروب شجو غريبٍ ... هاجه الشوق بعد طول البعاد(7/121)
يا حيا الزمن حيّها من بلادٍ ... غرس الحب غرسها في فؤادي
وتعاهد معاهد الأنس منها ... وعهود الصبا بصوب العهاد
حيث مغنى الهوى، وملهى الغواني ... ومراد المنى، ونيل المراد
ومقرّ العلا، ومرقى الأماني ... ومجرّ القنا، ومجرى الجياد
كل حسن على تلمسان وقف ... وخصوصاً على ربى العبّاد
وسما تاجها على كل تاجٍ ... ونما وهدها على كلّ ناد
يدّعي غيرها الجمال فيقضي ... حسنها أنّ تلك دعوى زياد
بشعري فهمت معنى علاها ... من حلاها فهمت في كلّ وادي
حضرة زانها الخليفة موسى ... زينة الحلي عاطل الأجياد
وحباها بكلّ بذل وعدل ... وحماها من كلّ باغ وعاد
ملك جاوز المدى في المعالي ... فالنهايات عنده كالمبادي
معقل للهدى منيع النواحي ... مظهر للعلا رفيع العماد
قاتل المحل والأعادي ... جميعاً بغرار الظبى وغرّ الأيادي
كلّما ضنّت السحائب أغنت ... راحتاه عن السحاب الغوادي
كم هباتٍ له وكم صدقاتٍ ... عائدات على العفاة بواد
فأيادي خليفة الله موسى ... أبحرٌ عذبة على الورّاد
ركّب الجود في بسيط يديه ... فتلافى به تلاف العباد
جلّ باريه ملجأ للبرايا ... كالحيا ضامناً حياة البلاد
جلّ من خصّه بتلك المزايا ... باهرات من طارف وتلاد
شيم حلوة الجنى وسجايا ... شهد المجد أنها كالشّهاد
يا إمام الهدى (1) وشمس المعالي ... وغمام الندى وبدر النادي
__________
(1) ق: العلا.(7/122)
لك بين الملوك سرٌّ خفيٌّ ... ليس معناه للعقول بباد
فكأنّ البلاد كفك مهما ... كان فيها من ينتمي لعناد
قبضت كفّك البنان عليه ... فأتى بالإذعان حلف انقياد
بكم تصلح البلاد جميعاً ... إنّ آراءكم صلاح البلاد
لم تزل دائماً تحنّ إليكم ... كحنين السقيم للعوّاد
لو أعينت بمنطق شكرتكم ... مثل شكر العفاة للأجواد
قد أطاعتكم البلاد جميعاً ... طاعةً أرغمت أنوف الأعادي
فأريحوا الجياد أتعبتموها ... وأقرّوا السيوف في الأغماد
واهنأوا خالدين في عزّ ملك ... قائم السعد دائم الإسعاد
وإليكم من مذهبات القوافي ... حكماً سهّلت ليان المقاد
كلّ بيت من النظام مشيدٍ ... عطّر الأفق بالثّناء المجاد (1)
ذو ابتسام كزهر روض مجودٍ ... وانتظام كسلك درٍّ مجاد ولأبي المكارم منديل ابن الإمام الشهير صاحب المقدمة الآجرومية قصيدة في المنحى وافقت قصيدة الثغري في البحر وبعض المطلع، فلا ندري أيهما نسج على منوال الآخر: إذ هما متعاصران، إلا أن ذاك قالها في تلمسان، وهذا في مدينة فاس؛ وهي:
أيها العارفون قدر الصّبوح ... جدّدوا أنسنا بباب الفتوح يعني بباب الفتوح أحد أبواب فاس، كما أن باب الجياد في كلام الثغري أحد أبواب تلمسان.
ثم قال ابن آجروم بعد المطلع:
__________
(1) ق: المشاد.(7/123)
جدّدوا ثمّ أنسنا ثمّ جدوا ... يسرح الطرف في مجال فسيح
حيث شابت مفارق اللوز نوراً ... وتساقطن كاللجين الصريح
وبدا منه كلّ ما احمرّ يحكي ... ششفقاً مزقته أيدي الريح
وكأنّ الذي تساقط منه ... نقطٌ لحن من دمٍ مسفوح
وإذا ما وصلتم للمصلّى ... فلتحلوا بموضع التسبيح
وبطيفورها فطوفوا لكيما ... تبصروا من ذراه كلّ سطوح
ولتقيموا هناك لمحة طرف ... لتردّوا به ذماء الروح
ثم حطوا رحالكم فوق نهر ... كلّ في وصفه لسان المديح
فوق حافاته حدائق خضرٌ ... ليس عنها لعاشق من نزوح
وكأن الطيور فيها قيان ... هتفت بين أعجم وفصيح
وهي تدعوكم إلى قبة الجو ... ز هلمّوا إلى مكان مليح
فيه ما تشتهون من كلّ نور ... مغلق في الكمام أو مفتوح
وغصون تهيج رقصاً إذا ما ... سمعت صوت كلّ طير صدوح
فأجيبوا دعاءها أيّها السر ... ب وخلوا مقال كل نصيح
واجنحوا للمجون فهو جدير ... وخليق من مثلكم بالجنوح
واخلعوا ثمّ للتصابي عذاراً ... إنّ خلع العذار غير قبيح
وإذا شئتم مكاناً سواه ... هو أجلى من ذلكم في الوضوح
فاجمعوا أمركم لنحو خليج ... جاء كالصلّ من قفار فسيح
عطرت جانبيه كف الغوادي ... بشذا عرف زهرها الممنوح
قل لمهيار إن شممت شذاها ... قول مستخبرٍ أخي تجريح
أين هذا الشّذا الذكيّ من القي ... صوم والرند والغضا والشيح
حبّذا ذلك المهاد مهاداً ... بين دان من الرّبى ونزوح
ثم من ذلك المهاد أفيضوا ... نحو هضب من الهموم مريح(7/124)
فيه للحسن دوحة وروايا ... وانشراح لذي فؤاد قريح
وحجار تدعى حجار طبول ... غير أنّ التطبيل غير صحيح
تنثر الشمس ثمّ كلّ غدوّ ... زعفراناً مبلّلاً بنضوح
وسوى من هناك يسبي عقولاً ... ويجلّي لحاظ طرف طموح
وعيون بها تقرّ عيونٌ ... وكلاها يأسو كلوم الجريح
فرشت فوقها طنافس زهرٍ ... ليس كالعهن نسجها والمسوح
كلّما مرّ فوقهنّ طليح ... عاد من حسنهن غير طليح
فانهضوا أيّها المحبون مثلي ... لنرى ذات حسنها الملموح
هكذا يربح الزمان وإلا ... كلّ عيش سواه غير ربيح وما أحسن قول الكاتب الثغري يمدح تلمسان والسلطان المذكور آنفاً:
تاهت تلمسانٌ بحسن شبابها ... وبدا طراز الحسن في جلبابها
فالبشر يبدو من حباب ثغورها ... متبسّماً أو من ثغور حبابها
قد قابلت زهر النجوم بزهرها ... وبروجها ببروجها وقبابها
حسنت بحسن مليكها المولى أبي ... حمو الذي يحمي حمى أربابها
ملك شمائله كزهر رياضها ... ونداه فاض بها كفيض عبابها
أعلى الملوك الصّيد من أعلامها ... وأجلّها من صفوها ولُبابها
غارت بغرة وجهه شمس الضحى ... وتنقيت خجلاً بثوب ضبابها
والبدر حين بدت أشعّتها له ... حسناً تضاءل نوره وخبا بها
لله حضرته التي قد شرّفت ... خدّامها فسموا بخدمة بابها
فاللثم في يمناه يبلغها المنى ... والمدح في علياه من أسبابها وللثغري المذكور قصيدة لامية بديعة في مدح السلطان أبي حمو(7/125)
ووصف بلاد تلمسان، وأجاد فيها إلى الغاية؛ وهي (1) :
قم مبصراً (2) زمن الربيع المقبل ... تر ما يسرّ المجتني والمجتلي
وانشق نسيم الروض مطلولاً وما ... أهداك من عرفٍ وعرفٍ فاقبل
وانظر إلى زهر الرياض كأنّه ... درٌّ (3) على لبّات ربّات الحلي
في دولة فاضت يداها بالندى ... وقضت بكل منى لكلّ مؤمل
بسطت بأرجاء البسيطة عدلها ... وسطت بكلّ معاندٍ لم يعدل
سلطانها المولى أبو حمو الرضى ... ذو المنصب السامي الرفيع المعتلي
تاهت تلمسان بدولته على ... كلّ البلاد بحسن منظرها الجلي
راقت محاسنها ورقّ نسيمها ... فحلا بها شعري وطاب تغزّلي
عرّج بمنعرجات باب جيادها ... وافتح بها باب الرجاء المقفل
ولتغد للعبّاد منها غدوة ... تصبح هموم النفس عنك بمعزل
وضريح تاج العارفين شعيبها ... زره هناك فحبّذا ذاك الولي
فمزاره للدين والدنيا معاً ... تمحى ذنوبك أو كروبك تنجلي
وبكهفها الضحّاك قف متنزهاً ... تسرح نفوسك (4) في الجمال الأجمل
وتمشّ في جنباتها ورياضها ... واجنح إلى ذاك الجناب المخضل
تسليك في دوحاتها وتلاعها ... نغم البلابل واطّراد الجدول
وبربوة العشاق سلوة عاشق ... فتنت وألحاظ الغزال الأكحل
بنواسمٍ وبواسم من زهرها ... تهديك أنفاساً كعرف المندل
فلو امرؤ القيس بن حجر راءها ... قدماً تسلّى عن معاهد مأسل
__________
(1) القصيدة في بغية الرواد 1: 13.
(2) البغية: نجتل.
(3) البغية: درر.
(4) البغية: جفونك.(7/126)
أو حام حول فنائها وظبائها ... ما كان محتفلاً بحومة حومل
فاذكر لها كلفي بسقط لوائها ... فهواي عنها الدهر ليس بمنسل
كم جاد لي فيها الزمان بمطلبٍ ... جادته أخلاف الغمام المسبل
واعمد إلى الصفصيف يوماً ثانياً ... وبه تسلّ وعنه دأباً فاسأل
وادٍ تراه من الأزاهر خالياً ... أحسن به عطلاً وغير معطل
ينساب كالأيم انسياباً دائماً ... أو كالحسام جلاه كفُّ الصيّقل
فزلاله في كلّ قلب قد حلا ... وجماله في كل عين قد جلي
واقصد بيوم ثالث فوّارة ... وبعذب منهلها المبارك فانهل
تجري على درّ لجيناً سائلاً ... أحلى وأعذب من رحيق سلسل
واشرف على الشّرف الذي بإزائها ... لترى تلمسان العلية من عل
تاج عليه من المحاسن بهجة ... أحسن بتاج بالبهاء مكلّل
وإذا العشية شمسها مالت فمل ... نحو المصلّى ميلة المتمهل
وبملعب الخيل الفسيح مجاله ... أجل النواظر في العتاق الحفّل
فلحلبة الأشراف كلّ عشية ... لعب بذاك الملعب المتسهل
فترى المجلّي والمصلّي خلفه ... وكلاهما في جريه لا يأتلي
هذا يكرّ وذا يفرّ فينثني ... عطفاً على الثاني عنان الأول
من كل طرف كلّ طرف يستبي ... قيد النواظر فتنة المتأمّل
وردٌ كأن أديمه شفق الدّجى ... أو أشهب كشهاب رجم مرسل
أو من كميت لا نظير لحسنه ... سام معمٍّ في السوابق مخول
أو أحمر قاني الأديم كعسجد ... أو أشقر يزهو بعرف أشعل
أو أدهم كاللّيل إلا غرّةً ... كالصبح، بورك من أغر محجّل
جمع المحاسن في بديع شياته ... مهما ترقّ العين فيه تسله
عقبان خيلٍ فوقها فرسانها ... كالأسد تنقضُّ انقضاض الأجدل
فرسان عبد الواد آساد الوغى ... حامو الذمار أولو الفخار الأطول(7/127)
فإذا دنت شمس الأصيل لغربها ... فإلى تلمسان الأصيلة فادخل
من باب ملعبها لباب حديدها ... متنزهاً في كلّ نادٍ أحفل
وتأنّ من بعد الدخول هنيهةً ... واعدل إلى قصر الإمام الأعدل
فهو المؤمّلُ والديار كنايةٌ ... والسرُّ في السكان لا في المنزل
فإذا أمير المؤمنين رأيته ... فالثم ثرى ذاك البساط وقبّل
فالمجد لفظ في الحقيقة مجملٌ ... وحلاه تفصيل لذك المجمل
بشرى لعبد الواد بالملك الذي ... خلصوا به من كلّ خطب معضل
بأعزّهم جاراً، وأمنعهم حمىً ... وأجلّهم مولى، وأعظم موئل
بالعادل المستنصر المنصور وال ... مأمون والمهديّ والمتوكّل
وكفاهم سعداً أبو حمو الذي ... يحمي حماهم بالحسام الفيصل
وبحسن نيّته لهم وبجده ... وبسعده وبسعيه المتقبّل
ذو الهمّة العليا التي آثارها ... حلّت به فوق السماك الأعزل
بحر الندى الأحلى وفخر المنتدى ... وسنا الدجى الأجلى وزين المحفل
ينهل منه لنا الجدا وبه الدجى ... تجلى بمشرق وجهه المتهلّل
هنىء به زمن الربيع وقلْ له ... بشرى بأملح من حلاك وأجمل
وعلى علاه من صنيعة فضله ... ترداد نافحة السلام الأكمل وكأنّه عارض بهذه القصيدة قطعة في بحرها ورويها في مدح مدينة فاس لبعض العلماء، وأظنّه القاضي المزدغي، وهي:
يا فاس حيّا الله أرضك من ثرى ... وسقاك من صوب الغمام المسبل
يا جنّة الدنيا التي أربت على ... حمص بمنظرها البهيّ الأجمل
غرف على غرف ويجري تحتها ... ماء ألذ من الرحيق السلسل
وبساتن من سندس قد زخرفت ... بجداول كالأيم أو كالفيصل
وبجامع القروين شرّف ذكره ... أنس بذكراه بهيج تململي(7/128)
وبصحته زمن المصيف عجائب ... فمع العشيّ الغرب فيه استقبل
واشرب بتلك البيلة (1) الحسنا به ... واكرع بها عنّي فديتك وانهل وقد تمثل لسان الدين رحمه الله تعالى في مدينة فاس بقول القائل (2) :
بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه ريش جناحه الطاووس
فكأنّما الأنهار فيه مدامة ... وكأن ساحات الديار كؤوس وما أحسن قوله - أعني لسان الدين - في مدح تلمسان (3) :
حيّا تلمسان الحيا فربوعها ... صدفٌ يجود بدرّه المكنون
ما شئت من فضلٍ عميم إن سقى ... أروى ومنٍّ ليس بالمنون
أو شئت من دين إذا قدح الهدى ... أورى ودنيا لم تكن بالدون
ورد النسيم لها بنشر حديقة ... قد أزهرت أفنانها بفنون
وإذا حبيبة أمّ يحيى أنجبت ... فلها الشفوف على عيون العين يعني بحبيبة أم يحيى عين ماء بتلمسان من أعذب المياه وأخفها، وكانت جارية بالقصور السلطانية، ولم تزل إلى الآن منها بقية آثار ورسوم، والبقاء لله تعالى وحده.
وممّن مدح تلمسان الحاج الطبيب أبو عبد الله محمد بن أبي جمعة الشهير بالتلالسي رحمه الله تعالى، إذ قال (4) :
سقى الله من صوب الحيا هاطلاً وبلا ... ربوع تلمسان التي قدرها استعلى
__________
(1) قد شرحنا البيلة، هامش: 1 مجلد: 1 ص: 206.
(2) مر البيتان والقول في نسبتهما، المجلد: 1 ص: 169 وانظر مشاهدات لسان الدين: 111.
(3) أزهار الرياض 1: 7.
(4) أورد له صاحب بغية الرواد عدداً من القصائد والموشحات في الجزء الثاني؛ وهذه القصيدة في الجزء الأول ص: 17.(7/129)
ربوع بها كان الشباب مصاحبي ... جررت إلى اللذات في دارها الذيلا
فكم نلت فيها من أمانٍ قصيةٍ ... وكم منح الدهر الضنين (1) بها النيلا
وكم غازلتني الغيد فيها تلاعباً ... وكم من عذول لا أطيع له قولا
وكم ليلة بتنا بصفصيفها الذي ... تسامى على الأنهار إذ عدم المثلا
وكدية عشاق لها الحسن ينتهي ... يعود المسنّ الشيخ من حسنها طفلا
نعم، وغدير الجوزة السالب الحجى ... نعمت بها طفلاً وهمت بها كهلا
ومنه ومن عين أم يحيى شرابنا ... لأنهما في الطيب كالنيل بل أحلى
وعبّادها ما القلب ناس ذمامه ... به روضة للخير قد جعلت حلاّ
به شيخنا المذكور في الأرض ذكره ... أبو مدين أهلاً به دائماً أهلا
لها بهجة تزري على كل بلدة ... بتاج عليها كالعروس إذا تجلى
فيا جنّة الدنيا التي راق حسنها ... فحازت على كلّ البلاد به الفضلا
ولا عجب أن كنت في الحسن هكذا ... وموسى الإمام المرتضى فيك قد حلاّ
ولاحت لدينا فيك منه محاسن ... كأنّ سناها حاجب الشمس إذ جلّى
مطاع شجاع في الوغى ذو مهابة ... حسام على الباغين في الأرض قد سلاّ
كريم حليم حاتميّ نواله ... سعيد حميد يصدق القول والفعلا
له راحة كالغيث ينهل ودقها ... وصارم نصرٍ مرهف الحد لا فلاّ
هو الملك الأرقى هو الملك الرضي ... هو الملك الأسنى هو الملك الأعلى
ومن هذه الأوصاف فيه تجمّعت ... حقيقاً على كلّ المعالي قد استولى
إمام حباه الله ملكاً مؤزراً ... فلا ملك إلاّ لعزّته ذلاّ
من الزاب وافانا عزيزاً مظفّراً ... يجر من النصر المنوط به ذيلا
__________
(1) البغية: المنيف.(7/130)
بدت إليك الغرب شدة بأسه ... وإنعامه للمعتفين وما أولى
فبادره بالصلح خوف فواته ... وسالمه إذ كان ذاك به أولى
فكان بحمد الله صلحاً مهنّأ ... به طابت الدّنيا وجزنا به السبلا
له في المعالي رتبة لا ينالها ... سواه وكتب في فضائله تتلى
لطاعته كلّ الأنام تبادرت ... فيا سعد من وافى ويا ويح من ولّى
أحسّاده موتوا فإنّ قلوبكم ... بدمر الغضا ممّا بها أبداً تصلى
لقد جبر الله البلاد بملكه ... به ملئت أمناً، به ملئت عدلا
فلا زال هذا الملك فيه مخلداً ... وصارمه الأمضى وخادمه الأعلى وممّا مدحت به تلمسان قول الإمام الصوفي أبي عبد الله محمد بن خميس الذي قدمنا ذكره في هذا الكتاب وبعض ما يتعلّق به، وذكرنا أيضاً فيما مرّ بعض أمداحه لها (1) :
تلمسان جادتك السحاب الروائح (2) ... وأرست بواديك الرياح اللواقح
وسحّ على ساحات باب جيادها ... ملثّ يصافي تربها ويصافح
يطير فؤادي كلّما لاح لامعٌ ... وينهل دمعي كلّما ناح صادح
ففي كل شفرٍ من جفوني مائع ... وفي كلّ شطر من فؤادي قادح
فما الماء إلا ما تسحّ مدامعي ... ولا النار إلا ما تجنّ الجوانح
خليليّ لا طيف لعلوة طارق ... بليل ولا وجه لصبحي لائح
نظرت فلا ضوء من الصبح ظاهر ... لعيني ولا نجم إلى الغرب جانح
بحقّكما كفّا الملام وسامحا ... فما الخلّ كلّ الخلّ إلاّ المسامح
ولا تعذلاني واعذراني فقلّما ... يردّ عناني من عليّة ناصح
__________
(1) وردت القصيدة في بغية الرواد 1: 11.
(2) البغية: الدوالح.(7/131)
كتمت هواها ثم برّح بي الأسى ... وكيف أطيق الكتم والدمع فاضح
لساقية الروميّ عندي مزيّة ... وإن رغمت تلك الرواسي الرواشح
فكم لي عليها من غدوٍّ ورحةٍ ... تساعدني فيها المنى والمنائح
فطرف على تلك البساتين سارحٌ ... وطرفٌ إلى تلك الميادين جامح
تحار بها الأذهان وهي ثواقب ... وتهفو بها الأحلام وهي بوارح
ظباء مغانيها عواطٍ عواطف ... وطير مجانيها شوادٍ صوادح
تقتّلهم فيها عيونٌ نواظر ... وتبكيهم منهم عيون نواضح
على قرية العبّاد منّي تحيّة ... كما فاح من مسك اللطيمة فائح
وجاد ثرى تاج المعارف ديمة ... تغصّ بها تلك الرّبى والأباطح
إليك شعيب بن الحسين قلوبنا ... نوازع لكنّ الجسوم نوازح
سعيت فما قصّرت عن نيل غاية (1) ... فسعيك مشكور وتجرك رابح
نسيت وما أنسى الوريط ووقفة ... أنافح فيها روضة وأفاوح
مطلاً على ذاك الغدير وقد بدت ... لإنسان عيني من صفاه صفائح
أماؤك أم دمعي عشية صدّقت ... عليّة فينا ما يقول المكاشح
لئن كنت ملآناً بدمعي طافحاً ... فإني سكران بحبّك طافح
وإن كان مهري في تلاعك سائحاً ... فذاك غزالي في عبابك سابح
قراح أتى ينصبّ من رأس شاهق ... بمثل حلاه تستحثّ القرائح
أرق من الشوق الذي أنا كاتم ... وأصفى من الدمع الذي أنا سافح
أما وهوى من لا أسميّه إنّني ... لعرضي كما ق النصيح لناصح
أبعد صيامي واعتكافي وخلوتي ... يقال فلان ضيّق الصدر بائح
لبعت رشادي فيه بالغيّ ضلّةً ... وكم صالح مثلي غدا وهو طالح
وأيّ مقام ليس لي فيه حاسد ... وأيّ مقالٍ ليس لي فيه مادح
__________
(1) البغية: رغبة.(7/132)
ألا قل لفرسان البلاغة أسرجوا ... فقد جاءكم منّي المكافي المكافح
أيخمل ذكري عندهم وهو نابهٌ ... ويغمط شجوي عندهم وهو شائح
بدور إذا جنّ الظّلام كوامل ... وأسدٌ إذا لاح الصباح كوالح
تركت سوق البزّ لا عن تهاونٍ ... وكيف وظبيٌ سانحٌ فيك بارح
وإنّي وقلبي في ولائك طامعٌ ... وناظر وهمي في سماطك طامح
أيا أهل ودّي والعشير مؤمّن ... أتقضي ديوني أم غريمي فالح
وهل ذلك الظبي النصاحيّ للذي ... يقطّع من قلبي بعينيه ناصح
كنيت بها عنه حياءً وحشمةً ... ووجه اعتذاري في القضيّة واضح [تعريف بتلمسان]
وتلمسان هذه هي مدينتتنا التي علّقت بها التمائم، وقد نزلها من سلفنا عبد الرحمن بن أبي بكر المقرّي بن علي صاحب السيخ ابن مدين، الذي دعا له ولذريته بما ظهر فيهم قبوله وتبين، وهو الأب الخامس كما سبق في ترجمة أخبارهم، وهي من أحسن مدائن المغرب ماء وهواء، حسبما ق ابن مرزوق:
يكفيك منها ماؤها وهواؤها ... وقال الكاتب أبو زكريا يحيى بن خلدون في كتابه بغية الرواد في أخبار بني عبد الواد وأيام أبي حمّو الشامخة الأطواد بعد كلام في شأن البربر، ما صورته (1) : ودار ملكهم وسط بين الصحراء والتل تسمى بلغة البربر تلمسن، كلمة مركبة من تلم ومعناه تجمع، وسن ومعناه اثنان: أي الصحراء والتل فيما ذكره شيخنا العلامة أبو عبد الله الآبلي، رحمه الله تعالى، وكان
__________
(1) بغية الرواد 1: 19/9.(7/133)
حافظاً بلسان القوم، ويقال تلمشان، وهو أيضاً مركّب من " تلم " (1) ومعناه لها، وشان أي لها شأن، وهي مدينة عريقة في التمدن، لذيذة الهواء، عذبة الماء، كريمة المنبت، اقتعدت بسفح جبل، ودوين (2) رأسه بسيط أطول من شرق إلى غرب، عروساً فوق منصّة، والشماريخ مشرفة عليها إشراف التاج على الجبين ويطل منها (3) على فحص أفيح معد للفلاحة تشق ظهوره الأسلحة عن مثل أسنمة المهاري، وتبقر في بطونه عند تدميث الغمائم بطون العذارى (4) ، وبها للملك قصور زاهرات اشتملت على المصانع الفائقة، والصروح الشاهقة، والبساتين الرائقة، ممّا زخرفت عروشه، ونمقت غروسه، ونوسبت أطواله وعروضه، فأزرى بالخورنق، وأخجل الرصافة، وعبث بالسّدير. وتنصبّ إليها من عل أنهار من ماء غير آسن، تتجاذبه أيدي المذانب والأسراب المكفورة (5) خلالها، ثم ترسله بالمساجد والمدارس والسقايات بالقصور وعلية الدور والحمامات، فيفعم الصهاريج، ويفهق الحياض، ويسقي ريعه (6) خارجها مغارس الشجر ومناب الحب، فهي التي شحرت الألباب رواء، وأصبت النّهى جمالاً (7) ، ووجد المادحون فيها المقال فأطالوا وأطابوا، إلى أن قال: فأنا أنشد ساكنها قول ابن خفاجة لاستحقاقها إيّاه عندي (8) :
ما جنّة الخلد إلا في منازلكم ... وهذه كنت لو خيّرت أختار
__________
(1) البغية: تل.
(2) البغية: ودون.
(3) البغية: تطل منه.
(4) البغية: العدارى. والعذارى: الأراضي التي لم توطأ.
(5) المكفورة: المستورة.
(6) البغية: بساتينها.
(7) جمالاً: سقطت من البغية.
(8) ديوان ابن خفاجة: 364.(7/134)
لا تتّقوا بعدها أن تدخلوا سقراً ... فليس تدخل بعد الجنّة النار وتوسطت قطراً ذا كورٍ عديدة تعمرها أمشاج البربر والعرب، مريعة الجنبات، منجبة للحيوان والنبات، كريمة الفلاحة، زاكية الإصابة، فربما انتهت في الزّوج الواحد منها إلى أربعمائة مد كبير؛ ثم أطال في ذلك ابن خلدون المذكور بما يوقف عليه في الكتاب المذكور.
وممّا يُنسب للسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى في وصفها ما صورته: تلمسان مدينة جمعت بين الصحراء والريف، ووضعت في موضع شريف، كأنّها ملك على رأسه تاجه، وحواليه من الدوحات حشمه وأعلاجه، عبّادها يدها وكهفها كفها، وزينتها زيانها، وعينها أعيانها، هواها المقصور بها فريد، وهواؤها الممدود صحيح عتيد، وماؤها برود صريد، حجبتها أيدي القدرة عن الجنوب، فلا نحول فيها ولا شحوب؛ خزانة زرع، ومسرح ضرع، فواكهها عديدة الأنواع، ومتاجرها فريدة الانتفاع، وبرانسها رقاق رفاع، إلاّ أنّها بسبب حب الملوك، مطمعة للملوك، ومن أجل جمعها الصّيد في جوف الفرا، مغلوبة للأمرا، أهلها ليست عندهم الراحة، إلاّ فيما قبضت عليه الراحة، ولا فلاحة، إلا لمن أقام رسم الفلاحة، ليس بها لسع العقارب، إلا فيما بين الأقارب، ولا شطارة، إلا فيمن ارتكب الخطارة؛ انتهى.
وقد كنت بالمغرب نويت أن أجمع في شأنها كتاباً ممتعاً أسميّه بأنواء نيسان في أنباء تلمسان وكتبت بعضه، ثم حالت بيني وبين ذلك العزم الأقدار، وارتحلت منها إلى حضرة فاس حيث ملك الأشراف ممتدّ الرّواق، فشغلت بأمور الإمامة والفتوى والخطابة وغيرها، ثم ارتحلت بنية الحجاز، وجعلت إلى الحقيقة المجاز، وها أنا ذا إلى الآن في البلاد المصرية، وفي علم الله تعالى ما لا نعلم، والتسليم لأحكام الأقدار أسلم، والله تعالى يختم لنا بالحسنى بجاه نبيّه ومصطفاه صلى الله عليه وسلّم.(7/135)
وبها ولدت أنا وأبي وجدي وجد جدي، وقرأت بها ونشأت إلى أن ارتحلت عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة تسع وألف، ثم رجعت إليها آخر عام عشرة وألف، ثم عاودت الرجوع إلى فاس سنة ثلاث عشرة وألف، إلى أن ارتحلت عنها للمشرق أواخر رمضان سنة سبع وعشرين وألف، ودخلت مصر برجب من عام ثمانية وعشرين وألف، والشام بشعبان عام سبعة وثلاثين وألف، وأبت منها إلى مصر أواخر شوّال من العام، وشرعت في هذا المؤلف بالقعدة من العام.
[ترجمة أبي مدين]
وقد تخرّج بتلمسان من العلماء والصلحاء ما لا ينضبط، ويكفيها افتخاراً دفن وليّ الله سيدي أبي مدين بها، وهو شعيب بن الحسين الأندلسي، شيخ المشايخ، وسيد العارفين، وقدوة السالكين، قال الشيخ أبو عبد الله محمّد ابن التلمساني في كتابه النجم الثاقب فيما لأولياء الله تعالى من المناقب: كان (1) الشيخ سيدي أبو مدين فرداً من أفراد الرجال، وصدراً من صدور الأولياء الأبدال، جمع الله له علم الشريعة والحقيقة، وأقامه ركن الوجود هادياً وداعياً للحق، فقصد بالزيارة من جميع الأقطار، واشتهر بشيخ المشايخ، وذكر التادلي وغيره أنّه خرج على يده ألف شيخ من الأولياء أولي الكرامات، وقال أبو الصبر كبير مشايخ وقته: كان أبو مدين زاهداً فاضلاً عارفاً بالله تعالى، خاض بحار الأحوال، ونال أسرار المعارف، خصوصاً مقام التوكّل، لا يشق غباره، ولا تجهل آثاره، قال التادلي: كان مبسوطاً بالعلم، مقبوضاً بالمراقبة، كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم له بذلك، أخبرني من شهد وفاته أنّه رآه
__________
(1) انظر نيل الابتهاج: 107 فأكثر هذه الترجمة منقول عنه.(7/136)
في آخر الرمق يقول: الله الحق. وكان من أعلام العلماء، وحفّاظ الحديث، خصوصاً جامع الترمذي، وكان يقوم عليه، ورواه عن شيوخه عن أبي ذر، وكان يلازم كتاب الإحياء ويعكف عليه، وترد عليه الفتاوى في مذهب مالك فيجيب عنها في الوقت، وله مجلس وعظ يتكلّم فيه، فتجتمع عليه الناس من كل جهة، وتمر به الطيور وهو يتكلّم فتقف تسمع، وربما مات بعضها، وكثيراً ما يموت بمجلسه أصحاب الحب، تخرّج عليه جماعة كثيرة من العلماء والمحدثين وأرباب الأحوال، وكان شيخه أبو يعزى يثني عليه جميلاً، ويخصّه بين أصحابه بالتعظيم والتبجيل، قرأ بفاس بعد قدومه من الأندلس على الشيخ الحافظ أبي الحسن ابن حرزهم، وعلى الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن ابن غالب.
وذكر عنه أنّه قال: كنت في أوّل أمري وقراءتي على الشيوخ إذا سمعت تفسير آية أو معنى حديث قنعت به وانصرفت لموضع خال خارج فاس أتخذه مأوى للعمل بما فتح به عليّ، فإذا خلوت به تأتيني غزالة تأوي إليّ وتؤنسني (1) ، وكنت أمرّ في طريقي بكلاب القرى المتصلة بفاس، فيدورون حولي، ويبصبصون لي، فبينا أنا يوماً بفاس إذا برجل من معارفي بالأندلس سلّم علي، فقلت: وجبت ضيافته، فبعث ثوباً بعشرة دراهم، فطلبت الرجل لأدفعها له، فلم أجده هنالك، فخليتها معي، وخرجت لخلوتي على عادتي، فمررت بقريتي، فتعرض لي الكلاب، ومنعوني الجواز، حتى خرج من القرية من حال بيني وبينهم، ولمّا وصلت لخلوتي جاءتني الغزالة على عادتها، فلمّا شمّتني نفرت عنّي، وأنكرت علي، فقلت: ما أوتي علي إلاّ من أجل هذه الدراهم التي معي، فرميتها، فسكنت الغزالة، وعادت لحالها معي، ولمّا رجعت لفاس جعلت الدراهم معي، ولقيت الأندلسي، فدفعتها إليه، ثم مررت بالقرية في خروجي للخلوة، فدار بي كلابها وبصبصوا على عادتهم، وجاءتني الغزالة فشمتني من
__________
(1) انظر أيضاً التادلي: 320.(7/137)
مفرقي لقدمي، وأنست بي كعادتها، وبقيت كذلك مدّة، وأخبار سيدي أبي يعزى ترد عليّ، وكراماته يتداولها الناس وتنقل إليّ، فملأ قلبي حبّه، فقصدته مع جماعة الفقراء، فلمّا وصلنا إليه أقبل على الجماعة دوني، وإذا حضر الطعام منعني من الأكل معهم، وبقيت كذلك ثلاثة أيام، فأجهدني الجوع، وتحيرت من خواطر ترد عليّ، ثم قلت في نفسي: إذا قام الشيخ من مكانه أمرغ وجهي في المكان، فقام، ومرغت وجهي فقمت وأنا لا أبصر شيئاً، وبقيت طول ليلتي باكياً، فلمّا أصبح دعاني وقرّبني، فقلت له: يا سيدي، قد عميت ولا أبصر شيئاً، فمسح بيده على عيني، فعاد بصري، ثم مسح على صدري، فزالت عني تلك الخواطر، وفقدت ألم الجوع، وشاهدت في الوقت عجائب من بركاته، ثم استأذنته في الانصراف بنية أداء الفريضة، فأذن لي وقال: ستلقى في طريقك الأسد فلا يرعك فإن غلب خوفه عليك فقل له: بحرمة يدنور (1) إلا انصرفت عني، فكان الأمر كما قال. فتوجّه الشيخ أبو مدين للشرق وأنوار الولاية عليه ظاهرة، فأخذ عن العلماء واستفاد من الزهاد والأولياء، وتعرّف في عرفة بالشيخ سيدي عبد القادر الكيلاني، فقرأ عليه في الحرم الشريف كثيراً من الحديث، وألبسه خرقة الصوفية، وأودعه كثيراً من أسراره، وحلاه بملابس أنواره، فكان أبو مدين يفتخر بصحبته، ويعدّه أفضل مشايخه الأكابر.
وعن بعض الأولياء قال: رأيت في النوم قائلاً يقول: قل لأبي مدين: بثّ العلم ولا تبالِ، ترتع غداً مع العوالي، فإنّك في مقام آدم أبي الذراري، فقصصتها عليه فقال لي: عزمت على الخروج للجبال والفيافي حتى أبعد عن العمران، ورؤياك هذه تعدل بي عن هاذ العزم، وتأمرني بالجلوس، فقولك ترتع غداً مع العوالي إشارة لحديث حلق الذكر مراتع أهل الجنّة، والعوالي: أصحاب عليين، ومعنى قوله أبي الذراري أن آدم أعطي قوّة على النكاح
__________
(1) التشوف: يلنور.(7/138)
وأمر به، ولم يجعل له قوّة على كون ذريته مطيعين مؤمنين، وكذا نحن أعطانا الله العلم وأمرنا ببثّه وتعليمه، ولا قدرة لنا على كون أتباعنا موفّقين.
وكان يقول: كرامات الأولياء نتائج معجزات نبينا صلى الله عليه وسلّم، وطريقتنا هذه أخذناها عن أبي يعزى بسنده عن الجنيد عن سري السقطي عن حبيب العجمي بالسند إلى رب العزة جل جلاله.
وعن العارف عبد الرحيم المغربي قال: سمعت سيدي أبا مدين يقول: أوقفني ربي عزّ وجل بين يديه وقال لي: يا شعيب ماذا عن يمينك قلت: يا رب عطاؤك، قال: وعن شمالك قلت: يا رب قضاؤك، فقال: يا شعيب قد ضاعفت لك هذا، وغفرت لك هذا، فطوبى لمن رآك أو رأى من رآك.
وعن سيدي أبي العباس المرسي: جلت في ملكوت الله تعالى، فرأيت سيدي أبا مدين متعلّقاً بساق العرش وهو يومئذ أشقر أزرق، فقلت له: وما علومك وما مقامك فقال: علومي أحد وسبعون علماً، وأما مقامي فرابع الخلفاء، ورأس السبعة الأبدال.
وسئل رضي الله عنه عمّا خصّه الله تعالى به، فقال: مقامي العبودية، وعلومي الألوهية، وصفاتي مستمدة من الصفات الربانية، ملأت علومه سرّي وجهري، وأضاء بنوره برّي وبحري، فالمقرب من كان به عليماً، ولا يسمو إلاّ من أوتي قلباً سليماً، الذي يسلم ممّا سواه، ولا يكون في الوعاء إلاّ مما جعل فيه مولاه، فقلب العارف يسرح في الملكوت بلا شك " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السّحاب " النمل: 88.
وسئل عن الحياء، فقال: أوّله دوام الذكر، وأوسطه الأنس بالمذكور، وأعلاه أن لا ترى شيئاً سواه.
واختلف أهل مجلسه: هل الخضر ولي أم نبي فرأى رجل صالح منهم معروف بالولاية النبيّ صلى الله عليه وسلّم تلك الليلة فقال صلى الله عليه وسلّم: الخضر نبي، وأبو مدين ولي.(7/139)
وذكر التادلي (1) وغيره أن رجلاً جاءه ليعترض عليه، فجلس في الحلقة، فأخذ صاحب الدولة في القراءة، فقال له أبو مدين: أمهل قليلاً، ثم التفت للرجل، وقال له: لم جئت فقال: لأقتبس من نورك، فقال له: ما الذي في كمك قال له: مصحف، فقال له: افتحه واقرأ في أوّل سطر يخرج لك، ففتحه وقرأ أوّل سطر فإذا فيه " الّذين كذّبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها، الذين كذّبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين " الأعراف: 92 فقال له أبو مدين: أما يكفيك هذا فاعترف الرجل وتاب وصلح حاله.
وذكر صاحب الروض عن الشيخ الزاهد أبي محمد عبد الرزاق أحد خواص أصحابه قال: مر شيخنا أبو مدين في بعض بلاد المغرب، فرأى أسداً افترس حماراً وهو يأكله، وصاحبه جالس بالبعد على غاية الحاجة والفاقة، فجاء أبو مدين وأخذ بناصية الأسد، وقال لصاحب الحمار: أمسك الأسد واستعمله في الخدمة موضع حمارك، فقال له: يا سيدي أخاف منه، فقال: لا تخف، لا يستطيع أن يؤذيك، فمرّ الرجل يقوده والناس ينظرون إليه، فلمّا كان آخر النهار جاء الرجل ومعه الأسد للشيخ وقال له: يا سيدي هذا الأسد يتبعني حيث ذهبت، وأنا شديد الخوف منه، لا طاقة لي بعشرته، فقال الشيخ للأسد: اذهب ولا تعد، ومتى آذيتم بني آدم سلطتهم عليكم.
ومن مشهور كراماته أنّه كان ماشياً يوماً على ساحل، فأسره العدوّ، وجعلوه في سفينة فيها جماعة من أسرى المسلمين، فلمّا استقرّ في السفينة توقفت عن السير، ولم تتحرّك من مكانها، مع قوّة الريح ومساعدتها، وأيقن الروم أنهم لا يقدرون على السير، فقال بعضهم: أنزلوا هذا المسلم فإنّه قسيس، ولعلّه من أصحاب السرائر عند الله تعالى، وأشاروا له بالنزول، فقال: لا أفعل إلاّ إن أطلقتم جميع من في السفينة من الأسارى، فعلموا أن لا بد لهم من ذلك،
__________
(1) التشوف: 323.(7/140)
فأنزلوهم كلّهم، وسارت السفينة في الحال.
ومن كراماته أنّه لمّا اختلف طلبة بجاية في حديث إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنّة وأشكل عليهم ظاهره: إذ يموت مؤمنين يستحقان كل الجنّة، فجاءوا إليه وهو يتكلّم على رسالة القشيري، فكاشفهم في الحال بلا سؤال، وقال لهم: المراد أنّه يعطى نصف جنته هو، فيكشف له عن مقعده ليتنعم به وتقر عينه، ثم النصف الآخر يوم القيامة.
وكان أولياء وقته يأتونه من البلدان للاستفتاء فيما يعرض لهم من المسائل.
وذكر تلميذه الصالح سيدي عبد الخالق التونسي عنه أنّه قال: سمعت برجل يسمى موسى الطيار يطير في الهواء ويمشي على الماء، وكان رجل يأتيني عند صدع الفجر فيسألني عن مسائل لا يفهمها الناس، فوقع ليلة في نفسي أنّه موسى الطيار الذي سمعت به، وطال عليّ الليل في انتظاره، فلمّا طلع الفجر نقر الباب رجل، فإذا هو الذي يسألني، فقلت له: أنت موسى الطيار فقال: نعم، ثم سألني وانصرف، ثم جاءني مع رجل آخر فقال لي: صلّينا الصبح ببغداد، وقدمنا مكة فوجدناهم في صلاة الصبح (1) ، فأعدنا معهم، وجلسنا (2) حتى صلينا الظهر، وأتينا القدس فوجدناهم في الظهر، فقال لي صاحبي هذا: نعيد معهم، فقلت: لا، فقال لي: ولم أعدنا الصبح بمكّة فقلت له: كذلك كان شيخي يفعل، وبه أمرنا، فاختلفنا وأتيناك للجواب، فقال أبو مدين: فقلت لهم: أمّا إعادة الصبح بمكة فلأنّها بها عين اليقين، وببغداد علم اليقين، وعين اليقين أولى من علم اليقين، وصلاتكم الظهر بمكة - وهي أم القرى - فلذلك لا تعاد في غيرها، قال: فقنعا به وانصرفا.
وكان استوطن بجاية ويقول: إنّها معينة على طلب الحلال، ولم يزل بها
__________
(1) ق: فوجدناهم في الظهر في صلاة الصبح.
(2) نيل الابتهاج: فيقينا.(7/141)
يزداد حلاه على مر الليالي رفعة، ترد عليه الوفود وذوو الحاجات من الآفاق، ويخبر بالوقائع والغيوب، إلى أن وشى به بعض علماء الظاهر عند يعقوب المنصور، وقال له: إنّا نخاف منه على دولتكم، فإن له شبهاً بالإمام المهدي، وأتباعه كثيرون بكل بلد، فوقع في قلبه وأهمّه شأنه، فبعث إليه في القدوم عليه ليختبره، وكتب لصاحب بجاية بالوصيّة به والاعتناء، وأن يحمل خير محمل، فلمّا أخذ في السفر شق على أصحابه وتغيروا وتكلّموا (1) ، فسكتهم وقال لهم: إن منيتي قربت، وبغير هذا المكان قدرت، ولا بد لي منه، وأ، اشيخ كبير ضعيف (2) ، لا قدرة لي على الحركة، فبعث الله تعالى من يحملني إليه برفق، ويسوقني إليه أحسن سوق، وأنا لا أرى السلطان ولا يراني، فطابت نفوسهم، وذهب بوسهم، وعلموا أنه من كراماته، فارتحلوا به على أحسن حال، حتى وطئوا به حوز تلمسان، فبدت له رابطة العباد، فقال لأصحابه: ما أصلحه للرقاد، فمرض مرض موته، فلمّا وصل وادي يسر اشتد به المرض، ونزلوا به هناك، فكان آخر كلامه: الله الحق.
وتوفّي رحمه الله تعالى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فحمل إلى العباد، مدفن الأولياء الأوتاد، وسمع أهل تلمسان بجنازته، فكانت من المشاهد العظيمة، والمحافل الكريمة، وفي ذلك اليوم تاب الشيخ أبو علي عمر الحباك، وعاقب الله تعالى السلطان، فمات بعده بسنة أو أقل.
ونقل المعتنون بأخباره أن الدعاء عند قبره مستجاب، وجربه جماعة، وقد زرته مئين من المرات، ودعوت الله تعالى عنده بما أرجو قبوله.
وقد أطال في ترجمته التادلي في كتابه " التشوّف لرجال التصوّف " (3) وقد
__________
(1) وتكلموا: سقطت من نيل الابتهاج.
(2) نيل الابتهاج: وقد كبرت وضعفت.
(3) انظر هذا الكتاب ص: 316 - 325.(7/142)
أفردها ابن الخطيب القسمطيني بتأليف سمّاه أنس الفقير.
ومن كلامه: من رزق حلاوة المناجاة زال عنه النوم، ومن اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذل، ومن لم يجد من قلبه زاجراً فهو خراب.
وقوله: بفساد العامّة تظهر ولاة الجور، وبفساد الخاصّة تظهر دجاجلة الدين الفتّانون.
وقوله: من عرف نفسه لم يغترّ بثناء الناس عليه، ومن خدم الصالحين ارتفع، ومن حرمه الله تعالى احترامهم ابتلاه الله بالمقت من خلقه، وانكسار العاصي خير من صولة المطيع.
وقوله: من علامة الإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق.
وسئل عن المحو والشيخ، فقال: المحو من شهدت له ذاتك بالتقديم، وسرك بالاحترام والتعظيم، والشيخ من هداك بأخلاقه، وأيدك بإطراقه، وأنار باطنك بإشراقه، إلى غير ذلك من كلامه النيّر، وهو بحر لا ساحل له.
وله نظم كثير مشهور بأيدي الناس، وممّا يُنسب له قوله:
بكت السحاب فأضحكت لبكائها ... زهر الرياض وفاضت الأنهار
وقد أقبلت شمس النّهار بحلّة ... خضرا، وفي أسرارها أسرار
وأتى الربيع بخيله وجنوده ... فتمتعت في حسنه الأبصار
والورد نادى بالورود إلى الجنى ... فتسابق الأطيار والأشجار
والكأس ترقص والعقار تشعشعت ... والجوّ يضحك والحبيب يزار
والعود للغيد الحسان مجاوب ... والطار أخفى صوته المزمار
لا تحسبوا الزمر الحرام مرادنا ... مزمارنا التّسبيح والأذكار
وشرابنا من لطفه، وغناؤنا ... نعم الحبيب الواحد القهار
والعود عادات الجميل، وكأسنا ... كأس الكياسة، والعقار وقار(7/143)
فتألفوا وتطيبوا واستغنموا ... قبل الممات فدهركم غدّار
والله أرحم بالفقير إذا أتى ... من والديه فإنّه غفّار
ثمّ الصلاة على الشّفيع المصطفى ... ما رنّمت بلغاتها الأطيار وإنّما ذكرت ترجمة سيدي الشيخ أبي مدين للتبرك به، ولكونه شيخ جدي، فأنا في بركته لقول جدّي: إنّه دعا له ولذريته بما ظهر قبوله، ولأنا ذكرنا في هذا التأليف كثيراً من أنباء أبناء الدنيا، فأردنا كفّارة ذلك بذكر الصالحين، والله الموفّق بمنّه وكرمه، آمين.(7/144)
الباب السابع
ذكر بعض تلامذته الآخذين عنه المستهدين به على المنهاج، المتلقّين أنواع
العلوم منه والمقتبسين أنوار الفهوم من سراجه الوهاج
اعلم أن تلامذة لسان الدين رحمه الله تعالى كثيرون، إلاّ أنه لم يرزق السعادة في كثير منهم، بل بارزوه بالعداوة واجتهدوا في إيصال المكروه إليه.
1 - فمن أشهرهم الوزير الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك (1) ، وارث مرتبته من بعده، ومقتعد أريكة سعده، وقد ألمع به في الإحاطة وكان إذ ذاك من جملة أتباعه، إذ قال ما محصله: محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الصريحي يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن زمرك.
أصله من شرقي الأندلس، وسكن سلفه ربض (2) البيازين من غرناطة، وبه ولد ونشأ، وهو من مفاخره.
حاله - هذا الفاضل صدر من صدور طلبة الأندلس وأفراد نجبائها، مختصر مقبول هش خلوب، عذب الفكاهة حلو المجالسة، حسن التوقيع خفيف الروح
__________
(1) ترجمة ابن زمرك في الإحاطة 2: 221 - 240 والكتيبة: 282 ونيل الابتهاج: 282 ونثير فرائد الجمان: 327 والتعريف: 274 وجذوة الاقتباس: 184 والدرر الكامنة 4: 412 وأزهار الرياض 2: 7 - 206، وقد نقل بعض ما أورده ابن الخطيب في الإحاطة، وما جاء عنه في كتاب مستقل لابن الأحمر، وسيكرر في ترجمته هنا، ولهذا أجريت المقارنة بين ما ورد في النفح والأزهار دون أن أشير إلى كل موضع على حدة.
(2) ق: روض.(7/145)
عظيم الانطباع شره المذاكرة، فطن بالمعاريض حاضر الجواب، شعلة من شعل الذكاء تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة فكه غزل مع حياء وحشمة، جواد بما في يده مشارك لإخوانه، نشأ عفّاً طاهراً، كلفاً بالقراءة عظيم الدّؤوب، ثاقب الذهن، أصيل الحفظ ظاهر النّبل، بعيد مدى الإدراك جيد الفهم، فاشتهر فضله وذاع أرجه وفشا خبره، واضطلع بكثير من الأغراض وشارك في كثير من الفنون، وأصبح متلقف كرة البحث وصارخ الحلقة [وسابق الحلبة] ومظنة الكمال، ثم ترقى في درج المعرفة والاضطلاع وخاض لجة الحفظ، وركض قلم التقييد والتسويد والتعليق، ونصب نفسه للناس متكلماً فوق الكرسي المنصوب، وفوق (1) المحفل المجموع، مستظهراً بالفنون التي بعد فيها شأوه من العربية والبيان [واللغة] وما يقذف به في لج النقل من الأخبار والتفسير، متشوفاً مع ذلك إلى السلوك مصاحباً للصوفية آخذاً نفسه بارتياض ومجاهدة، ثم عانى الأدب فكان أملك به، وأعمل الرحلة في طلب العلم والازدياد، فترقى إلى الكتابة عن ولد السلطان أمير المسلمين بالمغرب أبي سالم إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب، ثم عن السلطان، وعرف في بابه بالإجادة.
ولمّا جرت الحادثة على السلطان صاحب الأمر بالأندلس، واستقر بالمغرب، أنس له وانقطع إليه، وكر في صحبة ركابه إلى استرجاع حقه، فلطف منه محله وخصه بكتابة سره، وثابت الحال ودالت الدولة وكانت له الطائلة، فأقره على رسمه معروف الانقطاع والصاغية كثير الدالّة، مضطلعاً بالخطة خطّاً وإنشاء ولسناً ونقداً، فحسن منابه واشتهر فضله وظهرت مشاركته وحسنت وساطته، ووسع الناس تخلقه، وأرضى للسلطان حمله، وامتد في ميدان النظم والنثر باعه، فصدر عنه من المنظوم في أمداحه قصائد بعيدة الشأو في مدى الإجادة، وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد، أعانه الله تعالى وسدده.
__________
(1) الإحاطة: وبين.(7/146)
شيوخه - قرأ العربية على الأستاذ رحلة المغرب في فنها أبي عبد الله ابن الفخار، ثمّ على القاضي الشريف إمام الفنون اللسانية أبي القاسم محمد بن أحمد الحسني، والفقه والعربية على الأستاذ المفتي أبي سعيد ابن لب، واختص بالفقيه الخطيب الصدر المحدث أبي عبد الله ابن مرزوق فأخذ عنه كثيراً من الرواية، ولقي القاضي الحافظ (1) أبا عبد الله المقّري عندما قدم على الأندلس وذاكره، وقرأ الأصول الفقهية على أبي علي منصور الزواوي، ويروي عن جملة منهم القاضي أبو البركات ابن الحاج، والمحدث أبو الحسين ابن التلمساني، والخطيب أبو عبد الله ابن اللوشي، والمقرىء أبو عبد الله ابن بيبش، وقرأ بعض الفنون العقلية بمدينة فاس على الشريف الرحلة الشهير أبي عبد الله العلّوني (2) التلمساني، واختص به اختصاصاً لم يخل فيه من استفادة مران وحنكة في الصنعة.
شعره - وشعره مترام إلى هدف الإجادة، خفاجي النزعة، كلف بالمعاني البديعة والألفاظ الصقيلة، غزير المادة، فمن ذلك ما خاطبني به، وهو من أول ما نظمه قصيدة مطلعها:
أما وانصداع النور من مطلع الفجر ... وهي طويلة.
ومن بدائعه التي عقم عن مثلها قياس قيس، واشتهرت بالإحسان اشتهار الزهد بأويس (3) ، ولم يحل مجاريه ومباريه إلاّ بويح وويس، قوله في إعذار الأمير ولد سلطانه المنوه بمكانه، وهي من الكلام الذي عنيت الإجادة بتذهيبه وتهذيبه، وناسب الحسن بين مديحه ونسيبه:
__________
(1) ق: الحافظ القاضي.
(2) سقطت هذه اللفظة من الإحاطة.
(3) هو أويس القرني من أوائل الزهاد في العصر الأموي.(7/147)
معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا ... وأن يشغل اللوّام بالعذل باليا
دعاني أعط الحبّ فضل مقادتي ... ويقضي عليّ الوجد ما كان قاضيا
ودون الذي رام العواذل صبوة ... رمت بي في شعب الغرام المراميا
وقلب إذا ما البرق أومض موهناً ... قدحت به زنداً من الشوق واريا
خليليّ إني يوم طارقة النّوى ... شقيت بمن لو شاء أنعم باليا
والخيف يوم النفر يا أمّ مالك ... تخلّفت قلبي في حبالك عانيا
وذي أشرٍ عذب الثنايا مخصّرٍ ... يسقّي به ماء النّعيم الأقاحيا
أحوم عليه ما دجا الليل ساهراً ... وأصبح دون (1) الورد ظمآن صاديا
يضيء ظلام الليل ما بين أضلعي ... إذا البارق النجديّ وهناً بدا ليا
أجيرتنا بالرمل والرمل منزل ... مضى العيش فيه بالشبيبة حاليا
ولم أر ربعاً منه أقضى لبانة ... وأشجى حمامات، وأحلى مجانيا
سقت ظلّه الغرّ الغوادي ونظّمت ... من القطر في جيد الغصون لآليا
أبثّكم أني على النأي حافظ ... ذمام الهوى لو تحفظون ذماميا
أناشدكم والحر أوفى بعهده ... ولن يعدم الأحسان والخير جازيا
هل الود إلاّ ما تحاماه كاشحٌ ... وأخفق في مسعاه من جاء واشيا
تأوّبني واللّيل يذكي عيونه ... ويسحب من ذيل الدّجنّة ضافيا
وقد مثلت زهر النجوم بأفقه ... حباباً على نهر المجرّة طافيا
خيال على بعد المزار ألمّ بي ... فأذكرني من لم أكن عنه ساليا
عجبت له كيف اهتدى نحو مضجعي ... ولم يبق مني السقم والشّوق باقيا
رفعت له نار الصبابة فاهتدى ... وخاض لها عرض الدّجنّة ساريا
وممّا أجدّ الوجد سربٌ على النّقا ... سوانح يصقلن الطّلى والتراقيا
__________
(1) ق: يوم.(7/148)
نزعن عن الألحاظ كلّ مسدّد ... فغادرن أفلاذ القلوب دواميا
ولما تراءى السّرب قلت لصاحبي ... وأيقنت أنّ الحبّ ما عشت دانيا
حذارك من سقم الجفون فإنّه ... سيعدي بما يعيي الطلبيب المداويا
وإنّ أمير المسلمين محمداً ... ليعدي نداه الساريات الهواميا
تضيء النجوم الزاهرات خلاله ... وينفث في روع الزمان المعاليا
معال إذا ما النّجم صوّب طالباً ... مبالغها في العزّ حلّق وانيا
يسابق علويّ الرياح إلى النّدى ... ويفضح جدوى راحتيه الغواديا
ويغضي عن العوراء إغضاء قادر ... ويرجح في الحلم الجبال الرواسيا
همام يروع الأسد في حومة الوغى ... كما راعت الأسد الظباء الجوازيا
إذا استبق الأملاك يوماً لغاية ... أبيت وذاك المجد إلا التناهيا
بهرت فأخفيت الملوك وذكرها ... ولا عجب فالشمس تخفي الدراريا
جلوت ظلام الظلم من كلّ معتدٍ ... ولا غرو أن تجلو البدور الدياجيا
هديت سبيل الله من ضلّ رشده ... فلا زلت مهدياً إليه وهاديا
أفدت وحيّ الملك ممّا أفدته ... وطوّقت أشراف الملوك الأياديا
وكان أبو زيّان جيداً معطّلاً ... فزينته حتى اغتدى بك حاليا
لك الخير لم تقصد بما قد أفدته ... جزاء ولكن همّة هي ما هيا
فما تكبر الأملاك غيرك آمراً ... ولا ترهب الأشراف غيرك ناهيا
ولا تشتكي الأيام من داء فتنة ... فقد عرفت منك الطبيب المداويا
وأندلساً أوليت ما أنت أهله ... أوردتها ورداً من الأمن صافيا
تلافيت هذا الثغر وهو على شفاً ... وأصبحت من داء الحوادث شافيا
ومن بعد ما ساءت ظنون بأهلها ... وحاموا على ورد الأماني صواديا(7/149)