ودخل بها على المنصور، فلما رآها اشتد غيظه على صاعد، وقال للحاضرين: غداً أمتحنه، فإن فضحه الإمتحان أخرجته من البلاد، ولم يبق في موضع لي عليه سلطان، فلما أصبح وجه إليه فأحضر، وأحضر جميع الندماء، فدخل بهم إلى مجلس محفل قد أعد فيه طبقاً عظيماً فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير، ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري، وتحت السقائف بركة ماء، قد ألقي فيها اللآلئ مثل الحصباء، وفي البركة حيةٌ تسبح، فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور: إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا، وإما أن تشقى بالضد عندنا، لأنه قد زعم قومٌ أن كل ما تأتي به دعوى، وقد وقفت من ذلك على حقيقة، وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله، فصفه بجميع ما فيه، وعبر بعض عن هذه القصة بقوله: أمر فعبئ له طبق فيه أزهار ورياحين وياسمين وبركة ماء حصباؤها اللؤلؤ، وكان في البركة حية تسبح، وأحضرها صاعد، فلما شاهد ذلك قال له المنصور: إن هؤلاء يذكرون أن كل ما تأتي به دعوى لا صحة لها، وهذا طبق ما ظننت أنه عمل لملك مثله، فإن وصفته بجميع ما فيه علمت صحة ما تذكره، فقال صاعد بديهةً:
أبا عامرٍ هل غير جدواك واكف ... وهل غير من عاداك في الأرض خائف
يسوق إليك الدّهر كلّ غريبةٍ ... وأعجب ما يلقاه عندك واصف
وشائع نورٍ صاغها هامر الحيا ... على حافتيها عبقرٌ ورفارف
ولمّا تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي الوصائف
كمثل الظباء المستكنّة كنّساً ... تظلّلها بالياسمين السّقائف
وأعجب منها أنّهن نواظرٌ ... إلى بركة ضمّت إليها الطرائف
حصاها اللآلي سابحٌ في عبابها ... من الرّقش مسموم الثعابين (1) زاحف
__________
(1) الذخيرة: مسموم اللعابين.(3/80)
ترى ماتراه (1) العين في جنباتها ... من الوحش حتّى بينهنّ السلاحف فاستغربت له يومئذٍ تلك البديهة في مثل ذلك الموضع، وكتبها المنصور بخطه، وكان إلى ناحيته من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجدف بمجاديف من ذهب لم يرها صاعد، فقال له المنصور: أحسنت، إلا أنك أغفلت ذكر المركب والجارية، فقال للوقت:
وأعجب منها غادةٌ في سفينةٍ ... مكلّلةٌ تصبو إليها المهاتف (2)
إذا راعها موجٌ من الماء تتّقي ... بسكّانها ما أنذرته (3) العواصف
متى كانت الحسناء ربّان مركبٍ ... تصرّف في يمنى يديه المجاذف
ولم تر عيني في البلاد حديقةً ... تنقّلها في الراحتين الوصائف (4)
ولا غرو أن شاقت معاليك روضةٌ ... وشتها أزاهير الرّبى والزخارف
فأنت امرؤ لو رمت نقل متالعٍ ... ورضوى ذرتها من سطاك نواسف
إذا قلت قولاً أو بدهت بديهةً ... فكلني له إنّي لمجدك واصف فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب، ورتب له في كل شهر ثلاثين ديناراً، وألحقه بالندماء.
قال (5) : وكان شديد البديهة في ادعاء الباطل، قال له المنصور يوماً: ما الخنبشار فقال: حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب، وفي ذلك يقول شاعرهم:
لقد عقدت محبّتها بقلبي ... كما عقد الحليب بخنبشار
__________
(1) الذخيرة: ما تشاء.
(2) الذخيرة: المهايف؛ وجعلها دوزي: المهافف.
(3) جعلها دوزي: ما إن ذرته؛ وفي البدائع: الرواجف.
(4) الذخيرة: المناصف؛ وتعني الخدم.
(5) الذخيرة 4 / 1: 21.(3/81)
وقال له يوماً، وقد قدم إليه طبق فيه تمر: ما التمركل في كلام العرب فقال: " يقال تمركل الرجل تمركلاً " إذا التف قي كسائه. وكان مع ذلك عالماً.
قال (1) : وكان لابن عامر فتى يسمى فاتناً أوحد لا نظير له في علم كلام العرب، فناظر صاعداً هذا فقطعه وظهر عليه وبكته، فأعجب المنصور منه، فتوفي فاتن هذا سنة 402، وبيعت في تركته كتب مضبوطة جليلة مصححة، وكان منقاداً لما نزل به من المثلة فلم يتخذ النساء كغيره، وكان في ذلك الزمان بقرطبة جملة من الفتيان المخانيث ممن أخذ بأوفر نصيب من الأدب.
قال: ورأيت تأليفاً لرجل منهم يعرف بحبيب ترجمه بكتاب " الاستظهار والمغالبة على من أنكر فضائل الصقالبة " وذكر فيه جملة من أشعارهم وأخبارهم ونوادرهم.
وقال ابن بسام وغيره (2) : ومن عجائب ما جرى لصاعد أنه أهدى إيلاً إلى المنصور، وكتب على يد موصله:
يا حرز كلّ مخوّف وأمان ك ... لّ مشرّد ومعزّ كلّ مذلّل
يا سلك كلّ فضيلةٍ ونظام ك ... لّ جزيلةٍ وثراء كلّ معيّل ومنها:
ما إن رأت عيني وعلمك شاهدٌ ... شروى (3) علائك في معمٍّ مخول ومنها:
__________
(1) الذخير 4 / 1: 22.
(2) المصدر نفسه: 22؛ والجذوة: 229.
(3) في الأصل: جدوى، والتصحيح عن الجذوة.(3/82)
وأبي مؤانس غربتي وتحفّظي ... من صفر أيامي ومن مستعملي (1)
عبدٌ جذبت بضبعه ورفعت من ... مقداره أهدى إليك بإيّل
سميته غرسيّةً وبعثته ... في حبله ليصحّ فيه تفاؤلي
فلئن قبلت قتلك أنفس منّةً ... أسدى بها ذو منحة وتطول
صبحتك غادية السرور وجلّلت ... أرجاء ربعك بالسحاب المخضل (2) فقضي قي سابق علم الله سبحانه وتعالى أن ملك الروم غرسية أسر في ذلك اليوم الذي بعث فيه بالإيل، وسماه باسمه على التفاؤل، انتهى.
وكان غرسية أمنع من النجم، وسبب أخذه أنه خرج يتصيد، فلقيته خيل للمنصور من غير قصد، فأسرته وجاءته به، فكان هذا الاتفاق مما عظم به العجب (3) .
ولنزد من أخبار صاعد فنقول: حكي أن المصور قال بسبب هذه القضية: أنه لم يتفق لصاعد هذا الفأل الغريب إلا لحسن نيته وسريرته، وصفاء باطنه، فرفع قدره من ذلك اليوم فوق ما كان، ورجحه على أعدائه، وحق له ذلك.
وفي الزهرة الثامنة والعشرين من كتاب " الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة " حكي أن صاعداً قال (4) : جمعت خرق الأكياس والصرر التي قبضت فيها صلات المنصور محمد بن أبي عامر، فقطعت لكافور الأسود غلامي منها قميصاً كالمرقعة، وبكرت به معي إلى قصر المنصور، فاحتلت قي تنشيطه حتى طابت نفسه فقلت: يا مولانا لعبدك حاجة، فقال: اذكرها، قلت:
__________
(1) رواه في الجذوة:
مولاي مؤنس غربتي متخطفي ... من ظفر أيامي، ممنع معقلي (2) البيت مضطرب في الأصل: منحتك ... يعزة، وحللت أوجا، وقد اعتمدت رواية الجذوة.
(3) الخبر عن كيفية أسر غرسية في الذخيرة 4 / 1: وهو مختلف عما قال المقري.
(4) في الذخيرة: 16 شبيه بهذه القصة، غير أن ما ورد هنالك يحكي أن صاعدا هو الذي لبس القميص تحت ثيابه فلما خلا المجلس ورأى فرصة لما أراد تجرد وبقي في القميص المخيط من الخرائط.(3/83)
وصول غلامي كافور إلى هنا، فقال: وعلى هذه الحال فقلت: لا أقنع بسواه إلا بحضوره بين يديك، فقال: أدخلوه، فمثل قائما ًبين يديه في مرقعته وهو كالنخلة إشرافاُ، فقال: قد حضر، وإنه لباذ الهيئة، فمالك أضعته فقلت: يا مولانا هنالك الفائدة، اعلم يا مولاي أنك وهبت لي اليوم ملء جلد كافور مالاً، فتهلل وقال: لله درك من شاكر مستنبط لغوامض معاني الشكر! وأمر لي بمال واسع وكسوة، وكسا كافوراً أحسن كسوة، انتهى.
ولما دخل صاعد دانية، وحضر مجلس الموفق مجاهد العامري أمير البلد، كان في المجلس أديب يقال له بشار، فقال للموفق: دعني أعبث بصاعد، فقال له: لا تتعرض إليه، فإنه سريع الجواب، فأبى إلا مساءلته، وكان بشار المذكور أعمى، فقال لصاعد: يا أبا العلاء ما الجرنفل في كلام العرب فعرف صاعد أنه وضع هذه الكلمة، وليس لها أصل في اللغة، فقال بعد أن أطرق ساعة: الجرنفل في اللغة الذي يفعل بنساء العميان ولا يتجاوزهن إلى غيرهن، وهو في ذلك كله يصرح ولا يكني، فخجل بشار وانكسر، وضحك من كان حاضراً، فقال له الموفق: قلت لك لا تفعل فلم تقبل، انتهى.
والجرنفل - بضم الجيم والراء، وسكون النون، وضم الفاء، وبعدها لام.
ولصاعد أخبار ونوادر كثيرة غير ما تقدم، وله مع المنصور بن أبي عامر رحمه الله تعالى من ذلك كثير، وبعضه ذكرناه في هذا الكتاب.
ومن حكاياته (1) أنه خرج معه يوماً إلى رياض الزاهرة، فمد المنصور يده إلى شيء من الريحان المعروف بالترنجان، فعبث به ورماه إلى صاعد، وأشار إليه أن يقول فيه، فارتجل:
لم أدر قبل ترنجان عبثت به ... الأبيات الآتية.
__________
(1) الذخيرة 4 / 1: 12.(3/84)
[طرف من أخبار المنصور]
وهذا المنصور بن أبي عامر قد تقدمت جملة من أخباره، ومن أعجب ما وقع له ما رأيته بخزانة فاس في كتاب ألفه صاحبه في الأزهار والأنوار، حكى فيه في ترجمة النيلوفر أن المنصور لما قدم عليه رسول ملك الروم الذي هو أعظم ملوكهم في ذلك الزمان ليطلع على آحوال المسلمين وقوتهم، فأمر المنصور أن يغرس في بركة عظيمة ذات أميال نيلوفر على ما تسع، ثم أمر بأربعة قناطير من الذهب وأربعة قناطير من الفضة فسبكت قطعاً صغاراً على قدر ما تسع النيلوفرة، ثم ملأ بها جميع النيلوفر الذي في البركة، وأرسل إلى الرومي فحضر عنده قبل الفجر في مجلسه السامي بالزاهرة بحيث يشرف على موضع البركة، فلما قرب طلوع الشمس جاء ألف من الصقالبة عليهم أقبية الذهب والفضة ومناطق الذهب والفضة، وبيد خمسمائة أطباق ذهب، وبيد خمسمائة أطباق فضة، فتعجب الرسول من حسن صورهم وجمال شارتهم، ولم يدر ما المراد، فحين أشرقت الشمس ظهر النيلوفر من البركة، فبادروا لأخذ الذهب والفضة من النيلوفر، وكانوا يجعلون الذهب في أطباق الفضة والفضة في أطباق الذهب، حتى التقطوا جميع ما فيها، وجاوؤا به فوضعوه بين يدي المنصور، حتى صار كوماً بين يديه، فتعجب النصراني من ذلك، وأعظمه، وطلب المهادنة من المسلمين، وذهب مسرعاً إلى مرسله، وقال له: لا تعاد هؤلاء القوم، فإني رأيت الأرض تخدمهم بكنوزها، انتهى.
وهذه القضية من الغرائب، وأنها لحيلة عجيبة في إظهار عز الإسلام وأهله.
وكان المنصور بن أبي عامر آية الله سبحانه في السعد ونصرة الإسلام، قال ابن بسام نقلاً عن ابن حيان (1) : إنه لما انتهت خلافة بني مروان بالأندلس إلى الحكم تاسع الأئمة، وكان مع فضله قد استهواه حب الولد، حتى خالف الحزم
__________
(1) الذخيرة: 4: 40 وما بعدها.(3/85)
في توريثه الملك بعده في سن الصبا دون مشيخة الإخوة وفتيان العشيرة، ومن كان ينهض بالأمر ويستقل بالملك، قال ابن بسام: وكان يقال " لا يزال ملك بني أمية بالأندلس في إقبال ودوام ما توارثه الأبناء عن الأباء، فإذا انتقل إلى الإخوة وتوارثوه فيما بينهم أدبر وانصرم "، ولعل الحكم لحظ ذلك، فلما مات الحكم أخفى جؤذر وفائق فتياه ذلك، وعزما على صرف البيعة إلى أخيه المغيرة، وكان فائق قد قال له: إن هذا لا يتم لنا إلا بقتل جعفر المصحفي، فقال له جؤذر: ونستفتح أمرنا بسفك دم شيخ مولانا (1) ، فقال له: هو والله ما أقول لك، ثم بعثا إلى المصحفي ونعيا إليه الحكم، وعرفاه رأيهما في المغيرة، فقال لهما المصحفي: وهل أنا إلا تبع لكما، وأنتما صاحبا القصر، ومدبرا الأمر، فشرعا في تدبير ما عزما عليه، وخرج المصحفي وجمع أجناده وقواده ونعى إليهم الحكم، وعرفهم مقصود جؤذر وفائق في المغيرة، وقال إن بقينا على ابن مولانا كانت الدولة لنا، وإن بدلنا استبدل بنا، فقالوا: الرأي رأيك، فبادر المصحفي بإنفاذ محمد بن أبي عامر مع طائفة من الجند إلى دار المغيرة لقتله، فوافاه ولا خبر عنده، فنعى إليه الحكم أخاه، فجزع، وعرفه جلوس ابنه هشام في الخلاقة، فقال: أنا سامع مطيع، فكتب إلى المصحفي بحاله، وما هو عليه من الاستجابة، فأجابه المصحفي بالقبض عليه، وإلا وجه غيره ليقتله، فقتله خنقاً. فلما قتل المغيرة واستوثق الأمر لهشام بن الحكم افتتح المصحفي أمره بالتواضع والسياسة واطراح الكبر ومساواة الوزراء في الفرش، وكان ذلك من أول ما استحسن منه، وتوفر على الاستئثار بالأعمال والاحتجان للأموال، وعارضه محمد بن أبي عامر - فتىً ماجدٌ أخذ معه بطرفي نقيض بالبخل جوداً وبالاستبداد أثرةً، وتملك قلوب الرجال إلى أن تحركت همته للمشاركة في التدبير بحق الوزارة، وقوي على أمره بنظره في الوكالة، وخدمته
__________
(1) الذخيرة: دم شيخ دولة مولانا.(3/86)
للسيدة صبح أم هشام، وكانت حاله عند جميع الحرم أفضل الأحوال بتصديه لمواقع الإرادة، ومبالغته في تأدية لطيف الخدمة، فأخرجن له أمر هشام الخليفة إلى الحاجب جعفر المصحفي بأن لا ينفرد عنه برأي، وكان غير متخيل منه سكوناً إلى ثقته، فامتثل الأمر وأطلعه على سره، وبالغ في بره، وبالغ محمد ابن أبي عامر في مخادعته والنصح له، فوصل المصحفي يده بيده، واستراح إلى كفايته، وابن أبي عامر يمكر به، ويضرب عليه، ويغري به الحسدة (1) ، ويناقضه في أكثر ما يعامل به الناس، ويقضي حوائجهم، ولم يزل على ما هذه سبيله إلى أن انحل أمر المصحفي، وهوى نجمه، وتفرد محمد بن أبي عامر بالأمر، ومنع أصحاب الحكم وأجلاهم وأهلكهم وشردهم وشتتهم وصادرهم، وأقام من صنائعهم من استغنى به عنهم، وصادر الصقالبة وأهلكهم وأبادهم في أسرع مدة.
قال ابن حيان (2) : وجاشت النصرانية بموت الحكم، وخرجوا على أهل الثغور فوصلوا إلى باب قرطبة (3) ، ولم يجدوا عند جعفر المصحفي غناء ولا نصرة، وكان مما أتى عليه (4) أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سد نهرهم، لما تخيله من أن في ذلك النجاة من العدو، ولم تتسع (5) حيلته لأكثر منه، مع وفور الجيوش وجموم الأموال، وكان ذلك من سقطات جعفر، فأنف محمد بن أبي عامر من هذه الدنية، وأشار على جعفر بتجريد (6) الجيش بالجهاد، وخوفه سوء العاقبة في تركه، وأجمع الوزراء على ذلك، إلا من شذ منهم، واختار ابن أبي عامر
__________
(1) في أصول النفح ودوزي: الحرة، وقد تنصرف إلى صبح - وهو مستبعد - وفي الذخيرة: " وابن أبي عامر يمكر به ويضرب بين حسدته ".
(2) النقل مستمر عن الذخيرة 4 / 1: 44.
(3) الذخيرة: فجاء صراخهم إلى باب قرطبة.
(4) الذخيرة: وكان مما غرب به لجبنه وعظيم أفنه ...
(5) في ق ودوزي: ولم تقع، والتصويب عن الذخيرة.
(6) في ق: بتبديد؛ والتصويب عن الذخيرة؛ وفي ابن عذاري: بتجهيز.(3/87)
الرجال، وتجهز للغزاة، واستصحب مائة ألف دينار، ونفذ بالجيش، ودخل على الثغر الجوفي [إلى جليقية] ونازل حصن الحامة، ودخل الربض، وغنم وقفل فوصل الحضرة بالسبي بعد اثنين وخمسين يوماً، فعظم السرور به، وخلصت قلوب الأجناد له، واستهلكوا في طاعته لما رأوه من كرمه.
ومن أخبار كرمه (1) ما حكاه محمد بن أفلح غلام الحكم قال: دفعت إلى ما لا أطيقه من نفقة في عرس ابنة لي، ولم يبق معي سوى لجام محلى، ولما ضاقت بي الأسباب قصدته بدار الضرب حين كان صاحبها، والدراهم بين يديه موضوعة مطبوعة، فأعلمته ما جئت له، فابتهج بما سمعه مني، وأعطاني من تلك الدراهم وزن اللجام بحديده وسيوره، فملأ حجري، وكنت غير مصدق بما جرى لعظمه، وعملت العرس، وفضلت لي فضلة كثيرة، وأحبه قلبي حتى لو حملني على خلع طاعة مولاي الحكم لفعلت، وكان ذلك في أيام الحكم قبل أن يقتعد (2) ابن أبي عامر الذروة.
وقال غير واحد: إنه صنع يومئذ قصراً من فضة لصبح أم هشام، وحمله على رؤوس الرجال فجلب حبها بذلك، وقامت بأمره عند سيدها الحكم، وحدث الحكم خواصه بذلك، وقال: إن هذا الفتى قد خلب عقول حرمنا بما يتحفهن به، قالوا: وكان الحكم لشدة نظره في عالم الحدثان يتخيل في ابن أبي عامر أنه المذكور في الحدثان، ويقول لأصحابه: أما تنظرون إلى صفرة كفيه ويقول في بعض الأحيان: لو كانت به شجة لقلت إنه هو بلا شك، فقضى الله أن تلك الشجة حصلت للمنصور يوم ضربه غالب بعد موت الحكم بمدة.
قال ابن حيان (3) : وكان بين المصحفي وغالب صاحب مدينة سالم وشيخ الموالي وفارس الأندلس عداوة عظيمة، ومباينة شديدة، ومقاطعة مستحكمة،
__________
(1) عن الذخيرة: 45.
(2) ق: يعتقد.
(3) عن الذخيرة: 46 مع اختلاف في الرواية.(3/88)
وأعجز المصحفي أمره، وضعف عن مباراته، وشكا ذلك إلى الوزراء، فأشاروا عليه بملاطفته واستصلاحه، وشعر بذلك ابن أبي عامر، فأقبل على خدمته، وتجرد لإتمام إرادته، ولم يزل على ذلك حتى خرج الأمر بأن ينهض غالب إلى تقدمة جيش الثغر، وخرج ابن أبي عامر إلى غزوته الثانية، واجتمع به، وتعاقدا على الإيقاع بالمصحفي، وقفل ابن أبي عامر ظافراً غانماً، وبعد صيته، فخرج أمر الخليفة هشام بصرف المصحفي عن المدينة، وكانت في يده يومئذ، وخلع على ابن أبي عامر ولا خبر عند المصحفي، وملك ابن أبي عامر الباب بولايته للشرطة، وأخذ على المصحفي وجوه الحيلة، وخلاه وليس بيده من الأمر إلا أقله، وكان ذلك بإعانة غالب له، وضبط المدينة ضبطاً أنسى به أهل الحضرة من سلف من الكفاة أولي (1) السياسة، وانهمك ابن أبي عامر في صحبة غالب، ففطن المصحفي لتدبير ابن أبي عامر عليه، فكاتب غالباً يستصلحه، وخطب أسماء بنته لابنه عثمان، فأجابه غالب لذلك، وكادت المصاهرة تتم له، وبلغ ابن أبي عامر الأمر، فقامت قيامته، وكاتب غالباً يخوفه الحيلة، ويهيج حقوده، وألقى عليه أهل الدار وكاتبوه فصرفوه عن ذلك، ورجع غالب إلى ابن أبي عامر، فأنكحه البنت المذكورة، وتم له العقد في محرم سنة سبع وستين وثلاثمائة، فأدخل السلطان تلك الابنة إلى قصره، وجهزها إلى محمد بن أبي عامر من قبله، فطهر أمره وعز جانبه، وكثر رجاله، وصار جعفر المصحفي بالنسبة إليه كلا شيء، واستقدم السلطان غالباً، وقلده الحجابة شركة مع جعفر المصحفي، ودخل ابن أبي عامر على ابنته ليلة النيروز، وكانت أعظم ليلة عرس في الأندلس، وأيقن المصحفي بالنكبة وكف عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء من التدبير، وابن أبي عامر يساتره ولا يظاهره، وانفض عنه الناس، وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قرطبة
__________
(1) ق ودوزي: وتولى السياسة، وهو سهو؛ والتصويب عن الذخيرة.(3/89)
ويروح وهو وحده، وليس بيده من الحجابة سوى اسمها، وعوقب المصحفي بإعانته على ولاية هشام، وقتل المغيرة. ثم سخط السلطان على المصحفي وأولاده وأهله وأسبابه وأصحابه، وطولبوا بالأموال، وأخذوا برع الحساب لما تصرفوا فيه، وتوصل ابن أبي عامر بذلك إلى اجتثاث أصولهم وفروعهم، وكان هشام ابن أخي المصحفي قد توصل إلى أن سرق من رؤوس النصارى التي كانت تحمل بين يدي ابن أبي عامر في الغزاة الثالثة ليقدم بها على الحضرة، وغاظه ذلك منه، فبادره بالقتل في المطبق قبل عمه جعفر المصحفي، فلما استقصى ابن أبي عامر مال جعفر حتى باع داره بالرصافة (1) ، وكانت من أعظم قصور قرطبة، واستمرت النكبة عليه سنين (2) مرة يحتبس ومرة يترك ومرة يقر بالحضرة ومرة ينفر عنها، ولا براح له (3) من المطالبة بالمال، ولم يزل على هذا الحكم حتى استصفي، ولم يبق فيه محتمل، واعتقل في المطبق بالزهراء إلى أن هلك، وأخرج إلى أهله ميتاً، وذكر أنه سمه في ماء شربه، قال محمد بن إسماعيل: سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء لنسلم جسد جعفر ابن عثمان إلى أهله بأمر المنصور، وسرنا إلى منزله فكان مغطى بخلق كساء لبعض البوابين ألقاه على سريره، وغسل على فردة باب اختلع من ناحية الدار، وأخرج وما حضر جنازته سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه ومن حضر من ولده، فعجبت من الزمان، انتهى.
وما أحسن صاحب المطمح عن هذه القضية إذ قال (4) : قال محمد بن إسماعيل كاتب المنصور: سرت بأمره لتسليم (5) جسد جعفر إلى أهله وولده،
__________
(1) كذا في ق والذخيرة؛ وجعله دوزي: " فلما قتل استصفى ابن عامر مال جعفر حتى باع ... إلخ ".
(2) كذا في ق والذخيرة، وجعله دوزي: " سنتين ". وهو مستدرك في التعليقات لأن المصحفي أقام في الإذلال والتعذيب خمس سنين.
(3) الذخيرة: ولا يراح.
(4) المطمح: 6.
(5) ق: لتسلم.(3/90)
والحضور على إنزاله في ملحده، فنظرته ولا أثر فيه، وليس عليه شىء يواريه، غير كساء خلق لبعض البوابين، فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل فغسله والله على فردة باب اقتطع من جانب الدار، وأنا أعتبر من تصرف الأقدار، وخرجنا بنعشه إلى قبره وما معنا سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه، وما تجاسر أحد منا للنظر إليه، وإن لي في شأنه لخبراً ما سمع بمثله طالب وعظ، ولا وقع في سمع ولا تصور في لحظ، وقفت (1) له في طريقه من قصره، أيام نهيه وأمره، أروم أن أناوله قصة، كانت به مختصة، فو الله ما تمكنت من الدنو منه بحيلة لكثافة موكبه، وكثرة من حف به، وأخذ الناس السكك عليه وأفواه الطرق داعين، ومارين بين يديه وساعين، حتى ناولت قصتي بعض كتابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القصص، فانصرفت وفي نفسي ما فيها من الشرق بحاله والغصص (2) ، فلم تطل المدة حتى غضب عليه المنصور واعتقله، ونقله معه في الغزوات واحتمله (3) ، واتفق أن نزلت بجليقية إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقود النيران ليخفى على العدو أثره، ولا ينكشف إليه خبره، فرأيت والله عثمان ولده يسفه (4) دقيقاً قد خلطه بماء يقيم به أوده، ويمسك بسببه رمقه، بضعف حال وعدم زاد، وهو يقول (5) :
تعاطيت (6) صرف الحادثات فلم أزل ... أراها توفّي عند موعدها الحرا
فلله أيام مضت بسبيلها ... فإني لا أنسى لها أبداً ذكرا
__________
(1) انظر أيضا الذخيرة 4 / 1: 49.
(2) فانصرفت ... والغصص: سقطت من ق.
(3) ق: وأخمله؛ المطمح: وحمله.
(4) الذخيرة: يسقيه.
(5) انظر أيضا الحلة 1: 265.
(6) المطمح والحلة: تأملت.(3/91)
تجافت بها عنّا الحوادث برهةً ... وأبدت لنا منها الطّلاقة والبشرا
ليالي ما يدري الزمان مكاننا ... ولا نظرت منها حوادثه شزرا
وما هذه الأيام إلاّ سحائبٌ ... على كلّ أرضٍ تمطر الخير والشرّا انتهى.
وأما غالب الناصري فإنه حضر مع ابن أبي عامر في بعض الغزوات، وصعد إلى بعض القلاع، لينظرا في أمرها، فجرت محاورة (1) بين ابن أبي عامر وغالب، فسبه غالب وقال له: ياكلب، أنت الذي أفسدت الدولة، وخربت القلاع، وتحكمت في الدولة، وسل سيفه فضربه، وكان بعض الناس حبس يده، فلم تتم الضربة وشجه، فألقى ابن أبي عامر نفسه من رأس القلعة خوفاً من أن يجهز عليه، فقضى الله تعالى أنه وجد شيئاً في الهوي منعه من الهلاك، فاحتمله أصحابه وعالجوه حتى برىء، ولحق غالب بالنصارى، فجيش بهم، وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام، فحكمت الأقدار بهلاك غالب وتم لابن أبي عامر ما جد له، وتخلصت دولته من الشوائب.
قالوا (2) : ولما وقعت وحشة بين ابن أبي عامر والمؤيد، وكان سببها تضريب الحساد فيما بينهما، وعلم أنه ما دهي إلا من جانب حاشية القصر، فرقهم ومزقهم، ولم يدع فيه منهم إلا من وثق به أو عجز عنه، ثم ذكر له أن الحرم (3) قد انبسطت أيديهن في الأموال المختزنة بالقصر، وما كانت السيدة صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر، وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة فيها الذهب والفضة، وموهت ذلك كله بالمري (4) والشهد وغيره
__________
(1) محاورة: سقطت من ق.
(2) عاد إلى تلخيص كلام ابن حيان الذي أورده صاحب الذخيرة 4 / 1: 52 - 56.
(3) ق ودوزي: الخدم.
(4) في الذخيرة: بالمربى؛ والمري - بتشديد الراء - والعامة تخففها وباللاتينية: (Muria) أنواع من مستحضرات تتخذ في صنع الأطعمة منها المري النقيع والطيب ومري الخبز ومري الحوت وبعض أنواعه يصنع من عصير الخنب بالأفاويه دون خبز محرق، والعامة تصنعه من العسل المحرق والخبز المحرق وغيرهما. ويقول دوزي إنه مركب يصنع من الدقيق والملح والعسل والتمر وأشياء أخرى. ويقول ابن البيطار إن نوعا منه يعمل من السمك المالح واللحوم المالحة وينقل عن الجاحظ قوله " المري هو جوهر الطعام وروح البارد المستظرف والحار المستنظف ... " (انظر قاموس دوزي " مادة مري " ومفردات ابن البيطار 4: 149 - 150 وكتاب الطبيخ: 82 ومواضع أخرى منه) .(3/92)
والأصباغ المتخذة بقصر الخلافة، وكتبت على رؤوس الكيزان أسماء ذلك، ومرت على صاحب المدينة، فما شك في أنه ليس إلا ما هو عليها، وكان مبلغ ما حملت فيها من الذهب ثمانين ألف دينار، فأحضر ابن أبي عامر جماعة أعلمهم أن الخليفة مشغول عن حفظ الأموال بانهماكه في العبادة، وأن في إضاعتها آفة على المسلمين، وأشار بنقلها إلى حيث يؤمن عليها فيه، فحمل منها خمسة آلاف ألف دينار عن قيمة ورق وسبعمائة ألف دينار، وكانت صبح قد دافعت عما بالقصر من الأموال، ولم تمكن من إخراجها، فاجتمع ابن أبي عامر بالخليفة هشام، واعترف له بالفضل والغناء في حفظ قواعد الدولة، فخرست ألسنة الأعداء والحسدة، وعلم المنصور ما في نفوس الناس لظهور هشام ورؤيتهم له، إذ كان منهم من لم يره قط، فأبرزه للناس وركب الركبة المشهورة، واجتمع لذلك من الخلق ما لا يحصى، وكانت عليه الطويلة (1) والقضيب في يده زي الخلاقة، والمنصور يسايره.
ثم خرج المنصور لآخر غزواته، وقد مرض المرض الذي مات فيه، وواصل شن الغارات، وقويت عليه العلة، فاتخذ له سرير خشب ووطىء عليه ما يقعد عليه، وجعلت عليه ستارة، وكان يحمل على أعناق الرجال والعساكر تحف به، وكان هجر الأطباء قي تلك العلة لاختلافهم فيها، وأيقن بالموت، وكان يقول: إن زمامي يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما أصبح
__________
(1) الطويلة: هي القلنسوة.(3/93)
فيهم أسوأ حالة مني - ولعله يعني من حضر تلك الغزاة، وإلا فعساكر الأندلس ذلك الزمان أكثر من ذلك العدد - واشتغل ذهنه بأمر قرطبة وهو في مدينة سالم، فلما أيقن بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته وخلا بولده وكان يكرر وصاته، وكلما أراد أن ينصرف يرده، وعبد الملك يبكي، وهو ينكر عليه بكاءه ويقول: وهذا من أول العجز، وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر.
وخرج عبد الملك إلى قرطبة ومعه القاضي ابن ذ كوان، فدخلها أول شوال، وسكن الإرجاف بموت والده، وعرف الخليفة كيف تركه.
ووجد المنصور خفة فأحضر جماعة بين يديه، وهو كالخيال لا يبين الكلام، وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلم المودع، وخرجوا من عنده، فكان آخر العهد به ومات لثلاث بقين من شهر رمضان، وأوصى أن يدفن حيث يقبض، فدفن في قصره بمدينة سالم. واضطرب العسكر، وتلوم ولده أياماً، وفارقه بعض العسكر إلى هشام، وقفل هو إلى قرطبة فيمن بقي معه، ولبس فتيان (1) المنصور المسوح والأكسية بعد الوشي والحبر والخز.
وقام ولده عبد الملك المظفر بالأمر، وأجراه هشام الخليفة على عادة أبيه، وخلع عليه، وكتب له السجل بولاية الحجابة، وكان الفتيان قد اضطربوا فقوم المائل، وأصلح الفاسد، وجرت الأمور على السداد، وانشرحت الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد، فكان أسعد مولود ولد في الأندلس.
ولنمسك عنان القلم في أمر ابن أبي عامر، فقد قدمنا في محله جملة من أحواله، وما ذكرناه هنا وإن كان محله ما سبق وبعضه قد تكرر معه فهو لا يخلو من فوائد زوائد، والله تعالى ولي التوفيق.
__________
(1) ق ودوزي: قيان.(3/94)
رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي:
حكي (1) أنه دخل على المنصور يوم عيد، وعليه ثياب جدد وخف جديد، فمشى على حافة البركة لازدحام الحاضرين في الصحن، فزلق فسقط في الماء، فضحك المنصور، وأمر بإخراجه، وقد كاد البرد أن يأتي عليه، فخلع عليه، وأدنى مجلسه، وقال له: هل حضرك شيء فقال:
شيئان كانا في الزّمان عجيبة ... ضرط ابن وهب ثمّ وقعة (2) صاعد فاستبرد ما أتى به فقال أبو مروان الكاتب الجزيري: هلا قلت:
سروري بغرّتك المشرقه ... وديمة راحتك المغدقه
ثناني نشوان حتى غرق ... ت في لجة البركة المطبقه
لئن ظلّ عبدك فيها الغريق ... فجودك من قبلها أغرقه فقال له المنصور: لله درك يا أبا مروان، قسناك بأهل بغداد ففضلتهم، فبمن نقيسك بعد انتهى. وقال في الذخيرة في ترجمة صاعد (3) : وفد على المنصور نجماً من المشرق غرب، ولساناً عن العرب، وأراد المنصور أن يعفي به آثار أبي علي القالي فألفى سيفه كهاماً، وسحابه جهاماً، من رجل يتكلم بملء فيه، ولا يوثق بكل ما يذره، ولا ما يأتيه، انتهى باختصار.
وأصل صاعد من ديار الموصل، وقال ارتجالاً وقد عبث المنصور بترنجان:
لم أدر قبل ترنجانٍ عبثت به ... أن الزمرد أغصانٌ وأوراق
__________
(1) انظر الذخيرة 4 / 1: 23.
(2) الذخيرة: زلقة.
(3) الذخيرة 4 / 1؛ وبدائع البدائه 2: 31.(3/95)
من طيبه الأترجّ نكهته ... يا قوم حتى من الأشجار سرّاق
كأنّما الحاجب المنصور علّمه ... فعل الجميل فطابت منه أخلاق وقدمه الحجازي بقوله:
كأن إبريقنا والرّاح في فمه ... طيرٌ تناول ياقوتاً بمنقار وقبله:
وقهوة من فم الإبريق صافية ... كدمع مفجوعة بالإلف معبار (1) وقال في بدائع البدائه (2) : دخل صاعد اللغوي على بعض أصحابه في مجلس شراب، فملأ الساقي قدحاً من إبريق، فبقيت على فم الإبريق نقطة من الراح قد تكونت ولم تقطر، فاقترح عليه الحاضرون وصف ذلك فقال:
وقهوة من فم الإبريق ساكبة ... البيتين.
ثم قال بعدهما: وإنما اهتدم صاعد قول الشريف أبي البركات علي بن الحسين العلوي (1) :
كأنّ ريح الروض لمّا أتت ... فتت علينا مسك عطّار
كأنّما إبريقنا طائر ... يحمل ياقوتاً بمنقار انتهى.
__________
(1) ق: مغيار.
(2) بدائع البدائه 2: 32.
(1) ق: مغيار.(3/96)
ومن نظم صاعد:
قلت له والرقيب يعجله ... مودعاً للفراق: أين أنا
فمدّ كفاً إلى ترائبه ... وقال: سر وداعاً فأنت هنا وقال صاعد، لما أمر المنصور بن أبي عامر بمعارضة قصيدة لأبي نواس:
إنّي لأستحيي علا ... ك من ارتجال القول فيه
من ليس يدرك (1) بالرويّ ... ة كيف يدرك بالبديه وقال حاشد البغدادي في صاعد اللغوي، وكان صاعد ينشدهما ويبكي ويقول: ما هجيت بشيء أشد علي منهما:
اقبل هديت أبا العلاء نصيحتي ... بقبولها وبواجب الشكر
لا تهجونّ أسنّ منك فربما ... تهجو أباك وأنت لا تدري نعوذ بالله من لسان الشعراء، وأنواع البلاء، بجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن نظم صاعد قوله (2) :
بعثت إليك من خيريّ روضٍ ... محرّمة (3) كأوراق العقيق
توكل بالغروب (4) عن التصابي ... وتصطاد الخليع من الطريق وروى صاعد عن أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي، وأبي علي
__________
(1) ق: يحسن.
(2) الذخيرة 4 / 1: 12.
(3) كذا في ق وأصل الذخيرة وجعلها دوزي: " محزمة ".
(4) كذا ولعل الصواب: بالعزوف، أي العازف عن التصابي، كما ثبت في الذخيرة.(3/97)
الحسن بن أحمد الفارسي، وأبي بكر ابن مالك القطيعي، وأبي سليمان الخطابي، وغيرهم.
قال الحميدي (1) : خرج من الأندلس في الفتنة وقصد صقلية، فمات بها قريباً من سنة عشر وأربعمائة.
وقال ابن حزم (2) : توفي بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائة.
وقال ابن بشكوال في حقه: إنه يتهم بالكذب وقلة الصدق فيما يورده، عفا الله تعالى عنه؛ وقدم الأندلس من مصر أيام المؤيد وتحكم المنصور بن أبي عامر في حدود سنة 380، فأكرمه المنصور، وزاد في الإحسان إليه، والإفضال عليه، وكان عالماُ باللغة والآداب والأخبار، سريع الجواب، حسن الشعر، طيب المعاشرة، فكه المجالسة.
وقال بعضهم (3) : دخل صاعد على المنصور وعنده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض الجهات اسمه مبرمان (4) بن يزيد يذكر فيه القلب والتزبيل، وهما عندهم اسم الأرض قبل زراعتها (5) ، فقال له: يا أبا العلاء، قال: لبيك يا مولانا، فقال: هل رأيت أو وصل إليك من الكتب القوالبة والزوالبة لمبرمان ابن يزيد قال: إي والله ببغداد في نسخة لأبي بكر ابن دريد بخط ككراع النمل، في جوانبها [علامات الوضاع] (6) فقال له: أما تستحي أبا العلاء من هذا الكذب هذا كتاب عاملي ببلد كذا واسمه كذا يذكر فيه كذا، فجعل يحلف له أنه ما كذب، ولكنه أمر وافق. ومات عن سن عالية، رحمه الله تعالى.
__________
(1) الجذوة: 227.
(2) نقله أيضا ابن بشكوال في ترجمة صاعد ص: 232.
(3) راجع الجذوة: 224 والذخيرة 4 / 1: 20.
(4) في الذخيرة: ميدمان.
(5) الحميدي: وهما عندهم من معاناة الأرض قبل زراعتها.
(6) زيادة من الجذوة والذخيرة.(3/98)
60 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق الشيخ تاج الدين بن حمويه السرخسي (1) ، ولد سنة 572، وقد ذكر في رحلته عجائب شاهدها بالمغرب ومشايخ لقيهم، فمنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري، قال: سمعت عليه سنة سبع وتسعين وخمسمائة الحديث وشيئاً من تصانيف المغاربة، وروى لنا عن الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف ابن إبراهيم بن قرقول، وولي ابن حوط الله المذكور قضاء غرناطة، وأدرك ابن بشكوال وابن حبيش وابن حميد المرسي النحوي وأبا يزيد السهلي صاحب الروض وغيرهم. ومن الشيوخ الذين لقيهم السرخسي المذكور بالمغرب (2) الفقيه ابن أبي تميم، قال: وأنشدني:
اسمع أخيّ نصيحتي ... والنصح من محض الديانه
لا تقربنّ إلى الشّها ... دة والوساطة والأمانه
تسلم من أن تعزى لزو ... رٍ أو فضولٍ أوخيانه وذكر أنه أدرك الشيخ الولي العارف بالله سيدي أبا العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي صاحب الحالات والكرامات الظاهرة والطريقة الغربية والأحوال العجبية، قال: أدركته بمراكش سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقد ناهز الثمانين، ومهما حصل عنده مال فرقه في الحال، وتركته في سنة ثمان وتسعين حياً يرزق، انتهى. وولي الله السبتي قد ذكرت في غير هذا الموضع بعض أحواله، فلتراجع في الباب الثامن من ترجمة لسان الدين ابن الخطيب، ومحله مقصود
__________
(1) هو أبو أحمد عبد الله عمر بن محمد بن حمويه تاج الدين شيخ الشيوخ (- 642) كان مفتنا في العلوم عارفا بالأصلين والفروع والترسل والتواريخ والهندسة والطب، وله كتاب المؤنس في أصول الأشياء، وأمال وتواريخ كثيرة، بقي في المغرب بعد وفاة يعقوب المنصور، وعاد إلى الشام سنة 600 وحج سنة 604، وكان نزها عفيفا شريف النفس. (راجع ترجمته في مرآة الزمان: 748 - 749 وذيل أبي شامة: 174 والشذرات: 5: 214) .
(2) الروض ... بالمغرب: سقطت هذه العبارة من ق.(3/99)
لقضاء الحاجات، وقد زرته مراراً عديدة سنة 1010.
وقال لسان الدين في " نفاضة الجراب ": كتبت عن السلطان الغني بالله محمد بن يوسف بن نصر ونحن بفاس يخاطب الضريح المقصود، والمنهل المورود، والمرعى المنتجع، والخوان الذي يكفي الغرثى، ويمرض المرضى، ويقوت الزمنى، ويتعداهم إلى أهل الجدة زعموا والغنى، قبر ولي الله سيدي أبي العباس السبتي نفعنا الله به، وجبر حالنا، وأعاد علينا النعم، ودفع عنا النقم:
يا وليّ الإله أنت جوادٌ ... وقصدنا إلى حماك المنيع
راعنا الدّهر بالخطوب فجئنا ... نرتجي من علاك حسن الصّنيع
فمددنا لك الأكفّ نرجّي ... عودة العزّ تحت شملٍ جميع
قد جعلنا وسيلةً تربك الزا ... كي وزلفى إلى العليم السميع
كم غريبٍ أسرى إليك فوافى ... برضىً عاجلٍ وخيرٍ سريع يا ولي الله جعل جاهه سبباً لقضاء الحاجات، ورفع الأزمات، وتصريفه باقياً بعد الممات، وصدق نقول الحكايات ظهور الآيات، نفعني الله بنيتي في بركة تربك، وأظهر علي أثر توسلي بك إلى الله ربك، مزق شملي، وفرق بيني وبين أهلي، وتعدي علي، وصرفت وجوه المكايد إلي، حتى أخرجت من وطني وبلدي، ومالي وولدي، ومحل جهادي، وحقي الذي صار لي طوعاً عن آبائي وأجدادي، عن بيعة لم يحل عقدتها الدين، ولا ثبوت جرحة تشين، وأنا قد قرعت باب الله سبحانه بتأميلك، فالتمس لي قبوله بقبولك، وردني إلى وطني على أفضل حال، وأظهر علي كرامتك التي تشد إليها ظهور الرحال، فقد جعلت وسيلتي إليك رسول الحق، إلى جميع الخلق، والسلام عليك أيها الولي الكريم، الذي يأمن به الخائف وينتصف الغريم، ورحمه الله، انتهى.
رجع - والسرخسي المذكور قال في حقه بعض الأئمة: إنه الشيخ الإمام(3/100)
شيخ الشيوخ، تاج الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه، له رحلة مغربية، انتهى.
وهو من بيت كبير، وقال البدري في تاريخه في حقه ما صورته: تاج الدين، شيخ الشيوخ بدمشق، أحد الفضلاء المؤرخين المصنفين، له كتاب في ثماني مجلدات ذكر فيه أصول الأشياء، وله " السياسة الملوكية " صنفها للملك الكامل محمد، وغير ذلك، وسمع الحديث، وحفظ القرآن، وكان قد بلغ الثمانين، وقيل: لم يبلغها، وقد سافر إلى بلاد المغرب سنة ثلاث وتسعين، واتصل بمراكش، عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، فأقام هناك إلى سنة ستمائة، وقدم مصر، وولي مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين ابن حمويه، انتهى.
وقال غيره: إنه كان فاضلاً متواضعاً نزهاً حسن الاعتقاد، قال أبو المظفر: كان يحضر مجالسي، وأنشدني يوماً:
لم ألق مستكبراً إلا تحوّل لي ... عند اللقاء له الكبر الذي فيه
ولا حلا لي من الدنّيا ولذّتها ... إلاّ مقابلتي للتيه بالتيه وقال السرخسي المذكور في رحلته: إني وإن كنت خراساني الطينة، لكني شامي المدينة، وإ، كانت العمومة من المشرق، فإن الخؤولة من المغرب، فحدث باعث يدعو إلى الحركات والأسفار، ومشاهدة الغرائب في النواحي والأقطار، وذلك في حال ريعان الشباب الذي تعضده عزائم النفوس بنشاطها، والجوارح بخفة حركاتها وانبساطها، فخرجت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة إلى زيارة البيت المقدس وتجديد العهد ببركاته، واغتنام الأجر في حلول بقاعه ومزاراته، ثم سرت منه إلى الديار المصرية، وهي آهلة بكل ما تتجمل به البلاد وتزدهي، وينتهي وصف الواصف لشؤونها ولا تنتهي، ثم دخلت الغرب من الإسكندرية في البحر ودخلت مدينة مراكش أيام السيد الإمام أمير المؤمنين(3/101)
أبي يوسف يعقوب المنصور ابن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، فاتصلت بخدمته، والذي علمت من حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن، ويحفظ متون الأحاديث ويتقنها، ويتكلم في الفقه كلاماً بليغاً، وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوى، وله فتاوى مجموعة حسبما أدى إليه اجتهاده، وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر، وقد شرحت أحوال سيرته، وما جرى في أيام دولته، في كتاب التاريخ المسمى " عطف الذيل ". وقد صنف كتاباً يجمع فيه متون أحاديثٍ صحاح تتعلق بالعبادات سماه " الترغيب ". وتهدده ملك الإفرنج الفنش في كتابه فمزقه، وقال لرسوله: " ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنودٍ لا قبل لهم بها، ولنخرجنّهم منها أذلّة وهم صاغرون " إن شاء الله تعالى، ثم قال للكاتب: اكتب على هذه القطعة، يعني من كتابه الذي مزقه: الجواب ما ترى لا ما تسمع:
فلا كتب إلا المشرفّية والقنا ... ولا رسلٌ إلا الخميس العرمرم (1) ومن شعره أبيات كتب بها إلى العرب، وهي:
يا أيها الراكب المزجي مطيّته ... على عذافرة تشقى بها الأكم
بلّغ سليماً على بعد الديار بها ... بيني وبينكم الرحمن والرّحم
يا قومنا لا تشبّوا الحرب إن خمدت ... واستمسكوا بعرى الإيمان واعتصموا
كم جرّب الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون فبادت دونها الأمم
حاشا الأعارب أن ترضى بمنقصةٍ ... يا ليت شعري هل ترآهم علموا
يقودهم أرمنيٌّ لا خلاق له ... كأنه بينهم من جهلهم علم يعني بالأرمني قراقوش مملوك بني أيوب الذي كان ذهب إلى بلاد الغرب
__________
(1) ورد هذا الجواب ي الحلل الموشية: 30 ولكنه منسوب هناك ليوسف بن تاشفين وكذلك قال ابن عبد الغفور في أحكام صنعة الكلام ص: 164؛ والبيت للمتنبي.(3/102)
الأدنى، وأوقد النار الحربية من طرابلس إلى تونس مع ابن غانية اللمتوني، وحديثه مشهور (1) ، وتمام الأبيات:
الله يعلم أنّي ما دعوتكم ... دعاء ذي قوّةٍ يوماً فينتقم
ولا لجأت لأمرٍ يستعان به ... من الأمور وهذا الخلق قد علموا
لكن لأجزي رسول الله عن نسبٍ ... ينمى إليه وترعى تلكم الذّمم
فإن أتيتم فحبل الوصل متصلٌ ... وإن أبيتم فعند السيف نحتكم ثم قال السرخسي: وبلغني أن قوماً من الغرباء قصدوه، ومعهم حيوانات معلمة منها أسد وغراب، أما الأسد فيقصده من دون أهل المجلس، ويربض بين يديه، وربما أومأ بالسجود ومد ذراعيه، وأما الغراب فكان يقول: النصر والتمكين لسيدنا أمير المؤمنين، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
أنس الشبل ابتهاجاً بالأسد ... ورأى شبه أبيه فقصد
أنطق الخالق مخلوقاته ... شهدوا والكلّ بالحقّ شهد
أنّك الخيرة من صفوته ... بعدما طال على الناس الأمد فأعطاهم وكساهم، وأحسن حباهم.
وبلغني أن قوماً أتوه بفيلٍ من بلاد السودان هدية، فأمر لهم بصلة، ولم يقبله منهم، وقال: نحن لا نريد أن نكون أصحاب الفيل.
وقال لي يوماً: كيف ترى هذه البلاد وأين هي من بلادك الشامية فقلت: يا سيدنا، بلادكم (2) حسنة أنيقة مجملة مكملة، وفيها عيب واحد، فقال: ما هو فقلت: أنها تنسي الأوطان، فتبسم وظهر لي إعجابه
__________
(1) تجد تفصيلا لأعمال قراقوش وابن غانية في رحلة التجاني وتاريخ ابن الأثير وابن خلدون (الجزء السادس) والبيان المغرب (الجزء الثالث) وراجع كتابي " تاريخ ليبيا ": 157 - 194.
(2) ق: بلاد.(3/103)
بالجواب، وأمر لي من غد بزيادة رتبة وإحسان.
وحدثني بعض عمالهم أنه فرق على الجند والأمراء والفقراء في عيد سنة أربع وتسعين ثلاثة وسبعين ألف شاة من ضأن ومعز.
ودرج إلى رحمة الله تعالى سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وكان قد استخلف ولده محمداً وقرر الأمر له، انتهى.
قلت: بهذا وأمثاله تعلم فساد ما زعمه غير واحد أن يعقوب المنصور هذا تخلى عن الملك، وفر زاهداً فيه إلى المشرق، وأنه دفن بالبقاع، لأن هذه مقالة عامية لا يثبتها علماء المغرب، وسبب هذه المقالة تولع العامة به، فكذبوا في موته، وقالوا: إنه ترك الملك، وحكوا ما شاع إلى الآن وذاع مما ليس له أصل. ويرحم الله تعالى الإمام العلامة القاضي الشريف الغرناطي شارح الخزرجية، إذ قال في شرح مقصورة حازم عند ذكره وقعة الأرك ما معناه (1) : إن بعض الناس يزعمون أن المنصور ترك الملك وذهب إلى المشرق، وهذا كلام لا يصح، ولا أصل له. انتهى. وقال في " المغرب ": كان أبوه يوسف قد استوزره في حياته، وتخرج بين يديه، وتمرس، وهزم الفرنج الهزيمة العظيمة، وتولع بالعلم حتى نفى التقليد وحرق كتب المذاهب، وقتل على السكر، انتهى.
وحكى لسان الدين الوزير ابن الخطيب في شرح كتابه " رقم الحلل في نظم الدول " أن المنصور طلب من بعض أعيان دولته رجلين لتأديب ولده يكون أحدهما براً في عمله، والآخر بحراً في علمه، فجاءه بشخصين زعم أنهما على وفق مقترح المنصور، فلما اختبرهما لم يجدهما كما وصف، فكتب إلى الآتي بهما " ظهر الفساد في البر والبحر "، انتهى. وناهيك
__________
(1) نص ما أورده الشريف الغرناطي (رفع الحجب: 2: 155) " وكذب الكافة من العامة بوفاته فآونة يجعلونه يرابط ببلاد الأندلس مستكتما بها، وتارة يقولون إنه خرج زاهدا في الملك فتوجه نحو بيت الله وجاور في المدينة عند قبر رسول الله (ص) حيث يخفي أمره، ولهم في ذلك حكايات يقولونها إلى الآن، كلها تخرص وأباطيل "، وانظر البيان المغرب 3: 211 (ط. تطوان) .(3/104)
بهذا دلالةً على قوة فطنته ومعرفته، رحمه الله تعالى.
رجع إلى أخبار السرخسي:
وقال في رحلته لما ذكر السيد أبا الربيع سليمان بن عبد الله أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي (1) ، وكان في تلك المدة يلي مدينة سجلماسة وأعمالها: اجتمعت به حين قدم إلى مراكش بعد وفاة المنصور يعقوب لمبايعة ولده محمد، فرأيته شيخاً بهي المنظر، حسن المخبر، فصيح العبارة باللغتين العربية والبربرية، ومن كلامه في جواب رسالة إلى ملك السودان بغانة ينكر عليه تعويق التجار قوله: نحن نتجاور بالإحسان، وإن تخالفنا في الأديان، ونتفق على السيرة المرضية، ونتألف على الرفق بالرعية، ومعلوم أن العدل من لوازم الملوك في حكم السياسة الفاضلة، والجور لا تعانيه إلا النفوس الشريرة الجاهلة، وقد بلغنا احتباس مساكين التجار ومنعهم من التصرف فيما هم بصدده، وتردد الجلابة إلى البلد مفيد لسكانها، ومعين على التمكن من استيطانها، ولو شئنا لاحتبسنا من في جهاتنا من أهل تلك الناحية لكنا لا نستصوب فعله، ولا ينبغي لنا أن ننهى عن خلق ونأتي مثله، والسلام.
ووقع إلى عامل له كثرت الشكاوى منه: قد كثرت فيك الأقوال، وإغضائي عنك رجاء أن تتيقظ فتنصلح الحال، وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك نسبة إلى شر الاختيار وعدم الاختبار، فاحذر فإنك على شفا جرف هار.
ومن شعره المشهور قصيدة يمدح فيها ابن عمه المنصور يعقوب (2) :
__________
(1) أبو الربيع الموحدي سليمان بن عبد الله (- 604) ، ولي بجاية، وشارك في بعض الأعمال الحربية ضد ابن غانية بتونس؛ وقال الشقندي فيه إنه من مفاخر بني عبد المؤمن، كان قديرا على النظم حافظا للآداب، وله ديوان شعر (انظر الغصون اليانعة: 131 - 134) ويبدو أن قسما من هذا الشعر قد نحله إياه أحد كتابه (المعجب: 378) .
(2) هي في ديوانه ص 20 (ومخطوطة الرباط من ديوانه: الورقة 157) قالها يهنئ الخليفة أبا يوسف بفتح قفصة سنة 583.(3/105)
هبّت بنصركم الرياح الأربع ... وجرت بسعدكم النجوم الطّلّع
واستبشر الفلك الأثير تيقناً ... أن الأمور إلى مرادك ترجع
وأمدّك الرحمن بالفتح الذي ... ملأ البسيطة نوره المتشعشع
لم لا وأنت بذلت في مرضاته ... نفساً تفدّيها الخلائق أجمع
ومضيت في نصر الإله مصمّماً ... بعزيمةٍ كالسيف بل هي أقطع
لله جيشك والصوارم تنتضى ... والخيل تجري والأسنّة تلمع
من كلّ من تقوى الإله سلاحه ... ما إن له غير التوكّل مفزع
لا يسلمون إلى النوازل جارهم ... يوماً إذا أضحى الجوار يضيّع ومنها يصف انهزام العدو:
إن ظنّ أن فراره منجٍ له ... فبجهله قد ظنّ ما لا ينفع
أين المفرّ ولا فرار لهاربٍ ... والأرض تنشر في يديك وتجمع
أخلفية الله الرضى هنّيته ... فتحٌ يمدّ بما سواه (1) ويشفع
فلقد كسوت الدين عزّاً شامخاً ... ولبست منه أنت ما لا يخلع
هيهات سرّ الله أودع فيكم ... والله يعطي من يشاء ويمنع
لكم الهدى لا يدّعيه سواكم ... ومن ادعاه يقول ما لا يسمع
إن قيل من خير الخلائق كلّها ... فإليك يا يعقوب تومي الإصبع
إن كنت تتلو السابقين فإنّما ... أنت المقدّم والخلائق تبّع
خذها أمير المؤمنين مديحةً ... من قلب صدقٍ لم يشنه تصنّع
واسلم أمير المؤمنين لأمةٍ ... أنت الملاذ لها وأنت المفزع
فالمدح منّي في علاك طبيعةٌ ... والمدح من غيري إليك تطبّع
وعليك يا علم الهداة تحيةٌ ... يفنى الزمان وعرفها يتضوّع
__________
(1) الديوان: بمثله.(3/106)
قال لي الفقيه أبو عبد الله محمد القسطلاني: دخلت إلى السيد أبي الربيع بقصرسجلماسة، وبين يديه أنطاع عليها رؤوس الخوارج الذين قطعوا الطريق على السفار بين سجلماسة وغانة، وهو ينكت الأرض بقضيب من الآبنوس، ويقول:
ولا غرو أن كانت رؤوس عداته ... جواباً إذا كان السيوف رسائله ومات بعد الستمائة، رحمه الله تعالى، انتهى.
وقال لما هجره أمير المؤمنين يعقوب المنصور، ووافق ذلك أن وفد على حضرة الخلافة مراكش جمع من العرب والغز (1) من بلاد المشرق، ونزلوا بتمرتانسقت ظاهر مراكش، واستأذنوا في وقت الدخول، فكتب إلى المنصور (2) :
يا كعبة الجود التي حجّت لها ... عرب الشآم وغزّها والدّيلم
طوبى لمن أمسى يطوف بها غداً ... ويحلّ بالبيت الحرام ويحرم
ومن العجائب أن يفوز بنظرةٍ ... من بالشآم ومن بمكّة يحرم فعفا عنه، وأحسن إليه، وأمره بالدخول بهم، والتقدم عليهم.
وقال في " المغرب " في حق السيد أبي الربيع المذكور، ما ملخصه (3) : لم يكن في بني عبد المؤمن مثله في هذا الشأن الذي نحن بصدده، وكان تقدم على مملكتي سجلماسة وبجاية، وكان كاتباً شاعراً أديباً ماهراً، وشعره مدون، وله ألغاز،
__________
(1) الغز: فريق من الجيش الذي كان يلتف حول شرف الدين قراقوش وفيه عناصر تركية في الأغلب وردوا المغرب حوالي 582 أو التي بعدها، فأكرمهم الخليفة الموحدي وجعل لهم جامكية شهرية لا تختل (انظر المعجب: 365 - 367) حين رتبهم في جيشه، وقد نوه المنصور بالغز في وصيته حين قال: " وهؤلاء الأغزاز أمرنا لهم بهذه البركة يأخذونها فاتركوها على ما رتبنا وربطنا لأن الموحدين لهم سهام يرجعون إليها وليس للأغزاز سهام " (البيان 3: 208 " ط. تطوان) .
(2) لم ترد في ديوانه: 144.
(3) لم ترد هذه الترجمة في المغرب.(3/107)
وهو القائل في جارية اسمها ألوف (1) :
خليليّ قولا أين قلبي ومن به ... وكيف بقاء المرء من بعد قلبه
ولو شئتما إسم الذي قد هويته ... لصحّفتما أمري لكم بعد قلبه (2) وله الأبيات المشهورة التي منها (3) :
أقول لركب أدلجوا بسحيرة ... قفوا ساعة حتى أزور ركابها
وأملأ عيني من محاسن وجهها ... وأشكو إليها أن طالت عتابها
فإن هي جادت بالوصال وأنعمت ... وإلا فحسبي أن رأيت قبابها وقال يخاطب ابن عمه يعقوب المنصور (4) :
فلأملأن الخافقين بذكركم ... ما دمت حيّاً ناظماً ومرسّلاً
ولأبذلن نصحي لكم جهدي وذا ... جهد المقلّ وما عسى أن أفعلا
ولأخلصنّ لك الدعاء، وما أنا ... أهلٌ له، ولعلّه أن يقبلا وله مختصر كتاب " الأغاني " انتهى.
رجع - وذكر السرخسي أيضاً في رحلته السد أبا الحسن علي بن عمر ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن، وقال في حقه: إنه كان من أهل الأدب والطرب، ولي بجاية مدة، ثم عزل عنها لإهماله وإغفاله وانهماكه في ملاذه، أنشدني محمد ابن سعيد المهدوي كاتبه قال: كتب الأمير أبو الحسن إلى أمير المؤمنين يعقوب يمدحه ويستزيده، ويطلب منه ما يقضي به ديونه:
__________
(1) الديوان: 117.
(2) أمره هو الفعل " قولا " في البيت الأول، وتصحيفه بعد قلبه هو " ألوف ".
(3) الديوان: 49.
(4) الديوان: 39.(3/108)
وجوه الأماني بكم مسفره ... وضاحكةٌ لي مستبشره
ولي أملٌ فيكم صادقٌ ... قريبٌ عسى الله قد يسّره
عليّ ديون وتصحيفها ... وعندكم الجود والمغفره يعني ذنوب.
وحدثني الشيخ أبو الحسن ابن فشتال (1) الكاتب وقد أنشدته:
أوحشتني ولو اطّلعت على الذي ... لك في ضميري لم تكن لي موحشا فقال: أنشدته هذا البيت في مجلس السيد أبي الحسن، فقال ولمن حضر: هل تعرفون لهذا البيت ثانياً فما فينا من عرفه، فأنشدنا:
أترى رشيت على اطّراح مودتي ... ولقد عهدتك ليس تثنيك الرّشا أوحشتني - البيت، انتهى.
وقال في " المغرب " في حق السيد المذكور، ما ملخصه: كان هذا السيد أبو الحسن قد ولي مملكة تلمسان وبجاية، وله حكايات في الجود برمكية، ونفس عالية زكية، كتب إليه السيد أبو الربيع يوم جمعة (2) :
اليوم يوم الجمعة ... يوم سرورٍ ودعه
وشملنا مفترقٌ ... فهل ترى أن نجمعه فأجابه بقوله:
اليوم يوم الجمعة ... وربّنا قد رفعه
والشرب فيه بدعةٌ ... فهل ترى أن ندعه
__________
(1) ق: قشتال.
(2) ديوان أبي الربيع: 137.(3/109)
قال: ولفظة " السيد " في المغرب بذلك العصر لا تطلق إلا على بني عبد المؤمن بن علي، انتهى.
رجع - قال السرخسي، وقد ذكر في الرحلة المذكورة السيد أبا محمد عبد الله صاحب فاس: وله من أبيات في الفخر وقد انتحلها غيره:
ألست ابن من تخشى الليالي انتقامهم ... وترجو نداهم غاديات السحائب
يخطّون بالخطّيّ في حومة الوغى ... سطور المنايا في نحور المقانب
كتاباً بأطراف العوالي ونقسه ... دم القلب مشكولاً بنضج الترائب
وما كنت أدري قبلهم أنّ معشراً ... أقاموا كتاباً من نفوس الكتائب وأنشدني المقدم الأمير أبو زيد بن يكيت قال: أنشدني بعض السادة من بني عبد المؤمن:
فديت من أصبحت في أسره ... وليس لي من حكمه فادي
إن حلّ يوماً وادياً كان لي ... جنّة عدن ذلك الوادي ثم ذكر رحمه الله تعالى جملة من علماء الأندلس والمغرب لقيهم في هذه الرحلة.
ومن نظم السرخسي المذكور قوله رحمه الله تعالى:
يا ساهر المقلة لاعن كرىً ... غفلت عن هجعي وأوصابي
لو لم يكن وجهك لي قبلةً ... ما أصبح الحاجب محرابي وكان متفنناً في العلوم، وهو عم الأمراء الوزراء الرؤساء فخر الدين وإخوته، ومن مصنفاته " المسالك والممالك " و " عطف الذيل " في التاريخ، وله أمالٍ وتخاريج وقدمه المنصور صاحب المغرب على جماعة، وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق، ودفن في مقابر الصوفية عند المنيبع، وكان عالي الهمة(3/110)
شريف النفس، قليل الطمع، لا يلتفت إلى أحد رغبة قي دنياه، لا من أهله ولا من غيرهم، وذكره صاحب " المرآة " وغيره، وترجمته واسعة، رحمه الله تعالى.
61 - ومن الوافدين على الأندلس ظفر البغدادي (1) ، سكن قرطبة، وكان من رؤساء الوراقين المعروفين بالضبط وحسن الخط كعباس بن عمرو الصقلي ويوسف البلوطي وطبقتهما، واستخدمه الحكم المستنصر بالله في الوراقة، لما علم من شدة اعتناء الحكم بجمع الكتب واقتنائها، وقد أشار ابن حيان في كتاب " المقتبس " إلى ظفر هذا، رحمه الله تعالى.
62 - ومنهم الرازي، وهو محمد بن موسى بن بشير بن جناد بن لقيط، الكناني، الرازي (2) ، والد أبي بكر أحمد بن محمد صاحب التاريخ، غلب عليه اسم بلده، وكان يفد من المشرق على ملوك بني مروان تاجراً، وكان مع ذلك متقناً (3) في العلوم، وهلك منصرفه من الوفادة على الأمير المنذر بن محمد بإلبيرة، في شهر ربيع الآخر سنة 273، ذكره ابن حيان في " المقتبس ".
63 - ومنهم الوزير أبو الفضل محمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز ابن الحارث بن أسد بن ليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان التميمي، الدرامي، البغدادي (4) ، سمع من أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص (5)
__________
(1) ترجمة ظفر الوراق في التكملة: 346.
(2) انظر ترجمته في التكملة: 670.
(3) التكملة: مفتنا.
(4) ترجمة أبي الفضل البغدادي في الجذوة: 68 (وبغية الملتمس رقم: 209) والذخيرة 4 / 1: 67 - 92 وفيه تفصيل رحلته وتقلبه في البلاد.
(5) في الجذوة: سمع من أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص جزءين، وقد يوهم أن " المخلص اسم كتاب، وعند حاجي خليفة " المخلصيات " من حديث أبي طاهر لابن العباس ابن مخلص الذهبي. (ص 1639) .(3/111)
وغيره، وخرج من بغداد رسولاً عن أمير المؤمنين القائم بأمر الله العباسي رضي الله تعالى عنه إلى صاحب إفريقية المعز بن باديس، واجتمع مع أبي العلاء المعري بالمعرة، وأنشده قصيدة لامية يمدح بها صاحب حلب، فقبل عينيه، وقال له: لله أنت من ناظم، وخرج من إفريقية من أجل فتنة العرب، وخيم عند المأمون ابن ذي النون بطليطلة (1) ، وله فيه أمداح كثيرة، ومن فرائد شعره قوله (2) :
يا ليل ألاّ انجليت عن فلق ... طلت ولا صبر لي على الأرق
جفا لحاظي (3) التغميض فيك فما ... تطبق أجفانها (4) على الحدق
كأنني صورةٌ ممثّلةٌ ... ناظرها الدّهر غير منطبق وقال:
يزرع ورداً ناضراً ناظري ... في وجنة كالقمر الطالع
أمنع أن أقطف أزهاره ... في سنّة المتبوع والتّابع
فلم منعتم شفتي قطفها ... والحكم أن الزرع للزارع هكذا نسبها له غير واحد كابن سعيد كتيلة (5) ، وبعضهم ينسبها للقاضي عبد الوهاب.
قلت: وقد أجاب عنها بعض المغاربة بقوله:
سلّمت أنّ الحكم ما قلتم ... وهو الذي نصّ عن الشارع
__________
(1) كان دخوله طليطلة يوم الجمعة لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة 454.
(2) الذخيرة: 75.
(3) الذخيرة: جفوني.
(4) الذخيرة: تسبل أشفارها.
(5) في ق: وأبو كيلة، وقد اضطربت في النسخ بين: كتيلة، كثيلة، كتبلة، كما جاء موضعها(3/112)
فكيف تبغي شفةٌ قطفه ... وغيرها المدعوّ بالزارع ورده شيخ شيوخ شيوخنا الإمام الحافظ أبو عبد الله التّنسي ثم التلمساني بقوله:
في ذا الذي قد قلتم مبحثٌ ... إذ فيه إيهامٌ على السامع
سلّمتم الحكم له مطلقاً ... وغير ذا نصّ عن الشارع يعني أنه يلزم على قول المجيب أن يباح له النظر مطلقاً، والشرع خلافه.
وأجاب بعض الحنفية بقوله:
لأنّ أهل الحبّ في حكمنا ... عبيدنا في شرعنا الواسع
والعبد لا ملك له عندنا ... فحقّه للسيّد المانع وهو جواب حسن لا بأس به.
ورأيت جواباً لبعض المغاربة على غير روية، وهو:
قل لأبي الفضل الوزير الذي ... باهى به مغربنا الشرق
غرست ظلماً وأردت الجنى ... وما لعرق ظالم حقّ قلت: وهذا مما يعين أن الأبيات لأبي الفضل الدرامي المذكور في الذخيرة، لا للقاضي عبد
الوهاب، والله تعالى أعلم.
ومن شعر الوزير المذكور قوله:
بين كريمين منزلٌ واسع ... والودّ حالٌ تقرّب الشاسع
والبيت إن ضاق عن ثمانيةٍ ... متسعٌ بالوداد للتاسع وولد رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وهو من بيت علم وأدب، قال الحميدي: أخبرني بذلك أبو عمر (1) رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز
__________
(1) الجذوة: أبو محمد.(3/113)
ابن الحارث، وتوفي بطليطلة سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وقال ابن حيان: توفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وخمسين وأربعمائة، في كنف المأمون يحيى بن ذي النون، وذكر أنه كان يتهم بالكذب، فالله تعالى أعلم بحقيقة الأمر.
وقال ابن ظافر في كتابه " بدائع البدائه " (1) ما نصه: أبو الفضل الدرامي البغدادي مجلس المعز بن باديس، وبالمجلس ساقٍ وسيم قد مسك عذاره ورد خديه، وعجزت الراح أن تفعل في الندامى فعل عينيه، فأمر المعز بوصفه، فقال بديهاً:
ومعذّرٍ نقش الجمال بمسكه ... خدّاً له بدوم القلوب مضرّجا
لما تيقّن أن سيف جفونه ... من نرجسٍ جعل العذار بنفسجا وقوله في جارية تبخترت بالند (2) :
ومحطوطة المتنين مهضومة الحشا ... منعّمة الأرداف تدمى من اللمس
إذا ما دخان الند من جيبها علا ... على وجهها أبصرت غيماً على شمس وقوله (3) :
لأغرّرنّ بمهجتي في حبّه ... غرراً يطيل مع الخطوب خطابي
ولئن تعزز إنّ عندي ذلّةً ... تستعطف الأعداء للأحباب وقوله (4) :
__________
(1) بدائع البدائه 2: 40 وانظر الذخيرة 4 / 1: 73.
(2) الذخيرة: نفس الصفحة.
(3) الذخيرة: 74.
(4) الذخيرة: 75.(3/114)
دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاء يكرر في كلّ ساعه
ولولا وحقّك عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعاً وطاعه وقد تمثل بهذين البيتين لسان الدين ابن الخطيب في خطبة تأليفه المسمى ب " روضة التعريف
بالحب الشريف ".
وقال أبو الفضل الدرامي المذكور أيضاً (1) :
سطا الفراق عليهم غفلةً فغدوا ... من جوره فرقاً من شدّة الفرق
فسرت شرقاً وأشواقي مغرّبةٌ ... يا بعد ما نزحت عن طرقهم طرقي
لولا تدارك دمعي يوم كاظمةٍ ... لأحرق الركب ما أبديت من حرق
يا سارق القلب جهراً غير مكترثٍ ... أمنت في الحبّ أن تعدى على السّرق
أرمق بعين الرضى تنعش بعاطفةٍ ... قبل المنيّة ما أبقيت (2) من رمقي
لم يبق مني سوى لفظٍ يبوح بما ... ألقى فيا عجباً للّفظ كيف بقي
صلني إذا شئت أو فاهجر علانيةً ... فكلّ ذلك محمولٌ على الحدق وقال (3) :
تذكّر نجداً والحمى فبكى وجدا ... وقال: سقى الله الحمى وسقى نجدا
وحيّته (4) أنفاس الخزامى عشية ... فهاجت إلى الوجد القديم به وجدا
فأظهر سلواناً وأضمر لوعةً ... إذا طفئت نيرانها وقدت وقدا
ولو أنّه أعطى الصبابة حكمها ... لأبدى الذي أخفى وأخفى الذي أبدى
__________
(1) الذخيرة: 84.
(2) الذخيرة: ما أوهيت.
(3) الذخيرة: 78.
(4) في ق: وخفة؛ والتصويب عن الذخيرة.(3/115)
وقال أيضاً (1) :
قلت للملقي على الخ ... دين من وردٍ خمارا
أسبل الصّدغ على خ ... دّك من مسكٍ عذارا
أم أعان الليل حتّى ... قهر الليل النهار
قال: ميدانٌ جرى الحس ... ن عليه فاستدارا
ركضت فيه عيونٌ ... فأثارته غبارا وقال (2) :
وكاتبٍ أهديت نفسي له ... فهي من السوء فدا نفسه
فلست أدري بعد ما حلّ بي ... بمسكه أتلف أم نقسه
سلّط خدّيه على مهجتي ... فاستأصلتها وهي من غرسه وقال:
وشادنٍ أسرف في صدّه ... وزاد في التيه على عبده
الحسن قد بثّ على خدّه ... بنفسجاً يزهو على ورده
رأيته يكتب في طرسه ... خطّاً يباري الدّرّ من عقده
فخلت ما قد خطّه كفّه ... للحسن قد خطّ على خدّه وقال:
إنّي عشقت صغيراً ... قد دبّ فيه الجمال
وكاد يفشي حديث ال ... فضول منه الدّلال
لو مرّ في طرق الهج ... ر لاعتراه ضلال
__________
(1) الذخيرة: 77.
(2) وردت سائر القطع في الذخيرة، فلا حاجة إلى إثبات ذلك عند كل قطعة.(3/116)
يريك بدراً منيراً ... في الحسن وهو هلال وقال:
ظبيٌ إذا حرّك أصداغه ... لم يلتفت خلقٌ إلى العطر
غنّى بشعري منشدا ًليتني الل ... فظ الذي أودعته شعري
فكلّما كرّر إنشاده ... قبّلته فيه ولم يدر وقال:
أينفع قولي إنّني لا أحبّه ... ودمعي بما يمليه وجدي يكتب
إذا قلت للواشين لست بعاشقٍ ... يقول لهم فيض المدامع يكذب وقال:
وهبني قد أنكرت حبّك جملةً ... وآليت أنّي لا أروم محطّها
فمن أين في الحبّ جرح شهادةٍ ... سقامي أملاها ودمعي خطّها وقال:
أنا أخشى إن دام ذا الهجر أن ين ... شط من حبّه عقال وثاقي
فأريح الفؤاد ممّا اعتراه ... وأردّ الهوى على العشّاق وقال:
كلانا لعمري ذائبان (1) من الهوى ... فنارك من جمرٍ وناري من هجر
فأنت على ما قد تقاسين من أذىً ... فصدرك في نارٍ وناري في صدري
__________
(1) الذخيرة: ذو بيان.(3/117)
وقال:
ومن عجب العشق أن القتيل ... يحنّ ويصبو إلى القاتل وقال:
ألم أجعل مثار النقع بحراً ... على أنّ الجياد له سفين وقال:
أصبحت أحلب تيساً لا مدرّ له ... والتيس من ظنّ أن التيس محلوب وأما الحكيم أبو محمد المصري وهو القائل (1) :
رعى الله دهراً قد نعمنا بطيبه ... لياليه من سمش الكؤوس أصائل
ونرجسنا درٌ على التبر جامدٌ ... وخمرتنا تبرٌ على الدرّ سائل فقد ترجمه في " الذخيرة " فليراجع، فإن الذخيرة غريبة في البلاد المشرقية.
وقد كان عندي بالمغرب من هذا النوع ما أستعين به، فخلفته هنالك، والله تعالى يلم الشمل. وقد ذكر فيها أنه مغربي سافر إلى مصر، فقيل له " المصري " لذلك، فليعلم، والله تعالى أعلم.
64 - ومن الوافدين على الأندلس أشهب بن العضد الخراساني. قال ابن سعيد: أنشدنا لما وفد على ابن هود في إشبيلية قصيدة ابن النبيه:
طاب الصّبوح لنا فهاك وهات (2) ... وادعاها، وفيها:
__________
(1) هو أبو محمد عبد الله بن خليفة المصري، ترجم له ابن بسام في الذخيرة في قسم الغرباء الطارئين على الأندلس بعد ترجمة ابن حميدس (في القسم الذي لم يطبع بعد) وانظر 4 / 1: 69 - 105، وقد ذمه ابن حيان دون أن يذكر اسمه ص: 109.
(2) عجزه: واشرب هنيئا يا أخا اللذت (الفوات 2: 147) .(3/118)
في روضة غنّا تخال طيورها ... وغصونها همزاً على ألفات ولم أجد هذا البيت في قصيدة ابن النبيه، انتهى.
65 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو الحسن البغدادي الفكيك (1) ، وهومذكور في الذخيرة، وكان حلو الجواب، مليح التندر، يضحك من حضرن ولا يضحك هو إذا ندر، وكان قصيراً دميماً، قال: ورأيته يوماً وقد لبس طاقاً أحمر على بياض، وفي رأسه طرطور أخضر، عمم عليه عمة لازوردية، وهو بين يدي المعتمد بن عباد ينشد شعراً قال فيه:
وأنت سليمان في ملكه ... وبين يديك أنا الهدهد وأنشد له في المعتمد:
أبا القاسم الملك المعظّم قدره ... سواك من الأملاك ليس يعظّم
لقد أصبحت حمصٌ بعدلك جنةً ... وقد أبعدت عن ساكنيها جهنم
ولي بحياك الريع عاماً وأشهراً ... أزخرف أعلام الثناء وأرقم
وأنفقت ما أعطيتني ثقةً بما ... أؤمّل فالدينار عندي درهم
وقلبي إلى بغداد يصبو وإنّني ... لنشر صباها دائماً أتنسّم وقال:
وذرّى على ربع العقيق دموعه ... عقيقاً ففيها توأمٌ وفريد
شهدت وما تغني شهادة عاشقٍ ... بأن قتيل الغانيات شهيد ومنها:
__________
(1) راجع فهرست الذخيرة 1 / 1: 19 وهو في القسم الذي لم يطبع بعد، في تراجم الغرباء الطارئين على الأندلس.(3/119)
إذا قابلوه قبّلوا ترب أرضه ... وهم لعلاه ركّعٌ وسجود
وقد هزّ منه الله للملك صارماً ... تقام بحدّي شفرتيه حدود وقال:
لأيّة حالٍ حال عن سنة الكرى ... ولم أصغي وماً في هواه إلى العذل ومنها:
كأنّ بقاء الطّلّ فوق جفونها ... دموع التصابي حرن في الأعين النّجل ومنها:
تملّكت رقّي بالعوارف منعماً ... وأغنيتني بالجود عن كلّ ذي فضل
وأنسيتني أرض العراق ودجلةً ... وربعي حتى ما أحنّ إلى أهلي وقال في المقتدر بن هود:
لعزّك ذلّت ملوك البشر ... وعفّرت تيجانهم في العفر
وأصبحت أخطرهم بالقنا ... وأركبهم لجود الخطر
سهرت وناموا عن المأثرات ... فما لهم في المعالي أثر
وجلّيت في حيث صلّى الملوك ... فكلٌّ بذيل المنى قد عثر ومنها:
وأنتم ملوكٌ إذا شاجروا ... أظلّتهم من قناهم شجر وقال الفكيك من قصيدة:
غنّى حسامك في أرجاء قرطبةٍ ... صوتاً أباد العدى والليل معتكر
حيث الدماء مدامٌ والقنا زهرٌ ... والقوم صرعى بكأس الحتف قد سكروا(3/120)
وكان مشهوراً بالهجاء، وله في نقيب بغداد وكانت في عنقه غدة:
بلع الأمانة فهي في حلقومه ... لا ترتقي صعداً ولا تتنزّل وقال ناصر الدولة بن حمدان:
ولئن غلطت بأن مدحتك طالباً ... جدواك مع علمي بأنّك باخل
فالدولة الغرّاء قد غلطت بأن ... سمّتك ناصرها وأنت الخاذل
إن تمّ أمرك مع يدٍ لك أصبحت ... شلاّء فالأمثال شىء باطل ومما ينسب إليه، وقيل لغيره:
ووعدتني وعداً حسبتك صادقاً ... فجعلت من طعمي أجيء وأذهب
فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلسٍ ... قالوا مسيلمةٌ وهذا أشعب 66 - ومنهم إبراهيم بن سليمان الشامي، دخل الأندلس من المشرق في أخريات أيام الحكم شادياً للشعر، وهو من موالي بني أمية، ولم ينفق على الحكم، وتحرك في أيام ولده الأمير عبد الرحمن فنفق عليه، ووصله، ثم في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن، وكان أدرك بالمشرق كبار المحدثين كأبي نواس وأبي العتاهية. ومن شعره ما كتب به إلى الأمير عبد الرحمن:
يا من تعالى من أميّة في الذرى ... قدما ًفأصبح عالي الأركان
إن الغمام غياثه في وقته ... والغيث من كفّيك كلّ أوان
فالغيث قد عمّ البلاد وأهلها ... وظمئت بينهم فبلّ لساني وله في الأمير عبد الرحمن بن الحكم:
ومن عبد شمسٍ بالمغارب عصبةٌ ... فأسعدها الرحمن حيث أحلّها
دحا تحتها مهداً من العزّ آمناً ... ومدّ جناحاً فوقها فأظلّها(3/121)
67 - ومنهم أبو بكر بن الأزرق، وهو محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حامد بن موسى بن العباس بن محمد بن يزيد، وهو الحصني، ابن محمد ابن مسلمة بن عبد الملك بن مروان، من أهل مصر، خرج من مصر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وصار إلى القيروان، وامتحن بها مع الشيعة، وأقام محبوساً بالمهدية، ثم أطلق ووصل الأندلس سنة تسع وأربعين، فأحسن إليه المستنصر بالله الحكم، وكان أديباً حكيماً، سمع من خاله أبي بكر أحمد بن مسعود الزهري، وولد سنة تسع عشرة وثلاثمائة بمصر، وتوفي بقرطبة في ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، رحمه الله تعلى.
68 - ومن الواردين على الأندلس من المشرق رئيس المغنين أبو الحسن علي بن نافع، الملقب بزرياب (1) ، مولى أمير المؤمنين المهدي العباسي، قال في " المقتبس ": زياب لقب غلب عليه ببلاده من أجل سواد لونه، مع فصاحة لسانه، وحلاوة شمائله، شبه بطائر أسود غرد عندهم، وكان شاعراً مطبوعاً، وكان ابنه أحمد قد غلب عليه الشعر أيضاً، وكان من خبره في الوصول إلى الأندلس أنه كان تلميذاً لإسحاق الموصلي ببغداد، فتلقف من أغانيه استراقاً، وهدي من فهم الصناعة وصدق العقل مع طيب الصوت وصورة الطبع إلى ما فاق به إسحاق، وإسحاق لا يشعر بما فتح عليه، إلى أن جرى بالرشيد مع إسحاق خبره المشهور في الاقتراح عليه بمغنٍ غريب مجيد للصنعة، لم يشتهر مكانه إليه، فذكر له تلميذه هذا، وقال: إنه مولىً لكم، وسمعت له نزعات حسنة، ونغمات رائقة ملتاطة بالنفس، إذا أنا وقفته على ما استغرب منها وهو من اختراعي واستنباط فكري، أحدث أن يكون له شأن، وقال الرشيد: هذا طلبتي، فأحضرنيه لعل حاجتي عنده، فأحضره، فلما كلمه الرشيد أعرب عن نفسه
__________
(1) انظر الجزء الأول من النفح: 344، وقد توفي زرياب سنة 238 قبل وفاة الأمير عبد الرحمن بأربعين يوما (المقتبس: 87 وترجته فيه قد سقطت) ؛ وانظر المغرب 1: 51.(3/122)
بأحسن منطق وأوجز خطاب، وسأله عن معرفته بالغناء، فقال: نعم أحسن منه ما يحسنه الناس، وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه، مما لا يحسن إلا عندك ولا يدخر إلا لك، فإن أذنت غنيتك ما لم تسمعه أذن قبلك، فأمر بإختصار عود أستاذه إسحاق، فلما أدني إليه وقف عن تناوله، وقال: لي عود نحته بيدي وأرهفته بإحكامي، ولا أرتضي غيره، وهو بالباب، فليإذن لي أمير المؤمنين في استدعائه، فأمر بإدخاله إليه، فلما تأمله الرشيد وكان شبيهاً بالعود الذي دفعه قال له: ما منعك أن تستعمل عود أستاذك فقال: إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده، وإن كان يرغب في غنائي فلا بد لي من عودي، فقال له:ما أراهما إلا واحداً، فقال: صدقت يا مولاي، ولا يؤدي النظر غير ذلك، ولكن عودي وإن كان في قدر جسم عوده ومن جنس خشبه فهو يقع من وزنه في الثلث أو نحوه، وأوتاري من حرير لم يغزل بماء سخن يكسبها أناثه ورخاوة، وبمها ومثلثها اتخذتهما من مصران شبل أسد، فلها في الترنم والصفاء والجهارة والحدة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها، فاستبرع الرشيد وصفه وأمره بالغناء، فجس، ثم اندفع فغناه:
يا أيّها الملك الميمون طائره ... هارون راح إليك الناس وابتكروا فأتم النوبة، وطار الرشيد طرباً، وقال لإسحاق: والله لولا أني أعلم من صدقك لي على كتمانه إياك لما عنده وتصديقه لك من أنك لم تسمعه قبل لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه، فخذه إليك واعتن بشأنه، حتى أفرغ له، فإن لي فيه نظراً، فسقط في يد إسحاق، وهاج به من داء الحسد ما غلب صبره، فخلا بزرياب وقال: يا علي، إن الحسد أقدم الأدواء وأدواها، والدنيا فتانة، والشركة في الصناعة عداوة، لا حيلة في حسمها وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك، وقصدت منفعتك(3/123)
فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك، وعن قليل تسقط منزلتي، وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي، ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدمت شيئاً على أن أذهب نفسك، يكون في ذلك ما كان، فتخير في ثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبراً بعد ذلك الأيمان الموثقة، وأنهضك لذلك بما أردت من مال وغيره، وإما أن تقيم على كرهي ورغمي مستهدفاً إلي، فخذ الآن حذرك مني فلست والله أبقي عليك، ولا أدع اغتيالك باذلاً في ذلك بدني ومالي، فاقض قضاءك. فخرج زرياب لوقته، وعلم قدرته على ما قال، واختار الفرار قدامه، فأعانه إسحاق على ذلك سريعاً، وراش جناحه، فرحل عنه، ومضى يبغي مغرب الشمس، واستراح قلب إسحاق منه.
وتذكر الرشيد بعد فراغه من شغل كان منغمساً فيه، فأمر إسحاق بحضوره، فقال: ومن لي به يا أمير المؤمنين ذاك غلام مجنون يزعم أن الجن تكلمه وتطارحه ما يزهى به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يعد له، وما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين وترك استعادته، فقدر التقصير به والتهوين بصناعته، فرحل مغاضباً ذاهباً على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين، فإنه كان به لمم يغشاه ويفرط خطبه، فيفزع من رآه، فسكن الرشيد إلى قول إسحاق، وقال: على ما كان به فقد فتنا منه سرور كثير.
ومضى زرياب إلى المغرب فنسي بالمشرق خبره، غذ لم يكن اسمه شهر هنالك شهرته بالصقع الذي قطنه ونزعت إليه نفسه وسمت به همته، فأم أمير الأندلس الحكم المباين لمواليه، وخاطبه وذكر له نزاعه إليه واختباره إياه ويعلمه بمكانه من الصناعة التي ينتحلها وسأله الإذن في الوصول إليه، فسر الحكم بكتابه وأظهر له من الرغبة فيه والتطلع إليه وإجمال الموعد ما تمناه، فسار زرياب نحوه بعياله وولده، وركب بحر الزقاق إلى الجزيرة الخضراء، فلم يزل بها حتى توالت عليه الأخبار بوفاة الحكم، فهم بالرجوع إلى العدوة، فكان معه منصور(3/124)
اليهودي المغني رسول الحكم إليه، فثناه عن ذلك ورغبه في قصد القائم مقام الحكم، وهو عبد الرحمن ولده، وكتب إليه بخبر زرياب، فجاءه كتاب عبد الرحمن يذكر تطلعه إليه والسرور بقدومه عليه، وكتب إلى عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه إلى قرطبة، وأمر خصياً من أكابر خصيانه أن يتلقاه ببغال ذكور وإناث وآلات حسنة، فدخل هو وأهله البلد ليلاً صيانةً للحرم، وأنزله في دار من أحسن الدور، وحمل إليها جميع ما يحتاج إليه، وخلع عليه، وبعد ثلاثة أيام استدعاه، وكتب له في كل شهر بمائتي دينار راتباً، وأن يجرى على بنيه الذين قدموا معه - وكانوا أربعة: عبد الرحمن، وجعفر، وعبيد الله، ويحيى - عشرون ديناراً لكل واحد منهم كل شهر، وأن يجرى على زرياب من المعروف العام ثلاثة آلاف دينار، منها لكل عيد ألف دينار، ولكل مهرجان ونوروز خمسمائة دينار، وأن يقطع له من الطعام العام ثلاثمائة مدي ثلثاها شعير وثلثها قمح، وأقطعه من الدور والمستغلات بقرطبة وبساتينها ومن الضياع ما يقوم بأربعين ألف دينار. فلما قضى له سؤله وأنجز موعوده (1) وعلم أن قد أرضاه وملك نفسه استدعاه، فبدأ بمجالسته على النبيذ وسماع غنائه، فما هو إلا أن سمعه فاستهوله واطرح كل غناء سواه، وأحبه حباً شديداً وقدمه على جميع المغنين، وكان لما خلا به أكرمه غاية الإكرام وأدنى منزلته وبسط أمله، وذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء، فحرك منه بحراً زخر عليه مده، فأعجب الأمير به وراقه ما أورده، وحضر وقت الطعام فسرفه بالأكل معه هو وأكابر ولده، ثم أمر كاتبه بأن يعقد له صكاً بما ذكرناه آنفاً، ولما ملك قلبه واستولى عليه حبه فتح له باباً خاصاً يستدعيه منه متى أراده.
وذكر أن زرياباً ادعى أن الجن كانت تعلمه كل ليلة ما بين نوبة إلى
__________
(1) ق: موعده.(3/125)
صوت واحد، كان يهب من نومه سريعاً فيدعو بجاريتيه غزلان وهنيدة، فتأخذان عودهما، ويأخذ هو عوده، فيطارحهما ليلته ويكتب الشعر ثم يعود عجلاً إلى مضجعه، وكذلك يحكى عن إبراهيم الموصلي في لحنه البديع المعروف بالماخوري أن الجن طارحته إياه، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك.
وزاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وتراً خامساً اختراعاً منه، إذ لم يزل العود ذا أربعة أوتار على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع، فزاد عليها وتراً خامساً أحمر متوسطاً، فاكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة، وذلك أن الزير صبغ أصفر اللون، وجعل في العود بمنزلة الصفراء من الجسد، صبغ الوتر الثاني بعده أحمر، وهو من العود مكان الدم من الجسد، وهو في الغلظ ضعف الزير، ولذلك سمي مثنى، وصبغ الوتر الرابع أسود، وجعل من العود مكان السوداء من الجسد، وسمي البم، وهو أعلى أوتار العود، وهو ضعف المثلث الذي عطل من الصبغ وترك أبيض اللون، وهو من العود بمنزلة البلغم من الجسد، وجعل ضعف المثنى في الغلظ، ولذلك سمي المثلث، فهذه الأربعة من الأوتار مقابلة للطبائع الأربع تقضي طبائعها بالعتدال، فالبم حار يابس يقابل المثنى وهو حار رطب وعليه تسويته، والزير حار يابس يقابل المثلث وهو حار رطب، قوبل كل طبع بضده حتى اعتدل واستوى كاستواء الجسم بأخلاطه، إلا أنه عطل من النفس، والنفس مقرونة بالدم، فأضاف زرياب من أجل ذلك إلى الوتر الأوسط الدموي هذا الوتر الخامس الأحمر الذي اخترعه بالأندلس، ووضعه تحت المثلث (1) وفوق المثنى، فكمل في عوده قوى الطبائع الأربع، وقام الخامس المزيد مقام النفس في الجسد.
وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر، معتاضاً به من مرهف الخشب، فأبرع في ذلك للطف قشر الريشة ونقائه وخفته على
__________
(1) ق: المثلثة.(3/126)
الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه.
وكان زرياب عالماً بالنجوم وقسمة الأقاليم السبعة واختلاف طبائعها وأهويتها وتشعب بحارها وتصنيف بلادها وسكانها، مع ما سنح له من فك كتاب الموسيقى، مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها، وهذا العدد من الألحان غاية ما ذكره بطليموس واضع هذه العلوم ومؤلفها.
وكان زرياب قد جمع إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الأدب، ولطف المعاشرة، وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته، حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه، واستحسنه من أطعمته، فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً إليه معلوماً به: فمن ذلك أنه دخل إلى الأندلس وجميع من فيها من رجل أو امرأة يرسل جمته مفروقاً وسط الجبين عاماً للصدغين والحاجبين، فلما عاين ذوو التحصيل تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم، وتقصيرها دون جباههم، وتسويتها مع حواجبهم، وتدويرها إلى آذانهم، ولإسبالها إلى أصداغهم - حسبما عليه اليوم الخدم الخصية والجواري - هوت إليه أفئدتهم، واستحسنوه. ومما سنه استعمال المرتك المتخذ من المرداسنج لطرد ريح الصنان من مغابنهم، ولا شيء يقوم مقامه، وكانت ملوك الأندلس تستعمل قبلة ذرور الورد وزهر الريحان وما شاكل ذلك من ذوات القبض والبرد، فكانوا لا تسلم ثيابهم من وضر، فدلهم على تصعيدها بالملح، وتبييض لونها، فلما جربوه أحمدوه جداً. وهو أول من اجتنى بقلة الهليون المسماة بلسانهم الإسفراج (1) ، ولم يكن أهل الأندلس يعرفونها قبله. ومما اخترعوه من الطبيخ اللون المسمى عندهم بالتفايا (2) ، وهو مصطنع بماء الكزبرة
__________
(1) في مفردات ابن البيطار: الاسفزاج، والصواب بالراء المهملة، وهو يقابل (Asparagus) .
(2) التفايا: عددها صاحب كتاب الطبيخ من بسائط الأطعمة وهي أنواع منها التفايا البيضاء وتحضر من لحم الضأن الفتي السمين في قطع صغار ويضاف إليها ملح وفلفل وكزبرة يابسة ويسير من ماء بصلة مدقوقة ومغرفة من الزيت العذب وماء وتجعل على نار لينة وتحرك، ويجعل فيها بندق ولوز مقشر مقسوم، فإذا اردتها خضراء أضفت إليها ماء الكزبرة الرطبة، ومنها تفايا مبيضة وأخرى مقلية وأنواع منها مشرقية (كتاب الطبيخ 85 - 88، 118 - 119) .(3/127)
الرطبة محلى بالسنبوسق والكباب، ويليه عندهم لون التقلية المنسوبة إلى زرياب.
ومما أخذه عنه الناس بالأندلس تفضيلة آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة، وإيثاره فرش أنطاع الأديم اللينة الناعمة على ملاحف الكتان، واختياره سفر الأديم لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية إذ الوضر يزول عن الأديم بأقل مسحة، ولبسه كل صنف من الثياب في زمانه الذي يليق به، فإنه رأى أن يكون ابتداء الناس للباس البياض وخلعهم للملون من يوم مهرجان أهل البلد المسمى عندهم بالعنصرة الكائن في ست بقين من شهر يونية الشمسي من شهورهم الرومية، فيلبسونه إلى أول شهر أكتوبر الشمسي منها ثلاثة أشهر متوالية ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة، ورأى أن يلبسوا في الفصل الذي بين الحر والرد المسمى عندهم الربيع من مصبغهم جباب الخز والملحم والمحرر والدراريع التي لا بطائن لها لقربها من لطف ثياب البياض الظهائر التي ينتقلون إليها لخفتها وشبهها بالمحاشي، ثياب العامة، وكذا رأى أن يلبسوا في آخر الصيف وعند أول الخريف المحاشي المروية والثياب المصمتة وما شاكلها من خفائف الثياب الملونة ذوات الحشو والبطائن الكثيفة، وذلك عند قرس البرد في الغدوات، إلى أن يقوى البرد فينتقلوا إلى أثخن منها من الملونات، ويستظهرون من تحتها إذا احتاجوا إلى صنوف الفراء.
واستمر بالأندلس أن كل من افتتح الغناء قيبدأ بالنشيد أول شدوه بأي نقر كان، ويأتي إثره بالبسيط، ويختم بالمحركات والأهزاج تبعاً لمراسم زرياب. وكان إذا تناول الإلقاء على تلميذ يعلمه أمره بالقعود على الوساد المدور المعروف بالمسورة، وأن يشد صوته جداً إذا كان قوي الصوت، فإن كان لينه أمره أن يشد على بطنه عمامة، فإن ذلك مما يقوي الصوت، ولا يجد متسعاً في الجوف(3/128)
عند الخروج على الفم، فإن كان ألص الأضراس لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع يبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكاه، وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته: ياحجام، أو يصيح: آه، ويمد بها صوته، فإن سمع صوته بهما صافياً ندياً قوياً مؤدياً لا يعتريه غنة ولا حبسة ولا ضيق نفس عرف أن سوف ينجب وأشار بتعليمه، وإن وجده خلاف ذلك أبعده.
وكان له من ذكور الولد ثمانية: عبد الرحمن وعبيد الله ويحيى وجعفر ومحمد وقاسم وأحمد وحسن. ومن الإناث ثنتان: علية وحمدونة. وكلهم غنى ومارس الصناعة، واختلفت بهم الطبقة، فكان أعلاهم عبد الله ويتلوه عبد الرحمن، لكنه ابتلي من فرط التيه وشدة الزهو وكثرة العجب بغنائه والذهاب بنفسه بما لم يكن له شبه فيه، وقلما يسلم مجلس حضوره من كدر يحدثه، ولا يزال يجترىء على الملوك، ويستخف بالعظماء، ولقد حمله سخفه على أن يحضر يوماً مجلس بغض الأكابر الأعاظم في أنس قد طاب به سروره، وكان صاحب قنص تغلب عليه لذته، فاستدعى بازياً كان كلفاً به كثير التذكر له، فجعل يمسح أعطافه ويعدل قوادمه ويرتاح لنشاطه، فسأله عبد الرحمن أن يهبه له، فاستحيا من رده وأعطاه إياه مع ضنه به، فدفعه عبد الرحمن إلى غلامه ليعجل به إلى منزله، وأسر إليه فيه بسر لم يطلع عليه، فمضى لشأنه، ولم يلبث أن جاءه بطيفورية مغطاة مكرمة بطابع مختوم عليها من فضة، فغذا به لون مصوص قد اتخذ من البازي بعد ذبحه على ما حده لأهله، وذهب إلى الإنتقال عليه في شرابه، وقال لصاحب المجلس: شاركني في نقلي هذا فإنه شريف المركب (1) بديع الصنعة، فلما رآه الرجل أنكر صفته وعاب
__________
(1) ق ودوزي: الموكب؛ والمركب يعني التركيب.(3/129)
لحمه، وسأله عنه، فقال: هو البازي الذي كنت تعظم قدره، ولا تصبر عنه، قد صيرته إلى ما ترى، فغضب صاحب المنزل حتى ربا في أثوابه وفارقه حلمه وقال له: قد كان والله أيها الكلب السفيه على ما قدرته وما اقتديت فيه إلا بكبار الناس المؤثرين لمثله، وما أسعفتك به إلا معظماً من قدرك ما صغرت من قدري، وأظهرت من هوان السنة عليك باستحلالك لسباع الطير المنهي عنها، ولا أدع والله الآن تأديبك إذ أهملك أبوك معلم الناس المروءة، ودعا له بالسوط وأمر بنزع قلنسوته وساط هامته مائة سوط، فاستحسن جميع الناس فعله وأبوا الشماتة به.
وكان محمد منهم مؤنثاً، وكان قاسمهم أحذاقهم غناء مع تجويده، وتزوج الوزير هشام بن عبد العزيز حمدونة.
وذكر الشاعر أن أول من دخل الأندلس من المغنين علون وزرقون، دخلا في أيام الحكم بن هشام، فنفقا عليه، وكانا محسنين، لكن غناؤهما ذهب لغلبة غناء زرياب عليه.
وقال عبد الرحمن بن الشمر منجم الأمير عبد الرحمن ونديمه في زرياب:
يا عليّ بن نافعٍ يا عليّ ... أنت أنت المهذّب اللّوذعيّ
أنت في الأصل حين يسأل عنه ... هاشميّ وفي الهوى عبشميّ وقال ابن سعيد: وأنشد لزرياب والدي في معجمه:
علّقتهما ريحانةً ... هيفاء عاطرةً نضيره
بين السمينة والهزي ... لة والطويلة والقصيره
لله أيامٌ لنا ... سلفت على دير المطيره
لاعيب فيها للمتيّ ... م غير أن كانت يسيره انتهى.(3/130)
وكان لزرياب جارية اسمها متعة، أدّبها وعلّمها أحسن أغانيه حتى شبت، وكانت رائعة الجمال، وتصرفت بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم تغنيه مرة وتسقيه أخرى، فلما فطنت لإعجابه بها أبدت له دلائل الرغبة، فأبى إلا التستر، فغنته بهذه الأبيات، وهي لها في ظن بعض الحفاظ:
يا من يغطّي هواه ... من ذا يغطّي النهارا
قد كنت أملك قلبي ... حتى علقت فطارا
يا ويلتا أتراه ... لي كان، أو مستعارا
يا بأبي قرشيٌّ ... خلعت فيه العذارا فلما انكشف لزرياب أمرها أهداها إليه فحظيت عنده.
وكانت حمدونة بنت زرياب متقدمة في أهل بيتها، محسنة لصناعتها، متقدمة على أختها علية، وهي زوجة الوزير هاشم بن عبد العزيز كما مر، وطال عمر علية بعد أختها حمدونة، ولم يبق من أهل بيتها غيرها، فافتقر الناس إليها، وحملوا عنها.
وكانت مصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل أخذت عن زرياب الغناء، وكانت غاية في الإحسان والنبل وطيب الصوت، وفيها يقول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وكتب به إلى مولاها (1) :
يا من يضنّ بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا الضنّ من أحد
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد من أبيات، فخرج حافياً لما وقف على ذلك، وأدخله إلى مجلسه، وتمتع من سماعها، رحم الله تعالى الجميع.
__________
(1) انظر الجذوة: 95.(3/131)
وقال علويه: كنت مع المأمون لما قدم الشام، فدخلنا دمشق، وجعلنا نطوف فيها على قصور بني أمية، فدخلنا قصراً مفروشاً بالرخام الأخضر، وفيه بركة يدخلها الماء ويخرج منها فيسقي بستاناً، وفي القصر من الأطيار ما بغني صوته عن العود والمزمار، فاستحسن المأمون ما رأى، وعزم على الصبوح، فدعا بالطعام فأكلنا وشربنا، ثم قال لي: غن بأطيب صوت وأطربه، فلم يمر على خاطري غير هذا الصوت:
لو كان حولي بنو أميّة لم ... ينطق رجال أراهم نطقوا فنظر إلي مغضباً، وقال: عليك لعنة الله وعلى بني أمية، فعلمت أني قد أخطأت، فجعلت أعتذر من هفوتي، وقلت: يا أمير المؤمنين، أتلومني أن أذكر موالي بني أمية، وهذا زرياب مولاك عندهم بالأندلس، يركب في أكثر من مائة مملوك وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع، وإني عندكم أموت جوعاً، وفي الحكاية طول واختلاف، ومحل الحاجة منها ما يتعلق بزرياب، رحم الله تعالى الجميع.
وذكرها الرقيق في كتاب " معاقرة الشراب " على غير هذا الوجه، ونصه: وركب المأمون يوماً من دمشق يريد جبل الثلج، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية، وعلى جانبها أربع سروات، وكان الماء يدخل سيحاً، فاستحسن المأمون الموضع، ودعا بالطعام والشراب، وذكر بني أمية، فوضع منهم وتنقصهم، فأخذ علويه العود واندفع يغني:
أرى أسرتي في كلّ يومٍ وليلةٍ ... يروح بهم داعي المنون ويغتدي
أولئك قومٌ بعد عزّ وثروة ... تفانوا فإلاّ أذرف العين أكمد فضرب المأمون بكأسه الأرض، وقال لعلويه: يا ابن الفاعلة، لم يكن لك وقت تذكر مواليك فيه إلا هذا الوقت فقال: مولاكم زرياب عند موالي بالأندلس يركب في مائة غلام، وأنا عندكم بهذه الحالة! فغضب عليه نحو شهر، ثم(3/132)
رضي عنه، انتهى.
ونحوه لابن الرقيق في كتابه " قطب السرور " وقال في آخر الحكاية: وأنا عندكم أموت من الجوع، ثم قال: وزرياب مولى المهدي، ووصل إلى بني أمية بالأندلس فعلت حاله، حتى كان كما قال علويه، انتهى.
ولما غنى زرياب بقوله (1) :
ولو لم يشقني الظاعنون لشاقني ... حمام تداعت في الديار وقوع
تداعين فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح ما تجري لهنّ دموع ذيلها عباس بن فرناس يمدح بعض الرؤساء بديهة فقال:
شددت بمحمودٍ يداً حين خانها ... زمانٌ لأسباب الرجاء قطوع
بنى لمساعي الجود والمجد قبلةً ... إليها جميع الأجودين ركوع وكان محمود جواداً، فقال له: يا أبا القاسم، أعز ما يحضرني من مالي القبة، يعني قبة قامت عليه بخمسمائة دينار، وهي لك بما فيها مع كسوتي هذه، ونكون في ضيافتك بقية يومنا، ودعا بكسوة فلبسها، ودفع إليه الكسوة.
69 - ومن الوافدين من المشرق الأمير شعبان بن كوجبا (2) ، من غز الموصل، وفد على أمير المؤمنين يعقوب المنصور ملك الموحدين، ورفع له أمداحاً جليلة، وقدمه على إمارة مدينة بسطة من الأندلس.
قال أبو عمران بن سعيد: أنشدني لنفسه:
يقولون إن العدل في الناس ظاهر ... ولم أر شيئاً منه سرّاً ولا جهرا
__________
(1) الشعر لذي الرمة في ديوانه: 352.
(2) ق: كوحيا؛ وقد ذكر عبد الواحد المراكشي " شعبان الغزي " دون أن يذكر اسم أبيه في المعجب 367، وقال إنه سأله أن يكتب من شعره فأبى، وكان ربما يدرت له الأبيات الجيدة.(3/133)
ولكن رأيت الناس غالب أمرهم ... إذا ما جنى زيد أقادوا به عمرا
وإلاّ فما بال النطاسيّ كلّما ... شكوت له يمنى يدي فصد اليسرى 70 - ومن الوافدين من المشرق على الأندلس أبو اليسر إبراهيم بن أحمد الشيباني (1) ، من أهل بغداد، وسكن القيروان، ويعرف بالرياضي، وكان له سماع ببغداد، من جلة المحدثين والفقهاء والنحويين، لقي الجاحظ والمبرد وثعلباً وابن قتيبة، ولقي من الشعراء أبا تمام والبحتري ودعبلاً وابن الجهم، ومن الكتاب سعيد ابن حميد وسليمان بن وهب وأحمد بن أبي طاهر وغيرهم، وهو الذي أدخل إفريقية رسائل المحدثين وأشعارهم وطرائف أخبارهم، وكان عالماً أديباً، ومرسلاً بليغاً، ضارباً في كل علم وأدبن سمع وكتب بيده أكثر كتبه، مع براعة خطه وحسن وراقته.
وحكي أنه كتب على كبره كتاب سيبويه كله بقلم واحد، ما زال يبريه حتى قصر، فأدخله في قلم آخر، وكتب به حتى فني بتمام الكتاب.
وله تآليف: منها " لقيط المرجان " وهو أكبر من " عيون الأخبار "، وكتاب " سراج الهدى " في القرآن ومشكلة إعرابه ومعانيه، و " المرصعة " و " المدبجة ".
وجال في البلاد شرقاً وغرباً من خراسان إلى الأندلس، وقد ذكر ذلك في أشعار له.
وكان أديب الأخلاق، نزيه النفس، كتب لأمير إفريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب، ثم لإبنه أبي العباس عبد الله، وكان أيام زيادة الله ابن عبد الله آخر ملوك الأغالبة على بيت الحكمة، وتوفي بالقيروان سنة ثمان وتسعين ومائتين في أول ولاية عبيد الله الشيعي، وهو ابن خمس وسبعين سنة. وممن ألم بذكره المؤرخ الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق.
وقال عريب بن سعد في حقه: إنه كان أديباً شاعراً مرسلاً حسن التأليف،
__________
(1) ترجمة أبي اليسر الرياضي في التكملة: 173.(3/134)
وقدم الأندلس على الإمام محمد بن عبد الرحمن، وذكر له معه قصة ذكرها ابن الأبار في كتابه " إفادة الوفادة " وحكى أن له مسنداً في الحديث، وكتاباً في القرآن سماه " سراج الهدى " والرسالة الوحيدة، والمؤنسة، وقطب الأدب، وغير ذلك من الأوضاع. قال: وكتب لبني الأغلب حتى انصرمت أيامهم، ثم كتب لعبيد الله حتى مات، ومن الرواة عنه أبوة سعيد عثمان بن سعيد الصيقل مولى زيادة الله بن الأغلب، وأسند إليه الحافظ ابن الأبار رواية شعر أبي تمام بأن قال: قرأت شعر حبيب علي أبي الربيع بن سالم، وقرأت جملة منه على غيره، وناولني جميعه وحدثني به عن أبي عبد الله بن زرقون عن الخولاني عن ابي القاسم حاتم بن محمد عن أبي غالب تمام بن غالب بن عمر اللغوي عن أبيه أبي تمام عن أبي سعيد المذكور، يعني ابن الصيقل، عن أبي اليسر عن حبيب، وهو إسناد غريب، انتهى.
71 - ومنهم إبراهيم بن خلف بن منصور، الغساني، الدمشقي، أبو اسحاق المعروف بالسنهوري (1) - وسنهور: من بلاد مصر - روى عن أبي القاسم ابن عساكر وأبي اليمن الكندي وأبي المعالي الفراوي وأبي الطاهر الخشوعي وغيرهم.
قال أبو العباس النباتي: قدم علينا - يعني إشبيلية - سنة ثلاث وستمائة، وسمى جماعة من شيوخه، وحكى أنه كان يروي موطأ أبي مصعب وصحيح مسلم بعلو.
وقال أبو سليمان ابن حوط الله: أجازني وابني محمداً جميع ما رواه عن شيوخه الذين منهم أبو الفخر فناخسرو بن فيروز الشيرازي، وذكر أن روايته بنزول، لأنه لم يرحل إلا بعد وفاة الشيوخ المشاهير بهذا الشأن.
وقال أبو الحسن ابن القطان، وسماه في شيوخه: قدم علينا تونس سنة
__________
(1) ترجمة السنهوري في التكملة: 176.(3/135)
اثنتين وستمائة، واستجزته لابني حسن فأجازه وإياي، قال: وانصرف من تونس إلى المغرب، ثم الأندلس، وقدم علينا بعد ذلك مراكش مفلتاً من الأسر، فظهر في حديثه عن نفسه تجازف واضطراب وكذب زهد فيه، وإثر ذلك انصرف إلى المشرق راجعاً، وقد كان إذا أجاز ابني كتب ببخطه جملة من أسانيده وسمى كتباً منها الموطأ والصحيحان وغير ذلك، قال: وقد تبرأت من عهدة جميعه لما أثبتوا من حاله، وحدثني أبو القاسم ابن أبي كرامة صاحبنا بتونس أن السنهوري هذا لما انصرف إلى مصر امتحن بملكها الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب لأجل معاداته أبا الخطاب ابن الجميل، فضرب بالسياط، وطيف به على جمل مبالغة في إهانته، انتهى.
وقال بعض المؤرخين في حقه ما نصه: الشيخ المحدث الرالة إبراهيم السنهوري صاحب الرحلة إلى البلاد، دخل الأندلس كما ذكره ابن النجار وغيره، وهو الذي ذكر لمشايخ الأندلس وعلمائها أن الشيخ أبا الخطاب ابن دحية يدع يأنه قرأ على جماعة من شيوخ الأندلس القدماء، فأنكروا ذلك وأبطلوه وقالوا: لم يلق هؤلاء ولا أدركهم وإنما اشتغل بالطلب أخيراً، وليس نسبه بصحيح فيما يقوله، ودحية لم يعقب، فكتب السنهوري محضراً وأخذ خطوطهم فيه بذلك، وقدم به ديار مصر، فعلم أبو الخطاب ابن دحية بذلك، فاشتكى إلى السلطان منه، وقال: هذا يأخذ عرضي ويؤذيني، فأمر السلطان بالقبض عليه، فقبض وضرب بالسياط (1) وأشهر على حمار، وأخرج من ديار مصر، وأخذ ابن دحية المحضر وحرقه، ولم يزل ابن دحية على قرب من السلطان إلى حين وفاته، وبنى له داراً للحديث، وهي الكاملية ببين القصرين، فلم يزل يحدث بها إلى أن مات.
وقد ذكرنا في ترجمة ابن دحية من هذا الكتاب شيئاً من أحواله وأن الناس
__________
(1) بالسياط: سقطت من ق.(3/136)
فيه معتقد ومنتقد، وهكذا جرت العادة خصوصاً في حق الغريب المنتسب للعلم:
" وعند الله تجتمع الخصوم " ... وممن كان عليه لا له أبو المحاسن محمد بن نصر المعروف بابن عنين فإنه قال فيه (1) :
دحية لم يعقب فلم تعتزي ... إليه بالبهتان والإفك
ما صحّ عند الناس شيء سوى ... أنّك من كلبٍ بلا شكّ هكذا ذكره ابن النجار، وأطال في الوقيعة في أبي الخطاب ابن دحية.
وقال الذهبي: قرأت بخط الضياء عندما ذكر ابن دحية أنه قال: لقيته بأصبهان، ولم أسمع منه شيئاً، وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب وأن مشايخه كتبوا له جرحه وتضعيفه، وقد رأيت أنا منه غير شيء مما يدل على ذلك، وبسببه بنى السلطان الملك الكامل دار الحديث بالقاهرة وجعله شيخها، وقد سمع منه الإمام أبو عمرو ابن الصلاح الموطأ سنة نيف وستمائة، وأخبره به عن جماعة منهم أبو عبد الله ابن زرقون.
وقال ابن واصل: كان أبو الخطاب، مع معرفته بالحديث، وحفظه الكثير منه، متهماً بالمجازفة في النقل، وبلغ ذلك الملك العادل فأمره أن يعلق على كتاب " الشهاب "، فعلق كتاباً تكلم فيه على أحاديثه وأسانيده، فلما وقف الملك الكامل على ذلك قال له بعد أيام: قد ضاع مني ذلك الكتاب، فعلق لي مثله، ففعل، فجاء في الثاني مناقضة للأول، فعلم الملك الكامل صحة ما قيل عنه، ونزلت مرتبته عنده، وعزله عن دار الحديث أخيراً، وولى أخاه أبا عمرو عثمان.
__________
(1) ديوان ابن عنين: 220.(3/137)
وقال ابن نقطة: كان أبو الخطاب موصوفاً بالمعرفة والفضل ولم أره، إلا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها، ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام - وكان ثقة - قال: نزل عندنا ابن دحية فقال: إني أحفظ صحيح مسلم والترمذي، فأخذت خمسة أحاديث من الترمذي ومثلها من المسند ومثلها من الموضوعات، فجعلتها في جزء، ثم عرضت عليها حديثاً من الترمذي فقال: ليس بصحيح، وآخر فقال: لا أعرفه، ولم يعرف منها شيئاً، فأفسد نفسه بذلك.
وقال سبط ابن الجوزي (1) : إنه كان يتزيد في كلامه، ويثلب المسلمين، ويقع فيهم، فترك الناس الرواية عنه وكذبوه، وقد كان الملك الكامل مقبلاً عليه، فلما انكشف له شأنه أخذ منه دار الحديث وأهانه.
وقال العماد بن كثير: قد تكلم الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر صلاة المغرب، وكنت أود أن أقف على إسناده ليعلم كيف رجاله، وقد أجمع العلماء - كما ذكره ابن المنذر وغيره - على أن صلاة المغرب لا تقصر، واتفق أنه وصل في جمادى الأولى سنة 616 إلى غزة، فخرج كل من في غزة بالأسلحة والعصي والحجارة إلى الموضع الذي هو فيه، وضربوه ضرباً شديداً بعد أن انهزم من كان معه، انتهى.
وقدمنا في ترجمته توثيق جماعة له، فربك أعلم بحاله.
72 - ومنهم عبد الله بن محمد بن آدم، القارئ، الخراساني (2) ، رحل من خراسان إلى الأندلس، يكنى أبا محمد، ذكره أبو عمرو المقرئ، وقال: سمعته يقرأ مرات كثيرة، فكان من أحسن الناس صوتاً، ولم تكن له معرفة بالقراءة ولا دراية بالأداء، انتهى.
__________
(1) مرآة الزمان: 698.
(2) التكملة: 913.(3/138)
73 - ومنهم عبد الرحمن بن داود بن علي، الواعظ (1) ، من أهل مصر، يعرف بالزبزاري، يكنى أبا البركات وأبا القاسم، ويلقب زكي الدين، قدم على الأندلس وتجول في بلادها واعظاً ومذكراً، وسمع منه الناس بقرطبة وإشبيلية ومرسية وبلنسيا سنة 608.
قال ابن الأبار: وسمعت وعظه إذ ذاك بالمسجد الجامع من بلنسيا، وادعى الرواية عن أبي الوقت السجزي والسلفي وأبي الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي وأبي محمد بن المبارك بن الطباخ وأبي الفضل محمد بن يوسف الغزنوي وشهدة الكاتبة بنت الإبري، زعم أنه قرأ عليها صحيح البخاري، وجماعة بالمشرق والأندلس لم يلقهم ولم يسمع منهم، وربما حدث بواسطة عن بعضهم وأكثرهم مجهولون، وقفت على ذلك في فهرست روايته، فزهد أكثر السامعين منه، واطرحوا الرواية عنه، ومنهم أبو العباس النباتي وأبو عبد الله بن أبي البقاء وجمع أربعين حديثاً مسلسلة سماها باللآلئ المفصلة، حدث فيها عن ابن بشكوال وابن غالب الشراط وغيرهما من الأندلسيين الذين لم يلقهم ولا أجازوا له، أخذها عنه ابن الطيلسان وغيره، وكان - مع هذا - فقيهاً على مذهب الشافعي، رضي الله تعالى عنه، فصيحاً مشاركاً في فنون من العلم، سمح الله تعالى له، انتهى.
ولا بأس أن نذكر جملة من النساء القادمات من المشرق على الأندلس، ثم نعود أيضاً إلى ذكر أعلام الرجال، فنقول:
74 - من النساء الداخلات الأندلس من المشرق عابدة المدنية، أم ولد حبيب ابن الوليد المرواني، المعروف بدحون. وكانت جارية سوداء من رقيق المدينة، حالكة اللون، غير أنها تروي عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة
__________
(1) التكملة رقم: 1655.(3/139)
وغيره من علماء المدينة، حتى قال بعض الحفاظ: إنها تروي عشرة آلاف حديث.
وقال ابن الأبار: إنها تسند حديثاً كثيراً، وهي أم ولده بشر بن حبيب، والذي وهبها لدحون في رحلته إلى الحج هو محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان، فقدم بها الأندلس، وقد أعجب بعلمها وفهمها، واتخذها لفراشه، رحم الله تعالى الجميع.
75 - ومنهن فضل المدنية، وكانت حاذقة بالغناء، كاملة الخصال وأصلها لإحدى بنات هارون الرشيد، ونشأت وتعلمت ببغداد، ودرجت من هناك إلى المدينة المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فازدادت ثم طبقتها في الغناء، واشتريت هناك للأمير عبد الرحمن صاحب الأندلس مع صاحبتها علم المدنية، وصواحب غيرها إليهن تنسب دار المدنيات بالقصر، وكان يؤثرهن لجودة غنائهن ونصاعة ظرفهن ورقة أدبهن، وتضاف إليهن جارية يقال لها قلم، وهي ثالثة فضل وعلم في الحظوة عند الأمير المذكور، وكانت أندلسية الأصل رومية من سبي البشكنس، وحملت صبية إلى المشرق، فوقعت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلمت هنالك الغناء فحذقته، وكانت أديبة ذاكرة حسنة الخط، راوية للشعر حافظة للأخبار، عالمة بضروب الآداب.
76 - ومن النساء الداخلات إلى الأندلس من المشرق قمر جارية بن حجاج اللخمي، صاحب إشبيلية (1) ، وكانت من أهل الفصاحة والبيان والمعرفة بصوغ الألحان، وجلبت إلبه من بغداد، وجمعت أدباً وظرفاً، ورواية وحفظاً، مع فهم بارع، وجمال رائع، وكانت تقول الشعر بفضل
__________
(1) التكملة رقم: 2114.(3/140)
أدبها، ولها في مولاها تمدحه:
ما في المغارب من كريم يرتجى ... إلاّ حليف الجود إبراهيم
إنّي حللت لديه منزل نعمةٍ ... كلّ المنازل ما عداه ذميم وأنشد لها السالمي لما ذكرها عدة أشعار منها قولها تتشوق إلى بغداد:
آهاً على بغدادها وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها
ومجالها عند الفرات بأوجه ... تبدو أهلّتها على أطواقها
متبخترات في النّعيم كأنّما ... خلق الهوى العذريّ من أخلاقها
نفسي الفداء لها فأيّ محاسن ... في الدهر تشرق من سنا إشراقها 77 - ومنهن الجارية العجفاء (1) ، قال الأرقمي (1) : قال لي أبو السائب - وكان من أهل الفضل والنسك - هل لك في أحسن الناس غناء فجئنا إلى دار مسلم بن يحيى مولى بني زهرة، فأذن لنا فدخلنا بيتاً عرضه اثنا عشر ذراعاً في مثلها، وطوله في السماء ستة عشر ذراعاً، وفي البيت نمرقتان قد ذهب عنهما اللحم وبقي السدى، وقد حشيتا بالليف، وكرسيان قد تفككا من قدمهما، ثم أطلعت علينا عجفاء كلفاء، عليها قرقل هروي أصفر غسيل، وكأن وركيها في خيط من رسحها (3) ، فقلت لأبي السائب: بأبي أنت! ما هذه فقال: اسكت، فتناولت عوداً فغنت (4) :
بيد الذي شغف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهمّ
فاستيقني أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم
قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم
__________
(1) هذا الخبر عن العجفاء في الأغاني 23: 285.
(1) هذا الخبر عن العجفاء في الأغاني 23: 285.
(3) ق ودوزي: من وسخها، والتصويب عن الأغاني.
(4) الشعر لأبي صخر الهذلي (الأغاني 23: 282) .(3/141)
قال: فتحسنت في عيني، وبدا ما أذهب الكلف عنها، وزحف أبو السائب وزحفت معه، ثم تغنت:
برح الخفاء فأيما بك تكتم ... ولسوف يظهر ما تسرّ فيعلم
ممّا تضمن من غريرة (1) قلبه ... يا قلب إنك بالحسان لمغرم
يا ليت أنّك يا حسام بأرضنا ... تلقي المراسي طائعاً وتخيّم
فتذوّق لذّة عيشنا ونعيمه ... ونكون إخواناً فماذا تنقم فقال أبو السائب: إن نقم هذا فأعضه الله تعالى بكذا وكذا من أبيه، ولا يكنى، فزحفت مع أبي السائب حتى فارقنا النمرقتين، وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق بماء مزنة، ثم غنت:
يا طول ليلي أعالج السقما ... إذ حلّ (2) كلّ الأحبّة الحرما
ما كنت أخشى فراقكم أبداً ... فاليوم أمسى فراقكم عزما فألقيت طيلساني، وأخذت شاذكونة (3) فوضعتها على رأسي، وصحت كما يصاح على اللوبيا بالمدينة، وقام أبو السائب فتناول ربعة (4) في البيت فيها قوارير ودهن، فوضعها على رأسه، وصاح صاحب الجارية وكان ألثغ: قوانيي، يعني قواريري، فاصطكت القوارير وتكسرت، وسال الدهن على رأس أبي السائب وصدره، وقال للعجفاء: لقد هجت لي داء قديماً، ثم وضع الربعة. وكنا نختلف إليها حتى بعث عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس فابتيعت له العجفاء، وحملت إليه.
__________
(1) الأغاني: عزيرة.
(2) ق ودوزي: أدخل.
(3) الشاذكونة: مضربة كبيرة.
(4) الربعة: جونة العطار.(3/142)
78 - ومن القادمين على الأندلس من المشرق الشيخ عبد القاهر بن محمد بن عبد الرحمن، الموصلي. قال أبو حيان: قدم علينا رسولاً من ملك مصر إلى ملك الأندلس، فسمعت منه بالمرية، انتهى.
79 - ومنهم أحمد بن الحسن بن الحارث بن عمرو بن جرير بن إبراهيم بن مالك، المعروف بالأشتر، ابن الحارث، النخعي (1) ، يكنى أبا جعفر، دخل الأندلس في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن، وأصله من الكوفة، وكان يروي أحاديث عظيمة العدد، ذكر ذلك الرازي، وحكى أن الأمير محمداً روى عنه منها، وأنزله برية.
80 - ومنهم أحمد بن أبي عبد الرحمن، واسمه يزيد بن أحمد بن أبي عبد الرحمن القرشي، الزهري، من ولد عبد الرحمن بن عوف (2) ، منأهل مصر، وفد على الناصر بقرطبة، وكان دخوله إليها في محرم سنة 343، فأكرم الناصر مثواه، وكان فقيه أهل مصر، ذكره ابن حيان.
81 - ومنهم أبو الطاهر إسماعيل ابن الإسكندراني (3) ، لقي ببلده أبا طاهر السلفي، وسمع منه، ودرس عليه كتاب " الاصطلاح " للسمعاني، وقدم الأندلس، ودخل مرسية تاجراً، وكان فقيهاً على مذهب الشافعي، وأنشد عن السلفي قوله:
أنا من أهل الحدي ... ث وهم خير فئة
عشت تسعين وأرجو ... أن أعيش لمائة فعاش كما تمنى، رحمه الله تعالى.
__________
(1) ترجمته في التكملة: 126.
(2) ترجمته في التكملة: 127.
(3) ترجمته في التكملة: 190.(3/143)
82 - ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر، الأنطاكي، الإمام، أبو الحسن، التميمي (1) ، نزيل الأندلس ومقرئها ومسندها، أخذ القراءة عرضاً وسماعاً عن إبراهيم بن عبد الرزاق ومحمد بن الأخرم وأحمد بن يعقوب التائب وأحمد بن محمد بن خشيش ومحمد بن جعفر بن بيان، وصنف قراءة ورش، قرأ عليه جماعة: منهم أبو الفرج الهيثم الصباغ وإبراهيم بن مبشر المقرئ وطائفة آخرون من قراء الأندلس، وسمع منه عبد الله بن أحمد بن معاذ الداراني.
قال أبو الوليد بن الفرضي: أدخل الأنطاكي الأندلس علماً جماً، وكان بصيراً بالعربية والحساب وله حظ من الفقه، قرأ الناس عليه، وسمعت أنا منه، وكان رأساً في القراءات، لا يتقدمه أحد في معرفتها في وقته، وكان مولده بأنطاكية سنة 299، ومات بقرطبة في ربيع الأول سنة 377، رحمه الله تعالى.
83 - ومنهم عمر بن مودود بن عمر، الفارسي، البخاري، يكنى أبا البركات (2) ، ولد بسلماس، ونشأ بها، وكتب الحديث هنالك، وتعلم العربية والفقه، وهو من أبناء الملوك، وانتقل إلى المغرب، فدخل الأندلس، ونزل مالقة في حدود ثلاثين وستمائة، ودخل إشبيلية، وكانت له رواية بالمشرق.
قال ابن الأبار: أجاز لي مارواه ولم يسم أحداً من شيوخه، وبلغني أنه سمع صحيح البخاري بالدامغان على أبي عبد الله محمد بن محمود، وكانت إجازته لي سنة 631، وعاش بعد ذلك وتوفي بمراكش بعد الأربعين وستمائة (3) ، وحدث بالأندلس، وأخذ عنه الناس، وكان من أهل التصوف والتحقق بعلم
__________
(1) ترجمة الأنطاكي في ابن الفرضي 1: 361 وغاية النهاية 1: 564.
(2) ترجمته في التكملة رقم: 2252 وصلة الصلة: 74.
(3) صلة الصلة: سنة 639.(3/144)
الكلام، رحمه الله تعالى.
84 - ومنهم الشريف الأجل الرحالة الشيخ نجم الدين بن مهذب الدين، وكنت لا أتحقق من أي البلاد هو من المشرق، ثم إني علمت أنه من بغداد إذا وقفت على كتابين كتبهما في شان العناية به الأديب العلامة أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي: أحدهما لأبي العلاء حسان، والثاني للكاتب أبي الحسن العنسي، وهو الذي يفهم منه أنه من بغداد.
ونص الأول:
يا ابن الوصيّ إذا حملت وصيّتي ... أوجبت حقّاً للحقوق يضاف
وتحيتي كلّ التّحايا دونها ... وكذاك دون رسولها الأشراف
أحسن بأن تلقى ابن حسانٍ بها ... مهتزّةً لورودها الأعطاف
كالروض باكره الندى فلعرفها ... يا ابن النبي على النديّ مطاف
وعلاك إنّ أبا العلا ومكانه ... يلفى به الإسعاد والإسعاف
وأحقّ من عرف الكرام بوصفهم ... من جمّعت منهم له أوصاف هذه يا سيدي تحية تجب لها إجابة وحية، وتصلح بها هشاشة وأريحية، أودعتها بطن هذه العجالة، وبعثتها مع صدر من أبناء الرسالة، ولله در من راضع در النبوة، متواضع مع شرف الأبوة، نازعته طرق الأشعار، وأطراف الأخبار، فوجدت بحراً حصاه الدر النفيس وروضاً يجني منه أطايب السمر الجليس، وينعت بنجم الدين وهو كنعته نجم يضئ سناه ويحل بيتاً من الشرف ربه بناه، وقد جاب الفضاء العريض، وقد رأى القصور الحمر والبيض، وورد الحجون، بعدما شرب من ماء جيحون، وزار مشاهد الحرمين، ثم سار في أرض الهرمين، وفارق إفريقية لهذا الأفق مختاراً وعبر إلى الأندلس فأطال بها اعتباراً، وتشوق إلى حضرة الأنوار المفاضة، والنعم السابغة الفضفاضة، وجعل قصدها بحجة سفره طواف الإفاضة، وهمه أن(3/145)
يشاهد سناء العلوي، ويبصر ما يحقر عنده المرئي والمروي، وهي غاية يقول للأمل: عليها أطلت حومي، وجنة يتلو الداخل لها " ياليت قومي " وسيدي هو منهاباب على الفتح بني، وجناب عنان الأمل إليه ثني، وقصده من هذا الشريف أجل قاصد وأظلته سماء المجد بجمال المشتري وظرف عطارد، ومتى نعتناه فالخبر ليس كالعيان، ومتى شبهناه فالتمويه بالشبه عقوق العقيان، ومن يفضح قريحته بأن يقول لها صفيه، لكن يعرف عن نفسه بما ليس في وسع واصفيه، ويقتضي من عزيمة بره ما لا سعة للمترخص فيه، إن شاء الله، وهو يديم علاكم، ويحرس مجدكم وسناكم، بمنه، والسلام الكريم، الطيب العميم، يخصكم به معظم مجدكم، المعتد بذخيرة ودكم، المحافظ على كريم عهدكم، ابن عميرة، ورحمة الله تعالى وبركاته، في الرابع والعشرين من ربيع الآخر من سنة 639، انتهى.
ونص الثاني:
هل لك يا سيّدي أبا الحسن ... فيمن له كلّ شاهدٍ حسن
في الشرف المنتقى له قدمٌ ... أثبتها بالوصيّ والحسن أيها الأخ الذي ملكته قيادي، وأسكنته فؤادي، عهدي بك تعتام الآداب النقية، وتشتاق اللطائف المشرقية، وتنصف فترى أن في سيلنا جفاء، وفي مغربنا جفاء، وأن المحاسن نبت أرضٍ ما بها ولدنا، وزرع وادٍ ليس مما عهدنا، وأنا في هذا أشايعك وأتابعك، وأناضل من ينازلك وينازعك، وقد أتانا الله تعالى بحجة تقطع الحجج، وتسكت المهج، وهو الشريف الأجل، السيد المبارك نجم الدين بن مهذب الدين نجل الذرية المختارة، ونجم الدرية السيارة، جرى مع زعزع ونسيم، ورتع في جميم وهشيم، وشاهد عجائب كل إقليم، وشرق إلى مطلعه ابن جلا، وغرب حتى نزل شاطئ سلا، وقد توجه الآن إلى حضرة الإمامة الرشيدية أيدها الله تعالى لينتهي من أصابع العد(3/146)
إلى العقدة، ويحصل من مخض الحقيقة على الزبدة، وقد علم أنه ما كل الخطب كخطبة المنبر، ولا جميع الأيام مثل يوم الحج الأكبر، وأدبه ياسيدي من نسبة أفقه، بل على شكل حسبه وخلقه، فإذا رأيته شهدت بأن الشرق قد أتحف إفريقية ببغداذه، بل رمانا بجملة أفلاذه، والحظ فيما يجب من بره وتأنيسه، إنما هو في الحقيقية لجليسه، فيا غبطة من يسبق لجواره، ويقبس من أنواره، وأنت لامحالة تفهمه فهمي، وتشيم من شيمه عارضاً بري القلوب الهيم يهمي، وتضرب في الأخذ من فوائده وقلائده بسهم وددت أنه سهمي، والسلام، انتهى.
85 - ومنهم تقي الدين محمد ابن الشيخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن الغرس، الحنفي، المصري. قال الوادي آشي فيه: إنه من أعيان مصر، قال: وسألته هل يقع بين أهل مصر تنازع في تفضيل بعض المذاهب على بعض فأجابني بأن هذا لا يقع عندهم بين أهل الرسوخ في العلم، وذوي المعرفة والفهم (1) ، وإنما يصدر هذا بين الناشئين، قال: وللحنيفة الظهور عليهم حين يقولون لهم: لنا عليكم اليد الطولى في الخبز، لكونه بمصر يطبخ في الفرن بأرواث الدواب، وكذلك تسخين الحمام، فإن المالكية وغيرهم بمصر يقلدون الحنفية في ذلك، قال: وسألته حفظه الله تعالى: هل للوباء بمصر وقت معلوم فقال لي: جرت العادة عندهم بقدر الله تعالى وسره في خليقته أن كل سنة أولها ثاء مثلثة يكون فيها الوباء، والله تعالى أعلم، وأن هذا متعارف عندهم، هكذا قال لي. وعيب ما يقع من بعض النقاد بتونس وما يصدر عنهم بكثرة من إلقائهم الأسئلة العويصة في أصول الدين وغيرها على من يرد عليهم قصداً في تعجيزه وتعنيته، ثم قال: إن من المنقول عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن من حفظت عنه تسع وتسعون خصلة تقتضي الكفر وواحدة تقتضي الإيمان
__________
(1) ق: والوهم.(3/147)
أن الواحدة المقتضية للإيمان تغلب وتبقى حرمتها عليها، انتهى.
وقد ذكرنا في الباب الأول من هذا القسم حكاية البصري المغني القادم من المشرق إلى البصرة على عبد الوهاب الحاجب بإفريقية في دولة بني المعز بن باديس، وسردنا دخوله عليه في مجلس أنسه، وما اتفق في ذلك له معه، وأنه وصف له بلاد الأندلس وحسنها وطيبها، فارتحل المغني إليها، ومات بها، حسبما لخصناه من كلام الكاتب ابن الرقيق الأديب المؤرخ في كتابه " قطب السرور " ولولا أنه لم يسم المغني المذكور لجعلنا له ترجمة في هذا الباب، إذ هو به أليق، والأمر في ذلك سهل، والله تعالى الموفق للصواب.
86 - ومنهم الولي الصالح العارف بالله سيدي يوسف الدمشقي، رضي الله تعالى عنه، وهو كما قال ابن داوود من كبار الأولياء، شاذلي الطريقة، قدم من المشرق إلى الأندلس، وكان يأتي مدينة وادي آش الكرة بعد الكرة لزيارة معارف له بها، وكان من الذين أخفاهم الله، لا يعرف به إلا من تعرف له، أعاد الله تعالى علينا من بركاته.
قال العلامة ابن داوود: وحدثني مولاي والدي رضي الله تعالى عنه من لفظه بتلمسان أمنها الله تعالى يوم الاثنين لثني عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 895، قال: دخل علي سنة شهر رمضان المعظم في زمان ولايتي الخطابة والإمامة بالعراص من خارج وادي آش، أعادها الله تعالى، فقعدت أول ليلة منه منفرداً بالمسجد الأعظم من الرباط المذكور بين العشائين، وفكرت في ذكر أتخذه في هذا الشهر المبارك يكون جامعاً بين الدنيا والآخرة، فأجمعت على مطالعة " حلية " النواوي لعلي أقف على ما أختاره لذلك، فلما أصبحت دخلت إلى المدينة، ولم أكن أطلعت على فكرتي أحداً، فلقيني الحاج الأستاذ أبو عبد الله بن خلف رحمه الله تعالى في الطريقٍ، فقال لي: سيدي يوسف الدمشقي يسلم عليك ويقول لك: الذكر الذي تعمر به هذا الشهر الفاضل:(3/148)
" اللهم ارزقني الزهد في الدنيا، ونور قلبي بنور معرفتك "، قال لي والدي رضي الله تعالى عنه: وكان هذا سبب تعرفي له، ولقائي إياه، وكنت قبل ذلك منكراً عليه لكثرة الدعاوى في هذا الطريق، نفع الله تعالى به، انتهى.
ولنجعل هذه الترجمة آخر هذا الباب، تبركاً بهذا الولي الصالح، نفعنا الله تعالى ببركاته، مع علمي بأن الوافدين من المشرق على الأندلس كثيرون جداً إلا أن عدم المادة التي أستعين بها في هذه البلاد تبين عذري، ولو اجتمعت على كتبي المخلفة بالمغرب لأتيت في ذلك وغيره بما يشفي ويكفي:
وفي الإشارة ما يغني عن الكلم(3/149)
الباب السابع
في نبذة مما من الله تعالى به على أهل الأندلس من توقد الأذهان، وبذلهم
في اكتساب المعارف والمعالي ما عز أوهان وحوزهم في ميدان البراعة،
من قصب البراعة، خصل الرهان، وجملة من أجوبتهم، الدالة على
لوذعيتهم، وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم، وغير ذلك من أحوالهم التي لها على
فضلهم أوضح برهان
[نقول في فضائل الأندلس]
[1 - عن فرحة الأنفس]
اعلم أن فضل أهل الأندلس ظاهر، كما أن حسن بلادهم باهر، ولذلك ذكر ابن غالب في " فرحة الأنفس " لما أثنى على الأندلس وأهلها أن بطليموس جعل لهم - من أجل ولاية الزهرة لبلادهم - حسن الهمة في الملبس والمطعم، والنظافة والطهارة، والحب للهو والغناء، وتوليد اللحوم، ومن أجل ولاية عطارد حسن التدبير، والحرص على طلب العلم، وحب الحكمة والفلسفة والعدل والإنصاف. وذكر ابن غالب أيضاً ما خصوا به من تدبير المشتري والمريخ. وانتقد عليه بعضهم بأن أقاليم الأندلس الرابع والخامس والسادس فساحلها الشمالي، والسابع في جزائر المجوس، وللإقليم الرابع الشمس، وللخامس الزهرة، وللسادس عطارد، وللسابع القمر، والمشتري للإقليم الثاني، والمريخ للثالث، ولا مدخل لهما في الأندلس، انتهى.
ثم قال صاحب الفرحة (1) : وأهل الأندلس عرب في الأنساب والعزة
__________
(1) م: ثم قال صاحب فرحة الأنفس.(3/150)
والأنفة وعلو الهمم وفصاحة الألسن وطيب النفوس وإباء الضيم وقلة احتمال الذل والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية، هنديون في إفراط عنايتهم بالعلوم وحبهم فيها وضبطهم لها وروايتهم، بغداديون في ظرفهم ونظافتهم ورقة أخلاقهم ونباهتهم وذكائهم وحسن نظرهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم وحدة أفكارهم ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف (1) الزهر، فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة، ومنهم ابن بصال صاحب " كتاب الفلاحة " الذي شهدت له التجربة بفضله، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة النصب في تحسين الصنائع أحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب.
وعد رحمه الله تعالى من فضائلهم اختراعهم للخطوط المخصوصة بهم، قال: وكان خطهم أولاً مشرقياً، انتهى. قال ابن سعيد: أما أصول الخط المشرقي وما تجد له في القلب واللحظ من القبول فمسلم له، لكن خط الأندلس الذي رأيته في مصاحف ابن غطوس الذي كان بشرق الأندلس وغيره من الخطوط المنسوبة عندهم له حسنٌ فائق، ورونق آخذ بالعقل، وترتيب يشهد لصاحبه بكثرة الصبر والتجويد، انتهى.
ونحو صدر كلام ابن غالب السابق مذكورٌ في رسالة لابن حزم، وقال فيها: إن أهل الأندلس صينيون في إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن الصورية، تركيون في معاناة الحروب ومعالجة آلاتها والنظر في مهماتها، انتهى.
وعد ابن غالب من فضائلهم اختراعهم للموشحات التي قد (2) استحسنها
__________
(1) م: وأصناف.
(2) قد: سقطت من ب.(3/151)
أهل المشرق وصاروا ينزعون منزعها، وأما نظمهم ونثرهم فلا يخفى على من وقف عليهما علو طبقاتهم.
ثم قال ابن غالب: ولما نفذ قضاء الله تعالى على أهل الأندلس بخروج أكثرهم عنها في هذه الفتنة الأخيرة المبيرة تفرقوا ببلاد المغرب الأقصى من بر العدوة مع بلاد إفريقية، فأما أهل البادية فمالوا في البوادي إلى ما اعتادوه، وداخلوا أهلها وشاركوهم فيها فاستنبطوا المياه، وغرسوا الأشجار، وأحدثوا الأرحي الطاحنة بالماء وغير ذلك، وعلموهم أشياء لم يكونوا يعلمونها ولا رأوها، فشرفت بلادهم وصلحت أمورهم وكثرت مستغلاتهم وعمتهم الخيرات، فهم أشبه الناس باليونانيين فيما ذكرت ولأن اليونانيين سكنوا الأندلس فورثواعنهم ذلك، وأما أهل الحواضر فمالوا إلى الحواضر واستوطنوها، فأما أهل الأدب فكان منهم الوزراء والكتاب والعمال وجباة الأموال والمستعملون في أمور المملكة، ولا يستعمل بلدي ما وجد أندلسي، وأما أهل الصنائع فإنهم فاقوا أهل البلاد، وقطعوا معاشهم، وأخملوا أعمالهم، وصيروهم أتباعاً لهم، ومتصرفين بين أيديهم، ومتى دخلوا في شغل عملوه في أقرب مدة، وأفرغوا فيه من أنواع الحذق والتجويد ما يميلون به النفوس إليهم، ويصير الذكر لهم، قال: ولا يدفع هذا عنهم إلا جاهل أو مبطل، انتهى.
[2 - عن ابن سعيد]
وقال ابن سعيد، لما ذكر جملة من محاسن الأندلسيين: يعلم الله تعالى أني ما أقصد إلا إنصاف المنصفين الذين لا يميل بهم التعصب، ولا يجمح بهم الهوى، ولكن الحق أحق أن يتبع، فلعل مطلعاً يقف على ما ذكره ابن غالب فيقول: تعصب هذا الرجل لأهل بلده، ثم يغمس التابع له والراضي بنقل قوله في هذه الصبغة ويحمله على ذلك بعده عن الأرضين:(3/152)
ولو أبصروا ليلى أقرّوا بحسنها ... وقالوا بأنّي في الثناء مقصّر ويكفي في الإنصاف أن أقول: إن حضرة مراكش هي بغداد المغرب، وهي أعظم ما في بر العدوة، وأكثر مصانعها ومبانيها الجليلة وبساتينها إنما ظهرت في مدة بني عبد المؤمن، وكانوا يجلبون لها صناع الأندلس من جزيرتهم (1) ، وذلك مشهور معلوم إلى الآن. ومدينة تونس بإفريقية قد انتقلت إليها السعادة التي كانت في مراكش (2) بسلطان إفريقية الآن أبي زكريا يحيى بن أبي محمد بن أبي حفص، فصار فيها من المباني والبساتين والكروم ما شابهت به بلاد الأندلس وعرفاء صناعه من الأندلس وتماثيله التي يبنى عليها، وإن كان أعرف خلق الله باختراع محاسن هذا الشأن، فإنما أكثرها من أوضاع الأندلسيين، وله من خاطره تنبيهات وزيادة ظهر حسن موقعها، ووجوه صنائع دولته لا تكاد تجدهم إلا من الأندلس، فصح قول ابن غالب، انتهى.
[3 - عن الحميدي]
قال الحميدي: أنشد بحضرة بعض ملوك الأندلس قطعة لبعض أهل المشرق وهي:
وماذا عليهم لو أجابوا (3) فسلّموا ... وقد علموا أنّي المشوق المتيّم
سروا ونجوم الليل زهرٌ طوالعٌ ... على أنّهم بالليل للناس أنجم
وأخفوا على تلك المطايا مسيرهم ... فنمّ عليها (4) في الظلام التبسّم فأفرط بعض الحاضرين في استحسانها، وقال: هذا ما لا يقدر أندلسي
__________
(1) م: جزيرتها.
(2) م: بمراكش.
(3) ق ب: أثابوا (اقرأ: أنابوا) .
(4) ب: عليهم.(3/153)
على مثله، وبالحضرة أبو بكر يحيى (1) بن هذيل، فقال بديهاً:
عرفت بعرف الريح أين تيمّموا ... وأين استقلّ الظاغنون وخيّموا
خليليّ ردّاني إلى جانب الحمى ... فسلت إلى غير الحمى أتيمّم
أبيت سمير الفرقدين كأنّما ... وسادي قتادٌ أو ضجيعي أرقم
وأحور وسنان الجفون كأنّه ... قضيبٌ من الريحان لدنٌ منعّم
نظرت إلى أجفانه وإلى الهوى ... فأيقنت أنّي لست منهنّ أسلم
كما أنّ إبراهيم أوّل نظرةٍ ... رأى في الدراري أنّه سوف يسقم انتهى.
[4 - عن ابن بسام]
ومن كلام ابن بسام صاحب " الذخيرة " في جزيرة الأندلس (2) : أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها، فبقي النسل فيها بكل إقليم، على عرق كريم، فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر، وشاعر قاهر. وذكر أن أبا علي اليغدادي صاحب الأمالي الوافد على الأندلس في زمان بني مروان قال: لما وصلت القيروان وأنا أعتبر من أمر به من أهل الأمصار فأجدهم درجات في العبارات (3) وقلة الفهم، بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد، كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاصة ومقايسة. قال أبو علي: فقلت إن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم بقدر نقصان (4) هؤلاء عمن قبلهم فسأحتاج إلى ترجمان، في هذه الأوطان؛ قال ابن بسام: فبلغن يأ، هـ كان يصل كلامه هذا بالتعجب
__________
(1) ق ب م ودوزي: أبو بكر ابن يحيى.
(2) بعض هذا النص في مقدمة الذخير 1 / 1: 4.
(3) الذخيرة: في الغباوة.
(4) م: نقص.(3/154)
من أهل الأفق الأندلسي في ذكائهم، ويتغطى عنهم عند المباحثة والمفاتشة، ويقول لهم: إن علمي علم رواية، وليس بعلم دراية، فخذوا عني ما نقلت، فلم آل لكم أن صححت، هذا مع إقرار الجميع له يومئذٍ بسعة العلم وكثرة الروايات، والأخذ عن الثقات، انتهى.
[5 - عن الحجاري]
ومن كلام الحجاري في " المسهب ": الأندلس عراق المغرب عزة أنساب، ورقة آداب، واشتغالاً بفنون العلوم، وافتناناً في المنثور والمنظوم، لم تضق لهم في ذلك ساحة، ولا قصرت عنه راحة، فما مر فيها بمصر إلا وفيه نجوم وبدور وشموس، وهم أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والأطيار والكؤوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشأن، وابن خفاجة سابقهم في هذا المضمار الحائز فيه قصب الرهان. وأما إذا هب نسيم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجع بم وزير، وصفق الماء خرير، أو رقت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاعٍ ثغر نهر، أو ترقرق بطلٍ جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح، وبات مع من يهواه كالماء والراح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون، الذين لا يجارون ولا يلحقون، وليسوا بالمقصرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، وأطلعت شبه النجوم أسنةً وأجرت شبه الشفق دماء، وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة(3/155)
وقد أعانتهم على الشعر أنسابهم العربية، وبقاعهم النضرة وهممهم الأبية، ولشطار الأندلس من النوادر والتنكيتات، والتركيبات وأنواع المضحكات، ما تملأ الدواوين كثرته، وتضحك الثكلى وتسلي المسلوب قصته، مما لو سمعه الجاحظ لم يعظم عنده ما حكى وما ركب، ولا استغرب أحدٌ ما أورده ولا تعجب، إلا أن مؤلفي هذا الأفق طمحت هممهم عن التصنيف في هذا الشأن فكان يمر بياعاً، فقمت محتسباً للظرف فتداركته جامعاً فيه ما أمسى شعاعاً، انتهى.
[6 - رسالة ابن الحزم في فضل الأندلس (1) ]
قلت: وقد رأيت أن أذكر رسالة أبي محمد ابن حزم الحافظ التي ذكر فيها بعض فضائل علماء الأندلس، لاشتمالها على ما نحن بصدده. وذلك أنه كتب أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد بن الربيب التميمي القيرواني (2) ، إلى أبي المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حزم يذكر تقصير أهل الأندلس في تخليد (3) أخبار علمائهم ومآثر فضائلهم وسير ملوكهم، ما صورته:
كتبت يا سيدي، وأجل عددي، كتب الله تعالى لك السعادة، وأدام لك العز والسيادة، سائلاً مسترشداً، وباحثاً مستخبراً، وذلك أني فكرت في بلادكم إذ كانت قرارة كل فضل، ومنهل كل خير، ومقصد كل طرفة، ومورد كل تحفة، وغاية آمال الراغبين، ونهاية أماني الطالبين، إن بارت تجارة فإليها
__________
(1) سماها ابن خير (الفهرسة: 226) رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها.
(2) ترجم العمري في المسالك 11: 319 نقلا عن أنموذج ابن رشيق لمن اسمه ابن الربيب القاضي الحسين بن محمد التميمي، وقال إن أصله من تاهرت، وكان عارفا بالأدب وعلم النسب قوي الكلام يتكلفه بعض تكلف، وكان عبد الكريم النهشلي أستاذ ابن رشيق يعده شاعرا مقدما.
(3) ب: تخليص.(3/156)
تجلب، وإن كسدت بضاعة ففيها تنفق، مع كثرة علمائها، ووفور أدبائها (1) ، وجلالة ملوكها، ومحبتهم في العلم وأهله، يعظمون من عظمه علمه، ويرفعون من رفعه أدبه، وكذلك سيرتهم في رجال الحرب: يقدمون من قدمته شجاعته، وعظمت في الحروب نكايته، فشجع الجبان، وأقدم الهيبان، ونبه الخامل، وعلم الجاهل، ونطق العيي، وشعر البكي، واستنثر البغاث، وتثعبن الحفاث (2) ، فتنافس الناس فيى العلوم، وكثر الحذاق في جميع (3) الفنون، ثم هم مع ذلك على غاية التقصير ونهاية التفريط، من أجل علماء الأمصار دونوا فضائل أمصارهم، وخلدوا في الكتب مآثر بلدانهم، وأخبار الملوك والأمراء، والكتاب والوزراء، والقضاة والعلماء، فأبقوا لهمذكراً في الغابرين يتجدد على مر الليالي والأيام، ولسان صدقٍ في الآخرين يتأكد مع تصرف الأعوام، وعلمائكم مع استظهارهم على العلوم كل امرئ منهم قائم في ظله لا يبرح، وراتبٌ على كعبه لا يتزحزح، يخاف إن صنف، أن يعنف، وإن ألف أن يخالف، ولا يآلف، أو تخطفه الطير أوتهوي به الريح في مكان سحيق، لم يتعب أحد منهم نفساً في جميع فضائل أهل بلده، ولم يستعمل خاطره في مفاخر ملوكه، ولا بل قلماً بمناقب كتابه ووزرائه، ولا سود قرطاساً بمحاسن قضاته وعلمائه، على أنه لو أطلق ما عقل الإغفال من لسانه، وبسط ما قبض الإهمال من بيانه، لوجد للقول مساغاً ولم تضق عليه المسالك، ولم تخرج به المذاهب، ولا اشتبهت عليه المصادر والموارد، ولكن هم أحدهم أن يطلب شأو من تقدمه من العلماء ليحوز قصبات السبق، ويفوز بقدح ابن مقبل، ويأخذ بكظم دغفل، ويصير شجاً في حلق أبي
__________
(1) ق ب: آدابها.
(2) تثعبن الحفاث: أخذ هيئة الثعبان؛ والحفاث: حيوان كالثعبان يفح فحيحه ويثب مثل وثبه ولكنه غير مؤذ (انظر الحاشية ص 646 من الجزء الأول) .
(3) ب: لجميع؛ ق: بجميع.(3/157)
العميشل، فإذا أدرك بغيته، واخترمته منيته، ودفن مع أدبه وعلمه، فمات ذكره، وانقطع خبره، ومن قدمنا ذكره من علماء الأمصار احتالوا لبقاء ذكرهم احتيال الأكياس فألفوا دواوين بقي لهم بها ذكر مجدد طول الأبد.
فإن قلت: إنه كان مثل ذلك من علمائنا، وألفوا كتباً لكنها لم تصل إلينا، فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق لأنه ليس بيننا وبينكم غير روحة راكب، أو رحلة قارب، لو نفث من بلدكم مصدور، لأسمع من ببلدنا في القبور، فضلاً عمن في الدور والقصور، وتلقوا قوله بالقبول كما تلقوا ديوان أحمد بن عبد ربه الذي سماه بالعقد، على أنه يلحقه في بعض اللوم، لا سيما إذ لم يجعل فضائل بلده واسطة عقده، ومناقب ملوكه يتيمة سلكه، أكثر الحز وأخطأ المفصل، وأطال الهز بسيف غير مقصل، وقعد به ما قعد بأصحابه من ترك ما يعنيهم، وإغفال ما يهمهم. فأرشد أخاك أرشدك الله واهده هداك الله إن كانت عندك في ذلك الجلية وبيدك فصل القضية، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فكت بالوزير الحافظ أبو محمد عل يبن أحمد بن سعيد بن حزم عند وقوفه على هذه الرسالة، ما نصه:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سبدنا محمد عبده ورسوله، وعلى أصحابه الأكرمين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته الفاضلين الطيبين.
أما بعد يا أخي يا أبا بكر (1) ، سلامٌ عليك سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ وكثرت الأيام والليالي ثم لقيك (2) في حال سفر ونقلة، ووادك في خلال جولة ورحلة، من مجاورتك أرباً، ولا بلغ في
__________
(1) هو أبو بكر محمد بن إسحاق المهلبي الإسحاقي الوزير، من أهل الأدب والفضل (الجذوة: 42) وقد كان صديقا لابن حزم يتنقلان معا في أرجاء الأندلس، واعتقلهما خيران معا كذلك.
(2) ق م: لقيتك.(3/158)
محاورتك مطلباً، وإني لما احتللت بك، وجالت يدي في مكنون كتبك، ومضمون دواوينك، لمحت عيني في تضاعيفها درجاً، فإذا فيه خطاب لبعض الكتاب من مصاقبينا في الدار أهل إفريقية، ثم ممن ضمته حاضرة قيروانهم، إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه (1) ، ولا ذكره بنسبه، يذكر له فيها أن علماء بلدنا بالأندلس - وإن كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم، وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف - فإن هممهم قد قصرت عن تخليد مآثر بلدهم، ومكارم ملوكهم، ومحاسن فقهائهم، ومناقب قضاتهم، ومفاخر كتابهم، وفضائل علمائهم، ثم تعدى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم، ويبقي علمهم، بل قطع على أن كل واحد منهم قد مات فدفن علمه معه، وحقق ظنه في ذلك، واستدل على صحته عند نفسه بان شيئاً من هذه التآليف لو كان منا موجوداً لكان إليهم منقولاً، وعندهم ظاهراً، لقرب المزار، وكثرة السفار (2) ، وترددهم إليهم، وتكررهم علينا. ثم لما ضمنا المجلس الحافل بأصناف الآداب، والمشهد الآهل بأنواع العلوم، والقصر المعمور بأنواع الفضائل، والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي، قرارة المجد ومحل السؤدد، ومحط رحال الخائفين، وملقى (3) عصا التسيار عند الرئيس الأجل الشريف قديمه وحسبه، الرفيع حديثه ومكتسبه، الذي أجله عن كل خطة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته، ولا ينال حضره هويناه، وأربأ به عن كل مرتبة يلحقه فيها من لايسمو إلى المكارم سموه، ولا يدنو من المعالي دنوه، ولا يعلو في حميد
__________
(1) لعل ابن حزم يعني أنه لم يجد في الرسالة التي بعثها ابن الربيب اسم المرسل إليه ونسبته، وقد صرح ابن بسام - كما ذكر المقري في النفح - أن ابن الربيب خاطب أبا المغيرة ابن حزم، وأن أبا المغيرة رد عليه برسالة أطال فيها القول وختم بذكر جملة من تواليف أهل الأندلس (الذخيرة 1 / 1: 111 - 116) .
(2) م: السفرة.
(3) م: ومحط؛ ب: ومحطى.(3/159)
الحلال علوه، بل أكتفي من مدحه باسمه المشهورن فحسبي بدينك العلمين دليلاً على سعيه المشكور، وفضله المشهور، أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت (1) أطال الله بقاءه، وأدام اعتلائه، ولا عطل الحامدين من تحليهم بحلاه، ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه، فرأيته أعزه الله تعالى حريصاً على أن يجاوب هذا المخاطب، وراغباً في أن يبين له ما لعله قد رآه فنسي أو بعد عنه فخفي، فتناولت الجواب المذكور بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات، رحمنا الله تعالى وإياه، فلم يكن لقصده بالجواب معنى، وقد صارت المقابر له مغنى، فلسنا بمسمعين من في القبور، فصرفت عنان الخطاب إليك، إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه، ومن لدنك وصلت إلى الرسالة المعارضة، وفي وصول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كفاية لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا مثل ما غاب عن الباحث الأول، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإن كنت في إخباري إياك بما أرسمه في كتابي هذا كمهد إلى البركان نار الحباحب، وباني صوىً في مهيع القصد اللاحب، فإنك وإن كنت المقصود والمواجه، فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأى عنه علم ما استجلبه السائل الماضي، وما توفيقي إلا بالله سبحانه.
فأما مآثر بلدنا فقد ألف في ذلك أحمد بن محمد الرازي التاريخي (2) كتباً جمة: منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها، وأمهات مدنها وأجنادها الستة، وخواص كل بلد منها، وما فيه مما ليس في غيره، وهو
__________
(1) ذكر ابن الأبار في التكملة: 388 أن ابن حزم كتب هذه الرسالة بطلب من أبي عبد الله محمد بن عبد الله الفهري صاحب البونت ويلقب: " يمن الدولة "؛ والبونت (Alpuente) من أعمال بلنسية استقل فيها بنو قاسم الفهريون بعد الفتنة، وأولهم عبد الله بن قاسم (- 421) وخلفه يمن الدولة وبقي حاكما حتى سنة 434 (أعمال الأعلام: 208) .
(2) ترجمة الرازي في الجذوة: 96 وطبقات الزبيدي: 327.(3/160)
كتاب مريح مليح، وأنا أقول: لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر به (1) ووصف أسلافنا المجاهدين فيه بصفات الملوك على الأسرة في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان زوج أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين حدثته به عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها بذلك (2) ، لكفى شرفاً بذلك يسر عاجله، ويغبط آجله. فإن قال قائل: فلعله صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش، وما الدليل على ما ادعيته من أنه صلى الله عليه وسلم عنى الأندلس حتماً ومثل هذا التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح، وبيان لائح، لا يحتمل التوجيه، ولا يقبل التجريح، فالجواب - وبالله التوفيق - أنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب، وأمر بالبيان لما أوحي إليه، وقد أخبر في ذلك الحديث المتصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمته يركبون ثبج هذا البحر غزاة واحدة بعد واحدة، فسألته أم حرام أن يدعو ربه تعالى أن يجعلها منهم، فأخبرها صلى الله عليه وسلم وخبره الحق بأنها من الأولين، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره بالشيء قبل كونه، وصح البرهان على رسالته بذلك، وكانت من الغزاة إلى قبرس، وخرت عن بغلتها هناك، فتوفيت، رحمها الله تعالى، وهي أول غزاة ركب فيها المسلمون البحر، فثبت يقيناً أن الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم حرام منهم كما أخبر صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ولا سبيل أن يظن به
__________
(1) م: إلا ما بشر به رسول الله ... إلخ.
(2) صحيح مسلم 2: 104، وفيه أن رسول الله (ص) نام ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت له أم ملحان: ما يضحكك يا رسول الله قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ... إلخ، وأنه نام مرة أخرى، وفعل كفعله الأول، فلما قالت له أم ملحان: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: انت من الأولين.(3/161)
وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان أنه يذكر طائفتين قد سمى إحداهما أولى إلا والتالية لها ثانية، فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد، وهذا يقتضي طبيعة صناعة المنطق، إذ لا تكون الأولى أولى إلا لثانية، ولا الثانية ثانية إلا لأولى، فلا سبيل إلى ذكر ثالث إلا بعد ثان ضرورة، وهو صلى الله عليه وسلم إنما ذكر طائفتين، وبشر بفئتين، وسمى إحداهما الأولين، فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين، والآخر من الأول والثاني الذي أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خير القرون بعد قرنه، وأولى القرون بكل فضل بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خير من كل قرن بعده، ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية، وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري، وأما صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغلبة سنة 212، أيام قاد إليها السفن غازياً أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى، وبها مات، وأما إقريطش فإنها فتحت بعد الثلاث والمائتين (1) ، افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب المعروف بابن الغليظ (2) ، من أهل قرية بطروج من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس، وكان من فل الربضيين، وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في أيامه أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة 350 (3) ، وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس.
__________
(1) في الجذوة: بعد الثلاثين والمائتين؛ وفي ياقوت (إقريطش) : بعد سنة 250، وذكر أبو سعيد ابن يونس أن شعيب بن عمر بن عيسى أبا عمر، تولى فتح جزيرة إقريطش بعد سنة عشرين ومائتين، وقال البلاذري (فتوح: 279) إن أبا حفص عمر بن عيسى الأندلسي المعروف بالإقريشي غزاها في خلافة المأمون وافتتح حصنا واحدا ونزله ثم لم يزل يفتح منها شيئا بعد شيء؛ ولعل هذا هو سبب الاختلاف في تاريخ فتحها.
(2) ترجمة عمر بن شعيب في الجذوة: 282 نقلا عن ابن حزم.
(3) افتتحها ارمانوس في منتصف المحرم 350 فقتل ونهب وأخذ صاحبها عبد العزيز بن شعيب وبني عمه وأموالهم إلى القسطنطينية (ياقوت: إقريطش) .(3/162)
وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة مسقط رؤوسنا، ومعق (1) تمائمنا، مع سر من رأى في إقليم واحد، فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور، وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها، فلها من ذلك على كل حال حظ يفوق حظ أكثر البلاد، بارتفاع أحد النيرين بها تسعين درجة، وذلك من أدلة التمكن في العلوم والنفاذ فيها عند من ذكرنا، وقد صدق ذلك الخبر، وأبانته التجربة، فكان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات وحفظ كثير من الفقه والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء واسع العطن متنائي الأقطار سيح المجال، والذي نعاه علينا الكاتب المذكور لو كان كما ذكره لكنا فيه شركاء لأكثر أمهات الحواضر وجلائل البلاد ومتسعات الأعمال، فهذه القيروان بلد المخاطب لنا، ما أذكر أني رأيت في أخبارها تأليفاً غير " المعرب (2) عن أخبار المغرب " وحاشا تواليف محمد بن يوسف الوراق (3) ، فإنه ألف للمستنصر رحمه الله تعالى في مسالك إفريقية وممالكها ديواناً ضخماً وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم كتباً جمة، وكذلك ألف أيضاً في أخبار تيهرت ووهران وتنس وسجلماسة ونكور والبصرة (4) وغيرها تواليف حساناً، ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع، آباؤه من وادي الحجارة، ومدفنه بقرطبة، وهجرته إليها وإن كانت نشأته بالقيروان.
ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه هاهنا إذ مرادنا أن نأتي منه
__________
(1) ب: ومعقد؛ ومعق التمائم، أي موضع قطعها دلالة على تجاوز سن الطفولة.
(2) ق: المغرب.
(3) محمد بن يوسف أبو عبد الله التاريخي الوراق (الجذوة: 90 وبغية الملتمس رقم: 304 وفيهما ما قاله ابن حزم) .
(4) يعني بصرة المغرب، وكانت قريبا من مدينة أصيلا.(3/163)
بالمطلب، فيما يستأنف إن شاء الله تعالى، وذلك أن جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين، دون محاشاة أحد، بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك، متفقون على أن ينسبوا الجل إلى مكان هجرته التي استقر بها ولم يرحل عنها رحيل تركٍ لسكناها إلى أن مات، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة رضي الله تعالى عنهم، وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهراً، وقد بقي 58 عاماً وأشهراً بمكة والمدينة شرفهما الله تعالى. وكذلك أيضاً أكثر أعمار من ذكرنا، وإن ذكروا البصريين بدأوا بعمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر وأبي بكرة، وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة الطائف، وجمهرة أعمارهم خلت هنالك، وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة ابن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم، وكذلك في المصريين عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي، وفي المكيين عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا فمن هاجر إلينا من سائر البلاد فنحن أحق به، وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا الذين إجماعهم فرض إتباعه، وخلافه محرم اقترافه (1) ، ومن هاجر منا إلى غيرنا فلاحظنا فيهن والمكان الذي اختاره أسعد به، فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم (2) فكذلك لا ننازع في محمد بن هانئ سوانا (3) ، والعدل أولى ما حرص عليه، والنصف أفضل ما دعي إليه، بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه، وعلى ما ذكرنا من الأنصاف تراضى الكل.
__________
(1) م: اقترابه؛ ق: اقترانه.
(2) يريد أبا علي القالي، أي أنه يعده أندلسيا - حسب مقياسه - لأنه هاجر إلى الأندلس واقام فيها حتى توفي.
(3) سوانا: سقطت من م.(3/164)
وهذه بغداد حاضرة الدنيا ومعدن كل فضيلة، والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف، والتدقيق في تصريف العلوم ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدة الأفكار ونفاد الخواطر، وهذه البصرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا، وما أعلم في أخبار بغداد تأليفاً غير كتاب أحمد بن أبي طاهر (1) ، وأما سائر التواريخ التي ألفها أهلها فلم يخصوا بلدتهم بها دون سائر البلاد، ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة (2) ، وكتاب لرجل من ولد الربيع بن زياد المنسوب إلى أبي سفيان في خطط البصرة وقطائعها، وكتابين لرجلين من أهلها يسمى أحدهما عبد القاهر كريزي النسب [في] صفاتها (3) وذكر أسواقها ومحالها وشوارعها، ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر (4) بن شبة، وأما الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرنان وسجستان والري (5) والسند وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفاً قصد به أخبار ملوك تلك النواحي، وعلمائها وشعرائها وأطبائها (6) ، ولقد تاقت النفوس إلى أ، يتصل بها تأليف في أخبار فقهاء بغداد، وما علمناه علم، على أنهم العلي الرؤساء، والأكابر العظماء، ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب أن يبلغنا كما بلغ سائر تآليفهم، وكما بلغنا كتاب حمزة بن الحسن الأصبهاني في أخبار أصبهان (7) ،
__________
(1) أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور (- 280) وكتابه المشار إليه " بغداد " بقيت منه قطعة نشرها هنسي كلر بالزنكوغراف (1908) وأعيد طبعها بمصر (1368هـ) ؛ انظر ترجمته في معجم الأدباء 1: 152.
(2) هو كتاب " أخبار أهل البصرة " ولمؤلفه ترجمة في معجم الأدباء 6: 481 والتهذيب 7: 460 وبغية الوعاة: 361 ونور القبس: 231.
(3) ب ق: وصفاتها.
(4) عمر: سقطت من ق.
(5) والري: زيادة من ق ب.
(6) كثرت المؤلفات في البلدان بعد ابن حزم؛ انظر الإحاطة 1: 90 والإعلان: 121 - 135.
(7) انظر ترجمة حمزة الأصبهاني في تاريخ أصبهان 1: 300 وقد وصلنا من كتبه كتابه تواريخ سي ملوك الأرض والأنبياء، والدرة الفاخرة (مخطوط) وشرح ديوان أبي نؤاس، أما كتابه في تاريخ بلده فلم يصلنا.(3/165)
وكتاب الموصلي (1) وغيره في أخبار مصر، وكما بلغنا سائر تواليفهم في أنحاء العلوم، وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط (2) واعتراضه على الشافعي رحمه الله تعالى، كذلك بلغنا رد القاضي أحمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة (3) وتشيعه على الشافعي، وكتب ابن عبدوس (4) ومحمد ابن سحنون (5) وغير ذلك من خوامل (6) تآليفهم دون مشهورها.
وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر " أزهد الناس في عالمٍ أهله "، وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: " لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده " وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قريش - وهم أوفر الناس أحلاماً وأصحهم عقولاً وأشدهم تثبتاً، مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع، وتغذيتهم بأكرم المياه - حتى خص الله تعالى الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها على جميع الناس، والله يؤتي فضله من يشاء، ولا سيما أندلسنا فإنها خصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم الماهر منهم، واستقلالهم
__________
(1) في م: الوصلي، ولعلها أن تقرأ " المصري " إذ لا أعلم - بعد البحث - أن موصليا ألف في تاريخ مصر وأخبارها؛ ومن الكتب التي يرجح أن ابن حزم عرفها في تاريخ مصر كتاب (أو كتب) أبي عمر الكندي صاحب تاريخ الولاة والقضاة، وتاريخ مصر لمحمد بن عبد الحكم (توفي 268) .
(2) أبو العباس محمد بن عبدون بن أبي ثور، كان قاضيا على القيروان نحو ثلاثين شهرا، وعزله عنها إبراهيم بن الأغلب؛ وكان حافظا لمذهب أبي حنيفة موثقا كاتبا للشروط والوثائق (علماء إفريقية: 241، 307) .
(3) صوابه: عبد الله بن أحمد بن طالب، قال فيه الخشني: وكان له نظر ومناظرة يرد فيها على الشافعي لا بأس بها (علماء إفريقية: 257، 297) .
(4) هنالك اثنان هما محمد وإسحاق ابنا إبراهيم بن عبدوس والأول منهما كان حافظا لمذهب مالك، وله على مذهبه كتاب اسمه " المجموعة " (توفي سنة 258) . انظر علماء إفريقية: 182.
(5) انظر علماء إفريقية: 256، 296.
(6) في الأصول: خواصل.(3/166)
كثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقطاته وعثراته، وأكثر ذلك مدة حياته، بأضعافما في سائر البلاد، إن أجاد قالوا: سارق مغير ومنتحل مدع، وإن توسط قالوا: غث بارد وضعيف ساقط، وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا: متى كان هذا ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ ولأمه الهبل! وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين إما شفوفاً بائناً يعليه على نظرائه أو سلوكاً في غير السبيل التي عهدوها فهنالك حمي الوطيس على البائس، وصار غرضاً للأقوال وهدفاً للمطالب ونصباً للتسبب إليه ونهباً للألسنة وعرضة للتطرق إلى عرضه، وربما نحل ما لم نقل وطوق ما لم يتقلد وألحق به ما لم يفه به ولا اعتقده قلبه، وبالحرى وهو السابق المبرز إن لم يتعلق من السلطان بحظ أن يسلم من المتالف وينجو من المخالف، فإن تعرض لتأليف غمز ولمز وتعرض وهمز واشتط عليه، وعظم يسير خطبه واستشنع هين سقطه وذهبت محاسنه وسترت فضائله وهتف ونودي بما أغفل، فتنكس لذلك همته وتكل نفسه وتبرد حميته، وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعراً أو يعمل رسالة، فإنه لا يفلت من هذه الحبائل، ولا يتخلص من هذا النصب إلا الناهض الفائت والمطفف المستولي على الأمد.
وعلى ذلك فقد جمع ما ظنه الظان غير مجموع، وألفت عندنا تآليف في غاية الحسن، لنا خطر السبق في بعضها: فمنها كتاب " الهداية " لعيسى بن دينار (1) ، وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم، وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب، فمنها كتاب الصلاة وكتاب البيوع وكتاب الجدار (2) في الأقضية وكتاب النكاح والطلاق، ومن الكتب المالكية التي
__________
(1) عيسى بن دينار بن واقد الغافقي (الجذوة: 279 وبغية الملتمس رقم: 1144 وابن الفرضي 1: 373) . صحب عبد الرحمن العتقي صاحب مالك وتفقه عليه وأصبح إماما في الفقه على مذهب مالك (توفي سنة 212) .
(2) موضع كلمة " الجدار " بياض في ب.(3/167)
ألفت بالأندلس كتاب القطني مالك بن علي (1) ، وهو رجل قرشي من بني فهر لقي أصحاب مالك وأصحاب أصحابه، وهو كتاب حسن فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل المولدات، ومنها كتاب أبي إسحاق [يحيى بن] (2) إبراهيم بن مزين في تفسير الموطأ والكتب (3) المستقصية لمعاني الموطأ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضاً، وكتابه في رجال الموطأ وما لمالك عن كل واحد منهم من الآثار في موطإه.
وفي تفسير القرآن كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره (4) .
ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه (5) على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف، ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء، وسائرهم أعلام مشاهير. ومنها مصنفه في فضل (6) الصحابة والتابعين ومن دونهم
__________
(1) هو مالك بن علي بم عبد الملك بن قطن (ولذلك يقال له القطني؛ وفي دوزي والأصول القصي) أبو خالد الزاهد، له مختصر في الفقه على مذهب مالك، وتوفي سنة 268؛ انظر الجذوة: 324 وبغية الملتمس رقم: 1350 وابن الفرضي 2: 3.
(2) زيادة لازمة أخلت بها الأصول؛ وقد قال الحميدي (الجذوة: 148) إن إبراهيم بن مزين تكن له رواية؛ أما ابنه يحيى فهو الذي يقصده ابن حزم هنا؛ توفي سنة 259 (انظر الجذوة: 350 وبغية الملتمس رقم: 1457 وابن الفرضي 2: 178) .
(3) كذا بصيغة الجمع ولعله يعني الأجزاء؛ وذكر ابن الفرضي أن له كتابا استقصى فيه علل الموطإ سماه " المستقصية ".
(4) انظر الجذوة: 167 (وهو ينقل كلام ابن حزم) والصلة: 118.
(5) م: ألفه ورتبه.
(6) الجذوة: فتاوى.(3/168)
الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها وانتظم علماً عظيماً لم يقع في شيء من هذه، فصارت تآليف هذا الإمام العلي قواعد للإسلام، لا نظير لها، وكان متخيراً لا يقلد أحداً، وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه.
ومنها في أحكام القرآن كتاب ابن أمية (1) الحجاري، وكان شافعي المذهب بصيراً بالكلام على اختياره، وكتاب القاضي أبي الحكم منذر بن سعيد، وكان داودي المذهب قوياً على الانتصار له، وكلاهما في أحكام القرآن غاية، ولمنذر مصنفات منها كتاب " الإبانة عن حقائق أصول الديانة ".
ومنها في الحديث مصنف أبي محمد قاسم بن أصبغ بن يوسف بن ناصح، ومصنف محمد بن عبد الملك بن أيمن (2) ، وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات، ولقاسم بن أصبغ هذا تآليف حسان جداً، منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل (3) وكلامه، ومنها كتاب " المجتبى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى " وهو خير منه وأنقى حديثاً وأعلى سنداً وأكثر فائدةً، ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة (4) ، وكتابه في الناسخ والمنسوخ، وكتاب غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطأ. ومنها كتاب " التمهيد " لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر، وهو الآن بعد في الحياة (5) لم يبلغ سن الشيخوخة، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً فكيف أحسن منه، ومنها كتاب " الاستذكار " وهو اختصار التمهيد (6) المذكور، ولصاحبنا أبي عمر بن عبد البر
__________
(1) الجذوة: ابن آمنة (ص: 380) .
(2) انظر الجذوة: 63.
(3) يعني إسماعيل بن إسحاق (الجذوة: 311) وبقية النص عن قاسم بن أصبغ مثبت في الجذوة.
(4) وكنانة: لم تذكر في الجذوة.
(5) م: بقيد الحياة، وقد توفي ابن عبد البر سنة 463 (راجع الصلة: 640 والجذوة: 344) .
(6) م: التهذيب.(3/169)
المذكور كتبٌ لا مثيل لها: منها كتابه المسمى بالكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر كتاباً (1) اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوبه وقربه فصار مغنياً عن التصنيفات الطوال في معناه، ومنها كتابه في الصحابة ليس لأحد من المتقدمين مثله على كثرة ما صنفوا في ذلك (2) ، ومنها كتاب " الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو ابن العلاء، والحجة لكل واحد منهما "، ومنها كتاب " بهجة المجالس وأنس المجالس، مما يجري في المذاكرات من غرر الأبيات ونوادر الحكايات "، ومنها كتاب " جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته " (3) .
ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي في المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال، ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري في ذلك إلا كتابين، وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى نحو الثلاثين لا أعلم مثله في فنه البتة، ومنها تاريخ أحمد بن سعيد (4) ، ما وضع في الرجال أحد مثله إلا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي، ولم أره، وأحمد بن سعيد هو المتقدم إلى التأليف القائم في ذلك، ومنها كتب محمد بن [أحمد بن] (5) يحيى بن مفرج القاضي، وهي كثيرة منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري، وكتب كثيرة جمع فيها فقه الزهري.
ومما يتعلق بذلك شرح الحديث لقاسم بن ثابت (6) السرقسطي، فما شآه
__________
(1) الجذوة: ستة عشر جزءا.
(2) يعني كتاب " الاستيعاب ".
(3) من كتب ابن عبد البر أيضا الدرر في اختصار المغازي والسير، والشواهد في إثبات خبر الواحد، والبيان عن تلاوة القرآن، والعقل والعقلاء، وأخبار أئمة الأنصار، القصد والأمم، وغيرهما.
(4) أحمد بن سعيد الصدفي ألف في تاريخ الرجال كتابا كبيرا جمع فيه جميع ما حصل عليه من أقوال في التعديل والتجريح، توفي سنة 350 (الجذوة: 117 وابن الفرضي 1: 55) .
(5) زيادة من الجذوة: 38.
(6) في الأصول ودوزي: لعامر بن خلف، وهو خطأ واضح؛ ولقاسم كتاب " غريب الحديث " وقول ابن حزم فيه مذكور في الجوذة: 312.(3/170)
أبو عبيد إلا بتقدم العصر فقط.
ومنها في الفقه " الواضحة " والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إياها، ومنها " المستخرجة من الأسمعة " وهي المعروفة ب " العتبية "، ولها عند أهل إفريقية القدر العالي والطيران الحثيث (1) ، والكتاب الذي جمعه أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام الإشبيلي المعروف بابن المكوي (2) ، والقرشي أبو مروان المعيطي (3) في جمع أقاويل مالك كلها على نحو الكتاب " الباهر " الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد البصري أقاويل الشافعي كلها، ومنها كتاب " المنتخب " (4) الذي ألفه القاضي محمد بن يحيى بن عمرو بن لبابة، وما رأيت لمالك قط كتاباً أنبل منه في جمع روايات المذهب وشرح مستغلقها وتفريع وجوهها، وتآليف قاسم بن محمد المعروف بصاحب الوثائق وكلها حسن في معناه، وكان شافعي المذهب نظاراً جارياً في ميدان البغدادين (5) .
ومنها في اللغة الكتاب " البارع " (6) الذي ألفه إسماعيل بن القاسم يحتوي على لغة العرب، وكتابه في " المقصور والممدود والمهموز " لم يؤلف مثله في بابه، وكتاب " الأفعال " لمحمد بن عمر بن عبد العزيز (7) المعروف بابن القوطية بزيادات ابن طريف مولى العبديين (8) فلم يوضع في فنه مثله، وكتاب جمعه أبو
__________
(1) الواضحة لعبد الملك بن حبيب والعتيبة لتلميذه العتبي (الجذوة: 264، 37) .
(2) في الأصول: الكوي، والتصويب عن الجذوة: 123 والصلة: 28؛ (توفي سنة 401) .
(3) المعيطي هو محمد بن عبيد الله القرشي، وقد قال ابن بشكوال إنهما جمعا الكتاب للمستنصر أما الحميدي فذكر أنهما جمعاه بأمر المنصور بن أبي عامر، واسم الكتاب " الاستيعاب ".
(4) انظر الجذوة: 91 وأورد قول ابن حزم.
(5) قاسم بن محمد (توفي سنة 278) وله كتاب " الإيضاح في الرد على المقلدين " - الجذوة: 310.
(6) بقيت من هذا الكتاب قطعة أخرجها فلتون (Fulton) بالزنكوغراف (لندن: 1933) .
(7) في الأصول: لمحمد بن عامر الغزي؛ وكتابه " الأفعال " مطبوع مرتين، إحداهما بمصر.
(8) ترجمة ابن طريف في الجذوة: 381.(3/171)
غالب تمام بن غالب المعروف بابن التياني (1) في اللغة لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً وثقة نقل، وهو أظن (2) في الحياة بعد. وههنا قصة لا ينبغي أن تخلو رسالتنا منها، وهي أن أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي، حدثني أن أبا الجيش مجاهداً صاحب الجزائر ودانية وجه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة الكتاب المذكور " مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد " فرد الدنانير وأبى من ذلك، ولم يفتح في هذا باباً البتة، وقال: والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب، لأني لم أجمعه له خاصة بل لكل طالب، فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها.
ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد (3) في اللغة المعروف بكتاب " العالم " نحو مائة سفر على الأجناس في غاية الإيعاب، بدأ بالفلك وختم بالذرة، وكتاب " النوادر " (4) لأبي علي إسماعيل بن القاسم، وهو مبارٍ لكتاب " الكامل " لأبي العباس المبرد، ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحواً وخبراً فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعراً، وكتاب " الفصوص " (5) لصاعد بن الحسن الربعي، وهو جارٍ في مضمار الكتابين المذكورين.
ومن الأنحاء تفسير الجرفي (6) لكتاب الكسائي، حسن في معناه، وكتاب
__________
(1) ترجم له الحميدي مرتين: 172، 380 وأورد في الأولى قصته مع أبي الجيش مجاهد بصدد كتابه في اللغة واسمه " تلقيح العين ".
(2) م: أظنه.
(3) ق: سعيد؛ م: سيدة؛ وترجمة ابن سيد في الجذوة: 110 والصلة: 14 وكان صاحب الشرطة بقرطبة وتتلمذ للقالي، توفي سنة 382، وترجم له الحميدي مرة أخرى تحت " ابن سيد " (ص: 381) .
(4) هو المعروف بكتاب أمالي القالي.
(5) من هذا الكتاب مخطوطة جيدة بخزانة القرويين بفاس.
(6) في الأصول: الحوفي والتصويب عن الجذوة: 384 إذ ضبطه بالجيم المضمومة.(3/172)
ابن سيده في ذلك المنبوز ب " العالم والمتعلم " وشرح له لكتاب الأخفش (1) .
ومما ألف في الشعر كتاب عبادة بن ماء السماء في " أخبار شعراء الأندلس " كتاب حسن (2) ، وكتاب " الحدائق " لأبي عمر أحمد بن فرج عارض به كتاب الزهرة لأبي محمد بن داوود رحمه الله تعالى، إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب في كل باب مائة بيت، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً، وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد، فبلغ الغاية، وأتى الكتاب فرداً في معناه (3) ، منها كتاب " التشبيهات من أشعار أهل الأندلس " جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسن الكاتب وهو حي بعد (4) ، ومما يتعلق بذلك شرح أبي القاسم إبراهيم بن محمد الإفليلي لشعر المتنبي، وهو حسن جداً (5) .
ومن الأخبار تواريخ (6) أحمد بن محمد بن موسى الرازي في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم، وذلك كثير جداً، وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعياد بها، على نحو ما بدأ به ابن أبي طاهر في أخبار بغداد وذكر منازل صحابة أبي جعفر المنصور بها، وتواريخ متفرقة رأيت منها: أخبار عمر بن حفصون القائم برية ووقائعه وسيره وحروبه، وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالجوف، وفي أخبار بني
__________
(1) ذكر الحميدي كتابي " العالم والمتعلم " و " شرح كتاب الأخفش " لأبان بن سيد المتقدم الذكر، لا لابن سيده صاحب المخصص والمحكم.
(2) لم يصلنا هذا الكتاب، ولكن ابن سعيد ينقل عنه في المغرب.
(3) أورد الحميدي (ص: 97) نص كلام ابن حزم هذا في الحدائق، وأكثر الحميدي وابن الأبار في الحلية وابن سعيد في المغرب، النقل عن هذا الكتاب.
(4) ترجمة ابن أبي الحسن في الجذوة: 290، قال الحميدي: وعاش إلى أيام الفتنة.
(5) هذا الشرح موجود ولكنه لم ينشر بعد.
(6) م: تاريخ؛ وهذا النص في الجذوة: 97.(3/173)
قسي والتجيبيين وبني الطويل بالثغر (1) ، فقد رأيت من ذلك كتباً مصنفة في غاية الحسن، وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في أخبار رية وحصونها وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني (2) ، وكتاب محمد بن الحارث الخشني في " أخبار القضاة بقرطبة (3) وسائر الأندلس "، وكتاب " في أخبار الفقهاء " بها، وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في " أنساب مشاهير أهل الأندلس " في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتاب في الأنساب وأوسعها، وكتاب قاسم بن أصبغ في " الأنساب " في غاية الحسن والإيجاز، وكتابه في " فضائل بني أمية "، وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره، ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس، ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الأندلس للمستنصر رحمه الله تعالى، رأيت منها " أخبار شعراء إلبيرة " في نحو عشرة أجزاء، ومنها كتاب " الطوالع " في أنساب أهل الأندلس، ومنها كتاب " التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس " تأليف أبي مروان ابن حيان نحو عشرة أسفار من أجل كتاب ألف في هذا المعنى (4) ، وهو في الحياة بعد لم يتجاوز الاكتهال، وكتاب " المآثر العامرية " لحسين بن عاصم في سير ابن أبي عامر وأخباره (5) ، وكتاب الأقشتين (6) محمد بن عاصم النحوي في
__________
(1) ورد طرف من أخبار هؤلاء الثائرين في المقتبس وابن عذاري، وانظر في أنسابهم كتاب الجمهرة: 464.
(2) في الأصول: الليثي، والتصويب عن الجذوة: 159، ومعجم البلدان (رية) .
(3) كتاب " قضاة قرطبة " للخشني مطبوع مع " علماء إفريقية " له بمصر سنة 1372هـ عن نشرة ريبيرا (1914) .
(4) أبو مروان ابن حيان كبير مؤرخي الأندلس وصاحب المقتبس والمتين وغيرهما (الصلة: 150 والذخيرة 1 / 2: 84 - 114) وقد نشر من مقتبسه ثلاث قطع، ويعتمد ابن بسام عليه في الأجزاء التاريخية من كتاب الذخيرة.
(5) انظر الجذوة: 181.
(6) الأقشين (Augustine) له ترجمة في الجذوة مرتين 74، 82 مرة باسم محمد بن عاصم ومرة باسم محمد بن موسىبن هاشم (وبغية الملتمس رقم: 243، 268) وطبقات الزبيدي: 305 (وكتب خطأ: الأفشنيق) وابن الفرضي 2: 216، وأكبر الظن هناك خطأ وقع بين " عاصم " و " هاشم ". ولم يذكر الزبيدي " محمد بن عاصم " في النحويين، وهو أعرف بهم.(3/174)
" طبقات الكتاب بالأندلس "، وكتاب سكن بن سعيد في ذلك (1) ، وكتاب أحمد بن فرج في " المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم "، وكتاب " أخبار أطباء الأندلس " لسليمان بن جلجل (2) .
وأما الطب فكتب الوزير يحيى بن إسحاق (3) وهي كتب رفيعة حسان، وكتب محمد بن الحسن المذحجي أستاذنا رحمه الله تعالى، وهو المعروف بابن الكتاني (4) ، وهي كتب رفيعة حسان، وكتب التصريف لأبي القاسم خلف بن عياش (5) الزهراوي، وقد أدركناه وشاهدناه، ولئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنصدقن، وكتب ابن الهيثم (6) في الخواص والسموم والعقاقير من أجل الكتب وأنفعها.
وأما الفلسفة فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيوناً مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار دالة على تمكنه من هذه الصناعة (7) ، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة.
__________
(1) انظر ترجمة سكن بن سعيد في الجذوة: 319 والبغية رقم: 834.
(2) نشره الأستاذ فؤاد السيد (القاهرة: 1955) مع مقدمة ضافية في التعريف بالكتاب ومؤلفة.
(3) ترجمته في ابن جلجل: 100 وابن أبي أصيبعة 2: 43 والجذوة: 351 والبغية رقم: 1460.
(4) ترجمته في ابن اصيبعة 2: 45 والجذوة: 45 والبغية رقم: 81 وهو أيضا صاحب كتاب التشبيهات، وانظر هنالك تحقيقنا لاسمه ومواضع ترجمته.
(5) في النفح عياش؛ وفي المصادر التي ترجمت له (ابن أبي أصيبعة 2: 52 والجذوة: 195 والبغية رقم: 715) " عباس " ومن كتابه التصريف نسخ في برلين وباريس وولي الدين وغيرها (راجع بروكلمان) .
(6) هو عبد الرحمن بن إسحاق (ابن أبي اصيبعة 2: 46) .
(7) سعيد بن فتحون السرقسطي: ترجمته في طبقات صاعد: 68 والجذوة: 216 وبغية الملتمس رقم: 813 وبغية الوعاة: 256 والذيل والتكملة 4: 40 وانظر فهرست كتاب التشبيهات لابن الكتاني.(3/175)
وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ، ولا تحققنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا إلا أني سمعت من أثق بعقله ودينه من أهل العلم ممن اتفق على رسوخه فيه يقول: إنه لم يؤلف في الأزياج مثل زيج مسلمة (1) وزيج ابن السمح (2) ، وهما من أهل بلدنا، وكذلك كتاب المساحة المجهولة لأحمد بن نصر فما تقدم إلى مثله في معناه.
وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر، والتي تدخل تحت الأقسام السبعة (3) التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها، وهي إما شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتمه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه. وأما التواليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها، وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها.
وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم، ولا اختلفت فيها النحل، فقل لذلك تصرفهم في هذا الباب، فهي على كل حال غير عرية عنه، وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال، نظار على أصوله، ولهم فيه تواليف: منهم خليل بن إسحاق (4) ، ويحيى بن السمينة (5) ، والحاجب موسى بن حدير وأخوه الوزير صاحب المظالم أحمد (6) ، وكان داعية إلى الاعتزال
__________
(1) يعني أبا القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي (توفي 398) ، وله تعديل زيج البتاني. انظر ابن أبي أصيبعة 2: 39 وطبقات صاعد: 78 وتاريخ الحكماء: 326 وملحق بروكلمان.
(2) هو أصبغ بن محمد بن السمح المهندس الغرناطي، ألف زيجا على أحد مذاهب الهند (وتوفي سنة 426) ، انظر ابن أبي أصيبعة 2: 39 وطبقات صاعد: 79 وملحق بروكلمان.
(3) قارن هذا بما ذكره ابن حزم في كتاب " التقريب لحد المنطق " ص: 10.
(4) لعل صوابه " خليل بن عبد الملك " وهو من أصحاب ابن مسرة، وعليه درس ابن السمينة (ابن الفرضي 1: 165 والتكملة: 309) .
(5) يحيى بن السمينة توفي سنة 315 (انظر الجذوة: 316 والبغية رقم: 1320) .
(6) راجع ترجمة موسى بن حدير في الجذوة: 316 والبغية رقم: 1320، وكان أخوه أحمد بن محمد صاحب الوزارة أيام عبد الرحمن الناصر.(3/176)
لا يستتر بذلك. ولنا على مذهبنا الذي تخيرناه من مذاهب أصحاب الحديث كتاب في هذا المعنى (1) ، وهو وإن كان صغير الجرم قليل عدد الورق يزيد على المائتين زيادة يسيرة فعظيم الفائدة لأنا أسقطنا فيه المشاغب كلها، وأضربنا عن التطويل جملة، واقتصرنا على البراهين المنتخبة من المقدمات الصحاح الراجعة إلى شهادة الحس وبديهة العقل لها بالصحة. ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة، منها ما قد تم، ومنها ما شارف التمام، ومنها ما قد مضى منه صدر ويعين الله تعالى على باقيه، لم نقصد به قصد مباهاة فنذكرها، ولا أردنا السمعة فنسميها، والمراد بها ربنا جل وجهه، وهو ولي العون فيها، والمللي بالمجازاة عليها، وما كان لله تعالى فسيبدو، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وبلدنا هذا - على بعده من ينبوع العلم، ونأيه من محلة العلماء - فقد ذكرنا من تآليف أهله ما إن طلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر وديار ربيعة واليمن والشام أعوز وجود ذلك، على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق التي هي دار هجرة الفهم وذويه ومراد المعارف وأربابها.
ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي (2) في الشعر لم نباه به إلا جريراً والفرزدق، لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جارٍ على مذهب الأوائل، لا على طريقة المحدثين، وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن اسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري وسليمان بن الأشعث وأحمد بن شعيب النسائي، وإذا ذكرنا قاسم بن محمد (3) لم نباه به إلا القفال ومحمد بن عقيل الفريابي، وهو شريكهما في صحبة المزني أبي (4) إبراهيم والتلمذة له، وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال ومنذر بن سعيد لم نجار
__________
(1) أغلب الظن أنه يعني كتاب " المجلى " وهو متن شرحه بالمحلى.
(2) ترجمة أبي الأجرب في الجذوة: 177 وبغية الملتمس رقم: 626 والمغرب 1: 131.
(3) قد مر ذكره، وهذا النص عنه ثابت في الجذوة.
(4) في الأصول: بن.(3/177)
بهما إلا أبا الحسن ابن المفلس والخلال والديباجي ورويم بن أحمد. وقد شاركهم عبد الله في أبي سليمان وصحبته، وإذا أشرنا إلى محمد بن عمر بن لبابة وعمه محمد بن عيسى وفضل بن سلمة لم نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس (1) ، وإذا صرحنا بذكر محمد بن يحيى الرباحي (2) وأبي عبد الله محمد بن عاصم لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد بن يزيد المبرد.
ولو يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد (3) وحبيب والمتنبي، فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب، وأحمد بن عبد الملك بن مروان، وأغلب بن شعيب، ومحمد بن شخيص، وأحمد بن فرج، وعبد الملك بن سعيد المرادي (4) ، وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه، وحصان ممسوح الغرة.
ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد صديقنا وصاحبنا، وهو حي بعد لم يبلغ سن الاكتهال، وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار يكاد ينطق فيه بلسان عمرو وسهل (5) ومحمد بن عبد الله بن مسرة (6) في طريقه التي سلك فيها، وإن كنا لا نرضى مذهبه، في جماعة يكثر تعدادهم.
__________
(1) وإذا أشرنا ... عبدوس: ورد هذا النص في الجذوة: 71 وبغية الملتمس رقم: 222.
(2) الرباحي (نسبة إلى قلعة رباح) من كبار نحويي الأندلس قبل دخول القالي إليها؛ انظر طبقات الزبيدي: 335 وابن الفرضي 2: 71 والجذوة: 91 وبغية الملتمس رقم: 312 والقفطي 3: 229 والوافي 2: 372 وبغية الوعاة: 113.
(3) بن برد: زيادة من ق.
(4) أحمد بن عبد الملك بن مروان (الجذوة: 123) وأغلب بن شعيب الجياني من شعراء عبد الرحمن الناصر (ص: 165) ومحمد بن شخيص (الجذوة: 84 واليتيمة 2: 23 والمغرب 1: 203 وصفحات متفرقة من المقتبس تحقيق حجي) ، وعبد الملك بن سعيد المرادي الخازن (الجذوة: 266) .
(5) يريد: عمرو بن بحر الجاحظ وسهل بن هارون.
(6) في ابن المسرة ومذهبه كتاب مستوفي للمستشرق آثين بلاسيوس وخلاصة عنه في تاريخ الفكر الأندلسي لبالنثيا، وانظر كتاب تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: 52 وما بعدها.(3/178)
وقد انتهى ما اقتضاه خطاب الكاتب رحمه الله تعالى من البيان، ولم نتزيد فيما رغب فيه إلا ما دعت الضرورة إلى ذكره لتعلقه بجوابه، والحمد لله الموفق لعلمه، والهادي إلى الشريعة المزلفة منه والموصلة، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرم.
انتهت الرسالة.
وكتب الحافظ بن حجر على هامش قوله فيها " وإنما سكن على الكوفة خمسة أعوام وأشهراً " ما نصه: صوابه أربعة أعوام، انتهى.
[7 - تذييل ابن سعيد على رسالة ابن حزم]
وقال ابن سعيد، بعد ذكره هذه الرسالة ما صورته: رأيت أن أذيل ما ذكره الوزير الحافظ أبو محمد ابن حزم من مفاخر أهل الأندلس بما حضرني والله تعالى ولي الإعانة.
أما القرآن فمن أجل ما صنف في تفسيره كتاب " الهداية إلى بلوغ النهاية " في نحو عشرة أسفار، صنفه الإمام العالم الزاهد أبو محمد مكي بن أبي طالب القرطبي (1) ، وله كتاب " تفسير إعراب القرآن "، وعد ابن غالب في كتاب " فرحة الأنفس " تآليف مكي المذكور، فبلغ بها 77 تأليفاً، وكانت وفاته سنة 437، ولأبي محمد بن عطية الغرناطي في تفسير القرآن الكتاب الكبير الذي اشتهر وطار في الغرب والشرق، وصاحبه من فضلاء المائة السادسة (2) .
وأما القراءات فلمكي المذكور فيها كتاب " التبصرة "؛ وكتاب " التيسير "
__________
(1) ترجمته في الصلة: 597 وغاية النهاية 2: 307؛ اقرأ في جامع الزاهرة حتى انقضت دولة العامريين فنقله المهدي إلى المسجد الجامع بقرطبة واقرأ فيه مدة الفتنة إلى أن قلده أبو الحزم ابن جهور الصلاة والخطبة بالمسجد الجامع؛ ومن الغريب أن ابن حزم أغفل ذكره مع أنه عاصره.
(2) توفي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي سنة 542 (انظر الصلة: 367 والقلائد 208 والمرقبة العليا: 109 والديباج: 174 والمغرب 2: 117؛ والنفح 2: 526) .(3/179)
لأبي عمرو الداني (1) مشهورٌ في أيدي الناس.
وأما الحديث فكان بعصرنا في المائة السابعة الإمام أبو الحسن علي بن القطان القرطبي الساكن بحضرة مراكش (2) ، وله في تفسير غرائبه وفي رجاله مصنفات، وإليه كانت النهاية والإشارة في عصرنا، وسمعت أنه كان اشتغل بجمع أمهات كتب الحديث المشهورة، وحذف المكرر، وكتاب رزين بن عمار الأندلسي (3) في جمع ما يتضمنه كتاب مسلم والبخاري والموطأ والسنن والنسائي والترمذي كتاب جليل مشهور في أيدي الناس بالمشرق والمغرب، وكتاب " الأحكام " لأبي محمد عبد الحق الإشبيلي مشهور متداول القراءة، وهي أحكام كبرى، وأحكام صغرى، قيل: ووسطى، وكتاب " الجمع بين الصحيحين " للحميدي مشهور.
وأما الفقه فالكتاب المعتمد عليه الآن الذي ينطلق عليه اسم الكتاب عند المالكية حتى بالإسكندرية فكتاب " التهذيب " للبراذعي السرقسطي (4) ، وكتاب " النهاية " (5) لأبي الوليد ابن رشد كتاب جليل معظم معتمد عليه عند المالكية، وكذلك كتاب " المنتقى " للباجي.
وأما أصول الدين وأصول الفقه فللإمام أبي بكر ابن العربي الإشبيلي من
__________
(1) أبو عمر عثمان بن سعيد الداني من شيوخ القراء وأبعدهم شهرة؛ انظر في أخباره وكتبه مقدمة المحكم تحقيق الدكتورة عزة حسن (دمشق 1960) . والنفح 2: 135 (رقم: 76) .
(2) ترجمة ابن القطان في التكملة رقم: 1920 وصلة الصلة: 131 (توفي سنة 628) وقد استدرك على كتاب الأحكام الآتي ذكره لابن عبد الحق بكتاب سماه " الوهم والإيهام الواقعين على كتاب الأحكام ".
(3) هو رزين بن معاوية بن عمار العبدري سرقسطي يكنى أبا الحسن، توفي سنة 524 وكان من علماء الحديث (الصلة: 184) .
(4) البراذعي واسمه خلف بن أبي القاسم الأزدي، قيرواني ارتحل إلى صقلية وألف فيها كتابه تهذيب المدونة (الديباج: 112) وفرع منه سنة 327هـ وليس البراذعي سرقسطيا، ويبدو أنه نسب إلى سرقوسة بصقلية واضطرب الأمر في ذلك على ابن سعيد؛ ومن التهذيب نسخة خطية بدار الكتب رقم: 405 فقه مالكي؛ وانظر كتابنا العرب في صقلية: 97 - 98.
(5) هو كتاب " نهاية المجتهد " (ابن أبي اصيبعة 2: 77) .(3/180)
ذلك ما منه كتاب " العواصم والقواصم " المشهور بأيدي الناس، وله تآليف في غير هذا، ولأبي الوليد ابن رشد في أصول الفقه ما منه " مختصر المستصفى ".
وأما التواريخ فكتاب ابن حيان الكبير المعروف " بالمتين " في نحو ستين مجلدة وإنما ذكر ابن حزم كتاب " المقتبس " وهو في عشر مجلدات، والمتين يذكر فيه أخبار عصره ويمعن فيها مما شاهده، ومنه ينقل صاحب الذخيرة، وقد ذيل عليه أبو الحجاج البياسي أحد معاصرينا، وهو الآن بإفريقية في حضرتها تونس عند سلطانها تحت إحسانه الغمر، وكتاب المظفر ابن الأفطس لمك بطليوس المعروف " بالمظفري " نحو كتاب " المتين " في الكبر، وفيه تاريخ على السنين، وفنون آداب كثيرة، وتاريخ ابن صاحب الصلاة في الدولة اللمتونية (1) ، وذكر ابن غالب أن ابن الصيرفي الغرناطي له كتاب في " أخبار دولة لمتونة " (2) ، وأن أبا الحسن السالمي له كتاب " في أخبار الفتنة الثانية بالأندلس " (3) بدأ من سنة 539، ورتبه على السنين وبلغ به سنة 547، وأبو القاسم خلف بن بشكوال له كتاب في " تاريخ أصحاب الأندلس " من فتحها إلى زمانه، وأضاف إلى ذلك من أخبار قرطبة وغيرها ما جاء في خاطره، وله كتاب " الصلة " في تاريخ العلماء، وللحميدي قبله " جذوة المقتبس " وقد ذيل كتاب الصلة ف عصرنا هذا أبو عبد الله ابن الأبار البلنسي كاتب سلطان إفريقية. وذكر ابن غالب أن الفقيه أبا جعفر ابن عبد الحق الخزرجي القرطبي له كتاب كبير بدأ فيه من بدء
__________
(1) لابن صاحب الصلاة عبد الملك بن محمد الباجي كتاب في ثورة المريدين، ولا أعرف له كتابا في تاريخ اللمتونيين؛ وهو أيضا صاحب كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين ".
(2) يعد ابن الصير في حجة في تاريخ المرابطين؛ وينقل عنه لسان الدين في أعمال الأعلام أخبارا عن دول الطوائف ليس فيها تحامل امرئ كان وثيق الصلة بالمرابطين؛ انظر ترجمته في المغرب 2: 118 والتكملة: 723.
(3) سماه ابن عبد الملك (الذيل 6: الورقة 3 من نسخة المتحف البريطاني) " في الفتنة الكائنة على اللمتونيين بالأندلس سنة أربعين وما يليها "؛ وله مختصر سماه " عبرة العبر وعجائب القدر في ذكر الفتن الأندلسية والعدوية بعد فساد الدولة المرابطية ".(3/181)
الخليقة إلى أن انتهى في أخبار الأندلس إلى دولة عبد المؤمن، قال: وفارقته سنة 565. وأبو محمد ابن حزم صاحب الرسالة المتقدمة الذكر له كتب جمة في التواريخ، مثل كتاب " نقط العروس في تواريخ (1) الخلفاء " وقد صنف أبو الوليد ابن زيدون كتاب " التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس " على منزع كتاب " التعيين في خلفاء المشرق " للمسعودي. وللقاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد الطليطلي كتاب " التعريف بأخبار علماء الأمم من العرب والعجم " وكتاب " جامع أخبار الأمم ". وأبو عمر بن عبد البر له كتاب " القصد والأمم في معرفة أخبار العرب والعجم ". وعريب بن سعد القرطبي له كتاب " اختصار تاريخ الطبري " قد سعد باغتباط الناس به، وأضاف إليه تاريخ إفريقية والأندلس، ولأحمد بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن [أبي] الفياض كتاب " العبر " (2) ، وكتاب أبي بكر الحسن بن محمد الزبيدي في " أخبار النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس " (3) ، وكتاب القاضي أبي الوليد ابن الفرضي في " أخبار العلماء والشعراء " وما يتعلق بذلك وليحيى بن حكم الغزال تاريخ ألفه كله منظوماً (4) ، كما صنع أيضاً بعده أبو طالب المتنبي من جزيرة شقر في التاريخ الذي أورد منه صاحب الذخيرة ما أورد (5) ، وكتاب " الذخيرة " لابن بسام في جزيرة الأندلس ليس هذا مكان الإطناب في تفصيلها وهي كالذيل على حدائق ابن فرج، وفي عصرها (6) صنف الفتح كتاب " القلائد " وهو مملوء بلاغة،
__________
(1) ب: تاريخ.
(2) ابن أبي الفياض أصله من إستجة وسكن المرية، قال ابن بشكوال (الصلة: 63) له تأليف في الخبر والتاريخ، ولكنه لم يمسه؛ توفي سنة 459.
(3) هو الذي نشير إليه في هذه التعليقات باسم " طبقات الزبيدي ".
(4) انظر ترجمة الغزال في النفح 2: 254 (رقم: 165) .
(5) راجع الذخيرة 1 / 2: 405 حيث تجد أرجوزة ابن عبد الجبار المتنبي.
(6) م: عصرنا.(3/182)
والمحاكمة بين الكتابين ذكرت بمكان (1) آخر، ولصاحب القلائد كتاب " المطمح " وهو ثلاث نسخ: كبرى، ووسطى، وصغرى، يذكر فيها من الذين ذكرهم في القلائد ومن غيرهم الذين كانوا قبل عصرهم، وكتاب " سمط الجمان وسقط (2) المرجان " لأبي عمرو ابن الإمام بعد الكتابين المذكورين، ذكر من أخلا بتوفيته حقه من الفضلاء، واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة، وذيل عليه - وإن كان ذيلاً قصيراً - أبو بحر (3) صفوان بن إدريس المرسي بكتاب " زاد المسافر " ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة، وكتاب أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري المسمى ب " المسهب في فضائل المغرب " صنفه بعد " الذخيرة " و " القلائد " من أول ما عمرت الأندلس إلى عصره، وخرج فيه عن مقصد الكتابين إلى ذكر البلاد وخواصها مما يختص بعلم الجغرافية، وخلطه بالتاريخ وتفنن الأدب على ما هو مذكور في غير هذا المكان، ولم يصنف في الأندلس مثل كتابه، ولذلك فضله المصنف له عبد الملك بن سعيد، وذيل عليه، ثم ذيل على ذلك ابناه أحمد ومحمد ثم موسى بن محمد ثم علي بن موسى كاتب هذه النسخة ومكمل كتاب " فلك الأدب المحيط بحلى لسان العرب " المحتوي على كتابي " المشرق في حلى المشرق " و " المغرب في حلى المغرب "، فيكفي الأندلس في هذا الشأن تصنيف هذا الكتاب بين ستة أشخاص في 115 سنة آخرها سنة 645، وقد احتوى على جميع ما يذاكر به ويحاضر بحلاه من فنون الأدب المختارة على جهد الطاقة في شرق وغرب على النوع الذي هو مذكور في غير هذا الموضع، ومن أغفلت التنبيه على عصرهن وغير ذلك من المصنفين المتقدمي الذكر، فيطلب الملتمس منه في مكانه المنسوب إليه كابن
__________
(1) ق: في مكان.
(2) ب م: وسقيط؛ وعن هذا الكتاب ينقل ابن سعيد في المغرب.
(3) ق: أبو يحيى؛ وهو خطأ.(3/183)
بسام في شنترين، والفتح في إشبيلية، وابن الإمام في إستجة، والحجاري في وادي الحجارة.
وأما ما جاء منثوراً من فنون الأدب فكتاب " سراج الدب " لأبي عبد الله ابن أبي الخصال الشقوري رئيس كتاب الأندلس (1) ، صنفه على منزع كتاب " النوادر " لأبي علي، و " زهر الآداب " للحصري؛ وكتاب " واجب الأدب " لوالدي موسى بن محمد بن سعيد، واسمه يغني عن المراد به؛ وكتاب " اللآلئ " لأبي عبيد البكري على كتاب " الأمالي " لأبي علي البغدادي مفيد في الأدب، وكذلك كتاب " الاقتضاب في شرح أدب الكتاب " لأبي محمد ابن السيد البطليوسي، وأما شرح " سقط الزند " له فهو الغاية، ويكفي ذكره عند أرباب هذا الشأن وثناؤهم عليه، وشروح أبي الحجاج الأعلم بشعر المتنبي والحماسة وغير ذلك مشهورة.
وأما النحو فلأهل الأندلس من الشروح على " الجمل " (2) ما يطول ذكره، فمنها شرح ابن خروف، ومنها شرح الرندي، ومنها شرح شيخنا أبي الحسن ابن عصفور الإشبيلي، وإليه انتهت علوم النحو، وعليه الإحالة الآن من المشرق والمغرب، وقد أتيت له من إفريقية بكتاب " المقرب " في النحو فتلقي باليمين من كل جهة، وطار بجناح الاغتباط، ولشيخنا أبي علي الشلوبين كتاب " التوطئة " على الجزولية وهو مشهور، ولابن السيد وابن الطراوة والسهيلي من التقييدات في النحو ما هو مشهور عند أصحاب هذا الشأن المعتمد عليه، ولأبي الحسن ابن خروف شرح مشهور على كتاب سيبويه.
وأما علم الجغرافيا فيكفي في ذلك كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكري
__________
(1) راجع ترجمة أبي عبد الله ابن أبي الخصال في المطرب: 187 وبغية الملتمس رقم: 282 وقلائد العقيان: 175 والصلة: 557 وبغية الوعاة: 104 ورايات المبرزين: 74، وله ذكر في المعجب والمغرب ومعجم شيوخ الصدفي وجذوة الاقتباس.
(2) انظر كشف الظنون: 603 - 604 ففيه ذكر لبعض شروح الجمل من تأليف الأندلسيين وغيرهم.(3/184)
الأونبي وكتاب " معجم مستعجم من البقاع والأماكن "، وفي كتاب " المسهب " للحجاري في هذا الشأن وتذييلنا عليه في هذا الكتاب الجامع زبد (1) الأولين والآخرين في ذلك.
واما الموسيقى فكتاب أبي بكر ابن باجة الغرناطي في ذلك فيه كفاية وهو في المغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد، وليحيى الخذوج (2) المرسي كتاب " الأغاني الأندلسية " على منزع الأغاني لأبي الفرج، وهو ممن أدرك المائة السابعة.
واما الطب فالمشهور بأيدي الناس الآن في المغرب، وقد سار أيضاً في المشرق لنبله، كتاب " التيسير " (3) لعبد الملك بن أبي العلاء بن زهر وله كتاب " الأغذية " (4) أيضاً مشهور مغتبط به في المغرب والمشرق، ولأبي العباس ابن الرومية الإشبيلي (5) من علماء عصرنا بهذا الشأن كتاب في الأدوية المفردة، وقد جمع أبو محمد المالقي (6) الساكن الآن بقاهرة مصر كتاباً في هذا الشأن حشر عليه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها وضبطه على حروف المعجم، وهو النهاية في مقصده.
وأما الفلسفة فإمامها في عصرنا أبو الوليد ابن رشد القرطبي، وله فيها تصانيف جحدها لما رأى انحراف منصور بني عبد المؤمن عن هذا العلم،
__________
(1) م: زبدة.
(2) في الأصول: الخدج: وقد ضبطه الرعيني في برنامجه: 164 وهو أبو زكرياء يحيى بن إبراهيم الأصبحي الحكيم؛ قال: عرض علي كتابه الكبير الذي سماه الأغاني الأندلسية وقرأت عليه خطبته ومواضع منه وناولني جميع أسفاره.
(3) هو كتاب التيسير في المداواة والتدبير (ابن أبي أصيبعة 2: 67) .
(4) ألف ابن زهر كتاب الأغذية للخليفة عبد المؤمن بن علي (المصدر السابق) .
(5) انظر ترجمة ابن الرومية في ابن أبي أصيبعة 2: 87 والإحاطة 1: 88 (ط. السلفية) والنفح 2: 596 (رقم: 221) ومزيدا من المصادر في الحاشية.
(6) يريد ابن البيطار صاحب كتاب المفردات وقد مرت ترجمته في المجلد 2: 691 (رقم: 304) .(3/185)
وسجنه بسببها، وكذلك ابن حبيب (1) الذي قتله المأمون بن المنصور المذكور على هذا العلم بإشبيلية، وهو علم ممقوت بالأندلس لا يستطيع صاحبه إظهاره، فلذلك تخفى تصانيفه.
وأما التنجيم فلابن زيد الأسقف القرطبي فيه تصانيف، وكان مختصاً بالمستنصر بن الناصر المرواني، وله ألف كتاب " تفصيل الأزمان ومصالح الأبدان " وفيه من ذكر منازل القمر وما يتعلق بذلك ما يستحسن مقصده وتقريبه، وكان مطرف الإشبيلي في عصرنا قد اشتغل بالتصنيف في هذا الشأن، إلا أن أهل بلده كانوا ينسبونه للزندقة بسبب اعتكافه على هذا الشأن فكان لا يظهر شيئاً مما يصنف.
[8 - رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس]
ثم قال ابن سعيد: أخبرني والدي قال: كنت يوماً في مجلس صاحب سبتة أبي يحيى ابن أبي زكريا صهر ناصر بني عبد المؤمن، فجرى بين أبي الوليد الشقندي وبين أبي يحيى ابن المعلم الطنجي نزاع في التفضيل بين البرين، فقال الشقندي لولا الأندلس لم يذكر بر العدوة، ولا سارت عنه فضيلة، ولولا التوقير للمجلس لقلت ما تعلم، فقال الأمير أبو يحيى: أتريد أن تقول كون أهل برنا عرباً وأهل بركم (2) بربر فقال: حاش لله! فقال الأمير: والله ما أردت غير هذا، فظهر في وجهه أنه أراد ذلك، فقال ابن المعلم: أتقول هذا وما الملك والفضل إلا من بر العدوة فقال الأمير: الرأي عندي أن يعمل كل واحد منكما رسالة في تفضيل بره، فالكلام هنا يطول ويمر ضياعاً، وأرجو إذا أخليتما له فكركما يصدر عنكما ما يحسن تخليده، ففعلا ذلك:
__________
(1) هو ابن حبيب القصري (المغرب 1: 296) .
(2) م: بلدنا ... بلدكم.(3/186)
فكانت رسالة الشقندي: الحمد لله الذي جعل لمن يفخر بجزيرة الأندلس (1) أن يتكلم ملء فيه، ويطنب ما شاء فلا يجد من يعترض عليه ولا من يثنيه، إذ لا يقال للنهار: يا مظلم، ولا لوجه النعيم: يا قبيح.
وقد وجدت مكان القول ذا سعةٍ ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل أحمده على أن جعلني ممن أنشأته، وحباني بأن كنت ممن أظهرته، فامتد في الفخر باعي، وأعانني على الفضائل كرم طباعي، وأصلي على سيدنا محمد نبيه الكريم، وعلى آله وصحبه الأكرمين، وأسلم تسليماً.
أما بعد؛ فإنه حرك مني ساكناً، وملأ مني فارغاً، فخرجت عن سجيتي في الإغضاء، مكرهاً إلى الحمية والإباء، منازعٌ في فضل الأندلس أراد أن يخرق الإجماع، ويأتي (2) بما لا تقبله النواظر والأسماع، إذ من رأى ومن سمع لا يجوزعنده (3) ذلك، ولا يضله من تاه في تلك المسالك، رام أن يفضل بر العدوة على بر الأندلس فرام (4) أن يفضل على اليمين اليسار، ويقول: الليل أضوأ من النهار، فيا عجبا كيف قابل العوالي بالزجاج، وصادم الصفاة (5) بالزجاج، فيا من نفخ في غير ضرم، ورام صيد البزاة بالرخم، كيف تتكثر بما جعله الله قليلاً، وتتعزز بما حكم الله أن يكون ذليلاً وكيف تبدي أمام الفتاة العجوز سل العيون إلى وجه من تميل واستخبر الأسماع إلى حديث من تصغي (6)
__________
(1) ب: ببر الأندلس.
(2) ب: ويتأتى.
(3) م: له.
(4) م: رام.
(5) م: قابل للآلي ... الصفاح؛ ب: الصفة بالرجاج.
(6) البيت لربيعة الرقي. انظر الأغاني 16: 189 وفيه هجاء ليزيد بن أسيد وكان جليلا عند المنصور والمهدي، وتفصيل ليزيد بن حاتم الأزدي.(3/187)
لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى ... يزيد سليم والأغرّ ابن حاتم اقن حياءك أيها المغرد (1) بالنحيب، المتزين بالخلق المتحبب إلى الغواني بالمشيب الخضيب، أين عزب عقلك وكيف نكص على عقبه (2) فهمك ولبك أبلغت العصبية من قلبك، أن تطمس على نوري (3) بصرك ولبك
أما قولك " الملوك منا " فقد كان الملوك منا أيضاًن وما نحن إلا كما قال الشاعر:
فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويومٌ نساء ويومٌ نسرّ إن كان الآن كرسي جميع بلاد المغرب عندكم بخلافة بني عبد المؤمن، أدامها الله تعالى، فقد كان عندنا بخلافة القرشيين الذين يقول مشرقيهم:
وإنّي من قوم كرام أعزّة ... لأقدامهم صيغت رؤوس المنابر
خلائف في الإسلام في الشرك قادة ... بهم وإليهم فخر كلّ مفاخر ويقول مغربيهم (4) :
ألسنا بني مروان كيف تبدلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر
إذا ولد المولود منّا تهلّلت ... له الأرض واهتزّت إليه المنابر وقد نشا في مدتهم من الفضلاء والشعراء ما اشتهر في الآفاق، وصار أثبت في صحائف (5) الأيام، من الأطواق في أعناق الحمام:
__________
(1) ق: المفرد.
(2) م: على عقبيه؛ ب: على عقب.
(3) م: نور، وسقطت اللفظة من ق هي والعبارة من قوله: أبلغت ... لبك.
(4) البيتان من شعر محمد بن عبد الملك حفيد عبد الرحمن الناصر (الحلة 1: 209) قال ابن الأبار: وقد أنشد أبو منصور الثعالبي في اليتيمة من تأليفه هذا الشعر ونسبه إلى الحكم المستنصر بالله ... وهذا من أغلاظ أبي منصور وأوهامه الفاحشة.
(5) ب ودوزي: على صحائف.(3/188)
وسار مسير الشمس في كلّ بلدةٍ ... وهبّ هبوب الريح في البرّ والبحر ولم تزل ملوكهم في الاتساق كما قيل:
إنّ الخلافة فيكم لم تزل نسقاً ... كالعقد منظومة فيه فرائده إلى أن حكم الله بنثر سلكهم، وذهاب ملكهم، فذهبوا وذهبت أخبارهم، ودرسوا ودرست آثارهم (1) :
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسّير فكم مكرمة أنالوها، وكم (2) عثرة أقالوها:
وإنّما المرء حديثٌ بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن وعى وكان من حسنات ملكهم المنصور الن أبي عامر، وما أدراك، الذي بلغ في بلاد النصارى غازياً إلى البحر الأخضر، ولم يترك أسيراً في بلادهم من المسلمين، ولم يبرح (3) في جيش الهرقل وعزمة الاسكندر، ولما قضى نحبه كتب على قبره (4) :
آثاره تنبيك عن أوصافه ... حتّى كأنّك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزّمان بمثله ... أبداً ولا يحمي الثغور سواه وقد قيل فيه من الأمداح، وألف له من الكتب، ما سمعت وعلمت، حتى قصد من بغداد، وعم خيره وشره أقاصي (5) البلاد، ولما ثار بعد انتثار
__________
(1) زاد في م: كما قيل.
(2) م: وكم من.
(3) م: ولم يزل.
(4) مر البيتان، انظر ج: 1 ص: 398.
(5) أقاصي: سقطت من م.(3/189)
هذا النظام ملوك الطوائف وتفرقوا في البلاد، كان في تفرقهم اجتماعٌ على النعملفضلاء العباد، إذ نفقوا سوق العلوم، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم، فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول: العالم الفلاني عند الملك الفلاني، والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني، وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم، ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم، وقد سمعت ما كان من الفتيان العامرية مجاهد ومنذر وخيران، وسمعت عن الملوك العربية: بنو عباد وبنو صمادح وبنو الأفطس وبنو ذي النون وبنو هود، كل منهم قد خلد فيه من الأمداح، ما لو مدح به الليل لصار أضوأ من الصباح (1) ، ولم تزل الشعراء تتهادى بينهم تهادي النواسم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتكة البراض، حتى إن أحد شعرائهم بلغ به ما رآه من منافستهم في أمداحه أن حلف أن لا يمدح أحداً منهم بقصيدة إلا بمائة دينار وأن المعتضد بن عباد على ما اشتهر من سطوته وإفراط هيبته كلفه أن يمدحه بقصيدة فأبى حتى يعطيه ما شرطه (2) في قسمه، ومن أعظم ما يحكى من المكارم التي لم نسمع لها أختاً أن أبا غالب اللغوي ألف كتاباً، فبذل له مجاهد العامري ملك دانية ألف دينار ومركوباً وكسىً على أن يجعل الكتاب باسمه، فلم يقبل ذلك أبو غالب، وقال: كتاب ألفته لينتفع به الناس، وأخلد فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري، وأصرف الفخر له، لا أفعل ذلك، فلما بلغ هذا مجاهداً استحسن أنفته وهمته، وأضعف له العطاء، وقال: هو في حلٍ من أن يذكرني فيه، لا نصده عن غرضه (3) . وإن كان كل ملوك الأندلس المعروفين بملوك الطوائف قد تنازعوا (4) في ملاءة الحضر، فإني أخص منهم بني عباد، كما قال الله
__________
(1) م: النهار.
(2) م: شرط.
(3) مرت الحكاية في رسالة ابن حزم؛ انظر ما تقدم ص: 172.
(4) الصواب إسقاط " في "، من قول الخنساء: يتنازعان ملاءة الحضر.(3/190)
تعالى " فيهما فاكهةٌ ونخلٌ ورمان " فإن الأيام لم تزل بهم كأعياد، وكان لهم من الحنو على الأدب، ما لم يقم به بنو حمدان في حلب، وكانوا هم وبنوهم ووزراؤهم صدوراً في بلاغتي النظم والنثر، مشاركين في فنون العلم، وآثارهم مذكورة، وأخبارهم مشهورة، وقد خلدوا من المكارم التامة، ما هو متردد في ألسن الخاصة والعامة، وبالله إلا سميت لي بمن تفخرون قبل هذه الدعوة المهدية، أبسقوت (1) الحاجب أم بصالح البرغواطي (2) أم بيوسف بن تاشفين الذي لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه ما أجروا له ذكراً، ولا رفعوا لملكه قدرا وبعدما ذكروه بوساطة المعتمد بن عباد فإن المعتمد قال له، وقد أنشدوه أيعلم أمير المسلمين ما قالوه قال: لا أعلم ولكنهم يطلبون الخبز، ولما انصرف عن المعتمد إلى حضرة ملكه كتب له المعتمد (3) رسالة فيها:
بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت ... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا فلما قرئ عليه هذان البيتان قال للقارئ:
يطلب منا (4) جواري سوداً وبيضاً، قال: لا يا مولانا، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهاراً لأن الليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده (5) ليلاً لأن أيام الحزن ليالٍ سود، فقال: والله جيد، اكتب له في جوابه: إن دموعنا
__________
(1) ب: ابسقمود؛ ق ودوزي: أبسقموت؛ وهو سقوط البرغواطي المتغلب على مدينة سبتة ومنه أخذها يوسف بن تاشفين (انظر مفاخر البربر: 54 وما بعدها) .
(2) هو صالح بن طريف الذي استحدث لبرغوطة مذهبا مستقلا، حوالي سنة 123هـ. (انظر الاستبصار 198 - 200 في بعض الأخبار عنه وعن مذهبه) . وفي م: البغرواطي.
(3) زاد في م: يتشوق.
(4) م: هو يطلب، وسقطت " هو يطلب منا " في ب.
(5) م: ببعد أمير المسلمين.(3/191)
تجري عليه، ورؤوسنا توجعنا من بعده، فليت العباس بن الأحنف قد عاش حتى يتعلم من هذا الفاضل رقة الشوق:
ولا تنكرن مهما رأيت مقدماً ... على حمرٍ بغلاً فثمّ تناسب فاسكتوا (1) فلولا هذه الدولة، لما كان لكم على الناس صولة:
وإن الورد يقطف من قتاد ... وإنّ النار تقبس من رماد وإنك إن تعرضت للمفاضلة بالعلماء (2) فأخبرني: هل لكم في الفقه مثل عبد الملك بن حبيب الذي يعمل بأقواله إلى الآن، ومثل أبي الوليد الباجي، ومثل أبي بكر ابن العربي، ومثل أبي الوليد ابن رشد الأكبر، ومثل أبي الوليد ابن رشد الأصغر، وهو ابن ابن الأكبر، نجوم الإسلام، ومصابيح شريعة محمد عليه السلام، وهل لكم في الحفظ مثل أبي محمد ابن حزم الذي زهد في الوزارة والمال ومال إلى رتبة العلم، ورآها فوق كل رتبة، وقال وقد أحرقت كتبه (3) :
دعوني من إحراق رقّ وكاغدٍ ... وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس من يدري
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس، إذ هو في صدري ومثل أبي عمر ابن عبد البر صاحب " الاستذكار " و " التمهيد " ومثل أبي بكر ابن الجد حافظ الأندلس في هذه الدولة، وهل لكم في حفاظ اللغة كابن سيده صاحب كتاب " المحكم " وكتاب " السماء والعالم " الذي إن أعمى الله بصره فما أعمى بصيرته، وهل لكم في النحو مثل أبي محمد ابن السيد وتصانيفه ومثل ابن الطراوة، ومثل أبي علي الشلوبين الذي بين أظهرنا الآن، وقد سار في المغارب والمشارق ذكره، وهل لكم في علوم اللحون والفلسفة كابن باجة،
__________
(1) م: فاسكتوا يا أهل العدوة.
(2) ب: العلماء.
(3) انظر ج 2: 82.(3/192)
وهل لكم في علم النجوم والفلسفة والهندسة ملك كالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة، فإنه كان في ذلك آية وهل لكم في الطب مثل ابن طفيل صاحب رسالة " حي بن يقظان " المقدم في علم (1) الفلسفة، ومثل بني زهر أبي العلاء ثم ابنه عبد الملك ثم ابنه أبي بكر ثلاثة على نسق وهل لكم في علم التاريخ كابن حيان صاحب " المتين " و " المقتبس " وهل عندكم في رئساء علم الأدب مثل أبي عمر بن عبد ربه صاحب " العقد " وهل لكم في الاعتناء بتخليد مآثر فضلاء إقليمه والاجتهاد في حشد محاسنهم مثل ابن بسام صاحب " الذخيرة " وهب أنه كان يكون لكم مثله فما تصنع الكيسة في البيت الفارغ وهل لكم في بلاغة النثر كالفتح بن عبيد الله الذي إن مدح رفع، وإن ذم وضع، وقد ظهر له من ذلك في كتاب " القلائد " ما هو أعدل شاهد، ومثل ابن أبي الخصال في ترسيله، ومثل أبي الحسن سهل بن مالك الذي بين أظهرنا الآن في خطبه، وهل لكم في الشعر ملك مثل المعتمد ابن عباد في قوله (2) :
وليل بسدّ النهر أنساً قطعته ... بذات سوارٍ مثل منعطف النهر
نضت بردها عن غصن بانٍ منعم ... فيا حسن ما انشقّ الكمام عن الزهر وقوله في أبيه (3) :
سميدعٌ يهب الآلاف مبتدءاً ... وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر (4)
له يدٌ كلّ جبّار يقبّلها ... لولا نداها لقلنا إنها الحجر ومثل ابنه الراضي (5) في قوله:
__________
(1) ب: المتقدم؛ م: في علوم.
(2) ديوانه: 12، والمقتطف، الورقة: 31 وعنوان المرقصات: 22 والقلائد: 6.
(3) ديوانه: 37 - 38 وعنوان المرقصات: 22 والثاني في المقتطف: 29.
(4) ب: معتذر.
(5) م: الراضي بالله؛ وانظر البيتين في الحلة 2: 71.(3/193)
مرّوا بنا أصلاً من غير ميعاد ... فأوقدوا نار قلبي أيّ إيقاد
لا غرو إن زاد في وجدي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلّة الصادي وهل لكم ملك ألف في فنون الآداب كتاباً في نحو مائة مجلدة مثل المظفر ابن الأفطس ملك بطليوس ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همة الأدب وهل لكم من الوزراء مثل ابن عمار في قصيدته التي سارت أشرد من مثل، وأحب إلى الأسماع من لقاء حبيب وصل التي منها (1) :
أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم ... لمّا رأيت الغصن يعشق مثمرا
وصبغت درعك من دماء كماتهم ... لمّا رأيت الحسن يلبس أحمرا ومثل ابن زيدون في قصيدته التي لم يقل مع طولها في النسيب أرق منها، وهي التي يقول فيها:
كأنّنا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسّعد قد غضّ من أجفان واشينا
سرّان في خاطر الظّلماء يكتمنا ... حتّى يكاد لسان الصبح يفشينا وهل لكم من الشعراء مثل ابن وهبون في بديهته بين يدي المعتمد بن عباد وإصابته الغرض حين استحسن المعتمد قول المتنبي:
إذا ظفرت منك المطيّ بنظرة ... أثاب بها معيي المطيّ ورازمه فارتجل:
لئن جاد شعر ابن الحسين فإنّما ... تجيد العطايا واللها تفتح اللها
تنبأ عجباً بالقريض ولو درى ... بأنّك تروي شعره لتؤلّها
__________
(1) أورد المقري قصيدة ابن عمار، في النفح ج: 1 ص: 655.(3/194)
وهل لكم مثل شاعر الأندلس ابن دراج الذي قال فيه الثعالبي (1) " هو بالصقع الأندلسي كالمتنبي بصقع الشام " الذي إن مدح الملوك قال مثل قوله (2) :
ألم تعلمي أنّ الثّواء هو التّوى ... وأنّ بيوت العجزين قبور
وأنّ خطيرات المهالك ضمّنٌ ... براكبها أنّ الجزاء خطير
تخوّفني طول السّفار وإنّه ... بتقبيل كفّ العامريّ جدير (3)
مجير الهدى والدين من كلّ ملحدٍ ... وليس عليه للضّلال مجير
تلاقت عليه من تميمٍ ويعربٍ ... شموسٌ تلاقت في العلا وبدور
هم يستقلّون الحياة لراغبٍ ... ويستصغرون الخطب وهو كبير
ولمّا توافوا للسّلام ورفّعت ... عن الشمس في أفق الشروق ستور
وقد قام من زرق الأسنّة دونها ... صفوفٌ ومن بيض السيوف سطور
رأوا ساعة الرحمن كيف اعتزازها ... وآيات صنع الله كيف تنير
وكيف استوى بالبرّ والبحر مجلسٌ ... وقام بعبء الراسيات سرير
فجاؤوا عجالاً والقلوب خوافقٌ ... وولّوا بطاء والنواظر صور
يقولون والإجلال يخرس ألسناً ... وحازت عيون ملأها وصدور
لقد حاط أعلام الهدى بك حائطٌ ... وقدّر فيك المكرمات قدير وأنا أقسم بما حازته هذه الأبيات، من غرائب الآيات، لو سمع هذا المدح سيد بني حمدان لسلى به عن مدح شاعره الذي ساد كل شاعر، ورأى أن هذه الطريقة أولى بمدح الملوك من كل ما تفنن فيه كل ناظم وناثر.
وإن ذكر الغرب عن الأوطان، ومكابدة نوائب الزمان، قال (4) :
__________
(1) م: الثعالبي في اليتيمة.
(2) ديوان ابن دراج.
(3) الديوان: لتقبيل كف العامري سفير.
(4) ديوان ابن دراج: 110، 112 وانظر المغرب 2: 61.(3/195)
قالت وقد مزج الفراق مدامعاً ... بمدامع وترائباً بترائب
أتفّرقٌ حتى بمنزل غربة ... كم نحن للأيّام نهبة ناهب
ولئن جنيت عليها ترحة راحلٍ ... فأنا الزعيم لها بفرحة آيب
هل أبصرت عيناك بدراً طالعاً ... في الأفق إلاّ من هلالٍ غارب وإن شبه قال (1) :
كمعاقلٍ من سوسنٍ قد شيّدت ... أيدي الربيع بناءها فوق القضب
شرفاتها من فضّة وحماتها ... حول الأمير لهم سيوف من ذهب وهل من شعرائكم من تعرض لذكر العفة فاستنبط ما يسحر به السحر، ويطيب به الزهر، وهو أبو عمر ابن فرج في قوله (2) :
وطائعة الوصال عففت عنها ... وما الشّيطان فيها بالمطاع
بدت في الليل سافرةً فباتت ... دياجي اللّيل سافرة القناع
وما من لحظةٍ إلاّ وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي
فملّكت النّهى جمحات شوقي ... لأجري في العفاف على طباعي
وبتّ بها مبيت السّقب (3) يظما ... فيمنعه الكعام من الرضاع
كذاك الروض ما فيه لمثلي ... سوى نظر وشمٍّ من متاع
ولست من السوائم مهملات ... فأتّخذ الرياض من المراعي وهل بلغ أحد من مشبهي شعرائكم أن يقول مثل قول أبي جعفر اللمائي (4) :
__________
(1) ديوانه: 36.
(2) الأبيات لأبي عمر أحمد بن محمد بن فرج الجياني (الجذوة: 97 - 98 والمطمح: 80 والمغرب: 2: 56) .
(3) م: السقط.
(4) ترجمته في المطمح: 25 ولم يورد البيتين؛ والذخيرة 1 / 2: 132، وهما منسوبان لابن برد في الذخيرة 1 / 2: 47، وأوردهما ابن سعيد للمائي في عنوان المرقصات: 22.(3/196)
عارضٌ أقبل في جنح الدّجى ... يتهادى كتهادي ذي الوجى
بدّدت (1) ريح الصّبا لؤلؤه ... فانبرى يوقد عنها سرجا ومثل قول أبي حفص ابن برد (2) :
وكأنّ الليل حين لوى ... ذاهباً (3) والصبح قد لاحا
كلّةٌ سوداء أحرقها ... عامدٌ أسرج مصباحا وهل منكم من وصف ما تحدثه الخمرة من الحمرة على الوجنة بمثل قول الشريف الطليق (4) :
أصبحت شمساً وفوه مغربا ... ويد الساقي المحيّي مشرقا
وإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخدّ منه شفقا بمثل هذا الشعر (5) فليطلق اللسان ويفخر (6) كل إنسان.
وهل منكم من عمد إلى قول امرؤ (7) القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سموّ حباب الماء حالاً على حال فاختلسه اختلاس النسيم لنفحة الأزهار، واستلبه (8) بلطفٍ استلاب ثغر الشمس لرضاب طل الأسحار، فلطفه تلطيفاً يمتزج بالأرواح، ويغني في
__________
(1) الذخيرة: أتلفت.
(2) البيتان في الذخيرة 1 / 2: 48 وعنوان المرقصات: 22.
(3) الذخيرة: هاربا.
(4) من قصيدة أورد أكثرها ابن بسام في الذخيرة 1 / 2: 81 - 82.
(5) ب: الشاعر.
(6) ب م: ويفخر على.
(7) هذا هو ما ذكره ابن شهيد نفسه (الذخيرة 1 / 1: 244 - 245) .
(8) ق: وسلبه.(3/197)
الارتياح عن شراب الراح وهو ابن شهيد في قوله (1) :
ولمّا تملأّ من سكره ... ونام ونامت عيون الحرس
دنوت إليه على رقبةٍ (2) ... دنوّ رفيقٍ درى ما التمس
أدبّ إليه دبيب الكرى ... وأسموا إليه سموّ النفس
أقبل منه بياض الطّلى ... وأرشف منه سواد اللّعس
فبتّ به ليلتي ناعماً ... إلى أن تبسم ثغر الغلس وقد تناول هذا المعنى ابن أبي ربيعة على عظم قدره وتقدمه فعارض الصهيل بانهاق، وقابل العذب بالزعاق، فقال وليته سكت:
ونفضتّ عنّي العين أقبلت مشية ال ... حباب وركني خيفة القوم أزور وأنا أقسم (3) لو زار جملٌ محبوبة له لكان ألطف في الزيارة من هذا الأزور الركن المنفض للعيون، لكنه إن أساء هنا فقد أحسن في قوله (4) :
قالت لقد أعييتنا حجّة ... فأت إذا ما هجع الساهر
واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناهٍ ولا زاجر ولله در محمد ابن سفر (5) أحد شعرائنا المتأخرين عصراً المتقدمين قدراً، حيث نقل السعي إلى محبوبته فقال وليته لم يزل يقول مثل هذا، فبمثله ينبغي أن يتكلم، ومثله يليق أن يدون:
__________
(1) في قوله: سقطت من م.
(2) في الأصول: على قربه.
(3) م: أقسم أن.
(4) ينسب هذا الشعر لوضاح اليمن.
(5) أبو الحسين محمد بن سفر (أو صفر) شاعر المرية في عصره؛ انظر المغرب 2: 212 والتحفة: 101 والوافي 3: 114 والنفح ج: 1 ص: 476، وقد نسب المريني في النفح وعنوان المرقصات وأغلب الظن أن صوابه " المريي " نسبة إلى بلده المرية.(3/198)
وواعدتها والشمس تجنح للنّوى ... بزورتها شمساً وبدر الدّجى يسري
فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدّجى ... وطوراً كما مرّ النسيم على النّهر
فعطّرت الآفاق حولي فأشعرت ... بمقدمها والعرف يشعر بالزهر
فتابعت بالتقبيل آثار سعيها ... كما يتقصّى قارئٌ أحرف السطر
فبتّ بها والليل قد نام والهوى ... تنبّه بين الغصن والحقف والبدر
أعانقها طوراً وألثم تارةً ... إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر
ففضّت عقوداً للتعانق بيننا ... فيا ليلة القدر اتركي ساعة النفر وهل منكم من قيد بالإحسان فأطلق لسانه الشكر، فقا وهو ابن اللبانة (1) :
بنفسي وأهلي جيرةٌ ما استعنتهم ... على الدّهر إلا وانثنيت معانا
أراشوا جناحي ثمّ بلّوه بالنّدى ... فلم أستطع من أرضهم طيرانا ومن يقول لقد قطع عنه ممدوحه ما كان يعتاده منه من الإحسان، فقابل ذلك بقطع مدحه له، فبلغه أنه عتبه على ذلك، وهو ابن وضاح (2) :
هل كنت إلاّ طائراً بثنائكم ... في دوح مجدكم أقوم وأقعد
إن تسلبوني ريشكم وتقلّصوا ... عنّي ظلالكم فكيف أغرّد وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجّوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح، وتشبيه الزهر بالنجوم، وتشبيه الخدود بالشقائق، فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديداً، وكليله في الأفكار حديداً، فأغرب أحسن إغراب، وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب، وهو ابن الزقاق (3) :
__________
(1) البيتان في عنوان المرقصات: 36.
(2) عنوان المرقصات: 38.
(3) مقطوعات ابن الزقاق هذه في ديوانه: 124، 197، 125 وفيه التخريجات.(3/199)
وأغيدٍ طاف بالكؤوس ضحىً ... وحثّها والصّباح قد وضحا
والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبريّ قد نفحا
قلنا: وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا
فظلّ ساقي المدام يجحد ما ... قال فلما تبسّم افتضحا وقال:
أديراها على الروض المندّى ... وحكم الصبح في الظّلماء ماضي
وكأس الرّاح تنظر عن حبابٍ ... ينوب لنا عن الحدق المراض
وما غلبت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرّياض وقال:
ورياضٍ من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح
قلت: ما ذنبها فقال مجيباً: ... سرقت حمرة الخدود الملاح فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق، وفضح كل من طمع بعده في اللحاق، وهو أبو إسحاق ابن خفاجة القائل (1) :
وعشيّ أنسٍ أضجعتنا نشوةٌ ... فيها يمهّد مضجعي ويدمّث
خلعت عليّ بها الأراكة ظلّها ... والغصن يصغي والحمام يحدّث
__________
(1) م: في قوله؛ وأشعار ابن خفاجة هذه في ديوانه: 185، 356، 254، 291، 140، 119، 235، 123.(3/200)
والشمس تجنح للغروب مريضةً ... والرًعد يرقي والغمامة تنفث والقائل:
لله نهرٌ سال في بطحاء ... أشهى وروداً من لمى الحسناء
متعطّفٌ مثل السّوار كأنّه ... والزهر يكنفه مجرّ سماء
قد رقّ حتى ظنّ قرصاً مفرغاً ... من فضةٍ في بردة خضراء
وغدت تحفّ به الغصون كأنّها ... هدبٌ تحفً بمقلةٍ زرقاء
ولطالما أعطيت فيه مدامةً ... صفراء تخضب أيدي الندماء
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء والقائل:
حثّ المدامة والنّسيم عليل ... والظلّ خفاق الرواق ظليل
والرّوض مهتزّ المعاطف نعمةً ... نشوان تعطفه الصّبا فيميل
ريّان فضّضه الندى ثمّ انجلى ... عنه فذهّب صفحتيه أصيل والقائل:
أذن الغمام بديمةٍ وعقار ... فامزج لجيناً منهما بنضار
واربع على حكم الربيع بأجرعٍ ... هزج الندامى مفصح الأطيار
متقسّم الألحاظ بين محاسنٍ ... من ردف رابيةٍ وخصر قرار
نثرت بحجر الروض فيه يد الصّبا ... درر الندى ودراهم الأنوار
وهفت بتغريدٍ هنالك أيكةٌ ... خفّاقةٌ بمهبّ ريح عرار
هزّت له أعطافه ولربّما ... خلعت عليه ملاءة النوّار (1)
__________
(1) م: الأنوار.(3/201)
والقائل:
سقياً لها من بطاح خزٍّ ... ودوح نهرٍ بها مطلّ
إذ لا ترى غير وجه شمسٍ ... أطلّ فيه عذار ظلّ القائل:
نهرٌ كما سال اللّمى سلسال ... وصباً بليلٌ ذيلها مكسال
وهبّ نفحة ليلةٍ مطلولةٍ ... في جانبيها للنّسيم مجال
غازلتها والأقحوانة مبسمٌ ... والآس صدغٌ والبنفسج خال والقائل:
وساقٍ كحيل اللّحظ في شأو حسنه ... جماحٌ وبالصبر الجميل حران
ترى للصبا ناراً بخدّيه لم يثر ... لها من سوادي عارضيه دخان
سقاها وقد لاح الهلال عشيةً ... كما اعوجّ في درع الكميّ سنان
عقاراً نماها الكرم فهي كريمةٌ ... ولم تزن بابن المزن فهي حصان
وقد جال من (1) جون الغمامة أدهمٌ ... له البرق سوطٌ والشّمال عنان
وضمّخ ردع (2) الشمس نحر حديقةٍ ... عليه من الطّلّ السقيط جمان
ونمّت بأسرار الرّياض خميلةٌ ... لها النّور ثغرٌ والنسيم لسان والقائل في وصف فرس ولم يخرج عن طريقته:
وأشقرٍ تضرم منه الوغى ... بشعلةٍ من شعل الباس
من جلّنارٍ ناضرٍ لونه ... وأذنه من ورق الآس
يطلع للغرّة في شقرةٍ ... حبابةً تضحك في كاس
__________
(1) م: جال في.
(2) في الأصول: درع؛ والردع: الخلوق.(3/202)
وهل منكم من يقول منادماً لنديمه وقد باكر روضاً بمحبوب وكأس، فألفاه قد غطى محاسنه ضباب، فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك، وهو أبو الحسن ابن بسام (1) :
ألا بادر فما ثانٍ سوى ما ... عهدت الكأس والبدر التمام
ولا تكسل برؤيته ضباباً ... تغصّ (2) به الحديقة والمدام
فإن الرّوض ملثمٌ إلى أن ... توافيه فينحطّ اللثام وهل منكم من تغزل في غلام حائك بمثل قول الرصافي (3) :
قالوا وقد أكثروا في حبّه عذلي ... لو لم تهم بمذال القدر مبتذل
قفلت: لو كان أمري في الصبابة لي ... لاخترت ذاك، ولكن ليس ذالك لي
علّقته حببيّ الثّغر عاطره ... حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل
غزيّلٌ لم تزل في الغزل جائلةً ... بنانه جولان الفكر في الغزل
جذلان تلعب بالمحواك أنمله ... على السّدى لعب الأيّام بالأمل
ضمّاً بكفّيه أو فحصاً بأخمصه ... تخبّط الظبي في أشراك محتبل ومثل قوله في تغلب مسكة الظلام على خلوق الأصيل (4) :
وعشيٍّ رائقٍ منظره ... قد قطعناه علىصرف الشّمول
وكأنّ الشّمس في أثنائه ... ألصقت بالأرض خدّاً للنزول
والصّبا ترفع أذيال الرّبى ... ومحيّا الجوّ كالنهر الصقيل
حبّذا منزلنا مغتبقاً ... حيث لا يطرقنا غير الهديل
__________
(1) الأبيات في عنوان المرقصات: 36.
(2) ب م: تغض.
(3) ديوان الرصافي: 121.
(4) ديوان الرصافي: 123.(3/203)
طائرٌ شادٍ وغصنٌ منثنٍ ... والدجى تشرب صهباء الأصيل وهل منكم من يقول في موشح فيما يجره هذا المعنى:
ورداء الأصيل ... تطويه كفّ الظلام وهو أبو قاسم ابن الفرس (1) .
وهل منكم من وصف غلاماً جميل الصورة راقصاً بمثل قول ابن خروف (2) :
ومنزع (3) الحركات يلعب بالنّهى ... لبس المحاسن عند خلع لباسه
متأوّداً كالغصن وسط رياضه ... متلاعباً كالظبي عند كناسه
بالعقل يلعب مقبلاً أو مدبراً ... كالدهر يلعب كيف شاء بناسه
ويضمّ للقدمين منه رأسه ... كالسيف ضمّ ذبابه لرئاسه وهل منكم من وصف خالاً بأحسن من قول النشار (4) :
ألوّامي على كلفي بيحيى ... متى من حبّه أرجو سراحا
وبين الخدّ والشفتين خالٌ ... كزنجيّ أتى روضاً صباحا
تحيّر في جناه فليس يدري ... أيجني الورد أم يجني الأقاحا وهل منكم من اهتدى إلى معنى في لثم وردة الخد ورشف رضاب الثغر لم يهتد إليه أحد غيره، وهو أبو الحسن سلام بن سلام المالقي (5) في قوله:
__________
(1) ق ب: أبو القاسم؛ والأرجح أن هذا البيت من موشحة له في المغرب 2: 122.
(2) ابن خروف هذا هو علي بن محمد بن يوسف بن خروف القيسي الراحل إلى المشرق؛ توفي بحلب حوالي سنة 620 وترجمته في الذيل والتكملة 5: 396، ومصادر ترجمته في الحاشية؛ وأبياته في الذيل وصلة الصلة: 115 وانظر النفح 2: 640 (رقم 267) .
(3) كذا في أصول النفح؛ وفي الذيل: ومنوع.
(4) أبو علي النشار بلنسي من شعراء زاد المسافر (ص: 57) وأبياته هنالك.
(5) صاحب المقامات السبع وكتاب الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق (توفي 544) راجع ترجمته في المغرب 1: 434 والذيل والتكملة 4: 48 وجعله ابن عبد الملك إشبيليا؛ وبيتاه في المغرب.(3/204)
لمّا ظفرت بليلةٍ من وصله ... والصبّ غير الوصل لا يشفيه
أنضجت وردة خدّه بتنفسي ... وطفقت أرشف ماءها من فيه وهل منكم من هجا من غير النطق بإقذاع فبلغ ما لم يبلغه المقذع، وهو المخزومي في قوله (1) :
يودّ عيسى نزول عيسى ... عساه من دائه يريح
وموضع الداء منه عضوٌ ... لا يرتضي مسّه المسيح ولمّا أقذع أتى أيضاً بأبدع، فقال:
يا فارس الخيل ولا فارسٌ ... إلا على متن الجواد الخصى
زدت على موسى وآياته ... تفجّر الماء وتخفي العصا وهل منكم من مدح بمعنى فبلغ به النهاية من المدح، ثم نقله إلى الهجاء فبلغ به النهاية من الذم، وهو اليكي (2) في قوله مادحاً:
قومٌ لهم شرف العلا في حميرٍ ... وإذا انتموا لمتونةً فهم هم
لمّا حووا أحراز كلّ فضيلةٍ ... غلب الحياء عليهم فتلثّموا وفي قوله هاجياً:
إن المرابط باخلٌ بنواله ... لكنّه بعياله يتكرم
__________
(1) هو المخزومي الأعمى الذي مرت قصته مع نزهون (النفح 1: 190 - 193) ، انظر بيتيه الأولين في زاد المسافر: 75.
(2) سماه ابن سعيد (المغرب 2: 266) " ابن رومي عصرنا وحطيئة دهرنا " وبيتاه الأولان في المغرب: 268.(3/205)
الوجه من مخلّقٌ بقبيح ما ... يأتيه فهم من آجله يتلثم وهل منكم من هجا أشتر العين بمثل قول أبي العباس ابن حنون (1) الإشبيلي:
يا طلعةً أبدت قبائح جمّةً ... فالكلّ منها إن نظرت قبيح
أبعينك الشتراء عينٌ ثرّةٌ ... منها ترقرق دمعها المسفوح
شترت فقلنا: زورق في لجّة ... مالت بإحدى دفّتيه الريح
وكأنمّا إنسنها ملاّحها ... قد خاف منغرقٍ فظلّ يميح وهل منكم من حضر مع عدوٍ له جاحدٍ لما فعله معه من الخير، وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر، فقال له الحسود المذكور: إن كنت شاعراً فقل في هذه، فقال ارتجالاً، وهو ابن مجبر (2) :
سأشكو إلى الندمان أمر زجاجةٍ ... تردّت بثوبٍ حالك اللون أسحم
نصبّ بها شمس المدامة بيننا ... فتغرب في جنحً من الليل مظلم
وتجحد أنوار الحميّا بلونها ... كقلب حسودٍ جاحدٍ يد منعم وهل منكم من قال لفاضل جمع بينه وبين فاضل، وهو أبو جعفر الذهبي (3) :
__________
(1) أبو العباس أحمد بن حنون (عنوان المرقصات: حيون) الإشبيلي، أهله من أغنياء إشبيلية اتهم بالقيام على الموحدين، ثم عفي عنه مدة منصور بني عبد المؤمن (راجع ترجمته في المغرب 1: 244 وزاد المسافر: 50 وشعره فيهما وفي عنوان المرقصات: 44) .
(2) يحيى بن مجبر أبو بكر من بلش (Velz Malaga) ، توفي سنة 588 بمراكش؛ ترجمته في زاد المسافر: وبغية الملتمس رقم: 1493 وله شعر كثير سيرد في النفح؛ وفي شرح المقصورة والجزء الثالث من البيتان المغرب.
(3) هو أبو جعفر أحمد بن عتيق بن جرج المعروف بابن الذهبي من أعيان بلنسية غلبت عليه الفلسفة، وهو من أصحاب ابن رشد، إلا أنه اختفى حين طلب أستاذه إلى أن صدر العفو عنه (انظر المغرب 2: 321 وابن أبي أصيبعة 2: 81 والديباج: 69 وبغية الوعاة: 144 والغصون اليانعة: 36 والتكملة: 95 وأبياته في المغرب) .(3/206)
أيّها الفاضل الذي قد هداني ... نحو من قد حمدته باختبار
شكر الله ما أتيت وجازا ... ك ولا زلت نجم هدى لساري
أيّ يرقٍ أفاد أيّ غمامٍ ... وصباح أدى لضوء نهار
وإذا ما غدا النسيم دليلي ... لم يحلني إلا على الأزهار وهل منكم أعمى قال في ذهاب بصره وسواد شعره، وهو التطيلي (1) :
أما اشتفت منّي الأيام في وطني ... حتى تضايق فيما عنّ من وطري
ولا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكرّ على ما طلّ في الشّعر وهل منكم الذي طار في مشارق الأرض ومغاربها قوله، وهو أبو القاسم محمد بن هانئ الإلبيري:
فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصّباح المسفر
وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر وقد سمعت فائتيه في النجوم، ولولا طولها لأنشدتها هنا، فأنها أحسن ما قيل في معناها.
وهل منكم من قال في الزهد مثل قول أبي الوهب العباسي القرطبي (2) :
أنا في حالتي التي قد تراني ... إن تأملت أحسن الماس حالاً
منزلي حيث شئت من مستقرّ ال ... أرض أسقى من المياه زلالا
ليس لي كسوةٌ أخاف عليها ... من مغيرٍ ولا ترى لي مالا
أجعل الساعد اليمين وسادي ... ثم أثنى إذا انقلبت الشمالا
__________
(1) ديوان التطيلي: 49.
(2) له ترجمة مسهبة في المغرب 1: 58 وأبياته مثبتة هنالك.(3/207)
ليس لي والدٌ ولا لي مولو ... دٌ ولا حزت مذ عقلت عيالا
قد تلذّذت حقبةً (1) بأمورٍ ... فتأمّلتها (2) فكانت خيالا ومثل قول أبي محمد عبد الله بن العسال الطليطلي (3) :
انظر الدّنيا فإن أب ... صرتها شيئاً يدوم
فاغد منها في أمانٍ ... إن يساعدك النعيم
وإذا أبصرتها من ... ك على كرهٍ تهيم
فاسل عنها واطّرحها ... وارتحل حيث تقيم وهل نشأ عندكم من النساء مثل ولاّدة المروانية (4) التي تقول مداعبة للوزير ابن زيدون، وكان له غلام اسمه علي:
ما لابن زيدون على فضله ... يغتابني ظلماً ولا ذنب لي
ينظرني شزراً إذا جئته ... كأنّما جئت لأخصي علي ومثل زينب بنت زياد المؤدب الوادي آشية التي تقول:
ولمّا أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة ... وقلّ حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والماء والنار وأنا أختم هذه القطع المتخيرة بقول ابي بكر ابن بقيّ ليكون الختام مسكاً (5) :
__________
(1) م: خيفة.
(2) المغرب: فتدبرتها.
(3) م: أبي عبد الله محمد؛ وراجع ترجمة ابن العسال في المغرب 2: 21 والحاشية.
(4) ستأتي تراجم لأدبيات الأندلس في النفح وسيجري التعريف بهن وبمصادر ترجمتهن هنالك.
(5) اشتهرت هذه الأبيات عند المشارقة، فعارضوها ووردت في عدة مصادر؛ انظر المغرب 2: 21 ومعجم الأدباء 19: 21.(3/208)
عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق لناشق
وضممته ضمّ الكميّ لسيفه ... وذؤابتاه حمائلٌ في عاتقي
حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئاً وكان معانقي
باعدته (1) عن أضلعٍ تشتاقه ... كيلا ينام على وسادٍ خافق وبثقول القاضي أبي حفص ابن عمر القرطبي (2) :
هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب لبّ شاربها المدام
يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام
سما طرفي إليها وهو باكٍ ... وتحت الشمس ينسكب الغمام
وأذكر قدّها فأنوح وجداً ... على الأغصان تنتدب الحمام
وأعقب بينها في الصدر غمّاً ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام وبقوله أيضاً:
لها ردفٌ تعلّق في لطيف ... وذاك الردف لي ولها ظلوم
يعذّبني إذا فكّرت فيه ... ويتعبها إذا رامت تقوم وقد أطلت عنان النظم (3) ، علىأني اكتفيت عن الاستدلال على النهار بالصباح، فبالله إلا ما أخبرتني (4) : من شاعركم الذي تقابلون به شاعراً ممن ذكرت لا أعرف لكم أشهر ذكراً، وأضخم شعراً، من أبي العباس الجراوي،
__________
(1) ب: أبعدته.
(2) هو القاضي الأديب أبو حفص عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر السلمي، كان من أهل الفتيا بمدينة فاس ثم ترقى إلى الخطابة والقضاء، ولاه المنصور الموحدي قضاء إشبيلية ومات بها وهو قاض سنة 603 (انظر الغصون اليانعة: 91 وصلة الصلة: 72 وزاد المسافر: 101؛ والقطعتان في الغصون والثانية في زاد المسافر؛ وفي الشريشي 1: 158) .
(3) م: عنان القلم في النظم.
(4) ق: أخبرت.(3/209)
وأولى لكم أن تجحدوا فخره، وتنسوا ذكره، فقد كفاكم ما جرى من الفضيحة عليكم في قوله من قصيدة يمدح بها خليفة:
إذا كان أملاك الزمان أراقماً ... فإنّك فيهم دائم الدهر ثعبان فما أقبح ما وقع ثعبان وما أضعف ما جاء دائم الدهر، ولقد أنشدت أحد ظرفاء الأندلس هذا البيت، فقال: لا ينكر هذا على مثل الجراوي، فسبحان من جعل نسبه وروحه وشعره تتناسب في الثقالة (1) .
وإذا أردت الافتخار بالفرسان، والتفاضل باالشجعان، فمن كان قبلنا منهم في مدة المنصور بن أبي عامر ومدة ملوك الطوائف أخبارهم مشهورةٌ، وآثارهم مذكورة، وكفاك من أبطال عصرنا ما سمعت عن الأمير أبي عبد الله ابن مردنيش وأنه كان يدفع في المواكب ويشقها يميناً ويساراً منشداً:
أكرّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها حتى إنه دفع يوماً في موكب من النصارى فصرع وقتل، وظهر منه ما أعجبت به نفسه، فقال لشيخ من خواصه، عالم بأمور الحرب مشهور بها: كيف رأيت فقال له: لو رآك السلطان زاد فيما لك في بيت المال، وأعلى مرتبتك، أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام، ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك جيشه (2) فقال له: دعني فإني لا أموت مرتين، وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي.
والقائد أبو عبد الله ابن قادس الذي اشتهر من شجاعته وما واقعه في النصارى وحسن بلائه ماصير النصارى من رعبه والإقرار بفضله في هذا الشأن أن يقول
__________
(1) في الثقالة: سقطت من ب.
(2) ب: هلاكهم؛ ق: هلاككم.(3/210)
أحدهم لفرسه إذا سقاه فلم يقبل على الماء: ما لك أرأيت ابن قادس في الماء وهذه مرتبة عظيمة:
" والفضل ما شهدت به الأعداء " ... ولقد أخبرني من أثق به أنه خرج من عسكرٍ في كتيبة مجردة برسم الغارة على بلاد النصارى، فوقع في جمع كبير منهم، فجهد جهده في الخلاص منهم والرجوع إلى العسكر، فجعل يقاتل مه أصحابه في حالة الفرار إلى أن كبا بأحد جنده فرسه، وفرّ عنه، فناداه مستغيثاً، فقال: اصبر، ثم نظر إلى فارس من النصارى قد طرق فقال: اجر إلى هذا النصراني فخذ فرسه، وركض نحوه فأسقطه، وقال لصاحبه: اركب، فركب ونجا معه سالماً؛ وأمثال هذا كثير، وإنما جئت بحصاة من ثبير.
وأما كرم النفس وشمائل الرياسة، فأنا أحكي لك حكاية تتعجب منها، وهي مما جرى في عصرنا، وذلك أن أبا بكر ابن زهر نشأت بينه وبين الحافظ أبي بكر ابن الجد عداوة مفرطة للاشتراك في العلم والرياسة وكثرة المال والبلدية (1) ، فأجرى ابن زهر يوماً ذكره في جماعة من أصحابه، وقال: لقد آذانا هذا الرجل أشد أذية، ولم يقصر في القول عند أمير المؤمنين وعند خواص الناس وعوامهم، فقال له أحد عوامهم: إني (2) أذكر لك عليه عقداً فيه مخاصمة في موضع مما يعز عليه من مواضعه، ومتى خاصمته في ذلك بلغت منه في النكاية أشد مبلغ، فحرج ابن زهر، وأظهر الغضب الشديد، والإنكار لذلك، وقال لوكيله: أمثلي يجازي على العداوة بما يجازي به السفل والأوباش وإني أجعل ابن الجد في حل من موضع الخصام، وأمر بأن يحمل له العقدن ثم قال: وإني
__________
(1) وكثرة ... والبلدية: سقطت من م.
(2) م: أنا.(3/211)
والله ما أروم بذلك أ، أصالحه، فإن عداوته من حسد، وأنا أسأل الله تعالى أن يديمها لأنها مقترنة بدوام نعم الله علي.
وإن تعرضت إلى ذكر البلاد، وتفسير محاسنها، وما خصها الله تعالى به مما حرمها غيرها، فاسمع ما يميت الحسود كمداً:
أما إشبيلية فمن محاسنها اعتدال الهواء، وحسن المباني، وتزيين الخارج والداخل، وتمكن التمصر، حتى إن العامة تقول: لو طلب لبن الطير في إشبيلية وجد، ونهرهاالأعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلاً ثم يحسر، وفيه يقول ابن سفر:
شقّ النسيم عليه جيب قميصه ... فانساب من شطّيه يطلب ثاره
فتضاحكت ورق الحمام بدوحها ... هزءاً فضمّ من الحياء إزاره وزيادته على الأنهار كون ضفتيه مطرزتين (1) بالمنازه والبساتين والكروم والأنشام (2) متصل ذلك اتصالاً لا يوجد على غيره.
وأخبرني شخص من الأكياس دخل مصر وقد سألته عن نيلها أنه (3) لا تتصل بشطيه البساتين والمنازه اتصالها بنهر إشبيلية، وكذلك أخبرني شخص آخر دخل بغداد، وقد سعد هذا الوادي بكونه لا يخلو من مسرةٍ، وأن جميع أدوات الطرب وشرب الخمر فيه غير منكر لا ناهٍ عن ذلك ولا منتقد، ما لم يؤد السكر إلى شر وعربدة، وقد رام من وليها من الولاة المظهرين للدين قطع ذلك، فلم يستطيعوا إزالته، وأهله أخف الناس أرواحاً، وأطبعهم نوادر، وأحملهم لمزاح بأقبح ما يكون من السب، قد مرنوا على ذلك، فصار لهم ديدناً حتى صار عندهم من لا يبتذل فيه ولا يتلاعن ممقوتاً ثقيلاً. وقد سمعت عن شرف إشبيلية الذي ذكره أحد الوشاحين في موشحة مدح بها المعتضد ابن عباد:
__________
(1) في الأصول: مطرزة.
(2) الأنشام: نوع من الشجر.
(3) م: فذكر أنه.(3/212)
إشبيليا عروساً ... وبعلها عبّاد
وتاجها الشرف ... وسلكها الواد أي شرف قد حاز ما شاء من الشرف إذ عم أقطار الأرض خيره، وسفر ما يعصر من زيتونه من الزيت حتى بلغ الإسكندرية، وتزيد قراه على غيرها من القرى بانتخاب مبانيها، وتهمم سكانها فيها داخلاً وخارجاً، إذ هي من تبييضهم لها نجوم في سماء الزيتون.
وقيل لأحد من رأى مصر والشام: أيها رأيت أحسن هذان أم إشبيلية فقال بعد تفضيل إشبيلية: وشرفها غابة بلا أسد، ونهرها نيل بلا تمساح. وقد سمعت عن جبال الرحمة بخارجها، وكثرة ما فيها من التين القوطي والشعري، وهذان الصنفان أجمع المتجولون في أقطار الأرض أن ليس في غير إشبيلية مثلٌ لهما، وقد سمعت ما في هذا البلد من أصناف أدوات الطرب كالخيال والكريج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس (1) والكثيرة (2) والفنار (3) والزلامي والشقرة (4) والنورة وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه - والبوق (5) ، وإن كان جميع هذا موجوداً في غيرها من بلاد الأندلس فإنه فيها أكثر وأوجد، وليس في بر العدوة من هذا شيء إلا ما جلب إليه (6) من الأندلس وحسبهم الدف وأقوال واليرا وأبو قرون ودبدبة السودان وحماقي البرابر، وأما جواريها ومراكبها براً وبحراً ومطابخها وفواكهها الخضراء واليابسة فأصناف
__________
(1) م: والدنس.
(2) دوزي: الكنيرة.
(3) دوزي: الغنار.
(4) ب: والسفرة.
(5) وقد أثبت دوزي أسماء هذه الآلات الموسيقية في ملحق المعاجم ولكنه لم يحدد مدلولاتها في الأكثر، ومن الصعب ضبط بعض أسمائها.
(6) م: إليها.(3/213)
أخذت من التفضيل بأوفر نصيب، وأما مبانيها فقد سمعت عن إتقانها واهتمام أصحابها بها وكون أكثر ديارها لا تخلو من الماء الجاري والأشجار المتكاثفة كالنارنج والليمون والزنبوع وغير ذلك، وأما علماؤهم في كل صنف رفيع أو وضيع جداً أو هزلاً فأكثر من أن يعدوا، وأشهر من أن يذكروا، وأما ما فيها من الشعراء والوشاحين والزجالين فما لو قسموا على بر العدوة ضاق بهم، والكل ينالون خير رؤسائها ورفدهم، وما من جميع ما ذكرت في هذه البلدة الشريفة إلا وقصي به العبارة عن فضائل جميع الأندلس، فما تخلو بلادها من ذلك، ولكن جعلت غشبيلية، بل الله جعلها أم قراها، ومركز فخرها وعلاها، إذ هي أكبر مدنها، وأعظم أمصارها.
وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم، ومركز العلم ومنار التقى ومحل التعظيم والتقديم، بها استقرت ملوك الفتح وعظماؤه، ثم الملوك المروانية، وبها كان يحيى ابن يحيى راوية مالك، وعبد الملك ابن حبيب، وقد سمعت من تعظيم أهلها للشريعة، ومنافستهم في السؤدد بعلمها، وأن ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها، ويرفعون أقدارهم، ويصدرون عن آرائهم، وأنهم كانوا لا يقدمون وزيراً ولا مشاوراً ما لم يكن عالماًن حتى إن الحكم المستنصر لما كره له العلماء شرب الخمر (1) هم بقطع شجرة العنب من الأندلس، فقيل له: فإنها تعصر من سواها، فأمسك عن ذلك؛ وأنهم كانوا لا يقدمون أحداً للفتوى ولا لقبول الشهادة حتى يطول اختباره، وتعقد له مجالس المذاكرة، ويكون ذا مال في غالب الحال خوفاً من أن يميل به الفقر إلى الطمع (2) فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين، ولقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختص به للشهادة، فأخذ في ذلك مع يحيى ابن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء، فقالوا له: هم أهل، ولكنه شديد الفقر، ومن
__________
(1) م ق: بغض الخمر.
(2) ب: للطمع.(3/214)
يكون في هذه الحالة لا تأمنه (1) على حقوق المسلمين، لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك، فسكت ولم ير منازعتهم، وبقي مهموماً من كونهم لم يقبلوا قوله، فنظر إليهولده عبد الرحمن الذي ولي الملك بعده، وعلى وجهه أثر ذلك، فقال: ما بالك يامولاي فقال: ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط، بل ما لا يعيبهم (2) ، ولا هو مما يرزؤهم شيئاً صدونا عنه، وغلقوا أبواب الشفاعة، وذكر له ما كان منهم، فقال: يا مولاي، أنت أولى الناس بالإنصاف، إن هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نوهت بهم، وإنما قدمهم ونوه بهم علمهم، أو كنت تأخذ قوماً جهالاً فتضعهم في مواضعهم قال: لا، قال: فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة، قال: صدقت، ثم قال: وأما كونهم لم يقبلوا هذا الرجل لشدة فقره فالعلة في ذلك تنحسم بما يبقي لك في الصالحات ذكراً، قال: وما هو قال: تعطيه من مالك قدر ما يلحق به من الغنى ما يؤهله لتلك المنزلة، ويزيل عنك هذا خجل ردهم لك، وتكون هذه مكرمة ما سبقك إليها أحد، فتهلل وجه الحكم وقال: إلي إلي، إنها والله شنشنة عبشمية وإن الذي قال فينا لصادق:
وأبناء أملاك خضارٍ سادة ... صغيرهم عند الأنام كبير ثم استدعى عبد الملك بن حبيب وسأله عن قدر ما يؤهله لتلك المرتبة من الغنى، فذكر له عدداً، فأمر له به في الحين، ونبه قدره بان أعطاه من إسطبله مركوباًن وكانت هذه أكرومة (3) لا خفاء بعظمها:
__________
(1) ب: ومن يكن ... تؤمنه.
(2) ب: بل ما لا يعنيهم.
(3) م: مكرمة.(3/215)
" يفنى الزمان وما بنته (1) مخلّدٌ " ... ثم إنه إذا كان له من الغنى ما يكفه عن أموال الناس ومن الدين ما يصده عن محارم الله تعالى، ومن العلم ما لا يجهل به التصرف في الشريعة، أباحوا له الفتوى والشهادة، وجعلوا علامة لذلك بين الناس القالس والرداء.
وأهل قرطبة أشد الناس محافظة على العمل بأصح الأقوال المالكية، حتى إنهم كانوا لا يولون حاكماً إلا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم.
وقال ابن سارة لما دخل قرطبة:
الحمد لله قد وافيت قرطبةً ... دار العلوم وكرسيّ السلاطين وهي كانت مجمع جيوش الإسلام، ومنها نصر الله على عبدة (2) الصليب.
يقال: إن المنصور ابن أبي عامر - حين تم له ملك البرين، وتوفرت الجيوش والأموال - عرض بظاهر قرطبة خيله ورجله، وقد جمع من أقطار البلاد ما ينهض به إلى قتال العدو وتدويخ بلاده، فنيف الفرسان على مائتي ألف، والرجالة على ستمائة ألف. وبها حتى الآن من صناديد المسلمين وقوادهم من لا يفتر عن محاربة، ولا يمل من مضاربة، أسماؤهم بأقاصي بلاد النصارى مشهورة، وآثارهم فيها مأثورة، وقلوبهم على البعد بخوفهم معمورة.
ويحكى أن العمارة في مباني قرطبة والزاهرة والزهراء اتصلت إلى أن كان يمشى فيها لضوء السرج المتصلة عشرة أميال، وأما جامعها الأعظم فقد سمعت أن ثرياته من نواقيس النصارى، وأن الزيادة التي زاد في بنائه ابن أبي عامر من تراب نقله النصارى على رؤوسهم مما هدم من كنائس بلادهم، وقد
__________
(1) ب: بنيته، والصواب " بنيت ".
(2) م: عباد.(3/216)
سمعت أيضاً عن قنطرتها العظمى وكثرة أرحي واديها، يقال: إنها تنيف على خمسة آلاف حجر، وقد سمعت عن كنبانيتها وما فضل الله تعالى به تربها من بركة وما ينبت فيها من القمح وطيبه، وفيها جبال الورد الذي بلغ الربع منه مرات إلى ربع درهم، وصار أصحابه يرون الفضل لمن قطف بيده ما يمنحونه منه، ونهرها إن صغر عندها عن عظمه عند إشبيلية فإن لتقارب بريه هنالك وتقطع خدره ومروجه معنى آخر وحلاوة أخرى، وزيادة أنس، وكثرة أمان من الغرق، وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة.
وأما جيان فإنها لبلاد الأندلس قلعة، إذ هي أكثرها زرعاً، وأصرمها أبطالاً، وأعظمها منعة، وكم رامتها من عساكر النصارى عند فترات الفتن فرأوها أبعد من العيوق، وأعز منالاً من بيض الأنوق، ولا خلت من علماء ولا من شعراء، ويقال لها " جيان الحرير " لكثرة اعتناء باديتها وحاضرتها بدود الحرير.
ومما يعد في مفاخرها ما ببياسة إحدى بلاد أعمالها من الزعفران الذي يسفر (1) براً وبحراً، وما في أبده من الكروم التي كاد العنب فيها لا يباع ولا يشترى كثرة، وما كان بأبدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة، فإنهن أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدك، وإخراج القروى والمرابط والمتوجه (2) .
وأما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، لها القصبة المنيعة ذات الأسوار الشامخة، والمباني الرفيعة، وقد اختصت بكون النهر يتوزع على ديارها وحماماتها، وأسواقها وأرحاها الداخلة والخارجة وبساتينها، وزانها الله تعالى بأن جعلها مرتبة على بسيطها الممتد الذي تفرعت (3)
__________
(1) ب: يسافر.
(2) ب: والمتوحة.
(3) م: تفرغت.(3/217)
فيه سبائك الأنهار بين زبرجد الأشجار، ولنسيم نجدها وبهجة منظر حورها في القلوب والأبصار، استلطاف يروق الطباع، ويحدث فيها ما شاءه الإحسان من الإختراع والابتداع، ولم تخل من أشراف أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل، ولو لم يكن لها إلا ما خصها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها من الشواعر مثل نزهون القلاعية وزينب بنت زياد، وقد تقدم شعرهما، وحفصة بنت الحاج وناهيك في الظرف والأدب، وهل ترى أظرف منها في جوابها للوزير الحسيب الناظم الناثر أبي جعفر ابن القائد الأجل أبي مروان ابن سعيد، وذلك أنهما باتا بحور مؤمل على ما يبيت به الروض والنسيم، من طيب النفحة ونضارة النعيم، فلما حان الانفصال قال أبو جعفر (1) :
رعى الله ليلاً لم يرع بمذمّمٍ ... عشيّة وارانا بحور مؤمّل
وقد خفقت من نحو نجدٍ أريجةٌ ... إذا نفحت هبّت بريّا القرنفل
وغرّد قمريٌّ على الدّوح وانثنى ... قضيبٌ من الريحان من فوق جدول
ترى الروض مسروراً بما قد بدا له ... عناقٌ وضمٌ وارتشاف مقبّل وكتبه إليها بعد الإفتراق، لتجاوبه على عادتها في ذلك، فكتبت له ما لا يخفى فيه قيمتها:
لعمرك ما سرّ الرّياض بوصلنا ... ولكنّه أبدى لنا الغلّ والحسد
ولا صفّق النهر ارتياحاً لقربنا ... ولا صدح القمريّ إلا بما وجد (2)
فلا تحسن الظنّ الذي أنت أهله ... فما هو في كلّ المواطن بالرشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمرٍ سوى كيما تكون لنا رصد وأما مالقة فإنها قد جمعت بين منظر البحر والبر بالكروم التي
__________
(1) ستأتي أخبار جعفر ابن سعيد وحفصة مفصلة في النفح.
(2) ق: وجدا بما وجد.(3/218)
لا تكاد ترى فيها فرجة لموضع غامر، والبروج التي شابهت نجوم السماء، كثرة عدد وبهجة ضياء، وتخلل الوادي الزائر لها في فصلي الشتاء والربيع في سرر بطحائها، وتوشيحه لخصور أرجائها، ومما اختصت به من بين سائر البلاد التين الريي المنسوب إليها، لأن اسمها في القديم رية، ولقد أخبرت أنه يباع في بغداد على جهة الاستطراف (1) ، وأما ما يسفر منه المسلمون والنصارى في المراكب البحرية فأكثر من أن يعبر عنه بما يحصره، وقد اجتزت بها مرة، وأخذت على طريق الساحل من سهيل إلى أن بلغت إلى بليش قدر ثلاثة أيام متعجباً فيما حوته هذه المسافة من شجر التين، وإن بعضها ليجتني جميعها الطفل الصغير من لزوقها بالأرض، وقد حوت ما يتعب الجماعة كثرة، وتين بليش (2) هو الذي قيل فيه للبربري: كيف رأيته قال: لا تسألني عنه، وصب في حلقي بالقفة؛ وهو لعمر الله معذور، لأنه نعمة حرمت بلاده منها، وقد خصت بطيب الشراب احلال والحرام حتى سار المثل بالشراب المالقي، وقيل لأحد الخلعاء، وقد أشرف على الموت: اسأل ربك المغفرة، فرفع يديه وقال: يارب، أسألك من جميع ما في الجنة خمر مالقة وزبيبي إشبيلية، وفيها تنسج الحلل الموشية التي تجاوز أثمانها الآلاف ذات الصور العجيبة المنتخبة برسم الخلفاء فمن دونهم، وساحلها محط تجارة لمراكب (3) المسلمين والنصارى.
وأما المرية فإنها البلد المشهور الذكر، العظيم القدر، الذي خص أهله باعتدال المزاج، ورونق الديباج، ورقة البشرة، وحسن الوجوه والأخلاق، وكرم المعاشرة والصحبة، وساحلها أنظف السواحل وأشرحها (4) وأملحها منظراً،
__________
(1) م: لأجل الاستطراف.
(2) م: بلش.
(3) م: مراكب.
(4) م: وأشرقها.(3/219)
وفيها الحصى الملون العجيب الذي يجعله رؤساء مراكش في البراريد (1) والرخام الصقيل الملوكي وواديها المعروف بوادي بجانة من أفرج الأودية، ضفتاه بالرياض كالعذارين حول الثغر، فحق أن ينشد فيها:
أرض وطئت الدر رضراضاً بها ... والترب مسكاً والرّياض جنانا (2) وفيها كان ابن ميمون القائد الذي قهر النصارى في البحر، وقطع سفرهم فيه، وضرب على بلاد الرمانية، فقتل وسبى، وملأ صدور أهلها رعباً، حتى كان منه كما قال أشجع (3) :
فإذا تنبّه رعته وإذا غفا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام وبها كان محط مراكب النصارى، ومجتمع ديوانهم، ومنها كانت تسفر (4) لسائر البلاد بضائعهم، ومنها كانوا يوسقون جميع البضائع التي تصلح لهم، وقصد بضبط ذلك بها حصر ما يجتمع في أعشارهم، ولم يوجد لهذا الشأن مثلها، لكونها متوسطة ومتسعة قائمة بالوارد والصادر، وهي أيضاً مصنع للحلل الموشية النفيسة.
وأما مرسية فإنها حاضرة شرق الأندلس، ولأهلها من الصرامة والإباء ما هو معروف مشهور، وواديها قسيم وادي إشبيلية، كلاهما ينبع من شقورة وعليه من البساتين المهتدبة الأغصان، والنواعير المطربة الألحان، والأطيار المغردة، والأزهار المتنضدة، ما قد سمعت، وهي من أكثر البلاد فواكه وريحاناً، وأهلها أكثر الناس راحات وفرجاً لكون (5) خارجها معيناً على ذلك
__________
(1) ب: البواريد.
(2) ب م: جنابا.
(3) هو أشجع السلمي، وبيته من قصيدة في مدح الرشيد.
(4) م: تسافر؛ وكانت سقطت من ق.
(5) ب: يكون.(3/220)
بحسن منظره، وهي بلدة تجهز منها العروس التي تنتخب شورتها لا تفتقر في شيء من ذلك إلى سواها، وهي للمرية ومالقة في صنعة الوشي ثالثة، وقد اختصت بالبسط التنتلية التي تسفر (1) لبلاد المشرق، وبالحصر التي تغلف بها الحيطان المبهجة للبصر، إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ولو تخل من علماء وشعراء وأبطال.
وأما بلنسية فإنها لكثرة بساتينها تعرف بمطيب الأندلس، ورصافتها من أحسن متفرجات الأرض، وفيها البحيرة المشهورة الكثيرة الضوء والرونق، ويقال إنه لمواجهة الشمس لتلك البحيرة يكثر ضوء بلنسية إذ هي موصوفة بذلك، ومما خصت به النسيج البلنسي الذي يسفر لأقطار المغرب، ولم تخل من علماء ولا شعراء، ولا فرسان يكابدون مصاقبة (2) الأعداء، ويتجرعون فيها النعماء ممزوجة بالضراء، واهلها أصلح الناس مذهباً، وأمتنهم ديناً، وأحسنهم صحبة، وأرفقهم بالغريب.
وأما جزيرة ميورقة فمن أخصب بلادالله تعالى أرجاء، وأكثرها زرعاً ورزقاً وماشية، وهي على انقطاعها من البلاد مستغنية عنها، يصل فاضل خيرها إلى غيرها، إذ فيها من الحضارة والتمكن والتمصر وعظم البادية ما يغنيها، وفيها من الفوائد ما فيها، ولها فضلاء وابطال اقتصروا على حمايتها من الأعداء المحدقة بها:
من كلّ من جعل الحسام خليله ... لا يبتغي أبداً سواه معينا هذا - زان الله تعالى فضلك بالإنصاف، وشرف كرمك بالاعتراف - ما حضرني الآن في فضل جزيرة الأندلس، ولم أذكر من بلادها إلا ما كل
__________
(1) ب: تسافر.
(2) ب: مصادمة؛ م: مصاففة، وأثبتناه ما في ق.(3/221)
بلد منها مملكة مستقلة يليها ملوك بني عبد المؤمن على انفراد، وغيرها في حكم التبع.
وأما علماؤها وشعراؤها فإني لم أعرض منهم إلا لمن هو في الشهرة كالصباح، وفي مسير الذكر كمسير الرياح، وأنا أحكي لك حكاية جرت لي في مجلس الفقيه الرئيس أبي بكر ابن زهر، وذلك أني كنت يوماً بين يديه، فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خراسان، وكان ابن زهر يكرمه، فقلت له: ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم فقال: كبرت، فلم أفهم مقصده، واستبردت (1) ما أتى به، وفهم مني أبو بكر ابن زهر أني نظرته نظر المستبرد المنكر، فقال لي: أقرأت شعر المتنبي فقلت: نعم، وحفظت جميعه، قال: فعلى نفسك إذن فلتنكر، وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم، فذكرني بقول المتنبي:
كبّرت حول ديارهم لمّا بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق فاعتذرت للخراساني، وقلت له: قد والله كبرت في عيني بقدر ما صغرت نفسي عندي، حين لم أفهم نبل مقصدك (2) ، فالحمد لله الذي أطلع من المغرب هذه الشموس، وجعلها بين جميع أهله بمنزلة الرؤوس، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه المختار من صفوة العرب، وعلى آله وصحبه، صلاةً متصلة إلى (3) غابر الحقب.
كملت رسالة الشقندي.
[ترجمة الشقندي]
وهو أبو الوليد إسماعيل بن محمد، وشقندة المنسوب إليها قرية مطلة
__________
(1) ب: واستربت؛ وهو خطأ.
(2) ب: مقصودك.
(3) ب: على.(3/222)
على نهر قرطبة مجاورة لها من جهة الجنوب. قال ابن سعيد (1) : وهو ممن كان بينه وبين والدي صحبة أكيدة، ومجالسات أنس عديدة، ومزاورات (2) تتصل، ومحاضرات لا تكاد تنفصل، وانتفعت بمجالسته، وله رسالة في تفضيل الأندلس، يعارض بها أبا يحيى في تفضيل بر العدوة أورد فيها من المحاسن ما يشهد له بلطافة المنزع وعذوبة المشرع، وكان جامعاً لفنون من العلوم الحديثة والقديمة، وعني (3) بمجلس المنصورفكانت له فيه مشاهد غير ذميمة، وولي قضاء بياسة وقضاء لورقة، ولم يزل محفوظ (4) الجانب، محمود المذاهب، سمعته ينشد والدي قصيدةً في المنصور وقد نهض للقاء العدو، منها:
إذا نهضت فإنّ السيف منتهض (5) ... ترمي السعود سهاماً والعدا غرض
لك البسيطة تطويها وتنشرها ... فليس في كلّ ماتنويه معترض قال: وسمعته يقول له: أنشدت الوزير أبا سعيد ابن جامع قصيدة أولها:
استوقف الرّكب قد لاحت لك الدار ... واسأل بربع تناءت عنه أقمار
لا خفّف الله عنّي بعد بينهم ... فإنّني سرت والأحباب ما ساروا ومنها:
ألا رعى الله ظبياً في قبابهم ... منه لهم في ظلام الليل أنوار وله:
علّلاني بذكر من همت فيه ... وعداني عنه بما أرتجيه
__________
(1) انظر اختصار القدح: 138.
(2) القدح: ومداورات.
(3) القدح: وعين.
(4) القدح: ملحوظ.
(5) القدح: السعد منتصر.(3/223)
وإذا ما طربتما لارتياحي ... فاجعلا خمرتي مدامة فيه
ليت شعري وكم أطيل الأماني ... أيّ يومٍ في خلوةٍ ألتقيه
وإذا ما ظفرت (1) يوماً بشكوى ... قال لي: أين كلّ ما تدّعيه
لا دموع ولا سقام فماذا ... شاهدٌ عنك بالذي تدّعيه (2)
قلت دعني أمت بدائي فإّني ... لو براني الغرام لا أبديه وقال في عوده لما مرض (3) :
إنّي مرضت مرضةً ... أسقط منها في يدي
فكان في الإخوان من ... لم أره في العوّد
فقلت في كلّهم ... قول امرئ مقتصد
اير الذي قد عادني ... في آست الذي لم يعد مات بإشبيلية سنة 629، انتهى.
[استطراد في الإشادة بالأندلس]
وقال ابن سعيد: أنشدني والدي للحافظ أبي الطاهر السلفي، قال وكفى به شاهداً، وبقوله مفتخراً:
بلاد أذربيجان في الشرق عندنا ... كأندلسٍ بالغرب في العلم والأدب
فما إن تكاد الدهر تلقى مميزاً ... من آهليهما إلا وقد جدّ في الطلب وحكى غير واحد كابن الأبار أن عباس بن ناصح الشاعر لما توجه من قرطبة
__________
(1) القدح: ظهرت.
(2) القدح: بالذي تخفيه؛ وهو أجود لكي لا تتكرر القافية.
(3) م: في عوده لمن مرض.(3/224)
إلى بغداد، ولقي أبا نواس، قال له: أنشدني لأبي الأجرب، قال: فأنشدته، ثم قال: أنشدني لبكر الكناني، فأنشدته، وهذان شاعران من الأندلس.
[حكايات واشعار أندلسية]
واعلم أنا إن تتبعنا كلام الأندلسيين وحكاياتهم الدالة على سبقهم طال بنا الكتاب، ولم نستوف المراد، فرأينا أن نذكر بعضاً من ذلك بحسب ما اقتضاه الحال وأبداه، ليكون عنواناً دالاً على ما عداه:
يكفي من الحلي ما قد حف بالعنق ... 1 - ولنبدأ ما نسوقه من أخبار الأندلسيين وأشعارهم وحكاياتهم في الجد والهزل، والتولية والعزل، بقول الفقيه الزاهد أبي عمران موسى بن عمران المارتلي (1) ، وكان سكن إشبيلية:
لا تبك ثوبك إن أبليت جدّته ... وابك الذي أبلت الأيام من بدنك (2)
ولا تكوننّ مختالاً بجدّته ... فربّما كان هذا الثوب من كفنك
ولا تعفه إذا أبصرته دنساً ... فإنما اكتسب الأوساخ من درنك (3) 2 - وقال أبو عمرو (4) اليحصبي اللوشي:
شرّد النوم عن جفونك وانظر ... حكمةً توقظ النفوس النياما
__________
(1) المارتلي ويكتب أيضا الميرتلي نسبة إلى بلده " حصن مارتلة " من حصون باجة؛ أحد شعراء الزهد بالأندلس؛ توفي سنة 604 (انظر المغرب 1: 406 والغصون اليانعة: 135 والتكملة: 687) وله شعر كثير في شرح الشريشي على المقامات.
(2) م: جسدك.
(3) م ق: بدنك.
(4) ق ب: عمر.(3/225)
فحرامٌ على امرئ لم يشاهد ... حكمة الله أن يذوق المناما وقال أيضاً:
ليس للمرئ اختيارٌ في الذي ... يتمنّى من حراكٍ وسكون
إنّما المرء لربٍّ واحدٍ ... إن يشأ قال له: كن فيكون 3 - شعر أبو وهب القرطبي (1) :
تنام وقد أعدّ لك السهاد ... وتوقن بالرحيل وليس زاد
وتصبح مثل ما تمسي مضيعاً ... كأنّك لست تدري ما المراد
أتطمع أن تفوز غداً هنيئاً ... ولم يك منك في الدنيا اجتهاد
إذا فرّطت في تقديم زرعٍ ... فكيف يكون من عدمٍ حصاد وقيل: إن الأبيات السابقة التي أولها: " أنا في حالتي التي ... الخ " وجدت في تركته بخطه في شقف (2) ، وبعضهم ينسبها لغيره، واسم أبي وهب المذكور عبد الرحمن، وذكره ابن بشكوال في الصلة (3) ، وأثنى عليه بالزهد والانقطاع، وكان في أول أمره قد حسب عامة الناس أنه مختل العقل، فجعلوا يؤذونه ويرمونه بالحجارة، ويصيحون عليه: يا مجنون يا أحمق، فيقول:
يا عاذلي أنت به جاهلٌ ... دعني به لست بمغبون
أما تراني أبداً والهاً ... فيه كمسحورٍ ومفتون
أحسن ما أسمع في حبّه ... وصفي بمختلٍ ومجنون
__________
(1) مرت الإشارة إليه، انظر ما تقدم ص: 207.
(2) م: شقة.
(3) لم أجد ترجمة في الصلة؛ وأغلب الظن أن هذا وهم من المقري، لأن ابن بشكوال أفرد للعباسي مؤلفا خاصا.(3/226)
4 - وقال الخطيب أبو محمد ابن برطله:
بأربعةٍ أرجو نجاتي وإنّها ... لأكرم مذخورٍ لديّ وأعظم
شهادة إخلاصي وحبي محمداً ... وحسن ظنوني ثم أنّي مسلم 5 - وقال ابن حبيش:
قالوا تصبّر عن الدنيا الدنيّة أو ... كن عبدها واصطبر للذّل واحتمل
لا بدّ من أحد الصبرين، قلت: نعم ... الصبر عنها بعون الله أوفق لي 6 - وقال ابن الشيخ:
اطلب لنفسك فوزها واصبر لها ... نظر الشفيق وخف عليها واتّق
من ليس يرحم نفسه ويصدّها ... عمّا سيهلكها فليس بمشفق 7 - وقال أبو محمد القرطبي (1) :
لعمرك ما الدنيا وسرعة سيرها ... بسكّانها إلا طريق مجاز
حقيقتها أن المقام بغيرها ... ولكنّهم قد أولعوا بمجاز 8 - وقال السمسير (2) :
لله في الدّنيا وفي أهلها ... معمّياتٌ قد فككناها
من بشرٍ نحن فمن طبعنا ... نحبّ فيها المال والجاها
دعني من الناس ومن قولهم ... فإنّما النّاسك خلاّها (3)
__________
(1) هو عبد الله بن الحسن بن أحمد الأنصاري القرطبي أبو محمد (انظر ترجمته في الذيل والتكملة 4: 191 والتكملة: 879 وتذكرة الحفاظ: 1396 وبرنامج الرعيني: 141) والبيتان البرنامج والذيل: 210.
(2) في الأصول ودوزي: الشميس؛ وصوبناه.
(3) في ب: الناس أخلاها.(3/227)
لم تقبل الدنيا على ناسكٍ ... إلا وبالرحب تلقّاها
وإنّما يعرض عن وصلها ... من صرفت عنه محيّاها 9 - وقال أبو القاسم ابن بقي:
ألا إنّما الدنيا كراحٍ عتيقةٍ ... أراد مديروها بها جلب الأنس
فلمّا أداروها أثارت حقودهم ... فعاد الذي راموا من الأنس بالعكس 10 - وقال أبو محمد عبد الله بن العسال الطليطلي (1) :
انظر الدّنيا فإن أب ... صرتها شيئاً يدوم
فاغد منها في أمانٍ ... إن يساعدك النعيم
وإذا أبصرتها من ... ك على كرهٍ تهيم (2)
فاسل عنها واطّرحها ... وارتحل حيث تقيم 11 - وقال ابن هشام القرطبي:
وأبي المدامة ما أريد بشربها ... صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي
لم يبق من عهد الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلاّ هي
إن كنت أشربها من غير وفائها ... فتركتها للناس لا لله 12 - وقال أبو محمد ابن السيد البطليوسي مما نسبه إليه في " المغرب (3) ":
أخو العلم حيٌّ خالدٌ بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميتٌ وهو ماشٍ على الثرى ... يظنّ من الأحياء وهو عديم
__________
(1) انظر ما تقدم ص: 208.
(2) م ق: تقيم.
(3) ليسا في ترجمته في المغرب (1: 385) وهما في أزهار الرياض 3: 103.(3/228)
13 - وقال أبو الفضل ابن شرف (1) :
لعمرك ما حصلت على خطيرٍ ... من الدنيا ولا أدركت شيّا
وها أنا خارجٌ منها سليباً ... أقلّب نادماً كلتا يديّا
وأبكي ثمّ أعلم أنّ مبكا ... ي لا يجدي فأمسح مقلتيّا
ولم أجزع لهول الموت لكن ... بكيت لقلّة الباكي عليّا
وأنّ الدهر لم يعلم مكاني ... ولا عرفت بنوه ما لديّا
زمانٌ سوف أنشر فيه نشراً ... إذا أنا بالحمام طويت طيّا
أسرّ بأنّني ساعيش ميتاً ... به ويسوءني أن متّ حيا 14 - وقال الزاهد العارف بالله سيدي أبو العباس ابن العريف نفعنا الله تعالى به (2) :
سلو عن الشوق من أهوى فإنّهم ... أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي
فمن رسولي إلى قلبي ليسألهم ... عن مشكلٍ من سؤال الصبّ ملتبس
حلّوا فؤادي فما يندى، ولو وطئوا ... صخراً لجاد بماء منه منبجس
وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم ... فكيف قرّوا على أذكى من القبس
لأنهضنّ إلى حشري بحبّهم ... لا بارك الله فيمن خانهم ونسي قلت: لقد زرت قبره المعظم بمراكش سنة عشر وألف، وهو ممن
__________
(1) راجع أبياته في التكملة: 870.
(2) أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي المشهور بابن العريف؛ صاحب كتاب " محاسن المجالس " اختار طريقة الزهد والتصوف، وصادف ذلك ظهور جماعة من المتصوفة بمدينة شلب وانتشر مذهبهم فيها وفي لبلة ومارتلة، ثم تفرقوا ووصل رئيسهم إلى المرية وفيها شيخ المتصوفة ابن العريف، فوجه علي بن يوسف اللمتوني في طلبه وطلب أبي الحكم ابن برجان، فتوفيا بمراكش سنة 537 (أو 536) . انظر وفيات الأعيان 1: 151 وأعمال الأعلام: 248 - 249 والمغرب 2: 211 وبغية الملتمس ص: 154 والصلة: 84 والمطرب: 90 ومعجم الصفدي: 18 والتحفة: 17 والوافي: 8 الورقة: 50 وأبياته في المغرب والمطرب.(3/229)
يتبرك به في تلك الديار، ويستسقى به الغيث، وهو من أهل المرية، وأحضره السلطان إلى مراكش فمات بها، وله كرامات شهيرة ومقامات كبيرة، نفعنا الله تعالى به.
15 - واعلم أن أهل الأندلس كانوا في القديم (1) على مذهب الأوزاعي، وأهل الشام منذ أول الفتح، ففي دولة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل - وهو ثالث الولاة بالأندلس من الأمويين - انتقلت الفتوى إلى رأي مالك بن أنس واهل المدينة، فانتشر علم مالك ورأيه بقرطبة والأندلس جميعاً، بل والمغرب، وذلك برأي الحكم واختياره، واختلفوا في السبب المقتضي لذلك، فذهب الجمهور إلى أن سببه رحلة علماء الأندلس إلى المدينة، فلما رجعوا إلى الأندلس وصفوا فضل مالك وسعة علمه، وجلالة قدره، فأعظموه كما قدمنا ذلك، وقيل: عن الإمام مالكاً سأل بعض الأندلسيين عن سيرة ملك الأندلس، فوصف له سيرته، فأعجبت مالكاً لكون سيرة بني العباس في ذلك الوقت لم تكن بمرضية، وكابد لما صنع أبو جعفر المنصور بالعلوية بالمدينة من الحبس والإهانة وغيرهما على ما هو مشهور في كتب التاريخ، فقال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه لذلك المخبر: نسأل الله تعالى أن يزين حرمنا بملككم، أو كلاماً هذا معناه، فنميت المسألة إلى ملك الأندلس، مع ما علم من جلالة مالك ودينه، فحمل الناس على مذهبه، وترك مذهب الأوزاعي، والله تعالى أعلم.
16 - وحكي أن القاضي الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن أبي يغمور لما ندبه أهل الأمر لولاية القضاء بمدينة فاس استعفى، فلم يقبل منه، وخرج إلى تلك الناحية، وخرج الناس لوداعه، فأنشد:
عليكم سلام الله إنّي راحلٌ ... وعيناي من خوف التفرّق تدمع
__________
(1) في القديم: سقطت من م.(3/230)
فإن نحن عشنا فهو يجمع بيننا ... وإن نحن متنا فالقيامة تجمع وأنشد أصحابه رحمه الله تعالى، ولا أدري هل هي له أو لغيره:
كنّا نعظّم بالآمال قدركم ... حتى انقضت فتساوى عندنا الناس
لم تفضلونا بشيء غير واحدةٍ ... هي الرجاء فسوّى بيننا الياس وأنشد أيضاً:
بلوتهم مذ كنت طفلاً فلم أجد ... كما أشتهي منهم صديقاً وصاحبا
فصوّبت رأيي في فراري منهم ... وشمّرت أذيالي وأمعنت هاربا وأنشد لغيره في الكتمان:
أخفى الغرام فلا جوارحه ... شعرت بذاك ولا مفاصله
كالسيف يصحبه الحمام ولم ... يعلم بما حملت حمائله وأنشد:
قد كنت أمرض في الشبيبة دائماً ... والموت ليس يمرّ لي في البال
والآن شبت وصحّتي موجودةٌ ... وأرى كأنّ الموت في أذيالي ولمّا أنشده تاج الدين بن حمويه السرخسي الوافد على المغرب من المشرق قول بعضهم:
فلا تحقرنّ عدوّاً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإنّ السيوف تحزّ الرقاب ... وتعجز عمّا تنال الإبر قال: حسنٌ جيد، ولكن اسمع ما قال شاعرنا القسطلي (1) ، وأنشد:
__________
(1) يريد ابن دراج، والأبيات من قصيدته في مدح المنصور بن أبي عامر (ديوانه: 303) .(3/231)
أثرني لكشف الخطب والخطب مشكلٌ ... وكلني لليث الغاب وهو هصور
فقد تخفض الأسماء وهي سواكنٌ ... ويعمل في الفعل الصريح ضمير
وتنبو الردينيّات، والطول وافر ... ويبعد وقع السهم وهو قصير 17 - وكان الوزير الكريم أبو محمد عبد الرحمن بن مالك المعافري (1) أحد وزراء الأندلس كثير الصنائع جزل المواهب عظيم المكارم، على سنن عظماء الملوك وأخلاق السادة، لم ير بعده مثله في رجال الأندلس، ذاكراً للفقه والحديث، بارعاً في الآداب، شاعراً مجيداً، وكاتباً بليغاً، كثير الخدم والأهل، ومن آثاره الحمام بجوفي الجامع الأعظم من غرناطة، وزاد من سقف الجامع من صحنه وعوض من أرجل قسيه أعمدة الرخام، وجلب الرؤوس والموائد من قرطبة، وفرش صحنه بكذان الصخر، ووجهه أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنائها، فلما حلها سأل قاضيها فكتب له جملة من أهلها ممن ضعفت حاله وقل تصرفه من ذوي البيوتات، فاستعملهم أمناء، ووسع أرزاقهم، حتى كمل له ما أرد من عمله، ومن عجز أن يستعمله وصله من ماله، فصدر عنها وقد أنعش خلقاً، رضي الله تعالى عنه ورحمه.
ومن شعره في مجلس أطربه سماعه، وبسط احتشاد الأنس فيه واجتماعه، فقال (2) :
لا تلمني إذا طربت لشجوٍ ... يبعث الأنس فالكريم طروب
ليس شقّ الجيوب حقّاً علينا ... إنّما الحقّ أن تشقّ القلوب وقطف غلام من غلمانه نوارة ومد بها يده إلى أبي نصر الفتح بن عبيد الله، فقال أبو نصر:
__________
(1) ترجمته في القلائد: 170.
(2) القلائد: 170؛ والنقل عنه حتى قوله " من النوى ".(3/232)
وبدرٍ بدا والطّرف مطلع حسنه ... وفي كفّه من رائق النّور كوكب فقال أبو محمد ابن مالك (1) :
يروح لتعذيب النفوس ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب
ويحسد منه الغصن أيّ مهفهفٍ ... يجيء على مثل الكثيب ويذهب وقد سبق هذا.
وكتب إلى الفتح من غير ترو: يا سيدي، جرت الأيام بفراقك، وكان الله جارك في انطلاقك (2) ، فغيرك روع بالظعن، وأوقد للوداع جاحم الشجن، فإنك من أبناء هذا الزمن، خليفة الخضر لا يستقر على وطن، كأنك - والله يختار لك ما تأتيه وما تدعه - موكل بفضاء الأرض تذرعه (3) ، فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع، أن يعدك من العواري السريعة الارتجاع، فلا يأسف على قلة الثوى، وينشد:
" وفارقت حتى ما أبالي من النّوى (4) " ... ومات رحمه الله بغرناطة سنة 518، وحضر جنازته الخاصة والعامة وهو من محاسن الأندلس، رحمه الله تعالى.
18 - ومن نوادر الاتفاق (5) أن جارية مشت بين يدي المعتمد، وعليها قميص لا تكاد تفرق بينه وبين جسمها، وذوائبها تخفي آثار مشيها، فسكب
__________
(1) البيت الأول من هذين ورد منسوبا للفتح نفسه في أصولالنفح.
(2) من قول البحتري:
الله جارك في انطلاقك ... تلقاء شامك أو عراقك (3) عجز بيت لابن زريق البغدادي، وصدره: كأنما هو في حل ومرتحل.
(4) ق م: من الهوى.
(5) انظر هذه القصة في بدائع البدائه.(3/233)
عليها ماء ورد كان بين يديه، وقال:
علّقت جائلة الوشاح غريرة ... تختال بين أسنّة وبواتر وقال لبعض الخدم: سر إلى أبي الوليد البطليوسي المشهور بالنحلي وخذه بإجازة هذا البيت ولا تفارقه حتى يفرغ منه، فأجاب النحلي لأول وقوع الرقعة بين يديه:
راقت محاسنها ورقّ أديمها ... فتكاد تبصر باطناً من ظاهر
وتمايلت كالغصن في دعص النّقا ... تلتفّ في ورق الشباب الناضر
يندى بماء الورد مسبل شعرها ... كالطّلّ يسقط من جناح الطّائر
تزهى برونقها وعزّ جمالها ... زهو المؤيّد بالثناء العاطر
ملكٌ تضاءلت الملوك لقدره ... وعنا له صرف الزمان الجائر
وإذا لمحت جبينه ويمينه ... أبصرت بدراً فوق بحرٍ زاخر فلما قرأها المعتمد استحضره، وقال له: أحسنت، أو معنا كنت فقال له: يا قاتل المحل، أما تلوت " وأوحى ربّك إلى النّحل ".
وأصبح المعتمد يوماً ثملاً فدخل الحمام، وأمر أن يدخل النحليّ معه، فجاء وقعد في مسيح (1) الحمام حتى يستأذن عليه، فجعل المعتمد يحبق في الحمام وهو خالٍ وقد بقيت في رأسه بقية من السك، وجعل كل ما سمع دويّ ذلك الصوت يقول: الجوز، اللوز، القسطل، ومر على هذا ساعة، إلى أن تذكر النحلي، فصادفه (2) ، فلما دخل قال له: من أي وقت أنت هنا قال: من أول ما رتب مولانا الفواكه في النصبة، فغشي عليه من الضحك، وأمر له بإحسان. والنصبة: مائدة يصبون فيها هذه الأصناف.
__________
(1) ق: مسلخ.
(2) ق م: فصادمه.(3/234)
ولما استحسن المعتمد قول المتنبي (1) :
إذا ظفرت منك المطيّ بنظرة ... أثاب بها معيي المطيّ ورازمه قال ابن وهبون بديهة: " وقالوا أجاد ابن الحسين ... الخ البيتين "، وقد تقدم ذكرهما، فأمر له بمائتي دينار.
ولما قال ابن وهبون المذكور:
غاض الوفاء فما تلقاه في رجلٍ ... ولا يمرّ لمخلوقٍ على بال
قد صار عندهم عنقاء مغربةً ... أو مثلما حدّثوا عن ألف مثقال قال له المعتمد: عنقاء مغربة وألف مثقال يا عبد الجليل عنك سواء فقال: نعم، قال: قد أمرنا لك بألف دينار وبألف دينار أخرى تنفقها.
19 - وذكر القرطبي صاحب " التذكرة " في كتابه " قمع الحرص بالزهد والقناعة "، ما صورته: روينا أن الإمام أبا عمر بن عبد البر رضي الله تعالى عنه بلغه وهو بشاطبة أن أقواماً عابوه بأكل طعام السلطان وقبول جوائزه، فقال:
قل لمن ينكر أكلي ... لطعام الأمراء
أنت من جهلك هذا ... في محلّ السفهاء لأن الاقتداء بالصالحين، من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى من المسلمين، من السلف الماضين، وهو ملاك الدين، فقد كان زيد بن ثابت - وكان من الراسخين في العلم - يقبل جوائز معاوية وابنه يزيد، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما - مع ورعه وفضله - يقبل هدايا صهره المختار ابن أبي عبيد، ويأكل
__________
(1) انظر ما تقدم ص: 194.(3/235)
طعامه، ويقبل جوائزه، وقال عبد الله بن مسعود - وكان قد ملئ علماً - لرجل سأله، فقال: إن لي جاراً يعمل بالربا، ولا يجتنب في مكسبه الحرام، يدعوني إلى طعامه، أفأجيبه قال: نعم، لك المهنأ وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراماً، وقال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه - حين سئل عن جوائز السلاطين -: لحم ظبي ذكي، وكان الشعبي - وهو من كبار التابعين وعلمائهم - يؤدب بني عبد الملك بن مروان، ويقبل جوائزه ويأكل طعامه، وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة والحسن البصري - مع زهده وورعه - وسائر علماء البصرة وأبو سلمة ابن عبد الرحمن وأبان ابن عثمان والفقهاء السبعة بالمدينة - حاشا سعيد بن المسيب - يقيلون جوائز السلطان، وكان ابن شهاب يقبلها، ويتقلب في جوائزهم، وكانت أكثر كسبه، وكذلك أبو الزناد، وكان مالك وأبو يوسف والشافعي وغيرهم من فقهاء الحجاز والعراق يقبلون جوائز السلاطين والأمراء، وكان سفيان الثوري - مع ورعه وفضله - يقول: جوائز السلطان أحب إلي من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون والسلطان لا يمن، ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير، وقد جمع الناس فيه أبواباً، ولأحمد ابن خالد فقيه الأندلس وعالمها في ذلك كتاب حمله على وضعه وجمعه طعن أهل بلده عليه في قبوله جوائز عبد الرحمن الناصر، إذ نقله إلى المدينة بقرطبة، وأسكنه داراً من دور الجامع قربه، وأجرى عليه الرزق من الطعام والإدام والناض، وله ولمثله في بيت المال حظ، والمسؤول عن التخليط فيه هو السلطان، كما قال عبد الله بن مسعود " لك المهنأ وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراماً " ومعنى قول ابن مسعود هذا قد أجمع العلماء عليه، فمن علم الشيء بعينه حراماً مأخوذاً من غير حله كالجريمة وغيرها وشبهها من الطعام أو الدابة وما كان مثل ذلك كله من الأشياء المتعينة غصباً أو سرقة أو مأخوذة بظلم بين لا شبهة فيه فهذا الذي لم يختلف أحد في تحريمه، وسقوط عدالة آكله، وأخذه وتملكه، وما أعلم من علماء التابعين أحداً تورع عن جوائز السلطان إلا سعيد بن المسيب بالمدينة، ومحمد ابن(3/236)
سيرين بالبصرة، وهما قد ذهبا مثلاً في التورع، وسلك سبيلهما في ذلك أحمد ابن حنبل وأهل الزهد والورع والتقشف، رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل، ولا يحل لمن وفقه الله تعالى وزهد فيها أن يحرم ما أباح الله تعالى منها، والعجب من أهل زماننا يعيبون الشبهات وهم يستحلون المحرمات، ومثالهم عندي كالذين سألوا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن المحرم يقتل القراد والحلمة، فقال للسائلين له: من أنتم فقالوا: من أهل الكوفة، فقال: تسألونني عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أتاك من غير مسألة فكله وتموّله "، وروي هذا الحديث أيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما " ما أتاك من غير مسألة فكله وتموّله "، وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه، وفي حديث أحدهما " إنما هو رزق رزقكه الله تعالى "، وفي لفظ بعض الرواة " ولا تردّ على الله رزقه "، وهذا كله مركب مبني على ما أجمعوا عليه، وهو الحق، فمن عرف الشيء المحرم بعينه فإنه لا يحل له، فهذه المسألة من كلام ابن عبد البر، انتهى.
20 - وحضر ابن مجبر مع عدو له جاحد لمعروفه، وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر، فقال له الحسود: إن كنت شاعراً فقل في هذه، فقال ارتجالاً: " سأشكوا إلى الندمان "، إلى آخر الحكاية، وقد تقدمت في رسالة الشقندي (1) رحمه الله تعالى.
[ترجمة ابن مجبر وشعره]
وابن مجبر هو أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحم بن مجبر الفهري،
__________
(1) انظر ما تقدم ص: 206.(3/237)
كان في وقته شاعر المغرب ويشهد له بقوة عارضته وسلامة طبعه قصائده التي صارت مثالاً، وبعدت على قربها منالاً، وشعره كثير يشتمل على أكثر من تسعة آلاف وأربعمائة بيت، واتصل بالأمير أبي عبد الله ابن سعد ابن مردنيش، وله فيه أمداح، وأنشد يوسف بن عبد المؤمن يهنيه بفتح:
إنّ خير الفتوح ما جاء عفواً ... مثل ما يخطب الخطيب ارتجالا وكان أبو العباس الحراوي حاضراً، فقطع عليه لحسادةٍ وجدها، وقال: يا سيدنا اهتدم بيت وضاح:
خير شرابٍ ما كان عفواً ... كأنّه خطبة ارتجال فبدر (1) المنصور، وهو حينئذ وزير أبيه وسنه قريب العشرين، وقال: إن كان اهتدمه فقد استحقه لنقله إياه من معنى خسيس إلى معنى شريف، فسر أبوه بجوابه، وعجب الحاضرون.
ومر المنصور أيام إمرته بأونبة (2) من أرض شلب، فوقف على قبر الحافظ أبي محمد ابن حزم، وقال: عجباً لهذا الموضع، يخرج منه مثل هذا العالم، ثم قال: كل العلماء عيال على ابن حزم، ثم رفع رأسه وقال: كما أن الشعراء عيال عليك يا أبا بكر، يخاطب ابن مجبر.
ومن شعر ابن مجبر يصف خيل المنصور من قصيدة في مدحه:
له حلبة الخيل العتاق كأنّها ... نشاوى تهاوت تطلب العزف والقصفا
عرائس أغنتها الحجول عن الحلى ... فلم تبغ خلخالاً ولا التمست وقفا
فمن يققٍ كالطّرس تحسب أنّه ... وإن جرّدوه في ملاءته التفّا
__________
(1) م: فنطق.
(2) ق: بأوقية؛ ب: بأوقبة.(3/238)
وأبلق أعطى الليل نصف إهابه ... وغار عليه الصّبح فاحتبس النّصفا
ووردٍ تغشّى جلده شفق الدجى ... فإذ حازه دلّى له الذيل والعرفا
وأشقر مجّ الراح صرفاً أديمه ... وأصفر لم يمسح بها جلده صرفا
وأشهب فضّيّ الأديم مدنّرٍ ... عليه خطوطٌ غير مفهمةٍ حرفا
كما خطّط الزاهي بمهرق كاتبٍ ... فجرّ عليه ذيله وهو ما جفّا
تهبّ على الأعداء منها عواصفٌ ... ستنسف أرض المشركين بها نسفا
ترى كلّ طرفٍ كالغزال فتمتري ... أظبياً ترى تحت العجاجة أم طرفا
وقد كان في البيداء يألف سربه ... فربّته مهراً وهي تحسبه خشفا
تناوله لفظ الجواد لأنّه ... إذا (1) ما أردت الجري أعطاكه ضعفا ولما اتخذ المنصور مقصورة الجامع بمراكش بدار ملكها، وكانت مدبرة على انتصابها إذا استقر المنصور ووزراؤه بمصلاه، واختفائها إذا انفصلوا عنها، أنشد في ذلك الشعراء فقال ابن مجبر من قصيدة أولها:
أعلمتني ألقي عصا التسيار ... في بلدةٍ ليست بدار قرار إلى أن قال (2) :
طوراً تكون بمن حوته محيطةً ... فكأنّها سورٌ من الأسوار
وتكون حيناً عنهم مخبوءةً ... فكأنّها سرٌّ من الأسرار
كأنّها علمت مقادير الورى ... فتصرفت لهم على مقدار
فإذا أحسّت بالإمام يزورها ... في قومه قامت إلى الزوّار
يبدو فتبدو ثمّ تخفى بعده ... كتكوّن الهالات للأقمار
__________
(1) ق ب: على.
(2) وردت هذه الأبيات في الحلل الموشية: 120.(3/239)
وممن روى عنه أبو علي الشلوبين وطبقته، وتوفي بمراكش سنة 588، وعمره 53 سنة، رحمه الله تعالى.
وقد حكى الشريف الغرناطي شارح المقصورة هذه الحكاية بأتمّ مما ذكرناه، فقال عن الكاتب ابن عياش كاتب يعقوب المنصور الموحدي، قال (1) : كانت لأبي بكر ابن مجبر وفادة على المنصور في كل سنة، فصادف في إحدى وفاداته فراغه من إحداث المقصورة التي كان أحدثها بجامعه المتصل بقصره المتصل بقصره في حضرة (2) مراكش، وكانت قد وضعت على حركات هندسية ترفع بها لخروجه وتخفض لدخوله، وكان جميع من بباب المنصور يومئذ من الشعراء والأدباء قد نظموا أشعاراً أنشدوه إياها في ذلك، فلم يزيدوا على شكره، وتجزيته الخير فيما جدد من معالم الدين وآثاره، ولم يكن فيهم من تصدى لوصف الحال حتى قام أبو بكر ابن مجبر فأنشد قصيدته التي أولها " أعلمتني ألقي عصا التسيار " واستمر فيها حتى ألم بذكر المقصورة فقال يصفها " طوراً تكون - الخ " فطرب المنصور لسماعها، وارتاح لاختراعها، انتهى.
وقد بطلت حركات هذه المقصورة الآن، وبقيت آثارها حسبما شاهدته سنة عشر والف، والله تعالى وارث الأرض ومن عليها.
ومن نظم ابن مجبر أيضاً ما كتب به إلى السلطان ملك المغرب، رحمه الله تعالى، وقد ولد له ابن، أعني لابن مجبر:
ولد العبد الذي إنعامكم ... طينةٌ أنشئ منها جسده
وهو دون اسمٍ لعلمي أنّه ... لا يسمّي العبد إلا سيّده وقوله:
ملك ترويك منه شيمةٌ ... أنست الظلماء زرق النّطف
__________
(1) انظر شرح المقصورة 1: 71.
(2) م: مدينة.(3/240)
جمعت من كلّ مجدٍ فحكت ... لفظةً قد جمّعت من أحرف
يعجب السامع من وصفي لها ... ووراء العجز ما لم أصف
لو أعار السهم ما في رأيه ... من سداد وهدىً لم يصف
حلمه الرّاجح ميزان الهدى ... يزن الأشياء وزن المنصف 21 - وقال ابن خفاجة (1) :
صحّ الهوى منك ولكنّني ... أعجب من بينٍ لنا يقدر
كأنّنا في فلكٍ دائرٍ ... فأنت تخفى وأنا أظهر وهما الغاية في معناهما، كما قاله ابن ظافر، رحمه الله تعالى.
22 - وقال الأعمى التطيلي (2) :
أما اشتفت منّي الأيام في وطني ... حتى تضايق فيما عزّ من وطري
فلا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكرّ على ما طلّ في الشّعر 23 - وقال القاضي أبو حفص ابن عمر القرطبي (3) :
هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب لبّ شاربها المدام
يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام
سما طرفي إليها وهو باكٍ ... وتحت الشمس ينسكب الغمام
وأذكر قدّها فأنوح وجداً ... على الأغصان تنتدب الحمام
فأعقب بينها في الصدر غمّاً ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام 24 - وقال الحاجب عبد الكريم ابن مغيث (4) :
__________
(1) ليسا في ديوان ابن خفاجة.
(2) انظر ما سبق ص: 207؛ وديوان الأعمى: 49.
(3) انظر ما سبق ص: 209.
(4) عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث حاجبا للحكم الربضي، وكان بليغا شاعرا مفوها (انظر الحلة 1: 135 - 136) وكان له أخ اسمه عبد الملك تولى سرقسطة، ولم يذكر ابن الأبار أخاه أحمد.(3/241)
طارت بنا الخيل ومن فوقها ... شهب بزاةٍ لحمام الحمام
كأنّما الأيدي قسيٌّ لها ... والطير أهدافٌ وهنّ السهام 25 - وقال أخوه أحمد:
اشرب على البستان من كفّ من ... يسقيه من فيه وأحداقه
وانظر إلى الأيكة في برده ... ولاحظ البدر بأطواقه
وقد بدا السّرو على نهره ... كخائضٍ شمّر عن ساقه 26 - وقال أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله بن أمية البلنسي:
إذا كان ودّي وهو أنفس قربةٍ ... يجازى ببغضٍ فالقطيعة أحزم
ومن أضيع الأشياء ودٌّ صرفته ... إلى غير من تحظى لديه وتكرم [حكايات في البديهة والارتجال]
27 - ومن حكايات أهل الأندلس (1) في خلع العذار والطرب والظرف وغير ذلك كسرعة الارتجال ما حكاه صاحب " بدائع البدائه " قال (2) : أخبرني من أثق به بما هذا معناه، قال: خرج الوزير أبو بكر بن عمار والوزير أبو الوليد ابن زيدون ومعهما الوزير ابن خلدون من إشبيلية إلى منظرة لبني عباد لموضع يقال له الفنت (3) تحف بها مروجٌ مشرقة الأنوار، متنسمة الأنجاد والأغوار، متبسمة عن ثغور النوّار في زمان ربيع سقت الأرض السحب فيه
__________
(1) هنا يأخذ المقري بالنقل عن بدائع البدائه لابن ظافر الأزدي أكثر حكايات هذا الباب
(2) بدائع البدائه 1: 214.
(3) في الأصول: القنت؛ والبدائع: الغيث.(3/242)
بوسميها ووليها، وجلتها في زاهر ملبسها وباهر حليتها، وأرداف الربى قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها، وأجياد الجداول قد نظم النوار قلائده حول لباتها، ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هباتها، وهناك من البهار ما يزري على مداهن (1) النضار، ومن النرجس الريان ما يهزأ بنواعس الأجفان، وقد نووا الانفراد للهو والطرب، والتنزه في روضي النبات والأدب، وبعثوا صاحباً لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم، ونظام مسرتهم، ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجه، ويرمونه منه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه، وجلسوا لانتظاره، وترقب عوده على آثاره، فلما بصروا به مقبلاً من أول الفج بادروا إلى لقائه، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه، واتفق أن فارساً من الجند ركض فرسه فصدمه ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه، وكسر قمعل (2) النبيذ الذي كان معه، وفرق من شملهم ما كان الدهر قد جمعه، ومضى على غلوائه راكضاً حتى خفي عن العين، خائفاً من متعلقٍ به يحين بتعلقه الحين، وحين وصل الوزراء إليه، تأسفوا عليه، وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوانه، والخطب وألوانه، ودخوله بطوام المضرات، على تمام المسرات، وتكديره الأوقات المنعمات، بالآفات المؤلمات، فقال ابن زيدون:
أنلهو والحتوف بنا مطيفه ... ونأمن والمنون لنا مخيفه فقال ابن خلدون:
وفي يومٍ وما أدراك يومٌ ... مضى قمعالنا ومضى خليفه
__________
(1) البدائع: بمداهن.
(2) القمعل: القدح الضخم.(3/243)
فقال ابن عمار:
هما فخّارتا راحٍ وروحٍ ... تكسرتا فأشقافٌ (1) وجيفه انتهى.
28 - وذكر ابن بسام ما معناه (2) أن أبا عامر ابن شهيد حضر ليلة عند الحاجب أبي عامر المظفر ابن المنصور ابن أبي عامر بقرطبة، فقامت تسقيهم وصيفة عجيبة صغيرة الخلق (3) ، ولم تزل تسهر في خدمتهم إلى أ، هم جند الليل بالانهزام، وأخذ في تقويض خيام الظلام، وكانت تسمى أسيماء، فعجب الحاضرون من مكابدتها السهر طول ليلتها (4) على صغر سنها، فسأله المظفر وصفها، فصنع ارتجالاً:
أفدي أسيماء من نديمٍ ... ملازمٍ للكؤوس راتب
قد عجبوا في السّهاد منها ... وهي لعمري من العجائب
قالوا: تجافى الرقاد عنها ... فقلت: لا ترقد الكواكب 29 - وحكى ابن بسام (5) ما معناه أن ابن شهيد المذكور كان يوماً مع جماعة من الأدباء عند القاضي ابن ذكوان، فجيء بباكورة باقلاّ، فقال ابن ذكوران: لا ينفرد بها إلا من وصفها، فقال ابن شهيد: أنا لها، وارتجل:
إنّ لآليك أحدثت صلفا ... فاتّخذت من زمرّدٍ صدفا
تسكن ضرّاتها البحور وذي ... تسكن للحسن روضةً أنفا
هامت بلحف الجبال فاتخذت ... من سندسٍ في جنانها لحفا
__________
(1) البدائع: فشقفات.
(2) بدائع البدائه 2: 32.
(3) البدائع: وصيفة صغيرة ظريفة الخلق.
(4) البدائع: ليلها.
(5) بدائع البدائه 2: 33؛ وانظر الذخيرة 4 / 1: 28.(3/244)
شبهتها بالثغور من لطف ... حسبك هذا من بر (1) من لطفا
جاز ابن ذكوان في مكارمه ... حدود كعبٍ وما به وصفا
قدّم درّ الرّياض منتخباً ... منه لأفراس مدحه علفا
أكلٌ ظريفٌ وطعم ذي أدبٍ ... والفول يهواه كلّ من ظرفا
رخّص فيه شيخٌ له قدرٌ ... فكان حسبي من المنى وكفى 30 - وقال ابن بسام (2) : إن جماعة من أصحاب ابن شهيد المذكور قالوا له: يا أبا عامر، إنك لآتٍ بالعجائب، وجاذب بذوائب الغرائب، ولكنك شديد الإعجاب بما يأتي منك، هازٌّ لعطفك عند النادر يتاح لك، ونحن نريد منك أن تصف لنا مجلسنا هذا، وكان الذي طلبوه منه زبدة التعنيت، لأن المعنى إذا كان جلفاً ثقيلاً على النفس، قبيح الصورة عند الحس، كلت الفكرة عنه وإن كانت ماضية، وأساءت القريحة في وصفه وإن كانت محسنة، وكان في المجلس بابٌ مخلوع معترض على الأرض ولبد أحمر مبسوط قد صففت خفافهم (3) عند حاشيته، فقال مسرعاً:
وفتيةٍ كالنجوم حسناً ... كلّهم شاعرٌ نبيل
متّقد الجانبين ماضٍ ... كأنّه الصارم الصّقيل
راموا انصرافي عن المعالي ... والغرب من دونها كليل (4)
فاشتدّ في إثرها (5) فسيحٌ ... كلّ كثيرٍ له قليل
في مجلس زانه التصابي ... وطاردت وصفه العقول
__________
(1) دوزي: رفد.
(2) بدائع البدائه 2: 32؛ وانظر الذخيرة 4 / 1: 27.
(3) ب: قد رصت؛ البدائع: نعالهم.
(4) في الأصول قليل، والتصويب عن البدائع والذخيرة؛ وفي الأصول أيضا: عن دونها.
(5) في الأصول: فالشد في أمرها.(3/245)
كأنّما بابه أسيرٌ ... قد عرضت (1) دونه مصول
يراد منه المقال قسراً ... وهو على ذاك لا يقول
ننظر من لبده لدينا ... بحر دمٍ تحتنا يسيل
كأنّ أخفافنا عليه ... مراكب ما لها دليل
ضلّت فلم تدر أين تجري ... فهل على شطّه تقيل فعجب القوم من أمره، ثم خرج من عندهم فمر على بعض معارفه من الطرائفيين وبين يديه زنبيل ملآن حرشفاً (2) ، فجعل يده في لجام بغلته، وقال: لا أتركك أو تصف الحرشف، فقد وصفه صاعد فلم يقل شيئاً، فقال له ابن شهيد: ويحك! أعلى مثل هذه الحال قال: نعم، فارتجل (3) :
هل أبصرت عيناك يا خليلي ... قنافذاً تباع في زنبيل
من حرشفٍ معتمدٍ جليل ... ذي إبرٍ تنفذ جلد الفيل
كأنّها أنياب بنت (4) الغول ... لو نخست في است امرئ ثقيل
لقفزته نحو أرض النّيل ... ليس يرى طيّ حشا منديل
نقل السّخيف المائن الجهول ... وأكل قومٍ نازحي العقول
أقسمت لا أطعمها أكيلي ... ولا طعمتها على شمولي انتهى.
31 - وقال في " بدائع البدائه " (5) : دخل الوزير أبو العلاء زهر ابن الوزير أبي مروان عبد الملك ابن زهر على الأمير عبد الملك ابن رزين في مجلس أنس، وبين يديه ساق يسقي خمرين من كأسه ولحظه، ويبدي درين من حبابه
__________
(1) ب: عارضت.
(2) ب: زنبيل حرشف.
(3) الذخيرة 4 / 1: 28.
(4) ب ودوزي: نبت.
(5) بدائع البدائه 2: 42.(3/246)
ولفظه، وقد بدا خط عذاره في خده، وكمل حسنه باجتماع الضد مع ضده، فكأنّه بسحر لحظه أبدى ليلاً في شمسن وجعل يومه في الحسن أحسن من أمس، فسأله ابن رزين أن يصنع فيه، فقال بديهاً:
تضاعف وجدي إذ تبدّى عذاره ... ونمّ فخان القلب منّي اصطباره
وقد كان ظنّي أن سيمحق ليله ... بدائع حسنٍ هام فيها نهاره
فأظهر ضدٌّ ضدّه فيه إذا وشت ... بعنبره في صفحة الخدّ ناره واستزاده، فقال بديهاً:
محيت آية النهار فأضحى ... بدر تمّ وكان شمس نهار
كان يعشي العيون نوراً إلى أن ... شغل الله خدّه بالعذار وصنع أيضاً:
عذار ألمّ فأبدى لنا ... بدائع كنّا لها في عمى
ولو لم يجنّ النهار الظلا ... م ولم يستبن كوكبٌ في السما وصنع أيضاً:
تمّت محاسن وجهه وتكاملت ... لمّا استدار به عذارٌ مونق
وكذلك البدر المنير جماله ... في أن يكنّفه سماء أزرق انتهى.
32 - وحكى الحميدي (1) وغيره أن عبد الله بن عاصم صاحب الشرطة بقرطبة كان أديباً شاعراً سريع البديهة، كثير النوادر، وهو من جلساء الأمير محمد بن عبد الرحمن الأموي ملك الأندلس، وحكموا أنه دخل عليه في يوم ذي غيم،
__________
(1) الجذوة: 245؛ وبدائع البدائه 2: 86.(3/247)
وبين يديه غلام حسن المحاسن، جميل الزي، لين الأخلاق، فقال الأمير: يا ابن عاصم ما يصلح في يومنا هذا، فقال: عقار تنفّر الذبان (1) ، وتؤنس الغزلان، وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤونة التحفظ، وأرخي له عنان التبسط، يديرها هذا الأغيد المليح، فاستضحك الأمير، ثم أمر بمراتب الغناء، وآلات الصهباء، فلما دارت الكأس، واستمطر الأمير نوادره (2) ، أشار إلى الغلام أن يلح في سقيه، ويؤكد عليه، فلما أكثر رفع رأسه إليه وقال على البديهة:
يا حسن الوجه لا تكن صلفاً ... ما لحسان الوجوه والصّلف
تحسن أن تحسن القبيح ولا ... ترثي لصبٍّ متيّمٍ دنف فاستبدع الأمير بديهيته، وأمر له ببدرة، ويقال: إنه خيره بينها وبين الوصيف، فاختارها نفيا للظنة عنه (3) ، انتهى.
[استطراد حول ابن ظافر]
قلت أذكرتني هذه الحكاية ما حكاه علي ابن ظافر عن نفسه إذ قال (4) : كنت عند المولى الملك الأشرف ابن العادل ابن أيوب سنة 603 بالرها، وقد وردت إليه في رسالة، فجعلني بين سمعه وبصره، وأنزلني في بعض دوره بالقلعة بحيث يقرب عليه حضوري في وقت طلبتي أو إرادة الحديث معي، فلم أشعر في بعض الليالي وأنا نائم في فراشي إلا به، وهو قائم على رأسي، والسكر قد غلب عليه، والشمع تزهر حواليه (5) ، وقد حف مماليكه به، وكأنهم الأقمار الزواهر، في
__________
(1) في أصول النفح: تنفد الدنان.
(2) ب: نواره.
(3) ويقال ... عنه: سقطت هذه العبارة من ب.
(4) بدائع البدائه 2: 61.
(5) البدائع: والشموع تزهر بين يديه.(3/248)
ملابس كالرياض ذات الأزاهر، فقمت مروعاً، فأمسكني وبادر بالجلوس إلى جانبي بحيث منعني عن القيام عن الوساد، وأبدى من الجميل ما أبدلني بالنفاق بعد الكساد، ثم قال: غلبني الشوق إليك، ولم أرد إزعاجك والتثقيل عليك، ثم استدعى من كان في مجلسه من خواص القوالين، فحضروا وأخذوا من الغناء فيما يملأ المسامع التذاذاً، ويجعل القلوب من الوجد جذاذاً، وكان له في ذلك الوقت مملوكان هما نيرا سماء ملكه، وواسطتا در سلكه، وقطبا فلك طربه ووجده (1) ، وركنا بيت سروره ولهوه، وكانا يتناوبان في خدمته، فحضر أحدهما في تلك الليلة وغاب الآخر، وكان كثيراً ما يداعبني في أمرهما ويستجلب مني القول فيهما والكلام في التفضيل بينهما، فقلت للوقت:
يا مالكاً لم يحك سيرته ... ماضٍ ولا آتٍ من البشر
اجمع لنا تفديك أنفسنا ... في الليل بين الشمس والقمر فطرب، وأمر في الحال باستدعاء الغائب منهما، فحضر والنوم قد زاد أجفانه تفتيراً، ومعاطفه تكسيراً، فقلت بين يديه بديهاً في صفة المجلس:
سقى الرحمن عصراً قد مضى لي ... بأكناف الرّهى صوب الغمام
وليلاً باتت الأنوار فيه ... تعاون في مدافعة الظّلام
فنورٌ من شموع (2) أو ندامى ... ونورٌ من سقاةٍ أو مدام
يطوف بأنجم الكاسات فيه ... سقاةٌ مثل أقمار التّمام
تريك به الكؤوس جمود ماء ... فتحسب راحها ذوب الضّرام
يميل به غصوناً من قدودٍ ... غناء مثل أصوات الحمام
فكم من موصليٍّ فيه يشدو ... فينسي النفس عادية الحمام
__________
(1) البدائع: وزهوه.
(2) ب: شعاع.(3/249)
وكم من زلزلٍ للضرب فيه ... وكم للزّمر فيه من زنام
لدى موسى بن أيوب المرجّى ... إذا ما ضنّ غيثٌ بانسجام
ومن كمظفّر الدين المليك ال ... أجلّ الأشرف النّدب الهمام
فما شمسٌ تقاس إلى نجومٍ ... تحاكي قدره بين الكرام
فدام مخلّداً في الملك يبقى ... إذا ما ضنّ دهرٌ بالدوام فلما أنشدتها قام فوضع فرجية من خاص ملابسه كانت عليه على كتفي، ووضع شربوشه بيده على رأس مملوك صغير كان لي، انتهى.
ولابن ظافر هذا بدائع: منها ما حكاه عن نفسه إذ قال (1) : ومن أعجب ما دهيت به ورميت، إلا أن الله بفضله نصر، وأعطى الظفر، وأعان خاطري الكليل، حتى مضى مضاء السيف الصقيل، أنني كنت في خدمة مولانا السلطان الملك العادل بالإسكندرية سنة إحدى وستمائة مع من ضمته حاشية العسكر المنصور من الكتاب والحواشي والخدام، ودخلت سنة اثنتين وستمائة ونحن بالثغر مقيمون في الخدمة، مرتضعون لأفاويق النعمة، فحضرت في جملة من حضر الهناء، من الفقهاء بالثغر والعلماء، والمشايخ والكبراء، وجماعة الديوان والأمراء، واتقف أن كان اليوم من أيام الجلوس لإمضاء الأحكام والعرض لطوائف الأجناد، فلم يبق أحد من أهل البلد ولا من أهل العسكر إلا حضر مهنياً، ومثل شاكراً وداعياً، فحين غص المجلس بأهله، وشرق بجمع السلطان وحفله، وخرج مولانا السلطان إلى مجلسه، واستقر في دسته، أخرج من بركة قبائه كتاباً ناوله للصاحب الأجل صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي وزير دولته، وكبير جملته، وهو مفضوض الختام، مفكوك الفدام، ففتحه فإذا فيه قطعة وردت من المولى الملك المعظم كتبها إليها يتشوقه ويستعطفه لزيارته، ويرققه ويستحثه على عود ركابه إلى بلاد الشام، للمثاغرة
__________
(1) بدائع البدائه 2: 55.(3/250)
بها، وقمع عدوها، ويعرض بذكر مصر وشدة حرها، ووقد جمرها، وذلك بعد أن كان وصل لخدمته بالثغر ثم رجع إليها، والأبيات:
أروي رماحك من نحور عداكا ... وانهب بخيلك من أطاع سواكا
واركب خيولاً كالسّعالي شزّباً ... واضرب بسيفك من يشقّ عصاكا
واجلب من الأبطال كلّ سميدعٍ ... يفري بعزمك كلّ من يشناكا
واسترعف السّمر الطّوال وروّها ... واسق المنيّة سيفك السفّاكا
وسر الغداة إلى العداة مبادراً ... بالضرب في هام العدوّ دراكا
وانكح رماحك للثغور فإنّها ... مشتاقةٌ أن تبتني بعلاكا
فالعزّ في نصب الخيام على العدا ... تردي الطّغاة وتدفع الملاّكا
والنصر مقرونٌ بهمّتك التي ... قد أصبحت فوق السّماك سماكا
فإذا عزمت وجدت من هو طائعٌ ... وإذا نهضت وجدت من يخشاكا
والنصر في الأعداء يوم كريهةٍ ... أحلى من الكأس الذي روّاكا
والعجز أن تضحي بمصرٍ راهناً ... وتحلّ في تلك العراص عراكا
فأرح حشاشتك الكريمة من لظى ... مصرٍ لكي نحظى الغداة بذاكا
فلقد غدا قلبي عليك بحرقةٍ ... شغفاً ولا حرّ البلاد هناكا
وانهض لإلى راجي لقاك مسارعاً ... فمنه من كلّ الأمور لقاكا
وابرد فؤاد المستهام بنظرةٍ ... وأعد عليه العيش من رؤياكا
واشف الغداة غليل صبّ هائمٍ ... أضحى مناه من الحياة مناكا
فسعادتي بالعادل الملك الذي ... ملك الملوك وقارن الأفلاكا
فبقيت لي يا ملكي في غبطةٍ ... وجعلت من كلّ الأمور فداكا فلما تلا الصاحب على الحاضرين محكم آياتها، وجلا منها العروس التي حازت من المحاسن أبعد (1) غاياتها، أخذ الناس في الاستحسان لغريب نظامها،
__________
(1) م: أبدع.(3/251)
وتناسق التئامها، والثناء على الخاطر الذي نظم بديع أبياتها، وأطلع من مشرق فكره آياتها، فقال السلطان: نريد من يجيبه عنا بأبيات على قافيتها، فالتفت مسرعاً إلي مأنا عن يمينه، وقال: يا مولانا مملوكك فلان هو فارس هذا الميدان، والمعتاد للتخلص من مضايق هذا الشان، ثم قطع وصلاً من درج كان بين يديه، وألقاه إلي، وعمد إلى دواته فأدارها (1) بين يدي، فقال له السلطان: أهكذا على مثل هدا الحال وفي مثل هذا الوقت فقال: نعم أنا قد جربته فوجدته متقد الخاطر، حاضر الذهن، سريع إجابة الفكر، فقال السلطان: وعلى كل حال قم إلى هنا لتنكف عنك أبصار الناظرين، وتنقطع عنك ضوضاء الحاضرين، وأشار إلى مكان عن يمين البيت الخشب الذي هو بالجلوس قيه منفرد، فقمت وقد فقدت رجلي انخذالاً، وذهني اختلالاً، لهيبة المجلس في صدري، وكثرة من حضره من المترقبين لي، المنتظرين حلوله فاقرة الشماتة بي، فما هو إلا أن جلست حتى ثاب إلي خاطري، انثال الكلام على سرائري (2) ، فكنت أتوهم أن فكري كالباز الصيود لا يرى كلمة إلا أنشب فيها منسرة، ولا معنى إلا شك فيه ظفره، فقلت في أسرع وقت:
وصلت من الملك المعظّم تحفةٌ ... ملأت بفاخر درّها الأسلاكا
أبيات شعرٍ كالنجوم جلالةً ... فلذا حكت أوراقها الأفلاكا
عجباً وقد جاءت كمثل الروض إذ ... لم تذوها بالحر نار ذكاكا
جلت الهموم عن الفؤاد كمثل ما ... تجلو بغرّة وجهك الأحلاكا
كقميص يوسف إذ شفت يعقوب ريّ ... اه شفتني مثله ريّاكا
قد أعجزت شعراء هذا العصر كلّ ... هم فلم لا تعجز الأملاكا
ما كان هذا الفضل يمكن مثله ... أن يحتويه من الأنام سواكا
__________
(1) م: فألقاها.
(2) البدائع: وانثال الشعر على ضمائري.(3/252)
لم لا أغيب عن الشآم وهل له ... من حاجةٍ عندي وأنت هناكا
أم كيف أخشى والبلاد جميعها ... محميّةٌ في جاه طعن قناكا
يكفي الأعادي حرّ بأسك فيهم ... أضعاف ما يكفي الوليّ نداكا
ما زرت مصر لغير ضبط ثغورها ... فلذا صبرت فديت عن رؤياكا
أن البلاد علا عليها قدرها ... لا سيّما مذ شرّفت بخطاكا
طابت وحقّ لها ولم لا وهي قد ... حوت المعلاّ في القداح أخاكا
أنا كالسحاب أزور أرضاً ساقياً ... حيناً، وأمنح غيرها سقياكا
مكثي جهادٌ للعدوّ لأنّني ... أغزوه بالرأي السديد دراكا
لولا الرباط وغيره لقصدت بال ... سير الحثيث إليك نيل رضاكا
ولئن أتيت إلى الشآم فإنّما ... يحتثّني شوقٌ إلى لقياكا
إنّي لأمنحك المحبّة جاهداً ... وهواي فيما تشتهيه هواكا
فافخر فقد أصبحت بي وببأسك ال ... حامي وكلّ مملّكٍ يخشاكا
لا زلت تقهر من يعادي ملكنا ... أبداً ومن عاداك كان فداكا
وأعيش أبصر ابنك الباقي أباً ... وتعيش تخدم في السعود أباكا ثم عدت إلى مكاني وقد بيضتها، وحليت بزهرها ساحة القرطاس وروضتها، فلما رآني السلطان وقد عدت قال لي: هل عملت شيئاً ظناً منه أن العمل في تلك اللمحة القريبة معجز متعذر، وبلوغ الغرض فيها غير متصور، فقلت: قد أجبت، فقال: أنشدنا (1) ، فصمت الناس، وحدقت الأبصار، وأصاخت الأسماع، وظن الناس بي الظنون، وترقبوا مني ما يكون، فما هو إلا أن توالى الإنشاد لأبياتها حتى صفقت الأيدي إعجاباً، وتغامزت الأعين استغراباً، وحين انتهيت إلى ذكر مولانا الملك الكامل، بأنه المعلى في البنين إذا ضربي قداحهم، وسردت أمداحهم، اغرورقت عيناه دمعاً لذكره، وأبان صمته
__________
(1) ب: أنشد.(3/253)
مخفي المحبة حتى أعلن بسره، وحين انتهيت إلى آخرها فاض دمعه، ولم يمكنه دفعه، فمد يده مستدعياً للورقة، فناولتها إلى يد الصاحب، فناولها له، وعند حصولها في يده قام من غير إشعار لأحد بما دار منه إرادة القيام في خلده، ستراً لما ظهر عليه من الرقة على الموالي الأولاد، وكتماً لما عليه من الوجد بهم والمحبة لهم، وانفض المجلس.
وإنما حمل الصاحب على هذا الفعل الذي غرر بي فيه وخاطر بي بالتعريض له أشياء كان يقترحها علي فأنفذ فيها من بين يديه، ويخف الأمر منها علي لدالتي عليه، منها أنني كنت في خدمته سنة 599 بدمشق، فورد عليه كتاب من الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة، وقد بعث صحبته نسخة من ديوان شعره فتشاغل بتسويد جواب كتابه، فلما كتب بعضه التفت إلي وقال: اصنع أبياتاً أكتبها إليه في صدر الجواب، واذكر فيها شعره، فقلت له: على مثل هذه الحال فقال: نعم، فقلت بقد ما أنجز بقية النسخة:
أيا ملكاً قد أوسع الناس نائلاً ... وأغرقهم بذلاً وعمّهم عدلا
فديناك هب للناس فضلاً يزينهم ... فقد حزت دون الناس كلّهم الفضلا
ودونك فامنحهم من العلم والحجى ... كما منحتهم كفّك الجود والبذلا
إذا حزت أوفى الفضل عفواً فما الذي ... تركت لمن كان القريض له شغلا
وماذا عسى من ظلّ بالشعر قاصداً ... لبابك أن يأتي به جلّ أو قلاّ
فلا زلت في عزٍّ يدوم ورفعةٍ ... تحوز فناءاً يملأ الوعر والسهلا ووقع لابن ظافر أيضاً من هذا النمط (1) أنه دخل في أصحاب له يعودون صاحباً لهم، وبين يديه بركة قد راق ماؤها، وصحت سماؤها، وقد رصّ تحت دساتيرها نارنج فتن قلوب الحضّار وملأ بالمحاسن عيون النظار، فكأنما
__________
(1) بدائع البدائه 2: 54.(3/254)
رفعت صوالج فضة على كرات من النضار، فأشار الحاضرون إلى وصفها، فقال بديهاً:
أبدعت يا ابن هلال في فسقيّةٍ ... جاءت محاسنها بما لم يعهد
عجباً لأمواه الدساتير التي ... فاضت على نارنجها المتوقّد
فكأنّهنّ صوالجٌ من فضّةٍ ... رفعت لضرب كراة خالص عسجد [قدرة ابن قلاقس في الارتجال]
ومن بديع الارتجال ما حكاه المذكور ابن قلاقس الإسكندري رحمه الله تعالى إذ قال (1) : دخل الأعز أبو الفتوح ابن قلاقس على بلال بن مدافع بن بلال الفزازي، فعرض عليه سيفاً قد نظم الفرند في صفحته جوهره، وأذكر الدهر ناره وجمد نهره، وألبسه من سلخ الأفاعي رداءً وجسمه ردىً أو داءً، لا يمنع من برقه بدر مجن ولا ثريا مغفر، ولا يسلم منحده من ثبت ولا ينجو بطوله من فر، وهو يبكي للنفاق ويضحك، ويرعد للغيظ ويفتك، وأمره بصفة شانه، فقال على لسانه:
أروق كما أروّع فإن تصفني ... فإنّي رائق الصفحات رائع
تدافع بي خطوب الدهر حتى ... نقلت إلى بلالٍ عن مدافع وقال أيضاً في:
ربّ يومٍ له من النّقع سحبٌ ... ما لها غير سائل (2) الدم ودق
قد جلته يمنى بلالٍ بحدّي ... فكأنّي في راحة الشمس برق
__________
(1) المصدر نسفه 2: 47.
(2) ب: مائر.(3/255)
وقال أيضاً فيه:
أنا في الكريهة كالشّهاب الساطع ... من صفحةٍ تبدو وحدّ قاطعي
فكأنّما استمليت تلك وهذه ... من وصف كفّ بلالٍ ابن مدافع وقال أيضاً فيه:
انظر لمطّرد المياه بصفحتي ... ولنار حدّي كم بها من صالي
قد عاد شدّي في المضايق شيمتي ... كبلالٍ ابن مدافع بن بلال وسأله صاحبٌ له وصف مشط عاج قد أشبه الثريا شكلاً ولوناً، وشق ليلاً من الشعر جوناً، فقال:
ومتيّمٍ بالآبنوس وجسمه ... عاجٌ ومن أدهانه شرفاته (1)
كتب الدياجي الشّعر منه بدرها ... فوشت به للعين عيّوقاته وقال فيه:
وأبيض ليل الآبنوس إذا سرى ... تمزّق عن صبحٍ من العاج باهر
وإن غاص في بحر الشعور رأيته ... تبشّرنا أطرافه بالجواهر وقال فيه:
ومشرقٍ يشبه لون الضّحى ... حسناً ويسري في الدّجى الفاحم
وكلّما قلّب في لمّةٍ ... أضحكها عن ثغرٍ باسم وجلس بمصر في دار الأنماط يوماً مع جماعة، فمرّت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك، وهي شمس تحت سحاب النقاب، وغصن في أوراق الشباب،
__________
(1) ب: حرقاته.(3/256)
فحدقوا إليها تحديق الرقيب إلى الحبيب، والمريض إلى الطبيب، فجعلت تتلفت تلفت الظبي المذعور، أفرقه القانص فهرب، وتتثنى تثني الغصن الممطور عانقه النسيم فاضطرب، فسألوه العمل في وصفها، فقال: هذا يصلح أن يعكس فيه قول العطار الأزدي القيرواني:
أعرضن لمّا أن عرضن، فإن يكن ... حذراً فأين تلفّت الغزلان ثم صنع:
لها ناظرٌ في ذرا ناضرٍ ... كما ركّب السنّ فوق القناة
لوت حين ولّت لنا جيدها ... فأيّ حياةٍ بدت من وفاة
كما ذعر الظبي من قانصٍ ... فمرّ وكرّر في الالتفات (1) ثم صنع أيضاً:
ولطيفة الألفاظ لكن قلبها ... لم أشك منه لوعةً إلاّ عتا
كملت محاسنها فودّ البدر أن ... يحظى ببعض صفاتها أو ينعتا
قد قلت لمّا أعرضت وتعرضت ... يا مؤيساّ يا مطعماّ قل لي متى
قالت أنا الظبي الغرير وإنما ... ولّى وأوجس نبأةً (2) فتلفّتا قال علي بن ظافر: وحضر يوماً عند بني خليف بظاهر الإسكندرية في قصر رسا بناؤه وسما، وكاد يمزق بمزاحمته أبواب السما، قد ارتدى جلابيب السحائب ولاث عمائم الغمائم، وابتسمت ثنايا شرفاته، واتسمت بالحسن حنايا غرفاته، وأشرف على سائر نواحي الدنيا وأقطارها، وحبته الرياض بما ائتمنتها عليه السحب من ودائع أمطارها، والرمل بفنائه قد نثر تبره في زبرجد
__________
(1) سقط هذا البيت من ب.
(2) في الأصول: نبوة.(3/257)
كرومه، والجو قد بعث بذخائر الطيب لطيمة نسيمه، والنخل قد أظهرت جواهرها، ونشرت غدائرها، والطل ينثر لؤلؤه في مسارب النسيم ومساحبه، والبحر يرعد غيظاً من عبث الرياح به، فسأله بعض الحضور أن يصف ذلك الموضع الذي تمت محاسنه، وغبط به ساكنه، فجاشت لذلك لجج بحره، وألقت إليه جواهره لترصيع لبة ذلك القصر ونحره، فقال:
قصرٌ بمدرجة النّسيم تحدثت ... فيه الرياض بسرّها المستور
خفض الخورنق والسّدير سموّه ... وثنى قصور الروم ذات قصور
لاث الغمام عمامةً مسكيّةً ... وأقام في أرضٍ (1) من الكافور
غنّى الربيع به محاسن وصفه ... فافترّ عن نورٍ يروق ونور
فالدّوح يسحب حلّةً من سندسٍ ... تزهى بلؤلؤ طلّها المنثور
والنخل كالغيد الحسان تقرّطت ... بسبائك المنظوم والمنثور
والرمل في حبك النسيم كأنما ... أبدى غصون سوالف المذعور
والبحر يرعد متنه فكأنّه ... درعٌ تشنّ بمعطفي مقرور
وكأنّنا والقصر يجمع شملنا ... في الأفق بين كواكبٍ وبدور
وكذاك دهر بني خليفٍ لم يزل ... يثني المعاطف في حبير حبور ثم قال ابن ظافر: وأخبرني الفقيه أبو الحسن علي ابن الطوسي المعروف بابن السيوري الإسكندري النحوي بما هذا معناه، قال: كنت مع الأعز بن قلاقس في جماعة، فمر بنا أبو الفضائل ابن فتوح المعروف بالمصري، وهو راجع من المكتب، ومعه دواته، وهو في تلك الأيام قرة العين ظرفاً وجمالاً وراحة القلب قرباً ووصالاً، كل عين إلى وجهه محدقة، ولمشهد خديه بخلوق الخجل مخلقة، فاقترحنا عليه أن يتغزل فيه، فصنع بديهاً:
__________
(1) م ب: روض.(3/258)
علّقته متعلّقاً ... بالخطّ معتكفاً عليه
حمل الدواة ولا دوا ... ء لعاشق يرجى لديه
فدماء حبّات القلو ... ب تلوح صبغاً في يديه
لم أدر ما أشكو إلي ... هـ أهجره أمقلتيه
والحبّ يخرسني على ... أنّي ألكّع سيبويه
ما لي إذا أبصرته (1) ... شغلٌ سوى نظري إليه وقد آن وقت الرجعة إلى كلام الأندلسيين الذين حلا، وأبعدنا عنه بما مر النجعة، فنقول:
33 - ذكر الفتح في قلائد العقيان، كما قال ابن ظافر، ما معناه (2) : أخبرني الوزير أبو عامر ابن بشتغير أنه حضر مجلس القائد أبي عيسى ابن لبون في يوم سفرت فيه أوجه المسرات، ونامت عنه أعين المضرات، وأظهرت سقاته غصوناً تحمل بدوراً، وتطوف من المدام بنار مازجت من الماء نوراً، وشموس الكاسات تطلع في أكفها كالورد في السوسان، وتغرب بين أقاحي نجوم الثغور فتذبل نرجس الجفان، وعنده الوزير أبو الحسن ابن الحاج اللورقي، وهو يومئذ قد بذل الجهد، في التحلي بالزهد، فأمر القائد بعض السقاة أن يعرض عليه ذهب كاسه، ويحييه بزبرجد آسه، ويغازله بطرفه ويميل عليه بعطفه، ففعل ذلك عجلاً، فأنشد أبو الحسن مرتجلاً:
ومهفهفٍ مزج الفتور بشدّةٍ ... وأقام بين تبذّلٍ وتمنّع
يثنيه من فعل المدامة والصّبا ... سكران سكر طبيعةٍ وتطبّع
أوما إليّ بكأسه فكففتها ... ورنا فشفّعها بلحظٍ مطمع
__________
(1) البدائع: قابلته.
(2) بدائع البدائه 2: 87؛ والقلائد: 139.(3/259)
والله لولا أن يقال هوى الهوى ... منه بفضل عزيمةٍ وتورّع
لأخذت في تلك السبيل بمأخذي ... فيما مضى ونزعت فيها منزعي 34 - وحكى الحميدي (1) أن عبد الملك ابن إدريس الجزيري كان ليلة بين يدي الحاجب ابن أبي عامر والقمر يبدو تارة، ويخفيه السحاب تارة، فقال بديهاً:
أرى بدر السّماء يلوح حيناً ... فيبدو ثمّ يلتحف السحابا
وذاك لأنّه لمّا تبدّى ... وأبصر وجهك استحيا فغابا
مقالٌ لو نما عنّي إليه ... لراجعني بتصديقي جوابا 35 - وكان صاعد اللغوي (2) صاحب كتاب " الفصوص " - وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب - كثيراً ما يمدح بلاد العراق بمجلس المنصور ابن أبي عامر، ويصفها ويقرظها، فكتب الوزير أبو مروان عبد الملك ابن شهيد والد الوزير أبي عامر أحمد ابن شهيد صاحب الغراءب، وقد تقدم بعض كلامه قريباً، إلى المنصور في يوم برد - وكان أخص وزرائه به - بهذه الأبيات:
أما ترى برد يومنا هذا ... صيّرنا للكمون أفذاذا
قد فطرت صحّة الكبود به ... حتى لكادت تعود أفلاذا
فادع بنا للشّمول مصطلياً ... نغذّ سيراً إليك إغذاذا
وادع المسمّى بها وصاحبه (3) ... تدع نبيلاً وتدع أستاذا
ولا تبال أبا العلاء زها ... بخمر قطربّلٍ وكلواذا
ما دام من أرملاط مشربنا ... دع دير عمّى وطيزناباذا (4)
__________
(1) جذوة المقتبس: 262؛ وبدائع البدائه 2: 96.
(2) بدائع البدائه 2: 103؛ والذخيرة 4 / 1: 16.
(3) يريد غلاما اسمه " شمول ".
(4) سقط هذا البيت من م.(3/260)
وكان المنصور قد عزم ذلك اليوم على الانفراد بالحرم، فأمر بإحضار من جرى رسمه من الوزراء والندماء، وأحضر ابن شهيد في محفة لنقرس كان يعتاده، وأخذوا في شأنهم، فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله، ووقت لم يعهدوا نظيره، وطما الطرب وسما بهم، حتى تهايج القوم ورقصوا، وجعلوا يرقصون بالنوبة، حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد، فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس، فجعل يرقص وهو متوكئ عليه، ويرتجل ويومئ إلى المنصور، وقد غلب عليه السكر (1) :
هاك شيخاً قاده عذرٌ لكا ... قام في رقصته مستهلكا
لم يطق يرقصها مستثبتاً ... فانثنى يرقصها مستمسكا
عاقه عن هزّها منفرداً ... نقرسٌ أخنى عليه فاتّكا
من وزيرٍ فيهم رقّاصةٍ ... قام للسكر يناغي ملكا
أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالاً على رأسي لكا
قهقه الإبريق مني ضاحكاً ... ورأى رعشة رجلي فبكى قال ابن ظافر: وهذه قطعة مطبوعة، وطرفها الأخير واسطتها، وكان حاضرهم ذلك اليوم رجلٌ بغدادي يعرف بالفكيك، حسن النادر سريعها، وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه، فلما رأى ابن شهيد يرقص قائماً مع ألم المرض الذي كان يمنعه من الحركة قال: لله درك يا وزير! ترقص بالقائمة، وتصلي بالقاعدة، فضحك المنصور، وأمر لابن شهيد بمال جزيل، ولسائر الجماعة، وللبغدادي.
36 - وقال ابن بسام (2) : حدث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن
__________
(1) الذخيرة 4 / 1: 17؛ وزاد في م: وقال ارتجالا.
(2) بدائع البدائه 2: 106.(3/261)
عثمان المصحفي قال، دخلت يوماً على أبي عامر ابن شهيد، وقد ابتدأت علته التي مات بها، فأنس بي، وجرى الحديث إلى أن شكوت له تجني بعض أصحابي (1) علي، ونفاره عني، فقال لي: سأسعى في إصلاح ذات البين، فخرجت عنه، واتفق لقائي لذلك المتجني علي مع بعض أصحابي وأعزهم علي، فلما رآني ذلك الصديق مولياً عنه أنكر عليه، وسأله عن السبب الموجب، فأخبره، وزاد في مشيهما حتى لحقا بي، وعزم علي في مكالمة صاحبي، وتعاتبنا عتاباً أرق من الهواء، وأشهى من الماء على الظماء، حتى جئنا دار أبي عامر، فلما رآنا جميعاً ضحك وقال: من كان الذي تولى إصلاح ما كنا سررنا بفساده قلنا: قد كان ما كان، فاطرق قليلاً تم أنشد:
من لا أسمّي ولا أبوح به ... أصلح بيني وبين من أهوى
أرسلت من كابد الهوى فدرى ... كيف يداوى مواقع البلوى
ولي حقوقٌ في الحبّ ثابتةٌ ... لكنّ إلفي يعدّها دعوى وقد ذكرنا في هذا الكتاب من غرائب أبي عامر ابن شهيد في مواضع متفرقة الغرائب، وقدمنا في الباب الرابع حكايته مع المرأة الداخلة في رمضان لجامع قرطبة وحكينا [ها] هناك بلفظ " المطمح " فلتراجع.
وعبر ابن ظافر عن معناها بقوله (2) : إن أبا عامر كان مع جماعة من أصحابه بجامع قرطبة في ليلة السابع والعشرين من رمضان (3) ،فمرت امرأة به من بنات أجلاء قرطبة، قد كملت حسناً وظرفاً ومعها طفل يتبعها كالظبية تستتبع خشفاً، وقد حفت بها الجواري، كالبدر حف بالدراري، فحين رأت تلك الجماعة، المعروفة بالخلاعة، وقد رمقوا ذلك الظبي بعيون أسودٍ رأت فريسة،
__________
(1) البدائع: إخواني.
(2) بدائع البدائه 2: 107.
(3) من رمضان: سقطت من ب.(3/262)
ارتاعت وتخوفت أن تخطف منها (1) تلك الدرة النفيسة، فاستدنت إليها خشفها، وألزمته عطفها، فارتجل ابن شهيد قائلاً:
وناظرةٍ تحت طيّ القناع..إلخ ... ومرت في الباب الرابع هذه الأبيات.
37 - وقال الرئيس أبو الحسن عبد الرحمن بن راشد الراشدي (2) : لما نعيت أبا عامر ابن شهيد إلى أبي عبد الله الحناط (3) الشاعر، وقد عرف ما كان بينهما من المنافسة، بكى وأنشدني لنفسه بديهة:
لمّا نعى النّاعي أبا عامرٍ ... أيقنت أنّي لست بالصابر
أودى فتى الظّرف وترب النّدر ... وسيّد الأوّل والآخر 38 - وقال ابن بسام (4) : اصطبح المعتصم بن صمادح يوماً مع ندمائه، فأبرز لهم وصيفة مهدوية متصرفة في أنواع اللعب المطرب من الدك، وحضر أيضاً هناك لاعب مصري ساحر فكان لعبه حسناً، فارتجل أبو عبد الله بن الحداد:
كذا فلتلح قمراً زاهرا ... وتجني الهوى ناظراً ناضرا
وسيبك سيب ندىً مغدقٍ ... أقام لنا هامياً هامرا
وإنّ ليومك ذا رونقاً ... منيراً كنور الضّحى باهرا
صباح اصطباحٍ بإسفاره ... لحظنا محيّا العلا سافرا
وأطلعت فيه نجوم الكؤوس ... فما زال كوكبها زاهرا
وأسمعتنا لاحناً فاتناً ... وأحضرتنا لاعباً ساحرا
__________
(1) منها: سقطت من ب.
(2) بدائع البدائه 2: 109.
(3) في الأصول: الخياط.
(4) بدائع البدائه 2: 121.(3/263)
يرفرف فوق رؤوس القيان ... فننظر ما يذهل الناظرا
ويحفظها ذيل سرباله ... فننظر طالعها غائرا
فظاهرها ينثني باطناً ... وباطنها ينثني ظاهرا
وثنّاه ثانٍ لألعابه ... دقائق تثني الحجى حائرا (1)
وفي سورة الرّاح من سحره ... خواطر دلّهت الخاطرا
إذا ورد اللّحظ أثناءها ... فما الوهم عن وردها صادرا
ومن حسن دهرك إبداعه ... فما انفكّ عارضها ماطرا
وسعدك يجتلب المغربات ... فيجعل غائبها حاضرا 39 - قال (2) : وحضر الأديب أحمد بن الشقاق عند القائد ابن دري (3) بجيان، هو وأبو زيد ابن مقانا الأشبوني، فأحضر لهما (4) عنباً أسود مغطى بورق أخضر، فارتجل ابن الشقاق:
عنبٌ تطلّع من حشا ورقٍ لنا (5) ... صبغت غلائل جلده بالإثمد
فكأنّه من بينهنّ كواكبٌ ... كسفت فلاحت في سماء زبرجد 40 - قال (6) : وحضر ابن مرزقان ليلة عند ذي النون بن خلدون، وبحضرته وصيفة تحمل شمعة، فاستحسنها ابن مرزقان، فقال بديهاً:
يا شمعةً تحملها أخرى ... كأنّها شمسٌ علت بدرا
امتحنت إحداكما مهجتي ... بمثل ما تمتحن الأخرى
__________
(1) اضطربت النسخة م بعد هذا البيت وسقط منها قسط كبير وسنشير إلى موضع التئامها مع النسختين ق ب.
(2) بدائع البدائه 2: 122 وروى ابن بسام القصة (الذخيرة 1 / 2: 262) عن المنفتل عبد العزيز ابن خيرة القرطبي.
(3) ق ب: ابن دريد.
(4) ب: فأحضرهما.
(5) ب: له؛ الذخيرة: ندي.
(6) بدائع البدائه 2: 123.(3/264)
41 - قال (1) : ودخل الأديب غانم يوماً على باديس صاحب غرناطة، فوسع له على ضيق كان في المجلس، فقال بديهاً:
صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً ... سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين
ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ ... فقلّما تتسع الدنيا بغيضين وأخذه من قول الخليل " ما تضايق سمّ الخياط بمتحابّين، ولا اتسعت الدنيا لمتباغضين " (2) . وكان الخليل على نمرقة صغيرة، والمجلس متضايق، فدخل عليه بعض أصحابه، فرحب به وأجلسه معه على النمرقة، فقال له الرجل: إنها لا تسعنا، فقال ما ذكر.
42 - وقال ابن بسام أيضاً (3) : أمر الحاجب المنذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة بعرض بعض الجند في بعض الأيام، ورئيسهم مملوك له رومي يقال له خيار في نهاية الجمال، فجعل ينفخ في القرن ليجتمع أصحابه على عادة لهم في ذلك، فقال ابن هندو الداني فيه ارتجالاً:
أعن بابلٍ أجفان عينيك تنفث ... ومن قوم موسى أنت للعهد تنكث
أفي الحقّ أن تحكي سرافيل نافخاً ... وأمكث في رمث الصّدود وألبث
عساك، نبيّ الحسن، تأتي بآيةٍ ... فتنفخ في ميت الصّدود فيبعث 43 - قال: وكان بقرطبة غلام وسيم فمر عليه ابن فرج الجياني ومعه صاحب له، فقال صاحبه: إنه لصبيح لولا صفرة فيه، فقال ابن فرج ارتجالاً (4) :
__________
(1) المصدر نفسه: 123.
(2) ب: بمتباغضين.
(3) الذخير (3: 282) .
(4) الذخيرة (3: 280) .(3/265)
قالوا: به صفرةٌ عابت محاسنه ... فقلت: ما ذاك من عيبٍ به نزلا
عيناه تطلب في أوتار من قتلت ... فلست تلقاه إلاّ خائفاً وجلا قال: وكان يوماً مع لمة من أهل الأدب في مجلس أنس، فاحتاج رب المنزل إلى دينار، فوجه إلى السوق، فدخل به عليهم غلام من الصيارف في نهاية الجمال، فرمى بالدينار إليهم من فيه تماجناً، فقال ابن فرج (1) :
أبصرت ديناراً بكفّ مهفهفٍ ... يزهى به من كثرة الإعجاب
أوما به من فيه ثمّ رمى به ... فكأنّه بدرٌ رمى بشهاب 44 - قال (2) : وخرج الأديب أبو الحسن ابن حصن الإشبيلي إلى وادي قرطبة في نزهة، فتذكر إشبيلية، فقال بديهاً:
ذكرتك يا حمص ذكرى هوىً ... أمات الحسود وتعنيته
كأنّك والشمس عند الغروب ... عروسٌ من الحسن منحوته
غدا النهر عقدك والطّود تا ... جك والشمس أعلاه ياقوته 45 - وعبر بعضهم، وهو صاحب " بدائع البدائه " عن بعض حكايات صاحب القلائد بما يقاربها في المعنى، فقال (3) : إن المستعين بن هودٍ ملك سرقسطة والثغور ركب نهر سرقسطة يوماً لتفقد بعض معاقله، المنتظمة بجيد ساحله، وهو نهر رقّ ماؤه وراق، وأزرى على نيل مصر ودجلة العراق، قد اكتنفته البساتين من جانبيه، وألقت ظلالها عليه، فما تكاد عين الشمس أن
__________
(1) الذخيرة (3: 280) .
(2) بدائع البدائه 2: 124.
(3) بدائع البدائه 2: 124.(3/266)
تنظر إليه، هذا على اتساع عرضه، وبعد سطح مائه من أرضه، وقد توسط زورقه زوارق حاشيته توسط البدر للهالة، وأحاطت به إحاطة الطفاوة (1) بالغزالة، وقد أعدوا من مكايد الصيد ما استخرج ذخائر الماء، وأخاف حتى حوت السماء، وأهلة الهالات الطالعة من الموج في سحاب، وقانصة من بنات الماء كل طائرة كالشهاب، فلا ترى إلا صيوداً كقصد الصوارم، وقدود اللهاذم، ومعاصم الأبكار النواعم، فقال الوزير أبو الفضل ابن حسداي والطرب قد استهواه، وبديع ذلك المرأى قد استرق هواه:
لله يومٌ أنيقٌ واضح الغرر ... مفضّضٌ مذهب الآصال والبكر
كأنّما الدهر لمّا ساء أعتبنا ... فيه بعتب فأبدى صفح معتذر
نسير في زورقٍ حفّ السرور به ... من جانبيه بمنظومٍ ومنتثر
مدّ الشراع به قدّاً على ملكٍ ... بذّ الأوائل في أيامه الأخر
هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمنٍ في هدي مقتدر
تحوي السفينة منه آيةً عجباً ... بحرٌ تجمّع حتى صار في نهر
تثار من قعره النينان مصعدةً ... صيداً كما ظفر الغواص بالدرر
وللندامى به عبٌّ ومرتشفٌ ... كالريق يعذب في ورد وفي صدر
والشرب في ودّ مولى خلقه زهرٌ ... يذكو وبهجته أبهى من القمر ثم قال ما معناه (2) : وقوله " نينان " غير معروف، فإن نوناً لم يجئ جمعها على نينان، وقد كان سيبويه لحن بشار بن برد في قوله في صفة السفينة:
تلاعب نينان البحور وربّما ... رأيت نفوس القوم من جريها تجري فغيره بشار ب " تيار البحور " وقد قال أبو الطيب يصف خيلاً:
__________
(1) الطفاوة: دارة الشمس.
(2) بدائع البدائه 2: 127.(3/267)
فهنّ مع السّيدان في البرّ عسلٌ ... وهنّ مع النينان في البحر عوّم انتهى.
والمستعين بن هود هو أحمد بن المؤتمن على أمر الله يوسف بن المقتدر بالله أحمد بن المستضيء بالله سليمان بن هود، الجذامي، رحم الله تعالى الجميع.
46 - وعبر المذكور عن قضية ابن وهبون في هلال شوال بما نصه (1) :
خرج ابن وهبون يوما لنظر هلال شوال، وأبو بكر ابن القبطرنة الوزير يسايره، وهو يومئذ غلام يخجل البدر، ويذوي (2) الغصن النضر، وصفحته لم يسطرها العذار بأنقاسه، ووردة خده لم يسترها الشعر بآسه، فارتجل عبد الجليل:
يا هلال استتر بوجهك عنّي ... إن مولاك قابضٌ بشمالي
هبك تحكي سناه خدّاً بخدٍّ ... قم فجئني لقدّه بمثال وقد ذكرنا هذه الحكاية في غير هذا الموضع بلفظ الفتح في " القلائد " ولكننا أعدناها هنا لتعبير صاحب " البدائع " عنها محاكياً لطريقته.
47 - وذكر ابن بسام (3) أن الوزير أبا عبد الله ابن أبي الخصال وقف بباب بعض القضاة، واستأذن عليه، فحجب عنه، فكتب إليه بديهاً (4) :
جئناك للحاجة الممطول صاحبها ... وأنت تنعم والإخوان في بوس
وقد وقفنا طويلاً عند بابكم ... ثم انصرفنا على رأي ابن عبدوس أشار به إلى قول الوزير أبي عامر ابن عبدوس:
__________
(1) المصدر السابق 2: 128.
(2) البدائع: ويزري.
(3) بدائع البدائه 2: 147.
(4) ب: بديهة.(3/268)
لنا قاضٍ له خلق ... أقلّ ذميمه النّزق
إذا جئناه يحجبنا ... فنلعنه ونفترق وهو تلميح مليح، سامح الله تعالى الجميع.
48 - وقال أبو جعفر الكاتب القرطبي الربضي (1) :
وأبي المدامة ما أريد بشربها ... صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي
لم يبق من عصر الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلاّ هي
إن كنت أشربها لغير وفائها ... فتركتها للناس لا لله وبعضهم ينسبها لأبي القاسم عامر بن هشام، والصواب - كما قال ابن الأبار (2) - الأول.
وقال أبو جعفر المذكور في فوارة رخام كلفه وصفها والي قرطبة (3) :
ما شغل الطّرف مثل فائرة ... تمجّ صرف الحياة من فيها
اشرب بها والحباب في جذل ... يظهره حسنها ويخفيها
تكاد من رقّةٍ تضمنها ... تخطبها العين إذ توافيها
كأنّها درّةٌ منعّمةٌ ... زهراء قد ذاب نصفها فيها ومن شعره أيضاً:
__________
(1) انظر ما سبق ص: 228، وأبو جعفر هذا هو أحمد بن عبد الرحمن اللخمي الكاتب من أهل قرطبة ويعرف بالربضي لسكناه بالربض الشرقي منها؛ توفي سنة 610 (المقتضب من تحفة القادم: 126) .
(2) قال ابن الأبار: وهذه الأبيات قد أنشدنيها بعض الأعلام لأبي القاسم عامر بن هشام وإنما هي لأبي جعفر هذا أنشدنيها صاحبنا أبو الحسن حازم بن محمد الأديب ... إلخ (الوافي 7: 24 نقلا عن التحفة ولم يرد في المقتضب) .
(3) الأبيات في الوافي 7: الورقة 24؛ وكذلك الأبيات التي تليها.(3/269)
ضحك المشيب براسه ... فبكى بأعين كاسه
رجلٌ تخوّنه الزّما ... ن ببؤسه وبباسه
فجرى على غلوائه ... طلق الجموح بناسه
أخذاً بأوفر حظّه ... لرجائه من ياسه 49 - وقال أحد بني القبطرنة الوزراء (1) :
ذكرت سليمى ونار الوغى ... بقلبي كساعة فارقتها
وأبصرت قدّ القنا شبهها ... وقد ملن نحوي فعانقتها وهذا معنى بديع ما أراه سبق به.
50 - وقال أبو الحسن ابن الغليظ المالقي (2) : قلت يوماً للأديب أبي عبد الله ابن السراج المالقي، ونحن على جرية ماء: أجز:
شربنا على ماء كأنّ خريره ... فقال مبادراً:
بكاء محبٍّ بان عنه حبيب ...
فمن كان مشغولاً كئيباً بإلفه ... فإني مشغوفٌ به وكئيب 51 - وكتب أبو بكر البلنسي (3) إلى الأديب أبي بحر صفوان بن إدريس هذين البيتين يستجيزه القسيم الأخير منهما:
__________
(1) انظر القلائد: 155 والمغرب 1: 368.
(2) بدائع البدائه 1: 73.
(3) بدائع البدائه 1: 79.(3/270)
خليلي أبا بحر وما قرقف اللّمى (1) ... بأعذب من قولي خليلي أبا بحر
أجز غير مأمورٍ قسيماً نظمته ... تأمّل على نحر المياه حلى الزّهر فأجازه:
تأمّل على حلى المياه حلى الزّهر ... كعهدك بالخضراء والأنجم الزّهر
وقد ضحكت للياسمين مباسمٌ ... سروراً بآداب الوزير أبي بكر
وأصغت من الآس النضير مسامعٌ ... لتسمع ما يتلوه من سور الشعر 52 - وقال ابن خفاجة (2) :
وما الأنس إلاّ في مجاج زجاجةٍ ... ولا العيش إلا في صرير سرير
وإني وإن جئت المشيب لمولعٌ ... بطرّة ظلٍّ فوق وجه غدير وقال ابن خفاجة أيضاً (3) :
وأسودٍ يسبح في لجّةٍ ... لا تكتم الحصباء غدرانها
كأنها في شكلها مقلةٌ ... وذلك الأسود إنسانها [قصائد لابن زيدون]
53 - وكتب الوزير الشهير أبو الوليد ابن زيدون إلى الوزير أبي عبد الله ابن عبد العزيز إثر صدوره عن بلنسية (4) :
راحت فصحّ (5) بها السقيم ... ريحٌ معطّرة النّسيم
مقبولةٌ هبّت قبو ... لاً فهي تعبق في الشميم
__________
(1) ب: الطلى.
(2) ديوان ابن خفاجة: 181.
(3) ديوان ابن خفاجة: 363؛ وفي ق: وله.
(4) ديوان ابن زيدون: 201، وهي في الذخيرة والقلائد.
(5) الديوان: فراح.(3/271)
أفضيض مسكٍ أم بلن ... سيةٌ لريّاها نميم
بلدٌ حبيبٌ أفقه ... لفتىً يحلّ به كريم
إيه أبا عبد الإل ... هـ نداء مغلوب العزيم
إن عيل صبري من فرا ... قك فاعذاب به أليم
أو أتبعتك حنينها ... نفسي فأنت لها قسيم
ذكري لعهدك كالعرا ... ر سرى فبرّج بالسليم
مهما ذممت فما زما ... ني في ذمامك بالذميم
زمنٌ كمألوف الرضا ... ع يشوق ذكراه الفطيم
أيّام أعقد ناظري ... في ذلك المرأى الوسيم
وأرى الفتوّة غضّةً ... في ثوب أوّاهٍ حليم
الله يعلم أنّ حبّ ... ك من فؤادي في الصميم
ولئن تحمّل عنك لي ... جسمٌ فعن قلبٍ مقيم
قل لي بأيّ خلال سر ... ك فيك أفتن أو أهيم
ألمجدك العمم الذي ... نسق الحديث مع القديم
أم ظرفك الغضّ الجنى ... أم عرضك الصافي الأديم
أم برّك العذب الجما ... م وبشرك الغضّ الجميم
إن أشمست تلك الطلا ... قة فالندى منها مغيم
أم بالبدائع كاللآ ... لي من نثيرٍ أو نظيم
لبلاغةٍ إن عدّ أه ... لوها فأنت بها زعيم
فقرٌ تسوغ بها المدا ... م وبشرك الغضّ الجميم
إن الذي قسم الحظو ... ظ حباك بالخلق العظيم
لا أستزيد الله نع ... مى فيك لا بل أستديم
فلقد أقرّ العين أن ... ك غرّة الزمن البهيم
حسبي الثناء بحسن برّ ... ك ما بدى برقٌ وشيم(3/272)
ثمّ الدّعاء بأن ته ... نّأ طول عيشك في نعيم
ثمّ السلام تبلّغن ... هـ فغيب مهديه سليم ولما ورد إشبيلية نزل بدار الوزير الكاتب ذي الوزارتين أبي عامر ابن مسلمة وهو يبني مجلساً، فصنع أبياتاً كتبت فيه (1) :
عمّر من يعمر ذا المجلسا ... أطول عمرٍ يبهج الأنفسا
وبعد ذا عوّضٍ من داره ... عدناً ومن ديباجه السّندسا
ولقّي النور (2) بها والرضى ... ووقّي الأسواء والأبؤسا
ودام عبّادٌ لعضد (3) الهدى ... يحرس حتى يفني الأحرسا
معتضدٌ بالله إحسانه ... جمّ إذا ما الدهر يوماً أسا
الملك الغمر الندى المقتني ... من كلّ حمدٍ علقه الأنفسا
إن رام يوماً وصف عليائه ... مفوّهٌ مقتدرٌ أخرسا
لا زال بدراً طالعاً نيّراً ... يكشف عن آمالنا الحندسا وقال فيه أيضاً (4) :
أدرها فقد حسن المجلس ... وقد آن أن تترع الأكؤس
ولا تنس أنّ أوان الربيع (5) ... إذا لم تجد فقده الأنفس
فإنّ خلال أبي عامرٍ ... بها يحقر الورد والنرجس وكتب إلى الوزير أبي المعالي المهلب بن عامر يستدعيه (6) :
__________
(1) ديوان ابن زيدون: 227.
(2) الديوان: ووفي الفوز.
(3) الديوان: لعهد.
(4) ديوان ابن زيدون: 228.
(5) الديوان: ولا بأس إن كان ولى الربيع.
(6) الديوان: 228.(3/273)
طابت لنا ليلتنا الخاليه ... فلنتبعنها هذه الثانيه (1)
أبا المعالي نحن في راحةٍ ... فانفل إلينا القدم العاليه
لأنها (2) عاطلةٌ إن تغب ... عنّا فزرنا كي ترى حاليه
أنت الذي لو تشترى ساعةٌ ... منه بدهرٍ لم تكن غاليه وكتب إليه ذو الوزارتين أبو عامر المذكور معاتباً (3) :
تباعدنا على قرب الجوار ... كأنّا صدّنا شحط المزار
تطلع لي هلال الهجر بدراً ... وصار هلال وصلك في سرار
وشاع شنيع قطعك لي بوصلي ... فهلاّ كان ذلك في استتار
أيجمل أن ترى عنّي صبوراً ... فأصبح (4) مولعاً دون اصطبار
وكنت أزيد سمعك من عتابي ... ولكن عاقني فرط الخمار
فراع مودّتي واحفظ جواري ... فإنّ الله أوصى بالجوار
وزرني منعماً من غير أمرٍ ... وآنس موحشاً من عقر داري فكتب إليه ابن زيدون (5) :
هواي وإن تناءت عنك داري ... كمثل هواي في حال الجوار
مقيمٌ لا تغيره عوادٍ ... تباعد بين أحيان المزار
رأيتك قلت إنّ الهجر بدرٌ ... متى خلت البدور من السرار
ورابك أنّني جلدٌ صبورٌ ... وكم صبرٍ يكون عن اصطبار
__________
(1) الديوان: فلتنسناها ... التاليه.
(2) الديوان: ليلتنا.
(3) الديوان: 204.
(4) ب: وأصبح.
(5) الديوان: 205.(3/274)
ولم أهجر لعتبٍ، غير أنّي ... أضرّت بي معاقرة العقار (1)
وإنّ الخمر ليس لها خمارٌ ... يبرّح بي فكيف مع الخمار
وهل أنسى لديك نعيم عيشٍ ... كوشي الخدّ طرّز بالعذار
وساعاتٍ يجول اللهو فيها ... مجال الطلّ في حدق البهار (2)
وإن يك فرّ عنك اليوم جسمي ... فديت فما لقلبي من فرار
وكنت على البعاد أجلّ شيء ... لديّ فكيف إذ أصبحت جاري وكان أبو العطاف إذا ورد إشبيلية رسولاً قد سأله أن يريه شيئاً من شعره فمطله به، حتى كتب إليه شعراً يستبطئه، فأجابه ابن زيدون في العروض والقافية (3) :
أفدتني (4) من نفائس الدّرر ... ما أبرزته غوائص الفكر
من لفظةٍ قارنت نظائرها ... قران سقم الجفون للحور وهي أكثر مما ذكر (5) .
وكتب رحمه الله تعالى - أعني ذا الوزارتين ابن زيدون - إلى ولادة (6) :
أضحى التّنائي بديلاً من تدانينا ... وناب عن طيب دنيانا تجافينا
ألا وقد حان صبح الليل صبّحنا ... حينٌ فقام بنا للحين ناعينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا
أنّ الزمان الذي ما زال يضحكنا ... أنساً بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغصّ فقال الدهر آمينا
__________
(1) هذا البيت والذي يليه سقطا من ب.
(2) في الأصول: الظل ... النهار، والتصويب عن الديوان.
(3) الديوان 206.
(4) ب: أفادني.
(5) هي في عشرين بيتا.
(6) ديوان ابن زيدون: 121.(3/275)
فانحلّ ما كان معقوداً بأنفسنا ... وانبتّ ما كان موصولاً بأيدينا
بالأمس كنّا (1) وما يخشى تفرّقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا
يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم ... هل نال حظاً من العتبى أعادينا
لم نعتقد بعدكم إلاّ الوفاء لكم ... رأياً ولم نتقلّد غيره دينا
كنّا نرى اليأس تسلينا عوارضه ... وقد يئسنا فما لليأس يغرينا
بنّم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا
حالت لفقدكم أيّامنا فغدت ... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
إذ جانب العيش طلقٌ من تألّفنا ... ومورد اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هصرنا فنون الوصل دانيةٍ ... قطوفها فجنينا منه. ما شينا
ليسق عهدكم عهد السرور فما ... كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
لا تحسبوا نأيكم عنّا يغيّرنا ... أن طال ما غيّر النّاي المحّبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً ... منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
يا ساري البرق غاد القصر فاسق به ... من كان صرف الهوى والودّ يسقينا
واسأل هنالك هل عنّى تذكّرنا ... إلفاً تذكره أمسى يعنّينا
ويا نسيم الصّبا بلّغ تحيّتنا ... من لو على البعد حيّا كان يحيينا
من لا يرى الدهر يقضينا مساعفةً ... فيه وإن لم يكن عنّا يقاضينا
من بيت (2) ملكٍ كأنّ الله أنشأه ... مسكاً وقد أنشأ الله الورى طينا
أو ساقه ورقاً محضاً وتوّجه ... من ناصع التبر إبداعاً وتحسينا
إذا تأوّد آدته رفاهيةً ... توم العقود (3) وأدمته البرى لينا
__________
(1) الديوان: وقد نكون.
(2) الديوان: ربيب.
(3) ب: تدمي العقول.(3/276)
كانت له الشمس ظئراً في تكلّله ... بل ما تجلّى لها إلاّ أحايينا
كأنما أثبتت في صحن وجنته ... زهر الكواكب تعويذاً وتزيينا
ما ضرّ أن لم نكن أكفاءه شرفاً ... وفي المودة كافٍ من تكافينا
يا روضةً طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جلاه الصّبا غضّاً ونسرينا
ويا حياةً تملّينا بزهرتها ... منىً ضروباً ولذّاتٍ أفانينا
ويا نعيماً خطرنا من غضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
لسنا نسمّيك إجلالاً وتكرمةً ... وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
إذا انفردت وما شوركت في صفةٍ ... فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا
يا حنّة الخلد أبدلنا بسلسلها ... والكوثر العذب زقّوماً وغسلينا
كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غضّ من أجفان واشينا
سرّان في خاطر الظّلماء تكتمنا ... حتى يكاد لسان الصّبح يفشينا
لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النّهى وتركنا الصّبر ناسينا
إنّا قرأنا الأسى يوم النّوى سوراً ... مكتوبةً وأخذنا الصبر تلقينا
أمّا هواك فلم نعدل بمشربه ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
لم نجف أفق جمالٍ أنت كوكبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختياراً تجنّبناك عن كثبٍ ... لكن عدتنا على كرّه عوادينا
نأسى عليك إذا حثّت مشعشعةً ... فينا الشمول وغنّانا مغنّينا
لا أكوس الرّاح تبدي من شمائلنا ... سيم ارتياحٍ ولا الأوتار تلهينا
دومي على العهد ما دمنا محافظةً ... فالحرّ من دان إنصافاً كما دينا
فما استعضنا خليلاً عنك يحبسنا ... ولا استفدنا حبيباً عنك يغنينا
ولو صبا نحونا من أفق مطلعه ... بدر الدّجى لم يكن حاشاك يصبينا
أبلي وفاءً وإن لم تبذلي صلةً ... فالطّيف يقنعنا والذكر يكفينا
وفي الجواب متاعٌ لو شفعت به ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا
عليك منّي سلام الله ما بقيت ... صبابةٌ بك نخفيها وتخفينا(3/277)
وإنما ذكرت هذه القصيدة - مع طولها - لبراعتها، ولأن كثيراً من الناس لا يذكر جملتها، ويظن أن ما في القلائد وغيرها منها هو جميعها، وليس كذلك، فهي وإن اشتهرت بالمشرق والمغرب لم يذكر جملتها إلا القليل، وقد كنت وقفت بالمغرب على تسديس لها لبعض علماء المغرب، ولم يحضرني منه الآن إلا قوله في المطلع:
ما للعيون بسهم الغنج تصمينا ... وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا
تألّفٌ كان يحيينا ويضنينا ... تفرّق عاث في شمل المحبّينا
أضحى التّنائي بديلاً من تدانينا ... وناب عن طيب دنيانا تجافينا وما أحسن قوله في هذا التسديس:
ما للأحبّة دانوابالنّوى ورأوا ... تعريض عهد اللّقا بالبعد حين نأوا
رعاهم الله كانوا للعهود رعوا ... فغيّرتهم وشاةٌ بالفساد سعوا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغصّ فقال الدهر آمينا وقد ذكرنا في الباب الرابع موشحة ابن الوكيل التي وطأ فيها بنونية ابن زيدون هذه فلتراجع (1) .
رجع - وقال ذو الوزارتين ابن زيدون يتغزل (2) :
وضح الصبح (3) المبين ... وجلا الشكّ اليقين
ورأى الأعداء ما غ ... رتهم منك الظنون
أمّلوا ما ليس يمنى ... ورجوا ما لا يكون
وتمنّوا أن يخون ال ... عبد مولىً لا يخون
__________
(1) انظر النفح ج ص: 632.
(2) ديوان ابن زيدون: 176.
(3) الديوان: الحق.(3/278)
فإذا الغيب سليمٌ ... وإذا العهد مصون
قل لمن دان بهجري ... وهواني إذ يدين (1)
أرخص الحبّ فؤادي ... لك والعلق ثمين
يا هلالاً تتراءا ... هـ نفوسٌ لا عيون
عجباً للقلب يقسو ... منك والعطف يلين
ما الذي ضرّك لو س ... رّ بمرآك الحزين
وتلطّفت بصبٍّ ... حينه فيك يحين
فوجوه اللّطف شتّى ... والمعاذير فنون وقال أيضاً (2) :
إليك من الأنام غدا ارتياحي ... وأنت من الزمان مدى اقتراحي
وما اعترضت هموم النفس إلاّ ... ومن ذكراك ريحاني وراحي
فديتك إنّ صبري عنك صبري ... لدى عطشي عن الماء القراح
ولي أملٌ لو الواشون كفّوا ... لأطلع غرسه ثمر النجاح
وأعجب كيف يغلبني عدوٌّ ... رضاك عليه من أمضى سلاح
ولما أن جلتك لي اختلاساً ... أكفّ الدهر للحين المتاح
رأيت الشمس تطلع في نقابٍ ... وغصن البان يرفل في وشاح
فلو أستطيع طرت إليك شوقاً ... وكيف يطير مقصوص الجناح
على حالي وصال واجتناب ... وفي يومي دنوٍّ وانتزاح
وحسبي أن تطالعك الأماني ... بأفقك في مساءٍ أو صباح
فؤادي من أسىً بك غير خالٍ ... وقلبي من هوىً لك غير صاح
__________
(1) الديوان: وهواه لي دين.
(2) ديوانه: 148.(3/279)
وأن تهدي السّلام إليّ شوقاً ... ولو في بعض أنفاس الرياح وقال (1) :
كم ذا أريد ولا أراد ... لله ما لقي الفؤاد
أصفي الوداد إلى الذي (2) ... لم يصف لي منه الوداد
كيف السّلوّ عن الذي ... مثواه من قلبي السواد
يقضي عليّ دلاله ... في كلّ حينٍ أو يكاد
ملك القلوب بحسنه ... فلها إذا أمر انقياد
يا هاجري كم أستفي ... د الصبر عنك فلا أفاد
أفلا رثيت لمن يبي ... ت وحشو مقلته السهاد
إن أجن ذنباً في الهوى ... خطأً فقد يكبو الجواد
كان الرضى وأعيذه ... أن يعقب الكون الفساد وقال (3) :
متى أنبّيك ما بي ... يا راحتي وعذابي
متى ينوب لساني ... في شرحه عن كتابي
الله يعلم أنّي ... أصبحت فيك لما بي
فما يلذّ منامي ... ولا يسوغ شرابي
يا فتنة المتعزّي ... وحجّة المتصابي
الشمس أنت توارت ... عن ناظري بالحجاب (4)
__________
(1) ديوان ابن زيدون: 178.
(2) الديوان: مدللا.
(3) ديوانه: 149.
(4) إلى هنا ينتهي ما سقط من النسخة م.(3/280)
ما النّور شفّ سناه ... على رقيق السحاب
إلاّ كوجهك لمّا ... أضاء تحت النّقاب وقال (1) :
هل لداعيك مجيب ... أم لشاكيك طبيب
يا قريباً حين ينأى ... حاضراً حين يغيب
كيف يسلوك محبٌّ ... زانه منك حبيب
إنّما أنت نسيمٌ ... تتلقّاه القلوب
قد علمنا علم ظنٍّ ... هو لا شكّ مصيب
إنّ سرّ الحسن ممّا ... أضمرت تلك القلوب وقال (2) :
أنّى تضيّع عهدك ... أم كيف تخلف وعدك
وقد رأتك الأماني رضىً ... فلم تتعدّك
يا ليت شعري وعندي ... ما ليس في الحبّ عندك (3)
هل طال (4) ليلك بعدي ... كطول ليلي بعدك
سلني حياتي أهبها ... فلست أملك ردّك
الدهر عبدي لمّا ... أصبحت في الحبّ عبدك وقال رحمه الله تعالى، وقد أمره السلطان أي يعارض قطعاً كان يغنى بها واستحسن ألحانها (5) :
__________
(1) ديوان ابن زيدون: 164.
(2) ديوانه: 165.
(3) الديوان:
يا ليت ما لك عندي ... من الهوى لي عندك (4) الديوان: فطال.
(5) ديوانه: 512.(3/281)
يقصّر قربك ليلي الطويلا ... ويشفي وصالك قلبي العليلا
وإن عصفت منك ريح الصّدود ... فقدت نسيم الحياة البليلا
كما أنّني إن أطلت العثار ... ولم يبد عذري وجهاً جميلا
وجدت أبا القاسم الظّافر الم ... ؤيّد بالله مولىً مقيلا
لأقلامه فعل (1) أسيافه ... يظلّ الصّرير يباري الصليلا وقال يهنيه بالقدوم من السفر (2) :
أيّها الظّافر أبشر بالظّفر ... واجتل التأييد في أبهى الصور
وتفيّأ ظلّ سعدٍ يجتنى ... فيه من غرس المنى أحلى الثمر
ورد النّجح فكم مستوحشٍ ... شائقٍ منك إلى أنس الصدر
كان من قربك في عيشٍ ندٍ ... عاطر الآصال وضّاح البكر
فثوى دونك مثوى قلقٍ ... يشتكي من ليله مطل السّحر
قل لساقينا يجد أكؤسه ... ولشادينا يطل (3) قطع الوتر ومنها:
لي فيه المثل السائر في ... جالب التمر إلى أرض هجر
ثمّ قد وفّق عبدٌ عظمت ... نعمة المولى عليه فشكر
لا عدى حظّك إقبالٌ يرى ... قاضياً أثناءه كلّ وطر
واصطبح كأس الرّضى من ملك ... سرت في إرضائه أزكى السّير
حين صممت إلى أعدائه ... فانتحتهم منك صمّاء الغبر (4)
__________
(1) الديوان: وأقلامه وفق.
(2) ديوانه: 514.
(3) الديوان: يجز ... يصل.
(4) صماء الغبر: الداهية.(3/282)
فاض غمرٌ للندى من فوقهم ... كان يروي شربهم منه الغمر
سبق الناس فصلّى سابقٌ ... إذ رأى آثاره مثل الزّهر (1) وهي طويلة.
وقال رحمه الله تعالى (2) :
لم يكن هجر حبيبي عن قلى ... لا ولا ذاك التجنّي مللا
سرّه دعوى ادّعائي ثمّ لم ... يدر ما غاية صبري فابتلى
أنا راضٍ بالذي يرضى به ... لي ما لو قال ما قلت لا
مثلٌ في كلّ حسنٍ مثل ما ... صار حالي في هواه مثلا
يا فتيت المسك يا شمس الضحى ... يا قضيب البان يا ظبي الفلا
لإن يكن لي أملٌ غير الرّضى ... منك لا بلّغت ذاك الأملا وقال رحمه الله تعالى (3) :
أذكرتني سالف العيش الذي طابا ... يا ليت غائب ذاك الوقت (4) قد آبا
إذ نحن في روضةٍ للوصل أنعمها ... من السرور غمامٌ فوقها صابا
إنّي لأعجب من شوقٍ يطالبني ... فكلّما قيل فيه قد قضى ثابا
كم نظرةٍ لك عندي قد علمت بها ... يوم الزيارة أنّ القلب قد ذابا
قلبٌ يطيل معاصاتي لطاعتكم ... فإن أكلّفه يوماً سلوةً يابى وقال رحمه الله تعالى (5) :
__________
(1) الديوان:
.......... منك من ... إن رأى آثاره الزهر اقتفر (2) ديوانه: 165.
(3) ديوانه: 123.
(4) الديوان: العهد.
(5) ديوانه: 192.(3/283)
عاودت ذكر الهوى من بعد نسياني ... واستحدث القلب بعد العشق سلواني
من حبّ جاريةٍ يبدو بها صنمٌ ... من اللّجين عليها تاج عقيان
غريرةٌ لم تفارقها تمائمها ... تسبي القلوب بساجي الطّرف وسنان
لأستجدّنّ في عشقي لها زمناً ... يحيي سوالف أيّامي وأزماني
حتى يكون لمن أحببت خاتمةً ... نسخت في حبّها كفراً بإيمان وقال رحمه الله تعالى (1) :
أنت معنى الهوى وسرّ الدموع ... وسبيل الهوى وقصد الولوع
أنت والشمس ضرّتان ولكن ... لك عند الغروب فضل الطّلوع
ليس يا مؤنسي نكلّفك (2) العت ... ب دلالاً من الرضى الممنوع
إنّما أنت والحسود معنّىً ... كوكبٌ يستقيم بعد الرجوع وقال رحمه الله تعالى (3) :
يا ليل طل لا أشتهي ... إلاّ كعهدي (4) قصرك
لو بات عندي قمري ... ما بتّ أرعى قمرك
يا ليل خبّر أنّني ... ألتذّ عنه خبرك
بالله قل لي هل وفى ... فقال لا بل غدرك وقال رحمه الله تعالى (5) :
لئن فاتني منك حظّ النظر ... لأكتفين بسماع الخبر
__________
(1) ديوانه: 166.
(2) الديوان: تكلفك.
(3) ديوانه: 182.
(4) الديوان: بوصل.
(5) ديوانه: 168.(3/284)
وإن عرضت غفلةٌ للرقيب ... فحسبي بتسليمةٍ (1) تختصر
أحاذر أن يتجنّى (2) الوشاة ... وقد يستدام الهوى بالحذر
فأصبر مستيقناً أنّه ... سيحظى بنيل المنى من صبر وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) .
أيّها البدر الذي يم ... لأ عيني من تأمّل
حمل القلب تباري ... ح التجنّي فتحمّل
ثمّ لا تيأس (4) فكم قد ... نيل أمرٌ لم يؤمّل وقال أيضاً رحمه الله تعالى (5) :
أجدّ ومن أهواه في الحبّ عابث ... وأوفي له بالعهد غذ هو ناكث
حبيبٌ نأى عنّي مع القرب، والأسى ... مقيمٌ له في مضمر القلب ماكث
جفاني بألطاف العدى وأزاله ... عن الوصل رأيٌ في القطيعة حادث
تغيرت عن عهدي وما زلت واثقاً ... بعهدك لكن غيّرتك الحوادث
وما كنت إذ ملّكتك القلب عالماً ... بأنّي عن حقفي بكفي باحث
ستبلى الليالي والوداد بحاله ... مقيمٌ، وغضٌّ وهو للأرض وارث
فلو أنّني أقسمت أنّك قاتلي ... وأني مقتولٌ لما قيل حانث وقال رحمه الله تعالى (6) :
__________
(1) الديوان: تسليمة.
(2) الديوان: يتظنى.
(3) الديوان: 182.
(4) الديوان: لا يأس.
(5) الديوان: 183.
(6) الديوان: 186.(3/285)
يا غزالاً أصارني ... موثقاً في يد المحن
إنّني مذ هجرتني ... لم أذق لذة الوسن
ليت حظّي إشارةٌ ... منك أو لحظةٌ تعنّ (1)
شافعي يا معذبي ... في الهوى وجهك الحسن
كنت خلواً من الهوى ... وأنا اليوم مرتهن
كان سرّي مكتّماً ... وهو الآن قد علن
ليس لي عنك مذهبٌ ... فكما شئت لي فكن وقال رحمه الله تعالى (2) :
أيوحش لي الزمان وأنت أنسي ... ويظلم لي النهار وأنت شمسي
وأغرس في محبّتك الأماني ... وأجني الموت من ثمرات غرسي
لقد جازيت غدراً عن وفائي ... وبعت مودّتي ظلماً ببخس
ولو أنّ الزمان أطاع حكمي ... فديتك من مكارهه بنفسي (3) ومحاسن ابن زيدون كثيرة، وقد ذكرنا منها في غير هذا المحل جملة.
وسألت جارية من جواري الأندلس ذا الوزارتين أبا الوليد ابن زيدون أن يزيد على بيت أنشدته إياه، وهو (4) :
يا معطشي من وصالٍ كنت وارده ... هل منك لي غلّةٌ إن صحت: وا عطشي قال: وكانت الجارية المذكورة تتعشق فتىً قرشياً، والوزير يعلم ذلك، وهي لا تعلم أنه يعلم، فقال:
__________
(1) الديوان: عنن.
(2) الديوان: 185.
(3) استطردت نسخة م بعد هذا البيت بإيراد أشعار أخرى لابن زيدون وذكر ترجمته من القلائد.
(4) ديوان ابن زيدون: 170.(3/286)
كسوتني من ثياب السّقم أسبغها ... ظلماً وصيّرت من لحف الضنى فرشي
أنّى بصرف الهوى عن مقلةٍ كحلت ... بالسّحر منك وخدٍّ بالجمال وشي
لمّا بدا الصّدغ مسودّاً بأحمره ... أرى التشاكل (1) بين الروم والحبش
أوفى إلى الخدّ ثمّ انصاع منعطفاً ... كالعقربان انثنى من خوف محترش
لو شئت زرت وسلك الليل (2) منتظمٌ ... والأفق يختال في ثوبٍ من الغبش
جفا إذا التذّت الأجفان طيب كرىً ... جفني (3) المنام وصاح الليل: يا قرشي
هذا وإن تلفت نفسي فلا عجبٌ ... قد كان قتلي في تلك الجفون حشي 54 - وكان لابن الحاج صاحب (4) قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس صورة: رحمون، وعزون، وحسون، فأولع بهم الحافظ الشهير أبو محمد ابن السيد البطليوسي صاحب " شرح أدب الكاتب " وغيره وقال فيهم:
أخفيت سقمي حتى كاد يخفيني ... وهمت في حبّ عزّونٍ فعزّوني
ثمّ ارحموني برحمونٍ وإن ظمئت ... نفسي إلى ريقٍ حسّونٍ فحسّوني قال: ثم خاف على نفسه، فخرج عن قرطبة، وهو القائل:
نفسي الفداء لجؤذرٍ حلو اللّمى ... مستحسنٍ بصدوده أفناني
في فيه سمطا جوهرٍ يروي الظّما ... لو علّني ببروده أحياني وهذان البيتان تخرج منهما عدة مقطعات كما لا يخفى.
55 - وقال أبو بكر محمد ابن أحمد الأنصاري الإشبيلي المعروف بالأبيض،
__________
(1) الديوان: التسالم.
(2) الديوان: النجم.
(3) الديوان: صبا........ جفا.
(4) انظر أزهار الرياض 3: 102، 134؛ والقطعة الثانية تنفك منها ست قطع.(3/287)
في تهنئة بمولود، قال ابن دحية (1) : وهذا أبدع ما قيل في هذا المعنى:
أصاخت الخيل آذاناً لصرخته ... واهتزّ كلّ هزبرٍ عندما عطسا
تعشّق الدرع مذ شدّت لفائفه ... وأبغض المهد لمّا أبصر الفرسا
تعلّم الركض أيّام المخاض به ... فما امتطى الخيل إلاّ وهو قد فرسا 56 - وقال الوزير الكاتب أبو عامر السالمي (2) في غلام يرش الماء على خديه فتزداد حمرتهما:
لقد نعمت بحمّامٍ تطلّع في ... أرجائه قمرٌ والحسن يكمله
أبصرته كلّما راقت محاسنه ... ونعمة الجسم والأرداف تخذله
يرشّ بالماء خدّيه فقلت له: ... صف لي لما أحمر الياقوت تصقله
فقال: طرفي سفّاكٌ بصارمه ... دماء قومٍ على خدّي فأغسله وقال أيضاً (3) :
أوقد النار بقلبي ... ثمّ هبّت ريح صدّه
فشرار النار طارت ... فانطفت في ماء خدّه وهو تخييل عجيب.
57 - وقال ابن الحناط المكفوف الأندلسي في المعنى المشهور (4) :
لم يخل من نوب الزمان أديب ... كلاّ فشأن النائبات عجيب
وغضارة الأيّام تأبى أن يرى ... فيها لأبناء الذكاء نصيب
__________
(1) المطرب: 76.
(2) المطرب: 77 والشعر ليس للسالمي، وإنما أنشده السالمي وهو لأبي الحسين ابن مظفر.
(3) المطرب: 78؛ وهذا الشعر صحيح النسبة للسالمي.
(4) الذخير 1 / 1: 392.(3/288)
وكذاك منصحب الليالي طالباً ... جدّاً وفهماً فاته المطلوب [أشعار لابن الزقاق]
58 - وكان ابن الزقاق الأندلسي الشاعر المشهور - وقد تكرر ذكره في هذه التآليف مرا تكثيرة - يسهر في الليل، ويشتغل بالأدب، وكان أبوه فقيراً جداً، فلامه، وقال له: نحن فقراء، ولا طاقة لن بالزيت الذي تسهر عليه، فاتفق أن برع في الأدب والعلم ونظم الشعر، فقال في أبي بكر ابن عبد العزيز صاحب بلنسية قصيدة أولها (1) :
يا شمس خدرٍ ما لها مغرب ... أرامة خدرك أم يتثرب
ذهبت فاستعبر طرفي دماً ... مفضّض الدمع به مذهب ومنها:
ناشدتك الله نسيم الصّبا ... أنّى استقرّت بعدنا زينب
لم نسر إلاّ بشذا عرفها ... أو لا فماذا النّفس الطيب
إيهٍ وإن عذّبني حبّها ... فمن عذاب النفس ما يعذب فأطلق له ثلاثمائه دينار، فجاء بها إلى أبيه وهو جالس في حانوته مكبٌّ على صنعته، فوضعها في حجره، وقال: خذها فاشتر بها زيتاً.
وقال رحمه الله تعالى في غلام رمى حجراً فشدخ وجهه (2) :
وأحوى رمى عن قسيّ الحور ... سهاماً يفوّقهنّ النّظر
يقولون وجنته قسّمت ... ورسم محاسنه قد دثر
__________
(1) ديوان ابن الزقاق: 80 والمغرب 2: 325 والغيث 2: 84.
(2) ديوانه: 179 والمطرب: 101 ولمح السحر: 48 والمغرب 2: 332 والوافي: 134.(3/289)
وما شقّ وجنته عابثاً ... ولكنّها آيةٌ للبشر
جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر وقال أيضاً (1) :
بأبي وغير أبي أغنّ مهفهفٌ ... مهضوم ما خلف الوشاح خميصه
لبس السّواد (2) ومزّقته جفونه ... فأتى كيوسف حين قدّ قميصه وقال أيضاً (3) :
سقتني بيمناها وفيها فلم أزل ... يجاذبني من ذا ومن هذه سكر
ترشّفت فاها إذ ترشّفت كأسها ... فلا والهوى لم أدر أيهما الخمر وقال (4) :
رقّ النسيم وراق الروض بالزّهر ... فنبّه الكأس والإبريق بالوتر
ما العيش إلاّ اصطباح الراح أو شنبٌ ... يغني عن الراح من سلسال ذي أشر
قل للكواعب غضّي للكرى مقلاً ... فأعين الزّهر أولى منك بالسّهر
وللصباح ألا فانشر رداء سناً ... هذا الدجى قد طوته راحة السّحر (5)
وقام بالقهوة الصهباء ذو هيفٍ ... يكاد معطفه ينقدّ بالنظر
يطفو عليها إذا ما شجّها دررٌ ... تخالها اختلست من ثغره الخصر
والكأس من كفّه بالراح محدقةٌ ... كهالةٍ أحدقت في الأفق بالقمر
__________
(1) الديوان: 196 والمطرب: 103 والشريشي 2: 164 والمغرب 2: 334.
(2) الديوان: الفؤاد.
(3) ديوان ابن الزقاق: 178 والمطرب: 104 والفوات 2: 126 والوافي: 134.
(4) الديوان: 173 والمطرب: 106 والمغرب 2: 332.
(5) الديوان: لوته راحة السمر.(3/290)
وقال (1) :
تضوّعن أنفاساً وأشرقن أوجهاً ... فهنّ منيرات الصباح بواسم
لئن كنّ زاهراً فالجوانح أبرجٌ ... وإن كنّ زهراً فالقلوب كمائم وهو من بديع التقسيم.
59 - وقال السميسر (2) :
تحفّظ من ثيابك ثم صنها ... وإلاّ سوف تلبسها حدادا
وميّز في زمانك كلّ حبرٍ ... وناظر (3) أهله تسد العبادا
وظنّ بسائر الأجناس خيراً ... وأما جنس آدم فالبعادا
أرادوني بجمعهم فردّوا ... على الأعقاب قد نكصوا فرادى
وعادوا بعد ذا إخوان صدقٍ ... كبعض عقاربٍ رجعت جرادا 60 - وقال ابن رزين، وهو من رجال الذخيرة (4) :
لأسرحنّ نواظري ... في ذلك الروض النضير
ولآكلنّك بالمنى ... ولأشربنّك بالضّمير 61 - وقال سلطان بلنسية عبد الملك بن مروان بن عبد الله بن عبد العزيز (5) :
ولا غرو بعدي أن يسوّد معشرٌ ... فيضحي لهم يومٌ وليس لهم أمس
كذاك نجوم الجوّ تبدو زواهراً ... إذا ما توارت في مغاربها الشمس
__________
(1) الديوان: 146 والمطرب: 108 والشريشي 2: 353.
(2) الذخيرة 1 / 2: 383.
(3) الذخيرة: كل حين، ونافر....
(4) ترجمته في الذخيرة 3: 33 والمغرب 2: 428 والقلائد: 51.
(5) المغرب 2: 300.(3/291)
62 - وتحاكم إلى أبي أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي المعروف بالملتمس (1) غلامان جميلان لأحدهما وفرة شقراء، وللآخر سوداء: أيهما أحسن والملتمس المذكور هو صاحب كتاب " الأحكام فيما لا يستغني عنه الحكام " فقال:
وشادنين ألمّا بي على مقةٍ ... تنازعا الحسن في غايات مستبق
كأنّ لمّة ذا نرجسٍ خلقت ... على بهارٍ وذا مسكٍ على ورق
وحكّما الصبّ في التفضيل بينهما ... ولم يخافا عليه رشوة الحدق
فقام يدلي إليه الريم حجّته ... مبيّناً بلسانٍ منه منطلق
فقال: وجهي بدرٌ يستضاء به ... ولون شعري مصبوغٌ من الغسق
وكحل عيني سحرٌ للنّهى وكذا ... والسحر أحسن ما يعزى إلى الحدق
فقال صاحبه: أحسنت وصفك ل ... كن فاستمع لمقالٍ فيّ متّفق
أنا على أفقي شمس النّهار، ولم ... تغرب، وشقرة شعري حمرة الشفق
وفضل ما عيب في عينيّ من زرقٍ ... أنّ الأسنّة قد تعزى إلى الزّرق
قضيت للّمّة الشقراء حيث حكت ... نوراً (2) كذا حبّها يقضي على رمقي
فقام ذو اللمّة السوداء يرشقني ... سهام أجفانه من شدّة الحنق
وقال جرت فقلت الجور منك على ... قلبي ولي شاهدٌ من دمعي الغدق
فقلت عفوك إذ أصبحت متّهماً ... فقال دونك هذا الحبل فاختنق 63 - وقال أبو محمد عبد الله بن غالب:
ومهفهفٍ خنث الجفون كأنّما ... من أرجل النمل استفاد عذارا
فتخاله ليلاً إذا استقبلته ... وتخال ما يجري عليه نهارا
__________
(1) ترجمته في الجذوة: 206 وبغية الملتمس رقم: 762 وقصيدته هذه في التشبيهات: 126.
(2) الطالع: لونا.(3/292)
64 - وقال أبو القاسم خلف بن فرج السميسر المتقدم (1) :
الناس مثل حبابٍ ... والدهر لجّة ماء
فعالمٌ في طفوٍّ ... وعالم في انطفاء 65 - وقال أحمد بن برد الأندلسي في النرجس، وهو البهار عند الأندلسيين، ويسمى العبهر (2) :
تنبّه فقد شقّ البهار مغلّساً ... كمائمه عن نوره (3) الخضل الندى
مداهن تبرٍ في أنامل فضّةٍ ... على أذرعٍ مخروطةٍ من زبرجد 66 - وقال الوزير عبد المجيد بن عبدون في دار أنزله بها المتوكل بن الأفطس وسقفها قديم، فهطل عليه المطر منه:
أيا سامياً من جانبيه إلى العلا ... " سموّ حباب الماء حالاً إلى حال "
لعبدك دارٌ حلّ فيها كأنّها ... " ديارٌ لسلمى عافياتٌ بذي الخال "
يقول لها لمّا رأى من دثورها ... " ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي "
فقالت وما عيّت جواباً بردّها ... " وهل يعمن من كان في العصر الخالي "
فمر صاحب الانزال فيها بفاضلٍ ... " فإنّ الفتى يهذي وليس بفعّال " قيل: وهو أبو عذرة تضمين لامية امرئ القيس، وقد أولع الناس بعده بتضمينها.
67 - وقال أبو الفضل ابن حسداي (4) ، وكان يهودياً فأسلم، ويقال: إنه
__________
(1) تقدم هذان البيتان في م على اللذين قبلهما (رقم: 63) .
(2) الذخيرة 1 / 2: 48.
(3) الذخيرة: زهره.
(4) ترجمته في القلائد: 183 والأبيات فيه ص: 184 وانظر المجلد الأول: 640.(3/293)
من ولد موسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام:
توريد خدّك للأحداق لذّات ... عليه من عنبر الأصداغ لامات
نيران هجرك للعشّاق نار لظىً ... لكن وصالك إن واصلت جنّات
كأنما الراح والراحات تحملها ... بدور تمٍّ وأيدي الشّرب هالات
حشاشةٌ ما تركنا الماء يقتلها ... إلاّ لتحيا بها منّا حشاشات
قد كان من قبلها في كأسها ثقلٌ ... فخفّ إذ ملئت منها الزجاجات وقد تبارى المشارقة والمغاربة من المتقدمين والمتأخرين في هذا الوزن والقافية، ولولا خوف السآمة لذكرت من ذلك الجملة الشافية الكافية (1) .
68 - ومن سرعة جواب أهل الأندلس (2) أن ابن عبد ربه كان صديقاً لأبي محمد يحيى القلفاط الشاعر، ففسد ما بينهما بسبب أن ابن عبد ربه صاحب العقد (3) مر به يوماً وكان في مشيه اضطراب، فقال: أبا عمر ما علمت أنك آدر إلا اليوم لما رأيت مشيك، فقال له ابن عبد ربه: كذبتك عرسك أبا محمد، فعز على القلفاظ كلامه، وقال له: أتتعرض للحرم والله لأرينك كيف الهجاء، ثم صنع فيه قصيدة أولها:
يا عرس أحمد إني مزمعٌ سفرا ... فودّ عيني سرّاً من أبي عمرا ثم تهاجيا بعد ذلك، وكان القلفاظ يلقبه بطلاس لأنه كان أطلس اللحية، ويسمس كتاب العقد حبل الثوم، فاتفق اجتماعها يوماً عند بعض الوزراء، فقال الوزير للقلفاظ: كيف حالك اليوم مع أبي عمر فقال مرتجلاً:
__________
(1) م: جملة كافية شافية.
(2) بدائع البدائه 1: 51.
(3) صاحب العقد: سقطت من ب.(3/294)
حال طلاسٌ لي عن رائه ... وكنت في قعدد أبنائه فبدر ابن عبد ربه وقال:
إن كنت في قعدد أبنائه ... فقد سقى أمّك من مائه فلانقطع القلفاظ خجلاً؛ وعاش ابن عبد ربه 82 سنة، رحمه الله تعالى.
69 - ومن الحكايات في مروءة أهل الأندلس ما ذكره صاحب " الملتمس " في ترجمة الكاتب الأديب الشهير أبي الحسين بن جبير صاحب الرحلة، وقد قدمنا ترجمته في الباب الخامس من هذا الكتاب، وذكرنا هنالك أنه كان من أهل المروءات عاشقاً في قضاء الحواجز والسعي في حقوق الإخوان، وأنشدنا هنالك قوله:
" يحسب الناس بأني متعبٌ ... إلخ. ... وقد ذكر ذلك كله صاحب " الملتمس " ثم قال - أعني (1) صاحب " الملتمس " - ومن أغرب ما يحكى أني كنت أحرص الناس (2) على أن أصاهر قاضي غرناطة أبا محمد عبد المنعم بن الفرس، فجعلته - يعني ابن جبير - الواسطة حتى تيسر ذلك، فلم يوفق الله ما بيني وبين الزوجة، فجئته وشكوت له ذلك، فقال: أنا ما كان القصد لي في اجتماعكما، ولكن سعيت جهدي في غرضك، وها أنا أسعى أيضاً في افتراكما، إذ هو من غرضك، وخرج في الحين ففصل القضية، ولم أر في وجهه أولاً ولا آخراً عنواناً لامتنانٍ ولا تصعيب، ثم إنه طرق بابي، ففتحت له، ودخل وفي يده محفظة فيها مائة دينار مؤمنية، ثم قال (3) : يا ابن
__________
(1) أعني: سقطت من م.
(2) الناس: سقطت من م.
(3) م: فقال.(3/295)
أخي، اعلم أني كنت السبب في هذه القضية، ولم أشك أنك خسرت فيها ما يقارب هذا القدر الذي وجدته الآن عند عمك، فبالله إلا ما سررتني بقبوله، فقلت له: أنا ما أستحيي منك في هذا الأمر، والله إن أخذت هذا المال لأتلفنه فيما أتلفت فيه مال والدي (1) من أمور الشباب، ولا يحل لك أن تمكنني منه بعد أن شرحت لك أمري، فتبسم وقال: لقد احتلت في الخروج عن المنة بحيلة، وانصرف بماله، انتهى.
70 - ثم قال صاحب " الملتمس ": وتذاكرنا يوماً معه حالة الزاهد أبي عمران المارتلي، فقال: صحبته مدة فما رأيت مثله، وأنشدني شعرين ما نسيتهما ولا أنساهما ما استطعت، فالأول قوله (2) :
إلى كم أقول فلا أفعل ... وكم ذا أحوم ولا أنزل
وأزجر عيني فلا ترعوي ... وأنصح نفسي فلا تقبل
وكم ذا تعلّل لي ويحها ... بعلّ وسوف وكم تمطل
وكم ذا أؤمّل طول البقا ... وأغفل والموت لا يغفل
وفي كلّ يومٍ ينادي بنا ... منادي الرحيل ألا فارحلوا (3)
أمن بعد سبعين أرجو البقا ... وسبعٍ أتت بعدها تعجل
كأن بي (4) وشيكاً إلى مصرعي ... يساق بنعشي ولا أمهل
فيا ليت شعري بعد السؤال ... وطول المقام لما أنقل والثاني قوله:
اسمع أخيّ نصيحتي ... والنّصح من محض الدّيانه
__________
(1) م: مالي ومال أبي.
(2) هاتان القطعتان في ترجمته في المغرب والغصون اليانعة، والثانية منهما مرت فيما تقدم ص: 99.
(3) المغرب: ألا فانزلوا.
(4) م: كأني.(3/296)
لا تقربنّ إلى الشّها ... دة والوساطة والأمانه
تسلم من آن تعزى لزو ... رٍ أو فضولٍ أو خيانه قال: فقلت له: أراك لم تعمل بوصيته في الوساطة، فقال: ما ساعدتني رقة وجهي على ذلك، انتهى.
رجع إلى نظم الأندلسيين:
71 - وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز (1) :
أفضل ما استصحب النّبيل فلا ... تعدل به في المقام والسّفر
جرمٌ إذا ما التمست قيمته ... جلّ عن التبر (2) وهو من صفر
مختصرٌ وهو إذ نفتّشه ... عن ملح العلم غير مختصر
ذو مقلةٍ تستبين ما رمقت ... عن صائب اللحظ صادق الخبر
تحمله وهو حاملٌ فلكاً ... لو لم يدر بالبنان لم يدر
مسكنه الأرض وهو ينبئنا ... عن كلّ ما في السماء من خبر
أبدعه ربّ فكرةٍ بعدت ... في اللطف عن أن تقاس بالفكر
فاستوجب الشكر والثناء به ... من كلّ ذي فتنةٍ من البشر
فهو لذي اللّبّ شاهدٌ عجبٌ ... على اختلاف العقول والصور قلت: وهي أحسن ما سمعت في الاصطرلاب.
وأمر رحمه الله تعالى أن يكتب على قبره (3) :
سكنتك يا دار الفناء مصدّقاً ... بأني إلى دار البقاء أصير
وأعظم ما في الأمر أنّي صائرٌ ... إلى عادلٍ في الحكم ليس يجور
__________
(1) الخريدة 4 / 1: 272.
(2) ب: جل على التبر.
(3) مرت في المجلد الثاني: 108.(3/297)
فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليلٌ والذنوب كثير
فإن أك مجزيّاً بذنبي فإنّني ... بشرّ عقاب المذنبين جدير
وإن يك عفوٌ من غنيٍّ ومفضلٍ ... فثمّ نعيمٌ دائمٌ وسرور 72 - وقال ابن خفاجة (1) ، وهو مما أورده له صاحب الذخيرة:
لقد زار من أهوى على غير موعدٍ ... فعابنت بدر التمّ ذاك التلاقيا
وعاتبته والعتب يحلو حديثه ... وقد بلغت روحي لديه التراقيا
فلمّا اجتمعنا قلت من فرحي به ... من الشعر بيتاً والدموع سواقيا
" وقد يجمع الله الشّتيتين بعدما ... يظنّان كلّ الظنّ أن لا تلاقيا " 73 - ومن مجون الأندلسيين هذه القصيدة المنسوبة لسيدي أبي (2) عبد الله ابن الأزرق، وهي:
عم باتصال الزمن ... ولا تبالي بمن
وهو يواسي بالرضى ... من سمجٍ أو حسن
أو من عجوزٍ تحتظي (3) ... والظهر منها منحني
أو من مليحٍ مسعدٍ ... موافقٍ في الزمن
مهما تبدّى خدّه ... يبدو لك الورد الجني
والغصن في أثوابه ... إذا تمشّى ينثني
لا أمّ لي لا أمّ لي ... إن لم أبرّد شجني
وأخلعنّ في المجو ... ن والتصابي رسني
وأجعل الصبر على ... هجر الملاح ديدني
__________
(1) ديوان ابن خفاجة: 365 (نقلا عن النفح) .
(2) م: لأبي.
(3) م: تختطي.(3/298)
يا عاذلي في مذهبي ... أرداك شرب اللّبن
أعطيت في البطن سنا ... ناً إن تخالف سنني
أيّ فتىً خالفني ... يوماً ولمّا يلقني
فإنّني لناصحٌ ... وإنّني وإنّني
فلا تكن لي لاحياً ... وفي الأمور استفتني
فلم أزل أعرب عن ... نصحي لمن لم يلحني
وإن تسفّه نظري ... ومذهبي وتنهني
فالصفع تستوجبه ... نعم ونتف الذّقن
والزبل في وجهك يع ... لو باتصال الزمن
وبعد هذا أشتفي ... منك ويبرا شجني
وأضرب الكفّ أما ... م ذلك الوجه الدّني
طقطق طقٍ طقطق طقٍ ... أصخ بسمع الأذن
شطر أولقحقح قح قحقح قح ... الضحك يغلبلبني (1)
قد كان أولى بك عن ... هذي المخازي تنثني
النّفي تستوجبه ... لواسطٍ أو عدن
عرضت بالنفس كذا ... إلى ارتكاب المحن
أفدي صديقاً كان لي ... بنفسه يسعدني
فتارةً أنصحه ... وتارةً ينصحني
وتارةً ألعنه ... وتارةً يلعنني
وربما أصفعه ... وربما يصفعني
أستغفر الله فه ... ذا القول لا يعجبني
يا ليت هذا كلّه ... فيما مضى لم يكن
__________
(1) م: يغللبني.(3/299)
أضحكت والله بذا ال ... حديث من يسمعني
دهرٌ تولّى وانقضى ... عنّي كطيف الوسن
يا ليتني لم أره ... وليته لم يرني
دنّست فيه جانبي ... وملبسي بالدّرن
وبعت فيه عيشتي ... لكن ببخس الثّمن
كأنّني ولست أد ... ري الآن ما كأنّني
والله ما التشبيه عن ... د شاعرٍ بهيّن
لكنّه أنطقني ... بالقول ضيق العطن
وا حسرتي وا أسفي ... زلت وضاعت فطني
لو أنصف الدهر لما ... أخرجني من وطني
وليس لي من جنّةٍ ... وليس لي من مسكن
أسرّح الطّرف وما ... لي دمنةٌ من الدمن
وليس لي من فرسٍ ... وليس لي من سكن (1)
يا ليت شعري وعسى ... يا ليت أن تنفعني
هل أمتطي يوماً إلى ال ... شّرق ظهور السّفن
وأجتلي ما شئته ... في المنزل المؤتمن (2)
حينئذٍ أخلع في ... هذي القوافي رسني
وتحسن الفكرة في بال ... عدوس (3) والسّمنسني (4)
واللحم مع شحمٍ ومع ... طوابق الكبش الثّني
والبيض في المقلاة بال ... زيت اللذيذ الدهن
__________
(1) سقط البيت من م.
(2) ب: المؤمن.
(3) ب: بالغندوس.
(4) ب: والشمشيني؛ م: والسمتني.(3/300)
وجلدة الفرّوج مش ... وياً كثير السمن
من منقذي أفديه من ... ذا الجوع والتمسكن
وعلة (1) قد استوى ... فيها الفقير والغني
هل للثريد عودةٌ ... إليّ قد شوقني
تغوص فيه أنملي ... غوص الأكول المحسن
ولي إلى الإسفنج شو ... قٌ دائمٌ يطربني
وللأرزّ الفضل إذ ... تطبخه باللّبن
وللشواء والرقا ... ق من هيامٍ أنثني
واسكت عن الجبن فإنّ ... بنته تذهلني
ظاهرها كالورد أو ... باطنها كالسوسن
أيّ امرئٍ أبصرها ... يوماً ولم يفتتن
تهيم فيها فكر الأس ... تاذ والمؤذّن
لو كان عندي معدنٌ ... لبعت فيها معدني
لكنني عزمت أن ... أبيع كمّ البدن
والكمّ قد أكسبه ... بعد ولا يكسبني
لا تنسبوا لي سفهاً ... فالجوع قد أرشدني
وهات ذكر الكسكسو ... فهو شريفٌ وسني
لا سيّما إن كان مص ... نوعاً بفتلٍ حسن
أرفع منه كوراً ... بهنّ تدوي (2) أذني
وإن ذكرت غير ذا ... أطعمةً في الوطن
فابدأ من المثوّما ... ت بالجبنّ الممكن
__________
(1) م: وقلة.
(2) ب: (بها) تداوى.(3/301)
من فوقها الفرّوج قد ... أنهي في التسمّن
وثنّ بالعصيدة ال ... تي بها تطربني
لا سيّما إن صنعت ... على يدي ممركن
كذلك البلياط بال ... زيت الذي يقنعني
تطبخه حتى يرى ... يحمرّ في التلوّن
والزبزبنّ في الصحا ... ف حسب أهل البطن (1)
فاسمع قضاء ناصحٍ ... يأتي بنصحٍ بيّن
من اقتنى التفين فه ... والآن نعم المقتني
وإنّ في شاشية ال ... فقير أنساً للغني
تبعدني عن وصلها ... عن وصلها تبعدني
تؤنسني عن اللقا ... عن اللقا تؤنسني (2)
فأضلعي إن ذكرت ... تهفو كمثل الغصن
كم رمت تقريباً لها ... لكنه لم يهن
وصدّني عن ذاك ق ... لة الوفا باثمن
إيهٍ خليلي هذه ... مطاعمٌ لكنني
أعجب من ريقك إذ ... يسيل فوق الذقن
هل نلت منها شبعاً ... فذكرها أشبعني
وإن تكن جوعان يا ... صاح فكل بالأذن
فليس عند شاعرٍ ... غير كلام الألسن
يصوّر الأشياء وه ... ي أبداً لم تكن
__________
(1) سقط من م؛ وأول لفظة فيه بياض في ب.
(2) م: تؤيسني.(3/302)
فقوله يريك ما ... ليس يرى بالممكن
فاسمح وسامح واقتنع ... واطو حشاك واسكن
ولننصرف فقصدنا ... إطراف هذا الموطن انتهى.
74 - وقال ابن خفاجة رحمه الله تعالى (1) :
درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم ... فيها صدور مراتبٍ ومجالس
وتزهدوا حتى أصابوا فرصةً ... في أخذ مال مساجدٍ وكنائس وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيراً.
75 - وقال - فيما أظن - الفقيه الكاتب المحدث الأديب الشهير أبو عبد الله محمد بن الأبار القضاعي، وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب في مواضع:
لقد غضبت حتى على السّمط نخوةً ... فلم تتقلّد غير مبسمها سمطا
وأنكرت الشّيب الملمّ بلمّتي ... ومن عرف الأيام لم ينكر الوخطا [نقول من القدح المعلى]
76 - وقال ابن سعيد في القدح المعلى في حقه (2) : كاتب مشهور، وشاعر مذكور، كتب عن ولاة بلنسية، وورد رسولاً حين أخذ النصارى بمخنق تلك الجهات، وأنشد قصيدته السينية:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا وعارضه جمعٌ من الشعراء ما بين مخطئٍ ومحروم، وأغري الناس بحفظها
__________
(1) ديوان ابن خفاجة: 366 (عن النفح) .
(2) اختصار القدح: 191.(3/303)
إغراء بني تغلب بقصيدة عمر بن كلثوم، إلا أن أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة، فقلصت عنه تلك النعمة، وأخر عن تلك (1) العناية، وارتحل إلى بجاية، وهو الآن بها عاطلٌ من الرتب، خالٍ من حلى الأدب، مشتغلٌ بالتصنيف في فنونه، متنفل منه بواجبه ومسنونه، ولي معه مجاسات آنق من الشباب، وأبهج من الروض غب نزول السحاب، ومما أنشدنيه من شعره (2) :
يا حبّذا بحديقةٍ دولاب ... سكنت إلى حركاته (3) الألباب
عنّى ولم يطرب وسقى وهو لم ... يشرب ومنه العود والأكواب
لو يدّعي لطف الهواء أو الهوى ... ما كنت في تصديقه أرتاب
وكأنّه ممّا شدى مستهزئ (4) ... وكأنّه ممّا بكى ندّاب
وكأنّه بنثاره ومداره ... فلكٌ كواكبه لها أذناب 77 - وقال أبو المعالي القيجاطي (5) :
فقلت يا ربعهم أين من ... أحببته فيك وأين النديم
فقال عهدٌ قد غدا شمله ... كمثل ما ينثر درٌّ نظيم 78 - وقال أبو عمرو ابن الحكم القبطلي (6) ، وقبطلة من أعمال وادي إشبيلية:
كم أقطع الدهر بالمطال ... ساءت وحقّ الإله حالي
__________
(1) القدح: ظل تلك.
(2) القدح: 192.
(3) ب: بحركاتها.
(4) القدح: مستهتر.
(5) القدح: 211.
(6) القدح: 200؛ وفي ب: عبد الحكم.(3/304)
رحلت أبغي بكم نجاحاً ... فلم تفيدوا سوى ارتحالي
وعدتم ألف ألف وعدٍ ... لكنّني عدت بالمحال 79 - وقال أبو عمران القلعي (1) :
طلعت عليّ والأحوال سودٌ ... كما طلع الصباح على الظلام
فقل لي كيف لا أوليك شعري ... وإخلاص التّحيّة والسّلام 80 - وقال أبو إسحاق إبراهيم بن أيوب المرسي (2) :
أنا سكران ولكن ... من هوى ذاك الفلاني
كلمّا رمت سلوّاً ... لم يزل بين عياني وقال:
حبيبي ما لصبّك من مراد ... سوى أن لا تدوم على البعاد
وإن كان ابتعادك بعد هذا ... مقيماً فالسّلام على فؤادي قال ابن سعيد: وكان المذكور إذا غنى هذه الأشعار اللطيفة على الأوتار لم يبق لسامعه عند الهموم من ثار، مع أخلاق كريمة، وآداب كانسكاب الديمة، انتهى.
81 - وقال ابن سعيد (3) في أبي بكر محمد بن عمار البرجي كاتب ابن هود القائل:
__________
(1) القدح: 201.
(2) القدح: 214 وفيه ابن لبون.
(3) القدح: 217.(3/305)
[قل] لمن يشهد حرباً ... تحت رايات ابن هود إلخ ... :
يا ابن عمّار لقد أح ... ييت لي ذاك السميّا
في حلى نظمٍ ونثرٍ ... علّقا في مسمعيّا
ولقد حزت مكاناً ... من ذرى الملك عليّا
مثل ما قد حاز لكن ... عش بنعماك هنيّا 82 - وقال أبو بكر عبد الله بن عبد العزيز الإشبيلي المعروف بابن صاحب الرد (1) :
يا أبدع الخلق بلا مرية ... وجهك فيه فتنة الناظرين
لا سيّما إذ نلتقي خطرةً ... فيغلب الورد على الياسمين
طوبى لمن قد زرته خالياً ... فمتّع النفس ولو بعد حين
من ذلك الثغر الذي ورده ... ما زال فيه لذة الشاربين
وما حوى ذاك الإزار الذي ... لم يعد عنه أمل الزائرين وهذه الأبيات يقولها في غلام كان أدباء إشبيلية قد فتنوا به، وكان مروره على داره.
وحكى عنه أنه أعطاه في زيارة خمسين دينار، ومرت أيام ثم صادفه عند داره، فقال له: أتريد أن أزورك ثانية فقال له: لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين، وهذا الجواب على ما فيه من قلة الأدب، وهتك حجاب الشريعة - من أشد الأجوبة إصابةً للغرض، والله تعالى يسمح له، فقد قال ابن سعيد في حقه: إن بيته بإشبيلية من أجل البيوت، ولم يزل له مع تقلب الزمان ظهور
__________
(1) القدح: 112 - 113.(3/306)
وخفوت، وكان أديباً شاعراً ذواقاً لأطراف العلوم، انتهى.
83 - ومن المشهورين بالمجون والخلاعة بالأندلس - مع البلاغة والبراعة - أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزير الكاتب (1) ، وهو من بيت مشهور من جزيرة شقر، من عمل بلنسية، وكتب عن ولاة من بني عبد المؤمن، ثم استكتبه السلطان ابن هود حين تغلب على الأندلس، وربما استوزره في بعض الأحيان، قال ابن سعيد: وهو ممن كان والدي يكثر مجالسته، ولم أستفد منه إلا ما كنت أحفظه في مجالسته، وكان شديد التهور، كثير الطيش، ذاهباً بنفسه كل مذهب، سمعته مرة وهو في محفلٍ يقول: تقيمون القيامة لحبيب والبحتري والمتنبي وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه فأهوى له شخصٌ له قحةٌ وإقدام، فقال: يا أبا جعفر، فأرنا برهان ذلك، ما أظنك تعني إلا نفسك، فقال: نعم، ولم لا وأنا الذي أقول ما لم يتنبه (2) إليه متقدم، ولا يهتدي لمثله متأخر:
يا هل ترى أظرف من يومنا ... قلّد جيد الأفق طوق العقيق
وأنطق الورق بعيدانها ... مرقصةً كلّ قضيبٍ وريق
والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض (3) إلا بكؤوس الشقيق فلم ينصفوه في الاستحسان، وردوه في الغيظ إلى أضيق مكان (4) ، فقلت له: يا سيدي، هذا هو السحر الحلال، فبالله إلا ما زدتني من هذا النمط، فقال:
أدرها فالسّماء بدت عروساً ... مضخّمة الملابس بالغوالي
__________
(1) ترجمته في اختصار القدح: 114 وعنه ينقل المقري، وانظر المغرب 2: 136 والمقتضب من التحفة: 157 والإحاطة 1: 244.
(2) القدح: لم يهتد؛ دوزي: لم ينته.
(3) ب ودوزي: الأرض.
(4) القدح: إلى أشد مما كان(3/307)
وخدّ الروض حمّره (1) أصيلٌ ... وجفن النهر كحّل بالظلال
وجيد الغصن يشرق في لآلٍ ... تضيء بهنّ أكناف الليالي فقلت: زد وعد، فعاد والارتياح ملك عطفه، والتيه قد رفع أنفه، فقال:
لله نهرٌ عندما زرته ... عاين طرفي منه سحراً حلال
إذ أصبح الطلّبه ليلةً ... وجال فيه الغصن شبه الخيال فقلت: زد، فأنشد:
ولمّا ماج بحر الليل بيني ... وبينكم وقد جدّدت ذكرا
أراد لقاءكم إنسان عيني ... فمدّ له المنام عليه جسرا فقلت: إيه، فقال:
ولمّا أن رأى إنسان عيني ... بصحن الخدّ منه غريق ماء
أقام له العذار عليه جسراً ... كما مدّ الظّلام على الضياء فقلت: أعد، فأعاد، وقال: حسبك لئلا تكثر عليك المعاني، فلا تقوم بحق قيمتها، وأنشد:
هات المدام إذا رأيت شبيهها ... في الأفق يا فرداً بغير شبيه
فالصبح قد ذبح الظلام بنصله ... فغدت تخاصمه الحمائم فيه ثم قال: وكان قد تهتك في غلام لابن هود، ولكثرة انهزام ابن هود ربما انهزم مع العلج، وفيه يقول:
__________
(1) القدح: خفره.(3/308)
ألفت الحرب حتى علّمتني ... مقارعة الحوادث والخطوب
ولم أك عالماً وأبيك حرباً ... بغير لواحظ الرشإ الرّبيب
فها أنا بين تلك وبين هذي ... مصابٌ من عدوٍّ أو حبيب ولما هرب بالعلج إلى سبتة أحسن غليه القائم بها أبو العباس الينشتي (1) ، فلم يقنع بذلك الإحسان، وكان يأتي (2) بما يوغر صدره، فقال يوماً في مجلسه: رميت مرةً بقوس، فبلغ السهم إلى كذا (3) ، فقال ابن طلحة لشخصٍ بجانبه: لو كان قوس قزح ما بلغ إلى كذا، فشعر بقوله، فأسرها في نفسه، ثم بلغه أن هجاه بقوله:
سمعنا بالموفّق فارتحلنا ... وشافعنا له حسبٌ وعلم
ورمت يداً أقبّلها وأخرى ... أعيش بفضلها أبداً وأسمو
فأنشدنا لسان الحال فيه ... يدٌ شلاّ وأمرٌ لا يتمّ فزاد في حنقه، وبقي مترصداً له الغوائل، فحفظت عنه أبياتٌ قالها وهو في حالة استهتار في شهر رمضان، وهي:
يقول أخو الفضول وقد رآنا ... على الإيمان يغلبنا المجون
أتنتهكون شهر الصوم هلاّ ... حماه منكم عقلٌ ودين
فقلت اصحب سوانا، نحن قوم ... زنادقةٌ مذاهبنا فنون
ندين بكلّ دينٍ غير دين الر ... عاع فما به أبداً ندين
بحيّ على الصّبوح الدّهر نحن ندعو ... وإبليسٌ يقول لنا أمين
__________
(1) في الأصول: البنتي؛ وصوابه ما اثبتناه، ويكتب أيضا " اليناشتي ".
(2) القدح: يستريح.
(3) زاد في القدح: ذكر مدى بعيدا.(3/309)
فيا شهر الصّيام إليك عنّا ... إليك ففيك أكفر ما نكون فأرسل إليه من هجم عليه وهو على هذه الحال، وأظهر أنه يرضي العامة بقتله، فقتله، وذلك سنة 631، انتهى. وحاكي الكفر ليس بكافر، والله سبحانه وتعالى للزلات غير الكفر غافر.
84 - وقال محمد بن أحمد الإشبيلي ابن البناء (1) :
كأنك من جنس الكواكب كنت لم ... يفتك طلوعاً حالها وتواريا
تجلّيت من شرقٍ تروق تلألؤاً ... فلمّا انتحيت الغرب أصبحت هاويا 85 - ولما أمر المستنصر الموحدي (2) بضرب ابن غالب الداني ألف سوط وصلبه، وضرب بغشبيلية خمسمائة فمات، وضرب بقية الألف حتى تناثر لحمه، ثم صلب، قال ابنه أبو الربيع (3) يرثيه:
جهلاً لمثلك أن يبكي لما قدرا ... وأن يقول أسىً يا ليته قبرا
فاضت دموعك أن قاموا بأعظمه ... وقد تطاير عنه اللحم وانتثرا ومنها:
ضاقت به الأرض ممّا كان حمّلها ... من الأيادي فمجّت شلوه ضجرا
وعزّ جسمك (4) أن يحظى به كفنٌ ... فما تسربل إلاّ الشمس والقمرا 86 - وقال أبو العلاء عبد الحق المرسي رحمه الله تعالى (5) :
__________
(1) القدح: 118 والمغرب 1: 249.
(2) القدح: 127 والتحفة: 83 والمغرب 2: 406.
(3) ق: الربيع.
(4) القدح: إذ ذاك.
(5) القدح: 126.(3/310)
يا أبا عمران دعني والذي ... لم يمل خاطري إلاّ إليه
ما نديمي غير من يخدمني ... لا الذي يجلسني بين يديه
يرفع الكلفة عنّي ويرى ... أنها واجبةٌ منّي عليه 87 - وقال ابن غالب الكاتب بمالقة (1) :
لا تخش قولاً قد عقدت الألسنا ... وابعث خيالك قد سحرت الأعينا
واعطف عليّ فإنّ روحي زاهقٌ ... وانظر إليّ بنظرةٍ إن أمكنا
لا يخدعنّك أن تراني لابساً ... ثوبي فقد أصبحت فيه مكفّنا
ما زال سحرك يستميل خواطري ... بأرقّ من ماء الصفاء وألينا
حتى غدوت ببحر حبٍّ زاخرٍ ... فرمت بي الأمواج في شطّ الضّنى وقال:
ما للنسيم لدى الأصيل عليلا ... أتراه يشكو زفرةً وغليلا
جرّ الذيول على ديار أحبّتي ... فأتى يجرّ من السّقام ذيولا 88 - وقال أبو عبد الله بن عسكر الغساني قاضي مالقة (2) :
أهواك يا بدر وأهوى الذي ... يعذلني فيك وأهوى الرقيب
والجار والدار ومن حلّها ... وكلّ من مرّ بها من قريب
ما إن تنصّرت ولكنّني ... أقول بالتثليث قولاً غريب
تطابق الألحان والكاس إذ ... تبسم عجباً والغزال الربيب 89 - وكان أبو أمية ابن عفير (3) قاضي إشبيلية - مع براعته، وتقدمه في
__________
(1) القدح: 128.
(2) القدح: 130.
(3) القدح: 132.(3/311)
العلوم الشرعية - أقوى الناس بالعلوم الأدبية المرعية، وقد اشتهر بسرعة الخاطر في الارتجال، وعدم المناظر له في ذلك المجال، قال ابن سعيد: رأيته كثيراً ما يصنع القصائد والمقاطعات، وهو يتحدث أو يفصل بين الغرماء في أكثر الأوقات، ومن شعره:
ديارهم صاح (1) نصب عيني ... وليس لي وصلةٌ إليها
إلاّ سلامي لدى ابتعادٍ ... من بعد سكانها عليها وقوله رحمه الله تعالى:
ووجهٍ تغرق الأبصار فيه ... ولكن يترك الأرواح هيما
أتاني ثمّ حيّاني حبيبٌ ... به وأباحني الخدّ الرقيما
فمرّ لنا مجونٌ في فنونٍ ... سلكت به الصراط المستقيما قلت: أما مجرد الارتجال فأمر عن (2) الكثير صادر، وأما كونه مع التحدث أو فصل الخصومات فهو نادر، وقد حكينا منها في هذا الكتاب من القسم الأول موارد ومصادر.
[عود للحديث عن ابن ظافر]
ويعجبني من الواقع لأهل المشرق من ذلك قضية علي بن ظافر، إذ قال (3) : بتّ ليلة والشهاب يعقوب ابن أخت نجم الدين في منزل اعترفت له مشيدات القصور، والانخفاض والقصور، وشهدت له ساميات البروج، بالاعتلاء والعروج، قد ابيضت حيطانه، وطاب استيطانه، وابتهج به سكانه وقطانه، والبدر قد محا خضاب الظلماء، وجلا محياه (4) في زرقة قناع السماء، وكسا الجدران
__________
(1) القدح: تلك؛ ب ق: ديارهم هي.
(2) م: فما مر من.
(3) البدائع 2: 206.
(4) ق: وحكى محياه.(3/312)
ثياباً من فضة، ونثر كافوره على مسك الثرى بعد أن سحقه ورضه، والروض قد ابتسم محياه، ووشت بأسرار محاسنه رياه، والنسيم قد عانق قامات الأغصان فميّلها، وغصبها مباسم نورها فقبّلها، وعندنا مغنٍ قد وقع على تفضيله الإجماع، وتغايرت على محاسنه الأبصار والأسماع، إن بدا فالشمس طالعة، وإن شدا فالورق ساجعة، تغازله مقلة سراج قد قصر على وجهه تحديقه، وقابله فقلنا البدر قابل عيوقه، وهو يغار عليه من النسيم كلما خفق وهب، ويستجيش عليه بتلويح بارقه الموشى بالذهب، ويديم حرقته وسهده، ويبذل في إلطافه طاقته وجهده، فتارة يضمخه بخلوقه، وتارة يحليه بعقيقه، وآونةً يكسوه أثواب شقيقه، فلم نزل كذلك حتى نعس طرف المصباح، واستيقظ نائم الصباح، فصنعت بديهاً في المجلس، وكتبت بها إلى الأعز بن المؤيد رحمه الله تعالى أصف تلك الليلة التي ارتفعت على أيام العيد، كارتفاع الرؤوس عن الأجياد، بل فضلت ليلات الدهر، كفضل البدر على النجوم الزهر:
غبت عنّي يابن المؤيد في وق ... تٍ شهيٍّ يلهي المحبّ المشوّقا
ليلة ظلّ بدرها يلبس الجد ... ران ثوباً مفضّضاً مرموقا
وغدا الطّلّ فيه ينثر كافو ... راً فيعلو مسك التراب السحيقا
وتبدّى النّسيم يعتنق الأغ ... صان لمّا سرى عناقاً رفيقا
بتّ فيها منادماً لصديقٍ ... ظلّ بين الأنام خلاًّ صدوقا
هو مثل الهلال وجهاً صبيحاً ... ومثال النسيم ذهناً رقيقاً
وغزال كالبدر وجهاً وغصن ال ... بان قدّاً والخمرة الصرف ريقا
مظهرٌ للعيون ردفاً مهيلاً ... وحشاً ناحلاً وقدّاً رشيقا
إن تغنّى سمعت داود، أو لا ... ح تأمّلت يوسف الصدّيقا
وإذا قابل السراج رأينا ... منه بدراً يقابل العيّوقا
وأظنّ الصباح هام بمرآ ... هـ فأبدى قلباً حريقاً خفوقا(3/313)
هو نجمٌ ما لاح في الجدر كافو ... ر بياضٍ إلاّ كساه خلوقا
ما بدا نرجس الكواكب إلا ... قام من نومه يرينا الشقيقا
وإذا ما بدت جواهرها في الج ... وّ وأبدى في الأرض منهم عقيقا
فغدونا تحت الدجى نتعاطى ... من رقيق الآداب خمراً رحيقا
وجعلنا ريحاننا طيب ذكرا ... ك فخلناه عنبراً مفتوقا
ذاك وقتٌ لولا مغيبك عنه ... كان بالمدح والثناء خليقا قال فأجاب عنها من الوزن دون الروي:
قد أتتني من الجمال قصيدٌ ... يا لها من قصيدةٍ غرّاء
جمعت رقّة الهواء وطيب ال ... مسك في سبكها وصفو الماء
فأرتنا طباعه وشذاه ... والذي حاز ذهنه من ذكاء
سيدي هل جمعت فيها اللآلي ... يا أخا المجد أم نجوم السماء
أفحمتني حسناً وحقّ أيادي ... ك التي لا تعدّ بالإحصاء
فتركت الجواب والله عجزاً ... فابسط العذر فيه يا مولائي
هل يسامي الثّرى الثريّا وأنّى ... يدّعي النجم فرط نور ذكاء رجع إلى أهل الأندلس:
90 - وقال ابن السماك (1) :
إياك أن تكثر الإخوان مغتنماً ... في كلّ يومٍ إلى أن يكثر العدد
في واحدٍ منهم تصفي الوداد له ... من التكاليف ما يفنى به الجلد وله:
__________
(1) القدح: 134؛ وفي م: السماد؛ ق: السماذ.(3/314)
تحنّ ركابي نحو أرضٍ وما لها ... وما لي من ذاك الحميم سوى الهمّ
وكم راغبٍ في موضعٍ لا يناله ... وأمسيت منه مثل يونس في اليمّ
بهذا قضى الرحمن في كلّ ساخطٍ ... يموت على كرهٍ ويحيى على رغم 91 - ولما قام الباجي (1) بإشبيلية وخلع طاعة ابن هود، وأبدل أشعاره الأسود العباسي في البنود، قال أبو محمد عبد الحق الزهري القرطبي في ذلك:
كأنما الراية السوداء قد نعبت ... لهم غراباً ببين الأهل والولد
مات الهوى تحتها من فرط روعته ... فأظهر الدهر منها لبسة الكمد وأنشدهما القائم الباجي في جملة قصيدة.
92 - وقال الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم الإشبيلي (2) :
93 -......................... ............................. (3)
أمسى الفراش يطوف حول كؤوسنا ... إذ خالها تحت الدّجى قنديلا
ما زال يخفق حولها بجناحه ... حتى رمته على الفراش قتيلا وله:
لاموا على حبّ الصبا والكاس ... لمّا بدا وضح المشيب براسي
والغصن أحوج ما يكون لسقيه ... أيّام يبدو بالأزاهر كاسي وله، وقد رأى على نهر قرطبة ثلاثين نفساً مصلوبين من قطاع الطريق:
__________
(1) القدح: 135.
(2) ترجمة أبي الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم في اختصار القدح: 140 ولقبه هناك " الأفلح " ولكن الشعر التالي ليس له.
(3) هذه الأشعار التالية لأبي يحيى ابن هشام القرطبي في القدح: 89 - 92 والمعتقد أن سهوا حدث في نسخ النفح سقط فيه شعر الأعلم واسم القرطبي صاحب هذه المقطعات.(3/315)
ثلاثون قد صففوا كلّهم ... وقد فتحوا أذرعاً للوداع
وما ودّعوا غير أرواحهم ... فكان وداعاً لغير (1) اجتماع وله في فتىً وسيم عضّ كلبٌ وجنته:
وأغيد وضّاح المحاسن باسمٍ ... إذا قامر الأرواح ناظره قمر
تعمّد كلبٌ عضّ وجنته التي ... هي الورد إيناعاً وأبقى بها أثر
فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم ... وقد أثّر العوّاء في صفحة القمر 94 - وقال الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البياسي (2) المؤرخ الأديب، المصنف الشهير، وكان حافظاً لنكت الأندلسيين حديثاً وقديماً، ذاكراً لفكاهاتهم التي صيرته للمملوك خليلاً ونديماً (3) ، في صبي من أعيان الجزيرة الخضراء تهافت في حبه جماعة من الأدباء والشعراء (4) :
قد سلونا عن الذي تدريه ... وجفوناه إذ جفا بالتيه
وتركناه صاغراً لأناسٍ ... خدعوه بالزّور والتمويه
لمضلٍّ يسوقه لمضلٍّ ... وسفيهٍ يقوده لسفيه وكان من القوم الذين هاموا بالمذكور، وقاموا فيه المقام المشهور، أديبٌ يقال له الفار، فتسلط على البياسي حتى سافر من الجزيرة وكان يلقب بالقط، [فقال أحد الشعراء] :
عذرت أبا الحجاج من ربّ شيبةٍ ... غدا لابساً في الحبّ ثوباً من القار
وألجأه الفار المشارك للنوى ... ولم أر قطّاً قبله فرّ من فار
__________
(1) ب: بغير.
(2) القدح: 94 - 95.
(3) القدح: جليسا ونديما.
(4) كان هذا النص في النفح شديد الاضطراب، فصوبناه على حسب رواية القدح المعلى.(3/316)
وله، وقد كتب إلى بعض أصحابه يذكره بالأيام السوالف:
أبا حسنٍ لعمرك إنّ ذكري ... لأيام النعيم من الصواب
أمثلي ليس يذكر عهد حمصٍ ... وقد جمحت بنا خيل التصابي
ونحن نجرّ أثواب الأماني ... مطرّزةً هنالك بالشباب
وعهدٌ بالجزيرة ليس ينسى ... وإن أغفلته عند الخطاب
هو الأحلى لديّ وإن حماني ... عن العسل اجتماعٌ للذّباب أشار (1) إلى المحبوب وكان كثير الاجتماع به في جنة لوالده على وادي العسل وقال (2) :
جنّة وادي العسل ... كم لي بها من أمل
لو لم يكن ذبابها ... يمنع ذوق العسل قال ابن سعيد: ولما التقينا بتونس بعد إيابي من المشرق، وقد ولج (3) ظلام الشعر على [صبح] وجهه المشرق، قلت لأبي الحجاج مشيراً إلى محبوبه، وقد غطى هواه عنده على عيوبه:
خلّ (4) أبا الحجاج هذا الذي ... قد كنت فيه دائم الوجد
وانظر إلى لحيته واعتبر ... ممّا جنى الشّعر على الخدّ والله سبحانه يسمح للجميع، في هذا الهزل الشنيع، ويصفح عنا في ذكره، إنه مجيبٌ سميع.
__________
(1) في أصول النفح: وسار، والتصويب عن القدح.
(2) في الأصول: فقال - عطفا على سار - قال ابن سعيد: ولما اجتمعت به مستحسنا لهذا المقصد قال لي قد كنت ذكرته أيام تلك المزاحمات ثم أنشد " جنة وادي ... إلخ ".
(3) القدح: دلج.
(4) القدح: خلي.(3/317)
[عود إلى النقل عن بدائع البدائه]
95 - وقال صاحب " البدائع " (1) ركب الأستاذ أبو محمد ابن صارة مع أصحاب له في نهر إشبيلية في عشية سال أصيلها على لجين الماء عقيانا، وطارت زواريقها في سماء النهر عقبانا، وأبدى نسيمها من الأمواج والدارات سرراً وأعكانا، في زورقٍ يجول جولان الطّرف، ويسودّ اسوداد الطّرف، فقال بديهاً:
تامّل حالنا والجوّ طلقٌ ... محيّاه وقد طفل المساء
وقد جالت بنا عذراء حبلى ... تجاذب مرطها ريحٌ رخاء
بنهرٍ كالسجنجل كوثريٍّ ... تعبّس وجهها فيه السماء واتفق أن وقف أبو إسحاق ابن خفاجة على القطعة واستظرفها واستلطفها، فقال يعارضها على وزنها ورويها وطريقتها:
ألا يا حبّذا ضحك الحميّا ... بحانتها وقد عبس المساء
وأدهم من جياد الماء مهرٍ (2) ... تنازع جلّه ريحٌ رخاء
إذا بدت الكواكب فيه غرقى ... رأيت الأرض تحسدها السماء 96 - وقال الأديب ابن خفاجة في ديوانه (3) : صاحبت في صدري من المغرب سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ابا محمد عبد الجليل بن وهبون شاعر المعتمد، وكان أبو جعفر ابن رشيق يومئذ قد تمنع ببعض حصون مرسية، وشرع في النفاق فقطع السبيل، وأخاف الطريق، ولما حاذينا قلعته وقد احتدمت جمرة الهجير،
__________
(1) بدائع البدائه: 2: 142.
(2) ب: نهد؛ ق: نهر.
(3) وردت هذه القصص المتعلقة بابن خفاجة في بدائع البدائه 2: 143، 145.(3/318)
وملّ الركب رسيمه وزميله، وأخذ كلٌّ منّا يرتاد مقيله، اتفقنا على أن لا نطعم طعماً، ولا نذوق مناناً، حتّى نقول في صورة تلك الحال، وذلك التّرحال، ما حضر، وشاء الله أن أجبل ابن وهبون واعتذر، وأخذت عفو خاطري، فقلت أتربص به (1) ، وأعرّض بعظم لحيته:
ألا قل للمريض القلب مهلاً ... فإنّ السيف قد ضمن الشفاء
ولم أر كالنفاق شكاة حرٍّ ... ولا كدم الوريد له دواء
وقد دحي النجيع هناك أرضاً ... وقد سمك العجاج به سماء
وديس به انحطاطاً بطن وادٍ ... مذ أعشب شعر لحيته ضراء وقال ابن خفاجة أيضاً: حضرت يوماً مع أصحاب لي، ومعهم صبي متهم في نفسه، واتفق أنهم تحاوروا في تفضيل الرمان على العنب، فانبرى ذلك الصبي فأفرط في تفضيل العنب، فقلت بديهاً أعبث به:
صلني لك الخير برمّانةٍ ... لم تنتقل عن كرم العهد
لا عنباً أمتصّ عنقوده ... ثدياً كأني بعد في المهد
وهل يرى بينهما نسبةً ... من عدل الخصية بالنّهد فخجل خجلاً شديداً وانصرف.
قال: وخرجت يوماً بشاطبة إلى باب السّمّارين، ابتغاء الفرجة على خرير ذلك الماء بتلك الساقية، وذلك سنة 480، وإذا بالفقيه أبي عمران ابن أبي تليد رحمه الله تعالى قد سبقني إلى ذلك، فألفيته جالساً على دكان كانت هناك مبنية لهذا الشأن، فسلمت عليه، مستأنساً به، فجرى أثناء ما تناشدناه ذكر قول ابن رشيق:
__________
(1) البدائع: أريض نار نزوته.(3/319)
يا من يمرّ ولا تمرّ ... به القلوب من الفرق
بعمامةٍ من خدّه ... أو خدّه منها استرق
فكأنه وكأنها ... قمرٌ تعمّق بالشفق
فإذا بدى وإذا انثنى ... وإذا شدى وإذا نطق
شغل الخواطر والجوا ... نح والمسمع والحدق فقلت، وقد أعجبت بها جدّاً، وأثنى عليها كثيراً: أحسن ما في القطعة سياقة الاعداد، وإلاّ فأنت تراه قد استرسل فلم يقابل بين ألفاظ البيت الأخير والبيت الذي قبله فينزل بإزاء كلّ واحدة منها ما يلائمها، وهل ينزل بإزاء قوله وإذا نطق قوله شغل الحدق، وكأنه نازعني القول في هذا غاية الجهد، فقلت بديهاً:
ومهفهفٍ طاوي الحشا ... خنث المعاطف والنظر
ملأ العيون بصورةٍ ... تليت محاسنها سور
فإذا رنا وإذا مشى ... وإذا شدا وإذا سفر
فضح الغزالة والغما ... مة والحمامة والقمر فجنّ بها استحساناً، انتهى.
قال ابن ظافر: والقطعة القافيّة ليست لابن رشيق، بل هي لأبي الحسين علي بن بشر الكاتب أحد شعراء اليتيمة (1) .
97 - وكان بين السميسر الشاعر (2) وبين بعض رؤساء المريّة واقع لمدح
__________
(1) هذا وهم من ابن ظافر تابعه فيه المقري فإن أبا الحسن (لا أبا الحسين) علي بن أبي البشر الكاتب هو أحد شعراء الدرة الخطيرة لابن القطاع، وهو من ثم أحد شعراء الخريدة (4 / 1: 5 وسماه ابن البشائر) ؛ وقد ترجم له الصفدي في الجزء الثالث من الوافي، نسخة مكتبة أحمد الثالث؛ وذكره أبو الصلت في رسالته المصرية (نوادر المخطوطات 1: 22) .
(2) البدائع 2: 148.(3/320)
مدحه فلم يجزه عليه، فصنع ذلك الرجل دعوة للمعتصم بن صمادح صاحب المرية واحتفل فيها بما يحتفل مثله في دعوة سلطان مثل المعتصم، فصبر السميسر إلى أن ركب السلطان متوجهاً إلى الدعوة، فوقف له في الطريق، فلمّا حاذاه رفع صوته بقوله:
يا أيها الملك الميمون طائره ... ومن لذي مأتم في وجهه عرس
لا تفرسنّ (1) طعاماً عند غيركم ... إنّ الأسود على المأكول تفترس فقال المعتصم: صدق والله، ورجع من الطريق، وفسد على الرجل ما كان عمله.
[حكاية مشرقية]
ونظير هذه الحكاية (2) أن عبّاد بن الحريش كان قد مدح رجلاً من كبار أصبهان أرباب الضيع والأملاك والتبع الكثير، فمطله بالجائزة، ثمّ أجازه بما لم يرضه، فرده عليه، وبعد ذلك بحين عمل الرجل دعوة غرم عليها ألوف دنانير كثيرة لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي على أن يجيء إليه من الكرج، ووصل أبو دلف، فلمّا عين عبّاد عليه وهو يساير بعض خواصه أومأ إلى ذلك السائر وأنشد بأعلى صوته:
قل له يا فديته ... قول عبّاد: ذا سمج
جئت في ألف فارسٍ ... لغداء من الكرج
ما على النّفس بعد ذا ... في الدناءات من حرج فقال أبو دلف، وكان أخوف الناس من شاعر: صدق والله، أجيء من
__________
(1) البدائع: لا تقربن.
(2) البدائع 2: 149.(3/321)
الكرج إلى أصبهان حتّى أتغذى بها والله بعد هذا ما في دناءة النفس من شيء.
ثمّ رجع من طريقه، وفسد على الرجل كلّ ما غرمه، وعرف من أين أتي.
وتخوف أن يعود عبّاد عليه بشرّ (1) منها، فسيّر إليه جائزة سنيّة مع جماعة من أصحابه، فاجتمعوا به، وسألوه فيه، وفي قبول الجائزة، فلم يقبل الجائزة، ثمّ أنشد بديهاً:
وهبت يا قوم لكم عرضه ... فقالوا: جزاك الله تعالى خيراً، فقال:
كرامةً للشعر لا للفتى ...
لأنه أبخل من ذرّةٍ ... على الذي تجمعه في الشتا انتهى.
98 - وذكر أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي ما معناه (2) : أنه عزم بمصر هو ورفقة له على الاصطباح، فقصدوا بركة الحبش، في وقت ولاية الغبش، وحلّوا منها روضاً بسم زهره، ونسم عطره، فأداروا كؤوساً، تطلع من المدام شموساً، وعاينوها نجوماً، تكون لشاطين الهموم رجوماً، فطرب حتّى أظهر الطرب نشاطه، وأبرز ابتهاجه وانبساطه، فقال:
لله يومي ببركة الحبش ... والجوّ بين الضياء والغبش
والنّيل تحت الرّياح مضطربٌ ... كصارمٍ في يمين مرتعش
ونحن في روضةٍ مفوّقةٍ ... دبّج بالنّور عطفها ووشي
قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نورها على فرش
__________
(1) ب: بأشد.
(2) البدائع 2: 151، ونوادر المخطوطات 1: 20 - 21.(3/322)
فعاطني الراح إنّ تاركها ... من سورة الهمّ غير منتعش
وأسقني (1) بالكبار مترعةً ... فهنّ أروى لشدّة العطش
فأثقل النّاس كلّهم رجلٌ ... دعاه داعي الصّبا فلم يطش وهذا أبو الصّلت أمية من كبراء أدباء الأندلس العلماء الحكماء، وقد ترجمناه في الباب الخامس في المرتحلين من الأندلس إلى المشرق.
99 - وقال رحمه الله تعالى (2) : كنت مع الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس بالمهدية في الميدان، وقد وقف يرمي بالنشاب، فصنعت فيه بديهاً:
ياملكاً مذ خلقت كفّه ... لم تدر إلاّ الجود والباسا
إنّ النّجوم الزّهر مع بعدها ... قد حسدت في قربك الناسا
وودّت الأفلاك لو أنّها ... تحوّلت تحتك أفراسا
كما تمنّى البدر لو أنه ... عاد لنشّابك برجاسا انتهى.
100 - وصنع الوزير (3) أبو جعفر أحمد الوقشي وزير الرئيس أبي إسحاق ابن همشك صهر الأمير أبي عبد الله بن مردنيش في غلام أسود في يده قضيب نور بديهاً:
وزنجيٍّ أتى بقضيب نورٍ ... وقد زفّت لنا بنت الكروم
فقال فتى من الفتيان صفها ... فقلت الليل أقبل بالنّجوم
__________
(1) ب: وسقني.
(2) البدائع 2: 152.
(3) البدائع 2: 153؛ وهذان البيتان في الحلة 2: 266 للرصافي (ديوانه: 135) ؛ قال: وغلط أبو مروان ابن صاحب الصلاة الإشبيلي فنسبهما في تاريخه إلى بعض الأمراء (يعني الوقشي) ، وفي المغرب 2: 257 أنهما لأبي الحسين بن أم الحور.(3/323)
101 - ولمّا أفرط أبو [بكر] يحيى اليكي (1) في هجاء أهل فاس تعسّفوا عليه، وساعدهم واليهم مظفر الخصي من قبل أمير المسلمين (2) علي بن يوسف، والقائد عبد الله بن خيار الجياني (3) ، وكان يتولى أمورأً سلطانية بها، فقدّموا رجلاً ادعى عليه بدين، وشهد عليه به رجل فقيه يعرف بالزناتي، ورجل آخر يكنّى بأبي الحسين من مشايخ البلد، فأثبت الحق عليه، وأمر به إلى السجن، فرفع إليه، وسيق سوقاً عنيفاً، فلمّا وصل إلى بابه طلب ورقة من كاتبه، وكتب فيها، وأنفذها إلى مظفر مع العون الذي أوصله إلى السجن، فكان ما كتب:
ارشوا الزناتيّ الفقيه ببيضةٍ ... يشهد بأنّ مظفّراً ذو بيضتين
واهدوا إليه دجاجةً يحلف لكم ... ما ناك عبد الله عرس أبي الحسين 102 - وقال أبو الحسن علي بن عتيق بن مؤمن القرطبي الأنصاري: عمل والدي محملاً للكتب من قضبان تشبه سلّماً، فدخل عليه أبو محمد عبد الله بن مفيد، فرآه، فقال ارتجالاً:
أيها السيّد الذكيّ الجنان ... لا تقسني بسلّم البنيان
فضل شكل على السلالم أنّي ... محملٌ للعلوم والقرآن
حزت من حلية المحبين ضعفي ... واصفراري ورقّة الأبدان
فادع للصانع المجيد بفوزٍ ... ثمّ وال الدعاء للإخوان ثمّ عمل أيضاً:
أيها السيد الكريم المساعي ... التفت صنعتي وحسن ابتداعي
__________
(1) البدائع 2: 157؛ وانظر بعض أهاجيه في أهل فارس في زاد المسافر.
(2) ب: المؤمنين؛ وهو غير دقيق.
(3) راجع ترجمة ابن خيار الجياني في الحلة 2: 235.(3/324)
أنا للنّسخ محملٌ خفّ حملي ... أنا في الشّكل سلّم الإطلاع 103 - وقال أحمد بن رضى المالقي:
ليس المدامة ممّا أستريح له ... ولا مجاوبة الأوتار والنغم
وإنّما لذّتي كتبٌ أطالعها ... وخادمي أبداً في نصرتي قلمي 104 - وقال أبو القاسم البلوي الإشبيلي:
لمن أشكو مصابي في البرايا ... ولا ألقى سوى رجلٍ مصاب
أمورٌ لو تدبّرها حكيمٌ ... لعاش مدى الزمان أخا اكتئاب
أما في الدّهر من أفشي إليه ... بأسراري فيؤنس بالجواب
يئست من الأنام فما جليسٌ ... يعزّ على نهاي سوى كتابي 105 - وقال أبو زكريا يحيى، ابن صفوان بن إدريس صاحب كتاب " العجالة " و " زاد المسافر " وغيرهما:
ليت شعري كيف أنتم ... وأنا الصبّ المعنّى
كلّ شيء لم تكونوا ... فيه لفظٌ دون معنى وله في نصراني وسيم لقيه يوم عيد:
توحّد في الحسن من لم يزل ... يثلث والقلب في صدّه
يشفّ لك الماء من كفّه ... ويقتدح النّار من خدّه وهذان البيتان نسبهما له بعض معاشريه، وأبوه صفوان سابق الميدان.
106 - وقال ابن بسام (1) : ساير ابن عمّار في بعض أسفاره غلامان من
__________
(1) بدائع البدائه 2: 130.(3/325)
بني جهور أحدهما أشقر العذار والآخر أخضره.
فجعل يميل بحديثه لمخضر العذار. ثم قال ارتجالاً:
تعلّقته جهوريّ النّجار ... حليّ (1) اللّمى جوهريّ الثنايا
من النّفر البيض أسد الزمان ... رقاق الحواشي كرام السجايا
ولا غرو أن تغرب الشارقات ... وتبقى محاسنها بالعشايا
ولا وصل إلاّ جمان الحديث ... نساقطه من ظهور المطايا
شنأت المثلّث للزعفران ... وملت إلى خضرةٍ في التفايا ومعناه أن ابن عمّار أبغض المثلّث لدخول الزعفران فيه لشبهه بعذار الأشقر منهما، وأحبّ خضرة التفايا (2) ، وهو لون طعام يعمل بالكزبرة، لشبهها بعذار الأخضر منهما.
107 - وقال أبو العرب ابن معيشة الكناني السبتي (3) : أخبرني شيخ من أهل إشبيلية كان قد أدرك دولة آل عبّاد، وكان عليه من أثر كبر السن ودلائل التعمير ما يشهد له بالصدق، وينطق بأن قوله الحق، قال: كنت في صبايّ حسن الصورة، بديع الخلقة، لا تلمحني عين أحد إلاّ ملكت قلبه، وخلبت خلبه، وسلبت لبّه، وأطلت كربه، فبينا أنا واقف على باب دارنا إذا بالوزير أبي بكر ابن عمّار قد أقبل في موكب زّجل، على فرس كالصخرة الصمّاء قدّت من قنّة الجبل، فحين حاذاني ورآني اشرأبّ إليّ ينظرني وبهت يتأملني ثمّ دفع بمخصرة كانت بيده في صدري، وأنشد:
__________
(1) ب: حلو.
(2) راجع شرح التفايا ج 3 ص: 127 الحاشية: 2.
(3) بدائع البدائه 2: 132 وفيه " ابن معوشة ".(3/326)
كفّ هذا النّهد عني ... فبقلبي منه جرح
هو في صدرك نهدٌ ... وهو في صدري رمح 108 - وعبر في البدائع على طريقة القلائد بما صورته (1) : ذكر الفتح بن خاقان ما هذا معناه: أخبرني ذو الوزارتين أبو مطرف ابن عبد العزيز أنّه حضر عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجو فيه أشقر برقه، ورمى بنبل ودقه، وحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها، وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها، والأزهار قد تفتحت عيونها، والكمائم قد ظهر مكنونها، والأشجار قد انصقلت بالقطر، ونشرت ما يفوق ألوان البزّ وبثّت ما يعلو العطر، والراح قد أشرقت نجومها في بروج الراح، وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح، ومديرها قد ذاب ظرفاً فكاد يسيل من إهابه، وأخجل خدّها حسناً فتكلل بعرق حبابه، إذا بفتىً رومي من أصبح فتيان المؤتمن قد أقبل متدرعاً كالبدر اجتاب سحاباً، والخمر اكتست حباباً، والطاووس انقلب حباباً، فهو ملكٌ حسناً إلاّ أنه جسد، وغزالٌ ليناً إلاّ أنّه في هيئة الأسد، وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع كان عوّل فيه عليه، وأمره أن يتوجه إليه، فحين وصل إلى حضرته لمحه ابن عمّار والسكر قد استحوذ على لبّه، وانبثّت سراياه في ضواحي قلبه، فأشار إليه وقرّبه، واستبدع ذلك اللباس واستغربه، وجدّ في أن يستخرج تلك الدرة من ماء ذلك الدّلاص، وأن يجلي عنه سهكه كما يجلى الخبث عن الخلاص، وأن يوفر على ذلك الوفر نعمة جسمه، ويكون هو الساقي على عادته القديمة ورسمه، فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله، واحتذاء أمثاله، فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها، ورمت شياطين النفوس من كمت المدام بشهبها، ارتجل ابن عمّار:
__________
(1) بدائع البدائه 2: 133؛ وانظر النفح ج 1 ص: 654.(3/327)
وهويته يسقي المدام كأنّه ... قمرٌ يدور بكوكبٍ في مجلس
متناوح الحركات يندى عطفه ... كالغصن هزّته الصبا بتنفسّ
يسقي بكأسٍ في أنامل سوسنٍ ... ويدير أخرى من محاجر نرجس
يا حامل السيف الطويل نجاده ... ومصرّف الفرس القصير المحبس
إيّاك بادرة الوغى من فارسٍ ... خشن القناع على عذارٍ أملس
جهمٍ وإن حسر القناع فإنما ... كشف الظلام عن النهار المشمس
يطغى ويلعب في دلال عذاره ... كالمهر يلعب في اللجام المجرس
سلّم فقد قصف القنا غصن النقا ... وسطا بليث الغاب ظبي المكنس
عنّا بكأسك قد كفتنا مقلةٌ ... حوراء قائمةٌ بسكر المجلس وصنع فيه أيضاً:
وأحور من ظباء الروم عاطٍ ... بسالفتيه من دمعي فريد
قسا قلباً وشنّ عليه درعاً ... فباطنه وظاهره حديد
بكيت وقد دنا ونأى رضاه ... وقد يبكي من الطرب الجليد
وإنّ فتىً تملّكه برقٍّ ... وأحرز حسنه لفتىً سعيد انتهى.
109 - وذكر في " البدائع " مؤلفه ما نصه (1) : خرج المعتصم بن صمادح صاحب المرية يوماً إلى بعض متنزهاته، فحلّ بروضة قد سفرت عن وجهها البهيج، وتنفست عن مسكها الأريج، وماست معاطف أغصانها، وتكللت بلؤلؤ الطلّ أجياد قضبانها، فتشوّق إلى الوزير أبي طالب ابن غانم أحد كبراء دولته، وسيوف صولته، فكتب إليه بديهاً بورقة كرنب بعود من شجرة:
__________
(1) البدائع 2: 139، وانظر أيضا 2: 140 للحكاية التالية عن المعتصم.(3/328)
أقبل أبا طالبٍ إلينا ... واسقط سقوط النّدى علينا 110 - وجلس المعتصم بن صمادح المذكور يوماً وبين يديه ساقية قد أخمدت ببردها حرّ الأوار، والتوى ماؤها فيها التواء فضة السوار، فقال ارتجالاً:
انظر إلى الماء كيف انحطّ من صببه ... كأنّه أرقمٌ قد جدّ في هربه 111 - وقال السميسر (1) :
بعوضٌ شربن دمي قهوةً ... وغنيّنني بضروب الأغان
كأنّ عروقي أوتارهنّ ... وجسمي الرباب وهنّ القيان (2) 112 - وأحسن منه قول ابن شرف القيرواني (3) :
لك مجلس كملت بشارة لهونا ... فيه، ولكن تحت ذلك حديث
غنّى الذباب فظلّ يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث 113 - والسابق إلى هذا المعنى أبو [الحسن] أحمد بن أيوب من شعراء اليتيمة إذ قال (4) :
لا أعذل الليل في تطاوله ... لو كان يدري ما نحن فيه نقص
لي والبراغيث والبعوض إذا ... أجنّنا (5) حندس الظلام قصص
إذا تغنّى بعوضه طرباً ... أطرب (6) برغوثه الغنا فرقص
__________
(1) البدائع 2: 176.
(2) زاد في مطبوعة التجارية بعد هذين البيتين مقطوعتين في البرغوث والبعوض يظهر أنهما من زيادات النساخ.
(3) البدائع 2: 176 والمطرب: 70 ومعجم الأدباء: 19: 38.
(4) بدائع البدائه 2: 176 واليتيمة 4: 383، ومنه تصويب الاسم.
(5) اليتيمة: ألحفنا.
(6) اليتيمة: ساعد.(3/329)
114 - ونحو هذا قول الحصري فيما نسبه إليه ابن دحية (1) :
ضاقت بلنسيةٌ بي ... وذاد عني غموضي
رقص البراغيث فيها ... على غناء البعوض رجع إلى أهل الأندلس، فنقول:
115 - كان ابن سعد الخير البلنسي الشاعر كثير الذهول، مفرط النسيان، ظاهر التغفل، على جوده نظمه، ورطوبة طبعه، وكان كثيراً ما يسلك سكة الإسكافيين الذين يعملون الخفاف على بغلة له، فاتخذت البغلة النفور من أطراف الأدم وفضلات الجلود الملقاة في السكة عادةً لها، واتفق أن عبر في السكة راجلاً، ومعه جماعة من أصحابه، فلمّا رأى الجلود الملقاة قفز ووثب راجعاً
على عقبيه، فقال له أصحابه: ما هذا أيها الأستاذ فقال: البغلة نفرت، فعجبوا من تخلّفه وتغفله كيف ظن مع ما يقاسيه من ألم المشي ونصب التعب أنه راكب وأن حركته الاختيارية منه حركة الدابة الضرورية له، فكان تغفله ربما أوقعه في تهمة عند من لم يعرفه، فاقترح عليه بعض الأمراء أن يصنع بيتين أول أحدهما كتاب وآخره ذئب، وأول الآخر جوارح وآخره أنابيب، فصنع بديهاً:
كتاب نجيعٍ (2) لاح في حومة الوغى ... وقارنه نسرٌ هنالك أو ذيب
جوارح أهليه حروفٌ وربما ... تولّته من نقط الطعان أنابيب 116 - وقال الحميدي (3) : ذكر لي أبو بكر المرواني أنه شاهد محبوباً الشاعر النحوي قال بديهة في صفة ناعورة:
__________
(1) المطرب: 94 وبدائع البدائه 2: 176.
(2) م: نجيح.
(3) الجذوة: 328.(3/330)
وذات حنينٍ ما تغيض جفونها ... من اللجج الخضر الصوافي على شطّ
وتبكي فتحيي من دموع جفونها ... رياضاً تبدّت بالأزاهر (1) في بسط
فمن أحمرٍ قانٍ وأصفر فاقعٍ ... وأزهر مبيضٍّ وأدكن مشمطّ
كأنّ ظروف الماء من فوق متنها ... لآلي جمانٍ قد نظمن على قرط وقال أبو الخطاب ابن دحية (2) : دخلت على الوزير الفقيه الأجلّ أبي بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور السلمي، فوقع الكلام في علوم لم تكن من جنس فنونه، فقال بديهاً:
أيها العالم ادّركني سماحاً ... فلمثلي يحقّ منك السماح
إن تخلني إذا نطقت عييّاً ... فبناني إذا كتبت وقاح
أحرز الشأو في نظامٍ ونثرٍ ... ثمّ أثني وفي العنان جماح
فبهزلٍ كما تأوّد غصنٌ ... وبجدٍّ كما تهزّ الصفاح وقال (3) : دخلت عليه منزله بشاطبة في اليوم الذي توفي فيه وهو يجود بنفسه، فأنشد بديهاً:
أيها الواقف اعتباراً بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميم
أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوبٍ كلومها بأديمي
ودعوني بما اكتسبت رهيناً ... غلق الرهن عند مولى كريم 118 - وقال ابن طوفان (4) : دعا أبي أبا الوليد النّحلي، فلمّا قضوا وطرهم من الطعام سقيتهم، وجعلت أترع الكاسات، فلمّا مشت في النّحلي
__________
(1) الجذوة: من أزاهير.
(2) بدائع البدائه 2: 171، ولم ترد في المطرب.
(3) المصدر نفسه: 172.
(4) بدائع البدائه 2: 191، وفي ب: طفوان.(3/331)
سورة الحميّا ارتجل:
لابن طوفانٍ أيادٍ ... قلّ فيها مشبهوه
ملأ الكاسات حتّى ... قيل في البيت أبوه ونظيره قول المنفتل (1) من شعراء الذخيرة في الشاعر ابن الفراء:
فإذا ما قال شعراً ... نفقت سوق أبيه 119 - وذكر في " بدائع البدائه " (2) أن جماعة من الشعراء في أيّام الأفضل خرجوا متنزهين إلى الأهرام ليروا عجائب مبانيها، ويتأملوا ما سطره الدّهر من العبر فيها، فاقترح بعض من كان معهم العمل فيها، فصنع أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي:
بعيشك هل أبصرت أعجب منظراً ... على ما رأت عيناك من هرمي مصر
أنافا بأعنان (3) السّماء فأشرفا ... على الجوّ إشراف السماك أو النسر
وقد وافيا نشزاً من الأرض عالياً ... كأنهما نهدان قاما على صدر وصنع أبو منصور ظافر الحداد:
تأمّل هيئة الهرمين وانظر ... وبينهما أبو الهول العجيب
كعماريتين (4) على رحيلٍ ... بمحبوبين بينهما رقيب
وفيض البحر عندهما دموعٌ ... وصوت الريح بينهما نحيب
وظاهر سجن يوسف مثل صبٍّ ... تخلّف فهو محزون كئيب
__________
(1) المصدر السابق: 192.
(2) المصدر نفسه 1: 243 وانظر نوادر المخطوطات 1: 26.
(3) م: بأسباب؛ البدائع: بأكناف.
(4) العمارية: الهودج.(3/332)
120 - وقال ابن بسام (1) : كان للمتوكل ابن الأفطس فرس أدهم أغر محجل على كفله ست نقط بيض، فندب المتوكل الشعراء لصفته، فصنع النّحلي أبو الوليد فيه بديهاً:
ركب البدر جواداً سابحاً ... تقف الريح لأدنى مهله
لبس الليل قميصاً سابغاً ... والثريّا نقطٌ في كفله
وغدير الصبح قد خيض به ... فبدا تحجيله من بلله
كلّ مطلوبٍ وإن طالت به ... رجله من أجله في أجله ثمّ انتدب الشعراء بعد ذلك للعمل فيه، فصنع ابن اللبّانة:
لله طرفٌ جال يا ابن محمّدٍ ... فحبت (2) به حوباؤه التأميلا
لمّا رأى أنّ الظّلام أديمه ... أهدى لأربعه الهدى تحجيلا
وكأنما في الردف منه مباسمٌ ... تبغي هناك لرجله تقبيلا وقال فيه أبو عبد الله ابن عبد البر الشنتريني من قطعة:
وكأنما عمرٌ على صهواته ... قمرٌ تسير به الرياح الأربع ويعني بعمر المتوكل المذكور لأن اسمه عمر.
121 - وقال أحمد بن عبد الرحمن بن الصقر الخزرجي قاضي إشبيلية:
لله إخوانٌ تناءت دراهم ... حفظوا الوداد على النوى أو خانوا
يهدي لنا طيب الثناء ودادهم ... كالندّ يهدي الطيب وهو دخان
__________
(1) البدائع 1: 260.
(2) البدائع: فجنت؛ ب: فجبت.(3/333)
[أخبار عن المروانيين]
122 - وحكي أن أيوب بن سليمان السهيلي المرواني حضر يوماً عند ابن باجة والشاعر أبو الحسن ابن جودي هناك، فتكلم المرواني بكلام ظهر فيه نبل وأدب، فتشوف أبو الحسن ابن جودي لمعرفته، وكان إذ ذاك فتيّ السن، فقال له: من أنت أكرمك الله تعالى فقال: هلا سألت غيري عني فيكون ذلك أحسن لك أدباً ولي توقيراً، فقال ابن جودي: قد سألت من المعرف عنك فلم يعرفك، فقال: يا هذا، لطالما مر علينا زمان يعرفنا من يجهل، ولا يحتاج من يرانا فيه إلى أن يسأل، وأطرق ساعة، ثمّ رفع رأسه وأنشد:
أنا ابن الألى قد عوّض الدهر عزّهم ... بذلٍّ وقلوا واستحبّوا التنكرا
ملوكٌ على مرّ الزمان بمشرقٍ ... وغربٍ دهاهم دهرهم وتغيّرا
فلا تذكرنهم بالسؤال مصابهم ... فإن حياة الرّزء أن يتذكّرا ففطن ابن جودي أنه منبني مروان، فقام وقبّل رأسه، واعتذر إليه، ثمّ انصرف المرواني، فقال ابن باجة لابن جودي: أساء أدبك بعد ما عهدت منك كيف تعمد إلى رجل في مجلسي تراني قد قربته وأكرمته وخصصته بالإصغاء إلى كلامه فتقدم عليه بالسؤال عن نفسه فاحذر أن تكون لك عادة، فإنها من أسوء الأدب، فقال ابن جودي: لم أزل من الشيخ على ما قاله أبو تمام:
نأخذ من ماله ومن أدبه (1) ... 123 - وحكي أن بكاراً المرواني (2) لمّا ترك وطنه وخرج في الجهاد وقتل، قال صاحب السقط: إنه اجتمع به في أشبونة فقال: قصدت منزله بها، ونقرت
__________
(1) صدر البيت: ننقل أسبابنا إلى ملك.
(2) انظر أخبار بكار وأشعاره في المغرب 1: 415.(3/334)
الباب، فنادى: من هذا فقلت: رجل ممّن يتوسل لرؤيتك بقرابة، فقال: لا قرابة إلاّ بالتقى، فإن كنت من أهله فادخل، وإلاّ فتنحّ عني، فقلت: أرجو في الاجتماع بك والاقتباس منك أن أكون من أهل التقى، فقال: ادخل، فدخلت عليه فإذا به في مصلاّه وسبحة أمامه، وهو يعدّ حبوبها ويسبّح فيها، فقال لي: ارفق عليّ حتّى أتمم وظيفتي من هذا التسبيح، وأقضي حقك، فقعدت إلى أن فرغ، فلمّا قضى شغله عطف عليّ وقال: ما القرابة التي بيني وبينك فانتسبت له، فعرف أبي وترحّم عليه، وقال لي: لقد كان نعم الرجل، وكان لديه أدب ومعرفة، فهل لديك أنت ممّا كان لديه شيءٌ فقلت له: إنه كان يأخذني بالقراءة وتعلّم الأدب، وقد تعلقت من ذلك (1) بما أتميز به، فقال لي: هل تنظم شيئاً قلت: نعم، وقد ألجأني الدّهر إلى أن أرتزق به، فقال: يا ولدي إنه بئسما يرتزق به، ونعم ما يتحلى به إذا كان على غير هذا الوجه، وقد قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: " إنّ من الشّعر لحكمةً " ولكن تحلّ الميتة عند الضرورة، فأنشدني أصلحك الله تعالى ممّا على ذكرك من شعرك، قال: فطلبت بخاطري شيئاً أقابله به ممّا يوافق حاله فما وقع لي إلاّ فيما لا يوافقه من مجون ووصف خمر وما أشبه ذلك، فأطرقت قليلاً، فقال: لعلك تنظم، فقلت: لا ولكن أفكر فيما أقابلك به، فقولي أكثره فيما حملني عليه الصّبا والسخف، وهو لائق بغير مجلسك، فقال: يا بني، ولا هذا كله، إنّا لا نبلغ من تقوى الله إلى حدّ نخرج به عن السلف الصالح، وإذا صح عندنا أن عبد الله ابن عباس ابن عم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، ومفسر كتاب الله تعالى ينشد مثل قول القائل:
إن يصدق الطير ننك لميسا ...
__________
(1) م: بذلك.(3/335)
فمن نحن حتّى نأبى أن نسمع مثل هذا والله لا نشذ عن السلف الصالح، أنشدني ما وقع لك غير متكلف، فلم يمدني خاطري إلى غير قولي من شعر أمجن فيه:
أبطأت عنّي، وإني ... لفي اشتياقٍ شديد
وفي يدي لك شيء ... قد قام مثل العمود
لو ذقته مرة لم ... تعد لهذا (1) الصدود فتبسم الشيخ وقال: أما كان في نظمك أطهر من هذا فقلت له: ما وفقّت لغيره، فقال: لا بأس عليك، فأنشدني غيره، ففكرت إلى أن أنشدته قولي:
ولمّا وقفت على ربعهم ... تجرعت وجدي بالأجرع
وأرسل دمعي شرار الدموع ... لنارٍ تأجّج في الأضلع
فقال عذولي، لمّا رأى ... بكائي: رفقاً على الأدمع
فقلت له: هذه سنّةٌ ... لمن حفظ العهد في الأربع قال: فرأيت الشيخ قد اختلط، وجعل يجيء ويذهب ثمّ أفاق وقال: أعد بحقّ آبائك الكرام، فأعدت فأعاد ما كان فيه وجعل يردده، فقلت له: لو علمت أن هذا يحركك ما أنشدتك إيّاه، فقال: وهل حرك مني إلاّ خيراً وعظة يا بني إن هذه القلوب المخلاة لله كالورق التي جفت، وهي مستعده لهبوب الرياح، فإن هبّ عليها أقلّ ريحٍ لعب بها كيف شاء، وصادف منها طوعه، فأعجبني منزعه، وتأنست به، ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء المتدينين من الإنجماح والانكماش، بل ما زال يبسطني ويحدثني بأخبار فيها هزل، ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له، ولا أعلم أكثره، فلمّا كثر تأنسي به
__________
(1) م: تصد هذا.(3/336)
أهويت إلى يده كي أقبّلها، فضمها بسرعة، وقال: ما شأنك فقلت: راغباً لك في أن تنشدني شيئاً من نظمك، فقال: أما نظمي في زمان الصبا فكان له وقت ذهب، ويجب للنظم أن يذهب معه، وأمّا نظمي في هذا الوقت فهو فيما أنا بسبيله، وهو يثقل عليك، فقلت له: إن أنصف سيدي الشيخ نفعنا الله تعالى به أنشدني من نظم صباه، ومن نظم شيخوخته (1) ، فيأخذ كلانا بحظه، فضحك وقال: ما أعصيك وأنت ضيف وقريب ولك حرمة أدب ووسيلة قصد، ثمّ أنشدني وقد بدا عليه الخشوع وخنقته العبرة:
ثق بالذي سوّاك من ... عدمٍ فإنّك من عدم
وانظر لنفسك قبل قر ... ع السنّ من فرط الندم
واحذر وقيت من الورى ... واصحبهم أعمى أصم
قد كنت في تيهٍ إلى ... أن لاح لي أهدى علم
فاقتدت نحو ضيائه ... حتّى خرجت من الظّلم
لكن قناديل الهوى ... في نور رشدي كالحمم قال: فوالله لقد أدركني فوق ما أدركه، وغلب على خاطري بما سمعت من هذه الأبيات، وفعلت بي من الموعظة غاية لم أجد منها التخلص إلاّ بعد حين، فقال لي الشيخ: إن هذه يقظة يرجى معها خيرك، والله مرشدك ومنقذك، ثمّ قال لي: يا بني هذا ما نحن بسبيله الآن، فاسمع فيما مضى والله وليّ المغفرة، وإنّا لنرجو منه غفران الفعل، فكيف القول، وأنشد:
أطلّ عذارٌ على خدّه ... فظنّوا سلوّي عن مذهبي
وقالوا غرابٌ لوشك النوى ... فقلت اكتسى البدر بالغيهب
وناديت قلبي أين المسير ... وبدر الدجى حلّ في العقرب
__________
(1) ق ب: شيخه.(3/337)
فقال ولو رمت عن حبّه ... رحيلاً عصيت ولم أذهب قال: فسمعت ما يقصر عنه صدور الشعراء، وشهدت له بالتقدم، وقلت له: لم أر أحسن من نظمك في جدٍّ ولا هزل، ثمّ قلت له: أأرويه عنك فقال: نعم، ما أرى به بأساً بعد اطلاع من يعلم السرائر، على ما في الضمائر، فما قدر هذه الفكاهة في إغضاء من يغفر الكبائر، ويغضي عن العظائم قال: فقلت له: فإن أسبغت عليّ النعمة بزيادة شيء من هذا الفن فعلت ما تملك به قلبي آخر الدّهر، فقال: يا بني لا ملك قلبك غير حب الله تعالى، ثمّ قال: ولا أجمع عليك ردّ قول ومنعاً، وأنشد:
أيها الشادن الذي ... حسنه في الورى غريب
لحظ ذاك الجمال يط ... فىء ما بي من اللهيب
وعليه أحوم ده ... ري ولكنّني أخيب
كلّما رمت زورةً ... قيّض الله لي رقيب قال: فمازج قلبي من الرقة واللطافة لهذا الشعر ما أعجز عن التعبير عنه، فقلت له: زدني زادك الله تعالى خيراً، فأنشدني:
ما كان قلبي يدري قدر حبّكم ... حتّى بعدتم فلم يقدر على الجلد
وكنت أحسب أنّي لا أضيق به ... ذرعاً فما حان حتّى فتّ في عضدي
ثمّ استمرّت على كرهٍ مريرته ... فكاد يفرق بين الروح والجسد
عساكم أن تلاقوا باللقا رمقي ... فليس لي مهجةٌ تقوى على الكمد ثمّ قال: حسبك، وإن كلفتني زيادة فالله حسبك، فقلت له: قد وكلتني إلى كريم غفور رحيم، فبالله إلاّ مازدتني، وأكببت لأقبّل رجليه، فضمهما وأنشد:(3/338)
لله من قال لمّا ... شكوت فيه نحولي
أمّا السبيل لوصولٍ ... فما له من وصول
فقلت حسبي التماحٌ ... بحسن وجهٍ جميل
وجهٌ تلوح عليه ... علامةٌ للقبول
فقال دعني فهذا ... تعرّضٌ للفضول
فقلت عاتب وخاطب ... بالأمن أهل العقول فملأ سمعي عجائب، وبسط أنسي، وكتبت كل ما أنشدني، ثمّ قلت له: لولا خوفي من التثقيل عليك لم أزل أستدعي منك الإنشاد حتّى لا تجد ما تنشد، فقال: إن عدت إن شاء الله تعالى إلى هنا تذكرت، وأنشدتك، فما عندي ممّا أضيفك غير ما سمعت، وما تراه، ثمّ قام وجاء من بيت آخر في داره بصحفة فيها حساً من دقيق وكسور باردة، فجعل يفتّ فيها، ثمّ أشار إليّ أن أشرب فشبت ثم شرب إلى أن أتينا على آخرها (1) ، ثمّ قال لي: هذا غذاء عمك نهاره، وإنه لنعمة من الله تعالى أستديم بشكرها اتصالها، قال: فقلت له: يا عم، ومن أين عيشك فقال: يا بني، عيشي بتلك الشبكة أصطاد بها في سواحل البحر ما أقتات به، ولي زوجة وبنت يعود من غزلهما مع ذلك ما نجد فيه معونة، وهذا مع العافية والاستغناء عن النّاس خيرٌ كثير، جعلنا الله تعالى ممّن يلقاه على حالة يرضاها، وختم لنا بخاتمة لا يخاف معها فضيحة. قال: فتركته وقمت وفي نيّتي أن أعود إلى زيارته، ونويت أن يكون ذلك بعد أيّام خوف التثقيل، فعدت إليه بعد ثلاثة أيّام، فنقرت الباب، فكلمتني المرأة بلسان عليه أثر حزن، وقالت: إن الشيخ خرج إلى الغزو، وذلك بعد انفصالك عنه بيوم، ناله كالجنون، فقلت له: ما شأنك فقال: أريد أن أموت شهيداً في الغزو، وهؤلاء جيران لي قد
__________
(1) ب: على آخره.(3/339)
عزموا على الغزو، وأنا إن شاء الله تعالى ماضٍ معهم، ثمّ احتل في سيفٍ ورمح وتوّجه معهم، وقال: نفسي هي التي قتلتني بهواها، أفلا أقتصّ منها فأقتلها قال: فقلت لها: ومن خلف للنظر في شأنكم فقالت: ليس ذلك لك، فالذي خلقنا لا نحتاج معه إلى غيره، فأدركني من جوابها روعة، وعلمت أنها مثله زهداً وصلاحاً، فقلت: إني قريبه، ويجب أن عليّ أن أنظر في حالكم بعده، فقالت: يا هذا إنك لست بذي محرم، ولنا من العجائز من ينظر منا ويبيع غزلنا ويتفقد أحوالنا، فجزاك الله تعاىل عنّا خيراً، انصرف عنّا مشكوراً، فقلت لها هذه دراهم خذوها تستعينوا بها، فقالت ما اعتدنا أن نأخذ شيئاً من غير الله تعالى، وما كان لنا أن نخلّ بالعادة، فانصرفت نادماً على ما فاتني من الاستكثار من شعر الشيخ والتبرك بزيادة دعائه، ثمّ عدت بعد ذلك لدياره سائلاً عنه، فقالت لي المرأة: إنه قد قبله الله تعالى، فعلمت أنه قد قتل، فقلت لها: أقتل فقرأت: " ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله00 الآية " فانصرفت معتبراً من حاله، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به. وكانت للمروانيين بالأندلس يد عليا، في الدين والدنيا.
انتهى.
124 - وقال محمد بن أيوب المرواني، لمّا كلّف قوماً حاجة له سلطانية فما نهضوا بها فكلّفها رأس بني مروان القائد سعيد بن المنذر، فنهض بها:
نهضت بما سألتك غير وانٍ ... وقد صعبت لسالكها الطريق
وليس يبين فضل المرء إلاّ ... إذا كلّفته ما لا يطيق وعتبه يوماً سعيد بن المنذر في كونه يتعرض لمدح خدام بني مروان، فقال له: أعز الله تعالى القائد الوزير، إنكم جعلتموني ذنباً وجعلوني رأساً، والنفس تتوق إلى من يكرمها وإن كان دونها أكثر منها إلى من يهينها وإن كان فوقها(3/340)
وإني من هذا وهذا في أمر لا يعلمه إلاّ الذي أبلاني به، ويا ويح الشجيّ من الخليّ، وأنا الذي أقول فيما يتخلل هذا المنزع:
نسبت لقومٍ ليتني نجل غيرهم ... فلي نسبٌ يعلو وحظي يسفل
أقطّع عمري بالتعلّل والمنى ... وكم يخدع المرء اللبيب التعلّل
فما لي مكانٌ أرتضيه لهمّة ... ولا مال منه أستعفّ وأفضل
ولكنني أقضي الحياة تجمّلاً ... وهل يهلك الإنسان إلاّ التجمّل فقال له: سعيد قصدنا لومك فعطف اللائمة علينا، ونحن أحق بها، وسننظر إن شاء الله تعالى فيما يرفع اللوم عن الجانبين، ثمّ تكلم مع الناصر في شأنه، فأجرى له رزقاً أغناه عن التكفف، فكانت هذه من حسنات سعيد وأياديه.
125 - وقال المطرف بن عمر (1) المرواني يمدح المظفر بن المنصور بن أبي عامر:
إنّ المظفّر لا يزال مظفّراً ... حكماً من الرحمن غير مبدّل
وهو الأحقّ بكلّ ما قد حازه ... من رفعةٍ ورياسةٍ وتفضّل
تلقاه صدراً كلمّا قلّبته ... مثل السنان بمحفلٍ وبجحفل وحضر يوماً مع شاعر الأندلس في زمانه ابن دراج القسطليّ، فقال له القسطليّ: أنشدني أبياتك التي تقول فيها " على قدر ما يصفو الخليل يكدّر ".
فأنشده:
تخيّرت من بين الأنام مهذّباً ... ولم أدر أني خائبٌ حين أخبر
فمازجني كالراح للماء، واغتدى ... على كل ما جشّمته يتصبر
__________
(1) ب: عمير.(3/341)
إلى أن دهاني إذ أمنت غروره ... سفاهاً وأدّاني لما ليس يذكر
وكدّر عيشي بعد صفوٍ، وإنما ... على قدر ما يصفو الخليل يكدّر فاهتزّ القسطليّ وقال: والله إنّك في هذه الأبيات لشاعر، وأنا أنشدك فيما يقابلها لبلال بن جرير:
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدهم ... يوم الفراق فعلت ما لم أفعل ولكن جعل نفسه فاعلاً وعرّضت نفسك لأن يقال: إنّك مفعول، فقال: ومن أين يلوح ذلك فقال القسطليّ: من قولك " وأدّاني لما ليس يذكر " فما يظن في ذلك إلاّ أنّه أداك إلى موضع فعل بك فيه، فاغتاظ الأموي وقال: بني مروان يحملنا على أن نخرق العادة في الحمل على مكارمهم، فسكن غيظه.
وكتب المرواني المذكور إلى صاحب له يستعير منه دابة يخرج عليها للفرجة والخلاعة: أنهض الله تعالى سيدي بأعباء المكارم، إنّ هذا اليوم قد تبسم أفقه، بعدما بكى ودقه، وصقلت أصداء أوراقه، وفتحت أحداق حدائقه، وقام نوره خطيباً على ساقه، وفضضت غدرانه، وتوّجت أغصانه، وبرزت شمسه من حجابها، بعدما تلفعت بسحابها، وتنبّه في أرجاء الروض أرج النسيم، وعرف في وجهه نضرة النعيم، وقد دعا كلّ هذا ناظر أخيك إلى أن يجيله في هذه المحاسن، ويجددّ نظره في المنظر الذي هو غير مبتذل والماء الذي هو غير آسن، والفحص اليوم أحسن ما ملح، وأبدع ما حرن فيه وجمح، فجد لي بإعارة ما أنهض عليه لمشاهدته ويرفع عني خجل الابتذال، بمناكفة الأنذال، لا زلت نهّاضاً بالآمال، مسعفاً بمراد كل خليل غير مقصر ولا آل.
126 - وكتب الأمير هشام بن عبد الرحمن إلى أخيه عبد الله المعروف بالبلنسي حين فرّ كتاباً يقول في بعض فصوله: والعجب من فرارك دون أن(3/342)
ترى شيئاً. فخاطبه بجواب يقول فيه: ولا تتعجب من فراري دون أن أرى شيئاً؛ لأنني خفت أن أرى ما لا أقدر على الفرار بعده، ولكن تعجب مني أن حصلت في يدك بعدما أفلتّ منك.
وقال له وزيره أحمد بن شعيب البلنسي: أليس من العار أن يبلغ بك الخور من هذا الصبي أن تجعل بينك وبينه البحر، وتترك بلاد ملكك وملك أبيك فقال: ما أعرف ما تقول، وكل ما وقي به إتلاف النفس ليس بعار، بل هو محض العقل، وأوّل ما ينظر الأديب في حفظ رأسه، فإذا نظر في ذلك نظر فيما بعده.
127 - وقال عبد الله بن بعد العزيز الأموي ويعرف بالحجر (1) :
اجعل لنا منك حظّاً أيها القمر ... فإنما حظّنا من وجهك النظر
رآك ناسٌ فقالوا: إنّ ذا قمرٌ ... فقلت: كفّوا فعندي منهما الخبر
البدر ليس بغير النّصف بهجته ... حتّى الصباح وهذا كلّه (2) قمر 128 - وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان ابن سراج (3) :
وكم من حديثٍ للنبيّ أبانه ... وألبسه من حسن منطقه وشياً
وكم مصعبٍ للنحو قد راض صعبه ... فعاد ذلولاً بعدما كان قد أعيا 129 - وحكي أنه دخل بعض شعراء الأندلس على الفقيه سعيد بن أضحى، وكان من أعيان غرناطة، فمدحه بقصيدة، ثمّ بموشّحة، ثمّ بزجل، فلم
__________
(1) الجذوة: 244 (وبغية الملتمس رقم: 933) .
(2) الجذوة: البدر ليلة نصف الشهر.... وهذا دهره.
(3) الذخيرة 1 / 2: 317.(3/343)
يعطه شيئاً، بل شكا إليه فقراً، حتّى إنه بكى، فأخذ الدواة والقرطاس وكتب ووضع بين يديه:
شكا مثال الذي أشكوه من عدمٍ ... وساءه مثل ما قد ساءني فبكى
إنّ المقلّ الذي أعطاك دمعته ... نعم الجواد فتىً أعطاك ما ملكا 130 - وقال ابن خفاجة (1) :
نهرٌ كما سال (2) اللّمى سلسال ... وصباً بليلٌ ذيلها مكسال
ومهبّ نفحة روضةٍ مطلولةٍ ... فيها لأفراس النسيم (3) مجال
غازلته والأقحوانة مبسمٌ ... والآس صدغٌ والبنفسج خال وقال (4) :
وساقٍ كحيل الطّرف (5) في شأو حسنه ... جماحٌ، وبالصبر الجميل حران
ترى للصّبا ناراً بخدّيه لم يثر ... لها من سوادي عارضيه دخان
سقانا وقد لاح الهلال عشيّةً ... كما اعوجّ في درع الكميّة سنان
عقاراً نماها الكرم فهي كريمةٌ ... ولم تزن بابن المزن فهي حصان
وقد جال من جون الغمامة أدهمٌ ... له البرق سوطٌ والعنان عنان
وضمّخ ردع الشمس نحر حديقة ... عليه من الطّلّ السقيط جمان
ونمّت بأسرار الرياض خميلةٌ ... لها النّور ثغرٌ والنسيم لسان
__________
(1) ديوان ابن خفاجة: 119 والنفح 3: 202.
(2) الديوان: ساغ.
(3) الديوان: في جلهتيها للنسيم.
(4) ديوان ابن خفاجة: 235 وقد تقدمت الأبيات ص: 202 من هذا المجلد.
(5) ديوانه: لخيل اللحظ؛ وهو أصوب.(3/344)
وقال في وصف فرس أصفر، ولم يخرج عن طريقته (1) :
وأشقرٍ تضرم منه الوغى ... بشعلةٍ من شعل الباس
من جلّنارٍ ناضرٍ لونه ... وأذنه من ورق الآس
يطلع للغرة في شقرةٍ ... حبابةً تضحك في الكاس 131 - وقال أبو بكر يحيى (2) بن سهل اليكي يهجو:
أعد الوضوء إذا نطقت به ... مستعجلاً من قبل أن تنسى
واحفظ ثيابك إن مررت به ... فالظلّ منه ينجّس الشّمسا 132 - وقال ابن اللّبّانة (3) :
أبصرته قصّر في المشيه ... لمّا بدت في خدّه لحيه
قد كتب الشّعر على خدّه ... " أو كالّذي مرّ على قريه " 133 - وقال الوزير الكاتب أبو محمد [ابن] عبد الغفور الإشبيلي في الأمير أبي بكر سير من أمراء المرابطين، وكتب بها إليه في غزاة غزاها (4) :
سر حيث سرت يحلّه النّوار ... وأراك فيه مرادك المقدار
وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامةٌ ... وغمامةٌ لا ديمةٌ مدرار
تنفي الهجير بظلّها وتنيم بال ... رشّ القتام وكيف شئت تدار
وقضى الإله بأن تعود مظفّراً ... وقضت بسيفك نحبها (5) الكفّار
__________
(1) ديوانه: 123 ومرت الأبيات ص: 202 من هذا المجلد.
(2) في الأصول: محمد، وهو خطأ اقتضى التصويب.
(3) القلائد: 252.
(4) القلائد: 163 والمغرب 1: 137.
(5) ب م: نحوها.(3/345)
هذا غير ما تمناه الجعفي حيث قال (1) : حيث ارتحلت وديمة (2) ، وما تكاد تنفذ معها عزيمة، وإذا سفحت على ذي سفر، فما أحراها بأن تعوق عن الظفر، ونعتها بمدرار، فكان ذلك أبلغ في الإضرار، وما أحسن قول القائل:
فسر ذا رايةٍ خفقت بنصرٍ ... وعد في جحفلٍ بهج الجمال
إلى حمصٍ فأنت بها حليٌّ ... تغاير فيه ربّات الحجال 134 - وقال الحجاري في " المسهب ": كتبت إلى القاضي أبي عبد الله محمد اللوشي أستدعي منه شعره لأكتبه في كتابي، فتوقّف عن ذلك وانقبض عني، فكتبت إليه:
يا مانعاً شعره عن سمع ذي أدب ... نائي المحلّ بعيد الشخص مغترب
يسير عنك به في كلّ متّجهٍ ... كما يمرّ نسيم الريح بالعذب
إنّي وحقّك أهلٌ أن أفوز به ... واسأل فديتك عن ذاتي وعن أدبي فكان جوابه:
يا طالباً شعر من لم يسم في الأدب ... ماذا تريد بنظم غير منتخب
إنّي وحقّك لم أبخل به صلفاً ... ومن يضنّ على جيدٍ بمخشلب
لكنني صنت قدري عن روايته ... فمثلّه قلّ عن سامٍ إلى الرّتب
خذه إليك كما أكرهت مضطرباً ... محلّلاً ذمّ مولاه مدى الحقب قال: ثمّ كتب لي ممّا أتحفني به من نظمه محاسن أبهى من الأقمار، وأرقّ من نسيم الأسحار.
__________
(1) القلائد: هذا ما تمناه الولي ما تمناه الجعفي حيث قال.
(2) يريد قول المتنبي:
وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار(3/346)
135 - وقال صالح بن شريف في البحر وهو أحسن ما قيل فيه:
البحر أعظم ممّا أنت تحسبه ... من لم ير البحر يوماً ما رأى العجبا
طامٍ له حببٌ طافٍ على زرقٍ ... مثل السّماء إذا ما ملّئت (1) شهبا وقال أيضاً:
ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره
يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحرّ أسراره
لا سيّما إن كان في غربةٍ ... يحتاج أن يعرف مقداره 136 - وقال ابن برطله (2) :
خطوب زماني ناسبتني غرابةً ... لذلك يرميني بهنّ مصيب
غريبٌ أصابته خطوبٌ غريبةٌ ... " وكلّ غريبٍ للغريب نسيب " وهذا من أحسن التضمين، الذي يزري بالدّرّ الثمين.
137 - ودخل ابن بقيّ الحمّام وفيه الأعمى التّطيلي فقال له: أجز (3) :
حمّامنا كزمان القيظ محتدمٌ ... وفيه للبرد صرٌّ غير ذي ضرر فقال الأعمى:
ضدّان ينعم جسم المرء بينهما ... كالغصن ينعم بين الشمس والمطر ولا يخفى حسن ما قال الأعمى.
__________
(1) م: حليت.
(2) م: برطالة.
(3) انظر مطالع البدور 2: 10.(3/347)
وقد ذكر في " بدائع البدائه " (1) البيتين معاً منسوبين إلى ابن بقيّ، ولنذكر كلامه برمته لما اشتمل عليه من الفوائد، ونصه: ذكر ابن بسام قال: دخل الأديبان أبو جعفر ابن هريرة التّطيلي المعروف بالأعمى وأبو بكر ابن بقيّ الحمام، فتعاطيا العمل فيه، فقال الأعمى:
يا حسن حمّامنا وبهجته ... مرأى من السحر كلّه حسن
ماءٌ ونارٌ حواهما كنفٌ ... كالقلب فيه السرور والحزن ثمّ أعجبه المعنى فقال:
ليس على لهونا مزيد ... ولا لحمّامنا ضريب
ماء وفيه لهيب نارٍ ... كالشمس في ديمةٍ تصوب
وابيّض من تحته رخامٌ ... كالثلج حين ابتدا يذوب وقال ابن بقيّ:
حمّامنا فيه فصل القيظ ... البيتين
فقال الأعمى وقد نظر فيه إلى فتّى صبيح:
هل استمالك جسم ابن الأمير وقد ... سالت عليه من الحمّام أنداء
كالغصن باشر حرّ النار من كثبٍ ... فظلّ يقطف من أعطافه الماء [وصف حمّام مشرقي]
قلت: تذكرت هنا عند ذكر الحمّام ما حكاه بدر الدين الحسن بن زفير الإربلي المتطبب إذ قال (2) : رأيت في بغداد في دار الملك شرف الدين هرون ابن
__________
(1) البدائع 1: 242 والذخيرة 1 / 1: 258.
(2) مطالع البدور 2: 8.(3/348)
الوزير الصحب شمس الدين محمد الجويني حمّاماً متقن الصنعة، حسن البناء، كثير الأضواء، قد احتفّت به الأزهار والأشجار، فأدخلني إليه سائسه، وذلك بشفاعة الصاحب بهاء الدين بن الفخر عيسى المنشىء الإربلي، وكان سائس هذا الحمّام خادماً حبشياً كبير السن والقدر، فطاف بي عليه، وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية وبعضها على هيئة طائر إذا خرج منها الماء صوّت بأصوات طيبة، ومنها أحواض رخام بديعة الصنعة والمياه تخرج من سائر الأنابيب إلى الأحواض ومن الأحواض إلى بركة حسنة الإتقان، ثمّ منها إلى البستان، ثمّ أراني نحو عشر خلوات، كلّ خلوة صنعتها أحسن من صنعة أختها، ثمّ انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد، ففتحه، ودخل بي إلى دهليز طويل كلّه مرخم بالرخام الأبيض الساذج، وفي صدر الدهليز خلوة مربعة تسع بالتقريب نحو أربعة أنفس إذا كانوا قعوداً وتسع اثنين إذا كانوا نياماً، ورأيت من العجائب في هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالاً لا فرق بينه وبين صقال المرآة، يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها، ورأيت أرضها مصورة بفصوص حمر وصفر وخضر ومذهبة وكلّها متخذة من بلّور مصبوغ بعضه أصفر وبعضه أحمر، فأما الأخضر فيقال إنّه حجارة تأتي من الروم، وأما المذهب فزجاج ملبس بالذهب، وتلك الصورة في غاية الحسن والجمال، على هيئات مختلفة في اللون وغيره، وهي ما بين فاعل ومفعول به، إذا نظر المرء إليها تحركت شهوته، وقال لي الخادم السائس: هذا صنع على هذه الصفة لمخدومي، حتّى إنّه إذا نظر إلى ما يفعله هؤلاء بعضهم مع بعض من المجامعة والتقبيل ووضع أيدي بعضهم على أعجاز بعض تتحرك شهوته سريعاً، فيبادر إلى مجامعة من يحبه.
قال الحاكي: وهذه الخلوة دون سائر الخلوات التي دخلت إليها هي مخصوصة بهذا الفعل، إذا أراد الملك شرف الدين هرون الاجتماع في الحمّام بمن يهواه من الجواري الحسان والصور الجميلة والنساء الفائقات الحسن لم يجتمع به إلاّ في هذه(3/349)
الخلوة، من أجل أنه يرى كل محاسن الصور الجميلة مصوّرة في الحائط ومجسمة بين يديه، ويرى كل منهما صاحبه على هذه الصفة، ورأيت في صدر الخلوة رخام مضلع وعليه أنبوب مركب في صدره، وأنبوب آخر (1) برسم الماء البارد، والأنبوب الأول برسم الماء الفاتر، وعن يمين الحوض ويساره عمدان صغار منحوتة من البلور يوضع عليها مباخر الندّ والعود، وأبصرت منها خلوة شديدة الضياء مفرحة بديعة قد أنفق عليها أموالٌ كثيرة، وسألت الخادم عن تلك الحيطان المشرقة المضيئة: من أي شيء صنعت فقال لي: ما أعلم.
قال الحاكي: فما رأيت في عمري ولا سمعت بمثل تلك الخلوة، ولا بأحسن من ذلك الحمّام، مع أني ما أحسن أن أصفهما كما رأيتهما، فإنه لم تتكرر رؤيتي لهما، ولا اتفق لي الظفر بصناعتهما ومباشرتهما، وفي الذي ذكرت كفاية.
انتهى.
[دار جمال الملك البغدادي]
ولمّا اتصل أبو القاسم علي بن أفلح البغدادي الكاتب بأمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي، ولقبه جمال الملك، وأعطاه أربع ديار في درب الشاكرية اشترى دوراً أخرى إلى جانبها، وهدم الكل وأنشأ داره الكبيرة، وأعانه الخليفة في بنائها، وأطلق له أموالاً وآلات البناء، وكان في جملة ما أطلق له مائتا ألف آجرّة وأجريت الدار بالذهب، وصنع فيها الحمّام العجيب الذي فيه بيت مستراح فيه أنبوب إن فركه الإنسان يميناً خرج ماء حار وإن فركه شمالاً خرج ماء بارد، وكان على إيوان الدار مكتوباً (2) :
إن عجب الراءون من ظاهري ... فباطني لو علموا أعجب
__________
(1) ب: وعليه مركب في صورة أنبوب آخر برسم الماء؛ م: مركب في صدره أنبوب وآخر ...
(2) ب م: مكتوب.(3/350)
شيّدني من كفّه مزنةٌ ... يهمل منها العارض الصّيّب
ودبجت روضة أخلاقه ... فيّ رياضاً نورها مذهب
صدرٌ كسا صدري من نوره ... شمساً على الأيّام لا تغرب وكتب على الطرز:
ومن المروءة للفتى ... ما عاش دارٌ فاخره
فاقنع من الدنيا بها ... واعمل لدار الآخره
هاتيك وافيةٌ بما ... وعدت، وهذي ساخره (1) وكتب على النادي:
ونادٍ كأن جنان الخلود ... أعارته من حسنها رونقا
وأعطته من حادثات الزما ... ن أن لا تلمّ به موثقا
فأضحى يتيه على كلّ ما ... بنى مغرباً كان أو مشرقا
تظلّ الوفود به عكفّاً ... وتمسي الضيوف به طرّقا
بقيت له يا جمال الملو ... ك والفضل مهما أردت البقا
وسالمه فيك ريب الزمان ... ووقّيت فيه الذي يتقّى [أشعار للمشارقة في الحمّام]
وعلى ذكر الحمّام فما أحكم قول ابن الوردي فيما أظن (2) :
وما أشبه الحمّام بالموت لامرىءٍ ... تذكر؛ لكن أين من يتذكر
يجرّد عن أهلٍ ومالٍ وملبسٍ ... ويصحبه من كلّ ذلك مئزر
__________
(1) ب: خاسرة.
(2) مطالع البدور 2: 13.(3/351)
وقال الشهاب بن فضل الله (1) :
وحمّامكم كعبةٌ للوفود ... تحجّ إليه حفاةً عراه
يكرر صوت أنابيبه ... كتاب الطهارة باب المياه وقد تمثل بهذين البيتين البرهان القيراطي في جواب كتاب استدعاه فيه بعض أهل عصره إلى الحمّام، وافتتح الجواب بقوله (2) :
قد أجبنا وأنت أيضاً فصبّح ... ت بصبحي سوالفٍ وسلاف
وبساقٍ يسبي العقول بساقٍ ... وقوامٍ وفق العناق خلافي ووصله بنثرٍ تمثل فيه بالبيتين كما مر.
ولبعضهم (3) :
إن حمّامنا الذي نحن فيه ... أيّ ماءٍ به وأيّة نار
قد نزلنا به على ابن معينٍ ... وروينا عنه صحيح البخار [ي] وألغز بعضهم في الحمّام بقوله (4) :
ومنزل أقوامٍ إذا ما تقابلوا ... تشابه فيه وغده ورئيسه
ينفّس كربي إذ ينفّس كربه ... ويعظم أنسي إذ يقلّ أنيسه
إذا ما أعرت الجوّ طرفاً تكاثرت ... على من به أقماره وشموسه رجع إلى ما كنّا فيه من كلام أهل الأندلس، فنقول:
__________
(1) مطالع البدور 2: 11، 17.
(2) مطالع البدور 2: 16.
(3) المصدر نفسه: 10.
(4) المصدر نفسه: 9.(3/352)
138 - وكان محمد بن خلف بن موسى البيري (1) متكلماً متحققاً برأي الأشعرية، وذاكراً لكتب الأصول في الاعتقاد، مشاركاً في الأدب، مقدماً في الطب، ومن نظمه يمدح إمام الحرمين رحمه الله تعالى:
حبّ حبرٍ يكنى أباً للمعالي ... هو ديني ففيه لا تعذلوني
أنا والله مغرمٌ بهواه ... عللوني بذكره عللّوني 139 - وكتب (2) أبو الوليد ابن الجنان الشاطبي (3) يستدعي بعض إخوانه إلى مجلس أنس بما صورته: نحن في مجلس أغصانه الندامة، وغمامه الصهباء، فبالله إلاّ ما كنت لروض مجلسنا نسيماً، ولزهر حديثنا شميماً، وللجسم روحاً، وللطيب ريحاً، وبيننا عذراء زجاجتها خدرها، وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها كمامة، أو شمس حجبتها غمامة، إذا طاف بها معصم الساقي فوردة على غصنها، أو شربها مقهقهةً فحمامة على فننها، طافت علينا طوفان القمر على منازل الحلول، فأنت وحياتك إكليلنا وقد آن حلولها في الإكليل. انتهى.
وقال أبو الوليد المذكور:
فوق خدّ الورد دمعٌ ... من عيون السّحب يذرف
برداء الشمس أضحى ... بعدما سال يجفّف [حكاية مشرقية عن الورد والياسمين]
وتذكرت هنا بذكر الورد ما حكاه الشيخ أبو البركات هبة الله بن محمد النصيبي المعروف بالوكيل، وكان شيخاً ظريفاً فيه آداب كثيرة، إذ قال:
__________
(1) م: البشيري.
(2) م: وكتب الوزير.
(3) مرت ترجمته رقم: 68 في الراحلين إلى المشرق (2: 120) .(3/353)
كنت في زمن الربيع والورد في داري بنصيبين، وقد أحضر من بستاني من الورد والياسمين شيء كثير، وعملت على سبيل الولع دائرة من الورد تقابلها دائرة من الياسمين، فاتفق أن دخل علي شاعران كانا بنصيبين أحدهما يعرف بالمهذب والآخر يعرف بالحسن ابن البرقعيدي، فقلت لهما: اعملا في هاتين الدائرتين، ففكرّا ساعة ثمّ قال المهذب:
يا حسنها دائرةً ... من ياسمينٍ مشرق
والورد قد قابلها ... في حلّةٍ من شفق
كعاشقٍ وحبّه ... تغامزا بالحدق
فاحمرّ ذا من خجلٍ ... واصفرّ ذا من فرق قال: فقلت للحسن: هات، فقال: سبقني المهذب إلى ما لمحته في هذا المعنى، وهو قولي:
يا حسنها دائرةً ... من ياسمينٍ كالحلي
والورد قد قابلها ... في حلّةٍ من خجل
كعاشقٍ وحبّه ... تغامزا بالمقل
فاحمرّ ذا من خجلٍ ... واصفرّ ذا من وجل قال: فعجبت من اتفاقهما في سرعة الاتحاد، والمبادرة إلى حكاية الحال.
انتهى.
وما ألطف قول بعضهم:
أرى الورد عند الصبح قد مدّ لي فماً ... يشير إلى التقبيل في حالة اللّمس
وبعد زوال الشمس ألقاه وجنةً ... وقد أثّرت في وسطها قبلة الشمس(3/354)
140 - وقال ابن ظافر في " بدائع البدائه " (1) : اجتمع الوزير أبو بكر ابن القبطرنة والأديب أبو العباس ابن صارة الأندلسيان في يوم جلا ذهب برقه، وأذاب ورق ودقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء، فقال ابن القبطرنة:
هذي البسيطة كاعبٌ أبرادها ... حلل الربيع وحليها النّوّار فقال ابن صارة:
وكأنّ هذا الجوّ فيها عاشقٌ ... قد شفّه التعذيب والإضرار ثم قال ابن صارة أيضاً:
وإذا شكا فالبرق قلبٌ خافقٌ ... وإذا بكى فدموعه الأمطار فقال ابن القبطرنة:
من أجل ذلّة ذا وعزة هذه ... يبكي الغمام وتضحك الأزهار [بديهة ابن ظافر]
وتذكرت هنا ما حكاه ابن ظافر (2) في الكتاب المذكور أنّه اجتمع مع القاضي الأعز يوماً فقال له ابن ظافر: أجز:
طار نسيم الروض من وكر الزّهر ... فقال الأعز:
وجاء مبلول ... الجناح بالمطر انتهى.
__________
(1) بدائع البدائه 1: 186 ومطالع البدور 1: 123.
(2) البدائع 1: 70.(3/355)
ويعجبني قول ابن قرناص (1) :
أظنّ نسيم الروض والزهر قد روى ... حديثاً ففاحت من شذاه المسالك
وقال دنا فصل الربيع فكلّه ... ثغورٌ لما قال النسيم ضواحك رجع إلى الأندلسيين:
141 - وما أرق قول ابن الزقاق (2) :
ورياضٍ من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهراتٍ تفوق لون الراح
قلت: ما ذنبها فقال مجيباً: ... سرقت حمرة الخدود الملاح 142 - وقال أبو إسحاق ابن خفاجة (3) :
تعلقته نشوان (4) من خمر ريقه ... له رشفها دوني ولي دونه السكر
ترقرق ماءً مقلتاي ووجهه ... ويذكي على قلبي ووجنته الجمر
أرقّ نسيبي فيه رقّة حسنه ... فلم أدر أيٌّ قبلها منهما السحر
وطبنا معاً شعراً وثغراً كأنّما ... له منطقي ثغرٌ ولي ثغره شعر 143 - وقال أبو الصّلت أمية بن عبد العزيز (5) :
وقائلةٍ: ما بال مثلك خاملاً ... أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز
فقلت لها: ذنبي إلى القوم أنّني ... لما لم يحوزه من المجد حائز
__________
(1) مطالع البدور 1: 125.
(2) ديوان ابن الزقاق: 125 والمغرب 2: 324 والشريشي 1: 120 وقد مرت ص: 200.
(3) ديوان ابن خفاجة: 353.
(4) الديوان: ريان.
(5) الخريدة 4 / 1: 277.(3/356)
وما فاتني شيء سوى الحظّ وحده ... وأما المعالي فهي عندي غرائز وقال:
جدّ بقلبي وعبث ... ثمّ مضى وما اكترث
وا حربا (1) من شادنٍ ... في عقد الصبر نفث
يقتل من شاء بعي ... نيه ومن شاء بعث 144 - وقال البليغ الفاضل يحيى بن هذيل (2) أحد أعيان شعراء الأندلس:
نام طفل النبت في حجر النّعامى ... لاهتزاز الطّلّ في مهد الخزامى
وسقى الوسميّ أغصان النّقا ... فهوت تلثم أفواه الندامى
كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما
تحسب البدر محيّاً ثملٍ ... قد سقته راحة الصبح مداما
حوله الزهر كؤوسٌ قد غدت ... مسكة الليل عليهنّ ختاما وتذكرت هنا قول الآخر، وأظنّه مشرقيّاً (3) :
بكر العارض تحدوه النّعامى ... فسقاك الريّ يا دار أماما
وتمشّت فيك أرواح الصّبا ... يتأرّجن بأنفاس الخزامى
قد قضى حفظ الهوى أن تصبحي ... للمحبين مناخاً ومقاما
وبجرعاء الحمى قلبي، فعج ... بالحمى واقرأ على قلبي السلاما
وترحّل فتحدّث عجباً ... أنّ قلباً سار عن جسمٍ أقاما
قل لجيران الغضا آهاً على ... طيب عيش بالغضا لو كان داما
__________
(1) الخريدة: وا حزني.
(2) الكتيبة الكامنة: 74 منسوبة خطأ لابن شقرال، ونثير الفرائد: 322.
(3) هي لمهيار الديلمي، ديوانه: 3: 327.(3/357)
حمّلوا ريح الصّبا من نشركم ... قبل أن تحمل شيحاً وثماما
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما 145 - وخرج بعض علماء (1) الأندلس من قرطبة إلى طليطلة، فاجتاز بحريز (2) بن عكاشة الشجاع المشهور الذي ذكرنا في هذا الباب ما يدل على شجاعته وقوته وأيده، بقلعة رباح، فنزل بخارجها في بعض جنباتها، وكتب إليه:
يا فريداً دون ثان ... وهلالاً في العيان
عدم الراح فصارت ... مثل دهن البلسان فبعث إليه بها، وكتب معها:
جاء من شعرك روضٌ ... جاده صوب اللسان
فبعثناها سلافاً ... كسجاياك الحسان [أشعار لابن شهيد]
146 - وقال الوزير أبو عامر ابن شهيد يتغزل (3) :
أصباحٌ (4) شيم أم برقٌ بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا
هبّ من مرقده منكسراً ... مسبلاً للكمّ مرخٍ للرّدا
يمسح النعسة من عيني رشاً ... صائدٍ في كلّ يومٍ أسدا
__________
(1) ب: شعراء؛ ق ودوزي: أدباء.
(2) كذا في م؛ وفي ق: بجدير.
(3) انظرها في الذخيرة 1 / 1: 223 والمطمح: 18 وديوان ابن شهيد: 49.
(4) الذخيرة: أصفيح.(3/358)
أوردته لطفاً آياته ... صفوة العيش وأرعته ددا
فهو من دلٍّ عراه زبدةٌ ... من مريجٍ لم تخالط زبدا
قلت هب لي يا حبيبي قبلة ... تشف من عمك تبريح الصّدى
فانثنى يهتزّ من منكبه ... مائلاً لطفاً وأعطاني اليدا
كلّما كلّمني قبّلته ... فهو إمّا قال قولاً ردّدا
كاد أن يرجع من لثمي له ... وارتشاف الثغر منه أدردا
وإذا استنجزت يوماً وعده ... أمطل الوعد وقال: اصبر غدا (1)
شربت أعطافه ماء الصّبا ... وسقاه الحسن حتّى عربدا
فإذا بتّ به في روضةٍ ... أغيد يقرو (2) نباتاً أغيدا
قام في الليل بجيدٍ أتلعٍ ... ينفض اللّمّة من دمع الندى
ومكانٍ عازبٍ عن جيرة ... أصدقاءٍ وهم عين العدا
ذي نباتٍ طيّبٍ أعراقه ... كعذار الشّعر في خدّ بدا
تحسب الهضبة منه جبلاً ... وحدور الماء منه أبردا وقال يرثي القاضي ابن ذكوان، نجيب ذلك الأوان، وقد افتنّ في الآداب، وسنّ فيها سنّة ابن داب، وما فارق ربع الشباب شرخه، ولا استمجد في الكهولة عفاره ولا مرخه، وكان لأبي عامر هذا قسيم نفسه، ونسيم أنسه (3) :
ظننّا الذي نادى محقّاً بموته ... لعظم الذي أنحى من الرّزء كاذبا
وخلنا الصباح الطّلق ليلاً وأنّنا ... هبطنا خداريّاً من الحزن كاربا
ثكلنا الدّنى لمّا استقلّ وإنمّا ... فقدناك يا خير البريّة ناعبا
وما ذهبت إذ حلّ في القبر نفسه ... ولكنّما الإسلام أدبر ذاهبا
__________
(1) الذخيرة: قال لي يمطل ذكرني غدا.
(2) الذخيرة: يعرو؛ ب م ق: يغزو.
(3) المطمح: 19؛ وديوانه: 23.(3/359)
ولمّا أبى إلاّ التحمّل رائحاً ... منحناه أعناق الكرام ركائبا
يسير به النعش الأعزّ وحوله ... أباعد كانوا للمصاب أقاربا
عليه حفيفٌ للملائك أقبلت ... تصافح شيخاً ذاكر الله تائبا
تخال لفيف الناس حوله ضريحه ... خليط قطاً وافى الشريعة هاربا
إذا ما امتروا سحب الدموع تفرعت ... فروع البكا عن بارق الحزن لاهبا
فمن ذا لفصل القول يسطع نوره ... إذا نحن ناوينا الألدّ المناوبا
ومن ذا ربيع المسلمين يقوتهم ... إذا الناس شاموها بروقاً كواذبا
فيا لهف قلبي آهٍ ذابت حشاشتي ... مضى شيخنا الدّفّاع عنّا النوائبا
ومات الذي غاب السرور لموته ... فليس وإن طال السّرى منه آيبا
وكان عظيماً يطرق الجمع عنده ... ويعنو له ربّ الكتيبة هائبا
وذا مقولٍ عضب الغرارين صارمٍ ... يروح به عن حومة الدين ضاربا
أبا حاتمٍ صبر الأديب (1) فإنّني ... رأيت جميل الصبر أحلى عواقبا
وما زلت فينا ترهب الدهر سطوةً ... وصعباً بها نعي الخطوب المصاعبا
سأستعتب الأيّام فيك لعلّها ... لصحّة ذاك الجسم تطلب طالبا
لئن أفلت شمس المكارم عنكم ... لقد أسأرت بدراً لها وكواكبا قال في " المطمح " (2) : ودبّت إلى أبي عامر ابن شهيد أيّام العلويين عقارب، برئت بها منه أباعد وأقارب، واجهه بها صرف قطوب، وانبرت إليه منها خطوب، نبا لها جنبه عن المضجع، وبقي بها ليالي يأرق ولا يهجع، إلى أن أعلقت في الاعتقال آماله، وعقلته في عقال أذهب ماله، فأقام مرتهناً، ولقي وهناً، وقال:
__________
(1) ب م ق: الأديم.
(2) المطمح: 20 وانظر الذخيرة 1 / 1: 224.(3/360)
قريبٌ بمحتلّ الهوان مجيد ... يجود ويشكو حزنه فيجيد
نعى صبره عند الإمام فيا له ... عدوّ لأبناء الكرام حسود
وما ضرّه إلاّ مزاحٌ ورقّةٌ ... ثنته سفيه الذكر وهو رشيد
جنى ما جنى في قبّة الملك غيره ... وطوّق منه بالعظيمة جيد
وما فيّ إلاّ الشّعر أثبته الهوى ... فسار به في العالمين فريد
أفوه بما لم آته متعرضاً ... لحسن المعاني تارةً فأزيد
فإن طال ذكري بالمجون فإنّها ... عظائم لم يصبر لها جليد
وهل كنت في العشاق أول عاقلٍ ... هوت بحجاه أعينٌ وخدود
فراقٌ وشجوٌ واشتياقٌ وذلة ... وجبّار حفّاظٍ عليّ عتيد
فمن يبلغ الفتيان أنّي بعدهم ... مقيمٌ بدار الظالمين وحيد
مقيمٌ بدارٍ ساكنوها من الأذى ... قيامٌ على جمر الحمام قعود
ويسمع للجنّان في جنباتها ... بسيطٌ كترجيع الصّدى ونشيد
ولست بذي قيدٍ يرنّ، وإنّما ... على اللحظ من سخط الإمام قيود
وقلت لصدّاح الحمام وقد بكى ... على القصر إلفاً والدّموع تجود
ألا أيّها الباكي على من تحبّه ... كلانا معنّىً بالخلاء فريد
وهل أنت دانٍ من محبٍّ نأى به ... عن الإلف سلطانٌ عليه شديد
فصفّق من ريش الجناحين واقعاً ... على القرب حتّى ما عليه مزيد
وما زال يبكيني وأبكيه جاهداً ... وللشوق من دون الضّلوع وقود
إلى أن أبكى الجدران من طول شجونا ... وأجهش بابٌ جانباه حديد
أطاعت أمير المؤمنين كتائبٌ ... تصرّف في الأموال كيف تريد
فللشمس عنها بالنهار تأخّرٌ ... وللبدر شحنا بالظلام صدود
ألا إنّها الأيام تلعب بالفتى ... نحوسٌ تهادى تارةً وسعود
وما كنت ذا أيدٍ فأذعن ذا قوىً ... من الدهر مبدٍ صرفه ومعيد
وراضت صعابي سطوةٌ علويةٌ ... لها بارقٌ نحو الندى ورعود(3/361)
تقول التي من بيتها كفّ مركبي ... أقربك دانٍ أم مداك بعيد (1)
فقلت لها أمري إلى من سمت به ... إلى المجد آباء له وجدود ثمّ قال (2) : ولزمته آخر عمره علّة دامت به سنين، ولم تفارقه حتّى تركته يد جنين، وأحسب أن الله أراد بها تمحيصه، وإطلاقه من ذنب كان قنيصه، فطهره تطهيراً، وجعل ذلك على العفو له ظهيراً، فإنّها أقعدته حتّى حمل في المحفّة، وعاودته حتّى غدت لرونقه مشتفّة، وعلى ذلك فلم يعطل لسانه، ولم يبطل إحسانه، ولم يزل يستريح إلى القول، ويزيح ما كان يجده من الغول، وآخر شعر قاله قوله:
ولمّا رأيت العيش لوّى برأسه ... وأيقنت أن الموت لا شكّ لاحقي
تمنّيت أنّي ساكنٌ في عباءةٍ (3) ... بأعلى مهبّ الريح في رأس شاهق
أردّ (4) سقيط الطّلّ في فضل عيشتي ... وحيداً وأحسو الماء ثني المعالق
خليليّ من ذاق المنيّة مرّةً ... فقد ذقتها (5) خمسين، قولة صادق
كأني وقد حان ارتحالي لم أفز ... قديماً من الدنيا بلمحة بارق
فمن مبلغٌ عنّي ابن حزمٍ وكان لي ... يداً في ملمّاتي وعند مضايقي
عليك سلام الله إني مفارقٌ ... وحسبك زاداً من حبيبٍ مفارق
فلا تنس تأبيني إذا ما ذكرتني (6) ... وتذكار أيّامي وفضل خلائقي
وحرّك له بالله من أهل فننّا (7) ... إذا غيبوني كلّ شهمٍ غرانق
__________
(1) م: نواك؛ ق ب: نداك بعيد.
(2) المطمح: 21، وانظر الذخيرة 1 / 1: 282.
(3) الذخيرة: غيابة.
(4) الذخيرة: أدر.
(5) ق ب: من رام ... فقد رمتها.
(6) الخذيرة: فقدتني.
(7) ق ب: مهما ذكرتني، وسقط البيت من م.(3/362)
عسى هامتي في القبر تسمع بعضه ... بترجيع شادٍ أو بتطريب طارق
فلي في ادّكاري بعد موتي راحةٌ ... فلا تمنعوها لي علالة زاهق
وإني لأرجو الله فيما تقدّمت ... ذنوبي به ممّا درى من حقائق 147 - وكان أبو مروان عبد الملك بن غصن مستولياً على وزارة ابن عبيدة ولسانه ينشد:
وشيّدت مجدي بين أهلي ولم أقل ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي وهجا ابن ذي النون بقوله:
تلقبت بالمأمون ظلماً، وإنّني ... لآمن كلباً حيث لست مؤمّنه
حرامٌ عليه أن يجود ببشره ... وأما الندى فاندب هنالك مدفنه
سطور المخازي دون أبواب قصره ... بحجّابه للقاصدين معنونه فلمّا تمكّن منه المأمون سجنه، فكتب إلى ابن هودٍ من أبيات:
أيا راكب الوجناء بلّغ تحيّةً ... أمير جذامٍ من أسيرٍ مقيّد
ولمّا دهتني الحادثات ولم أجد ... لها وزراً أقبلت نحوك أعتدي (1)
ومثلك من يعدي على كلّ حادثٍ ... رمى بسهامٍ للردى لم ترصد
فعلّك أن تخلو بفكرك ساعةً ... لتنقذني من طول همٍّ مجدّد
وها أنا في بطن الثرى وهو حاملٌ ... فيّسر على رقبى (2) الشفاعة مولدي
حنانيك (3) ألفاً بعد ألفٍ فإنّني ... جعلتك بعد الله أعظم مقصدي
وأنت الذي يدري إذا رام حاجةً ... تضلّ بها الآراء من حيث يهتدي
__________
(1) ب: أغتدي.
(2) م: رمل؛ ق: قيل.
(3) م: حنانك.(3/363)
فرّق له ابن هود، وتحيّل حتّى خلّصه بشفاعته، فلمّا قدم عليه أنشده:
حياتي موهوبةٌ من علاكا ... وكيف أرى عادلاً عن ذراكا
ولو لم يكن لك من نعمةٍ ... عليّ وأصبحت أبغي سواكا
لناديت في الأرض هل مسعفٌ ... مجيبٌ فلم يصغ إلاّ نداكا فطرب ابن هود، وخلع عليه ثوب وزارته، وجعله من أعلام سلطنته وإمارته.
148 - وقال المنصور بن أبي عامر للشاعر المشهور أبي عمر يوسف الرمادي: كيف ترى حالك معي فقال فوق قدري ودون قدرك، فأطرق المنصور كالغضبان، فانسلّ الرمادي وخرج وقد ندم على ما بدر منه، وجعل يقول: أخطأت، لا والله ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق، ما كان ضرّني لو قلت له: إنّي بلغت السماء، وتمنطقت بالجوزاء، وأنشدته (1) :
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجةً ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
ولمّا خرج كان في المجلس من يحسده على مكانه من المنصور، فوجد فرصة فقال: وصل الله لمولانا الظفر والسعد، إنّ هذا الصنف صنف زور وهذيان لا يشكرون نعمة، ولا يرعون إلاًّ ولا ذمّة، كلاب من غلب، وأصحاب من أخصب، وأعداء من أجدب، وحسبك منهم أن الله جلّ جلاله يقول فيهم " والشّعراء يتّبعهم الغاوون ... إلى مالا يفعلون "، والابتعاد منهم أولى من الاقتراب، وقد قيل فيهم: ما ظنّك بقوم الصدق يستحسن إلاّ منهم فرفع المنصور رأسه، وكان محبّاً في أهل الأدب والشعر، وقد اسودّ وجهه، وظهر فيه الغضب المفرط، ثمّ قال: ما بال أقوام يشيرون في شيء لم يستشاروا فيه، ويسيئون الأدب بالحكم فيما
__________
(1) البيت لقيس بن الخطيم، ديوانه: 10.(3/364)
لا يدرون أيرضي أم يسخط وأنت أيّها المنبعث للشرّ دون أن يبعث، قد علمنا غرضك في أهل الأدب والشعر عامة، وحسدك لهم، لأن الناس كما قال القائل:
من رأى الناس له فض ... لاً عليهم حسدوه وعرفنا غرضك في هذا الرجل خاصّة، ولسنا إن شاء الله تعالى نبلّغ أحداً غرضه في أحد، ولو بلّغناكم بلغنا في جانبكم، وإنّك ضربت في حديد بارد، وأخطأت وجه الصواب، فزدت بذلك احتقاراً وصغاراً، وإنّي ما أطرقت من خطاب الرمادي إنكاراً عليه، بل رأيت كلاماً يجلّ عن الأقدار الجليلة، وتعجبت من تهدّيه له بسرعة، واستنباطه له على قلّته من الإحسان الغامر ما لا يستنبطه غيره بالكثير، والله لو حكّمته في بيوت الأموال لرأيت أنّها لا ترجح ما تكلّم به قلبه ذرة (1) ، وإيّاكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص قبل أن يؤخذ معه فيه، ولا تحكموا علينا في أوليائنا ولو أبصرتم منّا التغيّر عليهم، فإنّنا لا نتغير عليهم بغضاً لهم وانحرافاً عنهم، بل تأديباً وإنكاراً، فإنّا من نريد إبعاده لم نظهر له التغير، بل ننبذه مرّة واحدة، فإن التغير إنّما يكون لمن يراد استبقاؤه، ولو كنت مائل السمع لكل أحد منكم في صاحبه لتفرقتم أيدي سبا، وجونبت أنا مجانبة الأجرب، وإنّي قد أطلعتكم على ما في ضميري فلا تعدلوا عن مرضاتي، فتجنبوا سخطي بما جنيتموه على أنفسكم؛ ثمّ أمر أن يردّ الرمادي وقال له: أعد عليّ كلامك، فارتاع، فقال: الأمر على خلاف ما قدرت، الثواب أولى بكلامك من العقاب، فسكن لتأنيسه، وأعاد ما تكلّم به، فقال المنصور: بلغنا أن النعمان بن المنذر حشا فم النابغة بالدر لكلام استحسنه منه، وقد أمرنا لك بما لا يقصر عن ذلك ما هو أنوه وأحسن عائدة؛ وكتب له بمال وخلع وموضع يتعيّش منه، ثمّ ردّ رأسه إلى المتكلّم في شأن الرمادي،
__________
(1) قلبه ذرة: سقطت من م.(3/365)
وقد كان يغوص في الأرض لو وجد لشدة ما حلّ به ممّا رأى وسمع، وقال: والعجب من قوم يقولون الابتعاد من الشعراء أولى من الاقتراب، نعم ذلك لمن ليس له مفاخر يريد تخليدها، ولا أيادٍ يرغب في نشرها، فأين الذين قيل فيهم (1) :
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل وأين الذي قيل فيه (2) :
إنّما الدنيا أبو دلفٍ ... بين مبداه (3) ومحتضره
فإذا ولّى أبو دلفٍ ... ولّت الدنيا على أثره أما كان في الجاهلية والإسلام أكرم ممّن قيل فيه هذا القول بلى، ولكن صحبة الشعراء والإحسان إليهم أحيت غابر ذكرهم، وخصتهم بمفاخر عصرهم، وغيرهم لم تخلد الأمداح مآثرهم فدثر ذكرهم، ودرس فخرهم، انتهى.
[بنو صمادح]
149 - ومن حكاياتهم في العدل أنه لمّا بنى المعتصم بن صمادح ملك المرية قصوره المعروفة بالصمادحية غصبوا أحد الصالحين في جنّة وأحقوها بالصمادحية، وزعم ذلك الصالح أنها لأيتام من أقاربه، فبينا المعتصم يوماً يشرب على الساقية الداخلة إلى الصمادحية إذ وقعت عينه على أنبوب قصبة مشمع، فأمر من يأتيه به، فلمّا أزال عنه الشمع وجد فيه ورقة فيها: إذا وقفت أيّها الغاصب على هذه الورقة فاذكر قول الله تعالى " إنّ هذا أخي له تسعٌ
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمة، ديوانه: 22 (شرح الأعلم) .
(2) الشعر لعلي بن جبلة، انظر طبقات ابن المعتز: 172.
(3) م: باديه.(3/366)
وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب " لا إله إلاّ الله، أنت ملك قد وسّع الله تعالى عليك، ومكّن لك في الأرض، ويحملك الحرص على ما يفنى أن تضم إلى جنّتك الواسعة العظيمة قطعة أرضٍ لأيتام حرّمت بها حلالها، وخبثت طيبها، ولأن تحجبت عني بسلطانك، واقتدرت عليّ بعظم شأنك، فنجتمع غداً بين يدي من لا يحجب عن حق، ولا تضيع عنده شكوى.
فلمّا استوعب قراءتها دمعت عيناه، وأخذته خشية خيف عليه منها، وكانت عادته رحمه الله تعالى، وقال: عليّ بالمشتغلين ببناء الصمادحية، فأحضروا، فاستفسرهم عمّا زعم الرجل، فلم يسعهم إلاّ صدقه، واعتذروا بأن نقصها من الصمادحية يعيبها في عين الناظر، فاستشاط غضباً وقال: والله إنّ عيبها في عين الخالق أقبح من عيبها في عين المخلوق، ثمّ أمر بأن تصرف عليه، واحتمل تعويرها لصمادحيته. ولقد مرّ بعض أعيان المرية وأخيارها مع جماعة على هذا المكان الذي أخرجت منه جنّة الأيتام فقال أحدهم: والله لقد عورت هذه القطعة هذا المنظر العجيب، فقال له: اسكت، فوالله إنّ هذه القطعة طراز هذا المنظر وفخره، وكان المعتصم إذا نظر إليها قال: أشعرتم أنّ هذا المكان المعوج في عيني أحسن من سائر ما استقام من الصمادحية ثمّ إن وزيره ابن أرقم لم يزل يلاطف الشيخ والأيتام حتّى باعوها عن رضىً بما اشتهوا من الثمن، وذلك بعد مدة طويلة، فاستقام بها بناء الصمادحية، وحصل للمعتصم حسن السمعة في الناس، والجزاء عند الله تعالى.
150 - ولمّا مات المعتصم بن صمادح ركب البحر ابنه وليّ عهده الواثق عز الدولة أبو محمد عبد الله (1) ، وفارق الملك كما أوصاه المعتصم والده وفي ذلك يقول (2) :
__________
(1) انظر الحلة 2: 90 حيث سماه " أبو مروان عبيد الله ".
(2) الشعر في المغرب 2: 1.(3/367)
لك الحمد بعد الملك أصبحت خاملاً ... بأرض اغترابٍ لا أمرّ ولا أحلي
وقد أصدأت فيها الجذاذة أنملي (1) ... كما نسيت ركض الجياد بها رجلي
فلا مسمعي يصغي لنغمة شاعرٍ ... وكفّي لا تمتدّ يوماٌ إلى بذل قال ابن اللبانة الشاعر: ما علمت حقيقة جور الدهر حتى اجتمعت ببجاية مع عز الدولة بن المعتصم بن صمادح فإني رأيت منه خير من يجتمع به، كأنه لم يخلقه الله تعالى إلا للملك والرياسة وإحياء الفضائل، ونظرت إلى همته تنم من تحت خموله كما ينم فرند السيف وكرمه من تحت الصدأ، مع حفظه لفنون الأدب والتواريخ وحسن استماعه وإسماعه، ورقة طباعه ولطافة ذهنه، ولقد ذكرته لأحد من صحبته من الأدباء في ذلك المكان ووصفته بهذه الصفات، فتشوق إلى الاجتماع به، ورغب إلي في أن أستاذنه في ذلك، فلما أعلمت عز الدولة قال: يا أبا بكر لتعلم أنا اليوم في خمول وضيق لا يتسع لنا معهما، ولا يجمل بنا الاجتماع مع أحد، لاسيما مع ذي أدب ونباهة يلقانا بعين الرحمة، ويزورنا بمنة التفضل في زيارتنا، ونكابد من ألفاظ توجعه وألحاظ تفجعه ما يجد لنا هما قد بلي، ويحيي كمداً قد فني، وما لنا قدرة على أن نجود عليه بما يرضى به عن همتنا، فدعنا كأننا في قبر، نتدرع لسهام الدهر بدرع الصبر، وأما أنت فقد اختلطت بنا اختلاط اللحم بالدم، وامتزجت امتزاج الماء بالخمر، فكأنا لم نكشف حالنا لسوانا، ولا أظهرنا ما بنا لغيرنا، فلا تحمل غيرك محملك، قال ابن اللبانة: فملأ والله سمعي بلاغة لاتصدر إلا عن سداد ونفس أبية متمكنة من أعنة البيان، وانصرفت متمثلاً:
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم
وكائن ترى من صامت لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التكلم
__________
(1) المغرب: الهوادة؛ دوزي: منهلي.(3/368)
وكتب إليه ابن اللبانة (1) :
يا ذا الذي هز أمداحي بحليته (2) ... وعزه أن يهز المجد والكرما
واديك لازرع فيه اليوم تبذله ... فخذ عليه لأيام المنى سلما فتحيل في قليل بر ووجهه إليه وكتب معه:
المجد يخجل من يفديك من زمن ... ثناك عن واجب البر الذي علما
فدونك النزر من مصفٍ مودته ... حتى يوفيك أيام المنى السلما ومن شعر عز الدولة المذكور (3) :
أفدي أبا عمرو وإن كان عاتباً ... ملا خير في ود يكون بلا عتب
وما كان ذاك الود إلا كبارقٍ ... أضاء لعيني ثم أظلم في قلبي وقال الشقندي في الطرف: إن عز الدولة أشعر من أبيه.
151 - وأما أخوه رفيع الدولة (4) الحاجب أبو زكريا يحيى بن المعتصم فله أيضاً نظم رائق، ومنه ما كتب به إلى يحيى بن مطروح يستدعيه لأنس (5) :
يا أخي بل سيدي بل سندي ... في مهمات الزمان الأنكد
لح بأفقٍ غاب عنه بدره ... في اختفاءٍ من عيون الحسد
وتعجل فحبيبي حاضرٌ ... وفمي يشتاق كأسي في يدي فأجابه ابن مطروح، وهو من أهل باغه، بقوله:
__________
(1) البيتان في الحلة 2: 91 ومعهما رد ابن صمادح.
(2) ب م ق: بحيلته.
(3) هذا الشعر منسوب في الحلة (2: 96) والمغرب (2: 200) لرفيع الدولة.
(4) انظر ترجمة رفيع الدولة في المطمح: 30 والحلة 2: 92 والمغرب 2: 199.
(5) المغرب 2: 200.(3/369)
أنا عبدٌ من أقل الأعبد ... قبلتي وجهٌ بأفق الأسعد
كلما أظمأني وردٌ فما ... منهلي إلا بذاك المورد
ها أنا بالباب أبغي إذنكم ... والظما قد مد للكأس يدي وكان قد سلط عليه إنسان مختل إذا رآه يقول: هذا ألف لاشيء عليه، يعني أن ملكه ذهب عنه وبقي فارغاً منه، فشكا رفيع الدولة ذلك إلى بعض أصحابه، فقال: أنا أكفيك مؤونته، واجتمع مع الأحمق، واشترى له حلواء، وقال له: إذا رأيت رفيع الدولة بن المعتصم فسلم عليه وقبل يده ولا تقل هذا ألف لاشيء عليه، فقال: نعم، واشترط الوفاء بذلك، إلى أن لقيه فجرى نحوه وقبل يده وقال: هذا هو باء، بنقطة من أسفل، فقامت قيامة رفيع الدولة، وكان ذلك أشد عليه، وكان به علة الحصى فظن أن الأحمق علم ذلك وقصده، وصار كلما أحس به في موضع تجنبه.
واستأذن يوماً على أحد وجوه دولة المرابطين فقال أحد جلسائه {تلك أمةٌ قد خلت} (البقرة: 134، 141) استحقاراً له واستثقالاً للإذن له، فبلغ ذلك رفيع الدولة فكتب إليه:
خلت أمتي لكن ذاتي لم تخل ... وفي الفرع ما يغني إذا ذهب الأصل
وما ضركم لو قلتم قول ماجدٍ ... يكون له فيما يجيء به الفضل
وكل إناء بالذي فيه راشحٌ ... وهل يمنح الزنبور ما مجه النحل
سأصرف وجهي عن جنابٍ تحله ... ولو لم تكن إلاّ إلى وجهك السبل
فما موضعٌ يحتله بمرفعٍ ... ولا يرتضى فيه مقالٌ ولا فعل
وقد كنت ذا عذ لٍ لعلك ترعوي ... ولكن بأرباب العلا يجمل العذل 152 - وأما أخوهما أبو جعفر ابن المعتصم (1) فله ترجمة في المسهب
__________
(1) المغرب 2: 200.(3/370)
والمطرب، ومن شعره:
كتبت وقلبي ذو اشتياقٍ ووحشةٍ ... ولو أنّه يسطيع مرّ يسلّم
جعلت سواد العين فيه سواده ... وأبيضه طرساً وأقبلت ألثم
فخيّل لي أنّي أقبّل موضعاً ... يصافحه ذاك البنان المسلم وأما أختهم أم الكرم فذكرناها مع النساء فلتراجع.
153 - وقال أبو العلاء ابن زهر (1) :
تمت محاسن وجهه وتكاملت ... لمّا بدا وعليه صدغٌ مونق
وكذلك البدر المنير جماله ... في أن تكنّفه سماء أزرق 154 - وقال أبو الفضل ابن شرف:
يا من حكى البيدق في شكله ... أصبح يحكيك وتحكيه
أسفله أوسع أجزائه ... ورأسه أصغر ما فيه 155 - وقال ابن خفاجة (2) :
يا أيّها الصبّ المعنّى به ... ها هو لاخلٌّ ولا خمر
سوّد ما ورّد من خدّه ... فصار فحماً ذلك الجمر 156 - وقال أبو عبد الله البياسي:
صغر الرأس وطول العنق ... شاهدا عدلٍ بفرط الحمق ولما سمعه أبو الحسن ابن حريق قال:
__________
(1) مر البيتان ص: 247.
(2) ديوان ابن خفاجة: 190.(3/371)
صغر الرأس وطول العنق ... خلقةٌ منكرةٌ في الخلق
فإذا أبصرتها من رجلٍ ... فاقض في الحين له بالحمق 157 - وقال أبو الحسن ابن الفضل (1) يذكر مقاماً قامه سهل بن مالك وابن عياش (2) :
لعمري لقد سرّ الخلافة قائماً ... بخطبته الغرّاء سهل بن مالك
وأما ابن عياشٍ ومن كان مثله ... فضلّوا جميعاً بين تلك المسالك
ومات وماتوا حسرةً وحسادةً ... وغيظاً فقلنا هالكٌ في الهوالك وسهل بن مالك له ترجمةٌ مطولة، رحمه الله تعالى.
158 - ومن حكاياتهم في الوفاء (3) وحسن الاعتذار والقيام بحق الإخاء أن الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم كان صديقاً للوزير هاشم بن عبد العزيز، ثابتاً على مودته، ولما قضى الله تعالى على هاشم بالأسر أجرى السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموي ذكره في جماعةٍ من خدامه، والوليد حاضر، فاستقصره، ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد برأيه، فلم يكن فيهم من اعتذر عنه غير الوليد، فقال: أصلح الله تعالى الأمير، إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور، ولا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يكن ملاك النصر بيده، فخذله من وثق به، ونكل عنه من كان معه، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتى ملك مقبلاً غير مدبر، مبلياً غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وسلطانه، فإنه لا طريق للملام عليه، وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم، وأيضاً فإنه ما قصد
__________
(1) ترجمته في القدح: 108.
(2) ب: وابن يعيش.
(3) انظرها في المقتبس (تحقيق مكي) : 232 (الورقة 282 - أ) .(3/372)
أن يجود بنفسه إلا رضىً للأمير، واجتناباً لسخطه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضى جالب التقصير فذلك معدود في سوء الحظ، فأعجب الأمير كلامه، وشكر له وفاءه، وأقصر فيما بعد على تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه، واتصل الخبر بهاشم، فكتب إليه: الصديق من صدقك في الشدة لا في الرخاء، والأخ من ذب عنك في الغيب لا في المشهد، والوفي من وفى لك إذا خانك زمان، وقد أتاني من كلامك بين يدي سيدنا - جعل الله تعالى نعمته سرمداً - ما زادني بمودتك اغتباطاً، وبصداقتك ارتباطاً، ولذلك ما كنت أسد يدي على وصلك، وأخصك بإخائي، وأنا الآن بموضع لا أقدر فيه على جزاء غير الثناء، وأنت أقدر مني على أن تزيد ما بدأت به بأن تتم ما شرعت فيه، حتى تتكمل لك المنة، ويستوثق عقد الصداقة، إن شاء الله تعالى، وكتب إليه بشعر منه:
أيا ذاكري بالغيب في محفلٍ به ... تصامت جمعٌ عن جوابٍ به نصري
أتتني والبيداء بيني وبينها ... رقى كلماتٍ خلّصتني من الأسر
لئن قرّب الله اللّقاء فإنّني ... سأجزيك ما لا ينقضي غابر الدهر فأجابه الوليد: خلصك الله أيها البدر من سرارك، وعجل بطلوعك في أكمل تمامك وإبدارك، وصلني شكرك على أن قلت ما علمت، ولم أخرج عن النصح للسلطان بما زكنته من ذلك، والله تعالى شاهد، على أن ذلك في مجالس غير المجلس المنقول لسيدي إن خفيت عن المخلوق فما تخفى عن الخالق، ما أردت بها إلا أن أداء بعض ما أعتقده لك، وكم سهرت وأنا نائم، وقمت في حقي وأنا قاعد، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ثم ذكر أبياتاً لم تحضرني الآن.
159 - ومن حكاياتهم في علو الهمة في العلم والدنيا أنه دخل أبو بكر ابن الصائغ المعروف بابن باجة جامع غرناطة، وبه نحويٌ حوله شباب يقرؤون، فنظروا إليه، وقالوا له مستهزئين به: مكا يحمل الفقيه وما يحسن من العلوم وما يقول فقال لهم: أحمل اثني عشر ألف دينار، وها هي تحت إبطي(3/373)
وأخرج لهم اثنتي عشرة ياقوتة، كل واحدة منها بألف دينار، وأما الذي أحسنه فاثنا عشر علماً أدونها علم العربية الذي تبحثون فيه، وأما الذي أقول فأنتم كذا، وجعل يسبهم، هكذا نقلت هذه الحكاية من خط الشيخ أبي حيان النحوي، رحمه الله تعالى.
160 - ومن حكاياتهم في الذكاء واستخراج العلوم واستنباطها أن أبا القاسم عباس بن فرناس (1) ، حكيم الأندلس، أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأول من فك بها كتاب العروض للخليل، وأول من فك الموسيقى، وصنع الآلة المعروفة بالمنقانة (2) ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال، واحتال في تطيير جثمانه، وكسا نفسه الريش، ومد له جناحين، وطار في الجو مسافة بعيدة، ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه، فتأذى في مؤخره، ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنباً، وفيه قال مؤمن بن سعيد الشاعر من أبيات:
يطمّ على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسا جثمانه ريش قشعم وصنع في بيته هيئة السماء، وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود، وفيه يقول مؤمن بن سعيد أيضاً:
سماء عباسٍ الأديب أبي ال ... قاسم ناهيك حسن رائقها
أمّا ضراط استه فراعدها ... فليت شعري ما لمع بارقها
لقد تمنيت حين دوّمها ... فكري بالبصق في است خالقها
__________
(1) المغرب 1: 333 والمقتبس (تحقيق مكي) الورقة 256 ب.
(2) في الأصول ودوزي: بالمناقلة؛ وهذه صورة من صور الكلمة وأقربها إلى اللفظ المغربي ما أثبتناه، إذ تسمى في المغرب " المنجانة " وهي البنكام أو البنكان الفارسية أي الساعة أو آلة حساب الوقت، وقد تصحفت في المغرب إلى " الميقاتة ".(3/374)
وأنشد ابن فرناس الأمير محمداً من أبيات:
رأيت أمير المؤمنين محمداً ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر فقال له مؤمن بن سعيد: قبحاً لما ارتكبته، جعلت وجه الخليفة محرثاً يثمر فيه البذر، فخجل وسبه.
[المشهورون بعلوم الأوائل] (1)
161 - وأول من اشتهر في الأندلس بعلن الأوائل والحساب والنجوم أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة، لأنه كان يشرق في صلاته، وكان عالماً بحركات الكواكب وأحكامها، وكان صاحب فقه وحديث، دخل المشرق، وسمع بمكة من علي بن عبد العزيز، وبمصر من المزني وغيره.
ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة، من أهل قرطبة، وكان بصيراً بالحساب والنجوم والنحو (2) واللغة والعروض ومعاني الشعر والفقه والحديث والأخبار والجدل، ودخل إلى المشرق، وقيل: إنه كان معتزلي المذهب.
وأبو القاسم أصبغ بن السمح، وكان بارعاً في علم النجوم (3) والهندسة والطب، وله تآليف منها كتاب " المدخل إلى الهندسة في تفسير إقليدس "، وكتاب كبير في الهندسة، وكتابان (4) في الأسطرلاب، وزيج على مذاهب الهند المعروف بالسند هند.
وأبو القاسم ابن الصفار، وكان عالماً بالهندسة والعدد والنجوم، وله زيج مختصر على مذاهب السند هند، وله كتاب في عمل الأسطرلاب.
ومنهم أبو الحسن الزهراوي، وكان عالماً بالعدد والطب والهندسة، وله
__________
(1) يعتمد المقري في هذا الفصل على طبقات صاعد 64 - 72 ويستمد أيضا من الطرب: 223 - 224، وللمقارنة انظر ابن أبي أصيبعة 2: 36 - 49.
(2) والنحو: سقطت من م.
(3) ق ب: علم النحو.
(4) ب: وكتاب.(3/375)
كتاب شريف في المعاملات على طريق البرهان.
ومنهم أبو الحكم عمر الكرماني، من أهل قرطبة، من الراسخين في علم العدد والهندسة، ودخل المشرق، واشتغل بحران، وهو أول من دخل برسائل إخوان الصفا إلى الأندلس.
ومنهم أبو مسلم ابن خلدون من أشراف إشبيلية، وكان متصرفاً في علوم الفلسفة والهندسة والنجوم والطب؛ وتلميذه ابن برغوث، وكان عالماً بالعلوم الرياضية، وتلميذه أبو الحسن مختار الرعيني، وكان بصيراً بالهندسة والنجوم، وعبد الله بن أحمد السرقسطي، كان نافذاً في علم الهندسة والعدد والنجوم، ومحمد بن الليث، كان بارعاً في العدد والهندسة وحركات الكواكب، وابن حي، قرطبي بصير بالهندسة والنجوم، وخرج عن الأندلس سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، ولحق بمصر، ودخل اليمن، واتصل بأميرها الصليحي القائم بدعوة المستنصر (1) العبيدي، فحظي عنده، وبعثه رسولاً إلى بغداد إلى القائم بأمر الله، وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد، وابن الوقشي الطليطلي، عارف بالهندسة والمنطق والزيوج، وغيرهم ممن يطول تعدادهم.
وكان الحافظ أبو الوليد هشام الوقشي من أعلم الناس بالهندسة وآراء الحكماء والنحو واللغة ومعاني الأشعار والعروض وصناعة الكتابة والفقه والشروط والفرائض وغيرها، وهو كما قال الشاعر:
وكان من العلوم بحيث يقضى ... له في كلّ فنٍّ بالجميع ومن شعره قوله:
قد بيّنت فيه الطبيعة أنّها ... بدقيق أعمال المهندس ماهره
عنيت بمبسمه فخطّت فوقه ... بالمسك خطّاً من محيط الدائره
__________
(1) ب: من المستنصر؛ ق ودوزي: معن المستنصر.(3/376)
وعزم على ركوب البحر إلى الحجاز فهاله ذلك، فقال:
لا أركب البحر ولو أنّني ... ضربت فيه بالعصا فانفلق
ما إن رأت عيني أمواجه ... في فرقٍ إلا تناهى الفرق وكان الوزير أبو المطرف عبد الرحمن بن مهند (1) مصنف الأدوية المفردة آية الله تعالى في الطب وغيره، حتى إنه عانى جميع ما في كتابه من الأدوية المفردة، وعرف ترتيب قواها ودرجاتها، وكان لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن بالأغذية أو يقرب منها، وإذا اضطر إلى الأدوية فلا يرى التداوي بالمركبة ما وجد سبيلاً إلى المفردة، وإذا اضطر إلى المركب لم يكثر التركيب، بل يقتصر على أقل ما يمكنه، وله غرائب مشهورة في الإبراء من الأمراض الصعبة والعلل المخوفة بأيسر علاج وأقربه.
ومنهم ابن البيطار (2) ، وهو عبد الله بن أحمد المالقي الملقب بضياء الدين، وله عدة مصنفات في الحشائش لم يسبق إليها، وتوفي بدمشق سنة ست وأربعين وستمائة، أكل عقاراً قاتلاً فمات من ساعته، رحمه الله تعالى.
162 - ومن حكاياتهم في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ إشبيلية، بل الأندلس في عصره، أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب كان أعجوبة دهره في الرواية للأشعار والأخبار، قال ابن سعيد (3) : أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساء إشبيلية فجرى ذكر حفظه، وكان ذلك في أول الليل، فقال لهم: إن شئتم تختبروني أجبتكم، فقالوا: بسم الله، إنّا نريد أن نتحدث عن تحقيق، فقال: اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها، حتى
__________
(1) في أصول النفح ودوزي: شهيد؛ والتصويب عن ابن أبي أصيبعة (2: 49) .
(2) ابن أبي أصيبعة 2: 133 والنفح 2: 691.
(3) اختصار القدح: 158 والمغرب 1: 258 والتكملة رقم: 2025.(3/377)
تعجبوا (1) ، فاختاروا القاف، فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر، وهو ينشد وزن:
أرق على أرقٍ ومثلي يأرق ... وسماره قد نام بعض وضل بعض، وهو ما فارق قافية القاف.
وقال أبو عمران ابن سعيد: دخلت عليه يوماً بدار الأشراف بإشبيلية، وحوله أدباء ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة، فمد الهيثم يده (2) إلى الديوان المذكور، فمنعه منه أحد الأدباء، فقال: يا أبا عمران، أواجب أن يمنعه مني وما يحفظ منه بيتاً، وأنا أحفظه فأكذبته الجماعة، فقال: اسمعوني وأمسكوه، فابتدأ من أوله حتى قارب نصفه، فأقسمنا عليه أن يكف، وشهدنا له بالحفظ.
وكان آية في سرعة البديهة، مشهوراً بذلك، قال أبو الحسن ابن سعيد: عهدي به في إشبيلية يملي على أحد الطلبة شعراً، وعلى ثانٍ موشحه، وعلى ثالثٍ زجلاً، كل ذلك ارتجالاً.
ولما أخذ الحصار بمخنق إشبيلية في مدة الباجي خرج خروج القارظين (3) ، ولا يدري حيث ولا أين.
ومن شعره وقد نزل بداره عبيد السلطان، وكتب به إلى صاحب الأنزال:
كم من يدٍ لك لا أقوم بشكرها ... وبها أشير إليك إن خرست فمي
وقد استشرتك في الحديث فهل ترى ... أن يدخل الغربان وكر الهيثم
__________
(1) ق ب: تعجبوا.
(2) ب: فمد يده الهيثم.
(3) يعني خرج ولم يعد، فعل القارظين المضروب بهما المثل في عدم الأوبة.(3/378)
وله (1) :
يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبةً ... باب الغنيّ، كذا حكم المقادير
وإنّما الناس أمثال الفراش فهم ... بحيث تبدو مصابيح الدنانير وله:
عندي لفقدك أوجالٌ أبيت بها ... كأنّني واضعٌ كفّي على قبس
ولا ملامة إن لم أهد نيّره ... حتى تمدّ إليها كفّ مقتبس
قد كنت أودع سرّ الشوق في طرس ... لكنّني خفت أن يعدو على الطّرس وأنشد له أبو سهل شيخ دار الحديث بالقاهرة في إملائه:
قف بالكثيب لغيرك التأنيب ... إنّ الكثيب هوىً لنا محبوب
يا راحلين لنا عليكم وقفةٌ ... ولكم علينا دمعنا المسكوب
تخلى الديار من المحبّة والهوى ... أبداً وتعمر أضلعٌ وقلوب وقال ارتجالاً في صفة فرس أصفر:
أطرفٌ فات طرفي أم شهاب ... هفا كالبرق ضرّمه التهاب
أعار الصبح صفحته نقاباً ... ففرّ به وصحّ له النقاب
فمهما حثّ خال الصبح وافى ... ليطلب ما استعار فما يصاب
إذا ما انقضّ كلّ النجم عنه ... وضلّت عن مسالكه السحاب
فيا عجباً له فضل الدراري ... فكيف أذال أربعه التراب
سل الأرواح عن أقصى مداه ... فعند الريح قد يلفى الجواب 163 - وقال أبو عمر الطلمنكي: دخلت مرسية، فتشبث بي أهلها
__________
(1) القدح: 159 والمغرب؛ 258 وقد تأخر موضعهما في ب بعد وصف الفرس.(3/379)
يسمعوا علي الغريب المصنف، فقلت: انظروا من يقرأ لكم، وأمسكت أنا كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بان سيده، فقرأه (1) علي من أوله إلى آخره، فعجبت من حفظه، وكان أعمى ابن أعمى، وابن سيده المذكور هو أبو الحسن علي بن أحمد بن سيده، وهو صاحب كتاب " المحكم ".
ومن نظمه مما كتب به إلى ابن الموفق:
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيلٌ فإنّ الأمن في ذاك واليمنى ومنها:
ضحيت فهل في برد ظللك نومةٌ ... لذي كبدٍ حرّى وذي مقلةٍ وسنى وتوفي ابن سيده المذكور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وعمره نحو الستين، رحمه الله تعالى.
164 - ومن حكاياتهم في حب العلم أن المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس كان كما قال ابن الأبار كثير الأدب، جم المعرفة، محباً لأهل العلم، جماعةً للكتب، ذا خزانة عظيمة، لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة، قاله ابن حيان.
وقال ابن بسام (2) : كان المظفر أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع، وله التصنيف الرائق، والتأليف الفائق، المترجك بالتذكرة والمشتهر أيضاً اسمه بالكتاب المظفري، في خمسين مجلداً، يشتمل على فنون وعلوم من مغازٍ وسير ومثل وخبر وجميع ما يختص به علم الأدب، أبقاه للناس (3) خالداً، وتوفي المظفر سنة ستين وأربعمائة. وكان يحضر العلماء للمذاكرة، فيفيد
__________
(1) ب: قرأه.
(2) الذخيرة 2: 255.
(3) الذخيرة: في الناس.(3/380)
ويستفيد، رحمه الله تعالى.
165 - ومن التآليف الكبار لأهل الأندلس كتاب " السماء والعالم " (1) الذي ألفه أحمد بن أبان صاحب شرطة قرطبة، وهو مائة مجلد، رأيت بعضه بفاس، وتوفي ابن أبان سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى.
[روح الفكاهة عند الأندلسيين]
ولأهل الأندلس دعابة وحلاوة في محاوراتهم، وأجوبة بديهية مسكتة، والظرف فيهم والأدب كالغريزة، حتى في صبيانهم ويهودهم، فضلاً عن علمائهم وأكابرهم.
ولنذكر جملة من ذكر الجلة فنقول:
166 - حكي عن عالم المرية القاضي أبي الحسن مختار الرعيني، وكان فيه حلاوة ولوذعية ووقار وسكون، أنه استدعاه يوماً زهير ملك المرية من مجلس حكمه، فجاءه يمشي مشية قاضٍ قليلاً قليلاً، فاستعجله رسول زهير، فلم يعجل، فلما دخل عليه قال له: يا فقيه، ما هذا البطء فتأخر إلى باب المجلس، وطلب عصا، وشمر ثيابه، فقال له زهير: ما هذا قال: هذا يليق باستعجال الحاجب لي، فوقع في خاطري أنه عزلني عن القضاء وولاني الشرطة، فضحك زهير واستحلاه ولم يعد إلى استعجاله.
وهذا القاضي هو القائل - وقد دخل حماماً فجلس بإزائه عاميٌ أساء الأدب عليه -:
ألا لعن الحمّام داراً فإنّه ... سواءٌ به ذو العلم بالعلم والجهل في القدر
تضيع به الآداب حتى كأنّها ... مصابيح لم تنفق على طلعة الفجر
__________
(1) الجذوة: 110، 381.(3/381)
167 - وروي أن المقرئ أبا عبد الله محمد بن الفراء إمام النحو واللغة في زمانه - وكانت فيه فطنة ولوذعية - أبطأ خروجه يوماً إلى تلامذته، فطال بهم الكلام في المذاكرة فقال أحدهم نصف بيت، وكان فيهم وسيم من أبناء الأعيان، وكان ابن الفراء كثير الميل إليه، فلما خرج قال له: يا أستاذ، علمت نصف بيت، وأريد أن تتمه، فقال ما هو فقال:
ألا بأبي شادنٌ أوطف ... فقال الأستاذ ابن الفراء بديهاً:
إذا كان وردك لا يقطف ... وثغر ثناياك لا يرشف
فأيّ اضطرارٍ بنا أن نقول: ... ألا بأبي شادنٌ أوطف وهذا ابن الفراء هو القائل (1) :
قيل لي: قد تبدّلا ... فاسل عنه كما سلا
لك سمعٌ وناظرٌ ... وفؤادٌ فقلت: لا
قيل: غالٍ وصاله ... قلت: لمّا غلا حلا
أيّها العاذل الذي ... بعذابي توكّلا
عد صحيحاً مسلّماً ... لا تعيّر فتبتلى وتذكرت بهذا ما أنشده لسان الدين في كتابه " روضة التعريف بالحب الشريف ":
قلت للساخر الذي ... رفع الأنف واعتلى
أنت لم تأمن الهوى ... لا تعيّر فتبتلى
__________
(1) زاد المسافر: 100.(3/382)
ومن بديع نظم ابن الفراء المذكور قوله (1) :
شكوت إليه بفرط الدّنف ... فأنكر من قصتي ما عرف
وقال: الشهود على المدّعي ... وأمّا أنا فعليّ الحلف
فجئنا إلى الحاكم الألمعيّ ... قاضي المجون وشيخ الطّرف
وكان بصيراً بشرع الهوى ... ويعلم من أين أكل الكتف
فقلت له: اقض ما بيننا ... فقال: الشهود على ما تصف
فقلت له: شهدت أدمعي ... فقال: إذا شهدت تنتصف
ففاضت دموعي من حينها ... كفيض السحاب إذا ما يكف
فحرّك رأساً إلينا وقال: ... دعوا دعوا يا مهاتيك هذا الصلف
كذا تقتلون مشاهيرنا ... إذا مات هذا فأين الخلف
وأوما إلى الورد أن يجتنى ... وأوما إلى الريق أن يرتشف
فلمّا رآه حبيبي معي ... ولم يختلف بيننا مختلف
أزال العناد فعانقته ... كأنّي لامٌ وحبّي ألف
فظلت عتابه في الجفا ... فقال: عفا الله عمّا سلف 168 - وحكي عن الزهري خطيب إشبيلية - وكان أعرج - أنه خرج مع ولده إلى وادي إشبيلية، فصادف جماعة في مركب (2) ، وكان ذلك بقرب الأضحى، فقال بعضهم له: بكم هذا الخروف وأشار إلى ولده، فقال له الزهري: ما هو للبيع، فقال: بكم هذا التيس وأشار إلى الشيخ الزهري، فرفع رجله العرجاء وقال: هو معيب لا يجزئ في الضحية، فضحك كل
__________
(1) زاد المسافر: 99.
(2) ب: وكان ذلك في مركب.(3/383)
من حضر، وعجبوا من لطف خلقه.
وركب مرة هذا النهر مع الباجي يوم خميس، فلما أصبحا وصعد الزهري يخطب يوم الجمعة، والباجي حاضر قدامه، فنظر إليه الباجي وأومأ إلى محل الحدث، وأخرج لسانه، فجعل الزهري يلمس عصا الخطبة، يشير بالعصا إلى جوابه على ما قصد، رحمه الله تعالى.
169 - ومر العالم أبو القاسم ابن ورد صاحب التآليف في علم القرآن والحديث بجنة لحد الأعيان فيها ورد فوقف بالباب وكتب إليه:
شاعر قد عراك يبغي أباه ... عندما اشتاق حسنه وشذاه
وهو بالباب مصغياً لجوابٍ ... يرتضيه النّدى فماذا تراه فعندما وقف على البيتين علم أنه ابن ورد فبادر من جملته إلبه، وأقسم في النزول عليه، ونثر من الورد ما استطاع بين يديه.
170 - وحكي أن أبا الحسين سليمان بن الطراوة نحوي المرية حضر مع ندماء، وإلى جانبه من أخذ بمجامع قلبه، فلما بلغت النوبة إليه استعفى من الشرب، وأبدى القطوب، فأخذ ابن الطراوة الجام من يده وشربها عنه، ويا بردها على كبده، ثم قال بديهاً:
يشربها الشيخ وأمثاله ... وكلّ من تحمد أفعاله
والبكر إن لم يستطع صولةً ... تلقى على البازل أثقاله ودخل عليه وهو مع ندمائه غلام بكأس في يده فقال:
ألا بأبي وغير أبي غزالٌ ... أتى وبراحه للشرب راح
فقال منادمي في الحسن صفه ... فقلت الشّمس جاء بها الصّباح(3/384)
وقال فيمن جاء بالراح:
ولمّا رأيت الصبح لاح بخدّه ... دعوتهم رفقاً تلح لكم الشمس
وأطلعها مثل الغزالة وهو كال ... غزال فتمّ الطيب واكتمل الأنس وقال، وقد شرب ليلة القمر:
شربنا بمصباح السماء مدامةً ... بشاطي غديرٍ والأزاهر تنفح
وظلّ جهولٍ يرقب الصبح ضلّةً ... ومن أكؤسي لم يبرح الليل يصبح 171 - وكان أبو عبد الله ابن الحاج المعروف بمدغليس صاحب الموشحات يشرب مع ندماء ظراف في جنة بهجة، فجاءت ورقة من ثقيل يرغب في الإذن، وكان له ابن مليح فكتب إليه مدغليس:
سيّدي هذا مكانٌ ... لا يرى فيه بلحيه
غير تيسٍ مصفعان ... يّ له بالصّفع كديه
أو له ابنٌ شافعّ في ... هـ فيلقى بالتحيّه
أيّها القابل بادر ... سائقاً تلك المطيّه وكان مدغليس هذا مشهوراً بالانطباع والصنعة في الأزجال، خليفة ابن قزمان في زمانه، وكان أهل الأندلس يقولون: ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء، ومدغليس بمنزلة أبي تمام، بالنظر إلى الانطباع والصناعة، فابن قزمان ملتفت إلى المعنى، ومدغليس ملتفت للفظ وكان أديباً معرباً بكلامه مثل ابن قزمان، ولكنه لما رأى نفسه في الزجل أنجب اقتصر عليه.
ومن شعره قوله:
ما ضرّكم لو كتبتم ... حرفاً ولو باليسار
إذ أنتم نور عيني ... ومطلبي واختياري(3/385)
172 - وقال الخطيب الأديب النحوي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الفراء - المذكور قبل هذا بقريب - الضرير، في صبي كان يقرأ عليه النحو اسمه حسن، وهو في غاية الجمال - بعد أن سأله: كيف تقول إذا تعجبت من حسنك فقال أقول: ما أحسني -:
يا حسناً مالك لم تحسن ... إلى نفوسٍ بالهوى متعبه
رقمت بالورد وبالسسوسن ... صفحة خدّ بالسنا مذهبه
وقد أبى صدغك أن أجتني ... منه وقد ألدغني عقربه
يا حسنه إذ قال ما أحسني ... ويا لذاك اللّفظ ما أعذبه
ففوّق السهم ولم يخطني ... وإذ رآني ميّتاً أعجبه
وقال كم عاش وكم حبّني ... وحبّه إيّاي قد عذّبه
يرحمه الله على أنّني ... قتلي له لم أدر ما أوجبه وهذا ابن الفراء من فضلاء المائة السادسة، ذكره ابن غالب في " فرحة الأنفس في فضلاء العصر من الأندلس " وكان شاعراً مجيداً، يعلم بالمرية القرآن والنحو واللغة، وكانت فيه فطنة ولوذعية، وذكاء وألمعية، خرق بها العوائد.
وحكي أن قاضي المرية قبل شهادته في سطل ميزه في حمام باللمس، واختبره في ذلك بحكاية طويلة.
وذكره صفوان في " زاد المسافر " ووصفه بالخطيب.
[رسالة أبي عبد الله ابن الفراء إلى ابن تاشفين]
وجده القاضي أبو عبد الله ابن الفراء مشهور بالصلاح والفضل والزهد، ومن العجائب أنه ليس له ترجمة في " المغرب "، ولما كتب أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين إلى أهل المرية يطلب منهم المعونة جاوبه بكتابه المشهور الذي يقول فيه: فما ذكره أمير المسلمين من اقتضاء المعونة وتأخري عن ذلك، وأن(3/386)
الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوا بأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اقتضاها، وكان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعه في قبره ولا يشك في عدله، فليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بضجيعه في قبره، ولا من لا يشك في عدله، فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلته في العدل فالله تعالى سائلهم عن تقلدهم فيك، وما اقتضاها عمر رضي الله تعالى عنه حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف أن ليس عنده درهم واحد في بيت مال المسلمين ينفقه عليهم، فتدخل المسجد الجامع هنالك بحضرة من أهل العلم وتحلف أن ليس عندك درهم واحد ولا في بيت مال المسلمين، وحينئذ تستوجب ذلك، والسلام، انتهى.
173 - وأما ابن الفراء الأخفش بن ميمون (1) الذي ذكره الحجاري فيه " المسهب " فليس هو من هؤلاء، بل هو من حسن القبذاق من أعمال قلعة بني سعيد، وتأدب في قرطبة، ثم عاد إلى حضرة غرناطة، واعتكف بها على مدح وزيرها اليهودي، وهو القائل:
صابح محياه تلق النجح في الآمال ... وانظر بناديه حسن الشمس في الحمل
ما إن يلاقي خليلٌ فيه من خللٍ ... وكلّما حال صرف الدهر لم يحل وكان يهاجي المنفتل شاعر إلبيرة، ومن هجاء المنفتل (2) له قوله:
لابن ميمون قريضٌ ... زمهرير البرد فيه
فإذا ما قال شعراً ... نفقت سوق أبيه ولما وفد على المرية مدح رفيع الدولة ابن المعتصم ابن صمادح بشعر، فقال له
__________
(1) المغرب 2: 182.
(2) ق ب: ومن هجائه المنفتل له؛ والبيتان في الذخيرة 2 / 1: 264.(3/387)
بعض من أراد ضره: يا سيدي لا تقرب هذا اللعين، فإنه قال في اليهودي:
ولكنّ عندي للوفاء (1) شريعةً ... تركت بها الإسلام يبكي على الكفر فقال رفيع الدولة: هذا والله هو الحر الذي ينبغي أن يصطنع، فلولا وفاؤه ما بكى كافراً بعد موته وقد وجدنا في أصحابنا من لا يرعى مسلماً في حياته. وقال فيه المنفتل (2) :
إن كنت أخفش عينٍ ... فإنّ قلبك أعمى
فكيف تنثر نثراً ... وكيف تنظم نظما ومن شعر الأخفش المذكور قوله:
إذا زرتم غبّاً فلم ألق بالبرّ ... وإن غبت لم أطلب ولم أجر في الذكر
فإنّي إذن أولى الورى بفراقكم ... ولا سيّما بعد التجلّد والصبر ولما وفد على المنصور ابن أبي عامر الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغساني البجاني (3) اتهم برهق في دينه، فسجنه في المطبق مع الطليق القرشي، والطليق غلام وسيم، وكان ابن مسعود كلفاً به يومئذ وفيه يقول:
غدوت في السجن (4) خدناً لابن يعقوب ... وكنت أحسب هذا في التكاذيب
رامت عداتي تعذيبي وما شعرت ... أنّ الذي فعلوه ضدّ تعذيبي
راموا بعادي عن الدنيا وزخرفها ... فكان ذلك إدنائي وتقريبي
لم يعلموا أنّ سجني لا أبا لهم ... قد كان غاية مأمولي ومرغوبي
__________
(1) ب: في الوفاء.
(2) المغرب 2: 184.
(3) في الأصول ودوزي: البجالي؛ وترجمته في الجذوة: 86؛ وانظر الذخيرة 1 / 2: 79.
(4) الذخيرة: الجب.(3/388)
وانطلق ابن مسعود والطليق قبله، ووقع بينه وبين الطليق، وعاد المدح هجاء، فقال فيه (1) :
ولي جليسٌ قربه منّي ... بعد الأماني كذباً (2) عنّي
قد قذيت من لحظه مقلتي ... وقرحت من لفظه أذني
راهنني في السجن من قربه ... أشدّ في السجن من السجن
لو أنّ خلقاً كان ضدّاً له ... زاد على يوسف في الحسن
إذا ارتمى فكري في وجهه ... سلّط إبطيه على ذهني
كأنّما يجلس من ذا وذا ... بين كنيفين من النّتن وقال يخاطب المنصور من السجن:
دعوت لمّا عيل صبري فهل ... يسمع دعواي المليك الحليم
مولاي مولاي ألا عطفةٌ ... تذهب عنّي بالعذاب الأليم
إن كنت أضمرت الذي زخرفوا ... عنّي فدعني للقدير الرحيم
فعنده نزّاعةٌ للشّوى ... وعنده الفردوس ذات النعيم 175 - وركب بعض أهل المرية في وادي إشبيلية، فمر على طاقة من طاقات شنتبوس، وهو يغني:
خلّين من واد ومن قوارب ... ومن نزاها في شنتبوس
غرس الحبق الذي في داري ... أحب عندي من العروس (3) فأخرجت رأسها جارية وقال له: من أي البلاد أنت يا من غنى فقال:
__________
(1) الذخيرة: 83.
(2) الذخيرة: كلها.
(3) في ق ب ودوزي: الفردوس، وهو خطأ؛ والعروس من متنزهات إشبيلية.(3/389)
من المرية، فقالت: وما أعجبك في بلدك حتى تفضله على وادي إشبيلية وهو بوجه مالح وقفاً أحرش، وهذا من أحسن تعييب، وذلك أنها أتته بالنقيض من إشبيلية، فإن وجهها النهر العذب، وقفاها بجبال الرحمة أشجار التين والعنب، لا تقع العين إلا على خضرة في أيام الفرج، وأين إشبيلية من المرية، وفي المرية يقول السميسر شاعرها:
بئس دار المرية اليوم داراً ... ليس فيها لساكنٍ ما يحبّ
بلدةٌ لا تمار إلا بريحٍ ... ربّما قد تهبّ أو لا تهبّ يشير إلى مرافقها مجلوبة، وأن الميرة تأتيها في البحر من بر العدوة، وفيها يقول أيضاً:
قالوا المريّة فيها ... نظافةٌ قلت: إيه
كأنّها طست تبر ... ويبصق الدم فيه 176 - وحكى مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البياسي، أنه دخل عليه في مجلس أنس شيخٌ ضخم الجثة مستثقل، فقال البياسي (1) :
اسقني الكأس ضاحيه ... ودع الشيخ ناحيه فقال الكاتب أبو جعفر أحمد بن رضي:
إن تكن ساقياً له ... ليس ترويه ساقيه 177 - وحكي أن العالي إدريس الحمودي لما عاد إلى ملكه بمالقة وبخ قاضيها الفقيه أبا علي ابن حسون، وقال له: كيف بايعت عدوي من بعدي وصحبته فقال: وكيف أنت تركت ملكك لعدوك فقال: ضرورة القدرة حملتني على ذلك، فقال: وأنا أيضاً حصلت في يد من لا يسعني إلا طاعته.
__________
(1) المغرب 1: 427.(3/390)
ومن نظم القاضي المذكور:
رفعت من دهري إلى جائر ... ويبتغي العدل بأحكامي
أضحت به أملاكه مثل أش ... كال خيالٍ طوع أيام
هذا لما أبرم ذا ناقضٌ ... كأنّهم في حكم أحلام 178 - وكان الفقيه العالم أبو محمد عبد الله الوحيدي (1) قاضي مالقة جرى - كما قال الحجاري - في صباه طلق الجموح ولم يزل يعاقب بين غبوق وصبوح، إلى أن دعاه النذير، فاهتدى منه بسراج منير، وأحلته تلك الرجعة، فيما شاء من الرفعة. وقال بعض معاشريه: كنت أماشيه زمن الشباب، فكلما مررنا على امرأة يدعو حسنها وشكلها إلى أن تحير الألباب، أمال إليه طرفه، ولم ينح عنها صرفه، ثم سايرته بعد لما رجع عن ذلك واقتصر، فرأيته يغض البصر، ويخلي الطريق معرضاً إلى ناحية، متى زاحمته امرأة ولو حكت الشمس ضاحية، فقالت له في ذلك، فقال:
ذاك وقتٌ قضيت فيه غرامي ... من شبابي في سترة الإظلام
ثمّ لمّا بدا الصباح لعيني ... من مشيبي ودّعته بسلام (2) ومن شعره في صباه:
لا ترتجوا رجعتي باللّوم عن غرضي ... ولتتركوني وصيدي فرصة الخلس
طلبتم ردّ قلبي عن صبابته ... ومن يردّ عنان الجامح الشرس ولما أقصر باطله، وعريت أفراسه الصبا ورواحله، قال (3) :
__________
(1) ترجمة الوحيدي في المغرب 1: 431 وبغية الملتمس (ص: 326) والصلة: 290 والمرقبة العليا: 104.
(2) م: بالسلام.
(3) البيتان في المغرب 1: 431.(3/391)
ولمّا بدا شيبي عطفت على الهدى ... كما يهتدي حلف السّرى بنجوم
وفارقت أشياع الصبابة والطّلا ... وملت إلى أهلي علاً وعلوم 179 - ولما تألب بنو حسون على القاضي الوحيدي المذكور صادر عنه العالم الأصولي أبو عبد الله ابن الفخار، وطلع في حقه إلى حضرة الإمامة مراكش، وقام في مجلس أمير المسلمين ابن تاشفين، وهو قد غص بأربابه، وقال: إنه لمقام كريم، نبدأ فيه بحمد الله على الدنو منه، ونصلي على خيرة أنبيائه محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحابته نجوم الليل البهيم، أما بعد فإنا نحمد الله الذي اصطفاك للمسلمين أميراً، وجعلك للدين الحنيف نصيراً وظهيراً، ونفزع إليك مما دهمنا في حماك، ونبث إليك ما لحقنا من الضيم ونحن تحت ظل علاك، ويأبى الله أن يدهم من احتمى بأمير المسلمين، ويصاب بضيم من ادرع بحصنه الحصين، شكوى قمت بها بين يديك في حق أمرك الذي عضده مؤيده، لتسمع منها ما تختبره برأيك وتنقده، وإن قاضيك ابن الوحيدي الذي قدمته في مالقة للأحكام، ورضيت بعدله فيمن بها من الخاصة والعوام، لم يزل يدل على حسن اختيارك بحسن سيرته، ويرضي الله تعالى ويرضي الناس بظاهره وسريرته، ما علمنا عليه من سوء، ولا درينا له موقف خزي، ولم يزل جارياً على ما يرضي الله تعالى ويرضيك ويرضينا إلى أن تعرضت بنو حسون إلى الطعن في أحكامه، والهد من أعلامه، ةلم يعلموا أن اهتضام المقدم، راجعٌ على المقدم، بل جمحوا في لجاجهم فعموا وصموا، وفعلوا وأمضوا ما به هموا.
وإلى السحب يرفع الكف من قد ... جف عنه مسيل عين ونهر فملأ سمعه بلاغة أعقبت نصره ونصر صاحبه.
ومن شعر ابن الفخار المذكور، ويعرف بابن نصف الربض، قوله:
أمستنكرٌ شيب المفارق في الصّبا ... وهل ينكر النّور الفتح في الغصن
أظنّ طلاب المجد شيّب مفرقي ... وإن كنت في إحدى وعشرين من سني(3/392)
وقوله:
أقلّ عتابك إنّ الكريم ... يجازي على حبّه بالقلى
وخلّ اجتنابك إنّ الزّمان ... يمرّ بتكديره ما حلا
وواصل أخاك بعلاته ... فقد يلبس الثوب بعد البلى
وقل كالذي قال شاعرٌ ... نبيلٌ وحقّك أن تنبلا
إذا ما خليلٌ أسا مرّةً ... وقد كان في ما مضى مجملا
ذكرت المقدّم من فعله ... فلم يفسد الآخر الأولا 180 - ولما وفد أبو الفضل ابن شرف من برجة في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة العظمى أنشده قصيدته الفائقة وهي (1) :
مطل الليل بوعد الفلق ... وتشكّى النجم طول الأرق
ضربت ريح الصّبا مسك الدجى ... فاستفاد الروض طيب العبق
وألاح الفجر خدّاً خجلاً ... جال من رشح الندى في عرق
جاوز الليل إلى أنجمه ... فتساقطن سقوط الورق
واستفاض الصبح فيه فيضةً ... أيقن النجم لها بالغرق
فانجلى ذاك السنا عن حلكٍ ... وانمحى ذاك الدجى عن شفق
بأبي بعد الكرى طيفٌ سرى ... طارقاً عن سكنٍ لم يطرق
زارني والليل ناعٍ سدفه ... وهو مطلوبٌ بباقي الرّمق
ودموع الطّلّ تمريها الصّبا ... وجفون الروض غرقى الحدق
فتأنّى في إزارٍ ثابتٍ ... وتثنّى في وشاحٍ قلق
وتجلّى وجهه عن شعره ... فتجلى فلقٌ عن غسق
نهب الصبح دجى ليلته ... فحبا الخدّ ببعض الشفق
__________
(1) انظرها في الذخيرة (3: 277) وبعضها في المغرب 2: 230.(3/393)
سلبت عيناه حدّي سيفه ... وتحلّى خدّه بالرونق
وامتطى من طرفه ذا خببٍ ... يلثم الغبراء إن لم يعنق
أشوس الطرف علته نخوةٌ ... يتهادى كالغزال الخرق
لو تمطّى بين أسراب المها ... نازعته في الحشا والعنق
حسرت دهمته عن غرّةٍ ... كشفت ظلماؤها عن يقق
لبست أعطافه ثوب الدجى ... وتحلّى خدّه باليقق
وانبرى تحسبه أجفل عن ... لسعةٍ أو جنةٍ أو أولق
مدركاً بالمهل ما لا ينتهي ... لاحقاً بالرّفق ما لم يلحق
ذو رضىً مستترٍ في غضبٍ ... ذو وقارٍ منطوٍ في خرق
وعلى خدٍّ كعضبٍ أبيضٍ ... أذنٌ مثل سنانٍ أزرق
كلّما نصّبها مستمعاً ... بدت الشهب إلى مسترق
حاذرت منه شبا خطّيّة ... لا يجيد الخطّ ما لم يمشق
كلّما شامت عذاري خدّه ... خفقت خفق فؤاد الفرق
في ذرا ظمآن فيه هيفٌ ... لم يدعه للقضيب المورق
يتلقّاني بكفٍّ (1) مصقعٍ ... يقتفي شأو عذارٍ مفلق
إن يدر دورة طرفٍ يلتمح ... أو يجل جول لسانٍ ينطق
عصفت ريحٌ على أنبوبه ... وجرت أكعبه في زئبق
كلّما قلّبه باعد عن ... متن ملساء كمثل البرق
جمع السّرد قوى أزرارها ... فتآخذن بعهدٍ موثق
أوجبت في الحرب من وخز القنا ... فتوارت حلقاً في حلق
كلّما دارت بها أبصارها ... صوّرت منها مثال الحدق
زلّ عنه متن مصقول القوى ... يرتمي في مائها بالحرق
__________
(1) دوزي: بكعب.(3/394)
لو نضا وهو عليه ثوبه ... لتعرى عن شواظٍ محرق
أكهبٌ من هبواتٍ أخضرٌ ... من فرندٍ أحمرٌ من علق
وارتوت صفحاه حتى خلته ... بحيا منٍّ لكفّيك سقي
يا بني معنٍ لقد ظلّت بكم ... شجرٌ لولاكم لم تورق
لو سقي إحسان إحسانكم ... ما بكى ندمانه في جلّق
أو دنا الطائيّ من حيّكم ... ما حدا البرق لربع الأبرق
أبدعوا في الفضل حتى كلّفوا ... كاهل الأيّام ما لم يطق فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه، وحسده بعض من حضر، وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم، فقال له: من أي البوادي أنت قال: أنا من الشرف في الدرجة العالية، وإن كانت البادية علي بادية، ولا أنكر حالي، ولا أعرف بخالي، فمات ابن أخت غانم خجلاً، وشمت به كل من حضر.
وابن شرف المذكور (1) هو الحكيم الفيلسوف أبو الفضل جعفر ابن أديب إفريقية أبي عبد الله محمد بن شرف الجذامي، ولد ببرجة، وقيل: إنه دخل الأندلس مع أبيه وهو ابن سبع سنين، ومن نظمه قوله:
رأى الحسن ما في خدّه من بدائعٍ ... فأعجبه ما ضمّ منه وحرّفا
وقال لقد ألفيت فيه نوادراً ... فقلت له لا بل غريباً مصنّفا وقوله:
قد وقف الشكر بي لديكم ... فلست أقوى على الوفاده
ونلت أقصى المراد منكم ... فصرت أخشى من الزياده
__________
(1) ترجمة أبي الفضل ابن شرف في المغرب 2: 230 والذخيرة (3: 276) والقلائد: 252 والصلة: 129 والمطرب: 71 وبغية الملتمس ص: 239.(3/395)
وقوله:
إذا ما عدوّك يوماً سما ... إلى رتبةٍ لم تطق نقضها
فقبّل ولا تأفن كفّه ... إذ أنت لم تستطع عضّها وقوله، وقد تقدم على كل شاعر:
لم يبقى للجور في أيامهم أثرٌ ... إلا الذي في عيون الغيد من حور وأول هذه القصيدة قوله:
قامت تجرّ ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر وكان قد قصر أمداحه على المعتصم، وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات، فوفد عليه مرة يشكو عاملاً ناقشه في قرية يحرث فيها، وأنشده الرائية التي مر مطلعها إلى أن بلغ قوله:
لم يبق للجور ... البيت
فقال له: كم في القرية التي تحرث فيها فقال: فيها نحو خمسين بيتاً، فقال له: أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، ثم وقع له بها، وعزل عنها نظر كل والٍ.
وله ابنٌ فيلسوف شاعر مثله، وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل (1) المذكور، وهو القائل:
وكريمٍ أجارني من زمانٍ ... لم يكن منخطوبه لي بدّ
منشدٍ كلّما أقول تناهى ... ما لمن يبتغي المكارم حدّ
__________
(1) ترجمته في المغرب 2: 232 والمسالك 11: 238.(3/396)
181 - وابن أخت غانم هو العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر (1) ، من أعيان مالقة، متفنن في علوم شتى، إلا أن الغالب عليه علم اللغة، وكان قد رحل من مالقة إلى المرية، فحل عند ملكها المعتصم بن صمادح بالمكانة العلية، وهو القائل في ابن شرف المذكور:
قولوا لشاعر برجةٍ هل جاء من ... أرض العراق فحاز طبع البحتري
وافى بأشعارٍ تضجّ بكفّه ... وتقول هل أعزى لمن لم يشعر
يا جعفراً ردّ القربض لأهله ... واترك مباراةً لتلك الأبحر
لا تزعمن ما لم تكن أهلاً له ... هذا الرّضاب لغير فيك الأبخر وذكره ابن اليسع في معربه (2) وقال: إنه حدثه بداره في مقالة وهو ابن مائة سنة، وأخذ عنه عام أربعة وعشرين وخمسمائة، وله تآليف منها " شرح كتاب النبات " لأبي حنيفة الدينوري، في ستين مجلداً، وغير ذلك.
وغانٍ خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم غانم المخزومي، نسب إليه بشهرة ذكره، وعلو قدره.
182 - ولما قرأ العالم الشهير أبو محمد ابن عبدون في أول شبابه على أبي الوليد ابن ضابط النحوي المالقي جرى بين يديه ذكر الشعر، وكان قد ضجر منه، فقال:
الشعر خطّة خسف ... فقال ابن عبدون معرضاً به حين كان مستجدياً بالنظم، وكان إذ ذاك شيخاً:
لكلّ طالب عرف ...
__________
(1) ترجمته في المغرب 1: 433 وبغية الوعاة: 106 وأبياته في المغرب 1: 433.
(2) في الأصول ودوزي: مغربه.(3/397)
للشيخ عيبة عيبٍ ... وللفتى ظرف ظرف وابن ضابظ هو القائل في المظفر ابن الأفطس:
نظمنا لك الشعر البديع لأنّنا ... علمنا بأنّ الشعر عندك ينفق
فإن كنت منّي بامتداح مظّفرا ... فإنّي في قصدي إليك موفقّ (1) ودخل غانم المخزومي السابق ذكره، وهو من رجال الذخيرة، على الملك ابن حبوس صاحب غرناطة، فوسع له على ضيق كان في المجلس، فقال (2) :
صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين
ولا تسامح بغيضاً في معاشرتي ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين وهو القائل:
وقد كنت أغدو نحو قطرك فارحاً ... فها أنا أغدو نحو قبرك ثاكلا
وقد كنت في مدحيك سبحان وائل ... فها أنا من فرط التأسّف باقلا وله أيضاً:
الصبر أولى بوقار الفتى ... من ملك يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حالةٍ ... كان على أيامه بالخيار 184 - وكتب أبو علي الحسن بن الغليظ إلى صاحبه أبي عبد الله ابن السراج، وقد قدم من سفر (3) :
__________
(1) انظر التكملة: 407.
(2) مر البيتان، انظر ص: 265 وانظر بدائع البدائه 2: 123.
(3) البيتان في المغرب 1: 436.(3/398)
يا من أقلّب طرفي في محاسنه ... فلا أرى مثله في الناس إنسانا
لو كنت تعلم ما لقّيت بعدك ما ... شربت كأساّ ولا استحسنت ريحانا فورد عليه من حينه وقال: أردت مجاوبتك، فخفت أن أبطئ، وصنعت الجواب في الطريق:
يامن إذا ما سقتني الراح راحته ... أهدت إليّ بها روحاً وريحانا
من لم يكن في صباح السبت يأخذها ... فليس عندي بحكم الظرف إنسانا
فكن على حسن هذا اليوم مصطحبا ... مذكّراً حسناً فيه وإحسانا
وفي البساتين إن ضاق المحل بنا ... مندوحةٌ لا عدمنا الدهر بستانا 185 - ووفد أبو علي الحسن بن كسرين (1) المالقي الشاعر المشهور على ملك إشبيلية السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي، فأنشده قصيدة طار مطلعها في الأقطار، كل مطار، وهو:
قسماً بحمصٍ إنّه لعظيم ... فهي المقام وأنت إبراهيم 186 - ووصف الشاعر عطاء المالقي غادةً جعلت على رأسها تاجاً فقال:
وذات تاج رصّعوا دوره ... فزاد في لألائها باللآل
كأنّها شمسٌ وقد توّجت ... بأنجم الجوزاء فوق الهلال
قد اشتكى الخلخال منها إلى ... سوارها فاشتبها في المقال
وأجريا ذكر الوشاح الذي ... لمّا يزل من خصرها في مجال
فقال: لم أرض بما نلته ... وليتني مثلكما لا أزال
أغصّ بالخصر وأعيا به ... كغصّ ظمآنٍ بماء زلال
وإنّما الدهر بغير الرضى ... يقضي فكلٌّ غير راضٍ بحال
__________
(1) في التحفة: 91 ابن كسرى، وكذلك في التكملة: 264.(3/399)
وهو القائل:
سل بحمّامنا الذي ... كلّ عن شكره ثمي
كم أراني بقربه ... جنّةً في جهنم 187 - وكان يحضر حلقة الإمام السهيلي وضيء الوجه من تلامذته، فانقطع لعارضٍ، فخرج السهيلي ماراً في الطريق الذي جرت عادته بالمشي فيه، فوجد قناة تصلح، فمنعته من المرور، فرجع وسلك طريقاً آخر، فمر على دار تلميذه الوضيء، فقال له بعض أصحابه ممازحاً بعبوره على منزله، فقال: نعم، وأنشد ارتجالاً:
جعلت طريقي على بابه ... وما لي على بابه من طريق
وعاديت من أجله جيرتي ... وآخيت من لم يكن لي صديق
فإن كان قتلي حلالاً لكم ... فسيروا بروحي سيراً رفيق وأبو القاسم السهيلي مشهور، عرف به ابن خلكان وغيره، ويكنى أيضاً بأبي زيد، وهو صاحب كتاب " الروض الأنف " وغيره.
واجتاز على سهيل وقد خربه العدو لما أغار عليه وقتلوا أهله وأقاربه، وكان غائباً عنهم، فاستأجر من أركبه دابة، وأتى به إليه، فوقف بإزائه، وأنشد (1) :
يا دار أين البيض والآرام ... أم أين جيرانٌ عليّ كرام
راب المحبّ من المنازل أنّه ... حيّا فلم يرجع غليه سلام
لمّا أجابني الصّدى عنهم ولم ... يلج المسامع للحبيب كلام
طارحت ورق حمامها مترنّماً ... بمقال صبّ والدموع سجام
" يادار ما فعلت بك الأيام ... ضامتك والأيام ليس تضام "
__________
(1) الأبيات في المغرب 1: 370.(3/400)
وجرى بين السهيلي والرصافي الشاعر المشهور ما اقتضى قول الرصافي:
عفى الله عنّي فإنّي امرؤٌ ... أتيت السلامة من بابها
على أنّ عندي لمن هاجني ... كنائن غصّت بنشّابها
ولو كنت أرمي بها مسلماً ... لكان السهيلي أولى بها وتوفي السهيلي بمراكش سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وزرت قبره بها مراراً سنة عشر وألف، وسكن رحمه الله تعالى إشبيلية مدة، ولازم القاضي أبا بكر ابن العربي وابن الطراوة، وعنه أخذ لسان العرب، وكان ضريراً.
ومن شعره أيضاً لما قال: " كيف أمسيت " موضع " كيف أصبحت ":
لئن قلت صبحاً كيف أمسيت مخطئا ... فما أنا في ذاك الخطا بملوم
طلعت وأفقي مظلمٌ لفراقكم ... فخلتك بدراً والمساء همومي 188 - وحكي أن الوزير الكاتب أبا الفضل ابن حسداي الإسلامي السرقسطي، وهو من رجال الذخيرة، عشق جاريةً ذهبت بلبه، وغلبت على قلبه، فجن به جنونه، وخلع عليها دينه، وعلم بذلك صاحبه فزفها إليه، وجعل زمامها في يديه، فتجافى عن موضعه من وصلها أنفة من أن يظن الناس أن إسلامه كان من أجلها، فحسن ذكره، وخفي على كثير من الناس أمره، ومن شعره قوله (1) :
وأطربنا غيمٌ يمازج شمسه ... فيستر طوراً بالسحاب ويكشف
ترى قزحاً في الجوّ يفتح قوسه ... مكبّاً على قطنٍ من الثلج يندف وكان في مجلس المقتدر بن هود ينظر في مجلد، فدخل الوزير الكاتب أبو
__________
(1) البيتان في الذخيرة (3: 164) .(3/401)
الفضل ابن الدباغ وأراد أن يندر به، فقال له، وكان ذلك بعد إسلامه: يا أبا الفضل، ما الذي تنظر فيه من الكتب، لعله التوراة فقال: نعم، وتجليدها من جلدٍ دبغه من تعلم، فمات خجلاً، وضحك المقتدر.
189 - وأراد الشاعر أبو الربيع سليمان السرقسطي حضور نديم له، فكتب إليه:
بالراح والريحان والياسمين ... وبكرة الندمان قبل الأذين
وبهجة الروض بأندائه ... مقلداً منه بعقدٍ ثمين
ألا أجب سبقاً ندائي إلى ال ... كأس تبدّت لذة الشاربين
هامت بها الأعين من قبل أن ... يخبرها الذوق بحقّ اليقين
لاحت لدينا شفقاً معلناً ... فكن له بالله صبحاً مبين 190 - وكتب علي بن خير التطيلي (1) إلى ابن عبد الصمد السرقسطي يستدعيه إلى مجلس أنس: أنا - أطال الله تعالى بقاء الكاتب سراج العلم وشهاب الفم - في مجلس قد عبقت تفاحه، وضحكت راحه (2) ، وخفقت حولنا للطرب ألوية، وسالت بيننا للهو أودية، وحضرتنا مقلة تسأل منك إنسانها (3) ، وصحيفة فكن (4) عنوانها، فإن رأيت أن تجعل إلينا القصد، لنحصل بك في جنة الخلد، صقلت نفوساً أصدأها بعدك، وأبرزت شموساً (5) أدجاته فقدك.
__________
(1) هذا النص في الذخيرة (3: 256) وقد صدره ابن بسام بقوله " وأخبرت أن بعض أدباء الثغر استدعى هذا الشيخ (يعني أبا الصمد؛ وكان في عصر أبي حفص ابن برد الأصغر، فهو غير أبي بحر ابن عبد الصمد) لمجلس أنس بهذا النثر: أنا أطال الله بقاء الكاتب ... إلخ.
(2) الذخيرة: وصفت أقداحه.
(3) الذخيرة: فنحن لنأيك عنا مقلة تسأل إنسانها.
(4) الذخيرة: نشر.
(5) الذخيرة: وأنرت سرجا؛ وهو أجود.(3/402)
فأجابه أبو (1) عبد الصمد: فضضت - أيها الكاتب العليم، والمصقع الحبر الصميم - طابع كتابك، فمنحني منه جوهر منتخب، لا يشوبه مخشلب، هو السحر إلا أنه حلال، دل على ود حنيت ضلوعك عليه، ووثيق عهد انتدب كريم سجيتك إليه، فسألت فالق الحب، وعامر القلب بالحب، أن يصون لي حظي منك، ويدرأ لي النوائب عنك، ولم يمنعني أن أصرف وجه الإجابة إلى مرغوبك، وأمتطي جواد الانحدار إلى محبوبك، إلا عارض ألمٍ ألم بي فقيد بقيده نشاطي، وروى براحته بساطي، وتركني أتململ على فراشي كالسليم، وأستمطر الإصباح من الليل البهيم، وأنا منتظر لإدباره.
191 - ومن لطف أهل الأندلس ورقة طباعهم ما حكاه أبو عمرو ابن سالم المالقي قال: كنت جالساً بمنزلي بمالقة، فهاجت نفسي أن أخرج إلى الجبانة، وكان يوماً شديد الحر، فراودتها على القعود، فلم تمكني من القعود، فمشيت حتى انتهيت إلى مسجد يعرف برابطة الغبار، وعنده الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي، فقال لي: إني كنت أدعوا الله تعالى أن يأتيني بك، وقد فعل، فالحمد لله، فأخبرته بما كان مني، ثم جلست عنده، فقال: أنشدني، فأنشدته لبعض الأندلسيين:
غصبوا الصباح فقسّموه خدودا ... واستوعبوا قضب الأراك قدودا
ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم ... فتقلدوا شهب النجوم عقودا
لم يكفهم حدّ الأسنّة والظّبى ... حتى استعاروا أعيناً وخدودا فصاح الشيخ، وأغمي عليه، وتصبب عرقاً، ثم أفاق بعد ساعة، وقال: يا بني اعذرني فشيئان يقهراني، ولا أملك نفسي عندهما: النظر إلى الوجه الحسن، وسماع الشعر المطبوع، انتهى. وستأتي هذه الأبيات في هذا الباب
__________
(1) في الأصول: ابن.(3/403)
بأتم من هذا وعلى كل حال فهي لأهل الأندلس، لا لابن دريد كما ذكره بعضهم، وسيأتي تسمية صاحبها الأندلسي، كما في كتاب " المغرب " لابن سعيد العنسي المشهور، رحمه الله تعالى.
192 - وقال بعض الأدباء ليحيى الجزار، وهو يبيع لحم ضأن (1) :
لحم إناث الكباش مهزول ... فقال يحيى:
يقول للمشترين مه زولوا ... 193 - وقال التطيلي الأعمى في وصف أسد رخام يرمي بالماء على بحيرة (2) :
أسدٌ ولو أنّي أنا ... قشه الحساب لقلت صخره
وكأنّه أسد السما ... ء يمجّ من فيه المجرّه 194 - وحضر جماعة من أعيان الأدباء مثل الأبيض وابن بقي وغيرهما من الوشاحين، وافقوا على أن يصنع كل واحد منهم موشحة، فلما أنشد الأعمى موشحته التي مطلعها (3) :
ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري خرق كل منهم موشحته.
195 - وتحاكمت امرأة إلى القاضي أبي محمد عبد الله اللاردي الأصبحي،
__________
(1) انظر زاد المسافر: 98.
(2) ديوان التطيلي: 249.
(3) أزهار الرياض 2: 208.(3/404)
وكانت ذا جمال ونادرة، فحكم لزوجها عليها، فقالت له: من يضيع قلبه كل طرف فاتر جدير أن يحكم بهذا، تشير إلى قوله:
أين قلبي أضاعه كلّ طرفٍ ... فاترٍ يصرع الحليم لديه
كلمّا ازداد ضعفه ازداد فتكاً ... أيّ صبرٍ ترى يكون عليه 196 - وحضر أبو إسحاق ابن خفاجة مجلساً بمرسية مع أبي محمد جعفر ابن عنق الفضة الفقيه السالمي، وتذاكرا، فاستطال ابن عنق الفضة، ولعب بأطراف الكلام، ولم يكن ابن خفاجة يعرفه، فقال له: يا هذا لم تترك لأحد حظاً في هذا المجلس، فليت شعري من تكون فقال: أنا القائل:
الهوى علّمني سهد الليال ... ونظام الشعر في هذي اللآل
كلّما هبّت شمالٌ منهم ... لعبت بي عن يمينٍ وشمال
وأرقّت فكرتي أرواحها ... فأتت منهنّ بالسحر الحلال
كان كالملح أجاجاً خاطري ... وسحاب الحبّ أبدته زلال فاهتز ابن خفاجة، وقال: من يكون هذا قوله لا ينبغي أن يجهل، ولك المعذرة في جهلك، فإنك لم تعرفنا بنفسك، فبالله من تكون فقال: أنا فلان، فعرفه وقضى حقه.
197 - وحكى ابن غالب في " فرحة الأنفس " أن الوزير أبا عثمان ابن شنتفير (1) وأبا عامر ابن غندشلب وفدا رسولين على المعتمد بن عباد، عن إقبال الدولة بن مجاهد والمعتصم بن صمادح والمقتدر بن هود، لإصلاح ما كان بين المعتمد مبين ابن ذي النون، فسر المعتمد بهم وأكرمهم، ودعاهم إلى طعام صنعه لهم، وكان لا يظهر شرب الراح منذ ولي الملك، فلما رأوا انقباضه عن ذلك تحاموا الشراب، فلما أمر بكتب أجوبتهم كتب إليه أبو عامر:
__________
(1) لعله: ابن بشتغير كما ورد من قبل ص: 259.(3/405)
بقيت حاجة لعبد رغيب (1) ... لم يدع غيرها له من نصيب
أنا خيرية المساء حديثاً ... وأنا في الصباح أخشى رقيبي
فإذا أمس كان عندي نهاراً ... لم تخفني عليه بعد الغروب
وإذا الليل جنّ حدّثت جلا ... سي بما كان من حديثٍ عجيب
قيل إن الدّجى لديك نهارٌ ... وكذاك الدّجى نهار الأريب
فتمنّيت ليلةً ليس فيها ... لذ كا ذلك السّنا من مغيب
حيث أعطيك في الخلاء وتعطي ... ني مداماً كمثل ريق الحبيب
ثم أغدو كأنّني كنت في النو ... م وأخفي المنام خوف هزيب والهزيب: الرقيب العتيد في كلام أهل الأندلس، فسر المعتمد وانبسط بانبساطه، وضحك من مجونه، وكتب إليه:
يا مجاباً دعا إلى مستجيب ... فسمعنا دعاءه من قريب
إن فعلت الذي دعوت إليه ... كنت فيما رغبت عين رغيب واستحضره فنادمه خالياً، وكساه ووصله، وانقلب مسروراً، وظن المعتمد أن ذلك يخفى من فعله عن ابن شنتفير، فأعلم بالأمر القائد ابن مرتين، فكاد يتفطر حسداً وكتب إلى المعتمد:
أنا عبدٌ أوليته كلّ برّ ... لم تدع (2) من فنون برّك فنّا
غير رفع الحجاب في شربك الرا ... ح فماذا جناه أن يتجنّى
وتمنّى شراب سؤرك في الكأ ... س فبالله أعطه ما تمنّى فسرته أبياته، وأجابه:
__________
(1) م: غريب.
(2) في الأصول: لم يدع.(3/406)
يا كريم المحلّ في كلّ معنى ... والكريم المحلّ ليس يعنّى
هذه الخمر تبتغيك فخذها ... أو فدعها أو كيفما شئت كنّا 198 - وكان يقرأ في مجلس ملك السهلة أبي مروان ابن رزين ذي الرياستين ديوان شعر محمد بن هانئ، وكان القارئ فيه بله، فلما وصل إلى قوله:
حرام حرام زمان الفقير ... اتفق أن عرض للملك ما اشتغل به، فقال القارئ: أين وقفت فقال: في حر آم، فقام الملك، وقال: هذا موضع لا أقف معك فيه، ادخل أنت وحدك، ثم دخل إلى قصره، وانقلب المجلس ضحكاً.
199 - وكان للملك المذكور وزير من أعاجيب الدهر، وهو الكاتب أبو بكر ابن سدراي (1) ، وذكره الحجاري في " المسهب " وقال: إن له شعراً أرق من نسيم السحر، وأندى من الطلّ على الزهر، ومنه قوله:
ما ضركم لو بعثتم ... ولو بأدنى تحيّه
تهزّني من شذاها ... إليكم الأريحيّه
خذوا سلامي إليكم ... مع الرياح النّديّه
في كلّ سحرة (2) يومٍ ... تترى وكلّ عشيّه
يا ربّ طال اصطباري ... ما الوجد إلا بليّه
غيلان بالشرق أضحى ... وحلّت الغرب ميّه وقوله:
سأبغي المجد في شرقٍ وغربٍ ... فما ساد الفتى دون اغتراب
__________
(1) انظر المغرب 2: 340 وبعض أبياته هنالك.
(2) المغرب: غرة.(3/407)
فإن بلّغت مأمولاً فإنّي ... جهدت ولم أقصر في الطلاب
وإن أنا لم أفز بمراد سعيي ... فكم من حسرةٍ تحت التراب 200 - وقال ملك بلنسية مروان بن عبد العزيز لما ولي مكانه من لا يساويه:
ولا غرو بعدي أن يسوّد معشرٌ ... فيضحي لهم يومٌ وليس لهم أمس
كذاك نجوم الجوّ تبدو زواهراً ... إذا ما توارت في مغاربها الشمس وقال ابن دحية: دخلت عليه وهو يتوضأ، فنظر إلى لحيته وقد اشتعلت بالشيب اشتعالاً، فأنشدني لنفسه ارتجالاً (1) :
ولمّا رأيت الشيب أيقنت أنّه ... نذيرٌ لجسمي بانهدام بنائه
إذا ابيضّ مخضرّ النبات فإنّه ... دليلٌ على استحصاده وفنائه 201 - واعتل ابن ذي الوزارتين أبي عامر ابن الفرج (2) وزير المأمون بن ذي النون، وهو من رجال الذخيرة والقلائد (3) ، فوصف له أن يتداوى بالخمر العتيق، وبلغه أن عند بعض الغلمان منها شيئاً، فكتب إليه يستهديه (4) :
ابعث بها مثل ودّك ... أرقّ من ماء خدّك
شقيقة النفس، فانضح ... بها جوى ابني وعبدك وهو القائل معتذراً عن تخلّفه عمن جاءه منذراً (5) :
__________
(1) المطرب: 80.
(2) ترجم له صاحب المطمح: 15 وانظر الذخيرة (القسم الثالث) والمغرب 2: 303 والحلة 2: 171.
(3) كذا قال ابن سعيد أيضا ولكن ليست لابن فرج ترجمة في القلائد المطبوع، وإنما ترجمته في المطمح.
(4) البيتان في المطمح والحلة.
(5) انظر المصدرين السابقين.(3/408)
ما تخلّفت عنك إلاّ لعذرٍ ... ودليلي في ذاك خوفي عليكا
هبك أنّ الفرار من غير عذرٍ ... أتراه يكون إلاّ إليكا وله من رسالة هناء:
أهنئ بالعيد من وجهه ... هو العيد لو لاح لي طالعا
وأدعو إلى الله سبحانه ... بشملٍ يكون لنا جامعا وكتب إلى الوزير المصري (1) يستدعيه أن يكون من ندمائه، فكتب إليه الوزير المصري يستعلمه اليوم، فلما أراده كتب إليه (2) :
ها قد أهبت بكم وكلّكم هوىً ... وأحقّكم بالشكر منّي السابق
كالشمس أنت وقد أظلّ طلوعها ... فاطلع وبين يديك فجرٌ صادق وله في رئيس مرسية أبي عبد الرحمن ابن طاهر، وكان ممتع المجالسة كثير النادرة:
قد رأينا منك الذي قد سمعنا ... فغدا الخبر عاضد الأخبار
قد وردنا لديك بحراً نميراً ... وارتقينا حيث النجوم الدراري
ولكم مجلسٍ لديك انصرفنا ... عنه مثل الصّبا عن الأزهار 202 - وشرب الأديب الفاضل أبو الحسن علي بن حريق (3) عشيةً مع من يهواه، ورام الانفصال عنه لداره، فمنعه سيلٌ حال بينه وبين داره، فبات عنده على غير اختياره، فقال ابن حريق (4) :
__________
(1) هو أبو محمد المصري: (أبو محمد عبد الله بن خليفة القرطبي) .
(2) الشعر في الحلة والمطمح.
(3) ترجمته في المغرب 2: 318 وزاد المسافر: 23 والتكملة: 629 والفوات 2: 70.
(4) هذه القطعة واللتان تليانها في المغرب: 319، 318.(3/409)
يا ليلةً جادت الليالي ... بها على رغم أنف دهري
للسيل فيها عليّ نعمى ... يقصر عنها لسان شكري
أبات في منزلي حبيبي ... وقام في أهله بعذر
فبتّ لا حالةٌ كحالي ... ضجيع بدرٍ صريع سكر
يا ليلة القدر في اللّيالي ... لأنت خيرٌ من ألف شهر ومن حسنات ابن حريق المذكور قوله:
يا ويح من بالمغرب الأقصى ثوى ... حلف النوى وحبيبه بالمشرق
لولا الحذار على الورى لملأت ما ... بيني وبينك من زفيرٍ محرق
وسكبت دمعي ثمّ قلت لسكبه ... من لم يذب من زفرةٍ فليغرق
لكن خشيت عقاب ربي إن أنا ... أحرقت أو أغرقت من لم أخلق وله:
لم يبق عندي للصّبا لذّةٌ ... إلا الأحاديث على الخمر وله:
فقبّلت إثرك فوق الثرى ... وعانقت ذكرك في مضجعي وله (1) :
إنّ ماءً كان في وجنتها ... وردته السنّ حتى نشفا
وذوى العنّاب من أنملها ... فأعادته الليالي حشفا وأورد له بحر في " زاد المسافر " قوله:
__________
(1) زاد المسافر، 22، 23، 24 (ثلاث قطع) .(3/410)
كلّمته فاحمرّ من خجلٍ ... حتى اكتسى بالعسجد الورق
وسألته تقبيل راحته ... فأبى وقال أخاف أحترق
حتى زفيري عاق عن أملي ... إنّ الشّقيّ بريقه شرق وقوله في السواقي:
وكأنّما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوحٍ مدّة الطوفان
فإذا رأينا الماء يطفح نضنضت ... من كل خرقٍ حيّةٌ بلسان 203 - وقال الفيلسوف أبو جعفر ابن الذهبي فيمن جمع بينه وبين أحد الفضلاء (1) :
أيّها الفاضل الذي قد هداني ... نحو من قد حمدته باختبار
شكر الله ما أتيت وجازا ... ك ولا زلت نجم هدي لساري
أيّ برقٍ أفاد أيّ غمامٍ ... وصباحٍ أدّى لضوء نهار
وإذا ما النسيم كان دليلي ... لم يحلني إلاّ على الأزهار 204 - وأنشد أبو عبد الله محمد بن عبادة الوشاح المعتصم بن صمادح شعراً يقول فيه:
ولو لم أكن عبداً لآل صمادحٍ ... وفي أرضهم أصلي وعيشي ومولدي
لما كان لي إلا إليهم ترحّلٌ ... وفي ظلّهم أمسي وأضحي وأغتدي فارتاح، وقال: يا ابن عبادة، ما أنصفناك بل أنت الحر لا العبد، فاشرح لنا في أملك، فقال: أنا عبدكم كما قال ابن نباتة:
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
__________
(1) مرت الأبيات ص: 207.(3/411)
فالتفت إلى ابنه الواثق يحيى ولي عهده وقال: إذا اصطنعت الرجال فمثل هذا فاصطنع، ضمه إليك وافعل معه ما تقتضيه وصيتي به، ونبهني إليه كل وقت، فأقام نديماً لوليّ العهد المذكور.
وله فيهما الموشحات المشهورة، كقوله (1) :
كم في قدود البان ... تحت اللمم من أقمر عواطي
بأنملٍ وبنان ... مثل العنم لم تنبري للعاطي 205 - ولما بلغ المعتصم أن خلف بن فرج السميسر هجاه احتال في طلبه حتى حصل في قبضته، ثم قال له: أنشدني ما قلت في، فقال له: وحق من حصلني في يدك ما قلت شراً فيك، وإنما قلت:
رأيت آدم في نومي فقلت له: ... أبا البرية إنّ الناس قد حكموا
أن البرابر نسلٌ منك، قال: إذن ... حواء طالقةٌ إن كان ما زعموا فنذر ابن بلقين صاحب غرناطة دمي، فخرجت هارباً إلى بلادك فوضع علي من أشاع ما بلغك عني لتقتلني أنت فيدرك ثأره بك، ويكون الإثم عليك، فقال: وما قلت فيه خاصة مضافاً إلى ما قلته في عامة قومه فقال: لما رأيته مشغوفاً بتشييد قلعته التي فيها بغرناطة قلت:
يبني على نفسه سفاهاً ... كأنّه دودة الحرير فقال له المعتصم: لقد أحسنت في الإساءة إليه، فاختر: هل أحسن إليك وأخلي سبيلك أم أجيرك منه فارتجل:
خيّرني المعتصم ... وهو بقصدي أعلم
__________
(1) انظر هذه الموشحة في دار الطراز: 60.(3/412)
وهو إذا يجمع لي ... أمناً ومنّاً أكرم فقال: خاطرك خاطر شيطان، ولك المن والأمان، فأقام في إحسانه بأوطانه، حتى خلع عن ملكه وسلطانه.
206 - ولما أنشده عمر بن الشهيد قصيدته التي يقول فيها (1) :
سبط البنان كأنّ كلّ غمامةٍ ... قد ركّبت في راحتيه أناملا
لا عيش إلا حيث كنت، وإنّما ... تمضي ليالي العمر بعدك باطلا التفت إلي من حضر من الشعراء وقال: هل فيكم من يحسن أن يجلب القلوب بمثل هذا فقال أبو جعفر ابن (2) الخراز البطرني (3) : نعم، ولكن للسعادة هبات، وقد أنشدت مولانا قبل هذا أبياتاً أقول فيها (4) :
وما زلت أجني منك والدهر ممحلٌ ... ولا ثمرٌ يجنى ولا الزرع يحصد
ثمار أيادٍ دانياتٍ قطوفها ... لأغصانها ظلّ عليّ ممدّد
يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهنّ تغرّد فارتاح المعتصم، وقال: أأنت أنشدتني هذا قال: نعم، قال: والله كأنها ما مرت بسمعي إلى الآن، صدقت، للسعد هبات، ونحن نجيزك بجائزتين: الأولى لها والثانية لمطل راجيها وغمط إحسانها، انتهى.
__________
(1) الذخيرة 1 / 2: 195.
(2) ابن: سقطت من م ب.
(3) هو أبو جعفر أحمد بن الخراز (الجزار في المغرب) البطرني (نسبة إلى بطرنة من قرى بلنسية) وهو الذي أثار ابن غرسية إلى كتابة رسالته في الشعوبية وعارضه أبو جعفر برسالة تناظرها (المغرب 2: 355 والحاشية) .
(4) الأبيات في المغرب 2: 356.(3/413)
207 - وقال بعض ذرية (1) ملوك غشبيلية:
نثر الورد بالخليج وقد درّ ... جه بالهبوب مرّ الرياح
مثل درع الكميّ مزقها الطع ... ن فسالت بها دماء الجراح 208 - وقال ابن صارة في النارنج (2) :
كرات عقيق في غصون زبرجدٍ ... بكفّ نسيم الريح منها صوالج
نقبّلها طوراً وطوراً نشمّها ... فهنّ خدودٌ بيننا ونوافج [أشعار لابن الزقاق]
209 - وقال أبو الحسن ابن زقاق ابن أخت ابن خفاجة (3) :
وما شقّ وجنته عابثاً ... ولكنّها آيةٌ للبشر
جلالها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر وقال:
ضربوا ببطن الواديين قبابهم ... بين الصوارم والقنا الميّاد
والورق تهتف حولهم طرباً بهم ... فبكلّ محنية ترنّم شادي
يا بانة الوادي كفى حزناً بنا ... أن لا نطارح غير بانة وادي وقال:
نحن في مجلسٍ به كمل الأن ... س ولو زرتنا لزاد كمالا
__________
(1) ذرية: سقطت من م. والبيتان لابن الزقاق (ديوانه: 131) .
(2) من أبيات في الذخيرة (2: 325) .
(3) انظر هذه القطع في ديوان ابن الزقاق: 179، 144 والقطع الثلاث الأخيرة لم ترد في ديوانه؛ والقطعة الأولى مرت في النفح ص: 290.(3/414)
طلعت فيه من كؤوس الحميّا ... ومن الزهر أنجمٌ تتلالا
غير أنّ النجوم دون هلالٍ ... فلتكن منعماً لهنّ الهلالا وقال:
وهويتها سمراء غنّت وانثنت ... فنظرت من ورقاء في أملودها
تشدو ووسواس الحليّ يجبيها ... مهما انثنت في وشيها وعقودها
أوليس من بدع الزمان حمامة ... غنّت فغنّى طوقها في جيدها وقال:
لئن بكيت دماً والعزم من شيمي ... على الخليط فقد يبكي الحسام دما [أشعار للحجام]
210 - وقال أبو تمام غالب ابن رباح الحجام (1) في دولابٍ طار منه لوحٌ فوقف (2) :
وذات شدوٍ وما لها حلمٌ ... كلّ فتىً بالضمير حيّاها
وطار لوحٌ بها فأوقفها ... كلمحة العين ثمّ أجراها وكان المذكور ربي في قلعة رباح غربي طليطلة، ولا يعلم له أب، وتعلم الحجامة فأتقنها، ثم تعلق بالأدب حتى صار آية، وهو القائل في ثريا الجامع (3) :
تحكي الثريّا الثريّا في تألّقها ... وقد عراها نسيمٌ فهي تتّقد
__________
(1) ترجمة أبي تمام غالب الحجام في الذخيرة (3: 256) والمغرب 2: 40 والمسالك 11: 451.
(2) الذخيرة: 261.
(3) المصدر نفسه: 260.(3/415)
كأنّها لذوي الإيمان أفئدةٌ ... من التخشّع جوف الليل ترتعد وقال:
زرت الحبيب ولا شيءٌ أحاذره ... في ليلةٍ قد لوت بالغمض أجفارا
في ليلةٍ خلت من حسنٍ كواكبها ... دراهماً وحسبت البدر دينارا وقال في الثريا أيضاً:
انظر إلى سرجٍ في الليل مشرقةٍ ... من الزجاج تراها وهي تلتهب
كأنّها ألسن الحيّات قد برزت ... عند الهجير فما تنفكّ تضطرب وقال (1) :
ترى النّسر والقتلى على عدد الحصى ... وقد مزّقت أحشاءها والترائبا
مضرّجةً ممّا أكلن كأنّها ... عجائز بالحنّا خضبن ذوائبا وقال، وقد أبدع غاية الإبداع، وأتى بما يحير الألباب، وإن كان أبو نواس فاتح هذا الباب:
وكأسٍ ترى كسرى بها في قرارةٍ ... غريقاً ولكن في خليجٍ من الخمر
وما صورته فارساً عبثاً به ... ولكنّهم جاؤوا بأخفى من السحر
أشاروا بما كانوا له في حياته ... فنومي إليه بالسجود وما ندري وما أحلى قوله (2) :
الأقحوان رمى عليك ظلامةً ... لمّا عنفت عليه بالمسواك
__________
(1) المصدر نفسه: 261.
(2) الذخيرة: 262.(3/416)
لا يحمل النّور الأنيق تمسّه ... كفٌّ بعود بشامةٍ وأراك
وجلاؤه المخلوق فيه قد كفى ... من أن يراع عراره بسواك وقوله (1) :
صغار الناس أكثرهم فساداً ... وليس لهم لصاحةٍ نهوض
ألم تر في سباع الطير سرباً ... تسالمنا ويأكلنا البعوض وقد بلغ غاية الإحسن في قوله (2) :
فما للملك ليس يرى مكاني ... وقد كحلت لواحظه بنوري
كذا المسواك مطّرحاً مهانا ... وقد أبقى جلاءً في الثغور ومن حسناته قوله (3) :
لي صاحبٌ ما كان من صاحبٍ ... فإنّه في كبدي جرحه
يحكي إذا أبصر لي ذلّةٍ ... ذبابةٍ تبصر في قرحه ولقيه أبو حاتم الحجاري على فرسٍ في غاية الضعف والرذالة قد أهلكها الوجى، وكانا في جماعتين، فقال له: يا أبا تمام أنشدني قولك:
وتحتي ريحٌ تسبق الريح إن جرت ... وما خلت أنّ الريح ذات قوائم
لها في المدى سبقٌ إلى كلّ غايةٍ ... كأنّ لها سبقاً يفوق عزائمي
وهمّة نفسي نزهتها عن الوجا ... فيا عجباً حتى العلا في البهائم فلما أنشده إياها رد رأسه أبو حاتم إلى الجماعتين وقال: ناشدتكم الله
__________
(1) المغرب 2: 40 والذخيرة: 263.
(2) المغرب: 41.
(3) الذخيرة: 264.(3/417)
أيجوز لحجام على فرس مثل هذه الرمكة الهزيلة العرجاء، أن يقول مثل هذا فضحك جميع من حضر، وأقبل أبو تمام في غيظه يسبه.
ومن شعر الحجام المذكور قوله:
لا يفخر السيف والأقلام في يده ... قد صار قطع سيوف الهند للقصب
فإن يكن أصلها لم يقو قوّتها ... " فإنّ في الخير معنىً ليس في العنب " وقال:
ثقلت على الأعداء إلاّ أنّها ... خفّت على السّبّاب والإبهام
أخذت من الليل البهيم سواده ... وبدت تنمّق أوجه الأيام وقال (1) :
نظر الحسود فازدرى لي هيئةً ... والفضل منّي لا يزال مبينا
قبحت صفاتي من تغيّر ودّه ... صدأ المرات يقبّح التحسينا وقال (2) :
تصبّر وإن أبدى العدوّ مذمّةً ... فمهما رمى ترجع إليه سهامه
كما يفعل النّحل الملمّ بلسعه ... يريد به ضرّاً وفيه حمامه وقال:
وبارد الشعر لم يؤلم به ولقد ... أضرّ منه جميع النّاس واعتزلا
كأنّه الصلّ لا تأذيه ريقته ... حتى إذا مجّها في غيره قتلا
__________
(1) الذخيرة: 263.
(2) المصدر نفسه: 263.(3/418)
211 - وقال ابن الزقاق (1) :
دعاك خليلٌ والأصيل كأنّه ... عليلٌ يقضي مدة الرمق الباقي
إلى شطّ منسابٍ كأنّك ماؤه ... صفاء ضميرٍ أو عذوبة أخلاق
ومهوى جناحٍ للصّبا يمسح الرّبى ... خفيّ الخوافي والقوادق خفّاق
على حين راح البرقّ في الجوّ مغمداً ... ظباه ودمع المزن من جفنه راق
وقد حان منّي للرياض التفاتةٌ ... حبست بها كأسي قليلاً عن الساق
على سطح خيريّ ذكرتك فانثنى ... يميل بأعناقٍ ويرنو بأحداق
فصل زهراتٍ منه هذا كأنّها ... وقد خضلت قطراً محاجر عشّاق 212 - ولما مدح الحسيب أبو [محمد] القاسم بن مسعدة (2) الأوسي (3) أمير المؤمنين عبد المؤمن بقوله:
حنانيك مدعوّاً ولبّيك داعيا ... فكلٌ بما ترضاه أصبح راضيا
طلعت على أرجائنا بعد فترةٍ ... وقد بلغت منّا النفوس التراقيا
وقد كثرت منّا سيوفٌ لدى العلا ... ومن سيفك المنصور نبغي التقاضيا
وغيرك نادينا زماناً فلم يجب ... وعزمك لم يحتج علاه مناديا كتب اسمه وزير عبد المؤمن في جملة الشعراء، فلما وقف على ذلك عبد المؤمن ضرب على اسمه وقال: إنما يكتب هذا في جملة الحسباء، لا تدنسوه بهذه النسبة، فلسنا ممن يتغاضى على غمط حسبه، ثم أجزل صلته، وأمر له بضيعة يحرث له بها، يعني بذلك أنه من ذرية ملوك، لأن جده كان ملك وادي الحجارة.
__________
(1) ديوانه: 286 (عن النفح) .
(2) ب: سعدة.
(3) م: الأونبي؛ وانظر ترجمته في المغرب 2: 26 وسماه في المغرب " أبو محمد القاسم " ولذلك صوبناه في النفح؛ والمطرب: 216 وبغية الوعاة: 377؛ وأبياته هذه في المغرب.(3/419)
213 - وقال أبو بكر محمد بن أزرق (1) :
هل علم الطائر في أيكه ... بأنّ قلبي للحمى طائر
ذكّرني عهد الصّبا شجوه ... وكلّ صبّ للصّبا ذاكر
سقى عهوداً لهم بالحمى ... دمعٌ له ذكرهم ناثر 214 - وقال أبو جعفر ابن أزرق (2) :
أراك ملكت الخافقين مهابةً ... بها ما تلحّ الشّهب بالخفقان
وتغضي العيون عن سناك كأنّها ... تقابل منك الشمس في اللمعان
وتصفرّ ألوان العداة كأنّما ... رموا منك طول الدهر باليرقان 215 - وقال أبو القاسم ابن أزرق:
ذاك الزمان الذي تقضّى ... يا ليته عاد منه حين
بكلّ عمري الذّي تبقّى ... وما أنا في الشّرا غبين 216 - وقال راشد بن عريف الكاتب (3) :
جمّع في مجلسٍ ندامى ... تحسدني فيهم النجوم
فقال لي منهم نديم (4) : ... ما لك إذ قمت لا تقوم
فقلت: إن قمت كلّ حين ... فإن حظّي بكم عظيم
وليس عندي إذن ندامى ... بل عندي المقعد المقيم
__________
(1) ترجمته وشعره في المغرب 2: 28 ويكتب فيه " أزراق ".
(2) ترجمته وشعره في المغرب 2: 29.
(3) ترجمته وشعره في المغرب 2: 32.
(4) المغرب: خليل.(3/420)
217 - وقال الحسيب أبو جعفر ابن عائش (1) :
ولي أخٌ أورده سلسلاً ... لكنّه يوردني مالحا
ألقاه كي أبسطه ضاحكاً ... ويلتقيني أبداً كالحا
وليس ينفكّ عنائي به ... ما رمت من فاسده صالحا قال الحجاري: وكتب إلى إبراهيم في يوم صحوٍ بعد مطر:
إذا رأيت الجو يصحو فلا ... تصح، سقاك الله، من سكر
تعال فانظر لدموع الندى ... ما فعلت في مبسم الزهر
ولا تقل إنّك في شاغلٍ ... فليس هذا آخر الدهر
يخلف ما فات سوى ساعةٍ ... تقنص فيه لذّة الخمر فأجابه:
لبّيك لبّيك ولو أنّني ... أسعى على الرأس إلى مصر
فكيف والدار جواري وما ... عندي من شغلٍ ولا عذر
ولو غدا لي ألف شغلٍ بلا ... عذرٍ تركت الكلّ للحشر
وكلّما أبصرني ناظرٌ ... بباكم عظّم من قدري
أنا الذي يشربها دائماً ... ما حضرت في الصحو والقطر
وليس نقلي أبداً بعدها ... إلا الذي تعهد من شكري قال الحجاري: ولم يقصر جدي في جرابه، وكن ابن عائش أشعر منه في ابتدائه، ولو لم يكن له إلا قوله " تعال فانظر - إلخ " لكفاه، قال: وفيه يقول جدي إبراهيم يمدحه:
__________
(1) هو أحمد بن عائش أحد أعيان وادي الحجارة، وكان في زمان المأمون بن ذي النون ملك طليطلة (المغرب 2: 27) .(3/421)
ولو كان ثانٍ في الندى لابن عائشٍ ... لما كان في شرقٍ وغربٍ أخو فقر
يهشّ إلى الأمداح كالغصن للصّبا ... وبشر محيّاه ينوب عن الزهر
فيا ربّ زد في عمره إنّ عمره ... حياة أناسٍ قد كفوا كلفة الدهر وقتله ابن مسعدة ملك وادي الحجارة الثائر بها، ولما قدمه ليقتله قال: إرفق علي أخاصم عن نفسي، فقال: على لسانك قتلناك، فقال له: لا رفق الله عليك يوم تحتاج إلى رفقه! فقال بجبروته: ما رهبنا السيوف الحداد، نرهب دعاء الحساد!
218 - وقال أبو [علي] الحسن بن علي [بن] شعيب (1) :
انزعي الوشي فهو يستر حسناً ... لم تخزه برقمهنّ الثياب
ودعيني عسى أقبّل (2) ثغراً ... لذّ فيه اللمى وطاب الرّضاب
وعجيبٌ أن تهجريني ظلماً ... وشفيعي إلى صباك الشباب 219 - وقال أخوه أبو حامد الحسين حين كبا به فرسه فحصل في أسر العدو (3) :
وكنت أعدّ طرفي للرزايا ... يخلّصني إذا جعلت تحوم
فأصبح للعدا عوناً لأنّي ... أطلت عناءه فأنا الظلوم
وكم دامت مسراتي عليه ... وهل شيءٌ على الدنيا يدوم 220 - وقال أبو الحسن علي بن رجاء صاحب دار السكة والأحباس بقرطبة:
__________
(1) المغرب 2: 27.
(2) المغرب: اتركني حتى أقبل.
(3) المغرب 2: 28.(3/422)
يا سائلي عن حالتي إنّني ... لا أشتكي حالي لمن يضعف
مع أنّني أحذر من نقده ... لا سيّما إن كان لا ينصف وأنشد له الحميدي في " الجذوة " (1) :
قل لمن نال عرض من لم ينله ... حسبنا ذو الجلال والإكرام
لم يزدني شيئاً سوى حسناتٍ ... لا ولا نفسه سوى آثام
كان ذا منعة فثقّل ميزا ... ني بهذا فصار من خدّامي 221 - وقال أبو محمد القاسم ابن الفتح (2) :
أيام عمرك تذهب ... وجميع سعيك يكتب
ثمّ الشهيد عليك من ... ك فأين المهرب 222 - وقال أبو مروان عبد الملك بن غصن (3) :
فديتك لا تخف منّي سلوّاً ... إذا ما غير الشعر الصّغارا
أهيم بدنّ خمرٍ صار خلاً ... وأهوى لحيةً كانت عذارى وقال (4) :
قد ألحف الغيم بانسكابه ... والتحف الجوّ في سحابه
وقام داعي السرور يدعوا ... حيّ على الدنّ وانتهابه
وتاه فيه النديم ممّا ... يزدحم الناس عند بابه وكان أحد الأعلام في الآداب والتاريخ والتأليف.
__________
(1) الجذوة: 295.
(2) م: أبو القاسم محمد بن الفتح.
(3) الذخيرة (3: 113، 115) والمغرب 2: 33.
(4) الذخيرة: 114.(3/423)
ونقم عليه المأمون بن ذي النون بسبب صحبته لرئيس بلده ابن عبيدة، وبلغه أنه يقع فيه فنكبه أشر نكبة، وحبسه فكتب إليه من السجن:
فديتك هل لي منّك رحمى لعلّني ... أفارق قبراً في الحياة فأنشر
وليس عقاب المذنبين بمنكرٍ ... ولكن دوام السخط والعتب ينكر
ومن عجبٍ قول العداة مثقّلٌ ... ومثلي في إلحاحه الدهر يعذر وألف للمأمون رسالة " السجن والمسجون والحزن والمحزون " ورسالة أخرى سماها ب " العشر كلمات "، وقال (1) :
يا فتيةً خيرةً فدتهم ... من حادثات الزمان نفسي
شربهم الخمر في بكورٍ ... ونطقهم عندها بهمس
أما ترون الشتاء يلقي ... في الأرض بسطاً من الدمقس
مقطّبٌ عابسٌ ينادي ... يوم سرورٍ ويوم أنس وقال عنه الحميدي في الجذوة (2) : إنه شاعرٌ أديب، دخل المشرق، وتأدب، وحج، ورجع، وشعره كثير.
وله أبيات كتبها في طريق الحج إلى أحد القضاة:
يا قاضياً عدلاً كأنّ إمامه ... ملكٌ يريه واضح المنهاج
طافت بعبدك في البلاد علّةٌ ... قعدت به عن مقصد الحجاج
واعتلّ في البحر الأجاج فكن له ... بحراً من المعروف غير أجاج 223 - وقال الزاهد الورع المحدث أبو محمد إسماعيل ابن الديواني:
__________
(1) الذخيرة: 115.
(2) الجذوة: 278 وهنالك الأبيات أيضا.(3/424)
ألا أيّها العائب (1) المعتدي ... ومن لم يزل مؤذياً ازدد
مساعيك يكتبها الكاتبون ... فبيّض كتابك أو سوّد 224 - وقال ابنه أبو بكر محمد:
خاصم عدوّك باللسا ... ن وإن قدرت فبالسّنان
إنّ العداوة ليس يص ... لحها الخضوع مدى الزمان 225 - وقال إبراهيم الحجاري جد صاحبه " المسهب " (2) :
لئن كرهوا يوم الوداع فإنّني ... أهيم به وجداً من آجل عناقه
أصافح من أهواه غير مساترٍ ... وسرّ التلاقي مودعٌ في فراقه وقال:
كن كما شئت إنني لا أحول ... غير مصغٍ لما يقول العذول
لك والله في الفؤاد محلٌّ ... ما إليه مدى الزمان وصول
ومرادي بأن تزور خفيّاً ... ليت شعري متى يكون السبيل وقال:
قد توالت في حالتينا الظنون ... فلنصدق ما كذبته العيون
ومرادي بأن تلوح بأفقي ... بدر تمّ وذاك ما لا يكون
أنا قد قلت ما دعاني إليه ... كثرة اليأس، والحديث شجون
وإذا شئت أن تسفّه رأيي ... فمحلّي من الرقيب مصون
وبه ما تشاء من كلّ معنى ... كلّ من لم يجب له مجون
__________
(1) م: الظالم.
(2) المغرب 2: 33 - 34 وفيه البيتان.(3/425)
وإلى كم تضلّ ليل الأماني ... ومن اليأس لاح صبحٌ مبين وقال:
سألته عن أبيه ... فقال خالي فلان
فانظر عجائب ما قد ... أتت به الأزمان
دهرٌ عجيبٌ لديه ... عن المعالي حران (1)
فما له غير ذمّ ... كما تدين تدان 226 - وقال الكاتب العالم أبو محمد ابن خيرة الإشبيلي (2) صاحب كتاب " الريحان والريعان " يمدح السيد أبا حفص ملك إشبيلية ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي قصيدة:
كأنّما الأفق صرحٌ والنجوم به ... كواعبٌ وظلام الليل حاجبه
وللهلال اعتراضٌ في مطالعه ... كأنّه أسودٌ قد شاب حاجبه
وأقبل الصبح فاستحيت مشارقه ... وأدبر الليل فاستخفت كواكبه
كالسيد الماجد الأعلى الهمام أبي ... حفصٍ لرحلته ضمّت مضاربه وأنشد له ابن الإمام في " سمط الجمان ":
رعياً لمنزله الخصيب وظلّه ... وسقى الثرى النجديَّ سحّ ربابه
واهاً على ساداته لا أدّعي ... كلفاً بزينبه ولا بربابه ويعرف (3) رحمه الله تعالى بابن المواعيني.
__________
(1) هذا البيت والذي يليه سقطا من م.
(2) ترجمته في المغرب 1: 242 والتكملة: 515 ومن كتابه " الريحان والريعان " جزء موجود بمكتبة الفاتح باستانبول (رقم: 3909) .
(3) قوله: ويعرف ... وكفا: سقط هذا كله من م.(3/426)
227 - وقال ابنه أبو جعفر أحمد:
يا أخي هاتها وحجّب سناها ... عن مثير بها جنوناً وسخفا
هذه الشمس إن بدت لضعيف ال ... عين زادت في ذلك الضعف ضعفا
إنّما يشرب المدامة من إن ... خشنت كفّه جفاها وكفّا 228 - وكتب الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حبيب الملقب بحبيب إلى أبيه (1) : لما خلق الربيع من أخلاقك الغر، وسرق زهره من شيمك الزهر، حسن في كل عين منظره، وطاب في كل سمعٍ خبره (2) ، وتاقت النفوس إلى الراحة فيه، ومالت إلى الإشراف على بعض ما يحتويه، من النور الذي بسط على الأرض (3) حللا (4) ، لا ترى في أثنائها خللا، سلوكٌ نثرت على الثرى، وقد ملئت مسكاً وعنبرا، إن تنسمتها فأرجة، أو توسمتها فبهجة:
فالأرض في بزّة من يانع الزهر ... تزري إذا قستها بالوشي والحبر
قد أحكمتها أكفّ المزن واكفةً ... وطرزتها بما تهمي من الدرر
تبرّجت فسبت منّا العيون هوىً ... وفتنةً بعد طول الستر والخفر فأوجد لي سبيلاً إلى إعمال بصري (5) فيها، لأجلو بصيرتي بمحاسن نواحيها، والفصل على أن يكمل أوانه، ويتصرم وقته وزمانه، فلا تخلني من بعض التشفي منه، لأصدر نفسي متيقظة عنه، فالنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد، ومن سعى في جلائها (6) فهو الرشيد السديد.
__________
(1) الذخيرة (2: 48) وكتاب البديع: 28.
(2) ب: مخبره.
(3) البديع: كسا الأرض.
(4) ومالت ... حللا: سقطت العبارة من م.
(5) ب: نظري.
(6) البديع: ومن أجمها.(3/427)
ومن شعره يصف ورداً بعث به إلى أبيه (1) :
يا من تأزّر بالمكارم وابتلى ... بالمجد والفضل الرفيع الفائق
انظر إلى خدّ الربيع مركباً ... في وجه هذا المهرجان الرائق
وردٌ تقدّم تقدّم إذ تأخرّ واغتدى ... في الحسن والاحسان أول سابق
وافاك مشتملاً بثوب حيائه ... خجلاً لأن حيّاك آخر لاحق وله (2) :
أتى الباقلاء الباقل اللون لابساً ... برود سماء من سحائبها غذي
ترى نوره يلتاح في ورقاته ... كبلق جيادٍ في جلال زمرد وقال (3) :
إذا ما أدرت كؤوس الهوى ... ففي شربها لست بالمؤتلي
مدامٌ تعتّق بالناظرين ... وتلك تعتّق بالأرجل وكان وهو ابن سبع عشرة سنة ينظم النظم الفائق، وينثر النثر الرائق، وأبو جعفر ابن الأبار هو الذي صقل مرآته، وأقام قناته، وأطلعه شهاباً ثاقباً، وسلك به إلى فنون الآداب طريقاً لاحباً، وله كتاب سماه ب " البديع في فصل الربيع " جمع فيه أشعار أهل الأندلس خاصة، أعرب فيه عن أدب غزير، وحظ من الحفظ موفور، وتوفي وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، واستوزره داهية الفتنة، ورحى المحنة، قاضي إشبيلية عباد جد المعتمد، ولم يزل يصغي إلى مقامه، ويرضى بفعاله، وهو ما جاوز العشرين إذ ذاك،
__________
(1) الذخيرة: 50 والبديع: 128.
(2) م: وله في نور الباقلاء؛ والشعر في كتاب البديع: 155.
(3) الذخيرة: 52.(3/428)
وأكثر نظمه ونثره في الأزاهر، وذلك يدل على رقة نفسه، رحمه الله تعالى.
229 - وقال الوزير الكاتب أبو الحسن علي بن حصن وزير المعتضد بن عباد (1) :
عليّ أن أتذلّل ... له وأن يتدلّل
خدٌّ كأنّ الثريا ... عليه قرطٌ مسلسل وقال:
طلّ على خدّه العذار ... فافتضح الآس والبهار
وابيضّ هذا واسودّ هذا ... فاجتمع الليل والنّهار 230 - وقال الوزير أبو الوليد ابن طريف في المعتمد بعد خلعه:
يا آل عبادٍ ألا عطفةٌ ... فالدهر من بعدكم مظلم
من الذي يرجى لنيل العلا ... ومن إليه يفد المعدم
ما أنكر الدهر سوى أنّه ... بجودكم في فعله يرغم وله:
من حلقت لحية جارٍ له ... فليسكب الماء على لحيته 231 - وقد أجرينا في هذا الكتاب ذكر جملة من أخبار المعتمد بن عباد ونظمه في أماكن متعددة فلتراجع؛ ومن نظمه (2) :
ثلاثةٌ منعتها عن زيارتنا ... خوف الرقيب وخوف الحاسد الحنق
__________
(1) الذخيرة 2: 63، 66.
(2) م: ومن نظم المعتمد؛ والشعر في ديوانه: 22 وفي الشريشي 1: 225.(3/429)
ضوء الجبين، ووسواس الحليّ، وما ... تحوي معاطفها من عنبرٍ عبق
هب الجبين بفضل الكمّ تستره ... والحلي تنزعه، ما حيلة العرق وقال (1) :
يوم يقول الرسول قد أذنت ... فأت على غير رقبة ولج
أقبلت أهوي إلى رحالهم ... أهدى إليها بريحها الهرج قالوا ويستدل على الملوكية بالطيب في المواطن التي يكون الناس فيها غير معروفين كالحمام ومعارك الحرب ومواسم الحج.
رجع إلى ما كنا فيه (2) :
232 - وقال أبو العباس أحمد الخزرجي (3) القرطبي:
وفي الوجنات مافي الروض لكن ... لرونق زهرها معنىً عجيب
وأعجب ما التعجّب منه أنّي ... أرى البستان يحمله قضيب 233 - وقال الوزير أبو [أيوب] سليمان بن أبي أمية (4) يخاطب رئيساً قد بلغه عن بعض أصحابه كلام فيه غض منه:
هوّن عليك كلامه ... واسمح له فيمن سمح
ماذا يسوءك إن هجا ... ماذا يسرّك إن مدح
أوما علمت بلى جهل ... ت بأنّه غلٌّ طفح
وخفيٌّ حقدٍ كامنٍ ... دأبوا له حتى اتضح
__________
(1) ديوان المعتمد: 119.
(2) رجع ... فيه: سقطت من م.
(3) الخزرجي: سقطت من ب.
(4) ترجمته في المغرب 1: 243 والمطمح: 28 والمسالك 11: 424.(3/430)
هذا بمستنّ الوقا ... ر فكيف لو دار القدح
فاشكر عوارف ذي الجلا ... ل بما وقى وبما منح 234 - وقال أبو علي عمر بن أبي خالد يخاطب أبا الحسن علي بن الفضل:
أبا حسنٍ وما قدمت عهودٌ ... لنا بين المنارة والجزيره
أتذكر أنسنا والليل داجٍ ... بخمرٍ في زجاجتها منيره
إذا الملاح ضلّ رنا إليها ... فأبصر في مناحيه مسيره 235 - وقال الكاتب عبد الله المهيريس (1) ، وكان حلو النادرة، لما شرب عند الوزير أبي العلاء ابن جامع وقد نظر إلى فاختة فأعجبه حسنها ولحنها:
ألا خذها إليك أبا العلا ... حلى الأمداح ترفل في الثّناء
وهبها قينةً تجلى عروساً ... خضيب الكفّ قانية الرداء
لأجعلها محلّ جليس أنسي ... وأغنى بالهديل عن الغناء وحكي أنه ناوله ليمونة وأمره بالقول فيها فقال:
أهدى إليّ بروضةٍ ليمونةً ... وأشار بالتشبيه فعل السيد
فصمتّ حيناً ثم قلت: كجلجلٍ ... من فضةٍ تعلوه صفرة عسجد 236 - وقال الكاتب أبو بكر ابن البناء يرثني أحد بني عيد المؤمن، وقد عزل من بلنسية وولي إشبيلية فمات بها (2) :
كأنّك من جنس الكواكب كنت لم ... تفارق طلوعاً حالها وتواريا
__________
(1) سماه في المغرب " عبد الله بن عمر الإشبيلي المهيرس وكنيته أبو محمد " (1: 248) وفي القدح: أبو عبد الله عمر المعروف بالمهيدر (198) وشعره في المصدرين.
(2) القدح: 119 والمغرب 1: 249.(3/431)
تجلّيت من شرقٍ تروق تلألؤاً ... فلمّا انتحيت الغرب أصبحت هاويا 237 - وكان محمد بن مروان بن زهر - كما في المغرب والمسهب والمطرب، وقد قدمنا بعض أخباره - منشأ الدولة العبادية وأول من تثنى عليه الخناصر، وتستحسنه البواصر، فضاقت الدولة العبادية عن مكانه، وأخرج عن بلده، فاستصفيت أمواله، فلحق بشرق الأندلس، وأقام فيه بقية عمره، ونشأ ابنه (1) الوزير أبو مروان عبد الملك بن محمد، فما بلغ أشده، حتى سد مسده، ومال إلى التفننفي أنواع التعاليم من الطب وغيره، ورحل إلى المشرق لأداء الفرض، فملأ البلاد جلالة، ونشأ ابنه ابو العلاء زهر بن عبد الملك، فاخترع فضلاً لم يكن في الحساب، وشرع نبلاً قصرت عنه نتائج أولي الألباب، ونشأ بشرق الأندلس والآفاق تتهادى عجائبه، والشام والعراق تتدارس بدائعه وغرائبه، ومال إلى علم الأبدان فلولا جلالة قدره، لقلنا جاذب هاروت طرفاً من سحره، ولولا أن الغلو آفة المديح، لتجاوزت طلق الجموح، ولكنني اكتفيت بالكناية عن التصريح (2) ، ولم يزل مقيماً بشرق الأندلس إلى أن كان من غزاة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ومن انضم إليه من ملوك الطوائف ما علم، وشخص أبو العلاء معهم، فلقيه المعتمد بن عباد، واستماله واستهواه، وكاد يغلب على هواه، وصرف عليه أملاكه فحن إلى وطنه، حنين النيب إلى عطنه، والكريم إلى سكنه، ونزع إلى مقر سلفه، نزوع الكوكب إلى بيت شرفه، إلا أنه لم يستقر بإشبيلية إلا من بعد خلع المعتمد، وحل عند يوسف بن تاشفين محلاً لم يحله الماء من العطشان، ولا الروح من جسد الجبان، ولما كتب إليه حسام الدولة ابن رزين ملك السهلة بقوله:
عاد اللئيم فأنت من أعدائه ... ودع الحسود بغلّه وبذائه
__________
(1) راجع الذخيرة (2: 91) وشعره مثبت هنالك.
(2) أثبتنا هنا نص الذخيرة.(3/432)
لا كان إلا من غدت أعداؤه ... مشغولةً أفواههم بجفائه
أأبا العلاء لئن حسدت لطالما ... حسد الكريم بجوده ووفائه
فخر العلاء فكنت من آبائه ... وزها السناء فكنت من أبنائه
كن كيف شئت مشاهداً أو غائباً ... لا كان قلبٌ لست في سودائه أجابه بقوله:
يا صارماً حسن العدا بمضائه ... وتعبّد الأحرار حسن وفائه
ما أثّر العضب الحسام بذاته ... إلا بأن سمّيت من أسمائه وكلفه الحسام المذكور القول في غلام قائم على رأسه، وقد عذر، فقال (1) :
محيت آية النهار فأضحى ... بدر تمٍّ وكان الشمس نهار
كان يعشي العيون ناراً إلى أن ... أشغل الله خدّه بالعذار وقال:
عذارٌ ألمّ فأبدى لنا ... بدائع كنّا لها في عمى
ولو لم يحنّ النهار الظلا ... م لم يستبن كوكبٌ في السما وقال:
يا راشقي بسهامٍ ما لها غرض ... إلا الفؤاد وما منه له عوض
وممرضي بجفون لحظها غنجٌ ... صحّت وفي طبعها التمريض والمرض
امنن ولو بخيالٍ منك يؤنسني ... فقد يسدّ مسدّ الجوهر العرض وهذا معنى في غاية الحسن.
وكان بينه وبين الإمام أبي بكر ابن باجة - بسبب المشاركة - ما يكون
__________
(1) مرت القطعة والتي تليها ص: 247.(3/433)
بين النار والماء، والأرض والسماء، ولما قال فيه ابن باجة:
يا ملك الموت وابن زهرٍ ... جاوزتما الحدّ والنهايه
ترفّقا بالورى قليلاً ... في واحد منكما الكفايه قال أبو العلاء:
لا بد للزنديق أن يصلبا ... شاء الذي يعضده أو أبى
قد مهّد الجذع له نفسه ... وسدّد الرمح إليه الشّبا والذي يعضده مالك بن وهب جليس أمير المسلمين وعالمه.
238 - وأما حفيده أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر فهو وزير إشبيلية وعظيمها وطبيبها وكريمها، ومن شعره:
رمت كبدي أخت السماء فأقصدت ... ألا بأبي رامٍ يصيب ولا يخطي
قريبة ما بين الخلاخيل إن مشت ... بعيدة ما بين القلادة والقرط
نعمت بها حتى أتيحت لنا النوى ... كذا شيم الأيام تأخذ ما تعطي وتوفيسنة خمس وتسعين وخمسمائة، وأمر أن يكتب على قبره:
تأمّل بفضلك يا واقفاً ... ولاحظ مكاناً دفعنا إليه
تراب الضريح على صفحتي ... كأنّي لم أمش يوماً عليه
أداوي الأنام حذار المنون ... فها أنا قد صرت رهناً لديه رحمه الله تعالى، وعفى عنه.
وفي هذه الأبيات إشارة إلى طبه ومعالجته للناس، رحمه الله تعالى، وقد ذكرنا بعض أخباره في غير هذا الموضع.(3/434)
239 - وقال أبو الوليد ابن حزم (1) :
مرآك مرآك شمسٌ ولا قمر ... وورد خدّيك لا وردٌ ولا زهر
في ذمّة الله قلبٌ أنت ساكنه ... إن بنت بان فلا عينٌ ولا أثر وقال (2) :
لله أيامٌ على وادي القرى ... سلفت لنا والدهر ذو ألوان
إذ نجتلي في ظله ثمر المنى ... والطير ساجعةٌ على الأغصان
والشمس تنظر من محاجر أرمدٍ ... والطّلّ يركض في النسيم الواني
فلثمت فاه والتزمت عناقه ... ويد الوصال على قفا الهجران 240 - وقال ابن عبد ربه (3) :
يا قابض الكفّ لا زالت مقبّضةً ... فما أناملها للنّاس أرزاق
وغب إذا شئت حتى لا ترى أبداً ... فما لفقدك في الأحشاء إقلاق وقال في المدح:
وما خلقت كفّاك إلاّ لأربعٍ ... عقائل لم تخلق لهنّ يدان
لتقبيل أفواهٍ، وإعطاء نائل ... وتقليب هنديّ، وحبس عنان 241 - وقال الكاتب أبو عبد الله ابن مصادق (4) الرندي الأصل:
صارمته إذ رأت عارضه ... عاد من بعد الشّباب أشيبا
__________
(1) ترجمته في المغرب 1: 239 والذخيرة 2: 231 والمسالك 11: 434.
(2) الذخيرة (2: 238) .
(3) هاتان المقطوعتان في الشريشي 1: 184.
(4) دوزي: مصادف.(3/435)
قلت ما ضرّك شيبٌ فلقد ... بقيت فيه فكاهات الصّبا
هو كالعنبر غالٍ نفحه ... وشذاه أخضراً أو أشهبا وقال:
ووردة وردت في غير موقتها ... والسّحب قد هملت أجفانها هطلا
وإنّما الروض لمّا لم يفد ثمراً ... يقريكه انفتحت في خده خجلا وله:
لم أحتفل لقدوم العيد من زمن ... قد كان يبهجني إذ كنت في وطني
لم ألق أهلي ولا إلفي (1) ولا ولدي ... فليت شعري سروري واقعٌ بمن وقال:
يقول لي العاذل تب عن هوى ... من ليس يدنيك إلى مطلب
وكيف لي والدين دين الهوى ... فلا أرى من مذهبي
أليس باب التوب قد سده ... طلوعه شمساً من المغرب (2) وله:
امنع كرائمك الخروج ولا ... تظهر لذلك وجه منبسط
لا تعتبر منهن مسخطةً ... نيل الرضى في ذلك السخط
أولسن مثل الدرّ في شبهٍ (3) ... والدرّ من صدفٍ إلى سفط
__________
(1) ب: إلفي ولا أهلي.
(2) هو كقول الصقلي:
أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمسا من المغرب. (3) م: سفط.(3/436)
242 - وقال المعتمد بن عباد (1) :
تمّ له الحسن بالعذار ... واختلط الليل بالنّهار
أخضرٌ في أبيضٍ تبدّى ... فذاك آسي وذاك بهاري
فقد حوى مجلسي تماماً ... إن يك من ريقه عقاري 243 - وقال ابن فرج الجياني رحمه الله تعالى (2) :
وطائعة الوصال صددت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع
بدت في الليل سافرةً فباتت ... دياجي الليل سافرة القناع
وما من لحظةٍ إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي
فملّكت الهوى جمحات أمري ... لأجري في العفاف على طباعي
كذاك الروض ما فيه لمثلي ... سوى نظرٍ وشمّ من متاعٍ
ولست من السوائم مهملات ... فأتخذ الرياض من المراعي وقال (3) :
بأيهما أنا في الشكر بادي ... بشكر الطيف أم شكر (4) الرقاد
سرى فازداد لي أملي ولكن ... عففت فلم أنل منه مرادي
وما في النوم من حرجٍ ولكن ... جريت مع العفاف على اعتيادي 244 - وقال الرصافي (5) :
وعشيّ أنسٍ للسرور وقد بدا ... من دون قرص الشمس ما يتوقّع
__________
(1) ديوان المعتمد: 17.
(2) مرت هذه الأبيات ص: 196 وانظر الشريشي 1: 211 والجذوة: 97.
(3) انظر الجذوة: 97 والمطمح: 80 واليتيمة 2: 17 والشريشي 1: 211.
(4) ب: بطيب.
(5) ديوان الرصافي: 105.(3/437)
سقطت فلم يملك نديمك (1) ردّها ... فوددت يا موسى لو آنّك يوشع 245 - وقال ابن عبد ربه (2) :
يراعةٌ غرّني منها وميض سناً ... حتى مددت إليها الكفّ مقتبسا
فصادفت حجراً لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا
كأنّما صيغ من لؤمٍ ومن كذبٍ ... فكان ذاك له روحاً وذا نفسا 246 - وقال ابن صارة في فروة (3) :
أودت بذات يدي فريّة أرنبٍ ... كفؤاد عروة في الضّنى والرّقة
يتجشّم الفرّاء من ترقيعها ... بعد المشقّة في قريب الشّقّة
لو أنّ ما أنفقت في ترقيعها ... يحصى لزاد على رمال الرّقّة
إن قلت بسم الله عند لباسها ... قرأت عليّ " إذا السماء انشقّت " 247 - وقال الغزال (4) :
والمرء يعجب من صغيرة غيره ... أيّ امرئ إلاّ وفيه مقال
لسنا نرى من ليس فيه غميزةٌ ... أيّ الرجال القائل الفعّال (5) 248 - وقال أبو حيان:
لا ترجونّ دوام الخير من أحدٍ ... فالشرّ طبعٌ وفيه الخير بالعرض
ولا تظنّ امرءاً أسدى إليك ندىً ... من أجل ذاتك بل أسداه للغرض
__________
(1) م: نديمي.
(2) العقد 1: 131 والشريشي 1: 127.
(3) أبيات ابن صارة في أخبار وتراجم: 15 والقلائد: 261 والشريشي 1: 125.
(4) في الأصول ودوزي: الغزالي.
(5) ب: القائل البطال.(3/438)
249 - وقال ابن شهيد (1) :
ولما فشى بالدمع ما بين وجدنا ... إلى كاشحينا ما القلوب كواتم
أمرنا بإمساك الدموع جفوننا ... ليشجى بما نطوي عذولٌ ولائم
أبى دمعنا يجري مخافة شامتٍ ... فنظّمه بين المحاجر ناظم
وراق الهوى منّا عيوناً كريمةً ... تبسّمن حتى ما تروق المباسم وقال في الانتحال (2) :
وبلّغت أقواماً تجيش صدورهم ... عليّ وإنّي فيهم فارغ الصدر
أصاخوا إلى قولي فأسمعت معجزاً ... وغاصوا على سري فأعجزهم أمري
فقال فريقٌ: ليس ذا الشعر شعره ... وقال فريقٌ أيمن الله ما ندري
فمن شاء فليخبر فإنّي حاضرٌ ... ولا شيء أجلى للشكوك من الخبر 250 - وينظر إلى مثل هذا قصة أبي بكر ابن بقي (3) حين استهدى من بعض إخوانه أقلاماً فبعث إليه بثلاث من القصب، وكتب معها:
خذها إليك أبي بكر العلا قصباً ... كأنّما صاغها الصوّاغ من ورقه
يزهى بها الطرس حسناً ما نثرت بها ... مسك المداد على الكافور من ورقه فأجابه أبو بكر:
أرسلت نحوي ثلاثاً من قناً سلبٍ ... ميّادة تطعن القرطاس في درقه (4)
فالخطّ ينكرها والحظّ يعرفها ... والرّقّ يخدمها بالرّقّ في عنقه
__________
(1) الذخيرة 1 / 1: 276 وديوانه: 139 والشريشي 1: 46.
(2) الذخيرة: 262 وديوانه: 68 والشريشي 1: 46.
(3) الشريشي 1: 47.
(4) ب م: منآدة ... في ورقه.(3/439)
فحسده عليه بعض من سمعه، ونسبه إلى الانتحال، فقال أبو بكر يخاطب صاحبه الأول:
وجاهلٍ نسب الدعوى إلى كلمي ... لمّا رماه بمثل النّبل في حدقه
فقلت من حنقٍ لما تعرّض لي ... من ذا الذي أخرج اليربوع من نفقه
ما ذمّ شعري وأيم الله لي قسمٌ ... إلا امرؤ ليست الأشعار من طرقه
والشعر يشهد أنّي من كواكبه ... بل الصباح الذي يستنّ من أفقه 251 - وقال ابن شهيدٍ أيضاً في ضيف (1) :
وما انفكّ معشوق الثناء يمدّه (2) ... ببشرٍ وترحيبٍ وبسط بنان
إلى أن تشهّى البين من ذات نفسه ... وحنّ إلى الأهلين حنّة حاني
فأتبعه ما سدّ خلّة حاله ... وأتبعني ذكراً بكلّ مكان وقال (3) :
وبتنا نراعي اللّيل لم يطو برده ... ولم يجل شيب الصبح في فوده وخطا
تراه كملك الزنج من فرط كبره ... إذا رام مشياً في تبختره أبطا
مطلاًّ على الآفاق والبدر تاجه ... وقد جعل الجوزاء في أذنه قرطا 252 - وقال بعضهم في لباس أهل الأندلس البياض في الحزن، مع أن أهل المشرق يلبسون فيه السواد (4) :
ألا يا أهل أندلسٍ فطنتم ... بلطفكم إلى أمرٍ عجيب
__________
(1) الذخيرة: 267 وديوانه: 168.
(2) الديوان: الثواء نمده.
(3) الذخيرة: 237 وديوانه: 88 واليتيمة 2: 43 والشريشي 1: 63.
(4) الشريشي 1: 49.(3/440)
لبستم في مآتمكم بياضاً ... فجئتم منه في زيّ غريب
صدقتكم فالبياض لباس حزنٍ ... ولا حزنٌ أشدّ من المشيب 253 - وقال أبو جعفر ابن خاتمة:
هل جسومٌ يوم النوى ودّعوها ... باقياتٌ لسوء ما أودعوها
يا حداة القلوب ما العدل هذا ... أتبعوها أجسامها أو دعوها 254 - وقال القسطلي يصف هول البحر (1) :
إليك ركبنا الفلك تهوي كأنّها ... وقد ذعرت عن مغرب الشمس غربان
على لجج خضرٍ إذا هبّت الصّبا ... ترامى بها فينا ثبيرٌ وثهلان
مواثل ترعى في ذراها موائلاً ... كما عبدت في الجاهلية أوثان
يقلن وموج البحر (2) والهمّ والدجى ... يموج بها فيها عيونٌ وآذان
ألا هل إلى الدنيا معادٌ وهل لنا ... سوى البحر قبرٌ أو سوى الماء أكفان 255 - وقال الرمادي يهنئ ابن العطار الفقيه بمولود:
يهنيك ما زادت الأيام في عددك ... من فلذةٍ برزت للسعد من كبدك
كأنّما الدهر دهرٌ كان مكتئباً ... من انفرادك حتى زاد في عددك
لا خلّفتك الليالي تحت ظلّ ردىً ... حتى ترى ولداً قد شبّ من ولدك 256 - وقال ابن صارة في النار:
هات التي للأيك أصل ولادها ... ولها جبين الشمس في الأشماس
يتقشّع الياقوت في لبّاتها ... بوساوسٍ تشفي من الوسواس
__________
(1) ديوان ابن دراج: 87 والذخيرة 1 / 1: 74.
(2) في الأصول: مقاتل موج.(3/441)
أنس الوحيد وصبح عين المجتلي ... ولباس من أمسى بغير لباس
حمراء ترفل في السواد كأنّما ... ضربت بعرقٍ في بني العباس وقال فيها أيضاً (1) :
لابنة الزّند في الكوانين جمرٌ ... كالدراري في الليلة (2) الظلماء
خبروني عنها ولا تكذبوني ... ألديها صناعة الكيمياء
سبكت فحمها سبائك (3) تبرٍ ... رصّعته بالفضّة البيضاء
كلمّا ولول النسيم عليها ... رقصت في غلالةٍ حمراء
سفرت عن جبينها (4) فأرتنا ... حاجب الليل طالعاً بالعشاء
لو تراها من حولنا قلت يومٌ ... يتعاطون أكؤس الصّهباء 257 - وقال فيها الفقيه الأديب (5) ابن لبال:
فحمٌ ذكا في حشاه جمرٌ ... فقلت مسكٌ وجلّنار
أو خدّ من قد هويت لمّا ... أطلّ من فوقه العذار 258 - وكان أبو المطرف الزهري جالساً في باب داره مع زائر له، فخرجت عليهما من زقاقٍ ثانٍ جاريةٌ سافرة الوجه كالشمس الطالعة فحين نظرتهما على غفلةٍ منها نفرت خجلة، فرأى الزائر ما أبهته فكلّفه وصفها، فقال مرتجلاً:
__________
(1) القلائد: 266.
(2) القلائد: كالدراري في دجى.
(3) القلائد: صفائح.
(4) القلائد: سفرت في عشائها.
(5) م: الأديب الفقيه؛ ولعله أبو الحسن علي بن أحمد بن البال الشريشي (- 583) وله ترجمة في التحفة: 74 والذيل والتكملة 5: 169.(3/442)
يا ظبيةً نفرت والقلب مسكنها ... خوفاً لختلي بل عمداً لتعذيبي
لا تختشي فابن عبد الحقّ أنحلنا ... عدلاً يؤلف بين الظبي والذيب 259 - وقال ابن شهيد (1) :
أصباحٌ لاح أم بدرٌ بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا
هبّ من نعسته منكسراً ... مسبلٌ للكمّ مرخٍ للرّدا
يمسح النعسة من عيني رشا ... صائد في كلّ يوم أسدا
قلت هب لي ياحبيبي قبلة ... تشف من همّك (2) تبريح الصّدى
فانثنى يهتزّ من منكبه ... قائلاً لا ثمّ أعطاني اليدا
كلّما كلّمني قبّلته ... فهو ما قال كلاماّ ردّدا
قال لي يلعب صد لي طائراً ... فتراني الدهر أجري بالكدا
وإذا استنجزت يوماً وعده ... قال لي يمطل ذكّرني غدا
شربت أغصانه (3) خمر الصّبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا
رشأ بل غادةٌ ممكورةٌ ... عمّمت صبحاً بليلٍ أسودا
أححت (4) من عضة في نهدها ... ثم عضت حرّ وجهي عمدا
فأنا المجروح من عضّتها ... لا شفاني الله منها أبدا 260 - وقال محمد بن هانئ في الشيب (5) :
بنتم فلولا أن أغبّر لمّتي ... عبثاّ وألقاكم عليّ غضابا
__________
(1) مرت هذه القصيدة ص: 358.
(2) الرواية المشهورة: من عمك؛ وتصحف إلى " غمك ".
(3) م: أعطافه، وهو أجود.
(4) هذه رواية الذخيرة، وفي م: أحجمت.
(5) ديوان ابن هانئ: 198 - 199 والشريشي 1: 214.(3/443)
لخضبت شيباً في مفارق لمتي (1) ... ومحوت محو النفس عنه شبابا
وخضبت مبيضّ (2) الحداد عليكم ... لو أنّني أجد البياض خضابا
وإذا أردت على المشيب وفادةً ... فاجعل مطيّك دونه الأحقابا
فلتأخذنّ من الزمان حمامةً ... ولتدفعنّ إلى الزمان غرابا 261 - وكتب ابن عمار إلى ابن رزين وقد عتب عليه أن اجتاز ببلده ولم يلقه (3) :
لم تثن عنك عناني سلوةٌ خطرت ... ولا فؤادي ولا سمعي ولا بصري
لكن عدتني عنكم خجلةٌ خطرت ... كفاني العذر منها بيت معتذر
" لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر " 262 - وقال ابن الجد (4) :
وإنّي لصبٌّ للتلاقي وإنّما ... يصبّ ركابي عن معاهدك العسر
أذوب حياء من زيارة صاحبٍ (5) ... إذا لم يساعدني على برّهالوفر 263 - وقال ابن عبد ربه (6) :
يا من عليه حجابٌ من جلالته ... وإن بدا لك يوماً غير محجوب
ما أنت وحدك مكسوّاً ثياب ضنى ... بل كلّنا بك من مضنى ومشحوب
ألقى عليك يداً للضرّ كاشفةً ... كشّاف ضرّ نبيّ الله أيوب
__________
(1) الديوان: في عذاري كاذبا.
(2) الديوان: مسود.
(3) الذخيرة (2: 160) والشريشي 1: 234 والبيت المضمن للمعري.
(4) الشريشي 1: 234.
(5) م: سيد.
(6) أبيات ابن عبد ربه في الشريشي 1: 305.(3/444)
264 - وقال النحلي في مغنية:
ولاعبة الوشاح كغصن (1) بانٍ ... لها أثرٌ بتقطيع القلوب
إذا سوّت طريق العود نقراً ... وغنّت في محبّ أو حبيب
فيمناها تقدّ بها فؤادي ... ويسراها تعدّ بها ذنوبي 265 - وقال ابن شهيد (2) :
كلفت (3) بالحب حتى لو دنا أجلي ... لما وجدت لطعم الموت من ألم
وعاقني (4) كرمي عمّن ولهت به ... ويلي من الحبّ أو ويلي من الكرم 266 - وكان بشريش (5) صوفي حافظ للشعر، فلا يعرض في مجلسه معنى إلا وهو ينشد عليه، فاتفق أن عطس رجل بمجلسه، فشمته الحاضرون، فدعا لهم، فرأى الصوفي أنه إن شمته قطع إنشاده بما لا يشاكله من النظم، وإن لم يشمته كان تقصيراً في البر، فرغب حين أصبح من الطلبة نظم هذا المعنى، فقال الوزير الحسيب أبو عمرو ابن أبي محمد (6) :
يا عاطساً يرحمك الله إذ ... أعلنت بالحمد على عطستك
ادع لنا ربّك يغفر لنا ... وأخلص النية في دعوتك
وقل له يا سيدي رغبتي ... حضور هذا الجمع في حضرتك
وأنت يا ربّ النّوى ... بارك ربّ الناس في ليلتك
فإن يكن منكم لنا عودةٌ ... فأنت محمودٌ على عودتك
__________
(1) ق ب: بغصن.
(2) ديوان ابن شهيد: 148.
(3) الديوان: ألمت.
(4) الديوان: وذادني.
(5) الشريشي 1: 341.
(6) الشريشي: ابن محمد.(3/445)
وهذا الوزير المذكور كان يصرف شعره في أوصاف الغزلان ومخاطبات الإخوان، وكتب إلى الشريشي - شارح المقامات (1) - يستدعي منه كتاب العقد:
أيا من غدا سلكاً لجيد معارفه ... ومن لفظه زهرٌ أيقٌ لقاطفه
محبّك أضحى عاطل الجيد فلتجد ... بعقدٍ على لبّاته وسوالفه ووعك في بعض الأعياد، فعاده من أعيان الطلبة جملة، فلما هموا بالانصراف أنشدهم ارتجالاً:
لله درّ أفاضل (2) أمجاد ... شرف النّديّ بقصدهم والنادي
لمّا أشاروا بالسلام وأزمعوا ... أنشدتهم وصدقت في الإنشاد
في العيد عدتم وهو يوم عروبةٍ ... يا فرحتي بثلاثة الأعياد قال الشريشي في شرح المقامات: ولقد زرته في مرضه الذي توفي فيه رحمه الله تعالى أنا وثلاثة فتيان من الطلبة، فسألني عنهم وعن آبائهم، فلما أرادوا الانصراف ناول أحدهم محبرة، وقال له: اكتب، وأملى عليه ارتجالاً:
ثلاثة فتيانٍ يؤلف بينهم ... نديٌّ كريمٌ لا أرى الله بينهم
تشابه خلقٌ منهم وخليقةٌ ... فإن قلت أين الحسن فانظره أين هم
وزيّنهم أستاذهم إذ غدا لهم ... معلم آياتٍ فتمم زينهم
فإن خفت من عينٍ ففي الكلّ فل تقل ... وقى الله ربّ الناس للكلّ عينهم 267 - وقال الشريشي (3) : حدثنا شيخنا أبو الحسين ابن زرقون، عن أبيه أبي عبد الله، أنه قعد مع صهره أبي الحسن عبد الملك بن عياش
__________
(1) م: صاحب كتاب شرح المقامات.
(2) الشريشي: در عصابة.
(3) الشريشي 1: 365.(3/446)
الكاتب على بحر المجاز، وهو مضطرب الأمواج، فقال له أبو الحسن: أجز:
وملتطم الغوارب موّجته ... بوارح في مناكبها غيوم فقال أبو عبد الله:
تمنّع لا يعوم به سفينٌ ... ولو جذبت به الزّهر النجوم 268 - وكان لابن عبد ربه فتىً يهواه، فأعلمه أنه يسافر غداً، فلما أصبح عاقه المطر عن السفر، فانجلى عن ابن عبد ربه همه، وكتب إليه (1) :
هلا ابتكرت لبينٍ أنت مبتكر ... هيهات يأبى عليك الله والقدر
ما زلت أبكي حذار البين ملتهباً ... حتى رثى لي فيك الريح والمطر
يا برده من حيا مزنٍ على كبدٍ ... نيرانها بغليل الشوق تستعر
آليت أن لا أرى شمساً ولا قمراً ... حتى أراك فأنت الشمس والقمر وقال ابن عبد ربه (2) :
صل من هويت وإن أبدى معاتبةً ... فأطيب العيش وصلٌ بين إلفين
واقطع حبائل خدنٍ لا تلائمه ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين 269 - وقال أبو محمد غانم بن الوليد المالقي (3) :
صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً ... سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين
ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين 270 - وكان المتوكل صاحب بطليوس ينتظر وفود أخيه عليه من
__________
(1) أبيات ابن عبد ربه في المطمح: 51.
(2) العقد 2: 316.
(3) مر البيتان ص: 265، 398.(3/447)
شنترين يوم الجمعة، فأتاه يوم السبت، فلما لقيه عانقه وأنشده:
تخيرت اليهود السبت عيداً ... وقلنا في العروبة يوم عيد
فلمّا أن طلعت السبت فينا ... أطلت لسان محتجّ اليهود 271 - وقال أبو بكر ابن بقي (1) :
أقمت فيكم على الإقتار والعدم ... لو كنت حرّاً أبيّ النفس لم أقم
فلا حديقتكم يجنى لها ثمرٌ ... ولا سماؤكم تنهلّ بالدّيم
أنا امرؤ إن نبت بي أرض أندلسٍ ... جئت العراق فقامت لي على قدم
ما العيش بالعلم إلاّ عيشةٌ ضعفت ... وحرفةٌ وكلت بالقعدد البرم 272 - وقال الأبيض بالفقهاء المرائين (2) :
أهل الرياء لبستم ناموسكم ... كالذئب يدلج (3) في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالكٍ ... وقسمتم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب البغال بأشهبٍ ... وبأصبغٍ صبغت لكم في العالم وقال (4) :
قل للإمام سنا الأئمّة مالكٍ ... نور العيون ونزهة الأسماع
لله درّك من همامٍ ماجدٍ ... قد كنت راعينا فنعم الراعي
فمضيت محمود النقيبة (5) طاهراً ... وتركتنا قنصاً لشرّ سباع
__________
(1) أبيات ابن بقي في القلائد: 281.
(2) زاد المسافر: 71 وهي في المعجب: 235 منسوبة لابن البني؛ وانظر الشريشي 1: 185.
(3) زاد المسافر: يختل.
(4) زاد المسافر: 71.
(5) م: المناقب.(3/448)
أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزلٍ ... طاوي الحشا متكفّت الأضلاع
تشكوك دنيا لم تزل بك برّةً ... ماذا رفعت بها من الأوضاع 273 - وقال ابن صارة:
يا من يعذّبني لمّا تملّكني ... ماذا تريد بتعذيبي وإضراري
تروق حسناً وفيك الموت أجمعه ... كالصقل في السيف أو كالنور في النار 274 - وقال عبدون البلنسي (1) :
يا من محيّاه جنّاتٌ مفتّحةٌ ... وهجره لي ذنبٌ غير مغفور
لقد تناقضت في خلقٍ وفي خلقٍ ... تناقض النار بالتدخين والنّور 275 - وقال الوزير ابن الحكيم:
رسخت أصول علاكم تحت الثرى ... ولكم على خطّ المجرّة دار
إنّ المكارم صورةٌ معلومةٌ ... أنتم لها الأسماع والأبصار
تبدو شموس الدّجن من أطواقكم ... وتفيض من بين البنان بحار
ذلّت لكم نسم الخلائق مثل ما ... ذلّت لشعري فيكم الأشعار
فمتى مدحت ولا مدحت سواكم ... فمديحكم في مدحه إضمار 276 - وقال القاضي أبو جعفر ابن برطال (2) :
__________
(1) هو أبو محمد عبد الله بن يحيى الحضرمي ابن صاحب الصلاة ويعرف بعبدون من أهل دانية وسكن شاطبة وتوفي ببلنسية (- 578) وترجمته في التحفة: 68 والتكملة رقم: 1402.
(2) هو أحمد بن محمد بن علي الأموي ويكنى أبا جعفر ويعرف بابن برطال، كان من أهل الخير والانقباض والعفة والوقار يتكسب بصناعة التوثيق، ثم أصبح قاضيا لغرناطة وإماما بمسجدها الأعظم حتى عام 741 وتوفي بمالقة سنة 750 (انظر ترجمته وشعره في الإحاطة 1: 177 - 179) .(3/449)
أستودع الرحمن من لوداعهم ... قلبي وروحي آذنا بوداع
بانوا وطرفي والفؤاد ومقولي ... باكٍ ومسلوب العزاء وداع
فتولّ يا مولاي حفظهم ولا ... تجعل تفرّقنا فراق وداع (1) 277 - وقال ابن خفاجة (2) :
وما هاجني إلاّ تألّق بارقٍ ... لبست به برد الدّجنّة معلما وهي طويلة.
وقال من أخرى (3) :
جمعت ذوائبه ونور جبينه ... بين الدّجنّة والصباح المشرق 278 - وقال ذو الوزارتين أبو الوليد ابن الحضرمي البطليوسي في غلام للمتوكل بن الأفطس يرثيه (4) :
غالته أيدي المنايا ... وكنّ في مقلتيه
وكان يسقي الندامى ... بطرفه ويديه
عصنٌ ذوى وهلالٌ ... جار الكسوف عليه 279 - وقال الفقيه العالم أبو أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي عالمها في المذهب المالكي، وقد تحاكم إليه وسيمان أشقر وأكحل فيمن يفضل بينهما (5) :
وشادنين ألمّا بي على مقةٍ ... تنازعا الحسن في غايات مستبق
__________
(1) سقط البيت من م.
(2) ديوانه: 173.
(3) ديوانه: 150
(4) انظر ترجمته في المغرب 1: 365.
(5) مرت الأبيات ص: 292.(3/450)
كأنّ لمّة ذا من نرجسٍ خلقت ... على بهار وذا مسك على ورق
وحكّما الصبّ في التفضيل بينهما ... ولم يخافا عليه رشوة الحدق
فقال يبدي هلال الدّجن حجّته ... مبيّناً بلسان منه منطلق
فقال وجهي بدرٌ يستضاء به ... ولون شعري مقطوعٌ من الغسق
وكحل عينيّ سحرٌ للنّهى وكذا ... ك الحسن أحسن ما يعزى إلى الحدق
وقال صاحبه أحسنت وصفك ل ... كن فاستمع لمقالٍ فيّ متّفق
أنا على أفقي شمس النّهار ولم ... تغرب وشقرة شعري شقرة الشفق
وفضل ما عيب في العينين من زرق ... أنّ الأسنّة قد تعزى إلى الزّرق
قضيت للمّة الشقراء حيث حكت ... نوراً كذا حبّها يقضي على رمقي
فقام ذو اللمّة السوداء يرشقني ... سهام أجفانه من شدّة الحنق
وقال جرت فقلت الجور منك على ... قلبي ولي شاهدٌ من دمعي الغدق
وقلت عفوك إذ أصبحت متّهماً ... فقال دونك هذا الحبل فاختنق وكان فيه ظرف وأدب، وعنوان طبقته هذه الأبيات.
وقال:
وغاب من الأكواس فيها ضراغم ... من الراح ألباب الرجال فريسها
قرعت بها سنّ الحلوم فأقطعت ... وقد كاد يسطو بالفؤاد رسيسها وله رحمه الله تعالى " شرح البخاري " وأكثر ابن حجر من النقل عنه في " فتح الباري "، وله كتاب " الأحكام " وغير ذلك، وترجمته شهيرة.
280 - وقال الأديب النحوي المؤرخ أبو إسحاق إبراهيم بن [قاسم] الأعلم البطليوسي صاحب التواليف التي بلغت نحو خمسين (1) :
__________
(1) انظر ترجمته في المغرب 1: 369 واختصار القدح: 157 وبغية الوعاة: 185 والبيتان في المغرب والقدح.(3/451)
يا حمص لا زلت داراً ... لكلّ بؤسٍ وساحه
ما فيك موضع راحه ... إلاّ وما فيه راحه وهوشيخ أبي الحسن ابن سعيد صاحب " المغرب " وأنشده هذين البيتين لما ضجر من الإقامة بإشبيلية أيام فتنة الباجي.
281 - وقال الأديب الطبيب أبو الأصبغ عبد العزيز البطليوسي الملقب بالقلندر (1) :
جرت منّي الخمر مجرى دمي ... فجلّ حياتي من سكرها
ومهما دجت ظلمٌ للهموم ... فتمزيقها بسنى بدرها وخرج يوماً وهو سكران، فلقي قاضياً في نهاية من قبح الصورة، فقال: سكران خذوه، فلما أخذه الشرطي قال للقاضي: بفضل من ولاك على المسلمين بهذا الوجه القبيح عليك إلا ما أفضلت علي وتركتني، فقال القاضي: والله لقد ذكرتني بفضلٍ عظيم؛ ودرأ عنه الحد.
282 - وقال ابن جاخ الصباغ البطليوسي (2) ، وهو من أعاجيب الدنيا، لا يقرأ ولا يكتب:
ولمّا وقفنا غداة النّوى ... وقد أسقط البين ما في يدي
رأيت الهوادج فيها البدور ... عليها البراقع من عسجد
وتحت البراقع مقلوبها ... تدبّ على ورد خدٍّ ندي
تسالم من وطئت خدّه ... وتلدغ قلب الشّجي المكمد
__________
(1) المغرب 1: 369 وفيه " القلمندر ".
(2) ترجمته في الجذوة: 381 (وبغية الملتمس رقم: 1562) ؛ والأبيات التي أوردت هنا ذكر صاحب المطرب (184) أنها لعلي بن إسماعيل الأشبوني وأخذها ابن جاخ وادعاها لنفسه.(3/452)
وقال في المتوكل، وقد سقط عن فرس:
لا عتب للطّرف إن زلّت قوائمه ... ولا يدنّسه من عائبٍ دنس
حمّلت جوداً وبأساً فوقه ونهىً ... وكيف يحمل هذا كلّه الفرس 283 - وقال الشاعر المشهور بالكميت البطليوسي (1) :
لا تلوموني فإنّي عالمٌ ... بالذي تأتيه نفسي وتدع
بالحميّا والمحيّا صبوتي ... وسوى حبّهما عندي بدع
فضّل الجمعة يوماً وأنا ... كلّ أيامي بأفراحي جمع 284 - وقال أبو عبد الله محمد بن البين البطليوسي، وهو ممن يميل إلى طريقة ابن هانئ (2) :
غصبو الصباح فقسّموه خدودا ... واستنهبوا قضب الأراك قدودا
ورأوا حصى الياقوت دون محلّهم ... فاستبدلوا منه النجوم عقودا
واستودعوا حدق المها أجفانهم ... فسبوا بهنّ ضراغماً وأسودا
لم يكفهم حمل الأسنّة والظّبى ... حتى استعاروا أعيناً وقدودا
وتضافروا بضفائرٍ أبدوا لنا ... ضوء النّهار بليلها معقودا
صاغوا الثغور من الأقاحي بينها ... ماء الحياة لو اغتدى مورودا 285 - وكان عند المتوكل مضحك يقال له الخطارة، فشرب ليلة مع المتوكل، وكان في السقاة وسيم، فوضع عينه عليه، فلما كان وقت السحر دب إليه، وكان بالقرب من المتوكل، فأحس به، فقال له: ما هذا يا خطارة
__________
(1) ترجمة الكميت في الجذوة: 314 (وبغية الملتمس رقم: 1215) وهو الكميت بن الحسن أبو بكر من شعراء عماد الدولة ابن هود بسرقسطة؛ وانظر المغرب 1: 370.
(2) الشعر في الذخيرة (2: 307) والمغرب 1: 370 وانظر ما تقدم ص: 403.(3/453)
فقال له: يا مولاي هذا وقت تفرغ الخطارة الماء في الرياض، فقال له: لا تعد لئلا يكون ماء أحمر، فرجع إلى نومه، ولم يعد في ذلك كلمة بقية عمره معه، ولا أنكر منه شيئاً، ولم يحدث بها الخطارة حتى قتل المتوكل، رحمه الله تعالى.
والخطارة: صنف من الدواليب الخفاف يستقي به أهل الأندلس من الأدوية، وهو كثير على وادي إشبيلية، وأكثر ما يباكرون العمل في السحر.
286 - وقال الوزير أبو زيد عبد الرحمن بن مولود:
أرني يوماً من الده ... ر على وفق الأماني
ثمّ دعني بعد هذا ... كيفما شئت تراني 287 - وقال أديب الأندلس وحافظها أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الفهري اليابري، وهو من رجال الذخيرة والقلائد، وشهرته مغنية عن الزيادة، يخاطب المتوكل وقد أنزله في دار وكفت عليه (1) :
أيا سامياً من جانبيه كليهما ... " سموّ حباب الماء حالاً على حال "
لعبدك دارٌ حلّ فيها كأنّها ... " ديار لسلمى عافياتٌ بذي خال "
يقول لها لمّا رأى من دثورها ... " ألا عم صباحاً أيّها الطّلل البالي "
فقالت وما عيّت جواباً بردّها ... " وهل يعمن من كان في العصر الخالي "
فمر صاحب الانزال فيها بعاجلٍ ... " فإنّ الفتى يهذي وليس بفعّال " وقال في جمع حروف الزيادة حسبما ذكره عنه في " المغرب " (2) :
سألت الحروف الزائدات عن اسمها ... فقالت ولم تكذب: أمان وتسهيل
__________
(1) مرت هذه الأبيات ص: 293 وانظر المطرب: 182.
(2) لم يرد البيت في ترجمة ابن عبدون في المغرب (1: 374) وإنما أورده صاحب المطرب: 180.(3/454)
[ضوابط حروف الزيادة]
قلت وعلى ذكر حروف الزيادة فقد أكثر الناس في انتقاء الكلمات الضابطة لها، وقد كنت جمعت فيها نحو مائة ضابط، ولنذكر الآن بعضها، فنقول: منها " أهوى تلمسانا " ونظمتها فقلت:
قالت حروف زياداتٍ لسائلها ... هل هويت بلدة: أهوى تلمسانا وجمعها ابن مالك في بيت واحد بأربعة أمثلة من غير حشو، وهو:
هناء وتسليم، تلا يوم أنسه، ... نهاية مسؤول، أمان وتسهيل ومنها " هويت السمان ". وحكي أن أبا عثمان المازني سئل عنه فأنشد:
هويت السمان فشيّبنني ... وقد كنت قدماً هويت السمانا فقيل له: أجبنا، فقال: أجبتكم مرتين، ويروى أنه قال: سألتمونيها، فأعطيتكم ثلاثة أجوبة، هكذا حكاه بعض المحقققين، وهو أرق مما حكاه غير واحد على غير هذا الوجه، ومنها: " سألتمونيها "، ومنها: اليوم تنساه، الموت ينساه، أسلمني وتاه، هم يتساءلون، التناهي سمو، تنمي وسائله، أسلمي تهاون، تهاوني أسلم، التمس هواني، ما سألت يهون، مؤنس التياه، لم يأتنا سهو، يا أويس هل نمت، نويت سؤالهم، نويت مسائله، سألتم هواني، تأملها يونس، أتاني وسهيل، هوني مسألتها، سألت ما يهون، وسليمان أتاه، تسأل من يهوى، استملاني هو، أسلمت وهناي، هو استمالني، سايل وأنت هم، يا هول استنم، أتاه وسليمان.
قلت: وليس هذا تكراراً مع السابق الذي هو " وسليمان أتاه " لأن التقديم والتأخير يصيرهما شيئين.
ومنها: الوسمي هتان، أوليتم سناه، واليتم أنسه، أمسيت وناله، أنله(3/455)
توسيماً، أملتني سهواً، أتوسل يمنها، سألتهن يوماً، سألت يومنها، سألت ما يوهن، نهوي ما سألت، يهون ما سألت، وقد سبق " سألت ما يهون " وعدهما شيئين من أجل التقديم والتأخير كما مر نظيره، ألا تنس يومه، ليتأس ماؤه، سله موتي أنا، أنسته اليوم، سألم هوينا، آوي من تسأله، وهين ما سألت، وهني ما سألت، مسألتي نواه.
ومنها: مسألتي هاون، سهوان يتألم، أيلتم سهوان، أو يلتم ناسه، مسألتي أهون، أو ميت تنساه، سموتهن إليها، أمليت سهوان، وسألتم هينا، يهون ما تسأل، أتلو من سهيا، أسلم وانتهى، يتأمل سهوان، يتأمل ناسوه، يتأملن سواه، ايتأمل نسوه، الهوى أتنسم، وليت ماه آسن، تولين أسهما، اتلوا سهمين، أول ساهمتني، أسماؤه تنيل، يتأملنه سوا، أولم يتسناه، آمن ويتساهل، أمسيتن لهواً، توسميه لناء، هو ما تسألين، لأيهما نتوسم، أيهما نتوسل، أتاني لسموه، سميتهن أولاً، أولاهن سميت، سلمتني أهوا، أسلمتني هوا، أو نستميلها، أيستمهلونا، هنأت الموسى، سليم انتهوا، وأنت سائلهم، ساءلته ينمو، تهنأ لا يسمو، اسألي مؤنته، سألتي موهناً، التمس هوناً، استملي أهون، التناه موسى، لهواء يتسنم، نهوى ما تسأل، ماؤه ليتأسن، تنسمي لهواء، تلومي إن سها، ألمتني سهواً، ستولينا أمه، يتمهلون أسا، أمهلتني سوا، التناسي وهم، أهويت سلمان، هويت المأنس، المأنس تهوي، هويت أم ناسل، أوليس تم هنا، استوهن أملي، استهون ألمي، استلمنا وهيأ، أتسلمونيها، أيتسلمونها، ألا يتسمونه، أليس توهمنا، ألا يتسنموه.
فهذه مائة وأربعة وثلاثون تركيباً، منها ما هو متين، ومنها ما هو غير متين، وقد جمع ابن خروف فيها اثنين وعشرين تركيباً محكياً وغير محكي، وأحسنها بيت ابن عبدون السابق، ويليه بيت ابن مالك، وقال الطغمي جامعاً لها أربع مرات:(3/456)
آلمتني سهواً، تلومي إن سها ... أو ليس تم هنا، الهوا يتسم هكذا بخطه يتسنم، ولو قال يتنسم لكان أنسب، وقال أيضاً:
وليت ما سناه والتمسي هنا ... ما تسألين هو الهنا يتوسم قلت: وقد جمعت في المغرب زيادة على ما تقدم، وكنت قدرت رسالة فيها أسميها " إتحاف أهل السيادة بضوابط حروف الزيادة ".
288 - وقال أبو محمد عبد الله بن الليث يستدعي الوزير أبا الحسن اليابري في يوم غيم:
رقم الربيع بروضنا أزهاره ... فجرى على صفحاته أنهاره
فعسى تشرفنا ببهجة سيّدٍ ... ألقى على ليل الخطوب نهاره
تتمتّع الآداب من نفحاته ... فيشمّ منها ورده وبهاره
يا سيداً بهر البرية سؤدداً ... أبدى إلينا سرّه وجهاره
يومٌ أظلّ الغيم وجه ضيائه ... فعليك يا شمس العلا إظهاره 289 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش (1) :
أدر كاس المدام فقد تغنّى ... بفرع الأيك طائره الصّدوح
وهبّ على الرياض نسيم صبحٍ ... يمرّ كما دنا سارٍ طليح
ومال النهر يشكو من حصاه ... جراحاتٍ كما أنّ الجريح وقال:
حلفت ويشهد دمعي بما ... أقاسيه من هجرك الزائد
__________
(1) هو أبو القاسم خلف بن يوسف بن فرتون الأبرش النحوي (توفي: 532) وترجمته في التحفة: 13 والصلة: 174 وبغية الملتمس رقم: 722 وبغية الوعاة: 234.(3/457)
فإن كنت تجحد ما أدّعي ... وحاشاك تعرف بالجاحد
فإنّ النبيّ عليه السلام ... قضى باليمين مع الشاهد 290 - وقال أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني صاحب الذخيرة، وشهرته تغني عن ذكره، ونظمه دون نثره، يخاطب أبا بكر ابن عبد العزيز:
أبا بكرٍ المجتبى للأدب ... رفيع العماد قريع الحسب
أيلحن فيك الزمان الخؤون ... ويعرب عنك لسان العرب
وإن لم يكن أفقنا واحداً ... فينظمنا شمل هذا الأدب وقد ذكرنا له في غير هذا المحل قوله:
ألا بادر فلا ثانٍ سوى ما ... عهدت الكأس والبدر التمام ... الأبيات
وتأخرت وفاته إلى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وهو منسوب إلى " شنترين " من الكور الغربية البحرية من أعمال بطليوس.
291 - وقال أبو عمر يوسف بن كوثر:
مررت به يوماً يغازل مثله ... وهذا على ذا بالملاحة يمتنّ
فقلت: اجمعا في الوصل رأيكما فما ... لمثلكما كان التغزل والمجن
عسى الصب يقضي الله بينكما له ... بخيرٍ فقالا لي: اشتهى العسل السّمن 292 - وقال أبو محمد ابن سارة (1) :
أعندك أن البدر بات ضجيعي ... فقضّيت أوطاري بغير شفيع
__________
(1) الذخيرة (2: 324) .(3/458)
جعلت ابنة العنقود بيني وبينه ... فكانت لنا أمّاً وكان رضيعي وقال (1) :
أيا من حارت الأوهام فيه ... فلم تعلم له الأقدار كنها
يجيد النبل منّاعقد أنسٍ ... أقام بغير واسطةٍ فكنها 293 - وقال أبو الحسن [ابن] منذر الأشبوني:
فديتك إنّي عن جنابك راحلٌ ... فهل لي يوماً من لقائك زاد
وحسبك والأيام خونٌ غوادرٌ ... فراقٌ كما شاء العدا وبعاد 294 - وقال خلف بن هرون القطيني:
من أنبت الورد في خدّيك يا قمر ... ومن حمى قطفه إذ ليس مصطبر
الزّهر بالرّوض مقرونٌ بأزمنةٍ ... وروض خدّك موصولٌ به الزّهر 295 - وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس حسون وعزون ورحمون، فأولع بهم الإمام أبو محمد ابن السيد النحوي، وقال فيهم (2) :
أخفيت سقمي حتّى كاد يخفيني ... وهمت في حبّ عزّون فعزّوني
ثم ارحموني برحمون فإن ظمئت ... نفسي إلى ريق حسّون فحسّوني ثم خاف على نفسه فخرج من قرطبة، هكذا رأيته بخط بعض المؤرخين والله أعلم.
__________
(1) الذخيرة (2: 326) .
(2) مر البيتان ص: 287 وقد حذفهما في م وقال: " وقد تقدمت هذه الحكاية ".(3/459)
296 - وقال ابن خفاجة يداعب من بقل عذاره (1) :
أيّها التائه مهلا ... ساءني أن تهت جهلا
هل ترى فيما ترى ... إلاّ شباباً قد تولّى
وغراماً قد تسرّى ... وفؤاداً قد تسلّى
أين دمعٌ فيك يجري ... أين جنبٌ يتقلّى
أين نفسٌ بك تهذي ... وضلوعٌ فيك تصلى
أيّ باكٍ كان لولا ... عارضٌ وافى فولّى
وتخلّى عنك إلاّ ... أسفاً لا يتخلّى
وانطوى الحسن فهلاّ ... أجمل الحسن وهلاّ أما بعد أيها النبيل النبيه، فإنه لا يجتمع العذار والتيه، قد كان ذلك وغصن تلك الشبيبة رطب، ومنهل ذلك المقبل عذب، وأما والعذار فقد بقل، والزمان قد انتقل، والصب قد صحا فعقل، فقد ركدت رياح الأشواق، ورقدت عيون العشاق، فدع عنك من نظرة التجني، ومشية التثني، وغض من عنانك، وخذ في ترضي إخوانك، وهش عند اللقاء هشة أريحية، واقنع بالإيماء رجع تحية، فكأني بفنائك مهجوراً، وبزائرك مأجوراً والسلام.
297 - وقال الرصافي لما بعث إليه من يهواه سكيناً (2) :
تفاءلت بالسكين لمّا بعثته ... لقد صدقت منّي العيافة والزجر
فكان من السكين سكناك في الحشا ... وكان من القطع القطيعة والهجر
__________
(1) ديوان ابن خفاجة: 129.
(2) ديوان الرصافي: 99 (عن النفح) .(3/460)
298 - وحضر الفقيه أبو بكر ابن جبيش ليلة مع بعض الجلة وطفئ السراج، فقال ارتجالا:
أذك السراج يرينا غرة سفرت ... فباتت الشمس تستحيي وتستتر
أو خله فكانا وجه سيدنا ... لا يطلب النجم من في بيته (1) القمر 299 - وقصد أحد الأدباء بمرسية أحد السادات من بني عبد المؤمن، فأمر له بصلة خرجت على يد ابن له صغير، فقال المذكور ارتجالا:
تبرك بنجل جاء باليمن والسعد ... يبشر بالتأييد طائفة المهدي
تكلم روح الله في المهد قبله ... وهذا براء بدل اللام في المهد 300 - وخرج الأستاذ أبو الحسن ابن جابر الدباج (2) ، يوما مع طلبته للنزهة بخارج إشبيلية، وأحضرت مجبنات ما خبا نارها (3) ، ولا هدأ أوراها، فما خام عنها ولا كف، ولا صرف حرها عن اختضابها البنان ولا الكف، فقال:
أحلى مواقعها إذا قربتها ... وبخارها فوق الموائد سام
إن أحرقت لمسا فإن أوراها ... في داخل الأحشاء برد سلام 301 - وقال أبو بكر أحمد بن محمد الأبيض الإشبيلي يتهكم برجل زعم أنه ينال الخلافة (4) :
أمير المؤمنين نداء شيخ ... أفادك من نصائحه اللطيفة
__________
(1) م: في وجهه.
(2) القصة والبيتان في القدح: 156 وانظر المغرب 1: 256.
(3) كانت عادة أهل إشبيلية أكل هذه المجبنات يوم خميس إبريل.
(4) زاد المسافر: 69.(3/461)
تحفظ أن يكون الجذع يوما ... سريرا من أسرتك المنيفه
أفكّر فيك مطويّاً فأبكي ... وتضحكني أمانيك السخيفه 302 - وقال صفوان:
ونهار أنسٍ لو سألنا دهرنا ... في أن يعود بمثله لم يقدر
خرق الزّمان لنا به عاداته ... فلو اقترحنا النجم لم يتعذر
في فتيةٍ علمت ذكاء بحسنهم ... فتلفّعت من غيمها في مئزر
والسرحة الغنّاء قد قبضت بها ... كفّ النسيم على لواء أخضر
وكأن شكل الغيم (1) منخل فضّةٍ ... يلقي على الآفاق رطب الجوهر 303 - واجتاز بعض الغلمان على أبي بكر ابن يوسف، فسلم عليه بإصبعه، فقال أبو بكر في ذلك وأشار في البيت الثالث إلى أن والد الغلام كان خطيب البلد:
مرّ الغزال بنا مروعاً نافراً ... كشبيهه في القفر ريع بصائده
لثم السّلامى في السّلام تستراً ... ثم انثنى حذر الرقيب لراصده
هلاّ تكلّف وقفةً لمحبّه ... ولو آنها قصراً كجلسة والده 304 - وقال أبو القاسم القبتوري:
واحسرتا لأمورٍ ليس يبلغها ... مالي وهنّ منى نفسي وآمالي
أصبحت كلآل لا جدوى لديّ وما ... آليت جدّاً ولكن جدّي الآلي 305 - وقال أبو الحسن ابن الحاج (2) :
__________
(1) ب: الماء.
(2) هو جعفر بن الحاج، ترجم له القلائد: 139 والمغرب: 2: 277 وانظر الحاشية، وورد البيتان فيه ص: 281 والمطرب: 175 وقد وقعا في م قبل بيتي القبتوري.(3/462)
كفى حزناً أنّ المشارع جمّةٌ ... وعندي إليها غلّةٌ وأوام
ومن نكد الأيام أن يعدم الغنى ... كريمٌ وأنّ المكثرين لئام 306 - وقال أحمد بن أمية البلنسي:
قال رئيسي حين فاوضته ... وما درى أنّ مقامي عسير
أقم فقلت الحال لا تقتضي ... فقال سر قلت جناحي كسير 307 - وقال ابن برطله:
لله ما ألقاه من همّةٍ ... لا ترتضي إلا السّها منزلا
ومن خمولٍ كلما رمت أن ... أسمو به بين الورى قال لا 308 - وكتب ابن خروف لبعض الرؤساء:
يا من حوى كلّ مجدٍ ... بجدّه وبجدّه
أتاك نجل خروفٍ ... فامنن عليه بحدّه وكتب أيضاً لبعضهم يستدعي فروة:
بهاء الدين والدنيا ... ونور المجد والحسب
طلبت مخافة الأنوا ... ء من جدواك جلد أبي
وفضلك عالمٌ أنّي ... خروفٌ بارع الأدب
حلبت الدهر أشطره ... وفي حلبٍ صفا حلبي وبعد كتبي لما ذكر خشيت أن لا يكون لابن خروف المشرقي لا الأندلسي (1) ، والله تعالى أعلم.
__________
(1) هو كما قدر المقري فإن هاتين القطعتين لابن خروف أبي الحسن علي بن خمد، ولكنه أيضا قرطبي الأصل استقر بحلب (انظر الغصون اليانعة: 138 وزاد المسافر: 20) .(3/463)
309 - وركب محبوب أبي بكر ابن مالك (1) كاتب ابن سعد بغلةً رديف رجل يعرف بالدب، فقال أبو بكر في ذلك:
وبغلةٍ ما لها مثال ... يركبها الدّب والغزال
كأنّ هذا وذا عليها ... سحابةً خلفها هلال 310 - وخرج محبوب لأبي الحسن ابن حريق (2) يوماً لنزهة وعرض سيل عاقه عن دخول البلد، فبات ليلة عند أبي الحسن، فقال في ذلك:
يا ليلةً جادت الأماني ... بها على رغم أنف دهري
تسيل فيها عليّ نعمى ... يقصر عنها لسان شكري
أبات في منزلي حبيبي ... وقام في أهله بعذر
وبتّ لا حالةٌ كحالي ... صريع سكرٍ ضجيع بدر
يا ليلة القدر في اللّيالي ... لأنت خيرٌ من آلف شهر 311 - وقال أبو الحسن ابن الزقاق (3) :
عذيري من هضيم الكشح أحوى ... رخيم الدّل قد لبس الشّبابا
أعدّ الهجر (4) هاجرةً لقلبي ... وصيّر وعده فيها سرابا 312 - وقال أبو بكر ابن الجزار السرقسطي:
ثناء الفتى يبقى ويفنى ثراؤه ... فلا تكتسب بالمال شيئاً سوى الذكر
فقد أبلت الأيّام كعباً وحاتماً ... وذكرهما غضٌّ جديدٌ إلى الحشر
__________
(1) زاد المسافر: 33.
(2) هذا الخبر والشعر سقطا من م؛ وقد مرت الأبيات ص: 410.
(3) ديوان ابن الزقاق: 98.
(4) ب: العتب.(3/464)
313 - وقال الأديب أبو عبد الله الجذامي (1) : كان لشخصٍ من أصحابنا قينة، فبينما هو ذات يوم قد رام تقبيلها على أثر سواك أبصره بمبسمها إذ مرّ فوال ينادي على فول يبيعه، قال فكلفني أن أقول في ذلك شيئاً، فقلت:
ولم أنس يوم الأنس حين سمحت لي ... وأهديت لي من فيك فول سواك
ومرّ بنا الفوّال للفول مادحاً ... وما قصده في المدح فول سواك وشرب يوماً أبو عبد الله المذكور عند بعض الأجلة وذرعه القيء، فارتجل في العذر:
لا تؤاخذ من أخلّ به ... قهوةٌ في الكاس كالقبس
كيف يلحى في المدام فتىً ... أخذته أخذ مفترس
دخلت في الحلق مكرهةً ... ضاق عنها موضع النفس
خرجت من موضعٍ دخلت ... أنفت من مخرج النجس 314 - وجلس سلمة بن أحمد إلى جنب وسيم يكتب من محبرة فانصب الحبر منها على ثوب سلمة، فخجل الغلام، فقال سلمة:
صبّ المداد وما تعمّد صبّه ... فتورّد الخدّ المليح الأزهر
يا من يؤثّر حبره في ثوبنا ... تأثير لحظك في فؤادي أكبر 315 - وكان لأبي الحسن ابن حزمون (2) بمرسية محبوب يدعى أبا عامر، وسافر أبو الحسن، فبينما هو بخارج المرية لإذ لقي فتىً يشبه محبوبه، وسأله عن اسمه، فأخبره بأنه يدعى أبا عامر، فقال أبو الحسن في ذلك:
إلى كم أفرّ أمام الهوى ... وليس لذا الحبّ من آخر
__________
(1) الخبر والبيتان التاليان ساقطة من م.
(2) من شعراء زاد المسافر: 64 وله شعر في المعجب والبيان المغرب.(3/465)
وكيف أفرّ أمام الهوى ... وفي كلّ وادٍ أبو عامر 316 - وحضر أبو بكر ابن مالك كاتب ابن سعد مع محبوبه لارتقاب هلال شوال، فأغمي على الناس ورآه محبوبه، فقال أبو بكر في ذلك (1) :
توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... ولاح لمن أهواه منه فحيّاه (2)
فقلت لهم: لم تفهموا كنه سرّه ... ولكن خذوا عنّي حقيقة معناه
بدا الفق كالمرآة راق صفاؤه ... فأبصر دون الناس فيه محيّاه 317 - وكتب أبو بكر ابن حبيش لمن يهواه بقوله:
متى ما ترم شرحاً بحالي وتبيينا ... فصحّف على قلبي " علومك تحيينا " أراد " إني بحبك مولع ".
318 - وكتب القاضي ابن السليم (3) إلى الحكم المستنصر بالله:
لو أنّ أعضاء جسمي ألسنٌ نطقت ... بشكر نعماك عندي قلّ شكري لك
أو كان ملّكني الرحمن من أجلي ... شيئاً وصلت به يا سيدي أجلك
ومن تكن في الورى آماله كثرت ... فإنّما أملي في أن ترى أملك 319 - وقال الوزير ابن أبي الخصال:
وكيف أؤدّي شكر من إن شكرته ... على برّ يومٍ زادني مثله غدا
فإن رمت أقضي اليوم بعض الذي مضى ... رأيت له فضلاً عليّ مجدّدا
__________
(1) زاد المسافر: 33.
(2) م: محياه.
(3) ب: ابن سليم.(3/466)
320 - وقال الرصافي (1) :
قلّدت جيد الفكر من تلك الحلى ... ما شاءه المنثور والمنظوم
وأشرت قدّامي كأنّي لاثمٌ ... وكأن كفّي ذلك الملثوم وقال:
ويا لك نعمةً رمنا مداها ... فما وصل اللسان ولا الضمير
عجزنا أن نقوم لها بشكرٍ ... على أنّ الشكور لها كثير 321 - وقال ابن باجة:
قومٌ إذا انتقبوا رأيت أهلّةً ... وإذا هم سفروا رأيت بدوراً
لا يسألون عن النوال عفاتهم ... شكراً ولا يحمون منه نقيرا
لو أنهم مسحوا على جدب الرّبى ... بأكفهم نبت الأقاح نضيرا (2) 322 - وقال ابن الأبار يمدح أبا زكريا سلطان إفريقية:
تحلّت بعلياك اللّيالي العواطل ... ودانت لسقياك السحاب الهواطل
وما زينة الأيام إلا مناقبٌ ... يفرّعها أصلان: بأسٌ ونائل
إذا الطّول والصّول استقلاّ براحةٍ ... ترقّت لها نحو النجوم أنامل وقال أيضاً في سعيد بن حكم رئيس منرقة:
سيّدٌ أيّدٌ رئيسٌ بئيسٌ ... في أساريره صفات الصباح
قمرٌ في أفق المعالي تجلّى ... وتحلّى بالسؤدد الوضّاح
سلم البحر في السماحة منه ... لجوادٍ سموّه بحر السماح
__________
(1) ديوان الرصافي: 131، 87.
(2) ب: صغيرا.(3/467)
323 - وقال أبو العباس أحمد الإشبيلي:
يا أفضل الناس إجماعاً ومعرفتي ... تغني وما الحسن في ريب ولا ريب
ورثت عن سلفٍ ما شئت من شرفٍ ... فقد بهرت بموروثٍ ومكتسب 324 - وقال ابن زهر الحفيد:
يا من يذكّرني بعهد أحبّتي ... طاب الحديث بذكرههم ويطيب
أعد الحديث عليّ من جنباته ... إنّ الحديث عن الحبيب حبيب
ملأ الضلوع وفاض عن أحنائها ... قلبٌ إذا ذكر الحبيب يذوب
ما زال يضرب خافقاً بجناحه ... يا ليت شعري هل تطير قلوب وقال في زهر الكتان:
أهلاً بزهر اللاّزورد ومرحبا ... في روضة الكتّان تعطفه الصّبا
لو كنت ذا جهلٍ لخلتك لجّةً ... وكشفت عن ساقٍ كما فعلت سبا ولما قال الموشحة المشهورة التي أولها:
صادني ولم يدر ما صادا ... قال أبو بكر ابن الجد: لو سئل عما صاد لقال: تيس بلحية حمراء.
ولما قال الموشحة التي أولها:
هات ابنة العنب ... واشرب إلى قوله:
وفدّه بأبي ... ثمّ بي سمعها أبوه فقال: يفديه بالعجوز السوء أمه، وأما أنا فلا.(3/468)
325 - وهنالك أبو بكر ابن زهر الأصغر (1) ، وهو ابن عم هذا الأكبر. ومن نظم الأصغر:
والله ما أدري بما أتوسّل ... إذ ليس لي ذاتٌ بها أتوصّل
لكن جعلت مودتي مع خدمتي ... لعلاك أحظى شافعٍ يتقبّل
إن كنت من أدوات زهرٍ عاطلاً ... فالزّهر منهنّ السّماك الأعزل وهذه الأبيات خاطب ها المأمون بن المنصور صاحب المغرب.
326 - وقال الأديب أبو جعفر عمر ابن صاحب الصلاة:
وما زالت الدنيا طريقاً لهالك ... تباين في أحوالها وتخالف
ففي جانبٍ منها تقوم مآتمٌ ... وفي جانبٍ منها تقوم معازف
فمن كان فيها قاطناً فهو ظاغنٌ ... ومن كان فيها آمناً فهو خائف 327 - وقال أبو بكر محمد ابن صاحب الصلاة يخاطب أخيل (2) لما انتقل إلى العدوة:
لا تنكرنّ زماناً ... رماك منه بسهم
وأنت غاية مجدٍ ... في كلّ علمٍ وفهم
هذي دموعي حتى ... يراك طرفي تهمي
يا ليت ما كنت أخشى ... عليك عدوان همّ
وإنّما الدهر يبدي ... ما لا يجوز بوهم
ما زال شيهم مسٍّ ... لكلّ يقظان شهم ولما وفد اهل الأندلس على عبد المؤمن قام خطيباً ناثراً وناظماً، فأتى
__________
(1) هو أبو بكر محمد بن قسورة الإيادي، وترجمته وأبياته في القدح: 150 - 151.
(2) بياض في ب؛ م: اخال.(3/469)
بالعجب، وباهى به أهل الأندلس في ذلك الوقت.
وله في عبد المؤمن:
هم الألى وهبوا للحرب أنفسهم ... وأنهبوا ما حوت أيديهم الصّفدا
ما إن يغبّون كحل الشمس من رهجٍ ... كأنّما عينها تشكو لهم رمدا 328 - وقال ابن السيد البطليوسي في أبي الحكم عمرو بن مذحج ابن حزم، وقد غلب على لبه، وأخذ بمجامع قلبه (1) :
رأى صاحبي عمراً فكلّف وصفه ... وحمّلني من ذاك ما ليس في الطّوق
فقلت له: عمرٌ كعمرٍ فقال لي ... صدقت ولكن ذاك شبّ (2) عن الطوق وفيه يقول ابن عبدون (3) :
يا عمرو ردّ على الصّدور قلوبها ... من غير تقطيعٍ ولا تحريق
وأدر علينا من خلالك أكؤساً ... لم تأل تسكرنا بغير رحيق وفيه يقول أحدهما:
قل لعمرو بن مذحج ... جاء ما كنت أرتجي
شاربٌ من زبرجدٍ ... ولمىً من بنفسج وكتب إليه ابن عبدون:
سلامٌ كما هبّت من المزن نفحةٌ ... تنفّس عند الفجر في وجهها الزهر
__________
(1) مر البيتان في المجلد الأول: 636 وهنا خطأ فصاحب البيتين كما هو أبو الحسن البطليوسي (ابن القبطورنة) ، ذكر ذلك ابن بسام في الذخيرة وابن سعيد في المغرب 1: 238.
(2) ب م: ولكن ذا أشب.
(3) الذخيرة (2: 232) .(3/470)
ومنها:
أبا حسن أبلغ سلام فمي يدي ... أبي حسنٍ وارفق فكلتاهما بحر
ولا تنس يمناك التي (1) هي والندى ... رضيعا لبانٍ لا اللّجين ولا التّبر فأجابه من أبيات:
تحيّر ذهني في مجاري صفاته ... فلم أدر شعرٌ ما به فهت أم سحر
أرى الدهر أعطاك التقدّم في العلى ... وإن كان قد وافى أخيراً بك الدهر
لئن حازت الدنيا بك الفضل آخراً ... ففي أخريات الليل ينبلج الفجر ولعمرو في أبي العلاء ابن زهر (2) :
قدمت علينا والزمان جديد ... وما زلت تبدي في الندى وتعيد
وحقّ (3) العلا لولا مراتبك العلا ... لما اخضرّ في أفق المكارم عود
فلوحوا بني زهرٍ فإنّ وجوهكم ... نجومٌ بأفلاك العلاء سعود وقوله لأبي الوليد ابن عمه (4) :
إنّي لأعجب أن يدنو بنا وطنٌ ... ولا يقضّى من اللّقيا لنا وطر
لا غرو إن بعدت دارٌ مصاقبة ... بنا وجدّ بنا للحضرة السّفر
فمحجر العين لا يلقاه ناظرها ... وقد توسّع في الدنيا به النظر وقال ابن عمه أبو بكر محمد بن مذحج يخاطب ابن عمه أبا الوليد (5) :
__________
(1) الذخيرة: لي تلك التي.
(2) الذخيرة (2: 234) ؛ وفي م: ولعمرو في ابن زهر.
(3) الذخيرة: وعيش.
(4) الذخيرة (2: 235) .
(5) الذخيرة (2:234) .(3/471)
ولمّا رأى حمص استخّفت بقدره ... على أنّها كانت به ليلة القدر
تحمّل عنها والبلاد عريضةٌ ... كما سلّ من غمد الدّجى صارم الفجر وقال أبو الوليد المذكور (1) :
أتجزع من دمعي وأنت أسلته ... ومن نار أحشائي وأنت لهيبها
وتزعم أنّ النّغس غيرك علّقت ... وأنت ولا منٌّ عليك حبيبها
إذا طلعت سمشٌ عليّ بسلوةٍ ... أثار الهوى بين الضلوع غروبها وله أيضاً (2) :
لمّا استمالك معشرٌ لم أرضهم ... والقول فيك، كما علمت، كثير
داريت دونك مهجتي فتماسكت ... من بعد ما كادت إليك تطير
فاذهب فغير جوانحي لك منزلٌ ... واسمع فغير وفائك المشكور وقال:
يقول وقد لمته في هوى ... فلانٍ وعرّضت شيئاً قليلا
أتحسدني قلت: لا والذي ... أحلّك في الحبّ مرعىً وبيلا
وكيف وقد حلّ ذاك الجناب ... وقد سلك الناس ذاك السبيلا وله مما يكتب على قوس (3) :
إنّا إذا رفعت سماء عجاجةٍ ... والحرب تقعد بالرّدى وتقوم
وتمرّد الأبطال في جنباتها ... والموت من فوق النّفوس يحوم
__________
(1) الذخيرة: 237.
(2) المغرب 1: 240.
(3) الذخيرة (2: 244) ؛ م: ومما يكتب على قوس قوله.(3/472)
مرقت لهم منّا الحتوف كأنّما ... نحن الأهلّة والسهام نجوم (1) 329 - وقال أبو الحسين ابن فندلة في كلب صيد (2) :
فجعت بمن لو رمت تعبير وصفه ... لقلّ ولو أنّي غرفت من البحر
بأخطل وثّابٍ طموحٍ مؤدّبٍ ... ثبوتٍ يصيد النّسر لو حلّ في النسر
كلون الشباب الغضّ في وجهه سناً ... كأنّ ظلاماً ليس فيه سوى البدر
إذا سار والبازيّ أقول تعجّباً ... ألا ليت شعري يسبق الطير من يجري ولا يلتفت إلى أقول أبي العباس ابن سيد فيه (3) :
الموت لا يبقي على مهجةٍ ... لا أسداً يبقي ولا نعثله (4)
ولا شريفاً لبني هاشمٍ ... ولا وضيعاً لبني فندله وكان ابن سيد مسلطاً على هذا البيت، قال ابن سعيد: وإنما ينبح الكلب القمر.
330 - قال أبو العباس النجار (5) : كان أبو الحسين يلقب بالوزغة، فوصلت إلى بابه يوماً، فتحجب عني، فكتبت على الباب:
تحجّب الفندليّ عنّي ... فساء من فعله ضميري
ينفر من رؤيتي كأنّي ... مضمّخ الجيب بالعبير قال: ومن عادة الوزغة أن تكره رائحة الزعفران وتهرب منه.
__________
(1) الذخيرة: رجوم.
(2) ترجمته في المغرب 1: والحاشية؛ وكنيته فيه أبو الحسن.
(3) هو أحمد بن سيد الملقب (المغرب 1: 252 والحاشية) .
(4) ب: تتفله؛ م: شكله.
(5) ب: الأبار؛ ق: النبار.(3/473)
331 - وقال أبو القاسم ابن حسان (1) :
ألا ليتني ما كنت يوماً معظّماً ... ولا عرفوا شخصي ولا علموا قصري
أكلّف في حال المشيب بمثل ما ... تحمّلته والغصن في ورقٍ نضر
فما عاش في الأيام في حرّ عيشةٍ ... سوى رجل ناءٍ عن النّهي والأمر 332 - وقال أبو بكر ابن مرتين (2) :
صحبت منك العلا والفضل والكرما ... وشيمةً في النّدى لا ترتضي السأما
مودّةٌ في ثرى الإنصاف راسخةٌ ... وسمكها فوق أعناق السّماء سما وقال:
أنصفتني فمحضتك الودّ الذي ... يجزى بصفوته الخليل المنصف
لا تشكرنّ سوى خلالك إنّها ... جلبت إليك من الثنا ما يعرف وقال:
يا هلالاً يتجلّى ... وقضيباً يتثنّى
كلّ أنسٍ لم تكنه ... فهو لفظٌ دون معنى 333 - وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن زرقون:
ذكر العهد والديار غريب ... فجرى دمعه ولجّ النّحيب
ذكر العهد والنّوى من حبيبٍ ... حبّذا العهد والنّوى والحبيب
إذ صفاء الوداد غير مشوبٍ ... بتجنٍّ وودّنا مشبوب
__________
(1) ترجمته في القدح: 148 (توفي سنة 625) .
(2) أبو بكر محمد بن مرتين وزر للظافر بن المعتمد أثناء ولايته على قرطبة؛ (انظر المغرب 1: 234 وفيه البيتان الأولان) .(3/474)
وإذا الدهر دهرنا وإذا الدا ... ر قريبٌ وإذ يقول الرّقيب ومنها:
أسأل الله عفوه فلئن سا ... ء مقالي لقد تعفّ القلوب
قد ينال الفتى الصغائر ظرفاً ... لا سواها وللذّنوب ذنوب
وأخو الشّعر لا جناح عليه ... وسواءٌ صدوقه والكذوب 334 - وقال الخطيب أبو عبد الله محمد بن عمر الإشبيلي (1) :
وكلٌّ إلى طبعه عائدٌ ... وغن صدّه المنع عن قصده
كذا الماء من بعد إسخانه ... يعود سريعاً إلى برده وقال:
يا معدن الفضل وطود الحجى ... لا زلت من بحر العلا تغترف
عبدك بالباب فقل منعماً ... يدخل أو يصبر أو ينصرف 335 - وقال إمام اللغة أبو بكر محمد بن الحسن (2) الزبيدي الإشبيلي:
ما طلبت العلوم إلاّ لأنّي ... لم أزل من فنونها في رياض
ما سواها له بقلبي حظٌّ ... غير ما كان للعيون المراض وقال:
أشعرن قلبك ياسا ... ليس هذا الناس ناسا
ذهب الإبريز منهم ... فبقوا بعد نحاسا
__________
(1) هو المعروف بالمهيرس، وقد مرت الإشارة إلى ترجمته، قتل في واقعة تالمست سنة 625.
(2) ق ب: الحسين.(3/475)
سامريّين يقولو ... ن جميعاً لا مساسا وكان كتاب " العين " للخليل مختل القواعد، فامتعض له هذا الإمام، وصقل صدأه كما يصقل الحسام، وأبرزه في أجمل منزع، حتى قيل: هذا مما أبدع واخترع، وله كتاب في النحو يسمى " الواضح " وصيره الحكم المستنصر مؤدباً لولده هشام المؤيد، وبالجملة فهو في المغرب بمنزلة ابن دريد في المشرق (1) .
336 - وقال النحوي أبو بكر محمد بن طلحة الإشبيلي (2) ، وشعره رقيق خارج عن شعر النحاة، ومنه:
إلى أيّ يومٍ بعده يرفع الخمر ... وللورق تغريدٌ وقد خفق النّهر
وقد صقلت كفّ الغزالة أفقها ... وفوق متون الروض أرديةٌ خضر
وكم قد بكت عين السماء بدمعها ... عليها ولولا ذاك ما بسم الزهر وقال (3) :
بدا الهلال فلمّا ... بدا نقصت وتمّا
كأنّ جسمي فعلٌ ... وسحر عينيه " لمّا " وكان لا يملك نفسه في النظر إلى الصور الحسان، وأتاه يوماً أحد أصحابه بولد له فتان الصورة، فعندما دخل مجلسه قصر عليه طرفه، ولم يلتفت إلى والده، وجعل والده يوصيه عليه وهو لا يعلم ما يقوله، وقد افتضح في طاعة هواه، فقال له الرجل: يا أبا بكر حقق النظر فيه لعله مملوك ضاع لك، وقد
__________
(1) م ب: بالمشرق.
(2) ترجمته في المغرب 1: 253 والتكملة: 605 وبغية الوعاة: 49 وبرنامج الرعيني: 79.
(3) البيتان في المغرب.(3/476)
جبره الله تعالى عليك، ولكن على من يتركه عندك لعنة الله، هذا ما علمت بمحضري، والله إن غاب معك عن بصري لمحة لتفعلن به ما اشتهر عنك؛ وأخذ ولده وانصرف به، فانقلب المجلس ضحكاً.
337 - وقال أبو جعفر أحمد ابن الأبار الإشبيلي (1) ، وهو من رجال " الذخيرة ":
زارني خيفة الرقيب مريبا ... يتشكّى منه القضيب الكثيبا
رشأٌ راش لي سهام المنايا ... من جفونٍ يسبي بهنّ القلوبا
قال لي ما ترى الرقيب مطلاًّ ... قلت دعه أتى الجناب الرحيبا
عاطه أكؤس المدام دراكاً ... وأدرها عليه كوباً فكوبا
واسقنيها من خمر عينيك صرفاً ... واجعل الكأس منك ثغراً شنيبا
ثمّ لمّا أن نام من نتّقيه ... وتلقّى الكرى سميعاً مجيبا (2)
قال لا بدّ أن تدبّ عليه ... قلت أبغي رشاً وآخذ ذيبا
قال فابدأ بنا وثنّ عليه ... قلت عمري لقد أتيت قريبا
فوثبنا على الغزال ركوباً ... وسعينا على الرقيب دبيبا
فهل آبصرت أو سمعت بصبٍّ ... ناك محبوبه وناك الرّقيبا وأنشد له ابن حزم (3) :
أوما رأيت الدهر أقبل معتباً ... متنصلاً بالعذر ممّا أذنبا
بالأمس أذبل في رياضك أيكةً ... واليوم أطلع في سمائك كوكبا
__________
(1) انظر الذخيرة (2: 52) والمغرب 1: 253 والجذوة: 107 وبغية الملتمس رقم: 364 ووفيات الأعيان 1: 64 والمسالك 11: 418.
(2) سقط من م؛ وفي ب: ثم لما أتى الرقيب سريعا.
(3) يعني في الجذوة: 107.(3/477)
وقيل: إنه خاطب بهما ابن عباد ملك إشبيلية وقد ماتت له بنتٌ وولد له ابنٌ، وبعضهم ينسبهما لغيره.
338 - ودخل الأديب أبو القاسم [ابن] (1) العطار الإشبيلي حماماً بإشبيلية، فجلس إلى جانبه وسيم خمري العينين، فافتتن بالنظر إليه إلى أن قام وقعد في مكانه أسود، فقال:
مضت جنّة المأوى وجاءت جهنّم ... فها أنا أشقى بعدما كنت أنعم
وما كان إلا الشمس حان غروبها ... فأعقبها جنحٌ من الليل مظلم 339 - وقال الأديب المصنف أبو عمرو عثمان بن علي بن عثمان ابن الإمام الإشبيلي صاحب " سمط الجمان ":
عذيري من اليام لا درّ درّها ... لقد حمّلتني فوق ما كنت ارهب
وقد كنت جلداً ما ينهنهني النوى ... ولا يستبيني الحادث المتغلّب
يقاسي صروف الدهر مني مع الصّبا ... جذيل حكاكٍ أو عذيقٌ مرجّب
وكنت إذا ما الخطب مذّ جناحه ... عليّ تراني تحته أتقلّب
فقد صرت خفّاق الجناح يروعني ... غرابٌ إذا أبصرته وهو ينعب
وأحسب من ألقى حبيباً مودّعاً ... وأنّ بلاد الله طرّاً محصّب وقد امتعض للاداب في صدر دولة بني عبد المؤمن، فجمع شمل الفضلاء الذين اشتملت عليهم المائة السابعة إلى مبلغ سنه منها في ذلك الأوان، واستولى بذلك على خصل الرهان، وانفرد بهذه الفضيلة التي لم ينفرد بها إلا فلان وفلان.
340 - وكان الأديب العالم الصالح أبو الحسن علي بن جابر الدباج الإشبيلي إماماً في فنون العربية، ولكن شهر بإقراء كتب الآداب كالكامل للمبرد ونوادر
__________
(1) زيادة من المغرب 1: 254 وانظر القلائد: 284 والمسالك 11: 394.(3/478)
القالي وما أشبه ذلك، وكان - مع زهده - فيه لوذعية، ومن ظرفه أن أحد تلامذته قال لغلام جميل الصورة: بالله أعطني قبلة تمسك رمقي، فشكاه إلى الشيخ وقال له: يا سيدي، قال لي هذا كله، فقال له الشيخ: وأعطيته ما طلب فقال: لا، فقال له: ما هذه الثقالة ما كفام أن حرمته حتى تشتكي به أيضاً وحسبك من جلالة قدره أن أهل إشبيلية رضوا به إماماً في جامع العدبس.
وله (1) :
لمّا تبدّت وشمس الأفق باديةٌ ... أبصرت شمسين من قربٍ ومن بعد
من عادة الشمس تعشي عين ناظرها ... وهذه نورها يشفي من الرّمد 341 - وقال مالك بن وهب:
أراميتي بالسحر من لحظاتها ... نعيذك كيف الرمي من دون أسهم
ألا فاعلمي أن قد أصبت، فواصلي ... سهامك أو كفّي فلست بمسلم
فإنسان عين الدهر أصميت فاحذري ... مطالبةً بالقلب واليد والفم
أما هو في غيلٍ إذا غابه القنا ... تحفّ به آساد كلّ ملثّم
ولو أنّ لي ركناً شديداً بنجوة ... أويت له من بأس لحظك فارحمي وهو إشبيلي، كان من أهل الفلسفة كما في " المسهب "، قال: وهو فيلسوف المغرب، ظاهر الزهد والورع، استدعاه من إشبيلية أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين إلى حضرة مراكش، وصيره جليسه وأ، يسه، وفيه يقول بعض أعدائه:
دولةٌ لابن تاشفين عليٍّ ... طهرت بالكمال من كلّ عيب
غير أنّ الشيطان دسّ إليها ... من خباياه مالك بن وهيب
__________
(1) القدح: 156.(3/479)
وأمره علي بمناظرة محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أنشأ دولة بني عبد المؤمن.
[أشعار لأبي الصلت]
342 - وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز المذكور في غير هذا الموضع من هذا الكتاب يستدعي بعض إخوانه (1) :
بمعاليك وجدّك ... جد بلقياك لعبدك
حضر الكلّ ولكن ... لم يطب شئ لفقدك وقال:
وراغبٍ في العلوم مجتهدٍ ... لكنّه في القبول جلمود
فهو كذي عنّةٍ به شبقٌ ... ومشتهي الأكل وهو ممعود وقال:
لئن عرضت نوى وعدت عواد ... أدالت من دنوّك بالعاد
فما بعدت عن اللقيا جسومٌ ... تدانت بالمحبّة والوداد
ولكن قرب دارك كان أندى ... على كبدي وأحلى في فؤادي وله في مجمرة:
ومحرورة الأحشاء لم تدر ما الهوى ... ولم تدر ما يلقى المحبّ من الوجد
إذا ما بدا برق المدام رأيتها ... تثير غماماً في النديّ من النّدّ
ولم أر ناراً كلّما شبّ جمرها ... رأيت الندامى منه في جنّة الخلد
__________
(1) معظم هذه القطع لأبي الصلت وردت في الخريدة 4 / 1: 258 - 320.(3/480)
وقوله من قصيدة:
وإن هم نكصوا يوماً فلا عجبٌ ... قد يكهم السيف وهو الصارم الذكر
العود أحمد والأيّام ضامنةٌ ... عقبى النجاح ووعد الله منتظر وقال:
تقريب ذي الأمر لأهل النّهى ... أفضل ما ساس به أمره
هذا به أولى وما ضرّه ... تقريب أهل الهوى في النّدره
عطاردٌ في جلّ أوقاته ... أدنى إلى الشمس من الزّهره وقوله:
تفكّر في نقصان مالك دائماً ... وتغفل عن نقصان جسمك والعمر
ويثنيك خوف الفقر عن كلّ بغيّةٍ ... وخوفك حال الفقر شرّ من الفقر وقوله:
يا ليلة لم تبن من القصر ... كأنّها قبلةٌ على حذر
لم تك إلاّ كلا ولا مضت ... تدفع في صدرها يد السّحر وقال فيمن نظر إليه فأعرض عنه:
قالوا: ثنى عنك بعد البشر صفحته ... فهل أصاخ إلى الواشي فغيّره
فقلت: لا بل درى وجدي بعارضه ... فردّ صفحته عمداً لأبصره وقال:
حكت الزمان تلوّناً ... لمحبّها العاني الأسير
فوصالها برد الأصي ... ل وهجرها حرّ الهجير(3/481)
وقال يستدعي:
هو يومٌ كما تراه مطير ... كلب القرّ فيه والزمهرير
وأرانا الغمام والبرد ثوبي ... ن علينا كلاهما مجرور
ولدينا شمسان شمسٌ من الرّا ... ح وشمسٌ تسعى بها وتدور
فمن الرأي أن تشبّ الكواني ... ن بأجذالها وترخى الستور
فاترك الاعتذار فيه فترك ال ... شرب في مثل يومنا تعذير وقال:
هو البحر غص فيه إذا كان ساكناً ... على الدّرّ واحذره إذا كان مزبدا وقال:
غبت عنّا فغاب كلّ جمالٍ ... ونأى إذ نأيت كلّ سرور
ثمّ لمّا قدمت عاودنا الأن ... س وقرّت قلوبنا في الصدور
فلو آنّا نجزي البشير بنعمى ... لوهبنا حياتنا للبشير وقال:
كم ضيّعت منك المنى حاصلاً ... كان من الأحزم أن يحفظا
فالفظ بها عنك فمن حقّ ما ... يخفي صواب الرأي أن يلفظا
فإن تعللت بأطماعها ... فإنّما تحلم مستيقظا وقال:
يقولون لي صبراً وإنّي لصابرٌ ... على نائبات الدهر وهي فواجع
سأصبر حتى يقضي الله ما قضى ... وإن أنا لم أصبر فما أنا صانع(3/482)
وقال:
بأبي خودٌ شموعٌ (1) ... أقبلت تحمل شمعه
فالتقى نوراهما واخ ... تلفا قدراً ورفعه
ومسير الشمس تسته ... دي بضوء النجم بدعه وقال في فرس أشهب:
وأشهبٍ كالشهاب أضحى ... يلوح في مذهب الجلال
قال حسودي وقد رآه ... يخبّ تحتي (2) إلى القتال:
من ألجم الصبح بالثريا ... وأسرج البرق بالهلال وقال:
رمتني صروف الدهر بين معاشرٍ ... أصحّهم ودّاً عدوٌّ مقاتل
وما غربة الإنسان في غير داره ... ولكنّها في قرب من لا يشاكل وقال:
أصبحت صبّاً دنفاً مغرما ... أشكو جوى الحبّ وأبكي دما
هذا وقد سلّم إذ مرّ بي ... فكيف لو مرّ وما سلّما وقال:
وقفنا للنّوى فهفت قلوبٌ ... أضرّ بها الجوى وهمت شؤون
يناجي بعضنا باللحظ بعضاً ... فتعرب عن ضمائرنا العيون
فلا والله ما حفظت عهودٌ ... كما ضمنوا ولا قضيت ديون
__________
(1) الشموع: اللعوب.
(2) الخريدة: يجنب خلفي.(3/483)
ولو حكم الهوى يوماً بعدلٍ ... لأنصف من يفي ممّن يخون
أمرّ بداركم وأغضّ طرفي ... مخافة أن تظنّ بي الظنون 343 - ولما رأى عبد الرحمن بن شبلاق (1) الحضرمي الإشبيلي في النوم أنه مر على قبرٍ وقوم يشربون حوله وسط أزاهر فأمروه أن يرثي صاحب القبر، وهو أبو نواس الحسن بن هانئ، قال:
جادك يا قبر انسكاب (2) الغمام ... وعاد بالروح عليك السلام
ففيك أضحى الظّرف مستودعاً ... واستترت عنّا عيون الظلام 344 - وقال أبو بكر محمد بن نصر الإشبيلي (3) :
وكأنّما تللك الرياض عرائسٌ ... ملبوسهنّ معصفرٌ ومزعفر
أو كالقيان لبسن موشيّ الحلى ... فلهنّ في وشي اللباس تبختر 345 - وقال أحمد بن محمد الإشبيلي (4) :
أما ترى النرجس الغضّ الذكيّ بدا ... كأنّه عاشقٌ شابت ذوائبه
أو المحبّ شكا لمّا أضرّ به ... فرط السّقام فعادته حبائبه وقال (5) :
ربّ نيلوفرٍ غدا مخجل الرا ... ئي إليه نفاسةً وغرابه
كمليكٍ للزنج في قبّةٍ بي ... ضاء يدنو الدجى فيغلق بابه
__________
(1) في الأصول: سبلاق، والتصويب عن الجذوة: 255.
(2) الجذوة: نشاص؛ وهو السحاب المرتفع.
(3) البيتان في كتاب البديع: 27.
(4) هو أبو جعفر ابن الأبار الذي سبق ذكره؛ وترجم له صاحب المغرب 1: 259 وفيه القطعتان.
(5) البديع: 146.(3/484)
346 - وقال أبو [الحسن] (1) الأصبغ بن سيد:
كأنّما النرجس في منظر ال ... حسن الذي أمثاله تبتغى
أناملٌ من فضّةٍ فوقه ... كأسٌ من التبر أفرغا 347 - وقال أبو إسحاق إبراهيم ابن خيرة الصباغ مما أنشده له أبو عامر ابن مسلمة في كتاب " حديقة الارتياح " (2) :
يومٌ كأنّ سحابه ... لبست عمامي المصامت
حجبت به شمس الضحى ... بمثال أجنحة الفواخت
فالغيث يبكي فقدها ... والبرق يضحك مثل شامت
والرعد يخطب مفصحاً ... والجوّ كالمحزون ساكت
والروض يسقيه الحيا ... والنّور ينظر مثل باهت
فاشرب ولذّ بجنّةٍ ... واطرب فإنّ العمر فائت وله:
ربّ ليلٍ طال لا صبح له ... ذي نجومٍ أقسمت أن لا تغور
قد هتكنا جنحه من فلقٍ ... من خمورٍ ووجوهٍ كالبدور
إذ بدت تشبهها في كأسها ... نار إبراهيم في بردٍ ونور
صرعتنا إذ علونا ظهرها ... في ميادين التصابي والسرور
وكأنّا حين قمنا معشرٌ ... نشروا بعد مماتٍ من قبور 348 - وقال أبو بكر ابن حجاج (3) :
__________
(1) زيادة من الجذوة: 164؛ قال الحميدي: وهو شاعر إشبيلي رأيته قبل الخمسين واربعمائة.
(2) الجذوة: 145 وفيه بعض الأبيات التائية، ونسبها لأبي عامر ابن مسلمة في المطمح: 23 وهي في المغرب 1: 260 لابن خيرة.
(3) هو ابو بكر عبد الله بن حجاج من شعراء المعتضد، هجر إشبيلية إلى الجزيرة الخضراء وأخذ يمدح محمد بن القاسم بن حمود (المغرب 1: 261) .(3/485)
لمّا كتمت الحبّ لا عن قلىً ... ولم أجد إلاّ البكا والعويل
ناديت والقلب به مغرمٌ ... يا حسبي الله ونعم الوكيل وقال:
يقولون إنّ السحر في أرض بابلٍ ... وما السحر إلاّ ما أرتك محاجره
وما الغصن إلا ما انثنى تحت برده ... وما الدّعص إلاّ ما طوته مآزره
وما الدّرّ إلاّ ثغره وكلامه ... وما الليل إلا صدغه وغدائره وهذه الأبيات من قصيدة في محمد بن القاسم بن حمود ملك الجزيرة الخضراء، أعادها الله تعالى.
349 - وقال الرصافي أبو عبد الله الشاعر المشهور، وهو ابن رومي الأندلس، في حريري (1) :
وبنفسي من لا أسميه إلاّ ... بعض إلمامةٍ وبعض إشاره
هو والظبي في المجال سواءٌ ... ما استفاد الغزال منه استعاره
أغيدٌ يمسك الحرير بفيه ... مثل ما يمسك الغزال العراره وهو القائل يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي:
لو جئت نار الهدى من جانب الطّور ... قبست ما شئت من علمٍ ومن نور 350 - ولأبي جعفر أحمد بن الجزار (2) :
وما زلت أجني منك والدهر ممحلٌ ... ولا ثمرٌ يجنى ولا زرع يحصد
ثمار أيادٍ دانياتٌ قطوفها ... لأوراقها ظلٌّ عليّ ممدّد
__________
(1) ديوان الرصافي: 100 (عن النفح) ؛ 77.
(2) مرت الأبيات ص: 314، وانظر المغرب 2: 356.(3/486)
يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهنّ تغرّد 351 - ولما نفي أبو جعفر ابن البني (1) من ميورقة، وأقلع في البحر ثلاثة أميال، ونشأت ريح ردته، لم يتجاسر أحد من إخوانه على إتيانه، فكتب إليهم:
أحبّتنا الألى عتبوا علينا ... وأقصونا وقد أزف الوداع
لقد كنتم لنا جذلاً وأنساً ... فما بالعيش بعدكم انتفاع
أقول وقد صدرنا بعد يومٍ: ... أشوقٌ بالسفينة أم نزاع
إذا طارت بنا حامت عليكم ... كأنّ قلوبنا فيها شراع وله (2) :
غصبت الثريا في البعاد مكانها وأودعت في عينيّ صادق نوئها
وفي كلّ حالٍ لم تزالي بخيلةً فكيف أعرت الشمس حلّة ضوئها
وله في غلام يرمي الطيور:
قالوا تصيب طيور الجوّ أسهمه ... إذا رماها فقلنا: عندنا الخبر
تعلمت قوسه من قوس حاجبه ... وأيّد السهم من أجفانه الحور
يلوح في بردةٍ كالنّقس حالكةٍ ... كما أضاء بجنح الليلة القمر
وربما راق في خضراء مونقةٍ ... كما تفتّح في أوراقه الزّهر 352 - وقال الأديب الكاتب القاضي أبو المطرف ابن عميرة المخزومي،
__________
(1) هو شخص آخر غير أبي جعفر أحمد بن عبد الولي الذي أحرقه السيد الكنبيطور في بلنسية، وقد خلط بعض الناس بينهما ونبه ابن الأبار على ذلك في التكملة: 24. انظر ترجمة البني في القلائد: 298 والمطمح: 91 والمغرب 2: 357 والحاشية؛ وكتب اسمه في م ب " ابن البنا ".
(2) القلائد: 300، والقطعتان الأخيرتان فيه وفي المغرب.(3/487)
لما قص شعر ملك شرق الأندلس زيان بن مردنيش مزين، في يوم رفع فيه أبو المطرف شعراً، فخرجت صلة المزين، ولم تخرج صلة أبي المطرف (1) :
أرى من جاء بالموسى مواساً ... وراحة من أذاع المدح صفرا
فأنجح سعي ذا إذ قصّ شعراً ... وأخفق سعي ذا إذ قصّ شعرا واسم أبي المطرف أحمد، وهو من جزيرة شقر، من كورة بلنسية.
353 - وكان الكاتب الحسيب أبو جعفر أحمد بن طلحة يعشق علجاً من علوج ابن هود ويماشيه في غزواته، وفيه يقول (2) :
ما أحضر الغزو من صلاحٍ ... كلاّ ولا رغبة في الجهاد
لكن لكيما يكون داعٍ ... لقربنا خيرة الجياد ولقد تقدمت حكايته فلتراجع.
354 - وكان صنوبري الأندلس أبو إسحاق ابن خفاجة، وهو من رجال الذخيرة والقلائد والمسهب والمطرب والمغرب، وشهرته تغني عن اإطناب فيه، مغرىً بوصف الأنهار والأزهار وما يتعلق بها، وأهل الأندلس يسمونه الجنان، ومن أكثر من شيء عرف به، وتوفي سنة ثلاث أو خمس وثلاثين وخمسمائة، وولد سنة خمسين وأربعمائة، ومن نظمه قوله (3) :
ربّما استضحك الحباب حبيبٌ ... نفضت لونها عليه المدام
كلّما مرّ قاصراً من خطاه ... يتهادى كما يمرّ (4) الغمام
__________
(1) القدح: 43.
(2) القدح 114 - 117. وانظر ما تقدم ص 307 - 310.
(3) ديوان ابن خفاجة: 62، 183، 360، 356.
(4) م: كما تهادى.(3/488)
سلّم الغصن والكثيب علينا ... فعلى الغصن والكثيب السّلام وبات مع بعض الرؤساء فكاد ينطفئ السراج ثم تراجع نوره، فقال:
وأغرّ ضاحك وجهه مصباحه ... فأنار ذا قمراً وذلك فرقدا
ما إن خبا تلقاء نور جبينه ... حتى ذكا بذكائه فتوقّدا وله:
كتبت وقلبي في يديك أسير ... يقيم كما شاء الهوى ويسير
وفي كلّ حينٍ من هواك وأدمعي ... بكلّ مكانٍ روضةٌ وغدير وله:
كتابنا ولدينا البدر ندمان ... وعندنا أكؤسٌ للراح شهبان
والقضب مائسةٌ، والطير ساجعة ... والأرض كاسيةٌ، والجوّ عريان 355 - ولما سئل أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض عن لغة فعجز عنها بمحضر من خجل منه أقسم أن يقيد رجليه بقيد حديد، ولا ينزعه حتى يحفظ " الغريب المصنف " فاتفق أن دخلت عليه أمه في تلك الحال، فارتاعت، فقال:
ريعت عجوزي أن رأتني لابساً ... حلق الحديد ومثل ذاك يروع
قالت: جننت فقلت: بل هي همّةٌ ... هي عنصر العلياء والينبوع
سنّ الفرزدق سنّةً فتبعتها ... إنّي لما سنّ الكرام تبوع وكان شاعراً وشاحاً وطاح دمه على يد الزبير أمير قرطبة لما هجاه بمثل قوله:
عكف الزبير على الضلالة جاهداً ... ووزيره المشهور كلب النار
ما زال يأخذ سجدةً في سجدةٍ ... بين الكؤوس ونغمة الأوتار(3/489)
فإذا اعتراه السهو سبّح خلفه ... صوت القيان وزنّة المزمار ولما بلغ الزبير عنه ذلك وغيره أمر بإحضاره، فقرعه، وقال: ما دعاك إلى هذا فقال: إني لم أر أحق بالهجو منك، ولو علمت ما أنت عليه من المخازي لهجوت نفسك إنصافاً، ولم تكلها إلى أحد، فلما سمع الزبير ذلك قامت قيامته، وأمر بقتله.
وأنشد له ابن غالب في " فرحة الأنفس " قوله في حاقة خائط:
وحلقةٍ كشعاع الشمس صافيةٍ ... لو قابلت كوكباً في الجوّ لالتهبا
تأنّق القين في إحكام صنعتها ... حتى أفاض على أطرافها الذهبا
كأنّها بيضةٌ قد قدّ قونسها ... وكلّ جنبٍ لها بالطعن قد ثقبا وقال فيمن يحدث نفسه بالخلافة (1) :
أمير المؤمنين، نداء شيخٍ ... أفادك من أماليه اللّطيفه
تحفّظ أن يكون الجذع يوماً ... سريراً من أسرّتك المنيفه
وأذكر منك مصلوباً فأبكي ... وتضحكني أمانيك السخيفه وهاجى ابن سارة، فقال فيه ابن سارة (2) :
ومن العجائب أن يكون الأبيض ... بحماره بين السوابق يركض 356 - وقال إمام النحاة بالأندلس أبو علي عمر الشلوبين فيمن اسمه قاسم (3) :
__________
(1) مرت الأبيات ص: 461؛ وقد سقطت من نسخة " م ".
(2) زاد المسافر: 67.
(3) القدح: 153.(3/490)
وممّا شجى قلبي وفضّ مدامعي ... هوىً قد قدّ قلبي إذ كلفت بقاسم
وكنت أظنّ الميم أصلاً فلم تكن ... وكانت كميمٍ ألحقت بالزراقم والزراقم: الحيات، مشتقة من الزرقة، والميم زائدة، يريد أن ميم قاسم كميمها، فهو قاسٍ، وهو منسوب إلى حصن شلوبينة (1) على ساحل غرناطة، وله من الشهرة والتآليف ما يغني عن الإطناب في وصفه، وله " التوطئة " و " شرح الجزولية " وغيرهما، وكان مغفلاً، ومع ذلك فهو آية الله تعالى في العربية، وكان في لسانه لكنة، ولما اراد مأمون بني عبد المؤمن التوجه إلى مرسية، وقد ثار بها ابن هود، وأنشده الشعراء، وتكلم في مجلسه الخطباء، قام الشلوبين وقال دعاء منه: ثلمك الله ونثرك، يريد سلمك الله ونصرك، لأن بلكنته يرد السين والصاد ثاء، فكان كما قال: عاد المأمون وقد ثلم عسكره ونثر.
357 - ولما مرض الفقيه الزاهد أبة إسحاق إبراهيم الإلبيري (2) دخل عليه الوزير أبو خالد هاشم بن رجاء، فرأى ضيق مسكنه، فقال: لو اتخذت غير هذا المسكن لكان أولى بك، فقال وهو آخر شعر قاله:
قالوا ألا تستجيد بيتاً ... تعجب من حسنه البيوت
فقلت: ما ذلكم صواباً ... عشٌّ (3) كثير لمن يموت
لولا شتاء، ولفح قيظٍ ... وخوف لص، وحفظ قوت
ونسوةٌ يبتغين ستراً ... بنيت بنيان عنكبوت
__________
(1) هكذا قال ابن سعيد في القدح، ولكن يبدو أنه سمي بذلك لأن أحد أجداده كان أبيض أشقر، وذلك هو معنى كلمة " شلوبين "؛ انظر ترجمته في الذيل والتكملة 5: 460 والحاشية؛ وفي م: شلوبينية.
(2) انظر ديوان الالبيري: 109.
(3) الديوان: حفش.(3/491)
358 - وقال أبو بكر ابن عبادة القزاز الموشح في ابن بسام صاحب " الذخيرة ":
يا منيفاً على السماكين سام ... حزت خصل السباق عن بسّام
إن تحك مدحةً فأنت زهيرٌ ... أو تشبّب فعروة بن حزام
أو تباكر صيد المها فابن حجرٍ ... أو تبكّ الديار فابن حذام
أو تذمّ الزمان وهو حقيقٌ ... فأبو الطيّب البعيد المرامي 359 - ولما انتثر سلك نظام ملك لمتونة تفرق ملك الأندلس رؤساء البلاد، وكان من جملتهم الأمير أبو الحسن ابن نزار لما له من الأصالة في وادي آش، فحسده أهل بلده، وقصدوا تأخيره عن تلك المرتبة، فخطبوا في بلدهم لملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش، ووجه لهم عماله وأوصاهم أن يخرج هذا الأسد من غيله، ويفرق بينه وبين تأميله، ورفعوا له أشعاراً كان يستريح بها على كاسه، ويبثها بمحضر من يركن إليه من جلاسه، ومنها قوله، وقد استشعر من نفسه أنها أهل للتقديم، مستحقة لطلب سلفه القديم:
الآن أعرف قدر والضّرر ... فكيف أصدر ما للملك من صدر
وكيف أطلع في أفق العلا قمراً ... ويستهلّ بكفّي واكف الدرر
وكيف أملأ صدر الدهر من رعبٍ ... وأستقلّ بحمل الحادث النّكر
وأستعدّ لما ترمي الخطوب به ... وأستطيل على الأيام بالفكر
لكنّني ربما بادرت منتهزاً ... لفرصةٍ مرقت كاللمح بالبصر
في أمّ رأسي ما يعيا الزمان به ... شرحاً فسل بعدها الأيام عن خبري فعندما وقف ابن مردنيش على هذا القول وجه إلى وادي آش من حمله إليه وقيده، وقدم به إلى مرسية أسيراً، بعدما كان مرتقباً أن يقدم أميراً، فلما وقعت عين ابنمردنيش عليه قال له: أمكن الله منك يا فاجر، فقال:(3/492)
أنت - أعزك الله - أولى بقول الخير من قول الشر، ومن أمكنه الله من القدرة على الفعل فما يليق به أن يستقدر بالقول، فاستحيا منه، وأمر به للسجن، فمكث فيه مدة، وصدرت عنه أشعار في تشوقه إلى بلاده، منها قوله:
لقد بلغ الشوق فوق الذي ... حسبت فهل للتّلاقي سبيل
فلو أنّني متّ منشوقكم ... غراماً لما كان إلا قليل
تعلّلني بالتداني المنى ... وينشدني الدهر: صبرٌ جميل
فقل لبثينة إن أصبحت ... بعيداً فلم يسل عنها جميل
أغضّ جفوني عن غيرها ... وسمعي عن اللوم فيها يميل ولم يزل على حاله من السجن إلى أن تحيّل في جارية محسنة للغناء حسنة الصوت وضع موشحته التي أولها:
نازعك البدر اللّياح ... بنت الدنان
فلم يدع لك اقتراح ... على الزمان وفيها يقول:
يا هل أقول للحسود ... والعيس تحدى
يا لائمي على السّراح ... كانت أماني
أخرجها ذاك السماح ... إلى العيان وجعل يلقيها على الجارية حتى حفظتها، وأحكمت الغناء بها، وأهداها إلى ابن مردنيش بعدما أوصاها أنّها متى استدعاها إلى الغناء وظفرت به في أطرب ساعة وأسرها غنته بهذه الموشحة، وتلطّفت في شأن رغبتها في سراح قائلها، فلعلّ الله تعالى يجعل في ذلك سبباً، واتفق أن ظفرت بما أوصاها به، وأحسنت غناء الموشحة، فطرب ابن مردنيش لسماع مدحه، وأعجبه مقاصد قائلها(3/493)
فسألها: لمن هي فقالت: لمولاي عبدك ابن نزار، فقال: أعيدي عليّ قوله " يا لائمي على السراح " فأعادته، فداخلته عليه الرأفة والأريحية بما أصابه، فأمر في الحين بحل قيده، واستدعى به إلى موضعه في ذلك الوقت، فلما دخل خلع عليه وأدناه وقال له: يا أبا الحسن، قد أمرنا لك بالسراح على رغم الحسود، فارجع إلى بلدك مباحاً لك أن تطلب الملك بها وبغيرها إن قدرت، فأنت أهل لأن تملك جميع الأندلس، لا وادي آش، فقال له: والله يا سيدي بل ألتزم طاعتك وغلإقرار بأنك بعثتني من قبر زماني فيه الحساد والوشاة، ثم شربا حتى تمكنت بينهما المطايبة، فقال له: يا ابن نزار، الآن أريد أن أسألك عن شيء، قال: وما هو يا سيدي قال: عما في أم رأسك حين قلت:
في أمّ رأسي ما يعيا الزمان به ... شرحاً فسل بعدها الأيام عن خبري فقال له: يا سيدي لا تسمع إلى غرور نفس ألفته على لسان نشوان لعبت بأفكاره الأماني وغطت على عقله الآمال، والله لقد بقيت في داري أروم الاجتماع بجارية مهينة قدر سنة فما قدرت على ذلك، ومنعتني منها (1) زوجتي، فكيف أطلب ما دونه قطع الرؤوس ونهب النفوس فضحك ابن مردنيش، وجدّد له الإحسان، وجهزه إلى بلده، وأمر عماله أن يشاركوه في التدبير، ويستأذنوه في الصغير والكبير، فتأثّل به مجده، وعظم سعده.
ومن شعره قوله:
انظر إلى الروض سحيراً وقد ... بثّ به الطلّ علينا العيون
ترقب منّا يقظةً للمنى ... فقل لها أهلاً بداعي المجون
وحثّها شمساً إلى أن ترى ... شمس الضحى تطرق تلك الجفون
__________
(1) ب: من ذلك.(3/494)
وقوله:
تنبه لمعشوقٍ وكأسٍ وقينةٍ ... وروضٍ ونهرٍ ليس يبرح خفّاقا
فقد نبّهت هذي الحدائق ورقها ... وفتّح فيها الصبح بالطّلّ أحداقا
ومهما تكن في ضيقةٍ فأدر لها ... كؤوس الطلا فالسكر يوسع ما ضاقا وقوله:
عطف القضيب مع النسيم تميّلا ... والنخر موشيّ الخمائل والحلى
تركته أعطاف الغصون مظلّلا ... ولنا عن النهج القويم مضلّلا
أمسى يغازلنا بمقلة أشهلٍ ... والطرف أسحر ما تراه أشهلا وقال بعضهم: استدعاني أبو الحسن ابن نزار لمجلس بوادي آش، فلما احتفل مجلسنا، وطابت لذتنا، قال: والله ما تمام هذه المسرة إلا حضور أبي جعفر ابن سعيد وهو الآن بوادي آش، فوافقناه على ذلك لما نعلم من طيب حالتنا معهما، وأنهما لا يأتيان إلا بما يأتي به اجتماع النسيم والروض، فخلا في موضع وكتب له:
يا خير من يدعى لكاسٍ دائر ... ووجوه أقمارٍ وروضٍ ناضر
إنّا حضرنا في النّديّ عصابةً ... معشوقةً من ناظمٍ أو ناثر
كلٌّ مخلّىً للذي يختاره ... في الأمن من ناهٍ له أو زاجر
ما إن لهم شغلٌ بفنٍّ واحدٍ ... بل كلّ ما يجري بوفق الخاطر
شدوٌ ورقصٌ واقتطاف فكاهةٍ ... وتعانقٌ وتغامزٌ بنواظر
وهم كما تدري بأفقي أنجمٌ ... لكن لنا شوقٌ لبدرٍ زاهر سيدي، لا زلت متقدماً لكل مكرمة، هل يجمع التخلف عن نادٍ قام فيه(3/495)
السرور على ساق، وضحك فيه النس ملء فيه، وانسدل (1) به ستر الصون، وفاء عليه ظلّ النعيم، وسفرت فيه وجوه الطرب، وركضت خيل اللهو، وثار قتام الند، وهطلت سحاب ماء الورد، وطيبت الكؤوس، كالعرائس على كراسي العروس (2) ، المثقلة بالعاج والآبنوس، وكأن قطع النهار ممتزجة بقطع الظلام، أو بني حام قد خالطت بني سام، وعلى رؤوس الأقداح، تيجان نظمها امتزاج الماء بالراح، فطوراً تستحيي فيبدو خجلها، وطوراً تمتزج (3) فيظهر وجلها، والعود ترجمان المسرة قد جعلته أمه في حجرها، كولد ترضعه بدرها، وساقي الشرب كالغصن الرطيب، أوراقه أردية الشرب، وأزهاره الكؤوس، التي لا تزال تطلع وتغرب كالشمس، ساقٍ يفهم بالإشارة، حلو الشمائل عذب العبارة، ذو طرف سقيم، وخد كأنه من خفره لطيم، ولدينا من أصناف الفواكه والأزاهر، ما يحار فيه الناظر، وهل تكمل لذة دون إحضار خدود الورد، وعيون النرجس، وأصداغ الآس، ونهود السفرجل، وقدود قصب السكر، ومباسم قلوب اللوز، وسرر التفاح، ورضاب ابنة العنب، فقد اكتمل بهذه الأوصاف المختلسة من أوصاف الحبائب الطرب:
فطر بجناح الشوق عند وصولها ... إليك ولا تجعل سواك جوابها
فلا عين إلا وهي ترنو بطرفها ... إليك فيسّر في المطال حسابها
فقد أصبحت تعلو عليها غشاوةٌ ... لبعدك فاكشف عن سناها ضبابها قال أبو جعفر: فجعلت وصولي جواب ما نظم ونثر، والفيت الحالة يقصر عن خبرها الخبر، فانغمسنا في النعيم، انغماس عرف الزهر في
__________
(1) ب: فانسدل.
(2) ب: العرائس.
(3) م ودوزي: يخلف.(3/496)
النسيم، ومر لنا يومٌ غض الدهر عنه جفنه، حتى حسبناه عنواناً لما وعد الله تعالى به في الجنة.
وشرب يوماً مع أبي جعفر ابن سعيد والكتندي الشاعر في جنة بزاوية غرناطة، وفيها صهريج ماء قد أحدق به شجر نارنج وليمون وغير ذلك من الأشجار، وعليه أنبوب ماء تتحرك به صورة جارية راقصة بسيوف وطيفور رخامٍ يصنع في أنبوبة الماء صورة خباء، فقالوا: نقتسم هذه الأوصاف الثلاثة، فقال أبو جعفر يصف الراقصة:
وراقصةٍ ليست تحرّك دون أن ... يحركها سيفٌ من الماء مصلت
يدور بها كرهاً فتنضى صوارماً ... عليه فلا تعيا ولا هو يبهت
إذا هي دارت سرعة خلت أنّها ... إلى كلّ وجه في الرياض تلفّت وقال ابن نزار في خباء الماء:
رأيت خباء الماء ترسل ماءها ... فنازعها هبّ الرياح رداءها
تطاوعه طوراً وتعصيه تارةً ... كراقصةٍ حلّت وضمّت قباءها
وقد قابلت خير الأنام فلم تزل ... لديه من العلياء تبدي حياءها
إذا أرسلت جوداً أمام يمينه ... أبى العدل إلاّ أن يردّ إباءها وقد قيل: إن هذه الأبيات صنعها بمحضر الأمير أبي عبد الله ابن مردنيش ملك شرق الأندلس، وإنه لما ألجأته الضرورة أن يرتجل في مثل ذلك شيئاً، وكانت هذه عنده معدة، فزعم أنه ارتجلها، قال أبو عمرو ابن سعيد: وهذا هو الصحيح، فإنه ما كانت عادته أن يخاطب عمي أبا جعفر بخير الأنام، فإن كل واحد منهما كفؤ الآخر.
وقال الكتندي:
وصهريجٍ تخال به لجيناً ... يذاب وقد يذهّبه الأصيل(3/497)
كأن الروض يعشقه فمنه ... على أرجائه ظلّ ظليل
وتمنحه أكفّ الشمس عشقاً ... دنانير فمنه لها قبول
إذا رفع النسيم القضب عنها ... فحينئذٍ يكون لها سبيل
وللنّارنج تحت الماء لمّا ... تبدّى عكسها جمرٌ بليل
ولليمون فيه دون سبكٍ ... جلاجل زخرفٍ بصبا تجول
فيا روضاً به صقلت جفوني ... وأرهف متنه الزهر الكليل
تناثر فيك أسلاك الغوادي ... وقبّل صفح جدولك الشّمول
بدورٌ تستدير بها نجومٌ ... مع الإصباح ليس لها أفول
يهيم بهم نسيم الروض إلفاً ... فمن وجدٍ له جسم عليل 360 - وروي أن الوزير أبا الأصبغ عبد العزيز بن الأرقموزير المعتصم ابن صمادح رأى رايةً خضراء فيها صنيفة بيضاء في يد علجٍ من علوج المعتصم نشرها على رأسه، فقال:
نشرت عليك من النعيم جناحا ... خضراء صيّرت الصباح وشاحا
تحكي بخفقٍ قلب من عاديته ... مهما يصافح صفحها الأرواحا
ضمنت لك النعمى برأيٍ ظافرٍ ... فترقّب الفأل المشير نجاحا وكان هذا الوزير آية الله تعالى في الوفاء، وأرسله المعتصم إلى المعتمد بن عباد، فأعجبت المعتمد محاولته، ووقع في قلبه، فأراد إفساده على صاحبه، وأخذ معه في أن يقيم عنده، فقال له: ما رأيت من صاحبي ماأكره فأوثر عند غيره ماأحب، ولو رأيت ماأكره لما كان من الوفاء تركي في حين فوّض إلي أمره، ووثق بي، وحملني أعباء دولته، فاستحسن ذلك ابن عباد، وقال له: فاكتم علي، فلما عاد إلى صاحبه سأله عن جميع ما جرى له، فقال له(3/498)
في أثناء ذلك: وجرى لي معه ما إن أعلمتك به خفت أن تحسب فيه كالامتنان والاستظهار، وتظن أن خاطري فسد به، وإن كتمتك لم أوف النصيحة حقها، وخفت أن تطلع عليه من غيري، فيحطني ذلك من عينك، وتحسب فيه كيداً، فحمل عليه في أن يعلمه، فأعلمه بعد أن تلطف هذا التلطف، وهو من رجال الذخيرة والمسهب، وابنه الوزير أبو عامر من رجال القلائد.
ومن نظم أبي عامر:
فتى الخيل يقتادها ذبّلاً ... خفاقاً تبارى القنا الذابلا
ترى كلّ أجرد سامي التّليل ... وتحسبه غصناً مائلا 361 - وللوزير الكاتب أبي محمد ابن فرسان واسمه عبد البر، وهو حسنة وادي آش، يخاطب يحيى الميورقي (1) :
أنعم بتسريح عليّ فعلّه ... سبب الزيارة للحطيم ويثرب
ولئن تقوّل كاشح أن الهوى ... درست معالمه وأنكر مذهبي
فمقالتي ما إن مللت وإنّما ... عمري أبى حمل النّجاد بمنكبي
وعجزت عن أن أستثير كمينها ... وأشقّ بالصّمصام صدر الموكب وهذه الأبيات كتب بها إليه وقد أسن ومل من الجهد معه، يرغب في سراحه إلى الحجاز، رحمه الله تعالى، وتقبل نيته بمنه ويمنه.
362 - وقال حاتم بن حاتم بن سعيد العنسي (2) ، وكان صاحب سيف وقلم، وعلم وعلم:
يا دانياً مني وما أنا زائر ... لا أنت معذورٌ ولا أنا عاذر
__________
(1) ترجمته والشعر في المغرب 2: 142 وانظر التحفة: 115.
(2) ترجمته والشعر في المغرب 2: 168 والإحاطة 1: 310.(3/499)
ماذا يضرك إذ ظللت بظلمة ... أن لا يطالع منك بدرٌ زاهر وتوفي المذكور بغرناطة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
363 - وقال التطيلي الأعمى في أسد نحاس يقذف الماء (1) :
أسد ولو أنّي أنا ... قشه الحساب لقلت صخره
فكأنّه أسد السّما ... ء يمجّ من فيه المجرّه [من بدائه ابن ظافر]
قال ابن ظافر (2) : صرنا في بعض العشايا على البساتين المجاورة للنيل، فرأينا فيه بئراً عليها دولابان متحاذيان (3) ، قد دارت أفلاكهما بنجومالقواديس، ولعبت بقلوب ناظريهما لعب الأماني بالمفاليس، وهما يئنان أنين الأشواق، ويفيضان ماء أغزر من دموع العشاق، والروض قد جلا للأعين زبرجده، والأصيل قد راقه حسنه فنثر عليه عسجده، والزهر قد نظم جواهره في أجياد الغصون، والسواقي قد أذالت من سلاسل فضتها كل مصون، والنبت قد اخضر شاربه وعارضه، وطرف النسيم قد ركضه في ميادين الزهر راكضه، ورضاب الغيث (4) قد استقر من الطين في لمى، وحيات المجاري حائرة تخاف من زمرد النبات أن يدركها العمى، والبحر (5) قد صقل النسيم درعه، وزعفران العشي قد ألقى في ذيل الجو ردعه، فأوسعنا ذلك المكان
__________
(1) مر البيتان ص: 404.
(2) بدائع البدائه 1: 232.
(3) البدائع: يتجاذبان.
(4) البدائع: الماء.
(5) البدائع: والنهر.(3/500)
حسناً وقلوبنا استحواذاً (1) ، وملأ أبصارنا وأسماعنا مسرةً والتذاذاً، وملنا إلى الدولابين شاكين أزمرا حين سجعت قيان الطير بألحانها، وشدت على عيدانها، أم ذكرا أيام نعما وطابا، وكانا أغصاناً رطبة، فنفيا عنهما لذيذ الهجوع، ورجعا النوح وأفاضا الدموع طلباً للرجوع، وجلسنا نتذاكر ما في تركيب الدواليب، من الأعاجيب، ونتناشد ما وصفت به من الأشعار، الغالية الأسعار، فأفضى بنا الحديث الذي هو شجون، إلى ذكر قول الأعمى التطيلي في أسد نحاس يقذف الماء:
أسد ولو أنّي ... إلخ ... فقال لي القاضي أبو الحسن علي بن المؤيد رحمه الله تعالى: يتولد من هذا في الدولاب معنى يأخذ بمجامع المسامع، ويطرب الرائي والسامع، فتأملت ما قاله بعين بصيرتي البصيرة، واستمددت مادة غريزة يالغريزة، فظهر لي معنىً ملأني أطراباً، وأوسعني إعجاباً (2) ، وأطرق كل منا ينظم ما جاش به مد بحره، وأنباه به شيطان فكره، فلم يكن إلا كنقرة العصفور، الخائف من الناطور، حتى كمل ما أردنا من غير أن يقف واحد منا على ما صنعه الآخر، فكان الذي قال:
حبّذا ساعة العشيّة والدّو ... لاب يهدي إلى النفوس المسرّه
أدهم لا يزال يعدو ولكن ... ليس يعدو مكانه قدر ذرّه
ذو عيون من القواديس تبكي ... كل عين من فائض الدمع ثرّه (3)
فلكٌ دائر يرينا نجوماً ... كلّ نجم يبدي لدينا (4) المجرّه
__________
(1) البدائع: فاستحوذ علينا ذلك الموضع استحواذا.
(2) واستمددت ... إعجابا: تغيرت صياغة هذه العبارة في البدائع.
(3) البدائع: تبدي ... عبرة.
(4) البدائع: منها يرينا.(3/501)
وكان الذي قلت:
ودولاب يئنّ أنين ثكلى ... ولا فقداً شكاه ولا مضرّه
ترى الأزهار في ضحكٍ إذا ما ... بكى بدموع عين منه ثرّه
حكى فلكاً تدور به نجومٌ ... تؤثّر في سرائرنا المسرّه
يظلّ النجم يشرق بعد نجمٍ ... ويغرب بعد ما تجري المجرّه فعجبنا من اتفاقنا، وقضى العجب منه سائر رفاقنا، انتهى.
رجع:
364 - وكان لأبي محمد عبد الله بن شعبة الوادي آشي (1) ابنٌ شاعرٌ، فعرض عليه شعراً نظمه، فأعجبه، فقال:
شعرك كالبستان في شكله ... يجمع بين الآس والورد
فاصنع به إن كنت لي طائعاً ... ما يصنع الفارس بالبند 365 - ولشاعر الأندلس أبي عبد الله ابن الحداد الوادي آشي (2) ، وهو من رجال الذخيرة:
لزمت قناعتي وقعدت عنهم ... فلست أرى الوزير ولا الأميرا
وكنت سمير أشعاري سفاهاً ... فعدت بها لفلسفتي سميرا وله في العروض تأليفٌ مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية، والآراء الخليلية، ورد فيه على السرقسطي المنبوز بالحمار.
__________
(1) ترجمته والشعر في المغرب 2: 140.
(2) ترجمته في الذخيرة 1 / 2: 201 والمطمح: 80 والوافي 2: 86 والإحاطة 2: 250 والمسالك 11: 400 والفوات 2: 167 والمغرب 2: 143 واسمه محمد بن أحمد بن الحداد، والقطعة الأولى في الذخيرة.(3/502)
وله في المعتصم بن صمادح (1) :
لعلّك بالوادي المقدّس شاطئ ... فكالعنبر الهنديّ ما أنا واطئ
وإنّي في ريّاك واجد ريحهم ... فجمر (2) الأسى بين الجوانح ناشئ
ولي في الّرى من نارهم ومنارهم ... هداةٌ حداةٌ، والنجوم طوافئ
لذلك ما حنّت ركابي وحمحمت ... عرابي وأوحى سيرها المتباطئ
فهل هاجها ما هاجني ولعلّها ... إلى الوخد من نيران قلبي لواجئ
رويداً فذا وادي لبيني وإنّه ... لورد لباناتي وإنّي لظامئ
موارد (3) تهيامي ومسرح ناظري ... فللشوق غاياتٌ بها ومبادئ واعترض عليه بعضهم بأنه همز في هذه القصيدة ما لا يهمز، فقال (4) :
عجبت لغمازين علمي بجهلهم ... وإنّ قناتي لا تلين على الغمز
تجلّت لهم آيات فهمي ومنطقي ... مبيّنة الإعجاز ملزمة العجز
ولاحت لهم همزيةٌ أوحديةٌ ... وويلٌ بها ويلٌ لذي الهمز واللمز
رموها بنقصٍ بينت فيه نقصهم ... ومن لمس الأفعى شكا ألم النكز
فإن أنكرت أفهامهم بعض همزها ... فقد عرفت أكبادهم صحّة الهمز وله وهو مما يتغنى به بالأندلس (5) :
فذر العقيق مجانباً لعقوقه ... ودع العذيب عذيب ذات الخال
أفقٌ محلّى بالقواضب والقنا ... للأغيد المعطار لا المعطال
__________
(1) الذخيرة: 218.
(2) الخريدة: فروح.
(3) الخريدة: ميادين.
(4) الذخيرة: 219.
(5) الذخيرة: 223.(3/503)
حجبوك إلاّ من توهّم خاطري ... وحموك إلاّ من تصوّر بالي
والقارظان حميل صبري والكرى ... فمى أرجّي منك طيف خيال ومن بدائعه قوله (1) :
سامح (2) أخاك إذا أتاك بزلّةٍ ... فخلوص شيء قلما يتمكّن
في كلّ شيء آفةٌ موجودةٌ ... إنّ السراج على سناه يدخّن وأنشد أحد الأدباء هذين البيتين متمثلاً، فأعجبا المعتصم، وسأل عن قائلهما، فأخبر، فتبسم وقال: أتعرف إلى من أشار بهذا المعنى قال: ما أعرف إلا أنه مليح، فقال المعتصم: كنت في الصبا وهو معي ألقب بسراج الدولة، فقاتله الله ما أشعره، فسلوه، فلما باحثوه في ذلك أقر بحسن حدس المعتصم. واكتنفته سعايات، وكان ممن يغلب لسانه على عقله، ففر من المرية، وحبس أخوه بها فقال (3) :
الدهر لا ينفكّ من حدثانه ... والمرء منقادٌ لحكم زمانه
وعلمت أن السعد ليس بمنجح ... ما لا يكون السعد من أعوانه
والجدّ دون الجدّ ليس بنافع ... والرمح لا يمضي بغير سنانه وبلغت الأبيات المعتصم فقال: شعره أعقل منه، صدق فإنّه لا يتهيأ له صلاح عيش إلا بأخيه، وهو منه بمنزلة السنان من الرمح، ثم أمر بإطلاقه ولحاقه به.
ولما قال في المعتصم:
__________
(1) الذخيرة: 235.
(2) الذخيرة: واصل.
(3) الذخيرة: 231.(3/504)
يا طالب المعروف دونك فاتركن ... دار المرية وارفض ابن صمادح
رجل إذا أعطاك حبّة خردل ... ألقاك في قيد الأسير الطائح
لو قد مضى لك عمر نوحٍ عنده ... لا فرق بينك والبعيد النازح اغتاظ عليه، وأبعده، ففر عن بلده.
ومن المنسوب إليه في النساء:
خن عهدها مثل ما خانتك منتصفاً ... وامنح هواها بنسيان وسلوان
فالغيد كالروض في خلق وفي خلق ... إن مرّ جانٍ أتى من بعده جان وله:
حيثما كنتا ظاغناً أو مقيما ... دم رفيعاً وعش منيعاً سليما 366 - وقال ابن دحية في " المطرب " (1) : إن من المجيدين في الجدّ والهزل، ورقيق النظم والجزل، صاحبنا الوزير أبا بلال (2) ، وقال لي: إنه كان وبرد شبابه قشيب، وغصن اعتداله رطيب، بقميص النسك متقمص، وبعلم الحديث متخصص، فاجتاز يوماً وبيده مجلد من صحيح مسلم بقصر بعض ملوك الأكابر، ومن بعض مناظره ناظر، ومجلسه بخواص ندمائه حالٍ، وصوت المثاني والمثالث عالٍ، فقال: أطلعوا لنا هذا الفقيه، فعلنا نضحك منه. فلما مثل بين يديه وحيا، أمر الساقي بمناولته كأس الحميا، فتقبض متأففاً، وأبدى تمعراً وتقشفاً، والسلطان يستغرب ضحكاً بما هجم عليه، ويد
__________
(1) المطرب: 241.
(2) في المطرب: كصاحبنا الوزير أبي القاسم ابن البراق، ومعنى ذلك أن هذا الخبر والأشعار التالية بعده كان يجب أن تعطي رقما واحدا؛ ولابن البراق ترجمة في المغرب 2: 149 وكنيته هنالك أبو عمرو، وتحفة القادم: 80 والوافي 4: 156.(3/505)
الساقي مدودة إليه، واتفق أن انشقت من ذاتها الزجاجة، فظهر من السلطان التطير من ذلك، فأنشد الفقيه مرتجلاً:
ومجلس بالسّرور مشتمل ... لم يخل فيه الزجاج من أدب
سرى بأعطافه يرنّحه ... فشقّ أثوابه من الطرب فسر السلطان وسري عنه، واستحسن من الفقيه ما بدا منه، وأمر له بجائزة سنية، وخلعة رائقة [بهية] .
367 - وماأحسن قول ابن البراق (1) :
يا سرحة الحيّ يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول
ولي ديون عليك حلّت ... لو أنّه ينفع الحلول وقوله:
انظر إلى الوادي إذا ماغرّدت (2) ... أطياره شقّ النسيم ثيابه
أتراه أطربه الهديل وزاده ... طرباً وحقّك أن حللت جنابه وله في الغلام على فمه أثر المداد:
يا عجباً للمداد أضحى ... على فمٍ ضمّن الزّلالا
كالفار أضحى على الحميّا ... واللّيل قد لامس الهلالا 368 - وكتب أبو محمد عبد الله بن عذرة (3) إلى بعض أصحابه من الأسر في طليطلة:
__________
(1) المغرب: 149، 150.
(2) المغرب: الذي مذ غردت.
(3) في الأصول ودوزي: في معذرة؛ وفي م: بن مغدرة والتصويب عن المغرب 2: 148 وفيه الأبيات.(3/506)
لو كنت حيث تجيبني ... لأذاب قلبك ما أقول
يكفيك منّي أنني ... لا أستقلّ من الكبول
وإذا أردت رسالة ... لكم فما ألفي رسول
هذا وكم بتنا وفي ... أيماننا كأس الشّمول
والعود يخفق والدخا ... ن العنبريّ به يجول
حال الزمان ولم يزل ... مذ كنت أعهده يحول 369 - ولأبي الحسن علي بن مهلهل الجلياني (1) في أبي بكر ابن سعيد صاحب أعمال غرناطة في دولة الملثمين:
لولا النهود لما عراك تنهّد ... وعلى الخدود القلب منك يخدّد
يا نافذاً قلبي بسهم جفونه ... ما لي على سهم رميت به يد 370 - وقال أبو زكريا يحيى بن مطروح في غلام كاتب أطل عذاره (2) :
يا حسنه كاتباً قد خطّ عارضه ... في خدّه حاكياً ما خطّ بالقلم
لام العذول عليه حين أبصره ... فقلت دعني فزين البرد بالعلم
وانظر إلى عجب ممّا تلوم به ... بدرٌ له هالة قدّت من الظّلم
قولوا عن البحر ما شئتم ولا عجبٌ ... من عنبر الشّحر او من در مبتسم وله، وقد عزل عن مالقة والٍ غير مرضي، ونزل المطر على إثره، وكان الناس في جدب:
وربّ والٍ سرّنا عزله ... فبعضنا هنّأه البعض
قد واصلتنا السّحب من بعده ... ولذّ في أجفاننا الغمض
__________
(1) ترجمته في المغرب 2: 150 وفيه البيتان؛ وفي ب: " الجياني ".
(2) ترجمته والشعر في المغرب 2: 155.(3/507)
لو لم يكن من نجسٍ شخصه ... ما طهّرت من بعده الأرض 371 - وكان الكاتب أبو بكر محمد بن نصر الأوسي (1) مختصاً بوزير عبد المؤمن أبي جعفر ابن عطية، فقال فيه:
أبا جعفر نلت الذي نال جعفر ... ولا زلت بالعليا تسرّ وتحبر
عليك لنا فضل وبرٌّ وأنعمٌ ... ونحن علينا كلّ مدح يحبّر وحدث من حضر مجلس الوزير ابن عطية وقد أحس من عبد المؤمن التغير الذي أفضى إلى قتله، وقد افتتح ابن نصر مطلع هذه القصيدة، فتغير وجه أبي جعفر، لأن جعفر بن يحيى كان آخر أمره الصلب، فكأن هذا عمّم الدعاء، والعجب أنه قتل مثل جعفر بعد ذلك.
وهذا الشاعر هو القائل:
وما أنا عن ذاك الهوى متبدّلٌ ... وذا الغدر بالإخوان غير كريم
بغيرك أجري ذكر فضلك في الندى ... كما قد جرى بالروض هبّ نسيم
وإن كان عندي للجديد لذاذة ... فلست بناسٍ حرمةً لقديم 372 - ولأبي عبد الله محمد بن علي اللوشي (2) يخاطب صاحب " المسهب ":
بي إليكم شوقٌ شديدٌ ولكن ... ليس يبقى مع الجفاء اشتياق
إن يغيّركم الفراق فودّي ... لو خبرتكم يزيد فيه الفراق وله:
لو أنّ لي قلباً كقلب ... ك كنت أهجر هجركا
__________
(1) ترجمته والبيتان في المغرب 2: 156.
(2) ذكره ابن سعيد في المغرب باسم " محمد بن عبد المولى " (1: 158) وفيه البيتان الأولان.(3/508)
يكفيك أنّك قد نسي ... ت ولست أنسى ذكركا
ومن العجائب أنّني ... أفنى وأكتم سرّكا
كن كيفما تختاره ... فالحبّ يبسط عذركا وله:
هل عندكم علمٌ بما فعلت بنا ... تلك الجفون الفاتكات بضعفها
نصحاً لكم أن تأمنوها إنّها ... سحر النّهى ما تبصرون بطرفها 373 - ولابنه أبي محمد عبد المولى، وكان ماجناً، لما نعي إليه وهو على الشراب أحد أصحابه مرتجلاً:
إنّما دنياك أكلٌ ... وشرابٌ وقحاب
ثم من بعد صراخٌ ... ووداعٌ وتراب وله:
يا نديم اشرب على أف ... قٍ صقيلٍ وحديقه
واسقني ثمّ اسقني ث ... مّ اسقني خمراً وريقه
من غزالٍ تطلع الشم ... س بخدّيه أنيقه
لا تفوّت ساعة من ... كأس خمرٍ وعشيقه
واجتنب ما سخرت جه ... لاً له هذي الخليقه
رغبوا في باطل زو ... ر بزهدٍ في الحقيقه
ليس إلا ما تراه ... أنا أدرى بالطريقه قال أبو عمران موسى بن سعيد: قلنا له: ما هذا الاعتقاد الفاسد الذي لا ينبغي لأحد أن يصحبك به فقال: هذا قول لا فعل، وقد قال الله تعالى:(3/509)
{ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون} (الشعراء: 224) .
ثم قال ابن سعيد: ولولا أن حاكي الكفر ليس بكافر ماذكرتها، وهذا منزع من قال من المجوس:
خذ من الدّنيا بخطٍّ ... قبل أن ترحل عنها
فهي دارٌ لا ترى من ... بعدها أحسن منها وهذا كفرٌ صراح، وقائله قد تقمص كفراً، اللهم غفراً.
وطلب منه بعض الأرذال، أن يكتب له شفاعة عند أحد العمال، فكتب له رسالة فيها هذه الأبيات:
كتبته مولاي في طالع ... ما طار فيه طائر اليمن
وفكرةٌ حائلةٌ والحشا ... ينهب بالهمّ وبالحزن
كلّفنيه ساقطٌ أخرقٌ ... مشتهرٌ بالطحن والقرن
أكذب خلق الله أرداهم ... أخوفهم في الخوف والأمن
يكفر ما يسدى إليه ولا ... يعذر خلقاً سيء الظنّ
فإن صنعت الخير ألفيته ... شراً وأضحى المجد ذا غبن
وانتقد الناس عليك الذي ... تسدي له في أيّ مافنّ
فافعل به ما هو أهلٌ له ... واسمعه تفسيراً ولا أكني (1)
أهنه واصفعه ولا تترك ال ... بوّاب يكرمه لدى الإذن
واقطع بفيه القول واحرمه من ... ردّ جوابٍ أنسه يدني
وكلما استنبط رأياً فس ... فهه ودعه مسخن الجفن
فهو إذا أكرمته فاسد ... وصالحٌ بالهون واللّعن
__________
(1) ب: ولا تكن.(3/510)
شفاعتي في مثله هذه ... فلا سقله هاطل المزن ودفع إليه الكتاب مختوماً، فسر به، وحمله إلى العامل، وسافر إليه أياماً، فلما دفعه إليه قرأه وضحك، ودفعه إلى من يشاركه في ذلك من أصحابه، فوعده بخير وأخرجه إلى شغل لم يرضه، فلما عاد منه قال له: أخرجتني لأرذل شغل وأخسه فما فائدة الشفاعة إذن فقال له: أوتريد أن أفعل معك ما تقتضيه شفاعة صاحبك قال: لا أقل من ذلك، قأمر من يأتيه بالأبيات، فقرئت عليه، فانصرف في أسوإ حال، فلما دخل غرناطة - وكان عبد المولى تزوج فيها امرأة اغتبط بها - تزيا هذا الرجل بزي أهل البادية، وزور كتاباً على لسان زوجة لعبد المولى في بلدة أخرى، وقال في الكتاب: وقد بلغني أنك تزوجت غيري، وأردت أن أكتب إليك في أن تطلقني، فوصلني كتابك تعرفني فيه أن الزوجة الجديدة لم توافق اختيارك، وأنك ناظر في طلاقها، فردني ذلك عما عزمت عليه، فانظر في تعجيل ما وعدت به من طلاقها، فإنك إن لم تفعل لم أبق معك أبداً، فلما مر بدار عبد المولى رأى جارية زوجته فقال لها: أنا رجل بدوي اتيت من عند فلانة زوجة أبي محمد عبد المولى، فعندما سمعت ذلك أعلمت ستها، وأخذت الكتاب، فوقفت على مافيه غير شاكة في صحته، فلما دخل عبد المولى وجدها على خلاف ما فارقها عليه، فسألها عن حالها، فقالت: أريد الطلاق، فقال: ماسبب هذا وأنا ارغب الناس فيك فألقت إليه الكتاب، فلما وقف عليه حلف لها أن هذا ليس بصحيح، وأن عدواً له اختلقه عليه، فلم يفد ذلك عندها شيئاً، ولم يطب له بعد ذلك معها عيش، فطلقها، وعلم أن ذلك الرجل هو الذي فعل ذلك، فقال له: لا جزاك الله خيراً، ولا أصلح لك حالاً! فقال: وأنت كذلك، فهذه بتلك، والبادي أظلم، فما كان ذنبي عندك حين كتبت في حقي ما كتبت فقال له: مثلك لا يقول " ماذنبي " أنت كلك ذنوب:(3/511)
ألست بألأم الثّقلين طرّاً ... وأثقلهم وافحشهم لسانا
فمهما تبغ برّاً عند شخص ... تزد منه بما تبغي هوانا فانصرف عنه عالي اللسان بلعنته.
وكان أحد بني عبد المؤمن قد ألزمه أن ينسخ له كتاباً بموضع منفرد، فخطر له يوماً جلد عميرة، واتفق أن مر السيد يوماً بذلك الموضع، فنظر إليه في تلك الحال، فقال له السيد (1) : ما تصنع فقال: الدواة جفت، ولم أجد ما أسقيها (2) به إلا ماء ظهري، فضحك السيد، وأمر له بجارية، فقال:
قل للعميرة طلّق ... ت بعد طول زواج
قد كان مائي ضياعاً ... يمرّ في غير حاج
حتى حباني بحسنا ... ء قابلٍ للنتاج
فكان ناقل خمرٍ ... من حنتم لزجاج
كانت تمرّ ضياعاً ... فأصبحت كالسراج 374 - وقال حاتم بن سعيد:
جنّبوني عن المدامة إلا ... عند وقت الصباح أو في الأصيل
واشفعوها بكلّ وجه مليح ... ودعوني من كلّ قالٍ وقيل
وإذا ماأردتم طيب عيشي ... فاحجبوني عن كلّ وجهٍ ثقيل 375 - وقال مالك بن محمد بن سعيد (3) :
أتاني زائراً فبسطت خدّي ... له ويقلّ بسط الخدّ عندي
__________
(1) ق ب: الخادم؛ وسقطت اللفظة من م.
(2) دوزي: ماء أسقيها.
(3) ترجمته في المغرب 2: 171.(3/512)
فقلت له أيا مولاي ألفاً ... فقال وأنت ألفاً عبد عبدي
وعانقني وقبّلني ونادى ... بلطف منه كيف رأيت وعدي وقال في استهداء مقص:
ألا قل نعم في مطلب قد حكاه لا ... يفصّل إذ نبغي الوصال موصّلا
نشقّ به صدر النهار وقد بدا ... ظلاماً بأمثال النجوم مكلّلا وقال:
سارت كبدرٍ وليل الخدر يسترها ... ولو بدا وجهها جاءتك بالفلق
ودونها من صليل اللامعات حمىً ... فالبرق والرعد دون الشمس في الأفق 376 - واجتمع بغرناطة محمد بن غالب الرصافي الشاعر المشهور ومحمد ابن عبد الرحمن الكتندي (1) الشاعر وغيرهما من الفضلاء والرؤساء، فأخذوا يوماً في أن يخرجوا لنجد أو لحور مؤمل، وهما منتزهان من أشرف وأظرف منتزهات غرناطة، ليتفرجوا ويصقلوا الخواطر بالتطلع في ظاهر البلد، وكان الرصافي قد أظهر الزهد وترك الخلاعة، فقالوا: ما لنا غنى عن أبي جعفر ابن سعيد، اكتبوا له، فصنعوا هذا الشعر وكتبوا له، وجعلوا تحته أسماءهم:
بعثنا إلى ربّ السّماحة والمجد ... ومن ما له في ملّة الظرف من ندّ
ليسعدنا عند الصبيحة في غدٍ ... لنسعى إلى الحور المؤمل أو نجد
نسرّح منّا أنفساً من شجونها ... ثوت في شجونٍ هنّ شرٌّ من اللحد
ونظفر من بخل الزّمان بساعة ... ألذّ من العليا وأشهى من الحمد
على جدول ما بين ألفاف دوحة ... تهزّ الصّبا فيها لواء من الرّند
ومن كان ذا شربٍ يخلّى بشأنه ... ومن كان ذا زهدٍ تركناه للزّهد
وما ظرفه يأبى الحديث على الطّلى ... ولا أن يديل الهزل حيناً من الجدّ
__________
(1) ترجمة الكتندي في المغرب 2: 264 والتكملة: 535 وأدباء مالقة، الورقة: 27.(3/513)
تهزّ معاني الشعر أغصان ظرفه ... ويمرح في ثوب الصبابة والوجد
وما نغّص العيش المهنّأ غير أن ... يمازجه تكليف ما ليس بالودّ
نظمنا من الخلاّن عقد فرائد ... ولما نجد إلاّك واسطة العقد
فماذا تراه لا عدمناك ساعةً ... فنحن بما تبديه في جنّة الخلد
ورشدك مطلوب وامرك نحوه ار ... تقابٌ وكلٌّ منك يهدي إلى الرشد فكان جوابه لهم:
هو القول منظوماً أو الدرّ في العقد ... هو الزّهر نفّاح الصبا أم شذا الودّ
أتاني وفكري في عقالٍ من الأسى ... فحلّ بنفث السّحر ما حلّ من عقد
ومن قبل علمي أين مبعث وجهه ... علمت جناب الورد من نفس الورد
وايقنت ان الدهر ليس براجع ... لتقديم عصرٍ أو وقوفٍ على حدّ
فكلّ أوانٍ فيه أعلام فضله ... ترادف موج البحر رداً إلى ردّ
فكم طيها من فائتٍ متردّم ... يهزّ بما قد أضمرت معطف الصّلد
قيا من بهم تزهى المعالي ومن لهم ... قياد المعاني ما سوى قصدكم قصدي
فسمعاً وطوعاً للّذي قد أشرتم ... به لا أرى عنه مدى الدهر من بدّ
فقوموا على اسم الله نحو حديقةٍ ... مقلّدة الأجياد موشية البرد
بها قبّةٌ تدعى الكمامة (1) فاطلعوا ... بها زهراً أذكى نسيماً من الندّ
وعندي ما يحتاج كلّ مؤمّلٍ ... من الرّاح والمعشوق والكتب والنرد
فكلٌّ إلى ماشاءه لست ثانياً ... عناناً له إنّ المساعد ذو الودّ
ولست خليّاً من تأنس قينةٍ ... إذا ما شدت ضلّ الخليّ عن الرشد
لها ولدٌ في حجرها لا تزيله ... أوان غناء ثمّ ترميه بالبعد
فيا ليتني قد كنت منها مكانه ... تقلّبني ما بين خصر إلى نهد
ضمنت لمن قد قال إنّي زاهدٌ ... إذا حلّ عندي أن يحول عن الزهد
__________
(1) دوزي: الحمامة.(3/514)
فإن كان يرجو جنّة الخلد آجلاً ... فعندي له في عاجلٍ جنّة الخلد فركبوا إلى جنته، فمر لهم أحسن يومٍ على ما اشتهوا، ومازالوا بالرصافي إلى أن شرب لما غلب عليه الطرب، فقال الكتندي:
غلبناك عمّا رمته يا ابن غالب ... براحٍ وريحانٍ وشدوٍ وكاعب فقال أبو جعفر:
بدا زهده مثل الخضاب فلم يزل ... به ناصلاً حتى بدا زور كاذب فلما غربت الشمس قالوا: ما رأينا أقصر من هذا اليوم، وما ينبغي ان يترك بغير وصف، فقال أبو جعفر: أنا له، ثم قال بعد فكرة، وهو من عجائبه التي تقدم بها المتقدمين وأعجز المتأخرين (1) :
لله يوم مسرّةٍ ... أضوا وأقصر من ذباله
لما نصبنا للمنى ... فيه بأوتارٍ حباله
طار النّهار به كمر ... تاع فأجفلت الغزاله
فكأنّنا من بعده ... بعنا الهداية بالضّلاله والنهار: ذكر الحبارى، وإليه أشار بقوله " طار النهار " والغزالة: الشمس، ولا يخفى حسن التوريتين، فسلم له الجميع، تسليم السامع المطيع.
وعلى ذكر الغزالة في هذا الموضع فلأبي جعفر أيضاً فيها، وهو من بدائعه، قوله (2) :
بدا ذنب السرحان ينبئ أنّه ... تقدّم سبتٌ (3) والغزالة خلفه
__________
(1) المغرب 2: 167.
(2) المصدر نفسه.
(3) كذا في الأصول، ولعل الصواب " سيد " بمعنى الذئب.(3/515)
ولم ترعيني مثله من متابع ... لمن لا يزال الدهر يطلب حتفه وقوله:
اسقني مثل ما أنار لعيني ... شفقٌ ألبس الصباح جماله
قبل أن تبصر الغزالة تستد ... رج منه على السماء غلاله
وتأمّل لعسجد سال نهراً ... كرعت فيه، أو تقضّى، غزاله ومن نظم أبي جعفر قوله:
لو لم يكن شدو الحمائم فاضلاً ... شدو القيان لما استخف الأغصنا
طربٌ ثنى حتّى الجماد ترنحاً ... وافاض من دمع السحائب أعينا وقوله (1) :
في الروض منك مشابهٌ من أجلها ... يهفو له طرفي وقلبي المغرم
الغصن قدٌّ، والأزاهر حلية، ... والورد خدٌّ، والأقاحي مبسم وقوله:
ألا حبّذا نهر إذا ما لحظته ... أبى أن يردّ اللحظ عن حسنه الأنس
ترى القمرين الدهر قد عنيا به ... يفضّضه بدرٌ وتذهبه شمس وقوله، وقد مر بقصر من قصور أمير المؤمنين عبد المؤمن وقد رحل عنه (2) :
قصر الخليفة لا أخليت من كرمٍ ... وإن خلوت من الأعداد والعدد
جزنا عليك فلم تنقص مهابته ... والغيل يخلو وتبقى هيبة الأسد
__________
(1) المغرب 2: 167.
(2) المصدر نفسه.(3/516)
وقوله من أبيات:
سرّح لحاظك حيث شئت فإنّه ... في كلّ موقع لحظةٍ متأمّل وقوله أيضاً:
ولقد قلت للذي قال حلّوا ... ههنا: سر فإننا ما سئمنا
لا تعيّن لنا مكاناً ولكن ... حيثما مالت اللواحظ ملنا وقال:
ألا هاتها إنّ المسرّة قربها ... وما الحزن إلاّ في توالي جفائها
مدام بكى الإبريق عند فراقها ... فأضحك ثغر الكاس عند لقائها وقال:
عرّج على الحور وخيّم به ... حيث الأماني ضافيات الجناح
واسبق له قبل ارتحال النّدى ... ولا تزره دون شادٍ وراح
وكن مقيماً منه حيث الصّبا ... تمتار مسكاً من أريج البطاح
والقضب مال البعض منها على ... بعض كما يثني القدود ارتياح
وسقّ جيب الصبح نور كما (1) ... شقّت جيوب الطلّ منها الرّياح
لم أحص كم غاديته ثابتاً ... واسترقصتني الراح عند الرواح وقوله:
ألا حبّذا روضٌ بكرنا له ضحىً ... وفي جنبات الروض للطّل أدمع
وقد جعلت بين الغصون نسيمةٌ ... تمزّق ثوب الطلّ منها وترقع
ونحن إذا ما ظلّت القضب ركّعاً ... نظلّ لها من هزة السكر نركع
__________
(1) هذه رواية م؛ وفي ق ب: وشق جيب الصبر قصف إذا.(3/517)
377 - وكان ابن الصابوني (1) في مجلس أحد الفضلاء بإشبيلية، فقدم فيما قدم خيار، فجعل أحد الأدباء يقشرها بسكين، فخطف ابن الصابوني السكينمن يده، فألح عليه في استرجاعها، فقال له ابن الصابوني: كف عني وإلا جرحتك بها، فقال له صاحب المنزل: اكفف عنه لءلا يجرحك ويكون جرحك جباراً، تعريضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم " جرح العجماء جبار "، فاغتاظ ابن الصابوني، وخرج من الاعتدال، وأخطأ بلسانه، وما كف إلا بعد الرغبة والتضرع.
ومن نظم ابن الصابوني (2) :
بعثت بمرآةٍ إليك بديعةٍ ... فأطلع بسامي أفقها قمر السعد
لتنظر فيها حسن وجهك منصفاً ... وتعذرني فيما أكنّ من الوجد
فأرسل بذال الخدّ لحظك برهةً ... لتجني منه ما جناه من الورد
مثالك فيها منك أقرب ملمساً ... وأكثر إحساناً وأبقى على العهد وقوله في لابس أحمر (3) :
أقبل في حلّةٍ مورّدةٍ ... كالبدر في حلّة من الشّفق
تحسبه كلّما أراق دمي ... يمسح في ثوبه ظبى الحدق ورحل إلى القاهرة والإسكندرية فلم يلتفت إليه، ولا عول عليه، وكان شديد الانحراف، فانقلب على عقبه يعض يديه، على ماجرى عليه، فمات عند إيابه إلى الإسكندرية كمداً، ولم يعرف له بالديار المصرية مقدار.
__________
(1) هو أبو بكر محمد بن أحمد الصابوني شاعر إشبيلية في عصره، رحل إلى تونس ثم إلى القاهرة وتوفي سنة 636 (القدح: 69 والمغرب 1: 236 والوافي 2: 9 والتحفة: 161 والفوات 2: 209)
(2) المغرب والقدح: 72.
(3) البيتان في القدح، وأكثر اعتماد المقري عليه في سائر أخبار ابن الصابوني.(3/518)
وحضر يوماً بين يدي المعتضد الباجي ملك إشبيلية وقد نثرت أمامه جملة من دنانير سكت باسمه، فأنشد:
قد فخر الدينار والدرهم ... لمّا علا ذين لكم ميسم
كلاهما يفصح عن مجدكم ... وكلّ جزءٍ منه فرد فم ومر فيها إلى أن قال في وصف الدنانير (1) :
كأنها الأنجم والبعد قد ... حقّق عندي أنّها الأرجم فأشار السلطان إلى وزيره، فأعطاه منها جملة، وقال له: بدل هذا البيت لئلا يبقى ذماً.
وكان يلقب بالحمار، ولذا قال فيه ابن عتبة الطبيب:
يا عير حمصٍ عيرتك الحمير ... بأكلك البرّ مكان الشّعير وهو أبو بكر محمد ابن الفقيه أبي العباس أحمد بن الصابوني شاعر إشبيلية الشهير الذكر، والذي أظهره مأمون بني عبد المؤمن، وله فيه قصائد عدة، منها قوله في مطلع:
استول سبّاقاً على غاياتها ... نجح الأمور يبين في بدآتها وله الموشحات المشهورة، رحمه الله تعالى.
378 - ومن حكايات الصبيان أن ابن أبي الخصال (2) ، وهو من شقورة، اجتاز بأبدة وهو صبي صغير يطلب الأدب، فأضافه بها القاضي ابن مالك،
__________
(1) سقط هذا السطر من م.
(2) الشريشي 1: 364.(3/519)
ثم خرج معه إلى حديقة معروشة، فقطف لهما منها عنقوداً أسود، فقال القاضي:
انظر إليه في العصا ... فقال ابن أبي الخصال:
كرأس زنجي عصى ... فعلم أنه سيكون له شأن في البيان.
379 - وحدث أبو عبد الله ابن زرقون (1) أن أبا بكر ابن المنخل وأبا بكر الملاح الشلبيين كانا متواخيين متصافيين، وكان لهما ابنان صغيران قد برعا في الطلب، وحازا قصب السبق في حلبة الأدب، فتهاجى الابنان بأقذع هجاء، فركب ابن المنخل في سحر من الأسحار مع ابنه عبد الله، فجعل يعتبه على هجاء بني الملاح ويقول له: قد قطعت مابيني وبين صديقي وصفيي أبي بكر في إقذاعك في ابنه، فقال له ابنه: إنه بدأني والبادي أظلم، وإنما يجب أن يلحى من بالشر تقدم، فعذره أبوه، فبينما هما على ذلك إذ أقبلا على واد تنق فيه الضفادع، فقال أبو جعفر لابنه: أجز:
تنقّ ضفادع الوادي ... فقال ابنه:
بصوتٍ غير معتاد ... فقال الشيخ:
كأنّ نقيق مقولها ... فقال ابنه:
بنو الملاح في النادي ...
__________
(1) المصدر نفسه وانظر زاد المسافر: 88.(3/520)
فلما أحست الضفادع بهما صمتت، فقال أبوبكر:
وتصمت مثل صمتهم ... فقال ابنه:
إذا اجتمعوا على زاد ... فقال الشيخ:
فلا غوثٌ لملهوف ... فقال الابن:
ولا غيثٌ لمرتاد ... ولا خفاء أن هذه الإجازة لو كانت من الكبار لحصلت منها الغرابة، فكيف ممن هو في سن الصبا.
380 - ومن حكايات النصارى واليهود من أهل الأندلس - أعادها الله تعالى إلى الإسلام عن قريب، إنه سميع مجيب - ما حكي أن ابن المرعزي (1) النصراني الإشبيلي أهدى كلبة صيد للمعتمد بن عباد وفيها يقول:
لم أر ملهىً لذي اقتناص ... ومكبساً مقنع (2) الحريص
كمثل خطلاء (3) ذات جيد ... أتلع في صفرة القميص (4)
كالقوس في شكلها ولكن ... تنفذ كالسهم للقنيص
إن تخذت أنفها دليلاً ... دلّ على الكامن العويص
لو أنها تستثير برقاً ... لم يجد البرق من محيص
__________
(1) في المغرب (1: 264) المرعز؛ وفيه الأبيات؛ وقد تصحف الاسم في الأصول وأثبتناه ما في ب.
(2) المغرب: ومقنع الكاسب.
(3) في الأصول: خطار؛ والخطلاء: المسترخية الأذن.
(4) المغرب: أغيد تبرية القميص.(3/521)
ومنها في المديح:
يشفع تنويله بودّ ... شفع القياسات بالنّصوص وقال:
الله أكبر أنت بدرٌ طالعٌ ... والنّقع دجنٌ والكماة نجوم
والجود أفلاكٌ وأنت مديرها ... وعدوّك الغاوي وهنّ رجوم وقال:
نزلت في آل مكحول وضيفهم ... كنازل بين سمع الأرض والبصر
لا تستضيء بضوء في بيوتهم ... ما لم يكن لك تطفيلٌ على القمر وسببهما أنه نزل عندهم فلم يوقدوا له سراجاً.
381 -[شعراء اليهود]
1 - وقال نسيم الإسرائيلي:
يا ليتني كنت طيراً ... أطير حتى أراكا
بمن تبدّلت غيري ... أو لم تحل عن هواكا هو شاعر وشاحمن أهل إشبيلية، وذكره الحجاري في المسهب.
2 - وقال إبراهيم بن سهل الإسرائيلي في أصفر ارتجالاً (1) :
كان محيّاك له بهجة ... حتى إذا جاءك ماحي الجمال
__________
(1) انظر دراسة عنه في مقدمة ديوانه (ط. دار صادر 1967) وفيها إلمام بمصادر ترجمته. وهذه الأبيات الواردة هنا مثبتة في ديوانه.(3/522)
أصبحت كالشمعة لما خبا ... منها الضياء اسودّ فيها الذّبال وهو شاعر إشبيلية ووشاحها، وقرأ على أبي علي الشلوبين وابن الباج وغيرهما، وقال العزّ في حقه، وكان أظهر الإسلام، ما صورته: كان يتظاهر بالإسلام، ولا يخلو مع ذلك من قدح واتهام، انتهى. وسئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظم ابن سهل، فقال: لأنه اجتمع فيه ذلان، ذل العشق، وذل اليهودية. ولما غرق قال فيه بعض الأكابر: عاد الدر إلى وطنه. ومن نظم ابن سهل المذكور قوله:
وألمى بقلبي منه جمرٌ مؤجّجٌ ... تراه على خدّيه يندى ويبرد
يسائلني من أي دين مداعباً ... وشمل اعتقادي في هواه مبدّد
فؤادي حنيفي، ولكنّ مقلتي ... مجوسية من خدّه النار تعبد ومنه قوله:
هذا أبو بكر يقود بوجهه ... جيش الفتور مطرّز الرايات
أهدى ربيع عذاره لقلوبنا ... حرّ المصيف فشبّها لفحات
خدٌّ جرى ماء النعيم بجمره ... فاسودّ مجرى الماء في الجمرات وذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري في رحلتهالكبيرة القدر والجرم المسماة ب " ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة " خلافاً في إسلام ابن سهل باطناً، وكتب على هامش هذا الكلام الخطيب العلامة سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق ما نصه: صحح لنا من أدركناه من أشياخنا أنه مات على دين الإسلام، انتهى.
ورأيت في بعض كتب الأدب بالمغرب أنه اجتمع جماعة مع ابن سهل في مجلس أنس، فسألوه لما أخذت منه الراح عن إسلامه: هل هو في الظاهر والباطن أم لا فأجابهم بقوله: للناس ما ظهر، ولله ما استتر، انتهى.(3/523)
واستدل بعضهم على صحة إسلامه بقوله:
تسلّيت عن موسى بحبّ محمدٍ ... هديت ولولا الله ما كنت أهتدي
وما عن قلىً قد كان ذاك، وإنّما ... شريعة موسى عطّلت بمحمد وله ديوان كبير مشهور بالمغرب، حاز به قصب السبق في النظم والتوشيح.
وماأحسن قوله من قصيدة:
تأمّل لظى شوقي وموسى يشبّها ... " تجد خير نار عندها خير موقد " وأنشد بعضهم له قوله:
لقد كنت أرجو أن تكون مواصلي ... فأسقيتني بالبعد فاتحة الرعد
فبالله برّد ما بقلبي من الجوى ... بفاتحة الأعراف من ريقك الشهد وقال الراعي رحمه الله تعالى: سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن سمعة الأندلسي رحمه الله تعالى يقول: شيئان لا يصحان: إسلام إبراهيم بن سهل، وتوبة الزمخشري من الاعتزال، ثم قال الراعي: قلت: وهما في مروياتي، أما إسلام إبراهيم بن سهل فيغلب على ظني صحته لعلمي بروايته، وأما الثاني - وهو توبة الزمخشري - فقد ذكر بعضهم أنه رأى رسماً بالبلاد المشرقية محكوماً فيه يتضمن توبة الزمخشري من الاعتزال فقوي جانب الرواية، انتهى باختصار.
وقال الراعي أيضاً ما نصه: وقد نكت الأديب البارع إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الأندلسي على الشيخ أبي القاسم في تغزله حيث قال:
أموسى أيا بعضي وكلّي حقيقة ... وليس مجازاً قولي الكلّ والبعضا
خفضت مكاني إذ جزمت وسائلي ... فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا(3/524)
وفي هذا دليل على أن يهود الأندلس كانوا يشتغلون بعلم العربية، فإن إبراهيم قال هذين البيتين قبل إسلامه، والله تعالى أعلم. وقد روينا أنه مات مسلماً غريقاً في البحر، فإنه كان حقاً فالله تعالى رزقه الإسلام في آخر عمره والشهادة، انتهى.
ومن نظم ابن سهل في التوجيه باصطلاح النحاة قوله:
رفعت (1) عوامله وأحسب رتبتي ... بنيت على خفض فلن تتغيرا ومنه:
تنأى وتدنو والتفاتك واحدٌ ... كالفعل يعمل ظاهراً ومقدّرا وقوله:
إذا كان نصر الله وقفاً عليكم ... فإنّ العدا التنوين يحذفه الوقف وقوله:
ليتني نلت منه وصلاً وأجلى ... ذلك الوصل عن صباح المنون
وقرأنا باب المضاف عناقاً ... وحذفنا الرقيب كالتنوين وقوله:
بنيت بناء الحرف خامر طبعه ... فصار لتأثير العوامل مانعا (2) وقوله:
لك الثناء فإن يذكر سواك به ... يوماً فكالرابع المعهود في البدل
__________
(1) في الأصول: رقت.
(2) هذا البيت مضطرب في الأصول وقافيته " جازما " وقد صوبناه عن الديوان.(3/525)
يعني الغلط، وقوله:
إذا اليأس ناجى النفس منك بلن ولا ... أجابت ظنوني ربّما وعساني (1) وقوله:
وقلت عساه عن أقمت يرقّ لي ... وقد نسخت لا عنده ما اقتضت عسى وقوله:
ينفي لي الحال ولكنّه ... يدخل لا في كل مستقبل وقوله:
خفضت مقامي إذ جزمت وسائلي ... فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا وقوله في غلام شاعر:
كيف خلاص القلب من شاعرٍ ... رقت معانيه عن النّقد
يصغر نثر الدرّ عن نثره ... ونظمه جلّ عن العقد
وشعره الطائل في حسنه ... طال على النابغة الجعدي وحدث أبو حيان عن قاضي القضاة أبي بكر محمد بن أبي نصر الفتح بن علي الأنصاري الإشبيلي بغرناطة أن إبراهيم بن سهل الشاعر الإشبيلي كان يهودياً ثم أسلم، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصيدة طويلة بارعة، قال أبو حيان: وقفت عليها، وهي من أبدع مانظم في معناها، وكان سن ابن سهل حين غرق نحو الأربعين سنة، وذلك سنة تسع وأربعين وستمائة، وقيل: إنه جاوز الأربعين، وكان يقرأمع المسلمين ويخالطهم، وما أحسن قوله:
__________
(1) في الأصول: وعسائي، وهو من قصيدة نونية (ص: 214) .(3/526)
مضى الوصل إلاّ منية تبعث الأسى ... أداري بها همّي إذا الليل عسعسا
أتاني حديث الوصل زوراً على النوى ... أعد ذلك الزور اللّذيذ المؤنسا
ويا أيّها الشوق الذي جاء زائراً ... أصبت الأماني خذ قلوباً وأنفسا
كساني موسى من سقام جفونه ... رداء وسقّاني من الحبّ أكؤسا ومن أشهر موشحاته قوله (1) :
ليل الهوى يقظان ... والحبّ ترب السّهر
والصبر لي خوّان ... والنوم عن عيني بري وقد عارضه غير واحد فما شقوا له غباراً.
3 - وأما إبراهيم بن الفخار اليهودي (2) فكان قد تمكن عند الأذفونش ملكطليطلة النصراني، وصيره سفيراً بينه وبين ملوك المغرب، وكان غارفاً بالمنطق والشعر، قال ابن سعيد: أنشدني لنفسه يخاطب أديباً مسلماً كان يعرفه قبل أن تعلو رتبته ويسفر بين الملوك، ولم يزده على ما كان يعامله به من الإذلال، فضاق ذرع ابن الفخار وكتب إليه:
أيا جاعلاً أمرين شبهين ماله ... من العقل إحساسٌ به يتفقّد
جعلت الغنى والفقر والذلّ والعلا ... سواءً فما تنفكّ تشقى وتجهد
وهل يستوي في الأرض نجد وتلعة ... فتطلب تسهيلاً وسيرك مصعد
وما كنت ذا ميز لمن كنت طالباً ... بما كنت في حال الفراغ تعوّد
وقد حال ما بيني وبينك شاغلٌ ... فلا تطلبنّي بالذي كنت تعهد
فإن كنت تأبى غير إقدام جاهلٍ ... فإنك لا تنفكّ تلحى وتطرد
__________
(1) ديوانه: 296.
(2) ترجم له في المغرب 2: 23 وأورد بيتيه في مدح الأذفونش.(3/527)
ألا فأت في أبوابه كلّ مسلك ... ولا تك محلاً حيثما قمت تقعد قال ابن سعيد: وأنشدني لنفسه:
ولمّا دجا ليل العذار بخدّه ... تيقنت أنّ الليل أخفى وأستر
وأصبح عذّالي يقولون صاحبٌ ... فأخلو به جهراً ولا أتستّر وقال يمدح الأذفونش لعنهما الله تعالى:
حضرة الأذفنش لا برحت ... غضة (1) أيامها عرس
فاخلع النعلين تكرمةً ... في ثراها إنّها قدس قال: وأدخلوني إلى بستان الخليفة المستنصر، فوجدته في غاية الحسن كأنه الجنة، ورأيت على بابه بواباً في غاية القبح، فلما سألني الوزير عن حال فرجتي قلت: رأيت الجنة إلا أني سمعت أن الجنة يكون على بابها رضوان، وهذه على بابها مالك، فضحك واخبر الخليفة بما جرى، فقال له: قل له إنا قصدنا ذلك، فلو كان رضوان عليها بواباً لخشينا أن يرده عنها، ويقول له: ليس هذا موضعك، ولما كان هناك مالك أدخله فيها، وهو لا يدري ما وراءه، ويخيل أنها جهنم، قال: فلما أعلمني الوزير بذلك قلت له: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام: 124) .
4 - وكان في زمان الياس بن المدور (2) اليهودي الطبيب الرندي طبيب آخر كان يجري بينهما من المحاسدة ما يجري بين مشتركين في صنعة، فأصلح الناس بينهما مراراً، وظهر لإلياس من ذلك الرجل الطبيب ما ينفر الناس منه فكتب إليه:
__________
(1) في الأصول: غادة.
(2) ترجمة الياس في المغرب 1: 336 وهو من شعراء المائة السادسة.(3/528)
لا تخدعنّ فما تكون مودّة ... ما بين مشتركين أمراً واحدا
انظر إلى القمرين حين تشاركا ... بسناهما كان التلاقي واحدا يعني أنهما معاً لما اشتركا في الضياء وجب التحاسد بينهما والتفرقة: هذا يطلع ليلاً وهذه تطلع نهاراً، واعتراضهما يوجب الكسوف.
5 - وكتب أيوب بن سليمان المرواني (1) إلى بسام بن شمعون اليهودي الوشقي في يوم مطير: لما كنت - وصل الله تعالى إخاءك وحفظك - مطمح نفسي، ومنزع اختياري من أبناء جنسي، على جوانبك أميل، وأرتع في رياض خلقك الجميل، هزتني خواطر الطرب والارتياح، في هذا اليوم المطير، الداعي بكاؤه إلى ابتسام الأقداح، واستنطاق البم والزير، فلم أر معيناً على ذلك، ومبلغاً إلى ما هنالك، إلا حسن نظرك، وتجشمك من المكارم ماجرت به عادتك، وهذا يوم حرم الطرف فيه الحركة، وجعل في تركها الخير والبركة، فهل توصل مكرمتك أخاك إلى التخلي معك في زاوية، متكءاً على دن مستنداً إلى خابية، ونحن خلال ذلك نتجاذب أهداب الحديث الذي لم يبق من اللذات إلا هو، ونجيل الألحاظ فيما تعودت عندك من المحاسن والأسماع في أصناف الملاهي، وأنت على ذلك قدير، وكرمك بتكلفه جدير:
ولا يعين المرء يوماً على ... راحته إلاّ كريم الطباع
وها أنا والسمع مني إلى ال ... باب وذو الشوق حليف استماع
فإن أتى داعٍ بنيل المنى ... ودّع أشجاني ونعم الوداع وهذا المرواني من ذرية عبد العزيز أخي عبد الملك بن مروان، وهو من أهل المائة السادسة.
__________
(1) ترجمة أيوب المرواني في المغرب 1: 60.(3/529)
6 - وكانت بالأندلس شاعرة من اليهود يقال لها قسمونة بنت إسماعيل اليهودي، وكان أبوها شاعراً، واعتنى بتأديبها، وربما صنع من الموشحة قسماً فأتمتها هي بقسم آخر، وقال لها أبوها يوماً: أجيزي:
لي صاحبٌ مهجةٍ قد قابلت ... نعمى بظلمٍ (1) واستحلّت جرمها ففكرت غير كثير وقالت:
كالشمس منها البدر يقبس نوره ... أبداً ويكسف بعد ذلك جرمها فقام كالمختبل، وضمها إليه، وجعل يقبل رأسها، ويقول: أنت والعشر كلمات أشعر مني.
ونظرت في المرآة فرأت جمالها وقد بلغت أوان التزويج ولم تتزوج، فقالت:
أرى روضةً قد حان منها قطافها ... ولست أرى جانٍ يمدّ لها يدا
فوا أسفا يمضي الشّباب مضيّعاً ... ويبقى الّذي ماإن أسمّيه مفردا فسمعها أبوها، فنظر في تزويجها.
وقالت في ظبية عندها:
يا ظبيةً ترعى بروضٍ دائماً ... إنّي حكيتك في التوحّش والحور
أمسى كلانا مفرداً عن صاحبٍ ... فلنصطبر أبداً على حكم القدر 382 - واستدعى أبو عبد الله محمد بن رشيق القلعي (2) ظثم الغرناطي بعض أصحابه إلى أنس، بقوله:
سيدي عندي أتر ... جٌّ ونارنجٌ وراح
__________
(1) في الأصول: ذو بهجة ... منعا بظهر.
(2) ترجمته في المغرب 2: 180.(3/530)
وجنى آسٍ وزهرٍ ... وحمانا لا يباح
ليس إلاّ مطربٌ يس ... لي النّدامى، والملاح
ومكانٌ لانهتاكٍ ... قد نأى عنه الفلاح
لا يرى يطلع فيه ... دون أكواسٍ صباح
فيه فتيانٌ لهم في ... لذة العيش جماح
طرحوا الدّنيا يساراً ... فاستراحت واستراحوا
لا كقومٍ أوجعتهم ... لهم فيها نباح وله:
قال العذول: إلى كم ... تدعو لمن لا يجيب
فقلت: ليس عجيباً ... أن لا يجيب حبيب
هوّن عليك فإنّي ... من حبّه لا أتوب قال أبو عمران ابن سعيد: دخلت عليه وهو مسجون بدار الأشراف بإشبيلية، وقد بقي عليه من مال السلطان اثنا عشر ألف دينار قد أفسدها في لذات نفسه، فلما لمحني أقبل يضحك ويشتغل بالنادر والحكايات الطريفة، فقلت له: قالوا: إنك أفسدت للسلطان اثني عشر ألف دينار، وما أحسبك إلا زدت على هذا العدد لما أراك فيه من المسرة والاستبشار، فزاد ضحكاً، وقال: يا أبا عمران، أتراني إذا لزمت الهم والفكر يرجع علي ذلك العدد الذي أفسدت ثم فكر ساعة وأنشدني (1) :
ليس عندي من الهموم حديثٌ ... كلّما ساءني الزمان سررت
أتراني أكون للدهر عوناً ... فإذا مسّني بضرّ ضجرت
__________
(1) الأبيات في المصدر السابق.(3/531)
غمرةٌ ثم تنجلي فكأنّي ... عند إقلاع همّها ما ضررت 383 - وقال النحوي اللغوي أبو عيسى لب بن عبد الوارث القلعي (1) :
بدا ألف التعريف في طرس خدّه ... فيا هل تراه بعد ذاك ينكر
وقد كان كافوراً فهل أنا تارك ... له عندما حيّاه مسك وعنبر
وما خير روضٍ لا يرفّ نباته ... وهل أفتن الأثواب إلاّ المشهر وقال:
أبى لي أن أقول الشّعر أنّي ... أحاول أن يفوق السحر شعري
وأن يصغي إليه كلّ سمعٍ ... ويعلق ذكره في كلّ صدر قال الحجاري: أخبرني أنه أحب أحد أولاد الأعيان ممن كان يقرأ عليه، فلما خلا به شكا إليه ما يجده، فقال له: الصبيان يفطنون بنا، فإذا أردت أن تقول شيئاً فاكتبه لي في ورقة، [قال] : فلما سمعت ذلك منه تمكن الطمع مني فيه، وكتبت له:
يا من له حسنٌ يفوق به الورى ... صل هائماً قد ظلّ فيك محيّرا
وامنن عليه بقبلةٍ أو غيرها ... إن كنت تطمع في الهوى أن تؤجرا وكتبت بعدها من الكلام ما رأيته، فلما حصلت الورقة عنده كتب إلي في غيرها: أنا من بيتٍ عادة أهله أن يكونوا اسم فاعل لا اسم مفعول، وإنما أردت أن يحصل عندي خطك شاهداً على ما قابلتني به لئلا أشكوك إلى أبي فيقول لي: حاش لله أن يقع الفقيه في هذا، وإنما أنت خبيث، رأيته يطالبك بالتزام الحفظ فاختلقت عليه لأخرجك من عنده، فأبقى معذباً معك ومعه، وإن
__________
(1) ترجمته في المغرب 2: 180 وبغية الوعاة: 383 وفي المغرب أبياته الأولى.(3/532)
أنا أوقفته على خطك صدقني واسترحت، ولكن لا أفعل هذا إلا إذا لم تنته عني، وإن انتهيت فلا أخبر به أحداً، قال ابن عبد الوارث: فلما وقفت على خطه علمت قدر ما وقعت فيه، وجعلت أرغب إليه في أن يرد الرقعة إلي، فأبى وقال: هي عندي رهن على وفائك بأن لا ترجع تتكلم في ذلك الشأن، قال: فكان والله يبطل القراءة ولا أجسر أكلمه، لأني رأيت صيانتي وناموسي قد حصل في يده، وتبت من ذلك الحين عن هذا وأمثاله.
384 - وقال جابر بن خلف الفحصي - وكان في خدمة عبد الملك بن سعيد، وقرأمع أبي جعفر ابن سعيد وتهذّب معه - يخاطبه حين عاثت الذئاب في غنمه:
أيا قائداً قد سما في العلا ... وساد علينا بذاتٍ وجدّ
غدا الذئب في غنمي عائثاً ... وقد جئت مستعدياً بالأسد وكثر عليه الدين، فكتب إليه أيضاً:
أفي أيّامك الغرّ ... أموت كذا من الضرّ
وأخبط في دجى همّي ... ووجهك طلعة الفجر فضحك وأدى دينه.
385 - ولما خلع أهل المرية طاعة عبد المؤمن، وقتلوا نائبه ابن مخلوف، قدموا عليهم أبا يحيى ابن الرميمي (1) ، ثم كان عليه من النصارى ما علم، ففر إلى مدينة فاس، وبقي بها ضائعاً حاملاص، يسكن في غرفة، ويغيش من النسخ، فقال:
__________
(1) ترجمته في المغرب 2: 198، وانظر البيان المغرب (ج 3) والمعجب للمراكشي.(3/533)
أمسيت بعد الملك في غرفةٍ ... ضيقة الساحة (1) والمدخل
تستوحش الأرزاق من وجهها ... فما تزال الدّهر في معزل
النسخ بالقوات لديها ولا ... تقرعها كفّ أخٍ مفضل وأنشدها لبعض الأدباء، فبينما هو ليلة ينسخ بضوء السراج إذا بالباب يقرع، ففتحه، فإذا شخص متنكر لا يعرفه، وقد مد يده إليه بصرة فيها جملة دنانير، وقال: خذها من كف أخ لا يعرفك ولا تعرفه، وأنت المفضل بقبولها، فأخذها، وحسن بها حاله.
وقال له بعضٌ: هذا شعرك أيام خلعك، فهل قلت أيام أمرك قال: نعم، لما قتل أهل المرية ابن مخلوف عامل عبد المؤمن وأكرهوني أن أتولى أمرهم قلت:
أرى فتناً تكشّف عن لظاها ... رمادٌ بالنّفاق له انصداع
وآل بها النظام إلى انتثارٍ ... وساد الأسافل والرعاع
سأحمل كلّ ما جشّمت منها ... بصدرٍ فيه للهول اتساع وأصل بني الرميمي من بني أمية ملوك الأندلس، ونسبوا إلى رميمة قريةٍ من أعمال قرطبة.
386 - وقال أبو بحر يوسف بن عبد الصمد (2) :
فوصلت أقطاراً لغير أحبّةٍ ... ومدحت أقواماً بغير صلات
أموال أشعاري نمت فتكاثرت ... فجعلت مدحي للبخيل زكاتي وهذا من غريب المعاني.
__________
(1) ب: الساحات.
(2) ترجمة ابن عبد الصمد في الذخيرة (3: 251) والمغرب 2: 203 ومسالك الأبصار 11: 450.(3/534)
387 - وفي بني عبد الصمد يقول بعض أهل عصرهم، لما رأى من كثرة عددهم، والتباسهم بالسلطان:
ملأت قلبي هموماً مثل ما ... ملأ الدّنيا بنو عبد الصمد
كاثر الشيخ أبوهم آدماً ... فغدا أكثر نسلاً وولد
كلهم ذئب إذا آمنته ... والرّعايا بينهم مثل النّقد 388 - وكان الوزير الكاتب أبو جعفر أحمد بن عباس (1) وزير زهير الصقلبي ملك المرية بذ الناس في وقته بأربعة أشياء: المال، والبخل، والعجب، والكتابة، قال ابن حيان: وكان قبل محنته صير هجيراه أوقات لعب الشطرنج أو ما يسنح له هذا البيت:
عيون الحوادث عني نيام ... وهضمي على الدهر شيء حرام وذاع هذا البيت في الناس حتى قلب له مصراعه الأخير بعض الأدباء فقال:
سيوقظها قدرٌ لا ينام ... وكان حسن الكتابة، جميل الخط، مليح الخطاب، عزيز الأدب، قوي المعرفة، مشاركاً في الفقه، حاضر الجواب، جماعاً للدفاتر، حتى بلغت أربعمائة ألف مجلد، وأما الدفاتر المخرومة فلم يوقف على عددها لكثرتها، وبلغ ماله خمسمائة ألف مثقال جعفرية سوى غير ذلك، وكان مقتله بيد باديس ابن حبوس (2) ملك غرناطة، وكفى دليلاً على إعجابه قوله:
لي نفس لا ترتضي الدهر عمراً ... وجميع الأنام طرّاً عبيدا
لو ترقّت فوق السّماك محلاًّ ... لم تزل تبتغي هناك صعودا
__________
(1) انظر الذخيرة 1 / 2: 151 والمغرب 2: 205 والإحاطة 1: 129.
(2) تفصيل الخبر عن مقتله في الذخيرة: 166.(3/535)
أنا من تعلمون شيّدت مجدي ... في مكاني ما بين قومي وليدا وكان يتهم بداء أبي جهل فيما ينقل، حتى كتب بعض الأدباء على برجه بالمرية:
خلوت بالبرج فما الذي ... تصنع فيه ياسخيف الزّمان فلما نظر إليه أمر أن يكتب:
أصنع فيه كلّ ما أشتهي ... وحاسدي خارجه في هوان 389 - وكان الأعمى التطيلي (1) شاعراً مشهوراً، وكان الصبيان يقولون له " تحتاج كحلاً يا أستاذ " فكان ذلك سبب انتقاله من مرسية، وقيل له: يا أبا بكر، كم تقع في الناس فقال: أنا أعمى، وهم لا يبرحون حفراً فما عذري في وقوعي فيهم فقال له السائل: والله لا كنت قط حفرة لك، وجعل يواليه بره ورفده.
ومن شعره:
وجوهٌ تعزّ على معشرٍ ... ولكن تهون على الشاعر
قرونهم مثل ليل المحبّ ... وليل المحبّ بلا آخر وله:
زنجيّكم بالفسوق داري ... يدلي من الحرص كالحمار
يخلو بنجل الوزير سرّاً ... فيولج الليل في النّهار
__________
(1) أغلب الظن أن هذا الشاعر هو التطيلي الأصغر، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد التطيلي (التحفة: 27 ونكت الهميان: 90) إلا إن قدرنا أن المقري وقع في الوهم فإن القطعة الثانية أوردها ابن سعيد للمخزومي الأعمى (المغرب 1 227) وهو الذي يكنى بأبي بكر.(3/536)
390 - ومن شعر أبي جعفر أحمد بن الخيال الاستبي (1) كاتب ابن الأحمر فيمن اسمه " فضل الله ":
من الناس من يؤتى بنقدٍ ومنهم ... بكرهٍ ومنهم من يناك إذا انتشى
ومنهم فتى يؤتى على كلّ حالةٍ ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا 391 - ولعبد الملك بن سعيد الخازن (2) :
ما حمدناك إذ وقفنا ببابك ... للذي كان من طويل حجابك
قد ذممنا الزّمان فيك فقلنا ... أبعد الله كلّ دهرٍ أتى بك 392 - وقال في " المسهب ": كنت بمجلس القاضي ابن حمدين، وقد انشده شعراء قرطبة وغيرها، وفي الجملة هلال شاعر غرناطة، ومحمد بن الاستجي شاعر استجة الملقب بزحكون، فقام الاستجي وأنشد قصيدة، منها:
إليك ابن حمدين انتخلت قصائداً ... بها رقصت في القضب ورق الحمائم
أنا العبد لكن بالمودّة أشترى ... إذا كان غيري يشترى بالدراهم فشكره ابن حمدين، ونبه على مكان الإحسان، فحسده هلال البياني على ذلك، فلما فرغ من القصيدة قال له هلال: اعد علي البيت الذي فيه " رقص الحمام " فأعاده، فقال له: لو أزلت النقطة عن الخاء كنت تصدق، فقال له في الحين: ولو أزلت النقطة عن العين كنت تحسن.
وكانت على عين هلال نقطة فكان ذلك من الاتفاق العجيب والجواب الغريب، وعمل فيه.
__________
(1) في القدح: 66 أبو عبد الله ابن الخيال الاستجي وكان يكتب لابن الأحمر وأورد له البيتين المثبتين هنا؛ وفي ب: السبتي وسقطت اللفظة من م.
(2) ترجمته في الجذوة: 267 (وبغية الملتمس رقم: 1067) والمغرب 1: 228 وهنالك البيتان وانظر اليتيمة (ج 2) وكتاب التشبيهات.(3/537)
393 - ولما قال المقدم بن المعافى (1) في رثاء سعيد بن جودي:
من ذا الذي يطعم أو يكسو ... وقد حوى حلف الندى رمس
لا اخضرّت الأرض ولا أوراق ال ... عود ولا أشرقت الشمس
بعد ابن جوديّ الذي لن ترى ... أكرم منه الجنّ والإنس فقيل له: أترثيه وقد ضربك فقال: والله إن نفعني حتى بذنوبه، ولقد نهاني ذلك الأدب عن مضار جمة كنت أقع فيها على رأسي، أفلا أرعى له ذلك والله ما ضربني إلا وأنا ظالم له، أفأبقى على ظلمي له بعد موته
وقيل له: لم لا تهجو مؤمن بن سعيد فقال: لا أهجو من لو هجا النجوم ما اهتدى أحد بها.
394 - وقال أبو مروان عبد الملك بن نظيف (2) :
لا أشرب الراح إلاّ ... مع كلّ خرق كريم
ولست أعشق إلاّ ... ساجي الجفون رخيم 395 - ومدح هلال البياني ابن حمدين بقصيدة أولها:
عرّج على ذاك الجناب العالي ... واحكم على الأموال بالآمال
فيه ابن حمدين الّذي لنواله ... من كلّ أرضٍ شدّ كلّ رحال فقال له القاضي: ما هذا الوثوب على المدح من أول وهلة، ألا تدري أنهم عابوا ذلك، كما عابوا الطول أيضاً، وأن الأولى التوسط فقال: يا سيدي، اعذرني بما لك في قلبي من الإجلال والمحبة، فإني كلما ابتدأت في مدحك لم
__________
(1) ترجمة مقدم في الجذوة: 333 وبغية الملتمس رقم: 1386 وشعره في سعيد بن جودي في الحلة السيراء 1: 156 - 157.
(2) ترجمته في الجذوة: 268 وبغية الملتمس (رقم: 1081) .(3/538)
يتركني غرامي في اسمك إلى أن أتركه عند أول بيت، فاستحسن ذلك منه، وأحسن إليه.
ومن هذه القصيدة:
قاضٍ موالٍ برّه ونواله ... فله جميع العالمين موالي وكان يهوى وسيماً من متأدبي قرطبة، فصنع فيه شعراً أنشده منه:
وكّلت عيني برعي النّجم في الظلّم ... وعبرني قد غدت ممزوجةً بدم فقال له الغلام: أنت لا تبرح بكوكب من عينك ليلاً ولا نهاراً، وعاشقاً وغير عاشق، فخجل هلال، وكان على عينه نقطة.
396 - وحكى ابن حيّان (1) ان الأمير عبد الرحمن عثرت به دابته وهو سائر في بعض أسفاره، وتطأطأت، فكاد يكبو لفيه، ولحقه جزع، وتمثل إثره بقول الشاعر:
وما لا ترى ممّا يقي الله أكثر ... وطلب صدر البيت فعزب عنه، وأمر بالسؤال عنه فلم يوجد من يحفظه إلا الكاتب محمد بن سعيد الزجالي، وكان يلقب بالأصمعي لذكائه وحفظه، فأنشد الأمير:
ترى الشيء ممّا يتّقى فتهابه ... فأعجب الأمير، واستحسن شكله، فقال له: الزم السرادق.
وأعقب ابناً يسمى حامداً.
__________
(1) انظر المغرب 1: 330 والمقتبس (تحقيق مكي) : 34.(3/539)
وحضر مع الوزير عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني في مجلس فيه رؤساء، فعرض عليهم فرس مطهم، فتمثل فيه الواحد بقول امرئ القيس:
بريد السّرى بالليل من خيل بربرا ... ففهم الزجالي أنه عرض بأنه من البربر، فلم يحتمل ذلك وأراد الجواب، فقال مدبجاً لما أراده ومعرضاً: أحسن عندي من ليل يسرى بي فيه على مثل هذا يوم على الحال التي قال فيها القائل:
ويومٍ كظلّ الرمح قصّر طوله ... دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر وإنما عرض للإسكندراني بأنه كان يشهد مجالس الراحات في أول أمره ومعرفة الغناء، فقلق الوزير، وشكاه إلى الحاجب عيسى بن شهيد، فاجتمع مع الزجالي وأخذ معه في ذلك، فحكى له الزجالي ما جرى من الأول إلى الآخر، وأنشد:
وما الحرّ إلاّ من يدين بمثل ما ... يدان ومن يخفي القبيح وينصف
هم شرعوا التعريض قذفاً فعندما ... تبعناهم لاموا عليه وعنّفوا ومن نوادر ابنه حامد أنه غلط أمامه في قوله تعالى {الزانية والزاني} (النور: 2) بأن قال " فانكحوهما " فأنشده حامد (1) :
أبدع القارئ معنىً ... لم يكن في الثّقلين
أمر النّاس جميعاً ... بنكاح الزانيين وقال لبعض أصحابه حينئذ: أما سمعت ما أتى به إمامنا من تبديل الحدود وتضاحكا.
__________
(1) المغرب: 331.(3/540)
397 -[تراجم من المطمح]
1 - وكتب الوزير أبو عبد الله ابن عبد العزيز (1) إلى المنصور صاحب بلنسية، ويعرف بالمنصور الصغير، قطعةً أولها:
يا أحسن الناس آداباً وأخلاقا ... وأكرم الناس أغصاناً وأوراقا
ويا حيا الأرض لم نكّبت عن سنني ... وسقت نحوي إرعاداً وإبراقا
ويا سنا الشمس لم أظلمت في بصري ... وقد وسعت بلاد الله إشراقا
من أيّ بابٍ سعت غير الزمان إلى ... رحيب صدرك حتى قيل قد ضاقا
قد كنت أحسبني في حسن رأيك لي ... أنّي أخذت على الأيّام ميثاقا
فالآن لم يبق لي بعد انحرافك ما ... آسى عليه وأبدي منه إشفاقا فأجابه بهذه القطعة:
مازلت أوليك إخلاصاً وإشفاقا ... وأنثني عنك مهما غبت مشتاقا
وكان من أملي أن أقتنيك أخاً ... فأخفق الأمل المأمول إخفاقا
فقلت غرسٌ من الإخوان أكلؤه ... حتى أرى منه إثماراً وإيراقا
فكان لمّا زهت أزهاره ودنت ... أثمارها حنظلاً مرّاً لمن ذاقا
فلست أوّل إخوانٍ سقيتهم ... صفوي وأعلقتهم بالقلب إعلاقا
فما جزوني بإحساني ولا عرفوا ... قدري ولا حفظوا عهداً وميثاقا والوزير المذكور قال في حقه في المطمح: إنه وزير المنصور بن عبد العزيز، ورب السبق في وده والتبريز، ومنقض الأمور ومبرمها، ومخمد الفتن ومضرمها، اعتقل بالدهي، واستقل بالأمر والنهي، على انتهاض بين الأكفاء، واعتراض المحو لرسومه والإعفاء، فاستمر غير مراقب، وأمر
__________
(1) المطمح: 11 - 13.(3/541)
ما شاء غير ممتثل للعواقب، ينتضي عزائم تنتضى، فإن ألمت من الأيام مظلمة أضا، إلى أن أودى، وغار منه الكوكب الأهدى، فانتقل الأمر إلى ابنه أبي بكر، فناهيك من أي عرف ونكر، فقد أربى على الدهاة، وما صبا إلى الظبية ولا إلى المهاة، واستقل بالهول يقتحمه، والأمر يسديه ويلحمه، فأي ندىً أفاض، وأي أجنحة بمدىً هاض، فانقادت إليه الآمال بغير خطام، ووردت من نداه ببحرٍ طامٍ، ولم يزل بالدولة قائماً، وموقظاً من بهجتها ما كان نائماً، إلى أن صار الأمر إلى المأمون بن ذي النون أسد الحروب، ومسد الثغور والدروب، فاعتمد عليه واتكل، ووكل الأمر إلى غير وكل، فما تعدى الوزارة إلى الرياسة، ولا تردى بغير التدبير والسياسة، فتركه مستبداً، ولم يجد من ذلك بداً. وكان أبو بكر هذا ذا رفعة غير متضائلة، وآراء لم تكن آفلة، أدرك بها ما أحب، وقطع غارب كل منافس وجب، إلى أن طلحه العمر وأنضاه، وأغمده الذي انتضاه، فخلى الأمر إلى ابنيه، فتبلدا في التدبير، ولم يفرقا بين القبيل والدبير، فغلب عليهما القادر بن ذي النون، وجلب إليهما كل خطبٍ (1) ما خلا المنون، فانجلوا، بعدما ألقوا ما عندهم وتخلوا، وكان لأبي عبد الله نظم مستبدع، يوضع بين الجوانح ويودع، انتهى المقصود من الترجمة.
2 - وكان للوزير أبي الفرج (2) ابنٌ مكبود قد أعياه علاجه، وتهيأ للفساد مزاجه، فدل على خمر قديمة، فلم يعلم بها إلا عند حكم، وكان وسيماً، وللحسن قسيماً، فكتب إليه (3) :
أرسل بها مثل ودّك ... أرقّ من ماء خدّك
__________
(1) ب: جلب.
(2) المطمح 15 - 16.
(3) انظر ما سبق ص: 408.(3/542)
شقيقة النفس فانضح ... بها جوى ابني وعبدك وكتب رحمه الله تعالى معتذراً، عما جناه منذراً:
ما تغيّبت عنك إلاّ لعذر ... ودليلي في ذاك حرصي عليكا
هبك أن الفرار من عظم ذنبٍ ... أتراه يكون إلا إليكا وقال في المطمح في حق أبي الفرج: من ثنية رياسة، وعترة نفاسة، مامنهم إلا من تحلى بالإمارة، وتردى بالوزارة، وأضاء في آفاق الدول، ونهض بين الخيل والخول، وهو أحد أمجادهم، ومتقلد نجادهم، فاتهم أدباً ونبلاً، وباراهم كرماً تخاله وبلاً، إلا أنه بقي وذهبوا، ولقي من الأيام ما رهبوا، فعاين تنكرها، وشرب عكرها، وجال على الآفاق، واستدر أخلاف الأرزاق، وأجال للرجاء (1) قداحاً متواليات الإخفاق، فأخمل قدره، وتوالى عليه جور الزمان وغدره، فاندفعت آثاره، وعفت أخباره، وقد أثبت له بعض ما قاله وحاله قد أدبرت، والخطوب إليه قد انبرت، أخبرني الوزير الحكيم أبو محمد المصري وهو الذي آواه، وعنده استقرت نواه، وعليه كان قادماً، وله كان منادماً، أنه رغب إليه في أحد الأيام أن يكون من جملة ندمائه، وأن لا يحجب عنه وتكون منةً من أعظم نعمائه، فأجابه بالإسعاف، واستساغ منه ما كان يعاف، لعلمه بقلته، وإفراط خلته، فلما كان ظهر (2) ذلك اليوم كتب إليه:
أنا قد أهبت بكم وكلكم هوىً ... وأحقّكم بالشكر مني السابق
فالشمس أنت وقد أظلّ طلوعها ... فاطلع وبين يديك فجرٌ صادق
__________
(1) م ب: الرجاء.
(2) ظهر: سقطت من ب.(3/543)
3 - وقال الوزير أبو عامر ابن مسلمة (1) :
حجّ الحجيج منىً ففازوا بالمنى ... وتفرقت عن خيفه الأشهاد
ولنا بوجهك حجةٌ مبرورةٌ ... في كلّ يومٍ تنقضي وتعاد وقال الفتح في حقه ما صورته: نبتة (2) شرفٍ باذج، ومفخر على ذوائب الجوزاء شامخ، وزروا للخلفاء، فانتجعتهم الأدباء واتبعتهم العظماء، وانتسبت لهم النعماء، وتنفست عن نور بهجتهم الظلماء، وأبو عامر هذا هو جوهرهم المنتخل، وجوادهم الذي لا يبخل، وزعيمهم المعظم، وسلك مفخرهم المنظم، وكان فتى المدام، ومستفتى الندام، وأكثر من النعت للراح والوصف، وآثر الأفراح والقصف، وأرى قينات السرور مجلوة، وآيات الحسن متلوة، وله كتاب سماه " حديقة الارتياح في وصف حقيقة الراح "، واختص بالمعتضد اختصاصاً جرعه رداه، وصرعه في مداه، فقد كان في المعتضد من عدم تحفظه للأرواح، وتهاونه باللوام في ذلك واللواح، فاطمأن إليه أبو عامر واغتر، وأنس إلى مابسم من مؤانسته وافتر، حتى أمكنته في اغتياله فرصة، لم يعلق فيها حصة، ولم يطلق عليه إلا أنه زلت به قدمه فسقط في البحيرة وانكفا، ولم يعلم به إلا بعدما طفا، فأخرج وقد قضى، وأدرج منه في الكفن حسام المجد منتضى، فمن محاسنه قوله يصف السوسن، وهو مما أبدع فيه وأحسن:
وسوسنٍ راق مرآه ومخبره ... وجلّ في أعين النظّار منظره
كأنّه كؤس البلّور قد صنعت ... مسندساتٍ تعالى الله مظهره
وبينها ألسنٌ قد طوّقت ذهباً ... من بينها قائمٌ بالملك يؤثره
__________
(1) المطمح: 23 - 24.
(2) المطمح: بيت.(3/544)
إلى أن قال: واجتمع بجنة بخارج إشبيلية مع إخوانٍ له علية، فبينما هم يديرون الراح، ويشربون من كأسها الأفراح، والجو صاح، إذا بالأفق قد غيم، وأرسل الديم، بعدما كسا الجو بمطارف اللاذ (1) ، وأشعر الغصون زهر قباذ (2) ، والشمس منتقبة (3) بالسحاب، والرعد يبكيها بالانتحاب، فقال (4) :
يومٌ كأن سحابه ... لبست عمامات الصوامت
حجبت به شمس الضّحى ... بمثال أجنحة الفواخت
والغيث يبكي فقدها ... والبرق يضحك مثل شامت
والرعد يخطب مفصحاً ... والجوّ كالمخزون ساكت وخرج إلى تلك الخميلة والربيع قد نشر رداه، ونثر على معاطف الغصون نداه، فأقام بها وقال:
وخميلةٍ رقم الزّمان أديمها ... بمفضّضٍ ومقسّمٍ ومشوب
رشفت قبيل الصبح ريق غمامةٍ ... رشف المحب مراشف المحبوب
وطردت في أكنافها ملك الصّبا ... وقعدت واستوزرت كلّ أديب
وأدرت فيها اللهو حقّ مداره ... مع كلّ وضّاح الجبين حسيب (5) 4 - وقال الوزير الكاتب أبو حفص أحمد بن برد (6) :
قلبي وقلبك لا محالة واحدٌ ... شهدت بذلك بيننا الألحاظ
__________
(1) م: الرذاذ.
(2) م: دهر قباذ.
(3) ب: متنقبة.
(4) مرت الأبيات ص: 485.
(5) ب والمطمح: مهوب.
(6) المطمح: 24 - 25.(3/545)
فتعال فلنغظ الحسود بوصلنا ... إنّ الحسود بمثل ذاك يغاظ وقال:
يا من حرمت لذاذتي بمسيره ... هذي النوى قد صعّرت لي خدّها
زوّد جفوني من جمالك نظرة ... والله يعلم إن رأيتك بعدها وقال في المطمح في ابن برد المذكور: إنه غذي بالأدب (1) ، وعلا إلى أسمى (2) الرتب، وما من أهل بيته إلا شاعر كاتب، لازم لباب السلطان راتب (3) ، ولم يزل في الدولة العامرية بسبقٍ يذكر، وحق لا ينكر، وهو بديع الإحسان، بليغ القلم واللسان، مليح الكتابة، فصيح الخطابة، وله " رسالة السيف والقلم " (4) ، وهو أول من قال بالفرق بينهما، وشعره مثقف المباني، مرهف كالحسام اليماني، وقد أثبت منه ما يلهيك سماعاً، ويريك الإحسان لماعاً، فمن ذلك قوله يصف البهار:
تأمل فقد شقّ البهار كمائماً ... وأبرز عن نوّاره الخضل الندي
مداهن تبرٍ في أنامل فضةٍ ... على أذرعٍ مخروطةٍ من زبرجد وله يصف معشوقاً، أهيف القد ممشوقاً، أبدى صفحة ورد، وبدا في ثوب لازورد:
لمّا بدا في لازور ... ديّ الحرير وقد بهر
كبّرت من فرط الجما ... ل وقلت: ما هذا بشر
فأجابني لا تنكرن ... ثوب السماء على القمر
__________
(1) المطمح: هذه ثنية غذيت بالأدب.
(2) المطمح: وربت في سماء.
(3) ق ب ودوزي: مراتب.
(4) راجع هذه الرساله في الذخيرة 1 / 2: 435.(3/546)
5 - وقال الوزير الكاتب أبو جعفر ابن اللمائي (1) :
ألمّا فديتكما نستلم ... منازل سلمى على ذي سلم
منازل كنت بها نازلاً ... زمان الصّبا بين جيدٍ وفم
أما تجدنّ الثرى عاطراً ... إذا ما الرياح تنفسن ثم وقال في المطمح فيه: إمامٌ من أئمة الكتابة ومفجر ينبوعها، والظاهر على مصنوعها بمطبوعها، إذا كتب نثر الدر في المهارق، ونمت فيه أنفاسه كالمسك في المفارق، وانطوى ذكره على انتشار إحسانه، وقصر أمره مع امتداد لسانه، فلم تطل لدوحته فروع، ولا اتصل لها من نهر الإحسان كروع، فاندفنت محاسنه من الإهمال في قبر، وانكسرت الآمال بعدم بدائعه كسراً بعد جبر، وكان كاتب علي بن حمود العلوي وذكر أنه كان يرتجل بين يديه ولا يروي، فيأتي على البديه، بما يتقبله المروي ويبديه (2) ، فمن ذلك ما كتب معتنياً من بعض رسالة: روض القلم في خنائك مونق وغصن الأدب بمائك مورق، وقد قذف بحر الهند درره، وبعث روض نجدٍ زهره، فأهدى ذلك على يدي فلان الجاري في حمده، على مباني قصده.
6 - وقال الوزير حسان بن مالك بن أبي عبدة في المهرجان (3) :
أرى المهرجان قد استبشرا ... غداة بكى المزن واستعبرا
وسربلت الأرض أمواهها ... وجللت السندس الأخضرا
وهزّ الرياح صنابيرها ... فضوّعت المسك والعنبرا
تهادى به الناس ألطافه ... وسامى المقلّ به المكثرا
__________
(1) المطمح: 25 - 26.
(2) المطمح: ويفديه؛ وفي م: بما يفصله؛ ب: يفعله؛ دوزي: يتقبله.
(3) المطمح: 26 - 27.(3/547)
وقال في حقه في المطمح: من بيت جلالة، وعترة (1) أصالة، كانوا مع عبد الرحمن الداخل، وتوغلوا معه في متشعبات تلك المداخل، وسعوا في الخلافة حتى حضر مبايعها، وكثر مشايعها، وجدوا في الهدنة وانعقادها، وأخمدوا نار الفتنة عند اتقادها، فانبرمت (2) عراها، وارتبطت أولاها وأخراها، فظهرت البيعة واتضحت، وأعلنت الطاعة وأفصحت، وصاروا تاج مفرقها، ومنهاج طرقها، وهو ممن بلغ الوزارة بعد ذلك وأدركها، وحل مطلعها وفلكها، مع اشتهار في اللغة والآداب، وانخراط في سلك الشعراء والكتاب، وإبداع لما ألف، وانتهاض بما تكلف، ودخل على المنصور وبين يديه كتاب ابن السري وهو به كلف، وعليه معتكف، فخرج وعمل على مثاله كتاباً، سماه " ربيعة وعقيل "، جرد له من ذهنه أي سيفٍ صقيل، وأتى به منتسخاً مصوراً في ذلك اليوم من الجمعة الأخرى، وأبرزه والحسن يتبسم عنه ويتفرى، فسر به المنصور وأعجب، ولم يغب عن بصره ساعة ولا حجب، وكان له بعد هذه المدة حين أدجت الفتنة ليلها وأزجت إبلها وخيلها، اغتراب كاغتراب الحارث بن مضاض، واضطراب بين القوافي والمواضي، كالحية النضاض، ثم اشتهر بعد، وافتر له السعد، وفي تلك المدة يقول يتشوق إلى أهله:
سقى بلداً أهلي به وأقاربي ... غوادٍ بأثقال الحيا وروائح
وهبّت عليهم بالعشيّ وبالضحى ... نواسم بردٍ والظًلال فوائح
تذكرتهم والنأي قد حال دونهم ... ولم أنس لكن أوقد القلب لافح
وممّا شجاني هاتفٌ فوق أيكةٍ ... ينوح ولم يعلم بما هو نائح
فقلت اتّئد يكفيك أني نازحٌ ... وأن الذي أهواه عني نازح
ولي صبيةٌ مثل الفراخ بقفرةٍ ... مضى حاضناها فاطّحتها الطوائح (3)
__________
(1) المطمح: وغرة؛ ب: ومحمدة؛ م: ومجرة.
(2) المطمح: فأبرمت.
(3) المطمح: متى حضناها طوتها الطوائح.(3/548)
إذا عصفت ريحٌ أقامت رؤوسها ... فلم يلقها إلاّ طيورٌ بوارح
فمن لصغارٍ بعد فقد أبيهم ... سوى سانحٍ في الدهر لو عنّ سانح واستوزره المستظهر عبد الرحمن بن هشام أيام الفتنة فلم يرض بالحال، ولم يمض في ذلك الانتحال، وتثاقل عن الحضور في كل وقت، وتغافل في ترك الغرور بذلك المقت، وكان المستظهر يستبد بأكثر تلك الأمور دونه، وينفرد مغيباً عنه شؤونه، فكتب إليه:
إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل ... فسيّان منّي مشهدٌ ومغيب
فأصبحت تيمياً وما كنت قبلها ... لتيمٍ ولكنّ الشبيه نسيب وله:
رأت طالعاً للشيب بين ذوائبي ... فباحت بأسرار الدّموع السواكب
وقالت: أشيبٌ قلت: صبح تجاربي ... أنار على أعقاب ليل نوائبي ولما مات رثاه الوزير أبو عامر ابن شهيد بقوله:
أفي كلّ عامٍ مصرعٌ لعظيم ... أصاب المنايا حادثي وقديمي
وكيف اهتدائي في الخطوب إذا دجت ... وقد فقدت عيناي ضوء نجوم
مضى السلف الوضّاح إلا بقيةً ... كغرّة مسودّ القميص بهيم
فإن ركبت مني اللّيالي هضيمة ... فقبلي ما كان اهتضام تميم
أبا عبدةٍ إنّا غدرناك عندما ... رجعنا وغادرناك غير ذميم
أنخذل من كنّا نرود بأرضه ... ونكرع منه في إناء علوم
ويجلو العمى عنّا بأنوار رأيه ... إذا أظلمت ظلماء ذات غيوم
كأنّك لم تلقح بريحٍ من الحجى ... عقائم أفكار بغير عقيم
ولم نعتمد مغناك غدواً ولم نزر ... رواحاً (1) لفصل الحكم دار حكيم
__________
(1) المطمح: ولم نزل نؤم.(3/549)
7 - وقال الوزير الفقيه أبو أيوب ابن أبي أمية (1) :
أمسك دارين حيّاك النّسيم به ... أم عنبر الشّحر أم هذي البساتين
بشاطئ النهر حيث النّور مؤتلقٌ ... والراح تعبق أم تلك الرياحين وحلاه في المطمح بقوله: واحد الأندلس الذي طوقها فخاراً، وطبقها بأوانه افتخاراً، ماشئت من وقار لا تحيل الحركة سكونه، ومقدار يتمنى مخبرٌ ان يكونه، إذا لاح رأيت المجد مجتمعاً، وإذا فاه أضحى كل شيء مستمعاً، تكتحل منه مقل المجد، وتنتحل المعالي أفعاله انتحال ذي كلف بها ووجد، لوتفرقت في الخلق سجاياه لحمدت الشيم، ولو استسقيت بمحياه لما استمسكت الديم، ودعي للقضاء فمارضي، وأعفي عنه فكأنه ما استقضي، لديه تثبت الحقائق، وتنبت العلائق، وبين يديه يسلك عين الجدد (2) ، ويدع اللدد اللدد (3) ، وله أدب إذا حاضر به فلا البحر إذا عصف، ولا أبو عثمان إذا وصف، مع حلاوة مؤانسةٍ تستهوي الجليس، وتهوي حيث شاءت بالنفوس، وأما تحبيره وإنشاؤه، ففبهما للسامع تحييره وانتشاؤه، وقد اثبت له بدعاً، يثني إليها الإحسان جيداً وأخدعاً، فمن ذلك قوله في منزل حله متنزهاً:
يا منزل الحسن أهواه وآلفه ... حقاً لقد جمعت في صحنك البدع
لله ما اصطنعت نعماك عندي في ... يومٍ نعمت به والشمل مجتمع وحل منية صهره الوزير أبي مروان ابن الدب بعدوة إشبيلية المطلة على النهر، المشتملة على بدائع الزهر، وهو معرس ببنته (4) ، فأقام بها أياماً متأنسا،
__________
(1) المطمح: 28 - 29؛ وقد سقط " أبو أيوب " من م.
(2) ب: مسلك؛ ودوزي: يسلك من الحق الجدد.
(3) ق: الألد اللدد.
(4) ب: معرس مبيته؛ م: معرس بابنته.(3/550)
ولجذوة السرور مقتبساً، فوالى عليه من التحف، وأهدى إليه من الطرف، ما غمر كثرة، وبهر نفاسة وأثرة، فلما ارتحل وقد اكتحل من حسن ذلك الموضع بما اكتحل، كتب إليه:
قل للوزير وأين الشكر من مننٍ ... جاءت على سننٍ تترى وتتّصل
غشيت مغناك والروض الأنيق به ... يندى وصوب الحيا يهمي وينهمل
وجال طرفي في أرجائه مرحاً ... وفق اجتيازي يستعلي ويستفل
ندعو بلفتته حيث ارتمى زهرٌ ... عليه من منثني أفنانه كلل
محلّ أنسٍ نعمنا فيه آونةً ... من الزّمان وواتانا به الأمل وحل بعد ذلك متنزهاً بها على عادته، فاحتفل في موالاة ذلك البر وإعادته، فلما رحل كتب إليه:
يا دار أمنّك الزّما ... ن صروفه ونوائبه
وجرت (1) سعودك بالذي ... يهوى نزيلك آيبه
فلنعم مأوى الضيف أن ... ت إذا تحاموا جانبه
خطرٌ شأوت به الديا ... ر وأذعنت (2) لك قاطبه وصنع له ولد ابن عبد الغفور (3) رسالة سماها ب " الساجعة " حذا بها حذو أبي العلاء المعري في " الصاهل والشاحج " وبعث بها إليه، فعرضها عليه، فأقامت عنده أباماً ثم استدعاها منه فصرفها إليه، وكتب معها: بكرٌ زففتها أعزك الله تعالى نحوك، وهززت بمقدمها سناك وسرورك، فلم ألفظها عن شبع، ولا
__________
(1) ب والمطمح: ودنت.
(2) ب: فأذعنت.
(3) هو صاحب إحكام صنعة الكلام؛ وقد تحدث عن رسالة " الساجعة " هنالك، وسقطت لفظة " ولد " من م.(3/551)
جهلت ارتفاعها عما يجتلى من نوعها ويستمع، ولكن لما أنسته (1) من أنسك بانتجاعها، وحرصك على ارتجاعها، دفعت في صدر الولوع، وتركت بينها وبين مجاثمها تلك الربوع، حيث الأدب غضٌّ، وماء البلاغة مرفضٌّ، فأسعد أعزك الله بكرتها، وسلها عن أفانين معرتها، بما تقطفه من ثمارك، وتغرفه من بحارك، وترتاح له ولإخوانه من نتائج أفكارك، وغنها لشنشنة أعرفها فيكم من أخزم، وموهبة حزتموها وأحرزتم السبق فيها منذ كم. انتهى.
8 - وابن عبد الغفور هو الوزير أبو القاسم الذي قال فيه الفتح (2) : فتى زكا فرعاً وأصلاً، وأحكم البلاغة معنىً وفصلاً، وجرد من ذهنه على الأغراض نصلاً، قد هابه وفراها، وقدح زند المعالي حتى أوراها، مع صون يرتديه، ولا يكاد يبديه، وشبيبة ألحقته بالكهول، فأقفرت منه ربعها المأهول، وشرف ارتداده، وسلفٍ اقتفى أثره الكريم واقتداه، وله شعر بديع السرد، مفوف البرد، وقد أثبت له منه ما ألفيت، وبالدلالة عليه اكتفيت، فمن ذلك قوله:
تركت التّصابي للصّواب وأهله ... وبيض الطّلى للبيض والسّمر للسّمر
مدامي مدادي والكؤوس محابري ... وندامي أقلامي ومنقلتي سفري وله:
لا تنكروا أنّنا في رحلةٍ أبداً ... نحثّ في نفنفٍ (3) طوراً وفي هدف
فدهرنا سدفةٌ ونحن أنجمها ... وليس ينكر مجرى النّجم في السّدف
لو أسفر الدهر لي أقصرت عن سفري ... وملت عن كلفي بهذه الكلف
__________
(1) ب م: أنست.
(2) المطمح: 29 - 30.
(3) ب م: ثقف.(3/552)
وله من قصيدة:
رويدك يا بدر التّمام فإنّني ... أرى العيس حسرى والكواكب ظلعّا
كأن أديم الصبح قد قدّ أنجماً ... وغودر درع الليل فيها مرقّعا
فإنّي وإن كان الشباب محبّباً ... إليّ وفي قلبي أجلّ وأوقعا
لآنف من حسنٍ بشعري مفترى ... وآنف من حسنٍ بشعري قنّعا 9 - وقال الوزير أبو الوليد ابن حزم (1) :
إلك أبا حفصٍ وما عن ملالة ... ثنيت عناني والحبيب حبيب
مقالاً يطير الجمر عن جنباته ... ومن تحته قلبٌ عليك يذوب
مضت لك في أفياء ظلّي قولة ... لها بين أحناء الضّلوع دبيب
ولكن أبى إلا إليك التفاته ... فزاد عليه من هواك رقيب
وكم بيننا لو كنت تحمد ما مضى ... إذ العيش غضٌّ والزمان قشيب
وتحت جناح الغيم أحشاء روضةٍ ... بها لخفوق العاصفات وجيب
وللزهر في ظلّ الرياض تبسّمٌ ... وللطير منها في الغصون نحيب وقال في الزهد:
ثلاثٌ وستون قد جزتها ... فماذا تؤمّل أو تنتظر
وحلّ عليك نذير المشيب ... فما ترعوي أو فما تزدحر
تمرّ لياليك مراً حثيثاً ... وانت على ماأرى مستمر
فلو كنت تعقل ما ينقضي ... من العمر لاعتضت خيراً بشرّ
فما لك لا تستعدّ إذن ... لدار المقام ودار المقرّ
أترغب عن فجأةٍ للمنون ... وتعلم أن ليس منها مفرّ
__________
(1) المطمح: 31 - 34.(3/553)
فإمّا إلى جنّة أزلفت ... وإمّا إلى سقرٍ تستعر 10 - وقال ابن أبي زمنين (1) :
الموت في كلّ حينٍ ينشر الكفنا ... ونحن في غفلةٍ عمّا يراد بنا
لا تطمئنّ إلى الدنيا وبهجتها ... وإن توشّحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبّة والجيران ما فعلوا ... أين الذين هم كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأساً غير صافيةٍ ... فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا
تبكي المنازل منهم كلّ منسجمٍ ... بالمكرمات وترثي البر والمننا
حسب الحمام لو ابقاهم وأمهلهم ... ان لا يظنّ على معلوّةٍ حسنا وقال في المطمح: الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين فقيه متبتل، وزاهد لا منحرف إلى الدنيا ولا منفتل (2) ، هجرها هجر المنحرف، وحل أوطانه فيها محل المعترف، لعلمه بارتحاله (3) عنها وتقويضه (4) ، وإبداله منها وتعويضه، فنظر بقلبه لا بعينه، وانتظر يوم فراقه وبينه، ولم يكن له بعد ذلك بها اشتغال، ولا في شعاب تلك المسائل إيغال، وله تواليف في الوعظ والزهد وأخبار الصالحين تدل على تخليته عن الدنيا واتراكه، والتلفت من حبائل الاغترار وأشراكه، والتنقل من حال إلى حال، والتأهب للارتحال، ويستدل به على ذلك الانتحال، فمنها قوله:
الموت في كلّ حينٍ ينشر الكفنا
فذكر الأبيات، انتهى.
__________
(1) المطمح: 49 - 50 وزاد في م: في الزهد.
(2) المطمح: متنقل.
(3) ق ب: بارتحالها عنه.
(4) في الأصول: وتفويضه.(3/554)
11 - وقال خلف بن هرون يمدح الحافظ أبا محمد ابن حزام (1) :
يخوض إلى المجد والمكرمات ... بحار الخطوب وأهوالها
وإن ذكرت للعلا غايةُ ... ترقّى إليها وأهوى لها وقال في المطمح فيه:
فقيه مستبط، ونبيه بقياسه مرتبط، ما تكلم تقليداً، ولا عدا (2) اختراعاً وتوليداً، ما تمنت به الأندلس أن تكون كالعراق، ولا حنت الأنفس معه إلى تلك الآفاق، أقام بوطنه، وما برح عن عطنه فلم يشرب ماء الفرات، ولم يقف عيشة الثمرات (3) ، ولكنه أربى على من من ذلك غذي، وأزرى على من هنالك نعل وحذي، تفرد بالقياس، واقتبس نار المعارف أي اقتباس، فناظر بها أهل فاس، وصنف وحبر حتى أفنى الأنقاس، ونابذ الدنيا، وقد تصدت له بأفتن محيا، وأهدت إليه أعبق عرف وريا، وخلع الوزارة وقد كسته ملاها، وألبسته حلاها، وتجرد للعلم وطلبه، وجد في اقتناء نخبه، وله تآليف كثيرة، وتصانيف أثيرة، منها " الإيصال إلى فهم كتاب الخصال " وكتاب " الإحكام لأصول الأحكام " وكتاب " الفصل (4) في الأهواء والملل والنحل " وكتاب " مراتب العلوم " (5) وغير ذلك، مما لم يظهر مثله من هنالك، مع سرعة الحفظ، وعفاف اللسان واللحظ، وفيه يقول خلف بن هرون:
يخوض إلى المجد والمكرمات ... ولابن حزم في الأدب سبقٌ لا ينكر، وبديهة لا يعلم انه روى فيها ولا
__________
(1) المطمح: 55 - 56.
(2) المطمح: تعدى.
(3) كذا، ولعله: عشية السمرات.
(4) م ب ق: القصد.
(5) هذه رسالة نشرتها ضمن " رسائل ابن حزم " (القاهرة 1954) .(3/555)
فكر، وقد أثبت من شعره ما يعلم أنه أوحد، وما مثله فيه أحد، ثم ذكر جملة من نظمه ذكرناها في غير هذا الموضع.
12 - وكتب أبو عبد الله ابن مسرة (1) إلى أبي بكر اللؤلؤي يستدعيه في يوم طين ومطر، لقضاء أرب من الأنس ووطر:
أقبل فإنّ اليوم يوم دجن ... إلى مكانٍ كالضمير مكني
لعلّنا نحكم أشهى فنّ ... فأنت في ذا اليوم أمشى مني وقال في المطمح: إن ابن مسرة كان على طريق من الزهد والعبادة سبق فيها، وانتسق في سلك مقتفيها، وكانت له إشارة غامضة، وعبارة عن منازل الملحدين غير داحضة، ووجدت له مقالات ردية، واستباطات مردية، نسب بها إليه رهق، وظهر له فيها مزحل عن الرشد ومزهق، فتتبعت مصنفاته بالحرق، واتسع في استباحتها الخرق، وغدت مهجورة، على التالين محجورة، وكان له تنميق في البلاغة وتدقيق لمعانيها، وتزويق لأغراضها وتشييد لمبانيها، انتهى. وهو من نمط الصوفية الذين تكلم فيهم، والتسليم أسلم، والله تعالى بأمرهم أعلم.
13 - ومن حكايات أهل الأندلس في الانقباض عن السلطان، والفرار من المناصب، مع العذر اللطيف: ما حكاه في المطمح في ترجمة الفقيه أبي عبد الله الخشني (2) إذ قال: كان فصيح اللسان، جزيل البيان (3) ، وكان أنوفاص منقبضاً عن السلطان، لم يتشبث بدنيا، ولم ينكث له مبرم عليا، دعاه الأمير محمد إلى
__________
(1) المطمح: 58.
(2) المطمح: 56 - 57 وفي ب م: الحسني.
(3) ب: التبيان.(3/556)
القضاء فلم يجب، ولم يظهر رجاءه المحتجب، وقال: أبيت عن أمانة هذه الديانة، كما أبت السموات والأرض عن حمل الأمانة، إباية إشفاق، لا إباية عصيان ونفاق، وكان الأمير قد أمر الوزراء بإجباره، أو حمل السيف إن تمادى على تأبيه وإصراره، فلما بلغه قوله هذا أعفاه، قال: وكان الغالب عليه علم النسب، واللغة والأدب، ورواية الحديث، وكان مأموناً ثقة، وكانت القلوب على حبه متفقة، وله رحلة دخل العراق، ثم عاد إلى هذه الآفاق، وعندما اطمأنت داره، وبلغ أقصى مناه مداره، قال:
كأن لم يكن بينٌ ولم تك فرقةٌ ... الأبيات، انتهى.
وهذه الأبيات قدمناها في الباب الخامس في ترجمة القاضي ابن أبي عيسى.
فأنت ترى كلام الفتح قد اضطرب في نسبتها، فمرة نسبها إلى هذا ومرة نسبها إلى ذاك، وهي قطعة عرفها ذاكٍ.
398 - ومن دعابات أهل الأندلس وملحهم: ما يحكى عن ابن أبي حلى، وهو علي بن أبي حلى المكناسي (1) أبو الحسن، قال لسان الدين: كان شيخاً مليح الحديث، حافظاً للمسائل الفقهية، قائماً على المدونة (2) ، مضطلعاً بمشكلاتها، كثير الحكايات، يحكي أنه شاهد غرائب وتملحاً فينمقها عليه بعض الطلبة، ويتعدون ذلك إلى الافتعال والمداعبة، حتى جمعوا من ذلك جزءاً سموه " السالك والمحلى في أخبار ابن أبي حلى "، فمن ذلك أنه كانت له هرة فدخل البيت يوماً فوجدها قد بلت إحدى يديها وجعلتها في الدقيق حتى علق بها ونصبتها
__________
(1) م: الكناني.
(2) م ب: الدولة.(3/557)
بإزاء كوة فأر ورفعت اليد الأخرى لصيده، فناداها باسمها، فردت رأسها، وجعلت إصبعها على فمها، على هيئة المشير بالصمت، وأشباه ذلك، وتوفي المذكور سنة 406، قاله في الإحاطة.
399 - ومن أجوبة ملوك الأندلس: ان نزاراً العبيدي صاحب مصر كتب إلى المرواني صاحب الأندلس كتاباً يسبه فيه ويهجوه، فكتب إليه المرواني: أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك، والسلام، فاشتد ذلك على نزار وأفحمه عن الجواب، وحكي أنه كتب إلى العبيدي ملك مصر مفتخراً (1) :
ألسنا بني مروان كيف تبدلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر
إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر [حريز بن عكاشة]
400 - ومن غريب ما يحكى من قوة أهل الأندلس وشجاعتهم: أن الأمير حريز بن عكاشة (2) من ذرية عكاشة بن محصن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بساحة أذفونش (3) ملك ملوك الروم، فبدأهم بخراب ضياعها وقطع الشجر، فكتب إليه حريز: ليس من أخلا ق القدير، الفساد والتدمير، فإن قدرت على البلاد أفسدت ملكك، ولو كان الملك في عشرة أمثال عددي لم ينزل لي بساحة، ولا تمكن منها براحة، فلما وصلته الرسالة عف، وأمر بالكف، وبعث الملك يرغبه في الاجتماع به، فاسترهنه في نفسه عدة من ملوك
__________
(1) مر البيتان ص: 188.
(2) قد مر شيء عنه ص: 358 وانظر الحلة 2: 176 - 179.
(3) الحلة: 179 والمطمح: 30.(3/558)
الروم، فأجاب إلى ما ارتهن، ولما صاروا بالمدينة البيضاء - وهي قلعة رباح غربي طليطلة - خرج حريز لابساً لأمة حربه، يرمق الروم منه شخصاً أوتي بسطة في الجسم والبسالة يتعجبون من آلات حربه، ويتحدثون بشجاعة قلبه. ولما وصل فسطاط الملك تلقته الملوك بالرحب والسعة، ولما أراد النزول عن فرسه ركز رمحه، فأبصر الملك منه هيئة تشهد له بما عنه حدث، وهيبة يجزع للقائها الشجاع ويكترث، فدعاه إلى البراز عظيم أبطالهم، فقال له الملك: يا حريز أريد أن أنظر إلى مبارزتك هذا البطل، فقال له حريز: المبارز لا يبارز إلا أكفاءه، وإن لي بينة إلى صدق قولي أن ليس لي فيهم كفء، هذا رمحي قد ركزته، فمن ركب واقتلعه بارزته، كان واحداً أو عشرة، فركب عظيمهم فلم يهز الرمح من مكانه حين رامه، ثم فعل ذلك مراراً، فقال له الملك: أرني يا حريز كيف تقلعه، فركب وأشار بيده واقتلعه، فعجب القوم، ووصله الملك وأكرمه، انتهى.
وكان حريز هذا شاعراً، ولما اجتاز به كاتب ابن ذي النون الوزير أبو المطرف ابن المثنى كتب إليه (1) :
يا فريداً دون ثان ... وهلالاً في العيان
عدم الراح فصارت ... مثل دهن البلسان فجاوبه حريز، وهو يومئذٍ أمير قلعته:
يا فريداً لا يجارى ... بين أبناء الزّمان
جاء من شعرك روضٌ ... جاده صوب البيان
فبعثناها سلافاً ... كسجاياك الحسان
__________
(1) مرت هذه الحكاية ص: 358 وانظر الحلة 2: 179 والمطمح: 30.(3/559)
وكان لحريز كاتب يقال له عبد الحميد بن لاطون فيه تغفل شديد، فأمره ان يكتب إلى المأمون بن ذي النون في شان حصنٍ دخله النصارى، فكتب: وقد بلغني أن الحصن الفلاني دخله النصارى إن شاء الله تعالى، فهذه الواقعة التي ذكرها الله تعالى في القرآن، بل هي الحادثة الشاهدة بأشراط الزمان، فإنا لله على هذه المصيبة التي هدت قواعد المسلمين، وأبقت في قلوبهم حسرة إلى يوم الدين. فلما وصل الكتاب للمأمون ضحك حتى وقع للأرض، وكتب لابن عكاشة جوابه، وفيه: وقد عهدناك منتقياً لأمورك، نقاداً لصغيرك وكبيرك، فكيف جاز عليك أمر هذا الكتاب الأبله الجلف، وأسندت إليه الكتب عنك دون أن تطلع عليه، وقد علمت أن عنوان الرجل كتابه، ورائد عقله خطابه، وما أدري من أي شيء يتعجب منه، هل من تعليقه إن شاء الله تعالى بالماضي أم من حسن تفسيره للقرآن ووضعه مواضعه أم من تورعه عن تأويله إلا بتوقيف من سماع عن إمام أم من تهويله لما طرأ على من يخاطبه أم من علمه بشأن هذا الحصن الذي لو أنه في القسطنطينية العظمى ما زاد عن عظمه وهو له شيئاً ولو أن حقيراً يخفى عن علم الله تعالى لخفي عنه هذا الحصن، ناهيك من صخرة حيث لا ماء ولا مرعى، منقطع عن بلاد الإسلام، خارج عن سلك النظام، لا يعبره إلا لص فاجر، أو قاطع طريق غير متظاهر، حراسه لا يتجاوزون الخمسين، ولا يرون خبز البر عندهم إلا في بعض السنين، باعه أحدهم بعشرين ديناراً، ولعمري إنه لم يغبن في بيعه ولا ربح أرباب ابتياعه، وأراح من الشين بنسبته والنظر في خداعه، فليت شعري ما الذي عظمه في عين هذا الجاهل، حتى خطب في أمره بما لم يخطب به في حرب وائل.
فلما وقف حريز على الكتاب كتب لابن ذي النون جواباً منه: وإن المذكور ممن له حرمة قديمة، تغنيه عن أن يمت بسواها، وخدمة محمود أولاها وأخراها، ولسنا ممن اتسعت مملكته، وعظمت حضرته، فنحتاج إلى انتقاء الكتاب، والتحفظ في الخطاب، وإنما نحن أحلاس ثغور، وكتاب كتائب(3/560)
لا سطور، وإن كان الكاتب المذكور لا يحسن فيما يلقيه على القلم، فإنه يحسن كيف يصنع في مواطن الكرم، وله الوفاء الذي تحدث به فلان وفلان، بل سارت بشأنه في أقصى البلاد الركبان، وليس ذلك يقدح عندنا فيه، بل زاده لكونه دالاً على صحة الباطن والسذاجة في الإكرام والتنويه، انتهى.
ولهذا الكاتب شعر يسقط فيه سقوط الأغبياء، وقد يتنبه فيه تنبه الأذكياء، فمنه قوله في قصيدة يمدح حريزاً المذكور مطلعها:
يذكرني بهم العنبر ... وظلم ثناياهم سكّر إلى أن قال:
ولولا معاليك يا ذا النّدى ... لما كان في الأرض من يشعر
فلا تنكرنّ زحاماً على ... ذراك وفي كفّك الكوثر ومشى في موكبه وهم في سفر، وكان في فصل المطر والطين، فجعل فرسه في ذنب فرس ابن عكاشة، فلما أثارت يدا فرسه طيناً جاء في عنق أميره، ففطن لذلك الأمير، فقال له: يا أبا محمد، تقدم، فقال: معاذ الله أن أسيء الأدب بالتقدم على أميري، فقال: فإن كان ذلك فتأخر مع الخيل، فقال: مثلي لا يزال عن ركابك في مثل هذه المواضع، فقال له: فقد والله أهلكتني بما ترمي يدا فرسك علي من الطين، فقال: أعز الله الأمير، يعذرني، فوالله ما علمت أن يد فرسي تصل إلى عنقك، فضحك ابن عكاشة حتى كاد يسقط عن مركوبه.
401 - وكان بسرقسطة غلام اسمه يحيى بن يطفت من بني يفرن، قد نشأ عند ملكها المقتدر بن هود، وتخلق بالركوب والأدب، وكان في غاية الجمال والحلاوة والظرف فعلق بقلب ابن هود، وكتم حبه زماناً فلم ينكتم، فكتب له:
يا ظبي بالله قل لي ... متى ترى في حبالي(3/561)
يمرّعمري وحالي ... في خيبتي منك خالي فكتب له الغلام في ظهر الرقعة:
إن كنت ظبياً فأنت ال ... هزبر تبغي اغتيالي
وليس يخطر يوماً ... حلول غيلٍ ببالي ثم كتب بعدهما: هذا ما اقتضاه حكم الجواب في النظم، وأنا بعد قد جعلت رسني بيد سيدي، فعسى أن يقودني إلى ما أحب، لا ما أكره، والذي أحبه أن يكون بيننا من المحبة ما يقضي بدوام الإخلاص، ونأمن في مغبته من العار والقصاص، فتركه مدة، ثم كتب له يوماً على الصورة التي ذكرها:
ماذا ترى في يوم أمنٍ طرّزت ... حلل السحاب به البروق المذهبة
وأنا وكاسي لا جليسٌ غيره ... ملآن لا يخلو إلى أن تشربه
والأنس إن يسّرته متيسّرٌ ... ومتى تصعّبه فيا ما أصعبه فأجابه:
يا مالكاً بذّ الملوك بعلمه ... وخلاله وعلوّه في المرتبه
وافى نداك فحرت عند جوابه ... إذ ما تضمّن ريبةً مستغربه
إنّا إذا نخلو، تقوّل حاسدٌ ... وغدا بهذا الأمر ينصر مذهبه
هبني إلى يومٍ تطيش به النّهى ... والبيض تنضى والقنا متأشبّه
وهناك فانظرني بعين بصيرةٍ ... فالشّبل يعرف أصله من جرّبه ثم أعلاه إلى درجة الوزارة والقيادة، إلى أن قتل في جيش كان قدمه عليه، فقال فيه من قصيدة:
يا صارماً أغمدته ... عن ناظريّ الصّوارم(3/562)
وزهرة غيّبتها ... من الطيور كمائم
يا كوكباً خرّ من أن ... جمي وأنفي راغم
بكت عليّ وشقّت ... جيوبهنّ الغمائم
قل للحمائم إنّي ... أصبحت أحكي الحمائم
وأنثر الدمع مهما ... رأيت للزهر باسم
تالله لا لذّ عيشٌ ... لمترفٍ لك عادم 402 - ولما رحل الوزير عبد البر بن فرسان من وادي آش إلى علي الميورقي صاحب فتنة إفريقية أقبل عليه، ثم ولي أخوه يحيى الإمارة بعده، فأسند جميع أموره إليه، فقال يخاطبه:
أجبناً ورمحي ناصري وحسامي ... وعجزاً وعزمي قائدي وإمامي
ولي منك بطّاش اليدين غضنفر ... يحارب عن أشباله ويحامي
ألا غنّياني بالصّهيل فإنّه ... سماعي ورقراق الدماء مدامي
وحطّا على الرمضاء رحلي فإنّها ... مهادي وخفّاق البنود خيامي 403 - وكان الأمير أبو عبد الله ابن مردنيش (1) ملك شرق الأندلس من أبطال عصره، وكان يدفع في المواكب، ويشقها يميناً وشمالاً منشداً:
أكرّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها حتى إنه دفع مرة في مواكب النصارى، فصرع منهم وقتل، وظهر منه ما أعجبت به نفسه، فقال لشخص من خواصه عالم بأمور الحرب: كيف رأيت فقال: لو رآاك السلطان لزاد فيما لك في بيت المال، وأعلى مرتبتك، أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام، ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك من
__________
(1) مرت هذه الحكاية ص: 210.(3/563)
معه فقال له: دعني فإني لا أموت مرتين، وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي.
404 - ومن حكاياتهم في الظرف (1) : أن القاضي أبا عبد الله محمد بن عيسى من بني يحيى بن يحيى خرج إلى حضور جنازة، وكان لرجل من إخوانه منزل بقرب مقبرة قريش، فعزم عليه في الميل إليه، فنزل وأحضر له طعاماً، وغنت جارية:
طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزهت بحمرة وجهك التفاح
وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... نمت بعرف نسيمك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجى مصباح فكتبها القاضي طرباً على ظهر يده (2) ، قال الراوي: فلقد رأيته يكبر على الجنازة والأبيات على ظهر يده.
405 - ومن حكاياتهم في البلاغة ما ذكر في " المطمح " أن أبا الوليد ابن عيال (3) لما انصرف من الحج اجتمع مع أبي الطيب في مسجد عمرو بن العاص بمصر، ففاوضه قليلاً، ثم قال له: أنشدني لمليح الأندلس، يعني ابن عبد ربه، فأنشده:
يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا ... ورشاً بتعذيب القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّاً يعود من الحياء عقيقا
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقا
يا من تقطّع خصره من رقّةٍ ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا
__________
(1) انظر الجذوة: 70.
(2) الجذوة: على باطن كفه.
(3) المطمح: 52 وفيه أبا الوليد ابن عباد؛ وفي م: ابن عتال.(3/564)
فلما كمل إنشادها استعادها، ثم صفق بيديه وقال: يا ابن عبد ربه، لقد تأتيك العراق حبواً، انتهى.
406 - وقال مؤلف كتاب " واجب الأدب " (1) : مما يجب حفظه من مخترعات الأندلسيين قول ابن عبد ربه (1) :
يا ذا الذي خطّ العذار بخدّه ... خطيّن هاجا لوعةً وبلابلا
ما كنت أقطع أنّ لحظك صارمٌ ... حتى حملت من العذار حمائلا 407 - وحكي أن الوزير أبا الوليد ابن زيدون (3) توفيت ابنته، وبعد الفراغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم، فقيل: إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة قالها لأحد، قال الصفدي: وهذا من التوسع في العبارة، والقدرة على التفنن في أساليب الكلام، وهو أمر صعب إلى الغاية، وأرى أنه أشق مما يحكى عن واصل بن عطاء أنه ما سمعت منه كلمة فيها راء، لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة، والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهويله أن واصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة مما ليس فيه راء، وهذا كثير في كلام العرب، فإذا أراد العدول عن لفظ فرس قال جواد أو ساعٍ أو صافن، أو العدول عن رمح قال قناة أو صعدة أو يزني أو غير ذلك، أو العدول عن لفظ صارم قال حسام أو لهذم أو غير ذلك، وأما ابن زيدون فأقول في حقه إنه أقل ما كان في تلك الجنازة، وهو وزير، ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له، ويضطر إلى ذلك، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر، وهذا كثير إلى الغاية، لا سيما من محزون، فقد
__________
(1) هو والد الأديب الجغرافي علي بن موسى بن سعيد.
(1) هو والد الأديب الجغرافي علي بن موسى بن سعيد.
(3) انظر الذخيرة 1 / 1: 200 وسرح العيون: 4.(3/565)
قطعةً من كبده:
ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب وقد استعمل الحريري هذا في مقاماته عندما يذكر طلوع الفجر، وهو من القدرة على الكلام، وأرى الخطيب ابن نباتة ممن لا يلحق في هذا الباب، فإنه أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها: يأيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه راجعون، وهذا أمر بارع معجز، والناس يذهلون عن هذه النكتة فيه، انتهى كلام الصفدي ملخصاً.
وقال في الوافي، بعد ذكره جملةً من أحوال ابن زيدون، ما نصه: وقال بعض الأدباء: من لبس البياض، وتختم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو، وتفقه للشافعي، وروى شعر ابن زيدون، فقد استكمل الظرف. وكان يسمى بحتري المغرب لحسن ديباجة نظمه، وسهولة معانيه، انتهى.
رجع إلى كلام أهل الأندلس:
408 - وكان الأديب المحدث أبو الربيع سليمان بن علي الشلبي الشهير بكثير (1) يهوى من يتجنى عليه ويقول: إنه أبرد من الثلج، فخاطبه كثير بقوله:
يا حبيباً له كلامٌ خلوب ... قلّبت في لظى هواه القلوب
كيف تعزو إلى محبّك برداً ... ومن الحبّ في حشاه لهيب
أنت شمسٌ وقلت إني ثلجٌ ... فلهذا إذا طلعت أذوب
__________
(1) هناك من يترجم له ابن سعيد (في المغرب 1: 398 والقدح: 189) باسم كثير العلياوي نسبة إلى العليا وهي من قرى شلب، وهو يقول فيه: أديب مشهور في عصرنا، كان بإشبيلية ورحل إلى بجاية فأكثر كلامه فيما لا يعنيه فضرب وجرس ونفي في البحر؛ ويقول إنه كان يتجنب مجالسته بإشبيلية لأنها تجلب مشارته لحدة فيه، ولا أقطع بأنه علي بن سليمان الشلبي هذا.(3/566)
409 - وقال ابن مهران مما يشتمل على أربعة أمثال (1) :
المال زينٌ، والحياة شهيّةٌ، ... والجود يفقر، والشجاعة تقتل
والبخل عيبٌ، والجبان مذمّمٌ، ... والقصد أحكم، والتوسط أجمل 410 - وقال ابن السيد البطليوسي متغزلاً (2) :
نفسي الفداء لجؤذرٍ حلو اللّمى ... مستحسن بصدوده أضناني
في فيه سمطا جوهرٍ يروي الظما ... لو علّني ببروده أحياني ويخرج من هذه القطعة عدة قطع.
411 - وقال ابن صارة مضمناً (3) :
إلى كم ينفر (4) الدينار منّي ... ويطلب كفّ من عنه يحيد
ألم أنشده في وادي هيامي ... به لو كان يعطفه النشيد
حبيبي أنت تعلم ما أريد ... ولكن لا ترقّ ولا تجود
وكم غنّيت حين تنكبتني ... منىً شيطانها أبداً مريد
" يريد المرء أن يؤتى مناه ... ويأبى الله إلا ما يريد " 412 - وقال ذو الرياستين أبو مروان عبد الملك بن رزين (5) :
بالله إن لم تزدجر ... يا مشبه البدر المنير
__________
(1) لعله سليمان بن مهران السرقسطي (الجذوة: 209 وبغية الملتمس رقم: 773 والذخيرة 3: 157 والمغرب 2: 442 والمسالك 11: 447) .
(2) مر البيتان، انظر ص: 287.
(3) الأبيات في الذخيرة (2: 327) .
(4) في الأصول: ينفد، والتصويب عن الذخيرة.
(5) مر بيتان من هذه الثلاثة ص: 291.(3/567)
لأسرّحنّ نواظري ... في ذلك الورد النضير
ولآكلنّك بالمنى ... ولأشربنّك بالضمير 413 - وقال ابن عبد ربه (1) :
اشرب على المنظر الأنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي
واحلل وشاح الكعاب رفقاً ... خوفاً على خصرها الرقيق
وقل لمن لام في التصابي ... خلّ قليلاً عن الطريق وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً من بلاغة أهل الأندلس في الجد والهزل ما فيه مقنع لمن اقتصر عليه.
414 - ومن حكاياتهم في عدم احتمال الضيم والذل والوصف بالأنفة: أنه لما ثار أيوب بن مطروح في المائة الخامسة في الفتنة على ملك غرناطة عبد الله بن بلقين بن حبوس وخاض بحار الفتنة حتى رماه موجها فيمن رمى على الساحل، وحصل فيما بث عليهم يوسف بن تاشفين من الحبائل، وكانت له همة وأنفة عظيمة، وخلع عن إمارته، وحصل في حبالته، أدخل رأسه تحته، فانتظر من حضر معه أن يتكلم أو يخرج رأسه، فلم يكن إلا قليل حتى وقع ميتاً، رحمه الله تعالى.
415 - ولما ثار الميورقي بإفريقية على بني عبد المؤمن الثورة المشهورة، وخدمه جملة من أعيان أهل الأندلس، وكان من جملتهم مالك بن محمد بن سعيد العنسي (2) ، كتب عنه من رسالة: وبعد، فإنا لا نحتاج لك إلى برهان على أمير لسانه الحسام، وأيده التأييد الرباني الذي لا يرام، قد نصب خيامه
__________
(1) العقد 6: 285، 427.
(2) انظر ترجمة مالك في المغرب 2: 171.(3/568)
بالبراح، ولم يتخذ سوراً غير سمر القنا وبيض الصفاح، له من العزم ردء (1) ومن الرأي كمين (2) :
إذا صدق الحسام ومنتضيه ... فكلّ قرارةٍ حصنٌ حصين وهو من القوم الذين لا يجورون على جار، ولا يرحلون بخزية ولا يتركون من عار، دينهم دين التقوى، وإن كنت من ذلك في شك فاقدم علينا حتى يصح لك اختبار الذهب بالسبك، وأنت بالخيار في الظعن والإقامة، فإن حللت نزلت خير منزل، وإن رحلت ودعت أفضل وداع، وسرت في كنف السلامة، إذ قد شهرنا بأنا لا نقيد إلا بالإحسان، وأن ندع لاختياره كل إنسان.
416 - ومن حكايات أهل الأندلس في الجود والفضل ومكارم الأخلاق (3) : أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد بن عباد، فأدخلت عليه جملة من دنانير السكة، فأمر له بخريطتين منها، وبين يديه تصاوير عنبر من جملتها صورة جمل مرصع بنفيس الدر، فقال أبو العرب: ما يحمل هذه الدنانير إلا جمل، فتبسم المعتمد وأمر له به، فقال:
أعطيتني (4) جملاً جوناً شفعت به ... حملاً من الفضّة البيضاء لو حملا
نتاج جودك في أعطان مكرمةٍ ... لا قدّ تعرف من منعٍ ولا عقلا
فاعجب لشأني فشأني كله عجبٌ ... رفّهتني فحملت الحمل والجملا ومن نظم أبي العرب المذكور:
إلام اتباعي للأماني الكواذب ... وهذا طريق المجد بادي المذاهب
__________
(1) في الأصول: رداء.
(2) البيت للأعمى التطيلي، ديوانه: 202 (البيت رقم: 21) .
(3) بدائع البدائه 2: 136.
(4) البدائع: أجديتني.(3/569)
أهمّ ولي عزمان: عزمٌ مشرّقٌ ... وآخر يثني همّتي للمغارب
ولا بدّ لي أن أسأل العيس حاجةً ... تشقُّ على أخفاقها والغوارب
إذا كان أصلي من ترابٍ فكلّها ... بلادي وكلّ العالمين أقاربي 417 - وذكر الحافظ الحجاري في " المسهب " أنه سأل عمه أبا محمد عبد الله بن إبراهيم (1) عن أفضل من لقي من أجواد تلك الحلبة، فقال: ياابن أخي، لم يقدر أن يقضي لي الاستمطار بهم، في شباب أمرهم قد هرم، وساءت بتغير الأحوال ظنونهم، وملوا الشكر، وضجروا من المروءة، وشغلتهم المحن والفتن، فلم يبق فيهم فضل للإفضال وكانوا كما قال أبو الطيب:
أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرّهم وأتيناه على الهرم فإن يكن أتاه على الهرم فإنا أتيناه وهو في سياق الموت، ثم قال: ومع هذا فإن الوزير أبا بكر ابن عبد العزيز، رحمه الله تعالى، كان يحمل نفسه ما لا يحمله الزمان، ويبسم في موضع القطوب، ويظهر الرضى في حالة الغضب، ويجهد ألا ينصرف عنه أحدٌ غير راضٍ، فإن لم يستطع الفعل عوض عنه القول. قلت له: فالمعتمد بن عباد كيف رأيته فقال: قصدته وهو مع أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في غزوته للنصارى المشهورة، فرفعت له قصيدة منها:
لا روّع الله سرباً في رحابهم ... وإن رموني بترويعٍ وإبعاد
ولا سقاهم على ما كان من عطشٍ ... إلا ببعض ندى كفّ ابن عباد
ذي المكرمات التي مازلت تسمعها ... أنس المقيم وفي الأسفار كالزاد
يا ليت شعري ماذا يرتضيه لمن ... ناداه يا موئلي في جحفل النادي
__________
(1) ترجمة أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري في المغرب 2: 34.(3/570)
فلما انتهيت إلى هذا البيت قال: أما ما أرتضيه لك فلست أقدر في هذا الوقت عليه، ولكن خذ ما ارتضى لك الزمان، وأمر خادماً له فأعطاني ما أعيش في فائدته إلى الآن، فإني انصرفت به المرية، وكان يعجبني سكناها والتجارة بها، لكونها ميناء لمراكب التجار من مسلم وكافر، فتجرت فيها فكان إبقاء ماء وجهي على يديه، رحمة الله تعالى عليه. ثم أخذ البطاقة وجعل يجيل النظر والفكر في القصيدة، وانا مترقب لنقده، لكونه في هذا الشأن من أئمته، وكثيراً ما كان الشعراء يتحامونه لذلك إلا من عرف من نفسه التبريز، ووثق بها، إلى أن انتهى إلى قولي:
لا سقاهم على ما كان من عطش ... إلا ببعض ندى كف ابن عبّاد فقال: لأي شيء بخلت عليهم أن يسقوا بكفه فقلت: إذن كان يلحقني من النقد ما لحق ذا الرمة في قوله:
ولا زال منهلاًّ بجرعائك القطر (1) ... وكان طوفان نوح أهون عليهم من ذلك، فتألقت غرته، وبدت مسرته، وقال: إنا لله على أن لم يعنا الزمان على مكافأة مثلك. قال: وكنت ممن زاره بسجنه بأغمات، وحملتني شدة الحمية له والامتعاض لما حل به أن كتبت على حائط سجنه متمثلاً:
فإن تسجنوا القسريّ لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل ثم تفقدت الكتابة بعد أيام، فوجدت تحت البيت: لذلك سجناه (2) :
__________
(1) صدر البيت:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... (2) البيت التالي للمتنبي.(3/571)
ومن يجعل الضرغام في الصيد بازه ... تصيّده الضرغام فيما تصيدا فما أدرى من جاوب بذلك، ثم عدت له ووجدته قد محي، وأعلمت بذلك ابن عباد، فقال: صدق المجاوب، وأنا الجاني على نفسه، والحافر بيده لرمسه، ولما أردت وداعه أمر لي بإحسان على قدر ما استطاع، فارتجلت:
آليت لا أقبل إحسانكم ... والدّهر فيما قد عراكم مسي
ففي الذي أسلفتم غنيةٌ ... وإن يكن عندكم قد نسي قال: وفيه أقول من قصيدة:
يا طالب الإنصاف من دهره ... طلبت أمراً غير معتاد
فلو يكون العدل في طبعه ... لما عدا ملك ابن عبّاد وللحجاري المذكور كتاب في البديع سماه " الحديقة " وأنشد لنفسه فيه (1) :
وشادنٍ ينصف من نفسه ... أمنّني من سطوة الدهر
ينام للشرب على جنبه ... ويصرف الذنب إلى الخمر وله في فرس:
ومستبقٍ يّحار الطّرف فيه ... ويسلم في الكفاح من الجماح
كأنّ أديمه ليلٌ بهيمٌ ... تحجّل باليسير من الصباح
إذا احتدم التسابق صار جرماً ... تقلّب بين أجنحة الرياح 418 - وكتب أبو العلاء إدريس بن أزرق إلى ابن رشيق ملك مرسية، وقد طالت إقامته عند ابن عبد العزيز (2) :
__________
(1) البيتان في المغرب 2: 34.
(2) انظر ترجمته وشعره في الجذوة: 88 وبغية الملتمس رقم: 298.(3/572)
ألا ليت شعري هل أعود إلى الذي ... عهدت من النّعمى لديكم بلا جهد
فوالله مذ فارقتكم ما تخلّصت ... من الدهر عندي ساعةٌ دون ما كدّ
فمنّوا بإذنٍ كي أطير إليكم ... فلا عار في شوقٍ إلى المال والمجد ووقف بعض أعدائه على هذه الأبيات، فوشى بها إلى ابن عبد العزيز قاصداً ضرره، وكان ذلك في محفل ليكون أبلغ، فقال: والله لقد ذكرتني أمره، ولقد أحسن الدلالة على حاله، فإن الرجل كريم، وعلينا موضع اللوم، لا عليه، ووالله لأوسعنه مالاً ووجداً بقدر وسعي، ثم أخذ في الإحسان إليه حتى برّ يمينه، رحمه الله تعالى:
هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجدّ غير طرق المزاح 419 - ولنذكر جملة من بني مروان بالأندلس فنقول:
1 - قال محمد بن هشام المرواني صاحب كتاب " أخبار الشعراء " (1) :
وروضةٍ من رياض الحزن حالفها ... طلٌّ أطلت به في أفقها الحلل
كأنما الورد فيما بينها ملكٌ ... موفٍ ونوّارها من حوله خول وكان في مدة الناصر، وأدخل عليه يوماً ليذاكره، فاستحسنه، وأمره بالتزام بينه ليؤدبهم بحسن أدبه، ويتخلقوا بخلقه، فاستعفى من ذلك، وقال: إن الفتيان لا يتعلمون إلا بشدة الضبط والقيد والإغلاظ، وأنا أكره أن أعامل بذلك أولاد الخليفة فيكرهوني، وقد يحقد لي بعضهم ذلك إلى أن يقدر على النفع والضرر.
قالوا: وكان يتعشق المستنصر بالله ولي عهد الناصر وهو غلام، وله فيه:
__________
(1) ترجمته في الجذوة: 139 وبغية الملتمس رقم: 457.(3/573)
متّع بوجهك جفني ... يا كوكباً فوق غصن
يا من تحجّب حتّى ... عن كلّ فكرٍ وأذن
وخامر الخوف فيه ... فما يجول بذهن
فليس للطّرف والقل ... ب غير دمعٍ وحزن
فإنّني ذو ذنوبٍ ... وأنت جنّة عدن 2 - وقال أخوه أحمد بن هشام:
قطعت اللّيالي بارتجاء وصالكم ... وما نلت منكم غير متّصل الهجر
وما كنت أدري ما التصبر قبلكم ... فعّلمتموني كيف أقوى على الصبر
وما كنت ممّن يعلق الصبر فكرة ... ولكن خشيت الصبر يذهب بالعمر ومن حكاياتهم في علو الهمة: أنه كان سبب قراءته واجتهاده أنّه حضر مجلساً فيه القائد أحمد بن أبي عبدة، وهو غلام، فاستخبره القائد، فرآه بعيداً من الأدب والظرّف، ورأى له ذهناً قابلاً للصلاح، فقال: أيّ سيف لو كانت عليه حلية! فقامت من هذه الكلمة قيامته، وثابت له همة ملوكية عطف بها على الأدب والتعلم، إلى أن صار ابن أبي عبدة عنده كما كان هو عند ابن أبي عبدة أولاً، فحضر بعد ذلك معه، وجالا في مضمار الأدب، فرأى ابن أبي عبدة جواداً لا يشق غباره، فقال: ما هذا أين هذا مما كان فقال: عن كلمتك عملت في فكري ما أوجب هذا، فقال: والله إن هذه حلية تليق بهذا السيف، فجزاك الله عن همتك خيراً.
ثم قال له: سر، إن لي عليك حقاً إذ بعثتك على التأديب والتميز، فإذا حضرنا في جماعة فلا تتطاول على تقصيري، وحافظ على أن لا أسقط من العيون بإرباء غيري علي، فقال: لك ذلك وزيادة.
3 - وكان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط سيء الخلق في أول(3/574)
أمره، كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة، مفرط القلق مما يقال في جانبه، معاقباً على ذلك لمن يقدر على معاقبته، مكثر التشكي ممن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن، فطال ذلك على الأمير، فقال لوكيل خاص به عارف بالقيام بما يكلفه به: الموضع الفلاني الذي بالجبل الفلاني المنقطع عن العمران تبني فيه الآن بناء أسكن فيه ابني المنذر، وأوصاه بالاجتهاد فيه، ففرغ منه، وعاد إليه، فقال له: تعلم المنذر أني أمرته بالانفراد فيه، ولاتترك أحداً من أصحابه ولا أصحاب غيره يزوره، ولا يتكلم معه البتة، فإذا ضجر من ذلك وسألك عنه فقل له: هكذا أمر أبوك، فتولى الثقة ذلك على ما أمر به، ولما حصل المنذر في ذلك المكان وبقي وحده، وفقد خوله ومن كان يستريح إليه (1) ، ونظر إلى ماسلبه من الملك ضجر، فقال للثقة: عسى أن يصلني غلماني وأصحابي أتأنس بهم، فقال له الثقة: إن الأمير أمر أن لا يصلك أحد، وأن تبقى وحدك لتستريح مما يرفع لك أصحابك من الوشاية، فعلم أن الأمير قصد محنته بذلك وتأديبه، فاستدعى دواة وكتب إلى أبيه: إني قد توحشت في هذا الموضع توحشاً ما عليه من مزيد، وعدمت فيه من كنت آنس إليه، وأصبحت مسلوب العز فقيد الأمر والنهي، فإن كان ذلك عقاباً لذنبٍ كبير ارتكبته وعلمه مولاي ولم أعلمه فإني صابر على تأديبه، ضارع إليه في عفوه وصفحه:
وإنّ أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر، لا عارٌ بما فعل الدهر فلما وقف الأمير على رقعته، وعلم أن الأدب بلغ به حقه، استدعاه فقال له: وصلت رقعتك تشكو ما أصابك من توحش الانفراد في ذلك الموضع، وترغب أن تأنس بخولك وعبيدك وأصحابك، وإن كان لك ذنب يترتب عليه
__________
(1) ب: يفزع إليه.(3/575)
أن تطول سكناك في ذلك المكان، ومافعلت ذلك عقاباً لك، وإنما رأيناك تكثر الضجر والتشكي من القال والقيل، فأردنا راحتك بأن نحجب عنك سماع كلام من يرفع لك وينم، حتى تستريح منهم، فقال له: سماع ما كنت أضجر منه أخف علي من التوحد والتوحش والتخلي مماأنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي، فقال له: فإذ قد عرفت وتأدبت فارجع إلى ما اعتدته، وعول على أن تسمع كأنك لم تسمع، وترى كأنك لم تر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لو تكاشفتم ما تدافنتم "، واعلم أنك أقرب الناس إلي وأحبهم في، وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكار علي، وسخط لما أفعله في جانبك أو جانب غيرك، ما لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني، لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستر بعضها عن بعض فيما يجول فيها، وإنك لذو همة ومطمح، ومن يكن هكذا يصبر ويغض ويحمل، ويبدل العقاب بالثواب، ويصير الأعداء من قبيل الأصحاب، ويصبر من الشخص على ما يسوء، فقد يرى منه بعد ذلك ما يسر، ولقد يخف علي اليوم من قاسيت من فعله وقوله، ولو (1) قطعتهم عضواً عضواً لما ارتكبوه مني ما شفيت فيهم غيظي، ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال، لا سيما عند الاقتدار، أولى، ونظرت إلى جميع من حولي ممن يحسن ويسيء فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض، ونظرت إلى المسيء يعود محسناً، والمحسن يعود مسيئاً، وصرت أندم على من سبق له مني عقاب، ولا أندم على من سبق له مني ثواب، فالزم يا بني معالي الأمور، وإن جماعها في التغاضي، ومن لا يتغاضى لا يسلم له صاحب، ولا يقرب منه جانب، ولا ينال ما تترقى إليه همته، ولا يظفر بأمله، ولا يجد معيناً حين يحتاج إليه، فقبل المنذر يده وانصرف، ولم يزل يأخذ نفسه بما أوصاه والده حتى تخلق بالخلق الجميل، وبلغ ما أوصاه
__________
(1) ب: من لو.(3/576)
به أبوه، ورفع قدره.
ومن شعره في ابن عم له:
ومولىً أبى إلاّ أذاي وإنّني ... لأحلم عنه وهو بالجهل يقصد
توددته فازداد بعداً وبغضةً ... وهل نافعٌ عند الحسود التودد وقوله:
خالف عدوك فيما ... أتاك فيه لينصح
فإنما ينبغي أن ... تنام عنه فتربح ومن كرم نفسه أن أحد (1) التجار أهدى له جارية بارعة الحسن، واسمها طرب، ولها صنعة في الغناء حسنة، فعندما وقع بصره على حسنها ثم أذنه على غنائها أخذت بمجامع قلبه، فقال لأحد خدامه: ماترى أن ندفع لهذا التاجر عوضاً عن هذه الجارية التي وقعت منا أحسن موقع فقال: تقدر ما تساوي من الثمن وتدفع له بقدرها، فقومت بخمسمائة دينار، فقال المنذر للخديم: ما عندك فيما ندفع له فقال: الخمسمائة، فقال: إن هذا للؤم، رجل أهدى لنا جارية، فوقعت منا موقع استحسان، نقابله بثمنها، ولو أنه باعها من يهودي لوجد عنده هذا، فقال له: إن هؤلاء التجار لؤماء بخلاء، وأقل القليل يقنعهم، فقال: وإنا كرماء سمحاء، فلا يقنعنا القليل لمن نجود عليه، فادفع له ألف دينارٍ، واشكره على كونه خصنا بها، وأعلمه بأنها وقعت منا موقع رضى.
وفيها يقول:
__________
(1) م: بعض.(3/577)
ليس يفيد السرور والطرب ... إن لم تقابل لواحظي طرب
أبهت في الكأس لست أشربها ... والفكر بين الضلوع يلتهب
يعجب مني معاشرٌ جهلوا ... ولو رأوا حسنها لما عجبوا وقال له أبوه يوماً: إن فيك لتيهاً مفرطاً، فقال له: حق لفرعٍ أنت أصله أن يعلو، فقال له: يابني إن العيون تمج التائه، والقلوب تنحرف عنه، فقال: ياأبي لي من العز والنسب وعلو المكان والسلطان ما يجمل من ذلك، وإني لم أر العيون إلا مقبلة علي، ولا الأسماع إلا مصغية إلي، وإن لهذا السلطان رونقاً يرنقه (1) التبذل، وعلواً يخفضه الانبساط، ولا يصونه ويشرفه إلا التيه والانقباض، وإن هؤلاء الأنذال لهم ميزان يسبرون به الرجل منا، فإن رأوه راجحاً عرفوا له قدر رجاحته، وإن رأوه ناقصاً عاملوه بنقصه، وصيروا تواضعه صغراً، وتخضعه (2) خسةً، فقال له أبوه: لله أنت فابق وما رأيت.
4 - وكان له أخ أديب أيضاً اسمه المطرف بن عبد الرحمن الأوسط، ومن شعره:
أفنيت عمري في الشّر ... ب والوجوه الملاح
ولم أضيّع أصيلاً ... ولا اطلاع صباح
أحيي الليالي سهداً ... في نشوةٍ ومراح
ولست أسمع ماذا ... يقول داعي الفلاح والعياذ بالله من هذا الكلام، وحاكي الكفر ليس بكافر.
وعتبه أحد إخوانه على هذا القول فقال: إني قلته وأنا لا أعقل، ولم أعلم أنه يحفظ عني، وأنا أستغفر الله تعالى منه، والذي يغفر الفعل أكرم من
__________
(1) م ب: يريقه.
(2) ب: وتخفضه.(3/578)
أن يعاقب على القول.
ومن جيد شعره قوله:
يا أخي فرّقت صروف الليالي ... بيننا غير زورة الأحلام
فغدونا بعد ائتلافٍ وقربٍ ... نتناجى بألسن الأقلام 5 - وقال أخوهما الثالث هشام بن عبد الرحمن فيمن اسمه ريحان:
أحبك يا ريحان ما عشت دائماً ... ولو لامني في حبك الإنس والجان
ولولاك لم أهو الظّلام وسهده ... ولا حبّبت لي في ذرا الدار غربان
وما أعشق الريحان إلاّ لأنّه ... شريكك في اسمٍ فيه قلبي هيمان
على أنّه لم يكمل الظرف مجلسٌ ... إذا لم يكن فيه مع الراح ريحان وله فيه:
إذا أنا مازحت الحبيب فإنّما ... قصدت شفاء الهمّ في ذلك المزح
فما العيش إلاّ أن أراه مضاحكاً ... كما ضحك الليل البهيم عن الصبح 6 - وقال أخوهم الرابع يعقوب بن عبد الرحمن (1) :
إذا أنا لم أجد يوماً وقومي ... لهم في الجود آثار عظام
فمن يرجى لتشييد المعالي ... إذا قعدت عن الخير الكرام ومدحه بعض الشعراء، فأمر له بمال جزيل، فلما كان مثل ذلك الوقت جاءه بمدح آخر، فقال أحد خدام يعقوب: هذا اللئيم له دين عندنا جاء يقتضيه فقال الأمير: يا هذا، إن كان الله تعالى خلقك مجبولاً على كره رب الصنائع
__________
(1) ترجمة يعقوب في الحلة السيراء 1: 124 وقال فيه: " كان أديبا شاعرا مطبوعا كلفا بالعلوم جوادا لا يليق شيئا ".(3/579)
فاجر على ما جبلت عليه نفسك، ولا تكن كالأجرب يعدي غيره، وإن هذا الرجل قصدنا قبل، فكان منا له ما أنس به وحمله على العودة، وقد ظن فينا خيراً، فلا نخيب ظنه، والحديث أبداً يحفظ القديم، وقد جاءنا على جهة التهنئة بالعمر، ونحن نسأل الله تعالى أن يطيل عمرنا حتى يكثر ترداده، ويديم نعمنا حتى نجد ماننعم به عليه، ويحفظ علينا مروءتنا حتى يعيننا على التجمل معه، ولا يبلينا بجليس مثلك يقبض أيدينا عن إسداء الأيادي، وأمر للشاعر بما كان أمر له به قبل، وأوصاه بالعود عند حلول لك الأوان ما دام العمر.
7 - وقال أخوهم الخامس الأمير محمد ابن الأمير عبد الرحمن (1) لأخيهم السادس أبان وقد خلا معه على راحة: هل لك أمل نبلغك إياه فقال: لم يبق لي أملٌ إلاّ أن يديم الله تعالى عمرك ويخلد ملكك، فأعجب ذلك الأمير، وقال: ما مالت إليك نفسي من باطل، وكان واحد منهما يهيم بالآخر، وفي ذلك يقول أبان:
يا من يلوم ولا يدري بمن أنا مف ... تونٌ لو ابصرته ما كنت تلحاني
من مازجت روحه روحي وشاطرني ... يا حسنه حين أهواه ويهواني وكان للأمير محمد ابن الأمير عبد الرحمن ثلاثة أولاد نجباء: القاسم، والمطرف، ومسلمة، ولهم أخ رابع اسمه عثمان.
8 - فمن نظم القاسم (2) في عثمان أخيه، وقد زاره فاستسقاه ماء، فأبطأ عليه غلامه لعلة لم يقبلها القاسم:
الماء في دار عثمان له ثمن ... والخبز شيء له شأن من الشّان (3)
__________
(1) ترجمته في الحلة 1: 119.
(2) ترجمة القاسم في الحلة 1: 127 والمقتبس (تحقيق مكي) : 200.
(3) قال ابن الأبار بعد أن أورد البيتين: كذا قال ابن حيان (المقتبس: 201) وهو غلط لا خفا به وإنما البيتان من قطعة لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أنشدها ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس.(3/580)
فاسلح على كلّ عثمان مررت به ... غير الخليفة عثمان بن عفان وله:
شغلت بالكيمياء دهري ... فلم أفد غير كلّ خسر
إتعاب فكرٍ، خداع عقلٍ ... فساد مالٍ، ضياع عمر 9 - وقال شقيقه المطرف (1) ، ويعرف بابن غزلان، وهي أمه، وكانت مغنية بديعة محسنة عوادة أديبة:
هل أتّكي مشرفاً على نهرٍ ... أرمي بطرفي إليه من قصري
عند أخٍ لو دهته حادثةٌ ... أعطيته ما أحبّ من عمري 10 - وقال أخوهما مسلمة (2) :
إنّ شيباً وصبوةً لمحال ... أولم يأن أن يكون زوال
فدع النفس عن مزاحٍ ولهوٍ ... تلك حالٌ مضت وجاءتك حال وكان يقول: إني لا أفارق إلا من اختار مفارقتي، ومن خادعني انخدعت له، وأريته أني غير فطن بخداعه، ليعجبه أمره، وأدخل عليه مسرة بنفسه ورأيه.
11 - وقال محمد ابن الأمير منذر ابن الأمير محمد في جاريته الأراكة:
قل للأراكة قد زا ... د بالدنوّ اشتياقي
__________
(1) انظر ترجمة المطرف في الحلة 1: 128 والمقتبس (تحقيق مكي) : 205 والجمهرة: 98 وبيتاه في الحلة: 129 والمقتبس: 208.
(2) راجع المقتبس ص: 211.(3/581)
وهاج ما بي إليها ... تمثّلي للعناق
وإنّني وبقلبي ... جمرٌ جرى في المآقي
طويت ما بي ليومٍ ... يكون فيه التلاقي
فإن أعد لاجتماعٍ ... حرّمت يوم افتراق
لا يعرف الشوق إلاّ ... من ذاق طعم الفراق 12 - وقال عبد الله بن الناصر (1) ، وقد أهدى له سعيد بن فرج ياسميناً أبيض وأصفر، وكتب معه (2) :
مولاي قد أرسلت نحوك تحفةً ... بمراد ما أبغيه منك تذكّر
من ياسمين كاللّجين تبرجت ... بيضاً وصفراً والسماح يعبّر فأجابه بما نصه:
أتاك تفسيري ولمّا يحل ... عني على أضغاث أحلام
فاجعله رسماً دائماً زائراً (3) ... منك ومنّي غرّة العام وبعث إليه بهذين البيتين مع ملء الطبق من دنانير ودراهم، فقال ابن فرج:
قد سمعنا بجود كعبٍ وحاتم ... ما سمعنا جوداً مدى العمر لازم
فدعائي بأن تدوم دعاءٌ ... لي لا زال طول ما عشت دائم
ما سمعنا كمثل هذا اختراعاً ... هكذا هكذا تكون المكارم وتشبه هذه الحكاية حكاية اتفقت لبعض ملوك إفريقية، وذلك أن رجلاً
__________
(1) عبد الله بن الناصر: له ترجمة في الجذوة: 244 وبغية الملتمس رقم: 949 والمغرب 1: 182 والحلة السيراء 1: 206.
(2) البيتان وجوابهما في المغرب.
(3) المغرب: باقيا.(3/582)
أهدى له في قادوس ورداً أحمر وأبيض، فأمر أن يملأ له دراهم، فقالت له جارية من جواريه: إن رأى الأمير أن يلون ما أعطاه، حتى يوافق ما أهداه، فاستحسن ذلك الأمير، وامر أن يملأ دنانير ودراهم.
وكان المرواني المذكور يساير أحد الفقهاء الظرفاء، فمرا بجميل، فمال عبد الله بطرفه على وجهه، وظهر ذلك لمسايره، فتبسم، ففهم عبد الله عنه، فقال: إن هذه الوجوه الحسان خلابة، ولكنا لا نتغلغل في نظرها، ولا ندعي العفة عنها بالجملة، وفيها اعتبار وتذكار بالحور العين التي وعد الله تعالى، فقال له الفقيه: احتج لروحك بما شئت. فقال: أوما هي حجة تقبل فقال الفقيه: يقبلها من رق طبعه، وكاد يضيق عن الصبر وسعه، فقال: وأراك شريكاً لي، فقال: ولولا ذلك للمتك، فأطرق عبد الله ساعة ثم أنشد:
أفدي الذي مرّ بي فمال له ... لحظي ولكن ثنيه غضبا
ما ذاك إلا مخاف منتقدٍ ... فالله يعفو ويغفر الذنبا فقال له الفقيه: إن كنت ثنيت لحظك خوف انتقادي فإني أدعوه إليك حتى تملأ منه، ولا تنسب إلي ما نسبت، فتبسم عبد الله وقال: ولا هذا كله، وقال له: إن مثلك في الفقهاء لمعدوم، فقال له: ما كنت إلا أديباً، ولكني لما رأيت سوق الفقه بقرطبة نافقة اشتغلت به، فقال له: ومن عقل المرء أن لايفني عمره فيما لا ينفقه عصره.
وكان (1) عبد الله المذكور يسمى الزاهد، فبايع قوماً على قتل والده الناصر وأخيه الحكم المستنصر ولي العهد، فأخذ يوم عيد الأضحى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فذبح بين يديه، رحمه الله تعالى.
13 - وقال أخوه أبو الأصبغ عبد العزيز بن الناصر (2) ، وقد دخل ابن له
__________
(1) ورد في المغرب نقلا عن الرقيق.
(2) ترجمة عبد العزيز بن الناصر في الجذوة: 270 وبغية الملتمس رقم: 1093 والمغرب 1: 184 والحلة 1: 208 وأبياته الأولى في المصادر السابقة ما عدا المغرب والقطعة الثانية في المغرب وحده.(3/583)
الكتاب، فكتب أول لوح، فبعثه إلى أخيه الحكم المستنصر ملك الأندلس، ومعه:
هاك يا مولاي خطّا ... مطّه في اللوح مطّا
ابن سبعٍ في سنيه ... لم يطق للوح ضبطا
دمت يا مولاي حتى ... يلد ابن ابنك سبطا وله:
زارني من همت فيه سحراً ... يتهادى كنسيم السّحر
أقبس الصبح ضياء ساطعاً ... فأضا والفجر لم ينفجر
واستعار الروض منه نفحةً ... بثّها بين الصّبا والزهر
أيّها الطّالع بدراً نّيراً ... لا حللت الدهر إلاّ بصري وكان مغرىً مغرماً بالخمر والغناء، فقطع الخمر، فبلغه أن المستنصر لما بلغه تركه الخمر قال: الحمد لله الذي أغنانا عن مفاتحته، ودله على ما نريد منه، ثم قال: لو ترك الغناء لكمل خيره، فقال: والله لا تركته حتى تترك الطيور تغريدها، ثم قال (1) :
أنا في صحّة وجاه ونعمى ... هي تدعو لهذه الألحان
وكذا الطير في الحدائق تشدو ... للذي سرّ نفسه بالقيان 14 - وقال أخوه محمد بن الناصر (2) لما قدم أخوهما المستنصر من غزوة:
قدمت بحمد الله أسعد مقدم ... وضدّك أضحى لليدين وللفم
__________
(1) المغرب: 184.
(2) ترجمة محمد بن الناصر في المغرب 1: 184 وفيه البيتان.(3/584)
لقد حزنت فيها السبق إذ كنت أهله ... كما حاز " بسم الله " فضل التقدّم 15 - وأما أخوهما محمد بن عبد الملك بن الناصر (1) فقال الحجاري فيه: إنه لم يكن في ولد الناصر ممن لم يل الملك أشعر منه ومن ابن أخيه، وكتب إلى العزيز صاحب مصر (2) :
ألسنا بني مروان كيف تبدّلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر
إذا ولد المولود منّا تهلّلت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر وكان جواب العزيز له: أما بعد فإنك علمتنا فهجوتنا، ولو علمناك لهجوناك.
وله في الصنوبر:
إن الصنوبر حصنٌ ... لديه حرزٌ وباس
خفّت من أجل إرها ... ب من عداه تراس
كأنّما هو ضدٌّ ... لما حواه الرئاس وبعض سيوف الأندلس محفور صدر الرئاس على صورة قشور الصنوبر إلاّ أن تلك ناتئة وهذه محفورة، وقال (3) :
أتاني وقد خطّ العذار بخدّه ... كما خطّ في ظهر الصفيحة عنوان
تزاحمت الألحاظ في وجناته ... فشقت عليه للشقائق أردان
وزدت غراماً حين لاح كأنّما ... تفتّح بين الورد والآس سوسان (4)
__________
(1) ترجمته في الحلة 1: 208 والمغرب 1: 185 واليتيمة 1: 355.
(2) مرالبيتان ص: 188؛ وانظر المصادر السابقة، وفي اليتيمة نسبا للحكم المستنصر وتعقبه ابن الأبار في ذلك.
(3) هذه القطعة والتي تليها في المغرب: 185.
(4) المغرب: آس وسوسان.(3/585)
وقال:
لئن كنت خلاّع العذار بشادنٍ ... وكأسٍ فإنّي غير نزر المواهب
وإنّي لطعّانٌ إذا اشتجر القنا ... ومقحم طرفي في صدور الكتائب
وإنّي إذا لم ترض نفسي بمنزلٍ ... وجاش بصدري الفكر جمّ المذاهب
جليدٌ يودّ (1) الصخر لو أنّ صبره ... كصبري على ما نابني للنّوائب
وأسري إلى أن يحسب الليل أنّني ... لطول مسيري فيه بعض الكواكب 16 - وأما ابن أخيه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر (2) فكان في بني أمية شبه عبد الله بن المعتز في بني العباس، بملاحة شعره وحسن تشبيهه.
ومن شعره القصيدة المشهورة (3) :
غصنٌ يهتزّ في دعص نقا ... يجتني منه فؤادي حرقا
سال لام الصدغ في صفحته ... سيلان التّبر وافى الورقا
فتناهى الحسن فيه إنّما ... يحسن الغصن إذا ما أورقا ومنها:
أصبحت شمساً وفوه مغرباً ... ويد الساقي المحيّي مشرقا
فإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخدّ منه شفقا
__________
(1) في الأصول: يؤدد، والتصويب عن المغرب.
(2) هو المشهور باسم الشريف الطليق وله ترجمة في الحلة 1: 220 والجذوة: 321 رقم: 1343 واليتيمة 2: 61 والذخيرة 1 / 2: 81 والمغرب 1: 186 والمعجب: 285 والمسالك 11: 176 وانظر كتاب التشبيهات وفهرسته.
(3) أوردها ابن بسام في الذخيرة، ومنها قطع في المصادر المذكورة، وفي الحلة منها قسط وافر.(3/586)
ومنها:
وكأن الورد يعلوه النّدى ... وجنة المحبوب تندى عرقا قالوا: وهذا النمط قد فاق به أهل عصره، ويظن أنّه لا يوجد لأحد منهم أحلى وأكثر أخذاً بمجامع القلوب من قوله:
ودّعت من أهوى أصيلاً، ليتني ... ذقت الحمام ولا أذوق نواه
فوجدت حتى الشمس تشكو وجده ... والورق تندب شجواها بهواه
وعلى الأصائل رقّةٌ من بعده ... فكأنها تلقى الذي ألقاه
وغدا النسيم مبلّغاً ما بيننا ... فلذاك رقّ هوىً وطاب شذاه
ما الروض قد مزجت به أنداؤه ... سحراً بأطيب من شذا ذكراه
والزهر مبسمه ونكهته الصّبا ... والورد أخضله النّدى خدّاه
فلذاك أولع بالرّياض لأنّها ... أبداً تذكّرني بمن أهواه ولله قوله:
وعشيٍّ كأنّه صبح عيدٍ ... جامعٍ بين بهجةٍ وشحوب
هبّ فيه النسيم مثل محبٍّ ... مستعيراً شمائل المحبوب
ظلت فيه ما بين شمسين هذي ... في طلوعٍ وهذه في غروب
وتدلّت شمس الأصيل ولكن ... شمسنا لم تزل بأعلى الجيوب
ربّ هذا خلقته من بديعٍ ... من رأى الشمس أطلعت في قضيب
أي وقتٍ قد أسعف الدهر فيه ... وأجابت به المنى عن قريب
قد قطعناه نشوةً ووصالاً ... وملأناه من كبار الذنوب
حين وجه السعود بالبشر طلقٌ ... ليس فيه أمارةٌ للقطوب
ضيّع الله من يضيّع وقتاً ... قد خلا من مكدّرٍ ورقيب(3/587)
وبات عند أحد رؤساء بني مروان، فقدّم إليه ذلك الرئيس قدحاً من فضة فيه راح أصفر، وقال: اشرب وصف فداك ابن عمك، فقام إجلالاً وشرب صائحاً بسروره، ثم قال: الدواة والقرطاس، فأحضرا، فكتب:
اشرب هنيئاً لا عداك الطرب ... شرب كريم في العلا منتخب
وافاك بالراح وقد ألبست ... برد أصيلٍ (1) معلماً بالحبب
في قدحٍ لم يك يسقى به ... غير أولي المجد وأهل الحسب
ما جار إذ سقّاك من كفّه ... في جامد الفضة ذوب الذهب
فقم على رأسك براً به ... واشرب على ذكراه طول الحقب (2) ويحكى أنه لما قتل أباه وقد وجده مع جارية له كان يهواها سجنه المنصور ابن أبي عامر مدة، إلى أن رأى في منامه النبي، صلى الله عليه وسلم، يأمره بإطلاقه فأطلقه، فمن أجل ذلك عرف بالطليق.
17 - وقال أحمد ابن سليمان بن أحمد بن [عبد الرحمن بن] عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر في ابن حزم لما عاداه علماء عصره (3) :
لما تحلّى بخلقٍ ... كالمسك أو نشر عود
نجل الكرام ابن حزمٍ ... وقام في العلم عودي
فتواه جدّد ديني ... جدواه أورق عودي وله في أبي عامر ابن المظفر بن عامر من قصيدة يمدحه بها:
بأبي عامرٍ وصلت حبالي ... فزماني به زمانٌ سعيد
__________
(1) م: بردا أصيلا.
(2) متقدم على سابقه في م.
(3) الجذوة: 116 وبغية الملتمس رقم: 107 والقطعة الأولى فيهما.(3/588)
فمتى زدت فيه وداً وشكراً ... فنداه وقد تناهى يزيد
كيف لي وصفه وفي كلّ يومٍ ... منه في المكرمات معنى جديد 18 - وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان ابن سراج (1) :
وكم من حديث للنبي أبانه ... وألبسه من حسن منطقه وشيا
وكم مصعب للنحو قد راض صعبه ... فعاد ذلولاً بعدما كان قد أعيا 19 - وقال عبيد الله بن محمد المهدي، وهو من حسنات بني مروان، ويعرف بالأقرع:
أقول لآمالي ستبلغ إن بدا ... محيّا ابن عطّافٍ ونعم المؤمل
فقالت دعاني كلّ يومٍ تعلّلٌ ... فقلت لها: إن لاح يفنى التعلل
لئن كان مني كلّ حينٍ ترحّلٌ ... فإني إن أحلل به لست أرحل
فتىً ترد الآمال في بحر جوده ... وليس على نعمى سواه المعوّل وقال هذه في الوزير ابن عطاف، فضن عليه حتى برجع الجواب، فكتب إليه بقصيدة منها:
أيّها الممكن من قدرته ... لا يراك الله إلاّ محسنا
إنّما المرء بما قدّمه ... فتخيّر بين ذمٍّ وثنا
لا تكن بالدهر غرّاً وإذا ... كنت فانظر فعله في ملكنا
كل ما خوّلت منه ذاهبٌ ... والذي تصحب منه الكفنا
مدّ كفّاً نحو كفٍّ طالما ... أمطرت فيه السحاب الهتّنا
أو أرحني بجوابٍ مؤيسٍ ... فمطال البرّ من شرّ العنا
__________
(1) مر البيتان، انظر ص: 343.(3/589)
فلم يعطه شيئاً، وكان له كاتب فتحيل في خمسين درهماً فأعطاها له، فلما سمع الوزير بذلك طرده، وقال له: من أنت حتى تحمل نفسك هذا وتعطيه قال: فوالله ما لبث إلا قليلاً حتى مات الوزير، وتزوج الكاتب بزوجته، وسكن في داره، وتخول في نعمته، فحملني ذلك على أن كتبت بالفحم في حائط داره:
أيا دار قولي أين ساكنك الذي ... أبى لؤمه أن يترك الشكر خالدا
تسمّى وزيراً والوزارة سبّةٌ ... لمن قد أبى أن يستفيد المحامدا
وولّى ولكن ليس يبرح ذمّه ... فها هو قد أرضى عدوّاً وناقدا
وأضحى وكيلٌ كان يأنف فعله ... نزيلك في الحوض الممنّع واردا
جزاءً بإحسانٍ لذا وإساءةٍ ... لذاك، وساعٍ ورّث الحمد قاعدا والمثل السائر في هذا " ربّ ساعٍ لقاعد ".
20 - وقال سليمان بن المرتضى بن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وكان في غاية الجمال، ويلقب بالغزال:
قدم الربيع عليك بعد مغيب ... فتلقّه بسلافةٍ وحبيب
فصلٌ جديدٌ فلتجدّد حالةً ... يأتي الزمان بها على المرغوب
الجوّ طلقٌ فالقه بطلاقةٍ ... وإذا تقطّب فالقه بقطوب
لله أيامٌ ظفرت بها ومن ... أهواه منقادٌ بغير رقيب وله:
لي في كفالات الرماح لو أنها ... وفّت ضمانٌ يبلغ الآمالا
وكّلت دهري في اقتضاء ضمانها ... ضناً به أن لا يحول فحالا وكان مولعاً بالفكاهة والنادر، محباً في الظرفاء، وكان يلتزم خدمته المضحك(3/590)
المشهور بالزرافة، ويحضر معه، ولعبوا في مجلس سليمان لعبة أفضوا فيها إلى أن تقسموا اثنين اثنين،
كل شخص ورفيقه، فقال سليمان: ومن يكون رفيقي: فقال له المضحك: يا مولاي، وهل يكون رفيق الغزال إلا الزرافة فضحك منه على عادته. ودخل عليه وهو قاعد في رحبة قصره، وقد أطل عذاره، فقال له: ما تطلب الزرافة فقال: ترعى الحشيش، وأشار إلى عذاره، فقال له: اعزب لعنك الله!
ومر سليمان به يوماً وهو سكران، وقد أوقف ذكره وجعل يقول له: ماذا رأيت في القيام في هذا الزمان أما رأيت كل ملك قام كيف خلع وقتل والله إنك سيء الرأي، فقال له سليمان: وبم لقبت هذا الثائر فقال: يا مولاي بصفته القائم، فقال: ويحتاج إلى خاتم فقال: نعم ويكون خاتم سليمان، فقال له: أخزاك الله، إن الكلام معك لفضيحة.
21 - وقال سعيد بن محمد المرواني (1) ، وقد هجره المنصور بن أبي عامر مدة لكلام بلغه عنه، فدخل المجلس غاصٌ، وأنشد:
مولاي مولاي أما آن أن ... تريحني بالله من هجركا
وكيف بالهجر وأنى به ... ولم أزل أسبح في بحركا فضحك ابن أبي عامر (2) على ما كان يظهره من الوقار، وقام وعانقه وعفا عنه، وخلع عليه.
وله:
والبدر في جوّ السماء قد انطوى ... طرفاه حتى عاد مثل الزورق
__________
(1) قال الحميدي (214) اختلف علي في نسبه: فهو سعيد بن عثمان بن مروان القرشي المعروف بالبلينه وقيل: سعيد بن محمد، وقيل: سعيد بن مروان؛ ويقال له ابن عمرون؛ وانظر المغرب 1: 192 واليتيمة 2: 54 وكتاب التشبيهات.
(2) ضحك ابن أبي عامر لأن سعيدا كان يلقب " البلينه " أي الحوت وقد ماثل بقوله " ولم أزل أسبح ... ".(3/591)
فتراه من تحت المحاق كأنّما ... غرق الكثير وبعضه لم يغرق وهو مأخوذ من قول ابن المعتز:
وانظر إليه كزورقٍ من فضةٍ ... قد أثقلته حمولةٌ من عنبر 22 - وقال قاسم بن محمد المرواني (1) يستعطف المنصور بن أبي عامر، وقد سجنه لقول صدر عنه:
ناشدتك الله العظيم وحقّه ... في عبدك المتوسّل المتحرّم
بوسائل المدح المعاد نشيدها ... في كلّ مجمع موكبٍ أو موسم
لا تستبح مني حمىً أرعاكه ... يا من يرى في الله أحمى محتمي 23 - وقال الأصم المرواني (2) يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح معارضاً بائية أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... بقصيدة طويلة منها:
ما للعدا جنّةٌ أوقى من الهرب ... أين المفرّ وخيل الله في الطلب
وأين يذهب من في رأس شاهقةٍ ... إذا رمته سماء الله بالشّهب ومنها:
وطود طارق قد حلّ الإمام به ... كالطّور كان لموسى أيمن الرّتب
لو يعرف الطّود ما غشّاه من كرمٍ ... لم يبسط النور فيه الكفّ للسّحب
__________
(1) ترجمة قاسم بن محمد هذا في الجذوة: 310 وبغية الملتمس رقم: 1296 وفيهما أبياته.
(2) من شعراء زاد المسافر: 84 وقال المراكشي في المعجب: 284 إن جده هو الشريف الطليق؛ وبعض البائية في المصدرين والقطعة الثانية والخامسة في زاد المسافر.(3/592)
ولو تيقّن بأساً حلّ ذروته ... لصار كالعين من خوفٍ ومن رهب
منه يعاود هذا الفتح ثانيةً ... أضعاف ما حدّثوا في سالف الحقب
ويلبس الدين غضّاً ثوب عزّته ... كأنّ أيام بدرٍ عنه لم تغب وقال في نارنجة:
وبنت أيكً دنا من لثمها قزحٌ ... فصار منه على أرجائها أثر
يبدو لعينيك منها منظرٌ عجبٌ ... زبرجدٌ ونضارٌ صاغه المطر
كأنّ موسى نبيّ الله أقبسه ... ناراً وجرّ عليها كفّه الخضر وقال (1) :
وشادنٍ قلت له صف لنا ... بستاننا هذا ونارنجنا
فقال لي بستانكم جنّةٌ ... ومن جنى النارنج ناراً جنى وقال في زلباني (2) :
لله سفّاحٌ بدا لي مسحراً ... فأفاد علم الكيميا بيمينه (3)
ذهّبت فضة خدّه بلواحظي ... وكذاك تفعل ناره بعجينه وقال، وقد نزل في فندق لا يليق بمثله:
يا هذه لا تفنّديني ... أن صرت في منزلٍ هجين
فليس قبح المحلّ ممّا ... يقدح في منصبي وديني
فالشمس علويّةٌ ولكن ... تغرب في حمأةٍ وطين
__________
(1) زاد في م: في النارنج.
(2) يريد قالي الزلابية؛ وفي م: زلفاني.
(3) م ب: بحسنه، ولا يستقيم مع القافية.(3/593)
24 - وقال أحمد المرواني:
حلفت بمن رمى فأصاب قلبي ... وقلّبه على جمر الصدود
لقد أودى تذكّره بجسمي ... ولست أشكّ أن النفس تودي
فقيدٌ وهو موجودٌ بقلبي ... فواعجبا بموجودٍ فقيد 25 - وقال الأصبغ القرشي يرثي ابن شهيد وهو من أصحابه:
نأى من به كان السرور مواصلاً ... وأسلم قلبي للصّبابة والفكر ومنها:
لعمرك ما يجدي النعيم إذا نأت ... وجوههم عني ولا فسحة العمر 26 - وقال سليمان بن عبد الملك الأموي:
وذي جدل أطال القول منه ... بلا معنى وقد خفي الصواب
فقلت أجيبه فازداد رداً ... فقلت له قد ازدحم الجواب
ولم أر غير صمتي من مريحٍ ... إذا ما لم يفد فيه الخطاب 27 - وقال أبو يزيد ابن العاصي:
عابه الحاسد الذي لام فيه ... أن أرى فوق خدّه جدريّا
إنّما وجهه هلال تمامٍ ... جعلوا برقعاً عليه الثريا وله:
إذا شئت أن يصفو صديقك فاطرح ... نزاع الذي يبديه في الهزل والجدّ
وإن كنت من أخلاقه في جهنمٍ ... فأنزله من مثواك في جنّة الخلد
إلى أن يتيح الله من لطف صنعه ... فراقاً جميلاً فاجعل العذر في البعد(3/594)
وليكن هذا آخر ما نورده من كلام بني مروان رحمهم الله تعالى.
ولنرجع إلى أهل الأندلس جملة، فنقول:
420 - أمر الحجاج المنصفي أن يكتب على قبره (1) :
قالت لي النفس: أتاك الرّدى ... وأنت في بحر الخطايا مقيم
هلا ادّخرت الزاد قلت: اقصري ... لا يحمل الزاد لدار الكريم وقد ذكرنا هذين البيتين في غير هذا الموضع (2) .
وقال ابن مرج الكحل (3) : اجتمعنا في حانوت بعض الأطباء بإشبيلية، فأضجرناه بكثرة جلوسنا عنده، وتعذرت المنفعة عليه من أجلنا، فأنشدنا:
خفّفوا عنّا قليلاً ... ربّ ضيقٍ في براح
هل شكوتم من سقامٍ ... أو جلسنا للصحاح فأضفت إليهما ثالثاً، وأنشدته إياه على سبيل المداعبة:
إن أتيتم ففرادى ... ذاك حكم المستراح 421 - ودخل أبو محمد غانم بن وليد مجلس باديس بن حبوس، فوسّع له على ضيق كان فيه، فقال (4) :
__________
(1) أبو الحجاج يوسف المنصفي زاهد مشهور سكن سبتة (والمنصف التي ينسب إليها من قرى بلنسية) راجع المغرب 2: 354.
(2) انظر المغرب.
(3) هو أبو عبد الله محمد بن إدريس يعرف بمرج كحل (توفي بجزيرة شقر سنة 634) انظر: زاد المسافر: 27 والإحاطة 2: 634 والتكملة: 636 وشرح المقصورة 1: 25، 20، 195 والوافي 2: 181 والمغرب 2: 373.
(4) انظر ما سبق ص: 265، 398، 447.(3/595)
صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً ... سمّ الخياط مجالٌ للمحبّين
ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين 422 - ودخل على أبي جعفر اللمائي بعض أصحابه عائداً في علته التي مات فيها، وجعل يروح عليه بمروحة، فقال أبو جعفر على البديهة:
روّحني عائدي فقلت له: ... لا لا تزدني على الذي أجد
أما ترى النار وهي خامدةٌ ... عند هبوب الرياح تتقد 423 - وقال الأعلم: ليكن محفوظك من النظم مثل قول ابن القبطرنة (1) :
دعاك خليلك واليوم طل ... وعارض وجه الثرى قد بقل
لقدرين فاحا وشمّامةٍ ... وإبريق راحٍ ونعم المحل
ولو شاء زاد ولكنه ... يلام الصديق إذا ما احتفل 424 - وقال أبوعامر ابن ينق الشاطبي (2) :
ما أحسن العيش لو أن الفتى أبداً ... كالبدر يرجو تماماً بعد نقصان
إذ لا سبيل إلى تخليد مأثرةٍ ... إذ لا سبيل إلى تخليد جثمان 425 - وقال أبو الحسن اللورقي (3) :
عجباً لمن طلب المحا ... مد وهو يمنع ما لديه
ولباسط آماله ... للغير لم يبسط يديه
لم لا أحبّ الضيف أو ... أرتاح من طربٍ إليه
__________
(1) المغرب 1: 368 والقلائد: 152.
(2) ترجمة أبي عامر محمد بن ينق في القلائد: 186 والمغرب 2: 388 والتكملة: 479 ومعجم الصدفي: 162.
(3) هو أبو الحسن جعفر بن الحاج اللورقي وأبياته في المغرب 2: 280 والقلائد: 142.(3/596)
والضّيف يأكل رزقه ... عندي ويحمدني عليه 426 - وقال أبو عيسى ابن لبون، وهو من قواد المأمون بن ذي النون (1) :
نفضت كفّي من الدنيا وقلت لها ... إليك عنّي فما في الحقّ أغتبن
من كسر بيتي لي روضٌ ومن كتبي ... جليس صدقٍ على الأسرار مؤتمن
أدري به ما جرى في الدهر من خبرٍ ... فعنده الحقّ مسطورٌ ومختزن
وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قومٌ وما لهم علمٌ بمن دفنوا 427 - وقال أبو عامر ابن الحمارة (2) :
ولي صاحبٌ أحنو عليه وإنّه ... ليوجعني حيناً فلا أتوجّع
أقيم مكاني ما جفاني وربما ... يسائلني الرّجعى فلا أتمنّع
كأني في كفّيه غصن أراكةٍ ... تميل على حكم النسيم وترجع 428 - وقال أبو العباس ابن السعود (3) :
تبّاً لقلب عن الأحباب منصرفٍ ... يهوى أحبّته ما خالس النظرا
مثل السّجنجل فيه الشخص تبصره ... حتى إذا غاب لم يترك به أثرا 429 - ومرض أبو الحكم ابن غلندة (4) ، فعاده جماعة من أصحابه فيهم
__________
(1) أبياته في المغرب 2: 377 والقلائد: 102.
(2) ترجمته في المغرب 2: 120 والحاشية؛ وفي م: وقال أبو عامر الملقب بابن الجبارة.
(3) هو أبو العباس أحمد بن السعود كاتب ابن همشك (المغرب 2: 52) ؛ وفي م: وقال الفقيه الأديب ... إلخ.
(4) هو أبو الحكم عبيد الله بن علي بن غلندة الكاتب من أهل سرقسطة وسكن إشبيلية وتوفي بمراكش (- 581) وقد أسن (التحفة: 71 وفيها البيتان) .(3/597)
فتى صغير السن، فوفّاه من بره ماأوجب تغيرهم، ففطن لذلك وأنشد ارتجالاً:
تكثّر من الإخوان للدهر عدّةً ... فكثرة درّ العقد من شرف العقد
وعظّم صغير القوم وابدأ بحقّه ... فمن خنصري كفّيك تبدأ بالعقد [ثم نظر إليهم وأنشدهم ارتجالاً قوله:
مغيث أيوب والكافي لذي النون ... يحلّني فرجاً بالكاف والنّون
كم كربة من كروب الدهر فرّجها ... عني ولم ينكشف وجهي لمن دوني] (1) 430 - وقال القاضي أبو موسى ابن عمران:
ما للتجارب من مدىً ... والمرء منها في ازدياد
قد كنت أحب ذا العلا ... من حاز علماً واستفاد
فإذا الفقيه بغير ما ... لٍ كالخباء بلا عماد
شرف الفتى بنضاره ... إنّ الفقير أخو الجماد
ما العلم إلا جوهرٌ ... قد بيع في سوق الكساد 431 - وقال أبو بكر ابن الجزار السرقسطي:
إياك من زلل اللسان فإنّما ... عقل الفتى في لفظه المسموع
والمرء يختبر الإناء بنقره ... ليرى الصحيح به من المصدوع 432 - وقال أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد (2) : تناول بعض أصحابنا نرجسة، فركّبها في وردة، ثم دفعها إليّ وإلى صاعد، وقال: قولا،
__________
(1) ما بين معقفين زيادة من م.
(2) راجع هذه القصة فيما تقدم: 76، والزهيري قد اضطربت في الأصول، وقد تقرأ " الزميري " في م.(3/598)
فأبهمت دوننا أبواب القول، فدخل الزهيري، وكان أمياً لا يذكر من الكلام إلا ما علق بنفسه في المجالس، وينفذ مع هذا في المطولات من الأشعار، فأشعر بأمرنا، فجعل يقول دون روية:
ما للأدبين قد اعيتهما ... مليحةٌ من ملح الجنّه
نرجسةٌ في وردةٍ ركبّت ... كمقلة تطرف في وجنه 433 - وقال أبو محمد ابن حزم في " طوق الحمامة " (1) :
خلوت بها والرّاح ثالثةٌ لنا ... وجنح ظلام الليل قد مدّ واعتلج (2)
فتاةٌ عدمت العيش إلا بقربها ... فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج
كأني وهي والكأس والخمر والدجى ... حياً وثرىً والدرّ والتبر والسبج قال: وهذه خمس تشبيهات لا يقدر أحد على أكثر منها إذ تضيق الأعاريض عنه.
قال أبو عامر ابن مسلمة: ولا أذكر مثلها إلا قول بعض:
فأمطرت لؤلؤاً من نرجسٍ فسقت ... ورداً وعضّت على العنّاب بالبرد (3) إلا أنه لم يعطف خمسة على خمسة كما صنع ابن حزم، بل اكتفى بالعلم في التشبيهات.
قال: ومن أغرب ما وقع لي من التشبيهات في بيتٍ قول ابن برون الأكشوني (4) الأندلسي يصف فرساً ورداً أغر محجلاً:
__________
(1) طوق الحمامة: 16.
(2) الطوق: قد مد ما انبلج.
(3) هامش م: المراد به الوأواء الدمشقي من قصيدته الفريدة ... إلخ. قلت انظر ديوانه: 84.
(4) لعلها " الأكشونبي "؛ وسقطت لفظة " برون " من ب.(3/599)
فكأنّ غرّته وتحجيلاته ... خمسٌ من السوسان وسط شقائق قال: وهذا على التحقيق ستةٌ على ستة، ولم أسمع بمثله لأحد من [الأندلسيين ولا من المشارقة] (1) .
قال ابن الجلاب: وكلام أبي عامرٍ هذا لا يخلو من النقد.
434 - وقال ابن صارة:
انظر إلى البدر وإشراقه ... على غديرٍ موجه يزهر
كمشحذٍ من حجرٍ أخضرٍ ... خطّ عليه ذهبٌ أحمر 435 - وقال أبو القاسم ابن العطار الإشبيلي (2) :
ركبنا (3) سماء النّهر والجوّ مشرقٌ ... وليس لنا إلا الحباب نجوم
وقد ألبسته الأيك برد ظلالها ... وللشمس في تلك البرود رقوم 436 - وقال ابن صارة (4) :
والنهر قد رّقت غلالة صبغه ... وعليه من ذهب الأصيل طراز
تترقرق الأمواج فيه كأنّها ... عكن الخصور تضمّها الأعجاز 437 - وقال سهل بن مالك (5) :
وربّ يومٍ وردنا فيه كلّ منىً ... وقلّ في مثل ذلك اليوم أن نردا
في روضتين بشطّي سلسلٍ شبمٍ ... كما اجتليت من المحبوب مفتقدا
__________
(1) زيادة من م.
(2) القلائد: 285.
(3) القلائد: عبرنا.
(4) انظر القلائد: 270؛ وفي م: وقال الأديب البارع ... إلخ.
(5) زاد في م: في صفة النهر.(3/600)
يبدّد القطر في أثنائه حلقاً ... فتنظم الريح منها فوقه زردا (1) 438 - وقال ابن صارة:
انظر النهر في رداء عروسٍ ... صبغته بزعفران العشيّ
ثمّ لمّا هبّ النسيم عليه ... هزّ عطفيه في دلاص الكميّ 439 - ولبعضهم في شكل يرمي الماء مجوفاً مثل الخباء وتمزقه الريح أحياناً:
ومطنّب لماء ما أوتاده ... إلا نتائج فكر طبٍّ حاذق
لعبت به أيدي الصّبا فكأنّها ... أيدي الصبابة بالفؤاد العاشق 440 - وقال صفوان بن إدريس يصف تفاحة في الماء:
ولم أر فيما تشتهي العين منظراً ... كتفاحةٍ في بركةٍ بقرار
يفيض عليها ماؤها فكأنّها ... بقيّة خدٍّ في اخضرارعذار (2) 441 - وقال أبو جعفر ابن وضاح في دولاب:
وباكيةٍ والروض يضحك كلّما ... ألحّت عليه بالدموع السّواجم
يروقك منها إن تأمّلت نحوها ... زئير أسةدٍ والتفات أراقم
تخلّص من ماء الغدير سبائكاً ... فتنبتها في الروض مثل الدّراهم
__________
(1) زاد في م قطعتين بعد هذه لابن مالك؛ وقال أيضا من التشبيهات العجيبة:
وتحدث الماء الزلال مع الحصى ... فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
فكأن فوق الماء وشيا ظاهرا ... وكأن تحت الماء درا مضمرا وقوله أيضا في تشبيه الخمرة وهو عجيب:
إذا كان عندي قوت يوم وليلة ... من الخمر تنفي الهم إذا امتنع
فلست تراني سائلا عن خليفة ... ولا عن وزير للخليفة ما صنع (2) زاد بعدهما هنا في م بيتين لسهل بن مالك:
شربنا وجفن الليل يغسل كحله ... ............ .. البيتين.(3/601)
442 - وقال الوزير ابن عمار:
يومٌ تكاثف غيمه فكأنّه ... دون السماء دخان عودٍ أخضر
والطّل مثل برادةٍ من فضّةٍ ... منثورةٍ في تربةٍ من عنبر
والشمس أحياناً تلوح كأنّها ... أمةٌ تعرّض نفسها للمشتري 443 - وقال أبو الحسن ابن سعد الخير (1) :
لله دولابٌ يفيض بسلسلٍ ... في روضةٍ قد أينعت أفنانا
قد طارحته بها الحمائم شجوها ... فيجيبها ويرجّع الألحانا
فكأنّه دنفٌ يدور بمعهدٍ ... يبكي ويسأل فيه عمّن بانا
ضاقت مجاري طرفه عن دمعه ... فتفتحت أضلاعه أجفانا 444 - وقال ابن أبي الخصال:
ووردٍ جنيٍّ طالعتنا خدوده ... ببشرٍ ونشرٍ يبعثان على السكر
وحفّ ترنجانٌ به فكأنّه ... خدود العذارى في مقانعها الخضر 445 - وقال ابن صارة (2) :
يا ربّ نارنجةٍ يلهو النديم بها ... كأنّها كرةٌ من أحمر الذهب
أو جذوةٌ حملتها كفّ قابسها ... لكنّها جذوةٌ معدومة اللهب 446 - وقال الخفاجي (3) :
__________
(1) أبو الحسن علي بن سعد الخير من شعراء زاد المسافر: 103 وانظر المغرب 2: 317 والتكملة رقم: 1867 والتحفة: 51 والذيل والتكملة 5: 187 ووصفه للدولاب ورد في أكثرها؛ م: وقال أبو الحسن ... في دولاب.
(2) القلائد: 267؛ م: وقال ابن صارة في نارنجة يشبهها.
(3) ديوانه: 69؛ م: وقال الخفاجي الأندلسي في أيكة.(3/602)
وميّاسةٍ تزهو وقد خلع الحيا ... عليها حلىً حمراً وأرديةً خضرا
يذوب بها ريق الغمامة فضّةً ... ويجمد في أعطافها ذهباً نضرا 447 - وقال ابن صارة أيضاً (1) :
ونارنجةٍ لم يدع حسنها ... لعيني في غيرها مذهبا
فطوراً أرى لهباً مضرماً ... وطوراً أرى شفقاً مذهبا 448 - وقال ابن وضاح في السرو (2) :
أيا سرو لا يعطش منابتك الحيا ... ولا يدعن أعطافك الخضل النضر
فقد كسيت منك الجذوع بمثل ما ... تلفّ على الخطيّ راياته الخضر 449 - وقال أبو إسحاق الخولاني (3) :
نيلوفرٌ شكله كشكلي ... يعوم في أبحر الدموع
قد ألبست عطفه دروعاً ... خودٌ لريح الصّبا شموع
يلوح إذ لونه كلوني ... من فوق فضفاضةٍ هموع
مثل مسامير مذهباتٍ ... في حلقاتٍ من الدروع 450 - وقال ابن الأبار (4) :
وسوسناتٍ أرت من حسنها بدعاً ... ولم يزل عصر مولانا يري بدعه
شبيهةٌ بالثريّا في تألّفها ... وفي تألّقها تلتاح ملتمعه
__________
(1) زاد في م: في تشبيه نارنجة.
(2) م: شجر السرو.
(3) زاد في م: في النيلوفر.
(4) زاد في م: الأديب المشهور في السوسن.(3/603)
هامت بيمناه تبغي أن تقبّلها ... واستشرفت تجتلي مرآه مطّلعه
ثم انثنى بعضها من بعضها غلباً ... على البدار فوافت وهي مجتمعه ورفع هذه الأبيات إلى الأمير أبي يحيى زكريا (1) .
451 - وقال حازم:
لا نور يعدل نور اللوز في أنقٍ ... وبهجةٍ عند ذي عدلٍ وإنصاف
نظام زهرٍ يظلّ الدرّ منتثراً ... عليه من كلّ هامي القطر وكّاف
بينا ترى وهي أصداف لدرّ حياً ... بيضٍ غدت في خضر أصداف 452 - وقال ابن سعد الخير في رمّانة (2) :
وساكنةٍ في ظلال الغضون ... بروضٍ (3) يروقك أفنانه
تضاحك أترابها فيه إذ ... غدا الجوّ تدمع أجفانه
كما فتح الليث فاه وقد ... تضرّج بالدم أسنانه 453 - وقال ابن نزار الوادي آشي (4) :
ورمّانةٍ قد فضّ عنها ختامها ... حبيبٌ أعار البدر بعض صفاته
فكسّر منها نهد غذراء كاعبٍ ... وناولني منها شبيه لداته 454 - وقال بعضهم في القراسيا (5) ، ويقال له بالمغرب " حب الملوك ":
ودوحٍ تهدّل أشطانه ... رعى الدهر من حسنه ما اشتهى
__________
(1) ب م: أبي زكريا.
(2) التحفة: 53.
(3) التحفة: بخدر.
(4) زاد في م: في رمانة.
(5) م: القرسيا.(3/604)
فما احمرّ منه فصوص العقيق ... وما اسودّ منه عيون المها 455 - وقال بعضهم (1) :
وأين معاهدٌ للحسن فيها ... وللأنس التقاء البهجتين
وللأوتار والأطيار فيها ... لدى الأسحار أطرب ساجعين (2)
فكم بدرٍ تجلّى من رباها ... ومن بطحائها في مطلعين
وأغيد يرتعي من تلعتيها ... ومن ثمر القلوب بمرتعين
إذا أهوى لسوسنة يميناً ... عجبت من التقاء السوسنين
وكم يومٍ توشّح من سناه ... ومن زهراتها في حلتين
وراح أصيله ما بين نهرٍ ... ودولابٍ يدور بمسمعين
بنهرٍ كالسماء يجول فيه ... سحائب من ظلال الدوحتين
تدرّع للنّواسم حين هزت ... عليها كلّ غصن كالرّديني
ملاعب في غرامي عند ذكري ... صباه وغصنه المتلاعبين 456 - وقال الوزير محمد بن عبد الرحمن بن هانئ:
يا حرقة البين كويت الحشا ... حتى أذبت القلب في أضلعه
أذكيت فيه النار حتى غدا ... ينساب ذاك الذّوب من مدمعه
يا سؤل هذا القلب حتى متى ... يؤسى برشف الرّيق من منبعه
فإنّ في الشهد شفاء الورى ... لا سيّما إن مصّ من مكرعه
والله يدني منكم عاجلاً ... ويبلغ القلب إلى مطمعه 457 - ولو لم يكن للأندلسيين غير كتاب " شذور الذهب " لكفاهم دليلاً على البلاغة، ومؤلفه هو علي بن موسى بن علي بن محمد بن خلف أبو
__________
(1) زاد في م: في خضرة وروض واجتماع أحباب.
(2) ب م: سامعين.(3/605)
الحسن الأنصاري، الجياني، نزيل فاس، وولي خطابتها، ولم ينظم أحدٌ في الكيمياء مثل نظمه بلاغة معانٍ، وفصاحة ألفاظٍ، وعذوبة تراكيب، حتى قيل فيه: إن لم يعلمك صناعة الذهب علمك الأدب. وفي عبارة بعضهم: إن فاتك ذهبه، لم يفتك أدبه. وقيل فيه: إنه شاعر الحكماء، وحكيم الشعراء. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
[عود إلى النقل عن بدائع البدائه]
ولنذكر هنا نبذة من سرعة بديهة أهل الأندلس، وإن مرت من ذلك جملة، وستأتي أيضاً زيادة على الجميع، فنقول:
458 - قال في " بدائع البدائه " ما صورته (1) : روى عبد الجبار بن حميدس الصقلي قال: صنع عبد الجليل بن وهبون المرسي الشاعر لنا نزهة بوادي إشبيلية، فأقمنا فيه يومنا، فلما دنت الشمس للغروب هب نسيم ضعيف غضّن وجه الماء، فقلت للجماعة: أجيزوا:
حاكت الريح من الماء زرد ... فأجازه كل منهم بما تيسر له، فقال لي أبو تمام غالب بن رباح، الحجاج: كيف قلت يا أبا محمد فأعدت القسيم له، فقال:
أيّ درعٍ لقتالٍ لو جمد ... وقد ذكرنا في هذا الكتاب ما يخالف هذا، فليراجع في محله (2) .
ثم قال صاحب " بدائع البدائه " (3) بعد ما سبق ما صورته: وقد نقله ابن
__________
(1) البدائع 1: 63.
(2) سيجيء ما يخالفه في ترجمة الرميكية في الجزء الرابع من النفح.
(3) ص: 64 - 65.(3/606)
حميدس إلى غير هذا الوصف، فقال:
نثر الجوّ على الترب برد ... أيّ درٍّ لنحورٍ لو جمد فتناقض المعنى بذكر البرد، وقوله " لو جمد " إّ ليس البرد إلا ما جمده البرد، اللهم إلا أن يريد بقوله " لو جمد " دام جموده، فيصح وينعقد على التحقيق.
ومثل هذا قول المعتمد بن عباد يصف فوارة:
ولربّما سلّت لنا من مائها ... سيفاً وكان عن النواظر مغمدا
طبعته لجيّاً فزانت صفحةً ... منه ولو جمدت لكان مهنّدا وقد أخذت أنا هذا المعنى (1) فقلت أصف روضاً:
فلو دام ذاك النبت كان زبرجداً ... ولو جمدت أنهاره كنّ بلّورا وهذا المعنى مأخوذ من قول علي التونسي الإيادي من قصيدته الطائية المشهورة:
ألؤلؤٌ قطر هذا قطر هذا الجوّ أم نقط ... ما كان أحسنه لو كان يلتقط وهذا المعنى كثير للقدماء، قال ابن الرومي من قطعة في العنب الرازقي:
لو أنّه يبقى على الدهور ... قرّط آذان الحسان الحور 459 - قال علي بن ظافر (2) : وأخبرني من أثق به قال: ركب المعتمد على الله أبو القاسم ابن عباد لنزهة بظاهر إشبيلية في جماعة من ندمائه، وخواص شعرائه، فلما أبعد أخذ في المسابقة بالخيول، فجاء فرسه بين البساتين سابقاً،
__________
(1) يعني ابن ظافر.
(2) البدائع 1: 66 - 67.(3/607)
فرأى شجرة تين قد أينعت وزهت وبرزت منها ثمرة قد بلغت وانتهت، فسدد إليها عصاً كانت في يده فأصابها، وثبتت على أعلاها، فأطربه ما رأى من حسنها وثباتها، والتفت ليخبر به من لحقه من أصحابه، فرأى ابن جاخ الصباغ أول من لحق به فقال: أجز:
كأنّها فوق العصا ... فقال:
هامة زنجيٍّ عصا ... فزاد طربه وسروره بحسن ارتجاله، وأمر له بجائزة سنية.
قال علي بن ظافر (1) : وأخبرني أيضاً أن سبب اشتهار ابن جاخ (2) هذا أن الوزير أبا بكر ابن عمار كان كثير الوفادة على ملوك الأندلس، لا يستقر ببلد ولا يستفزه عن وطره وطن، وكان كثير التطلب لما يصدر عن أرباب المهن، من الأدب الحسن، فبلغه خبر ابن جاخ عذا قبل اشتهاره، فمر على حانوته وهو آخذ في صباغته، والنيل قد جر على يديه ذيلاً، وأعاد نهارهما ليلاً، فأراد أن يعلم سرعة خاطره، فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء، وأشار إلى يده وقال:
كم بين زندٍ وزند ... فقال:
ما بين وصلٍ وصدّ ... فعجب من حسن ارتجاله، ومبادرة العمل واستعجاله، وجذب بضبعه، وبلغ من الإحسان إليه غاية وسعه.
__________
(1) المصدر نفسه: 67.
(2) ب م: ابن جامع، حيثما وقعت، وهو خطأ.(3/608)
460 - وبلغني أيضاً أنه دخل سرقسطة فبلغه خبر يحيى القصاب السرقسطي، فمر عليه، ولحم خرفانه بين يديه، فأشار ابن عمار إلى اللحم، وقال (1) :
لحم سباط الخرفان مهزول ... فقال:
" يقول يا مشترين (2) مه زولوا " ... 461 - ولما صنع المتوكل (3) على الله بن الأفطس صاحب بطليوس هذا القسيم:
الشّعر خطّة خسف ... أرتج عليه، فاستدعى أبا محمد عبد المجيد بن عبدون صاحب الرائية التي أولها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب، وهو أحد وزراء دولته، وخواص حضرته، فاستجازه إياه، فقال:
لكلّ طالب عرف ...
للشيخ عيبة عيبٍ ... وللفتى ظرف ظرف وذكر ابن بسام في الذخيرة أن قائل القسيم الأول الأستاذ أبو الوليد ابن ضابط، وأن عبد المجيد أجازه ارتجالاً، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقد ذكرنا ما يقرب من ذلك في هذا الكتاب.
__________
(1) انظر ما تقدم ص: 404.
(2) البدائع: للمفلسين.
(3) البدائع 1: 72، وقد مرت الحكاية ص: 397.(3/609)
462 - وقال ابن الغليظ المالقي (1) : قلت يوماً للأديب أبي عبد الله ابن السراج المالقي، ونحن على جرية ماء: أجز:
شربنا على ماءٍ كأنّ خريره ... فقال بديهاً:
بكاء محبٍّ بان عنه حبيب ...
فمن كان مشغوفاً كئيباً بإلفه ... فإنّي مشغوفٌ به وكئيب 463 - وذكر ابن بسام في الذخيرة (2) أنه اجتمع ابن عبادة وابن القابلة السبتي بالمرية، فنظر إلى وسيم يسبح في البحر، وقد تعلق بسكان بعض المراكب، فقال ابن عبادة: أجز:
انظر إلى البدر الذي لاح لك ... فقال ابن القابلة:
في وسط اللّجّة تحت الحلك ...
قد جعل الماء سماء له ... واتخذ الفلك مكان الفلك 464 - وقال أبو عامر ابن شهيد (3) : لما قدم زهير الصقلبي (4) إلى حضرة قرطبة من المرية وجه وزيره أبو جعفر ابن عباس إلى لمة من أصحابنا منهم ابنبرد وأبو بكر المرواني وابن الحناط والطبني، فحضروا إليه، فسألهم عني،
__________
(1) البدائع 1: 73 ومرت الحكاية ص: 270.
(2) البدائع 1: 73.
(3) البدائع 1: 75.
(4) ب م: الصقلي، وهو خطأ، وكان زهير من فتيان الصقالبة بالأندلس.(3/610)
وقال: وجهوا إليه، فوافاني رسوله مع دابة بسرج محلىً ثقيل، فسرت إليه، ودخلت المجلس، وأبو جعفر غائب، فتحفز المجلس لدخولي، وقاموا جميعاً لي، حتى طلع أبو جعفر علينا ساحباً ذيلاً لم أر أحداً سحبه قبله، وهو يترنم، فسلمت عليه سلام من يعرف قدر الرجال، فرد رداً لطيفاً، فعلمت أن في أنفه نعرة ر تخرج إلا بسعوط الكلام، ولا ترام إلا بمستحصد النظام، ورأيت أصحابي يصيخون إلى ترنمه.
فقال لي ابن الحناط، وكانكثير الانحاء علي، جالباً في المحافل ما يسوء إلي: إن الوزير حضر قسيم، وهو يسألنا إجازته، فعلمت أني المراد، فاستنشدته، فأنشد:
مرض الجفون ولثغةٌ في المنطق ... فقلت لمن حضر: لا تجهدوا أنفسكم، فما المراد غيري، ثم أخذت الدواة فكتبت:
سببان جرّا عشق من لم يعشق ...
من لي بألثغ لا يزال حديثه ... يذكي على الأحشاء جمرة محرق
ينبي فينبو في الكلام لسانه ... فكأنّه من خمر عينيه سقي
لا ينعش الألفاظ من عثراتها ... ولو آنها كتبت له في مهرق ثم قمت عنهم، فلم ألبث أن وردوا علي، وأخبروني أن أبا جعفر لم يرض بما جئت به من البديهة، وسألوني أن أحمل مكاوي الهجاء على حتاره، فقلت:
أبو جعفرٍ كاتبٌ محسنٌ ... مليح سنا الخطّ حلو الخطابه
تمّلأ شحماً ولحماً وما ... يليق تملّؤه بالكتابه
له عرقٌ ليس ماء الحياء ... ولكنّه رشح ماء الجنابه
جرى الماء في سفله جري لينٍ ... فأحدث في العلو منه صلابه(3/611)
465 - وذكر الوزير أبو بكر ابن اللبانة الداني (1) في كتابه " سقيط الدرر ولقيط الزهر " أن المعتمد بن عباد صنع قسيماً في القبة المعروفة بسعد السعود فوق المجلس المعروف بالزاهي، وهو:
سعد السعود يتيه فوق الزاهي ... ثم استجاز الحاضرين فعجزوا، فصنع ولده عبد الله الرشيد:
وكلاهما في حسنه متناهي ...
ومن اغتدى سكناً لمثل محمدٍ ... قد جلّ في العليا عن الأشباه
لا زال يبلغ فيهما ما شاءه ... ودهت عداه من الخطوب دواهي 466 - وخرج القاضي الفقيه (2) أبو الحسن علي بن القاسم بن محمد بن عشرة أحد رؤساء المغرب الأوسط في جماعة من أصحابه منهم محمد بن عيسى ابن سوار الأشبوني ورجل يسمى بأبي موسى خفيف الروح، ثقيل الجسم، فجعل يعبث بالحاضرين بأبيات من الشعر يصنعها فيهم، فصنع القاضي أبو الحسن معابثاً له:
وشاعرٍ أثقل من جسمه ... ثم استجاز ابن سوار، فقال:
......... ... تأتي معانيه على حكمه
يهجو فلا يهجا فهل عندكم ... ظلامةٌ تعدي على ظلمه
لسانه في هجوه حيّةٌ ... منيّة الحيّة في سمّه
__________
(1) البدائع 1: 78.
(2) البدائع 1: 78.(3/612)
يصيب سرّ المرء في رميه ... كأنّما العالم في علمه
أمّا أبو موسى ففي كفّه ... عصا ابنه والسحر في نظمه 467 - وفي " المقتبس في تاريخ الأندلس " (1) أن الأمير عبد الرحمن خرج في بعض أسفاره فطرقه خيال جاريته طروب أم ولده عبد الله، وكانت أعظم حظاياه عنه، وأرفعهن لديه، لا يزال كلفاً بها، هائماً بحبها، فانتبه وهو يقول:
شاقك من قرطبة الساري ... في الليل لم يدر به الداري ثم أنبه عبد الله بن الشمر نديمه فاستجازه كمال البيت، فقال:
زار فحيّا في ظلام الدجى ... أحبب به من زائرٍ ساري وصنع الأمير عبد الرحمن المذكور في بعض غزواته قسيماً (2) ، وهو:
نرى الشيء ممّا يتّقى فنهابه ... ثم أرتج عليه، وكان عبد الله بن الشمر نديمه وشاعره غائباً عن حضرته، فأراد من يجيزه، فأحضر بعض قواده محمد بن سعيد الزجالي، وكان يكتب له، فأنشده القسيم فقال:
وما لا نرى ممّا يقي الله أكثر ... فاستحسنه وأجازه، وحمله استحسانه على أن استوزره.
__________
(1) البدائع 1: 87.
(2) انظر المقتبس (تحقيق مكي) : 34 ومنه يفهم أن الأمير لم يصنع القسيم وإنما تمثل به ونسي تمامه فأتمه الرجالي من حفظه، وانظر ما سبق ص: 539.(3/613)
468 - وذكر ابن بسام (1) أن المعتمد بن عباد أمر بصياغة غزال وهلال من ذهب، فصيغا، فجاء وزنهما سبعمائة مثقال، فأهدى الغزال إلى السيدة ابنة مجاهد، والهلال إلى ابنه الرشيد، فوقع له إلى أن قال:
بعثنا بالغزال إلى الغزال ... وللشمس المنيرة بالهلال ثم أصبح مصطحباً، وجاء الرشيد فدخل عليه، وجاء الندماء والجلساء، وفيهم أبو القاسم ابن مرزقان (2) ، فحكى لهم المعتمد البيت، وأمرهم بإجازته، فبدر ابن مرزقان فقال:
فذا سكني أبوّئه فؤادي ... وذا نجلي أقلّده المعالي
شغلت بذا الطلا خلدي ونفسي ... ولكني بذاك رخيّ بال
دفعت إلى يديه زمام ملكي ... محلّىً بالصوارم والعوالي
فقام يقرّ عيني في مضاءٍ ... ويسلك مسلكي في كلّ حال
فدمنا للعلاء ودام فينا ... فإنّا للسماح وللنزال 469 - ولما أنشد أبو القاسم ابن الصيرفي قول عبد الله بن السمط:
حار طرفٌ تأمّلك ... ملكٌ أنت أم ملك قال بديهاً:
بل تعاليت رتبةً ... فلك الأرض والفلك 470 - وذكر ابن بسام في الذخيرة (3) أنه غني يوماً بين يدي العالي بالله الإدريسي بمالقة بيتٌ لعبد الله بن المعتز:
__________
(1) البدائع 1: 107.
(2) م: ابن مرزبان.
(3) الذخيرة 1 / 2: 355 والبدائع 1: 148.(3/614)
هل ترين البين يحتال ... أن غدت للحي (1) أجمال فأمر الفقيه أبا محمد غانم بن الوليد المالقي بإجازته، فقال بديهاً:
إنّما العالي إمام هدىً ... حليت في عصره الحال
ملكٌ أقيال دولته ... لذوي الأفهام إقبال
قل لمن أكدت مطالبه ... راحتاه الجاه والمال 471 - وغنى أبو الحسن زرياب (2) يوماً بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بهذين البيتين، وهما لأبي العتاهية:
قالت ظلوم سميّة الظّلم ... مالي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فأقصده ... أنت الخبير بموقع السهم فقال عبد الرحمن: هذان البيتان منقطعان، فلو كان بينهما ما يصلهما لكان أبدع، فصنع عبيد الله (3) بن فرناس بديهاً:
فأجبتها والدمع منحدرٌ ... مثل الجمان وهى من النّظم فاستحسنه، وأمر له بجائزة.
472 - وذكر ابن بسام أيضاً أن المعتمد بن عباد غني بين يديه بقول ابن المعتز (4) :
وخمّارةٍ من بنات المجوس ... ترى الزقّ في بيتها شائلا
وزنّا لها ذهباً جامدا ... فكالت لنا ذهباً سائلا
__________
(1) الذخيرة: للبين.
(2) البدائع 1: 155.
(3) ب: عبد الرحمن.
(4) البدائع 1: 154.(3/615)
فقال بديهاً يجيزه:
وقلت خذي جوهراً ثابتاً ... فقالت خذوا عرضاً زائلاً 473 - وركب المعتمد (1) في بعض الأيام قاصداً الجامع، والوزير أبو بكر ابن عمار يسايره، فسمع اذان مؤذن، فقال المعتمد:
هذا المؤذّن قد بدا بأذانه ... فقال ابن عمار:
يرجو بذاك العفو من رحمانه ... فقال المعتمد:
طوبى له من شاهدٍ بحقيقةٍ ... فقال ابن عمار:
إن كان عقد ضميره كلسانه ... 474 - وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلي (2) : أقمت بإشبيلية لما قدمتها على المعتمد بن عباد مذة لا يلتفت إلي ولا يعبأ بي، حتى قنطت لخيبتي مع فرط تعبي، وهممت بالنكوص على عقبي، فإني لكذلك ليلة من الليالي في منزلي إذا بغلام (3) معه شمعة ومركوب، فقال لي: أجب السلطان، فركبت من فوري، ودخلت عليه، فأجلسني على مرتبة فنك (4) ، وقال لي افتح الطاق التي تليك، ففتحتها فإذا بكور زجاج على بعد، والنار تلوح من بابيه، وواقدة تفتحهما تارة وتسدهما أخرى، ثم دام سد أحدهما وفتح الآخر، فحين تأملتهما قال لي: أجز:
__________
(1) البدائع 1: 171.
(2) البدائع 1: 171.
(3) البدائع: إذ أتاني غلام.
(4) البدائع: على مرتبته.(3/616)
انظرهما في الظلام قد نجما ... فقلت:
كما رنا في الدّجنّة الأسد ... فقال:
يفتح عينيه ثمّ يطبقها ... فقلت:
فعل امرئٍ في جفونه رمد ... فقال:
فابتزّه الدهر نور واحدةٍ ... فقلت:
وهل نجا من صروفه أحد ... فاستحسن ذلك، وأمر لي بجائزة سنية، وألزمني خدمته.
وقد ذكرنا هذه الحكاية في هذا الكتاب، ولكن ما هنا أتم مساقاً فلذلك نبهت عليه.
475 - وذكر صاحب " فرحة الأنفس في أخبار أهل الأندلس " (1) أن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر جلس في جماعة من خواصه، ومعهم أبو القاسم لب، وكان يعده للمجون والتطايب، فقال له: اهج عبد الملك بن جهور، يعني أحد وزرائه، فقال: أخافه، فقال لعبد الملك: فاهجه أنت، فقال: أخاف على عرضي منه، فقال: أهجوه أنا وأنت، ثم صنع:
لبٌّ أبو القاسم ذو لحيةٍ ... طويلةٍ أزرى بها الطول (2)
__________
(1) البدائع 1: 185.
(2) ب م: كبيرة في طولها ميل.(3/617)
فقال عبد الملك:
وعرضها ميلان إن كسّرت ... والعقل مأفونٌ ومخبول فقال الناصر للب: اهجه فقد هجاك، فقال بديهاً:
قال أمين الله في عصرنا ... لي لحيةٌ أزرى بها الطول
وابن جهيرٍ قال قول الذي ... مأكوله القرضيل والفول
لولا حيائي من إمام الهدى ... نخست بالمنخس شو ... ثم سكت، فقال له الناصر: هات تمام البيت، فامتنع، فقال له " قولو " يعني تمام البيت، كلمة قالها الناصر مسترسلاً غير متحفظ من زيادة الواو وإبدال الهاء واواً، إذ صوابها " قله " على حكم المشي مع الطبع والراحة من التكلف، فقال لب: يا مولانا أنت هجوته، ففطن الناصر والحاضرون، وضحكوا، وأمر له بجائزة.
والقرضيل: شوك له ورق عريض تأكله البقر، وقوله " شو " اسم لذكر الرجل (1) بالرومية، و " قولو " اسم للاست بها، فكأنه قال: لولا حيائي من إمام الهدى نخست بالمنخس - الذي هو الذكر - استه.
انتهى المجلد الثالث
__________
(1) م: اسم الرجل.(3/618)
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب السابع
(تتمة)
476 - وقال ابن ظافر (1) : أخبرني من أثق به قال: اجتمع الوزير أبو بكر ابن القبطرنة والأستاذ أبو العباس ابن صارة في يوم جلا ذهب برقه، وأذاب ورق ودقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء، فترافدا في صفتها، فقال ابن صارة:
هذي البسيطة كاعب أبرادها ... حلل الربيع وحليها النوار فقال ابن القبطرنة:
وكأن هذا الجو فيها عاشقٌ ... قد شفّه التعذيب والإضرار فقال ابن صارة:
فإذا شكا فالبرق قلبٌ خافقٌ ... وإذا بكى فدموعه الأمطار فقال ابن القبطرنة:
فمن أجل عزّة ذا وذلّة هذه ... تبكي الغمام وتضحك الأزهار
__________
(1) البدايع 1: 186 وهذا مكرر، انظر ج 3: 355.(4/5)
477 - وقال أبو بكر محمد بن [الحسن] الزبيدي النحوي (1) صاحب الشرطة يخاطب الوزير أبا الحسن جعفر بن عثمان المصحفي لما كتب كتاباً له فيه " فاضت نفسه " بالضاد مبيناً له الخطأ دون تصريح:
قل للوزير السنيّ محتده ... لي ذمّةٌ منك أنت حافظها
عناية بالعلوم معجزةٌ ... قد بهظ الأولين باهظها
يقرّ لي عمرها ومعمرها ... فيها ونظّامها وجاحظها
قد كان حقاً قبول حرمتها ... لكنّ صرف الزمان لافظها
وفي خطوب الزمان لي عظةٌ ... لو كان يثني النفوس واعظها
إن لم تحافظ عصابةٌ نسبت ... إليك قدماً فمن يحافظها
لا تدعن حاجتي بمطرحةٍ ... فإنّ نفسي قد فاظ فائظها فأجابه المصحفيّ:
خفّض فواقاً فأنت أوحدها ... علماً ونقّابها وحافظها
كيف تضيع العلوم في بلدٍ ... أبناؤها كلّهم يحافظها
ألفاظهم كلّها معطّلةٌ ... مالم يعوّل عليك لافظها
من ذا يساويك إن نطقت وقد ... أقرّ بالعجز عنك جاحظها
علمٌ ثنى العالمين عنك كما ... ثنى عن الشمس من يلاحظها
وقد أتتني فديت شاغلةٌ ... للنفس أن قلت فاظ فائظها
فأوضحنها تفز بنادرةٍ ... قد بهظ الأوّلين باهظها فأجابه الزبيدي، وضمن شعره الشاهد على ذلك:
أتاني كتابٌ من كريمٍ مكرّمٍ ... فنفّس عن نفسٍ تكاد تفيظ
__________
(1) الجذوة: 43 - 45.(4/6)
فسرّ جميع الأولياء وروده ... وسيء رجالٌ آخرون وغيظوا
لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه ... لديّ سواه والكريم حفيظ
وباحثت عن فاظت وقبلي قالها ... رجالٌ لديهم في العلوم حظوظ
روى ذاك عن كيسان سهلٌ وأنشدوا ... مقال أبي الغياظ وهو مغيظ
" وسميت غياظاً ولست بغائظٍ ... عدواً ولكن للصديق تغيظ "
" فلا رحم الرحمن روحك حيّةً ... ولا هي في الأرواح حين تفيظ " قلت: وفي خطاب الوزير بهذا البيت وإن حكي عن قائله ما لا يخفى أن اجتنابه المطلوب، على أنه قد يقال " فاضت نفسه " بالضاد، كما ذكره ابن السكيت في خلل " الألفاظ " له، والله أعلم.
وكتب الزبيدي المذكور إلى أبي مسلم ابن فهد (1) :
أبا مسلمٍ إنّ الفتى بجنانه ... ومقوله، لا بالمراكب واللبس
وليست ثياب المرء تغني قلامةً ... إذا كان مقصوراً على قصر النفس
وليس يفيد العلم والحلم والحجى ... أبا مسلمٍ طول القعود على الكرسي وقال، وقد استأذن الحكم المستنصر في الرجوع إلى أهله بإشبيلية ولم يأذن له، فكتب إلى جاريته سلمى (2) :
ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بدّ للبين من زماع
لا تحسبيني صبرت إلا ... كصبر ميتٍ على النزاع
ما خلق الله من عذابٍ ... أشدّ من وقفة الوداع
ما بنيها والحمام فرقٌ ... لولا المناحات والنواعي
__________
(1) الجذوة: 43.
(2) المصدر نفسه.(4/7)
إن يفترق شملنا وشيكاً ... من بعد ما كان ذا اجتماع
فكلّ شملٍ إلى افتراقٍ ... وكلّ شعبٍ إلى انصداع
وكلّ قربٍ إلى بعادٍ ... وكلّ وصلٍ إلى انقطاع 478 - واجتمع جماعة من الأدباء فيهم أبو الحسن سهل بن مالك والمهر ابن الفرس وغيرهما بمدينة سبتة سنة 581، فتذاكروا محبوباً لهم يسكن الجزيرة الخضراء أمامهم، فقالوا: ليقل كلّ واحد منكم شيئاً فيه، فقال سهل بن مالك (1) :
لما حططت (2) بسبتة قتب النّوى ... والقلب يرجو أن يحوّل حاله
والجوّ مصقول الأديم كأنّما ... يبدي الخفي من الأمور صقاله
عاينت من بلد الجزيرة مكنساً ... والبحر يمنع أن يصاد غزاله
كالشكل في المرآة تبصره وقد ... قربت مسافته وعزّ مناله فقال الجماعة: والله لا يقول أحد منا بعد هذا شيئاً.
479 - ولما قرأ أبو محمد عبد الله بن مطروح البلنسي صداق إملاك، وغيّر فيه حال القراءة لفظة " غير " برفع ما كان منصوباً أو بالعكس، أنشد بديهاً بعد الفراغ معتذراً عن لحنه:
غيرت غيراً فصرت عيرا ... وهكذا من يجدّ سيرا فأجابه الحافظ أبو الربيع ابن سالم الكلاعي، وكان إلى جانبه، بديهة:
ما أنت ممن يظنّ فيه ... بذاك جهلٌ فظنّ خيرا
__________
(1) اختصار القدح: 62.
(2) القدح: أنخت.(4/8)
480 - ووقف أبو أمية ابن حمدون بباب الأستاذ الشلوبين، فكتب في ورقة " أبو أمية بالباب " ودفع الورقة لخادم الأستاذ، فلما نظر إليها الأستاذ نوّن تاء أمية، ولم يزد على ذلك، وأمر الخادم بدفع الورقة إليه، فلما نظر فيها أبو أمية انصرف، علماً منه أن الأستاذ صرفه، فانظر إلى فطنة الشيخ والتلميذ، مع أن الشيخ منسوب إلى التغفل في غير العلم.
481 - ومن حكايات أهل الأندلس في العفو أن المعتصم بن صمادح كان قد أحسن للنّحلي البطليوسي، ثم إن النّحلي سار إلى إشبيلية، فمدح المعتضد ابن عباد بشعر قال فيه:
أباد ابن عبّاد البربرا ... وأفنى ابن معنٍ دجاج القرى ونسي ما قاله، حتى حلّ بالمريّة، فأحضره ابن صمادح لمنادمته، وأحضر للعشاء موائد ليس فيها غير الدجاج فقال: النحلي: يامولاي، ماعندكم في المدية لحم غيرالدجاج إنما أردت أن أكذبك في قولك:
وأفنى ابن معنٍ دجاج القرى ... فطار سكر النحلي وجعل يعتذر فقال له خفض عليك إنما ينفق مثلك بمثل هذا وإنما العتب على ما سمعه فاحتمله منك في حق من هو في نقابه ثم أحسن إليه وخاف النحلي فغير من المرية، ثم ندم فكتب إلى المعتصم:
رضى ابن صمادح فارقته ... فلم يرضي بعده العالم
وكانت مرتيه جنة ... فجئت بما جاءه آدم فما زال يتفقده بالإحسان على بعد دياره، وخروجه عن اختياره، انتهى.
482 - وقال في بلنسية أبو عبد الله الرصافي، وقد خرج منها صغيراً (1) :
__________
(1) ديوان الرصافي: 69.(4/9)
بلادي التي ريشت قويدمتي بها ... فريخاً وآورتني قرارتها وكرا
مهادي ولين العيش في ريق الصّبا ... أبى الله أن أنسى اعتيادي بها خيرا 483 - وقال أبو بكر محمد بن يحيى الشلطيشي (1) :
وفاة المرء سرٌّ لم يكاشف ... ولم تثبت حقيقته درايه
سيفنى كلّ ذي شبحٍ ونفسٍ ... وتلتحق النهاية بالبدايه
وينصدع الجميع إلى صدوعٍ ... تعود به البريّة كالبرايه
كأن مصائب الدنيا سهامٌ ... لها الأيام أغراض الرمايه
فنل ما شئت إن الفقر حدٌّ ... وعش ما شئت إن الموت غايه 484 - وقال أبو بكر محمد بن العطار اليابسي، وهو من رجال الذخيرة:
أمطيت عزمك منه متن سابحة ... خلت الحباب على لبّاتها لببا
تبدو على الموج أحياناً ويضمرها ... كالعيس تعتسف الأهضام والكثبا 485 - وقال محمد بن الحسن الجبلي النحوي (2) :
وما الأنس بالناس الذين عهدتهم ... بأنسٍ ولكن فقد رؤيتهم أنس
إذا سلمت نفسي وديني منهم ... فحسبي أنّ العرض مني لهم ترس 486 - وقال محمد بن حرب (3) :
طوبى لروضة جنّةٍ ... لك قد نويت ورودها
نظمت على لبّاتها ... أيدي الغمام عقودها
__________
(1) يعرف بابن القابلة، انظر المغرب 1: 352 والمسالك 11: 227.
(2) الجذوة: 47.
(3) هو محمد بن مروان بن حرب (الجذوة: 85 ومقطوعته وردت فيها) .(4/10)
وسقت بماء الورد وال ... مسك الفتيت صعيدها
والطير تشدو في الغصو ... ن المائدات قصيدها
وتعير سمع المستعي ... ر نظيمها ونشيدها 487 - وكان في دار محمد بن اليسع شاعر الدولة العامرية وردة (1) ، وكان يهدي وردها كل عام إلى عارض الجيش أحمد بن سعيد (2) ، فغاب العارض سنة فقال:
قال لي الورد وقد لا ... حظته في روضتيه
وهو قد أينع طيباً ... جمع الحسن لديه
أين مولاي الذي قد ... كنت تهديني إليه
قلت غاب العام فايأس ... أن ترى بين يديه
فبدا يذبل حتّى ... ظهر الحزن عليه 488 - وقال أحمد بن أفلح (3) :
ما أستريح إلى حالٍ فأحمدها ... بالبين قلبي وقبل البين قد ذهبا
إن كان لي أربٌ في العيش بعدكم ... فلا قضيت إذن من حبّكم أربا 489 - وقال أحمد بن تليد الكاتب (4) :
لم أرض بالذل وإن قلا ... والحر لا يحتمل الذلاّ
يا ربّ خلٍّ كان لي خاملٍ ... صار إلى العزّة فاحولاّ
حرّمت إلمامي على بابه ... ووصله لم أره حلاّ
__________
(1) ترجمته ومقطوعته في الجذوة: 90 - 91.
(2) الجذوة: سعد.
(3) ترجمته وشعره في الجذوة: 110؛ زاد في م: وهو من الشعراء المجيدين.
(4) الجذوة: 111.(4/11)
تأبى عليّ النفس من أن أرى ... يوماً على مستثقلٍ كلاّ 490 - وقال إسحاق بن المنادى، وقد أهدى له من يهواه تفاحة (1) :
مجال العين في ورد الخدود ... يذكّر طيب جنّات الخلود
وآرجةٌ من التفّاح تزهو ... بطيب النشر والحسن الفريد
أقول لها فضحت المسك طيباً ... فقالت لي بطيب أبي الوليد 491 - وقال غالب بن عبد الله الثغري (2) :
يا راحلاً عن سواد المقلتين إلى ... سواد قلبٍ عن الأضلاع قد رحلا
غدا كجسمٍ وأنت الروح فيه فما ... ينفكّ مرتحلاً ما دمت (3) مرتحلا
وللفراق جوىً لو مرّ أبرده ... من بعد فرقتكم بالماء (4) لاشتعلا (5) 492 - وقال الزوير أبو الحسن ابن الإمام الغرناطي يهجو مراكش المحروسة (6) :
ياحضرة الملك ما أشهاك لي وطناً ... لولا ضروب بلاءٍ فيك مصبوب
ماءٌ زقاقٌ وجوٌّ كلّه كدرٌ ... وأكلةٌ من بذنجان ابن معيوب وابن معيوب هذا كان من خدام أبي العلاء ابن زهر، يزعم الناس أنه سمّ
__________
(1) الجذوة: 158 - 159.
(2) الجذوة: 306.
(3) الجذوة: إذ ظلت؛ م ب: ما دام.
(4) الجذوة: بجامد الماء مر البرق.
(5) زاد في م بعد هذه الأبيات: وقال المذكور من قصيدة وهو بديع:
ومما شجاني أنني كنت نائماً ... أعلل من فرط الكرى بالتنسم (في أربعة أبيات....) .
(6) هو ابو الحسن علي بن الإمام الفرناطي كاتب تميم بن يوسف بن تاشفين (المغرب 2: 116) .(4/12)
ابن باجة لعداوته لابن زهر في باذنجان.
493 - ولما بنى الفقيه أبو العباس ابن القاسم (1) قصره بسلا وشيده وصفته الشعراء، وهنته به، ودعت له، وكان بالحضرة حينئذٍ الوزير أبو عامر ابن الحمارة، ولم يكن أعد شيئاً فأفكر قليلاً ثم قال:
يا واحد الناس قد شيّدت واحدةً ... فحلّ فيها محلّ الشمس في الحمل
فما كدارك في الدّنيا لذي أملٍ ... ولا كدارك في الأخرى لذي عمل وفيهم (2) يقول ابن بقي في موشحته الشهيرة التي آخرها (3) :
إن جئت أرض سلا ... تلقاك بالمكارم فتيان (4)
هم سطور العلا ... ويوسف بن القاسم عنوان 494 - وكان محمد بن عبادة بالمرية، ومعه ابن القابلة السبتي، فنظر إلى غلام وسيم يسبح، وقد تعلق بمركب فقال ابن عبادة (5) :
انظر إلى البدر الذي لاح لك ... فقال ابن القابلة:
... في وسط اللجة تحت الحلك
قد جعل الماء مكان السما ... واتخذ الفلك مكان الفلك
__________
(1) أبو العباس ابن القاسم من بني عشرة أعيان سلا وقد مدحهم كثيرون من شعراء الأندلس والمغرب ومن مداحهم الأعمى التطيلي وابن بقي.
(2) يريد بني عشرة.
(3) انظر هذه الموشحة في ديوان التطيلي: 272.
(4) م: فيدان.
(5) انظر ما تقدم ج 3: 610.(4/13)
495 - وقال ابن خروف، ويروى لغيره (1) :
أيتها النفس اذهبي إليه اذهبي ... فحبّه المشهور من مذهبي
مفضّض الثغر له شامةٌ ... مسكيةٌ في خده المذهب
أيأسني التوبة من حبّه ... طلوعه شمساً من المغرب 496 - واجتمع في بستان واحد ثلاثة من شعراء الأندلس، وهم: ابن خفاجة، وابن عائشة، وابن الزقاق، فقال ابن خفاجة يصف الحال هنالك (2) :
لله نوريّة المحيا ... تحمل نارية الحميّا
درنا بها تحت ظلّ دوحٍ ... قد راق مرأى وطاب ريّا
تجسّم النور فيه نوراً ... فكلّ غصنٍ به ثريّا وقال ابن عائشة (3) :
ودوحةٍ قد علت سماءً ... تطلع أزهارها نجوما
هفا نسيم الصّبا علينا ... فخلتها أرسلت رجوما
كأنما الأفق غار لما ... بدت فأغرى بها النّسيما وقال ابن الزقاق (4) :
ورياضٍ من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهراتٍ تفوق لون الراح
__________
(1) نسبها ابن سعيد (في القسم الخاص بصقلية) لأبي القاسم ابن طلحة الصقلي (كان في دولة منصور بني عبد المؤمن) .
(2) ديوان ابن خفاجة: 72.
(3) المغرب 2: 314.
(4) ديوانه: 125 وقد مرت الأبيات ج 3: 200، 256.(4/14)
قلت ما ذنبها فقال مجيباً ... سرقت حمرة الخدود الملاح 497 - وقال الأديب أبو الحسن ابن زنون: وقع بيدي وأنا أسير بقيجاطة (1) - أعادها الله تعالى دار إسلام - كتابٌ ترجمته " كتاب التحف والطرف " لابن عفيون فوجدت فيه: قال الحسين بن الضحاك (2) :
ما كان أحوجني يوماً إلى رجلٍ ... في وسطه ألف دينارٍ على فرس
في كفّه حربةٌ يفري الدروع بها ... وصارمٌ مرهف الحدين كالقبس
فلو رجعت ولم أظفر بمهجته ... وقد خضبت ذباب الصارم الشكس
فلا اغتبطت بعيشٍ وابتليت بما ... يحول بيني وبين الشادن الأنس ووقف على هذه القطعة أبو نواس فقال:
ما كان أحوجني يوماً إلى خنثٍ ... حلو الشمائل في باقٍ من الغلس
في كفّه قهوةٌ يسبي (3) النفوس بها ... محكّم الطّرف للألباب مختلس
فلو رجعت ولم أظفر بتكتّه ... وقد رويت من الصهباء كالقبس
فلا هنيت بعيشٍ وابتليت بما ... يكون منه صدود الشادن الأنس
هذا ألذّ وأشهى من منى رجلٍ ... في وسطه ألف دينارٍ على فرس ووقف على ذلك الوزير أبو عامر ابن ينق فقال:
ما كان أحوجني يوماً إلى رجلٍ ... يردّد الذكر في باقٍ من الغلس
في حلقه غنّةٌ يشفي النفوس بها ... وفي الحشا زفرةٌ مشبوبة القبس
فلو رجعت ولم أوثر تلاوته ... على سماع غناء الشادن الأنس
__________
(1) تعد قيطاجة من أعمال جيان، وكانت مدينة نزهة في نهاية من الخصب.
(2) لم ترد في ديوانه، جمع الأستاذ عبد الستار فراج.
(3) ق: يثني.(4/15)
فلا حمدت إذن نفسي ولا اعتمدت ... بي النجائب قصد البيت والقدس (1)
وأسلت بقبر المصطفى مقلاً ... تبكي عليه بهامي الدمع منبجس فوقفت على ذلك - يقول ابن زنون - فقلت: وكلٌ ينفق مما عنده، ومن عجائب الله أنه عند فراغي من كتب هذه القطعة وصل الفكاك إلي، وحل قيودي وأخرجني إلى بلاد المسلمين، وهي:
ما كان أحوجني يوماً إلى رجلٍ ... يأتي فينبهني في فحمة الغلس
يفك قيدي وغلّي غير مرتقبٍ ... ولا مبالٍ (2) من الحجاب والحرس
وقوله لي تأنيساً وتسليةً ... هذا سلاحي فالبسه وذا فرسي
فلو جبنت ولم أقبل مقالته ... وأمتطي الطّرف وثباً فعل مفترس
إذن خلعت لباس المجد من عنقي ... وصار حظي منه حظّ مختلس
وأخلفتني أمانيّ التي طمحت ... نفسي إليها وإحساني لكلّ مسي 498 - وقال أبو بكر ابن حبيش، وقد زاره بعض أودائه في يوم عيد الفطر:
أكلّ ذا الإجمال في ذا الجمال ... الله أستحفظ ذاك الكمال
يا مالكاً بالبّر رقّي أما ... يكفيك أن تملكني بالوصال
سرت إلى ربعي زوراً كما ... سرى إلى المهجور طيف الخيال
العيد لي وحدي بين الورى ... حقّاً لأني قد رأيت الهلال
صومي مقبولٌ وبرهانه ... أني أدخلت جنان الوصال 499 - وقال أبو بكر ابن يوسف اللخمي، وقد عاده في شكاية فتى وسيم من الأعيان كان والده خطيب البلد:
__________
(1) ق ب: في القدس؛ وأثبتنا رواية م.
(2) ب: ولا يبالي؛ والبيت متأخر عن تاليه في م.(4/16)
يا عائدي وهو أصل مابي ... أفديك من ممرضٍ طبيب
أصميت لما رميت قلبي ... بسهم ألحاظك المصيب
وجئتني منكراً لسقمي ... وتلك من عادة الحبيب
يا ساعةً قد غفرت فيها ... ما كان للدهر من ذنوب
ما كان في فضلها مقالٌ ... لو لم تكن جلسة الخطيب 500 - وخاطب أبو زيد ابن أبي العافية أبا عبد الله ابن العطار القرطبي بقصيدة منها هذا البيت:
وكيف يفيق ذو صبرٍ قصيرٍ ... حليف وساوسٍ حولٍ طوال يعرض له بطوله وحوله، ولصاحبه أبي محمد ابن بلال بقصره، فراجعه أبو عبد الله المذكور بهذه الأبيات يعرض له فيها بجربه، وكان أبو زيد أصابه جربٌ كثير:
أجل يا نافث السحر الحلال ... أتاني منك نظمٌ كاللآلي
يروقك أولاً لفظاً ومعنىً ... ويلدغ آخراً لدغ الصّلال
تعرّض فيه أنك ذو مطالٍ ... حليف وساوسٍ حولٍ طوال
كأنك لم تجرّب قطّ خلقاً ... ولم تعرف بتجربة الليالي
أأنسيت التجارب إذ تجاري ... بهنّ الجربياء مع الشمال
فلا تغفل عن التجريب يوماً ... ولو أعطيت فيه جراب مال
وجرّب جار بيتك واختبره ... وجرّ برجله إن كان قالي
وجار بينك لا تستحي منه ... ومن نجّار بابك لا تبال
وأجر ببالك الجرباء تبصر ... نجوم الأفق تجري بانتقال
وجرّب أهل جربة تلف قوماً ... أبوا لبس الجوارب والنّعال
تجاراً باعةً تجروا بزيتٍ ... تسمّوا بالتّجار بغير مال(4/17)
إذا سمعوا بتمرٍ في جريبٍ ... جروا ببطاء ذي التمر (1) البوالي
إذا جرّبت هذا الخلق أبدى ... لك التجريب أجربةً خوالي
جرى بالنّجح دهراً جرّ بؤساً ... عليك وجار بالنّوب الثقال ثلاثة أدباء صلوا خلف إمام فأخطأ في قراءته
501 - وخرج ثلاثة أدباء لنزهة خارج مرسية، وصلوا خلف إمام بمسجد قرية، فأخطأ في قراءته، وسها في صلاته، فلما خرج أحدهم كتب على حائط المسجد:
يا خجلتي لصلاةٍ ... صلّيتها خلف خلف (2) فلما خرج الثاني كتب تحته:
أغضّ عنها حياءً ... من المهيمن طرفي فلما خرج الثالث كتب تحته:
فليس تقبل منا ... لو انها ألف ألف 502 - وقال أبو إسحاق ابن خفيف الأندلسي (3) في أحدب أخذ مع صبي في خلوة فضربا، وطيف بهما، والأحدب على عنق الصبي:
رأيت اليوم محمولاً ... وأعجب منه من حمله
جمال الناس تحملهم ... وهذا حاملٌ جمله 503 - وقال أبو الصلت الأندلسي (4) :
__________
(1) ب: إبطاء للتمر؛ م: ببطانة التمر.
(2) الخلف: المتخلف الذي لا خير فيه.
(3) الأندلسي: زيادة من م.
(4) مر البيتان ج 3: 356 وزاد بعدهما في م: وقوله أيضاً فيما قرب من هذه:
وقائلة ما لي أراك مجانباً ... أموراً وفيها للتجارة مربح
فقلت لها ما لي بربحك حاجة ... ونحن أناس بالسلامة تفرح(4/18)
وقائلةٍ ما بال مثلك خاملاً ... أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز
فقلت لها ذنبي إلى القوم أنّني ... لمل لم يحوزوه من المجد حائز 504 - وكتب بعض المغاربة لأبي العباس ابن مضاء يذكره بحاله:
يا غارسًا لي ثمار مجدٍ ... سقيتها العذب من زلالك
أخاف من زهرها سقوطاً ... إن لم يكن سقيها ببالك 505 - وكتب الكاتب أبو عبد الله القرطبي مستنجزاً وعداً:
أبا عبد الإله وعدت وعداً ... فأنجز تربح الشكر الجزيلا
ولا تمطل فإن المطل يمحو ... من الإحسان رونقه الصقيلا
إذا كان الجميل يحب طبعاً ... فإني أكره الصبر الجميلا 506 - وكتب ابن هذيل الفزاري للغني بالله سلطان لسان الدين بن الخطيب:
ليس يا مولاي لي من جابرٍ ... إذ غدا قلبي من البلوى جذاذا
غير صكٍّ أحمرٍ تكتب لي ... فيه يمناك اعتناءً: صحَّ هذا 507 - وقال أبو الحسن ابن الزقاق في غلام يهودي كان يجلس معه وينادمه يوم سبت (1) :
وحبّب يوم السبت عندي أنني ... ينادمني فيه الذي أنا أحببت
ومن أعجب الأشياء أني مسلمٌ ... حنيفٌ، ولكن خير أيامي السبت 508 - وقال أبو حيان (2) :
ويعجبني رشف تلك الشفاه ... وعضُّ الخدود وهصر القوام
__________
(1) ديوان ابن الزقاق: 113.
(2) زاد في م: النحوي في الأوصاف.(4/19)
محاسن فاتت قضيب الأراك ... وورد الرياض وكأس المدام 509 - وكتب أحد الأدباء بمرسية إلى فتى وسيم من أعيان كان يلازم حانوت بعض القضاة بها للتفقه، عليه بأبيات في غرض، فراجعه عنه أبو العباس ابن سعيد بقوله:
ما للمحبّ لديّ غير صبابةٍ ... تقضي عليه ولوعةٍ وغرام
فدع الطماعة واسترح باليأس من ... وصلٍ عليك إلى الممات حرام 510 - وقال السميسر (1) :
قرابة السوء شرّ داءٍ ... فاحمل أذاهم تعش حميدا
ومن تكن قرحةٌ بفيه ... يصبر على مصّه الصديدا 511 - وقال ابن الخفاجة (2) :
إنّ للجنّة بالأندلس ... مجتلى عين وريّا نفس
فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس
فإذا ما هبّت الريح صباً ... صحت واشوقي إلى الأندلس 512 - وقال بعض الأندلسيين ممن لم يحضرني اسمه الآن:
إذا صال ذو ودٍّ بمدّ صديقه ... فيا أيها الخل المصاحب لي صل بي
فأني مثل الماء ليناً لصاحبي ... وناهيك للأعداء من رجل صلب 513 - وقال أبو يحيى ابن هشام القرطبي:
وخائط رائع جمالاً ... وصاله غاية اقتراحي
__________
(1) زاد في م: الشاعر، في قرباء السوء.
(2) ديوان ابن خفاجة: 136 وزاد في م: السابق ذكره أولاً.(4/20)
تنعم منه الخيوط فتلاً ... بين اقاح وبين راح
تداه في السلم ذا طعان ... بنا فذات بلا جراح
حلقته اشبهت فؤادي أيدي ... لكثرة الوخز (1) في النواحي
تقطّع الثوب راحتاه ... كصنع ألحاظه الملاح
فقبله ما رأيت بدراً ... ممزّقاً بردة الصباح 514 - وقال أبو جعفر أحمد بن عبد الولي البلنسي (2) :
غصبت الثريّا في البعاد مكانها ... وأودعت في عينيّ صادق نوئها
وفي كلّ حالٍ لم تزالي بخيلةً ... فكيف أعرت الشمس حلّة ضوئها قال ابن الأبار: أنشد مؤلف " قلائد العقيان " هذين البيتين لأبي جعفر البني اليعمري، وأحدهما غالط من قبل اشتباه نسبهما، والتفرقة بينهما مستوفاة في تأليفي المسمى ب " هداية المعتسف في المؤتلف والمختلف " انتهى.
وأبو حعفر ابن عبد الولي المذكور أحرقه القنبيطور - لعنه الله تعالى - حين تغلبه بالروم على بلنسية. قال ابن الأبار: وذلك في سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائة، وقيل: إن إحراقه كان سنة تسعين وأربعمائة، انتهى.
515 - وقال أبو العباس القيجاطي فيما انشده له ابن الطيلسان (3) :
ليس الخمول بعارٍ ... على امرىءٍ ذي جلال
فليلة القدر تخفى ... وتلك خير الليالي
__________
(1) ب: الوجد.
(2) التكملة: 24؛ وفي م: وكتب أبو جعفر ابن عبد المولى إلى أحمد البلنسي؛ وانظر ج 3: 487.
(3) التكملة: 46.(4/21)
516 - وقال أبو محمد ابن جحاف المعافري البلنسي (1) :
أقول وقد خوّفوني القران ... وما هو من شرّه كائن
ذنوبي أخاف وأمّا القران ... فإنّي من شرّه آمن وأبوه أبو أحمد وهو المحرّق ببلنسية كما ذكرناه في غير هذا الموضع.
517 - وقال أبو العباس المالقي (2) :
وبين ضلوعي للصبابة لوعةٌ ... بحكم الهوى تقضي عليّ ولا أقضي
جنى ناظري منها على القلب ما جنى ... فيا من رأى بعضاً يعين على بعض 518 - ودخل أبو القاسم ابن عبد المنعم، وكان أزرق وسيماً، ومعه أبو عبد الله الشاطبي وأبو عثمان سعيد بن قوشترة، على صاحب كتاب " مشاحذ الأفكار في مآخذ النظار " فقال ابن قوشترة:
عابوه بالزّرق الذي بجفونه ... والماء أزرق والسّنان كذلكا فقال الشاطبي:
والماء يهدي للنّفوس حياتها ... والرمح يشرع للمنون مسالكا فقال أبو بكر ابن طاهر صاحب كتاب " المشاحذ ":
وكذاك في أجفانه سبب الرّدى ... لكن أرى طيب الحياة هنالكا وهذا من بارع الإجازة، وكم لأهل الأندلس من مثل هذا الديباج الخسرواني، رحمهم الله تعالى وسامحهم.
__________
(1) التكلمة: 56.
(2) التكلمة: 69.(4/22)
519 - وكتب الشيخ الإمام العالم العلامة أبو عبد الله محمد بن الصائغ الأندلسي النحوي عند قول الحريري (1) " أمنا أن يعززا بثالث " مانصه: قد جيء لهما بثالث ورابع في قافيتهما، وهو قول بعض الفضلاء:
ما الأمة اللّكعاء بين الورى ... كمسلمٍ حرٍّ أتى ملأمه
فمه إذا استجديت من قول لا ... فالحرّ لا يملأ منها فمه ثم قال: وبخامس وسادس:
انقد مهوى أزره فاثنى ... مهيا عذولي في الذي انقد مه
مندمةٌ قتل المعنى فلا ... ترسل سهام اللحظ تأمن دمه قلت: رأيت في المغرب (2) في هذا المعنى ما ينيف على سبعين بيتاً كلها مساجلة لبيتي الحريري، رحمه الله تعالى (3) .
520 - وقال أبو بكر عبادة الشاعر في أبي بكر والد الوزير أبي الوليد ابن زيدون:
أيّ ركنٍ من الرياسة هيضا ... وجمومٍ من المكارم غيضا
حملوه من بلدةٍ نحو أخرى ... كي يوافوا به ثراه الأريضا
مثل حمل السحاب ماءً طبيباً ... لتداوي به مكاناً مريضا وكان المذكور توفي في ضيعة له، ونقل تابوته إلى قرطبة فدفن في الربض سنة 405، وولد سنة 304.
521 - وقال أبو بكر ابن قزمان صاحب الموشحات (4) :
__________
(1) ق: قول بيتي الحريري.
(2) أكبر الظن أنه يعني هنا بلاد المغرب لا كتاب المغرب.
(3) انظر الذيل والتكملة 4: 49 - 35 حيث أورد تماذج من هذه المساجلة لبيتي الحريري.
(4) الأصح أن يقول: صاحب الأزجال.(4/23)
وعهدي بالشباب وحسن قدّي ... حكى ألف ابن مقلة في الكتاب
فصرت اليوم منحنياً كأنّي ... أفتّش في التراب على شبابي وقال (1) :
يا رب يومٍ زارني فيه من ... أطلع من غرّته كوكبا
ذو شفة لمياء معسولةٍ ... ينشع من خدّيه ماء الصبا
قلت له هب لي بها قبلةً ... فقال لي مبتسماً مرحبا
فذقت شيئاً لم أذق مثله ... لله ما أحلى وما أعذبا
أسعدني الله بإسعاده ... يا شقوتي يا شقوتي لو أبى قال لسان الدين: كان ابن قزمان نسيج وحده أدباً وظرفاً ولوذعية وشهرة، قال ابن عبد الملك: كان أديباً بارعاً، حلو الكلام، مليح التندير، مبرزاً في نظم الزجل (2) ، قال لسان الدين: وهذه الطريقة الزجلية بديعة تتحكم فيها ألقاب البديع، وتنفسح لكثير مما يضيق على الشاعر سلوكه، وبلغ فيهاأبو بكر، رحمه الله تعالى، مبلغاً حجره الله عن من سواه، فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وفارسها المعلم، والمبتدىء فيها والمتمم.
وقال الفتح في حقه (3) : مبرز في البيان، ومحرز للسبق (4) عند تسابق الأعيان، اشتمل عليه المتوكل على الله فرقاه (5) إلى مجالس، وكساه ملابس، فامتطى أسمى الرتب وتبوئها، ونال أثنى الخطط (6) وما تملأها، وقد أثبت
__________
(1) م: وقال المذكور أيضاً في زيارة الحبيب.
(2) قال لسان ... الزجل: سقطت هذه العبارة من ق.
(3) القلائد: 187.
(4) القلائد: الخصل.
(5) القلائد: اشتمالا أرقاه إلى....
(6) القلائد: الحظوظ.(4/24)
له ما يعلم به رفيع قدره (1) ، ويعرف كيف أساء له الزمان بغدره، كقوله:
ركبوا السيول من الخيول وركّبوا ... فوق العوالي السّمر زرق نطاف
وّتجللوا الغدران من ماذيّهم ... مرتجة إلا على الأكتاف (2) والماذي: العسل، والنطاف: جمع النطفة، وهي الماء الصافي قل أو كثر.
522 -[نقول من المطمح]
1 - وقال الفقيه أبو بكر ابن القوطية صاحب الأفعال في اللغة والغريب، في زمن الربيع (3) :
ضحك الثرى وبدا لك استبشاره ... فاخضرّ شاربه وطرّ عذاره
ورنت حدائقه وزرّر نبته ... وتعطرت (4) أنواره وثماره
واهتزّ ذابل كلّ ماء (5) قرارةٍ ... لمّا أتى متطلّعاً آذاره
وتعمّمت صلع الرّبى بنباته ... وترنمت من عجمةٍ أطياره وقال في المطمح في حق ابن القوطية المذكور (6) : إنه ممن له سلف، وثنية كلها شرف، وهو أحد المجتهدين في الطلب، والمشتهرين بالعلم والأدب، والمنتدبين للعلم والتصنيف، والمرتبين له بحسن الترتيب والتأليف، وكان له شعر نبيه، وأكثره أوصاف وتشبيه، انتهى.
2 - وقال القاضي الأجل يونس بن عبد الله بن مغيث (7) :
__________
(1) القلائد: ما تعلم به حقيقة قدره.
(2) ب: الأعطاف.
(3) المطمح: 59 والبديع: 20.
(4) المطمح: ودنت ... وآزر ... ؛ البديع: وربت.... وآزر.... وتفطرت.
(5) البديع: كل نبت.
(6) المطمح: 58.
(7) المطمح: 59.(4/25)
أتوا حسبةً إذ قيل جدّ نحو له ... فلم يبق من لحمٍ عليه ولا عظم
فعادوا قميصاً في فراشٍ فلم يروا (1) ... ولا لمسوا شيئاً يدلدعلى جسم
طواه الهوى في ثوب سقمٍ من الضنى ... وليس بمحسوسٍ بعينٍ ولا وهم وقال في المطمح فيه: إنه قاضي الجماعة بقرطبة، فاضل ورع مبرز في النساك والزهاد، دائم الأرق في التخشع والسهاد، مع التحقق بالعلم والتمييز بحمله (2) ، والتحيز إلى فئة الورع وأهله، وله تآليف في التصوف والزهد (3) ، منها كتاب " المنقطعين إلى الله " وكتاب " المجتهدين " وأشعار في هذا المعنى، منها قوله:
فررت إليك من ظلمي لنفسي ... وأوحشني العباد وأنت أنسي
قصدت إليك منقطعاً غريباً ... لتؤنس وحدتي في قعر رمسي
وللعظمى من الحاجات عندي ... قصدت وأنت تعلم سرّ نفسي ولما أراد المستنصر بالله غزو الروم تقدم إلى أبي محمد والده بالكون في صحبته، ومسايرته في غزوته، فاعتذر بعذر يجده، وألم لا ينجده، فقال له الحكم: إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة، وجازيته أفضل المجازاة، فأجابه إليه على أن يؤلفه بالقصر، فزعم أنه رجل مزور، وأن ذلك الموضع ممتنع على من يلم به ويزور، فألفه بدار الملك المطلة على النهر، وأكمله فيما دون شهر، وتوفي والمستنصر بعد في غزاته (4) .
__________
(1) م ق ب: فلم يجد.
(2) المطمح: والتمييز بفضله.
(3) المطمح: وله تصانيف في الزهد والتصوف.
(4) في الأصول: وتوفي المستنصر إذ ذاك؛ وهو خطأ لأن المستنصر توفي سنة 366؛ وفي المطمح: وتوفي بعد المستنصر في غزاته.(4/26)
3 - وقال ابن سيده صاحب المحكم يخاطب إقبال الدولة:
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيلٌ فإنّ الأمن في ذاك واليمنا قال في المطمح (1) : الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بابن سيده إمام في اللغة والعربية، وهمام في الفئة الأدبية، وله في ذلك أوضاع، لأفهام أخلافها استدرار واسترضاع، حررها تحريراً، وأعاد طرف الذكاء بها قريراً، وكان منقطعاً إلى الموفق صاحب دانية، وبها أدرك أمانيه، ووجد تجرده للعلم وفراغه، وتفرد بتلك الإراغة، ولا سيما كتابه المسمى بالمحكم، فإنه أبدع كتاب (2) وأحكم، ولما مات الموفق رائش جناحه، ومثبت غرره وأوضاحه، خاف من ابنه إقبال الدولة، وأطاف به مكروهاً (3) بعض من كان حوله، إذ أهل الطلب كحيات مساورة، ففر إلى بعض الأعمال المجاورة، وكتب إليه منها مستعطفاً:
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإنّ الأمن في ذلك واليمنا
فتنضى همومٌ طلّحته خطوبها ... ولا غارباً يبقين منه ولا متنا
غريبٌ نأى أهلوه عنه وشفّه ... هواهم فأمسى لا يقرّ ولا يهنا
فيا ملك الأملاك إني محلأ ... عن الورد لا عنه أذاد ولا أدنى
تحققت مكروهاً فأقبلت شاكياً ... لعمري أمأذونٌ لعبدك أن يعنى
وإن تتأكد في دمي لك نيةٌ ... فإني سيف لا أحبّ له جفنا
إذا ما غدا من حرّ سيفك بارداً ... فقدماً غدا من برد نعماكم سخنا
وهل هي إلاّ ساعةٌ ثمّ بعدها ... ستقرع ما عمّرت من ندمٍ سنّا
__________
(1) المطمح: 60.
(2) المطمح: كتاب في اللغة؛ م: في فنه.
(3) المطمح: مكروه.(4/27)
ومالي من دهري حياةٌ ألذّها ... فتجعلها نعمى عليّ وتمتنّا
إذا ميتةٌ أرضتك عنّا فهاتها ... حبيبٌ إلينا ما رضيت به عنّا وقال الفقيه أبو محمد غانم بن الوليد الأندلسي المخزومي المالقي (1) :
صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً ... سمّ الخياط مجالٌ للمحبيّن
ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين وله:
الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حالةٍ ... كان على أيّامه بالخيار وقال في المطمح فيه: إنّه عالم متفرس، وفقيه مدرس، وأستاذ متجرد (2) ، وإمام لأهل الأندلس مجود، وأما الأدب فكان جل شرعته، ورأس بغيته، مع فضل وحسن طريقة، وجدٍ في جميع الأمور وحقيقة، انتهى.
5 - وقال المحدث الحافظ أبو عمر ابن عبد البر يوصي ابنه بمقصورة (3) :
تجاف عن الدنيا وهوّن لقدرها ... ووفّ سبيل الدين بالعروة الوثقى
__________
(1) المطمح: 60 - 61؛ وفي م لم يرو هذين البيتين له وأورد بدلهما قوله:
أهل الحرابة والفساد من الورى ... يعزون في التشبيه للذكار
مرآهم ذكراً إذا ما أبصروا ... فوق الجذوع وفي ذرى الأسوار
لو عم فضل الله جملة خلقه ... ما كان أكثرهم من أهل النار وقوله: الصبر أولى بوقار الفتى ... واأولان وردا في ج 3: 265، 398، 447 والتاليان وردا في ج 3: 398.
(2) المطمح: مجود.
(3) المطمح: 62، وترجمة ابن عبد البر: 61.(4/28)
وسارع بتقوى الله سرّاً وجهرةً ... فلا ذمة أقوى هديت من التقوى
ولا تنس شكر الله في كلّ نعمةٍ ... يمنّ بها فالشكر مستجلب النّعمى
فدع عنك ما لا حظّ فيه لعاقلٍ ... فإن طريق الحقّ أبلج لا يخفى
وشح بأيّامٍ بقين قلائلٍ ... وعمرٍ قصيرٍ لا يدوم ولا يبقى
ألم تر أنّ العمر يمضي مولّياً ... فجدّته يبلى ومدّته تفنى
نخوض ونلهو غفلةً وجهالةً ... وننشر أعمالاً وأعمارنا تطوى
تواصلنا فيه الحوادث بالردى ... وتنتابنا فيه النوائب بالبلوى
عجبت لنفسٍ تبصر الحقّ بيّناً ... لديها وتأبى أن تفارق ما تهوى
وتسعى لما فيه عليها مضرّةٌ ... وقد علمت أن سوف تجزى بما تسعى
ذنوبي أخشاها ولست بآيس ... وربّي أهلٌ أن يخاف وأن يرجى
وإن كان ربي غافراً ذنب من يشا ... فإنّي لا أدري أأكرم أم أخزى وقال في المطمح (1) : الفقيه الإمام العالم الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، إمام الأندلس وعالمها، الذي التاحت به معالمها، صحح المتن والسند، وميز المرسل من المسند، وفرق بين الموصول والقاطع، وكسا الملة منه نورٌ ساطع، حصر الرواة، وأحصى الضعفاء منهم والثقات، وجد في تصحيح السقيم، وجدد منه ما كان كالكهف والرقيم، مع معلنات العلل، وإرهاف ذلك العلل، والتنبيه والتوقيف، والإتقان والتثقيف، وشرح المقفل، واستدراك المغفل، وله فنون هي للشريعة رتاج، وفي مفرق الملة تاج، أشهرت للحديث ظبى، وفرعت لمعرفته ربى، وهبت لتفهمه شمال (2) وصبا، وشفت منه وصبا، وكان ثقة، والأنفس على تفضيله متفقة، وأما أدبه فلا تعبر
__________
(1) م: وقال في حقه.
(2) المطمح: شمالاً.(4/29)
لجته، ولا تدحض حجته، وله شعر لم نجد منه إلا ما نفث به أنفة، وأقصى (1) فيه عن معرفة، فمن ذلك قوله - وقد دخل إشبيلية فلم يلق فيها مبرة، ولم يلق من أهلها تهلل أسرة، فأقام بها حتى أخلقه مقامه، وأطبقه اغتمامه، فارتحل وقال:
تنكّر من كنّا نسرّ بقربه ... وعاد زعافاً بعدما كان سلسلا
وحقّ لجارٍ لم يوافقه جاره ... ولا لاءمته الدار أن يتحوّلا
بليت بحمصٍ والمقام ببلدةٍ ... طويلاً لعمري مخلقٌ يورث البلى
إذا هان حرٌّ عند قومٍ أتاهم ... ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا
ولم تضرب الأمثال إلا لعالم ... وما عوتب الإنسان إلا ليعقلا 6 - وقال الفقيه أبو بكر ابن أبي الدوس (2) :
إليك أبا يحيى مددت يد المنى ... وقدماً غدت عن جود غيرك تقبض
وكانت كنور العين يلمع بالدجى ... فلمّا دعاه الصبح لبّاه ينهض وقال في المطمح: إنه من أبدع الناس خطاً، وأصحهم نقلاً وضبطاً، اشتهر بالإقراء، واقتصر بذلك على الأمراء، ولم ينحط لسواهم، ومطل الناس بذلك ولواهم، وكان كثير التحول، عظيم التجول، لا يستقر في بلد، ولا يستظهر على حرمانه بجاد، فقذفته النوى، وطردته عن كل ثوا، ثم استقر آخر عمره بأغمات، وبها مات، وكان له شعر بديع يصونه أبداً، ولا يمد به يداً. أخبرني من (3) دخل عليه بالمرية فرآه في غاية الإملاق، وهو في ثياب أخلاق، وقد توارى في منزله تواري المذنب، وقعد عن الناس قعود
__________
(1) المطمح: وأوصى.
(2) المطمح: 64؛ وفي ق: ابن الدودس، وانظر ارجمته في المطمح: 63.
(3) م: أخبرني في من أثق به أنه.(4/30)
مجتنب، فلما علم ما هو فيه، وترفعه عمن يجتديه، عاتبه في ذلك الاعتزال، وآخذه حتى استنزله بفيض الاستنزال، وقال له: هلا كتبت إلى المعتصم، فما في ذلك ما يصم، فكتب إليه: إليك أبا يحيى مددت يد المنى - البيتين، انتهى.
7 - وقال الفقيه القاضي الفاضل أبو الفضل ابن الأعلم (1) ، حين اقلع وأناب، وودع ذلك الجناب، وتزهد وتنسك، وتمسك من طاعة الله بما تمسك، وتذكر يوماً يتجرد من أمله، وينفرد فيه بعمله:
الموت يشغل ذكره ... عن كل معلومٍ سواه
فاعمر له ربع ادّكا ... رك في العشيّة والغداه
واكحل به طرف اعتبا ... رك طول أيام الحياه
قبل ارتكاض النفس ما ... بين الترائب واللهاه
فيقال هذا جعفرٌ ... رهنٌ بما كسبت يداه
عصفت به ريح المنو ... ن فصيرته كما تراه
فضعوه في أكفانه ... ودعوه يجني ما جناه
وتمتّعوا بمتا ... هـ المخزون واحووا ما حواه
يا منظراً مستبشعاً ... بلغ الكتاب به مداه
لقّيت فيه بشارةً ... تشفي فؤادي من جواه
ولقيت بعدك خير من ... نبّاه ربي واجتباه
في دار خفضٍ ما اشتهت ... نفس المقيم بها أتاه وقال في المطمح: إنه كهل الطريقة، وفتى الحقيقة، تدرع الصيانة،
__________
(1) المطمح: 66، وتبدأ ترجمته ص: 64.(4/31)
وبرع في الورع والديانة، وتماسك عن الدنيا عفافاً، وما تماسك (1) التماساً بأهلها والتفافاً، فاعتقل النهى، وتنقل في مراتبها حتى استقر فيها في السها، وعطل أيام الشباب، ومطل فيها سعاد وزينب والرباب، إلا ساعات وقفها على المدام، وعطفها إلى الندام، حتى تخلى عن ذلك واترك، وأدرك من المعلومات ما أدرك، وتعرى من الشبهات، وسرى إلى الرشد مستيقظاُ من تلك السنات، وله تصرف في شتى الفنون، وتقدم في معرفة المفروض والمسنون، وأما الأدب فلم يجاره في ميدانه أحد، ولا استولى على إحسانه فيه حصر ولا حد، وجده أبو الحجاج الأعلم هو خلّد منه ما خلّد، ومنه تقلد ما تقلد، وقد أثبت لأبي الفضل هذا ما يسقيك ماء الإحسان زلالاً، ويريك سحر البيان حلالاً، فمن ذلك ما كتب به إلي، وقد مررت على شنت مرية بعدما رحل عنها وانتقل، واعتقل من نوانا (2) وبيننا ما اعتقل، وشنت مرية هذه داره، وبها كمل هلاله وإبداره، وفيها استقضي، وشيم مضاؤه وانتضي، فالتقينا بها على ظهر، وتعاطينا ذكر ذلك الدهر، فجددت من شوقه، ما كان قد شب عن طوقه، فرامني على الإقامة، وسامني على ذلك بكل كرامة، فأبيت إلا النوى وانثنيت عن الثوا، فودعني، ودفع إلي تلك القطعة حين شيعني:
بشراي أطلعت السعود على ... آفاق أنسي بدرها كملا
وكسا أديم الأرض منه سناً ... فكست بسائطها به حللاً
إيه أبا نصرٍ، وكم زمنٍ ... قصر ادكارك عندي الأملا
هل تذكرن والعهد يخجلني ... هل تذكرن أيامنا الأولا
أيام نعثر في أعنّتنا ... ونجرّ من أبرادنا خيلا
ونحل روض الأنس مؤتنفاً ... وتحلّ شمس مرادنا الحملا
__________
(1) المطمح: وما تمالك.
(2) ب: ثواناً.(4/32)
ونرى ليالينا مساعفة ... تدعو إلينا رفقنا الجفلى
زمنٌ نقول على تذكره ... ما تم حتى قيل قد رحلا
عرضت لزورتكم وما عرضت ... إلاّ لتمحق كلّ ما فعلا ووافيته عشية من العشايا أيام ائتلافنا، وعودنا إلى مجلس الطلب واختلافنا، فرأيته مستشرفاً متطلعاُ، يرتاد موضعاً يقيم به لثغور الأنس مرتشفاً ولثديه مرتضعاً، فحين مقلني (1) ، تقلدني إليه واعتقلني، وملنا إلى روضة قد سندس الربيع في بساطها ودمج الدهر وأنك أوساطها أشعرت النفوس فيها سرورها وانبساطها، فأقمنا بها نتعاطى كؤوس أخبار، ونتهادى أحاديث جهابذة وأخبار، إلى أن نثر زعفران العشي، وأذهب الأنس خوف العالم الوحشي، فقمت وقام، وعوج الرعب من ألسنتنا ما كان استقام، وقال:
وعشيّة كالسيف إلاّ حده ... بسط الربيع بها لنعلي خدّه
عاطيت كأس الأنس فيها واحداً ... ما ضرّه أن كان جمعاً وحده وتنزه يوماً بحديقة من حدائق الحضرة قد اطرد نهرها، وتوقد زهرها، والريح يسقطه فينظم بلبّة الماء، ويبتسم به فتخاله كصفحة خضرة السماء، فقال:
انظر إلى الأزهار كيف تطلعت ... بسماوة الروض المجود نجومها
وتساقطت فكأنّ مسترقاً دنا ... للسمع فانقضّت عليه رجوما
وإلى مسيل الماء قد رقمت به ... صنع الرياح من الحباب رقوما
ترمي الرياح لها نثيراً زهره ... فتمده في شاطئيه رقيما وله يصف قلم يراعة، وبرع في صفته أعظم براعة:
__________
(1) ب: رمقني.(4/33)
ومهفهفٍ ذلق صليب المكسر ... سببٌ لنيل المطلب المتعذّر
متألّقٌ تنبيك صفرة لونه ... بقديم صحبته لآل الأصفر
ما ضره أن كان كعب يراعةٍ ... وبحكمه اطّردت كعوب السّمهري له عندما شارف الكهولة، واستأنف قطع صرة كانت موصولة:
أمّا أنا فقد ارعويت عن الصّبا ... وعضضت من ندم عليه بناني
فأطعت نصّاحي وربّ نصيحةٍ ... جاءوا بها فلججت في العصيان
أيام أسحب من ذيول شبيبتي ... مرحاً وأعثر في فضول عناني
وأجلّ كأسي أن ترى موضوعةً ... فعلى يدي أو في يدي ندماني
أيام أحيا بالغواني والغنا ... وأموت بين الراح والريحان
في فتيةٍ فرضوا اتصال هواهم ... فمناهم دنٌّ من الأدنان
هزّت علاهم أريحيّات الصّبا ... فهي النسيم وهم غصون البان
من كلّ مخلوع الأعنّة لم يبل ... في غيّه بمصارف الأزمان إلى أن قال: ومن نثره يصف فرساً: انظر إليه سليم الأديم، كريم القديم، كأنما نشأ بين الغبراء واليحموم (1) ، نجمٌ إذا بدا، ووهمٌ إذا عدا، يستقبل بغزال، ويستدبر برال، ويتحلى بشيات (2) تقسيمات الجمال.
وله يصف سرجاً: بزة جياد، ومركب أجواد، جميل الظاهر، رحيب ما بين القادمة والآخر، كأنما قد من الخدود أديمه، واختص بإتقان الحبك تقويمه.
وله في وصف لجام: متناسب الأشلاء، صريح الانتماء، إلى ثريا السماء، فكله نكال، وسائره جمال.
__________
(1) م ب: والنجوم.
(2) ب: شبيهات؛ والمطمح: بشتات.(4/34)
وله في وصف رمح: مطرد الكعوب، صحيح اتصال الغالب والمغلوب، أخ ينوب كلما استنيب ويصيب.
وله في وصف قميص: كافوري الأديم، بابلي الرسوم، تباشر منه الجسوم، ما يباشر الروض من النسيم.
وله في وصف بغل: مقرف (1) النسب، مستخبر الشرف آمن الكبب، إن ركب امتنع اعتماله، أو ركب استقل به أخواله.
وله في وصف حمار: وثيق المفاصل، عتيق النهضة إذا ونت المراسل، انتهى ببعض اختصار.
8 - وقال الأديب الشاعر ابو عمر (2) يوسف بن هرون الكندي، المعروف بالرمادي (3) :
أومى لتقبيل البساط خنوعا ... فوضعت خدّي في التراب خضوعا
ما كان مذهبه الخنوع لعبده ... إلاّ زيادة قلبه تقطيعا
قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلّماً ... يمنن عليّ بردّه مصدوعا
العبد قد يعصي، وأحلف أنني ... ما كنت إلاّ سامعاً ومطيعا
مولاي يحيى في حياةٍ كاسمه ... وأنا أموت صبابةً وولوعا
لا تنكروا غيث الدموع فكلّ ما ... ينحلّ من جسمي يكون دموعا والرمادي المذكور عرف به غير واحد، منهم الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتابه " جذوة المقتبس " وقال (4) : أظن أن أحد آبائه كان من أهل الرمادة، وهي موضع بالمغرب، وهو قرطبي، كثير الشعر، سريع القول، مشهور عند
__________
(1) م ق ب: مترف.
(2) ق: ابو عمرو.
(3) المطمح: 71.
(4) جذوة المقتبس: 346.(4/35)
الخاصة والعامة هنالك، لسلوكه في فنون من المنظور والمنثور مسالك، حتى كان كثير من شيوخ الأدب في وقته يقولون: فتح الشعر بكندة وفتح في كنده، يعنون امرأ القيس والمتنبي ويوسف بن هرون، على أن في كون المتنبي من كندة القبيلة كلاماً مشهوراً.
وأخذ أبو عمر ابن عبد البر عن الرمادي هذا قطعة من شعره، وضمنها بعض تأليفه.
قال ابن حيان: توفي الرمادي سنة 403، وذكر ابن سعيد في " المغرب " ان الرمادي اكتسب صناعة الأدب من شيخه أبي بكر يحيى بن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس، وهو القائل رحمه الله تعالى:
لا تلمني على الوقوف بدارٍ ... أهلها صيّروا السّقام ضجيعي
جعلوا لي إلى هواهم سبيلاً ... ثمّ سدّوا عليّ باب الرجوع وروى الرمادي عن أبي علي كتاب " النوادر " ومدح أبا علي بقصيدة كما أشرنا إليه في غير هذا الموضع.
وقال في المطمح (1) : إنه شاعر مفلق، انفرج له من الصناعة المغلق، وومض له برقها المؤتلق، وسال بها طبعه كالماء المندفق، فأجمع على تفضيله المختلف والمتفق، فتارة يحزن وأخرى يسهل، وفي كلتيهما بالبديع يعل وينهل، فاشتهر عند الخاصة والعامة بانطباعه في الفريقين، وإبداعه في الطريقين، وكان هو وأبو الطيب متعاصرين، وعلى الصناعة متغايرين، وكلاهما من كندة، وما منهما إلا من اقتدح في الإحسان زنده وتمادى بأبي عمر (2) ، طلق العمرحتى أفرده صاحبه ونديمه، وهريق شبابه واستشن أديمه،
__________
(1) المطمح: 69.
(2) ق ب والمطمح: عمرو.(4/36)
ففارق تلك الأيام وبهجتها، وأدرك الفتنة فخاض لجتها، وأقام فرقاً من هيجانها، شرقاًبأشجانها، ولحقته فيها فاقة نهكته، وبعدت عنه الإفاقة حتى أهلكته، وقد أثبت من محاسنه ما يعجبك سرده، ولا يمكنك نقده، فمن ذلك قوله:
شطّت نواهم بشمسٍ في هوادجهم ... لولا تلألؤها في ليلهنّ عشوا
شكت محاسنها عيني وقد غدرت ... لأنّها بضمير القلب تنجمش
شعرٌ ووجهٌ تبارى في اختلافهما ... بحسن هذا وذاك الروم والحبش
شككت في سقمي منها أفي فرشي ... منها نكست وإلاّ الطيف والفرش إلى أن قال: وكان كلفاً بفتىً نصراني استسهل (1) لباس زناره، والخلود معه في ناره، وخلع بروده لمسوحه، وتسوغ الأخذ عن مسيحه (2) ، وراح في بيعته، وغدا من شيعته، ولم يشرب نصيبه، حتى حط عليه صليبه، فقال:
أدرها مثل ريقك ثم صلّب ... كعادتهم (3) على وهمي وكاسي
فيقضى ماأمرت به اجتلاباً ... لمسروري وزاد خضوع (4) راسي وله في مثله:
ورأيت فوق النّحر در ... عاً فاقعاً من زعفران
فزجرته لوناً سقا ... مي بالنوى، والزّجر شاني
يامن نأى عنّي كما ... تنأى العيون (5) الفرقدان
فأرى بعيني الفرقدي ... ن ولا أراه ولا يراني
__________
(1) المطمح: استحسن.
(2) خطأ في الأصلين؛ وأثبتنا عبارة المطمح.
(3) المطمح: كعادتكم.
(4) المطمح: فقضى ... خنوع؛ م: خنوع.
(5) المطمح: ينأى لعيني.(4/37)
لا قدرت لك أوبة ... حتى يؤوب القارظان
هل ثم إلا الموت فر ... داً لاتكون منيتان وله أيضاً:
اشرب الكاس يا نصير وهات ... إن هذا النهار من حسناتي
بأبي غرة ترى الشخص فيها ... في صفاء أصفى من المرآة
تنزع (1) الناس نحوها بازدحام ... كازدحام الحجيج في عرفات
هاتها يا نصير إنا اجتمعنا ... بقلوب في الدين مختلفات
إنما نحن في مجالس لهو ... نشرب الراح ثم أنت مواتي
فإذا ما انقضت دنانة ذا الله ... و (2) اعتمدنا مواضع الصلوات
لو مضى الدهر دون راح وقصف ... لعددنا هذا من السيئات وشاعت عنه أشعار في دولة الخلافة (3) وأهلها، سدد إليهم صائبات نبلها، وسقاهم كؤوس نهلها، أوغرت عليه الصدور، ونفرت (4) عليه المنايا ولكن لم يساعدها المقدور، فسجنه الخليفة دهراً، وأسكنه (5) من النكبة وعراً، فاستعطفه أثناء ذلك واستلطفه، وأجناه كل زهر من الاحسان وأقطفه،
فما أصغى إليه، ولا ألغى موجدته عليه، وله في السجن أشعار صرح فيها ببثه، وأفصح فيها عن جل الخطب لفقد صبره ونكثه، فمن ذلك قوله:
لك الأمن من شجو يزيد تشوقي ...
__________
(1) ق: تنزح؛ والمطمح: تسرع؛ م: تترع.
(2) المطمح: دنان على اللهو؛ م: ذنانات ذا اللهو.
(3) المطمح: الخليفة.
(4) المطمح: وفغرت.
(5) المطمح: وأسلكه.(4/38)
ومنها:
فوافوا بنا الزهراء في حال خالع ال ... أئمة (1) لاستيفائهم في التوثق
وحولي من أهل التأدب مأتم ... ولا جؤذر إلا بثوب مشقق
فلو أن في عيني الحمام كروضها ... وإن كان في ألوانه غير مشفق
ونادى حمامي مهجتي لتقلقلت (2) ... فهلا أجابت وهو عندي لمحنق
أعيني إن كانت لدمعي فضلة ... تثبت صبري ساعة فتدفقي
فلو ساعدت ثالث أمن عدة الأمس ... تنقت دمومي أم من البحر تستقي ومنها:
وقالت تظن الدهر يجمع بيننا ... فقلت لها من لي بظن محقق
ولكنني فيما زجرت بمقلتي ... زجرت اجتماع الشمل بعد التفرق
فقد كانت الأشفار في مثل بعدنا ... فلما التقت بالطيف قالت سنلتقي
أباكية يوما ولم يأتي وقته ... سينفد قبل اليوم دمعك فارفقي إلى أن قال: وله أيضاً:
على كبري تهمي السحاب وتذرف ... ومن جزعي تبكي الحمام وتهتف
كأن السحاب الواكفات غواسلي ... وتلك على فقدي نوائح هتف
ألا ظعنت ليلى وبان قطينها ... ولكنني باق فلوموا وعنفوا
وآنست في وجه الصباح لبينها ... نحولاً كأن الصبح مثلي مدنف
وأقرب عهد رشفة بلت الحشا ... فعاد شتاء بارداً وهو صيف
وكانت على خوف فولت كأنها ... من الردف في قيد الخلاخل ترسف
__________
(1) المطمح: حلة ثلائم.
(2) المطمح: فتغافلت.(4/39)
وله:
قبلته قدام قسيسه ... شربت كاسات بتقديسه
يقرع قلبي عند ذكري له ... من فرط شوقي قرع ناقوسه وسجن معه غلام من أولاد العبيد فيه مجال، وفي نفس متأمله من لوعته أوجال، فكتب يخاطب الموكل بالسجن بقطعة منها:
جليسك ممن أتلف الحب قلبه ... ويلذع قلبي حرقة دونها الجمر
هلال وفي غير السماء طلوعه ... وريم ولكن ليس مسكنه القفر
تأملت عينيه فخامرني السكر ... ولا شك في أن العيون هي الخمر
أناطقه كيما يقول، وإنما ... أناطقه عمداً لينتثر الدر
أنا عبده وهو المليك كما اسمه ... فلي منه شطر كامل وله شطر انتهى باختصار.
9 - وقال محمد بن هانئ (1) :
قد مررنا على مغانيك تلك ... فرأينا بها مشابه منك
عارضتنا المها الخواذل سرباً ... عند أجراعها فلم نسل عنك
لا يرع للمها بذكرك سرب ... أشبهتك في الوصف إن لم تكنك
كن عذيري لقد رأيت معاجي ... يوم تبكي بالجزع ولهى (2) وأبكي
بحنين مرجع وتشك ... وأنين موجع كتشكي وقال صاحب المطمح في حقه: الأديب أبو القاسم محمد بن هانئ، ذخر (3)
__________
(1) المطمح: 77، وترجمته ص: 74.
(2) المطمح: وجداً.
(3) المطمح: علق.(4/40)
خطير، وروض أدب مطير، غاص في طلب الغريب حتى أخرج دره المكنون، وبهرج بافتنانه فيه كل الفنون، وله نظم تتمنى الثريا أن تتوج به وتتقلد، ويود البدر أن يكتب ما اخترع فيه وولد، زهت به الأندلس وتاهت، وحاسنت ببدائعه الأشمس وباهت، فحسد المغرب فيه المشرق، وغص به من بالعراق وشرق، غير أنه نبت به أكنافها، وشمخت عليه آنافها، وبرئت منه، وزويت الخيرات فيها عنه، لأنه سلك مسلك المعري، وتجرد من التدين وعري، وأبدى الغلو، وتعدى الحق المجلو، فمجته الأنفس، وأزعجته الأندلس، فخرج على غير اختيار، وما عرج على هذه الديار، إلى أن وصل الزاب واتصل بجعفر ابن الأندلسية، مأوى تلك الجنسية، فناهيك من سعد ورد عليه فكرع، ومن باب ولج فيه وما قرع، فاسترجع عنده شبابه، وانتجع وبله وربابه، وتلقاه بتأهيل ورحب، وسقاه صوب تلك السحب، فأفرط في مدحه فيه في الغلو وزاد، وفرغ عنده تلك المزاد، ولم يتورع، ولا ثناه ذو ورع، وله بدائع يتحير فيها ويحار، ويخال لرقتها أنها أسحار، فغنه اعتمد التهذيب والتحرير، واتبع في أغراضه الفرزدق مع جرير، وأما تشبيهاته فخرق فيها المعتاد، وما شاء منها اقتاد، وقد أثبت له ما تحن له الأسماع، ولا تتمكن منه الأطماع، فمن ذلك قوله:
أليلتنا إذ أرسلت وارداً وحفا ... وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا
وبات لنا ساق يقوم على الدجى ... بشمعة صبح لاتقط ولاتطفا
أغن غضيض خفف اللين قده ... وثقلت الصهباء أجفانه الوطفا
ولم يبق إرعاش المدام له يداً ... ولم يبق إعنات التثني له عطفا
نزيف نضاه السكر إلا ارتجاجة ... إذا كل عنها الخصر حملها الردفا
يقولون حقف فوقه خيزرانة ... أما يعرفون الخيزرانة والحقفا
جعلنا حشايانا ثياب مدامنا ... وقدت لنا الأزهار من جلدها لحفا(4/41)
فمن كبد توحي إلى كبد هوى ... ومن شفة تومي إلى شفة رشفا ومنها:
كأن السماكين اللذين تراهما ... على لبنتيه ضامنان له حتفا
فذا رامح يهوي إليه سنانه ... وذا أعزل قد عض أنمله لهفا
كأن سهيلاً في مطالع أفقه ... مفارق إلف لم يجد بعده إلفا
كأن بني نعش ونعشاً مطافل ... بوجزة قد أضللن في مهمه خشفا
كأن سهاها عاشق بين عود ... فآونة يبدو وآونة يخفى
كأن قدامى النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسم الخوافي له ضعفا
كان أخاه حين حوم طائر ... أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا
كان ظلام الليل إذ مال ميلة ... صريع مدام بات يشربها صرفا
كأن عمود الصبح خاقان معشر ... من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى
كأن لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا (1) وله أيضاً:
فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصباح المسفر
وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً ... بالنصر من علق (2) الحديد الأحمر
أبني العوالي السمهرية والسيو ... ف المشرفية والعديد الأكثر
من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير
جيش تعد له الليوث وفوقها ... كالغيل من قصب الوشيج الأخضر
وكأنما سلب القشاعم ريشها ... مما يشق من العجاج الأكدر
لحق القبول مع الدبور وسار في ... جمع الهرقل وعزمة الإسكندر
__________
(1) المطمح: لطفاً.
(2) المطمح: ورق.(4/42)
في فتية صدأ الحديد لباسهم ... في عبقري البيض جنة عبقر
وكفاه من حب السماحة أنه ... منها بموضع مقلة من محجر ومنها:
نعماؤه من رحمة، ولباسه ... من جنة، وعطاؤه من كوثر وله أيضاً من قصيدة في جعفر بن علي:
ألا أيها الوادي المقدس بالندى (1) ... وأهل الندى قلبي إليك مشوق
ويا أيها القصر المنيف قبابه ... على الزاب لايسدد إليك طريق
ويا ملك الزاب الرفيع عماده ... بقيت لجمع المجد وهو فريق
فما أنس لاأنس الأمير إذا غدا ... تروع بحوراً فلكه وتروق (2)
ولا الجود يجري من صفيحة وجهه ... إذا كان من ذاك الجبين شروق
وهزته للمجد حتى كأنما ... جرت في سجاياه العذاب رحيق
أما وأبي تلك الشمائل إنها ... دليل على أن النجار عتيق
فكيف بصبر النفس عنه ودونه ... من الأرض مغبر الفجاج عميق
فكن كيف شاء الناس أو شئت دائماً ... فليس لهذا الملك غيرك فوق
ولا تشكر الدنيا على نيل رتبة ... فما نلتها إلا وأنت حقيق وله من أخرى:
خليلي أين الزاب مني وجعفر ... وجنات عدن بنت عنها وكوثر
فقبلي نأى عن جنة الخلد آدم ... فما راقه من جانب الأرض منظر
لقد سرني أني أمر بباله ... فيخبرني عنه (3) بذلك مخبر
__________
(1) المطمح: بالطوى.
(2) هذا الشطر مضطرب في الأصل، ولا يزال - على التصويب - قلقاً.
(3) ب: فيخبره عني.(4/43)
وقد ساءني أني أراه ببلدة ... بها منسك منه عظيم ومشعر
وقد كان لي منه شفيع مشفع ... به يمحص به الله الذنوب ويغفر
أتى الناس أفواجاً إليك كأنما ... من الزاب بيت أو من الزاب محشر
فأنت لمن مزق الله شمله ... ومعشره والأهل أهل ومعشر وله أيضاً:
ألا طرقتنا والنجوم ركود ... وفي الحي أيقاظ وهن هجود
وقد أعجل الفجر الملمع خطوها ... وفي أخريات الليل منه عمود
سرت عاطلاً غضبي على الدر وحده ... ولم يدر نحر ما دهاه وجيد
فما برحت إلا ومن سلك أدمعي ... قلائد في لباتها وعقود
ويا حسنها في يوم نضت سوالفاً ... تريع إلى أترابها وتحيد
ألم يأتها أنا كبرنا عن الصبا ... وأنا بلينا والزمان جديد
ولا كالليالي ما لهن مواثق ... ولا كالغواني ما لهن عهود
ولا كالمعز ابن النبي خليفة ... له الله بالفخر المبين شهيد وله من قصيدة يمدح بها يحيى بن علي بن رمان:
قفا بي فلا مسرى سرينا ولانسري ... وإلا نرى مشي القطا الوارد الكدر
قفا نتبين أين ذا البرق منهم ... ومن أين تأتي الريح طيبة النشر
لعل ثري الوادي الذي كنت مرة ... أزورهم فيه تضوع للسفر
وإلافما واد يسيل بعنبر ... وإلا فما تدري الركاب ولا ندري
أكل الناس بالصبر لم تظنه ... كناس الظباء الدعج والشدن العفر
وهل عجبوا ألي أسئل عنهم ... وهم بين أحناء الجوانح والصدر
وهل علموا أني أيمم أرضهم ... وما لي بها غير التعسف من خبر
ولي سكن تأتي الحوادث دونه ... فيبعد عن عيني ويقرب من فكري(4/44)
إذا ذكرته النفس جاشت بذكره ... كما عثر الساقي بجام من الخمر
فلا تسألاني عن زماني الذي خلا ... فوالعصر إني قبل يحيى لفي خسر
وآليت لا أعطي الزمان مقادتي ... على مثل يحيى ثم أغضي على الوتر
حنيني إليه ظاعناً ومخيماً ... وليس حنين الطير إلا إلى الوكر وله من قصيدة:
فتكات طرفك أم سيوف أبيك ... وكؤوس خمرك أم مراشف فيك
أجلاد مرهفة وفتك محاجر ... لا أنت راحمة ولا أهلوك
يا بنت ذي السيف الطويل نجاده ... أكذا يجوز الحكم في ناديك
عيناك أم مغناك موعدنا، على ... وادي الكرى ألقاك أم واديك وله أيضاً:
أحبب بهاتيك القباب قبابا ... لا بالحداة ولا الركاب ركابا
فيها قلوب العاشقين تخالها ... عنماً بأيدي البيض أو عنابا
والله لولا أن يعنفني الهوى ... ويقول بعض العاذلين تصابى
لكسرت دملجها بضيق عناقها ... ورشفت من فيها البرود رضابا
بنتم فلولا أن أغير لمتي ... عبثاً وألقاكم علي غضابا
لخضبت شيباً في مفارق لمتي ... ومحوت محو النفس عنه شبابا
وخضبت مبيض الحداد عليكم ... لو أنني أجد البياض خضابا
وإذا أردت على المشيب وفادةً ... فاحثث مطيك دونه الأحقابا
فلتأخذن من الزمان حمامةً ... ولتبعثن إلى الزمان غرابا ومنها:
قد طيب الأقطار طيب ثنائه ... من أجل ذا نجد الثغور عذابا
ام تدنني أرض إليك وإنما ... جئت السماء ففتحت أبوابا(4/45)
ورأيت حولي وفد كل قبيلة ... حتى توهمت العراق الزابا
أرض وطئت الدر من رضراضها ... والمسك ترباً والرياض جنابا
ورأيت أجبل أرضها منقادةً ... فحسبتها مدت إليك رقابا
سد الإمام بها الثغور وقبلها ... هزم النبي بقومك الأحزابا وقال ابن هانئ يصف الأسطول:
معطفة الأعناق نحو متونها ... كما نبهت أيدي الحواة الأفاعيا
إذا ما وردن الماء شوقاً لبرده ... صدرن ولم يشربن غرفاً صواديا
إذا أعملوا فيها المجاذيف سرعةً ... ترى عقرباً منها على الماء ماشيا 10 - وقال الأديب أبو عمر أحمد بن فرج الجياني رحمه الله تعالى (1) :
وطائعة الوصال عدوت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع
بدت في الليل سائرة ظلام ال ... دياجي منه (2) سافرة القناع
وما من لحظة إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي
فملكت النهى جمحات (3) شوقي ... لأجرى بالعفاف على طباعي
وبت بها مبيت الطفل يظما ... فيمنعه الفطام عن الرضاع
كذاك الروض ليس به لمثلي ... سوى نظر وشم من متاع
ولست من السوائم مهملات ... فأتخذ الرياض من المراعي وقال:
للروض حسن فقف عليه ... واصرف عنان الهوى إليه
__________
(1) المطمح: 80، وقد سقطت القطعة من ب م، وألحقت التالية باشعار ابن هانئ؛ وانظرها في ج 3: 196.
(2) ق: ظلام الليالي وهي؛ المطمح: ساترة دياجي ظلام الليل.
(3) ق: حجاج.(4/46)
أما ترى نرجساً نضيراً ... يرنو إليه بمقلتيه
نشر حبيبي على رباه ... وصفرتي فوق وجنتيه وقال:
بمهلكة يستهلك الحمد عفوها ... ويترك شمل العزم وهو مبدد
ترى عاصف الأرواح فيها كأنها ... من الأين تمشي ظالع أو مقيد وقال فيه في المطمح: محرز الخصل، مبرز في كل معنى وفصل (1) ، متميز بالإحسان، منتم إلى فئة البيان، ذكي الخلد مع قوة العارضة، والمنة الناهضة، حضر مجلس بعض القضاة وكان مشتهراً لضبط منتهراً (2) لمن انبسط فيه بعض البسط، حتى إن أهله لايتكلمون فيه إلارمزاً، ولا يخاطبون إلا إيماء فلا تسمع لهم ركزاً، فكلم فيه خصماً له كلاماً استطال به عليه لفضل بيانه، وطلاقة لسانه، ففارق عادة المجلس في رفض الأنفة، وخفض الحجة المؤتنفة، وهز عطفه وحسر عن ساعده، وأشار بيده، ماداً بها لوجه خصمه، خارجاً عن حد المجلس ورسمه، فهم الأعوان بتقويمه وتثقيفه، ووزعهم رهبة منه وخشية، حتى تناوله القاضي بنفسه، وقال له: مهلاً عافاك الله اخفض صوتك، واقبض يدك، ولاتفارق مركزك، ولا تعد حقك، وأقصر عن إدلالك (3) ، فقال له: مهلاً يا قاضي، أمن المخدرات أنا فأخفض صوتي وأستر يدي، وأغطي معاصمي لديك أم من الأنبياء أنت فلا يجهر بالقول عندك وذلك لم يجعله الله تعالى إلا لرسوله عليه الصلاة والسلام، لقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لاترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي -
__________
(1) المطمح: وفضل.
(2) في الأصول والمطمح: مشهراً.
(3) المطمح: انتمائك وإدلالك.(4/47)
إلى قوله: لاتشعرن. ولست به ولاكرامة، وقد ذكر الله تعالى أن النفوس تجادل في القيامة في موقف الهول الذي لايعد له مقام، ولايشبه انتقامه انتقام، فقال تعالى: يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، إلى قوله: وهم لايظلمون. لقد تعديت طورك، وعلوت في منزلك (1) ، وإنما البيان، بعبارة اللسان، وبالنطق يستبين الحق من الباطل، ولابد في الخصام، من إفصاح الكلام. وقام وانصرف. فبهت القاضي، ولم يحر جواباً. وكان في الدولة صدراً من أعيانها، وناسق درر تبيانها، ونفق في سوقها وصنف، وقرط محاسنها وشنف، وله الكتاب الرائق، المسمى بالحدائق، وأدركه في الدولة سعي، ورفض له فيها الرعي، واعتقله الخليفة وأوثقه في مكان أخيه فلم يومض له عفو، ولم يشب كدر حاله صفو، حتى قضى معتقلاً، ونعي للنائبات نعياً مثكلاً، وله في السجن أشعار كثيرة، وأقوال مبدعات منيرة، فمن ذلك ما أنشده ابن حزم يصف خيالاً طرقه، بعدما أسهره الوجد وأرقه:
بأيهما أنا في الشكر بادي ... بشكر الطيف أم شكر الرقاد
سرى وازداد في أملي ولكن ... عففت فلم أجد منه مرادي
وما في النوم من حرج ولكن ... جريت من العفاف على اعتيادي 11 - وقال الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن الحداد (2) :
يا غائباً خطرات القلب محضره ... الصبر بعدك شيء لست أقدره
تركت قلبي وأشواقي تفطره ... ودمع عيني وأحداقي تحدره
لو كنت تبصر في تدمير حالتنا ... إذن لأشفقت مما كنت تبصره
__________
(1) المطمح: منزلتك.
(2) المطمح: 81؛ وترجمته ص: 80 - 83.(4/48)
فالعين دونك لاتحلى بلذتها ... والدهر بعدك لايصفو تكدره
أخفي أشتياقي وما أطويه من أسف ... عن البرية والأنفاس تظهره قال في المطمح: هو شاعر مادح وعلىأيك الندى صارح ولم ينطفه إلا معن (1) أوصمادح.فلم يرم ينتجع سواهما واقتصر على المرية. واختصر قطع المهامة وخوض البرية فعكف فيها ينثر دره في ذللك المنتدى شف أبداً ثغور ذلك الندى، مع تميزه بالعلم، وتحيزه إلى فئة الوقار والحلم، وانتمائه إلى آية سلف، ومذهبه مذاهب أهل الشرف، وكان له لسن ورواء يشهدان له بالنباهة، ويقلدان كاهله ما شاء من الوجاهة، وقد أثبت له بعض ما قذفه من درره، وفاه به من محاسن غرره؛ فمن ذلك قوله:
إلى الموت رجعى بعد حين فإن أمت ... فقد خلدت خلد الزمان مناقبي
وذكري في الآفاق طار كأنه ... بكل لسان طيب عذراء كاعب
ففي أي علم لم تبرز سوابقي ... وفي أي فن لم تبرز كتائبي وحضر مجلس المعتصم بحضور ابن اللبانة فأنشد فيه قصيداً أبرز به من عرى الإحسان ما لم ينفصم واستمر فيها يستكمل بدائعها وقوافيها، فإذا هو قد أغار على قصيد ابن الحداد الذي أوله:
عج بالحمى حيث الظباء (2) العين ... فقال ابن الحداد مرتجلاً:
حاشا لعدلك يا ابن معن أن يرى ... في سلك غيري دري المكنون
__________
(1) المطمح: جود معن.
(2) المطمح: الخماص.(4/49)
وإليكها تشكو استلاب مطيها ... عج بالحمى حيث الظباء العين
فاحكم لها واقطع لساناً لا يداً ... فلسان من سرق القريض يمين وله:
إن المدامع والزفير ... قد أعلنا ما في الضمير
فعلام أخفي ظاهراً ... سقمي علي به ظهير
هب لي الرضى من ساخط ... قلبي بساحته الأسير وله أيضاً:
أيها الواصل هجري ... أنا في هجران صبري
ليت شعري أي نفع ... لك في إدمان ضري وله أيضاً:
يا مشبه الملك الجعدي تسميةً ... ومخجل القمر البدري أنواراً وله (1) :
تطالبني نفسي بما فيه صونها ... فأعصي ويسطو شوقها فأطيعها
ووالله ما يخفى علي ضلالها ... ولكنها تهوي فلا أستطيعها وقال:
بخافقة القرطين قلبك خافق ... وعن خرس القلبين دمعك ناطق
وفي مشرق الصدغين للبدر مغرب ... وللفكر حالات وللعين شارق
وبين حصى الياقوت ماء وسامة ... محلأة عنه الظباء السوابق
__________
(1) سقط البيتان من ق.(4/50)
وحشو قباب الرقم أحوى مقرطق ... كما آس روض عطفه والقراطق انتهى باختصار.
12 - وقال الأسعد بن بليطة (1) :
برامة ريم زارني بعدما شطا ... تقنصته بالحلم في الشط فاشتطا
رعى من أفانين الهوى ثمر الحشا ... جنياً ولم يرع العهود ولا الشرطا
خيال لمرقوم غرير برامة ... تأوبني بالرقمتين لدى الأرطى
فأكسبني من خدها روضة الجنى ... وألدغني من صدغها حية رقطا
وباتت ذراعاها نجاداً لعاتقي ... إذا ما التقاها الحلي غنى لها لغطا
وسل اهتصاري غصنها من مخصر ... طواه الضنى طي الطوامير فامتطا
وقد غاب كحل الليل (2) في دمع فجره ... إلى أن تبدى الصبح في اللمة الشمطا ومنها في وصف الديك:
وقام لها ينعى الدجى ذو شقيقة ... يدير لنا من عين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لأذانه ... وبادر ضرباً من قوادمه الإبطا
كأن انوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا
سبى حلة الطاووس حسن لباسها ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطا ومن غزلها:
غلامية جاءت وقد جعل الدجى ... لخاتم فيها فص غالية خطا
فقلت أحاجيها بما في جفونها ... وما في الشفاه اللعس من حسنها المعطى
محيرة العينين من غير سكرة ... متى شربت ألحاظ عينيك إسفنطا
__________
(1) المطمح: 83 - 84.
(2) ب: العين.(4/51)
أرى نكهة المسواك في حمرة اللمى ... وشاربك المخضر بالمسك قد خطا
عسى قزح قبلته فإخاله ... على الشفة اللمياء قد جاء مختطا وقال في المطمح في تحلية الأسعد: إنه سرد البدائع أحسن السرد، وافترس المعاني كالأسد الورد، وأبرز درر المحاسن من صدفها، وحاز من بحر الإجادة وشرفها، ومدح ملوكاً طوقهم من مدائحه قلائد، وزف إليهم منها خرائد، وجلاها عليهم كواعب، بالألباب لواعب، فأسالت العوارف، وما تقلص له من الحظوة ظل وارف، وقد أثبت له ما يعترف بحقه، ويعرف به مقدار سبقه، فمن ذلك قوله:
لو كنت شاهدنا عشية أمسنا ... والمزن يبكينا بعيني مذنب
والشمس قد مدت أديم شعاعها ... في الأرض تجنح غير أن لم تغرب وقوله:
وتلذ تعذيبي كأنك خلتني ... عوداً فليس يطيب ما لم يحرق وهو مأخوذ من قول ابن زيدون:
تظنونني كالعود حقاً وإنما ... تطيب لكم أنفاسه حين يحرق انتهى ببعض اختصار (1) .
13 - وقال الأديب أبو بكر عبادة بن ماء السماء، وهو كما في المطمح (2) : من فحول الشعراء، وأئمتهم الكبراء، وكان منتجعاً بشعره، مسترجعاً من صروف دهره، وكانت له همة أطالت همه، وأكثرت كمده وغمه:
__________
(1) هو كما في المطمح المطبوع دون اختصار.
(2) المطمح: 84.(4/52)
يؤرقني الليل الذي أنا نائمه ... فتجهل ما ألقى وطرفك عالمه
وفي الهودج المرقوم وجه طوى الحشا ... على الحزن فيه الحسن قد حار راقمه
إذا شاء وقفاً أرسل الحسن فرعه ... يضلهم عن منهج القصد فاحمه
أظلماً رأوا تقليده الدر أم زروا ... بتلك اللآلي أنهن تمائمه 14 - وقال الأديب أبو عبد الله ابن عائشة في فتى طرزت غلالة خده، وركب من عارضه سنان على صعده قده (1) :
إذا كنت تهوى خده وهو روضة ... به الورد غض والأقاح مفلج
فزد كلفاً فيه وفرط صبابة ... فقد زيد فيه من عذار بنفسج وحلاه في المطمح بأن قال: اشتهر صوناً وعفافاً، ولم يخطب بعقيلة حضرة زفافاً، فآثر انقباضاً وسكوناً، واعتمد إليها ركوناً، إلى أن أنهضه أمير المسلمين إلى بساطه فهب من مرقد خموله، وشب لبلوغ مأموله، فبدا منه في الحال انزواء، في تسنم تلك الرسوم والتواء، وقعود عن مراتب الأعلام، وجمود لايحمد فيه ولايلام، إلا أن أمير المسلمين ألقى منه عليه محبة، جلبت إليه مسرى الظهور ومهبه، وكان له أدب واسع المدى، يانع كالزهر بلله الندى، ونظم مشرق الصفحة، عبق النفحة، إلا أنه قليلاً ما كان يحل ربعه، ويذيل له طبعه، وقد أثبت له منه ما يدع الألباب حائرة، والقلوب إليه طائرة، فمن ذلك قوله في ليلة سمحت له بفتى كان يهواه، ونفحت له هبة وصل بردت جواه:
لله ليل بات عندي به ... طوع يدي من مهجتي في يديه
وبت أسقيه كؤوس الطلا ... ولم أزل أسهر شوقاً إليه
عاطيته حمراء ممزوجة ... كأنها تعصر من وجنتيه
__________
(1) المطمح: 84 - 86.(4/53)
وخرج من بيته يوماً إلى منية الوزير الأجل أبي بكر ابن عبد العزيز وهي من أبدع منازل الدنيا وقدمت عليها أرواحها الأفيا وأهدت إليها أزهارها العرف والرياء والنهر قد غص بمائه والروض قد خص مثل أنجم سمائه، وكانت لبني عبد العزيز فيها أطراب، تهيأ لهم فيها من الأيام آراب، فلبسوا فيها الأشر حتى أبلوه، ونشروا فيها الأنس وطووه، أيام كانوا بذلك الأفق طلوعاً، لم تضم عليهم النوب ضلوعاً، فقعد أبو عبد الله مع لمة من الأدباء تحت دوحة من أدواحها، فهبت ريح أنس من أرواحها، سطت بإعصارها، وأسقطت لؤلؤها على باسم أزهارها، فقال:
ودوحة قد علت سماءً ... تطلع أزهارها نجوماً
هفا نسيم الصبا عليها ... فأرسلت فوقنا رجوما
كأنما الجو غار لما ... بدت فأغرى بها النسيما وكان في زمان عطلته، ووقت اصفراره وعلته، ومقاساته من العيش أنكده، ومن التخوف أجهده، كثيراً ما ينشرح بجزيرة شقر ويستريح، ويستطيب تلك الريح، ويجول في أجارع واديها، وينتقل من نواديها إلى بواديها، فإنها صحيحة الهواء، قليلة الأدواء، خضلة العشب والأزاهر (1) ، قد أحاط بها نهرها كما تحيط بالمعاصم الأساور، والأيك قد نشرت ذوائبها على صفيحه، والروض قد عطر جوانبه (2) بريحه، وأبو اسحاق ابن خفاجة هو كان منزع نفسه، ومصرع أنسه، نفح له بالمنى عبق وشذا، ومسح عن عيون مسراته القذى، وغدا على ما كان وراح، وجرى متهافتاً في ميدان ذلك المراح، قريب عهد بالفطام، ودهره ينقاد في خطام، فلما اشتعل رأسه شيباً، وزرت عليه الكهولة جيباً، أقصر عن تلك الهنات، واستيقظ من تلك السنات، وشب
__________
(1) المطمح: زاهية الأزاهر.
(2) المطمح: جوانبها.(4/54)
عن ذلك الطوق، وأقصر عن الهوى والشوق، وقنع بأدنى تحية، وما يستشعره في وصف تلك العهاد من أريحية، فقال:
ألا خلياني والأسى والقوافيا ... أرددها شجوي (1) وأجهش باكيا
أآمن شخصاً للمسرة بادياً ... وأندب رسماً للشبيبة باليا
تولى الصبا إلا توالي فكرة ... قدحت بها زنداً وما زلت واريا
وقد بان حلو العيش إلا تعلةً ... تحدثني عنها الأماني خاليا (2)
ويا برد هذا الماء هل منك قطرةً ... تهل فيستسقى غمامك صاديا
وهيهات حالت دون حزوى وأهلها ... ليال وأيام تخال اللياليا
فقل في كبير عاده صائد الظبا ... إليهن مهتاجاً وقد كان ساليا
فيا راكباً يستعمل الخطو قاصداً ... ألا عج بشقر رائحاً أو مغاديا
وقف حيث سال النهر ينساب أرقماً ... وهب نسيم الأيك بنفث راقيا
وقل لأثيلات هناك وأجزع ... سقيت أثيلات وحييت واديا انتهى ببعض اختصار (3) .
وابن عائشة أشهر من أن يطال في أمره، وليس الخبر كالعيان.
523 - وقال أبو عمرو يزيد بن عبد الله بن أبي خالد اللخمي الإشبيلي الكاتب في فتح المهدية سنة 602:
كم غادر الشعراء من متردم ... ذخرت عظائمه لخير معظم
تبعاً لمذخور الفتوح فإنه ... جاءت له بخوارق لم تعلم
من كل سامية المنال إذا انتمت ... رفعت إلى اليرموك صوت المنتمي
__________
(1) ب: شكوى؛ م: شجوا.
(2) المطمح: خواليا.
(3) لم يختصر شيئاً من المطمح المطبوع.(4/55)
وتوسطت في النهروان بنسبة ... كرمت ففازت بالمحل الأكرم قال ابن الأبار في " تحفة القادم " (1) : هو صدر في نبهائها وأدبائها، يعني إشبيلية، وممن له قدر في منجبيها ونجبائها، وإلى سلفه ينسب المعقل المعروف بحجر أبي خالد (2) ، وتوفي بها سنة 612، وأورد له قوله:
ويا للجواري المنشآت وحسنها ... طوائر بين الماء والجو عوما
إذا نشرت في الجو أجنحة لها ... رأيت بها روضاً ونوراً مكمما
وإن لم تهجه الريح جاء مصافحاً ... فمدت له كفاً خضيباً ومعصما
مجاذف كالحيات مدت رؤوسها ... على وجل في الماء كي تروي الظما
كما أسرعت عداً أنامل حاسب ... بقبض وبسط يسبق العين والفما
هي الهدب في أجفان أكحل أوطف ... فهل صنعت من عندم أو بكت دما قال ابن الأبار: أجاد ما أراد في هذا الوصف، وإن نظر إلى قول أبي عبد الله ابن الحداد بصف أسطول المعتصم ابن صمادح:
هام صرف الردى بهام الأعادي ... أن سمت نحوهم لها أجياد
وتراءت بشرعها كعيون ... دأبها مثل خائفيها سهاد
ذات هدب من المجاذيف حاك ... هدب باك لدمعه إسعاد
حمم فوقها من البيض نار ... كل من أرسلت عليه رماد
ومن الخط في يدي كل در ... ألف خطها على البحر صاد قال: وما أحسن قول شيخنا أبي الحسن ابن حريق في هذا المعنى من قصيدة أنشدنيها:
__________
(1) تحفة القادم: 120 وفيه الأشعار حتى قوله: انتهى؛ والنص هنا أوفي مما هو في المقتضب.
(2) كذا في الأصول؛ وفي التحفة: ابن أبي خالد.(4/56)
وكأنما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوح خشية الطوفان
فإذا رأين الماء يطفح نضنضت ... من كل خرق حية بلسان قال: ولم يسبقهم إلى الإحسان، وإنما (1) سبقهم بالزمان، علي بن محمد الإيادي التونسي في قوله:
شرعوا جوانبها مجاذف أتعبت ... شادي الرياح لها ولما تتعب
تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طوراً وتجتمع اجتماع الربرب
والبحر يجمع بينها فكأنه ... ليل يقرب عقرباً من عقرب
وعلى جوانبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المذهب
وكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المعجب ومن هذه القصيدة الفريدة في ذكر الشراع:
ولها جناح يستعر يطيرها ... طوع الرياح وراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطاره ... في كل لج زاخر معلولب
يسمو بآخر في الهواء منصب ... عريان منسرح الذؤابة شوذب
يتنزل الملاح منه ذؤابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب
وكأنما رام استراقة مقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب
وكأنما جن ابن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب
سجروا جواهم بينهم فتقاذفوا ... منها بألسن مارج متلهب
من كل مسجون حريق إذا انبرى ... من سجنه انصلت انصلات الكوكب
عريان يقدمه الدخان كأنه ... صبح يكر على ظلام غيهب ومن أولها:
__________
(1) م: وإن؛ التحفة: وإن كان.(4/57)
أعجب بأسطول الإمام محمد ... وبحسنه وزمانه المستغرب
لبست به الأمواج أحسن منظر ... يبدو لعين الناظر المتعجب
من كل مشرفة على ما قابلت ... إشراف صدر الأجدل المتنصب ومنها:
جوفاء تحمل موكباً في جوفها ... يوم الرهان وتستقل بموكب وهي طويلة من غرر القصائد، وقد سرد جملة منها صاحب المناهج وغيره.
وقال أبو عمر القسطلي (1) :
وحال الموج بين بني سبيل ... يطير بهم إلى الغول ابن ماء
أعز له جناح من صباح ... يرفرف جنح من سماء وأخذه أبوإسحاق ابن خفاجة فقال (2) :
وجاية ركبت بها ظلاماً ... يطير من الصباح بها جناح
إن الماء اظمأن ورق خصراً ... علا من موجة ردف رداح
وقد نقر الحمام هناك فاه ... وأتلع جيده الأجل المتاح ولا يخفاك حسن هذه العبارة الصقيلة المرآة، فالله تعالى يرحم قائلها.
وقال ابن الأبار: وقد قلت أنا في ذلك:
يا حبذا من بنات الماء سابحةً ... تطفو لما شب أهل النار تطفئه
تطيرها الريح غرباناً بأجنحة ال ... حمائم البيض للأشراك ترزؤه
__________
(1) ديوانه: 323 ورفع الحجب 1: 142.
(2) ديوان ابن خفاجة: 138.(4/58)
من كل أدهم لا يلفى به جرب ... فما لراكبه بالقار يهنؤه
يدعى غراباً وللفتخاء سرعته ... وهو ابن ماء وللشاهين جؤجؤه واجتمع ابن أبي خالد وأبو الحسن ابن الفضل الأديب عند أبي الحجاج ابن مرطير الطبيب بحضرة مراكش، وجرى ذكر قاضيها حينئذ أبي عمران موسى ابن عمران بينهم، وما كان عليه من القصور والبعد عما أتيح له، وأوثر به، فقال أبو الحجاج:
ليس فيه من أبي موسى شبه ... فقال أبو الحسن:
فأبوه فضة وهو شبه ... فقال ابن أبي خالد:
كم دعاه إذ رآه عرةً ... وأباه إذ دعاه يا أبه 524 - وقال أبو العباس الأعمى (1) :
بهيمة لو جرى في الخيل أكبرها ... لفاتت الريح في الأحجال والغرر (2)
تجري فللماء ساقا عائم درب ... وللرياح جناحا طائر حذري (3)
قد قسمتها يد التقدير (4) بينهما ... على السواء فلم تسبح ولم تطر 525 - وقال عبد الجليل بن وهبون يصف الأسطول (5) :
__________
(1) هو الأعمى التطيلي، انظر ديوانه: 51.
(2) رواية الديوان:
بهية لو توفي كنه شرتها ... لفاتت الخيل في الأحجال والغرر (3) الديوان: ذكر.
(4) الديوان: التدبير.
(5) الذخيرة (2: 207) .(4/59)
يا حسنها يوماً شهدت زفافها ... بنت الفضاء إلى الخليج الأزرق
ورقاء كانت أيكة فتصورت ... لك كيف شئت من الحمام
حيث الغراب يجر شملة عجبه ... وكأنه من عزة (1) لم ينعق
من كل لابسة الشباب ملاءة ... حسب اقتدار الصانع المتأنق
شهدت لها الأعيان أن شواهنا ... أسماؤها فتصحفت في المنطق
من كل ناشرة قوادم أجنح ... وعلى معاطفها وهادة سوذق
زأرت زئير الأسد وهي صوامت ... وزحفن زحف مواكب في مأزق
ومجاذف تحكي أراقم ربوة ... نزلت لتكرع من غدير متأق 526 - وفال ابن خفاجة (2) :
سقياً لها من بطاح خز ... ودوح نهر بها مطل
فما ترى غير وجه شمس ... أطل فيه عذار ظل وهو من بديع الشعر، وكم لابن خفاجة من مثله.
527 -[قطعة منقولة عن المغرب]
1 - وقال عبيد الله بن جعفر الإشبيلي، وقد زار صاحباً له مرات ولم يزره هو، فكتب على بابه (3) :
يا من يزار على بعد المحل ولا ... يزورنا مرةً من بين مرات
زر من يزورك واحذر قول عاذلة ... تقول عنك: فتىً يؤتى ولا يأتي
__________
(1) ب: عسرة؛ ق: عرة؛ وأثبتنا رواية م.
(2) ديوانه: 140 وقد مر البيتان ج 1: 19.
(3) ترجمته والبيتان الأولان في المغرب 1: 262.(4/60)
ومن مجونياته، سامحه الله تعالى:
وأغيد ليس تعدوه الأماني ... ولو حكمت عليه باشتطاط
سقيت الراح حتى مال سكراً ... ونلم على النمارق والبساط
وأسلم لي على طول التجني ... وأمكنني فرط التعاطي
فأولجت المقادر جيد بكر ... ولا كفران في سم الخياط
وغناني بصوت من حشاه ... فأطربني وبالغ في نشاطي
فما نقر المثالث والمثاني ... بأطرب من تلاحين الضراط
ولولا الريق لم اظفر بشيء ... على عدم اهتبالي واحتياطي
فلا تسخر بريق بعد هذا ... فإن الريق مفتاح اللواط 2 - وقال أبو الحسن علي بن جحدر الزجال (1) :
كيف أصبحت أيهذا الحبيب ... نحن مرضى الهوى وأنت الطبيب
كل قلب إليك يهفو غراماً ... ويحها يا علي (2) منك القلوب
إن تلح حومت عليك هياماً ... أو تغب حنها عليك الوجيب
غير أني من بينهم مستريب ... حين تبدو وليس لي ما يريب
كل ما قد ألقاه منك ومني ... دون هذا له تشق الجيوب 3 - وقال أحمد المعروف بالكساد، في موسى الذي كان يتغزل فيه شعراء إشبيلية (3) :
ما لموسى قد خر لله لما ... فاض نوراً غشاه ضوء سناه
وأنا قد صعقت من نور موسى ... لا أطيق الوقوف حين أراه
__________
(1) المغرب 1: 262 والقدح: 172.
(2) هذه رواية القدح؛ وفي الأصول: وتجانى عليّ.
(3) ترجمة الكساد ومقطعاته في المغرب 1: 288.(4/61)
ولله دره في رثاء موسى المذكور إذ قال:
فر (1) إلى الجنة حوريها ... وارتفع الحسن من الأرض
وأصبح العشاق في مأتم ... بعضهم يبكي إلى بعض وقوله فيه:
هتف الناعي بشجو الأبد ... إذ نعى موسى بن عبد الصمد
ما عليهم ويحهم لو دفنوا ... في فؤادي قطعةً من كبدي ولقب بالكساد لقوله:
وبيع الشعر في سوق الكساد ... 4 - وقال أبو القاسم ابن أبي طالب الحضرمي المنيشي (2) :
صاغت يمين الرياح محكمةً ... في نهر واضح الأسارير
فكلما ضاعفت به حلقاً ... قام لها القطر بالمسامير 5 - وقال أبو زيد عبد الرحمن العثماني، وهو من بيت إمارة (3) :
لا تسلني عن حالتي فهي هذي ... مثل حالي لا كنت يا من يراني
ملني الأهل والأخلاء لما ... أن جفاني بعد الوصال زماني
فاعتبر بي ولا يغرك دهر ... ليس منه ذو غبطة في أمان 6 - وقال أبو زكريا يحيى بن محمد الأركشي (4) :
__________
(1) المغرب: رد.
(2) هو الملقب بعصا الأعمى لأنه كان في صحبة الأعمى التطيلي، انظر المغرب 1: 289.
(3) ترجم ابن سعيد في القدح: 196 لعبد الرحمن العثماني وقال فيه: " كان من الخواص في جميع ما به تلبس " إلا أنه كناه القاسم. ويبدو أن ترجمته سقطت من المغرب.
(4) ترجمة الأركشي في المغرب 1: 316 والتكملة رقم: 2053. وصلة الصلة: 184.(4/62)
لا حبذا المال والإفضال يتلفه ... والبخل يحميه والأقدار تعطيه وقال:
لا تبكين لإخوان تفارقهم ... فإنني قبلك استخبرت إخواني
فما حمدتهم في حال قربهم ... فكيف في حال إبعاد وهجران 7 - وقال أبو عمران موسى الطرياني لما دخل يوم نيروز إلى بعض الأكابر، وعادتهم أن يصنعوا في مثل هذا اليوم مدائن من العجين لها صور مستحسنة، فنظر إلى صورة مدينة، فأعجبته، فقال له صاحب المجلس: صفها وخذها (1) :
مدينة مسوره ... تحار فيها السحره
لم تبنها إلا يدا ... عذراء أو مخدره
بدت عروساً تجتلي ... من درمك مزعفره
وما لها مفاتح ... إلا البنان العشره 8 - وقال أبو عمرو ابن حكم (2) :
حاشا لمن أملكم أن يخيب ... وينثني نحو العدا مستريب
هذا وكم أقرأني بشركم ... {نصر من الله وفتح قريب} 9 - وقال أبو الحسن علي بن الجعد القرموني (3) :
إياك من زلل اللسان فإنه ... قدر الفتى في لفظه المسموع
__________
(1) ترجمته وشعره في المغرب 1: 294 والقدح: 202.
(2) ترجمة ابن حكم وشعره في المغرب 1: 292 والقدح: 200؛ وفي م: ابن حاكم.
(3) ترجمته في المغرب 1: 300، وقد جاءت هذه الفقرة في م بعد مقطعات ابن لبال.(4/63)
المرء يختبر الإناء بنقره ... ليرى الصحيح به من المصدوع 10 - وقال الفقيه أبو الحسن علي بن لبال في محبرة عناب محلاة بفضة (1) :
منعلة بالهلال، ملجمة ... بالنسر، مجدولة من الشفق
كأنما حبرها تميع في ... فرضتها سائلاً من الغسق
فأنت مهما ترد تشبهها ... في كل حال فانظر إلى الأفق وقال في محبرة آبنوس:
وخديمة للعلم في أحشائها ... كلف بجمع حرامه وحلاله
لبست رداء الليل ثم توشحت ... بنجومه وتتوجت بهلاله 11 - وقال أبو جعفر أحمد الشريشي (2) :
تفاحة بت بها ليلتي ... أبثها سري والشكوى
أضمها معتنقاً لاثماً ... إذا ذكرت خد من أهوى وقال أبو العابس أحمد بن شكيل الشريشي (3) :
تفاحة بت بها ليلتي ... أبثها سري والشكوى
أضمها معتنقاً لائماً ... إذا ذكرت خد من أهوى وقال:
تفاحة حامضة عضها ... في ثمل من قطب الوجها
__________
(1) المغرب 1: 303؛ والحاشية في مصادر ترجمته؛ والذيل والتكملة 5: 169.
(2) ترجمة أحمد الشريشي في المغرب 1: 304.
(3) انظر المغرب 1: 304.(4/64)
ولم أخل من قبلها محسناً ... يجزى عليه العض والنجها 13 - وقال أبو عمر ابن غياث (1) :
وقالوا مشيب واعجبا لكم ... أينكر صبح قد تخلل غيهبا
وليس مشيباً ما ترون وإنما ... كميت الصبا لما جرى عاد أشهبا 14 - وقال الوزير أبو بكر بن ذي الوزارتين أبي مروان عبد الملك ابن عبد العزيز يخاطب ابن عبدون (2) :
في ذمة الفضل والعلياء مرتحل ... فارقت صبري إذ فارقت موضعه
ضاءت به برهةً أرجاء قرطبة ... ثم استقل فسد البين مطلعه
عذراً إلى المجد عني حين فارقني ... ذاك الجلال فأعيا أن أشيعه
قد كنت أصحبته قلبي وأقعدني ... ما كان أودعني عن أن أودعه وفيهم يقول ابن عبدون:
بحور بلاغة ونجوم عز ... وأطواد رواس من جلال 15 - وقال الوزير الكاتب أبو القاسم ابن أبي بكر ابن عبد العزيز:
نديمي لا عدمتك من نديم ... أدرها في دجى الليل البهيم
فخير الأنس أنس تحت ستر ... يصان عن السفيه أو الحليم 16 - وقال الثائر أبو عبد الله الجزيري (3) :
في أم رأسي سر ... يبدو لكم بعد حين
__________
(1) انظر المغرب 1: 305 وترجمته في التكملة: 610 والتحفة: 129 والوافي 4: 10.
(2) المغرب 1: 307.
(3) المغرب 1: 323.(4/65)
لأبلغن مرادي ... إن كان سعدي معيني
أو لا فأكتب ممن ... سعى لإظهار دين وسبب قوله هذا أن بني عبد المؤمن لما غيروا رسم مهديهم، وصيروا الخلافة ملكاً، وتوسعوا في الرفاهية، وأهملوا حق الرعية، جعل يتستر، وقال هذه الأبيات، وشاع سره في مدة ناصر بني عبد المؤمن، فطلبه، ففر، ولم يزل يتنقل مستخفياً مع أصحابه إلى أن حصل في حصن قولية من عمل مدينة بسطة، فبينما هو ذات يوم في جامعها مع أصحابه وهم يأكلون بطيخاً ويرمون قشره في صحن الجامع، إذ أنكر ذلك رجل من العامة، وقال لهم: ما تتقون الله تعالى! تتهاونون ببيت من بيوته فضحكوا منه، واستهزأوا به، وأهل تلك الجهة لاتحتمل شيئاً من ذلك، فصاح بفتية من العامة، فاجتمع جمع وحملوا إلى الوالي مكان عند الوالي من عرفه، فقتلوا جميعاً، وأمر الناصر أن يرفع عن جميع أرض قولية جميع تكاليف السلطان.
17 - ولما عتب المنصور بن أبي عامر على الكاتب عبد الملك الجزيري، وسجنه في الزاهرة، ثم صفح عنه، قال وكتب به إليه (1) :
عجبت من عفو أبي عامر ... لا بد أن تتبعه منه
كذلك الله إذا ما عفا ... عن عبده أدخله الجنه فاستحسن ذلك، وأعاده إلى حاله.
وقال على لسان بهار العامرية، وهو النرجس (2) :
حدق الحسان تقر لي وتغار ... وتضل في وصفي النهى وتحار
__________
(1) المغرب 1: 321 وقد مر البيتان (ج 1: 419) منسوبين لغيره.
(2) تقدمت هذه الأبيات والقطعتان بعدها، ج 1: 531، 588.(4/66)
طلعت على قضبي عيون تمائمي ... مثل العيون تحفها الأشفار
وأخص شيء بي إذا شبهته ... در تمنطق سلكه دينار
أنا نرجس، حقاً بهرت عقولهم ... ببديع تركيبي فقيل بهار وقال في بنفسجها:
شهدت لنوار البنفسج ألسن ... من لونه الأحوى ومن إيناعه
بمشابه الشعر الأحم أعاره ... قمر المنير الطلق نور شعاعه
ولربما جمد النجيع من الطلى ... في صارم المنصور يوم قراعه
فحكاه غير مخالف في لونه ... لا في روائحه وطيب طباعه وقال في القمر حين جعل يختفي بالسحاب ويبدو أمام المنصور:
أرى بدر السماء يلوح حيناً ... فيظهر ثم يلتحف السحابا
وذلك أنه لما تبدى ... وأبصر وجهك استحيا وغابا 18 - وقال الحجاري في " المسهب " (1) : سألت أبا الحسن علي بن حفص الجزيري أن ينشدني شيئاً من شعره، فقال يا أبا محمد، إذا لم ينظم الإنسان مثل قول ابن شرف:
لم يبق للجور في أيامكم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من جور فالأولى له أن يترك نظم الشعر.
إلى أن خرجت معه يوماً إلى سيف الجزيرة الخضراء، فلقي غلاماً قد كدر رونق حسنه السفر، وأثر في وجهه كآثار الكلف في القمر، فصافحه، ثم قال:
بأبي الذي صافحته فتوردت ... وجناته وأناء نحوي قده
__________
(1) المغرب 1: 325.(4/67)
قمر بدا كلف السرى في خده ... لما توالى في الترحل جهده
لكن معالم حسنه تمت كما ... قد تم عن صدإ الحسام فرنده فحفظتها من سمعه، ثم قلت له: قد أخذت عنك من نظمك، بغير شكرك، فضحك وقال: فاحفظ هذا، وأنشد:
لا تقولن فلان ... صاحب قبل اختبار
وانتظر ويحك نقد ال ... ليل فيه والنهار
أنا جربت فلم أل ... ف صديقاً باختياري وأنشد:
كم قد بكرت إلى الرياض وقضبها ... قد ذكرتني موقف العشاق
يا حسنها والريح يلحف بعضها ... بعضاً كأعناق إلى أعناق
والورد خد والأقاحي مبسم ... وغدا البهار ينوب عن أحداق
لم أنفصل عنها بكأس مدامة ... حتى حملت محاسن الأخلاق 19 - ولما كتب أبو الحسن ابن سعيد إلى الأديب القائد أبي العباس أحمد ابن بلال يستدعيه ليوم أنس بقوله (1) :
أبا العباس لو أبصرت حولي ... ندامى بادروا العيش الهنيا
يبيحون المدام ولا انتقاد ... وقارهم ويزدادون غيا
وهم مع ما بدا لك من عفاف ... يحبون الصبية والصبيا
ويهوون المثالث والمثاني ... وشرب الراح صبحاً أو عشيا
على الروض الذي يهدي لطرف ... وأنف منظراً بهجاً وريا
فلا تلم السري على ارتياح ... حكى طرباً بجانبه سريا
__________
(1) المغرب 1: 326 والقدح: 86.(4/68)
وبادر نحو ناد ما خلا من ... نداك فقد عهدتك لوذعيا أجابه بقوله:
أبيت سوى المعالي يا عليا ... فمل تنفك دهرك أريحيا
تميل إذا النسيم سرى كغصن ... وتسري للمكارم مشرفيا
وترتاح ارتياحاً للمثاني (1) ... وتقتنص الصبية والصبيا
وتهوى الروض قلده نداه ... وألبسه مع الحلل الحليا
وإن غنى الحمام فلا اصطبار ... وإن خفق الخليج فنيت حيا
تذكرني الشباب فلست أدري ... أصبحاً حين تذكر أم عشيا
فلة أدركتني والغصن غض ... لأدركت الذي تهوى لديا
ولم أترك وحقك قدر لحظ ... وقد ناديتني ذاك النديا 528 (2) - وقال بعض أهل الأندلس:
وفرع كان يوعدني بأسر ... وكان القلب ليس له قرار
فنادى وجهه لاخوف فاسكن ... كلام الليل يمحوه النهار ولست على يقين أن قائلهما أندلسي، غير أني رأيت في كلام بعض الأفاضل نسبتهما لأهل الأندلس، والله تعالى أعلم.
20 - وقال أبو الوليد القسطلي (3) :
وفوق الدوحة الغنى غدير ... تلألأ صفحةً وسجا قرارا
إذا ما انصب أزرق مستقيماً ... تدور في البحيرة فاستدارا
يجرده فم الأنبوب صلتاً ... حساماً ثم يفلته سوارا
__________
(1) م: بالمثاني.
(2) ميزنا هذه القطعة برقم لأنها ليست من المغرب ثم يعود الترقيم إلى ما نقله المقري عن المغرب نفسه.
(3) المغرب 1: 328 والتكلمة رقم: 2101 وزاد المسافر: 15 - 19 وانظر الخريدة 1/4: 443.(4/69)
21 - ولأبي كثير الطريفي يمدح الناصر بن المنصور (1) :
فتوح لها يهتز شرق ومغرب ... كما اطردت في السمهرية أكعب
تجلت على الدنيا شموس منيرة ... فلم يبق في ليل الكآبة غيهب
أقام بها الإسلام شدو مغرد ... وظلت بأرض الشرك بالخطب تخطب
فلا سمع إلا وهو قد مال نحوها ... ولا قلب إلا في مناها يقلب 22 - وقال أبو عامر ابن الجد (2) :
لله ليلة مشتاق ظفرت بها ... قطعتها بوصال اللثم والقبل
نعمت فيها بأوتار تعللني ... أحلى من المن أو أمنية الغزل
أحبب إلي بها إذ كلها سحر ... أراحت الصب من عذر ومن عذل 23 - وقال الكاتب أبو عبد الله محمد الشلبي (3) كاتب ملك افريقية عبد الواحد بن أبي حفص:
مد إلي الكاس من لحظه ... لا يحوج الشرب إلى الكاس
ومنذ حياني بآس فلم ... أيأس ولكن كان لي آسي
وقال لولا الناس قبلته ... ما أشأم الناس على الناس 24 - وقال أبو بكر محمد بن الملح (4) ، وهو من رجال الذخيرة، على لسان حال سوار مذهب:
أنا من الفضة البيضاء خالصةً ... لكن دهتني خطوب غيرت جسدي
__________
(1) المغرب 1: 319 واسمه عنده " كثير "، والطريفي نسبة إلى جزيرة طريف.
(2) المغرب 1: 342 وبغية الوعاة: 275.
(3) لم يرد ذكره في المغرب في القسم الخاص يشلب.
(4) المغرب 1: 383 والقلائد: 187 والذخيرة (2: 182) ومسالك الأبصار 8: 257.(4/70)
علقت غصناً على أحوى فأحسدني ... جري الوشاح وهذي صفرة الحسد وما أحسن قوله من قصيدة في المعتضد والد المعتمد:
غرته الشمس والحيا يده ... بينهما للنجيع قوس قزح 25 - وأما ابنه أبو القاسم (1) فهو من رجال المسهب وكان اشتغل أول أمره بالزهد وكتب التصوف، فقال له أبوه: يا بني، هذا الأمر ينبغي أن يكون آخر العمر، وأما الآن فينبغي أن تعاشر الأدباء والظرفاء، وتأخذ نفسك بقول الشعر، ومطالعة كتب الأدب، فلما عاشرهم زينوا له الراح، فتهتك في الخلاعة، وفر إلى إشبيلية، وتزوج بامرأة لاتليق بحاله، وصار يضرب معها بالدف، فكتب إليه أبوه:
يا سخنة العين يا بنيا ... ليتك ما كنت لي بنيا
أبكيت عيني، أطلت حزني ... أمت ذكري وكان حيا
حططت قدري وكان أعلى ... في كل حال من الثريا
أما كفاك الزنا ارتكاباً ... وشرب مشمولة الحميا
حتى ضربت الدفوف جهراً ... وقلت للشر جيء إليا
فاليوم أبكيك ملء عيني ... إن كان يغني البكاء شيا فأجاب أباه بقوله:
يا لائم الصب في التصابي ... ما عنك يغني البكاء شيا
أوجفت خيل العتاب نحوي ... وقبل أوثبتها إليا
وقلت هذا قصير عمر ... فاربح من الدهر ما تهيا
قد كنت أرجو المتاب مما ... فتنت جهلاً به وغيا
__________
(1) انظر المغرب 1: 384.(4/71)
لولا ثلاث شيوخ سوء ... أنت وإبليس والحميا 26 - وقال أبو بكر محمد بن عبد القادر الشلبي (1) يستدعي:
فديتك باكر نحو قبة روضة ... تسيح بها الأمواه والطير تهتف
وقد طلعت شمس الدنان بأفقها ... ونحن لديها في انتظارك وقف
فلا تتخلف ساعةً عن محلة ... صدودك عمن حل فيها تخلف 27 - وقال أخو إمام نحاة الأندلس أبي محمد عبد الله بن السيد البطليوسي، وهو أبو الحسن علي بن السيد (2) :
يا رب ليل قد هتكت حجابه ... بزجاجة وقادة كالكوكب
يسعى بها ساق أغن كأنها ... من خده ورضاب فيه الأشنب
بدران بدر قد أمنت غروبه ... يسعى ببدر جانح للمغرب
فإذا نعمت برشف بدر طالع ... فانعم ببدر آخر لم يغرب
حتى ترى زهر النجوم كأنها ... حول المجرة ربرب في مشرب
والليل منحفز يطير غرابه ... والصبح يطرده بباز أشهب 28 - ولما مدح أبو بكر محمد بن الروح الشلبي (3) الأمير إبراهيم الذي خطب به الفتح في القلائد، وهو ابن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وكان يدل عليه وينادمه، بقصيدته التي أولها:
أنا شاعر الدنيا وأنت أميرها ... فما لي لا يسري إلي سرورها أشار الأمير إلى مضحك له كان حاضراً أن يحبق له لقوله " أنا شاعر الدنيا "
__________
(1) لم ترد ترجمته في المغرب المطبوع بين رجال شلب.
(2) يعد ابن السيد من شلب في الأصل (انظر المغرب 1: 385) ، وكل هذا يدل على أن المقري ينقل نقلاً متتابعاً عن نسخة من المغرب غير التي وصلتنا.
(3) المغرب 1: 386.(4/72)
فقال له ابن الروح: على من حبقت يعني أنه يحتمل أن يكون ذلك الفعل لقوله أنا شاعر الدنيا أو لقوله وأنت أميرها، ففطن الأمير لما قصده وضحك وتغافل.
29 - وقال أبو بكر ابن المنخل الشلبي (1) :
كم ليلة دارت علي كواكب ... للخمر تطلع ثم تغرب في فمي
قبلتها في كف من يسعى بها ... وخلطت قبلتها بقبلة معصم
وكأن حسن بنانه مع كأسه ... غيم يشير لنا ببعض الأنجم 30 - وقال ذو الوزارتين أبو بكر ابن عمار (2) :
قرأت كتابك مستشفعاً ... بوجه أبي الحسن من رده
ومن قبل فض ختام الكتاب ... قرأت الشفاعة في خده وقال:
غزا القلوب غزال ... حجت إليه العيون
قد خط في الخد نوناً ... وآخر الحسن نون قال الحجاري: وإكثار ابن عمار في المعذرين وإحسانه فيهم يدلك على أنه، كما قيل عنه، كان مشغوفاً بالكاس، والاستلقاء من غير نعاس.
31 - وكان أبو الفضل ابن الأعلم (3) أجمل الناس وأذكرهم (4) في علم الأدب والنحو، وأقرأ علم النحو قبل أن يلتحي، فقال ابن صارة فيه:
__________
(1) المغرب 1: 387 والوافي 2: 7 وزاد المسافر: 87 والتكلمة: 496.
(2) المغرب 1: 388.
(3) المغرب 1: 396.
(4) م: وأذكاهم.(4/73)
أكرم بجعفر اللبيب فإنه ... ما زال يوضح مشكل الإيضاح
ماء الجمال بخده مترقرق ... فالعين منه تجول في ضحضاح
ما خده جرحته عيني، وإنما ... صبغت غلالته دماء جراحي
لله زاي زبرجد في عسجد ... في جوهر في كوثر في راح
ذي طرة سبجية، ذي غرة ... عاجية، كالليل والإصباح
رشأ له خد البريء ولحظه ... أبداً شريك الموت في الأرواح 32 - وقال الرمادي (1) :
نوء وغيث مسبل ... وقهوة تسلسل
تدور بين فتية ... بخلقهم تمثل
والأفق من سحابه ... طل ضعيف ينزل
كأنه من فضة ... برادة تغربل وقال (2) :
بدر بدا يحمل شمساً بدت ... وحدها في الحسن من حده
تغرب في فيه ولكنها ... من بعد ذا تطلع في خده 33 - ومن نظم أبي الفضل ابن الأعلم السابق الذكر:
وعشية كالسيف إلا حده ... بسط الربيع بها لنعلي خده
عاطيت كأس الأنس فيها واحداً ... ما ضره أن كان جمعاً وحده وهو جعفر ابن الوزير أبي بكر محمد ابن الستاذ الأعلم، من رجال " القلائد "
__________
(1) المغرب 1: 392 والأبيات في كتاب التشبيهات: 36.
(2) المغرب: 393، والبيتان للصنوبري في الفوات 1: 112 وتهذيب ابن عساكر 1: 458 والوافي 7: 185.(4/74)
و " المسهب " و " سمط الجمان "، وكان قاضي شنتمرية، والأستاذ الأعلم هو إمام نحاة زمانه أبو الحجاج يوسف بن عيسى من رجال الصلة والمسهب والسمط، وهو شارح الأشعار الست، ومن نظمه يخاطب المعتمد بن عباد:
يا من تملكني بالقول والعمل ... ومبلغي في الذي أملته أملي
كيف الثناء وقد أعجزتني نعماً ... ما لي بشكري عليها الدهر من قبل
رفعت للجود أعلاماً مشهرةً ... فبابك الدهر منها عامر السبل 34 - وقال أبو علي إدريس بن اليماني العبدري (1) :
قبلة كانت على دهش ... أذهبت ما بي من العطش
ولها في القلب منزلة ... لو عدتها النفس لم تعش
طرقتني والدجى لبست ... خلعاً من جلدة الحبش
وكأن النجم حين بدا ... درهم في كف مرتعش وسأله المعتضد أن يمدحه بقصيدة يعارض بها قصيدته السينية التي مدح بها ابن حمود فقال له: أشعاري مشهورة، وبنات صدري كريمة، فمن أراد أن ينكح بكرها، فقد عرف مهرها، وكانت جائزته مائة دينار.
ومن مشهور شعره بالمغرب والمشرق قوله:
ثقلت زجاجات أتتنا فرغاً ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح 35 - وكانت بين الأديب الحسيب أبي عمرو ابن طيفور والحافظ الهيثم
__________
(1) المغرب 1: 400 وانظر الجذوة: 160 والذخيرة 3: 115 والمسالك 11: 204.(4/75)
مهاجاة، فقال فيه الحافظ (1) :
لابن طيفور قريض ... فيه شوك وغموض
عدمت فيه القوافي ... والمعاني والعروض وقال فيه ابن طيفور:
إنما الهيثم سفر ... من كلام الناس ضخم
لا تطالبه بفهم ... ليس للديوان فهم 36 - وقال أبو عمران ابن سعيد: أخبرني والدي أنه زار ابن حمدين بقرطبة في مدة يحيى بن غانية، [قال] : فوجدته في هالة من العلماء والأدباء، فقام وتلقاني، ثم قال: يا أبا عبد الله، ما هذا الجفاء فاعتذرت بأني أخشى التثقيل، وأعلم أن سيدي مشغول بما هو مكب عليه، فأطرق قليلاً ثم قال:
لو كنت تهوانا طلبت لقاءنا ... ليس المحب عن الحبيب بصابر
فدع المعاذر إنما هي جنة ... لمخادع فيها، ولست بعاذر فقلت: تصديق سيدي عندي أحب إلي وإن ترتبت علي فيه الملامة من منازعته منتصراً لحقي، فاستحسن جوابي، وقال لي: كرره فإنه والله ماح لكل ذنب، ثم سألته كتب البيتين عنه، فقال لي: وما تكتب فيهما فقلت: أليس في الإنعام ذلك لأجد ما أخبر به والدي إذا أبت إليه فأملاهما علي، فقلت: من قائلهما قال: قائلهما، فعلمت أنهما له، وقنعت بذلك.
529 - وقال الحجاري صاحب " المسهب في أخبار المغرب ":
كم بت من أسر السهاد بليلة ... ناديت فيها هل لجنحك آخر
__________
(1) المغرب 1:(4/76)
إذ قام هذا الصبح يظهر ملةً ... حكمت بأن ذبح الظلام الكافر وعلى ذكر المسهب فقد كنت كثيراً ما أستشكل هذه التسمية، لما قال غير واحد: إن المسهب إنما هو بفتح الهاء، كقولهم سيل مفعم - بفتح العين - والفقرة الثانية وهي المغرب تقتضي أن يكون بكسر الهاء، ولم يزل ذلك يتردد في خاطري إلى أن وقفت على سؤال في ذلك رفعه المعتمد بن عباد سلطان الأندلس إلى الفقيه الأستاذ أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى النحوي الشنتمري المشهور بالأعلم، ونص السؤال:
سألك - أبقاك الله - الوزير الكاتب أبو عمرو ابن غطمش، سلمه الله، عن المسهب وزعم أنك تقول بالفتح والكسر، والذي ذكر ابن قتيبة في أدب الكاتب والزبيدي في مختصر العين أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر الكلام، بالفتح خاصةً، فبين لي - أبقاك الله تعالى - ما تعتقد فيه، وإلى أي كتاب تسند القولين، لأقف على صحة من ذلك.
فأجابه: وصل إلي - أدام الله تعالى توفيك - هذا السؤال العزيز، ووقفت على ما تضمنه، والذي ذكرته من قول ابن قتيبة والزبيدي في الكتابين موضوع كما ذكرته، والذي أحفظه وأعتقده أن المسهب بالفتح المكثر في غير صواب، وأن المسهب بالكسر البليغ المكثر من الصواب، إلا أني لا أسند ذلك إلى كتاب بعينه، ولكني أذكره عن أبي علي البغدادي من كتاب البارع أو غيره، معلقاً في عدة نسخ من كتاب البيان والتبيين على بيت في صدره لمكي بن سوادة وهو:
حصر مسهب جريء جبان ... خير عي الرجال عي السكوت والمعلقة: تقول العرب: أسهب الرجل فهو مسهب وأحصن فهو محصن وألفج فهو ملفج، إذا افتقر، قال الخليل: يقال رجل مسهب ومسهب، قال أبو علي: أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا أكثر في(4/77)
غير الصواب، وأسهب فهو مسهب بالكسر إذا أكثر وأصاب، قال أبو عبيدة: أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر من خرف وتلف ذهن، وقال أبو عبيدة عن الأصمعي: أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا أخرف وأهتر، فإن أكثر من الخطإ قيل: أفند فهو مفند، انتهت المعلقة.
فرأي مملوكك - أيدك الله تعالى - واعتقاده أن المسهب بالفتح هو المكثر من الكلام بموجب أن المكثر هو البليغ المصيب، ألا ترى إلى قول الشاعر حصر مسهب أنه قرن فيه المسهب بالحصر وذمه بالصفتين، وجعل المسهب أحق بالعي من الساكت والحصر فقال:
خير عي الرجال عي السكوت ... والدليل على أن المسهب بالكسر يقال للبليغ المكثر من الصواب أنهم يقولون للجواد من الخيل مسهب بالكسر خاصة لأنها بمعنى الإجادة والإحسان، وليس قول ابن قتيبة والزبيدي في المسهب بالفتح هو المكثر من الكلام بموجب أن المكثر هو البليغ المصيب، لأن الإكثار من الكلام داخل في معنى الذم، لأنه من الثرثرة والهذر، ألا تراهم قالوا: رجل مكثار، كما قالوا: ثرثار، ومهذار، وقال الشاعر:
فلا تمارون إن ماروا بإكثار ... فهذا ما عندي، والله تعالى الموفق للصواب.
قال الأعلم: ثم نظمت السؤال العزيز والجواب المذكور، فقلت:
سلام الإله وريحانه ... على الملك المجتبى المنتخل
سلام امرئ ظل من سيبه ... خصيب الجناب رحيب المحل
أتاني سؤالك أعزز به ... سؤال مبر على من سأل
يسأل عن حالتي مسهب ... ومسهب المبتلى بالعلل(4/78)
لم اختلفا في بناءيهما ... وحكمهما واحد في فعل
أتى ذا على مفعل لم يعل ... وذاك على مفعل قد أعل
فقلت مقالاًعلى صدقه ... شهيد من العقل لا يستزل
بناء البليغ أتى سالماً ... سلامته من فضول الخطل
وأسهب ذاك مسيئاً فزل ... زليلاً ثنى متنه فانخذل
وأحسن ذا فجرى وصفه ... على سنن المحسن المستقل
فهذا مقالي مستبصراً ... ولست كمن قال حدساً فضل
تقلدت في رأيه مذهباً ... يخصك بين الظبى والأسل
سموك في الروع مستشرفاً ... إلى مهجة المستميت البطل
كأنك فيها هلال السما ... يزيد بهاءً إذا ما أهل
بل أنت مطل كبدر السما ... يمضي الظلام إذا ما أطل قلت: رأيت في بعض الحواشي الأندلسية: أن ابن السكيت ذكر في بعض كتبه ما جعله بعض العرب فاعلاً وبعضهم مفعولاً: رجل مسهب ومسهب، لكثير الكلام، وهذا يدل على أنهما بمعنى واحد، انتهى.
530 - وسأل بعض الأدباء الأستاذ الأعلم المذكور عن المسألة الزنبورية، المقترنة بالشهادة الزورية، الجارية بين سيبويه والكسائي أو الفراء، والقضاء بينهم فيها، وهي ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور، فإذا هو هي، أو إياها، وعن نسب سيبويه: هل هو صريح أم مولى وعن سبب لزومه الخليل بعد أن كان يطلب الحديث والتفسير، وعن علة تعرضه لمناظرة الكسائي والفراء، وعن كتابه الجاري بين الناس: هل هو أول كتاب أو أنشأه بعد كتاب أول ضاع كما زعم بعض الناس
فأجاب: أما المسألة الزنبورية المأثورة بين سيبويه والكسائي. أو بينه وبين(4/79)
الفراء على حسب الاختلاف في ذلك، بحضرة الرشيد، أو بحضرة يحيى بن خالد البرمكي فيما يروى، فقد اختلفت الرواة فيها: فمنهم من زعم أن الكسائي أو الفراء قال لسيبويه: كيف تقول ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور، فإذا هو هي، ففيها من الاختلاف عنهم ما ترى، فإن كان أجاب بإذا هو هي، فقد أصاب لفظاً ومعنى، ولم تدخل عليه في جوابه شبهة، ولا علقة لمعترض، لأن إذا في المسألة من حروف الابتداء المتضمنة للتعليق بالخبر، فإذا اعتبرت المضمرين بعدها بالاسمين المظهرين لزمك أن تقول فإذا الزنبور العقرب أو اللسعة اللسعة أي مثلها سواء، فلو قلت فإذا هو إياها بنصب الضمير الأخير للزمك أن تقول: فإذا الزنبور العقرب، بالنصب، وهذا لا وجه له، فإذا لم يجز نصب الخبر المضمر الواقع موقعه ويروى في المسألة أن الكسائي أو الفراء قال لسيبويه بعد أن أجاب برفع الضميرين على ما يوجبه القياس: كيف تقول يا بصري خرجت فإذا زيد قائم، أو قائماً فقال سيبويه: أقول قائم ولا يجوز النصب، فقال الكسائي: أقول قائم وقائماً، والقائم والقائم، بالرفع والنصب في الخبر مع النكرة والمعرفة، فتأول الكسائي والفراء في اختيارهما فإذا هو إياها حمل الخبر المضمر في النصب على الخبر المظهر المعرفة مع الإعراب بوجه النصب، فكأنه قال: فإذا الزنبور العقرب، كما: فإذا زيد القائم، فيجري المعرفة في النصب مجرى النكرة، وقولهما في هذا خطأ من جهتين: إحداهما: أن نصب الخبر بعد إذا لا يكون إلا بعد تمام الكلام الأول في الاسم مع حرف المفاجأة، ومع كون الخبر نكرة، كقولك: خرجت فإذا زيد قائماً، لأنك لو قلت خرجت فإذا زيد تم الكلام، لتعلق المفاجأة بزيد على معنى حضوره، ثم تبين حاله في المفاجأة المتعلقة به فتقول قائماً أي: خرجت ففاجأني زيد في هذا الحال(4/80)
وقوله في المسألة إياها لا يتم الكلام في الاسم الأول دونها، ألا ترى أنك لو قلت: ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور فإذا هو وسكت، لم يتم الكلام أولاً، ولا أفدت بذكر المفاجأة وتعليقها بالزنبور فائدة، وإنما المفاجأة للضمير الآخر، فلا بد من ذكره والاعتماد عليه، وهذا يوجب الرفع في الخبر؛ لأن الظرف له، لا للمخبر عنه، فهذا بين واضح، والجهة الأخرى في غلطهما أن إياها معرفة، والحال لا تكون إلا نكرة، فقد اجتمع في قولهما أن أتيا بحالٍ لم يتم الكلام دونها، معرفة، والحال لا تكون إلا بعد تمام الكلام ومع التنكير، فقد تبين خطؤهما وإصابة سيبويه في لزوم الرفع في الخبر فقط.
وأما من زعم عن سيبويه أنه قال خرجت فإذا زيد قائم بالرفع لا غير باطل، وكيف ينسب إليه وهو علمنا أن الظرف إذا كان مستقراً للاسم المخبر عنه نصب الخبر، وإذا كان مستقراً للخبر رفع الخبر، ونحن نقول: خرجت فإذا زيد فيتم الكلام، ونظرت فإذا الهلال طالع فيتبعه الخبر رفعاً، كما تقول في الدار زيد قائم، وقائماً واليوم سيرك سريع، وسريعاً، ولكن الخبر إذا كان الظرف له ولم يتعلق إلا به لم يكن إلا رفعاً، كقولك اليوم زيد منطلق، وغداً عمرو خارج لأن الظرف لا يكون مستقراً للاسم المخبر عنه إذا كان زماناً، والمخبر عنه جثة، وكذلك المفاجأة إذا كانت للخبر لم يكن إلا مرفوعاً، معرفة كان أو نكرة، فإذا كانت للمخبر عنه والخبر نكرة انتصب على الحال، فجرى قولك ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، وظننت زيداً عالماً فإذا هو جاهل في لزوم الرفع في الخبر مجرى اليوم زيد منطلق، وغداً عمرو خارج كما جرى خرجت فإذا زيد قائم، وقائماً في جواز الرفع والنصب مجرى في الدار زيد جالس وجالساً، فتأمل الفرق بينهما وحصله، فإن النحويين المتقدمين والمتأخرين قد أغفلوا الفرق بين المفاجأتين.
وأما نصب الخبر المعرفة بعد إذ، تم الكلام أو لم يتم، فباطل لا تقوله(4/81)
العرب، ولا يجيزه إلا الكوفيون.
وإن كان سيبويه رحمه الله تعالى أجاب بقوله: فإذا هو إياها كما روى بعضهم فظاهر جوابه مدخول، لما قدمت، والخطأ فيه بين من جهة القياس كما ذكرنا، فإن كان قاله والتزمه دون الرفع فقد أخطأ خطأً لا مخرج له منه، وإن كان قد قاله وهو أن الرفع أولى وأحق، إلا أنه آثر النصب للإعراب حملاً على المعنى الخفي، دون ما يوجبه القياس واللفظ الجلي، فلجوابه عندي وجهان حسنان:
أحدهما: أن يكون الضمير المنصوب وهو إياها كنايةً عن اللسعة، لا عن العقرب، والضمير المرفوع كناية عن الزنبور، فكأنه قال ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا الزنبور لسعة العقرب، أي فإذا الزنبور يلسع لسعة العقرب، فاختزل الفعل لما تقدم من الدليل عليه، بعد أن أضمر اللسعة متصلة بالفعل، فكأنه قال فإذا الزنبور يلسعها فاتصل الضمير بالفعل لوجوده، فلما اختزل الفعل انفصل الضمير، لعدم الفعل.
ونظير هذا من كلام العرب قولهم إنما أنت شرب الإبل أي: إنما أنت تشرب شرب الإبل، فاختزل الفعل، وبقي عمله في المصدر، ولم يرفع لأنه غير الاسم الأول، فلو أضمرت شرب الإبل بعدما جرى ذكره فقلت ما يشرب زيد شرب الإبل، إنما أنت تشربه لاتصل الضمير بالفعل، فلو حذفته لانفصل الضمير فقلت إنما أنت إياه فتدبره تجده منقاداً صحيحاً.
والوجه الآخر: أن يكون قوله فإذا هو إياها محمولاً على المعنى الذي اشتمل عليه أصل الكلام من ذكر الظن أولاً وآخراً، لأن الأصل في تأليف المسألة ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور فلما لسعني الزنبور ظننته هو إياها فاختصر الكلام لعلم المخاطب، وحذف الظن آخراً لما جرى من ذكره أولاً، ودلت إذا لما فيها من المفاجأة على الفعل الواقع بعد لما الدالة على وقوع الشيء لوقوع غيره، فإذا جاز حذف الكلام إيثاراً للاختصار مع وجود الدليل على(4/82)
المحذوف كان قولنا فإذا هو إياها بمنزلة قولنا فلما لسعني الزنبور ظننته هو إياها فحذف الظن مع مفعوله الأول، وبقي الضمير الذي هو العماد والفصل مؤكداً للضمير المحذوف مع الفعل ودالاً على ما يأتي بعده من الخبر المحتاج إليه، فيكون في حذف المخبر عنه لما تقدم من الدليل عليه مع الإتيان بالعماد والفصل المؤكد له المثبت لما بعده من الخبر المحتاج إليه مثل قوله " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم " فحذف البخل الذي هو المفعول الأول لقوله يحسبن وبقي الضمير مؤكداً له مثبتاً لما بعده من الخبر، وجاز حذفه لدلالة يبخلون عليه، والمعنى: لا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيراً لهم، فهو في المسألة عماد مؤكد لضمير الزنبور المحمول على الظن المضمر ومثبت لما يجيء بعده من الخبر الذي هو إياها فتفهمه فإنه متمكن من جهة المعنى، وجارٍ من الاختصار لعلم المخاطب على قياس وأصل، وشاهده القرآن في الحذف واستعمال العرب النظائر، وهي أكثر من أن تحصى، فمنها قولهم ما أغفله عنك شيئاً أي تثبت شيئاً ودع الشك، وقولهم لمن أنكر عليه ذكر إنسان ذكره من أنت زيداً أي: من أنت تذكر زيداً، وربما قالوا من أنت زيد بالرفع على تقدير: من أنت ذكرك زيد، فحذفوا الفعل مرة وأبقوا عمله، وحذفوا المبتدأ أخرى وأبقوا خبره، وكل ذلك اختصار، لعلم المخاطب بالمعنى، وكذلك قولهم هذا ولا زعماتك أي هذا القول والزعم الحق ولا أتوهم زعماتك، فحذف هذا لعلم السامع مع تحصل المعنى وقيامه عند المخاطب، والحمل في كلامهم على المعنى أكثر من أن يحصى.
فإن كان الضمير الأول في المسألة للزنبور والضمير الآخر للعقرب لم يجز البتة إلا رفع الضميرين بالابتداء والخبر، على حد قولك ظننت زيداً عاقلاً فإذا هو أحمق، وحسبت عبد الله قاعداً فإذا هو قائم ولو تقدم ذكر الخبر والمخبر عنه لقلت فإذا هو هو ولم يجز فإذا هو إياه البتة. ويجوز في المسألة(4/83)
إذا قلت: فإذا هو، لأبى أن يكون الضمير للزنبور والعقرب على حد قولك الزنبور العقرب ويجوز أن تقول فإذا هي هو على التقديم والتأخير على حد قولك فإذا العقرب الزنبور أي سواء في شدة اللسعة كما تقول خرجت فإذا قائم زيد على تقدير فإذا زيد قائم، ويجوز أن يكون هو كناية عن اللسع بدلالة اللسعة عليه، وتكون هي كناية على اللسعة على تقدير: فإذا لسع الزنبور لسعة العقرب، ويجوز فإذا هي هو على إضمار اللسعة واللسع، والتقدير: فإذا لسعة الزنبور لسع العقرب، وهذا كله لا يجوز فيه إلا الرفع عند البصريين، لن الآخر هو الأول، والخبر معرفة متعلق بالمفاجأة فلا يجوز فيه الحال، والكوفيون يجيزون النصب كما تقدم، وهو غلط بين، وخطأ فاحش، لا تقوله العرب، ولا تعلق له بقياس، فاعلمه.
ويجوز في المسألة فإذا هو هو على تقدير: فإذا اللسع اللسع، ويجوز فإذا هي هي على تقدير: فإذا اللسعة اللسعة، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى.
وأما نسب سيبويه ففارسي مولى لبني حارث بن كعب بن علة بن خلدة ابن مالك، وهو مذحج، واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر، وكنيته أبو بشر، ولقبه الذي شهر به سيبويه، ومعناها بالفارسية رائحة التفاح، وكان من أطيب الناس رائحة، وأجملهم وجهاً، وقيل: معنى سي ثلاثون، ومعنى بويه رائحة، فكأن معناها: الذي ضوعف طيب رائحته ثلاثين مرة.
وأما سبب تعويله على الخليل في طلب النحو - مع ما كان عليه من الميل إلى التفسير والحديث - فإنه سأل يوماً حماد بن سلمة فقال له: أحدثك هشام ابن عروة عن أبيه في رجل رعف في الصلاة، بضم العين، فقال له حماد: أخطأت، إنما هو رعف بفتح العين، فانصرف الخليل، فشكا إليه ما لقيه من حماد، فقال له الخليل: صدق حماد، ومثل حماد يقول هذا، ورعف بضم العين لغة ضعيفة، وقيل: إنه قدم البصرة من البيداء من قرى شيراز من عمل فارس، وكان مولده ومنشؤه بها، ليكتب الحديث ويرويه، فلزم حلقة حماد(4/84)
ابن سلمة، فبينما هو يستملي على حماد قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأقدت عليه، ليس أبا الدرداء " فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء بالرفع، وخمنه اسم ليس، فقال له حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، إنما ليس ههنا استثناء، فقال سيبويه: سأطلب علماً لا تلحنني فيه، فلزم الخليل، وبرع في العلم.
وأما سبب وفوده على الرشيد ببغداد وتعرضه لمناظرة الكسائي والفراء، فلما كانا عليه من تمكن الحال، والقرب من السلطان، وعلو همته، وطلبه للظهور مع ثقته بعلمه؛ لأنه كان أعلم أهل زمانه، وكان بينه وبين البرامكة أقوى سبب، فوفد على يحيى بن خالد بن برمك وابنيه جعفر والفضل، فعرض عليهم ما ذهب إليه من مناظرة الكسائي وأصحابه، فسعوا له في ذلك، وأوصلوه إلى الرشيد، فجرى بينه وبين الكسائي والفراء ما ذكر واشتهر، وكان آخر أمره أن الكسائي وأصحابه لما ظهروا عليه بشهادة الأعراب على حسب ما لقنوا أن قال يحيى بن خالد أو الكسائي للرشيد، ياأمير المؤمنين، إن رأيت أن لا يرجع خائباً فعلت، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وانصرف إلى الأهواز، ولم يعرج على البصرة، وأقام هنالك مدةً إلى أن مات كمداً، ويروى أنه ذربت معدته فمات، فيرون أنه مات غماً، ويروى أن الكسائي لما بلغه موته قال للرشيد: ده يا أمير المؤمنين فإني أخاف أن أكون شاركت في دمه، ولما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فقطرت دمعة من دموعه على خده، فرفع عينيه وقال:
أخيين كنا فرق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا ومات على السنة والجماعة، رحمه الله تعالى.
وأما كتابه الجاري بين الناس فلم يصح أنه أنشأه بعد كتاب آخر قبله، على أن ذلك قد ذكر.
فهذا ما حضر فيما سألت عنه؛ فمن قرأه وأشرف فيه على تقصير فليبسط(4/85)
العذر فإنه لساعتين من نهار، إملاء يوم الثلاثاء عشي النهار لثمان خلون لصفر سنة 476، انتهى.
531 - وقال الإلبيري، رحمه الله تعالى (1) :
لا شيء أخسر صفقةً من عالم ... لعبت به الدنيا مع الجهال
فغدا يفرق دينه أيدي سبا ... ويذيله حرصاً بجمع المال
لا خير في كسب الحرام، وقلما ... يرجى الخلاص لكاسبٍ الحلال
فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلةٍ ... فافضل تسأل عنه أي سؤال 532 - وكان أبو الفضل ابن الأعلم من أحسن الناس وجهاً، وأذكرهم في علم النحو والأدب، وأقرأ النحو في صباه، وفيه يقول ابن صارة الأندلسي، رحمه الله تعالى (2) :
أكرم بجعفرٍ اللبيب فإنه ... ما زال يوضح مشكل الإيضاح
ماء الجمال بوجهه مترقرقٌ ... فالعين منه تجول في ضحضاح
ما خده جرحته عيني، إنما ... صبغت غلالته دماء جراحي
لله زاي زبرجدٍ في عسجدٍ ... في جوهرٍ في كوثرٍ في راح
ذي طرة سبجية، ذي غرةٍ ... عاجية، كالليل والإصباح
رشأ له خد البريء، ولحظه ... أبداً شريك الموت في الأرواح (3) 533 - وقال محمد بن هانئ الأندلسي من قصيدة (4) :
السافرات كأنهن كواكبٌ ... والناعمات كأنهن غصون
__________
(1) ديوان الإلبيري: 81.
(2) قد مر هذا ص: 73 - 74 من هذا الجزء.
(3) زاد في م بعده: وقد سبقت هذه الأبيات قبل هذا.
(4) ديوان ابن هانئ: 171.(4/86)
ماذا على حلل الشقيق لو أنها ... عن لابسيها في الخدود تبين
لأعطشن الروض بعدهم ولا ... يرويه لي دمعٌ عليه هتون
أأعير لحظ العين بهجة منظرٍ ... وأخونهم أني إذاً لخؤون
لا الجو جو مشرقٌ وإن اكتسى ... زهواً، ولا الماء المعين معين
لا يبعدن إذ العبير له ثرى ... والبان روح، والشموس قطين
الظل لا متنقلٌ، والحوض لا ... متكدرٌ، والأمن لا ممنون 534 - وقال القسطلي في أسطول أنشأه المنصور بن أبي عامر من قصيدة (1) :
تحمل منه البحر بحراً من القنا ... يروع بها أمواجه ويهول
بكل ممالات الشراع كأنها ... وقد حملت أسد الحقائق غيل
إذا سابقت شأو الرياح تخيلت ... خيولاً مدى فرسانهن خيول
سحائب تجزيها الرياح فإن وفت ... أطافت بأجياد النعام فيول
ظباء سمام مالهن مفاحصٌ ... وزرقٍ حمام ما لهن هديل
سواكن في أوطانهن كأن سما ... بها الموج حيث الراسيات نزول
كما رفع الآل الهوادج بالضحى ... غداة استقلت بالخليط حمول
أراقم تحوي ناقع السم ما لها ... بما حملت دون العداة مقيل وقد أطنب الناس في وصف السفن وأطابوا، وقرطسوا القريض وأصابوا، ووقد ذكرنا نبذة في ذلك من هذا الكتاب.
535 - وقال أبو بحر صفوان بن إدريس التجيبي: حدثني بعض الطلبة بمراكش أن أبا العباس الجراوي كان في حانوت وراق بتونس، وهناك فتى يميل إليه، فتناول الفتى سوسنة صفراء، وأومأ بها إلى خديه مشيراً، وقال: أين الشعراء تحريكاً للجراوي، فقال ارتجالاً:
__________
(1) ديوان ابن دراج: 5.(4/87)
وعلوي الجمال إذا تبدى ... أراك جبينه بدراً أنارا
أشار بسوسنٍ يحكيه عرفاً ... ويحكي لون عاشقه اصفرارا قال أبو بحر: ثم سألني أن أقول في هذا المعنى، فقلت بديهاً:
أومى إلى خده بسوسنةٍ ... صفراء صيغت من وجنتي عبده
لم تر عيني من قبله غصناً ... سوسنه نابتٌ إذا ورده
أعملت زجري فقلت ربتما ... قرب خد المشوق من خده فحدثني المذكور أنه اجتمع مع أبي بكر ابن يحيى بن مجبر، رحمه الله تعالى، قبل اجتماعه بي في ذلك الموضع الذي اجتمع فيه بي بعينه، فحدثه بالحكاية كما حدثني، وسأله أن يقول في تلك الحال، فقال بديهاً:
بي رشأ وسنان مهما انثنى ... حار قضيب البان في قده
مذ ولي الحسن وسلطانه ... صارت قلوب الناس من جنده
أودع في وجنته زهرةً ... كأنها تجزع من صده
وقد تفاءلت على فعله ... أني أرى خدي على خده فتعجبت من توارد خاطرينا على معنى هذا البيت الأخير.
قال أبو بحر: ثم قلت في تلك الحال:
أبرز من وجنته وردةً ... أودعها سوسنةً صفرا
وإنما صورته آيةٌ ... ضمنها من سوسنٍ عشرا 536 - وقال بعضهم (1) في الباذنجان:
ومستحسن عند الطعام مدحرج ... غذاه نمير الماء في كل بستان
__________
(1) بعض شعراء الأندلس.(4/88)
تطلع في أقماعه فكأنه ... قلوب نعاجٍ في مخاليب عقبان 537 - وقال ابن خروف، ويقال أنها في وصف دمشق:
إذا رحلت عروبة عن حماها ... تأوه كل أواه حليم
إلى سبتٍ حكى فرعون موسى ... يجمع كل سحار عليم
فتبصر كل أملود قويمٍ ... يميس بكل ثعبانٍ عظيم
إذا انسابت أراقمها عليها ... تذكرنا بها ليل السليم
وشاهدنا بها في كل حينٍ ... حبالاً ألقيت نحو الكليم 538 - وقال أبو القاسم ابن هشام (1) ارتجالاً في وسيم عض وردة ثم رمى بها، وسئل ذلك منه امتحاناً:
ومعجز الأوصاف والوصاف في ... بردي جمالٍ طرزا بالتيه
سوسان أنمله تناول وردةً ... فغدا يمزقها أقاحي فيه
فكأنني شبهت وجنته بها ... فرما بها غضباً على التشبيه وقال أيضاً (2) فيمن عض كلبٌ وجنته:
وأغيد وضاح المحاسن باسمٍ ... إذا قامر الأسياف ناظره قمر
تعمد كلب عض وجنته التي ... هي الورد إيناعاً وأبقى بها أثراً
فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم ... وقد أثر العواء في صفحة القمر 539 - وقال آخر يصف شجة في خد وسيم:
عذيري من ذي صفحةٍ يوسفية ... بها شجةٌ جلت عن اللثم واللمس
__________
(1) ترجمة أبي القاسم ابن هشام في زاد المسافر: 62.
(2) م: وقال آخر.(4/89)
يقولون من عجب: أتحسن وصفها ... فقلت: هلال لاح في شفق الشمس 540 - وقال القاضي أبو الوليد الوقشي فيمن طر شاربه (1) :
قد بينت فيه الطبيعة أنها ... لبديع أفعال المهندس باهره
عنيت بمبسمه فخطت فوقه ... بالمسك خطاً من محيط الدائرة 541 - وقال أبو الحسن ابن عيسى:
عابوه أسمر ناحلاً ذا ذرقةٍ ... رمداً وظنوا أن ذاك يشينه
جهلوا بأن السمهري شبيهه ... وخطابه بدم القلوب يزينه 542 - وقال الأستاذ أبو ذر الخشني:
أنكر صحبي إذ رأوا طرفه ... ذا حمرة يشفى بها المغرم
لا تنكروا ما احمر من طرفه ... فالسيف لا ينكر فيه الدم 543 - وقال أبو عبد الله محمد (2) بن أبي خالص الرندي:
يا شادناً برز العذار بخده ... وازداد حسناً، ليته لم يبرز
الآن أعلم حين جد بي الهوى ... كم بين مختصرٍ وبين مطرز 544 - وقال أبو الحسين عبد الملك بن مفوز المعافري:
ومعذرٍ من خده ورقيبه ... شغلان حلا عقد كل عزيمة
خد وخب عيل صبري منهما ... هذا بنمنمةٍ وذا بنميمة 545 - وقال أبو الوليد ابن زيدون فيمن أصابه جدري (3) :
__________
(1) مر البيتان، انظر ج 3: 376.
(2) محمد: سقطت من م.
(3) ديوان ابن زيدون: 124.(4/90)
قال لي اعتل من هويت حسود ... قلت: أنت العليل ويحك لا هو
ما الذي قد نكرت من بثرات ... ضاعفت حسنه وزانت حلاه
جسمه في الصفاء والرقة الما ... ء فلا غرو أن حبابٌ علاه 546 - وقال الهيثم (1) :
قالوا: به جربٌ فقلت لهم قفوا ... تلك الندوب مواقع الأبصار
هو روضةٌ والقد غصنٌ ناعمٌ ... أرأيتم غصناٌ بلا نوار 547 - وقال أبو بكر محمد بن عياض القرطبي (2) في مخضوبة الأنامل:
وعلقتها فتانةً أعطافها ... تزري بغصن البانة المياد
من للغزالة والغزال بحسنها ... فى الخد أو في العين أو في الهادي
خضبت أناملها السواد وقلما ... أبصرت أقلاماً بغير مداد 548 - وقال أبو الحسين النفزي (3) :
بدا يوسفاً وشدا معبداً ... فللعين ما تشتهي والأذن
كأن بأعلاه قمريةً ... تغرد من قده في غصن 549 - وقال ابن صارة:
مقام حر بأرض هونٍ ... عجزٌ لعمري من المقيم
سافر فإن لم تجد كريماً ... فمن لئيمٍ إلى لئيم
__________
(1) زاد في م: في من اعتل بجرب.
(2) ترجمته في التكملة: 515.
(3) م: وقال أبو الحسن النفزي في مهفهف أهيف.(4/91)
550 -[أشعار المعتمد]
وقال المعتمد بن عباد، رحمه الله تعالى (1) :
مولاي اشكو إليك داءً ... أصبح قلبي به قريحا
سخطك قد زادني سقاماً ... فابعث إلي الرضى مسيحا قال بعضهم: وقوله مسيحا من القوافي التي يتحدى بها.
وكتب إلى أبيه جواباً عن تحفة (2) :
يا مالكاً قد أصبحت كفه ... ساحرةً بالعارض الهاطل
قد أفحمتني منةٌ مثلها ... يضيق القول على القائل
وإن أكن قصرت في وصفها ... فحسنها عن وصفها شاغلي وكتب إلى وزيره ابن عمار:
لما نأيت نأى الكرى عن ناظري ... وودته لما انصرفت عليه
طلب البشير بشارةً يجزى بها ... فوهبت قلبي واعتذرت إليه وقال في جارية له كان يحبها، وبينما هي تسقيه إذ لمع البرق فارتاعت:
يروعها البرق وفي كفها ... برقٌ من القهوة لماع
يا ليت شعري وهي شمس الضحى ... كيف من الأنوار ترتاع ومن توارد الخواطر أن ابن عباد أنشد عبد الجليل بن وهبون البيت الأول، وأمره أن يذيله، فقال:
ولن ترى أعجب من آنسٍ ... من مثل ما يمسك يرتاع
__________
(1) ديوان المعتمد: 33.
(2) وردت هذه القطع في ديوان المعتمد 42، 63، 31، 12، 14، 19، 3، 10، 25، 7.(4/92)
وقال المعتمد، رحمه الله تعالى:
داوى ثلاثته بلطف ثلاثة ... فثنى بذاك رقيبه لم يشعر
أسراره بتستر، وأوراه ... بتصبر، وخباله بتوقر وكانت له جارية اسمها " جوهرة " وكان يحبها، فجرى بينهما عتاب، ورأى أن يكتب إليها يسترضيها، فأجابته برقعة لم تعنونها باسمها، فقال:
لم تصف لي بعد وإلا فلم ... لم أرى في عنوانها جوهرة
درت بأني عاشقٌ لاسمها ... فلم ترد للغيظ أن تذكره
قالت: إذا أبصره ثابتاً ... قبله، والله لا أبصره وقال في هذه الجارية:
سرورنا بعدكم ناقصٌ ... والعيش لا صافٍ ولا خالص
والسعد إن طالعنا نجمه ... وغبت (1) فهو الآفل الناكص
سموك بالجوهر مظلومةُ ... مثلك لا يدركه غائص وقال فيها أيضاً:
جوهرةٌ عذبني ... منك تمادي الغضب
فزفرتي في صعدٍ ... وعبرتي في صبب
يا كوكب الحسن الذي ... أزرى بزهر له الشهب
مسكنك القلب، فلا ... ترضى له بالوصب وقال في جاريت اسمها وداد:
اشرب الكأس في وداد ودادك ... وتأنس بذكرها في انفرادك
__________
(1) ق: وغيث.(4/93)
قمرٌ غاب عن جفونك مرآ ... هـ وسكناه في سواد فؤادك وقال (1) :
لك الله كم أودعت قلبي من أسى ... وكم لك ما بين الجوانح من كلم
لحظاك طول الدهر حربٌ لمهجي ... ألا رحمةٌ تثنيك يوماً إلى سلمي وقال:
قلت متى ترحمني ... قال: ولا طول الأبد
قلت: فقد أيأسني ... من الحياة، قال: قد 551 - وأهدى أبو الوليد ابن زيدون باكورة تفاحٍ إلى المعتضد والد المعتمد، وكتب له معها (2) :
يا من تزينت الريا ... سة حين ألبس ثوبها
جاءتك جامدة المدا ... م فخذ عليها ذوبها 552 - وقال المعتمد وقد أمره أبوه المعتضد أن يصف مجناً فيه كواكب فضة (3) :
مجنٌّ حكى صانعوه السما ... لتقصر عنه طوال الرماح
وقد صوروا فيه شبه الثريا ... كواكب تقضي له بالنجاح 553 - وقال ابن اللبانة: كنت بين يدي الرشيد ابن المعتمد في مجلس أنسه، فورد الخبر بأخذ يوسف بن تاشفين غرناطة سنة 483، فتفجع وتلهف،
__________
(1) سقط البيتان من م.
(2) ديوان ابن زيدون: 221.
(3) ديوان المعتمد: 29.(4/94)
واسترجع وتأسف، وذكر قصر غرناطة فدعونا لقصره بالدوام، ولملكه بتراخي الأيام، وأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء، فغنى:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد فاستحالت مسرته، وتجهمت أسرته، وأمر بالغناء من ستارته، فغنى:
إن شئت أن لا ترى صبراً لمصبرٍ ... فانظر على المقليَّن من أهل المروءات
أنَّ اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما لست أملك من إحدى المصيبات قال: فتلافيت الحال بأن قلت:
محلٌّ مكرمة لا هدّ مبناه ... وشمل مأثرةٍ لا شتت (1) الله
البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفاً ... أن الرشيد مع المعتمد ركناه
ثاوٍ على أنجم الجوزاء مقعده ... وراحلٌ في سبيل السعد مسراه
حتم على الملك أن يقوى وقد وصلت ... بالشرق والغرب يمناه ويسراه
بأسٌ توقد، فاحمرت لواحظه ... ونائلٌ شبَّ، فاخضرت عذراه فلعمري لقد بسطت من نفسه، وأعادت عليه بعض أنسه، على أني وقعت فيما وقع فيه الكل لقولي " البيت كالبيت ". وأمر إثر ذلك أبا بكر بالغناء، فغنى:
ولما قضينا من منىً كل حاجةٍ ... ولم يبق إلا أن تزم الركائب
__________
(1) ب: لا شته.(4/95)
فأيقنا أن هذا التطير، يعقبه التغير.
554 - وقد كان المعتضد بن عباد - حين تصرمت أيامه، وتدانى حمامه - استحضر مغنياً يغنيه ليجعل ما يبدأ به فألاً، وكان المغني السوسي، فأول شعر قاله:
نطوي المنازل علماً أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا فمات بعد خمسة أيام، وكان الغناء من هذا الشعر في خمسة أبيات:
555 - وقال المعتمد بعدما خلع وسجن (1) :
قبح الدهر فماذا صنعا ... كلما أعطى نفيساً نزعا
قد هوى ظلماً بمن عاداته ... أن ينادي كل من يهوي: لعا
من إذا قيل الخنى صم، وإن ... نطق العافون همساً سمعا
قل لمن يطمع في نائله ... قد أزال اليأس ذاك الطمعا
راح لايملك إلا دعوةً ... جبر الله العفاة الضيعا 556 - وقال ابن اللبانة: كنت مع المعتمد بأغمات، فلما قاربت الصدر، وأزمعت السفر، صرف حيله، واستنفد ما قبله، وبعث إلي مع شرف الدولة ولده - وهذا من بنيه أحسن الناس سمتاً، وأكثرهم صمتاً، تخجله اللفظة، وتجرحه اللحظة، حريص على طلب الأدب، مسارع في إقتناء الكتب، مثابر على نسخ الدواوين، مفتح فيها من خطه زهر الرياحين - بعشرين مثقالاً مرابطية، وثوبين غير مخيطين، وكتب معها أبياتاً منها (2) :
إليك النزر من كف الأسير ... وإن تقنع تكن عين الشكور
__________
(1) ديوان المعتمد: 108.
(2) ديوانه: 102.(4/96)
تقبل ما يذوب له حياءً ... وإن عذرته حالات الفقير فامتنعت من ذلك عليه، وأجبته بأبيات منها:
تركت هواك وهو شقيق ديني ... لئن شقت برودي عن غدور
ولا كنت الطليق من الرزايا ... إذا أصبحت أجحف بالأسير
جذيمة أنت، والزباء خانت ... وما أنا من يقصر عن قصير
تصرف في الندى حيل المعالي ... فتسمح من القليل بالكثير
وأعجب منك أنك في ظلامٍ ... وترفع للعفاة منار نور
رويدك سوف توسعني سروراً ... إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسف تحلني رتب المعالي ... غداة تحل في تلك القصور
تزيد على ابن مروانٍ عطاءً ... بها وأزيد ثم على جرير
تأهب أن تعود إلى طلوعٍ ... فليس الخسف ملتزم البدور وأتبعتها أبياتاً منها:
حاشا لله أن أجيح كريماً ... يتشكى فقراً وقد سد فقرا
وكفاني كلامك الرطب نيلاً ... كيف ألغي دراً وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت ... لا سقى الله بعدك الأرض قطرا ورأى ابن اللبانة أحد أبناء المعتمد، وهو غلام وسيم، وقد اتخذ الصياغة صناعة، وكان يلقب أيام سلطانهم من الألقاب السلطانية بفخر الدولة، فنظر إليه وهو ينفخ الفحم بقصبة الصائغ، وقد جلس في السوق يتعلم الصياغة، فقال:
شكاتنا لك يا فخر العلا عظمت ... والرزء يعظم ممن قدره عظما
طوقت من نائبات الدهر مخنقةً ... ضاقت عليك وكم طوقتنا نعما
وعاد طوقك في دكان قارعةٍ ... من بعد ما كنت في قصر حكى إرما(4/97)
صرفت في آلة الصواغ أنملةٌ ... لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يدٌ عهدتك للتقبيل تبسطها ... فتستقل الثريا أن تكون فما
يا صائغاً كانت العليا تصاغ له ... حلياً وكان عليه الحلي منتظما
للنفخ في الصور هولٌ ما حكاه سوى ... هولٍ رأيتك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك به ... لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى
ما حطك الدهر لما حط عن شرفٍ ... ولا تحيف من أخلاقك الكرما
لح في العلا كوكباً، إن لم تلح قمراً ... وقم بها ربوة، إن لم تقم علما
واصبر فربما أحمدت عاقبةً ... من يلزم الصبر يحمد غب ما لزما
والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت ... ولو وفى لك دمع الغيث لانسجما
أبكى حديثك حتى الدر حين غدا ... يحكيك رهطاً وألفاظاً ومبتسما 557 - وقال لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى (1) : وقفت على قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغمات في حركة راحة أعملتها إلى الجهات المراكشية، باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار سنة761، وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض، وقد حفت به سدرة، وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته مولاة رميك، وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتها، فأنشدت في الحال:
قد زرت قبرك عن طوعٍ بأغمات ... رأيت ذلك من أولى المهمات
لم لا أزورك يا أندى الملوك يداً ... ويا سراج الليالي المدلهمات
وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه ... إلى حياتي لجادت فيه أبياتي
أناف قبرك في هضبٍ يميزه ... فتنتحيه حفيات التحيات
كرمت حياً وميتاً واشتهرت علاً ... فأنت سلطان أحياءٍ وأموات
__________
(1) انظر مشاهدات لسان الدين: 133 نقلاً عن نفاضة الجراب، وأزهار الرياض 1: 297 وستأتي القصيدة في الباب الخاص بشعر لسان الدين.(4/98)
ما ريء مثلك في ماضٍ، ومعتقدي ... أن لا يرى الدهر في حال وفي آت وقد زرت أنا قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغماد سنة 1010، ورأيت فيه مثل ما ذكره لسان الدين رحمه الله تعالى، فسبحان من لايبيد ملكه، لا إله إلا هو.
558 - وقال وزيره أبو الوليد ابن زيدون (1) :
متى أخف الغرام يصفه جسمي ... بألسنة الضنى الخرس الفصاح
فلو أن الثياب نزعن عني ... خفيت خفاء خصرك في الوشاح وقال يخاطب المعتمد:
وطاعة أمرك فرضٌ أراه ... من كل مفترضٍ أو كدا
هي الشرع أصبح دين الضمير ... فلو قد عصاك لقد ألحدا وقال فيه:
يا ندى يمنى أبي القاسم عم ... يا سنا بشر المحيا أشمس
وارتشف معسول ثغر أشنبٍ ... لحبيبٍ من عجاجٍ ألعس وقال:
مهما امتدحت سواك قبل فإنما ... مدحي إلى مدحي لك استطراد
تغشى الميادين الفوارس حقبةً ... كيما يعلمها النزال طراد وقال:
__________
(1) وردت هذه المقطعات في ديوان ابن زيدون: 429، 216، 212، 465، 436، 229.(4/99)
يحييني بريحان التجني ... ويصحبني معتقة السماح
فها أنا قد ثملت من الأيادي ... إذا اتصل اغتباقي باصطباحي وكتب إلى أبي عامر يستدعيه:
أبا المعالي نحن في روضةٍ ... فانقل علينا القدم العاليه
أنت الذي لو نشتري ساعةً ... ولو أنها لم تكن غاليه وتذكرت هنا قول بعض المشارقة فيما أظن:
لله أيامٌ مضت مأنوسةً ... ما كان أحسنها وأنضرها معا
لو ساعةٌ منها تباع شريتها ... ولو أنها بيعت بعمري أجمعا رجع:
559 - وقال أبو القاسم أسعد من قصيدة في المعتصم بن صمادح (1) :
وقد ذاب كحل الليل في دمع فجره ... إلى أن تبدى الليل كاللمة الشمطا
كأن الدجى جيشٌ من الزنج نافذٌ ... وقد أرسل الإصباح في إثره القبطا ومنها:
إذا سار سار الجود تحت لوائه ... فليس يحط المجد إلا إذا حطا 560 - وقال ابن خلصة المكفوف (2) النحوي من قصيدة:
ملكٌ تملك حر المجد، لا يده ... نالت بظلم ولا مالت إلى البخل
مهذب الجد ماضي الحد مضطلع ... لما تحمله العلياء من ثقل
__________
(1) المطمح: 83 وقد مرت بعض أبيات هذه القصيدة ص: 51.
(2) ترجمة ابن خلصة في التحفة (ص: 1) والوافي 3: 42، 232.(4/100)
أغر، لا وعده يخشى له أبداً ... خلفٌ، ولا رأيه يؤتى من الزلل
قد جاوزت نطق الجوزاء همته ... به، وما زحلت عن مرتقى زحل
يأبى له أن يحل الذم ساحته ... ما صد من جللٍ أو سد من خلل ومنها:
إن لم تكن بكم حالي مبدلةً ... فما انتفاعي بعلم الحال والبدل 561 - وقال ابن الحداد يمدح المعتصم بن صمادح:
عج بالحمى حيث الغياض العين ... فعسى تعن لنا مهاه الغين
واستقبلن أرج النسيم فدارهم ... ندية الأرجاء لا دارين
أفقٌ إذا ما رمت لحظ شموسه ... صدتك للنقع المثار دجون
أنى أراع لهم وبن جوانحي ... شوقٌ يهون خطبهم فيهون
أنى يهاب ضرابهم وطعانهم ... صبٌ بألحاظ العيون طعين
فكأنما بيض الصفاح جداولٌ ... وكأنما سمر الرماح غصون
ذرني أسر بين الأسنة والظبى ... فالقلب في تلك القباب رهين
يا ربة القرط المعير خفوقه ... قلبي، أما لحراكه تسكين
توريد خدك للصبابة موردٌ ... وفتور طرفك للنفوس فتون
فإذا رمقت فوحي حبك منزلٌ ... وإذا نطقت فإنه تلقين ومنها في وصف قصر:
رأسٌ بظهر النون إلا أنه ... سامٍ، فقبته بحيث النون
هو جنة الدنيا تبوأ نزلها ... ملكٌ تملكه التقى والدين
فكأنما الرحمن عجلها له ... ليرى بما قد كان ما سيكون
وكأن بانيه سنمارٌ فما ... يعدوه تحسينٌ ولا تحصين(4/101)
وجزاؤه فيه نقيض جزائه ... شنان ما الإحياء والتحيين ومنها في المديح:
لا تلقح الأحكام حيفاً عنده ... فكأنما الأفعال والتنوين ومنها:
وبدا هلال الأفق أحنى ناسخاً ... عهد الصيام كأنه العرجون
فكأن بين الصوم خطط نحوه ... خطاً خفياً بان منه النون 562 - وقال عبد الجليل بن وهبون:
زعموا الغزال حكاه قلت لهم: نعم ... في صده عن عاشقيه وهجره
وكذا يقولون المدام كريقه ... يا رب ما علموا مذاقة ثغره 563 - وقال أبو الحسن علي بن أحمد بن أبي وهب الأندلسي:
قالوا: تدانيت من وداعهم ... ولم نر الصبر عنك مغلوبا
فقلت: للعلم أنني بغدٍ ... أسمع لفظ الوداع مقلوبا وهذا كقول بعض شعراء اليتيمية (1) :
إذا دهاك الوداع فاصبر ... ولا يروعنك البعاد
وانتظر العود عن قريبٍ ... فإن قلب الوداع عادوا 564 - وقال ابن اللبانة (2) :
إن تكن تبتغي القتال فدعني ... عنك في حومة القتال أحامي
__________
(1) مر البيتان في ج 1: 92.
(2) زاد في م: في التورية.(4/102)
خذ جناني عن جنةٍ، ولسلني ... عن سنانٍ، وخاطري عن حسام 565 - وقال القزاز يمدح ابن صمادح، وخلط النسيب بالمديح:
نفى الحب عن مقلتي الكرى ... كما قد نفى عن يدي العدم
فقد قر حبك في خاطري ... كما قر في راحتيك الكرم
وفر سلوك عن فكرتي ... كما فر عن عرضه كل ذم
فحبي ومفخره باقيان ... لا يذهبان بطول القدم
فأبقى لي الحب خالٌ وجدٌ ... وأبقى له الفخر خالٌ وعم 566 - وقال أبو الحسن ابن الحاج:
أذوب اشتياقاً يوم يحجب شخصه ... وإني على ريب الزمان لقاسي
وأذعر منه هيبةً وهو المنى ... كما يذعر المخمور أول كاس وقال (1) :
أبا جعفرٍ، مات فيك الجمال ... فأظهر خدك لبس الحداد
وقد كان ينبت نور الربيع ... فقد صار ينبت شوك القتاد
فهل كنت من عبد شمسٍ فأخشى ... عليك ظهور شعار السواد وقال، وما أحكمه:
ما عجبي من بائعٍ دينه ... بلذةٍ يبلغ فيها هواه
__________
(1) انظر المغرب 2: 281 والقلائد: 144.(4/103)
وإنما أعجب من خاسرٍ ... يبيع أخراه بدنيا سواه وقال في مخمسة يرثي فيها ابن صمادح، ويندب الأندلس زمن الفتنة:
من لي بمجبول على ظلم البشر ... صحف في أحكامه حاء الحور
مر بنا يسحب أذيال الخفر ... ما احسد الظبي له إذا نفر وأشبه الغصن به إذا خطر ...
كافورةٌ قد طرزت بمسك ... جوهرةٌ لم تمتهن بسلك
بذت فيها ورعي ونسكي ... بعد لجاجي في التقى ومحكي فاليوم قد صح رجوعي واشتهر ...
نهيت قدماً ناظري عن نظر ... علماً بما يجري ركوب الغرر
وقلت: عرج عن سبيل الخطر ... فاليوم قد عاين صدق الخبر إذ بات وقفاً بين دمعٍ وسهر ...
سقى الحيا عهداً لنا بالطاق ... معترك الألباب والأحداق
وملتقى الأنفس والأشواق ... أيأس فيه الدهر عن تلاقي وربما ساءك دهرٌ ثم سر ...
أحسن به مطلعاً ما أغربا ... قابل من دجلة مرأى معجبا
إن طلعت شمسٌ وقد هبت صبا ... حسبته ينشر برداً مذهبا بمنظرٍ فيه جلاءٌ للبصر ...
يا رب أرضٍ قد خلت قصورها ... وأصبحت آهلةً قبورها
يشغل عن زائرها مزورها ... لا يأمل العودة من يزورها هيهات: ذاك الورد ممنوع الصدر ...(4/104)
تنتحب الدنيا عن ابن معن ... كأنها ثكلى أصيبت بابن
أكرم مأمولٍ ولا أستثني ... أثني بنعماه ولا أثني والروض لا ينكر معروف المطر ...
عهدي به والملك في ذماره ... والنصر فيما شاء من أنصاره
يطلع بدر التم من أزراره ... وتكمن العفة في إزاره ويحضر السؤدد أيان حضر ...
قل للنوى جد بنا انطلاق ... ما بعدت مصر ولا العراق
إذا حدا نحوهما اشتياق ... ومن دواء الملل الفرات ومن نأى عن وطنٍ نال وطر ...
سار بذي بردٍ من الإصباح ... راكب نشوى ذات قصدٍ صاح
مسودةٍ مبيضة الجناح ... تسبح بين الماء والرياح بزورها عن طافح الموج زور ...
يقتحم الهول بها اغترارا ... في فتيةٍ تحسبها سكارى
قد افترشن المسد المغارا ... حتى إذا شارفت المنارا هب كما بل العليل المحتضر ...
يؤم عدل الملك الرضي ... الهاشمي الطاهر النقي
والمجتبى من ضئضئ النبي ... من ولد السفاح والمهدي فخر معدٍ ونزارٍ ومضر ...
حيث ترى العباس يستسقى به ... والشرف الأعظم في نصابه
والأمر موقوفاً على أربابه ... والدين لا تختلط الدنيا به وسيرة الصديق تمضي وعمر ...(4/0)
567 -[أشعار لابن خفاجة]
وقال ابن خفاجة في صفة قوس (1) :
عوجاء تعطف ثم ترسل تارةً ... فكأنما هي حيةٌ تنساب
وإذا انحنت، والسهم منها خارجٌ ... فهي الهلال انقض منه شهاب وقال:
وعسى الليالي أن تمن بنظمنا ... عقداً كما كنا عليه وأكملا
فلربما نثر الجمان تعمداً ... ليعاد أحسن في النظام وأجملا وهو من قول مهيار:
عسى الله يجعلها فرقةً ... تعود بأكمل مستجمع وقول المتنبي:
سألت الله يجعله رحيلاً ... يعين على الإقامة في ذراكا وقال:
اقض على خلك أو ساعد ... عشت بجد في العلا صاعد
فقد بكى جفني دماً سائلاً ... حتى لقد ساعده ساعداي وقال:
وأسودٍ يسبح في بركةٍ ... لا تكتم الحصباء غدرانها
كأنها في صفوها مقلةٌ ... زرقاء، والأسود إنسانها
__________
(1) راجع ديوان ابن خفاجة: 361، 369، 363، 370 والثانية مرت في ج 1: 31.(4/106)
وقال:
حيا بها ونسيمها كنسيمه ... فشربتها من كفه في وده
منساغةً فكأنها من ريقه ... محمرةً فكأنها من خده وقال:
لعمري لو أوضعت في منهج التقى ... لكان لنا في كل صالحة نهج
فما يستقيم الأمر، والملك جائر ... وهل يستقيم الظل، والعود معوج وقال يرثي صديقاً من أبيات:
تيقن أن الله اكرم جيرةٍ ... فأزمع عن دار الحياة رحيلا
فان أقفرت منه العيون فإنه ... تعوض منها بالقلوب بديلا
ولم ار أنساً قبله عاد وحشةً ... وبرداً علا الأكباد عاد غليلا
ومن تك أيام السرور قصيرة ... به كان ليل الحزن فيه طويلاً وقال:
تفاوت نجلا أبي جعفرٍ ... فمن متعالٍ ومن منسفلٍ
فهذا يمين بها أكله ... وهذا شمالٌ بها يغتسل 568 - وقال ابن الرفاء:
ولما رأيت الغرب قد غص بالدجى ... وفي الشرق من ضوء الصباح دلائل
توهمت أن الغرب بحرٌ أخوضه ... وأن الذي يبدو من الشرق ساحل 569 - وقال أبو محمد ابن عبد البر الكاتب:
لا تكثرن تأملاً ... وامسك عليك عنان طرفك(4/107)
فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك 570 - وقال أبو القاسم السميسر (1) :
يا آكلاً كل ما اشتهاه ... وشاتم الطب والطبيب
ثمار ما قد غرست تجني ... فانتظر السقم عن قريب
يجتمع الداء كل يومٍ ... أغذية السوء كالذنوب وكان كثير الهجاء، وله كتاب سماه بشفاء الأمراض في أخذ الأعراض والعياذ بالله.
ومن قوله:
خنتم فهنتم وكم أهنتم ... زمان كنتم بلا عيون
فأنتم تحت كل تحتٍ ... وأنتم دون كل دون
سكنتم يا رياح عادٍ ... وكل ريحٍ إلى سكون وقال (2) :
يا مشفقاً من خمول قومٍ ... ليس لهم عندنا خلاق
ذلوا ويا طالما أذلوا ... دعهم يذوقوا الذي أذاقوا وقال:
وليتم فما أحسنتم مذ وليتم ... ولا صنتم عما يصونكم عرضا
وكنتم سماء لا ينال منالها ... فصرتم لدى من لا يسائلكم أرضا
ستسترجع الأيام ما أفرضتكم ... ألا إنها تسترجع الدين والقرضا
__________
(1) الذخيرة 2/1: 380.
(2) الذخيرة: 2/1: 375.(4/108)
571 - وقال ابن شاطر السرقسطي:
قد كنت لاأدري لأية علةٍ ... صار البياض لباس كل مصاب
حتى كساني الدهر سحق ملاءةٍ ... بيضاء من شيبي لفقد شبابي
فبذا تبين لي إصابة من رأى ... لبس الباض على نوى الأحباب 572 - وهذه عادة أهل الأندلس، ولهذا قال الحصري:
إذا كان البياض لباس حزنٍ ... بأندلسٍ فذاك من الصواب
ألم ترني لبست ببياض شيبي ... لأني قدت حزنت على الشباب وما أحسن قوله رحمه الله تعالى:
لو كنت زائرتي لراعك منظري ... ورأيت بي ما يصنع التفريق
ولحال من دمعي وحر تنفسي ... بيني وبينك لجةٌ وحريق 573 - وقال ابن عبد الصمد يصف فرساً:
إلى سابحٍ فردٍ يفوت بأربعٍ ... له أربعاً منها الصبا والشمائل
من الفتخ خوار العنان كأنه ... مع البرق سارٍ أو مع السيل سائل 574 - وقال ابن عبد الحميد البرجي:
أرح متن المهند والجواد ... فقد تعبا بجدك في الجهاد
قضيت بعزمةٍ حق العوالي ... فقض براحةٍ حق الهوادي 575 - وقال عبادة:
إنما الفتح هلالٌ طالعٌ ... لاح من أزراره في فلك
خده شمسٌ، وليلٌ شعره ... من رأى الشمس بدت في حلك(4/109)
576 - وقال ابن المطرف المنجم:
يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأن أفكاره بالغيب كهان
لا طرفةٌ منه إلا تحتها عمل ... كالدهر لا دورةٌ إلا لها شان 577 - وقال أبو الحسن ابن اليسع:
راموا ملامي، وكان إغرا ... وذم حبي، وكان إطرا
لو علم العاذلون ما بي ... لانقلبت فيه لامهم را وقال:
لما قدمت وعندي ... شطرٌ من الشوق وافي
قدمت قلبي قبلي ... فصنه حتى أوافي 578 - ولما خاطب المستنصر ملك إفريقية ابن سيد الناس بقوله:
ما حال عينيك يا عين الزمان فقد ... أورثتني حزناً من أجل عينيكا
وليس لي حيلةٌ غير الدعاء فيا ... رب براوي الصحيحين حنانيكا أجابه الحافظ أبو المطرف ابن عميرة المخزومي خدمة عن الحافظ أبي بكر ابن سيد الناس:
مولاي حالهما والله صالحةٌ ... لما سألت فأعلى الله حاليكا
ما كان من سفرٍ أو كان من حضرٍ ... حتى تكون الثريا دون نعليكا 579 - وقال الأديب أبو العباس الرصافي، وهو من أصحاب أبي حيان:
هذا هلال الحسن أطلع بيننا ... وجميعنا بحلى محاسنه شغف(4/110)
لما رأى صل العذار بخده ... ماء النعيم أتى إليه ليرتشف
فكأن ذاك الخد أنكر أمره ... فاحمر من حنقٍ عليه وقال قف وقال:
وعشيةٍ نعمت بها أرواحنا ... والخمر قد أخذت هنالك حقها
وكأنما ابريقنا لما جثا ... ألقى حديثاً للكؤوس وقهقها 580 - وقال الإمام الحافظ أبو الربيع ابن سالم:
كأنما إبريقنا عاشقٌ ... كل عن الخطو فما أعمله
غازل من كأسي حبيباً له ... فكلما قبله أخجله 581 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش:
رأيت ثلاثةً تحكي ثلاثاً ... إذا ما كنت في التشبيه تنصف
فتنجو (1) النيل منفعةً وحسناً ... وشنترين مصر، وأنت يوسف وقال في غريق، وقيل: إنه مما تمثل به (1) :
الحمد لله إلى كل حال ... قد أطفأ الماء سراج الجمال
أطفأه من كان محياً له ... قد يطفئ الزيت ضياء الذبال وهو القائل أيضاً:
لو لم يكن لي آباء أسود بهم ... ولم يؤسس رجال الغرب لي شرفا
ولم أنل ملك العصر منزلةً ... لكان في سيبويه الفخر لي وكفى
فكيف علمٌ ومجدٌ قد جمعتهما ... وكل مختلقٍ في مثل ذا وقفا
__________
(1) كذا ولعله فتجو أي " تاجه " اسم النهر (Tagus) .
(1) كذا ولعله فتجو أي " تاجه " اسم النهر (Tagus) .(4/111)
582 - وقال أبو الحسن أبن حريق:
أصبحت تدمير مصراً كاسمها ... وأبو يوسف فيها يوسفا 583 - وقال أبو القاسم ابن العطار الإشبيلي في بعض الهوزنيين وقد غرق في نهر طلبيرة عند فتحها (1) :
ولما أن رأوا أن لا مقر لسيفه ... سوى هامهم لاذوا بأجرأ منهم
فكان من النهر المعين معينهم ... ومن ثلم السد الحسام المثلم
فيا عجباً للبحر غالته نطفةٌ ... وللأسد الضرغام أرداه أرقم 584 -[نقول من التكملة]
1 - وقال أبو العباس اللص (2) :
وقائلة والضنى شاملي ... علام سهرت ولم ترقد
وقد ذاب حسمك فوق الفرا ... ش حتى خفيت على العود
فقلت: وكيف أرى نائماً ... ورائي المنية بالمرصد ولما قرئ عليه ديوان أبي تمام، ومر فيه وصف سيف، قال: أنا أشعر منه حيث أقول:
تراه في غداة الغيم شمساً ... وفي الظلماء نجماً أو ذبالا
يروعهم معينةً ووهماً ... ولو ناموا لروعهم خيالا 2 - وقال أبو إسحاق الإلبيري (3) :
__________
(1) الشعر في القلائد: 288 والبيت الثالث في المغرب 1: 254.
(2) القطعتان في التكملة: 80.
(3) التكملة: 137 وديوانه: 159.(4/112)
تمر لداتي واحداً بعد واحدٍ ... وأعلم أني بعدهم غير خالد
وأحمل موتاهم وأشهد دفنهم ... كأني بعيد عنهم غير شاهد
فها أنا في علمي لهم وجهالتي ... كمستيقظٍ يرنو بمقلة راقد قيل: ولو قال في البيت الثاني:
كأني عنهم غائبٌ غير شاهد ... لكان أحسن وأبدع وأبرع في الصناعة الشعرية، قاله ابن الأبار رحمه الله تعالى.
3 - وقال الوزير الوليد ابن مسلمة (1) :
إذا خانك ارزق في بلدةٍ ... ووافاك من همها ما كثر
فمفتاح رزقك في بلدةٍ ... سواها فردها تنل ما يسر
كذا المبهمات بوسط الكتا ... ب مفتاحها أبداً في الطرر 4 - وقال أبو الطاهر إسماعيل الخشني الجياني المعروف بابن أبي ركب، وقيل: إن أخاه الأستاذ أبا بكر هو المعروف بذلك (2) :
يقول الناس في مثلٍ ... تذكر غائباً تره
فما لي لا أرى سكني ... ولا أنسى تذكره 5 - وأنشد أبو المعالي الإشبيلي الواعظ بمسجد رحبة القاضي من بلنسية أبياتاً منها (3) :
__________
(1) التكملة: 184.
(2) التكملة: 185.
(3) التكملة: 196.(4/113)
10 - وحكي عن الفقيه الأديب النحوي أبي عبد الله محمد بن ميمون الحسيني، قال (1) : كانت لي في صبوتي جاريةً، وكنت مغرىً بها، وكان أبي رحمه الله يعذلني ويعرض لي بيعها، لأنها كانت تشغلني عن الطلب والبحث عليه، فكان عذله يزيدني إغراء بها، فرأيت ليلةً في المنام كأن رجلاً يأتيني في زي أهل المشرق كل ثيابه بيض، وكان يلقى في نفسي أنه الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وكان ينشدني:
تصبو إلى مي، ومي لا تني ... تزهو ببلواك التي لا تنقضي
وفخارك القوم الألى ما منهم ... إلا إمام أو وصي أو نبي
فاثن عنانك للهدى عن ذي الهوى ... وخف الإله عليك ويحك وارعوي قال: فانتبهت فزعاً فيما رأيته، فسألت الجارية، هل كان لها اسم قبل أن تتسمى بالاسم الذي أعرفه فقالت: لا، ثم عاودتها حتى ذكرت أنها كانت تسمى مية، فبعتها حينئذٍ، وعلمت أنه وعظٌ وعظني الله به، عز وجل، وبشرى.
11 - وقال ابن الحداد أول قصيدته " حديقة الحقيقة " (2) :
ذهب الناس فانفرادي أنيسي ... كتابي محدثي وجليسي
صاحبٌ قد أملت منه ملالاً ... واختلالاً وكل خلقٍ بئيس
ليس في نوعه بحيٍ ولكن ... يلتقي الحي منه بالمرموس 12 - وقال بعض أهل الجزيرة الخضراء (3) :
__________
(1) التكملة: 396.
(2) التكملة: 399.
(3) التكملة: 415.(4/115)
ألحاظكم تجرحنا في الحشا ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرحٌ بجرحٍ فاجعلوا ذا بذا فما الذي أوجب جرح الصدود
وقال ابن النعمة: إنهما لابن شرف، وقد ذكرناهما مع جوابهما في غير هذا الموضع.
13 - وقال المعتمد بن عباد (1) :
اقنع بحظك في دنياك ما كانا وعز نفسك إن فارقت أوطانا
في الله من كل مفقودٍ مضى عوضٌ فأشعر القلب سلواناً وإيمانا
أكلما سنحت ذكرى طربت لها مجت دموعك في خديك طوفانا
أما سمعت بسلطانٍ شبيهك قد بزته سود خطوب الدهر سلطانا
وطن على الكره وارقب إثره فرجاً واستغفر الله تغنم منه غفرانا
14 - وقال أبو عامر البرياني في الصنم الذي بشاطبة (2) :
بقيةٌ من بقايا الروم معجبةٌ أبدى البناة بها من علمهم حكما
لم أدر ما أضمروا فيه سوى أمم تتابعت بعد سموه لنا صنما
كالمبرد الفرد ما أخطأ مشبهه حقاً لقد برد الأيام والأمما
كأنه واعظٌ طال الوقوف به مما يحدث عن عاد وعن إرما
فانظر إلى حجرٍ صلد يكلمنا أسمى وأوعظ من قس لمن فهما
قيل: لو قال مكان حكما علما لأحسن.
15 - وقال السميسر (3) :
__________
(1) التكملة: 427 وديوانه: 114.
(2) التكملة: 436.
(3) التكملة: 470 وفيه القطعة التالية أيضاً.(4/116)
إذا شئت إبقاء أحوالكا فلا تجر جاهاً على بالكا
وكن كالطريق لمجتازها يمر وأنت على حالكا
وقال:
هن إذا مانلت حظاً فأخو العقل يهون
فمتى حطك دهرٌ فكما كنت تكون
16 - وقال أبو الربيع ابن سالم الكلاعي: انشدني ابو محمد الشلبي، أنشدني أبو بكر ابن منخل، لنفسه (1) :
مضت لي ست بعد سبعين حجةً ولي حركات بعدها وسكون
فيا ليت شعري أين أو كيف أو متى يكون الذي لا بد أن سيكون
17 - وقال أبو محمد عبد الحق الإ (2) شبيلي:
لايخدعنك عن دين الهوى نفر لم يرزقوا عن دين الحق تاييدا
عمي القلوب عروا عن كل فائدة لأنهم كفروا بالله تقليدا
18 - وقال ابو محمد ابن صارة (3) :
والدنيا بجهل عظموها فعزت عندهم وهي الحقيره
يهارش بعضهم بعضاً عليها مهارشة الكلاب على العقيره
وقال:
اسعد بما لك في الحياة ولاتكن تبقي عليه حذار فقرٍ حادث
__________
(1) التكملة: 496.
(2) التكملة: 699.
(3) التكملة: 817 وفيه القطعة التالية أيضاً.(4/117)
فالبخل بين الحادثين، وإنما مال البخيل لحادث او وارث
19 - ودخل ابو محمد الطائي القرطبي على القاضي أبي الوليد ابن رشد فأنشده ارتجالا (1) :
قام لي السيد الهمام قاضي قضاةالورى الإمام
فقلت قم بي ولاتقم لي فقلما يؤكل القيام
20 - وقال الحافظ ابو محمد ابن حزم (2) :
لاتلمني لأن سبقت لحظ فات إدراكه ذوي الألباب
يسبق الكلب وثبة الليث في العد ويعلو النخال فوق اللباب
21 - وقال أبو عبد الله الجبلي الطبيب القرطبي (3) :
اشدد يديك على كلبٍ ظفرت به ولا تدعه فإن الناس قد ماتو
قلت: تذكرت بهذا قول الآخر:
اشدد يديك بكلبٍ إن ظفرت به فأكثر الناس قد صاروا خنازيرا
22 - وقال محمد ابن عبد الله الحضرمي مولى بني أمية:
عاشر الناس بالجمي ل وسدد وقارب
واحترس من أذى الكرا م وجد بالمواهب
لايسود الجميع من لم يقم بالنوائب
ويحوط الاذىوير عى ذمام الاقارب
__________
(1) التكملة: 824.
(2) التكملة: 875 ومر البيتان ج 2: 84.
(3) التكملة: 909.(4/118)
لاتواصل إلا الشري ف البكريم المناصب
من له خير شاهد وله خير غائب
واجتنب وصل كل وغ دٍ دنيء المكاسب
ابن الأبار
585 - وقال الكاتب الحافظ أبو عبد الله ابن الأبار (1) :
لله نهرٌ كالحباب ترقيشه سامي الحباب
يصف السماء صفاؤه فحصاه ليس بذي احتجاب
وكانما هو رقةً من خالص الذهب المذاب
غارت على شطيه أب كار المنى عصر الشباب
والظل يبدو فوقه كالخال في خد الكعاب
لا بل أدار عليه خو ف الشمس منه كالنقاب
مثل المجرة جر في ها ذيله جون السحاب
وقال:
شتى محاسنه، فمن زهرٍ على نهرٍ تسلسل كالحباب تسلسلا
غربت به شمس الظهيرة لاتني إحراق صفحته لهيباً مشعلا
حتى كساه الدوح من أفنانه برداً بمزنٍ في الأصيل مسلسلا
وكأنما لمع الظلال بمتنه قطع الدماء جمدن حين تحللا
وقال يمدح المستنصر صاحب إفريقية:
إن البشائر كلها جمعت للدين والدنيا وللأمم
__________
(1) أزهار الرياض 3: 223 وفيه القطعة التالية أيضاً.(4/119)
في نعمتين جسيمتين هما برء الإمام وبيعة الحرم
قال ابن الأبار: وأخبرني بعض أصحابنا - يعني أبا عمرو ابن عبد الغني - أنه أنشدهما الخليفة فسبقه إلى عجز البيت الثاني، فقلت له على البديهة:
فخر لشعري على الأشعار يحفظه خليفة الله كان الله حافظه
وأشار بقوله وبيعة الحرم إلى ما ذكره ابن خلدون وغير واحد من المؤرخين أن أهل مكة خطبوا للمستنصر صاحب تونس بعرفة، وكتبوا له بيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف، وقد ذكر ابن خلدون نص البيعة في ترجمة المستنصر، فليراجعها من أرادها.
وقال ابن الأبار:
ألا اسمع في الأمير مقال صدق وخذه عن امرئ خدم الأميرا
متى يكتب ترد وشلاً أجاجاً وإن يركب ترد عذباً نميرا
وقال مجيباً للتجاني:
أيها الصاحب الصفي، مباح لك عني فيما نصصت الروايه
إن عناني إسعاف قصدك فيها فلكم لم تزل بها ذا عنايه
ولها شرطها فحافظ عليه ثم كافئ وصيتي بالكفايه
وتحام الإخلال جهدك، لاقي ت من الله عصمة وحمايه
ونص استدعاء التجاني:
إن رأى سيدي الذي حاز في العل م مع الحلم والعلا كل غايه
وحوى المجد عن جدود كرام كلهم في السماح والفضل آيه
أن أرى عنه بالإجازة أروي كل ما فيه لي تصح الروايه(4/120)
من حديث وكل نظم ونثر وفنون له بهن درايه
فله في ذاك الثواب من الل هـ ومنا الثناء دون نهايه
دام في رفعة وعز وسعد وأمان ومكنة وحمايه
ما تولى جيش الظلام هزيماً وعلت للصباح في الأفق رايه
ولابن الأبار ترجمة واسعة ذكرتها في أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض فلتراجع فيه.
586 - وأما التجاني أبو عبد الله هذا المذكور فقد وصفه قريبه أبو الفضل محمد حفيد عمه في كتابه الحلى التيجانية والحلل التيجانية، قال ابن رشيد: وجمعه باسمنا حفظه الله تعالى وشكره، وقال في موضع آخر: إنه باسمه واسم صاحبه الوزير ابن الحكيم، رحمهما الله تعالى، انتهى.
587 - وقال ابن مفوز أبو الحسين:
إذا عرتك عيلة يعجز عنها ما تجد
فلتقتصد فإنه ما عال قط مقتصد
وقال:
حاز دنياه كلها محرزاً أكبر المنن
من حوى قوت يومه آمناً سالم البدن
وقال:
أعن أخاك في الذي يأمله ويرتجيه
فالله في عون الفتى ما كان في عون أخيه
وقال:
أنفس ما أودعته قلبك ذكرى موقظه(4/121)
وخير ما أتلفته مال أفاد موعظه
588 - وقال أبو البركات القميحي: أنشدنا ابن العباس ابن مكنون، وقد رأى اهتزاز الثمار وتمايلها، مرتجلاً:
حارت عقول الناس في إبداعها ألسكرها أم لشكرها تتأود
فيقول أرباب البطالة: تنثني ويقول أرباب الحقيقة: تسجد
قال الشيخ أبو البركات القميحي: قلت لابن مكنون: ما الذي يدل على أنهما في وصف الثمار فقال: وطئ أنت لهما، فقلت:
يا من أتى متنزهاً في روضة أزهارها من حسنها تتوقد
انظر إلى الأشجار في دوحاتها والريح تنسف والريح تغرد
فترى الغصون تمايلت أطرافها وترى الطيور على الغصون تعربد
قال ابن رشيد: غلط المذكور في نسبته البيتين لابن مكنون، وإنما هما لأبي زيد الفازازي من قصيدة أولها:
نعم الإله بشكره تتقيد فالله يشكر في النوال ويحمد
مدت إليه أكفاننا محتاجة فأنالها من جوده ما تعهد
والبيتان في أثنائها، غير أن أولهما في ديوانه هكذا:
تاهت غقول الناس في حركاتها
انتهى.
ورأيت في روضة التعريف للسلن الدين بعدهما بيتاً ثالثاً، وهو:
وإذا أردت الجمع بينهما فقل في شكر خالقها تقوم وتقعد(4/122)
589 - وحكي أن حافظ الأندلس إمام الأدباء (1) ، رئيس المؤلفين، حسنة الزمان، نادرة الإحسان، أبا محمد عبد الله بن إبراهيم الصنهاجي الحجاري صاحب كتاب المسهب كان سبب اتصاله بعبد الملك بن سعيد جد علي بن موسى صاحب المغرب أنه وفد عليه في قلعته، فلما وقف على بابه وهو بزي بداوة ازدراه البوابون، فقال لهم: استأذنوا لي على القائد، فضحكوا به، وقالوا له: ما كان وجد القائد من يدخل عليه في هذه الساعة إلا أنت فمد يده إلى دواة في حزامه وسحاءة، وكتب بها: بباب القائد الأعلى - لازال آهلاً بأهل الفضيلة - رجل وفد عليه من شلب بقصيدة مطلعها:
عليك أحالني الذكر الجميل
فإن رأى سيدي أن يحجب من بلده شلب ومن قصيده هذا فهو أعلم بما يأتي ويذر، ولا عتب على القدر، ورغب إلى أحد غلمانه، فأوصل الورقة، فلما وقف عليها القائد، قال: من شلب، وهذا مطلع قصيدته، ما لهذا إلا شأن، ولعله الوزير ابن عمار، وقد نشر إلى الدنيا، عجلوا بالإذن له، فأذنوا له ودخل وبقي واقفاً لم يسلم ولا كلم أحداً، فاستثقله الحاضرون، واستبردوا مقصده، ونسبوه للجهل وسوء الأدب، فقال له أحدهم: ما لك لا تسلم على القائد، وتدخل مداخل الأدباء والشعراء فقال: حتى أخجل جميعكم قدر ما أخجلتموني على الباب مع أقوام أنذال، وأعلم أيضاً من هو الكثير الفضول من أصحاب القائد أعزه الله تعالى، فأكون أتقيه إن قدر لي خدمته، فقال له عبد الملك: أتأخذ بما فعل السفهاء منا قال: لا والله، بل أغفر لك ذنوبك الدهر أجمع، وإنما هي أسباب نقصدها لنحاور بها مثلك أعزك الله تعالى. ويتمكن التأنيس، وينحل قيد الهيبة، ثم أنشد من رأسه ولا ورقة في يده:
__________
(1) ب: الأدب.(4/123)
عليك أحالني الذكر الجميل فصح العزم واقتضي الرحيل
وودعت الحبيب بغير صبر ولم أسمع لما قال العذول
وأسلبت الظلام علي ستراً ونجم الأفق ناظره كليل
ولم أشك الهجير وقد دعاني إلى أرجائك الظل الظليل
وهي طويلة، فأكرمه وقربه، رحم الله تعالى الجميع.
590 - وأهديت للمعتمد بن عباد شمعة، فقال في وصفها أبو القاسم ابن مرزقان الإشبيلي وهو ممن قتل في فتنة المعتمد (1) :
مدينة في شمعة صورت قامت حماة فوق أسوارها
وما رأينا قبلها روضة تتقد النار بنوارها
تصير الليل نهاراً إذا ما أقبلت ترفل في نارها
كأنها بعض الأيادي التي تحت الدجى تسري بأنوارها
من ملك معتمد ماجد بلاده أوطان زوارها
591 - وقال أبو الأصبغ ابن رشيد الإشبيلي لما هطلت بإشبيلية سحابة بقطر أحمر يوم السبت الثالث عشر من صفر عام أربعة وستين وخمسمائة:
لقد آن للناس أن يقلعوا ويمشوا على السنين الأقوام
متى عهد الغيث يا غافلاً كلون العقيق أو العندم
أظن الغمائم في جوهرها بكت رحمة للورى بالدم
وفيها أيضاً:
لا تكن دائم الكآبة مما قد غدا في الثرى نميراً نجيعا
__________
(1) المغرب 1: 261.(4/124)
لطم البرق صفحة المزن حتى سال منه على الرياض نجيعا
وله في دولاب:
ومنجنون إذا دارت سمعت لها صوتاً أجش وظل الماء ينهمل
كأن أقداسها ركب إذا سمعوا منها حداء بكوا للبين وارتحلوا
وله فيمن اسمه مالك:
غزالي الجفون شقيق بدر تبسم عن عقيق فوق در
له نفحات مسك أي مسك له نفثات سحر أي سحر
شكوت له الهوى والهجر منه فقال: عليك باسمي سوف تدري
تعلمت القساوة من سميي وأحرقت القلوب بنار هجري
592 - وقال أبو بكر ابن حجاج الغافقي في موسى وسيم إشبيلية الذي كان شعراؤه يتغزلون فيه (1) :
ممن مبلغ موسى المليح رسالة بعثت له من كافري عشاقه
ما كان خلق راغباً عن دينه لو لم تكن توراته من ساقه
وقال:
إن الزويلي فتى شاعر قد أعجب العالم من نظمه
وأنت يا موسى قد اخترته واختار موسى قبل من قومه
وقال:
على معاذ قرون لو يعاينها فرعون ما قال أوقد لي على الطين
__________
(1) المغرب 1: 261.(4/125)
قالت له عرسه إذ جاء ينكحها ماذا دهيت به من كل عنين
هلا استعنت بميمون، فقال لها إني استعنت على نفسي بميمون
593 - وقال أبو وهب ابن عبد الرؤوف النحوي، وكان له حظ في قرض الشعر، وكان سناطاً (1) :
ليس لمن ليست له لحية باس إذا حصلته، لبسا
وصاحب اللحية مستقبح يشبه في طلعته التيسا
إن هبت الريح تلاهت به وماست به الريح به ميسا
594 - وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى القلفاظ:
يا غزالاً عن لي فاب تز قلبي ثم ولى
أنت مني بفؤادي يا منى نفسي أولى
595 - وقال أحمد بن المبارك الحبيبي في الناصر قبل أن يلي عهد جده (2) :
يا عابد الرحمن فقت الورى بهذه العليا وهذا الكرم
ما جعل الله الندى في امرئ إلا وقد جنبه كل ذم
596 - واستدعى الوزير عبيد الله بن إدريس أبا بكر أحمد بن عثمان المرواني، ونادمه ليلة، فلما قرب الصباح قال له: أين ما يحدث عنك من حسن الشعر فهذا موضعه، فقال: الدواة والقرطاس، فأمر له بإحضارهما، فجعل يفكر ويكتب إلى أن أنشده هذه الأبيات:
بتنا ندامى صفاء يستحث لنا في جامد الفضة التبر الذي سبكا
__________
(1) السناط: الذي ليس في عارضيه شعر.
(2) إلى هنا انتهت النسخة ب، وسقطت سائر الأوراق منها.(4/126)
كل مصيخ إلى ما قال صاحبه ولا يبالي أصدقاً قال أم أفكا
موقرون خفاف عند شربهم ولا يخافون فيما أحدثوا دركا
لا تعدمن إذا أبصرتهم فرحاً أما ترى الصبح من بشر بهم ضحكا
597 - وقال أبو محمد عبد الله المرواني في الخيري:
عجبت من الخير يكتم عرفه نهاراً ويسري بالظلام فيعرب
فتجني عروس الطيب منه يد الدجى ويبدو له وجه الصباح فيحجب
598 - وقال إبراهيم بن إدريس العلوي:
للبين في تعذيب نفسي مذهب ولنائبات الدهر عندي مطلب
أما ديون الحادثات فإنها تأتي لوقت صادق لا يكذب
599 - وخرج الأديب النحوي هذيل الإشبيلي يوماً من مجلسه، فنظر إلى سائل عاري الجسم، وهو يرعد ويصيح، الجوع والبرد، فأخذ بيده، ونقله إلى موضع بلغته الشمس، وقال له: صح الجوع، فقد كفاك الله مؤونة البرد.
600 - ومر المعتمد بن عباد (1) ليلة مع وزيره ابن عمار بباب شيخ كثير التهكم والتنذير، يمزج ذلك بانحراف يضحك الثكلى، فقلا لابن عمار: تعال نضرب على هذا الشيخ الساقط بابه حتى نضحك معه، فضربا عليه الباب، فقال: من هذا فقال ابن عباد: إنسان يرغب أن تقد له هذه الفتيلة، فقال: والله لو ضرب ابن عباد بابي في هذا الوقت ما فتحت له، فقال: فإني ابن عباد، فقال: مصفوع ألف صفعة، فضحك ابن عباد حتى سقط إلى الأرض، وقال لوزيره: امض بنا قبل أن يتعدى الصفع من القول إلى الفعل، فهذا شيخ ركيك؛ ولما كان من غد تلك الليلة وجه له ألف درهم، وقال
__________
(1) راجع هذه الحكاية في المغرب 1: 286 - 287.(4/127)
لموصلها: قل له هذه حق الألف صفعة التي كانت البارحة.
601 - وكان في زمان المعتمد السارق المشهور بالبازي الأشهب، وكان له في السرقة كل (1) غريبة، وكان مسلطاً على أهل البادية، وبلغ من سرقته أنه سرق وهو مصلوب؛ لأن ابن عباد أمر بصلبه على ممر أهل البادية لينظروا إليه، فبينما هو على خشبته على تلك الحال إذ جاءت إليه زوجته وبناته، وجعلن يبكين حوله ويقلن: لمن تتركنا نضيع بعدك وإذ ببدوي على بغل وتحته حمل ثياب وأسباب، فصاح عليه: يا سيدي، انظر إلى تلك البئر، لما أرهقني الشرط رميت فيها مائة دينار، فعسى تحتال في إخراجها، وهذه زوجتي وبناتي يمسكن بغلك خلال ما تخرجها، فعمد البدوي إلى حبل ودلى نفسه في البئر بعدما اتفق معه على أن يأخذ النصف منها، فلما حصل أسفل البئر قطعت زوجة السارق الحبل، وبقي حائراً يصيح، وأخذت ما كان على البغل مع بناتها، وفرت به، وكان ذلك في شدة حر، وما سبب الله شخصاً يغيثه إلا وقد غبن عن العين وخلصن، فتحيل ذلك الشخص مع غيره على إخراجه، وسألوه عن حاله، فقال: هذا الفاعل الصانع احتال علي حتى مضت زوجته وبناته بثيابي وأسبابي، ورفعت هذه القصة إلى ابن عباد، فتعجب منها، وأمر بإحضار البازي الأشهب، وقال له: كيف فعلت هذا مع أنك في قبضة الهلكة فقال له: يا سيدي لو علمت قدر لذتي في السرقة خليت ملكك واشتغلت بها، فلعنه وضحك منه، ثم قال له: إن سرحتك وأحسنت إليك وأجريت عليك رزقاً يقلك أتتوب من هذه الصنعة الذميمة فقال: يا مولاي كيف لا أقبل التوبة وهي تخلصني من القتل فعاهده وقدمه على رجال أنجاد،
__________
(1) م: ألف.(4/128)
وصار من جملة حراس أحواز (1) المدينة.
602 - ويحكى أن منصور بني عبد المؤمن لما أراد بناء صومعة إشبيلية العظيمة القدر أحضر لها العرفاء والصناع من مظانهم، فعرف بشيخ مغفل صحيح المذهب عارف بالبناء الذي يجهله كثير من الصناع، فاحضر، فقال له المنصور: كم تقدر أن ينفق على هذه الصومعة فضحك وقال: يا سيدي، البنيان إنما هو مثل ذكر ليس يقدر حتى يقوم، فكاد المنصور يفتضح من الضحك، وصرف وجهه عنه، وبقيت حكايته يضحك عليها زماناً.
603 - وكان احمد المقريني المعروف بالكساد شاعراً وشاحاً زجالاً إشبيلياً، وقال في موسى الذي تغزل (2) فيه ابن سهل (3) :
ما لموسى قد خر لله لما فاض نور غشاه ضوء سناه
وأنا قد صعقت من نور موسى لا أطيق الوقوف حين أراه
وقال في رثائه (4) :
فر إلى الجنة حوريها وارتفع الحسن من الأرض
وأصبح العشاق في مأتم بعضهم يبكي على بعض
وقال فيه:
هتف الناعي بشجو الأبد إذ نعى موسى بن عبد الصمد
ما عليهم ويحهم لو دفنوا في فؤادي قطعة من كبدي
__________
(1) أحواز: سقطت من م.
(2) م: يتغزل.
(3) مر البيتان ص: 61.
(4) هذه القطعة والتي تليها لم تردا في م، وتعليل ذلك أنهما وردتا قبلاً ص: 61 - 62 ونسخة " م " قد جرى فيها بعض الحذف للمكرر، كما أن فيها زيادات انفردت بها سنثبتها في مواضعها.(4/129)
ولابن سهل الإسرائيلي في موسى هذا ما هو مثبت في ديوانه.
604 - وكان محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة: المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب، فيلسوفاً طبيباً ماهراً، آية الله في المعرفة في الأندلس، يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها، ولما تغلب طاغية الروم على مرسية عرف له حقه، فبنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود، وقال له يوماً وقد أدنى منزلته: لو تنصرت وحصلت الكمال كان لك عندي كذا، وكنت كذا، فأجابه بما أقنعه؛ ولما خرج من عنده قال لأصحابه: أنا عمري كله أعبد إلهاً واحداً، وقد عجزت عما يجب له، فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة كما طلب الملك مني انتهى.
605 - وقال أبو عبد الله محمد بن سالم القيسي الغرناطي يخاطب السلطان على ألسنة أصحابه الأطباء الذين ببابه مورياً بأسمائهم:
قد جمعنا ببابكم (1) سطر علم ... لبلوغ المنى ونيل الإراده
ومن أسمائنا لكم (2) حسن فال ... سالم ثم غالب وسعاده 606 - وقال أبو عبد الله ابن عمر (3) الإشبيلي الخطيب:
وكل إلى طبعه عائد وإن صده المنع عن قصده
كذا الماء من بعد إسخائه يعود سريعاً إلى برده
607 - وقال الكاتب أبو زيد عبد الرحمن العثماني لما تغير حاله بإشبيلية (4) :
__________
(1) ك: ببابهم.
(2) م: لهم.
(3) م: عمرو.
(4) قد مرت الأبيات في ما تقدم ص: 62 من هذا المجلد؛ وقد سقطت من م.(4/130)
لا تسلني عن حالتي فهي هذي مثل حالي لا كنت يا من يراني
ملني الأهل والأخلاء لما أن جفاني بعد الوصال زماني
فاعتبر بي ولا يغرك دهر ليس منه ذو غبطة في أمان
608 - ودخل الأديب النحوي أبو عمران موسى الطرياني (1) إلى بعض الأكابر يوم نيروز، وعادتهم أن يصنعوا في مثل هذا اليوم مدائن من العجين لها صور مستحسنة، فنظر إلى مدينة أعجبته، فقال له صاحب المجلس: صفها وخذها، فقال:
مدينة مسوره تحار فيها السحره
لم تبنها إلا يدا عذراء أو مخدره
بدت عروساً تجتلى من درمك مزعفره
وما لها مفاتح إلا البنان العشره
ورفع إلى القائد أبي السرور صاحب ديوان سبتة قصيدة يعرض له فيها بزاد وقد عزم على سفر، فأنعم عليه بذلك، ثم أتبعه بتحف مما يكون في الديوان مما يجلبه الإفرنج إلى سبتة، ولم يكن التمس منه ذلك ولا خطر بخاطره، فكتب إليه:
أيا سابقاً بالذي لم يجل بفكري ولم يبدو لي في خطاب
ويا غائصاً في بحار الندى ويا فاتحاً للعلا كل باب
كذا فلتكن نعم الأكرمين تفاجي بنيل المنى والطلاب
ولم أر أعظم من نعمة أتتني ولم تكن لي في حساب
سأشكرها شكر عهد الرضى وأذكرها ذكر غض الشباب
__________
(1) قد مر خذا الخبر والأبيات ص: 63 وقد سقطا من م.(4/131)
609 - وكتب مجاهد صاحب دانية إلى المنصور بن أبي عامر الأصغر ملك بلنسية رقعة، ولم يضمنها غير بيت الحطيئة (1) :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فأخرجت (2) المنصور، وأقامته وأقعدته، فأحضر وزيره أبا عامر ابن التاكرني فكتب عنه:
شتمت مواليها عبيد نزار شيم العبيد شتيمة الحرار
فسلا المنصور عما كان فيه.
ومن شعر المذكور في المنصور:
انهض على اسمك إنه منصور وارم العدو فإنه مقهور
ولو اغتنيت عن النهوض كفيتهم فبذكر بأسك كلهم مذعور
ولتبلغن مدى مرادك فيهم ويكون يوم في العدى مشهور
وقال له المنصور يوماً: والله لقد سئمت من هؤلاء الجند، وودت الراحة منهم، فقال له: يصبر مولاي فلا بد من السآمة، فهي على حالتين: إما ممن يكون أمرك إليه، أو يكون أمره إليك، والحمد لله الذي رفعه عن الحالة الأولى.
610 - وقال بعض الهجائين في رندة (3) :
قبحاً لرندة مثلما قبحت مطالعة الذنوب
__________
(1) المغرب 1: 332.
(2) كذا في ق م والتقدير " فأخرجته عن طوره ".
(3) هو أبو الفتح ابن فاخر التونسي (المغرب 1: 344) .(4/132)
بلد عليه وحشة ما إن يفارقه القطوب
ما حلها أحد فين وي بعد بين أن يؤوب
لم آتها عند الضحى إلا وخيل لي غروب
أفق أغم وساحة تملا القلوب من الكروب
611 - وقال حبلاص الشاعر الرندي (1) :
لا تفرحن بولاية سوغتها فالثور يعلف أشهراً كي يذبحا
وله في بعض رؤساء (2) الملثمين من قصيدة:
ولو لم تكن كالبدر نوراً ورفعة لما كنت غراً بالسحاب ملثما
وما ذاك إلا للنوال علامة كذا القطر مهما لثم الفق انهمى
فاهتز الملثم وأعجبه، وأمر له بكسوة وذهب.
612 - ولما ذكر أبو بكر ابن عمر الأندي في مجلس بعض الرؤساء بحضرة أبي الحسن علي بن سعيد، وأطنب في الثناء عليه، وعمر المجلس بشكره، وأخبر بذلك، أطرق ساعة ثم قال (3) :
لا تذكرن ما غاب عني من ثنا أطنبت فيه فليس ذلك يجهل
فمتى حضرت بمجلس وجرى به خبري فإن الذكر فيه يجمل
613 - ولما نفى بنو ذي النون أرقم من نسبهم لأنه كان ابن أمة مهينة، واقعها أبو الظافر في حال سكره، ولم يكن فيهم من ينظم ويتولع بالأدب غيره،
__________
(1) المغرب 1: 336.
(2) م: شعراء.
(3) المغرب 1: 338 وترجمته في القدح: 168.(4/133)
وولي ابنه يحيى، وكان أحسد من طلعت عليه الشمس، فمال على أرقم بالأذية ففر عن مملكته، وقال مرتجلاً (1) :
لئن طبتم نفساً بتركي دياركم فنفسي عنكم بالتفرق أطيب
إذا لم يكن لي جانب في دياركم فما العذر لي أن لا يكون تجنب
زعمتم بأني لست فرعاً لأصلكم فهلا علمتم أنني عنه أرغب
وحسبي إذا ما البيض لم ترع نسبة بأنني إلى سيفي ورمحي أنسب
وإن مدت الأيام عمري للعلا يشرق ذطري في الورى ويغرب
614 - وكتب الوزير الكاتب أبو محمد ابن سفيان إلى أبي أمية ابن عصام (2) قاضي قضاة شرق الأندلس عين زمانه، فوقعت نقطة إلى العين، فتوهمها، وظن أنه أبهمها واعتقدها، وعددها وانتقدها، فقال:
لا تلزمني ما جنته يراعة طمست بريقتها عيون ثناء
حقدت علي لزامها فتحولت أفعى تمج سمامها بسحاء
غدر الزمان وأهله عرف ولم أسمع بغدر يراعة وإباء
615 - وشرب المأمون بن ذي النون مع أبي بكر محمد بن أرفع رأسه الطليطلي وحفل من رؤساء ندمائه كابن لبون وابن سفيان وابن الفرج وابن مثنى، فجرت مذاكرة في ملوك الطوائف في ذلك العصر، فقال كل واحد ما عنده بحسب غرضه، فقال ابن أرفع رأسه ارتجالاً (3) :
دعوا الملوك وأبناء الملوك فمن أضحى على البحر لم يشتق إلى نهر
ما في البسيطة كالمأمون ذو كرم فانظر لتصديق ما أسمعت من خبر
__________
(1) المغرب 2: 14.
(2) القلائد: 139.
(3) المغرب 2: 18 والصلة رقم: 874.(4/134)
يا واحداً ما على علياه مختلف مذ جاد كفك لم نحتج إلى المطر
وقد طلعت لنا شمساً فما نظرت عين إلى كوكب يهدي ولا قمر
وقد بدوت لنا وسطى ملوكهم فلم نعرج على شذر ولا درر
616 - فداخل ابن ذي النون من الارتياح ما ليس عليه مزيد، وأمر له بإحسان جزيل عتيد.
وقال أبو أحمد عبد المؤمن الطليطلي:
رأيت حيائي قادحاً في معيشتي ويصعب تركي للحياء ويقبح
وقد فسد الناس الذين عهدتهم وقد طال تأنيبي لمن ليس يصلح
وله:
ولما غدو بالغيد فوق جمالهم طفقت أنادي لا أطيق بهم همسا
عسى عيس من أهوى تجود بوقفة ولو كوقوف العين لاحظت الشمسا
617 - وقال الزاهد أبو محمد عبد الله بن العسال (1) :
أعندكم علم بأني متيم وإلا فما بال المدامع تسجم
وما بال عيني لا تغمض ساعة كأني في رعي الدراري منجم
618 - وكان الوزير أبو جعفر الوقشي تياهاً معجباً بنفسه، ومن شعره في غرضه الفاسد:
إذا لم أعظم قدر نفسي وإنني عليم بما حازته من عظم القدر
فغيري معذور إذا لم يبرني ولا يكبر الإنسان شيء سوى الكبر
__________
(1) في م ق: الغسال؛ وانظر ترجمته في المغرب 2: 21.(4/135)
وله:
يرومون بي غير المكان الذي له خلقت، وبغضي منكر ذاك من بعضي
فقولوا لبدر الأفق يترك سماءه ويحتل من أجل التواضع في الأرض
وقال:
تكبر وإن كنت الصغير تظاهراً وباعد أخا صدق متى ما اشتهى القربا
وكن تابعاً للهر (1) في حفظ أمره ... ألست تراه عندما يبصر الكلبا وقال له بعض ندماء ملكه يوماً صاحب جيان، ابن همشك: يا أبا جعفر، أنت جملة محاسن، وفيك الأدوات العلية التي هي أهل لكل فضيلة، غير أنك قد قدحت في ذلك كله بكثرة عجبك، وإذا مشيت على الأرض تشمئز منها، فقال له: كيف لا أشمئز من شيء أشترك معك في الوطء عليه فضحك جميع من حضر من جوابه.
وله جواب لمن اعتذر عن غيبته عنه:
لك الفضل في أن لا تلوح لناظري وتبعد عني ما بقيت مدى الدهر
فوجهك في لحظي كما صور الردى ولفظك في سمعي حديث عن الفقر
ومن حاز من قد حزته من ركاكة وغاب فلا يحتج إلى كلفة العذر
وله أيضاً (2) :
لك يومان لم تلح لعياني ولك الفضل في زيادة شهر
ولك الفضل في زيادة عام ولك الفضل في زيادة دهر
ولك الفضل أن تغيب عني ذلك الوجه ما تطاول عمري
__________
(1) ق: للمهر.
(2) أيضاً: سقطت من م.(4/136)
وله، وقد شرب على صهريج فاختنق الأسد الذي يرمي بالماء، فنفخ فيه رجل أبخر، فجرى:
ليث بديع الشكل لا مثل له صيغ من الماء له سلسله
يقذف بالماء على حينه كأنه عاف الذي قبله
619 - وقال أبو الوليد هشام الوقشي:
برح بي أن علوم الورى اثنان ما إن فيهما من مزيد
حقيقة يعجز تحصيلها وباطل تحصيله لا يفيد
وله (1) :
وفاره يركبه فاره مر بنا في يده صعده
سنانها مشتمل لحظه وقدها منتحل قده
يزحف للنساك في جحفل من حسنه وهو يرى وحده
قلت لنفسي حين مدت لها ال آمال والآمال ممتده
لا تطمعي فيه كما الشعر لا ... يطمع في تسويده خده (2) وقال:
عجباً للمدام ماذا استعارت من سجايا معذبي وصفاته
طيب أنفاسه وطعم ثنايا هـ وسكر العقول من لحظاته
وسنا وجهه وتوريد خدي هـ ولطف الديباج من بشراته
والتداوي منها بها كالتداوي ... برضى من هويت من سطواته (3)
__________
(1) ق: وله أيضاً.
(2) ق م:
.... الشمس لا ... يطمع في تدنيسه حده (3) البيت والذي يليه سقطا من م.(4/137)
وهي من بعد ذا علي حرام مثل تحريمه جنى رشفاته
ومن تآليفه نكت الكامل للمبرد وقد مر ذكر هذا الرجل الفرد قبل هذا.
وحضر يوماً مجلس ابن ذي النون، فقدم نوع من الحلوى يعرف بآذان القاضي، فتهافت جماعة من خواصه عليها يقصدون التندير فيه، وجعلوا يكثرون من أكلها، وكان فيما قدم من الفاكهة طبق فيه نوع يسمى عيون البقر، فقال له المأمون: يا قاضي أرى هؤلاء يأكلون أذنيك، فقال: وأنا أيضاً آكل عيونهم، وكشف عن الطبق، وجعل يأكل منه، وكان هذا من الاتفاق الغريب.
620 - وكان الفاضل ابو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقشي آية الله في الظرف، وكيف لا ووالداه الوزير أبو جعفر، وصهره أبو الحسين ابن جبير، وشيخه في علم الموسيقى والتهذيب والظرف والتدريب أبو الحسن ابن الحسن ابن الحاسب شيخ هذه الطريقة، وقد رزق أبو الحسين المذكور فيها ذوقاً مع صوت بديع، أشهى من الكأس للخليع، قال أبو عمران ابن سعيد: ما سمعته إلا تذكرت قول الرصافي (1) :
ومطارح مما تجس بنانه لحناً أفاض عليه ماء وقاره
يثني الحمام فلا يروح لوكره طرباً، ورزق بنيه في منقاره
وكنت أرتاح إلى لقائه، ارتياح العليل إلى شفائه، ولم أزل أقرع باباً فباباً، وأخرق للاتصال حجاباً فحجاباً، حتى هجمت مع شفيع لا يرد عليه، وجلست بين يديه، فحينئذ حرضه حسبه على الإكرام، وتلقى بما أوسع من البشر والسلام، وقال: ليعلم سيدي أني كنت أود الناس في لقائه، وأحبهم في
__________
(1) ديوان الرصافي: 101 (نقلا عن النفح) .(4/138)
إخائه، والحمد لله الذي جعلني أنشد:
وليس الذي يتبع الوبل رائداً كمن جاءه في داره رائد الوبل
ثم قام إلى خزانة، فأخرج منها عود غناء يطرب دون أن تجس أوتاره، وتلحن أشعاره، واندفع يغني دون أن أسأله ذلك، ولا أتجشم تكليفه الدخول في تلك المسالك:
ومل زلت أرجو في الزمان لقائكم فقد يسر الرحمن ما كنت أرتجي
فذكركم ما زلت أتلوه دائباً إذا ذكروا ما بين سلمى ومنعج
فلما فرغ من استهلاله وعمله قبلت رأسه، وقلت له: لا أدري علام أشكرك قبل، هل على تعجيلك بما لم تدعني أسألك في شأنه أم على ما تفردت في إحسانه فما هذا الصوت قال: هذا نشيد خسرواني من تلحيني، قال: وأنشدني لنفسه:
حننت إلى صوت النواعير سحرة فأضحى فؤادي لا يقر ولا يهدا
وفاضت دموعي مثل فيض دموعها أطارحها تلك الصبابة والوجدا
وزاد غرامي حين أكثر عاذلي فقلت له أقصر ولا تقدح الزندا
اهيم بهم في كل واد صبابة وأزداد مع طول البعاد لهم ودا
وأنشدني لنفسه:
ولقد مررت على المنازل بعدهم أبكي وأسأل عنهم وأنوح
وقال: وكتب إلي:
يا حسرة ما قضت من لذة وطرا أين الزمان الذي يرجى به الخلف(4/139)
أبكيك ملء جفوني ثم يرجعني إلى التصبر ثم أنصرف
قال أبو عمران: وكنت في أيام الفتنة إذا ركنت إلى الآمال، هونت على نفسي ما ألقى من أهوالها بقولي مع خاطري قوله:
أين الزمان الذي يرجى به الخلف
انتهى.
621 - وكان أبو الحسين علي بن الحمارة (1) ممن برع في الألحان وعلمها، وهو من أهل غرناطة، واشتهر عنه أنه كان يعمد إلى الشعراء (2) ، فيقطع العود بيده، ثم يصنع منه عوداً للغناء، وينظم الشعر ويلحنه، ويغني به، فيطرب سامعيه، ومن شعره قوله:
إذا ظن وكري مقلتي طائر الكرى رأى هدبها فارتاع خوف الحبائل
وقال بعض العلماء في حقه: إنه آخر فلاسفة الأندلس، وقال: وأعجب ما وقع له في الشعر أنه دخل سلا وقد فرغ ابن عشرة من بناء قصره، والشعراء تنشده في ذلك، فارتجل ابن الحمارة هذين البيتين، وأنشدهما بعدهم:
يا واحد الناس قد شيدت واحدة فحل فيها محل الشمس في الحمل
فما كدارك في الدنيا لذي أمل ولا كدارك في الأخرى لذي عمل
وسيأتي ذكر هذين البيتين.
622 - وكان أهل الأندلس في غاية الاستحضار للمسائل العلمية على البديهة،
__________
(1) ترجمته في المغرب 2: 120 وفيه أبو عامر محمد بن الحمارة، وانظر الوافي 2: 242 وبغية الملتمس ص: 517.
(2) م: الشجر.(4/140)
قال ابن مسدي: أملى علينا ابن المناصف النحوي بدانية على قول سيبويه هذا باب ما الكلم من العربية عشرين كراساً، بسط القول فيها في مائة وثلاثين وجهاً، انتهى.
وهذا وأشباهه يكفيك في تبحر أهل الأندلس في العلم، وربما سئل العالم منهم عن مسألة التي يحتاج في جوابها إلى مطالعة ونظر، فلم يحتج إلى ذلك، ويذكر من فكره ما لا يحتاج معه إلى زيادة.
623 - ومن الحكايات في مثل ذلك أن الأديب البليغ الحافظ أبا بكر ابن حبيش لما قال في تخميسه المشهور:
بماذا على كل من الحق أوجبت
اعترض عليه أبو زكريا اليفرني بما نصه: استعمل المخمس ماذا في البيت تكثيراً وخبراً، والمعروف من كلام العرب استعمالها استفهاماً، فجاوبه بقوله: أما استعمالها استفهاماً كما قال فكثير، لا يحتاج إلى شاهد، وأما استعمالها في ألسن فصحاء العرب للكثرة فكثير لا يحتاج إلى شاهد لو وصل بحث، واستعمل مكث، فلم يعترض علي ولي، ولا تشكك في جلي:
ولا يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
قال الله تعالى في سورة يونس " قل انظروا ماذا في السموات والأرض، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " ووقع في صحيح البخاري في رثاء المقتولين من المشركين يوم بدر (1) :
وماذا بالقليب قليب بدر ... ومن الفتيان والشرب الكرام (2)
__________
(1) الشعر لشداد بن الأسود؛ انظر أنساب الأشراف 1: 307 وابن هشام: 530 وفي مناقب الأنصار من البخاري 43/63 (حديث: 21) .
(2) روايته في البلاذري:
ونقب عن أخيك أبي يزيد ... أخي القينات والشرب الكرام(4/141)
وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تكلل بالسنام (1) وفي السير في رثاء المذكورين أيضاً (2) :
وماذا ببدر فالعقنقل من مرازبة جحاجح
وهذا الشعر لأميةبن أبي الصلت الثقفي، ووقع في الأغاني للوليد بن يزيد يرثي نديماً له يعرف بابن الطويل (3) :
لله قبر ضمنت فيه عظام ابن الطويل
ماذا تضمن إذ ثوى فيه من الرأي الصيل
والخبر طويل، وأجلى من هذا وأعلى، وأحق بكل تقديم وأولى، ولكن الواو لا تفيد رتبة، ولا تتضمن نسبة، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ماذا أنزل الليلة من الفتن " وهو في الصحاح (4) ، ووقع في الحماسة، وقد أجمعوا على الاستشهاد بكل ما فيها:
ماذا أجال وثيرة (5) بن سماك ... من دمع باكية عليه وباك (6) وفي الحماسة أيضاً وأظنها لأبي دهبل (7) :
ماذا رزئنا غداة الحل من زمع عند التفرق من خيم ومن كرم
ووقع في نوادر القالي لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار (8) :
__________
(1) القليب: البئر؛ والشيزي: جفان تصنع من خشب بهذا الاسم.
(2) الأبيات في أنساب الأشراف 1: 306 وابن هشام: 531 - 532.
(3) انظر ديوانه: 58 (نقلاً عن الأغاني 6: 133) .
(4) م: الصحيح.
(5) م ق: أحال؛ ق: وتيرة؛ وهو رواية ثانية.
(6) الحماسية رقم: 320 من شرح المرزوقي.
(7) هي الحماسية رقم: 706 لأبي دهبل.
(8) أمالي القالي 2: 146.(4/142)
هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً وماذا يرد الليل حين يؤوب
ووقع في شعر الخنساء ترثي أخاها صخراً:
ألا ثكلت أم الذين غدوا به إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
وماذا يواري القبر تحت ترابه من الحود في بؤسى الحوادث والدهر
ولجرير وهو في الحماسة (1) :
إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلاً بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا
وفي الحماسة أيضاً (2) :
ماذا من البعد بين البخل والجود
ووقع في الحماسة أيضاً، وهو لامرأة (3) :
هوت أمهم ماذا بهم يوم صرعوا بجيشان من أسباب مجد تصرما
أرادت ماذا تصرم لهم يوم صرعوا بجيشان من أسباب مجد تصرما.
ومما يستظهر به قول أبي الطيب المتنبي:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها أني بما أنا باك منه محسود
وقوله أيضاً:
وماذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا
__________
(1) ديوان جرير: 476.
(2) الحماسية رقم: 685 وصدره: ألا ترين وقد قطعتني عذلا.
(3) هو لأم الصريح، الحماسية: 318.(4/143)
ومن ملح المتأخرين: كان بمرسية أبو جعفر المذكور في المطمح، وكان يلقب بالبقيرة، فقال فيه بعض أهل عصره:
قالوا: البقيرة يهجونا فقلت لهم: ماذا دهيت به حتى من البقر
هذا وليس بثور بل هو ابنته وأين منزلة الأنثى من الذكر
وأنشد صاحب الزهر، ولا أذكر قائله (1) :
ماذا لقيت من المستعربين ومن قياس قولهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكراً يكون لها معنى يخالف ما قالوا وما وضعوا
قالوا لحنت وهذا الحرف منتصب وذاك خفض، وهذا ليس يرتفع
وضربوا بين عبد الله واجتهدوا وبين زيد فطال الضرب والوجع
وقال صاحب الزهر (2) : أنشد أبو حاتم ولم يسم قائله:
ألا في سبيل الله ماذا تضمنت بطون الثرى واستودع البلد القفر
هذا ما حضر بفضل الله من الاستشهاد على أن ماذا تستعمل بمعنى الخبر والتكثير، ووالله الذي لا إله غيره ما طالعت عليه كتاباً، ولا فتحت فيه باباً، وإنما هو ثمالة من حوض التدكار، وصبابة مما علق به شرك الأفكار، وأثر مما سدك به السمع، أيام خلو الذرع، وعقدت علي الحبى، في عصر الصبا، ورحم الله من تصفح، وتلمح فتسمح، وصحح ما وقع إليه (3) من الاعتلال، وأصلح ما وضع لديه من اختلال، فخير الناس، من أخذ بالبر والإيناس، فبصر من جهلة، وادكر عن وهلة، وإنما المؤمنون إخوة،
__________
(1) لم أجده في زهر الآداب.
(2) م: الروض؛ وانظر زهر الآداب: 796.
(3) م: له.(4/144)
وتحابهم في الله رفعة وحظوة، ولهم في السلف الكريم، ومحافظتهم على الود القديم، أسوة كريمة وقدوة.
قال ابن الطراح: انظر تحصيل هذا الإمام الرئيس، والأسمى النفيس، واستحضاره كلام الدباء، وسير النقاد البلغاء، ومساجلته مع فرسان المعاني، ووصفه تلك المغاني، وقد كان حالم لواء الأدب
وفائق أبناء جنسه فب مرقب الطلب، وهذه الكلمة - أعني ماذا - جرت بسببها مناظرة بين الأستاذ ابي الحسين (1) ابن أبي الربيع النحوي المشهور وبين مالك بن المرحل بسبتة، حتى ألف مالك كتاب الرمي بالحصى والضرب بالعصى وفيه هنات لا ينبغي لعاقل أن يذكرها، ولا لذي طي في البيان ان ينشرها، وفي ذلك قال الأستاذ أبو الحسين رحمه الله تعالى:
كان ماذا ليتها عدم جنبوها قربها ندم
ليتنب يا مال لم ارها إنها كالنار تضطرم
وقوله يا مال ترخيم مالك.
وحكى الستاذ ابن غازي أنهم اختلفوا: هل يقال: كان ماذا أم لا وقال: إن الأستاذ ابن أبي الربيع تطفل على مالك بن المرحل في الشعر، كما أن ابن المرحل تطفل عليه في النحو، قال: ومن نظم مالك بن المرحل في هذه القضية:
عاب قوم كان ماذا ليت شعري كان ماذا
إن يكن ذلك جهلاً منهم فكان ماذا
ومن نظم ابن حبيش المذكور قوله:
__________
(1) م: الحسن، في الموضعين.(4/145)
إذا ما شئت أن تحيا هنياً رفيع القدر ذا نفس كريمه
فلا تشفع إلى رجل كبير ولا تشهد ولا تحضر وليمه
وله أيضاً:
لأعملن إلى لقياكم قدمي ولو تجشمت بين الطين والماء
لأن يبل ثيابي الغيث أهون بي من أن تحرق نار الشوق أحشائي
ترجمة اليفرني النحوي
وأبو زكريا المعترض على ابن حبيش هو الفقيه النحوي الديب أبو زكريا يحيى بن علي بن سلطان اليفرني (1) ، ولد سنة 641، وبرع في العربية، وكان يلقب في المشرق جبل النحو، وكان عند نفسه مجتهداً، وكان لا يجيز نكاح الكتابيات، خلافاً للإمام مالك، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، ويتمسك بقوله تعالى " وجعل بينكم مودة ورحمة " وكان يرى أن الطلاق لا يكون إلا مرتين: مرة للاستبراء، ومرة للانفصال، ولا يقول بالثلاث، وهو خلف الإجماع، وكان يقول في نهيه عليه الصلاة والسلام عن أكل ذي ناب من السباع: أي مأكول كل ذي ناب، وتبقى هي على الإباحة، ويدل عليه قوله تعالى " وما أكل السبع " وكان يقول في قوله تعالى " إن هذان لساحران " الهاء اسم إن، وذان لساحران جملة خبر لإن، ولا تحتاج لرابط لأنها تفسيرية، والمعنى عنده وأسروا النجوى قالوا إنها أي نجوانا هذان لساحران، أي قولنا هذان لساحران، تثبيطاً للناس عن اتباعهما، وخط المصحف يرده، لكن في المصحف أشياء كتبت على غير المصطلح، مثل مال هذا، ولا أوضعوا
__________
(1) انظر ترجمته في بغية الوعاة: 412 وفيه نقل عن رحلة ابن رشيد.(4/146)
ولا أذبحه. قال ابن الطراح: ورأيت هذا المعنى لغيره، وأظنه ابن النحاس، وتوفي اليفرني المذكور سنة 700، ومن شعره:
ماذا على الغصن المياس لو عطفا على صبابة صب حالف الدنفا
يا رحمة لفؤادي من معذبه كم ذا يحمله أن يحمل الكلفا
ويا رعى الله داراً ظل يجمعنا ... في ظل عيش صفا من طيبه وضفا (1) مودة بيننا في الحب كاملة ونحن لا نعرف الإعراض والصلفا
رجع إلى كلام الأندلسيين
624 - قال صالح بن شريف الرندي رحمه الله تعالى في سكين الكتابة:
أنا صمصامة الكتابة، ما لي من شبيه في المرهفات الرقاق
فكاني في الحسن يوم وصال وكأني في القطع يوم فراق
وقال في المقص:
ومصطحبين ما اتهما بعشق وإن وصفا بضم واعتناق
لعمر أبيك ما اجتمعا لشيء سوى معنى القطيعة والفراق
625 - ولبعض الأندلسيين:
هلا اقتدى ذو خلة بفعالنا فيكون واصل خله كوصالنا
مهما يجئ أحد ليقطع بيننا نقطعه ثم نعد لأحسن حالنا
626 - وجرح بعض الكتاب يده بالمقص، فأنشد أحد جلسائه، وغالب ظني أنه أندلسي:
__________
(1) م: ضفا من طيبه وصفا.(4/147)
عداوة لا لكفك من قديم فلا تعجب لمقراض لئيم
لئن أدماك فهو للا شبيه وقد يعدو اللئيم على الكريم
627 - ولما ألف ابن عصفور كتابه المقرب في النحو انتقده جماعة من أهل قطره الأندلسيين وغيرهم، منهم ابن الصائغ وابن هشام الجزيري، وله عليه المنهج المعرب في الرد على المقرب وفيه تخليط كثير وتعسف:
وفي تعب من يحسد الشمس نورها ويأمل أن ياتي لها بضريب
ومنهم ابن الحاج وأبو الحسن حازم القرطجاني الخزرجي، وسماه شد الزيار على جحفلة الحمار، وابن مؤمن القابسي، وبهاء الدين ابن النحاس.
628 - ومن شعر حازم الأندلسي المذكور قوله:
لم تدر إذ سألتك ما أسلاكها أبكت أسى أم قطعت أسلاكها
وعارضه التجاني بقوله:
يا ساحر الألحاظ يا فتاكها فتيا جواز الصد من أفتاكها
629 - ومن حكاياتهم في المجون (1) وما يجري مجراه أن الوزير ابا بكر ابن الملح كان له ابن شاب، فاسترسل مع الأدب إلى أن خرج من القول إلى الفعل، واتى بأشياء لا تليق بمثله، فكتب إليه أبوه:
يا سخنة العين يا بنيا ليتك ما كنت لي بنيا
أبكيت عيني، أطلت حزني أمت صيتي وكان حيا
حططت قدري وكان أعلى في كل حال من الثريا
__________
(1) قد وردت هذه القصة والشعر فيما مر ص: 71 وسقطت من م.(4/148)
أما كفاك الزنا ارتكاباً وشرب مسشمولة الحميا
حتى ضربت الدفوف جهراً وقلت للشر: جئ إليا
فاليوم أبكيك ملء عيني لو كان يغني البكاء شيا
فأجابه ابنه بقوله:
يا لائم الصب في التصابي ما عنك يغني البكاء شيا
أوجفت خيل العتاب نحوي وقبل وثبتها إليا
وقلت عمر الهنا قصير فاربح من العيش ما تهيا
قد كنت أرجو المتاب مما فتنت جهلاً به وغيا
لولا ثلاث شيوخ سوء أنت وإبليس والحميا
630 - وقال أبو جعفر ابن صفوان المالقي رحمه الله تعالى:
سألته الإتيان نحوي مقبلاً فقال سل نحوي كي تحصلا
قرأت باب الجمع من شوقي له وهو بالاشتغال عني قد سلا
للاستغاثة ابتدأت تالياً وهو لأفعال التعدي قد تلا
وكلما طلبت منه في الهوى عطفاً غدا يطلب مني بدلا
وإن أرم محض إضافة له أعمل في قطعي عنه الحيلا
في ألف الوصل ظللت باحثاً وهو باب الفصل قد تكفلا
فلست موصولاُ وليس عائداً وليس حالي عن أسى منتقلا
فيا منى نفسي ومن لفهمه دانت فهوم الأذكياء النبلا
وجدي موقوف عليك لا أرى عنك مدى الدهر له تنقلا
فما الذي يمنع من تسكينه والوقف بالتسكين حكم أعملا
والحب مرفوع إليك مفرد فلم ترى لضمتي مستثقلا
فالضم للرفع غدا علامة في مفرد مثلي فأوضح مشكلا(4/149)
لا زلت للهيام عني رافعاً للوصل ناصباً، لقولي معملا
للشوق مسكناً، لهجري صارفاً بالقرب من حال البعاد مبدلا
تجزم أمراً في الأماني ماضياً وتبتدي بما تشا مستقبلا
631 - وقال محمد بن إدريس القضاعي الأصطبوني:
علاه رياض أورقت بمحامد تنور بالجدوى وتثمر بالأمل
تسح عليها من نداه غمامة تروي ثرى المعروف بالعل والنهل
وهل هو إلا الشمس نفساً ورفعة فيقرب بالجدوى ويبعد بالأمل
تعم أياديه البرية كلها فدان وقاص جود كفيه قد شمل
632 - وقال محمد التطيلي الهذلي، من أعيان غرناطة (1) :
جارت علي لواحظ الآرام لما رمت أجفانها بسهام
حكمت علي بحكمها فتبسمت فغدا الضنى منها لدى أحكام
يا قاتلي عمداً بسيف لحاظه اغمد ظباه قبل وقع حمامي
كم رمت وصلك والصدود يصدني ويفل عزمي أمره ومرامي
إني عدمت النفس يوم فراقكم والبين أسلمها إلى الإعدام
كيف المقام وأصل جسمي ناحل إن النفوس مقيمة الأجسام
صعب العلاج فكيف يمكن برؤها حتى يعود الشهر مثل العام
قد كنت أفرح بالسلو فها أنا قد زم قلبي في الهوى بزمام
مالت به نحو الفتون بدائع من شادن يحكيه بدر تمام
فقوام أنفسنا بلذة وصله وجميع أعيننا عليه سوام
قد أبرزت خداه روض محاسن عظمت على الأفكار والأوهام
__________
(1) ترجمة الهذلي التطيلي في المغرب 2: 450 وبرنامج الرعيني: 202؛ والمقري ينقل عن الإحاطة.(4/150)
تندى بماء شبيبة وتنعم فيروق منها الزهر في الأكمام
فكأنما وجناتها في لونها ورد الرياض ربا بصوب غمام
وكأنما درع الدجى من شعره قد حاكه منها يد الإظلام
وكأنما ريق حواه ثغره مسك أديف بعنبر ومدام
وكأنما سيف نضت ألحاظه سيف الأمير ممهد الإسلام
ذاك الأمير محمد بن محمد ناهيك من ملك أغر الإعظام
لو كان يعتقل السها لأتاه في شكل الفتاة ملثماً بلثام
أو كان يرضى بالمجرة أجرداً لجرت إلى الإسراج والإلجام
فالسعد يفعل للأماني قولها والنصر يخدمه مع الأيام
واليوم يعشقه ويحسد ليله فيه كعشق سيوفه للهام
نامت عيون الشرك خوف سنانه لولاه ما اكتحلت بطيف منام
بهر الأنام بسيفه وببأسه فسبى وأنعم أيما إنعام
فالمعتفي يجني جزيل هباته والمعتدي يصلى الردى بحسام
مهما استعنت به فضيغم معرك وإذا استجرت به فطود شمام
أجرى مياه العدل بعد جفوفها وأزال نار الظلم بعد ضرام
كم من كتيبة جحفل قد هدها في معرك بمهند صمصام
المقتني الجرد المذاكي عدة للكر في الأعداء والإقدام
من كل أبيض كان اديمه لون الصباح أتى عقيب ظلام
ومنها:
يا خير من ركب الجياد وقادها تحت اللواء، وعمدة الأقوام
لا زلتم والسعد يخدم أمركم فب غبطة موصولة بدوام
حتى يصير الأمن في أرجائنا عبداً يقوم لنا على الإقدام(4/151)
والله ينصركم ويعلي مجدكم ماسح إثر الصحو ماء غمام
633 - وكان يحيى السرقسطي أديباً، فرجع إلى الجزارين، فأمر الحاجب ابن هود أبا الفضل ابن حسداي أن يوبخه على ذلك، فكتب إليه (1) :
تركت الشعر من عدم الإصابه وملت إلى التجارة والقصابه
فأجابه يحيى:
تعيب علي مألوف القصابه ومن لم يدر قد الشيء عابه
ولو أحكمت منها بعض فن لما استبدلت منها بالحجابه
ولو تدري بها كلفي ووجدي علمت علام أحتمل الصبابه
وإنك لو طلعت علي يوماً وحولي من بني كلب عصابه
لهالك ما رأيت وقلت هذا هزبر صير الأوضام غابه
وكم شهدت لنا كلب وهر بأن المجد قد حزنا لبابه
فتكنا في بني العنزي فتكاً أقر الذعر فيهم والمهابه
ولم نقلع عن الثوري حتى مزجنا بالدم القاني لعابه
ومن يغتر منهم بامتناع فإن إلى صوارمنا إبابه
ويبرز واحد منا لألف فيغلبهم وذاك من الغرابه
ومنها:
أبا الفضل الوزير أجب ندائي وفضلك ضامن عنك الإجابه
وإصغاء إلى شكوى شكور أطلت على صناعته عتابه
وحقك ما تركت الشعر حتى ... رأيت البخل (2) قد أوصى صحابه (3)
__________
(1) المغرب 2: 44 والذخيرة (3: 286) وزاد المسافر: 98.
(2) م: المحل.
(3) المغرب: أذكى شهابه.(4/152)
وحتى زرت مشتاقاُ خليلي (1) ... فأبدى لي التحيل (2) والكآبه وظن زيارتي لطلاب شيء فنافرني وغلظ لي حجابه
634 - وقال الأديب أبو الحسن ابن الحداد:
قالت وأبدت صفحة كالشمس من تحت القناع
بعت الدفاتر وهي آخر ما يباع من المتاع
فأجبتها ويدي على كبدي وهمت بانصداع
لا تعجبي مما رأي ت فنحن في زمن الضياع
635 - وقال الأديب أبو زكريا ابن مطروح من أهل مدينة باغه، وقد عزل وال فنزل المطر على إثره، وهو من أحسن شعر قاله، وكان الوالي غير مرضي:
ورب وال سرنا عزله فبعضنا هنأه البعض
قد واصلتنا السحب من بعده ولذ في أجفاننا الغمض
لو لم يكن من نجس شخصه ما طهرت من بعده الأرض
636 - وقال القاضي أبو البركات ابن الحاج البلفيقي، رحمه الله تعالى:
وعشية حكمت على من تاب من أهل الخلاعة أن يعود لما مضى
جمعت لنا شمل السرور بفتية إلا الرياء مع الخطابة والقضا
637 - وقال أبو الحجاج يوسف الفهري من أهل دانية:
__________
(1) المغرب: حبيباً.
(2) ق: التخيل؛ المغرب: التجهم.(4/153)
أبى الله إلا أن أفارق منزلاً يطالعني وجه المنى فيه سافرا
كأن على الأيام أن لا أحله رويداً فما أغشاه إلا مسافرا
638 - وقال بعضهم في الرثاء:
عبرات تفيض حزناً وثكلا وشجون تعم بعضاً وكلا
ليس إلا صبابة أضرمتها حسرة تبعث الأسى ليس إلا
639 - ولأبي جعفر البغيل أحد شعراء المرية وكتابها:
عزاء على هذا المصاب الذي دهى وشتت شمل الأنس من بعد ما انتهى
بفرع علاء في منابت سؤدد تسامى رقياً في المعالي إلى السها
أصبت به من بعد ما تم مجده وقد شمخت منه الشماريخ وازدهى
فأية شمس فيه للمجد كورت وأي بناء للمكارم قد وهى
فصبراً عليه لا رزئت بمثله فمثلك من يعزى إلى الحلم والنهى
640 - وقال الكاتب الماهر أبو جعفر أحمد بن أيوب اللمائي المالقي (1) :
طلعت طلائع للربيع فأطلعت فب الروض ورداً قبل حين أوانه
حيا أمير المؤمنين مبشراً ومؤملاً للنيل من إحسانه
ضنت سحائبه عليه بمائه فأتاه يستسقيه ماء بنانه
دامت لنا أيامه موصولة بالعز والتمكين في سلطانه
641 - وقال أبو جعفر أحمد بن طلحة من جزيرة شقر (2) :
يا هل ترى أظرف من يومنا قلد جيد الأفق طوق العقيق
وأنطق الورق بعيدانها مطربة كل قضيب وريق
__________
(1) الإحاطة 1: 110.
(2) اختصار القدح: 114 والإحاطة 1: 112.(4/154)
والشمس لا تشرب خمر الندى في الروض إلا بكؤوس الشقيق
642 - وقال أبو جعفر الغساني من أهل وادي آش، واستوطن غرناطة، ثم مات بالمرية، فكتب على حمالة قراب لموطإ الإمام مالك، بعدما استنجد قرائح أدباء عصره، واستصرخ الختراعاتهم لنصره، فكلهم قصر عن غرضه، وأداء مفترضه، فقال هو:
يا طالباً لكمال حفظي أتم كمالك
فما تقلدت مثلي إذ لم تقلد كمالك
643 - وقال أبو بكر يحيى بن بقي:
خذها على وجه الربيع المخصب لم يقض حق الروض من لم يشرب
هممي سماء علاً وهمي مارد فارجمه من تلك الكؤوس بكوكب
وهو رحمه الله تعالى صاحب الأبيات المشهورة:
زحزحته عن أضلع تشتاقه كيلا ينام على فراش خافق
وانتقد عليه بعض اللطفاء فقال: إنه كالن جافي الطبع حيث قال زحزحته ولو قال باعدت عنه أضلعاً تشتاقه لكان أحسن.
644 - وقال السلطان المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس يستدعي (1) :
انهض أبا طالب إلينا واسقط سقوط الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى ما لم تكن حاضراً لدينا
وتذكرت هنا بعض المشارقة فيما أظن والله تعالى أعلم:
__________
(1) القلائد: 46 وانظر ج 1: 666.(4/155)
نحن في مجلس أنس ما به غير محبك
فتصدق بحضور واجمع الوقت بقربك
وخف الآن عتابي مثل خوفي عند عتبك
645 - وقال أبو عبد الله ابن خلصة الضرير (1) :
ولو جاد بالدنيا وثنى بمثلها لظن من استصغارها أنه ضنا
ولا عيب في إنعامه غير أنه إذا من لم يتبع مواهبه منا
وله أيضاً (2) :
يا مالكاً حسدت عليه زمانه أمم خلت من قبله وقرون
ما لي أرى الآمال بيضاً وضحاً ووجوه آمالي حوالك جون
أنا آمن فرق، وراج آيس ورو صد، ومسرح مسجون
646 - وقال ابن اللبانة:
كرمت فلا بحر حكاك ولا حياً وفت فلا عجم
وأوليتني منك الجميل فواله عسى السح من نعماك يتبعه السكب
647 - وقال أبو علي ابن اليمان (3) :
أبنات الهديل أسعدن أو عد ن قليل العزاء بالإسعاد
بيد أني لا أرتضي ما فعلت ن فأطواقكن في الأجياد
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن خلصة الذوني ويقال له الضرير تمييزاً عن من ينسب سواه إلى خلصة، انظر الجذوة: 51 ونكت الهميان: 248 والمسالك 11: 45 والذخيرة (3: 109) .
(2) الذخيرة: 111.
(3) هو إدريس بن اليمان؛ ووهم المقري أو من ينقل عنه في نسبة البيتين له فهما لأبي العلاء المعري من داليته " غير مجد في ملتي واعتقادي "، ولعل سبب الوهم أبيات ابن اليمان في الحمامة (الذخيرة 3: 119) .(4/156)
648 - وقال أبو أحمد بن الدودين من كلمة (1) :
فغدت غواني الحي عنك غوانياً وأسلن ألحاظ الرباب ربابا
649 - وقال ابن أبي الخصال في مليحة لها أربع جوار قبيحات:
وليلة طولها على سنة بات بها الجفن نادباً وسنه
بأربع بينهن واحدة كسيئات وبينها حسنه
650 - وقال غالب بن تمام الملقب بالحجام:
صغار الناس أكثرهم قبيحاً وليس لهم بصالحة نهوض
ألم تر في سباع الطير نسراً يسالمنا ويؤذينا البعوض
651 - وقال ابن عائشة (2) :
وروضة قد علت سماء تطلع أزهارها نجوما
هفا نسيم الصبا عليها ... فخلتها أرسلت رجوما (3) كأنما الجو غار لما بدت فأغرى بها النسيما
وله يصف فرساً، وهو من بدائعه:
قصرت له تسع وطالت أربع وزكت ثلاث منه للمتأمل
وكأنما سال الظلام بمتنه وبدا الصباح بوجهه المتهلل
وكأن راكبه على ظهر الصبا من سرعة أو فوق ظهر الشمأل
__________
(1) هو من رجال الذخيرة (3: 219) والمغرب 2: 322؛ والبيت فيه.
(2) مرت هذه الأبيات ص: 54 وانظر الذخيرة (3: 279) .
(3) سقط هذا البيت من م.(4/157)
وقال:
تربة مسك، وجو عنبرة وغيم ند، وطش ما ورد
كأنما جائل الحباب به يلعب في جانبيه بالنرد
وتروى هذه الأبيات لغيره (1) .
وقال (2) :
هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا بأقمار أطواق مطالعها بان
لئن غادروني باللوى إن مهجتي مسايرة أظغانهم حيثما كانوا
652 - وقال أبو محمد ابن سفيان، وهو من أبدع التخلص:
فقلت وجفني وقد تداعت شؤونه وحر ضلوعي مقعد ومقيم
لئن دهمت دهم الخطوب وآلمت فإن أبا عيسى أغر كريم
653 - وقال ابن الزقاق (3) :
بأبي وغير أبي أغن مهفهف مهضوم ما تحت الوشاح خميصه
لبس الفؤاد ومزقته جفونه فأتى كيوسف حين قد قميصه
وقال:
سلام على أيامكم ما بكى الحيا وسقياً لذاك العهد ما ابتسم الزهر
كأن لم نبت في ظل أمن تضمنا من الليلة الظلماء أردية خضر
ولم نغتبق تلك الأحاديث قهوة وكم نجلس طيب الحديث به خمر
ألا في ضمان الله في كل ساعة يجدد لي فيها بشوقي له ذكر
__________
(1) وتروى ... لغيره: سقطت من م.
(2) وردت القصيدة بتمامها في أزهار الرياض 3: 121 منسوبة لابن السيد البطليوسي.
(3) وردت قطعتا ابن الزقاق في ديوانه: 196، 171.(4/158)
يذكرنيه البرق جذلان باسماً ويذكرني إسفار غرته الفجر
وما رق زهر الروض إلا تمثلت لناظر عيني منه آدابه الزهر
654 - وقال يحيى السرقسطي:
هاتها عسجدية كوثريه بنت كرم رحيقة عطريه
كلما شفها النحول تقوت فاعجبوا من ضعيفة وقويه
رب خمارة سريت إليها والدجى في ثيابه الزنجيه
ومنها:
كم عقار بدلته بعقار وثياب صبغتها خمريه
إن خير البيوع ما كان نقداً ليس ما كان آجلاً بنسيه
وله (1) :
نسبتم الظلم لعمالكم ونمتم عن قبح أعمالكم
والله لو حكمتم ساعة ما خطر العدل على بالكم
655 - وقال الرصافي في الدولاب (2) :
وذي حنين يكاد شجواً يختلس الأنفس اختلاسا
إذا غدا للرياض جاراً وقال لها المحل لا مساسا
يبتسم الروض حين يبكي بأدمع ما رأين باسا
من كل جفن يسل سيفاً صار له عقده رئاسا
656 - وخرج أبو بكر الصابوني لنزهة بوادي إشبيلية، وكان يهوى
__________
(1) زاد المسافر: 99.
(2) ديوان الرصافي: 102 والمغرب 2: 351 والمعجب: 143 ورفع الحجب: 135.(4/159)
فتى اسمه علي، فقال:
أبا حسن أبا حسن بعادك قد نفى وسني
وما أنسى تذكره فهل أنسى فيذكرني
ويشبه هذا القول الطاهر بن أبي ركب (1) :
يقول الناس في مثل تذكر غائباً تره
فما لي لاأرى سكني وما أنسى تذكره
657 - وكتب بعض الأدباء إلى ابن حزم الأندلسي بقوله:
سألت الوزير الفقيه الأجل سؤال مدل على من سأل
فقلت أيا خير مسترشداً ويا خير من عن إمام نقل
أيحرم أن نالني قبلة غزال ترشف فيه الغزل
وعانقني والدجى خاضب فبتنا ضجيعين حتى نصل
وجئتك أسأل مسترشداً فبين فديت لمن قد سأل
فأجابه ابن حزم بقوله:
إذا كان ما قلته صادقاً وكنت تحريت جهد المقل
وكان ضجيعك طاوي الحشا أعار المهاة احمرارالمقل
ففي أخذ أشهب عن مالك عن ابن شهاب عن الغير قل
بترك الخلاف على جمعهم على أن ذلك حل وبل
658 - ونظر الرصافي يوماً إلى صبي يبكي، ويأخذ من ريقه ويبل
__________
(1) انظر ما تقدم ص: 113.(4/160)
عينيه، كي يخفي أثر البكاء، فارتجل الرصافي (1) :
عذيري من جذلان يبدي كآبة وأضلعه مما يحاوله صفر
أميلد مياس إذا قاده الصبا إلى ملح الإدلال أيده السحر
يبل مآقي مقلتيه بريقه ليحكي البكا عمداً كما ابتسم الزهر
أيوهم أن الدمع بل جفونه وهل عصرت يوماً من النرجس الخمر
وكان المذكور - أعني الرصافي - يميل في شبيبته لبعض فتيان الطلبة، وأجمع الطلبة على أن يصنعوا نزهة بالوادي الكبير بمالقة، فركبوا زورقاً للمسير إلى الوادي، فوافق أن اجتمع في الزورق شمل الرصافي بمحبوبه، ثم إن الريح الغربية عصفت وهاج البحر، ونزل المطر، فنزلوا من الزورق، وافترق شمل الرصافي من محبوبه، فارتجل في ذلك، ويقال إنها من أول شعره:
غار بي الغرب إذ رآني مجتمع الشمل بالحبيب
فأرسل الماء عن فراق وأرسل الريح عن رقيب
فلما سمع ذلك أستاذه استنبله، وقال له: إنك ستكون شاعر زمانك.
659 - وحكي أن أبا بكر ابن مجبر قال في ابن لأبي الحسن ابن القطان بمحضره والده:
جاء وفي يساره قوس وفي اليمنى قدح
كأنه شمس بدت وحولها قوس قزح
يا لائمي في حبه ما كل من لام نصح
فقال ابن عياش الكاتب: هذه أبيات لأندلسي استوطن المشرق في تركي،
__________
(1) ديوان الرصافي: 67.(4/161)
فأقسم أبو بكر أنه لم يسمع شيئاً من ذلك، وإنما ارتجلها، وقيل: إنها لأبي الفتح محمد بن عبيد الله من أهل بغداد، وأولها:
جد بقلبي ومزح
فالله أعلم بحقيقة الأمر.
660 - وخرج أبو بكر ابن طاهر وأبو ذر الحشني والقاضي أبو حفص ابن عمر، وهو إذ ذاك وسيم، فأثرت الشمس في وجهه، فقال أبو ذر:
وسمتك الشمس يا عمر سمة في القلب تنتثر
فقال الآخر:
علمت قدر الذي صنعت فأتت صفراء تعتذر
661 - وقال أبو الحسين البلنسي الصوفي: كان لي صديق أمي لا يقرأ ولا يكتب، فعلق فتى، وكان خرج لنزهة فأثرت الشمس في وجهه، فأعجبه ذلك وأنشد:
رأيت أحمد لما جاء من سفر والشمس قد أثرت في وجهه أثرا
فانظر لما أثرته الشمس في قمر والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا
662 - واجتمع أبو الوليد الوقشي وأبو مروان عبد الملك بن سراج القرطبي، وكانا فريدي عصرهما حفظاً وتقدماً، فتعارفا، وتساءلا، ثم بادر أبو الوليد بالسؤال، وقال: كيف يكون قول القائل:
ولو أن ما بي بالحصى فعل (1) الحصى ... وبالريح لم يسمع لهن هبوبُ
__________
(1) م: فلق.(4/162)
ما ينبغي أن يكون مكان فعل الحصى فقال أبو مروان فلق الحصى، فقال: وهمت، إنما يكون قلق الحصى ليكون مطابقاً لقوله لم يسمع لهن هبوب يريد أن ما به يحرك ما شأنه السكون ويسكن ما شانه الحركة، فقال أبو مروان: ما يريد الشاعر بقوله:
وراكعة في ظل غصن منوطة بلؤلؤة نيطت بمنقار طائر
وكان اجتماعهما في مسجد، فأقيمت الصلاة إثر فراغ ابن سراج من إنشاد البيت، فلما انقضت الصلاة قال له الوقشي: ألغز الشاعر باسم أحمد، فالراكعة الحاء، والغصن كناية عن الألف، واللؤلؤة الميم، ومنقار الطائر الدال، فقال له ابن سراج: ينبغي أن تعيد الصلاة لشغل خاطرك بهذا اللغز، فقال له الوقشي: بين الإقامة وتكبيرة الإحرام فككته.
والبيت الأول لعبد الله بن الدمينة، وبعده:
ولو أنني أستغفر الله كلما ذكرتك لم تكتب علي ذنوب
663 - وقال الوزير أبو الحسن ابن أضحى:
ومشتشفع عندي بخير الورى عندي وأولاهم بالشكر مني وبالحمد
وصلت فلما لم أقم بجزائه ... " لففت له رأسي حياء من المجد " (1) وكان سبب قوله هذين البيتين أنه كتب إليه بعض الوزراء شافعاً لأحد الأعيان، فلما وصل إليه بره وأنزله وأعطاه عطاء استعظمه واستجزله، وخلع عليه خلعاً، وأطلعه من الأحمال بدراً لم يكن مطلعاً، ثم اعتقد أنه قد جاء مقصراً، فكتب إليه معتزراً بالبيتين، هكذا حكاه الفتح (2) ، وقال بعد ذلك ما صورته: ومن باهر جلاله، وطاهر خلاله، أنه أعف الناس بواطن،
__________
(1) عجز بيت لأبي تمام وصدره: " أتاني مع الركبان ظن ظننته ".
(2) القلائد: 217 ومر بعضه.(4/163)
أشرفهم في التقى مواطن، ما علمت له صبوة، ولا حلت له إلى مستنكر حبوة، مع عدل لا شيء يعدله، وتحجب عما يتقى مما يرسل عليه حجابه ويسدله، وكان لصاحب البلد الذي كان يتولى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة، وكانت محاسن الأقوال والأفعال عليه مقصورة، مع ما شئت من لسن، وصوت حسن، وعفاف، واختلاط بالبهاء والتفاف، قال الفتح: وحملنا لإحدى ضياعه بقرب من حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفة نهر، أحسن من شاذ مهر، تشقها جداول كالصلال، ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال، ومعنا جملة من أعيانها، فأحضرنا من أنواع الطعام، وأرانا من فرط الإكرام والإنعام، ما لا يطاق ولا يحد، ويقصر عن بعضه العد، وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته، فقابلته بكلام أعتقده، وملام أحقده، فلما كان من الغد لقيت منه اجتناب، ولم أر منه ما عهدته من الإنابة، فكتبت إليه مداعباً له، فراجعني بهذه القطعة:
أتتني أبا نصر نتيجة خاطر سريع كرجع الطرف في الخطرات
فأعربت عن وجد كمين طويته بأهيف طاو فاتر اللحظات
غزال أحم المقلتين عرفته بخيف منى للحسن أو عرفات
رماك فأصمي والقلوب رمية لكل كحيل الطرف ذي فتكات
وظن بأن القلب منك محصب فلباك من عينيه بالجمرات
تقرب بالنساك في كل منسك وضحى غداة النحر بالمهجات
وكانت له جيان مثوى فأصبحت ضلوعك مثواه بكل فلاة
يعز علينا أن تهيم فتنطوي كئيباً على الأشجان والزفرات
فلو قبلت للناس في الحب فدية فديناك بالأموال والبشرات
ومن إيثار ديانته، وعلامة حفظه للشرع وصيانته، وقصده مقصد المتورعين، وجريه جري المتشرعين، أن أحد أعيان بلده كان متصلاً به اتصال الناظر(4/164)
بسواده، محتلاً في عينه وفؤاده (1) ، لا يسلمه إلى مكروه، ولا يفرده في حادث يعروه، وكان من الأدب في منزلة تقتضي إسعافه، ولا تورده من تشفيعه في مورد قد عافه، فكتب إليه ضارعاً في رجل من خواصه اختلط بامراة طلقها ثم تعلها، وخاطبه في ذلك بشعر، فلم يسعفه، وكتب إليه مراجعاً:
ألا أيها السيد المجتبى ويا أيها الألمعي العلم
أتتني أبياتك المحكمات بما قد حوت من ببيع الحكم
ولم أر من قببلها مثلها وقد نفثت سحرها في الكلم
ولكنه الدين لا يشترى بنثر ولا بنظام نظم
وكيف أبيح حمى مانعاً وكيف أحلل ما قد حرم
ألست أخاف عقاب الإله وناراً مؤججه تضطرم
أأصرفها طالقاً بتة على أنوك قد طغى واجترم
ولو أن ذاك الغوي (2) الزري ... تثبت في أمره ما ندم ولكنه طاش مستعجلاً فكان أحق الورى بالندم
انتهى كلام الفتح الذي أردت جلبه هنا.
ولا خفاء أن هذه الحكاية مما يدخل في حكايات عدل قاة الأندلس.
ومن نظم ابن الضحى المذكور ما كتب به إلى بعض من يعز عليه (3) :
يا ساكن القلق رفقاً كم تقطعه الله في منزل قد ظل مثواكا
يشيد الناس للتحصين منزلهم وأنت تهدمه بالعنف عيناكا
والله والله ما حبي لفاحشة أعاذني الله من هذا وعافاكا
__________
(1) م: محتفلا في عينيه وفؤاده.
(2) م: الغبي.
(3) القلائد: 218.(4/165)
وله في مثل ذلك (1) :
روحي غليك فرديه إلى جسدي من لي على فقده بالصبر والجلد
بالله زوري كئيباً لا عزاء له وشرفيه ومثواه غداة غد
لو تعلمين بما ألقاه يا أملي بايعتني الود تصفيه يداً بيد
عليك مني سلام الله ما بقيت آثار عينيك في قلبي وفي كبدي
ذكر جملة من نساء أهل الأندلس
664 - وإذا وصلت إلى هذا الموضع من كلام أهل الأندلس، فقد رأيت أن أذكر جملة من نساء أهل الأندلس اللاتي لهن اليد الطولى في البلاغة، كي يعلم أن البراعة في أهل الأندلس كالغريزة لهم، حتى في نسائهم وصبيانهم.
1 - فمن النساء المشهورات بالأندلس، أم السعد بنت عصام الحميري (2) ، من أهل قرطبة، تعرف بسعدونة، ولها رواية عن أبيها وجدها وغيرهما، كما حكاه ابن الأبار في ترجمتها من التكملة.
وأنشدت لنفسها في تمثال نعل النبي صلى الله عليه وسلم تكملة لقول غيرها ما صورته (3) :
سألتم التمثال إذ لم أجد للثم نعل المصطفى من سبيل
لعلني أحظى بتقبيله في جنة الفردوس أسنى مقيل
في ظل طوبى ساكناً آمناً أسقى بأكواس من السلسبيل
وأمسح القلب به عله يسكن ما جاش به من غليل
فطالما استشفى بأطلال من يهواه أهل الحب في كل جيل
وأنشدني ابن جابرالوادي آشي عن شيخه المحدث أبي محمد ابن هرون
__________
(1) في مثل ذلك: سقطت من م.
(2) ترجمة أم السعد في التكملة (رقم: 2128) والذيل والتكملة (آخر قسم الغرباء) والسيوطي: 26؛ وساق ابن عبد الملك نسبها وقال: توفيت بمالقة سنة أربعين وستمائة أو نحوها.
(3) يريد أن البيت الأول من نظمها.(4/166)
القرطبي لجدته سعدونة، وأظنها هذه:
آخ الرجال من الأبا عد والأقارب لا تقارب
إن الأقارب كالعقا رب أو أشد من العقارب
هكذا نقله الخطيب ابن مرزوق، ورأيت نسبة البيتين لابن العميد (1) ، فالله أعلم.
2 - ومنهن حسانة التميمية بنت أبي المخشى الشاعر (2) .
تأدبت وتعلمت الشعر، فلما مات أبوها كتبت إلى الحكم، وهي إذ ذاك بكر لم تتزوج:
إني إليك أبا العاصي موجعة أبا المخشى سقته الواكف الديم
قد كنت أرتع في نعماه عاكفة فاليوم آوي إلى نعماك يا حكم
أنت الإمام الذي انقاد الأنام له وملكته مقاليد النهى الأمم
لا شيء أخشى إذا ما كنت لي كنفاً آوي إليه ولا يعروني العدم
لا زلت بالعزة القعساء مرتدياً حتى تذل إليك العرب والعجم
فلما وقف الحكم على شعرها استحسنه، وأمر لها بإحراء مرتب، وكتب إلى عامله على إلبيرة فجهزها بجهاز حسن.
ويحكى أنها وفدت على ابنه عبد الرححمن بشكية من عامله جابر بن لبيد
__________
(1) انظر يتيمة الدهر 3: 183 - 184 حيث نسبهما لابن العميد.
(2) ترجمة حسانة التيمية في الذيل والتكملة (آخر قسم الغرباء) وكتاب ذكر بلاد الأندلس (109، 117) وذكر أنها كانت بإلبيرة وأورد الأبيات التي كتبتها للحكم بن هشام ثم وفادتها على عبد الرحمن وما أنشدته من شعر؛ وأبو المخشي والدها هو عاصم بن زيد أحد قدامى الشعراء بالأندلس وهو تميمي عبادي وقد قطع لسانه هشام بن عبد الرحمن الداخل (انظر المغرب 2: 123 والجذوة: 377 والبغية رقم: 1543 وقد كتب في أصول النفح خطأ - أبو الحسين) .(4/167)
والي إلبيرة، وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير أملاكها، وحملها في ذلك على البر والإكرام، فتوسلت إلى جابر بخط الحكم، فلم يفدها، فدخلت إلى الإمام عبد الرحمن، فأقامت بفنائه، وتلطفت مع بعض نسائه، حتى أوصلتها إليه، وهو في حالة طرب وسرور، فانتسبت إليه، فعرفها وعرف أباها، ثم أنشدته:
إلى ذي الندى والمجد سارت ركائبي على شحط تصلى بنار الهواجر
ليجبر صدعي إنه خير جابر ويمنعني من ذي الظلامة جابر
فإني وأيتامي بقبضة كفه كذي ريش أضحى في مخالب كاسر
جدير لمثلي أن يقال مروعة لموت أبي العاصي الذي كان ناصري
سقاه الحيا لو كان حياً لما اعتدى علي زمان باطش بطش قادر
أيمحو الذي خطته يمناه جابر لقد سام بالأملاك إحدى الكبائر
ولما فرغت رفعت إليه خط والده، وحكت جميع أمرها، فرق لها، وأخذ خط أبيه فقبله ووضعه على عينيه، وقال: تعدى ابن لبيد طوره، حين رام نقض رأي الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده، ونحفظ بعد موته عهده، انصرفي يا حسانة فقد عزلته لك، ووقع لها بمثل توقيع أبيه الحكم، فقبلت يده، وأمر لها بجائزة، فانصرفت وبعثت إليه بقصيدة منها:
ابن الهشامين خير الناس مأثرة وخير منتجع يوماً لرواد
إن هز يوم الوغى أثناء صعدته روى أنابيبها من صرف فرصاد
قل للإمام أيا خير الورى نسباً مقابلاً بين أباء وأجداد
جودت طبعي ولم ترض الظلامة لي فهاك فضل ثناء رائح غاد
فإن أقمت ففي نعماك عاطفة وإن رحلت فقد زودتني زادي(4/168)
3 - ومنهن أم العلاء بنت يوسف الحجارية (1) .
ذكرها صاحب المغرب وقال: إنها من أهل المائة الخامسة، ومن شعرها:
كل ما يصدر منكم حسن وبعلياكم تحلى الزمن
تعطف العين على منظركم وبذكراكم تلذ الأذن
من يعش دونكم في عمره فهو في نيل الأماني يغبن
وعشقها رجل أشيب، فكتبت إليه:
الشيب لا يخدع فيه الصبا بحيلة فاسمع إلى نصحي
فلا تكن أجهل من في الورى يبيت في الجهل كما يضحي
ولها أيضاً:
افهم مطارح أحوالي وما حكمت به الشواهد واعذرني ولا تلم
ولا تكلني إلى عذر أبينه سر المعاذير ما يحتاج للكلم
وكل ما جئته من زلة فيما أصبحت في ثقة من ذلك الكرم
والحجارية - بالراء المهملة - نسبة إلى وادي الحجارة.
4 - ومنهن أمة العزيز (2) .
قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتاب المطرب من أشعار المغرب: أنشدتني أخت جدي الشريفة الفاضلة أمة العزيز الشريفة الحسينية لنفسها:
__________
(1) ترجمة أم العلاء الحجارية في المغرب 2: 38 والسيوطي: 22 واشعارها في المصدر الثاني.
(2) انظر المطرب: 6، والبيتان ينسبان لغيرها، ولم يقل ابن دحية إن البيتين لها وإنما قال " وأنشدتني ".(4/169)
لحاظكم تجرحنا في الحشا ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا فما الذي أوجب جرح الصدود
قلت: هذا السؤال يحتاج إلى جواب، وقد رأيت لبلدينا القاضي الإمام الفاضل أبي الفضل قاسم العقباني التلمساني رحمه الله تعالى جوابه؛ والغالب أنه من نظمه، وهو قوله:
أوجبه مني يا سيدي جرح بخد ليس فيه الجحود
وأنت فيما قلته مدع فأين ما قلت وأين الشهود
انتهى.
5 - ومنهن أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح ملك المرية (1) .
قال ابن سعيد في المغرب: كانت تنظم الشعر، وعشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية المعروف بالسمار، وعملت فيه الموشحات، ومن شعرها فيه:
يا معشر الناسش ألا فاعجبوا مما جنته لوعة الحب
لولاه لم ينزل ببدر الدجى من أفقه العلوي للترب
ححسبي بمن أهواه، لو أنه فارقني تابعه قلبي
6 - ومنهن الشاعرة الغسانية البجانية (2) - بالنون - نسبة إلى بجانة، وهي كورة عظيمة، وتشتهر بإقليم المرية، وهي من أهل المائة الرابعة، فمن نظمها من أبيات:
__________
(1) أم الكرام، وتكتب أحياناً " أم الكرم " الصمادحية: ترجم لها في المغرب 2: 202 والسيوطي: 20.
(2) ترجمة الغسانية في الجذوة: 379 (وبغية الملتمس رقم: 1585) والصلة: 657 والسيوطي: 107 وقد مدحت خيران العامري، اي أدركت آخر الدولة الأموية وعهد الفتنة وأوائل حكم الطوائف.(4/170)
عهدتهم والعيش في ظل وصلهم أنيق وروض الوصل أخضر فينان
ليالي سعد لا يخاف على الهوى عتاب ولا يخشى على الوصل هجران
7 - ومنهن العروضية مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون الكاتب.
سكنت بلنسية، وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة، لكنها فاقته في ذلك، وبرعت في العروض، وكانت تحفظ الكامل للمبرد والنوادر للقالي وتشرحهما، قال أبو داود سليمان بن نجاح: قرأت عليها الكتابين، وأخذت عنها العروض، وتوفيت بدانية بعد سيدها في حدود الخمسين والأربعمائة، رحمها الله تعالى.
8 - ومنهن حفصة بنت الحاج الركونية (1) الشاعرة الأديبة المشهورة بالجمال، والحسب والمال.
ذكرها الملاحي في تاريخه، وأنشد لها مما قالته في أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ارتجالاً بين يديه:
يا سيد الناس يا من يؤمل الناس رفده
امنن علي بطرس يكون للدهر عده
تخط يمناك فيه: الحمد لله وحده
وأشارت بذلك إلى العلامة السلطانية عند الموحدين، فإنها كانت أن يكتب السلطان بخط غليظ في رأس المنشور الحمد لله وحده.
665 - استطراد بقصتين
وتذكرت بذلك، والشيء بالشيء يذكر، أنه لما قفل السلطان الناصر أمير
__________
(1) ترجمة حفصة الركونية في الإحاطة 1: 499 والمغرب 2: 138 والمطرب: 10 والسيوطي: 40 والتحفة: 167 ومعجم الأدباء 10: 219.(4/171)
المؤمنين ابن أمير المؤمنين يعقوب المنصور ابن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن بن علي سلطان المغرب والأندلس من إفيريقية سنة ثلاث وستمائة بعد الفتح المهدية هنأته الشعراء بذلك، ثم اجتمع أبو عبد الله ابن مرج الكحل بالشعراء والكتاب، فتذكروا الفتح وعظمه، فأنشدهم ابن مرج الكحل في الوقت لنفسه:
ولما توالى الفتح من كل وجهة ولم تبلغ الأوهام في الوصف حده
تركنا أمير المؤمنين لشكره بماأودع السر الإلهي عنده
فلا نعمة إلا تؤدي حقوقها علامته بالحمد لله وحده
فاستحسن الكتاب له ذلك، ووقع أحسن موقع.
وحكى صاحب كتاب روح الشعر وروح الشحر وهو الكاتب أبو عبد الله محمد بن الجلاب الفهري أن أمير المؤمنين يعقوب المنصور لما قفل من غزوة الأراكة المشهورة، وكانت يوم الأربعاء تاسع شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، ورد عليه الشعراء من كل قطر يهنؤنه، فلم يكن لكثرتهم أن ينشد كل إنسان قصيدته، بل كان يختص منها بالإنشاد البيتين أو الثلاثة المختارة، فدخل أحد الشعراء فأنشده:
ما أنت في أمراء الناس كلهم إلا كصاحب هذا الدين في الرسل
أحييت بالسيف دين الهاشمي كما أحياه جدك عبد المؤمن بن علي
فأمر له بالفي دينار، ولم يصل أحداً غيره لكثرة الشعراء، وأخذ بالمثل منع الجميع، أرضى للجميع، وقال: وانتهت رقاع القصائد وغيرها إلى أن حالت بينه وبين من كان أمامه لكثرتها، انتهى.
رجع إلى أخبار حفصة:
وأنشد لها ابو الخطاب في المطرب قولها:(4/172)
ثنائي على تلك الثنايا لأنني أقول على علم وانطق عن خبر
وأنصفها لا أكذب الله إنني رشفت بها ريقاً أرق من الخمر
وتولع بها السيد أبو سعيد ابن عبد المؤمن ملك غرناطة، وتغير بسببها على ابي جعفر ابن سعيد، حتى أدى تغيره عليه أن قتله، وطلب أبو جعفر منها الاجتماع، فمطلته قدر شهرين، فكتب لها:
يا من أجانب ذكر اس مه وحسبي علامه
ما إن أرى الوعد يقضى والعمر أخشى انصرامه
اليوم أرجوك لا أن تكون لي في القيامه
لو قد بصرت بحالي والليل أرخى ظلامه
أنوح وجداً وشوقاً إذ تستريح الحمامه
صب أطال هواه على الحبيب غرامه
لمن يتيه عليه ولا يرد سلامه
إن لم تنيلي أريحي فاليأس يثني زمامه
فأجابته:
يا مدعي في هوى الحس ن والغرام الإمامه
أتى قريضك، لكن لم أرض منه نظامه
أمدعي الحب يثني ياس الحبيب زمامه
ضللت كل ضلال ولم تفدك الزعامه
ما زلت تصحب مذ كن ت في السباق السلامه
حتى عثرت وأخجل ت بافتضاح السآمه
بالله في كل وقت يبدي السحاب انسجامه
والزهر في كل حين يشق عنه كمامه(4/173)
لو كنت تعرف عذري كففت غرب الملامه
ووجهت هذه البيات مع موصل أبياته، بعدما لعنته وسبته، وقالت له: لعن الله المرسل والمرسل، فما في جميعكما خير، ولا لي برؤيتكما حاجة، وانصرف بغاية من الخزي، ولما أطل على أبي جعفر وهو في قلق لانتظاره قال له: ما وراءك يا عصام قال: ما يكون وراء من وجهه خلف إلى فاعلة تاركة، إقرأ الأبيات تعلم، فلما قرأ الأبيات قال للرسول: ما أسخف عقلك وأجهلك! إنها وعدتني للقبة في جنتي المعروفة بالكمامة، سر بنا، فبادروا للكمامة، فما كان إلا قليلاً، وإذا بها قد وصلت، وأراد عتبها، فأنشدت:
دعي عد الذنوب إذا التقينا تعالي لا نعد ولا تعدي
وجلسا على أحسن حالة، وإذا برقعة الكتندي الشاعر لأبي جعفر، وفيها:
أبا جعفر يا ابن الكرام الأماجد خلوت بمن تهواه رغماً لحاسد
فهل في خل قنوع مهذب كتوم عليم باختفاء المراصد
يبيت إذا يخلو المحب بحبه ممتع لذات بخمس ولائد
فقرأها على حفصة، فقالت: لعنه الله، قد سمعنا بالوارش على الطعام والواغل على الشراب، ولم نسمع اسماً لمن يعلم باجتماع محبين فيروم الدخول عليهما، فقال لها: بالله سميه لنكتب له بذلك، فقالت: أسميه الحائل، لأنه يحول بيني وبينك إن وقعت عيني عليه، فكتب له في ظهر رقعته:
يا من إذا ما أتاني جعلته نصب عيني
تراك ترضى جلوساً بين الحبيب وبيني
إن كان ذاك فماذا تبغي سوى قرب حيني(4/174)
والآن قد حصلت لي بعد المطال بديني
فإن أتيت فدفعاً منها بكلتا اليدين
أو ليس تبغي وحاشا ك أن ترى طير بين
وفي مبيتك بالخم س كل قبح وشين
فليس حقك إلا ال خلو بالقمرين
وكتب له تحت ذلك ما كان منها من الكلام، وذيل ذلك بقوله:
سماك من أهواه حائل إن كنت بعد العتب واصل
مع أن لونك مزعج لو كنت تحبس بالسلاسل
فلما رجع إليه الرسول وجده قد وقع بمطمورة نجاسة، وصار هتكة، فلما قرأ البيات قال للرسول: أعلمها بحالي، فرجع الرسول، وأخبرهما بذلك، فكاد أن يغشى عليهما من الضحك، وكتب إليه كل واحد بيتاً، وابتدأ أبو جعفر فقال:
قل للذي خلصنا منه الوقوع في الخرا
ارجع كما شاء الخرا يا ابن الخرا إلى ورا
وإن تعد يوماً إلى وصالنا سوف ترى
يا أسقط الناس ويا أنذلهم بلا مرا
هذا مدى الدهر تلا قي لوأتيت في الكرى
يا لحية تشغف في ال خرء وتشنا العنبرا
لا قرب الله اجتما ... عاً بك حتى تقبرا (1) ومن شعرها:
سلام يفتح في زهره ال كمام وينطق ورق الغصون
__________
(1) سقط البيت من م.(4/175)
على نازح قد ثوى الحشا وإن كان تحرم منه الجفون
فلا تحسبوا البعد ينسيكم (1) ... فذلك والله ما لا يكون وقولها من أبيات:
ولو لم يكن نجماً لكان ناظري وقد غبت عنه مظلماً بعد نوره
سلام على تلك المحاسن من شج تناءت بنعماه وطيب سروره
وقولها:
سلوا البارق الخفاق والليل ساكن أظل بأحبابي يذكرني وهنا
لعمري لقد أهدى لقلبي خفقة وأمطرني منهل عارضه الجفنا
ونسب بعض إليها البيتين الشهيرين (2) :
أغار عليك من عيني رقيبي ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني
والله تعالى أعلم.
وكتبت إلى أبي جعفر:
رأست فما زال العداة بظلمهم ... وعلمهم النامي يقولون ما (3) رأس وهل منكر أن ساد أهل زمانه جموح إلى العليا حرون عن الدنس
وقال ابن دحية: حفصة من أشراف غرناطة، رخيمة الشعر، رقيقة النظم والنثر، انتهى.
__________
(1) ق: العبد ينساكم.
(2) م: ومما ينسب إليها.
(3) م: لم؛ ق: لي.(4/176)
ومن قولها في السيد أبي سعيد ملك غرناطة تهنئه بيوم عيد، وكتبت بذلك إليه:
يا ذا العلا وابن الخلي فة والإمام المرتضى
يهنيك عيد قد جرى فيه بما تهوى القضا
وأتاك من تهواه في قيد الإنابة والرضى
ليعيد من لذاته ما قد تصرم وانقضى
وذكر الملاحي في تاريخه أنها سألتها امرأة من أعيان أهل غرناطة أن تكتب لها شيئاً بخطها، فكتبت إليها:
يا ربة الحسن، بل يا ربة الكرم غضي جفونك عما خطه قلمي
تصفحيه بلحظ الود منعمة لا تحفلي برديء الخط والكلم
واتفق أن بات أبو جعفر ابن سعيد معها في بستان بحور مؤمل، على ما يبيت به الروض والنسيم، من طيب النفحة ونضارة النعيم، فلما حان الانفصال، قال أبو جعفر وكان يهواها كما سبق:
رعى الله ليلاً لم يرح بمذمم عشية وارانا بحور مؤمل
وقد خفقت من نحو نجد أريجة إذا نفحت هبت بريا القرنفل
وغرد قمري على الدوح وانثنى قضيب من الريحان من فوق جدول
يرى الروض مسروراً بما قد بدا له: عناق وضم وارتشاف مقبل
وكتب بها إليها بعد الافتراق، لتجيبه على عادتها في مثل ذلك، فكتبت إليه بقولها:
لعمرك ما سر الرياض بوصلنا ولكنه أبدا لنا الغل والحسد
ولا صفق النهر ارتياحاً لقربنا ولا غرد القمري إلا لما وجد(4/177)
فلا تحسن الظن الذي أنت أهله فما هو في كل المواطن بالرشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه لأمر سوى كيما تكون لنا رصد
وقال ابن سعيد في الطالع السعيد: كتبت حفصة الركونية إلى بعض أصحابها:
أزورك أم تزور فإن قلبي إلى ما تشتهي أبداً يميل
فثغري مورد عذب زلال وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وقد أملت أن تظمى وتضحى إذا وافى إليك بي المقيل
فعجل بالجواب فما جميل إباؤك عن بثينة يا جميل
666 - سلمى بنت القراطيسي
قال التجاني: تشبه أبيات حفصة هذه أبيات أنشدها ابن أبي الحصين في تاريخه لسلمى بنت القراطيسي من أهل بغداد، وكانت مشهورة بالجمال، وهي:
عيون مها الصريم فداء عيني وأجياد الظباء فداء جيدي
أزين بالعقود وإن نحري لأزين للعقود من العقود
ولا أشكو من الأوصاب ثقلاً وتشكو قامتي ثقل النهود
وبلغت هذه الأبيات المقتفي أمير المؤمنين فقال: اسألوا هل تصدق صفتها قولها فقالوا: ما يكون أجمل منها، فقال: اسألوا عن عفافها، فقالوا: هي أعف الناس، فأرسل إليها مالاً جزيلاً، وقال: تستعين به على صيانة جمالها، ورونق بهجتها، انتهى.
رجع إلى حفصة:
وقال أبو جعفر ابن سعيد: أقسم ما رأيت ولا سمعت بمثل ححفصة، ومن(4/178)
بعض ما أجعله دليلاً على تصديق عزمي، وبر قسمي، أني كنت يوماً في منزلي مع من يحب أن يخلى معه من الأجواد الكرام على راحة سمحت بها غفلات الأيام، فلم نشعر إلا بالباب يضرب، فخرجت جارية تنطر من الضارب، فوجدت إمرأة، فقالت لها: ما تريدين فقالت: ادفعي لسيدك هذه الرقعة، فجاءت برقعة فيها:
زائر قد أتى بجيد الغزال مطلع تحت جنحه للهلال
بلحاظ من سحر بابل صيغت ورضاب يفوق بنت الدوالي
يفضح الورد ما حوى منه خد وكذا الثغر فاضح للآلي
ما ترى في دخوله بعد إذن أو تراه لعارض في انفصال
قال: فعلمت أنها حفصة، وقمت مبادراً للباب، وقابلتها بما يقابل به من يشفع له حسنه وآدابه والغرام به، وتفضله بالزيارة دون طلب في وقت الرغبة في الأنس به، انتهى.
667 - أبو جعفر ابن سعيد
قلت: وإذ قد جرى ذكر أبي جعفر ابن سعيد سابق الحلبة فلنلم ببعض أحواله فنقول (1) : هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي، قال قريبه أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد في المغرب: سمعت أبي يقول: لا أعلم في بني سعيد أشعر منه، بل لا أعلم في بلده، وعشق حفصة شاعرة الأندلس، وكانا يتجاوبان تجاوب الحمام، ولما استبد والده بأمر القلعة حين ثار أهل الأندلس بسبب صولة بني عبد المؤمن على الملثمين اتخذه وزيراً، واستنابه في
__________
(1) ترجمة أبي جعفر ابن سعيد في الإحاطة 1: 94 والمغرب 2: 164 والمسالك 11: 279 وما أورده المقري يعد أكثر شيء إسهاباً في أخباره.(4/179)
أموره، فلم يصبر على ذلك، واستعفى فلم يعفه، وقال: أفي مثل هذا الوقت الشديد تركن إلى الراحة فكتب إليه:
مولاي في أي وقت أنال في العيش راحه
إن لم أنلها وعمري ما إن أنار صباحه
وللملاح عيون تميل نحو الملاحه
وكأس راحي ما إن تمل مني راحه
والخطب عني أعمى لم يقترب لي ساحه
وأنت دوني سور من العلا والرجاحه
فأعفني وأقلني مما رأيت صلاحه
ما في الوزارة حظ لمن يريد ارتياحه
كل وقال وقيل ممن يطيل نباحه
أنسي أتى مستغيثاُ فاترك فديت سراحه
فلما قرأ الأبيات قال: لا ينفع الله بما لا يكون مركباً في الطبع مائلة له النفس، ثم وقع على ظهر ورقته: قد تركنا سراح أنسك، وألحقنا يومك بأمسك.
ولما رجع ثوار الأندلس إلى عبد المؤمن وبايعه عبد الملك بن سعيد فغمره إحساناً وبراً، وولي السيد أبو سعيد ابن عبد المؤمن غرناطة طلب كاتباً من أهلها، فوصف له فضل أبي جعفر وحسبه وأدبه، فاستكتبه، فطلب أن يعفيه، فأبى إلى أن شرب أبو جعفر يوماً مع خواصه، وخرج ثاني يوم إلى الصيد وكان اليوم ذا غيم وبرد، ولما اشتد البرد مالوا يوماً مع خواصه، وخرج ثاني يوم إلى الصيد وكان اليوم ذا غيم وبرد، ولما اشتد البرد مالوا إلى خيمة ناطور، وجعلوا يصطلون ويشربون على ما اصطادوا، فحمل أبا جعفر بقية السكر على أن قال يصف يومه، ويستطرد بما في نفسه:
ويوم تجلى فيه الأفق بعنبر من الغيم لذنا فيه باللهو والقنص
وقد بقيت فينا من الأمس فضلة من السكر تغرينا بمنتهب الفرص(4/180)
ركبنا له صبحاً وليلاً وبعضنا أصيلاً وكل إن شدا جلجل رقص
وشهب بزاة قد رجمنا بشهبها طيوراً يساغ اللهو إن شكت الغصص
وعن شفق تغري الصباح أو الدجى إذا أوثقت ما قد تحرك أو قمص
وملنا وقد نلنا من الصيد سؤلنا على قنص اللذات والبرد قد قرص
بخيمة ناطور توسط عذبها جحيم به من كان عذب قد خلص
أدرنا عليه مثله ذهبية دعته إلى الكبرى فلم يجب الرخص
فقل لحريص أن يراني مقيداً بخدمته لا يجعل الباز في القفص
وما كنت إلا طوع نفسي فهل أرى مطيعاً لمن عن شأو فخري قد نقص
فكان في أصحابه من حفظ هذين البيتين، ووشى بهما للسيد، فعزله أسوأ عزل، ثم بلغه بعد ذلك أنه قال لحفصة الشاعرة: ما تحبين في ذلك الأسود وأنا أقدر أن أشتري لك من سوق العبيد عشرة خيراً منه (1) وكان لونه مائلاً إلى السواد، فأسرها في نفسه إلى أن فر عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد إلى ملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش، فوجد له بذلك سبباً، فقتله صبراً بمالقة.
وكان عبد الملك بن سعيد يذكر ابنه ابا جعفر لعبد المؤمن، وينشده من شعره رغبة في تشريفه بالحضور بين يديه وإنشاده في مجلسه، فأمره بحضوره، فعندما دخل عليه قبل يده وأنشد قصيدة منها قوله:
عليك أحالني داعي النجاح ... ونحوك حثني حادي (2) الفلاح وكنت كساهر ليلا طويلا ترنح حين بشر بالصباح
وذي جهل تغلغل في قفار شكا ظمأ فدل على القراح
دعانا نحو وجهك طيب ذكر ويذكر للرياض شذا الرياح
__________
(1) دوزي: أحسن منه.
(2) ق م والمغرب: هادي.(4/181)
وله في غلام أسود ساق ارتجالا
أدار علينا الكاس ظبي مهفهف غدا نشره واللون للعنبر الشحري
وزاد لنا حسناً بزهر كؤوسه وحسن ظلام الليل بالانجم الزهر
وقوله فيه وقد لبس ابيض:
وغصنٍ من ألابنوس ارتدى بعاج كليل علاه فلق
يحاكي لنا الكأس في كفه صباح بجنح علاه شف
وقوله مما كتب به إلى أخيه محمد وقد ورد منه كتاب بإنعام:
وافى كتابك ينبي عن سابغ الانعام
فقلت در ودر من زاخر وغمام
وقوله يذم حماماً:
يا رب حمام لعنا بما أبدى إلينا كل حمام
أفق له قطر حميم كما أصمت سهام من يدي رامي
يخرق سحباً للدخان الذي لاح لغيم العارض الهامي
وقيم يجذبني جذبة وتارة يكسر إبهامي
وجمع الأوساخ من لؤمه في عضدي قصداً لإعلامي
وازدحم الأنذال فيه وقد ضجوا ضجيجاً دون إفهام
وجملة الأمر دخلنا بني سام وعدنا كبني حام
وله في ضد ذلك، والنصف الأخير لابن بقي:
لا أنس ما عشت حماماً ظفرت به وكان عندي أحلى من جني الظفر
نعمت جسمي في ضدين مغتنماً تنعم الغصن بين الشمس والمطر(4/182)
وقال له السيد أبو سعيد ابن عبد المؤمن صاحب غرناطة: ما أنت إلا حسن الفراسة وافر العقل، فقال:
نسبتم لمن هذبتموه فراسةً وعقلاً ولولاكم للازمه الجهل
وما هو أهل للثناء وإنما علاكم لتقليد الأيادي له أهل
وما أنا إلا منكم وإليكم وما في من خير فأنتم له أصل
وقال:
ولما رأيت السعد في صفح وجهه منيراً دعاني ما رأيت إلى الشكر
وأقبل يبدي لي غرائب نطقه وما كنت أدري قبله منزع السحر
فأصغيت إصغاء الجديب إلى الحيا وكان ثنائي كالرياض على القطر
وله:
لا تكثرن عتابي إن طال عنك فراقي
فما يضر بعاد يطول والود باقي
وله:
ما خدمناكم لأن تشفعوا في نا بدار الجزاء يوم الحساب
ذاك يوم أنا وأنت سواء فيه، كل يخاف سوء العقاب
إنما الشأن الذب في هذه الدن يا بسلطانكم عن الأصحاب
وإذا ما خذلتموهم بشكوى وبخلتم عنهم برد الجواب
فاعذروهم أن يطلبوا من سواكم نصرة وارفعوا حجال العتاب
وإذا أرض مجدب لفظته فله العذر في اتباع السحاب
وله وقد تقدم أمامه في ليلة مظلمة أحد أصحابه، فطفئ السراج في يده، فقال لوقته:(4/183)
لي من جبينك هادي في الليل نحو مرادي
فما أريد سراجاً يدلني لرشاد
أنى وكفك سحب يبدو بها ذا اتقاد
وله في قوادة:
قوادة تفخر بالعار أقود من ليل على سار
ولاجة في كل دار وما يدري بها من حذقها داري
ظريفة مقبولة الملتقى خفيفة الوطء على الجار
لحافها لا ينطوي دائماً أقلق من راية بيطار
قد ربيت مذ عرفت نفعها ما بين فتاك وشطار
جاهلة حيث ثوى مسجد عارفة حانة خمار
بسامة مكثرة برها ذات فكاهات وأخبار
علم الرياضيات حوته وسا سته بتقويم وأسحار
مناعة للنعل من كيسها موسرة في حال إعسار
تكاد من لطف أحاديثها تجمع بين الماء والنار
وما سمعنا في هذا الباب أحسن من هذا، والبيت السائر:
تقود، من السياسة، ألف بغل إذا حرنت، بخيط العنكبوت
وشرب ليلة مع أصحاب له وفيهم وسيم، فأعرض بجانبه وقطب، فتكدر المجلس، فقال أبو جعفر:
يا من نأى عنا إلى جانب صد كميل الشمس عند الغروب
لا تزو عنا وجهك المجتلى فالشمس لا يعهد منها قطوب
إن دام هذا الحال ما بيننا فإننا عما قريب نتوب(4/184)
ما تشتكي الدهر ولا خطبه لولاك ما دارت علينا خطوب
وله أيضاً:
أيا لائمي في حمل صحبة جاهل قطوب المحيا سيء اللحظ والسمع
لمنفعة ترجى لديه صحبته وإن كان ذا طبع يخالفه طبعي
كما احتمل الإنسان شرب مرارة ال دواء لما يرجو لديه من النفع
وله، وقد أحسن ما شاء:
تركتكم لا كارهاً في جنابكم ولكن أبى ردي إلى بابكم دهري
وطاحت بي الأطماع غي كل وجهة تنقلني من كل سهل إلى وعر
وما باختيار فارق الخلد آدم وما عن مراد لاذ أيوب بالصبر
ولكنها الأيام ليست مقيمة على ما اشتهاه مشته أمد الدهر
وإنك إن فكرت فيما أتيته تيقنت أن الترك لم يك عن غدر
ولكن لجاج في النفوس إذا انقضى رجعت كما قد عاد طير إلى وكر
وإني لمنسوب إليكم وإن نأت بي الدار عنكم والغدير إلى القطر
وإني لمثن بالذي نلت منكم مقيم على ما تعلمون من البر
وإن خنتكم يوماًفخانني المنى وساء لديكم بعد إحماده ذكري
على أنني أقررت أني مذنب وذو المجد من يغني المقر عن العذر
وله يصف ناراً:
نظرت إلى نار تصول على الدجى إذا ما حسبناها تدانت يبعد
ترفعها أيدي الرياح، وتارة تخفضها مثل المكبر يسجد
وإلا فمن لا يملك الصبر قلبه يقوم به غيظ هناك ويقعد
لها ألسن تشكو بها ما أصابها وقد جعلت من شدة القر ترعد(4/185)
وله على لسان إنسان أخلقت بردته:
مولاي هذي بردتي أخلقت وليس شيء دونها أملك
وصرت من بأس ومن فاقة أبكي إذا أبصرتها تضحك
وله يستدعي أحد أبناء الرؤساء إلى يوم اجتماع:
تداركنا فإنا في سرور وما بسواك يكتمل السرور
أهلة أنسنا بك في تمام أليس تتم بالشمس البدور
وله، وقد خطر على منزله من إليه له ميل، وقال: لولا أخاف التثقيل لدخلت، وانصرف، فلما أعلم أبو جعفر كتب إليه:
مولاي لم تقصد تعذيب من يهوى وما قصدك مجهول
طلبت تخفيفاً ببعد وفي تخفيف من تهواه تثقيل
غيرك إن زار جنى ضجرة ولج منه القال والقيل
وأنت إن زرت حياة وما ال ... عيش إذا ما طال مملول (1) وله، وقد جلس إلى جانبه رجل تكلم فأنبأ عن علو قدر، فسأله عن بلده، فقال: إشبيلية، ففكر ثم قال:
يا سيداً لم أكن من قبل أعرفه حتى تكلم مثل الروض بالعبق
وزادني أن غدا في حمص منشؤه لقد تشاكل بين البدر والأفق
وله وقد حضر مجلساً مع إخوان له في انبساط ومزاح، فدخل عليهم أحد ظرفاء (2) الغرباء بوجه طلق وبشاشة، فاهتز لما سمع بينهم، وجعل يصل ما
__________
(1) دوزي: ممطول.
(2) م: أحد الغرباء.(4/186)
يحتاج من مزاحهم إلى صلة بأحسن منزع وأنبل مقصد، فأنشده أبو جعفر ارتجالاً:
يا سيداً قد ضمه مجلس حل به للمزح إخوان
لم نلق من فجأته خجلة ولا ثنانا عنه كتمان
كأنه من جمعنا واحد لم ينب منا عنه إنسان
ولم نكن ندريه لكن بدا في وجهه للظرف عنوان
وله وقد لقي أحد إخوانه وكان قد أطال الغيبة عنه، فدار بينهما ما أوجب أن قال:
إن لحت لم تلمح سواك الأعين أو غبت لم تذكر سواك الألسن
أنت الذي ما إن يمل حضوره ومغيبه السلوان عنه يؤمن
وله وهو من آياته:
إني لأحمد طيفها وألومها والفرق بينهما لدي كبير
هي إن بدت لي شيبة في جفوة والطيف في حين المشيب يزور
وإذا توالى صدها أو بينها وافى على أن المزار عسير
وله وقد سافر بعض الأرذال بماله، فنكب في سفره، وعاد فقيراً بأسوإ أحواله:
اغد (1) ولا يغن عنك القيل والقال ... فالجود مبتسم والفضل يختال قالوا فلان رماه الله في سفر رآه رأياً بما حالت به الحال
فآب منه سليباً مثل مولده عليه ذل وتفجيع وإقلال
فقلت لا خفف الرحمن عنه، فلم يكن لديه على القصاد إقبال
فقل له: دام في ذل ومسغبة ولا أعيدت له في المال آمال
__________
(1) ق م: أعد.(4/187)
قد كان حمقك حسن المال يستره فاليوم أصبحت لا عقل ولا مال
وله وقد سافر أحد الرؤساء من أصحابه:
أيا غائباً لم يغب ذكره ولا حال عن وده حائل
لئن مال دهري بي عنكم فقلبي نحوكم مائل
فإني شاهدت منكم علاً من العجز قس بها باقل
لئن طال بي البعد عن لحظكم فما في حياتي إذاً طائل
وله وهو من حسناته:
شقت جيوب فرحاً عندما آبت، وفي البعد تشق القلوب
فقلت هذا موقف ما يشق ال جيب فيه غير صب طروب
فابتسمت زهواً وقالت كذا ال أفق لعود الشمس شق الجيوب
وله وقد أجمع (1) رأيه على أن يفد على أمير المؤمنين عبد المؤمن، فأخذ في ذلك مع أصحاب له، فجعلوا يثنونه عن ذلك، وظهر عليهم الحسد له، فقال:
سر نحو ما تختار لا تسمعن ما قاله زيد ولا عمرو
كلهم يحمد ما رمته مهما يساعد رأيك الدهر
عجبت ممن رام صدر العلا يروم أن يصفو له دهر
فقالوا له: اتهمتنا في الود، فقال: لو لم أتهمكم كنت أتهم عقلي، والعياذ بالله تعالى من ذلك، وكيف لا أتهمكم وقد غدوتم تثنونني عن زيارة خليفة لوالدي عنده مكان، وله علينا إحسان، ولي شافع عنده مقرب لمجلسه عقلي ولساني، ولكنني أنا المخطئ الذي عدلت عن العمل بقول القائل (2) :
__________
(1) دوزي: اجتمع.
(2) هو سعد بن نائب (الحماسية: 10 من المرزوقي) .(4/188)
ولم يستشر في أمره غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وله في شعاع القمر والشمس على النهر:
ألا حبذا نهر إذا ما لحظته أبى أن يرد اللحظ عن حسنه الأنس
ترى القمرين الدهر قد عنيا به يفضضه بدر وتذهبه شمس
وله في والده وقد سن عليه درعاً:
أيا قائد الأبطال في كل وجهة تطير قلوب الأسد فيها من الذعر
لقد قلت لما أن رأيتك دارعاً أيا حسن ما لاح الحباب على البحر
وأنشدت والأبطال حولك هالة أيا حسن ما دار النجوم على البدر
وفوله وقد بلغه أن حاسداً شكره:
متى سمعت ثناء عمن غدا لك حاسد
فكان منك انخداع به فرأيك فاسد
بصدره منك نار لهيبها غير خامد
وعله لك ما زد ت في السعادة زائد
وإنما ذاك منه كالحب في فخ صائد
وله:
أبصره من يلوم فيه فقال ذا في الجمال فائق
أما ترى ما دهيت منه كان عذولاً فصار عاشق
وله في أبيه وقد سجنه عبد المؤمن:
مولاي إن يحبسك خير خليفة فبذاك فخرك واعتلاء الشأن
فالجفن يحبس نوره من غبطة والمرهفات تصان في الأجفان(4/189)
فابشر فنزع الدر من أصدافه يعليه للأسلاك والتيجان
ولئن غدا من ظل دونك مطلقاً إن القذى ملقىً عن الأجفان
والعين تحبس دائماً أجفانها وهداية الإنسان بالإنسان
والطرس يختم ما حواه نفاسة ويهان ما يبدو من العنوان
فاهنأ به لكن ملياً مكثه سجناً لغير مذاة وهوان
فلتعلون رغم الأعادي بعده بذرى الخليفة في ذرى كيوان
مولاي غيرك يعزى بما لم يزل يجري على الكرام، ويذكر تأنيساَ له في الوحشة بما يطرأ من الكسوف والخسوف على الشمس المنيرة والبدر التمام:
وأنت تعلم الناس التعزي ... وخوض الموت في الحرب السجال (1) وقد كان مولاي أنشدني لعلي بن الجهم قائلاً: إن أحداً لم يسل نفسه عما ناله من السجن بمثله (2) :
قالوا سجنت فقلت ليس بضائر سجني وأي مهند لا يغمد
الأبيات، ماذا تفيدك من العلم وصدرك ينبوعه، وبحاطرك لا يزال غروبه وطلوعه، وإنما هي عادة تبعناها أدباً، وقضينا بها في النفس من الإعلام بالتوجع والتفجيع أرباً، ولعل الله تعالى يتبع هذه التسلية بتهنئة، ويعقب بالنعمة هذه المرزئة. فقال: فأمر الملك بتسريحه إثر ذلك، فلما اجتمع وجهه بوجهه جعل يحمد الله جهراً ويغرد بهذه الأبيات، وكان سراحه بكرة:
طلعت علينا كالغزالة بالضحى وعزك طماح ووجهك مشرق
__________
(1) البيت للمتنبي من قصيدته في رثاء أم سيف الدولة.
(2) انظر ديوان ابن الجهم: 41.(4/190)
فغفراً لذنب الدهر أجمع إنه أتى اليوم من حسناه ما هو أليق
فلح في سماء العز بالسعد طالعاً وقدرك سام أفقه ليس يلحق
فقد سرحت لما غدوت مسرحاً قلوب وأفكار وسمع ومنطق
فاهتز أبوه من شدة الطرب، وقال له: والله إنك لتملا الدلو إلى عقد الكرب.
وله يعتذر، وقد دعي إلى مجلس أنس: سيدي ساعدك سولك، لما وصل إلى أخيك المعتد بك رسولك، قابله بما يجب من القبول، وأبدى له من الشغل ما منع من الوصول:
ومن ذا الذي يدعى لعدن فلا يرى على الرأس إجلالاً إليها يبادر
ولكن الاضطرار، لا يكون معه اختيار، وإني لأشوق الناس إلى مشاهدة تلك المكارم، وأحبهم في محاضرة تلك الآداب المترادفة ترادف الغمائم، ولكن شغلني عارض قاطع، وبرغمي أني لدعوتك عاص وله طائع، وإني بعد ذلك لحامل على تلك السجية الكريمة في الغفران، مستجير بالخلاص الذي أعهد من خرق فلان ومكر فلان، فإني متى غبت لا أعدم مترصداً قرحة يقع عليها ذبابه، ومستجمعاً إذا أبصر فرصة سل عليها ذبابه:
ولكنني أدري بأني نازح ودان سواء عند من يحفظ العهدا
وإني لأقول وقد غبت عن تلك الحضرة العلية، وجانبت ذلك الجناب السامي والمثابة السنية:
لئن غبت عمن نوره نور ناظري فحسبي لديه أن أغيب عقابا
وسوف أوافيه مقراً بزلتي وفي حلمه أن لا يطيل حسابا
وله في قصر النهار، ولو لم يكن له غيره لكفاه:(4/191)
لله يوم مسرة أضوا وأقصر من ذباله
لما نصبنا للمنى فيه بأوتار حباله
طار النهار به كمر تاع وأجفلت الغزاله
وهذا المعنى لم يسبق إليه، ولم يقدر أحد أن ينتزعه من يديه.
ولما وصل صحبة والده إلى إشبيلية افتتن بواديها، واعتكف على الخلاعة فيها، مصعداً ومنحدراً بين بساتينه ومنازهه، فمر ليلة بطريانة فمال نحو منزه فيه طرب سمعه، فاستوقفه هنالك، وهو في الزورق متكئ وأصحابه وأصحاب أبيه مظهرون انحطاطهم عنه في المرتبة، فأخرج رأسه أحد الأنذال المعتادين بالنادر من شرجب، - والشرجب: هو الدرابزين من خشب فيه طاقات، وطريانة مقابلة إشبيلية، وبها المنازه والأبنية الحسنة - فضرط له ذلك النذل بغاية ما قدر، فرفع رأسه وقد أخذ منه السكر، ولم يعتد مثل ذلك في بلده، وقال: يا سفلة (1) ، أتقدم علي بهذا قبل معرفتي! فثنى عليه والحدة أخرى، ثم رفع ثوبه عن ذكره وهو منعظ، وقال: يا وزير اجعل هذا عندك وديعة حتى أعرف من تكون، ثم رفع ما على استه من ثيابه وقال: واعمل من هذا غلافاً للحيتك فإذا عرفناك ذهبناه لك؛ فغلبه الضحك على الحرج، وجعل أصحابه يقولون له: ما سمعت أن من دخل هذا الوادي يعول على هذا وأمثاله فمال عن ذلك المنزه قليلاً، وأطرق ساعة وقال:
نهر حمص لا عدمنا ك فما مثلك نهر
فيك يلتذ ارتياح أبد الدهر وسكر
كل عمر قد خلا من ك فما ذلك عمر
خصه الله بمعنى فيه للألباب سر
__________
(1) م: يا سفيه.(4/192)
يلعن الإنسان فيه وهو يصغي ويسر
ثم سأل بعد ذلك عن رب المنزه، فسمي له؛ وأعلم أن ابن سيد الشاعر المشهور باللص كان حاضراً وأنه أملى على السفلة (1) ما قال وصنع. فكتب له أبو جعفر:
ياسميي وإن أفاد اشتراك غير ما يرتضيه فضل وود
أكذا يزدرى الخليل بأفق أنت فيه ولم يكن منك رد
لا أدري من سلطت وغداً ولكن ليس يخفى عليك من هو وغد
فلما وقف على هذه الأبيات كتب له: مولاي وسيدي، وأجل ذخري للزمان وعضدي، الذي أفخر بمشاركة اسمه، وتتيه هذه الصناعة بذكره ورسمه (2) :
وخير الشعر أشرفه رجالاً وشر الشعر ما قال العبيد
سلام كتسنيم، على ذلك المقام الكريم، ورحمة الله تعالى وبركاته، وإن كان مولاي لم يفاتحني بالسلام، ولا رآني أهلاً لمقاومة الكرام، لكن حط قدري عنده ما نسب لي من الذنب المختلق، ولا والله ما نطقت بلسان ولا كنت ممن رمق، بل الذي زور لسيدي في هذه الوشاية كان المعين (3) عليها، والملم إليها، فبادر إليكم قبل أن أسبقه فاتسم بأسقط خطتين: النذالة الأولى والوشاية الأخرى، ولولا أن المجالس بالأمانات، وأن الخلاعة بساط يطوى على ما كان فيه، لكنت أسبق منه، لكني يأبى ذلك خلقي، وما تأدبت به، ومع ذلك فإني أقول:
__________
(1) م: السفيه.
(2) م: ووسمه.
(3) ق: العين.(4/193)
فإن كنت ذا ذنب فقد جئت تائباً ومثلك غفار ومثلك قابل
ولولا ما أخشى من التثقيل، وما أتوقع من الخجل إذا التقى الوجهان، لأتيت ختى أبلغت في الاعتذار بالمشافهة ما لا يسع القرطاس، لكنني متكل على حلم سيدي وإغضائه، متوسل إليه في الغفران بعلائه، وكتب ذلك شعراً طويلاً منه:
ولا غرو أن تعفو وأنت ابن من غدا تعود عفواً عن كبار الجرائم
لكم آل عمار بيوت رفيعة تشيد من كسب الثنا بدعائم
إذا نحن أذنبنا رجونا ثوابكم ولم نقتنع بالعفو دون المكارم
وإنك فرع من أصول كريمة ولا تلد الأزهار غير الكمائم
وإني مظلوم لزور سمعته مقد جئت أرجو العفو في زي مظلوم
فأجابه أبو جعفر بما نصه: سيدي الذي أكبر قدره، وأجل (1) ذكره، وأجزل شكره، وصل جوابك الذي لو كان لك من الذنب ما تحمله ابن ملجم، لأضربت لك عنه صفحاً ونسيت بما تأخر ما تقدم، ومعاذ الله أت أنسب لفضلك عيباً، فأذم لك حضوراً أو غيباً، وإنما قصدت بالمعاتبة، ما تحتها من المطارحة والمداعبة، على أن سيدي لو تيقنت أنه ظالم لأنشدت:
منذ غدا طرفك لي ظالماً آليت لا أدعو على ظالم
لكنني أتيقن خلاف ذلك، وأعلم حتى كأني حاضر ما كان هنالك، وقد أطلت عليك، وبعد هذا فلتعتمد على أن تصل إلي أو أصل إليك، فهذا يوم كما قال البستي (2) :
يوم له فضل على الأيام مزج السحاب ضياءه بظلام
__________
(1) م: وأجمل.
(2) اليتيمة 4: 304.(4/194)
فالبرق يخفق مثل قلب هائم والغيم يبكي مثل جفن هام
فالختر لنفسك أربعاً هن المنى وبهن تصفو لذة الأيام
وجه الحبيب ومنظراً مستشرفاً ومغنياً غرداً وكأس مدام
وقد حضرت عند محبك الثلاثة فكن رابعها، ونادت بك همم الأماني فكن بفضلك سامعها، ومركز أفلاك هذه المسرة حين كتب هذه الرقعة إلى مجدك منزه مطل على جزيرة شنتبوس لا زال أترنم فيه بقول ابن وكيع:
قم فاسقني والخليج مضطرب والرح تثني ذوائب القضب
كأنها والرياح تعطفها صف قناً سندسية العذب
والجو في حلة ممسكة قد طرزتها البروق بالذهب
فإن كان سيدي في مثل هذا المكان، جرينا إليه جري الحلبة لخصل الرهان، وإن كان في كسر بيته فليبادر إلى محل تقصر عنه همة قيصر وكسرى، وإن أبطأ فإن الرقاع بالاستدعاء لا تزال عليه تترى، وإن كان لا يجدي هذا الكلام، فما نقنع من العقوبة المؤلمة بالملام، وعلى المودة المرعية الداعية أكمل ما يكون من السلام.
فعندما قرأ الرقعة ركب إليه زورقاً وصنع هذه الأبيات في طريقه، فعند وصوله أنشده إياها:
ركبت إليك النهر يا بحر فالقنا بما يتلقى جوده كل قادم
بفيض ولكن من مدام وهزة ولكن إلى بذل الندى والمكارم
وكنا نسمي قبل كونك حاتماً ومذ لحت فينا لم نعد ذكر حاتم
بآل سعيد يفخر السعد والعلا فأيديهم تلغي أيادي الغمائم
فامتلأ أبو جعفر سروراً، وخلع عليه ما كان عنده هناك، ووعده بغير ذلك، فأطرق لينظم شيئاً في شكره، فأقسم عليه ألا يشغل خاطره في ذلك(4/195)
الوقت عن الارتياح، وحث أكؤس الراح، فأقبلوا على شأنهم، وكان ابن سيد في ذلك الحين متستراً بشرب الراح، وكان عند أبي جعفر خديم كثير النادر والالتفات، يخاف أهل التستر من مثله، فقال ابن سيد: هات دواة وقرطاساً، فأعطاه ذلك، فكتب:
يا سيدي قد علمت أني بهذه الحال لا أظاهر
أخشى أناساً لهم عيون نواظر مني المعاير
أحذرهم طاقتي وإني وثقت بالله فهو غافر
ولا تقس حالتي بحال ... منك (1) اعتذار فالفرق ظاهر فأنت إن كنت ذا جهار غيرمبال فالجاه ساتر
لا تخش من قول ذي اعتراض ولا حسود عليك قادر
وإنني قد رأيت ممن يكثر القول وهو ساخر
ما قد أراب العفيف منه ضحك وظن به يجاهر
أخشى إذا قيل كيف كنتم قال بحال تسر ناظر
واللص ما بيننا صريعاً بكل كأس عليه دائر
مطرحاً للصلاة يصغي لصولة الدف والمزامر
فأغتدي سيدي مشاراً إلي مهما مررت خاطر
وإن أتيت الملوك أبغي نوالهم قيل أي شاعر
يذكر في شعره خلافاً (2) ... وهو لزور المحال ذاكر بالأمس قد كان ذا انتهاك فما له بعد ذاك عاذر
إن كان هذا فإن حظي وافى لربح فآب خاسر
فقال أبو جعفر: يا أبا العباس، اشرب هنيئاً غير مقدر ما قدرت، فلو كان
__________
(1) م: هذا.
(2) م: غلافاً.(4/196)
هذا المضحك على الصفة التي ذكرت كان الذنب منسوباً إلي في كوني إحضر في مجلسي من يهتك ستر المستةرين، ومهما تره هنا بهذه الخفة والطيش والتسرع للكلام فإنه إذا فارقنا أثقل من جبل، وأصمت من سمكة، متزي بزي خطيبفي نهاية من السكون والوقار:
وتحت الثياب العار لو كان باديا
فكن في أمن ما شربت معي، فإني والله لا أسمع أحداً من أصحابنا تكلم في شأنك بأمر إلا عاقبته أشد العقاب، والذنب في ذلك راجع إلي. فسكن ابن سيد وجعل يحث الأقداح، ويمرح أشد المراح، على ما كان يظهره من الانقباض، تقية لما يخشاه من الاعتراض، إلى أن قاربت الشمس الغروب، ومد لها في النهر معصم مخضوب، فقال أبو جعفر:
انظر إلى الشمس قد أل صقت على الأرض خدا
فقال ابن سيد:
هي المرآة ولكن من بعدها الأفق يصدا
فقال أبو جعفر:
مدت طرازاً على النه ر عندما لاح بردا
فقال ابن سيد:
أهدت لطرفك منه ما للأكارم يهدى
فقال أبو جعفر:
درع اللجين عليه سيف من التبر مدا(4/197)
فقال ابن سيد:
فاشرب عليه هنيئاً وزد سروراً وسعدا
ثم لما أظلم الليل نظروا إلى منارة شنتبوس قد عكست مصابيحها في النهر، وإلى النجوم قد طلعت فيه، فقال ابن سيد:
اخلع على النهر ثوب ال كرى فذلك واجب
فقال أبو جعفر:
وانظر إلى السرج فيه كالزهر ذات الذوائب
وحين صفق للأف ق نقطته الكواكب
فقبل ابن سيد رأسه، وقال: ما تركت بعد هذا مقالاًلقائل، ثم جعلوا يشربون.
فقال أبو جعفر:
سقني والأفق برد بنجوم الليل معلم
فقال ابن سيد:
وبساط النهر منها وهو فضي مدرهم
فقال أبو جعفر:
ورواق الليل مرخى والشذا بالروض قد نم
فقال ابن سيد:
والندى في الزهر منثو ر على عقد منظم
فقال أبو جعفر:
والصبا جرت على مي ت الطلى كف ابن مريم(4/198)
فقال ابن سيد:
كان مبهوتاً فلما نفخت فيه تكلم
فقال أبو جعفر:
وكأن الكأس والقه وة دينار ودرهم
فقال ابن سيد:
وبدا الدف يناغي ال عود والمزمار هيم
فقال أبو جعفر:
فأذاع الأنس منا كل ما قد كان مكتم
فقال ابن سيد:
أي عيش يهتك المس تور لو كان ابن أدهم
فقال أبو جعفر:
هكذا العيش ودعني من زمان قد تقدم
فقال ابن سيد:
حين لا خمر سوى ما بكؤوس البيض من دم
فقال أبو جعفر: والله ما تعديت ما جال الساعة في خاطري، فإني ذكرت أيام الفتنة وما كابدنا فيها من المحن، وأنا لم نزل في مصادمة ومقارعة، ثم رأيت ما نحن الآن فيه بهذه الدولة السعيدة التي أمنت وسكنت، فشكرت الله تعالى، ودعوت بدوامها.
ثم لما طلع الفجر قال أبو جعفر:
نثر الطل عقوده ونضا الليل بروده(4/199)
فقال ابن سيد:
وبدا الصبح بوجه مطلع فينا سعوده
فقال أبو جعفر:
وغدا ينشر لما فتر الليل بنوده
فقال ابن سيد:
فهلم اشرب وقبل من غدا ينطق عوده
فقال أبو جعفر:
ثم صافحه على رغ م النوى وافرك نهوده
فقال ابن سيد:
واجعل الشكر على ما نلته منه جحوده
فقال أبو جعفر: يا أبا العباس، إنك أغرت على التهامي في هذا البيت في قوله:
وشكر أيادي الغانيات جحودها
قال: فلم لقبت باللص لولا هذا وأمثاله ما كان ذلك.
واللص المذكور اسمه أحمد بن سيد، يكنى أبا العباس، وهو من مشهوري شعراء الأندلس. ولما أنشد أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح قوله:
غمض عن الشمس واستقصر مدى زحل وانظر إلى الجبل الراسي على جبل
قال له: أنت شاعر هذه الجزيرة، لولا أنك بدأتنا بغمض وزحل والجبل.
ومن بديع نظم اللص قوله:
سلبت قلبي بلحظ أبا الحسين خلوب(4/200)
فلم أسمي بلص وأنت لص القلوب
ولما اجتمع أبو جعفر ابن سعيد المترجم به باللص أبي العباس المذكور في جبل الفتح عندما وفد فضلاء الأندلس على عبد المؤمن، واستنشده، فجعل ينشده ما استجفاه به لخروجه عن حلاوة منزع أبي جعفر، إلى أن أنشده قوله:
وما أفنى السؤال لكم نوالا ولكن جودكم أفنى السؤالا
فقال له أبو جعفر: لا جعلك الله في حل من نفسك، يكون في شعرك مثل هذا وتنشدني ما كان يحملني على أن أسأت معك الأدب والله لو لم يكن لك غير هذا البيت لكنت به أشعر أهل الأندلس.
وكتب إلى أبي جعفر أبو الحكم بن هرودس (1) في يوم بارد بغرناطة:
يا سميي، في علم مجدك ما يح تاج فيه هذا النهار المطير
نديف الثلج فيه قطناً علينا ففرنا بعدلكم نستجير
والذي أبتغيه في اللحظ منه ... ورضاب الذي هويت نظير (2) يوم قر يود من حل فيه لو تبدي لمقلتيه سعير
فوجه بما طلب، وجاوبه بما كتب:
أيها السيد الأجل الوزير الذي قدره معلى خطير
قد بعثنا بما أشرت إليه دمت للأنس والسرور تشير
كان لغزاً فككتهدون فكر إن فهمي بما تريد خبير
__________
(1) هو أبو الحكم أحمد بن هردوس كاتب عثمان بن عبد المؤمن ملك غرناطة (توفي سنة 573 أو في التي قبلها) انظر المغرب 2: 210 والحاشية، وسيأتي ذكره عند الحديث عن الموشحات والأزجال.
(2) المغرب: ورضاه في كل أمر يسير.(4/201)
ومن نظم أبي الحكم:
إذا ضاقت عليك فول عنها وسر في الأرض واختبر العبادا
ولا تمسك رحالك في بلاد غدوت بأهلها خبراً معادا
668 - أخيل الرندي
ولما مدح أبو القاسم أخيل بن إدريس الرندي عبد المؤمن في جبل الفتح بقصيدة أولها:
ما الفخر إلا فخر عبد المؤمن أثنى عليه كل عبد مؤمن
قال أبو جعفر ابن سعيد: دعاه التجنيس إلى الضعف والخروج عن المقصود، والأولى أن لو قال " شاد الخلافة وهو أول مبتني ".
ومن هذه القصيدة:
أما ابن سعد فهو أول مارق يا ليته بأبيه سعد يكتني
ما قدر مرسية وحكمك نافذ إن شئت من عدن لأرض المعدن
فلما أكملها قال له عبد المؤمن: أجدت، فقال ارتجالاً:
من لي أمير المؤمنين بموقفي هذا وقولك لي أجدت ولم تن
فلقد مدحتك خائفاً أن لا يفي لسني بما يعيي جميع الألسن
ولابن إدريس المذكور:
أيها البدر هل علمت بأني لم أبت راعياً محياك ودا
أنا لو بات من حكيت بجنبي لم يكن عنه ناظري يتعدى(4/202)
وله:
شتان ما بيني وبينك في الهوى أنا أبتغيك وأنت عني تصدف
وإذا عتبتك وارعويت يبين لي في الحين منك بأن ذاك تكلف
ياليت شعري كيف يقضى وصلنا والعمر يفنى والمواعد تخلف
وقيل له لما هجره عبد المؤمن: اكتب له واعتذر وبرهن عن نفسك، فقال: ما يكون أمير المؤمنين هجرني إلا وقد صح عنده، ولا أنسبه في أمري لقلة التثبت والجور، وإنما أرغب في عفوه ورحمته، فكأن هذا الكلام ألان عليه قلب عبد المؤمن لما بلغه، وكان قد نقل عنه حساده أنه قال: كيف تصح له الخلافة، وليس بقرشي
669 - ترجمة النص
ولا بأس أن نزيد من أخبار اللص الذي جرى ذكرنا له مع أبي جعفر ابن سعيد فنقول (1) :
وهو النحوي المبرز في الشعر أبو العباس أحمد بن سيد، الإشبيلي، ذكره ابن دحية في المطرب وأخبر أنه شيخه، وختم كتاب سيبويه مرتين على النحوي أبي القاسم ابن الرماك، واجتمع به أبو جعفر ابن سعيد بجبل الفتح كما سبق، ولقب اللص لإغارته على أشعار الناس.
وله:
شاموا الردى فأشموا الترب آنفهم ولم يبالوا بما فيها من الشمم
ثم جعل يقول: قطع الله لساني إن كان اليوم على وجه الأرض من يعرف
__________
(1) ترجمة اللص في المغرب 1: 252 والمطرب: 200 وبغية الوعاة: 149 والتكملة: 80.(4/203)
أن يسمعه، فضلاً عن أن يقوله.
وله القصيدة الشهيرة:
نداك الغيث إن محل توالى وأنت الليث إن شاءوا القتالا
سلبت الليث شدة ساعديه نعم، وسلبت عينيه الغزالا
وما أفنى السؤال لكم نوالا ولكن جودكم أفنى السؤالا
وقد تقدم في حلقة خياط، وهو من محاسنه:
كأنها بيضة وخز الرماح بها بادوقونسها بالسيف قد قطعا
وقال:
فالليل إن واصلت كالليل إن هجرت أشكو من الطول ما أشكو من القصر
رجع إلى أخبار أبي جعفر ابن سعيد
قال في الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة ما نصه: لما قبض على الوزير أبي جعفر ابن عبد الملك بن سعيد العنسي، وثقف بمالقة، دخل إليه (1) ابن عمه، ووصل إلى الاجتماع به ريثما استؤذن السيد أبو سعيد ابن الخليفة عبد المؤمن في أمره، قال: فدمعت عيناي حين رأيته مكبولاً، فقال لي: أعلي تبكي بعدما بلغت من الدنيا أطايب لذاتها، فأكلت صدور الدجاج، وشربت في الزجاج، ولبست الديباج، وتمتعت بالسراري والأزواج، واستعملت من الشمع السراج الوهاج، وركبت كل هملاج، وها أنا في يد الحجاج، منتظر محنة الحلاج، قادم على غافر لا يحتاج إلى اعتذار ولا احتجاج، قال فقلت: أفلا يؤسف
__________
(1) م: عليه.(4/204)
على من ينطق بهذا الكلام، ثم يفقد وقمت عنه فكان آخر العهد به، انتهى.
رجع إلى أخبار النساء
9 - ومن أشهرهن بالأندلس ولادة بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن ابن عبيد الله بن الناصر لدين الله (1) ، وكانت واحدة زمانها، المشار إليها في أوانها، حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة، كتبت بالذهب على طرازها الأيمن:
أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وكتبت على الطراز الأيسر:
وأمكن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها
وكانت مع ذلك نشهورة بالصيانة والعفاف، وفيها خلع ابن زيدون عذاره، وقال فيها القصائد الطنانة والمقطعات، وكانت لها جارية سوداء بديعة المعنى، فظهر لولادة أن ابن زيدون مال إليها، فكتبت إليه:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصناً مثمراً بجماله وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني بدر السما لكن ولعت، لشقوتي، بالمشتري
ولقبت ابن زيدون بالمسدس، وفيه تقول:
ولقبت المسدس وهو نعت تفارقك الحياة ولا يفارق
فلوطي ومأبون وزان وديوث وقرنان وسارق
وقالت فيه:
__________
(1) ترجمة ولادة في الذخيرة 1/1: 376 والمطرب: 7 والصلة: 657 والسيوطي: 101.(4/205)
إن ابن زيدون على فضله يغتابني ظلماً ولا ذنب لي
يلحظني شزراً إذا جئته كأنني جئت لأخصي علي
وقالت فيه أيضاً:
إن ابن زيدون على فضله يعشق قضبان السراويل
لو أبصر الأير على نخلة صار من الطير الأبابيل
وقالت ولادة تهجو الأصبحي:
يا أصبحي اهنأ فكم نعمة جاءتك من ذي العرش رب المنن
قد نلت باست ابنك ما لم ينل براج بوران أبوها الحسن
وكتبت إليه لما أولع بها بعد طول تمنع:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر
ووفت بما وعدت، ولما أرادت الانصراف ودعته بهذه الأبيات:
ودع الصبر محب ودعك ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن زاد في تلك الخطى إذ شيعك
يا أخا البدر سناءً وسناً حفظ الله زماناً أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم بت أشكو قصر الليل معك
وكتبت إليه:
ألا هل لنا من بعد هذا التفرق سبيل فيشكو كل صب بما لقي
وقد كنت أوقات التزوار في الشتا أبيت على جمر من الشوق محرق
فكيف وقد أمسيت في حال قطعة لقد عجل المقدور ما كنت أتقي(4/206)
تمر الليالي لا أرى البين ينقضي ولا الصبر من رق التشوق معتقي
سقى الله أرضاً قد غدت لك منزلاً بكل سكوب هاطل الوبل مغدق
فأجابها بقوله:
لحى الله يوماً لست فيه بملتق محياك من أجل النوى والتفرق
وكيف يطيب العيش دون مسرة وأي سرور للكئيب المؤرق
وكتب في أثناء الكلام بعد الشعر: وكنت ربما حثثتني على أن أنبهك على ما أجد فيه عليك نقداً، وإني انتقدت عليك قولك:
سقى الله أرضاً قد غدت لك منزلاً
فإن ذا الرمة قد انتقد عليه قوله مع تقديم الدعاء بالسلامة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
إذ هو أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له، وأما المستحسن فقول الآخر:
فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي
وبسببها خاطب ابن عبدوس بالرسالة المشهورة التي شرحها غير واحد من أدباء المشارقة كالجمال ابن نباتة والصفدي وغيرهما، وفيها من التلميحات والتنديرات ما لا مزيد عليه.
وقد ذكر ولادة ابن بشكوال في الصلة فقال: كانت أديبة، شاعرة، جزلة القول، حسنة الشعر، وكانت تناضل الشعراء، وتساجل الأدباء، وتفوق البرعاء، وعمرت عمراً طويلاً، ولم تتزوج قط، وماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين، وقيل: أربع وثمانين وأربعمائة، رحمها الله تعالى.(4/207)
وكان أبوها المستكفي بايعه أهل قرطبة لما خلعوا المستظهر، كما ألمعنا به في غير هذا الموضع، وكان جاهلاً ساقطاً، وخرجت هي في نهاية من الأدب والظرف: حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب، على أنها أوجدت للقول فيها السبيل بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها. ولما مرت بالوزير أبي عامر ابن عبدوس وأمام داره بركة تتولد عن كثرة الأمطار، وربما استمدت بشيء مما هنالك من الأقذار، وقد نشر أبو عامر كميه، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه، فقالت:
أنت الخصيب وهذه مصر فتدفقا فكلاكما بحر
فتركته لا يحير حرفاً، ولا يرد طرفاً.
وقال في المغرب بعد ذكره أنها بالغرب كعلية بالشرق: إلا أن هذه تزيد بمزية الحسن الفائق، وأما الأدب والشعر والنادر وخفة الروح فلم تكن تقصر عنها، وكان لها صنعة في الغناء، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها فيمر فيه من النادر وإنشاد الشعر كثير لما اقتضاه عصرها من مثل ذلك، وفيها يقول ابن زيدون:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
وقال أيضاً يخاطب ابن عبدوس لاشتراكه معه في هواها:
أثرت هزبر الشرى إذ ربض ونبهته إذ هدا فاغتمض
وما زلت تبسط مسترسلاً إليه يد البغي لما انقبض(4/208)
حذار حذار فإن الكريم إذا سيم خسفاً أبى فامتعض
وإن سكون الشجاع النهو س ليس بمانعه أن يعض
عمدت لشعري ولم تتئد تعارض جوهره بالعرض
أضاقت أساليب هذا القري ض أم قد عفا رسمه فانقرض
لعمري فوقت سهم النضال وأرسلته لو أصبت الغرض
ومنها:
وغرك من عهد ولادة سراب تراءى وبرق ومض
هي الما يعز على قابض ويمنع زبدته من محض
ومن أخبار ولادة مع ابن زيدون ما قاله الفتح في القلائد (1) : إن ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم، ويستضيء بنور محياها في الليل البهيم، وكانت من الأدب والظرف، وتتميم السمع والطرف، بحيث تختلس القلوب والالباب، وتعيد الشيب الى أخلاق الشباب، فلما حل بذلك الغرب، وانحل عقد صبره بيد الكرب، فر إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها، ويتسلى برؤية موافيها، فوافاها والربيع قد خلع عليها برده، ونشر سوسنه وورده، وأترع جداولها، وانطق بلابلها، فارتاح ارتياح جميل بوادي القرى، وخاف تلك النوائب والمحن، فكتب إليها يصف فرط قلقه، وضيق أمده إليها وطلقه، ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر، ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب جمر (2) ، ويعاتبها على إغفال تعهده، ويصف حسن محضره بها ومشهده:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقأ والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
__________
(1) القلائد: 73.
(2) ويعلمها ... جمر: سقط هذا من القلائد المطبوع.(4/209)
وللنسيم اعتلال في أصائله كأنما رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الفضي مبتسم كما حللت عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت بتنا لها حين نام الدهر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه إذ عاينت أرقي بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سرى ينافحه نيلوفرعبق وسنان نبه منه الصبح أحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا إليك، لم يعد عنها الصدر أن ضاقا
لو كان وفى المنى في جمعنا بكم لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكن الله قلباً عن ذكركم فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا وافاكم بفتىً أضناه ما لاقا
يا علقي الأخطر الأسنى الحبيب إلى نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا
كان التجاري بمحض الود مذ زمن ميدان أنس جرينا فيه أطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم سلوتم وبقينا نحن عشاقا
وقال أيضاً (1) : أن ابن زيدون لم يزل يروم دنو ولادة فيعتذر، ويباح دمه دونها ويهدر، لسوء أثره في ملك قرطبة وواليها، وقبائح كان ينسبها إليه ويواليها، أحقدت بني جهور عليه، وسددت أسهمهم إليه، فلما يئس من لقياها، وحجب عنه محياها، كتب إليها يستديم عهدها، ويؤكد ودها، ويعتذر من فراقها بالخطب الذي غشيه، ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر، ولا خبى ما في ضلوعه من ملتهب الجمر، وهي قصيدة ضربت في الإبداع بسهم، وطلعت في كل خاطر ووهم، ونزعت منزعاً قصر عنه حبيب وابن الجهم، وأولها:
__________
(1) القلائد: 81.(4/210)
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
وأخبار ولادة كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية.
10 - ومن المشهورات بالأندلس " اعتماد " (1) جارية المعتمد بن عباد، وأمك أولاده، وتشتهر بالرمكية، وفي المسهب والمغرب أنه ركب المعتمد في النهر ومعه ابن عمار وزيره، وقد زردت الريح النهر، فقال ابن عباد لابن عمار: أجز:
صنع الريح من الماء زرد
فأطال ابن عمار الفكرة، فقالت امرأة من الغسالات:
أي درع لقتال لو جمد
فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به، مع عجز ابن عمار، ونظر إليها فإذا هي صورة حسنة، فأعجبته فسألها: أذات زوج هي فقالت: لا، فتزوجها، وولدت له أولاده الملوك النجباء، رحمهم الله تعالى.
وحكى البعض منهم صاحب البدائه بسنده إلى بعض أدباء الأندلس، وسماه ولم يحضرني الآن، أنه هو الذي قال للمعتمد:
أي درع لقتال لو جمد
قال: فاستحسنه المعتمد، وكنت رابعاً فجعلني ثانياً، وأجازني بجائزة سنية.
قال ابن ظافر: وقد أخذت هذا المعنى، فقلت أصف روضاً:
__________
(1) القلائد: 22؛ وانظر المجلد 3: 606.(4/211)
فلو دام ذاك النبت كان زبرجداً ولو جمدت أنهاره كانت بلورا
ولما قال ابن ظافر:
وقد أذكت الشمس على الما لهبا
قال القاضي الأعز:
فكست الفضة منه ذهبا
رجع:
ولما خلع المعتمد وسجن بأغمات قالت له: يا سيدي لقد هنا هنا، فقال:
قالت لقد هنا هنا مولاي أين جاهنا
قلت لها إلهنا صيرنا إلى هنا
وحكي أنها قالت له وقد مرض: يا سيدي، ما لنا قدرة على مرضاتك في مرضاتك.
ولما قال الوزير ابن عمار قصيدته اللامية الشهيرة في المعتمد والرمكية أغرت المعتمد به حتى قتله، وضربه بالطبرزين ففلق رأسه، وترك الطبرزين في رأسه، فقالت الرمكية: قد بقي ابن عمار هدهداً، والقصيدة أولها:
ألا حي بالغرب حياً حلالا أناخوا جمالاً وحازوا جمالا
وعرج بيومين أم القرى ونم فعسى أن تراها خيالا
ويومين: قرية بإشبيلية كانت منها أولية بني عباد، وفي هذه القصيدة يقول معرضاً بالرمكية:
تخيرتها من بنات الهجان رمكية ما تسلاوي عقالا(4/212)
فجاءت بكل قصير العذار لئيم النجارين عماً وخالا
قصار القدود ولكنهم أقاموا عليها قروناً طوالا
أتذكر أيامنا بالصبا وأنت إذا لحت كنت الهلالا
أعانق منك القضيب الرطيب وأرشف من فيك ماءً زلالا
وأقنع منك بدون الحرام فتقسم جهدك أن لا حلالا
سأهتك عرضك شيئاً فشيئاً وأكشف سترك حالاً فحالا
ومنها:
فيا عامر الخيل يا زيدها منعت القرى وأبحت العيالا
وسبب قول ابن عمار هذه القصيدة أن المعتمد ندر به وذيل على قصيدته الرائية المذكورة في القلائد بعد قوله:
كيف التفلت بالخديعة من يدي رجل الحقيقة من بني عمار
وسخر به في أبيات مشهورة.
670 - أخبار المعتمد
قال الفتح في حق المعتمد بعد كلام: وما زالت تلك الداخلة تدب، وريحها العاصفة تهب، ونارها تقد، وضلوعها تحنق وتحقد، وتضمر الغدر وتعتقد، حتى دخل البلد من واديه، وبدت من المكروه بواديه، وكر عليه الدهر بعوائده وعواديه، وهو مستمسك بعرى لذاته، منغمس فيها بذاته، ملقى بين جواريه، مغتر بودائع ملكه وعواريه، التي استرجعت منه في يومه، ونبهه فواتها من نومه، ولما انتشر الداخلون في البلد، وأوهنوا القوى والجلد(4/213)
خرج والموت يتسعر في الحاظه، ويتصور من الفاظه، وحسامه يعد بمضائه، ويتوقد عند انتضائه، فلقيهم برحبة القصر، وقد ضاق بهم فضاؤها، وتضعضعت من رجتهم أعضاؤها، فحمل فيهم حملة صيرتهم فرقاً، وملأتهم فرقاً، ومازال يواري عليهم الكر المعاد، حتى أوردهم النهر وما بهم جواد، وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد، ثم انصرف وقد أيقن بانتهاء حاله، وذهاب ملكه وارتحاله، وعاد إلى قصره واستمسك فيه يومه وليلته مانعاً لحوزته، دافعاً للذل عن عزته، وقد عزم على أفظع أمر، وقال: بيدي لا بيد عمرو، ثم صرفه تقاه، عما كان نواه، فنزل من القصر بالقسر، إلى قبضة الأسر، فقيد للحين، وحان له يوم شر ما ظن أنه يحين، ولما قيدت قدماه، وذهبت عنه رقة الكبل ورحماه، قال يخاطبه:
إليك فلو كانت قيودك أسعرت تضرم منها كل كف ومعصم
مخافة من كان الرجال بسيبه ومن سيفه في جنة أو جهنم
ولما آلمه عضه، ولازمه كسره ورضه، وأوهاه ثقله، وأعياه نقله، قال:
تبدلت من عز ظل البنود بذل الحديد وثقل القيود
وكان حديد سناناً ذليقاً وعضباً رقيقاً صقيل الحديد
فقد صار ذاك وذا أدهماً يعض بساقي عض الأسود
ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعدما ضاق عنهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حشروا بضفتي الوادي، وبكوا بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم، وفي ذلك يقول ابن اللبانة:
تبكي السماء بمزن رائح غاد على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قواعدها وكانت الأرض منها ذات أوتاد(4/214)
عريسة دخلتها النائبات على أساود لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تخدمها فاليوم لا عاكف فيها ولا باد
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم ليسكنه خف القطين وجف الزرع بالوادي
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت تختال في عدد منهم وأعداد
ألق السلاح وخل المشرفي فقد أصبحت في لهوات الضيغم العادي
لما دنا الوقت لم تخلف له عدة وكل شيء لميقات وميعاد
إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا وقد خلت قبل حمص أرض بغداد
حموا حريمهم حتى إذا غلبوا سيقوا على نسق في حبل مقتاد
وأنزلوا عن متون الشهب واحتملوا فويق دهم لتلك الخيل أنداد
وعيسى في كل طوق من دروعهم فصيغ منهن أغلال لأجياد
نسيت إلا غدات النهر كونهم في المنشآت كأموات بألحاد
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا من لؤلؤ طافيات فوق أزياد
حط القناع فلم تستر مخدرة ومزقت أوجه تمزيق أبراد
حان الوداع فضجت كل صارخة وصارخ من مفداة ومن فاد
سارت سفائنهم والنوح يصحبها كأنها إبل يحدوا بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت تلك القطائع من قطعات أكباد
انتهى ما قصد جلبه من كلام الفتح رحمه الله تعالى وسامحه.
وقال ابن اللبانة في كتاب نظم السلوك في مواعظ الملوك في أخبار الدولة العباسية: إن طائفة من أصحاب المعتمد خامرت عليه، فأعلم باعتقادها، وكشف له عن مرادها، وحض على هتك حرمها، وأغري بسفك دمها، فأبى ذلك مجده الأثيل، ومذهبه الجميل، وما خصه الله تعالى به من حسن اليقين، وصحة الدين، إلى أن أمكنتهم الغرة فانتصروا ببغاث مستنسر، وقاموا بجمع(4/215)
غير مستبصر، فبرز من قصره، متلافياً لأمره، عليه غلالة ترف على جسده، وسيفه في يده:
وذاك السيف راق وراع حتى كأن عليه شيمة منتضيه
كأن الموت أودع فيه سراً ليرفعه إلى يوم كريه
فلقي على باب من أبواب المدينة فارساً مشهوراً بنجدة، فرماه الفارس برمح التوى على غلالته، وعصمه الله تعالى منه، وصب هو سيفه على عاتق الفارس، فشقه إلى أضلاعه فخر صريعاًسريعاً، فرأيت القائمين عندما تسنموا الأسوار تساقطوا منها، وبعدما أمسكوا الأبواب تخلوا عنها، وأخذوا على غير طريق، وهوت بهم ريح الهيبة في مكان سحيق، فظننا أن البلد من أقذائه قد صفا، وثوب العصمة علينا قد ضفا، إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من رجب فعظم الأمر في الخطب الواقع، واتسع الخرق فيه على الراقع، ودخل البلد من جهة واديه، وأصيب حاضره بعادية باديه، بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه، وتراميه على الموت بنفسه، ما لا مزيد عليه، ولا انتهى خلق إليه، فشنت الغارة في البلد، ولم يبق فيه على سبد لأحد ولا لبد، وخرج الناس من منازلهم، يسترون عوراتهم بأناملهم، وكشفت وجوه المخدرات العذارى، ورأيت الناس سكارى، وما هم بسكارى، ورحل بالمعتمد وآله، بعد استئصال جميع ماله، لم يصحب معه بلغة زاد، ولا بغية مراد، فأمضيت عزيمتي في اتباعه، فوصلت إليه بأغمات عقب ثقاف استنقذه الله منه، فذكرت به شعراً كان لي في صديق اتفق له مثل ذلك الشهر بعينه من العام الماضي، وهو الأمير أبو عبد الله ابن الصفار، وهو:
لم نقل في الثقاف كان ثقافا كنت قلباً به وكان شغافا
يمكث الزهر في الكمام ولكن بعد مكث الكمام يدنو القطافا
وإذا ما الهلال غاب بغيم لم يكن ذلك المغيب انكسافا(4/216)
إنما أنت درة للمعالي ركب الدهر فوقها أصدافا
حجب البيت منك شخصاً كريماً مثلما تحجب الدنان السلافا
أنت للفضل كعبة ولو اني كنت أسطيع لاستطعت الطوافا
قال أبو بكر: وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدل على السماح، من فجر على صباح، انتهى (1) .
ثم قال: ولما خلع المعتمد وذهب إلى أغمات طلب من حواء بنت تاشفين خباء عارية، فاعتذرت بأنها ليس عندها خباء، فقال:
هم أوقدوا بين جنبيك نارا أطالوا بها في حشاك استعارا
أما يخجل المجد أن يرحلوك ولم يصحبوك خباء معارا
فقد قنعوا المجد إن كان ذاك وحاشاهم منك خزياً وعارا
يقل لعينيك أن يجعلوا سواد العيون عليكم شعارا
ثم إنه بقي مأسوراً بأغمات إلى سنة 486، فأخذ بمالفة رجل كبير يعرف بابن خلف، فسجن مع أصحاب له، فنقبوا السجن وذهبوا إلى حصن منت ميور ليلاً فأخرجوا قائدها، ولم يضروه، وبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل، فسألوه فإذا هو عبد الجبار بن المعتمد، فولوه على أنفسهم، وظن الناس أنه الراضي، فبقي في الحصن، ثم أقبل مركب من الغرب يعرف بمركب ابن الزرقاء، فانكسر بمرسى الشجرة قريباً من الحصن، فأخذوا بنوده وطبوله وما فيه من طعام وعدة فاتسعت بذلك حالهم، ثم وصلت أم عبد الجبار إليه، ثم خاطبه أهل الجزيرة وأهل أركش فدخلها سنة 448، ولما بلغ خبر عبد الجبار إلى ابن تاشفين أمر بثقاف المعتمد في الحديد، وفي ذلك يقول:
قيدي أما تعلمني مسلماً أبيت أن تشفق أو ترحما
__________
(1) زاد في م ورقة ونصف ورقة، ولكنا آثرنا عدم إثباتها هنا لأنها سترد في سياق الأخبار من بعد.(4/217)
يبصرني فيك أبو هاشم فينثني القلب وقد هشما
وبقي إلى أن توفي رحمه الله سنة 488.
وقد ساق الفتح قضية ثورة عبد الجباربن المعتمد بعبارته البارعة فقال (1) : وأقام بالعدوة برهة لا يروع له سرب وإن لم يكن آمناً، ولا يثور له كرب وإن كان في ضلوعه كامناً، إلى أن ثار أحد بنيه بأركش - معقل كان مجاوراً لإشبيلية مجاورة الأنامل للراح، ظاهر على بسائط وبطاح، لا يمكن معه عيش، ولا يتمكن من منازالته جيش، فغدا على أهلها بالمكاره وراح، وضيق عليهم المتسع من جهاتها والبراح، فسار نحوع الأمير سير بن أبي بكر (2) رحمه الله تعالى، قبل أن يرتد طرف استقامته إليه، فوجده وشره قد تشمر، وضره قد تنمر، وجمره مستعر، وأمره متوعر، فنزل عدوته، وحل للحزم حبوته، وتدارك داءه قبل إعضاله، ونازله وما أعد آلات نضاله، وانحشدت الجيوش إليه من كل قطر، وأفرغ من مسالكه كل قطر، فبقي محصوراً لا يشد إليه إلا سهم، ولا ينفذ عنه إلا نفس أو وهم، وامتسك شهوراً حتى حتى عرضه أحد الرماة بسهم فرماه، فأصماه، فهوى في مطلعه، وخر قتيلاً في موضعه، فدفن إلى جانب سريره، وأمن عاقبة تغريره، وبقي أهله ممتنعين مع طائفة من وزرائه حتى اشتد عليهم الحصر، وارتد عنهم النصر، وعمهم الجوع، وأغب أجفانهم الهجوع، فنزلت منهم طائفة متهافتة، وولت بأنفاس خافتة، فتبعهم من بقي، ورغب في التنعم من شقي، فوصلوا إلى قبضة الملمات، وحصلوا في قبضة الممات، فوسمهم الحيف، وتقسمهم السيف، ولما زأر الشبل خيفت سورة الأسد، ولم يرج صلاح الكل والبعض قد فسد، فاعتقل المعتمد خلال تلك الحال وأثناءها، وأحل ساحة الخطوب
__________
(1) القلائد: 25.
(2) زاد في م: أمير ابن تاشفين.(4/218)
وفناؤها، وحين أركبوه أساودا، وأورثوه حزناً بات له معاودا، فقال:
غمتك أغماتية الألحان ثقلت على الأرواح والأبدان
قد كان كالثعبان رمحك (1) في الورى ... فغدا عليك القيد كالثعبان متمرداً يحميك كل تمرد متعطفاً لا رحمة للعاني
قلبي إلى الرحمن يشكو بثه ماخاب من يشكو إلى الرحمن
يا سائلاً عن شأنه ومكانه ما كان أغنى شأنه عن شان
هاتيك قينته وذلك قصره من بعد أي مقاصر وقيان
ولما فقد من يجالسه، وبعد عنه من كان يؤانسه، وتمادى كربه، ولم تسالمه حربه، قال:
تؤمل للنفس الشجية فرجة وتأبى الخطوب السود إلا تماديا
لياليك في زاهيك أصفى صحبتها كذا صحبت قبلي الملوك اللياليا
نعيم وبؤس ذا لذلك ناسخ وبعدهما نسخ المنايا الأمانيا
ولما امتدت في الثقاف مدته، واشتدت عليه قسوة الكبل وشدته، وأقلقته همومه، وأطبقته غمومه، وتوالت عليه الشجون، وطالت لياليه الجون، قال:
أنباء أسرك قد طبقن آفاقا بل قد عممن جهات الأرض إقلاقا
سرت من الغرب لا تطوى لها قدم حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا
فأحرق الفجع أكباداً وأفئدة وأغرق الدمع آماقاً وأحداقا
قد ضاق صدر المعالي إذ نعيت لها وقيل: إن عليك القيد قد ضاقا
أنى غلبت وكنت الدهر ذا غلب للغالبين وللسباق سباقا
قلت الخطوب أذلتني طوارقها وكان غربي إلى الأعداء طراقا
__________
(1) م ق: قيدك.(4/219)
متى رأيت صروف الدهر تاركة إذا انبرت لذوي الأخطار أرماقا
وقال لي من أثقه: لما ثار ابنه حيث ثار، وأثار من حقد أمير المؤمنين عليه ما أثار، جزع جزعاً مفرطاً، وعلم أنه قد صار في أنشوطة الشر متورطاً، وجعل يتشكى من فعله ويتظلم، ويتوجع منه ويتألم، ويقول: عرض بي للمحن، ورضي لي أن أمتحن، ووالله ما أبكي إلا انكشاف من أتخلفه بعدي، ويتحيفه بعدي، ثم أطرق ورفه رأسه وقد تهللت أسرته، وظللته مسرته، ورأيته قد استجمع، وتشوف إلى السماء وتطلع، فعلمت أنه قد رحا عودة إلى لطانه وأوبة إلى أوطانه، فما كان إلا بمقدار ما تنداح دائرة، أو تلتفت مقلة حائرة، حتى قال:
كذا يهلك السيف في جفنه على هز كفي طويل الحنين
كذا يعطش الرمح لم أعتقله ولم تروه من نجيع يميني
كذا يمنع الطرف علك الشكي م مرتقباً غرة في كمين
كأن الفوارس فيه ليوث تراعي فرائسها في عرين
ألا شرف يرحم المشرفي مما به من شمات الوتين
ألا كرم ينعش السمهري ويشفيه من كل داء دفين
ألا حنة لابن محنية شديد الحنين ضعيف الأنين
يؤمل من صدرها ضمة تبوئه صدر كفؤ معين
وكانت طائفة من أهل فاس قد عاثوا فيها وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا، ومنعوا جفون أهلا السنات، وأخذوا البنين من حجور آبائهم والبنات، وتلقبوا بالإمارة، وأركبوا السوء نفوسهم الأمارة، حتى كادت أن تقفز على أيديهم، وتدثر رسومها بإفراط تعديهم، إلى أن تدارك أمير المسلمين رحمه الله تعالى أمرهم، وأطفأ جمرهم، وأوجعهم ضرباً، وأقطعهم ما شاء حزناً وكرباً، وسجنهم بأغمات، وضمتهم جوانح الملمات(4/220)
والمعتمد إذ ذاك معتقل هناك، وكانت فيهم طائفة شعرية، مذنبة أو بيرة، فرغبوا إلى سجانهم، أن يستريحوا مع المعتمد من أشجانهم، فخلى ما بينهم وبينه، وغمض لهم في ذلك عينه، فكان المعتمد رحمه الله تعالى يتسلى بمجالستهم، ويجد أثر مؤانستهم، ويستريح إليهم بجواه، ويبوح لهم بسره ونجواه، إلى أن شفع فيهم وانطلقوامن وثاقهم، وانفرج لهم مبهم أغلاقهم، وبقي المعتمد في محبسه (1) يشتكي من ضيق الكبل، ويبكي بدمع كالوبل، فدخلوا عليه مودعين، ومن بثه متوجعين، فقال:
أما لانسكاب الدمع في الخد راحة لقد آن أن يفنى، ويفنى به الخد
هبوا دعوة يا آل فاس لمبتلىً بما منه قد عافاكم الصمد الفرد
تخلصتم من سجن أغمات والتوت علي قيود لم يحن فكها بعد
من الدهم أما خلقها فأساود تلوى وأما الأيد والبطش فالأسد
فهنيتم النعما، ودامت لكلكم سعادته إن كان قد خانني سعد
خرجتم جماعات وخلفت واحداً ولله في أمري وأمركم الحمد
ومر عليه في موضع اعتقاله سرب قطاً لم يعلق لها جناح، ولا تعلق بها من الأيام جناح، ولا عاقها عن أفراخها الأشراك، ولا أعوزها البشام ولا الأراك، وهي تمرح في الجو، وتسرح في مواقع النو، فتنكد بما هو فيه من الوثاق، وما دون أحبته من الرقباء والأغلاق، وما يقاسيه من كبله، ويعانيه من وجده وخبله، وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيم عهدنه، وحبور حضرنه وشهدنه، فقال:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي سوارح لا سجن ولا كبل
ولم تك، والله المعيذ، حسادة ولكن حنيناً أن شكلي لها شكل
__________
(1) القلائد: في مجلسه.(4/221)
فأسرح لا شملي صديع، ولا الحشا وجيع، ولا عيناي يبكيهما ثكل
هنيئاً لها أن لم يفرق جميعها ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهل
وإذ لم تبت مثلي تطير قلوبها إذا اهتز باب السجن أو صلصل القفل
وما ذاك مما يعتريه، وإنما وصفت التي في جبلة الخلق من قبل
لنفسي إلى لقيا (1) الحمام تشوف ... سواي يحب العيش في ساقه كبل ألا عصم الله القطا في فراخها فإن فراخي خانها الماء والظل
وفي هذه الحالة زاره الأديب أبو بكر ابن اللبانة، وهو أجد شعراء دولته المرتضعين دررها، المنتجعين دررها، وكان المعتمد رحمه الله تعالى يميزه بالشفوف والإحسان، ويجوزه في فرسان هذا الشان، فلما رآه وحلقات الكبل قد عضت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود، وهو لا يطيق إعمال قدم، ولا يريق دمعاً إلا ممزوجاً بدم، بعدما عهده فوق منبر وسرير، ووسط جنة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتشرق منه الأندية، وتكف الأمطار من راحته، وتشرف (2) الأقدار بحلول ساحته، ويرتاع الدهر من أوامره ونواهيه، ويقصر النسر أن يقارنه أو يضاهيه، ندبه بكل مقال يلهب الأكباد، ويثير فيها لوعة الحرث بن عباد، أبدع من أناشيد معبد، وأصدع للكبد من مراثي أربد، أو بكاء ذي الرمة بالمربد، سلك فيها للاحتفاء طريقاً لاحباً، وغدا فيها لذيول الوفاء ساحباً، فمن ذلك قوله:
انفض يديك من الدنياوساكنها فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها السفلي قد كتمت سريرة العالم العلوي أغمات
طوت مظلتها لا بل مذلتها من لم تزل فوقه للعز رايات
من كان بين الندى ولبأس أنصله هندية وعطاياه هندية
__________
(1) م: أن ألقى.
(2) ق ودوزي: وتشرق.(4/222)
رماه من حيث لم تستره سابغة دهر مصيباته نبل مصيبات
أنكرت إلا التواءات القيود به وكيف تنكر في الروضات حيات
غلطت بين همامين عقدن له وبينها فإذا الأنواع أشتات
وقلت هن ذؤابات فلم عكسن من رأسه نحو رجليه الذؤابات
حسبتها من قناه أو أعنته إذا بها لثقاف المجد آلات
دروه ليثاً فخافوا منه عادية عذرتهم فلعدو الليث عادات
لم كان يفرج عنه بعض آونة قامت بدعوته حتى الجمادات
بحر محيط عهدناه تجيء له كنقطة الدارة السبع المحيطات
لهفي على آل عباد فإنهم أهلة ما لها في الأفق هالات
راح الحيا وغدا منهم بمنزلة كانت لنا بكر فيها وروحات
أرض كأن على أقطارها سرجاً قد أوقدتهن بالأدهان أنبات
وفوق شاطئ واديها رياض ربىً قد ظللتها من الأنشام دوحات
نهر شربت بعبريه على صور كانت لها في قبل الراح سورات
وربما كنت أسمو للخليج به وفي الخليج لأهل الراح راحات
وبالعروسات لا جفت منابتها من النعيم غروسات جنيات
ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات، وخلده يتردد بين النكبات والعثرات، ونفسه تتقسم بين الأشجان والحسرات، إلى أن شفته منيته، وجاءته بها أمنيته، فدفن بأغمات، وأريح من تلك الأزمات:
وعطلت المآثر من حلالها وأفردت المفاخر من علاها
ورفعت مكارم الأخلاق، وكسدت نفائس الأعلاق، وصار أمره عبرة في عصره، وصاب أندى عبرة في مصره. وبعد أيام وافى أبو بحر ابن عبد الصمد شاعره المتصل به، المتوصل إلى المنى بسببه، فلما كان يوم العيد وانتشر(4/223)
الناس ضحىً، وظهر كل متوار واضحاً، قام على قبره عند انفصالهم من مصلاهم، واختيالهم بزينتهم وحلاهم، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه، وخر على تربه ولثمه:
ملك الملوك، أسامع فأنادي أم قد عدتك عن السماع عوادي
لما خلت منك القصور فلم تكن فيها كما قد كنت في الأعياد
قبلت في هذا الثرى لك خاضعاً وتخذت قبرك موضع الإنشاد
وهي قصيدة أطال إنشادها، وبنى بها اللواعج وشادها، فانحشر الناس إليه وانحفلوا، وبكوا ببكائه وأعولوا، وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج، مديمين للبكاء والعجيج، ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم، وأقرحوا مآقيهم بفيض شؤونهم، وهذه نهاية كل عيش، وغاية كل ملك وجيش، والأيام لا تدع حياً، ولا تألو كل نشر طياً، تطرق رزاياها كل سمع، وتفرق مناياها كل جمع، وتصمي كل ذي أمر ونهي، وترمي كل مشيدبوهي، ومن قبله طوت (1) النعمان ابن الشقيقة، ولوت مجازه في تلك الحقيقة، انتهى ما قصدنا جلبه من كلام الفتح مما يدخل في أخبار المعتمد بن عباد المناسبة لما مر.
وكلام الفتح كله الغاية، وليس الخبر كالعيان، ولذا قال بعض من عرف به: إنه أراد أن يفضح الشعراء الذين ذكرهم في كتبه بنثره، ساكحه الله تعالى.
وأخبار المعتمد رحمه الله تعالى تحتمل مجلدات، وآثاره إلى الآن بالغرب مخلدات، وكان من النادر الغريب قولهم في الدعاء في الصلاة على جنازته الصلاة على الغريب بعد اتساع ملكه، وانتظام سلكه، وحكمه على إشبيلية وأنحائها، وقرطبة وزهرائها، وهكذا شأن الدنيا في تدريسها نحو ندبتها وإغرائها.
وقد توجه لسان الدين الوزير ابن الخطيب إلى أغمات لزيارة قبر المعتمد رحمه
__________
(1) ق: ما طوت.(4/224)
الله تعالى، ورأى ذلك من المهمات، وأنشد على قبره أبياته الشهيرة التي ذكرتها في جملة نظمه الذي هو أرق من النسيم، وأبهج من المحيا الوسيم.
قلت: وقد زرت أنا قبر المعتمد والرميكية أم أولاده، حين كنت بمراكش المحروسة عام عشرة وألف، وعمي علي أمر القبر المذكور، وسألت عنه من تظن معرفته له، حتى هداني إليه شيخ طعن في السن، وقال لي: هذا قبر ملك (1) ملوك الأندلس، وقبر حظيته التي كان قلبه بحبها خفاقاً غير مطمئن، فرأيته في ربوة حسبما وصفه ابن الخطيب رحمه الله تعالى في الأبيات، وحصلت لي في ذلك المحل خشية وادكار، وذهبت بي الأفكار، في ضروب الآيات، فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء لا إله غيره وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وما أحسن قول الوزير ابن عبدون في مطلع رائيته الشهيرة:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور
وهو القائل:
يا نائم الليل في فكر الشباب أفق فصبح شيبك في أفق النهى بادي
غضت عنانك أيدي الدهر ناسخة علماً بجهل وإصلاحاً بإفساد
وأسلمت للمنايا آل مسلمة وعبدت للرزايا آل عباد
لقد هوت منك، خانتها قوادمها، بكوكب في سماء المجد وقاد
ومنها:
ومالك كان يحمي (2) شول قرطبة ... أستغفر الله، لا بل شول بغداد
__________
(1) ق: ملك من.
(2) في الأصول: يحيي وهو خطأ؛ والقول ناظر إلى المثل " الفحل يحمي شوله مغلولاً ".(4/225)
شق العلوم نطافاً والعلا زهراً ثبين، ما بين رواد ووراد
وأين هذه القصيدة في مدحهم من قصيدة الغض منهم، وهي قول أبي الحسن جعفر بن إبراهيم ابن الحاج اللورقي:
تعز عن الدنيا ومعروف أهلها إذا عدم المعروف في آل عباد
حللت بهم ضيفاً ثلاثة أشهر بغير قرىً ثم ارتحلت بلا زاد
وهذا يدلك على أن الشعراء، لم يسلم من لسانهم من أحسن فضلاً عمن أساء، من العظماء والرؤساء، وما أمدح قول أبي محمد غانم فيهم:
ومن الغريب غروب شمس في الثرى وضياؤها باق على الآفاق
وقال في المطمح في حق بني عباد وأوليتهم ما صورته (1) : الوزير أبو القاسم محمد بن عباد، هذه بقية منتماها في لخم، ومرتماها إلى مفخر ضخم، وجدهم المنذر بن ماء السماء، ومطلعهم من جو تلك السماء، وبنو عباد ملوك أنس بهم الدهر، وتنفس منهم عن أعبق الزهر، وعمروا ربع الملك، وأمروا بالحياة والهلك، ومعتضدهم أحد من أقام وأقعد، وتبوأ كاهل الإرهاب واقتعد، وافترش من عريسته، وافترس من مكايد فريسته، وزاحم بعود، وهد كل طود، وأخمل كل ذي زي وشاة، وختل بوحي وإشارة، ومعتمدهم كان أجود الأملاك، وأحد نيرات تلك الأفلاك، وهو القائل، وقد شغل عن منادمة خواص دولته بمنادمة العقائل:
لقد حننت إلى ما اعتدت من كرم حنين أرض إلى مستأخر المطر
فهاتها خلعاً أرضي السماح بها محفوفة في أكف الشرب بالبدر
__________
(1) المطمح: 10.(4/226)
وهو القائل وقد حن في طريقه، إلى فريقه:
أدار النوى كم طال فيك تلذذي وكم غقتني عن دار أهيف أغيد
حلفت به لو قد تعرض دونه كماة الأعادي في النسيج المسرد
لجردت للضرب المهند، فانقضى مرادي، وعزماً مثل حد المهند
والقاضي أبو القاسم هذا جدهم، وبه سفر مجدهم، وهو الذي اقتنص لهم الملك النافر، واختصهم منه بالحظ الوافر، فإنه أخذ الرياسة من أيدي جبابر، وأضحى من ظلالها أعيان أكابر، عندما أناخت بها أطماعهم، وأصاخت إليها أسماعهم، وامتدت إليها من مستحقيها اليد، وأتلعوا أجياد زانها الجيد، وفغر عليها فمه حتى هجا بيت العبدى، وتصدى إليها من تحضر وتبدى، فاقتعد سنامها وغاربها، وأبعد عنها عجمها وأعاربها، وفاز من الملك بأوفر حصة، وغدت سمته به صفة مختصة، فلم يمح رسم القضاء، ولم يتسم بسمة الملك مع ذلك النفوذ والمضاء، وما زال يحمي حوزته، ويجلو غرته، حتى حوته الرجام، وخلت منه تلك الآجام، وانتقل الملك إلى ابنه المعتضد، وحل منه في روض نمق له ونضد، ولم يعمر فيه ولم يدم ولاه، وتسمى بالمعتضد بالله، وارتمى إلى أبعد غايات الجود بما أناله وأولاده، لولا بطش في اقتضاء النفوس كدر ذلك المنهل، وعكر أثناء ذلك صفو العل والنهل (1) ، وما زال للأرواح قابضاً، وللوثوب عليها رابضاً، يخطف أعداءه اختطاف الطائر من الوكر، وينتصف منهم بالدهاء والمكر، إلى أن أفضى الملك إلى ابنه المعتمد، فاكتحل منه طرفه الرمد، وأحمد مجده، وتقلد منه أي بأس ونجدة، ونال به الحق مناه، وجر رسنه، وأقام في الملك ثلاثاً وعشرين سنة، لم تعدم له فيها حسنة ولا سيرة مستحسنة، إلى أن غلب على سلطانه، وذهب به من أوطانه، فنقل،
__________
(1) م: وتصدر أثناء العل والنهل؛ المطمح: وتصور.... إلخ.(4/227)
إلى حيث اعتقل، وأقام كذلك إلى أن مات، ووارته برية أغمات، وكان للقاضي جده أدب غض، ومذهب مبيض، ونظم يرتجله كل حين، ويبعثه أعطر من الرياحين، فمن ذلك قوله يصف النيلوفر:
يا ناظرين لذا النيلوفر البهج وطيب مخبره في الفوح والأرج
كأنه جام در في تألقه قد أحكموا وسطه فصاً من السبج
انتهى المقصود منه.
671 - تراجم منقولة عن الفتح
1 - ترجمة ابن البني من المطمح
وهو - أعني الفتح - يشيد قصور الشرف إذا مدح، ويهدم معاقلها إذا هجا وقدح.
ومن أغراضه قوله في المطمح في حق الأديب أبي جعفر ابن البني (1) : رافع رايات القريض، وصاحب آيات التصريح والتعريض، أقام شرائعه، وأظهر بدائعه، إذا نظم أزرى بالعقود، وأتى بأحسن من رقم البرود، وكان أليف غلمان، وحليف كفر لا إيمان، ما نطق متشرعاً، ولا رمق متورعاً، ولا اعتقد حشراً، ولا صدق بعثاً ولا نشراً، وربما تنسك مجوناً وفتكاً، وتمسك باسم التقى وقد هتكه هتكاً، لا يبالي كيف ذهب، ولا بما تمذهب، وكانت له أهاجي جرع بها صاباً، ودرع منها أوصاباً، وقد أثبت له ما يرتشف ريقاً، ويشرب تحقيقاً، فمن ذلك قوله يتغزل:
من لي بغرة فاتن يختال في حلل الجمال إذا بدا وحليه
لو شمت في وضح النهار شعاعها ما عاد جنح الليل بعد مضيه
__________
(1) المطمح: 91 وله ترجمة في القلائد: 298؛ وانظر النفح 3: 487.(4/228)
شرقت لآلي الحسن حتى خلصت ذهبيه في الخد من فضيه
في صفحتيه من الجمال أزاهر غذيت بوسمي الحيا ووليه
سلت محاسنه، لقتل محبه من سحر عينيه، حسام سميه
وله فيه:
كيف لا يزداد قلبي من جوى الشوق خبالا
وإذا قلت علي بهر الناس جمالا
هو كالغصن وكالبد ر قواماً واعتدالا
أشرق البدر كمالا وانثنى الغصن اختيالا
إن من رام سلوي عنه قد رام محالا
لست أسلو عن هواه كان رشداً أو ضلالا
قل لمن قصر فيه عذل نفسي أو أطالا
دون أن تدرك هذا تسلب الأفق الهلالا
وكنت بميورقة وقد حلها متسماً بالعبادة، وهو أسرى إلى الفجور من خيال أبي عبادة (1) ، وقد لبس أسمالاً، ولبس منه أقوالاً وأفعالاً، سجوده هجود، ولإقراره بالله جحود، وكانت له رابطة لم يكن للوازمها مرتبطاً، ولا بسكناها (2) مغتبطاً، سماها بالعقيق وسمى فتى كان يتعشقه بالحمى، وكان لا يتصرف إلا في صفاته، ولا يقف إلا بعرفاته، ولا يؤرقه إلا جواه، ولا يشوقه (3) إلا هواه، فإذا بأحد دعاة حبيبه، ورواة تشبيبه، قال له: كنت البارحة بحماه، وذكر لي خبراً ورى به عني وعماه، فقال:
__________
(1) أبو عبادة البحتري ذكره لإكثاره من وصف طيف الخيال وطروقه.
(2) م: بسكانها.
(3) دوزي: يشرقه.(4/229)
تنفس بالحمى مطلول أرض (1) ... فأودع نشره نشراً شمالا فصبحت العيون إلي كسلى تجرر فيه أرداناً خضالا
أقول وقد شممت الترب مسكاً بنفحتها يميناً أوشمالا
نسيم جاء يبعث منك طيباً ويشكو من محبتك اعتلالا
ولما تقرر عند ناصر الدولة من أمره ما تقرر، وتردد على سمعه انتهاكه وتكرر، أخرجه من بلده ونفاه، وطمس رسم فسقه وعفاه، فأقلع إلى المشرق وهو جار، فلما صار من ميورقة على ثلاثة مجار (2) ، نشأت له ريح صرفته عن وجهته، إلى فقد مهجته، فلما لحق بميورقة أراد ناصر الدولة إماحته، وأخذ ثأر الدين منه وإراحته، ثم آثر صفحه، وأخمد ذلك الجمر ولفحه، وأقام أياماً ريحاً علها تزجيه، ويستهديها لتخلصه وتنجيه، وفي أثناء بلوته، لم يتجاسر أحد على إتيانه من إخوته، فقال يخاطبهم:
أحبتنا الألى عتبوا علينا فأقصرنا وقد أزف الوداع
لقد كنتم لنا جذلاً وأنساً فهل في العيش بعدكم انتفاع
أقول وقد صدرنا بعد يوم أشوق بالسفينة أم نزاع
إذا طارت بنا حامت عليكم كأن قلوبنا فيها شراع
وله يتغزل:
بني العرب الصميم ألا رعيتم مآثركم بآثار السماح
رفعتم ناركم فعشا إليها بوهن فارس الحي الوقاح
فهل في القعب فضل تنضحوه به من محض ألبان اللقاح
لعل الرسل شابته الثنايا بشهد من ندى نور الأقاح
__________
(1) م: روض.
(2) المطمح: جوار.(4/230)
وله أيضاً:
وكأنما رشأ الحمى لما بدا لك في مضلعة الحديد المعلم
غصب الغمام قسيه فأراكها من حسن معطفه قويم الأسهم
وله أيضاً:
نظرت إليه فاتقاني بمقلة ترد إلى نحري صدور رماح
حميت الجفون النوم يا رشأ الحمى وأظلمت أيامي وأنت صباحي
وقال:
قالوا تصيب طيور الجو أسهمه إذا رماها فقلنا عندنا الخبر
تعلمت قوسها من قوس حاجبه وأيد السهم من ألحاظه الحور
يروح في بردة كالنفس حالكة كما أضاء بجنح الليل القمر
وربما راق في خضراء مورقة كما تفتح في أوراقه الزهر
2 - ترجمة ابن لبال من المطمح
وقال في ترجمة أبي الحسن ابن لبال (1) : شاعر سمح، متقلد بالإحسان متشح، أم الملوك والرؤساء، ويمم تلك العزة القعساء، فانتجع مواقع خيرهم، واقتع ما شاء من ميرهم، وتمادت أيامه إلى هذا الأوان، فجالت به في ميدان الهوان، فكسد نفاقه، وارتدت آفاقه، وتوالى عليه حرمانه وإخفاقه، وأدركته وقد خبنته سنونه، وانتظرت منونه، ومحاسنه كعهدها في الاتقاد، وبعدها من الانتقاد، وقد أثبت منها ما يعذب جنىً وقطافاً، ويستعذب استنزالاً واستلطافاً، فمن ذلك قوله يستنجد الأمير الأجل أبا إسحاق ابن أمير المسلمين:
__________
(1) المطمح: 93 وكتب فيه خطأ " ابن لسان ". وفي ق م أحياناً: ابن لبان.(4/231)
قل للأمير ابن الأمير بل الذي أبدا به في المكرمات وفي الندى
والمجتنى بالرزق وهي بنفسج ورد الجراح مضعفاً ومنضدا
جاءتك آمال العفاة ظوامئاً فاجعل لها من ماء جودك موردا
وانثر على المداح سيبك، إنهم نثروا المدائح لؤلؤاً وزبرجدا
فالناس إن ظلموا فأنت هو الحمى والناس إن ضلوا فأنت هو الهدى
أخبرني وزير السلطان أن هذه القطعة لما ارتفعت، اعتنت بجملة الشعراء وشفعت، فأنجز لهم الموعود، وأورق لهم ذلك العود، وكثر اللغط في تعظيمها، واستجادة نظيمها، وحصل له بها ذكر، وانصقل له بسببها فكر.
وله من قطعة يصف بها سيفاً:
كل نهر توقدت شفرتاه كاتقاد الشهاب في الظلماء
فهو ماء قد ركبت فوق نار أو كنار قد ركبت فوق ماء
وكتب إلي معزياً عن والدتي:
على مثله من مصاب وجب ... على من أصيب (1) به المنتجب وقلب فروق ولب خفوق ونفس تشب، وهم نصب
فقد خشعت للتقى هضبة ذؤابتها في صميم العرب
من الجاعلات محاريبها هوادجها أبداً والقتب
من القائمات بظل الدجى ولا من تسامر إلا الشهب
فكم ركعت إثرها في الدجى تناجي بها ربها من كثب
وكم سكبت في أوان السجود مدامع كالغيث لما انسكب
وقد خلفت ولداً باسلاً فصيحاً إذا ما قرا أو خطب
__________
(1) م: أصاب.(4/232)
يفل السيوف بأقلامه ويكسر صم القنا بالقصب
وكان القائد أبو عمرو عثمان بن يحيى بن إبراهيم أجل من جال في خلد، واستطال على جلد، رشأ يحيى باحتشامه، ويسترد البدر بلثامه، ويزري بالغصن تثنيه، ويثمر الحسن لو دنت قطوفه لمجتنيه، مع لوذعية تخالها جريالا، وسجية يختال فيها الفضل اختيالا، وكان قد بعد عن أنسنا بحمص، وانتضى من تلك القمص، وكان بثغر الأشبونة فسده، ولم ينفرج لنا من الأنس بعده ما يسد مسده، إلى أن صدر، فأسرع إلينا وابتدر، فالتقينا وبتنا ليلة نام عنها الدهر وغفل، وقام لنا بما شئنا فيها وتكفل، فبينا نحن نفض ختامها، وننفض عنا غبار الوحشة وقتامها، إذا أنا بابن لبال هذا وقد دخل إذنه علينا فأمرناه بالنزول والتقيناع بترحيب، وأنزلناه بمكان من المسرة رحيب، وسقيناه صغاراً وكباراً، وأريناه إعظاماً وإكباراً، فلما شرب، طرب، وكلما كرعها، التحف السلوة وتدرعها، ومازال يشرب أقداحاً، وينشد فينا أمداحاً، ويفدي بنفسه، ويستهدي الاستزادة من أنسه، فهتكنا الظلام بما أهداه من البديع، واجتلينا محاسنه كالصديع (1) ، وانفصلت ليلته عن أتم مسرة، وأعم مبرة، وارتحل عثمان أعزه الله إلى ثغره، وأقام به برهة من دهره، فمشيتبها إليه مجدداً عهداً، ومتضلعاً من مؤانسته شهداً، فكتب ابن لبال هذه القطعة من القصيدة يذهب إلى شكره، ويجتهد في تجديد ذكره:
ما شام إنسان إنسان كعثمان ولا كبغيته من حسن إحسان
بدر السيادة يبدو في مطالعه من المحلسن محفوفاً بشهبان
له التمام وما بالأفق من قمر متمم دون أن يرمى بنقصان
به الشبيه تزهى من نضارتها كما تساقط طل فوق بستان
__________
(1) الصديع: الصبح.(4/233)
معصفر الحسن للأبصار ناصعه كأنه فضة شيبت بعقيان
نبئت عنه بأنباء إذا نفحت تعطلت نفحات المسك والبان
قامت عليه براهين تصدقها كالشكل قام عليه كل برهان
قد زادها ابن عبيد الله من وضح ما زادت الشمس نور الفجر للراني
بالله بلغه تسليمي إذا بلغت تلك الركاب وعجل غير ليان
وليت أني لو شاهدت أنسكما على كؤوس وطاسات وكيزان
فألفظ الكلم المنثور بينكما كأنما هو من در ومرجان
لله درك يا ذا الخطتين لقد خططت بالمدح فيه كل ديوان
كلاكما البحر في جود وفي كرم أو الغاماة تقي كل ظمآن
إن كان فارس هيجاء ومعترك فأنت فارس إفصاح وتبيان
فاذكر أبا نصر المعمور منزله بالرفد ما شئت من مثنى ووحدان
قصائداً لأخي ود وإن نزحت بك الركاب إلى أقصى خراسان
3 - ترجمة عبد المعطي من المطمح
وقال في ترجمة الأديب أبي بكر عبد المعطي (1) : بيت شعر ونباهة، وأبو بكر ممن انتبه خاطره للبدائع أي انتباهه، وله أدب باهر، ونظم كما سفرت أزاهر، وقد أثبت له جمالاً، يبلغ آمالاً، فمن ذلك قوله، وقد اجتمنا في ليلة لم يضرب لها وعد، ولم يعزب عنها سعد، وهو قعدي، وقد شب عن طوق الأنس في الندي، وما قال خالي عمرو ولا عدي (2) ، والكهولة قد قبضته، وأقعدته عن ذلك وما أنهضته:
__________
(1) المطمح: 96.
(2) في الأصول والمطمح: وما قال خلا عمرو ولا عدا؛ والإشارة هنا إلى المثل " شب عمرو عن الطوق " وهو عمرو بن عدي، الذي ثأر لجذيمة.(4/234)
إمام النثر والمنظوم فتح جميع الناس ليل وهو صبح
له قلم جليل لا يجارى يقر بفضله سيف ورمح
يباري المزن ما سحت سماحاً وإن شحت فليس لديه شح
وكان مرتسماً في عسكر قرطبة، وكان ابن سراج يقوم له بكل ما يبغي تطلبه، خبفة من لسانه، ومحافظة على إحسانه، ولما خرج إلى إقليش خرج معه، وجعل يساير من شيعه، فلما حصلوا بفحص سرادق، وهو موضع توديع المفارق للمفارق، قرب منه أبو الحسين ابن سراج لوداعه، وأنشده في تفرق الشمل وانصداعه:
هم رحلوا عنا لأمر لهم عنا فما أحد منهم على أحد حنا
وما رحلوا حتى استقادوا نفوسنا كأنهم كانوا أحق بها منا
فيا ساكني نجد لتبعد داركم ظننا بكم ظناً فأخلفتم الظنا
غدرتم ولم أغدر، وخنتم ولم أخن وقلتم ولم أعتب، وجرتم وما جرنا
وأقسمتم أن لاتخونون في الهوى فقد، وذمام الحب، خنتم وما خنا
ترى تجمع الأيام بيني وبينكم ويجمعنا دهر نعود كما كنا
فلما استتم إنشاده لحق بالسلطان واعتذر إليه بمريض خلفه، وهو يخاف تلفه، فأذن له بالانصراف، وكتب إلى أبي الحسين ابن سراج:
أما والهدايا ما رحلنا ولا حلنا وإن عن من دون الترحل ما عنا
تركنا ثواب الفضل والعز للعزى (1) ... على مضض منا وعدنا كما كنا وليس لنا عنكم على البين سلوة وإن كان أنتم عندكم سلوة عنا
وجمعتنا عشية بربض الزجالي (2) بقرطبة، ومعنا لمة من الإخوان وهو في
__________
(1) كذا في م ق وفي المطمح: للعرى؛ وفي التجارية: تركنا ثواب الغزو والقصد للعدا.
(2) م: الرحال.(4/235)
جملتهم، وناهض لأعيانهم وجلتهم، بفضل أدبه، وكثرة سحبه، فجعل يرتجل ويروي، وينشر محاسن الآداب ويطوي، ويمتعنا بتلك الأخبار، ويقطعنا منها جانب اعتبار، ويطلعنا على إقبال الأيام والإدبار، ثم قال:
أيا ابن عبيد الله يا ابن الأكارم لقد بخلت يمناك صوب الغمائم
لك القلم الأعلى الذي عطل القنا وفل ظبات المرهفات الصوارم
وأخلاقك الزهر الأزاهر (1) بالربى ... ترف بشؤبوب الغيوث السواجم بقيت لتشييد المكارم والعلى تظاهرها بالسالف المتقادم
واجتمع عند أبيه لمة من أهل الأدب، وذوي المنازل والرتب، في عشية غيم أعقب مطراً، وخط فيها البرق أسطراً، والبرد يتساقط كدر من نظام، ويتراءى كثنايا غادة ذات ابتسام، وهو غلام ما نضا برد شبابه، ولا انتضى مرهف آدابه، فقال معرضاً بهم، ومتعرضاً لتحقق أدبهم:
كأن الهواء غدير جمد بحيث البروق تذيب البرد
خيوط وقد عقدت في الهواء وراحة ريح تحل العقد
وشرب في دار ابن الأعلم في يوم لم ير الدهر فيه إساءة، وليل نسخ نور أنسه مساءه، ومعهم جملة من الشعراء، وجماعة من الوزراء، منهم أبناء القبطرنة فوقع بينهم عتاب وتعذال، وامتهان في ميدان المشاجرة وابتذال، آل به إلى تجريد السيف، وتكدير ما صفا بذلك الخيف، فسكنوه بالاستنزال، وثنوه عن ذلك النزال.
4 - ترجمة ابن بقي من المطمح والقلائد
وقال في المطمح في حق أبي بكر يحيى بن بقي القرطبي صاحب الموشحات البديعة: كان نبيل السيرة والنظام، كثير الارتباط في سلكه والانتظام، أحرز خصالاً، وطرز بمحاسنه بكراً وآصالاً، وجرى في ميدان الإحسان إلى أبعد
__________
(1) م: الزواهر.(4/236)
أمد، وبنى من المعارف أثبت عمد، إلا أن الأيام حرمته، وقطعت حبل رعايته وصرمته، فلم تتم له وطراً، ولم تسجم عليه الحظوة مطراً، ولا سوغت من الحرمة نصيباً، ولا انزلته مرعى خصيباً، فصار راكب صهوات، وقاطع فلوات، لا يستقر يوماً، ولا يستحسن نوماً، مع توهم لا يظفره بأمان، وتقلب ذهن كالزمان، إلا أن يحيى بن علي بن القاسم نزعه من ذلك الطيش، وأقطعه جانباً من العيش، وأرقاه إلى سمائه، وسقاه صيب نعمائه، وفيأه ظلاله، وبوأه أثر النعمة يجوس خلاله، فصرف به أقواله، وشرف بعواقبه فعاله، وأفرده منها بأنفس در، وقصده منها بقصائد غر، انتهى المقصود جلبه من ترجمته في المطمح.
وقال في حقه في القلائد: رافع راية القريض، وصاحب آية التصريح فيه والتعريض، أقام شرائعه، وأظهر روائعه، وصار عصيه طائعه، إذا نظم زرى بنظم العقود، وأتى بأحسن من رقم البرود، وطفا عليه حرمانه، فما صفا له زمكانه، انتهى.
وابن بقي المذكور هو القائل:
بأبي غزال غازلته مقلتي بين العذيب وبين شطي بارق
الأبيات المذكورة في غير هذا الموضع.
ومن موشحاته قوله:
غلب الشوق بقلبي فاشتكى ألم الوجد فلبت أدمعي
أيها الناس فؤادي شغف
وهو من بغي الهوى لا ينصف
كم أداريه ودمعي يكف
أيها الشادن من علمكما بسهام اللحظ قتل السبع(4/237)
بدر تم تحت ليل أغطش
طالع في غصن بان منتشي
أهيف القد بخد أرقش
ساحر الطرف وكم ذا فتكا بقلوب الأسد بين الأضلع
أي ريم رمته فاجتنبا
وانثنى يهتز من سكر الصبا
كقضيب هزه ريح الصبا
قلت هب لي يا حبيبي وصلكا واطرح أسباب هجري ودع
قال خدي زهره مذ فوفا
جردت عيناي سيفاً مرهفا
حذراً منه بأن لا يقطفا
إن من رام جناه هلكا فأزل عنك علال الطمع
ذاب قلبي في هوا ظبي غرير
وجهه في الدجن صبح مستنير
وفؤادي بين كفيه أسير
لم أجد للصبر عنه مسلكا فانتصاري بانسكاب الأدمع
وقال رحمه الله تعالى:
خذ حديث الشوق عن نفسي وعن الدمع الذي همعا
ما ترى شوقي وقد وقدا(4/238)
وهما دمعي واطردا
واغتدى قلبي عليك سدى
آه من ماء ومن قبس بين طرفي والحشا جمعا
بأبي ريم إذا سفرا
أطلعت أزراره قمرا
فاحذروه كلما نظرا
فبألحاظ الجفون قسي أنا منها بعض من صرعا
أرتضيه جار أو عدلا
قد خلعت العذر والعذلا
إنما شوقي إليه جلا
كم وكم أشكو إلى اللعث ظمئي لو أنه نفعا
صال عبد الله بالحور
وبطرف فاتر النظر
حكمه في أنفس البشر
مثل حكم الصبح في الغلس إن تجلى نوره صدعا
شبهته بالرشا الأمم
فلعمري أنهم ظلموا
فتغنى من به السقم
أين ظبي القفر والكنس من غزال في الحشا رتعا
انتهى.(4/239)
وله أيضاً:
ما ردني لابسثوب الضنى الدارسإلا قمر
في غصن مائسشعاعه عاكسضوء البصر
أسير كالسيلإليه لا باعإلا ودادي
والطيف في خيللهن إسراعمع الرقاد
يا كوكب الليلإن كنت تراعفلم فؤادي
كالأسد العابسلكنه خانسمن الحور
ومن نظمه قصيدة مدح يحيى بن علي بن القاسم المذكور بها، منها في المديح قوله:
نوران ليسا يحجبان عن الورى كرم الطباع ولا جمال المنظر
وكلاهما جمعا ليحيى فليدع كتمان نور علائه المتشهر
في كل أفق من جمال ثنائه عرف يزيد على دخان المجمر
رد في شمائله ورد في جوده بين الحديقة والغمام الممطر
بدر عليه من الوقار سكينة فيها لقيطة كل ليث مخدر
مثل الحسام إذا انطوى في غمده ألقى المهابة في نفوس الحضر
أربى على المزن الملث لأنه أعطى كما أعطى ولم يستعبر
ومنها:
أقبلت مرتاداً لجودك إنه صوب الغمامة بل زلال الكوثر
ولاأيت وجه النجح عندك أبيضاً فركبت نحوك كل لج أخضر
وهي طويلة.
استطراد
وقوله " أربى على المزن الملث - البيت " هو معنى تلاعب الشعراء بكرته(4/240)
وأورده كل منهم على حسب مقدرته، فقال بعض:
من قاس جدواك بالغمام فما أنصف في الحكم بين شيئين
أنت إذا جدت ضاحك أبداً وهو إذا جاد دامع العين
وقال آخر:
ما نوال الغمام يوم ربيع كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عين ونوال الغمام قطرة ماء
وهما من شواهد البديع.
وقال أبو عبد الله الحوضي التلمساني في قصيدة مدح بها سلطان تلمسان أبا عبد الله الزياني:
أصبح المزن من عطائك يحكي يوم الاثنين للأنام عطاء
كيف يدعى لك الغمام شبيهاً ولقد فقته سناً وسناء
أنت تعطي إذا تقصر مالاً وهو يعطي إذا تطول ماء
رجع - وذكر العماد في الخريدة ابن بقي المذكور، وأورد له جملة من المقطعات، ومحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى؛ وبقي على وزن علي.
رجع إلى بني عباد
وقال ابن اللبانة في بني عباد ما نصه: بماذا أصفهم وأحليهم، وأي منقبة من الجلالة أوليهم، فهم القوم الذين تجل مناقبهم عن العدل والاحصاء، ولا يتعرض لها بالاستيفاء والاستقصاء، ملوك زينت بهم الدنيا وتحلت، وترقت حيث شاءت وحلت، إن ذكرت الحروب فعليهم يوقف منها الخبر اليقين، أو عدت المآثر فهم في ذلك في درجة السابقين، أصبح الملك بهم مشرق القسام، والأبام(4/241)
ذات بهجة وابتسام، حتى أناخ بهم الحمام، وعطل من محاسنهم الوراء والأمام، فنقل إلى العدم وجودهم، ولم يرع بأسهم جودهم، وكل ملك آدمي فمفقود، " وما نؤخره إلا لأجل معدود "، فأول ناشئة ملكهم، ومحصل الأمر تحت ملكهم، عظيمهم الأكبر، وسابقة شرفهم الأجل الأشهر، وزينهم الذي يعد في الفضائل بالوسطى والخنصر، محمد بن عباد، ويكنى أبا القاسم، واسم والده اسماعيل، ومن شعره قوله:
يا حبذا الياسمين إذ يزهر فوق غصون رطيبة نضر
قد امتطى للجبال ذروتها فوق بساط من سندس أخضر
كأن والعيون ترمقه زمرد في حلاله جوهر
ولنذكر كلام ابن اللبانة وغيره في حقهم فنقول: وصف المعتضد رحمه الله تعالى بما صورته (1) : المعتضد أبو عمرو عباد رحمه الله تعالى، لم تخل أيامه في أعدائه من تقييد قدم، ولا عطل سيفه من قبض روح وسفك دم، حتى لقد كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رؤوساً، ولا تنبت إلا رئيساً ومرؤوساً، فكان نظره إليها أشهى مقترحاته، وفي التلفت إليها استعمل جل بكره وروحاته، فبكى وأرق، وشتت وفرق، ولقد حكي عنه من أوصاف التجبر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع، ولا يتعرض له بتصريح ولا إلماع، ومن نظمه عفا الله عنه:
أتتك أم الحسن تشدو بصوت حسن
تمد في ألحانها من الغناء المدني
تقود مني ساكناً كأنني في رسن
أوراقها أستارها إذا شدت في فنن
وقوله:
شربنا وجفن الليل يغسل كحله بماء صباح، والنسيم رقيق
__________
(1) الذخيرة (2: 9 - 10) .(4/242)
معتقة كالتبر أما نجارها فضخم وأما جسمها فرقيق
وقوله:
لقد وجدنا الحبيب يصي وداده وحمدنا ضميره واعتقاده
قرب الحب من فؤاد محب لا يرى هجره ولا إبعاده
وقال عند حصول رندة في ملكه:
لقد حصلت يا رنده فصرت لملكنا عده
أفادتناك أرماح وأسياف لها حده
وقال رحمه الله تعالى:
اشرب على وجه الصباح وانظر إلى نور الأقاح
واعلم بأنك جاهل ما لم تقل بالصطباح
فالدهر شيء بارد ما لم تسخنه براح
672 - ابن خفاجة والمعتضد
ومن حكايات المعتضد عباد ما ذكره غير واحد أن ابن جاخ الشاعر ورد على حضرته، فدخل الدار المخصوصة بالشعراء، فسألوه، فقال: إني شاعر، فقالوا: أنشدنا من شعرك، فقال:
إني قصدت إليك يا عبادي قصد القليق بالجري للوادي
فضحكوا منه وازدروه، فقال بعض العقلاء: دعوه فإن هذا شاعر، وما يبعد أن يدخل مع الشعراء ويندرح في سلكهم، فلم يبالوا بكلام الرجل، وتنادروا على المذكور، فبقي معهم، وكان لهم في تلك الدولة يوم مخصوص(4/243)
لا يدخل فيه على الملك غيرهم، وربما كان يوم الاثنين، فقال بعض لبعض: هذه شنعة بنا أن يكون مثل هذا البادي يقدم علينا، ويجترئ على الدخول معنا، فاتفقوا على أن يكون هو أول متكلم في اليوم المخصوص بهم عند جلوس السلطان، وقد رأوا أن يقول مثل ذلك الشعر المضحك فيطرده عنهم، ويكون ذلك حسماً لعلة إقدام مثله عليهم. فلما كان اليوم المذكور، وقعد السلطان في مجلسه، ونصب الكرسي لهم، رغبوا منه أن يكون هذا القادم أول متكلم في ذلك اليوم، فأمر بذلك، فصعد الكرسي، وانتظروا أن ينشد مثل الشعر المضحك المتقدم، فقال:
قطعت يا يوم النوى أكبادي وحرمت عن عيني لذيذ رقادي
وتركتني أرعى النجوم مسهداً والنار تضرم في صميم فؤادي
فكأنما آلى الظلام ألية لا ينجلي إلا إلى ميعاد
يا بين بين أين تقتاد النوى إبل الذين تحملوا بسعاد
ولرب خرق قد قطعت نياطه والليل يرفل في ثياب حداد
بشملة حرف كأن ذميلها سرح الرياح وكل برق غادي
والنجم يحدوها وقد ناديتها يا ناقتي عوجي على عباد
ملك إذا ما أضرمت نار الوغى وتلاقت الأجناد بالأجناد
فترى الجسوم بلا رؤوس تنثني وترى الرؤوس لقى بلا أجساد
يا أيها الملك المؤمل والذي قدماً سما شرفاً على الأنداد
إن القريض لكاسد في أرضنا وله هنا سوق بغير كساد
فجلبت من شعري إليك قوافياً يفنى الزمان وذكرها متمادي
من شاعر لم يضطلع أدباً ولا خطت يداه صحيفة بمداد
فقال له الملك: أنت ابن جاخ فقال: نعم، فقال: اجلس فقد وليتك رئاسة الشعراء، وأحسن إليه، ولم يأذن في الكلام في ذلك اليوم لأحد بعده، انتهى.(4/244)
رحع إلى أخبار بقية بني عباد
المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن المعتضد أبي عمرو عباد ابن القاضي أبي القاسم ابن عباد رحمه الله تعالى، ملك مجيد، وأديب على الحقيقة مجيد، وهمام تحلى به للملك وللنظم جيد، أفنى الطغاة بسيفه وأباد، وأنسى بسيبه ذكر الحارث بن عباد، فأطلع أيامه في الزمان حجولاً وغروراً، ونظم معاليه في أجيادها جواهر ودرراً، وشيد في كل معلوة فناءه، وعمر بكل نادرة مستغربة وبادرة مستظرفة أوقاته وآناءه، فنفقت به للمحامد سوق، وبسقت ثمرات إحسانه أي بسوق، منع وقرى، وراش وبرى، ووصل وفرى، وكان له من أبنائه عدة أقمار نظمهم نظم السلك، وزين بهم سماء ذلك الملك، فكانوا معاقل بلاده، وحماة طارفه وتلاده، إلى أن استدار الزمان كهيئته، وأخذ البؤس في فيئته، واعتز الخلاف وظهر، وسل الشتات سيفه وشهر، والمعتمد رحمه الله تعالى يطلب نفسه أثناء ذلك بالثبات، بين تلك الثبات، والمقام، في ذلك المقام، إلى أن بدل القطب بالواقع، واتسع الخرق على الراقع، فاستعضد بابن تاشفين فورد عليه خطابه يشعر بالوفاء، فثاب إليه فكر خاطره وفاء، وثبت خلال تلك المدة للنزال، ودعا من رام حربه نزال، إلى أن أصبح والحروب قد نهبته، والأيام تسترجع منه ما وهبته، فثل ذلك العرش، واعتدت الليالي حين أمنت من الأرش، فنقل من صهوات الخيول إلى بطون الأجفان، وهذه الدنيا جميع ما لديها زائل وكل من عليها فان، فما أغنت تلك المملكة وما دفعت، وليتها ما ضرت إذ لم تكن نفعت، وكل يلقى معجله ومؤجله، ويبلغ الكتاب أجله.
وقال الفقيه القاضي أبو بكر ابن خميس رحمه الله تعالى حين ذكر تاريخ بني عباد: وقد ذكر الناس للمعتمد من أوصافه، ما لا يبلغ مع كثرته إلى إنصافه، وأنا الآن أذكر نبذاً من أخباره، وأردفها بما وقفت عليه من منظومات(4/245)
أشعاره، فإنه رحمه الله تعالى جم الأدب رائقه، عالي النظم فائقه، كان يسمى بمحمد، ويكنى بأبي القاسم، على كنية جده القاضي، استبد بالأمر عند موت أبيه المعتضد، وفي ذلك يقول الحصري رحمه الله تعالى:
مات عباد ولكن بقي الفرع الكريم
قكأن الميت حي غير أن الضاد ميم
قال ابن اللبانة رحمه الله تعالى: ولم يزل المعتمد بخير إلى أن كانت سنة خمس وسبعين وأرعمائة، ووصل اليهودي ابن شاليب لقبض الجزية المعلومة مع قوم من رؤساء النصارى، وحلوا بباب من أبواب إشبيلية، فوجه لهم المعتمد المال، مع جماعة من وجوه دولته، فقال اليهودي: والله لا أخذت هذا العيار، ولا آخذه منه إلا مشجراً، وبعد هذا العام لا آخذ منه إلا أجفان البلاد، ردوه إليه، فرد المال إلى المعتمد، وأعلم بالقصة، فدعا بالجند، وقال: ائتوني باليهودي وأصحابه، واقطعوا حبال الخباء، ففعلوا وجاؤوا بهم، فقال: اسجنوا النصارى، واصلبوا اليهودي الملعون، فقال اليهودي: لا تفعل، وأنا أفتدي منك بزنتي مالاً، فقال: والله لو أعطيتني العدوة والأندلس ما قبلتهما منك، فصلب، فبلغ الخبر النصراني، فكتب فيهم، فوجه إليه بهم، فأقسم النصراني أن يأتي من الجنود بعدد سعر رأسه حتى يصل إلى بحر الزقاق، وأمير المسلمين يوسف بن تاشفين إذ ذاك محاصر سبتة، فجاز المعتمد إليه، ووعده بنصرته، فرجع وحث ملوك الأندلس على الجهاد، ثم وصل ابن تاشفين، فكانت غزوة الزلاقة المشهورة، ورجع ابن تاشفين إلى المغرب، ثم جاز بعد ذلك إلى الأندلس، وتوهم ابن عباد أنه إذا أخذ البلاد يأخذ أموالها ويترك الأجفان، فعزم ابن تاشفين على أن يخلع ملوك الأندلس، ودارت إذ ذاك مكايد جمة، ثم وجه ابن تاشفين من سبتة إلى المعتمد يطلب منه الجزيرة الخضراء وفيها ابنه يزيد، فكتب إليه معتذراً عنها، فلم يكن إلا كلمح بالبصر وإذا بمائة شراع قد أطلت على الجزيرة(4/246)
فطير ابنه الحمام إليها، فأمره بإخلائها، فظهر عند ذلك ابن تاشفين، وقيل: إنه لم يجز المرة الأولى حتى طلب من المعتمد الجزيرة لتكون عدة له، وكان ذلك بدسيسة بعض أهل الأندلس نصحاً لابن تاشفين، ثم شرع ابن تاشفين في خلع ملوك الأندلس وقتالهم، وأرسل إلى كل مملكة حماعة من أخل دولته وأجناده يحاصرونها، وأرسل إلى حضرة المعتمد إشبيلية، وشرع في قتالها، والناس قد ملوا الدولة العبادية وسئموها، على ما جرت به العادة من حب الجديد، لا سيما وقد ظهر من ابن عباد من التهتك في الشرب والملاهي ما لا يخفى أمره، فتمنى أكثر الناس الراحة من دولتهم، ولما اشتد مخنق المعتمد وجه عن النصارى، فأعد لهم ابن تاشفين من لقيهم في الطريق، فهزمهم، وجهز ابن تاشفين القطائع لإشبيلية، وجد في حصارها، والمعتمد مع ذلك منغمس في لذاته، وقد ألقى الأمور بيد ابنه الرشيد، فلم يشعر ابن عباد إلا والعسكر معه في البلد، فأفاق من نومه، وصحا من سكره، وركب فرسه وحسامه في يده، وليس عليه إلا ثوب واحد، فوافق العسكر قد دخل من باب الفرج، ووافق هنالك طبالاً فضربه بسيفه ضربة قسمه بها نصفين، ففر الناس أمامه، وتراموا من السور، ووقف حتى بان الباب، وفي ذلك يقول الأبيات المذكورة فيما يأتي:
إن يسلب القوم العدا.... إلخ.
فلما وصل إلى باب الصباغين وجد ابنه مالكاً مقتولاً، فاسترحم له، ودخل القصر، وزاد الأمر بعد ذلك، ودخل البلد من كل جهاته فطلب الأمان له ولمن معه، فأمن وجميع من له، وأعدت له مراكب، واجتاز إلى طنجة، فلقيه الحصري الشاعر، وكان قد ألف له كتاب " المستحسن من الأشعار " فلم يقض بوصوله إليه إلا وهو على تلك الحالة، فلما أخذ المعتمد الكتاب قال للحصري: ارفع ذلك البساط فخذ ما تحته، فوالله ما أملك غيره، فوجد تحته جملة مال، فأخذه، ثم انتقل حتى وصل أغمات، ولم يزل بها إلى أن مات، رحمه الله تعالى.(4/247)
وقال الفتح في ترجمة ما نصه (1) : ملك قمع العدا، وجمع البأس والندى، وطلع على الدنيا بدر هدى، لم يتعطل يوماً كفه ولا بنانه، آونة يراعه وآونة سنانه، وكانت أيامه مواسم، وثغوره بواسم (2) ، ولياليه كلها دررا، وللزمان حجولاً وغرراً، لم يغفلها من سمات عوارف، ولم يضحها من ظل إيناس وارف، ولا عطلها من مأثرة بقي أثرها بادياً، ولقي معتفيه منها إلى الفضل هادياً، وكانت حضرته مطمحاً للهمم، ومسرحاً لآمال الأمم، ومقذفاً لكل كمي، وموقفاً لكل ذي أنف حمي، لم تخل من وفد، ولم يصح جوها من انسجام رفد، فاجتمع تحت لوائه من جماهير الكاة، ومشاهير الحماة، أعداد يغص بهم الفضاء، وأنجاد يزهى بهم النفوذ والمضاء، وطلع في سمائه كل نجم متقد، وكل ذي فهم منتقد، فأصبحت حضرته ميداناً لرهان الأذهان، ومضماراً لإحراز الخصل، في كل معنى وفصل، فلم يلتحق بزمامه إلا كل بطل نجد، ولم يتسق في نظامه إلا ذكاء ومجد، فأصبح عصره أجمل عصر، وغدا مصره أكمل مصر، تسفح فيه ديم الكرم، ويفصح فيه لساناً سيف وقلم، ويفضح الضى في وصفه أيام ذي سلم، وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زيناً، ولتلك الجملة عيناً، إن ركبوا خلت الأرض فلكاً يحمل نجوماً، وإن وهبوا رأيت الغمائم سجوماً، وإن أقدموا أحجم عنترة العبسي، وإن فخروا أفحم عرابة الأوسي، ثم انحرفت الأيام فألوت بإشراقه، وأذوت يانع إيراقه، فلم يدفع الرمح ولا الحسام، ولم تنفع تلك المنن الجسام، فتملك بعد الملك، وحط من فلكه إلى الفلك، فأصبح خائضاً تحدوه الرياح، وناهضاً يجزيه البكاء والصياح، قد ضجت عليه أياديه، وارتجت جوانب ناديه، وأضحت منازله قد بان عنها الأنس والحبور، وألوت ببهجتها الصبا والدبور، فبكت العيون عليه دماً، وعاد
__________
(1) القلائد: وما بعدها.
(2) م: والمطمح: وثغور بره بواسم.(4/248)
موجود الحياة عدماً، وصار أحرار الدهر فيه خدماً، فسحقاً لدنيا ما رعت حقوقه، ولا أبقت شروقه، فكم أحياها لبنيها، وأبداها رائقة لمجتنيها، وهي الأيام لا يتقى من تجنيها (1) ، ولا تبقي على مواليها ومدانيها، أدثرت آثار جلق، وأخمدت نار المحلق، وذلت عزة ابن شداد، وهدت القصر ذا الشرفات من سنداد، ونعمت ببؤس النعمان، وأكمنت غدرها له في طلب الأمان، انتهى.
ثم ذكر الفتح من أخباره وأشعاره ومجالس أنسه وغير ذلك من أمره نبذاً ذكرنا بعضها في هذا الكتاب.
673 - الراضي ابن المعتمد
وقال في ترجمة ابنه الراضي بالله أبي خالد يزيد بن المعتمد ما نصه (2) : ملك تفرع من دوحة سناء، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وتحدر من سلالة أكابر، ورقاة أسرة ومنابر، وتصرف أثناء شبيبته بين دراسة معارف وإفاضة عوارف، وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه، وروضة أجفانه، لا يستريح بغرته منه إلا إلى متن سائل الغرة، ميمون الأسرة، يسابق به الرياح، ويحاسن بغرته البدر اللياح، عريق في السناء، عتيق الاقتناء، سريع الوخد والإرقال، من آل أعوج أو لذي العقال (3) ، إلى أن ولاه أبوه الجزيرة الخضراء، وضم إليها رندة الغراء، فانتقل من متن الجواد، إلى ذروة الأعواد، وأقلع عن الدراسة، إلى تدبير الرياسة، وما زال يدبرها بجوده ونهاه، ويورد الآمل فيها مناه، حتى غدت عراقاً، وامتلأت إشراقاً، إلى أن اتفق في أمر الجزيرة ما اتفق، وخاب
__________
(1) وهي ... تجنيها: سقطت من م.
(2) القلائد: 31.
(3) القلائد: أو ولد العقال؛ والإشارة إلى قول الشاعر:
وترى الجياد يبتن حول خبائنا ... من آل أعوج أو لذي العقال وأعوج والعقال: فحلان من فحول الجياد.(4/249)
فيها الرجاء وأخفق، واستحالت بهجتها، وأحالت عليها من الحال لجتها (1) ، فانتقل إلى رندة معقل أشب، ومنزل للسماك منتسب، وأقام فيها رهين حصار، ومهين حماة وأنصار، ولقيت ريحه كل إعصار، حتى رمته سهام الخطوب عن قسيها، وأمكنت منه يدي مسيها، فحواه رمسه، وطواه عن غده أمسه، حسبما بسطنا القول فيه فيما مر من أخبار أبيه، انتهى.
والذي أشار إليه هنا وأحال عليه فيما تقدم له من أخبار المعتمد هو قوله بعد حكايته قتل المأمون بن المعتمد بقرطبة وسياقه أخبار ذلك ما نصه (2) : ثم انتقلوا إلى رندة أحد معاقل الأندلس الممتنعة، وقواعدها السامية المرتفعة، تطرد منها على بعد مرتقاها، ودنو النجوم من ذراها، عيون لانصبابها دوي كالرعد القاصف، والرياح العواصف، ثم تتكون وادياً يلتوي بجوانبها التواء الشجاع، ويزيدها في التوعر والامتناع، وقد تجونت نواحيها وأقطارها، وتكونت فيها لباناتها وأوطارها، لا يتعذر لها مطلب، ولا يتصور فيها عدو إلا علقه ناب أو مخلب، فلما أناخوا منها على بعد، وأقاموا من الرجاء فيها على غير وعد، وفيها ابنه الراضي لم يحفل بإناختهم بإزائه، ولا عدها من أرزائه، لامتناعه من منازلتهم، وارتفاعه عن مطاولتهم، إلى أن انقضى في أمر إشبيلية ما انقضى، وأفضى أمر أبيه إلى ما أفضى، فحمل على مخاطبته لينزل عن صياصيه، ويمكنهم من نواصيه، فنزل براً بأبيه، وإبقاء على أرماق ذويه، بعد أن عاقدهم مستوثقاً، وأخذ عليهم عهداً من الله وموثقاً، فلما وصل إليهم، وحصل في يديهم، مالوا به عن الحصن وجرعوه الردى، وأقطعوا الثرى حين أودى، وفي ذلك يقول المعتمد يرثيهما، وقد رأى قمربة بائحة بشجنها، نائحة بفننها على سكنها، وأمامها وكر فيه طائران يرددان نغماً، ويغردان ترحة وترنماً:
__________
(1) القلائد: وسالت عليها من الحوادث لجتها.
(2) القلائد: 20.(4/250)
بكت أن رأت إلفين ضمهما وكر مساء وقد أخنى على إلفها الدهر
وناحت فباحت واستراحت بسرها وما نطقت حرفاً يبوح به سر
فما لي لا أبكي أم القلب صخرة وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر
بكت واحداً لم يشجها غير فقده وأبكي لألاف عديدهم كثر
بني صغير أو خليل موافق يمزق ذا قفر وغرق ذا بحر
ونجمان زين للزمان احتواهما ... بقرطبة النكداء (1) أو رندة القبر غدرت إذاً إن ضن جفني بقطرة وإن لومت نفسي فصاحبها الصبر
فقل للنجوم الزهر تبكيهما معي لمثلهما فلتحزن الأنجم الزهر
وقال في ترجمة الراضي ما صورته (2) : وكان المعتمد رحمه الله تعالى كثيراً ما يرميه بملامه، ويصميه بسهامه، فلربما استلطفه بمقال أفصح من دمع المحزون، وأملح من روض الحزون، فإنه كان ينظم من بديع القول لآلئ وعقوداً، تسل من النفوس سخائم وحقوداً، وقد أثبت من كلامه في بث آلامه، واستجارة عذله وملامه، ما تستبدعه، وتحله النفوس (3) وتودعه، فمن ذلك ما قاله وقد أنهض جماعة من إخوته وأقعده، وأدناهم وأبعده:
أعيذك أم يكون بنا خمول ويطلع غيرنا ولنا أفول
حنانك إن يكن جرمي قبيحاً فإن الصفح عن جرمي جميل
ألست بفرعك الزاكي وماذا يرجي الفرع خانته الأصول
ثم قال الفتح بعد كلام (4) : ومرت عليه - يعني الراضي - هوادج وقباب، فيها حبائب كن له وأحباب، ألفهن أيام خلائه من دولة، وجال معهن في
__________
(1) م: النكراء.
(2) القلائد: 32.
(3) م: النفس.
(4) القلائد: 33.(4/251)
ميدان المنى أعظم جولة، ثم انتزعوا منه ببعده، وأودعوا الهوادج من بعده، ووجهوا هدايا إلى العدوة، وألموا بها إلمام قريش بدار الندوة، فقال:
مروا بنا أصلاً بغير ميعاد فأوقدوا نار شوقي أي إيقاد
وأذكروني أياماً لهوت بهن فيها ففازوا بإيثاري وإحمادي
لا غرو أن زاد في وجدي مرورهم فرؤية الماء تذكي غلة الصادي
ولما وصل المعتمد (1) لورقة أعلم أن العدو قد جيش لها واحتشد، ونهد نحوها وقصد، ليتركها خاوية على عروشها، طاوية الجوانح على وحوشها، فتعرض له المعتمد دون بغيته، وطلع عليه من ثنيته، وأمر الراضي بالخروج إليه في عسكر جرده لمحاربته، وأعده لمصادمته ومضاربته، فأظهر التمارض والتشكي، وأضمر التقاعص والتلكي، فراراً من المصادمة، وإحجاماً عن المساومة، وجزعاً من منازلة الأقران، ومقابلة ذوابل المران، ومقاساة الطعان، وملاقاة أبطال كالرعان، ورأى أن المطالعة، أرجح من المقارعة، ومعانة العلوم، أربح من مداواة الكلوم، فقد كان عاكفاً على تلاوة ديوان، عارفاً بإجادة سطر وعنوان، فعلم المعتمد ما نواه، وتحقق ما لواه، فأعرض عنه، ونفض يده منه، ووجه المعتد (2) مع ذلك الجيش الذي لم تنشر بنوده، ولا نصرت جنوده، فعندما لاقوا العدو لاذوا بالفرار، وعاذوا بإعطاء الغرة بدلاً من الغرار، وتفرقوا في تلك الأماريت (3) ، وفرقوا من تخطف أولئك العفاريت، فتحيف العدو من بقي مع المعتمد واهتضمه، وخضم ما في العسكر وقضمه، وغدت مضاربه مجر عواليه، ومجرى مذاكيه، وآب أخسر من بائع السدانة (4) ، ومضيع الأمانة، فانطبقت سماء المعتمد على أرضه، وشغلته عن إقامة نوافله وفرضه، فكتب إليه الراضي:
__________
(1) ق م: العدو.
(2) ق م: وتوجه المعتد.
(3) الأماريت: الأراضي المنبسطة؛ وفي ق م: الأفاريت.
(4) يعني أبا عبشان الذي باع سدانة الكعبة لقصي، قيل: برق خمر.(4/252)
لايكرثنك خطب الحادث الجاري فما عليك بذاك الخطب من عار
ماذا على ضيغم أمضى عزيمته إن خانه حد أنياب وأظفار
لئن أتوك فمن جبن ومن خور قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري
عليك للناس أن تبقى لنصرتهم ... وما عليك لهم إسعاد أقدار (1) لو يعلم الناس فيما أن تدوم لهم بكوا لأنك من ثوب الصبا عاري
ولو أطاقوا انتقاصاً من حياتهم لم يتحفوك بشيءً غير أعمار
فحجب عنه وجه رضاه، ولم يستنزله (2) بذلك ولا استرضاه، وتمادى على إعراضه، وقعد عن إضهاره وإنهاضه، حتى بسطته سوانح السلو، وعطفته عليه جوانح (3) الحنو، فكتب إليه بهزل، غلب فيه كل منزع جزل، وهو:
الملك في طي الدفاتر فتخل عن قود العسكر
طف بالسريرمسلماً وارجع لتوديع المنابر
وازحف الى جيش المعا رف تقهر الحبر المقامر
واطعن بأطراف اليرا ع نصرت في ثغر المحابر
واضرب بسكين الدوا ة مكان ماضي الحد باتر
أولست رسطاليس إن ذكر الفلاسفة الأكابر
وأبو حنيفة ساقط في الرأي حين تكون حاضر
وكذاك إن ذكر الخلي ل فأنت نحوي وشاعر
من هرمس من سيبوي هـ من ابن فورك إذ تناظر
هذي المكارم قد حوي ت فكن لمن حاباك شاكر
واقعد فإنك طاعم كاس وقل: هل من مفاخر
__________
(1) هذا البيت سقط من ق م.
(2) القلائد: ولم يستمله.
(3) ق م: جوانب، وأثبتنا رواية القلائد.(4/253)
لحجبت وجه رضاي عن ك وكنت قد تلقاه سافر
أولست تذكر وقت لو رقة وقلبك ثم طائر
لا يستقر مكانه وأبوك كالضرغام خادر
هلا اقتديت بفعله وأطعته إذ ذاك آمر
قد كان أبصر بالعوا قب والموارد والمصادر
فكتب إليه الراضي مراجعاً بقطعة منها:
مولاي قد أصبحت كافر بجميع ما تحوي الدفاتر
وفللت سكين الدوا ة وظلت للأقلام كاسر
وعلمت أن الملك ما بين الأسنة والبواتر
والمجد والعلياء في ضرب العساكر بالعساكر
لا ضرب أقوال بأق وال ضعيفات مناكر
قد كنت أحسب من سفا هـ أنها أصل المفاخر
فإذا بها فرع لها والجهل للإنسان عاذر
لا يدرك الشرف الفتى إلابعسال وباتر
وهاجرت من سميتهم وجحدت أنهم أكابر
لو كنت تهوى ميتتي لوجدتني للعيش هاجر
ضحك الموالي بالعبي د إذا تؤمل غير ضائر
إن كان لي فضل فمن ك وهل لذاك النور ساتر
أو كان بي نقص فم ني غير أن الفضل غامر
ذكرت عبدك ساعة يبقى لها ما عاش ذاكر
يا ليته قد غيبت هـ عندها إحدى المقابر
أتريد مني أن أكو ن كمن غدا في الدهر نادر
هيهات ذلك مطمع يعيي الأوائل والأواخر(4/254)
لاتنس يا مولاي قو لة ضارع لا قول فاخر
ضبط الجزيرة عندما نزلت بعقوبتها العساكر
أيام ظلت بها فري داً ليس غير الله ناصر
إذ كان يعشي ناظري لمع الأسنة والبواتر
ويصم أسماعي بها قرع الحجارة بالحوافر
وهي الحضيض سهولة لكن ثبت بها مخاطر
هبني أسأت كما أسأ ت أما لهذا العتب آخر
هب زلتي لبنوتي واغفر فإن الله غافر
فقربه وأدناه، وصفح عما كان جناه، ولم تزل الحال آخذة في البوار، والأمور معتلة اعتلال حب الفرزدق للنوار، حتى مضوا لغير طية، وقضوا بين الصوارم والرماح الخطية، حسبما سردناه، وإذا أراد الله سبحانه إنفاذ أمر سبق في علمه، فلا مرد له ولا معقب لحكمه، ولا إله إلا هو رب العالمين؛ انتهى كلام الفتح.
وعلى الجملة فكانت دولة بني عباد بالأندلس من أبهج الدول في الكرم والفضل والأدب، حتى قال ابن لبانة رحمه الله تعالى: إن الدولة العبادية بالأندلس أشبه شيء بالدولة العباسية ببغداد، سعة مكارم، وجمع فضائل، ولذلك ألف فيها كتاباً مستقلاً سماه " الاعتماد في أخبار بني عباد " ولا يلتفت لكلب عقور نبح بقوله:
مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
لأن هذه مقالة متعسف كافر للنعم، ومثل ذلك في حقهم لا يقدح، وما زالت الأشراف تهجى وتمدح.(4/255)
وللمعتمد أولاد ملوك منهم المأمون والرشيد والراضي والمعتد وغيرهم، وقد سردنا خبر بعضهم.
674 - مدائح ابن اللبانة في بني عباد
وكان الداني المذكور مائلاً إلى بني عباد بطبعه، إذ كان المعتمد هو الذي جذب بضبعه، وله فيه المدائح الأنيقة، التي هي أذكى من زهر الحديقة، فمن ذلك قوله من قصيدة يمدحه بها ويذكر أولاده الأربعة، الذين عمروا من المجد أربعة، وهم الرشيد عبيد الله والراضي يزيد والمأمون والمؤتمن، وكانوا نجوم ذلك الأفق وغيوث ذلك الزمن، ولقد أجاد في ذلك كل الإجادة، وأطال لمجدهم نجاده:
يغيثك في محل، يعينك في ردى يروعك في درع، يروقك في برد
جمال وإجمال وسبق وصولة كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد
بمهجته شاد العلا ثم زادها بناء بأبناء جحاجحة لد
بأربعة مثل الطباع تركبوا لتعديل ذكر المجد والشرف العد
والمأمون بن المعتمد قتله لمتونة بقرطبة، والراضي يزيد قتلوه برندة كما سقنا خبره آنفاً، وفي حالتهم هذه يقول الشاعر المشهور عبد الجبار بن حميدس الصقلي:
ولما رحلتم بالندى في أكفكم وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد دنت فهذي الجبال الراسيات تسير
وفي قصة المعتمد يقول الداني المذكور:
لكل شيء من الأشاء ميقات وللمنى في مناياهن غايات(4/256)
والدهر في صفة الحرباء منغمس ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج في يده وطالما قمرت بالبيدق الشاة
انفض يديك من الدنيا وزينتها فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها الأرضي قد كتمت سريرة العالم العلوي أغمات
وهي طويلة ذكرها الفتح وغيره.
وللداني أيضاً قصيدة عملها في المعتمد وهو بأغمات سنة 486 (1) :
تنشق بريحان السلام فإنما أفض به مسكاً عليك مختما
وقل لي مجازاً إن عدمت حقيقة لعلك في نعمي فقد كنت منعما
أفكر في عصر مضى بك مشرقاً فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما
وأعجب من أفق المجرة إذ رأى كسوفك شمساً كيف أطلع أنجما
لئن عظمت فيك الرزية إننا وجدناك منها في الرزية أعظما
قناة سعت للطعن حتى تقسمت وسيف أطال الضرب حتى تثلما
ومنها:
بكى آل عباد (2) ولا كمحمد ... وأولاده صوب الغمامة إذ همى حبيب إلى قلبي حبيب لقوله عسى طلل يدنو بهم ولعلما
صباحهم كنا به نحمد السرى فلما عدمناهم سرينا على عمى
وكنا رعينا العز حول حمامهم فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى
وقد ألبست أيدي الليالي قلوبهم مناسج سدى الغيث فيها وألحما
قصور خلت من ساكنيها فما بها سوى الأدم تمشي حول واقفة الدمى
__________
(1) سمو 486: سقطت من م.
(2) ق م: محمود.(4/257)
تجيب بها الهام الصدى ولطالما أجاب القيان الطائر المترنما
كأن لم يكن فيها أنيس، ولا التقى بها الوفد جمعاً والخميس عرمرما
ومنها:
حكيت وقد فارقت ملكك مالكاً ومن لهي أحكي عليك متمما
مصاب هوى بالنيرات من العلا ولم يبق في أرض المكارم معلما
تضيق علي الأرض حتى كأنما خلقت وإياها سواراً ومعصما
ندبتك حتى لم يخل لي الأسى دموعاً بها أبكي عليك ولا دما
وإني على رسمي مقيم فإن أمت سأجعل للباكين رسمي موسما
بكاك الحيا والريح شقت جيوبها عليك وناح الرعد باسمك معلما
ومزق ثوب البرق واكتست الضحى حداداً وقامت أنجم الجو أفحما
وحار ابنك الإصباح وجداً فما اهتدى وغار أخوك البحر غيضاً فما طمى
وما حل بدر التم بعدك دارة ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما
قضى الله أن حطوك عن ظهر أشقر بشم وأن أمطوك أشأم أدهما
وكان قد انفكت عنه القيود، فأشار إلى ذلك بقوله فيها:
قيودك ذابت فنطلقت لقد لقدغدت قيودك منهم بالمكارم أرحما
عجبت لأن لان الحديد وأن قسوا لقد كان منهم بالسريرة أعلما
سينجيك من نجى من السجن يوسفاً ويؤويك من آوى المسيح بن مريما
ولأبي بكر الداني المذكور في البكاء على أيامهم وانتثار نظامهم عدة مقطوعات وقصائد، هي قرة عين الطالب ونجعة الرائد، وقد اشتمل عليها جزء لطيف، صدر عنه في هيئة تصنيف، سماه " السلوك في وعظ الملوك "، ووفد على المعتمد وهو بأغمات، عدة وفادات، لم يخل في جميعها من إفادات، وقال في إحداها، هذه وفادة وفاء لا وفادة اجتداء.(4/258)
675 - مقتطفات من أخبار المعتمد
قال غير واحد: من النادر الغريب أنه نودي في جنازته " الصلاة على الغريب " بعد عظم سلطانه، وسعة أوطانه، وكثرة صقلبته وحبشانه، وعظم أمره وشانه، فتبارك من له العزة والبقاء والدوام، واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام، الذين لهم في الأدب حصة، ولقضية المعتمد في صدورهم غصة، منهم البالغ في البلاغة الأمد، شاعره أبو بحر عبد الصمد، وكان به خصيصاً، وكم ألبسه من بره حلة وقميصاً، فقال من قصيدة طويلة أجاد فيها ما شا، وجلب بها إلى أنفس الحاضرين بعد الأنس إيحاشا، مطلعها:
ملك الملوك أسامع فأنادي أم قد عدتك عن السماع عوادي
ومنها:
لما خلت منك القصور ولم تكن فيها كما قد كنت في الأعياد
قبلت من هذا الثرى لك خاضعاً وجعلت قبرك موضع إنشاد
فلما بلغ من إنشاده، إلى مراده، قبل الثرى ومرغ جسمه وعفر خده، فبكى كل من حضر وصرفه ذلك عن سرور العيد وصده، إذ كانت هذه القصة يوم عيد، فسبحان المبدئ المعيد.
ويحكى أن رجلاً رأى في منامه إثر الكائنة على المعتمد بن عباد كأن رجلاً صعد منبر جامع قرطبة فاستقبل الناس وأنشد هذه الأبيات متمثلاً:
رب ركب قد أناخوا عيسهم في ذرى مجدهم حين بسق
سكت الدهر زماناً عنهم ثم أبكاهم دماً حين نطق
وعاش أبو بكر ابن اللبانة المعروف بالداني المذكور آنفاً بعد المعتمد، وقدم ميورقة آخر شعبان سنة 489، ومدح ملكها مبشر بن سليمان بقصيدة مطلعها:(4/259)
ملك يروعك في حلى ريعانه راقت برونقه صفات زمانه
وأين هذا من أمداحه في المعتمد
وتذكرت هنا من أحوال الداني أنه دخل على ابن عمار في مجلس، فأراد أن يندر به وقال له: اجلس ياداني، بغير ألف، فقال له: نعم يا ابن عمار، بغير ميم، وهذا هو الغاية في سرعة الجواب والأخذ بالثأرفي المزاح.
ونظيره - وإن كان من باب آخر - أن المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء إشبيلية، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط، فكشفت وجهها، وتكلمت بكلام لايقتضيه الحياء، وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون به الجبس والجيارين الصانعين للجير، بإشبيلية، فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين، وقال: يا ابن عمار الجيارين، ففهم مراده، وقال في الحال: يا مولاي والجباسين، فلم يفهم الحاضرون المراد، وتحيروا، فسألوا ابن عمار، فقال له المعتمد: لاتبعها منهم إلا غالية، وتفسيرها أن ابن عباد صحف " الحيا زين " بقوله
الجيارين إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء لازدانت، فقال له والجباسين وتصحيفه " والخناشين " أي: هي وإن كانت جميلة بديعة الحسن لكن الخنا شانها، وهذا شأو لا يلحق.
ومن أخبار المعتمد أنه جلس يوماً والبزاة تعرض عليه، فاستحث الشعراء في وصفها، فصنع ابن وهبون بديهاً:
للصيد قبلك سنة مأثورة لكنها بك أبدع الأشياء
تمضي البزاة وكلما أمضيتها عاطيتها بخواطر الشعراء
فاستحسنهما، وأسنى جائزته.
وذكر ابن بسام أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد يوماً وقد حمل إليه حمولة وافرة من قراريط الفضة، فأمر له بسكين منها، وكان بين يديه تماثيل(4/260)
عنبر من جملتها جمل مرصع بالذهب واللآلئ، فقال أبو العرب معرضاً: ما يحمل هذين الكيسين إلا جمل، فابتسم المعتمد وأمر له به، فقال أبو العرب بديهاً:
أهديتني (1) جملاً جوناً شفعت به ... حملاً من الفضة البيضاء لو حملاً نتاج جودك في أعطان مكرمة لا قد تصرف من منع ولا عقلا
فاعجب لشأني فشأني كله عجب رفهتني فحملت الحمل والجملا
وذكر الحجاري هذه القصة فقال: قعد المعتمد في مجلس احتفل في تنضيده وإحضار الطرائف الملوكية، وكان في الجملة تمثال جمل من بلور، وله عينان من ياقوتتين، وقد حلي بنفائس الدر، فأنشده أبو العرب قصيدة، فأمر له بذهب كثير مما كان بيده من السكة الجديدة، فقال معرضاً بذلك الجمل: ما يحمل هذه الصلة إلا جمل! فقال: خذ هذا الجمل، فإنه حمال أثقال، فارتجل شعراً منه:
رفهتني فحملت الحمل والجملا
وذكر أن ذلك الجمل بيع بخمسمائة مثقال، فسارت بهذا الخبر الركائب، وتهادته المشارق والمغارب.
وتباحث المعتمد مرة مع الجلساء في بيت المتنبي الذي زعم أنه أمير شعره:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فقال: ما قصر في مقابلة كل لفظة بضدها إلا أن فيه نقداً خفياً، ففكروا فيه، فلما فكروا وقالوا له: ما وقفنا على شيء، فقال: الليل لا يطابق إلا بالنهار لأن الليل كلي والصبح جزئي، فتعجب الحاضرون، وأثنوا على تدقيق انتقاده.
__________
(1) أهديت لي؛ وقد مرت الأبيات في ج 3: 569.(4/261)
قال الصفدي: قلت: ليس هذا بنقد صحيح، والصواب مع أبي الطيب، لأنه قال " أزورهم وسواد الليل يشفع لي " فهذا محب يزور أحبابه في سواد الليل خوفاً ممن يشي به، فإذا لاح الصبح أغرى به الوشاة، ودل عليه أهل النميمة، والصبح أول ما يغري به قبل النهار، وعادة الزائر المريب أن يزور ليلاً، وينصرف عند انفجار الصبح خوفاً من الرقباء، ولم تجر العادة أن الخائف يتلبث إلى أن يتوضح النهار، ويمتلئ الأفق نوراً، فذكر الصبح هنا أول من ذكر النهار، والله أعلم، انتهى.
قلت: كان يختلج في صدري ضعف ما قال الصفدي، حتى وقفت على ما كتبه البدر البشتكي، ومن خطه نقلت ما صورته: هو ما انتقد عليه المعنى، إنما انتقد عليه مطابقة الليل بالصبح، فإن ذلك فاسد، انتهى، فحمدت الله على الموافقة، انتهلى.
وقال في بدائع البدائه (1) : جلس المعتمد للشرب وذلك في وقت مطر أجرى كل وهدة نهراً، وحلى جيد كل غصن من الزهر جوهراً، وبين يديه جارية تسقيه وهي تقابل وجهها بنجم الكأس في راحة كالثريا، وتخجل الزهر بطيب العرف والريا، فاتفق أن لعب البرق بحسامه، وأجال سوطه المذهب يسوق به ركامه، فارتاعت لخطفته، وذعرت من خيفته، فقال المعتمد بديهاً:
روعها البرق وفي كفها برق من القهوة لماع
عجبت منها وهي شمس الضحى كيف من الأنوار ترتاع
فاستدعى عبد الجليل بن وهبون المرسي، وأنشده البيت الأول مستجزياً، فقال عبد الجليل:
ولن ترى أعجب من آنس من مثل ما يمسك يرتاع
__________
(1) بدايع البدائه 1: 100 - 101؛ وانظر ص: 92 من هذا الجزء.(4/262)
فاستحسنه، وأمر له بجائزة.
قال ابن ظافر: وبيته عندي أحسن من بيت المعتمد، انتهى.
وقال ابن بسام (1) : كان في قصر المعتمد فيل من الفضة على شاطئ بركة يقذف الماء، وهو الذي يقول فيه عبد الجليل بن وهبون من بعض قصيدة:
ويفرغ فيه مثل النصل بدع من الأفيال لا يشكو ملالا
رعى رطب اللجين فجاء صلباً تراه قلما يخشى هزالا
فجلس المعتمد يوماً على تلك البركة والماء يجري من ذلك الفيل، وقد أوقدت شمعتان من جانبيه، والوزير أبو بكر ابن الملح عنده، فصنع الوزير فيهما عدة مقاطيع بديهاً منها:
ومشعلين من الأضواء قد قرنا بالماء والماء بالدولاب منزوف
لاحا لعيني كالنجمين، بينهما خط المجرة ممدود ومعطوف
وقال أيضاً:
كأنما النار فوق الشمعتين سناً والماء من نفذ الأنبوب منسكب
غمامة تحت جنح الليل هامعة في جنبيها حفاف البرق يضطرب
وقال أيضاً:
وأنبوب ماء بين نارين ضمنا هوىً لكؤوس الراح تحت الغياهب
كأن اندفاع الماء بالماء حية يحركها في الماء لمع الحباحب
وقال أيضاً:
كأن سراجي شربهم في التظائها وأنبوب ماء الفيل في سيلانه
كريم تولى كبره من كليهما لئيمان في إنفاقه يعذلانه
__________
(1) بدايع البدائه 2: 137.(4/263)
676 - ابن زيدون عند بني عباد
ولما مات والد المعتمد واستقل بالملك قال ذو الوزارتين ابن زيدون يرثي المعتضد ويمدح المعتمد بقصيدة طويلة أولها (1) :
هو الدهر فاصبر للذي أحدث الدهر ... فمن شيم الأحرار (2) في مثلها الصبر
ستصبر صبر اليأس أو صبر حسبة (3) ... فلا تؤثرالوجه الذي معه الوزر حذارك من أن يعقب الرزء فتنة يضيق بها عن مثل إيمانك العذر
إذا آسف الذكل اللبيب فشفه ... رأى أفدح الثكلين أن يذهب (4) الأجر مصاب الذي يأسى بموت ثوابه هو البرح لا الميت الذي أحرز القبر
حياة الورى نهج إلى الموت مهيع لهم فيه إيضاع كما يوضع السفر
ومنها:
إذا الموت أضحى قصد كل معمر فإن سواء طال أو قصر العمر
ألم تر أن الدين ضيم ذماره فلم يغن أنصاره عديدهم دثر
بحيث استقل الملك ثاني عطفه وجرر من أذياله العسكر المجر
هو الضيم لو غير القضاء يرومه ثناه المرام الصعب والمسلك الوعر
إذا عثرت جرد العناجيج في القنا بليل عجاج ليس يصدعه فجر
ومنها:
أعباد يا أوفى الملوك لقد عدا عليك زمان من سجيته الغدر
إلى أن قال بعد أبيات كثيرة:
__________
(1) ديوان ابن زيدون: 562.
(2) الديوان: الأبرار.
(3) في الأصول: وحشة.
(4) الديوان: أن يهلك.(4/264)
ألا أيها المولى الوصول عبيده لقد رابنا أن يتلو الصلة الهجر
يغاديك داعينا السلام كعهده فما يسمع الداعي ولا يرفع الستر
أعتب علينا ذاد عن ذلك الرضى ... فتسمع (1) أم بالسمع المعتلي وقر ومنها:
وكيف بنسيان وقد ملأت يدي جسام أياد منك أيسرها الوفر
وإن كنت لم أشكر لك المنن التي ... تمليتها تترى فأوبقني (2) الكفر فهل علم الشلو المقدس أنني مسوغ حال حار في كنهها الفكر
وأن متاتي لم يضعه محمد خليفتك العدل الرضى وابنك البر
هو الظافر الأعلى المؤيد بالذي له في الذي وافاه من صنعه سر
له (3) في اختصاصي ما رأيت وزادني ... مزية زلفى من نتائجها الفخر وأرغم في بري أنوف عصابة لقاؤهم جهم ولحظهم شزر
إذا ما استوى في الدست عاقد حبوة وقام سماطا حفله فلي الصدر
وفي نفسه العلياء لي متبوأ ... يساجلني (4) فيه السماكان والنسر ومنها:
لك الخير إن الرزء كان غيابة (5) ... طلعت لنا فيها كما طلع البدر فقرت عيون كان أسخنها البكا وقرت قلوب كان زلزلها الذعر
ومنها:
ولما قدمت الجيش بالأمر أشرقت إليك من الآمال آفاقها الغبر
__________
(1) الديوان: فنعتب.
(2) الأصول: فلا بقي؛ وهو خطأ.
(3) الديوان: رأي.
(4) الديوان: ينافسي.
(5) في الأصول والديوان: غيابة - بالباء الموحدة -؛ والغاية: السحابة، وهو أنسب لذكر البدر.(4/265)
فقضيت من فرض الصلاة لبانة ... فشيعها نسك وقارنها (1) طهر
ومن قبل ما قدمت مثنى نوافل ... يلاقي بها من صام من عوز (2) فطر
ورحت إلى القصر الذي غض طرفه ... بعيد التسامي أن غدا غيره قصر وأجمل عن الثاوي العزاء فإن ثوى فإنك لا الواني ولا الضرع الغمر
وما أعطت السبعون قبل أولي الحجى من اللب ما أعطاك عشروك والعمر
ألست الذي إن ضاق ذرع بحادث تبلج منه الوجه واتسع الصدر
فلا تهض الدنيا جناحك بعده فمنك لمن هاضت نوائبها جبر
ولا زلت موفور العديد بقرة لعينك مشدوداً بها ذلك الأزر
فإنك شمس في سماء رياسة تطلع منهم حولنا أنجم زهر
شككنا فلم نثبت: أأيام دهرنا بها وسن أم هز أعطافها سكر
وما إن تغشتها مغازلة الكرى ... وما إن تمشت في معاطفها الخمر (3) سوى نشوات من سجايا مملك يصدق في عليائها الخبر الخبر
أرى الدهر إن يبطش فأنت ينينه وإن تضحك الدنيا فأنت لها ثغر
وكم سائل بالغيب عنك أجبته هناك الأيادي الشفع والسودد الوتر
هناك التقى والعلم والحلم والنهى وبذل اللها والبأس والنظم والنثر
همام إذا لاقى المناجز رده وإقباله خطر وإدباره حصر
محاسن ما للروض سامره الندى رواء إذا نصت حلاها ولا نشر
متى انتشقت لم تدر (4) دارين مسكها ... حياء ولم تفخر بعنبرها الشحر عطاء ولا من، وحكم ولا هوى وحلم ولا عجز، وعز ولا كبر
قد استوفت النعماء فيك تمامها علينا فمنا الحمد لله والشكر
__________
(1) الديوان: مشيعها ... وفارطها.
(2) في الصول: غيره.
(3) الديوان: في مفاصلها خمر.
(4) الديوان: لم تطر.(4/266)
وكتب ابن زيدون المذكور إلى المعتمد رحمهما الله تعالى يشوقه إلى تعاطي الحميا، في قصوره البديعة التي منها المبارك والثريا (1) :
فز بالنجاح وأحرز الإقبالا وخذ المنى وتنجز الآمالا
وليهنك التأييد والظفر اللذا صدقاك في السمة العلية فالا
يا أيها الملك الذي لولاه لم تجد العقول الناشدات كمالا
أما الثريا فالثريا نسبة وإفادة وإنافة وجمالا
قد شاقها الإغباب حتى إنها لو تستطيع سرت إليك خيالا
رفه ورودكها لتغنم راحة وأطل مزاركها لتنعم بالا
وتأمل (2) القصر المبارك وجنة ... قد وسطت فيها الثريا خالا
وأدر هناك من المدام كؤوسها ... وأتمها (3) وأشفها جريالا قصر يقر العين منه مصنع بهج الجوانب لو مشى لاختالا
لا زلت تفترش السرور حدائقاً فيه وتلتحف النعيم ظلالا
وأهدى إليه تفاحاً، واعتقد أن يكتب معه قطعة، فبدأ بها، ثم عرض له غيرها فتركها ثم ابتدأ (4) :
دونك الراح جامده وفدت خير وافده
وجدت سوق ذوبها عندك اليوم كاسده
فاستحالت إلى الجمو د وجاءت مكايده
وكتب إلى المعتمد (5) :
__________
(1) ديوان ابن زيدون: 520.
(2) الديوان: وتمثل.
(3) الديوان: أنمها أرجاً زكا.
(4) الديوان: 224.
(5) الديوان: 616.(4/267)
يا أيها الظافر نلت المنى ولا أتانا فيك محذور
إن الخلال الزهر قد ضمها ثوب عليك الدهر مزرور
لا زال للمجد الذي شدته ربع بتعميرك معمور
وافاك نظم لي في طيه معنى معمى اللفظ مستور
مرامه يصعب ما لم يبح بالسر قمري وشحرور
وذكر أبياتاً فيها أسماء طيور عمى بها عن بيت طيره فيها، والبيت المطير فيه:
أنت إن تغز ظافر فليطع من ينافر
ففكه المعتمد وجاوبه (1) :
يا خير من يلحظه ناظري ... شهادة ما شأنها (2) زور ومن إذا خطب دجا ليله لاح به من رأيه نور
جاءتني الطير التي سرها نظم به قلبي مسرور
شعر هو السحر فلا تنكروا أنني به ما عشت مسحور
اللفظ والقرطاس إن شبها قيل هما مسك وكافور
هوى لحسن الطير من فكرتي صقر فولى وهو مقهور
ولاح لي بيت فؤادي له دأباً على ودك مقصور
حظك من شكري يا سيدي ... حظ تمالا منك (3) موفور فصرت في نظمي فاعذر فمن ضاهاك في التقصير معذور
فأنت إن تنظم وتنثر فقد أعوز منظوم ومنثور
__________
(1) انظر ديوان ابن زيدون: 618.
(2) الديوان: شابها.
(3) الديوان: بما بدا لي منك.(4/268)
لا يعدكم روض من الحظ في ال إكرام والترفيع ممطور
فكتب إليه ابن زيدون (1) :
حظي من نعماك موفور وذنب دهري بك مغفور
وجانبي إن رامه أزمة (2) ... حجر لدى ظلك محجور يا ابن الذي سرب الهدى آمن منذ انبرى يحميه مخفور
وآمر الدهر الذي لم يزل ... يصغي إليه منه مأمور
ألبس منك الدهر (3) أسنى الحلى ... بظافر منحاه منصور
يا مروري (4) المأثور يا من له ... مجد مع الأيام مأثور عبدك إن أكثر من شكره فهو بما توليه مكثور
إن تعف عن تقصيره منعماً فاليسر أن يقبل معسور
إن حلال السحر إن صغته في صحف الأنفس مسطور
نظم زهاني منه إذ جاءني علق عظيم القدر مذخور
لا غرو أن أفتن إذ لاحظت فكري منه أعين حور
تنم عن معناه ألفاظه كما وشى بالراح بلور
جهلت إذ عارضته غير أن لا بد أن ينفث مصدور
يا آل عباد موالاتكم زاك من الأعمال مبرور
إن الذي يرجو موازاتكم من المناوين لمغرور
مكانه منكم كما انحط عن منزلة المرفوع مجرور
لا زلتم في غبطة ما انجلى عن فلق الإصباح ديجور
__________
(1) ديوانه: 620.
(2) الديوان: إن زمني رامه.
(3) الديوان: الملك.
(4) في الصول: قام وفي؛ والمأثور: السيف.(4/269)
ولا يزال يجري بما شئتم أعماركم لله مقدور
وكتب المعتمد إلى ابن زيدون بعد أن فك معمى كتب به إليه ابن زيدون ما صورته (1) :
العين بعدك تقذى بكل شيء تراه
فليجل شخصك عنها ما بالمغيب جناه
وقد قدمنا من كلام أبي الوليد ابن زيدون رحمه الله تعالى ما فيه كفاية.
رجع إلى بني عباد
قال ابن حمديس (2) : لما قدمت وافداً على المعتمد بن عباد استدعاني وقال: افتح الطاق، فإذا بكير زجاج والنار تلوح من بابيه، وواقده يفتحهما تارة ويسدهما أخرى، ثم أدام سد أجدهما، وفتح آخر، فحين تأملتهما قال لي: أجز:
انظرهما في الظلام قد نجما فقلت:
كما رنا في الدجنة الأسد
فقال:
يفتح عينيه ثم يطبقها
فقلت:
فعل امرىء في جفونه رمد
__________
(1) ديوان ابن زيدون: 214.
(2) انظر هذا الخبر ومقطعات ابن حمديس في ديوانه: 8، 533، 543، والخبر في النفح 3: 616 - 617.(4/270)
فقال:
فابتزه الدهر نور واحدة
فقلت:
وهل نجا من صروفه أحد
فاستحسن ذلك وأطربه، وأمر لي بجائزة، وألزمني الخدمة.
677 - مقطعات لابن حمديس
وعلى ذكر ابن حمديس فما أحسن قوله:
أراك ركبت في الأهوال بحراً عظيماً ليس يؤمن من خطوبه
تسير فلكه شرقاً وغرباً وتدفع من صباه إلى جنوبه
وأصعب من ركوب البحر عندي أمور ألجأتك إلى ركوبه
ولغيره:
إن ابن آدم طين والبحر ماء يذيبه
لولا الذي فيه يتلى ما جاز عندي ركوبه
وقال ابن حمديس في هذا المعنى:
لا أركب البحر، أخشى علي منه المعاطب
طين أنا وهو ماء والطين في الماء ذائب
رجع إلى بني عباد رحمهم الله تعالى
قال ابن بسام (1) : أخبرني الحكيم النديم المطرب أبو بكر ابن الإشبيلي، قال: حضرت مجلس الرشيد بن المعتمد بن عباد وعنده الوزير أبو بكر ابن عمار،
__________
(1) بدائع البدائه: 129.(4/271)
فلما دارت الكأس، وتمكن الأنس، وغنيت أصواتاً ذهب الطرب بابن عمار كل مذهب، فارتجل يخاطب الرشيد:
ما ضر أن قيل إسحاق وموصله ها أنت أنت وذي حمص وإسحاق
أنت الرشيد فدع من قد سمعت به وإن تشابه أخلاق وأعراق
لله درك داركها مشعشعة واحضر بساقيك ما قامت بنا ساق
وكان الرشيد هذا أحد أولاد المعتمد النجبا، وله أخبار في الكرم يقضي الناظر فيها من أمرها عجبا، وكذلك إخوته، وقد ألمعنا في هذا الكتاب بجملة من محاسنهم، وأمهم اعتماد الملقبة بالرميكية هي التي ترجمناها في هذا الموضع، واقتضت المناسبة ذكر أمر بني عباد، فلنعد إلى ما كنا بصدده من أخبارها رحمها الله تعالى، فنقول:
رجع إلى ذكر الرميكية
قال ابن سعيد في بعض مصنفاته: كان المعتمد كثيراً ما يأنس بها، ويستظرف نوادرها، ولم تكن لها معرفة بالغناء، وإنما كانت مليحة الوجه، حسنة الحديث، حلوة النادر، كثيرة الفكاهة، لها في كل ذلك نوادر محكية، وكانت في عصرها ولادة بنت محمد بن عبد الرحمن، وهي أبدع منها ملحاً، وأحسن افتناناً، وأجل منصباً، وكان أبوها أمير قرطبة، ويلقب بالمستكفي بالله، وأخبار أبي الوليد ابن زيدون معها وأشعاره فيها مشهورة، انتهى ملخصاً.
ومن أخبار الرميكية القصة المشهورة في قولها " ولا يوم الطين " وذلك أنها رأت الناس يمشون في الطين، فاشتهت المشي في الطين، فأمر المعتمد، فسحقت أشياء من الطيب، وذرت في ساحة القصر حتى عمته، ثم نصبت الغرابيل، وصب فيها ماء الورد على أخلاط الطيب، وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين(4/272)
وخاضتها مع جواريها. وغاضبها في بعض الأيام، فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط، فقال: ولا يوم الطين فاستحيت واعتذرت، وهذا مصداق نبينا صلى الله عليه وسلم في حق النساء " لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط ".
قلت: ولعل المعتمد أشار في أبياته الرائية إلى هذه القضية حيث قال في بناته:
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
وحتمل أن يكون أشار بذلك إلى ما جرت به عادة الملوك من ذر الطيب في قصورهم حتى يطؤوه بأقدامهم، زيادة في التنعم.
وسبب قول المعتمد ذلك ما حكاه الفتح فقال (1) : وأول عيد أخذه - يعني المعتمد - بأغمات وهو سارح، وما غير الشجون له مبارح (2) ، ولا زي إلا حالة الخمول، واستحالة المأمول، فدخل عليه من بنيه، من يسلم عليه ويهنيه (3) ، وفيهم بناته وعليهن أطمار، كأنها كسوف وهن أقمار، يبكين عند التساؤل، ويبدين الخشوع بعد التخايل، والضياع قد غير صورهن، وحير نظرهن، وأقدامهن حافية، وآثار نعيمهن عافية، فقال (4) :
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا
__________
(1) القلائد: 25.
(2) كذا في ق م؛ وفي القلائد: مسارح.
(3) في الصول اضطراب، واثبتنا ما في القلائد.
(4) لم تورد نسخة م هذه القصيدة، لأنها من قبل (الورقة: 232) وأثبتت في موضعها: " وقد سبقت هذه الأبيات ".(4/273)
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
لا خد إلا تشكى الجدب ظاهره وليس مع الأنفاس ممطورا
أفطرت في العيد لا عادت مساءته فكان فطرك للأكباد تفطيرا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً فردك الدهر منهياً ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالأحلام مغرورا
678 - عود إلى أخبار المعتمد
وقال الفتح أيضاً (1) : ولما نقل المعتمد من بلاده، وأعري من طارفه وتلاده، وحمل في السفين، وأحل في العدوة محل الدفين، تندبه منابره وأعواده، ولا يدنو منه زواره ولا عواده، بقي أسفاً تتصعد زفراته، وتطرد اطراد المذانب عبراته، لا يخلو بمؤانس، ولا يرى إلا عريناً بدلاً من تلك المكانس، ولما لم يجد سلواً، ولم يؤمل دنواً، ولم ير وجه مسرة مجلواً، تذكر منازله فشاقته، وتصور بهجتها فراقته، وتخيل استيحاش أوطانه، وإجهاش قصره إلى قطانه، وإظلام جوه من أقماره، وخلوه من حراسه وسماره، فقال:
بكى المبارك في إثر ابن عباد بكى على إثر غزلان وآساد
بكت ثرياه لا غمت كواكبها بمثل نوء الثريا الرائح الغادي
بكى الوحيد، بكى الزاهي وقبته والنهر والتاج، كل ذله بادي
ماء السماء على أفيائه درر يا لجة البحر دومي ذات إزباد
وفي ذلك يقول ابن اللبانة (2) :
أستودع الله أرضاً عندما وضحت بشائر الصبح فيها بدلت حلكا
__________
(1) القلائد: 3.
(2) أوجزت " م " هنا، لورود الأبيات قبلاً.(4/274)
كان المؤيد بستاناً بساحتها يجني النعيم وفي عليائها فلكا
في أمره لملوك الدهر معتبر فليس يغتر ذو ملك بما ملكا
نبكيه من جبل خرت قواعده فكل من كان في بطحائه هلكا
وكان القصر الزاهي (1) من أجمل المواضع لديه وأبهاها، وأحبها إليه وأشهاها، لإطلاله على النهر، وإشرافه على القصر، وجماله في العيون، واشتماله بالزهر (2) والزيتون، وكان له به من الطرب، والعيش المزري بحلاوة الضرب، ما لم يكن بحلب لبني حمدان، ولا لسيف بن ذي يزن في رأس غمدان، وكان كثيراً ما يدير به راحه، ويجعل فيه انشراحه، فلما امتد الزمان إليه بعدوانه، وسد عليه أبواب سلوانه، لم يحن إلا إليه، ولم يتمن غير الحلول لديه، فقال (3) :
غريب بأرض المغربين أسير سيبكي عليه منبر وسرير
وتندبه البيض الصوارم والقنا وينهل دمع بينهن غزير
مضى زمن والملك مستأنس به وأصبح منه اليوم وهو نفور
برأي من الدهر المضلل فاسد متى صلحت للصالحين دهور
أذل بني ماء السماء زمانهم وذل بني ماء السماء كبير
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة أمامي وخلفي روضة وغدير
بمنبتة الزيتون مورثة العلا تغني حمام أو ترن طيور
بزاهرها السامي الذي جاده الحيا تشير الثريا نحونا ونشير
ويلحظنا الزاهي وسعد سعوده غيورين والصب المحب غيور
تراه عسيراً لا يسيراً مناله ألا كل ما شاء الإله يسير
وقال الحجاري في " المسهب ": إن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أهدى
__________
(1) القلائد: الحصن الزاهر.
(2) القلائد: بالشجر.
(3) اختصرت " م " إيراد هذه القصيدة لأن هذه الأبيات تقدمت.(4/275)
إلى المعتمد جارية مغنية قد نشأت بالعدوة، وأهل العدوة بالطبع يكرهون أهل الأندلس، وجاء بها إلى إشبيلية وقد كثر الإرجاف بأن سلطان الملثمين ينتزع بلاد ملوك الطوائف منهم، واشتغل خاطر ابن عباد بالفكر في ذلك، فخرج بها إلى قصر الزاهر على نهر إشبيلية، وقعد على الراح، فخطر بفكرها أن غنت عندما انتشى هذه الأبيات:
حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم ولووا عمائمهم على الأقمار
وتقلدوا يوم الوغى هندية أمضى إذا انتضيت من الأقدار
إن خوفوك لقيت كل كريهة أو أمنوك حللت دار قرار
فوقعفي قلبه أنها عرضت بساداتها، فلم يملك غضبه، ورمى بها في النهر، فهلكت، انتهى، فقدر الله تعالى أن كان تمزيق ملكه على يدهم تصديقاً للجارية في قولها:
إن خوفوك لقيت كل كريهة
وحصره جيوش لمتونة الملثمين حتى أخذوه قهراً، وسيق إلى أمير المسلمين، والقصة مشهورة.
وقال الفتح في شأن حصار المعتمد ما صورته (1) : ولما تم في الملك أمده، وأراد الله أن تخر عمده، وتنقرض أيامه، وتتقوض عن عراص الملك خيامه، نازلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته، وظاهرته فساطيطه ومظلاته، بعدما نثرت حصونه وقلاعه، وسعرت بالنكاية جوانحه وأضلاعه، وأخذت عليه الفروج والمضايق، وثنت إليه الموانع والعوايق، وطرقته بطوارقها بالإضرار، وأمطرته من النكاية كل ديمة مدرار، وهو ساه بروض ونسيم، لاه براح
__________
(1) القلائد: 21.(4/276)
ومحيا وسيم، زاه بفتاة تنادمه، ناه عن هدم أنس هو هادمه، لا يصيخ إلى نبأة سمعه، ولا ينيخ إلا على لهو يفرق جموعه جمعه، وقد ولى المدامة ملامه، وثنى إلى ركنها طوافه واستلامه، وتلك الجيوش تجوس خلاله، وتقلص ظلاله، وحين اشتد حصاره، وعجز عن المدافعة أنصاره، ودلس عليه ولاته، وكثرت أدواؤه وعلاته، فتح باب الفرج، وقد لفح شواظ الهرج، فدخلت عليه من المرابطين زمرة، واشتعلت من التغلب جمرة، تأجج اضطرامها، وسهل بها إيقاد الفتنة (1) وإضرامها، وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسراًمن مفاضته، جامحاً كالمهر قبل رياضته، فلحق أوائلهم عند الباب المذكور وقد انتشروا في جنباته، وظهروا على البلد من أكثر جهاته، وسيفه في يده يتملظ للطلى والهام، ويعد بانفراج ذلك الاستبهام، فرماه أحد الداخلين برمح تخطاه، وجاوز مطاه، فبادره بضربة أذهبت نفسه، وأغربت شمسه، ولقي ثانياً فضربه وقسمه، وخاض حشا ذلك الداء وحسمه، فأجلوا عنه، وولوا فراراً منه، فأمر بالبا فسد، وبني منه ما هد، ثم انصرف وقد أراح نفسه وشفاها، وأبعد الله تعالى عنه الملامة ونفاها، وفي ذلك يقول عندما خلع، وأودع من المكروه ما أودع:
إن يسلب القوم العدى ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه لم تسلم القلب الضلوع
قد رمت يوم نزالهم أن لا تحصنني الدروع
وبرزت ليس سوى القمي ص على الحشا شيء دفوع
أجلي تأخر لم يكن بهوادي ذلي والخضوع
ما سرت قط إلى القتا ل وكان من أملي الرجوع
شيم الألى أنا منهم والأصل تتبعه الفروع
__________
(1) القلائد: البقية.(4/277)
وما زالت عقارب تلك الداخلة تدب، ثو ذكر الفتح تمام هذا الكلام فراجعه فيما مر بنحو ثلاث ورقات.
ومن حكايات مجالس أنسه أيام ملكه، قبل أن ينظمه صرف الدهر في سلكه، ما حكاه الفتح (1) عن ذخر الدولة أنه دخل عليه في دار المزينية (2) والزهر يحسد إشراق مجلسه، والدر يحكي اتساق تأنسه، وقد رددت الطير شدوها، وجودت (3) طربها ولهوها، وجددت كلفها وشجوها، والغصون قد التحفت بسندسها، والأزهار تحيي بطيب تنفسها، والنسيم يلم بها فتضعه بين أجفانها، وتودعه أحاديث آذارها ونيسانها، وبين يديه فتى من فتيانه يتثنى تثني القضيب، ويحمل الكأس في راحة أبهى من الكف الخضيب، وقد توشح وكأن الثريا وشاحه، وأنار فكأن الصبح من محياه كان اتضاحه، فكلما ناوله الكأس خامرته سوره، وتخيل أن الشمس تهديه نوره، فقال المعتمد:
لله ساف مهفهف غنج قد قام يسقي فجاء بالعجب
أهدى لنا من لطيف حكمته في جامد الماء ذائب الذهب
ولما وصل لورقة استدعى ذا الوزارتين القائد أبا الحسن ابن اليسع ليلته تلك في وقت لم يخف فيه زائر من مراقب، ولم يبد فيه غير نجم ثاقب، فوصل وما للأمن إلى فؤاده وصول، وهو يتخيل أن الجو صوارم ونصول، بعد أن وصى بما خلف، وودع من تخلف، فلما مثل بين يديه آنسه، وأزال توجسه، وقال له: خرجت من إشبيلية وفي النفس غرام طويته بين ضلوعي، وكففت فيه غرب دموعي، بفتاة هي الشمس أو كالشمس إخالها، لا يجول قلبها ولا خلخالها، وقد قلت في يوم وداعها، عند تفطر كبدي وانصداعها:
__________
(1) القلائد: 9.
(2) ق م: المرينية؛ القلائد: المزنية.
(3) ق: وجردت؛ وفي القلائد: وقد رددت الطير شجوها، وجددت طربها وشجوها.(4/278)
ولما التقينا للوداع غدية وقد خفقت في ساحة القصر رايات
بكينا دماً حتى كأن عيوننا لجري الدموع الحمر منها جراحات
وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي، وأبرأتني من توجعي، ومكنتني من رضابها، وفتنتني بلالها وخضابها، فقلت:
أباح لطيفي طيفها الخد والنهدا فعض بها تفاحة واجتنى وردا
ولو قدرت زارت على حال يقظة ولكن حجاب البين ما بيننا مدا
أما وجدت عنا الشجون معرجاً ولا وجدت منا خطوب النوى بدا
سقى الله صوب القطر أم عبيدة كما قد سقت قلبي على حره بردا
هي الظبي جيداً، والغزالة مقلة، وروض الربى عرفاً، وغصن النقا قدا
فكرر استجادته، وأكثر استعادته، فأمر له بخمسمائة دينار وولاه لورقة من حينه.
قال الفتح (1) : وأخبرني ابن اللبانة أنه استدعاه ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه، وامتثل الدهر فيه أمره ونهيه، فسقاه الساقي وحياه، وسف له الأنس عن مونق محياه، فقام للمعتمد مادحاً، وعلى دوحة تلك النعماء صادحاً، فاستجاد قوله، ةأفاض عليه طوله، فصدر وقد امتلأت يداه، وغمره جوده ونداه، فلما حل بمنزلة وافاه رسوله بقطيع وكأس من بلار، قد أترعا بصرف العقار، ومعهما:
جاءتك ليلاً في ثياب نهار من نورها وغلالة البلار
كالمشتري قد لف من مريخه إذ لفه في الماء جذوة نار
لطف الجمود لذا وذا فتألفا لم يلق ضد ضده بنفار
__________
(1) القلائد: 6.(4/279)
يتحير الراءون في نعتيهما أصفاه ماء أم صفاء دراري
وقال الفتح أيضاً (1) : وأخبرني ذخر الدولة أنه استدعاه في ليلة قد ألبسها البدر رواءه، وأوقد فيها أضواءه، وهو على البحيرة الكبرى، والنجوم قد انعكست فيها تخالها زهرا، وقابلتها المجرة فسالت فيها نهرا، وقد أرجت نوافج الند، وماست معاطف الرند، وحسد النسيم الروض فوشى بأسراره، وأفشى حديث آسه وعراره، ومشى مختالاً بين لبات النور وأزراره، وهو وجم، ودمعه منسجم، وزفراته تترجم عن غرامه، وتجمجم عن تعذر مرامه، فلما نظر إليه استدناه وقربه، وشكا إليه من الهجران ما استغربه، وأنشده:
أيا نفس لا تجزعي واصبري وإلا فإن الهوى متلف
حبيب جفاك، وقلب عصاك ولاح لحاك، ولا منصف
شجون منعن الجفون الكرى وعوضنها أدمعاً تنزف
فانصرف ولم يعلمه بقصته، ولا كشف له عن غصته، انتهى.
وقال الفتح أيضاً (2) : أخبرني ذخر الدولة بن المعتضد أنه دخل عليه في ليلة فد ثنى السرور منامها، وامتطى الحبور غاربها وسنامها، وراع الأنس فؤادها، وستر بياض الأماني سوادها، وغازل نسيم الروض زوارها وعوادها، ونور السرج قد قلص أذيالها، ومحا من لجين الأرض نيالها، والمجلس مكتس بالمعالي، وصوت المثاني والمثالث عالي، والبدر قد كمل، والتحف بضوئه القصر واشتمل، وتزين بسناه وتجمل، فقال المعتمد:
ولقد شربت الراح يسطع نورها والليل قد مد الظلام رداء
__________
(1) القلائد: 8.
(2) القلائد: 6.(4/280)
حتى تبدى البدر في جوزائه ملكاً تناهى بهجة وبهاء
وتناهضت زهر النجوم يحفه لألاؤها فاستكمل اللألاء
لما أراد تنزهاً في غربه جعل المظلة فوقه الجوزاء
وترى الكواكب كالمواكب حوله رفعت ثرياها عليه لواء
وحكيته في الأرض بين كواكب وكواعب جمعت سنا وسناء
إن نشرت تلك الدروع حنادساً ملأت لنا هذي الكؤوس ضياء
وإذا تغنت هذه في مزهر لم تأل تلك على التريك غناء
وأخبرني ابن إقبال الدولة [بن مجاهد] (1) أنه كان عنده في يوم نشر من غيمة رداء ند، وأسكب من قطره ماء ورد، وأبدى من برقه لسان نار، وأظهر من قوس قزحه حنايا آس (2) حفت بنرجس وجلنار، والروض قد بعث رياه، وبث الشكر لسقياه، فكتب إلى الطبيب الأديب أبي محمد المصري:
يا أيها الصاحب الذي فارقت عي ني ونفسي منه السنا والسناء
نحن في المجلس الذي يهب الرا حة والمسمع الغنى والغناء
نتعاطى التي تنسي من الرق ة واللذة الهوى والهواء
فأته تلف راحة ومحيا قد أعدا لك الحيا والحياء
فوافاه وألفى مجلسه وقد أتلعت فيه أباريقه أجيادها، وأقامت فيه خيل السرور طرادها، وأعطته الأماني انطباعها وانقيادها، وأهدت الدنيا ليومه مواسمها وأعيادها، وخلعت عليه الشمس شعاعها، ونشرت فيه الحدائق إيناعها، فأديرت الراح، وتعوطيت الأقداح، وخامر النفوس الابتهاج والارتياح، وأظهر المعتمد من إيناسه، ما استرق به نفوس جلاسه، ثم دعا
__________
(1) زيادة من القلائد.
(2) الأصول: خبايا آس.(4/281)
بكبير، فشربه كالشمس غربت في ثبير، وعندما تناولها، قام المصري أبياتاً تمثلها (1) :
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً بشاذمهر ودع غمدان لليمن
فأنت أولى بتاج الملك تلبسه من هوذة بن علي وابن ذي يزن
فطرب حتى زحف عن مجلسه، وأسرف في تأنسه، وأمر فخلعت عليه خلع لا تصلح إلا للخلفاء، وأدناه حتى أجلسه مجلس الأكفاء، وأمر له بدنانير عدداً، وملأ بالمواهب يداً.
وله في غلام (2) رآه يوم العروبة من ثنيات الوغى طالعاً، ولطلى الأبطال قارعاً، وفي الدماء والغاً، ولمستبشع كؤوس المنايا سائغاً، وهو ظبي قد فارق كناسه، وعاد أسداً صارت القنا أخياسه، ومتكاثف العجاج قد مزقه إشراقه، وقلوب الدارعين قد شكتها أحداقه، فقال:
أبصرت طرفك بين مشتجر القنا فبدا لطرفي أنه فلك
أوليس وجهك فوقه قمراً يجلى بنير نوره الحلك
وقال فيه:
ولما اقتحمت الوغى دارعاً وقنعت وجهك بالمغفر
حسبنا محياك شمس الضحى عليها سحاب من العنبر
وقد جمع بنا القلم في ترجمة المعتمد بن عباد بعض جموح، وما ذلك إلا لما علمنا أن نفوس الأدباء إلى أخباره رحمه الله تعالى شديدة الطموح، وقد جعل الله تعالى له كما ابن الأبار في " الحلة السيراء " رقة في القلوب وخصوصاً
__________
(1) نسب المبرد البيتين لشاعر من أهل الري يكنى ابا يزيد أنشدهما عبد الله بن طاهر الكامل (2: 24) .
(2) القلائد: 8.(4/282)
بالمغرب فإن أخباره وأخبار الرميكية إلى الآن متداولة بينهم، وإن فيها لأعظم عبرة، رحم الله تعالى الجميع.
رجع إلى أخبار النساء
11 - ومنهن العبادية جارية المعتضد عباد (1) ، والد المعتمد، أهداها إليه مجاهد العامري من دانية، وكانت أديبة، ظريفة، كاتبة، شاعرة، ذاكرة لكثير من اللغة، قال ابن عليم في شرحه لأدب الكتاب لابن قتيبية، وذكر الموسعة وهي خشبة بين حمالين يجعل كل واحد منهما طرفها على عنقه، ما صورته: وبذكر الموسوعة أغربت جارية لمجاهد أهداها إلى عباد كاتبة شاعرة على علماء إشبيلية وبالهزمة (2) التي تظهر في أذقان بعض الأحداث، وتعتري بعضهم في الخدين عند الضحك، فأما التي في القن فهي النونة، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: دسموا (3) نونته لتدفع العين، وأما التي في الخدين عند الضحك فهي الفحصة، فما كان في ذلك الوقت في إشبيلية من عرف منها واحدة0
وسهر عباد ليلة لأمر حزبه وهي نائمة، فقال:
تنام ومدنفها يسهر وتصبر عنه ولا يصبر
فأجابته بديهة بقولها:
لئن دام هذا وهذا له ... سيهلك وجداً ولا يشعر (4) ويكفيك هذا شاهداً على فضلها يرحمها الله تعالى وسامحها (5) .
__________
(1) ترجمتها في الذيل والتكملة (آخر جزء الغرباء) ، وما أثبته المقري منقول بنصه عنه.
(2) هكذا في الذيل، وفي ق: وبالفرجة.
(3) م: وسموا؛ وهي بالدال في الذيل وفوقها علامة " صح ".
(4) الذيل: ولا يصبر.
(5) وسامحها: زيادة من ق.(4/283)
12 - ومنهن: بثينة بنت المعتمد بن عباد، وأمها الرميكية السابقة الذكر، وكانت بثينة هذه نحواً من أمها في الجمال والنادرة ونظم الشعر، ولما أحيط بأبيها ووقع النهب في قصره كانت من جملة من سبي، ولم يزل المعتمد والرميكية عليها في وله دائم لايعلمان ما آل إليه أمرها إلى أن كتبت إليهما بالشعر المشهور المتداول بين الناس بالمغرب، وكان أحد تجار إشبيلية اشتراها على أنها جارية سرية ووهبها لابنه، فنظر من شأنها وهيئت له، فلما أراد الدخول عليها امتنعت، وأظهرت نسبها، وقالت: لا أحل لك إلا بعقد نكاح إن رضي أبي بذلك الذي، وأشارت عليهم بتوجيه كتاب من قبلها لأبيها، وانتظار جوابه، فكان الذي كتبته بخطها من نظمها ما صورته:
اسمع كلامي واستمع لمقالتي فهي السلوك بدت من الأجياد
لا تنكروا أني سبيت وأنني بنت لملك من بني عباد
ملك عظيم قد تولى عصره وكذا الزمان يؤول للإفساد
لما أراد الله فرقة شملنا وأذاقنا طعم الأسى عن زاد
قام النفاق على أبي في ملكه فدنا الفراق ولم يكن بمراد
فخرجت هاربة فحازني امرؤ ... لم يأت في إعجاله (1) بسداد إذ باعني بيع العبيد فضمني من صانني إلا من الانكاد
وأرادني لنكاح نجل طاهر حسن الخلائق من بني الأنجاد
ومضى إليك يسوم رأيك في الرضى ولأنت تنظر في طريق رشادي
فعساك يا أبتي تعرفني به إن كان ممن يرتجى لداد
وعسى رميكية الملوك بفضلها تدعو لنا باليمن والإسعاد
فلما وصل شعرها لأبيها وهو بأغمات، واقع في شراك الكروب
__________
(1) دوزي: أفعاله.(4/284)
والأزمات، سر هو وأمها بحياتها، ورأيا أن ذلك للنفس من أحسن أمنياتها، إذ علما مآل أمرها، وجبرها كسرها، إذ ذلك أخف الضررين، وإن كان الكرب قد ستر القلب منه حجاب رين، وأشهد على نفسه بعقد نكاحها من الصبي المذكور، وكتب إليها أثناء كتابه مما يدل على حسن صبره المشكور:
بنيتي كوني به برة فقد قضى الوقت بأسعافه
وأخبار المعتمد بن عباد، تذيب الأ كباد، فلنرجع إلى ذكر نساء الأندلس فنقول:
13 - ومنهن حفصة بنت حمدون (1) ، من وادي الحجارة، ذكرها في " المغرب " وقال: إنها من أهل المائة الرابعة، ومن شعرها:
رأى ابن جميل أن يرى الدهر مجمل فكل الورى قد عمهم سيب نعمته
له خلق كالخمر بعد امتزاجها وحسن فما أحلاه من حين خلقته
بوجه كمثل الشمس يدعو ببشره ... عيوناً ويعشيها بإفراط (2) هيبته ولها:
لي حبيب لا ينثني لعتاب وإذا ما تركته زاد تيها
قال لي هل رأيت لي من شبيه قلت أيضاً وهل ترى لي شبيها
ولها تذم عبيدها:
يا رب إني من عبيد على جمر الغضا، ما فيهم من نجيب
إما جهول أبله متعب أو فطن من كيده لا يجيب
__________
(1) ترجمة حفصة بنت حمدون في الذيل والتكملة والسيوطي: 46 والمغرب 2: 37.
(2) م: بإطراق.(4/285)
وقال ابن الأبار: إنها كانت أديبة عالمة شاعرة، وذكرها ابن فرج صاحب " الحدائق " وأنشد لها أشعاراًمنها قولها:
يا وحشتي لأحبتي يا وحشة متماديه
يا ليلة ودعتهم يا ليلة هي ما هيه
14 - ومنهن زينب المرية (1) ، كانت أديبة شاعرة، وهي القائلة:
يا أيها الراكب الغادي لطيته عرج أنبئك عن بعض الذي أجد
ما عالج الناس من وجد تضمنهم ووده آخر الأيام أجتهد
15 - ومنهن غاية المنى (2) ، وهي جارية أندلسية متأدبة، قدمت إلى المعتصم بن صمادح، فأراد أختبارها فقال لها: مااسمك فقالت: غاية المنى، فقال لها: أجيزي:
اسألوا غاية المنى
فقالت:
من كسا جسمي الضنى
وأراني مولهاً سيقول الهوى أنا
هكذا أورد السالمي هذه الحكاية في تاريخه.
قال ابن الأبار: وقرأت بخط الثقة حاكياً عن القاضي أبي القاسم ابن حبيش قال: سيقت لابن صمادح جارية نبيلة تقول الشعر وتحسن المحاضرة، فقال:
__________
(1) سقطت هذه الترجمة من نسخة " م "؛ وترجمة زينب المرية في الذيل والتكملة.
(2) ترجمة غاية المنى في الذيل والتكملة وفيه ما أورده المقري.(4/286)
تحمل إلى الأستاذ ابن الفراء الخطيب ليختبرها، وكان كفيفاً، فلما وصلته قال: ما اسمك فقالت: غاية المنى، فقال: أجيزي:
سل هوى غاية المنى من كسا جسمي الضنى
فقالت تجيزه:
وأراني متيماً سيقول الهوى أنا
حكى ذلك لابن صمادح، فاشتراها، انتهى.
6 - ومنهن حمدة، ويقال حمدونة بنت زيادة المؤدب (1) من وادي آش، وهي خنساء المغرب، وشاعرة الأندلس، ذكرها الملاحي وغيره، وممن روى عنها أبو القاسم ابن البراق.
ومن عجيب شعرها قولها:
ولما أبى الواشون إلا فراقنا وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
وبعض يزعم أن هذه الأبيات لمهجة بنت عبد الرزاق الغرناطية، وكونهت لحمدة أشهر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وخرجت حمدة مرة للوادي مع صبية، فلما نضت عنها ثيابها وعامت قالت:
__________
(1) ترجمة أحمد (أو حمدونة) بنت زياد في التكملة (رقم: 2120) والإحاطة 2: 498 وتحفة القادم: 162، المطرب: 11 والسيوطي: 48 والذيل والتكملة، وابوها هو زياد بن بقي العوفي، وهي أخت زينب.(4/287)
أباح الدمع أسراري بوادي له للحسن آثار بوادي
فمن نهر يطوف بكل روض ومن روض يرف بكل وادي
ومن بين الظباء مهاة إنس لها لبي وقد ملكت فؤادي
لها لحظ ترقده لأمر وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في جنح الدآدي (1) كأن الصبح مات له شقيق فمن حزن تسربل بالحداد
وقال ابن البراق في سوق هذه الحكاية: أنشدتنا حمدة العوفية لنفسها، وقد خرجت متنزهة بالرملة من نواحي وادي آش فرأت ذات وجه وسيم أعجبها، فقالت - وبين الروايتين خلاف - أباح الدمع، إلى آخره، ونسب بعضهم إلى حمدة هذه الأبيات الشهيرة بهذه البلاد المشرقة، وهي:
وقانا لفحة الرمضاء واد سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمإ زلالاً ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النظيم
وممن جزم بذلك الرعيني، وقال: إن مؤرخي بلادنا نسبوها لحمدة من قبل أن يوجد المنازي الذي ينسبها له أهل المشرق، وقد رأيت أن أذكر كلامه برمته ونصه: كانت من ذوي الألباب، وفحول أهل الآداب، حتى إن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب، وادعى نظم هذين البيتين - يعني: ولما أبى الواشون، إلى آخره - لما فيهما من المعاني والألفاظ العذاب، وما غره في ذلك
__________
(1) في الأصول: أفق السودا؛ واخترنا رواية ابن عبد الملك؛ والدآدي: ثلاث ليال من آخر الشهر؛ وفي المطرب: رأيت الصبح أشرق في الدآدي.(4/288)
إلا بعد دارها، وخلو هذه البلاد المشرقية من أخبارها، وقد تلبس بعضهم أيضاً بشعارها، وادعى غير هذا من أشعارها، وهو قولها: وقانا لفحة الرمضاء واد، إلى آخره، وإن هذه الأبيات نسبها أهل البلاد للمنازي من شعرائهم، وركبوا التعصب في جادة ادعائهم، وهي أبيات لم يخلبها غير لسانها، ولا رقم برديها غير إحسانها، ولقد رأيت المؤرخين من أهل بلادنا وهي الأندلس أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود، ويتصف بلفظة الموجود، انتهى.
وهو أبو جعفر الأندلسي الغرناطي، نزيل حلب.
وحكى ابن العديم في تاريخ حلب ما نصه: وبلغني أن المنازي عمل هذه الأبيات ليعرضها على أبي العلاء المعري، فلما وصل إليه أنشده الأبيات، فجعل المنازي كلما أنشد المصراع الأول من كل بيت سبقه أبو العلاء إلى المصراع الثاني الذي هو تمام البيت كما نظمه، ولما أنشده قوله:
نزلنا دوحة فحنا علينا
قال أبو العلاء:
حنو الوالدات على الفطيم
فقال المنازي: إنما قلت " على اليتيم " فقال أبو العلاء: الفطيم أحسن، انتهى.
وهذا يدل على أن الرواية عنده " حنو الوالدات " وقد تقدم المرضعات، والله تعالى أعلم.
وقال ابن سعيد: يقال لنساء غرناطة المشهورات بالحسب والجلالة " العربيات " لمحافظتهن على المعاني العربية، ومن أشهرهن زينب بنت زياد الوادي آشي، وأختها حمدة، وحمدة هي القائلة وقد خرجت إلى نهر منقسم الجداول بين الرياض مع نسائها فسبحن في الماء وتلاعبن:(4/289)
أباح الدمع أسراري بوادي
الأبيات، انتهى.
17 - ومنهن عائشة بنت أحمد القرطبية (1) .
قال ابن حيان في " المقتبس " لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علماً وفهماً وأدباً وشعراً وفصاحة، تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة، وكانت حسنة الخط، تكتب المصاحف، وماتت عذراء لم تنكح سنة أربعمائة.
وقال في " المغرب ": إنها من عجائب زمانها، وغرائب أوانها، وأبو عبد الله الطبيب عمها، ولو قيل " إنها أشعر منه " لجاز، ودخلت على المظفر ابن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولد، فارتجلت:
أراك الله فيه ما تريد ولا برحت معاليه تزيد
فقد دلت مخايله على ما تؤمله وطالعه السعيد
تشوقت الجياد له وهز ال حسام هوى وأشرقت البنود
فسوف تراه بدراً في سماء من العليا كواكبه الجنود
وكيف يخيب سبل قد نمته إلى العليا ضراغمة الأسود
فأنتم آل عامر خير آل زكا الأبناء منكم والجدود
وليدك لدى رأي كشيخ وشيخكم لدى الحرب وليد
وخطبها بعض الشعراء ممن لم ترضه فكتبت إليه:
أنا لبوة لكنني لا أرتضي نفسي مناخاً طول دهري من أحد
ولو أنني أختار ذلك لم أجب كلباً وكم غلقت سمعي عن أسد
__________
(1) ترجمة عائشة القطربية في الصلة: 654 والسيوطي: 71 واسم أبيها أحمد بن حمد بن قادم.(4/290)
18 - ومنهن مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري (1) .
سكنت إشبيلية، وأصلها والله أعلم من شلب.
وذكرها ابن دحية في " المطرب " (2) وقال: إنها أديبة شاعرة " جزلة " مشهورة، وكانت تعلم النساء الأدب، وتحتشم لدينها وفضلها، وعمرت عمراً طويلاً، سكنت إشبيلية، واشتهرت بها بعد الأربعمائة، وذكرها الحميدي، وأنشد لها جوابها لما بعث المهدي إليها بدنانير، وكتب إليها:
ما لي بشكر الذي أوليت من قبل لم أنني حزت نطق اللسن في الحلل
يا فذة الظرف في هذا الزمان ويا وحيدة العصر في الإخلاص في العمل
أشبهت مريماً العذراء في ورع وفقت خنساء في الأشعار والمثل
ونص الجواب منها:
من ذا يجاريك في قول وفي عمل وقد بدرت إلى فضل ولم تسل
ما لي بشكر الذي نظمت في عنقي من اللآلي وما أوليت من قبل
حليتني بحلى أصبحت زاهية بها على كل أنثى من حلى عطل
لله أخلاقك الغر التي سقيت ماء الفرات فرقت رقة الغزل
أشبهت مروان من غارت بدائعه وأنجدت وغدت من أحسن المثل
من كان والده العضب المهند لم يلد من النسل غير البيض والأسل
ومن شعرها وقد كبرت:
وما يرتجى من بنت سبعين حجة وسبع كنسيج العنكبوت المهلهل
تدب دبيب الطفل تسعى إلى العصا وتمشي بها مشي الأسير المكبل
__________
(1) ترجمة مريم في الصلة: 656 والجذوة: 389 (وبغية الملتمس رقم: 1584) والسيوطي: 90.
(2) يبدو أن المقري وهم هنا، فأثبت الصلة ونسبه للمطرب، وليس في المطرب ترجمة لمريم هذه.(4/291)
19 - ومنهن أسماء العامرية (1) ، من أهل إشبيلية، كتبت إلى عبد المؤمن ابن علي رسالة نمت فيها إليه بنسبها العامري، وتسأله في رفع الانزالعن دارها، والاعتقال عن مالها، وفي آخرها قصيدة أولها:
عرفنا النصر والفتح المبين لسيدنا أمير المؤمنينا
إذا كان الحديث عن المعالي رأيت حديثكم فينا شجونا
ومنها:
رويتم علمه فعلمتموه وصنتم عهده فغدا مصونا
20 - ومنهن أم الهناء بنت القاضي أبي محمد عبد الحق بن عطية، سمعت أباها، وكانت حاضرة النادرة، سريعة التمثل، من أهل العلم والفهم والعقل، ولها تأليف في القبور، ولما ولي أبوها قضاء المرية دخل داره وعيناه تذرفان وجداً لمفارقة وطنه، فأنشدته متمثلة:
يا عين صار الدمع عندك عادة تبكين في فرح وفي أحزان
وهذا البيت من جملة أبيات هي:
جاء الكتاب من الحبيب بأنه سيزورني فاستعبرت أجفاني
غلب السرور علي حتى إنه ... من عظم فرط (2) مسرتي أبكاني وبعده البيت، وبعده:
فاستقبلي بالبشر يوم لقائه ودعي الدموع لليلة الهجران
__________
(1) ترجمتها في الذيل والتكملة؛ وما ورد هنا منقول عنه.
(2) م: من فرط عظم.(4/292)
21 - ومنهن مهجة القرطبية (1) صاحبة ولادة رحمهما الله تعالى، وكانت من أجل نساء زمانها، وعلقت بها ولادة، ولازمت تأديبها، وكانت من أخف الناس روحاً، ووقع بينها وبين ولادة ما اقتضى أن قالت:
ولادة قد صرت ولادة من غير بعل، فضح الكاتم
حكت لنا مريم لكنه نخلة هذي ذكر قائم
قال بعض الأكابر: لو سمع ابن الرومي هذا لأقر لها بالتقديم.
ومن شعرها:
لئن قد حمى عن ثغرها كل حائم فما يزال يحمى
فذلك تحميه القواضب والقنا وهذا حماه من لواحظها السحر
وأهدى إليها من كان يهيم بها خوخاً، فكتبت إليه:
يا متحفاً بالخوخ أحبابه أهلاً به من مثلج للصدور
حكى ثدي الغيد تفليكه لكنه أخزى رؤوس الأيور
22 - ومنهن هند جارية أبي محمد عبد الله بن مسلمة الشاطبي، وكانت أديبة شاعرة، كتب إليها أبو عامر ابن ينق يدعوها للحضور عنده بعودها:
يا هند هل لك في زيارة فتية نبذوا المحارم غير شرب السلسل
سمعوا البلابل قد شدوا فتذكروا نغمات عودك في الثقيل الأول
فكتبت إليه في ظهر رقعته:
يا سيداً حاز العلا عن سادة شم الأنوف من الطراز الأول
__________
(1) ترجمة مهجة في المغرب 1: 143 والسيوطي: 93 ونسبتها القرطبية تميزها عن مهجة الفرناطية وقد ترجم للثانية ابن عبد الملك.(4/293)
حسبي من الإسراع نحوك أنني كنت الجواب مع الرسول المقبل
23 - ومنهن الشلبية، قال ابن الأبار، ولم أقف على اسمها، وكتبت إلى السلطان يعقوب المنصور تتظلم من ولاة بلدها وصاحب خراجه:
قد آن أن تبكي العيون الآبية ولقد أرى أن الحجارة باكية
يا قاصد المصر الذي يرجى به إن قدر الرحمن رفع كراهية
ناد الأمير إذا وقفت ببابه يا راعياً إن الرعية فانية
أرسلتها هملاً ولا مرعى لها وتركتها نهب السباع العادية
شلب كلا شلب، وكانت جنة فأعادها الطاغون ناراً حامية
حافوا وما خافوا عقوبة ربهم والله لا تخفى عليه خافية
فيقال: إنها ألقيت يوم الجمعة على مصلى المنصور، فلما قضى الصلاة وتصفحها بحث عن القصة فوقف على حقيقتها، وأمر للمرأة بصلة.
وحكي أن بعض قضاة لوشة كانت له زوجة فاقت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل، وكان قبل أن يتزوجها ذكر له وصفها فتزوجها، وكان في مجلس قضائه تنزل به النوازل، فيقوم إليها فتشير عليه بما يحكم به، فكتب إليه بعض أصحابه مداعباً بقوله:
بلوشة قاض له زوجة وأحكامها في الورى ماضية
فيا ليته لم يكن قاضياً ويا ليتها كانت القاضية
فأطلع زوجته عليه حين قرأه فقالت: ناولني القلم، فناولها، فكتبت بديهة:
هو شيخ سوء مزدرى له شيوب عاصية
كلا لأن لم ينته لنسفعاً بالناصية(4/294)
وسمعت بعض أشياخنا يحكي القضية عن لسان الدين بن الخطيب، وأنه هو الذي كتب يداعب زوج المرأة فكتبت إليه:
إن الإمام ابن الخطيب له شيوب عاصية
إلى آخره، فالله أعلم.
ومنهن نزهون الغرناطية (1) .
قال في المغرب: من أهل الماء الخامسة ذكرها الحجاري في المسهب ووصفها بخفة الروح، والانطباع الزائد، والحلاوة، وحفظ الشعر، والمعرفة بضرب الأمثال، مع جمال فائق، وحسن رائق، وكان الوزير أبو بكر ابن سعيد أولع الناس بمحاضرتها ومذاكرتها ومراسلتها، فكتب لها مرة:
يا من له ألف خل من عاشق وصديق
أراك خليت للنا س منزلاً في الطريق
فأجابته:
حللت أبا بكر محلاً منعته سواك، وهل غير الحبيب له صدري
وإن كان لي كم من حبيب فإنما يقدم أهل الحق حب أبي بكر
قيل: لو قالت " وإن كان خلاني كثيراً...... إلخ " لكان أجود.
ولما قال فيها المخزومي:
__________
(1) ترجمة نزهون في التحفة: 164 والمغرب 2: 121 والذيل والتكملة والسيوطي: 97 والإحاطة 1: 434 وقال ابن الأبار: إنها عاصرت حمدة أو قاربت عصرها، ونقل ابن عبد الملك عنه قوله: هو (اي القليعي) فيما أحسب أبو بكر محمد بن أحمد بن خلف بن عبد الملك بن غالب الغساني.(4/295)
على وجه نزهون من الحسن مسحة وتحت الثياب العار لو كان باديا
قواصد نزهون توارك غيرها ومن قصد البحر استقل السواقيا
قالت:
إن كان ما قلت حقاً من بعض عهد كريم
فصار ذكري ذميماً يعزى إلى كل لوم
وصرت أقبح شيء في صورة المخزومي
وقد تقدمت حكايتها في الباب الأول من هذا، فلتراجع.
وقال لها بعض الثقلاء: معلى من أكل معك خمسمائة صوت فقالت:
وذي شقوة لما رآني رأى له تمنيه أن يصلى معي جاحم الضرب
فقلت له كلها هنيئاً فإنما خلقت إلى لبس المطارف والشرب
679 - ابن قزمان
وقال ابن سعيد في طالعه لما وصف وصول ابن قزمان إلى غرناطة واجتماعه بجنته بقرية الزاوية من خارجها بنزهون القلاعية الأديبة، وما جرى بينهما، وأنها قالت له بعقب ارتجال بديع - وكان يلبس غفارة صفراء على زي الفقهاء حينئذ - أحسنت يا بقرة بني إسرائيل، إلا أنك لا تسر الناظرين، فقال لها: إن لم أسر الناظرين (1) فأنا أسر السامعين، وإنما يطلب سرور الناظرين يا فاعلة يا صانعة، وتمكن السكر من ابن قزمان، وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة، فما خرج إلا وهو قد شرب كثيراً من الماء، وثيابه تهطل، فقال: اسمع يا وزير، ثم أنشد:
__________
(1) إن ... الناظرين: زيادة من م.(4/296)
إيه أبا بكر ولا حول لي بدفع أعيان وأنذال
وذات فرج واسع دافق بالماء يحكي حال أذيالي
غرقتني في الماء يا سيدي كفره بالتغريق في المال
فأمر بتجريد ثيابه، وخلع عليه ما يليق به، ومر لهم يوم بعد عهدهم بمثله. ولم ينتقل ابن قزمان من غرناطة إلا من بعد ما أجزل له الإحسان، ومدحه بما هو ثابت له في ديوان أجزاله. وحكي عنه فيما أظن - أعني ابن قزمان - ويحتمل أنه غيره أنه تبع إحدى الماجنات، وكان أحول، فأطعمته في نفسها، وأشارت إليه أن يتبعها، فاتبعها حتى أتت سوق الصاغة بإشبيلية، فوقفت على صائغ من صياغها، فقالت له: يا معلم مثل هذا يكون فص الخاتم الذي قلت لك عنه، تشير إلى عين ذلك الأحول الذي تبعها، وكانت قد كلفت ذلك الصائغ أن يعمل لها خاتماً يكون فصه عين إبليس، فقال لها الصائغ: جيئيني بالمثال، فإني لم أر هذا ولا سمعته قط، فجاءته به عن مثال، وحكاها بعضهم على وجه آخر وأنها ذهبت إلى الصائغ وقالت له: صور لي صورة الشيطان، فقال لها: ائتيني بمثال، فلما تبعها ابن قزمان جاءت به، وقالت له: مثل هذا، فسأل ابن قزمان فأعلمه فخجل ولعنها، وكتب أبو بكر ابن قزمان على باب جنته:
وقائل يا حسنها جنة لا يدخل الحزن على بابها
فقلت والحق له صولة أحسن منها مجد أربابها
وله:
كثير المال تمسكه فيفنى وقد يبقى مع الجود القليل
ومن غرست يداه ثمار جود ففي ظل الثناء له مقيل
رجع إلى أخبار نزهون بنت القليعي
حكي أنها مكانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى، فدخل عليهما أبو(4/297)
بكر الكتندي، فقال يخاطب المخزومي:
لو كنت تبصر من تجالسه
فأفحم، وأطال الفكر فما وجد شيئاً، فقالت نزهون:
لغدوت أخرس من خلاله
البدر يطاع من أزرته والغصن يمرح في غلائله
وكانت ماجنة، ومن شعرها قولها:
لله در الليالي ما أحيسنها وما أحيسن منها ليلة الأحد
لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد
أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر بل ريم خازمة في ساعدي أسد
مقطعات لابن الزقاق
وهذا المعنى متفق مع قول ابن الزقاق (1) :
ومرتجة الأرداف أما قوامها فلدن وأما ردفها فرادح
ألمت فبات الليل من قصر بها يطير، ولا غير السرور جناح
فبت وقد زارت بأنعم ليلة يعانقني حتى الصباح صباح
على عاتقي من ساعديها حمائل وفي خصرها من ساعدي وشاح
وابن الزقاق هذا له في النظم والغوص على المعاني الباع المديد، ومن نظمه قوله:
__________
(1) انظر مقطعات ابن الزقاق هذه في ديوانه: 129، 295، 177، 291، 292، 202، 208، 206، 298، 294، 113 (وبعضها عن النفح نفسه) .(4/298)
رئيس الشرق محمود السجايا يقصر عن مدائحه البليغ
نسميه بيحيى وهو ميت كما أن السليم هو اللديغ
يعاف الورد إن ظمئت حشاه وفي مال اليتيم له ولوغ
زقزله:
كتبت ولو أنني أستطيع لإجلال قدرك بين البشر
قددت اليراعة من أنملي وكان المداد سواد البصر
وقوله:
غرير يباري الصبح إشراق خده وفي مفرق الظلماء منه نصيب
ترف بفيه ضاحكاً أقحوانة ويهتز في برديه منه قضيب
وقوله:
ومهفهف نبت الشقيق بخده واهتز أملود النقا في برده
ماء الشبيبة والغرام أرق من صقل الحسان المنتقى وفرنده
يحيي الورى بتحية من وصله من بعد ما وردوا الحمام بصده
إن كنت أهديت الفؤاد له فقل أي الجوى بجوانح لم يهده
وقوله:
أرق نسيم الصبا عرفه وراق قضيب النقا عطفه
ومر بنا يتهادى وقد نظر سيف أجفانه طرفه
ومد لمبسمه راحة فخلت الأقاح دنا قطفه
أشارت بتقبيلها للسلام فقال فمي ليتني كفه
وقوله:
بأبي من لم يدع لي لحظه في الهوى من رمق حين رمق(4/299)