جمعت نكهته في ثغره عبقاً في نسق يسبي الحدق
وبدت خجلته في خده شفقاً في فلق تحت غسق
وقال:
وعشية لبست ملاء شقيق تزهى بلون للخدود أنيق
أبقت بها الشمس المنيرة مثل ما أبقى الحياء بوجني معشوق
لو أستطيع شربتها كلفاً بها وعدلت فيها عن كؤوس رحيق
وقال في مسامرة كتاب زعماء:
لله ليلتنا التي استخذى بها فلق الصباح لسدفة الإظلام
طرأت علي مع النجوم بأنجم من فتية بيض الوجوه كرام
إن حوربوا فزعوا إلى بيض الظبى أو خوطبوا فزعوا إلى الأقلام
فترى البلاغة إن نظرت إليهم والبأس بين يراعة وحسام
وقال:
ومجدين في السرى قد تعاطوا غفوات الهوى بغير كؤوس
جنحوا وانحنوا على العيس حتى خلتهم يعتبون أيدي العيس
نبذوا الغمض وهو حلو إلى أن وجدوه سلافة في الرؤوس
وقال:
وحبب يوم السبت عندي أنني ينادمني فيه الذي أنا أحببت
ومن أعجب الأشياء أني مسلم حنيف ولكن خير أيامي السبت
ولنقتصر من نساء الأندلس على هذا المقدار، ونعد غلى ما كنا فيه من جلب كلام بلغاء الأندلس ذوي الأقدار، فنقول:(4/300)
681 - قال الخفاجي رحمه الله تعالى (1) :
وهاتفة في البان تملي غرامها علينا وتتلو من صبابتها صحفا
عجبت لها تشكو الفراق جهالة وقد جاوبت من كل ناحية إلفا
ويشجي قلوب العاشقين أنينها وما فهموا مما تغنت به حرفا
ولو صدقت فيما تقول فيه من الأسى لما لبست طوقاً ولا خضبت كفا
682 - وقال الأستاذ أبو محمد ابن صارة:
متى تلتقي عيناي بدر مكارم تود الثريا أنها من مواطئه
ولما أهل المدلجون بذكره وفاح تراب البيد مسكاً لواطئه
عرفنا بحسن الذكر حسن صنيعه كما عرف الوادي بخضرة شاطئه
وقال يتغزل:
يا من تعرض دونه شحط النوى فاستشرفت لحديثه أسماعي
إني لمن يحظى بقربك حاسد ونواظري يحسدن فيك رقاعي
لم تطوك الأيام عني إنما نقلتك من عيني إلى أضلاعي
683 - مقطعات لابن العطار
وقال الأديب أبو القاسم ابن العطار (2) :
عبرنا سماء الجو والنهر مشرق وليس لنا إلا الحباب النجوم
وقد ألبسته الأيك برد ظلالها وللشمس في تلك البرود رقوم
__________
(1) ديوان ابن خفاجة: 370 (عن النفح) .
(2) القلائد: 285.(4/301)
وله أيضاً (1) :
لله بهجة نزهة ضربت به ... فوق الغدير رواقها الأنشام (2) فمع الأصيل النهر درع سابغ ومع الضحى يلتاح فيه حسام
وقال أيضاً (3) :
هبت الريح بالعشي فحاكت زرداً للغدير ناهيك جنه
وانجلى البدر بعد هدء (4) فحاكت ... كفه للقتال منه أسنه وقال أيضاً (5) :
لله حسن حديقة بسطت لنا منها النفوس سوالف ومعاطف
تختال في حلل الربيع وحليه ومن الربيع قلائد ومطارف
وله (6) :
وسنان ما إن يزال عارضه يعطف قلبي بعطفة اللام
أسلمني للهوى فوا حزني أن بزني عفتي وإسلامي
لحاظه أسهم، وحاجبه قوس، وإنسان عينه رامي
684 - وارتجل أبو جعفر ابن خاتمة رحمه الله تعالى لما بات في قرية بيش:
__________
(1) القلائد، والمغرب 1: 254.
(2) الأنشام - بالشين - نوع من الشجر.
(3) القلائد: 285.
(4) م: هذا.
(5) القلائد: 286.
(6) القلائد: 288 والثالث في المغرب.(4/302)
لله منزلنا بقرية بيش كاد الهوى فيها ادكاراً بي يشي
رحنا إليها والبطاح كأنها صحف مذهبة بإبريز العشي
فأجازه الوزير ابن جزي بقوله:
في فتية هزت حميا الأنس من أعطافهم فالكل منها منتشي
يأتي علاهم بالصحيح، ولفظهم بالمنتقى، وجمالهم بالمدهش
685 - وقال السلطان أبو الحجاج النصري مرتجلاً أيام مقامه بظاهر جبل الفتح سنة 815:
ولم يتركوا أوطانهم بمرادهم ولكن لأحوال أشابت مفارقي
أقام بها ليل التهاني تقلباً وقد سكنت جهلاً نفوس الخلائق
فعوضتها ليل الصبابة بالسرى وأنس التلاقي بالحبيب المفارق
ولم يثنني طرف من النور ناعس ولا معطف للبان وسط الحدائق
ولا منهض الأشبال في عقر غيرهم ولا ملعب الغزلان فوق النمارق
وعاطيتها صبح الدياجي مدامة تميل بها الركبان فوق الأيانق
إذا ما قطعنا بالمطي تنوفة دلجنا لأخرى بالجياد السوابق
بحيث التقى موسى مع الخضر آية عسى ترجع العقبى كموسى وطارق
وله:
من عاذري من غزال زانه حور قد هام لما بدا في حسنه البشر
ألحاظه كسيوف الهند ماضية لها بقلبي وإن سالمتها أثر
686 - وقال القاضي أبو القاسم ابن حاتم:
شكوت بما دهاك وكان سراً لمن ليست مودته صحيحه
فتلك مصيبة عادت ثلاثاً لصحبتها الشماتة والفضيحه(4/303)
687 - وقال الفقيه محمد بن سعيد الأندلسي مخاطباً للفقيه الفخار:
خفف علينا قليلاً أيها المعلم فربما كان فينا من به ألم
لا يستطيع نهوضاًمن ألمه وإن تمادى قليلاً خانت القدم
كفى وصية مولانا وسيدنا محمد فاسمعوا ما قال والتزموا
688 - وقال ابن جبير اليحصبي فيمن أهدى إليه تفاحاً:
خليل لم يزل قلبي قديماً يميل بفرط صاغية إليه
أتاني مقبلاً والبشر يبدي وسائل برة كرمت لديه
وجاء بعرف تفاح ذكي فقلت أتى الخليل بسيبويه
فأهدى من جناه بكل شكل يلوح جمال مهديها عليه
689 - وقال قاضي مالقة سيدي إبراهيم البدوي:
قطعت يأسي فصنت نفسي عن الوقوف لذي وجاهه
قصدت ربي فكان حسبي ألبسني فضله وجاهه
فال يرى ينثني عناني مدى حياتي إلا تجاهه
690 - وقال ابن خليل السكوني في فهرسته: شاهدت بجامع العدبس بإشبيلية ربعة مصحف في أسفار ينحى به لنحو خطوط الكوفة إلا أنه أحسن خطاً وأبينه وأبرعه وأتقنه، فقال لي الشيخ الأستاذ أبو الحسن ابن الطفيل بن عظيمة: هذا خط ابن مقلة، وأنشد:
خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ودت جوارحه لو أنها مقل
ثم قسنا حروفه بالضابط فوجدنا أنواعها تتماثل في القدر والوضع، فالألفات على قدر واحد، واللامات كذلك، والكافات والواوات وغيرها بهذه النسبة، انتهى.(4/304)
قلت: رأيت بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام مصحفاً بخط ياقوت المستعصمي بهذه المثابة، وهو من الأوقاف الرستمية، ورأيت بالحجرة الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام مصحفاً مكتوباً في آخره ما صورته: كتبته بقلم واحد فقط ما قط قط إلا مرة فقط، انتهى.
رجع:
691 - وقال ابن عبدون رحمه الله تعالى:
أذهبن من فرق الفراق نفوسا ونثرن من در الدموع تفيسا
فتبعتها نظر الشجي فحدقت رقباؤها نحوي عيوناً شوسا
وحللن عقد الصبر إذ ودعنني فحللن أفلاك الخدور شموسا
حلته إذ حلته حتى خلته عرشاً لها وحسبتها بلقيسا
فازور جانبها وكان جوابها: لو كنت تهوانا صحبت العيسا
وهي طويلة.
قلت: ما أظن لسان الدين نسج قصيدته من هذا البحر والروي إلا على منوال هذه، وإن كان الحافظ التنسي قال: إنه نسجها على قصيدة أبي تمام حسبما ذكرنا ذلك في محله، فليراجع.
692 - وقال أبو عبد الله ابن المناصف قاضي بلنسية ومرسية رحمه الله تعالى:
ألزمت نفسي خمولا عن رتبة الأعلام
لا يخسف البدر إلا ظهوره في تمام
وتذكرت به قول غيره:
ليس الخمول بعار على امرئ ذي جلال
فليلة القدر تخفى وتلك خير الليالي(4/305)
693 - وقال الوزير ابن عمار، وقد كتب له أبو المطرف ابن الدباغ شافعاً لغلام طر له عذار:
أتاني كتابك مستشفعاً بوجه أبي الحسن من رده
ومن قبل فضي ختم الكتاب قرأت الشفاعة في خده
694 - وقال القاضي الأديب، والفيلسوف الأريب، أبو الوليد الوقشي قاضي طليطلة (1) :
برح بي أن علوم الورى قسمان ما إن فيهما من مزيد
حقيقة يعجز تحصيلها وباطل تحصيله لا يفيد
695 - وقال أبو عبد الله ابن الصفار وهو من بيت القضاء والعلم بقرطبة:
لا تحسب الناس سواء متى ما اشتبهوا فالناس أطوار
زانظر إلى الأحجار، في بعضها ماء، وبعض ضمنه نار
وهذا مثل قول غيره (2) :
الناس كالأرض ومنها هم من خشن الطبع ومن لين
مرو تشكى الرجل منه الوجى وإثمد يجعل في الأعين
ومن نظم ابن الصفار المذكور:
إذا نويت انقطاعاً فاعمل حساب الرجوع
696 - وقال أبو مروان الجزيري:
ومن العجائب والعجائب جمة أن يلهج الأعمى بعيب الأعور
__________
(1) انظر ما تقدم ص: 137.
(2) الحصري (التكملة: 434) .(4/306)
697 - وقال حسان بن المصيصي كاتب بن عباد ملك قلطبة:
لا تأمنن من العدو لبعده إن امرأ القيس اشتكى الطماحا
698 - وقال الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن عربي في كتابه الإسفار عن نتائج الأسفار: أنشدني الكاتب أبو عمرو ابن مهيب بإشبيلية أبياتاً عملها في حمود بن إبراهيم بن أبي بكر الهرغي، وكان أجمل أهل زمانه، رآه عندنا زائراً وقد خط عذاره، فقلت: يا أبا عمرو، ما تنظر إلى حسن هذا الوجه فعمل الأبيات في ذلك، وهي:
وقالوا العذار جناح الهوى إذا ما استوى طار عن وكره
وليس كذاك فخبرهم قياماً بعذري أو عذره
إذا كمل الحسن في وجنة فخاتمه ويك من شعره
قال بعضهم: رأيت آخر الكتاب المذكور بعد فراغه شعراً نسبه إليه، وهو:
يا جاضراً بجماله في خاطري ومحجباً بجلاله عن ناظري
إن غبت عن عيني فإنك نورها وضمير سرك سائر في سائري
ومن العجائب أنني أبداً إلى رؤياك ذو شوق مديد وافر
وع أنني ما كنت قط بمجلس إلا وكنت كنادمي ومسامري
699 - وأنشد في الإحاطة لعبد الله الجذامي:
أيا سيدي أشكو لمجدك أنني صددت مراراً عن مثولي بساحتك
شكاة اشتياق أنت حقاً طبيبها وما راحتي إلا بتقبيل راحتك
قال: وهو عبد الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد الجذامي، فاضل ملازم(4/307)
للقراءة، عاكف على الخير، مشارك في العربية، خاطب للرياسة الأدبية، اختص بالأمير أبي علي المنصور ابن السلطان أيام مقامه بالأندلس، ومما خاطبه به معتذراً:
أيا سيدي...... البيتين
انتهى.
700 - وقال في ترجمة عبد الله بن أحمد المالقي قاضي غرناطة، وكان فقيهاً بارع الأدب: إنه كتب إلى أبي نصر صاحب القلائد والمطمح أثناء رسالة بقوله:
تفتحت الكتابة عن نسيم نسيم المسك في خلق كريم
أبا نصر رسمت لها رسوماً تخال رسومها وضح النجوم
وقد كانت عفت فأنرت منها سراجاً لاح في الليل البهيم
فتحت من الصناعة كل باب فصارت في طريق مستقيم
فكتاب الزمان ولست منهم إذا راموا مرامك في هموم
فما قس بأبدع منك لفظاً ولا سحبان مثلك في العلوم
701 - وقال الذهبي، وقد جرى ذكر محمد بن الحسن المذحجي الأندلسي ابن الكتاني: إنه أديب شاعر متفنن ذو تصانيف، حمل عنه ابن حزم، ومن شعره:
ألا قد هجرنا الهجر واتصل الوصل وبانت ليالي البين واجتمع الشمل
فسعدي نديمي، والمدامة ريقها، ووجنتها روضي، وتقبيلها النقل
702 - وقال العلامة محمد بن عبد الرحمن الغرناطي:
الشعب ثم قبيلة وعمارة بطن وفخذ والفصيلة تابعه(4/308)
فالشعب مجتمع القبيلة كلها ثم القبيلة للعمارة جامعه
والبطن تجمعه العمائر فاعلمن والفخذ تجمعه البطون الواسعه
والفخذ يجمع للفصائل هاكها جاءت على نسق لها متتابعه
فخزيمة شعب، وإن كنانة لقبيلة منها الفصائل شائعه
وقريشها تسمى العمارة يا فتى وقصي بطن للأعادي قامعه
ذا هاشم فخذ وذا عباسها أثر الفصيلة لا تناط بسابعه
وكتبت هذه الأبيات وإن لم تشتمل على البلاغة لما فيها من الفائدة، ولأن بعض الناس سألني فيها لغرابتها، والأعمال بالنيات.
703 - ولما دخل أبو محمد الكلاعي الجياني على القاضي ابن رشد قام له فأنشده أبو محمد بديهة:
قام لي السيد الهمام قاضي قضاةالورى الإمام
فقلت قم بي، ولا تقم لي فقلما يؤكل القيام
704 - وقال أبو عبد الرحمن ابن جحاف البلنسي:
لئن كان الزمان أراد حطي وحاربني بأنياب وظفر
كفاني أن تصافيني المعالي وإن عاديتني يا أم دفر
فما اعتز اللئيم وإن تسامى ولا هان الكريم بغير وفر
705 - وقال أبو محمد ابن برطله (1) :
ألا إنما سيف الفتى صنو نفسه فنافس بأوفى ذمة وإخاء
يزينك مرأى أو يعينك حاجة فيحسن حالي شدة ورخاء
__________
(1) زاد في م: وقد سبق ذكره.(4/309)
وقال أيضاً (1) :
أنفسي صبراً لا يروعك حادث بإرتاجه واستشعري عاجل الفتح
فرب اشتداد في الخطوب لفرجة ... كما انشق ليل طال عن فلق الصبح (2) وقال أيضاً:
متى يدنو لوعدكم انتجاز ويبعد من حقيقته المجاز
أيجمل أن يؤمكم رجائي فيوقف لا يرد ولا يجاز
وجدكم كفيل بالأماني ومطلوبي قريب مستجاز
إذا ما أمكنت فرص المساعي فعجز أن يطاولها انتهاز
وها أنا قد هززتكم حساماً ويحسن للمهندة اهتزاز
فما الإنصاف أن ينضى كهام ويودع غمده العضب الجراز
كما نعم العراق بعذب بحر ويشقى بالظما البرح الحجاز
فأعيى الناس في المقدار (3) حكم ... تجاذبه خمول واعتزاز 706 - وأنشد الشيخ أبو بكر ابن حبيش لابن وضاح البيت المشهور، وهو:
أسرى وأسير في الآفاق من قمر ومن نسيم ومن طيف ومن مثل
__________
(1) م: وقوله وقد أجاد وأبلغ في الموعظة.
(2) زاد في م بعد هذه المقطوعة مقطوعتين لابن برطله وهما قوله:
وأمر كأن المصطلين بحره ... وإن لم تكن نار وقوف على الجمر
صبرت له حتى تناءى وإنما ... تفرج أيام الكريهة بالصبر وقوله:
نفسي تنازعني فقلت لها اصبري ... موت يريحك أو صعود المنبر
ما قد قضي سيكون فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر (3) م: المقدور.(4/310)
وابن حبيش المذكور هو أبو بكر محمد بن الحسن بن يوسف (1) بن حبيش - بفتح الحاء - وقد عرف به تلميذه ابن الفهري في رحلته، فقال بعد كلام: أما النظم فبيده عنانه، وأما النثر فإن مال إليه توكف له بنانه (2) ، مع تواضع زائد، على صلة مخبره عائد، لقيته بمنزله ليوم أو يومين من مقدمي على تونس، فتلقى بكل فن يونس، وصادفته بحالة مرض، من وثء (3) في رجله عرض، وعنده جملة من العواد، من الصدور الأمجاد، فأدنى وقرب، وسهل ورحب، وتفاوض أولئك الصدور، في فنون من الأدب كأنها الشذور، إلى أن خاضوا في الأحاجي، واستضاءوا بأنوار أفكارهم في تلك الدياجي، فخضت معهم في الحديث، وأنشدتهم بيتين كنت صنعتهما وأنا حديث، لقصة بلغتني عن أبي الحسن سهل بن مالك، وهي أنه كان يسائل أصحابه وهو في المكتب ويقول لهم: أخرجوا اسمي، فكل ينطق على تقديره، فيقول لهم: إنكم لم تصيبوه مع أنه سهل، فنظمت هذا المعنى فقلت:
وما اسم فكه سهل يسير يكون مصغراً نجماً يسير
مصحفه له في العين حسن وقلبي عند صاحبه أسير
وكان الشيخ أبو بكر على فراشه، فزحف مع ما به من ألم، إلى محبرة وطرس وقلم، وكتب البيتين بخطه، وقال للحاضرين: ارووا هذين البيتين عن قائلهما.
ومن شيوخ ابن حبيش المذكور أبو عبد الله ابن عسكر المالقي، كتب له ولأخيه أبي الحسين بخطه إجازة جميع ما يجوز له، وعنه، وضمن آخرها هذه الأبيات:
__________
(1) م: يونس؛ قلت وصوابه محمد بن الحسن بن يوسف بن الحسن بن يونس كما أورده ابن رشيد في ملء العيبة (1736 من نسخة الاسكوريال) .
(2) ابن رشيد: عنانه.
(3) ابن رشيد: من ألم، وفي هامش الرحلة: وثء.(4/311)
أجبتكما لكن مقراً بأنني أقصر فيما رمتما عن مداكما
فإنكما بدران في العلم أشرقا فسلم إذعاناً وقسراً عداكما
فسيروا على حكم الوداد فإنني أجود بنفسي أن تكون فداكما
قال ابن رشيد: وقد جمع صاحبنا أبو العباس الأشعري لابن حبيش فهرسة جامعة، ولما وقف عليها ابن حبيش كتب في أولها ما نصه: الحمد لله حق حمده، أحسن هذا الفاضل فيما صنع أحسن الله إليه، وبالغ فيما جمع بلغ الله تعالى به أشرف المراتب لديه، غير أني أقول واحدة، ما سريرتي لها بجاحدة (1) ، وأصرح بمقال، لا يسعني كتمه بحال: والله ما أنا للإجازة بأهل، ولا مرامها لدي بسهل، إذ من شرط المجيز أن يعد فيمن كمل، ويعد العلم والعمل، اللهم غفراً، كيف ينيل من عدم وفراً، أو يجيز من أصبح صدره من المعارف قفراً، وصحيفته من الصالحات صفراً، وكيف يرتسم في ديوان الجلة، من يتسم بالأفعال المخلة، ومتى يقترن الشبه بالإبريز، أو يوصف السكيت بالتبريز، ومن ضعف النهى، مجانسة الأقمار بالسها، ومن أعظم التوبيخ، تشييخ من لا يصلح للتشييخ، وإن هذا المجموع ليروق ويعجب، ولكنه جمع لمن لا يستوجب، وإن القراءة قد تحصلت، ولكن القواعد ما تأصلت، وإن القارئ علم، ولكن المقروء عليه عدم، ولقد شكرت لهذا السري ما جلب، وكتبت مسعفاً له بما طلب، وقرنت إلى دره هذا المخشلب، قلت وحليي عطل، ونطقي خطل، مكره أخاك (2) لا بطل، والله سبحانه وتعالى ينفع بما أخلص له عند الاعتقاد، ويسمح للبهرج عند النتقاد، كتبه العبد المذنب [المستغفر] (3) محمد بن الحسن بن يوسف بن حبيش اللخمي حامداً الله تعالى
__________
(1) ابن رشيد: جاحدة.
(2) ابن رشيد: أخوك.
(3) زيادة من رحلة ابن رشيد.(4/312)
ومصلياً على نبيه الكريم المصطفى وعلى آله أعلام الطهارة والهدى ومسلماً تسليماً.
وكتب أيضاً رحمه الله تعالى في جواب استجازة: المسؤول مبذول، إن شاء الله تعالى على التنجيز، ولكن شروط الإجازة موجودة في المجاز معدومة في المجيز، والله تعالى يصفح بكرمه ومنه، ويشكر كل فاضل على تحصيل ظنه، وهو المسؤول سبحانه أن يحفظ بعنايته مهجاتهم، ويرفع بالعلم والعمل درجاتهم، ويمتعهم بالكمال الرائق المعجب، ويقر بالنجيبين عين المنجب، وكتبه ابن حبيش، انتهى.
707 - وقال الوزير الكاتب أبو بكر ابن القبطرنة يستجدي بازياً من المنصور بن الأفطس صاحب بطليوس:
يا أيها الملك الذي آباؤه شم الأنوف من الطراز الأول
حليت بالنعم الجسام جسيمة عنقي فحل يدي كذاك بأجدل
وامنن به ضافي الجناح كأنما حذيت قوائمه بريح شمأل
متلفتاً والطل ينثر برده منه على مثل اليماني المحمل
أغدو به عجباً أصرف في يدي ريحاً وآخذ مطلقاً بمكبل
708 - وأدخلت على المعتمد يوماً باكورة نرجس، فكتب إلى ابن عمار يستدعيه:
قد زارنا النرجس الذكي وآن من يومنا العشي
ونحن في مجلس أنيق وقد ظمئنا وفي ري
ولي خليل غدا سميي يا ليته ساعد السمي
فأجابه ابن عمار:
لبيك لبيك من مناد له الندى الرحب والندي(4/313)
ها أنا بالباب عبد قن قبلته وجهك السني
شرفه والداه باسم شرفته أنت والنبي
واصطبح المعتمد يوم غيم مع أم الربيع، واحتجب عن الندماء، فكتب إليه ابن عمار:
تجهم وجه الأفق واعتلت النفس لأن لم تلح للعين أنت ولا الشمس
فإن كان هذا منكما من توافق وضمكما أنس فيهنيكما الأنس
فأجابه المعتمد بقوله:
خليلي قولا هل علي ملامة إذا لم أغب إلا لتحضرني الشمس
وأهدي بأكواس المدام كواكباً إذا أبصرتها العين هشت لها النفس
سلام سلام أنتما الأنس كله وإن غبتما أم الربيع هي الأنس
واستدعى جماعة من إخوان ابن عمار منه شراباً في موضع هو فيه مفقود، فبعث لهم به وبرمانتين وتفاحتين، وكتب لهم مع ذلك:
خذاهما مثلما استدعيتماهما عروساً لا تزف إلى اللئام
ودونكما بها ثديي فتاة أضفت إليهما خدي غلام
709 - وشرب ذو الوزارتين القائد أبو عيسى ابن لبون مع الوزراء والكتاب ببطحاء لورقة عند أخيه، وابن اليسع غائب، فكتب إليه:
لو كنت تشهد يا هذا عشيتنا والمزن يسكن أحياناً وينحدر
والأرض مصفرة بالمزن طافية أبصرت دراً عليه التبر ينتثر
710 - وقال الحجاري من القصيدة المشهورة:
عليك أحالني الذكر الجميل(4/314)
في وصف زيه البدوي المستثقل وما في طيه:
ومثلني بدن فيه خمر يخف به ومنظره ثقيل
ولما انصرف (1) عن ابن سعيد إلى ابن هود عذله ابن سعيد على تحوله عنه، فقال: النفس تواقة، وما لي بغير التغرب طاقة، ثم قال:
يقولون لي ماذا الملال تقيم في محل فعند الأنس تذهب راحلا
فقلت لهم مثل الحمام إذا شدا على غصن أمسى بآخر نازلا
711 - وقد رأيت أن أكفر ما تقدم ذكره من الهزل الذي أتينا به على سبيل الإحماض بما لا بد منه من الحكم والمواعظ وما يناسبها، فنقول:
1 - قال أبو العباس ابن خليل:
فهموا إشارات الحبيب فهاموا وأقام أمرهم الرشاد فقاموا
وتوسموا بمدامع منهلة تحت الدياجي والأنام نيام
وتلوا من الذكر الحكيم جوامعاً جمعت لها الألباب والأفهام
يا صاح لو أبصرت ليلهم وقد صفت القلوب وصفت الأقدام
لرأيت نور هداية قد حفهم فسرى السرور وأشرق الإظلام
فهم العبيد الخادمون مليكهم نعم العبيد وأفلح الخدام
سلموا من الآفات لما استسلموا فعليهم حتى الممات سلام
2 - وقال العالم الكبير الشهير صاحب التآليف أبو محمد عبد الحق الإشبيلي رحمه الله تعالى:
قالوا صف الموت يا هذا وشدته فقلت وامتد مني عندها الصوت
__________
(1) م: انصرف المذكور.(4/315)
يكفيكم (1) منه أن الناس إن وصفوا ... أمراً يروعهم قالوا هو الموت 3 - وقال الخطيب الأستاذ أبو عبد الله محمد بن صالح الكناني الشاطبي نزيل بجاية:
جعلت كتاب ربي لي بضاعه فكيف أخاف فقراً أو إضاعه
وأعددت القناعة رأس مال وهل شيء أعز من القناعه
4 - وقال القاضي الكبير الأستاذ الشهير أبو العباس أحمد بن الغماز البلنسي نزيل إفريقية:
هو الموت فاحذر أن يجيئك بغتة وأنت على سوء من الفعل عاكف
وإياك أن تمضي من الدهر ساعة ولا لحظة إلا وقلبك واجف
وبادر بأعمال تسرك أن ترى إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
ولا تيأسن من رحمة الله إنه لرب العباد بالعباد لطائف
وقال رحمه الله تعالى:
أما آن للنفس أن تخشعا أما آن للقلب أن يقلعا
أليس الثمانون قد أقبلت فلم تبق في لذة مطمعا
تقضى الزمان ولا مطمع لما قد مضى منه أن يرجعا
تقضى الزمان فواحسرتي لما فات منه وما ضيعا
ويا ويلتاه لذي شيبة يطيع هوى النفس فيما دعا
وبعداً وسحقاً له إذ غدا ... يسمع وعظاً ولن يسمعا (2)
__________
(1) م ق: يكفيهم.
(2) زاد في م بعد هذا المقطوعتين التاليتين لابن الغماز، وله أيضاً وهو غريب في معناه:
أيا صاحب الهم إن الهم منفرج ... كم من أمور شداد فرج الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه ... لا تيأسن فإن الفاتح الله
الله حسبك فيما عذت منه به ... وأين يأمنهم من حسبه الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ... ما لأمرئ حيلة فيما قضى الله
سلم إلى الله فيما شاء وأرض به ... فالخير أجمع فيما يصنع الله وقال عفا الله عنه وأجاد في قوله ونصحه:
صن النفس وأحملها على ما يزينها ... تعش سالماً والقول منك جميل
وإن قل رزق اليوم فأصبر إلى غد ... عسى نائبات الدهر عنك تزول
يعز غني النفس إن قل ماله ... ويفنى فقير النفس وهو ذليل
وما أكثر الأحباب حين تعدهم ... ولكنهم في النائبات قليل(4/316)
5 - وقال الأستاذ الزاهد أبو إسحاق الإلبيري الغرناطي رحمه الله تعالى (1) :
كل امرئ فيما يدين يدان سبحان من لم يخل منه مكان
يا عامر الدنيا ليسكنها وما هي بالتي يبقى بها سكان
تفنى وتبقى الأرض بعدك مثلما يبقى المناخ وترحل الركبان
أأسر في الدنيا بكل زيادة ... وزيادتي فيها هي النقصان (2) وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) :
وذي غنى أوهمته همته أن الغنى عنه غير منفصل
__________
(1) ديوان الإلبيري (القطعة: 35 في الملحق - نقلاً عن النفح) .
(2) زاد هنا في م للإبيري قوله: وقال عفا الله عنه مبتهلاً إلى مولاه:
أتيتك راجياً يا ذا الجلال ... ففرج ما ترى من سوء حالي
عصيتك سيدي ويلي بجهلي ... وعيب الذنب لم يخطر ببالي
إلى من يشتكي المملوك إلا ... إلى مولاه يا مولي الموالي
لعمري ليت أمي لم تلدني ... ولم أغضبك في ظلم الليالي
فها أنا عبدك العاصي فقير ... إلى رحماك فاقبل لي سؤالي
فإن عاقبت يا ربي تعاقب ... محقاً بالعذاب وبالنكال
وإن تعف فعفوك قد أراني ... لأفعالي وأوزاري الثقال (3) زاد في م: في تيه الغنى بغناه وهو كلا شيء في عقباه؛ والقطعة رقم 34 في ديوانه نقلاً عن النفح.(4/317)
يجر أذيال عجبه بطراً واختال للكبرياء في الحلل
بزته أيدي الخطوب بزته فاعتاض بعد الجديد بالسمل
فلا تثق بالغنى فآفته ال فقر وصرف الزمان ذو دول
كفى بنيل الكفاف عنه غنى فكن به فيه غير محتفل
وقال رحمه الله تعالى (1) :
لا شيء أخسر صفقة من عالم لعبت به الدنيا مع الجهال
فغدا يفرق دينه أيدي سبا ويديله حرصاً لجمع المال
لا خير في كسب الحرام وقلما يرجى الخلاص لكاسب الحلال
فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلة فالفضل تسأل عنه أي سؤال
وقال رحمه الله تعالى (2) :
الشيب نبه ذا النهى فتنبها ونهى الجهول فما استفاق ولا انتهى
فإلى متى أهو وأخدع بالمنى والشيخ أقبح ما يكون إذا لها
ما حسنه إلا التقى لا أن يرى صباً بألحاظ الجآذر والمها
أنى يقاتل وهو مفلول الشبا كابي الجواد إذا استقل تأوها
محق الزمان هلاله فكأنما أبقى له منه على قدر السها
فغدا حسيراً يشتهي أن يشتهى ولكم جرى طلق الجموح كما اشتهى
إن أن أواه وأجهش بالبكا لذنوبه ضحك الجهول وقهقها
ليست تنبهه العظات ومثله في سنه قد آن أن يتنهنها
فقد اللدات وزال غياً بعدهم هلا تيقظ بعدهم وتنبها
يا ويحه ما باله لا ينتهي عن غيه والعمر منه قد انتهى
__________
(1) في م: عفا الله عنه في علماء السوء؛ والقطعة رقم: 5 في ديوانه.
(2) زاد في م: في المشيب إن حل أوانه؛ والقطعة رقم: 8 في ديوانه.(4/318)
6 - وقال الأستاذ ولي الله سيدي أبو العباس ابن العريف:
من لم يشافه عالماً بأصوله فيقينه في المشكلات ظنون
من أنكر الأشياء دون تيقن وتثبت فمعاند مفتون
الكتب تذكرة لمن هو عالم وصوابها بمحالها معجون
والفكر غواص عليها مخرج والق فيها لؤلؤ مكنون
7 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش:
أيأسوني لما تعاظم ذنبي أتراهم هم الغفور الرحيم
فذروني وما تعاظم منه ... إنما يغفر العظيم العظيم (1) 8 - وقال أبو العباس ابن صقر الغرناطي أو المري، وأصله من سرقسطة (2) :
أرض العدو بظاهر متصنع إن كنت مضطراً إلى استرضائه
كم من فتى ألقى بوجه باسم وجوانحي تنقد من بغضائه
9 - وقال الكاتب الشهير الشهيد أبو عبد الله محمد بن الأبار القضاعي البلنسي رحمه الله تعالى من أبيات:
__________
(1) زاد في م: وقال وقد أحسن ظنه بالمولى تعالى سبحانه:
إذا ما بت من ترب فراشي ... وبت مجاور الرب العظيم
فهنوني صحابي ثم قولوا ... لك البشرى قدمت على كريم وقال غيره وأظنه من المشارقة:
قدمت على الكريم بغير زاد ... من الحسنات بالقلب السليم
وحمل الزاد أقبح كل شيء ... إذا كان القدوم على كريم (2) هو أحمد بن عبد الرحمن بن صقر الأنصاري أصله من سرقسطة، وخرج منها أبوه فسكن بلنسية ثم انتقل غلى المرية وبها ولد ابنه سنة 492 وتوفي بمراكش سنة 569؛ انظر التحفة: 49 والوافي 7 الورقة: 22.(4/319)
يا شقيق النفس أوصيك وإن شق في الإخلاص ما تنتهجه
لا تبت في كمد من كبد رب ضيق عاد رحباً مخرجه
وبلطف الله أصبح واثقاً كل كرب فعليه فرجه
ولابن الأبار المذكور ترجمة طويلة استوفيت منها ما أمكنني في أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض.
قال الغبريني في " عنوان الدراية " (1) : لو لم يكن له من الشعر إلا قصيدته السينية التي رفعها للأمير أبي زكريا رحمه الله تعالى يستنجده ويستصرخه لنصرة الأندلس لكان فيها كفاية، وإن كان قد نقدها ناقد، وطعن عليه فيها طاعن، ولكن كما قال أبو العلاء المعري:
تكلم بالقول المضلل حاسد وكل كلام الحاسدين هراء
ولو لم يكن له من التآليف إلا كتابه المسمى ب " معادن (2) اللجين في مراثي الحسين " لكفاه في ارتفاع درجته، وعلو منصبه وسمو رتبته.
ثم قال: توفي بتونس ضحوة يوم الثلاثاء الموفي عشرين لمحرم سنة658 ومولده لآخر شهر ربيع سنة595 ببلنسية، رحمه الله تعالى وسامحه، انتهى.
وقال ابن علوان: إنه يتصل سنده به من طرق، منها من طريق الرواية أبي عبد الله محمد بن جابر القيسي الوادي آشي عن الشيخ المقرئ المحدث المتبحر أبي عبد الله محمد بن حيان الأوسي الأندلسي نزيل تونس عنه، ومن طريق والدي صاحب عنواو الدراية عن الخطيب أبي عبد الله ابن صالح عنه، انتهى.
قلت: وسندي إليه عن العم عن التنسي عن أبيه عن ابن مرزوق عن جده
__________
(1) عنوان الدراية: 185.
(2) الغبريني: بكتاب.(4/320)
الخطيب عن ابن جابر الوادي آشي به كما مر.
10 - وقال ابن عبد ربه:
بادر إلى التوبة الخلصاء مجتهداً والموت ويحك لم يمدد إليك يدا
وارقب من الله وعداً ليس يخلفه لا بد لله من إنجاز ما وعدا
11 - وقال الصدر أبو العلاء ابن قاسم القيسي:
يا واقف الباب في رزق يؤمله لا تقطنن فإن الله فاتحه
إن قدر الله رزقاً أنت طالبه لا تيأسن فإن الله مانحه
12 - وقال الأعمى التطيلي (1) :
تنافس الناس في الدنيا وقد علموا أن سوف تقتلهم لذاتها بددا
قل للمحدث عن لقمان أو لبد لم يترك الدهر لقماناً ولا لبدا
وللذي همه البنيان يرفعه ... إن الردى لم يغادر في الثرى أحدا (2)
ما لابن آدم لا تفنى مطامعه (3) ... يرجو غداً وعسى أن لا يعيش غدا وقال أبو العباس التطيلي (4) :
والناس كالناس إلا أن تجربهم وللبصيرة حكم ليس للبصر
كالأيك مشتبهات في منابتها وإنما يقع التفضيل في الثمر
13 - وقال القاضي أبو العباس ابن الغماز البلنسي:
__________
(1) زاد في م: وقد سبق ذكره مراراً؛ والقطعة في ديوان الأعمى: 27.
(2) الديوان: في الشرى أسداً.
(3) الديوان: مطالبه.
(4) م: وقال الفقيه العالم أبو العباس التطيلي؛ قلت: وهذا يوهم أنه شخص آخر غير الأعمى التطيلي، وهو نفسه والبيتان في ديوانه: 48.(4/321)
من كان يعلم لا محالة أنه لا بد أن يؤدي وإن طال المدى
هلا استعد لمشهد يجزي به من قد أعد من اهتدى ومن اعتدى
وقال أيضاً (1) :
هو الموت فاحذر أن يجيئك بغتة وأنت على سوء من الفعل عاكف
وإياك أن تمضي من الدهر ساعة ولا لحظة إلا وقلبك واجف
فبادر بأعمال تسرك أن ترى إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
ولا تيأسن من رحمة الله إنه لرب العباد بالعباد لطائف
14 - ولما اسوزر باديس صاحب غرناطة اليهودي الشهير بابن نغدلة (2) ، وأعضل داؤه المسلمين، قال زاهد إلبيرة وغرناطة أبو إسحاق الإلبيري قصيدته النونية المشهورة التي منها في إغراء صنهاجة باليهود (3) :
ألا قل لصنهاجة أجمعين بدور الزمان وأسد العرين
مقالة ذي مقة مشفق صحيح النصيحة دنيا ودين
لقد زل سيدكم زلة أقر بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافراً ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهود به وانتموا وسادوا وتاهوا على المسلمين
وهي قصيدة طويلة، فثارت إذ ذاك صنهاجة على اليهود، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وفيهم الوزير المذكور - وعادة أهل الأندلس أن الوزير هو الكاتب - فأراح الله البلاد والعباد، ببركة هذا الشيخ الذي نور الحق على كلامه باد.
__________
(1) م: وقال رحمه الله أيضاً في الموت وأهواله؛ وقد مرت الأبيات ص: 316.
(2) هذا وجه من وجوه كتابة هذا الاسم، وكثيراً ما يرد: النغراله والنغريله.
(3) انظر ديوان الإلبيري: 151 وما بعدها.(4/322)
15 - وقال أبو الطاهر الجياني المشهور بابن أبي ركب - بفتح الراء وسكون الكاف (1) -:
يقول الناس في مثل تذكر غائباً تره
فما لي لا أرى وطني (2) ... ولا أنسى تذكره وكان أبو الطاهر هذا في جملة من الطلبة، فمر بهم رجل معه محبرة آبنوس تأنق في حليتها واحتفل في عملها، فأراهم إياها، وقال: أريد أن أقصد بها بعض الأكابر، وأريد أن تتموا احتفالي بأن تصنعوا لي بينكم أبيات شعر أقدمها معها، فأطرق الجماعة، وقال أبو طاهر:
وافتك من عدد العلا زنجية في حلة من حلية تتبختر
صفراء سوداء الحلي كأنها ليل تطرزه نجوم تزهر
فلم يغب الرجل عنهم إلا يسيراً، وإذا به قد عاد إليهم، وفي يده قلم نحاس مذهب، فقال لهم: وهذا مما أعددته للدفع مع هذه المحبرة، فتفضلوا بإكمال الصنيعة عندي بذكره، فبدر أبو الطاهر وقال:
حملت بأصفر من نجار حليها تخفيه أحياناً وحيناً يظهر
خرسان إلا حين يرضع ثديها فتراه ينطق ما يشاء ويذكر
قال ابن الأبار في تحفة القادم: وحضر يوماً في جماعة من أصحابه وفيهم أبو عبد الله ابن زرقون في عقب شعبان في مكان، فلما تملأوا من الطعام قال أبو الطاهر لابن زرقون: أجز يا أبا عبد الله، وأنشد:
حمدت لشعبان المبارك شبعة تسهل عندي الجوع في رمضان
__________
(1) مر البيتان ص: 113، 160 والأبيات والترجمة عن تحفة القادم: 22 بإيجاز.
(2) التحفة: سكني.(4/323)
كما حمد الصب المتيم زورة تحمل فيها الهجر طول زمان
فقال:
دعوها بشعبانية ولو أنهم دعوها بشبعانية لكفاني
16 - وقال أبو عبد الله ابن خميس الجزائري:
تحفظ من لسانك، ليس شيء أحق بطول سجن من لسان
وكن للصمت ملتزماً إذا ما أردت سلامة في ذا الزمان
وقال أيضاً (1) :
كن حلس بيتك مهما فتنة ظهرت تخلص بدينك وافعل دائماً حسنا
وإن ظلمت فلا تحقد على أحد إن الضغائن فاعلم تنشئ الفتن
وقال:
بدا لي أن خير الناس عيشاً من آمنه الإله من الأنام
فليس لخائف عيش لذيذ ولو ملك مع الشآم
وله (2) :
جانب (3) جميع الناس تسلم منهم ... إن السلامة في مجانبة الورى وإذا رأيت من إمرئ يوماً أذى لا تجزه أبداً بما منه ترى
وله (4) :
__________
(1) م: وقال وقد أجاد ونصح بموعظته.
(2) م: وقال في مجانبة الناس والعفو عمن ظلمك.
(3) دوزي: سالم.
(4) م: وله في تأديب الصغار والحسد.(4/324)
من أدب ابناً له صغيراً قرت به عينه كبيرا
وأرغم الأنف من عدو يحسد نعماءه كثيرا
17 - وقال أبو محمد (1) ابن هرون القرطبي:
بيد الإله مفاتح الرزق الذي أبوابه مفتوحة لم تغلق
عجباً لذي فقر يكلف مثله في الوقت شيئاً عنده لم يخلق
وقال أيضاً (2) :
لعمرك ما الإنسان يرزق نفسه ولكنما الرب الكيريم يسخره
وما بيد المخلوق في الرزق حيلة تقدمه عن وقته أو تؤخره
18 - وقال الأديب الأستاذ أبو محمد ابن صارة رحمه الله تعالى:
يا من يصيخ إلى داعي السفاة وقد نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تمسع الذكرى ففيما ثوى في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك ال أعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كره فراقهما الثاويان البدو والحضر
وقال رحمه الله تعالى في ابنة ماتت له:
ألا يا موت كنت بنا رؤوفاً فجددت الحياة لنا بزوره
حماد لفعلك المشكور لما كفيت مؤونة وسترت عوره
فأنكحنا الضريح بلا صداق وجهزنا الفتاة بغير شوره
__________
(1) م: وقال محمد.
(2) م: وقال رحمه الله في الرزق وتسخيره.(4/325)
19 - وأنشد أبو عبد الله ابن الحاج البكري الغرناطي:
يا غادياً في غفلة ورائحاً إلى متى تستحسن القبائحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفاً يستنطق الله به الجوارحا
يا عجباً منك وكنت مبصراً كيف تجنبت الطريق الواضحا
كيف تكون حين تقرا في غد صحيفة قد ملئت فضائحا
أم كيف ترضى أن تكون خاسراً يوم يفوز من يكون رابحا
وممن روى عنه هذه الأبيات الكاتب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب، وتوفي ابن الحاج المذكور سنة 715 رحمه الله تعالى.
20 - وقال حافظ الأندلس ومحدثها أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي رحمه الله تعالى:
إلهي مضت للعمر سبعون حجة ولي حركات بعدها وسكون
فيا ليت شعري أين أو كيف أو متى يكون الذي لا بد أن سيكون
والصواب أنهما لغيره كما ذكرته في غير هذا الموضع، وبالجملة فهما من كلام الأندلسيين، وإن لم يحقق ناظمهما بالتعيين (1) .
21 - وقال أبو بكر يحيى التطيلي رحمه الله تعالى:
إليك بسطت الكف في فحمة الدجى نداء غريق في الذنوب عريق
رجاك ضميري كيف تخلص جملتي وكم من فريق شافع لفريق
22 - وحكي أن بعض المغاربة كتب إلى الملك الكامل بن العادل بن أيوب رقعة في ورقة بيضاء، إن قرئت في ضوء السراج كانت فضية، وإن قرئت في
__________
(1) انظر ص: 117 وكذلك نسبهما لأبي بكر ابن منخل الشلبي في التكملة: 496 وإنما أنشدهما أبو الربيع وقال لتلميذه إنه رآهما في ديوان ابن منخل.(4/326)
الشمس كانت زهبية، وإن قرئت في الظل كانت حبراً أسود، وفيها هذه الأبيات:
لئن صدني البحر عن موطني وعيني بأشواقها زاهره
فقد زخرف الله لي مكة بأنوار كعبته الزاهره
وزخرف لي بالنبي يثربا وبالملك الكامل القاهره
فقال الملك الكامل قل:
وطيب لي بالنبي طيبة وبالملك الكامل القاهره
وأظن أن المغربي أندلسي لقوله: لئن صدني البحر عن موطني، فلذلك أدخلته في أخبار الأندلسيين ولست على تحقيق ويقين، والله أعلم.
23 - وأنشد ابن الوليد المعروف بابن الخليع قال: أنشدنا أبو عمر ابن عبد البر النمري الحافظ:
تذكرت من يبكي علي مداوماً فلم ألف إلى العلم بالدين والخبر
علوم كتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله مع صحة الأثر
وعلم الألى من ناقديه وفهم ما له اختلفوا في العلم بالرأي والنظر
وأنشد له أيضاً:
مقالة ذي نصح وذات فوائد إذا من ذوي الألباب كان استماعها
عليكم بآثار النبي فإنه من افضل أعمال الرشاد اتباعها
24 - وقال أبو الحسن عبد الملك بن عياش الكاتب الأزدي اليابري، وسكن أبوه قرطبة (1) :
عصيت هوى نفسب صغيراً وعندما رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر
__________
(1) الذيل والتكملة 5: 28.(4/327)
أطعت الهوى، عكس القضية ليتني خلقت كبيراً وانتقلت إلى الصغر
وقيل: إن ابنه أبا الحسن علي بن عبد الملك قال بيتاً مفرداً في معنى ذلك، وهو:
هنيئاً له إذ لم يكن كابنه الذي ... أطاع الهوى في حالتيه وما اعتبر (1) وقيل: إن هذا البيت رابع أربعة أبيات (2) .
25 - وقال أبو إسحاق ابن خفاجة لما اجتمع به أبو العرب (3) وسأله عن حاله وقد بلغ في عمره إحدى وثمانين سنة، فأنشده لنفسه:
أي عيش أو غذاء أو سنه لابن إحدى وثمانين سنه
قلص الشيب به ظل امرئ طالم جر صباه رسنه
تارة تسطو به سيئة تسخن العين وأخرى حسنه
26 - وقال أبو محمد عبد الوهاب بن محمد القيسي المالقي:
الموت حصاد بلا منجل يسطو على القاطن والمنجلي
لا يقبل العذر على حالة ما كان من مشكل أو من جلي
27 - وقال الشيخ عبد الحق الإشبيلي الأزدي صاحب كتاب العاقبة
__________
(1) الذيل: وما ائتمر؛ وعن ابن الأبار: وما اعتذر.
(2) قلت: أورد في الذيل والتكملة ثلاثة أبيات قبله وهي:
أبي قال قولا سار في البدو والحضر ... وخلف في الباقين ذكراً وقد غبر
وأسلف إحساناً أوان اقتباله ... وخاف من التقصير في حيز الكبر
لذلك ما وإلى أنينا وزفرة ... وأصبح يهوى أن يعاد إلى الصغر
هنيئاً له........ ... ......... (البيت) . (3) هو أبو العرب عبد الوهاب التجيبي والأبيات في بغية الملتمس ص: 203 والمعجم: 61 والديوان: 355.(4/328)
والإحكام وغيرهما:
إن في الموت والمعاد لشغلاً وإدكاراً لذي النهى وبلاغا
فاغتنم خطتين قبل المنايا صحة الجسم يا أخي والفراغا
28 - وقال أبو الفضل عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن حسان الغساني من أهل جليانة من عمل وادي آش (1) :
ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت فما أكثر الغرقى على الجنبات
وأكثر من صاحبت يغرق إلفه وقل فتى ينجى من الغمرات
وكان المذكور من أهل العلم والأدب، رحل وحج وتجول في البلاد، ونزل القاهرة المعزية، وكان أحد السياحين في الأرض، وله تآليف منها جامع أنماط الوسائل في القريض والخطب والرسائل وأكثره من نظمه ونثره، رحمه الله تعالى.
29 - وقال عبد العليم بن عبد الملك بن حبيب القضاعي الطرطوشي:
وما الناس ألا كالصحائف غيرت وألسنهم إلا كمثل التراجم
إذا اشتجر الخصمان في فطنة الفتى فمقوله في ذاك أعدل حاكم
30 - وقال أبو الحكم عبد المحسن البلنسي:
من كان للدهر للدهر خدناً في تصرفه أبدت له صفحة الدهر الأعاجيبا
من كان خلواً من الآداب سربله مر الليالي على الأيام تأديبا
31 - وقال أبو حاتم عمر بن محمد بن فرج من أهل ميرتلة، مدينة بغرب الأندلس، يمدح شهاب الأندلس، يمدح شهاب القضاعي (2) :
__________
(1) مرا في ج 2: 614.
(2) م: يمدح بها شهاب القضاعي المشهور وهي.(4/329)
شهب السماء ضياؤها مستور عنا إذا أفلت توارى النور
فانزع هديت إلى شهاب نوره متألق آماله تبصير
تشفي جواهره القلوب من العمى ولطالما انشرحت بهن صدور
فإذا أتى فيه حدبث محمد خذ في الصلاة عليه يا مغرور
وترحمن على القضاعي الذي وضع الشهاب فسعيه مشكور
32 - وقال الأستاذ أبو محمد غانم بن وليد المخزومي المالقي:
ثلاثة يجهل مقدارها الأمن والصحة والقوت
فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه در وياقوت (1) وتذكرت بهذا قول الآخر:
إذا القوت تأتى ل ك والصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن
وكل ذلك أصله الحديث النبوي [على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فإنه قال] (2) : " من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، معه قوت يومه، فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها ".
وأخبرنا شيخنا القصار أبو عبد الله محمد بن قاسم القيسي مفتي مدينة فاس وخطيبها سنة عشر وألف، قال: حدثنا شيخنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل التونسي نزيل فاس الشهير بخروف [قال] حدثنا الإمام سيدي فرج الشريف
__________
(1) زاد في م هنا المقطوعة الآتية: وقال آخر:
قميص من القطن من حله ... وشربة ماء قراح وقوت
ينال بها المرء ما يبتغي ... وهذا كثير على من يموت وتذكرت بالأخرى ... إلخ.
(2) زيادة من م.(4/330)
الطحطاوي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول " من أصبح آمناً في سربه..... الحديث ".
رجع
وقال الأستاذ العارف بالله سيدي أبو العباس أحمد بن العريف الأندلسي دفين مراكش، وقد زرت قبره سنة 1010 (1) :
إذا نزلت بساحتك الرزايا فلا تجزع لها جزع الصبي
فإن لكل نازلة عزاء بما قد كان من فقد النبي
وقال رحمه الله تعالى:
شدوا الرحال وقد نالوا المنى بمنى وكلهم بأليم الشوق قد باحا
راحت ركائبهم تندى روائحها طيباً بما طاب ذاك الوفد أشباحا
نسيم قبر النبي المصطفى لهم راح إذا سكروا من أجله فاحا
يا راحلين إلى المختار من مضر زرتم جسوماً وزرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على شوق وعن قدر ومن أقام على عذر كمن راحا
34 - وقال (2) أبو محمد المحاربي:
داء الزمان وأهله داء يعز له العلاج
أطلعت في ظلمائه رأياً كما سطع السراج
لمعاشر أعيا ثقا في من قناتهم اعوجاج
كالدر ما لم تختبر فإذا اختبرت فهم زجاج
__________
(1) القطعة في التحفة: 17 والوافي 8 الورقة: 50.
(2) م: وقال الأديب.(4/331)
35 - وقال أبو عبد الله غربيب الثقفي القرطبي (1) :
يهددني بمخلوق ضعيف يهاب من المنية ما أهاب
له أجل ولي أجل وكل سيبلغ حيث يبلغه الكتاب
وما يدري لعل الموت منه ... قريب أينا قبل (2) المصاب وله (3) :
أيها الآمل ما ليس له طالما غر جهولاً أمله
رب من بات يمني نفسه خانه دون مناه أجله
وفتى بكر في حاجاته عاجلاً أعقب ريثاً عجله
قل لمن مثل في أشعاره يذهب المرء ويبقى مثله
نافس المحسن في إحسانه فسيكفيك مسيئاً عمله
قال ابن الأبار: وهذا البيت الأخير في برنامج الطبني.
36 - وقال أبو الحسين سليمان بن الطراوة النحوي المالقي (4) :
وقائلة أتصبو للغواني وقد أضحى بمفرقك النهار
فقلت لها حثثت على التصابي أحق الخيل بالركض المعار
37 - وقال الحافظ أبو الربيع ابن سالم:
إذا برمت نفسي بحال أحلتها على أمل ناء فقرت به النفس
__________
(1) غربيب بن عبد الله الطليطلي من قدامى الشعراء وكان أهل بلده يشاورونه في أمورهم؛ انظر الجذوة: 307 (وبغية الملتمس رقم: 1281) والمغرب 2: 23 والقطعة الأولى في المصادر المذكورة.
(2) قبل: رواية الجذوة، وفي الأصول: أينا منه.
(3) م: وله أيضاً في طول الأمل وما الأمل إلا غرور.
(4) انظر أخبار وتراجم أندلسية (السلفي) : 17.(4/332)
وأنزل أرجاء الرجاء ركائبي إذا رام إلماماً بساحتي اليأس
وإن أوحشتني من أماني نبوة فلي في الرضى بالله والقدر الأنس
38 - وقال أبو الحسن سلام بن عبد الله بن سلام الباهلي الإشبيلي (1) مما أنشده لنفسه في كتابه الذي سماه الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق:
إذا تم عقل المرء تمت فضائله وقامت على الإحسان منه دلائله
فلا تنكر الأبصار ما هو فاعله ولا تنكر الأسماع ما هو قائله
وكان أبو المذكور من وزراء المعتمد بن عباد، رحم الله تعالى الجميع.
39 - وقال أبو بكر الزبيدي اللغوي:
اترك الهم إذا ما طرقك وكل الأمر إلى من خلقك
وإذا أمل قوم أحداً فإلى ربك فامدد عنقك
40 - وقال القاضي أبو الوليد هشام بن محمد القيسي الشلبي المعروف بابن الطلاء: فاوضت القاضي أبا عبد الله ابن شبرين (2) ما يحذر من فتنة النظر إلى الوجوه الحسان، فقلت:
لا تنظرن إلى ذي رونق أبداً واحذر عقوبة ما يأتي به النظر
فكم صريع رأيناه صريع هوى زو نظرة قادها يوماً له القدر
فأجابني في المعنى الذي انتحيته:
__________
(1) سلام - بتخفيف اللام - كان شيخاً جليلاً أديباً شاعراً وله خطب بارعة ومقامات سبع، وقد أودع كتابه المذكور جملة وافرة من شعره؛ توفي بشلب سنة 544 (الذيل والتكملة 4: 48) .
(2) زاد في م: العالم الفقيه المحدث، فسألته ما يحدث وما ... الخ.(4/333)
إذا نظرت فلا تولع بتقليب فربما نظرة عادت بتعذيب
ورب هنا للتكثير.
41 - وقال الأستاذ ابن حطوط الله:
أتدري أنك الخطاء حقاً وأنك بالذي تأتي رهين
وتغتاب الألى فعلوا وقالوا وذاك الظن والإفك المبين
قال في " الإحاطة " (1) : أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن عمر بن حطوط الله الأنصاري الحارثي، كان فقيهاً جليلاً أصولياً كاتباً أديباً شاعراً متفنناً في العلوم ورعاً ديناً حافظاً ثبتاً فاضلاً، درس كتاب سيبويه ومستصفى أبي حامد الغزالي، وكان، رحمه الله تعالى، مشهوراً بالعقل والفضل، معظماً عند الملوك، معلوم القدر لديهم، يخطب في مجالس الأمراء والمحافل الجمهورية، مقدماً في ذلك بلاغة وفصاحة إلى أبعد مضمار، ولي قضاء إشبيلية وقرطبة ومرسية وسبتة وسلا وميورقة، فتظاهر بالعدل، وعرف بما أبطن من الدين والفضل، وكان من العلماء العاملين، مجانباً لأهل البدع والأهواء، بارع الخط، حسن التقييد، وسمع الحديث، فحصل له سماع لم يشاركه فيه أحد من أهل الغرب، وسمع على الجهابذة كابن بشكوال ةغيره، وقرأ أكثر من ستين تأليفاً بين كبار وصغار، منها الصحيحان، وأكثر عن ابن حبيش وابن الفخار والسهيلي وغيرهم، ومولده في محرم سنة 541، ومات بغرناطة سحر يوم الخميس ثاني ربيع الأول سنة612، ونقل منها في تابوته الذي ألحد فيه يوم السبت تاسع عشر شعبان من السنة المذكورة إلى مالقة فدفن بها، رحمه الله تعالى، انتهى، وبعضه بالمعنى مختصراً.
__________
(1) الإحاطة، الورقة: 219.(4/334)
وللمذكور ترجمة واسعة جداً، وألمعت بما ذكرت على وجه التبرك بذكره، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
42 - وقال أبو المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي (1) :
يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة باب الغني، كذا حكم المقادير
وإنما الناس أمثال الفراش فهم يرون حيث مصابيح الدنانير
وقال تلميذه ابن الأبار: أنشدني بعض أصحابنا عنه هذين البيتين، ولم أسمعهما منه، انتهى.
قلت: وبهذا تعرف وهم من نسب البيتين إلى عبد المهيمن الحضرمي، فإن هذا كان قبل أن يخلق والد عبد المهيمن الحضرمي، وقد أنشدهما الجلاب الفهري في روح الشعر وروح الشحر.
43 - وقال أبو محمد القاسم بن الفتح الحجاري المعروف بابن افريولة:
ركابي بأرجاء الرجاء مناخة ورائدها علمي بأنك لي رب
وأنك علام بما أنا قائل كما أنت علام بما أضمر القلب
لئن آدها ذنب تولت بعبئه لقد قرعت باباً به يغفر الذنب
وقال أيضاً (2) :
عجباً لحبر قد تيقن أنه سيرى اقتراف يديه في ميزانه
ثم امتطى ظهر المعاصي جهرة لم يثنه التأنيب عن عصيانه
أنى عصى ولكل جزء نعمة من نفسه وزمانه ومكانه
44 - وقال الشاعر الكبير الشهير أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مجبر الفهري:
__________
(1) انظر ما تقدم ج 3: 379.
(2) م: ومما ينسب إليه أيضاً قوله.(4/335)
إن الشدائد قد تغشى الكريم لأن تبين فضل سجاياه وتوضحه
كمبرد القين إذ يعلو الحديد به وليس يأكله إلا ليصلحه
وقال (1) :
لا تغبط المجدب في عمله وإن رأيت الخصب في حاله
إن الذي ضيع من نفسه فوق الذي ثمر من ماله
45 - وقال أبو الحجاج يوسف بن أحمد الأنصاري المنصفي البلنسي (2) :
قال لي النفس أتاك الردى وأنت في بحر الخطايا مقيم
هلا اتخذت الزاد قلت أقصري هل يحمل الزاد لدار الكريم
وكان المنصفي المذكور صالحاً، وله رحلة حج فيها، ومال إلى علم التصوف، رحمه الله تعالى، وله فيه أشعار حملت عنه.
46 - وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن الصائغ القرشي الأموي الأندلسي (3) مخمساً أبيات عز الدين بن جماعة قاضي القضاة رحمه الله تعالى:
هم الأبي على مقدار منصبه وبسط راحته في طي منصبه
ما أنت والدهر تشكو من تقلبه يا مبتلى بقضاء قد بليت به
عليك بالصبر واحذر يا أخي جزعك
صبراً فللصبر في حرب العدا عدد ذر العدو يمته الغيظ والحسد
ولا يكن لك إلا الله معتمد واعلم بأن جميع الخلق لو قصدوا
أذاك لم يقدروا والله قد رفعك
__________
(1) م: ومن نكته العجيبة قوله.
(2) انظر ما تقدم ج 3: 595.
(3) ترجم له الصفدي (الوافي 3: 375) ، وكان ممن لقيه بالقاهرة، ولقبه محب الدين وله كنية أخرى هي " أبو البقاء ".(4/336)
أعلاك في رتب غر معظمة بالعرف معروفة بالعلم معلمة
ومن يناويك في بهماء مظلمة فاصرف هواك وجانب كل مظلمة
واصحب فديتك من بالنصح قد نفعك
قد اجتلبت من الأيام تبصرة وقد كفاك الهدى والذكر تذكرة
فاشكر وقدم مع الإخلاص معذرة واسأل إلهك في الإسحار مغفرة
منه وكن معه حتى يكون معك
وتوفي المذكور بالقاهرة في الطاعون العام سنة 749.
47 - وقال أبو عبد الله الحميدي (1) :
الناس نبت وأرباب القلوب لهم روض وأهل الحديث الماء والزهر
من كان قول رسول الله حاكمه فلا شهود له إلا الألى ذكروا
وقال أيضاً:
من لم يكن للعلم عند فنائه أرج فإن بقاءه كفنائه
بالعلم يحيا المرء طول حياته فإذا انقضى أحياه حسن ثنائه
وقال أيضاً:
دين الفقيه حديث يستضيء به عند الحجاج وإلا كان في الظلم
إن تأوه ذو مذهب في قفر مشكلة لاح الحديث له في الوقت كالعلم
ولما تعرض بعض من لا يبالي بما ارتكب إلى أصحاب الحديث بقوله:
أرى الخير في الدنيا يقل كثيره وينقص نقصاً والحديث يزيد
__________
(1) م: محمد الحميدي الأندلسي.(4/337)
فلو كان خيراً كان كالخير كله ولكن شيطان الحديث مريد
ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والمليك شهيد
فإن يك حقاً قوله فهي غيبة وإن يك زوراً فالقصاص شديد
أجابه الإمام أبو عبد الله الحميدي بقصيدة طويلة، منها:
وإني إلى إبطال قولك قاصد ولي من شهادات النصوص جنود
إذا لم يكن خيراً كلام نبينا لديك فإن الخير منك بعيد
وأقبح شيء أن جعلت لما أتى عن الله شيطاناً وذاك شديد
وما زلت في ذكر الزيادة معجباً بها تبدئ التلبيس ثم تعيد
كلام رسول الله وحي ومن يرم زيادة شيء فهو فيه عنيد
ومنها (1) في ابن معين:
وما هو إلا واحد من جماعة وكلهم فيما حكوه شهود
فإن صد عن حكم الشهادة جاهل فإن كتاب الله فيه عتيد
ولولا رواة الدين ضاع وأصبحت معالمه في اللآخرين تبيد
هم حفظوا الآثار من كل شبهة وغيرهم عما اقتنوه رقود
وهم هاجروا في جمعها وتبادروا إلى كل أفق والمرام كؤود
وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم فدام صحيح النقل وهو جديد
بتبليغهم صحت معالم ديننا حدود تحروا حفظها وعهود
وصح لأهل النقل منها احتجاجهم فلم يبق إلا عاند وحقود
وحسبهم أن الصحابة بلغوا وعنهم رووا لا يستطاع جحود
فمن حاد عن هذا اليقين فمارق مريد لإظهار الشكوك مريد
__________
(1) م: ومن هذه القصيدة.(4/338)
ولكن إذا جاء الهدى ودليله فليس لموجود الضلال وجود
وإن رام أعداه الديانة كيدها فكيدهم بالمخزيات مكيد
48 - وقال أبو بكر محمد بن محرز الزهري البلنسي (1) ، والتزم الراء في كل كلمة:
اشكر لربك وانتظر في إثر عسر الأمر يسرا
واصبر لربك وادخر في ستر ضر الفقر أجرا
فالدهر يعثر بالورى والصبر بالأحرار أحرى
والوفر أظهر معشرا والفقر بالأخيار يغرى
وقال أيضاً:
اقنع بما أوتيته تنل الغنى وإذا دهتك ملمة فتصبر
واعلم بأن الرزق مقسوم فلو رمنا زيادة ذرة لم نقدر
والله أرحم بالعباد فلا تسل بشراً تعش عيش الكرام وتؤجر
وإذا سخطت لضر حالك مرة ورأيت نفسك قد عدت فاستبصر
وانظر إلى من كان دونك تدكر لعظيم نعمته عليك فتشكر
49 - وقال الحافظ أبو محمد ابن حزم: أنشدني والدي أحمد بن سعيد ابن حزم (2) :
إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن على حالة إلا رضيت بدونها
50 - وقال القاضي أبو العباس أحمد بن الغماز البلنسي نزيل تونس:
وقالوا أما تخشى ذنوباً أتيتها ولم تك ذا جهل فتعذر بالجهل
__________
(1) ترجمته في التحفة: 143.
(2) الجذوة: 118.(4/339)
فقلت لهم هبني كما قد ذكرتم تجاوزت في قولي وأسرفت في فعلي
أما في رضى مولى الموالي وصفحه رجاء ومسلاة لمقترف مثلي
وأنشد رحمه الله تعالى لنفسه في اليوم الذي مات فيه، وهو آخر ما سمع منه ليلة عاشوراء سنة 693:
أدعوك يا رب مضطراً على ثقة بما وعدت كما المضطر يدعوكا
دارك بعفوك عبداً لم يزل أبداً في كل حال من الأحوال يرجوكا
طالت حياتي ولما أتخذ عملاً إلا محبة أقوام أحبوكا
51 - وقال ابن الزقاق، ويقال إنها مكتوبة على قبره (1) :
أإخواننا والموت قد حال دوننا وللموت حكم نافذ في الخلائق
سبقتكم للموت والعمرطية وأعلم أن الكل لا بد لاحقي
بعيشكم أو باضطجاعي في الثرى ألم نك في صفو من العيش رائق
فمن مر بي فليمض لي مترحماً ولا يك منسياً وفاء الأصادق
52 - وقال الخطيب (2) أبو عبد الله محمد بن صالح الكتاني الشاطبي، ومولده سنة614 (3) :
أرى العمر يفنى والرجاء طويل وليس إلى قرب الحبيب سبيل
حباه إله الخلق أحسن سيرة فما الصبر عن ذاك الجمال جميل
متى يشتفي قلبي بلثم ترابه ويسمح دهر بالمزار بخيل
دللت عليه في أوائل أسطري فذاك نبي مصطفى ورسول
__________
(1) ديوانه: 205.
(2) زاد في م: الجليل الصالح الفقيه.
(3) م: الشاطبي الأندلسي ومولده بشاطبة ... الخ.(4/340)
53 - وقال أيمن بن محمد الغرناطي نزيل طيبة على ساكنها الصلاة والسلام:
أرى حجرات قد أحاطت عراصها ببحر محيط حصره غير ممكن
بحار المعالي والمعاني وإن طمت لدى لجة تفنى وعن هوله تني
محمد المحمود في كل موطن أبو القاسم المختار من خير معدن
نبي إذا أبصرت غرة وجهه تيقنت أن العز عز المهيمن
لك الله من بدر إذا الشمس قابلت محياه قالت إن ذا طالع سني
وله (1) :
كل القلوب مطيعة لك في الهوى جانب فديتك من تشاء ووال
الحسن وال، والقلوب رعية وعلى الرعية أن تطيع الوالي
وقال أيضاً (2) :
ألا أيها الباكي على ما يفوته من الحظ في الدنيا جهلت وما تدري
على فوت حظ من جوار محمد حقيق بأن تبكي إلى آخر العمر
ستدري إذا قمنا وقد رفع اللوا وأحمدها ديناً إلى موقف الحشر
من الفائز المغبوط في يوم عرضه أجار النبي المصطفى أم أخو الوفر
وله:
فررت من الدنيا إلى ساكن الحمى فرار محب لائذ بحبيب
لجأت إلى هذا الجناب، وإنما لجأت إلى سامي العماد رحيب
وناديت مولاي الذي عنده الغنى نداء عليل في الزمان غريب
__________
(1) م: ومن عجيب قوله ورقيق تغزله قوله.
(2) م: وقال أيضاً يفخر بسيدنا محمد (ص) .(4/341)
أمولاي إني قد أتيتك لائذاً وأنت طبيبي يا أجل طبيب
فقال لك البشرى ظفرت من الرضى بأوفر حظ مجزل ونصيب
تناومت في أطلال ليل شبيبتي فأدركني بالفجر صبح مشيبي
54 - وقال أبو بكر الزبيدي اللغوي:
لو لم تكن نار ولا جنة للمرء إلا أنه يقبر
لكان فيه واعظ زاجر ناه لمن يسمع أو يبصر
ولقد صدق رحمه الله تعالى ورضي عنه.
55 - ولبعض فقهاء طلبيرة:
رأيت الانقباض أجل شيء وأدعى في الأمور إلى السلامه
فهذا الخلق سالمهم ودعهم فرؤيتهم تؤول إلى الندامه
ولا تغنى بشيء غير شيء يقود إلى خلاصك يوم القيامه
56 - وأمر الكاتب أبو بكر ابن مغاور بكتب هذه الأبيات على قبره، وهي له (1) :
أيها الواقف اعتباراً بقبري استمع فيه قول عظمي الرميم
أودعوني بطن الضريح وخافوا من ذنوب كلومها بأديمي
قلت لا تجزعوا علي فإني حسن الظن بالرؤوف الرحيم
ودعوني بما اكتسبت رهيناً غلق الرهن عند مولى كريم
57 - وقال (2) الخطيب ابن صفوان:
__________
(1) مرت ثلاثة من هذه الأبيات في ج 3: 331.
(2) م: وقال العالم العلامة.(4/342)
رأيتك يدنيني إليك تباعدي فأبعدت نفسي لابتغائي في القرب
هربت له منه إليه فلم يكن بي البعد في قربي فصح به قربي
فيا رب هل نعمى على العبد بالرضى ينال بها فوزاً من القرب بالقرب
وقال الوادي آشي:
وهذا النظم معناه جليل، وتكرار القرب وإن قبح عند تاعروضي فهو المحب جميل، وهم القوم يسلم لهم في الأفعال والأقوال، وترتجى بركتهم في كل الأحوال، انتهى.
58 - وقال بعض قدماء الأندلس:
سئمت الحياة على حبها وحق لذي السقم أن سأما
فلا عيش إلا لذي صحة تكون له للتقى سلما
وذيله آخر منهم بقوله:
ولا داء إلا لمن لم يزل يقارب في دينه مأثما
فلست تعالج جرح الهوى هديت بمثل التقى مرهما
59 - وقال أبو جعفر أحمد (1) السياسي القيسي المري:
إذا ما جنى يوماً عليك جناية ظلوم يدق السمر بأساً ويقصف
فلا تنتقم يوماً عليه بما جنى وكل أمره للدهر فالدهر منصف
وقال أيضاً (2) :
ليس حلم الضعيف حلماً، ولكن حلم من لو يشاء صال اقتدارا
__________
(1) أحمد: سقطت من ق؛ ولعل السياسي أن تكون " البياسي ".
(2) م: وله أيضاً في الحلم والتجاوز عن سيئات من زل إن هفا.(4/343)
من تغاضى عن السفيه بحلم أصبح الناس دونه أنصارا
من يزوج كريمة الهمة العل يا علواً فقد أجاد الخيارا
ستريه عند الولاد بنيها ال علم والحلم والأناة كبارا
60 - وقال الخطيب الصالح أبو إسحاق ابن أبي العاصي:
اعمل بعلمك تؤت علماً إنما جدوى علوم المرء نهج الأقوم
وإذا الفتى قد نال علماً ثم لم يعمل به فكأنه لم يعلم
وقال موطئاً غلى البيت الأخير:
أمولاي أنت العفو الكريم لبذل النوال وللمعذره
علي ذنوب وتصحيفها ومن عندك الجود والمغفره
61 - وقال الخطيب المتصوف الشهير أبو جعفر أحمد بن الزيات من بلش مالقة:
يقال خصال أهل العلم ألف ومن جمع الخصال الألف سادا
ويجمعها الصلاح فمن تعدى مذاهبه فقد جمع الفسادا
وقال أيضاً:
إن شئت فوزاً بمطلوب الكرام غداً فاسلك من العمل المرضي منهاجا
واغلب هوى النفس لا يغررك خادعه فكل شيء يحط القدر منها جا
62 - وقال الأديب الكبير الشهير أبو محمد عبد الله بن محمد بن صارة البكري الشنتريني رحمه الله تعالى (1) :
__________
(1) انظر أيضاً ما تقدم ص: 117(4/344)
بنوا الدنيا بجهل عظموها فجلت عندهم وهي الحقيره
يهارش بعضهم بعضاً عليها مهارشة الكلاب على العقيره
وقال:
أي عذر يكون لا أي عذر لابن سبعين مولع بالصبابه
وهو ماء لم تبق منه الليالي في إناء الحياة إلا صبابه
وقال أيضاً:
ولقد طلبت رضى البرية جاهداً فإذا رضاهم غاية لا تدرك
وأرى القناعة للفتى كنز له والبر أفضل ما بخ يتمسك
63 - وقال أبو محمد ابن صاحب الصلاة الداني، ويعرف بعبدون (1) :
وعجل شيبي أن ذا الفضل مبتلى بدهر غدا ذو النقص فيه مؤملا
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى بها الحر يشقى واللئيم ممولا
متى ينعم المعتر عيناً إذا اعتفى جواداً مقلاً أو غنياً مبخلا
64 - وقال أبو الحكم عبيد الله الأموي مولاهم الأندلسي:
إذا كان إصلاحي لجسمي واجباً فإصلاح نفسي لا محالة أوجب
وإن كان ما يفنى إلى النفس معجباً فإن الذي يبقى إلى العقل أعجب
65 - وقال الفقيه الزاهد أبو إسحاق إبراهيم ابن مسعود الإلبيري رحمه الله تعالى:
لله أكياس جفو أوطانهم فالأرض أجمعها لهم أوكطان
__________
(1) انظر التكملة: 69.(4/345)
جالت عقولهم مجال تفكر وجلالة فبدا لها الكتمان
ركبت بحار الفهم في فلك النهى وجرى بها الإخلاص والإيمان
فرست بهم لما انتهوا بجفونهم ... مرسى لهم فيه غنى وأمان (1) 66 - وقال أبو جعفر ابن خاتمة رحمه الله تعالى:
يا من يغيث الورى من بعدما قنطوا ارحم عباداً أكف الفقر قد بسطوا
عودتهم بسط أرزاق بلا سبب سوى جميل رجاء نحوه انبسطوا
وعدت بالفضل في ورد وفي صدر بالجود إن أقسطوا والحلم إن قسطوا
عوارف ارتبطت شم الأنوف لها وكل صعب بقيد الجود يرتبط
يا من تعرف بالمعروف فاعترفت بجم إنعامه الأطراف والوسط
وعالماً بخفيات الأمور فلا وهم يجوز عليه لا ولا غلط
عبد فقير بباب الجود منكسر من شأنه أن يوافي حين ينضغط
مهما أتى يمد الكف أخجله قبائح وخطايا أمرها فرط
يا واسعاً ضاق خطو الخلق عن نعم منه إذا خطبوا في شكرها خبطوا
وناشراً بيد الإجمال رحمته فليس يلحق منه مسرفاً قنط
ارحم عباداً بضنك العيش قد قنعوا فأينما سقطوا بين الورى لقطوا
إذا توزعت الدنيا فما لهم غير الدجنة لحف والثرى بسط
لكنهم من ذرا علياك في نمط سام رفيع الذرى ما فوقه نمط
ومن يكن بالذي يهواه مجتمعاً فما يبالي أقام الحي أم شحطوا
__________
(1) زاد في م أبياتاً قال: وقال الشيخ ابو بكر ابن مغاور (م: مفاوز) وقيل إنها لابن لبال:
ودعتها ومدامعي ... تنهل بالدمع الطليق
فبكت وأذرت أدمعاً ... في صفحة الخد الأنيق
ومصت تعض بنانها ... بين التلهف والشهيق
فرأيت دراً ساقطاً ... من نرجسين على شقيق
ورأيت مبيض اللجين ... يعض محمر العقيق(4/346)
نحن العبيد وأنت الملك ليس سوى وكل شيء يرجى بعد ذا شطط
وقال رحمه الله تعالى:
ملاك الأمر تقوى الله فاجعل تقاه عدة لصلاح أمرك
وبادرنحو طاعته بعزم فما تدري متى يمضي بعمرك
وقال أيضاً (1) :
إذا كنت تعلم أن الأمور بحكم الإله كما قد قضى
ففيم التفكر والحكم ماض ولا رد للحكم مهما مضى
فخل الوجود كما شاءه مدبره وابغ منه الرضى
وقال (2) :
إذا ما الدهر نابك منه خطب وشد عليك من حنق عقاله
فكل لله أمرك لا تفكر ففكرك فيه خبط في حباله
وقال (3) :
عدوك داره ما اسطعت حتى يعود لديك كالخل الشفيق
فما في الأرض أردى من عدو وما في الأرض أجدى من صديق
وقال (4) :
إن أعرضت دنياك عنك بوجهها وغدت ومنها في رضاك نزاع
فاحذر بنيها واحتتفظ من شرهم إن النبين لأمهم أتباع
__________
(1) م: في تفويض الأمر إلى الله والإتكال عليه.
(2) م: وقال في معناه في توكيل الأمر إلى الله تعالى.
(3) م: في مداراة العدو ومكايدته.
(4) م: وقد أبلغ في النصيحة وأجاد إلى الغاية.(4/347)
وقال (1) :
يا مجيب المضطر عند الدعاء منك دائي وفي يديك دوائي
جذبتني الدنيا إليها بضبعي ودعتني لمحنتي وشقائي
يا إلهي وأنت تعلم حالي لا تذرني شماتة الأعداء
67 - وقال الحافظ الكبير الشهير أبو عبد الله الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين رحمه الله تعالى (1) :
كتاب الله عز وجل قولي وما صحت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدءاً تكن منها على عين اليقين
وقال:
طريق الزهد أفضل ما طريق وتقوى الله بادية الحقوق
فثق بالله يكفك، واستعنه يعنك، وذر بنيات الطريق
68 - وقال أبو بكر مالك بن جبير رحمه الله تعالى:
رحلت وإنني من غير زاد وما قدمت شيئاً للمعاد
ولكني وثقت بجود ربي وهل يشقى المقل مع الجواد
وتوفي المذكور بأريولة - أعادها الله تعالى إلى الإسلام - سنة 561.
69 - وقال ابن جبير اليحصبي وهو الكتب أبو عبد الله محمد:
كلما رمت أن أقدم خيراً لمعادي ورمت أني أتوب
__________
(1) م: في التضرع إليه تعالى والابتهال إليه.
(1) م: في التضرع إليه تعالى والابتهال إليه.(4/348)
صرفتني بواعث النفس قسراً ... فتقاعست والذنوب ذنوب
رب قلب قلبي لعزمة خير ... لمتاب ففي يديك القلوب ولتعلم أن كلام أهل الأندلس بحر لا ساحل له، ويرحم الله تعالى لسان الدين بن الخطيب حيث قال في صدر الإحاطة: وهذا الغرض الذي وضعنا له هذا التأليف يطلبنا فيه ما قصدنا به من المباهاة والافتخار بالإكثار، واستيعاب النظام والنثار، ويحملنا فيه خوف السآمة على الاختصار والاقتصار، وكفى بهذا جلاء في الأعذار، والله تعالى مقيل العثار، وساتر العيب المثار، بفضله، انتهى.
70 - ولنختم هذا الباب بقول أبي زكريا يحيى بن سعد بن مسعود القلني:
عفوك اللهم عنا ... خير شيء نتمنا
رب إنا قد جهلنا ... في الذي قد كان منا
وخطينا وخلطنا ... ولهونا ومجنا
إن نكن رب أسأنا ... ما أسأنا بك ظنا وذيلته بقولي:
فأنلنا الختم بالحس ... نى وإنعاماً ومنا آمين (1) .
__________
(1) إلى هنا انتهت النسخة: م.(4/349)
الباب الثامن
في ذكر تغلب العدو الكافر على الجزيرة بعد صرفه وجوه الكيد إليها وتضريبه بين ملوكها ورؤسائها بمكره، واستعماله في أمرها حيل فكره، حتى استولى - دمره الله تعالى - عليها، ومحا منها التوحيد واسمه، وكتب على مشاهدها ومعاهدها وسمه، وقرر مذهب التثليث، والرأي الخبيث، لديها، واستغاث أهلها استغاثة أضرابها بالنظم والنثر، أهل ذلك العصر، من سائر الأقطار، حين تعذرت بحصصارها، مع قلة حماتها وأنصارها، المآرب والأوطار، وجاءها الأعداء من خلفها ومن بين يديها، أعاد الله تعالى إليها كلمة الإسلام، وأقام فيها شريعة سيد الانما، عليه أفضل الصلاة والسلام، ورفع يد الكفر عنها وعما حواليها، آمين.
ظهور بلاي وخلفائه
قال غير واحد من المؤلفين: أول من جمع فل النصارى بالأندلس - بعد غلبة العرب لهم - علج يقال له بلاي (1) ، من أهل أشتوريش من جليقية، كان رهينة عن طاعة أهل بلده، فهرب من قرطبة أيام الحر بن عبد الرحمن الثقفي، الثاني من أمراء العرب بالأندلس، وذلك في السنة السادسة من افتتاحها، وهي سنة ثمان وتسعين من الهجرة، وثار النصارى معه على نائب الحر بن عبد الرحمن، فطردوه وملكوا البلاد، وبقي الملك فيهم إلى الآنن وكان عدة من ملك منهم إلى آخر أيام الناصر لدين الله اثنين وعشرين ملكاً، انتهى.
وقال عيسى ابن أحمد الرازي: في أيام عنبسة ابن سحيم الكلبي قام بأرض
__________
(1) انظر ما تقدم عن بلاي ج 3: 17.(4/350)
جليقية علج خبيث يقال له بلاي من وقعة أخذ النصارى بالأندلس، وجد الفرنج في مدافعة المسلمين عما بقي بأيديهم، وقد كانوا لا يطمعون في ذلك، ولقد استولى المسلمون بالأندلس على النصرانية وأجلوهم، وافتتحوا بلادهم، حتى بلغوا أريولة من أرض الفرنجة، وافتتحوا بلبونة من جليقية، ولم يبق إلا الصخرة فإنه لاذ بها ملك يقال له بلاي، فدخلها في ثلاثمائة رجل، ولم يزل المسلمون يقاتلونه حتى مات أصحابه جوعاً، وبقي في ثلاثين رجلاً وعشر نسوة، ولا طعام لهم إلا العسل يشتارونه من خروق بالصخرة فيتقوتون به، حتى أعيا المسلمين أمرهم، واحتقروا بهم، وقالوا: ثلاثون علجاً ما عسى أن يجيء منهم فبلغ أمرهم بعد ذلك من القوة والمثرة ما لا خفاء به، وفي سنة مائة وثلاث وثلاثين، هلك بلاي المذكور، وملك ابنه فافله (1) بعده، وكان ملك بلاي تسع عشرة سنة، وابنه سنتين، فملك بعدهما أذفونش بن بيطر (2) جد بني أذفونش هؤلاء اللذين اتصل ملكهم إلى اليوم، فأخذوا ما كان المسلمون أخذوه من بلادهم، انتهى باختصار.
وقال المسعودي بعد ذكره غزوة سمورة أيام الناصر، ما صورته (3) : وأخذ ما كان بأيدي المسلمين من ثغور الأندلس مما يلي الفرنجة ومدينة أربونة (4) ، خرجت عن أيدي المسلمين سنة ثلاثمائة وثلاين مع غيرها مما كان بأيديهم من المدن والحصون، وبقي ثغر المسلمين في هذا الوقت وهو سنة 336 (5) من شرق الأندلس طرطوشة، وعلى سائر بحر الروم مما يلي طرطوشة آخذاً في الشمال إفراغه على نهر عظيم ثم لاردة، انتهى.
__________
(1) (Fafila) .
(2) (Alphonso) ابن (pedro) ؛ وكان أذفونش هذا قد تزوج ابنة بلاي واسمها أرمنسندا (Ermensida) (فجر الأندلس: 344) .
(3) مروج الذهب 1: 162.
(4) المروج: وآخر ما كان ... مدينة أربونة.
(5) المروج: وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.(4/351)
الاستيلاء على طليطلة
ومن أول ما استرد الإفرنج من مدن الأندلس العظيمة مدينة طليطلة من يد ابن ذي النون سنة 475، وفي ذلك يقول عبد الله بن فرج اليحصبي المشهور بابن العسال:
يا أهل أندلس حثوا مطيكم فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
ونحن بين عدو لا يفارقنا كيف الحياة مع الحيات في سفط
ويروى صدر البيت الثالث هكذا:
ومن جاور الشر لا يأمن بوائقه كيف الحياة مع الحيات في سفط
وتروى الأبيات هكذا:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه، وأرى سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عواقبه كيف الحياة مع الحيات في سفط
وقال آخر:
يا أهل أندلس ردوا المعار فما في العرف عارية إلا مردات
ألم تروا بيدق الكفار فرزنه وشاهنا آخر الأبيات شهمات
وقال بعض المؤرخين: أخذ الأذفونش طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين، وكان أخذه لها في منتصف محرم سنة478؛ انتهى. وفيه بعض مخالفة لما قبله في وقت أخذها، وسيأتي قريباً بعض ما يؤيده.(4/352)
قال: وهي مدينة حصينة قديمة أزلية من بناء العمالقة، على ضفة النهر الكبير، ولها قصبة حصينة في غاية المنعة، ولها قنطرة واحدة عجيبة البنيان على قوس واحد والماء يدخل تحته بعنف وشدة جرى، ومع آخر النهر ناعورة ارتفاعها في الجو تسعون ذراعاً، وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة، ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة، وطليطلة هذه دار مملكة الروم، وبها كان البيت المغلق الذي كانوا يتحامون فتحه حتى فتحه لذريق فوجد فيه صورة العرب؛ انتهى.
وقد تقدم شيء من هذا فيما مر من هذا الكتاب (1) .
وقد حكى ابن بدرون في شرح العبدونية (2) أن المأمون يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة بنى بها قصراً تأنق في بنائه، وأنفق فيه مالاً كثيراً، وصنع فيه بحيرة، وبنى في وسطها قبة، وسيق الماء إلى رأس القبة على تدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل من أعلى القبة حواليها محيطاً بها متصلاً بعضه ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكب لا يفتر، والمأمون بن ذي النون قاعد فيها لا يمسه من الماء شيء، ولو شاء أن يوقد فيها الشمع لفعل، فبينما هو فيها إذ سمع منشداً ينشد:
أتبني بناء الخالدين، وإنما بقاؤك فيها، لو علمت، قليل
لقد كان في ظل الأراك كفاية لمن كل يوم يعتريه رحيل
فلم يلبث بعد هذا إلا يسيراً حتى قضى نحبه، انتهى.
وقال ابن خلكان (3) : إن طليطلة أخذت يوم الثلاثاء مستهل صفر سنة 478 بعد حصار شديد، انتهى.
__________
(1) انظر ما تقدم ج 1: 161، 206.
(2) البسامة: 271.
(3) وفيات الأعيان 4: 118.(4/353)
وقال ابن غلقمة: إن طليطلة أخذت يوم الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة478، وكانت وقعة الزلاقة في السنة بعدها، انتهى.
وقعة الزلاقة نقلاً عن الروض المعطار وغيره
ورأيت هنا أن أذكر وقعة الزلاقة التي نشأت عن أخذ طليطلة وما يتبع ذلك من كلام صاحب الروض المعطار وغيره فنقول (1) : إنه لما ملك يوسف بن تاشفين اللمتوني المغرب، وبنى مدينتي تلمسان ومراكش الجديدة، وأطاعته البربر مع شكيمتها الشديدة، وتمهدت له الأقطار الطويلة المديدة، تاقت نفسه إلى العبور لجزيرة الأندلس، فهم بذلك، وأخذ في إنشاء المراكب والسفن ليعبر فيها، فلما علم بذلك ملوك الأندلس كرهوا إلمامه بجزيرتهم، وأعدوا له العدة والعدد، وصعبت عليهم مدافعته، وكرهوا أن يكونوا بين عدوين الفرنج من شمالهم والمسلمين من جنوبهم، وكانت الفرنج تشتد وطأتها (2) عليهم، وتغير تنهب، وربما يقع بينهم صلح على شيء معلوم كل سنة يأخذونه من المسلمين، والفرنج ترهب ملك المغرب يوسف بن تاشفين، إذ كان له اسم كبير وصيت عظيم، لنفاذ أمره وسرعة تملكه بلاد المغرب، وانتقال الأمر إليه في أسرع وقت، مع ما ظهر لأبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة في المعارك من ضربات السيوف ورعب في قلوب المنتدبين لقتاله، وكان ملوك الأندلس يفيئون إلى ظله، ويحذرونه خوفاً على ملكهم، مهما عبر إليهم وعاين بلادهم، فلما رأوا ما دلهم على عبوره إليهم وعلموا ذلك، راسل بعضهم بعضاً يستنجدون آراءهم في أمره، وكان مفزعهم في ذلك إلى المعتمد بن عباد، لأنه أشجع القوم، وأكبرهم مملكة، فوقع اتفاقهم
__________
(1) أكثر هذا النص منقول عن ابن خلكان 6: 112 وما بعدها.
(2) ق ص: تشتد وطاستها.(4/354)
على مكاتبته لما تحققوا أنه يقصدهم يسألونه الإعراض عنهم، وأنهم تحت طاعته، فكتب عنهم كاتب من أهل الأندلس كتاباً، وهو: أما بعد فإنك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم، ولم تنسب إلى عجز، وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل، ولم ننسب إلى وهن، وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا، فاختر لنفسك أكرم نسبتيك، فإنك بالمحل الذي لا يجب أن تسبق فيه إلى مكرمة، وإن في استباقك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت، والسلام. فلما وصله الكتاب مع تحف وهدايا، وكان يوسف بن تاشفين لا يعرف باللسان العربي، لكنه ذكي الطبع، يجيد فهم المقاصد، وكان له كاتب يعرف اللغتين العربية والمرابطية، فقال له: أيها الملك، هذا الكتاب من ملوك الأندلس يعظمونك فيه، ويعرفونك أنهم أهل دعوتك، وتحت طاعتك، ويلتمسون منك أن لا تجعلهم في منزلة الأعادي، فإنهم مسلمون وذوو بيوتات، فلا تغير بهم، وكفى بهم من وراءهم من الأعداء الكفار، وبلدهم ضيق لا يحتمل العساكر، فأعرض عنهم إعراضك عمن أطاعك من أهل الغرب، فقال يوسف ابن تاشفين لكاتبه: فما ترى أنت فقال: أيها الملك اعلم أن تاج الملك وبهجته شاهده الذي لا يرد، فإنه خليق بما حصل في يده من الملك والمال أن يعفو إذا استعفي، وأن يهب إذا استوهب، وكلما وهب جليلاً جزيلاً كان لقدره أعظم، فإذا عظم قدره تأصل ملكه، وإذا تأصل ملكه تشرف الناس بطاعته، وإذا كانت طاعته شرفاً جاءه الناس، ولم يتجشم المشقة إليهم، وكان وارث الملك من غير إهلاك لآخرته، واعلم أن بعض الملوك الحكماء الأكابر البصراء بطريق تحصيل الملك قال: من جاد ساد، ومن ساد قاد، ومن قاد ملك البلاد، فلما ألقى الكاتب هذا الكلام على السلطان يوسف بلغته فهمه وعلم صحته، فقال للكاتب: أجب القوم، واكتب بما يجب في ذلك، واقرأ علي كتابك، فكتب الكاتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من يوسف بن تاشفين، سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، تحية من سالمكم وسلم عليكم، وإنكم مما في أيديكم من الملك في أوسع إباحة، مخصوصين منا بأكرم إيثار(4/355)
وسماحة، فاستديموا وفاءنا بوفائكم، واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم، والله ولي التوفيق لنا ولكم، والسلام. فلما فرغ من كتابه قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه، فاستحسنه، وقرن به ما يصلح لهم من التحف ودرق اللمط التي لا توجد إلا ببلاده، وأنفذ ذلك إليهم، فلما وصلهم ذلك وقرأوا كتابه فرحوا به، وعظموه، وسروا بولايته، وتقوت نفوسهم على دفع الفرنج عنهم، وأزمعوا إن رأوا من الفرنج ما يريبهم أنهم يرسلون إلى يوسف بن تاشفين ليعبر إليهم، أو يمدهم بإعانة منه.
وكان ملك الإفرنج الأذفونش لما وقعت الفتنة بالأندلس وثار الخلاف، وكان كل من حاز بلداً وتقوى فيه ملكه وادعى الملك وصار مثل ملوك الطوائف، فطمع فيهم الأذفونش بسبب ذلك، وأخذ كثيراً من ثغورهم، فقوي شأنه، وعظم سلطانه، وكثرت عساكره، وأخذ طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين، وكان أخذه لها في نتصف محرم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فزاد لعنه الله تعالىبملكه طليطلة قوة إلى قوته، وأخذ يجوس من خلال الديار، ويستفتح المعاقل والحصون.
قال ابن الأثير في " الكامل " (1) : وكان المعتمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس ومتملك أكثر بلادها (2) ، مثل قرطبة وإشبيلية، وكان - مع ذلك - يؤدي الضريبة إلى الأذفونش كل سنة، فلما تملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة المعتادة (3) ، فلم يقبلها منه، وأرسل إليه يهدده ويتوعده بالمسير إلى قرطبة ليفتحها، إلا أن يسلم إليه جميع الحصون المنيعة (4) ، ويبقى السهل للمسلمين، وكان الرسول في جمع كثير نحو خمسمائة فارس، فانزله المعتمد، وفرق أصحابه على قواد
__________
(1) الكامل 10: 142 (ط. صادر) .
(2) ابن الأثير: وكان يملك أكثر البلاد.
(3) ابن الأثير: على عادته.
(4) ابن الأثير: الحصون التي بالجبل.(4/356)
عسكره، ثم أمر قواده أن يقتل كل منهم من عنده من الكفرة، وأحضر الرسول وصفعه (1) حتى خرجت عيناه، وسلم من الجماعة ثلاثة نفر، فعادوا إلى الأذفونش وأخبروه الخبر، وكان متوجهاً إلى قرطبة ليحاصرها، فرجع إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار، ويكثر العدد والعدة، انتهى.
وقال الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن المنعم الحميري في كتابه الروض المعطار في ذكر المدن والأقطار ما ملخصه (2) : إنه لما اشتغل المعتمد بغزو ابن صمادح صاحب المرية حتى تأخر الوقت الذي كان يدفع فيه الضريبة للأذفونش وأرسلها إليه بعد ذلك، استشاط الطاغية غضباً وتشطط، وطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة، وأمعن في التجني، وسأل في دخول امرأته القمجيطة (3) إلى جامع قرطبة لتلد فيه، إذ كانت حاملاً، لما أشار عليه بذلك القسيسون والأساقفة لمكان كنيسة كانت في الجانب الغربي منه معظمة عندهم عمل عليها المسلمون الجامع الأعظم، وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بالمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة - وهي (4) التي أنشأ بناءها الناصر لدين الله، وأمعن في بنائها، وأغرب في حسنها، وجلب إليها الرخام الملون والمرمر الصافي والحوض المشهور من البلاد والأقطار، وكان يثيب على السارية بكذا وكذا غير الثمن وأجرة الحمل، وأنفق فيها الأموال العظيمة، واشتغل بها، وكان يباشر الصناع بنفسه، حتى تخلف عن حضور الجمعة ثلاث مرات متواليات، وحضر في الرابعة، وكان الخطيب يومئذ الفقيه الزاهد منذر بن سعيد البلوطي، فعلض به في الخطبة، ووبخه على رؤوس الملأ، وقصته في ذلك مشهورة، وبناء الزهراء أيضاً من أغرب مباني الإسلام، فمن أراد الوقوف على ذلك فعليه بتاريخ ابن حيان -.
__________
(1) في بعض أصول ابن الأثير: وضغطه.
(2) الروض: 84 - 95.
(3) الروض: القمطيجة.
(4) وهي.... ابن حيان: استطراد من المقري ليس في الروض المعطار.(4/357)
ولنرجع إلى الأذفونش فإن الأطباء والقسوس لما أشاروا أن تكون المرأة المذكورة ساكنة بالزهراء، وتتردد إلى الجامع المذكور حتى تكون ولادتها بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة موضع الكنيسة من الجامع المذكور، وكان السفير في ذلك يهودياً كان وزير الأذفونش، فامتنع ابن عباد من ذلك، فراجعه، فأباه وأيأسه من ذلك، فراجعه اليهودي في ذلك، وأغلظ له في القول، وواجهه (1) بما لم يحتمله ابن عباد، فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه وضرب بها رأس اليهودي، فأنزل دماغه في حلقه، وأمر به فصلب منكوساً بقرطبة، واستفتى لما سكن غضبه الفقهاء عن حكم ما فعله باليهودي، فبادر الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما استوجب به القتل، إذ ليس له في ذلك، وقال للفقهاء: إنما بادرت بالفتوى خوفاً أن سكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو، وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجاً.
وبلغ الأذفونش ما صنعه ابن عباد، فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية، ويحاصره في قصره، فجرد جيشين جعل على أحدهما كلباً من مساعير كلابه وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس ويغير على تلك التخوم والجهات، ثم يمر على لبلة إلى إشبيلية، وجعل موعده إياه طريانة للاجتماع معه، ثم زحف الأذفونش بنفسه في جيش آخر عرمرم، فسلك طريقاً غير الطريق التي سلكها الآخر، وكلاهما عاث في البلاد وخرب ودمر، حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم قبالة قصر ابن عباد، وفي أيام مقامه هنالك كتب إلى ابن عباد زارياً عليه: كثر بطول مقامي في مجلسي الذبان، واشتد علي الحر، فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بها على نفسي، وأطرد بها الذباب عن وجهي، فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة: قرأت كتابك، وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية تروح منك لا تروح عليك، إن شاء الله
__________
(1) الروض: وشافهه.(4/358)
تعالى. فلما وصلت الأذفونش رسالة بن عباد، وقرئت عليه، وعلم مقتضاها، أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببال.
وفشا في الأندلس توقيع ابن عباد، وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف بن تاشفين، والاستظهار به على العدو، فاستبشر الناس، وفرحوا بذلك، وفتحت لهم أبواب الآمال. وأما ملوك طوائف الأندلس فلما تحققوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك، اهتموا منه، ومنهم من كاتبه، ومنهم من كلمه مواجهة، وحذروه عاقبة ذلك، وقالوا له: الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد، فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير، ومعناه أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيراً له يرعى جماله في الصحراء خير من كونه ممزقاً للأذفونش أسيراً له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعذاله ولوامه: يا قوم إني من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شك، ولا بد لي من إحداهما، أما حالة الشك فإني إن استندت لإلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن أن لا يفعل، فهذه حالة الشك، وأما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة، فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه فحينئذ قصر أصحابه عن لومه.
ولما اعتزم أمر صاحب بطليوس المتوكل عمر بن محمد وعبد الله بن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة أن يبعث إليه كل منهما قاضي حضرته، ففعلا، واستحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم، وكان أعقل أهل زمانه، فلما اجتمع عنده القضاة بإشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر ابن زيدون، وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى وزيره ما لا بد منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية، وكان يوسف بن تاشفين لا تزال(4/359)
تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين، مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيسمع إليهم، ويصغي لقولهم، وترق نفسه لهم.
فما عبرت رسل ابن عباد البحر إلا ورسل يوسف بالمرصاد، ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم، وأكرم مثواهم، واتصل ذلك بابن عباد، فوجه من إشبيلية أسطولاً نحو صاحب سبتة، فانتظمت في سلك يوسف، ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات، ثم انصرفت إلى مرسلها، ثم عبر يوسف البحر عبوراً سهلاً، حتى أتى الجزيرة الخضراء، فتحوا له، وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات، وأقاموا له سوقاً جلبوا إليه ما عندهم من سائر المرافق، وأذنوا للغزاة في دخول البلد والتصرف فيه، فامتلأت المساجد والرحبات بالمطوعين، وتواصوا بهم خيراً، هذا مساق صاحب الروض المعطار.
وأما ابن الأثير (1) فإنه لما ذكر وقعة الزلاقة ذكر ما تقدم من فعل المعتمد بالأرسال وقتلهم، وتخوف أكابر الأندلس من الأذفونش، وأنه اجتمع منهم رؤساء، وساروا إلى القاضي عبيد الله (2) بن محمد بن أدهم وقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة وإعطائهم الجزية، بعد أن كانوا يأخذونها، وقالوا: قد غلب على البلاد الفرنج، ولم يبق إلا القليل، وإن طال هذا الأمر عادت نصرانية كما كانت أولاً، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك، قال: وماهو قالوا: نكتب إلى عرب إفريقية، ونبذل لهم إذا وصلوا إلينا شطر أموالنا، ونخرج معهم مجاهدين في سبيل الله، فقال لهم: إنا نخشى إن وصلوا إلينا أن يخربوا بلادنا كما فعلوا بإفريقية، ويتركوا الإفرنج ويبدأوا بنا، والمرابطون أصلح منهم، وأقرب إلينا، فقالوا له: فكاتب أمير المسلمين، واسأله العبور إلينا أو إعانتنا بما تيسر من الجند، فبينما هم في ذلك يتراوضون إذ قدم عليهم المعتمد بن عباد
__________
(1) الكامل 10: 151 وقد أورده ابن خلكان أيضاً 4: 119.
(2) في ابن الأثير: عبد الله؛ راجع الصلة: 293.(4/360)
قرطبة، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتنع، وإنما أراد أن يبرئ نفسه من ذلك، فألح عليه المعتمد، فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فوجده بسبتة، وأبلغه الرسالة وأعلمه بما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش، ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس، وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من العساكر، فأقبلت إليه يتلو بعضها بعضاً، فلما تكاملت عنده عبر البحر، واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوعة من سائر بلاد الأندلس، ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة، وكتب إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتاباً كتبه له بعض غواة أدباء المسلمين يغلظ له في القول، ويصف ما معه من القوة والعدد والعدد، وبالغ في ذلك، فلما وصله وقرأه يوسف أمر كاتبه أبا بكر ابن القصيرة أن يجيبه، وكان كاتباً مفلقاً، فكتب وأجاد، فلما قرأه على أمير المسلمين قال: هذا كتاب طويل، أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره: الذي يكون ستراه وأرسله إليه، فلما وقف عليه الأذفونش ارتاع له، وعلم أنه بلي برجل لا طاقة له به.
وذكر ابن خلكان (1) أن يوسف بن تاشفين أمر بعبور الجمال فعبر منها ما أغص الجزيرة، وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء، ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملاً قط ولا خيلهم، فصارت الخيل تجمح من رؤية الجمال ومن رغائها، وكان ليوسف في عبور الجمال رأي مصيب، فكان يحدق بها عسكره، ويحضرها للحرب، فكانت خيل الفرنج تجمح منها، وقدم يوسف بين يديه كتاباً للأذفونش يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام أو الجزية أو الحرب، كما هي السنة، ومن جملة ما في الكتاب: بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن
__________
(1) وفيات الأعيان 6: 115.(4/361)
تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " انتهى بمعناه، وأكثره بلفظه.
ولنرجع إلى كلام صاحب " الروض المعطار " (1) فإنه أقعد بتاريخ الأندلس، إذ هو منهم، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه (2) ، قال رحمه الله تعالى: فلما عبر يوسف وجميع جيوشه إلى الجزيرة الخضراء انزعج إلى إشبيلية على أحسن الهيئات، جيشاً بعد جيش، وأميراً بعد أمير، وقبيلاً بعد قبيل، وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف، وأمر عمال البلاد بجلب الأقوات والضيافات، ورأى يوسف من ذلك ما سره ونشطه، وتواردت الجيوش مع أمرائها على إشبيلية، وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من إشبيلية في مائة فارس وجوه أصحابه، فلما أتى محلة يوسف ركض نحو القوم، وركضوا نحوه، فبرز إليه يوسف وحده، والتقيا منفردين، وتصافحا وتعانقا، وأظهر كل منهما لصاحبه المودة والخلوص، وشكرا نعم الله تعالى، وتواصيا بالصبر والرحمة، وبشرا أنفسهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر، وتضرعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه، مقرباً إليه، وافترقا، فعاد يوسف لمحلته، وابن عباد إلى جهته، وألحق ابن عباد ما كان أعده من هدايا وتحف وضيافات أوسع بها على محلة يوسف بن تاشفين، وباتوا تلك الليلة، فلما أصبحوا وصلوا الصبح ركب الجميع، وأشار ابن عباد على يوسف بالتقدم نحو إشبيلية، ففعل، ورأى الناس من عزة سلطانه ما سرهم، ولم يبق من ملوك الطوائف بالأندلس إلا من بادر أو أعان وخرج أو أخرج، وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف، كل صقع من أصقاعه رابطوا وصابروا (3) . وكان الأذفونش لما تحقق الحركة والحرب استنفر جميع أهل بلاده
__________
(1) الروض: 87.
(2) بالذي فيه: سقطت من ق.
(3) في الأصول: وكابروا.(4/362)
وراءها ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة ما لا يحصى عدده، وجواسيس كل فريق تتردد بين الجميع، وبعث الأذفونش إلى ابن عباد: إن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاده، وخاض البحور، وأنل أكفيه العناء فيما بقي، ولا أكلفكم تعباً، أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقاً بكم وتوفيراً عليكم، وقال لخاصته وأهل مشورته: إني رأيت أني إن مكنتهم من الدخول إلى بلادي، فناجزوني فيها وبين جدرها، وربما كانت الدائرة علي، يستحكمون البلاد، ويحصدون من فيها غداة واحدة، ولكني أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فإن كانت علي اكتفوا بما نالوه، ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبة أخرى فيكون في ذلك صون لبلادي، وجبر لمكاسري، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون في وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها، ثم برز بالمختار من جنوده، وأنجاد جموعه على باب دربه، وترك بيقة جموعه خلفه، وقال حين نظر إلى ما اختاره منهم: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء، فالمقلل يقول: المختارون أربعون ألف ذراع، ولكل واحد أتباع. وأما النصارى فيعجبون ممن يزعم ذلك، ويرون أنهم أكثر من ذلك كله. واتفق الكل أن عدد المسلمين أقل من الكفرة، ورأى الأذفونش في نومه كأنه راكب فيل يضرب نقيرة طبل، فهالته الرؤيا، وسأل عنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد، فدس يهودياً عمن يعلم تأويلها من المسلمين، فدل على معبر، فقصها عليه، ونسبها لنفسه، فقال له المعبر: كذبت، ما هذه الرؤيا لك، ولا أعبرها لك إلا إن صدقتني بصاحب الرؤيا، فقال له: اكتم علي، الرؤيا للأذفونش، فقال المعبر: صدقت ولا يراها غيره، والرؤيا تدل على بلاء عظيم، ومصيبة فادحة فيه وفي عسكره، وتفسيرها قوله تعالى " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " وأما ضربه النقيرة فتأويلها " فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير " فانصرف اليهودي وذكر للأذفونش(4/363)
ما وافق خاطره.
ثم خرج الأذفونش ووقف على الدروب، ومال بجيوشه إلى الجهة الغربية من بلاد الأندلس، وتقدم السلطان يوسف فقصده، وتأخر ابن عباد لبعض مهماته، ثم انزعج يقفو أثره بجيش فيه حماة الثغور، ورؤساء الأندلس، وجعل ابنه عبد الله على مقدمته، وسار وهو ينشد لنفسه متفائلاً مكملاً البيت المشهور:
لا بد من فرج قريب يأتيك بالعجب العجيب
غزو عليك مبارك سيعود بالفتح القريب
لله سعدك إنه نكس على دين الصليب
لا بد من يوم يكو ... ن له أخاً يوم القليب (1) ووافت الجيوش كلها بطليوس، فأناخوا بظاهرها، وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس، فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود، وجاءهم الخبر بشخوص الأذفونش، ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفاً عليهم من مكايد الأذفونش، إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه، حتى قيل: إن الرجل من الصحراويين لا يخرج على طرف المحلة لقضاء أمر أو حاجة إلا ويجد ابن عباد بنفسه مطيفاً بالمحلة، بعد ترتيب الخيل والرجال على أبواب المحلات، وقد تقدم كتاب السلطان يوسف إلى الأذفونش يدعوه إلى إحدى الثلاث المأمور بها شرعاً، فامتلأ الكافر غيظاً، وعتا وطغى، وراجعه بما يدل على شقائه، وقامت الأساقفة والرهبان فرفعوا (2) صلبانهم، ونشروا أناجيلهم وتبايعوا على الموت، ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والصالحون مقام الوعظ، وحضوهم على الصبر والثبات، وحذروهم من الفشل والفرار،
__________
(1) يوم القليب يعني معركة بدر.
(2) ق: ونصبوا.(4/364)
وجاءت الطلائع تخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم، وهو يوم الأربعاء، فأصبح المسلمون وقد أخذوا مصافهم، فكع الأذفونش، ورجع إلى إعمال المكر والخديعة، فعاد الناس إلى محلاتهم، وباتوا ليلتهم، ثم أصبح يوم الخميس فبعث الأذفونش إلى ابن عباد يقول: غداً هو الجمعة، وهو عيدكم، والأحد عيدنا، فليكن لقاؤنا بينهما، وهو السبت، فعرف المعتمد بذلك السلطان يوسف، وأعلمه أنها حيلة منه وخديعة، وإنما قصد الفتك بنا يوم الجمعة، فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النهار، وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس. وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي - واكن في محلة ابن عباد - فرحاً مسروراً يقول: إنه رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، في تلك الليلة في النوم فبشره بالفتح والموت على الشهادة في صبيحة تلك الليلة، فتأهب ودعا وتضرع ودهن رأسه وتطيب، وانتهى ذلك إلى ابن عباد، فبعث إلى يوسف يخبره بها تحقيقاً لما توقعه من غدر الكافر بالله تعالى.
ثم جاء بالليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة الأذفونش وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحق بقية الطلائع متحققين بتحرك الأذفونش، ثم جاءت الجواسيس من داخل محلتهم تقول: استرقنا السمع فسمعنا الأذفونش يقول لأصحابه: ابن المعتمد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الحروب فهم غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، واصبروا فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة، فعند ذلك بعث ابن عباد الكاتب أبا بكر ابن القصيرة إلى السلطان يوسف يعرفه بإقبال الأذفونش، ويستحث نصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين، فعرفه بجلية الأمر، فقال له: قل له إني سأقرب منه إن شاء الله تعالى، وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي(4/365)
بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها ناراً ما دام الأذفونش مشتغلاً مع ابن عباد.
وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد، فلم يصله إلا وقد غشيته جنود الطاغية، فصدم ابن عباد صدمة قطعت آماله، ومال الأذفونش عليه بجموعه، وأحاطوا به من كل جهة، فهاجت الحرب، وحمي الوطيس، واستحر القتل في أصحاب ابن عباد، وصبر ابن عباد صبراً لم يعهد مثله لأحد، واتبطأ السلطان يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب، واشتد عليه وعلى من معه البلاء، وأبطأ عليه الصحراويون وساءت الظنون، وانكشف بعض أصحاب ابن عباد وفيهم ابنه عبد الله، وأثخن ابن عباد جراحات، وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت يمنى يده، وطعن في أحد جانبيه، وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر، وهو يقاسي حياض الموت، ويضرب يميناً وشمالاً، وتذكر في تلك الحالة ابناً له صغيراً كان مغرماً به تركه في إشبيلية عليلاً، وكنيته أبو هاشم، فقال:
أبا هاشم هشمتني الشفار فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج فلم يثنني ذكره للفرار
ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين داود بن عائشة، وكان بطلاً شجاعاً شهماً، فنفس بمجيئه عن ابن عباد، ثم أقبل يوسف بعد ذلك، وطبوله تصعد أصواتها إلى الجو، فلما أبصره الأذفونش وجه حملته إليه، وقصده بمعظم جنوده، فبادر إليهم السلطان يوسف، وصدمهم بجمعه، فردهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، واستنشق ريح الظفر، وتياشر بالنصر، ثم صدقوا جميعاً الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم، وأظلم النهار بالعجاج والغبار، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبراً عظيماً، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف، وحمل معه حملة جاء معها النصر، وتراجع(4/366)
المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين، وصدقوا الحملة، فانكشف الطاغية، ومر هارباً منهزماً وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي يخمع بها بقية عمره.
وعلى سياق ابن خلكان (1) أن ابن تاشفين نزل على أقل من فرسخ من عسكر العدو في يوم الأربعاء، وكان الموعد في المناجزة في يوم السبت، فغدر الأذفونش ومكر، فلما كان سحر يوم الجمعة منتصف رجب أقبلت طلائع ابن عباد، والروم في أثرها، والناس على طمأنينة، فبادر ابن عباد للركوب، وبث الخبر في العساكر فماجت بأهلها، ووقع البهت، ورجفت الأرض، وصار الناس فوضى على غير تعبية ولا أهبة، ودهمتهم خيل العدو، فأحاطت بابن عباد، وحطمت ما تعرض لها، وتركت الأرض حصيداً خلفها، وجرح ابن عباد جرحاً أشواه (2) ، وفر رؤساء الأندلس وتركوا محلاتهم وأسلموها، وظنوا أنه وهي لا يرقع، ونازلة لا تدفع، زظن الأذفونش أن السلطان يوسف في المنهزمين ولم يعلم أن العاقبة للمتقين، فركب أمير المسلمين، وأحدق به أنجاد (3) خيله ورجله من صنهاجة رؤساء القبائل، وقصدوا محلة الأذفونش فاقتحموها ودخلوها، وفتكوا فيها، وقتلوا، وضربت الطبول، وزعقت البوقات، فاهتزت الأرض، وتجاوبت الجبال والآفاق، وتراجع الروم إلى محلاتهم بعد أن علموا أن أمير المسلمين فيها، فصدموا أمير المسلمين، فأفرج (4) لهم عنها، ثم كر عليهم فأخرجهم منها، ثم كروا عليه فخرج لهم عنها، ولم تزل الكرات بينهم تتوالى إلى أن أمر أمير المسلمين حشمه السودان فترجل منهم زهاء أربعة آلاف،
__________
(1) انظر ابن خلكان 6: 116 وهو ينقل عن كتاب " تذكر العاقل وتنبيه الغافل " للبياسي.
(2) في الأصول: أساءه.
(3) في الأصول: جياد.
(4) في الأصول: فخرج.(4/367)
ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الهند ومزاريق الران (1) ، فطعنوا الخيل فرمحت بفرسانها، وأجمحت (2) عن أقرانها، وتلاحق الأذفونش بأسود نقدت مزاريقه، فأهوى ليضربه بالسيف، فلصق به الأسود، وقبض على عنانه، وانتضى خنجراً كان متمنطقاً به، فأثبته في فخذه، فهتك حلق درعه، ونفذ من فخذه مع بداد سرجه، وكان وقت الزوال، وهبت ريح النصر، فأنزل الله سكينته على المسلمين، ونصر دينه القويم، وصدقوا الحملة على الأذفونش وأصحابه، فأخرجوهم عن محلتهم، فولوا ظهورهم وأعطوا أعناقهم، والسيوف تصفعهم والرماح تطعنهم، إلى أن لحقوا ربوة لجأوا إليها واعتصموا بها، وأحدقت بهم الخيل، فلما أظلم الليل انساب الأذفونش وأصحابه من الربوة، وأفلتوا بعدما تشبثت (3) بهم أظفار المنية، واستولى المسلمون على ما كان في محلتهم من الآلات والسلاح والمضارب والأواني وغير ذلك، وأمر ابن عباد بضم رؤوس قتلى المشركين، فاجتمع من ذلك تل عظيم، انتهى، وبعضه بالمعنى.
رجع إلى كلام صاحب الروض المعطار قال (4) :
ولجأ الأذفونش إلى تل كان يلي محلته في نحو خمسمائة فارس كل واحد منهم مكلوم، وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم، وعمل المسلمون من رؤوسهم مآذن (5) يؤذنون عليها، والمخذول ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا نكالاً محيطاً به وبأصحابه، وأقبل ابن عباد على السلطان يوسف وصافحه وهنأه وشكره وأثنى عليه، وشكر يوسف صبر ابن عباد ومقامه وحسن
__________
(1) في الأصول: الزان.
(2) ق ص: وأجمحت، ابن خلكان: وأحجمت.
(3) ابن خلكان: نشبت.
(4) الروض: 93.
(5) الروض: صوامع.(4/368)
بلائه وجميل صبره، وسأله عن حاله عندما أسلمته رجاله بانهزامهم عنه، فقال له: هم هؤلاء قد حضروا بين يديك فليخبروك.
وكتب ابن عباد إلى ابنه بإشبيلية كتاباً مضمونه: كتابي هذا من المحلة المنصورة يوم الجمعة الموفي عشرين من رجب، وقد أعز الله الدين، ونصر المسلمين، وفتح لهم الفتح المبين، وهزم الكفرة والمشركين، وأذاقهم العذاب الأليم، والخطب الجسيم، فالحمد لله على ما يسره وسناه من هذه المسرة العظيمة، والنعمة الجسيمة، في تشتيت شمل الأذفونش والاحتواء على جميع عساكره، أصلاه الله نكال الجحيم، ولا أعدمه الوبال العظيم المليم، بعد إتيان النهب على محلاته، واستئصال القتل في جميع أبطاله وحماته، حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها، فلله الحمد على جميل صنعه، ولم يصبني والحمد لله إلا جراحات يسيرة آلمت لكنها فرجت بعد ذلك، فلله الحمد والمنة، والسلام.
واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس، مثل ابن رميلة صاحب الرؤية المذكورة، وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي، وغيرهما، رحمهما الله تعالى.
وحكي أن موضع المعترك كان على اتساعه ما كان فيه موضع قدم، إلا على ميت أو دم، وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام، حتى جمعت الغنائم، واستؤذن في ذلك السلطان يوسف، فعف عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعرفهم أن مقصده الجهاد والأجر العظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلما رأت ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبوه وشكروا له ذلك.
ولما بلغ الأذفونش إلى بلاده وسأل عن أبطاله وشجعانه وأصحابهم ففقدهم ولم يسمع إلا نواح الثكلى عليهم، اهتم ولم يأكل ولم يشرب حتى هلك هماً وغما، وراح إلى أمه الهاوية، ولم يخلف إلا بنتاً واحدو جعل الأمر إليها، فتحصنت بطليلة.
ورحل المعتمد إلى إشبيلية ومعه السلطان يوسف بن تاشفين، فأقام السلطان(4/369)
يوسف بن تاشفين بظاهر لإشبيلية ثلاثة أيام، وردت عليه من المغرب أخباراً تقتضي العزم فسافر وذهب معه ابن عباد يوماً وليلة، فحلف ابن تاشفين وعزم عليه في الرجوع، وكانت جراحاته تورمت عليه، فسير معه ولده عبد الله إلى أن وصل البحر، وعبر إلى المغرب.
ولما رجع ابن عباد إلى إشبيلية جلس للناس، وهنئ بالفتح، وقرأت القراء، وقام على رأسه الشعراء، فأنشدوه، قال عبد الجليل بن وهبون: حضرت ذلك اليوم، وأعددت قصيدة أنشدها بين يديه، فقرأ القارئ " إلا تنصروه فقد نصره الله " فقلت: بعداً لي ولشعري، والله ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به.
ولما عزم السلطان (1) يوسف بن تاشفين إلى بلاده ترك الأمير سير بن أبي بكر أحد قواده المشاهير، وترك معه جيشاً برسم غزو الفرنج، فاستراح الأمير المذكور اياماً قلائل، ودخل بلاد الأذفونش، واطلق الغارة ونهى وسبى، وفتح الحصون المنيعة والمعاقل الصعبة العويصة، وتوغل في البلاد، وحصل أموالاً وذخائر عظيمة، ورتب رجالاً وفرساناً في جميع ما أخذه، وأرسل للسلطان يوسف جميع ما حصله، وكتب له يعرفه أن الجيوش بالثغور مقيمة على مكابدة العدو وملاومة الحرب والقتال فيس أضيق العيش وانكده، وملوك الأندلس في بلادهم وأهليهم في أرغد العيش وأطيبه، وسأله مرسومه، فكتب إليه أن يأمرهم بالنقلة والرحيل إلى أرض العدوة، فمن فعل فذاك، ومن أبى فحاصره وقاتله، ولا تنفس عليه، ولتبدأ بمن والى الثغور، ولا تتعرض للمعتمد بن عباد، إلا بعد استيلائك على البلاد، وكل بلد أخذته فول فيه أمراً من عساكرك، فأول من ابتدأ به من ملوك الأندلس بنو هود، وكانوا بروطة - بضم الراء المهملة، وبعدها واو ساكنة، وطاء مهملة مفتوحة، وبعدها هاء ساكنة، وهي قلعة منيعة من
__________
(1) عاد إلى النقل عن ابن خلكان بإيجاز.(4/370)
عاصمات الذرا، ومائها ينبع من أعلاها، وفيها من الأقوات والذخائر المختلفات ما لا تفنيه الأزمان - فحاصرها فلم يقدر عليها ورحل عنها، وجند أجناداً على هيئة الفرنج وزيهم، وأمرهم أن يقصدوها ويغيروا عليها، وكمن هو وأصحابه بقرب منها، فلما رآهم أهل القلعة استضعفوهم، فنزلوا إليهم، ومعهم صاحب القلعة، فخرج عليه سير المذكور، وقبضه باليد، وتسلم الحصن.
ثم نازل بني ضاهر بشرق الأندلس، فأسلموا له البلاد، ولحقوا ببر العدوة.
ثم نازل بني صمادح بالمرية، ولها قلعة حصينة، فحاصرهم وضيق بهم، ولما علم ابن صمادح الغلب أسف ومات غبناً، فأخذ القلعة واستولى على المرية وجميع أعمالها.
ثم قصد بطليوس، وكان بها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس المتقدم ذكره، فحاصره وأخذه واستولى على جميع أعماله وماله، ولم يبق له إلا المعتمد بن عباد، فكتب للسلطان يوسف يعرفه بما فعل، ويسأله مرسومه في ابن عباد، فكتب إليه يأمره انه يعرض عليه النقلة لبر العدوة بجميع الأهل والعشيرة، فإن رضي، وإلا فحاصره وخذه وأرسل به كسائر أصحابه، فواجهه وعرفه بما رسم به السلطان يوسف، وسأله الجواب، فلم يجب بنفي ولا إثبات، ثم إنه نازل إشبيلية وحاصره بها وألح عليه فأقام الحصار شهراً، ودخل البلد قهراً، واستخرجه من قصره، فحمل وجميع أهله وولده إلى العدوة فأنزل بأغمات، وأقام بها إلى أن مات، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
وأما ابن الأثير ففي كلامه تقديم وتأخير وبعض خلاف لما مر.
وأخبار المعتمد بن عباد، وما رآه من الملك والعز على كل حاضر وباد، وما قاساه في الأسر من الضيق والعسر وسوء العيش أمر عجيب، يتعظ به العاقل الأريب، وأما ما مدحته به الشعراء وأجوبته لهم في حالي يسره وعسرهن وملكه وأسره، وطيه ونشره، وتجهمه وبشره، فهو كثير، وفي كتب التواريخ منه نظم ونثير، وقد قدمنا منه في هذا الكتاب ما يبعث الاعتبار ويثير، وخصوصاً في الباب السابع من هذا التأليف الذي هو عند المنصف أثير، وفي المعتمد وأبيه(4/371)
المعتضد يقول بعض الشعراء (1) :
من بني منذر وذاك انتساب زاد في فخرهم بنوا عباد
فتية لم تلد سواها المعالي والمعالي قليلة الأولاد
وقال ابن القطاع في كتابه " لمح الملح " (2) في حق المعتمد: إنه أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة، وأعظمهم ثماداً، وأرفعهم عماداً، ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال (3) ، وموسم الشعراء، وقبلة الآمال، ومألف الفضلاء، حتى إنه لم يجتم بباب أحد من الملوك من أعيان الشعراء، وأفاضل الأدباء، ما كان يجتمع ببابه، وتشتمل عليه حاشيتا جنابه.
وقال ابن بسام في " الذخيرة " (4) : للمعتمد شعر، كما انشق الكمام عن الزهر، لو صار مثله ممن جعل الشعر صناعة، واتخذه بضاعة، لكان رائقاً معجباً، ونادراً مستغرباً، [فمن ذلك قوله] (5) :
أكثرت هجرك غير أنك ربما عطفتك أحياناً على أمور
فكأنما زمن التهاجر بيننا ليل، وساعات الوصال بدور
وقال: وهذا المعنى ينظر إلى قول بعضهم من أبيات:
أسفر ضوء الصبح عن وجهه فقام ذاك الخال فيه بلال
كأنما الخال على خده ساعات هجر في زمان الوصال
__________
(1) ابن خلكان 4: 112.
(2) نقل العمري في المسالك قطعة موجزة من هذا الكتاب؛ وهذا النص قد نقله المقري عن ابن خلكان 4: 115.
(3) ق ص: الرجال.
(4) لا يزال المقري يتابع نص ابن خلكان ص: 115.
(5) زيادة من ابن خلكان.(4/372)
وعزم على إرسال حظاياه من قرطبة إلى إشبيلية فخرج معهن يشيعهن فسايرهن من أول الليل إلى الصبح، فودعهن ورجع، وأنشد أبيتاً منها:
سليرتهم والليل عقد ثوبه حتى تبدى للنواظر معلما
وفقفت ثم مودعاً وتسلمت مني يد الإصباح تلك الأنجما
وهذا المعنى في نهاية الحسن، ثم ذكر من كلامه جملة.
عود وانعطاف:
ولما جاء أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى ناحية غرناطة (1) - بعدما حصر بعض حصون الفرنج، فلم يقدر عليه - خرج غلى لقائه صاحب غرناطة عبد الله بن بلكين، فسلم عليه، ثم عاد إلى بلده ليخرج له التقادم، فغدر به ودخل البلد، وأخرج عبد الله، ودخل قصره فوجد فيه من الذخائر والأموال ما لا يحد ولا يحصى، ثم رجع إلى مراكش وقد أعجبه حسن بلاد الأندلس وبهجتها، وما بها من المباني والبساتين والمطاعم وسائر الأصناف التي لا توجد في بلاد العدوة، إذ هي بلاد بربر وأجلاف عربان، فجعل خواص يوسف يعظمون عنده بلاد الأندلس ويحسنون له أخذها، ويوغرون قلبه على المعتمد بأشياء نقلوها عنه، فتغير على المعتمد وقصد مشارفة الأندلس.
وحكى ابن خلدون أن علماء الأندلس أفتوا ابن تاشفين بجواز خلع المعتمد وغيره من ملوك الطوائف، وبقتاله إن امتنعوا، فجهز يوسف العساكر إلى الأندلس، وحاصر سير بن أبي بكر أحد عظماء دولة يوسف إشبيلية وبها المعتمد، فكان من دفاعه وشدة ثباته ما هو معلوم، ثم أخذ أسيراً، وصار طرف الملك بعه حسيراً.
__________
(1) لم يكن هذا في الجواز الأول ليوسف.(4/373)
وفي وصف ذلك يقول صاحب القلائد بعد كلام (1) : ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعدما ضاق عنهم القصر، وراق منهم المصر (2) ، والناس قد حشروا (3) بضفتي الوادي، يبكون بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم، انتهى.
ولما فرغ أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين (4) من أمر غزوة الزلاقة المتقدم ذكرها ورجع تكرم له ابن عباد، وسأله أن ينزل عنده، فعلاج إلى بلاده إذ أجابه إلى ما طلب، فلما انتهى ابن تاشفين إلى إشبيلية مدينة المعتمد - وهي من أحسن المدن وأجلها منظراً - أمعن يوسف النظر فيها وفي محلها، وهي على نهر عظيم مستبحر تجري فيه السفن بالبضائع جالبة من بر المغرب وحاملة إليه، وفي غربيها رستاق عظيم مسيرة عشرين فرسخاً يشتمل على آلاف من الضياع كلها تين وعنب وزيتون، وهذا هو المسمى بشرف إشبيلية، وتمتاز بلاد المغرب كلها بهذه الأصناف منه، وفي جانب المدينة قصور المعتمد وأبيه المعتضد في غاية الحسن والبهاء، وفيها أنواع ما يحتاج إليه من المطعوم والمشروب والملبوس والمشروف وغير ذلك، فأنزل المعتمد يوسف بن تاشفين في أحدها، وتولى من إكرامه وخدمته ما أوسع شكر ابن تاشفين له، وكان مع ابن تاشفين أصحاب له ينبهونه على حسن تلك الحال وتأملها، وما هي عليه من النعمة والإتراف، ويغرونه بإتخاذ مثلها، ويقولون له: إن فائدة الملك قطع العيش فيه بالتنعم واللذة، كما هو المعتمد وأصحابه، وكان ابن تاشفين داهية (5) عاقلاً مقتصداً
__________
(1) القلائد: 23.
(2) القلائد: العصر.
(3) ق: حشدوا.
(4) عاد لمتابعة ابن خلكان 6: 118 وما بعدها.
(5) داهية: سقطت من ق.(4/374)
في أموره، غير متطاول ولا مبذر، غير سالك نهج الترف والتأنق في اللذة والنعيم، إذ ذهب صدر عمره في بلاده بالصحراء في شظف العيش، فأنكر على من أغراه بذلك الإسراف، وقال له: الذي يلوح لي من أمر هذا الرجل - يعني المعتمد - أنه مضيع لما في يده من الملك، لأن هذه الأموال الكثيرة التي تصرف في هذه الأحوال لا بد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبداً، فأخذه بالظلم وإخراجه في هذه الترهات من أفحش استهتار، ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الأجوفين متى تستنجد (1) همته في ضبط بلاده وحفظها، وصون رعينه والتوقير لمصالحها ولعمري لقد صدق في كل ذلك.
ثم إن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذاته: هل تختلف فتنقص عما عليه في بعض الأوقات فقيل له: بل كل زمانه على هذا فقال: أفكل أصحابه وأنصاره على عدوه ومنجديه على الملك ينال حظاً من ذلك فقالوا: لا، قال: فكيف ترون رضاهم عنه فقالوا: لا رضى لهم عنه، فأطرق وسكت، وأقام عند المعتمد على تلك الحال أياماً.
وفي أثنائها (2) استأذن رجل على المعتمد ودخل وهو ذو هيئة رثة، وكان من أهل البصائر، فلما مثل بين يديه قال: أصلحك الله أيها السلطان، وإن من أوجب الواجبات شكر النعمة، وإن من شكر النعمة إهداء النصائح، وإني رجل من رعيتك حالي في دولتك إلى الاختلال، أقرب منها إلى الاعتدال، ولكنني مع ذلك مستوجب لك من النصيحة ما للملك على رعيته، فمن ذلك خبر وقع في أذني من بعض أصحاب ضيفك هذا يوسف بن تاشفين يدل على أنهم يرون أنفسهم وملكهم، أحق بهذه النعمة منك، وقد رأيت رأياً، فإن آثرت الإصغاء
__________
(1) في الأصول: تستجد؛ وفي دوزي: يستجد همة.
(2) ابن خلكان: وفي بعض تلك الأيام.(4/375)
إليه قلته، فقال المعتمد له: قله، فقال له: رأيت أن هذا الرجل الذي أطلعته على ملكك مستأسد على الملوك، قد حطم على زناتة ببر العدوة، وأخذ الملك من أيديهم، ولم يبق على واحد منهم، ولا يؤمن أن يطمح إلى الطمع في ملكك، بل في ملك جزيرة الأندلس كلها، لما قد عاينه من هناءة (1) عيشك، وإنه لمتخيل في مثل حالك سائر ملوك الأندلس (2) ، وإن له من الولد والأقارب وغيرهم من يود له الحلول لما أنت فيه من خصب الجناب، وقد أردى الأذفونش وجيشه واستأصل شأفتهم، وأعدمك منه أقوى ناصر عليه لو احتجت إليه، فقد كان لك منه أقوى عضد وأوقى مجن، وبعد فإنه إن فات الأمر في الأذفونش فلا يفتك الحزم فيما هو ممكن اليوم، فقال له المعتمد: وما هو الحزن اليوم فقال: أن تجمع أمرك على قبض ضيفك هذا واعتقاله في قصرك، وتجزم أنك لا تطلقه حتى يأمر كل من بجزيرة الأندلس من عسكره أن يرجع من حيث جاء، حتى لا يبقى منهم أحد بالجزيرة طفل فمن فوقه، ثم تتفق أنت وملوك الجزيرة على حراسة هذا البحر من سفينة تجري فيه له، ثم بعد ذلك تستحلفه بأغلظ الأيمان ألا يضمر في نفسه عوداً إلى هذه الجزيرة إلا باتفاق منكم ومنه، وتأخذ منه على ذلك رهائن فإنه يعطيك من ذلك ما تشاء، فنفسه أعز عليه من جميع ما يلتمس منه، فعند ذلك يقتنع هذا الرجل ببلاده التي لا تصلح إلا له، وتكون قد استرحت بعدما استرحت من الأذفونش، وتقيم في موضعك على غير حال، ويرتفع ذكرك عند ملوك الجزيرة ويتسع ملكك وينسب هذا الاتفاق لك إلى سعادة وحزم وتهابك الملوك، ثم اعمل بعد هذا ما يقتضيه حزمك في مجاورة من عاملته هذه المعاملة، واعلم أنه قد تهيأ لك من هذا أمر سماوي تتفانى الأمم وتجري بحار الدم دون حصولمثله، فلما سمع المعتمد كلام
__________
(1) ابن خلكان: بلهنية.
(2) في الأصول: وإني لمتخيل في مثل ذلك لسائر ... الخ.(4/376)
الرجل استصوبه، وجعل يفكر بانتهاز الفرصة.
وكان للمعتمد ندماء قد انهمكوا معه في اللذات، فقال أحدهم لهذا الرجل الناصح: ما كان المعتمد على الله - وهو إمام أهل المكرمات - ممن يعامل بالحيف، ويغدر بالضيف، فقال الرجل: إنما الغدر أخذ الحق من يد صاحبه، لا دفع الرجل عن نفسه المحذور إذا ضاق به، فقال ذلك النديم: ضيم مع وفاء، خير من حزم مع جفاء. ثم إن ذلك الناصح استدرك الأمر وتلافاه، فشكر له المعتمد، ووصله بصلة. واتصل هذا الخبر بيوسف فأصبح غادياً، فقدم له المعتمد الهدايا السنية والتحف الفاخرة، فقبلها ثم رحل.
انتهى خبر وقعة الزلاقة وما يتبعه ملخصاً من كتب التاريخ.
ولما انقرض بالأندلس ملك ملوك الطوائف بني عباد وبنيهم ذي النون وبني الأفطس وبني صمادح وغيرهم انتضمت في سلك اللمتونيين، وكانت لهم فيها وقعات بالأعداء مشهورة في كتب التواريخ.
دخول الأندلس في طاعة الموحدين
ولما مات يوسف بن تاشفين سنة خمسمائة قام بالملك بعده ابنه أمير المسلمين علي بن يوسف، وسلك سنن أبيه، وإن قصر عنه في بعض الأمور، ودفع العدو عن الأندلس مدة، إلى أن قيد الله تعالى للثورة عليه محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أسس دولة الموحدين، فلم يزل يسعى في هدم بنيان لمتونة إلى أن مات ولم يملك حضرة سلطنتهم مراكش، ولكنه ملك كثيرالً من البلاد، فاستخلف عبد المؤمن بن علي، فكان من استيلاءه على مملكة اللمتونيين ما هو معروف، ثم جاز إلى الأندلس وملك كثيراً منها، ثم أخرج الإفرنج من مهدية إفريقية، وملك بلاد إفريقية وضخم ملكه، وتسمى بأمير المسلمين.(4/377)
عبد المؤمن بن علي
ولما كانت سنة 545 سار الأذفونش صاحب طليطلة وبلاد الجلالقة إلى قرطبة ومعه أربعون ألف فارس فحاصرها، وكان أهلها في غلاء شديد، فبلغ الخبر عبد المؤمن، فجهزإليهم جيشاً يحتوي على اثني عشر ألف فارس، فلما أشرفوا على الأذفونش رحل عنها، وكان فيها القائد أبو الغمر السائب، فسلمها إلى صاحب جيش عبد المؤمن يحيى بن ميمون فبات فيها، فلما أصبح رأى الفرنج عادوا إلى مكانهم، ونزلوا في المكان الذي كانوا فيه، فلما عاين ذلك رتب هنالك ناساً، وعاد إلى عبد المؤمن، ثم رحل الفرنج إلى ديارهم.
وفي السنة بعدها دخل جيش عبد المؤمن إلى الأندلس في عشرين ألفاً عليهم الهنتاتي، فصار إليه صاحب غرناطة ميمون وابن همشك وغيرهما، فدخلوا تحت طاعة الموحدين، وحرصوا على قصد ابن مردنيش ملك شرق الأندلس، وبلغ ذلك ابن مردنيش، فخاف وأرسل إلى صاحب برشلونة من الإفرنج يستنجده، فتجهز إليه في عشرة آلاف من الإفرنج عليهم فارس، وسار صاحب جيش عبد المؤمن إلى أن قارب ابن مردنيش، فبلغه أمر البرشلوني الإفرنجي فرجع، ونازل مدينة المرية وهي بأيدي الروم فحاصرها، فاشتد الغلاء في عسكره فرجع إلى إشبيلية فأقام فيها، وسار عبد المؤمن إلى سبتة فجهز الأساطيل وجمع العساكر.
ثم سار عبد المؤمن سنة574 (1) إلى المهدية فملكها، وملك إفريقية، وضخم ملكه كما قدمناه.
يوسف بن عبد المؤمن
ولما مات بويع بعده ولده يوسف بن عبد المؤمن، ولما تمهدت له الأمور،
__________
(1) انظر المعجب: 298 حيث جعل سير عبد المؤمن للمهدية سنة 543.(4/378)
واستقرت قواعد ملكه، دخل إلى جزيرة الأندلس لكشف مصالح دولته (1) وتفقد أحوالها، وكان ذلك سنة ست وستين وخمسمائة، وفي صحبته مائة ألف فارس من الموحدين والعرب، فنزل بحضرة إشبيلية، وخاف ملك شرق الأندلس - مرسية وما انضاف إليها - الأمير الشهير أبو عبد الله محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش، وحمل على قلب ابن مردنيش، فمرض مرضاً شديداً ومات، وقيل: إنه سم، ولما مات جاء أولاده وأهله إلى أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن وهو بإشبيلية، فدخلوا تحت حكمه وسلموا لأحكامه البلاد، فصاهرهم وأحسن إليهم وأصبحوا عنده في أعز مكان، ثم شرع في استرجاع البلاد التي استولى عليها الإفرنج، فاتسعت مملكته بالأندلس، وصارت سراياه تغير إلى باب طليطلة، وقيل: إنه حاصرها، فاجتمع الفرنج كافة عليه، واشتد الغلاء في عسكره، فرجع عنها إلى مراكش حضرة ملكه، ثم ذهب إلى إفريقية فمهدها، ثم رجع إلى حضرته مراكش، ثم جاز البحر إلى الأندلس سنة ثمانين وخمسمائة ومعه جمع كثيف، وقصد غربي بلادها، فحاصر مدينة شترين، وهي من أعظم بلاد العدو، وبقي محاصراً لها شهراً، فأصابه المرض فمات في السنة المذكورة، وحمل في تابوت إلى إشبيلية، وقيل: أصابه سهم من قبل الإفرنج، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحال.
وفي ابنه السيد أبي إسحاق يقول مطرف التجيبي رحمه الله تعالى:
سعد كما شاء العلا والفخار تصرف الليل به والنهار
ما دانت الأرض لكم عنوة وإنما دانت لأمر كبار
مهدتموها فصفا عيشها ... واتصل الأمن (2) ، فنعم القرار
__________
(1) تفصيل هذه الأحداث في ابن عذاري 3: 88 (ط. المغرب) .
(2) ق ص: الابن.(4/379)
ومنها:
فالشاة لا يختلها ذئبها وإن أقامت معه في وجار
يعقوب المنصور
ولما مات يوسف قام بالأمر بعده ابنه الشهير أمير المؤمنين يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، فقام بالأمر أحسن قيام، ولما مات يوسف المذكور رثاه أديب الأندلس أبو بكر يحيى بن مجبر بقصيدة طويلة أجاد فيها، وأولها:
جل الأسى فأسل دم الأجفان ماء الشؤون لغير هذا الشان
ويعقوب المنصور هو الذي أظهر أبهة ملك الموحدين، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط الأحكام الشرعية، وأظهر الدين وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأقام الحدود على القريب والبعيد، وله في ذلك أخبار، وفيه يقول الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر المشهور:
أزال حجابه عني وعيني تراه من المهابة في حجاب
وقربني تفضله ولكن بعدت مهابة عند اقترابي
وكثرت الفتوحات في أيامه، وأول ما نظر فيه عند صيرورة الأمر إليه بلاد الأندلس، فنظر في شأنها ورتب مصالحها، وقرر المقاتلين في مراكزهم، ورجع إلى كرسي مملكته مراكش المحروسة.
وفي سنة586 بلغه أن الإفرنج ملكوا مدينة شلب وهي من غرب الأندلس، فتوجه إليها بنفسه وحاصرها وأخذها، وأنفذ في الوقت جيشاً من الموحدين والعرب، ففتح أربع مدن مما بأيدي الإفرنج من البلاد التي كانوا أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة، وخافه صاحب طليطله، وسأله الهدنة والصلح، فهادنه خمس سنين وعاد إلى مراكش.(4/380)
وأنشد القائد أبو بكر بن وزير الشلبي (1) وهو من أمراء كتائب إشبيلية قصيدة يخاطب بها يعقوب المنصور فيما جرى في وقعة مع الفرنجكان الشلبي المذكور مقدماً فيها:
ولما تلاقينا جرى الطعن بيننا فمنا ومنهم طائحون عديد
وجال غرار الهند فينا وفيهم فمنا ومنهم قائم وحصيد
فلا صدر إلا فيه صدر مثقف وحول الوريد للحسام ورود
صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا ... كلانا على حر الجلاد (2) جليد ولكن شددنا شدة فتبلدوا ومن يتبلد لا يزال يحيد
فولوا وللسمر الطوال بهامهم ركوع وللبيض الرقاق سجود
رجع إلى أخبار المنصور بعد هدنة الإفرنج:
ولما انقضت مدة الهدنة، ولم يبق منها إلا القليل، خرج طائفة من الإفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسعوا وعاثوا عيثاً فظيعاً، فانتهى الخبر إليه، فتجهز لقصدهم في جيوش موفرة وعساكر مكتبة، واحتفل في ذلك، وجاز إلى الأندلس سنة 591، فعلم به الإفرنج، فجمعوا جمعاً كثيراً من أقاصي بلادهم وأدانيها، وأقبلوا نحوه، وقيل: إنه لما أراد الجواز من مدينة سلا مرض مرضاً شديداً، ويأس منه أطباؤه، فعاث الأذفونش في بلاد المسلمين بالأندلس، وانتهز الفرصة، وتفرقت جيوش المسلمين بسبب مرض السلطان، فأرسل
__________
(1) زدنا ما بين معقفين اعتماداً على ما سيورده المقري فيما بعد عند حديثه عن سقوط المرية؛ وقد أورد ابن الأبار نسبه على نحو آخر (الحلة 2: 271) فقال أبو بكر محمد بن سيدراي بن عبد الوهاب ابن وزير القيسي، وأورد الأبيات الدالية التي أوردها المقري، وقال فيه: ولي قصر الفتح المنسوب إلى أبي دانس عند استرجاعه من أيدي الروم في جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وخمسمائة؛ وتوفي في صدر المائة السابعة بعد حصوره بموقعة العقاب.
(2) الحلة: الطعان.(4/381)
الأذفونش يتهدد ويتوعد ويرعد ويبرق، ويطلب بعض الحصون المتاخمة له من بلاد الأندلس، وخلاصة اللأمر أن المنصور توجه بعد ذلك إلى لقاء النصارى، وتزاحف الفريقان، فكان المصاف شمالي قرطبة على قرب قلعة رباح في يوم الخميس تاسع شعبان سنة 591، فكانت بينهم وقعة عظيمة استشهد فيها جمع كبير من المسلمين.
وحكي أن يعقوب المنصور جعل مكانه تحت الأعلام السلطانية الشيخ أبا يحيى ابن أبي حفص عم السلطان أبي زكريا الحفصي الذي ملك بعد ذلك إفريقية، وخطب له ببعض الأندلس، فقصد الإفرنج الأعلام ظناً أن السلطان تحتها، فأثروا في المسلمين أثراً قبيحاً، فلم يرعهم إلا والسلطان يعقوب قد أشرف عليهم بعد كسر شوكتهم، فهزمهم شر هزيمة، وهرب الأذفونش في طائفة يسيرة، وهذه وقعة الأرك الشهيرة الذكر.
وحكي أن الذي حصل لبيت المال من دروع الإفرنج ستون ألفاً، وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصر لها عدد، ولم يسمع بعد وقعة الزلاقة بمثل وقعة الأرك هذه، وربما صرح بعض المؤرخين بأنها أعظم من وقعة الزلاقة. وقيل: إن فل الإفرنج هربوا إلى قلعة رباح فتحصنوا بها، فحاصرها السلطان يعقوب حتى أخذها، وكانت قبل للمسلمين، فأخذها العدو، فردت في هذه المرة، ثم حاصر طليطلة وقاتلها أشد قتال وقطع أشجارها وشن الغارات على أرجائها، وأخذ من أعمالها حصوناً وقتل رجالها وسبى حريمها وخرب منازلها وهدم أسوارها وترك الإفرنج في أسوأ حال، ولم يبرز إليه أحد من المقاتلة، ثم رجع إلى إشبيلية، وأقام إلى سنة 593، فعاد إلى بلاد الفرنج، وفعل فيها الأفاعيل، فلم يقدر العدو على لقائه، وضاقت على الإفرنج الأرض بما رحبت، فطلبوا الصلح فأجابهم إليه، لما بلغه من ثورة الميرقي عليه بإفريقية مع قراقوش مملوك بني أيوب سلاطين مصر والشام.
ثم توفي السلطان يعقوب سنة 595. وما يقال إنه ساح في الأرض(4/382)
وتخلى عن الملك ووصل إلى الشام، ودفن بالبقاع لا أصل فيه، وإن حكى ابن خلكان بعضه. وممن صرح ببطلان هذا القول الشريف الغرناطي في شرح مقصورة حازم، وقال: إن ذلك من هذيان العامة، لولوعهم بالسلطان المذكور.
محمد الناصر ووقعة العقاب
وولي بعده ولده محمد الناصر المشؤوم على المسلمين، وعلى جزيرة الأندلس بالخصوص، فإنه جمع جمعاً اشتملت على ستمائة ألف مقاتل فيما حكاه صاحب " الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية " (1) ودخله الإعجاب بكثرة من معه من الجيوش، فصاف الإفرنج، فكانت عليه وعلى المسلمين وقعة العقاب المشهورة التي خلا بسببها أكثر المغرب، واستولى الإفرنج على أكثر الأندلس بعدها، ولم ينج من الستمائة ألف مقاتل غير عدد يسير جداً لم يبلغ الألف فيما قيل، وهذه الوقعة هي الطامة على الأندلس بل والمغرب جميعاً، وما ذاك إلا لسوء التدبير، فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخف بهم الناصر ووزيره، فشنق بعضهم، ففسدت النيات، فكان ذلك من بخت الإفرنج، والله غالب على أمره، وكانت وقعة العقاب هذه المشؤومة سنة 609، ولم تقم بعدها للمسلمين قائمة تحمد.
نهاية الموحدين
ولما مات الناصر سنة عشرين وستمائة ولي بعده ابنه يوسف المستنصر، وكان مولعاً بالراحة، فضعفت الدولة في أيامه، وتوفي سنة 620.
__________
(1) الذخيرة السنية: 41.(4/383)
فتولى عم أبيه عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن، فلم يحسن التدبير، وكان إذ ذاك بالأندلس العادل بن المنصور، فرأى أنه أحق بالأمر، فاستولى على ما بقي في أيدي المسلمين من الأندلس بغير كلفة، ولما خلع عبد الواحد وخنق بمراكش ثارت الإفرنج على العادل بالأندلس، وتصاف معهم، فانهزم ومن معه المسلمين هزيمة شنعاء، فكانت الأندلس قرحاً على قرح، فهرب العادل، وهرب البحر يروم مراكش، وترك بإشبيلية أخاه أبا العلا إدريس، ودخل العادل مراكش بعد خطوب، ثم قبض عليه الموحدون، وقدموا يحيى بن الناصر صغير السن غير مجرب للأمور، فادعى حينئذ الخلافة أبو العلاء إدريس بإشبيلية، وبايعه أهل الأندلس، ثم بايعه أهل مراكش وهو مقيم بالأندلس، فثار على أبي العلاء بالأندلس الأمير المتوكل محمد بن يوسف الجذامي، ودعا إلى بني عباس، فمال الناس إليه، ورجعوا عن أبي العلاء، فخرج عن الأندلس - أعني أبا العلاء - وترك ما وراء البحر لابن هود. ولم يزل أبو العلاء يتحارب مع يحيى بن الناصر إلى أن قتل يحيى، وصفا الأمر لأبي العلاء بالمغرب، دون الأندلس، ثم مات سنة 630.
وبويع ابنه الرشيد، وبايعه بعض أهل الأندلس، ثم توفي سنة640.
وولي بعده أخوه السعيد، وقتل على حصن بينه وبين تلمسان سنة 646.
وولي بعده المرتضى عمر بن إبراهيم بن يوسف بن علد المؤمن، وفي سنة 665 دخل عليه الواثق المعروف بأبي دبوس ففر، ثم قبض وسيق إلى الواثق فقتله، ثم قتل الواثق بنو مرين سنة 668، وبه انقرضت دواة بني عبد المؤمن، وكانت من أعظم الدول الإسلامية، فاستولى بنو مرين على المغرب.
ظهور ابن هود وابن الأحمر
وأما المتوكل بن هود فملك معظم الأندلس، ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته، وقتله غدراً وزيره ابن الرميمي بالمرية، واغتنم الإفرنج الفرصة بافتراق(4/384)
الكلمة، فاستولوا على كثير مما بقي بأيدي المسلمين من البلاد والحصون.
ثم آل الأمر إلى أن ملك بنو الأحمر، وخطب بعض أهل الأندلس لأبي زكريا الحفصي صاحب إفيرقية، وقد سبق الكلام على أكثر المذكور هنا، وأعدناه لتناسق الحديث، ولما في بعض من زيادة الفائدة على البعض الآخر، وذلك لا يخفى على المتأمل، وقد بسطنا في الباب الثالث أحوال ابن هود وابن الأحمر وغيرهما، رحم الله تعالى الجميع.
الدولة المرينية
ثم استفحل ملك يعقوب بن عبد الحق صاحب المغرب وحضرة ملك فاس، فانتصر به الأندلس على الإفرنج الذين تكالبوا عليهم، فاجتاز إلى الأندلس وهزم الإفرنج أشد هزيمة، حتى قال بعضهم: ما نصر المسلمون من العقاب حتى دخل يعقوب المريني وفتك في بعض غزواته بملك من النصارى يقال له ذوننه، ويقال: إنه قتل من جيشه أربعين ألفاً وهزمهم أشد هزيمة، ثم تتابعت غزواته بالأندلس وجوازه للجهاد، وكان له من بلاد الأندلس رندة والجزيرة الخضراء وطريف وجبل طارق وغير ذلك، وأعز الله تعالى به الدين بعد تمرد الفرنج المعتدين. ولما مات ولي بعده ابنه يوسف بن يعقوب، ففر إليه الأذفونش ملك النصارى لائذاً به وقبل يده، ورهن عند تاجه، فأعانه على استرجاع ملكه.
ولم يزل ملوك بني مرين يعينون أهل الأندلس بالمال والرجال، وتركوا منهم حصة معتبرة من أقارب السلطان بالأندلس غزاة، فكانت لهم وقائع في العدو مذكورة، ومواقف مشكورة، وكان عند ابن الأحمر منهم جماعة بغرناطة، وعليهم رئيس من بيت ملك بني مرين يسمونه شيخ الغزاة.
ولما أفضى الملك إلى السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني، وخلص له المغرب وبعض بلاد الأندلس(4/385)
أمر بإنشاء الأساطيل الكثيرة برسم الجهاد بالأندلس، واهتم بذلك غاية الاهتمام، فقضى الله تعالى أن استولى الإفرنج على كثير من تلك المراكب بعد أخذهم الجزيرة الخضراء، وكان الإفرنج جمعوا جموعاً كثيرة برسم الاستيلاء على ما بقي للمسلمين بالأندلس، فاستنفر أهل الأندلس السلطان أبا الحسن المذكور، فجاء بنفسه إلى سبتة فرضة المجاز ومحل أساطيل المسلمين، فإذا الإفرنج جاءوا بالسفن التي لا تحصى ومنعوه العبور وإغاثة أهل الأندلس حتى استولوا على الجزيرة الخضراء، وأنكوه في مراكبه أعظم نكاية، ولله الأمر. وق أفصح عن ذلك كتاب صدر من السلطان أبي الحسن المذكور إلى سلطان مصر والشام والحجاز الملك الصالح ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي الألفي، رحم الله الجميع.
رسالة من أبي الحسن المريني إلى الملك الصالح 745 للهجرة
وهذه نسخة الكتاب المذكور الذي خاطب به أمير المسمين السلطان أبو الحسن المريني المذكور ملك المغرب رحمه الله تعالى السلطان الملك الصالح ابن السلطان الملك الشهير الكبير الناصر محمد بن قلاوون، ووصل إلى مصر في النصف - وقيل في العشر الأواخر - من شعبان المكرم سنة 745 بعد البسملة والصلاة: من عبد الله أمير المسلمين، المجاهد في سبيل الله رب العالمين، المنصور بفضل الله المتوكل عليه، المعتمد في جميع أموره لديه، سلطان البرين، حامي العدوتين، مؤثر المرابطة والثاغرة، مؤازر حزب الإسلام حق المؤازرة، ناصر الإسلام، مظاهر دين الملك العلام، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، فخر السلاطين، حامي حوزة الدين، ملك البرين، إمام العدوتين، ممهد البلاد، مبدد شمل الأعاد، مجند الجنود، المنصور الرايات والبنود، محط الرحال، مبلغ الآمال، أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، حسنة الأيام، حسام الإسلام، أبي الأملاك، شجا أهل العناد والإشراك، مانع البلاد، رافع علم الجهاد(4/386)
مدوخ أقطار الكفار، مصرخ من ناداه للانتصار، القائم لله بإعلاء دين الحق، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أخلص الله لوجهه جهاده، ويسر في قهر عداة الدين مراده.
إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلاء بدراً تماً، وصدع بأنواع الفخار فجلا ظلاماً وظلماً، وجمع شمل المملكة الناصرية فأعلى منها علماً، وأحيا لها رسماً، حائط الحرمين، القائم بحفظ القبلتين، باسط الأمان، قابض كف العدوان، الجزيل النوال، الكفيل تأمينه بحياطة النفوس والأموال، قطب المجد وسماكه، حب الحمد وملاكه، السلطان الجليل، الرفيع الأصيل، الحافل العادل، الفاضل الكامل، الشهير الخطير، الأضخم الأفخم، المعان المؤزر، المؤيد المظفر، الملك الصالح أبو الوليد إسماعيل، ابن محل أخينا الشهير علاؤه، المستطير في الآفاق ثناؤه، زين الأيام والليال، كمال عين إنسان المجد وإنسان عين الكمال، وارث الدول، النافث بصحيح رأيه في عقود أهل الملل والنحل، حامي القبلتين بعدله وحسامه، النامي في حفظ الحرمين أجر اضطلاعه بذلك وقيامه، هازم أحزاب المعاندين وجيوشها، هادم الكنائس والبيع فهي خاوية على عروشها، السلطان الأجل، الهمام الأحفل، الأفخم الأضخم، الفاضل العادل، الشهير الكبير، الرفيع الخطير، المجاهد المرابط، المقسط عدله في الجائز والقاسط، والمؤيد المظفر، المنعم المقدس المطهر، زين السلاطين، ناصر الدنيا والدين، أبي المعالي محمد، ابن الملك الأرضي، الهمام الأمضى، والد السلاطين الأخيار، عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والتتار، ومحيي رسوم الجهاد، معلي كلمة الإسلام في البلاد، جمال الأيام، ثمال الأعلام، فاتح الأقالم، صالح ملوك عصره المتقادم، الإمام المؤيد، المنصور المسدد، قسيم أمير المؤمنين فيما تقلد، الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، مكن الله له تمكين أوليائه، ونمى دولته التي أطعلها السعد شمساً في سمائه، وأحسن إيزاعه للشكر أن جعله وارث آبائه.(4/387)
سلام كريم يفاوح زهر الربى مسراه، وينافح نسيم الصبا مجراه، يصحبه رضوان يدوم ما دامت تقل الفلك حركاته، ويتولاه روح وريحان تحييه به رحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله مالك الملك، جاعل العاقبة للتقوى صدعاً باليقين ودفعاً للشك، وخاذل من أسر في النفاق النجوى فأصر على الدخن والإفك، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الذي محا بأنوار الهدى ظلم الشرك، ونبيه الذي ختم به الأنبياء وهو واسطة ذلك السلك، ودحا به حجة الحق فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك وماجت بهم حاملة الفلك، والرضى عن آله وصحبه الذين سلكوا سبيل هداه فسلك في قلوبهم أجمل السلك، وملكوا أعنة هواهم فلزموا من محجة الصواب أنجح السلك، وصابروا في جهاد الأعداء فزاد خلوصهم مع الابتلاء والذهب يزيد خلوصاً على السبك، والدعاء لأولياء الإسلام، وحماته الأعلام، بنصر لمضائه في العدا أعظم الفتك، ويسر بقضائه درك آمال الظهور وأحفل بذلك الدرك، فكتبناه إليكم - كتب الله لكم رسوخ القدم وسبوغ النعم - من حضرتنا بمدينة فاس المحروسة، وصنع الله سبحانه يعرف مذاهب الألطاف، ويكيف مواهب تلهج الألسنة في القصور عن شكرها بالاعتراف، ويصرف من أمره العظيم، وقضائه المتلقى بالتسليم، ما يتكون بين النون والكاف، ومكانكم العتيد سلطانه، وسلطانكم المجيد مكانه، وولاءكم الصحيح برهانه، وعلاؤكم الفسيح في مجال الجلالة ميدانه. وإلى هذا زاد الله سلطانكم تمكيناً، وأفاد مقامكم تحصيناً وتحسيناً، وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلاً مبيناً، فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى، ومهدته الرسائل التي على الصفاء تطوى، بيننا وبين والدكم نعم الله روحه وقدسه، وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه، من مواخاة أحكمت منها العهود تالية الكتب والفاتحة، وحفظ عليها محكم الإخلاص معوذاتها المحبة والنية الصالحة، فانعقدت على التقوى والرضوان، واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان، حتى استحكمت وصلة الولاء، والتأمت كلحمة النسب لحمة(4/388)
الإخاء، فما كان إلا وشيكاً من الزمان، ولا عجب قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان، ورد وارد رنق المشارب، وحقق قول " ومن يسأل الركبان عن كل غائب " (1) ، أنبأ باستئثار الله تعالى بنفسه الزكية، وإكنان درته السنية، وانقلابه إلى ما أعد له من المنازل الرضوانية، بجليل ما وقر لفقده في الصدور، وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك في الصدور، حناناً للإسلام بتلك الأقطار، وإشفاقاً من أن يعتور قاصدي بيت الله الحرام من جراء الفتن عارض الإضرار، ومساهمة في مصاب الملك الكريم، والولي الحميم، ثم عميت الأخبار، وطويت طي السجل الآثار، فلم نر مخبراً صدقاً، ولا معلماً بمن استقر له ذلكم الملك حقاً.
وفي أثناء ذلك أحفزنا للحركة عن حضرتنا استصراخ أهل الأندلس وسلطانها، وتواتر الأخبار بأن النصارى أجمعوا على خراب أوطانها، ونحن أثناء ذلكم الشان، نستخبر الوارد (2) من تلكم البلدان، عما أجلى عنه ليل الفتن بتلكم الأوطان، فبعد لأي وقعنا منها على الخبير، وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير، وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه، وتداركه الله تعالى منكم بفاتح الخير من أبوابه، فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها، وأبرأ من أدواء النفاق ما أعل البلاد وأفسدها، فقام سبيل الحج سابلاً، وتعبد طريقه لمن جاء قاصداً وقافلاً، ولما احتفت بهذا الخبر القرائن، وتواتر بنقل الحاضر له والمعاين، أثار حفظ الاعتقاد البواعث، والود الصحيح تجره حقاً الموارث، فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار، الجامعة بين الخبر والاستخبار، الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار، ومثل ذلكم الملك رضوان الله عليه من تجل المصائب لفقدانه، وتحل عرى الاصطبار بموته ولات حين أوانه، لكن الصبر أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين، والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين، ومثلكم من لا يخف وقاره، ولا يشف عن ظهور الجزع الحادث اصطباره، ومن خلفكم فما مات ذكره، ومن
__________
(1) تمامه: فلا بد أن يلقى بشيراً وناعياً.
(2) ق: نستجير الوارد.(4/389)
قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره، وقد طالت والحمد لله العيشة الراضية بالحقب، وطاب بين مبداه ومحتضره هنيئاً بما من الأجر اكتسب، وصار حميداً إلى خير المنقاب، ووفد من كرم الله على أفضل ما منح موقناً ووهب، فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة، وحماية زوار بيته مقيلة أو معرسة. ونحن بعد بسط هذه التعزية، نهنيكم بما خولكم الله أجمل والإظهار، فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رواقه، وعقد الظهور عليها نطاقه، وأعطاها أمان الزمان عقده وميثاقه، ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه من عهود موثقة، وموالاة محققة، وثناء كمائمه عن أذكى من الزهر غب القطر مفتقة.
ولم يغب عنكم ما كان من بعثنا المصحفين الأكرمين اللذين خطتهما منا اليمين، وأوت بهما الرغبة من الحرمين الشريفين إلى قرار مكين، وإنه كان لوالدكم الملك الناصر تولاه الله برضوانه، وأورده موارد إحسانه، في ذلكم من الفعل الجميل، والصنع الجليل، ما ناسب مكانه الرفيع، وشاكله فضله من البر الذي لايضيع، حتى طبق فعله الآفاق ذكراً، وطوق أعناق الوراد والقصاد براً، وكان من أجمل ما به تحفى وأتحف، وأعظم ما بعرفه إلى رضى الملك العلام في ذلك تعرف، إذنه للمتوجهين إذ ذاك الوقف مع اختلاف الجديدين، فجرت أحوال القراء فيهما بذلك الخراج المستقاد، ريثما يصلحهم من خراج ما وقفناه عليهم بهذه البلاد، على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية بهم متصلة، واحترام في تلك الأوقاف فوائدها به متوفرة متحصلة، وقد أمرنا مؤدي هذا لكمالكم، وموفده على جلالكم، كاتبنا الأسنى الفقيه الأجل، الأحظى الأكمل، أبا المجد، ابن كاتبنا الشيخ الفقيه الأجل الحاج الأتقى، الأضرى الأفضل، الأحظى الاأكمل، المرحوم أبي عبد الله ابن أبي ندين حفظ الله عليه رتبته، ويسر في قصد(4/390)
البيت الحرام بغيته، بأن يتفقد أحوال تلك الأوقاف، ويتعرف تصرف الناظر عليها وما فعله من سداد وإسراف، وأن يتخير لها من يرضى لذلك، ويحمد تصرفه فيما هنالك، وخاطبنا سلطانكم في هذا الشأن، جرياً على الود الثابت الأركان، وإعلاماً بما لوالدكم رحمه الله تعالى في ذلك من الأفعال الحسان، وكمالكم يقضي تخليد ذلكم البر الجميل، وتجديد عمل ذلكم الملك الجليل، وتشييد ما اشتمل عليه من الشكر الأصيل، والأجر الجزيل، والتقدم بالإذن السلطاني في إعانة هذا الوافد بهذا الكتاب، على ما يتوخاه في ذلك الشأن من طرق الصواب، وثنائنا عليكم الثناء الذي يفاوح زهر الربى، ويطارح نغم حمام الأيك مطربا.
وبحسب المصافاة، ومقتضى الموالاة، نشرح لكم المتزايدات، بهذه الجهات، وننبئكم بموجب إبطاء إنفاذ هذا الخطاب على ذلكم الجناب: وذلك أنه لما وصلنا من الأندلس الصريخ، ونادى مناد للجهاد عزماً لمثل نداءه يصيخ، أنبئنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب، وحتم عليهم باباهم اللعين التناصر من كل أوب، وأن تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها، وتنقص بالمنازلة أرضها من أطرافها، ليمحوا كلمة الإسلام منها، ويقلصوا ظل الإيمان نعنها، فقدمنا من يشتغل بالأساطيل من القواد، وسرنا على إثرهم إلى سبتة منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد، فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذه العدو الكفور، وسدت أجفان الطواغيت على التعاون مجاز العبور، وأتوا من أجفانهم بما لا يحصى عدداً، وأرصدوها بمجمع البحر حيث المجاز إلى دفع العدا، وتقلصوا عن الانبساط في البلاد، واجتمعوا إلى الجزيرة الخضراء أعادها الله بكل من جمعوه من الأعاد لكنا مع انسداد تلك الاسبيل، وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجليل، حاولنا امداد تلكم البلاد بحسب الجهد، وأصرخناهم بمن أمكن من الجند، وجهزنا أجفاناً مختلسين فرصة الإجازة، تتردد على خطر بمن جهز للجهاد جهازه، وأمرنا بصاحب الأندلس من المال، بما يجهز به حركته(4/391)
لمداناة محلة حزب الضلال، وأجرينا له ولجيشه العطاء الجزل مشاهرة، وأرضخنا لهم في النوال ما نرجو به ثواب الآخرة، وجعلت أجفاننا تتردد في ميناء السواحل، وتلج أبواب الخوف العاجل، لإحراز الأمن الآجل، مشحونة بالعدد الموفورة، والأبطال المشهورة، والخيل المسومة، والأقوات المقومة، فمن ناج حارب دونه الأجل وشهيد مضى لما عند الله عز وجل، وما زالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر، حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدخر، ثم لم نقنع بهذا العمل في الامداد، فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم الله تعالى مساهمة به لأهل تلك البلاد، فلقي من هول البحر وارتجاجه، وإلحاح العدو ولجاجه، ما به الأمثال تضرب، وبمثله يتحدث ويستغرب، ولما خلص بتلك العدوة بمن أبقته الشدائد، نزل بإزاء الكافر الجاحد، حتى كان منه بفرسخن أو أدنى، وقد ضرب بعطن يصابح العدو ويماسيه بحرب بها يمنى.
وقد كان من مدننا بالجزيرة جيش شريت شرارته، وقويت في الحرب بدارته، يبلون البلاء الأصدق، ولا يبالون بالعدو وهم منه كالبشامة البيضاء في البعير الأورق، إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف، ومنازلتها في البر نحو عامين معقودتاً عليها الصف بالصف، أدى إلى فناء الأقوات بالبلد، حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر مع انقطاع المدد، وبه من الخلق يربي على عشرة آلاف دون الحرم والولد، فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له عقد الصلح، ووقع الاتفاق على أنه لاستخلاص المسلمين من وجوه النحج، فأذنا له فيه الإذن العام، إذ في إصراخه وإصراخ من بقطره من المسلمين توخينا ذلك المرام، هنالك دعي النصارى إلى السلم فاستجابوا، وقد كانوا علموا فناء القوت وما استرابوا، فتم الصلح إلى عشر سنين، وخرج من بها من فرسان وأهل وبنين، ولم يرزأوا مالاً ولا عدة، ولا لقوا في خروجهم غير النزوع عن أول أرض مس الجلد ترابها شدة، ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء، وأسليناهم عما جرى بالحباء، فمن خيل تزيد على الألف(4/392)
عتاقها، وخلع تربي على عشرة آلاف أطواقها وأموال عمت الغني والفقير، ورعاية شملت الجميع بالعيش النضير، وكف الله ضر الطواغيت عما عداها، وما انقلبوا بغير مدرة عفا رسمها وصم صداها، وقد كان من لطف الله حين قضى بأخذ هذا الثغر، أن قدر لنا (1) فتح جبل طارق من أيدي الكفر، وهو المطل على هذه المدرة، والفرصة منها إن شاء الله متيسرة، حتى (2) يفرق عقد الكفار، ويفرج بهذه الجهة منهم مجاورو هذه الأقطار، فلولا إجلابهم من كل جانب، وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب، لما بالينا بإصعاقهم، ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم، ولكن للموانع أحكام، ولا راد لما جرت به الأقلام، وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد، وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد العدد والعدد، وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر، وترتبط الجياد وتنتخب العدد لوقت الظهور المنتظر، وتكون على أهبة الجهاد، وعلى مرقبة الفرصة عند تمكنها في الأعاد.
وعند عودنا من تلك المحاولة، تيسر الركب الحجازي موجهاً إلى هنالكم رواحله، فأصدرنا إليكم هذا الخطاب، إصدار الود الخالص والحب اللباب، وعندنا لكم ما عند أحنى الآباء، واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء، وما لكم من غرض بهذه الأنحاء، فموفى قصده على أكمل الأهواء، موالى تتميمه على أجمل الآراء، والبلاد باتحاد الود متحدة، والقلوب والأيدي على مرضاة الله، عز وجل، منعقدة (3) ، جعل الله ذلكم خالصاً لرب العباد، مدخوراً ليوم التناد، مسطوراً في الأعمال الصالحة يوم المعاد، بمنه وفضله، وهو سبحانه وتعالى يصل إليكم سعداً تتفاخر به سعود الكواكب،
__________
(1) ص: قدم؛ ق: قد ولينا.
(2) ص: حين.
(3) ق ص: معتضدة.(4/393)
وتتضافر على الانقياد له صدور المواكب، وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب، والسلام والأتم يخصكم كثثيراً أثيراً ورحمة الله وبركاته، وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبعمائة، وصورة العلامة (1) ، وكتب في التاريخ المؤرخ.
جواب الملك الصالح من إنشاء الصفدي
ونسخة الجواب عن ذلك من إنشاء خليل الصفدي شارح لامية العجم في سادس شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة، بعد البسملة، في قطع النصف بقلم الثل؛ عبد الله ووليه، صورة العلامة، ولده اسماعيل بن محمد السلطان الملك الصالح السيد العالم العادل المؤيد المجاهد المرابط المثاغر المظفر المنصور عماد الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، ملك العرب والعجم والترك، فاتح الأقطار، واهب الممالك والأمصار، إسكندر الزمان، مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، مالك البحرين، خادم الحرمين الشريفين، سيد الملوك والسلاطين، جامع كلمة الموحدين، ولي أمير المؤمنين، أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، خلد الله تعالى سلطانه، وجعل الملائكة أنصاره وأعوانه، يخص المقام العالي الملك الأجل الكبير المجاهد المؤيد المرابط المثاغر المعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد الأنجد، السني السري المنصور أبا الحسن علي ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف
__________
(1) في هامش أصول دوزي أن العلامة هكذا.(4/394)
يعقوب بن عبد الحق، أمده الله بالظفر، وقرن عزمه بالتأييد، في الآصال والبكر.
سلام وشت البروق وشائعه، وادخرت الكواكب ودائعه، واستوعب الزمان ماضيه ومستقبله ومضارعه، وثناء اتخذ النفحات المسكية صلائعه، ونبه للتغريد في الروض سواجعه، وجلى في كأسه من الشفق المحمر مدامه ومن النجوم فواقعه، بعد حمد الله على نعم أدت لنا الأمانة في عودة سلطنة والدنا الموروثة، وأجلستنا على سرير مملكة زرابيها بين النجوم مبثوثة، وأحسنت بنا الخلف عن سلف عهوده في الأعناق غير منكورة ولا منكوثة، وصلاته على سيدنا محمد عبده وسوله، وعلى آله وصحبه الذين بلغ بجهادهم في الكفرة غاية أمله وسوله، صلاة تحط بالرضوان سيولها، وتجر بالغفران ذيولها، ما ترسل أصحاب، وتواصل أحباب، ويوضح للعلم الكريم، ورود كتابكم العظيم، وخاطبكم على الدر النظيم، تفاخر الحمائل سطوره، ويصبغ خد الورد بالخجل منثوره، ويحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه والهمزات عليها طيوره، ويخلع على الآفاق حلل الأيام والليالي فالطرس صاحبه والنقس د يجوره، لفظه يطرب، ومعناه يعرب فيغرب، وبلاغته تدل على أنه آية لآن شمس بينها طلعت من المغرب، فاتخذنا سطوره ريحاناً، ورجعنا ألفاظه ألحاناً، ولرجعنا إلى الجد فشبهنا ألفاته بظلال الرماح، وورقه بصقال الصفاح، وحروفه المفرقة بأفواه الجراح، وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة في يوم الكفاح، وانتهينا إلى ما أودعتموه من اللفظ المسجوع، والمعنى الذي يطرب طائره المسموع، والبلاغة التي فضح المتطبع بيانها المطبوع.
فأما العزاء بأخيكم الوالد قدس الله روحه وسقى عهده، وأحسن لسلفه خلفنا بعده، فلنا برسول الله أسوة حسنة، ولولا الوثوق بأنه عدة الشهداء ما رأى القلب قراره ولا الطرف وسنه، عاش سعيداً يملك الأرض، ومات(4/395)
شهيداً يفوز بالجنة يوم العرض، قد خلد الله ذكره يسير ميسر الشمس (1) في الآفاق، ويوقف على نضارة حدائقه نظرات الأحداق، وورثنا منه حسن الإخاء لكم، والوفاء بعهود مودة تشبه في اللطف شمائلكم، وأما الهناء بوارثة ملكه، والانخراط مع الملوك في سلكه، فقد شكرنا لكم منحى هذه المنحه، وقابلناها بثناء يعطر النسيم في كل نفحة، ووقفنا عليها حمداً جعل الود علينا إيراده (2) وعلى أنفاس سرحة الروض شرحه، وتحققنا به حسن ودكم الجميل، وكريم إخائكم الذي لا يميد طود رسوخه ولا يميل.
وأما ما ذكر تموه من أمر المصحفين الشريفين اللذين وقفتموهما على الحرمين المنيفين، وأنكم جهزتم كاتبكم الفقيه الأجل الأسنى الأسمي أبا المجد ابن كاتبكم أبي عبد الله ابن أبي مدين أعزه الله تعالى لتفقد أحوالهما، والنظر في أمر أوقافهما، فقد وصل المذكور بمن معه في حرز السلامة وأكرمنا نزلهم، وسهلنا بالترحيب سبلهم، وجمعنا على بذل الإحسان إليهم شملهم، وحضر المذكور بأيدينا وقربناه، وسمعنا كلامه وخاطبناه، وأمرنا في أمر المصحفين الشريفين بما أشرتم، ورسمنا لنوابنا في نواحي أوقافهما بما ذكرتم، وهذا الوقف المبرور جار على أحسن عادة ألفها، وأثبت قاعدة عرفها، مرعي الجوانب، محمي المنازل والمضارب، آمن من إزالة رسمه، أو إزالة حكمه، بدره أبداً في مطالع تمه، وزهره دائماً يرقص في كمه، لا يزداد إلا تخليداً، ولا إطلاق ثبوته إلا تقييداً، ولا عنق اجتهاده إلا تقليداً، جرياً على عادة أوقاف ممالكنا، وقاعدة تصرفاتنا في مسالكنا، وله مزيد الرعاية، وإفادة الحماية، ووفادة العناية.
وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها، ومني به من
__________
(1) ص: السمر.
(2) ص: أيراده.(4/396)
الكفار حزنها وسهلها، فإن شق علينا سماعه الذي أنكى أهل الإيمان، وعدد به ذنوب الزمان، كل قلب بأنامل الخفقان، وطالما فزتم بالظفر، ورزقتم النصر على عدوكم فجر ذيل الهزيمة وفر، ولكن الحروب سجال، وكل زمان لدوائه دولة ولرجائه رجال، ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة، وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة، وكحلنا عيون النجوم بمراود الرماح، وجعلنا ليل العجاج (1) ممزقاً ببروق الصفاح، واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات، وفرجنا مضايق الحرب بتوالي الكرات، وعطفنا إليهم الأعنة، وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة، وفلقنا الصخرات بالصرخات، وأسلنا العبرات بالرعبات، ولكن أين الغية من هذا المدى المتطاول وأين الثريا من يد المتناول وما لنا غير إمدادكم بجنود الدعاء الذي نرفعه نحن ورعايانا، والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول من سجايانا.
وأما ما فقدتموه من الأجفان التي طرقها طيف التلاف، وأم حر فنائها الفناء وطاف به بعد الإلطاف، فقد روع هذا الخبر قلب الإسلام، ونوع له الحزن على اختلاف الإصباح والإظلام، وهذه الدار ما يخلو صفوها من كدر القدر، وطالما أنامت بالأمن أول الليل وخاطبت بالخطب في السحر، ولكن في بقائكم ما يسلس من خطب العطب، ومع سلامة نفسكم الكريمة فلأمر هين لأن الدر يفدى بالذهب.
وأما ما رأيتموه من الصلح فرأي عقده مبارك، وأمر فيه فارط عزم وإن كان فيتدارك، والأمر يجيء كما يحب لا كما نحب، والحروب يزورها نصرها تارة ويغيب، ومع اليوم غدا، وقد يرد الله الردى، ويعيد الظفر بالعدا.
وأما عودكم إلى فاس المحروسة طلباً لإراحة من عندكم من الجنود،
__________
(1) ق ص: الليل العجاج.(4/397)
وتجهيزاً لمن يصل من عندكم إلى الحجاز الشريف من الوفود، فهذا أمر ضروري التدبير سروري التثمير، لأن النفوس تمل وثير المهاد، فكيف ملازمة صهوات الجياد، وتسأم من مجالسة الشرب، فكيف بممارسة الحرب، وتعرض عن دوام اللذة، فكيف بمباشرة المنايا الفذة، وهذا جبل طارق الذي فتح الله به عليكم، وساق هدي هديته إليكم، لعله يكون سبباً إلى ارتجاع ما شرد، وحسماً لها الطاغية الذي مرد، ورداً لهذا التنازل الذي قدم ورد الصبر لما ورد، فعادة الألطاف الإلهية بكم معروفة، وعزماتكم إلى جهات الجهاد مصرفة، وقد تفاءلنا لكم من هذا الجبل بأنه طارق خير من الرحمن يطرق، وجبل يعصم من سهم يمر من قسي الكفار ويمرق.
وأما ما منحتموه من الخيل العتاق، والملابس التي تطلع بدور الوجوه مشارق الأطواق، والأموال زكت عند الله تعالى ونمت على الإنفاق، فعلى الله عز وجل خلفها، ولكم في منازل الدنيا والآخرة شرفها، وإليكم تساق هدايا أثنيتها وتحفكم تحفها، وإذا وصل وفدكم الحاج، وأنار له بوجه إقبالنا عليهم ليلهم الداج، كانوا مقيمين تحت ظل إكرامنا، وشمول إسعافنا لهم وإنعامنا، يتخولون تحفاً أنتم سببها، ويتناولون طرفاً في كؤوس الاعتناء بهم تنضد حببها، وإذا كان أوان الرحيل إلى الحج فسحنا لهم الطريق، وسهلنا لهم الرفيق، وبلغناهم بحول الله تعالى مناهم من منى، وسولهم ممن إذا زاروا حجرته الشريفة حازوا الراحة من العنا، وفازوا بالغنى، وإذا عادوا عاملناهم بكل جميل ينسيهم مشقة ذلك الدرب، ويخيل إليهم أن لا مسافة لمسافر بين الشرق والغرب، وغمرناهم بالإحسان في العود إليكم، وأمرناهم بما ينهونه شفاهاً لديكم، وعناية الله تعالى تحوط ذاتكم، وتوفر لأخذ الثأر حماتكم، وتخصكم بتأييد تنزلون روضة الأنضر، وتجنون به النصر اليانع من ورق الحديد الأخضر، وتتحفكم بسعد لا يبلى قشبيه، وعز لا يمحو شبابه مشيبه، وتحيته المباركة تغاديكم وتراوحكم، وتفاوحكم أنفاسها المعنبرة وتنافحكم، بمنه وكرمه؛ انتهى.(4/398)
إجازة من الصفدي رواية الرسالتين
ورأيت بخط منشئ هذا الجواب الصلاح الصفدي رحمه الله تعالى إثر ذكره ما نصه: أما بعد حمد الله تعالى على نعمائه، وصلاته على سيدنا محمد عبده ورسوله خاتم أنبياءه، فقد قرأ الشيخ الإمام العالم العامل العلامة المفيد القدوة عز الدين أبو يعلى حمزة ابن الرئيس الكبير الفاضل القاضي قطب الدين موسى بن أحمد ابن شيخ السلامية الأحمدي (1) - أمتع الله بفوائده - الكتاب الوارد من سلطان المغرب الملك المجاهد المرابط أبي الحسن المريني، صاحب مراكش تغمده الله تعالى برحمته والجواب عنه عن السلطان الشهيد الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الشهيد الملك الناصر محمد قدس الله تعالى روحهما من إنشائي، وأنا أسمع ذلك جميعاً من أولهما إلى آخرهما، قراءة أطربت السمع لفصاحتها، وأمالت العطف لرجاحتها:
وأخجلت ورق الحمى باللوى إن صدحت في ذروة الغصن
تكاد من لطف ومن رقة تدخل في الأذن بلا إذن
وذلك في مجلس واحد في ذي القعدة سنة 756، بالجامع الأموي بدمشق المحروسة، فإن رأى رواية ذلك عني فله علو الرأي في تشريفي بذلك، وكتبه خليل ابن أبيك الشافعي عفا الله عنه؛ انتهى.
أبو الحسن يكتب ثلاثة مصاحف
وكان السلطان أبو الحسن المريني المذكور كتب ثلاثة مصاحف شريفة بخطه، وأرسلها إلى المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وأوقف عليها أوقافأً جليلة، كتب توقيعه سلطان مصر والشام من إنشاء الأديب الشهير جمال الدين ابن نباتة المصري، ونص ما يتعلق به الغرض منه هنا قوله: وهو
__________
(1) دوزي: الحنبلي.(4/399)
الذي مد يمينه بالسيف والقلم فكتب في أصحابها، وسطر الختمات الشريفة فأيد الله حزبه بما سطر من أحزابها، واتصلت أخبار ملائكة النصر بلوائه تغدو وتروح، وكثرت فتوحه لأملياء الغرب فقالت أوقاف الشرق لا بد للفقراء من فتوح، ثم وصلت ختمات شريفة كتبها بقلمه المجيد المجدي، وخط سطورها بالعربي وطالما خط في صفوف الأعداء بالهندي، ورتب عليها أوقافاً تجري أقلام الحسنات في إطلاقها وطلقها، وحبس أملاكاً شامية تحدث بنعم الأملاك التي سرت من مغرب الأرض إلى مشرقها، والله تعالى يمتع من وقف هذه الختمات بما سطر له في أكرم الصحائف، وينفع الجالس من ولاة الأمور في تقريرها ويتقبل من الواقف؛ انتهى.
قلت: وقد رأيت أحد المصاحف المذكورة، وهو الذي ببيت المقدس، وربعته في غاية الصنع.
نبذة من أخبار أبي الحسن
وقال بعض المشارفة في حق السلطان أبي الحسن، ما صورته: ملك أضاء المغرب بأنوار هلاله، وجرت إلى المشرق أنواء نواله، وطابت نسماته، واشتهرت عزماته، كان حسن الكتابة، كثير الإنابة، ذا بلاغة وبراعة، وشهامة وشجاعة، كتب بخطه ثلاثة مصاحف ووقفها على المساجد الثلاثة، أقام في الملك عشر سنين وسبعة أيام، ثم صرف بولده أبي عنان بعد حروب يطول شرحها، انتهى من كتاب نزهة الأنام.
ولما ذكر الإمام الخطيب أبو عبد الله ابن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن من أخبار السلطان أبي الحسن أمر الربعة التي أرسلها السلطان أبو الحسن بخطه قال ما ملخصه: وأرسل معها للسلطان الملك الناصر بن قلاوون صاحب الديار المصرية من أحجار الياقوت العظيم القدر والثمن ثمانمائة وخمسة وعشرين، ومن الزمرد مائة وثمانية وعشرين، ومن الزبرجد مائة وثمانية وعشرين(4/400)
ومن الجوهر النفيس الملوكي ثلاثمائة وأربعة وستين، وأرسل حللاً كثيرة منها مذهبة ثلاثة عشر، ومن الإناق عشرين مذهبة، ومن الخلادي ستة وأربعين، ومن القنوع ستة وعشرين مذهبة، ومن المحررات المختمة ثمانمائة، ومن الرصان عشرين شقة، والأكسية المحررة أربعة وعشرين، والبرانس المحررة ثمانية عشر، والمشففات (1) مائة وخمسين، وأحارم الصوف المحررة عشرين، ومن شقق الملف الرفيع ستة عشر، ومن الفضالي المنوعة والفرش والمخاد المنبوق والحلل ثمانمائة، وأوجه اللحف المذهبة عشرين، وحائطان حلة وحنابل مائة واثني عشر كلها حرير (2) ، وفرش جلد مخروز بالذهب والفضة، ومن السيوف المحلاة بالذهب المنظم بالجوهر عشرة، والسروج عشرة بركب ذهب ومهاميز ذهب كذلك، وثلاث ركب فضة، وست مزججة ومذهبة، ومضمتان من ذهب مما يليق بالملوك، وشاشية حرير مطوقة بذهب مكلل بالجوهر، ومن لزمات الفضة عشرة، وسرج مخروزة بالفضة عشرة، وعشر علامات معششة مذهبة، وعشر رايات مذهبة، وعشر براقع مذهبة، وعشر أمثلة (3) مرقومة، وثلاثين جلد أشرك (4) ، وأربعة ألاف درقة لمط منها مائتان بنهود الذهب وثمانية عشر بنهود الفضة، وخباء قبة كبيرة من مائة بنيقه (5) لها أربعة أبواب، وقبة أخرى مضربة من ست وثلاثين بنيقة مبطنة بحلة مذهبة، وهي حرير أبيض ومرابطها حرير ملون وعمودها عاج وأبنوس وأكبارها من فضة مذهبة، ومن البزاة الأحرار المنتقاة أربعة وثلاثين (6) ، ومن عتاق الخيل العراب ثلاثمائة وخمسة وثلاثين، ومن البغال الذكور والإناث مائة وعشرين، ومن الجمال سبعمائة، وتوجهت مع هذه الهدية أمم برسم الحج مع الربعة المكرمة، وأعطى الحرة أم أخته أم
__________
(1) ص: والمشققات.
(2) قد شرح دوزي أكثر هذه الألفاظ في ملحق المعاجم ولكنه استمد معانيها من النص نفسه.
(3) ص: أشلة.
(4) ص: وثلاث زجلوا شركي.
(5) دوزي: نبيقة.
(6) هذا العدد والأعداد التالية وردت بصورة الرفع في ص.(4/401)
ولد أبيه مريم آلاف وخمسمائة ذهباً، ولقاضي الركب ثلاثمائة وكسوة، ولقائد الركب أربعمائة وكساوى متعددة وبغلات، وللرسول المعين للهدية ألفاً، ولشيخ الركب أحمد بن يوسف بن أبي محمد صالح خمسمائة، ولجماعة الضعفاء من الحجاج ستمائة، وبرسم العطاء للعرب ثلاثة آلاف وثمانمائة، ولشراء ربع ستة عشر ألفاً وخمسمائة ذهباً؛ انتهى.
وذكر في الكتاب المذكور أن السلطان أبا الحسن الموصوف أهدى هدايا غير هذه لكثير من الملوك، ومنها لصاحب الأندلس صلة وصدقة في مرات، ومنها لملوك النصارى بعد هداياهم، ومنها لسلاطين السودان كصاحب مالي، ومنها لصاحب إفريقية، ومنها لصاحب تلمسان؛ انتهى.
وقال مؤرخ مصر المقريزي في كتاب السلوك في سنة 738 ما نصه:
وفي ثاني عشرين من رمضان قدمت الحرة من عند السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب المريني صاحب فاس تريد الحج، ومعها هدية جليلة إلى الغاية، نزل لحملها من الإصطبل السلطاني ثلاثون قطاراً من بغال النقل سوى الجمال، كان من جملتها أربعمائة فرس منها مائة حجرة ومائة فحل ومائتا بغل، وجميعها بسرج ولجم مسقطة بالذهب والفضة، وبعضها سرجها وركبها كلها ذهب، وكذلك لجمها، وعدتها اثنان وأربعون رأساً، منها سرجان من ذهب مرصع بجوهر، وفيها اثنان وثلاثون بازاً، وفيها سيف قرابه ذهب مرصع، وحياصته ذهب مرصع، وفيها مائة كساء، وغير ذلك من القماش العال، وكان قد خرج المهمندار إلى لقائهم، وأنزلهم بالقرافة قريب مسجد الفتح، وهم جمع كبير جداً، وكان يوم طلوع الهدية من الأيام المذكورة، ففرق السلطان الهدية على الأمراء بأسرهم على قدر مراتبهم، حتى نفدت كلها سوى الجواهر واللؤلؤ فإنه اختص به، فقدرت قيمة هذه الهدية بما يزيد على مائة ألف دينار، ثم نقلت الحرة إلى الميدان بمن معها، ورتب لها من الغنم والدجاج والسكر والحلوى والفاكهة في كل يوم بكرة وعشية ماعمهم وفضل عنهم، فكان(4/402)
مرتبهم كل يوم عدة ثلاثين رأساً من الغنم، ونصف إردب أرز، وقنطار حب رمان، وربع قنطار سكر، وثماني فانوسيات شمع، وتوابل الطعام، وحمل إليها برسم النفقة مبلغ خمسة وأربعين ألف درهم، وأجرة حمل أثقالهم مبلغ ستين ألف درهم، ثم خلع على جميع من قدم مع الحرة، فكانت عدة الخلع مائتين وعشرين خلعة على قدر طبقاتهم، حتى خلع على الرجال الذين قادوا الخيول، وحمل إلى الحرة من الكسوة ما يجل قدره، وقيل لها أن تملي ما تحتاج إليه ولا يعوزها شيء، وإنما تريد عناية السلطان بإكرامها وإكرام من معها حيث كانوا، فتقدم السلطان إلى النشو وإلى الأمير أحمد أقبغا بتجهيزها اللائق بها، فقاما بذلك، واستخدما لها السقائين والضوية، وهيئا كل ما تحتاج إليه في سفرها من أصناف الحلاوات والسكر والدقيق والبقسماط، وطلبا الحمالة لحمل جهازها وازودتهان وندب السلطان للسفر معها جمال الدين متولي الجيزة، وأمره أن يرحل بها في مركب لها بمفردها قدام المحمل، ويمتثل كل ما تأمر به، وكتب لأميري مكة والمدينة بخدمتها أتم خدمة.
وقال في سنة خمس وأربعين وسبعمائة ما نصه: وفي نصف شعبان قدمت الحرة أخت صاحب المغرب في جماعة كثيرة، وعلى يدها كتاب السلطان أبي الحسن يتضمن السلام، وأن يدعو له الخطباء يوم الجمعة وخطبها ومشايخ الصلاح وأهل الخير بالنصر على عدوهم، ويكتب إلى أهل الحرمين بذلك، وذلك أن في السنة الخالية كانت بينه وبين الفرنج وقعة عظيمة قتل فيها ولده، ونصره الله تعالى بمنه على العدو، وقتل كثيراً منهم، وملكوا منهم الجزيرة الخضراء، فعمر الفرنج مائتي شيني، وجمعوا طوائفهم، وقصدوا المسلمين، وأوقعوا بهم على حين غفلة، فاستشهد عالم كثير، ونجا أبو الحسن في طائفة من ألزامه بعد شدائد، وملك الفرنج الجزيرة، وأسروا وسبوا وغنموا شيئاً يجل وصفه، ثم مضوا إلى جهة غرناطة، ونصبوا عليها مائة منجنيق حتى صالحهم أهلها على قطيعة يقومون بها، وتهادنوا مدة عشر سنين، انتهى كلامه.(4/403)
وقد تقدم نص هذا الكتاب الموجه من السلطان أبي الحسن فليراجع قريباً.
وقال ابن مرزوق في المسند الصحيح الحسن بعد كلام ما ملخصه: وكان يعني السلطان أبا الحسن مجتهداً في الجهاد بنفسه وحرمه، وجاز للأندلس برسم ذلك بنفسه، وأظهر آثاره الجميلة، ومنها ارتجاع جبل الفتح ليد المسلمين بعد أن أنفق عليه الأموال، وصرف إليه الجنود والحشود إذ كان من عمالته هو والجزيرة ورندة، ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه وضيقوا به إلى أن استرجعوه ليد المسلمين، وأنفق على بنائه (1) أحمال المال، واعتنى بتحصينه، وبنى حصنه وأبراجه وسوره وجامعه ودوره ومخازنه، ولما كاد يتم ذلك نازله العدو براً وبحراً، فصبر المسلمون صبر الكرام، فخيب الله تعالى أمل العدو، وعاد خاسراً (2) ، والمنة لله، فرأى أن يحصن سفح الجبل بسور يحيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدو في منازلته، ولا يجد سبيلاً للتضييق عند محاصرته، ورأى الناس ذلك من المحال، فأنفق الأموال، وأنصف العمال، فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال، وأما بناؤه للمحاسن (3) والطوالع فأمر غير مجهول؛ انتهى.
رسائل للسان الدين ابن الخطيب
1 - رسالة إلى أحد سلاطين بني مرين
وقد رأيت أن أذكر هنا بعض إنشاء لسان الدين ابن الخطيب في شأن ما يتعلق بجبل الفتح وغيره من بلاد الأندلس، وحال العدو الكافر، وما ينخرط في هذا السلك: فمن ذلك على لسان سلطانه يخاطب أحد السلاطين من أولاد السلطان أبي الحسن المريني، ونصه:
المقام الذي يصرخ وينجد، ويتهم في الفضل وينجد، ويسعف
__________
(1) ص: وأنفقوا فيه.
(2) ص: ورجعوا خاسرين.
(3) ص: للمحارس.(4/404)
ويسعد، ويبرق في سبيل الله ويرعد، فيأخذ الكفر من عزماته المقيم المقعد، حتى ينجز من نصر الله تعالى الموعد، مقام محل أخينا الذي حسن الظن بمجده جميل، وحد الكفر بسعده كليل، وللإسلام فيه رجاء وتأميل، ليس للقلوب عنه مميل، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى وعزمه الماضي لصولة الكفر قامعاً، وتدبيره الناجح لشمل الإسلام جامعاً، وملكه الموفق لنداء الله مطيعاً سامعاً، معظم مقداره، وملتزم إجلاله وإكباره، المعتد في الله بكرم شيمته وطيب نجاره، المستظهر على عدو الله بإسراعه إلى تدمير الكافر وبداره.
سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد حمد الله مجيب دعوة السائل، ومتقبل الوسائل، ومتيح النعم الجلائل، مربح (1) من عامله في هذا الوجود الزائف الزائل، والأيام القلائل، بالمتاع الدائم الطائل، والنعيم غير الحائل، ومقيم أود الإسلام المائل، بأولي المكارم من أوليائه والفضائل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله المنقذ من الغوائل، المنجي من الروع الهائل، الصادع بدعوة الحق الصائل، بين العشائر والفصائل، الذي ختم به وبرسالته ديوان الرسل والرسائل، وجعله في الأواخر شرف الأوائل، فحبه كنز العائل، والصلاة عليه زكاة القائل، والرضى عن آله وصحبه وعترته وحزبه تيجان الأحياء والقبائل، المتميزين بكر السجايا وطيب الشمائل، والدعاء لمقام أخوتكم في البكر والأصائل، بالسعد الصادق المخايل، والصنع الذي تتبرج مواهبه تبرج العقائل، والنصر الذي تهز له الصعاد الملد عكف المترانح المتخايل، فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم عزاً يانع الخمائل، ونصراً يكفن للكتائب المدونة في الجهاد ومرضاة رب العباد بسرد المسائل وإقناع السائل، ومن حمراء غرناطة، حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا استبصار في التوكل على من بيده الأمور، وتسبب مشروع تتعلق به بإذن الله تعالى أحكام القدر
__________
(1) ص: مريح.(4/405)
المقدور، ورجاء فيما وعد به من الظهور، يتضاعف على توالي الأيام وترادف الشهور، والحمد لله كثيراً كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله، ومقامكم المعروف محله الكفيل بالإرواء نهله وعله، وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم، وحرس مجدكم، ووالى النعم عندنا وعندكم (1) ، فإننا في هذه الأيام، أهمنا من أمر الإسلام، ما رنق بالشراب ونغص الطعام، وذاد المنام، لما تحققنا من عمل الكفر على مكايدته، وسعي الضلال - والله الواقي - في استئصال بقيته، وعقد النوادي للاستشارة في شأنه، وشروع الحيل في هد أركانه، ومن يؤمل من المسلمين لدفع الردى وكشف البلوى وبث الشكوى، وأهله - حاطهم الله تعالى وتولاهم، وتمم عوائد لطفه الذي أولاهم، فهو مولاهم - في غفلة ساهون، وعن المغبة فيه لاهون، قد شغلتهم دنياهم عن دينهم، وعاجلهم عن آجلهم، وطول الأمل، عن نافع العمل، إلا من نور الله تعالى قلبه بنور الإيمان وتململ بمناصحة الله تعالى والإسلام تململ السليم، واستدل بالشاهد على الغائب، وصرف الكفر إى مطالب (2) الأمم النوائب، فلما رأينا أن الدولة المرينية التي هي على مر الأيام شجا العدا، ومتوعد من يكيد الهدى، وفئة الإسلام التي إليها يتحيز، وكهفه الذي إليه يلجأ، قد أذن الله تعالى في صلاح أمورها، ولم شعثها، وإقامة صغاها، بأن صرف الله تعالى عنها هنات الغدر (3) ، وأراحها من مس الضر، ورد قوسها إلى يد باريها، وصير حقها إلى وارثها، وأقام لرعي مصالحها من حسن الظن بحسبه ودينه، ورجي الخير من ثمرات نصحه، ومن لم يعلم إلا الخير من سعيه (4) والسداد من سيرته، ومن لا يستريب المسلمون بصحة عقده، واستقامة قصده، أردنا أن نخرج لكم عن العهدة في هذا
__________
(1) وعندكم: سقطت من ص.
(2) ص: معاطب.
(3) ص: العدو.
(4) من سعيه: سقطت من ق.(4/406)
الدين الحنيف الذي وسمت دعوته وجوه أحبابكم شملهم الله تعالى بالعافية، وتشبثت به أنفس من صار إلى الله تعالى من السلف تغمدهم الله بالرحمة والمغفرة، وفي هذا القطر الذي بلاده ما بين مكفول يجب رعيه طبعاً وشرعاً، وجار يلزم حقه ديناً ودنيا وحمية وفضلا، وعلى الحالين فعليكم بعد الله المعول، وفيكم والمؤمل، فأرعونا أسماعكم المباركة نقص عليكم ما فيه رضى الله، والمنجاة من نكيره، والفخر والأجر وحفظ النعم، والخلف بالذرية بهذا وعدت الكتب المنزلة، والرسل المرسلة: وهو أن هذا القطر الذي تعددت فيه المحارب والمنابر، والراكع والساجد، والذاكر والعابد، والعالم واللفيف، والأرملة والضعيف، قد انقطع عنه ارفاد الإسلام، وشحت الأيدي به منذ أعوام، وسلم إلى عبدة الأصنام، وقوبلت ضرائره بالأعذار، والمواعيد المستغرقة للأعمار، وإن عرضت شواغل وفتن، وشواغب وإحن، فقد كانت بحيث لا يقطع السبب بجملته، ولا يذهب المعروف بكليته:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع (1) ولو كانت الأشغاب تقطع المعروف وتصرف عن الواجب لم يفتح المقدس والدكم جبل الفتح وهو منازل أخاه بسجلماسة، ولا أمده ولده السلطان أبو عنان وهو بمراكش، وبالأمس بعثنا إلى الجبل وشمانة في جملة ما أهمنا مبلغ جهد وسداد من عوز، وقد فضلت عن ضرائرنا، أموال فرضت من أجل الله على عباده، وطعام سمحنا به على الاحتياج إليه في سبيل جهاده، فلم يسهم المتغلب منها الجانب الله بحبه، ولا أقطعه منها ذرة مستخفاً به جل وعلا، متهاوناً بنكيره الذي هو أحق أن يخشى، فضاععت الأمور واختلت الثغور، وتشذبت الحامية، وتبددت العدد، وخلت المخازن، وهلكت بها الجرذان، وعظمت
__________
(1) ص ق: يتفجع.(4/407)
بها حسرة الإسلام، أضعاف ما عظمت حبرته أيام ما كانت تكفلها همم الملوك، الكرام والخلفاء العظام، والوزراء والنصحاء، والأشياخ الأمجاد، قدس الله تعالى أرواحهم، وضاعف أنوارهم، ولا كالحسرة في الجبل باب الأندلس، وركاب الجهاد وحسنة بني مرين ومآثر آل يعقوب وكرامة الله للسلطان المقدس أبي الحسن والد الملوك وكبير الخلفاء والمجاهدين والدكم الذي ترد على قبره (1) مع الساعات والأنفاس وفود الرحمة، وهدايا الزلفة، وريحان الجنة، فلولا أنكم على علم من أحواله لشرحنا المجمل، وشكلنا المهمل، إنما هو اليوم شبح ماثل، وطلل بائد، لولا أن الله تعالى شغل العدا عنه بفتنة لم يصرف وجهه إلا إليه، ولا حوم طيره إلا عليه، ولكان بصدد أن يتخذه الصليب داراً، وأن يقر به عيناً، والعدوة فضلاً عن الأندلس، قد أوسعها شراً، وأرهق ما يجاوره عسراً، نسألأ الله تعالى بنور وجهه أن لا يسود الوجوه بالفجع فيه، ولا يسمع المسلمين الثكلة، وما دونه فهو - وإن أنعش بالتعليل عليه ووقع بالجهد خلقه - لحم على وضم، إلا أن يصل الله تعالى وقايته، ويوالي دفاعه وعصمته، لا إله إلا هو الولي النصير، ومازلنا نشكو إلى غير المصمت، ونمد اليد إلى المدبر عن الله المعرض، ونخطب له زكاة الأموال من المباني الضخمة، والخزائن الثرة، والأهراء الطامية، والحظ التافه من المفترض برسمه، فتمضي الأيام لا تزيد الضرائر فيها إلا ضيقاً، ولا الأحوال إلا شدة، ولا الثغر إلا ضعة، ولا نعلم أن نظراً وقع له ولا فكراً أعمل فيه إلا ما كان من تسخير رعيته الضعيفة، وبلالة مجباه السخيفة، في بناء قصر بمنت ميور من جباله:
شاده مرمراً أوجلله كل ... ساً فللطير في ذراه وكور (2) جلب إليه الزليج (3) ، واختلفت فيه الأوضاع في رأس نيق، لأمل نزوة،
__________
(1) زاد في ص: منه بعد لفظة قبره.
(2) البيت لعدي بن زيد العبادي.
(3) ص: الأزليج.(4/408)
وسوء فكرة، فلما تم أقطع الهجران، فهو اليوم ممتنع البوم وحظ الخراب، فلا حول ولا قوة إلا بالله، حتى جاء أمر الله خالي الصحيفة من البر، صفر اليد من العمل الصالح، نعوذ بالله من نكيره، ونسأله الإلهام والسداد، والتوفيق والرشاد، وقد بذلنا جهدنا قولاً وفعلاً، وموعظة ونصحاً، واستدعينا لتلك الجهة صدقة المسلمين محمولة على أكتاد العباد الضعفاء الذين كانت صدقات فاتحيه رضي الله تعالى عنهم ترفدهم، ونوافله تتعهدهم، فما حرك ذلك الجؤوار حلوباً، ولا استدعى مطلوباً، ولا رفداً مجلوباً، فإلى متى تنضى ركاب الصبر وقد بلغ الغاية، واستنفذ البلالة، بعد أن أعاد الله تعالى العهد، وجبر المال، وأصلح السعي، وأجرى ينابيع الخير، وأنشق رياح الإقالة، وجملة ما نريد أن نقرره فهو لباب الجامع، والقصد الشامل، والداعي والباعث، أن صاحب قشتالة لما عاد إلى ملكه، ورجع إلى قطره، جرت بيننا وبينه المراسلة التي أسفرت بعدم رضاه عن كدحنا لنصره، ومظاهرتنا إياه على أمره، وإن كنا قد بلغنا جهداً، وأبعدنا وسعاً، وأجلت عن شروط ثقيلة لم نقبلها، وأغراض صعبة لم نكملها، ونحن نتحقق أنه إما أن تهيج حفيظته، وتثور إحنته، فيكشف وجه المطالبة مستكثراً بالأمة التي داس بها أهل قشتالة، فراجع أمره غلاباً، وحقه ابتزازاً واستلاباً، أو يصرفها ويهادن المسلمين بخلال ما لا يدع جهة من جهات دينه الغريب إلا عقد معها صلحاً، وأخذ عليها بإعانتها إياه عهداً، ثم تفرغ إلى شفاء غليله، وبلوغ جهده، ولا شك أنها تجيبه صرفاً لبأسه عن نحورها، ومقارضة كما وقع باطريرة من مضيق صدورها، ومؤسف جمهورها، وكل من له دين ما فهو يحرص على التقرب إلى من دانه به وكلفه وظائف تكليف، رجاء لوعده وخوفاً من وعيده، وبالله ندفع ما لا نطيق من جموع تداعت من الجزر ووراء البحور والبر المتصل الذي لا تقطعه الرفاق، ولا تحصي ذرعه الحذاق، وقد أصبحنا بدار غربة، ومحل روعة، ومفترس نبوة، ومظنة فتنة، والإسلام عدده قليل، ومنتجعه في هذه البقعة جديب، وعهده بالإرفاد والإمداد(4/409)
من المسلمين بعيد " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا - إلى آخر السورة ". (البقرة: 286) .
وإذا تداعت أمم الكفر نصرة لدينها المكذوب، وحمية لصليبها المنصوب، فمن يستدعى لنصر دين الله وحفظ أمانة نبيه إلا أهل ذلك الوطن حيث المآذن بذكر الله تعالى تملأ الآفاق، وكلمة الإسلام قد عمت الربى والوهاد، إنما الإسلام غريق قد تشبث بأهدابكم، يناشدكم الله في بقية الرمق، وقبل الرمي تراش السهام، وهذا أوان الاعتناء، واختيار الحماة، وإعداد الأقوات، قبل أن يضيق المجال، وتمنع الموانع، وقد وجهنا هذا الوفد المبارك للحضور بين يديكم مقرراً الضرورة، منهياً الرغبة، مذكراً بما يقرب عند الله، مذكراً لذمام الإسلام، جالباً على من ورائهم بحول الله تعالى من المسلمين البشرى التي تشرح الصدور، وتسني الآمال، وتستدعي الدعاء والثناء، فالمؤمن كثير بأخيه، ويد الله مع الجماعة، والمسلمون يد على من سواهم، والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، والتعاون على البر والتقوى مشروع، وفي الذكر الحكيم مذكور، وحق الجار مشهور، وما كان جبريل يوصي به في الصحيح مكتوب وكما راع المسلمين اجتماع كلمة الكفر، فنرجو أن يروع الكفر من العز بالله، وشد الحيازيم في سبيل الله، ونفير النفرة لدين الله، والشعور في حماية الثغور وعمرانها، وإزاحة عللها، وجلب الأقوات إليها، وإنشاء الأساطيل، وجبر ما تلف من عدة البحر، أمور تدل على ما ورائها، وتخبر بمشيئة الله تعالى عما بعدها " وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ومن خطب على رضي الله تعالى عنه: أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رهبة ألبسه الله تعالى سيما الخسف، ووسمه بالصغار، وما بعد الدنيا إلا الآخرة، وما بعد الآخرة إلا إحدى داري البقاء، أفي الله شك " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ". (الحشر: 9) .(4/410)
والاعتناء بالجبل عنوان هذا الكتاب، ومقدمة هذا الباب، والغفلة عنه منذ أعوام قد صيرتنا لا نقنع باليسير، وقد أبرمته المواعيد، وغير رسومه الانتظار، ومن المنقول " ارحموا السائل ولو جاء على فرس "، والإسراف في الخير أرجح في هذا المحل من عكسه، وكان بعض الأجواد يقول وقد أقتر: اللهم هب لي الكثير، فإن حالي لا تقوم على القليل، وعسى أن يكون النظر له بنسبة الغفلة عنه، والمتعاض له مكافئاً للإزراء به، وخلو البحر يغتنم لإمداده وإرفاده، قبل أن يثوب نظر الكفر إلى قطع المدد وسد البحر، ومن ضيع الحزم ندم، ولا عذر لمن علم، والله عز وجل يطلع من قبلكم على ما فيه شفاء الصدور، وجبر القلوب، وشعب الصدوع، وما نقص مال من صدقة، وطعام الواحد كاف لاثنين، والدين دينكم، والبلاد بلادكم، ومحل رباطكم وجهادكم، وسوق حسناتكم، " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقد قلدنا العهد الحفيظ علينا، المصروف العناية بفضل الله تعالى إلينا، والله المستعان، وعليه التكلان؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
وفي اعتقادي أن هذا المكتوب للسلطان أبي فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن المريني، وأن المراد بالمتغلب الوزير عمر بن عبد الله الذي ظفر به أبو فارس المذكور واستقل بالملك بعد محو أثره، حسبما ذكرناه في غير هذا المحل؛ والله سبحانه أعلم.
2 - رسالة أخرى في استنهاض السلطان المريني
ومن إنشاء لسان الدين على لسان سلطانه في استنهاض عزم صاحب فاس السلطان المريني لنصرة الأندلس، ما نصه: المقام الذي يؤثر حظ الله إذا اختلفت الحظوظ وتعددت المقاصد، ويشرع الأدنى منه إذا تفاضلت المشارع وتمايزت(4/411)
الموارد، وتشمل عادة حلمه وفضله الشارد، ويسع وارف ظله الصادر والوارد، والغائب والشاهد، ويعيد من نصر الله للإسلام العوائد، ويسد الذرائع ويدر الفوائد، مقام محل أخينا الذي حسنت في الملك سيره، وتعاضد في الفضل خبره وخبره، ودلت شواهد مداركه للحقوق، وتغمده للعقوق، على أن الله تعالى لا يهمله ولا يذره، فسلك فخره متسقة درره، ووجه ملكه شادخة غرره، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله رفيعاً علاؤه، هامية لديه منن الله تعالى وآلاؤه، مزدانة بكواكب السعد سماؤه، محروسة بعز النصر أرجاؤه، مكملاً من فضل الله تعالى في نصر الإسلام، وكبت عبدة الأصنام، أمله ورجاؤه، معظم قدره الذي يحق له التعظيم، وموقر سلطانه الذي له الحسب الأصيل والمجد الصميم، الداعي إلى الله تعالى باتصال سعادته حتى ينتصف من عدو الإسلام الغريم، ويتاح على يد سلطانه الفتح الجسيم، فلان؛ سلام كريم، طيب عميم، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخيب من أخلص الرغبة إليه أملا، وموفي من ترك له حقه أجره المكتوب متمماً مكملا، وجاعل الجنة لمن اتقاه حق تقاته نزلا، ملك الموت الذي جل وعلا، وجبار الجبابرة الذي لا يجدون على قدره محيصاً ولا من دونه موثلا، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي أنزل الله تعالى عليه الكتاب مفصلا، وأوضح طريق الرشد وكان مغفلا، وفتح باب السعادة ولولاه كان مقفلا، والرضى على آله وأصحابه، وعترته وأحزابه، الذي ساهموه فيما مر وما حلا، وخلفوه من بعد بالسير التي راقت مجتلى، ورفعوا عماد دينه فاستقام لا يعرف ميلا، وكانوا في الحلم والعفو مثلا، والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يلقى نصه صريحاً لا متأولا، والصنع الذي يبهر حاللاً ومستقبلا، والعز الذي يرسو جبلا، والسعد الذي لا يبلغ أمداً ولا أجلا، فإنا كتبناه إليكم أصحب الله تعالى ركابكم حليف التوفيق حلاً ومرتحلا، وعرفكم عوارف(4/412)
اليمن الذي يثير جدلا، ويدعوا وافد الفتح المبين فيرد (1) مستعجلا، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى سلطانه، ومهد أوطانه، إلا الخير الذي نسأل بعده تحسين العقبى، وتوالي عادة الرحمى، والحمد لله على التي هي أزكى، وسدل جناح الستر الأضفى، وصلة اللطائف التي هي أكفل وأكفى، وأبر وأوفى، ومقامكم عندنا العدة التي بها نصول ونرهب، والعمدة التي نطيل في ذكرها، ونسهب، وقد أوفدنا عليكم كل ما زاد لدينا، أو فتح الله تعالى به علينا، ونحن مهما شد المخنق بكم نستنصر، أو تراخى ففي ودكم نستبصر، أو فتح الله تعالى فأبوابكم نهني ونبشر، وقررنا عندكم أن العدو في هذه الأيام توقف عن بلاد المسلمين فلم تصل منه إليها سرية، ولا بطشت له يد جرية، ولا اقترعت من تلقائه ثنية، ولا ندري المكيدة تدبر، أم آراء تنقض بحول الله وتتبر، أو لشاغل في الباطن لا يظهر، وبعد ذلك وردت على بابنا من بعض كبارهم، وزعماء أقطارهم، مخاطبات يندبون فيها إلى جنوحها للسلم في سبيل النصح، لأياد سلفت منا لهم قررها، ووسائل ذكرها، فلم يخف عنا أنه أمر دبر بليل، وخيبة تحت ذيل، فظهر لنا أن نسبر الغور، ونستفسر الأمر، فوجهنا إليه - على عادتنا مع سلفه - لنعتبر ما لديه، وننظر إلى بواطن أمره، ونبحث عن زيد قومه وعمره، فتأتى ذلك وجر مفاوضة في الصلح أعدنا (2) لأجلها الرسالة، واستشعرنا البسالة ووازنا الأحوال واختبرنا، واعتززنا في الشروط ما قدرنا، ونحن نرتقب ما يخلق الله تعالى من مهادنة تحصل بها الأقوات المهيأة للانتساف، وتسكن (3) ما ساء البلاد المسلمة من هذا الإرجاف،
__________
(1) ق ص: ويرد.
(2) ق: أعددنا.
(3) ص: وتسكين.(4/413)
ونفرغ (1) الوقت لمطاردة هذه الآمال العجاف، أو حرب يبلغ الاستبصار فيه غايته، حتى يظهر الله تعالى في نصر الفئة القليلة آيته، ولم نجعل سبب الاعتزاز فيما أدرنا، وشموخ الأنف فيما أصدرنا، إلا ما أشعنا من عزمكم على نصرة الإسلام، وارتقاب خفوق الأعلام، والخفوف إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن الأرض حمية لله تعالى قد اهتزت، والنفرة (2) قد غلبت للنفوس واستفزت، واستظهرنا بكتبكم التي تضمنت ضرب المواعد، وشمرت عن السواعد، وأن الخيل قد أطلقت إلى الجهاد في سبيل الله الأعنة، والثنايا سدتها بروق الأسنة، وفرض الجهاد قد قام به المسلمون، والأموال قد سمح بها المؤمنون، وهذه الأمور التي تمشت بقريبها أو بعيدها أحوال الإسلام، والأماني المعدة لتزجية الأيام، ثم اتصل بنا الخبر الكارث، بما كان من حور العزائم المؤمنة بعد كورها، وتسويف مواعد النصرة، بعد استشعار فورها، وأن الحركة معملة إلى مراكش الجهة التي في يديكم زمامها، وإليكم وإن تراخى الطول ترجع أحكامها، والقطر الذي لا يفوتكم مع الغفلة، ولا يعجزكم عن الصولة، ولا يطلبكم إن تركتموه، ولا يمنعكم إن طرقتموه أو عركتموه، فسقط في الأيدي الممدودة، واختلفت المواعد المحدودة، وخسئت الأبصار المرتقبة، ورجفت المعاقل الأشبة، وساءت الظنون، وذرفت العيون، وأكذب الفضلاء الخبر، ونفوا أن يعتبر، وقالوا: هذا لا يمكن حيث الدين الحنيف، والملك المنيف، والعلماء الذين أخذ الله تعالى ميثاقهم، وحمل النصيحة أعناقهم، هذا المفترض الذي يبعد، والقائم الذي يقعد، يأباه الله تعالى والإسلام، وتأباه العلماء والأعلام، وتأباه المآذن والمنابر، وتأباه الهمم والأكابر، فبادرنا نستطلع طلع هذا النبأ الذي إن كان باطلاً فهو الظن، ولله المن، وإن كان خلافه لرأي ترجح، وتنفق بقرب الملك وتبجح، فنحن نوفد كل من
__________
(1) ق: ونقرع.
(2) ص: والنعرة.(4/414)
يقدم إلى الله تعالى بهذا القطر في شفاعة، ويمد إليه كف ضراعة، ومن يوسم بصلاح وعبادة، ويقصد في الدين بث (1) إفادة، يتطارحون عليكم في نقض ما أبرم، ونسخ ما أحكم، فعنكم تجنون به على من استنصركم عكس ما قصد، وتحلون عليه ما عقد، وهب لعذر يقبل في عدم الإعانة، وضرورة الاستعانة والاستكانة، أي عذر يقبل في الاطراح، والإعراض الصراح كأن الدين غير واحد (2) ، كأن هذا القطر لكلمة الإسلام جاحد، وكأن ذمام الإسلام غير جامع، كأن الله غير راء ولا سامع، فنحن نسألكم بالله الذي تساءلون به والأرحام، ونأنف لكم (3) من هذا الإحجام، ونتطارح عليكم أن تتركوا حظكم في أهل تلك الجهة حتى يحكم الله بيننا وبين العدو الذي يتكالب علينا بإدباركم، بعدما تضاءل لاستنفاركم، ولا نكلفكم غير اقتراب داركم، وما سامكم المسلمون بها شططاً، وما حملوكم إلا قصداً وسطا، وما ذهبتم إليه لا يفوت، ولا يبعد وقد تجاوزت البيوت، إنما الفائت من وراءكم، من حديث تأنف من سماعه أوداؤكم، ودين يشمت به أعداؤكم، فأسعفوا بالشفاعة فيمن بتلك الجهة المراكشية قصدنا، وحاشا إحسانكم أن يرضى فيه ردنا، وأنتم بعد بالخيار فيما يجريه الله على يديكم من قدرة، أو يلهمكم إليه من نصرة، وجوابكم مرتقب بما يليق بكم، ويجمل بحسبكم، والله سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
3 - رسالة على لسان يوسف بن نصر إلى سلطان فاس
ومن إنشاء لسان الدين أيضاً في مخاطبة سلطان فاس والمغرب على لسان
__________
(1) ص: ببث.
(2) كأن ... واحد: سقطت من ص.
(3) لكم: سقطت من ق.(4/415)
سلطان غرناطة فيما يقرب من الأنحاء السابقة، ما نصه:
المقام الذي أقمار سعده في انتظام واتساق، وجياد عزه إلى الغاية القصوى ذات استباق، والقلوب على حبه ذات اتفاق، وعناية الله تعالى عليه مديدة الرواق، وأياديه الجمة في الأعناق، ألزم من الأطواق، وأحاديث مجده سمر النوادي وحديث الرفاق، مقام محل أبينا الذي شان قلوبنا الاهتمام بشأنه، وأعظم مطلوبنا من الله تعالى ساعدة سلطانه، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى والصنائع الإلهية تحيط ببابه، والألطاف الخفية تعرس في جنابه، والنصر العزيز يحف بركابه، وأسباب التوفيق متصلة بأسبابه، والقلوب الشجية لفراقه، مسرورة بإيابه، معظم سلطانه الذي له الحقوق المحتومة، والفواصل المشهورة المعلومة، والمكارم المسطورة المرسومة، والمفاخر المنسوقة المنظومة، الداعي إلى الله تعالى في وقاية ذاته المعصومة، وحفظها على هذه الأمة المرحومة، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر، سلام كريم، طيب بر عميم، كما سطعن في غيهب الشدة أنوار الفرج، وهبت نواسم ألطاف الله عاطرة الأرج، يخص مقامكم الأعلى، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله جالي الظلم بعد اعتكارها، ومقيل الأيام من عثارها، ومزين سماء الملك بشموسها المحتجبة، وأقمارها، ومريح القلوب من وحشة أفكارها، ومنشئ سحاب الرحمة على هذه الأمة بعد افتقارها، وشدة اضطرابها واضطرارها، ومتداركها باللطف الكفيل بتمهيد أوطانها وتسيير أوطارها، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله صفوة النبوة ومختارها، ولباب مجدها السامي ونجارها (1) ، نبي الملاحم وخائض تيارها، ومذهب رسوم الفتن ومطفئ نارها، الذي لم ترعه الشدائد باضطراب بحورها، حتى بلغت
__________
(1) ص: وفخارها.(4/416)
كلمة الله ما شاءت من سطوع أنوارها، ووضوح آثارها، والرضى عن آله وأصحابه الذين تمسكوا بعهده على إحلاء الحوادث وإمرارها، وباعوا نفوسهم في إعلاء دعوته الحنيفية وإظهارها، والدعاء لمقامكم الأعلى باتصال السعادة واستمرارها، وانسحاب العناية الإلهية وإسدال أستارها، حتى تقف الأيام ببابكم موقف اعتذارها، وتعرض على مثابتكم ذنوبها راغبة في اغتفارها، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم أوفى ما كتب لصالحي الملوك من مواهب إسعاده، وعرفكم عوارف الآلاء في إصدار أمركم الرفيع وإيراده، وأجرى الفلك الدوار بحكم مراده، وجعل العاقبة الحسنى كما وعد به في محكم كتابه المبين للصالحين من عباده - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى، وليس بفضل الله الذي عليه في الشدائد الاعتماد، وإلى كنف فضله الاستناد، ثم ببركة من خلالها، وتخبر سيماها بطلوع السعود واستقبالها، وتدل مخايل يمنها على حسن مآلها، لله الحمد على نعمه التي نرغب في كمالها، ونستدر عذب زلالها، وعندنا من الاستبشار باتساق أمركم وانتظامه، والسرور بسعادة أيامه، والدعاء إلى الله تعالى في إظهاره وإتمامه، ما لا تفي العبارة بأحكامه، ولا تتعاطى (1) حصر أحكامه، وإلى هذا أيد الله تعالى أمركم وعلاه (2) ، وصان سلطانكم وتولاه، فقد علم الحاضر والغائب، وخلص الخلوص الذي لا تغيره الشوائب، ما عندنا من الحب الذي وضحت منه المذاهب، وأننا لما اتصل بنا ما جرت به الأحكام من الأمور التي صحبت مقامكم فيها العناية من الله والعصمة، وجعل على العباد والبلاد الوقاية والنعمة، لا يستقر بقلوبنا القرار، ولا تتأتى بأوطاننا الأوطار، تشوفاً لما تتيحه (3) لكم الأقدار، ويبرزه من سعادتكم الليل والنهار،
__________
(1) ص ق: يتعاطى.
(2) ق: وعلاكم.
(3) ص ق: تشوقاً لما تنتجه.(4/417)
ورجاؤنا في استئناف سعادتكم يشتد على الأوقات ويقوى، علماً بان العاقبة للتقوى، وفي هذه الأيام عميت الأنباء، وتكالبت في البر والبحر الأعداء، واختلفت الفصول والأهواء، وعاقت الوارد الأنواء، وعلى ذلك من فضل الله الرجاء، ولو كنا نجد للاتصال بكم سبباً، أو نلفي لإعانتكم مذ خباً ملا شغلنا البعد الذي بيننا اعترض، والعدو بساحتنا في هذه الأيام ربض، وكان خديمكم الذي رفع من الوفاء راية خافقة، واقتنى منه في سوق الكساد بضاعة نافقة، الشيخ الأجل الأوفى، الأود الأخلص الأصفى، أبو محمد ابن أحبانا (1) سنى الله مأموله، وبلغه من سعادة أمركم سؤلهن وقد ورد على بابنا، وتحيز إلى اللحاق بجنابنا، ليتيسر له من جهتنا القدوم، ويتأتى له بإعانتنا الغرض المروم، فبينما نحن ننظر في تتميم غرضه، وإعانته على الوفاء الذي قام بمفترضهن إذ اتصل بنا خبر قرقورتين من الأجفان التي استعنتم بها على الحركة، والعزيمة (2) المقترنة بالبركة، حطت إحداها بمرسى المنكب والأخرى بمرسى المرية، في كنف العناية الإلهية، فتلقينا (3) من الواصلين فيها الأنباء المحققة بعد التباسها، والأخبار التي يغني نصها عن قياسها، وتعرفنا ما كان من عزمكم على السفر، وحركتكم المعروفة باليمن والظفر، وأنكم استخرتم الله تعالى في اللحاق بالأوطان التي يؤمن قدومكم خائفها، ويؤلف طوائفها، ويسكن راجفها، ويصلح أحوالها، ويسكن أهوالها، وأنكم سبقتم حركتها بعشرة أيام مستظهرين بالعزم المبرور، والسعد الموفور، واليمن الرائق السفور، والأسطول المنصور، فلا تسألوا عن انبعاث الآمال بعد سكونها، ونهوض طيور الرجاء من وكونها، واستبشار الأمة المحمدية منكم بقرة عيونها، وتحقق ظنونها، وارتياح البلاد إلى دعوتكم التي ألبستها ملابس العدل والإحسان، وقلدتها قلائد السير الحسان، وما منها إلا من باح بما يخفيه من وجدهن وجهر
__________
(1) ص: أجانا.
(2) ق ص: والعزمة.
(3) ص: تلقينا.(4/418)
بشكر الله تعالى وحمده، وابتهل إليه في تيسير غرض مقامكم الشهير وتتميم قصده، واستئناس نور سعده، وكم مطل الانتظار بديون آمالها، والمطاولة من اعتلالها. طاولة من اعتلالها. وأما نحن فلا تسألوا عمن استشعر دنو حبيبه، بعد طول مغيبه، إنما بلغنا هذا الخبر بادرنا إلى إنجاز ما بذلنا لخديمكم المذكور من الوعد، واغتنمنا ميقات هذا السعد، ليصل سببه بأسبابكم، ويسرع لحاقه بجنابكم، فعنده خدم نرجو أن يسير الله تعالى أسبابها، ويفتح بنيتكم الصالحة أبوابها، وقد شاهد من امتعاضنا لذلك المقام الذي ندين له بالتشييع الكريم الوداد، ونصل له على بعد المزار ونزوح الأقطار سبب الاعتداء، ما يغني عن القلم والمداد، وقد ألقينا إليه من ذلك كله ما يلقيه إلى مقامكم الرفيع المعتمد، وكتبنا إلى من بالسواحل من ولاتنا نحد لهم ما يكون عليه عملهم في بر من يرد عليهم من جهة أبوتكم الكريمة، ذات الحقوق العظيمة والأيادي الحديثة والقديمة، وهم يعملون في ذلك بحسب المراد، وعلى شاكلة جميل الاعتقاد، ويعلم الله تعالى أننا لو لم تعق العوائق الكبيرة، والموانع الكثيرة، والأعداء الذين دهيت (1) بهم في الوقت هذه الجزيرة، ما قدمنا عملاً على اللحاق بكم، والاتصال بسببكم، حتى نوفي لأبوتكم الكريمة حقها، ونوضح من المسرة طرقها، لكن الأعذار واضحة وضوح المثل السائر، والله العلم بالسرائر، وغلى الله تعالى نبتهل في أن يوضح لكم من التيسير طريقاً، ويجعل السعد لكم مصاحباً ورفيقاً، ولا يعدمكم عناية منه وتوفيقاً، ويتم سرورنا عن قريب بتعرف أنبائكم السارة، وسعودكم الدارة، فذلك منه سبحانه غاية آمالنا، وقيه إعمال ضراعتنا وسؤالنا، هذا ما عندنا باردتا لإعلامكم به أسرع البدار، والله تعالى يوفد علينا أكرم الأخبار، بسعادة ملككم السامي المقدار، وييسر ما له من الأوطار، ويصل سعدكم،
__________
(1) ص: ذهبت.(4/419)
ويحرس مجدكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى.
وكان طاغية النصارى الملعون لكثرة ما مارس من أمور ملوك الأندلس وسلاطين فاس كثيراً ما يدس لأقارب الملوك القيام على صاحب الأمر، ويزين له الثورة، ويعده بالإمداد بالمال والعدة، وقصده بذلك كله توهين المسلمين، وإفساد تدبيرهم، ونسخ الدول بعضها ببعض، لما له في ذلك من المصلحة، حتى بلغ أبعده الله تعالى من أمله الغاية.
4 - رسالة إلى السلطان المريني في الاعتذار عن فرار أبي الفضل المريني من غرناطة
ومن إنشاء لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى، عن سلطان الأندلس إلى سلطان فاس المريني، يعتذر عن فرار الأمير أبي الفضل المريني الذي كان معتقلاً بغرناطة، فتحيل الطاغية في أمره حتى خرج طالباً للملك، ما نصه:
المقام الذي شهد اللي والنهار بأصالة سعادته، وجرى الفلك الدوار بحكم إرادته، وتعود الظفر بما يناؤه فاطرد والحمد لله جريان عادته، فوليه متحقق لإفادته، وعدوه مرتقب لإبادته، وحلل الصنائع الإلهية تضفو على أعطاف مجادته، مقام محل أخينا الذي سهم سعده صائب، وأمل من كاده خاسر خائب، وسير الفلك المدار في مرضاته دائب، وصنائع الله تعالى له تصحبها الألطاف العجائب، فسيان شاهد منه في عصمة وغائب، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى مسدد السهم، ماضي العزم، تجل سعوده عن تصور الوهم، ولا زال مرهوب الحد ممتثل الرسم، موفور الحظ من نعمة الله تعالى عند تعدد القسم، فائزاً بفلج الخصام عند لدد الخصم، معظم قدره، وملتزم بره، المبتهج بما يسببه الله تعالى له من إعزاز نصرهن وإظهار أمره، فلان: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، التي حازت في الفخر الأمد البعيد، وفازت من التأييد والنصر بالحظ السعيد، ورحمة الله تعالى وبركاته.(4/420)
أما بعد حمد الله الذي فسح لملككم الرفيع في العز مدى، وعرف عوارفه آلائه وعوائد النصر على أعدائه يوماً وغدا، وحرس سماء علائه بشهب من قدره وقضائه " فمن يستمع الآن يجد له شهباًُ رصدا " وجعل نجح أعماله وحسن مآله قياسا مطردا، فرب مريد ضره ضر نفسه وهاد إليه أهدى وما هدى، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبيه ورسوله الذي ملأ الكون نوراً وهدى، وأحيا مراسم الحق وقد صارت طرائق قددا، أعلى الأنام يدا، وأرفهم محتدا، الذي بجاهه نلبس أثواب السعادة جددا، ونظفر بالنعيم الذي لا ينقط أبدا، والرضى عن آله وأصحابه الذين رفعوا لسماء سنته عمدا، وأوضحوا من سبيل اتباعه مقصدا، وتقبلوا شيمه الطاهرة ركعاً وسجدا، سيوفاً على من اعتدى ونجوماً لمن اهتدى، وعلت فروع ملته صعدا، وأصبح بناؤها مديداً مخلدان والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يتوالى مثنى وموحدا، كما جمع لملككم ما تفرق من الألقاب على توالي الأحقاب، فجعل سيفكم سفاحاً وعلمكم منصوراً ورأيكم رشيداً وعزمكم مؤيدان فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم صنعاً يشرح للإسلام خلدا، ونصراً يقيم للدين الحنيف أودا، وعزماً يملأ أفئدة الكفر كمدا، وجعلكم ممن هيأ له من أمره رشدا، ويسر لكم العاقبة الحسنى كما وعد في كتابه العزيز والله أصدق موعدا - من حمراء غرناطة حرسها الله ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا استطلاع سعودكم في آفاق العناية، واعتقاد جميل صنع الله في البداية والنهاية، والعلم بأن ملككم تحدى من الظهور على أعدائه بآية وأجرى جياد السعد في ميدان لا يحد بغاية، وخرق حجاب المعتاد بما لم يظهر إلا لأصحاب الكرامة والولاية، ونحن على ما علمتم من السرور بما يهز لملككم المنصور عطفا، ويسدل عليه من العصمة سجفان نقاسمه الارتياح لمواقع نعم الله تعالى نصفاً ونصفا، ونعقد بين أنباء مسرته وبين الشكر لله حلفا، ونعد التشييع له مما يقربنا إلى الله زلفى، ونؤمل(4/421)
من إمداده ونرتقب من جهاده وقتاً يكفل به الدين ويكفى، وتروى غلل النفوس وتشفى.
وإلى هذا وصل الله سعدكم، ووالى نصركم وعضدكم، فإنا من لدن صدر عن أخيكم أبي الفضل ما صدر من الانقياد لخدع الآمال، والاعتزاز بموارد الآل، وقال رأيه في اقتحام الأهوال، وتورط في هفو حار فيها حيرة أهل الكلام في الأحوال، وناصب من أمركم السعيد جبلاً قضى الله له بالاستقرار والاستقبال، ومن ذا يزاحم الأطواد ويزحزح الجبال وأخلف الظن منا في وفائهن وأضمر عملاً استأثر عنا بإخفائهن واستعان من عدو الدين بمعين قلما يري لمن استنصر به زند، ولا خفق لمن تولاه بالنصر بند، وإن الطاغية أعانه وأنجده ورأى أنه سهم على المسلمين سدده، وغضب للفتنة جرده، فسخر له الفلك، وأمل أن يستخدمه بسبب ذلك الملك، فأورده الهلك والظلم الحلك، علمنا أن طرف سعادته كاب، وسحاب آماله غير ذات انسكاب، وقدم غرته لم يستقر من السداد في غرز ركاب، فغن نجاح أعمال النفوس، مرتبط بنياتها، وغايات الأمور تظهر في بداياتها، وعوائد الله تعالى فيمن نازع قدرته لا تجهل، ومن غالب أمر الله خاب منه المعول.
فبينما نحن نرتقب خسار تلك الصفقة المعقودة، وخمود تلك الشعلة الموقودة، وصلنا كتابكم يشرح الصدور ويشرح الأخبار، ويهدي طرف المسرات على أكف الاستبشار، ويعرب بلسان حال المسارعة والابتدار، عن الود الواضح وضوح النهار، والتحقق بخلوصنا الذي يعلمه عالم الأسرار، فأعاد في الإفادة وأبدى، وأسدى من الفضائل الجلائل ما أسدى فعلم منه مآل (1) من رام أن يقدح زند الشتات من بعد الالتئام، ويثير عجاجة المنازعة من بعد ركود القتام، هيهات تلك قلادة الله تعالى التي ما كان يتركها بغير نظام، ولم يدر
__________
(1) ص: مثال.(4/422)
أنكم نصبتم له من الحزم حبالة لا يفلتها قنيص، وسددتم له من السعد سهماً ما له عنه من محيص، بما كان من إرسال جوارح الأسطول السعيد في مطاره، حائلاً بينه وبين أوطاره (1) ، فما كان إلا التسمية والإرسال، ثم الإمساك والقتال، ثم الاقتيات والاستعمال، فيا له من زجر استنطق لسان الوجود فجدله (2) ، واستنصر البحر فخذله، وصارع القدر فجدله (3) لما جد له، وإن خدامكم استولوا على ما كان فيه من مؤمل (4) غاية بعيدة، ومنتسب إلى نصبة غير سعيدة، وشانئ غمرته من الكفار، خدام الماء وأولياء النار، تحكمت فيهم أطراف العوالي وصدور الشفار، وتحصل منهم من تخطاه الحمام في قبضة الإسار، فعجبنا من تيسير هذا المرام، وإخماد الله لهذا الضرام، وقلنا: تكييف لا يحصل في الأوهام، وتسديد لا تستطيع إصابته السهام، كلما قدح الخلاف زنداً أطفأ سعدكم شعلته، أو أظهر الشتات ألماً أبرأ يمن طائركم علته، وما ذاك إلا لنية صدقت معاملتها في جنب الله تعالى وصحت، واسترسلت بركتها وسحت، وجهاد نذرتموه إذا فرغت شواغلكم وتمت، واهتمام بالإسلام يكفيه الخطوب التي أهمت، فنحن نهنيكم بمنح الله ومننه، ونسأله أن يلبسكم من عنايته أوقى جننه، فأملنا أن تطرد آمالكم، وتنجح في مرضاة الله أعمالكم، فمقامكم هو العمدة التي يدفع العدو بسلاحها وتنبلج ظلمات صفاحها، وكيف لا نهنيكم بصنع على جهتنا يعود، وبآفاقنا تطلع منه السعود، فتيقنوا ما عندنا من الاعتقاد الذي رسومه قد استقلت واكتفت، وديمه بساحة الود قد وكفت، والله عز وجل يجعل لكم الفتوح عادة، ولا يعدمكم عناية وسعادة، وهو سبحانه يعلي مقامكم، وينصر أعلامكم، ويهني الإسلام أيامكم، والسلام الكريم
__________
(1) ص: أوكاره.
(2) ق: فحدله.
(3) ق: فخذله.
(4) ص: مذموماً.(4/423)
يخصكم، ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
وكان سلطان الأندلس في الأزمان المتأخرة كثيراً ما يشم أرج الفرج في سلم الكفار ومهادنتهم، حيث لم يقدر في الغالب على مقاومتهم، ولذلك لما قتل السلطان أبو الحجاج الذي كان لسان الدين كاتبه ووزيره، وقام بالأمر بعده ابنه محمد الغني بالله الذي ألقى مقاليده للسان الدين - أكد أمر السلم، وانتظر ما يبرمه القضاء الجزم، والقدر الحتم.
5 - رسالة عن لسان الغني بالله إلى أبي عنان
من إنشاء لسان الدين في ذلك على لسان الغني مخاطباً لسلطان فاس والمغرب أبي عنان ما صورته:
المقام الذي يغني عن كل مفقود بوجوده، ويهز إلى جميل العوائد أعطاف بأسه وجوده، ونستضيء عند إظلام الخطوب بنور سعوده، ونرث من الاعتماد عليه أسنى ذخر يرثه الولد عن آبائه وجدوده مقام محل أبينا الذي رعي الأذمة شانه، وصلة الرعي سجية انفرد بها سلطانه، ومواعد النصر ينجزها زمانه، والقول والفعل في ذات الله تعالى تكفلت بهما يده الكريمة ولسانه، وتطابق فيهما إسراره وإعلانه، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى محروساً من غير الأيام جنابه، موصولة بالوقاية الإلهية أسبابه، مسدولاً عن ذاته الكريمة ستر الله تعالى وحجابه، مصروفاً عنه من صرف القدر ما يعجز عن رده بوابه، ولا زال ملجأ تنفق لديه الوسائل التي تدخرها لأولادها أولياؤه وأحبابه، ويسطر في صحف الفخر ثوابه، وتشتمل على مكارم الدين والدنيا أثوابه وتتكفل بنصر الإسلام وجبر القلوب عند طوارق الأيام كتائبه وكتابه، معظم ما عظم من حقه السائر من إجلاله وشكر خلاله على لاحب طرقه، المستضيء في ظلمة الخطب بنور أفقه، الأمير عبد الله محمد ابن أمير(4/424)
المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي لا راد لأمره ولا معارض لفعله، مصرف الأمر بحكمته وقدرته وعدله، الملك الحق الذي بيده ملاك الأمر كله، مقدر الآجال والأعمار فلا يتأخر شيء عن ميقاته ولا يبرح عن محله، جاعل الدنيا مناخ قلعة لا يغتبط العاقل بمائه ولا بظله، وسبيل رحلة فما أكثب ظعنه من حله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد صفوة خلقه وخيرة أنبيائه وسيد رسله، الذي نعتصم بسببه الأقوى ونتمسك بحبله، ونمد يد الافتقار إلى فضلهن ونجاهد في سبيله من كذب به أو حاد عن سبله، ونصل إليه ابتغاء مرضاته ومن أجله، والرضى على آله وأحزابه وأنصاره وأهله، المستولين من ميدان الكمال على خصله، والدعاء لمقامكم الأعلى بعز نصره ومضاء فضله، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم وقاية لا تطرق الخطوب حماها، وعصمة ترجع عنها سهام النوائب كلما فوقها الدهر ورماها، وعناية لا تغير الحوادث اسمها ولا مسماها، وعزاً يزاحم أجرام الكواكب منتماها - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ونعم الله سبحانه تتواتر لدينا دفعاً ونفعاً، وألطافه نتعرفها وتراً وشفعاً، ومقامكم الأبوي هو المستند الأقوى، والمورد الذي ترده آمال الإسلام فتروى، وتهوي إيه أفئدتهم فتجد ما تهوى، ومثابتكم العدة التي تأسست مبانيها على البر والتقوى.
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم، وأبقى مجدكم، فإننا لما نعلم من مساهمة مجدكم التي تقتضيها كرام الطباع وطباع الكرم، وتدعو إليها ذمم الرعي ورعي الذمم، نعرفكم بعد الدعاء لملككم بدفاع الله تعالى عن ارتقائه، وإمتاع المسلمين ببقائه، بما كان من وفاة مولانا الوالد نفعه الله تعالى بالشهادة التي ألبسه حلتها، والشهادة التي في أعماله الزكية كتبها، والدرحة العالية التي حتمها له وأوجبها، وبما تصير إلينا من أمره، وضم بنا من نشرهن وسدل على من(4/425)
خلفه من ستره، وإنها لعبرة لمن ألقى السمع، وموعظة تهز الجمع وترسل الدمع، وحادثة أجمل الله سبحانه فيها الدفع، وشرح مجملها وإن أخرس اللسان هولها، وأسلم العبارة قوتها وحولها، أنه رضي الله تعالى عنه لما برز لإقامة سنة هذا العيد، مستشعراً شعار كلمة التوحيد، مظهراً سمة الخضوع للمولى الذي تضرع بين يديه رقاب العبيد، آمناً بين قومه وأهله، متسربلاً في حلل نعم الله تعالى وفضله، قرير العين باكتمال عزه واجتماع شمله، قد احترس بأقصى استطاعته، واستظهر بخلصان طاعته، والأجل المكتوب قد حضر، والإرادة الإلهية قد أنفذت القضاء والقدر، وسجد بعد الركعة الثانية من صلاته، أتاه أمر الله لميقاته، على حين الشباب غض جلبابه، والسلاح زاخر عبابه، والدين بهذا القطر قد أينع بالأمن جنابه، وأمر من يقول للشيء كن فيكون قد بلغ كتابه، ولم يرعه وقد اطمأنت بذكر الله تعالى القلوب، وخلصت الرغبات إلى فضله المطلوب، إلا شقي قيضه الله لسعادته غير معروف ولا منسوب، وخبيث لم يكن بمعتبر ولا محسوب، تخلل الصفوف المعقودة، إلى طاعة الله المحشودة، لا تدل العين عليه شارة ولا بزة، ولا تحمل على الحذر من مثله أنفة ولا عزة، وإنما هو خبيث ممرور، وكلب عقور، وحية سمها وحي محذور، وآلة مصرفة لينفذ بها قدر مقدور، فلما طعنه وأثبته، وأعلق به شرك الحين فما أفلتهن قبض عليه من الخلصان الأولياء، من خبر ضميره، وأحكم تقريره، فلم يجب عند الاستفهام جواباً يعقل، ولا عثر منه على شيء عنه ينقل، لطفاً من الله أفاد براءة الذمم، وتعاوته للحين أيدي التمزيق، وأتبع شلوه بالتحريق، واحتمل مولانا الوالد العزيز رحمه الله تعالى إلى القصر وبه دماء لم يلبث بعد الفتكة العمرية إلا أيسر من اليسير، وتخلف الملك ينظر من الطرف الحسير، وينهض بالجناح الكسير، وقد عاد جمع السلامة إلى التكسير، إلا أن الله تعالى تدارك هذا القطر الغريب بان أقامنا مقامه(4/426)
لوقته وحينه، ورفع بناء عماد ملكه ولم شعث دينه، وكان جميع من حضر المشهد من شريف الناس ومشروفهم، وأعلامهم ولفيفهم، قد جمعه ذلك الميقات، وحضر الأولياء الثقات، فلم تختلف علينا كلمة، ولا شذت منهم عن بيعتنا نفس مسلمة، ولا أخيف بري، ولا حذر جري، ولا فري فري، ولا وقع لبس، ولا استوحشت نفس، ولا نبض للفتنة عرق، ولا أغفل للدين حق، فاستند النقل إلى نصه، ولم يعدم من فقيدنا غير شخصه، وبادرنا إلى مخاطبة البلاد نمدها ونسكنها، ونقرر الطاعة في النفوس ونمكنها، وأمرنا الناس بها بكف الأيدي، ورفع التعدي، والعمل من حفظ شروط المسالمة المعقودة بما يجدي، ومن شره منهم للفرار (1) ، عاجلناه بالإنكار، وصرفنا على النصارى ما أوصاه مصحباً بالاعتذار، وخاطبنا صاحب قشتالة نرى ما عنده في صلة السلم إلى أمدها من الأخبار، واتصلت بنا البيعات من جميع الأقطار، وعفى على حزن المسلمين بوالدنا ما ظهر عليهم بولايتنا من الاستبشار، واستبقوا تطير بهم أجنحة الابتدار، جعلنا الله تعالى ممن قابل الحوادث بالاعتبار، وكان على حذر من تصاريف الأقدار، واختلاف الليل والنهار، وأعاننا على إقامة دينه في هذا الوطن الغريب المنقط بين العدو الطاغي والبحر الزخار، وألهمنا من شكره لما يتكفل بالمزيد من نعمه، ولا قطع عنا عوائد كرمه.
وإن فقدنا والدنا فأنتم لنا من بعده الوالد، الذي تكرم منه العوائد، والحب يتوارث كما ورد في الأخبار التي صحت (2) منها الشواهد، ومن أعد مثلكم لبنيه، فقد تيسرت من بعد الممات أمانيه، وتأسست قواعد ملكه وتشيدت مبانيه، فالاعتقاد الجميل موصول، والفرع لها في التشيع إليكم أصول، وفي تقرير فخركم محصول، وأنتم ردء المسلمين بهذه البلاد المسلمة الذي يعينهم
__________
(1) ص: للغوار.
(2) ق ص: وضحت.(4/427)
بإرفاده، وينصرهم بإنجاده، ويعامل الله تعالى فيها بصدق جهاده.
وعندما استقر هذا الأمر الذي تبعت المحنة فيه المحنة، وراقت من فضل الله تعالى ولطفه فيه الصفحة، وأخذنا البيعة من أهل حضرتنا بعد استدعاء خواصهم وأعيانهم، وتزاحمت على رقها المنشور خطوط أيمانهم، وتأصلت قواعد ألفاظها ومعانيها في قلوبهم وآذانهم، وضمنوا الوفاء بما عاهدوا الله عليه وقد خبر سلفنا والحمد لله وفاء ضمانهم، بادرنا تعريف مقامكم الذي نعلم مساهمته فيما ساء وسر وأحلى وأمر، عملاً بمقتضى الخلوص الذي ثبت واستقر، والحب الذي ما مال يوماً ولا ازور، وما أحق تعريف مقامكم بوقوع هذا الأمر المحذور، وانجلاء ليله عن صنع الصبح البادي السفور وإن كنا قد خاطبنا من خدامكم من يبادر إعلامكم بالأمور، إلا أنه أمر له ما بعده، وحادث يأخذ حده، ونبعث إلى بابكم من شاهد الحال ما بين وقوعها إلى استقرارها رأي العيان وتولى تسديد الأمور بأعماله الكريمة ومقاصده الحسان، ليكون أبلغ في البر وأشرح للصدر وأوعب للبيان، فوجهنا إليكم وزير أمرنا، وكاتب سرنا، الكذا أبا فلان، وألقينا إليه من تقرير تعويلنا على ذلك المقام الأسنى، واستنادنا من التشييع إليه إلى الركن الوثيق المبنى، ما نرجو أن يكون له فيه المقام الأعنى، والثمرة العذبة المنى، فلاهتمامه بهذا الغرض الأكيد الذي هو أساس بنائنا، وقامع أعدائنا، آثرنا توجيهه على توفر الاحتياج له، ومدار الحال عليه، والمرغوب من أبوتكم المؤملة أن يتلقاه قبولها بما يليق بالملك العالي، والخلافة السامية المعالي، والله عز وجل يديم أيامكم لصلة الفضل (1) المتوالي، ويحفظ مجدكم من غير الأيام والليالي، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويوالي نصركم وعضدكم، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
__________
(1) ق: فضله.(4/428)
وقوله في هذه الرسالة " فوجهنا إليكم وزير أمرنا - إلى آخره " هو لسان الدين رحمه الله تعالى، إذ هو كان الوزير إذ ذاك والسفير في هذه القضية، ومن صفحات هذا الكلام يتضح لك ما نال لسان الدين رحمه الله تعالى من الرياسة والجاه ونفوذ الكلمة بالأندلس وبالمغرب رحمه الله تعالى، وقد أكرمه السلطان أبو عنان في هذه الوفادة وغيرها غاية الإكرام، وكان المقصود الأعظم من هذه الوفادة استعانة سلطان الأندلس الغني بالله بالسلطان أبي عنان على طاغية النصارى، كما ألمعنا بذلك في الباب الثاني من القسم الثاني الذي يتعلق بلسان الدين، وكان السلطان أبو عنان ابن السلطان أبي الحسن معتنياً بالأندلس غاية الاعتناء، وخصوصاً بجبل الفتح، حتى أنه بلغ من اهتمامه به أن أمر عليه ولده أبا بكر السعيد، وهو الذي تولى الملك بعده.
6 - رسالة عن الغني إلى الأمير السعيد
ومن إنشاء لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى على لسان سلطانه ما خاطب به الأمير السعيد المذكور إذ قلده والده جبل الفتح، وهو:
الإمارة التي أشرق في سماء الملك شهابها، واتصلت بأسباب العز أسبابها، واشتملت على الفضل والطهارة أثوابها، وأجيلت قداح المفاخر فكان إلى جهة الله تعالى انتدابها، إمارة محل أخينا الذي تأسس على مرضاة الله تعالى أصيل فخره، واتسم بالمرابط المجاهد على اقتبال سنه وجدة عمره، وبدأ بفضل الجهاد صحيفة أجره، وافتتح بالرباط والصلاح ديوان نهيه وأمره، لما يسره من سعادة نصبته وحباه من عز نصره، الأمير الأجل الأعز الأرفع الأسنى الأطهر الأظهر الأمنع الأصعد الأسمى الموفق الأرضى، محل أخينا العزيز علينا، المهداة أنباء مأمول جواره إلينا، أبي بكر السعيد ابن محل والدنا الذي مقاصده للإسلام وأهله على مرضاة الله تعالى جارية، وعزائمه على نصر الملة الحنيفية(4/429)
متبارية، السلطان الكذا أبو عنان ابن السلطان الكذا أبي الحسن ابن السلطان الكذا أبي سعيد ابن السلطان يعقوب ابن عبد الحق، أبقاه الله تعالى سديدة آراؤه ناجحة أعماله، ميسرة أغراضه من فضل الله تعالى متتمة آماله، رحيباً في السعد مجاله، يكنفه من السر تعالى ومحل أبينا غمام وارفة ظلاله، هامر نوله، حتى يرضي الله تعالى مصاعه بين يديه ومصاله، وتمضي في الأعداء أمام رايته المنصورة نصاله، أخوه المسرور بقربه، المنطوي على مضمر حبه، أمير المسلمين محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الو ليد ابن فرج ابن نصر: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص أخوتكم الفضى، وإمارتكم التي آثار فضلها بحول الله تتلى، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله على ما يكفيك من ألطافه المشرقة الأنوار، ويسره لهذه الأوطان بنصرته من الأوطار، فكلما دجت به شدة طلع الفرج عليها طلوع النهار، وكلما اضطرب منها جانب أعاده بفضل الله تعالى من أقامه لذلك واختاره إلى حال السكون والقرار، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى المختار، الذي أكد عليه جبريل صلوات الله عليه حق الجوار، حتى كاد يلحقه بالوسائل والقرب الكبار، الذي وصانا بالالتئام، واتصال اليد في نصرة الإسلام، فنحن نقابل بساطه بالبدار، ونجري على نهجه الواضح الآثار، ونرتجي باتباعه الجمع بين سعادة هذه الدار وتلك الدار، والرضى عن آله وأصحابه، وأنصاره وأحزابه، أكرم الآل والأصحاب والأحزاب والأنصار، الذين كانوا كما أخبرنا الله تعالى عنهم على لسان الصادق الأخبار، رحماء بينهم أشداء على الكفار، والدعاء لإمارتكم السعيدة السعيدية بالتوفيق الذي تجري به الأمور على حسب الاختيار، والعز المنيع الذمار، والسعد القويم المدار، والوقاية التي يأمن بها أهلها من السرار، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم أسنى ما كتب للأمراء الأرضياء الأخيار، ومتعكم من بقاء والدكم بالعدة العظمى والسيرة الرحمى والجلال الرفيع المقدار - من حمراء(4/430)
غرناطة حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله تعالى سبحانه ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أوضح برهانه إلا ألطاف باهرة، وعناية من الله تعالى باطنة وظاهرة، وبشارة بالقبول واردة وبالشكر صادرة، والله تعالى يصل لدينا نعمه، ويوالي فضله وكرمه.
وإلى هذا فإننا اتصل بنا في هذه الأيام ما كان من عناية والدكم محل أبينا أبقاه الله تعالى بهذه البلاد المستندة إلى تأميل مجده، وإقطاعها الغاية التي لا فرقها من حسن نظره وجميل قصده، وتعينكم إلى المقام بجبل الفتح إبلاغاً في اجتهاده الديني وجده، فقلنا: هذا خبر إن صدق مخبره، وتحصل منتظره، فهو فخر تجددت أثوابه، واعتناء تفتحت أبوابه، وعمل عند الله ثوابه، فإن الأندلس - عصمها الله تعالى - وإن أنجدته عدده وأمواله، ونجحت في نصرها مقاصده الكريمة وأعماله، لا تدري موقع النظر لها من نفسه، وزيادة يومه في العناية على أمسه، حتى يسمح لها بولده، ويخصها بقرة عينه وفلذة كبده، فلما ورد منه (1) الخبر الذي راقت منه الحبر، ووضحت من سعادته الغرر، بإجازتكم البحر، واختياركم في حال الشبيبة الفخر، وصدق مخيلة الدين فيكم، واستقراركم في الثغر الشهير الذي افتتحه سيف جدكم واستنفذه سعد أبيكم، سررنا بقرب المزار، ودنو الديار، وقابلنا صنع الله تعالى بالاستبشار، ووثقنا وإن لم نزل على ثقة من عناية الله تعالى وعناية محل والدنا بهذه الأقطار، وحمدنا الله تعالى على هذه الآلاء المشرقة، والنعم المغدقة، والصنائع المتألقة، بادرنا نهنيء إخوتكم أولاً بما سيره الله تعالى لكم من سلامة المجاز، ثم بما منحكم الله تعالى من فضل الاختصاص بهذا الغرض والامتياز، فإمارتكم الإمارة التي أخذت بأسباب السماء، وركبت إلى الجهاد في سبيل الله تعالى جيال الخيل والماء، واصبحي على حال الشبيبة شجاً في حلوق الأعداء، ونحن أحق بهذا
__________
(1) منه: زيادة من ق.(4/431)
الهناء، ولكنها عادة الود وسنة الإخاء، فالله عز وجل يجعله مقدماً ميمون الطائر، متهلل البشائر، تتهلل بصنع الله بعده وجوه القبائل والعشائر، ويجري خبر سعادتكم مجرى المثل السائر، ويشكر محل والدنا فيما كان من اختياره، ومزيد إيثاره، ويجازيه جزاء من سمح في ذاته بمظنة ادخاره، ومذ رأينا أن هذا الغرض لا يجتزي فيه بالكتابة، دون الاستنابة، وجهنا لكم من يقوم بحقه، ويجري من تقرير ما لدينا على أوضح طرقه، وهو القائد الكذا، ومجدكم يصغي لما يلقيه، ويقابل بالقبول ما من ذلك يؤديه، والله تعالى يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام؛ انتهى.
وكان الطاغية الملعون أيام السلطان أبي عنان رحمه الله تعالى نازل جبل الفتح ثم كفى الله تعالى شره في ذلك التاريخ.
7 - من أبي الحجاج إلى أبي عنان
ومن إنشاء لسان الدين على لسان سلطانه أبي الحجاج يخاطب أبا عنان سلطان فاس والمغرب وذلك بما نصه:
المقام الذي رمى له الملك الأصيل بأفلاذه، وأدى منه الإسلام إلى ملجئه الأحمى وملاذه، وكفلت السعود بإمضاء أمره المطاع وإنفاذه، وشأى حلبة (1) الكرم فكان وحيد آحاده وفذ أفذاذه، وابتدع غرائب الجود فقال لسان الوجود: نعمت البدعة هذه، مقام محل أخينا الذي أركان مجده راسية راسخة، وغرر عزه بادية باذخة، وأعلام فخره سامية شامخة، وآيات سعده محكمة ناسخة، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى يجري بسعده الفلك، ويجلى بنور هديه الحلك، ويسطر حسنات ملكه الملك، ويشهد بفضل بأسه
__________
(1) ص: حلية.(4/432)
ونداه النادي والمعترك. معظم حقوقه التي تأكد فرضها، المثني على مكارمه التي أعيا الأوصاف البليغة بعضها، أمير المسلمين عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص أخوتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي هيأ لملة الإسلام، بمظاهرة ملككم المنصور الأعلام، إظهاراً وإعزازاً، وجعل لها العاقبة الحسنى بيمن مقامكم الأسنى تصديقاً لدعوة الحق وإنجازاً، وسهل لها بسعدكم كل صعب المرام وقد سامتها صروف الأيام لياً وإعوازاً، وأتاح لها منكم ولياً يسوم أعداءها استلاباً وابتزازاً، ويسكن آمالها وقد استشعرت انحفازاً، حمداً يكون على حلل النعم العميمة والآلاء الكريمة طرازاً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي بهرت آياته وضوحاً وإعجازاً، واستحقت الكمال صفاته حقيقة لا مجازاً، ونبيه الذي بين للخلق أحكام دينه الحق امتناعاً وجوازاً، ويسر لهم وقد ضلوا في مفاوز الشك مفازاً، والرضى عن آله وأصحابه المستولين على ميادين فضائل الدنيا والدين اختصاصاً بها وامتيازاً، فكانوا غيوثاً إن وجدوا محلاً وليوثاً إن شهدوا برازاً، والدعاء لمقام أخوتكم الأسمى بنصرٍ على أعدائه تبدي له الجياد الجرد ارتياحاً والرماح الملد اهتزازاً، وعز يطأ من أكناف البسيطة وأرجائها المحيطة سهلاً وعزازاً، ويمن يشمل من بلاد الإيمان أقطاراً نازحة ويعم أحوازاً، وسعد تجول في ميدان ذكره المذاع أطراف ألسنة اليراع إسهاباً وإيجازا، وفخر يجوب جيوب الأقطار جوب المثل السيار عراقاً وحجازاً، ولا زالت كتائب سعده تنتهز فرص الدهر انتهازا، وتوسع مملكات (1) الكفر انتهاباً واحتيازاً، فإنا كتبناه إلى مقامكم - كتب الله تعالى لكم سعداً ثابت المراكز، وعزاً لا تلين قناته في يد الغامز، وثناء لا يثني عنان سراه عرض المفاوز، وصنعاً رحيب الجوانب
__________
(1) ق ص: ملكات.(4/433)
رغيب الحوائز - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وفضله، عز وجل، قد أدال العسر يسراً وأحال القبض بسطا، وقرب نوازح الآمال بعد أن تناءت ديارها شحطا، وراض مركب الدهر الذي كان لا يلين لمن استمطى، وقرب غريم الرجاء في هذه الأرجاء وكان مشتطا، والتوكل عليه سبحانه وتعالى قد أحكم منه اليقين والاستبصار المبين ربطا، ومشروط المزيد من نعمه قد لزم من الشكر شرطا، ومقامكم هو عدة الإسلام إذا جد حفاظه، وظله الظليل إذا لفح للكفر شواظه، وملجؤه الذي تنام في كنف أمنه أيقاظه، ووزره الذي إلى نصره تمد أيديه وتشير ألحاظه، ففي أرجاء ثنائه تسرح معانيه وألفاظه، ولخطب تمجيده وتحميده يقول قسه وتحتفل عكاظه، وتشيعنا إلى ذلك الجناب الكريم طويل عريض، ومقدمات ودنا إياه لا يعترضها نقيض، وأفلاك تعظيمنا له ليس لأوجها الرفيع حضيض، وأنوار اعتقادنا الجميل فيه يشف سواد الحبر عن أوجهها البيض.
وإلى هذا - ألبسكم الله تعالى ثوب السعادة المعادة فضفاضاً، كما صرف ببركته إيالتكم الكريمةعلى ربوع الإسلام وجوه الليالي والأيام وقد ازوروت إعراضاً وبسطت آمالها وقد استشعرت انقباضاً - فإننا ورد علينا كتابكم الذي كرم أنحاء وأغراضاً، وجالت البلاغة من طرسه الفصيح المقال رياضاً، ووردت الأفكار من معانيه الغرائب وألفاظه المزرية بدرر النحور والترائب بحوراً صافيةً وحياضاً، فاجتلينا منه حلة من حلل الورد سابغة، وحجة من حجج المجد بالغة، وشمساً في فلك السعد بازغة، الذي بين المقاصد الكريمة وشرحها، وجلا الفضائل العميمة وأوضحها، فما أكرم شيم ذلك الجلال وأسمحها، وأفضل خلال ذلك الكمال وأرجحها، حثثتم فيه على إحكام السلم التي تحوط الأنفس والحريم بسياج، ويداوى القطر العليل منها بأنجع علاج، والحال ذات احتياج، وساحة الجبل عصمه الله تعالى ميدان هياج، ومتبوأ أعلاج، ومظنة اختلاف الظنون الموحشة واختلاج، فحضر لدينا محتمله وزيركم الشيخ(4/434)
الأجل الأعظم الموقر الأسمى الخاصة الأحظى أبو علي ابن الشيخ الوزير الأجل الحافل الفاضل المجاهد (1) الكامل أبي عبد الله ابن محلى والشيخ الفقيه الأستاذ الأعرف الفاضل الكامل أبو عبد الله ابن الشيخ الفقيه الأجلالعارف الفاضل الصالح المبارك المبرور المرحوم أبي عبد الله الفشتالي، وصل الله سبحانه سعادتهما، وحرس مجادتهما، حالين من مراتب ترفيعنا أعلى محل الإعزاز، وواردين على أحلى القبول الذي لا تشاب حقيقته بالمجاز، عملاً بما يجب علينا لمن يصل إلينا من تلك الأنحاء الكريمة والأحواز، فتلقينا ما اشتملت عليه الإحالة السلطانية من الود الذي كرم مفهوماً ونصاً، والبر الذي ذهب من مذاهب الفضل والكمال الأمد الأقصى، وقد كان سبقهما صنع الله جل جلاله بما أخلف الظنون، وشرح الصدور وأقر العيون، فلم يصلا إلينا إلا وقد أهلك الله تعالى الطاغية، ومزق أحزابه الباغية، نعمة منه سبحانه وتعالى ومنة ملأت الصدور انشراحاً، وعمت الأرجاء أفراحاً، وعنواناً على سعد مقامكم الذي راق غرراً في المكرمات وأوضاحاً، ومد يده إلى سهام المواهب الإلهية فحاز أعلاها قداحاً، فتشوفت (2) نفوس المسلمين إلى ما كانت تؤمله من فضل الله تعالى وترجوه، وبدت في القضية التي أشرتم بأعمالها الوجوه، وانبعثت الآمال بما آلت إليه هذه الحال انبعاثاً، والتاثت أمور العدو قصمته الله تعالى التياثاً، وانتقض غزله من بعد قوته بفضل الله تعالى أنكاثاً، واحتملت المسألة التي تفضلتم بعرضها وأشرم إلى فرضها مأخذاً وأبحاثاً، فألقينا في هذه الحال إلى رسوليكم أعزهما الله تعالى ما يلقيانه إلى مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، وما يتزيد عندنا من الأمور فركائب التعريف بها إليكم محثوثة، وجزئياتها بين يدي مقامكم الرفيع مبثوثة، وقد اضطربت أحوال الكفر وفالت آراؤه، واستحكم بالشتات داؤه، وارتجت بزلزال الفتن
__________
(1) ق: الماجد.
(2) ق: فتشوقت.(4/435)
أرجاؤه، وتيسرت آمال الإسلام بفضل الله تعالى ورجاؤه، وما هو إلا السعد يذلل لكم صعب العدو ويروضه، والله سبحانه يهيئ لكم فضل الجهاد حتى تقضى بكم فروضه.
وأما الذي لكم عندنا من الخلوص الصافية شرائعه، والثناء الذي هو الروض تأرج ذائعه، فأوضح من فلق الصبح إذا أشرقت طلائعه، جعله الله تعالى في ذاته، ووسيلةً إلى مرضاته؛ ورسولاكم يشرحان لكم الحال بجزئياته، ويقرران ما عندنا من الود الذي سطع نور آياته، وهو سبحانه وتعالى يصل لكم سعداً سامي المراتب والمراقي، ويجمع لكم بعد بعد المدى وتمهيد دين الهدى بين نعيم الدنيا والنعيم الباقي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
8 - رسالة عن يوسف النصري
وأبين من هذا في القضية كتابٌ آخر من إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى صورته:
من أمير المسلمين عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، إلى محل أخينا الذي نثني على مجادته أكرم الثناء، ونجدد له ما سلف بين الأسلاف الكرام من الولاء، ونتحفه من سعادة الإسلام وأهله بالأخبار السارة والأنباء، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى رفيع المقدار، كريم المآثر والآثار، وعرفه من عوارف فضله كل مشرق الأنوار، كفيل بالحسنى وعقبى الدار: سلام كريم، بر عميم، يخص جلالكم الأرفع، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله على عميم آلائه، وجزيل نعمائه، ميسر الصعب بعد إبائه، والكفيل بتقريب الفرج وإدنائه، له الحمد والشكر ملء أرضه وسمائه، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم رسله الكرام وأنبيائه، الهادي إلى سبيل الرشاد وسوائه، مطلع نور الخلق يجلو ظلم الشك بضيائه، والرضى(4/436)
عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه وخلفائه، السائرين في الدنيا والآخرة تحت لوائه، الباذلين نفوسفهم في إظهار دينه القويم وإعلائه، والدعاء لمقامكم بتيسير أمله من فضل الله سبحانه ورجائه، واختصاصه بأوفر الحظوظ من اعتنائه، فإنا كتبناه إليكم - كتبكم الله تعالى فيمن ارتضى قوله وعمله من أوليائه، وعرفكم عوارف السعادة المعادة في نهاية كل أمر وابتدائه - من حمراء غرناطة، حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم الذي أوضح برهانه، وعظم أمره ورفع شانه، ثم بما عندنا من الود الكريم وتجديد العهد القديم لمقامكم أعلى الله تعالى سلطانه، إلا الخير الهامي السحاب، واليسر المتين الأسباب، واليمن المفتح الأبواب، والسعد الجديد الأثواب، ومقامكم معتمد بترفيع الجناب، متعهد بالود الخالص والاعتقاد اللباب، معلوم له من فضل الدين وأصالة الأحساب.
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم مديد الأطناب، ثاقب الشهاب، وأطلع عليكم وجوه البشائر سافرة النقاب، فإنه قد كان بلغكم ما آلت الحال إليه بطاغية قشتالة الذي كلب على هذه الأقطار الغربية من وراء البحار، وما ساماها من الإرهاق والأضرار، وأنه جرى في ميدان الإملاء والاغترار، ومحص المسلمون على يده بالوقائع العظيمة الكبار، وأنه نكث العهد الذي عقده، وحل الميثاق الذي أكده، وحمله الطمع الفاضح على أن أجلب على بلاد المسلمين بخيله ورجله، ودهمها بتيار سيله وقطع ليله، وأمل أن يستولي على جبل الفتح الذي يدعى منه فتحها، وطلع للملة المحمد ية صبحها، فضيقه حصاراً، واتخذه داراً، وعندما عظم الإشفاق، وأظلمت الآفاق، ظهر فينا لقدرة الله تعالى الصنع العجيب، ونزل الفرج القريب، وقبل الدعاء السميع المجيب، وطرق الطاغية، جندٌ من جنود الله تعالى أخذه أخذةً رابية، ولم يبق له من باقية، فهلك على الجبل حتف أنفه، وغالته غوائل حتفه، فتفرقت جموعه وأحزابه، وانقطعت أسبابه، وتعجل لنار الله تعالى مآبه، وأصبحت البلاد(4/437)
مستبشرة، ورحمة الله منتشرة، ورأينا أن هذه البشارة التي يأخذ منها كل مسلم بالنصيب الموفور، ويشارك فيما جلبته من السرور، أنتم أولى من نتحفه بطيب رياها، ونطلع عليه جميل محياها، لما تقرر عندنا من دينكم المتين، وفضلكم المبين، وعملكم من المساهمة على شاكلة صالحي السلاطين، فما ذلك إلا فضل نيتكم للمسلمين في هذه البلاد، وأثر ما عندكم من جميل الاعتقاد.
وقد ورد رسولنا إليكم القائد أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح، أعزه الله تعالى، مقرراً ما لديكم من الود الراسخ القواعد، والخلوص الصافي الموارد، الواضح الشواهد، وأثنى على مكارمكم الأصيلة، وألقى ما عندكم من المذاهب الجميلة، فقابلنا ذلك بالشكر الذي يتصل سببه، ويتضح مذهبه، وسألنا الله أن يجعله وداً في ذاته، ووسيلة إلى مرضاته، وتعرفنا ما كان من تفضلكم بالطريدة المفتوحة المؤخر، وما صدر عن الرئيس المعروف بالناظر من خدام دار الصنعة بالمرية من قبح محاولته، وسوء معاملته، فأمرنا بقطع جرايته وثقافه بمطمورة القصبة جزاء لجنايته، ولولا أننا توقفنا أن يكون عظيم عقابه مما لا يقع من مقامكم بوفقه، لمشهور عفافه ورفقه، لجعلناه نكالاً لأمثاله، وعبرة لأشكاله، وقد وجهنا جفناً سفرياً لإيساق الخيل التي ذكرتم، وإيصال ما إليه من ذلك أشرتم، ويكمل القصد إن شاء الله تعالى تحت لحظ اعتنائكم، وفضل ولائكم.
هذا ما تزيد عندنا عرفناكم به، عملاً على شاكلة الود الجميل، والولاء الكريم الجملة والتفصيل، فعرفونا بما يتزيد عندكم يكن من جملة أعمالكم الفاضلة، ومكارمكم الحافلة، والله تعالى يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم عليكم ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
9 - رسالة في حاجة الأندلس إلى بر العدوة
ومن إنشاء لسان الدين فيما يتعلق بالأندلس وانقطاعها، وأنها لا غنى لها عن العدوة وغير ذلك، ما صورته:(4/438)
المقام الذي بنور سعادته تنجلي الغماء وتتصل النعماء، من نيته قد حصل منها لجانب الله تعالى الانتماء، واتفقت منه المسميات والأسماء، مقام محل أبينا الذي تتفيأ هذه الجزيرة الغربية أفياء نيته الصالحة وعمله، وتثق بحسن العاقبة اعتماداً على وعد الله تعالى المنزل على خيرة رسله، وتجتني ثمار النجح من أفنان آرائه المتألقة تألق الصبح حالي ريثه وعجله، وتتعرف حالي المورود والمكروه عارفة الخير والخيرة من قبله، أبقاه الله تعالى يحسم الأدواء كلما استشرت، ويحلي موارد العافية كلما أمرت، ويعفي على آثار الأطماع الكاذبة مهما خدعت بخلبها وغرت، ويضمن سعده عودة الأمور إلى أفضل ما عليه استقرت، معظم مقامه الذي هو بالتعظيم حقيق، وموقر ملكه الذي لا يلتبس منه في الفخر والعز طريق، ولا يختلف في فضله العميم ومجده الكريم فريق.
أما بعد حمد الله المثيب المعاقب، الكفيل لأهل التقوى بحسن العواقب، المشيد بالعمل الصالح إلى أرفع المراقي والمراقب، يهدي من يشاء ويضل من يشاء فبقضائه وقدره اختلاف المسالك والمذاهب، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الحاشر العاقب، ونبيه الكريم الرؤوف الرحيم ذي المفاخر السامية والمناقب، والرضى عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه الذين ظاهروه في حياته بإعمال السمر العوالي والبيض القواضب، وخلفوه في أمتهبخلوص الضمائر عند شوب الشوائب، فكانوا في سماء ملته كالنجوم النجوم الثواقب، والدعاء لمقامكم الأسمى بالسعادة المعادة في الشاهد من الزمن والغائب، والنصر الذي يقضي بعز الكتائب، والصنع الذي تطلع من ثناياه غرر الصنائع العجائب، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم بما عندنا من الاعتداد بمقامكم أعلى الله تعالى سلطانه، وشمل بالتمهيد أوطانه، إلا تشيع ثابت ويزيد، وإخلاص ما عليه في ميدان الاستطاعة مزيد، وتعظيم أشرف منه جيد، وثناء راق فوق رياضه تحميد وتمجيد.
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم، وحرس الطاهر الكريم مجدكم، فقد(4/439)
وصلنا كتابكم الذي هو على الخلوص والاعتقاد عنوان، وفي الاحتجاج على الرضى والقبول برهان، تنطق بالفضل فصوله، وتشير إلى كرم العقد فروعه الزكية وأصوله، ويحق أن ينسب إلى ذلك الفخر الأصيل محصوله، عرفتمونا بما ذهب إليه عيسى بن الحسين من الخلاف الذي ارتكبه، وسبيل الصواب الذي انتكبه، وتنبهون (1) على ما حده الحق في مثل ذلك وأوجبه، حتى لا يصل أحد من جهتنا سببه، ولا يظاهره مهما ندبه، ولا يسعف في الإيواء طلبه، فاستوفينا ما استدعاه ذلك البيان الصريح وجلبه، وخطه القلم الفصيح وكتبه، وليعلم مقامكم وهو من أصالة النظر غني عن الإعلام، ولكن لا بد من الاستراحة بالكلام، والتنفس بنفثات الأقلام، أننا إنما نجري أمورنا مع هذا العدو الكافر الذي رمينا بجواره، وبلينا والحمد لله بمصادمة تياره، على تعداد أقطاره، واتساع براريه وبحاره، بأن تكون الأمة المحمدية بالعدوتين تحت وفاق، وأسواق النفاق غير ذات نفاق، والجماهير تحت عهد لله تعالى وميثاق، فمهما تعرفنا أن اثنين اختلف منهما بالعدوتين عقد، ووقع بينهما في قبول الطاعة رد، ساءنا واقعه، وعظمت لدينا مواقعه، وسألنا أن يتدارك الخرق راقعه، لما نتوقعه من التشاغل عن نصرنا، وتفرغ العدو إلى ضرنا، فكيف إذا وقعت الفتنة في صقعنا وقطرنا، إنما هي شعلة في بعض بيوتنا وقعت، وحادثة إلى جهتنا أشرعت (2) ، وإن كان لسوانا لفظها فلنا معناها، وعلى وطننا يعود جناها، فنحن أحرص الناس على إطفائها وإخمادها، وأسعى في إصلاح فسادها، والمثابرة على كفها واستشهادها، وما الظن بدارٍ فسد بابها، وآمالٍ رثت أسبابها، وجزيرة لا تستقيم أحوال من بها إلا بالسكون، وسلم العدو المغرور المفتون، حتى تقضى من بإعانتكم الديون، وإن اضطرابها إنما هو داء
__________
(1) ق: وتنبهونا.
(2) ق: أسرعت؛ ص: شرعت.(4/440)
نستنصر من رأيكم فيه بطبيب، وهدف خطب نرميه من عزمكم بسهم مصيب، وأمر نضرع في تداركه إلى سميع للدعاء مجيب، ونحن في يد أمام يدكم، ومقصدنا فيه تبع لقصدكم، وتصرفنا على حد إشارتكم جار، وعزمنا إلى منتهى مرضاتكم متبار، وعقدنا في مشايعة أمركم متوار.
وقد كنا لأول اتصال هذا الخبر، القبيح العين والأثر، بادرنا تعريفكم بجميع ما اتصل بنا في شأنه، ولم نطو عنكم شيئاً من إسراه ولا إعلانه، وبعثنا رسولنا إلى بابكم العلي نعتد بسلطانه، ونرتجي تمهيد هذا الوطن بتمهيد أوطانه، وبادرنا بالمخاطبة من وجبت مخاطبته من أهل مربلة وأسطبونة نثبت بصائرهم ي الطاعة ونقويها، ونعدهم بتوجيه من يحفظ جهاتهم ويحميها، وعجلنا إلى بعضها مدداً من الرماة والسلاح ليكون ذلك عدة فيها، وعلمنا ما أوجب الله تعالى من الأعمال التي يزلف بها ويرتضيها، وكيف لا نظاهر أمركم الذي هو العدة المذخورة، والفئة الناصرة المنصورة، والباطل سراب يخدع، والحق إليه يرجع، والبغي يردي ويصرع، وكم تقدم في الدهر منتز شذ عن الطاعة، وخرج عن الجماعة ومخالف على الدول، في العصور الأول، بهرج الحق زائفه، ورجمت شهب الأسنة طائفه، وأخذت عليه الضيقة وهاده وتنائفه، فتقلص ظله ونبا به محله، وكما قال يذهب الباطل أهله، لا سيما وسعادة ملككم قد وطئت المسالك ومهدتها، وقهرت الأعداء وتعبدتها، وأطفأت جداول سيوفكم النار التي أوقدتها، وكأن بالأمور إذا أعلمتم فيها رأيكم السديد وقد عادت إلى خير أحوالها، والبلاد بيمن تدبيركم قد شفي ما ظهر من اعتلالها، وعلى كل حال فإنما نحن على تكميل مرضاتكم مبادرون، وفي أغراضكم الدينية واردون وصادرون، ولإشارتكم التي تضمن الخير والخيرة منتظرون، عندنا من ذلك عقائد لا يحتمل نصها التأويل، ولا يقبل صحيحها التعليل، فلتكن أبوتكم من ذلك على أوضح سبيل، فشمس النهار لا تحتاج إلى دليل، والله تعالى يثني لكم عوائد الصنع الجميل، حتى لا يدع عزمكم(4/441)
مغصوباً إلا رده، ولا ثلماُ في ثغر الدين إلا سده، ولا هدفاً متعاصياً إلا هده، ولا عرقاً من الخلاف إلا جده، وهو سبحانه يبقي ملككم ويصل سعده ويعلي أمره ويحرس مجده، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته، انتهى.
10 - رسالة عن أبي الحجاج إلى الرعايا
ومن إنشائه رحمه الله تعالى من جملة رسالة على لسان سلطانه أبي الحجاج يخاطب الرعايا، ما نص محل الحاجة منه:
وإلى هذا فقد علمتم ما كانت الحال آلت إليه من ضيقة البلاد والعباد بهذا الطاغية الذي جرى في ميدان الأمل جري الجموح، ودارت عليه خمرة النخوة والخيلاء مع الغبوق والصبوح، حتى طمح بسكر اغتراره، ومحص المسلمون على يده بالوقائع التي تجاوز منتهى مقداره، وتوجهت إلى استئصال الكلمة مطامع أفكاره، ووثق بأنه يطفئ نور الله بناره، ونازل جبل الفتح فشد مخنق حصاره، وأدار أشياعه في البر والبحر دور السوار على أسواره، وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب وانبهام الأبواب، والأمور التي لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب، وتكالب التثليث على التوحيد، وساءت الظنون في هذا القطر الوحيد، المنقطع بين الأمة الكافرة والبحور الزاخرة والمرام البعيد، وإننا صابرنا بالله تعالى سيله، واستضأنا بنور التوكل عليه في جنح هذا الخطب ودجنة ليله، ولجأنا إلى من بيده نواصي الخلائق، واعتقلنا من حبله المتين بأوثق العلائق، وفسحنا مجال الأمل في ذلك الميدان المتضايق، وأخلصنا لله مقيل العثار ومؤوي أولي الاضطرار قلوبنا، ورفعنا إليه أمرنا ووقفنا عليه مطلوبنا، ولم نقصر مع ذلك في إبرام العزم، واستشعار الحزم، وإمداد الثغور بأقصى الإمكان، وبعث الجيوش إلى ما يلينا من بلاد على الأحيان، فرحم الله تعالى انقطاعنا إلى كرمه، والتجاءنا إلى حرمه، فجلى بفضله(4/442)
سبحانه ظلم الشدة، ومد على الحريم والأطفال ظلال رحمته الممتدة، وعرفنا عوارف الصنع الذي قدم به العهد على طول المدة، ورماه بجيش من جيوش قدرته أغنى عن إيجاف الركاب، واحتشاد الأحزاب، وأظهر فينا قدرة ملكه عند انقطاع الأسباب، واستخلاص العباد والبلاد من بين الظفر والناب، فقد كان جعجع على الحق بأباطيله، وسد المجاز بأساطيله، ورمى الجزيرة الأندلسية بشؤبوب شره، وصيرها فريسة بين غربان بحره وعقبان بره، فلم يخلص إلى المسلمين من إخوانهم مرقبة إلا على الخطر الشديد، والإفلات من يد العدو العنيد، مع توفر العزائم والحمد لله على العمل الحميد، والسعي فيما يعود على الدين بالتأييد.
وبينما شفقتنا على جبل الفتح تقيم وتقعد، وكلب الأعداء عليه يبرق ويرعد، واليأس والرجاء خصمان هذا يقرب وهذا يبعد، إذ طلع علينا البشير بانفراج الأزمة، وحل تلك العزمة، وموت شاه تلك الرقعة، وإبقاء الله تعالى على تلك البقعة، وأنه سبحانه أخذ الطاغية أكمل ما كان اغتراراً، وأعظم أنصاراً، وزلزل أرض عزه وقد أصابت قراراً، وأن شهاب سعده قد أصبح آفلاً، وعلم كبره انقلب سافلاً، وأن من بيده ملكوت السموات والأرض طرقه بحتفه، وأهلكه برغم أنفه، وأن محلته عاجلها التباب والتبار، وعاثت في منازلها النار، وتمخض عن سوء عاقبتها الليل والنهار، وأن حماتها يخربون بيوتهم بأيديهم، وينادي بشتات الشمل لسان مناديهم، وتلاحق الفرسان من جبل الفتح المعقل الذي عليه من عناية الله تعالى رواق مضروب، والرباط الذي من حاربه فهو المحروب، فأخبرت بانفراج الضيق، وارتفاع العائق لها عن الطريق، وبرء الداء الذي أشرق بالريق، وأن النصارى دمرها الله تعالى جدت في ارتحالها، وأسرعت بجبفة طاغيتها إلى سوء مآلها وحالها، وسمحت للنار والنهب بأسلابها وأموالها، فبهرنا هذا الصنع الإلهي الذي مهد الأقطار بعد رجفانها، وأنام العيون بعد سهاد أجفانها، وسألنا الله تعالى أن يعيننا على(4/443)
شكر هذه النعمة التي إن سلطت عليها قوى البشر فضحتها، ورجحتها، ورأينا سر اللطائف الخفية كيف سريانه في الوجود، وشاهدنا بالعيان أنوار اللطائف الإلهية والجود، وقلنا: إنما هو الفتح الأول شفيع بثان، وقواعد الدين الحنيف أيدت من صنع الله تعالى ببنيان، اللهم لك الحمد على نعمك الباطنة والظاهرة، ومننك الوافرة، إنك ولينا في الدنيا والآخرة؛ انتهى.
11 - رسالة توضح ضيق حال الأندلس
ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى من أخرى مما يتعلق بضيق حال المسلمين بالأندلس ما صورته:
وإن تشوفتم إلى أحوال هذا القطر ومن به من المسلمين، بمقتضى الدين المتين والفضل المبين، فاعلموا أننا في هذه الأيام ندافع من العدو تياراً، ونكابر بحراً زخاراً، ونتوقع - إلا إن وقى الله تعالى - خطوباً كباراً، ونمد اليد إلى الله تعالى انتصاراً، ونلجأ إليه اضطراراً، ونستمد دعاء المسلمين بكل قطر استعداداً به واستظهاراً، ونستشير من خواطر الفضلاء ما يحفظ أخطاراً، وينشئ ريح روح الله طيبة معطاراً، فإن القومس الأعظم قيوم دين النصرانية الذي يأمرها فتطيع، ومخالفته لا تستطيع، رمى هذه الأمة الغريبة المنقطعة منهم بجراد لا يسد طريقها، ولا يحصى فريقها، التفت على أخي صاحب قشتالة وعزمها أن تملكه بدله، وتبلغه أمله، ويكون الكل يداً واحدة على المسلمين، ومناصبة هذا الدين، واستئصال شأفة المؤمنين، وهي شدة ليس لأهل هذا الوطن بها عهد، ولا عرفها نجد ولا وهد، وقد اقتحموا الحدود القريبة، والله تعالى ولي هذه الأمة الغريبة، وقد جعلنا مقاليد أمورنا بيد من يقوي الضعيف، ويدرأ الخطب المخيف، ورجونا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل(4/444)
" وهو سبحانه المرجو في حسن العقبى والمآل، ونصر فئة الهدي على فئة الضلال، وما قل من كان الحق كنزه، ولا ذل من استمد من الله عزه " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " ودعاء من قبلكم من المسلمين مدد موفور، والله سبحانه على كل حال محمود مشكور؛ انتهى.
12 - من رسالة طويلة
ومن أخرى طويلة من جملتها ما صورته:
وقد اتصل بنا الخبر الذي يوجب نصح الإسلام، ورعي الجوار والذمام، وما جعل الله تعالى للمأموم على الإمام، إيقاظكم من مراقدكم المستغرقة، وجمع أهوائكم المتفرقة، وتهييئكم إلى مصادمة الشدائد المرعدة المبرقة، وهو أن كبير دين النصرانية الذي إليه ينقادون، وفي مرضاته يصادقون ويعادون، وعند رؤية صليبه يكبرون ويسجدون، لما رأى الفتن قد أكلتهم خضماً وقضماً، وأوسعتهم هضماً، فلم تبق عصباً ولا عظماً، ونثرت ما كان نظماً، أعمل نظره فيما يجمع منهم ما افترق، ويرفع ما طرق، ويرفو ما مزق الشتات وخرق، فرمى الإسلام بأمة عددها القطر المنثال، وأمرهم وشأنهم الامتثال، أن يدمثوا لمن ارتضاه من أمته الطاعة، ويجمعوا في ملته الجماعة، ويطلع الكل على هذه الفئة القليلة الغريبة بغتة كقيام الساعة، وأقطعهم - قطع الله تعالى بهم - العباد والبلاد، والطارف والتلاد، وسوغهم الحريم والأولاد، وبالله تعالى نستدفع ما لا نطيقه، ومنه نسأل عادة الفرج فما سدت طرقه، إلا أنا رأينا غفلة الناس مؤذنة البوار، وأشفقنا للدين المنقطع من وراء البحار، وقد أصبح مضغة في لهوات الكفار، وأردنا أن نهزكم بالموعظة التي تكحل البصائر بميل الاستبصار، فإن جبر الله تعالى الخواطر بالضراعة إليه والانكسار، ونسخ الإعسار بالإيسار، وأنجد اليمين بأختها اليسار، وإلا فقد تعين في الدنيا والآخرة حظ الخسار، فإن من ظهر عليه عدو دين الله تعالى وهو من الله مصروف(4/445)
وبالباطل مشغوف، وبغير العرف معروف، وعلى الحطام المسلوب عنه ملهوف، فقد تله الشيطان للجبين، وقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، ومن نفذ فيه أو له قدر الله عن أداء الواجب وبذل المجهود، وأفرد بالعبودية وجه الواحد الأحد المعبود، ووطن النفس على الشهادة المبوئة دار الخلود، العائدة بالحياة الدائمة والوجود، أو الظهور على عدوه المحشور إليه المحشود، صبراً على المقام المحمود، وبيعاً من الله تعالى تكون الملائكة فيه الشهود، حتى تعين يد الله في ذلك البناء المهدود، والسواد الأعظم الممدود، كان على أمريه بالخيار المردود " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " انتهى.
ضياع المدن الأندلسية
وقال صاحب مناهج الفكر بعد وصفه لجزيرة الأندلس وأقطارها، ما صورته:
ولم تزل هذه الجزيرة منتظمة لمالكها في سلك الانقياد والوفاق، إلى ن طما بمترفيها سيل العناد والنفاق، فامتاز كل رئيس منهم بصقع كان مسقط راسه، وجعله معقلاً يعتصم فيه من المخاوف بأفراسه، فصار كل منهم يشن الغارة على جاره، ويحاربه في عقر داره، إلى أن ضعفوا عن لقاء عدو في الدين يعادي، ويراوح معاقلهم بالعيث ويغادي، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ما هو في ضمان هدنة مقدرة، وإتاوة في كل عام على الكبير والصغير مقررة، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وقدراً في سابق علم الله مقدوراً، انتهى.
وهذا قاله قبل أن يستولي العدو على جميعها، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.(4/446)
[طليطلة 478]
ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أخذ النصارى قواعد الأندلس فنقول: قد قدمنا أوائل هذا الباب أن طليطلة أعادها الله تعالى من أول ما أخذ الكفار من المدن العظام بالأندلس، قال ابن بسام (1) : لما توالت على أهل طليطلة الفتن المظلمة، والحوادث المصطلمة، وترادف عليهم البلاء والجلاء، واستباح الفرنج لعنهم الله تعالى أموالهم وأرواحهم، كان من أعجب ما جرى من النوادر الدالة على الخذلان أن الحنطة كانت تقيم عندهم مخزونة خمسين سنة لا تتغير، ولا يؤثر فيها طول المدة بما يمنع من أكلها، فلما كانت السنة التي استولى عليها العدو فيها لم ترفع الغلة من الأندر حتى أسرع فيها الفساد، فعلم الناس أن ذلك بمشيئة الله تعالى لأمر أراده، من شمول البلوى، وعموم الضراء، فاستولى العدو على طليطلة، وأنزل من بها على حكمه، وخرج اين ذي النون منها على أقبح صورة، وأفظع سيرة، ورآه الناس وبيده إصطرلاب يأخذ به وقتاً يرحل فيه، فتعجب منه المسلمون، وضحك عليه الكافرون، وبسط الكافر العدل على أهل المدينة، وحبب التنصر إلى عامة طغامها، فوجد المسلمون من ذلك ما لا يطاق حمله، وشرع في تغيير الجامع كنيسة في ربيع الأول سنة ست وتسعين وأربعمائة.
ومما جرى في ذلك (2) اليوم أن الشيخ الأستاذ المغامي رحمه الله تعالى صار إلى الجامع، وصلى فيه، وأمر مريداً له بالقراءة، ووافاه الفرنج لعنهم الله تعالى وتكاثروا لتغيير القبلة، فما جسر أحد منهم على إزعاج الشيخ ولا معارضته، وعصمه الله تعالى منهم، إلى أن أكمل القراءة وسجد سجدة، ورفع رأسه، وبكى على الجامع بكاء شديداً، وخرج ولم يعرض أحد له بمكروه. وقيل لملك
__________
(1) انظر الذخيرة 1/4: 127 ويبدو أن المقري ينقل بالمعنى.
(2) المصدر السابق: 190.(4/447)
النصارى: ينبغي أن تلبس التاج كمن كان قبلك في هذا الملك، فقال: حتى نأخذ قرطبتهم، وأعد لذلك ناقوساً تأنق فيه وفيما رصع به من الجواهر، فأكذبه الله وأزعجه. وورد أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن تاشفين، فما قصر فيما أثر من إذلال المشركين، وإرغام الكافرين، واستدراك أمور المسلمين؛ انتهى ملخصاً، وقد مر مطولاً.
وقعة بطرنة 456
وكانت قبلها وقعة بطرنة (1) سنة ست وخمسين وأربعمائة، وذلك أن الفرنج - خذلهم الله تعالى - انتدبت منهم قطعة كثيفة، ونزلت على بلنسية في السنة المذكورة، وأهلها جاهلون بالحرب، مغترون بأمر الطعن والضرب، مقبلون على اللذات من الأكل والشرب، وأظهر الفرنج الندم على منازلتها، والضعف عن مقاومة من فيها، وخدعوهم بذلك فانخدعوا، وأطعموهم فطمعوا، وكمنوا في عدة أماكن جماعة من الفرسان، وخرج أهل البلد بثياب زينتهم، وخرج معهم أميرهم عبد العزيز بن أبي عامر، فاستدرجهم العدو - لعنهم الله تعالى - ثم عطفوا عليهم فاستأصلوهم بالقتل والأسر، وما نجا منهم إلا من حصنه أجله، وخلص الأمير بنفسه، ومما حفظ عنه أنه أنشد لما أعياه الأمر:
خليلي ليس الرأي في صدر واحد أشيرا علي اليوم ما تريان
وفي أهل بلنسية يقول بعض الشعراء حين خرجوا في ثياب الزينة والترفه:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم حلل الحرير عليكم ألوانا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها لو لم تكن ببطرنة ما كانا
__________
(1) (Paterna) : راجع خبر هذه الوقعة في ابن عذاري 3: 252 وهو ينقل عن ابن بسام.(4/448)
قال ابن بسام: وهكذا جرى لأهل طليطلة، فإن العدو - خذله الله تعالى - استظهر عليهم، وقتل جماهيرهم، وكان من جملة ما غنمه الفرنج من أهلها لما خرجوا إليهم في ثياب الترفه ألف غفارة خارجاً عما سواها.
بربشتر
وقال ابن حيان (1) : وكان تغلب العدو - خذله الله تعالى - على بربشتر قصبة بلد برطانية، وهي تقرب من سرقسطة، سنة ست وخمسين وأربعمائة، وذلك أن جيش الأردمليس (2) نازلها وحاصرها، وقصر يوسف بن سليمان بن هود في حمايتها، ووكل أهلها إلى نفوسهم، فأقام العدو عليها أربعين يوماً، ووقع فيما بين أهلها تنازع في القوت لقلته، واتصل ذلك بالعدو، فشدد القتال عليها والحصر لها حتى دخل المدينة الأولى في خمسة آلاف مدرع، فدهش الناس، وتحصنوا بالمدينة الداخلة، وجرت بينهم حروب شديدة قتل فيها خمسمائة إفرنجي، ثم اتفق أن القناة التي كان الماء يجري فيها من النهر إلى المدينة تحت الأرض في سرب موزون (3) انهارت وفسدت، ووقعت فيها صخرة عظيمة سدت السرب بأسره، فانقطع الماء عن المدينة، ويئس من بها من الحياة، فلاذوا بطلب الأمان على أنفسهم خاصة دون مال وعيال، فأعطاعهم العدو الأمان، فلما خرجوا نكث بهم وغدر، وقتل الجميع إلا القائد ابن الطويل والقاضي ابن عيسى في نفر من الوجوه، وحصل للعدو من الأموال والأمتعة ما لا يحصى، حتى إن الذي خص بعض مقدمي العدو لحصنه - وهو قائد خيل رومة - نحو ألف وخمسمائة جارية أبكاراً، ومن أوقار الأمتعة والحلى
__________
(1) انظر الذخيرة (3: 58) في الخير عن بربشتر نقلاً عن ابن خلكان.
(2) في الذخيرة: جيش الأردمانيين (Nordmanni) .
(3) الذخيرة: بتقدير موزون.(4/449)
والكسوة خمسمائة جمل، وقدر من قتل وأسر بمائة ألف نفس، وقيل: خمسون ألف نفس، ومن النوادر ما جرى على هذه المدينة لما فسدت القناة وانقطعت المياه أن المرأة كانت تقف على السور وتنادي من يقرب منها أن يعطيها جرعة ماء لنفسها أو ولدها فيقول لها: أعطيني ما معك، فتعطيه ما معها من كسوة وحلي وغيره.
قال: وكان السبب في قتلهم أنه خاف من يصل لنجدتهم وشاهد من كثرتهم ما هاله، فشرع في القتل لعنة الله عليه تعالى، حتى قتل منهم نيفاً وستة آلاف قتيل، ثم نادى الملك بتأمين من بقي وأمر أن يخرجوا فازدحموا في الباب إلى أن مات منهم خلق عظيم، ونزلوا من الأسوار في الحبال للخشية من الازدحام في الأبواب ومبادرة إلى شرب الماء، وكان قد تحيز في وسط المدينة قدر سبعمائة نفس من الوجوه وحاروا في نفوسهم، وانتظروا ما ينزل بهم، فلما خلت ممن أسر وقتل وأخرج من الأبواب والأسوار وهلك في الزحمة نودي في تلك البقية بأن يبادر كل منهم إلى داره بأهله، وله الأمان، وأرهقوا وأزعجوا، فلما حصل كل واحد بمن معه من أهله في منزلهم اقتسم الإفرنج لعنهم الله تعالى بأمر الملك، وأخذ كل واحد داراً بمن فيها من أهلها، نعوذ بالله تعالى.
وكان من أهل المدينة جماعة قد عاذوا برؤوس الجبال، وتحصنوا بمواضع منيعة، وكادوا يهلكون من العطش، فأمنهم الملك على نفوسهم، وبرزوا في صور الهلكى من العطش، فأطلق سبيلهم، فبينما هم في الطريق إذ لقيتهم خيل الكفر ممن لم يشهد الحادثة، فقتلوهم إلا القليل ممن نجا بأجله.
قال: وكان الفرنج لعنهم الله تعالى، لما استولوا على أهل المدينة يفتضون البكر بحضرة أبيها، والثيب بعين زوجها وأهلها، وجرى من هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثله قط فيما مضى من الزمان، ومن لم يرض منهم أن يفعل ذلك في خادم أو ذات مهنة أو وخش أعطاعهن خوله وغلمانه يعيثون فيهن عيثة، وبلغ الكفرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة، ولما عزم ملك الروم(4/450)
على القفول إلى بلده تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثياب ذوات الجمال، ومن صبيانهم الحسان ألوفاً عدة حملهم معه ليهديهم إلى من فوقه، وترك من رابطة خيله ببربشتر ألفاً وخمسمائة، ومن الرجالة ألفين، انتهى.
قال ابن حيان: وأختم هذه الأخبار الموقظة لقلوب أولي الألباب بنادرة منها يكتفى باعتبارها عما سواها، وهي أن بعض تجار اليهود جاء بربشتر بعد الحادثة ملتمساً فدية بنات بعض الوجوه ممن نجا من أهلها حصلن في سهم قومس من الرابطة فيها كان يعرفه، قال: فهديت إلى منزله فيها، واستأذنت عليه، فوجدته جالساً مكان رب الدار، مستوياً على فراشه، رافلاً في نفيس ثيابه، والمجلس والسرير كما تخلفهما ربهما يوم محنته لم يغير شيئاً من رياشهما وزينتهما، ووصائفه مضمومات الشعور، قائمات على رأسه، ساعيات في خدمته، فرحب بي، وسألني قصدي، فعرفته وجهه، وأشرت إلى وفور ما أبذله في بعض اللواتي على رأسه وفيهن كانت حاجتي، فتبسم وقال بلسانه: ما أسرع ما طمعت فيمن عرضناه لك! أعرض عمن هنا وتعرض لمن شئت ممن صيرته لحصني من سبيي وأسراي أقاربك فيمن شئت منهن، فقلت له: أما الدخول إلى الحصن فلا رأي لي فيه، وبقربك أنست، وفي كنفك اطمأننت، فسمني ببعض من هنا فإني أصير إلى رغبتك، فقال: وما عندك قلت: العين الكثير الطيب والبز الرفيع الغريب، فقال: كأنك تشهيني ما ليس عندي، يا مجة (1) ، ينادي بعض أولئك الوصائف، يريد بهجة فغيره بعجمته، قومي فاعرضي عليه ما في ذلك الصندوق، فقامت إليه وأقبلت ببدر الدنانير وأكياس الدراهم وأسفاط الحلى، فكشف وجعل بين يدي العلج حتى كادت تواري شخصه، ثم قال لها: أدني إلينا من تلك التخوت، فأدنت منه عدة من قطع الوشي والخز والديباج الفاخر مما حار له ناظري وبهت،
__________
(1) الذخيرة: يا مجة.(4/451)
واسترذلت ما عندي، ثم قال لي: لقد كثر هذا عندي حتى ما ألذ به، ثم حلف بإلهه أنه لو لم يكن عنده شيء من هذا ثم بذل له بأجمعه في ثمن تلك ما سخت بها يدي، فهي ابنة صاحب المنزل، وله حسب في قومه، اصطفيتها لمزيد جمالها لولادتي حسبما كان قومها يصنعون بنسائنا نحن أيام دولتهم، وقد رد لنا الكرة عليهم، فصرنا فيما تراه، وأزيدك بأن تلك الخودة الناعمة، وأشار إلى جارية أخرى قائمة إلى ناحية أخرى، مغنية والدها التي كانت تشدو له على نشواته، إلى أن أيقظناه من نوماته، يا فلانة - يناديها بلكنته - خذي عودك تغني زائرنا بشجوك، قال: فأخذت العود، وقعدت تسويه، وإني لأتأمل دمعها يقطر على خدها، فتسار قالعلج مسحه، واندفعت تغني بشعر ما فهمته أنا فضلاً عن العلج، فصار من الغريب أن حث شربه هو عليه، وأظهر الطرب منه، فلما يئست ما عنده قمت منطلقاً عنه، وارتدت لتجارتي سواه، واطلعت لكثرة ما لدى القوم من السبي والمغنم على ما طال عجبي به، فهذا فيه مقنع لمن تدبره، وتذكر لمن تذكره.
قال ابن حيان: قد أشفينا بشرح هذه الحادثة الفادحة مصائب جليلة مؤذنة بوشك القلعة طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمن قبلهم من أثارة، ولا شك عند ذمي الألباب أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع وقد أمرنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادي عليه على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة، انتهى ببعض اختصار.
وذكر بعده كلاماً في ذم أهل ذلك الزمان من أهل الأندلس، وأنهم يعللون أنفسهم بالباطل، وأن من أدل الدلائل على جهلهم اغترارهم بزمانهم، وبعدهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغورهم، حتى أطل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم، يجوس خلال ديارهم، ويستقري بسائط بقاعهم، ويقطع كل يوم طرفاً، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكرهم، لهاة عن بثهم، ما إن سمع عندنا بمسجد من(4/452)
مساجدنا أو محفل من محافلنا، مذكر لهم أو داع، فضلاً عن نفر إليهم أو ماش لهم، حتى كأنهم ليسوا منا أو كان بثقهم ليس بمفض إلينا، وقد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا عليهم بالغناء، عجائب فاتت التقدير، وعرضت للتغيير، ولله عاقبة الأمور، وإليه المصير.
ولقد صدق رحمه الله تعالى، فإن البثق سرى إليهم جميعاً كما ستراه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال قبله: إن بربشتر هذه تناسختها قرون المسلمين منذ ثلاثمائة وثلاث وستين سنة، من عهد الفتوح الإسلامية بجزيرة الأندلس، فرسخ فيها الإيمان، وتدورس القرآن، إلى أن طرق الناعي بها قرطبتنا صدر رمضان من العام، فصك الأسماع، وأطار الأفئدة، وزلزل أرض الأندلس قاطبة، وصير لكل شغلاً يشغل الناس في التحدث به، والتساؤل عنه، والتصور لحلول مثله، أياماً لم يفارقوا فيها لم يفارقوا فيها عادتهم من استبعاد الوجل، والاغترار بالأمل، والاستناد إلى أمراء الفرقة الهمل، الذين هم منهم ما بين فشل ووكل، يصدونهم عن سواء السبيل، ويلبسون عليهم وضوح الدليل، ولم تزل آفة الناس منذ خلقوا في صنفين هم كالملح فيهم الأمراء والفقهاء بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يفسدون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون قد نكبوا عن نهج الطريق ذياداً عن الجماعة، وجرياً إلى الفرقة، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم صدوف عما أكده الله تعالى عليهم من التبيين لهم، قد أصبحوا ما بين آكل من حلوائهم، وخابط في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم، آخذ في التقية في صدقهم، وأولئك هم الأقلون فيهم، فما القول في أرض فسد ملحها الذي هو المصلح لجميع أغذيتها، وما هي إلا مشفية من بوارها، ولقد طما العجب من أفعال هؤلاء الأمراء، لم يكن عندهم لهذه الحادثة إلا الفزع لحفر الخنادق، وتعلة الأسوار، وشد الأركان، وتوثيق البنيان، كاشفين لعدوهم عن السوأة(4/453)
السوأى من إلقائهم يومئذ بأيديهم إليه - أمور قبيحات الصور، مؤذنات الصدور بأعجاز الغير:
أمور لو تدبرها حكيم إذاً لنهى وهيب ما استطاعا
استرجاع بربشتر
ثم قال ابن حيان: فلما كان عقب جمادى الأولى سنة 457 ساع الخبر بقرطبة برجوع المسلمين إليها، وذلك أن أحمد المقتدر بن هود المفرط فيها، والمتهم على أهلها، لانحرافهم إلى أخيه، صمد لها مع إمداد لحليفه عباد، وسعى لإصمات سوء المقالة عنه، وقد كتب الله تعالى عليه منها ما لا يمحوه إلا عفوه، فتأهب لقصد بربشتر في جموع من المسلمين، فجالدوا الكفار بها جلاداً ارتاب منه كل جبان، وأعز الله سبحانه أهل الحفيظة الشجعان، وحمي الوطيس بينهم إلى أن نصر الله تعالى أولياءه، وخذل أعداءه، وولوا الأدبار مقتحمين أبواب المدينة، فاقتحمها المسلمون عليهم، وملكوهم أجمعين، إلا من فر من مكان الوقعة، ولم يدخل المدينة، فأجيل السيف في الكافرين، واستؤصلوا أجمعين، إلا من استرق من أصاغرهم، وفدي من أعاظمهم، وسبوا جميع من كان فيها من عيالهم وأبناءهم، وملكوا المدينة بقدرة الخالق البارئ، وأصيب على منحة النصر المتاح طائفة من حماة المسلمين الجادين في نصر الدين، نحو الخمسين، كتب الله تعالى لهم شهادتهم، وقتل فيه من أعداء الله الكافرين نحو ألف فارس وخمسة آلاف راجل، فغسلها المسلمون من رجس الشرك، وجلوها من صدإ الإفك، انتهى.
وليت طليطلة البائسة استرجعت كهذه، ومع هذا فقد غلب العدو بعد على الكل، والله سبحانه المرجو في الإدالة.(4/454)
تطيلة وطرسونة
وقال ابن اليسع: أخذ العدو مدينة تطلية وأختها طرسونة سنة أربع وعشرين وخمسمائة.
بلنسية والقنبيطور
ولما صار أمر بلنسية إلى الفقيه القاضي أبي أحمد ابن جحاف قاضيها صيرها لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فحصره بها القادر بن ذي النون الذي مكن الأذفونش من طليطلة، فهجم عليه القاضي في لمة من المرابطين، وقتله، ودفع ابن جحاف لما لم يعهد من تدبير السلطان، ورجعت عنه طائفة الملثمين الذين كان يعتد بهم، وجعل يستصرخ إلى أمير المسلمين فيبطئ عليه، وفي أثناء ذلك أنهض يوسف بن أحمد بن هود صاحب سرقسطة ردريق الطاغية للاستيلاء على بلنسية، فدخلها، وعاهده القاضي ابن جحاف، واشترط عليه إحضار ذخيرة كانت للقادر بن ذي النون، فأقسم عليه أنها ليست عنده، فاشترط عليه أنه إن وجدها عنده قتله، فاتفق أنه وجدها عنده، فأحرقه بالنار، وعاث في بلنسية (1) ، وفيها يقول ابن خفاجة حينئذ:
عاثت بساحتك الظبا يا دار ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر طال اعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها لا أنت أنت ولا الديار ديار
وكان استيلاء القنبيطور - لعنه الله تعالى - عليها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقيل: في التي قبلها، وبه جزم ابن الأبار قائلاً: فتم حصار القنبيطور إياها
__________
(1) راجع الخبر عن حادثة بلنسية في ابن عذاري 4: 31 - 42 والذخيرة (3: 30 - 33) .(4/455)
عشرين شهراً، وذكر أنه دخلها صلحاً، وقال غيره: إنه دخلها عنوة، وعاث فيها، وممن أحرق فيها الأديب أبو جعفر ابن البني (1) الشاعر المشهور رحمه الله تعالى وعفا عنه، فوجه أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين الأمير أبا محمد مزدلي ففتحها الله تعالى على يديه سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وتوالى عليها أمراء الملثمين، ثم صارت ليحيى بن غانية الملثم حين ولي جميع شرق الأندلس، فقدم عليها أخاه عبد الله بن غانية، ولما ثارت الفتنة في المائة السادسة أخرجه منها مروان بن عبد العزيز، إلى أن قام عليه جيش بلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وبايعوا لابن عياض ملك شرق الأندلس، ففر مروان إلى المرية، ثم رجعت بلنسية إلى أبي عبد الله ابن مردنيش ملك شرق الأندلس بعد ابن عياض، وقدم عليه (2) أخاه أبا الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش، إلى أن رجع أبو الحجاج إلى جهة بني عبد المؤمن، إلى أن ولي عليها السيد أبو زيد عبد الرحمن ابن السيد أبي عبد الله ابن أبي حفص ابن أمير المسلمين عبد المؤمن بن علي، فلما ثار العادل بمرسية تمنع واعتز، وأظهر طاعة في باطنها معصية، ودام على ذلك مع أبي العلاء المأمون، وكان قائد الأعنة المشار إليه في الدفاع عن بلنسية الأمير زيان بن أبي الحملات ابن أبي الحجاج ابن مردنيش، فأخرجه من بلنسية، وملكه، وفر السيد إلى النصارى.
نهاية بلنسية
ولم يزل أمر بلنسية يضعف باستيلاء العدو على أعمالها إلى أن حصرها ملك برشلونة النصراني، فاستغاث زيان بصاحب إفريقية أبي زكريا ابن أبي حفص،
__________
(1) دوزي: أبو جعفر البتي وكذلك كتب في التكملة المطبوعة؛ ولكن سجع ابن سعيد يدل على أن بنه بالنون " كتاب المنه في حل قرية بنه " وهي من قرى بلنسية؛ وقد سبق أن أشرت إلى أن البني الذي حرقه القنبيطور هو غير البني الذي ترجم له صاحب القلائد.
(2) عليه: سقطت من ص.(4/456)
وأوفد عليه في هذه الرسالة كاتبه الشهير أبا عبد الله ابن الأبار القضاعي صاحب كتاب التكملة وإعتاب الكتاب وغيرهما، فقام بين يدي السلطان منشداً قصيدته السينية الفريدة التي فضحت من باراها، وكبا دونها من جاراها، وهي (1) :
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وحاش مما تعانيه حشاشتها فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزراً للحادثات وأمسى جدها تعسا
في كل شارقة إلمام بائقة يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكل غاربة إجحاف نائبة تثني الأمان حذاراً والسرور أسى
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم إلا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسية منها وقرطبة ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا
مدائن حلها الإشراك مبتسماً جذلان، وارتحل الإيمان مبتئسا
وصيرتها العوادي العائثات بها يستوحش الطرفمنها ضعف ما أنسا
فمن دساكر كانت دونها حرسا ومن كنائس كانت قبلها كنسا
يا للمساجد عادت للعدا بيعاً وللنداء غدا أثناءها جرسا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها مدارساً للمثاني أصبحت درسا
وأربعاً نمنمت أيدي الربيع لها ما شئت من خلع موشية وكسا
كانت حدائق للأحداق مونقة فصوح النضر من أدواحها وعسا
وحال ما حولها من منظر عجب يستجلس الركب أو يستركب الجلسا
سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا عيث الدبا في مغانيها التي كبسا
__________
(1) أورد ابن خلدون (6: 283) هذه القصيدة، وانظر أزهار الرياض 2: 207.(4/457)
وابتز بزتها مما تحيفها تحيف الأسد الضاري لما افترسا
فأين عيش جنيناه بها خضراً وأين عصر جليناه بها سلسا
محا محاسنها طاغ أتيح له ما نام عن هضمها حيناً ولا نعسا
ورج أرجاءها لما أحاط بها فغادر الشم من أعلامها خنسا
خلا له الجو فامتدت يداه إلى إدراك ما لم تطأ رجلاه مختلسا
وأكثر الزعم بالتثليث منفرداً ولو رأى راية التوحيد ما نبسا
صل حبلها أيها المولى الرحيم فما أبقى المراس لها حبلاً ولامرسا
وأحي ما طمست منها العداة كما أحييت من دعوة المهدي ما طمسا
أيام صرت لنصر الحق مستبقاً وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا
وقمت فيها بأمر الله منتصراً كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا
تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم والصبح ماحية أنواره الغلسا
وتقتضي الملك الجبار مهجته يوم الوغى جهرة لا ترقب الخلسا
هذي رسائلها تدعوك من كثب وأنت أفضل مرجو لمن يئسا
وافتك جارية بالنجح راجية منك الأمير الرضى والسيد الندسا
خاضت خضارة (1) يعليها ويخفضها ... عبابه فتعاني اللين والشرسا وربما سبحت والريح عاتية كما طلبت بأقصى شده الفرسا
تؤم يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص مقبلة من تربه القدسا
ملك تقلدت الأملاك طاعته ديناً ودنيا فغشاها الرضى لبسا
من كل غاد على يمناه مستلماً وكل صاد إلى نعماه ملتمسا
مؤيد لو رمى نجماً لأثبته ولو دعا أفقاً لبى وما احتبسا
تالله إن الذي ترجى السعود له ما جال في خلد يوماً ولا هجسا
إمارة يحمل المقدار رايتها ودولة عزها يستصحب القعسا
__________
(1) خضارة: البحر.(4/458)
يبدي النهار بها من ضوئه شنباً ويطلع الليل من ظلمائه لعسا
ماضي العزيمة والأيام قد نكلت طلق المحيا ووجه الدهر قد عبسا
كأنه البدر والعلياء هالته تحف من حوله شهب القنا حرسا
تدبيره وسع الدنيا وما وسعت وعرف معروفه واسى الورى وأسا
قامت على العدل والإحسان دولته وأنشرت من وجود الجود ما رمسا
مبارك هديه باد سكينته ما قام إلا إلى حسنى وما جلسا
قد نوره الله بالتقوى بصيرته فما يبالي طروق الخطب ملتبسا
برى العصاة وراش الطائعين فقل في الليث مفترساً والغيث مرتجسا
ولم يغادر على سهل ولا جبل ... حياً لقاحاً (1) إذا وافيته بخسا فرب أصيد لا تلفي به صيداً ورب أشوس لا تلقى له شوسا
إلى الملائك ينمى والملوك معاً في نبعة أثمرت للمجد ما غرسا
من ساطع النور صاغ الله جوهره وصان صيقله أن يقرب الدنسا
له الثرى والثريا خطتان فلا أعز من خطتيه ما سما ورسا
حسب الذي باع في الأخطار يركبها إليه محياه أن البيع ما وكساد
إن السعيد امرؤ ألقى بحضرته عصاه محتزماً بالعدل محترسا
فظل يوطن من أرجائها حرماً وبات يوقد من أضوائها قبسا
بشرى لعبد إلى الباب الكريم حدا ... آماله ومن العذب (2) المعين حسا كأنما يمتطي واليمن يصحبه من البحار طريقاً نحوه يبسا
فاستقبل السعد وضاحاً أسرته من صفحة فاض منها النور وانعكسا
وقبل الجود طفاحاً غواربه من راحة غاص فيها البحر وانغمسا
يا أيها الملك المنصور أنت لها علياء توسع أعداء الهدى تعسا
وقد تواترت الأنباء أنك من يحيي بقتل ملوك الصفر أندلسا
__________
(1) الحي اللقاح: الذين لا يدينون للملوك.
(2) ق: العد؛ والعد: البئر القديمة الغزيرة الماء.(4/459)
طهر بلادك منهم إنهم نجس ... ولا طهارة مل لم تغسل (1) النجسا وأوطئ الفيلق الجرار أرضهم حتى يطأطئ رأساً كل من رأسا
وانصر عبيداً بأقصى شرقها شرقت ... عيونهم أدمعاً تهمي زكا وخسا (2) هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت داء متى لم تباشر حسمه انتكسا
فاملأ هنيئاً لك التأييد ساحتها جرداً سلاهب أو خطية دعسا
واضرب لها موعداً بالفتح ترقبه لعل يوم الأعادي قد أتى وعسى
فبادر السلطان بإعانتهم (3) ، وشحن الأساطيل بالمدد إليهم، من المال والأقوات والكسى، فوجدهم في هوة الحصار، إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية، ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس، وكان تغلب العدو على بلنسية صلحاً يوم الثلاثاء السابع عشر لصفر من سنة ست وثلاثين وستمائة، فهزت هذه القصيدة من الملك عطف ارتياح، وحركت من جنانه أخفض جناح، ولشغفه بها وحسن موقعها منه أمر شعراء حضرته بمجاوبتها، فجاوبها غير واحد، وحال العدو بين بلنسية وبينه، وتعاهد أهلها مع النصراني على أن يسلمهم في أنفسهم، وذلك سنة سبع وثلاثين وستمائة، أعادها الله تعالى للإسلام.
كتندة - 514
وقد كانت وقعة كتندة (4) على المسلمين قبل هذا التاريخ بمدة، وكتندة - ويقال قتندة بالقاف - من حيز دورقة من عمل سرقسطة من الثغر، وكانت
__________
(1) قال المقري في الأزهار: " نغسل النجسا " هكذا ثبت بالنون كما رايته في بعض النسخ العتيقة وهو أصوب مما وقع بخط بعضهم بالتاء، لأن مثله لا يصلح للمخاطبات السلطانية، ولم يشتهر عند أكثر الناس إلا بالتاء، والصواب ما قدمته أنه بالنون، والله أعلم.
(2) الزكا: الزوج، والخسا: الفرد.
(3) انظر ابن عذاري 3: 344 - 345 (ط. المغرب) .
(4) في الخبر عن وقعة كتندة راجع معجم أصحاب الصدفي (7 - 8) ومعجم ياقوت (قتندة) .(4/460)
الهزيمة على المسلمين جبرهم الله تعالى، قتل فيها من المطوعة نحو من عشرين قتيلاً، ولم يقتل فيها من العسكر أحد، وكان على المسلمين الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الذي ألف الفتح باسمه قلائد العقيان وكانت سنة أربع عشرة وخمسمائة، وممن حضرها الشيخ أبو علي الصدفي السابق الذكر، وقرينه في الفضل أبو عبد الله ابن الفراء خرجا غازيين، فكانا ممن فقد فيها.
وقال غير واحد: إن العسكر انصرف مفلولاً إلى بلنسية، وإن القاضي أبا بكر ابن العربي كان ممن حضرها، وسئل مخلصه منها عن حاله، فقال: حال من ترك الخباء والعباء، بمعنى أنه ذهب جميع ما لديه.
لوشة - 622
ودخل العدو لوشة سنة اثنتين وعشرين وستمائة (1) ، مع السيد أبي محمد البياسي في الفتنة التي كانت بينه وبين العادل، فعاثوا فيها أشد العيث، ثم ردها المسلمون إلى أن أخذت بعد ذلك كما يأتي.
المرية - 542
ودخل العدو مدينة المرية يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، عنوة، وحكى أبو زكريا الجعيدي (2) عن أبي عبد الله بن سعاد الشاطبي المعمر أن أبا مروان ابن ورد أتاه في النوم شيخ عظيم الهيئة فرمى يديه في عضديه من خلفه، وهزه هزاً عنيفاً حتى أرعبه، وقال له قل:
__________
(1) سنة 623 عند ابن عذاري (3: 249) .
(2) الجعيدي هو يحيى بن زكريا بن علي بن يوسف الأنصاري البلنسي، توفي سنة 619 (التكملة رقم: 2063) . وفي ص: الحميدي، وهو خطأ.(4/461)
ألا أيها المغرور ويحك لاتنم فلله في ذا الخلق أمر قد انبهم
فلا بد أن يرزوا بأمر يسوءهم فقد أحدثوا جرماً على حاكم الأمم
قال: وكان هذا في سنة أربعين وخمسمائة، فلم يمض إلا يسير حتى تغلب الروم على المرية في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، بعد تلك الرؤيا بعامين أو نحوهما، وهو مما حكاه ابن الأبار الحافظ في كتاب التكملة له.
ترجمة الرشاطي
وفي وقعة المرية هذه استشهد الرشاطي الإمام المشهور (1) ، وهو أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن خلف بن أحمد بن عمر، اللخمي الرشاطي، المريي، وكانت له عناية كبيرة بالحديث والرجال والرواة والتواريخ، وهو صاحب كتاب اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار أخذه الناس عنه، وأحسن فيه، وجمع وما قصر، وهو على أسلوب كتاب أبي سعد ابن السمعاني الحافظ المسمى الأنساب، وولد الرشاطي سنة 466 بقرية من أعمال مرسية يقال لها أوريواله - بفتح (2) الهمزة، وسكون الواو، وكسر الراء، وضم المثناة التحتية، وبعد الألف لام مفتوحة، وبعدها هاء - وتوفي شهيداً بالمرية عند تغلب العدو عليها صبيحة الجمعة العشرين من جمادى الأولىسنة 542. والرشاطي - بضم الراء، وفتح الشين الخففة - وذكر هو أن أحد أجداده كان في جسمه شامة كبيرة، وكانت حاضنته عجمية، فإذا لاعبته قالت: رشاطة (3) ، وكثر ذلك منها، فقيل له: الرشاطي؛ انتهى ملخصاً من وفيات الأعيان وبعضه بالمعنى.
__________
(1) سقطت ترجمة الرشاطي من التكملة وهي وارد في معجم أصحاب الصدفي (رقم: 200) وابن خلكان 2: 291 - 292 وعنه ينقل المقري؛ وتذكرة الحفاظ: 1307.
(2) ابن خلكان: بضم.
(3) يعني Roseta.(4/462)
استرداد المرية وضياعها نهائياً
وبعد أخذ النصارى المرية هذه المرة رجعت إلى المسلمين، واستنقذها الله تعالى على يد الموحدين، وبقيت بأيدي أهل الإسلام سنين، وكان أول الولاة عليها حين استولى عليها أمير المسلمين عبد المؤمن بن علي رجلاً يقال له يوسف بن مخلوف، فثار عليه أهل المرية وقتلوه وقدموا على أنفسهم الرميمي، فأخذها النصارى منه عنوة كما ذكرنا، وأحصي عدد من سبي من أبكارها فكان أربعة عشر ألفاً.
وقال ابن حبيش (1) آخر الحفاظ بالأندلس: كنت في وقعة المرية لما وقع الاستيلاء عليها أعادها الله تعالى للإسلام، فتقدمت إلى زعيم الروم السليطين، وهو ابن بنت الأذفونش، وقلت له: إني أحفظ نسبك منك إلى هرقل، فقال لي: قل، فذكرته له، فقال لي: اخرج أنت وأهلك ومن معك طلقاء بلا شيء.
وابن حبيش شيخ ابن دحية وابن حوط الله وأبي الربيع الكلاعي، رجمهم الله تعالى.
ولما أخذت المرية أقبل إليها السيدان أبو حفص وأبو سعيد ابنا أمير المؤمنين فحصرا النصارى بها، وزحف إليهما أبو عبد الله ابن مردنيش ملك شرق الأندلس محارباً لهما، فكانا يقاتلان النصارى والمسلمين داخلاً وخارجاً، ثم رأى ابن مردنيش العار على نفسه في قتالهم مع كونهم يقاتلون النصارى، فارتحل، فقال النصارى: ما رحل ابن مردنيش إلا وقد جاءهم مدد، فاصطلحوا، ودخل الموحدون المدينة، وقد خربت وضعفت، إلى أن أحيا رمقها الرئيس أبو العباس أحمد بن كمال، وذلك أن أخته أخذت سبية في دخلة عبد المؤمن
__________
(1) يعني أبا القاسم الإمام الحافظ عد الرحمن بن الأنصاري نزيل مرسية، وحبيش هو خاله نسب إليه، ولد بالمرية سنة 504 وتوفي سنة 584 وقد ترجم له كل من ابن الأبار (رقم: 1617) وابن الزبير (انظر تذكرة الحفاظ: 1353) .(4/463)
لبجانة، فاحتلت بقصره واعتنت بأخيها، فولاه بلده، فصلح به حالها، وكان جواداً حسن المحاولة كثير الرفق، واشتهر من ولاتها في مدة بني عبد المؤمن في المائة السابعة الأمير أبو عمران ابن أبي حفص عم ملك إفريقية أبي زكريا.
ولما كانت سنة خمس وعشرين وستمائة وثارت الأندلس على مأمون بني عبد المؤمن بسبب قيام ابن هود بمرسية قام في المرية بدعوة ابن هود أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي يحيى ابن الرميمي، وجده أبو يحيى هو الذي أخذها النصارى من يده، ولما قام بدعوة ابن هود وفد عليه بمرسية وولاه وزارته، وصرف إليه سياسته، وآل أمره معه إلى أن أغراه بأن يحصن قلعة مرية، ويجعلها له عدة، وهو يبغي ذلك عدة لنفسه، وترك ابن هود فيها جارية تعلق ابن الرميمي بها، واجتمع معها، فبلغ ذلك ابن هود، فبادر إلى المرية، وهو مضمر الإيقاع بابن الرميمي، فتغدى به قبل أن يتعشى به، وأخرج من قصره ميتاً، ووجهه في تابوت إلى مرسية في البحر، واستبد ابن الرميمي بملك المرية، ثم ثار عليه ولده، وآل الأمر بعد أحوال إلى أن تملكها ابن الأحمر صاحب غرناطة، وبقيت في يد أولاده بعده إلى أن أخذها العدو الكافر عندما طوي بساط بلاد الأندلس كما سننبه عليه، والله غالب على أمره.
شعر في العقاب
وما أحسن قول أبي إسحاق إبراهيم بن الدباغ الإشبيلي في هزيمة العقاب بإشبيلية:
وقائلة أراك تطيل فكراً كأنك قد وقفت إلى الحساب
فقلت لها أفكر في عقاب غدا سبباً لمعركة العقاب
فما في أرض أندلس مقام وقد دخل البلا من كل باب(4/464)
ابن وزير
وقول القائد أبي بكر ابن الأمير ملك شلب أبي محمد عبد الله (1) بن وزير يخاطب منصور بني عبد المؤمن وقد التقى هو وأصحابه مع جماعة من الفرنج فتناصفوا، ثم كان الظفر للمسلمين:
ولما تلاقينا جرى الطعن بيننا فمنا ومنهم طائحون عديد
وجال غرار الهند فينا وفيهم فمنا ومنهم قائم وحصيد
فلا صدر إلا فيه صدر مثقف وحول الوريد للحسام ورود
صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا كلانا على حر الجلاد جليد
ولكن شددنا شدة فتبلدوا ومن يتبلد لا يزال يحيد
فولوا وللسمر الطوال بهامهم ركوع وللبيض الرقاق سجود
وكان المذكور من فرسان الأندلس، وكان ابنه الفاضل أبو محمد غير مقصر عنه فروسية وقدراً وأدباً وشعراً، وولاه ناصر بني عبد المؤمن مدينة قصر أبي دانس في الجهة الغربية، وقتله ابن هود بإشبيلية، وزعم أنه يروم القيام عليه، ومن شعره قوله في ابن عمرو صاحب أعمال إشبيلية:
لا تيأسن من الخلافة بعدما ولي ابن عمرو خطة الأشراف
تباً لدهر هذه أفعاله يضع النوافج في يدي كناف
ضياع ماردة
رجع - ودخل العدو كورة ماردة من محمد بن هود سنة ست وعشرين
__________
(1) قد قدمت التعليق على هذا الاسم، وهو أبو بكر ابن أبي محمد سيداري بن عبد الوهاب بن وزير القيسي؛ ومن بني وزير عبد الله بن وزير الذي كان يدافع عن حصن أبي دانس لما كان البرتغاليون يحاولون الاستيلاء عليه سنة 614.(4/465)
وستمائة، وكانت مفتتح المصائب على يده، أعادها الله تعالى للإسلام، وهي قاعدة بلاد الجوف في مدة العرب والعجم، والحضرة المستجدة بعدها هي مدينة بطليوس، وبين ماردة وقرطبة خمسة أيام.
المظفر وابنه المتوكل
وملك بطليوس وماردة وما إليها المظفر بن المنصور بن الأفطس مشهور، وهو من رجال القلائد والذخيرة وهو أديب ملوك عصره بلا مدافع ولا منازع، وله التصنيف الرائق، والتأليف الفائق، المترجم بالتذكر المظفري خمسون مجلداً اشمل على فنون وعلوم من مغاز وسير ومثل وأخبار وجميع علوم الأدب، وقال يوماً: والله ما يمنعني من إظهار الشعر إلا كوني لا أقول مثل قول أبي العشائر ابن حمدان (1) :
أقرأت منه ما تخط يد الوغى والبيض تشكل والأسنة تنقط
وقول أبي فراس ابن عمه (2) :
وجررنا العوالي في مقام (3) ... تحدث عنه ربات الحجال كأن الخيل تعلم من عليها ففي بعض على بعض تعالى
فأين هذا من قولي:
أنفت من المدام لأن عقلي أعز علي من أنس المدام
ولم أرتح إلى روض وزهر ولكن للحمائل والحسام
__________
(1) يتيمة الدهر 1: 210.
(2) ديوان أبي فراس: 284.
(3) الديوان: وعدت أجر رمحي عن مقام.(4/466)
إذا لم أملك الشهوات قهراً ... فلم أبغي الشفوف على الأنام (1) وله رحمه الله تعالى:
يا لحظه زد فتوراً تزد علي اقتدارا
فالحظ كالسيف أمضا هـ ما يرق غرارا
وابنه المتوكل من رجال القلائد والمسهب وكان في حضرة بطليوس كالمعتمد بن عباد بإشبيلية، قد أناخت الآمال بحضرتهما، وشدت رحال الآداب إلى ساحتهما، يتردد أهل الفضائل بينهما كتردد النواسم بين جنتين، وينظر الأدب منهما عن مقلتين، والمعتمد أشعر، والمتوكل أكتب.
شعر لأبي عبد الله الفازازي
رجع - وقال الفاضل الكاتب أبو عبد الله محمد الفازازي، وقيل: إنها وجدت برقعة في جيبه يوم موته:
الروم تضرب في البلاد وتغنم والجور يأخذ ما بقي والمغرم
والمال يورد كله قشتالة والجند تسقط والرعية تسلم
وذوو التعين ليس فيهم مسلم إلا معين في الفساد مسلم
أسفي على تلك البلاد وأهلها الله يلطف بالجميع ويرحم
وقيل: إن هذه الأبيات رفعت إلى سلطان بلده، فلما وقف عليها قال بعدما بكى: صدق رحمه الله تعالى، ولو كان حياً ضربت عنقه.
__________
(1) سقط البيت من ص.(4/467)
ترجمة أبي زيد الفازازي
وهذا الفازازي أخو الشاعر الشهير الكاتب الكبير أبي زيد عبد الرحمن الفازازي (1) صاحب الأمداح في سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، وهو كما قال فيه بعضهم: صاحب القلم الأعلى، والقدح المعلى، أبرع من ألف وصنف، وأبدع من قرط وشنف، فقد طاع القلم لبنانه، والنظم والنثر لبيانه، كان نسيج وحده رواية وأخباراً، ووحيد نسجه روية وابتكاراً، وفريد وقته خبراً وإخباراً، وصدر عصره إيرادا وإصدرًا، صاحب فهوم، ورافع ألوية علوم، أما الأدب فلا يسبق فيه مضماره، ولا يشق غباره، إن شاء إنشاء أنشى ووشى، سائل الطبع، عذب النبع، له في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، بدائع قد خضع لها البنيان وسلم، أعظم تلك المعجزات نظماً ونثراً، وأوجز في تحبير تلك الآيات البينات فجلا سحراً، ورفع للقوافي راية استظهاراً تخير فيه الأظهر، فعجم وعشر وشفع وأوتر، وأما الأصول فهي من فروعه، في متفرق منظومه ومنثور مجموعه، واما النسب، فإلى حفظه انتسب، وأما الأيام والدول، ففي تاريخه الأواخر والأول، وقد سبك من هذه العلوم في منثوره وموزونه، ما يشهد بإضافتها إلى فنونه، وله سماع في الحديث ورواية، وفهم بقوانينه ودراية، سمع من أبي الوليد بن عبد الرحمن بن بقي القاضي، ومن أبي الحسن جابر بن أحمد القرشي التاريخي، وهو آخر من حدث عنه، ومن أبي عبد الله التجيبي كثيراً وهو أول من سمع عنه في حياة الحافظ أبي الطاهر السلفي إذ قدم عليهم تلمسان، وأجازه الحافظ السهلي وابن خلف
__________
(1) هو عبد الرحمن بن يخلفتن بن أحمد اليجنشي الفازازي، ولد بقرطبة ونشأ بها ثم سكن تلمسان، وكان عالماً بالحديث متصرفاً في فنونه، كاتباً شاعراً مجوداً، مشاركاً في أصول الفقه، ذا معرفة بعلم الكلام، تجول ببلاد العدوة والأندلس كثيراً، وغلب عليه شعر الزهد والتصوف (التكملة رقم: 1641) .(4/468)
الحافظ وغيرهما، وولد بعد الخمسين والخمسمائة، وتوفي في مراكش سنة 637، رحمه الله تعالى، انتهى ملخصاً.
سقوط ميورقة عن ابن عميرة
رجع - ولما ثارت الأندلس على طائفة عبد المؤمن كان الوالي بجزيرة ميورقة أبو يحيى ابن أبي عمران التينمللي (1) فأخذها الفرنج منه، كذا قال ابن سعيد، وقال ابن الأبار: إنها أخذت يوم الاثنين الرابع عشر من صفر سنة سبع وعشرين وستمائة.
وقال المخزومي في تاريخ ميورقة (2) : إن سبب أخذها من المسلمين أن أميرها محمد بن علي بن موسى كان في الدولة الماضية أحد أعيانها، ووليها سنة ست وستمائة، واحتاج إلى الخشب المجلوب من اليابسة، فأنفذ طريدة بحرية وقطعة حربية، فعلم بها والي طرطوشة، فجهز إليها من أخذها، فعظم ذلك على الوالي، وحدث نفسه بالغزو لبلاد الروم، وكان ذلك رأياً مشؤوماً، ووقع بينه وبين الروم، وفي آخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وستمائة بلغه أن مسطحاً من برشلونة (3) ظهر على يابسة، ومركباً آخر من طرطوشة انضم إليه، فبعث ولده في عدة قطع إليه حتى نزل مرسى يابسة، ووجد فيه لأهل جنوة مركباً كبيراً، فأخذه وسار حتى وصل إلى المسطح، فقاتله وأخذه، وظن أنه غاب الملوك، وغاب عنه أنه أشأم من عاقر الناقة (4) ، وأن الروم لما بلغهم الخبر
__________
(1) ق: التيفلي.
(2) هو أبو المطرف ابن عميرة المخزومي، وقد ألف كتاباً في كائنة ميورقة قال فيه ابن عبد الملك: إنه نحا فيه منحى العماد في الفتح القمي، فالمقري هنا يلخص وينقل بتصرف. (انظر كتاب " أبو المطرف ابن عميرة " للأستاذ بن شريفة 287 - 291) .
(3) ص: برجلونة.
(4) هو قدار الذي يضرب به المثل في الشؤم.(4/469)
قالوا لملكهم وهو من ذرية أذفونش: كيف يرضى الملك بهذا الأمر ونحن نقاتل بنفوسنا وأموالنا فأخذ عليهم العهد بذلك، وجمع عشرين ألفاً من أهل البلاد، وجهز في البحر ستة عشر ألفاً، وشرط عليهم حمل السلاح، وفي سنة ست وعشرين وستمائة اشتهر أمر هذه الغزوة فاستعد لها الوالي، وميز نيفاً على ألف فارس من فرسان الحضر والرعية مثلهم، ومن الرجالة ثمانية عشر ألفاً، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة، ومن سوء الاتفاق أن الوالي أمر صاحب شرطته أن يأتيه بأربعة من كبراء المصر، فساقهم وضرب أعناقهم، وكان فيهم ابنا خاله، وخالهما أبو حفص ابن سيري ذو المكانة الوجيهة، فاجتمعت الرعية إلى ابن سيري، فأخبره بما نزل، وعزوه فيمن قتل وقالوا: هذا أمر لا يطاق، ونحن كل يوم إلى الموت نساق، وعاهدوه على طلب الثأر، وأصبح الوالي يوم الجمعة منتصف شوال، والناس من خوفه في أهوال، ومن أمر العدو في إهمال، فأمر صاحب شرطته بإحضار خمسين من أهل الوجاهة والنعمة فأحضرهم، وإذا بفارس على هيئة النذير دخل إلى الوالي، وأخبره بأن الروم قد أقبلت، وأنه عد فوق الأربعين من القلوع، وما فرغ من إعلامه حتى ورد آخر من جانب آخر وقال: إن أسطول العدو قد تظاهر، وقال: إنه عد سبعين شراعاً، فصح الأمر عنده، فسمح لهم بالصفح والعفو، وعرفهم بخبر العدو، وأمرهم بالتجهز، فخرجوا إلى دورهم، كأنما نشروا من قبورهم، ثم ورد الخبر بأن العدو قرب من البلد، فإنهم عدوا مائة وخمسين قلعاً، ولما عبر وقصد المرسى أخرج الوالي جماعة تمنعهم النزول، فباتوا على المرسى في الرجل والخيل، وفي الثامن عشر من شوال وهو يوم الاثنين وقع المصاف، وانهزم المسلمون، وارتحل النصارى إلى المدينة، ونزلوا منها على الحريبة الحزينة من جهة باب الكحل، ولم يزل الأمر في شدة وقد أشرفوا على أخذ البلد، ولما رأى ابن سيري (1) أن العدو قد استولى على البلد خرج
__________
(1) ق: ابن شيري.(4/470)
إلى البادية، ولما كان يوم الجمعة الحادي عشر من صفر قاتلوا البلد قتالاً شديداً، ولما كان يوم الأحد لأخذ البلد، وأخذ منه أربعة وعشرون ألفاً قتلوا على دم واحد، وأخذ الوالي وعذب، وعاش بعد ذلك خمسة وأربعين يوماً، ومات تحت العذاب، وأما ابن سيري فإنه صعد إلى الجبل، وهو منيع لا ينال ون تحصن فيه، وجمع عنده ستة عشر ألف مقاتل، وما زال يقاتل إلى أن قتل يوم الجمعة، عاشر ربيع الآخر سنة 628، وجده من آل جبلة بن الأيهم الغساني، وأما الحصون فأخذت في آخر رجب سنة 628، وفي شهر شعبان لحق من نجا من المسلمين إلى بلاد الإسلام، انتهى ما ذكره ابن عميرة المخزومي ملخصاً.
وكان بميورقة جماعة أعلام وشعراء، ومن شعر ابن عبد الولي الميورقي (1) :
هل أمان من لحظك الفتان وقوام يميل كالخيزران
مهجتي منك في جحيم، ولكن جفوني قد متعت في جناني
فتنتني لواحظ ساحرات لست أخشى من فتنة الشيطان
سعيد بن حكم في ميورقة
ولما استولى النصارى على ميورقة في التاريخ المتقدم سار بجزيرة منورقة، وهي قريبة منها، الجواد العادل العالم أبو عثمان سعيد بن حكم القرشي، وكان وليها من قبل الوالي أبي يحيى المقتول، وتصالح مع النصارى على ضريبة معلومة، واشترط أن لا يدخل جزيرته أحد من النصارى، وضبطها أحسن ضبط، قال أبو الحسن علي بن سعيد: أخبرني أحد من اجتمع به أنه لقي منه براً حبب إليه الإقامة في تلك الجزيرة المنقطعة، وذكر أنه ركب معه فنظر إلى حمالة سيف
__________
(1) ترجمته وشعره في المغرب 2: 468.(4/471)
ضيقة وقد أثرت في عنقه، فأمر له بإحسان وغنباز، وكتب معه:
حمالة السيف توهي جيد حاملها لا سيما يوم إسراع وإنجاز
وخير ما استعمل الإنسان يومئذ لحسم علتها إلباس غنباز
والغنباز عند أهل المغرب صنف من الملبوس غليظ يستر العنق.
وأصل أبي عثمان من مدينة طبيرة من غرب الأندلس، وقد ألفت باسمه التآليف المشهورة بالمغرب ككتاب روح الشحر وروح الشعر وغيره، وأخذ العدو منورقة بعد مدة.
سقوط عدة مدن
وأخذ العدو جزيرة شقر صلحاً سنة 639 في آخرها.
وأخذ العدو - دمره الله تعالى - مدينة سرقسطة يوم الأربعاء لأربع خلون من رمضان سنة اثني عشرة وخمسمائة.
وكان استيلاء الإفرنج على شرق الأندلس شاطبة وغيرها وإجلاءهم من يشاركهم من المسلمين فيما تغلبوا عليه منها في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة.
وكان استيلاء العدو - دمره الله تعالى - على مدينة قرطبة يوم الأحد الثالث والعشرين لشوال من سنة ست وثلاثين وستمائة.
وكان تملك العدو مرسية صلحاً ظهر يوم الخميس العاشر من شوال، قدم أحمد بن محمد بن هود ولد والي مرسية بجماعة من وجوه النصارى فملكهم إياها صلحاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وحصر العدو إشبيلية سنة خمس وأربعين وستمائة. وفي يوم الاثنين الخامس من شعبان للسنة بعدها ملكها الطاغية صاحب قشتالة صلحاً بعد منازلتها حولاً كاملاً وخمسة أشهر أو نحوها. وقال ابن الأبار في ترجمة أبي علي الشلوبين من التكملة(4/472)
ما صورته: وتوفي بين يدي منازلة الروم إشبيلية ليلة الخميس منتصف صفر سنة خمس وأربعين وستمائة، وفي العام القابل ملكها الروم.
موقعة أنيشة - 634 ترجمة أبي الربيع ابن سالم
وكانت وقعة أنيجة (1) التي قتل بها الحافظ أبو الربيع الكلاعي رحمه الله تعالى يوم الخميس لعشر بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستمائة، ولم يزل رحمه الله تعالى متقدماً أمام الصفوف زحفاً إلى الكفار مقبلاً على العدو ينادي بالمنهزمين: أعن الجنة تفرون حتى قتل صابراً محتسباً برد الله تعالى مضجعه، وكان دائماً يقول: إن منتهى عمره سبعون سنة لرؤيا رآها في صغره، فكان كذلك، ورثاه تلميذه الحافظ أبو عبد الله ابن الأبار بقصيدته الميمية الشهيرة التي أولها (2) :
ألما بأشلاء العلا والمكارم تقد بأطراف القنا والصوارم
وعوجا عليها مأرباً وحفاوة (3) ... مصارع خصت بالطلى والجماجم نحيي وجوهاً في الجنان وجيهة [بما لقيت حمراً وجوه الملاحم]
[وأجساد إيمان كساها نجيعها] (4) ... مجاسد من نسج الظبي واللهاذم وهي طويلة.
ومن شعر الحافظ أبي الربيع المذكور (5) :
__________
(1) انظر الروض المعطار: (أنيشة) .
(2) أوردها ابن عبد الملك في الذيل 4: 90 - 95.
(3) الأصول: ومفازة.
(4) صوبناه عن الذيل بزيادة ما بين معقفين.
(5) الذيل والتكملة 4: 88.(4/473)
تولت ليال للغواية جون ووافى صباح للرشاد مبين
ركاب شباب أزمعت عنك رحلة وجيش مشيب جهزته منون
ولا أكذب الرحمن فيما أجنه وكيف ولا يخفى عليه جنين
ومن لم يخل أن الرياء يشينه فمن مذهبي أن الرياء يشين
لقد ريع قلبي للشباب وفقده كما ريع بالعلق الفقيد ضنين
وآلمني وخط المشيب بلمتي فخطت بقلبي للشجون فنون
وليل شبابي كان أنضر منظراً وآنق مهما لاحظته عيون
فآهاً على عيش تكدر صفوه وأنس خلا منه صفا وحجون
ويا ويح فودي أو فؤادي كلما تزيد شيبي كيف بعد يكون
حرام على قلبي سكون بغرة (1) ... وكيف مع الشيب الممض سكون وقالوا شباب المرء شعبة جنة فما لي عراني للمشيب جنون
وقالوا شجاك الشيب حدثان ما أتى ولم يعلموا أن الحديث شجون
وقوله (2) :
أمولى الموالي ليس غيرك مولى ... وما أحد يا رب منك بذا (3) أولى تبارك وجه وجهت نحوه المنى فأوزعها شكراً وأوسعها طولا
وما هو إلا وجهك الدائم الذي أقل حلى عليائه يخرس القولا
تبرأت من حولي إليك وقوتي فكن قوتي في مطلبي وكن الحولا
وهب لي من الرضا ما لي سوى ذاك مبتغى ولو لقيت نفسي على نيله الهولا
وكان - رحمه الله تعالى - حافظاً للحديث، ومبرزاً في نقده تام المعرفة
__________
(1) الذيل: يفره.
(2) الذيل: 87.
(3) ق: بنا.(4/474)
بطرقه، ضابطاً لأحكام أسانيده، ذاكراً لرجاله، ريان من الأدب، خطب ببلنسية، واستقضى، وكان مع ذلك من أولي الحزم والبسالة والإقدام والجزالة، حضر الغزوات وباشر القتال بنفسه وأبلى بلاء حسناً، وروى عن أبي القاسم ابن حبيش وطبقته، وصنف كتباً منها مصباح الظلم في الحديث، والأربعون عن أربعين شيخاً لأربعين من الصحابة، والأربعون السباعية والسباعيات من حديث الصدفي، وحلية الأمالي في الموافقات والعوالي و " تحفة الوراد ونجعة الرواد " (1) والمسلسلات والإنشادات وكتاب الاكتفاء في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازي الثلاثة الخلفاء، وميدان السابقين وحلبة الصادقين المصدقين في غرض كتاب الاستيعاب، ولم يكمله، والمعجم فيمن وافقت كنيته [كنية] زوجه من الصحابة، والإعلام بأخبار البخاري الإمام والمعجم في مشيخة أبي القاسم ابن حبيش، و " برنامج رواياته " (2) وجنى الرطب في سني الخطب ونكتة الأمثال ونفثة السحر الحلال، و " جهد النصيح (3) في معارضة المعري في خطبة الفصيح "، والامتثال لمثال المبهج في ابتداع الحكم واختراع الأمثال ومفاوضة القلب العليل ومنابذة الأمل الطويل بطريقة المعري في ملقى السيل، ومجاز فتيا اللحن للاحن الممتحن مائة مسألة ملغزة، ونتيجة الحب الصميم وزكاة المنثور والمنظوم في مثال النعل النبوية على لابسها أفضل الصلاة والسلام، قال ابن رشيد: لو قال وزكاة النثير والنظيم لكان أحسن، وله كتاب الصحف المنشرة في القطع المعشرة وديوان رسائل سفر، وديوان شعره سفر (4) ، وكتب إلى الأديب الشهير أبي بحر صفوان بن إدريس المرسي عقب انفصاله من
__________
(1) سماه ابن عبد الملك: تحفة الرواد في العوالي والاضداد.
(2) الذيل: مروياته.
(3) الذيل: وجهد النصيح وحظ المنيح.
(4) الذيل: سفير.(4/475)
بلنسية سنة 587:
أحن إلى نجد ومن حل في نجد وماذا يغني حنيني أو يجدي
وقد أوطنوها وادعين وخلفوا محبهم رهن الصبابة والوجد
تبين بالبين اشتياقي إليهم ... ووجدي فساوى ما أجن الذي أبدي (1) وضاقت علي الأرض حتى كأنها وشاح على بخصر أو سوار على زند
إلى الله أشكو مما ألاقي من الجوى وبعض الذي لاقيته من جوى يردي
فراق أخلاء وصد أحبة كأن صروف الدهر كانت على وعد
فيا سرحتي نجد، نداء متيم له أبداً شوق إلى سرحتي نجد
ظمئت فهل طل يبرد لوعتي ضحيت فهل ظل يسكن من وجدي
ويا زمناً قد بان غير مذمم لعل لأنس قد تصرم من رد
ليالي نجني الأنس من شجر المنى ونقطف زهر الوصل من شجر الصلد
وسقياً لإخوان بأكناف حاجز كرام السجايا لا يحولون عن عهد
وكم لي بنجد من سري ممجد ولا كابن إدريس أخي البشر والمجد
أخو همة كالزهر في بعد نيلها وذو خلق كالزهر غب الحيا العد
تجمعت الأضداد فيه حميدة فمن خلق سبط ومن حسب جعد
أيا راحلاً أودى بصبري رحيله وفلل من عزمي وثلم من حدي
أتعلم ما يلقى الفؤاد لبعدكم ألا مذ نأيتم ما يعيد ولا يبدي
فيا ليت شعري هل تعود لنا المنى وعيش كما نمنمت حاشيتي برد
عسى الله أن يدني السرور بقربكم فيبدو، ومنا الشمل منتظم العقد
ابن العربي ومعركة 527
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي في " أحكام القرآن " (2) عند تفسير
__________
(1) ق: وما أبدي.
(2) انظر أحكام القرآن ج 2: 943.(4/476)
قوله تعالى انفروا خفافاً وثقالاً ما صورته: ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله تعالى - سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا، وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا في عدد حدد الناس عدده فكان كثيراً، وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد في الششرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج عليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار، فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له، فغلبت الذنوب، ورجفت بالعاصي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره، وإن رأى المكيدة بجاره، فإن لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، عنوان على النهايات.
قصيدة الوقشي في مدح أبي يعقوب
وقال أبو جعفر الوقشي البلنسي (1) نزيل مالقة يمدح أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي:
أبت غير ماء بالنخيل ورودا وهامت به عذب الجمام برودا
وقالت لحاديها أثم زيادة على العشر في وردي له فأزيدا
غلبتك ما هذا القنوع وما أنا عهدتك لا تثنين عنه وريدا
أنوناً إذا ما كنت منه قريبة وضباً إذا ما كان عنك بعيداً
ردي حضرة الملك الظليل رواقه لعمري ففيها تحمدين ورودا
بحيث إمام الدين يوسع فضله جميع البرايا مبدئاً ومعيدا
__________
(1) البلنسي: سقطت من ق؛ وقد كان أبو جعفر الوقشي وزيراً لابن همشك، وهو ممدوح الرصافي البلنسي.(4/477)
أعاد إليها الأنس بعد شروده وأحيا لنا ما كان منه أبيدا
ولين أيام الزمان بعدله وكانت حديداً في الخطوب حديدا
فلا ليلة إلا يروقك حسنها ولا يوم إلا عاد يفضل عيدا
ومنها يصف حال الأندلس ويبعث على الجهاد:
ألا ليت شعري هل يمد لي المدى فأبصر شمل المشركين طريدا
وهل بعد يقضى بالنصارى بنصرة تغادرهم للمرهفات حصيدا
ويغزو أبو يعقوب في شنت ياقب يعيد عميد الكافرين عميدا
ويلقي على إفرنجهم عبء كلكل فيتركهم فوق الصعيد هجودا
يغادرهم جرحى وقتلى مبرحاً ركوعاً على وجه الفلا وسجودا
ويفتك من أيدي الطغاة نواعماً تبدلن من نظم الحجول قيودا
وأقبلن في خشن المسوح وطالما سحبن من الوشي الرقيق برودا
وغبر منهن التراب ترائباً وخدد منهن الهجير خدودا
فحق لدمعي أن يفيض لأزرق تملكها دعج المدامع سودا
ويا لهف نفسي من معاصم طفلة تجاور بالقد الأليم نهودا
ويا أسفاً ما إن يزال مردداً على شمل أعياد أعيد بديدا
وآهاً تمد الصوت منتحباً على خلو ديار لو يكون مفيدا
وقال في آخرها، وهو مما استحسنه الناس:
حملت من نظامي قلادة يلقبها أهل الكلام قصيدا
غدت يوم إنشاء القريض وحيدة كما قصدت في المعلوات وحيدا
ولما تمهدت الأندلس اعبد المؤمن وبنيه كان لهم فيها وقائع مع عدو الدين، واجتاز إليها عبد المؤمن. ثم لما ولي بعده ملكه ابنه يوسف دخل الأندلس سنة 566، وفي صحبته مائة ألف فارس من العرب الموحدين، فنزل في إشبيلية(4/478)
فخافه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش صاحب شرق الأندلس: مرسية وأعمالها وما انضاف إليها، فحمل على قلبه فمرض ومات، وشرع السلطان يوسف في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج، فاتسعت مملكته في الأندلس، وأغارت سراياه على طليطلة إذ هي قاعدة ملكهم، ثم إنه حاصرها فاجتمعت الفرنج عليه، واشتد الغلاء في عسكره، فرحل عنها وعاد إلى حضرة ملكه مراكش المحروسة.
قصيدة في استنهاض الحفصي بعد سقوط بلنسية
ولم يزال أهل الأندلس بعد ظهور النصارى - دمرهم الله تعالى - على كثير منها يستنهضون عزائم الملوك والسوقة لأخذ الثأر، بالنظم والنثار، فلم ينفعهم ذلك حتى اتسع الخرق، وأعضل الداء أهل الغرب والشرق، فمن القصائد الموجهة في ذلك قول بعضهم لما أخذت بلنسية يخاطب إفريقية أبا زكريا ابن عبد الواحد بن أبي حفص:
نادتك أندلس فلب نداءها واجعل طواغيت الصليب فداءها
صرخت بدعوتك العلية فاحبها من عاطفتك ما يقي حوباءها
واشدد بجلبك جرد خيلك أزرها تردد على أعقابها أرزاءها
هي دارك القصوى أوت لإيالة ضمنت لها مع نصرها إيواءها
وبها عبيدك لا بقاء لهم سوى سبل الضراعة يسلكون سواءها
خلعت قلوبهم هناك عزاءها لما رأت أبصارهم ما سواها
دفعوا لأبكار الخطوب وعونها فهم الغداة يصابرون عناءها
وتنكرت لهم الليالي فاقتضت سراءها وقضتهم ضراءها
تلك الجزيرة لا بقاء لها إذا لم يضمن الفتح القريب بقاءها
رش أيها المولى الرحيم جناها واعقد بأرشية النجاة رشاءها(4/479)
أشفى على طرف الحياة ذماؤها فاستبق للدين الحنيف ذماءها
حاشاك أن تفنى حشاشها وقد قصرت عليك نداءها ورجاءها
طافت بطائفة الهدى آمالها ترجو بيحيى المرتضى إحياءها
واستشرفت أمصارها لإمارة عقدت لنصر المستضام لواءها
يا حسرتي لعقائل معقولة سئم الهدى نحو الضلال هداءها
إيه بلنسية وفي ذكراك ما يمري الشؤون دماءها لا ماءها
كيف السبيل إلى احتلال معاهد شب الأعاجم دونها هيجاءها
وإلى ربى وأباطح لم تعر من حلل الربيع مصيفها وشتاءها
طاب المعرس والمقيل خلالها وتطلعت غرر المنى أثناءها
بأبي مدارس كالطول دوارس نسخت نواقيس الصليب نداءها
ومصانع كسف الضلال صباحها فيخاله الرائي إليه مساءها
راحت بها الورقاء تسمع شدوها وغدت ترجع نوحها وبكاءها
عجباً لأهل النار حلوا جنة منها تمد عليهم أفياءها
أملت لهم فتعجلوا ما أملوا أيامهم لا سوغوا إملاءها
بعداً لنفس أبصرت إسلامها فتوكفت عن حزبها إسلاءها
أما العلوج فقد أحالوا حالها فمن المطيق علاجها وشفاءها
أهدى إليها بالمكاره جارح للكفر كره ماؤه وهواؤه
وكفى أسى أن الفواجع جمة فمتى يقاوم أسوها أسواءها
هيهات في نظر الإمارة كف ما تخشاه، ليت الشكر كان كفاءها
مولاي هاك معادة أنباءها لتنيل منك سعادة أبناءها
جرد ظباك لمحو لآثار العدا تقتل ضراغمها وتسب ظباءها
واستدع طائفة الإمام لغزوها تسبق إلى أمثالها استدعاءها
لا غرو أن يعزي الظهور لملة لم يبرحوا دون الورى ظهراءها
إن الأعاجم للأعارب نهبة مهما أمرت بغزوها أحياءها(4/480)
تالله لو دبت لها دبابوها لطوت عليها أرضها وسماءها
ولو استقلت عوفها لقتالها لاستقبلت بالمقربات عفاءها
أرسل جوارحها تجئك بصيدها صيداً وناد لطحنها أرحاءها
هبوا لها يا معشر التوحيد قد آن الهبوب وأحرزوا علياءها
إن الحفائظ من خلالكم التي لا يرهب الداعي بهن خلاءها
هي نكتة المحيا فحيهلا بها تجدوا سناها في غد وسناءها
أولوا الجزيرة مصرة إن العدى تبغي على أقطارها استيلاء
نقصت بأهل الشرك من أطرافها فاستحفظوا بالمؤمنين نماءها
حاشاكم أن تضمروا إلغاءها في أزمة أو تضمروا إقصاءها
خوضوا إليها بحرها يصبح لكم رهواً وجوبوا نحوها بيداءها
وافى الصريخ مثوباً يدعو لها فلتجملوا قصد الثواب ثواءها
دار الجهاد فلا تفتكم ساحة ساوت بها أحياؤها شهداءها
هذي رسائلها تناجي بالتي وقفت عليها ريثها ونجاءها
ولربما أنهت سوالب للنهى من كائنات حملت أنهاءها
وفدت على الدار العزيزة تجتني آلاءها أو تجتلي آراءها
مستسقيات من غيوث غياثها ما وقعه يتقدم استسقاءها
قد أمنت في سبلها أهواءها إذا سوغت في ظلها أهواءها
وبحسبها أن الأمير المرتضى مترقب بفتوحها آناءها
في الله ما ينويه من إدراكها بكلاءة ليفدي أبي أكلاءها
بشرى لأندلس تحب لقاؤه ويحب في ذات الله لقاءها
صدق الرواة المخبرون بأنه يشفي ضناها أو يعيد رواءها
إن دوخ العرب الصعاب مقادة وأبى عليها أن تطيع إباءها
فكأن بفيلقه العرمرم فالقاً هام الأعاجم ناسفاً أرجاءها
أنذرهم بالبطشة الكبرى فقد نذرت صوارمه الرقاق دماءها(4/481)
لا يعدم الزمن انتصار مؤيد تتسوغ الدنيا به سراءها
ملك أمد النيرين بنوره وأفاده لألاؤه لألاءها
خضعت جبابرة الملوك لعزه ونضت بكف صغارها خيلاءها
أبقى أبو حفص إمارته له فسما إليها حاملاً أعباءها
سل دعوة المهدي عن آثارها تنبيك أن ظباها قمن إزاءها
فغزا عداه واسترق رقابها وحمى حماها واسترد بهاءها
قبضت يداه على البسيطة قبضة قادت له في قده أمراءها
فعلى المشارق والمغارب ميسم لهداه شرف وسمه أسماءها
تطمو بتونسها بحار جيوشه فيزور زاخر موجها زوراءها
وسع الزمان فضاق عنه جلالة والأرض طراً ضنكها وفضاءها
ما أزمع الإيغال في أكنافها إلا تصيد عزمه زعماءها
دانت له الدنيا وشم ملوكها فاحتل من رتب العلا شماءها
ردت سعادته على أدراجها ليل الزمان ونهنهت غلواءها
إن يعتم الدول العزيزة بأسه فالآن يولي جوده إعطاءها
تقع الجلائل وهو راس راسخ فيها يوقع للسعود جلاءها
كالطود في عصف الرياح وقصفها لا رهوها يخشى ولا هوجاءها
سامي الذوائب في أعز ذؤابة أعلت على قمم النجوم بناءها
بركت بكل محلة بركاته شفعاً يبادر بذلها شفعاءها
كالغيث صب على البسيطة صوبه فسقى عمائرها وجاد قواءها
ينميه عبد الواحد الأراضي إلى عليا فتمنح بأسها وسخاءها
في نبعة كرمت وطابت مغرساً وسمت وطالت نضرة نظراءها
ظهرت لمحتدها السماء وجاوزت لسرادقات فخارها جوزاءها
فئة كرام لا تكف عن الوغى حتى تصرع حولها أكفاءها
وتكب في النار القرى فوق الذرى من عزة ألويها وكباءها(4/482)
قد خلقوا الأيام طيب خلائق فثنت إليهم حمدها وثناءها
ينضون في طلب النفائس أنفساً حبسوا على إحرازها إمضاءها
وإذا انتضوا يوم الكريهة بيضهم أبصرت فيهم قطعها ومضاءها
لا عذر عند المكرمات لهم متى لم تستبن لعفاتهم عذراءها
قوم الأمير فمن يقوم بما لهم من صالحات أفحمت شعراءها
صفحاً جميلاً أيها الملك الرضي عن محكمات لم نطق إحصاءها
تقف القوافي دونهن حسيرة لا عيها تخفي ولا إعياءها
فلعل علياكم تسامح راجياً إصغاءها ومؤملاً إغضاءها
في رثاء طليطلة
ومن ذلك قول بعضهم يندب طليطلة أعادها الله تعالى للإسلام:
لثكلك كيف تبتسم الثغور سروراً بعدما سبيت ثغور
أما وأبي مصاب هد منه ثبير الدين فاتصل الثبور
لقد قصمت ظهور حين قالوا أمير الكافرين له ظهور
ترى في الدهر مسروراً بعيش مضى عنا لطيته السرور
أليس بها أبي النفس شهم يدير على الدوائر إذ تدور
لقد خضعت رقاب كن غلباً وزال عتوها ومضى النفور
وهان على عزيز القوم ذل وسامح في الحريم فتى غيور
طليطلة أباح الكفر منها حماها، إن ذا نبأ كبير
فليس مثالها إيوان كسرى ولا منها الحورنق والسدير
محصنة محسنة بعيد تناولها ومطلبها عسير
ألم تك معقلاً للدين صعباً فذلله كما شاء القدير
وأخرج أهلها منها جميعاً فصاروا حيث شاء بهم مصير(4/483)
وكانت دار إيمان وعلم معالمها التي طمست تنير
فعادت دار كفر مصطفاة قد اضطربت بأهليها الأمور
مساجدها كنائس، أي قلب على هذا يقر ولا يطير
فيا أسفاه يا أسفاه حزناً يكرر ما تكررت الدهور
وينشر كل حسن ليس يطوى إلى يوم يكون به النشور
أديلت قاصرات الطرف كانت مصونات مساكنها القصور
وأدركها فتور في انتظار لسرب في لواحظه فتور
وكان بنا وبالقينات (1) أولى ... لو انضمت على الكل القبور لقد سخنت بحالتهن عين وكيف يصح مغلوب قرير
لئن غبنا عن الإخوان إنا بأحزان وأشجان حضور
نذور كان للأيام فيهم بمهلكهم فقد وفت النذور
فإن قلنا العقوبة أدركتهم وجاءهم من الله النكير
فإنا مثلهم وأشد منهم نجور وكيف يسلم من يجور
أنأمن أن يحل بنا انتقام وفينا الفسق أجمع والفجور
وأكل للحرام ولا اضطرار إليه فيسهل الأمر العسير
ولكن جرأة في عقر دار كذلك يفعل الكلب العقور
يزول الستر عن قوم إذا ما على العصيان أرخيت الستور
يطول علي ليلي، رب خطب يطول لهوله الليل القصير
خذوا ثأر الديانة وانصروها فقد حامت على القتلى النسور
ولا تهنوا وسلوا كل عضب تهاب مضارباً له النحور
وموتوا كلكم فالموت أولى بكم من أن تجاروا أو تجوروا
أصبراً بعد سبي وامتحان يلام عليها القلب الصبور
__________
(1) ص: وبالفتيات.(4/484)
فأم الثكل مذكار ولود وأم الصقر مقلات نزور
نخور إذا دهينا بالرزايا وليس بمعجب بقر يخور
ونجبن وليس نزأر، لو شجعنا ولم نجبن لكان لنا زئير
لقد ساءت بنا الأخبار حتى أمات المخبرين بها الخبير
أتتنا الكتب فيها كل شر وبسرنا بأنحسنا البشير
وقيل تجمعوا لفراق شمل طليطلة تملكها الكفور
فقل في خطة فيها صغار يشيب لكربها الطفل الصغير
لقد صم السميع فلم يعول على نبإ كما عمي البصير
تجاذبنا الأعادي باصطناع فينجذب المخول والفقير
فباق في الديانة تحت خزي تثبطه الشويهة والبعير
وآخر مارق هانت عليه مصائب دينه فله السعير
كفى حزناً بأن الناس قالوا إلى أين التحول والمسير
أنترك دورنا ونفر عنها وليس لنا وراء البحر دور
ولا ثم الضياع تروق حسناً نباكرها فيعجبنا البكور
وظل وارف وخرير ماء فلا قر هناك ولا حرور
ويؤكل من فواكهها الطري ويشرب من جداولها نمير
يؤدى مغرم في كل شهر ويؤخذ كل صائفة عشور
فهم أحمى لحوزتنا وأولى بنا وهم الموالي والعشير
لقد ذهب اليقين فلا يقين وغر القوم بالله الغرور
فلا دين ولا دنيا ولكن غرور بالمعيشة ما غرور
رضوا بالرق يا لله ماذا رآه وما أشار به مشير
مضى الإسلام فابك دماً عليه فما ينفي الجوى الدمع الغزير
ونح واندب رفاقاً في فلاة حيارى لا تحط ولا تسير
ولا تجنح إلى سلم وحارب عسى أن يجبر العظم الكسير(4/485)
أنعمى عن مراشدنا جميعاً وما إن منهم إلا بصير
ونلقى واحداً ويفر جمع كما عن قانص فرت حمير
ولو أنا ثبتنا كان خيراً ولكن ما لنا كرم وخير
إذا ما لم يكن صبر جميل فليس بنافع عدد كثير
ألا رجل له رأي أصيل به مما نحاذر نستجير
يكر إذا السيوف تناولته وأين بنا إذا ولت كرور
ويطعن بالقنا الخطار حتى يقول الرمح ما هذا الخطير
عظيم أن يكون الناس طراً بأندلس قتيل أو أسير
أذكر بالقراع الليث حرصاً على أن يقرع البيض الذكور
يبادر خرقها قبل اتساع لخطب منه تنخسف البدور
يوسع للذي يلقاه صدراً فقد ضاقت بما تلقى صدور
تنغصت الحياة فلا حياة وودع جيرة إذ لا مجير
فليل فيه هم مستكن ويوم فيه شر مستطير
ونرجو أن يتيح الله نصراً عليهم، إنه نعم النصير
نونية الرندي وشيء من شعره
ومن مشهور ما قيل في ذلك قول الأديب الشهير أبي البقاء صالح بن شريف الرندي رحمه الله تعالى (1) :
__________
(1) هو صالح بن أبي الحسن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم ابن علي بن شريف يكنى بأبي الطيب وأبي البقاء؛ كان فقيهاً حافظاً متفنناً في النثر والنظم؛ وله مقامات ومختصر في الفرائض وكتاب اسمه الوافي (أو الكافي) في نظم القوافي (منه عدة مخطوطات، إحداها بالرباط رقم ك: 1730) انظر ترجمته في الذيل والتكملة 4: 137 ومسالك الأبصار 11: 480 والإحاطة (المخطوطة المغربية: 179 ونسخة الإسكوريال رقم: 1683 ومجلة معهد الدراسات الإسلامية 6: 211) .(4/486)
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان
يمزق الدهر حتماً كل سابغة إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن وأين منهم أكاليل وتيجان
وأين ما شاده شداد في إرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهب وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من ملك ومن ملك كما حكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على دارا وقاتله وأم كسرى فما آواه إيوان
كأنما الصعب لم يسهل له سبب يوماً ولا ملك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسرات وأحزان
وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حل بالإسلام سلوان
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له هوى له أحد وانهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فامتحنت حتى خلت منه أقطار وبلدان
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قرطبة دار العلوم، فكم من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص وما تحويه من نزه ونهرها العذب فياض وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان(4/487)
يا غافلاً وله في الدهر موعظة إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشياً مرحاً يلهيه موطنه أبعد حمص تغر المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها وما لها مع طول الدهر نسيان
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة كأنها في مجال السبق عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة كأنها في ظلام النقع نيران
وراتعين وراء البحر في دعة لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان
ألا نفوس أبيات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان
يا من لذلة قوم بعد عزهم أحال حالهم كفر وطغيان
بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة والعين باكية والقلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
انتهت القصيدة الفريدة، ويوجد بأيدي الناس زيادات فيها ذكر غرناطة وبسطة وغيرهما مما أخذ من البلاد بعد موت صالح بن شريف، وما اعتمدته منها نقلته من خط من يوثق به على ما كتبته، ومن له أدنى ذوق علم أن ما يزيدون فيها من الأبيات ليست تقاربها في البلاغة، وغالب ظني أن تلك الزيادة لما أخذت غرناطة وجميع بلاد الأندلس إذ كان أهلها يستنهضون همم الملوك(4/488)
بالمشرق والمغرب، فكأن بعضهم لما أعجبته قصيدة صالح بن شريف زاد فيها تلك الزيادات، وقد بينت ذلك في " أزهار الرياض " (1) فليراجع.
وصالح بن شريف الرندي صاحب القصيدة من أشهر أدباء الأندلس، ومن بديع نظمه قوله (2) :
سلم على الحي بذات العرار وحي من أجل الحبيب الديار
وخل من لام على حبهم فما على العشاق في الذل عار
ولا تقصر في اغتنام المنى فما ليالي الأنس إلا قصار
وإنما العيش لمن رامه نفس تدارى وكؤوس تدار
وروحه الراح وريحانه في طيبه بالوصل أو بالعقار
لا صبر للشيء على ضده والخمر والهم كماء ونار
مدامة مدنية للمنى في رقة الدمع ولون النضار
مما أبو ريق أباريقها تنافست فيها النفوس الكبار
معلتي والبرء من علتي ما أطيب الخمرة لولا الخمار
ما أحسن النار التي شكلها كالماء لو كف شرار الشرار
وبي وإن عذبت في حبه ببعده على اقتراب المزار
ظبي غرير نام عن لوعتي ولا أذوق النوم إلا غرار
ذو وجنة كأنها روضة قد بهر الورد بها والبهار
رجعت للصبوة في حبه وطاعة اللهو وخلع العذار
يا قوم قولوا بذمام الهوى أهكذا يفعل حب الصغار
وليلة نبهت أجفانها والفجر قد فجر نهر النهار
والليل كالمهزوم يوم الوغى والشهب مثل الشهب عند الفرار
__________
(1) أزهار الرياض 1: 47.
(2) بعضها في الإحاطة: 186.(4/489)
كأنما استخفى السها خيفة وطولب النجم بثار فثار
لذاك ما شابت نواصي الدجى وطارح النسر أخاه فطار
وفي الثريا قمر سافر عن غرة غير منها السفار
كأن عنقوداً تثنى به (1) ... إذ صار كالعرجون عند السرار كأنها تسبك ديناره وكفها يفتل منه السوار
كأنما الظلماء مظلومة تحكم الفجر عليها فجار
كأنما الصبح لمشتاقه عز غنى من بعد ذل افتقار
كأنما الشمس وقد أشرقت وجه أبي عبد الإله استنار
محمد محمد كاسمه شخص له في كل معنى يشار
أما المعالي فهو قطب لها والقطب لا شك عليه المدار
مؤثل المجد صريح العلا مهذب الطبع كريم النجار
تزهى به لخم وساداتها وتنتمي قيس له في الفخار
يفيض من جود يديه على عافيه ما منه تحار البحار
اليمن من يمناه حكم جرى واليسر من شيمة تلك اليسار
أخ صفا منه لنا واحد فالدهر مما قد جنى في اعتذار
فإن شكرنا فضله مرة فقد سكرنا من نداه مرار
ونحن منه في جوار العلا تدور للسعد بنا منه دار
الحافظ الله وأسماؤه لذلك الجار وذاك الجوار
رسالة ابن عميرة إلى ابن الأبار في سقوط بلنسية
رجع - وقد رأيت أن أثبت هنا رسالة خاطب بها الكاتب البارع القاضي أبو المطرف ابن عميرة المخزومي الشيخ أبا عبد الله ابن الأبار، يذكر له
__________
(1) الإحاطة: بها ماثل.(4/490)
أخذ العدو مدينة بلنسية وهي (1) :
ألا فيئة للدهر تدنو بمن نأى وبقيا يرى منها خلاف الذي رأى
ويا من عذيري منه، يغدر من أوى ... إليه ولا يدري سوى خلف من وأى (2) ذخائر ما في البر والبحر صيده فلا لؤلؤاً أبقى عليه ولا وأى
أيها الأخ الذي دهش ناظري لكتابه، بعد أن أدهش خاطري من إغبابه، وسرني من بشره إيماض، بعد أن ساءني من جهته إعراض، جرت على ذكره الصلة فقوم قدح نبعتها، وروى أكناف تلعتها، وأحدث ذكراً من عهدنا الماضي فنقط وجه عروسه، وشعشع خمر كؤوسه، وسقى بماء الشبيبة ثراه، وأبرز مثل مرآة الغريبة مرآه، فبورك فيه أحوذياً وصل رحمه، وكسا منظره من البهجة ما كان حرمه، وحيا الله تعالى منه ولياً على سالف عهدي تمادى، وبشعار ودي نادى، وبين الإحسان شيمته، وأبان والبيان لا تنجاب عنه ديمته، ولا تغلو بغير قلمه قيمته، واعتذر عن كلمة تمنى تبديلها، ودعوة ذكر وجوم النادي لها، ثم أرسلها ترجف بوادرها من خيفة، وتوغر بوغم (3) صدر قلم وصحيفة، وتنذر من ريحانه قريش أن تمنعه عرفها، وتحدق إليه طرفها، واتقى غارة على غرة، من الناجي برأس طمرة، ولم يأمن هجران المهاجر بعد وصله، وعكر عكرمة المغطي بحلمه على أبي جهله، وعند ذكر كتيبة خالد أجحم، وذكر يوم أحاطت به فارس فاستلحم، فاعتذر عما قال، وأضمر الحذر إلا أن يقال، فمهلاً أيها الموفي على علمه، النافث بسحر قلمه، أتظن منزلتك في البلاغة ومهيعها لاحب، ومنزعها بالعقول لاعب، تسفل وقد ترفعت، أو تخفى وإن تلفعت، عرفناك يا سودة، وشهرت حلة
__________
(1) ورد بعض هذه الرسالة في الروض المعطار: 48.
(2) وأي: وعد.
(3) في الأصول: رغم؛ والوغم: الحقد والترة.(4/491)
عطارد الملاحة والجودة، فلم حين تهيب الأخ الأوحد من قصي غطاريفها، ولو استثار من حفائظها تالدها وطريفها، لم يذكر يد قومه عند أبيها، وقد رام خطة أشرف على تأبيها، حين أهاب بكم لمهمه، ودعا منكم أخاه لأمه، ولولا ذلك لما خلا له وجه الكعبة، ولا خلص من تلك المضايق الصعبة، وبأن أعرتموه نجدتكم الموصوفة، غلب على ما كان بأيدي صوفة، فكيف نجحد اليد عند عمنا، أو نشحذ أسنة الألسنة لذمنا، أو كيف نلقاكم بجدنا، وأبوكم أبو بكر معدنا، وما تيامنكم إلى سبأ بن يشجب (1) ، وإن أطلنا فيه التعجب، بالذي يقطع أرحامنا، ويمنع اشتباكنا والتحامنا، بعد أن شددنا فعالنا بفعالكم، ورأينا أقدامنا في نعالكم، ولو شئتم توعدتم بأسود سؤددكم عند الإقدام، وإلحاح إلحافكم في ضرب الهام، لكن نقول إن قومنا لكرام، ولو شاءوا كان لنا منهم شرة وعرام.
وأعود من حيث بدأ الأخ الذي أبثه شوقي، وأتطعم حلاوة عشرته باقية في حاسة ذوقي، طارحني (2) حديث مورد جف، وقطين خف، فيا لله لأتراب درجوا، وأصحاب عن الأوطان خرجوا، قصت الأجنحة وقيل طيروا، وإنما هو القتل أو الأسر أو تسيروا، فتفرقوا أيدي سبا، وانتشروا ملء الوهاد والربى، ففي كل جانب عويل وزفرة، وبكل صدر غليل وحسرة، ولكل عين عبرة، لا ترقأ من أجلها عبرة، داء خامر بلادنا حين أتاها، وما زال بها حتى سجى على موتاها، وشجا ليومها الأطول كهلها وفتاها، وأنذر بها في القوم بحران أنيجة (3) ، يوم أثاروا أسدها المهيجة، فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب، أثكلتنا إخواناً أبكانا نعيهم، ولله أحوذيهم
__________
(1) بعد أن ألمع مآثر مخزوم وذكر بعض رجالها، عاد يتحدث عن قضاعة ومواقفها، ثم تحولها بنسبها إلى يمن.
(2) من هنا في الروض المعطار.
(3) يريد أن البحران (أي المرض) الذي أصاب أنيجة كان إنذاراً بما بعده من سقوط بلنسية.(4/492)
وألمعيهم، ذاك أبو ربيعنا (1) ، وشيخ جميعنا، سعد بشهادة يومه، ولم ير ما يسوءه في أهله وقومه، وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق، وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان، فبرح الخفاء، وقيل: على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاء، فأودت الخفة والحصافة، وذهب الجسر والرصافة، ومزقت الحلة والثملة، وأوحشت الجرف والرملة، ونزلت بالحارة وقعة الحرة، وحصلت الكنيسة (2) من جآذرها وظبائها على طول الحسرة، فأين تلك الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلها، والأصائل وشحوب معتلها، دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها، ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها، حتى أحاطت بجزيرة شقرها، فآهاً لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كلمه، ويا لجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها، وروضة أجاد أبو إسحاق (3) نعتها، وإنما كانت داره التي فيها دب، وعلى أوصاف محاسنها أكب، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب، ولم تعدم بعده محبين قشيبهم إليها ساقوه، ودمعهم عليها أراقوه، وقد أثبت من النظم ما يليق بهذا الموضع، وإن لم يكن له ذلك الموقع:
أقلوا ملامي أو فقولوا وأكثروا ملومكم عما به ليس يقصر
وهل غير صب ماتني عبراته إذا صعدت أنفاسه تتحدر
يحن وما يجدي عليه حنينه إلى أربع معروفها متنكر
__________
(1) هو أبو الربيع ابن سالم شيخ ابن الأبار الذي استشهد في أنيجة مقبلاً غير مدبر وهو يحض الناس على القتال، وقد طعن في السن.
(2) يعدد أبو المطرف هنا المعالم البارزة في بلنسية.
(3) يعني ابن خفاجة وهو بلدي أبي المطرف فهما من جزيرة شقر.(4/493)
ويندب عهداً بالمشقر فاللوى وأين اللوى منه وأين المشقر
تغير ذاك العهد بعدي وأهله ومن ذا على الأيام لا يتغير
وأقفر رسم الدار إلا بقية لسائلها عن مثل حالي تخبر
فلم تبق إلا زفرة إثر زفرة ضلوعي لها تنقد أو تتفطر
وإلا اشتياق لا يزال يهزني فلا غاية تدنو ولا هو يفتر
أقول لساري البرق في جنح ليلة كلانا بها قد بات يبكي ويسهر
تعرض مجتازاً فكان مذكراً بعهد اللوى والشيء بالشيء يذكر
أتأوي لقلب مثل قلبك خافق ودمع سفوح مثل قطرك يقطر
وتحمل أنفاساً كومضك نارها إذا رفعت تبدو لمن يتنور
يقر بعيني أن أعاين من نأى لما أبصرته منك عيناي تبصر
وأن يتراءاك الخليط الذين هم بقلبي وإن غابوا عن العين حضر
كفى حزناً أنا كأهل محصب بكل طريق قد نفرنا وننفر
وأن كلينا من مشوق وشائق بنار اغتراب في حشاه تسعر
ألا ليت شعري والأماني ضلة وقولي ألا ليت شعري تحير
هل النهر عقد للجزيرة مثلما عهدنا وهل حصباؤه وهي جوهر
وهل للصبا ذيل عليه تجره فيزور عليه موجه المتكسر
وتلك المغاني هل عليها طلاوة بما راق منها أو بما رق تسحر
ملاعب أفراس الصبابة والصبا تروح إليها تارة وتبكر
وقبلي ذاك النهر كانت معاهد بها العيش مطلول الخميلة أخضر
بحيث بياض الصبح أزار جيبه تطيب وأردان النسيم تعطر
ليال بماء الورد ينضح ثوبها وطيب هواء فيه مسك وعنبر
وبالجبل الأدنى هناك خطى لنا إلى اللهو لا تكبو ولا تتعثر
جناب بأعلاه بهار ونرجس فأبيض مفتر الثنايا وأصفر
وموردنا في قلب قلت كمقلة حذاراً علينا من قذى العين تستر(4/494)
وكم قد هبطنا القاع نذعر وحشه ويا حسنه مستقبلاً حين يذعر
نقود إليه طائعاً كل جارح له منخر رحب وخصر مضمر
إذا ما رميناه به عبثت به مؤللة الأطراف عنهن تكشر
تضم لأروى النيق حزان سهلها وقد فقدت فيها مهاة وجؤذر
كذاك إلى أن صاح بالقوم صائح وأنذر بالبين المشتت منذر
وفرقهم أيدي سبا وأصابهم على غرة منهم قضاء مقدر
ونعود إلى حيث كنا من تبدد شمل الجيرة، وطي بساط الجزيرة: أما شاطبة فكانت من قصبتها شوساء الطرف، وببطحائها عروساً في نهاية الظرف، فتخلى عن الذروة من أخلاها، وقيل الكافر: شأنك وأعلاها، فقبل أن تضع الحرب أوزارها، كشط عنها إزارها، فاستحل الحرمة أو تأولها، وما انتظر أقصر المدة ولا أطولها، وأما تدمير فجاد عودها على الهصر، وأمكنت عدوها من القصر، فداجى الكفر الإيمان، وناجى الناقوس الأذان، وما وراءها من الأصقاع التي باض الكفر فيها وفرخ، وأنزل بها ما أنسى التاريخ ومن أرخ، فوصفكم على الحادثة فيها أتى، وفي ضمان القدرة الانتصاف من عدو عثا وعتا، وإنا لنرجوها كرة تفك البلاد من أسرها، وتجبرها بعد كسرها، وإن كانت الدولة العامرية منعت بالقراع ذمارها، ورفعت على اليفاع نارها، فهذه العمرية بتلك المنقبة أخلق، والعدو لها أهيب ومنها أفرق، وما يستوي نسب مع البقل نبت، وبالمستفيض من النقل ما ثبت، وآخر علت سماؤه على اللمس، ورسا ركنه في الإسلام رسو قواعده الخمس، وكان كما قال أبو حنيفة في خبر المسح: جاءنا مثل الشمس، والأيام العمرية هي أم الوقائع المحكية، ومن شاء عدها من اليرموكية إلى الأركية، وهذه الأيام الزاهرة هي زبدة حلاوتها، وسجدة تلاوتها، وإمامتها العظمى أيدها الله تعالى، تمهل الكافر مدة إملائه، ثم تشفي الإسلام من دائه، وتطهر الأرض بنجس دمائه، بفضل الله تعالى، المرجو(4/495)
زيادة نعمه قبلها وآلائه.
راجعت سيدي مؤدياً ما يجب أداؤه، ومقتدياً وما كل أحد يحسن اقتداؤه، وإنما ناضلت ثعلباً (1) ، وعهدي بالنضال قديم، وناظرت جدلياً، وما عندي للمقال تقديم، وأطعته في الجواب ولقريحتي يعلم الله تعالى نكول، ورويتي لولا حق المسألة بطير الحوادث المرسلة عصف مأكول، أتم الله تعالى عليه آلاءه، وحفظ مودته وولاءهن ومتع بخلته الكريمة أخلاءه، بمنه، والسلام؛ انتهت الرسالة.
ورأيت في رحلة ابن رشيد لما ذكر أبا المطرف ما صورته: وأما الكتابة فقد كان حامل لوائها، كما قال بعض أصحابنا: ألان الله تعالى له الكلام، كما ألان الحديد لداود عليه السلام، وأخبرني شيخنا أبو بكر أن شيخه أبا المطرف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فأعطاه حزمة أقلام، وقال: استعن بهذه على كتابتك، أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ انتهى.
رسالة ابن الأبار التي أجاب أبو المطرف عنها
وبعد كتبي لهذه الرسالة رأيت أن أذكر رسالة الحافظ ابن الأبار التي هذه جواب عنها، وهي من غرض ما نحن فيه فلنقتبس نور البلاغة منها، وهي:
سيدي وإن وجم لها النادي، وجمجم بها المنادي، ذلك لصغرها عن كبره في المعارف الأعلام، وصدرها يوغر صدور الصحائف والأقلام، وأعيذ ريحانة قريش، أن تروح من حفيظتها في جيش، قد هابتها مغاوير كل حي، وأجابتها الغطاريف من قصي، تدلف بين يديها كتيبة خالد، وتحلف لا قدحت نار الهيجاء بزند صالد، أو تنصف من غامطها، وتقذف به وسط غطامطها (2) ،
__________
(1) أي من بني ثعل وهم مضرب المثل في رمي السهام.
(2) الغطامط: الموج المرتفع.(4/496)
لا جرم أني من جريمتي حذر، وعما وضحت به قيمتي للمجد معتذر، إلا أن يصوح من الروض نبته وجناته، ويصرح بالقبول حلمه وأناته، الحديث عن القديم شجون، والشأن بتقاضي الغريم شؤون، فلا غرو أن أطارحه إياه، وأفاتحه الأمل في لقياه، ومن لي بمقالة مستقلة، أو إخالة غير مخلة، أبت البلاغة إلا عمادها، وعلى ذلك فاستنبئ عمادها: درجت اللدات والأتراب، وخرجت الروم بنا إلى حيث الأعراب، أيام دفعنا لأعظم الأخطار، وفجعنا بالأوطان والأوطار، فإلام نداري برح الألم، وحتام نساري النجم في الظلم، جمع أوصاب ما له من انفضاض، ومضض اغتراب شذ عن ابن مضاض (1) ، فلو سمع الأول بهذا الحادث، ما ضرب المثل بالحارث، يا لله من جلاء ليس به يدان، وثناء قلما يسفر عن تدان، وعد الجد العاثر لقاءه فأنجز، ورام الجلد الصابر انقضاءه فأعجز، هؤلاء الخوان، مكثهم لا يمتع به أوان، وبينهم كنبت الأرض ألوان، بين هائم بالسرى، ونائم في الثرى، من كل صنديد بطل، أو منطيق غير ذي خطإ ولا خطل، قامت عليه النوادب، لما قعدت النوائب، وهجمت بيوتها لمنعاه الجماجم والذوائب، وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد، أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنسرها الطائرة، وطلعت أنحسها الغائرة، فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن:
كزعزع الريح صك الدوح عاصفها فلم يدع من جنى فيها ولا غصن
واهاً وآهاً يموت الصبر بينهما موت المحامد بين البخل والجبن
أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد ورقها وأغانيها، أين حلى رصافتها
__________
(1) يريد الحارث بن مضاض الجرهمي وله في تفرق جرهم قصيدة باكية؛ ولكن أين تفرق قومه مما حل ببلنسية(4/497)
وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها أين أفياؤها تندى غضارة، وذكاؤها تبدو من خضارة أين جداولها الطفاحة وخمائلها أين جنائبها النفاحة وشمائلها شد ما عطل من قلائد أزهارها نحرها، وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها، فأية حلية لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان، ثم لم يلبث داء عقرها، أن دب إلى جزيرة شقرها، فأمر عذبها النمير، وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها، وركدت نواسم أرواحها، ومع ذلك اقتحمت من الأيام دانية، فنزحت قطوفها وهي دانية، ويا لشاطبة وبطحائها، من حيف الأيام وإنحائها، وا لهفاه ثم لهفاه على تدمير وتلاعها، وجيان وقلاعها، وقرطبة ونواديها، وحمص وواديها، كلها رعي كلؤها، ودهي بالتفريق والتمزيق ملؤها، عض الحصار أكثرها، وطمس الكفر عينها وأثرها، وتلك إلبيرة بصدد البوار، ورية في مثل حلقة السوار، ولا مرية في المرية وخفضها على الجوار، إلى بنيات، لواحق بالأمهات، ونواطق بهاك لأول هاتف بهات.
ما هذا النفخ بالمعمور أهو نفخ في الصور أم النفر عارياً من الحج المبرور وما لأندلس أصيبت بأشرافها، ونقصت من أطرافها قوض عن صوامعها الأذان، وصمت بالنواقيس فيها الآذان، أجنت ما لم تجن الأصقاع أعقت الحق فحاق بها الإيقاع كلا بل دانت للسنة، وكانت من البدع في أحصن جنة: هذه المروانية مع اشتداد أركانها، وامتداد سلطانها، ألقت حب آل النبوة في حبات القلوب، وألوت ما ظفرت من خلعه ولا قلعه بمطلوب، إلى المرابطة بأقاصي الثغور، والمحافظة على معالي الأمور، والركون إلى الهضبة المنيعة، والروض المريعة، من معاداة الشيعة، وموالاة الشريعة، فليت شعري بم استوثق تمحيصها ولم تعلق بعموم البلوى تخصيصها اللهم غفراً طالما ضر ضجر، ومن الأنباء ما فيه مزدجر، جرى بما لم نقدره المقدور، فما عسى أن ينفث به المصدور وربنا الحكيم العليم، فحسبنا(4/498)
التفويض له والتسليم، ويا عجباً لبني الأصفر أنسيت مرج الصفر، ورميها يوم اليرموك بكل أغلب غضنفر دع ذا فالعهد به بعيد، ومن اتعظ بغيره فهو سعيد، هلا تذكرت العامرية وغزواتها، وهابت العمرية وهبواتها، أما الجزيرة بخيلها محدقة، وبأحاديث فتحها مصدقة، هذا الوقت المرتقب، والزمان الذي زجيت له الشهور والحقب، وهذه الإمامة أيدها الله تعالى هي المنقذة من أسرها، والمنفذة لسلطانهم مراسم نصرها، فيتاح الأخذ بالثار، ويزاح عن الجنة أهل النار، ويعلم الكافر لمن عقبى الدار.
حاورت سيدي بمثار الفاجي الفاجع، وحاولت برء الجوى من جوابه بالعلاج الناجع، وبودي لو تقع في الأرجاء مصاقبة، فترفع من الأرزاء معاقبة، أليس لدبه أسو المكلوم، وتدارك المظلوم وبيديه أزمة المنثور والمنظوم: خيال يختر () في إقناع إياد، وصوغ ما لم يخطر على قلب زيد ولا بخاطر زياد، بست الجبال الطوامح فما بست وأبو فتحها (1) ، وغيضت البحار الطوافح فمن يعبأ بالركايا ومتحها، أين أبو الفضل ابن العميد من العماد الفاضل، وصمصامة عمرو من قلمه الفاصل هذا مدرهها الذي فعل الأفاعيل، وأحمدها (2) الذي سما على إبراهيم وإسماعيل (3) ، وهما إماما الصناعة، وهماما البراعة واليراعة، بهما فخر من نطق بالضاد، وبسببها حسدت الحروف الصاد، لكن دفعهم بالراح، وأعرى مدرعهم من المراح، وشرف دونهم ضعيف القصب على صم الرماح، أبقاه الله تعالى وبيانه صادق الأنواء، وزمانه كاذب الأسواء، ولا زال مكانه مجاوزاً ذؤابة الجوزاء، وإحسانه مكافأ بأحسن الجزاء، والسلام.
__________
(1) يشير إلى أبي الفتح البستي؛ وفي الأصول: " لما ".
(2) أحدهما: هو أحمد بن عميرة المخزومي، يريد أنه تفوق في النثر على أولئك الأعلام.
(3) إبراهيم هو الصابي أبو إسحاق، وإسماعيل هو الصاحب بن عباد.(4/499)
فصول من درر السمط لابن الأبار
وقد عرفت بابن الأبار في " أزهار الرياض " بما لا مزيد عليه، غير أني رأيت هنا أن أذكر فصولاً مجموعة من كلامه في كتابه المسمى ب " درر السمط في خبر البسط ".
قال رحمه الله تعالى (1) : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، فروع النبوة والرسالة، وينابيع السماحة والبسالة، صفوة آل أبي طالب، وسراة (2) بني لؤي بن غالب الذين حباهم (3) الروح الأمين، وحلاهم الكتاب المبين، فقل في قوم شرعوا الدين القيم، ومنعوا اليتيم أن يقهر والأيم، ما قد من أديم آدم أطيب من أبيهم طينة، ولا أخذت الأرض أجمل من مساعيهم زينة، لولاهم ما عبد الرحمن، ولا عهد الإيمان، وعقد الأمان، ذؤابة غير أشابة، فضلهم ما شأنه نقص ولا شايه، سرارة محلتهم سر المطلوب، وقرارة محبتهم حبات القلوب، أذهب الله عنهم الرجس، وشرف بخلقهم الجنس، فإن تميزوا فبشريعتهم البيضاء، أو تحيزوا فلعشيرتهم الحمراء، من كل يعسوب الكتيبة، منسوب لنجيب ونجيبة، نجاره الكرم، وداره الحرم، نمته العرانين من هاشم إلى النسب الأصرح الأوضح (4) ، إلى نبعة فرعها في السماء ومغرسها سرة الأبطح، أولئك السادة أحيي وأفدي، والشهادة بحبهم أوفي وأودي، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
فصل (5) - ما كانت خديجة لتأتي بخداج (6) ، ولا الزهراء لتلد إلا أزاهر
__________
(1) درر السمط: الورقة الأولى.
(2) الدرر: وسرارة.
(3) الدرر: حياهم.
(4) الأوضح: سقطت من الدرر.
(5) الدرر: 15.
(6) الخداج: الناقص.(4/500)
كالسراج، مثل النحلة لا تأكل إلا طيباً، ولا تضع إلا طيباً، خلدت بنت خويلد ليزكو عقبها من الحاشر العاقب (1) ، ويسمو مرقبها على النجم الثاقب، لم تخد بمثلها المهارى، ولم يلد له عيرها من المهارى، آمت من بعولتها قبلة، لتصل السعادة بحبلها حبله، ملاك العمل خواتمه، رب ربات حجال، أنفذ من فحول رجال:
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخرٌ للهلال (2) هذه خديجة من أخيها حزام أحزم، ولشعار الصدق من شعارات القص ألزم، ركنت إلى الركن الشديد، وسددت للهدى كما هديت للتسديد، يوم نبىء خاتم الأنبياء، وأنبىء بالنور المنزل عليه والضياء.
فصل (3) - وكان قبيل المبعث، وبين يدي لم الشعث، يثابر على كل حسنى وحسنة، ويجاور شهراً من كل سنة، يتحرى حراء بالتعهد، ويزجي تلك المدة في التعبد، وذلك الشهر المقصور على التبرر، المقدور فيه رفع التضرر، شهر رمضان، المنزل (4) فيه القرآن، فبيناه، لاينام قلبه وإن نامت عيناه، جاءه الملك مبشراً بالنجح، وقد كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، فغمره بالكلاءة، وأمره بالقراءة، وكلما تحبس له غطه ثم أرسله، وإذا أراد الله بعبد خيراً عسله:
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بدّ دون الشهد من إبر النحل
كذلك حتى عاذ بالأرق من الفرق، وقد علق فاتحة العلق، فلا يجري
__________
(1) الحاشر العاقب من أسماء الرسول (ص) .
(2) من قصيدة المتنبي في رثاء أم سيف الدولة.
(3) الدرر: 18.
(4) الدرر: الذي أنزل.(4/501)
غيرها على لسانه، وكأنما كتب في جنانه.
فصل (1) - ولما أصبح يؤم الأهل، وتوسط الجبل يريد السهل، وقد قضى الأجل، وما نضا الوجل، نوجي بما في الكتاب المسطور، ونودي كما نودي موسى من جانب الطور، فعرض له في طريقه، ما شغله عن فريقه، فرفع رأسه متأملاً، فأبصر الملك في صورة رجل متمثلاً يشرفه بالنداء، ويعرفه بالاجتباء، وإنما عضد خبر الليلة بعيان اليوم، وأري في اليقظة مصداق ما أسمع في النوم، ليحق الله الحق بكلماته، وعلى ما ورد في الأثر، وسرد رواة السير، فذلك اليوم كان عيد فطرنا الآن وغير بدع ولا بعيد، أن يبدأ الوحي بعيد كما ختم بعيد " اليوم أكملت لكم دينكم " المائدة:3 فبهت عليه السلام لما سمعه وراءه، وثبت لا يتقدم أمامه ولا يرجع وراءه:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متقدمٌ عنه ولا متأخر (2) ثم جعل في الخوف والرجاء (3) ، لايقلب وجهه في السماء، إلا تعرض له في تلك الصورة، وعرض عليه ما أعطاه الله سبحانه من السورة، فيقف موقف التوكل، ويمسك حتى عن التأمل (4) :
تتوق إليك النفس ثم أردها حياء، ومثلي بالحياء حقيق
أذود سوام (5) الطرف عنك، وما له ... إلى أحد إلا إليك طريق فصل (6) - وفطنت خديجة لاحتباسه، فأمعنت في التماسه، تزوجوا الودود
__________
(1) الدرر: 20.
(2) البيت مغير القافية وصوابه " متأخر عنه ولا متقدم " وهو لأبي الشيص الخواعي. (الأغاني 15: 336 والشعر والشعراء: 722) .
(3) الدرر: بين الرجاء والخوف.
(4) الشعر للمجنون (ديوانه: 207) .
(5) الديوان: أرد سواء.
(6) الدرر: 24.(4/502)
الولود، ولفورها بل لفوزها بعثت في طلبه رسلها، وانبعثت تأخذ عليه شعاب مكة وسبلها:
إن المحب إذا لم يستزر زارا
طال عليها الأمد، فطار إليها الكمد، والمحب حقيقة، من لايفيق فيقة، بالنفس النفيسة سماحه وجوده، وفي وجود المحبوب الأشرف وجوده (1) :
كأن بلاد الله ما لم تكن بها وإن كان فيها الخلق طراً بلا نقع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل حامع
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا لي الليل هزتني إليك المضاجع
لقد ثبتت في القلب منك محبة كما ثبتت في الراحتين الأصابع
فصل (2) - وبعد لأي ما ورد عليها، وقعد مضيفاً إليها، فطفقت بحكم الإجلال تمسح أركانه، وتفسح مجال السؤال عما خلف له مكانه، فباح لها بالسر المغيب، وقد لاح وسم الكرامة على الطيب المطيب، فعلمت أنه الصادق المصدوق، وحكمت بأنه السابق لا المسبوق، اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، وما زالت حتى أزالت ما به من الغمة، وقالت: إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة:
إني تفرست فيك الخير أعرفه والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النبي ومن يحرم شفاعته يوم الحساب فقد أزرى به القدر
لا ترهب فسوف تبهر، وسيبدو أمر الله تعالى ويظهر، أنت الذي سجعت به الكهان، ونزلت له من صوامعها الرهبان، وسارت بخبر كرامته الركبان، أنت الذي ما حملت أخف منه حامل، ودرت ببركته الشاة فإذا هي حافل:
__________
(1) ينسب الشعر للمجنون (ديوانه: 185) كما ينسب لابن الدمينة (ديوانه: 88) .
(2) الدرر: 26.(4/503)
وأنت لما ولدت أشرقت ال أرض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النو ر وسبل الرشاد تخترق
فصل (1) - وما لبثت أن غلقت أبوابها، وجمعت عليها أثوابها، وانطلقت إلى ورقة بن نوفل، تطلبه بتفسير ذلك المجمل، وكان يرجع إلى عقل حصيف، ويبحث عمن يبعث بالدين الحنيف، فاستبشر به ناموسا، وأخبر أنه الذي كان يأتي موسى، فازدادت إيماناً، وأقامت على ذلك زماناً، ثم رأت أن خبر الواحد قد يلحقه التنفيذ، ودرت أن المجتهد لايجوز له التقليد، طلب العلم فريضة على كل مسلم، فرجعت أدراجها في ارتياد الإقناع، وألقي في روعها إلقاء الخمار والقناع، فهناك وضح لها البرهان، وصح لها (2) أن الآتي ملك لا شيطان:
تدلى عليه الروح من عند ربه ينزل من جو السماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وقصدنا إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع
فصل (3) - سبقت لها من الله تعالى الحسنى، فصنعت حسناً وقالت حسنا، ومن يؤمن بالله يهد قلبه، ما فتر الوحي بعدها، ولا مطل الحق الحي وعدها، وعد الله لا يخلف الله وعده، دانت لحي ذي الإسلام (4) ، فحياها الملك بالسلام من الملك السلام، من كان لله كان الله له، أغنت غناء الأبطال، فغناها (5) لسان الحال:
هل تذكرين فدتك النفس مجلسنا يوم التقينا فلم أنطق من الحصر
__________
(1) الدرر: 30.
(2) الدرر: لديها.
(3) الدرر: 32.
(4) الدرر: دانت بالحق دين الإسلام.
(5) الدرر: فغنتها.(4/504)
لا أرفع الطرف حولي من مراقبة بقياً علي، وبعض الحزم في الحذر
يسرت لاحتمال الأذى والنصب، فبشرت ببيت في الجنة من قصب، هل أمنت (1) إذ آمنت من الرعب، حتى غنيت عن الشبع بما في الشعب:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا (2) واهاً لها احتملت عض الحصار، وما أطاقت فقد المختار:
يطول اليوم لا ألقاك فيه ... وشهر (3) نلتقي فيه قصير (4) والحبيب سمع المحب وبصره، وله طول محياه وقصره:
أنت كل الناس عندي فإذا غبت عن عيني لم ألق أحد
مكثت للرياسة (5) مواسية وآسية، فثلثت في بحبوحة الجنة مريم وآسية، ثم ربعت البتول فبرعت، نطقت بذلك الآثار وصدعت، خير نساء العالمين أربع.
فصل (6) - إلى البتول سير بالشرف التالد، وسيق الفخر بالأم الكريمة والوالد، حلت في الجيل الجيل، وتحلت بالمجد الأثيل، ثم تولت إلى الظل الظليل:
وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وأبيها إن أم أبيها، لاتجد لها شبيها، نثرة النبي، وطلة الوصي، وذات
__________
(1) الدرر: ما أمنت.
(2) الشعر في أمالي القالي (1: 112) لبعض العرب.
(3) الدرر: وحول.
(4) البيت لجميل بثينة في ديوانه: 99 وأمالي القالي 1: 202 والزهرة: 60 وروايته: يطول اليوم إن شحطت نواها، وحلو ... الخ.
(5) الدرر: للرسالة.
(6) الدرر: 37.(4/505)
الشرف المستولي على الأمد القصي، كل ولد الرسول درج في حياته، وحملت هي ما حملت من آياته، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لا فرع للشجرة المباركة من سواها، فهل جدوى أوفر من جدواها، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، حفت بالتطهير والتكريم، وزفت إلى الكفؤ الكريم، فوردا صفو العارفة والمنة، وولدا سيدي شباب أهل الجنة، عرضت من الأمتعة الفاخرة، بسيدي الدنيا (1) والآخرة، ما أثقلنحوها طهراً، ولا بذل غير درعه مهراً، كان صفر اليدين من البيضاء والصفراء، وبحالة لا حيلة معها في إهداء الحلة السيراء، فصاهره الشارع وخالله، وقال في بعض صعلوك لا مال له، نرفع درجات من نشاء.
فصل:
أتنهب الأيام أفلاذ أحمد ... وأفلاذ من عاداهم تتعدد (2) ويضحى ويظما أحمد وبناته وبنت زياد وردها لا يصرد
أفي دينه في أمنه في بلاده ... تضيق عليهم فسحة تتورد (3) وما الدين إلا دين جدهم الذي به أصدروا في العالمين وأوردوا
انتهى ما سنح لي ذكره من " دررالسمط " وهو كتاب غاية في بابه، ولم أورد منه غير ما ذكرته، لأن في الباقي ما تشم منه رائحة التشيع، والله سبحانه يسامحه بمنه وكرمه.
رجع إلى ما كنا بسبيله، فنقول: قد ذكرنا في الباب الثاني رسالة أبي المطرف ابن عميرة إلى أبي جعفر ابن أمية (4) ، وهي مشتملة على التلهف على الجزيرة الأندلسية، حين أخذ العدو بلنسية، وظهرت له مخايل الاستيلاء على ما بقي
__________
(1) الدرر: بسيد في الدنيا.
(2) صرح باسمه في الدرر - وهو معاوية - ولعل المقري كنى عنه تقوى وورعاً.
(3) في الأصول: تتودد، وصوبناه عن الدرر.
(4) انظر الجزء الأول من النفح ص: 305.(4/506)
من الأندلس، فراجعها فيما سبق، وإن كان التناسب التام في ذكرها هنا فالمناسبة هناك حاصلة أيضاً، والله سبحانه الموفق. وذكرنا هنالك أيضاً جملة غيرها من كلامه - رحمه الله تعالى - تتعلق بهذا المعنى وغيره، فلتراجع ثمة.
نهاية الأندلس كما يصورها كتاب " جنة الرضى " لابن عاصم
ورأيت أن أثبت هنا ما رأيته بخط الأديب الكاتب الحافظ المؤرخ أبي عبد الله محمد بن الحداد الوادي آشي نزيل تلمسان رحمه الله تعالى ما صورته (1) :
حدثني الفقيه العدل سيدي حسن ابن القائد الزعيم الأفضل سيدي إبراهيم العراف أنه حضر مرة لإنزال الطلسم المعروف بفروج الرواح من العلية بالقصبة القديمة من غرناطة بسبب البناء والإصلاح، وأنه عاينه من سبعة معادن مكتوباً فيه:
إيوان غرناطة الغراء معتبرٌ طلسمهبولاة الحال دوار
وفارس روحه ريحٌ تدبره من الجماد، ولكن فيه أسرار
فسوف يبقى قليلاً ثم تطرقه دهياء يخرب منها الملك والدار
وقد صدق قائل هذه الأبيات، فإنه طرقت الدهياء ذلك القطر الذي ليس له في الحسن مثال، ونسل الخطب إليه من كل حدب وانثال، وكل ذلك من اختلاف رؤسائه وكبرائه، ومقدميه وقضاته وأمرائه ووزرائه، فكل يروم الرياسة لنفسه، ويجر نارها لقرصه، والنصارى - لعنهم الله تعالى - يضربون بينهم بالخداع والمكر والكيد، ويضربون عمراً منهم بزيد، حتى تمكنوا من أخذ البلاد، والاستيلاء على الطارف والتلاد. قال الرائس القاضي العلامة الكاتب الوزير أبو يحيى ابن عاصم رحمه الله تعالى في كتابه " جنة الرضى في التسليم
__________
(1) انظر هذا الخبر والشعر عن الطلسم في أزهار الرياض 3: 314.(4/507)
لما قدر الله تعالى وقضى " ما صورة محل الحاجة منه (1) : ومن استقرأ التواريخ المنصوصة، علم أن النصارى - دمرهم الله تعالى - لم يدركوا في المسلمين ثاراً، ولم يرحضوا عن أنفسهم عاراً، ولم يخربوا من الجزيرة منازل ودياراً، ولم يستولوا عليها بلاداً جامعة وأمصاراً، إلا بعد تمكينهم لأسباب الخلاف، واجتهادهم في وقوع الافتراق بين المسلمين والاختلاف، وتضريبهم بالمكر والخديعة بين ملوك الجزيرة، وتحريشهم بالكيد والخلابة بين حماتها في الفتن المبيرة، ومهما كانت الكلمة مؤتلفة، والآراء لا مفترقة ولا مختلفة، والعلماء بمعاناة اتفاق القلوب إلى الله مزدلفة، فالحرب إذ ذاك سجال، ولله تعالى في إقامة الجهاد في سبيله رجال، وللممانعة في غرض المدافعة ميدان رحب ومجال، وروية وارتجال.
إلى أن قال: وتطاولت الأيام ما بين مهادنة ومقاطعة، ومضاربة ومقارعة، ومنازلة ومنازعة، وموافقة وممانعة، ومحاربة وموادعة، ولا أمل للطاغية إلا في التمرس بالإسلام والمسلمين، وإعمال الحيلة على المؤمنين، وإضمار المكيدة للموحدين، واستبطان الخديعة للمجاهدين، وهو يظهر أنه ساعٍ للوطن في العاقبة الحسنى، وأنه منطوٍ لأهله على المقصد الأسنى، ومهتم بمراعاة أمورهم، وناظر بنظر المصلحة لخاصتهم وجمهورهم، وهو يسر حسواً في ارتغائه، ويعمل الحيلة في التماس هلك الوطن وابتغائه، فتباً لعقول تقبل مثل هذا المحال، وتصدق هذا الكذب بوجهٍ أو بحال، وليت المغرور لو يقبل هذا لو فكر في نفسه، وعرض هذا المسموع على مدركات حسه، وراجع أوليات عقله وتجريبات حدسه، وقاس عدوه التي لا ترجى مودته على أبناء جنسه، فأنا أناشده الله عل بات قط بمصالح النصارى وسلطانهم مهتماً، وأصبح من خطبٍ طرقهم مغتماً، ونظر لهم نظر المفكر في العاقبة الحسنة، أو قصد لخم قصد المدبر
__________
(1) من هنا يشترك النفح مع أزهار الرياض 1: 50 - 55 في النقل عن كتاب ابن عاصم.(4/508)
في المعيشة المستحسنة، أو خطر على قلبه أن يحفظ في سبيل القربة أربابهم وصلبانهم، أو عمر ضميره من تمكين عزمهم بما ترضاه أحبارهم ورهبانهم، فإن لم يكن ممن يدين بدينهم الخبيث، ولم يشرب قبله حب التثليث، ويكون صادق اللهجة، منصفاً عند قيام الحجة، فسيعترف أن ذلك لم يخطر له قط على خاطر ولا مر له ببال، وأن عكس ذلك هو الذي كان به ذا اغتباط وبفعله ذا اهتبال، وإن نسب لذلك المعنى فهو عليه أثقل من الجبال، وأشد على قلبه من وقع النبال، هذا وعقده التوحيد، وصلاته التحميد، وملته الغراء، وشريعته البيضاء، ودينه الحنيف القويم، ونبيه الرؤوف الرحيم، وكتابه القرآن الحكيم، ومطلوبه بالهداية الصراط المستقيم، فكيف نعتقد هذه المريبة الكبرى، والمنقبة الشهرى، لمن عقده التثليث، ودينه المليث، ومعبوده الصليب، وتسميته التصليب، وملته المنسوخة، وقضيته المفسوخة، وختانه التغطيس، وغافر ذنبه القسيس، وربه عيسى المسيح، ونظره ليس البين ولا الصحيح، وأن ذلك الرب قد ضرج بالدماء، وسقي الخل عوض الماء، وأن اليهود قتلته مصلوباً، وأدركته مطلوباً، وقهرته مغلوباً، وأنه جزع من الموت وخاف، إلى سوى ذلك مما يناسب هذه الأقاويل السخاف، فكيف يرجى من هؤلاء الكفرة، من الخير مقدار الذرة، أو يطمع منهم في جلب المنفعة أو دفع المضرة اللهم احفظ علينا العقل والدين، واسلك بنا سبيل المهتدين.
ثم قال بعد كلام ما صورته: كانت خزانة هذه الدار النصرية مشتملة على كل نفيسة من الياقوت، ويتيمة من الجوهر، وفريدة من الزمرد، وثمينة من الفيروزج، وعلى كل واقٍ من الدروع، وحامٍ من العدة، وماضٍ من الأسلحة، وفاخر من الآلة، ونادر من الأمتعة، فمن عقود فذة، وسلوك جمة، وأقراط تفضل على قرطي مارية نفاسةً فائقة وحسناً رائقاً، ومن سيوف شواذ في الإبداع غرائب في الإعجاب، منسوبات الصفائح في الطبع، خالصات الحلى من التبر، ومن دروع مقدرة السرد متلاحمة النسج، واقية للناس في يوم(4/509)
الحرب، مشهورة النسبة إلى داوود نبي الله، ومن جواشن سابغة اللبسة، ذهبية الحلية، هندية الضرب، ديباجية الثوب، ومن بياضات عسجدية الطرق، جوهرية التنضيد، وزبرجدية التقسيم، ياقوتية المركز، ومن نطاق لجينية الصوغ، عريضة الشكل، مزججة الصفح، ومن درق لمطية، مصمتة المسام، لينة المجسة، معروفة المنعة، صافية الأديم، ومن قسي ناصعة الصبغة، هلالية الخلقة، منعطفة الجوانب، زارية بالحواجب، إلى آلات فاخرة من أتوار (1) نحاسية، ومنابر بلورية، وطيافير (2) دمشقية، وسبحات زجاجية، وصحاف صينية، وأكواب عراقية، وأقداح طباشيرية، وسوى ذلك مما لا يحيط به الوصف، ولا يستوفيه العد، وكل ذلك التهبه شواظ الفتنة، والتقمه تيار الخلاف والفرقة، فرزئت الدار منه بما يتعذر إتيان الدهور بمثله، وتقصر ديار الملوك المؤثلة النعمة عن بعضه فضلاً عن كله؛ انتهى كلامه رحمه الله تعالى (3) .
ولما أخذت قواعد الأندلس مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة ومرسية وغيرها انحاز أهل الإسلام إلى غرناطة والمرية ومالقة ونحوها، وضاق الملك بعد اتساعه، وصار تنين العدو يلتقم كل وقت بلداً أو حصناً، ويهصر من دوح تلك البلاد غصناً، وملك هذا النزر اليسير الباقي من الجزيرة ملوك بني الأحمر، فلم يزالوا مع العدو في تعب وممارسة كما ذكره ابن عاصم قريباً، وربما أثخنوا في الكفار كما علم في أخبارهم، وانتصروا بملوك فاس بني مرين، في بعض الأحايين.
ولما قصد ملوك الإفرنج السبعة في المائة الثامنة غرناطة ليأخذوها اتفق أهلها على أن يبعثوا لصاحب المغرب من بني مرين يستنجدونه، وعينوا للرسالة الشيخ
__________
(1) ص ق: أتاور؛ والأتوار: الآتية، والمفرد تور.
(2) الطيافير: أطباق مستديرة عميقة قاعها مستو وحافاتها مرتفعة.
(3) إلى هنا وقف النقل في أزهار الرياض.(4/510)
أبا إسحاق ابن أبي العاصي والشيخ أبا عبد الله الطنجالي والشيخ ابن الزيات البلشي نفع الله تعالى بهم؛ ثم بعد سفرهم نازل الإفرنج غرناطة بخمسة وثلاثين ألف فارس ونحو مائة ألف راجل مقاتل، ولم يوافقهم سلطان المغرب، فقضى الله تعالى ببركة المشايخ الثلاثة أن كسر النصارى في الساعة التي كسر خواطرهم فيها صاحب المغرب، وظهرت في ذلك كرامة لسيدي أبي عبد الله الطنجالي رحمه الله تعالى.
ثم إن بني الأحمر ملوك الأندلس الباقية بعد استيلاء الكفار على الجل كانوا في جهاد وجلاد في غالب أوقاتهم، ولم يزل ذلك شأنهم حتى أدرك دولتهم الهرم الذي يلحق الدول، فلما كان زمان السلطان أبي الحسن علي بن سعد النصري الغالبي الأحمري، واجتمعت الكلمة عليه بعد أن كان أخوه أبو عبد الله محمد بن سعد المدعو بالزغل قد بويع بمالقة، بعد أن جاء به القواد من عند النصارى وبقي بمالقة برهة من الزمن، ثم ذهب إلى أخيه، وبقي من بمالقة من اقواد والؤساء فوضى، وآل الحال إلى أن قامت مالقة بدعوة السلطان أبي الحسن، وانقضت الفتنة.
واستقل السلطان أبو الحسن بملك ما بقي بيد المسلمين من بلاد الأندلس، وجاهد المشركين، وافتتح عدة أماكن، ولاحت له بارقة الكرة على العدو الكافر، وخافوه، وطلبوا هدنته، وكثرت جيوشه، فأجمع على عرضها كلها بين يديه، وأعد لذلك مجلساً أقيم له بناؤه خارج الحمراء قلعة غرناطة، وكان ابتداء هذا العرض يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي الحجة عام اثنين وثمانين وثمانمائة، ولم تزل الجنود تعرض عليه كل يوم إلى الثاني والعشرين من محرم السنة التي تليها، وهو يوم ختام العرض، وكان معظم المتنزهين والمتفرجين بالسبيكة وما قارب ذلك، فبعث الله تعالى سيلاً عارماً على وادي حدره بحجارة وماء غزير كأفواه القرب، عقاباً من الله سبحانه وتأديباً لهم لمجاهرتهم بالفسق والمنكر، واحتمل الوادي ما على حافتيه من المدينة من حوانيت ودور ومعاصر وفنادق وأسواق وقناطر وحدائق، وبلغ تيار السيل إلى رحبة الجامع الأعظم(4/511)
ولم يسمع بمثل هذا السيل في تلك البلاد.
وكان بين رؤساء الإفرنج في ذلك الوقت اختلاف، فبعضهم استقل بملك قرطبة، وبعض بإشبيلية، وبعض بشريش، وعل ذلك كان صاحب غرناطة السلطان أبو الحسن قد استرسل في اللذات، وركن إلى الراحات، وأضاع الأجناد، وأسند الأمر إلى بعض وزرائه، واحتجب عن الناس، ورفض الجهاد والنظر في الملك، ليقضي الله تعالى ما شاء، وكثرت المغارم والمظالم، فأنكر الخاصة والعامة ذلك منه، وكان أيضاً قد قتل كبار القواد وهو يظن أن النصارى لا يغزون بعد البلاد، ولا تنقضي بينهم الفتنة ولا ينقطع الفساد.
وافق أن صاحب قشتالة تغلب على بلادها بعد حروب، وانقاد له رؤساء الشرك المخالفون، ووجدت النصارى السبيل إلى الإفساد، والطريق إلى الاستيلاء على البلاد، وذلك أنه كان للسلطان أبي الحسن ولدان محمد ويوسف وهما من بنت عمه السلطان أبي عبد الله الأيسر، وكان قد اصطفى على أمهما رومية كان لها منه بعض ذرية، وكانت حظية عنده مقدمة في كل قضية، فخيف أن يقدم أولاد الرومية، على أولاد بنت عمه السنية، وحدث بين خدام الدولة التنافر والتعصب، لميل بعضهم إلى أولاد الحرة، وبعض إلى أولاد الرومية، وكان النصارى أيام الفتنة بينهم هادنوا السلطان لأمدٍ حددوه وضربوه، ولما تم أمد الصلح وافق وقته هذا الشأن بين أولياء الدولة بسبب الأولاد، وتشكى الناس مع ذلك بالوزير والعمال لسوء ما عاملوا به الناس من الحيف والجور، فلم يصغ غليهم، وكثر الخلاف واشتد الخطب، وطلب الناس تأخير الوزير، وتفاقم المر، وصح عند النصارى - لعنهم الله تعالى - ضعف الدولة واختلاف القلوب فبادروا إلى الحامة (1) فأخذوها غدراً آخر أيام الصلح على يد صاحب قادس سنة سبع وثمانين وثمانمائة، وغدوا للقلعة، وتحصنوا بها، ثم شرعوا في أخذ البلد، فملأوا الطرق خيلاً ورجالاً، وبذلوا السيف فيمن ظهر من المسلمين، ونهبوا
__________
(1) ص ق: الحمة.(4/512)
الحريم، والناس في غفلة نيام من غير استعداد كالسكارى، فقتل من قضى الله تعالى بتمام أجله، وهرب البعض وترك أولاده وحريمه، واحتوى العدو على البلد بما فيه، وخرج العامة والخاصة من أهل غرناطة عندما بلغهم العلم، وكان النصارى عشرة آلاف بين ماشٍ وفارس، وكانوا عازمين على الخروج بما غنموه، وإذا بالسرعان من أهل غرناطة وصلوا، فرجع العدو إلى البلد، فحاصرهم المسلون، وشددوا في ذلك، ثم تكاثر المسلمون خيلاً ورجالاً من جميع بلاد الأندلس، ونازلوا الحامة، وطمعوا في منع الماء عن العدو، وتبين للعامة أن الجند لمينصحوا، فأطلقوا ألسنتهم بأقبح الكلام فيهم وفي الوزير، وبينما هم كذلك إذا بالنذير جاء أن النصاى أقبلوا في جمع عظيم لإغاثة من بالحامة من النصارى، فأقلع جند المسلمين من الحامة، وقصدوا ملاقاة الواردين من بلاد العدو، ولما علم بهم العدو ولوا الأدبار من غير ملاقاة محتجين بقتلهم، وكان رئيسهم صاحب قرطبة.
ثم إن صاحب إشبيلية جمع جنداً عظيماً من جيش النصارى الفرسان والرجالة، وأتى لنصره من في الحامة من النصارى، وعندما صح هذا عند العسكر اجتمعوا، وأشاعوا عند الناس أنهم خرجوا بغير زاد ولا استعداد، والصلاح الرجوع إلى غرناطة، ليستعد الناس ويأخذوا ما يحتاج إليه الحصار من العدة والعدد، فعندما أقلع المسلمون عنها دخلتها النصارى الواردون، وتشاوروا في إخلائها أو سكناها، واتفقوا على الإقامة بها، وحصنوها، وجعلوا فيها جميع ما يحتاج إليه، وانصرف صاحب إشبيلية، وترك أجناده، وفرق فيهم الأموال، ثم عاد المسلمون لحصارها، وضيقوا عليها، وطمعوا فيها من جهة موضع كان النصارى في غفلة عنه، ودخل على النصارى جملة وافرة من المسلمين، وخاب السعد بذلك بأن شعر بهم النصارى، فعادوا عليهم، وتردى بعضهم من أعلى الجبل، وقتل أكثرهم، وكانوا من أهل بسطة ووادي آش، فانقطع أمل الناس من الحامة، ووقع الإياس من ردها.(4/513)
وفي جمادى الأولى من السنة تواترت الأخبار أن صاحب قشتالة أتى في جنود لا تحصى ولا تحصر، فاجتمع الناس بغرناطة، وتكلموا في ذلك، وإذا به قصد لوشة ونازلها قصداً أن يضيفها إلى الحامة، وجاء بالعدة والعدد، وأغارت على النصارى جملة من المسلمين، فقتلوا من لحقوه، وأخذوا جملة من المافع الكبار، ثم جاءت جماعة أخرى من أهل غرناطة، وناوشوا النصارى، فألجؤوهم إلى الخروج عن الخيام، وأخذوها وغيرها، فهرب النصارى، وتركوا طعاماً كثيراً وآلة ثقيلة، وذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة.
وفي هذا اليوم بعينه هرب الأميران أبو عبد الله محمد وأبو الحجاج يوسف خوفاً من أبيهما أن يفتك بهما بإشارة حظيته الرومية ثريا، واستقرا بوادي آش، وقامت بدعوتهما، ثم بايعتهما تلك المرية وبسطة وغرناطة، وهرب أبوهما السلطان أبو الحسن إلى مالقة.
وفي صفر سنة ثمان وثمانين وثمانمائة اجتمع جميه رؤساء النصارى، وقصدوا قرى مالقة وبلش، في نحو الثمانية آلاف، وفيهم صاحب إشبيلية وصاحب شريش وصاحب إستجة وصاحب أنتقيرة وغيرهم، فلم يتمكنوا من أخذ حصن، ونشبوا في أوعار ومضايق وخنادق وجبال، واجتمع عليهم أهل بلش ومالقة، وصار المسلمون ينالون منهم في كل محل، حتى بلغوا مالقة، ففر كبيرهم، ومن بقي أسر أو قتل، وكان السلطان أبو الحسن في ذلك الوقت قد تحرك لنواحي المنكب، وبقي أخوه أبو عبد الله بمالقة ومعه بعض الجند، وقتل من النصارى في هذه الوقعة نحو ثلاثة آلاف، وأسر نحو ألفين، ومن جملتها خال السلطان وصاحب إشبيلية وصاحب شريش وصاحب أنتقيرة وغيرهم، وهم نحو الثلاثين من الأكابر، وغنم المسلمون غنيمة وافرة من الأنفس والأموال والعدة والذهب والفضة، وبعقب ذلك سافر أهل مالقة لبلاد النصارى، فكسوا هنالك كسرة شنيعة قتل فيها أكثر قواد غرب الأندلس.(4/514)
ولما استقر السلطان أبو عبد الله ابن السلطان أبي الحسن بغرناطة وطاعت له البلاد غير مالقة والغربية تحرك السلطان أبو الحسن على المنكب ونواحيها، وأتى ابنه السلطان أبو عبد الله في جند غرناطة والجهة الشرقية، والتقوا في موضع يعرف بالدب، فكسر السلطان أبو عبد الله.
ولما سمع السلطان أبو عبد الله صاحب غرناطة بأن عمه بمالقة غنم من النصارى أعمل السفر للغزو بأهل بلاده من غرناطة والشرقية، وذلك في ربيع الأول من السنة، إلى أن بلغ نواحي لشانة، وقتل وأسر وغنم، فتجمعت عليه النصارى من جميع تلك النواحي ومعه كبير قبرة، وحالوا بين المسلمين وبلادهم في جبال وأوعار، فانكسر الجند، وأسر من الناس كثير وقتل آخرون، وكان في جملة من أسر السلطان أبو عبد الله، ولم يعرف، ثم علم به صاحب لشانة، وأراد صاحب قبرة أن يأخذ منه، فهرب به ليلاً، وبلغه إلى صاحب قشتالة، ونال بذلك عنده رفعة على جميع القواد، وتفاءل به، فقلما توجه لجهةٍ أو بعث سريةً إلا وبعثه فيها.
ولما أسر السلطان أبو عبد الله اجتمع كبراء غرناطة وأعيان الأندلس، وذهبوا به لغرناطة، وبايعوه، مع أنه كان أصابه مثل الصرع إلى أن ذهب بصره، وأصابه ضرر، ولما تعذر أمره قدم أخاه أبا عبد الله، وخلع له نفسه، ونزل بالمنكب، فأقام بها إلى أن مات، واستقل أخوه أبو عبد الله المعروف بالزغل بالملك بعده. وأما عبد الله ابن السلطان أبي الحسن فهو في أسر العدو.
وفي شهر ربيع الآخر من سنة تسعين وثمانمائة خرج العدو في قوة إلى نواحي مالقة، بعد أن كان في السنة قبلها استولى على حصون، فاستولى هذه السنة على بعض الحصون، وقصد ذكوان، فهد أسوارها، وكان جملة من أهل الغربية ورندة، ودخل ألف مدرع ذكوان عنوة، فأظفر الله تعالى بهم أهل ذكوان، فقتلوهم جميعاً، ثم طلبوا الأمان وخرجوا.(4/515)
ثم انتقل في جمادى الأولى إلى رندة وحاصرها، وكان أهلها خرجوا إلى نصرة ذكوان وسواها، فحاصر رندة وهد أسوارها، وخرج أهلها على الأمان، وطاعت له جميع تلك البلاد، ولم يبق بغربي مالقة إلا من دخل في طاعة الكافر وتحت ذمته، وضيق بمالقة، وفرق حصصه على بعض الحصون ليحاصروا مالقة، وعاد إلى بلاده.
وفي تاسع عشر شعبان من العام سافر صاحب غرناطة لتحصين بعض البلاد، وبينما هو كذلك إذا بالخبر جاءه أن محلة العدو خارجة لذلك الحصن.
وفي صبيحة الثاني والعشرين من شعبان أصبحت جنود النصارى على الحصن، كانوا قد سروا إليه ليلاً، وأصبحوا عند الفجر مع جند المسلمين، فقاتلهم المسلمون من غير تعبية، فاختل نظام المسلمين، ووصل النصارى إلى خباء السلطان، ثم التحم القتال واشتد، وقوى الله تعالى المسلمين فهزموا النصارى شر هزيمة، وقتل منهم خلائق، وقصر المسلمون خوفاً من محلة السلطان النصارى إذ كانت قادمة في أثر هذه، ولما رجعت إليهم الفلول رجعوا القهقرى، واستولى المسلمون على غنائم كثيرة وآلات، وجعلوا ذلك كله بالحصن، ولم يحدث شيء بعد إلى رمضان، فتوجه الكافر إلى حصن قنبيل ونازله وهد أسواره، ولم رأى المسلمون أن الحصن قد دخل طلبوا الأمان، وخرجوا بأموالهم وأولادهم مؤمنين، وفر الناس من تلك المواضع مع البراجلة هاربين، واستولى العدو على عدة حصون مثل مشاقر وحصن اللوز، وضيق العدو بجميع بلاد المسلمين، ولم يتوجه إلى ناحية إلا استأصلها، ولا قصد جهة إلا أطاعته وحصلها، ثم إن العدو دبر الحيلة مع ما هو عليه من القوة، فبعث إلى السلطان أبي عبد الله الذي تحت أسره وكساه ووعده بكل ما يتمناه، وصرفه لشرقي بسطة، وأعطاه المال والرجال، ووعده أن من دخل تحت حكمه من المسلمين وبايعه من أهل البلاد فإنه في الهدنة والصلح والعهد والميثاق الواقع بين السلطانين، وخرج لبلش فأطاعه أهلها، ودخلت بلش في طاعته، ونودي بالصلح في الأسواق، وصرخت(4/516)
به في تلك البلاد الشياطين، وسرى هذا الأمر حتى بلغ أرض البيازين من غرناطة، وكانوا من التعصب وحمية الجاهلية والجهل بالمقام الذي لا يخفى، وتبعهم بعض المفسدين المحبين في تفريق كلمة المسلمين، وممن مال إلى الصلح عامة غرناطة لضعف الدولة، ووسوس للناس شياطين الفتنة وسماسرتها بتقبيحٍ وتحسينٍ، إلى أن قام ربض البيازين بدعوة السلطان الذي كان مأسوراً عند المشركين، ووقعت فتنة عظيمة في غرناطة نفسها بين المسلمين لما أراده الله تعالى من استيلاء العدو على تلك الأقطار، ورجموا البيازين بالحجارة من القلعة، وعظم الخطب، وكانت الثورة ثالث شهر ربيع الأول عام أحد وتسعين وثمانمائة، ودامت الفتنة إلى منتصف جمادى الأولى من العام، وبلغ الخبر أن السلطان الذي قاموا بدعوته قدم على روشة ودخلها على وجه رجاء الصلح بينه وبين عمه الزغل صاحب قلعة غرناطة، بأن العم يكون له الملك، وابن أخيه تحت إيالته بلوش أو بأي المواضع أحد، ويكونون يداً واحدة على عدو الدين، وبينهم في هذا إذا بصاحب قشتالة قد خرج بجند عظيم ومحلة قوية وعدد وعدد، ونازل لوشة حيث السلطان أبو عبد الله الذي كان أسيراً، وضيق بها الحصار، وكان قد دخلها جماعة من أهل البيازين بنية الجهاد ولمعاضدة وليهم، وخاف أهل غرناطة وسواها من أن يكون ذلك حيلة، فلم يأت لنصرته غيرالبيازين، واشتد عليهم الحصار، وكثرت الأقاويل، وصرحت الألسن بأن ذلك باتفاق بين السلطان المأسور وصاحب قشتالة، ودخل على أهل لوشة في ربضهم، وخافوا من الاستئصال، فطلبوا الأمان في أموالهم وأنفسهم وأهليهم، فوفى لهم صاحب قشتالة بذلك، وأخذ البلد في السادس والعشرين لجمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وثمانمائة. وهي - أعني لوشة - كانت بلد سلف الوزير لسان الدين ابن الخطيب، كما ذكرناه مستوفى في غير هذا الموضع، وهاجر أهل لوشة إلى غرناطة، وبقي السلطان أبو عبد الله الذي كان مأسوراً مع النصراني في لوشة، فصرح عند ذلك أهل غرناطة بأنه ما جاء للوشة إلا ليدخل إليها العدو الكافر(4/517)
ويجعلها فداء له، وقيل: إن سرح له حينئذٍ ابنه إذ كان مرهوناً في الفداء، وكثر القيل والقال بينهم وبين أهل البيازين، فظهر بذلك ما كان كامناً بالقلوب، ثم رجع صاحب قشتالة إلى بلاده ومعه السلطان المذكور.
وفي نصف جمادى الثانية خرج إلى إلبيرة فهد بعض الأسوار، وتوعد الناس، فأعطاه أهله الحصن على الأمان، فخرجوا وقدموا على غرناطة، ثم فعل بحصن المتلين (1) مثل ذلك، وقاتلوا قتالاً شديداً، ولما ضاقوا ذرعاً أعطوه بالمقادة على الأمان، فخرجوا إلى غرناطة وأطاع أهل قلنبيرة من غير قتال، فخرجوا إلى غرناطة ثم وصل العدو إلى منتفريد، فرمى عليهم بالمحروقات وغيرها وأحرق دارالعدة، وطلبوا الأمان، وخرجوا إلى غرناطة، وانتقل للصخرة فأخذها، وحصن هذه الحصون كلها، وشحنها بالرجال والعدة، ورتب فيها الخيل لمحاصرة غرناطة، ثم عاد الكافر لبلاده، وتعاهد مع السلطان الذي في أسره بأن من دخل في حكمه وتحت أمره فهو في الأمان التام، وأشاعوا أن ذلك بسبب فتنة وقعة بينه وبين صاحب إفرنسية، فخرج لبلش وأطاعته، ثم بعث لمن والاه من البلاد أنه أتى بصلح صحيح وعقد وثيق، وأن من دخل تحت أمره أمن من حركة النصارى عليه، وأن معه وثائق بخطوط السلاطين، فلم يقبل الناس ذلك، إلا القليل منهم مثل أهل البيازين، فلهجوا بهذا الصلح وأقاموا على صفحته الدلائل، وتكلموا في أهل غرناطة بالكلام القبيح، مع تمكن الفتنة والعداوة في القلوب، فبعث له أهل البيازين أنه إذا قدم بهذه الحجج لتلك الجهات اتبعه الناس، وقاموا بدعوته من غير التباس، فأتى على حين غفلة، ولم يكن يظن اتيانه بنفسه، فأتى البيازين ودخلها ونادى في أسواقها بالصلح التام الصحيح، فلم يقبل ذلك منه أهل غرناطة، وقالوا: ما بعهد لوشة من قدم، ودخل ربض البيازين سادس شوال سنة إحدى وتسعين وثمانمائة، وعمه بالحمراء،
__________
(1) هذا ما ثبت في ص؛ وفي ق: الملتين، وفي دوزي: المثلين.(4/518)
انتقل للقلعة، واشتد أمر الفتنة، ثم إن صاحب قشتالة أمد صاحب البيازين بالرجال والعدة والمال والقمح والبارود وغيرها، واشتد أمره بذلك، وعظمت أسباب الفتنة، وفشا في الناس القتل والنهب، ولم يزل الأمر كذلك إلى السابع والعشرين من محرم سنة اثنين وتسعين وثمانمائة، فعزم أهل غرناطة مع سلطانهم على الدخول على البيازين عنوةً، وتكلم أهل العلم في من النتصر بالنصارى ووجوب مدافعته، ومن أطاعه عصى الله ورسوله، فدخلوا على أهل البيازين دخول فشل، ثم إن صاحب غرناطة بعث إلى الأجناد والقواد من أهل بصرة ووادي آش والمرية والمنكب وبلش ومالقة وجميع الأقطار، وتجمعوا بغرناطة، وتعاهدوا، وتحالفوا على أن يدهم واحدة على أعداء الدين، ونصرة من قصده العدو من المسلمين، وخاف صاحب البيازين فبعث لصاحب قشتالة في ذلك فخرج لمحلته قاصداً نواحي بلش، وكان صاحب البيازين بعث وزيره إلى ناحية مالقة وإلى حصن المنشأة يذكر ويخوف، ومعه نسخة من عقود الصلح، فقامت مالقة وحصن المنشأة بعوته، ودخلوا في إيالته خوفاً من صاحب قشتالة وصولته، وطمعاً في الصلح وصحته، ثم اجتمع كبار مالقة مع أهل بلش وذكروا لهم سبب دخولهم في هذه الدعوة، والسبب الحالمل لهم على ذلك، فلم يرجع أهل بلش عما عاهدوا عليه أهل غرناطة وسائر الأندلس من العهود والمواثيق، وخرج صاحب قشتالة قاصداً بلش مالقة، ونزل عليها في ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة وحاصرها، ولما صح عند صاحب غرناطة ذلك اجتمع بالناس، فأشاروا بالمسير لإغاثة بلش للعهد الذي عقدوه، وأتى أهل وادي آش وغيرها وحشود البشرات، وخرج صاحب غرناطة منها في الرابع والعشرين لربيع الثاني من السنة، ووصل بلش، فوجد العدو نازلاً عليها براً وبحراً، فنزل بجبلٍ هنالك، وكسر لغط الناس، وحملوا على النصارى من غير تعبية، وحين حركتهم بالحملة بلغ السلطان الزغل أن غرناطة بايعت صاحب البيازين، فالتقوا مع النصارى فشلين وقبل الالتحام انهزموا، وتببد جموعهم مع كون(4/519)
النصارى خائفين وجلين منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فرجعوا منهزمين، وقد شاع عند الخواص ثورة غرناطة على السلطان، فقصدوا وادي آش، وعاد النصارى إلى بلش بعد أن كانوا رتبوا جيوشهم للقاء السلطان وأهل غرناطة، فلما عادوا إلى بلش دخلوا عنوة ربضها، وضيقوا بها، وكانت ثورة غرناطة، خامس جمادى الأولى.
ولما رأى أهل بلش تكالب العدو عليهم وإدبار جيوش المسلمين عنهم طلبوا الأمان، فخرجوا يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى من السنة، وأطاعت النصارى جميع البلاد التي بشرقي مالقة وحصن قمارش.
ثم انتقل العدو إلى حصار مالقة، وكان أهل مالقة قد دخلوا في الصلح وأطاعوا صاحب البيازين، وأتى إليها النصارى بالميرة، ولما نزل بلش بعثوا هدية لصاحب قشتالة مع قائدهم وزير صاحب البيازين وقائد شريش الذي كان مأسوراً عندهم، فلم يلتفت إليهم صاحب قشتالة لقيام جبل فاره وهو حصن مالقة بدعوة صاحب وادي آش، وارتحل صاحب قشتالة إلى مالقة ونازلها براً وبحراً، وقاتله أهلها قتالاً عظيماً بمدافعهم وعدتهم وخيلهم ورجلهم، وطال الحصار حتى أداروا على مالقة من البر الخنادق والسور والأجفان من البحر، ومنع الداخل إليها، ولم يدخلها غير جماعة من المرابطين حال الحصار، وحاربوا حرباً شديداً، وقربوا المدافع ودخلوا الأرباض، وضيقوا عليهم بالحصار إلى أن فني ما عندهم من الطعام (1) فأكلوا المواشي والخيل والحمير، وبعثوا الكتب للعدوتين وهم طامعون في الإغاثة فلم يأت إليهم أحد، وأثر فيهم الجوع، وفشا في أهل نجدتهم القتل، ولم يظهروا مع ذلك هلعاً ولا ضعفاً، إلى أن ضعف حالهم، ويئسوا من ناصر أو مغيث من البر والبحر، فتكلموا مع النصارى في الأمان كما وقع ممن سواهم، فعوتبوا على ما صدر منهم وما وقع من الجفاء، وقيل لهم
__________
(1) من الطعام: سقطت من ص.(4/520)
لما تحقق العدو التجاءهم: تؤمنون من الموت، وتعطون مفتاح القلعة والحصن، والسلطان ما يعاملكم إلا بالخير إذا فعلتم، وهذا خداع من الكفار، فلما تمكن العدو منهم أخذهم أسرى، وذلك أواخر شعبان سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولم يبق في تلك النواحي موضع إلا وملكه النصارى.
وفي عام ثلاثة وتسعين وثمانمائة خرج العدو الكافر إلى الشرقية وبلش التي كانت في الصلح، فاستولى عليها، واحتجوا بالصلح، فلم يلتفت إليهم، وأخذ تلك البلاد كلها صلحاً، ثم رجع لبلاده.
وفي عام أربعة وتسعين وثمانمائة خرج لبعض حصون بسطة فأخذها بعد حرب، واستولى على ما هنالك من الحصون، ثم نازل بسطة، وكان صاحب وادي آِ لما تعين العدو بمحلته بعث جميع جنده وقواده، وحشد أهل نجدة تلك البلاد من وادي آش والمرية والمنكب والبشرات، فلما نزل العدو بسطة أتت الحشود المذكورة ودخلوها ووقعت بين المسلمين والنصارى حروب عظيمة حتى تقهقر العدو عن قرب بسطة، ولم يقدر على منع الداخل والخارج، وبقي الأمر كذلك رجباً وشعبان ورمضان ومحلات المسلمين نازلة خارج البلد، ثم إن العدو شد الحصاروجد في القتال، وقرب المدافع والآلات من الأسوار حتى منع الداخل والخارج بعض منعٍ، واشتد الحال في ذي القعدة وذي الحجة وقل الطعام، وفي آخر ذي الحجة اختبروا الطعام في خفية فلم يجدوا إلا القليل، وكانوا طامعين في إقلاع العدو عند دخول فصل الشتاء، وإذا بالعدو بنى وعزم على الإقامة، وقوي اليأس على المسلمين، فتكلموا في الصلح على ما فعل غيرهم من الأماكن، وظن العدو أن الطعام لم يبق منه شيء، وأن ذلك هو الملجئ لهم للكلام، وفهموا عنه ذلك، فاحتالوا في إظهار جميع أنواع الطعام بالأسواق، وأبدوا للعدو القوة مع كونهم في غاية الضعف، والحرب خدعة، فدخل بعض كبار النصارى للتكلم معهم وهو عين ليرى ما عليه البلد وما صفة الناس، وعند تحققهم بقاء الطعام والقوة أعطوهم الأمان على أنفسهم دون من أعانهم من أهل(4/521)
وادي آش والمنكب والمرية والبشرات، فإن دفعوا هؤلاء عنهم صح لهم الأمان، وإلا فلا، فلم يوافق أهل البلد على هذا، وطال الكلام، وخاف أهل البلد من كشف الستر، فاتفقوا أن تكون العقدة على بسطة ووادي آش والمرية والمنكب والبشرات، ففعلوا ذلك، ودخل جميع هؤلاء في طاعة العدو على شروط شرطوها وأمور أظهروها بعضها للناس وبعضها مكتوم، وقبض الخواص مالاً، وحصلت لهم فوائد.
وفي يوم الجمعة عاشر محرم سنة خمس وتسعين وثمانمائة دخل النصارى قلعة بسطة وملكوها، ولم يعلم العوام كيفية ما وقع عليه الشرط والالتزام، وقالوا لهم: من بقي بموضعه فهو آمن، ومن انصرف خرج بماله وسلاحه سالماً، ثم أخرج العدو المسلمين من البلد، وأسكنهم بالربض خوف الثورة، ثم ارتحل العدو للمرية، وأطاعته جميع تلك البلاد، ونزل صاحب وادي آش للمرية ليلقاه بها، فلقيه وأخذ الحصون والقلاع والبروج، وبايع له السلطان أبو عبد الله على أن يبقى تحت طاعته في البلاد التي تحت حكمه كما أحب، فوعده بذلك، وانصرف معه إلى وادي آش، ومكنه من قلعتها أوائل صفر من العام المذكور، وأطاعته جميع البلاد، ولم يبق غير غرناطة وقراها، وجميع ما كان في حكم صاحب وادي آش صار للنصارى في طرفة عين، وجعل في كل قلعة قائداً نصرانياً، وكان قائد من المسلمين أصحاب هذه البلاد دفع لهم الكفار مالاً من عند صاحب قشتالة إكراماً منه لهم بزعمهم، فتباً لعقولهم، وما ذلك منه إلا توفير لرجاله وعدته ودفع بالتي هي أحسن، ثم أخذ برج الملاحة وغيره، وبناه وحصنه، وشحن الجميع بالرجال والذخيرة، وأظهر الصحبة والصلح مع صاحب وادي آش، وأباح الكلام بالسوء في حق صاحب غرناطة مكراً منه وخداعاً ودهاء، ثم بعث في السنة نفسها رسلاً لصاحب غرناطة أن يمكنه من الحمراء كما مكنه عمه من القلاع والحصون، ويكون تحت إيالته، ويعطيه مالاً جزيلاً على ذلك، وأي بلاء شاء من الأندلس يكون فيها تحت حكمه، قالوا:(4/522)
وأطعمه صاحب غرناطة في ذلك، فخرج العدو في محلاته لقبض الحمراء والاستيلاء على غرناطة، وهذا في سر بين السلطانين، فجمع صاحب غرناطة الأعيان والكبراء والأجناد والفقهاء والخاصة والعامة وأخبرهم بما طلب منه العدو وأن عمه أفسد عليه الصلح الذي كان بينه وبين صاحب قشتالة بدخوله تحت حكمه، وليس لنا إلا إحدى خصلتين: الدخول تحته، أو القتال، فاتفق الرأي على الجهاد والوفاء بما عقده من صلح، وخرج بمحلته.
ثم إن صاحب قشتالة نزل على مرج غرناطة، وطلب من أهل غرناطة الدخول في طاعته، وإلا أفسد عليهم زروعهم، فأعلنوا بالمخالفة، فأفسد الزرع، وذلك في رجب سنة خمس وتسعين وثمانمائة، ووقعت بين المسلمين والعدو حروب كثيرة، ثم ارتحل العدو عند الإياس منهم ذلك الوقت، وهدم بعض حصون، وأصلح برج همدان والملاحة، وشحنهما بما ينبغي، ثم رجع إلى بلاده، وعند انصرافه نزل صاحب غرناطة بمن معه إلى بعض الحصون التي في يد النصارى ففتحها عنوة، وقتل من فيها من النصارى، وأسكنها المسلمين، ورجع لغرناطة، ثم أعمل الرحلة إلى البشرات في رجب المذكور، فأخذ بعض القرى، وهرب من بها من النصارى والمرتدين أصحابهم، ثم أتى حصن أندرش فتمكن منه، وأطاعته البشرات، وقامت دعوة الإسلام بها، وخرجوا عن ذمة النصارى، وهنالك عمه أبو عبد الله محمد بن سعد بجملة وافرة، فقصدهم في شعبان من غرناطة، واستقر عمه بالمرية، وأطاعت صاحب غرناطة جميع البشرات إلى برجة، ثم تحرك عمه مع النصارى إلى أندرش فأخذها لرمضان، ورج صاحب غرناطة لقرية همدان، وكان برجها العظيم مشحوناً بالرجال والعدة والطعام، فحاصره أهل غرناطة، ونصبوا عليه أنواعاً من الحرب، ومات فيه خلق كثير منهم، ونقبوا البرج الأول والثاني والثالث، وألجؤوهم للبرج الكبير، وهو القلعة، فنقبوها ثم أسروا من كان بها، وهو ثمانون ومائة، واحتووا على ما هنالك من عدة وآلات حرب.(4/523)
وفي آخر رمضان خرج صاحب غرناطة بقصد المنكب، فلما وصل حصن شلوبننية نزله، وأخذه عنوة بعد حصارة، وامتنعت القلعة، وجاءتهم الأمداد من مالقة بحراً فلم تقدر على شيء، وضيقوا بالقلعة، فوصلهم الخبر أن صاحب قشتالة خرج بمحلته لمرج غرناطة، فارتحل صاحب غرناطة عن قلعة شلوبانية، وجاء غرناطة ثالث شوال، وبعد وصولهم غرناطة وصل العدو إلى المرج ومعه المرتدون والمدجنون، وبعد ثمانية أيام ارتحل العدو لبلاده بعد هدم برج الملاحة وإخلائه وبرج آخر، وتوجه إلى وادي آش، فأخرج المسلمين منها، ولم يبق بها مسلم في المدينة ولا الربض، وهدم قلعة أندرش، وحاف على البلاد، ولما رأى ذلك السلطان الزغل وهو أبو عبد الله محمد بن سعد عم سلطان غرناطة بادر بالجواز لبر العدوة فجاز لوهران، ثم لتلمسان، واستقر بها، وبها نسله إلى الآن يعرفون ببني سلطان الأندلس، ودخل صاحب قشتالة لأقاصي مملكته بسبب فتنة بينه وبين الإفرنج ثم تحرك صاحب غرناطة على برشانة وحاصرها وأخذها، وأسر من كان بها من النصارى وأرادت فتيانه (1) القيام على النصارى، فجاء صاحب وادي آش ففتك فيهم.
وفي ذي القعدة من السنة رفع صاحب غرناطة من الند وخلت تلك الأوطان من الانس.
وفي ثاني عشري جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وثمانمائة خرج العدو بمحلاته إلى مرج غرناطة، وأفسد الزرع، ودوخ الأرض، وهدم القرى، وأمر ببناء موضع بالسور والحفير، وأحكم بناءه، وكانوا يذكرون أنه عزم على الانصراف فإذا به صرف الهمة إلى الحصار والإقامة، وصار يضيق على غرناطة كل يوم، ودام القتال سبعة أشهر، واشتد الحصار بالمسلمين، غبر أن النصارى على بعد، والطريق بين غرناطة والبشرات متصلة بالمرافق والطعام من ناحية
__________
(1) ق ص: ر فنيانه.(4/524)
جبل شلير، إلى أن تمكن فصل الشتاء، وكلب البرد، ونزل الثلج، فانسد باب المرافق، وقطع الجالب، وقل الطعام، واشتد الغلاء، وعظم البلاء، واستولى العدو على أكثر الأماكن خارج البلد، ومنع المسلمين من الحرث والسبب، وضاق الحال، وبان الاختلال، وعظم الخطب، وذلك أول عام سبعة وتسعين وثمانمائة، وطمع العدو في الاستيلاء على غرناطة بسبب الجوع والغلاء دون الحرب، ففر ناس كثيرون من الجوع إلى البشرات، ثم اشتد الأمر في شهر صفر من السنة، وقل الطعام، ثم تفاقم الخطب، فاجتمع ناس مع من يشار إليه من أهل العلم، وقالوا: انظروا في أنفسكم وتكلموا مع سلطانكم، فأحضر السلطان أهل الدولة وأرباب المشورة، وتكلموا في هذا المعنى، وأن العدو يزداد مدده كل يوم، ونحن لا مدد لنا، وكان ظننا أنه يقلع عنا في فصل الشتاء، فخاب الظن، وبنى وأسس، وأقام، وقرب منا، فانظروا لأنفسكم وأولادكم، فاتفق الرأي على ارتكاب أخف الضررين، وشاع أن الكلام وقع بين النصارى ورؤساء الأجناد قبل ذلك في إسلام البلد خوفاً على نفوسهم وعلى الناس، ثم عددوا مطالب وشروطاً أرادوها، وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش: منها أن صاحب رومة يوافق على الالتزام والوفاء بالشرط إذا أمكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون، ويحلف على عادة النصارى في العهود، وتكلم الناس في ذلك، وذكروا أن رؤساء أجناد المسلمين لما خرجوا للكلام في ذلك امتن عليهم النصارى بمال جزيل وذخائر، ثم عقدت بينهم الوثائق على شروط قرئت على أهل غرناطة، فانقادوا إليها، ووافقوا عليها، وكتبوا البيعة لصاحب قشتالة، فقبلها منهم، ونزل سلطان غرناطة من الحمراء.
وفي ثاني ربيع الأول من السنة - أعني سنة سبع وتسعين وثمانمائة - استولى النصارى على الحمراء ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهناً خوف الغدر، وكانت الشروط سبعة وستين منها: تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم(4/525)
وعقارهم، ومنها إقامة شريعتهم على ما كانت ولا يحكم أحد عليهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، وأن لايدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحداً، وأ، لايولى على المسلمين إلا مسلم أو يهودي ممن يتولى عليهم من قيل سلطانهم قبل، وأن يفتك جميع من أسر في غرناطة من حيث كانوا، وخصوصاً أعياناً نص عليهم، ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا سواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا الكراء ثم بعذ تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء (1) ، وأن لايؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياماً حتى يظهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد، ولا يعاتب على من قتل نصرانياً أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى (2) ولا يسفر لجهة من الجهات، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولا يدخل مسجداً من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمناً في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصلٍ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منه يعاقب، ويتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره. م بعذ تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء، وأن لايؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياماً حتى يظهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد، ولا يعاتب على من قتل نصرانياً أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى ولا يسفر لجهة من الجهات، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولا يدخل مسجداً من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمناً في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصلٍ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منه يعاقب، ويتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره.
وبعد انبرام ذلك ودخول النصارى للحمراء والمدينةة جعلوا قائداً بالحمراء وحكاماً ومقدمين بالبلد، ولما علم ذلك أهل البشرات دخلوا في هذا الصلح، وشملهم حكمه على هذه الشروط، ثم أمر العدو الكافر ببناء ما يحتاج إليه في
__________
(1) ثم ... والكراء: سقطت من ص.
(2) أيام ... النصارى: سقطت من ص.(4/526)
الحمراء وتحصينها، وتجديد بناء قصورها وإصلاح سورها، وصار الطاغية يختلف إلى الحمراء نهاراً ويبيت بمحلته ليلاً إلى أن اطمأن من خوف الغدر، فدخل المدينة، وتطوف بها، وأحاط خبراً بما يرومه، ثم أمر سلطان المسلمين أن ينتقل لسكنى البشرات وأنها تكون له وسكناه بأندرش، فانصرف إليها وأخرج الأجناد منها، ثم احتال في ارتحاله لبر العدوة، وأظهر أن ذلك طلبه منه المذكور، فكتب لصاحب المرية أنه ساعة وصول كتابي هذا لا سبيل لأحد أن يمنع مولاي أبا عبد الله من السفر حيث أراد من بر العدوة، ومن وقف على هذا الكتاب فليصرفه ويقف معه وفاء بما عهد له، فصرف في الحين بنص هذا الكتاب، وركب البحر، ونزل بمليلة، واستوطن فاساً، وكان قبل طلب الجواز لناحية مراكش، فلم يسعف بذلك وحين جوازه لبر العدوة لقي شدة وغلاء ووباء.
ثم إن النصارى نكثوا العهد، ونقضوا الشروط عروة عروة، إلى أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة، بعد أمور وأسباب أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا: إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من النصارى أن يرجعوا قهراً للكفر، ففعلوا ذلك، وتكلم الناس ولا جهد لهم ولا قوة، ثم تعدوا إلى أمر آخر، وهو أن يقولوا للرجل المسلم: إن جدك كان نصرانياً فأسلم فترجع نصرانياً، ولما فحش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم، وهذا كان السبب للتنصر، قالوا: لأن الحكم خرج من السلطان أن من قام على الحاكم فليس إلا الموت إلا أن يتنصر فينجو من الموت، وبالجملة فإنهم تنصروا عن آخرهم وبادية وحاضرة، وامتنع قوم من التنصر، واعتزلوا الناس، فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك منها بلفيق وأندرش وغيرهما، فجمع لهم العدو الجموع، واستأصلهم عن آخرهم قتلاً وسبياً، إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة مات فيها صاحب قرطبة، وأخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من مالهم دون الذخائر، ثم بعد هذا كله كان من أظهر التنصر من المسلمين(4/527)
يعبد الله في خفية ويصلي، فشدد عليهم النصارى في البحث، حتى إنهم أحرقوا منهم كثيراً بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلاً عن غيرها من الحديد، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مراراً ولم يقيض الله لهم ناصراً، إلى أن كان إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب أعوام سبعة عشر وألف، فخرجت ألوف بفاس، وألوف أخر بتلمسان من وهران، وجمهورهم خرج بتونس، فتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم،وهذا ببلاد تلمسان وفاس، ونجا القليل من هذه المعرة، وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها الخالية وبلادها، وكذلك بتطاوين وسلا ومتيجة (1) الجزائر. ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى منهم عسكراً جراراً وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور الآن، وحصنوا قلعة سلا، وبنوا بها القصور والدور والحمامات وهم الآن بهذا الحال، ووصل جماعة إلى القسطنطينية العظمى وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصف، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
والسلطان المذكور الذي أخذت على يده غرناطة هو أبو عبد الله محمد الذي انقرضت بدولته مملكة الإسلام بالأندلس، ومحيت رسومها، ابن السلطان أبي الحسن ابن السلطان سعد ابن الأمير علي ابن السلطان يوسف ابن السلطان محمد الغني بالله، واسطة عقدهم، ومشيد مبانيهم الأنيقة، وسلطان دولتهم على الحقيقة، وهو المخلوع الوافد على الأصقاع المرينية بفاس، العائد منها لملكه في أرفع الصنائع الحمانية العاطرة الأنفاس، وهوسلطان لسان الدين ابن الخطيب، وقد ذكرنا جملة من أخباره في غبر هذا الموضع، ابن السلطان أبي الحجاج يوسف ابن السلطان اسماعيل قاتل سلطان النصارى دون بطره بمرج غرناطة ابنفرج "
__________
(1) ق ص: وقيجة.(4/528)
[ابن اسماعيل] بن يوسف بن نصر بن قيس، الأنصاري، الخزرجي، رحمهم الله تعالى جميعاً.
وانتهى السلطان المذكور بعد نزوله بمليلة إلى مدينة فاس بأهله وأولاده معتذراً عما أسلفه، متلهفاً على ما خلفه، وبنى بفاس بعض قصور على طريق بنيان الأندلس، رأيتها ودخلتها، وتوفي رحمه الله تعالى بفاس عام أربعين وتسعمائة، ودفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة وخلف ولدين اسم أحدهما يوسف والآخر أحمد وعقب هذا السلطان بفاس إلى الآن، وعهدي بذريته بفاس سنة 1027،يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين، ويعدون من جملة الشحاذين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
رسالة المخلوع أبي عبد الله إلى الشيخ الوطاسي
وقد رأيت أن أذكر هنا الرسالة التي كتب بها المخلوع المذكور إلى سلطان فاس الشيخ الوطاسي (1) ، وهي من إنشاء الكاتب المجيد البارع البليغ أبي عبد الله محمد بن عبد الله العربي العقيلي رحمه الله تعالى وسماها ب " الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس " ونصها بعد الافتتاح:
مولى الملوك ملوك العرب والعجم رعياً لما مثله يرعى من الذّمم
بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن جار الزّمان عليه جور منتقم
حتى غدا ملكه بالرغم مستلباً وأفظع الخطب ما يأتي على الرغم
حكمٌ من الله حتمٌ لا مردّ له وهل مردٌّ لحكمٍ منه منحتم
وهي الليالي وقاك الله صولتها تصول حتى على الآساد في الأجم
كنّا ملوكاً لنا في أرضنا دولٌ نمنا بها تحت أفنانٍ من النعم
__________
(1) وردت هذه الرسالة في أزهار الرياض 1: 72 - 102.(4/529)
فأيقظتنا سهام للردى صيب يرمى بأفجع حتف من بهن رمي
فلا تنم تحت ظلّ الملك نومتنا وأيّ ملكٍ بظلّ الملك لك ينم
يبكي عليه الذي قد كان يعرفه بأدمعٍ مزجت أمواهها بدم
كذلك الدّهر لم يبرح كما زعموا يشمّ بوّ الصّغار الأنف ذا الشمم
وصل أواصر قد كانت لنا اشتبكت فالملك بين ملوك الأرض كالرحم
وابسط لنا الخلق المرجوّ باسطه واعطف ولا تنحرف واعذر ولا تلم
لا تأخذنّا بأقوال الوشاة ولم ... نذنب ولو كثرت أقوال ذي الوخم (1) فما أطقنا دفاعاً للقضاء، ولا أرادت آنفسنا ما حلّ من نقم
ولا ركوباً بإزعاجٍ لسابحةٍ في زاخر بأكفّ الموج ملتطم
والمرء ما لم يعنه الله أضيع من طفلٍ تشكّى بفقد الأم في اليتم
وكل ما كان غير الله يحرسه فإنّ محروسه لحمٌ على وضم
كن كالسموأل إذ سار الهمام له ... في جحفلٍ كسواد اللّيل مرتكم فلم يبح أدرع الكندي وهو يرى أن ابنه البر قد أشفى على الرجم
أو كالمعلّى مع الضليل الأروع إذ أجاره من أعاريب ومن عجم
وصار يشكره شكراً يكافئ ما أسدى إليه من الآلاء والنّعم
ولا تعاتب على أشياء قد قدرت وخطّ مسطورها في اللوح بالقلم
" وعدّ عمّا مضى إذ لا ارتجاع له " (3) ... وعدّ أحرارنا في جملة الخدم
إيهٍ حنانيك يا ابن الأكرمين على ... " ضيفٍ ألمّ بفاسٍ غير محتشم " (4)
__________
(1) من قول كعب بن زهير:
لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم ... أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل (3) مضمن من الشعر القديم.
(4) اقتبس صدر بيت المتنبي، وعجزه " السيف أحسن فعلاً منه باللمم ".(4/530)
فأنت أنت ولولا أنت ما نهضت بنا إليها خطا الوخّادة الرّسم
رحماك يا راحماً ينمى إلى رحما في النفس والأهل والأتباع والحشم
فكم مواقف صدقٍ في الجهاد لنا والخيل عالكة الأشداق للّجم
والسيف يخضب بالمحمرّ من علق ما ابيضّ من سبلٍ واسودّ من لمم
ولا ترى صدر عضب غير منقصف ولا ترى متن لدن غير منحطم
حتى دهينا بدهيا لا اقتدار لها سوى على الصون للأطفال والحرم
فقال من لم يشاهدها فربّتما يخال جامحها يقتاد بالخطم
هيهات لو زبنته الحرب كان بها ... أعيى يداً من يدٍ جالت على رحم (1) تالله ما أضمرت غشّاً ضمائرنا ولا طوت صحّةً منها على سقم
لكن طلبنا من الأمر الذي طلبت ولاتنا قبلنا في الأعصر الدّهم
فخاننا عنده الجدّ الخؤون، ومن تقعد به نكبات الدهر لم يقم
فاسودّ ما اخضرّ من عيشٍ دهته عداً بالأسمر اللّدن أو بالأبيض الخذم
وشتت البين شملاً كان منتظماً والبين أقطع للموصول من جلم
فربّ مبنى شديد قد أناخ به ركب البلا فقرته أدمع الديم
قمنا لديه أصيلاناً نسائله ... أعيا جواباً وما بالربع من إرم (2) وما ظننّا بأن نبقى إلى زمن نرى به غرر الأحباب كالحمم
لكن رضىً بالقضا الجاري وإن طويت منّا الضلوع على برحٍ من الألم
لبّيك يا من دعانا نحو حضرته دعاء إبراهم الحجّاج للحرم
واعط الأمان الذي رصّت قواعده على أساس وفاء غير منهدم
خليفة الله وافاك العبيد فكن في كلّ فضلٍ وطولٍ عند ظنهم
وبين أسلافنا ما قد علمت به من اعتقاد بحكم الإرث مقتسم
__________
(1) يشير إلى قولهم " أذل من يد في رحم ".
(2) من قول النابغة:
وقفت فيها أصيلاناً أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد(4/531)
وأنت منهم كأصلٍ مطلع غصناً أو كالشراك الذي قد قدّ من أدم
وقد خطوت خطاهم في مآثرهم فلم يذموا إذن فيها ولم تذم
وصيت مولى الورى الشيخ الإمام غدا في الناس أشهر من نارٍ على علم
سلالة الأمراء الجلّة الكبراء العلية الظهراء القادة البهم
بنو مرين ليوثٌ في عرين ابوا رؤيا قرينٍ لهم في البأس والكرم
النازلين من البيضاء وسط حمىً أحمى من الأبلق السامي ومن إرم
والجائسين بدهم الخيل كل ذرا والداعسين بسمر الخط كل كمي
يريك فارسهم إن هزّ عامله في مارقٍ بلظى الهيجاء مضطرم
ليثاً على أجدلٍ عارٍ من آجنحةٍ يسطو بأرقم لدّاغ بغير فم
في اللاّم يدغم من عسّاله ألفاً ولم نجد ألفاً أصلاً بمدّغم
أهل الحفيظة يوم الروع يحفظهم من عصمة الله ما يربي على العصم
يا من تطير شرارٌ منه محرقةٌ لكلّ مدّرعٍ بالحزم محتزم
هم بطائفة التثليث قد فتكوا كمثل ما يفتك السرحان بالغنم
وإن يلثمهم يوم الوغى رهجٌ أنسوك ما ذكروه عن ذوي اللثم
تضيء آراؤهم في كلّ معضلةٍ إضاءة السّرج في داجٍ من الظّلم
هذا ولو من حياءٍ ذاب محتشمٌ لذاب منهم حياءً كلّ محتشم
طابت مدائحهم إذ طابت آنفسهم فاشتقّت النسمات آسماً من النسم
لله درّهم والسّحب باخلة بدرّهن على الأنعام والنعم
بحيث آلافق يرى من لون حمرته كالشيب يخضب بالحنّاء والكتم
هناك تنهلّ أيديهم بصوب حياً يحيي بالاجداث ما فيها من الرّمم
وأنّ بيتي زيادٍ (1) طالما ذكرا ... إذ ألمّت أحاديث بذكرهم أحلام عادٍ وأجسامٌ مطهّرةٌ من لمعقّة والآفات والأثم
__________
(1) زياد: النابغة الذبياني.(4/532)
يرون حقاًعليهم حفظ جارهم فلم يضر نازلٌفيهم ولم يضم
فروعه بالدواهي لا يراع، ولا يغمّ منها بما يعرو من الغمم
هم البحار سماحاً غير أنّ بها ما قد أناف على الأطواد من همم
وليس يسلم من حتفٍ محاربهم حتى يكون إليهم ملقي السّلم
كم فيهم من أميرٍ أوحد ندسٍ يقرطس الغرض المقصود بالفهم
ولا كبسط أبي حسون (1) من حسنت ... أمداحه حسن ما فيه من الشيم هذاكم ابن أبي ذكرى الهمام فقل في أصله المنتقى من مجده العمم
خليفة الله حقّاً في خليقته كنائب ناب في حكمٍ عن الحكم
مهما تنر قسماتٌ منه نيرةٌ تنل بنازله ما جلّ من نعم
فوجهه بدجىً أو كفّه بجدىً أبهى من الزهر أو أندى من الديم
وفضله وله الفضل المبين جرى كجري آلامثال في الأقطار والأمم
وجوده المتوالي للبريّة ما وجوده بينها طرّاً بمنهدم
إذا ابتغت نعماً منه العفاة له لم يسمعوا كلمةً منه سوى نعم
وإن يعبّس زمانٌ في وجوههم لم يبصروا غير وجهٍ منه مبتسم
وجه تبين سمات المكرمات به كما تبين سمات الصدق في الكلم
وراحةٌ لم تزل في كلّ آونةٍ في نيلها راحة الشاكي من العدم
لله ما التزمته من نوافله أيّام لا فرض مفروضٍ بملتزم
أنسى الخلائف في حلمٍ وفي شرفٍ وفي سخاءٍ وفي علمٍ وفي فهم
فجاز معتمداً منهم ومعتضداً وامتاز عن واثقٍ منهم ومعتصم
وناصر الدين في الإقبال فاق، وفي محبّة العلم أزرى بابنه الحكم
أفعال أعدائه معتلّةٌ أبداً متى يرم جذمها بالحذف تنجزم
__________
(1) أبو حسون: هو أبو الحسن علي بن محمد الشيخ بن أبي زكريا يحيى بن زيان الوطاسي ويعرف بابن حسون الباذسي، بويع بفاس أول مرة سنة 932.(4/533)
فويل أهل القلى من حيّة ذكرٍ للمتلئبّ المهام المجر ملتقم
راموا عداوة من إن شاء غادرهم من الأحاديث عن عادٍ وعن إرم
فسوف يأكلهم من جيشه لجبٌ بكلّ قرمٍ إلى لحمانهم قرم
وإنّ آلاعراب إذ ساروا لغايته لسائرون إلى لقمٍ على لقم
وهم كما قاله ماضٍ " أرى قدمي بسعيه نحو حتفي قد أراق دمي "
فقل إذاً للمناوي الناو لان أذىً يا غرّ غرك ما أبصرت في الحلم
له صوارم لو ناجتك ألسنها لبشّرتك بعمرٍ منك منصرم
وأنّ روحك عن قربٍ سيقبضه قبض المسلّم ما قد حاز من سلم
فهو الذي ما له ندٌّ يشابهه من كلّ متّصفٍ بالدهي متّسم
يدبّر الأمر تدبيراً يخلّصه ممّا عسى أن يرى فيه من الوهم
ويبصر الغيب لحظ الذهن منه إذا تعمى عن آدراكه ألحاظ كلّ عمي
وينعم النّظر المفضي بناظره لصوب وجه صواب واضح اللقم
ذو منطقٍ لم تزل تجلو نتائجه عن مبطل بخصام المبطل الخصم
ومسمعٍ ليس يصغي للوشاة فلم ينفق لديه الذي عنهم إليه نمي
فعقله لا توازيه العقول، وهل يوازن الطود ما قد طال من أكم
إيهٍ جميع الورى من بدو آو حضر نداء مرتبط بالنّصر مرتسم
شدوا وجدّوا ولا تعنوا ولا تهنوا قد لفّها الليل بالسّوّاقة الحطم
هذا الإمام المريني السعيد له سعدٌ يؤيده في كل مصطدم
قد أقسمت أنّه المنصور ألسنةٌ من نخبة الأوليا مبرورة القسم
فشيّعوه ووالوه تروا عجباً وتظفروا معه بالأجر والغنم
والحمد لله إذ أبقى خلافته كهفاً لنا من يخيّم فيه لم يرم
حرز حريزٌ وعزٌّ قائمٌ وندىً غمرٌ دراكٌ بلا منّ ولا سأم
دامت ودام لها سعدٌ يساعدها في كلّ مبتدإ منه ومختتم
فالله عزّ اسمه قد زانها بحلىً من غرّ أمداحه كالدّرّ في النّظم(4/534)
الواهب الألف بعد الألف من ذهبٍ كالجمر يلمع في مستوقد الضّرم
والفاعل الفعل لم يهمم به أحدٌ والقائل القول فيه حكمة الحكم
ذاكم هو الشيخ فاعجب أنّه هرمٌ جوداً وحاشاه أن يعزى إلى هرم
وحسبنا أن أيدينا به اعتصمت من حبله بوثيقٍ غير منفصم
فما مخالفه يوماً بمضطهدٍ ولا مؤالفه يوماً بمهتضم
ولا موافيه في جهدٍ بمطّرحٍ ولا مصافيه في ودٍّ بمتّهم
ولا محيّا محيّيه بمنكسفٍ ولا رجاء مرجّيه بمنخرم
وما تكرّمه سرّاً بمنكشفٍ ولا تنكّره جهراً بمكتتم
وليس لامح مرآه بمكتئبٍ وليس راضع جدواه بمنفطم
ولا مقبّل يمناه الكريمة في محلّ ممتهنٍ بل دست محترم
وما وسيلتنا العظمى إليه سوى ما ليس ينكر ما فيها من العظم
وإنما هي وما أدراك ما هي من وسيلةٍ ردّها أدهى من الوخم
نبيّنا المصطفى الهادي بخير هدىً محمّدٌ خير خلق الله كلّهم
داعي الورى من أولي خيم وأهل قرى إلى طريق رشادٍ لاحبٍ أمم
عليه منّا صلاة الله ما ذكرت ... " أمن تذكّر جيرانٍ بذي سلم " (1) وما تشفّع فيها بالشّفيع له دخيل حرمته العلياء في الحرم
ربنا ظلمكنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم، نعم المولى ونعم النصير.
أما بعد حمد الله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي طلع طلوع الفجر بل البدر فلاح، يدعو إلى سبيل
__________
(1) صدر قصيدة البوصيري المشهورة في مدح الرسول (ص) .(4/535)
كل فلاح، أولي قلوب غافلة ونفوس سواه، والرضى عن آله وأصحابه وعترته الأكرمين وأحزابه الذين تلقوا بالقبول ما أورده عليهم من أوامر ونواه، وعزروه ونصروه في حال قربه ونواه، فيما مولانا الذي أولانا من النعم ما أولانا لا حط الله تعالى لكم من العزة رواقاً، ولا أذوى لدوحة دولتكم أغصاناً ولا أوراقاً، ولا زالت مخضرة العود، مبتسمةً عن زهرات البشائر متحفة بثمرات السعود، ممطورة بسحائب البركات المتداركات دون بروق ولا رعود، هذا مقام العائذ بمقامكم، المتعلق بأسباب ذمامكم، المترجي لعواطف قلوبكم وعوارف إنعامكم، المقبل الأرض تحت أقدامكم، المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم، وما الذي يقول من وجهه خجل، وفؤاده وجل، وقضيته المقضية عن لتنصل والاعتذار تجل، بيد أني أقول لكم ما أقوله لربي واجترائي عليه أكثر، واحترامي إليه أكبر: اللهم لا بريء (1) فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، لكني مستقيل، مستنيل مستعتب مستغفر " وما أبرّئ نفسي، إنّ النّفس لأمّارةٌ بالسّوء "، هذا على طريق التنزل والإنصاف، بما تقتضيه الحال ممن يتحيز إلى حيز الإنصاف، وأما على جهة التحقيق، فأقول ما قالته الأم ابنة الصديق (2) : " والله إني لأعلم أني إن أقررت بما يقوله الناس والله يعلم أني منه بريئة لأقول ما لم يكن، ولئن أنكرت ما تقولون لا تصدقوني، فأقول ما قاله أبو يوسف: صبر جميل والله المستعان على ما تصفون ". على أني لا أنكر عيوبي فأنا معدن العيوب، ولا أجحد ذنوبي فأنا جبل الذنوب، إلى الله أشكو عجري وبجري، وسقطاتي وغلطاتي، نعم كل شيء ولا ما يوله المتقول، المشنع المهول، الناطق بفم الشيطان المسول، ومن أمثالهم " سبني واصدق، ولا تفتر ولا تخلق "، أفمثلي كان يفعل أمثالها، ويحتمل من الأوزار أحمالها ويهلك نفسه ويحبط أعمالها، عياذاً بالله
__________
(1) ص ق: لا بريكة.
(2) انظر إمتاع الأسماع: 209 مع اختلاف في النص.(4/536)
من خسران الدين، وإيثار الجاحدين والمعتدين، قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، وايم الله لو علمت شعرة في فودي تميل إلى تلك الجهة لقطعتها، بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطعتها، غير أن الرعاع في كل وقت وأوان، للملك أعداء وعليه أحزاب وأعوان، كان أحمق أو أجهل من أبي ثروان (1) ، أو أعقل أو أعلم من أشج بني مروان (2) ، رب متهم بري ومسربلٍ بسربال وهو منه عري، وفي الأحاديث صحيح وسقيم، ومن التراكيب المنطقية منتج وعقيم، ولكن ثم ميزان عقل، تعتب ربه أوزان النقل، وعلى الراجح الاعتماد، ثم إشاعة الأحماد، المتصل المتماد، وللمرجوح الاطراح، ثم التزام (3) الصراح، بعد النفض من الراح، وأكثر ما تسمعه الكذب، وطبع جمهور الخلق إلا من عصمه الله تعالى إليه منجذب، ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار، ورمينا بما لا يرمى به الكفار، فضلاً عن الفجار، وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمر ما لديكم منه حفظ الجار، وإذا عظم الإنكاء، فعلى تكاءة التجلد الاتكاء، أكثر المكثرون، وجهد في تعثيرنا المتعثرون، ورمونا عن قوس واحدة، ونظمونا في سلك الملاحدة، أكفراً أيضاً كفراً، غفراً (4) اللهم غفراً، أعد نظراً يا عبد قيس، فليس الأمر على ما خيل لك ليس، وهل زدنا على أن طلبنا حقنا، ممن رام محقه ومحقنا، فطاردنا في سبيله عداة كانوا لنا غائظين، فانفتق علينا فتقٌ لم يمكنا له رتق، وما كنا للغيب حافظين. وبعد فاسأل أهل الحل والعقد، والتمييز والنقد، فعند جهينتهم تلقى الخبر يقينا، وقد رضينا بحكمهم يؤثمنا فيوبقنا أو يبرئنا فيقينا، إيه يا من اشرأب إلى ملامنا، وقدح حتى في إسلامنا، رويداً رويداً، فقد وجدت قوةً وأيداً، ويحك إنما طال لسانك علينا، وامتد بالسوء
__________
(1) هو هبنقة القيسي مضرب المثل في الحمق.
(2) هو عمر بن عبد العزيز.
(3) ق ص: الزم.
(4) ص ق: غداً.(4/537)
إلينا لأن الزمان لنا مصغر ولك مكبر، والأمر عليك مقبل وعنا مدبر، كما قال كاتب الحجاج الموبر، وعلى الجملة فهبنا صرنا إلى تسليم مقالك جدلاً، وذهبنا فأقررنا بالخطإ في كل ورد وصدر، فلله در القائل (1) :
" إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر " ... وكأنا بمعتسف إذا وصل إلى هنا، وعدم إنصافه يعلمه إلهنا، قد ازور متجانفاً، ثم افتر متهانفاً، وجعل يتمثل بقولهم: إذا عيروا قالوا مقادير قدرت، وبقولهم: المرء يعجزه المحال، فيعارض الحق بالباطل، والحالي بالعاطل، ومنزع بقول القائل: رب مسمع هائل، وليس تحته [من] طائل، وقد فرغنا أول أمس من جوابه، وتركنا الضغن يلصق حرارة (2) الجوى به. وسنلم الآن بما يوسعه تسكيتاً، ويقطعه تبكيتاً، فنقول له: ناشدناك الله تعالى، هل اتفق لك قط وعرض، خروج أمر ما عن القصد منك فيه والغرض مع اجتهادك أثناءه في إصدارك وإيرادك، في وقوعه على وفق اقتراحك ومرادك، أو جميع ما تزاوله بإدارتك، ل يقع إلا مطابقاً لإرادتك، أو كل ما تقصده وتنويه، تحرزه كما تشاء وتحويه فلا بد أن يقر اضطراراً، بأن مطلوبه يشذ عنه مراراً، بل كثيراً ما يفلت صيده من أشراكه. ويطلبه فيعجز عن إدراكه، فنقول: ومسألتنا من هذا القبيل، أيها النبيه النبيل، ثم نسرد له من الأحاديث النبوية ما شينا، مما يسايرنا في غرضنا ويماشينا، كقوله صلى الله عليه وسلم " كل شيء بقضاء وقدر، حتى العجز والكيس " وقوله أيضاً " لو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه " أو كما قال، صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) هو أبو العتاهية (ديوانه: 449) وقبله:
هي المقادير فلمني أو فذر ... تجري المقادير على غرز الإبر (2) ص: حزازة.(4/538)
فأخلق أن يلوذ بأكناف الإحجام، ويزم على نفثة فيه كأنما ألجم بلجام، حينئذٍ نقول له والحق قد أبان وجهه وجلاه، وقهره بحجته وعلاه: ليس لك من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله، وفي محاجة آدم وموسى ما يقطع لسان الخصم، ويرخص عن أثواب أعراضنا ما عسى أن يعلق بها من درن الوصم، وكيفما كانت الحال، وإن ساء الرأي والانتحال، ووقعنا في أوجال وأوحال، فثل عرشنا، وطويت فرشنا، ونكس لوانا، وملك مثوانا، فنحن أمثل من سوانا، وفي الشر خيار، ويد اللطائف تكسر من صولة الأغيار، فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفاً، ولا عدمنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفاً، وإلا فتلك بغداد دار السلام، ومتبوأ الإسلام، المحفوف بفرسان السيوف والأقلام، مثابة الخلافة العباسية، ومقر العلماء والفضلاء أولي السير الأويسية (1) ، والعقول الإياسية (2) ، قد نوزلت بالجيوش ونزلت، وزوولتت بالزحوف وزلزلت، وتحيف جوانبها الجيف، ودخلها كفار التتار عنوة بالسيف، ولا تسل إذ ذاك عن كيف، أيام تجلت عروس المنية كاشفة عن ساقها مبدية، وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية، وقيد الأئمة والقضاة تحت ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم في رقابهم والأردية، وللنجيع سيول، تخوضها الخيول، فتخضبها إلى أرساغها، وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عن تجرعها ومساغها، فطاح عاصمها ومستعصمها، وراح ولم يعد ظالمها ومتظلمها، وخربت مساجدها وديارها، واصطلم بالحسام أشرارها وخيارها، فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف، حسبما عرفت أو حسبما تعرف، فلا تك متشككاً متوقفاً، فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند المؤرخين من قفا، فأين تلك الجحافل، والآراء المدارة في المحافل حين أراد الله تعالى
__________
(1) نسبة إلى أويس القرني الزاهد.
(2) نسبة إلى غياس بن معاوية القاضي الذي يضرب به المثل في الزكانة.(4/539)
بإدالة الكفر، لم تجد ولا قلامة ظفر، فمن سلمت له نفسه التي هي رأس ماله، وعياله وأطفاله اللذان هما من أعظم آماله، وكل أو جل أو أقل (1) رياشه، وأسباب معاشه الكفيلة بانتهاضه وانتعاشه، ثم وجد مع ذلك سبيلاً إلى الخلاص، في حال مياسرة ومساهلة دون تعصب واعتياص، بعد أن ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص، فما أحقه حينئذٍ وأولاه، أن يحمد خالقه ورازقه ومولاه، على ما أسداه غليه من رفده وخيره، ومعافاته مما ابتلي به كثير من غيره، ويرضى بكل إيراد وإصدار، تتصرف فيهما الأحكام الإلهية والأقدار، فالدهر غدار، والدنيا دار مشحونة بالأكدار، والقضاء لا يرد، ولا يصد، ولا يغالب، ولا يطالب، والدائرات تدور، ولا بد من نقص وكمال للبدور، والعبد مطيع لا مطاع، وليس يطاع إلا المستطاع، وللخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيبٍ للأذهان عن مداه انقطاع.
ومالي والتكلف لما لا أحتاج إليه من هذا القول، بين يدي ذي الجلالةالمجادة والفضل والطول فله من العقل الأرجح، ومن الخلق الأسجح، ما لا تلتاط معه تهمتي بصفره (2) ، ولا تنفق عنده وشاية الواشي لا عد من نفره، ولا فاز قدحه بظفره، والمولى يعلم أن الدنيا تلعب باللاعب، وتجر براحتها إلى المتاعب، وقديماً للأكياس من الناس خدعت، وانحرفت عن وصالهم أعقل ما كانوا وقطعت، وفعلت بهم ما فعلت بيسار الكواعب تلك التي جبت وجدعت، ولئن رهصت وهصرت، فقد نبهت وبصرت، ولئن قرعت وأمعضت، لقد ارشدت ووعظت، ويا ويلنا من تنكرها لنا بمرة، ورميها لنا في غمرةٍ أي غمرة، أيام قلبت لنا ظهر المجن، وغيم أفقها المصحي وادجن، فسرعان ما عاينا حبالها منيتة، ورأينا منه مالم نحتسب كما تقوم الساعة بغتة، فمن استعاذ من شيء
__________
(1) ق ص: أعقل.
(2) يريد: لا تعلق بقلبه.(4/540)
فليستعذ مما صرنا إليه من الحور بعد الكور، والانحطاط من النجد إلى الغور:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقةٌ تتنصّف (1) فأفٍّ لدنيا لا يدوم نعيمها تقلّب تاراتٍ بنا وتصرّف
وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقاً، وجرعتنا من صاب الأوصاب كأساً دهاقاً، ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب، المنفتح حين سدت الأبواب، ولك نلبس غير لباس نعمائكم حين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب، وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان، وعند الشدائد تمتاز السيوف في الأجفان من الأجفان، ووجه الله تعالى يبقى وكلّ من عليها فانٍ، وإلى هنا ينتهي القائل ثم يقول: حسبي هذا وكفان.
ولا ريب في اشتمال العلم الكريم، على ما تعارفته الملوك بينها في الحديث والقديم، من الأخذ باليد عند زلة القدم، وقرع الأسنان وعض البنان من الندم، ديناً تدينت حتى مع اختلاف الأديان، وعادة اطردت فيهم على تعاقب الأزمان والأحيان.
ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه المؤكد فيه خطه بأيمانه ما يقنع النفوس ويكفيها، فلم نر ونحن من سلالة الأحمر، مجاورة الصفر، ولا سوغ لنا الإيمان الإقامة بين ظهراني الكفر، ما وجدنا عن ذلك مندوحة ولو شاسعة، وأمنا من المطالب المشاغب حمة شرٍ لنا لاسعة، وادكرنا أي ادكار، قول الله تعالى المنكر لذلك غاية الإنكار " ألم تكن أرض الله واسعة " وقول الرسول، عليه الصلاة والسلام، المبالغ في ذلك بأبلغ الكلام " أنا بريء من مؤمن مع كافر لا تتراءى ناراهما " (2) وقول الشاعر الحاث على
__________
(1) ورد البيتان في قصة حرقة بنت النعمان تخاطب فروة بن إياس بن قبيصة (المحاسن والأضداد: 115) .
(2) نص الحديث: أنا بريء من كل مسلم مع شرك، قيل: لم يا رسول الله قال: لا تراءى ناراهما.(4/541)
حث المطية، المتثاقلة عن السير في طريق منجاتها البطية:
وما أنا والتلدّد نحو نجد ... وقد غصّت تهامة بالرجال ووصلت أيضاً من الشرق إلينا، كتبٌ كريمة المقاصد لدينا، تستدعي الانحياز إلى تلك الجنبات، وتتضمن ما لا مزيد عليه من الرغبات، فلم نختر إلا دارنا التي كانت دار آبائنا من قبلنا، ولم نرتض الإنضواء إلا لمن بحبله وصل حبلنا، وبريش نبله ريش نبلنا، إدلالاً على محل إخاء متوارث لا عن كلالة، وامتثالاً لوصاة أجداد لأنظارهم وأقدارهم أصالة وجلالة، إذ قد روينا عمن سلف من أسلافنا، في الإيصاء لمن يخلف بعدهم من أخلافنا، أن لا يبتغوا إذا دهمهم داهم بالحضرة المرينية بدلاً، ولا يجدوا عن طريقها في التوجه إلى فريقها (1) معدلاً، فاخترقنا إلى الرياض الأريضة الفجاج، وركبنا إلى البحر الفرات ظهر البحر الأجاج، فلا غرو أن نرد منه على ما يقر العين، ويشفي النفس الشاكية من ألم البين، ومن توصل هذا التوصل، وتوسل بمثل ذلك التوسل، تطارحاً على سدة أمير المؤمنين، المحارب للمحاربين، والمؤمن للمستأمنين، فهو الخليق الحقيق بأن يسوغ أصفى مشاربه، ويبلغ أوفى مآربه، على توالي الأيام والشهور والسنين، ويخلص من الثبور إلى الحبور، ويخرج من الظلمات إلى النور، خروج الجنين، ولعل شعاع سعادته يفيض علينا، ونفحة قبول إقباله تسري إلينا، فتخامرنا أريحية تحملنا على أن نبادر، لإنشاد قول الشريف الرضي في الخليفة القادر (2) :
عطفاً أمير المؤمنين فإنّنا ... في دوحة العلياء لا نتفرّق
ما بيننا يوم الفخار تفاوتٌ ... أبداً، كلانا في المعالي معرق
إلاّ الخلافة ميّزتك، فإنّني ... أنا عاطلٌ منها وأنت مطوّق
__________
(1) ص: أفريقيا.
(2) ديوان الرضي 2: 42.(4/542)
لا بل الأحرى بنا والأحجى، والأنجح لسعينا والأرجى، أن نعدل عن هذا المنهاج، ويقوم وافدنا بين يدي علاه مقام الخاضع المتواضع الضعيف المحتاج، وينشد ما قال في الشيرازي ابن حجاج (1) :
الناس يفدونك اضطراراً ... منهم، وأفديك باختياري
وبعضهم في جوار بعضٍ ... وأنت حتى أموت جاري
فعش لخبزي وعش لمائي ... وعش لداري وأهل داري ونستوهب من الوهاب تعالى جلت أسماؤه، وتعاظمت نعماؤه، رحمةً تجعل في يد الهداية أعنتها، وعصمةً تكون في مواقف المخاوف جنتنا، وقبولاً يعطف علينا نوافر القلوب، وصنعاً يسني لنا كل مرغوب ومطلوب، ونسأله وطالما بلغ السائل سؤالاً ومأمولاً، متاباً صادقاً على موضوع الندم محمولاً، ثم عزاءً حسناً وصبراً جميلاً، عن أرض أورثها من شاء من عباده معقباً لهم ومديلاً، وسادلاً عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولاً " سنة الله التي قد خلت من قيل ولن تجد لسنة الله تبديلاً " فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيراً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، لم نستطع عن مورده صدوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
ألا وإن لله سبحانه، في مقامكم العلي الذي أيده وأعانه، سراص من النصر يترجم عنه لسان من النصل، وترجع فروع البشائر الصادقة، بالفتوحات المتلاحقة، من قاعدته المتأصلة، إلى أصل، فبمثله يجب اللياذ، والعياذ، ولشبهه يحق الالتجاء، والارتجاء، ولأمر ما آثرناه واخترناه، بعد أن استرشدنا الله سبحانه واستخرناه، ومنه جل جلاله نرغب أن يخير لنا ولجميع المسلمين ويأوينا من حمايته ووقايته إلى معقل منيع وجناب رفيع أمين، آمين آمين، ونرجو أن يكون ربنا، الذي هو في جميع الأمور حسبنا، قد خار لنا حيث أرشدنا وهدانا،
__________
(1) من أبيات لابن حجاج في أبي الفضل الشيرازي (اليتيمة 3: 47) .(4/543)
وساقنا توفيقه وحدانا، إلى الإستجارة بملك حفي، كريم وفي، أعز جاراً من أبي داوود، وأحمى أنفاً من الحارث بن عباد، يشهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والباد، إن أغاث ملهوفاً فما الأسود ابن قنان يذكر، وإن أنعش حشاشة هالكٍ فما كعب بنم مامة (1) على فعله وحده يشكر، جليسه كجليس القعقاع ابن شور (2) ، ووذاكره كمذاكر سفيان المنتسب من الرباب إلى ثور (3) ، إلى التحلي بأمهات الفضائل، التي أضدادها أمهات الرذائل، وهي الثلاث: الحكمة والعدل والعفة التي تشملها الثلاثة الأقوال والأفعال والشمائل، وينشأ منها ما شئت من عزم وحزم، وعلم وحلم، وتيقظ وتحفظ، واتقاء وارتقاء، وصول وطول، وسماح ونائل، فبنور حلاه المشرق، يفتخر المغرب على المشرق، وبمحتده السامي خطره في الأخطار، وبيته الذي ذكره في النباهة والنجابة قد طار، يباهي جميع ملوك الجهات والأقطار، وكيف لا وهو الرفيع المنتمى والنجار، الراضع من الطهارة صفو ألبان، الناشئ من السراوة وسط أحجار، في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم، وسراوة أسرة المملكة التي أكنافها حرم، وذؤابة الشرف التي مجاذبتها لم ترم، من معشر أي معشر بخلوا إن وهبوا ما دون أعمارهم، وجبنوا إن لم يحموا سوى ذمارهم، بنو مرين، وما أدراك ما بنو مرين:
سمّ العداة وآفة الجزر (4) ...
النازلون بكلّ معتركٍ ... والطيبون معاقد الأزر لهم من الهفوات انتفاء، وعندهم من السير النبوية اكتفاء، انتسبوا إلى بر
__________
(1) مضرب المثل في الإيثار لأنه آثر صاحبه النمري على نفسه بالماء ومات ظمأً.
(2) يضرب به المثل في حسن المجالسة، قال الشاعر:
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس (3) يريد سفيان الثوري، والرباب مجموعة قبائل فيها ثور وعوف وضبة.
(4) صدر هذا البيت من شعر الخرنق " لا يبعدن قومي الذين هم ".(4/544)
ابن قيس، فخرجوا في البر عن القيس (1) ، ما لهم القديم المعروف، قد نفد في سبيل المعروف، وحديثهم الذي نقلته رجال الزحوف، من طرق القنا والسيوف، على الحسن من المقاصد موقوف، تحمد من صغيرهم وكبيرهم ولدنهم، فلله آباء أنجبوهم وأمهات ولدنهم:
شمّ الأنوف من الطراز الأوّل (2) ... إليهم في الشدائد الاستناد وعليهم في الأزمات المعول، ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء والعناية والحماية والرعاية الخطو الواسع والباع الأطول، كأنما عناهم بقوله جرول (3) :
أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا
وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا
وتعذلني أبناء سعدٍ عليهم ... وما قلت إلاّ بالتي علمت سعد وبقوله الوثيق مبناه، البليغ معناه (4) :
قومٌ إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا (5) يزيحون عن النزيل كل نازح قاصم، وليس له منهم عائب ولا واصم، فهم أحق بما قاله في منقر قيس بن عاصم (5) :
__________
(1) القيس: المقايسة.
(2) عجز بيت لحسان، وصدره " بيض الوجوه كريمة أحسابهم ".
(3) ديوان الحطيئة: 41.
(4) ديوان الحطيئة: 16.
(5) العناج: حبل يجعل في أسفل الدلو تشد به العراقي، والكرب عقد مثني يشد على العراقي، والمعنى: إذا عقدوا أوفوا لمن عقدوا وكان عقدهم وثيقاً.
(5) العناج: حبل يجعل في أسفل الدلو تشد به العراقي، والكرب عقد مثني يشد على العراقي، والمعنى: إذا عقدوا أوفوا لمن عقدوا وكان عقدهم وثيقاً.(4/545)
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جوارهم فطن حلاهم هذه الغريزة التي ليست باستكراه ولا جعل، وأمير المؤمنين دام نصره قسيمهم فيها حذو النعل بالنعل، ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل، ارفض مزنهم منه عن غيث ملثٍ يمحو آثار اللزبة، وانشق غيلهم منه عن ليث ضارٍ متقبض على براثنه للوثبة، فقل لسكان الفلا: لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم، فلا يبالي السرحان المواشي سواء مشى إليها النقرى أو الجفلى (1) ، بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين، ثم يبتلع بعد أشلائهم المعفرة ابتلاع التنين، فهو كما عرفوه، وعهدوه وألفوه، أخو المنايا، وابن جلا وطلاع الثنايا، مجتمع أشده، قد احتنكت سنه وبان رشده، جاد مجد، محتزم بحزام الحزم مشمر عن ساعد الجد:
لا يشرب الماء إلا من قليب دم ... ولا يبيت له جار على وجل (2) أسدي القلب آدمي الرواء، لابس جلد النمر يزوي العناد والنواء (3) :
وليس بشاوي (4) عليه دمامة ... إذا ما سعى يسعى بقوس وأسهم ولكنه يسعى عليه مفاضة دلاص كأعيان الجراد المنظم
فالنجاء النجاء سامعين له طائعين، والوحى الوحى (5) لاحقين به خاضعين، قبل أن تساقوا إليه مقرنين في الأصفاد، ويعيا الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد، حينئذ يعض ذو الجهل والفدامة، على يديه حسرة وندامة، إذا رأى
__________
(1) النقري: الدعوة الخاصة، والجفلى: العامة، يعني وحده أو مع جماعة.
(2) البيت لأبي سعيد المخزومي (أمالي القالي 1: 259) .
(3) انظر اللسان (شوه - عين) .
(4) الشاوي: صاحب الشاء.
(5) في ق ص: والوجل الوجل.(4/546)
أبطال الجنود، تحت خوافق الرايات والبنود، قد لفحتهم نار ليست بذات خمود، وأخذتهم صاعقة مثل صاعقة الذين من قبلهم عاد وثمود، زعقات تؤز الكتائب أزاً، وهزاً محققاً للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزاً (1) ، وسلاً للهندية سلاً وهزاً للخطية هزاً، حتى يقول النسر للذئب: " هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً "، ثق خليفة الله بذاك، في كل من رام أذى رعيتك أو أذاك، فتلك عادة الله سبحانه وتعالى في ذوي الشقاق والنفاق، الذين يشقون عصا المسلمين ويقطعون طريق الرفاق، وينصبون حبائل البغي والفساد في جميع النواحي والآفاق، فلم يجعلهم الله عز وجل من الآمنين، أنى وكيف وقد أفسدوا وخانوا وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، وها نحن قد وجهنا إلى كعبة مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم، بعدما زينا معاطفها باستعطافكم بدر سناء أبهى من در العقد النظيم، منتظمين في سلك أوليائكم، متشرفين بخدمة عليائكم، ولا فقد عزة ولا عدمها، من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها، وإن المترامى على سنائكم، لجدير بحرمتكم واعتنائكم، وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصناً حصيناً، عاش بقية عمره محروساً من الضيم مصوناً، وقد قيل في بعض الكلام: من قعدت به نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكرام، ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر، ويصنعه لنا من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر، ويروي معنعن حديث حمده، وشكره طرس عن قلم عن بنان عن لسان عن فكر، وغيره من ينام عن ذلك فيوقظ، ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ، وما عهد منذ وجد إلا سريعاً إلى داعي الندى والتكرم، بريئاً من الضجر بالمطال والتبرم، حافظاً للجار الذي أوصى النبي، صلى الله عليه وسلم، بحفظه، مستفرغاً وسعه في رعيه المستمر ولحظه، آخذاً من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه:
__________
(1) ص: وعمزاً.(4/547)
فهو من دوحة السنا فرع عز ... ليس يحتاج مجتنيه لهز
كفه في الأمحال أغزر وبل ... وذراه في الخوف أمنع حرز
حلمه يسفر اسمه لك عنه ... فتفهم يا مدعي الفهم لغزي
لا تسله شيئاً ولا تستنله ... نظرة منه فيك تغني وتجزي
فنداه هو الفرات الذي قد ... عام فيه الأنام عوم الأوز
وحماه هو المنيع الذي تر ... جع عنهالخطوب مرجع عجز
فدعوا ذهنه يزاول قولي ... فهو أدرى بما تضمن رمزي
دام يحيا بكل صنع ومل ... ويعافى من كل بؤس ورجز وكأنا به قد عمل على شاكلة جلاله، من مد ظلاله، وتمهيد حلاله، وتلقى ورودنا بحسن تهلله واستهلاله، وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله، وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله، والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به في حله وارتحاله، ومآله وحاله، ويؤيد جنده المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله، وهز الذوابل لإطفاء ذباله، وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وأمواله، وأنظاره وأعماله، وكافن شؤونه وأحواله، وأحق ما نصل بالسلام وأولى، على المقام الجليل مقام الخليفة المولى، أزكى الصلاة والسلام على خاتمة أنبياءه وأرساله، سيدنا ومولانا محمد، صلى الله عليه وسلم وعلى جميع أصحابه وآله، صلاة وسلاماً دائمين أبداً موصولين بدوام الأبد واتصاله، ضامنين لمجددهما ومرددهما صلاح فاسد أعماله، وبلوغ غاية آماله، وذلك بمشيئة الله تعالى وإذنه وفضله وإفضاله، انتهى.
[ترجمة محمد العربي كاتب الرسالة نقلاً عن الوادي آشي]
وكاتب هذه الرسالة على لسان السلطان المخلوع، قال الوادي آشي في حقه (1) :
__________
(1) انظر تعريفاً بالفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد الله العقيلي العربي صاحب هذه الرسالة في أزهار الرياض 1: 103.(4/548)
إنه إمام الصناعة، وفارس حلبة القرطاس واليراعة، وواسطة عقد البلاغة والبراعة الذي قطف الكمال لما نور، ورتب محاسن البديع في درر فقره وطور، وغرف من بحر عجاج، واقتطف من خاطر وهاج، أبو عبد الله محمد بن عبد الله العربي العقيلي، وما أحسن قوله فيمن قد ظفر به المسلمون:
ألا رب مغرور تنصر ضلة ... فحاق به شؤم الضلال وشره
فإن يرتفع عند النصارى بالابتدا ... فكم عندنا من حرف حبل يجره وقال الوادي آشي أيضاً في موضع آخر ما نصه: ولشاعر العصر، ومالك زمامي النظم والنثر، والفقيه العالم المتقن المتفنن العارف الأوحد النبيه النبل، سيدي محمد العربي وصلى الله تعالى رفعة قدره، وحرس من غير الأيام أشعة بدره (1) :
الحب في جمهور أنواره ... فأين الإخوان والأحباب
وأين أين الإجتماعات، قد ... تهيأت لهن الأسباب
وأين بنت الجبن مهما بدت ... طارت إليها شوقاً الباب
وأين الألبان لأكوابها ... في برم الأرز تسكاب
واللحم بالبسباس قد ألفت ... لطبخه في القدر الأحطاب
والعود ذو دندنة يطبي ... آثارها للطاري دبداب
وملح الأصوات قد طورحت ... وجاء معبدٌ وزرياب (2)
وفض للهو ختام ولم ... يسد في وجه الهوى باب
وقيل للوقار قم قبل أن ... تسلب عنك الآن الاثواب
وكلّ إنسانٍ وما يشتهي ... ليس على مناه حجاب
__________
(1) قد تقرأ القصيدة معربة بشيء من التعسف، ولكني اعتقد أنها قد تعد من الشعر الملحون.
(2) سقط هذا البيت من ص.(4/549)
مسترسلاً ليس له عذل ... كلا ولا عليه رقاب
في راحة خلعت أرسانها ... لمثلها تعصر الأعناب
فكل بستان قد استأسدت ... فيه النواوير والاعشاب
وأطلع التراب أدواحه ... كأنها العرب الاتراب
لما تحلت بحلى زهرها ... داخلها بالحسن الاعجاب
عرائس ليس لها في سوى ... ماية أو ينية خطاب
أيام تبدي ثمرات بدا ... في جنباتهن الارطاب
كأنه في العيتن يافوت أو ... كأنه في الفم جلاب
هيهات هيهات أمان لها ... خلب برق لك خلاب
ما حوت الرؤوس أمثالها ... فكيف تحويهن الأذناب
قد عاق عن ذلك دهر به ... تعدم الأفراح والأطراب
يروم الإنسان غلاباً له ... والدهر للإنسان غلاب وقال رحمه الله تعالى لما نزل النصارى لمحاصرة غرناطة:
بالطبل في كل يوم ... وبالنفير نراع
وليس من بعد هذا ... وذاك إلا القراع
يا رب جبرك يرجو ... من هيض منه الذراع
لا تسلبني صبراً ... منه لقلب ادراع وله رحمه الله تعالى في الموشحات اليد الطولى، فمن ذلك قوله:
بدر أهل الزمان ... الرفيع القدر
لا تزل في أمان ... من كسوف البدر(4/550)
هل يصح الأمان ... من شبيه البدر
وهو مثل الزمان ... منتم للغدر
لم يغر الأغر ... غير غمر جاهل
عيشه الحلو مر ... وهو فيه ناهل
والصبا الغض مر ... وهو عنه ذاهل
مرشف البهرمان ... فوق ثغر الدرر
مطمع للأمان ... باقتراب الدر وعارض رحمه الله تعالى بهاتين الموشحتين الموشحة المشهورة:
ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري وممن عارض هذه الموشحة ابن أرقم إذ قال:
مبسم البهرمان ... في المحيا الدري
صاد قلبي وبان ... وأنا لم أدري والإنصاف أن معارضة العربي أحسن من هذه.
وله أيضاً معارضتان غير ماتقدم: الأولى قوله:
بان لي ثم بان ... ذا خدود حمر
ينثني مثل بان ... في ثياب خضر والثانية قوله:
هل لمرآك ثان ... في ثناه الدري
أو لحوباه ثان ... عن هواها العذري(4/551)
يا مليحاً جلا ... عن محيا جميل
همت فيه ولا ... هيمان جميل
مل قليلاً إلى ... من إليك يميل
عاشق فيك فان ... كاتم للسر
لك منه مكان ... في صميم الصدر ومن نظم العربي المذكور لما عرض عليه السلطان رياسة كتابه من قصيدة:
أوجه سعدى انحط عنه اللثام ... أم بدر أفق فض عنه الغمام
أم أنا في حالي لا عقل لي ... أم حلم قد لاح لي في المنام
يا لك مرأى من رأى حسنه ... هيج للقلب غراماً فهام
كأنما أقبس نور البها ... من وجه مولانا الإمام الهمام
ابن أبي الحسن الأسرى الذي ... قد كان للأملاك مسك الختام
ضرغام قد (1) أنجب شبهاً له ... في صدق بأس ومضاء اعتزام
حام وسام فأفاعيله ... تنقلها أبناء سام وحام
دام له النصر الذي جاءه ... والسيف من طلى أعاديه دام
فيا أمير المؤمنين الذي ... له بعروة اليقين اعتصام
أبشر بجد مقبل لم يؤل ... إلى انصراف لا ولا لانصرام
وعزة لم يفض بنيانها ... إلى انهداد لا ولا لانهدام
لله منك ملك جنده ... زهر النجوم (2) وهو بدر التمام ومنها:
يطرب من مادحه مثلما ... يطرب قلب الصب سجع الحمام
__________
(1) قد: سقطت من ق ص.
(2) ق: الدراري.(4/552)
فيفعل الشعر بأعطافه ... ما ليس تفعل بهن المدام
وإن حكى في حسنه يوسفاً ... فمدحه يشبه زهر الكمام ومنها:
فداره ليست ببغدادهم ... مع أنها تدعى بدار السلام ومنها:
أسأله الإعفاء من كل ما ... أعجز عن حمل له والتزام ومنها:
مستشفعاً له بخير الورى ... محمد عليه أزكى السلام ومنها:
وكل إنسان وما اختاره ... ورب ذي عذر قد أضحى يلام وآخرها:
فالحمد لله على أن غدا ... للشمل بعد الانصداع التئام ولنختم هذه الترجمة بقوله (1) :
جز بالبساتين والرياض فما ... أبهج مرئيها (2) وأحلاه
واعجب بها للنبات ولتك في ... أسفله ناظراً وأعلاه
وقدس الله عند ذاك وقل ... سبحانه لا إله إلا هو سبحان وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والحمد لله رب العالمين.
انتهى المجلد الرابع
__________
(1) الأبيات في أزهار الرياض 1: 103.
(2) ق: مرآها.(4/553)
القسم الثاني
في التعريف بلسان الدين ابن الخطيب، وذكر أنبائه التي يروق سماعها ويتأرج نفحها ويطيب، وما يناسبها من أحوال العلماء الأفراد، والأعلام الذين اقتضى ذكرهم شجون الكلام والاستطراد، وفيه أيضاً من الأبواب ثمانية، موصلة إلى جنات أدبٍ قطوفها دانية، وكل غصن منها رطيب(5/5)
فراغ(5/6)
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول
في أولية لسان الدين وذكر أسلافه، الذين ورث عنهم
المجد وارتضع در أخلافه، وما يناسب ذلك مما لا
يعدل المنصف إلى خلافه
أقول: هو الوزير، الشهير الكبير، لسان الدين الطائر الصيت في المغرب والمشرق المزري عرف الثناء عليه بالعنبر والعبير، المثل المضروب في الكتابة والشعر والطب ومعرفة العلوم على اختلاف أنواعها ومصنفاته تخبر عن ذلك ولا ينبئك مثل خبير، علم الرؤساء الأعلام، الوزير الشهير الذي خدمته السيوف والأقلام، وغني بمشهور ذكره عن مسطور التعريف والإعلام، واعترف له بالفضل أصحاب العقول الراجحة والأحلام.
قال سليل السلاطين الأمير العلامة إسماعيل بن يوسف ابن السلطان القائم بأمر الله محمد بن الأحمر نزيل فاس رحمه الله في كتابه المسمى بفرائد الجمان فيمن نظمني وإياه الزمان في حق المذكور ما نصه (1) : ذو الوزارتين، الفقيه الكاتب أبو عبد الله ابن محمد الرئيس الفقيه الكاتب المنتزي ببلده لوشة عبد الله ابن الفقيه الكاتب القائد سعيد بن عبد الله، ابن الفقيه الصالح ولي الله الخطيب سعيد، السلماني اللوشي المعروف بابن الخطيب.
__________
(1) هذا نص ما أورده أيضا في كتابه نثير فرائد الجمان: 242؛ وانظر أزهار الرياض 1: 186.(5/7)
وقال القاضي ابن خلدون المغربي المالكي رحمه الله في تاريخه الكبير (1) ، عندما أجرى ذكر لسان الدين، ما نصه: أصل هذا الرجل من لوشة، على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج، وعلى وادي شنحيل - ويقال شنيل - المخترق (2) في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال، كان له بها سلك معدود في وزرائها (3) ، وانتقل أبوه عبد الله إلى غرناطة، واستخدم لملوك بني الأحمر، واستعمل على مخازن الطعام؛ انتهى.
وقال غيره (4) : إن بيتهم يعرف قديماً ببني الوزير، وحديثاً ببني الخطيب، وسعيد جده الأعلى أول من تلقب بالخطيب، وكان من أهل العلم والدين والخير، وكذلك سعيد جده الأقرب كان على خلال حميدة من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب، خيراً صدراً، توفي عام ثلاثة وثمانين وستمائة، وأبوه عبد الله كان من أهل العلم بالأدب والطب، وقرأ على أبي الحسن البلوطي وأبي جعفر ابن الزبير وغيرهما وأجازه طائفة من أهل المشرق، وتوفي بطريف عام أحد وأربعين وسبعمائة شهيداً يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى من العام المذكور مفقوداً ثابت الجأش (5) ، شكر الله فعله.
قلت: وما ذكره هؤلاء أكثره مأخوذ من كلامه عند تعريفه رحمه الله بنفسه آخر الإحاطة، ولنذكر ملخصه إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه، مع ما فيه من الزيادة على ما سبق، وهي تتم للطالب أمله وتوفيه.
قال رحمه الله (6) : يقول مؤلف هذا الديوان تغمد الله خطله في ساعات (7)
__________
(1) تاريخ ابن خلدون 7: 332.
(2) ابن خلدون: المنحرف.
(3) ابن خلدون: كان له بها سلف معدودون في وزارتها.
(4) انظر أزهار الرياض 1: 186.
(5) ق: معقود الجأش.
(6) الإحاطة: الورقة 398.
(7) الإحاطة: ساعة.(5/8)
أضاعها، وشهوة من شهوات اللسان أطاعها، وأوقات للاشتغال بما لا يعنيه استبدل بها اللهو لما باعها: أما بعد حمد الله الذي يغفر الخطية، ويحث من النفس اللجوج المطية، فتحرك ركائبها البطية، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد مسير السبل الخير الوطية (1) ، والرضى عن آله وصحبه منتهى الفضل ومناخ الطية (2) ، فإنني لما فرغت من تأليف هذا الكتاب الذي حمل عليه فضل النشاط، مع الالتزام لمراعاة السياسة (3) السلطانية والارتباط، والتفت إليه فراقني منه صوان درر، ومطلع غرر، قد تخلدت مآثرهم مع ذهاب أعيانهم، وانتشرت مفاخرهم بعد انطواء زمانهم، نافستهم في اقتحام تلك الأبواب، ولباس تلك الأثواب (4) ، وقنعت باجتماع الشمل بهم ولو في الكتاب، وحرصت على أن أنال منهم قرباً، وأخذت أعقابهم أدباً وحباً (5) ، وكما قيل: ساقي القوم آخرهم شرباً، فأجريت نفسي مجراهم في التعريف، وحذوت بها حذوهم في بابي النسب والتصريف بقصد التشريف (6) ، والله سبحانه لا يعدمني وإياهم واقفاً يترحم، وركاب الاستغفار بمنكبه يزحم، عندما ارتفعت (7) وظائف الأعمال، وانقطعت من التكسبات حبال الآمال، ولم يبق إلا رحمة الله التي تنتاش النفوس وتخلصها وتعينها بميسم السعادة وتخصصها، جعلنا الله ممن حسن ذكره، ووقف على التماس ما لديه فكره، بمنه.
محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السلماني، قرطبي الأصل، ثم طليطليه، ثم لوشيه، ثم غرناطيه (8) ، يكنى أبا عبد الله،
__________
(1) الإحاطة: الباهرة الوطية.
(2) الإحاطة: المطية.
(3) الإحاطة: الآداب.
(4) ولباس ... الأثواب: سقطت من ق.
(5) الإحاطة: وأخذت من أعقابهم أدبا.
(6) الإحاطة: بقصد التعريف.
(7) الإحاطة: عند كتب.
(8) ثم لوشيه، ثم غرناطيه: سقطت من الإحاطة.(5/9)
ويلقب من الألقاب المشرقية بلسان الدين.
أوليتي: يعرف بيتنا في القديم بوزير (1) ، ثم حديثاً بلوشة ببني الخطيب، انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية كيحيى بن يحيى الليثي وأمثاله عند وقعة الربض الشهيرة، إلى طليطلة، ثم تسربوا (2) محومين على وطنهم قبل استيلاء الطاغية عليه، فاستقر منهم بالموسطة الأندلسية جملة من النبهاء تضمن منهم ذكر خلق، كعبد الرحمن قاضي كورة باغه، وسعيد المستوطن بلوشة الخطيب بها، المقرون اسمه بالتسويد عند أهلها، جارياً مجرى التسمية بالمركب في تاريخ الغافقي وغيره، وسكن عقبهم بها، وسكن بعضهم منتقرير مملكين إياها مختطين جبل التحصن والمنعة فنسبوا إليها.
وكان سعيد هذا من أهل العلم والخير والصلاح والدين والفضل وزكاء الطعمة (3) ، أوقفني الوزير (4) أبو الحكم ابن محمد المنتقريري - وهو بقية هذا البيت وإخباريه - على جدار برج ببعض ربى أملاكنا بلوشة تطؤه الطريق (5) المارة من غرناطة إلى إشبيلية، وقال: كان جدك يذيع بهذا المكان فصولاً من العلم، ويجهر بتلاوة القرآن، فيستوقف الرفاق المدلجة الحنين إلى نغمته، والخشوع إلى صدقه (6) ، فتعرس رحالها لصق جداره، وتريح ظهرها موهناً إلى أن يأتي على ورده. وتوفي وقد أصيب بأهله وحرمه عندما تغلب العدو على بلده عنوة في خبر طويل. وقفت على مكتوبات من المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود أمير المسلمين بالأندلس في غرض إعانته والشفاعة إلى الملكة زوج سلطان قشتالة بما يدل على نباهته قديماً
__________
(1) الإحاطة: ببني وزير.
(2) الإحاطة: تحرفوا.
(3) الإحاطة: النعمة.
(4) الإحاطة: الشيخ المسن الوزير.
(5) الإحاطة: في وسط الطريق المارة.
(6) الإحاطة: لحنين نغمته ولخشوع صدقه.(5/10)
ويفيد إثارة عبرة، واستقالة عثرة.
وتخلف ولده عبد الله جارياً مجراه في التجلد والتمعش من حر النشب، والتزيي بالانقباض، والتحلي بالنزاهة، إلى أن توفي وتخلف ولده سعيداً جدنا الأقرب، وكان صدراً خيراً مستولياً على خلال حميدة، من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب، نافس جيرته بني الطنجالي الهاشميين، وتحول إلى غر ناطة عندما شعر بعملهم على الثورة، واستطلاعهم على النزوة التي خضدت الشوكة، واستأصلت منهم الشأفة، وصاهر بها الأعيان من بني أضحى بن عبد اللطيف الهمداني أشراف جند حمص الداخلين إلى الجزيرة في طليعة (1) بلج بن بشر القشيري، ولحقه من جراء منافسيه لما جاهروا السلطان بالخلعان اعتقال أعتبه السلطان بعده، وأحظاه على تفئته، وولاه الأعمال النبيهة والخطط الرفيعة.
حدثني من أثق به قال: عزم السلطان على أن يقعد جدك أستاذاً لولده، فأنفت من ذلك أم الولد إشفاقاً عليه من فظاظة كانت فيه، ثم صاهر القواد من بني الجعدالة على أم أبي، ومتت إلى زوج السلطان ببنوة الخؤولة (2) ، فنبه القدر، وانفسحت الخطوة، وانثال على البيت الرؤساء والقرابة، وكان - على قوة شكيمته وصلابة مكسره - مؤثراً للخمول، محباً في الخير، حدثني أبي عن أمه قالت: قلما تهنأنا نحن وأبوك (3) طعاماً حافلاً لإيثاره به من كان يكمن بمسجد جواره من أهل الحاجة وأحلاف الضرورة، يهجم علينا منهم بكل وارد، ويجعل يده مع يده (4) ، ويشركه في أكيلته (5) ، ملتذاً بموقعها من فؤاده. وتوفي في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، صهرته الشمس مستسقياً في بعض المحول،
__________
(1) في ص ق: طلعة، وأثبتناه رواية الإحاطة، والمشهور: طالعة.
(2) الإحاطة: ومتت على أم السلطان ببني الأخوة.
(3) الإحاطة: مع أبيك.
(4) مع يده: سقطت من ق والإحاطة.
(5) الإحاطة: ويشاركه في أكلته.(5/11)
وقد استغرق في ضراعته، فدلت الحتف على نفسه.
وتخلف والدي نابتاً في الترف نبت العليق يكنفه رعي أم تجر ذيل نعمة وتحنو منه على واحد تحذر عليه النسيم إذا سرى، ففاته لترفه حظ كبير من الاجتهاد؛ وعلى ذلك فقرأ على الخطيب أبي الحسن البلوطي (1) والمقرئ أبي عبد الله ابن مسمغور (2) وأبي جعفر ابن الزبير (3) خاتمة الجلة، وكان يفضله. وانتقل إلى لوشة بلد سلفه مخصوصاً بلقب الوزارة إلى أن قصدها السلطان أبو الوليد متخطياً إلى الحضرة هاوياً إلى الملك البيضة، فعضد أمره، وأدخله بلده، لدواع يطول استقصاؤها، ولما تم له الأمر صحب ركابه إلى دار ملكه مستأثراً بشقص (4) عريض من دنياه، وكان من رجال الكمال، طلق الوجه، مع الظرف، وتضمن كتاب التاج المحلى والإحاطة رائقاً من شعره، وفقد في الكائنة العظمى بطريف يوم الاثنين سابع جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ثابت الجأش، غير جزوع ولا هيابة. حدثني الخطيب بالمسجد الجامع من غرناطة الفقيه أبو عبد الله ابن اللوشي قال: كبا بأخيك الطرف، وقد غشي العدو، وجنحت إلى إردافه، فانحدر إليه والدك، وصرفني، وقال: أنا أولى به، فكان آخر العهد بهما؛ انتهى.
ومما رثي به والد لسان الدين وأخوه ما ذكره في الإحاطة في ترجمة أبي محمد عبد الله الأزدي إذ قال ما نصه (5) : ومما كتب إلي فيما أصابني بطريف:
خطب ألم فأذهب الأخ والأبا رغماً لأنف شاء ذلك أو أبى
قدر جرى في الخلق لا يجد امرؤ عما به جرت المقادر مهربا
إما جزعت له فعذر بين قضت الدواهي أن تحل له الحبا
__________
(1) الإحاطة: الملوكي.
(2) ق ص: سمعون.
(3) وقع بدله في الإحاطة: وأبي إسحاق ابن زروال.
(4) الشقص: الحصة والنصيب.
(5) ترجم لعبد الله الأزدي في الإحاطة الورقة: 218؛ ولكن الشعر لم يرد في هذه النسخة.(5/12)
لا كان يومهما الكريه فكم وكم ... فيه المجلي والمصلي قد كبا
يوم لوى ليانه لم يبق لل ... إسلام حد مهند إلا نبا
وتجمعت فيه الضلال فقابلت ... فيه الهدى فتفرقت أيدي سبا
آهاً لعز المحتدين صرامة ... لأذل عز المهتدين وأذهبا
دهم المصاب فعم إلا أنه ... فيما يخصك ما أمر وأصعبا
يا ابن الخطيب خطاب مكترث لما ... قد ألزم البث الألد وأوجبا
قاسمتك الشجو المقاسمة التي ... صارت بخالص ما محضتك مذهبا
لم لا وأنت لدي سابق حلبة ... تزهى بمن في السابقين تأدبا
لا عاد يوم نال منك ولا أتت ... سنة به ما الليل أبدى كوكبا
يهني الشهيدين الشهادة إنها ... سبب يزيد من الإله تقربا
وردا على دار النعيم وحورها ... كلفاً ببرهما يزدن ترحبا
فاستغن بالرحمن عمن قد ثوى ... من حزب خير من ارتضى ومن اجتبى فأجبته بقولي:
أهلاً بمقدمك السني ومرحبا ... فلقد حباني الله منك بما حبا
وافيت والدنيا علي كأنها ... سم الخياط وطرف صبري قد كبا
والدهر قد كشف القناع ولم يدع ... لي عدة للروع إلا أذهبا
صرف العنان إلي غير مدافع ... عني، وأثبت دون نصرتي الشبا (1)
خطب تأوبني يضيق لهوله ... رحب الفضا وتهي لموقعه الربى
لو كان بالورق الصوادح في الدجى (2) ... ما بي لعاق الورق عن أن تندبا
فأنرت من ظلماء همي ما دجا ... وقدحت من زند اصطباري ما خبا
__________
(1) اضطرب ترتيب هذه الأبيات الأربعة في ق.
(2) الدجى: سقطت من ق ص.(5/13)
فكأنني لعب الهجير بمهجتي ... وبعثت لي من نفحها نفس الصبا (1)
لا كان يومك يا طريف فطالما ... أطلعت للآمال برقاً خلبا
ورميت دين الله منك بفادح ... عم البسيط مشرقاً ومغربا
وخصصتني بالزرء والثكل الذي ... أوهى القوى مني وهد المنكبا
لا حسن للدنيا لدي ولا أرى ... للعيش بعد أبي وصنوي مأربا
لولا التعلل بالرحيل وأننا ... ننضي من الأعمار فيها مركبا
فإذا ركضنا للشبيبة أدهماً ... حال المشيب به فأصبح أشهبا
والملتقى كثب وفي ورد الردى ... نهل الورى من شاء ذلك أو أبى
لجريت طوع الحزن دون نهاية ... وذهبت من خلع التصبر مذهبا
والصبر أولى ما استكان له الفتى ... رغماً، وحق العبد أن يتأدبا (2)
وإذا اعتمدت الله يوماً مفزعاً ... لم تلف منه سوى إليه المهربا [واقعة طريف]
وواقعة طريف هذه استشهد فيها جماعة من الأكابر وغيرهم، وكان سببها أن سلطان فاس أمير المسلمين أبا الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس برسم الجهاد ونصرة أهلها على عدوهم، حسبما جرت بذلك عادة سلفه وغيرهم من ملوك العدوة، وشمر عن ساعد الاجتهاد، وجر من الجيوش الإسلامية نحو ستين ألفاً، وجاء إليه أهل الأندلس بقصد الإمداد، وسلطانهم ابن الأحمر ومن معه من الأجناد، فقضى الله الذي لا مرد لما قدره، أن صارت تلك الجموع مكسرة، ورجع السلطان أبو الحسن مفلولاً، وأضحى حسام الهزيمة عليه وعلى من معه مسلولاً، ونجا برأس طمرة
__________
(1) ق: وبعثت لي نفس الصبابة والصبا.
(2) ق: يتأوبا.(5/14)
ولجام (1) ، ولا تسل كيف، وقتل جمع من أهل الإسلام، ولمة وافرة من الأعلام، وأمضى فيهم حكمه السيف، وأسر ابن السلطان وحريمه وخدمه، ونهبت (2) ذخائره، واستولت على الجميع أيدي الكفر والحيف، واشرأب العدو الكافر لأخذ ما بقي من الجزيرة ذات الظل الوريف، وثبتت قدمه إذ ذاك في بلد طريف، وبالجملة فهذه الواقعة من الدواهي المعضلة الداء، والأرزاء التي تضعضع لها ركن الدين بالمغرب، وقرت بذلك عيون الأعداء، ولولا خشية الخروج عن المقصود لأوردت قصتها الطويلة، وسردت منها ما يحق لسامعه أن يكثر بكاءه وعويله، وقد ألم بها الولي قاضي القضاة ابن خلدون المغربي في كتاب " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " (3) فليراجعه من أراده في المجلد الثامن من هذا التاريخ الجامع، فإنه ذكر حين ساق هذه الكائنة ما يخرس الألسن ويصم المسامع، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[واقعة الربض]
وقول لسان الدين رحمه الله في أولية سلفه إنهم انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية - إلى آخره، أشار بذلك إلى واقعة الربض الشهيرة التي ذكرها ابن حيان في تاريخه الكبير المسمى بالمقتبس في تاريخ الأندلس وقص أمرها غير واحد كابن الفرضي وابن خلدون، وملخصها أن أهل ربض قرطبة ثاروا على الأمير الحكم الأموي، وفيهم علماء أكابر مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب إمامنا مالك رضي الله عنه وغيره، فكانت النصرة للحكم، فلما ظفر وقتل من
__________
(1) من قول حسان بن ثابت:
ترك الأحبة أن يقالت دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام (2) ق: وأخذت، وفي ص بياض.
(3) انظر تاريخ ابن خلدون 7: 261.(5/15)
شاء أجلى من بقي إلى البلاد، وبعضهم إلى جزيرة إقريطش ببحر الإسكندرية، وفي قصتهم طول، وليس هذا محلها.
[والد لسان الدين]
وقال لسان الدين رحمه الله أيضاً في حق والده ما حاصله (1) : عبد الله بن سعيد ابن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي السلماني أبو محمد، غرناطي الولادة والاستيطان، لوشي الأصل، طليطليه قرطبيه.
وقال في الإكليل: إن طال الكلام، وجمحت الأقلام، كنت كما قيل: مادح نفسه يقرئك السلام، وإن أجحمت، فما سديت في الثناء ولا ألحمت، وأضعت الحقوق، وخفت ومعاذ الله العقوق، وهذا ولو أني زجرت طير البيان من أوكاره، وجئت بعون الإحسان وأبكاره، لما قضيت حقه بعد، ولا قلت إلا بالتي علمت سعد (2) ، فقد كان رحمه الله ذمر عزم، ورجل رخاء وأزم، تروق أنوار خلاله الباهرة، وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة، ذكاء يتوقد، وطلاقة يحسد نورها الفرقد، وكانت له في الأدب فريضة، وفي النادرة العذبة منادح (3) عريضة، تكلمت يوماً بين يديه في مسائل من الطب وأنشدته أبياتاً من شعري ورقاعاً من إنشائي فتهلل، وما برح أن ارتجل (4) :
الطب والشعر والكتابه ... سماتنا في بني النجابه
هن ثلاث مبلغات ... مراتباً بعضها الحجابه
__________
(1) ترجمة والده في الإحاطة: الورقة 200.
(2) عجز بيت للحطيئة، وصدره:
وتعذلني افناء سعد عليهم ... (3) في ص ق: منادم، والتصويب عن الإحاطة.
(4) وردت هذه المقطعات في الإحاطة: الورقة 203 وما بعدها.(5/16)
ووقع لي يوماً بخطه على ظهر أبيات بعثتها إليه أعرض عليه نمطها:
وردت كما صدر (1) النسيم بسحرة ... عن روضة جاد الغمام رباها
وكأنما هاروت أودع سحره ... فيها وآثرها به وحباها
مصقولة الألفاظ يبهر حسنها ... فبمثلها افتخر البليغ وباهى
فقررت عيناً عند رؤية حسنها ... إني أبوك، وكنت أنت أباها ومن نظمه قوله:
وقالوا: قد دنا فاصبر ستشفى ... فترياق الهوى بعد الديار
فقلت: هبوا بأن الحق هذا ... بقلبي يمموا فبم اصطباري وقال:
عليك بالصمت فكم ناطق ... كلامه أدى إلى كلمه
إن لسان المرء أهدى إلى ... غرته والله من خصمه
يرى صغير الجرم مستضعفاً ... وجرمه أكبر من جرمه وقال:
أنا بالدهر يا بني خبير ... فإذا شئت علمه فتعالا
كم مليك قد ارتعى منه روضاً ... لم يدافع عنه الردى ما ارتعى لا
كل شيء تراه يفنى، ويبقى ... ربنا الله ذو الجلال تعالى مولده بغرناطة في جمادى الأولى عام اثنين وسبعين وستمائة، وفقد يوم الوقيعة الكبرى بظاهر طريف، يوم الاثنين سابع جمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعمائة، ورثيته بقصيدة أولها (2) :
__________
(1) الإحاطة: كما ورد.
(2) راجع الإحاطة: الورقة 203.(5/17)
سهام المنايا لا تطيش ولا تخطي ... وللدهر كف تسترد الذي تعطي
وإنا وإن كنا على ثبج الدنا ... فلا بد يوماً أن نحل على الشط
تساوى على ورد الردى كل وارد ... فلم يغن رب السيف عن ربة القرط
وسيان ذل الفقر أو عزة الغنى ... ومن أسرع السير الحثيث ومن يبطي وهي طويلة.
قال: ورثاه شيخنا أبو زكريا ابن هذيل بقصيدة يقول فيها:
إذا أنا لم أرث الصديق فما عذري ... إذا قلت أبياتاً حساناً من الشعر
ولو كان شعري لم يكن غير ندبة ... وأجريت دمعي لليراع عن الحبر
لما كنت أقضي حق صحبته التي ... توخيتها عوناً على نوب الدهر
رماني عبد الله يوم وداعه ... بداهية دهياء قاصمة الظهر
قطعت رجائي حين صح حديثه ... فإن يوف لي دمعي فقد (1) خانني صبري
وهل مؤنس كابن الخطيب لوحشتي ... أبث له همي وأودعه سري ومنها:
تولى وأخبار الجلالة بعده ... مؤرجة الأنباء طيبة النشر
رضينا بترك الصبر من بعد بعده ... على قدر ما في الصبر من عظم الأجر
أتى بفتيت المسك فوق جبينه ... نجيعاً يفوق المسك في موقف الحشر
لقد لقي الكفار منها بعزمة ... لها لقيته الحور بالبر والبشر
تجلت عروساً جنة الخلد في الوغى ... تقول لأهل الفوز: لا يغلكم مهري
فكان من القوم الذين تبادروا ... إلى العالم الأعلى مع الرفقة الغر
تعالوا بنا نسقي الأباطح والربى ... بقطر دموع غالبات على القطر
__________
(1) الإحاطة: فإن لم يوف الدمع قد.(5/18)
ألا لا تلم عيني لسكب دموعها ... فما سكبت إلا على الماجد الحر ومنها:
أإخواننا جدوا فكم (1) جد غيركم ... وسيروا على خف من الحوب والوزر
على سفر انتم لدار تأخرت ... وما الفوز في الأخرى سوى خفة الظهر
وما العيش إلا يقظة مثل نومة ... وما العمر إلا كالخيال الذي يسري
على الحق أنتم قادمون فشمروا ... فليس لمخذول هنالك من عذر وهي طويلة، تجاوز الله عنا وعنهم أجمعين؛ انتهى ما لخصته من كلام لسان الدين رحمه الله.
[ترجمة أبي بكر بن عاصم]
قلت: على منوال كلامه في تحلية أبيه النبيه نسج الوزير الكاتب الشهير القاضي أبو يحيى ابن عاصم القيسي الأندلسي رحمه الله في وصف أبيه القاضي أبي بكر ابن عاصم (2) صاحب التحفة في علم القضاء، وهو محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي، قاضي الجماعة، الرئيس أبو بكر، ونص المحتاج إليه في هذا المحل من كلام ولده قوله رحمه الله: إن بسطت القول، أو عددت الطول، وأحكمت الأوصاف، وتوخيت الإنصاف، أنفدت الطروس، وكنت كما يقول الناس في المثل من مدح العروس، وإن أضربت عن ذلك صفحاً فلبئسما صنعت، ولشر ما أمسكت المعروف ومنعت، ولكم من حقوق الأبوة
__________
(1) ص ق: جدواكم.
(2) كان من أكابر فقهاء غرناطة؛ تولى قضاءها سنة 888؛ وله مؤلفات عديدة، منها شرحه على تحفة والده في الأحكام، وكتابه جنة الرضى، وكتاب الروض الأريض (انظر ترجمته في أزهار الرياض 1: 145) وسيورد المقري نقولا كثيرة عنه.(5/19)
أضعت، ومن ثدي للمعقة رضعت (1) ، ومن شيطان لغمصة الحق أطعت، ولم أرد إلا الإصلاح ما استطعت، وإن توسطت واقتصرت، وأوجزت واختصرت، فلا الحق نصرت، ولا أفنان البلاغة هصرت، ولا سبيل الرشد أبصرت، ولا عن هوى الحسدة أقصرت، هذا ولو أني أجهدت ألسنة البلاغة فجهدت، وأيقظت عيون الإجادة فسهدت، واستعرت مواقف عكاظ على ما عهدت، لما قررت من الفضل إلا ما به الأعداء قد شهدت، ولا استقصيت من المجد إلا ما أوصت به الفئة الشانئة لخلفها الأبتر وعهدت، فقد كان - رحمه الله - علم الكمال، ورجل الحقيقة، وقاراً لا يخف راسيه، ولا يعرى كاسيه، وسكوناً لا يطرق جانبه، ولا يرهب غالبه، وحلماً لا تزل حصاته، ولا تهمل وصاته، وانقباضاً لا يتعدى رسمه، ولا يتجاوز حكمه، ونزاهة لا ترخص قيمتها، ولا تلين عزيمتها، وديانة لا تحسر أذيالها، ولا يشف سربالها، وإدراكاً لا يفل نصله، ولا يدرك خصله، وذهناً لا يخبو نوره، ولا ينبو مطروره، وفهماً لا يخفى فلقه، ولا يهزم فيلقه، ولا يلحق بحره، ولا يعطل نحره، وتحصيلاً لا يفلت قنيصه، ولا يسام حريصه، بل لا يحل عقاله، ولا يصدأ صقاله، وطلباً لا تتحد فنونه، ولا تتعين عيونه، بل لا تحصر معارفه، ولا تقصر مصارفه، يقوم أتم قيام على النحو على طريقة متأخري النحاة، جمعاً بين القياس والسماع، وتوجيه الأقوال البصرية، واستحضار الشواهد الشعرية، واستظهار (2) اللغات والأعربة، واستبصار في مذاهب المعربة، محلياً أجياد تلك الأعاريب، من علمي البديع والبيان بجواهر أسلاك، ومجلياً في آفاق تلك الأساليب، من فوائد هذين الفنين زواهر أفلاك، إلى ما يتعلق بذلك من قافية للعروض وميزان، وما للشعر من بحور وأوزان، تضلع بالقراءات أكمل اضطلاع، مع التحقيق والاطلاع،
__________
(1) ولكم ... رضعت: سقطت من ص.
(2) ق: واستظهارا.(5/20)
فيقنع ابن الباذش في إقناعه، ويشرح لابن شريح ما أشكل في أوضاعه، ويقصر عن رتبته الداني، ويحوز صدر المنصة من حرز الأماني، ويشارك في المنطق وأصول الفقه والعدد والفرائض والأحكام مشاركة حسنة، ويتقدم في الأدب نظماً ونثراً وكتباً وشعراً، إلى براعة الخط، وإحكام الرسم، وإتقان بعض الصنائع العملية، كتفسير الكتب، وتنزيل الذهب، وغيرهما. نشأ بالحضرة العلية لا يغيب عن حلقات المشيخة، ولا يريم عن مظان الاستفادة، ولا يفتر عن المطالعة والتقييد، ولا يسأم من المناظرة والتحصيل، مع المحافظة التي لا تنخرم ولا تنكسر، والمفاوضة في الأدب ونظم القريض والفكاهة التي لا تقدح في وقار، انتهى ملخصاً.
وقد أطال في تعريفه بأوراق عدة، ثم قال: مولده في الربع الثالث من يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى من عام ستين وسبعمائة كما نقلته من خط ابنه، ثم قال: وله مسائل متعددة في فنون شتى ضمنها كل سديد من البحث وصحيح النظر، وأما كتبه فالدر النفيس، والياقوت الثمين، والروض الأنف، والزهر النضير، نصاعة لفظ، وأصالة غرض، وسهولة تركيب، ومتانة أسلوب، انتهى.
ثم ذكر مشيخته وأطال، ثم سرد تآليفه: الأرجوزة المسماة ب " تحفة الحكام "، والأرجوزة المسماة ب " مهيع الوصول في علم الأصول " أصول الفقه، والأرجوزة الصغرى المسماة ب " مرتقى الوصول للأصول " كذلك، والأرجوزة المسماة ب " نيل المنى في اختصار الموافقات "، والقصيدة المسماة ب " إيضاح المعاني في القراءات الثماني "، والقصيدة المسماة ب " الأمل المرقوب في قراءة يعقوب "، والقصيدة المسماة ب " كنز المفاوض في علم الفرائض "، والأرجوزة المسماة ب " الموجز في النحو "، حاذى بها رجز ابن مالك في غرض البسط له والمحاذاة لقصده، والكتاب المسمى ب " الحدائق " في أغراض شتى من الآداب والحكايات.
توفي بين العصر والمغرب يوم الخميس حادي عشر شوال عام تسعة وعشرين(5/21)
وثمانمائة؛ انتهى كلام الوزير ابن عاصم، وإنما ذكرته لأن أهل الأندلس يقولون في حقه: إنه ابن الخطيب الثاني، ولولا خوف الإطالة لذكرت بعض إنشائه ونظمه، فإنه في الذروة العليا، وقد ذكرت جملة من ذلك في أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض.
ولنرجع إلى الترجمة المقصودة، فنقول: والسلماني نسبة إلى سلمان - بإسكان اللام على الصحيح - قال ابن الأثير: والمحدثون يفتحون اللام، وسلمان: حي من مراد من عرب اليمن القحطانيين، دخل الأندلس منهم جماعة من الشام وسلف لسان الدين رحمه الله تعالى ينتسبون إليهم كما سبق في كلامه، وهو مشهور إلى الآن بالمغرب بابن الخطيب السلماني، ولذلك خاطبه شيخه شيخ الكتاب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب حين حل مالقة بقوله (1) :
أيا كتابي إذا ما جئت مالقة ... دار المكارم من مثنى ووحدان
فلا تسلم على ربع لذي سلم ... بها وسلم على ربع لسلمان فأجابه لسان الدين رحم الله تعالى الجميع بقوله:
يا ليت شعري هل يقضى تألفنا ... ويثني الشوق عن غاياته الثاني
أو هل يحن على نفسي معذبها ... أو هل يرق لقلبي قلبي الثاني [عبد العزيز الفشتالي ونونيته]
وعلى ذكر نسبة ابن الخطيب لسلمان فقد تذكرت هنا بيتاً أنشدنيه لنفسه صاحبنا الوزير الشهير الكبير البليغ صاحب القلم الأعلى سيدي أبو فارس عبد العزيز الفشتالي (2) - صب الله تعالى عليه شآبيب رحماه - من قصيدة نونية مدح
__________
(1) انظر أزهار الرياض 1: 313.
(2) عبد العزيز بن محمد القشتالي كان كاتب أسرار الدولة المنصورية، ترجم له المؤلف في كتابه روضة الآس: 112 - 163.(5/22)
بها سيد الوجود، صلى الله عليه وسلم، وتخلص إلى مدح مولانا السلطان المنصور بالله أبي العباس أحمد الحسني أمير المؤمنين صاحب المغرب رحمه الله تعالى، وهو:
أولئك فخري إن فخرت على الورى ... ونافس بيتي في الولا بيت سلمان وأراد - كما أخبرني - بيت سلمان القبيلة التي منها لسان الملة والدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى، أشار إلى ولاء الكتابة للخلافة، كما كان لسان الدين السلماني رحمه الله تعالى كذلك، وفيه مع ذلك تورية بسلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه.
وقد رأيت أن أسرد هنا هذه القصيدة الفريدة، لبلاغتها التي بذت شعراء " اليتيمة " و " الخريدة "، ولأن شجون الحديث الذي جر إليها، شوقني إلى معاهدي المغربية التي أكثر البكاء عليها، بحضرة المنصور بالله الإمام، سقى الله تعالى عهادها صوب الغمام، حيث الشباب غض يانع، والمؤمل لم يحجبه مانع، والسلطان عارف بالحقوق، والزمان وهو أبو الورى لم يشب بره بالعقوق، والليالي مسالمة غير رامية من البين بنبال، والغربة الجالية للكربة لم تخطر ببال، ورؤساء الدولة الحسنية السنية ساعون فيما يوافق الغرض ويلائم، والأيام ثغورها بواسم، وأوقاتها أعياد ومواسم، وأفراح وولائم، فلله فيها عيش ما نسيناه، وعز طالما اقتبسنا نور الهدى من طورسيناه:
مضى ما مضى من حلو عيش ومره ... كأن لم يكن إلا كأضغاث أحلام وهذا نص القصيدة (1) :
هم سلبوني الصبر والصبر من شاني ... وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني
وهم أخفروا في مهجتي ذمم الهوى ... فلم يثنهم عن سفكها حبي الجاني
__________
(1) انظر هذه القصيدة في روضة الآس: 120.(5/23)
لئن أترعوا من قهوة البين أكؤسي ... فشوقهم أضحى سميري وندماني
وإن غادرتني بالعراء حمولهم ... لقى إن قلبي جاهد إثر أظعاني
قف العيس واسأل ربعهم أية مضوا ... أللجزع ساروا مدلجين أم البان
وهل باكروا بالسفح من جانب اللوى ... ملاعب آرام هناك وغزلان
وأين استقلوا: هل بهضب تهامة ... أناخوا المطايا أم على كثبان نعمان
وهل سال في بطن المسيل تشوقاً ... نفوس ترامت للحمى قبل جثمان
وإذ زجروها بالعشي فهل ثنى ... أزمتها الحادي إلى شعب بوان
وهل عرسوا في دير عبدون أم سروا ... يؤم بهم رهبانهم دير نجران
سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى ... بأحداجهم شتى صفات وألوان
وأدلج في الأسحار بيض قبابهم ... فلحن نجوماً في معارج كثبان
لك الله من ركب يرى الأرض خطوة ... إذا زمها بدناً نواعم أبدان
أرحها مطايا قد تمشى بها الهوى ... تمشي الحميا في مفاصل نشوان
ويمم بها الوادي المقدس بالحمى ... به الماء صداً والكلا نبت سعدان
وأهد حلول الحجر منه تحية ... تفاوح عرفاً ذاكي الرند والبان
لقد نفحت من شيح يثرب نفحة ... فهاجت مع الأسحار شوقي وأشجاني
وفتت منها الشرق في الغرب مسكة ... سحبت بها في أرض دارين أرداني
وأذكرني نجداً وطيب عراره ... نسيم الصبا من نحو طيبة حياني
أحن إلى تلك المعاهد، إنها ... معاهد راحاتي وروحي وريحاني
وأهفو مع الأشواق للوطن الذي ... به صح لي أنسي الهني وسلواني
وأصبو إلى أعلام مكة شائقاً (1) ... إذا لاح برق من شمام وثهلان
أهيل الحمى ديني على الدهر زورة ... أحث بها شوقاً لكم عزمي الواني
متى يشتفي جفني القريح بلحظة ... تزج بها في نوركم عين إنساني
__________
(1) روشة الآس: شيقا.(5/24)
ومن لي بأن يدنو لقاكم تعطفاً ... ودهري عني دائماً عطفه ثاني
سقى عهدهم (1) بالخيف عهد تمده ... سوافح دمع من شؤوني هتان
وأنعم في شط العقيق أراكة ... بأفيائها ظل المنى والهوى داني
وحيا ربوعاً بين مروة والصفا ... تحية مشتاق بها الدهر حيران
ربوعاً بها تتلو الملائكة العلا ... أفانين وحي بين ذكر وقرآن
وأول أرض باكرت عرصاتها ... وطرزت البطحا سحائب إيمان
وعرس فيها للنبوة موكب ... هو البحر طام (2) فوق هضب وغيطان
وأدى بها الروح الأمين رسالة ... أفادت بها البشرى مدائح عنوان
هنالك فض ختمها (3) أشرف الورى ... وفخر نزار من معد بن عدنان
محمد خير العالمين بأسرها ... وسيد أهل الأرض مِ الإنس والجان
ومن بشرت في بعثه قبل كونه ... نوامس كهان وأخبار رهبان
وحكمة (4) هذا الكون لولاه ما سمت ... سماء ولا غاضت طوافح طوفان
ولا زخرفت من جنة الخلد أربع ... تسبح فيها أدم حور وولدان (5)
ولا طلعت شمس الهدى غب دجية ... تجهم من ديجورها ليل كفران
ولا أحدقت بالمذنبين شفاعة ... يذود بها عنهم زباني نيران
له معجزات أخرست كل جاحد ... وسلت على المرتاب صارم برهان
له انشق قرص البدر شقين وارتوى ... بماء همى من كفه كل ظمآن
وأنطقت الأصنام نطقاً تبرأت ... إلى الله فيه من زخارف ميان
دعا سرحة عجما فلبت وأقبلت ... تجر ذيول الزهر ما بين أفنان
__________
(1) روضة الآس: عهدكم.
(2) روضة الآس: سال.
(3) ق ص: ختمه.
(4) روضة الآس: وعلة.
(5) روضة الآس: تسبح فيها الحور مع جمع ولدان.(5/25)
وضاءت قصور الشام من نوره الذي ... على كل أفق نازح القطر أو داني
وقد بهج الأنوا بدعوته التي ... كست أوجه الغبراء بهجة نيسان
وإن كتاب الله اعظم آية ... بها افتضح المرتاب (1) وابتأس الشاني
وعدى على شأو البليغ بيانه ... فهيهات منه سجع قس وسحبان
نبي الهدى من أطلع الحق أنجماً ... محا نورها أسداف إفك وبهتان
لعزتها ذل الأكاسرة الألى ... هم سلبوا تيجانها آل ساسان
وأحرز للدين الحنيفي بالظبى ... تراث الملوك الصيد من عهد (2) يونان
ونقع من سمر القنا السم قيصراً (3) ... فجرعه منه مجاجة ثعبان
وأضحت ربوع الكفر والشك (4) بلقعاً ... يناغي الصدى فيهن هاتف شيطان
وأصبحت السمحا ترف نضارة ... ووجه الهدى بادي الصباحة للراني (5)
أيا خير أهل الأرض بيتاً ومحتداً ... وأكرم كل الخلق: عجم وعربان
فمن للقوافي أن تحيط بوصفكم ... ولو ساجلت سبقاً مدائح حسان
إليك بعثناها أماني أجدبت ... لتسقى بمزن من أياديك هتان
أجرني إذا أبدى الحساب جرائمي ... وأثقلت الأوزار كفة ميزاني
فأنت الذي لولا وسائل عزه ... لما فتحت أبواب عفو وغفران
عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وماست على كثبانها خلد قضبان
وحمل في جيب الجنوب تحية ... يفوح بمسراها شذا كل توقان
إلى العمرين صاحبيك كليهما ... وتلوهما في الفضل صهرك عثمان
وحيا علياً عرفها وأريجها ... ووالى على سبطيك أوفر رضوان
__________
(1) روضة الآس: الميان.
(2) روضة الآس: ولد.
(3) روضة الآس: سم قيصر.
(4) روضة الآس: والشرك.
(5) الراني: الناظر.(5/26)
إليك رسول الله صممت عزمة ... إذا أزمعت فالشحط والقرب سيان
وخاطبت مني القلب وهو مقلب ... على جمرة الأشواق فيك فلباني
فيا ليت شعري هل أزم قلائصي ... إليك بدراً أو أقلقل كيراني (1)
وأطوي أديم الأرض نحوك راحلاً ... نواجي المهارى في صحاصح قيعان
يرنحها فرط الحنين إلى الحمى ... إذا غرد الحادي بهن وغناني
وهل تمحون عني خطايا اقترفتها ... خطاً لي في تلك البقاع وأوطان
وماذا عسى يثني عناني وإن لي ... بآلك جاهاً صهوة العز أمطاني
إذا ند عن زوارك البأس (2) والعنا ... فجود ابنك المنصور أحمد أغناني
عمادي الذي أوطا السماكين أخمصاً ... وأوفى على السبع الطباق فأدناني
متوج أملاك الزمان وإن سطا ... أحل سيوفاً (3) في معاقد تيجان
وقاري أسود الغاب بالصيد مثلها ... إذا اضطرب الخطي من فوق جدران (4)
هزبر إذا زار البلاد زئيره ... تضاءل في أخياسها أسد خفان
وإن أطلعت غيم القتام جيوشه ... وأرزم (5) في مركومه رعد نيران
صببن على أرض العداة صواعقاً ... أسلن عليهم بحر خسف ورجفان
كتائب لو يعلون رضوى لصدعت ... صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان
عديد الحصى من كل أروع معلم ... وكل كمي بالرديني طعان
إذا جن ليل الحرب عنهم طلى العدا ... هدتهم إلى أوداجها شهب خرصان
من اللاء جرعن العدا غصص الردى ... وعفرن في وجه (6) الثرى وجه بستان
وفتحن أقطار البلاد فأصبحت ... تؤدي الخراج الجزل أملاك سودان
__________
(1) ق ص: كيزاني؛ والكيران: جمع كور يعني رحاله.
(2) ق ص: اليأس.
(3) روضة الآس: السيوف.
(4) ق ص: خدران.
(5) ق ص: وأزرم.
(6) روضة الآس: عفر.(5/27)
إمام البرايا من علي نجاره ... ومن عترة سادوا الورى، آل زيدان
دعائم إيمان وأركان سؤدد ... ذوو همم قد عرست فوق كيوان
هم العلويين الذين وجوههم ... بدور إذا ما أحلكت شهب أزمان
وهم آل بيت شيد الله سمكه ... على هضبة العلياء ثابت أركان
وفيهم فشا الذكر الحكيم وصرحت ... بفضلهم آيات ذكر (1) وفرقان
فروع ابن عم المصطفى ووصيه ... فناهيك من فخرين: قربى وقربان
ودوحة مجد معشب الروض بالعلا ... يجود بأمواه الرسالة ريان
بمجدهم الأعلى الصريح تشرفت ... معد على العرباء عاد وقحطان
أولئك فخري إن فخرت على الورى ... ونافس بيتي في الولا بيت سلمان
إذا اقتسم المداح فضل فخارهم ... فقسمي بالمنصور ظاهر رجحان
إمام له في جبهة الدهر ميسم ... ومن عزه في مفرق الملك تاجان
سما فوق هامات النجوم بهمة ... يحوم بها فوق السموات نسران
وأطلع في أفق المعالي خلافة ... عليها وشاح من علاه وسمطان
إذا ما احتبى فوق الأسرة وارتدى ... على كبرياء الملك نخوة السلطان
توسمت لقمان الحجى وهو ناطق ... وشاهدت كسرى العدل في صدر إيوان
وإن هزه حر الثناء تدفقت ... أنامله عرفاً تدفق خلجان
أيا ناظر الإسلام شم بارق المنى ... وباكر لروض في ذرا المجد فينان
قضى الله في علياك أن تملك الدنا ... وتفتحها ما بين سوس وسودان
وأنك تطوي الأرض غير مدافع ... فمن أرض سودان إلى أرض بغدان
وتملؤها عدلاً يرف لواؤه ... على الهرمين أو على رأس غمدان
فكم هنأت أرض العراق بك العلا ... ووافت بك البشرى لأطراف عمان
فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم ... أتاك استلاباً تاج كسرى وخاقان
__________
(1) روضة الآس: آي الكتاب.(5/28)
ولو نشر الأملاك دهرك أصبحت ... عيالاً على علياك أبناء مروان
وشايعك السفاح يقتاد طائعاً ... برايته السوداء أهل خراسان
فما المجد إلا ما رفعت سماكه ... على عمدي سمر الطوال ومران
وهاتيك أبكار القوافي جلبتها (1) ... تغار لهن الحور في دار رضوان
أتتك أمير المؤمنين كأنها ... لطائم مسك أو خمائل بستان (2)
تعاظمن حسناً أن يقال شبيهها ... فرائد در أو قلائد عقيان
فلا زلت للدنيا تحوط جهاتها ... وللدين تحميه بملك سليمان
ولا زلت بالنصر العزيز مؤزراً ... تقاد لك الأملاك في زي عبدان [نونية أبي الفتح التونسي]
انتهت القصيدة في تغزلها شرح الحال، وإعراب عما في ضمير الغربة والارتحال، ولنعززها بأختها في البحر والروي، قصيدة القاضي الشهير الذكر، الأديب الذي سلبت النهى كواعب شعره إذ أبرزها من خدود الفكر، الشيخ الإمام سيدي أبو الفتح محمد بن عبد السلام، المغربي التونسي نزيل دمشق الشام، صب الله على ضريحه سجال الرحمة والإنعام، فإنها نفث مصدور غريب، وبث معذور أريب، فارق مثلي أوطانه وما سلاها، وقرأ آيات الشجو وتلاها، وتمنى أن يجود له الدهر برؤية مجتلاها، وهي قوله رحمه الله وأنشأها بدمشق عام واحد وخمسين وتسعمائة:
سلوا البارق النجدي عن سحب أجفاني ... وعما بقلبي من لواعج نيران
ولا تسألوا غير الصبا عن صبابتي ... وشدة أشواقي إليكم وأشجاني
فما لي سواها من رسول إليكم ... سريع السرى في سيره ليس بالواني
__________
(1) روضة الآس: جلوتها.
(2) بعد هذا البيت في روضة الآس: ومنها ختاما.(5/29)
فيا طال بالأسحار ما قد تكلفت ... بإنعاش محزون وإيقاظ وسنان
وتنفيس كرب عن كئيب متيم ... يحن إلى أهل ويصبو لأوطان
فلله ما أذكى شذا نسمة الصبا ... صباحاً إذا مرت على الرند والبان
وسارت مسير الشمس وهناً فأصبحت ... من الشرق نحو الغرب تجري بحسبان
وقد وقفت بالشام وقفة حامل ... نوافج مسك من ظباء خراسان
لترتاض في تلك الرياض هنيئة ... وتزداد من أزهارها طيب أردان
وما غربت حتى تضاعفت نشرها ... بواسطتي روح هناك وريحان
فكم نحوكم حملتها من رسالة ... مدونة في شرح حالي ووجداني
وناشدتها بالله إلا تفضلت ... بتبليغ أحبابي السلام وجيراني
تحية مشتاق إلى ذلك الحمى ... وسكانه والنازحين بأظعان
سقى الله هاتيك الديار وأهلها ... سحائب تحكي صوب مدمعي القاني
وحيا ربوع الحي من خير بلدة ... تخيرها قدماً رآها بإنسان
لها الفخر والفضل المبين بما حوت ... من الأنس والحسن المنوط بإحسان
لقد حل منها آل حفص ملوكها ... مراتب تسمو فوق هامة كيوان
وسادوا بها كل الملوك وشيدوا ... بها من مباني العز أفخر بنيان
وكان لهم فيها بهاء وبهجة ... وحسن نظام لا يعاب بنقصان
وكان لهم فيها عساكر جمة ... تصول بأسياف وتسطو بمران
جيوش وفرسان يضيق بها الفضا ... ويحجم عنها الفرس من آل ساسان
وكان لأهليها المفاخر والعلا ... وكان بها حصنا أمان وإيمان
وكان على الدنيا جمال بحسنها ... وحسن بنيها من ملوك وأعيان
وكانت لطلاب المعارف قبلة ... لما في حماها من أئمة عرفان
وكان لأهل العلم فيها وجاهة ... وجاه وعز مجده ليس بالفاني
وكان بواديها المقدس فتية ... تقدس باريها بذكر وقرآن(5/30)
ومن أدباء النظم والنثر معشر ... تفوق بناديها بلاغة سحبان
وكانت على الأعداء في حومة الوغى ... تطول بأبطال، وتسطو بشجعان
وما برحت فيها محاسن جمة ... وفي كل نوع أهل حذق وإتقان
إلى أن رمتها الحادثات بأسهم ... وسلت عليها سيف بغي وعدوان
فما لبثت تلك المحاسن أن عفت ... وأقفر ربع الأنس من بعد سكان
وشتت ذاك الشمل من بعد جمعه ... كما انتثرت يوماً قلائد عقيان
فأعظم برزء خص خير مدينة ... وخير أناس بين عجم وعربان
لعمري لقد كادت عليها قلوبنا ... تضرم من خطب عراها بنيران
وقد عمنا غم بعظم مصابها ... وإن خصني منه المضر بجثماني
وما بقيت فيما علمناه بلدة ... من الشرق إلا ألبست ثوب أحزان
فصبراً أخي صبراً على المحنة التي ... رمتك بها الأقدار ما بين إخوان
فما الدهر إلا هكذا فاصطبر له: ... رزية مال أو تفرق خلان
أأحبابنا إن فرق الدهر بيننا ... وطال مغيبي عنكم منذ أزمان
فإني على حفظ الوداد وحقكم ... مقيم، وما هجر الأحبة من شاني
ووالله والله العظيم ألية ... على صدقها قامت شواهد برهان
لقد زاد وجدي واشتياقي إليكم ... وبرح بي طول البعاد وأضناني
فلا تحسبوا أني تسليت بعدكم ... بشيء من الدنيا وزخرفها الفاني
ولا أنني يوماً تناسيت عهدكم ... بحال، ولا أن التكاثر ألهاني
ولا راقني روض، ولا هش مسمعي ... لنغمة أطيار ورنة عيدان
ولا حل في فكري سواكم بخلوة ... ولا جلوة ما بين حور وولدان
ولا اختلجت يوماً ضمائر مهجتي ... لغيركم في سر سري وإعلاني
ولو لم أسل النفس بالقرب واللقا ... لأدرج جسمي في مقاطع أكفاني(5/31)
فما أنا في عودي إليكم بآيس ... فما اليأس إلا من علامة كفران
عليكم سلام الله في كل ساعة ... تحية صب لا يدين بسلوان
مدى الدهر ما ناحت مطوقة وما ... تعاقب بين الخافقين الجديدان [نونية ابن الخطيب]
ولصاحب الترجمة لسان الدين ابن الخطيب قصيدة طنانة بهذا الوزن والقافية، مدح بها السلطان أبا سالم المريني حين فتح تلمسان، وقد رأيت إيرادها في هذا الباب، لما اشتمل عليه آخرها من شرح أمر الاغتراب، الذي حير الألباب، وللمناسبة أسباب، لا تخفى على من له فكر مصيب، وكل غريب للغريب نسيب، وهي (1) :
أطاع لساني في مديحك إحساني ... وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان
فأطلعتها تفتر عن شنب المنى ... وتسفر عن وجه من السعد حياني (2)
كما ابتسم النوار عن أدمع الحيا ... وجف بخد الورد عارض نيسان
كما صفقت ريح الشمال شمولها ... فبان ارتياح السكر في غصن البان
تهنيك بالفتح الذي معجزاته ... خوارق لم تذخر سواك لإنسان
خففت إليها والجفون ثقيلة ... كما خف شثن الكف من أسد خفان
وقدت إلى الأعداء فيها مبادراً ... ليوث رجال في مناكب عقبان
تمد بنود النصر منهم ظلالها ... على كل مطعام العشيات مطعان
جحاجحة (3) غر الوجوه كأنما ... عمائمهم غيها معاقد تيجان
أمدك فيها الله بالملإ العلا ... فجيشك، مهما حقق الأمر، جيشان
__________
(1) مطلعها وبعض أسطر من الرسالة التالية في أزهار الرياض 1: 286.
(2) ق ص: حنان.
(3) الجحاجحة: السادة.(5/32)
لقد جُليت منك البلاد لخاطب ... لقد جنيت منك الغصون إلى جاني
لقد كست الإسلام بيعتك الرضى ... وكانت على أهليه بيعة رضوان
ولله من ملك سعيد ونصبة ... قضى المشتري فيها بعزلة كيوان
وسجل حكم العدل بين بيوتها ... وقوفاً مع المشهور من رأي يونان
فلم تخش سهم القوس صفحة بدرها ... ولم تشك فيها الشمس من بخس ميزان
ولم يعترض مبتزها قطع قاطع ... ولا نازعت نوبهرها كف عدوان (1)
تولى اختيار الله حسن اختيارها ... فلم يحتج الفرغان فيها لفرغان
ولا صرفت فيها دقائق نسبة ... ولو خفقت فيها طوالع بلدان
وجوه القضايا في كمالك شأنها ... وجوب إذا خصت سواك بإمكان
ومن قاس منك الجود بالبحر والحيا ... فقد قاس تمويهاً قياس سفسطاني
وطاعتك العظمى بشارة رحمة ... وعصيانك المحذور نزغة شيطان
وحبك عنوان السعادة والرضى ... ويعرف مقدار الكتاب بعنوان
ودين الهدى جسم وذاتك روحه ... وكم وصلة ما بين روح وجثمان
تضن بك الدنيا ويحرسك العلا ... كأنك منها بين لحظ وأجفان
بنيت على أساس أسلافك العلا ... فلا هدم المبنى ولا عدم الباني
وصاحت بك العليا فلم تك غافلاً ... ونادت بك الدنيا فلم تك بالواني
ولم تك في خوض البحار بهائب ... ولم تك في نيل الفخار بكسلان
لقد هز منك العزم لما انتضيته ... ذوائب رضوى أو مناكب ثهلان
ولله عينا من رآها محلة ... هي الحشر لا تحصى بعد وحسبان
وتنور عزم فار في إثر دعوة ... يعم الأقاصي والأداني بطوفان
عجائب أقطار، ومألف شارد ... وأفلاذ آفاق، وموعد ركبان
إذا ما سرحت اللحظ في عرصاتها ... تبلد منك الذهن في العالم الثاني
جنى حان والنصر العزيز اهتصاره ... إذا انتظمت بالقلب منها جناحان
__________
(1) المبتز: الكوكب الذي له حظوظ كثيرة؛ والنوبهر: تاسع البروج.(5/33)
فمن سحب لاحت بها شهب القنا ... ومن كثب بيض بدت فوق كثبان
مضارب في البطحاء بيض قبابها ... كما قلبت للعين أزهار سوسان
وما إن رأى الراءون في الدهر قبلها ... قرارة عز في مدينة كتان
تفوت التفات الطرف حال اقتبالها ... كأنك قد سخرت جن سليمان
فقد أطرقت من خوفها كل بيعة ... وطأطأ من إجلالها كل إيوان
وقد ذعرت خولان بين بيوتها ... غداة بدت منها البيوت بخولان
فلو رميت مصر بها وصعيدها ... لأضحت خلاء بلقعاً بعد عمران
ولو يممت سيف بن ذي يزن ... لما تقرر ذاك السيف في غمد غمدان
تراع بها الأوثان في أرض رومة ... إذا خيمت شرقاً على طرق أوثان
وتجفل إجفال النعامى ببرقة ... ليوث الشرى ما بين ترك وعربان
وعرضاً كيوم العرض أذهل هوله ... عياني، وأعياني تعدد أعيان
وجيشاً كقطع الليل للخيل تحته ... إذا صهلت مفتنة رجع ألحان
فيومض من بيض الظبى ببوارق ... ويقذف من سمر الرماح بشهبان
ويمطر من ودق السهام بحاصب ... سحائبه من كل عوجاء مرنان
وجرداً إذا ما ضمرت يوم غاية ... تعجبت من ريح تقاد بأرسان
تسابق ظلمان الفلاة بمثلها ... وتذعر غزلان الرمال بغزلان
ودون مهب العزم منك قواضب ... أبى النصر يوماً أن تلم بأجفان
نظرت إليها والنجيع لباسها ... فقلت: سيوف أم شقائق نعمان
تفتح ورداً خدها حين جردت ... ولا ينكر الأقوام خجلة عريان
كأن الوغى نادت بها لوليمة ... قد احتفلت أوضاعها منذ زمان
فإن طعمت بالنصر كان وضوءها ... نجيعاً ووافاها الغبار بأشنان
لقد خلصت لله منك سجية ... جزاك على الإحسان منك بإحسان
فسيفك للفتح المبين مصاحب ... وعزمك والنصر المؤزر إلفان
فرح واغد للرحمن تحت كلاءة ... وسرحان في غاب العدا كل سرحان(5/34)
ودم والمنى تدني إليك قطافها ... ميسر أوطار ممهد أوطان
وكن واثقاً بالله مستنصراً به ... فسلطانه يعلو على كل سلطان
كفاك العدا كاف لملكك كافل ... فضدك نضو ميت بين أكفان
رضى الوالد المولى أبيك عرفته ... وقد أنكر المعروف من بعد عرفان
فكم دعوة أولاك عند انتقاله ... إلى العالم الباقي من العالم الفاني
فعرفت في السراء نعمة منعم ... وألحفت في الضراء رحمة رحمان
عجبت لمن يبغي الفخار بدعوة ... مجردة من غير تحقيق برهان
وسنة إبراهيم في الفخر قد أتت ... بكل صحيح عن علي وعثمان
ومن مثل إبراهيم في ثبت موقف ... إذا ما التقى في موقف الحرب صفان
إذا هم لم يلفت بلحظة هائب ... وإن من لم ينفث بلفظة منان
فصاحة قس في سماحة حاتم ... وإقدام عمرو تحت حكمة لقمان
شمائل ميمون النقيبة أروع ... له قصبات السبق في كل ميدان
محبته فرض على كل مسلم ... وطاعته في الله عقدة إيمان
هنيئاً أمير المسلمين بنعمة ... حبيت بها من مطلق الجود منان
لزينت أجياد المنابر بالتي ... أتاح لها الرحمن في آل زيان
قلائد فتح هن لكن قدرها ... ترفع أن يدعى قلائد عقيان
أمولاي، حبي في علاك وسيلتي ... ولطفك بي دأباً بمدحك أغراني
أياديك لا أنسى على بعد المدى ... نعوذ بك اللهم من شر نسيان
فلا جحد ما خولتني من سجيتي ... ولا كفر نعماك العميمة من شاني
ومهما تعجلت الحقوق لأهلها ... فإنك مولاي الحقيق وسلطاني
وركني الذي لما نبا بي منزلي ... أجاب ندائي بالقبول وأواني
وعالج أيامي وكانت مريضة ... بحكمة من لم ينتظر يوم بحران
فأمنني الدهر الذي قد أخافني ... وجدد لي السعد الذي كان أبلاني(5/35)
وخولني الفضل الذي هو أهله ... وشيكاً وأعطاني فأفعم أعطاني (1)
تخونني صرف الحوادث فانثنى ... يقبل أرداني، ومن بعد أرداني
وأزعجني من منشئي ومبوئي ... ومعهد أحبابي ومألف جيراني
بلادي التي فيها عقدت تمائمي ... وجم (2) بها وفري وجل بها شاني
تحدثني عنها الشمال فتنثني ... وقد عرفت مني شمائل نشوان
وآمل أن لا أستفيق من الكرى ... إذا الحلم (3) أوطاني بها ترب أوطاني
تلون إخواني علي وقد جنت ... علي خطوب جمة ذات ألوان
وما كنت أدري قبل أن يتنكروا ... بأن خواني كان مجمع خواني
وكانت، وقد حم القضاء، صنائعي ... علي بما لا أرتضي شر أعواني
فلولاك بعد الله يا ملك العلا ... وقد فت ما ألفيت من يتلافاني
تداركت مني بالشفاعة منعماً ... بريئاً رماه الدهر في موقف الجاني
فإن عرف الأقوام حقك وفقوا ... وإن جهلوا باءوا بصفقة خسران
وإن خلطوا عرفاً بنكر وقصروا ... وزنت بقسطاس قويم وميزان
وحرمة هذا اللحد يأبى كمالها ... هضيمة رد أو حطيطة نقصان
وقد نمت عن أمري ونبهت همة ... تحدق من علو إلى صرح هامان
إذا دانت الله النفوس وأملت ... إقالة ذنب أو إنالة غفران
فمولاك يا مولاي قبلة وجهتي ... وعهدة إسراري وحجة إعلاني
وقفت على مثواه نفسي قائماً ... بترديد ذكر أو تلاوة قرآن
ولو كنت أدري فوقها من وسيلة ... إلى ملكك الأرضى لشمرت أرداني
وأبلغت نفسي جهدها غير أنني ... طلابي ما بعد النهاية أعياني
قرأت كتاب الحمد فيك لعاصم ... فصح أدائي واقتدائي وإتقاني
__________
(1) الأعطان: جمع عطن، يعني الساحة، وأفعم: ملأ.
(2) جم: كثر وطال.
(3) ص: الحكم.(5/36)
فدونكها من بحر فكري لؤلؤاً ... يفصل من حسن النظام بمرجان
وكان رسول الله بالشعر يعتني ... وكم حجة في شعر كعب وحسان
ووالله ما وفيت قدرك حقه ... ولكنه وسعي ومبلغ إمكاني [رسالة لسان الدين إلى أبي سالم]
وكتب لسان الدين رحمه الله قبل هذه القصيدة نثرا ًمن إنشائه يخاطب به السلطان أبا سالم المذكور، وذلك أنه ورد على لسان الدين وهو بشالة سلا كتاب السلطان المذكور بفتح تلمسان، وكان وروده يوم الخميس سابع عشر شعبان عام واحد وستين وسبعمائة، ونص ما كتب به لسان الدين:
مولاي فتاح الأقطار والأمصار، فائدة الأزمان والأعصار، أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار، قدوة أولي الأيدي والأبصار، ناصر الحق عند قعود الأنصار، مستصرخ الملك الغريب من وراء البحار، مصداق دعاء الأب (1) المولى في الأصائل والأسحار، أبقاكم الله سبحانه لا تقف إيالتكم عند حد، ولا تحصى فتوحات الله تعالى عليكم بعد، ولا تفيق أعداؤكم من كد، ميسراً على مقامكم ما عسر على كل أب كريم وجد، عبدكم الذي خلص إبريز عبوديته لملك ملككم المنصور، المعترف لأدنى رحمة من رحماتكم بالعجز عن شكرها والقصور، الداعي إلى الله سبحانه أن يقصر عليكم سعادة العصور، ويذلل بعز طاعتكم أنف الأسد الهصور، ويبقي الملك في عقبكم وعقب عقبكم إلى يوم ينفخ فيه الصور، فلان من الضريح المقدس بشالة، وهو الذي تعددت على المسلمين حقوقه، وسطع نوره وتلألأ شروقه، وبلغ مجده السماء لما سبقت فروعه ووشجت عروقه، وعظم ببيوتكم فخره فما فوق البسيطة فخر يفوقه، حيث الجلال قد رست هضابه، والملك قد كسيت بأستار الكعبة الشريفة قبابه، والبيت العتيق قد ألحفت الملاحف الإمامية أثوابه، والقرآن العزيز ترتل أحزابه.
__________
(1) في الأصول: الأدب؛ والمعنى أنه صدق فيه دعاء أبيه أبي الحسن.(5/37)
والعمل الصالح يرتفع إلى الله ثوابه، والمستجير يخفي بالهيبة سؤاله فيجهر بنعرة العز جوابه، وقد تفيأ من أوراق الذكر الحكيم حديقة، وخميلة أنيقة، وحط بجودي الجود نفساً في طوفان العز غريقة، والتحف رفرف الهيبة التي لا تهتدي النفس فيها إلا بهداية الله تعالى طريقة، واعتز بعزة الله وقد توسط جيش الحرمة المرينية حقيقة، إذ جعل المولى المقدس المرحوم أبا الحسن مقدمة وأباه وجده سيقة، يرى بركم بهذا اللحد الكريم قد طنب عليه من الرضى فسطاطاً، وأعلق به يد العناية المرينية اهتماماً واغتباطاً، وحرر له أحكام الحرمة نصاً جلياً واستنباطاً، وضمن له حسن العقبى التزاماً واشتراطاً، وقد عقد البصر بطريقة رحمتكم المنتظرة المرتقبة، ومد اليد إلى لطائف شفاعتكم التي تتكفل بعتق المال كما تكفلت بعتق الرقبة، وشرع في المراح بميدان نعمتكم بعد اقتحام هذه العقبة، لما شنفت الأذن البشرى التي لم يبق طائر إلا سجع بها وصدح، ولا شهاب دجنة إلا اقتبس من نورها واقتدح، ولا صدر إلا انشرح، ولا غصن عطف إلا مرح، بشرى الفتح القريب، وخبر النصر الصحيح الحسن الغريب، فتح تلمسان الذي قلد المنابر عقود الابتهاج، ووهب الإسلام منيحة النصر غنية عن الانتهاج، وألحف الخلق ظلاً ممدوداً، وفتح باب الحج وكان مسدوداً، وأقر عيون أولياء الله الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً، وأضرع بسيف الحق جباهاً أبية وخدوداً، وملككم حق أبيكم الذي أهان عليه الأموال، وخاض من دونه الأهوال، وأخلص فيه الضراعة والسؤال، من غير كد يغمز عطف المسرة، ولا جهد يكدر صفو النعم الثرة، ولا حصر ينفض به المنجنيق ذؤابته، ويظهر بتكرار الركوع إنابته.
فالحمد لله الذي أقال العثار، ونظم بدعوتكم الانتثار، وجعل ملككم يجدد الآثار، ويأخذ الثار، والعبد يهنئ مولاه، بما أنعم الله تعالى به عليه وأولاه، فإذا أجال العبيد قداح السرور فللعبد المعلى والرقيب، وإذا استهموا حظوظ الجذل فلي القسم الوافر والنصيب، وإذا اقتسموا فريضة شكر الله فلي الحظ(5/38)
والتعصيب، لتضاعف أسباب العبودية قبلي، وترادف النعم التي عجز عنها قولي وعملي، وتقاصر في ابتغاء مكافأتها وجدي وإن تطاول أملي، فمقامكم المقام الذي نفس الكربة، وآنس الغربة، ورعى الوسيلة والقربة، وأنعش الأرماق، وفك الوثاق، وأدر الأرزاق، وأخذ على الدهر بالاستقالة العهد والميثاق.
وإن لم يباشر العبد اليد العالية بهذا الهناء، ويمثل بين يدي الخلافة العظيمة السنا والسناء، ويمد بسبب اليد إلى تلك السماء، فقد باشر به اليد التي يحن مولاي لتذكر تقبيلها، ويكمل فروض المجد بتوفية حقوقها الأبوية وتكميلها، ووقفت بين يدي ملك الملوك الذي أجال عليها القداح، ووصل في طلب وصالها بالمساء الصباح، وكان فتحه إياها أبا عذرة الافتتاح، وقلت: يهنيك يا مولاي رد ضالتك المنشودة، وجبر لقطعتك المعرفة المشهودة، ورد أمتك المودودة، فقد استحقها وارثك الأرضى، وسيفك الأمضى، وقاضي دينك، وقرة عينك، مستنقذ دارك من يد غاصبها، وراد رتبتك إلى مناصبها، وعامر المثوى الكريم، وساتر الأهل والحريم. مولاي: هذه تلمسان قد طاعت، وأخبار الفتح على ولدك الحبيب إليك قد شاعت، والأمم إلى هنائه قد تداعت، وعدوك وعدوه قد شردته المخافة، وانضاف إلى عرب الصحراء فخفضته الإضافة، وعن قريب تتحكم فيه يد احتكامه، وتسلمه السلامة إلى حمامه، فلتطب يا مولاي نفسك، وليستبشر رمسك، فقد نمت بركتك وزكا غرسك، نسأل الله أن يورد على ضريحك من أنباء نصره ما تفتح له أبواب السماء قبولا، ويترادف إليك مدداً موصولاً، وعدداً آخرته خير لك من الأولى، ويعرفه بركة رضاك ظعناً وحلولا، ويضفي عليك منه ستراً مسدولا.
ولم يقنع العبد بخدمة النثر، حتى أجهد القريحة التي ركضها الدهر فأنضاها، واستشفها الحادث الجلل فتقضاها، فلفق من خدمة المنظوم ما يتغمد حلمكم تقصيره، ويكون إغضاؤكم إذا لقي معرة العتب وليه ونصيره، وإحالة مولاي(5/39)
على الله في نفسي جبرها، ووسيلة عرفها مجده فما أنكرها، وحرمة بضريح مولاي والده شكرها، ويطلع العبد منه على كمال أمله، ونجح عمله، وتسويغ مقترحه وتتميم جذله:
أطاع لساني في مديحك إحساني ... إلى آخر القصيدة التي تقدمت.
[نونية الفقيه عمر الزجال]
وحيث اقتضت المناسبة جلب هذه النونيات فلنضف إليها قصيدة أديب الأندلس الفقيه عمر صاحب الأزجال، إذ هو من فرسان هذا المجال، وقد وطأ لها بنثر، وجعل الجميع مقامة ساسانية، سماها " تسريح النصال إلى مقاتل الفصال " ونصها (1) : يا عماد السالكين، ومحط (2) المستفيدين والمتبركين، وثمال الضعفاء والمساكين المتروكين، في طريقك يتنافس المتنافس، وعلى أعطافك تزهى العباءات وتروق الدلافس (3) ، وبكتابك تحيا جوامد الأفهام، وبمذبتك تشرد ذباب الأوهام، وفي زنبيلك يسد التالد والطارف، وبعصاك يهش على بدائع المعارف، الله الله في سالك، ضاقت عليه المسالك، وشاد، رمي بإبعاد، أدركته متاعب الحرفة، وأقيم من صف أهل الصفة (4) ، فلا يجد نشاطا، على ما يتعاطى، ولا يلقى اغتباطا، إن حل زاوية أو نزل رباطا، أقصي عن أهل القرب والتخصيص، وابتلي بمثل حالة برصيص (5) ، فأحيل عليك، وتوقفت إقالته على
__________
(1) قارن بأزهار الرياض 1: 117.
(2) الأزهار: ومحط رحال.
(3) الدلافس: جمع دلفاس، وقد مر من قبل " دفاس " - وكلاهما صحيح - وهو نوع من الثياب.
(4) أهل الصفة: قوم من فقراء المهاجرين كانوا يأوون إلى صفة المسجد في عهد الرسول لأنه لا مأوى لهم غيرها.
(5) برصيص أو برصيصا: من عباد بني إسرائيل ثم فتنه الشيطان.(5/40)
توبة بين يديك، فكاتبك استدعاء، واستوهب منك هداية ودعاء، ليسير على ما سويت، ويتحمل عنك أشتات ما رويت، فيلقى الأكفاء الظرفاء عزيزاً، ويباهي بك كل من خاطبك مستجيزاً، فاصرف إلي محيا الرضى، وعد من إيناسك للعهد الذي مضى، ولا تلقني معرضاً ولا معرضا، وأصخ لي سمعك كما قدر الله تعالى وقضى:
تعال نجددها طريقة ساسان (1) ... نعض عليها ما توالى الجديدان
ونصرف إليها من مثار عزائم ... ونحلف عليها من مؤكد أيمان
ونعقد على حكم الوفاء هواءنا ... لنأمن من أقول زور وبهتان
ونقسم على أن لا نصدق واشياً ... يروح ويغدو بين أثم وعدوان
يطوف حوالينا ليفسد بيننا ... بمنطق إنسان وخدعة شيطان
على أننا من عالم كلما بدا ... تعوذ منه عالم الإنس والجان
وحاشاك أن تلفى عن الصلح معرضاً ... إلى الصلح آلت حرب عبس وذبيان
وإني أهمتني شؤون كثيرة ... وصلحك أولى ما أقدم من شاني
فأنت إمامي إن كلفت بمذهب ... وأنت دليلي إن صدعت ببرهان
سأرعاك في أهل العباءات كلما ... رأيتك في أهل الطيالس ترعاني
ويا لابسي تلك العباءات إنها ... لباس إمام في الطريقة دهقان
تفرقت الألوان منها إشارة ... بأنك تأتي من حلاك بألوان
ويا بأبي الفصال شيخ طريقة ... خلوب لألباب لعوب بأذهان
إذا جاء في الثوب المحبر خلته ... زنيبيرة قد مد منها جناحان
فما تأمن الأبدان آفة لسعها ... وإن أقبلت في سابغات وأبدان
سأدعوك في حالات كيدي وكديتي ... بشيخي ساسان وعمي هامان
__________
(1) طريقة ساسان: أي طريقة أهل الكدية.(5/41)
فإن كان في الأنساب منا تباين ... فما تنكر الآداب أنا نسيبان
ألا فادع لي في جنح ليلك دعوة ... لتنجح آمالي ويرجح ميزاني
لك الطائر الميمون في كل وجهة ... سريت إليها غير نكس ولا واني
فكم من فقير بائس قد عرفته ... فرفت عليه نعمة ذات أفنان
وكم من رفيع الجاه واليت أنسه ... فعاش قرير العين مرتفع الشان
فلو كنت للفتح بن خاقان صاحباً ... لما خانه المقدور في ليلة الخان (1)
ولو كنت للصابي صديقاً ملاطفاً ... لما قبلت فيه مقالة بهتان (2)
ولو كنت من عبد الحميد مقرباً ... لما هزم السفاح أشياع مروان
ولو كنت قد أرسلتها دعوة على ... أبي مسلم ما حاز أرض خراسان
ولو كنت في يوم الغبيط مراسلاً ... لبسطام لم تهزم به آل شيبان (3)
ولو كنت في حرب الأمين لطاهر ... لما هام في يوم اللقاء ابن ماهان (4)
ولو كنت في مغزى أبي يوسف لما ... رماه بغدر عبده في تلمسان (5)
ولو أن كسرى يزدجرد عرفته ... لما لاح مقتولاً على يد طحان (6)
ولو أن لذريقاً وطئت بساطه ... لما أثرت فيه مكيدة اليان (7)
وفيما مضى في فاس أوضح شاهد ... غني لدينا عن بيان وتبيان
ولما اعتنى منك السعيد بكاتب ... رأى ما ابتغى من عز ملك وسلطان
فلا تنسني من أهل ودك إنني ... أخاف الليالي أن تطول فتنساني
__________
(1) الفتح بن خاقان صاحب القلائد والمطمح وجد مقتولا بخان في مدينة مراكش.
(2) أبو إسحاق الصابي سجنه عضد الدولة.
(3) يوم الغبيط بين تميم وشيبان أسر فيه بسطام بن قيس.
(4) علي بن عيسى بن ماهان قائد جيش الأمين.
(5) يوسف بن يعقوب المريني غزا تلمسان وحاصرها وقتله في أثناء ذلك عبده سعادة.
(6) آخر ملوك الفرس، هرب من وجه العرب إلى بلخ فقتله هناك طحان.
(7) اليان هو يليان الذي كاد للذريق وحرض العرب وساعدهم على دخول الأندلس.(5/42)
ولا خير إن تجعل كفاء قصيدتي ... كفاء ابن دراج على مدح خيران (1)
فجد بدنانير ولا تكن التي ... ألم بها الكندي في شعب بوان (2)
فجودك فينا الغيث في رمل عالج ... وفضلك فينا الخبز في دار عثمان (3)
وما زلت من قبل السؤال مقابلاً ... مرادي بإحساب وقصدي بإحسان
ولا تنس أياماً تقضت كريمة ... بزاوية المحروق أو دار همدان (4)
وتأليفنا فيها لقبض إتاوة ... وإغرام مسنون وقسمة حلوان
وقد جلس الطرقون (5) بالبعد مطرقاً ... يقول نصيبي أو أبوح بكتمان
عريفي يلحاني إذا ما أتيته ... ولم أنصرف عنكم بواجب ألحان
وقد جمعت تلك الطريقة عندنا ... أئمة حساب وأعلام كهان
إذا استنزلوا الأرواح باسم تبادرت ... طوائف ميمون وأشياع برقان (6)
وإن بخروا عند الحلول تأرجت ... مباخرهم عن زعفران ولوبان (7)
وإن فتحوا الدارات (8) في رد آبق ... ثنت عزمه أوهام خوف وخذلان
فيحسب أن الأرض حيث ارتمت به ... ركائبه سرعان رجل وركبان
وقد عاشرتنا أسرة كيموية ... أقامت لدينا في مكان وإمكان
فلله من أعيان قوم تألفوا ... على عقد سحر أو على قلب أعيان
__________
(1) مدح ابن دراج خيران الصقلبي صاحب المرية بقصيدته " لك الخير قد أوفى بعهدك خيران " (ديوانه: 86) والظاهر أنه لم يجزل جائزته عليها.
(2) أي يريد دنانير حقيقية لا التي تحدث عنها المتنبي حين وصف أشعة الشمس بين الشجر في شعب بوان وشبهها بالدنانير.
(3) يشير إلى قول الشاعر (النفح 3: 580) :
الماء في دار عثمان له ثمن ... والخبز شيء له شان من الشان (4) زاوية المحروق ودار همدان موضعان بفاس.
(5) الطرقون: كلمة مغربية معناها من بيده قبض ضرائب اللهو والأعراس وما أشبه.
(6) ميمون وبرقان من الجن.
(7) اللوبان عند المغاربة ما يعرف عند المشارقة باسم " اللبان ".
(8) الدارات: حلقات يعقدها شيوخ المشعوذين لكشف السر عند حدوث سرقة أو إباق أو نحو ذلك.(5/43)
ونحن على ما يغفر الله إنما ... نروح ونغدو من رباط إلى خان (1)
مع الصبح نضفيها عباءة صفة ... وبالليل نلويها زنانير رهبان
أتذكر في سفح العقاب مبيتكم ... ثمانين شخصاً من إناث وذكران
لديكم من الألوان ما لم يجئ به ... طهور ابن ذنون ولا عرس بوران (2)
وكم شائق منكم إلى عقد تكة ... وكم هائم فيكم على حل هميان (3)
فأطفأت قنديل المكان تعمداً ... وأومأت فانقضوا كأمثال عقبان
وناديت في القوم الركوب فأسرعوا ... فريق لنسوان، وقوم لذكران
فأقسم بالأيمان لولا تعففي ... عن السوء لانحلت عقيدة إيماني
فعد للذي كنا عليه فإن لي ... على الغير إن صاحبته حقد غيران
فمن يوم إذ صيرت ودي جانباً ... وأعرضت عني ما تناطح عنزان
ولا روت الكتاب بعد نفارنا ... محاورةً من ثعلبان لسرحان
وما هو قصدي منك إلا إجازة ... تخولني التفضيل ما بين خلاني
وإنك إن سخرت لي وأجزتني ... لنعم ولي صان ودي وجازاني
ولم لا ترويني وأنت أجل من ... سقاني من قبل الرحيق فرواني
ألا فأجزني يا إمام بكل ما ... رويت لمدغليس أو لابن قزمان
ولا تنس للدباغ نظماً عرفته ... فإنكما في ذلك النظم سيان
ومزدوجات ينسبون نظامها ... إلى ابن شجاع (4) في مديح ابن بطان
وألمم بشيء من خرافات عنتر ... وألمع ببعض من حكايات سوسان
__________
(1) الأزهار: حان - بالحاء المهملة -.
(2) الإعذار الذنوني الذي قام به المأمون بن ذي النون، في الأندلس، وعرس بوران بنت الحسن بن سهل التي تزوجها المأمون العباسي، في المشرق، كلاهما مضرب المثل في البذخ والإسراف.
(3) حذف المقري في أزهار الرياض هذا البيت واثنين معه لأن الشاعر أقذع فيها.
(4) ق ص: سجاع.(5/44)
وإن كنت طالعت اليتيمة واسني ... بلامية في الفحش من نظم واساني (1)
أجزني بكشف الدك (2) أرضى وسيلة ... وخير جليس في بساط ودكان
وناولني المصباح فهو لغربتي ... ميسر أغراضي ورائد سلواني
وألحق به شمس المعارف (3) إنني ... أسائل عن إسناده كل إنسان
وقد كنت قبل اليوم عرفتني به ... ولكنني أنسيته بعد عرفان
ولا بد يا أستاذ من أن تجيزني ... ببدء ابن سبعين (4) وفصل ابن رضوان
وكتب ابن أحلى كيف كانت فإنها ... لوزن دقيق القوم أكرم ميزان
ولا تنس ديوان الصبابة (5) والصفا ... لإخوان صدق في الصفا خير إخوان
وزهر رياض في صفوف أضاحك ... وجبذ كساء في مكايد نسوان
كذاك فناولني كتاب حبائب ... وزدني تعريفاً بها وببرجان (6)
ولي أمل في أن أروى رسالة ... مضمنة أخبار حي بن يقظان
وحبس علي الكوز والكاس والعصا ... فإنك مثر من عصي وكيزان
وصير لي الدلفاس أرفع لبسة ... فقد جل قدري عن حرير وكتان
وقد رق طبعي واعترتني خشية ... تكاد بها روحي تفارق جثماني
وخل مفاتيح الطريقة في يدي ... وسوغ لهم حكمي مزيدي ونقصاني
فإني لم أخدمك إلا بنية ... وإني لم أتبعك إلا بإحسان
__________
(1) الواساني أبو القاسم الحسين بن الحسين وله قصيدة لامية مقذعة في اليتيمة 1: 351 يهجو بها المنشا ابن إبراهيم القزاز.
(2) اسم كتاب لابن شهيد الشاعر؛ وفي الفهرست (312) كتاب الخفة والدك وهو من كتب الشعبذة والطلسمات.
(3) شمس المعارف للبوني (- 622) .
(4) يريد بدء العارف لابن سبعين.
(5) اسم كتاب لابن حجلة التلمساني.
(6) هكذا في الأصل، وفي الفهرست لابن النديم (314) كتاب " بردان وحباحب " لأبي حسان، وهما كتابان صغير وكبير، من الكتب المؤلفة في الباه.(5/45)
فكن لي بالأسرار أفصح معلن ... فإني قد أخلصت سري وإعلاني وليس قصدي - علم الله - بجلب هذه القصيدة ما فيها من المجون، بل ما فيها من التلميحات التي يرغب في مثلها أهل الأدب والحديث شجون، على أن أمثال هؤلاء الأعلام، لا يقصدون بمثل هذا الكلام، إلا مجرد الإحماض، فينبغي أن ينظر كلامهم الواقف عليه بعين الإغضاء عن النقض والإغماض، ولا يبادر بالاعتراض، من لم يعلم بالأصول برهان القطع والافتراض، والله سبحانه المسؤول في التجاوز عن الزلات، والنجاة من الأمور المضلات، فعفوه سبحانه وراء جميع ذلك، والله تعالى المطلع على أسرار الضمائر، والخبير بما هنالك، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
[نونية ابن زمرك]
وحيث ذكرنا هذه القصائد النونية التي اتفق فيها البحر والروي، وجرت من البلاغة على النهج السوي، فلا بأس أن نعززها بقصيدة الرئيس الوزير أبي عبد الله ابن زمرك - سامحه الله تعالى - وهي قصيدة ميلادية أنشدها سلطان الأندلس عام خمسة وستين وسبعمائة، ونجعلها مكفرة لما مر في قصيدة الفقيه عمر من المجون، ومبلغة للناظرين في هذا التأليف ما يرجون، والحديث شجون، وهي قوله (1) :
لعل الصبا إن صافحت روض نعمان ... تؤدي أمان القلب عن ظبية البان
وماذا عن الأرواح وهي طليقة ... لو احتملت أنفاسها حاجة العاني
وما حال من يستودع الريح سره ... ويطلبها، وهي النموم، بكتمان
وكالطيف أستقريه في سنة الكرى ... وهل تنقع الأحلام غلة ظمآن
__________
(1) انظر القصيدة في أزهار الرياض 2: 42.(5/46)
أسائل عن نجد ومرمى صبابتي ... ملاعب غزلان الصريم بنعمان
وأبدي إذا ريح الشمال تنفست ... شمائل مرتاح المعاطف نشوان
عرفت بهذا الحب لم أدر سلوة ... وإني لمسلوب الفؤاد لسلوان
فيا صاحبي نجواي والحب غاية ... فمن سابق جلى مداه ومن واني
وراءكما ما اللوم يثني مقادتي ... فإني عن شأن الملامة في شان
وإني وإن كنت الأبي قياده ... ليأمرني حب الحسان وينهاني
وما زلت أرعى العهد فيمن يضيعه ... وأذكر إلفي ما حييت وينساني
فلا تنكرا ما سامني مضض الهوى ... فمن قبل ما أودى بقيس وغيلان
لي الله إما أومض البرق في الدجى ... أقلب تحت الليل مقلة وسنان
وإن سل من غمد الغمام حسامه ... برى كبدي الشوق الملم وأضناني
تراءى بأعلام الثنية باسماً ... فأذكرني العهد القديم وأبكاني
أسامر نجم الأفق حتى كأننا ... وقد سدل الليل الرواق حليفان
ومما أناجي الأفق أعديه بالجوى ... فأرعى له سرح النجوم ويرعاني
ويرسل صوب القطر من فيض أدمعي ... ويقدح زند البرق من نار أشجاني
وضاعف وجدي رسم دار عهدتها ... مطالع شهب أو مراتع غزلان
على حين شرب الوصل غير مصرد ... وصفو الليالي لم يكدر بهجران
لئن أنكرت عيني الطلول فإنها ... تمت إلى قلبي بذكر وعرفان
ولم أر مثل الدمع في عرصاتها ... سقى تربها حين استهل وأظماني
ومما شجاني أن سرى الركب موهناً ... تقاد به هوج الرياح بأرسان
غوارب في بحر السراب تخالها ... وقد سبحت فيه مواخر غربان
على كل نضو مثله فكأنما ... رمى منهما صدر المفازة سهمان
ومن زاجر كوماء مخطفة الحشا ... توسد منها فوق عوجاء مرنان
نشاوى غرام يستميل رؤوسهم ... من النوم والشوق المبرح سكران
أجابوا نداء البين طوع غرامهم ... وقد تبلغ الأوطار فرقة أوطان(5/47)
يؤمون من قبر الشفيع مثابة ... تطلع منها جنة ذات أفنان
إذا نزلوا من طيبة بجواره ... فأكرم مولى ضم أكرم ضيفان
بحيث علا الإيمان وامتد ظله ... وزان حلى التوحيد تعطيل أوثان
مطالع آيات، مثابة رحمة ... معاهد أملاك، مظاهر إيمان
هنالك تصفو للقبول موارد ... يسقون منها فضل عفو وغفران
هناك تؤدى للسلام أمانة ... يحييهم عنها بروح وريحان
يناجون عن قرب شفيعهم الذي ... يؤمله القاصي من الخلق والداني
لئن بلغوا دوني وخلفت إنه ... قضاء جرى من مالك الأرض ديان
وكم عزمة مليت نفسي صدقها ... وقد عرفت مني مواعد ليان
إلى الله نشكوها نفوساً أبية ... تحيد عن الباقي وتغتر بالفاني
ألا ليت شعري هل تساعدني المنى ... فأترك أهلي في رضاه وجيراني
وأقضي لبانات الفؤاد بأن أرى ... أعفر خدي في ثراه وأجفاني
إليك رسول الله دعوة نازح ... خفوق الحشا رهن المطامع هيمان
غريب بأقصى الغرب قيد خطوه ... شباب تقضى في مراح وخسران
يجد اشتياقاً للعقيق وبانه ... ويصبو إليها ما استجد الجديدان
وإن أومض البرق الحجازي موهناً ... يردد في الظلماء أنة لهفان
فيا مولي الرحمى، ويا مذهب العمى ... ويا منجي الغرقى، ويا منقذ العاني
بسطت يد المحتاج يا خير راحم ... وذنبي ألجاني إلى موقف الجاني
وسيلتي العظمى شفاعتك التي ... يلوذ بها موسى وعيسى بن عمران
فأنت حبيب الله خاتم رسله ... وأكرم مخصوص بزلفى ورضوان
وحسبك أن سماك أسماه العلا ... وذاك كمال لا يشاب بنقصان
وأنت لهذا الكون علة كونه ... ولولاك ما امتاز الوجود بأكوان
ولولاك للأفلاك لم تجل نيراً ... ولا قلدت لباتهن بشهبان
خلاصة صفو المجد من آل هاشم ... ونكتة سر الفخر من آل عدنان(5/48)
وسيد هذا الخلق من نسل آدم ... وأكرم مبعوث إلى الإنس والجان
وكم آية أطلعت في أفق الهدى ... يبين صباح الرشد منها ليقظان
وما الشمس يجلوها النهار لمبصر ... بأجلى ظهوراً أو بأوضح برهان
وأكرم بآيات تحديتنا بها ... ولا مثل آيات لمحكم فرقان
وماذا عسى يثني البليغ وقد أتى ... ثناؤك في وحي كريم (1) وقرآن
فصلى عليك الله ما انسكب الحيا ... وما سجعت ورقاء في غصن البان
وأيد مولانا ابن نصر فإنه ... لأشرف من ينمى لملك وسلطان
أقام كما يرضيك مولدك الذي ... به سفر الإسلام عن وجه جذلان
سمي رسول الله ناصر دينه ... معظمه في حال سر وإعلان
ووارث سر المجد من آل خزرج ... وأكرم من تنمي قبائل قحطان
ومرسلها ملء الفضاء كتائباً ... تدين لها غلب الملوك بإذعان
حدائق خضر والدروع غدائر ... وما أنبتت إلا ذوابل مران
تجاوب فيها الصاهلات وترتمي ... جوانبها بالأسد من فوق عقبان
فمن كل خوار العنان قد ارتمى ... به كل مطعام العشيات مطعان
وموردها ظمأى الكعوب ذوابلاً ... ومصدرها من كل أملد ريان
ولله منها والربوع مواحل ... غمام ندى كفت بها المحل كفان
إذا أخلف الناس الغمام وأمحلوا ... فإن نداه والغمام لسيان
إمام أعاد الملك بعد ذهابه ... إعادة لا نابي الحسام ولا واني
فغادر أطلال الضلال دوارساً ... وجدد للإسلام أرفع بنيان
وشيدها، والمجد يشهد، دولة ... محافلها تزهى بيمن وإيمان
وراق من الثغر الغريب ابتسامه ... وهز له الإسلام أعطاف مزدان
لك الخير ما أسنى شمائلك التي ... يقصر عن إدراكها كل إنسان
__________
(1) الأزهار: قديم.(5/49)
ذكاء إياس في سماحة حاتم ... وإقدام عمرو في بلاغة سحبان
أمولاي ما أسنى مناقبك التي ... هي الشهب لا تحصى بعد وحسبان
فلا زلت يا غوث البلاد وأهلها ... مبلغ أوطار ممهد أوطان ولابن زمرك المذكور ترجمة نأتي بها في هذا التأليف إن شاء الله تعالى في محلها، وهو من تلامذة لسان الدين، ومن عداد خدامه، فحين نبا به الزمان، وتعوض الخوف بعد الأمان، كان أحد الساعين في قتله كما سنذكره، وصرح بذمه وهجوه بعد أن كان ممن يشكره، وهكذا عادة بني الدنيا يدورون معها حيث دارت، ويسيرون حيث سارت، ويشربون من الكأس التي أدارت، وقد تولى المذكور الوزارة عوضاً عن ابن الخطيب، وصدح طير عزه على فنن من الإقبال رطيب، ثم آل الأمر به إلى القتل، كما سعى في قتل لسان الدين، وكان الجزاء له من جنس عمله، والمرء يدان بما كان به يدين، وعفو الله سبحانه مرجو للجميع في الآخرة، وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن ينيلنا وإياهم المراتب الفاخرة، فإنه لا يتعاظمه ذنب، وليس للكل غيره من رب.
رجع إلى ما كنا بسبيله - وأما لوشة التي ينسب إليها لسان الدين فقد تقدم من كلام ابن خلدون أنها على مرحلة من حضرة غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج، وقد أجرى ذكرها لسان الدين في الإحاطة وقال:
إنها بنت الحضرة، يعني غرناطة، وقال ذلك في ترجمة ابن مرج الكحل، ولنذكر الترجمة بكمالها تتميماً للغرض فنقول:
[ترجمة ابن مرج الكحل]
قال رحمه الله ما نصه (1) : محمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم، من
__________
(1) ترجمة ابن مرج الكحل منقولة نصا عن الإحاطة 2: 252.(5/50)
أهل جزيرة شقر، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن مرج الكحل.
حاله: كان شاعراً مفلقاً غزلاً بارع التوليد رقيق الغزل، وقال الأستاذ أبو جعفر: شاعر مطبوع حسن الكتابة ذاكر للأدب متصرف فيه، قال ابن عبد الملك: وكانت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات ظهرت فيها إجادته، وكان مبتذل اللباس، على هيئة أهل البادية، ويقال: إنه كان أمياً.
من أخذ عنه: روى عنه أبو جعفر ابن عثمان الوارد، وأبو الربيع ابن سالم، وأبو عبد الله ابن الأبار، وابن عسكر، وابن أبي البقاء، وأبو محمد ابن عبد الرحمن ابن برطله، وأبو الحسن الرعيني.
شعره ودخوله غرناطة: قال في عشية بنهر الغنداق من خارج بلدنا لوشة بنت الحضرة، والمحسوب من دخلها أنه دخل إلبيرة - وقد قيل: إن نهر الغنداق من أحواز برجة، وهذا الخلاف داع لذكره (1) -:
عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثر
ولتغتبقها قهوة ذهبية ... من راحتي أحوى المراشف أحور
وعشية كم كنت أرقب وقتها ... سمحت بها الأيام بعد تعذر
فلنا بهذا ما لنا في روضة ... تهدي لناشقها شميم العنبر
والدهر من ندم يسفه رأيه ... فيما مضى فيه بغير تكدر
والورق تشدو والأراكة تنثني ... والشمس ترفل في قميص أصفر
والروض بين مفضض ومذهب ... والزهر بين مدرهم ومدنر
والنهر مرقوم الأباطح والربى ... بمصندل من زهره ومعصفر
وكأنه وكأن خضرة شطه ... سيف يسل على بساط أخضر
وكأنما ذاك الحباب فرنده ... مهما طفا في صفحة كالجوهر
__________
(1) انظر هذه القصيدة أيضا في أزهار الرياض 2: 315.(5/51)
وكأنه، وجهاته محفوفة ... بالآس والنعمان، خد معذر
نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم يشعر
ما اصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلا لفرقة حسن ذاك المنظر ولا خفاء ببراعة هذا الشعر (1) ، وقال منها:
أرأت جفونك مثله من منظر ... ظل وشمس مثل خد معذر
وجداول كأرقم حصباؤها ... كبطونها وحبابها كالأظهر وهذا تتميم عجيب لما يسبق إليه، ثم قال منها:
وقرارة كالعشر بين خميلة ... سالت مذانبها بها كالأسطر
فكأنها مشكولة بمصندل ... من يانع الأزهار أو بمعصفر
أمل بلغناه بهضب حديقة ... قد طرزته يد الغمام الممطر
فكأنه والزهر تاج فوقه ... ملك تجلى في بساط أخضر
راق النواظر منه رائق منظر ... يصف النضارة عن جنان الكوثر
كم قاد خاطر خاطر مستوفز ... وكم استفز جماله من مبصر
لو لاح لي فيما تقادم لم أقل ... عرج بمنعرج الكثيب الأعفر قال أبو الحسن الرعيني: وأنشدني لنفسه (2) :
وعشية كانت قنيصة فتية ... ألفوا من الأدب الصريح شيوخا
فكأنما العنقاء قد نصبوا لها ... من الانحناء إلى الوقوع فخوخا
شملتهم آدابهم فتجاذبوا ... سر السرور محدثاً ومصيخا
والورق تقرأ سورة الطرب التي ... ينسيك منها ناسخ منسوخا
__________
(1) الإحاطة: النظم.
(2) لا يزال النقل عن الإحاطة مستمرا، وانظر أيضا برنامج الرعيني.(5/52)
والنهر قد صفحت به نارنجة ... فتيممت من كان فيه منيخا
فتخالهم خلل السماء كواكباً ... قد قارنت بسعودها المريخا
خرق العوائد في السرور نهارهم ... فجعلت أبياتي لها تاريخا ومن أبياته في البديهة قوله:
وعندي من مراشفها حديث ... يخبر أن ريقتها مدام
وفي أجفانها السكرى دليل ... وما ذقنا ولا زعم الهمام
تعالى الله ما أجرى دموعي ... إذا عنت لمقلتي الخيام
وأشجاني إذا لاحت بروق ... وأطربني إذا غنت حمام ومن قصيدة:
عذيري من الآمال خابت قصودها ... ونالت جزيل الحظ منها الأخابث
وقالوا: ذكرنا بالغنى، فأجبتهم ... خمولاً وما ذكر مع البخل ماكث
يهون علينا أن يبيد أثاثنا ... وتبقى علينا المكرمات الأثائث
وما ضر أصلاً طيباً عدم الغنى ... إذا لم يغيره من الدهر حادث وله يتشوق إلى عمرو بن أبي (1) غياث:
أيا عمرو متى تقضي الليالي ... بلقياكم وهن قصصن ريشي
أبت نفسي هوى إلا شريشاً ... ويا بعد الجزيرة من شريش وله من قصيدة:
طفل المساء وللنسيم تضوع ... والأنس يجمع شملنا ويجمع
والزهر يضحك من بكاء غمامة ... ريعت لشيم سيوف برق تلمع
__________
(1) أبي: سقطت من ق.(5/53)
والنهر من طرب يصفق موجه ... والغصن يرقص والحمامة تسجع
فانعم أبا عمران واله بروضة ... حسن المصيف بها وطاب المربع
يا شادن البان الذي دون النقا ... حيث التقى وادي الحمى والأجرع
الشمس يغرب نورها ولربما ... كسفت ونورك كل حين يسطع
إن غاب نور الشمس لسنا نتقي ... بسناك ليل تفرق يتطلع
أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلا من الظلماء ما يتوقع
فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... " فوددت يا موسى لو أنك يوشع " (1) وقال:
ألا بشروا بالصبح من كان باكياً ... أضر به الليل الطويل مع البكا
ففي الصبح للصب المتيم راحة ... إذا الليل أجرى دمعه وإذا شكا
ولا عجب أن يمسك الصبح عبرتي ... فلم يزل الكافور للدم ممسكاً ومن بديع مقطوعاته قوله:
مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعاً ... فإذا وليت عنه تبعك وقال:
دخلتم فأفسدتم قلوباً بملكها ... فأنتم على ما جاء في سورة النمل (2)
وبالجود والإحسان لم تتخلقوا ... فأنتم على ما جاء في سورة النحل (3)
__________
(1) من قول الرصافي البلنسي؛ وسيورده المقري:
سقطت ولم تملك يمينك ردها ... فودتت يا موسى لو أنك يوشع (2) إشارة إلى الآية الكريمة " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ".
(3) إشارة إلى الآية الكريمة " أينما يوجهه لا يأت بخير ".(5/54)
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن جهور: رأيت لابن مرج الكحل مرجاً أحمر قد أجهد نفسه في خدمته، فلم ينجب، فقلت:
يا مرج كحل ومن هذي المروج له ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل
ما حمرة الأرض من طيب ومن كرم ... فلا تكن طمعاً في رزقها العجل
فإن من شأنها إخلاف آملها ... فما تفارقها كيفية الخجل فقال مجيباً:
يا قائلاً إذ رأى مرجي وحمرته ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل
هو احمرار دماء الروم سيلها ... بالبيض من مر من آبائي الأول
أحببته أن حكى من قد فتنت به ... في حمرة الخد أو إخلافه أملي وفاته: توفي ببلده يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول عام أربعة وثلاثين وستمائة، ودفن في اليوم بعده.
انتهى ما في الإحاطة في شأن ابن مرج الكحل.
وكتب أبو الحسن علي بن لسان الدين على أول ترجمته ما نصه: شاعر جليل القدر، من مشايخ شعراء الأندلس، من أهل بلنسية، وسكن جزيرة شقر.
وكتب على قوله والنهر مرقوم الأباطح ما صورته: لم يصف أحد النهر بأرق ديباجة ولا أظرف من هذا الإمام، رحمة الله عليه، انتهى كلام ابن لسان الدين.
[رائية شمس الدين الكوفي]
قلت: وما رأيت رائية تقرب من التي لابن مرج الكحل السابقة التي أولها(5/55)
" عرج بمنعرج الكثيب الأعفر " إلا رائية شمس الدين الكوفي الواعظ، وهي قوله:
روح الزمان هو الربيع فبكر ... وانهض إلى اللذات غير منكر
هذا الربيع يبيع من لذاته ... أصناف ما تهوى، فأين المشتري
فافرح به فلفرحة بقدومه ... رفل الشقائق في القباء الأحمر
والكون مبتهج وخفاق الصبا ... يحيي القلوب بنشره المتعطر
والغيم يبكي، والأقاحي باسم ... لبكائه كتبسم المستبشر
والسرو إن عبث النسيم فهز أع ... طاف الغصون يميس ميس موقر
وكأنما القداح فستق فضة ... يهدي إليك أريج مسك أذفر
وكأنما المنثور في أثوابه ... ألوان ياقوت أنيق المنظر
وترى البهار كعاشق متخوف ... متشوق باد بوجه أصفر
وكأنما النارنج في أوراقه ال ... قنديل، والأوراق شبه مسحر
وكأنما الخشخاش قوم جاءهم ... خبر يسرهم بطيب المخبر
فثنوا ملابسهم لفرط سرورهم ... كي يخلعوا فرحاً بقول المخبر
فتعلقت أذيالها بأكفهم ... وتعلقت أزياقها بالمنحر
والطل من فوق الرياض كأنه ... درر نثرن على بساط أخضر
وترى الربى بالنور بين متوج ... ومدملج، ومخلخل، ومسور
ورياضها بالزهر بين مقرطق ... ومطوق، وممنطق، ومزنر
والورد بين مضعف، ومشنف ... ومكتف، وملطف لم يهصر
والزهر بين مفضض، ومذهب ... ومرصع، ومدرهم، ومدنر
والنثر بين مطيب، وممسك ... ومعطر، ومصندل، ومعنبر
والورق بين مرجع وموجع ... ومفجع ومسجع في منبر
ومغرد، ومردد، ومعدد ... ومبدد في الخد ماء المحجر(5/56)
ولكن قصيدة ابن مرج الكحل أعذب مذاقاً، وكل منهما لم يقصر، رحمهما الله تعالى، فلقد أجادا فيما قالاه إلى الغاية، وليس الخبر كالعيان.
[عود إلى ابن مرج الكحل]
ومن نظم ابن مرج الكحل قوله (1) :
الشمس يغرب نورها، ولربما ... كسفت ونورك كل حين يسطع
أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلا من الظلماء ما يتوقع
فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع ولمح بهذه الأبيات إلى قول الرصافي الأندلسي البلنسي يخاطب من اسمه موسى بقصيدة أولها (2) :
ما مثل موضعك ابن رزق موضع ... زهر يرف وجدول يتدفع ومنها:
وعشية لبست ثياب شحوبها ... والجو بالغيم الرقيق مقنع
بلغت بنا أمد السرور تألفاً ... والليل نحو فراقنا يتطلع
فابلل بها ريق الغبوق فقد أتى ... من دون قرص الشمس ما يتوقع
سقطت ولم يملك نديمك ردها ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع قلت: ومن نثر ابن مرج الكحل المذكور ما كتبه إلى أديب الأندلس أبي بحر صفوان بن إدريس مراجعاً له بعد نظم، ونص الجميع:
__________
(1) مرت الأبيات ص: 54.
(2) ديوان الرصافي: 104.(5/57)
يا من تبوأ في العلياء منزلة ... جداه قد أسساها أي تأسيس
لم يتركا في العلا حظاً لملتمس ... سيان هذا وهذاك ابن إدريس
وافى كتابكم فارتد لي جذلي ... واعتضت من فرط أشواقي بتأنيس
وللنوى لوعة تطفو فيطفئها ... مسك المداد وكافور القراطيس حرس الله سناءك وسناك، وأظفر يمناك بمناك، ودي الأسلم كما تعلم، وعهدي الأقدم، لم تزل له قدم، وأنا دام عزكم إن أتفق معكم انتساباً فلم أتفق في شأو الأدب باعاً، ولا قاربتكم طباعاً وانطباعاً، بل بذلك الاتفاق تشرفت وسموت إلى ذروة العلا واستشرفت، وأقررت بذلك الفضل واعترفت، وكرعت في مناهله واغترفت، ولقد وافى كتابكم فقلت لقد نثر الدر من فيه، وبلغ نفسي مما كانت تنويه من التنويه:
حديث لو أن الميت نودي ببعضه ... لأصبح حياً بعدما ضمه القبر ولولا ما طالعني وجه من رضاكم وسيم، وسقاني مزن اهتبالكم ما أروى به وأسيم، وحياني منكم روض ونسيم، لما ساعدني الفكر بقسيم، لا زلتم في ظل من العيش وارف، مرتدين رداء المعارف، والسلام؛ انتهى.
[رسالة صفوان إلى ابن مرج الكحل]
وكانت مخاطبة صفوان له التي أجاب عنها بما نصه:
يا قاطع البيد يطويها وينشرها ... إلى الجزيرة ينضي بدن العيس
الثم بها عن أخي حب وذي كلف ... يد العلا والقوافي وابن إدريس وأبلغها إليه تحية كالمسك صدراً وورداً، وكالماء الزلال عذوبة وبرداً، يسري بها إلى دار ابن نسيم، ويسفر منها بجزيرة شقر وجه وسيم، وهي وإن(5/58)
كانت تذيب المسك خجلاً، وتستفز بصوتها وجلاً، فما هي إلا خائفة تترقب، وسافرة تكاد تتنقب، تمشي على استحياء، وتعثر من التقصير في ذيل إعياء، هذا لأنها جلبت إلى هجر تمراً، وإلى شبام وبيت رأس خمراً، ولكن على المجد أن يبدي في قبول عذرها ويعيد، لعلمه أنه يتيمم من لم يجد إلا الصعيد، فله الفضل أن لا يلفحها بنار النقد، ولا يعرضها على ما هنالك من الحل والعقد، والله يبقي ذكره في مقلة الأدب حوراً، وفي قلب الحسود خوراً، ويديمه والقوافي طوع قريحته، والأغراض الجميلة ملء تعريضته وتصريحته، وزهر البيان تطلع في سماء جنانه، وزهر التبيان يونع في أنداء جنانه، وعذراً إليه فإني كتبت والحامل يمسك زمامه، ويلتفت في البيداء أمامه؛ والسلام.
[خطبة نكاح من إنشاء صفوان]
ومن إنشاء صفوان خطبة نكاح نصها: الحمد لله الذي تطول بالإحسان من غير جزاء ولا ثواب، وألبس المخلوقات من فواضله سوابغ المطارف وكواسي الأثواب، وجاءوا على أقدام الرجاء إلى محال نوافله فوجدوها مفتحة لهم الأبواب، وسألوه كفاية المؤنة فكان الفعل بدل القول والإسعاف بدل الجواب، خلق البرية من غير افتقار ولا اضطرار، ونقلهم من الطفولية إلى غيرها نقل البدر من التمام إلى السرار، وشرف هذه الطبقة الإنسانية فرزقها الإدراكات العقلية، والإبانات اللسانية، فضرب سرادق اعتنائه عليها، وأنشأها من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، ومع صنعه الرفيق بهم اللطيف، وتنويهه الحاف بأرجائهم المطيف، رزقهم أحسن الصور الحيوانية وأجملها، وأتاح لهم أتم أقسام الاعتناء وأكملها، وبعث إليهم الرسل صلوات الله عليهم صنعاً منه جميلاً، ورباً للصنيعة لديهم وتكميلاً، فبشروا وأنذروا، وأمنوا وحذروا، وباينوا بين الحرام والحلال، مباينة إدراك البصير بين الكدر والزلال، ودلوا على السمت الأهدى(5/59)
ونصبوا أعلام التوفيق والهدى، ولم يدعوا شيئاً سدى، بل توازنت بهم مقادير الأقوال والأعمال، وكانت إشاراتهم ثمال الهدايا وأي ثمال، فآب كل متسحب إلى الارتباط، وشد كل موفق على الاعتلاق بحالهم يد الاغتباط، فصلوات الله الزاكية عليهم، ونوافح رحمته النامية تغدو وتروح إليهم، وأتم الصلاة والسلام، على علم أولئك الأعلام، الداعي على بصيرة إلى دار السلام، السراج المنير، المبشر النذير، محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تؤول بهم إلى فسيح رضوانه ورحبه، بعثه الله رحمة للعالمين عامة، وأرسله نعمة للناس موفورة تامة، فأخذ بحجز (1) مصدقيه عن التهافت في مداحض الأقدام، والتتابع في مزلات الجرأة على العصيان والإقدام، فأقام الحجة، وأوضح المحجة، ودل على المقامات التي تمحض الأولياء، وأفصح عن الكرامات التي تنقذ الأتقياء، وقال وأهلاً به من قائل: " تناكحوا فإني مكاثر بكم الأنبياء " حرصاً منه صلوات الله عليه على الزيادة في أهل الإسلام والنماء، ودفعاً في صدر الباطل بواضح الحق الصادع غيهب الظلماء، وحض على ذات الدين الحصان، وأغرى بالاعتصام والإحصان، ونصب أعلام النكاح مشيدة المباني، وجاء بها سنة عذبة المجاني، وقال: " من تزوج فقد كمل نصف دينه فليتق الله في النصف الثاني "، وأمر بالنكاح الذي توافقت فيه الطبيعة والشريعة، ولبته النفوس وهي سريعة، وأخصبت به ربوة التناسل فهي مروضة مريعة، وسدت به عن اتباع الهوى وارتكاب المحارم الذريعة، وحفظت به الأنسال والأنساب، وفاض به نهر لالتئام المنساب، إذ لا سبيل لأن يستغني بذاته، من كان أسير هواه ومأمور لذاته، وإنما الانفراد والاستغناء، لمن له الكمال والغنى، ولا يجوز أن يتعاقب عليه الإنى، لا إله إلا هو له السناء والسنا.
وإن فلاناً لما ارتقت همته إلى إتباع الصالحات وسمت، ووسمته النجابة من أعلامها اللائحة بما وسمت، رأى أن الاعتصام بالنكاح أولى ما حمى به
__________
(1) ق ص: يحجز، والأصوب ما أثبتناه.(5/60)
دينه ووقاه، وأهم ما رفع إليه اعتناءه ورقاه، فخطب إلى فلان ابنته فلانة خطبة تضافر فيها اليمن والقبول، ونفحت بها شمال من الجد المصمم وقبول، وارتقى بها إلى اللوح المحفوظ والديوان المكنون عمل مقبول، فتلقى فلان خطبته بالإجابة، لما توسم فيه من مخايل النجابة، حرصاً على المساعدة والعون، واغتباطاً بمياسرة أهل الرشد والصون، وانعقد النكاح بينهما على بركة الله التي يتضاعف بها العدد القليل ويتزيد، ويمنه الذي ينتهض به من اعتمده ويتأيد، وحسن توفيقه الذي يرتبط به من أخلص ضميره ويتقيد، على أن أصدقها كذا، تزوجها بكلمة الله التي علت الكلمات وبهرتها، وعلى سنة نبيه التي أحيت الحنيفية وأظهرتها، وأنقت الملة من أرجاس الجاهلية وطهرتها، وهداية مهديه التي غلبت الأباطل وقهرتها، ولتكون عنده بأمانة الله التي هي جنة واعتصام، وعهدته للزوجات على أزواجهن التي ليس لعروتها انفصام، وعلى إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وتسلسل في ميدان التناصف وأرسان، والله تعالى يمهد لهما مهاد نعمته الوثير، ويخلف منها الطيب الكثير، ويرزقهما التوفيق الباعث لطول المرافقة المثير، بمنه ونعمته.
[من رسالة عتاب لصفوان]
وله رحمه الله من رسالة عتاب: أدام الله سبحانه مدة الأخ الذي أستديم إخاءه، وإن واجهتني زعازعه أرتقب رخاءه، وتجاوزت عن يومه لأمسه، وأغضيت عن ظلامه لشمسه، إناء واعتناء، وإنذاراً وإعذاراً، ورحم الله من اعتمد على الأفهام، وعصى أوامر الأوهام، ورأى الخليفة في المعقول، لا في المختلق المنقول. وبعد فإنه وصل كلامك بل ملامك، وكتابك بل عتابك، ورسالتك بل بسالتك، أسمعتني بألفاظك العذاب سوء العذاب، وأريتني لمعان(5/61)
الحسام من فقرك الوسام.
وقال صفوان رحمه الله: اجتمعت مع ابن مرج الكحل يوماً، فاشتكى إلي ما يجد لفراقي، وأطال عتب الزمان في إشآمه وإعراقي، فقلت: إذا تفرقنا والنفوس مجتمعة، فما يضر أن الجسوم للرحيل مزمعة ثم قلت له:
أنت من العين والفؤاد ... دنوت أو كنت ذا بعاد فقال وهو من بارع الإجازة:
وأنت في القلب في السويدا ... وأنت في العين في السواد وإذ جرى ذكر صفوان فلا حرج أن نترجمه، فنقول:
[ترجمة صفوان]
قال في " الإحاطة " ما ملخصه (1) : صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس، التجيبي المرسي أبو بحر، كان أديباً حسيباً ممتعاً من الظرف ريان من الأدب، حافظاً سريع البديهة ترف النشأة، على تصاون وعفاف، جميلاً سرياً، ممن تساوى حظه في النظم والنثر على تباين الناس في ذلك. روى عن أبيه وخاله وابن عم أبيه القاضي أبي القاسم ابن إدريس، وأبي بكر ابن مغاور، وأبي رجال ابن غلبون، وأبي العباس ابن مضا، سمع عليه صحيح مسلم، وأبي القاسم ابن حبيش، وابن حوط الله، وأبي الوليد ابن رشد، وأجاز له ابن بشكوال. وروى عنه أبو إسحاق اليابري، وأبو الربيع [ابن البني وأبو عبد الله ابن أبي البقاء وأبو عمر] (2) ابن سالم، وابن عيشون، وله تواليف أدبية،
__________
(1) ترجمته في الإحاطة، الورقة: 168.
(2) ما بين معقفين زيادة من الإحاطة.(5/62)
منها " زاد المسافر "، وكتاب " الرحلة "، وكتاب " العجالة "، سفران يتضمنان من نظمه ونثره أدباً لا كفاء له، وانفرد من تأبين الحسين وبكاء أهل البيت بما ظهرت عليه بركته في حكايات كثيرة.
ثم سرد لسان الدين جملة من نظمه إلى أن قال: وقال في غرض الرصافي من وصف بلده وذكر إخوانه يساجله في الغرض والروي عقب رسالة سماها " طراد الجياد في الميدان وتنازع اللدات والأخدان في تقديم مرسية على غيرها من البلدان " (1) :
لعل رسول البرق يغتنم الأجرا ... فينثر عني ماء عبرته تثرا
معاملة أربي بها غير مذنب ... فأقضيه دمع العين عن نقطة بحرا
ليسقي من تدمير قطراً محبباً ... يقر بعين القطر أن تشرب القطرا
ويرضعه (2) ذوب اللجين، وإنما ... توفيه عيني من مدامعها تبرا
وما ذاك تقصيراً بها غير أنه ... سجية ماء البحر أن يذوي الزهرا
خليلي قوما فاحبسا طرق الصبا ... مخافة أن يحمي بزفرتي الحرى
فإن الصبا ريح علي كريمة ... بآية ما تسري من الجنة الصغرى
خليلي أعني أرض مرسية المنى ... ولولا توخي الصدق سميتها الكبرى
محلي بل جوي الذي عبقت به ... نواسم آدابي معطرة نشرا
ووكري الذي منه درجت فليتني ... فجعت بريش العزم كي ألزم الوكرا
وما روضة الخضراء قد مثلت بها ... مجرتها نهراً وأنجمها زهرا
بأبهج منها والخليج مجرة ... وقد فضحت أزهار ساحتها الزهرا
وقد أسكرت أعطاف أغصانها الصبا (3) ... وما كنت أعتد (4) الصبا قبلها خمرا
__________
(1) الإحاطة، الورقة: 172.
(2) في ص ق: ويقرضه، والتصويب عن الإحاطة.
(3) الإحاطة: وقد أسكرت ريح الصبابة عاشقا.
(4) ق ص: أعددت.(5/63)
هنالك بين الغصن والقطر والصبا ... وزهر الربى ولدت آدابي الغرا
إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري ... تعلم نظام النثر من ههنا شعرا
وإن نثرت ريح الصبا زهر الربى ... تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا
فوائد أسحار هناك اقتبستها ... ولم أر روضاً غيره يقرئ السحرا
كأن هزيز الريح يمدح روضها ... فتملأ فاه من أزاهرها درا
أيا زنقات (1) الحسن هل فيك نظرة ... من الجرف الأعلى إلى السكة الغرا (2)
فأنظر من هذي لتلك كأنما ... أغير إذ غازلتها أختها الأخرى
هي الكاعب الحسناء تمم حسنها ... وقدت لها أوراقها حللاً خضرا
إذا خطبت أعطت دراهم زهرها ... وما عادة الحسناء أن تنقد المهرا
وقامت بعرس الأنس قينة أيكها ... أغاريدها (3) تسترقص الغصن النضرا
فقل في خليج يلبس الحوت درعه ... ولكنه لا يستطيع بها نصرا
إذا ما بدا فيها الهلال رأيته ... كصفحة سيف وسمها قبعة صفرا
وإن لاح فيها البدر شبهت متنه ... بشط لجين ضم من ذهب عشرا
وفي جرفي روض هناك تجافيا ... بنهر، يود الأفق لو زاره فجرا
كأنهما خلا صفاء تعاتبا ... وقد بكيا من رقة ذلك نهرا
وكم لي بأبيات الحديد (4) عشية ... من الأنس ما فيه سوى أنه مرا
عشايا كأن الدهر غض (5) بحسنها ... فأجلت بساط البرق (6) أفراسها الشقرا
عليهن أجري خيل دمعي بوجنتي ... إذا ركبت حمرا ميادينها الصفرا (7)
__________
(1) الزنقات: من متنزهات مرسية، وفي ص ق: رنقات، وفي الإحاطة: رائعات.
(2) الإحاطة: الخضرا.
(3) الإحاطة: أيكة، أغادرها.
(4) الإحاطة: بذا الباب الجديد.
(5) ق ص: عشيات كان الدهر غضا.
(6) الإحاطة: الأنس.
(7) لم يرد هذا البيت في الإحاطة.(5/64)
أعهدي بالغرس المنعم دوحه ... سقتك دموعي، إنها مزنة، شكرا
فكم فيك من يوم أغر محجل ... تقضت أمانيه فخلدتها ذكرا
على مذنب كالبحر (1) من فرط حسنه ... تود الثريا أن يكون لها نحرا
سقت أدمعي والقطر أيهما انبرى ... نقا الرملة البيضاء فالنهر فالجسرا
وإخوان صدق لو قضيت حقوقهم ... لما فارقت عيني وجوههم الزهرا
ولو كنت أقضي حق نفسي - ولم أكن - ... لما بت أستحلي فراقهم المرا
وما اخترت هذا البعد إلا ضرورة ... وهل تستجيز العين أن تفقد الشفرا
قضى الله أن تنأى بي الدار عنهم ... أراد بذاك الله أن أعتب الدهرا
ووالله لو نلت المنى ما حمدتها ... وما عادة المشغوف أن يحمد الهجرا
أيأنس باللذات قلبي ودونهم ... مرام يجد الكرب في طيها (2) شهرا
ويصحب هادي (3) الليل راء حروفه ... وصاداً ونوناً قد تقوس واصفرا
فديتهم ضنوا وبانوا بكتبهم ... فلا خبراً منهم لقيت ولا خبرا
ولولا علا هماتهم لعتبتهم ... ولكن عراب الخيل لا تحمل الزجرا
ضربت غبار البيد في مهرق السرى ... بحيث جعلت الليل في ضربه حبرا
وحققت ذاك الضرب جمعاً وعدة ... وطرحاً وتجميلاً فأخرج لي صفرا
كأن زماني حاسب متعسف ... يطارحني كسراً وما يحسن الجبرا
فكم عارف بي وهو يحسن رتبتي ... فيمدحني سراً ويشتمني (4) جهرا
لذلك ما أعطيت نفسي حقها ... وقلت لسرب الشعر لا ترم الفكرا
فما برحت فكري عذارى قصائدي ... ومن خلق العذراء أن تألف الخدرا
ولست وإن طاشت سهامي بآيس ... فإن مع العسر الذي يتقى يسرا
__________
(1) الإحاطة: كالخز.
(2) الإحاطة: من دونها.
(3) الإحاطة: هذا.
(4) الإحاطة: فيشتمني سرا ويحمدني.(5/65)
وقال يراجع أبا الربيع ابن سالم عن أبيات مثلها (1) :
سقى مضرب الخيمات من علمي نجد ... أسح غمامي أدمعي والحيا الرغد
وقد كان في دمعي كفاء، وإنما ... يجففها ما بالضلوع من الوقد
فإن فترت نار الضلوع هنيهة ... فسوف ترى تفجيره للحيا العد
وإن ضن صوب المزن يوماً فأدمعي ... تنوب كما ناب الجميع عن الفرد
وإن هطلا يوماً بساحتها معاً ... فأرواهما ما صاب من منتهى الود
أرى زفرتي تذكى ودمعي ينهمي ... نقيضين قاما بالصلاء وبالورد
فهل بالذي أبصرتم أو سمعتم ... غمام بلا أفق وبرق بلا رعد
لي الله كم أهذي بنجد وأهلها ... وما لي بها إلا التوهم من عهد
وما بي إلى نجد نزوع ولا هوى ... خلا أنهم شنوا القوافي على نجد
وجاءوا بدعوى حسن الشعر زورها ... فصارت لهم في مصحف الحب كالحمد
شغلنا بأبناء الزمان عن الهوى ... وللدرع وقت ليس يحسن للبرد
إلى الله أشكو ريب دهر يغص بي ... نوائبه قد ألجمت ألسن العد
لقد صرفت حكم الفؤاد إلى الهوى ... كما فوضت أمر الجفون إلى السهد
أما تتوقى ويحها أن أصيبها ... بدعوة مظلوم على جورها يعدي
أما راعها أن زحزحت عن أكارم ... فراقهم دل القلوب على حدي
أعاتبها فيهم فتزداد قسوة ... أجدك هل عاينت للحجر الصلد
أما علمت أن القساوة نافرت ... طباع بني الآداب إلا من الرد
إذا وعدت يوماً بتأليف شملنا ... فألمم بعرقوب وما سن من وعد
وإن عاهدت أن لا تؤلف بيننا ... تذكرت آثار السموأل في العهد
خليلي أعني النظم والنثر أرسلا ... جيادكما في حلبة الشكر والحمد
قفا ساعداني إنه حق صاحب ... بريء جمام الكتم من كدر الحقد
__________
(1) لم ترد هذه القصيدة في النسخة التي اعتمدناها من الإحاطة.(5/66)
بآية ما قيدتما ألسن الورى ... بذكري فيا ويح الكناني والكندي
فأين بياني أو فأين فصاحتي ... إذا لم أعد ذكر الأكارم أو أبدي
فيا خاطري وف الثناء حقوقه ... وصغه كما قالوا سوار على زند
ولا تلزمني بالتكاسل حجة ... تشبهها نار الحياء على خدي
ثكلت القوافي وهي أبناء خاطري ... وغيبها الإقحام عني في لحد
لئن لم أصغ زهر النجوم قلادة ... وآت ببدر التم واسطة العقد
إلى أن يقول السامعون لرفقتي ... نعم طار ذاك السقط عن ذلك الزند
أحيي برياها جناب ابن سالم ... فيقرع فيه الباب في زمن الورد وهي طويلة.
ومن مقطوعاته قوله (1) :
يا قمراً مطلعه أضلعي ... له سواد القلب فيها غسق
وربما استوقد نار الهوى ... فناب فيها لونها عن شفق
ملكتني في دولة من صباً ... وصدتني في شرك من حدق
عندي من حبك ما لو سرت ... في البحر منه شعلة لاحترق وقال:
قد كان لي قلب فلما فارقوا ... سوى جناحاً للغرام وطارا
وجرت سحائب للدموع فأوقدت ... بين الجوانح لوعة وأوارا
ومن العجائب أن فيض مدامعي ... ماء، ويثمر في ضلوعي نارا وشعره الرمل والقطر كثرة، فلنختمه بقوله:
قالوا وقد طال بي مدى خطئي ... ولم أزل في تجرمي ساهي:
__________
(1) الإحاطة، الورقة: 175 وفيها أيضا القطعتان التاليتان والرسالة التي تتلوهما.(5/67)
أعددت شيئاً ترجو النجاة به ... فقلت: أعددت رحمة الله وكتب يهنئ قاضي الجماعة أبا القاسم ابن بقي برسالة منها: لأن محله (1) دام عمره، وامتثل (2) نهيه الشرعي وأمره، أعلى رتبة وأكرم محلاً، من أن يتحلى بخطة هي به تتحلى، كيف يهنأ بالقعود لسماع دعاوى الباطل، والمعاناة لإنصاف الممطول من الماطل، والتعب في المعادلة، بين ذوي المجادلة، أما لو علم المتشوفون إلى خطة الأحكام، المستشرفون (3) إلى ما لها من التبسط والاحتكام، ما يجب لها من اللوازم، والشروط الجوازم، كبسط الكنف، ورفع الجنف، والمساواة بين العدو ذي الذنب، والصاحب بالجنب، وتقديم ابن السبيل، على ذي الرحم والقبيل، وإيثار الغريب، على القريب، والتوسع في الأخلاق، حتى لمن ليس له من خلاق، إلى غير ذلك مما علم قاضي الجماعة أحصاه، واستعمل خلقه الفاضل أدناه وأقصاه، لجعلوا خمولهم مأمولهم، وأضربوا عن ظهورهم، فنبذوه وراء ظهورهم، اللهم إلا من أوتي بسطة في العلم، ورسا طوداً في ساحة الحلم، وتساوى ميزانه في الحب والسلم، وكان كمولانا (4) في المماثلة بين أجناس الناس، فقصاراه أن يتقلد الأحكام للأجر، لا للتعنيف والزجر، ويتولاها للثواب، لا للغلظة في رد الجواب، ويأخذها لحسن الجزاء، لا لقبيح الاستهزاء، ويلتزمها لجزيل الذخر، لا للإزراء والسخر، فإذا كان كذلك، وسلك المتولي هذه المسالك، وكان مثل قاضي الجماعة ولا مثل له، ونفع الحق به علله ونقع غلله، فيومئذ تهنى به خطة القضاء، وتعرف ما لله تعالى عليها من اليد البيضاء.
ورحل إلى مراكش في جهاز بنت بلغت التزويج، وقصد دار الإمارة مادحاً،
__________
(1) الإحاطة: قدره.
(2) الإحاطة: وامتد.
(3) الإحاطة: المشتاقون.
(4) الإحاطة: كقاضي الجماعة.(5/68)
فما تيسر له شيء من أمله، ففكر في خيبة قصده، وقال: لو كنت أملت الله سبحانه ومدحت نبيه، صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الطاهرين لبلغت أملي، بمحمود عملي، ثم استغفر الله تعالى من اعتماده في توجهه الأول، وعلم أنه ليس على غير الثاني معول، فلم يك إلا أن صرف نحو هذا المقصد همته، وأمضى فيه عزمته، وإذا به قد وجه إليه فأدخل إلى الخليفة فسأله عن مقصده، فأخبره مفصحأ به، فأنفذه وزاده عليه وأخبره أن ذلك لرؤيا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في النوم يأمر بقضاء حاجته، فانفصل موفى الأغراض، واستمر في مدح أهل البيت عليهم السلام، حتى اشتهر بذلك. وتوفي سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وسنة دون الأربعين، وصلى عليه أبوه، فإنه كان بمكان من الفضل والدين، رحم الله تعالى الجميع؛ انتهى كلام ابن الخطيب في حق المذكور ملخصاً.
ولا بأس أن نزيد عليه ما حضر، فنقول: قال ابن سعيد وغيره: ولد صفوان سنة ستين وخمسمائة، أو في التي بعدها، قال: وديوان شعره مشهور بالمغرب؛ انتهى.
ومن نظمه قوله:
أومض ببرق الأضلع ... واسكب غمام الأدمع
واحزن طويلاً واجزع ... فهو مكان الجزع
وانثر دماء المقلتين ... تألماً على الحسين
وابك بدمع دون عين ... إن قل فيض الأدمع وهذا من قصيدة عارض بها الحريري في قوله:
خل ادكار الأربع ... وله أيضاً مطلع قصيدة فيه:(5/69)
يا عين سحي ولا تشحي ... ولو بدمع بحذف عين وقال ابن الأبار: توفي صفوان بمرسية ليلة الاثنين السادس عشر من شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وثكله أبوه، وصلى عليه، وهو دون الأربعين إذ مولده سنة إحدى وستين وخمسمائة، وكان من جلة الكتاب البلغاء، ومهرة الأدباء الشعراء، ناقداً فصيحاً، مدركاً جليل القدر، متقدماً في النظم والنثر، ممن جمع ذلك، وله رسائل بديعة، وقصائد جليلة، وخصوصاً في مراثي الحسين رضي الله تعالى عنه.
[رثاء ناهض الوادي آشي للحسين]
وقد تذكرت هنا قول ناهض بن محمد الأندلسي الوادي آشي في رثاء الحسين رضي الله تعالى عنه:
أمرنة سجعت بعود أراك ... قولي مولهة: علام بكاك
أجفاك إلفك أم بليت بفرقة ... أم لاح برق بالحمى فشجاك
لو كان حقاً ما ادعيت من الجوى ... يوماً لما طرق الجفون كراك
أو كان روعك الفراق إذاً لما ... ضنت بماء جفونها عيناك
ولما ألفت الروض يأرج عرفه ... وجعلت بين فروعه مغناك
ولما اتخذت من الغصون منصة ... ولما بدت مخضوبة كفاك
ولما ارتديت الريش برداً معلماً ... ونظمت من قزح سلوك طلاك
لو كنت مثلي ما أفقت من البكا ... لا تحسبي شكواي من شكواك
إيه حمامة خبريني، إنني ... أبكي الحسين، وأنت ما أبكاك
أبكي قتيل الطف فرع نبينا ... أكرم بفرع للنبوة زاكي
ويل لقوم غادروه مضرجاً ... بدمائه نضواً صريع شكاك(5/70)
متعفراً قد مزقت أشلاؤه ... فرياً بكل مهند فتاك
أيزيد لو راعيت حرمة جده ... لم تقتنص ليث العرين الشاكي
أو كنت تصغي إذ نقرت بثغره ... قرعت صماخك أنة المسواك
أتروم ويك شفاعة من جده ... هيهات! لا، ومدبر الأفلاك
ولسوف تنبذ في جهنم خالداً ... ما الله شاء ولات حين فكاك وتوفي ناهض المذكور بوادي آش سنة 615.
رجع إلى أخبار صفوان بن إدريس - رحمه الله تعالى - فنقول: ومن شعر صفوان قوله:
قلنا وقد شام الحسام مخوفاً ... رشأ بعادية الضراغم عابث
هل سيفه من طرفه أم طرفه ... من سيفه أم ذاك طرف ثالث وقوله:
غيري يروع بسيفه ... رشأ تشاجع ساخرا
إن كف عني طرفه ... فالسيف أضعف ناصرا وقال صفوان المذكور رحمه الله تعالى: حييت بعض أصحابنا بزهرة سوسن، فقال:
فقلت مجيزاً:
نضراء تفضح يانع الزهر ...
عجباً لها لم تذوها يده ... من طول ما مكثت على الصدر(5/71)
وقال أيضاً: ماشيت الوزير الكاتب أبا محمد ابن حامد يوماً، فاتفق أن قال لأمر تذكره:
بين الكثيب ومنبت السدر ... ريم غدا مثواه في صدري فقلت أجيزه:
لوشاحه قلم بلا ألم ... ولقرطه خفق بلا ذعر
لو كنت قد أنصفت مقلته ... برأت هاروتاً من السحر
أو كنت أقضي حق مرشفه ... أعرضت لا ورعاً عن الخمر وناولته يوماً وردة مغلقة، فقال:
ومحمرة تختال في ثوب سندس ... كوجنة محبوب أطل عذاره فقلت أجيزه:
كتطريف كف قد أحاطت بنانها ... بقلب محب ليس يخبو أواره وقال: رآني الوزير أبو إسحاق وأنا أقيد أشعاراً من ظهر دفتر فقال:
ماذا الذي يكتب الوزير ... قلت:
بدائع ما لها نظير ... فقال:
در ولكنه نظيم ... من خير أسلاكه السطور فقلت:
من أظهر الكتب أقتنيها ... وخل ما تحتوي البحور
بتلك تزهو النحور، لكن ... بهذه تزدهي الصدور(5/72)
ولكن الإنصاف واجب، هو قال المعنى الأخير نثراً وأنا سبكته نظماً.
وقال: جلسنا بعض العشايا بالولجة خارج مرسية، والنسيم يهب على النهر، فقال أبو محمد ابن حامد:
هب النسيم وماء النهر يطرد ... فقلت على جهة المداعبة، لا الإجازة:
ونار شوقي في الأحشاء تتقد ... فقال أبو محمد: ما الذي يجمع بين هذا العجز وذاك الصدر فقلت: أنا أجمع بينهما، ثم قلت:
فصاغ من ماءه درعاً مفضضة ... وزاد قلبي وقداً للذي يجد
وإنما شب أحشائي لحاجته ... إذ ليس دون لهيب يصنع الزرد وخطرنا بلقنت على ثمرة تهزها الريح فقال أبو محمد:
وسرحة كاللواء تهفو ... بعطفها هبة الرياح فقلت:
كأن أعطافها سقتها ... كف النعامى كؤوس راح فقال:
إذا انتحاها النسيم هزت ... أعطافها هزة السماح فقلت:
كأن أغصانها كرام ... تقابل الضيف بارتياح(5/73)
ولصفوان رحمه الله:
تحية الله وطيب السلام ... على رسول الله خير الأنام
على الذي فتح باب الهدى ... وقال للناس: ادخلوا بسلام
بدر الهدى، غيم الندى والسدى ... وما عسى أن يتناهى الكلام
تحية تهزأ أنفاسها ... بالمسك، لا أرضى بمسك الختام
تخصه مني ولا تنثني ... عن أهله الصيد السراة الكرام
وقدرهم أرفع لكنني ... لم ألف أعلى لفظة من كرام وقال:
يقولون لي لما ركبت بطالتي ... ركوب فتى جم الغواية معتدي
أعندك شيء ترتجي أن تناله ... فقلت: نعم عندي شفاعة أحمد صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم، ومجد وعظم، وبارك وأنعم، ووالى وكمل وأتم.(5/74)
الباب الثاني
في نشأته وترقيه ووزارته وسعادته، ومساعدة الدهر له، ثم قلبه له ظهر
المجن على عادته في مصافاته ومنافاته، وارتباكه في شباكه، وما لقي
من إحن الحاسد، ذي المذهب الفاسد، ومحن الكائد المستأسد وآفاته،
وذكر قصوره وأمواله، وغير ذلك من أحواله في تقلباته، عندما قابله الزمان
بأهواله في بدئه وإعادته إلى وفاته
أقول: كان مولد الوزير لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله كما في الإحاطة في الخامس والعشرين من شهر رجب عام ثلاثة عشر وسبعمائة، وقال الرئيس الأمير الوليد ابن الأحمر رحمه الله: نشأ لسان الدين ابن الخطيب (1) على حالة حسنة سالكاً سبيل (2) أسلافه، فقرأ القرآن على المكتب الصالح أبي عبد الله ابن عبد المولى العواد تكتباً ثم حفظاً ثم تجويداً، ثم قرأ القرآن أيضاً على أستاذ الجماعة أبي الحسن القيجاطي، وقرأ عليه العربية وهو أول من انتفع به، وقرأ على الخطيب أبي القاسم ابن جزي، ولازم قراءة العربية والفقه والتفسير على الشيخ الإمام أبي عبد الله ابن الفخار البيري شيخ النحويين لعهده، وقرأ على قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن بكر، وتأدب بالرئيس أبي الحسن ابن الجياب، وروى عن كثير من الأعيان، وسرد ابن الأحمر المذكور هنا جملة أعلام من مشايخ لسان الدين سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى، ثم قال: وأخذ الطب والتعاليم وصناعة التعديل عن الإمام أبي زكريا يحيى بن هذيل ولازمه؛ انتهى.
__________
(1) انظر أزهار الرياض 1: 187.
(2) الأزهار: سنن.(5/75)
وقال بعضهم في حق لسان الدين: هو الوزير العلامة المتحلي بأجمل الشمائل وأفضل المناقب، المتميز في الأندلس بأرفع المراقي وأعلى المراتب، علم الأعلام، ورئيس أرباب السيوف والأقلام، جامع أشتات الفضائل، والمربي بحسن سياسته وعظيم رياسته على الأواخر والأوائل، حائز رتبة رياسة (1) السيف والقلم، والقائم بتدبير الملك على أرسخ قدم، صاحب القلم الأعلى، الوارد من البراعة المنهل الأحلى، صاحب الأحاديث التي لا تمل على كثرة ما تتلى، والمحاسن التي صورها على منصة التنويه تجلى؛ انتهى.
وقال لسان الدين في " الإحاطة " بعد ذكر سلفه رحمهم الله تعالى، ما ملخصه (2) : وخلفني يعني أباه عبد الله عالي الدرجة، شهير الخطة، مشمولاً بالقبول، مكنوفاً بالعناية، فقلدني السلطان سره، ولما يستكمل الشباب ويجتمع السن (3) ، معززة بالقيادة ورسوم الوزارة، واستعملني في السفارة إلى الملوك، واستنابني بدار ملكه ورمى إلى يدي بخاتمه وسيفه، وائتمنني على صوان حضرته (4) ، وبيت ماله، وسجوف حرمه، ومعقل امتناعه، ولما هلك السلطان ضاعف ولده حظوتي، وأعلى مجلسي، وقصر المشورة على نصحي، إلى أ، كانت عليه الكائنة، فاقتدى في أخوه المتغلب على الأمر به، فسجل الاختصاص، وعقد القلادة، ثم حمله أهل الشحناء من أهل أعوان ثورته على القبض علي، فكان ذلك، وتقبض علي، ونكث ما أبرم من أماني، واعتقلت بحال ترفيه، وبعد أن كسبت المنازل والدور، واستكثر من الحرس، وختم على الأعلاق، وأبرد إلى ما ناء (5) ، واستؤصلت نعمة لم تكن بالأندلس من ذوات النظائر ولا ربات
__________
(1) رياسة: سقطت من ق.
(2) الإحاطة: الورقة: 400.
(3) الإحاطة: ولما يجتمع الشباب ويستكمل السن.
(4) الإحاطة: خزانته وذخيرته.
(5) الإحاطة: وبادر وأبرد إلى ما نأى.(5/76)
الأمثال، في تبحر الغلة، وفراهة الحيوان، وغبطة العقار، ونظافة الآلات، ورفعة الثياب، واستجادة العدة، ووفور الكتب إلى الآنية والفرش والماعون والزجاج والطيب والذخيرة والمضارب والأبنية، واكتسحت السائمة وثيران الحرث وظهر الحمولة وقوام الفلاحة والخيل، فأخذ ذلك البيع، وتناهبتها الأسواق، وصاحبها البخس، ورزأتها الخونة، وشمل الخاصة والأقارب الطلب، واستخلصت القرى، وأعملت الحيل، وطوقت الذنوب، وأمد الله تعالى بالعون، وأنزل السكينة، وانصرف اللسان إلى ذكر الله تعالى، وتعلقت الآمال به وطبقت نكبة مصحفية مطلوبها الذات وسببها المال حسبما قلت عند إقالة العثرة والخلاص من الهفوة:
تخلصت منها نكبة مصحفية ... لفقداني المنصور من آل عامر ووصلت الشفاعة في مكتتبة بخط ملك المغرب، وجعل خلاصي شرطاً في العقدة ومسالمة الدولة، فانتقلت صحبة سلطاني المكفور الحق إلى المغرب، وبالغ ملكه في بري منزلاً رحباً (1) ، وعيشاً خفضاً، وإقطاعاً جماً، وجراية ما وراءها مرمى، وجعلني بمجلسه صدراً، ثم أسعف قصدي في تهيؤ الخلوة في مدينة سلا منوه الصكوك، مهنأ القرار، متفقداً باللها والخلع، مخول العقار، موفور الحاشية، مخلى بيني وبين إصلاح معادي، إلى أ، رد الله تعالى على السلطان أمير المسلمين أبي عبد الله ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ملكه، وصير إليه حقه (2) ، فطالبني بوعد ضربته، وعمل في القدوم عليه بولده أحكمته، ولم يوسعني عذراً، ولا فسح في الترك مجالاً، فقدمت عليه بولده، وقد ساءه بإمساكه رهينة ضده، ونغص مسرة الفتح بعده، على كل حال من التقشف
__________
(1) الإحاطة: خصبا.
(2) الإحاطة: وهيأ إليه حقه وصرف إليه كرسيه.(5/77)
والزهد فيما بيده، وعزف عن الطمع في ملكه وزهد في رفده، حسبما قلت من بعض المقطوعات:
قالوا لخدمته دعاك محمد ... فأنفتها وزهدت في التنويه
فأحببته أنا والمهيمن كاره ... في خدمة المولى محب فيه عاهدت الله تعالى على ذلك، وشرحت صدري للوفاء به، وجنحت إلى الانفصال لبيت الله الحرام نشيدة أملي، ومرمى نيتي وعملي، فعلق بي، وخرج لي عن الضرورة، وأراني أن موازرته أبر القرب، وراكنني إلى عهد بخطه فسح لعامين أمد الثواء، واقتدى بشعيب صلوات الله عليه في طلب الزيادة على تلك النسبة، وأشهد من حضر من العلية، ثم رمى إلي بعد ذلك بمقاليد رأيه، وحكم عقلي في اختيارات عقله، وغطى من جفائي بحلمه، وحثا في وجوه شهواته تراب زجري، ووقف القبول على وعظي، وصرف هواي في التحول فانياً وقصدي، واعترف بقبول نصحي، فاستعنت الله تعالى، وعاملت وجهه فيه، من غير تلبس بجراية، ولا تشبث بولاية، مقتصراً على الكفاية، حذراً من النقد، خامل المركب، معتمداً على المنسأة، مستمشياً (1) بخلق النعل، راضياً بغير النبيه من الثوب، مشفقاً من موافقة الغرور، هاجراً للزخرف، صادعاً بالحق في أسواق الباطل، كافاً عن السخال براثن السباع. ثم صرفت الفكرة إلى بناء الزاوية والمدرسة والتربة بكر الحسنات بهذه الخطة، بل بالجزيرة، فيما سلف من المدة، فتأتى بمنة الله تعالى من صلاح السلطان وعفاف الحاشية والأمن ورم الثغور وتثمير الجباية وإنصاف الحمات والمقاتلة ومقارعة الملوك المجاورة في إيثار المصلحة الدينية والصدع فوق المنابر ضماناً من السلطان بترياق سم الثورة وإصلاح بواطن الخاصة والعامة ما الله تعالى المجازي عليه، والمعوض
__________
(1) ق ص: مستمتعا.(5/78)
من سهر خلعته على أعطافه، وخطر اقتحمته من أجله، لا للثريد الأعفر، ولا للجرد تمرح في الأرسان، ولا للبدر تثقل للأكتاد، فهو الذي لا يضيع عمل من عمل ذكر أو أنثى سبحانه وتعالى. ومع ذلك فلم أعدم الاستهداف (1) للشرور، والاستغراض للمحذور، والنظر الشزر المنبعث من خرز العيون، شيمة من ابتلاه الله تعالى بسياسة الدهماء، ورعاية سخطة أرزاق السماء، وقتلة الأنبياء، وعبدة الأهواء، ممن لا يجعل لله تعالى إرادة نافذة، ولا مشيئة سابقة، ولا يقبل معذرة، ولا يجمل في الطلب، ولا يتلبس مع الله في الأدب، ربنا لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، والحال إلى هذا العهد - وهو منتصف عام خمسة وستين وسبعمائة (2) - على ما ذكرته، أداله الله بحال السلامة، وبفيأة العافية، والتمتع بالعبادة، وربك يخلق ما يشاء ويختار:
وعلي أن أسعى ولي ... س علي إدراك النجاح ولله سبحانه فينا علم غيب (3) نحن صائرون إليه، ألحفنا الله لباس التقوى، وختم لنا بالسعادة، وجعلنا في الآخرة من الفائزين، نفثت عن بث، وتأوهت عن حمى، ليظهر بعد المنقلب قصدي، ويدل مكتتبي على عقدي، انتهى، وجله بلفظه.
وكان - رحمه الله تعالى - عارفاً بأحوال الملوك، سريع الجواب، حاضر الذهن، حاد النادرة. ومن حكاياته في حضور الجواب ما حكاه عن نفسه قال (4) : حضرت يوماً بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وفاداتي عليه لغرض الرسالة، وجرى ذكر بعض أعدائه، فقلت ما أعتقده في إطراء ذلك العدو، وما عرفته
__________
(1) الإحاطة: ومع ذلك فقد هيف إلى أديانها من الاستهداف ... إلخ.
(2) الإحاطة: وهو عام أحد وسبعين وسبعمائة.
(3) الإحاطة: سر عجيب.
(4) أزهار الرياض 1: 287.(5/79)
من فضله، فأنكر علي بعض الحاضرين ممن لا يحطب إلا في حبل السلطان، فصرفت وجهي وقلت: أيدكم الله، تحقير عدو السلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء، بل غير ذلك أحق وأولى، فإن كان السلطان غالب عدوه كان قد غلب غير حقير، وهو الأولى بفخره، وجلال قدره، وإن غلبه العدو لم يغير حقير، فيكون أشد للحسرة، وآكد للفضيحة، فوافق - رحمه الله تعالى - على ذلك واستحسنه، وشكر عليه، وخجل المعترض، انتهى.
وكان - رحمه الله تعالى - مبتلى بداء الأرق، لا ينام من الليل إلا النزر اليسير جداً، وقد قال في كتابه " الوصول لحفظ الصحة في الفصول ": العجب مني - مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله في الطب، وعملي ذلك - لا أقدر على مداواة داء الأرق الذي بي، أو كما قال، ولذا يقال له " ذو العمرين " لأن الناس ينامون في الليل وهو ساهر فيه، ومؤلفاته ما كان يصنف غالبها إلا بالليل، وقد سمعت بالمغرب بعض الرؤساء يقول: لسان الدين ذو الوزارتين، وذو العمرين، وذو الميتين، وذو القبرين، انتهى. وسيأتي ما يعلم منه معنى الأخيرين.
[التعريف بالسلطان أبي الحجاج]
وقد عرف - رحمه الله تعالى - بالسلطان أبي الحجاج في " الإحاطة " فقال ما حاصله (1) : يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر، الأنصاري الخزرجي، أمير المسلمين بالأندلس، أبو الحجاج، تولى الملك بعد أخيه بوادي السقائين من ظاهر الخضراء ضحوة يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، وسنه خمسة عشر يوماً وثمانية أشهر، أمه أم ولد، وكان له ثلاثة أولاد كبيرهم محمد أمير المسلمين من بعده، وتلوه
__________
(1) الإحاطة، الورقة: 367 وانظر اللمحة البدرية: 89.(5/80)
أخوه إسماعيل محجوره، وثالثهم قيس شقيق إسماعيل، وذكر لسان الدين أنه وزر له بعد شيخه ابن الجياب، وتولى كتابة سره مضافة إلى الوزارة في أخريات شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة، انتهى. وقد علم أنه وزر بعده لابنه محمد كما تقدم ويأتي، وأما إسماعيل بن أبي الحجاج فهو الذي تغلب على الأمر، وانتهز الفرصة في ملك أخيه محمد كما تقدم، وفيه وفي أخيه قيس حين قتلا يقول لسان الدين:
بإسماعيل ثم أخيه قيس ... البيتين.
وقد ذكر أيضاً - رحمه الله تعالى - حكاية وفاة السلطان أبي الحجاج ما محصله أنه هجم عليه رجل من عداد الممرورين، وهو في الركعة الأخيرة من صلاة عيد الفطر عام خمسة وخمسين وسبعمائة، فطعنه بخنجر، وقبض عليه، واستفهم فتكلم بكلام مخلط، واحتمل إلى منزله على فوت لم يستقر به إلا وقد قضى، وأخرج قاتله إلى الناس فقتل لحينه، وأحرق بالنار، ودفن عشية اليوم المذكور في مقبرة قصره، ضجيع والده، وولي أمره ولده محمد، ورثيته في غرض ناء عن الجزالة مختار ولده:
العمر نوم، والمنى أحلام ... ماذا عسى أن يستمر مقام
وإذا تحققنا لشيء بدأة ... فله بما تقضي العقول تمام
والنفس تجمح في مدى آمالها ... ركضاً، وتأبى ذلك الأيام
من لم يصب في نفسه فمصابه ... بحبيبه، نفذت بذا الأحكام
بعد الشبيبة كبرة، ووراءها ... هرم، ومن بعد الحياة حمام
ولحكمة ما أشرقت شهب الدجى ... وتعاقب الإصباح والإظلام
دنياك يا هذا محلة نقلة ... ومناخ ركب ما لديه مقام
هذا أمير المسلمين ومن به ... وجد السماح وأعدم الإعدام(5/81)
سر الأمانة والخلافة يوسف ... غيث الملوك وليثها الضرغام
قصدته عادية الزمان فأقصدت ... والعز سام، والخميس لهام
فجعت به الدنيا وكدر شربها ... وشكا العراق مصابه والشام
أسفاً على الخلق الجميل كأنما ... بدر الدجنة قد جلاه تمام
أسفاً على العمر الجديد كأنه ... زهو الحديقة زهره بسام
أسفاً على الخلق الرضي كأنه ... زهر الرياض هما عليه غمام
أسفاً على الوجه الذي مهما بدا ... طاشت لنور جماله الأفهام
يا ناصر الثغر الغريب وأهله ... والأرض ترجف والسماء قتام
يا صاحب الصدقات في جنح الدجى ... والناس في فرش النعيم نيام
يا حافظ الحرم الذي بظلاله ... ستر الأرامل واكتسى الأيتام
مولاي هل لك للقصور زيارة ... بعد انتزاح الدار أو إلمام
مولاي هل لك للعبيد تذكر ... حاشاك أن ينسى لديك ذمام
يا واحد الآحاد والعلم الذي ... خفقت بعزة نصره الأعلام
وافاك أمر الله حين تكاملت ... فيك النهى والجود والإقدام
ورحلت عنا الركب خير خليفة ... أثنى عليك الله والإسلام
نعم الطريق سلكت كان رفيقه ... والزاد فيه تهجد وصيام
وكسفت يا شمس المحاسن ضحوة ... فاليوم ليل، والضياء ظلام
وسقاك عيد الفطر كأس شهادة ... فيها من الأجل الوحي مدام
وختمت عمرك بالصلاة فحبذا ... عمل كريم سعيه وختام
مولاي كم هذا الرقاد إلى متى ... بين الصفائح والتراب تنام
أعد التحية واحتسبها قربة ... إن كان يمكنك الغداة كلام
تبكي عليك مصانع شيدتها ... بيض كما تبكي الهديل حمام
تبكي عليك مساجد عمرتها ... فالناس فيها سجد وقيام(5/82)
تبكي عليك خلائق أمنتها ... بالسلم وهي كأنها أنعام
عاملت وجه الله فيما رمته ... منها فلم يبعد عليك مرام
لو كنت تفدى أو تجار من الردى ... بذلت نفوس من لدنك كرام
لو كنت تمنع بالصوارم والقنا ... ما كان ركنك بالغلاب يرام
لكنه أمر الإله، وما لنا ... إلا رضى بالحكم واستسلام
والله قد كتب الفناء على الورى ... وقضاؤه جفت به الأقلام
نم في جوار الله مسروراً بما ... قدمت يوم تزلزل الأقدام
واعلم بأن سليل ملكك قد غدا ... في مستقر علاك وهو إمام
سر تكنف منه من خلفته ... ظل ظليل فهو ليس يضام
كنت الحسام وصرت في غمد الثرى ... ولنصر ملكك سل منه حسام
خلفت أمة أحمد لمحمد ... فقضت بسعد الأمة الأحكام
فهو الخليفة للورى في عهده ... ترعى العهود وتوصل الأرحام
أبقى رسومك كلها محفوظة ... لم ينتثر منها عليك نظام
العدل والشيم الكريمة والتقى ... والدار والألقاب والخدام
حسبي بأن أغشى ضريحك لائماً ... وأقول والدمع السفوح سجام
يا مدفن التقوى ويا مثوى الهدى ... مني عليك تحية وسلام
أخفيت من حزني عليك، وفي الحشا ... نار لها بين الضلوع ضرام
ولو أنني أديت حقك لم يكن ... لي بعد فقدك في الجود مقام
وإذا الفتى أدى الذي في وسعه ... وأتى بجهد، ما عليه ملام قال لسان الدين: وكتبت في بعض معاهده:
غبت فلا عين ولا مخبر ... ولا انتظار منك مرقوب
يا يوسف أنت لنا يوسف ... وكلنا في الحزن يعقوب(5/83)
انتهى، ورحم الله تعالى الجميع بمنه وقد قدمنا ما كتبه لسان الدين على لسان سلطانه إلى السلطان أبي عنان في شأن قتل السلطان أبي الحجاج في الباب الثامن من القسم الأول.
[الغني ولسان الدين يلجآن للمغرب]
وقال لسان الدين في كتابه " اللمحة البدرية في الدولة النصرية " في ذكر ما يتعلق بخلع سلطانه وقيام أخيه عليه وفي خلال ذلك، ما نصه (1) : كان السلطان أبو عبد الله عند تصير الأمر إليه قد ألزم أخاه إسماعيل قصراً من قصور أبيه بجوار داره (2) مرفهاً عليه، متممة وظائفه له، وأسكن معه أمه وأخواته منها، وقد استأثرت يوم وفاة والده بمال جم من خزائنه الكائنة في بيتها فوجدت السبيل إلى السعي لولدها فجعلت تواصل زيارة ابنتها التي عقد لها الوالد مع ابن عمه الرئيس أبي عبد الله ابن الرئيس أبي الوليد ابن الرئيس أبي عبد الله المبايع له بأندرش ابن الرئيس أبي سعيد جدهم الذي تجمعهم جرثومته، وشمر الصهر المذكور عن ساعد عزمه وجده وهو ما هو من الإقدام، ومداخلة ذؤبان الرجال، واستعان بمن آسفته الدولة، وهفت (3) به الأطماع، فتألف منهم زهاء مائة قصدوا جهة من جهات القلعة متسنمين شفاً صعب المرتقى، واتخذوا آلة تدرك ذروته لقعود بنية كانت به عن التمام، وكبسوا حرسياً بأعلاه بما اقتضى صماته، فاستووا به، ونزلوا إلى القلعة سحور الليلة الثامنة والعشرين من شهر رمضان عام ستين وسبعمائة، فاستظهروا بالمشاعل والصراخ، وعالجوا دار الحاجب رضوان، ففضوا أغلاقها ودخلوها فقتلوه بين أهله وولده، وانتهبوا ما اشتملت عليه داره، وأسرعت طائفة مع الرئيس [الصهر] فاستخرجت الأمير المعتقل إسماعيل، وأركبته وقرعت
__________
(1) اللمحة البدرية: 108.
(2) ق: بجواره.
(3) ص: وهتفت.(5/84)
الطبول، ونودي بدعوته، وقد كان أخوه السلطان متحولاً بولده إلى سكنى الجنة المنسوبة للعريف لصق داره، وهي المثل المضروب في الظل الممدود، والماء المسكوب، والنسيم البليل، يفصل بينها وبين معقل الملك السور المنيع والخندق المصنوع، فما راعه إلا النداء والعجيج وأصوات الطبول، وهب إلى الدخول إلى القلعة فألفاها قد أخذت دونه شعابها كلها ونقابها، وقذفته الحراب، ورشقته السهام، فرجع أدراجه، وسدده الله تعالى في محل الحيرة، ودس له عرق الفحول من قومه، فامتطى صهوة فرس كان مرتبطاً عنده، وصار لوجهه فأعيا المتبع، وصبح مدينة وادي آش، ولم يشعر حافظ قصبتها إلا به وقد تولج عليها، فالتف به أهلها وأعطوه صفقتهم بالذب عنه، فكان أملك بها، وتجهزت الحشود إلى منازلته، وقد جدد أخوه المتغلب على ملكه عقد السلم مع طاغية قشتالة باحتياجه إلى سلم المسلمين لجراء فتنة بينه وبين البرجلونيين من أمته، واغتبط به أهل المدينة، فذبوا عنه، ورضوا بهلاك نعمتهم دونه، واستمرت الحال إلى عيد النحر من عام التاريخ، ووصله رسول صاحب المغرب مستنزلاً عنها ومستدعياً إلى حضرته، لما عجز عن إمساكها، وراسل ملك الروم فلم يجد عنده من معول، فانصرف يوم ثاني عيد النحر المذكور، وتبعه الجمع الوافر من أهل المدينة خيلاً ورجلاً إلى مربلة من ساحل إجازته، وكان وصوله إلى مدينة فاس مصحوباً من البر والكرامة بما لا مزيد عليه في السادس من شهر محرم فاتح عام أحد وستين وسبعمائة، وركب السلطان للقائه، ونزل إليه عندما سلم عليه، وبالغ في الحفاية به، وكنت قد ألحقت به مفلتاً من شرك النكبة التي استأصلت المال، وأوهمت سوء الحال، بشفاعة السلطان أبي سالم قدس الله روحه، فقمت بين يديه في الحفل الشهود يومئذ وأنشدته (1) :
__________
(1) وردت هذه القصيدة أيضا في أزهار الرياض 1: 196.(5/85)
سلا هل لديها من مخبرة ذكر ... وهل أعشب الوادي ونم به الزهر
وهل باكر الوسمي داراً على اللوى ... عفت آيها إلا التوهم والذكر
بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر
وجوي الذي ربى جناحي وكره ... فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر
نبت بي لا عن جفوة وملالة ... ولا نسخ الوصل الهنيء بها هجر
ولكنها الدنيا قليل متاعها ... ولذاتها دأباً تزور وتزور
فمن لي بقرب العهد منها ودوننا ... مدى طال حتى يومه عندنا (1) شهر
ولله عينا من رآنا وللأسى ... ضرام له في كل جانحة جمر
وقد بددت در الدموع يد النوى ... وللشوق أشجان يضيق لها الصدر
بكينا على النهر الشروب عشية ... فعاد أجاجاً بعدنا ذلك النهر
أقول لأظعاني وقد غالها السرى ... وآنسها الحادي وأوحشها الزجر
رويدك بعد العسر يسر أن أبشري ... بإنجاز وعد الله، قد ذهب العسر
ولله فينا سر غيب، وربما ... أتى النفع من حال أريد بها الضر
وإن تخن الأيام لم تخن النهى ... وإن يخذل الأقوام لم يخذل الصبر
وإن عركت مني الخطوب مجرباً ... نقاباً تساوى عنده الحلو والمر
فقد عجمت عوداً صليباً على الردى ... وعزماً (2) كما تمضي المهندة البتر
إذا أنت بالبيضاء قررت منزلي ... فلا اللحم حل ما حييت ولا الظهر
زجرنا بإبراهيم برء همومنا ... فلما رأينا وجهه صدق الزجر
بمنتجب من آل يعقوب كلما ... دجا الخطب لم يكذب لعزمته فجر
تناقلت الركبان طيب حديثه ... فلما رأته صدق الخبر الخبر
ندى لو حواه البحر لذ مذاقه ... ولم يتعقب مده أبداً جزر
__________
(1) ق: حتى عندنا يومه.
(2) ق: وغرسا.(5/86)
وبأس غدا يرتاع من خوفه الردى ... وترفل في أثوابه الفتكة البكر
أطاعته حتى العصم (1) في قنن الربى ... وهشت إلى تأميله الأنجم الزهر
قصدناك يا خير الملوك على النوى ... لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر
كففنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسف والكبر
وعدنا بذاك المجد فانصرم الردى ... ولذنا بذاك العزم فانهزم الذعر
ولما أتينا البحر يرهب موجه ... ذكرنا نداك الغمر فاحتقر البحر
خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ... فإيمانه لغو وعرفانه نكر
ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ... إذا ضل في أوصاف من دونك الشعر
دعتك قلوب المؤمنين وأخلصت ... وقد طاب منها السر لله والجهر
ومدت إلى الله الأكف ضراعة ... فقال لهن الله: قد قضي الأمر
وألبسها النعمى ببيعتك التي ... لها الطائر الميمون والمحتد الحر
فأصبح ثغر الثغر يبسم ضاحكاً ... وقد كان مما نابه ليس يفتر
وأمنت بالسلم البلاد وأهلها ... فلا ظبة تعرى ولا روعة تعرو
وقد كان مولانا أبوك مصرحاً ... بأنك في أبنائه الولد البر
وكنت حقيقاً بالخلافة بعده ... على الفور، لكن كل شيء له قدر
وأوحشت من دار الخلافة هالة ... أقامت زماناً لا يلوح بها البدر
فرد عليك الله حقك إذ قضى ... بأن تشمل النعمى وينسدل الستر
وقاد إليك الملك رفقاً بخلقه ... وقد عدموا ركن الإمامة واضطروا
وزادك بالتمحيص عزاً ورفعة ... وأجراُ، ولولا السبك ما عرف التبر
وأنت الذي تدعى إذا دهم الردى ... وأنت الذي ترجى إذا أخلف القطر
وأنت إذا جار الزمان محكم ... لك النقض والإبرام والنهي والأمر
وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه ... مهيض، ومن علياك يلتمس الجبر
__________
(1) ق ص: القصم، وهو خطأ واضح.(5/87)
غريب يرجي منك ما أنت أهله ... فإن كنت تبغي الفجر قد جاءك الفجر
ففز يا أمير المؤمنين ببيعة ... موثقة قد حل عروتها الغدر
ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ... بيا لمرين جاءه العز والنصر
وخذ يا إمام الحق بالحق ثأره ... ففي ضمن ما تأتي به العز والأجر
وأنت لها يا ناصر الحق فلتقم ... بحق فما زيد يرجى ولا عمرو
فإن قيل مال، مالك الدثر وافر ... وإن قيل جيش، عندك العسكر المجر
يكف بك العادي، ويحيا بك الهدى ... ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر
أعده إلى أوطانه عنك راضياً ... وطوقه نعماك التي ما لها حصر
وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ... فقد صدهم عنه التغلب والقهر
وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ... تحاولها يمناك ما بعدها خسر
مرامك سهل لا يؤودك كلفة ... سوى عرض ما إن له في العلا خطر
وما العمر إلا زينة مستعارة ... ترد، ولكن الثناء هو العمر
ومن باع ما يفنى بباق مخلد ... فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر
ومن دون ما تبغيه يا ملك الهدى (1) ... جياد المذاكي والمحجلة الغر
وراد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأرجلها در
وشهب إذا ما ضمرت يوم غارة ... مطهمة غارت بها الأنجم الزهر
وأسد رجال من مرين مخيفة ... عمائمها بيض وآسالها سمر
عليها من الماذي كل مفاضة ... تدافع في أعطافها اللجج الخضر
هم القوم إن هبوا لكشف ملمة ... فلا الملتقى صعب ولا المرتقى وعر
إذا سئلوا أعطوا، وإن نوزعوا سطوا ... وإن واعدوا وفوا، وإن عاهدوا بروا
وإن مدحوا اهتزوا ارتياحاً كأنهم ... نشاوى تمشت في معاطفهم خمر
وإن سمعوا العوراء فروا بأنفس ... حرام على هاماتها في الوغى الفر
__________
(1) اللمحة: العلى.(5/88)
وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ... وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر
أمولاي غاضت فكرتي، وتبلدت ... طباعي، فلا طبع يعين ولا فكر
ولولا حنان منك داركتني به ... وأحييتني لم تبق عين ولا أثر
فأوجدت مني فائتاً أي فائت ... وأنشرت ميتاُ ضم أشلاءه قبر (1)
بدأت بفضل لم أكن لعظيمه ... بأهل، فجل اللطف وانفرج الصدر (2)
وطوقتني النعمى المضاعفة التي ... يقل عليها مني الحمد والشكر
وأنت بتتميم الصنائع كافل ... إلى أن يعود الجاه والعز والوفر
جزاك الذي أسنى مقامك عصمة ... يفك بها عان وينعش مضطر
إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ... فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر
ولكننا نأتي بما نستطيعه ... ومن بذل المجهود حق له العذر فلا تسأل عن امتعاض وانتفاض، وسداد انحناء في التأثر لنا وأغراض، والله غالب على أمره.
وفي صبيحة يوم السبت السابع عشر من شهر شوال عام اثنين وستين وسبعمائة كان انصرافه إلى الأندلس وقد ألح صاحب قشتالة قي طلبه، وترجح الرأي على قصده، فقعد السلطان بقبة العرض من جنة المصارة، وبرز الناس وقد أسمعهم (3) البريح، واستحضرت البنود والطبول والآلة، وألبس خلعة الملك، وقيدت له مراكبه فاستقل، وقد التف عليه كل من جلا عن الأندلس من لدن الكائنة في جملة كثيفة، ورأى من رقة (4) الناس وإجهاشهم وعلو أصواتهم بالدعاء ما قدم به العهد، إذ كان مظنة ذلك سكوناٌ وعفافاً وقرباُ قد ظلله الله برواق الرحمة، وعطف عليه وشائج المحبة، إلى كونه مظلوم العقد، منتزع الحق، فتبعته
__________
(1) اللمحة: القبر.
(2) اللمحة: الحصر.
(3) اللمحة: أخذهم.
(4) اللمحة: وتلا من رنة.(5/89)
الخواطر، وحميت عليه الأنفس، وانصرف لوجهته، وهو الآن برندة مستقل بها وبجهاتها [ومتعلل بألقاب] ومقتنع برسم وقد قام له برسم الوزارة الشيخ القائد أبو الحسن علي بن يوسف ابن كماشة الحضرمي، وبكتابته الفقيه أبو عبد الله ابن زمرك (1) ، وقد استفاض عنه من الحزم والتدرب والتيقظ للأمور والمعرفة بوجوه المصالح ما لا ينكر، كان الله لنا وله بفضله؛ انتهى كلام لسان الدين ابن الخطيب في " اللمحة البدرية ".
[رسالة للسان الدين عن الغني إلى المنصور بن قلاوون]
وقد علمت أنه بعد هذا التاريخ عاد سلطانه إلى حضرة غرناطة، واستبد بملك الأندلس، وعاد لسان الدين إليه حسبما أحسن سياق ذلك لسان الدين رحمه الله تعالى من إنشائه على لسان سلطانه الغني بالله، وخاطب به ملك الحرمين ومصر والشام السلطان المنصور بن أحمد بن الناصر بن قلاوون، وقد ذكرنا منه ما يتعلق بالأندلس في الباب الثاني من القسم الأول (2) ، وقال بعد ذلك فيما يتعلق بالخلع المذكور ما نصه: ولما صير الله إلينا تراثهم الهني، وأمرهم السني، وبناءهم العادي، وملكهم الجهادي، أجرانا - وله الطول - على سننهم، ورفع أعلامنا في هضابهم المشرفة وقننهم، وحملنا فيهم خير حمل، ونظم بنا لهم أي شمل، وألبس أيامنا سلماً فسح الدارة، وأحكم الإدارة، وهنأ الأمارة، ومكن العمارة، وأمن في البحر والبر السيارة والعبارة، لولا ما طرقهم فينا من تمحيص أجلى عن تخصيص، وتمحض تبره بعد تخليص ومرام عويص، نبثكم بثه، ونوالي لديكم حثه، ونجمع منبثه، فإن في الحوادث ذكراً، ومعروف الدهر لا يؤمن أن يعود تكراً، وشر الوجود
__________
(1) اللمحة: وبكتابته الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي المالقي وأبو عبد الله ابن مرزك.
(2) انظر النفح 1: 321 - 326.(5/90)
معاقب بخيره، والسعيد من اتعظ بغيره، والحزم أفضل ما إليه ينتسب، وعقل التجربة بالمرانة يكتسب، وهو أن بعضاً مما ينسب إلينا بوشائج الأعراق، لا بمكارم الأخلاق، ويمت إلينا بالقرابة البعيدة، لا بالنصبة السعيدة، ممن كفلناه يتيماً، وصناه ذميماً شتيماً، وبوأناه مبوأ كريماً، بعد أن نشأ حرفوشاً دميماً، وملعوناًً لئيماً، ونوهناه من خموله بالولاية، ونسخنا حكم تسحبه بآية العناية، داخل أخاً لنا كنا ألزمناه الاقتصار على قصره، ولم نجعل أداة تدل على حصره، وسامحناه في كثير من أمره، ولم نرتب بزيده ولا عمره، واغتررنا برماد علا على جمره، فاستدعى له من الصعاليك شيعته كل درب بفك الأغلاق، وتسرب أنفاق النفاق، وخارق للإجماع والإصفاق، وخبير بمكان الخراب ومذاهب الفساق، وتسور بهم القلعة من ثلم شرع في سده، بعد هده، ولم تكمل الأقدار المميزة في ليلة آثرنا مبيتنا ببعض البساتين خارج قصورنا، واستنبنا من يضطلع بأمورنا، فاستتم الحيلة التي شرعها، واقتحم القلعة وافترعها، وجدل حرس النوبة وصرعها، وكبس محل النائب عنا وجد له، ولم ينشب أن جدله، واستخرج الأخ البائس فنصبه، وشد به تاج الولاية وعصبه، وابتز أمرنا وغضبه.
وتوهم الناس أن الحادثة على ذاتنا قد تمت، والدائرة بنا قد ألمت ولقد همت، فخذل الناصر، وانقطعت الأواصر، وأقدم المتقاصر، واقتحمت الأبهاء والمقاصر، وتفرقت الأجزاء وتحللت العناصر، وفقد من عين الأعيان النور الباصر، فأعطوه طاعة معروفة، وأصبحت الوجوه إليه مصروفة، وركضنا وسرعان الخيل تقفو أثر منجاتنا والظلام يخفيها، وتكفي علينا السماء والله يكفيها، إلى أن خلصنا إلى مدينة وادي آش خلوص القمر من السرار، لا نملك إلا نفساً مسلمة لحكم الأقدار، ملقية لله مقادة الاختيار، مسلوبة بموجب الاستقرار، وناصحنا أهل تلك المدينة فعملوا على الحصار، واستبصروا في الدفاع عنا أتم الاستبصار، ورضوا لبيوتهم المصحرة، وبساتينهم المستبحرة(5/91)
بفساد الحديد وعياث النار، ولم يرضوا لجارهم بالإخفار (1) ، ولا لنفوسهم بالعار، إلى أن كان الخروج عن الوطن بعد خطوب تسبح فيها الأقلام سبحاً طويلاً، وتوسعها الشجون شرحاً وتأويلاً، وتلقي القصص منها على الآذان قولاً ثقيلاً، وجزنا البحر وضلوع موجه إشفاقاً علينا تخفق، وأكف رياحه حسرة تصفق، ونزلنا من جانب سلطان بني مرين على المثوى الذي رحب بنا ذرعه، ودل على كرم الأصول فرعه، والكريم الذي وهب فأجزل، ونزل لنا على الصهوة وتنزل، وخير وحكم، ورد على الدهر الذي تهكم، واستعبر وتبسم، وآلى وأقسم، وبسمل وقدم، واستركب لنا واستخدم.
ولما بدا لمن وراءنا سيئات ما كسبوا، وحققوا ما حسبوا، وطفا الغثاء ورسبوا، ولم ينشب الشقي الخزي أن قتل البائس الذي موه بزيفه، وطوقه بسيفه، ودل ركب المخافة على خيفه، إذ آمن المضعوف من كيده، وجعل ضرغامه بازياً لصيده، واستقل على أريكته، استقلال الظليم على تريكته، حاسر الهامة، متنفقاً بالشجاعة والشهامة، مستظهراً بأول الجهالة والجهامة، وساءت في محاولة عدو الدين سيرته، ولما حصص الحق انكشفت سريرته، وارتابت لجبنه المستور جيرته، وفغر عليه طاغية الروم فمه فالتقمه، ومد عليه الصليب ذراعه فراعه، وشد الكفر عليه يده، فما عضده الله ولا أيده، وتخرمت ثغور الإسلام بعد انتظامها، وشكت إليه باهتضامها، وغصت بأشلاء عباد الله وعظامها، ظهور أوضامها، ووكلت السنة والجماعة، وانقطعت من النجح الطماعة، واشتدت المجاعة، وطلعت شمس دعوتنا من المغرب فقامت عليها الساعة، وأجزنا البحر تكاد جهتاه تتقاربان تيسيراً، ورياحه لا تعرف في غير وجهتنا مسيراً، وكأن ماءه ذوب لقي إكسيراً، ونهضنا يتقدمنا الرعب ويتقد منا الدعاء، وتجأحىء بنا الإشارة يحفزنا الاستدعاء.
__________
(1) ق ص: بالإخبار؛ ولعلها " بالإختار ".(5/92)
وأقصر الطغايا عن البلاد بعد أن ترك ثغورها مهتومة، والإخافة عليها محتومة، وطوابعها مفضوضة وكانت بنا مختومة، وأخذ الخائن الصيحة فاختبل، وظهر تهوره الذي عليه الجبل، فجمع أوباشه السفلى وأوشابه، وبهرجه الذي غش به المحض وشابه، وعمد إلى الذخيرة التي صانتها الأغلاق الحريزة، والمعاقل العزيزة، فملأ بها المناطق، واستوعب الصامت والناطق، والوشح والقراطق، واحتمل عدد الحرب والزينة، وخرج ليلاً عن المدينة، وانقضت آراؤه الفائلة، ونعامته الشائلة، ودولة بغيه الزائلة، أن يقصد طاغية الروم بقضه وقضيضه، وأوجه وحضيضه، وطويلة وعريضة، من غير عهد اقتضى وثيقته، ولا أمر عرف حقيقته، إلا ما أمل اشتراطه من تبديل الكلمة، واستئصال الأمة المسلمة، فلم يكن إلا أن تحصل في قبضته، ودنا من مضجع ربضته، واستشار نصحاءه في أمره، وحكم الحيلة في جناية غدره، وشهره ببلده، وتولى قتله بيده، ألحق به جميع من أمده في غيه، وظاهره على سوء سعيه، وبعث إلينا برؤوسهم فنصبت بمسور غدرها، وقلدت لبة تلك البنية بشذرها، وأصبحت عبرة للمعتبرين، وآية للمستبصرين، وأحق الله الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين.
وعدنا إلى أريكة ملكنا كما رجع القمر إلى بيته، بعد كيته وكيته، أو العقد إلى جيده، بعد انتثار فريده، أو الطير إلى وكره، مفلتاً من غول الشرك ومكره، ينظر الناس إلينا بعيون لم ترو مذ غبنا من محيا رحمة، ولا باتت للسياسة ذمة، ولا ركنت لدين ولا همة، فطوينا بساط العتاب طي الكتاب، وعاجلنا سطور المؤاخذة بالاضطراب، وآنسنا نفوس أولي الاقتراب بالاقتراب، وسهلنا النفوس إلينا، واستغفرنا الله لنفسنا ولمن جنى علينا، فلا تسألوا عما أثار ذلك من استدراك ندم، ورسوخ قدم، واستمتاع بوجود بعد عدم، فسبحان الذي يمحص ليثيب، ويأمر بالدعاء ليجيب، وينبه من الغفلة ويهيب، ويجتبي إليه من يشاء ويهدي(5/93)
إليه من ينيب.
ورأينا أن نطالع علومكم الشريفة بهذا الواقع تسبيباً للمفاتحة المعتمدة، وتمهيداً للموالاة المجددة، فأخبار الأقطار مما تنفقه الملوك على أسمارها، وترقم ببدائعه هالات أقمارها، وتستفيد منه حسن السير، ولا أمان من الغير، وتستعين على الدهر بالتجارب، وتستدل بالشاهد على الغائب، وبلادكم ينبوع الخير وأهله، ورواق الإسلام الذي يأوي قريبه وبعيده إلى ظله، ومطلع نور الرسالة، وأفق الرحمة المنثالة، منه تقدم علينا الكواكب تضرب آباط أفلاكها، وتتخلل مداريها المذهبة غدائر أحلاكها، وتستعلي البدور، ثم يعوها إلى المغرب الحدور، وتطلع الشمس متجردة من كمائم ليلها، متهادية في دركات ميلها، ثم تسحب إلى الغروب فضل ذيلها، ومن تلقائكم ورد العلم والعمل، وأرعي الهمل.
فنحن نستوهب من مظان الإجابة لديكم دعاء يقوم لنا مقام المدد، ويعدل منه بالمال والعدد، ففي دعاء المؤمن بظهر الغيب ما فيه مما ورد، وإياه سبحانه نسأل أن يدفع عنا وعنكم دواعي الفتن، وغوائل المحن، ويحملنا على سنن السنن، ويلبسنا من تقواه أوقى الجنن، وهو سبحانه يصل لأبوتكم ما تستقل لدى قاضي القضاة رسومه، فتكتب حقوقه وتكتب خصومه، ولا تكلفه الأيام ولا تسومه، بفضل الله وعزته، وكره ومنته، والسلام الكريم الطيب المبارك بدءاً من عود، وجوداً إثر جود، ورحمة الله تعالى وبركاته؛ انتهى.
وللسان الدين ابن الخطيب رحمه الله عن سلطانه المذكور كتاب آخر في هذه الكائنة إلى كبير الموحدين أبي محمد عبد الله بن تفراجين (1) ، ولعلنا نذكره إن
__________
(1) كتبه ابن خلدون " تافراكين " وتحت الكاف نقطة إشارة إلى أنها في النطق كالجيم المصرية.(5/94)
شاء الله تعالى في الباب الخامس من هذا القسم، عند تعرضنا لبعض نثر لسان الدين رحمه الله تعالى.
[نقل عن ابن خلدون في خلع الغني]
وقد ساق هذه القضية قاضي القضاة الشهير الكبير ولي الدين عبد الرحمن ابن خلدون الحضرمي رحمه الله تعالى في تاريخه الكبير في ترجمة السلطان الشهير أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني صاحب المغرب مما نصه (1) : الخبر عن خلع ابن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان: لما هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونصب ابنه محمد للأمر واستبد عليه رضوان مولى أبيه، وكان قد رشح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته، فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم، وكان له صهر من ابن عمه محمد بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد، فكان يدعوه سراً إلى القيام بأمره، حتى أمكنته فرصة في الدولة بخروج السلطان إلى بعض منتزهاته في رياضه، فصعد سور الحمراء ليلة سبع وعشرين لرمضان من سنة ستين في أوشاب جمعهم من الطغام لثورته، وعمد إلى دار الحاجب رضوان، فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته وقربوا إلى إسماعيل فرسه وركب، فأدخلوه القصر وأعلنوا بيعته، وقرعوا طبولهم بسور الحمراء، وفر السلطان من مكانه بمنتزهه، فلحق بوادي آش، وغدا الخاصة والعامة على إسماعيل فبايعوه، واستبد عليه هذا الرئيس ابن عمه فخلعه لأشهر من بيعته، واستقل بسلطان الأندلس. ولما لحق السلطان أبو عبد الله محمد بوادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان، واتصل الخبر بالمولى السلطان أبي سالم، امتعض لمهلك رضوان وخلع السلطان رعياً لما سلف له في جوارهم، وأزعج لحينه أبا القاسم الشريف
__________
(1) تاريخ ابن خلدون 7: 306 وأزهار الرياض 1: 202.(5/95)
من أهل مجلسه لاستقدامه، فوصل إلى الأندلس، وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي آش إلى المغرب، وأطلق من اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله ابن الخطيب كانوا اعتقلوه لأول أمرهم لما كان رديفاً للحاجب رضوان وركناً لدولة المخلوع، فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه، فأطلقوه، ولحق مع الرسول أبي القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب، وأجاز لذي العقدة من سنته، وقدم على السلطان بفاس، وأجل قدومه، وركب للقائه، ودخل به إلى مجلس ملكه، وقد احتفل ترتيبه، وغص بالمشيخة والعلية، ووقف وزيره ابن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه، ويستحثه لمظاهرته على أمره، واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمة، ثم سرد ابن خلدون القصيدة، وقد تقدمت.
ثم قال بعد ما صورته (1) : ثم انفض المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى نزله، وقد فرشت له القصور، وقربت الجياد بالمراكب الذهبية، وبعث إليه بالكسا الفاخرة، ورتبت الجرايات له ولمواليه من المعلوجي بطانته من الصنائع، وحفظ عليه رسم سلطانه في الراكب والراجل، ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الآلة أدباً مع السلطان، واستقر في جملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس، وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين ما نحن نذكره؛ انتهى المقصود جلبه من كلام ابن خلدون في هذه الواقعة، وفيه بعض مخالفة لكلام لسان الدين السابق في اللمحة البدرية، إذ قال فيها: إن الثورة عليهم كانت ليلة ثمان وعشرين من رمضان، وابن خلدون جعلها ليلة سبع وعشرين منه، والخطب سهل، وقال في اللمحة إن انصرف السلطان من وادي آش كان ثاني يوم النحر، وقال ابن خلدون في ذي القعدة، ولعله غلط من الكتاب حيث جعل مكان الحجة القعدة.
ورائية إن الخطيب التي ذكرها هي من حر كلامه وغرر شعره، على
__________
(1) تاريخ ابن خلدون: 309 وأزهار الرياض: 203.(5/96)
أنه كله غرر، إذ جمع فيها المطلوب في ذلك الوقت بأبدع لفظ وأحسن عبارة في ذلك المحفل العظيم، ولم نزل نسمع في المذاكرات بالمغرب لما انتهى فيها إلى قوله فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر قال له بعض من حضر ولعله أراد الغض منه: أحسنت يا وزير فيما قلت، وفي وصف الحال والسلطان، غير أنه بقي عليك شيء، هو ذكر قرابة السلطان موالينا بني مرين وهم من هم، ولا ينبغي السكوت عنهم فارتجل ابن الخطيب حينئذ قوله ومن دون ما تبغيه - إلى آخره حتى تخلص لمدح بني مرين أقارب السلطان بما لا مرمى وراءه، ثم قال بعد ذلك معتذراً أمولاي غاضت فكرتي - إلى آخره " وهذا أن صح أبلغ مما وقع لأبي تمام في سينيته حيث قال لا تنكروا ضربي له - البيتين لأن أبا تمام ارتجل بيتين فقط، ولسان الدين ارتجل تسعة عشر بيتاً، مع ما هو عليه من الخروج عن الوطن وذهاب الجاه والمال، فأين الحال من الحال
وقد كرر ابن خلدون رحمه الله تعالى في تاريخه قضية اعتقال لسان الدين وخلع سلطانه في موضع آخر، ولذكره إن سبق بعضه لاشتماله على منشأ الوزير لسان الدين، وجملة من أحواله إلى قريب من مهلكه، فنقول (1) : قال رحمه الله تعالى بعد ذكره عبد الله والد لسان الدين وأنه انتقل من لوشة إلى غرناطة، واستخدم لملوك بني الأحمر، واستعمل على مخازن الطعام، ما محصله: ونشأ ابن محمد هذا، يعني لسان الدين ابن الخطيب، بغرناطة، وقرأ وتأدب على مشيختها، واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، وأخذ عنه العلوم الفلسفية، وبرز في الطب، وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخه، وامتلأ من حول اللسان نظمه ونثره (2) ، مع انتقاء الجيد منه، ونبغ (3) في الشعر الترسيل بحيث لا يجارى فيهما،
__________
(1) انظر تاريخ ابن خلدون 7: 332 - 336 وأزهار الرياض 1: 204.
(2) ابن خلدون: وامتلأ حوض السلطان من نظمه ... إلخ.
(3) ابن خلدون: وبلغ.(5/97)
وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره، وملأ الدنيا بمدائحه، وانتشرت في الآفاق، فرقاه السلطان إلى خدمته، وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤوساً بأبي الحسن ابن الجياب شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية، وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سفله عندما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبد عليه (1) ، فاستبد ابن الخطيب برياسة الكتاب ببابه مثناة بالوزارة ولقبه بها، فاستقل بذلك، وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة، ثم داخله السلطان في تولية العمال على يده بالمشارطات فجمع له بها أموالاً وبلغ به في المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد ممن قبله، وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة معزياً بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته، ثم هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة، عدا عليه بعض الزعانف في سجوده للصلاة، وطعنه فأشواه، وفاظ لوقته، وتعاورت سيوف المالي المعلوجي هذا القاتل، فمزقوه أشلاء، وبويع ابن محمد لوقته، وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم، واستبد بالدولة، وأفرد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه، وجعل ابن الخطيب رديفاً لرضوان في أمره، ومشاركاً في استبداده معه، فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة، ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيراً إلى السلطان أبي عنان مستمدين منه الطاغية على عاداتهم مع سلفه فلما قدم على السلطان ومثل بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها واستأذنه في إنشاد شعر قدمه بين يدي نجواه، فأذن له، وأنشد وهو قائم:
خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجى قمر
__________
(1) سقطت هنا جملة تفيد أن ابن الجياب توفي بالطاعون الجارف سنة 749 فولى السلطان أبو الحجاج ابن الخطيب رياسة الكتاب ... إلخ.(5/98)
ودافعت عنك كف قدرته ... ما ليس يسطيع دفعه البشر
وجهك في النائبات بدر دجى ... لنا وفي المحل كفك المطر
والناس طراً بأرض أندلس ... لولاك ما أوطنوا ولا عمروا
وجملة الأمر أنه وطن ... في غير علياك ما له وطر
ومن به مذ وصلت حبلهم ... ما جحدوا نعمة ولا كفروا
وقد أهمتهم بأنفسهم ... فوجهوني إليك وانتظروا فاهتز السلطان لهذه الأبيات، وأذن له في الجلوس، وقال له قبل أن يجلس: ما ترجع إليهم إلا بجميع طلباتهم، ثم أثقل كاهلهم بالإحسان، وردهم بجميع ما طلبوه، وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف - وكان معه في ذلك الوفد - لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا، ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين، ثم ثار بهم محمد الرئيس ابن عم السلطان، شركه في جده الرئيس أبي سعيد، وتحين خروج السلطان إلى منتزهه خارج الحمراء، وتسور دار الملك المعروفة بالحمراء، وكبس رضوان في بيته فقتله، ونصب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجاج بما كان صهره على شقيقه، وكان معتقلاً بالحمراء، فأخرجه وبايع له، وقام بأمره مستنداً عليه، وأحس السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان، فركب ناجياً إلى وادي آش وضبطها، وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب، وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس، واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيق عليه في محبسه، وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودة استحكمت أيام مقامه بالأندلس، وكان غالباً على هوى السلطان أبي سالم، فزين له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبوناً على أهل الأندلس، ويكف به عادية القرابة المرشحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب، فقبل ذلك منه، وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي(5/99)
آش إليه، وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني، وحمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب وحل معتقله فأطلق، وصحبه الشريف أبا القاسم إلى وادي آش، وسار في ركاب سلطانه، وقدموا على السلطان أبي سالم (1) ، فاهتز لقدوم ابن الأحمر، وركب في الموكب لتلقيه، وأجلسه إزاء كرسيه، وأنشد ابن الخطيب قصيدته يستصرخ السلطان لنصره، فوعده، وكان يوماً مشهوداً، ثم أكرم مثواه وأرغد نزله، ووفر أرزاق القادمين مع ركابه، وأرغد عيش ابن الخطيب في الجراية والإقطاع، ثم استيأس واستأذن السلطان في التجوال بجهات مراكش الوقوف على أعمال الملك بها فأذن له، وكتب إلى العمال بإتحافه فتباروا في ذلك، وحصل منه على حظ، وعندما مر بسلا إثر قفوله من سفره دخل مقبرة الملوك بشالة، ووقف على قبر السلطان أبي الحسن، وأنشد قصيدة على روي الراء يرثيه ويستجير به في استرجاع ضياعه بغرناطة، مطلعها:
إن بان منزله وشطت داره ... قامت مقام عيانه أخباره
قسم زمانك عبرة أو عبرة ... هذي ثراه وهذه آثاره فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه، واستقر هو بسلا منتبذاً عن سلطانه طول مقامه بالعدوة، ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وبعث عن مخلفه بفاس من الأهل والولد، والقائم بالدولة يومئذ الوزير عمر بن عبد الله بن علي، فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره، فسر السلطان لقدومه ورده إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله، وكان عثمان بن يحيى بن عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم قد لحق بالطاغية ملك النصارى في ركاب أبيه عندما أحس بالشر
__________
(1) فزين له ... أبي سالم: سقطت كلها سهوا من ص.(5/100)
من الرئيس صاحب غرناطة، وأجاز يحيى من هناك إلى العدوة، وأقام عثمان بدار الحرب، فصحب السلطان في مثوى اغترابه هناك، وتقلب في مذاهب خدمته، وانحرفوا عن الطاغية عندما يئسوا من الفتح على يده، فتحولوا عنه إلى ثغور بلادهم، وخاطبوا الوزير عمر بن عبد الله في أن يمكنهم من بعض الثغور الغربية (1) التي لطاعتهم (2) بالأندلس يرتقبون منها الفتح، وخاطبني السلطان المخلوع من ذلك، وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله ذمة مرعية، وخاصة متأكدة، فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله، وحملته أن يرد عليه مدينة رندة إذ هي من تراث سلفه، فقبل إشارتي في ذلك، وتسوغها السلطان المخلوع ونزل بها، وعثمان بن يحيى في جملته، وهو المقدم في بطانته، ثم غزوا منها مالقة، فكانت ركاباُ للفتح، وملكها السلطان (3) ، واستولى بعدها على دار ملكه بغرناطة، وعثمان بن يحيى متقدم القدم في الدولة عريق في المخالصة، وله على السلطان دالة واستبداد على هواه، فلما وصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده، وأعاده إلى مكانه في الدولة من علو يده وقبول إشارته، أدركته الغيرة من عثمان، ونكر على السلطان الاستكفاء به، وأراه التخوف من هؤلاء الأعياص (4) على ملكه، فحذره السلطان، وأخذ في التدبير عليه، حتى نكبه أباه وأخوته في رمضان سنة أربع وستين وسبعمائة، وأودعهم المطبق، ثم غربهم في ذلك، وخلا لابن الخطيب الجو وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير الدولة وخلط بينه بندمائه وأهل خلوته، وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد، وانصرفت إليه النجوم وعلقت به الآمال، وغشي بابه الخاصة والكافة وعصت به بطانة السلطان وحاشيته، فتفننوا في السعايات فيه، وقد هم السلطان
__________
(1) ابن خلدون: القريبة.
(2) ابن خلدون: أطاعتهم؛ الأزهار: لطاغيتهم.
(3) فكانت ... السلطان: سقطت من ق.
(4) كذا في ابن خلدون، وفي ق ص: الأعايض، حيثما وقعت.(5/101)
عن قبولها، ونمي الخبر بذلك إلى ابن الخطيب، فشمر عن ساعده في التفويض، واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يوم إذ في القبض على ابن عمه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد ابن السلطان بن يعقوب ابن عبد الحق، كانوا قد نصبوه شيخاُ على الغزاة بالأندلس لما أجاز من العدوة بعد ما جاس خلالها لطلب الملك، وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية، وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بني مريب، فاضطر إلى الإجازة إلى الأندلس، فأجاز هو ووزيره مسعود ابن ماساي، ونزلوا على السلطان المخلوع أعوام سبعة وستين وسبعمائة، فأكرم نزله، وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة فقدم عبد الرحمن مكانه، وكان السلطان عبد العزيز قد استبد بملكه بعد مقتل الوزير عمر بن عبد الله، فغص بما فعله السلطان المخلوع من ذلك، وتوقع انتقاض أمره منهم، ووقف على مخاطبات من عبد الرحمن يسر بها في بني مرين، فجزع في ذلك، وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي وإراحة نفسه من شغبهم على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه، فأجابه إلى ذلك، وكتب إليه العهد بخطه على يد سفيره إلى الأندلس، وكاتبه أبي يحيى ابن أبي مدين، وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماساي، فتقبض عليهما واعتقلهما (1) ، وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية، وربما تخيل أن السلطان مال إلى قبولها، وأنهم قد أحفظوه عليه، فأجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب، واستأذن السلطان في تفقد الثغور، وسار إليها في لمة من فرسانه، وكان معه ابنه علي الذي كان خالصة للسلطان، وذهب لطيته، فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة مال إليه، وسرح إذنه بين يديه، فخرج قائد الجبل لتلقيه، وقد كان السلطان عبد العزيز
__________
(1) وأغرى ... واعتقلهما: سقطت من ابن خلدون، وفيها تكرار لما سبق.(5/102)
أوعز إليه بذلك، وجهز له الأسطول من حينه فأجاز إلى سبتة، وتلقاه ولاتها بأنواع التكرمة وامتثال المراسم، ثم سار لقصد السلطان، فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامه من تلمسان، فاهتزت له الدولة، وأركب السلطان خاصته لتلقيه، وأحله من مجلسه بمحل الأمن والغبطة، ومن دولته بمكان التنويه والعزة، وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى ابن أبي مدين سفيراً إلى صاحب الأندلس في طلب أهله وولده، فجاء بهم على أكمل حالات الأمن والتكرمة، ثم أكثر المنافسون (1) له في شأنه، وأغروا سلطانه بتتبع عثراته، وإبداء ما كان كامناً في نفسه من سقطاته، وإحصاء معايبه، وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها، ورفعت إلى قاضي الحضرة أبي حسن ابن الحسن فاسترعاها، وسجل عليه بالزندقة، وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه، وبعث القاضي ابن الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات، وإمضاء حكم الله فيه، فصم عن ذلك وأنف لذمته أن تخفر لجواره أن يرد وقال لهم: هلا انتقمتم منه وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه، وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري. ثم وفر الجراية والإقطاع له ولبنيه ولمن جاء من أهل الأندلس في جملته، فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان سار هو في ركاب الوزير أبي بكر ابن غازي القائم بالدولة، فنزل بفاس، واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنان، وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى، واتصلت حاله على ذلك إلى أن كان ما نذكره، انتهى.
__________
(1) ابن خلدون: لغط المنافسون؛ ق: المتنافسون.(5/103)
[رواية ابن خلدون عن نهاية لسان الدين]
وقال ابن خلدون في تاريخه ما صورته (1) : كان محمد بن الأحمر المخلوع قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادى من سنة ثلاث وستين، وقتل له الطاغية عدوه الرئيس المنتزي على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بعهد المخلوع، واستوى على كرسيه، واستقل بملكه، ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمد بن الخطيب، فاستخلصه، وعقد له على وزارته، وفوض إليه في القيام بملكه، فاستولى عليه، وملك هواه، وكانت عينه ممتدة إلى المغرب وسكناه، إلى أن نزلت به آفة في رياسته فكان لذلك يقدم السوابق والوسائل عند ملوكه، وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلهم غيرة من ولد عمهم السلطان أبي علي، ويخشونهم على أمرهم، ولما لحق الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن بالأندلس اصطفاه ابن الخطيب، واستخلصه لنجواه، ورفع في الدولة رتبته، وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة المجاهدين من زناتة مكان بني عمه من الأعياص، فكانت له آثار في الاضطلاع بها، ولما استبد السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه، وكان ابن الخطيب (2) ساعياُ في مرضاته عند سلطانه، فدس إليه باعتقال عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره مسعود بن ماساي، وأدار ابن الخطيب في ذلك مكره، وحمل السلطان عليهما إلى أن سطا بهما ابن الأحمر، واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز، وتغير الجو بين ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب وأظلم وتنكر له، فنزع له إلى عبد العزيز سلطان المغرب سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة لما قدم من الوسائل ومهد من السوابق، فقبله السلطان وأحله من مجلسه محل الاصطفاء والقرب، وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده فبعثهم إليه، واستقر في جملة السلطان، ثم تأكدت العداوة بينه
__________
(1) تاريخ ابن خلدون 7: 337 وأزهار الرياض 1: 224.
(2) واستخلصه ... الخطيب: سقطت من ص سهوا.(5/104)
وبين ابن الأحمر، فرغب السلطان عبد العزيز في ملك الأندلس وحمله عليه، وتواعدوا لذلك عند رجوعه من تلمسان إلى المغرب، ونمي ذلك إلى ابن الأحمر، فبعث إلى السلطان عبد العزيز بهدية لم يسمع بمثلها انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبغالها الفارهة ومعلوجي السبي وجواريه، وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره ابن الخطيب إليه، فأبى السلطان من ذلك ونكره. ولما هلك السلطان واستبد الوزير ابن غازي بالأمر تحيز إليه ابن الخطيب وداخله، وخاطبه ابن الأحمر بمثل ما خاطب به السلطان عبد العزيز، فلج واستنكف عن ذلك، وأقبح الرد وانصرف، رسوله إليه وقد رهب سطوته، فأطلق ابن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأركبه الأسطول، وقذف به إلى ساحل بطوية ومعه الوزير مسعود بن ماساي، ونهض - يعني ابن الأحمر - إلى جبل الفتح، فنازله بعساكره، ونزل عبد الرحمن ببطوية.
ثم ذكر ابن خلدون كلاماُ كثيراً تركته لطوله، وملخصه (1) أن الوزير أبا بكر ابن غازي الذي كان تحيز إليه ابن الخطيب ولى ابن عمه محمد عثمان مدينة سبتة خوفاُ عليها من ابن الأحمر، ونهض هو - أعني الوزير - إلى منازلة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ببطوية إذ كانوا قد بايعوه، فامتنع عليه، وقاتله أياماً ثم رجع إلى تازا، ثم إلى فاس، واستولى عبد الرحمن على تازا، وبينما الوزير أبو بكر بفاس يدبر الرأي إذ وصله الخبر أن ابن عمه محمد بن عثمان بايع السلطان أحمد بن أبي سالم، وهو المعروف بذي الدولتين، وهذه هي دولته الأولى، وذلك أن ابن عم الوزير وهو محمد بن عثمان لما تولى سبتة كان ابن الأحمر قد طاول حصار جبل الفتح، وأخذ بمخنقه وتكررت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان والعتاب، فاستعتب له، وقبح ما جاء به ابن عمه الوزير أبو بكر ابن غازي من الاستغلاظ له في شأن ابن الخطيب وغيره، فوجد ابن
__________
(1) تاريخ ابن خلدون 7: 338 - 341 وأزهار الرياض 1: 226.(5/105)
الأحمر في ذلك السبيل إلى غرضه، وداخله في البيعة لابن السلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الحوطة والرقبة، وأن يقيمه للمسلمين سلطاناً ولا يتركهم فوضى وهملاً تحت ولاية الصبي الذي لم يبلغ ولا تصح ولايته شرعاً، وهو السعيد ابن أبي فارس الذي بايعه الوزير أبو بكر ابن غازي بتلمسان حين مات أبوه واستبد عليه، واختص ابن الأحمر أحمد بن أبي سالم من بين أولئك الأبناء لما سبق بينه وبين أبيه أبي سالم من الموات، وكان ابن الأحمر اشترط على محمد بن عثمان وحزبه شروطاً: منها أن ينزلوا له عن جبل الفتح الذي هو محاصر له، وأن يبعثوا إليه جميع أبناء الملوك من بني مرين ليكونوا تحت حوطته، وأن يبعثوا إليه بالوزير ابن الخطيب متى قدروا عليه، فانعقد أمرهم على ذلك، وتقبل محمد بن عثمان شروطه، وركب من سبتة إلى طنجة، واستدعى أبا العباس أحمد من مكان اعتقاله فبايعه، وحمل الناس على طاعته، واستقدم أهل سبتة على البيعة وكتابتها فقدموا وبايعوا، وخاطب أهل جبل الفتح فبايعوا، وأفرج ابن الأحمر عنهم، وبعث إليه محمد بن عثمان عن سلطانه بالنزول له عن جبل الفتح، وخاطب أهله بالرجوع إلى طاعته، فارتحل ابن الأحمر من مالقة إليه، ودخله، ومحا دولة بني مرين مما وراء البحر، وأهدى للسلطان أبي العباس وأمده بعسكر من غزاة الأندلس، وحمل إليه مالاُ للإعانة على أمره. ولما وصل الخبر بهذا كله إلى الوزير أبي بكر ابن غازي قامت عليه القيامة، وكان ابن عمه محمد بن عثمان كتب إليه يموه بأن هذا عن أمره، فتبرأ من ذلك، ولاطف ابن عمه أن ينقض ذلك الأمر، فاعتل له بانعقاد البيعة لأبي العباس، وبينما الوزير أبو بكر ينتظر إجابة ابن عمه إلى ما رامه منه بلغه الخبر بأنه أشخص الأبناء المعتقلين كلهم إلى الأندلس، وحصلوا تحت كفالة ابن الأحمر، فوجم وأعرض عن ابن عمه، ونهض إلى تازا لمحاصرة عبد الرحمن ابن أبي يفلوسن، فاهتبل في غيبته ابن عمه محمد بن عثمان ملك المغرب ووصله مدد السلطان ابن الأحمر من رجال الأندلس الناشبة نحو ستمائة، وعسكر آخر من(5/106)
الغزاة، وبعث ابن الأحمر رسالة إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد مع ابن عمه ومظاهرته واجتماعهما على ملك فاس، وعقد بينهما الاتفاق على أن يختص عبد الرحمن بملك سلفه، فتراضيا.
وزحف محمد بن عثمان وسلطانه إلى فاس، وبلغ الخبر إلى الوزير أبي بكر بمكانه من تازا، فانفض معسكره، ورجع إلى فاس، ونزل بكدية العرائس وانتهى السلطان أبو العباس احمد إلى زرهون، فصمد إليه الوزير بعساكره، فاختل مصافه، ورجع على عقبه مفلولاُ، وانتهب عسكره، ودخل البلد الجديد، وجأجأ بالعرب أولاد حسين فعسكروا بالزيتون ظاهر فارس، فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازا بمن كان معه من العرب الأجلاف، وشردهم إلى الصحراء، وشارف السلطان أبو العباس أحمد بجموعه من العرب وزناتة، وبعثوا إلى ولي دولتهم ونزمار ابن عريف بمكانه من قصره الذي اختطه بملوية، فجاءهم، وأطلعوه على كامن أسرارهم، فأشار عليهم بالاجتماع والاتفاق، فاجتمعوا بوادي النجا، وتحالفوا ثم ارتحلوا إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وبرز إليهم الوزير بعساكره، فانهزمت جموعه، وأحيط به، وخلص إلى البلد الجديد بعد غص الريق، واضطرب معسكر السلطان أبي البعباس بكدية العرائس ونزل الأمير عبد الرحمن بإزاءه، وضربوا على البلد الجديد سياجاً بالبناء للحصار، وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاب، ووصلهم مدد السلطان ابن الأحمر، فأحكموا الحصار، وتحكموا في ضياع الوزير ابن الخطيب بفاس، فهدموها وعاثوا فيها، ولما كان فاتح سنة ست وسبعين داخل محمد بن عثمان ابن عمه الوزير أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان، لكون الحصار قد اشتد به ويئس وأعجزه المال، فأجاب واشترط عليهم الأمير عبد الرحمن التجافي لهم عن أعمال مراكش بدل سجلماسة، فعقدوا له على كره، وطووا على المكر، وخرج الوزير أبو بكر إلى السلطان وبايعه، واقتضى عهده بالأمان وتخلية سبيله من الوزارة، ودخل السلطان أبو العباس إلى البلد(5/107)
الجديد سابع المحرم، وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش، وستولى عليها، انتهى.
[رواية ابن الأحمر]
وقال حفيد السلطان ابن الأحمر في تاريخه ما صورته: لما لحق الرئيس أبو عبد الله ابن الخطيب بالمغرب عام اثنين وسبعين وسبعمائة، وكان من وفاة مجيره والمحامي عنه السلطان عبد العزيز ما ألمعنا بذكره، شد الوزير أبو بكر ابن غازي يده على ابن الخطيب بانياً على أشد الأشياء ألا يسلمه لمولانا جدنا مع توقع البغضاء، واقتدى هذا الوزير بالسلطان عبد العزيز في إعراضه عن العقود الموجهة من الأندلس بالمقذع من موبقات ابن الخطيب، ولج في الغلواء، وسجل موجبات الوفاء، والبواعث من مولانا جدنا تتزايد، والأساطيل تتجهز، والآراء بالقصد الخطير ينتقى منها الصواب ويتخير، حتى خيم مولانا جدنا بظاهر جبل الفتح، وكان إذ ذاك راجعاً إلى إيالة المغرب، فأناخ عليه كلكل الجيش، وأهمهم ثقل الوطأة ولم يبال مولانا جدنا بما أرسلت آناء الليل وأطراف النهار من شآبيب الأنفاط، والجوار من باب الشطائين قريب، والخالصة من الثقات مستريب، والنجاة من تلك الأهوال من الأمر الغريب، ولم يبق بغرناطة من له خلوص، ولا من تترامى به همة إلا وأعمل السير الحثيث ولحق بمولانا جدنا لحاق المحب بالحبيب، حتى أهل العلم، والرجاحة والحلم، ولا كالسيد الإمام الأستاذ أبي سعيد قطب الجملة، وعميد الملة، وهو الذي بلغنا نظمه في هذه الوجهة، وعندما ألقى عصا التسيار في الجهة القريبة من أولي العداوة، ومن ذلك قصيدته المشهورة التي أولها:
يا جبل الفتح استملت نفوسنا ... فلا قلب إلا نحو مغناك قد سبق
فأرسلت إذ جئناك فينا صواعقاً ... تخال بها جو السماء قد انطبق(5/108)
وقوله في إجابة السفهاء من الهاتفين بالسور موطئاً معجباً رحمة الله تعالى عليه:
وذموا وما يعنون إلا مذمماً ... وأنت بحمد الله تدعى محمداً وقول حامل اللواء الآتي ذكره في تضاعيف الأسماء:
أما مرامك في عراض البيد ... فمبلغ ما شئت من مقصود
والهجر إن ألقته ألسنة العدا ... يأباه فضل مقامك المحمود
سحقاً لهم سفهاء كل قبيلة ... شذت مقالتهم عن المعهود
قد ضلت الأحلام منهم رشدها ... هذا، ومنك الحلم غير بعيد
مع عزمة لو شئت هدت كل ما ... قد أحكموا من معلم ومشيد إلى أن قال الخبر عن اجتماع الأميرين أبي العباس وأبي زيد متصاحبين وترافقين على استخلاص مدينة فاس من يد الوزير أبي بكر ابن غازي بن الكاس: وكتب الرئيس أبو عبد الله ابن زمرك في مخلص هذه الكائنة حث الوزير محمد ابن عثمان السير في وسط عام خمسة وسبعين وسبعمائة، وتلاقى بسلطانه أبي العباس مع الأمير أبي زيد عبد الرحمن، واستقلا بالطائلة، وحصلا من التضييق على السعيد الطفل الصغير وعلى وزيره أبي بكر ابن غازي في متسع الخطة ورحيب ذرع الخلافة، وتصالحا عن رضى وتسليم منهما ومن أشياعهما على تسليم السعيد إلى اللحاق بمن كان في طنجة من الأمراء، واتصل السلطان عبد الرحمن بمراكش، فكان ملكها وجابي أموالها، وتملك السلطان أبو العباس مدينة فاس وما والى البلاد الساحلة وسواها مما يحتوي عليه ملك المدينة البيضاء براً وبحراً.
وعبر كاتب الدولة عن المدينة وعن الطفل متملكها بقوله: وإلى هذا فقد ارتفع الالتباس، واطرد القياس، وغير خفي عن ذي عقل سليم، وذي تفويض للحق وتسليم، أن دار الملك المريني كمامة بلا زهر، ورياض بلا نهر، إن لم يعتقد كرسيها، من يزين جيدها ويجيد حليها، وآن أوان البشرى لمن يمتعض(5/109)
للدين، والآن قلادة التقوى منوطة بقلم أعلام الملوك المهتدين، ثم ذكر ما يطول من فصول، وربما اشتملت على فضول، وملخصه مثل ما ذكر ابن خلدون.
[تتمة الخبر عن نهاية لسان الدين نقلاً عن ابن خلدون]
ثم ساق قاضي القضاة ابن خلدون - بعد ما تقدم جلبه من تاريخه - الكلام على محنة لسان الدين ووفاته مقتولاً رحمه الله تعالى فقال ما صورته (1) : ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح ست وسبعين استقل بسلطانه، والوزير محمد بن عثمان مستبد عليه، وسليمان بن داود بن أعراب كبير بني عسكر رديفه، وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان ابن الأحمر - عندما بويع بطنجة - على نكبة الوزير ابن الخطيب وإسلامه إليه، لما نمي إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزيز بملك الأندلس، فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقيه أبو بكر ابن غازي بساحة البلد الجديد، فهزمه السلطان ولازمه بالحصار، أوى معه ابن الخطيب إلى البلد الجديد خوفاً على نفسه، فلما استولى السلطان على البلد أقام أياماً، ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض على ابن الخطيب، فقبضوا عليه، وأودعوه السجن، وطيروا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر، وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب، لما كان سليمان قد بايعه السلطان ابن الأحمر على مشيخة الغزاة بالأندلس متى أعاده الله تعالى إلى ملكه، فلما استقر إليه سلطانه أجاز إليه سليمان سفيراً عن الوزير عمر بن عبد الله ومقتضياً عهده من السلطان، فصده الوزير ابن الخطيب عن ذلك، محتجاً بأن تلك الرياسة إنما هي لأعياص الملك من بني عبد الحق، لأنهم يعسوب زناتة، فرجع سليمان، وأثار حقد ذلك لابن الخطيب، ثم جاوز الأندلس لمحل إمارته من جبل الفتح فكانت تقع بينه وبين ابن الخطيب مكاتبات
__________
(1) تاريخ ابن خلدون 7: 341 وأزهار الرياض 1: 229.(5/110)
ينفث كل واحد منهما لصاحبه بما يحفظه مما كمن في صدورهما، وحين بلغ خبر القبض على ابن الخطيب إلى السلطان ابن الأحمر بعث كتابه ووزيره بعد ابن الخطيب، وهو أبو عبد الله ابن زمرك، فقدم على السلطان أبي العباس، وأحضر ابن الخطيب بالمشور (1) في مجلس الخاصة، وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه في المحبة، فعظم النكير فيها، فوبخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملأ، ثم تل إلى محبسه، واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه، وأفتى بعض الفقهاء فيه، ودس سليمان بن داود لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله، فطرقوا السجن ليلاً، ومعهم زعانفة جاؤوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر وقتلوه خنقاً في محبسه، وأخرج شلوه من الغد، فدفن بمقبرة باب المحروق، ثم أصبح من الغد على سافة (2) قبره طريحاً، وقد جمعت له أعواد، وأضرمت عليه نار، فاحترق شعره، واسود بشره، فأعيد إلى حفرته، وكان في ذلك انتهاء محنته، وعجب الناس من هذه الشنعاء التي جاء بها سليمان، واعتدوها من هناته، وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته، والله الفعال لما يريد.
وكان - عفا الله تعالى عنه - أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فتجهش هواتفه بالشعر يبكي نفسه، ومما قال في ذلك رحمه الله تعالى:
بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ ونحن صموت
وأنفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلاة تلاه القنوت
وكنا عظاماً فصرنا عظاماً ... وكنا نقوت فما نحن قوت
وكنا شموس سماء العلا ... غربن فناحت علينا السموت
فكم جدلت ذا الحسام الظبى ... وذو البخت كم جدلته البخوت
__________
(1) تصحفت الكلمة في ق ص؛ والمشور: القصر لأنه موضع الشورى.
(2) ق وابن خلدون والأزهار: شافة.(5/111)
وكم سيق للقبر في خرقة ... فتى ملئت من كساه التخوت
فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ... وفات، ومن ذا الذي لا يفوت
ومن كان يفرح منهم له ... فقل: يفرح اليوم من لا يموت انتهى كلام ابن خلدون في ديوان العبر.
[عن ابن حجر]
وقال الحافظ ابن حجر في " أنباء الغمر " بعد أن ذكر ما قدمناه على سبيل الاختصار، ما نصه: واشتهر أنه - يعني لسان الدين - نظم حين قدم للقتل الأبيات المشهورة التي يقول فيها:
وقل للعداة مضى ابن الخطيب ... وفات فسبحان من لا يفوت
فمن كان يشمت منكم به ... فقل: يشمت اليوم من لا يموت والصحيح في ذلك ما ذكره صديقه شيخنا ولي الدين ابن خلدون أنه نظم الأبيات المذكورة وهو في السجن، لما كان يستشعر من التشديد؛ انتهى.
ثم حكى ابن حجر عن بعض الأعيان أن ابن الأحمر وجهه إلى ملك الإفرنج في رسالة، فلما أراد الرجوع أخرج له رسالة لابن الخطيب تشتمل على نظم ونثر، فلما قرأها قال له: مثل هذا كان ينبغي أن لا يقتل، ثم بكى حتى بل ثيابه؛ انتهى كلام الحافظ، وبعضه بالمعنى. فانظر - سددك الله تعالى - بكاء العدو الكافر على هذا العلامة، وقتل إخوانه في الإسلام له على حظ نفساني، ولا حول ولا قوة إلا باله العلي العظيم، لا رب غيره.
[تخميس لأبيات لسان الدين]
قلت: ورأيت بحضرة فاس - حاطها الله تعالى - تخميساً لهذه الأبيات بديعاً(5/112)
منسوباً إلى بعض بني الصباغ، وزاد في الأصل بعض أبيات على ما ذكره ابن خلدون من هذه القطعة، والمزيد يشبه نفس لسان الدين ابن الخطيب، فلعل ابن خلدون اختصر منها، أو لم يقف على الزائد، ولنثبت جملته تتميماً للمقصود، فنقول: قال رحمه الله تعالى (1) :
أيا جاهلاً غره ما يفوت ... وألهاه حال قليل الثبوت
تأمل لمن بعض أنس يقوت (2) ... بعدنا وإن جاورتنا البيوت وجئنا بوعظ ونحن صموت ...
لقد نلت من دهرنا رفعة ... تقضت كبرق مضى سرعة
فهيهات نرجو لها رجعة ... وأصواتنا سكنت دفعة كجهر الصلاة تلاه القنوت ...
بدا لي من العز وجه شباب ... يؤمل سيبي وبأسي يهاب
فسرعان مزق ذلك الإهاب ... ومدت وقد أنكرتنا الثياب علينا نسائجها العنكبوت ...
فآهاً لعز تقضى مناما ... منحنا به الجاه قوماً (3) كراما
وكنا نسوس أموراً عظاما ... وكنا عظاماً فصرنا عظاما وكنا نقوت فها نحن قوت ...
__________
(1) هذا التخميس في أزهار الرياض 1: 231.
(2) الأزهار: يصوت.
(3) الأزهار: دوما.(5/113)
وكنا لدى الملك حلي الطلى ... فآهاً عليه زماناً خلا
نعوض من جدة بالبلى ... وكنا شموس سماء العلا غربنا فناحت علينا السموت ...
تعودت بالرغم صرف الليالي ... وحملت نفسي فوق احتمالي
وأيقنت أني سوف يأتي ارتحالي ... ومن كان منتظراً للزوال فكيف يؤمل منه الثبوت ...
هو الموت يا ما له من نبا ... يحوز الحجاب إلى من أبى
ويألف أخذ سني الحبا ... فكم أسلمت ذا الحسام الظبى وذا البخت كم جدلته البخوت ...
هو الموت أفصح عن عجمة ... وأيقظ بالوعظ من خفقة
وسلى عن الحزن ذا حرقة ... وكم سيق للقبر من خرقة فتى ملئت من كساه التخوت ...
تقضى زماني بعيش خصيب ... وعندي لذنبي انكسار المنيب
وها الموت قد صبت منه نصيبي ... فقل للعدا ذهب ابن الخطيب وفات ومن ذا الذي لا يفوت ...
مضى ابن الخطيب كمن قبله ... ومن بعده يقتفي (1) سبله
وهذا الردى ناثر شمله ... فمن كان يفرح منهم له فقل: يفرح اليوم من لا يموت ...
__________
(1) ق: يبتغي.(5/114)
هو الموت عم فما للعدا ... يسرون بي حين ذقت الردى
ومن فاته اليوم يأتي غدا ... سيبلى الجديد إذا ما المدى تتابع آحاده والسبوت ...
أخي توخ طريق النجاة ... وقدم لنفسك قبل الممات
وشمر بجد لما هو آت ... ولا تغترر بسراب الحياة فإنك عما قريب تموت ... وقد ذكرني قوله رحمه الله تعالى " فمن كان يفرح منهم له - إلى آخره " قول بعض العلماء الشاميين:
يا ضاحكاً بمن استقل غباره ... سيثور عن قدميك ذاك العثير
لا فارس بجنودها منعت حمى ... كسرى، ولا للروم خلد قيصر
جدد مضت عاد عليه وجرهم ... وتلاه كهلان وعقب حمير
وسطا بغسان الملوك وكندة ... فلها دماء عنده لا تثأر
لعبت بهم فكأنهم لم يخلقوا ... ونسوا بها فكأنهم لم يذكروا [فصل في الاعتبار لابن دحية]
وما أحسن قول أبي الخطاب ابن دحية الحافظ بعد كلام ما صورته (1) : وأخذت من طريق خوزستان إلى طريق حلوان، وقاسيت من الغربة أصناف الألوان، ومررت على مدائن كسرى أنوشروان، وزرت بها قبر صاحب النبي، صلى الله عليه وسلم، الزاهد العابد المعمر سلمان، وأعملت بها السير والإغذاذ، إلى مدينة بغذاذ، فنظرت إليها معالم وربوعاً، وأقمت بها مرة عاماً ومرة أسبوعاً وأسبوعا، وأنا ابدي في ندائهم وأعيد، والترب قد علا على منازلهم والصعيد، وأسأل عن الخلفاء الماضين وأنشد، ولسان الحال يجاوبني وينشد:
__________
(1) انظر كتاب النبراس: 168.(5/115)
يا سائل الدار عن أناس ... ليس لهم نحوها معاد
مرت كما مرت الليالي ... أين جديس وأين عاد بل أين البشر آدم الذي خلقه بيده الكبير المتعال أين الأنبياء من ولده والأرسال، أهل النبوة والرسالة، والوحي من الله ذو الجلالة أين سيدهم محمد الذي فضله عليهم ذو العزة والجلال، وجعله شفيعهم مع أمته والناس في شدائد الأهوال أين القرون الماضية والأجيال أين التبابعة والأقيال أين ملوك همدان أين أولو الأبلق الفرد أو غمدان أين أولو التيجان والأكاليل أين الصيد والبهاليل بل أين النمارذة وأكبرهم نمروذ إبراهيم الخليل أين الفراعنة ومن هو بالسحر عليم، الذين منهم فرعون موسى الكليم أين ملك الهدنانية (1) هدد بن بدد الكردي، الذي لم يكن غدره بمفيد له ولا مجدي وقد أخبر الحق جل جلاله عنه أنه كان يأخذ كل سفينة غصباً، وزعم المؤرخون أنه كان أيضاً يملأ القلوب رعباً، ويسوم أصحابه قتلاً وصلباً، مع الطمع في المال، وعدم النظر في عقبى المال، أين الفرس وملوكهم، وعدلها وعدولها أين دارا بن بهمان أين إسكندر بن فلبس اليوناني الذي غلبه وملك بلاده في ذلك الزمان، وأطاعه جميع ملوك الأقاليم، وقدر به الله امتحان الخلق ذلك تقدير العزيز العليم أين كسرى وقيصر غلبهما من الموت الأسد القسور، بعد أن أخرجهما من بلادهما أمير المؤمنين أبو حفص عمر، لما ظهرت الملة الحنيفية كما ظهرت (2) الشمس وبدا القمر، أين أولاد جفنة وملوك غسان أين مماديح زياد وحسان أين هرم بن سنان أين الملاعب بالسنان أين أولاد مضر بن نزار بن معد بن عدنان أين بنو عبد المدان أين أرباب العواصم أين قيس بن عاصم أين العرب العرباء الأمة الفاضلة، والجماعة المناضلة أين أولو الباس والحفاظ، وذوو الحمية والإحفاظ حيث الوفاء والعهد،
__________
(1) في ابن الأثير والتنبيه وابن حوقل: الهذبانية.
(2) ق ص: ظهر.(5/116)
والحباء والرفد، إلى علو الهمم، والوفاء بالذمم، والعطاء الجزل، والضيف والنزل، وهبة الافال والبزل، وإنها لا تدين عزاً ولا تقاد، ولا ترام أنفة ولا تفاد، أين قريش المغرورين في الجاهلية بالحي اللقاح، والشعب الرقاح أين الماضون من ملك بني أمية ذوو الألسن الذلق، والأوجه الطلق والحمية أين خلفاء بني العباس بن عبد المطلب، الذي شرفهم بالأصالة وليس إليهم بالمنجلب ذوو الشرف الشامخ، والفخر الباذخ، والخلافة السنية الرضية، والمملكة العامة المرضية، بلغتنا والله وفاتهم، ولم يبقى إلا ذكرهم وصفاتهم، قبض ملك الموت أرواحهم قبضاً، ولم يترك لهم حراكاً ولا نبضاً، ومزق الدود لحومهم قدداً، ووجدوا ما عملوا حاضرا ًولا يظلم ربك أحداً، إلا ما كان من أجساد الأنبياء عليهم أفضل التسليم، فإن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وقد تكلمت على هذا الحديث وأثبت أنه من الصحيح لا القسيم، وخرجت طرقه في كتابي " العلم المشهور " (1) بعون من العزيز الرحيم، فما أبعد المرء عن رشده وما أقصاه، كم وعظه الدهر وكم وصاه، يخلط الحقيقة بالمحال، والعاطل بالحال، ولا توبة حتى يشيب الغراب، ويألف الدم التراب، فيا لهفي لبعد الدار، وانقضاض الجدار، وأنت هامة ليل أو نهار، وقاعد من عمرك على شفا جرف هار، تقرأ العلم وتدعيه، ولا تفهمه ولا تعيه، فهو عليك لا لك، فأولى لك ثم أولى لك، أما آن لليل الغي أن تنجلي أحلاكه، ولنظم البغي أن تنتثر أسلاكه، وأن يستفظع الجاني جناه، ويأسف على ما اقترفه وجناه، وأن يلبس عهاده بتاً (2) ، ويطلق الدنيا بتاً، ويفر منها فرار الأسد، ويتيقن أنه بد من مفارقة الروح الجسد، نبهنا الله تعالى من سنات غفلاتنا، وحسن ما ساء من صنائعنا الذميمة وسلاتنا، وجعل التقوى أحصن عددنا وأوثق آلاتنا، اللهم إليك المآب، وبيدك المتاب، قد واقعنا الخطايا،
__________
(1) هو العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور.
(2) ق ص: ربتا.(5/117)
وركبنا الأجرام رواحل ومطايا، فتب عينا أجمعين، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين الطائعين، وصلى الله على سيد ولد آدم محمد شفيعنا يوم القيامة، وصاحب الحوض المورود والمقام المحمود والكرامة، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه أهل الرضوان المنتخبين، وسلام الله عليه وعليهم إلى يوم الدين؛ انتهى وهو آخر كتابه " النبراس في تاريخ بني العباس " وذكرته بطوله لمناسبته.
قلت: وقد سلكت هذا المنحى نظماً في خطبة هذا الكتاب كما مر، وللسان الدين رحمه الله تعالى كلام قريب من هذا سيأتي في نثره إن شاء الله تعالى.
وأقول: إني قد تذكرت هنا قول القائل (1) :
نطوي سبوتاً وآحاداً وننشرها ... ونحن في الطي بين السبت والأحد
فعد ما شئت من سبت ومن أحد ... لا بد أن يخل المطوي في العدد وقول الآخر:
ألم تر أن الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت
فقل لجديد العيش لا بد من بلى ... وقل لاجتماع الشمل لا بد من شت [نبذة عن أعداء لسان الدين]
واعلم أن لسان الدين لما كانت الأيام له مسالمة، لم يقدر أحد أن يواجهه بما يدنس معاليه أو يطمس معالمه، فلما قلبت الأيام له ظهر مجنها، وعاملته بمنعها بعد منحها ومنها، أكثر أعداؤه في شأنه الكلام، ونسبوه إلى الزندقة والانحلال من ربقة الإسلام، بتنقص النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، والقول بالحلول والاتحاد، والانخراط في سلك أهل الإلحاد، وسلوك مذاهب الفلاسفة في الاعتقاد، وغير ذلك مما أثاره الحقد والعداوة والانتقاد، مقالات نسبوها
__________
(1) أزهار الرياض 1: 234.(5/118)
إليه خارجة عن السنن السوي، وكلمات كدروا بها منهل علمه الروي، ولا يدين بها ويفوه إلا الضال الغوي، والظن أن مقامه رحمه الله تعالى من لبسها بري، وجنابه سامحه الله تعالى عن لبسها عري، وكان الذي تولى كبر محنته وقتله، تلميذه أبو عبد الله ابن زمرك الذي لم يزل مضمراً لختله، فلقد وقفت على خط ابن لسان الدين على أنه تسبب في قتل لسان الدين أبيه، وسيأتي الإلماع والإلمام (1) بابن زمرك المذكور في تلامذة لسان الدين، مع أنه - أعني لسان الدين - حلاه في الإحاطة أحسن الحلى، وصدقه فيما انتحله من أوصاف العلا، وقد سبق في كلام ولي الدين ابن خلدون أنه قدم على السلطان أبي العباس أحمد المريني في شأن الوزير ابن الخطيب، وأخرج إلى مجلس الخاصة، وامتحن والمجالس بالأعيان غاصة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن أعداءه الذين باينوه بعد أن كانوا يسعون في مرضاته سعي العبيد، القاضي أبو الحسن ابن الحسن (2) النباهي، فكم قبل يده، ثم جاهره بعد انتقال الحال، وجد في أمره مع ابن زمرك حتى قتل لسان الدين، وانقضت دولته فسبحان من لا يتحول ملكه ولا يبيد.
وقد سبق فيما جلبناه من كلام ابن خلدون أم القاضي ابن الحسن قدم على السلطان عبد العزيز في شأن لسان الدين والانتقام منه بسبب تلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه بمقتضاها، فأبى السلطان من ذلك، وقال: هلا فعلتم أنتم ذلك حين كان عندكم وامتنع لذمته أن يخفره، فلما أراد الله بنفوذ الأمر، وعدم نفع زيد وعمرو، توفي السلطان عبد العزيز، واختلت الأحوال، واضطربت بالغرب نيران الأهوال، فقدم في شأنه الوزير الكاتب ابن زمرك خادمه الذي رباه وصنيعته، فكان ما كان مما سبق به الإلمام (3) .
__________
(1) ق ص: إلا مع الإلمام، وهو يحرف.
(2) ق ص: الحسين، وهو خطأ.
(3) ق ص: بالإلمام.(5/119)
وقد ذكرنا في الباب الأول قول لسان الدين رحمه الله تعالى في قصيدته النونية:
تلون إخواني علي وقد جنت ... علي خطوب جمة ذات ألوان
وما كنت أدري قبل أن يتنكروا ... بأن خواني كان مجمع خواني
وكانت وقد حم القضاء صنائعي ... علي بما لا أرتضي شر أعوان ولقد صدق رحمه الله تعالى، على أنه قال هذه القصيدة في النكبة الأولى التي انتقل فيها مع سلطانه إلى المغرب، كما مر مفصلاً، وكأنه عبر عن هذه المحنة الأخيرة التي ذهبت فيها نفسه على يد صنائعه الكاتب ابن زمرك والقاضي ابن الحسن، سامح الله الجميع.
ويرحم الله أبا إسحاق التلمساني صاحب الرجز في الفرائض حيث يقول:
الغدر في الناس شيمة سلفت ... قد طال بين الورى تصرفها
ما كل من قد سرت له نعم ... منك يرى قدرها ويعرفها
بل ربما أعقب الجزاء بها ... مضرة عز عنك مصرفها
أما ترى الشمس كيف تعطف بالنو ... ر على البدر وهو يكسفها وقال لسان الدين، بعد ذكره أن ملك النصارى دون جانجه بن دون الفنش استنصر على أبيه بالسلطان المجاهد أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني ولاذ به، ورهن عنده تاجه ذخيرة النصارى، ولقيه بصخرة عباد من أحواز رندة، فسلم عليه ويقال: إن أمير المسلمين لما فرغ من ذلك طلب بلسان زناتة الماء ليغسل يده به من قبلة الفنش أو مصافحته، ما نصه (1) : والشيء بالشيء يذكر، فأثبت حكاية اتفقت لي بسبب ذلك، أستدعي بها الدعاء ممن يحسن عنده موقعها، وهي أن اليهودي الحكيم ابن زرزار على عهد ملك النصارى حفيد هذا الفنش
__________
(1) ورد هذا النص في أعمال الأعلام: 333.(5/120)
المذكور وصل إلينا بغرناطة في بعض حوائجه، ودخل إلي بدار سكناي مجاور القصر السلطاني بحمراء غرناطة، وعندي القاضي اليوم بغرناطة وغيره من أهل الدولة، وبيده كتاب من سلطان المغرب محمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان الكبير المولى أبي الحسن، وكان محمد هذا قد فر إلى صاحب قشتالة، واستدعي من قبله إلى الملك، فسهل له ذلك، واشترط عليه ما شاء، وربما وصله خطابه بما لم يقنعه في إطراءه، فقال لي: مولاي السلطان دن بطره يسلم عليك، ويقول لك: انظر مخاطبة هذا الشخص، وكان بالأمس كلباً من كلاب بابه، حتى ترى خسارة الكرامة فيه، فأخذت الكتاب من يده وقرأته، وقلت له: أبلغه عني أن هذا الكلام ما جرك إليه إلا خلو بابك من الشيوخ الذين يعرفونك بالكلاب وبالأسود، وبمن تغسل الأيدي منهم إذا قبلوها، فتعلم من الكلب الذي تغسل اليد منه ومن لا، وإن جد هذا الولد هو الذي قبل جدك يده واستدعى الماء لغسل يده منه بمحضر النصارى والمسلمين، ونسبة الجد إلى الجد كنسبة الحفيد إلى الحفيد، وكونه لجأ إلى بلادك ليس بعار عليه، وأنت معرض إلى اللجإ إليه فيكافئك بأضعاف ما عاملته به.
فقام أبو الحسن المستقضي يبكي ويقبل يدي، ويصفني بولي الله، وكذلك من حضرني، وتوجه إلى المغرب رسولاً، فقص على بني مرين خبر ما شاهده مني وسمعه، وبالحضرة اليوم ممن تلقى منه ذلك كثير، جعل الله تعالى ذلك خالصاً لوجهه؛ انتهى.
وقد أثنى لسان الدين في الإحاطة على القاضي ابن الحسن المذكور كما سيأتي، وقال في ترجمة السلطان ابن الأحمر ما نصه: ثم قدم للقضاء الفقيه الحسيب أبا الحسن، وهو عين الأعيان بمالقة، المخصوص برسم التجلة والقيام بالعقد والحل، فسدد وقارب، وحمل الكل، وأحسن مصاحبة الخطبة والخطة، وأكرم المشيخة مع النزاهة، ولم يقف في حسن التأتي على غاية، فاتفق على رجاحته، ولم يقف في النصح عند غاية، انتهى. وحين أظلم الجو بينه وبين لسان الدين ذكره في " الكتيبة الكامنة " بما يباين ما سبق، ولقبه بالجعسوس(5/121)
ولم يقنعه ذلك حتى ألف فيه " خلع الرسن في وصف القاضي أبو الحسن ".
[كتاب من النباهي إلى لسان الدين]
وقد وقفت بفاس المحروسة على كتاب مطول كتبه للسان الدين بعد تحوله عن الأندلس، ونص ما تعلق به الغرض هنا (1) :
فشرعتم في الشراء، وتشييد البناء، وتركتم الاستعداد لهاذم اللذات، هيهات هيهات تبنون ما لا تسكنون، وتدخرون ما لا تأكلون، وتؤملون ما لا تدركون {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} (النساء: 78) فأين المهرب مما هو كائن، ونحن إنما نتقلب في قدرة الطالب، شرقتم أو غربتم، الأيام تتقاضى الدين، وتنادي بالنفس الفرارة إلى أين إلى أين، ونترك الكلام مع الناقد في ما ارتكبه من تزكية نفسه، وعد ما جلبه من مناقبه، ما عدا ما هدد به من حديد لسانه، خشية اندراجه في نمط من قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه " ولا غيبة في من ألقى جلباب الحياء عن وجهه، ونرحمه (2) على ما أبداه أو أهداه من العيوب التي نسبها لأخيه، واستراح على قوله بها فيه، ونذكره على طريقة نصيحة الدين بالحديث الثابت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: " أتدرون من المفلس قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ".ويعلم الله أن معنى هذا الحديث الثابت
__________
(1) راجع هذا الكتاب في أزهار الرياض 1: 212.
(2) ق ص: وزحمه.(5/122)
عن النذير الصادق، هو الذي حملني على نصحكم، ومراجعتكم في كثير من الأمور: منها الإشارة عليكم بإذهاب عين ما كتبتم به في التاريخ وأمثاله، فإنكم نفعتم فيما وقعتم فيه من الغيبة المحرمة أحياء وأموات بغير شيء حصل بيدكم وضررتم نفسكم بما رتبتم لهم من المطالبات بنص الكتاب والسنة قبلكم، والرضى بهذه الصفقة الخاسرة أمر بعيد من الدين والعقل. وقد قلت لكم غير مرة عن أطراسكم المسودة بما دعوتم إليه من البدعة والتلاعب بالشريعة إن حقها التخريق والتحريق، وإن من أطراها لكم فقد خدع نفسه وخدعكم، والله الشهيد بأني نصحتكم وما غششتكم، وليس هذا القول وإن كان ثقيلاً عليكم بمخالف كل المخالفة لما ذنبتم به من تقدم المواجهة بالملاطفة والمعاملة بالمكارمة، فليست المداراة بقادحة في الدين، بل هي محمودة في بعض الأحوال، مستحسنة على ما بينه العلماء، إذا هي مقاربة في الكلام أو مجاملة بأسباب الدنيا لصلاحها أو صلاح الدين، وإنما المذموم المداهنة، وهي بذل الدين لمجرد الدنيا، والمصانعة به لتحصيلها، ومن خالط للضرورة مثلكم، وزايله بأخلاقه ونصحه مخاطبة ومكاتبة، واستدل له بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على صحة مقالته، فقد سلم والحمد لله من مداهنته، وقام لله تعالى بما يجب عليه في حقكم من التحذير والإنكار مع الإشفاق والوجل.
وأكثرتم في كتابكم من المن بما ذكرتم أنكم صنعتم، وعلى تقدير الموافقة لكم ليتكم ما فعلتم، فسلمنا من المعرة وسلمتم، وجل القائل سبحانه {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى، والله غني حليم} (البقرة: 263) وقلما شاركتم أنتم في شيء إلا بأغراض حاصلة في يدكم، ولأغراض دنيوية خاصة بكم، فالملام إذاً في الحقيقة إنما هو متوجه إليكم، والتعلل بأخبار قطركم وأهلكم، فتناقض منكم وإن كنتم فيه بغدركم:(5/123)
أتبكي على ليلى وأنت تركتها ... فكنت كآت غيه وهو طائع
وما كل ما منتك نفسك مخلياً ... تلاقي، ولا كل له أنت تابع
فلا تبكين في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته من يديك النوازع وعلى أن تأسفكم لما وقعتم فيه من الغدر لسلطانكم، والخروج لا للضرورة غالبة على أوطانكم، من الواجب بكل اعتبار عليكم، سيما وقد مددتم إلى التمتع بغيرها عينيكم، ولو لم يكن بهذه الجزيرة الفريدة من الفضيلة إلا ما خصت به من بركة الرباط ورحمة الجهاد لكفاها فخراً على ما يجاورها من سائر البلاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم في ما سواه " وقال عليه الصلاة والسلام " الروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها " وعلى كل تقدير فإذا لم يكن يا أخي فراركم من الأندلس إلى الله وحد بالتوبة المكملة، والاستغفار من الانقطاع في أحد المواطن المكرمة المعظمة بالإجماع، وهي طيبة أو مكة أو بيت المقدس، فقد خسرتم صفقة رحلتكم، وتبين أن لغير وجه الله العظيم كانت نية هجرتكم، اللهم إلا إن كنتم قد لاحظتم مسألة الرجل الذي قتل مائة نفس، وسأل أعلم أهل الأرض فأشار إليه بعد إزماع التوبة بمفارقة المواطن التي ارتكب فيها الذنوب، واكتسب بها العيوب، فأمر آخر، مع أن كلام العلماء في هذا الحديث معروف. ويقال لكم من الجواب الخاص بكم: فعليكم إذاً بترك القيل والقال، وكسر حربة الجدال والقتال، وقصر ما بقي من مدة العمر على الاشتغال بصالح الأعمال.
ووقعت في مكتوبكم كلمات أوردها النقد في قالب الاستهزاء والازدراء، والجهالة بمقادير الأشياء، ومنها " ريح صرصر " وهو لغة القرآن، و " قاع قرقر " وهو لفظ سيد العرب والعجم محمد صلى الله عليه وسلم، ثبت في الصحيح في باب التغلظ فيمن لا يؤدي زكاة ماله. قيل: يا رسول الله، والبقر والغنم قال، ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان(5/124)
يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً، تنطحه بقرونها، وتطأه بأظلافها، الحديث الشهير. قال صاحب المعلم: بطح لها بقاع قرقر: أي ألقي على وجهه، والقاع: المستوي من الأرض، والقرقر: كذلك، هذا ما حضر من الجواب، وبقي في مكتوبكم حشو كثير من كلام إقذاع وفحش بعيد من الحشمة والحياء ورأيت من الصواب الإعراض عن ذكره، وصون اليد عن الاستعمال فيه، والظاهر أنه إنما صدر منكم وأنتم بحال مرض، فلا حرج فيه عليكم، أنسأ الله تعالى أجلكم، ومكن أمنكم، وسكن وجلكم، ومنه جل اسمه نسأل لي ولكم حسن الخاتمة، والفوز بالسعادة الدائمة، والسلام الأتم يعتمدكم، والرحمات والبركات من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن وفقه الله، وذلك بتاريخ أخريات جمادى الأولى من عام ثلاثة وسبعين وسبعمائة.
وقيد رحمه الله تعالى في مدرج طي هذا الكتاب ما نصه: يا أخي - أصلحني الله وإياكم - بقي من الحديث شيء الصواب الخروج عنه لكم، إذ هذا أوانه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيه ما فيه، وليكون البناء بعد أن كان على أصل صحيح بحول الله، وحاصله أنكم عددتم ما شاركتكم فيه بحسب الأوقات، وقطعتم بنسبة الأمور كلها إلى أنفسكم، وأنها إنما صدرت عن أمركم وبإذنكم، من غير مشارك في شيء منها لكم، ثم مننتم بها المن القبيح المبطل لعمل برككم على تقدير التسليم في فعله لكم، ورميتم غيركم بالتقصير في حاله كله، طريقة من يبصر القذى في عين أخيه ويدع الجذع في عينه، وأقصى ما تسنى للمحب أيام كونكم بالأندلس تقلد كل فتى قضاء الجماعة، وما كان إلا أن وليتها بقضاء الله وقدره، فقد تبين لكل ذي عقل سليم أنه لا موجد إلا الله، وأنه إذا كان كذلك كان الخير والشر والطاعة والمعصية حاصلاً بإيجاده سبحانه وتعالى وتخليقه وتكوينه من غير عاضد له على تحصيل مراده ولا معين، ولكنه جلت قدرته وعد فاعل الخير بالثواب فضلاً منه، وأوعد فاعل الشر بالعقاب عدلاً منه، وكأني بكم تضحكون من تقرير هذه المقدمة، وما أحوجكم إلى(5/125)
تأملها بعين اليقين، فكابدت أيام تلك الولاية النكدة من النكاية باستحقاركم للقضايا الشرعية، وتهاونكم بالأمور الدينية، ما يعظكم الله به الأجر، وذلك في جملة مسائل: منها مسألة ابن الزبير المقتول على الزندقة بعد تقضي موجباته على كره منكم، ومنها مسألة ابن أبي العيش المثقف في السجن على آراءه المضلة التي كان منها دخوله على زوجته إثر تطليقه إياها بالثلاث، وزعمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره مشافهة بالاستمتاع بها، فحملت أحد ناسكم تناول إخراجه من الثقاف من غير مبالاة بأحد، ومنها أن أحد الفتيان المتعلقين بكم توجهت عليه المطالبة بدم قتيل، وسيق المدعى عليه بالذبح بغير سكين، فما وسعني بمقتضى الدين إلا حبسه على ما أحمته السنة، فأنفتم لذلك، وسجنتم الطالب ولي الدم، ولا يجمل بي ولا بكم ذكره، والمسألة الأخرى أنتم توليتم كبرها حتى جرى فيها القدر بما جرى به من الانفصال، والحمد لله على كل حال، وأما الرمي بكذا وكذا مما لا علم لنا بسببه، ولا عذر لكم من الحق في التكلم به، فشيء قلما يقع مثله من البهيان ممن كان يرجو لقاء ربه، وكلامكم في المدح والهجو، هو عندي من قبيل اللغو، الذي نمر به كراماُ والحمد لله، فكثروا أو قللوا من أي نوع شئتم، أنتم وما ترضونه لنفسكم، وما فهت لكم بما فهت من الكلام، إلا على جهة الإعلام، لا على جهة الانفعال، لما صدر أو يصدر عنكم من الأقوال والأفعال، فمذهبي غير مذهبكم، وعندي غير ما ليس عندكم.
وكذلك رأيتكم تكثرون في مخاطباتكم من لفظ الرقية في معرض الإنكار لوجود نفعها، والرمي بالمنقصة والحمق لمستعملها، ولو كنتم فد نظرتم في شيء من كتب السنة أو سير الأمة المسلمة نظر مصدق لما وسعكم إنكار ما أنكرتم، وكتبه بخط يدكم، فهو قادح كبير في عقيدة دينكم، فقد ثبت بالإجماع في سورة الفلق أنها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه المراد بها هو وآحاد(5/126)
أمته، وفي أمهات الإسلام الخمس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى رقاه جبريل، فقال: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذي عين. وفي الصحيح أيضاً أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فلم يضيفوهم، فقالوا: هل فيكم راق فإن سيد الحي لديغ، أو مصاب، فقال رجل من القوم: نعم، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب، فبرئ الرجل، فأعطى قطيعاً من غنم - الحديث الشهير -. قال أهل العلم: فيه دليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية والطب وتعليم القرآن، وهو قول مالك وأحمد والشافعي وأبي ثور وجماعة من السلف، وفيه جواز المقارضة، وإن كان ضد ذلك أحسن، وفي هذا القدر كفاية. وما رقيت قط أحداُ على الوجه الذي ذكرتم، ولا استرقيت والحمد لله، وما حملني على تبيين ما بينته الآن لكم في المسألة إلا إرادة الخير التام لجهتكم، والطمع في إصلاح باطنكم وظاهركم، فإني أخاف عليكم من الإفصاح بالطعن في الشريعة، ورمي علمائها بالمنقصة إلى عادتكم وعادة المستخف ابن هذيل شيخكم منكر علم الجزئيات، القائل بعدم قدرة الرب جل اسمه على جميع الممكنات. وأنتم قد انتقلتم إلى جوار أناس أعلام قلما تجوز عليهم - حفظهم الله - المغالطات، فتأسركم شهادة العدول التي لا مدفع لكم فيها، وتقع الفضيحة، والدين النصيحة، أعاذنا الله من درك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجهد البلاء.
وكذلك أحذركم من الوقوع بما لا ينبغي في الجناب الرفيع، جناب سيد المرسلين، وقائد الغر المحجلين، صلوات الله وسلمه عليه، فإنه نقل عنكم في هذا الباب أشياء منكرة، يكبر في النفوس التكلم بها، أنتم تعلمونها، وهي التي زرعت في القلوب ما زرعت من بغضكم وإيثار بعدكم، مع استشعار الشفقة والوجل من وجه أخر عليكم، ولولا أنكم سافرتم قبل تقلص ظل السلطنة عنكم لكانت الأمة المسلمة امتعاضاً لدينها ودنياها، قد برزت بهذه الجهات(5/127)
لطلب الحق منكم، فليس يعلم أنه صدر عن مثلكم من خدام الدول ما صدر عنكم من العيث في الأبشار والأموال، وهتك الأعراض، وإفشاء الأسرار، وكشف الأستار، واستعمال المكر، والحيل والغدر، في غالب الأحوال للشريف والمشروف، والخديم والمخدوم، ولو لم يكن في الوجود من الدلائل على صحة ما رضيتم به لنفسكم من الاتسام بسوء العهد والتجاوز المحض وكفران النعم والركون إلى ما تحصل من الحطام الزائل إلا عملكم مع سلطانكم مولاكم وابن مولاكم أيده الله بنصره وما ثبت من مقالاتكم السيئة فيه وفي الكثير من أهل قطره لطفاكم وصمة لا يغسل دنسها البحر، ولا ينسى عارها الدهر، فإنكم تركتموه أولاً بالمغرب عند تلون الزمان، وذهبتم للكدية والأخذ بمقتضى المقامة الساسانية إلى أن استدعاه الملك، وتخلصت له بعد الجهد الأندلس، فسقطتم عليه سقوط الذباب على الحلواء، وضربتم وجوه رجاله بعضاً ببعض، حتى خلا لكم الجو، وتمكن الأمر والنهي، فهمزتم ولمزتم، وجمعتم من المال ما جمعتم، ثم وريتم بتفقد ثغر الجزيرة الخضراء، مكراً منكم، فلما بلغتم أرض الجبل انحرفتم عن الجادة، وهربتم بأثقالكم الهروب الذي أنكره عليكم كل من بلغه حديثكم أو يبلغه إلى آخر الدهر في العدوتين من مؤمن وكافر وبر وفاجر، فكيف يستقيم لكم بعد المعرفة بتصرفاتكم حازم، أويثق بكم في قول أو فعل صالح أو طالح ولو كان قد بقي لكم من العقل ما تتفكرون به في الكيفية التي ختمتم بها عملكم في الأندلس من الزيادة في المغرم وغير ذلك مما لكم وزره ووزر من عمل به بعدكم إلى يوم القيامة حسب ما ثبت في الصحيح لحملكم على مواصلة الحزن، وملازمة الأسف والندم على ما أوقعتم فيه نفسكم الأمارة من التورط والتنشب في أشطان الآمال ودسائس الشيطان، ونعوذ بالله من شرور الأنفس وسيئات الأعمال.
وأما قولكم عن فلان إنه كان حشرة في قلوب اللوز وإن فلانا كان برغوثاً في تراب الخمول فكلام سفساف، يقال لكم من الجواب عليه: وأنتم يا هذا أين كنتم منذ خمسين سنة مثلاً خلق الله الخلق لا استظهاراً بهم(5/128)
ولا استكثاراً، وأنشأهم كما قدر أحوالاً وأطوارا، واستخلفهم في الأرض بعد أمة أمماً وبعد عصر أعصاراً، وكلفهم شرائعه وأحكامه ولم يتركهم هملاً، وأمرهم ونهاهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وبكل اعتبار فلا نعلم في نمط الطلبة تدريجاً كان أسمج من تدريجكم، ونبدأ من كذا فإنه كان كذا وأكثر أهل زمانه تحملاً وتقللاً بالنسبة إلى منصبه كان الشيخ أبو الحسن ابن الجياب، ولكنه حين علم رحمه الله تعالى من نشأتكم وحالتكم ما علم نبذ مصاهرتكم وصرف عليكم صداقكم، وكذلك فعلت بنت جزي زوج الرهيصي معكم، حسبما هو مشهور في بلدكم، وذكرتم أنكم ما زلتم من أهل الغنى حيث نقرتم بذكر العرض - وهو بفتح العين والراء، حطام الدنيا على ما حكى أبو عبيد، وقال أبو زيد: هو، بسكون الراء، المال الذي لا ذهب فيه ولا فضة - وأي مال خالص يعلم لكم أو لأبيكم بعد الخروج من الثقاف على ما كان قد تبقى عنده من مجبى قرية مترايل (1) ثم من العدد الذي برز قبلكم أيام كانت أشغال الطعام بيدكم على ما شهد به الجمهور من أصحابكم، وأما الفلاحة التي أشرتم إليها فلا حق لكم فيها إذ هي في الحقيقة لبيت مال المسلمين، مع ما بيدكم على ما تقرر في الفقهيات، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، ولو قبل من أهل المعرفة بكم بعض ما لديهم من سقطاتكم في القال والقيل، ولم يصرف إلى دفع معرتها عنكم وجه التأويل، لكانت مسألتكم ثانية لمسألة أبو الخير، بل أبي الشر، الحادثة أيام خلافة الحكم، المسطورة في نوازل أبي الإصبع ابن سهل، فاعلموا ذلك، ولا تهملوا إشارتي عليكم قديماً وحديثاً بلزوم الصلوات، وحضور الجماعات، وفعل الخيرات، والعمل على التخلص من التبعات {إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (لقمان: 33) .
__________
(1) ق ص: منزايل.(5/129)
" وقلم في كتابكم: " أين الخطط المتوارثة عن الآباء والأجداد وقد أذهب الله عنا ببركة الملة المحمدية عيبة الجاهلية في التفاخر بالأباء، ولكني أقول لكم على جهة المقابلة لكلامكم: إن كانت الإشارة إلى المجيب بهذا فمن المعلوم المتحقق عند أفاضل الناس أنه من حيث الأصالة أحد أماثل قطره، قال القاضي أبو عبد الله ابن عسكر (1) وقد ذكر في كتابه من سلفي فلان بن فلان، ما نصه: وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة لم يزالوا يرثون ذلك كابراً عن كابر، استقضى جده المنصور ابن أبي عامر، وقال غيره وغيره، وبيدي من عهود الخلفاء وصكوك الأمراء المكتتبة بخطوط أيديهم من لدن فتح جزيرة الأندلس وإلى هذا العهد القريب ما تقوم به الحجة القاطعة للسان الحاسد والجاحد، والمنة لله وحده. وإن كانت الإشارة للغير من الأصحاب في الوقت حفظهم الله فكل واحد منهم إذا نظر إليه بعين الحق وجد أقرب منكم نسباً للخطط المعتبرة، وأولى بميراثها بالفرض والتعصيب أو مساوياً على فرض المسامحة لكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، حرام دمه وماله وعرضه ".
ونرجع إلى طريقة أخرى فنقول: من كان يا فلان من قومكم في عمود نسبكم نبيهاً مشهوراً، أو كاتباً قبلكم معروفاً، أو شاعراً مطبوعاً، أو رجلاً نبيها ُ مذكوراً ولو كان يا لوشي وكان، لكان من الواجب الرجوع إلى التناصف والتواصل والتواضع، وترك التحاسد والتباغض والتقاطع: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ". وكذلك العجب كل العجب، من تسميتكم الخربات التي شرعتم في بنائها بدار السلامة، وهيهات هيهات، المعروف من الدنيا أنها دار بلاء وجلاء وعناء وفناء، ولو لم يكن من الموعظة الواقعة بتلك الدار في الوقت إلا موت سعيدكم عند دخولها، لأغناكم عن العلم اليقين بمآلها.
وأظهرتم سروراً كثيراً بما قلتم إنكم نلتم، حيث أنتم، من الشهوات التي
__________
(1) هو محمد بن علي بن هارون الغساني (- 636) ، والإشارة إلى كتاب له عن تاريخ مالقة.(5/130)
ذكرتم أن منها الإكثار من الأكل والخرق والقعود بإزاء جارية الماء على نطع الجلد، والإمساك أولى بالجواب على هذا الفصل، فلا خفاء بما فيه من الخسة والخبائث والخبث، وبالجملة فسرور العاقل إنما ينبغي أن يكون بما يجمل تقدمه من زاد التقوى بالدار الباقية، فما العيش - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا عيش الآخرة، فقدموا إن قبلتم وصاة الحديد أو البغيض بعضاً عسى أن يكون لكم، ولا تخلفوا كلاُ يكون عليكم، هذا الذي قلته لكم، وإن كان لدى من يقف عليه من نمطه الكثير، فهو باعتبار المكان وما مر من الزمان في حيز اليسير، وهو في نفسه قول حق وصدق، ومستند أكثره كتاب الله وسنة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر أنبيائه. فاحمدوا الله العلي العظيم على تذكيركم به إذ هو جار مجرى النصيحة الصريحة، يسرني الله وإياكم لليسرى، وجعلنا ممن ذكر فانتفع بالذكرى، والسلام. انتهى كلام القاضي ابن الحسن النباهي في كتابه الذي خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى.
[ظهير من إنشاء لسان الدين بتولية النباهي خطة القضاء]
وأين هذا الكلام الذي صدر من ابن الحسن في حقه من إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى في تولي ابن الحسن المذكور القضاء، وهو:
هذا ظهير كريم أنتج مطلوب الاختيار قياسه، ودل على ما يرضي الله عز وجل التماسه، وأطلع نور العناية الذي يجلو الظلام نبراسه، واعتمد بمثابة العدل من عرف بافتراع هضبتها ناسه، وألقى بيد المعتمد به زمام الاعتقاد الجميل تروق أنوعه وأجناسه، وشيد مبنى العز الرفيع، في قبة الحسب المنيع، وكيف لا والله بانيه، والمجد أساسه، أمر به وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر - أيد الله أوامره، وخلد مفاخره - لقاضي حضرته العلية، وخطيب حمرائه السنية، المخصوص لديه بترفيع المزية(5/131)
المصروف إليه خطاب القضاة بإيالته النصرية، قاضي الجماع، ومصرف الأحكام الشرعية المطاعة، الشيخ الكذا أبي الحسن ابن الشيخ كذا أبي محمد ابن الحسن - وصل الله سعادته، وحرس مجادته، وسنى بفضله إرادته - عصب منه جبين المجد بتاج الولاية، وأجال قداح الاختيار حتى بلغ الغاية وتجاوز النهاية، ما ألقى منه بيمين عرابة الراية، وأحله منه محل الفظ من المعنى والإعجاز من الآية، وحشر إلى مدعاة ترفيعه وجوه البر وأعيان العناية، وأنطق بتبجيله، ألسن أهل جيله، بين الإفصاح والكناية، ولما كان له الحسب الأصيل الذي شهدت به ورقات الدواوين، والأصالة التي قامت عليها صحاح البراهين، والآباء الذين اعتد بمضاء قضائهم الدين وطبق مفاصل الحكم بسيوفهم الحق المبين، وازدان بمجالسة وزرائهم السلاطين، فمن فارس حكم أو حكيم تدبير، وقاض في الأمور الشرعية ووزير، أو جامع بينهما جمع سلامة لا جمع تكسير، تعدد ذلك واطرد، ووجد مشرع المجد عذباً فورد، وقصرت النظراء عن مداه فانفرد، وفرى الفري في يد الشرع فأشبه السيف البرد، وجاء في أعقابهم محيياً لما درس، بما حقق ودرس، جانياً لما بذر السلف المبارك واغترس، طاهر النشأة وقورها، محمود السجية مشكورها، متحلياً بالسكينة، حالاً من لدن الكون، فخطبته الخطط العلية، واغتبطت به المجابة الأولية، واستعملته دولته التي ترتاد أهل الفضائل للرتب، واستظهرت على المناصب بأبناء التقى والحسب، والفضل والمجد والأدب، ممن يجمع بين الطارف والتالد والإرث والمكتسب، فكان معدوداً من عدول قضاتها، وصدور نبهائها، وأعيان وزرائها، وأولي آرائها، فلما زان الله تعالى خلافته بالتمحيص المتحلى من التخصيص، وخلص ملكه الأصيل كالذهب الإبريز بعد التخليص، كان ممن(5/132)
صحب ركابه الطالب للحق بسيف الحق، وسلك في مظاهرته أوضح الطرق، وجادل من حاده بأمضى من الحداد الذلق، واشتهر خبر وفائه في الغرب والشرق، وصلى به صلاة السفر والحضر، والأمن والحذر، وخطب به في الأماكن التي بعد بذكر الله عهدها، وخاطب عنه - أيده الله تعالى - المخاطبات التي حمد قصدها، حتى استقل ملكه فوق سريره، وابتهج منه الإسلام بأميره وابن أميره، ونزل الستر على العباد والبلاد ببركة إيالته ويمن تدبيره، وكان الجليس المقرب المحل، والحظي المشاور في العقد والحل، والرسول المؤتمن على الأسرار، والأمين على الوظائف الكبار، مزين المجلس السلطاني بالوقار، ومتحف الملك بغريب الأخبار، وخطيب منبره العالي في الجمعات، وقارئ الحديث لديه في المجتمعات.
" ثم رأى آيه الله تعالى أن يشرك رعيته في نفعه، ويصرف عوامل الحظوة على مزيد رفعه، ويجلسه مجلس الشارع صلوات الله عليه لإيضاح شرعه، وأصله الوثيق وشرعه، وقدمه أعلى الله تعالى قدمه، وشكر آلاءه ونعمه، قاضياً في الأمور الشرعية، وفاصلاً في القضايا الدينية، بحضرة غرناطة العلية، تقديم الاختيار والانتقاء، وأبقى له فخر السلف على الخلف والله سبحانه يمتعه بطول البقاء، فليتول ذلك عادلاً في الحكم، مهتدياً بنور العلم، مسوياً بين الخصوم حتى في لحظه والتفاته، متصفاً من الحلم بأفضل صفاته، مهيباً في الدين، رؤوفاً بالمؤمنين، جزلاً في الأحكام، مجتهداً في الفصل بأمضى حسام، مراقباً لله عز وجل، في النقد والإبرام.
وأوصاه بالمشورة التي تقدح زناد التوفيق، والتثبت حتى ينتج قياس التحقيق، باراً بمشيخة أهل التوثيق، عادلاُ إلى سعة الأقوال عند المضيق، سائراً من مشورة المذهب على أهدى طريق، وصية أصدرها له مصدر الذكرى التي تنفع، ويعلي الله بها الدرجات ويرفع، وإلا فهو عن الوصاة غني، وقصده قصد سني، والله عز وجل ولي إعانته، والحارس من التبعات أكناف ديانته(5/133)
والكفيل بحفظه من الشبهات وصيانته.
وأمر آيه الله تعالى أن ينظر في الأحباس على اختلافها، والأوقاف على شتى أصنافها، واليتامى التي انسدلت كفالة القضاة على إضعافها، فيذود عنها طوارق الخلل، ويجري أمورها بما يتكفل لها بالأمل، وليعلم أن الله عز وجل يراه، وأن فلتات الحكم تعاوده المراجعة في أخراه، فيدرع جنة تقواه، وسبحان من يقول " إن الهدى هدى الله ".
" فعلى من يقف عليه أن يعرف أمر هذا الإجلال، صائنا منصبه من الإخلال، مبادراً أمره الواجب بالامتثال، بحول الله. وكتب في الثالث من شهر الله المحرم، فاتح عام أربعة وستين وسبعمائة، عرف الله سبحانه فيه هذا المقام العلي عوارف النصر المبين والفتح القريب بمنه وكرمه فهو المستعان لا رب غيره "، انتهى.
[ظهير من إنشاءه بتولية ابن زمرك كتابة السر]
ونظير هذا ما أنشأه لسان الدين على لسان سلطانه للكاتب أبي عبد الله ابن زمرك حين تولى كتابة السر، ونصه:
هذا ظهير كريم نصب المعتمد به للأمانة الكبرى ببابه فرفعه، وأفرد له متلو العز وجمعه، وأوتره وشفعه، وقربه في بساط الملك تقريباً فتح له باب السعادة وشرعه، وأعطاه لواء القلم الأعلى فوجب على من دون رتبته من أولي صنعته أن يتبعه، ورعى له وسيلة السابقة عند استخلاص الملك لما ابتزه الله من يد الغاصب وانتزعه، وحسبك من زمام (1) لا يحتاج إلى شيء معه، أمر به أمير المسلمين محمد نب كذا الكذا فلان، وصل الله سعادته، وحرس مجادته، أطلع الله تعالى له وجهة العناية أبهى من الصبح الوسيم، وأقطعه جناب الإنعام الجسيم، وأنشقه آراج الحظوة عاطرة النسيم، ونقله من كرسي التدريس والتعليم، إلى
__________
(1) ق ص: ذمام.(5/134)
مرقى التنويه والتكريم، والرتبة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وجعل أقلامه جياداً لإجالة أمره العلي، وخطابه السني، في ميدان الأقاليم، ووضع في يده أمانة القلم الأعلى، جارياً من الطريقة المثلى، على المنهج القويم، واختصه بمزية الشفوف على كتاب بابه والتقديم، لما كان ناهض الفكر في طلبة حضرته زمن البداية، ولم تزل تظهر عليه بأولي التمييز مخايل هذه العناية، فإن حضر في حلق العلم جلى في حلبة الحفاظ إلى الغاية، وإن نظم أو نثر أتى بالقصائد المصقولة، والمخاطبات المنقولة، فاشتهر في بلده وغير بلده، وصارت أزمة العناية طوع يده، بما أوجب له المزية في يوم وغده.
وحين رد الله عليه ملكه الذي جبر به جناح الإسلام، وزين وجوه الليالي والأيام، وأدال الضياء من الظلام، كان ممن وسمه الوفاء وشهره، وعجب الملك عود خلوصه وخبره، فحمد أثره، وشكر ظاهره ومضمره، واستصحب على ركابه الذي صحب اليمن سفره، وأخلصت الحقيقة نفره، وكفل الله ورده وصدره، ميمون النقيبة، حسن الضريبة، صادقاً في الأحوال المريبة، ناطقاً عن مقامه بالمخاطبات العجيبة، واصلاً إلى المعاني البعيدة العبارة القريبة، مبرزاً في الخدم الغريبة، حتى استقام العماد، ونطق بصدق الطاعة الحي والجماد، ودخلت في دين الله أفواج العباد والبلاد، لله الحمد على نعمه الثرة العهاد، وآلائه المتوالية الترداد، رعى له أيد الله هذه الوسائل وهو أحق من يرعاها، وشكر له الخدم المشكور مسعاها، فنص (1) عليه الرتبة الشماء التي خطبها بوفائه، وألبسه أثواب اعتناءه، وفسح له مجال آلائه، وقدمه، أعلى الله قدمه، كاتب السر، وأمين النهي والأمر، تقديم الاختيار بعد الاختبار، والاغتباط بخدمته الحسنة الآثار، وتيمن باستخدامه قبل الحلول بدار الملك والاستقرار، وغير ذلك من موجبات الإكبار.
__________
(1) ق ص: فقص.(5/135)
فليتول ذلك عارفاً بمقداره، متقفياً لآثاره، مستعيناً بالكتم لأسراره، والاضطلاع بما يحمد من أمانته وعفافه ووقاره، معطياً هذا الرسم حقه من الرياسة، عارفاً بأنه أكبر أركان السياسة، حتى يتأكد الاغتباط بتقريبه وإدانته، وتتوفر أسباب الزيادة في إعلائه، وهو إن شاء الله غني عن الوصاة فهماً ثاقباً يقتدى بضيائه، وهو يعمل في ذلك أقصى العمل، المتكفل ببلوغ الأمل. وعلى من يقف عليه من حملة الأقلام، والكتاب الأعلام، وغيرهم من الكافة والخدام، أن يعرفوا قدر هذه العناية الواضحة الأحكام، والتقديم الراسخ الأقدام ويوجب ما أوجب من البر والإكرام، والإجلال والإعظام، بحول الله، وكتب في كذا، انتهى.
فانظر صانني الله وإياك من الأغيار، وكفانا شر من كفر الصنيعة التي هي على النقص عنوان ومعيار، إلى حال الوزير لسان الدين ابن الخطيب مع هذين الرجلين، القاضي ابن الحسن والوزير ابن زمرك الذين تسببا في هلاكه حتى صار أثراً بعد عين، مع تنويهه بهما في هذا الإنشاء وغيره، وتفيئهما - كما هو معلوم - ظلال خيره، فقابلاه بالغدر، وأظهرا عند الإمكان حقد القلب وغل الصدر، وسددا لقتله سهاماً وقسياً، وصيرا سبيل الوفاء نسياً منسياً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[ظهير ثالث بإضافة الخطابة إلى القضاء للنباهي]
ومن إنشاء لسان الدين في حق القاضي ابن الحسن أيضاً - حين أضيفت إليه الخطابة إلى القضاء - على لسان سلطانه:
هذا ظهير كريم أعلى رتبة الاحتفاء اختياراً واختباراً، وأظهر معاني الكرامة والتخصيص انتقاء واصطفاء وإيثار، ورفع لواء الجلالة على من اشتمل عليه حقيقة واعتباراً، ورقى في درجات العز من طاولها على بهر أنوار، وديناً(5/136)
كرم في الصالحات آثاراً، وزكا في الأصالة نجاراً، وخلوصاً إلى هذا المقام العلي السعيد الذي راق إظهاراً وإضماراً، أمر به وأمضاه، وأنفذ حكمه ومقتضاه، أمير المسلمين عبد الله محمد، إلى آخره، للشيخ الكذا القاضي العدل الأرضى قاضي الجماعة، وخطيب الحضرة العلية، المخصوص لدى المقام العلي بالحظوة السنية، والمكانة الحفية، الموقر الفاضل، الحافل الكامل، المبرور أبي الحسن ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجل، الأعز الماجد الأسنى المرفع الأحفل، الأصلح المبارك الأكمل، الموقر المبرور المرحوم أبي محمد ابن الحسن، - وصل الله عزته، ووالى رفعته ومبرته، ووهب له من صلة العناية الرانية أمله وبغيته، - لما أصبح في صدور القضاة العلماء مشاراً إلى جلاله، مستنداً إلى معرفته المخصوصة بكماله، مطرزاً على الإفادة العلمية والأدبية بمحاسنه البديعة وخصاله، محفوفاً مقعد الحكم النبوي ببركة عدالته وفضل خلاله، وحل في هذه الحضرة العلية المحل الذي لا يرقاه إلا عين الأعيان، ولا يثوي مهاده إلا مثله من أبناء المجد الثابت الأركان، ومؤملي العلم الواضح، والمبرزين بالمآثر العلية في الحسن والإحسان، وتصر لقضاة الجماعة فصدرت عنه الأحكام الراجحة الميزان، والأنظار الحسنة الأثر والعيان، والمقاصد التي وفت بالغاية التي لا تستطاع في هذا الميدان - فكم من قضية جلا بمعارفه مشكلها، ونازلة مبهمة فتح بإدراكه مقفلها، ومسألة عرف نكرتها وقرر مهملها، حتى قرت بعدالته وجزالته العيون، وصدقت فيه الآمال الناجحة والظنون، وكان في تصديره لهذه الولاية العظمى من الخير والخيرة ما عسى أن يكون، كان أحق بالتشفيع لولايته الأولى، وأجدر بمضاعفة النعم التي لا تزال تترادف على قدره الأعلى، فلذلك أصدر له أيده الله هذا الظهير الكريم مشيداً بالترفيع والتنويه، ومؤكداً للاحتفاء الوجيه، وقدمه، أعلى الله قدمه، وشكر نعمه، خطيباً بالجامع الأعظم من حضرته، مضافاُ ذلك إلى ولايته ورفيع منزلته، مرافقاً لمن في الجامع الأعظم - عمره الله بذكره - من علية الخطباء، وكبار العلماء، وخيار النبهاء الصلحاء، فليتداول ذلك في جماعته(5/137)
مظهراً في الخطة أثر بركاته وحسناته، عاملاُ على ما يقربه عند الله من مرضاته، ويظفره بجزيل مثوباته، بحول الله وقوته؛ انتهى.
فهذا ثناء لسان الدين المرحوم على القاضي ابن الحسن، وإشادته بذكره، وبإشارته وتدبيره ولي قضاء القضاة وخطابة الجامع الأعظم بغرناطة، وهذان المنصبان لم يكن في الأندلس في ذلك الزمان من المناصب الدينية أجل منهما. ولما حصل لسان الدين رحمه الله تعالى ما حصل من النفرة في الأندلس، وإعمال الحيلة في الانفصال عنها، لعلمه أن سعايات ابن زمرك وابن الحسن ومن يعضدهما تمكنت فيه عند سلطانه، خلص منها على الوجه الذي قدمناه، وشمر القاضي ابن الحسن عن ساعد أذيته، والتسجيل عليه بما يوجب الزندقة، كما سبق جميعه مفصلاُ، فحين إذ أطلق لسان الدين عنان قلمه في سب المذكور وثلبه، وأورد في كتابه الكتيبة الكامنة في أبناء المائة الثامنة من مثالبه ما أنسى ما سطره صاحب القلائد في ابن باجة المعروف بابن الصائغ - حسبما نقلنا ذلك، أعني كلام الفتح، في غير هذا الموضع - ولم يقتنع بذلك حتى ألف الكتاب الذي سماه خلع الرسن، كما ألمعنا به فيما سبق، والله سبحانه يتجاوز عن الجميع بمنه وكرمه.
[نماذج من براعة لسان الدين في القدح]
واعلم أن لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الغاية في المدح والقدح، فتارة على طريق الترسل، وطوراً على غيرها، وقد أقذع وبالغ رحمه الله تعالى في هجو أعدائه بما لا تحتمله الجبال، وهو أشد من وقع النبال، ومنه ما وصف به الوزير، الذي كان استوزره السلطان إسماعيل بن الأحمر الثائر على سلطان ابن الخطيب، حسبما سبق الإلمام بذلك، والوزير هو إبراهيم بن أبي الفتح الأصلع الغوي، إذ قال في المذكور وفي ابن عمه محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح العقرب(5/138)
الردي، بعد كلام، ما صورته:
وما ظنك برجل مجهول الجد، موصوم الأبوة إلى أن قال: تنور خبز، وبركة مرقة، وثعبان حلواء وفاكهة، مغي في شح النفس، متهالك في مسترذل الطبع [ ... ] (1) ، عليه العذيوط (2) الغبي ابن عمه بسذاجة، زعموا، مع كونه قبيح الشكل، بشيع الطلعة، إلى أن قال: وفي العشر الأول من رمضان عام واحد وستين وسبعمائة تقبض على الوزير المشؤوم، وابن عمه الغوي الغشوم، وولد الغوي مرسل الظفيرة أبعد الناس في مهوى الاغترار يختال في السرق والحلية (3) ، سم من سم القوارير، وابتلاء من الله لذوي الغيرة، يروح نشوان العشيات، يرقص بين يديه ومن خلفه عدد من الأخلاف (4) ، يعاقرون النبيذ في السكك الغاصة، وولد العقرب الردي بضده قماءة وتقطباً، تنهوا عنهما العيون، ويبكي منهما الخز، كأنهما صمتاً عند المحاورة وإظلاماً عند اللألاء، من أذلاء بني النضير، ومهتضمي خيبر، فثقفا ملياً، وبودر بهما إلى ساحل المنكب.
قال المخبر: فما رأيت منكوبين أقبح شكلاُ، ولا أفقد صبراُ، من ذينك التيسين الحبقين، صلع الرؤوس، ضخام الكروش، مبهوري الأنفاس، متلجلجي الألسنة، قد ربت بمحل السيف من عنق كل جبار منهما شحمة أترجية كأنها سنام الحوار، لا يثيرون دمعاً، ولا يستنزلون رحمة، ولا يمهدون عذراً، ولا يتزودون من كتاب الله آية، قد طبع الله على قلوبهم، وأخذهم ببغيهم، وعجل لهم سوء سعيهم. وللحين أركبوهم وجراءهم - يعني أولادهم - في جفن غزوي (5) تحف بهم المساعير من الرجال، واقتفى بهم أثر قرقورة تحمل حاجاً إلى الإسكندرية تورية بالقصد، فلما لججوا قذف بهم في لجة بعد استخلاص
__________
(1) بياض بمقدار كلمة في ص.
(2) العذيوط: الذي يسلح حين ينزل أثناء المباشرة.
(3) ق: في السرق والحرير والحلية؛ والسرق هو الحرير.
(4) الأخلاف: جمع خلف وهو الرديء الذي لا خير عنده.
(5) أي سفينة حربية.(5/139)
ما ضبثوا به (1) ، وتلكأ الأصلع الغوي فأثبت بجراحة أشعر بها هديه، واختلط العقرب الردي فنال من جناب الله سخطاً وضيقاً، تعالى الله عن نكيره، فكان فرعون هذا الزمان جبروتاً وعتواُ وميتة، عجل الله لهم العذاب، وأغرقهم في اليم.
فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، فسبحان من لا تضيع الحقوق مع عدله، ولا تنفسخ الآماد مع منازعة رداء كبريائه، مرغم الأنوف، وقاطع دابر الكافرين، وفي ذلك أقول مستريحاً وإن لم يكن - علم الله تعالى - شاني، ولا تكرر في ديواني:
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق (2) ومن أمثالهم " من استغضب فلم يغضب فهو حمار " والله سبحانه يقول ومن أصدق من الله قيلا " وجزاء سيئة سيئة مثلها " والعفو أقرب للتقوى والقرب والبعد بيده سبحانه. وصدرت هذه الكلمة لحين تعرف إجلائهم في الجفن إلى الإسكندرية، وبعد ذلك صح هلاكهم:
كن من صروف الردى على حذر ... لا يقبل الدهر عذر معتذر
ولا تعول فيه على دعة ... فأنت في قلعة وفي سفر
فكل ري يفضي إلى ظمإ ... وكل آمن يدعو إلى غرر
كم شامخ الأنف ينثني فرحاً ... بال عليه زمانه وخري
قل للوزير البليد قد ركضت ... في ربعك اليوم غارة الغير
يا ابن أبي الفتح نسبة عكست ... فلا بفتح أتت ولا ظفر
وزارة لم يجد مقلدها ... عن شؤمه في الوجود من وزر
في طالع النحس حزت رتبتها ... وكل شيء في قبضة القدر
__________
(1) ضبثوا به: قبض عليهم بسببه.
(2) البيت للمتنبي من قصيدته " لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ".(5/140)
أي اختبار لم تأل نصبته ... في جسد للنحوس أو نظر
بات له المشتري على غير ... وأحرقت فيه قرصة القمر
يا طللاً ما عليه من عمل ... يا شجراً ما لديه من ثمر
يا مفرط الجهل والغباوة لا ... يحسب إلا من جملة البقر
يا دائم الحقد والفظاظة لا ... يفرق بين ظالم وبري
يا كمد اللون ينطفي كمداً ... من حسد يستطير بالشرر
يا عدل سرج يا دن مقتعد ... ملآن من ريبة ومن قذر
يا واصلاً للجشاء ناشئة اللي ... ل ورب الضراط في السحر
من غير لب ولا مراقبة ... لله في مورد ولا صدر
يا خاملاً جاهه الفروج يرى ... صهر أولي الجاه فخر مفتخر
كانوا نبيطاً في الأصل أو حبشاً ... ما عنده عبرة بمعتبر
يا ناقص الدين والمروءة والعق ... ل ومجري اللسان بالهذر
يا ولد السحق غير مكتم ... حديثه، يا ابن فاسد الدبر
يا بغل طاحونة يدور بها ... مجتهد السير مغمض البصر
في أشهر عشرة طحنتهم ... فيها رحى الشؤم والبوار در
والله ما كنت يا مشوم ولا ... أنت سوى عرة من العرر
ومن أبو الفتح في الكلاب وهل ... لجاه في الأنام من خطر
قد ستر الدهر منك عورته ... وكان لليوم غير مستتر
حانوت بز يمشي على فرش ... وثور عرس يختال في حبر
لا منة تتقى لمعترك ... ولا لسان يبين عن خبر
ولا يد تنتمي إلى كرم ... ولا صفاء يريح من كدر
عهدي بذلك الجبين قد ملئت ... غضونه الغبر بالدم الهدر(5/141)
عهدي بذلك القفا الغليظ وقد ... مد لوقع المهند الذكر
أهدتك للبحر كف منتقم ... ألقتك للحوت كف مقتدر
يا يتم أولادك الصغار ويا ... حيرتهم بعد ذاك في الكبر
يا ثكل تلك الصماء أمهم ... وظاعن الموت غير منتظر
والله لا نال من تخلفه ... من أمل بعدها ولا وطر
والله يا مسخفان لا انتقلت ... رجلك منها إلا إلى سقر
ألحفك (1) الله بالهوان ولا ... رعاك فيمن تركت من عرر
ما عوقب الليل بالصباح وما ... تقدم البرق عارض المطر انتهى، وقال مورياً بدم الأخوين، في شأن سلطان تلك الدولة الذي أضحى أثراً بعد عين (2) :
بإسماعيل ثم أخيه قيس ... تأذن ليل همي بانبلاج
دم الأخوين داوى جرح قلبي ... وعالجني، وحسبك من علاج وهذه تورية بديعة، لأن الأطباء يقولون: إن في خاصية دم الأخوين النفع من الجراح.
وقال رحمه الله تعالى: قلت في رأس الغادر بالدولة حين عرض علي:
في غير حفظ الله من هامة ... هام بها الشيطان في كل واد
ما تركت حمداً ولا رحمة ... في فم إنسان ولا في فؤاد وقال أيضاً في تلك الدولة بعد كلام، ما نصه:
" وانتدب قاضيهم الشيخ المتراخي الدبر والفك، المنحل العصب والعقدة،
__________
(1) ق ص: ألحقك.
(2) أزهار الرياض 1: 274.(5/142)
المعرق في العمومية، المشهور بقبول الرشوة، أبو فلان ابن فلان، الغريب السم والولاية، ومفتيهم معدن الرياء والهوادة، والبعد عن التخصص والحشمة، والمثل في العماه، والطرف في التهالك على الحطام، فلان البناء، المسخر في بناء الحفيرة، المستخدم في دار ابنه أجيراً، مختضباً بالطين، مضايقاً في رمق العيشة، وحسبك به دليلاً على الحياء وفضل البنوة، فلفقوا من خيوط العناكب شبهات تقلدوا بها حل العقد الموثق، ديدنهم في معارضة صلب الملة بالآراء الخبيثة، يتحكم الوقاح منهم في الحكم الذي نزل به شديد القوى على الذي لا ينطق عن الهوى، بحسب شهوته، تحكمه في غزل أمه إيثاراً للعاجل، بالوعيد، ففسخوا النكاح، وحللوا محرم البضع للدائل، وقد تأذن الله بفسخه، وأجرى دمه نقداً قبل دفع فقده، سبحانه حكم الحكام، وقاهر الظلام، وباء مشيخة السوء بلعنة الله وسوء الأحدوثة، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً "؛ انتهى.
ومن كلامه في " نفاضة الجراب "، وقد ذكر وزير المغرب محمد بن علي مسعود ما ملخصه: " وانه مجنون، أحول العين، وحش النظرة، يظن به الغضب في حال الرضى، يهيج به المرار فيكمن زماناً خلف كلة مرقده، يدخل إليه وعاء الحاجتين خوفاً من إصحاره إلى فضاء منزله، وتوحشه من أهله وولده، إلى أن تضعف (1) سورة المرة فيخف أمره، قد باين زوجه مع انسحاب رواق الشبيبة، وتوفر داعية الغبطة، لحلف جره الوسواس السوداوي، نستدفع بالله سر بلائه، فاستعان مستوزره منه برأي الفضل بن سهل ويحيى بن خالد وأمثالهما، تدارك الله رمق الإسلام بلطفه "؛ انتهى.
[في عتاب ابن أبي رمانة]
ولما دخل لسان الدين رحمه الله تعالى مدينة مكناسة الزيتون تأخر قاضيها الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي رمانة عن لقائه يوم وصوله،
__________
(1) ق: تعصف، وهو غير مناسب للمعنى.(5/143)
فكتب إليه بما نصه:
جفا ابن أبي رمانة وجه مقدمي ... ونكب عني معرضاً وتحاماني
وحجب عني حبه غير جاهل ... بأني ضيف (1) والمبرة من شأني
ولكن رآني مغربياً محققاً ... وأن طعامي لم يكن حب رمان زيارة القاضي أصلحه الله لمثلي ممن لا يخافه ولا يرجوه، تجب من وجوه: أولها كوني ضيفاً، ممن لا يعد على الاختبار زيفاً، ولا تجر مؤانسته حيفاً، فضلاً عن أن تشرع رمحاً أو تسل سيفاً؛ وثانيها أني أمت إليه من الطلب بنسب، بين موروث ومكتسب، وقاعدة الفضل قد قررها الحق وأصلها، والرحم كما علم تدعو لمن وصلها؛ وثالثها المبدأ في هذا الغرض، ولكن الواو لا ترتب إلا بالعض، وهو اقتفاء سنن المولى أيده الله في تأنيسي، ووصفه إياي بمقربي وجليسي؛ ورابعها - وهو عدة كيسي، وهزبر خيسي، وقافية تجنيسي، ومقام تلويني وتلبيسي - مودة رئيس هذا الصنف العلمس ورئيسي، فليت شعري ما الذي عارض هذه الأصول الأربعة، ورجح مذاهبها المتبعة، إلا أن يكون عمل أهل المدينة ينافيها، فهذا بحسب (2) النفس ويكفيها، وإن تعذر لقاء أو استدعاء، وعدم طعام أو وعاء، ولم يقع نكاح ولا استرعاء، فلم يتعذر عذر يقتضيه الكرم، والمنصب المحترم، فالجلة إلى التماس الحمد ذات استباق، والعرف بين الله والناس باق، والغيرة على لسان مثله مفروضة، والأعمال معروضة، والله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة، وإن كان لدى القاضي في ذلك عذراً فليفده، وأولى الأعذار به أنه لم يقصده، والسلام "؛ انتهى.
ويعني بالمولى السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني، وبرئيس
__________
(1) ص: ضعيف.
(2) ص ق: يحسب.(5/144)
هذا الصنف العلامة الخطيب أبا عبد الله ابن مرزوق، رحم الله الجميع.
[رسالته إلى ابن مرزوق ينصحه برفض الدنيا]
ومن كلام لسان الدين - رحمه الله تعالى - رسالة في أحوال خدمة الدولة ومصائرهم، وتنبيههم على النظر في عواقب الرياسة بعيون بصائرهم، عبر فيها عن ذوق ووجدان، وليس الخبر كالعيان، وخاطب بها الإمام الخطيب عين الأعيان، سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق، وكأنه - أعني لسان الدين - أشار ببعض فصولها إلى نفسه، ونطق بالغيب في نكبته التي قادته إلى رمسه، وكان ذلك منه عندما أراد التخلي عن خدمة (1) الملوك، والتحلي بزينة أهل التصوف والسلوك، فلم يرد الله أن تكون مهجته نائية عن ساحة الظلمة خارجة، وأراد سامحه الله وغفر له عمراً وأراد الله خارجة، وصورة ما قال رحمه الله تعالى:
" وأحسست منه - يعني ابن مرزوق - في بعض كتبه الواردة إلي إلى الدنيا وحنيناً لما بلاه من غرورها، فحملني الطور الذي ارتكبته في هذه الأيام - بتوفيق الله - على أن أخاطبه بهذه الرسالة، وحقها أن يجعلها خدمة الملوك ممن ينسب إلى نبل، ويلم بمعرفة، مصحفاً يدرسه، وشعاراً يلتزمه، وهي: سيدي الذي يده البيضاء لم تذهب بشهرتها المكافأة، ولم تختلف في مدحها الأفعال ولا تغايرت الصفات، ولا تزال تعترف بها العظام الرفات، أطلقك الله من أسر كل الكون كما أطلقك من أسلا بعضه، وزهدك في سمائه الفانية وفي أرضه، وحقر الحظ في عين بصيرتك بما يحملك على رفضه، اتصل بي الخبر السار من تركك لشانك، وإجناء الله تعالى إياك ثمرة إحسانك، وانجياب ظلام الشدة الحالك، عن أفق حالك، فكبرت، وفي الفرج من بعد الشدة اعتبرت، لا بسوى ذلك من رضى مخلوق يؤمر فيأتمر، ويدعوه القضاء فيبتدر، إنما هو فيء، وظل ليس له من الأمر شيء، ونسأله جل وعلا أن يجعلها آخر عهدك بالدنيا
__________
(1) ص ق: مذمة.(5/145)
وبنيها، وأول معارج نفسك التي تقربها من الحق وتدنيها، وكأني والله أحس بثقل هذه الدعوة على سمعك، ومضادتها ولا حول ولا قوة إلا بالله لطبعك، وأنا أنافرك إلى العقل الذي هو قسطاس الله تعالى في عالم الإنسان، والآلة لبث العدل والإحسان، والملك الذي يبين عنه ترجمان اللسان، فأقول: " ليت شعري ما الذي غبط سيدي في الدنيا، وأن بلغ من زبرجها الرتبة العليا، ونفرض المثال بحال إقبالها، ووصل حبالها، وخشوع جبالها، وضراعة سبالها، ألتوقع المكروه صباحاً ومساء، وارتقاب الحوالة التي تديل من النعيم البأساء، ولزوم المنافسة التي تعادي الأشراف والرؤساء ألترتب العتب التقصير في الكتب، وضغينة جار الجنب، وولوع الصديق بإحصاء الذنب ألنسبة وقائع الدولة إليك وأنت بري، وتطويقك الموبقات وأنت منها عري ألاستهدافك للمضار التي تنتجها غيرة الفروج، والأحقاد التي تضبطها (1) ركبة السروج، وسرحة المروج، ونجوم السماء ذات البروج ألتقليدك التقصير فيما ضاقت عنه طاقتك، وصحت إليه فاقتك، من حاجة لا يقتضي قضاءها الوجود، ولا يكفيها الركوع للملك والسجود ألقطع الزمان بين سلطان يعبد، وسهام للغيم تكبد، وعجاجة شر تلبد، وأقبوحة تخلد وتؤبد ألوزير يصانع ويدارى، وذي حجة صحيحة يجادل في مرضاة السلطان ويمارى، وعورة لا توارى ألمباكرة كل قرن حاسد، وعدو مستأسد، وسوق للإنصاف والشفقة كاسد، وحال فاسد ألوفود تتزاحم بسدتك مكلفة لك غير ما في طوقك، فإن لم يقع الإسعاف قلبت عليك السماء من فوقك ألجلساء بابك، لا يقطعون زمان رجوعك وغيابك، إلا بقبيح اغتيابك، فالتصرفات تمقت، والقواطع توقت، والألاقي تبث، والسعايات تحث، والمساجد يشتكى في حلقها البث، يعتقدون أن السلطان في يدك بمنزلة الحمار المدبور، واليتيم المحجور، والأسير المأمور، ليس له شهوة ولا غضب، ولا أمل في الملك
__________
(1) لعلها تضطبنها.(5/146)
ولا أرب، ولا موجدة لأحد كامنة، وللشر ضامنة، وليس في نفسه عن رأي نفرة، ولا بإزاء ما لا يقبله نزوة ولا طفرة، إنما هو جارحة لصيدك، وعان في قيدك، وآلة لتصرف كيدك، وأنك علة حيفه، ومسلط سيفه:
" الشرار يسملون عيون الناس باسمك، ثم يمزقون بالغيبة مزق جسمك، قد تنخلهم الوجود أخبث ما فيه، واختارهم السفيه فالسفيه إذ الخير يستره الله تعالى عن الدول ويخفيه، ويقنعه بالقليل فيكفيه، فهم يمتاحون بك ويولونك الملامة، ويفتحون عليك القول ويسدون طرق السلامة، وليس لك في أثناء هذه إلا ما لا يعوزك مع ارتفاعه، ولا يفوتك مع انقشاعه، وذهاب صداعه، من غذاء يشبع، وثوب يقنع، وفراش ينيم، وخديم يقعد ويقيم، وما الفائدة في فرش تحتها جمر الغضا، ومال من ورائه سوء القضا، وجاء يحلق عليه سيف منتضى وإذا بلغت النفس إلى الالتذاذ بما لا تملك، واللجاج حول المسقط الذي تعلم أنها فيه تهلك، فكيف تنسب إلى نبل، أو تسير من السعادة في سبل وإن وجدت في القعود بمجلس التحية، بعض الأريحية، فليت شعري أي شيء زادها، أو معنى أفادها إلا مباكرة وجه الحاسد، وذي القلب الفاسد، وموجهة العدو المستأسد، أو شعرت ببعض الإيناس، في الركوب بين الناس، ما التذت إلا بحلم كاذب، أو جذبها غير الغرور جاذب، إنما راكبت من يحدق إلى الحلية والبزة، ويستطيل مدة العزة، ويرتاب إذا حدثت بخبرك، ويتتبع بالنقد والتجسس مواقع نظرك، ويمنعك من مسايرة أنيسك، ويحتال على فراغ كيسك، ويضمر الشر لك ولرئيسك، وأي راحة لمن لا يباشر قصده، ويمشي إذا شاء وحده
ولو صح في هذه الحال لله تعالى حظ وهبه زهيداً، وعين الرشد عملاً حميداً، لساغ الصاب، وخفت الأوصاب، وسهل المصاب، لكن الوقت أشغل، والفكر أوغل، والزمن قد عمرته الحصص الوهمية، واستنفدت منه الكمية، أما ليله ففكر أو نوم، وعتب بجراء الضرائر ولوم، وأما يومه فتدبير(5/147)
وقبيل ودبير، وأمور يعيا بها ثبير، وبلاء مبير، ولغط لا يدخل فيه حكم كبير، وأنا بمثل ذلك خبير؛ ووالله يا سيدي ومن فلق الحب، وأخرج الأب، وذرأ من مشى ومن دب، وسمى نفسه الرب، لو تعلق المال الذي يجره هذا القدح، ويوري سقيطه هذا القدح، بأذيال الكواكب، وزاحمت البدر بدره بالمناكب، لما ورثه عقب، ولا خلص به محتقب، ولا فاز به سافر ولا منتقب، والشاهد الدول، والمشائيم الأول:
فأين الرباع المقتناة وأين الديار المبتناة وأين الحوائط المغترسات وأين الذخائر المختلسات وأين الودائع المؤملة وأين الأمانات المحملة تأذن الله بتتبيرها، وإدناء نار التبار من دنانيرها، فقلما تلقى أعقابهم إلا أعراء الظهور، مترمقين لجرايات الشهور، متعللين بالهباء المنثور، يطردون من الأبواب التي حجب عنها آباؤهم، وعرف منها إباؤهم، وشم من مقاصيرها عنبرهم وكبائهم، ولم تسامحهم الأيام إلا في إرث محرر، أو حلال مقرر، وربما محقه الحرام، وتعذر منه المرام.
" هذه - أعزك الله - حال قبولها مع الترفيه، ومالها المرغوب فيه، وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه، وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم، وحوت بغي يبتلع ويلتقم، ومطبق يحجب الهواء، ويطيل في التراب الثواء، وثعبان قيد يعض الساق، وشؤبوب عذاب يمزق الأبشار الرقاق، وغيلة يهديها الواقب الغاسق، ويجرعها العدو الفاسق، فصرف السوق، وسلعته المعتادة الطروق، مع الأفول والشروق. فهل في شيء من هذا مغتبط لنفس حرة، أو ما يساوي جرعة حال مرة واحسرتا للأحلام ضلت، وللأقدام زلت، ويا لها مصيبة جلت.
" ولسيدي أن يقول: حكمت باستثقال الموعظة واستجفائها، ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفائها، وتناسي عدم وفائها، فأقول: الطبيب بالعلل أدرى، والشفيق بسوء الظن مغرى، وكيف لا وأنا أقف على السحاءات بخط يد سيدي(5/148)
من مطارح الاعتقال، ومثاقف النوب الثاقل، وخلوات الاستعداد، للقاء الخطوب الشداد، ونوشى الأسنة الحداد، وحيث يجمل بمثله أن لا في غير الخضوع لله تعالى بناناً، ولا يثني لمخلوق عناناً، وأتعرف أنها قد ملأت الجو والدو، وقصدت الجماد والبو، تقتحم أكف أولي الشمات، وحفظة المذمات، وأعوان النوب الملمات، زيادة في الشقاء، وقصداً برياً من الاختيار والانتقاء، مشتملة من التجاوز على أغرب من العنقاء، ومن النفاق على أشهر من البلقاء، فهذا يوصف بالإمامة، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يكلف الدعاء وليس منت أهله، وهذا يطلب منه لقاء الصالحين وليسوا من شكله، إلى ما أحفظني والله من البحث عن السموم، وكتب النجوم، المذموم من العلوم، هلاكان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتاً، وأعتقد أن الله قد جعل لزمان الخير والشر ميقاتاً، وأنا لا نملك موتاً ولا نشوراً ولا حياتاً، وأنا اللوح قد حصر الأشياء محواً وإثباتاً، فكيف نرجو لما منع منالاً أو نستطيع مما قدر إفلاتاً أفيدونا ما يرجع العقيدة المتقررة فنتحول إليه، وبينوا لنا الحق نعول عليه.
" الله لله يا سيدي في النفس المرشحة، والسلف الشهير الخير، والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير، ودع الدنيا لبنيها فما أوكس حظوظهم، وأخس لحوظهم، وأقل متاعهم، وأعجل إسراعهم، وأكثر عناءهم، وأقصر آناءهم:
ما ثم إلا ما رأي ... ت، وربما تعيي السلامه
والناس إما جائر ... أو حائر يشكو ظلامه
وإذا أردت العز لا ... ترزأ بني الدنيا قلامه
والله ما احتقب الحري ... ص سوى الذنوب أو الملامه
هل ثم شك في المعا ... د الحق أو يوم القيامه
قولوا لنا ما عندكم ... أهل الخطابة والإمامه(5/149)
" وإن رميت بأحجاري، وأوجرت المر من أشجاري، فوالله ما تلبست اليوم منها بشيء قديم ولا حديث، ولا استأثرت بطيب فضلاً عن خبيث، وما أنا إلا عابر سبيل، وهاجر مرعى وبيل، ومرتقب وعداً قدر فيه الإنجاز، وعاكف على حقيقة لا تعرف المجاز، قد فررت من الدنيا كما يفر من الأسد، وحاولت المقاطعة حتى بين روحي والجسد، وغسل الله قلبي - ولله الحمد - من الطمع والحسد، فلم أبق عادة إلا قطعتها، ولا جنة للصبر إلا أدرعتها، أما اللباس فالصوف، وأما الزهد فيما بأيدي الخلق فمعروف، وأما المال الغبيط فعلى الصدقة مصروف، ووالله لو علمت أن حالي هذه تتصل، وعراها لا تنفصل، وأن ترتيبي هذا يدوم، ولا يحيرني الوعد المحتوم، والوقت المعلوم، لمت أسفا، وحسبي الله وكفى.
" ومع هذا يا سيدي فالموعظة تتلقى من لسان الوجود، والحكمة ضالة المؤمن يطلبها ببذل المجهود، ويأخذها من غير اعتبار بمحلها المذموم ولا المحمود. ولقد أعملت نظري فيما يكافئ عني بعض يدك، أو تنهي في الفضل إلى أمدك، فلم أر لك الدنيا كفاء هذا لو كنت صاحب دنيا، وألفيت بذل النفس قليلاً لك من غير شرط ولا ثنيا، فلما ألهمني الله لمخاطبتك بهذه النصيحة المفرغة في قالب الجفاء، لمن لا يثبت عين الصفاء، ولا يشيم بارقة الوفاء، ولا يعرف قاذورة الدنيا معرفة مثلي من المتدنسين بها المنهمكين، وينظر عوارها القادح بعين اليقين، ويعلم أنها المومسة التي حسنها زور، وعاشقها مغرور، وسرورها شرور، تبين لي أنني قد كافيت صنيعتك المتقدمة، وخرجت عن عهدتك الملتزمة، وأمحضت لك النصح الذي يعز بعز الله ذاتك، ويطيب حياتك، ويحيي مواتك، ويريح جوارحك من الوصب، وقلبك من النصب، ويحقر الدنيا وأهلها في عينك إذا اعتبرت، ويلاشي عظائمها لديك إذا اختبرت.
" كل من تقع عينك عليه فهو حقير قليل، وفقير ذليل، لا يفضلك(5/150)
بشيء إلا باقتفاء رشد أو ترك غي، أثوابه النبيهة يجردها الغاسل، وعروة عزه يفصلها الفاصل، وما له الحاضر الحاصل، يعيث فيه الحسام الفاصل، والله ما تعين للسلف، ولا مصير المجموع إلا إلى التلف، ولا صح من الهياط والمياط، والصياح والعياط، وجمع القيراط إلى القيراط، والاستظهار بالوزعة والأشراط، والخبط والخباط، والاستكثار والاغتباط، والغلو والاشتطاط، وبناء الصرح وعمل الساباط، ورفع العمد وإدارة الفسطاط، إلا أمل يذهب القوة، وينسي الآمال المرجوة، ثم نفس يصعد، وسكرات تتردد، وحسرات لفراق الدنيا تتجدد، ولسان يثقل، وعين تبصر الفراق وتمقل {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} (ص: 67) ثم القبر وما بعده، والله منجز وعيده ووعده، فالإضراب والإضراب، والتراب التراب.
" وإن اعتذر سيدي بقلة الجلد، فهو ابن مرزوق لا ابن رزاق، وبيده من التسبب ما يتكفل بإمساك أرماق، أين النسخ الذي يتبلغ الإنسان بأجرته، في كن حجرته لا بل السؤال الذي لا عار عند الحاجة بمعرته. السؤال والله أقوم طريقاً، وأكرم رفيقاً، من يد تمتد إلى حرام، لا يقوم بمرام، ولا يؤمن من ضرام، أحرقت فيه الحلل، وقلبت الأديان والملل، وضربت الأبشار، ونحرت العشار، ولم يصل منه على يدي واسطة السوء المعشار، ثم طلب عند الشدة ففضح، وبان شؤمه ووضح، اللهم طهر منها أيدينا وقلوبنا، وبلغنا من الانصراف إليك مطلوبنا وعرفنا بمن لا يعرف غيرك، ولا يسترفد إلا خيرك، يا الله.
" وحقيق على الفضلاء إن جنح سيدي منها إلى إشارة، أو أعمل في اجتلابها إضبارة، أو لبس منها شارة، أو تشوف لخدمة إمارة، أن لا يحسنوا ظنونهم بعدها بابن ناس، ولا يغتروا بسمة ولا خلق ولا لباس، فما عدا عما بدا تقضى العمر في سجن وقيد، وعمرو وزيد، وضر وكيد، وطراد صيد، وسعد وسعيد، وعبد وعبيد، فمتى تظهر الأفكار، ويقر القرار، وتلازم(5/151)
الأذكار، وتشام الأنوار، وتستجلى الأسرار ثم يقع الشهود الذي يذهب معه الإخبار، ثم يحق الوصول الذي إليه من كل ما سواه الفرار، وعليه المدار.
" وحق الحق الذي ما سواه فباطل، والفيض الرحماني الذي ربابه الأبد هاطل، ما شابت مخاطبتي لك شائبة تريب، ولقد محضت لك ما يمحضه الحبيب للحبيب، فتحمل جفائي الذي حملت عليه، ولا تظن بي غيره، وأن لم تعذرني مكاشفة سيادتك بهذا النث، في الأسلوب الرث، فالحق اقدم، وبناؤه لا يهدم، وشأني معروف في موجهة الجبابرة على حين يدي إلى رفدهم ممدودة، ونفسي في النفوس المتهافتة عليهم معدودة، وشبابي فاحم، وعلى الشهوات مزاحم، فكيف لي اليوم مع الشيب، ونصح الجيب، واستكشاف العيب إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل، وسيف العدل في كفي صقيل، أعذل أهل الهوى، وليست النفوس في القبول سوا، ولا لكل مرض دوا، وقد شفيت صدري، وإن جهلت قدري، فاحملني - حملك الله تعالى - على الجادة الواضحة، وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة، والسلام ".
انتهت الرسالة البديعة في بابها، الآتية من الموعظة بلبابها، ذات النصيحة الصريحة التي يتعين على كل عاقل خصوصاً من يريد خدمة الملوك التمسك بأسبابها.
[تعليقات ابن مرزوق وابن لسان الدين على الرسالة]
قلت: وقد رأيت بخط الأمام العلامة الخطيب ابن مرزوق على هامش قول لسان الدين أول الكلام " وأحسست منه في بعض كتبه إلى آخره " ما صورته: توهم ما لا يقع، بل لما تجلت عني سحب النكبة والامتحان جزمت بالرحلة، وعزمت على النقلة، ونفرت عن خدمة السلطان، وملازمة الأوطان، قال ابن(5/152)
مرزوق: والعجب كل العجب أن جميع ما خاطبني به - أبقاه الله تعالى - تحلى به اجمع، وابتلي بما منه حذر، فكأنه خاطب نفسه وأنذرها بما وقع له، فلله تعالى يحسن له الخاتمة والخلاص؛ انتهى.
وكتب تحت كلام ابن مرزوق هذا بخطه ابن لسان الدين علي، ما نصه: صدق والله سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق، كان الله تعالى له، قاله ولده ابن المؤلف؛ انتهى.
قلت: وهذا الذي قاله ابن مرزوق كان في حياة ابن الخطيب، ولذلك دعا له بالبقاء، وبحسن الخاتمة والخلاص، وقد أسفر الغيب عن محنته، ثم قتله على الوجه الذي وصفه في الرسالة، إذ قال: وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم، وحوت بغي يبتلع ويلتقم، ومطبق يحجب الهواء، ويطيل في التراب الثواء، وثعبان قيد يعض الساق، وشؤبوب عذاب يمزق الأبشار الرقاق، وغيلة يهديها الواقب الغاسق، ويجرعها العدو الفاسق، فصرف السوق، وسلعته المعتادة الطروق، مع الأفول والشروق. فإنه رحمه الله تعالى حصل له ما ذكر، ثم اغتاله ليلاً وخنقه في محبسه عدوه الفاسق سليمان بن داود، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، فلله تعالى يثيبه بهذه الشهادة.
[مرثية المنجنيقي]
وقد تذكرت هنا مرثية ابن صابر (1) المنجنيقي، وهي:
هل لمن يرتجي البقاء خلود ... وسوى الله كل شيء يبيد
والذي كان من تراب وإن عا ... ش طويلاً إلى التراب يعود
فمصير الأنام طراً لما صا ... ر إليه آباؤهم والجدود
أين حوا أم أين آدم إذ فا ... تهما الملك والثوا والخلود
__________
(1) ص: ابن صاعد.(5/153)
أين هابيل أين قابيل إذ هـ ... ذا لهذا معاند وحسود
أين نوح ومن نجا معه بال ... فلك والعالمون طراً فقيد
أسلمته الأيام كالطفل للمو ... ت ولم يغن عمره الممدود
أين عاد بل أين جنة عاد ... إرم، أين صالح وثمود
أين إبراهيم الذي شاد بيت ال ... له فهو المعظم المقصود
أين إسحاق أين يعقوب أم أي ... ن بنوه وعدهم والعديد
حسدوا يوسف أخاهم فكادو ... هـ ومات الحساد والمحسود
وسليمان في النبوة والمل ... ك قضى مثلما قضى داود
ذهبا بعدما أطاع لذا الخل ... ق وهذا له ألين الحديد
وابن عمران بعد آياته التس ... ع وشق الخضم فهو صعيد
والمسيح ابن مريم وهو روح ال ... له كادت تقضي عليه اليهود
وقضى سيد النبيين والها ... دي إلى الحق أحمد المحمود
وبنوه وآله الطاهرون ال ... زهر صلى عليهم المعبود
ونجوم السماء منتثرات ... بعد حين وللهواء ركود
ولنار الدنيا التي توقد الصخ ... ر خمود وللمياه جمود
وكذا للثرى غداة يقوم ال ... ناس منها تزلزل وهمود
هذه الأمهات نار وترب ... وهواء رطب وماء برود
سوف تفنى كما فنينا فلا يب ... قى من الخلق والد ووليد
لا الشقي الغوي من نوب الأيا ... م ينجو ولا السعيد الرشيد
ومتى سلت المنايا سيوفاً ... فالموالي حصيدها والعبيد [العبرة من مراث أخرى]
وأما قصيدة ابن عبدون الأندلسي التي رثى بها بني الأفطس وذكر فيها(5/154)
كثيراً من الملوك الذين أبادهم الدهر وطحنهم برحاه وصيرهم أثراً بعد عين ففيها ما يوقظ النوام، وأولها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور وبالجملة فالأمر كما قال ابن الهبارية:
الموت لا يبقي ... أحد لا والداً ولا ولد
مات لبيد ولبد ... وخلد الفرد الصمد {كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ، اللهم اختم لنا بالحسنى، وردنا إليك رداً جميلاً.
وتذكرت هنا أيضاً مرثية على روي مرثية المنجنيقي السابقة منها:
أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود
بينما هم على الأسرة والأن ... ماط أفضت إلى التراب الخدود
ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذا الوعد كله والوعيد
وأطباء بعدهم لحقوهم ... ضل عنهم سعوطهم واللدود
وصحيح أضحى يعود مريضاً ... وهو أدنى للموت ممن يعود وما أحكم قول السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد المريني يخاطب أخاه السلطان أبا الحسن وقد حصره بسجلماسة حتى أخذه قسراً:
فلا يغرنك الدهر الخئون فكم ... أباد من كان قبلي يا أبا الحسن
الدهر مذ كان لا يبقي على صفة ... لا بد من فرح فيه ومن حزن
أين الملوك التي كانت تهابهم ... أسد العرين ثووا في اللحد والكفن
بعد الأسرة والتيجان قد محيت ... رسومها وعفت عن كل ذي حسن
فاعمل لأخرى وكن بالله مؤتمراً ... واستعن بالله في سر وفي علن(5/155)
واختر لنفسك أمراً أنت آمره ... كأنني لم أكن يوماً ولم تكن ودخل السلطان أبو الحسن سجلماسة عنوة على أخيه السلطان أبي علي عمر سنة 734، وجاء به في الكبل لفاس، ثم قتله بالفصد والخنق في ربيع الأول من السنة، وكان القبض عليه في محرم، رحمه الله تعالى.
ومما وجد مكتوباً على قصر بعض السلاطين:
قد كان صاحب هذا القصر مغتبطاً ... في ظل عيش يخاف الناس من باسه
فبينما هو مسرور بلذته ... في مجلس اللهو مغبوط بجلاسه
إذ جاءه بغتة ما لا مرد له ... فخر ميتاً وزال التاج عن راسه رجع إلى أخبار ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - قلت: وقد زرت قبره مراراً رحمه الله تعالى بفاس المحروسة فوق باب المدينة الذي يقال له باب الشريعة، وهو يسمى الآن باب المحروق، وشاهدت موضع دفنه غير مستو مع الأرض، بل ينزل إليه بانحدار كثير، ويزعم الجل من عوام فاس أن الباب المذكور إنما سمي بباب المحروق لأجل ما وقع من حرق لسان الدين به حين أخرجه بعض أعدائه من حفرته كما مر، وليس كذلك، وإنما سمي باب المحروق في دولة الموحدين، قبل أن يوجد لسان الدين ولا أبوه، بسبب ثائر ثار على الدولة، فأمسك وأحرق في ذلك المحل، والله غالب على أمره. وحصل لي من الخشوع والحزن عند زيارة قبره - رحمه الله تعالى - ما لا مزيد عليه، جعل الله تلك المحن كفارة وطهرة، فإنه كان آية الله علماً وجلالة وحكمة وشهرة.
[رسالة في العزاء بأبي جعفر ابن جبير]
وقد تذكرت عند كتبي هذا المحل رسالة كتبها بعض أئمة المغرب في عزاء(5/156)
الوزير الشهير أبي جعفر ابن جبير الأندلسي رحمه الله تعالى إلى بنيه، وهي مما يصلح أن يوصف بمثلها لسان الدين رحمه الله تعالى، وفيها عزاء بمن مضى، ونصها: "
" عزاء يا كوكب الهدى، في بدركم الذي تحيفه الردى، وفجع به الفضل والندى، فقل للشهب أن تنكدر على فراقه، وللصبح أن يخبو نور إشراقه، وللريح أن تمزق صداراً، وللأهلة أن لا تعرف إبداراً، ولليل أن يشتمل خميصة الحزن، وللسماء أن تبكيه بأدمع المزن، وللرعد أن ينتحب لوفاته، وللبرق أن يحكي برجفاته أفئدة عفاته، وللثريا أن ينفصم سوارها، وللشمس أن تنكسف أنوارها، وللنثرة أن تنثر كواكبها، وللجوزاء أن تنفض مناكبها، وللنيرات أن ترفض مواكبها، وللرامح أن يبيت أعزلا، وللبدر أن لا يألف منزلا، وللمجرة أن يفيض دمعاً نهرها، وللغميصاء أن يطرد بكاؤها وسهرها، وللروض أن يفارق إمراعه، وللأوراق أن يهتف بما راعه، وللغصون أن تنهصر لهتفه، وتتقصف أسفاً على حتفه.
" ولكن هو الحمام يختل ويختر، ولا يحفل بمن يتر، يعدم ما أوجده الكون، ويذيل من أكنفه الصون، وأين بنا عن مكافح لا نقاتله، ورام أرواحنا مقاتله، لا يد به ناصرة، وعزمته قاصرة للقياصرة، ويمنه كاسرة للأكاسرة، لم يبق من رسم لطسم، ولا من إحسان لغسان، ولا من أياد لإياد، ولا من سلطان لقحطان، ولا من نجيب لتجيب، ولا شرف ضخم للخم، لم يكن له عن اليمين إقصار، ومنهم الأنصار، وهم أسماع للنبي وأبصار، وعمد إلى المصابيح من مضر يطفيها، هذا والوحي يتنزل فيها، ولم يصخ في الصديق، إلى التصديق، وأصمى الفاروق براده، وحكم فيه أبا لؤلؤة ومداه، وأمكن صرف الأقدار، من شهيد الدار، ولم يرع من علي بالبسالة، والذبل العسالة، ولا أبقى سبطيه وقد تفقأت عنهما بيضة الرسالة، وأذهب الزبير حواري الرسول، وحنظلة وهو بأيدي الملائكة مغسول، وأفات ابن معاذ ولم(5/157)
يحفل بفوته، على أنه اهتز العرش لموته، وأودى بحزمة ومقعده من البنوة، مقعد الأبوة، وشفى من عمار صدور الأسل، وأردى مالكاً بشربة من عسل، ولم يعبأ بمضاء عمرو، ولا بحلم معاوية ودهاء عمرو.
" فياله من خطب، مود بكل يابس ورطب، يشرب ماء الأعمار، ويجعل الأحداث منازل الأقمار، ويلوك السوقة والأملاك، ولا يبالي أية لاك، لا يقبل شفيعاً، ولا يغادر منحطاً ولا رفيعاً، ها هو اعتمد نور علاً فكسفه، وطود حلم فنفسه، وأعلق المجد في حباله، وأقصد الفضل بنباله، وفجع كنانة، بسهم لم ينثل مثله من كنانة، فيا طارق الأعين لقد بؤت بأنفس الأعلاق، ويا ناعيه لقد نعيت باسق الأخلاق، رويداً أسائلك، عمن لم تضع لديه وسائلك، أين سماحه وطلاقته أين كلفه بالحمد وعلاقته ما الذي ثنى عطفه عن الارتياح أم أين عافيه من ذلك الامتياح أو من يؤلف أمنية كما ألفت السحب أيدي الرياح
" فيا هبة الحمد اطوي عرفك فما تنشق، ويا ربة المجد أقصري طرفك فما تعشق، ويا معشر عفاته، كيف حييتم وقد علمتم بوفاته ويا زمر أماله، صفرت أيديكم من إجماله، ويا أخاير أصحابه، أين مواقع سحابه ويا بني ولائه، من يتبوأ مقام علائه ويا منافسي شيمه، من يجود بمثل ديمه ويا منازعي كرمه، من يطيف المعتفين بمثل حرمه ويا حاسدي هممه، من له كحافظه وذممه "
" سيدي لقد أضاءت مساعيك وأشرقت، وأغصت الحاسدين طراً وأشرقت، وحسبهم أن لم ينتبهوا إلا إذا نمت، ولا نطقوا إلا حين مت، وليهن ملأك وصحبك، أن أحيتك صنائعك وقد قضيت نحبك، وإن حم فناؤك، فقد أبقى الحياة الخالدة ثناؤك (1) :
__________
(1) البيتان من قطعة في الحماسة (شرح المرزوقي: 950) للتيمي في منصور بن زياد، وعند التبريزي أن اسمه عبد الله بن أيوب، من أهل اليمامة.(5/158)
ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار أنة وزفير سيدي، أما تجيب صرخة لهفان، أم عداك عن الجواب أنك فان سيدي من لآملك، ببسط أناملك من للمرملات الضرائك، بإرشادك من لأبنائك، بلطف أحبائك انفض شملهم وكان جميعاً، ونادوك لو نادوا منك سميعاً، هذا كبيرهم يدعوك فلا تجيبه، وقد فت الأضلاع وجيبه، يبكي عند تلك الرجام، بأدمع سجام، وقد ألهبت الزفرات حشاه، وألح الدمع بجفنه حتى أعشاه، والأصاغر ما لهم بعدك مفزع، ورضيعهم تسلب به الأنفس رحمة وتنزع، لا يدري ما جزع عليك فيجزع، لشد ما أذابتهم وقدة الأوار، حين عدموا منك كرم النجوى والجوار، أف لدهر رماهم بالأجوار، وتركهم أنجماً مسلوبة الأنوار، لا جرم أن يحزنوا عليك ويكترثوا، فلقد تسلوا عنك ببعض ما ورثوا، وما ورثتهم غير الحزن والبث، وأمل في الحياة كالهباء المنبث، كما تتلى محاسنك فاسمع، طفقت عليك شؤون عيني تدمع، أيا ضريحه، كيف وجدت ريحه لقد ارج بك ذلك المعفر، حتى ما ينافحه، المسك الأذفر، وكما ظفرت بوجوده، فجد كل قبر بجوده، ففيه سماء ثرة وغمام، ونور انضم عليك منك كمام، ولو علمت بمن بين جنبيك راقد، لعلوت حتى تلوح في ذراك الفراقد، ويا دافنيه كيف هلتم عليه الرغام أو لم تنكروا على الشمس أن تغام هيهات لقد سمحتم بإقبار، عف الشمائل طيب الأخبار، وإلحاد، من لا نزاع في فضله ولا إلحاد، أي نفس تخذتم له التراب مستودعاً، فأضحى عرنين المكارم مجدعاً
فتى مثل نصل السيف من حيث جئته ... لنائبة نابتك فهو مضارب
فتى همه حمد على النأي رابح ... وإن بات عنه ماله وهو عازب(5/159)
" أما وإن ازدحمت بمهلكه الأوصاب، وفدح الرزء وجل المصاب، حتى لا نألف التأساء، فلقد سر الموت من حيث ساء، فلقد خلفنا بدهر ما فيه غير مصائب، ولا يبالي من أقصد سهمه الصائب، فيا فقيد الندى ما كان أجدرك بالخلود وأخلقك، ويا جواد عمره ما كان أقصر طلقك، ثوى حين استوى وتوارى، إذ ملأ الأفق أنوارا، وكسف حين بلغ الكمال، فكان كالغصن عندما اعتل مال، أو كالشهاب عندما استقام حار:
وكذاك عمر كواكب الأسحار (1) ... " هذه اليراعة التحفت بعد الضنى، والصحف تطوى على جهالة وتحنى، وعهدي به إن أمطى راحته اليراع، راع، أو دبج الأوراق، راق، أو استدر طبعه السلسال، سال، وأي روض أراد، راد، ومتى أراغ الإنشاء، أحسن إن شاء، فحق للفؤاد أن يستعر بوقده، وللمدامع أن تسيل دماً على فقده، بيد أنه الموت لا بد أن نرد مشرعه، ونسيغ على شرق به جرعه، فإنا زرع يحصده الذي ازدرعه، وصبراً يا ذوي أرحامه وبنيه، ومن مر في غلواء الوجد فالسلوان يثنيه، وشحاً على أجركم لا يذهب به الجزع ويفنيه، والله يزلف الفقيد من رحمته ويدنيه، ويقطفه زهر رضوانه ويجنيه، وييسر لكم العزاء الأجمل برحمته وينسيه، والسلام ". انتهت.
[قطع زهدية]
ويرحم الله القائل:
كل جمع إلى الشتات يصير ... أي صفو ما شابه تكدير
__________
(1) من مرثية أبي الحسن التهامي في ابنه، وصدر البيت:
يا كوكبا ما كان أقصر عمره ...(5/160)
أنت في اللهو والأماني مقيم ... والمنايا في كل وقت تسير
والذي غره بلوغ الأماني ... بسراب وخلب مغرور
ويك يا نفس أخلصي إن ربي ... بالذي أخفت الصدور بصير ولا خفاء على ذوي الأحلام، من الأعلام، أن الدنيا أضغاث أحلام (1) :
يندم المرء على ما فاته ... من لبانات إذا لم يقضها
وتراه فرحاً مستبشراً ... بالتي أمضى كأن لم يمضها
إنها عندي كأحلام الكرى ... لقريب بعضها من بعضها وقال أبو منصور أسعد النحوي:
يجمع المرء ثم يترك ما يج ... مع من كسبه لغير شكور
ليس يحظى إلا بذكر جميل ... أو بعلم من بعده مأثور [شيء من مواعظ ابن الجوزي]
وقال الإمام الشهير أبو الفرج ابن الجوزي (2) :
يا ساكن الدنيا تأ ... هب واتنظر يوم الفراق
وأعد زاداً للرحي ... ل فسوف يحدى بالرفاق
وابك الذنوب بأدمع ... تنهل من سحب المآق
يا من أضاع زمانه ... أرضيت ما يفنى بباق وكان ابن الجوزي المذكور آية الله في كثرة التأليف والكتابة والوعظ
__________
(1) تنسب إلى عمران بن حطان وإلى غيره (انظر شعر الخوارج: 19) .
(2) ترجمة ابن الجوزي في وفيات الأعيان 2: 321 وذيل أبي شامة: 21 وهذه النتف التي أوردها المقري مأخوذة من الثاني.(5/161)
والحفظ، وأقل من كان يحضر مجلسه عشرة آلاف، وربما حضر عنده مائة ألف، وقال في آخر عمره على المنبر: كتبت بإصبعي هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني، وأسمع رحمه الله تعالى الناس أكثر من أربعين سنة، وحدث بمصنفاته مراراً.
وقال الحافظ الذهبي في حقه: الحافظ الكبير، الواعظ المفتن، صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في العلوم المتعددة، وعظ من صغره، وفاق فيه الأقران ونظم الشعر المليح، وكتب بخطه ما لا يوصف، ورأى من القبول والاحترام ما لا يزيد عليه، وحزر مجلسه غير مرة بمائة ألف، وحضر مجلسه المستضيء مراراً من وراء الستر؛ انتهى.
ومن كلامه في بعض مجالسه: واله ما اجتمع لأحد أمله، إلا وسعى في تفريقه أجله، وعقارب المنايا تلسع الناس، وخدران جسم الأمل يمنع الإحساس، وقال في قوله صلى الله عليه وسلم " أعمار أمتي من الستين إلى السبعين " إنما طالت أعمار القدماء لطول البداية، فلما شارف الركب بلد الإقامة قيل: حثوا المطي.
وقال في الذين عبدوا العجل: لو أن الله خار لهم ما خار لهم.
وقال يوماً وقد طرب أهل المجلس: فهمتم فهمتم.
وقال في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، بعد أن ذكر أحاديث تدل على خلافته كقوله صلى الله عليه وسلم " مروا أبا بكر فليصل بالناس " وغيره، ما صورته: فهذه أحاديث تجري مجرى النص، فهمها الخصوص، غير أن الرافضة في إخفائها كاللصوص، فقال السائل: لما قال: " أقيلوني " ما سمعنا مثل جواب علي رضي الله عنه " والله لا أقلناك "، فقال: لما غاب علي عن البيعة في الأول، أخلف ما فات بالمدح في المستقبل، ليعلم السامع والرائي أن بيعة أبي بكر وإن كانت من ورائي، فهي رائي، ومثل ذلك الصدر لا يرائي.
وقال في قول فرعون {أليس لي ملك مصر} (الزحف: 51) يفتخر(5/162)
بما أجراه، ما أجراه.
وتواجد رجل في مجلسه فقال: عجباً! كلنا في إنشاد الضالة سوا، فلم وجدت وحدك ألم الجوى وأنشد:
قد كتمت الحب حتى شفني ... وإذا ما كتم الداء قتل
بين عينيك علالات الكرى ... فدع النوم لربات الحجل ونظر يوماً إلى أقوام يبكون في مجلسه ويتواجدون فأنشد (1) :
ولو لم يهجني الظاعنون لهاجني ... حمائم ورق في الديار وقوع
تداعين فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح لم تقطر لهن دموع
وكيف أطيق العاذلين وذكرهم ... يؤرقني والعاذلون هجوع وقام رجل وتواجد فأنشد:
وما زال يشكو الشوق حتى كأنما ... تنفس من أحشائه وتكلما
ويبكي فأبكي رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما وأعجبه يوماً كلامه فأنشد:
تزدحم الألفاظ والمعاني ... على فؤادي وعلى لساني
تجري لي الأفكار في ميدان ... أزاحم النجم على مكان ووعظ المستضيء يوماً فقال: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، فأنا أقدم خوفي عليك، على خوفي منك، لمحبتي لدوام أيامك، إن قول القائل " اتق الله " خير من قول القائل: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وقال الحسن البصري: لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تبلغ المأمن
__________
(1) الأبيات لذي الرمة، ديوانه: 352.(5/163)
خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى تبلغ المخاوف.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا بلغني عن عامل ظالم أنه قد ظلم الرعية ولم أغيره فأنا الظالم. يا أمير المؤمنين، كان يوسف عليه السلام لا يشبع في زمان القحط، لئلا ينسى الجياع، وكان عمر رضي الله عنه يصر بطنه عام الرمادة فيقول: قرقري إن شئت ولا تقرقري، فوالله لا شبعت والمسلمون جياع. فتصدق الخليفة المستضيء بصدقات كثيرة، وأطلق من في السجن.
وقال رحمه الله تعالى لبعض الولاة: اذكر عدل الله فيك، وعند العقوبة قدرة الله عليك، وإياك أن تشفي غيظك بسقم دينك.
وقال: الطاعة تبسط اللسان، والمعاصي تذل الإنسان.
وقال له قائل: ما نمت البارحة من شوقي إلى المجلس، فقال: نعم، لأنك تريد أن تتفرج، وإنما لا ينبغي أن لا تنام الليل لأجل ما سمعت فيه.
وقيل له: إن فلاناً أوصى عند الموت، فقال: طين سطوحه في كانون.
وقال له قائل: أسبح أم أستغفر فقال: الثياب الوسخة أحوج إلى الصابون من البخور.
وسأله سائل: ما الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله عنه فقال: قوله ليلة المعراج " إن كان قال فلقد صدق " فله السبق.
ولما قال له بعضهم " سيف علي نزل من السماء فسعفة أبي بكر أين " أجابه بقوله: إن سعفة هزت يوم الردة فأثمرت سبياً جاء منه مثل ابن الحنفية لأمضى من سيوف الهند، ثم قال: يا عجباً للروافض، إذا مات لهم ميت تركوا معه سعفة، من أين ذا المصطلح
وسئل عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم " من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر " فقال: الميت يقسم ماله ويكفن، وأبو بكر أخرج ماله كله وتخلل بالعباء.
وقال في قوله تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً} (الأعراف: 43) .(5/164)
قال علي: إني والله لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، ثم قال أبو الفرج: إذا اصطلح أهل الحرب فما بال النظارة
وقال: قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سلم على عائشة، ولم يوجهها بالخطاب احتراماً لزوجها، وواجه مريم لأنها لم يكن لها زوج، فمن يحترمها جبريل كيف يجوز في حقها الأباطيل
قال أبو شامة: وكان ابن الجوزي رحمه الله تعالى مبتلى بالكلام في مثل هذه الأشياء، لكثرة الروافض ببغداد وتعنتهم بالسؤالات فيها، فكان بصيراً بالخروج منها لحسن إشارته.
وانقطع القراء يوماً عن مجلسه فأنشد:
وما الحلي إلا زينة لنقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
وأما إذا كان الجمال موفراً ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزوروا وقيل له: لم تعلل موسى عليه السلام بسوف تراني فأنشد:
إن لم يكن وصل لديك لنا ... يشفي الصبابة فليكن وعد ولما ذكر بلالاً - رضي الله عنه - لما منع الطواف بالبيت كان يقف من بعيد وينظر إليه ويبكي أنشد:
أمر على منازلهم وإني ... بمن أضحى بها صب مشوق
وأومي بالتحية من بعيد ... كما يومي بإصبعه الغريق ومن شعر أبي الفرج رحمه الله تعالى:
لعبت ومثلك لا يلعب ... وقد ذهب الأطيب الأطيب
قد كنت في ظلمات الشباب ... فلما أضاء انجلى الغيهب
ألا أين أقرانك الراحلون ... لقد لاح إذ ذهبوا المذهب(5/165)
ولنقتصر على هذا المقدار، ونرجع إلى أحوال لسان الدين رحمه الله تعالى وارتحاله، والاعتبار بحاله، فنقول:
ومما يناسب أن نذكره في هذا المحل ونثبته فيه ما حكاه العالم العلامة بلدينا سيدي أبو الفضل ابن الإمام التلمساني رحمه الله تعالى عن جدي الإمام قاضي القضاة سيدي أبي عبد الله المقري التلمساني رحمه الله تعالى، وهو أحد أشياخ لسان الدين كما يأتي إن شاء الله ذلك في محله، قال: كنت مع ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب في جامع إلبيرة من الأندلس إذ مر بنا الاعتبار، في تلك الآثار، فأنشد ابن الخطيب ارتجالاً (1) :
أقمنا برهة ثم ارتحلنا ... كذلك الدهر حال بعد حال
وكل بداية فإلى انتهاء ... وكل إقامة فإلى ارتحال
ومن سام الزمان دوام حال ... فقد وقف الرجاء على المحال انتهى.
وحكى لسان الدين في الإحاطة عن نفسه أنه خطط هذه الأبيات في مرحلة نزلها رحمه الله تعالى حسبما يأتي ذلك في شعره.
وما أحسن قوله رحمه الله تعالى:
لبسنا فلم نبل الزمان وأبلانا ... يتابع أخرانا على الغي أولانا
ونغتر بالآمال والعمر ينقضي ... فما كان بالرجعى إلى الله أولانا
وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا ... فما انقاد للزجر الحثيث ولا لانا
جزينا صنيع الله شر جزائه ... فلم نرع ما من سابق الفضل أولانا
فيا رب عاملنا بما أنت أهله ... من العفو واجبر صدعنا أنت مولانا
__________
(1) انظر أزهار الرياض 1: 271.(5/166)
وقد حكى غير واحد أنه رحمه الله تعالى ريء بعد موته في المنام، فقال له الرائي: ما فعل الله بك فقال: غفر لي ببيتين قلتهما، وهما (1) :
يا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح له أغلاق
أيروم مخلوق ثناءك بعدما ... أثنى على أخلاقك الخلاق وقد كرر رحمه الله تعالى هذا المعنى في قصيدة في حقه صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم، ومجد وعظم، وبارك وأنعم، وهو قوله:
مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثني على علياك نظم مديحي
وإذا كتاب الله أثنى مفصحاً ... كان القصور قصار كل فصيح وستأتي هذه القصيدة في نظمه إن شاء الله تعالى.
وقد رأيت بالغرب تخميساً للبيتين الأولين منسوباً للأديب الشهير الذكر بالمغرب أبي عبد الله مجمد بن جابر الغساني المكناسي رحمه الله تعالى، ولا بأس أن نورده هنا، وهو قوله رحمه الله تعالى:
يا سائلاً لضريح خير العالم ... ينهي إليه مقام صب هائم
بالله نادي وقل مقالة عالم ... يا مصطفى من قبل نشأة آدم والكون لم تفتح له أغلاق ...
بثناك قد شهدت ملائكة السما ... والله قد صلى عليك وسلما
يا مجتبى ومعظماً ومكرماً ... أيروم مخلوق ثناءك بعدما أثنى على أخلاقك الخلاق ...
__________
(1) أزهار الرياض 1: 319 وفيه التخميس التالي أيضا.(5/167)
وما أحسن قول لسان الدين - رحمه الله تعالى - بعدما عرف بنفسه وسلفه: وكأني بالحي ممن ذكر قد التحق بالميت، وبالقبر قد استبدل من البيت.
وقال رحمه الله تعالى بعد إيراد جملة من نظمه ما صورته: وقلت والبقاء لله وحده، وبه يختم الهذر (1) :
عد عن كيت وكيت ... ما عليها غير ميت
كيف ترج حالة البق ... يا لمصباح وزيت وسيأتي ذلك، ولقد صدق رحمه الله تعالى، ورقى درجته في الجنة.
[تحقيق في نسبة بيتين]
وأما البيتان الشائعان على ألسنة أهل المشرق والمغرب وأنهما قيلا في لسان الدين رحمه الله تعالى، وبعضهم ينسبهما له نفسه، فالصحيح خلاف ذلك كما سيأتي، وهما:
قف كي ترى مغرب شمس الضحى ... بين صلاة العصر والمغرب
واسترحم الله قتيلاً بها ... كان إمام العصر في المغرب وشرح بعضهم البيتين فقال: إن قوله " قتيلاُ بها " من باب الاستخدام: أي قتيلاً بشمس الضحى التي هي المتغزل فيها.
وقد رأيت وأنا بالمغرب بخط الشيخ الأغصاوي أنهما لم يعن بهما قائلهما لسان الدين ابن الخطيب، وإنما هما مقولان في غيره، ونسبهما، ونسيت الآن ذلك لطول العهد، والله أعلم.
ويدل على ذلك أنه - رحمه الله تعالى - لم يقتل بين صلاة العصر والمغرب
__________
(1) أزهار الرياض 1: 313.(5/168)
وإنما قتل في جوف الليل كما علم في محله. على أنه يمكن بتكلف تأويل ذلك بأنه قامت لقائلها قرينة على أنه بصدد الموت في ذلك الوقت، وهذا لو ثبت أنهما قيلا فيه، وقد علمت أن الأغصاوي نفى ذلك، فالله أعلم بحقيقة الأمر. في ذلك.
ثم رأيت في كتاب إسماعيل بن الأحمر في ترجمة بعض العلماء ما نصه: فمن قوله يرثي الأمراء بالمغرب، وقد حل رمسه بين صلاة العصر والمغرب:
قف كي ترى مغرب شمس العلا ... بين صلاة العصر والمغرب
واسترحم الله دفيناً به ... كان مليك العصر في المغرب وهذا مما يبعد أنهما في لسان الدين من وجوه لا تخفى على المتأمل: منهما قوله كان مليك العصر فإن لسان الدين لم يكن كذلك، وقد تقدم أنفاُ كان إمام العصر في المغرب وهو أحسن؛ لما فيه من التورية البديعة، والله أعلم.
[ثلاث قصائد لابن زمرك]
رجع إلى أخبار لسان الدين ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - وقد عرض عدوه الرئيس ابن زمرك في بعض قصائده التي مدح بها سلطانه الغني بالله أبا عبد الله بن نصر بما تسنى له من الظفر لابن الخطيب، ومن حماه منه، وهو الوزير بن الكاس، على يد من عينه لملك المغرب، وأعانه بجنده وعضده - كما تقدم - وهو السلطان أحمد المريني، فقال من قصيدة عيدية:
يهني زمانك أعياد مجددة ... من الفتوح من الأيام تغشاه
غضبت للدين والدنيا بحقهما ... يا حبذا غضب في الله أرضاه
فوقت للغرب سهماً راشه قدر ... وسدد الله للأعداء مرماه(5/169)
" سهم أصاب وراميه بذي سلم " ... لقد رمى الغرب الأقصى فأصماه (1)
من كان بندك يا مولاي يقدمه ... فليس يخلفه فتح ترجاه
من كان جندك جند الله ينصره ... أناله الله ما يرجو وسناه
ملكته غربه خلدت من ملك ... للغرب والشرق منه ما تمناه
وسام أعدائك الأشقين ما كسبوا ... ومن تردى رداء الغدر أرداه
قل للذي رمدت جهلاً بصيرته ... فلم تر الشمس، شمس الهدي، عيناه
غطى الهوى عقله حتى إذا ظهرت ... له المراشد أعشاه وأعماه
هل عنده وذنوب الغدر توبقه ... أن الذي قد كساه العز أعراه
لو كان يشكر ما أوليت من نعم ... ما زلت ملجأه الأحمى ومنجاه
سل السعود وخل البيض مغمدة ... فالسيف مهما مضى فالسعد أقصاه
وأشرع من البرق نصلاً راع مصلته ... وارفع من الصبح بنداً راق مجلاه
فالعدوتان وما قد ضم ملكهما ... أنصار ملكك، صان الله علياه
لا أوحش الله قطراُ أنت مالكه ... وآنس الله بالألطاف مغناه
لا أظلم الله أفقاً أنت نيره ... لا أهمل الله سرحاُ أنت ترعاه
وأهنأ بشهر صيام جاء زائره ... مستنزل من إله العرش رحماه
أهل بالسعد فانهلت به منن ... وأوسع الصنع إجمالأ ووفاه
أما ترى بركات الأرض شاملة ... وأنعم الله قد عمت براياه
وعادك العيد تستحلى موارده ... ويزجل الأجر والرحمى مصلاه
جهزت جيش دعاء فيه ترفعه ... لذي المعارج والإخلاص رقاه
أفضت فيه من النعماء أجزلها ... وأشرف البر بالإحسان زكاه
واليت للخلق ما أوليت من نعم ... والى لك الله ما أولى ووالاه
__________
(1) ضمنه من قول الشريف الرضي:
سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك(5/170)
وأول هذه القصيدة:
هذي العوالم لفظ أنت معناه ... كل يقول إذا استنطقه الله
بحر الوجود وفلك الكون جارية ... وباسمك الله مجراه ومرساه
من نور وجهك ضاء الكون أجمعه ... حتى تشيد بالأفلاك مبناه
عرش وفرش وأملاك مسخرة ... وكلها ساجد لله مولاه
سبحان من أوجد الأشياء من عدم ... وأوسع الكون قبل الكون نعماه
من ينسب النور للأفلاك قلت له: ... من أين أطلعت الأنوار لولاه
مولاي مولاي بحر الجود أغرقني ... والخلق أجمع في ذا البحر قد تاهوا
فالفلك تجري كما الأفلاك جارية ... بحر السماء وبحر الأرض أشباه
وكلهم نعم للخلق شاملة ... تبارك الله لا تحصى عطاياه
يا فاتق الرتق من هذا الوجود كما ... في سابق العلم قد خطت قضاياه
كن لي كما كنت لي إذ كنت لا عمل ... أرجو، ولا ذنب قد أذنبت أخشاه
وأنت في حضرات القدس تنقلني ... حتى استقر بهذا الكون مثواه
ما أقبح العبد أن ينسى وتذكره ... وأنت باللطف والإحسان ترعاه
غفرانك الله من جهل بليت به ... فمن أفاد وجودي كيف أنساه
مني علي حجاب لست أرفعه ... إلا بتوفيق هدي منك ترضاه
فعد علي بما عودت من كرم ... فأنت أكرم من أملت رحماه
ثم الصلاة صلاة الله دائمة ... على الذي باسمه في الذكر سماه
المجتبى وزناد النور ما قدحت ... ولا ذكا من نسيم الروض مسراه
والمصطفى وكمام الكون ما فتقت ... عن زهر زهر يروق العين مرآه
ولا تفجر نهر للنهار على ... در الدراري فغطاه وأخفاه
يا فاتح الرسل أو يا ختمها شرفاً ... والله قدس في الحالين معناه(5/171)
لم أدخر غير حب فيك ارفعه ... وسيلة لكريم يوم ألقاه
صلى عليك إله أنت صفوته ... ما طيبت بلذيذ الذكر أفواه
وعم بالروح والريحان صحبته ... وجادهم من نمير العفو أصفاه
وخص أنصاره الأعلين صفوته ... وأسكنوا من جوار الله أعلاه
أنصار ملته أعلام بيعته ... مناقب شرفت أنثى بها الله
وأيد الله من أحيا جهادهم ... وواصل الفخر أخراه بأولاه
المنتقى من صميم الفخر جوهره ... ما بين نصر وأنصار تهاداه
العلم والحلم والإفضال شيمته ... والبأس والجود بعض من سجاياه وهي طويلة، ولنقتصر منها على ما ذكر.
وقد صرح ابن زمرك المذكور في قصيدة أخرى مدح بها سلطانه الغني بالله، وهنأه بفتح المغرب على يد السلطان أحمد، وذكر فيها ظفره بالوزير ابن الكاس، وهو - أعني ابن الكاس - كان القائم بنصرة لسان الدين، والمانع له، والمجير له منهم حين طلبوه منه، فلما لم يخفر ذمته تمكنت - كما سبق - أسباب العداوة، وجر ذلك أن أغرى السلطان أحمد على تملك فاس، واشترطوا عليه كما مر القبض على لسان الدين وإرساله إليهم، وقد نقلت أنا هذه القصيدة من تأليف لحفيد السلطان الغني بالله ونص محل الحاجة منه: ومن ذلك أيضاً قوله - يعني ابن زمرك - هناء لمولانا الجد رحمه الله تعالى بالفتح المغربي للسلطان أبي العباس ابن السلطان أبي سالم المريني (1) :
هي نفحة هبت من الأنصار ... أهدتك فتح ممالك الأمصار
في بشرها وبشارة الدنيا بها ... مستمتع الأسماع والأبصار
هبت على قطر الجهاد فروضت ... أرجاءه بالنفحة المطار
__________
(1) القصيدة في أزهار الرياض 2: 28 - 34.(5/172)
وسرت وأمر الله طي برودها ... يهدي البرية صنع لطف الباري
مرت بأدواح المنابر فانبرت ... خطباؤها مفتنة الأطيار
حنت معارجها إلى أعشارها ... لما سمن بها حنين عشار
لو أنصفتك لكللت أدواحها ... تلك البشائر يانع الأزهار
فتح الفتوح أتاك من حلل الرضى ... بعجائب الأزمان والأعصار
فتح الفتوح جنيت من أفنانه ... ما شئت من نصر ومن أنصار
كم آية لك في السعود جلية ... خلدت منها عبرة استبصار
كم حكمة لك في النفوس خفية ... خفيت مداركها عن الأفكار
كم من أمير أم بابك فانثنى ... يدعى الخليفة دعوة الإكبار
أعطيت أحمد راية منصورة ... بركاتها تسري من الأمصار
أركبته في المنشآت كأنما ... جهزته في وجهة لمزار
من كل خافقة الشراع مصفق ... منها الجناح تطير كل مطار
ألقت بأيدي الريح فضل عنانها ... فتكاد تصدق لمحة الأبصار
مثل الجياد تدافعت وتسابقت ... من طافح الأمواج في مضمار
لله منها في المجاز سوابح ... وقفت عليك الفخر وهي جواري
لما قصدت بها مراسي سبتة ... عطفت على الأسوار عطف سوار
لما رأت من صبح عزمك غرة ... محفوفة بأشعة الأنوار
ورأت جبيناً دونه شمس الضحى ... لبتك بالإجلال والإكبار
فأفضت بها من نداك مواهباً ... حسنت مواقعها على التكرار
وأريت أهل الغرب عزم مغرب ... قد ساعدته غرائب الأقدار
وخطبت من فاس الجديد عقيلة ... لبتك طوع تسرع وبدار
ما صدقوا متن الحديث بفتحها ... حتى رأوه في متون شفار
وتسمعوا الأخبار باستفتاحها ... والخبر قد أغنى عن الأخبار
قولوا لقرد في الوزارة غره ... حلم مننت به على مقدار(5/173)
أسكنته من فاس جنة ملكها ... متنعماً منها بدار قرار
حتى إذا كفر الصنيعة وازدرا ... بحقوقها ألحقته بالنار
جرعت نجل الكاس كأساً مرة ... دست إليه الحتف في الإسكار
كفر الذي أوليته من نعمة ... لا تأنس النعماء بالكفار
فطرحته طرح النواة فلم يفز ... من عز مغربه بغير فرار
لم يتفق لخليفة مثل الذي ... أعطى الإله خليفة الأنصار
لم أدر والأيام ذات عجائب ... تردادها يحلو على التذكار
ألواء صبح في فنية مشرق ... أم راية في جحفل جرار
وشهاب أفق أم سنان لامع ... ينقض نجماً في سماء غبار
ومناقب المولى الإمام محمد ... قد أشرقت أم هن زهر دراري
فاق الملوك بهمة علوية ... من دونها نجم السماء الساري
لو صافح الكف الخصيب بكفه ... فخرت بنهر للمجرة جاري
والشهب تطمع في مطالع أفقها ... لو أحرزت منه منيع جوار
سل بالمشارق صبحها عن وجهه ... يفتر منه عن جبين نهار
سل بالغمائم صوبها عن كفه ... تنبيك عن بحر بها زخار
سل بالبروق صفاحها عن عزمه ... تخبرك عن أمضى شباً وغرار
قد أحرز الشيم الخطيرة عندما ... أمطى العزائم صهوة الأخطار
إن يلق ذو الإجرام صفحة صفحه ... فسح القبول له خطا الأعمال
يا من إذا هبت نواسم حمده ... أزرت بعرف الروضة المعطار
يا من إذا افترت مباسم بشره ... وهب النفوس وعاف في الإقتار
يا من إذا طلعت شموس سعوده ... تعشي أشعتها قوى الأبصار
قسماً بوجهك في الضياء وإنه ... شمس تمد الشمس بالأنوار
قسماً بعزمك في المضاء فإنه ... سيف تجرده يد الأقدار(5/174)
لسماح كفك كلما استوهبته ... يزري بغيمة الديمة المدرار
لله حضرتك العلية لم تزل ... يلقي الغريب بها عصا التسيار
كم من طريد نازح قذفت به ... أيدي النوى في القفر رهن سفار
بلغته ما شاء من آماله ... فسلا عن الأوطان بالأوطار
صيرت بالإحسان دارك داره ... متعت بالحسنى وعقبى الدار
والخلق تعلم أنك الغوث الذي ... يضفي عليها وافي الأستار
كم دعوة لك في المحول مجابة ... أغرت جفون المزن باستعبار
جادت مجاري الدمع من قطر الندى ... فرعى الربيع لها حقوق الجار
فأعاد وجه الأرض طلقاً مشرقاً ... متضاحكاً بمباسم النوار
يا من مآثره وفضل جهاده ... تحدى القطار بها إلى الأقطار
حطت البلاد ومن حوت ثغورها ... وكفى لسعدك حامياً لذمار
فلرب بكر للفتوح خطبتها ... بالمشرفية والقنا الخطار
وعقيلة للكفر لما رعتها ... أخرست من ناقوسها المهذار
أذهبت من صفح الوجود كيانها ... ومحوتها إلا من التذكار
عمروا بها جنات عدن زخرفت ... ثم انثنوا عنها ديار بوار
صبحت منها روضة مطلولة ... فأعدتها للحين موقد نار
واسود وجه الكفر من خزي متى ... ما احمر وجه الأبيض البتار
ولرب روض للقنا متأود ... ناب الصهيل به عن الأطيار
مهما حكت زهر الأسنة زهره ... حكت السيوف معاطف الأنهار
متوقد لهب الحديد بجوه ... تصلى به الأعداء لفح أوار
فبكل ملتفت صقال مشهر ... قداح زند للحفيظة واري
في كف أروع فوق نهد سابح ... متموج الأعطاف في الإحضار
من كل منخفر بلمحة بارق ... حمل السلاح به على طيار
من أشهب كالصبح يطلع غرة ... في مستهل العسكر الجرار(5/175)
أو أدهم كالليل إلا أنه ... لم يرض بالجوزاء حلي عذار
أو أحمر كالجمر يذكي شعلة ... وقد ارتمى من بأسه بشرار
أو أشقر حلى الجمال أديمه ... وكساه من زهو جلال نضار
أو أشعل راق العيون كأنه ... غلس يخالط سدفة بنهار
شهب وشقر في الطراد كأنها ... روض تفتح عن شقيق بهار
عودتها أن ليس تقرب منهلاً ... حتى يخالط بالدم الموار
يا أيها الملك الذي أيامه ... غرر تلوح بأوجه الأعصار
يهني لواءك أن جدك زاحف ... بلواء خير الخلق للكفار
لا غرو أن فقت الملوك سيادة ... إذ كان جدك سيد الأنصار
السابقون الأولون إلى الهدى ... والمصطفون لخدمة المختار
متهللون إذا النزيل عراهم ... سفروا له عن أوجه الأقمار
من كل وضاح الجبين إذا احتبى ... تلقاه معصوباً بتاج فخار
قد لاث صبحاً فوق بدر بعدما ... لبس المكارم وارتدى بوقار
فاسأل ببدر عن مواقف بأسهم ... فهم تلافوا أمره ببدار
لهم العوالي عن معالي فخرها ... نقل الرواة عوالي الأخبار
وإذا كتاب الله يتلو حمدهم ... أودى القصور بمنة الأشعار
يا ابن الذين إذا تذوكر فخرهم ... فخروا بطيب أرومة ونجار
حقاً لقد أوضحت من آثارهم ... لما أخذت لدينهم بالثار
أصبحت وارث مجدهم وفخارهم ... ومشرف الأعصار والأمصار
يا صادراً في الفتح عن ورد المنى ... رد ناجح الإيراد والأصدار
واهنأ بفتح جاء يشتمل الرضى ... جذلان يرفل في حل استبشار
وإليكها ملء العيون وسامة ... حيتك بالأبكار من أفكاري
تجري حداة العيس طيب حديثها ... يتعللون به على الأكوار
إن مسهم لفح الهجير أبلهم ... منه نسيم ثنائك المعطار(5/176)
وتميل من أصغى لها فكأنني ... عاطيته منها كؤوس عقار
قذفت بحور الفكر منها جوهراً ... لما وصفت أنامل ببحار
لا زلت للإسلام ستراً كلما ... أم الحجيج البيت ذا الأستار
وبقيت يا بدر الهدى تجري بما ... شاءت علاك سوابق الأقدار انتهت.
ولابن زمرك السابق قصيدة أخرى قالها بعد موت لسان الدين ابن الخطيب وخلع السلطان أبي العباس أحمد ابن أبي سالم الذي قتل ابن الخطيب في دولته، وكان سلطان الأندلس موئلاً للسلطان أحمد المذكور، ولذلك امتعض لرده لملكه، فقال ابن زمرك وزير صاحب الأندلس بعد ابن الخطيب هذه القصيدة يمدح بها سلطانه أثناء وجهته لتجديد الدولة الأحمدية المذكورة صدر عام تسعة وثمانين وسبعمائة (1) :
هب النسيم على الرياض مع السحر ... فاستيقظت في الدوح أجفان الزهر
ورمى القضيب دراهماً من نوره ... فاعتاض من طل الغمام بها درر
نثر الأزاهر بعدما نظم الندى ... يا حسن ما نظم النسيم وما نثر
قم هاتها والجو أزهر باسم ... شمساً تحل من الزجاجة في قمر
إن شجها بالماء كف مديرها ... ترميه من شهب الحباب بها شرر
نارية نورية من ضوئها ... يقد (2) السراج لنا إذا الليل اعتكر
لم يبق منها الدهر إلا صبغة ... قد أرعشت في الكأس من ضعف الكبر
من عهد كسرى لم يفض ختامها ... إذ كان يدخر كنزها فيما دخر
كانت مذاب التبر فيما قد مضى ... فأحالها ذوب اللجين لمن نظر
جدد بها عرس الصبوح فإنها ... بكر تحييها الكرام مع البكر
__________
(1) انظر أزهار الرياض 2: 35 - 38.
(2) ق ص: يقدح، واقرأ: قدح.(5/177)
وابلل بها رمق الأصيل عشية ... والشمس من وعد الغروب على خطر
محمرة مصفرة قد أظهرت ... خجل المريب يشوبه وجل الحذر
من كف شفاف تجسد نوره ... من جوهر لألاه بهجته بهر
تهوى البدور كماله وتود أن ... لو أوتيت منه المحاسن والغرر
قد خط نون عذاره في خده ... قلمان من آس هناك ومن شعر
والى عليك بها الكؤوس، وربما ... يسقيك من كأس الفتور إذا فتر
سكر الندامى من يديه ولحظه ... متعاقب مها سقى وإذا نظر
حيث الهدير مع الهديل تناغيا ... فالطير تنشد (1) في الغصون بلا وتر
والقضب مالت للعناق كأنها ... وفد الأحبة قادمين من السفر
متلاعبات في الحلي ينوب في ... وجناتهن حسناً عن خفر
والنرجس المطلول يرنو نحوها ... بلواحظ دمع الندى منها انهمر
والنهر مصقول الحسام متى يرد ... درع الغدير مصفقاً فيه صدر
يجري على الحصباء وهي جواهر ... متكسراً من فوقها مهما عثر
هل هذه أم روضة البشرى التي ... فيها لأرباب البصائر معتبر
لم أدر من شغف بها وبهذه ... من منهما فتن القلوب ومن سحر
جاءت بها الأجفان ملء ضلوعها ... ملء الخواطر والمسامع والبصر
ومسافر في البحر ملء عنانه ... وافى مع الفتح المبين على قدر
قادته نحوك بالخطام كأنه ... جمل يساق إلى القياد وقد نفر
وأراه دين الله عزة أهله ... بك يا أعف القادرين إذا قدر
يا فخر أندلس وعصمة أهلها ... للناس سر في اختصاصك قد ظهر
كم معضل من دائها عالجته ... فشفيت منه البدار والبدر
ماذا عسى يصف البليغ خليفة ... والله ما أيامه إلا غرر
__________
(1) الأزهار: تشدو.(5/178)
ورثت هذا الفخر يا ملك الهدى ... من كل من آوى النبي ومن نصر
من شاء يعرف فخرهم وكمالهم ... فليتل وحي الله فيهم والسير
أبناؤهم أبناء نصر بعدهم ... بسيوفهم دين الإله قد انتصر
مولاي سعدك والصباح تشابها ... وكلاهما في الخافقين قد اشتهر
هذا وزير الغرب عبد آبق ... لم يلف غيرك في الشدائد من وزر
كفر الذي أوليته من نعمة ... والله قد حتم العذاب لمن كفر
إن لم يتم بالسيف مات بغيظه ... وصلي سعيراً للتأسف والفكر
ركب الفرار مطية ينجو بها ... فجرت به حتى استقر على سقر
وكذا أبوه وكان منه حمامه ... قد حم وهو من الحياة على غرر
بلغته والله أكبر شاهد ... ما شاء من وطن يعز ومن وطر
حتى إذا جحد الذي أوليته ... لم تبق منه الحادثات ولم تذر
في حاله والله أعظم عبرة ... لله عبد في القضاء قد اعتبر
فاصبر تنل أمثالها في مثله ... إن العواقب في الأمور لمن صبر
رد حيث شئت مسوغاً ورد المنى ... فلله حسبك في الورود وفي الصدر
لا زلت محروساً بعين كلاءة ... ما دام عين الشمس تعشي من نظر ومنها وقد أضاف إليه من التغزل طوع بداره، وحجة اقتداره، فقال:
والعود في كف نديم بسر ما ... تلقي لنا الأنامل منه قد جهر
غنى عليه الطير وهو بدوحه ... والآن غنى فوقه ظبي أغر
عود ثوى حجر القضيب، رعى له ... أيام كانا في الرياض مع الشجر
لا سيما لما رأى من ثغره ... زهراً، وأين الزهر من تلك الدرر
ويظن أن عذاره من آسه ... ويظن تفاح الخدود من الثمر
يسبي القلوب بلفظه وبلحظه ... وافتنتي بين التكلم والنظر
قد قيدته لأنسنا أوتاره ... كالظبي قيد في الكناس إذا نفر(5/179)
لم يبل قلبي قبل سماع غنائه ... بمعذر سلب العقول وما اعتذر
جس القلوب بجسه أوتاره ... حتى كأن قلوبنا بين الوتر
نمت لنا ألحانه بجميع ما ... قد أودعت فيه القلوب من الفكر
يا صامتاً والعود تحت بنانه ... يغنيك نطق الخبر فيه عن الخبر
أغنى غناؤك من مدامك، يا ترى ... هل من لحاظك أم بنانك ذا السكر
باحت أناملك اللدان بكل ما ... كان المتيم في هواه قد ستر
ومقاتل ما سل غير لحاظه ... والرمح هز من القوام إذا خطر
دانت له منا القلوب بطاعة ... والسيف يملك ربه مهما قهر وسنلم إن شاء الله تعالى بترجمة ابن زمرك هذا في باب التلامذة، ونشير هناك إلى كثير من أحواله، وكيفية قتله مع أولاده وخدمه بمرأى ومسمع من أهله، فكان الجزاء من جنس العمل، وخاب منه الأمل، إذ لسان الدين قتل غيلة بليل غاسق، على يد مختلس في السجن فاسق، وأما ابن زمرك فقتل بالسيف جهاراً، وتناوشته سيوف مخدومه بين بناته إبداء للتشفي وإظهاراً، وقتل معه من وجد من خدمه وأبناه، وأبعده الدهر وطالما أدناه. وهكذا الحال في خدام الدول وذوي الملك، أنهم أقرب شيء من الهلك، ويرحم الله من قال: إياك وخدمة الملوك فإنهم يستقلون في العقاب ضرب الرقاب، ويستكثرون في الثواب رد الجواب؛ انتهى.
رجع إلى ما كنا فيه من أحوال لسان الدين ابن الخطيب: وكان رحمه الله تعالى قبيل موته لما توفي السلطان أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن المريني بتلمسان وتغلب على الأمر الوزير أبو بكر ابن غازي بن الكاس مبايعاً لابن صغير السن أولاد السلطان عبد العزيز - ألف كتابه المسمى بأعمال الأعلام بمن بويع من ملوك الإسلام قبل الاحتلام ومراده بذلك تثبيت دولة الوزير الذي أبى أن يخفر عهده وذمته، وامتنع منه أهل الأندلس، فأكثروا(5/180)
القالة في الوزير بسبب مبايعته للصبي، وبنوا ظاهر الأمر على أن ذلك لا يجوز بالشرع، وأبدأوا وأعادوا في ذلك، واسروا ما كان من أمرهم حسواً في ارتغاء. ومن جملة كلام لسان الدين ابن الخطيب في ذلك الكتاب قوله: فمتى نبس أهل الأندلس بإنكار بيعة صبي صغير، أو نيابة صاحب أو وزير، فقد عموا وصموا، وخطروا بربع الإنصاف فأعرضوا وما ألموا، وبما نسوه لغيرهم ذموا؛ انتهى.
وكان رحمه الله تعالى ألف للسلطان عبد العزيز حين انحيازه إليه المباخر الطيبية في المفاخر الخطيبية: يذكر فيه نباهة سلفه، وما لهم من المجد، وقصده الرد على أهل الأندلس المجاهرين له بالعداوة، القادحين في فخر سلفه. ثم ألف للسلطان المذكور كتاب " خلع الرسم في التعريف بأحوال ابن الحسن " لكونه تولى كبر الحط منه، والسعي في هلاكه كما مر، وقال في حق هذا الكتاب: إنه لا شيء فوقه في الظرف والاستطراف، يسلس الثكالى، ونستغفر الله تعالى؛ انتهى.
ومع هذا كله لما أنشبت المنية أظفارها لم تنفعه مما كتب تميمة، ونال ما أمل فيه أهل السعاية والنميمة، وسجلوا عليه المقالات الذميمة، وقد صار الجميع إلى حكم عدل قادر يحيي من العظم رميمه، ونصف المظلوم من الظالم، ويجازي الجاهل والعالم، ويساوي بين المأمور والآمر، والشريف والمشروف، والعزيز والحقير والمنكر والمعروف، وعفوه سبحانه مؤمل بعد، وهو لا يخلف الوعد، ومن سبقت له العناية، لم تضره الجناية.
وقد كان لسان الدين البن الخطيب - رحمه الله تعالى - محباً في العفو حتى إنه كان إذا جرى لديه ذكر عقوبة الملوك لأتباعهم تشمئز نفسه من ذلك ويقول ما معناه: ما ضرهم لو عفوا! ورأيت له - رحمه الله تعالى - في بعض مؤلفاته وقد أجرى ذكر استعطاف ذي الوزارتين أبي بكر ابن عمار للسلطان المعتمد بن عباد حين قبض عليه بقوله:(5/181)
سجاياك إن عافيت أندى وأسمح ... وعذرك إن عاقبت أولى وأوضح
وإن كان بين الخطتين مزية ... فأنت من الأدنى إلى الله أجنح
وماذا عسى الأعداء أن يتزيدوا ... سوى أن ذنبي ثابت ومصحح
وإن رجائي أن عندك غير ما ... يخوض عدوي اليوم فيه ويمرح
أقلني بما بينك وبيني من رضى ... له نحو روح الله باب مفتح
ولا تلتفت قول الوشاة وزورهم ... فكل إناء بالذي فيه يرشح
وقالوا: سيجزيه فلان بذنبه ... فقلت: وقد يعفو فلان ويصفح
ألا إن بطشاً للمؤيد يرتمي ... ولكن حلماً للمؤيد يرجح
وبين ضلوعي من هواة تميمة ... ستشفع لو أن الحمام يجلح
سلام عليه كيف دار به الهوى ... إلي فيدنو أو علي فينزح
ويهنيه إن رمت السلو فإنني ... أموت ولي شوق إليه مبرح ما نصه: ولابن عمار كلمات شهيرة تعالج بمراهمها جراح القلوب، وتعفي على هضبات الذنوب، لولا ما فرغ عنه من القدر المكتوب والأجل المحسوب؛ إلى أن قال: وما كان أجمل بالمعتمد أن يبقي على جان من عبيده، قد مكنه الله من عنقه، لا يؤمل الحصول على أمره، ولا يحذر تعصب قبيله، ولا يزيده العفو عنه إلا ترفعاً وعزة وجلالة وهمة وذكراً جميلاً وأجراً جزيلاً، فلا شيء أمحى للسيئة من الحسنة، ولا أقتل للشر من الخير، ورحم الله الشاعر إذ يقول:
وطعنتهم بالمكرمات وباللها ... في حيث لو طعن القنا لتكسرا وقد تذكرت هنا قول الأديب أبي عبد الله محمد بن أحمد التجاني رحمه الله تعالى ورضي عنه:
أتعجب إن حطت يد الدهر فاضلاً ... عن الرتبة العليا فأصبح تحتها(5/182)
أما هذه الأشجار تحمل أكلها ... وتسقط منه كل ما طاب وانتهى [نكبة أبي جعفر ابن عطية]
وحكى غير واحد من مؤرخي الأندلس أن الكاتب الشهير الوزير أبا جعفر ابن عطية القضاعي (1) لما تغير له عبد المؤمن وتذاكر مع بعض من أهل العلم أبيات ابن عمار السابقة، قال: ما كان المعتمد إلا قاسي القلب حيث لم تعطفه هذه الأبيات إلى العفو، ووقع لابن عطية المذكور مثل قضية ابن عمار، واستعطف فما نفع ذلك وقتل رحمه الله تعالى، ولنلم بذلك فنقول:
كان أبو جعفر هذا من أهل مراكش، وأصله القديم من طرطوشة، ثم بعد من دانية، وهو ممن كتب عن علي بن يوسف بن تاشفين أمير لمتونة، وعن ابنيه تاشفين وإسحاق، ثم استخلصه لنفسه سالب ملكهم عبد المؤمن بن علي، وأسند إليه وزارته، فنهض بأعبائها، وتحبب إلى الناس بإجمال السعي والإحسان فعمت صنائعه، وفشا معروفه، وكان محمود السيرة، مبخت المحاولات، ناجح المساعي، سعيد المآخذ، ميسر المآرب، وكانت وزارته زيناً للوقت، وكمالاً للدولة، وفي أيام توجهه للأندلس وجد حساده السبيل إلى التدبير عليه والسعي به، حتى أوغروا صدر الخليفة عبد المؤمن عليه، فاستوزر عبد السلام بن محمد الكومي، وانبرى لمطالبة ابن عطية، وجد في التماس عوراته، وتشنيع سقطاته، وطرحت بمجلس السلطان أبياتاً منها:
قل للإمام أطال الله مدته ... قولاً تبين لذي لب حقائقه
إن الزراجين (2) قوم قد وترتهم ... وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه
__________
(1) انظر الخبر عن أبي جعفر ابن عطية في المعجب: 267 والإحاطة 1: 132 (ط. السلفية) وقد نقل المقري ما جاء في المصدر الثاني، حتى آخر رسالة ابن عطية؛ وإعتاب الكتاب: 225.
(2) الزراجين: لقب أطلقه الموحدون على الملثمين تشبيها لهم بطائر أسود البطن أبيض الريش يقال له الزرجان (نظم الجمان: 85) .(5/183)
وللوزير إلى آرائهم ميل ... لذاك ما كثرت فيهم علائقه
فبادر الحزم في إطفاء نارهم ... فربما عاق عن أمر عوائقه
هم العدو ومن والاهم كهم ... فاحذر عدوك واحذر من يصادقه
الله يعلم أني ناصح لكم ... والحق أبلج لا تخفى طرائقه قالوا: ولما وقف عبد المؤمن على هذه الأبيات البليغة في معناها وغر صدره على وزير أبي جعفر، وأسر له في نفسه تغيراً، فكان من أقوى أسباب نكبته.
وقيل: أفضى له بسر فأفشاه، وانتهى ذلك كله إلى أبي جعفر وهو بالأندلس فقلق وعجل الانصراف إلى مراكش، فحجب عند قدومه، ثم قيد إلى المسجد في اليوم بعده حاسر العمامة، واستحضر الناس على طبقاتهم، وقرروا على ما يعلمون من أمره، وما صار إليه منهم، فأجاب كل بما اقتضاه هواه، وأمر بسجنه، ولف معه أخوه أبو عقيل عطية، وتوجه في إثر ذلك عبد المؤمن إلى زيارة تربة المهدي محمد بن تومرت، فاستصحبهما منكوبين بحال ثقاف. وصدرت عن أبي جعفر في هذه الحركة من لطائف الأدب نظماً ونثراً في سبيل التوسل بتربة إمامهم المهدي عجائب لم تجد شيئاً مع نفوذ قدر الله تعالى فيه. ولما انصرف من وجهته أعادهما معه قافلاً إلى مراكش، فلما حاذى تاقمرت أنفذ الأمر بقتلهما بالشعراء المتصلة بالحصن على مقربة من الملاحة هنالك، فمضيا لسبيلهما، رحمهما الله تعالى.
ومما خاطب به الخليفة عبد المؤمن مستعطفاً له من رسالة تغالى فيه فغالته المنية، ولم ينل الأمنية، وهذه سنة الله تعالى فيمن لم يحترم جناب الألوهية، ولم يحرس لسانه من الوقوع فيما يخدش في وجه فضل الأنبياء على غيرهم وعصمتهم، قوله سامحه الله:
" تالله لو أحاطت بي كل خطيئة، ولم تنفك نفسي عن الخيرات بطيئة، حتى سخرت بمن في الوجود، وأنفت لآدم من السجود، وقلت: إن الله تعالى(5/184)
لم يوح، في الفلك لنوح، وبريت لقدار ثمود نبلاً، وأبرمت لحطب نار الخليل حبلاً، وحططت عن يونس شجرة اليقطين، وأوقدت مع هامان على الطين، وقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، وافتريت على العذراء البتول فقذفتها، وكتبت صحيفة القطيعة بدار الندوة، وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة، وذممت كل قرشي، وأكرمت لأجل وحشي كل حبشي، وقلت: إن بيعة السقيفة، لا توجب إمامة خليفة، وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة، واعتقلت من حصار الدار وقتل اشمطها بشعبة، وقلت: تقاتلوا رغبة في الأبيض والأصفر، وسفكوا الدماء على الثريد الأعفر، وغادرت الوجه من الهامة خضيباً، وناولت من قرع سن الحسين قضيباً، ثم أتيت حضرة المعلوم لائذاً، وبقبر الإمام المهدي عائذاً، لقد آن لمقالتي أن تسمع، وتغفر لي هذه الخطيئات أجمع، مع أني مقترف، وبالذنب معترف.
فعفواً أمير المؤمنين فمن لنا ... برد قلوب هدها الخفقان " وكتب مع ابن له صغير آخرة:
عطفاً علينا أمير المؤمنين، فقد ... بان العزاء لفرط البث والحزن
قد أغرقتنا ذنوب كلها لجج ... وعطفة منكم أنجى من السفن
وصادفتنا سهام كلها غرض ... ورحمة منكم أوقى من الجنن
هيهات للخطب أن تسطو حوادثه ... بمن أجارته رحماكم من المحن
من جاء عندكم يسعى على ثقة ... بنصره لم يخف بطشاً من الزمن
فالثوب يطهر عند الغسل من درن ... والطرف ينهض بعد الركض في سنن
أنتم بذلتم حياة الخلق كلهم ... من دون من عليهم لا ولا ثمن
ونحن من بغض من أحيت مكارمكم ... كلتا الحياتين من نفس ومن بدن
وصبية كفراخ الورق من صغر ... لم يألفوا النوح في فرع ولا فنن(5/185)
قد أوجدتهم أياد منهم سابقة ... والكل لولاك لم يوجد ولم يكن فوقع عبد المؤمن على هذه القصيدة {الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} (يونس: 91) .
ومما كتب به من السجن:
أنوح على نفسي أم أنتظر الصفحا ... فقد آن أن تنسى الذنوب وان تمحى
فها أنا في ليل من السخط حائر ... ولا أهتدي حتى أرى للرضى صبحا وامتحن عبد المؤمن الشعراء بهجو ابن عطية، فلما أسمعوه ما قالوا، أعرض عنهم، وقال: ذهب ابن عطية وذهب الأدب معه.
وكان لأبي جعفر أخ اسمه عطية قتل معه، ولعطية هذا ابن أديب كاتب، وهو أبو طالب عقيل بن عطية، ومن نظمه في رجل تعشق قينة كانت ورثت من مولاها مالاً فكانت تنفق عليه منه، فلما فرغ المال ملها:
لا تلحه أن مل من حبها ... فلم يكن ذلك من ود
لما رآها قد صفا مالها ... قال: صفا الوجد مع الوجد وكان أبو جعفر ابن عطية من أبلغ أهل زمانه، وقد حكي أنه مر مع الخليفة عبد المؤمن ببعض طرق مراكش، فأطلت من شباك جارية بارعة الجمال فقال عبد المؤمن:
قدت فؤادي من الشباك إذ نظرت ... فقال الوزير ابن عطية مجيزاً له:
حوراء ترنو إلى العشاق بالمقل ... فقال عبد المؤمن:
كأنما لحظها في قلب عاشقها ...(5/186)
فقال ابن عطية:
سيف المؤيد عبد المؤمن بن علي ... ولا خفاء أن هذه طبقة عالية.
ومن فصول رسالته التي كتب بها عن أبي حفص، وهي التي أورثته الرتبة العلية السنية، والوزارة الموحدية المؤمنية، قوله (1) :
كتابنا هذا من وادي ماسة بعد ما تجدد من أمر الله الكريم، ونصر الله تعالى المعهود المعلوم {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} (آل عمران: 126) فتح بهر الأنوار إشراقاً، وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقاً، ونبه للأماني النائمة جفوناً وإحداقا، واستغرق غاية الشكر استغراقاً، فلا تطيق الألسن لكنه وصفه إدراكاً ولا لحاقاً، جمع أشتات الطلب والأرب، وتقلب في النعم أكرم منقلب، وملأ دلاء الأمل إلى عقد الكرب:
فتح تفتح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها القشب وتقدمت بشارتنا به جملة، حين لم تعط الحال بشرحه مهلة، كان أولئك الضالون المرتدون قد بطروا عدواناً وظلماً، واقتطعوا الكفر معنى واسماً، وأملى لهم الله تعالى ليزدادوا إثماً، وكان مقدمهم الشقي قد استمال النفوس بخزعبلاته، واستهوى القلوب بمهولاته، ونصب له الشيطان من حبالاته، فأتته المخاطبات من بعد وكثب، ونسلت إليه الرسل من كل حدب، واعتقدته الخواطر أعجب عجب، وكان الذي قادهم إلى ذلك، وأوردهم تلك المهالك، وصول من كان بتلك السواحل ممن ارتسم برسم الانقطاع عن الناس فيما سلف عن الأعوام، واشتغل على زعمه بالقيام والصيام، آناء الليالي والأيام، لبسوا الناموس أثواباً، وتدرعوا الرياء جلباباً، فلم يفتح الله تعالى لهم للتوفيق باباً.
__________
(1) انظرها أيضا في إعتاب الكتاب: 227.(5/187)
ومنها في ذكر صاحبهم الماسي (1) المدعي للهداية: فصرع بحمد الله تعالى لحينه، وبادرت إليه بوادر منونه، وأتته وافدات الخطيئات عن يساره ويمينه، وقد كان يدعي أنه بشر بأن المنية في هذه الأعوام لا تصيبه، والنوائب لا تنوبه، ويقول في سواه قولاً كثيراً، ويختلق على الله تعالى إفكاً وزوراً، فلما رأوا هيئة اضطجاعه، وما خطته الأسنة في أعضائه وأضلاعه، ونفذ فيه من أمر الله تعالى ما لم يقدروا على استرجاعه، هزم من كان لهم من الأحزاب، وتساقطوا على وجوههم تساقط الذباب، وأعطوا عن بكرة أبيهم صفحات الرقاب، ولم تقطر كلومهم إلا على الأعقاب، فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم، وآذنت الآجال بانقراض آمادهم، وأخذهم الله تعالى بكفرهم وفسادهم، فلم يعاين منهم إلا من خر صريعاً، وسقى الأرض نجيعاً، ولقي من أمر الهنديات فظيعاً، ودعت الضرورة باقيهم إلى الترامي في الوادي؛ فمن كان يؤمل الفرار ويرتجيه، ويسبح طامعاً في الخروج إلى ما ينجيه، اختطفته الأسنة اختطافاً، وأذاقته موتاً ذعافاً، ومن لج في الترامي على لججه، ورام البقاء في ثبجه، قضى عليه شرقه، وألوى بذقنه غرقه، ودخل الموحدون إلى البقية الكائنة فيه يتناولون قتالهم طعناً وضرباً، ويلقونهم بأمر الله تعالى هولاً عظيماً وكرباً، حتى انبسطت مراقات الدماء، على صفحات الماء، وحكت حمرتها على رزقته حمرة الشفق على زرقة السماء، وجرت العبرة للمعتبر، في جري ذلك الدم جري الأبحر ".
وبالجملة فالرجل كان نسيج وحده رحمه الله تعالى وسامحه، وقضية لسان الدين تشبه قضيته، وكلاهما قد ذاق من الذل بعد العز غصته، وبدل الدهر نصيبه من الوزارة وحصته، بعد أن اقتعد ذروة ومنصته، رحم الله تعالى الجميع، إنه مجيب سميع.
__________
(1) هذا الثائر هو محمد بن عبد الله بن هود، تلقب بالهادي، وظهر في رباط ماسة بمنطقة السوس، وكثر أتباعه، حتى قضى عليه أبو حفص عمر إينتي سنة 541.(5/188)
الباب الثالث
في ذكر مشايخه الجلة، هداة الناس ونجوم الملة، وما يتعلق بذلك من
الأخبار الشافية من العلة، ومواعظ المنجية من الأهواء المضلة،
والمناسبات الواضحة البراهين والأدلة
أقول: لا خفاء أن الشيخ لسان الدين رحمه الله تعالى أخذ عن جماعة من أهل العدوة والأندلس عدة فنون، وحدث عنهم بما يصدق الأقوال ويحقق الظنون.
1 - فمن أشياخه رحمه الله تعالى الفقيد الجليل الشريف النبيه الشهير، رئيس العلوم اللسانية بالأندلس، قاضي الجماعة أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني السبتي (1) ، رحمه الله تعالى؛ كان هذا الشريف آية الله الباهرة في العربية والبيان والأدب، ويكفيه فضلاً أنه شرح الخزرجية (2) ، وافترع هضاب مشكلاتها بفهمه، من غير أن يسبقه أحد إلى استخراج كنوزها، وإيضاح رموزها، وشرح مقصورة أديب المغرب الإمام أبي الحسن حازم بن محمد القرطاجني الأندلسي الذي مدح بها أمير المؤمنين المنتصر بالله أبا عبد الله محمد الحفصي، وسمى هذا الشرح ب " رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة "، وهذا
__________
(1) ترجمة الشريف السبتي (الشهير بالغرناطي) في الإحاطة 2: 129 ومقدمة رفع الحجب المستورة، والديباج: 290 والمرقبة العليا: 171.
(2) الخزرجية قصيدة للخزرجي في العروض، وشرح الشريف عليها يسمى " رياضة الأبي في شرح قصيدة الخزرجي ".(5/189)
الشرح في مجلدين كبيرين، وفيه من الفوائد ما لا مزيد عليه، رأيته بالمغرب، واستفدت منه كثيراً.
ومن فوائد الشريف المذكور أنه قال فيما جاء من الحديث في صفة وضوء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، " فأقبل بهما وأدبر " إن أحسن الوجوه في تأويله أن يكون قدم الإقبال تفاؤلاً، ثم فسر بعد ذلك على معنى أدبر وأقبل، قال: والعرب تقدم بكلامها ألفاظاً على ألفاظ أخرى، وتلتزمه في بعض المواضع، كقولهم: قام وقعد ولا تقول: قعد وقام، وكذلك أكل وشرب، ودخل وخرج، وعلى هذا النمط كلام العرب، فتكون هذه المسألة من هذا، قال: ويؤيد ما قلناه - وهو موضع النكتة - تفسيره لأقبل وأدبر في باقي الحديث على معنى أدبر ثم أقبل، ولو كان اللفظ على ظاهره لم يحتج إلى تفسير؛ انتهى.
وحدث رحمه الله تعالى عن جده لأمه قال: كنت بالمشرق، فدخلت على بعض القرائين، فألفيت الطلب يعربون عليه قول امرئ القيس (1) :
كأن أبانا في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل (2) فأنشد ولا أدري هل هي له أو لغيره:
إذا ما الليالي جاورتك بساقط ... وقدرك مرفوع فعنه ترحل
ألم تر ما لاقاه في جنب جاره ... كبير أناس في بجاد مزمل وكان بعض الناس ينشد في هذا المقصد قول الآخر:
عليك بأرباب الصدور، فمن غدا ... مضافاً لأرباب الصدور تصدراً
__________
(1) ديوان أمرئ القيس: 25.
(2) شبه الجبل " أبانا " بالرجل الكبير المزمل في بجاد؛ والبجاد: كساء مخطط، وقيل في مزمل إنها مخفوضة على الجوار وحقها الرفع ولذلك قال في البيت التالي " ألم تر ما لاقاه في جنب جاره ".(5/190)
وإياك أن ترضى بصحبة ساقط ... فتنحط قدراً من علاك وتحقرا
فرفع أبو من ثم خفض مزمل ... يبين قولي مغرياً ومحذراً وهذا معنى قول الشاعر:
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي وما أحسن قول أبي بحر صفوان بن إدريس المرسي رحمه الله تعالى:
إنا إلى الله من أناس ... قد خلعوا لبسة الوقار
جاورتهم فانخفضت هوناً ... يا رب خفض على الجوار ومن نظم الشريف رحمه الله تعالى:
وأحور زان خديه عذار ... سبى الألباب منظره العجاب
أقول لهم وقد عابوا غرامي ... به إذا لاح للدمع انسكاب
أبعد كتاب عارضه يرجى ... خلاص لي وقد سبق الكتاب ومن الغريب في توارد الخواطر ما وجد بخط الأديب أبي القاسم ابن جزي الكلي رحمهما الله تعالى - وسيأتيان - ما معناه: قلت هذه القطعة:
ومعسول اللمى عادت عذاباً ... على قلبي ثناياه العذاب
وقد كتب العذار بوجنتيه ... كتاباً حظ قارئه اكتئاب
وقالوا لو سلوت فقلت خيراً ... وأنى لي وقد سبق الكتاب ثم عرضتها على شيخنا القاضي أبي القاسم الشريف بعد نظمها بمدة يسيرة فقال لي: قد نظمت هذا المعنى بالعروض والقافية في هذه الأيام اليسيرة، وأنشدني:
وأحور زان خديه عذار ... الأبيات السابقة.(5/191)
وهذا يقع كثيراً، ومنه ما وقع لابن الرقام حيث قال: من شعر عمي قوله:
جل في البلاد تنل عزاً وتكرمة ... في أي أرض فكن تبلغ مناك بها
جل الفوائد بالأسفار مكتسب ... والله قد قال " فامشوا في مناكبها " فقال له الفقيه ابن حذلم: مثل هذا وقع لأبي حيان إذ قال:
يا نفس ما لك تهوين الإقامة في ... أرض تعذر كل من مناك بها
أما تلوت وعجز المرء منقصة ... في محكم الوحي " فامشوا في مناكبها " فحصل العجب من هذا الاتفاق الغريب.
ونقلت ممن نقل من خط الفقيه محمد بن علي بن الصباغ العقيلي ما صورته: كان الشريف الغرناطي - رحمه الله تعالى - آية زمانه، وأزمة البيان طوع بنانه، له شرح المقصورة القرطاجية أغرب ما تتحلى به الآذان، وأبدع ما ينشرح له الجنان، إلى العقل الذي لا يدرك، والفضل الذي حمد منه المسلك. حدثني بنادرة جرت بينه وبين مولاي الوالد من أثق به من طلبة الأندلس وأعلامها قال: دخل والدك يوماً لأداء الشهادة عنده، فوجد بين يديه جماعة من الغزاة يؤدون شهادة، فسمع القاضي منهم، وقال لهم: هل من يعرفكم فقالوا: نعم، يعرفنا علي الصباغ، فقال القاضي: أتعرفهم يا أبا الحسن فقال له: نعم يا سيدي، معرفة محمد بن يزيد، فما أنكر عليه شيئاً بل قال لهم: عرف الفقيه أبو الحسن ما عنده، فانظروا من يعرف معه رسم حالكم، فانصرفوا راضين، ولم يرتهن والدي في شيء من حالهم، ولا كشف القاضي لهم ستر القضية.
قال محمد بن علي بن الصباغ: أما قول والدي " معرفة محمد بن يزيد " فإشارة إلى قول الشاعر (1) :
__________
(1) انظر نور القبس: 331 حيث يقال إن البيتين لعبد الصمد بن المعذل في هجاء المبرد، وقيل بل هما للمبرد نفسه، أراد أن يثبت لنفسه نسبا.(5/192)
أسائل عن ثمالة كل حي ... فكلهم يقول وما ثماله
فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: الآن زدت بهم جهالة فتفطن القاضي رحمه الله تعالى لجودة ذكائه إلى أنه لم يرتهن في شيء من معرفتهم، ممتنعاً من إظهار ذلك بلفظه الصريح، فكنى واكتفى بذكاء القاضي الصحيح، رحمهما الله تعالى؛ انتهى. ومن فوائد الشريف ما حكاه عنه تلميذه الإمام النظار أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى، ونصه: قال لي الشيخ القاضي الكبير أبو القاسم الحسني يوماً وقد جرى ذكر حتى التي للابتداء، وأن معناها التي يقع بعدها الكلام سواء كان ذلك متعلقاً بما قبلها لم يتم دونه أو لا، بل لا يكون الأمر إلا كذلك، قال: وقد حدثني بعض الأصحاب أنه سمع رجلاً يصلي أشفاع رمضان، فقرأ من سورة الكهف إلى قوله تعالى " ثم أتبع سبباً " فوقف هنالك، وركع وسجد، قال: فظننت أنه نسي ما بعد ثم ركع وسجد حتى يتذكر بعد ذلك ويعيد أول الكلام، فلما قام من السجود ابتدأ القراءة بقوله " حتى إذا بلغ " فلما أتم الصلاة قلت له في ذلك، فقال: أليست حتى الابتدائية قال القاضي الشريف المذكور: فيجب أن يفهم أن الاصطلاح في حتى وفي غيرها من حروف الابتداء ما ذكر؛ انتهى. وقال الشاطبي: أنشدني أبو محمد ابن حذلم لنفسه:
شأن المحبين في أشجانهم عجب ... وحالتي بينهم في الحب أعجبها
قد كنت أبعث من ريح الصبا رسلاً ... تأتي فتطفئ أشواقي فتذهبها
والآن أرسل دمعي إثرها ديماً ... فتلتظي نار وجدي حين أسكبها
فاعجب لنار اشتياق في الحشا وقفت ... ألريح (1) تذهبها والماء يلهبها
__________
(1) ق: النار.(5/193)
ثم قال الشاطبي ما نصه: أخذ هذا المعنى فتممه، من قطعة أنشدناها شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف رحمه الله تعالى عليه؛ أذكر الآن آخر بيت منها وهو:
يا من رأى النار إن تطفأ مخالفة ... فبالرياح، وإن توقد فبالماء وأخذ عن الشريف المذكور رحمه الله تعالى جماعة غير لسان الدين، من أشهرهم العلامة النظار أبو إسحاق الشاطبي، والوزير الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك.
قال حفيد السلطان الغني بالله بن الأحمر رحمه الله تعالى في حق ابن زمرك: إنه كان يتردد الأعوام العديدة إلى قاضي الجماعة أبي القاسم الشريف، فأحسن الإصغاء، وبذ الأئمة البلغاء، بما أوجب أن رثاه عند الوقوف على قبره بالقصيدة الفريدة التي أولها:
أغرى سراة الحي بالإطراق ... وقال في موضع آخر (1) : ومما بذ به - يعني ابن زمرك - سبقاً وتبريزاً، وعرضه على نقدة البيان فرأت منه كل مذهبة خلصت إبريزاً، مرثيته للقاضي المعظم الشريف أبي القاسم الحسني من شيوخه، وهي:
أغرى سراة الحي بالإطراق ... نبأ أصم مسامع الآفاق
أمسى به ليل الحوادث داجياً ... والصبح أصبح كاسف الإشراق
فجع الجميع بواحد جمعت له ... شتى العلا ومكارم الأخلاق
هبوا لحكمكم الرصين فإنه ... صرف القضاء فماله من واق
نقش الزمان بصرفه في صفحة ... كل اجتماع مؤذن بفراق
ماذا ترجي من زمانك بعدما ... علق الفناء بأنفس الأعلاق
__________
(1) يعني في كتابه الذي ألفه في ابن زمرك، انظر أزهار الرياض 2: 160 حيث تجد هذه المرثية.(5/194)
من تحسد السبع الطباق علاءه ... عالوا عليه من الثرى بطباق
إن المنايا للبرايا غاية ... سبق الكرام لخصها بسباق
لما حسبنا أن تحول أبؤساً ... كشفت عوان حروبها عن ساق
ما كان إلا البدر طال سراره ... حتى رمته يد الردى بمحاق
أنف المقام مع الفناء نزاهة ... فنوى الرحيل إلى مقام باق
عدم الموافق في مرافقة (1) الدنا ... فنضى (2) الركاب إلى الرفيق الباقي
أسفاً على ذاك الجلال تقلصت ... أفياؤه وعهدن خير رواق
يا آمري بالصبر، عيل تصبري ... دعني عدتك لواعج الأشواق
وذر اليراع تشي بدمع مدادها ... وشي القريض يروق في الأوراق
واحسرتا للعلم أقفز ربعه ... والعدل جرد أجمل الأطواق
ركدت رياح المعلوات لفقدها ... كسدت به الآداب بعد نفاق
كم من غوامض قد صدعت بفهمها ... خفيت مداركها على الحذاق
كم قاعد في البيد بعد (3) قعوده ... قعدت به الآمال دون لحاق
لمن الركائب بعد بعدك تنتضى ... ما بين شام ترتمي وعراق
تفلي الفلا بمناسم مفلولة ... تسم الحصى بنجيعها الرقراق
كانت إذا اشتكت الوجى وتوقفت ... يهفو نسيم ثنائك الخفاق
فإذا تنسمت الثناء أمامها ... مدت لها الأعناق في الإعناق
يا مزجي البدن القلاص خوافقاً ... رفقاً بها فالسعي في إخفاق
مات الذي ورث العلا عن معشر ... ورثوا تراث المجد باستحقاق
رفعت لهم رايات كل جلالة ... فتميزوا في حلبة السباق
__________
(1) ص: عدم المرافق في موافقة؛ ق: موافقة.
(2) الأزهار: فثنى.
(3) الأزهار: فوق.(5/195)
علم الهداة وقطب أعلام النهى (1) ... حرم العفاة المجتنى الأرزاق
رقت سجاياه وراقت مجتلى ... كالشمس في بعد وفي إشراق
كالزهر في لألائه، والبدر في ... عليائه، الزهر في الإبراق
مهما مدحت سواه قيد وصفه ... وصفاته حمد على الإطلاق
يا وارثاً نسب النبوة جامعاً ... في العلم والأخلاق والأعراق
يا ابن الرسول وإنها لوسيلة ... يرقى بها أوج المصاعد راقي
ورد الكتاب بفضلكم وكمالكم ... فكفى ثناء الواحد الخلاق
مولاي إني في علاك مقصر ... قد ضاق عن حصر النجوم نطاقي
ومن الذي يحصي مناقب مجدكم (2) ... عد الحصى والرمل غير مطاق
يهني قبوراً زرتها فلقد ثوت ... منا مصون جوانح وحداق
خط الردى منها سطوراً نصها: ... لا بد أنك للفناء ملاق
ولحقت ترجمة الكتاب وصدره ... وفوائد المكتوب في الإلحاق
كم من سراة في القبور كأنهم ... في بطنها در ثوى بحقاق
قل للسحاب اسحب ذيولك نحوه ... والعب بصارم برقك الخفاق
أودى الذي غيث العباد بكفه ... يزري بواكف غيثك الغيداق
إن كان صوبك بالمياه فدرها ... در يروض ماحل الإملاق
بشر كثير نقد نعوا لما نعي ... قاضي القضاة وغاب في الأطباق
ألبستهم ثوب الكرامة ضافياً ... وأرحت من كد ومن إرهاق
يتفيأون ظلال جاهك كلما ... لفحت سموم الخطب بالإحراق
عدموا المرافق في فراقك وانطوى ... عنهم بساط الرفق والإرفاق
رفعوا سريرك خافضين رؤوسهم ... ما منهم إلا حليف سياق (3)
__________
(1) الأزهار: أعلام الورى.
(2) الأزهار: فضلكم.
(3) السياق: نزع الروح.(5/196)
لكن مصيرك للنعيم مخلداً ... كان الذي أبقى على الأرماق
ومن العجائب أن يسرى بحر الندى ... طود الهدى يسري على الأعناق
إن يحملوك على الكواهل طالما ... قد كنت محمولاً على الأحداق (1)
أو يرفعوك على العواتق طالما ... رفعت ظهر منابر وعتاق
ولئن رحلت إلى الجنان فإننا ... نصلى بنار الوجد والأشواق
لو كنت تشهد حزن من خلفته ... لثنى (2) عنانك كثرة الإشفاق
إن جن ليل جن من فرط الأسى ... وسوى كلامك ما له من راق
فابعث خيالك في الكرى يبعث به ... ميت السرور لثاكل مشتاق
أغليت يا رزء التصبر مثلما ... أرخصت در الدمع في الآماق
إن يخلف الأرض الغمام فإنني ... أسقي الضريح بدمعي المهراق وكانت وفاة الشريف المذكور سنة إحدى وستين وسبعمائة.
قال ابن الخطيب القسمطيني (3) في وفياته: وفي هذه السنة - يعني سنة 761 - توفي شيخنا قاضي الجماعة بغرناطة حرسها الله تعالى أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني، وكتب لي بالإجازة العامة بعد التمتع بمجلسه، وله شعر مدون سماه " جهد المقل " (4) وله الشرح على الخزرجية في العروض، وأقدم عليها بعد أن عجز الناس عن فكها، وكان إماماً في الحديث والفقه والنحو، وهو على
__________
(1) سقط هذا العجز وصدر البيت التالي من ق.
(2) ص ق: أثنى.
(3) نسبة إلى قسمطينة أو قسنطينة (بالنون) من مدن الجزائر؛ وابن الخطيب القسمطيني هو الإمام العلامة المسند المؤرخ أبو العباس أحمد بن حسن الشهير بابن الخطيب ويعرف أيضا بابن منقذ (توفي سنة 810) ومن مؤلفاته: كتاب أنس الفقير في ترجمة الشيخ أبي مدين وأصحابه وطبقته (ط. الرباط 1965) والوفيات التي جعلها خاتمة على شرحه لقصيدة ابن فرح في مصطلح الحديث. (راجع فهرست الفهارس 2: 323 ونيل الابتهاج: 57 قال: ذكره الونشريسي في وفياته) .
(4) قال لسان الدين في الإحاطة عند الحديث عن شعر الشريف " واقتنيت منه جزءا خصني به سماه جهد المقل ... ".(5/197)
الجملة ممن يحصل الفخر بلقاءه، ولم يكن أحد بعده مثله بالأندلس؛ انتهى.
وقال في الإحاطة إن مولد الشريف كان سنة سبع وتسعين وستمائة، وأن وفاته سنة ستين وسبعمائة، وفي وفاته مخالفة لما تقدم، والله أعلم.
وما أحسن قول الشريف أبي القاسم المترجم به:
حدائق أنبتت فيها الغوادي ... دروب النور رائقة البهاء
فما يبدو بها النعمان إلا ... نسبناه إلى ماء السماء [ابنا الشريف]
وكان للشريف أبي القاسم المذكور ابنان نجيبان: أحدهما قاضي الجماعة أبو المعالي، والآخر أبو العباس أحمد (1) ، قال الراعي في كتابه " الفتح المنير في بعض ما يحتاج إليه الفقير " ما نصه: حكاية تتعلق بالانقطاع، نسأل الله تعالى العافية: وقع للسيد الشريف قاضي الجماعة بغرناطة أبي المعالي ابن السيد الشريف أبي القاسم الحسني شارح الخزرجية ومقصورة حازم نفع الله تعالى بسلفهم الكريم، وكانت أم السيد أبي المعالي حسينية (2) فكان شريفاً من الجهتين، أنه كان قد ترك كبار الوظائف والرياسات، وتجرد للعبادة، ولبس المرقعة، وسلك طريق القوم. وكان من الدين (3) والعلم والتعظيم في قلوب (4) أهل الدنيا وأهل الآخرة على جانب عظيم، يشار إله بالأصابع، وكان شيخي وأستاذي أبو العباس أحمد قاضياً بشرقي الأندلس فكان أخوه أبو المعالي المذكور لا يأكل في بيت شقيقه شيئاً لأجل
__________
(1) ترجمة أبي العباس أحمد ابن الشريف السبتي في نيل الابتهاج: 58 وقد عرج في الترجمة على ذكر أخيه أبي المعالي؛ وقد أورد لسان الدين لأبي العباس منهما ترجمة في الكتيبة الكامنة: 301 إلا أنه ذكره بكنيته دون اسمه.
(2) ق: حسنية.
(3) ق: من أهل الدين.
(4) ق: في قلوب الناس.(5/198)
ذلك، ولعيشه من خدم السلطان، وكان إذا احتاج إلى الطعام وهو في بيت أخيه أعطاني درهماً من عنده أشتري له به ما يأكل، وأقام على هذه الحلة الحسنة سنين كثيرة، ثم إنه دخل يوماً على الفقراء بزاوية المحروق من ظاهر غرناطة، وكان شيخ الفقراء بها في ذلك الوقت الشيخ أبا جعفر أحمد المحدود، فقال لهم: يا سادتي، إنه كان معي قنديل أستضيء به، فقدته في هذه الأيام، وما بقيت أبصر شيئاً، فقال لهم شيخهم المذكور: يا شريف أول رجل يدخل علينا في هذا المجلس يجيبك عن مسألتك، فدخل عليهم رجل من خيارهم من أهل البادية، فسلم وجلس، فقال له الشيخ: إن الشريف سأل الجماعة، فقلت له: أول رجل يدخل علينا يجيبك، فوفقت أنت، فأجبه عن مسألته، فقال له: ما سؤالك يا شريف فقال: إنه كان لي قنديل أستضيء به ففقدته، وما بقيت أبصر شيئاً، فقال له الفقير: هذا لا يصدر إلا عن سوء أدب، أخبرنا بما وقع منك، فقال له الشريف: ما أعلم أنه وقع مني شيء، غير أن المباشر فلاناً طلبه السلطان للمصادرة، فاستخفى منه، فمررت ببابه يوماً، فناداني من شقة الباب: يا سيدي اجعل خاطرك معي لله تعالى، فقلت له: اذكر الذكر الفلاني، قلت: وأنا أظن أنه أمره بذكر اسمه تعالى اللطيف فإنه سريع الإجابة في تفريج الشدائد والكرب، نص عليه البوني في منتخبه، وهو مجرب في ذلك، وقد رواه لي عن بعض مشايخه السيد الشريف أحمد أخوه، فقال له الفقير: هل كان أذن لك في تلقينه قال: لا. قال له الفقير: لا يعود إليك نورك أبداً؛ لأنك قد أسأت الأدب، فكان كما قال، فانقطع وولي بعده قضاء الجماعة، وعزل عن سخط، وخدم الملوك، وأكل طعامهم، وحالته أولاً وآخراً معروفة بغرناطة، نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا من المطرودين عن باب رحمته بمنه وكرمه؛ انتهى كلام الراعي رحمه الله تعالى.
رجع إلى مشايخ لسان الدين. رحمه الله تعالى ورضي عنه وسامحه، فنقول:(5/199)
2 - ومن مشايخ لسان الدين الإمام الرحال شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن جابر الوادي آشي (1) ، ولد بتونس، وهو محمد بن الإمام المحدث معين الدين جابر بن محمد بن قاسم بن أحمد القيسي، شيخ ممتع رحال متقن.
قال الخطيب ابن مرزوق: وعاشرته كثيراً سفراً وحضراً، وسمعت بقراءته وسمع بقراءتي، وقرأت عليه الكثير، وقيدت من فوائده، وأنشدني الكثير، فأول ما قرأت عليه بالقاهرة بمسجد [ ... ] (2) ، وقرأت عليه بمدينة فاس، وبظاهر قسنطينة، وبمدينة بجاية وبظاهر المهدية، وبمنزلي من تلمسان، وقرأت عليه أحاديث عوالي من تخريج الدمياطي، وفيها الحديث المسلسل بالأولية، وسلسلته عنه من غير رواية الدمياطي بشرطه، ثم قرأت عليه أكثر كتاب " الموطإ " رواية يحيى، وأعجله السفر فاتممته عليه في غير القاهرة، وحدثني به عن جماعة، ومعوله على الشيخين قاضي القضاة أبي العباس ابن الغماز الخزرجي وهو أحمد بن محمد بن حسن والشيخ أبي محمد ابن هارون وهو عبد الله بن محمد القرطبي الطائي الكاتب المعمر الأديب، بحق سماعه لأكثره على الأول وقراءته بأجمعه على الثاني، قال الأول: أخبرنا أبو الربيع ابن سالم بجميع طرقه فيها منها عن ابن مرزوق وأبي عبد الله ابن أبي عبد الله الخولاني عن أبي عمرو عثمان بن أحمد المعافري عن أبي عيسى بسنده، وقال الثاني: أخبرنا أبو القاسم ابن بقي بقرطبة، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الحق عن محمد بن فرج مولى الطلاع عن يونس بتمام سنده.
قال شيخنا: وفي هذا السند غريبتان: إحداهما أنه ليس فيه إجازة، والثانية أن شيخه كلهم قرطبيون.
قال ابن مرزوق: قلت ولا غرابة في اتصال سماع الموطإ وقراءته، فقد
__________
(1) ترجمة ابن جابر الوادي آشي في الديباج المذهب: 311 والتعريف: 18 وانظر النفح 1: 38، 2: 664.
(2) بياض في ق ص.(5/200)
وقع لي قلة التحصيل متصلاً من طرق ولله الحمد، وقد روته عن قرطبي، وهو أبو العباس ابن العشاء. ثم قرأت عليه كتاب " الشفاء " لعياض، وحدثني به عن أبي القاسم (1) عن أبي عبد الله ابن أبي القاسم الأنصاري المالقي نزيل سبتة ويعرف بها بابن حكم وبابن أخت أبي صالح، عن أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الخزرجي، عن أبي جعفر أحمد بن حكم، عن المؤلف وحدثني به أيضاً عن قاضي الجماعة ابن (2) أبي الربيع ابن سالم عن أبي جعفر ابن حكم.
ثم قال ابن مرزوق بعد كلام ما صورته (3) : رويت عنه وأنشدني لأبي محمد ابن هارون:
لا تطمعن في نفع آلك إنه ... ضرر وقل النفع عند الآل
أقصر رويدك إن ما أعلقته ... بالآل من أهل كمثل الآل ولابن هارون المذكور:
أقل زيادة الأحبا ... ب تزدد عندهم قربا
فإن المصطفى قد قا ... ل زر غباً تزد حبا ولابن هارون (4) أيضاً:
رماني بالنوى زمني ... فشمل الأنس مفترق
وليلي كله فكر ... فقلبي منه محترق
وللآداب أبناء ... ببحر الفقر قد غرقوا
وكل منهم وجل ... بما يلقاه أو فرق
__________
(1) بعد هذه اللفظة بياض في ص بقدر كلمتين.
(2) هنا بياض بقدر ثلاث كلمات في ص.
(3) ما صورته: سقطت من ص.
(4) زاد في ق: المذكور.(5/201)
يغص بريقه منه ... كما في النطق أو شرق
وقد صفرت أكفهم ... فلا ورق ولا ورق
ولطف الله مرتقب ... به العادات تنخرق قال ابن مرزوق: وشعره الفائق لا يحصر، وهو عندي في مجلد كبير، وولد ابن جابر سنة 67 وسمع بمصر على الجماعة، وكتب بخطه كثيراً، وله معرفة بالحديث والنحو واللغة والشعر، وله نظم حسن، وتوفي بتونس سنة 779، وأخذ القراءات عن ابن الزيات وغيره، وترجمة الحافظ ابن جابر رحمه الله تعالى واسعة مشهورة، وقد ذكرناه في غير هذا الكتاب بما جمعناه.
[أشعار لبعض شيوخ لسان الدين]
ومما أنشده لسان الدين رحمه الله تعالى لبعض المتصوفة من شيوخه ولم يسمه قوله:
هل تعلمون مصارع العشاق ... عند الوداع بلوعة الأشواق
والبين يكتب من نجيع دمائهم ... إن الشهيد بكم توى بفراق
لو كنت شاهد حالهم يوم النوى ... لرأيت ما يلقون غير مطاق
منهم كئيب لا يمل بكاءه ... قد أحرقته مدامع الآماق
ومحرق الأحشاء أشعل نارها ... طول الوجيب بقلبه الخفاق
وموله لا يستطيع كلامه ... مما يقاسي في الهوى ويلاقي
خرس اللسان فما يطيق عبارة ... ألم ألم وما له من راق
ما للمحب من المنون وقاية ... إن لم يجد محبوبه بتلاق
مولاي عبدك ذاهب بغرامه ... أدرك بفضلك من ذماه الباقي
إني إليك بذلي متوسل ... فاعطف بلطف منك أو إشفاق(5/202)
وهذه الأبيات أوردها رحمه الله تعالى في " الروضة " في العشق، بعد أن حده وتكلم عليه، ثم أورد عدة مقطوعات، ثم ذكر منها هذه الأبيات كما ذكر. وأنشد لسان الدين رحمه الله تعالى لبعض أشياخه، وسماه، وأنسيته أنا الآن:
بما بيننا من خلوة معنوية ... أرق من النجوى وأحلى من السلوى
قفي ساعة في ساحة الدار وانظري ... إلى عاشق لا يستفيق من البلوى
وكم قد سألت الريح شوقاً إليكم ... فما حن مسراها علي ولا ألوى وقوله أيضاً:
أنست بوحدتي حتى لو أني ... أتاني الأنس لاستوحشت منه
ولم تدع التجارب لي صديقاً ... أميل إليه إلا ملت عنه وقوله رحمه الله تعالى:
عليك بالعزلة إن الفتى ... من طاب بالقلة في العزلة
لا يرتجي عزلة وال، ولا ... يخشى من الذلة في العزلة 3 - ومن أكابر شيوخ ابن الخطيب رحمه الله تعالى جدي الإمام العلامة قاضي القضاة بحضرة الخلافة فاس المحروسة أبو عبد الله (1) .
قال في " الإحاطة " محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن القرشي المقري، يكنى أبا عبد الله، قاضي الجماعة بفاس، تلمساني.
أوليته - نقلت من خطه قال: وكان الذي اتخذها من سلفنا قراراً، بعد أن كانت لمن قبله مزاراً، عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي المقري صاحب الشيخ
__________
(1) ترجمة المقري الجد في الإحاطة 2: 136 ونيل الابتهاج: 249 وسلوة الأنفاس 3: 271 والتعريف: 59 والمرقبة العليا: 196 (وانظر الحاشية 3 ص 556 من الجزء الأول) .(5/203)
أبي مدين، الذي دعا له ولذريته بما ظهر فيهم قبوله وتبين، وهو أبي الخامس فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن، وكان هذا الشيخ عروي (1) الصلاة، حتى إنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات، ولا استشعر منه شعور، ويقال: إن هذا الحضور مما أدركه من مقامات شيخه أبي مدين؛ انتهى.
[هل المقري الجد قرشي]
وكتب بعض المغاربة على هامش هذا المحل من الإحاطة ما صورته: القرشي وهم؛ انتهى.
فكتب تحته الشيخ الإمام أبو الفضل ابن الإمام التلمساني رحمه الله تعالى على ما نصه: بل صحيح، نطقت به الألسن والمكاتبات والإجازات وأعربت عنه الخلال الكريمة، إلا أن البلدية يا سيدي أبا عبد الله والمنافسة تجعل القرشية في إمام المغرب أبي عبد الله المقري وهماً، والحمد لله؛ انتهى.
قلت: وممن صرح بالقرشية في حق الجد المذكور ابن خلدون في تاريخه وابن الأحمر في " نثير الجمان " وفي شرح البردة عند قوله:
لعل رحمة ربي حين ينشرها ... والشيخ ابن غازي، والولي الصالح سيدي أحمد رزوق، والشيخ علامة زمانه سيدي أحمد الونشريسي، وغير واحد، وكفى بلسان الدين شاهداً مزكى.
وقد ألف عالم الدنيا ابن مرزوق تأليفاً استوفى فيه التعريف بمولاي الجد سماه " النور البدري في التعريف بالفقيه المقري " وهذا بناء منه على مذهبه أنه
__________
(1) نسبة إلى عروة، لعله عروة بن الزبير، فقد كان يطيل الصلاة ويكثر من الدعاء حتى كان يقول إني لأسأل الله في صلاتي كل شيء حتى الملح.(5/204)
- بفتح الميم وسكون القاف - كما صرح بذلك في شرح الألفية عند قوله:
ووضعوا لبعض الاجناس علم ... وضبطه غيرهم وهم الأكثرون بفتح الميم وتشديد القاف، وعلى ذلك عول أكثر المتأخرين، وهما لغتان في البلدة التي نسب إليها، وهي مقرة من قرى زاب إفريقية، وانتقل منها جده إلى تلمسان صحبة شيخه ولي الله سيدي أبي مدين رضي الله عنه.
رجع إلى تكملة كلام مولاي الجد في حق أوليته:
قال رحمه الله تعالى بعد الكلام السابق في حق جده عبد الرحمن، ما صورته: ثم اشتهرت ذريته على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة، فمهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار، واتخذوا طبلاً للرحيل، وراية تقدم عند المسير، وكان لد يحيى الذين أحدهم أبو بكر خمسة رجال، فعقدوا الشركة بينهم في جميع ما ملكوه أو يملكونه على السواء بينهم والاعتدال، فكان أبو بكر ومحمد وهما أرومتا نسبي من جميع جهات أمي وأبي بتلمسان، وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة، وعبد الواحد وعلي وهما شقيقاهم الصغيران بإيوالاتن فاتخذوه بهذه الأقطار الحوائط (1) والديار، وتزوجوا النساء، واستولدوا الإماء، وكان التلمساني يبعث إلى الصحراوي بما يرسم له من السلع، ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتبر، والسجلماسي كلسان الميزان يعرفهما بقدر الخسران والرجحان، ويكاتبهما بأحوال التجار وأخبار البلدان، حتى اتسعت أموالهم، وارتفعت في الضخامة أحوالهم، ولما افتتح التكرور كورة إيوالاتن وأعمالها أصيبت أموالهم فيما أصيب من أموالها، بعد أن جمع من كان بها منهم إلى نفسه الرجال، ونصب دونها ودون مالهم القتال، ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه،
__________
(1) الحوائط: جمع حائط وهو مزرعة النخيل.(5/205)
ومكنه من التجارة بجميع بلاده، وخاطبه بالصديق الأحب، والخلاصة الأقرب، ثم صرار يكاتب من بتلمسان يستقضي منهم مآربه، فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة، وعندي من كتبه وكتب ملوك المغرب ما ينبئ عن ذلك، فلما استوثقوا من الملوك، تذللت لهم الأرض للسلوك، فخرجت أموالهم عن الحد، وكادت تفوت الحصر والعد، لأن بلاد الصحراء قبل أن يدخلها أهل مصر (1) كان يجلب إليها من المغرب ما لا بال له من السلع، فتعاوض عنه بما له بال من الثمن - أي مدبر دنيا ضم جنبا أبي حمو وشمل ثوباه، كان يقول: لولا الشناعة لم أزل في بلادي تاجراً من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السلع، ويأتون بالتبر الذي كل أمر الدنيا له تبع، ومن سواهم يحمل منها الذهب، ويأتي إليها بما يضمحل عن قريب ويذهب، ومنه ما يغير من العوائد، ويجر السفهاء إلى المفاسد - (2) ، ولما درج هؤلاء الأشياخ جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم، ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم، وصادفوا توالي الفتن، ولم يسلموا من جور السلاطين، فلم يزل حالهم في نقصان إلى هذا الزمن، فها أنا ذا لم أدرك من ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فضوله عيشاً، وأصوله حرمة، ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب، وأسباب كثيرة تعين على الطلب، فتفرغت بحول الله عز وجل للقراءة، فاستوعبت أهل البلد لقاء، وأخذت عن بعضهم عرضاً وإلقاء، سواء المقيم القاطن (3) ، والوارد والظاعن؛ انتهى كلامه في أوليته، وقد نقله لسان الدين في الإحاطة.
وقال مولاي الجد رحمه الله تعالى: كان مولدي بتلمسان أيام أبي حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيان، وقد وقفت على تاريخ ذلك، ولكني
__________
(1) ق: أهل مقرة.
(2) هكذا وردت هذه العبارة معترضة في الأصول والإحاطة؛ وأبو حمو المذكور فيها هو موسى بن عثمان بن يغمراسن، والمقري قد ولد في زمانه؛ ويمدحه بأنه كان عارفا بالتدبير، قد ضم جنباه وشمل ثوبه امراءا عارفا بشؤون التجارة، حتى كان يتمنى لو أنه بقي في بلاده تاجرا ... إلخ.
(3) ق: والقاطن.(5/206)
رأيت الصفح عنه لأن أبا الحسن ابن مؤمن سأل أبا طاهر السلفي عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا الفتح ابن زيان عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت علي بن محمد اللبان عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا القاسم حمزة بن يوسف السهمي عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا بكر محمد بن عدي المنقري عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا إسماعيل الترمذي عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت الشافعي عن سنه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت مالك بن أنس عن سنه فقال: أقبل على شأنك، ليس من المروءة للرجل أن يخبر بسنه؛ انتهى.
قلت: ولما تذاكرت مع مولاي العم الإمام - صب الله تعالى على مضجعه من الرحمة الغمام - هذا المعنى الذي ساقه مولاي الجد رحمه الله تعالى أنشدني لبعضهم (1) :
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سن ومال ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمكفر وبحاسد (2) ومكذب قال الونشريسي بحق الجد ما نصه: القاضي الشهير الإمام العالم أبو عبد الله محمد بن محمد المقري، التلمساني المولد والمنشأ، الفاسي المسكن، كان رحمه الله تعالى عالماً عاملاً ظريفاً نبيهاً (3) ذكياً نبيلاً فهماً متيقظاً جزلاً محصلاً؛ انتهى.
وقد وقفت له بالمغرب على مؤلف عرف فيه بمولاي الجد، وذكر جملة من أحواله، وذلك أن طلبه بعض أهل عصره في تأليف أخبار الجد، فألف فيه ما ذكر.
__________
(1) أوردهما ابن الجوزي في صيد الخاطر: 346 قال: وقد أنشدنا محمد بن عبد الباقي البزار.
(2) صيد الخاطر: بمموه ومحرف.
(3) نبيها: سقطت من ق.(5/207)
وقال في الإحاطة في ترجمة مولاي الجد بعد ذكره أوليته ما صورته:
حاله: هذا الرجل مشار إليه بالعدوة الغربية اجتهاداً ودؤوباً (1) وحفظاً وعناية واطلاعاً ونقلاً ونزاهة، سليم الصدر، قريب الغور، صادق القول، مسلوب التصنع، كثير الهشة، مفرط الخفة، ظاهر السذاجة، ذاهب أقصى مذاهب التخلق، محافظ على العمل، مثابر على الانقطاع، حريص على العبادة، مضايق في العقد والتوجه، يكابد من تحصيل النية بالوجه واليدين مشقة، ثم يغافص الوقت فيها ويوقعها دفعة متبعاً إياها زعقة التكبير برجفة ينبو عنها سمع من لم تؤنسه بها العادة بما هو دليل على حسن المعاملة وإرسال السجية، قديم النعمة متصل الخيرية، مكب على النظر والدرس والقراءة، معلوم الصيانة والعدالة، منصف في المذاكرة، حاسر للذراع عند المباحثة، راحب عن الصدر في وطيس المناقشة، غير مختار للقرن ولا ضان بالفائدة، كثير الالتفات متقلب الحدقة، جهير بالحجة بعيد عن المراء والمباهتة (2) ، قائل بفضل أولي الفضل من الطلبة، يقوم أتم القيام على العربية والفقه والتفسير ويحفظ الحديث ويتهجر بحفظ التاريخ والأخبار والآداب، ويشارك مشاركة فاضلة في الأصلين والجدل والمنطق، ويكتب ويشعر (3) مصيباً غرض الإجادة، ويتكلم في طريقة الصوفية كلام أرباب المقال ويعتني بالتدوين فيها، شرق وحج ولقي جلة واضطبن (4) رحلة مفيدة، ثم عاد إلى بلده فأقرأ به واقطع إلى خدمة العلم، فلما ولي ملك المغرب السلطان محالف الصنع ونشيدة الملك وأثير الله من بين القرابة والاخوة أمير المؤمنين أبو عنان اجتذبه، وخلطه بنفسه واشتمل عليه وولاه قضاء الجماعة بمدينة فاس، فاستقل بذلك أعظم الاستقلال، وأنفذ الحق وألان الكلمة وآثر التسديد وحمل الكل وخفض الجناح،
__________
(1) ق: ودينا.
(2) ق: والمباهاة.
(3) ويشعر: سقطت من ق.
(4) اضطبن: احتقب.(5/208)
فحسنت عنه القالة، وأحبته الخاصة والعامة. حضرت بعض مجالسه للحكم فرأيت من صبره على اللدد وتأنيه للحجج ورفقه بالخصوم (1) ما قضيت منه العجب.
دخوله غرناطة - ثم لما أخر عن القضاء استعمل بعد لأي في الرسالة، فوصل الأندلس أوائل جمادى الثانية من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، فلما قضى غرض رسالته وأبرم عقد وجهته واحتل مالقه في منصرفه بدا له في نبذ الكلفة واطراح وظيفة الخدمة وحل التقيد إلى ملازمة الإمرة (2) ، فتقاعد وشهر غرضه وبت في الانتقال طمع من كان صحبته (3) ، وأقبل على شأنه، فخلي بينه وبين همه، وترك وما انتحله من الانقطاع إلى ربه، وطار الخبر إلى مرسله، فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة والعدول عنها بقصد التخلي والعبادة، وأنكر ما حقه الإنكار من إبطال عمل الرسالة، والانقباض قبل الخروج عن العهدة (4) ، فوغر صدره على صاحب الأمر، ولم يبعد الظنة والمواطأة على النفرة، وتجهزت جملة من الخدام المجلين في مأزق الشبهة المضطلعين بإقامة الحجة، مولين خطة الملام، مخيرين بين سحائب عاد من إسلامه، مظنة إعلاق النقمة، وإيقاع العقوبة، أو الإشادة بسبب إجارته بالقطيعة والمنابذة. وقد كان المترجم به لحق بغرناطة فتذمم بمسجدها، وجأر بالانقطاع إلى الله، وتوعد من يجبره بنكير من يجير ولا يجار عليه سبحانه، فأهم أمره، وشغلت القلوب آبدته، وأمسك الرسل بخلال ما صدرت شفاعة اقتضى له فيها رفع التبعة وتركه إلى تلك الوجهة، ولما تحصل ما تيسر من ذلك انصرف محفوفاً بعالمي (5) القطر قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني المذكور قبله والشيخ الخطيب أبي البركات ابن الحاج مسلمين لوروده،
__________
(1) ق ص: للخصوم.
(2) ق: الآخرة، ولعلها أصوب.
(3) ق: صحبه.
(4) من إبطال ... العهدة: سقطت من ص.
(5) ص ق: يعلمي.(5/209)
مشلفهين بالشفاعة في غرضه، فانقشعت الغمة وتنفست الكربة، واستصحبا من المخاطبة السلطانية في أمره من إملائي ما يذكر حسبما ثبت في الكتاب المسمى ب " كناسة الدكان بعد انتقال السكان " المجموع بسلا ما صورته:
" المقام الذي يحب (1) الشفاعة ويرعى الوسيلة، وينجز العدة ويتمم الفضيلة، ويضفي مجده المنن الجزيلة، ويعيي حمده الممادح العريضة الطويلة، مقام محل والدنا الذي كرم مجده، ووضح سعده، وصح في الله تعالى عقده، وخلص في الأعمال الصالحة قصده، وأعجز الألسنة حمده، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله سبحانه لوسيلة يرعاها، وشفاعة يكرم مسعاها، وأخلاق جميلة تجيب دعوة الطبع الكريم إذا دعاها، معظم سلطانه الكبير وممجد مقامه الشهير، المتشيع لأبوته الرفيعة قولاً باللسان واعتقاداً بالضمير، المعتمد منه بعد الله على الملجإ الأحمى والولي النصير، فلان. سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، وأبوتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته.
" أما بعد حمد الله الذي جعل الخلق الحميد دليلاً (2) على عنايته بمن حلاه حلاها، وميز بها النفوس النفيسة التي اختصها بكرامته وتولاها، حمداً يكون كفؤاً للنعم التي أولاها، وأعادها ووالاها، والصلاة على سيدنا محمد عبده ورسوله المترقي من درجات الاختصاص أرفعها وأعلاها، الممتاز من أنوار الهداية بأوضحها وأجلاها، مطلع آيات السعادة يروق مجتلاها، والرضى عن اله وصحبه الذين خبر صدق ضمائرهم لما ابتلاها، وعسل ذكرهم في الأفواه فما أوصافهم على الألسن وأحلاها، والدعاء لمقام أبوتكم حرس الله تعالى علاها، بالسعادة التي يقول الفتح أنا طلاع الثنايا وابن جلاها، والصنائع
__________
(1) ص ق: يحسب.
(2) ق: دلالة.(5/210)
التي تخترق المفاوز بركائبها المبشرات فتفلي فلاها، فإنا كتبنا كتب الله تعالى لكم عزة مشيدة البناء، وحشد على أعلام صنائعكم الكرام جيوش الثناء، وقلدكم من قلائد مكارم الأخلاق ما يشهد لذاتكم منه بسابقة الاعتناء من حمراء غرناطة حرسها الله والود باهر السنا ظاهر السناء، مجدد على الآناء، والتشيع رحب الدسيعة والفناء.
" وإلى هذا - وصل الله تعالى سعدكم، وحرس مجدكم، فإننا خاطبنا مقامكم الكريم في شأن الشيخ الفقيه الحافظ الصالح أبي عبد الله المقري خار الله تعالى لنا وله، وبلغ الجميع من فضله العميم أمله، جواباً عما صدر عن مثابتكم فيه من الإشارة الممتثلة، والمآرب المعملة، والقضايا غير المهملة، نصادركم بالشفاعة، التي مثلها بأبوابكم لا يرد، وظمآها عن منهل قبولكم لا تحلأ ولا تصد، حسبما سنة الأب الكريم والجد، والقبيل الذي وضح منه في المكارم الرسم والحد، ولم نصدر الخطاب حتى ظهر لنا من أحواله صدق المخيلة، وتبلج صبح الزهادة والفضيلة، وجود النفس الشحيحة، بالعرض الأدنى البخيلة، وظهر تخليه عن هذه الدار، واختلاطه باللفيف والغمار، وإقباله على ما يعني مثله من صلة الأوراد ومداومة الاستغفار. وكنا لما تعرفنا إقامته بمالقة لهذا الغرض الذي شهره، والفضل الذي أبرزه للعيان وأظهره، أمرنا أن يعتنى بأحواله، ويعان على فراغ باله، ويجرى عليه سيب من ديون الأعشار الشرعية وصريح ماله، وقلنا ما أتاك من غير مسألة مستند صحيح لاستدلاله، ففر من مالقة على ما تعرفنا لهذا السبب، وقعد بحضرتنا مستور المنتمى والمنتسب، وسكن بالمدرسة بعض الأماكن المعدة لسكنى المتسمين بالخير والمحترفين ببضاعة الطلب، بحيث لم يتعرف وروده ووصوله إلا ممن لا يؤبه بتعريفه، ولم تتحقق زوائده وأصوله لقلة تصريفه.
" ثم تلاحق إرسالكم الجلة فوجبت حينئذ الشفاعة، وعرضت على سوق الحلم والفضل من الاستلطاف والاستعطاف البضاعة، وقررنا ما تحققناه من أمره(5/211)
وانقباضه عن زيد الخلق وعمره، واستقباله الوجهة التي من ولى وجهه شطرها فقد آثر أثيراً، ومن ابتاعها بمتاع الدنيا فقد نال فضلاً كبيراً وخيراً كثيراً، وسألنا منكم أن تبيحوا له ذلك الغرض الذي رماه بعزمه، وقصر عليه أقصى همه، فما أخلق مقامكم أن يفوز به طالب الدنيا بسهمه، ويحصل منه طالب الآخرة على حظه الباقي وقسه، ويتوسل الزاهد بزهده والعالم بعلمه، ويعول البريء على فضله ويثق المذنب بحمله، فوصل الجواب الكريم بمجرد الأمان وهو أرب من آراب، وفائدة من جراب، ووجه من وجوه إعراب، فرأينا أن المطل بعد جفاء، والإعادة ليس يثقلها خفاء، ولمجدكم بما ضمنا عنه وفاء، وبادرنا الآن إلى العزم عليه في ارتحاله، وأن يكون الانتقال عن رضى منه من صفة حاله، وأن يقتضي له ثمرة المقصد، ويبلغ طية الإسعاف في الطريق الأقصد، إذ كان الأمان لمثله ممن تعلق بجناب الله من مثلكم حاصلاً، والدين المتين بين نفسه وبين المخافة فاصلاً، وطالب كيمياء السعادة بإعانتكم واصلاً، ولما مدت اليد في تسويغ حالة هديكم عليها أبداً يحرض، وعلمكم يصرخ بمزيتها فلا يعرض، فكملوا أبقاكم الله ما لم تسعنا فيه مشاحة الكتاب، وألحقوا بالأصل حديث هذه الإباحة فهو أصح حديث في الباب، ووفوا غرضنا من مجدكم، وخلوا بينه وبين مراده من ترك الأسباب، وقصد غافر الذنب وقابل التوب بإخلاص المتاب، والتشمير ليوم العرض وموقف الحساب، وأظهروا عليه عناية الجناب، الذي تعلق به أعلق الله به يدكم من جناب، ومعاذ الله أن تعود شفاعتنا من لدنكم غير مكملة الآراب.
" وقد بعثنا من يتوب عنا في مشافهتكم بها أحمد المناب، ويقتضي خلاصها بالرغبة لا بالغلاب، وهما فلان وفلان، ولولا الأعذار لكان في هذا الغرض أعمال الركاب، يسبق أعلام الكتاب، وأنتم تولون هذا القصد من مكارمكم ما يوفر الثناء الجميل، ويربي على التأميل ويكتب على الود الصريح العقد وثيقة التسجيل، وهو سبحانه يبقيكم لتأييد المجد الأثيل، وإنالة الرفد الجزيل، والسلام(5/212)
الكريم يخص مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، ورحمة الله تعالى وبركاته، في الحادي والعشرين لجمادى الآخرة من عام سبعة وخمسين وسبعمائة؛ انتهى كلام ابن الخطيب في الإحاطة.
وذكر في الريحانة أنه كتب في هذا الغرض ما نصه:
" وإلى هذا فإننا وقفنا على كتابكم الكريم في شأن الشيخ الصالح الفقيه الفاضل أبي عبد الله المقري وفقنا الله وإياه لما يزلف لديه، وهدانا إلى ما يقرب إليه، وما بلغكم بتقاعده بمالقة، وما أشرتم به في أمره، فاستوفينا جميع ما قررتم، واستوعبنا ما أجملتم في ذلك وفسرتم، وعلموا يا محل والدنا أمتعنا الله ببقائكم الذي في ضمنه اتصال السعادة، وتعرف النعم المعادة أننا لما انصرف عن بابنا هو ومن رافقه عن انشراح صدور، وتكييف جذل بما تفضلتم به وسرور، تعرفنا أنه تقاعد بمالقة عن صحبه، وأظهر الاشتغال بما عند ربه، وصرف الوجه إلى التخلي مشفقاً من ذنبه، واحتج بأن قصده ليس له سبب، ولا تعين له في الدنيا أرب، وأنه عرض عليكم أن تسمحوا له فيما ذهب إليه، وتقروه عليه، فيعجل البدار، ويمهد تحت إيالتكم القرار، فلما بلغنا هذا الخبر، لم يخلق الله عندنا به مبالاة تعتبر، ولا أعددناه فيما يذكر، فكيف فيما ينكر، وقطعنا أن الأمر فيه هين، وأن مثل هذا الغرض لا تلفت إليه عين، فإن بابكم غني من طبقات أولي الكمال، ملي بتسويغ الآمال، موفور الرجال، معمور بالفقهاء العارفين بأحكام الحرام والحلال، والصلحاء أولي المقامات والأحوال، والأدباء فرسان الروية والارتجال، ولم ينقص بفقدان الحصى أعداد الرمال، ولا يستكثر بالقطرة جيش العارض المنثال، مع ما علم من إعانتكم على مثل هذه الأعمال، واستمساككم بإسعاف غرض من صرف وجهه إلى ذي الجلال، ولو علمنا أن شيئاً يهجس في الخاطر من أمر مقامه، لقابلناه بعلاج سقامه.
" ثم لم ينشب أن تلاحق بحضرتنا بارزاً في طور التقلل والتخفيف، خالطاً(5/213)
نفسه باللفيف، قد صار نكرة بعد العلمية (1) والتعريف، وسكن بعض مواضع المدرسة منقبضاً عن الناس لا يظهر إلا لصلاة يشهد جماعتها، ودعوة للعباد يخاف إضاعتها، ثم تلاحق إرسالكم الجلة، الذين تحق لمثلهم التجلة، فحضروا لدينا وأدوا المخاطبة الكريمة كما ذكر إلينا، وتكلمنا معهم في القضية، وتنخلنا في الوجوه المرضية، فلم نجد وجهاً أخلص من هذا الغرض، ولا علاجاً يتكفل ببرء المرض، من أن كلفناهم الإقامة التي يتبرك بيمن جوارها، ويعمل على إيثارها، بخلاف ما نخاطب مقامكم بهذا الكتاب الذي مضمنه شفاعة يضمن حباؤكم احتسابها، ويرعى انتماءها إلى الخلوص وانتسابها، ويعيدها قد أعلمت الحظوة أثوابها، ونقصدكم ومثلكم من يقصد في المهمة، فأنتم المثل الذائع في عموم الحلم وعلو الهمة، في أن تصدروا له مكتوباً مكمل الفصول، مقرر الأصول، يذهب الوجل، ويرفع الخجل، ويسوغ من مآربه لديكم الأمل، ويخلص النية ويرتب العمل، حتى يظهر ما لنا عند أبوتكم من تكميل المقاصد، جرياً على ما بذلتم من جميل العوائد، وإذا تحصل ذلك كان بفضل الله إيابه، وأناخت بعقوة (2) وعدكم الوفي ركابه، ويصل لمقامكم عزه ومجده وثوابه، وأنتم ممن يرعى أمور المجد حق الرعاية، وسيجرى في معاملة الله تعالى على ما أسس من فضل البداية، وتحقق الظنون فيما لديه من المدافعة عن حوزة الإسلام والحماية، هذا ما عندنا أعجلنا به الإعلام، وأعملنا فيه الأقلام، بعد أن أجهدنا الاختيار وتنخلنا الكلام، وجوابكم بالخير كفيل، ونظركم لنا وللمسلمين جميل، والله تعالى يصل سعدكم، والسلام ". انتهى.
قلت: هذه آفة مخالطة الملوك، فإن مولاي الجد المذكور كان نزل عن (3) القضاء وغيره، فلما أراد التخلي إلى لم يتركه السلطان أبو عنان كما رأيت.
__________
(1) العلمية: سقطت من ق.
(2) ص ق: عقرة؛ والعقوة: الساحة.
(3) ق: هاربا من؛ وسقطت من ص.(5/214)
[شيوخ المقري الجد]
وقد ذكر لسان الدين رحمه الله تعالى في الإحاطة شيوخ مولانا الجد، فلنذكرهم من جزء الجد الذي سماه " نظم اللآلي في سلوك الأمالي " (1) ومنه اختصر لسان الدين ما في الإحاطة في ترجمة مشيخته فنقول: قال مولاي الجد رحمه الله تعالى.
1، - 2 - فممن أخذت عنه، واستفدت منه، علماها - يعني تلمسان - الشامخان، وعالماها الراسخان: أبو زيد عبد الرحمن، وأبو موسى عيسى، ابنا محمد بن عبد الله ابن الإمام (2) ، وكانا قد رحلا في شبابهما من بلدهما برشك (3) إلى تونس فأخذوا بها عن ابن جماعة وابن العطار واليفرني (4) وتلك الحلبة، وأدركا المرجاني وطبقته من أعجاز المائة السابعة، ثم وردوا في أول المائة الثامنة تلمسان على أمير المسلمين أبي يعقوب وهو محاصر لها، وفقيه حضرته يومئذ أبو الحسن علي بن يخلف التنسي، وكان قد خرج إليه برسالة من صاحب تلمسان المحصورة فلم يعد، وارتفع شأنه عند أبي يعقوب، حتى إنه شهد جنازته، ولم يشهد جنازة أحد قبله، وقام على قبره، وقال: نعم الصاحب فقدنا اليوم؛ حدثني الحاج الشيخ بعباد تلمسان أبو عبد الله محمد بن محمد بن مرزوق العجيسي أن أبا يعقوب طلع إلى جنازة التنسي في الخيل حوالي روضة الشيخ أبي مدين فقال: كيف تتزكون الخيل تصل إلى ضريح الشيخ هلا عرضتم هنالك - وأشار إلى حيث المعراض الآن - خشبة ففعلنا، فلما قتل أبو يعقوب وخرج المحصوران أنكرا ذلك، فأخبرتهما، فأما أبو زيان - وكان السلطان يومئذ - فنزل وطأطأ رأسه ودخل،
__________
(1) ق: اللآل ... الامال.
(2) ترجمة ابني الإمام في التعريف: 28 والعبر 7: 100 والديباج: 152 ونيل الابتهاج: 139، 190؛ وفيه نقل عن المقري الجد (انظر ص: 140) .
(3) نيل الابتهاج: تلمسان.
(4) نيل الابتهاج: والبطرني.(5/215)
وأما أبو حمو - وكان أميراً - فوثب وخلفها. ولما رجع الملك إلى هذين الرجلين اختصا ابني الأمام، وكان أبو حمو أشد اعتناء بهما، ثم بعده ابنه أبو تاشفين، ثم زادت حظوتهما عند أمير المسلمين أبي الحسن، إلى أن توفي أبو زيد في العشر الأوسط من رمضان عام أحد وأربعين وسبعمائة بعد وقعة طريف بأشهر، فزادت مرتبة أبي موسى عند السلطان، إلى أن كان من أمر السلطان بإفريقيا ما كان في أول عام تسعة وأربعين، وكان أبو موسى قد صدر عنه قبل الوقعة فتوجه صحبة ابنه أمير المسلمين أبي عنان إلى فاس، ثم رده إلى تلمسان، وقد استولى عليها عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان، فكان عنده إلى أن مات الفقيه عقب الطاعون العام.
قال لي خطيب الحضرة الفاسية (1) أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن عبد الله الرندي: لما أزمع الفقيه ومن أطلق معه على القفول إلى تلمسان بت على تشييعهم، فرأيتني كأنني نظمت هذا البيت في المنام:
وعند وداع القوم ودعت سلوتي ... وقلت لها بيني فأنت المودع فانتبهت وهو في في، فحاولت قريحتي بالزيادة عليه فلم يتيسر لي مثله.
ولما استحكم ملك أبي تاشفين واستوثق رحل الفقيهان إلى المشرق في حدود العشرين وسبعمائة فلقيا علاء الدين القونوي، وكان بحيث إني لما رحلت فلقيت أبا علي حسين بن حسين ببجاية قال لي: إن قدرت أن لا يفوتك شيء من كلام القونوي حتى تكتب جميعه فافعل، فإنه لا نظير له ولقيا أيضاً جلال الدين القزويني صاحب البيان، وسمعا صحيح البخاري على الحجار، وقد سمعته أنا عليهما، وناظرا تقي الدين بن تميمة، وظهرا عليه، وكان ذلك من أسباب محنته، وكانت له مقالات فيما يذكر (2) وكان شديد الإنكار على الإمام فخر الدين، حدثني
__________
(1) ص: الفارسية يعني حضرة أبي عنان فارس.
(2) نيل الابتهاج: وكانت للتقي المذكور مقالات شنيعة من حمل حديث النزول على ظاهره ... إلخ.(5/216)
شيخي العلامة أبو عبد الله الآبلي أن عبد الله بن إبراهيم الزموري أخبره أنه سمع ابن تيمية ينشد لنفسه (1) :
محصل في أصول الدين حاصله ... من بعد تحصيله علم بلا دين
أصل الضلالة والإفك المبين، فما ... فيه فأكثره وحي الشياطين قال: وكان في يده قضيب، فقال: والله لو رأيته لضربته بهذا القضيب هكذا، ثم رفعه ووضعه.
وبحسبك مما طار لهذين الرجلين من الصيت بالمشرق أني لما حللت بيت المقدس وعرف به مكاني من الطلب، وذلك أني قصدت قاضيه شمس الدين بن سالم ليضع لي يده على رسم أستوجب به هنالك حقاً، فلما أطللت عليه عرفه بي بعض من معه، فقام إلي حتى جلست، ثم سألني بعض الطلبة بحضرته فقال لي: إنكم معشر المالكية تبيحون للشامي يمر بالمدينة أن يتعدى ميقاتها إلى الجحفة، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد أنم عين المواقيت لأهل الآفاق " هن لهن، ولمن مر عليهن من غير أهلهن " وهذا قد مر على ذي الخليفة وليس من أهله فيكون له، فقلت له: إن النبي، صل الله عليه وسلم، قال " من غير أهلهن " أي من غير أهل المواقيت، وهذا سلب كلي، وإنه غير صادق على هذا الفرد، ضرورة صدق نقيضه وهو الإيجاب الجزئي عليه، لأنه من بعض أهل المواقيت قطعاً، فلما لم يتناوله النص رجعنا إلى القياس، ولا شك أنه لا يلزم أحداً أن يحرم قبل ميقاته وهو يمر به لكن من ليس من أهل الجحفة لا يمر بميقاته إذا مر بالمدينة، فوجب عليه الإحرام من ميقاتها، بخلاف أهل الجحفة، فإنها بين أيديهم، وهم يمرون عليها، فوقعت من نفوس أهل البلد بسبب ذلك، فلما عرفت أتاني آت من أهل المغرب فقال لي: تعلم أن مكانك في
__________
(1) انظر هذا في نيل الابتهاج: 245 (ترجمة الآبلي) .(5/217)
نفوس أهل هذا البلد مكين، وقدرك عندهم رفيع، وأنا اعلم انقباضك (1) عن ابني الإمام، فإن سئلت فانتسب لهما، فقد سمعت منهما، وأخذت عنهما، ولا تظهر العدول عنهما إلى غيرهما فتضع من قدرك، فإنما أنت عند هؤلاء الناس خليفتهما، ووارث علمهما وأن لا أحد فوقهما (2) :
وليس لما تبني يد الله هادم ... وشهدت مجلساً بين يدي السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو ذكر فيه أبو زيد ابن الإمام أن ابن القاسم مقلد مقيد النظر بأصول مالك، ونازعه أبو موسى عمران بن موسى المشدالي، وادعى أنه مطلق الاجتهاد، واحتج له بمخالفته لبعض ما يرويه ويبلغه عنه لما ليس من قوله، وأتى من ذلك بنظائر كثيرة قال: فلو تقيد بمذهبه لم يخالفه بغيره، فاستظهر أبو زيد نص لشرف الدين التلمساني مثل فيه الاجتهاد المخصوص باجتهاد ابن القاسم بالنظر إلى مذهب مالك والمزني إلى الشافعي، فقال عمران: هذا مثال، والمثال لا تلزم صحته، فصاح به أبو موسى ابن الإمام وقال لأبي عبد الله ابن أبي عمرو: تكلم، فقال: لا أعرف ما قال هذا الفقيه، الذي أذكره من كلام أهل العم انه لا يلزم من فساد المثال فساد الممثل، فقال أبو موسى للسلطان: هذا كلام أصولي محقق، فقلت لهما وأنا يومئذ حديث السن: ما أنصفتما الرجل، فإن المثل كما تؤخذ على جهة التحقيق كذلك تؤخذ على طريق التقريب، ومن ثم جاء ما قاله هذا الشيخ، أعني ابن أبي عمرو، وكيف لا وهذا سيبويه يقول: وهذا مثال ولا يتكلم به، فإذا صح أن المثال قد يكون تقريباً فلا يلزم صحة المثال ولا فساد الممثل لفساده، فهذان القولان من أصل واحد.
__________
(1) كذا وفي نيل الابتهاج: أخذك.
(2) نيل الابتهاج: وإن الأمر فوقهما.(5/218)
وشهدت مجلساً آخر عند هذا السلطان قرأ فيه عن أبي زيد ابن الإمام حديث لقنوا موتاكم لا إله إلا الله في صحيح مسلم، فقال له الأستاذ أبو إسحاق ابن حكم السلوي: هذا الملقن محتضر حقيقة ميت مجازاً، فما وجه ترك محتضريكم إلى موتاكم، والأصل الحقيقة فأجابه أبو زيد بجواب لم يقنعه، وكنت قد قرأت على الأستاذ بعض التنقيح فقلت: زعم القرافي أن المشتق إنما يكون حقيقة في الحال، مجازاً في الاستقبال، مختلفاً في الماضي، إذا كان محكوماً به، أما إذا كان متعلق الحكم كما هنا فهو حقيقة مطلقاً إجماعاً، وعلى هذا التقرير لا مجاز، فلا سؤال، لا يقال: إنه احتج على ذلك بما فيه نظر، لأنا نقول: إنه نقل الإجماع، وهو أحد الأربعة التي لا يطالب مدعيها بالدليل، كما ذكر أيضاً، بل نقول: إنه أساء حيث احتج في موضع الوفاق، كما أساء اللخمي وغيره في الاحتجاج على وجوب الطهارة ونحوها، بل هذا أشنع، لكونه مما علم من الدين بالضرورة، ثم إنا لو سلمنا نفي الإجماع فلنا أن نقول: إن ذلك إشارة إلى ظهور العلامات التي يعقبها الموت عادة، لأن تلقينه قبل ذلك إن لم يدهش فقد يوحش، فهو تنبيه على وقت التلقين، أي لقنو من تحكمون أنه ميت، أو نقول: إنما عدل عن الاحتضار لما فيه من الإبهام، ألا ترى اختلافهم فيه: هل أخذ من حضور الملائكة، أو حضور الأجل، أو حضور الجلاس، ولا شك أن هذه حالة خفية يحتاج في نصبها دليلاً على الحكم إلى وصف ظاهر يضبطها، وهو ما ذكرناه، أو من حضور الموت، وهو أيضاً مما لا يعرف بنفسه، بل بالعلامات، فلما وجب اعتبارها وجب كون تلك التسمية إشارة إليها، والله تعالى أعلم.
كما كان أبو زيد يقول فيما جاء من الأحاديث من معنى قول ابن أبي زيد وإذا سلم الإمام فلا يثبت بعد سلامه ولينصرف: إن ذلك بعد أن ينتظر بقدر ما يسلم من خلفه، لئلا يمر بين يدي أحد، وقد ارتفع عنه حكمه، فيكون كالداخل مع المسبوق، جمعاً بين الأدلة، قلت: وهذا ملح الفقيه.(5/219)
اعترض عند أبي زيد قول ابن الحاجب ولبن الآدمي والمباح طاهر بأنه إنما يقال في الآدمي لبان، فأجاب بالمنع، واحتج بقول النبي، صلى الله عليه وسلم، " اللبن للفحم " وأجيب بأن قول ذلك لتشريكه المباح معه في الحكم؛ لأن اللبان خاص به، وليس موضع تغليب، لأن اللبان ليس بعاقل، ولا حجة على تغليب ما يختص بالعاقل.
تكلم أبو زيد يوماً في مجلس تدريسه في الجلوس على الحرير، فاحتج إبراهيم السلوي للمنع بقول أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فمنع أبو زيد أن يكون إنما أراد باللباس الافتراش فحسب، لاحتمال أن يكون إنما أراد التغطية معه أو وحدها، وذكر حديثاً في تغطية الحصير، فقلت: كلا الأمرين يسمى لباساً، قال الله عز وجل {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} (البقرة: 187) وفيه بحث.
كان أبو زيد يصحف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها فيقول: " والمفارقات " ولعله في هذا كما قال أبو عمرو ابن العلاء للأصمعي لما قرأ عليه (1) :
وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر ... فقال:
وغررتني وزعمت أنك لا تني بالضيف تامر ... فقال: أنت في تصحيفك أشعر من الحطيئة، أو كما حكي عمن صلى بالخليفة في رمضان ولم يكن يومئذ يحفظ القرآن، فكان ينظر في المصحف، فصحف آيات: صنعة الله، أصيب بها من أساء، إنما المشركون نحس، وعدها
__________
(1) التصحيف: 95.(5/220)
أباه، تقية الله خير لكم، هذا أن دعوا للرحمن ولداً، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه.
سمعت أبا زيد يقول: إن أبا العباس الغماري التونسي أول من أدخل " معالم " الإمام فخر الدين للمغرب، وبسبب ما قفل به من الفوائد رحل أبو القاسم ابن زيتون.
وسمعته يقول: إن ابن الحاجب ألف كتابه الفقهي من ستين ديواناً (1) ، وحفظت من وجادة أنه ذكر عند أبي عبد الله ابن قطرال المراكشي أن ابن الحاجب اختصر " الجواهر " فقال: ذكر هذا لأبي عمرو حين فرغ منه فقال: بل ابن شاس اختصر كتابي، قال ابن قطرال: وهو أعلم بصناعة التأليف من ابن شاس، والإنصاف أنه لا يخرج عنه وعن ابن بشير إلا في الشيء اليسير، فهما أصلاه ومعتمداه، ولا شك أن له زيادات وتصرفات تنبئ عن رسوخ قدمه وبعد مداه.
وكان أبو زيد (2) من العلماء الذين يخشون الله، حدثني أمير المؤمنين المتوكل أبو عنان أن والده أمير المسلمين أبا الحسن ندب الناس إلى الإعانة بأموالهم على الجهاد، فقال له أبو زيد: لا يصح لك هذا حتى تكنس بيت المال، وتصلي ركعتين كما فعل علي بن أبي طالب، وسأله أبو الفضل ابن أبي مدين الكاتب ذات يوم عن حاله، وهو قاعد ينتظر خروج السلطان، فقال له: أما الآن فأنا مشرك، فقال: أعيذك من ذلك، فقال: لم أرد الشرك في التوحيد، لكن في التعظيم والمراقبة، وإلا فأي شيء جلوسي ههنا
والشيء بالشيء يذكر، قمت ذات يوم على باب السلطان بمراكش فيمن
__________
(1) ابن الحاجب: عثمان بن عمر بن يونس جمال الدين المصري (- 646) له مختصر في الفقه المالكي يعرف عادة باسم " فرعي ابن الجاجب " أو المختصر الفقهي ومختصر في أقول الفقه يسمى " أصلي ابن الحاجب " وهو مختصر كتابه منتهى السول (انظر مقدمة ابن خلدون: 1025) .
(2) النص في نيل الابتهاج: 140.(5/221)
ينتظر خروجه، فقام إلى جانبي شيخ من الطلبة، وأنشدني لأبي بكر ابن خطاب (1) رحمه الله تعالى:
أبصرت أبواب الملوك تغص بال ... راجين إدراك العلا والجاه
مترقبين لها فمهما فتحت ... خروا لأذقان لهم وجباه
فأنفت من ذاك الزحام وأشفقت ... نفسي على إنضاء جسمي الواهي
ورأيت باب الله ليس عليه من ... متزاحم، فقصدت باب الله
وجعلته من دونهم لي عدة ... وأنفت من غيي وطول سفاهي يقول جامع هذا المؤلف: رأيت بخط عالم الدنيا ابن مرزوق على هذا المحل من كلام مولاي الجد مقابل قوله " ورأيت باب الله " ما صورته: قلت ذلك لسعته أو لقلة أهله:
إن الكرام كثير في البلاد، وإن ... قلوا، كما غيرهم قل وإن كثروا {قل لا يستوي الخبيث والطيب} - الآية (المائدة: 100) انتهى.
رجع إلى كلام مولاي الجد قال رحمه الله تعالى ورضي عنه: وحدثني شيخ من أهل تلمسان أنه كان عند أبي زيد مرة، فذكر القيامة وأهوالها فبكى، فقلت: لا بأس علينا وأنتم أمامنا، فصاح صيحة، واسود وجهه، وكاد يتفجر دماً، فلما سري عنه رفع يديه وطرفه إلى السماء وقال: اللهم لا تفضحنا مع هذا الرجل، وأخباره كثيرة.
وأما شقيقه أبو موسى فسمعت عليه كتاب مسلم، واستفدت منه كثيراً،
__________
(1) هو عزيز خطاب المرسي كان أول أمره ناسكا زاهدا واستمر على هذه الطريقة حتى امتحن برياسة بلده سنة 636 فخاض في سفك الدماء واجترأ على الأموال من غير وجهها إلى أن قتل في العام نفسه (ترجمته في الذيل والتكملة 5: 144 وصلة الصلة: 165 والتكملة رقم 1952 واختصار القدح: 126 والمغرب 2: 252 وأعمال الأعلام: 315 والحلة السيراء 2: 308) .(5/222)
فمما سألته عنه قول ابن الحاجب في الاستلحاق " وإذا استلحق مجهول النسب " إلى قوله " أو الشرع بشهرة نسبه " كيف يصح هذا القسم مع فرضه مجهول النسب فقال: يمكن أن يكون مجهول النسب في حال الاستلحاق، ثم يشتهر بعد ذلك، فيبطل الاستلحاق، فكأنه يقول: ألحقه ابتداء ودواماً، ما لم يكذبه أحد، هذه هي إحدى الحالتين، إلا أ، هذا إنما يتصور في الدوام فقط، ومما سألته عنه أن الموثقين يكتبون الصحة والجواز والطوع على ما يوهم القطع، وكثيراً ما ينكشف الأمر بخلافه، ولو كتبوا مثلاً ظاهر الصحة والجواز والطوع لبرئوا من ذلك، فقال لي: لما كان مبنى الشهادة وأصلها العلم لم يجمل ذكر الظن ولا في معناه احتمال، فإذا أمكن العلم بمضمونها لم يجز أن يحمل على غيره، فإذا تعذر كما ها هنا بني باطن أمرها على غاية ما يسعه فيه الإمكان عادة، وأجري ظاهرة على ما ينافس أصلها، صيانة لرونقها، ورعاية لما كان ينبغي أن تكون عليه لولا الضرورة. قلت: ولذلك عقد ابن فتوح وغيره عقود الجوائح على ما يوهم العلم بالتقدير، مع أن ذلك إنما يدرك بما غايته الظن في الحزر والتخمين، وكانا معاً يذهبان إلى الاختيار وترك التقليد.
3 - وممن أخذت عنه أيضاً حافظها ومدرسها ومفتيها أبو موسى عمران ابن موسى بن يوسف المشدالي (1) ، صهر شيخ المدرسين أبي علي ناصر الدين (2) على ابنته، وكان قد فر من حصار بجاية فنزل الجزائر، فبعث فيه أبو تاشفين، وأنزله من التقريب والإحسان بالمحل المكين، فدرس بتلمسان الحديث والفقه والأصلين والنحو والمنطق والجدل والفرائض، وكان كثير الاتساع في الفقه والجدل، مديد الباع فيما سواهما مما ذكر، سألته عن قول ابن الحاجب في
__________
(1) ترجمة أبي موسى المشدالي في نيل الابتهاج: 208.
(2) هو منصور بن أحمد بن عبد الحق (- 731) (راجع ترجمته في نيل الابتهاج: 377 وعنوان الدراية: 134) .(5/223)
السهو فإن أخال الإعراض فمبطل عمده فقال: معناه فإن أخال غيره أنه معرض، فحذف المفعول لجوازه، وأقام المصدر مقام المفعولين كما يقوم مقامه ما في معناه من أن وأن، قال الله العظيم {ألم أحسب الناس أن يتركوا} (العنكبوت: 1 - 2) قلت: وأقوى من هذا أن يكون المصدر هو المفعول الثاني، وحذف الثالث اختصاراً لدلالة المعنى عليه: أي فإن أخال الإعراض كائناً، كما قالوا: خلت ذلك، وقد أعربت الآية بالوجهين، وهذا عندي أقرب، ومن هذا الباب ما يكتب به القضاة من قولهم " أعلم باستقلاله فلان " أي أعلم فلان من يقف عليه بأن الرسم مستقل، فحذفوا الأول، وصاغوا ما بعده المصدر.
سئل عمران وأنا عنده عما صبغ من الثياب بالدم فكانت حمرته منه، فقال: يغسل، فإن لم يخرج شيء من ذلك في الماء فهو طاهر، لأن المتعلق به على هذا التقدير ليس إلا لون النجاسة، وإذا عسر قلعه بالماء فهو عفو، وإلا وجب غسله إلى أن لا يخرج منه شيء، قلت: في البخاري قال معمر: رأيت الزهري يصلي فيما صبغ بالبول من ثياب اليمن، وتفسيره على ما ذكره عمران. وكان قد صاهر لقاضي الجماعة أبي عبد الله ابن هربة على ابنته فلم تزل عنده إلى أن توفي عنها.
4 - ومنهم مشكاة الأنوار، الذي يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار، الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن حكم السلوي، رحمه الله تعالى. ورد تلمسان بعد العشرين، ثم لم يزل بها إلى أن قتل يوم دخلت على بني عبد الواد، وذلك في الثامن والعشرين من شهر رمضان عام سبعة وثلاثين وسبعمائة.
قال لي الشيخ ابن مرزوق: ابتدأ أمر بني عبد الواد بقتلهم لأبي الحسن السعيد، وكان أسمر لأم ولد تسمى العنبر، وختم بقتل أبي الحسن ابن عثمان إياهم، وهو بصفته المذكورة حذوك النعل بالنعل، فسبحان من دقت حكمته في كل شيء.(5/224)
ولما وقف الرفيقان أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري ومجمد بن عبد الرحمن بن الحكيم الرندي في رحلتهما على قبر السعيد بعباد تلمسان تناول ابن الحكيم فحمة ثم كتب بها على جدار هناك:
انظر ففي إليك اليوم معتبر ... إن كنت ممن بعين الفكر قد لحظا
بالأمس أدعى سعيداً، والورى خولي ... واليوم يدعى سعيداً من بي اتعظا قال ابن حكم: كان أول اتصالي بالأستاذ أبي عبد الله ابن آجروم أني دخلت عليه وقد حفظت بعض كتاب المفصل فوجدت الطلبة يعرفون بيت يديه هذا البيت (1) :
عهدي به الحي الجميع وفيهم ... قبل التفرق ميسر وندام وقد عُمي عليهم خبر " عهدي " فقلت له: قد سدت الحال وهي الجملة بعده مسده، فقال لي بعض الطلبة: وهل يكون هذا في الجملة كما كان في قولك: " ضربي زيداً قائماً " قلت له: نعم، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ".
ذكر أبو زيد ابن الإمام يوماً في مجلسه أنه سئل بالمشرق عن هاتين الشرطيتين {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} (الأنفال: 23) فإنهما تستلزمان بحكم الإنتاج لو علم الله فيهم خيراً لتولوا، وهو محال، ثم أراد أن يرى ما عند الحاضرين، فقال ابن حكم: قال ابن الخونجي: والإهمال بإطلاق لفظ لو وإن في المتصلة، فهاتان القضيتان على هذا مهملتان، والمهملة في قوة الجزئية، ولا قياس عن جزئيتين. فلما اجتمعت ببجاية أبي علي حسين بن حسين وأخبرته بهذا، وبما أجاب به الزمخشري وغيره، مما يرجع إلى انتفاء تكرر الوسط، قال لي: الجوابان في المعنى سواء، لأن القياس على
__________
(1) البيت للبيد، ديوانه: 288.(5/225)
الجزئيتين إنما امتنع لانتفاء أمر تكرر الوسط، فأخبرت بذلك شيخنا الآبلي، فقال: إنما يقوم القياس على الوسط، ثم يشترط فيه بعد ذلك أن لا يكون من جزئيتين، ولا سالبتين، إلى ما يشترط، فقلت: ما المانع من كون هذه الشروط تفصيلاً لمجمل ما ينبني عليه من الوسط وغيره، وإلا فلا مانع غير ما قاله ابن حسين، قال الآبلي: وقد أجبت بجواب السلوي، ثم رجعت إلى ما قال الناس لوجوب كون مهملات القرآن كلية لأن الشرطية لا تنتج جزئية، فقلت: هذا فيما يساق منها للحجة، مثل " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا "، أما في مثل هذا فلا.
ولما ورد تلمسان الشيخ الأديب أبو الحسن ابن فرحون نزيل طيبة على تربتها السلام سأل ابن الحكم عن معنى هذين البيتين:
رأت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلها بالرقمتين
كلانا ناظر قمراً ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني ففكر ثم قال: لعل هذا الرجل كان ينظر إليها، وهي تنظر إلى قمر السماء، فهي تنظر إلى القمر حقيقة، وهو لإفراط الاستحسان يرى أنها الحقيقة، فقد رأى بعينها لأنها ناظرة الحقيقة، وأيضاً فهو ينظر إلى قمر مجازاً، وهو لإفراط الاستحسان (1) لها يرى أن قمر السماء هي المجاز، فقد رأت بعينه، لأنها ناظرة المجاز.
قلت: ومن ههنا تعلم وجه الفاء في قوله فأذكرتني، لأنه لما صارت رؤيتها رؤيته، وصار القمر حقيقة إياها، وكان قوله رأت قمر السماء فأذكرتني، بمثابة قوله فأذكرتني، فإن بعض من لا يفهم كلام الأستاذ حق الفهم ينشده " فأذكرتني " فالفاء في البيت الأول مبنية على معنى البيت الثاني، لأنها
__________
(1) ق: استحسانه.(5/226)
مبنية عليه، وهذا النحو يسمى الإيذان في علم البيان.
ولما اجتمعنا بأبي الوليد ابن هانئ مقدمه علينا من غرناطة سأل ابن حكم عن تكرار من في قوله تعالى " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " دون ما بعدها، فقال: لولا تكررها أولاً لتوهم التضاد بتوهم اتحاد الزمان، فارتفع بتكرار الموضوع، أما الآخر فقد تكرر الزمان، فارتفع توهم التضاد، فلم يحتج إلى زائد على ذلك، فقلت: فهلا اكتفى بسواء على تكرار الموضوع، لأن التسوية لا تقع إلا بين أمرين، وإنما الجواب عندي أنها تكررت أولاً على الأصل لأنهما صنفان يستدعيهما كل واحد منهما أن تقع عليه، ثم اختصرت ثانياً لفهم المراد من التفصيل بالأول مع أمن اللبس، وقد أجاب الزمخشري بغير هذين فانظره.
سألني ابن حكم المذكور عن نسب المجيب في هذا البيت:
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ... فأجاب ما قتل المحب حرام ففكرت ثم قلت: أراه تميمياً، لإلغائه ما النافية، فاستحسنه مني لصغر سني يومئذ.
تذاكرت (1) يوماً مع ابن حكم في تكملة البدر بن محمد بن مالك ل " شرح التسهيل " لأبيه، ففصلت عليه كلام أبيه، ونازعني الأستاذ، فقلت:
عهود من الآبا توارثها الأبنا ... فما رأيت بأسرع من أن قال:
بنوا مجدها لكن بنوهم لها أبنى ... فبهت من العجب (2) .
__________
(1) ص: نظرت؛ ق: وتكلمت.
(2) ق: التعجب.(5/227)
وتوفي الشيخ ابن مالك سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وفيها ولد شيخنا عبد المهيمن الحضرمي، فقيل: مات فيها إمام نحو، وولد فيها إمام نحو.
سألت ابن حكم عن قول فخر الدين في أول المحصل " وعندي أن شيئاً منها غير مكتسب " (1) بمعنى لا شيء ولا واحد، هل له أصل في العربية أو كما قيل من بقايا عجمته فقال لي: بل له أصل، وقد حكى بان مالك مثله عن العرب، فلم يتفق أن أستوقفه عليه، ثم لم أزل أستكشف عنه كل من أظن أن لديه شيئاً منه (2) ، فلم أجد من عنده أثارة منه، حتى مر بي في باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر الداخل عليها كان من شرح التسهيل قوله فإن تقدم على الاستفهام أحد المفعولين نحو " علمت زيداً أبو من هو " اختير نصبه، لأن الفعل مسلط عليه، فلا مانع، ويجوز رفعه، لأنه والذي بعد الاستفهام شيء واحد في المعنى فكأنه في حيز الاستفهام، والاستفهام مشتمل عليه، وهو نظير قوله: إن أحد إلا يقول ذلك، وأحد هذا لا يقع إلا بعد نفي، ولكن لما كان هنا والضمير المرفوع بالقول شيئاً واحداً في المعنى تنزل منزلة واقع بعد نفي، فعلمت أنه نحى إلى هذا، لأن شيئاً ههنا والضمير المرفوع بمكتسب المنفي في المعنى شيء واحد، فكان شيئاً كأنه وقع بعد غير: أي بعد النفي.
سأل ابن فرحون ابن حكم: هل تجد في التنزيل ست فاءات مرتبة ترتيبها في هذا البيت:
رأى فحب فرام الوصل فامتنعت فسام صبراً فأعيا نيله فقضى
ففكر ثم قال: نعم " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون - إلى آخره " فمنعت له البناء في " فتنادوا " فقال لابن فرحون: فهل عندك غيره فقال: نعم " فقال لهم رسول الله إلى آخر السورة " فمنع له
__________
(1) المحصل: 3؛ القول في التصورات وعندي ... إلىخ.
(2) ق ص: عنه.(5/228)
بناء الآخرة لقراءة الواو، فقلت: امنع ولا تسند فيقال لك: إن المعاني قد تختلف باختلاف الحروف، وإن كان السند لا يسمع الكلام عليه، وأكثر ما وجدت الفاء تنتهي في كلامهم إلى هذا العدد، سواء بهذا الشرط وبدونه، كقول نوح عليه السلام: " فعلى الله توكلت - الآية " وكقول امرئ القيس:
غشيت ديار الحي بالبكرات ... البيتين (1) ، لا يقال: فالجب سابع، لأنا نقول: إنه عطف على عاقل المجرد منها، ولعل حكمة الستة أنها أول الأعداد التامة كما قيل في حكمة خلق السموات والأرض فيها، وشأن اللسان عجيب.
وقوله في هذا البيت فحب لغة قليلة جرى عليها محبوب كثيراً، حتى استغني به عن محب، فلا تكاد تجده إلا في قول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم ونظيره محسوس من حس والأكثر أحس ولا تكاد تجد محساً، وهذا التوجيه أحسن من قول القرافي في " شرح التنقيح ": إنهم أجروا محسوسات مجرى معلومات لأن الحس أحد طرق العلم.
سمعت ابن حكم يقول: بعث بعض أدباء فاس إلى صاحب له:
ابعث إلي بشيء ... مدار فاس عليه
وليس عندك شيء ... مما أشير إليه فبعث إليه ببطة من مري (2) ، يشير بذلك إلى الرياء.
__________
(1) هما قول أمرئ القيس:
غشيت ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات
فغول فحليت فأكناف منعج ... إلى عاقل فالجب ذي الأمرات (2) قد شرحنا من قبل لفظة " مري " (ج 3: 92) وأما " البطة " فهي إناء كالقارورة يعمل على شكل بطة.(5/229)
وحدثت (1) أن قاضيها أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الملجوم حضر وليمة، وكان كثير البلغم، فوضع بين يديه صهره أبو العباس ابن الأشقر غضاراً من اللون المطبوخ بالمري لمناسبته لمزاجه، فخاف أن يكون قد عرض له بالرياء.
وكان ابن الأشقر يذكر بالوقوع في الناس، فناوله القاضي غضار المقروض، فاستحسن الحاضرون فطنته.
5 - ومنهم عالم الصلحاء، وصالح العلماء، وجليس التنزيل، وحليف البكاء والعويل، أبو محمد عبد الله بن عبد الواحد بن إبراهيم بن الناصر المجاصي (2) خطيب جامع القصر الجديد، وجامع خطتي التحديث والتجويد، ويسميه أهل مكة البكاء، ولما قدم أبو الحسن علي بن موسى البحيري سأل عنه، فقيل إليه: لو علم بك أتاك، فقال: أنا آتي من سمعت سيدي أبا زيد الهزميري يقول للأول ما رآه ولم يكن يعرفه قبل ذلك: مرحباً بالفتى الخاشع، أسمعنا من قراءتك الحسنة.
دخلت عليه بالفقيه أبي عبد الله في أيام العيد، فقدم لنا طعاماُ، فقلت: لو أكلت معنا، فرجونا بذلك ما يرفع من حديث " من أكل مع مغفور له غفر له " فتبسم وقال لي: دخلت على سيدي أبو عبد الله الفاسي بالإسكندرية، فقدم طعاماُ، فسألته عن هذا الحديث، فقال: وقع في نفسي منه شيء، فرأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، في المنام، فسألته عنه، فقال لي: لم أقله، وأرجو أن يكون ذلك.
وصافحته بمصافحة الشيخ أبا عبد الله الزيان بمصافحته أبا سعيد عثمان بن عطية الصعيدي أبا عباس أحمد الملثم بمصافحته المعمر بمصافحته رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) ق: ذكر.
(2) ترجمة المجاصي في نيل الابتهاج: 121 ونقل بعض ما قاله المقري الجد فيه.(5/230)
وسمعته يحدث عن شيخه أبي محمد الدلاصي أنه كان للملك العادل مملوك اسمه محمد، فكان يخصه لدينه وعقله بالنداء باسمه، وإنما كان ينعق بمماليكه يا ساقي، يا طباخ يا مزين، فنادى به ذات يوم: يا فراش، فظن ذلك لموجدة عليه، فلما لم ير أثر ذلك، وتصورت له به خلوة، سأله عن مخالفته لعادته معه، فقال: لا عليك، كنت حينئذ جنباً، فكرهت ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في تلك الحالة.
ومما نقلته من خط المجاصي ثم قرأته عليه فحدثني به قال: حدثني القاضي أبو زكريا يحيى أحمد بن محمد بن يحيى بن أبي بكر ابن عصفور قال: حدثني جدي يحيى المذكور، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن التجيبي المقرئ بتلمسان، حدثنا الحافظ أبو محمد - يعني والله أعلم عبد الحق الإشبيلي - أخبرنا (1) أبو غالب أحمد ابن الحسن المستعمل، أخبرنا أبو الفتوح عبد الغافر بن الحسين بن أبي الحسن ابن خلف الألمعي، أخبرنا (2) أبو نصر أحمد بن إسحاق النيسابوري، أملى علينا أبو عثمان إسماعيل ين عبد الرحمن الصابوني، أخبرنا محمد بن علي بن الحسين العلوي، أخبرنا عبد الله بن إسحاق اللغوي وأنا سألته، أخبرنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، أخبرنا عبد الله بن نافع بن عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لي جبريل: ألا أعلمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق له البحر قلت: بلى، قال قل: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال ابن مسعود: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم تسلسل الحديث عن ذلك، كل أحد من رجاله يقول: ما تركتهن منذ سمعتهن من فلان، لشيخه، وقد سمعت المجاصي
__________
(1) ق: حدثنا، حيث وقعت.
(2) أخبرنا أبو الفتح ... أخبرنا: سقطت من ق.(5/231)
يكررها كثيراً، وما تركتهن منذ سمعتهن منه.
وأنشدني المجاصي وقال: أنشدني نجم الدين الواسطي، أنشدني شرف الدين الدمياطي، أنشدني تاج الدين الأرموي مؤلف الحاصل، قال: أنشدني الإمام فخر الدين لنفسه (1) :
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة (3) من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من رجال رأينا ودولة (3) ... فبادوا مسرعين جميعاُ وزالوا
وكم من جبال علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال جبال وتوفي المجاصي في العشر الآخر من شهر ربيع الأول، عام أحد وأربعين وسبعمائة.
6 - ومنهم الشيخ الشريف القاضي الرحلة المعمر أبو علي الحسن بن يوسف ابن يحيى الحسيني السبتي.
أدرك أبو الحسين ابن أبي الربيع وأبا القاسم العزفي واختص بابن عبيدة وابن الشاط، ثم رحل إلى المشرق فلقي ابن دقيق العيد وحلبته، ثم قفل فاستوطن تلمسان إلى أن مات بها سنة أربع وخمسين، أو ثلاث وخمسين وسبعمائة، قرأ علينا حديث الرحمة وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا الحسن بن علي بن عيسى ابن الحسن اللخمي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا (4) علي بن المظفر بن القاسم الدمشقي، وهو أول حديث سمعته منه، أجبرنا أبو الفرج محمد بن عبد الرحمن بن أبي العز الواسطي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو العز
__________
(1) وردت الأبيات في ترجمة فخر الدين في ابن أبي أصيبعة 2: 28.
(3) ابن أبي أصيبعة: وكم قد رأينا من رجال ودولة.
(3) ابن أبي أصيبعة: وكم قد رأينا من رجال ودولة.
(4) ق: حدثنا، حيثما وقعت.(5/232)
عبد المغيث بن زهير، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا زاهر بن طاهر بن محمد الشحامي، وهو أول حديث سمعته منه. قال الحسن بن علي: وحدثنا أيضاً عالياً الحسن بن محمد البكري، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا ابن الفتوح محمد بن محمد بن محمد بن الجنيد الصوفي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا زاهر بن طاهر، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي الفضائل عبد الوهاب بن صالح عرف بابن المغرم إمام جامع همذان بها، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو منصور عبد الكريم بن محمد بن حامد المعروف بابن الخيام، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك، وهو أول حديث سمعته عنه، حفظاً، أخبرنا أبو الطاهر محمد بن محمد بن مخمش (1) الزيادي، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن هلال البزاز، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا عبد الرحمن بن البشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا أبو سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته عنه، عن عمرو ابن دينار، عن أبي قاموس مولى لعبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ".
(ح) وحدثني الشريف أيضاُ كذلك بطريقه عن السلفي بأحاديثه المشهورة فيه، وهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
قال لي الشريف: قال لي القاضي أبو العباس الرندي: لما قدم أبو العباس ابن الغماز (2) من بلنسية نزل بجاية، فجلس بها في الشهود مع عبد الحق بن ربيع (3) ،
__________
(1) ابن مخمش: سقطت من ق، وفي ص: محمش.
(2) هو أحمد بن محمد بن الحسن ابن الغماز الأنصاري نزل بجاية وولي قضاءها وإقامة الصلوات بجامعها الأعظم وتوفي بتونس (693) ، انظر الغبريني: 70 - 72.
(3) لعبد الحق ترجمة مسهبة في الغبريني 32 - 36.(5/233)
فجاء عبد الحق يوماً وعليه برنس أبيض، وقد حسنت شارته وكملت هيأته، فلما نظر إليه ابن الغماز أنشده:
لبس البرنس الفقيه فباهى ... ورأى أنه المليح فتاها
لو زليخا رأته حين تبدى ... لتمنته أن يكون فتاها وبه أن ابن الغماز جلس لارتقاب الهلال بجامع الزيتونة، فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلوه، وجاء حفيد له صغير، فأخبره أنه أهله، فردهم معه، فأراهم إياه، فقال: ما أشبه الليلة بالبارحة، وقع لنا مثل هذا مع أبي الربيع ابن سالم، فأنشدنا فيه:
توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... وأرخى حجاب الغيم دون محياه
فلما تصدى لارتقاب شقيقه ... تبدى له دون الأنام فحياه سمعت الشريف يقول: أول زجل عمل في الدنيا:
بالله يا طير مدلل ... مر بي وسط القفار
إياك تجدد لعاده ... ترمي حجيرة في داري 7 - ومنهم قاضي جماعتها وكاتب خلافتها وخطيب جامعها، أبو عبد الله محمد بن منصور بن علي بن هدية القرشي (1) ، من ولد عقبة بن نافع الفهري، نزلها سلفه قديماً، وخلفه بها إلى الآن، توفي في أواسط سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وشهد جنازته سلطانها يومئذ أبو تاشفين، وولى ابنه أبا علي منصوراً مكانه يومئذ، ولما ثقل لسانه دعا ابنه فقال له: اكتب هذين البيتين فإني نظمتهما على هذه الحالة، فكتب:
إلهي مضت للعمر سبعون حجة ... جنيت بها لما جنيت الدواهيا
__________
(1) ترجمة ابن هدية في المقبة العليا: 134 وذكر أن وفاته صدر سنة 736.(5/234)
وعبدك قد أمسى عليل ذنوبه ... فجد لي برحمى منك، نعم الدوا هيا ولما ورد الأديب أبو عبد الله محمد بن محمد المكودي من المغرب رفع عليه قصيدة أولها:
سرت والدجى لم يبق إلا يسيرها ... نسيم صبا لم يحيي القلوب مسيرها وفيها الأبيات العجاب التي سارت سير الأمثال، وهي قوله:
وفي الكلة الحمراء حمراء لو بدت ... لثكلى لولى ثكلها وثبورها
فما يستوي مثوى لها من سوى القنا ... خيام، ومن بيض الصفاح ستورها
وما بسوى صدق الغرام أرومها ... ولا بسوى زور الخيال أزورها فأحسن إليه، وكلم السلطان حتى أرسل جرايته عليه، وقد شهدت المكودي وهذه القصيدة تقرأ عليه.
8 - ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن أبي عمرو التميمي (1) .
أدرك ابن الزيتون، وأخذ عن أبي الطاهر ابن سرور وحلبته، وعنه أخذت شرح المعالم له، وولي القضاء بتلمسان مرات، فلم تستفزه الدنيا، ولا باع الفقر بالغنى.
9 - ومنهم (2) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور (3) .
قاضي الجماعة بعد ابن أبي عمرو، وكانت له رحلة إلى المشرق، لقي بها
__________
(1) سقطت هذه الترجمة من ق.
(2) ق: ومنهم القاضي.
(3) ترجمة ابن عبد النور في التعريف: 46 وجذوة الاقتباس: 190 ونيل الابتهاج: 240 وهو ندرومي أي ينسب إلى ندرومة في الشمال الغربي من تلمسان.(5/235)
جلالة الدين القزويني وحلبته، وتوفي بتونس في الوباء العام في حدود الخمسين وسبعمائة.
10 - ومنهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسين البروني (1) .
قدم عليها من الأندلس، فأقام إلى أن مات. سمعته يقول: البقر العدوية كالإبل المهملة في الصحراء، لا يجوز أن تباع بالنظر إليها، لكن بعد أن تمسك ويستولى عليها.
11 - ومنهم أبو عمران موسى المصمودي، الشهير بالبخاري.
سمعت البروني يقول: كان الشيخ أبو عمران يدرس صحيح البخاري، ورفيق له يدرس صحيح مسلم، فكانا يعرفان بالبخاري ومسلم، فشهدا عند قاض فطلب المشهود عليه الاعتذار فيهما، فقال له أبو عمران: أتمكنه من الإعذار في الصحيحين فضحك القاضي، وأصلح بين الخصمين.
سألته عما ضربه ابن هدية عليه من إباحة الاستياك في رمضان بقشر الجوز فقال لي: نعم، ويبلع ريقه، تأول، رحمه الله تعالى، أن الخصال المذكورة في السواك إنما تجتمع في الجوز، فكان يحمل كل ما روى فيه عليه، وهذا غلط فاحش، لأن العرب لا تكاد تعرفه، ونظر إلى ما في البخاري من قوله بعد أن ذكر جواز السواك للصائم " ولا أن يبتلع ريقه " يعني الصائم في الجملة، فحمله على المستاك بالجوز، وكان رحمه الله تعالى قليل الإصابة في الفتيا، كثير المصيبات عليها.
12 - ومنهم نادرة الأعصار: أبو عبد الله محمد بن يحيى بن علي بن النجار (2) .
__________
(1) انظر نيل الابتهاج: 228.
(2) ترجمة ابن النجار في التعريف: 47 ونيل الابتهاج: 239 وجذوة الاقتباس: 190 وسماه ابن خلدون " شيخ التعاليم " وذكر أنه كان إماما في علوم النجامة وأحكامها وما يتعلق بها.(5/236)
قال لي العلامة الآبلي: ما قرأ أحد علي حتى قلت له: لم أبق عندي ما أقول لك غير ابن النجار.
سمعت ابن النجار يقول: مر عمل الموقتين على تساوي فضلي ما بين المغرب والعشاء والفجر والشمس، فيؤذنون بالعشاء لذهاب ثماني عشرة درجة، وبالفجر لبقائها، والجاري على مذهب مالك أن الشفق الحمرة، وأن تكون فضلة ما بين العشائين أقصر، لأن الحمرة ثانية الغوارب والطوالع، فتزيد فضلة الفجر بمقار ما بين ابتداء طلوع الحمرة والشمس، فعرضت كلامه هذا على المزاور أبي زيد عبد الرحمن بن سليمان اللجائي، فصوبه.
وذكرت يوماً (1) حكاية ابن رشد الاتفاق في الخمر إذا تخللت بنفسها أنها تطهر، واعترضه بما في اعترضه بما في " الإكمال " عن ابن وضاح أنها لا تطهر، فقال لي: لا معتبر بقول ابن وضاح هذا، لأنه يلزم عليه تحريم الخل، لأن العنب لا يصير خلاً حتى يكون خمراً، وفيه بحث.
وذكرت يوماً قول ابن الحاجب فيما يحرم من النساء بالقرابة وهي أصول وفصول، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل وإن علا فقال: إن تركب لفظ التسمية (2) العرفية من الطرفين حلت، وإلا حرمت، فتأملته فوجدته كما قال، لأن أقسام هذا الضابط أربعة: التركب من الطرفين كابن العم وابنة العم مقابله كالأب والبنت، التركب من قبل الرجل كابنة الأخ والعم مقابله كابن الأخت (3) والخالة.
وأنشدت يوماً عنده على زيادة اللام (4) :
باعد أم عمر من أسيرها ... ...
__________
(1) قارن بما ورد في نيل الابتهاج: 239.
(2) نيل الابتهاج: بقضية النسبة.
(3) نيل الابتهاج: الأخ.
(4) تمام هذا الرجز: " حراس أبواب على قصورها ".(5/237)
فقال لي: وما يدريك أنه أراد العمرة الذي أراده المعري بقوله (1) :
وعمر هند كأن الله صوره ... عمرو ابن هند يعني الناس تعنيتا وأضاف اللام إليه كما قالوا: أم الحليس، قلت: ولا يندفع هذا بثبوت كون المعنية تكنى أم عمرو؛ لأن ذلك لا يمنع إرادة المعنى الآخر، فتكون: أم عمرو وأم العمر.
قال ابن النجار: بعثت بهذه الأبيات من نظمي إلى القاضي أبي عبد الله ابن هدية فأخرج لغزها:
إن حروف اسم من كلفت به ... خفت على كل ناطق بفم
سائغة سهلة مخارجها ... من أجل هذا تزداد في الكلم
صحفه ثم أقلبن مصحفه ... فعل ذكي مهذب فهم
واطلبه في الشعر جد مطلبه ... تجده كالصبح لاح في الظلم (2)
فإن تأملت بت منه على ... علم، ألا فأنت عنه عمي واللغز " سلمان " وموضعه تأملت بت، وتوفي رحمه الله تعالى بتونس أيام الوباء العام.
13 - ومنهم الأستاذ المقرئ الراوية الرحلة أبو الحسن علي بن أبي بكر ابن سبع بن مزاحم المكناسي.
ورد علينا من المشرق، فأقام معنا أعواماً، ثم رحل إلى فاس، فتوفي بها في الوباء العام، جمعت عليه السبع، وقرأت عليه البخاري والشاطبيتين وغير
__________
(1) شروح السقط: 1626، وعمر عند: يعني قرط هند، وعمرو بن هند: أحد ملوك الحيرة كان يعرف بالعنف وتعنيت الناس. فقوله في الرجز أم العمر - بإدخال اللام - قد يعني " ذات القرط ".
(2) ق: كالعلم.(5/238)
ذلك، فأما البخاري فحدثني به قراءة منه على أحمد بن الشحنة الحجار سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان الحجار قد سمعه على ابن الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة، وهذا ما لا يعرف له نظير في الإسلام، وقد قال عبد الغني الحافظ: لا نعرف في الإسلام من وازاه غير عبد الله بن محمد البغوي في قدم السماع، فإنه توفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة، قال ابن خلاد: سمعناه يقول: أخبرنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني سنة خمس وعشرين ومائتين، وسمعه ابن الزبيدي على أبي الوقت بسنده، قال لي ابن مزاحم: هذا طريق كله سماع. وأما الشاطبيتان فحدثني بهما قراءة عليه لجميعها عن بدر الدين ابن جماعة، بقراءتهما عليه عن أبي الفضل هبة الله بن الأزرق، بقراءتهما عليه عن المؤلف كذلك، وحدثني بتسهيل الفوائد عن ابن جماعة عن المؤلف ابن مالك، وغير ذلك.
14 - وممن ورد عليها لا يريد الإقامة بها شيخي وبركتي وقدوتي أبو عبد الله محمد بن حسين القرشي الزبيدي التونسي (1) .
حدثني بالصحيحين قراءة لبعضهما ومناولة لجميعها، عن أبي اليمن ابن عساكر لقيه بمكة سنة إحدى وثمانين وستمائة بسنده المشهور، وحدثني أيضاً أن أبا منصور العجمي حدثه بمحضر الشيخين والده حسين وعمه حسن وأثنى عليه ديناً وفضلاً أنه أدخل ببعض بلاد المشرق على المعمر أدخله عليه بعض ولد (2) ولده، فألفاه ملفوفاً في قطن، وسمع له دوياً كدوي النحل، فقيل له: ألقيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورأيته قال: نعم، قلت: ليس في هذا ما يستراب منه إلا الشيخ المعمر، فإنا لا نعرف حاله، فإن صح فحديثنا عنه
__________
(1) عرف به ابن خلدون في التعريف: 14 وقال: كان كبير تونس لعهده في العلم والفتيا وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبيه حسين وعمه حسن الوليين الشهيرين؛ وذكره ابن بطوطة في رحلته: 16 وكانت وفاته سنة 740هـ والزبيدي - بضم الزاي - نسبة إلى قرية بساحل المهدية.
(2) ولد: سقطت من ق.(5/239)
ثلاثي، وقد تركت سنة خمس وأربعين بمصر رجلاً يسمى بعثمان معه تسعون حديثاُ يزعم أنه سمعها من المعمر وقد أخذت عنه، وكتبت منه، فهذا ثنائي، وأمر المعمر غريب، والنفس أميل إلى نفيه.
15 - ومنهم إمام الحديث والعربية، وكتاب الخلافة العثمانية والعلوية (1) ، أبو محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي السبتي (2) .
جمع فأوعى، واستوهب أكثر المشاهير وما سعى، فهو المقيم الظاعن، الضارب القاطن، سألني عن الفرق (3) بين علم الجنس واسم الجنس، فقلت له: زعم الخسر وشاهي أنه ليس بالديار المصرية من يعرفه غيره، وأنا أقول: ليس في الدنيا عالم إلا وهو يعلمه غيره (4) ؛ لأنه حكم لفظي أوجب تقديره المحافظة على ضبط القوانين كعدل عمر ونحوه، فاستحسن ذلك.
وكان ينكر إضافة الحول إلى الله عز وجل، فلا يجيز أن يقال بحول الله وقوته قال: لأنه لم يرد إطلاقه، والمعنى يقتضي امتناعه؛ لأن الحول كالحيلة أو قريب منها.
وتوفي بتونس أيام الوباء العام.
16 - ومنهم الفقيه المحقق الفرضي المدقق أبو عبد الله محمد بن سليمان بن
__________
(1) العثمانية: نسبة إلى عثمان بن يعقوب المريني، والعلوية: نسبة إلى علي أبي الحسن المريني.
(2) كان والده محمد بن عبد المهيمن الحضرمي أبو عبد الله كبير القدر ولي القضاء بسبتة لقرابته من رؤسائها بني العزفي سنة 683 فقام بالأحكام أجمل قيام، فلما صار بلده إلى بني نصر أواخر سنة 507 صرف إلى غرناطة هو وأقرباؤه فأقام بها مع ابنه الكاتب البارع عب المهيمن، ثم عاد إلى سبتة وتوفي سنة 712 (المرقبة العليا 132 - 133) ثم أصبح عبد المهيمن الابن كاتبا للسلطان أبي الحسن المريني وصاحب علامته وكان يعد إمام المحدثين والنحاة بالمغرب، وعنه أخذ ابن خلدون وغيره (التعريف: 20، 38 ومستودع العلامة: 50 وتاريخ ابن خلدون 7: 247 وجذوة الاقتباس: 279 ونثير الجمان لابن الأحمر والإحاطة: 315) .
(3) ق: سألني الفرق.
(4) وأنا أقول ... غيره: سقط من ص.(5/240)
علي السطي (1) قرأت عليه كتاب الحوفي علماً وعملاً، قال لي في قول ابن الحاجب والثمن الثلث والسدس من أربعة وعشرين: هذا لا يصح؛ إذ لا يجتمع الثلث والثمن في فريضة، وقد سبقه إلى هذا الوهم صاحب المقدمات، وسألت عنه ابن النجار فقال لي: إنما أراد المقام لأنه يجتمع مع الثلثين، والإنصاف أنه لا يحسن التعبير بما لا تصح إرادة نفسه عن غيره، فكان الوجه أن يقول: والثلثان أو مقام الثلث، ونحو ذلك، لأن الثلث إنما يدخل هنا تقديراُ لا تحقيقاً كما في الجواهر، وانظر باب المدبر من كتاب الحوفي، فإن فيه موافقة السبعة لعدد لا توافقه فهو من باب الفرض، وعليه ينبغي أن يحمل كلام ابن الحاجب.
17 - 19 - ومنهم الأستاذ أبو عبد الله الرندي، والقاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرزاق الجزولي (2) ، والقاضي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي يحيى، في كثير من الخلق، فلنضرب عن هذا.
20 - ومن شيوخي (3) الصلحاء الذين لقيت بها خطيبها الشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي الخياط، أدرك أبا إسحاق الطيار، وقد صافحته وأنا صغير، لأنه توفي سنة تسع وعشرين، بمصافحته أباه، بمصافحته الشيخ أبا تميم، بمصافحته أبا مدين، بمصافحته أبا الحسن ابن حرزهم، بمصافحته ابن العربي، بمصافحته الغزالي، بمصافحته أبا المعالي، بمصافحته أبا طالب المكي، بمصافحته أبا محمد الجريري، بمصافحته الجنيد، بمصافحته سرياً، بمصافحته معروفاً، بمصافحته داود الطائي، بمصافحته حبيباً العجمي، بمصافحته الحسن البصري، بمصافحته علي بن أبي طالب، بمصافحته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) السطي: نسبة إلى قبيلة سطة من بطون أوربة بنواحي فارس وكان أحفظ الناس لمذهب مالك وأفقههم فيه (انظر ترجمته في التعريف: 31، 38 ونيل الابتهاج: 242 وجذوة الاقتباس: 142) .
(2) ترجمة الجزولي في نيل الابتهاج: 249 وسلوة الأنفاس 3: 276.
(3) ق: المشايخ.(5/241)
21 - ومنهم خطيبها المصقع أبو عبد الله محمد بن علي بن الجمال، أدرك محمد بن رشيد البغدادي (1) صاحب الزهر والوتريات على حروف المعجم والمذهبة وغيرها، حدثني عنه أنه تاب بين يديه لأول مجلس جلسه بتلمسان سبعون رجلاً.
22، - 23 - ومنهم الشقيقان الحاجان الفاضلان أبو عبد الله محمد، وأبو العباس أحمد (2) ، ابنا ولي الله أبي عبد الله محمد بن محمد بن أبي بكر ابن مرزوق العجيسي.
كساني محمد خرقة التصوف بيده، كما كساه إياها الشيخ بلال بن عبد الله الحبشي خادم الشيخ أبي مدين، كما كساه أبو مدين، قال محمد بن مرزوق: وكان مولد بلال سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وخدم أبا مدين نحواً من خمسة عشر عاماً، إلى أن توفي عام تسعين وخمسمائة، ثم عاش بعده أكثر من مائة سنة، ولبس أبو مدين من يد ابن حرزهم، ولبس ابن حرزهم من يد ابن العربي، واتصل اللباس اتصال المصافحة.
24 - ومنهم أبو زيد عبد الرحمن بن يعقوب بن علي الصنهاجي المكتب، حدثنا عن قاضيها أبي زيد عبد الرحمن بن علي الدكالي أنه اختصم عنده رجلان في شاة ادعى أحدهما أنه أودعها الأخر، وادعى الآخر أنها ضاعت منه، فأوجب اليمين على المودع عنده، أنها ضاعت من غير تضييع، فقال: كيف أضيع وقد شغلتني حراستها عن الصلاة حتى خرج وقتها فحكم عليه بالغرم، فقيل له في
__________
(1) محمد بن رشيد البغدادي مجد الدين (- 662) يعرف بالوتري لأنه نظم الوتريات وهي قصائد على حروف المعجم تتألف كل واحدة من 21 بيتا في مدح الرسول وأول كل بيت على حرف القافية. بدأ نظمها بغرناطة سنة 652 ثم زاد فيها وعدل منها، وحج سنة 661 وقد نشرت باسم " ديوان معدن الإفاضات في مدح أشرف الكائنات " (بيروت 1310) وعند حاجي خليفة (1999) " ذريعة الوصول إلى زيارة جناب الرسول ".
(2) انظر نيل الابتهاج: 251، قال التنبكتي: وأبو العباس ابن مرزوق هو والد الخطيب ابن مرزوق الجد، وأبو عبد الله المذكور عمه.(5/242)
ذلك، فقال تأولت قول عمر ومن ضيعها لما سواها أضيع.
25 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد الغزموني (1) ، مكتبي الأول، ووسيلتي إلى الله عز وجل، قرأ على الشيخين أبي عبد الله القصري وأبي (2) حريث وحج حجات، وكان عقد بقلبه أنه كلما ملك مائة دينار عيوناً سافر إلى الحج (3) ، وكان بصيراً بتعبير الرؤيا، فمن عجائب شأنه فيه (4) أنه كان في سجن أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق فيمن كان فيه من أهل تلمسان أيام محاصرته لها، فرأى أبو جمعة ابن علي التلالسي (5) الجرائحي منهم كأنه قائم على سانية (6) دائرة وجميع قواديسها يصب في نقير وسطها، فجاء ليشرب، فلما اغترف الماء إذا فيه فرث ودم فأرسله، ثم اغترف فإذا هو كذلك، ثلاثاً أو أكثر، فعدل عنه، فرأى خصة (7) ماء وشرب منها، ثم استيقظ وهو النهار فأخبره، فقال: أن صدقت رؤياك فنحن عما قليل خارجون من هذا المكان، قال: كيف قال: السانية والزمان، والنقير السلطان، وأنت جرائحي تدخل يدك في جوفه فينالها الفرث والدم، وهذا الذي لا تحتاج معه، فلم يكن إلا ضحوة الغد، وإذا النداء عليه، فأخرج فوجد السلطان مطعوناً بخنجر، فأدخل يده فنالها الفرث والدم، فخاط جراحته، ثم خرج، فرأى خصة ماء فغسل يديه وشرب، ثم لم يلبث السلطان أن توفي وسرحوا.
وتعداد أهل هذه الصفة يكثر، فلنصفح عنهم، ولنختم فصل (8) من لقيه
__________
(1) في نيل الابتهاج (253) القرموني.
(2) ق: وابن.
(3) وحج ... الحج: سقطت من ق.
(4) وردت القصة في نيل الابتهاج: 253.
(5) ق: التلائسي.
(6) كذا في الأصلين، وفي النيل: ساقية.
(7) الخصة: الحوض أو الصهريج (انظر ملحق المعاجم لدوزي) .
(8) ق: ولنختم المذكورين في فصل ... إلخ.(5/243)
بتلمسان بذكر رجلين هما بقيد الحياة أحدهما عالم الدنيا، والآخر نادرتها.
26 - أما العالم فشيخنا ومعلمنا العلامة أبو عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي، التلمساني (1) ، سمع جده لأمه أبا الحسين ابن غلبون المرسي (2) القاضي بتلمسان، وأخذ عن فقهائها أبي الحسين التنسي وابني الإمام، ورحل في آخر المائة السابعة فدخل مصر والشام والحجاز والعراق، ثم قفل إلى المغرب فأقام بتلمسان مدة، ثم فر أيام أبي حمو موسى بن عثمان إلى المغرب.
حدثني أنه لقي أبا العباس أحمد بن إبراهيم الخياط شقيق شيخنا أبي عثمان المتقدم ذكره، فشكا له ما يتوقعه من شر أبي حمو، فقال له: عليك بالجبل، فلم يدر ما قال، حتى تعرض له رجل من غمارة، فعرض عليه الهروب به، قال: فخفت أن يكون أبو حمو قد دسه علي، فتنكرت له، فقال لي: إنما أسير بك على الجبل، فتذكرت قول أبي إسحاق، فوطأته، وكان خلاصي على يده، قال: ولقد وجدت العطش في بعض مسيري به، حتى غلظ لساني واضطربت ركبتاي، فقال لي: أن جلست قتلتك حتى لا أفتضح بك، فكنت أقوي نفسي، فمر على بالي في تلك الحالة استسقاء عمر بالعباس، وتوسله به، فوالله ما قلت شيئاً حتى رفع لي غدير ماء، فأريته إياه، فشربنا ونهضنا.
ولما دخل المغرب أدرك أبا العباس ابن البناء، فأخذ عنه، وشافه (3) كثيراً من علمائه، قال لي: قلت لأبي الحسن الصغير: ما قولك في المهدي فقال: عالم سلطان، فقلت له: قد أبنت عن مرادي. ثم سكن جبال الموحدين، ثم رجع إلى فاس، فلما افتتحت تلمسان لقيته بها، فأخذت عنه، فقال لي الآبلي (4) :
__________
(1) ترجمة الآبلي في التعريف: 21، 33 والدرر الكامنة 3: 288 ونيل الابتهاج: 244 وجذوة الاقتباس 144، 191 والآبلي - بمد وموحدة مكسورة - نسبة إلى آبلة (Avila) من بلاد الجوف الأندلسي أي إلى الشمال الغربي من مدريد.
(2) اسمه محمد بن غلبون.
(3) نيل الابتهاج: وسأل.
(4) انظر نيل الابتهاج: 245.(5/244)
كنت يوماً مع القاسم بن محمد الصنهاجي، فوردت عليه طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها:
خيرات ما تحويه مبذولة ... ومطلبي تصحيف مقلوبها فقال لي: ما مطلبه فقلت: نارنج.
دخل على الآبلي (1) وأنا عنده بتلمسان الشيخ أبو عبد الله الدباغ المالقي المتطبب فأخبرنا أن أديباً استجدى وزيراً بهذا الشطر:
ثم حبيب قلما ينصف ... فأخذته فكتبته، ثم قلبته وصحفته، فإذا هو: قصبتا ملف شحمي.
ومر الدباغ يوماً علينا بفاس، فدعاه الشيخ، فلباه، فقال: حدثنا بحديث اللظافة، فقال: نعم، حدثني أبو زكريا ابن السراج الكاتب بسلجمانة أن أبا إسحاق التلمساني وصهره مالك بن المرحل، وكان ابن السراج قد لقيهما، اصطحبا في مسير، فآواهما الليل إلى مشجر، فسألا عن طالبه، فدلا، فاستضافاه، فأضافهما، فبسط قطيفة بيضاء، ثم عطف عليهما بخبز ولبن، وقال لهما. استعملا من هذه اللظافة حتى يحضر عشاؤكما، وانصرف، فتحاورا في اسم اللظافة لأي شيء هو منهما حتى ناما، فلم يرع أبا إسحاق إلا مالك يوقظه ويقول: قد وجدت اللظافة، قال: كيف قال: أبعدت في طلبها حتى وقعت بما لم يمر قط على مسمع هذا البدوي فضلاً عن أن يراه، ثم رجعت القهقرى حتى وقعت على قول النابغة:
بمخضب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد فسنح لبالي أنه وجد اللطافة، وعليها مكتوب بالخط الرقيق اللين، فجعل
__________
(1) قارن بما في نيل الابتهاج: 252.(5/245)
إحدى النقطتين للطاء فصارت اللطافة اللظافة واللين اللبن وإن كان قد صحف عنم بغنم، وظن أم يعقد جبن، فقد قوي عنده الوهم، فقال أبو إسحاق: ما خرجت عن صوابه، فلما جاء سألاه، فأخبر أنها اللبن، واستشهد بالبيت كما قال مالك.
ولا تعجب من مالك فقد ورد فاساً شيخنا أبو عبد الله بن يحيى الباهلي عرف بابن المسفر (1) ، رسولاً عن صاحب بجاية، فزاره الطلبة، فكان فيما حدثهم أنهم كانوا على زمان ناصر الدين يستشكلون كلاماً وقع في تفسير سورة الفاتحة من كتاب فخر الدين، ويستشكله الشيخ معهم، وهذا نصه (2) : ثبت في بعض العلوم العقلية أن المركب مثل البسيط في الجنس، والبسيط مثل المركب في الفصل، وأن الجنس أقوى من الفصل، فرجعوا به إلى الشيخ الآبلي، فتأمله ثم قال: هذا كلام مصحف، وأصله أن المركب قبل البسيط في الحس، والبسيط قبل المركب في العقل، وأن الحس أقوى من العقل، فأخبروا ابن المسفر، فلج، فقال لهم الشيخ: التمسوا النسخ، فوجدوه في بعضها كما قال الشيخ، والله يؤتي فضله من يشاء.
قال لي الآبلي: لما نزلت تازت بت مع أبي الحسن ابن بري وأبي عبد الله الترجالي (3) ، فاحتجت إلى النوم، وكرهت قطعهما عن الكلام، فاستكشفتهما عن معنى هذا البيت للمعري:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم فجعلا يفكران فيه، فنمت حتى أصبحا، ولم يجداه، فسألاني عنه، فقلت: معناه أقول لعبد الله لما وهى سقاؤنا، ونحن بوادي عبد شمس: شم لنا برقاً.
__________
(1) النص في نيل الابتهاج: 245.
(2) انظر تفسير الفخر الرازي.
(3) ق: البرجالي.(5/246)
قلت: وفي جواز مثل هذا نظر.
سمعت الآبلي يقول: دخل قطب الدين الشيرازي والدبيران على أفضل الدين الخونجي ببلده، وقد تزيا بزي القونوية، فسأله أحدهما عن مسألة، فأجابه، فتعايا على الفهم، وقرب التقرير، فتعايا، فقال الخونجي متمثلاً:
علي نحت المعاني من معادنها ... وما علي لكم أن تفهم البقر فقال له: ضم التاء يا مولانا، فعرفهما، فحملهما إلى بيته.
قلت: سمعت الشيخ شمس الدين الأصبهاني بخانقاه قوصون بمصر يقول: إن شيخه القطب توفي عام أحد عشر وسبعمائة، وله سبع وسبعون سنة، وهذا يضعف هذه الحكاية عندي.
سمعت الآبلي يقول: إن الخونجي ولي قضاء مصر بعد عز الدين بن عبد السلام، فقدم شاهداً كان عز الدين أخره، فعذله في ذلك، فقال: إن مولانا لم يذكر السبب الذي رفع يده من أجله، وهو الآن غير متمكن من ذكره.
سمعت الشيخ الآبلي يحدث عن قطب الدين القسطلاني أنه ظهر في المائة السابعة من المفاسد العظام ثلاث: مذهب بان سبعين، وتملك الططر للعراق، واستعمال الحشيشة.
سمعت الآبلي يقول: قال أبو المطرف ابن عميرة:
فضل الجمال على الكمال بوجهه ... فالحق لا يخفى على من وسطه
وبطرفه سقم وسحر قد أتى ... مستظهراً بهما على ما استنبطه
عجباً له برهانه بشروطه ... معه فما مقصوده بالسفسطة قال: فأجابه أبو القاسم ابن الشاط فقال:
علم التباين في النفوس وأنها ... منها مغلطة وغير مغلطه
فئة رأت وجه الدليل وفرقة ... أصغت إلى الشبهات فهي مورطه
فأراد جمعهما معاً في ملكه ... هذي بمنتجة وذي بمغلطه(5/247)
يعني قولهم في التام: هو ما تحمل فيه البرهان الفصل.
وأخبار الآبلي وأسمعتي منه تحتمل كتاباً، فلنقف على هذا القدر منها.
27 - وأما النادرة فأبو عبد الله [محمد] بن أحمد بن شاطر الجمحي المراكشي (1) ، صحب أبا زيد الهزميري كثيراً، وأبا عبد الله ابن تجلات، وأبا العباس ابن البناء وأضرابه من المراكشيين ومن جاورهم، ورزق بصحبة الصالحين حلاوة القبول، فلا تكاد (2) تجد من يستثقله، وربما سئل عن نفسه فيقول: ولي مفسود.
قلت له يوماً: كيف أنت فقال: محبوس في الروح؛ وقال: الليل والنهار حرسيان: أحدهما أسود، والآخر أبيض، وقد أخذا بمجامع الخلق يجرانهم إلى يوم القيامة، وإن مردنا إلى الله تعالى.
وسمعته يقول: المؤذنون يدعون أولياء الله إلى بيته لعبادته، فلا يصدهم عن دعائهم ظلمة ولا شتاء ولا طين، ويصرفونهم عن الاشتغال بما لم يبين لهم فيخرجونهم ويغلقون الأبواب دونهم.
ووجدته ذات يوم في المسجد ذاكراً، فقلت له: كيف أنت فقال: {فهم في روضة يحبرون} (الروم: 15) فهممت بالانصراف، فقال: أين تذهب من روضة من رياض الجنة يقام بها على رأسك بهذا التاج وأشار إلى المنار مملوءاً الله أكبر.
مر ابن شاطر يوماً على أبي العباس أحمد بن شعيب الكاتب (3) وهو جالس
__________
(1) ترجمة ابن شاطر في نيل الابتهاج: 248 والإحاطة، الورقة: 105 والنقل فيهما عن المقري الجد؛ وتوفي سنة 757هـ.
(2) وأضرابه ... تكاد: سقطت من ق.
(3) أحمد بن شعيب الجزنائي من أهل فاس، برع في اللسان والأدب والعلوم العقلية ونظمه السلطان أبو سعيد المريني في حلبة الكتاب وأجرى عليه الرزق مع الأطباء وهلك في الطاعون (سنة 750) ؛ نثير فرائد الجمان: 335 ونثير الجمان: 70 ونيل الابتهاج: 68 والتعريف: 48 وجذوة الاقتباس: 47 ودرة الحجال 1: 21.(5/248)
في جامع الجزيرة، طهره الله تعالى، وقد ذهبت به الكفرة، فصاح به، فلما رفع رأسه إليه قال له: انظر إلى مركب عزرائيل هذا، وأشار إلى نعش هنالك، قد رفع شراعه ونودي عليه الطلوع يا غزي.
وأكل يوماً مع أبي القاسم عبد الله بن رضوان الكاتب جلجلاناً، قال له أبو القاسم: إن في هذا الجلجلان لضرباً من طعم اللوز، فقال ابن شاطر: وهل الجلجلان إلا لوزة دقة
وسئل عن العلة (1) في نضارة الحداثة، فقال: قرب عهدها بالله، فقيل له: فمم تغير الشيوخ فقال: من بعد العهد من الله، وطول الصحبة مع الشياطين، فقيل له: فبخر أفواههم (2) فقال: من كثرة ما تفل الشياطين فيها.
وكان يسمى الصغير: فأر المصطكي، قال لي ابن شاطر: لقيت عمي ميموناً المعروف بدبير لقرب موته وقد اصفر وجهه وتغيرت حالته، فقلت له: ما بالك وكان قد خدم الصالحين ورزق بذلك القبول، فقال: انسدت الزربطانة فطلع، يعني العذرة، يشير إلى الاحتقان للطبيعة.
أنشدني ابن شاطر قال: أنشدني أبو العباس ابن البناء لنفسه:
قصدت إلى الوجازة في كلامي (3) ... الأبيات.
وأخبار ابن شاطر عندي تحتمل كراسة، فلنقنع منها بهذا القدر.
فصل: ولما دخلت تلمسان على بني عبد الواد تهيأ لي السفر منها، فرحلت
__________
(1) النص في نيل الابتهاج: 248.
(2) نيل الابتهاج: قيل ففيم نتن أفواههم
(3) تتمة البيت: لعلمي بالصواب في الاختصار ... وقد وردت الأبيات في الإحاطة: 106.(5/249)
إلى بجاية، فلقيت بها أعلاماً درجوا فأمست بعدهم خلاء بلقعاً.
28 - فمنهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي، عرف بابن المسفر (1) ، باحثته واستفدت منه، وسألني عن اسم كتاب الجوهري فقلت له: من الناس من يقول الصحاح بالكسر ومنهم من يفتح، فقال: إنما هو بالفتح بمعنى الصحيح، كما ذكره في باب صح، قلت: ويحتمل أن يكون مصدر صح كحنان.
وكتب إلى بعض أصحابه بجواب رسالة صدره بهذين البيتين:
وصلت صحيفتكم فهزت معطفي ... فكأنما أهدت كؤوس القرقف
وكأنها نيل الأمان لخائف ... أو وصل محبوب لصب مدنف 29 - ومنهم قاضيها أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبي يوسف يعقوب الزواوي، فقيه ابن فقيه، كان يقول: من عرف ابن الحاجب اقرأ به المدونة، قال: وأنا أقرأ به المدونة.
30 - ومنهم أبو علي حسين بن حسين إمام المعقولات بعد ناصر الدين.
31 - ومنهم خطيبها أبو العباس أحمد بن عمران، وكان قد ورد تلمسان وأورد بها على قول ابن الحاجب في حد العلم " صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض " الخاصة إلا أن يزاد في الحد " لمن قامت به " لأنها إنما توجب فيه تميزاً لا تمييزاً، وهذا حسن.
32، - 33 - ومنهم الشيخان أبو عزيز وأبو موسى ابن فرحان، وغيرهم من أهل عصرهم.
__________
(1) ترجمة ابن المسفر في نيل الابتهاج: 237 والديباج المذهب: 332 وكانت وفاته سنة 743.(5/250)
34 - ثم رحلت إلى تونس فلقيت بها قاضي الجماعة وفقيهها أبا عبد الله ابن عبد السلام (1) ، فحضرت تدريسه، وأكثرت مباحثته، ولما نزلت بظاهر قسمطينة تلقاني رجل من الطلبة، فسألني عن هذه الآية {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة: 67) فإن ظاهرها أن الجزاء هو الشرط: أي وإن لم تبلغ فما بلغت، وذلك غير مفيد، فقلت: بل هو مفيد، أي: وإن لم تبلغ في المستقبل لم ينفعك تبليغك في الماضي، لارتباط أول الرسالة بآخرها، كالصلاة ونحوها، بدليل قصة يونس، فعبر بانتفاء ماهية التبليغ عن انتفاء المقصود منه، إذ كان إنما يطلب ولا يعتبر بدونه، كقوله عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بطهور "، ثم اجتمعت بابن عبد السلام بجامع بوقير من تونس، فسألته عن ذلك، فلم يزد على أن قال: هذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله " وقد علمتم مل قال الشيخ تقي الدين فيه. قلت: كلام تقي الدين لا يعطي الجواب عن الآية، فتأمله.
35 - 41 - وقاضي المناكح أبا محمد الأجمي، وهو حافظ فقهائها في وقته، والفقيه أبا عبد الله ابن هارون شارح ابن الحاجب في الفقه والأصول، والخطيب أبا عبد الله ابن عبد الستار، وحضرت تدريسه بمدرسة المعرض، والعلامة أبا عبد الله ابن الجياب الكاتب، والفقيه أبا عبد الله ابن سلمة، والشيخ الصالح أبا الحسن المنتصر وارث طريقة الشيخ أبي محمد المرجاني آخر المذكورين بإفريقية، ورأيت الشيخ ابن الشيخ المرجاني، فحدثني أبو موسى ابن الإمام أنه أشبه به من الغراب بالغراب، وسيدي أبا عبد الله الزبيدي المتقدم ذكره، وأوقفني على خطأ في كتاب الصحاح، وذلك أنه زعم أن السالم جلدة ما بين العين والأنف، قال: وفيه يقول ابن عمر في ابنه سالم (2) :
__________
(1) ترجمة ابن عبد السلام في نيل الابتهاج: 240 والتعريف: 19 والديباج المذهب: 336 والمرقبة العليا: 161.
(2) انظر اللسان (سلم) .(5/251)
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين الأنف والعين سالم قال: وهذا أراد عبد الملك حيث كتب إلى الحجاج " أنت مني كسالم " وهذا خطأ فاحش، وكان يلزمه أن يسميها بالعمارة أيضاً، لقوله عليه السلام " عمارة جلدة ما بين عيني وأنفي " وإنما يراد بمثل هذا القرب والتحمد (1) .
ولقيت بتونس غير واحد من العلماء والصلحاء يطول ذكرهم، ثم قفلت إلى المغرب يسايرني (2) رجل من أهل قسنطينة يعرف بمنصور الحلبي، فما لقيت رجلاً أكثر أخباراً ولا أظرف نوادر منه، فما حفظته من حديثه أن رجلاً من الأدباء مر برجل من الغرباء، وقد قام بين ستة أطفال، جعل ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن شماله، وأخذ ينشد:
ما كنت أحسب أن أبقى كذا أبداً ... أعيش والدهر في أطرافه حتف
ساس بستة أطفال توسطهم ... شخصي كأحرف ساس وسطها ألف قال: فتقدمت إليه وقلت: فأين تعريقة السين فقال: طالب ورب الكعبة، ثم قال للآخر من جهة يمينه: قم، فقام يجر رجله كأنه مبطول، فقال: هذا تمام تعريقة السين.
41 - 53 - ثم رحلت من تلمسان إلى المغرب، فلقيت بفاس الشيخ الفقيه الحاج أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحيم اليزناسي، والشيخ الفقيه أبا محمد عبد المؤمن الجاناتي، والشيخ الفقيه الصالح أبا زرهون عبد العزيز بن محمد القيرواني، والفقيه أبا الضياء مصباح بن عبد الله اليالصوني، وكان حافظ وقته، والفقيه أبا عبد الله ابن عبد الكريم، وشيخ الشيوخ أبا زيد عبد الرحمن بن عفان الجزولي، والأستاذ أبا العباس المكناسي، وكنت لقيت الأستاذ أبا العباس ابن
__________
(1) ق: واللحمة.
(2) ق: ولما رحلت منها جعل يسايرني ... إلخ.(5/252)
حزب الله، والأستاذ أبا عبد الله ابن القصار بتلمسان، ولقيت غير هؤلاء ممن يكثر عددهم، وكنت قد لقيت بتازى الفقيه أبا عبد الله ابن عطية، والأستاذ أبا عبد الله المجاصي، والشيخ أبا الحسين الجيار، وغيرهم (1) .
53 - 67 - ثم بلغت بالرحلة إلى أغمات، ثم وصلت إلى سبتة (2) ، فاستوعبت بلاد المغرب ولقيت بكل بلد من لا بد من لقائه من علمائه وصلحائه، ثم قفلت إلى تلمسان فأقمت بها ما شاء الله تعالى، ثم أعملت الرحلة إلى الحجاز، فلقيت بمصر (3) الأستاذ أثير الدين أبا حيان الغرناطي، فرويت عنه، واستفدت منه وشمس الدين الأصبهاني الآخر، وشمس الدين بن عدلان، وقرأ علي بعض شروحه (4) لكتب المزني، وناولني إياه، وشمس الدين بن اللبان آخر المذكورين بها، والشيخ الصالح أبا محمد المنوفي فقيه المالكية بها، وتاج الدين التبريزي الأصم، وغيرهم ممن يطول ذكرهم.
ثم حججت فلقيت بمكة (5) إمام الوقت أبا عبد الله ابن عبد الرحمن التوزري المعروف بخليل، وسألته يوم النحر حين وقف بالمشعر الحرام عن بطن محسر لأحرك فيه على الجمل، فقال لي: تمالأ الناس على ترك هذه السنة، حتى نسي بتركها محلها، والأقرب أنه هذا، وأشار إلى ما يلي الجابية التي على يسار المار من المشعر إلى منى من الطريق من أول ما يحاذيها إلى أن يأخذ صاعداً إلى منى، وما رأيت أعلم بالمناسك منه، والإمام أبا العباس ابن رضي الدين الشافعي، وغير واحد من الزائرين والمجاورين وأهل البلد.
وبالمدينة أعجوبة الدنيا أبا محمد عبد الوهاب الجبرتي وغيره.
__________
(1) ق: ممن لا يحتمل هذا المختصر تعدادهم ولا يمكن استيفاؤهم.
(2) ثم بلغت ... سبتة: سقطت من ق.
(3) ق: ثم رحلت منها إلى مصر فلقيت ... إلخ.
(4) ص: شرحه.
(5) ق: ورحلت منها إلى مكة المشرفة فلقيت ... إلخ.(5/253)
ثم أخذت على الشام، فلقيت بدمشق شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب الفقيه ابن تيمية، وصدر الدين الغماري (1) المالكي، وأبا القاسم ابن محمد اليماني الشافعي، وغيرهم، وببيت المقدس (2) الأستاذ أبا عبد الله ابن مثبت، والقاضي شمس الدين بن سالم، والفقيه المذكر أبا عبد الله ابن عثمان، وغيرهم.
ثم رجعت (3) إلى المغرب فدخلت سجلماسة ودرعة، ثم قطعت (4) إلى الأندلس فدخلت الجبل وأصطبونة ومربلة ومالقة وبلش والحامة، وانتهت بي الرحلة إلى غرناطة، وفي علم الله تعالى ما لا أعلم، وهو المسؤول أن يحملنا على الصراط الأقوم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؛ انتهى كلام جدي رحمه الله تعالى في الجزء الذي ألفه في مشيخته، وقد لخصه لسان الدين في الإحاطة.
[ترجمة المقري بقلم ابن خلدون]
ولنذكر هنا زيادات لا بأس بها، فنقول: ولما ألم ولي الدين ابن خلدون بذكر مولاي الجد في تاريخه الكبير عند تعريفه بنفسه وصفه بأنه كبير علماء المغرب ونص محل الحاجة من تاريخه (5) : لما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين أقمنا في البحر نحواً من أربعين ليلة، ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر، ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر (6) على التخت واقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاوون، وكنا على ترقب ذلك لما كان يؤثر بقاصية البلاد
__________
(1) ق: العمادي.
(2) ق: ثم جئت بيت المقدس فلقيت.
(3) ق: قفلت.
(4) ق: جئت؛ وعند هذا الموضع بهامش ص: قف على أن الإمام المقري جد المؤلف دخل بلدنا درعة حرسها الله، مما يدل على نسبة إلى بلدة درعة بالمغرب.
(5) زاد في ق: أنه قال؛ والنص في التعريف: 246.
(6) يعني أبا سعيد برقوق بن أنص (توفي سنة 801) وانظر تاريخ ابن خلدون 5: 467.(5/254)
من سموه لذلك وتمهيده له، وأقمت بإسكندرية شهراً لتهيئة أسباب الحج، ولم يقدر عامئذ، فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، محشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في أوجه (1) ، وتزهو والخوانق (2) المدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، وقد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء يسقيهم النهل والعلل سيحه، ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثبجه، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة وأسواقها تزخر بالنعم، وما زلنا نحدث عن هذا البلد، وبعد مداه في العمران، واتساع الأحوال، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجهم وتاجرهم بالحديث عنه، سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري فقلت له: كيف هي القاهة فقال: من لم يرها لم يعرف عز الإسلام، وسألت شيخنا أبا العباس ابن إدريس (3) كبير العلماء ببجاية مثل ذلك، فقال: كأنما انطلق أهله من الحساب، يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب، وحضرت صاحبنا قاضي العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبا القاسم البرجي (4) بمجلس السلطان أبي عنان منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر وتأدية رسالته النبوية إلى الضريح الكريم سنة خمس وخمسين، وسأله عن القاهرة فقال: أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار: إن الذي يتخيله الإنسان فإن ما يراه دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال على كل محسوس إلا القاهرة (1) فإنها أوسع من كل ما يتخيل
__________
(1) التعريف: جوه.
(2) التعريف: الخوانك.
(3) أحمد بن إدريس البجائي (انظر ترجمته في الديباج: 81 ونيل الابتهاج: 50) .
(4) أبو القاسم محمد بن يحيى البرجي من أهل برجة بالأندلس كان كاتب السلطان أبي عنان وصاحب الإنشاء والسر في دولته (انظر ترجمته في التعريف: 64 والإحاطة 2: 215 وجذوة الاقتباس 197) .
(1) التعريف: جوه.(5/255)
فيها، فأعجب السلطان والحاضرون بذلك؛ انتهى كلام ابن خلدون، ولا يخلو عن فائدة زائدة.
[فوائد عن المقري الجد]
ولا بأس أن نورد من فوائد مولاي الجد ما حضرني الآن: فمن ذلك ما حكاه ابن الرزاق عن ابن قطرال قال (1) : سمع يهودي بالحديث المأثور نعم الإدام الخل فأنكر ذلك، حتى كاد يصرح بالقدح، فبلغ ذلك بعض العلماء، فأشار على الملك أن يقطع عن اليهود الخل وأسبابه سنة، قال: فما تمت حتى ظهر فيهم الجذام.
ومنها أنه قال: أنشدني الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد قال: أنشدني الشيخ التقي ابن دقيق العيد لنفسه في معنى لطيف حجازي (2) :
إذا كنت في نجد وطيب نعيمه ... تذكرت أهلي باللوى فمحسر
وإن كنت فيهم زدت (3) شوقاً ولوعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري
فقد طال ما بين الفريقين موقفي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري ومنها ما حاكاه عن عبد الله بن الحق عن ابن قطرال قال (4) : كنت بالمدينة على ساكنها الصلاة والسلام إذ أقبل رافضي بفحمة في يده، فكتب بها على الجدار هناك:
من كان يعلم أن الله خالقه ... فلا يحب أبا بكر ولا عمرا
__________
(1) قارن بما ورد في نيل الابتهاج: 252.
(2) انظر الطالع السعيد: 321 والديوان الملحق: 173 وطبقات السبكي 6: 12.
(3) الطالع: ذيت.
(4) قارن بما في نيل الابتهاج: 252.(5/256)
وانصرف، فألقي علي من الفطنة وحسن البديهة ما لم أعهد مثله من نفسي قبل، فجعلت مكان يحب يسب ورجعت إلى مجلسي، فجاء فوجده كما أصلحته، فجعل يلتفت يميناً شمالاً، كأنه يطلب من صنع ذلك، ولم يتهمني، فلما أعياه الأمر انصرف.
ومنها أنه قال: حدثت أن الزاهد أبا عمرة ابن غالب المرسي نزيل تلمسان وقد لقيت غير واحد من أصحابه، سأله بعض أن يشهد عقد ابنته، فتعذر عليه، فلم يزل به حتى أجاب بعد جهد، فحضر العقد، وطعم الوليمة، ثم لما حضرت ليلة الزفاف استحضره في ركوبها إلى دار زوجها على عادة أهل تلمسان، فأجابه مسرعاً، فقيل له: أين هذا التيسير من ذاك التعسير فقال: من أكل طعام الناس مشى في خدمتهم، أو كما قال.
ومنها أنه قال: حدثت أنه الفقيه أبا عبد الله ابن العواد العدل بتونس التقى يوماً مع القاضي أبي علي ابن قداح، وكان ابن العواد شيخاً، فقال له أبو علي: كبرت يا أبا عبد الله فصرت تمشي كل شبر بدينار، يوري بكثرة الفائدة في مشيه إلى الشهادة، فقال له: كنت إذا كنت في سنك أخرج رزقي من الحجر، يعرض لابن القداح بأنه جيار، وكذلك كان هو وأبوه، رحمهم الله تعالى جميعاً، وهذا من مزاح الأشراف، كما جرى بين معاوية والأحنف، انظر صدر أدب الكتاب.
ومنها أنه قال: قال لي الحاج أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الواحد الرباطي: كنا عند الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، ففقد أحدنا نعليه، فقال الشيخ: كنا عند العلم التبريزي فدخل عليه رجل يدعى بشيراً فكلمه ثم خرج فلم يجد نعليه، فرجع إلى العلم وأنشده:
دخلت إليك يا أملي بشيراً ... فلما أن خرجت خرجت بشرا
أعد يائي التي سقطت من اسمي ... فيائي في الحساب تعد عشرا(5/257)
وقال رحمه الله تعالى: لما سعى أولاد الشيخ أبي (1) شعيب بالقاضي أبي الحجاج الطرطوشي إلى السلطان وأمر بإشخاصه وكثر إرجاف المتشيعين فيهم من بعده وخرج الأمر على خلاف ما أملوا منه قال في ذلك:
حمدت الله في قوم أثاروا ... شروراً فاستحالت لي سرورا
وقالوا النار قد شبت فلما ... دنوت لها وجدت النار نورا ومنها (2) : أنه حكى أن الشيخ أبا القاسم ابن محمد اليمني مدرس دمشق ومفتيها حكى له بدمشق أنه قال له شيخ صالح برباط الخليل عليه السلام: نزل بي مغربي فمرض حتى طال علي أمره، فدعوت الله أن يفرج عني وعنه بموت أو صحة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: أطعمه الكسكسون، قال: يقول هذا بالنون، فصنعته له، فكأنما جعلت له فيه الشفاء، وكان أبو القاسم يقول فيه كذلك، ويخالف الناس في حذف النون من هذا الاسم، ويقول: لا أعدل عن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: قلت: ووجه هذا من الطب أن هذا الطعام مما يعتاده المغاربة ويشتهونه، على كثرة استعمالهم له، فربما نبه منه شهوة أو رده إلى عادة.
وقال الجد رحمه الله تعالى: رأيت بجامع الفسطاط من مصر فقيراً عليه قميص إلى جانبه دفاسة قائمة وبين يديه قلنسوة، فذكر لي هنالك (3) أنهما محشوتان بالبرادة، وأن زنة الدفاسة أربعمائة رطل مصرية، وهي ثلاثمائة وخمسون مغربية، وزنة القلنسوة مائتا رطل مصرية، وهي مائة وخمسة وسبعون مغربية (4) ، فعمدت إلى الدفاسة فأخذتها إلى طوقها أنا ورجل آخر، فأملناها بالجهد، ثم أقمناها، ولم نصل بها إلى الأرض، وعدت إلى القلنسوة فأخذتها من إصبع كان
__________
(1) ق: ابن.
(2) قارن بما في نيل الابتهاج: 252.
(3) زاد في ق: رجل.
(4) وهي ثلاثمائة ... مغربية: سقطت سهوا من ق.(5/258)
في رأسها فلم أطق حملها فتركتها، وكان يوم الجمعة، فلما قضيت الصلاة مررنا في جملة من أصحابنا بالفقير، فوجدناه لابساُ تلك الدفاسة في عنقه، واضعاُ تلك القلنسوة على رأسه، فقام إلينا وإلى غيرنا، ومشى بهما كما يمشي أحدنا بثيابه، فجعلنا نتعجب، ويشهد بعضنا بعضاً على ما رأى من ذلك، ولم يكن بالعظيم الخلقة.
وقال رحمه الله تعالى: كان الأستاذ ابن الحكم قد بعث إلي بمحرر لأبعث به إلى من يعرضه للبيع، ثم بلغه أن أحمالاُ من المتاع التونسي قد وصلت إلى البلد، فكتب إلي: الحمد لله الذي أمر عند كل مسجد بأخذ الخزينة، وصلواته الطيبة، وبركاته الصيبة، على من ختم به شريعته وأكمل دينه، وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه والذين يتبعونه، وبعد ما تعلق به الإعلام، أن تعوضوا المحرر بإحرام (1) ، لا يخفى على مثلكم جنسه ومجانسه، ومن كلام العرب: كل ثوب ولابسه، وإن أربى على ثمن الأول ثمن الثاني، فلست عن الزيادة والحمد لله بالواني.
ومن فوائده أنه قال: كتب (2) في صدر رسالة إلى صاحبنا الشيخ الناسك أبي علي منصور ابن شيخ عصره وفريد دهره ناصر الدين المشدالي الشيخ الخاشع صاحبنا أبو الحسن علي ابن موسى البحيري يذكره شوقه إلى لقائه، لما كان يبلغه عنه، حتى قدر باجتماعهما بوهران أيام قضاء البحيري بها:
أوحشتني ولو طلعت على الذي ... لك في فؤادي لم تكن لي موحشا
يا محرقاً بالنار قلب محبه ... أنسيت أنك مستكن في الحشا وقال رحمه الله تعالى: أنشدني محمد البلفيقي قال (3) : أنشدني ابن رشيد قال: أنشدني أبو حفص ابن الخيمي المصري لنفسه:
__________
(1) الإحرام: في المغرب يطلق على لباس مكون من بردة سوداء وطيلسان من الكتان الأسود (انظر رحلة ابن جبير ص: 134 والتعليقات ص: 28) .
(2) ق: ومن فوائده ما كتب.
(3) أنشدني ... قال: سقطت من ق.(5/259)
لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفاصلنا على وجه جميل (1) وقال رحمه الله تعالى: قال لي محمد بن داود بن المكتب قال لي بلال الحبشي خادم الشيخ ابن مدين (2) : كان الشيخ كثيراُ ما ينشد هذا البيت:
الله قل وذر الوجود وما حوى ... إن كنت مرتاداً بصدق مراد وقال رحمه الله تعالى: دخلت على عبد الرحمن بن عفان الجزولي (3) ، وهو يجود بنفسه، وكنت قد رأيته قبل ذلك معافى، فسألته عن السبب، فأخبرني أنه خرج إلى لقاء السلطان، فسقط عن دابته، فتداعت أركانه، فقلت: ما حملك أن تتكلف مثل هذا في ارتفاع سنك فقال: حب الرياسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين.
وقال رحمه الله تعالى: قال لي محمد بن مرزوق: قال لي بعض أصحاب أبي إسحاق الطيار دفين عباد تلمسان: إن أبا إسحاق أقام خمساً وعشرين سنة لا ينام إلا قاعداً، فسألت ابن مرزوق: لم لقب بالطيار فحدثني عن بعض أصحابه أنه نشر ذات يوم ثوبه في الشمس على بعض السطوح، ثم قعد هنالك، فمر به رجل فقال له: طر، فقال: أعن أمرك قال: نعم، فطار حتى وقع على الأرض وما به من باس، فقال الجد رحمه الله تعالى بعد هذا ما نصه: فقلت: إذا ما صار الحق للعبد سمعاً وبصراُ فسمع به وأبصر أصاخ إلى الأحوال، واجتلى المعاني، فيرى من غير مبصر، ويسمع من غبر ناطق، كما قال الشيخ أبو عبد الله الشوذي (4) الحلوي دفين تلمسان:
__________
(1) ق: مليح.
(2) ترجمة بلال خادم الشيخ أبي مدين في أنس الفقير: 93، وانظر ما تقدم ص: 242.
(3) ترجمة عبد الرحمن الجوزلي في نيل الابتهاج: 129 وفيه ما جاء هنا نقلا عن المقري الجد. والسلطان الذي خرج للقائه هو أبو الحسن المريني، وكانت وفاة الجزولي بعد موقعة طريف سنة 741.
(4) تنسب إليه الشوذية وكان في أول أمره من فقهاء مرسية ثم التف حوله أمثال عزيز بن خطاب وحازم وأبي المطرف وغيرهم. والشوذية طريقة صوفية تشبه طريقة ابن عربي إلا أنها أكثر إيجابية، وقد تورط أصحابها في السياسة وقالوا بأن العلوم الشرعية غير صحيحة في ذاتها، ولذلك وجدوا مقاومة شديدة، وحمل عليهم ابن خلدون ولسان الدين.(5/260)
إذا نطق الوجود أصاخ قوم ... بآذان إلى نطق الوجود
وذاك النطق ليس به انعجام ... ولكن دق عن فهم البليد
فكن فطناُ تنادى من قريب ... ولا تك من ينادى من بعيد وقال رحمه الله تعالى: حدثت بمصر أن الشيخ سيدي عمر بن الفارض ولع بجمل، فكان يستأجره من صاحبه ليتأنس به، فقيل له: لو اشتريته، فقال: المحبوب لا يملك، فسألت: في أي حال كان هذا منه فقيل لي: في ابتداء أمره، فقلت: وجد اعتبار {أفلا ينظرون إلى الإبل} (الغاشية: 17) فوقفت به رؤية المعنى فيه عليه، فأحبه مدلاً، وطلبه مجلاُ.
وقال رضي الله عنه: حفظت من خط أبي زيد والد صاحبنا أبي الحسن: قيل للغزالي: ما تقول في الحلاج فقال: وما عسى أن أقول فيمن شرب بكأس الصفاء، على بسط الوفاء، فسكر وعربد، فاستوجب من الله الحد، فكان حده شهادته، ثم قال بعد هذا: قلت عربد الحلاج في الحضرة لما نسي بسكره أوامره، فانتصر الظاهر لنفسه لصحة تعلق اسمه، وسدل الباطن على عذره حجاب الغيرة من إفشاء سره:
على سمة الأسماء تجري أمورهم ... وحكمة وصف الذات للحكم أجرت وقال رحمه الله تعالى: سمعت شيخنا ببيت المقدس يقول: تجلى الله بالمسجد الأقصى بالجمال، وعلى المسجد الحرام بالجلال، وعلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالكمال، قلت: فذلك يوقف النواظر، وذاك يملأ الخواطر، وهذا يفتح البصائر.
وقال رحمه الله تعالى: أخبرني أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان فارس(5/261)
نصره الله أن جده أمير المسلمين أبا سعيد سأل كاتبه عبد المهيمن الحضرمي عن تهادي أهل الحب التفاح دون الخوخ، وكلاهما حسن المنظر، طيب المخبر، شديد شبه بأخيه، سديد تشبيه الوجنات به لمتوخيه، فقال: ما عند مولانا فقال: أرى ذلك لاشتمال التفاح على الحب الذي يذكر بالحب والهوى، والخوخ على النوى الذي يذكر اسمه صفرة الجوى.
وقال رحمه الله تعالى: قال لي أبو حيان بالقاهرة: قال لي عمر بن الخيمي: تجاذبت أنا ونجم الدين بن إسرائيل هذا البيت:
يا بارقاُ بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت، ولكن فاتك الشنب فتحاكمنا إلى ابن فارض، فأشار بأن ننظم قصيدة نضمنها البيت، فنظم ونظمت:
يا مطلباً ليس لي في غيره أرب ... إليك آلى التقضي وانتهى الطلب فقضى به لي (1) .
وقال رحمه الله تعالى: حدثت أن أبا زيد الهزميري بعث إلى أبي عمران التسولي، وكان كثير الصلاة، أنه لم يبق وبينك وبين الله حجاب إلا ركيعات، فرجع إليه ما معناه: إن الاتصال كان منها، فلا كان يوم الانفصال عنها، يعني من رزق من باب فليلزمه.
وقال رحمه الله تعالى: كنت بجامع تلمسان، وإلى جانبي رجل ينتمي إلى طريقة العرفان، فجعل سائل يشكو الجوع والألم، فتصدق ذلك الرجل عليه بدرهم، وقال: إياك أن تشكو الرحمن إلى من لا يرحم، فقلت: أمره أن
__________
(1) انظر أيضا الغيث المسجم 1: 117 فيما يتصل بهذه المعارضة بين ابن الخيمي ونجم الدين بن إسرائيل، وفي معارضات قصيدة ابن الخيمي انظر 1: 118.(5/262)
يسأل عزيزاُ بمولاه، ونهاه أن يشكو ذليلاً إلى سواه.
وكان الفارابي كثيراً ما يقول: يا رب إليك المشتكى، حتى إنه يوجد أثناء كلامه في غير موضعه، فيعجب به من لا علم عنده بمنزعه.
وقال رحمه الله تعالى: حدثت أن الفخر مر ببعض شيوخ الصوفية، فقيل للشيخ: هذا يقيم على الصنائع ألف دليل، فلو قمت عليه، فقال: وعزته لو عرفته ما استدل عليه، فباغ ذلك الإمام، فقال: نحن نعلم من وراء الحجاب، وهم ينظرون من غير حجاب.
وقال رحمه الله تعالى: حدثت أن رجلاُ كان يجلس إلى أبي الحسن الحرالي، وكان يشرب الخمر، فسكر ذات يوم، فسقط على زجاجة، فشج وجهه، فاختفى إلى أن برئ، ثم عاد إلى مجالسة الشيخ، فلما رآه أنشد:
أجريح كاسات أرقت نجيعها ... طلب الترات يعز منه خلاص
لا تسفكن دم الزجاجة بعدها ... إن الجروح كما علمت قصاص ففهمها الشاب، فتاب.
وقال رحمه الله تعالى: كثيراُ ما كنت أسمع أبا محمد المجاصي ينشد هذا البيت:
هم الرجال وعيب أن يقال لمن ... لم يتصف بمعاني وصفهم رجل ثم يبكي، وكان أهل البلد يسمونه " البكاء " وبعضهم الخاشع.
ووجدت بخط مولاي الجد على ظهر كتابه " القواعد " ما نصه: الحمد لله تعالى جده، قرأت صدر الكتاب " زهرة البساتين " للقاسم بن الطيلسان، ثم سمعت ثلاثة أحاديث من أوله، بل حديثاُ وأثراُ وإنشاداُ من في الشيخ الخطيب الصالح أبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عياش الأنصاري، ثم تناولت منه جميع الكتاب المذكور، وأجازنيه بحق سماعه لبعضه، وتناوله لجميعه من جده(5/263)
محمد المذكور، بحق أخذه له عن مؤلفه صهره القاسم المذكور، وذلك بالمسجد الجامع من مالقة المحروسة، قال ذلك وكتبه محمد بن محمد بن أحمد المقري في متم عشرين لشهر ربيع الآخر من عام سبعة وخمسين وسبعمائة.
وبخطه رحمه الله تعالى حيث ذكر ما نصه: الحمد لله، مخالف القواعد الشرعية للعوائد العرفية، كإنكار الحشر وفتنة القبر، ونهوهما من الأمر بالمعروف، للركون إلى المشهور المألوف، كالتقليد مع الدليل، الذي ذمه الشرع في محكم التنزيل.
وبخطه أيضاً (1) : الحمد لله، قد تتابع صفات العام حتى يصير كأنه أشير به إلى شخص بعينه فيختص، ومن ثم قيل في قوله الله عز وجل {ولا تطع كل حلاف مهين} (القلم: 10) إنه الأخنس بن شريق، وفي قوله تعالى {وبل لكل همزة لمزة} (الهمزة: 1) إنه أمية بن خلف، وفي قوله تعالى {ذرني ومن خلقت وحيداً} (المدثر: 11) إنه الوليد بن مغيرة، انتهى.
ووجدت بخطه أيضاً رحمه الله تعالى ما نصه (2) : الحمد لله، قال لي المتوكل على الله أبو عنان أمير المؤمنين فارس بن علي: كان جدنا أبو يوسف يعقوب ابن عبد الحق يقول: الولايات ست: ثلاث وقفتها على اختياري: الحجابة، والقصبة، والشرطة، وثلاث موكولة إليكم: القضاء، والإمامة، والحسبة. ثم قال رحمه الله تعالى: وهذا تدبير حسن.
ومن فوائده: حدثني العدل أبو عبد الله محمد بن أبي زرع عن القاضي أبي عبد الله ابن أبي الصبر أنه أمر الوالي بفاس أن يبني فندق الشماعين، وكان قد خرب، فتوقف حتى يأذن السلطان، فقال له: أسلفني ما أبنيه به، فإن أجاز ذلك السلطان، وإلا رددته عليك، ففعل، فلما طولب ذكر ما قاله له القاضي،
__________
(1) ق: وقال حيث أشير ما نصه. ص: وبخطه أيضا ... إلخ.
(2) ق: وكتب رحمه الله ما نصه.(5/264)
فغضب السلطان وبعث فيه، فجعل المبعوثون يأتونه واحداً بعد واحد وهو متمهل في وضوئه وإصلاح بذته ومركوبه، ثم جعل يمشي الهوينا، فلقيه ابنه، فقال له: أسرع لقد أكثر السلطان من التوجيه إليك، وهو واجد عليك، فقال له: مسكين أبو يحيى خاف وثبت على حاله، فلما كان في الطريق لقي بعض العلماء فتعرض إليه فقال: قل بخفي لطفك، بلطيف صنعك، بجميل سترك، دخلت في كنفك، تشفعت بنبيك، فحفظه، ثم طلبه فلم يجده، فجعل يقول ذلك، فلما رآه السلطان سكن ما به، ثم سأل عن ذلك برفق، فقال له القاضي: كرهت الخراب بقرب القرويين وبالشماعين الذي هو عين فارس، فسألت الوالي ذلك على أني أغرم إن لم تجز، وقلت له: المرجو من السلطان أن يجعله حبساً، فقال: قد فعلت، ثم بعث إلى الشهود وحبسه على الجامع، وشكر القاضي صنيعه، وصرفه مغبوطاً.
وهذا السلطان هو أبو يعقوب يوسف بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني، وتوفي محاصراً لتلمسان في ذي القعدة من عام ستة وسبعمائة، وكان ابتداء حصاره إياها سنة ثمان وتسعين وستمائة، وكان جملة الحصار فيها حدثت ألف شهر (1) ؛ انتهى.
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى ما حكاه تلميذه أبو إسحاق الشاطبي في كتاب " الإنشادات والإفادات " ونصه: إفادة حضرت يوماً مجلساً في المسجد الجامع بغرناطة مقدم الأستاذ القاضي أبي عبد الله المقري، في أواخر ربيع الأول عام سبعة وخمسين وسبعمائة، وقد جمع ذلك المجلس القاضي أبا عبد الله والقاضي أبا القاسم الشريف شيخنا والأستاذ أبا سعيد ابن لب والأستاذ أبا عبد الله البلنسي وذا الوزارتين أبا عبد الله ابن الخطيب وجماعة من الطلبة،
__________
(1) انظر خبر هذا الحصار في الاستقصا 3: 79 - 80. قلت: وقوله " ألف شهر " لا يتفق مع الفترة التي عينها.(5/265)
فكان من جملة ما جرى أن قال القاضي أبا عبد الله المقري: سئلت في مسألة في الأصول لم أجد لأحد فيها نصاً، وهي تخصيص العام المؤكد بمنفصل، فأجبت بالجواز محتجاً بقول الله عز وجل " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " فهذا عامل مؤكد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " ولم يحل الله من الفواحش إلا مسألة الناسي ". انتهى.
ومن (1) الكتاب المذكور ما نصه: إفادة حدثني الشيخ الفقيه القاضي الجليل الشهير الخطير أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري رحمه الله تعالى، وأملاه علينا، عن العالم الكبير أبي حيان ابن يوسف بن حيان أنه قال: ورد كتاب من الأستاذ أبي عبد الله ابن مثبت الغرناطي إلى صاحب له يدعى حمزة، وفيه: سئل الشيخ، قال أبو حيان: يعني وجدت على ظهر نسخة من المفصل بخط عتيق سئل ابن الأخضر بمحضر ابن الأبرش: علام انتصب قوله:
مقالة أن قد قلت سوف أناله ... فقال:
ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي ... فقال: سألتك عن إعراب كلمة، فأجبتني بشطر بيت، فقال ابن الأبرش: قد أجابك لو كنت تفهم، قال أبو حيان: فوقعت عليه للحين: إن هذا الشطر من قول النابغة:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تصطك منها المسامع
مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع يروى مقالة بالرفع، على أنه بدل من أنك لمتني الفاعل، وبالفتح على ذلك إلا أنه بناه لما أضافه إلى مبني.
__________
(1) ق: وفي.(5/266)
ومنه: إفادة حدثني الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى قال: سئل أبو العباس ابن البناء رحمه الله تعالى، وكان رجلاً صالحاً، في قوله تعالى {قالوا إن هذان لساحران} (طه: 63) لم لم تعمل إن في هذان فقال: لما لم يؤثر في المقول لم يؤثر العامل في المعمول، فقال له: يا سيدي هذا لا ينهض جواباً، فإنه لا يلزم من بطلان قولهم بطلان عمل إن، فقال له: إن هذا الجواب نوارة لا تحتمل أن تحك بين الأكف؛ انتهى.
ومنه: إفادة قال لنا الشيخ الأستاذ القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى: إن أهل المنطق وغيره يزعمون أن الأسماء المعدولة لا تكاد توجد في كلام العرب، وهي موجودة في القرآن، وذلك قوله {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} (البقرة: 68) فإن زعم زاعم أن ذلك على حذف المبتدأ، ودخلت لا على الجملة، وتقديره لا هي فارض ولا هي بكر، قيل له: إن كان يسوغ لك ذلك في هذا الموضع فلا يسوغ في قوله تعالى {لا شرقية ولا غربية} (النور: 35) فصح أن الاسم المعدول موجود فصيح في كلام العرب.
ومنه: إفادة حدثنا الأستاذ أبو عبد الله المقري، قال: سئل عن قوله تعالى {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} (الأنبياء: 33) لم عاد ضمير من يعقل إلى ما لا يعقل فقال بعضهم: لما اشترك مع من يعقل في السباحة وهي العوم عومل لذلك معاملته، قال: وهذل لا ينهض جواباً، فإن السباحة لما لا يعقل كالحوت، وإنما لمن يعقل العوم، لا السباحة، وأيضاً فإلحاقه بما العوم له لازم كالحوت أولى من إلحاقه بما هو غير لازم له، قال: وأجاب الأستاذ أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي السبي بأن الشيء المعظم عند العرب تعامله معاملة العاقل، وإن لم يكن عاقلاً، أعظمه عندهم، وأجبت لأنا بأنه لما عوملت في غير هذا الموضع معاملة من يعقل في نحو قوله تعالى {والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} (يوسف: 4) لصدور أفعال العقلاء عنها أجرى عليها هنا ذلك الحكم للأنس به في موضعه.(5/267)
ومنه: إفادة لقمني الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى لقمة بيده المباركة (1) ، وقال: لقمني الشيخ أبو عبد الله المسفر قال: لقمني أبو زكريا المحياوي قال: لقمني أبو محمد صالح قال: لقمني الشيخ أبو مدين قال: لقمني أبو الحسن ابن حرزهم قال: لقمني ابن العربي قال: لقمني الغزالي قال: لقمني أبو المعالي قال: لقمني أبو طالب المكي قال: لقمني أبو محمد الجريري قال: لقمني الجنيد قال: لقمني السقطي قال: لقمني معروف الكرخي قال: لقمني داود الطائي قال: لقمني حبيب العجمي قال: لقمني الحسن البصري قال: لقمني علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: لقمني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وبهذا السند صافحته أيضاً رضي الله تعالى عنه (2) ؛ انتهى.
وللمحدثين في هذا السند كلام مشهور، وانتصر بعضهم للسادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم.
ومنه: إنشادة أنشدني الشريشي الفقيه أبو عبد الله قال: أنشدني القاضي المقري قال: أنني الرباطي قال: أنشدني ابن دقيق العيد لنفسه من صدر رسالة كتب بها لبعض إخوانه بالحجاز (3) :
يهيم قلبي (4) طرباً عندما ... أستلمح البرق الحجازيا
ويستميل الوجد قلبي (5) وقد ... أصبح لي ثوب الحجى زيا
يا هل أقضي من منى حاجتي ... فأنحر البدن المهاريا
وأرتوي من زمزم فهي لي ... ألذ من ريق المها ريا
__________
(1) لقمة بيده المباركة: سقطت من ق.
(2) انظر سند المصافحة ص: 241.
(3) انظر الديوان الملحق: 154 والطالع السعيد: 332 ولها تخريجات أخرى في الديوان (هامش: 153) .
(4) الديوان: تهيم نفسي.
(5) الديوان: عقلي.(5/268)
ومنه: إفادة حدثنا القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى قال: رأيت لبعض من ألف على كتاب الكشاف للزمخشري فائدة لم أرها لغيره في قوله تعالى " والراسخون في العلم " إذ الناس يختلفون في هذا الموضع اختلافاً كثيراً، فقال قوم: الراسخون في العلم يعلمون تأويله، والوقوف عند قوله " والراسخون في العلم " وقال قوم: أن الراسخون لا يعلمون تأويله، وإنما يوقف (1) عند قوله " وما يعلم تأويله إلا الله " فقال هذا القائل: أن الآية من باب الجمع والتفريق والتقسيم، من أنواع البيان، وذلك لأن قوله تعالى " هو الذي نزل عليك الكتاب " هو جمع، وقوله " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " تفريق، وقوله تعالى " فأما الذين في قلوبهم زيغ - إلى قوله تعالى: وابتغاء تأويله " أحد طرفي التقسيم، وقوله تعالى " والراسخون في العلم " الطرف الثاني، وتقديره: وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به، وجاء قوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله " اعتراضاً بين طرفي التقسيم، قال: وهذا مثل قوله تعالى " وأنا منا المسلمون " فقوله وأنا جمع، وقوله " منا المسلمون ومنا الساقطون " تفريق، وقوله فمن أسلم وأما الساقطون تقسيم، وهو من بديع التفسير، قلت: ومثله أيضاً قوله تعالى " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه "؛ انتهى. ومنه: إنشادة أنشدنا الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري في القول بالموجب لبعض العلماء في وديعة:
إن قال قد ضاعت فصدق أنها ... ضاعت، ولكن منك يعني لو تعي
أو قال قد وقعت فصدق أنها ... وقعت، ولكن منه أحسن موقع ومنه: إنشادة أيضاً من القول بالموجب لبعض الحنابلة:
__________
(1) ق: يتوقف.(5/269)
يحجون بالمال الذي يجمعونه ... حراماً إلى البيت العتيق المحرم
ويزعم كل أن تحط ذنوبهم ... تحط ولكن فوقهم في جهنم ومنه: إفادة كتب لي بخطه شيخنا الفقيه القاضي الجليل أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى على ظهر التسهيل لابن مالك الذي كتبته بخطي بعدما كتب لي بخطه روايته فيه عن أبي الحسن ابن مزاحم عن بدر الدين ابن جماعة عن المؤلف فكتب بعد ذلك ما نصه: قال محمد بن محمد المقري: بدر الدين ابن جماعة المذكور يدعى بقاضي القضاة، على ما جرت به عوائد أهل المشرق في تسمية مثله، وأنا أكره هذا الاسم محتجاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم " أن أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الملوك، لا ملك إلا الله "؛ انتهى ما انتقيته من كتاب الإنشادات والإفادات للشاطبي فيما يتعلق بجدي رحمه الله تعالى.
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله، مما لم يذكر فيما سبق أنه حكي أن ابن أمجوط الموله دخل في حلقة أبي عبد الله ابن رشيد بجامع القرويين، وبين رجليه قصبة كأنها فرس، وبيده أخرى كأنها رمح، فانتهره رجل، فضربه برمحه على رأسه، وقال له: اسكت يا ميت، فأبهت الناس لكلامه، فقال له الشيخ: يا فقير أنت في حال ونحن في مقال، وشأن أرباب الأحوال التسليم لأصحاب (1) المقال، فنظر إليه الموله وانصرف، ثم لم ينشب المنتهر أن توفي بعد ذلك بأيام قلائل.
[أخبار للمقري عن ابن شاطر]
ومنها: قلت لابن شاطر يوماً (2) : كيف حالك فقال: محبوس في الروح،
__________
(1) ق: لأرباب.
(2) مر هذا، انظر ما تقدم ص: 248.(5/270)
وصدق لأن الدنيا سجن المؤمن، ولا مخلص له من حبسه إلا بمفارقة نفسه.
وقال: سألت ابن شاطر عن معنى قول ابن الفارض:
فلم أله باللاهوت عن حكم مظهري (1) ... ولم أنس بالناسوت موضع حكمتي فقال: يقول ما أنا بالحلاج ولا ببلعام، ثم قال مولاي الجد بعد هذا الكلام ما صورته: قلت: وهذا هو الإنسان على الكمال والتمام، ولقد سمعته يقول في الحلاج: نصف إنسان، يشير إلى البيت.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى: سمع ابن شاطر إنساناً يقول: الجنة رخيصة، فقال: كيف تكون رخيصة والله عز وجل يقول " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " انتهى. ثم قال مولاي الجد بأثر هذا الكلام: قلت: ما الأنفس والأموال في جنب ما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لا سيما وفوق هذه الحسنى زيادة الإكرام بالنظر والرضا.
وقال أيضاً: قيل لابن شاطر: صف لنا الدنيا، فقال: " كسراب بقيعة " الآيتين، فبلغ ذلك أبا زيد ابن الإمام، فأنكر عائباً لاستحسان سامعه، تالياً " يحرفون الكلم عن مواضعه " ولقد أصيب المتعسف بأدهى منها وأمر، فإنه أفحم يوماً ببعض أهل النظر فتلا عليه " فبهت الذي كفر " على أن له أن يقول: لم أخرج الآية عن مرادها، فالبهت من انقطاع المعاند، والكفر من جحد الجاحد، ولنا أن نقول: التحريف المذموم هو التحويل للإبطال وليس هذا في قصد الممثل الأول بالمثال؛ انتهى.
وهذا كله على مذهب جمهور المالكية في منع الاقتباس، وللكلام على ذلك موضع غير هذا، فليراجع في كتب البيان وغيرها.
__________
(1) ق: منطقي.(5/271)
وقال رحمه الله تعالى: حدثت أن المتوكل على الله أبا عنان رحمه الله تعالى أعطى ابن شاطر ألف دينار ليحج بها، فمر بها على تلمسان، فصار يدفع منها شيئاً فشيئاً للمتفرجين بغدير الوريط شرقي عباد تلمسان العلوي، إلى أن نفذت، فلما ورد السلطان أبو عنان تلمسان لقيه بسوق العطارين من منشر الجلد، فقال له: يا سيدي أبا عبد الله حج مبرور، فقال له: إذا جهلت أصل المال فانظر مصارفه، ويأبى الله إلا أن ينفق الخبيث في مثله، فضحك السلطان وانصرف؛ انتهى.
وكان (1) لابن شاطر هذا عجائب، ولم يكن مخلاً بشيء من الحقوق الشرعية، وكان معتقداً عند أهل وقته، وكان السلطان أبو عنان على فقهه يعظمه ويصله ويسلم له، وبات عنده ليلة بقصره، وكان يدخل القصر، ولا تحتجب منه الجواري، وقال له: أتبول في قبة مولانا فقال لها: إن قبة مولانا الخضراء أعظم من هذه، وأنا أفعل تحتها ما هو أفظع من البول، وما انتهرني قط، فذكرت ذلك الجارية للسلطان، فضحك وعلم أنه يريد السماء. وكان يكتب القرآن والعمدة ولا يغلق حرفاً مجوفاً فإذا غلب على ذلك أصلحه، حتى حكي أنه سافر لإصلاح حرف مجوف أغلقه سهواً من نسخة كان باعها، ولم يتذكر ذلك حتى سافر مشتريها، فما رجع حتى جدده.
وحكى الشيخ أبو القاسم ابن داود الفخار السلوي أن الشيخ أبا عبد الله الشريف التلمساني صاحب " المفتاح في أصول الفقه " وشارح " الجمل الخونجية " المتوفى عام اثنين وسبعين وسبعمائة دفين المدرسة اليعقوبية من تلمسان المحروسة افتتح شرح العمدة بما نصه: اللهم احمد نفسك عمن أمرته أن يتخذك وكيلاً، حمداً عائداً منك إليك، متحداً بك، دائماً بدوام ملكك، لا منقطعاً ولا مفصولاً،
__________
(1) ق: وذكر.(5/272)
قال: فقال لي أبو عبد الله ابن شاطر: ما هو انفصال عالم الملك فقلت له: بالضرورية الوقتية، فقال لي: ما أجهلك! وأجهل سيدك أبا عبد الله! وأجهل ابن سودكين (1) الذي أخذ من كتابه هذا الحمد! إذ قال لا منقطعاً ولا مفصولاً بعد قوله بدوام ملكك وهو بالضرورية الوقتية، وهي منقطعة، فهلا قال: دائماً بدوام قيوميتك، وعظيم قدرك، ومجدك الأعلى، وسبحات وجهك الأكرم، لا منقطعاً ولا مفصولاً، فبلغ ذلك أبا عبد الله الشريف، فبدله؛ انتهى. وأخبار ابن شاطر كثيرة، وقد مر ذكره في كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى، وسيأتي ما ذكره لسان الدين به في الإحاطة.
[تتمة الفوائد على المقري]
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى ما قاله إثر قول الرازي في التفسير الحس أقوى من العقل ونصه: هذا على ما حكاه في المحصل من أن المعقولات فرع المحسوسات، قال: ولذلك من فقد حساً فقد فقد علماً كالأكمه والعنين، ومذهب جمهور الفلاسفة أن اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات، انظر المحصل؛ انتهى.
ومن فوائده رحمه الله تعالى أن قال: أنشدت يوماً الآبلي قول ابن الرومي:
أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه ... وبكحله الأحياء والبصراء
فإذا مررت رأيت من عميانه ... أمم على أمواته قراء فاستعادني حتى عجبت منه، مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر، وانفعاله له، وظننت أنه أعجب مما تضمنه البيت الأول من غريب اللف والنشر المكرر الذي لا أعرف له ثانياً فيه، فقال: أظننت أني استحسنت الشعر فقلت: مثلك
__________
(1) إسماعيل بن سودكين (ق: شودكين) النوري (- 640) تلميذ ابن عربي وشارح كتبه.(5/273)
يستحسن مثل هذا الشعر؛ فقال: إن ما تعرفت منه كون العميان كانوا في ذلك الزمان يقرؤن على المقابر، فإنني كنت أرى ذلك حديث العهد، فاستفدت التاريخ.
وقال مولاي الجد رحمه الله تعالى (1) : حدثني الآبلي أن أبا عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن أبي العيش الخزرجي الخطيب بتلمسان كان يقول في خطبته: من يطع الله ورسوله فقد رشد، بالكسر، وكان الطلبة ينكرون عليه ذلك، فلما ورد عليهم الراوية الرحلة أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري سمعه يقول ذلك، فأنكر عليه في جملتهم، وبلغ الخطيب ذلك، فلم يرجع، فلما قفل ابن رشيد من وجهته تلك دخل على الأستاذ أبي الحسن ابن البيع بسبتة، فهنأه بالقدوم، وقال له فيما قال: رشدت - يا ابن رشيد - ورشدت لغتان صحيحتان، حكاهما يعقوب في " الإصلاح " (2) ، ثم قال مولاي الجد (3) : قلت: هذه كرامة للرجلين أو للثلاثة.
وقال رحمه الله تعالى (4) : قال طالب لشيخنا الآبلي يوماً: مفهوم اللقب صحيح أما أنا فلا أقول شيئاً، فعرف الطالب ما وقع فيه، فخجل.
وهذا الآبلي (5) تقدم في كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه عالم الدنيا، وهو تلمساني كما تقدم، قال تلميذه أبو القاسم السلوي الفخار: دخل علي شيخنا الآبلي يوماً، وأنا أعجن طين الفخارة، فقال لي: ما علامة قبول هذه المادة أكمل صورة ترد عليها فقلت: أن تدفع عن نفسها ما هو من غير جنسها من حجر أو زبل أو غيره، فأدركه وجد عظيم، حتى إنه صاح وقام وقعد، وبقي هنية مطرقاً برأسه مفكراً، ثم قال: هكذا هي النفوس البشرية.
__________
(1) ق: ومن فوائده رحمه الله، والقصة في نيل الابتهاج: 252.
(2) إصلاح المنطق: 213.
(3) زاد في ق: قال الآبلي.
(4) النص في نيل الابتهاج: 245.
(5) ق: ووصف الشيخ الآبلي.(5/274)
قال: وقال لي يوماً، وقد وجد الصبيان يصوبون بقصب رقاق على الذباب فإذا خرج قتلوه: الغلط الداخل عليه من أي نوع المغلطات هو فقلت له: من إيهام العكس، لما كان كل ذباب مصوتاً ظن أن كل مصوت ذباب، فاستحسن ذلك.
قلت: وحدثني مولاي العم الإمام شيخ الإسلام سيدي سعيد بن أحمد المقري رحمه الله تعالى، عن شيخه ابن جلال مفتي حضرتي فاس وتلمسان، أنه كان يحكي أن الغلط من عدم كلية كبرى في الشكل الأول، لأنه ركبه هكذا: هذا مصوت وكل مصوت ذباب، وقد علمت أنها هنا إنما تصدق جزئية لا كلية، وإذا كانت جزئية بطل الإنتاج، لأن ذلك من الضروب العقيمة؛ انتهى.
ومن (1) فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه قال (2) : سمعت شيخنا الآبلي يقول: ما في الأمة المحمدية أشعر من ابن الفارض.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) : سمعت شيخنا الآبلي يقول: إنما أفسد العلم كثرة التواليف، وإنما أذهبه بنيان المدارس، وكان ينتصف له من المؤلفين والبانين وإنه لكما قال، غير أن في شرح ذلك طولاً، وذلك أن التأليف نسخ الرحلة التي هي أصل جمع العلم، فكلن الرجل ينفق فيها المال الكثير (4) ، وقد لا يحصل له من العلم إلا النزر اليسير، لأن عنايته على قدر مشقته في طلبه، ثم صار يشتري أكبر ديوان بأبخس ثمن، فلا يقع منه أكثر من موقع ما عوض عنه، فلم يزل الأمر كذلك حتى نسي الأول بالآخر، وأفضى الأمر إلى ما يسخر منه الساخر؛ وأما البناء فلأنه يجذب الطلبة إلى ما يرتب فيه الجرايات (5) ، فيقبل بها على من
__________
(1) قبلها في ق: رجع.
(2) انظر نيل الابتهاج: 245.
(3) نقل صاحب نيل الابتهاج هذا النص ص: 235 - 246.
(4) نيل الابتهاج: مالا كثيراز
(5) نيل الابتهاج: لما فيه من مرتب الجرايات.(5/275)
يعينه أهل الرياسة للأجراء والإقراء منهم أو ممن يرضى لنفسه الدخول في حكمهم، ويصرفونها (1) عن أهل العلم حقيقة الذين لا يدعون إلى ذلك، وإن دعوا لم يجيبوا، وإن أجابوا لم يوفوا لهم بما يطلبون من غيرهم. ثم قال مولاي الجد رحمه الله تعالى: ولقد استباح الناس النقل من المختصرات الغربية أربابها، ونسبوا ظواهر ما فيها إلى أمهاتها، وقد نبه عبد الحق في تعقيب التهذيب على ما يمنع من ذلك لو كان من يسمع - وذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع - ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف، وانقطعت سلسلة الاتصال، فصارت الفتاوى تنقل من كتب من لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها، لعدم تصحيحها، وقلة الكشف عنها. ولقد كان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة الشيخ أبي الحسن اللخمي لكونه لم يصحح على مؤلفه ولم يؤخذ (2) عنه، وأكثر ما يعتمد اليوم ما كان من هذا النمط. ثم انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين، فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كما يؤخذ من كتب المرضيين (3) ، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين، ولم يكن هذا فيمن قبلنا، فلقد تركوا كتب البراذعي على نبلها، ولم يستعمل منها، على كره من كثير منهم، غير التهذيب الذي هو المدونة اليوم لشهرة مسائله وموافقته في أكثر ما خالف فيه المدونة لأبي محمد، ثم كل أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات وشق الشروح والأصول الكبار، فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه، ونزر حظه، وأفنوا أعمارهم في فهم رموزه، وحل لغوزه، ولم يصلوا إلى رد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح، فضلاً عن معرفة الضعيف من ذلك والصحيح، بل هو حل مقفل، وفهم أمر مجمل، ومطالعة تقييدات
__________
(1) نيل الابتهاج: ويصرفهم.
(2) نيل الابتهاج: لكونها لم تصحح ... ولم تؤخذ.
(3) نيل الابتهاج: كالأخذ من المرضيين.(5/276)
زعموا أنها تستنهض النفوس، فبينا نحن نستكبر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ، أتيحت لنا تقييدات للجهلة، بل مسودات المسوخ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم، وتريك ما غفل الناس عنه؛ انتهى.
ولنصلها بخاتمة (1) تشير إلى حال العلماء أيضاً اعلم أن شر العلماء علماء السلاطين، وللعلماء معهم أحوال؛ فكان الصدر الأول يفرون منهم، وهم يطلبونهم، فإذا حضر واحد منهم أفرغوا عليه الدنيا إفراغاً ليقتنصوا بذلك غيره، ثم جاء أهل العصر الثاني، فطمحت أنفسهم إلى دنيا من حصل لهم، ومنعهم القليل، فانتقصوا مما كان لغيرهم بقدر ما نقصوا من منابذتهم، ثم كان فيمن بعدهم من يأتيهم بلا دعوة، وأكثرهم إن دعي أجاب، فانتقصوا بقدر ذلك أيضاً، ثم تطارح جمهور من بعدهم عليهم، فاستغنوا بهم عن دعاء غيرهم، لا على جهة الفضل أو محبة المدحة منهم، فلم يبقوا عليهم من ذلك إلا النزر اليسير، وصرفوهم في أنواع السخر والخدم إلا القليل، وهم ينتظرون صرفهم، والتصريح بالاستغناء عنهم، وعدم الحاجة إليهم، ولا تستعظم هذا، فلعله سبب إعادة الحال جذعة، عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، وهذا كله ليظهر لك سر قول النبي صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه خلفهم "، قيل: اليهود والنصارى قال: فمن وقد قص علينا القرآن والأخبار من أمرهم ما شاهدناه أكثره أو أكثر منه فينا، سمعت العلامة الآبلي يقول (2) : لولا انقطاع الوحي لنزل فينا أكثر مما نزل فيهم، لأنا أتينا أكثر مما أتوا، يشير
__________
(1) ق: وذيلت على ذلك بخاتمة.
(2) انظر نيل الابتهاج: 246.(5/277)
إلى افتراق هذه الأمة على أكثر مما افترقت عليه بنو إسرائيل، واشتهار بأسهم بينهم إلى يوم القيامة، حتى ضعفوا بذلك عن عدوهم، وتعدد ملوكهم لاتساع أقطارهم واختلاف أنسابهم وعوائدهم، حتى غلبوا بذلك على الخلافة، فنزعت من أيديهم، وساروا في الملك بسير من قبلهم، مع غلبة الهوى واندراس معالم التقوى، لكنا آخر الأمم، أطلعنا الله من غيرنا على أقل مما ستر منا، وهو المرجو أن يتم نعمته علينا، ولا يرفع ستره الجميل عنا. فمن أشد ذلك إتلافاً لغرضنا تحريف الكلم عن مواضعه الصحيحة أن ذلك لم يكن بتبديل اللفظ، إذ لا يمكن ذلك في المشهورات من كتب العلماء المستعملة، فكيف في الكتب الإلهية، وإنما كان ذلك بالتأويل كما قال ابن عباس وغيره، وأنت تبصر ما اشتملت عليه كتب التفسير من الخلاف، وما حملت الآي والأخبار من التأويلات الضعاف، قيل لمالك: لم اختلف الناس في تفسير القرآن فقال: قالوا بآرائهم فاختلفوا؛ أين هذه من قول الصديق " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله عز وجل برأيي " كيف وبعض ذلك قد انحرف عن سبيل العدل إلى بعض الميل، وأقرب ما يحمل عليه جمهور اختلافهم أن يكون بعضهم قد علم بقصد إلى تحقيق نزول الآية من سبب أو حكم أو غيرهما، وآخرون لم يعلموا ذلك على التعيين، فلما طال بحثهم وظنوا عجزهم أرادوا تصوير الآية بما يسكن النفوس إلى فهمها في الجملة، ليخرجوا عن حد الإبهام المطلق، فذكروا ما ذكروه على جهة التمثيل، لا على سبيل القطع بالتعيين، بل منه ما لا يعلم أنه أريد لا عموماً ولا خصوصاً، لكنه يجوز أن يكون المراد، فإن لم يكن إياه فهو قريب من معناه، ومنه ما يعلم أنه مراد لكن بحسب الشركة والخصوصية مع جواز أن يكون هو المراد بحسب الخصوصية، ثم اختلط الأمران. والحق أن تفسير القرآن من أصعب الأمور، فالإقدام عليه جراءة، وقد قال الحسن (1)
__________
(1) ق: قائل.(5/278)
لابن سيرين: تعبر الرؤيا كأنك من آل يعقوب! فقال له: تفسر القرآن كأنك شهدت التنزيل! وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يفسر من القرآن إلا آيات معدودة، وكذلك أصحابه والتابعون بعدهم، وتكلم أهل النقل في صحة التفسير المنسوب لابن عباس إليه إلى غير ذلك، ولا رخصة في تعيين الأسباب والناسخ والمنسوخ إلا بنقل صحيح أو برهان صريح، وإنما الرخصة في تفهيم ما تفهمه العرب بطباعها من لغة وإعراب وبلاغة لبيان إعجاز ونحوها؛ انتهى.
[ترجمة المقري من نيل الابتهاج]
ولنرجع إلى بقية أنباء مولاي الجد رحمه الله، فنقول: قال صاحب نيل الابتهاج بتطريز الديباج ما صورته (1) : محمد بن محمد بن أحمد القرشي التلمساني الشهير بالمقري بفتح الميم، وتشديد القاف المفتوحة كذا ضبطه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في كتابه العلوم الفاخرة وضبطه ابن الأحمر في فهرسته وسيدي أحمد زروق بفتح الميم وسكون القاف الإمام العلامة النظار المحقق القدوة الحجة الجليل الرحلة (2) ، أحد فحول أكابر علماء المذهب المتأخرين الأثبات قاضي الجماعة بفاس، ذكره ابن فرحون في الأصل، يعني الديباج، وأثنى عليه؛ انتهى.
وقال الخطيب ابن مرزوق (3) : كان صاحبنا المقري معلوم القدر، مشهور الذكر بالخير، تبعه بعد موته من حسن الثناء وصالح الدعاء، ما يرجى له النفع به يوم اللقاء، وعوارفه معلومة عند الفقهاء، ومشهورة بين الدهماء؛ انتهى.
__________
(1) انظر نيل الابتهاج: 250.
(2) الرحلة: سقطت من نيل الابتهاج.
(3) انظر هذا النقل في نيل الابتهاج أيضا.(5/279)
وقال أبو العباس الونشريسي في بعض فوائده: ومقرة بفتح الميم بعدها قاف مفتوحة مشددة قرية من قرى بلاد الزاب من أعمال إفريقية، سكنها سلفه، ثم تحولوا إلى تلمسان، وبها ولد الفقيه المذكور، وبها نشأ، وقرأ وأقرأ، إلى أن خرج منها صحبة الركاب المتوكلي العناني أمير المؤمنين فارس عام تسعة وأربعين وسبعمائة إلى مدينة فاس المحروسة، فولاه القضاء، فنهض بأعباءه علماً وعملاً، وحمدت سيرته، ولم تأخذه في الله لومة لائم، إلى أن توفي بها إثر قدومه من بلاد الأندلس في غرض الرسالة لأبي عنان عام تسعة وخمسين وسبعمائة، ثم نقل إلى مسقط رأسه تلمسان.
وقال في موضع آخر: إنه توفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى عام تسعة وخمسين وسبعمائة، بمدينة فاس المحروسة، ثم نقل تلمسان محل ولادته ومقر أسلافه، ودفن بها في البستان الملاصق لقبلي داره الكائنة بباب الصرف من البلد المذكور، وهو الآن على ملك بعض ورثة الشيخ أبي يحيى الشريف؛ انتهى.
ومن أخبار مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه قال (1) : شهدت الوقفة سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وكانت جمعة، وقام الخطيب في سابع ذي الحجة في الناس بالمسجد الحرام، وقال: إن جمعة وقفتكم هذه خاتمة مائة جمعة وقف بها من الجمعة التي وقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع آخر عشر من الهجرة، وشاع ذلك في الناس وذاع وكان علم ذلك مما تواتر عندهم، والله أعلم، وهم يزعمون أن الجمعة تدور على خمس سنين، وهذا مناف لذلك، ولكن كثير منهم ينكر اطراد هذا ويقول: إنها قد تكون على خلاف ذلك، فلا أدري.
__________
(1) انظر نيل الابتهاج: 252.(5/280)
ومنها أنه قال: شهدت شمس الدين بن قيم (1) الجوزية قيم الحنابلة بدمشق، وقد سأله رجل عن قوله عليه الصلاة والسلام " من مات له ثلاثة من الولد كانوا له حجاباً من النار " كيف إن أتى بعد ذلك بكبيرة فقال: موت الولد حجاب، والكبيرة خرق لذلك الحجاب، وإنما يكون الحجاب حجاباً ما لم يخرق فإذا خرق فقد زال عن أن يكون حجاباً، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام " الصوم جنة " ما لم يخرقها، ثم قال: وهذا الرجل أكبر أصحاب تقي الدين ابن تيمية.
ومن أخبار مولاي الجد الدالة على صرامته ما حكاه ابن الأزرق عنه (2) : أنه كان يحضر مجلس السلطان أبي عنان لبث العلم، وكان نقيب الشرفاء (3) بفاس إذا دخل مجلس السلطان يقوم له السلطان وجميع من في المجلس إجلالاً له، إلا الشيخ المقري، فإنه كان لا يقوم في جملتهم، فأحس النقيب من ذلك، وشكاه إلى السلطان، فقال له السلطان: هذا رجل وارد علينا نتركه على حاله إلى أن ينصرف، فدخل النقيب في بعض الأيام على عادته، فقام له السلطان على العادة وأهل المجلس، فنظر إلى المقري، وقال له: أيها الفقيه، ما لك لا تقوم كما يفعل السلطان نصره الله وأهل مجلسه إكراماً لجدي ولشرفي ومن أنت حتى لا تقوم لي فنظر إليه المقري وقال له: أما شرفي فمحقق بالعلم الذي أنا أبثه ولا يرتاب فيه أحد، وأما شرفك فمظنون، ومن لنا بصحته منذ أزيد من سبعمائة سنة، ولو علمنا شرفك قطعاً لأقمنا هذا من هنا، وأشار إلى السلطان أبي عنان، وأجلسناك مجلسه، فسكت؛ انتهى.
__________
(1) ق: مفتي، وتيل الابتهاج: مقيم.
(2) النص في نيل الابتهاج: 254.
(3) نيل الابتهاج: مزوار الشرفاء؛ والمزوار لقب يعني المقدم وهو من البربرية " امزوار " فيقال مزوار الأطباء ومزوار الطلبة ... إلخ. (انظر معجم دوزي) .(5/281)
قال ابن الأزرق: وعلى اعتذاره ذلك بأن الشرف الآن مظنون (1) ، فمن معنى ذلك أيضاً ما يحكى عنه أنه كان يقرأ بين يدي السلطان أبي عنان المذكور صحيح مسلم بحضرة أكابر فقهاء فاس وخاصتهم، فلما وصل إلى أحاديث الأئمة من قريش قال الناس: إن قال الشيخ الأئمة من قريش وأفصح بذلك استوغر قلب السلطان، وإن ورى وقع في محظور، فجعلوا يتوقعون له ذلك، فلما وصل إلى الأحاديث قال بحضرة السلطان: والجمهور أن الأئمة من قريش، ثلاثاً، ويقول بعد كل كلمة: وغيرهم متغلب، ثم نظر إلى السلطان وقال له: لا عليك، فإن القرشي اليوم مظنون، أنت أهل للخلافة، إذ بعض الشروط قد توفرت فيك والحمد لله، فلما انصرف إلى منزله بعث له السلطان بألف دينار؛ انتهى.
قال أبو عبد الله ابن الأزرق: قلت: ويلزم أيضاً من اعتذاره أن قيام السلطان لذي الشرف المحقق بالعلم أولى بالمحافظة (2) على تعظيم حرمات الله، وقد روي عن بعض الأمراء أنه تكبر على ذلك، واستخف بمنزلة من عظم به غيره، فسلبه الله ملكه وملك بنيه من بعده؛ انتهى.
ومن أجوبة مولاي الجد رحمه اله تعالى قوله (3) : سألني السلطان عمن لزمته يمين على نفي العلم فحلف جهلاً على البت، هل يعيد أم لا فأجبته بإعادتها، وقد كان من حضر من الفقهاء أفتوا بأن لا تعاد، لأنه أتى بأكثر مما أمر به على وجه يتضمنه، فقلت له: اليمين على وجه الشك غموس، قال ابن يونس: والغموس: الحلف على تعمد الكذب، أو على غير يقين، ولا شك أن الغموس محرمة منهي عنها، والنهي يدل على الفساد، ومعناه في العقود عدم ترتب أثره؛ فلا أثر لهذا اليمين، ويجب أن تعاد، وقد يكون من هذا اختلافهم فيمن إذنها
__________
(1) نيل الابتهاج: يكون الشرف الآن مظنونا.
(2) ق ص ونيل الابتهاج: في المحافظة.
(3) ق: ومن أنبائه أيضا قوله؛ والحكاية في نيل الابتهاج: 253.(5/282)
السكوت، فتكلمت هل يجتزأ بذلك والإجزاء هنا أقرب، لأنه الأصل، والصمات رخصة لغلبة الحياء، فإن قلت: البت أصل، ونفي العلم إنما يعتبر عند تعذره، قلت: ليس رخصة كالصمات.
ومنها أنه قال (1) : سألني بعض الفقراء عن السبب في سوء بخت المسلمين في ملوكهم، إذ لم يل أمرهم من يسلك بهم الجادة ويحملهم (2) على الواضحة، بل من يغتر في مصلحة دنياه (3) ، غافلاً عن عاقبة أخراه، فلا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يراعي عهداً ولا حرمة، فأجبته بأن ذلك لأن الملك ليس في شريعتنا وذلك أنه كان فيمن كان قبلنا شرعاً، قال الله تعالى ممتناً على بني إسرائيل " وجعلكم ملوكاً " ولم يكن ذلك في هذه الأمة، بل جعل لهم خلافة، قال الله تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض " وقال تعالى " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً " وقال سليمان " رب اغفر لي وهب لي ملكاً " فجعلهم الله تعالى ملوكاً، ولم يجعل في شرعنا إلا الخلفاء، فكان أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يستخلفه نصاً، لكن فهم الناس ذلك فهماً، وأجمعوا على تسميته بذلك، ثم استخلف أبو بكر عمر، فخرج بها عن سبيل الملك الذي يرثه الولد عن الوالد، إلى سبيل الخلافة الذي هو النظر والاختيار، ونص في ذلك على عهده، ثم اتفق أهل الشورى على عثمان، فإخراج عمر لها عن بنيه إلى الشورى دليل على أنها ليست ملكاً، ثم تعين علي بعد ذلك، إذ لم يبق مثله، فبايعه من آثر الحق على الهوى، واصطفى الآخرة على الدنيا، ثم الحسن كذلك، ثم كان معاوية أول من حول الخلافة ملكاً، والخشونة
__________
(1) راجع المصدر السابق.
(2) نيل الابتهاج: سلك ... وحملهم.
(3) نيل الابتهاج: صلاح دنياه.(5/283)
ليناً، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، فجعلها ميراثاُ، فلما خرج بها عن وضعها (1) لم يستقم ملك فيها، ألا ترى أن عمر بي عبد العزيز رضي الله عنه كان خليفة لا ملكاً، لأن سليمان رحمه الله تعالى رغب عن بني أمية إيثار لحق المسلمين ولئلا يتقلدهم حياً وميتاً، وكان يعلم اجتماع الناس عليه فلم يسلك طريق الاستقامة بالناس قط إلا خليفة، وأما الملوك فعلى ما ذكرت إلا ما قل، وغالب أفعاله غير مرضية؛ انتهى.
وفوائد مولاي الجد وتحفه وطرفه ولطائفه ودقائقه يستدعي استقصاؤها مجلدات (2) ، فلنكتف بما قدمناه:
وفي الإشارة ما يغني عن الكلم ... [مؤلفات المقري الجد]
وأما تآليفه فكثيرة: منها كتاب " القواعد " (3) اشتمل على ألف قاعدة ومائتي قاعدة، قال العلامة الونشريسي في حقه: إنه كتاب غزير العلم، كثير الفوائد، لم يسبق إلى مثله، بيد أنه يفتقر إلى عالم فتاح؛ انتهى.
وقد أشار إليه في مأخذ الأربعة، وهو قليل بهذه الديار المشرقية، ولم أر منه بمصر إلا نسخة عند بعض الأصحاب، وذكر أنها من أوقاف رواق المغاربة بالأزهر المعمور، وأما قول لسان الدين في الإحاطة عند تعرضه لذكر تأليف مولاي الجد ما صورته ألف كتاباً يشمل على أزيد من مائة مسألة فقهية، ضمنها كل أصل من الرأي والمباحثة فهو غير القواعد بلا مرية.
__________
(1) نيل الابتهاج: موضعها.
(2) ق: وإن تتبعنا أخبار مولاي الجد وفوائده وأقواله وأفعاله خرجنا بالاستطراد عن المراد ... إلخ.
(3) قارن بما في نيل الابتهاج: 255.(5/284)
ومنها كتاب " الطرف والتحف " (1) غاية في الحسن والظرف، قاله الونشريسي وقد وقفت على بعضه فرأيت العجب العجاب.
ومنها اختصار المحصل ولم يكمله، وشرحه لجمل الخونجي، كذلك (2) ، ومنها كتاب عمل من طب لمن حب وهو بديع في بابه، مشتمل على أنواع: الأول فيه أحاديث حكمية كأحاديث الشهاب وسراج المهتدين لابن العربي، والنوع الثاني منه الكليات الفقهية على جملة أبواب الفقه في غاية الإفادة، والثالث في قواعد وأصول، والرابع في اصطلاحات وألفاظ، قال الونشريسي: وقد أطلعني الفقيه أبو محمد عبد الله بن عبد الخالق على نسخة من هذا الكتاب، فتلطفت في استنساخها، فلم يسمح به؛ انتهى.
قلت: وقد رأيت هذا الكتاب بحضرة فاس عند بعض أولاد ملوك تلمسان وهو فوق ما يوصف، وفيه يقول مولاي الجد رحمه الله تعالى:
هذا كتاب بديع في محاسنه ... ضمنته كل شيء خلته حسنا
فكل ما فيه إن مر اللبيب به ... ولم يشم عبيراً شام منه سنا
فخذه واشدد به كف الضنين وذد، ... حتى تحصله، عن جفنك الوسنا وهذه الأبيات كافية في وصف هذا الكتاب، إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه.
[نقول من كتاب المحاضرات للمقري الجد]
ومنها كتاب المحاضرات وفيه من الفوائد والحكايات والإرشادات كثير، وقد ملكت منه بالمغرب نسختين، فلنذكر منه بعض الفوائد، فنقول: قال رحمه الله تعالى: قيل لصوفي: لم تقول الله الله ولا تقول لا إله إلا الله فقال:
__________
(1) نيل الابتهاج: التحف والطرف.
(2) قال التنبكتي فيه أيضا: لم يتم.(5/285)
نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب، وهذا إن لم يكن في هذه الكلمة لأنها أفضل ما قالته الأنبياء فهو في كثير من التنزيه الذي يطلقه المتكلمون وغيرهم، حتى قال الشاشي عنهم: إنهم يتمندلون بأسماء الله عز وجل، ما عرفه من كيفه، ولا وحده من مثله، ولا عبده من شبهه، المشبه أعشى، والمعطل أعمى، المشبه متلوث بفرث التجسيم والمعطل نجس بدم الجحود، ونصيب المحق لبن خالص وهو التنزيه، انزل من علو التشبيه، ولا تعل قلل أباطيل التعطيل، فالوادي المقدس بين الجبلين.
أبو المعالي (1) : من اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره فهو مشبه، ومن سكن إلى النفي المحض فهو معطل، ومن قطع بموجود واعترف بالعجز عن إداراكه فهو موحد:
جل رب الأعراض والأجسام ... عن صفات الأعراض والأجسام
جل ربي عن كل ما اكتنفته ... لحظات الأفكار والأوهام
برئ الله من هشام وممن ... قال في الله مثل قول هشام الدقاق: المريد صاحب وله، لأن المراد بلا شبه، وقيل: مثله الأعلى {ليس كمثله شيء} .
الجنيد: أشرف كلمة في التوحيد قول الصديق: الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.
القشيري (2) : يعني أن العارف عاجز عن معرفته، والمعرفة موجودة فيه. غيره: ما عرف الله سوى الله، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك:
كل ما ترتقي إليه بوهم ... من جلال وقدرة وسناء
فالذي أبدع البرية أعلى ... منه، سبحان مبدع الأشياء
__________
(1) ق: ومنه، بسقوط لفظة " أبو المعالي ".
(2) موضع هذه اللفظة في ق، قال.(5/286)
سأل (1) المريسي الشافعي عن التوحيد بحضرة الرشيد، فقال: أن لا تتوهمه ولا تتهمه، فأبهت بشر.
الشبلي (2) : من توهم أنه واصل، فليس له حاصل، ومن رأى أنه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، ومن أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل (3) ، ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا نادته هواتف الحقيقة: الذي تطلب أمامك، وما تبرجت ظواهر المكونات إلا نادتك حقائقها: إنما نحن فتنة فلا تكفر:
ما ينتهي نظري منهم إلى رتب ... في الحسن إلا ولاحت فوقها رتب الجريري: ليس العلم التوحيد إلا لسان التوحيد.
الحسن (4) : العجز عن درك الإدراك إدراك:
تبارك الله وارت غيبه حجب ... فليس يعرف إلا الله ما الله دعا (5) نبي إلى الله عز وجل بحقيقة التوحيد، فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد، فعجب من ذلك، فأوحى الله عز وجل إليه: تريد أن تستجيب لك العقول قال: نعم، قال: احجبني عنها، قال: كيف أحجبك وأنا أدعو إليك قال: تكلم في الأسباب، وفي أسباب الأسباب، فدعا الخلق من هذا الطريق، فاستجاب له الجم الغفير.
ومنه (6) : سمه أعرابي اختلاف المتكلمين بمسجد البصرة في الإنسان وانتزاع كل واحد منهم الحجة على رأيه، فخرج وهو يقول:
__________
(1) ق: سئل.
(2) ق: ومنه قيل.
(3) جاهل: مكررة في ق.
(4) ق: ومنه.
(5) ق: دعا الخلق.
(6) ق: ومنه قيل.(5/287)
إن كنت أدري فعلي بدنه ... من كثرة التخليط في من أنه (1) ومن عجز عن أقرب الأشياء نسبة منه، فكيف يقدر على أبعد الأمور حقيقة عنه من عرف نفسه عرف ربه.
ومنه: دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره.
لما احتضر الوليد بن أبان، قال لبنيه: هل تعلمون أحداً هو أعلم بالكلام مني قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم بما عليه أهل الحديث، فإني رأيت الحق معهم، وعن أبي المعالي نحوه.
ومنه: هجر أحمد المحاسبي لما صنف في علم الكلام، فقال: إنما قصدت إلى نصر السنة، فقال: ألست تذكر البدعة وشبهة البدعة قلت: من تحقق كلام فخر الدين الرازي وجده في تقرير الشبه أشد منه في الانفصال عنها، وفي هذا ما لا يخفى.
ومنه: من آمن بالنظر إلى ظاهر الثعبان كفر بالاستماع إلى خوار العجل، ومن شاهد مجاوزة القدرة الإلهية لمنتهى وسع القوة البشرية لم يكترث بوعيد الدنيا ولم يؤثر الهوى على الهدى والتقوى.
ومنه: علي بن الحسين: من عرف الله بالأخبار، دون شواهد الاستبصار والاعتبار، اعتمد على ما تلحقه التهم.
ومنه: قيل لطبيب: بم عرفت ربك قال: بالأهليلج، يجفف الحلق، ويلين البطن. وقيل لأديب: بم عرفت ربك قال: بنحلة في أحد طرفيها عسل، وفي الآخر لسع، والعسل مقلوب اللسع. وسأل الدهرية الشافعي عن دليل الصانع، فقال: ورقة الفرصاد تأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم، والنحل فيكون منها العسل، والظباء فينعقد في نوافجها المسك، والشاء فيكون منها البعر؛ فآمنوا كلهم، وكانوا سبعة عشر.
__________
(1) أنه: لغة في أنا، ومنه قول حاتم: " هذا فزدي أنه " (الخزانة 2: 389) .(5/288)
قيل لإعرابي: بم عرفت ربك قال: البعرة تدل على البعير، والروث يدل على الحمير، وآثار الأقدام تدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وبحار ذات أمواج، أما يدل ذلك على العليم القدير:
قد يستدل بظاهر عن باطن ... حيث الدخان يكون موقد نار قيل لإعرابي: بم عرفت الله (1) قال: بنقد عزائم الصدور وسوق الاختيار إلى حبائل المقدور.
ومنه: الدقاق: لو كان إبليس بالحق عارفاً، ما كان لنفسه بالإضلال والإغواء واصفاً.
ومنه: التوحيد محو آثار البشرية، وتجديد صفات الألوهية. الحق واحد في ذاته لا ينقسم، واحد في صفاته لا يماثل، واحد في أفعاله لا يشارك. لو كان موجوداً عن عدم، ما كان موصوفاً بالقدم. الحياة شرط القدرة، دلت على ذلك الفطرة. لو لم يكن الصانع حياً، لاستحال أن يوجد شيئاً، لو لم يكن باقياً لكان للألوهية منافياً. لو كان الباري جسماً، ما استحق الإلهية اسماً. لو كان الباري جوهراً، لكان للحيز مفتقراً. العرض لا يبقى، والقديم لا يتغير ولا يفنى. لو لم يكن بصفة القدرة موصوفاً، لكان بسمة العجز معروفاً. لو لم يكن عالماً قادراً، لاستحال كونه خالقاً فاطراً. دلت الفطرة والعبرة، أن الحوادث لا تحصل إلا من ذي قدرة. لو لم يكن بالإرادة قاصداً، ما كان العقل بذلك شاهداً. من تنوع إيجاده، دل ذلك على أن الفعل مراده. لو لم يكن بالسمع والبصر موصوفاً، لكان لضديهما مألوفاً. لو جاز سامع لا سمع له، لجاز صانع لا صنع له، لو كان سمعه بأذن، لافتقرت ذاته إلى ركن. من صدرت عنه الشرائع والأحكام، كان موصوفاً بالكلام. ليس في الصفات
__________
(1) ق: ربك.(5/289)
السبع ما لا يتعلق إلا الحياة، ولا ما يؤثر إلا القدرة والإرادة. كما جاز أن يأمر بما لا يريد جاز أن يريد ما لا يحب. لا يسأل عما يفعل. الواحد كاف، وما زاد عليه متكاف. ليس مع الله تعالى موجودات لأن الموجودات كلها كالظل. من نور القدرة له رتبة التبعية، لا رتبة المعية.
إن من أشرك بالل ... هـ جهول بالمعاني
أحول العقل؛ لهذا ... ظن للواحد ثاني قال جعفر بن محمد: لو كان على شيء لكان محمولاً، ولو كان في شيء لكان محصوراً، ولو كان من شيء لكان محدثاً.
قيل لثمامة بن الأشرس: متى كان الله، فقال: ومتى لم يكن فقيل: فلم كفر الكافر فقال: الجواب عليه.
قال خادم أبي عثمان: قال لي مولاي: يا محمد، لو قيل لك أين معبودك ما كنت تجيب قال: أقول بحيث لم يزل، قال: فإن قيل لك فأين كان في الأزل فقال: أقول بحيث هو الآن، فنزع قميصه وأعطانيه.
قيل لصوفي: أين هو فقال: محقك الله! أيطلب مع العين أين
ومنه: سمعت شيخنا يقول: نقصنا صفة كمال له فينا، يعني إذا وجب له كل الكمال وجب لنا كل النقص، وهذا على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وفيه كلام.
ومنه: بلغ أحمد أن أبا ثور قال في الحديث " خلق الله آدم على صورته "، إن الضمير لآدم، فهجره، فأتاه أبو ثور، فقال أحمد: أي صورة كانت لآدم يخلقه عليها كيف تصنع بقوله " خلق الله آدم على صورة الرحمن " فاعتذر إليه، وتاب بين يديه.
ومنه: أتى يهودي المسجد فقال: أيكم وصي محمد صلى الله عليه وسلم فأشاروا إلى الصديق، فقال: إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي(5/290)
نبي، قال: سل، قال: فأخبرني عما ليس لله، وعما ليس عند الله، وعما لا يعلمه الله، فقال: هذه مسائل الزنادقة، وهم بقتله، فقال ابن عباس: ما أنصفتموه، إما أن تجيبوه وإما أن تصرفوه إلى من يجيبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي " اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه "، فقال أبو بكر: قم معه إلى علي، فقال له: أما ما لا يعلمه الله فقولكم في عزير أنه ابن الله، والله عز وجل لا يعلم له ولد، فقال في التنزيل " ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " الآية. وأما ما ليس عند الله فالظلم، وأما ما ليس له فالشريك (1) ، فأسلم اليهودي، فقبل أبو بكر رأس علي، وقال له: يا مفرج الكربات، ووردت (2) مثل هذه المسائل عن الصحابة، فالله تعالى أعلم.
وقال العتابي لأبي قرة النصراني عند المأمون: ما تقول في المسيح قال: من الله، قال: البعض من الكل على سبيل التجزيء، والولد من الوالد على طريق التناسل، والخل من الخمر على وجه الاستحالة، والخلق من الخالق على جهة الصنعة، فهل من معنى خامس قال: لا، ولكن لو قلت بواحد منها ما كنت تقول قال: الباري لا يتجزأ، ولو جاز عليه ولد لجاز له ثان وثالث وهلم جراً، ولو استحال فسد، والرابع مذهبنا، وهو الحق.
ومنه: أول ما تكلم به عيسى في المهد أنه قال " إني عبد الله " وهو حجة على الغالين فيه، يقال لهم: إن صدق فقد كذبتم، وإلا فمن عبدتم، ولمن ادعيتم
قال القاضي ابن الطبيب للقسيس لما وجهه عضد الدولة إلى ملك الروم: لم اتحد اللاهوت بالناسوت فقال: أراد أن ينجي الناس من الهلاك، قال:
__________
(1) ق: فالشرك.
(2) ص: وروي.(5/291)
فهل درى أن يقتل ويصلب أولاً فإن لم يدر لم يجز أن يكون إلهاً ولا ابناً، وإن درى فالحكمة تمنع من التعرض لمثل ما قلتم إنه جرى.
سأل القاضي هذا البطرك عن أهله وولده، فأنكر ذلك النصراني، فقال: تبرئون هذا مما تثبتونه لربكم سوأة لهذا الرأي! فانكسروا.
ابن العربي: سمعت الفقراء ببغداد يقولون: إن عيسى عليه السلام كان إذا خلق من الطين كهيئة الطير طار شيئاً ثم سقط ميتاً لأنه كان يخلق ولا يرزق، ولو رزق لم يبق أحد إلا قال " هو الله " إلا من أوتي هداه.
سأل ابن شاهين الجنيد عن معنى " مع " فقال: مع الأنبياء بالنظر والكلاءة " إنني معكما " ومع العامة بالعلم والإحاطة " إلا وهو معكم " فقال: مثلك يصلح دليلاً على الله.
ومنه: سأل قدري علياً رضي الله عنه عن القدر، فأعرض عنه، فألح عليه، فقال: أخلقك كيف شئت، أو كيف شاء فأمسك، فقال: أترونه يقول كيف شئت إذاً والله أقتله، قال: كيف شاء، قال: أيحييك كيف تشاء أو كيف يشاء قال: كيف يشاء، قال: فيدخلك حيث تشاء أو حيث يشاء قال: حيث يشاء، قال: اذهب فليس لك من الأمر شيء.
أبو سليمان: أدخلهم الجنة قبل أن يطيعوه، وأدخلهم النار قبل أن يعصوه، جل حكم الأزل، أن يضاف إلى العلل، سبق قضاؤه فعله " إني جاعل في الأرض خليفة " وأوقفت مشيئته أمره " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ".
قال الشاذلي: أهبط آدم إلى الأرض قبل أن يخلقه، لأنه قال " في الأرض " ولم يقل في السماء ولا في الجنة.
الأوزاعي: قضى بما نهى، وحال دون ما أمر، واضطر إلى ما حرم:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء(5/292)
قال الأوزاعي لغيلان: مشيئتك مع مشيئة الله عز وجل أو دونها فلم يجب، فقال هشام بن عبد الملك: فلو اختار واحدة، فقال: إن قال معها فقد زعم أنه شريك، وإن قال وحدها فقد تفرد بالربوبية، قال: لله درك أبا عمرو.
من بيان عظمته " رفيع الدرجات " من آثار قدرته " بديع السموات " توقيع أمره " يأمر بالعدل والإحسان " واقع زجره " وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي " تنفيذ حكمه " فعال لما يريد " دستور ملكه " لا يسأل عما يفعل ".
إياس بن معاوية: ما خاصمت أحداً بعقلي كله إلا القدرية، قال لقدري: ما الظلم فقال: أخذ ما ليس لك، قلت: فإن الله له كل شيء.
الواسطي: ادعى فرعون الربوبية على الكشف، وادعت المعتزلة الربوبية على الستر، تقول ما شئت فعلت.
ومنه: ما أقصته السوابق لم تدنه الوسائل، إذا كان القدر حقاً فالحرص باطل، إذا كان الله عز وجل عدلاً في قضاءه فمصيبات الخلق بما كسبت أيديهم:
ما عذر معتزلي موسر منعت ... كفاه معتزلياً معسراً صفدا
أيزعم القدر المحتوم ثبطه ... إن قال ذاك فقد حل الذي عقدا ومنه: دخل محمد بن واسع على بلال بن فروة فقال: ما تقول في القدر قال: تفكر في جيرانك أهل القبور فإن فيهم شغلاً عن القدر.
وكل من أغرق في نعته ... أصبح منسوباً إلى العي المقادير تبطل التقدير، وتنقض التدبير.
قال معتزلي لسني: لو أراد ثبوت أحد على الكفر لم يقل " ليخرجكم من الظلمات إلى النور " فقال السني: لو لم يكن الإيمان من(5/293)
فعله لم يقل {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} .
قال نقفور طاغية النصارى لأبي الحسن الشلباني (1) : أنت تقول أن الخير والشر من الله وذلك لأن النصارى كلهم على مذهب القرية في الاستطاعة، قال: نعم، قال: كيف يعذب عليه هل كان حقاً أن يخلق فقال: لم يضطره إلى ما خلق مضطر.
قيل: نزلت " وما أضلنا إلا المجرمون " في القدرية، لأنهم أضافوا الحول والقوة في الشر إلى البشر فأشركوه في الخلق، أما ترى قوله تعالى: " إن المجرمين في ضلال وسعر " إلى قوله تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر ".
كنت دهراً أقول بالاستطاعه ... وأرى الجبر ضلة وشناعه
ففقدت استطاعتي في هوى ظب ... ي، فسمعاً لمن أنحب وطاعه غيره (2) :
ما لا يكون فلا يكون بحيلة ... أبداً، وما هو كائن سيكون غيره (3) :
تريد النفس أن تعطى مناها ... ويأبى الله إلا ما يشاء شفاء الصدور، في التسليم للمقدور:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب ... فلا رأي للمضطر إلا ارتكابها غيره:
__________
(1) كذا في ق ص، ولعل الصواب: " الشباني " - بضم الشين -.
(2) ص: ومنه.
(3) غيره: سقطت من ق ص.(5/294)
أي يومي من الموت أفر ... يوم لا يقدر أم يوم قدر إذا كان الداء من السماء، بطل الدواء.
قال الحائط للوتد: لم تشقني قال: سل من يدقني.
الناس يلحون الطبيب، وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدور (1) قيل لحكيم: أخرج الهم من قلبك، فقال: ليس بإذني دخل.
نفسي تنازعني فقلت لها قري ... موت يريحك أو صعود المنبر
ما قد قضي سيكون فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر
ولتعلمي أن المقدر كائن ... لا بد منه صبرت أو لم تصبري ومنه: الهارب من المقدور كالمتقلب في كف الطالب. من كان السلطان يطلبه، ضاق عليه مذهبه " وما أنتم بمعجزين " أسلى آية في التنزيل " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم " إلى قوله تعالى " بما آتاكم ".
ومنه: أخل رجل بخدمة صاحب الإسكندرية، فتغيب، ثم ظفر به عرفاؤه، فقادوه فانساب منهم، ورمى بنفسه في بئر، وتحت الإسكندرية أسراب يسير فيها القائم من أول البلد إلى آخره، فلم يزل يمشي حتى وجد بئراً صاعدة، فتعلق بها، فإذا هي في دار السلطان، فأخذه فأدبه، فانظر كيف فر من قودة السلطان مكرهاً، وأتاه برجله طائعاً.
ذهب القضاء بحيلة العقلاء ... ومنه: قال يزيد بن المهلب لموسى بن نصير (2) : أنت أدهى الناس وأعلمهم،
__________
(1) هذا البيت لابن الرومي وقافيته: " الأقدار ".
(2) مر هذا في النفح ج 1، ص: 283.(5/295)
فكيف طرحت نفسك في يد سليمان فقال: إن الهدهد يهتدي للماء في الأرض الفيفاء، وينصب له الصبي الفخ بالدودة أو الحبة فيقع فيه:
ولو جرت الأمور على قياس ... لوقي شرها الفطن اللبيب الواسطي: اختيار ما جرى لك في الأزل، خير من معارضة الوقت.
ابن معاذ: عجبت من ثلاثة: رجل يريد تناول رزقه بتدبيره، ورجل شغله غدوه، وعالم مفتون يعيب على زاهد مغبوط.
ومنه: شكي لبعض الأنبياء امرأة كانت تؤذي أهل زمانها، فأوحى الله إليه: أن فر من قدامها حتى تنقضي أيامها.
ومنه: ابن المعتز: كرم الله عز وجل لا ينقض حكمته، ولذلك لا تقع الإجابة في كل دعوة " ولو اتبع الحق أهواءهم ".
أريد فلا أعطى، وأعطى ولم أرد ... وقصر علمي أن أنال المغيبا (1) ومنه: كان ابن مجاهد ينشد لبعضهم:
أيها المغتدي ليطلب علماً ... كل علم عبد لعلم الكلام
تطلب الفقه كي تصحح حكماً ... ثم أغفلت منزل الأحكام ومنه: قال الأحدب البغدادي للقاضي الباقلاني: هل لله عز وجل أن يكلف الخلق ما لا يطيقونه فقال: إن أردتم بالتكليف القول المجرد فقد وجد، " قل كونوا حجارة " " أنبئوني بأسماء هؤلاء " " ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " وإن أردتم به ما يصح فعله وتركه فالكلام متناقض " وهذا هو الذي نعرفه، لأن التكليف اقتضاء فعل ما فيه مشقة، وما لا يطاق لا يفعل البتة، فقال: سئلت عن كلام مفهوم فطرحته في الاحتمالات، فقال: إني بينت الوجوه المحتملة، فإن اكن معك شيء فهاته،
__________
(1) لبشار: (شرح المختار: 118) .(5/296)
فقال عضد الدولة: قد صدق، وما جمعتكم إلا للفائدة، لا للمهاترة. ثم قال لقاضيه بشر بن حسن المعتزلي: تكلم، فقال: ما لا يطاق على ضربين: أحدهما ما لا يطاق للاشتغال بضده، وهذا سبيل الكافر، لا يطيق الإيمان للاشتغال بالكفر، وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان جائزاً، ولقد أثنى الله عز وجل على من سأله أن لا يكلفه ما لا يطيقه فقال " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " لأن الله له أن يفعل في ملكه ما يريد.
ومنه: خرج عمر بن عبد العزيز في سفر ليلاً، فقال له رجل: انظر إلى القمر ما أحسنه، فنظر فقال: قد علمت أنك أردت نزوله بالدبران، ونحن لا نتطير بذلك ولا نعتقده:
إذا عقد القضاء عليك أمراً ... فليس يحله إلا القضاء
يدبر بالنجوم وليس يدري ... هو رب النجم يفعل ما يشاء [وقال آخر] :
ليس للنجم إلى ض ... ر ولا نفع سبيل
إنما النجم على الأو ... قات والسمت دليل (1) غيره:
من كان يخشى زحلاً ... أو كان يرجو المشتري
فإنني منه وإن ... كان أخي الأدنى بري لما وجه عض الدولة القاضي ابن الطيب إلى ملك الروم قال له الوزير (2) :
__________
(1) ق: الدليل.
(2) أورد القاضي عياض هذا النص في ترجمة الباقلاني في ترتيب المدارك، وهي منقولة في آخر كتاب التمهيد (ط. مصر) ص: 241 - 259 وانظر النص المقصود ص: 250 وما بعدها، والوزير المشار إليه هو أبو القاسم المطهر بن عبد الله.(5/297)
أخذت الطالع لخروجك فسأله القاضي عن ذلك، ففسره له، فقال: السعد والنحس بيد الله، ليس للكواكب فيه تأثير، وإنما وضعت كتب النجوم ليتمعش بها العامة، ولا حقيقة لها، فاستحضر الوزير ابن الصوفي ودعاه إلى مناظرة القاضي، فقال: لا أقوم على المناظرة، وإنما أقول: إذا كان من النجوم كذا كان كذا، وأما التعليل فمن علم المنطق، والذي يتولى المناظرة عليه أبو سليمان المنطقي (1) ، فأحضر وأمر (2) ، فقال هذا القاضي يقول: إذا ركب عشرة أنفس في ذلك المركب الذي في دجلة فالله تعالى قادر على أن يزيد فيهم آخر في ذلك الوقت، فإن قلت له لا يقدر قطعتم لساني، فأي معنى لمناظرتي فقال القاضي للوزير: ليس كلامنا في القدرة، لكن في تأثير الكواكب، فانتقل هذا إلى ما ترى لعجزه، وأنا إن قلت إن الله تعالى قادر على ذلك فلا أقول إنه يخرق العادة الآن، ولا يجوز عندنا ذلك، فهو فرار من الزحف، فقال المنطقي: المناظرة دربة وأنا لا أعرف مناظرة هؤلاء القوم، وهم لا يعرفون مواضعاتنا، فقال الوزير: قد قبلنا اعتذارك، والحق أبلج.
رأس الدين صحة اليقين. من سابق القدر عثر.
وإذا خشيت من الأمور مقدراً ... وفررت منه فنحوه تتوجه قيل: لما وقع الوباء بالكوفة فر ابن أبي ليلى على حمار، فسمع منشداً ينشده:
لم يسبق الله على حمار ... ولا على ذي منسر طيار
أو يأتي الحدف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري (3) فقال: إذا كان الله أمام الساري فلا مهرب، ورجع.
__________
(1) هو محمد بن بهرام السجستاني (حدود 380) صاحب كتاب " صوان الحكمة " وأستاذ التوحيدي، وقد أكثر أبو حيان من ذكر أقواله وأخباره في مؤلفاته.
(2) المدارك: وأمر بمكالمة القاضي.
(3) عيون الأخبار 1: 144 لبصري هرب من الطاعون.(5/298)
ومنه: شكا بعض الصالحين إلى الخليفة ضرر الأتراك، فقال: أنتم تعتقدون أن هذا من قضاء الله وقدره، فكيف أرده فقال: إن صاحب القضاء قال: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " فردهم عنهم.
القدر والطلب كالعدلين على ظهر الدابة كل واحد منهما معين لصاحبه، فالقدر بالطلب، والطلب بالقدر.
قيل لعارف: إن كنت متوكلاً فألق نفسك من هذا الحائط فلن يصيبك إلا ما كتب الله لك، فقال: إنما خلق الله الخلق ليجربه، لا ليجربوه.
الجوهري: كف الله النار عن يد موسى لئلا تقول النار: طبعي، واحترق لسانه لئلا يقول الكريم: مكاني، وقال غيره: لو لم يقل لنار إبراهيم " سلاماً " لهلك من برد النار.
قيل للجنيد: أنطلب الرزق قال: إن علمتم أين هو فاطلبوه، قيل: فنسأل الله قال: إن خشيتم أن ينساكم فذكروه، قيل: فنلزم البيوت قال: التجربة منك شك، قيل: فما الحيلة قال: ترك الحيلة.
يقول: ليكن تصرفك بإذنه، لا بشهوتك، فقد قيل: ترك الطلب يضعف الهمة، ويذل النفس، ويورث سوء الظن.
الطرطوشي: القدر والطلب كأعمى ومقعد في قرية، يحمل الأعمى المقعد، ويدل المقعد الأعمى.
قال رجل لبشر: إني أريد السفر إلى الشام، وليس عندي زاد، فقال: أخرج لما قصدت إليه، فإنه إن لم يعطك ما ليس لك، لم يمنعك ما لك.
الناس في هذا الباب ثلاثة: فرقة عاملت الله عز وجل على مقتدر شمول قدرته للشر والخير، وأعرضوا عن الأسباب، فأدركوا التوكل، وفاتهم الأدب، وهم بعض الصوفية، وقد قيل: اجعل أدبك دقيقاً، وعلمك ملحاً، وهذا(5/299)
إبليس لم (1) تنفعه كثرة علمه لما دفعته قلة أدبه. وفرقة عاملته على ذلك مع الجريان على عوائد مملكته، والتصرف بإذنه على مقتضى حكمته، وهم الأنبياء وخواص العلماء، فأصابوا الأدب، وما أخطأوا التوكل.
والفرقة الثالثة - وهم الجمهور - أقبلوا على الأسباب، ونسوا المسبب، ففاتهم الأمران، فهلكوا.
ومنه: جل الواحد المعروف، قبل الحدود والحروف.
لقد ظهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أكمه لا يعرف القمرا
كما بطنت بما أبديت من حجب ... وكيف يبصر من بالعزة استترا سئل النصيبي عن الرؤية بمجلس عضد الدولة (2) ، فأنكرها محتجاً بأن كل شيء يرى بالعين فهو في مقابلتها، فقال له القاضي ابن الطيب: لا يرى بالعين، قال له الملك: فبماذا يرى قال: بالإدراك الذي يحدثه الله في العين وهو البصر، ولو أدرك المرئي بالعين لوجب أن يدرك بكل عين قائمة، وهذا الأجهر عينه قائمة ولا يرى بها شيئاً.
ومنه: ابن العربي: للصوفية في إطلاق لفظ العشق على الحق تجاوز عظيم، واعتداء كبير، ولولا إطلاقه للمحبة ما أطلقناها، فكيف أن نتعداها
الدقاق: العشق مجاوزة الحد في الحب، ولما كان الحق لا يوصف بالحد لم يوصف بالمحدود، إذ لو جمع محاب الخلق كلهم لشخص واحد لم يبلغ ما يستحقه قدر الحق من الحب.
خمسة أبهمت، فلم تعين (3) لعظم أمرها: الاسم الأعظم، وساعة الجمعة، وليلة القدر، والصلاة الوسطى، والكبائر: لأن اجتنابها يكفر غيرها، يعني على أحد الأقوال في المسألة.
__________
(1) ق ص: لا.
(2) انظر هذا الخبر في أزهار الرياض 3: 82 وترجمة الباقلاني السابقة: 249.
(3) فلم تعين: سقطت من ق.(5/300)
ومنه: قيل في التسعة والتسعين اسماً: إنها تابعة لاسم الله، وهو تمام المائة، فهي عدد درج الجنة، لما في الصحيح من أن درجها مائة، بين كل درجتين مسيرة مائة عام، ولذلك قيل: من أحصاها دخل الجنة، وهذه الأسماء مفضلة على غيرها مما لا يحصى، ألا ترى قوله عليه السلام في الصحيح: بأسمائه الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم
ذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعاً منه، فلم يشر في شيء منها إلى خلقه، وذكر الإنسان في ثمانية عشر موضعاً ثلث ذلك العدد فصرح في جميعها بخلقه، قال ابن عطية: وهذا يدل على أنه غير مخلوق.
أبو علي ابن أبي اللحم: بت ليلة جمعة بمصر في أيام أبي حريش، وكان يقول بخلق القرآن، وأبي خلف المعافري، وكان يقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، أفكر عن أيهما آخذ، فلما نمت أتاني آت فقال لي: قم، فقمت، قال: قل، فقلت: ما أقول فقال:
لا والذي رفع السما ... ء بلا عماد للنظر
فتزينت بالساطعا ... ت اللامعات وبالقمر
والمالئ السبع الطبا ... ق بكل مختلف الصور
ما قال خلق في القرآ ... ن بخلقه إلا كفر
لكن كلام منزل ... من عند خلاق البشر ثم قال: اكتبها، فأخذت كتاباً من كتبي وكتبتها فيه، فلما أصبحت وجدت ذلك بخطي على كتاب من كتبي، فجلست في البيت إلى الزوال ثم خرجت فسألني إنسان عما رأيت البارحة، فقلت: ما أخبرت أحداً، فقال: قد شاعت رؤياك في الناس.
الخواص: انتهيت إلى رجل مصروع، فجعلت أؤذن في أذنه، فناداني الشيطان من جوفه: دعني أقتله، فإنه يقول بخلق القرآن.(5/301)
عمرو بن دينار: أدركت سبعة من الصحابة يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، قلت: قال مالك: يستتاب.
ومنه (1) : كان عضد الدولة يحب العلم والعلماء، فكان مجلسه يحتوي على عدد منهم أكثرهم الفقهاء والمتكلمون، وكان يعقد لهم مجالس للمناظرة، فقال لقاضيه بشر بن الحسن: إن مجلسنا خال من عاقل من أهل الإثبات ينصر مذهبه، فقال: إنما هم عامة يرون الخير وضده، ويعتقدونهما جميعاً، وإنما أراد ذم القوم، ثم أقبل يمدح المعتزلة، فقال عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الأرض من ناصر فانظر، قال: بلغني أن بالبصرة شيخاً يعرف بأبي الحسن الباهلي، وفي رواية أبي بكر ابن مجاهد، وشاباً بابن الباقلاني، فكتب إليهما، فلما وصل الكتاب قال الشيخ: قوم كفرة - لأن الديلم كانوا روافض - لا يحل لنا أن نطأ بساطهم، فقال الشاب: كذا قال ابن كلاب والمحاسبي ومن في عصره: إن المأمون فاسق لا يحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس، وجرى عليه ما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين له ما هم عليه بالحجة، وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد. ويقولون بخلق القرآن ونفي الرؤية، وها أنا خارج إن لم تخرج، قال الشيخ: إن شرح الله صدرك لهذا فاخرج، فرد الله به الكرة.
حفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المنتقى والمرسل أمثال المنزل، ثم انتقي من ذلك صحة وفصاحة ما يبلغ حجم المصحف أو يربي عليه، فهل وجدت فيه ما يشبه أو ينزع إليه أشهد أنه من عند الله، تنزيل من لدنه.
أول إعجاز القرآن الجهل بنوعه من جنس الكلام، فإنه لا يدخل في مضمار الشعر، ولا ينخرط في سلك الخطب، ولا المواعظ والمقامات والكتب، ولا في شيء مما يؤلف التخاطب به، وتعرف فيه طبقات أهل مذهبه، فإن
__________
(1) راجع هذا الخبر في أزهار الرياض 3: 79 وترجمة الباقلاني السابقة: 246 وما بعدها.(5/302)
لم يتبين ما رسمت لك فاعرض كلامك في كل صنف من هذه الأصناف تجد لنفسك مع فحوله حالة القصور أو المماثلة أو الزيادة، ولا تجد لكلامك نسبة إلى القرآن، بل لا تدري ما تقول إن طلب منك البيان، إلا أن تسلب العقل، كمسيلمة وأمثاله ممن ابتلي بالهذيان، وقد تفطن للدلالة كافر غلبت عليه الجهالة، انظر المسيرة.
الزمخشري: ما أعجب شأن الضلال، لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضوا للإلهية بحجر.
سأل القاضي أبا بكر (1) ملك الروم - حين وجهه عضد الدولة إليه - عن انشقاق القمر، كيف لم يره جميع الناس فقال: لأنهم كانوا على أهبة ووعد، قال: فما النسبة التي بينكم وبين القمر حتى لم يره غيركم من الروم وغيرهم قال: النسبة التي بينكم وبين المائدة حتى رأيتموها دون اليهود والمجوس، فدعا القسيس، فأقر للقاضي، فقال له القاضي: أتقول إن الكسوف يراه جميع أهل الأرض أم أهل الإقليم الذي في محاذاته قال: لا يراه إلا من في محاذاته، قال: فما تنكر من لا يرى انشقاق القمر إلا في تلك الناحية ممن تأهب لذلك قال: هذا صحيح، إلا أن الشأن في مثله أن لا ينقل آحاداً، لكن تواتراً، بحيث يصل العلم الضروري به إلينا وإلى غيرنا، وانتفاء ذلك يدل على افتعال الخبر، فقال الملك للقاضي: الجواب، فقال: يلزمه في نزول المائدة ما ألزمنا في انشقاق القمر، فبهت الذي كفر.
قال ملك الروم للقاضي ابن الطيب في هذه الرسالة: ما تقول في المسيح قال: ولا تقولون إنه ابن الله قال: ما اتخذ الله من ولد، قال: العبد يخلق ويحيي ويبرئ قال: ما فعل المسيح ذلك قط، قال: هذا مشهور في الخلق،
__________
(1) انظر المصدرين السابقين.(5/303)
قال: لا، قال: ما قال أحد من أهل المعرفة إن الأنبياء يفعلون المعجزات، لكن الله تعالى يفعلها على أيديهم تصديقاً لهم، قال: إن ذلك في كتابكم، قال: في كتابنا أن كله بإذن الله تعالى، ولو جاز أن يكون ذلك فعل المسيح لجاز أن يقال إن موسى قلب العصا، وأخرج يده بيضاء، وفلق البحر، قال إن الأنبياء من لدن آدم كانوا يتضرعون للمسيح حتى يفعل ما يطلبون، قال: أفي لسان اليهود عظم لا يقولون معه إن المسيح كان يتضرع لموسى، وكذلك أمة كل نبي، لا فرق بين الموضعين في الدعوى.
الجوزي في قوله عليه السلام " يوشك أن ينزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " إنما كان الإمام منا لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه " لا نبي بعدي ".
كان بالبصرة يهودي يقرر المتكلمين على نبوة موسى، فإذا أقروا جحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: نحن على ما اتفقنا عليه، إلى أن نتفق على غيره، فسأل أبا الهذيل عن ذلك فقال: إن كان موسى هذا الذي أخبر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأقر بشرفه وأمر باتباعه فأنا أقر بنبوته، وإن كان غيره فأنا لا أعرفه، فتحير اليهودي، ثم سأله عن التوراة، فقال: إن كانت التي نزلت على موسى المذكور فهي حق، وإلا فهي عندي باطل.
ومنه: قيل للحسن: الملائكة أفضل من الأنبياء فقال: أين أنت من هذه الآية " ولا أقول إني ملك ".
ومنه: وعن عمر وعلي - رضي الله عنهما - أن الحضر لقيهما وعلمهما هذا الدعاء، وذكر فيه خيراً كثيراً لمن قاله في إثر كل صلاة: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ومن لا يتبرم على إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك، وحلاوة مغفرتك.
ومنه: سمع إياس يهودياً يقول: ما أحمق المسلمين! يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، فقال: أوكل ما تأكله تحدثه قال: لا؛ لأن الله تعالى يجعل أكثره غذاء، قال: فما تنكر أن يجعل(5/304)
جميع ما يأكل أهل الجنة غذاء
الرزية كل الرزية، تضييع أمر المرأة الرندية، وذلك لأنه وردت على تلمسان في العشرة الخامسة من المائة الثامنة امرأة من رندة لا تأكل ولا تشرب ولا تبول ولا تتغوط وتحيض، فلما اشتهر هذا من أمرها أنكره الفقيه أبو موسى ابن الإمام، وتلا " كانا يأكلان الطعام " فأخذ الناس يبثون ثقات نسائهم ودهاتهن إليها، فكشفن عنها بكل وجه يمكنهن، فلم يقفن على غير ما ذكر، وسئلت: هل تشتهين الطعام فقالت: هل تشتهون التبن بين يدي الدواب وسئلت: هل يأتيها شيء فأخبرت أنها صامت ذات يوم فأدركها الجوع والعطش، فنامت فأتاها آت في النوم بطعام وشراب، فأكلت وشربت، فلما أفاقت وجدت نفسها قد استغنت، فهي على تلك الحال، تؤتى في المنام بالطعام والشراب إلى الآن، ولقد جعلها السلطان في موضع بقصره وحفظها بالعدول ومن يكشف عما عسى تجيء أمها به إذا أتت أربعين يوماً، فلم بوقف لها على أمر، بيد أني أردت أن يزاد في عدد العدول، ويجمع إليهم الأطباء، ومن يخوض في المعقولات من علماء الملل المسلمين وغيرهم، ويوكل من نساء الفرق من يبالغ في كشف من يدخل إليها، ولا يترك أحد يخلو بها، وبالجملة يبالغ في ذلك، ويستدام رعيها عليه سنة، لاحتمال أن يغلب عليها طبع فتستغني في فصل دون فصل، ثم يكتب هذا في العقود، ويشاع أمره في العالم، وذلك لأنه يهدم حكم الطبيعة الذي هو أضر الأحكام على الشريعة، ويبين كيفية غذاء أهل الجنة، وأن الحيض ليس من فضلات الغذاء، ويبطل التأثير والتولد، ويوجب أن الاقترانات بالعادات، لا باللزوم، وعند الأسباب، لا بها، إلى غير ذلك، إلا أني لما أشرت انقسم من أشرت عليه بتبليغه إلى من لم يفهم ما قلت، ومن لم يرفع به رأساً، لإيثار الدنيا على الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد ذكر أن امرأة أخرى كانت معها على تلك الحالة، وحدثني غير واحد(5/305)
من الثقات ممن أدرك عائشة الجزيرية أنها كانت كذلك، وأن عائشة بنت أبي يحيى اختبرتها أربعين يوماً أيضاَ، وكم من آية أضيعت (1) ، وحجة نسيت. هذا مما لم يعرف مثله قبل المائة الثامنة، وكذلك الوباء العام القريب فروطه، يوشك أن يطول أمره، فينسى ذكره، ويكذب المحدث به إذا انقضى عصره، وكم فيه أيضاً من أدلة، على أصول الملة.
ومنه: قال شيخ صالحي الفقهاء في عصرنا بفاس أبو زرهون عبد العزيز ابن محمد القيرواني رحمه الله تعالى: مات فقير عندنا بالمئذنة (2) ، فوجدوا عنده ربطة من دراهم، فوضعوها عند المؤذن، فلما نزل ليلحده سقطت من جيبه في القبر، ولم يشعر حتى واراه، فكشف عنه، فإذا الدراهم قد لصقت ببدنه درهماً إلى درهم كالنجوم، فحاول قلع واحد منها فقامت معه قطعة من لحمه، وتبعها من ذلك المحل ريح منتنة، قال الشيخ: على ذلك وشاهدته ثم ردوا الترب عليه وانصرفوا.
قال عبد الله بن إدريس لغيلان الممرور: متى تقوم الساعة قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، غير أنه من مات فقد قامت قيامته، قال: فالمصلوب يعذب عذاب القبر قال: إن حقت عليه الكلمة، وما تدري لعل جسده في عذاب لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا، فإن لله لطفاً لا يدرك، وانظر الحديث " فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم ما أسمع من عذاب القبر ".
ومنه: المازري: مسألة التكفير بالمال مشكلة، وقد اضطرب فيها قول مالك وهو إمام الفقهاء، والقاضي أبي بكر وهو إمام المتكلمين.
الغزالي: لا يقطع بتفكير الفلاسفة إلا في ثلاث مسائل: قدم العالم، ونفي العلم بالجزئيات، وإنكار المعاد البدني وتوابعه القطعية.
__________
(1) ق: أضعفت.
(2) ق: عند باب المئذنة؛ ص: عندنا بالبادية.(5/306)
أصل الفلاسفة اعتقاد المحسوسات معقولات، والمعتزلة اعتقاد المشهورات قطعيات، ومن ثم قيل لهم: مخنثة الفلاسفة.
لا يكفي التقليد في عقائد التوحيد، لا فرق بين إنسان ينقاد، وبهيمة تقاد.
ومنه: كان أبو هاشم من أفسق الناس، فجلس ذات يوم يعيب الإرجاء وكان في المجلس مرجئ، فأنشد:
يعيب القول بالإرجاء حتى ... يرى بعض الرجاء من الجرائر
وأعظم من ذوي الإرجاء ذنباً ... وعيدي يصر على الكبائر كان مالك ينشد كثيراً (1) :
وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع ابن عقيل: يشبه أن يكون واضع الإرجاء زنديقاً، فإن صلاح العالم في إثبات الوعيد واعتقاد الجزاء، فلما لم يكن هذا المائن جحد الصانع لمخالفة العقل، أسقط فائدة الإثبات، وهي الخشية والمراقبة، وهدم سياسة الشريعة، فهم شر طائفة على الإسلام.
سئل مالك عن أشر الطوائف، فقال: الروافض.
بينا ابن المعلم شيخ الرافضة في بعض مجالس المناظرة مع أصحابه أقبل ابن الطبيب فقال: جاءكم الشيطان، فسمعه على بعد، فلما جلس إليهم تلا عليهم {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً} (مريم: 83) .
مالك: أهل السنة من لا لقب له: لا خارجي، ولا قدري، ولا رافضي.
البديع (2) :
يقولون لي: ما تحب الوصي ... فقلت: الثرى بفم الكاذب
__________
(1) ق: كثيرا ما ينشد.
(2) ديوان بديع الزمان: 8 (ط. مصر 1903) .(5/307)
أحب النبي وآل النبي ... وأختص آل أبي طالب
وأعطي الصحابة حق الولاء ... وأجري على السنن الواجب
فإن كان نصباً ولاء الجميع ... فإني كما زعموا ناصبي
وإن كان رفضاً ولاء الجميع (1) ... فلا برح الرفض من جانبي
أحب النبي وأصحابه ... فما المرء إلا مع الصاحب
أيرجو الشفاعة من سبهم ... بل المثل السوء للضارب
يوقى المكاره قلب الجبان ... وفي الشبهات يد الحاطب أخذ البيت الخامس من قول الشافعي:
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي ومنه: أبو حنيفة: لقيت عطاء فقال لي: ممن أنت فقلت: من أهل الكوفة، فقال: من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً قلت: نعم، قال: فممن أنت منهم قلت: ممن يؤمن بالقدر، ولا يسب السلف، ولا يكفر بالذنب، قال: عرفت، فالزم.
ومنه: الإرادة تطلق على المحبة، وعلى قصد أحد الجائزين بالتخصيص، وكل واحد من المعنيين يوجد بدون الآخر، أما الأول فكقوله:
تريد النفس أن تعطى مناها ... وهو ظاهر، وأما الثاني فكقصد المتوعد بالإهلاك إلى أمر عبده الذي أمره بأمر (2) لينظر امتثاله، ولدقة الفرق بينهما ضل المعتزلة في أمرهما فقالوا: إن الله عز وجل لا يريد المعاصي، لأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، قال عمار بن ياسر يوم صفين:
__________
(1) الديوان: ولاء الوصي.
(2) ق ص: أمر أن يأمره.(5/308)
صدق الله وهو للصدق أهل ... وتعالى ربي وكان جليلا
رب عجل شهادة لي بقتل ... في الذي قد أحب قتلاً جميلا ومنه: العبدري: قتل الحسين دعا إلى حرب، وأخذ بثأره كذاب ثقيف، ونوه باسمه أعداء ملة جده بنو عبيد ليقتص من قضية بمثلها، فيقرأ الفهم سورة تلك الصورة، ويتهجى اللبيب حروف تلك الحروب، فيعلم أن الكل آلات مستعملات، حسبما اقتضاه العلم القديم.
ومنه (1) : أبو العباس الأبياني: ثلاث لو كتبت على ظفر لوسعهن، وفيهن خير الدنيا والآخرة: اتبع لا تبتدع، اتضع لا ترتفع، اتزع لا تتسع.
ومنه: كانت سكينة بني إسرائيل في التابوت، فغلبوا عليها، وسكينة هذه الأمة في القلوب، فغلبوا بها، استحفظوا كتابهم فحرفوا من أحكامه ووصفه، وحفظ كتابنا فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومنه: في الصحيح: كان أبو ذر يقسم قسماً أن " هذان خصمان اختصموا في ربهم " نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة وعتبة وشيبة والوليد، قلت: ففي الآية شهادة من الله تعالى لعلي بالجنة والشهادة، أما الجنة فبنصها، وأما الشهادة فلأنه وصاحبيه استشهدوا (2) ، وخصمهم قتلوا، فهي رادة على الخوارج قطعاً.
ومنه: جاز أبو بكر ابن نافع بالكرخ أيام الديلم وقوة الرفض، فقالت له امرأة: سيدي أبا بكر، فقال: لبيك يا عائشة، فقال له: متى كان اسمي عائشة فقال أيقتلونني وتخلصين
وفي آخر هذا الكتاب ما صورته: فهذه جملة تراجم، وفيها مقنع لمن أراد المحاضرة، أو تنميق مجالس المناظرة، وكان الفراغ من جمعها في آخر
__________
(1) ق: قال.
(2) ق ص: فلأن صاحبيه استشهدا.(5/309)
يوم من شعبان المكرم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة؛ انتهى ما تعلق به الغرض من بعض كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى في كتابه المحاضرات.
ولنرجع إلى سرد ما بقية تواليفه رحمه الله تعالى فنقول: ومنها " شرح لغة قصائد المغربي الخطيب "، و " مقالة في الطلعة (1) المملكة "، وشرح التسهيل، والنظائر، وكتاب المحرك لدعاوى الشر من أبي عنان، وإقامة المريد، ورحلة المتبتل، وحاشية بديعة جداً على مختصر ابن الحاجب الفقهي، فيها أبحاث وتدقيقات لا توجد في غيرها، وقد وقفت عليها بالمغرب، ومن أشهر كتبه في التصوف كتاب الحقائق والرقائق وهو من الحسن بمكان لا يلحق، وقد شرحه الشيخ الصالح شيخ شيوخ (2) شيوخنا سيدي أحمد زروق رضي الله عنه ونفعنا به.
[نقول من كتاب الحقائق والرقائق للمقري]
وقد سنح لي أن أسرد هنا شيئاً من هذا الكتاب الفذ في بابه فنقول:
قال قيه مولاي الجد رحمه الله تعالى: هذا كتاب شفعت فيه الحقائق بالرقائق، ومزجت المعنى الفائق باللفظ الرائق، فهو زبدة التذكير، وخلاصة المعرفة، وصفوة العلم، ونقاوة العمل، فاحتفظ بما يوحيه إليك فهو الدليل، وعلى الله قصد السبيل.
حقيقة - عمل قوم على السوابق وقوم على اللواحق والصوفي من لا ماضي له ولا مستقبل، فإن كان زجاجياً فبخ بخ.
رقيقة - من لم يجد ألم البعد، لم يجد لذة القرب، فإن اللذة هي التخلص من الألم.
__________
(1) ص: الطلقة.
(2) شيوخ: سقطت من ق.(5/310)
حقيقة - لما انطبعت الصور في مرآة الخيال قال العقل: أنا الملك المكوكب، فقالت الرياضة: الزمني وتعرف قدرك، فإذا العقل عقال.
رقيقة - من ضحك في نوم الغفلة بكى عند الانتباه، فإن الأضغاث أضداد.
حقيقة: أثر الزهد عقل دن سقراط على سراج غوطة أبي نصر، فقيل: فأين اعتبار " أفلا ينظرون " فقال: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون ".
رقيقة: طالب الدنيا يخاف الفوت، وصاحبها يترقب الزوال ولو بالموت، فإذا حمي الوطيس، وحج الرئيس، أنشأ الزاهد بينهما ينشد:
عزيز النفس لا ولد يموت ... ولا أنس يحاذره يفوت حقيقة - العابد طالب رياسة وحرمة، والزاهد صاحب نفاسة وهمة، والمعنى للعارف يعادي في لله تعالى ويوالي، ويرضي الله ولا يبالي.
رقيقة - من سابق سبق ومن رافق ارتفق، ومن لاحق التحق والعجز والكسل مقدمتا الخيبة، و:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... حقيقة - العمل دواء القلب، وإذا كان الدواء لا يصلح إلا إذا كان على حمية البدن، فكذلك العمل لا ينجح إلا بعد صوم النفس، فارق نفسك وتعال.
رقيقة - مثل دواعي الخير والشر في الإنسان كمثل الخلط الفاعل والقوة الدافعة في العليل، تغلب القوة فيسكن الخلط فيجد الراحة، وعن قليل يتحرك فيجد الألم.
حقيقة - العمل على السلامة مسالمة، وعلى الغنيمة تجارة، وعلى الأمر قرض، فيضاعف له أضعافاً كثيرة.
رقيقة - تطهر من أدناس هواك، وتزين بلباس تقواك، وقم لمسجد انقطاعك(5/311)
على قدم شكواك، وأحرم بتوجيه قلبك إلى قبلة نجواك، تجد الحق عندك وليس بسواك.
حقيقة - وجد العارف فجاد بنفسه، فوجد الله عنده، وتواجد المريد فحاكى، ومن لم يبك تباكى.
رقيقة - زك نفسك لقلبك، تزك عند ربك، بعها منه رخيصة، فهي على ثمنها لديه حريصة " إن الله اشترى..... ".
حقيقة - الزوال وقت المناجاة، فطهر قلبك قبله من الحاجات، وإياك والحظ، فذهاب نقطته أسرع من اللحظ.
رقيقة - الزاد لك وهو مكتوب، والزائد عليك وهو مسلوب، فأجمل في طلب المضمون، ولا تلزم نفسك صفقة المغبون.
حقيقة - أمر بالتوكل لتقصر الطرف عليه، وأذن في التسبب لتنصرف منه إليه، فذاك مخبر بحقيقة التفرد وهذا مظهر لحكمة التعبد.
رقيقة - الملك أبو الدنيا، وهو مع ذلك محبوس فيها، تبهم عليه الأبواب، ويستدعي الحراس والحجاب، فإذا خرج حدقت إليه الألحاظ وأحدقت بجهاته الحفاظ، أي حظ حظ من فقد نعمة " فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ".
حقيقة - قال صاحب الزهر الأنيق: علا مات المحبة أربع الإفلاس، والاستئناس، والأنفاس، والوسواس. قلت: الإفلاس التجرد إلا عنه كالخليل، والاستئناس التوحش إلا منه كالكليم، والأنفاس والوسواس صلة الاسم وعائده.
رقيقة - ذكر مذكر بمالقة، فقام الخطيب الشيخ الولي أبو عبد الله الساحلي بهذا البيت:
ليت شعري أفي زمام رضاكم ... كتب اسمي أم في زمام (1) الهوان
__________
(1) ق: ذمام؛ والزمام: الديوان.(5/312)
وكنت يوماً مع السلطان والجند يعرضون عليه، وكان يسقط ويثب، وأنا أتفكر في البيت، حتى خفت أن أفتضح، فقلت: واهماه من هذا الإبهام! ثم كدت أخلد بقبح العمل إلى الأرض فينشلني (1) حسن الظن بالله عز وجل فأنهض:
إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم (2) حقيقة - إذا قابل إبرة القلب مغناطيس الحسن صبا فانجذب، فإذا اتصل عشق فانقطع، فإذا انجد فني فبقي، حاشا الصوفي أن يموت.
رقيقة - افتخر الغراب بإقامة قرآن الفجر، حتى تغسل بول الشيطان من أذنك، فطرب الديك فرحاً بالفوز، وندب العصفور ندماً على الفوت.
حقيقة - الخلوة بيت الاعتبار، وفي بيته يؤتى الحكم، وباب هذا البيت العلم " وائتوا البيوت من أبوابها ".
رقيقة - واقع فقير هناة، ثم دخل خلوته، فبدت له نفسه بوجه مومسة، فقال: ما أنت قالت أم الحياة، فقال: ما أجمل أن تبدل هائك همزة، فقالت: إذن لم تصنع ما شئت، فانتبه لقرع العتاب (3) ، فتاب.
حقيقة - القلب إيوان الملك ويسعني، وعز الملك يأنف عن ذل المزاحمة، أنا أغنى الشركاء عن الشرك.
رقيقة - لما وضع البسطامي أوزار حوبه، فك طابع الصحيفة عن قلبه، فلم يجد بها غير الطفرى، فصاح بنفسه لك البشرى، انزل طيفور عما تريد، ليس في الدار أبو يزيد.
حقيقة - قال شيخنا أبو هادي يوماً لأصحابه: بماذا يرتقي العبد عن مقامه إلى
__________
(1) ص: فينشدني.
(2) ص: بالقادر.
(3) ق: الباب.(5/313)
مقام أعلى منه قالوا: بفضل الله ورحمته، فقال: إنما أسألكم عن السبب الخاص بهذا الأمر، قالوا: ما عند الشيخ قال: يخلق الله له همة فيرتقي بها إلى رتبة أسمى من رتبته.
ومن هذا الكتاب: حقيقة: التفت إلى مواهب الملوك تجدهم إنما يوسعون فيما قد يسترجعون، فأما العلماء وكل من يعطي بحق فإنما يعطون بقصد " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم " واصبر نفسك دونهم فعن قريب تنصرف عنهم.
رقيقة - قلت لقلبي: كيف تجدك فقال: أما من أمارتك ففي عناء الجهاد، وأما من لوامتك فعلى جمر الصبر، قلت: فمتى الراحة قال: إذا اطمأنت النفس، فاضمحل الوهم وغاب الحس.
حقيقة - قطع السوى طهارة المنيب، ولا يقبل الله صلاة بغير طهور، وكتابه النحيب، والمكاتب عبد ما بقي عليه، وبابه الدخول على الحبيب.
نظر رجل إلى امرأة عفيفة فقالت: يا هذا غض بصرك عما ليس لك، تنفتح بصيرتك فترى ما هو لك.
رقيقة - لما حنكت الطينة بتمر (1) الجنة، وغذيت بلبانها، فطرت على محبتها - انظروا إلى حب الأنصار التمر - فلم تطق الفطام عنها.
وتأبى الطباع على الناقل (2) ... فذاك ما تجد من الحنين إلى التلاق، والأنين على الفراق، والشغف بمدح العابر، وذم الغابر، وفي ذلك (3) :
__________
(1) ق ص: بثمر.
(2) شطر بيت لأبي الطيب وصدره: يراد من القلب نسيانكم.
(3) البيت للمعري من قصيدته: " عللاني فإن بيض الأماني ... ".(5/314)
كم أردنا ذاك الزمان بمدح ... فشغلنا بذم هذا الزمان وإن لم تعرف عصراً خالياً، ولا خلاً نائياً، لم يمر عليك مما تشتهيه، أطيب مما أنت فيه (1) :
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل ومنه:
حقيقة - قيل: عرض الكليم بطلب القوت في رحلة الهجرة " إني لما أنزلت إلي من خير فقير " فحمل على كاهل " إن أبي يدعوك " وصرح في سفر التأديب " لو شئت لاتخذت عليه أجراً " فحمل على كاهل " هذا فراق بيني وبينك " قلت: لما تمحض الطلب له اكتفى، فلما تعلق حق الغير به وفى، ولذلك قضى أبا المرأتين الأجلين.
رقيقة - كان قد خرق السفينة إراءة لكرامة " فاقذفيه في اليم " في مرآة {وكان وراءهم ملك} (الكهف: 79) .
وربما صحت الأجسام بالعلل (2) ... وقتل الغلام إشارة إلى اشتمال قتله " فقضى عليه " على رحمة " فنجيناك من الغم " برمز " فخشينا أن يرهقهما " والمحن الصم حبائل المنح، وإقامة الجدار إثارة لفتوة " فسقى لهما " ليخفض له جناح " إني لما أنزلت إلي من خير فقير " فيستظل من حر " لو شئت لاتخذت عليه " في نية " هذا فراق بيني وبينك "
__________
(1) البيت لأبي تمام.
(2) عجز بيت للمتنبي وصدره: " لعل عتبك محمود عواقبه ".(5/315)
حقيقة: قيل لمحمد بن حسن الزبيدي التونسي وأنا عنده بها: كيف لم يصبر الكليم وقد ناط الصبر بالمشيئة " ستجدني إن شاء الله صابراً " وقد جاء في الصحيح في قصة سليمان عليه السلام " لو قال إن شاء الله لكان كما قال " والمقام الموسوي أجل " واصطنعتك لنفسي " وطلابه أفضل ما جميع أعمال البر والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر، فقال: كان موسى على علم من علم الله، وهو علم المعاملة، لا يعلمه الخضر، وكان الخضر على علم من علم الله لا يعلمه موسى، فلم يظن أن ما لم يحط به خبراً يأباه حكم الظاهر، وإلا كيف يلتزم الصبر عليه، وقد أمر بصرف الإنكار إليه " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا " بل لم يعد مثله من ملاقاة المشاق، فيما كان عليه الخضر من اختراق الآفاق، وركوب الطباق، فما عقله بقوله، فقد صدقه بفعله، وما لم يستطع عليه صبراً، فلم يدخل في التزامه اعتقاداً ولا ذكراً.
رقيقة - قال لي عبد الرحمن بن يعقوب المكتب: كان عندنا بالساحل سائح هجيراه: إلهي بسطت لي أملي، وأحصيت علي عملي، وغيبت عني أجلي، ولا أدري إلى أي الدارين يذهب بي، لقد أوقفتني موقف المحزونين ما أبقيتني.
حقيقة - تنازع القلب والنفس الخلق، فقسمها بينهما قاضي العقل، فمن باع منهما حظه فلا شفعة لصاحبه عليه.
ومنه:
حقيقة - الحجب ثلاثة: فحجاب الغيرة منع، وحجاب الحيرة دفع، وحجاب الغفلة قطع " أولئك كالأنعام بل هم أضل "
رقيقة - اللحم أيام التشريق مكروه، وكل لذة عند أرباب الدنيا كاللحم عندك أيام الأضحى، فلا ترينك الغفلة عن سرك زيادة النعمة عندك.
حقيقة - الفقر إلى الله الاستغناء به عما سواه، وهوية الرضى بالله أن لا يخطر بالبال إلاه.(5/316)
ومنه:
حقيقة - التلون مجون، تارة طرباً وطوراً (1) شجون، والتمكن معرفة، وأين الحال من الصفة
رقيقة - قال لي محمد بن عبد الواحد الرباطي: قال لي محمد بن عبد السيد الطرابلسي: دخلت على أبي الحسن الحرالي فقلت له: كيف أصبحت فأنشد:
أصبحت ألطف من مر النسيم سرى ... على الرياض يكاد الوهم يؤلمني
من كل معنى لطيف أحتسي قدحاً ... وكل ناطقة في الكون تطربني حقيقة - قال الطالب: الوقت سيف، وقال الواصل: بل مقت، فتلا العارف {قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} (الأنعام: 91) .
رقيقة - لصاحب الوقت يومان:
يوم بأرواح يباع ويشترى ... وأخوه ليس يسام فيه بدرهم وفصل الفضل (2) بينهما:
وما تفضل الأيام أخرى بذاتها ... ولكن أيام الملاح ملاح ومنه:
حقيقة - قال لي الشيخ أبو عبد الله محمد بن مرزوق العجيسي بعباد تلمسان: قال لي أبو عبد الله ابن حيون: إنه وجد على ظهر كتاب بخط عتيق: قال أبو يزيد البساطي: يظهر في آخر الزمان رجل يسمى شعيباً، لا تدرك له نهاية، قالا: وهو أبو مدين، قلت: وقف بظاهره مع الشريعة، وذهب ببطانه مع الحقيقة، فما انقطع لصحة البداية، ولا رجع لعدم الغاية.
__________
(1) ق: وتارة.
(2) ق: وفصل القضاء.(5/317)
رقيقة - قمت ببعض الأسحار، على قدم الاستغفار، وقد استشعرت الصبابة، واستدثرت الكآبة، فأملى الجنان على اللسان، بما نفث في روعه روح الإحسان:
منكسر القلب بالجنايا ... يدعوك يا مانح العطايا
أقعده الذنب عن رفيق ... حثوا لرضوانك المطايا ومنه، إثر حقيقة في شأن الحلاج ما نصه، ثم قلت:
ولرب داع للجمال أطعته ... وأبى الجلال علي أن أتقدما
فأطعت بالعصيان أمرهما معاً ... وجنحت للتسليم كيما أسلما ومنه:
حقيقة - قلت للسر: ما لك تحس من خلف الموانع فقال: خرق شعاعي سور العوائق، ثم انعكس إلي بصور الحقائق، فأصبحت كما قيل:
كأن مرآة عين الدهر في يده ... يرى بها غائب الأشيا فلم يغب رقيقة - الليل رداء الرهبة، تهاب الجبان فيه الأبطال، وتتقي الحواس دونه الخيال " إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً "
حقيقة - النهار معاش النفس، فهو استعداد " إن لك في النهار سبحاً طويلاً " والليل رياش الأنس، فهو معاد " واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً " فهذا جمع وذلك فرق، والحال أسرع ذهاباً من البرق.
ومنه:
حقيقة - إن أكبرت النفس حالها، فذكرها أصلها ومآلها، فإنها تصغر عند ذلك، وتستقيم بك على أرض المسالك احثوا التراب في وجوه المداحين " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ".(5/318)
رقيقة - إنما يتعاظم من يجد الحقارة من نفسه، ويتوهم المهانة عند أبناء جنسه، فذلك تراه مغمزاً للعيون، مهمزاً للظنون؛ من أسر سريرة حسنة كساه الله رداءها.
رقيقة - رأيت الملوك لا يشمتون، ولا يدعى لهم إلا بما يتعلق بأغراض الدنيا، وأكثر ذلك مما تحيل عقوده العوائد، فعلمت أن الدنيا ضد الآخرة.
حقيقة - من لم يفر خور وذلك الجبن، من خاف أدلج ورجا، من لم يكر تمن وتلك الزمانة " يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً ".
رقيقة - سمعت أبا محمد المجاصي يقول: رويت بالسند الصحيح أن عابداً رابط ببعض الثغور مدة فكان كلما طلع الفجر يسمع من ينشد دون أن يرى شيئاً (1) :
لولا رجال لهم سرد يصومونا ... وآخرون لهم ورد يقومونا
لزلزت أرضكم من تحتكم غضباً ... فإنكم قوم سوء لا تبالونا حقيقة - ما حمد الله حق حمده، إلا من عرفه حق معرفته، وذلك مما لا ينبغي لغيره لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
رقيقة - قلت:
أشيم البرق من بين الثنايا ... وأشتم العبير من الثناء
فأبدو تارة وأغيب أخرى ... مثار الشوق مثني الحياء حقيقة - تحقق الحامد بكمال الذات فغاب عن حسه في بحار العظمة، وتعلق الشاكر بجمال الفعل فوقف مع نفسه بسوق النعمة، فهذا تاجر " لئن شكرتم لأزيدنكم " وذاك ذاكر " وما بكم من ".
ومنه:
حقيقة - الصبر مطية المريد، والرضى سجية المراد، فهذا القوم للأمر، وذاك يسعى للأجر.
__________
(1) قارن بما في التكملة: 842.(5/319)
رقيقة - الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والصبر بغير حساب، والرضى بالرضى، وذلك سدرة المنتهى.
حقيقة - النفس الأمارة آبدة لا تملك إلا بلطائف الحيل، والمطمئنة ذلول لا تنفلت إلا ممن غفل " وأخاف أن يأكله الذئب ".
رقيقة - الدنيا معشوق الطالب، عاشق الهارب، هذا يستخدمها، وذاك يخدمها، يبني الخادم المسجد ليقال، ويعمره المخدوم لينال، فعلى الخادم السعي من غير جدوى:
وليس لرحل حطه الله حامل ... وللمخدوم الجدوى بغير سعي:
وليس لما تبني يد الله هادم ... إن السعادة أصلها التخصيص حقيقة - الجمال رياش، والحسن صورة، والملاحة روح، فذلك ستره عليك، وهذا سره فيك {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} (الحجر: 29) .
رقيقة - أعطي يوسف شطر الحسن، يعني حسن آدم، لأنه إن لم يكن في الإمكان أبدع مما كان فقد خلقه الحق بيده في أحسن تقويم، ثم نفخ فيه من روحه لتتم علة الأمر بسجود التحية والتكريم، فكان كما قال من أنزل عليه الفرقان خلق الله آدم على صورة الرحمن فآدم إذا كمال الحسن، وإلا فهو المراد، لأن الشطر، يقتضي الحصر، والنصف، ينزع عن الوصف، وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم كمال الجمال، فما أبصره أحد إلا هابه، وتمام الملاحة فما عرفه شخص إلا أحبه، مع أنباء نوره في الآباء، بأن أبوة المعنى لسيد نجباء الأبناء، كما قال العارف عمر:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي(5/320)
حقيقة - لا يثنينك الخوف عن قرع الباب فتيأس، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يدنينك الرجاء من الفترة فتأمن، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فإن لم تستطع بعد الحرص أن تعدل، فلا تمل كل الميل مع النفس " إن النفس لأمارة بالسوء ".
رقيقة - ارفع قصتك في رقعة الإقبال على كف الرجاء، خافضاً من طرف الحياء، وصوت الإدلال، عاكفاً في زاوية الانكماش من وراء ستر الخوف، يخرج عليك حاجب القدر من باب الكرم بتوقيع " فاستجبنا له ".
ومنه:
حقيقة - صدق مجاهدة الفاروق أيقظ الوسنان، وطرد الشيطان، وأرضى الرحمن، ففاز بسلامة ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك؛ وحقق مشاهدة الصديق أسمع من ناجى، فحاز غنيمة لو كشف الغطاء ما ازداد يقيناً.
رقيقة - ذهب أبو بكر في السابقين، ولحق عمر بأهل اليقين، فما أدرك الصديق أداء التصلية، حتى استدرك الفاروق قضاء التقفية:
ولو كنت في أهل اليمين منعماً ... بكيت على ما فات من زمن الصبا حقيقة - النص سلاح، والنظر مطية، والاتباع جنة، والورع نجاة، والخلاف فتنة، والبدع مهالك، وخير الأمور أوساطها (1) .
ومنه:
حقيقة - تخير المساعد، واختبر المصاعد، وليكن همك في سفرك منك معرفتك كيف ترجع إليك، فلن يحقق صفة الربوبية، من لم يتحقق نعت العبودية.
__________
(1) ص: أواسطها؛ ق: أوسطها.(5/321)
رقيقة - حدثت أن سيدي أبا الحسن الشاذلي لما أزمع على التحول من طيبة على من بها الصلاة والسلام، أوقف فعله على إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، فرآه في منامه فقال: توحشنا يا علي فأخذ يعتل، فأذن له، وقال: إذا جئت مصر فاقرأ عز الدين بن عبد السلام مني السلام، قال: فلما التقينا بلغته المألكة (1) سراً، فلم تظهر نفسه لذلك، فلما قام المزمزم قال:
صدق المحدث الحديث كما جرى ... وحديث أهل الحب ما لا يفترى فاستغفر الشيخ، ثم كذب نفسه، ثم حط للتسليم رأسه.
حقيقية - الوهم شيطان القلب يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وسائر الجهات لمراقبة " قل هو القادر " فمن ثم كان أشد تقلباً من المرجل على النار، فإذا ذكر الله سكن " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ".
رقيقة - فرق القلب من ذكر الله خوف " وجلت قلوبهم " ثم سكن لذكره ورجاء " وتطمئن قلوبهم " فعاد داء تقشر منه دواء " ثم تلين " فنعق بلائمه:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... ثم هتف بمنادمه:
وداوني بالتي كانت هي الداء ... حقيقة - العبودية صفة نفسك، لأنها حال أحد العبيد، والعبودة صفة قلبك، لأنها ملكة واحد العباد، والعبادة قصد وجهك، لأنها نعت الفردوس من العباد.
__________
(1) المألكة: الرسالة.(5/322)
ومنه:
حقيقة - إنما تزيد في الدنيا بقدر ما تنقص من الآخرة، فإن تشييد الجدار على قدر (1) انتقاص الجبل.
رقيقة - من جر لنفسه جار على قلبه، فلا تجوز شهادته عند ربه، لأن العدل من ترك العدول والميل.
حقيقة - لا تقدمن إلا بدليل وإذن، واحذر ما لا ينفع ما استطعت فقد تم، انظر فلا حرج إن جهلت ما لم تكلف علمه، وأخاف عليك سوء العاقبة الهجوم.
رقيقة - إذا اهتز العرش بالسحر لدعاء أهل " تتجافى جنوبهم " انبعث من نسيمه ما أغشاهم طيبه الراحة " أمنة منه " وأهب المستغفر من نومه لإدراك فضل " رضي الله عنهم ورضوا عنه ".
حقيقة - دع الغريب وما يريب، واركب الجادة، ولا تسلك بنيات الطريق " فترق بكم عن سبيله ".
ومنه:
حقيقة - سفر المريد تجارة، وسفر الأعراف عمارة، فهذا يرحل للإقامة عند الحقيقة، وذاك يطلب الاستقامة على الطريقة.
رقيقة - إياك أيها المصلي لنا، أن تلتفت إلى غيرنا، وأقبل علينا بصدق نيتك، وناجنا بخلوص سريرتك، فقد قمنا بينك وبين قبلتك، وناجيناك بلسان تلاوتك، فإن غبت عنا، فلست منا.
حقيقة - الشطح كناية، والكرامة عناية، والاعتراض جناية، فإياك ولك فإن عرفت فاتبع، وإن جهلت فسلم.
__________
(1) ق: حسب.(5/323)
رقيقة - الليل معاد الأنس " إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً " والنهار معاش النفس " إن لك في النهار سبحاً طويلاً " فهذا نشاط رغبة يتسع في مناكبه المجال، وتعتور على مراكبه الأحوال، وذلك حجاب رهبة تهوي إليه الأوجال، وتجتمع فيه هموم الرجال، ألا ترى كيف تهاب الجبان دونه الأبطال، وتتقي الحواس خلفه الخيال كما قال:
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع حقيقة - حجب الطالب أربعة: فحجاب الغيرة قاذع، قيل لبعضهم: أتحب أن تراه فقال: لا، قيل: ولم قال: أجل ذلك عن نظري مثلي، وحجاب التيه قامع، نزل الفقير على ابن عجوز، فبينما هي تصلح له الطعام غشي على الفتى، فسألها الفقير فقالت له: إنه يهوى ابنة عم له بتلك الخيمة، فخطرت، فاشتم غبار ذيلها، فذهب الفقير ليخطبها عليه، فقالت: إذا لم يطق غبار ذيلي فكيف يستطع أن يشاهدني وحجاب الحيرة دافع، ومن ثم حلا لأرباب الغيبة، قال بعضهم: يا دليل الحائرين، زدني تحيراً، ومر على أصحاب الرغبة والرهبة، كما قال:
قد تحيرت فيك خذ بيدي ... يا دليلاً لمن تحير فيكا وحجاب الغفلة قاطع، كان بعضهم يقول: إن عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب.
ونظر أخر إلى امرأة فوقع عليه سهم فعوره وعليه مكتوب: نظرت بعين العورة فرميناك بسهم الأدب، ولو نظرت بعين الشهوة لرميناك بسهم القطيعة.
رقيقة - حدثت أن ابن الفارض دخل على الشيخ عز الدين وقد ذهب به التفكر فيما له عند الله عز وجل، فكاشفه بأن أنشده من قصيدة له:(5/324)
لك (1) البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج فبدرته البشاشه، وأظن أن قد خلع قماشه.
حقيقة - وقفت ذات يوم بالجبانة، واستفهمت اسمي ها عرف منها مكانه، فأملى بعد هنيئة من نظمه، ما وقفت منه على حقيقة مبلغ علمه:
كل ميت رأته عيني فإني ... ذلك الميت إن نظرت بقلبي
وجميع القبور قبري لولا ... جهل نفسي بما لها عند ربي رقيقة - أهم ما على المسالك مراعاة قلبه، أن يتلف في تقلبه، فذلك فساد حاله، وذهاب رأس ماله، تزوج فقير فلبس ثياب العرس، فطلب قلبه فلم يجده، فصاح: خلقاني، فأعطوه، فأخذها وخرج.
حقيقة - حجب المطلوب ثلاثة: فحجاب التيه جمال، كما قال العارف عمر:
ته دلالاً فأنت أهل لذاكا ... وتحكم فالحسن قد أعطاكا وحجاب العزة جلال:
همت بإتياننا حتى إذا نظرت ... إلى المراة نهاها وجهها الحسن وحجاب الكبرياء كمال، أنشدت لرابعة:
أحبك حبين حب الهوى ... وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فأن ترفع الحجب حتى أراكا
وما الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
__________
(1) ص: ولي.(5/325)
وهذا معناه ما صح في الصحيح وما بين أهل الجنة وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن.
ومنه: حقيقة: الآثار منصة التجلي، فمن لم يزر مهلب " ويتفكرون " زار عمير " يمرون " وبطل رصد الحجاج.
رقيقة: من تفكر تذكر، ومن تذكر تبصر، فإن أكمل وقف، وإن قصر انصرف " إنا هديناه السبيل ".
حقيقة: الوحدة فهم، والتوحيد علم، والاتحاد حكم، والأثينينية وهم.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... ومنه:
حقيقة - أهم ما على السالك مراعاة قلبه، أن يتلف في تقلبه، فإن ذلك فساد حاله، وذهاب رأس ماله، رؤي فقير ينادي في السوق: ارحموا صوفياً ذهب رأس ماله، فقيل له: وهل للصوفي رأس مال فقال: نعم، كان لي قلب ففقدته.
ومنه:
حقيقة (1) - تنازع القلب والنفس الخلق، فترافعا إلى العقل، فقسمه بينهما، فانفردت النفس بالهوى، والقلب بالتقوى، فصرفت طرقهما إلى الجهتين، وقطعت الشفعة فيهما بين الفئتين.
ومنه، عند ختم الكتاب، ما نصه:
حقيقة - لا يودع السر إلا عند أهله، ولا يذيعه إلا من ضاق ذرعاً بحمله،
__________
(1) مر هذا آنفا ص: 316.(5/326)
فإن عدا مودعه الرمز فقد زل، وغن تعدى مذيعه الغمز فقد ضل.
رقيقة - الحسن خلق، والجمال خلق، وحسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن، وحيث هو الجمال هو الجميل.
حقيقة - تحقق العلماء بالتوحيد فاستشعروا " والله خلقكم وما تعملون " لكنهم اعتبروا خلق السبب والابتلاء به، فتصرفوا بدلالة الإذن في مذهبه، فاستقاموا على طريقة الأدب، ولم يفتهم فضل التوكل، ولم تتسع معارف الزهاد لما عرفوا المشبب بكيفية الانصراف إلى السبب منه، لدقة الفرق بينه وبين الانصراف عنه، فوقفوا مع التوكل للعذر، ولم يستعملوا أدب الجريان مع ابتلاء الأمر، وعكف الغافلون على ظاهر السبب، ففاتهم التوكل والأدب " أولئك كالأنعام بل هم أضل ".
رقيقة: الفيت لعبد الحق الإشبيلي بيتاً هو عندي أفضل من قصيدة، وهو:
قد يساق المراد وهو بعيد ... ويريد المريد وهو قريب ومن أراد معرفة قدر هذا البيت فليتل " الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ".
حقيقة: أشرف أسمائك ما أضافك إليه، وأكرم صفاتك ما دل فيك عليه (1) .
لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي
ولا تصفني بالهوى عندها ... فعندها تحقيق أنبائي رقيقة:
أعزز بمن سوداء قلبي مغرب ... لخياله، وسواد عيني مشرق
إن غاب عن سري فعنه لم يغب ... أو عن عياني فهو فيه محقق
__________
(1) مر البيت الأول فيما تقدم المجلد 2: 193.(5/327)
والعين تعجز أن ترى إنسانها ... والقلب بالروح اللطيف مصدق صن عينك عن قلبك لربك، وقلبك عن نفسك لحبك، ونفسك عن طبعك لويلك، وطبعك عن هواك لعدوك، وهواك عمن سواك، وقد كنت من نسل الجنة، وكان بينك وبين البلاء أوقى جنك، لطف الله تعالى بي وبكم في مجاري أحكامه، ويسرنا أجمعين للعمل بموجبات إكرامه، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم لقائه؛ انتهى ما تعلق به الغرض من كتاب الحقائق والرقائق لمولاي الجد الإمام، سقى الله عهده صوب الغمام. وما ذكرته من كلامه غيض من فيض، وقل من كثر، ويكفي من الحلي ما قل وستر العنق.
ولنذكر بعض نظمه رحمه الله تعالى، وقد تقدم بعضه أثناء ما سبق من كلامه رضي الله عنه، فراجعه إن شئت.
[من شعر المقري الجد]
ومن بديع نظمه رحمه الله تعالى ما في الإحاطة ونصه (1) : نقلت من ذلك قوله: هذه لمحة العارض، لتكملة ألفية ابن الفارض، سلب الدهر من فرائدها مائة وسبعة وسبعين، فاستعنت على ردها بحول الله المعين.
من فصل الإقبال:
رفضت السوى وهو الطهارة عندما ... تلفعت في مرط الهوى وهو زينتي
وجئت الحمى وهو المصلى ميمماً ... بوجهة فلبي وجهها وهو قبلتي
وقمت وما استفتحت إلا بذكرها ... وأحرمت إحراماً لغير تحلة
فديني إن لاحت ركوع، وإن دنت ... سجود، وإن لاهت قيام بحسرة (2)
__________
(1) الإحاطة 2: 146.
(2) ص: بكسرة؛ ق: بحرة.(5/328)
على أننا في القرب والبعد واحد ... تؤلفنا بالوصل عين التشتت
وكم من هجير خضت ظمآن طاوياً ... إلهيا وديجور طويت برحلة
وفيها لقيت الموت أحمر والعدا ... بزرقة أسنان الرماح وحدة
وبيني وبين العذل فيها منازل ... تنسيك أيام الفجار ومؤتة
ولما اقتسمنا خطتينا فحامل ... فجار بلا أجر وحامل برة
خلا مسمعي من ذكرها فاستعدته ... فعاد ختام الأمر أصل القضية
وكم لي على حكم الهوى (1) من تجلد ... دليل على أن الهوى من سجيتي
يقول سميري والأسى سالم الأسى ... ولا توضع الأوزار إلا لمحنة
لو أن مجوساً بت موقد نارها ... لما ظل إلا منهلاً ذا شريعة
ولو كنت بحراً لم يكن فيه نضحة ... لعين إذا نار الغرام استحرت
فلا ردم من نقب المعاول آمن ... ولا هدم إلا منك شيد بقوة
فمم تقول الأسطقسات منك أو ... علام مزاج ركبت أو طبيعة
فإن قام لم يثبت له منك قاعد ... وإلا فأنت الدهر صاحب قعدة
فما أنت يا هذا الهوى ماء أو هوا ... أم النار أم دساس عرق الأمومة (2)
وإني على صبري كما أنا واصف ... وحالي أقوى القائمين بحجة
أقل الضنى أن عج من جسمي الضنى ... وما شاكه معشار بعض شكيتي
وأيسر شوقي أنني ما ذكرتها ... ولم أنسها إلا احترقت بلوعة
وأخفى الجوى قرع الصواعق منك في ... جواي (3) وأخفى الوجد صبر المودة
وأسهل ما ألقى من العذل أنني ... أحب أقلي (4) ذكرها وفضيحتي
وأوج حظوظي اليوم منها حضيضها ... بالامس، وسل حر الجفون الغزيرة
__________
(1) ق: القضا.
(2) ق: الأموة.
(3) ق: في جوى نجي.
(4) ق: أقل.(5/329)
وأوجز أمري أن دهري كله ... كما شاءت الحسناء يوم الهزيمة
أروح وما يلقى التأسف راحتي ... وأغدو وما يعدو التفجع خطتي
وكالبيض بيض الدهر والسمر سوده ... مساءتها في طي طيب المسرة
وشأن الهوى ما قد عرفت ولا تسل ... وحسبك أن لم يخبر الحب رؤيتي
سقام بلا برء، ضلال بلا هدى ... أوام بلا ري، دم لا بقيمة
ولا عتب فالأيام ليس لها رضى ... وإن ترض منها الصبر فهو تعنتي
ألا أيها اللوام عني قوضوا ... ركاب ملامي فهو أول محنتي
ولا تعذلوني في البكاء ولا البكى ... وخلوا سبيلي ما استطعتم ولوعتي
فما سلسلت بالدمع عيني إن جنت ... ولكن رأت ذاك الجمال فجنت (1)
تجلى وأرجاء الرجاء حوالك ... ورشدي غاو والعمايات عمت
فلم يستبن حتى كأني كاسف (2) ... وراجعت إبصاري له وبصيرتي ومن فصل الاتصال:
وكم موقف لي في الهوى خضت دونه ... عباب الردى بين الظبى والأسنة
فجاوزت في حدي مجاهدتي له ... مشاهدتي لما سمت بي همتي
وحل جمالي في الجلال، فلا أرى ... سوى صورة التنزيه في كل صورة
وغبت عن الأغيار في تيه حيرتي (3) ... فلم انتبه حتى امتحى اسمي وكنيتي
وكاتبت ناسوتي بأمارة الهوى ... وعدت إلى اللاهوت بالمطمئنة
وعلم يقيني صار عيناً حقيقة ... ولم يبق دوني حاجب غير هيبتي
وبدلت بالتلوين تمكين عزة ... ومن كل أحوالي مقامات رفعة
وقد غبت بعد الفرق والجمع موقفي ... مع المحو والإثبات عند تثبتي
__________
(1) ق: فحنت.
(2) ق: حبي له كل كاشف.
(3) الإحاطة: حالتي.(5/330)
وكم جلت في سم الخياط وضاق بي ... لبسطي وقبضي بسط وجه البسيطة
وما اخترت إلا دن سقراط زاهداً ... وفي ملكوت النفس أكبر عبرة
وفقري مع الصبر اصطفيت على الغنى ... مع الشكر إذ لم يحظ فيه مثوبتي
وأكتم حبي ما كنى عنه أهله ... وأكني إذا هم صرحوا بالخبية
وإني في جنسي ومنه لواحد ... كنوع، ففصل النوع علة حصتي
تسببت في دعوى التوكل ذاهباً ... إلى أن أجدى حيلتي ترك حيلتي
وآخر حرف صار مني أولاً ... مريداً وحرف في مقام العبودة
تعرفت يوم الوقف منزل قومها ... فبت بجمع سد خرق التشتت
فاصبحت أقضي النفس منها منى الهوى ... وأقضي على قلبي برعي الرعية
فبايعتها بالنفس داراً سكنتها ... وبالقلب منه منزلاً فيه حلت
فخلص الاستحقاق نفسي من الهوى ... وأوجب الاسترقاق تسليم شفعتي
فيا تفس لا ترجع تقطع بيننا ... ويا قلب لا تجزع ظفرت بوحدة ومن فصل الإدلال:
تبدت لعيني من جمالك لمحة ... أبادت فؤادي من سناها بلفحة
ومرت بسمعي من حديثك ملحة ... تبدت لها فيك القران وقرت
ملامي بن، عذري استبن، وجدي استعن ... سماعي أعن، حالي أبن، قائلي اصمت
فمن شاهدي سخط، ومن قائلي رضا ... وتلوين أحوالي وتمكين رتبتي
مرامي إشارات، مراعي تفكر ... مراقي نهايات، مراسي تثبت
وفي موقفي والدار أقوت رسومها ... تقرب أشواقي تبعد (1) حسرتي
معاني أمارات، مغاني تذكر ... مباني بدايات، مثاني تلفت
وبث غرام، والحبيب بحضرة ... ورد سلام (2) ، والرقيب بغفلة
__________
(1) ق: وتبعد.
(2) ق: غرامي ... سلامي.(5/331)
ومطلع بدر في قضيب على نقاً ... فويق محل عاطل دون دجية
ومكمن سحر بابلي له بما ... حوت أضلعي فعل القنا السمهرية
ومنبت مسك من شقيق ابن منذر ... على سوسن غض بجنة وجنة
ووصف اللآلي في اليواقيت كلما ... تعل بصرف الراح في كل سحرة
سل السلسبيل العذب عن طعم ريقه ... ونكهته يخبرك عن علم خبرة
ورمان كافور علته طوابع ... من الند لم تحمل به بنت مزنة
ولطف هواء بين حقف وبانة ... ورقة ماء في قوارير فضة
لقد عز عنك الصبر حتى كأنه ... سراقة لحظ منك للمتلفت
وأنت وإن لم تبق مني صبابة ... منى النفس لم تقصد سواك بوجهة
وكل فصيح منك يسري لمسمعي ... وكل مليح منك يبدو (1) لمقلتي
تهون علي النفس فيك، وإنها ... لتكرم أن تغشى سواك بنظرة
فإن تنظريني بالرضى تشف علتي ... وإن تظفريني باللقا تطف غلتي
وإن تذكريني والحياة بقيدها (2) ... عدلت لأمتي منيتي بمنيتي
وإن تذكريني بعدما أسكن الثرى ... تجلت دجاه عند ذاك وولت
صليني وإلا جددي الوعد تدركي ... صبابة نفس أيقنت بتفلت (3)
فما أم بو هالك بتنوفة ... أقيم لها خلف الحلاب فدرت
فلما رأته لا ينازع خلفها ... إذا هي لم ترسل عليه وضنت
بكت كلما راحت عليه وإنها ... إذا ذكرته آخر الليل حنت
بأكثر مني لوعة غير أنني ... رأيت وقار الصبر أحسن حلية
فرحت كما أغدو إذا ما ذكرتها ... أطامن أحشائي على ما أجنت
__________
(1) ص ق: يبدي.
(2) ص ق: تعيدها.
(3) ق: بتعلة.(5/332)
أهون ما ألقاه إلا من القلى ... هوى ونوى نيل الرضى منك بغيتي
أخوض الصلا، أطفي العلا والعلو لا ... أصل السلا، أرعى الخلا بين عبرتي
ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... لقد أصلت الأحشاء نيران لوعة (1)
وقاتل مغناها وموقف شجوها ... على الغصن ماذا هيجت حين غنت
فغنت غناء أعجمياً فهيجت ... غرامي من ذكرى عهود تولت
فأرسلت الأجفان سحباً وأوقدت ... جواي الذي كانت ضلوعي أكنت
نظرت بصحراء البريقين نظرة ... وصلت بها قلبي فصل (2) وصلت
فيا لهما قلباً شجياً ونظرة ... حجازية لو جن طرف لجنت
وواعجباً للقلب كيف اعترافه ... وكيف بدت أسراره خلف سترة
وللعين لما سوئلت كيف أخبرت ... وللنفس لما وطنت كيف ذلت
وكنا سلكنا في صعود من الهوى ... يسامي بأعلام العلا كل رتبة (3)
إلى مستوى ما فوقه فيه مستوى ... فلما توافينا ثبت وزلت
وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... على نحر قربان لدى فبر شيبة
مؤكدة بالنذر أيام عهده ... فلما تواثقنا شددت وحلت ومن فصل الاحتفال:
أزور اعتماراً أرضها بتنسك ... وأقصد حجاً بيتها بتحلة
وفي نشأتي الأخرى ظهرت بما علت ... له نشأتي الأولى على كل فطرة
ولولا خفاء الرمز من لا ولن ولم ... تجدها لشملي مسلكاً بتشتت
ولو لم يجدد عهدنا عقد خلة ... قضيت ولم يقض المنى صدق توبة
__________
(1) ما وضعته بين قوسين صغيرين هو تضمين من قصائد تائية مختلفة بعضها لأعراب وبعضها من تائية كثير عزة.
(2) ق ص: فضل.
(3) ق ص: زينة.(5/333)
بعثت إلى قلبي بشيراً بما رأت ... على قدم عيناي منه فكفت
فلم يعد أن شام البشارة شام ما ... جفا الشام من نور الصفات الكريمة
فيا لك من نور لو أن التفاتة ... تعارض منه بالنفوس النفيسة
تحدث أنفاس الصبا أن طيها ... بما حملته من حراقة حرقة
وتنبئ آصال الربيع عن الربى ... وأشجاره أن قد تجلت فجلت
وتخبر أصوات البلابل أنها ... تغنت بترجيعي على كل أيكة
فهذا جمالي منك في بعد حسرتي ... فكيف به إن قربتني بخلة
تبدى وما زال الحجاب ولا دنا ... وغاب ولم يفقده شاهد حضرتي
له كل غير في تجليه مظهر ... ولا غير إلى ما محت كف غيرة
تجلي دليل، واحتجاب تنزه ... وإثبات عرفان، ومحو تثبت
فما شئت من شيء وآليت أنه ... هو الشيء لم تحمد فجار أليتي
وفي كل خلق منه كل عجيبة ... وفي كل خلق منه كل لطيفة
وفي كل خاف منه مكمن حكمة ... وفي كل باد منه مظهر جلوة
أراه بقلب القلب واللغز كامناً ... وفي الزجر والفال الصحيح الأدلة
وفي طي أوفاق الحساب وسر ما ... يتم من الأعداد فابدأ بستة
وفي نفثات السحر في العقد التي ... تطوع لها كل الطباع الأبية
يصور شكلاً مثل شكل ويعتلي ... عليه بأوهام النفوس الخبيثة
وفي كل تصحيف وعضو بذاته ... اختلاج، وفي التقويم مجلى لرؤية
وفي خضرة الكمون تزجي شرابه ... مواعيد عرقوب على إثر صفرة
وفي شجر قد خوفت قطع أصلها ... فبان بها حمل لأقرب مدة (1)
وفي النخل في تلقيحه واعتبر بما ... أتى فيه عن خير البرية واسكت
__________
(1) سقط البيت من ق.(5/334)
وفي الطابع السبي والأحرف (1) التي ... يبين منها النظم كل خفية
وفي صنعة الطلسم والكيمياء (2) وال ... كنوز وتغوير المياه المعينة
وفي حرز أقسام المؤدب محرز ... وحزب أصيل الشاذلي وبكرة
وفي سيمياء الحاتمي ومذهب اب ... ن سبعين إذ يعزى إلى شر بدعة
وفي الملل (3) الأولى وفي النحل الألى ... بها أوهموا لما تساموا بسنة
وفي كل ما في الكون من عجب وما ... حوى الكون إلا ناطقاً بعجيبة
فلا سر إلا وهو فيه سريرة ... ولا جهر إلا وهو فيه كحيلة
سل الذكر عن إنصاف أصناف ما انبنى (4) ... عليه الكلام من حروف سليمة
وعن وضعها في بعضها وبلوغ ما ... أتت فيه أمضى عدها وتثبت
فلا بد من رمز الكنوز لذي الحجى ... ولا ظلم إلا ظلم صاحب حكمة
ولولا سلام ساق للأمن خيفتي ... لعاجل مس البرد خوفي لميتي
ولو لم تداركني ولكن بعطفها ... درجت رجائي أن نعتني خيبتي
ولو لم تؤانسني عنا قبل لم ولم ... قضى العتب مني بغية بعد وحشي
ونعم أقامت أمر ملكي بشكرها ... كما هونت بالصبر كل بلية ومن فصل الاعتقال:
سرت بفؤادي إذ سرت فيه نظرتي ... وسارت ولم تثن العنان بعطفة
وذلك لما أطلع الشمس في الدجى ... محيا ابنة الحيين في خير ليلة
يمانية لو أنجدت حين أنجدت ... لما أبصرت عيناك حياً كميت
__________
(1) الإحاطة: في الأحرف.
(2) ق: والكيميا وفي.
(3) الإحاطة: المثل.
(4) الإحاطة: ابتنى.(5/335)
لأصحمة في نصحها قدم بنى ... لكل نجاشي بها حصن ذمة
ألمت فحطت رحلها ثم لم يكن ... سوى وقفة التوديع حتى استقلت
فلو سمحت لي بالتفات وحل من ... مهاوي الهوى والهون جد تفلتي
ولكنها همت بنا فتذكرت ... قضاء قضاة الحسن قدماً فصدت
أجلت خيالاً إنني لا أجله ... ولم أنتسب منه لغير تعلة
على أنني كلي وبعضي حقيقة ... وباطل أوصافي وحق حقيقي
وجنسي وفصلي والعوارض كلها ... ونوعي وشخصي والهواء وصورتي
وجسمي ونفسي والحشا وغرامه ... وعقلي وروحانيتي القدسية
وفي كل لفظ عنه ميل لمسمعي ... وفي كل معنى منه معنى للوعتي
ودهري به عيد ليوم عروبة ... وأمري أمري والورى تحت قبضتي
ووقتي سهود في فناء شهدته ... ولا وقت لي إلا مشاهد غيبة
أراه معي حساً ووهماً وإنه ... مناط الثريا من مدارك رؤيتي
وأسمعه من غير نطق كأنه ... يلقن سمعي ما توسوس مهجتي
ملأت بأنوار المحبة باطن ... كأنك نور في سرار سريرتي
وجليت بالإجلال أرجاء ظاهري ... كأنك في أفقي كواكب زينة
فأنت الذي أعفيه عند تستري ... وأنت الذي أبديه في حين شهرتي
فته أحتمل، واقطع وأصل، واعل أستفل ... ومر أمتثل، واملل أمل، وارم أثبت
فقلبي إن عاتبته فيك لم أجد ... لعتبي فيه الدهر موقع نكتة
ونفسي تنبو عن سواك نفاسة ... فلا تنتمي إليك إلا بمنة
تعلقت الآمال منك بفوق ما ... أرى دونه ما لا ينال بحيلة
وحامت حواليها وما وافقت (1) حمى ... سحائب يأس أمطرت ماء عبرتي
فلو فاتني منك الرضى ولحقتني ... بعفو بكيت الدهر فوت فضيلة
__________
(1) ق: وقعت؛ ص: واقعت.(5/336)
ولو كنت في أهل اليمين منعماً ... بكيت على ما كان من أسبقية
وكم من مقام قمت عنك مسائلاً ... أرى كل حي كل حي وميت
أتيت بفاراب أبا نصرها فلم ... أجد عنده علماً يبرد غلتي
ولم يدر ما قولي ابن سينا سائلاً ... فقل كيف أرجو عنده برء علتي
فهل في ابن رشد بعد هذين مرتجى ... وفي ابن طفيل لاحتثاث مطيتي
لقد ضاع لولا أن تداركني حمى ... من الله سعي بينهم طول مدتي
فقيض لي نهجاً إلى الحق سالكاً ... وأيقظني من نوم جهلي وغفلتي
فحصنت أنظار الجنيد جنيدها ... بترك فلي من رغبة ريح رهبة
وكسرت عن رجل ابن أدهم أدهماً ... وأنقذته من أسر حب الأسرة
وعدت على حلاج سكري بصلبه ... وألقيت بلعام التافتي بهوة
فقولي مشكور، ورأيي ناجح ... وفعلي محمود، بكل محلة
رضيت بعرفاني فأعليت للعلا ... وأجلسني بعد الرضى فيه جلتي
فعشت ولا ضيراً أخاف ولا قلى ... وصرت حبيباً في ديار أحبتي
فها أنا ذا أمسي وأصبح بينهم ... مبلغ نفسي منهم ما تمنت ومن نظمه أيضاً ما حكى عنه في الإحاطة إذ قال: وأنشدني قوله في حال قبض، وقيدتها عنه (1) :
إليك بسطت الكف أستنزل الفضلا ... ومنك قبضت الطرف أستشعر الذلا
وها أنا ذا قد قمت يقدمني الرجا ... ويحجم بي الخوف الذي خامر العقلا
أقدم رجلاً إن يضيء برق مطمع ... وتظلم أرجائي فلا أنقل الرجلا
ولي عثرات لست آمل إن هوت ... بنفسي أن لا أستقبل وأن أصلى
فإن تدركني رحمة أنتعش بها ... وإن تكن الأخرى فأولى بي الأولى
__________
(1) الإحاطة 2: 155.(5/337)
ومن نظمه رحمه الله تعالى (1) :
وجد تسعره الضلو ... ع وما تبرده المدامع
هم تحركه الصبا ... بة والمهابة لا تطاوع
أمل إذا وصل الرجا ... أسبابه فالموت قاطع
بالله يا هذا الهوى ... ما أنت بالعشاق صانع وقال رحمه الله تعالى كما في " الإحاطة ": ومما كتبت به لمن بلغني عنه بعض الشيء (2) :
نحن، إن تسأل بناس، معشر ... أهل ماء فجرته الهمم
عرب من بيضهم أرزاقهم ... ومن السمر الطوال الخيم
عرضت أحسابهم أرواحهم ... دون نيل العرض وهي الكرم
أورثونا المجد حتى إننا ... نرتضي الموت ولا نزدحم
ما لنا في الناس من ذنب سوى ... أننا نلوي إذا ما اقتحموا وقال: مما قلته مذيلاً به قول القاضي أبي بكر ابن العربي:
أما والمسجد الأقصى ... وما يتلى به نصا
لقد رقصت بنات الشو ... ق بين جوانحي رقصا قولي:
فأقلع بي إليه هوى ... جناحاً عزمه قصا
أقل القلب واستدعى ... على الجثمان فاستعصى
فقمت أجول بينهما ... فلا أدنى ولا أقصى
__________
(1) ص: قال: ومما قلته من الشعر، وانظر الإحاطة: 155.
(2) انظر هذه القطعة وما يليها في الإحاطة 2: 155 - 156.(5/338)
قال رحمه الله تعالى: ومما قلته في التورية بشأن راوي المدونة:
لا تعجبن لظبي قد دها أسداً ... فقد دها أسداً من قبل سحنون ومن نظم مولاي الجد مما لم يذكره في الإحاطة قوله حسبما ألفي بخطه على ظهر نسخة من تأليفه القواعد:
ناديت والقلب بالأشواق محترق ... والنفس من حيرة الإبعاد في دهش
يا معطشي من وصال كنت آمله ... هل فيك لي فرج إن صحت واعطشي ومن نظمه ما أسنده الونشريسي إليه:
خالف هواك وكن لعقلك طائعاً ... تجد الحقيقة عند طرف الناظر ومنه مما نسبه له المذكور، ورأيت من ينسبهما (1) لغيره:
لما رأيناك بعد الشيب يا رجل ... لا تستقيم وأمر النفس تمتثل
زدنا يقيناً بما كنا نصدقه ... بعد المشيب يشب الحرص والأمل وفي الإحاطة في ترجمة شعره ما صورته قال: ومما قلته من الشعر، وبه نختم الكلام (2) :
أنبت عوداً لنعماء بدأت بها ... فضلاً وألبستها بعد اللحا الورقا
فظل مستشعراً مستدثراً أرجاً ... ريان ذا بهجة يستوقف الحدقا
فلا تشنه بمكروه الجنى فلكم ... عودته من جميل من لدن خلقا
وانف القذى عنه واثر الدهر منبته ... وغذه برجاء واسقه غدقا
واحفظه من حادثات الدهر أجمعها ... ما جاء منها على ضوء وما طرقا
__________
(1) ق: نسبهما.
(2) الإحاطة 2: 156.(5/339)
انتهى ما قصدته من ترجمة مولاي الجد على ما اقتضاه الوقت، ولو أرسلت عنان القلم في شأنه لضاق هذا الديوان عن ذلك، ويرحم الله شيخ شيوخ شيوخنا عالم المغرب سيدي أبا العباس الونشريسي ثم التلمساني نزيل فاس صاحب المعيار وغيره إذ قال في تأليفه الذي عرف فيه بمولاي الجد لما سأله بعضهم في ذلك، وذكر ما حضره، ما نصه: ولقد استوفى شيخ شيوخنا المحقق النظار أبو عبد الله ابن مرزوق الحفيد ترجمة المقري في كتاب سماه النور البدري في التعريف بالفقيه المقري وقد تقدمت الإشارة إلى أن اسم هذا التأليف مبني على أن المقري بفتح الميم وسكون القاف، وقد علمت ما في ذلك مما مضى.
قلت: وقد ملكت بفاس مجلداً ضخماً بخط مؤلفه، وهو أحد علماء مدينة فاس، ألفه برسم مولاي الجد، والثناء عليه، والتنويه بقدره، وذكر محاسنه، ولم يحضرني الآن لكوني تركته مع جملة كتبي بالمغرب، وقد تعلق بحفظي ما قاله في أوله من جملة أبيات:
إذا ذكرت مفاخر أهل فاس ... ذكرنا من أتى من تلمسان
وقلنا هل رأيتم في قضاة ... شبيهاً للفقيه العدل ثاني إلى أن قال:
ونفس العلم إن شانت لشخص ... ما للمقري في العلم شاني [تلامذة المقري الجد]
وقد أخذ عنه رحمه الله تعالى جماعة أعلام مشهورون، منهم لسان الدين ابن الخطيب ذو الوزارتين، والوزير أبو عبد الله ابن زمرك، والأستاذ العلامة أبو عبد الله القيجاطي الآية في علم القراءات، والشيخ الفقيه القاضي الرحال(5/340)
الحاج أبو عبد الله محمد بن سعيد بن عثمان بن سعيد الصنهاجي الزموري الدار المعروف بنقشابو، والولي ابن خلدون صاحب التاريخ، وفي بعض المواضع يعبر عنه بصاحبنا، وفي بعضها بشيخنا، والنظار أبو إسحاق الشاطبي، والعلامة أبو محمد عبد الله ابن جزي، والحافظ ابن علاق، وغيرهم ممن يطول تعداده، ولا كالشيخ الشهير الكبير العارف بالله سيدي محمد بن عباد الرندي (1) شارح حكم ابن عطاء الله فإنه ممن يفتخر مولاي الجد رحمه الله تعالى بكون مثله تلميذاً له، ولا بأس أن نورد ترجمته تبركاً به في هذا الكتاب، واو لم تقتضه المناسبة التي راعيناها في هذا التأليف، فكيف وقد اقتضته فنقول:
[ترجمة تلميذه ابن عباد الرندي]
قال في حقه صاحبه الشيخ أبو زكريا السراج، ما صورته: شيخنا الفقيه الخطيب البليغ الخاشع الخاشي، الإمام العالم المنصف السالك العارف المحقق الرباني ذو العلوم الباهرة، والمحاسن المتظاهرة، سليل الخطباء، ونتيجة العلماء، أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الفقيه الواعظ الخطيب البليغ العلم الحظي الوجيه الحسيب الأصيل أبي إسحاق إبراهيم بن أبي بكر بن عباد، كان حسن السمت، طويل الصمت، كثير الوقار والحياء، جميل اللقاء، حسن الخلق والخلق، عالي الهمة متواضعاً، معظماً عند الخاصة والعامة، نشأ ببلده رندة على أكمل طهارة، وعفاف وصيانة، وحفظ القرآن ابن سبع سنين، ثم تشاغل بعد بطلب العوم النحوية والأدبية والأصولية والفروعية، حتى رأس فيها وفهم معانيها، ثم أخذ في طريق الصوفية والمباحثة على الأسرار الإلهية حتى أشير إليه، وتكلم في علوم الأحوال والمقامات والعلل والآفات وألف فيه تواليف عجيبة وتصانيف
__________
(1) ترجمة ابن عباد الرندي في نيل الابتهاج: 287 نقلا عن فهرسة السراج وابن الخطيب القسمطيني مؤلف أنس الفقير (وترجمة ابن عباد فيه ص: 79) .(5/341)
بديعة غريبة (1) ، وله أجوبة كثيرة في مسائل العلوم نحو مجلدين، ودرس كتباً وحفظها أو جلها كشهاب القضاعي والرسالة ومختصري ابن الحاجب وتسهيل ابن مالك ومقامات الحريري وفصيح ثعلب وغيرها، وقوت القلوب؛ أخذ ببلده رندة عن أبيه القرآن وغيره، وعن خاله الشيخ الفقيه القاضي عبد الله الفريسي العربية وغيرها، وعن الشيخ الفقيه الخطيب أبي الحسن علي بن أبي الحسن الرندي حرف نافع، وعرض عليه الرسالة، وبتلمسان وفاس عن السيد الشريف الإمام العالم العلامة المحقق أبي عبد الله التلمساني الحسني جمل الخونجي تفهماً وغيره، وعن الشيخ الفقيه القاضي العالم أبي عبد المقري كثيراً من المختصر الفرعي لابن الحاجب وفصيح ثعلب وبعض صحيح مسلم كلها تفقهاً، وعن الشيخ الفقيه العالم أبي محمد عبد النور العمراني الموطأ والعربية، وعن الإمام العالم أبي عبد الله الآبلي الإرشاد لأبي المعالي وجميع كتاب ابن الحاجب الأصلي وعقيدة ابن الحاجب تفقهاً، وعن الشيخ الفقيه الحافظ أبي الحسن الصرصري بعض التهذيب تفقهاً، وعن الشيخ الأستاذ المقرىء الصالح أحمد بن عبد الرحمن المجاصي شهر بالمكناسي كثيراً من جمل الزجاج وتسهيل ابن مالك، وعن الشيخ الفقيه الصالح أبي مهدي عيسى المصمودي جميع كتاب ابن الحاجب والحاجبية له أيضاً تفقهاً، وتفقه على الفقيه العالم أبي محمد الوانغيلي في كتاب ابن الحاجب الفقهي وأخذ حرف نافع، وعن الشيخ الفقيه الصالح المدرس بالحلفاويين أبي محمد عبد الله الفشتالي كثيراً من التهذيب، وعن قاضي الجماعة وخطيب الحضرة أبي عبد الله محمد بن أحمد الفشتالي كثيراً من التهذيب تفقهاً، وكذا من غيرهم، ولقي بسلا الشيخ الحاج الصالح السني الزاهد الورع أحمد بن عمر بن محمد بن عاشر، وأقام معه ومع أصحابه سنين عديدة، قال: قصدتهم لوجدان السلامة معهم، ثم رحل لطنجة فلقي بها الشيخ الصوفي أبا مروان عبد الملك، قال: لازمته كثيراً
__________
(1) غريبة: سقطت من ق ص ونيل الابتهاج.(5/342)
وقرأت عليه وسمعت منه، وأنشدني من شعره ومن شعر غيره، وترددت بيني وبينه مسائل في إقامته بسلا، وانتفعت به عظيماً في التصوف وغيره، وأجازني إجازة عامة، مولده برندة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، وتوفي بعد العصر يوم الجمعة ثالث رجب عام اثنين وتسعين وسبعمائة، وحضر جنازته الأمير فمن بعده، وهمت العامة بكسر نعشه تبركاً به، ولم أر جنازة أحفل ولا أكثر خلقاً منها، ورثاه الناس بقصائد كثيرة؛ انتهى كلام السراج.
وقال غيره في حقه: محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد، النفزي نسباً، الرندي بلداً، الشهير بابن عباد، الفقيه الصوفي الزاهد الولي العارف بالله تعالى.
وقال في حقه الشيخ ابن الخطيب القسمطيني في كتابه " أنس الفقير وعز الحقير " (1) : هو الخطيب الشهير، الصالح الكبير، وكان والده من الخطباء، الفصحاء النجباء، ولأبي عبد الله هذا عقل وسكون، وزهد بالصلاح مقرون، وكان يحضر معنا مجلس شيخنا الفقيه أبي عمران [موسى] العبدوسي رحمه الله تعالى، وهو من أكابر أصحاب ابن عاشر، ومن خيار تلامذته، وأخذ عنه، وله كلام عجيب في التصوف، وصنف فيه، كما هو الآن يقرأ على الناس مع كتب التذكير، وله في ذلك قلم انفرد به، وسلم له فيه بسببه، ومن تصانيفه شرح كتاب الحكم لابن عطاء الله في سفر، رأيته وعلى ظهر نسخة منه مكتوب:
لا يبلغ المرء في أوطانه شرفاً ... حتى يكيل تراب الأرض بالقدم ومن كلامه فيه: الاستئناس بالناس، من علامات الإفلاس، وفتح باب الأنس بالله تعالى الاستيحاش من الناس. ومن كلامه فيه: من لازم الكون وبقي معه وقصر همته عليه ولم تنفتح له طريق الغيوب الملكوتية، ولا خلص بسره إلى
__________
(1) انظر هذا المصدر ص: 79.(5/343)
فضاء مشاهدة الوحدانية، فهو مسجون بمحيطاته، ومحصور في هيكل ذاته. إلى غير ذلك من كلامه، وكان يحضر السماع ليلة المولد عند السلطان، وهو لا يريد ذلك، وما رأيته قط في غير مجلس جالساً مع أحد وإنما حظ من يراه الوقوف معه خاصة، وكنت إذا طلبته بالدعاء احمر وجهه واستحيا كثيراً، ثم يدعو لي، وأكثر تمتعه من الدنيا بالطيب والبخور الكثير، ويتولى أمر خدمته بنفسه، ولم يتزوج ولم يملك أمة، ولباسه في داره مرقعة، فإذا خرج سترها بثوب أخضر أو أبيض، وله تلامذة كلهم أخيار مباركون، وبلغني عن بعضهم أنه تصدق حين تاب على يده بعشرة آلاف دينار ذهباً، وهو الآن إمام جامع القرويين بفاس وخطيبه، وأكثر قراءته في صلاة الجمعة " إذا جاء نصر الله " وأكثر خطبته وعظ، ومثله من يعظ الناس، لأن اتعظ في نفسه، وقد أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: يا عيسى، عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي مني، ذكره الغزالي؛ وعهدي به أنه على صفة البدلاء، الصادقين النبلاء، كثر الله مثله في الإسلام؛ انتهى.
قلت: وقد زرت قبره مراراً بفاس، ودعوت الله تعالى عنده، وهو عند أهل فاس بمثابة الشافعي عند أهل مصر، ومن منن الله سبحانه علي أني سكنت محله لما توليت الخطابة والإمامة بجامع القرويين من فاس المحروسة مضافين إلى الفتوى، والدار المعلومة للخطيب بالجامع المذكور إلى الآن تعرف بدار الشيخ ابن عباد، وأقمت على ذلك خمس سنين وأشهراً، ثم قوضت الرحال للمشرق، وها أنا إلى الآن فيها، والله ييسر الخير حيث كان.
وقال الشيخ سيدي أحمد زروق في شأن الشيخ ابن عباد: إنه ولد برندة، وبها نشأ في عفاف وصون، ثم رحل لفاس وتلمسان فقرأ بهما الفقه والأصول والعربية، ثم عاد فصحب بمدينة سلا أفضل أهل زمانه علماً وعملاً سيدي أحمد(5/344)
ابن عاشر، فأظهر الله تعالى عليه من بركاته ما لا يخفى على متأمل، ثم نقل بعد وفاة الشيخ فجعل خطيباً بجامع القرويين من مدينة فاس، وبقي بها خمس عشرة سنة خطيباً، فتوفاه الله تعالى بها بعد صلاة العصر من يوم الجمعة رابع رجب سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، ودفن بكدية البراطل من داخل باب الفتوح، وكان رضي الله عنه إذا صمت وسمت، وتجمل وزهد، معظماً عند الكافة، معولاً في حل المشكلات على فتح الفتاح العليم:
ومن علمه أن ليس يدعى بعالم ... ومن فقره أن لا يرى يشتكي الفقرا
ومن حاله أن غاب شاهد حاله ... فلا يدعي وصلاً ولا يشتكي هجرا كذا رأيت بخط من أثق به في تعريفه مختصراً مع زيادة ما تحققت، وكتبه شاهدة بكماله علماً وعملاً، فهي كافية في تعريفه، وكان الذي طلبه في وضع الشرح على الحكم سيدي أبو زكريا السراج الذي أكثر رسائله له وسيدي أبو الربيع سليمان بن عمر؛ انتهى.
وقال في موضع آخر: سيدنا العارف المحقق الخطيب البليغ نسيج وحده، ومقدم من أتى بعده، أبو عبد الله، قرأ بفاس وتلمسان العربية والأصول والفقه ككتاب الإرشاد ومختصر ابن الحاجب الفقهي والأصلي وتسهيل ابن مالك، وتوفي بفاس، وقبره بها مشهور، ومزيته معروفة شرقاً وغرباً، وقد كتب مسائل معروفة أكثرها لسيدي يحيى السراج، وله كتب الشرح مع سيدي سليمان بن عمر الذي قال في حقه: إنه ولي بلا شك، بطلبهما لذلك، ورأيت كتاباً في الإمامة سماه " تحقيق العلامة في أحكام الإمامة " فذكرته لشيخنا القوري رحمه الله تعالى، وكان معتنياً بكتبه معولاً عليها في حاله، فقال: أظنه لوالده سيدي إبراهيم، وقد كان خطيباً بالقصبة إذ كانت عامرة، وله خطب عظيمة الفصاحة، حسنة الموقع؛ انتهى.
وقال الشيخ أبو يحيى ابن السكاك: أما شيخي وبركتي أبو عبد الله ابن عباد(5/345)
رضي الله عنه فإنه شرح الحكم وعقد درر منثورها في نظم بديع، وجمعت من إنشائه مسائل مدارها على الإرشاد إلى البراءة من الحول والقوة، فيها نبذ كأنفاس الأكابر، مع حسن التصرف في طريق الشاذلي، وجودة تنزيله على الصور الجزئية، وبسط التعبير، مع إنهاء البيان إلى أقصى غاياته، والتفنن في تقريب الغامض إلى الأذهان بالأمثلة الوضعية، فقرب بها حقائق الشاذلية تقريباً لم يسبق إليه، كما قرب الإمام ابن رشد مذهب مالك تقريباً لم يسبق إليه، وكان مع ذلك آية في التحقق بالعبودية والبراءة من الحول والقوة وعدم المبالاة بالمدح والذم، بل له مقاصد نفيسة في الإعراض عن الخلق، وعدم المبالاة بهم، وأعظم أخلاقه التي لا يصبر عنها ويضطرب لها غاية الاضطراب أن يحضر حيث ينسى الحق، لا سيما إن كان نسيان الحق بالنسبة إليه، فهو الذي يقلقه، ويضيق صدره على اتساعه ووفور انشراحه عن ذلك، ولقد ذكر بعض من كان من أخص الناس به ومنقطعاً إليه أحوال رجال الرسالة القشيرية والحلية وما منحوا من المواهب، قال: فلما مات الشيخ واستبصرت ما أشاهده منه من أفعال تدل على القطع بصديقيته لاح لي أن لتك الصفات التي يذكر مشخصة فيه، نشاهدها عياناً، ولو لم أر الشيخ لقلت: إنني لم أر كمالاً، وعلى الجملة فهو واحد عصره بالمغرب، ذكر لي عن قطب المعقول بالمغرب والمشرق الآبلي أنه كان يشير إليه في حال قراءته عليه، أعني الشيخ ابن عباد، ويقول: إن هناك علماً جماً لا يوجد عند مشاهير أهل ذلك الوقت، إلا أنه كان لا يتكلم رضي الله عنه، وشهد له المقطوع بولايتهم بالتقدم، وأقروا له بالشيخوخة، وتبركوا به، كسيدي سليمان اليازغي (1) وسيدي محمد المصمودي وسيدي سليمان ابن يوسف ابن عمر الأنفاسي (2) وأمثالهم، وكان شيخه الحجة الورع أحمد ابن عاشر يشيد بذكره، ويقدمه على سائر أصحابه، ويأمرهم بالأخذ عنه، والانتفاع به،
__________
(1) ق: البازغي، وهو خطأ.
(2) انظر سلوة الأنفاس 3: 156.(5/346)
والتسليم له، ويقول: بان عباد أمة وحده، ولا شك أنه كذلك كان، أعني غريباً فإن العارف غريب الهمة بعيد القصد، لا يجد مساعداً على قصده. وكان الغالب عليه الحياء من الله تعالى، والتنزل بين يدي عظمته، وتنزيله نفسه منزلة أقل الحشرات، لا يرى لنفسه مزية على مخلوق، لما غلب عليه من هيبة الجلال وعظمة المالك وشهود المنة، نظاراً إلى جميع عباد الله تعالى بعين الرحمة والشفقة والنصيحة العامة، مع توفية المراتب حقها، والوقوف مع الحدود الشرعية واعبارهم من حيث مراد الله تعالى بهم، هذا دأبه مع الطائع والعاصي ما لم يظهر له من أحد مخايل حب التعظيم والمدح والتجبر على المساكين ورؤية الحق إذ هي دعوى لا تليق بالعبد، ومن كانت هذه صفته فقد وصل حد الخذلان، بل هي علامة تقارب القطع على أنه شقي مسلم إلى غضب الله تعالى ومقته، أعاذنا الله تعالى منه. وكان من حال هذا السيد تألف قلوب الأولاد الصغار، فهم يحبونه محبة تفوق محبته لآبائهم وأمهاتهم، فينتظرون خروجه للصلاة وهم عدد كثير، يأتون منكل أوب ومن المكاتب البعيدة، فإذا رأوه ازدحموا على تقبيل يده. وكذا كان ملوك زمانه يزدحمون عليه، ويتذللون بين يديه، فلا يحفل بذلك. وذكر لي بعض تلامذته أن أقواله تشبه (1) أفعاله، لما منحه الله تعالى من فنون الاستقامة، مع ما في كلامه من النور والحلاوة التي استفزت ألباب المشارقة، بحيث صار لهم بحث عريض (2) على تواليفه؛ انتهى كلام ابن السكاك.
وله من التواليف: الرسائل الكبرى، والصغرى (3) ، وشرح الحكم، ونظمها في ثمانمائة بيت من الرجز.
وحدث الشيخ أبو مسعود الهراس قال: كنت أقرأ في صحن جامع القرويين
__________
(1) ق ص: لا تشبه.
(2) ق: تحريض.
(3) طبع هذان الكتابان أولهما بفاس سنة 1320 والثاني ببيروت سنة 1958.(5/347)
والمؤذنون يؤذنون بالليل، فإذا أبو عبد الله ابن عباد قد خرج من باب داره، وجاء يطير في الصحن كأنه جالس متربع حتى دخل في البلاط الذي حول الصومعة، ثم مشيت فوجدته يصلي حول المحراب، وسأله السراج عن أبي حامد الغزالي، فقال: هو فوق الفقهاء وأقل من الصوفية.
ومما نقل من خطه رحمه الله تعالى ولا يدرى هل هي له أم لا:
الحزم قبل العزم فاحزم واعزم ... وإذا استبان لك الصواب فصمم
واستعمل الرفق الذي هو مكسب ... ذكر القلوب وجد وأجمل واحلم
واحرص وسر واشجع وصل وامنن وصل ... واعدل وأنصف وارع واحفظ وارحم
وإذا وعدت فعد بما تقوى على ... إنجازه وإذا اصطنعت فتمم وذكر الشيخ الفقيه الخطيب القاضي الحاج الرحيل أبو سعيد ابن أبي سعيد السلوي أنه رأى في حائط جامع القرويين أبياتاً مكتوبة بفحم بخط الشيخ أبي عبد الله ابن عباد وهي (1) :
أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي
مفضض الثغر له نقطة ... من عنبر في خده المذهب
أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب قال الشيخ أبو سعيد: فاستشكلت هذه الأبيات لما اشتملت عليه من التغزل، وذكر الخال والخد والثغر، ومقام الشيخ ابن عباد يجل عن الاشتغال بمثل هذا، فلقيت يوماً أبا القاسم الصيرفي، فذاكرته بالقصة ووجه الإشكال فيها، فقال لي: مقامك عندي أعلى من أن تستشكل مثل هذا، هذه أوصاف ولي الله القائم بأمر الله المهدي، فشكرته على ذلك؛ انتهى.
__________
(1) قد مرت هذه الأبيات ج 4 ص: 14 منسوبة خطأ لابن خروف وهي لابن طلحة الصقلي، وانظر ما يجيء ص: 482.(5/348)
قلت: رأيت بخط الونشريسي إثر هذه الحكاية ما نصه: قلت في صحة هذه الحكاية عن الشيخ نظر، لما احتوت عليه من تعبير الحسن، وقدر الشيخ وورعه أعلى من هذا، فهذان إشكالان، والله أعلم.
وحكى (1) أن الشيخ ابن عباد رحمه الله تعالى لما احتضر جعل رأسه في حجر أبي القاسم هذا، وأخذ في قراءة آية الكرسي إلى قوله " الحي القيوم " ثم يقول: يا الله يا حي يا قيوم، فيلقنه من حضر " لا تأخذه سنة ولا نوم " فيمتنع الشيخ من قراءتها ويقول: يا الله يا حي يا قيوم، فلما قربت وفاته سمع منه هذا البيت وكان آخر ما تكلم به:
ما عودوني أحبابي مقاطعة ... بل عودوني إذا قاطعتهم وصلوا ولما توفي الشيخ ابن عباد رضي الله عنه في التاريخ المتقدم حضر جنازته السلطان أمير المسلمين أبو العباس أحمد ابن السلطان أبي سالم وأهل البلدتين يعني فاساً الجديد التي هي مسكن السلطان وخواص أتباعه، وفاساً العتيق التي هي محل الأعلام والخاص والعام من الناس في ذلك القطر، إذ هي إذ ذاك حضرة الخلافة وقبة الإسلام في المغرب ويقدم بعده للإمامة والخطبة بجامع القرويين نائبه أيام مرضه الشيخ الصالح الورع أبو زيد عبد الرحمن الزرهوني حسبما قاله الجاديري رحمه الله تعالى.
وحكى الونشريسي رحمه الله تعالى أن الشيخ ابن عباد كلم ابن دريدة الوالي في مظلمة، فلم يقبل، فلما كان يوم الجمعة ونزل السلطان أبو العباس الصلاة بجامع القرويين وراء الشيخ ابن عباد، قال الشيخ في خطبته: من الأمور المستحسنة، أن لا يبقى الوالي سنة؛ انتهى.
وللشيخ ابن عباد خطب مدونة بالمغرب مشهورة بأيدي الناس، ويقرؤون
__________
(1) ق: ثم.(5/349)
منها ما يتعلق بالمولد النبوي الشريف بين يدي السلطان تبركاً بها، وكذا يقرؤونها في المجتمعات في المواسم، كأول رجب وشعبان ونصفهما والسابع والعشرين منهما، كرمضان، وقد حضرت بمراكش المحروسة سنة عشر وألف قراءة كراسة الشيخ في المولد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام بين يدي مولانا السلطان المرحوم أحمد المنصور بالله الشريف الحسني رحمه الله تعالى، وقد احتفل لذلك المولد بأمور يستغرب وقوعها، جازاه الله تعالى عن نيته خيراً وقد أشرت إلى ذلك في كتابي الموسوم بروضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس وسردت جملة من القصائد والموشحات في وصف ذلك الصنيع (1) ، ورحمة الله وراء الجميع.
رجع إلى مشايخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى فنقول:
4 - ومنهم: الشيخ الفقيه القاضي بمكناسة الزيتون أبو محمد عبد الحق ابن سعيد بن محمد (2) ، ذكره في نفاضة الجراب وقال: إنه لقيه بمكناسة الزيتون سنة إحدى وستين وسبعمائة، وكان من أهل المعرفة والحصافة (3) ، قائماً على كتاب أبي عمرو ابن الحاجب في مذهب مالك، وكان ممتازاً به فيما دون تلمسان، قرأه على الشيخين علمي الأفق المغربي أبي موسى وأبي زيد ابني الإمام عالمي تلمسان والمغرب جميعاً قال لسان الدين في النفاضة: وتصدر المذكور لإقراءه الآن، فمل شئت من اضطلاع، ومعرفة واطلاع، وقيد جزءاً نبيلاً على فتوى الإمام القاضي أبي بكر ابن العربي المسماة بالحاكمة، وسماه
__________
(1) نقص هذا المصدر من أوله، ولكن ما تبقى من ص 5 - 14 يدل على ما يشير المؤلف إليه.
(2) ترجمة عبد الحق بن سعيد في نيل الابتهاج: 164 نقلا عن الروض الهتون عن نفاضة الجراب، وقال كان حيا سنة 761هـ.
(3) نيل الابتهاج: والفصاحة.(5/350)
ب " الخادمة (1) على الرسالة الحاكمة " أجاد فيه وأحسن، وقرأت عليه بعضه وأذن في تحمله؛ انتهى.
5 - ومن أشياخ لسان الدين الذين لقيهم بمكناسة الزيتون الفقيه الفاضل الخير يونس بن عطية الونشريسي، له عناية بفروع الفقه، وولي القضاء بقصر كتامة.
6 - ومنهم الفقيه الفاضل الخير أبو عبد الله محمد ابن أحمد ابن أبي عفيف (2) ، المتصدر لقراءة كتاب الشفاء النبوي، لديه جملة حسنة من أصول الفقه أشف بها على كثير من نظرائه قراءة منه إياها على أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل الصباغ، وشاركه في قراءتها على الإمام أبي عبد الله الآبلي.
7 - ومنهم الفقيه المدرك الأستاذ في فن العربية: أبو علي عمر بن عثمان الونشريسي (3) ، قال لسان الدين: حضرت مذاكرته في مسألة أعوزت (4) عليه، وطال عنها سؤاله، وهي قول الشاعر:
الناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ... ما لم يروا عنده آثار إحسان وصورة السؤال: كيف [صح] وقوع أفعل بين شيئين لا اشتراك بينهما في الوصف؛ إذ أوقع الشاعر " أكيس " بين الناس وبين أن يمدحوا، وهو مؤول بالمصدر وهو المدح، ولا يوصف بذلك؛ انتهى.
قلت: الإشكال مشهور، والجواب عنه بضرب من المجاز ظاهر، وقد
__________
(1) نيل الابتهاج: الخارجة، وفي التجارية: الجازمة.
(2) ترجمة ابن أبي عفيف في نيل الابتهاج: 248 نقلا عن نفاضة الجراب.
(3) ترجمة عمر الونشريسي في نيل الابتهاج: 178 نقلا عن نفاضة الجراب وتوفي بفاس سنة 810 (عن الروض الهتون لابن غازي) .
(4) ق: رسالة أغورت.(5/351)
أشار إليه أبو حيان في الارتشاف وجماعة آخرون في قول بعض المؤلفين كصاحب التلخيص أكثر من أن تحصى ولولا السآمة لذكرت ما قيل في ذلك، وخلاصة ما قالوه أن في الكلام تقديراً، والله أعلم.
8 - وممن لقيه لسان الدين بمكناسة الزيتون الفقيه العدل الأخباري الأديب المشارك أبو جعفر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأوسي الخباز، من أهل الظرف والانطباع والفضيلة، وهو كاتب عاقد للشروط، ناظم ناثر مشارك في فنون من العلم، مؤلف، وقد ذكرنا في غير هذا المحل ما دار بينه وبين لسان الدين من المحاورة والمراجعة، فليراجع، قال لسان الدين رحمه الله تعالى: ناولني المذكور تأليفه الحسن الذي سماه المنهل المورود في شرح المقصد المحمود شرح فيه وثائق الجزيري فأربى بياناً وإفادة وإجادة، وأذن لي في حمله عنه، وهو في ثلاث مجلدات، وأنشدني كثيراً من شعره.
9 - ومنهم القاضي بها أبو عبد الله ابن أبي رمانة (1) ، قال لسان الدين: لقيته بمكناس، وكان من أهل الحياء والحشمة، وذوي السذاجة والعفة، ثم ذكر ما داعبه به حين تأخر عن لقائه، وقد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع.
10 - وممن لقيه لسان الدين بمكناس الفقيه العدل أبو علي الحسن بن عثمان ابن عطية (2) الونشريسي، قال: وكان فقيهاً عدلاً من أهل الحساب، والقيام على الفرائض، والعناية بفروع الفقه، ومن ذوي السذاجة والفضل، ويقرض الشعر، وله أرجوزة في الفرائض مبسوطة العبارة مستوفية المعنى؛ انتهى.
وقال ابن الأحمر في حقه: هو شيخنا الفقيه المفتي المدرس القاضي الفرضي الأديب، الحاج أبو علي ابن الفقيه الصالح أبي سعيد عثمان التجاني المنعوت
__________
(1) هو محمد بن علي بن أبي رمانة المكناسي قاضي مكناس (الديباج: 249) وانظر ص: 143.
(2) نيل الابتهاج: 89 نقلا عن نفاضة الجراب وعن ابن الأحمر؛ والمقري ينقل عن التنبكي.(5/352)
بالونشريسي، أجازني عامة، أخذ عن الفقيه المفتي الأديب الخطيب المعمر القاضي المحدث الراوية خاتمة المحدثين بالمغرب أبي البركات ابن الحاج البلفيقي؛ انتهى.
ومولده في حدود أربع وعشرين وسبعمائة.
وذكر صاحب " المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي إفريقية والأندلس والمغرب " جملة من فتاويه وقال في وثائقه، وقد أجرى ذكره، ما صورته: إن بلدينا الشيخ القاضي العلامة أبا علي الحسن وقعت له قضية مع عدول مكناسة، وذلك أم السلطان أبا عنان فارساً كان أمر بالاقتصار على عشرة من الشهود بمدينة مكناسة وكتب اسم الشيخ أبي علي هذا في العشرة، فشق ذلك على بعض شيوخ العدول المؤخرين لحداثة سن أبي علي، فلما علم تشغيبهم صنع رجزاً ورفعه إلى مقام المتوكل على الله أبي عنان نصه:
نبدأ أولاً بحمد الله ... ونستعينه على الدواهي
ثم نوالي بالصلاة والسلام ... على نبي (1) دونه كل الأنام
وبعد ذا نسأل رب العالمين ... أن يهب النصر أمير المؤمنين
خليفة الله أبا عنان ... لا زال في خير وفي أمان
ملكه الله من البلاد ... من سوس الأقصى إلى بغداد
ويسر الحجاز والجهادا ... وجعل الكل له مهادا
يا أيها الخليفة المظفر ... دونك أمري إنه مفسر
عبدكم نجل عطية الحسن ... قد قيل لا يشهد إلا إن أسن
وهو في أمركم المعهود ... من جملة العشرة الشهود
نص عليه أمركم تعيينا ... وسنه قارب أربعينا (2)
__________
(1) ق ونيل الابتهاج: على النبي.
(2) ق: الأربعينا.(5/353)
مع الذي ينتسب العبد إليه ... من طلب العلم وبحثه عليه
على الفرائض له أرجوزه ... أبرز في نظامها إبريزه
ومجلس له على الرساله ... فكيف يرجو حاسد زواله
حاشا أمير المؤمنين ذاكا ... وعدله قد بلغ السماكا
وعلمه قد طبق الآفاقا ... وحلمه قد جاوز العراقا
وجوده مشتهر في كل حي ... قصر عن إدراكه حاتم طي وحكى بعض الحفاظ أنه لما بلغت الأبيات السلطان أمر بإقراره على ذلك، وقد وقفت على رجزه المذكور، وله شرح عليه لم أره، والظاهر أنه ممن تدبج معه لسان الدين، رحم الله الجميع؛ وهو معدود في جملة من لقيه.
11 - ومن مشايخ لسان الدين رحمه الله ذو الكرامات الكثيرة والمقامات الكبيرة، سيدي الحاج أبو العباس أحمد ابن عاشر الصالح (1) المشهور، كان لسان الدين رحمه الله تعالى حريصاً على لقائه بسلا أيام كان بها، وقد لقيه، ولم يتمل منه لشدة نفوره من الناس، خصوصاً أصحاب الرياسة، ولذا قال لسان الدين، لما ذكر أنه لقيه في مفاضة الجراب، ما صورته: يسر الله لقائه على تعذره؛ انتهى.
وسنترجم الولي المذكور في نظم لسان الدين حيث وصفه بقوله:
بولي الله فابدأ وابتدر ... وقبره الآن بسلا محط رجاء (2) الطالبين، وكعبة قصد الراغبين، تلوح عليه أنوار العناية، وتستمد منه أنواء الهداية، وهو على ساحل البحر المحيط بخارج مدينة سلا المحروسة، وقد زرته ولله الحمد عند توجهي إلى حضرة مراكش
__________
(1) ترجمة أحمد بن عاشر في نيل الابتهاج: 48 وأنس الفقير: 7 وكانت وفاته سنة 765.
(2) ق: رحال.(5/354)
سنة ألف وتسعة، والناس يشدون الرحال إليه من أقطار المغرب، نفعنا الله تعالى به، وأعاد علينا من بركاته، بجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
رجع إلى مشايخ لسان الدين الوزير ابن الخطيب رحمه الله تعالى.
12 - ومنهم الأستاذ المحقق العلامة الكبير النحوي الشهير أبو عبد الله محمد بن علي الفخار البيري، رحمه الله تعالى (1) .
كان شيخ النحاة بالأندلس غير مدافع، وأخذ عنه خلق كثيرون كالشاطبي أبي إسحاق صاحب شرح الألفية والوزير ابن زمرك وغيرهما، وقد حكى عنه مسائل غريبة تلميذه الشاطبي، وقال لسان الدين في الإحاطة في ترجمة مشيخته ما صورته: ولازمت قراءة العربية والفقه والتفسير والمعتمد عليه العربية على الشيخ الأستاذ الخطيب أبي عبد الله ابن الفخار البيري، الإمام المجمع على إمامته في فن العربية، المفتوح عليه من الله تعالى فيها حفظاً واطلاعاً واضطلاعاً ونقلاً وتوجيهاً بما لا مطمع فيه لسواه؛ انتهى.
ولنورد بعض فوائد ابن الفخار فنقول:
ومن فوائد ابن الفخار المذكور التي حكاها عن الشاطبي قوله: حدثني أن بعض الشيوخ كان إذا أتي بإجازة يشهد فيها سأل الطالب المجاز عن لفظ إجازة ما وزنه وما تصريفه ثم قال الشاطبي: ولما حدثنا بذلك سألناه عنها فأملى علينا ما نصه: وزن إجازة في الأصل إفعالة، وأصلها إجوازة فأعلت بنقل حركة الواو إلى الجيم حملاً على الفعل الماضي استثقالاً، فتحركت الواو في الأصل وانفتح ما قبلها في اللفظ، فانقلبت ألفاً، فصارت إجازة بألفين فحذفت الألف الثانية، عند سيبويه لأنها زائدة والزائد أولى بالحذف من الأصلي، وحذفت
__________
(1) ترجمة ابن الفخار في الكتيبة الكامنة: 70 والإحاطة (الورقة: 27) إلا أن كنيته فيها " أبو بكر "؛ وبغية الوعاة: 80 وغاية النهاية 2: 200 وكانت وفاته سنة 723.(5/355)
الأولى عند الأخفش لأنها لا تدل على معنى وهو المد، وقول سيبويه أولى، لأنه قد ثبت عوض التاء من المحذوف في نحو " زنادقة " والتاء الزائدة، وتعويض الزائد من الزائد أولى من تعويض الزائد من الأصلي، للتناسب، ووزنها في اللفظ عند سيبويه إفعلة وعند الأخفش إفال لأن العين عنده محذوفة؛ انتهى.
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى: لما توفي شيخنا الأستاذ الكبير، العلم الخطير، أبو عبد الله ابن الفخار سألت الله عز وجل أن يرينيه في المنام فيوصيني بوصية أنتفع بها في الحالة التي أنا عليها من طلب العلم، فلما نمت في تلك الليلة رأيت كأني أدخل عليه في داره التي كان يسكن بها، فقلن له: يا سيدي أوصني، فقال لي: لا تعترض على أحد، ثم سألني بعد ذلك مسألة من مسائل العربية كالمؤنس لي، فأجبته عنها، ولا أذكرها الآن؛ انتهى.
وقال الشاطبي أيضاً ما صورته: حدثنا الأستاذ الكبير الشهير أبو عبد الله محمد بن الفخار شيخنا - رحمه الله تعالى - قال (1) : حدثني بسبتة بعض المذاكرين أن ابن خميس لما ورد عليها بقصد الإقراء بها اجتمع إليه عيون طلبتها، فألقوا عليه مسائل من غوامض الاشتغال، فحاد عن الجواب عنها بأن قال لهم: أنتم عندي كرجل واحد، يعني أن ما ألقوا عليه من المسائل إنما تلقوها من رجل واحد، وهو ابن أبي الربيع، فكأنه إنما يخاطب رجلاً واحداً ازدراء بهم، فاستقبله أصغر القوم سناُ وعلماً بأن قال له: إن كنت بالمكان الذي تزعم فأجبني عن هذه المسائل من باب معرفة علامات الإعراب التي أذكرها لك، فإن أجبت فيها بالصواب لم تحظ بذلك في نفوسنا لصغرها بالنظر إلى تعاطيك من الإدراك والتحصيل، وإن أخطأت فيها لم يسعك هذا البلد، وهي عشر: الأولى أنتم يا زيدون تغزون، والثانية أنتن يا هندات تغزون، والثالثة أنتم يا زويدن ويا هندات تغزون، والرابعة أنتن يا هندات تخشين، والخامسة
__________
(1) قارن بما ورد في أزهار الرياض 2: 297 - 301.(5/356)
أنت يا هند تخشين، والسادسة أنت يا هند ترمين، والسابعة أنتن يا هندات ترمين، والثامنة أنتن يا هندات تمحون أو تمحين، كيف تقول والتاسعة أنت يا هند تمحين أو تمحون، كيف تقول والعاشرة أنتما تمحوان أو تمحيان، كيف تقول وهل هذه الأفعال كلها مبنية أو معربة أو بعضها مبني وبعضها معرب وهل هي كلها على وزن واحد أو على أوزان مختلفة علينا السؤال وعليك التمييز لنعلم الجواب، فبهت الشيخ، وشغل المحل بأن قال: إنما يسأل عن هذا صغار الولدان، قال له الفتى: فأنت دونهم إن لم تجب، فانزعج الشيخ، وقال: هذا سوء أدب، ونهض منصرفاً، ولم يصبح إلا بمالقة متوجهاً إلى غرناطة حرسها الله تعالى، ولم يزل بها مع الوزير ابن الحكيم إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه؛ انتهى.
ثم قال الشاطبي: والجواب عن هذه المسائل ما يذكر: أما الجواب عن تغزون الأولى فإنه معرب، ووزنه أصلاً تفعلون، ولفظاً تفعون، وعن الثانية فبني للحاق نون الإناث ووزنه تفعلن، وعن الثالثة على التغليب فعلى رده بالأول يلحق بالأول، وللثاني كالثاني، وأما تخشين من الرابعة فمبني للنون ووزنه تفعلن، وعن الخامسة فمعرب، ووزنه أصلاً تفعلين ولفظاً تفعين، وأما ترمين من السادسة فمعرب، ووزنه أصلاً تفعلين، ولفظاً تفعين، ومن السابعة مبني للنون، ووزنه تفعلن، وأما تمحون وتمحين من الثامنة فهما لغتان، وهما مبنيان للنون، والتاسعة لا يقال إلا تمحين، بالياء خاصة لتتفق اللغتان، ووزنهما تفعين كتخشين، وأما تمحيان من العاشرة فعلى لغة الياء لا إشكال وعلى الواو فيظهر من كلام النحويين أنه لا يجوز إلا بالواو؛ انتهى.
وقد أورد هذه الحكاية عالم الدنيا سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق رحمه الله تعالى في شرحه الواسع العجيب المسمى " تمهيد المسالك إلى شرح ألفية ابن مالك " ونص محل الحاجة منه: وقد حكي أن بعض طلبة سبتة أورد(5/357)
على أبي عبد الله ابن خميس عشر مسائل من هذا النوع، وهي: أنتم يا زيدون تغزون، وأنتن يا هندات تغزون، وأنتم يا زيدون ويا هندات تغزون، وأنتن يا هندات تخشين، وأنت يا هند تخشين، وأنت يا هند ترمين وأنتن يا هندات ترمين، وأنتن يا هندات تمحون أو تمحين، كيف تقول وأنت يا هند تمحون أو تمحين، كيف تقول وأنتما تمحوان أو تمحيان، على لغة من قال محوت، كيف تقول وهل هذه الأمثلة كلها مبنية أو معربة أو مختلفة وهل وزنها واحد أو مختلف قالوا: ولم يجب بشيء، قلت ولعله استسهل أمرها، فأما المثال الأول فمعرب، وزنه تفعلون كتنظرون، إذ أصله تغزوون، فاستثقلت ضمة الواو التي هي لا فحذفت، ثم حذفت الواو أيضاً لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وكانت أولى بالحذف لأن واو الضمير فاعل، ولغير ذلك مما تقدم بعضه، وأما الثاني فمبني ووزنه تفعلن كتخرجن، وأما الثالث فكالأول إعراباً ووزناً لأن فيه تغليب المذكر على المؤنث، وأما الرابع فمبني ووزنه تفعلن، مثل تفرحن لأنه لما احتيج إلى تسكين آخر الفعل لإسناده إلى نون جماعة النسوة ردت الياء إلى أصلها لأنها إنما قلبت ألفاً لتحريكها، وانفتاح ما قبلها، والآن ذهبت حركتها لاستحقاقها السكون، وأما الخامس فمعرب ووزنه تفعلين كتفرحين، وأصله تخشيين، فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع ياء الضمير، وترك فتحة الشين دالة على الألف، وأما السادي فمعرب ووزنه تفعلين كتضربين، وأصله ترميين، حذفت كسرة الياء لاستثقالها، ثم حذفت الياء لاجتماعها ساكنة مع ياء الضمير، وأما السابع فمبني ووزنه تفعلن كتضربن، وأما الثامن والتاسع فمضارع محى ورد بالأوزان الثلاثة، فمن قال يمحو قال في المضارع من جماعة النسوة تمحون مثله من غزا بناء ووزناً، ومن قال يمحي قال فيه تمحين كترمين بناء(5/358)
ووزناً، ومن قال يمحى قال فيه تمحين كتخشين بناء ووزناً، ويقال المضارع للواحدة في اللغة الأولى تمحين كتدعين، إعراباً ووزناً وتصريفاً، وقد تقدم في كلام المنصف، وعلى الثانية كما يقال لها من رمى إعراباً ووزناً وتصريفاً، وعلى الثالثة كما يقال لها من تخشى أيضاً، وقد تقدما، وليس ما وقع في السؤال كما نقل من خط بعض الشارحين أنه يقال فيها تمحون كتفرحن بشيء، وأمر التثنية ظاهر؛ انتهى بحروفه.
وما قاله رحمه الله تعالى في الاعتذار عن ابن خميس هو اللائق بمقامه، فإن مكان ابن خميس من العلوم غير منكر، وقد مدحه ابن خطاب بقوله:
رقت حواشي طبعك ابن خميس ... فهفا قريضك لي وهاج رسيسي
ولمثله يصبو الحليم ويمتري ... ماء الشؤون به وسير العيس
لك في البلاغة، والبلاغة بعض ما ... تحويه من أثر، محل رئيس
نظم ونثر لا تبارى فيهما ... عززت ذاك وذا بعلم الطوسي يعني أبا حامد الغزالي.
[ترجمة ابن خميس]
وقال لسان الدين ابن الخطيب في " عائد الصلة " في حق أبي عبد الله محمد ابن خميس التلمساني المذكور ما صورته (1) : كان رحمه الله تعالى نسيج وحده زهداً وانقباضاً وبأواً (2) وهمة، حسن الشيبة، جميل الهيئة، سليم الصدر، قليل التصنع، بعيداً عن الرياء، عاملاً على السياحة والعزلة، عارفاً بالمعارف القديمة،
__________
(1) ترجمة ابن خميس (محمد بن عمر بن محمد بن عمر الحجري الرعيني) في أزهار الرياض 2: 301 وبغية الوعاة: 86.
(2) أزهار الرياض: وأدبا.(5/359)
مضطلعاً بتفاريق النحل، قائماً على العربية والأصلين، طبقة الوقت في الشعر، وفحل الأوان في المطول، أقدر الناس على اجتلاب الغريب، ثم ذكر من أحواله جملة، إلى أن قال: وبلغ الوزير أبا عبد الله ابن الحكيم أنه يروم السفر، فشق ذلك عليه، وكلفه تحريك الحديث بحضرته، وجرى ذلك، فقال الشيخ: أنا كالدم بطبعي أتحرك في كل ربيع؛ انتهى.
وقال ابن خاتمة في " مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية ": إنه نظم في الوزير ابن الحكيم القصائد التي حليت بها لبات الآفاق، وتنفست عنها صدور الرفاق، وكان من فحول الشعراء، وأعلام البلغاء [يصرف العويص] ويرتكب مستصعبات القوافي، ويطير في القريض مطار ذي القوادم الباسقة والخوافي، حافظاً لأشعار العرب وأخبارها، وله مشاركة في العقليات، واستشراف على الطلب، وقعد لإقراء العربية بحضرة غرناطة، ومال بأخرة إلى التصوف والتجوال، والتحلي بحسن السمت وعدم الاسترسال، بعد طي بساط ما فرطه له في بلده من الأحوال. وكان صنع اليدين، حدثني بعض من لقيت من الشيوخ أنه صنع قدحاً من الشمع على أبدع ما يكون في شكله ولطافة جوهره وإتقان صنعه، وكتب بدائرة شفته:
وما كنت إلا زهرة في حديقة ... تبسم عني ضاحكات الكمائم
فقلبت من طور لطور فها أنا ... أقبل أفواه الملوك الأعاظم وأهداه خدمة للوزير أبي عبد الله ابن الحكيم.
وأنشدنا شيخا القاضي أبو البركات ابن الحاج، وحكى لنا قال: أنشدني أبو عبد الله ابن خميس، وحكى لي قال: لما وقفت على الجزء الذي ألفه ابن سبعين وسماه " الفقيرية " كتبت على ظهره:
الفقر عندي لفظ دق معناه ... من رامه من ذوي الغايات عناه
كم من غبي بعيد عن تصوره ... أراد كشف معماه فعماه(5/360)
وأنشدنا شيخنا الأستاذ أبو عثمان ابن ليون غير مرة قال: سمعت أبا عبد الله ابن خميس ينشد، وكان يحسب أنهما له، ويقال: إنهما لابن الرومي:
رب قوم في منازلهم ... عرر بها صاروا غررا
ستر الإحسان ما بهم ... سترى لو زال ما سترا ثم قال ابن خاتمة: وقد جمع شعره ودونه صاحبنا القاضي أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم الحضرمي في جزء سماه " الدر النفيس في شعر ابن خميس " وعرف به صدره، وقدم ابن خميس المرية سنة ست وسبعمائة فنزل بها في كنف القائد أبي الحسن ابن كماشة من خدام الوزير ابن الحكيم، فوسع له في الإيثار والمبرة، وبسط له وجه الكرامة طلق الأسرة، وبها قال في مدح الوزير المذكور قصيدته التي أولها:
العشي تعيا والنوابغ ... عن شكر أنعمك السوابغ (1) ووجه بها إليه [من المرية] وهي طويلة، ومنها:
ودسائع ابن كماشة ... مع كل بازغة وبازغ
تأتي بما تهوى النغا ... نغ من شهيات اللغالغ ومنها:
ما ذاق طعم بلاغة ... من ليس للحواشي ماضغ ويقال: إن الوزير اقترح عليه أن ينظم قصيدة هائية، فابتدأ منها مطلعها، وهو قوله:
__________
(1) العشي: جمع أعشى وهو لقب لعدة شعراء منهم الأعشى الكبير وأعشى همدان وغيرهما، وكذلك النوابغ: جمع نابغة وهو يطلق على عدة شعراء.(5/361)
لمن المنازل لا يجيب صداها ... محيت معالمها وصم صداها وذلك آخر شهر رمضان من سنة ثمان وسبعمائة، ثم لم يزد على ذلك إلى أن توفي رحمه الله تعالى، فكان آخر ما صدر عنه من الشعر وقد أشار معناه إلى منعاه، وآذن أولاه بحضور أخراه، وكانت وفاته بحضرة غرناطة قتيلاً ضحوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة، وهو ابن نيف وستين سنة، وذلك يوم مقتل مخدومه الوزير ابن الحكيم، أصابه قاتله بحقده على مخدومه، وكان آخر ما سمع منه " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله " واستفاض من حال القاتل أنه هلك قبل أن يكمل سنة من حين قتله من فالج شديد أصابه، فكان يصيح ويستغيث: ابن خميس يطلبني، ابن خميس يضربني، ابن خميس يقتلني، وما زال الأمر يشتد به حتى قضى نحبه على تلك الحال، نعوذ بالله من الورطات، ومواقعات العثرات؛ انتهى ملخصاً.
وحكى غيره أن بعضهم كتب بعد قوله " لمن المنازل لا يجيب صداها " ما نصه: لابن الحكيم، ومن بديع نظم ابن خميس قوله (1) :
تراجع من دنياك ما أنت تارك ... وتسألها العتبى وها هي فارك
تؤمل بعد الترك رجع ودادها ... وشر وداد ما تود الترائك
حلا لك منها ما حلا لك في الصبا ... فأنت على حلوائه متهالك
تظاهر بالسلوان عنها نخوة لا زهادة ... وشعر عذاري أسود اللون حالك وهي طويلة طنانة، وفي آخرها يقول:
فلا تدعون غيري لدفع ملمة ... إذا ما دهى من حادث الدهر داهك (2)
__________
(1) أزهار الرياض: 305.
(2) داهك: طاحن كاسر.(5/362)
فما إن لذاك الصوت غيري سامع ... وما إن لبيت المجد بعدي سامك (1)
يغص ويشجى نهشل ومجاشع ... بما أورثتني حمير والسكاسك
تفارقني الروح التي لست غيرها ... وطيب ثنائي لاصق بي صانك (2)
وماذا عسى ترجو لداتي وأرتجي ... وقد شمطت مني اللحى والأفانك (3)
يعود لنا شرخ الشباب الذي مضى ... إذا عاد للدنيا عقيل ومالك ومما اشتهر من نظمه قوله (4) :
أرق عيني بارق من أثال ... كأنه في جنح ليلي ذبال
أثار شوقاً في ضمير (5) الحشا ... وعبرتي في صحن خدي أسال
حكى فؤادي قلقاً واشتعال ... وجفن عيني أرقاً وانهمال
جوانح تلفح نيرانها ... وأدمع تنهل مثل الغزال (6)
قولوا وشاة الحب ما شئتم ... ما لذة الحب سوى أن يقال
عذراً للوامي (7) ولا عذر لي ... فزلة العالم ما إن تقال
قم نطرد الهم بمشمولة ... تقصر الليل إذا الليل طال
وعاطها صفراء ذمية ... تمنعها الذمة من أن تنال
كالمسك ريحاً، واللمى مطعماً ... والتبر لوناً، والهوى في اعتدال
عتقها في الدن خمارها ... والبكر لا تعرف غير الحجال
لا تثقب المصباح (8) لا واسقني ... على سنا البرق وضوء الهلال
__________
(1) سامك: رافع للقواعد معل للبناء.
(2) صائك: لاصق.
(3) الأفانك: جمع أفنيك وهو مجمع اللحيين؛ وفي ص ق: الأفاتك.
(4) قارن بأزهار الرياض.
(5) أزهار: من ضميم؛ ق: من.
(6) العزالي: الروايا أو القرب.
(7) أزهار: أعذر لوامي.
(8) أثقب المصباح: جعل ضوءه ساطعا.(5/363)
فالعيش نوم، والردى يقظة ... والمرء ما بينهما كالخيال
خذها على تنغيم مسطارها (1) ... بين خوابيها وبين الدوال
في روضة باكر وسميها ... أخمل دارين وأنسى أوال (2)
كأن فأر المسك مفتوقة ... فيها إذا هبت صباً أو شمال
من كف ساجي الطرف ألحاظه ... مفوقات أبداً للنضال
من عاذري والكل لي عاذر ... من حسن الوجه قبيح الفعال
من خلبي الوعد كذابه ... لبان لا يعرف غير المطال
كأنه الدهر وأي امرئ ... يبقى على الدهر إذا الدهر حال
أما تراني آخذاً ناقضاً ... عليه ما سوغني من محال
ولم أكن قط له عائباً ... كمثل ما عاتبه قبلي رجال
يأبى ثراء المال علمي، وهل ... يجتمع الضدان: علم ومال
وتأنف الأرض مقامي بها ... حتى تهاداني ظهور الرحال
لولا بنو زيان ما لذ لي ال ... عيش ولا هانت علي الليال
هم خوفوا الدهر وهم خففوا ... على بني الدنيا خطاه الثقال
لقيت (3) من عامرهم سيداً ... غمر رداء الحمد جم النوال
وكعبة للجود منصوبة ... يسعى إليها الناس من كل بال
خذها أبا زيان من شاعر ... مستلمح النزعة عذب المقال
يلتقط الألفاظ لقط النوى ... وينظم الآلاء نظم اللآل
مجارياً مهيار في قوله ... ما كنت لولا طمعي في الخيال وقصيدة مهيار مطلعها (4) :
__________
(1) المسطار: الخمرة أول ما تعصر.
(2) أوال: الاسم القديم للبحرين.
(3) أزهار: ألقيت.
(4) انظر ديوان مهيار ج 3 ص: 166.(5/364)
ما كنت لولا طمعي في الخيال ... أنشد ليلى بين طول الليال ومن نظم ابن خميس قوله (1) :
نظرت إليك بمثل عيني جؤذر ... وتبسمت عن مثل سمطبي جوهر
عن ناصع كالدر أو كالبرق أو ... كالطلع أو كالأقحوان مؤشر
تجري عليه من لماها نطفة ... بل خمرة لكنها لم تعصر
لو لم يكن خمراً سلافاً ريقها ... تزري وتلعب بالنهى لم تخطر
وكذاك ساجي جفنها لو لم يكن ... فيه مهند لحظها لم يحذر
لو عجبت طرفك في حديقة خدها ... وأمنت سطوة صدغها المتنمر
لرتعت من ذاك الحمى في جنة ... وكرعت من ذاك اللمى في كوثر
طرقتك وهناً والنجوم كأنها ... حصباء در في بساط أخضر
والركب بين مصعد ومصوب ... والنوم بين مسكن ومنفر
بيضا إذا اعتكرت ذوائب شعرها ... سفرت فأزرت بالصباح المسفر
سرحت غلائلها فقلت سبيكة ... من فضة أو دمية من مرمر
منحتك ما منعتك يقظاناً فلم ... تخلف مواعدها ولم تتغير
وكأنما خافت بغاة وشاتها ... فأتتك من أردافها في عسكر
وبجزع ذاك المنحنى أدمانة ... تعطوا (2) فتسطوا بالهزبر القسور
وتحية جاءتك في طي الصبا ... أذكى وأعطر من شميم العنبر
جرت على واديك فضل ردائها ... فعرفت فيها عرف ذاك الإذخر
هاجت بلابل نازح عن إلفه ... متشوق ذاكي الحشا متسعر
وإذا نسيت ليالي العهد التي ... سلفت لنا فتذكريها تذكري
__________
(1) قارن بأزهار الرياض 2: 314.
(2) أدمانة: ظبية ذات لون أسمر؛ تعطو تتناول ورق الشجر فترفع جيدها.(5/365)
رحنا تغنينا ونرشف ثغرها ... والشمس تنظر مثل عين الأخزر
والروض بين مفضض ومعسجد ... والجو بين ممسك ومعصفر وكان السلطان أمير المؤمنين أبو عنان المريني - رحمه الله تعالى - كثير العناية بنظم ابن خميس وروايته، قال رحمه الله تعالى: أنشدنا القاضي خطيب حضرتنا العلية أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق بقصر المصارة يمنه الله قال: أنشدنا بلفظه شيخ الأدباء وفحل الشعراء، أبو عبد الله ابن خميس لنفسه (1) :
أنبت ولكن بعد طول عتاب ... وفرط لجاج ضاع فيه شبابي
وما زلت والعلياء تعلي غريمتها ... أعلل نفسي دائماً بمتاب
وهيهات من بعد الشباب وشرخه ... يلذ طعامي أو يسوغ شرابي
خدعت بهذا العيش قبل بلائه ... كما يخدع الصادي بلمع سراب
تقول هو الشهد المشور جهالة ... وما هو إلا السم شيب بصاب
وما صحب الدنيا كبكر وتغلب ... ولا ككليب ريء فحل ضراب
إذا كعت الأبطال عنها تقدموا ... أعاريب غراً في متون عراب
وإن ناب خطب أو تفاقم معضل ... تلقاه منهم كل أصيد ناب
تراءت لجساس مخيلة فرصة ... تأتت له في جيئة وذهاب
فجاء بها شوهاء (2) تنذر قومها ... بتشييد أرجام (3) وهدم قباب
وكان رغاء السقب في قوم صالح ... حديثاً فأنساه رغاء سراب
فما تسمع الآذان في عرصاتهم ... سوى نوح ثكلى أو نعيب غراب
وسل عروة الرحال عن صدق بأسه ... وعن بيته في جعفر بن كلاب
وكانت على الأملاك منه وفادة ... إذا آب منها آب غير مآب
__________
(1) أزهار الرياض 2: 316.
(2) شوهاء: صفة للطعنة.
(3) الأرجام: الحجارة فوق القبور.(5/366)
يجير على الحيين قيس وخندف ... بفضل يسار أو بفصل خطاب
زعامة مرجو النوال مؤمل ... وعزمة مسموع الدعاء مجاب
فمر يزجيها حواسر ظلعاً ... بما حملوها من منى ورغاب
إلى فدك والموت أغرب غاية ... وهذا المنى يأتي بكل عجاب
تبرض صفو العيش حتى استشفه ... فداف له البراض قشب حباب (1)
فأصبح في تلك المعاطف نهزة ... لنهب ضباع أو لنهس ذئاب
وما سهمه عند النضال بأهزع ... ولا سيفه عند الصراع (2) بنابي
ولكنها الدنيا تكر على الفتى ... وإن كان منها في أعز نصاب
وعادتها أن لا توسط عندها ... فإما سماء أو تخوم تراب
فلا ترج من دنياك وداً وإن يكن ... فما هو إلا مثل ظل سحاب
وما الحزم كل الحزم إلا اجتنابها ... فأشقى الورى من تصطفي وتحابي
أبيت لها، ما دام شخصي، أن ترى ... تمر ببابي أو تطور (3) جنابي
فكم عطلت من أربع وملاعب ... وكم فرقت من أسرة وصحاب
وكم عفرت من حاسر ومدجج ... وكم أثكلت من معصر وكعاب
إليكم بني الدنيا نصيحة مشفق ... عليكم بصير الأمور نقاب (4)
طويل مراس الدهر جذل مماحك ... عريض مجال الهم حلس ركاب
تأتت له الأهوال أدهم سابقاً ... وغصت به الأيام أشهب كابي
ولا تحسبوا أني على الدهر عاتب ... فأعظم ما بي منه أيسر ما بي
وما أسفي إلا شباب خلعته ... وشيب أبى إلا نصول خضاب
__________
(1) قشب حباب: سم حية؛ والإشارة إلى قصة عروة الرحال الذي أجار لطيمة النعمان وقتله البراض الكناني فجر ذلك إلى حروب الفجار، وهو خبر مشهور في كتب الأيام والأمثال.
(2) أزهار: المصاع.
(3) تطور: تقترب.
(4) النقاب: الخبير الذي يضع الأمور مواضعها أو لديه قوة حدس.(5/367)
وعمر مضى لم أحل مه بطائل ... سوى ما خلا من لوعة وتصابي
ليالي شيطاني على الغي قادر ... وأعذب ما عندي أليم عذاب
عكسنا قضايانا على حكم عادنا ... وما عكسها عند النهى بصواب
على المصطفى المختار أزكى تحية ... فتلك التي أعتد يوم حسابي
فتلك عتادي أو ثناء أصوغه ... كدر سحاب أو كدر سخاب (1) ومن مشهور نظم ابن خميس قوله (2) :
عجباً لها أيذوق طعم وصالها ... من ليس يأمل أن يمر ببالها
وأنا الفقير إلى تعلة ساعة ... منها، وتمنعني زكاة جمالها
كم ذاد عن عيني الكرى متألق ... يبدو ويخفى في خفي مطالها
يسمو لها بدر الدجى متضائلاً ... كتضاؤل الحسناء في أسمالها (3)
وابن السبيل يجيء يقبس نارها ... ليلاً فتمنحه عقيلة مالها
يعتادني في النوم طيف خيالها ... فتصيبني ألحاظها بنبالها
كم ليلة جادت به فكأنما ... زفت علي ذكاء وقت زوالها
أسرى فعطلها وعطل شهبها ... بأبي شذا المعطار من معطالها
وسواد طرته كجنح ظلامها ... وبياض غرته كضوء هلالها
دعني أشم بالوهم أدنى لمعة ... من ثغرها واشم مسكة خالها
ما راد طرفي في حديقة خدها ... إلا لفتنته بحسن دلالها
أنسيب شعري رق مثل نسيمها ... فشمول راحك مثل ريح شمالها
وانقل أحاديث الهوى واشرح غري ... ب لغاتها واذكر ثقات رجالها
__________
(1) السخاب: القلادة.
(2) أزهار الرياض: 319.
(3) استعاره من قول أبي تمام:
كسيت سبائب لؤمه فتضاءلت ... كتضاؤل الحسناء في الأطمار(5/368)
وإذا مررت برامة فتوق من ... أطلائها وتمشى في أطلالها
وانصب لمغزلها حبالة قانص ... ودع الكرى شركاً لصيد غزالها
وأسل جداول بفيض دموعها ... وانضح جوانحها بفضل سجالها
أنا من بقية معشر عركتهم ... هذي النوى عرك الرحى بثفالها (1)
أكرم بها فئة أريق نجيعها ... بغياً فراق العين حسن مآلها
حلت مدامة وصلها وحلت لهم ... فإن انتشوا فبحلوها وحلالها
بلغت بهرمس غاية ما نالها ... أحد وناء لها لبعد منالها
وعدت على سقراط سورة كأسها ... فهريق ما في الدن من جريانها
وسرت إلى فاراب منها نفحة ... قدسية جاءت بنخبة آلها (2)
ليصوغ من ألحانه في حانها ... ما سوغ القسيس من أرمالها
وتغلغلت في سهرورد فأسهرت ... عيناً يؤرقها طروق خيالها (3)
فخبا شهاب الدين لما أشرقت ... وخوى فلم يثبت لنور جلالها
ما جن مثل جنونه أحد، ولا ... سمحت يد بيضا بمثل نوالها
وبت على الشوذي (4) منها نشوة ... ما لاح منها غير لمعة آلها
بطلت حقيقته وحالت حاله ... فيما يعبر عن حقيقة حالها
هذي صبابتهم ترق صبابة ... فيروق شاربها صفاء زلالها وهي طويلة.
قال السلطان أبو عنان رحمه الله تعالى (5) : أخبرني شيخنا الإمام العالم العلامة
__________
(1) من قول زهير في معلقته:
" فتعرككم عرك الرحى بثقالها ... ............ البيت " (2) يشير إلى الفارابي الفيلسوف وقدرته في الموسيقى.
(3) فيه إشارة إلى السهروردي المتصوف.
(4) انظر هامش 4 ص: 260.
(5) أزهار الرياض: 322.(5/369)
وحيد زمانه أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم الآبلي رحمه الله تعالى، قال: لما توجه الشيخ الصالح الشهير أبو إسحاق التنسي من تلمسان إلى بلاد المشرق اجتمع هنالك بقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، فكان من قوله له: كيف حال الشيخ العالم أبي عبد الله ابن خميس وجعل حيليه بأحسن الأوصاف، ويطنب في ذكر فضله، فبقي الشيخ أبو إسحاق متعجباً، وقال: من يكون هذا الذي حليتموه بهذا الحلي ولا أعرفه ببلده فقال له: هو القائل:
عجباً لها أيذوق طعم وصالها ... قال: فقلت له: إن هذا الرجل ليس عندنا بهذه الحالة التي وصفتم، إنما هو عندنا شاعر فقط، فقال له: إنكم لم تنصفوه، وإنه لحقيق بما وصفناه به.
قال السلطان: وأخبرنا شيخنا الآبلي المذكور أن قاضي القضاة ابن دقيق العيد كان قد جعل القصيدة المذكورة بخزانة كانت له تعلو موضع جلوسه للمطالعة، وكان يخرجها من تلك الخزانة، ويكثر تأملها والنظر فيها، ولقد تعرفت أنه لما وصلت هذه القصيدة إلى قاضي القضاة تقي الدين المذكور لم يقرأها حتى قام إجلالاً لها؛ انتهى.
وكان ابن خميس رحمه الله تعالى - بعد مفارقة بلده تلمسان، سقى الله أرجاءها أنواء نيسان - كثيراً لمشاهدها، ويتأوه من تذكره لمعاهدها، وينشد القصائد الطنانة في ذلك، سالكاً في الحنين إليها المسالك، فمن ذلك قوله (1) :
تلمسان لو أن الزمان بها يسخو ... منى النفس لا دار السلام ولا الكرخ
وداري بها الأولى التي حيل دونها ... مثار الأسى لو أمكن الحنق اللبخ (2)
__________
(1) أزهار الرياض: 323، وهي قصيدة مليئة بالغريب تعمدا ولذا احتاجت ألفاظها إلى شرح، فاضطرتنا إلى الخروج عن خطتنا في الإقلال من الشروح اللفظية.
(2) اللبخ: الاحتيال والضرب والقتل.(5/370)
وعهدي بها والعمر في عنفوانه ... وماء شبابي لا أجين ولا مضخ (1)
قرارة تهيام، ومغنى صبابة ... ومعهد أنس لا يلذ به لطخ
إذا الدهر مثني العنان منهنه ... ولا ردع يثني من عناني ولا ردخ (2)
ليالي لا أصغي إلى عذل عاذل ... كأن وقوع العذل في أذني صمخ (3)
معاهد أنس عطلت فكأنها ... ظواهر ألفاظ تعمدها النسخ
وأربع آلاف عفا بعض آيها ... كما كان يعرو بعض ألواحنا اللطخ
فمن يك سكران من الوجد مرة ... فإني منه طول دهري لملتخ (4)
ومن يقتدح زنداً لموقد جذوة ... فزند اشتياقي لا عفار ولا مرخ
أأنسى وقوفي لاهياً في عراصها ... ولا شاغل إلا التودع والسبخ (5)
وإلا اختيالي ماشياً في سماطها ... رخياً كما يمشي بطرته الرخ (6)
وإلا فعدوي مثلما ينفر الطلا ... وليداً، وحجلي مثلما ينهض الفرخ
كأني فيها أردشير ابن بابك ... ولا ملك لي إلا الشبيبة والشرخ
وإخوان صدق من لاتي كأنهم ... جآذر رمل لا عجاف ولا بزخ (7)
وعاة لما يلقى إليهم من الهدى ... وعن كل فحشاء ومنكرة صلخ (8)
هم القوم كل القوم سيان في العلا ... شبابهم الفرعان والشيخة السلخ (9)
مضوا ومضى ذاك الزمان وأنسه ... ومر الصبا والمال والأهل والبذخ
__________
(1) الأجين: المتغير طعمه؛ المطخ: الذي تكاثرت فيه الدعاميص.
(2) الردخ: الردع.
(3) الصمخ: الضرب في صماخ الأذن.
(4) الملتخ: الذي اشتد سكره.
(5) السبخ: الفراغ.
(6) الرخ: حجر حر الحركة من أحجار الشطرنج.
(7) الأبزخ: المقعنسس، أي الذي برز صدره ودخل ظهره.
(8) الصلخ: جمع أصلخ وهو التام الصمم.
(9) الفرعان: الطويلو الشعر، والسلخ: الصلع.(5/371)
كأن لم يكن يوماً لأقلامهم بها ... صرير، ولم يسمع لأكعبهم جبخ (1)
ولم يك في أرواحها (2) من ثنائهم ... شميم ولا في القضب من لينهم ملخ (3)
ولا في مححيا الشمس من هديهم سناً ... ولا في جبين البد من طيبهم ضمخ
سعيتم بني عمور في شت شملنا ... فما تجركم ربح ولا عيشنا ربخ (4)
دعيتم إلى ما يرتجى من صلاحكم ... فردكم عنه التعجرف والجمخ (5)
تعاليتم عجباً فطم عليكم ... عباب له في رأس عليائكم جلخ
وأوغلتم في العجب حتى هلكتم ... جماح غواة ما ينهنههم قفخ (6)
كفاكم بها سجن طويل وإن يكن ... هلاك لكم فيها فهي لكم فخ
فكم فئة منا ظفرتم بنيلها ... بأبشارها من حجم أظفاركم برخ (7)
كأنكم من خلفها وأمامها ... أسود غياض وهي ما بينكم أرخ (8)
فللسوق منها القيد إن هي أغربت ... وللهام إن لم تعط ما رعت النقخ (9)
كأن تحتها من شدة القلق القطا ... ومن فوقها من شدة الحذر الفتخ (10)
وأقرب ما تهذي به الهلك والتى ... وأيسر ما تشكو به الذل والفنخ (11)
فماذا عسى نرجوه من لم شعثها ... وقد حز منها الفرع واقتلع الشلخ (12)
__________
(1) الجبخ: قعقعة الكعاب في الميسر.
(2) ق: أدواحها.
(3) الملخ: الطراوة.
(4) الربخ: الوقوع.
(5) الجمخ: العجرفة.
(6) الجلخ: اكتساح السيل للوادي؛ والقفخ: الضرب على الرأس.
(7) البرخ: قطع اللحم، وشبه أظفارهم بالسيوف.
(8) الأرخ: الفتي من البقر.
(9) النقخ: الضرب على الهام
(10) الفتخ: جمع فتخاء وهي صفة العقاب.
(11) الفنخ: فتح الرأس أو ضربه بالعصا.
(12) الشلخ: الأصل والعرق.(5/372)
وما يطمع الراجون من حفظ آيها ... وقد عصفت فيها رياحهم النبخ (1)
زعانف أنكاد لئام عناكل ... متى قبضوا كفاً على إثره طخوا (2)
ولما استقلوا من مهاوي ضلالهم ... وأوموا إلى أعلام رشدهم زخوا (3)
دعاهم أبو يعقوب للشرف الذي ... يذل له رضوى ويعنو له دمخ (4)
فلم يستجيبوه فذاقوا وبالهم ... وما لامرئ عن أمر خالقه نخ (5)
وما زلت أدعو للخروج عليهم ... وقد يسمع الصم الدعاء إذا أصخوا
وأبذل في استئصالهم جهد طاقتي ... وما لظنابيب ابن سابحة قفخ (6)
تركت لمينا سبتة كل نجعة ... كما تركت للعز أهضامها شمخ
وآليت أن لا أرتوي غير مائها ... ولو حل بي في غيره المن والمذخ (7)
وأن لا أحط الدهر إلا بعقرها ... ولو بوأتني دار أمرتها بلخ
فكم نقعت من غلة تلكم الأضا ... وكم أبرئت من علة تلكم اللبخ (8)
وحسبي منها عدلها واعتدالها ... وأبحرها العظمى وأريافها النفخ
وأملاكها الصيد المقاولة الألى ... لعزهم تعنو الطراخمة البلخ (9)
كواكب هدي في سماء رياسة ... تضيء فما يدجو ضلال ولا يضخو (10)
ثواقب أنوار تري كل غامض ... إذا الناس في طخياء غيهم إلتخوا (11)
__________
(1) النبخ: جمع أنبخ وهو الجافي الغليظ.
(2) العنكل: الصلب، وفي ق ص: لأم عثاكل؛ وطخ الشيء: ألقاه من يده فابعده.
(3) زخ: اندفع في الوهدة.
(4) دمخ: اسم جبل.
(5) النخ: السير العنيف.
(6) الظنوب: عظم الساق؛ القفخ: الكسر أو الشدخ.
(7) المذخ: نوع من العسل.
(8) الأضاءة: الغدير أو البحيرة؛ اللبخ: نوع من الشجر ينفع ورقه في التداوي.
(9) الطراخمة: المتكبرون؛ البلخ: المتعجرفون.
(10) طخا الضلال: اشتدت ظلمته.
(11) الطخياء: الظلمة الشديدة؛ التخ: حار واضطرب.(5/373)
وروضات آداب إذا ما تأرجت ... تضاءل في أفياء أفنانها الرمخ (1)
مجامر ند في حدائق نرجس ... تنم ولا لفح يصيب ولا دخ (2)
وأبحر علم لا حياض رواية ... فيكبر منها النضح أو يعظم النضخ
بنوا العزفيين الألى من صدورهم ... وأيديهم تملا القراطيس والطرخ (3)
إذا ما فتى منهم تصدى لغاية ... تأخر من ينحو وأقصر من ينخو
رياسة أخيار وملك أفاضل ... كرام لهم في كل صالحة رضخ (4)
إذا ما بدا منا جفاء تعطفوا ... علينا، وإن حلت بنا شدة رخوا
نزورهم حذاً نحافاً فننثني ... وأجمالنا دلح وأبداننا دلخ (5)
يربوننا بالعلم والحلم والنهى ... فما خرجنا بز ولا حدنا برخ (6)
وما الزهد في أملاك لخم ولا التقى ... ببدع، وللدنيا لزوق بمن يرخو
وإلا ففي رب الخورنق غنية ... فما يومه سر ولا صيته رضخ (7)
تطلع يوماً والسدير أمامه ... وقد نال منه العجب ما شاء والجفخ (8)
وعن له من شيعة الحق قائم ... بحجة صدق لا عبام ولا وشخ (9)
فأصبح يجتاب المسوح زهادة ... وقد كان يؤذي بطن أخمصه النخ (10)
وفي واحد الدنيا أبي حاتم لنا ... دواء، ولكن ما لأدوائنا نتخ (11)
__________
(1) الرمخ: الشجر المجتمع.
(2) الدخ: لغة في الدخان.
(3) الطرخ: الأحواض، والمفرد طرخة.
(4) الرضخ: النوال.
(5) الأخذ: الضامر؛ الدلوح: المتثاقل لنقل حمله؛ والدلوخ: السمين.
(6) البز: الابتزاز؛ البرخ: القهر.
(7) الرضخ: خبر تسمعه ولا تستيقنه.
(8) الجفخ: التنفج والتكبر.
(9) العبام: الفدم العيي؛ الوشخ: الضعيف.
(10) النخ: نوع من البسط.
(11) النتخ: الانتزاع.(5/374)
تخلى عن الدنيا تخلي عارف ... يرى أنها في ثوب نخوته لتخ (1)
وأعرض عنها مستهيناً لقدرها ... فلم يثنه عنها اجتذاب ولا مصخ (2)
فكان له من قلبها الحب والهوى ... وكان لها من كفه الطرح والطخ (3)
وما معض عنها وهي في طلابه ... كمن في يديه من معاناتها نبخ (4)
ولا مدرك ما شاء من شهواتها ... كمن حظه منها التمجع والنجخ (5)
ولكننا نعمى مراراً عن الهدى ... ونصلج حتى ما لآذاننا صمخ (6)
وما لامرئ عما قضى الله مزحل ... ولا لقضاء الله نقض ولا فسخ
أبا طالب لم تبق شيمة سؤدد ... يساد بها إلا وأنت بها سنخ
لسوغت أبناء الزمان أيادياً ... لدرتها في كل سامعة شخ (7)
وأجريتها فيهم عوائد سؤدد ... فما لهم كسب سواها ولا نخ
غذتهم غواديها فهي في عروقهم ... دماء، وفي أعماق أعظمهم مخ
وعمتهم حزناً وسهلاً. فأصبحوا ... ومرعاهم وزخ ومرعيهم ولخ (8)
بني العزفيين ابلغوا ما أردتم ... فما دون ما تبغون وحل ولا زلخ (9)
ولا تقعدوا عمن أراد سجالكم ... فما غربكم جف ولا غرفكم وضخ (10)
وخلوا وراء كل طالب غاية ... وتيهوا على من رام شأوكم وانخوا (11)
__________
(1) اللتخ: كاللطخ أي البقعة في الثوب.
(2) المصخ: جذب الشيء وانتزاعه.
(3) الطخ: قذف الشيء بعيدا.
(4) النبخ: قروح في اليد.
(5) التمجع: الاكتفاء بقليل من لبن أو تمر؛ النجخ: الزهد فيها.
(6) نصلج: نصاب بالصمم؛ والصمخ: صماخ الأذن.
(7) الشخ: صوت الشخب.
(8) الوزخ: نوع من الشجر؛ والولخ: الطويل من العشب.
(9) الزلخ: المزلق.
(10) الغرب: الدلو؛ الجف: الذي تشن؛ الغرف: انتشال الماء؛ وضخ: قليل.
(11) سقط هذا البيت من ق.(5/375)
ولا تذروا الجوزاء تعلو عليكم ... ففي رأسها من وطء أسلافكم شدخ
لأفواه أعدائي وأعين حسدي ... إذا جليت خائيتي الغض والفضخ
دعوها تهادى في ملاءة حسنها ... ففي نفسها من مدح أملاكها مدخ (1)
يمانية زارت يمانين فانثنت ... وقد جد فيها الزهو واستحكم الزمخ (2) وقد بسط في الإحاطة ترجمة ابن خميس المذكور، ومما أنشد له قوله (3) :
سل الريح إن لم تسعد السفن أنواء ... فعند صباها من تلمسان أنباء
وفي خفقان البرق منها إشارة ... إليك بما تنمي إليها وإيماء
تمر الليالي ليلة بعد ليلة ... وللأذن إصغاء وللعين إكلاء (4)
وإني لأصبو للصبا كلما سرت ... وللنجم مهما كان للنجم إصباء (5)
وأهدي إليها كل يوم تحية ... وفي رد إهداء التحية إهداء
وأستجلب النوم الغرار ومضجعي ... قتاد كما شاءت نواها وسلاء (6)
لعل خيالاً من لدنها يمر بي ... ففي مره بي من جوى الشوق إبراء
وكيف خلوص الطيف منها ودونها ... عيون لها في كل طالعة راء
وإني لمشتاق إليها ومنبئ ... ببعض اشتياقي لو تمكن إنباء
وكم قائل تفنى غراماً بحبها ... وقد أخلقت منها ملاء وأملاء
لعشرة أعوام عليها تجرمت ... إذا ما مضى قيظ بها جاء إهراء (7)
__________
(1) المدخ: العظمة.
(2) الزمخ: الكبر وشموخ الأنف.
(3) أزهار الرياض: 336 وفيها يذكر ما حل ببلده من تلمسان لدى حصار يعقوب بن عبد الحق لها.
(4) الإكلاء: ترديد البصر.
(5) أزهار: إسراء.
(6) السلاء: الشوك.
(7) الإهراء: شدة البرد التي تهرأ الأجسام.(5/376)
يطنب فيها عائثون وخرب ... ويرحل عنها قاطنون وأحياء (1)
كأن رماح الناهبين لملكها ... قداح، وأموال المنازل أبداء (2)
فلا تبغين فيها مناخاً لراكب ... فقد قلصت منها ظلال وأفياء
ومن عجب أن طال سقمي ونزعها ... وقسم إضناء علينا وإطناء (3)
وكم أرجفوا غيظاً بها ثم أرجأوا ... فيكذب إرجاف ويصدق إرجاء
يرددها عياب الدهر مثلما ... يردد حرف الفاء في النطق فأفاء.
فيا منزلاً نال الردى منه ما اشتهى ... ترى هل لعمر الأنس بعدك إنساء
وهل للظى الحرب التي فيك تلتظي ... إذا ما انقضت أيام بؤسك إطفاء
وهل لي زمان أرتجي به عودة ... إليك ووجه البشر أزهر وضاء ومنها:
أحن لها ما أطت النيب حولها ... وما عاقها عن مورد الماء أظماء
فما فاتها مني نزاع على النوى ... ولا فاتني منها على القرب إجشاء (4)
كذلك جدي (5) في صحابي وأسرتي ... ومن لس بع في أهل ودي إن فاؤوا
ولولا جوار ابن الحكيم محمد ... لما فات نفسي من بني الدهر إقماء (6)
حماني فلم تنتب محلي نوائب ... بسوء ولم ترزأ فؤادي أرزاء
وأكفأ بيتي في كفالة جاهه ... فصاروا عبيداً لي وهم لي أكفاء (7)
يؤمون قصدي طاعة ومحبة ... فما عفته عافوا وما شئته شاؤوا
__________
(1) أزهار: وتناء؛ وهم المقيمون بالمكان.
(2) الأبداء: الأنصباء من الجزور عند المتياسرين.
(3) الإطناء: الداء.
(4) الإجشاء: تحرك النفس بالشوق.
(5) ق: وجدي.
(6) الإقماء: الإذلال والتحقير.
(7) أكفأ البيت: ستره.(5/377)
دعاني إلى المجد الذي كنت آملاً ... فلم يك لي عن دعوة المجد إبطاء
وبوأني من هضبة العز تلعة ... يناجي السها منها صعود وطأطاء (1)
يشيعني منها إذا سرت حافظ ... ويكلؤني منها إذا نمت كلاء (2)
ولا مثل نومي في كفالة غيره ... وللذئب إلمام وللصل إيماء
بغيضه ليث أو بمرقب خالب ... تبز كساً فيه وتقطع أكساء
إذا كان لي من نائب الملك كافل ... ففي حيثما هومت كن وإدماء
وإخوان صدق من صنائع جاهه ... يبادرني منهم قيام وإيلاء
سراع لما يرجى من الخير عندهم ... ومن كل ما يخشى الشر أبراء
إليك أبا عبد الإله صنعتها ... لزومية فيها لوجدي إفشاء
مبرأة مما يعيب لزومها ... إذا عاب إكفاء سواها وإيطاء
أذعت بها السر الذي كان قبلها ... عليه لأحناء الجوانح إضناء
وإن لم يكن كل الذي كنت آملاً ... وأعوز إكلاء فما عاز إكماء (3)
ومن يتكلف مفحماً شكر منة ... فما لي إلى ذاك التكلف إلجاء
إذا منشد لم يكن عنك ومنشىء ... فلا كان إنشاد ولا كان إنشاء رجع إلى ترجمة ابن الفخار وفوائده:
قال الشاطبي: حدثنا الأستاذ الكبير أبو عبد الله ابن الفخار قال: جلس بعض الطلبة إلى بعض الشيوخ المقرئين، فأتى المقرئ بمسألة الزوائد الأربعة في أول الفعل المضارع، وقال: يجمعها قولك نأيت فقال له ذلك الطالب: لو جمعتها بقولك أنيت لكان أملح، ليكون كل حرف تضعيف ما قبله، فالهمزة لواحد وهو المتكلم، والنون لاثنين وهما: الواحد ومعه غيره، والواحد
__________
(1) الطأطاء: المنهبط من الأرض.
(2) الكلاء: الحافظ.
(3) الإكماء: كثرة الكمأة.(5/378)
المعظم نفسه، والياء لأربعة: للواحد الغائب، وللغائبين، وللغائبين، وللغائبات، والتاء لثمانية: للمخاطب، وللمخاطبين، وللمخاطبين، والمخاطبة، والمخاطبتين، والمخاطبات، وللغائب، وللغائبتين، فاستحسن الشيخ ذلك منه.
وحكى الشاطبي أيضاً أن شيخه ابن الفخار أورد عليهم سؤالاً، وهو: كيف يجمع بين مسألة رجل أوقع الصلاة بثوب حرير اختياراً وبين قوله:
جرى الدميان بالخبر اليقين ... فلم ينقدح لنا شيء، فقال: الجواب أن الأول ممنوع عند الفقهاء شرعاً، ورد اللام في دم في التثنية ممنوع عند النحاة قياساً، وكلاهما في حكم المعدوم حساً، وإذا كان كذلك كان الأول بمنزلة من صلى بادي العورة اختياراً، فتلزمه الإعادة، وكان الثاني بمنزلة ما باشر فيه عين دم علم التثنية، فتلزمه الفتحة، وإن كان أصلها السكون، قال: وهذه المسألة تشبه مسألة ابن جني في الخصائص، قال (1) : ألقيت يوماً على بعض من كان يعتادني مسألة فقلت له: كيف تجمع بين قوله:
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب وبين قوله اختصم زيد وعمرو فلم ينقدح له فيها شيء، وعاد مستفهماً، فقال له: اجتماعهما أن الواو اقتصر به على بعض ما وضع لنا من الصلاحية الملازمة مطلقاً، والطريق اقتصر به على بعض ما كان يصلح له (2) .
قال الشاطبي: وحدثني أيضاً قال: كان لقاضي القضاة علماً وجزالة أبي جعفر ولد يقرأ علي بمالقة، وكان ابناً نبيهاً فهماً ونبلاً، فسأل مني يوماً مسألة
__________
(1) الخصائص 3: 319 والبيت لساعدة بن جؤية الهذلي في وصف الرمح.
(2) الخصائص: فقلت اجتماعها من حيث وضع كل منهما في غير الموضع الذي بدئ له، وذلك أن الطريق خاص وضع موضع العام.(5/379)
يذكرها لأقرانه، وكان معجباً بالغرائب، فجرى على لساني أن قلت له: بين على زيد فعل أمر وفاعل، والأصل ابأين على زيد، ثم سهل بالنقل والحذف، على قياس التسهيل، فصار بين كما ترى، فأعجب بالمسألة حتى ناظر فيها ليلة أباه، وكان أنحى نحاة أهل عصره، فأعجب مما يرى من ابنه من النبل والتحصيل، فبلغت المسألة الشيخ الأستاذ أبا بكر (1) ابن الفخار رحمه الله تعالى، فاعتنى بها، وحاول في استخراج وجه من وجوه الاعتراض على عادة المصلحين من طلبة العلم، فوجد في مختصر العين أن الكلمة من ذوات الواو، ولم يذكر صاحب المختصر غير ذلك، ولم يكن رحمه الله تعالى رأى قول أبي الحسن اللحياني في نوادره: إنه مما يتعاقب على لامه الواو والياء فيقال: بأى يبأى بأواً وبأياً، كما يقال شأى يشأى شأواً وشأياً، فلم يقدم شيئاً على أن اجتمع بالقاضي المذكور فقال له: ألم تسمع ما قاله فلان بين على زيد وإنما هو بون على زيد؛ لأنه من ذوات الواو، ونص على ذلك صاحب المختصر، وحمله على أن يرسل إلي ويردني عن ذلك الذي قلته في المسألة، واجتمعت أنا معه، وحدثني بما جرى له مع الأستاذ ابن الفخار، فذكرت له ما حكاه أبو الحسن اللحياني في نوادره، وما قاله ابن جني في سر الصناعة فسر بذلك، وأرسل بعد إلى القاضي ابن الفخار، وذكر له نص اللحياني وقل ابن حني وجمع القاضي بيننا، وعقد في قلوبنا مودة، فكان الأستاذ ابن الفخار يومئذ يقصدني في منزلي وفي المواسم، ويستشيرني في أموره على سبيل التأنيس، رحمة الله عليه، فأواه على فقد الناس أمثاله.
وقال الشاطبي أيضاً: أنشدني الفقيه الأستاذ الكبير أبو عبد الله ابن الفخار رحمه الله تعالى، وقال: ألقي في سري بيت لم أسمعه قط في السادس عشر من شهر رجب عام ستة وخمسين وسبعمائة:
__________
(1) ها هنا كناه أبا بكر فكأن له كنيتين.(5/380)
لتكن راجياً كما أنت ترجو ... ولأربى من الذي أنت راجي قال الشاطبي: وقرر لنا الأستاذ ابن الفخار المذكور يوماً توجيه قول أبي الحسن الأخفش في كسرة الذال من نحو يومئذ إنها إعرابية لا بنائية، إذ لم يذكر أحد وجه هذا المذهب من قبل، قال ابن جني: إن الفارسي اعتذر له بما يكاد يكون عذراً، فلما تم التوجيه قلت له وأنا حينئذ صغير السن: هب أن الأمر على ما قاله الأخفش من أن الكسرة إعرابية، فما يصنع ببناء الزمان المضاف إلى إذ في أحد الوجهين والإضافة إلى المفرد المعرب تقتضي الإعراب دون البناء فتعجب من صدور هذا السؤال مني لصغر سني، وأجاب عنه بأنه قد يذهب السبب ويبقى حكمه، كما قال ابن جني في اسم الإشارة في ترجمة سيبويه هذا علم ما الكلم من العربية على أن يكون سيبويه وضعه غير مشير به وتركه مبنياً، وأزال سبب البناء، ونظر ذلك بباب التسوية على ما هو مقرر في موضعه، قال: ونظير ذلك ما قرر من إضافة حيث إلى المفرد مع بقاء البناء فيما ذكره الزمخشري، وذلك قوله:
أما ترى حيث سهيل طالعاً ... وقوله أنشدنا ابن الأعرابي لبعض المحدثين:
ونحن سعينا بالبلايا لمعقل ... وقد كان منكم حيث لي العمائم وقد كان حقها أن تعرب لزوال سبب البناء، وهو الإضافة إلى جملة، وحصول سبب الإعراب وهو الإضافة إلى المفرد، ولكنه لم يعتبر النادر، وأبقى الحكم الشائع.
وقال الشاطبي أيضاً: كان شيخنا ابن الفخار يأمرنا بالوقف على قوله تعالى في سورة البقرة {قالوا الآن} ونبتدئ {جئت بالحق} وكان يفسر لنا معنى ذلك قولهم الآن أي فهمنا وحصل البيان، ثم قيل: جئت بالحق، يعني في كل(5/381)
مرة، وعلى كل حال، وكان - رحمه الله تعالى - يرى هذا الوجه أولى من تفسير ابن عصفور له من أنه على حذف الصفة، أي: بالحق البين، وكان يحافظ عليه.
وقال الشاطبي: أنشدني صاحبنا الفقيه الأجل الأديب البارع أبو محمد ابن حذلم (1) لنفسه أبياتا، أنشدنيها يوم عيد على قبر سيدنا الإمام الأستاذ الكبير الشهير أبي عبد الله ابن الفخار يرثيه بها:
أيا جدثاً قد أحرز الشرف المحضا ... بأن صار مثوى السيد العالم الأرضى
عجبت لما أحرزته من معارف ... وشتى معال لم تزل تعمر الأرضا
طويت عليه وهو عين زمانه ... فيا جفن عين الدهر كم تؤثر الغمضا
فحياك من صوب الحيا كل ديمة ... تديم له في الجنة الرفع والخفضا
فها نحن في عيد الأسى حول قبره ... وقوفاً لنقضي من عيادته الفرضا
كمثل الذي كنا وقوفاً ببابه ... بعيد الأماني زائرين له أيضا
ومنا سلام لا يزال يخصه ... يذكره من بعض أشواقنا البعضا [ترجمة ابن حذلم]
قلت: وابن حذلم المذكور له باع مديد في العلم والأدب، وهو أبو محمد عبد الله بن عبد الله بن حذلم، ومن نظمه قوله:
أبت المعارف أن تنال براحة ... إلا براحة ساعد الجد
فإذا ظفرت بها فلست بمدرك ... أرباً بغير مساعدة الجد وقوله رحمه الله:
__________
(1) انظر ترجمة ابن حذلم في مستودع العلامة: 74، وكان ابن حذلم كاتب علامة السلطان عبد الرحمن المريني فقيها عارفا بالنوازل.(5/382)
كم من صديق حال في وده ... ولم أزل أزويه عن محضه
حضوره عين على وده ... وغيبه عين على بغضه
ولم أكن أجهل هذا ولا ... عجزت أن أجري على قرضه
لكن من قد سرني بعضه ... أحب أن أصفح عن بعضه وقوله رحمه الله يوم عيد، وهو مما ألهج به أنا كثيراً:
يقولون لي خل عنك الأسى ... ولذ بالسرور فذا يوم عيد
فقلت لهم والأسى غالب ... ووجدي يحيى وشوقي يزيد
توعدني مالكي بالفراق ... فكيف أسر وعيدي وعيد وقوله رحمه الله:
حبيب زارني في الليل سراً ... فأحيا نفس مشتاق إليه
وعللني بنشر المسك منه ... وحياني بصفحة وجنتيه
وعانقني عناق الود صفحاً ... وفارقني فيا لهفي عليه رجع - وتوفي الأستاذ سيبويه زمانه أبو عبد الله محمد بن علي بن الفخار أستاذ الجماعة بغرناطة ليلة الاثنين ثاني عشر رجب علم أربعة وخمسين وسبعمائة رحمه الله تعالى.
رجع إلى مشايخ لسان الدين رحمه الله تعالى.
13 - ومنهم (1) الأستاذ ابن العواد، قال في " الإحاطة " (2) : قرأت كتاب الله عز وجل على المكتب نسيج وحده، في تحمل المنزل حق حمله، تقوى وصلاحاً وخصوصية وإتقاناً ونغمة وعناية وحفظاً وتبحراً في هذا الفن،
__________
(1) ق: ومن مشايخه.
(2) انظر مخطوطة الإحاطة، الورقة: 411 أول فصل " المشيخة ".(5/383)
واضطلاعاً بغرائبه، واستيعاباً لسقطات الأعلام، الأستاذ الصالح أبي عبد الله ابن عبد الولي العواد تكتيباً ثم حفظاً ثم تجويداً، على مقرإ أبي عمرو، ثم نقلني إلى أستاذ الجماعة، ومطية الفنون، ومفيد الطلبة، الشيخ الخطيب المتفنن أبي الحسن علي القيجاطي، فقرأت عليه القرآن والعربية، وهو أول من انتفعت به؛ انتهى.
14 - ومن أشياخه رحمه الله الشيخ العلامة أبو عبد الله ابن بيبش، وله رحمه الله تعالى نظم جيد، فمنه قوله ملغزاً في مسطرة الكتابة:
ومقصورة خلف الحجاب وسرها ... مضاع، فما يلقاك من دونها ستر
لها جثة بيضاء أسبل فوقها ... ذوائب زانتها، وليس لها شعر
إذا ألبست مثل الصباح وبرقعت ... رأيت سواد الليل لم يمحه الفجر
عقيلة صون لا يفرق شملها ... سوى من أهمته الخطابة والشعر وقوله في ترتيب حروف الصحاح:
أساجعة بالواديين تبوئي ... ثماراً جنتها حاليات خواضب
دعي ذكر روض زاره سقي شربه ... صباح ضحى طير ظماء عواصب
غرام فؤادي قاذف كل ليلة ... متى ما نأى وهناً هداه يراقب وله جواب عن البيتين المشهورين:
يا ساكناً قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثاني
لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان فقال:
نحلتني طائعاً فؤاداً ... فصار إذ حزته مكاني
لا غرو إذ كان لي مضافاً ... أني على الكسر فيه باني(5/384)
وقد ذكرت ذلك في غير هذا الموضع مع زيادة بلفظ لسان الدين، فليراجع في الباب الخامس من هذا الكتاب.
15 - ومن أشياخ (1) لسان الدين رحمه الله تعالى قاضي الجماعة الصدر المتفنن أبو عبد الله ابن بكر (2) ، قال في الإحاطة: وقرأت على قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن بكر رحمه الله تعالى؛ انتهى.
وقاضي الجماعة عند المغاربة هو بمعنى قاضي القضاة عند المشارقة، فليعلم ذلك. وابن بكر المذكور هو محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن بكر بن سعيد الأشعري المالقي، من ذرية أبي موسى الأشعري، كان من صدور العلماء، وأعلام الفضلاء، سذاجه ونزاهة ومعرفة وتفنناً، فسيح الدرس، أصيل النظر، واضح المذهب، مؤثراً للإنصاف، عارفاً بالأحكام والقراءة، مبرزاً في الحديث تاريخاً وإسناداً وتعديلاً وجرحاً، حافظاً للأنساب والأسماء والكنى، قائماً على العربية، مشاركاً في الأصول والفروع واللغة والعروض والفرائض والحساب، مخفوض الجناح حسن الخلق عطوفاً على الطلبة، محباً في العلم والعلماء، مطرحاً للتصنع، عديم المبالاة بالملبس بادي الظاهر (3) عزيز النفس نافذ الحكم، تقدم ببلده مالقة، ناظراً في أمور العقد والحل ومصالح الكافة، ثم ولي القضاء بها فأعز الخطة وترك الشوائب (4) ، وأنفذ الحق ملازماً للقراءة والإقراء، محافظاً
__________
(1) ق: مشايخ.
(2) ترجمة ابن أبي بكر في نيل الابتهاج: 234 نقلا عن الإحاطة، والمرقبة العليا: 141 - 147 ووقع في سرد مشيخة لسان الدين من الإحاطة " ابن أبي بكر " وهو خطأ؛ وقد ترجم ابن الخطيب له أيضا في " عائد الصلة " وعنه ينقل النباهي. وقد أطنب النباهي في الثناء عليه وقال إنه ممن جمع بيد الدراية والرواية، وكان لا يأكل إلا عند حاجته للأكل ولا ينام إلا إذا غلبه النوم ولا يتكلم بغير العلم إلا عن ضرورة وشبهه في قضائه بسحنون بن سعيد.
(3) كذا في الأصلين ونيل الابتهاج؛ وربما كانت " باذ ".
(4) الشوائب: سقطت من ص ق؛ وفي نيل الابتهاج: وترك الهواذة، وهو أدق وأنسب.(5/385)
للأوقات، حريصاً على الإفادة، ثم ولي القضاء بغرناطة المحروسة (1) سنة 737، فقام بالوظائف وصدع بالحق وبهرج الشهود فزيف منهم ما يزيد على سبعين، واستهدف بذلك إلى معاداة ومناضلة خاض ثبجها وصادم تياره، غير مبال بالمغبة ولا حافل بالتبعة، فناله لذلك من المشقة والكيد العظيم ما نال مثله، حتى كان لا يمشي إلى الصلاة ليلاً ولا يطمئن على حاله، وجرت له في ذلك حكايات، إلى أن عزم عليه الأمير أن يرد للعدالة بعض من أخره، فلم يجد في قناته مغمزاً ولا في عوده معجماً، وتصدر لبث العلم بالحضرة، يقرئ فنوناً جمة، فنفع وخرج وأقرأ القرآن ودرس الفقه والأصول والعربية والفرائض والحساب، وعقد مجالس الحديث شرحاً وسماعاً على انشراح صدره وحفظ تجمل وخفض جناح، قال القاضي ابن الحسن (2) : إنه كان صاحب عزم ومضاء، وحكم صادع وقضاء أحرق قلوب الحسدة، وأعز الخطة بإزالة الشوائب، وذهب وفضض الحق بمعارفه، ونذف في المشكلات، وثبت في المعضلات، واحتج وبكت، وتفقه ونكت. وحدثنا صاحبنا أبو جعفر الشقوري قال (3) : كنت جالساً بمجلس حكمه، فرفعت رقعة مضمنها أنها محبة في مطلقها، وتبتغي الشفاعة لها في ردها، فتناول الرقعة، ووقع على ظهرها بلا مهلة: الحمد لله، من وقف على ما بالقلوب فليصخ لسماعه إصاخة معيث، وليشفع للمرأة عند زوجها (4) تأسياً بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لبريرة في مغيث (5) ، والله يسلم لنا العقل والدي، ويسلك بنا سبيل المهتدين، والسلام من كاتبه.
__________
(1) لعل اللفظة هنا يقابلها لفظة " محرم " في نيل الابتهاج.
(2) هذا موافق لما في نيل الابتهاج نصا ولكنه عن المرقبة العليا بالمعنى.
(3) انظر المرقبة العليا: 145.
(4) المرقبة: مفارقها.
(5) بريرة: جارية عائشة، ومغيث زوجها، فلما أعتقت بريرة وهو ما يزال على الرق اختارت مفارقته فجاء إلى النبي يبكي ويسأله أن يشفع له عندها.(5/386)
قال الشقوري: قال لي بعض الأصحاب: هلا كان هو الشفيع لها، فقلت: الصحيح أن الحاكم لا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه على المنصوص.
قرأ ابن بكر المذكور على الأستاذ ابن أبي السداد الباهلي (1) القرآن جمعاً وإفراداً والعربية والحديث، ولازمه وتأدب به، وعلى الشيخ الصالح أبي عبد الله ابن عياش (2) كثيراً من كتب الحديث، وسمع عليه جميع صحيح مسلم إلا دولة واحدة، وأخذ عن الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير والخطيب ابن رشد والولي الصالح أبي الحسين ابن فضيلة والأستاذ أبي عبد الله ابن الكماد (3) ، وأجازه العدل الراوية أبو فارس عبد العزيز ابن الهواري وأبو إسحاق (4) التلمساني؛ ومن أهل الدمياطي، وجماعة من أهل الشام والحجاز، فقد (5) رحمه الله تعالى في المصاف يوم المناجزة بطريف، زعموا أنه وقع عن بغلة ركبها، وأشار عليه بعض المنهزمين بالركوب فلم يقدر، فقال له: انصرف هذا يوم الفرح، إشارة لقوله تعالى " فرحين بما آتاهم من فضله " وذلك ضحى يوم الاثنين 7 جمادى الأولى سنة 741 رحمه الله تعالى.
16 - ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الشيخ أبو إسحاق ابن أبي يحيى الشهير الذكر في المغرب، وقد عرف به في الإحاطة في اسم إبراهيم من ترجمة الغرباء بما نصه: إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التسولي، من أهل تازى، يكنى أبا سالم، ويعرف بابن أبي يحيى (6) .
__________
(1) اسمه عبد الواحد بن أبي السداد.
(2) هو محمد بن عياش الخزرجي؛ وفي النيل: أبي عبد الله انب حريث.
(3) هو محمد بن أحمد بن داود اللخمي (الديباج: 298) .
(4) زاد في ق: ابن.
(5) ق: وفاته.
(6) ترجمة ابن أبي يحيى في المرقبة العليا: 136 وجذوة الاقتباس: 84 والإحاطة 1: 217 والمقري ينقل عن الإحاطة.(5/387)
حاله من الكتاب المؤتمن (1) - كان هذا الرجل قيماً على التهذيب ورسالة ابن أبي زيد، حسن الإقراء لهما، وله عليهما تقييدان نبيلان قيدهما أيام قراءته إياهما على أبي الحسن الصغير، حضرت مجالسه بمدرسة عدوة الأندلس من فاس، ولم أر في متصدري بلده أحسن تدريساً منه، كان فصيح اللسان، سهل الألفاظ، موفياً حقوقها، وذلك لمشاركته الحضر فيما بأيديهم من الأدوات، وكان مجلسه وقفاً على التهذيب والرسالة، وكان مع ذلك سمحاً فاضلاً، حسن اللقاء، على خلق بائنة على أخلاق أهل مصره، امتحن بصحبة السلطان، فصار يستعمله في الرسائل، فمر في ذلك حظ كبير من عمره ضائعاً لا في راحة دنيا ولا في نصب آخرة، ثم قال: وهذه سنة الله فيمن خدم الملوك، ملتفتاً إلى ما يعطونه، لا إلى ما يأخذون من عمره، وراحته أن يبوء بالصفقة الخاسرة، لطف الله بمن ابتلي بذلك وخلصنا خلاصاً جميلاً.
ومن كتاب " عائد الصلة ": الشيخ الفقيه الحافظ القاضي، من صدور المغرب (2) ، مشاركة في العلم، وتبحراً في الفقه، كان وجيهاً عند الملوك، صحبهم وحضر مجالسهم واستعمل في السفارة، فلقيناه بغرناطة، وأخذنا بها عنه، تام السراوة حسن العهد مليح المجالس أنيق المحاضرة، كريم الطبع صحيح المذهب.
تصانيفه - قيد على المدونة بمجلس شيخه أبي الحسن كتاباً مفيداً، وضم أجوبته على المسائل في سفر، وشرح كتاب الرسالة شرحاً عظيم الإفادة.
مشيخته - لازم أبا الحسن الصغير، وهو كان قارئ كتب الفقه عليه، وجل انتفاعه في التفقه به، وروى عن أبي زكريا ابن يس (3) ، قرأ عليه كتاب
__________
(1) الكتاب " المؤتمن " من تأليف أبي البركات ابن الحاج البلفيقي وسيأتي ذكره في ترجمته ص: 486.
(2) في الأصلين: العلم، والتصويب عن الإحاطة.
(3) الإحاطة: ابن أبي ياسين.(5/388)
" الموطأ " إلا كتاب المكاتب وكتاب المدبر فإنه سمعه بقراءة الغير، وعن أبي عبد الله ابن رشد، قرأ عليه الموطأ وشفاء عياض، وعن أبي الحسن ابن عبد الجليل السدراتي، قرأ عليه الأحكام الصغرى لعبد الحق، وأبي الحسن ابن سليمان، قرأ عليه رسالة ابن أبي زيد، وعن غيرهم.
وفاته - فلج بأخرة فالتزم منزله بفاس يزوره السلطان ومن دونه، وتوفي بعد عام ثمانية وأربعين وسبعمائة؛ انتهى.
وقال ابن الخطيب القسمطيني: إن أبي يحيى المذكور توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة (1) ؛ انتهى.
17 - ومن أشياخ لسان الدين الطنجالي الهاشمي، وهو محمد بن أحمد (2) . قال في عائد الصلة: كان على سنن سلفه كثرة حياء وسمة صلاح وشدة انقباض وإفراط وقار وحشمة، بذ الكهولة على حداثة سنه في باب الورع والدين والإغراق في الصلاح والخير، وتقدم خطيباً ثم قاضياً ببلده، فأظهر من النزاهة والعدالة ما يناسب منصبه، ففزع الناس إليه من كائنة الوباء العظيم بأموالهم، وقلدوه عهود صدقاتهم، فاستقر في يده المال الصامت والحلى والذخيرة والعدة ما تضيق بيوت أموال الملك عنه وصرف ذلك مصارفه، ووضعه وفق عهوده، فلم يتلبس منه بنقير ولا قطمير، وكان مدركاً أصيل الرأي، قائماً على الفرائض والحساب، ثم تحرج وطلب الإعفاء فأسعف به على حال ضنانة، وفي ذلك يقول قريبه صاحبنا الفقيه القاضي أبو الحسن ابن الحسن يخاطبه (3) :
__________
(1) وقال النباهي: في حدود 749.
(2) ترجمته في المرقبة العليا: 155.
(3) يعني النباهي صاحب المرقبة العليا، وقصيدته ص: 158.(5/389)
لك الله يا بدر السماحة (1) والبشر ... رفعت بأعلى رتبة راية الفخر
ولا سيما لما وليت أمورها ... فرويتها من عذب نائلك الغمر
ودارت قضاياها عليك بأسرها ... على حين لا بر يعين ولا بر
فقمت بها خير القيام مصمماً ... على الحق تصميم المهندة البتر
فسر بك الإسلام يا ابن حمامة ... وأمست بك الأيام باسمة الثغر
تعيد عليك الحمد ألسن حالها ... وتتلو لما يرضيك (2) من سور الشكر
لذاك أمير المسلمين بعدله ... أقامك تقضي في الزمان على جبر
فأحييت رسم العلم بعد مماته ... وغادرت وجه الحكم أسنى من البدر
ولكنك استعفيت عنه تورعاً ... وتلك سبيل الصالحين كما تدري
فكم من ولي فر عنه لعلمه ... به كأبي الحجاج جدك من ذخر
فزاد اتصالاً عزه باجتنابه ... له وسما قدراً على قنة النسر
جريت على نهج السلامة في الذي ... تبعت له فابشر بأمنك في الحشر
وأرضاك مولاك الإمام بفضله ... وأعفاك إعفاء الكرامة والبر
فأنت على الحالين أفضل من قضى ... وأشرف من يعفى إلى آخر الدهر
لما حزت من شتى المعالي التي بها ... تحليت عن أسلافك السادة الغر
صدور مقامات المعارف كلها ... بحور النوال الجم في اليسر والعسر
هم النفر الأعلون من آل هاشم ... وناهيك من مجد أثيل ومن فخر وهي طويلة؛ انتهى.
18 - من أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الشيخ الإمام الخطيب الرئيس سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق (3) ، ولنلخص ترجمته من " الإحاطة " وغيرها،
__________
(1) المرقبة: السعادة.
(2) المرقبة: وتحفظ ما يرضيك.
(3) ترجمة ابن مرزوق في التعريف: 49 ونيل الابتهاج: 272 والديباج: 305 وتاريخ ابن خلدون 7: 312 والإحاطة، الورقة: 31؛ والدرر الكامنة 3: 450 (ط. القاهرة) .(5/390)
فنقول: هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي التلمساني، يكنى أبا عبد الله، ويلقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين.
قال أبو الحسن على ابن لسان الدين ابن الخطيب في حقه: سيدي وسند أبي، فخر المغرب، وبركة الدول وعلم الأعلام، ومستخدم السيوف والأقلام، ومولى أهل المغرب على الإطلاق، أبقاه الله تعالى وأمتع بحياته وأعانني على ما يجب في حقه، قاله تربيته وولده علي ابن المؤلف، انتهى، يعني ابن الخطيب.
وقال لسان الدين: هذا الرجل من طرق دهره ظرفاً وخصوصية ولطافة، مليح التوسل، حسن اللقاء، مبذول البشر، كثير التودد، نظيف البزة، لطيف التأني، خير البيت، طلق الوجه، خلوب اللسان، طيب الحديث، مقدر الألفاظ، عارف بالأبواب، درب على صحبة الملوك والأشراف، متقاض (1) لإيثار السلاطين والأمراء يسحرهم بخلابة لفظه، ويفتلهم في الذروة والغارب بتنزله، ويهتدي إلى أغراضهم الكمينة بحذقه، ويصطنع غاشيتهم بتلطفه ممزوج الدعابة بالوقار والفكاهة بالنسك والحشمة بالبسط، عظيم المشاركة لأهل وده والتعصب لإخوانه، آلف مألوف كثير الأتباع والعلق، يسخر الرقاع في سبيل الوساطة، مجدي الجاه، غاص المنزل بالطلبة، منقاد للدعوة، بارع الخط أنيقه، عذب التلاوة متسع الرواية، مشارك في فنون من أصول وفروع وتفسير، يكتب ويشعر ويقيد ويؤلف، فلا يعدو السداد في ذلك، فارس منبر غير جزوع ولا هلوع، رحل إلى المشرق في كنف حشمة من جناب والده رحمه الله تعالى فحج وجاور ولقي الجلة، ثم فارقه وقد عرف بالمشرق حقه، وصرف وجهه إلى المغرب، فاشتمل عليه السلطان أبو الحسن أميره اشتمالاً خلطه بنفسه، وجعله مفضى سره وإمام جمعه وخطيب منبره وأمين رسالته، فقدم في غرضها على الأندلس أواخر عام ثمانية وأربعين
__________
(1) الإحاطة: متعاط؛ ص: متغاض.(5/391)
وسبعمائة، ولما حالت بالأمير المذكور الحال استقر بالأندلس مفلتاً من النكبة، في وسط عام اثنين وخمسين وسبعمائة، فاجتذبه سلطانها رحمه الله وأجراه على تلك الوتيرة فقلده الخطبة بمسجده في السادس لصفر عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، وأقعده للإقراء بالمدرسة من حضرته، وفي أخريات عام أربعة وخمسين صرف عنه جفن بره في أسلوب طماح ودالة وسبيل هوى وقحة، فاغتنم الفترة وانتهز الفرصة، وأنفذ في الرحيل العزمة وانصرف عزيز الرحلة مغبوط المنقلب، فاستقر بباب ملك المغرب أمير المؤمنين أبي عنان فارس في محل تجلة وبساط قرب، مشترك الجاه مجدي التوسط ناجع الشفاعة، والله يتولاه ويزيده من فضله.
مشيخته - من كتابه المسمى عجالة المستوفز المستجاز في ذكر من استجازني (1) من المشايخ دون من أجاز من أثمة المغرب والشام والحجاز: فممن لقيه بالمدينة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام الإمام العالم العلامة عز الدين أبو محمد الحسن بن علي بن إسماعيل الواسطي، صاحب خطتي الإمامة والخطابة بالمسجد الكريم النبوي، وأفرد جزءاً في مناقبه. والشيخ (2) الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى الخزرجي السعدي العبادي، تحمل عن عفيف الدين أبي محمد عبد السلام بن مزروع وأبي اليمن وغيره. والشيخ الإمام خادم الوقت بالمسجد الكريم، ونائب الإمامة والخطابة به، ومنشد الأمداح النبوية هنالك (3) . والشيخ الصالح الثقة المعمر محيي الدين أبو زكريا يحيى بن محمد المغراوي التونسي سمع ابن حامل والتوزري. والشيخ نور الدين أبو الحسن علي بن محمد الحجار الفراش بحرم رسول الله والوقاد به، وكان مقصوداً من كل قطر. والشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد الصنعاني نائب القضاء بالمدينة. والشيخ الإمام
__________
(1) الإحاطة: من سمعت عنه.
(2) الشيخ: سقطت من ق واستعيض عنها بلفظة " منهم " حيث وقعت في سرد مشيخة أبن مرزوق.
(3) إلى هنا وقفت نسخة الإحاطة في تعداد شيوخه، ولا ريب في أن ذلك يدل على الإيجاز المخل في هذه النسخة.(5/392)
قاضي القضاة بالمدينة شرف الدين بن محرز الإخميمي بن الأسيوطي. والشيخ الصالح عز الدين خالد بن عبد الله الطواشي. والشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله المعيشي، سمع ابن مزروع البصري وغيره. والشيخ بهاء الدين موسى بن سلامة الشافعي المصري، الخطيب بالمسجد الكريم بها. والشيخ الخطيب أبو طلحة الزبير بن أبي صعصعة الأسواني. والشيخ عفيف الدين المطري، والشيخ الأديب أبو البركات أيمن بن محمد بن محمد إلى أربعة عشر ابن أيمن التونسي المجاور، والشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن فرحون اليعمري التونسي المجاور. والشيخ أبو فارس عبد العزيز بن عبد الواحد بن أبي ركبون التونسي، وقرأ بها على أبيه القرآن العظيم، قال: وكانت قراءتي عليه بالمدينة عند قبره عليه الصلاة والسلام.
وبمكة شرفها الله تعالى الشيخ المعمر الثقة شرف الدين أبو عبد الله عيسى بن عبد الله الحجبي المكي، المتوفى وقد قارب المائة، والشيخ زين الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري المكي. والشيخ الصالح شرف الدين خضر بن عبد الرحمن العجمي، وشيخ شيوخ رباط الأعجام حيدر بن عبد الله المقرئ. والشيخ مقرئ الحرم برهان الدين إبراهيم بن مسعود الأيلي المصري. والشيخ مصلح الدين الحسن بن عبد الله العجمي. والشيخ مصلح الدين الحسن بن عبد الله العجمي. والإمام الصالح أبو الصفاء خليل بن عبد الله القسطلاني التوزري. والشيخ الإمام الصالح أبو محمد عبد الله بن أسعد الشافعي الحجة، انتهت إليه الرياسة العلمية والخطط الشرعية بالحرم. والشيخ فخر الدين عثمان بن أبي بكر النويري المالكي. والشيخ الإمام المدرس بالحرم شهاب الدين أحمد بن الحرازي اليمني. والشيخ قاضي القضاة نجم الدين محمد بن جمال الدين بن عبد الله بن المحب الطبري، والشيخ جلال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن براجين، القشيري التلمساني، وقرأ بها على أبيه وألبسه بها الخرقة، والشيخ الملك شرف الدين عيسى بن محمد بن أبي بكر بن أيوب، والشيخة فاطمة بنت محمد ابن محمد بن أبي بكر بن أيوب، والشيخة فاطمة بني محمد بن محمد بن أبي بكر بن(5/393)
محمد بن إبراهيم الطبري المكية، والشيخ أبو الربيع سليمان بن يحيى بن سلمان، المراكشي السفاح، والشيخ قاضي القضاة وخطيب الخطباء عز الدين أبو عمر عبد العزيز ابن محمد ابن جماعة الكناني قاضي القضاة بالديار المصرية.
وبمصر الشيخ علاء الدين القونوي، والتقي السعدي، وقاضي القضاة القزويني وهو شهير الذكر رفيع القدر، وقاضي القضاة البرهان الحنفي، والشرف أقضى القضاة الإخميمي، والشيخ المحدث المسند البدر محمد بن محمد الفارقي، والقطب الحافظ أبو محمد ابن منير، والشهاب أحمد الجوهري الحلبي، والمعمر الشرف يحيى المقدسي بن المصري، والشيخ محسن القرشي، والشهاب الحنبلي، وفتح الدين محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس اليعمري، والشيخ المسند شمس الدين أبو بكر بن سيد الناس أخوه، والإمام أبو حيان، والحافظ النسابة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن طي ابن حاتم بن شيخ الزبيري المصري، يبلغ شيوخه نحواً من ألفي شيخ، والشيخ الشمس بن عدلان، والشهاب البوشي المالكي، والشيخ المتصوف تاج الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن ثعلب المصري مدرس المالكية، والشمس ابن كتشغري الخطاب الصيرفي، والعماد ابن النجم الدمياطي، والتاج الأشعري، والتقي الثعلبي، والفتح بن عبد القوي، والشمس الورجمي، والتقي الأشموني، والعلامة التقي السبكي، والمعروف ابن بني الشاذلي، وأبو الحسن التميمي، والبرهان الخيمي، والشمس الأسواني، والبرهان الحكري، والشمس ابن جابر الوادي آشي، وأبو محمد عبد الكريم الطوسي، وأبو فارس الزروالي التونسي، وصالح بن عبد العظيم بن يونس، وأبو عبد الله ابن القماح، والتاج التبريزي، والشيخ محمود الأصبهاني، والشرف المغيلي، والبرهان والسفاقسي.
ومن النساء الشيخة المسندة ست الفقهاء فاطمة بنت محمد الفيومي البكري، وببلبيس أسد الدين يوسف ابن داود الأيوبي بن أبناء الملوك.
ومن الشاميين بالقدس علاء الدين أبو الحسن علي بن أيوب، وخطيب(5/394)
القدس النور ابن الصائغ المقدسي، ومحمد بن علي بن مثبت الأندلسي، والبرهان الجعبري إمام الخليلي.
ومن أهل دمشق البرهان ابن الفركاح، والشمس ابن مسلم قاضي الحنابلة.
وبالإسكندرية أحمد المرادي بن العشاب، وأبو القاسم ابن علي بن البراء، والناصر بن المنير.
وبطرابلس الخطيب أبو محمد جابر بن عبد الغفار.
وبتونس الزبيدي، والقاضي ابن عبد الرفيع، والقاضي ابن عبد السلام، وابن راشد، وأبو موسى هارون، والمحدث أبو عبد الله التلمساني، والحافظ أبو زكريا يحيى بن عصفور التلمساني نزيل تونس، وأبو محمد بن سعد الله بن أبي القاسم بن البراء.
وببلاد الجريد الشيخ الخطيب أبو عبد الملك ابن حيون.
وبالزاب ابن أبي (1) ، والشيخ أبو محمد بن راشد.
وببجاية الإمام النظار المجتهد أبو علي ناصر الدين المشدالي، والحافظ فقيه زمانه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن يللبخت الزواوي، والشيخ الفقيه أبو عبد الله الخطيب المسفر.
وبتلمسان الشيخان الإمامان ابنا الإمام، وقاضي القضاة بها أبو عبد الله ابن هدية، والخطيب أبو محمد المجاصي، والشريف أبو علي حسن بن يوسف بن يحيى الحسني، والشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي المعروف بابن إسحاق الخياط (2) وغيرهم (3) .
محنته (4) - اقتضى الخوض الواقع بين يدي تأميل الأمير أبي الحسن رحمه الله
__________
(1) بعدها بياض في ص.
(2) الخياط: سقطت من ص ق.
(3) اضطربت نسخة ق كثيرا في تعداد هؤلاء الشيوخ، وكان فيها سقط كثير في ألقابهم.
(4) ق: ثم قال لسان الدين: ولما اقتضى ... إلخ؛ قلت ومن هنا يعود النص فيلتقي مع ما في نسخة الإحاطة.(5/395)
تعالى عودة الأمر إليه وقد ألقاه اليم إلى الساحل بمدينة الجزائر أن قبض عليه بتلمسان أمراؤها المتوثبون علها في هذه الفترة من بني زيان، إرضاء لقبيلهم المتهم بمداخلته، وقد رحل عنهم دسيساً من أميرهم عثمان بن يحيى، فصرف مأخوذاً عليه طريقه، منتهباً رحله، منتهكة حرمته، وأسكن قرارة مطبق عميق القعر مقفل المسلك حريز القفل، ثني اثنين؛ انتهى ملخصاً.
ورأيت بخط ابن مرزوق على قوله وقد رحل عنهم دسيساً إلى آخره ما نصه: لم أرحل عنهم إلا بإذنهم، واقتراحهم علي في الإصلاح بينهم، لكنهم غدروا تقية على أنفسهم، قاله ابن مرزوق، انتهى، وكتب تحته ولد ابن الخطيب ما صورته: نعم ما ترى.
وعند الله تجتمع الخصوم ... انتهى.
رجع إلى كلام لسان الدين في حقه: قال بعد الكلام السابق ما ملخصه: ولأيام قتل ثانيه ذبحاً بمقربة من شفا تلك الركية، وانقطع أثره وأيقن الناس بفوات الأمر فيه، ولزمان من محنته ظهرت عليه بركة سلفه في خبر ينظر بطرفه إلى الكرامة فنجا ولا تسل كيف، وخلصه الله خلاصاً جميلاً، وقدم على الأندلس، والله ينفعه بنيته؛ انتهى.
وكتب ابن مرزوق على هذا المحل ما نصه: لم يكن المقتول حين قتل معي، ولا قتل ذبحاً، قاله ابن مرزوق، انتهى.
وكتب بعض علماء مصر تحته ما نصه: هذه دعوى، والمؤرخ أعرف، انتهى، فكتب آخر بعد هذا ما نصه: أتخبرني عني انتهى.
رجع - ثم قال لسان الدين في ترجمة شعره ما صورته: ركب مع السلطان(5/396)
بخارج الحمراء أيام ضربت اللوز قبابها البيض وزينت الفحص العريضة، والروض الأريض، فارتجل في ذلك:
انظر إلى النوار في أغصانه ... يحكي النجوم إذا تبدت في الحلك
حيا أمير المسلمين وقال: قد ... عميت بصيرة من بغيرك مثلك
يا يوسفاً حزت الجمال بأسره ... فمحاسن الأيام تومي هيت لك
أنت الذي صعدت به أوصافه ... فيقال فيه: ذا مليك أو ملك إلى أن قال: ومن الشعر المنسوب إلى محاسنه ما أنشد عنه وبين يديه ليلة الميلاد المعظم عام ثلاثة وستين وسبعمائة (1) :
قل لنسيم السحر ... لله بلغ خبري
إن أنت يوماً بالحمى ... جررت فضل المئزر
ثم حثثت الخطو من ... فوق الكثيب الأعفر
مستقرياً في عشبه ... مخفي وطء المطر
تروي عن الضحاك في ال ... روض حديث الزهر
مخلق الأذيال بال ... عبير أو بالعنبر
وصف لجيران الحمى ... وجدي بهم وسهري
وحقهم ما غيرت ... ودي صروف الغير
لله عهد فيه ق ... ضيت حميد الأثر
أيامه هي التي ... أحسبها من عمري
ويا لليل فيه ما ... عيد بغير القصر
العمر فينان ووج ... هـ الدهر طلق الغرر
والشمل بالأحباب من ... ظوم كنظم الدرر
__________
(1) لم ترد هذه القصيدة في الإحاطة.(5/397)
صفو من العيش بلا ... شائبة من كدر
ما بين أهل تقطف ال ... أنس جني الثمر
وبين آمال تبي ... ح القرب صافي الغدر
يا شجرات الحي ح ... ياك الحيا من شجر
إذا أجال الشوق في ... تلك المغاني فكري
خرجت من خدي حدي ... ث الدمع فوق الطرر
وقلت يا خد آرو من ... دمعي صحاح الجوهري
عهدي بحاد الركب كال ... ورقاء عند السحر
والعيس تجتاب الفلا ... واليعملات تنبري
تخبط بالأخفاف مظ ... لوم البرى (1) وهو بري
قد عطفت عن ميد ... والتفتت عن حور
قسي سير ما سوى ال ... عزم لها من وتر
حتى إذا الأعلام ح ... لت لحفي البشر
واستبشر النازح بال ... قرب ونيل الوطر
وعين الميقات لل ... سفر نجاح السفر
فالناس بين محرم ... بالحج أو معتمر
لبيك لبيك إل ... هـ الخلق باري الصور
ولاحت الكعبة بي ... ت الله ذات الأثر
مقام إبراهيم وال ... مأمن عند الذعر
واغتنم القوم طوا ... ف القادم المبتدر
وأعقبوا ركعتي ال ... سعي استلام الحجر
وعرفوا في عرفا ... ت كل عرف أذفر
__________
(1) البرى: التراب.(5/398)
ثم أفاض الناس سع ... ياً في غد للمشعر
فوقفوا وكبروا ... قبل الصباح المسفر
وفي منى نالوا المنى ... وأيقنوا بالظفر
وبعد رمي الجمرا ... ت كان حلق الشعر
أكرم بذلك السفر وال ... له وذاك السفر
يا فوزه من موقف ... يا ربحه من متجر
حتى إذا كان الودا ... ع وطواف الصدر
فأي صبر لم يخن ... أو جلد لم يغدر
وأي وجد لم يطر ... وسلوة لم تهجر
ما أفجع البيت لقل ... ب الواله المستعبر
ثم ثنوا نحو رسو ... ل الله سير الضمر
فيعانوا في طيبة ... لألاء نور نير
رأوا رسول الله واس ... تشفوا بلثم اجذر
نالوا به ما أملوا ... وعرجوا في الأثر
على الضجعين أبي ... بكر الرضى وعمر
زيارة الهادي الشفي ... ع جنة في المحشر
فأحسن الله عزا ... ء قاصد لم يزر
ربع ترى مستنزل ال ... آي به والسور
وملتقى جبريل بال ... هادي الزكي العنصر
وروضة الجنة بي ... ن روضة ومنبر
منتخب الله ومخ ... تار الورى من مضر
والمنتقى وكون من ... ملابس الخلق عري
إذا لم يكن في أفق ... من زحل ومشتري(5/399)
ذو المعجزات الغر أم ... ثال النجوم الزهر
يشهد بالصدق له ... منها انشقاق القمر
والضب والظبي إلى ... نطق الحصى والشجر
من أطعم الألف بصا ... ع في صحيح الخبر
والجيش رواه بما ... ء الراحة المنهمر
يا نكتة الكون التي ... فاتت المنال الفكر
يا حجة الله على ال ... رائح والمبتكر
يا أكرم الرسل على ال ... له وخير البشر
يا من له التقدم ال ... حق على التأخر
يا من لدى مولده ... المقدس المطهر
إيوان كسرى ارتج إذ ... ضاءت قصور قيصر
وموقد النار طفي ... شطركأن لم يسعر
يا عمدتي يا ملجئي ... يا مفزعي يا وزري
يا من له اللواء وال ... حوض وورد الكوثر
يا منقذ الغرقى وهم ... رهن العذاب الأكبر
إن لم تحقق أملي ... بؤت بسعي المخسر
صلى عليك الله يا ... ثمال كل معسر
صلى عليك الله يا ... نور الدجى المعتكر
يا ويح نفسي كم أرى ... في غفلة من عمري
واحسرتي من قلة ال ... زاد وبعد السفر
يحجني والله بال ... برهان وعظ المنبر
يا حسنها من خطب ... لو حركت من نظري
يا حسنها من شجر ... لو أورقت من ثمر(5/400)
أؤمل الأوبة وال ... أمر بكف القدر
أسوف العزم به ... من شهر لشهر
من صفر لرجب ... من رجب لصفر
ضيعت في الكبرة ما ... أعددته في صغري
وليس ما مر من ال ... أيام بالمنتظر
وقلما أن حمدت ... سلامة في غرر
ولي غريم لا يني ... في طلب المنكسر
يا نفس جدي قد بدا ... الصبح ألا فاعتبري
واتعظي بمن مضى ... وارتدعي وازدجري
ما بعد شيب فود من ... مرتقب فشمري
أنت وإن طال المدى ... في قلعة وسفر
وليس من عذر يقي ... م حجة المعتذر
يا ليت شعري والمنى ... تسرق طيب العمر
هل ارتجي من عودة ... أو رجعة أو صدر
فأبرد الغلة من ... ذاك الزلال الخصر
مقتدياً بمن مضى ... من سلف ومعشر
نالوا جوار الله وه ... والفخر للمفتخر
أرجو بإبراهيم مو ... لانا بلوغ الوطر
فوعده لا يمتري ... في الصدق منه ممتري
وهو الإمام المرتضى ... والخير ابن الخير
أكرم من نال العلا ... بالمرهفات البتر
ممهد الملك وسي ... ف الحق والليث الجري
خليفة الله الذي ... فاق بحسن السير
وكان منه الخبر في ال ... علياء وفق الخبر(5/401)
فصدق التصديق من ... مرآه للتصور
ومستعين الله في ... ورد له وصدر
فاق الملوك الصيد بال ... مجد الرفيع الخطر
فأصبحت ألقابهم ... منسية لم تذكر
وحاز منه أوحد ... وصف العديد الأكثر
برأيه المأمون أو ... عسكره المظفر
بسيفه السفاح أو ... بعزمه المقتدر
بالعلم المنصور أو ... بالذابل المنتصر
يا ابن الإمام الطاهر ال ... بر الزكي السير
مدحك قد علم نظ ... م الشعر لم يشعر
جهد المقل اليوم من ... مثلي كوسع المكثر
فإن يقصر ظاهري ... فلم يقصر مضمري قلت: قول لسان الدين في حق هذه القصيدة إنها من الشعر المنسوب إلى محاسنه فيه تعريض خفيف بأن هذه القصيدة يحتمل أن تكون قيلت على لسانه حسبما جرت بذلك عادة الأكابر والرؤساء أن ينسب إليهم ما ليس من كلامهم في نفس الأمر، وليس الواقع عندي كذلك، لأن باع ابن مرزوق في النظم والنثر مديد، فأنى يقصر عن هذا القصيد ومن يصدر منه على البديهة قوله:
انظر إلى النوار في أغصانه ... الأبيات السابقة في اللوز - لا يستغرب منه مثل هذا، ولذا كتب ابن لسان الدين على قول والده من الشعر المنسوب إلى محاسنه ما صورته: حضرت إنشاءها وإنشادها ليلة الميلاد الشريف في التاريخ المذكور، واستحسنها شعراء العدوتين، وهي مما لا ينكر على مدارك سيدي أبي عبد الله ورسوخه في علم(5/402)
النظم والنثر، قاله علي بن الخطيب؛ انتهى.
وكتب بعضهم على قوله في هذه القصيدة:
أيامه هي التي ... أعدها من عمري ما نصه: ولت والله، انتهى؛ فكتب ابن مرزوق بعده ما نصه: لكنها بدلت بخير منها والحمد لله، وحسنت الخاتمة ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً؛ انتهى.
وكتب ابن لسان الدين على قوله:
قلما أن حمدت ... سلامة في غرر ما نصه: كذلك كان، وليت والدي رحمه الله تعالى كذلك؛ انتهى.
وكتب على قوله " برأيه المأمون - إلخ ما نصه: لو كان له رأي مأمون (1) ما نزل على قلعة الملك لسكنى القصبة بدخيلة طلب الراحة، فضربت عنقه، وكانت الراحة منه؛ انتهى.
وكتب بعض اثر هذا ما صورته: القدر لا يبالغ، الحذر ينفع ما لم يأتك القدر، فإذا أتى قدر، لم ينفع حذر؛ انتهى.
ثم قال لسان الدين (2) : ووردت باب السلطان الكبير العالم أبي عنان فبلوت من مشاركته وحميد سعيه ما يليق بمثله، ولما نكبه لم أقصر عن ممكن (3) حيلة في أمره، فلما ملك السلطان أبو عنان وصار الأمر لأخيه المتلاحق من الأندلسي أبي سالم بعد
__________
(1) ص ق: الميمون.
(2) عاد اللقاء مع نسخة الإحاطة، الورقة: 35.
(3) ص: حميد.(5/403)
الولد المسمى بالسعيد كان ممن دانت له الطاعة، وأناخ راحلة الملك، وحلب ضرع الدولة (1) ، وخطب عروس الموهبة، فأنسب ظفره في متات معقود من لدن الأب، مشدود من لدن القرابة (2) ، فاستحكم عن قرب، واستغلظ عن كثب، فاستولى على أمره وخلقه بنفسه ولم يستأثر عنه ببثه (3) ، ولا انفرد بما سوى بضع أهله، بحيث لا يقطع في شيء إلا [به و] عن رأيه، ولا يمحو ويثبت إلا واقفاً عند حده، فغشيت بابه الوفود وصرفت إليه الوجوه ووقفت عليه الآمال، وخدمته الأشراف وجلبت إلى سدته بضائع العقول والأموال، وهادته الملوك فلا تحدوا الحداة إليه، ولا تحط الرحال لديه، إن حضر أجرى الرسم وأنفذ الأمر والنهي لحظاً أو سراراً أو مكاتبة، وإن غاب ترددت الرقاع واختلفت الرسل، ثم انفرد أخيراً ببيت الخلوة ومنتبذ المناجاة من دونه معصب (4) الوزراء وغايات الحجاب (5) ، فإذا انصرف تبعته الدنيا وسارت بين يديه الوزراء ووقفت ببابه الأمراء، قد وسع الكل لحظه وشملهم بحسب الرتب والأحوال ورعيه، ووسم (6) أفذاذهم تسويده، وعقدت ببنان عليتهم بنانه، لكن رضى الناس الغاية التي لا تدرك، والحسد بين آدم قديم، وقبيل الملك مباين لمثله، فطويت الجوانح على سل، وحنيت الضلوع على بث، وأغضيت الجفون على قذى، إلى أن كان من نكبته الثالثة ما هو معروف، جعلها الله له طهوراً. ولم جرت الحادثة على الدولة بالأندلس وكان لحاق جميعنا بالمغرب جنيت ثمرة ما أسلفته من وده، فوفى الكيل وأشرك في الجاه وأدر الرزق ورفع
__________
(1) الإحاطة: وأجاب موسم الدعوة.
(2) في ص ق: التقريب.
(3) الإحاطة: بشيء.
(4) ص ق: مصطف.
(5) الإحاطة: الحجابات.
(6) الإحاطة: ووسع.(5/404)
المجلس، بعد التسبب في (1) الخلاص والسعي في الجبر، جبره الله تعالى، وكان له أحوج ما يكون إلى ذلك {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء: 89) انتهى.
وكتب ابن لسان الدين على هذا المحل ما صورته: هذا لسان أبي عليه في الغيبة والحضور؛ انتهى.
ومما خاطبه به لسان الدين مهنئاً (2) من طريق القدوم على الأبواب المرينية، مفلتاً من البلية بشفاعته، ما نصه: سيدي الذي إليه انقطاعي وانحياشي، وملاذي وملجئي الذي يسر خلاصي وسنى انتياشي، ومنعمي الذي جبر جناحي وأنبت رياشي، ومولى هذا الصنف العلمي ولا أحاشي، كتبه صنيع نعمكم الخالصة الحرة، ومسترق فضلكم الذي تألقت (3) منه في ليل الخطوب الغرة (4) ابن الخطيب لطف الله به من كذا، وقد شد إلى بلاغ النفس عذرها في مباشرة تقبيل اليد التي لها اليد العظمى، والسجية الرحمى، فلكم طوقت من نعمى، وجبال النعم قد أثقلت الظهر، واستغرقت السر والجهر، فبأي لسان أو بأي بنان، ولا أثر بعد عيان، تقابل نعمة تداركت الرمق وقد أشفى، وأبقت الذماء والشروع في استئصالها لا يخفى، فيا لك من فرد هزم ألفا، ووعد نصر لم يعرف خلفا، ونية خلصت تبتغي إلى الله زلفى، لقد صدع بها مولاي غريبة في الزمن، بالغاً حسن صنيعها صنعاء اليمن، مترفعة عن الثمن، وإن لم يقم بها مثله وإلا فمن، فليهن سيدي ما ذاع لمجده (5) بها من فخر، وما قدم يوم تزل الأقدام من ذخر، وما جلب للمقام المولوي الإبراهيمي من طيب ذكر، واستفاضة حمد وشكر،
__________
(1) الإحاطة: تسبيب؛ ص: بعد التسبيب للخلاص.
(2) مهنئا: سقطت من ص.
(3) ق ص: تألفت.
(4) ق: غرة.
(5) ص ق: من مجده.(5/405)
لقد ارتهن دعاء الحافي والناعل، والدال على الخير شريك الفاعل، والذي أحيا النفس جدير برد عدتها، وإنجاز عدتها، وأنا قد قويت بجاهكم وإن كنت ضعيفاُ، واستشعرت سعداً جديداً وقدراً منيفاً، وأيقنت أن الله عز وجل كان بي لطيفاً، إذ هيأ لي من رحمة ذلك المقام المولوي على يدكم نصراً عزيزاً، وبوأني من جاهه حرزاً حريزاً، وقد استأسدت أعداء، وأعضل الداء، وأعمل الاعتداء، وعز الفداء، فافرج الضيق، وتيسرت للخير الطريق، وساغ الريق، ونجا الغريق، غريبة لا تمثل إلا في الحلم، ولطيفة فيها اعتبار الأولي العلم، اللهم جاز سيدي في نفسه وولده (1) ، وحاله وبلده، ومعاده بعد طول عمره وانفساح أمده، وكن له نصيراً أحوج ما يكون إلى نصر، واجعل له سعة من كل حصر، واقصر عليه جاه كل قصر، كما جعلت ذاته فوق كل ذات وعصره فوق كل عصر، وليعلم سيدي أن من أراد بي (2) منافسة وحسداً، وزأر علي أسداً، لما استقل على الكرسي جسداً، من غير ذنب تبين، ولا حد تعين، أصابه من خلاصي المقيم المقعد، ووعد النفس بأمل أخلف منه الموعد، لما استنقذني الله برحمته من بين ظفره ونابه، وغطاني بستر جنابه، وكثرني في العيون على قلة، وأعزني بعد نصره على حال ذلة، لم يدع حيلة إلا نصبها أمامي، ليحبط ذلك (3) المقام الكريم ذمامي، ويكدر جمامي، ويستدرك حمامي، وزعم أن بيده على البعد زمامي، ويأبى ذلك رأي (4) يفرق بين الحق وضده، وعدل لا يخرج الشيء عن حده، فنبهت سيدي خوفاً أن تتجه حيلة، أو تفسد وسيلة، وأنا قادم بالأهل والولد ليعمل في رب الصنيعة على شاكلة الحمد الذي هو له أهل، فما بابتدائه جهل، ولا يختلف في عظم ما أسداه غر ولا كهل، ولا ينبه مثله على تتميم، وإجزال فضل عميم، ومؤانسة غريب، وصلة
__________
(1) ص: في ولده.
(2) ق: أرادني.
(3) ص: بذلك.
(4) ص: حق.(5/406)
نصر عزيز وفتح قريب، بحول الله تعالى.
وقال (1) لسان الدين بعد ما سبق نقله عنه في حق ابن مرزوق: ولما انقضى أمر سلطانه رحمه الله تعالى متجنى عليه (2) بسببه، محمولاً عليه من أجله، تقبض (3) عليه وأجمع الملأ على قتله، وشد اعتقاله، وطلب بالمال العريض وانتهيت أمواله واعتقلت رباعه، وجنبت مراكبه، واصطفيت أمهات أولاده، وتمادى به الاعتقال والشدة، إلى أن عادته عوائد الله في الخلاص من الشدة، والانتياش من الورطة ظاهرة عليه بركة سلفه، قائمة له حجة الكرامة (4) في أمره.
حكى أمير المسلمين سلطاننا أعزه الله قال: عرض لي والدي رحمه الله تعالى في النوم فقال: يا ولدي، اشفع في الفقيه ابن مرزوق، فقبلت يده، واقتضيت حظه، وحكيت داعيته، وعينت للوجهة في ذلك قاضي الحضرة، فكان في ذلك ابتداء الفرج.
وحدثني (5) الثقة من خدام السلطان أبي العنان عنه مخبراً عن نفسه لما نفس عنه من نكبته، وأجاره من سخطه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني بذلكن وكفى بها جاهاً وحرمة، قلت: فترك سبيلهن وأتيح له ركوب البحر إلى البلاد المشرقية بأهله وولده، فسار في كنف الستر، وتحت جناح الوقاية، في وسط رجب من عام أربعة وستين وسبعمائة من ساحل باديس، صحب الله وجهته، وختم عصمته؛ انتهى ما لخصته من كلام لسان الدين بلفظه (6) .
__________
(1) ق: ثم قال.
(2) عليه: سقطت من ق ص.
(3) ق ص: فقبض.
(4) ق ص: قائمة لهم حجة ... لهم.
(5) ق: وذكر.
(6) بلفظه: سقطت من ق.(5/407)
ورأيت على هامش هذا المحل من الإحاطة بخط المذكور ما صورته: أقول وأنا ابن مرزوق المسمى فيه: إني قد وصلت إلى تونس المحروسة من شهر رمضان من سنة خمس وستين، فلقيت بها من المبرة والكرامة والوجاهة فوق ما يعهده أمثالي، ووليت خطابة جامع ملكها، وتدريس أم المدارس فيها، وهي المعروفة بمدرسة الشماعين، كل ذلك تحت رعاية وعناية وملازمة لمجلس ملكها، إلى أن توفي سنة إحدى وسبعين، ثم مع ولده وابن أخيه، إلى أن رحلت في البحر في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين، فحللت بالديار المصرية، ولقيت من ملكها الذي لم أر في الملوك مثله حلماً وفضلاً وحياء وجوداً وتلطفاً ورحماً، فأحسن لي وأجرى علي وعلى أولادي ما قام به الحال، وقلدني دروساً ومدارس، وأهلني للمثول بين يديه، والحال مستمر على ذلك حتى الآن، وذلك من فضل الله ومعهود إحسانه، والمرجو من الله تعالى حسن العاقبة، وكتب في رمضان سنة خمس وسبعين؛ انتهى.
وكتب بعده أبو الحسن علي بن لسان الدين رحمهما الله تعالى ما صورته: صدق، وهو فوق كل ذلك كله، فقدره معروف، ولطالما كان ملك المغرب يفتخر به، فصار يفتخر بتقليد الدروس:
والدهر لا يبقي على حالة ... انتهى.
قال في " الإحاطة " (1) : ولما شرح كتاب الشفاء للقاضي عياض رحمه الله تعالى واستبحر فيه، وأكثر النقل وبذل الجهد، طلب (2) أهل العدوتين نظم
__________
(1) انظر الإحاطة، الورقة: 48.
(2) ق: طلب منه.(5/408)
مقطوعات تتضمن الثناء على الكتاب المذكور، وإطراء مؤلفه، فانثال عليه من ذلك الطم والرم، بما تعددت منه الأوراق (1) ، واختلفت في الإجادة وغيرها الأرزاق، إيثاراً لغرضه، ومبادرة من كل الجهات لإسعاف أربه، وطلب مني أن ألم في ذلك بشيء فكتبت (2) له في ذلك:
شفاء عياض للصدور شفاء ... فليس بفضل قد حواه خفاء
هدية بر لم يكن لمديلها ... سوى الأجر والذكر الجميل وفاء
وفى لنبي الله حق وفائه ... وأكرم أوصاف الكرام وفاء
وجاء به بحراً يقول بفضله ... على البحر طعم طيب وصفاء
وحق رسول الله بعد وفاته ... رعاه، وإغفال الحقوق جفاء (3)
هو الذخر يغني في الحياة عتاده ... ويترك منه للبنين رفاء
هو الأثر المحمود ليس يناله ... دثور، ولا يخشى عليه عفاء
حرصت على الإطناب في نشر (4) فضله ... وتمجيده لو ساعدتني فاء واستزاد من هذا الغرض الذي (5) لم يقنع فيه بالقليل فبعثت إليه من محل انتقالي من سلا حرسها الله تعالى:
أأزاهير رياض (6) ... أم شفاء لعياض
جدل الباطل للح ... ق بأسياف مواض
وجلا الأنوار برها ... ناً بحق وافتراض
__________
(1) الإحاطة: من ذلك النظم ما تعددت به ... إلخ.
(2) ق: فنظمت.
(3) سقط هذا البيت من ص، ووقع هو والذي بعده قبل الثالث في ق؛ وما هنا يشبه ترتيب الإحاطة.
(4) ص ق: بحر.
(5) ق: ثم لم يكتف في هذا النمط الذي ... إلخ.
(6) الإحاطة: هي أزهار الرياض؛ ولم يورد من القصيدة في الإحاطة إلا أربعة أبيات.(5/409)
وشفى من يشتكي الغ ... لة في زرق الحياض
أي بنيان مقال ... آمن خوف انقضاض
أي عهد ليس يرمى ... بانتكاث وانتقاض
ومعان في سطور ... كأسود في غياض
وشفاء لصدور ... من ضنى الجهل مراض
حرر القصد فما شي ... ن بنقض واعتراض
يا أبا الفضل أدر أن ال ... له عن سعيك راض
فاز عبد أقرض الل ... هـ برحجان القراض
وجبت غر المزايا ... من طول أو عراض
لك يا أصدق راو ... لك يا أعدل قاض
لرسول الله وفي ... ت بجد وانتهاض
خير خلق الله في حا ... ل وفي آت وماض
سدد (1) الله ابن مرزو ... ق إلى تلك المراضي
زبدة العرفان معنى ... كل نسك وارتياض
فتولى بسط ما أج ... ملت من غير اقباض
ساهراً لم يدر في استخ ... لاصه طعم اغتماض
إن يكن ديناً على الأ ... يام يا قدحان التقاضي
دام في علو ومن عا ... ده يهوي في اخفاض
ما وشي الصبح الدياجي ... بسواد في بياض ثم نظمت له أيضاً في الغرض المذكور، والإكثار من هذا النمط في هذا (2) الموضوع ليس على سبيل التبجح بإجادته وغرابته، ولكن على سبيل الإشادة
__________
(1) ص ق: سود.
(2) ق ص: في غير هذا.(5/410)
بالشرح المشار إليه، فهو بالغ راية الاستبحار (1) :
حييت يا مختط سبت بن نوح ... بكل مزن يغتدي أو يروح
وحمل الريحان ريح الصبا ... أمانة فيك إلى كل روح
دار أبي الفضل عياض الذي ... أضحت برياه رياضاً تفوح
يا ناقل الآثار يعنى بها ... وواصلاً في العلم جري الجموح
طرفك في الفضل بعيد المدى ... طرفك للمجد شديد الطموح
كفاك (2) إعجازاً كتاب الشفا ... والصبح لا ينكر عند الوضوح
لله ما أجزلت فينا به ... من منحة تقصر عنها المنوح
روض من العلم هم فوقه ... من صيب الفكر الغمام السفوح
فمن بيان الحق زهر ند ... ومن لسان الصدق طير صدوح
تأرج العرف وطاب الجنى ... وكيف لا يثمر أو لا يفوح
وحلة من طيب خير الورى ... في الجيب والأعطاف منها نضوح
ومعلم للدين (3) شيدته ... فهذه الأعلام منها تلوح
فقل لهامان كذا أو فلا ... يا من أضل الرشد تبني الصروح
في أحسن التقويم أنشأته ... خلقاً جديداً بين جسم وروح
فعمر المكتوب لا ينقضي ... إذا تقضى عمر سام ونوح
كأنه في الحفل ريح الصبا ... وكل عطف فهو غصن مروح
ما عذر مشغوف بخير الورى ... إن هاج منه الذكر أن لا يبوح
عجبت من أكباد أهل الهوى ... وقد سطا البعد وطال النزوح
إن ذكر المحبوب سالت دماً ... ما هن أكباد ولا جروح
__________
(1) الاستبحار: سقطت من ق.
(2) ق ص: كذاك.
(3) ق: في الدين.(5/411)
يا سيد الأوضاع يا من له ... بسيد الأرسال فضل الرجوح
يا من له الفضل على غيره ... والشمس تخفى عن إشراق يوح (1)
يا خير مشروح وفى واكتفى ... من ابن مرزوق بخير الشروح
فتح من الله حباه به ... ومن جانب الله تأتي الفتوح ثم قال: وعلى الجملة والتفصيل، فهذا الرجل نسيج وحده شهرة وجلالة وخصالاً وأبوة صالحة تولاه الله وكان له، وانصرف بجماته إلى بلاد المشرق عام أربعة وستين وسبعمائة، تولاه الله تعالى وأسعد منقلبه، ومولده بتلمسان عام أحد عشر وسبعمائة، انتهى كلام لسان الدين.
[تراجم أخرى لابن مرزوق]
ولنزد في هذه الترجمة على ما ذكره فنقول: قال ابن خلدون: صاحبنا الخطيب أبو عبد الله ابن مرزوق، من أهل تلمسان، كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعباد، ومتوارثين تربته من لدن جدهم خادمه في حياته،وكان جده الخامس أو السادس أبو بكر ابن مرزوق معروفاً بالولاية فيهم، ونشأ محمد هذا بتلمسان، ومولده فيما أخبرني عام عشرة وسبعمائة، انتهى.
وهو مخالف (2) لما ذكره لسان الدين فيما مر عنه (3) .
ثم قال ابن خلدون: وارتحل مع والده إلى الشرق سنة ثلاث عشرة، وسمع ببجاية على الشيخ ناصر الدين (4) ، ولما جاور أبوه بالحرمين رجع إلى القاهرة، فأقام وبرع في الطلب والرواية، وكان يجيد الخطين، ورجع سنة ثلاث وثلاثين (5) إلى
__________
(1) يوح: الشمس، ولعل الصواب: " والبدر يخفى ".
(2) يعني تاريخ مولده.
(3) ق: فيما يروى عنه.
(4) وسمع ... الدين: لم يرد في التعريف، والنص منقول عنه باختصار.
(5) التعريف: سنة خمس وثلاثين.(5/412)
المغرب، ولقي السلطان محاصراً لتلمسان، وقد شيد بالعباد مسجداً عظيماً وكان عمه محمد بن مرزوق خطيباً به على عادتهم في العباد، وتوفي، فولاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمه، وسمعه يخطب على المنبر، ويشيد بذكره ويثني عليه، فحلي بعينيه فقربه، وهو مع ذلك يلازم ابني الإمام، ويأخذ نفسه بلقاء الأفاضل والأكابر والأخذ عنهم، وحضر مع السلطان وقعة طريف، ثم استعمله في الرسالة إلى الأندلس، ثم إلى ملك قشتالة في تقرير الصلح، واستنقاذ ولده المأسور يوم طريف، ورجع بعد وقعة القيروان مع زعماء النصارى، فرجع إلى المغرب. ووفد على السلطان أبي عنان بفاس مع أمه حظية أبي الحسن، ثم رجع إلى تلمسان، وأقام بالعباد، وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن وأخوه أبو ثابت، والسلطان أبو الحسن بالجزائر، وقد حشد هناك، فأرسل أبو سعيد ابن مرزوق المذكور إليه سراً في الصلح، فلما اطلع أخوه أبو ثابت على الخبر أنكره على أخيه، فبعثوا من حبس ابن مرزوق، ثم أجازوه البحر إلى الأندلس، فنزل على أبي الحجاج سلطانها بغرناطة، فقربه واستعمله على الخطبة بجامع الحمراء، فلم يزل خطيبه إلى أن استدعاه أبو عنان سنة أربع وخمسين بعد مهلك أبيه واستيلائه على تلمسان وأعمالها، فقدم عليه، ورعى له وسائله ونظمه في أكابر أهل مجلسه، ثم بعثه لتونس على ملكها (1) سنة ثمان وخمسين ليخطب له ابنة السلطان أبي يحيى، فردت الخطبة، واختفت بتونس، ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعاً على مكانها فسخطه لذلك وأمر بسجنه، فسجن مدة، ثم أطلقه قبل موته.
ولما استولى أبو سالم على السلطنة آثره، وجعل زمام الأمور بيده، فوطئ الناس عقبه، وغشي أشراف الدولة بابه، وصرفوا إليه الوجوه، فلما وثب عمر بن عبد الله بالسلطان آخر عام اثنين وستين حبس ابن مرزوق، ثم أطلقه
__________
(1) التعريف: عام ملكها.(5/413)
بعد أن رام كثير من أهل الدولة على قتله، فمنعه منهم، ثم لحق بتونس سنة أربع وستين، ونزل على السلطان أبي إسحاق وصاحب دولته أبي محمد ابن تافراكين، فأكرموه وولوه الخطابة بجامع الموحدين، وأقام بها إلى أن هلك السلطان أبو يحيى سنة سبعين وولي ابنه خالد، ثم لما قتل السلطان أبو العباس خالداً واستولى على السلطنة، وكان بينه وبين ابن مرزوق شيء لميله مع ابن عمه محمد صاحب بجاية، عزله عن الخطبة، فوجم لها، فأجمع الرحلة إلى المشرق، وسرحه السلطان، فركب السفينة، ونزل بالإسكندرية، ثم ارتحل إلى القاهرة، ولقي أهل العلم وأمراء الدولة، ونفقت بضائعه عندهم، وأوصلوه إلى السلطان الأشرف، فولاه الوظائف العلمية، فلم يزل بها موفر الرتبة، معروف الفضيلة، مرشحاً لقضاء المالكية، ملازماً للتدريس، إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين؛ انتهى ملخصاً.
وقال الحافظ ابن حجر: إنه لما وصل تونس أكرم إكراماً عظيماً، وفوضت إليه الخطابة بجامع السلطان وتدريس أكبر المدارس، ثم قدم القاهرة، فأكرمه الأشرف شعبان، ودرس بالشيخونية (1) والصرغتمشية والنجمية، وكان حسن الشكل، جليل القدر، مات في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين؛ ى انتهى.
وقال ابن الخطيب القسمطيني: هو شيخنا الفقيه الجليل الخطيب، توفي بالقاهرة ودفن بين ابن القاسم وأشهب، وله طريق واضح في الحديث، ولقي أعلاماً، وسمعنا منه البخاري وغيره في مجالس، ولمجلسه لباقة وجمال، وله شرح جليل على " العمدة " في الحديث؛ انتهى.
وكتب بخطه (2) بلدينا أبو عبد الله ابن العباس التلمساني ما نصه: نقلت من خط بعض السادات كتبه للإمام زعيم العلماء الحفيد ابن مرزوق أنه وجد بخط جده
__________
(1) ص: بالسيوفية.
(2) ص: ووجد بخط.(5/414)
الخطيب ابن مرزوق لما ثقفه عمر ابن عبد الله على يد الشيخ أبي يعقوب كتب ما نصه: الحمد لله على كل حال، خرج الطبري من منسكه (1) وأبو حفص الملاي في سيرته عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله تعالى عنهم، قالا: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية التي بأعلى مكة، وليس بها يومئذ مقبور، فقال: يبعث الله من ههنا سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، فقال أبو بكر: من هم يا رسول الله قال: هم الغرباء من أمتي الذين يدفنون ههنا، ففي هذا الموضع دفن والدي رحمه الله تعالى، وبعد سماعه لهذا الحديث بسبعة أيام دفن فيه، أفتراه لا يشفع فيمن أقال عثرة ولده أفما يشترى هذا بأموال الأرض أفلا يرعى لي ثمانية وأربعين منبراً في الإسلام شرقاً وغرباً وأندلساً أفلا يرعى لي أنه ليس اليوم يوجد من يسند أحاديث الصحاح سماعاً من باب إسكندرية إلى البرين والأندلس غيري ونحو من مائتين وخمسين (2) شيخاً والله ما أعلمه، لكن حرمني الله تعالى، نبذت الاشتغال به، وآثرت اتباع الهوى والدنيا، فهويت، اللهم غفرانك! أفلا يرعى لي مجاورة نحو اثني عشر عاماً وختم القرآن في داخل الكعبة، والإحياء في محراب النبي صلى الله عليه وسلم، والإقراء بمكة، ولا أعلم من له هذه الوسيلة غيري أفلا يرعى لي الصلاة بمكة وغربتي بينكم (3) ، ومحنتي في بلدي، على محبتكم وخدمتكم، من ذا الذي خدمكم من الناس يخرج على هذا الوجه أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله من ذنوبي، وذنوبي أعظم، وربي أعلم، وربي أرحم، والسلام؛ انتهى.
__________
(1) ص: مناسكه.
(2) ص: مائة وخمسين.
(3) ق: فيكم.(5/415)
ففي هذا دليل على عظم قدره ومكانته في الدين والدنيا.
قلت: ولقد رأيت مصحفه بتلمسان عند أحفاده، وعليه خطه الرائق الذي أعرفه، وهو يقول: قرأت في هذا المصحف تجاه الكعبة المشرفة اثني عشر ألف ختمة؛ انتهى.
ومع هذا فقد نسي في المصحف المذكور لفظك إليك من قوله تعالى " ينقلب إليك البصر " حتى كتبه بخطه فوق السطر حفيده العلامة سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق، رحم الله الجميع.
قال (1) الخطيب المذكور رحمه الله تعالى في بعض تعاليقه ما صورته: ومن أشياخ والدي سيدي محمد المرشدي، لقيه في ارتحالنا إلى الشرق، وحين حملني إليه وأنا ابن تسع عشرة سنة نزلنا عنده، ووافقنا صلاة الجمعة، ومن عادته أن لا يتخذ للمسجد إماماً، وحضر يومئذ من أعلام الفقهاء من لا يمكن اجتماع مثلهم في غير ذلك المشهد، قال: فقرب وقت الصلاة، فتشوف ممن حضر من الفقهاء والخطباء إلى التقديم، فإذا الشيخ قد خرج فنظر يميناً وشمالاً وأنا خلف والدي، فوقع بصره علي، فقال لي: يا محمد، تعال، قال: فقمت معه حتى دخلت معه في موضع خلوة، فباحثني في الفروض والشروط والسنن، وقادني إلى المنبر، وقال لي: يا محمد، ارق المنبر، فقلت له: يا سيدي، والله لا أدري ما أقول، فقال لي: ارق، وناولني السيف الذي يتوكأ عليه الخطيب عندهم، وأنا جالس مفكر فيما أقول إذا فرغ المؤذنون، فلما فرغوا ناداني بصوته، وقال لي: يا محمد قم، وقل بسم الله، قال: فقمت، وانطلق لساني بما لا أدري ما هو، إلا أني كنت أنظر إلى الناس ينظرون إلي ويخشعون من موعظتي، فأكملت الخطبة، فلما نزلت قال لي: أحسنت يا محمد،
__________
(1) ق: وكتب.(5/416)
قراك عندنا أن نوليك الخطابة، وأن لا تخطب بخطبة غيرك ما وليت وحييت، ثم سافرنا فحججنا، وأراد والدي الجوار، وأمرني بالرجوع لأونس عمي وقرابتي بتلمسان، وأمرني بالوقوف علي سيدي المرشدي هنالك، فوقفت عليه وسألني عن والدي، فقلت له: يقبل أيديكم، ويسلم عليكم، فقال لي: تقدم يا محمد، واستند إلى هذه النخلة، فإن شعيباً يعني أبا مدين عبد الله عندها ثلاث سنين، ثم دخل خلوته زماناً، ثم خرج فأمرني بالجلوس بين يديه، ثم قال لي: يا محمد، أبوك من أحبابنا وإخواننا، إلا أنك يا محمد، إلا أنك يا محمد، فكانت هذه إشارة إلى ما امتحنت به من مخالطة أهل الدنيا والتخليط، ثم قال لي: يا محمد (1) أنت متشوش من جهة أبيك، تتوهم أنه مريض، ومن بلدك، أما أبوك فبخير وعافية، وهو الآن عن يمين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن يمينه خليل المالكي، وعن يساره أحمد قاضي مكة، وأما بلدك، فبسم الله، فخط دائرة في الأرض، ثم قام فقبض إحدى يديه على الأخرى وجعلهما خلف ظهره يطوف بتلك الدائرة، ويقول: تلمسان، تلمسان، حتى طاف بتلك الدائرة مرات، ثم قال لي: يا محمد، قد قضى الله الحاجة فيها، فقلت له: كيف يا سيدي (2) فقال: ستر الله إن شاء الله على من فيها من الذراري والحريم، ويملكها هذا الذي حصرها، يعني السلطان أبا الحسن، فهو خير لهم، ثم جلس وجلست بين يديه، فقال لي: يا خطيب، فقلت: يا سيدي عبدك ومملوكك، فقال لي: كن خطيباً، أنت الخطيب، وأخبرني بأمور، وقال لي: لا بد أن تخطب بالجامع الغربي، وهو الجامع الأعظم بالإسكندرية، ثم أعطاني شيئاً من كعيكات صغار، زودني بها، وأمرني بالرحيل.
__________
(1) فكانت ... محمد: سقطت من ص.
(2) ق: يا سيدي كيف.(5/417)
وأما خبر تلمسان فدخلها المريني كما ذكر، وستر الله من فيها من الذراري والحريم، وكان هذا المرشدي يتصرف في الولاية كتصرف سيدي أبي العباس السبتي، نفعنا الله بهما.
وللخطيب ابن مرزوق تآليف: منها شرحه الجليل على العمدة في خمسة أسفار، جمع فيه بيت ابن دقيق العيد والفاكهاني مع زوائد، وشرحه النفيس على الشفاء، ولم يكمل، وشرحه على الأحكام الصغرى لعبد الحق، وشرحه على ابن الحاجب الفرعي، سماه إزالة الحاجب لفروع ابن الحاجب وله غيرها، وديوان خطب بالغرب مشهور كقصيدته التي قالها في نكبته بتلمسان، وأولها:
رفعت أموري لباري النسم ... وموجدنا بعد سبق العدم ومن نظمه عند وداعه أهل تونس:
أودعكم وأثني ثم أثني ... على ملك تطاول بالجميل
وأسأل رغبة منكم لربي ... بتيسير المقاصد والسبيل
سلام الله يشملنا جميعاً ... فقد عزم الغريب على الرحيل ومن نظم أبي المكارم منديل ابن آجروم يسلس المذكور عندما سجن بعد قتل السلطان أبي سالم، رحمهم الله أجمعين:
يا شمس علم أفلت بعدما ... أضاءت المشرق والمغربا
حجبت قسراً عن عيون الورى ... والشمس لا ينكر أن تحجبا وهو بيت علم وولاية وصلاح لعمه وجده وأبيه وجد أبيه، ولولديه محمد وأحمد وحفيده عالم الدنيا البحر أبي عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق، وولد حفيده المعروف بالكفيف، وحفيد حفيده المعروف بالخطيب، وهو آخر المذكورين منهم فيما نعلم.(5/418)
[ابن مرزوق الكفيف]
قلت: كان مرادي أن أعرف بجميعهم، ولكني خشيت الطول (1) ، فلنلم بذكر الحفيد عالم الدنيا، وابنه العلامة المشهور بالكفيف، لأنه أعني الكفيف والد أم جدي أحمد، لأني احمد بن محمد بن أحمد، فوالدة الجد أحمد بنت الكفيف المذكور، وهو أعني الكفيف محمد بن محمد بن أحمد بن الخطيب الرئيس أبي عبد الله بن مرزوق المتقدم الذكر (2) ، وكان الكفيف إماماً عالماً علامة، ووصفه (3) ابن داود البلوي بأنه الشيخ الإمام، علم الأعلام، فخر خطباء الإسلام، سلالة الأولياء، وخلف الأتقياء الأرضياء، المسند الراوية المحدث العلامة المتفنن القدوة الحافل الكامل، وأخذ العلم عن جماعة: منهم عالم الدنيا أبوه، قرأ عيه الصحيحين والموطأ وغير ما كتاب من تآليفه وغيرها، وتفقه عليه وأجازه عموماً وعن عالمي تلمسان أبوي الفضل ابن الإمام والعقباني، وغيرهما واللجائي (4) والثعالبي، والنظار أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم المشدالي، وقاضي الجماعة ابن عقاب وحافظ الإسلام ابن حجر العسقلاني، وكل هؤلاء أجازوه، وقرأ عليهم مشافهة، إلا ابن حجر فمكاتبة، ومولده غرة ذي القعدة عام أربعة وعشرين وثمانمائة، نصف ليلة الثلاثاء، ومن شيوخه العلامة ابن العباس التلمساني وغيره.
وقال السخاوي: قدم الكفيف مكة سنة إحدى وستين وثمانمائة، وسمعت سنة إحدى وسبعين وثمانمائة أنه في الأحياء؛ انتهى.
وأخذ عنه جماعة أئمة كالسنوسي صاحب العقائد الشهيرة وغيرها، والونشريسي صاحب المعيار، والعلامة أبي عبد الله ابن العباس، وحلاه بشيخنا
__________
(1) ق: التطويل.
(2) ترجمة ابن مرزوق الكفيف في نيل الابتهاج: 354 وعنه ينقل المقري؛ والضوء اللامع 9: 46.
(3) ق: وعرف به.
(4) هو أحمد بن محمد بن عيسى (نيل الابتهاج: 62) ؛ وفي ق ص: البجائي.(5/419)
ومفيدنا علم الأعلام وحجة الإسلام آخر حفاظ المغرب، وقال: قرأت عليه الصحيحين وبعض مختصري ابن الحاجب الفرعي والأصلي، وحضرت عله جملة من التهذيب وبعض الخونجي وغيرها، وأخذ عنه بالإجازة عالم فاس ابن غازي حسبما ذكره في كتابه المسمى التعلل برسوم الإسناد بعد انتقال الساكن والناد.
وقال بعض الحفاظ: إن وفاته عام أحد وتسعمائة بتلمسان. وزرت قبره مراراً، رحمه الله تعالى؛ ونقل عنه المازوني في نوازله المسماة الدرة المكنونة في نوازل مازونة.
[ابن مرزوق الحفيد]
وأما والده (1) عالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق الشهير بالحفيد (2) فهو البحر الإمام المشهور الحجة الحافظ العلامة المحقق الكبير النظار المطلع المصنف المنصف التقي الصالح الناصح الزاهد العابد الورع البركة الخاشع الخاشي النبيه القدوة المجتهد الأبرع الفقيه الأصولي المفسر المحدث الحافظ المسند الراوية الأستاذ المقرئ المجود النحوي اللغوي البياني العروضي الصوفي الأواب الولي الصالح العارف بالله، الآخذ من كل فن بأوفر نصيب، الراعي في كل علم مرعاه الخصيب، حجة الله على خلقه، المفتي الشهير الرحلة الحاج، فارس الكراسي والمنابر، سليل الأكابر، سيد العلماء الأخيار، وإمام الأئمة وآخر الشيوخ ذوي الرسوخ، بدر التمام الجامع بين المعقول والمنقول والحقيقة والشريعة بأجل محصول، وآخر النظار الفحول، شيخ المشايخ، صاحب التحقيقات البديعة والاختراعات الأنيقة، والأبحاث الغريبة، والفوائد الغزيرة، المتفق على علمه وصلاحه
__________
(1) ق: أبوه.
(2) ترجمة ابن مرزوق الحفيد في نيل الابتهاج: 304؛ والضوء اللامع 7: 50.(5/420)
وهديه، الذكي الفهامة القدوة الذي لا يسمح الزمان بمثله أبداً، أوحد الأفراد في جميع الفنون الشرعية، ذو المناقب العديدة والأحوال السديدة، شيخ الإسلام وإمام المسلمين وفتي الأنام، الذي له القدم الراسخ في كل مقام (1) ضيق، والرحب الواسع في حل كل مشكل مقفل، صاحب الكرامات والاستقامات، السني السنى الحريص على تحصيل السنة ومجانبة البدعة، السيف المسلول على أهل البدع والأهواء الزائغة، الذي أفاض الله تعالى على خلقه به بركته، ورفع بين البرية محله ودرجته، ووسع على خليقته به نحلته، معدن العلم وشعلة الفهم، وكيمياء السعادة وكنز الإفادة، ابن الشيخ الفقيه العلم أبي العباس أحمد، ابن الإمام العلامة الرئيس الكبير الخطيب الحافظ الرحلة الفقيه المحدث الشهير شمس الدين محمد، ابن الشيخ العالم الصالح الولي المجاور أبي العباس أحمد، ابن الفقيه الولي الصالح الخاشع محمد، ابن الولي الكبير ذي الكرامات والأحوال الصالحة محمد بن أبي بكر ابن مرزوق العجيسي التلمساني: كان رحمه الله تعالى آية الله في تحقيق العلوم، والاطلاع المفرط على النقول، والقيام التام على الفنون بأسرها، أما الفقه فهو فيه مالك، ولأزمة فروعه حائز ومالك، فلو رآه الإمام قال له: تقدم، فلك العهد والولاية فتكلم، فمنك يسمع فقهي وفروعي، ومثلك من راعى ما ينبغي فروعي، أو ابن القاسم لقر به عيناً وقال له: طالما دفعت عن المذهب عيناً وشيناً أو المازري، لعلم أنه بمناظرته حري، أو الحافظ ابن رشد، لقال: هلم يا حافظ الرشد، أو اللخمي لأبصر منه محاسن التبصرة، أو القرطبي لنال منه التذكرة، أو القرافي لاستفاد منه قواعده المقررة، أو ابن الحاجب لاستند إلى بابه في كشف الإشكالات المحررة، إلى ما انضم إلى ذلك من معرفة التفسير ودرره، والاضطلاع بحقائق التأويل وغرره، فلو
__________
(1) نيل الابتهاج: مزلق.(5/421)
رآه مجاهد، لعلم أنه في التحقيق خير جاهد (1) ، أو مقاتل، لقال: مثلك طبق من الفهوم الكلى وأصاب المقاتل، أو الزمخشري لعلم أنه كشاف الخفيات على الحقيقة، وقال لكتابه: تنح لهذا الحبر عن سلوك الطريقة، أو ابن عطية، لركب في الرحلة إلى الاستفادة منه المطية، أو أبو حيان لغرق في نهره، ولم تسل له نقطة من بحره، إلى الإحاطة بالحديث وفنونه، والاطلاع على أسانيده ومتونه، ومعرفة منكره ومعروفه، ونظم أنواعه ورصف صنوفه، إذ إليه الرحلة انتهت في رواياته ودراياته، وعليه المعول في حل مشكلاته، وفتح مقفلاته، وأما الأصول (2) فالعضد ينقطع عن مناظرته ساعده، والسيف يكل عند بحثه حده حتى يترك ما عنده ويساعده، والبرهان لا يهتدي معه لحجة، والمقترح لا يركب في بحره لجة. وأما النحو فلو رآه محمود (3) لتلجلج في قراءة المفصل، واستقل ما عنده من القدر المحصل، أو الرماني لاشتقاق إلى مفاكهته وارتاح، واستجدى من ثمار فوائده وامتاح، أو الزجاج علم أن زجاجه لا يقوم بجواهره، وأنه لا يجري معه في هذا العلم إلا في ظواهره، بل لو رآه الخليل، لقال: هذا هو المقصد الجليل، وأثنى عليه بكل جميل، وقال لفرسان النحو: ما لكم إلى لحوق عربيته من سبيل (4) ، وأما البيان فالمصباح لا يظهر له نور عند هذا الصبح، وصاحب المفتاح لا يهتدي معه إلى الفتح، والقزويني يلقي علومه لإيضاح المعاني، والسعد يرقى بمفهومه في مطالع المثاني، وكم له من مناقب، تنحط عن منالها الثواقب، ومواهب، تجلو بأنوارها الغياهب، وأما زهده (5)
__________
(1) نيل الابتهاج: لعلم أنه في علوم القرآن العزيز مجاهد؛ قلت: وفي نص المقري بعض تغيير لما ورد في نيل الابتهاج.
(2) ق: الكلام.
(3) يعني الزمخشري.
(4) ق ص: وقال في شأن النحو والكلام إلى لحوق بيته من سبيل، وهو مضطرب؛ وفي النيل: وقال ... إلى لحوقه من سبيل.
(5) ق: ورعه وزهده.(5/422)
وصلاحه فقد سارت به الركبان، واتفق عليه الثقلان، فمن وصفه بالبحر، فقل له: دون علمه البحر، أو البدر فما يصل خلقه البدر، أو الدر فأنى يشبه منطقه الدر، وبالجملة فالوصف يتقاصر عن صفاته وفضلاء عصره لا يرتقون إلى صفاته، فهو شيخ العلماء في أوانه، وإمام الأئمة في عصره وزمانه، شهد بنشر علومه العاكف والبادي، وارتوى من بحار تحقيقاته الظمآن والصادي:
حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفر هكذا وصفه بعض العلماء، وهو فوق ذلك كله.
وقال في حقه بلدينا الشيخ أبو الفرج ابن أبي يحيى الشريف التلمساني رحمه الله تعالى: هو شيخنا الإمام العالم العلم، جامع أشتات العلوم الشرعية والعقلية حفظاً وفهماً وتحقيقاً راسخ القدم، رافع لواء الإمامة بين الأمم، ناصر الدين بلسانه وبنانه وبالقلم، محيي السنة بالفعال والمقال والشيم، قطب الوقت في الحال والمقام والنهج الواضح والسبيل الأمم (1) ، مستمر على الإرشاد والهداية، والتبليغ والإفادة، والرواية والدراية والعناية، ملازم الكتاب والسنة على نهج الأئمة المحفوظين من البدع في زمن لا عاصم فيه من أمر الله إلا من رحم، ذو همة علية ورتبة سنية وأخلاق مرضية وفضل وكرم، إمام الأئمة وعلم (2) الأمة الناطق بالحكم ومنير الظلم، سليل الصالحين، وخلاصة مجد التقى والدين، نتيجة مقدمات المهتدين، حجة الله على العلم والعالم، جامع بين الشريعة والحقيقة، على أصح طريقة، متمسك بالكتاب لا يفارق فريقه، الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد، اتصلت به فأويت منه إلى ربوة ذات قرار ومعين، وقصرت توجهي عليه، ومثلت بين يديه، فأنزلني - أعلى الله قدره - منزلة ولده رعاية للذمم، وحفظاً على الود الموروث من القدم، فأفادني من بحار علمه ما تقصر عنه العبارة
__________
(1) نيل الابتهاج: الأقوم.
(2) نيل الابتهاج: وعالم.(5/423)
ويكل دونه القلم، فقرأت عليه جملة من تفسير القرآن ومن الحديث صحيح البخاري بقراءتي وقراءة غيري مراراً وصحيح مسلم كذلك وسنن الترمذي وأبي داود بقراءتي، والموطأ سماعاً وتفقهاً والعمدة، ومن علم الحديث أرجوزته الحديقة وبعض الكبرى وهي الروضة تفقهاً، ومن العربية نصف المقرب تفقهاً وجميع سيبويه كذلك، وألفية ابن مالك، وأوائل شرح الإيضاح لابن أبي ربيع، وبعض المغني لابن هشام، وفي الفقه التهذيب كله تفقهاً، وابن الحاجب الفرعي، وبعض مخنصر الشيخ خليل، والتلقين، وثلثي الجلاب، وجملة من المتيطية، والبيان لابن رشد، وبعض الرسالة، وكل ذلك قراءة تفقه، وتفقهت عليه من كتاب الشافعية في تنبيه الشيرازي ووجيز الغزالي من أوله إلى كتاب الإقرار، ومن كتب الحنفية مختصر القدوري تفقهاً، ومن كتب الحنابلة مختصر الخرقي تفقهاً، ومن أصول الفقه المحصول، ومختصر ابن الحاجب، والتنقيح، وكتاب المفتاح لجدي، وقواعد عز الدين، وكتاب المصالح والمفاسد له، وقواعد القرافي، وجملة من النظائر والأشباه للعلائي، وإرشاد العميدي، ومن أصول الدين المحصل والإرشاد تفقهاً، وفي القراءات قصيدة الشاطبي تفقهاً، وابن بري (1) ، وفي البيان التلخيص والإيضاح والمصباح، وكلها تفقهاً وفي التفقه (2) الإحياء للغزالي سوى الربع الأخير منه، وألبسني خرقة التصوف كما ألبسه أبوه وعمه، وهما ألبسهما أبوهما وجده؛ انتهى ملخصاً (3) .
وكتب المذكور تحت هذا ما نصه: صدق السيد بن السيد أبو الفرج المذكور فيما ذكر من القراءة والسماع والتفقه وبر، وقد أجزته في ذلك كله، فهو
__________
(1) ق ص: وابن العمدة.
(2) نيل الابتهاج: وفي التصوف.
(3) ملخصا: سقطت من ق.(5/424)
حقيق بها مع الإنصاف وصدق النظر، جعلني الله وإياه ممن علم وعمل لآخرته واعتبر، قاله محمد بن مرزوق؛ انتهى.
وقال تلميذه الولي أبو زيد سيدي عبد الرحمن الثعالبي (1) : قدم علينا بتونس شيخنا أبو عبد الله ابن مرزوق فأقام بها، فأخذت عنه كثيراً، وسمعت عليه جميع الموطإ بقراءة صاحبنا أبي حفص عمر ابن شيخنا محمد القلشاني (2) ، وختمت عليه أربعينيات النووي، قرأتها عليه في منزله قراءة تفهم، فكان كلما قرأت عليه حديثاً يعلوه خشوع وخضوع، ثم يأخذ في البكاء، فلم أزل أقرأ وهو يبكي إلى أن ختمت الكتاب، وكان من أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وأجمع الناس على فضله من المغرب إلى الديار المصرية، واشتهر ذكره في البلاد، فكان بذكره تطرز المجالس، وجعل الله تعالى حبه في قلوب العامة والخاصة فلا يذكر في مجلس إلا والنفوس مشوقة (3) إلى ما يحكى عنه، وكان في التواضع والإنصاف والاعتراف بالحق في الغاية وفوق النهاية، لا أعلم له نظيراً في ذلك في وقته، ثم ذكر كثيراً جداً من الكتب مما سمعه عليه، وأطال في ذلك.
وقال في موضع آخر: هو سيدي الشيخ الإمام الحبر الهمام، حجة أهل الفضل في وقتنا وخاتمتهم، ورحلة النقاد وخلاصتهم، ورئيس المحققين وقادتهم، السيد الكبير، والذهب الإبريز، والعلم الذي نصبه التمييز (4) ، ابن البيت الكبير، والفلك الأثير، ومعدن الفضل الكثير، سيدي أبو عبد الله محمد ابن الإمام الجليل الأوحد الأصيل، جمال الفضلاء، سليل الأولياء، أبي العباس أحمد، ابن العالم الكبير، العلم الشهير تاج المحدثين وقدوة المحققين، أبي عبد الله محمد بن مرزوق.
__________
(1) ترجمة الثعالبي في نيل الابتهاج: 148.
(2) من أكابر علماء تونس (- 848) ؛ انظر النيل: 180.
(3) نيل الابتهاج: متشوقة.
(4) ق: نصب على التمييز.(5/425)
وقال أيضاً في موضع آخر: هو شيخي الإمام العلم الصدر الكبير، المحدث الثقة المحقق بقية المحدثين، وإمام الحفظة الأقدمين والمحدثين، سيد وقته وإمام عصره وورع زمانه وفاضل أقرانه، أعجوبة أوانه وفاروق زمانه، ذو الأخلاق المرضية، والأحوال الصالحة السنية، والأعمال الفاضلة الزكية، أبو عبد الله.
وقال في حقه المازوني في أول نوازله: شيخنا الإمام الحافظ بقية النظار والمجتهدين، ذو التواليف العجيبة، والفوائد الغريبة، مستوفي المطالب والحقوق، أبو عبد الله ابن مرزوق.
وقال تلميذه الحافظ العلامة أبو عبد الله التنسي عند ذكره: إن إمامنا مالكاً سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري، وجنة العالم لا أدري ما نصه: ولم نر فيمن أدركنا من شيوخنا من تمرن على هذه الخصلة الشريفة ويكثر استعمالها غير شيخنا الإمام العلامة رئيس علماء المغرب على الإطلاق أبي عبد الله بن مرزوق.
وقال الشيخ أبو الحسن القلصادي في رحلته: أدركت (1) كثيراً منم العلماء والعباد والزهاد والصلحاء، أولاهم في الذكر والتقديم (2) الشيخ الفقيه الإمام العلامة الكبير الشهير شيخنا وبركتنا أبو عبد الله ابن مرزوق، حل كنف العلم والعلا، وجل قدره في الجلة والفضلا، قطع الليالي ساهراً، وقطف من العلم أزاهراً، فأثمر وأورق، وغرب وشرق، حتى توغل في فنون العلم واستغرق، إلى أن طلع للأبصار هلالاً لأن الغرب مطلعه، وسما في النفوس موضعه وموقعه، فلا ترى أحسن من لقائه، ولا أسهل من إلقائه، لقي الشيوخ الأكابر، وبقي حمده متعرفاً (3) من بطون الكتب والسنة الأقلام وأفواه المحابر،
__________
(1) نيل الابتهاج: أدركت بتلمسان.
(2) ق: والتقدم.
(3) نيل الابتهاج: مغترفا؛ وفي ص: وبقي عمره.(5/426)
وكان رضي الله عنه من رجال الدنيا والآخرة، وكانت أوقاته كلها معمورة بالطاعات ليلاً ونهاراً من صلاة وقراءة قرآن وتدريس علم وفتيا وتصنيف، وكانت له أوراد معلومة وأوقات مشهورة (1) ، وكانت له بالعلم عناية تكشف بها العماية، ودراية تعضدها الرواية، ونباهة تكسب النزاهة، قرأت عليه رضي الله عنه بعض كتابه في الفرائض وأواخر إيضاح الفارسي وشيئاً من شرح التسهيل وعرضت عليه إعراب القرآن وصحيح البخاري والشاطبيتين وأكثر ابن الحاجب الفرعي والتلقين وتسهيل ابن مالك والألفية والكافية وابن الصلاح في علم الحديث ومنهاج الغزالي وبعض الرسالة وغيرها، ثم توفي يوم الخميس بمصر رابع عشر شعبان عام اثنين وأربعين وثمانمائة وصلي عليه بالجامع الأعظم بعد صلاة الجمعة، وحضر جنازته السلطان فمن دونه، ولم أر مثلها قبل، وأسف الناس لفقده، وآخر بيت سمع منه قبل موته:
إن كان سفك دمي أقصى مرادكم ... فما غلت نظرة منكم بسفك دمي انتهى ملخصاً.
وفي فهرست ابن غازي في ترجمة شيخه أبي محمد الورياجلي (2) ما صورته: وممن لقي من شيوخ تلمسان المحروسة الإمام العلم العلامة الصدر الأجل الأوحد المحقق النظار الحجة العالم الرباني أبو عبد الله بن مرزوق، وقد حدثني بكثير من مناقبه وصفة إقرائه، وقوة اجتهاده، وتواضعه لطلبة العلم، وشدته على أهل البدع، وما اتفق له مع بعضهم، إلى غيرها من شيمه الكريمة، ومحاسنه العظيمة؛ انتهى.
وقال بعضهم في حقه: إنه كان يسير سيرة سلفه في العلم والتخلق والحلم والشفقة وحب المساكين، آية الله في الفهم والذكاء والصدق والعدالة والنزاهة
__________
(1) نيل الابتهاج: مشهودة.
(2) ص: الورياطي؛ وهو خطأ.(5/427)
واتباع السنة في الأقوال والأفعال، ومحبة أهلها في جميع الأحوال، مبغضاً لأهل البدع ومحباً سد الذرائع، وله كرامات؛ انتهى.
أخذ العلم عن جماعة أجلاء فمنهم (1) العلامة السيد عبد الله الشريف التلمساني، وعالم المغرب القاضي سيدي سعيد العقباني التلمساني، والوالي العابد الصالح أبو إسحاق سيدي إبراهيم المصمودي، وأفرد ترجمته بتأليف، وعن عمه وأبيه، ويروي عن جده بالإجازة وابن عرفة وأبي العباس القصار التونسي (2) ، وبفاس عن النحوي أبي حيان وأبي زيد المكودي، وجماعة غيرهما، وبمصر عن السراج البلقيني، والزين الحافظ العراقي، والشمس الغماري، والسراج ابن الملقن، وصاحب القاموس، والمحب ابن هشام ابن صاحب المغني والنور النويري، والولي ابن خلدون، والقاضي التنسي، وغيرهم.
وأخذ عنه جماعة كالثعالبي، والقاضي عمر القلشاني، وابن العباس [والعلامة] نصر الزواوي، والولي سيدي الحسن أبركان، وابنه، وأبي البركات الغماري، وأبي الفضل المشدالي، وقاضي غرناطة أبي العباس ابن أبي يحيى الشريف، وإبراهيم ابن فائد، وأبي العباس الندرومي، وابنه الكفيف، وسيدي علي بن ثابت، والشهاب بن كحيل التجاني، والعلامة أحمد بن يونس القسمطيني، والعلامة يحيى بن يدير (3) ، وأبي الحسن القلصادي، والشيخ عيسى بن سلامة البسكري، وغيرهم، كالحافظ التنسي التلمساني.
قلت: وسندي إليه عن عمي الإمام سيدي سعيد المقري، عن الشيخ أبي عبد الله التنسي، عن والده الحافظ أبي عبد الله محمد التنسي المذكور، عن ابن مرزوق المذكور بكل مروياته وتآليفه.
وقال السخاوي في حقه: هو أبو عبد الله، يعرف بحفيد ابن مرزوق، وقد
__________
(1) ص: وأما شيوخه فمنهم ... إلخ.
(2) ق ص: القط والتونسي؛ وأثبت ما في نيل الابتهاج.
(3) ق ص: زيد.(5/428)
يختص بابن مرزوق، وقد تلا لنافع على عثمان الزروالي، وانتفع في الفقه بأبي عبد الله ابن عرفة، وأجازه أبو القاسم محمد بن الخشاب ومحمد بن علي الحفار الأنصاري ومحمد القيجاطي، وحج قديماً سنة تسعين وسبعمائة رفيقاً لابن عرفة، وسمع منن ابن (1) البهاء الدماميني والنور العقيلي بمكة، وفيها قرأ البخاري على ابن صديق، ولازم المحب (2) ابن هشام في العربية، وكذا حج سنة تسع عشرة وثمانمائة، ولقيه الزيني رضوان بمكة، وكذا لقيه ابن حجر؛ انتهى.
وأما تواليفه فكثيرة منها شروحه الثلاثة على البردة، وسمي الأكبر إظهار صدق المودة في شرح البردة واستوفى فيه غاية الاستيفاء، وضمنه سبعة فنون في كل بيت، والأوسط، والأصغر المسمى بالاستيعاب لما فيها من البيان والإعراب، ومنها الغاية القراطيسية (3) في شرح الشقراطيسية والمفاتيح المرزوقية في استخراج رموز الخزرجية ورجز في علوم الحديث سماه الروضة ومختصره في رجز سماه الحديقة ورجز في الميقات سماه المقنع الشافي مشتمل على ألف وسبعمائة بيت، ونهاية الأمل في شرح الجمل أي جمل الخونجي، واغتنام الفرصة في محادثة عالم قفصة وهو أجوبة عن مسائل في فنون العلم وردت عليه من علامة قفصة أبي يحيى ابن عقيبة فأجابه عنها، والمعراج إلى استمطار فوائد الأستاذ ابن سراج في كراسة ونصف، أجاب به أبا القاسم ابن سراج الغرناطي عن مسائل نحوية ومنطقية، و " أنوار (4) اليقين في شرح حديث أولياء الله المتقين وهو حديث أول حلية أبي نعيم في شأن البدلاء وغيرهم، والدليل المومي في ترجيح طهارة الكاغد الرومي، والنصح الخالص في الرد على مدعي رتبة الكامل الناقص في سبعة كراريس، رد به على عصريه الإمام أبي
__________
(1) ابن: سقطت من نيل الابتهاج.
(2) ص ق: المجد.
(3) نيل الابتهاج: والمفاتيح القراطيسية.
(4) نيل الابتهاج: ونور.(5/429)
الفضل قاسم العقباني في فتواه في مسألة الفقراء الصوفية لما صوب العقباني صنيعهم وخالفه هو، ومختصر الحاوي في الفتاوي لابن عبد النور، و " الروض البهيج في مسائل الخليج " (1) وأنوار الدراري في مكررات البخاري [وأرجوزة نظم تلخيص ابن البناء] ورجز تلخيص المفتاح، نظمه في حال صغره، ورجز حرز الأماني ورجز جمل الخونجي، ورجز اختصار ألفية ابن مالك، وتأليفه في مناقب شيخه المصمودي، وتفسير سورة الإخلاص على طريقة الحكماء، وهذه كلها تامة.
وأما ما لم يكمل من تآليفه فالمتجر الربيح والسعي الرجيح والمرحب الفسيح في شرح الجامع الصحيح، وروضة الأريب في شرح التهذيب، والمنزع النبيل في شرح مختصر خليل، شرح منه كتاب الطهارة في مجلدين، ومن الأقضية إلى آخره في سفرين، وإيضاح السالك على ألفية ابن مالك، إلى اسم الإشارة أو الموصول مجلد كبير في قدر شرح المرادي، وشرح شواهد شراح الألفية إلى باب " كان " مجلد، وله خطب عجيبة.
وأما أجوبته وفتاويه على المسائل المنوعة فقد سارت بها الركبان شرقاً وغرباً، بدواً وحضراً، وقد نقل المازوني والونشريسي منها جملة وافرة.
ومن تآليفه أيضاً عقيدته المسماة عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلمة التقليد والآيات الواضحات وفي وجه دلالة المعجزات والدليل الواضح المعلوم في طهارة كاغد الروم، وإسماع الصم في إثبات الشرف من قبل الأم وذكر من تواليفه شرح ابن الحاجب الفرعي، وشرح التسهيل؛ انتهى.
ومولده كما ذكر في شرحه على البردة ليلة الاثنين رابع عشري (2) ربيع الأول عام ستة وستين وسبعمائة، قال: حدثتني أمي عائشة بنت الفقيه الصالح
__________
(1) زاد في نيل الابتهاج: في أوراق نصف كراس.
(2) ص: رابع عشر من.(5/430)
القاضي أحمد بن الحسن المديوني، وكانت من الصالحات ألفت مجموعاً من أدعيه اختارتها، وكانت لها قوة في تعبير الرؤيا اكتسبتها من كثرة مطالعتها لكتب الفن، إنه أصابني مرض شديد أشرفت منه على الموت، ومن شأنها وأبيها أنهما لا يعيش لهم ولد إلا نادراً، وكانوا أسموني أبا الفضل أول الأمر، فدخل عليها أبوها أحمد المذكور، فلما رأى مرضي وما بلغ بي غضب وقال: ألم أقل لكم لا تسموه أبا الفضل، ما الذي رأيتم له من الفضل حتى تسموه أبا الفضل سموه محمداً، لا أسمع أحداً يناديه بغيره إلا فعلت به وفعلت، يتوعد (1) بالأدب، قالت: فسميناك محمداً، ففرج الله عنك؛ انتهى.
ومن فوائده ما حكى في بعض فتاويه قال: حضرت مجلس شيخنا العلامة نخبة الزمان ابن عرفة رحمه الله تعالى أو مجلس حضرته فقرأ " ومن يعش عن ذكر الرحمن " فجرى بيننا مذكرات رائقة، وأبحاث حسنة فائقة، منها أنه قال: قرئ يعشو بالرفع ونقيض بالجزم، ووجهها أبو حيا بكلام ما فهمته، وذكر أن في النسخة خللاً، وذكر بعض ذلك الكلام، فاهتديت إلى تمامه فقلت: يا سيدي، معنى ما ذكره أن جزم نقيض بمن الموصولة لشبهها بالشرطية لما تضمنت من معنى الشرط، وإذا كانوا يعاملون الموصول الذي لا يشبه لفظه لفظ الشرط بذلك فما يشبه لفظ الشرط أولى بتلك المعاملة، فوافق رحمه الله تعالى وفرح كما أن الإنصاف كان طبعه وعند ذلك أنكر علي جماعة من أهل المجلس وطالبوني بإثبات معاملة الموصول معاملة الشرط، فقلت: نصهم على دخول الفاء في خبر الموصول في نحو الذي يأتيني فله درهم من ذلك، فنازعوني في ذلك، وكنت حديث عهد بحفظ التسهيل، فقلت: قال ابن مالك فيما يشبه المسألة: وقد يجزم متسبب عن صلة الذي تشبيهاً بجواب الشرط، وأنشدت من شواهد المسألة قول الشاعر:
__________
(1) ق: متوعدا.(5/431)
كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً ... تصبه على رغم عواقب ما صنع فجاء الشاهد موافقاً للحال؛ انتهى بنقل تلميذه المازوني.
وقد ذكر الشيخ (1) ابن غازي الحكاية في فهرسته في ترجمة شيخه الأستاذ الصغير، وفيها بعض مخالفة لما تقدم، فلنسقه، قال: حدثني أنه بلغه عن ابن عرفة أنه كان يدرس من صلاة الغداة إلى الزوال، يقرئ فنون، ويبتدئ بالتفسير، وإن الإمام ابن مرزوق أول ما دخل عليه وجده يفسر هذه الآيات " ومن يعش عن ذكر الرحمن " فكان أول ما فاتحه أن قال له: هل يصح كون من هنا موصولة فقال ابن عرفة: كيف وقد جزمت فقال: تشبيهاً له بالشرط، فقال ابن عرفة: إنما يقدم على هذا بنص من إمام أو شاهد من كلام العرب، فقال: إما النص فقول التسهيل كذا، وأما الشاهد فقول: الشاعر:
فلا تحفرن بئراً تريد أخاً بها ... فإنك فيها أنت دونه تقع
كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً ... تصبه على رغم عواقب ما صنع فقال ابن عرفة: فأنت إذاً ابن مرزوق، قال: نعم، فرحب به؛ انتهى. وهو خلاف ما تقدم، والأول أصوب لنقل غير واحد أن جزم الموصولات إنما يكون في الجواب لا في الشرط، والله تعالى أعلم.
وفي بعض المجاميع أن ابن عرفة اشتغل بضيافته لما انقضى (2) المجلس.
ومن فوائده أنه كان يصرف لفظ أبي هريرة بناء على أن جزء العلم غير علم، وخلفه أهل فاس في ذلك لما بلغهم، وما للأستاذ الصغير والحافظ القوري (3) إلى منع الصرف لوجوه ليس لها موضعها، ومنها قول ابن مالك:
__________
(1) الشيخ: سقطت من ق.
(2) نيل الابتهاج: انفصل.
(3) ص: القدوري؛ ق: النويري.(5/432)
ولاضطرار كبنات الأوبر ... فإنه مؤذن بأن جزء العلم علم، وقد ألف في المسألة ابن عباس التلمساني تأليفاً سماه الاعتراف في ذكر ما لفظ أبي هريرة من الانصراف؛ انتهى.
ومن نظمه رحمه الله تعالى:
بلد الجدار ما أمر نواها ... كلف الفؤاد بحبها وهواها
يا عاذلي كن عاذري في حبها ... يكفيك منها ماؤها وهواها ويعني ببلد الجدار تلمسان، ولذلك قال في رجز في علم الحديث ما صورته:
ومن بها أهل ذكاء وفطن ... في رابع من الأقاليم قطن
يكفيك أن الداودي بها دفن ... مع ضجيعه ابن غزلون الفطن قلت: وحدثني عمي الإمام سيدي سعيد المقري رحمه الله تعالى أن العلامة ابن مرزوق لما قدم تونس في بعض الرسائل السلطانية طلب منه أهل تونس أن يقرأ لهم في التفسير بحضرة السلطان، فأجابهم إلى ذلك، وعينوا له محل البدء، فطالع فيه، فلما حضروا قرأ القارئ غير ذلك، وهو قوله تعالى " فمثله كمثل الكلب " وأرادوا بذلك إفحام الشيخ والتعريض به، فوجم هنيهة، ثم تفجر ينابيع العلم إلى أن أجرى ذكر ما في الكلب من الخصال المحمودة، وساقها أحسن مساق، وأنشد عليها الشواهد، وجلب الحكايات، حتى عد من ذلك جملة، ثم قال في آخرها: فهذا ما حضر ما حضر محمود أفعال الكلب وخصاله، غير أن فيه واحدة ذميمة، وهي إنكاره الضيف، ثم افترق المجلس، وأخبرني أنه أطال في ذلك المجلس من الصبح إلى قرب الظهر، وقد طال عهدي بالحكاية، وإنما نقلتها بمعناها من حفظي، وهي من الغرائب، ولولا الإطالة لذكرت ما وقع له مع علماء برصه في الحجاز حسبما ذكره في مناقب شيخه المصمودي، رحم الله الجميع.(5/433)
رجع إلى ذكر مشايخ لسان الدين، فنقول:
19 - ومن مشايخ لسان الدين الرئيس أبو الحسن علي بن الجياب (1) ، وهو كما في " الإحاطة " علي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان بن حسن، الأنصاري الغرناطي، أبو الحسن، قال: وهو شيخنا ورئيسنا العلامة البليغ.
ومن مشايخه أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي، وخلق، قال: وقد دونت شعره، فمن معشراته قوله في حرف الجيم:
جريئاً على الزلات غير مفكر ... جباناً على الطاعات غير معرج
جمعت لما يفنى اغتراراً بجمعه ... وضيعت ما يبقى، سجية أهوج
جنوناً بدار لا يدوم سرورها ... فدعها سدى، ليست بعشك فادرجي (2)
جيادك (3) في شأو الضلال سوابق ... تفوت مدى سن الوجيه وأعوج
جهلت سبيل الرشد فاقصد دليله ... تجد دار سعد بابها غير مرتج
جناب رسول ساد أولاد آدم ... وقرب في السبع الطباق بمعرج
جمال أنار الأرض شرقاً ومغرباً ... فكل سناً من نوره المتبلج (4)
جلا صدأ المرتاب أن سبح الحصى ... لديه بنطق ليس بالمتلجلج
جعلت امتداحي والصلاة عليه لي ... وسائل تحظيني بما أنا مرتج وقال من الأغراض الصوفية السلطانية:
هات اسقني صرفاً بغير مزاج ... راحي هي التي راحتي وعلاجي
__________
(1) ترجمة ابن الجياب في الكتيبة الكامنة: 183 ونيل الابتهاج: 193 ونثير فرائد الجمان: 239 (رقم: 6) ودرة الحجال 2: 435 والديباج المذهب: 207 والإحاطة: 330 (وهي موجزة) .
(2) ليس بعشك فادرجي: مثل يقال في من يدخل نفسه في ما لا يعنيه.
(3) ص ق: جيادي.
(4) سقط البيت من ق.(5/434)
إن صب منها في الزجاج قطرة ... شف الزجاج عن السنا الوهاج
وإذا الخليع أصاب منها شربة ... حاجاه بالسر المصون محاجي
وإذا المريد أصاب منها جرعة ... ناجاه بالحق المبين مناجي
تاهت به في مهمه لا يهتدي ... فيه لتأويب ولا إدلاج
يرتاح من طرب بها فكأنما ... غنته بالأرمال والأهزاج
هبت عليه نسمة قدسية ... في فيء باب دائم الإرتاج
فإذا انثنى يوماً وفيه بقية ... سارت قصداً على المنهاج
وإذا تمكن منه سكر معربد ... فليصبرن لمصرع الحلاج
قصرت عبارة فيه عن وجدانه ... فغدا يقيض بمنطق لجلاج
أعشاه نور للحقيقة باهر ... فتراه يخيط في الظلام الداجي
رام الصعود بها إلى مركز أصله ... فرمت به في بحرها المواج
فلئن أمد برحمة وسعادة ... فليخلصن من بعد طول هياج
وليرجعن بنعمة موفورة ... ما شيب بعذب شرابها بأجاج
ولئن تخطاه القبول لما جنى ... فليرجعن نكساً على الأدراج
ما أنت إلا درة مكنونة ... قد أودعت في نطفة أمشاج
فاجهد على تخليصها من طبعها ... تعرج بها في أرفع المعراج
واشدد يديك معاً على حبل التقى ... فإن اعتصمت به فأنت الناجي
ولدى العزيز ابسط بساط تذلل ... وإلى الغني امدد يد المحتاج
هذا الطريق له مقدمتان صا ... دقتان أنتجتا أصح نتاج
فاجمع إلى ترك الهوى حمل الأذى ... واقنع من الإسهاب بالإدماج
حرفان قد جمعا الذي قد سطروا ... من بسط أقوال طول حجاج
والمشرب الأصفى الذي من ذاقه ... فقد اهتدى منه بنور سراج
أن لا ترى إلا الحقيقة وحدها ... والكل مضطر إليها لاجي(5/435)
هذي بدائع حكمة أنشأتها ... بإشارة المولى أبي الحجاج
وسع الأنام بفضله وبعدله ... وبحلمه وبجوده الثجاج
من آل نصر نخبة الملك الرضى ... أمن المروع هم وغيث الراجي
من آل قيلة ناصري خير الورى ... والخلق بين تخاذل ولجاج
ماذا أقول وكل قول قاصر ... في وصف بحر زاخر الأمواج
منه لباغي العرف در فاخر ... ولمن يعادي الدين هول فاجي
دامت سعودك في مزيد والمنى ... تأتيك أفواجاً على أفواج وقال من المطولات:
لمن المطايا في السراب سوابحا ... تفلي الفلاة غوادياً وروائحا
عوج كأمثال القسي ضوامر ... يرمين في الآفاق مرمى نازحا وقال يمدح، ويصف مصنعاً سلطانياً (1) :
زارت تجر بنخوة (2) أذيالها ... هيفاء تخلط بالنفار دلالها
فالشمس من حسد لها مصفرة ... إذ قصرت عن أن تكون مثالها
وافتك تمزج لينها بقساوة ... قد أدرجت طي العتاب نوالها
كم رمت كتم مزارها لكنه ... صحت دلائل لم تطق إعلاها
تركت على الأرجاء عند مسيرها ... أرجاً كأن المسك فت خلالها
ما واصلتك محبة وتفضلاً ... لو كان ذاك لواصلن إفضالها
لكن توقعت السلو فجددت ... لك لوعة لا تتقي ترحالها
فوحبها (3) قسماً يحق بروره ... لتشجمنك في الهوى أهوالها
__________
(1) انظر نثير فرائد الجمان: 241.
(2) نثير: تجرر نخوة.
(3) ق: فوحقها.(5/436)
حسنت نظم الشعر في أوصافها ... إذ قبحت لك في الهوى أفعالها
يا حسن ليلة وصلها، ما ضرها ... لو أتبعت من بعدها أمثالها
لما سكرت بريقها وجفونها ... أهملت كأسها لم ترد إعمالها
هذا الربيع أتاك ينشر حسنه ... فافسح لنفسك في مداه مجالها
واخلع عذارك في البطاله جامحاً ... واقرن بأسحار الهنا آصالها
في جنة تجلو محاسنها كما ... تجلو العروس لدى الزفاف جمالها
شكرت أيادي للحيا شكر الورى ... شرف الملوك همامها مفضلها
وصميمها أصلاً وفرعاً، خيرها ... ذاتاً خلقاً، سمحها بذالها
الطاهر الأعلى الأمين المرتضى ... بحر المكارم غيثها سلسالها
حاز المعالي كابراً من كابر ... وجرى لغايات الكرام فنالها
إن تلقه في يوم بذل هباته ... تلق الغمائم أرسلت هطالها
أو تلقه في يوم جرب عداته ... تلق الضراغم فارقت أشبالها
ملك إذا ما صال يوماً صولة ... خلت البسيطة زلزلت زلزالها
فبسيبه وبسيف نلت المنى ... واستعجلت أعداؤه أجالها
الواهب الآلاف قبل سؤالها ... فكفى العفاة سؤالها ومطالها
القاتل الآلاف قبل قراعها ... فكفى العداة قراعها ونزالها
إن قلت بحر كفه قصرت إذ ... شبهت بالملح الأجاج نوالها
ملأ البسيطة عدله وأمانه ... فالوحش لا تعدو على من غالها
وسقى البرية فيض كفيه فقد ... عم البلاد سهولها وجبالها
جمع العلوم عناية بعيونها (1) ... آدابها وحسابها وجدالها
منقولها معقولها، وأصولها ... وفروعها، تفصيلها إجمالها
فإذا عفاتك عاينوك تهللوا ... لما رأوا من كفك استهلالها
__________
(1) ق ونثير: بفنونها.(5/437)
وإذا عداتك أبصروا تيقنوا ... أن المنية سلطت رئبالها
بددت شملهم ببيض صوارم ... رويت من علق الكماة نصالها
وأبحت أرضهم فأصبح أهلها ... خواراً (1) تغادر نهبة أموالها
فتحت إمارتك السعيدة للورى ... أبواب بشرى واصلت إقبالها
وبنت مصانع رائقات ذكرت ... دار النعيم جنانها وظلالها
وأجلها قدراً وأرفعها مدى ... هذا الذي سام النجوم وطالها
هو جنة فيها الأمير مخلد ... بلغت إمارته بها آمالها
ولأرض أندلس مفاخر أنتم ... أربابها أضفيتم سربالها
فحميتم أرجائها، وكفيتم ... أعداءها، وهديتم ضلالها
فبآل نصر فاخرت لا غيرهم ... لم تعتمد من قبلهم أقيالها
بمحمد ومحمد ومحمد ... قصرت على الخصم الألد نضالها
فهم الألى ركبوا لكل عظيمة ... جرداً كسين من النجيع جلالها
وهم الألى فتحوا لكل ملمة ... باباً أزاح بفتحه إشكالها
متقلدون من السيوف عضابها ... متأبطون من الرماح طوالها
الراكبون من الجياد عرابها ... والضاربون من العدا أبطالها
أولي عهد المسلمين ونخبة ال ... أملاك صفوة محضها وزلالها
إن العباد مع البلاد مقرة ... بفضائل لك مهدت أحوالها
فتفك عانيها، وتحمي سربها ... وتفيد حلماً دائماً جهالها وقال يرثي ولده أبا القاسم رحمهما الله تعالى:
هو البين حتماً، لا لعل ولا عسى ... فما بال نفسي لم تفض عند أسى
وما لفؤادي لم يذب منه حسرة ... فتباً لهذا القبل سرعان ما قسا
__________
(1) نثير: جزرا.(5/438)
وما لجفوني لا تفيض مورداً ... من الدمع يهمي تارة ومورسا
وما للساني مفصحاً بخطابه ... وما كان لو أوفى بعهد لينسبا (1)
أمن بعد ما أودعت روحي في الثرى ... ووسدت مني فلذة القلب مرسما
وبعد فراق ابني أبا القاسم الذي ... كساني ثوب الثكل لا كان ملبسا
أؤمل (2) في الدنيا حياة وأرتضي ... مقيلاً لدى أبنائها ومعرسا
فآهاً وللمفجوع فيها استراحة ... ولا بد للمصدور أن يتنفسا
على عمر أفنيت فيه بضاعتي ... فأسلمني للقبر حيران (3) مفلسا
ظللت به في غفلة وجهالة ... إلى أن رمى سهم الفراق فقرطسا
إلى الله أشكو برح حزني فإنه ... تلبس منه القلب ما قد تلبسا
وهدة خطب نازلتني عشية ... فما أغنت الشكوى ولا نفع الأسا
فقد صدعت شملي وأصمت مقاتلي (4) ... وقد هدمت ركني الوثيق المؤسسا
ثبت لها وقعاً لشدة وقعها ... فما زلزلت صبري الجميل وقد رسا
وأطمع أن يلقى برحمته الرضى ... وأجزع أن يشقى بذنب فينسكا
أبا القاسم اسمع شكو والدك الذي ... حسا من كؤوس البين أفظع ما حسا
وقفت فؤادي مذ رحلت على الأسى ... فأشهد لا ينفك وقفاً محبسا
وقطعت آمالي من الناس كلهم ... فلست أبالي أحسن المرء أم أسا
تواريت يا بدري وشمسي وناظري ... فصار وجودي مذ تواريت حندسا
وخلفت لي عبئاً من الثكل فادحاً ... فما أتعب الثكلان نفساً وأتعسا
أحقاً ثوى ذاك الشاب فلا أرى ... له بعد هذا اليوم حولي مجلسا
فيا غصناً نضراً ثوى عندما استوى ... وأوحشني أضعاف ما كان أنسا
ويا نعمة لما تبلغتها انقضت ... فأنعم أحوالي صار بها أبؤسا
__________
(1) ق: ليقبسا.
(2) ق ص: أآمل.
(3) ص: خزيان.
(4) ق: مفاصل.(5/439)
لودعته والدمع تهمي سحابه ... كما أسلم السلك الفريد المخمسا
وقبلت في ذاك الجبين مودعاً ... لأكرم من نفسي علي وأنفسا
وحققت من وجدي به قرب رحلتي ... وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا
فيا رحمة للشيب يبكي شبيبة ... قياس لعمري عكسه كان أقيسا
فلو أن هذا الموت يقبل فدية ... حبونا أموالاً كراماً وأنفسا
ولكنه حكم من الله واجب ... يسلم فيه من بخير الورى ائتسى
تغمدك الرحمن بالعفو والرضى ... وكرم مثواك الجديد وقدسا
وألف منا الشمل في جنة العلا ... فنشرب تنسيماً ونشرب سندسا وكتب إلى القاضي الشريف وهو بوادي آش:
أهزلاً وقد جدت بك اللمة الشمطا ... وأمناً وقد ساورت يا حية رقطا
أغرك طول العمر في غير طائل ... وسرك (1) أن الموت في سيره أبطا
رويداً فإن الموت أسرع وافد ... على عمرك الفاني ركائبه حطا (2)
فإذ ذاك لا تسطيع إدراك ما مضى ... بحال، ولا قيضاً تطيق ولا بسطا (3)
تأهب فقد وافى مشيبك منذراً ... وها هو في فوديك أحرفه خطا (4)
فوافقت منه كاتب السر واشياً ... له القلم الأعلى يخط به وخطا
معمى كتاب فكه احذر فهذه ... سفينة هذا العمر قاربت الشطا
وإن طالما خاضت به اللجج التي ... خطبت بها في كل مهلكة خبطا
وما زلت في أمواجها متقلباً ... فآونة رفعاً وآونة حطا
فقد أوشكت تلقيك في قعر حفرة ... تشد عليك الجانبين بها ضغطا
ولست على علم بما أنت بعدها ... ملاق، أرضواناً من الله أم سخطا
__________
(1) ص: وغرك.
(2) سقط هذا البيت من ق.
(3) وقع البيت بعد تاليه.
(4) وقع البيت ثالثا في ص.(5/440)
وأعجب شيء منك دعواك في النهى ... وهذا الهوى المردي على العقل قد غطى
قسطت عن الحق المبين جهالة ... وقد خالفتك النفس فادعت القسطا
وطاوعت شيطاناً تجيب إذا دعا ... وتقبل إن أغوى، وتأخذ إن أعطى
تناءى عن الآخرة، وقد قربت مدى ... تداني من الدنيا، وقد أزمعت شحطا
وتمنحها حباً وفرط صبابة ... وما منحت إلا القتادة والخرطا
فها أنت تهوى وصلها وهي فارك ... وتأمل قرباً من حماها وقد شطا
صراط هدى نكبت عنه عماية ... ودار ردى أوعيت في سحتها سرطا (1)
فما لك إلا السيد الشافع الذي ... له فضل جاه كل ما يرتجي يعطى
دليل إلى الرحمن، فأنهج سبيله ... فمن حاد عن نهج الدليل فقد أخطا
محبته شرط القبول، فمن خلت ... صحيفته منها فقد فقد الشرطا
وما قبلت منه لدى الله قربة ... وما زكت الأعمال، بل حبطت حبطا
به الحق وضاح، به الإفك زاهق ... به الفوز مرجو، به الذنب قد حطا
هو الملجأ الأحمى، هو الموئل الذي ... به في غد يستشفع المذنب الخطا
لقد مازجت روحي محبته التي ... بقلبي خطت قبل أن أعرف الخطا
إليك ابن خير الخلق بنت بديهة ... تقبل تبجيلاً أناملك السبطا
وحيدة هذا العصر وافت وحيدة ... لتبسط من شتى بدائعها بسطا
وتتلو آيات التشيع إنها ... لموثقة عهداً ومحكمة ربطا
لك الشرف المأثور يا ابن محمد ... وحسبك أن تنمى إلى سبطه سبطا
إلى شرفي دين وعلم تظاهرا ... تبارك من أعطى وبورك في المعطى
ورهطك أهل البيت، بيت محمد ... فأعظم به بيتاً، وأكرم به رهطا
بعثت به عقداً من الدر فاخراً ... وذكر رسول الله درته الوسطى
وأهديت منه للسيادة غادة ... نظمت من الدر الثمين بها سمطا
__________
(1) هذه قراءة ص؛ وفي ق: شحمها شرطا.(5/441)
وحاشيتها من كل ما شانها، فإن ... تجعد حوشي تجد لفظها سبطا
وفي الطيبين الطاهرين نظمتها ... فساعدها من أجل ذلك حرف الطا
عليك سلام الله ما ذر شارق ... وما رددت ورقاء في غصن لغطا قال:
لله عصر الشباب عصراً ... فتح للخير كل باب
حفظت ما شئت فيه حفظاً ... كنت أراه بلا ذهاب
حتى إذا ما الشيب وافى ... ند ولكن بلا إياب
لا تعتنوا بعدها بحفظ ... وقيدوا العلم بالكتاب وقال:
يا أيها الممسك البخيل ... إلهك المنفق الكفيل
أنفق وثق بالإله تربح ... فإن إحسانه جزيل
وقدم الأقربين واذكر ... ما روي أبداً بمن تعل وقال:
وقائلة لم عراك المشيب ... وما إن بعهد الصبا من قدم
فقلت لها لم أشب كبرة ... ولكنه الهم نصف الهرم وقال:
أيعتادني كل سقم وأنت طبيب ... وتبعد آمالي وأنت قريب
يقيني أن الله جل جلاله ... يقيني فراجي الله ليس يخيب وقال:
هي النفس إن أنت سامحتها ... رمت بك أقصى مهاوي الخديعه(5/442)
وإن أنت جشمتها خطة ... تنافي رضاها تجدها مطيعه
فإن شئت فوزاً فناقض هواها ... وإن وصلتك أجزها بالقطيعه
ولا تعبأن بميعادها ... فميعادها كسراب بقيعه وقال:
من أنت يا مولى الورى مقصوده ... طوبى له قد ساعدنه سعوده
فليشهدنك له فؤاد صادق ... وشهوده قامت عليه شهوده
وليفنين عن نفسه ورسومه ... طراً، وفي ذلك الفناء وجوده
وليحفظنه بارق يرقى به ... في أشرف المعراج ثم يعيده
حتى يظل ولا يدري دهشة ... تقريبه المقصود أم تبعيده
لكنه ألقى السلاح مسلماً ... فمراده ما أنت منه تريده
فلقد تساوى عند إكرامه ... وهوانه ومفيده ومبيده وقال ملغزاً في حجل (1) :
حاجيت (2) كل فطن لبيب ... ما اسم لأنثى من بني يعقوب (3)
ذات كرامات فزرها قربة ... فزورها أحق بالتقريب
تشركها في الاسم أنثى لم تزل ... حافظة لسرها المحجوب
وقد جرى في خاتم الوحي الرضى ... لها حديث ليس بالمكذوب
وهو إذا ما الفاء (4) منه صحفت ... صبغ الحياء لا الحيا المسكوب
فهاكها واضحة أسرارها ... فأمرها أقرب من قريب وقال أيضاً في آب:
__________
(1) الكتيبة الكامنة: 189.
(2) الكتيبة: خاطبت.
(3) اليعقوب: ذكر الحجل.
(4) يعني فاء الكلمة وهو حرف الحاء.(5/443)
حاجيتكم ما اسم علم ... ذو نسبة إلى العجم
يخبر بالرجعة وه ... وراجع كما زعم
وصف الحبيب هو بالت ... صحيف أو بدء قسم
دونكه أوضح من ... نار على رأس علم وقال في كانون:
وما اسم لسميين ... ولم يجمعهما جنس
فهذا كلما يأتي ... فبالآخر لي أنس
وهذا ما له شخص ... وهذا ما له حس
وهذا ما له سوم ... وذا قيمته فلس
وهذا أصله الأرض ... وهذا أصله الشمس
وهذا واحد من سب ... عة تحيا بها النفس
فمن محموله الجن ... ومن موضوعه الإنس
فقد بان الذي ألغز ... ت ما في أمره لبس وقال في سلم:
ما اسم مركب مفيد الوضع ... مستعمل في الوصل لا في القطع
ينصب لكن أكثر استعمال من ... يعنى به في الخفض أو في الرفع
هو إذا حققته مغيراً (1) ... تراه شملاً لم يزل ذا صدع
فالاسم إذا طليته تجده في ... خامسة من الطوال السبع (2)
وهو إذا صحفته يعرب عن ... مكسر في غير باب الجمع (3)
__________
(1) الكتيبة: وهو إذا صغرته مخففا.
(2) إشارة إلى الآية " أو سلما في السماء " (الأنعام: 25) .
(3) إذا صحف " سلم " أصبح " يثلم " أي يتكسر.(5/444)
له أخ أفضل منه لم تزل ... آثاره محمودة في الشرع (1)
هما جميعاً من بني النجار والأف ... ضل أصل في حنين الجذع (2)
فهاكه قد سطعت أنواره ... لا سيما لكل زاكي الطبع وقال في مائدة:
حاجيت كل فطن نظار ... ما اسم لأنثى من بني النجار
وفي كتاب الله جاء ذكرها ... فقلما يغفل عنها القاري
في خبر المهدي فاطلبها تجد ... إن كنت من مطالعي الأخبار
ما هي إلا العيد عيد رحمة ... ونعمة ساطعة الأنوار
يشركها في الاسم وصف حسن ... من وصف قضب الروضة المعطار (3)
فهاكه كالشمس في وقت الضحى ... قد شف عنها حجب الأستار ثم قال لسان الدين: وأما نثره فمطولات عرفت بما تخللها من الأحوال متونها، وقلت لمكان البديهة والاستعجال عيونها، وقد اقتنصت جزءاً منها سميته تافه من حجم ونقطة من يم وولد بغرناطة في جمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستمائة، وتوفي ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة، وأنشدت من نظمي في رثائه خامس يوم دفنه على قبره هذه القصيدة:
ما لليراع خواضع الأعناق ... طرق النعي فهن في إطراق
وكأنما صبغ الشحوب وجوهها ... والسقم من الجزع ومن إشفاق
ما للصحائف صوحت روضاتها ... أسفاً وكن نضيرة الأوراق
ما للبيان كؤوسه مهجورة ... غفل المدير لها ونام الساقي
__________
(1) أخوه هو المنبر.
(2) من بني النجار: من صنع النجار.
(3) أي أن قضب الروض تميد فهي " مائدة " أي متمايلة.(5/445)
ما لي عدمت تجلدي وتصبري ... والصبر في الأزمات من أخلاقي
خطب أصاب بني البلاغة والحجى ... شب الزفير به عن الأطواق
أما وقد أودى أبو الحسن الرضى ... فالفضل أودى على الإطلاق
كنز المعارف لا تبيد نقوده ... يوماً ولا تفنى على اللإنفاق
من للبدائع أصبحت سمر السرى ... ما بين شام للورى وعراق
من لليراع يجيل من خطيها ... سم العدا ومفاتح الأرزاق
قضب ذوابل مثمرات بالمنى ... وأراقم ينفثن بالترياق
من للرقاع الحمر يجمع حسنها ... خجل الخدود وصبغة الأحداق
تغتال أحشاء العدو كأنها ... صفحات دامية الغرار رقاق
وتهز أعطاف الولي كأنها ... راح مشعشعة براحة ساقي
من للفنون يجيل في ميدانها ... خيل البيان كريمة الأعراق
من للحقائق أبهمت أبوابها ... للناس يفتحها على استغلاق
من للمساعي الغر تقصد جاهه ... حرماً فينصرها على الإخفاق
كم شد من عقد وثيق حكمه ... في الله أو أفتى بحل وثاق
رحب الذراع بكل خطب فادح ... أعيت رياضته على الحذاق
صعب المقادة في الهوادة والهوى ... سهل على العافين والطراق
ركب الطريق إلى الجنان وحورها ... يلقينه بتصافح وعناق
فاعجب لأنس في مظنة وحشة ... ومقام وصل في مقام فراق
أمطيباً بمحامد العمل الرضى ... ومكفناً بمكارم الأخلاق
ما كنت أحسب قبل نعشك أن أرى ... رضوى تسير به على الأعناق
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن اللحود خزائن الأعلاق
يا كوكب الهدي الذي من بعده ... ركد الظلام بهذه الآفاق
يا واحداً مهما جرى في حلبة ... جلى بغرة سابق السباق(5/446)
يا ثاوياً بطن الضريح وذكره ... أبدا ًرفيق ركائب ورفاق
يا غوث من وصل الصريخ فلم يجد ... في الأرض من وزر ولا من واق
ما كنت إلا ديمة منشورة ... من غير إرعاد ولا إبراق
ما كنت إلا روضة ممطورة ... ما شئت من ثمر ومن أوراق
يا مزمعاً عنا العشي ركابه ... هلا ثويت ولو بقدر فواق
رفقاً أبانا جل ما حملتنا ... لا تنس فينا عادة الإشفاق
واسمح ولو بمزار لقيا في الكرى ... تبقي بها منا على الإرماق
وإذا اللقاء تصرمت أسبابه ... كان الخيال تعلة المشتاق
عجباً لنفس ودعتك وأيقنت ... أن ليس بعد نواك يوم تلاقي
ما عذرها إن لم تقاسمك الردى ... في فضل كأس قد شربت دهاق
إن قصرت أجفاننا عن أن ترى ... تبكي النجيع عليك باستحقاق
واستوقفت دهشاً فإن قلوبنا ... نهضت بكل وظيفة الآماق
ثق بالوفاء على المدى من فتية ... بك تقتدي في العهد والميثاق
سجعت بما طوقتها من منة ... حتى زرت بحمائم الأطواق
تبكي فراقك خلوة عمرتها ... بالذكر في طفل وفي إشراق
أما الثناء على علاك فذائع ... قد صح بالإجماع والإصفاق
والله قد قرن الثناء بأرضه ... بثنائه من فوق سبع طباق
جادت ضريحك ديمة هطالة ... تبكي عليه بواكف رقراق
وتغمدتك من الإله سعادة ... تسمو بروحك للمحل الراقي
صبراً بني الجياب إن فقيدكم ... سيسر مقدمه بما هو لاق
وإذا الأسى لفح القلوب أواره ... فالصبر والتسليم أي رواق وأنشد في هذا الغرض الفقيه أبو عبد الله ابن جزي:(5/447)
ألم تر أن المجد أقوت معالمه ... فأطنابه قد قوضت ودعائمه
هوى من سماء المعلوات هلالها ... وخانت جواد المكرمات قوائمه
وثلت من الفخر المشيد عروشه ... وفلت من العز المنيع صوارمه
وعطل من حلي البلاغة قسها ... وعري من جود الأنامل حاتمه
أجل إنه الخطب الذي جل وقعه ... وثلم غرب الدين والعلم هاجمه
وإلا فما للنوم طار مطاره ... وما للزيم الحزن قصت قوادمه
وما لصباح الأنس أظلم نوره ... وما لمحيا الدهر قطب باسمه
وما لدموع العين فضت كأنها ... فواقع زهر والجفون كمائمه
قضى الله في قطب الرياسة أن قضى ... فشتت ذاك الشمل من هو ناظمه
ومن قارع الأيام سبعين حجة ... ستنبو غراره ويندق قائمه
وفي مثلها أعيا النطاسي طبه ... وضل طريق الحزم في الرأي حازمه
تساوى جواد في رداه وباخل ... فلا الجود واقيه، ولا البخل عاصمه
وما نفعت رب الجياد كرامه ... ولا منعت منه الغني كرائمه
وكل تلاق فالفراق أمامه ... وكل طلوع فالغروب ملازمه
وكيف مجال العقل في غير منفذ ... إذا كان باني مصنع هو هادمه
ليبك علياً مستجير بعدله ... يصاخ لشكواه ويمنع لظالمه
ليبك علياً مائح بحر علمه ... يروى بأنواع المعارف هائمه
ليبك علياً مظهر فضل نصحه ... يحلأ عن ورد المآثم حائمه
ليبك علياً معتف جود كفه ... يواسيه في أمواله ويقاسمه
ليبك علياً ليله وهو قائم ... يكابده أو يومه وهو صائمه
ليبك علياً فضل كل بلاغة ... يخلده في صفحة الطرس راقمه
وشخص ضئيل الجسم يرهب نفثه ... ليوث الشرى في خيسها وضراغمه (1)
__________
(1) في هذا البيت كناية عن القلم.(5/448)
تكفل بالرزق المقدر للورى ... إذا الله أعطى فهو في الناس قاسمه
يسدده سهماً وينضوه صارماً ... ويشرعه رمحاً فكل يلائمه
إذا سال من شقيه سائل حبره ... بما شاء منه سائل فهو عالمه
ليبك عليه اليوم من كان باكياً ... فتلك مغانيه خلت ومعالمه
تقلد منه الملك عضب بلاغة ... يقد السلوقي المضاعف صارمه
وقلده مثنى الوزارة فاكتفى ... بها ألمعي حازم الرأي عازمه
ففي يده وهو الزعيم بحقها ... براعته والمشرفي وخاتمه
سخي على العافين سهل قياده ... أبي على العادين صعب شكائمه
إذا ضلت الآراء في ليل حادث ... رآها برأي يصدع الخطب ناجمه
وقام بأمر الدين والملك حامياً ... فذل معاديه وضل مراغمه
وقد كان نيط العلم والحلم والتقى ... به وهو ما نيطت عليه تمائمه
ودوخ أعناق الليالي بهمة ... يبيت ونجم الأفق فيها يزاحمه
وزاد على بعد المنال تواضعاً ... أبى الله إلا أن تم مكارمه
سقيت الغوادي؛ أي علم وحكمة ... ودين متين ذلك القبر كاتمه
وما زال يستسقى بدعوتك الحيا ... وها هو يستسقى لقبرك ساجمه
بكت فقدك الكتاب إذ كان شملهم ... يؤلفه من دوح فضلك ناعمه
وطوقتهم بالبر ثم سقيتهم ... نداك فكنت الروض ناحت حمائمه
ويبكيك مني ذاهب الصبر موجع ... توقد في جنبيه للحزن جاحمه
فتىً نال منه الدهر إلا وفاءه ... فما وهنت في حفظ عهد عزائمه
عليل الذي زرت عليه جيوبه ... قريح الذي شدت عليه حزائمه
فقد كنت ألقى الخطب منه بجنة ... تعارض دوني بأسه وتصادمه
سأصبر مضطراً وإن عظم الأسى ... أحارب حزني مرة وأسالمه
وأهديك إذ عز اللقاء تحية ... وطيب ثناء كالعبير نواسمه(5/449)
وأنشد الفقيه القاضي أبو جعفر ابن جزي قصيدة أولها:
أبثكما والصبر للعهد ناكث ... حديثاً أملته علي الحوادث وأنشد القاضي أبو بكر ابن علي القرشي قصيدة أولها:
هي الآمال غايتها نفاد ... وفي الغايات تمتاز الجياد وأنشد الفقيه الكاتب القاضي أبو القاسم ابن الحكم قصيدة أولها:
لينع الحجى والحلم من كان ناعيا ... ويرع العلا والعلم من كان راعيا قصائد مطولات يخرج استقصاؤها عن الغرض، فكان هذا التأبين غريباً لم يتقدم به عهده بالحضرة لكونها دار ملك، والتجلة في مثل هذا مقصورة على أولي الأمر؛ انتهى ما لخصته من ترجمته في " الإحاطة ".
ولنزد فنقول: ومن ألغازه في الدرهم:
ما بغيض إلى الكرام خصوصاً ... وحبيب إلى الأنام عموما
فاعجبوا منه كيف يحمي ويحمى ... ويكف العدا ويغني العديما
إن تغير شطريه فالأول اسم ... يألف الضرع والغمام السجوما
ويكون الثاني كبير أناس ... حطمته حياته تحطيما
فإذا ما قلبت أول شطر ... رد منطوق لغزه مفهوما
وإذا ما قلبت ثاني شطر ... كان كفاً وليس كفاً رقيماً
قلبه بعد حذفك الفاء منه ... هو شيء يحلل التحريما
أو صغير مستحس لم يؤدب ... إن تعلمه يقبل التعليما
فالتبين ما قلته ولتعين ... وبه فلتقم مقاماً كريما وقال في المسك:(5/450)
ما طاهر طيب ولكن ... ما أصله من ذوي الطهارة
من الظباء الحسان لكن ... إذا تأملته ففاره
نص حديث الرسول فيه ... شهادة تقتضي بشاره
تصحيفه بعد حذف حرف ... منزلك الآهل العمارة يعني مبنى.
وقال في فلك:
ما اسم لشيء مرتقي ... في مغرب ومشرق
إذا حذفت فاءه ... كان لك الذي بقي وقال أيضاً في الفنار:
ما اسم إذا حذفت من ... هـ فاءه المنوعه
فإنه ابنة الزنا ... مضافة لأربعه يعني ابنة الزناد، وهي النار.
وقال في النوم:
ما اسم مسماه به ... يسقط حكم التكليف
وإن دخلت البيت بالتص ... حيف حق التعنيف
وإن أردت شبهه ... فقلبه بالتصحيف
بينه فهو في كتا ... ب الله بادي التعريف وقال في غزال:
حاجيتكم ما اسم شيىء ... يروق في الوصف حسنا
له محاسن شتى ... منها فرادى ومثنى(5/451)
(1) ... له بل السعر أثنى
مهما تنله بحذف ... أتاك حرفاً لمعنى (2)
إن زال أول حرف ... زال الذي منه يعنى
أو زال ثانية منه ... فالقتل أدهى وأفنى
أو زال ثالثة فه ... ولغو صب معنى
أو زال رابعة فال ... جهاد فيه تسنى
فأوضح القصد يا من ... قد فاق عقلاً وذهنا وقال في النمل:
ما حيوان اسمه ... قد جاء في الذكر الحكيم
وهو إذا قلبته ... لمن به أنت عليم
وإن تصحف اسمه ... فبعض أوصاف اللئيم وقال في دواة:
وما أثنى بها رعي الرعايا ... وإمضاء المنايا والقضايا
وتقصدها بنوها من رضاع ... إذا انبعثوا لإبرام القضايا
لها اسم إن أزلت النقط منه ... فعذ بالله من شر البلايا
وغن أبدلت آخره بهمز ... فقد أبرأت نازلة الشكايا
وإن بدلت أوله بنون ... أتيت ببعض أرزاق المطايا
فأوضح ما رمزناه بفكر ... سديد القصد مبد للخفايا وقال في سفينة:
ما ذات نفع وغناء عظيم ... لها حديث في الزمان قديم
__________
(1) بياض في ق ص.
(2) تبدل هذا العجز مع العجز التالي في ق.(5/452)
أوحى بها الله إلى عبده ... فحبذا فعل الرسول الكريم
وعابها فيما مضى صالح ... حسبك ما نص الكتاب الحكيم (1)
وفي كتاب الله تردادها ... فاقرأ تجد في قضايا الكليم
إن أنت صحفت اسمها تلقه ... محل أنس أو بلاء مقيم
أو هو فعل لك فيما مضى ... لكن إذا أبرأت داء السقيم
فهاكه قد لاح برهانه ... مبيناً لكل فكر سليم وقال أيضاً في المسك:
كتبتم كثيراً ولم تكتبوا ... كهذا الذي سلبه واضحه
فما اسم جرى ذكره في الكتاب ... فإن شئته فاقرأ الفاتحه
ففيها مصحف مقلوبه ... يعبر عن حالة صالحة
وليست بغادية فاعلموا ... ولكنها أبداً رائحه ويعني بقوله في الفاتحة قوله أول الأبيات كتبتم فافهم.
وقال في صقر:
حاجيتكم ما اسم لبعض السباع ... تصحيفه ما لك فيه انتفاع
وعكسه إن شئت عكساً له ... يوجد لكن عند دور السماع
وإن تصحف بعد قلب له ... فمذهب يعزى لأهل النزاع (2)
فبين الإلغاز وارفع لنا ... بنور فكر منك عنه القناع وقال في الحوت:
ما حيوان في اسمه ... إن اعتبرته فنون
__________
(1) يشير إلى أن الرجل الصالح عاب السفينة التي كانت لغلامين يتيمين كما جاء في سورة الكهف.
(2) تصحيف صقر بعد قلبه هو " رفض " أي مذهب الرافضة.(5/453)
أحرفه ثلاثة ... والكل منها هو نون
إن أنت صحفت اسمه ... فما جناه المذنبون (1)
أو أبيض أو أسود ... أو صفة النفس الحؤون
قلب اسمه مصحفاً ... عليه دارت السنون
كانت به فيما مضى ... عبرة قوم يعقلون
أودع فيه زمناً ... سر من السر المصون
فهاكه كالنار في ال ... زند له فيها كمون وقال في لبن:
أفديك ما اسم إذا ما ... صحفته فهو سبع
وإن تصحف بعكس ... ففيه للقبط شرع
والاسم يعرب عما ... لديه ري وشبع
في النحل يلفى ولكن ... لا يتقى فيه لسع
فليس للنحل أصل ... ولا لها فيه فرع
فهاكه قد تبدى ... لحجبه عنه رفع وقال في القلم:
ومأموم به عرف الإمام ... كما باهت بصحبته الكرام
له إذ يرتوي طيشان صاد ... ويسكن حين يعروه الأوام
ويذري حين يستسقي دموعاً ... يرقن كما يروق الابتسام وله - رحمه الله تعالى - كثير من هذا، ولم أر أحداً أحكم الإلغاز مثلما أحكمه ابن الجياب المذكور، ولولا الإطالة (2) لذكرت منها ما يستدل به على
__________
(1) تصحيف حوت هو " حوب " أي الذنب.
(2) ق: خشية الإطالة.(5/454)
صحة الدعوى، وفيما ذكرنا كفاية.
ومن نظم الرئيس ابن الجياب المذكور في رثاء عمر بن علي بن عتيق القرشي الهاشمي الغرناطي قوله:
قضي الأمر فيا نفس اصبري ... صبر تسليم لحكم القدر
وعزاء يا فؤادي إنه ... حكم ملك قاهر مقتدر
حكمة أحكمها تدبيره ... نحن منها في سبيل السفر
أجل مقدر ليس بمس ... تقدم يوماً ولا مستأخر
أحسن الله عزاء كل ذي ... خشية لربه في عمر
في إمامنا التقي الخاشع ... الطاهر الذات الزكي النير
قرشي هاشمي منتقى ... من صميم الشرف المطهر
يشهد الليل عليه أنه ... دائم الذكر طويل السهر
في صلاة بعثت وفودها ... زمراً للمصطفى من مضر
قائماً وراكعاً وساجداً ... لطلوع فجره المنفجر
جمع الرحمن شملنا غداً ... بحبيب الله خير البشر
وتلقته وفود رحمة الل ... هـ تأتي بالرضى والبشر قلت: هذا النظم - وإن برد بما فيه من الزحاف - فله من الوعظ وذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم خير لحاف.
قال لسان الدين: ولما نظم القاضي أبو بكر ابن شبرين ببيت الكتابة ومألف الجملة هذين البيتين:
ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منك بطيبه
ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه وأخذ الأصحاب في تذييل ذلك، قال الشيخ الرئيس أبو الحسن ابن الجياب(5/455)
رحمه الله تعالى ورضي عنه:
فمن يعمر الأوقات طراً بذكره ... فليس نصيب في الهدى كنصيبه
ومن كان عنه معرضاً طول ذكره ... فكيف يرجيه شفيع ذنوبه وقال أبو القاسم ابن أبي العافية:
أليس الذي جلى دجى الجهل هديه ... بنور أقمنا بعده نهتدي به
ومن لم يكن من ذاته شكر منعم ... فمشهده في الناس مثل مغيبه وقال أبو بكر ابن أرقم:
نبي هدانا من ضلال وحيرة ... إلى مرقى سامي المحل خصيبه
فهل ينكر الملهوف فضل مجيره ... ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه فانتهى القوم إلى الخطيب أبي محمد ابن أبي المجدي فقال:
ومن قال مغروراً حجابك ذكره ... فذلك مغمور طريد عيوبه
وذكر رسول الله فرض مؤكد ... وكل محق قائل بوجوبه وقال يوماً الشيخ أبو الحسن ابن الجياب تجربة للخاطر على العادة:
جاهد النفس جاهداً فإذا ما ... فنيت منك فهو عين الوجود
وليكن حكمها المسدد فيها ... حكم سعد في قتله لليهود فأجابه أبو محمد ابن أبي المجدي بقوله:
أيها العارف المعبر ذوقاً ... عن معان عزيزة في الوجود
إن حال الفناء عن كل غير ... كمقام المراد غير المريد
كيف لي بالجهاد غير معان ... وعدوي مظاهر بجنود(5/456)
ولو أني حكمت فيمن ذكرتم ... حكم سعد لكنت جد سعيد
فأراها حبابة بي فتوناً ... وأراني في حبها كيزيد
سوف أسلو بنصحكم عن هواها ... ولو أبدت فعل المحب الودود
ليس شيء شوى إلهك يبقى ... واعتبر صدق ذا بقول لبيد (1) [ترجمة ابن أبي المجد]
وابن أبي المجد المذكور هو عبد الله البر بن علي بن سليمان بن محمد بن محمد بن أشعب الرعيني (2) ، من أرجدون من كورة رية، يمنى أبا محمد ويعرف بابن أبي المجد، كان من أعلام الكورة سلفاً وصلاحاً ونية في الصالحين، كثير الإيثار بما تيسر، مليح التخلق، حسن السمت، طيب النفس، حسن الظن، له حظ من الأدب والفقه والقراءات والفرائض، وخوض في التصوف، قطع عمره خطيباً وقاضياً ببلده ووزيراً، قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير وابن فضيلة المعافري وابن رشد، وأجازه طائفة كبيرة، توفي ليلة النصف من شعبان عام تسعة وثلاثين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
[رجع إلى ابن الجياب]
ومن نظم ابن الجياب ما كتب على باب المدرسة العلمية بغرناطة:
يا طالب العلم هذا بابه فتح ... فادخل تشاهد سناه لاح شمس ضحى
واشكر مجيرك في حل ومرتحل ... إذ قرب الله من مرماك ما نزحا
وشرفت حضرة الإسلام مدرسة ... بها سبيل الهدى والعلم قد وضحا
__________
(1) يشير إلى قول لبيد " ألا كل شيء ما خلا الله باطل ".
(2) ترجمة ابن أبي المجد في الكتيبة الكامنة: 52؛ وفي ص: ابن أبي أشعث.(5/457)
أعمال يوسف مولانا ونيته ... قد طرزت صحفاً ميزانها رجحا ومنه قوله:
أبى الله إلا أن تكون اليد العليا ... لأندلس من غير شرط ولا ثنيا
وإن هي عضتها بنوب نوائب ... فصيرت الشهد المشور بها شريا (1)
فما عدمت أهل البلاغة والحجى ... يقيمون فيها الرسم للدين والدنيا
إذا خطبوا قاموا بكل بليغة ... تجلي القلوب الغلف والأعين العميا
وإن شعروا جاءوا بكل غريبة ... تخال النجوم النيرات لها حليا
فأسأل في الدنيا من الله ستره ... علينا وفي الأخرى إذا حانت اللقيا وقال أبو الحسن ابن الجياب:
أرى الدهر في أطواره متقلباً ... فلا تأمنن الدهر يوماً فتخدعا
فما هو إلا مثلما قال قائل: ... " مكر مفر مقبل مدبر معا " وحكي أنه أهدى له الفقيه ابن قطبة رماناً ثم دخل عليه عائداً، فلما رآه قال له: يا فقيه، نعم بالهدنة زمانك، أراد: نعمت الهدية رمانك، وكان هذا قبل موته من مرضه بيسير، وهو مما يدل على ثبوت ذهنه حتى قرب الموت، سامحه الله تعالى.
ومن نثر ابن الجياب رحمه الله تعال ما كتبه عن سلطانه إلى بعض سلاطين وقته، وهو السلطان أبو سعيد المريني صاحب فاس، ونصه: المقام لدى الملك المنصور الأعلام، والفضل الثابت الأحكام، والمجد الذي أشرقت به وجوه الأيام، والفخر الذي تتدارس أخباره بين الركن والمقام، والعز الذي تعلو به كلمة الإسلام، مقام محل الأب الواجب الإكبار والإعظام، السلطان الكذا أبقاه
__________
(1) الشري: الحنظل.(5/458)
الله في ملك منيع الذمار، وسعد باهر الأنوار، ومجد رفيع المقدار، وسلطان عزيز الأنصار، كريم المآثر والآثار، كفيل بالإعلاء لدين الله والإظهار؛ معظم مقامه وموقره، ومجل سلطانه ومكبره، المثني على فضله الذي أربى على ظاهره مضمره، الشاكر لمجده الذي كرم أثره، المعتد بأبوته العلية في كل ما يقدمه ويؤخره، ويورده ويصدره، الداعي إلى الله تعالى بطول بقائه في سعد سام مظهره، حام عسكره، فلان: سلام كريم، طيب عميم، يخص مقامكم الأعلى، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي أولاكم ملكاً منصوراً، وفخراً مشهوراً، وأحيا بدولتكم العلية لمكارم الأخلاق ذكراً منشوراً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله الذي اختاره بشيراً ونذيراً، وشرح بهدايته صدوراً، وجعل الملأ الأعلى له ظهيراً، والرضى عن آله وصحبه الذين ظاهروه في حياته، وخلفوه في أمته بعد وفاته، فنالوا في الحالين فضلاً مسطوراً، وأحراً موفوراً، والدعاء لمقامكم الأعلى أسماه الله تعالى بنصر لا يزال به الإسلام محبواً محبوراً، وسعد يملأ أرجاء البسيطة نوراً، فكتبته كتب الله لكم عوائد السعادة، وحباكم من آلائه بالحسنى والزيادة، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وليس بفضل الله سبحانه ثم ببركة مقامكم أيد الله تعالى سلطانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيراً كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله.
وأما الذي عند معظم أمركم من الإعظام لمقامكم والإكبار، والثناء المردد المجدد على توالي الأعصار، والشكر الذي تتلى سوره آناء الليل والنهار، والعلم بما لكم من المكارم التي سار ذكرها في الأقطار أشهر من المثل السيار، والاعتداد بسلطانكم العلي في الإعلان والإسرار، والاستناد إلى جنابكم الكريم في الأقوال والأفعال والأخبار، فذلك لا يزال بحمد الله تعالى محفوظاً ملحوظاً بعين الاستبصار، والله ولي العون على ذلك بفضله وطوله.
وإلى هذا أيد الله تعالى سلطانكم، ومهد أوطانكم، فقد تقدمت مطالعة(5/459)
مقامكم أسماه الله أن ملك قشتالة دس من يتحدث في عقد صلح يعود بالهدنة على البلاد، ويرتفع به عنها مكابدته من جهة الأعاد، وقد رنا أولاً أن ذلك ليس على ظاهر الحال فيه، وأنه يبدي به غير ما يخفيه، ولكن جرينا معه في ذلك المضمار قصداً للتشوف (1) على الأخبار، فلما دار الحديث في هذا الحكم، ظهر منه أنه قد جنح للسلم، وكان خديمنا نقروز بحكم الاتفاق قد ورد إشبيلية لبعض أشغاله، فاستحضره وأخذ معه في أمر الصلح وشرح أحواله، وأعاده إلى معظمكم ليستفهم ما عنده، ويعلم مذهبه وقصده، فأعيد إليه بأنه إن أراد المصالحة على صلح والده على هذه الدار النصرية من غير زيادة على شروط تلك القضية، ولا يعرض لاسترجاع معقل من المعاقل التي أخلصت من يد النصرانية، وأن يكون عقده على الجزيرة الخضراء ورندة وغيرهما من البلاد الأندلسية، فلا بد من مطالعة محل والدنا السلطان أمير المسلمين أبي سعيد أيده الله واستطلاع ما يراه، وحينئذ نعمل بحسب نظره الجميل ومقتضاه، وأكد على نقروز في أنه إن انقاد لهذا الأمر فليعقد معه هدنة لأمد من الدهر بقدر ما يتسع لتعريفكم بهذه الحال وإعلامكم، ويستطلع فيها نظر مقامكم، فما هو إلا أن عاد يوم تاريخ هذا بكتاب ملك قشتالة، وقد أجاب إلى الصلح وانقاد إليه، على حسب ما شرط عليه، وأعطى مهادنة مدة شهر فبرير ليعرف فيها مقامكم، ويعلم ما لديه، ووافق ذلك وصول الشيخ الفقيه الأجل أبي عبد الله ابن حبشية أعزه الله من بابكم الكريم أسماه الله، فأخذ معه في هذا القصد، واستفهم عما لديه من مقامكم في ذلك من الإمضاء أو الرد، فذكر أنكم قد أذنتم لمعظمكم في عقد السلم على ما يراه من الأحكام، إذ ظهر فيها المصلحة لأهل الإسلام، فلما عرف مذهبكم الصالح، وقصدكم الناجح، رأى أن يوجه إلى ملك النصارى من يخلص معه حال الصلح، على ما يعود إن شاء الله
__________
(1) ق: قصد التشوق.(5/460)
تعالى على المسلمين بالنجح، وقدم تعريفكم بما دار من الحديث بين يدي جوابه الوافد على مقامكم صحبة الفقيه أبي عبد الله أعزه الله تعالى، ولا يخفى على مقامكم حاجة هذه البلاد في الوقت إلى هدنة يستدرك بها رمقها مما لقيته من جهد الحرب، وما حل بها في هذه السنين من القحط والجدب، فالصلاح بحمد الله في هذه الحال بادي الظهور، وإلى الله عاقبة الأمور.
" هذا ما تزيد لدى معظم مقامكم، وما يتزيد بعد فليس إلا المبادرة إلى مطالعتكم وإعلامكم، وما كان إمساك الفقيه أبي عبد الله ابن حبشية في هذه الأيام إلا لانتظار خبر الصلح، حتى يأتيكم به مستوفى الشرح، وها هو قد أخذ في الرجوع إلى بابكم الأسمى، والقدوم إلى حضرتكم العظمى، والله يصل سعودكم ويحرس وجودكم ويبلغكم أملكم ومقصودكم، والسلام.
ومن إنشاء ابن الجياب رحمه الله تعالى في العزاء بالسلطان أبي الحسن المريني ما صورته بعد الصدر:
" أما بعد حمد الله الواحد القهار، الحي القيوم حياة لا تتقيد (1) بالأعصار، القادر الذي كل شيء في قبضة قدرته محصور بحكم الاضطرار، الغني في ملكوته فلا يلحقه لاحق الافتقار، المريد الذي بإراته تصريف الأقدار، وتقدير الآجال والأعمار، العالم الذي لا تغرب عن علمه خفايا الأسرار، وخبايا الأفكار، مالك الملك وأهله، ومدبر الأمور بحكمته معدله، تذكرة لأولي الألباب وعبرة لأولي الأبصار، خالق الموت والحياة لينقلنا من دار الفناء إلى دار القرار، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى المختار، الذي نهتدي بهديه الكريم في الإيراد والإصدار، والأحلاء والإمرار، في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، بسيره الكريمة الآثار، ونتعزى بالمصيبة به عما دهم من المصائب الكبار، ونقدم منه إلى ربنا شفيعاً ماحياً للأوزار، وآخذاً بالحجز عن النار،
__________
(1) ق: تنفد.(5/461)
ونعلم أننا باتباع سبيله نسعد سعادة الأبرار، وبإقامة ملته وحماية شرعته ننال مرضاة الملك الغفار، والرضى عن آله وصحبه، وأوليائه وحزبه، الذين ظاهروه في حياته على إقامة الحق الساطع الأنوار، وخلفوه في أمته قائمين بالعدل حامين للذمار، والدعاء لمحل أبينا والدكم قدس الله روحه، وبرد ضريحه، بالرحمة التي تتعهد روضته التي هي أذكى من الروض المعطار، والرضوان الذي يتبوأ به مبوأ صدق في الملوك المجاهدين الأخيار، ولمقامكم الأعلى بسعادة المقدار، وتمهيد السلطان وبلوغ الأوطار، فإنا كتبناه - كتب الله لكم عوائد النصر، وربط على قلبكم بالصبر - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى عندما تحقق لدينا النبأ الذي فت في الإعضاد، وشب نار الأكباد، والحادث الذي هد أعظم الأطواد، وزلزل الأرض لراسية الأوتاد، والواقع الذي لولا وجودكم لمحا رسم الأجواد، وعطل رسوم الجهاد، وكسا الآفاق ثوب الحداد، والخطب الذي ضاقت له الأرض بما رحبت، وأمرت الدنيا بما عذبت، من وفاة محل أبينا أكبر ملوك المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، والدكم ألحفه الله تعالى برود رضاه، وجعل جنته نزله ومثواه، ونفعه بما أسلف من الأعمال الكريمة، وما خلده من الآثار العظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليماً لما قضاه، ورضى بما أنفذه وأمضاه، وعند الله نحتسب منه والداً شفيقاً، حانياً رفيقاً، لم يزل يولي الجميل قوله وفعله، ويصل لنا من أسباب عنايته ما اقتضاه فضله، وما هو أحق به وأهله.
" وكنا طول حياته لم نجد أثراً لفقد الوالد، لما أولانا من جميل العوائد، وكرم المقاصد، جزاه الله أحسن جزاءه، وأعاننا على توفية حقه وأدائه، ولمثل هذه المصيبة - ولا مثل لها - تظلم الأرجاء، ويضيق الفضاء، وتبكيه مسومة الجياد، ومعالم الجهاد، والسيوف في الأغماد، وشتى العباد والبلاد، فلا تسألوا كيف هو عندنا موقع هذا الخطب العظيم، والحادث المقعد المقيم، والرزية التي لا رزية مثلها، والحادثة التي أصيبت بها الملة وأهلها، فوجدناه لفقده(5/462)
يتضاعف مع الآناء، ويتجدد تذكار ما أسلف من أعمال الملوك الفضلاء، ولكنه أمر حتم، وقضاء من الله جزم، وسبيل يسلك عليها الأول والآخر، والآني والغابر، وليس إلا التسليم، لما حكم به الحكيم العليم.
ولما انتهى إلينا هذا النبأ الذي ملأ القلب حسرة والعين عبرة، وتوارت شتى الأنباء، وغلب اليأس فيها على الرجاء، وجدنا له ما يوجد لفقد الأب الذي ابتدأ بالإحسان والإجمال، وأولى عوارف القبول والإقبال، ولكنه ما أطفأ نار ذلك الوجد، وجبر كسر ذلك الفقد، إلا ما من الله به علينا وعلى المسلمين من تقلدكم ذلك الملك الذي بكم سمعت معالمه، وقامت مراسمه، وعليكم انعقد الإجماع، وبولايتكم استبشرت الأصقاع، وكيف لا تستبشر بولاية الملك الصالح الخاشع الأواب، صاحب الحرب والمحراب، عدة الإسلام، وعلم الأعلام، من ثبتت فضائله أوضح من محيا النهار، وسارت مكارمه في الآفاق أشهر من المثل السيار.
" وقد كان محل أبينا والدكم رضي الله عنه لما علم من فضائلكم الكريمة الآثار، وما قمتم به من حقه الذي وفيتموه توفية الصلحاء الأبرار، ألقى إليكم مقاليد سلطانه، وآثر إليكم أثر قبوله ورضوانه، حتى انفصل عن الدنيا وقد ألبسكم من أثواب رضاه ما تنالون به قرة العين، وعز الدارين، والظفر بكلتا الحسنيين، فتلك المملكة بحمد الله تعالى قد قام بها حامي ذمارها، وابن خيارها، ومطلع أنوارها، الملك الرضي العدل الطاهر، قوام الدياجي وصوام الهواجر، حسنة هذا الزمان، ونخبة ذلك البيت المؤسس على التقوى والرضوان، فالحمد لله على أن جبر بكم صدع الإيمان، وانتضى منكم سيفاً مسلولاً على عبدة الصلبان، وأقر بكم ملك آبائكم الملوك الأعاظم، وتدارك بولايتكم أمر هذا الرزء المتفاقم، فإن فقدنا أعظم مفقود، فقد ظفرنا بأكرم مقصود، وما مات من أبقى منكم سلالة طاهرة تحيي سنن المعالي والمكارم، وتعمل على شاكلة أسلافها الأكارم، فتلك المملكة قد أصبحت بحمد الله ونور سعدكم في أرجائها طالع، وسيف(5/463)
بأسكم في أعدائها قاطع، وعزمكم الأمضى لأمرها جامع مانع، وقد أوت منكم إلى الملجإ الأحمى، واستمسكت بإيالتكم العظمى، وعرفت أنكم ستبدون فيها من آثار دينكم المتين، وفضلكم المبين، ومعاليكم القاطعة البراهين، ما يملؤها عدلاً وإحساناً، وتبلغ به آمالها مثنى ووحداناً، فهنيئأً لنا ولها أن صارت في ملككم، وأن تشرفت بملككم، وألقت مقاليدها إلى من يحمي حماها، ويدفع عداها، وليهن ذلك المقام الأعلى ما أولاه من العز المكين، وما قلده من الملك الذي هو نظام الدنيا والدين، وأن أعطاه راية الجهاد فتلقاها باليمين، لينصر بها ملة الرسول الصادق الأمين، فله الفخر بذلك على جميع السلاطين، وأما هذه البلاد الأندلسية حماها الله فهي وإن فقدت من السلطان الأعلى أبي سعيد أكرم ظهير، ووقع مصابه منها بمحل كبير، فقد لجأت منكم إلى من يحميها، ويكف بأس أعاديها، ويبتغي مرضاة خالقها فيها، فملككم بحمد الله تعالى مقتبل الشباب، جديد الأثواب، عريق الأنساب، أصيل الأحساب، ومجدكم جار على أعراقه جري الجياد العراب.
" وإنا لما ورد علينا هذا النبأ معقباً بهذه البشرى، ووفد علينا ذلك الخبر مردفاً بهذه المسرة الكبرى، علمنا أن الله سبحانه قد رأب ذلك الصدع بهذا الصنع الجميل، وتلافى ذلك الخطب بهذا الخير الجزيل، فأخذنا من مساهمتكم في الأمور النصيب الوافر، ورأينا أن آمالنا منكم قد جلت من محياها السافر، وعينا للوفادة على بابكم لينوب عنا في العزاء والهناء عين الأعيان الفضلاء، ووجه القواد والكرماء.
ولنقتصر على هذا المقدار من كلام الرئيس ابن الجياب، رحمه الله تعالى؛ ويظهر لي أن نظمه إلى طبقة من نثره، وعلى كل حال فهو لا يتكلف نظماً ولا نثراً، رحمه الله تعالى ورضي عنه وعامله بمحض فضله.
20 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الفقيه الكاتب البارع العلامة(5/464)
النحوي اللغوي صاحب العلامة بالمغرب الشهير الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي (1) قال في " الإحاطة " فيه ما ملخصه: عبد المهيمن بن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الحضرمي، أبو محمد، شيخنا الرئيس، صاحب القلم الأعلى بالمغرب.
من " الإكليل ": تاج المفرق، وفخر المغرب على المشرق، أطلع منه نوراً أضاءت له الآفاق، وأثر منه بذخيرة حملت أحاديثها الرفاق، ما شئت من مجد سامي المصاعد والمناقب، نشأ بسبتة بلده بين علم يقيده، وفخر يشيده، وطهارة يلتحف مطارفها، ورياسة يتفيأ وارفها، وأبوه رحمه الله تعالى قطب مدارها، ومقام حجها واعتمارها، فسلك الوعوث من المعارف والسهول، وبذ على حداثة سنه الكهول، فلما تحلى من الفوائد العلمية بما تحلى، واشتهر اشتهار الصباح إذا تجلى، تنافست فيه همم الملوك الأخاير، استأثرت به الدول على عادتها في الاستئثار بالذخاير، فاستقلت بالسياسة ذراعه، وأخدم الذوابل والسيوف يراعه، وكان عين الملك التي بها يبصر، ولسانه الذي يسهب به أو يختصر، وقد تقدمت له إلى هذه البلاد الوفادة، وجلت به عليها الإفادة، وكتب عن بعض ملوكها، وانتظم في عقودها الرفيعة وسلوكها، وله في الآداب الراية الخافقة، والعقود المتناسقة، ومشيخته حافلة تزيد عن الإحصاء، وشعره منحط عن محله من العلم والشهرة، وإن كان داخلاُ تحت طور الإجادة، فمن ذلك قوله:
تراءى سحيراً والنسيم عليل ... وللنجم طرف بالصباح كليل
وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظلماء منه خجول
بريق بأعلى الرقمتين كأنه ... طلائع شهب في السماء تجول
__________
(1) قد مر التعريف بعبد المهيمن الحضرمي وذكر مصادر ترجمته (ص: 240) من هذا الجزء.(5/465)
فمزق ساجي الليل منها شراره ... وخرق ستر الغيم منه نصول
تبسم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام منه همول
ومالت غصون البان نشوى كأنها ... يدار عليها من صباه شمول
وغنت على تلك الغصون حمائم ... لهن حفيف فوقها وهديل
إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل
سقى الله ربعاً لا تزال تشوقني ... إليه رسوم دونها وطلول
وجاد رباه، كلما ذر شارق ... من الوتق هتان أجش هطول
وما لي أستسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص همول
وعاذلة باتت تلوم على السرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل
تقول إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيلت ورحيل
ذريني تسعى للتي تكسب العلا ... سناء وتبقي الذكر وهو جميل
فإما تريني من ممارسة الهوى ... نحيلاً فحد المسرفي نحيل
وفوق أنابيب اليراعة صعدة ... تزين، وفي قد القناة ذبول
ولولا السرى لم يجتل البدر كاملاً ... ولا بات منه للسعود نزيل
ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد منه وصول
ولولا نوال ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو محيل
وزير سما فوق السماك جلالة ... وليس له إلا النجوم قبيل
من القوم: أما في الندي فإنهم ... هضاب، وأما في الندى فسيول
حووا أشرف العلياء إثرناً ومكسباً ... وطابت فروع منهم وأصول
وما جونة هطالة ذات هيدب ... مرتها شمال حرجف وقبول
لها زجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول
كما هدرت وسط القلاص وأرسلت ... شقاقها عند الهياج فحول
بأجود من كف الوزير محمد ... إذا ما توالت للسنين محول(5/466)
ولا روضة بالحسن طيبة الشذا ... ينم عليها إذخر وجليل
وقد أزكيت للزهر فيها مجامر ... تعطر منها للنسيم ذيول
وفي مقل النوار للطل عبرة ... ترددها أجفانها وتجيل
بأطيب من أخلاقه الغر كلما ... تفاقم خطب للزمان يهول
حيت أبا العبد الإله مناقباً ... تفوت يدي من رمها وتطول
فغرناطة مصر أنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل
فداك رجالاً حاولوا درك العلا ... ببخل، وهل نال العلاء بخيل
تخيرك المولى وزيراً وناصحاً ... فكان له مما أراد حصول
وألقى مقاليد الأمور مفوضاً ... إليك فلم يدم يمينك سول
وقام بحفظ الملك منك مؤيد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل
وساس الرعايا منك أشوس باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل
وأبلج وقاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنضار مسيل
تهيم بها العلياء كأنها ... بثينته في الحب وهو جميل
له عزمات لو أعير مضاءها ... حسام لما نالت ظباه فلول
سرى ذكره في الخافقتين فأصبحت ... إليه قلوب العاملين تميل
وأعدى قرضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول
إليك أبا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هوجاء النجاء ذلول
فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهن ذميل
تسددني سهماً لكل ثنية ... ضوامر أشباه القسي نحول
وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برحلي هوجل وهجول
فقيدت أفراسي به وركائبي ... ولذ مقام لي به وحلول
وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة ... عليها لأحداث الزمان ذحول
وتهوى العلا حظي وتغري بضده ... لذاك اعترته رقة ونحول(5/467)
وتأبى لي الأيام إلا إدالة ... فصونك لي، إن الزمان مديل
فكل خضوع في جنابك عزة ... وكل اعتزاز قد عداك خمول وقال:
أبت همتي أن يراني امرؤ ... على الدهر يوماً له ذا حضوع
وما ذاك إلا لأني اتقيت ... بعز القناعة ذل الخشوع مولده بسبتة عام ستة وسبعين وسبعمائة، وتوفي في تونس ثاني عشر شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة في الطاعون، وكانت جنازته مشهورة رحمه الله تعالى؛ انتهى.
وحكي أن السلطان أبا الحسن المريني سب الشيخ عبد المهين الحضرمي بمجلس كتابه، فأخذ عبد المهين القلم وكسره، وقال: هذا هو الجامع بيني وبينك، ثم إن السلطان أبا الحسن ندم، وأفضل عليه، وخجل مما صدر منه وأحسن إليه.
وكان عبد المهين ينطق بالكلام معرباً، ويرتفع نسبه إلى العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل سلفه من اليمن، وكان جدهم الأعلى عبدون لحقه الضيم ببلده، فارتحل إلى المغرب، فنزل سبتة.
ولعبد المهيمن الحضرمي شيخ أجلاء كابن أبي الربيع النحوي وابن الشاط وابن مسعود وغيرهم. وكان ذا سعد وسؤدد حسن الحظ، رأيت خطه بإجازته لأبي عبد الله ابن مرزوق وغيره. وكان عالي الهمة سرياً، أعطى المنصب حقه، وكان لا يحتمل الضيم واحتقار العلم، وكان سريع الجواب: حكي أن القاضي المليلي وأبا محمد عبد المهيمن الحضرمي المذكور صاحب العلامة للسلطان أبي الحسن حضرا مجلس السلطان، فجرى ذكر الفقيه ابن عبد الله الرزاق، فقال المليلي: جمع من الفنون كذا، حتى وضع يده على أبي محمد عبد المهيمن، وقال(5/468)
مخاطباً للسلطان: ويكتب لك احسن من ذا، فوضع عبد المهيمن يده على المليلي وقال: نعم يا مولاي، ويقضي لك أحسن من ذا.
وقال ابن الخطيب القسمطيني الشهير بابن قنفذ في وفياته ما نصه: وفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة توفي الشيخ الراوية المحدث بابن الكاتب أبو محمد عبد المهيمن ابن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد الحضرمي، السبتي، ومن أشياخه الأستاذ ابن أبي الربيع وابن الغماز وابن صالح الكناني وغيرهم من الأعلام؛ انتهى.
وقال غيره: إن والد عبد المهيمن توفي غرة صفر سنة اثني عشر وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
وحكي أن الشيخ أبا محمد عبد المهيمن ذكر يوماً بني العزفي فأثنى عليهم، فقال له أحد الحسنيين، وكان بينهم شيء: إنهم كانوا لا يحبون أهل البيت، فكيف حبك أنت لهم يعني لأهل البيت، فقال: أحبهم حب التشرع، لا حب التشييع؛ انتهى.
قيل: يعني بالعزفيين أهل الدولة الثانية، وأما أهل الأولى فكانوا من المختصين بمحبة الآل، وهم أحدثوا بالمغرب تعظيم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام.
ومن أغرب ما وقع للرئيس عبد المهيمن الحضرمي من التشبيه قوله:
لقد راقني مرأى سجلماسة الذي ... يقر له في حسنه كل منصف
كأن رؤوس النخل في عرصاتها ... فواتح سورات بآخر مصحف وهذا من التشبيه العقيم الذي لم يسبق إليه فيما أظن. وكان سبب قوله ذلك أن السلطان أمير المسلمين أبا الحسن المريني لما تحرك لقتال أخيه السلطان أبي علي عمر بسجلماسة فظفر بها استمطر أنواء أفكار الكتاب وغيرهم في تشبيه النخل، فقال عبد المهيمن ما مر، فلم يترك مقالاً لقائل.
وقد أنشد الحافظ ابن مرزوق الحفيد قال: أنشدني شيخنا ولي الدين الرئيس(5/469)
أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي لشيخه الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي السبي رحمه الله تعالى قوله:
يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة ... باب الغني، كذا حكم المقادير
وإنما الناس أمثال الفراش، فهم ... يلفون حيث مصابيح الدنانير قلت: ورأيت هذين البيتين في كتاب روح الشحر وروح الشعر للعالم الكاتب ابن الجلاب منسوبين لأبي المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي، قال: أنشدني أبو الحجاج الحافظ، قال: أنشدني الهيثم، فذكر البيتين، وكان تاريخ وفاته قبل أن يخلق عبد المهيمن، فتعين أن البيتين ليسا من نظمه، وإنما تمثل بهما ونسبتهما له وهم لا محالة، والله أعلم.
وأما ما اشتهر على الألسنة بالمغرب من أن أبا حيان مدح عبد المهيمن بقوله:
ليس في الغرب عالم ... مثل عبد المهيمن
نحن في العلم أسوة ... أنا منه وهو مني فقد نسبه ابن غازي إلى أبي حيان كما اشتهر، لكن تاريخ مرور أبي حيان بالمغرب كان قيل ظهور عبد المهيمن بلا خفاء، وهو عندي محمول على أحد أمرين: أن المراد عبد المهيمن جد عبد المهيمن المذكور، أو أن أبا حيان كتب بالبيتين من مصر بعدما ظهر عبد المهيمن وصارت له الرياسة بالمغرب إذ أبو حيان عاش إلى ذلك الزمان بلا ريب، ولذا لما ذكر لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الكتيبة الكامنة في أنباء أهل المائة الثامنة الشيخ أبا حيان قال: وهذا الرجل طالت حياته حتى أجاز ولدي.
ولعبد المهيمن المذكور أخبار غير ما قدمناه منع منها الاختصار. وقد ألف الخطيب ابن مرزوق باسم ولد (1) ولده فهرسته المشهورة، وحلاه في صدرها أحسن
__________
(1) ولد: سقطت من ق.(5/470)
حلية، وهو أهل لذلك. وقد ذكره مولاي الجد في شيوخه كما تقدم، وقال فيه: إنه إمام الحديث والعربية، وكاتب الدولة العثمانية والعلوية، فليراجع ذلك فيما سبق في ترجمة الجد.
وأبو سعيد ابن عبد المهيمن كان عالي الهمة كآبائه، ولما بويع السلطان أبو عنان طلب منه أن يكون مرتسماً في جملة كتاب بابه، فامتنع، وقال: لا أكون تحت حكم غيري، وعنى بذلك أن أباه كان رئيس الكتاب، فكيف يكون هو مرؤوساً بغيره فلم ترض همته رحمه الله تعالى إلا برتبة أبيه أو الترك، وارتحل أبو سعيد محمد المذكور، وكان فقيهاً عالماً، من فاس لسبتة إلى أن توفي بها سنة 787، وكان قليل الكلام، جميل الرواء، حسن الهيئة والبزة والشكل، روى عن والده وعن الحجار وكتب له سنة 724، وروى عن الفقيه أبي الحسن ابن سليمان والرحالة ابن جابر الوادي آشي وابن رشيد وغيرهم.
وابن أبي سعيد هذا اسمه عبد المهيمن كجده، وكان صاحب القلم الأعلى، روى عن أبيه وجده وغيرهما، رحم الله الجميع.
21 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الإمام العلامة قاضي الجماعة أبو البركات ابن الحاج البلفيقي (1) : نادرة الزمان، وشاعر ذلك الأوان، وهو محمد ابن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن الشيخ الولي أبي إسحاق ابن الحاج البلفيقي، وكان أبو البركات أحد رجال الكمال علماً ومجداً وسؤدداً ومكتسباً، وقد عرف به في الإحاطة بترجمة مد فيها النفس، وكتب ابنه على أول الترجمة ما صورته:
رحمك الله تعالى يا فقيه الأندلس وحسيبها وصدرها وشيخها، وبرد ضريحك، فلله ما أفدت من نادرة واكتسبت من فائدة؛ انتهى.
__________
(1) قد ذكرنا مصادر ترجمة ابن الحاج البلفيقي في المجلد الأول من النفح (ص: 516) .(5/471)
وحكى في " الإحاطة " (1) أنه لما استسقى وحصلت الإجابة أنشده لسان الدين:
ظمئت إلى السقيا والأباطح والربى ... حتى دعونا العام عاماً مجديا
والغيث مسدول الحجاب، وإنما ... علم الغمام قدومكم فتأدب ثم ذكر في الإحاطة تأليف أبي البركات وشعره، إلى أن قال حاكياً عن أبي البركات ما صورته: ومما نظمته وقد أكثروا من التعجب لملازمتي البناء وحفر الآبار (2) :
في احتفار الأساس والآبار ... وانتقال التراب والجيار
وقعودي ما بين رمل وآج ... ر وجص والطوب والأحجار
وامتهاني بردي بالطين والما ... ء ورأسي ولحيتي بالغبار
نشوة لم تمر قط على قل ... ب خليع وما لها من خمار
من غريب البناء أن بنيه ... متعبون يهوون طول النهار
يبتغون الوصال من صانعيه ... والبدار إليه كل البدار
فإذا حل في ذراهم تراهم ... يشتهون منه بعيد المزار
من عذيري من لائم في بنائي ... وهو لي الترجمان عن أخباري
ليس يدري معناه من ليس يدري ... أن ما عنده على مقدار
أقتدي بالذي يقول بناها ... ذلك الخالق الحكيم الباري
وبمن يرفع القواعد من بي ... ت عتيق للحج والزوار
وبمن كان ذا جدار وقد كا ... ن أبوه من صالحي الأبرار
وبما قد أقامه الخضر المخ ... صوص علماً بباطن الأسرار
__________
(1) الإحاطة 2: 103.
(2) لم يرد هذا في الإحاطة.(5/472)
كان تحت الجدار كنز، وما أد ... راك ما كان تحت كنز الجدار
وبمن من قضى من آبائي الغ ... ر الألى شيدوا رفيع المنار
فالذي قد بنوه نبني له مث ... لاً ونجري له على مضمار
قد بنينا من المساجد دهراً ... ثم نبني لجارها خير جار
مثلما قد بنيت للمجد أمثا ... ل مبانيهم بكل اعتبار
فالمباني لسان حالي ولي في ... ها لعمري ذكر من الأذكار
روح أعمالنا المقاصد، لكن ... حيث تخفى تخفى مع الأعذار
فعسى من قضى ببنيان هذي ال ... مدار يقضي لنا بعقبى الدار ثم قال في الإحاطة بعد كلام: ومن نظمه في الإنحاء على نفسه، واستبعاد وجود المطالب في جنسه، قال مما نظمته يوم عرفة عام خمسين وسبعمائة وأنا منزو في غار ببعض جبال المرية (1) :
زعموا أن في الجبال رجالاً ... صالحين قالوا من الأبدال
وادعوا أن كل من ساح فيها ... فسيلقاهم على كل حال
فاخترقنا تلك الجبال مراراً ... بنعال طوراً ودون نعال
ما رأينا بها خلاف الأفاعي ... وشبا عقرب كمثال النبال
وسباع يجرون بالليل عدواً ... لا تسلني عنهم بتلك الليالي
ولو أنا كنا لدى العدوة الأخ ... رى رأينا نواجذ الرئبال
وإذا أظلم الدجى جاء إبلي ... س إلينا يزور طيف خيال
هو كان الأنيس فيها ولولا ... هـ أصيبت عقولنا بالخبال
خل عنك المحال يا من تعنى ... ليس يلقى الرجال غير الرجال وجمع شعره وسماه العذب والأجاج من كلام أبي البركات ابن الحاج،
__________
(1) الإحاطة: 117.(5/473)
وسمى أبو القاسم ما استخرجه منه ب " اللؤلؤ والمرجان من بحر أبي البركات ابن الحاج يستخرجان ".
ومن نظم الشيخ أبي البركات ابن الحاج قوله رحمه الله تعالى:
ألا ليت شعري هل لما أنا أرتجي ... من الله في يوم الجزاء بلاغ
وكي لمثلي أن ينال وسيلة ... لها عن سبيل الصالحين مراغ
وكم رمت دهري فتح باب عبادة ... يكون بها في الفائزين مساغ
فكدت ولم أفعل وكيف وليس لي ... المعينان بها صحة وفراغ
لأصبحت من قوم دعاهم إلى الرضى ... منادي الهدى فاستنكروه فراغوا
أباغ ترى أخراه من يزدهيه من ... زخارف دنياه باغ
ويضرب صفحاً عن حقيقة ما طوت ... فيلهيه زور قد أتته مصاغ
إذا ما بدا للرشد نهج بيانه ... يراع بع عن وحشته فيراغ
فيا رب برد العفو هب لي إذا غلت ... من الحر في يوم حساب دماغ
فمن حرق للنفس فيه لواعج ... ومن خجل للوجد فيه صباغ
وعظتك نفسي لو أنبت، وفي الذي ... وعظت به لو ترعوين بلاغ وأنشد القاضي أبو البركات في هذا الروي قول شيخه الأستاذ أبي علي ابن سليمان القرطبي:
ألا هل إلى ما أرتضيه بلاغ ... وكيف يرى يوماً إليه فراغ
وقد قطعت دوني قواطع جمة ... أراع لها مهما جرت وأراغ
وما لي إلا عفو رب وفضله ... ففيه إلى ما أرتجيه بلاغ وكان القاضي أبو البركات من بيت كبير علماً وصلاحاً وزهداً، وجده الإمام الولي العارف سيدي أبو إسحاق ابن الحاج أشهر من نار على علم، وقبره مشهور بمراكش وقد زرته بها، وله كرامات مشهورة.(5/474)
وحكى في مزية المرية من كراماته جملة؛ قال حفيده الشيخ أبو البركات: دخلت على الشيخ الصالح العابد المجتهد الحاج أبي عبد الله محمد بن علي البكري، المعروف بابن الحاج، في منزله بالمرية عائداً قال: أظنه في مرضه الذي مات فيه، فقال حين سألته عن حاله: ادع لي، فقلت له: يا سيدي، بل أنت تدعو لي، فقال لي: شرح الله صدرك، ونور قلبك بنور معرفته! فمن عرف الله لم يذكر غيره، فقد حكى سيدي أبو جعفر ابن مكنون عن جدك قال: كنت مع سيدي أبي إسحاق ابن الحاج بمراكش فقال لي: هل ترى في المنام شيئاً فقلت: نعم، أرى كأني في المرية أمشي من الدار (1) إلى المسجد، ومن كذا إلى كذا، فأعرض عني وقال: ألا ترى إلا الله قال: ثم مر به في أثناء كلامه ابنه محمد، فقال لي: رأيت هذا والله ما أدري أن لي ابناً حتى يمر بي، ولا أذكره إذا غاب عني، ولا أرى إلا الله؛ انتهى.
ومن تآليف أبي البركات رحمه الله تعالى كتاب ذكر فيه أخبار سلفه رضي الله عنهم، وذكر جملة من كرامات جده سيدي أبي إسحاق المذكور، نفعنا الله به.
ومن شعر جده المذكور قوله:
ألا كرم الله البلاد بخطبة ... هم حسنات الدهر لا نابهم خطب
رعايتهم فرض على كل مسلم ... وحبهم حقاً قد أوجده الرب
إذا ما سألت الله شيئاً فسل بهم ... فتعظيمهم قرب، وغيبتهم حرب وقوله:
شكا فشكا قلبي خبالاً مبرحاً ... على غير علم كان مني بشكواه
وما التقت أسرار إلا بجامع ... من النعت سلطان الحقيقة سواه
__________
(1) من الدار: سقطت من ق.(5/475)
فيا فرحة المجهود إن بات سره ... وسر الذي يهواه مأواه مأواه
ومن أجله قد كان بالبعد راضياً ... فكيف ترى مغناه والقلب مثواه
بدا فبدت أعلام ضدين في الهوى ... هما عجب لولا الدليل وفحواه
برؤيته فارقت موتي لبعده ... ومت بها من أجل علمي ببلواه
فها أما حي ميت بلقائه ... ولم ينج من لم يسعد الفهم نجواه
إذا لم تكن أنت الحبيب بعينه ... رضى وعتاب ضل من قال يهواه
وأكذب ما يلفى الفتى وهو صادق ... إذا لم يحقق بالأفاعيل دعواه وقوله رضي الله تعالى عنه:
الحب في الله نور يستضاء به ... والهجر في ذاته نور على نور
جنب أخا حدث في الدين ذا غير ... إن المغير في نكس وتغيير
حاشا الديانة أن تبنى على خبل ... سبحان خالقنا من قول مثبور
إن الحقائق لا تبدو لمبتدع ... كذا المعارف لا تهدى لمغرور
تالله لو أبصرت عيناه أو ظفرت ... يمناه ما ظل في ظن وتقدير
حقق ترى عجب إن كنت ذا أدب ... ولا يغرنك الجهال بالزور
إن الطريقة في التنزيل واضحة ... وما تواتر من وحي ومشهور
فافهم هديت هدى الرحمن واهد به ... هدى يفيدك يوم النفخ في الصور وقوله صدر رسالة وجه بها إلى ابنه محمد أيام قراءته بإشبيلية:
إذا شئت أن تحظى بوصلي وقربتي ... فجنب قريب السوء واصرم حباله
وسابق إلى الخيرات واسلك سبيلها ... وحصل علوم الدين واعرف رجاله وكان رحمه الله تعالى كثيراً ما يتمثل ببيتي مهيار الديلمي، وهما:
ومن عجب أني أحب إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهم معي(5/476)
وتبكيهم عني وهم في سوادها ... ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي وحدث القاضي أبو البركات حفيده عن ابن خميس التلمساني المتقدم الذكر قال: سمعت بعض الأشياخ يقول: كان الشيخ أبو إسحاق البلفيقي الكبير يقول: اجتمع لنا في الله أربعون ألف صاحب.
وحكى الشيخ أبو البركات عن الشيخ الصالح الصوفي أبي الأصبغ ابن عزرة قال: هذه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أخذتها عن رابك الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن علي بن الحاج مشافهة، وقال لي: إنها صلاة أبي إسحاق ابن الحاج جدك، وهي: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد صلاة دائمة مستمرة تدوم بدوامك، وتبقى ببقائك، وتخلد بخلودك ولا غاية لها دون مرضاتك، ولا جزاء لقائها ومصليها غير جنتك والنظر إلى وجهك الكريم.
ونقل أبو البركات المذكور عن جده أنه كان يستفتح مجلسه بالمرية بهذا الدعاء: اللهم اجعلنا في عياذ منك منيع، وحصن حصين، وولاية جميلة، حتى تبلغنا آجالنا مستورين محفوظين، مبشرين برضوانك يوم لقائك، قال: وفي وسط الدعاء وآخره: واكفنا عدونا إبليس، وأعداءنا من الجن والإنس بعافيتنا وسلامتنا.
وكان الشيخ رضي الله عنه يواصل أربعين يوماً. ومن مآثره أنه بنى ثمانية عشر جباً في مواضع متفرقة ونحو عشرين مسجداً وبنى أكثر سور حصن بلفيق، كل ذلك من ماله.
وقال رضي الله عنه في بعض رسائله: الصوفي عبارة عن رجل عدل تقي صالح زاهد، غير منتسب لسبب من الأسباب، ولا مخل بأدب من الآداب، قد عرف شأنه وزمانه، وملكت مكارم الأخلاق عنانه، لا ينتصر لنفسه، ولا يتفكر في غده وأمسه، العلم خليله، والقرآن دليله، والحق حفيظه ووكيله(5/477)
نظره إلى الخلق بالرحمة، ونظره إلى نفسه بالحذر والتهمة؛ انتهى.
وأحوال هذا الشيخ عجيبة، وكراماته شهيرة، وإنما ذكرنا هذا النزر اليسير تبركاً بذكره رضي الله عنه في هذا الكتاب، وتطفلاً على رب الأرباب أن ينفعنا بأمثاله ويحقق لنا النجاة والمتاب، إنه على ذلك قدير.
رجع إلى أخبار أبي البركات - ولما وقع بينه وبين ابن صفوان ما يقع بين المتعاصرين رد عليه ابن صفوان، فانتصر لأبي البركات بعض طلبته بتأليف شواظ من نار ونحاس يرسل على من لم يعرف قدره وقدر غيره من الناس وهو قدر رسالة الشيخ أو أطول، وألفي على ظهره بخط الشيخ أبي البركات ما صورته:
قد شبع الكلب كما ينبغي ... من حجر صلد ومن مقرع
فإن يعد من بعد ذا الذي ... قد كان منه فهو ممن نعي ومن بديع نظم الشيخ أبي البركات رحمه الله تعالى قوله:
يلومونني بعد العذار على الهوى ... ومثلي في وجدي له لا يفند
يقولون أمسك عنه قد ذهب الصبا ... وكيف أرى الإمساك والخيط أسود وقوله في المجبنات:
ومصفرة الخدين مطوية الحشا ... على الجبن المصفر يؤذن بالخوف
لها بهجة كالشمس عند طلوعها ... ولكنها في الحين تغرب في الجوف وفي هذين البيتين تورية متعددة.
وحدث القاضي أبو البركات أنه لما أراد الانصراف عن سبتة قال هل السيد الشريف أبو العباس رحمه الله تعالى: متى عزمت على الرحيل فأنشد أبو البركات:(5/478)
أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا فأنشد الشريف رحمه الله تعالى:
لا مرحباً بغد ولا أهلاً به ... إن كان تفريق الأحبة في غد وحكي أن السيد أبا العباس الشريف المذكور ساير القاضي أبا البركات في بعض أسفاره زمن الشباب ببر الأندلس أعاده الله تعالى فلما انتهينا إلى قرية ترليانة، وأدركهما النصب، واشتد عليهما حر الهجير، نزلا وأكلا على ظهره تحت شجرة مستظلاً بظلها، ثم التفت إلى السيد أبي العباس وقال:
ماذا تقول فدتك النفس في حالي ... يفنى زماني في حل وارتحال وأرتج عليه، فقال لأبي العباس: أجز، فقال بديهاً:
كذا النفوس اللواتي العز يصحبها ... لا ترضي بمقام دون آمال
دعها تسر في الفيافي والقفار إلى ... أن تبلغ السؤل أو موتاً بتجوال
الموت أهون من عيش لدى زمن ... يُعلي اللئيم ويدني الأشرف العالي ولما أوقع الشيخ أبو البركات على زوجه الحرة العربية أم العباس عائشة بنت الوزير المرحوم أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني ثم المغيلي طلقة كتب نسختها بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وعلى آل محمد، يقول عبد الله الراجي رخمته محمد المدعو بأبي البركات ابن الحاج خار الله له ولطف به: إن الله جلت قدرته لما أنشأ خلقه على طبائع مختلفة وغرائز شتى، ففيهم السخي والبخيل، والشجاع والجبان، والغبي والفطن، والكيس والعاجز، والمسامح والمناقش، والمتكبر والمتواضع، إلى غير ذلك من الصفات المعروفة من الخلق، كانت العشرة لا تستمر بينهم إلا بأحد أمرين: إما بالاشتراك في الصفات أو في(5/479)